كتاب : يتيمة الدهر
المؤلف : الثعالبي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خير ما بدئ به الكلام وختم، وصلى الله على النبي المصطفى وآله وسلم.
أما بعد فإن محاسن أصناف الأدب كثيرة، ونكتها قليلة، وأنوار الأقاويل موجودة، وثمارها عزيزة وأجسام النثر والنظم جمة، وأرواحهما نزرة، وقشورهما معرضة، ولبوبها معوزة. ولما كان الشعر عمدة الأدب، وعلم العرب الذي اختص به عن سائر الأمم، وبلسانهم جاء كتاب الله المنزل، على النبي منهم المرسل، صلوات الله عليه وآله وسلم، كانت أشعار الإسلاميين أرق من أشعار الجاهليين، وأشعار المحدثين ألطف من أشعار المتقدمين، وأشعار المولدين أبدع من أشعار المحدثين، وكانت أشعار العصريين أجمع لنوادر المحاسن، وأنظم للطائف البدائع من أشعار سائر المذكورين؛ لانتهائها إلى أبعد غايات الحسن، وبلوغها أقصى نهايات الجودة والظرف، تكاد تخرج من باب الإعجاب إلى الإعجاز، ومن حد الشعر إلى حد السحر، فكأن الزمان ادخر لنا من نتائج خواطرهم، وثمرات قرائحهم، وأبكار أفكارهم أتم الألفاظ والمعاني استيفاء لأقسام البراعة، وأوفرها نصيباً من كمال الصنعة، ورونق الطلاوة.
وكذاك قد ساد النبي محمد ... كل الأنام وكان آخر مرسل
وقد سبق مؤلفوا الكتب إلى ترتيب المتقدمين من الشعراء، وذكر طبقاتهم ودرجاتهم، وتدوين كلماتهم، والانتخاب من قصائدهم ومقطوعاتهم، فكم من كتاب فاخر عملوه، وعقد باهر نظموه، لا يشينه الآن إلا نبو العين من إخلاق جدته، وبلى بردته، ومج السمع لمردداته، وملالة القلب من مكرراته. وبقيت محاسن أهل العصر التي معها رواء الحداثة، ولذة الجدة، وحلاوة قرب العهد، وازدياد الجودة على كثرة النقد، غير محصورة بكتاب يضم نشرها، وينظم شذرها، ويشد أزرها، ولا مجموعة في مصنف يقيد شواردها، ويخلد فوائدها، وقد كنت تصديت لعمل ذلك في سنة أربع وثمانين وثلثمائة، والعمر في إقباله، والشباب بمائة، فافتتحته باسم بعض الوزراء مجرياً إياه مجرى ما يتقرب به أهل الأدب إلى ذوي الأخطار والرتب، ومقيماً ثمار الورق، مقام نثار الورق، وكتبته في مدة تقصر عن إعطاء الكتاب حقه، ولا تتسع لتوفية شرطه، فارتفع كعجالة الراكب، وقبسة العجلان، وقضيت به حاجة في نفسي. وأنا لا أحسب المستعيرين يتعاورونه، والمنتسخين يتداولونه، حتى يصير من أنفس ما تشح عليه أنفس أدباء الإخوان، وتسير به الركبان إلى أقاصي البلدان، فتواترت الأخبار، وشهدت الآثار، بحرص أهل الفضل على غدره وعدهم إياه من فرص العمر وغرره واهتزازهم لزهره، واقتفارهم لفقره، وحين أعرته على الأيام بصري، وأعدت فيه نظري، تبينت مصداق ما قرأته في بعض الكتب: أن أول ما يبدو من ضعف ابن آدم أنه لا يكتب كتاباً فيبيت عنده ليلة إلا أحب في غدها أن يزيد فيه أو ينقص منه، هذا في ليلة واحدة فكيف في سنسن عدة؟ ورأيتني أحاضر بأخوات كثيرة لما فيه وقعت بأخرة إلى، وزيادات جمة عليه حصلت من أفواه الرواة لدي. فقلت: إن كان لهذا الكتاب محل من نفوس الأدباء، وموقع من قلوب الفضلاء، كالعادة فيما لم يقرع من قبل آذانهم، ولم يصافح أذهانهم، فلم لا أبلغ به المبلغ الذي يستحق حسن الإحماد، ويستوجب من الاعتداد أوفر الأعداد؟ ولم لا أبسط فيه عنان الكلام، وأرمي في الإشباع والاتمام هدف المرام؟ فجعلت أبنيه وأنقصه، وأزيده وأنقصه، وأمحوه وأثبته، وأنتسخه ثم أنسخه، وربما أفتتحه ولا أختتمه، وأنتصفه فلا أستتمه، والأيام تحجز، وتعد ولا تنجز، إلى أن أدركت عصر السن والحنكة، وشارفت أوان الثبات والمسكة، فاختلست لمعة من ظلمة الدهر، وانتهزت رقدة من عين الزمان، واغتنمت نبوة من أنياب النوائب، وخفة من زحمة الشوائب، واستمررت في تقرير هذه النسخة الأخيرة، وتحريرها من بين النسخ الكثيرة، بعد أن غيرت ترتيبها، وجددت تبويبها، وأعدت ترصيفها، وأحكمت تأليفها. وصار مثلي فيها كمثل من يتأنق في بناء داره التي هي عشه، وفيها عيشه، فلا يزال ينقض أركانها، ويعيد بنيانها، ويستجدها على أنحاء عدة، وهيئات مختلفة، ويستضيف إليها مجالس كالطاووس، ويستحدث فيها كنائس كالعرائس ثم يقورها آخر الأمور قوراء توسع العين قرة، والنفس مسرة. ويدعها حسناء تخجل منها الدور، وتتقاصر عنها القصور. فإن مات فيها مغفوراً له انتقل من جنة إلى أخرى، وورد من جنة الدنيا إلى جنة المأوى.

فهذه النسخة الآن تجمع من بدائع أعيان الفضل، ونجوم الأرض من أهل العصر، ومن تقدمهم قليلاً وسبقهم يسيراً، ما لم تأخذ الكتب العتيقة غرره، ولم تفتض عذره، ولم ينتقص قدم العهد وتطاول المدة زبره وتشتمل من نسج طباعهم، وسبك أفهامهم، وصوغ أذهانهم، على الحلل الفاخرة الفائقة، والحلى الرائقة الشائقة. وتتضمن من طرفهم وملحهم لطائف أمتع من بواكير الرياحين والثمار، وأطيب من فوح نسيم الأسحار، بروائح الأنوار والأزهار، ما لم تتضمنه النسخة السائرة الأولى.
والشرط في هذه الأخرى إيراد لب اللب، وحبة القلب، وناظر العين، ونكتة الكلمة، وواسطة العقد، ونقش الفص، مع كلام في الإشارة إلى النظائر والأحاسن والسرقات، وأخذ في طريق الاختصار، ونبذ من أخبار المذكورين، وغرر من فصوص فصول المترسلين، يميل إلى جانب الاقتصار. فإن وقع في خلال ما أكتبه البيت والبيتان - مما ليس من أبيات القصائد، ووسائط القلائد - فلأن الكلام معقود به، والمعنى لا يتم دونه ولأن ما يتقدمه أو يليه مفتقر إليه، أو لأنه شعر ملك أو أمير أو وزير أو رئيس خطير، أو إمام من أهل الأدب والعلم كبير. وإنما ينفق مثل ذلك بالانتساب إلى قائله، لا بكثرة طائله.
وخير الشعر أكرمه رجالاً ... وشر الشعر ما قال العبيد
وإن أخرت متقدماً فعذري فيه أن العرب قد تبدأ بذكر الشيء والمقدم غيره، كما قال الله تعالى: " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن " وقال تعالى: " يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين " وكما قال حسان ابن ثابت: وذكر بني هاشم:
بها ليل منهم جعفر وابن أمه ... علي، ومنهم أحمد المتخير
وكما قال الصلتان العبدي:
فملتنا أننا مسلمون ... على دين صديقنا والنبي
وإن قدمت متأخراً فسبيله على ما قال إبراهيم الموصلي لمسرور، وقد تقدمه في المسير: إن تقدمتك كنت مطرقاً لك، وإن تأخرت فلحق الخدمة.
وقال أبو محمد المزني للملك نوح في مثل تلك الحال: إن تقدمت فحاجب، وإن تأخرت فذاك واجب.
ثم إن هذا الكتاب المقرر ينقسم إلى أربعة أقسام: يشتمل كل قسم منها على أبواب وفصول: القسم الأول: في محاسن أشعار آل حمدان، وشعرائهم، وغيرهم من أهل الشام وما يجاورها ومصر والموصل والمغرب ولمع من أخبارهم.
القسم الثاني: في محاسن أشعار أهل العراق، وإنشاء الدولة الديلمية من طبقات الأفاضل، وما يتعلق بها من أخبارهم ونوادرهم، وفصوص من فصول المترسلين منهم.
القسم الثالث: في محاسن أشعار أهل الجبال وفارس وجرجان وطبرستان وأصفهان من وزراء الدولة الديلمية وكتابها وقضاتها وشعرائها وسائر فضلائها، وما ينضاف إليها من أخبارهم وغرر ألفاظهم.
القسم الرابع: في محاسن أشعار أهل خراسان وما وراء النهر من إنشاء الدولة السامانية والغزنية، والطارئين على الحضرة ببخارى من الآفاق، والمتصرفين على أعمالهم، وما يستطرف من أخبارهم، وخاصة أهل نيسابور والغرباء الطارئين عليها والمقيمين بها.
وفيما لم يقع إلي من جنس هذا الكتاب كثرة، ولعله يزيد على ما حصل لدي، ومن يقدر على حصر الأنفاس وضبط بنات الأفكار؟ وفي الزوايا خبايا، ولا نهاية للخواطر، ولا منقطع لمواد المحاسن، وما على المؤلف إلا جهده، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

القسم الأول
في محاسن أشعار آل حمدان وشعرائهم
وغيرهم من أهل الشام، وما يجاورها من مصر والموصل ولمع من أخبارهم وفيه
عشرة أبواب
الباب الأول من القسم الأول
في فضل شعراء الشام على سائر البلدان
وذكر السبب في ذلك
لم يزل شعراء عرب الشام وما يقاربها من شعراء عرب العراق وما يجاورها، في الجاهلية والإسلام، والكلام يطول في ذكر المتقدمين منهم، فأما المحدثون فخذ إليك منهم العتابي. ومنصوراً النمري، والأشجع السلمي ومحمد بن زرعة الدمشقي، وربيعة الرقي. على أن في الطائيين اللذين انتهت إليهما الرئاسة في هذه الصناعة كفاية، وها هما.
ومن مولدي أهل الشام المعوج الرقي، والمريمي، والعباسي المصيصي، وأبو الفتح كشاجم، والصنوبري، وأبو المعتصم الأنطاكي، وهؤلاء رياض الشعر، وحدائق الظرف.
فأما العصريون ففيما أسوقه من غرر أشعارهم أعدل الشهادات على تقدم أقدامهم.

والسبب في تبريز القوم قديماً وحديثاً على من سواهم في الشعر: قربهم من خطط العرب ولا سيما أهل الحجاز، وبعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة لأهل العراق لمجاورة الفرس والنبط، ومداخلتهم إياهم، ولما جمع شعراء العصر من أهل الشام بين فصاحة البداوة وحلاوة الحضارة، ورزقوا ملوكاً وأمراء من آل حمدان وبني ورقاء هم بقية العرب، والمشغوفون بالأدب، والمشهورون بالمجد والكرم، والجمع بين أدوات السيف والقلم، وما منهم إلا أديب جواد، يحب الشعر وينتقده، ويثيب على الجيد منه فيجزل ويفضل - انبعثت قرائحهم في الإجادة، فقادوا محاسن الكلام بألين زمام، وأحسنوا وأبدعوا ما شاءوا.
وأخبرني جماعة من أصحاب الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد أنه كان يعجب بطريقتهم المثلى، التي هي طريقة البحتري في الجزالة والعذوبة. والفصاحة والسلاسة، ويحرص على تحصيل الجديد من أشعارهم، ويستملي الطارئين عليه من تلك البلاد ما يحفظونه من تلك البدائع واللطائف، حتى كسر دفتراً ضخم الحجم عليها، وكان لا يفارق مجلسه، ولا يملأ أحد منه عينه غيره، وصار ما جمعه فيه على طرف لسانه، وفي سن قلمه، فطوراً يحاضر به في مخاطباته ومحاوراته، وتارة يحله أو يورده كما هو في رسائله، فمن ذلك قول القائل:
سلام على تلك المعاهد إنها ... شريعة وردي أو مهب شمالي
ليالي لم نحذر حزون قطيعة ... ولم نمش إلا في سهول وصال
فقد صرت أرضى من سواكن أرضها ... بخلب برق أو بطيف خيال
وقول الآخر:
إذا دنت المنازل زاد شوقي ... ولا سيما إذا بدت الخيام
فلمح العين دون الحي شهر ... ورجع الطرف دون السير عام
وقول الآخر:
فسقى الله بلدة أنت فيها ... كدموعي عند اعتراض الفراق
وأرانيك فالصبا قد ترقت ... يا بروحي إلى أعالي التراقي
وقول الآخر:
ووالله لا فارقت عقدة وده ... ولا حلت ما عمرت عن حفظ عهده
ولا بد أن الدهر كاشف أهله ... ويظهر للمولى موالاة عبده
وكان أبو بكر الخوارزمي في ريعان عمر، وعنفوان أمره، قد دوخ بلاد الشام، وحصل من حضرة سيف الدولة بحلب في مجمع الرواة والشعراء، ومطرح الغرباء الفضلاء، فأقام ما أقام بها مع أبي عبد الله بن خالويه، وأبي الحسن الشمشاطي، وغيرهما من أئمة الأدباء، وأبي الطيب المتنبي، وأبي العباس النامي، وغيرهما من فحول الشعراء، بين علم يدرسه، وأدب يقتبسه، ومحاسن ألفاظ يستفيدها، وشوارد أشعار يصيدها، وانقلب عنها وهو أحد أفراد الدهر، وأمراء النظم والنثر، وكان يقول: ما فتق قلبي، وشحذ فهمي، وصقل ذهني، وأرهف حد لساني، وبلغ هذا المبلغ بي، إلا تلك الطوائف الشامية، واللطائف الحلبية التي علقت بحفظي، وامتزجت بأجزاء نفسي، وغصن الشباب رطيب، ورداء الحداثة قشيب، وما كان أكثر ما ينشدني ويكتبني مما يضن به على غيري من تلك الغرر التي تجري مجرى السحر والملح التي يقطر منها ماء الظرف، وأنا أكتبها في أماكنها من أبواب هذا القسم الأول، بمشيئة الله تعالى.
وممن خرجته تلك البلاد، وأخرجته، وكلامه مقبول محبوب، آخذ بمجامع القلوب: القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، فإنه جنى ثمارها، واستصحب أنوارها، حتى ارتقى إلى المحل العلي، وتطبع بطبع البحتري.
مالباب الثاني

في ذكر سيف الدولة
أبي الحسن علي بن عبد الله بن حمدان وسياق قطعة من أخباره، وملح أشعاره

كان بنو حمدان ملوكاً وأمراء أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرجاحة، وسيف الدولة مشهور بسيادتهم، وواسطة قلادتهم وكان - رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأواه! - غرة الزمان، وعماد الإسلام، ومن سداد الثغور، وسداد الأمور، وكانت وقائعه في عصاة العرب تكف بأسها وتنزع لباسها وتفل أنيابها، وتذل صعابها، وتكفي الرعية سوء آدابها. وغزواته تدرك من طاغية الروم الثأر، وتحسم شرهم المثار، وتحسن في الإسلام الآثار. وحضرته مقصد الوفود، ومطلع الجود، وقبلة الآمال، ومحط الرحال، وموسم الأدباء، وحلبة الشعراء، ويقال: إنه لم يجتمع قط بباب أحد من الملوك - بعد الخلفاء - ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر، ونجوم الدهر، وإنما السلطان سوق يجلب إليها، ما ينفق لديها. وكان أديباً شاعراً محباً لجيد الشعر، شديد الاهتزاز لما يمدح به، فلو أدرك ابن الرومي زمانه لما احتاج إلى أن يقول:
ذهب الذين تهزهم مداحهم ... هز الكماة عوالي المران
كانوا إذا امتدحوت رأوا ما فيهم ... ملأ ريحيه منهم بمكان
وكان كل من أبي محمد عبد الله بن محمد الفياض الكاتب، وأبي الحسن علي بن محمد الشمشاطي، قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت، كقول أبي الطيب المتنبي:
خليلي إني لا أرى غير شاعر ... فلم منهم الدعوى ومني القصائد
فلا تعجبا إن السيوف كثيرة ... ولكن سيف الدولة اليوم واحد
له من كريم الطبع في الحرب منتض ... ومن عادة الإحسان والصفح عامد
ولما رأيت الناس دون محله ... تيقنت أن الدهر للناس ناقد
ومن القصيدة المرموقة:
فلم يبق إلا من حماها من الظبا ... لما شفتيها والثدي النواهد
تبكي عليهن الباطريق في الدجى ... وهن لدينا ملقيات كواسد
بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد
ومن شرف الإقدام أنك فيهم ... على القتل مرموق كأنك شاكد
وأن دماً أجريته بك فاخر ... وأن فؤاداً رعته لك حامد
وكل يرى طرق الشجاعة والندى ... ولكن طبع النفس للنفس قائد
نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدنيا بأنك خالد
فأنت حسام الملك والله ضارب ... وأنت لواء الدين والله عاقد
أحبك يا شمس الزمان وبدره ... وإن لامني فيك السهى والفراقد
وذاك لأن الفضل عندك باهر ... وليس لأن العيش عندك بارد
وكقول السري بن أحمد الموصلي:
أعزمتك الشهاب أم النهار ... أراحتك السحاب أم البحار
خلقت منية ومنى فأضحت ... تمور بك البسيطة أو تمار
تحلي الدين أو تحمي حماه ... فأنت عليه سور أو سوار
سيوفك من شكاة الثغر برء ... ولكن للعدى فيها بوار
وكفاك الغمام الجون يسري ... وفي أحشائه ماء ونار
يمين من سجيتها المنايا ... ويسري من عطيتها اليسار
حضرنا والملوك له قيام ... تغض نواظراً فيها انكسار
وزرنا منه ليث الغاب طلقاً ... ولم نر قبله ليثاً يزار
فكان لجوهر المجد انتظام ... وكان لجوهر المدح انتثار
فعشت مخيراً لك في الأماني ... وكان على العدو لك الخيار
فضيفك للحيا المنهل ضيف ... وجارك للربيع الطلق جار
وكقول أبي فراس الحارث بن سعيد:
أشدة ما أراه فيك اليوم أم كرم ... تجود بالنفس والأرواح تصطلم
يا باذل النفس والأموال مبتسماً ... أما يهولك لا موت ولا عدم؟
لقد ظننتك بين الجحفلين ترى ... أن السلامة من وقع القنا تصم
نشدتك الله لا تسمح بنفس علا ... حياة صاحبها تحيا بها أمم
إذا لقيت رقاق البيض منفرداً ... تحت العجاج فلم تستكثر الخدم

تفدي بنفسك أقواماً صنعتهمو ... وكان حقهم أن يفتدوك هم
من ذا يقاتل من تلقى القتال به ... وليس يفضل عنك الخيل والبهم
تضن بالطعن عنا ضن ذي بخل ... ومنك في كل حال يعرف الكرم
لا تبخلن على قوم إذا قتلوا ... أثنى عليك بنو الهيجاء دونهم
ألبست ما لبسوا أركبت ما ركبوا ... عرفت ما عرفوا علمت ما علموا
هم الفوارس في أيديهم أسل ... فإن رأوك فأسد والقنا أجم
وكقول أبي العباس بن محمد النامي:
خلقت كما أرادتك المعالي ... فأنت لمن رجاك كما يريد
عجيب أن سيفك ليس يروى ... وسيفك في الوريد له ورود
وأعجب منه رمحك حين يسقى ... فيصحو وهو نشوان يميد
وكقول أبي الفرج الببغاء:
نداك إذا ضن الغمام غمام ... وعزمك إن فل الحسام حسام
فهذا ينيل الرزق وهو ممنع ... وذاك يرد الجيش وهو لهام
ومن طلب الأعداء بالمال والظبا ... وبالسعد لم يبعد عليه مرام
وكقول أبي الفرج الوأواء:
من قاس جدواك بالسحاب فما ... أنصف بالحكم بين شكلين
أنت إذا جدت ضاحك أبداً ... وهو إذا جاد دامع العين
وكقول أبي نصر بن نباتة وهو من شعراء العراق:
حاشاك أن تدعيك العرب واحدها ... يا من ثرى قدميه طينة العرب
فإن يكن لك وجه مثل أوجههم ... عند العيان فليس الصفر كالذهب
وإن يكن لك نطق مثل نطقهم ... فليس مثل كلام الله في الكتب
وكانت غمائم جوده تفيض، ومآثر كرمه تستفيض، فتؤرخ بها أيام المجد، وتخلد في صحائف حسن الذكر.

فصل في انفجار ينابيع جوده على الشعراء
حدثني أبو الحسن علي بن محمد العلوي الحسيني الهمداني الوصي، قال: كنت واقفاً في السماطين بين يدي سيف الدولة بحلب، والشعراء ينشدونه، فتقدم إليه أعرابي رث الهيئة، فاستأذن الحجاب في الإنشاد، فأذنوا له، فأنشد:
أنت علي وهذه حلب ... قد نفذ الزاد وانتهى الطلب
بهذه تفخر البلاد وبالأمير ... تزهى على الورى العرب
وعبدك الدهر قد أضر بنا ... إليك من جور عبدك الهرب
فقال سيف الدولة، " أحسنت، والله أنت! " . وأمر له بمائتي دينار.
وحكى ابن لبيب غلام أبي الفرج الببغاء أن سيف الدولة كان قد أمر بضرب دنانير للصلات في كل دينار منها عشرة مثاقيل، وعليه اسمه وصورته، فأمر يوماً لأبي الفرج منها بعشرة دنانير، فقال ارتجالاً:
نحن بجود الأمير في حرم ... نرتع بين السعود والنعم
أبدع من هذه الدنانير لم ... يجر قديماً في خاطر الكرم
فقد غدت باسمه وصورته ... في دهرنا عوذة من العدم
فزاده عشرة أخرى.
وكان أبو فراس يوماً بين يديه في نفر من ندمائه، فقال لهم سيف الدولة: أيكم يجيز قولي، وليس له إلا سيدي - يعني أبا فراس - :
لك جسمي تعله ... فدمي لم تحله
لك من قلبي المكا ... ن فلم لا تحله
فارتجل أبو فراس، وقال:
أنا إن كنت مالكاً ... فلي الأمر كله
فاستحسنه وأعطاه ضيعة بمنبج تغل ألفي دينار.
واستنشد سيف الدولة يوماً أبا الطيب المتنبي قصيدته التي أولها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
وكان معجباً بها كثير الاستعادة لها، فاندفع أبو الطيب المتنبي ينشدها، فلما بلغ قوله فيها:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمةً ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
قال: قد انتقدنا عليك هذين البيتين، كما انتقد على امرئ القيس بيتاه:
كأني لم أركب جواداً للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
وبيتاك لا يلتئم شطراهما، كما ليس يلتئم شطرا هذين البيتين، وكان ينبغي لامرئ القيس أن يقول:

كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولك أن تقول
وقفت وما في الموت شك لواقف ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
فقال: أيد الله مولانا! إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا كان أعلم بالشعر منه، فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا، ومولانا يعلم أن الثوب لا يعرفه البزاز معرفة الحائك، لأن البزاز يعرف جملته، والحائك يعرف جميلته وتفاريقه، لأنه هو الذي أخرجه من الغزلية إلى الثوبية، وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد! وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء، وأنا لما ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى - وهو الموت - ليجانسه، ولما كان وجه الجريح المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوساً، وعينه من أن تكون باكية، قلت " ووجهك وضاح وثغرك باسم " لأجمع بين الأضداد في المعنى، وإن لم يتسع اللفظ لجميعها. فأعجب سيف الدولة بقوله، ووصله بخمسين ديناراً من دنانير الصلات، وفيها خمسمائة دينار.
وكان أبو بكر وأبو عثمان الخالديان من خواص شعراء سيف الدولة، فبعث إليهما مرة وصيفة ووصيفاً، ومع كل واحد منهما بدرة وتخت من ثياب مصر، فقال أحدهما من قصيدة طويلة، وهي:
لم يغد شكرك في الخلائق مطلقاً ... إلا ومالك في النوال حبيس
خولتنا شمساً وبدراً أشرقت ... بهما لدينا الظلمة الحنديس
رشأ أتانا وهو حسناً يوسف ... وغزالة هي بهجة بلقيس
هذا، ولم تقنع بذاك وهذه ... حتى بعثت المال وهو نفيس
أتت الوصيفة وهي تحمل بدرة ... وأتى على ظهر الوصيف الكيس
وبررتنا مما أجادت حوكه ... مصر، وزادت حسنه تنيس
فغدا لنا من جودك المأكول وال ... مشروب والمنكوح والملبوس
فقال له سيف الدولة: أحسنت إلا في لفظة " المنكوح " ، فليست مما يخاطب بها الملوك، وهذا من عجيب نقده.
حكى أبو إسحق إبراهيم بن هلال الصابي، قال: طلب مني رسول سيف الدولة - وكان قد قدم إلى الحضرة - شيئاً من شعري، وذكر أن صاحبه رسم له ذلك، فدافعته أياماً، ثم ألح علي وقت الخروج فأعطيته هذه الثلاثة الأبيات، وهي:
إن كنت خنتك في الأمانة ساعة ... فذممت سيف الدولة المحمودا
وزعمت أن له شريكاً في العلا ... وجحدته في فضله التوحيدا
قسماً لو أني حالف بغموسها ... لغريم دين ما أراد مزيدا
وقال فلما عاد الرسول إلى الحضرة، ودخلت عليه مسلماً، أخرج لي كيساً بختم سيف الدولة مكتوباً عليه اسمي، وفيه ثلاثمائة دينار.

نبذ من ذكر وقائعه وغزواته
حدث أبو عبد الله الحسين بن خالويه، قال: لما كانت الشام بيد الإخشيد محمد محمد بن طغج سار إليها سيف الدولة فافتتحها، وهزم عساكره عن صفين، فقال له المتنبي:
يا سيف دولة ذي الجلال ومن له ... خير الخلائف والأنام سمي
أو ما ترى صفين كيف أتيتها ... فانجاب عنها العسكر الغربي
فكأنه جيش ابن حرب رعته ... حتى كأنك يا علي علي
وقال أبو فراس من قصيدة طويلة:
أتى الشام لما استذأب البهم واغتدت ... بها أذؤب البيداء وهي قساور
فثقف منآد، وأصلح فاسد ... وذلل جبار، وأذعر ذاعر
وكان ظهر رجل في المغرب يعرف بالمبرقع يدعو الناس إلى نفسه، والتفت عليه القبائل، وافتتح مدائن من أطراف الشام، وأسر أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان، وهو خليفة سيف الدولة على حمص، وألزمه شراء نفسه بعدد من الخيل وجملة من المال، فأسرع سيف الدولة من حلب يغذ السير جتى لحقه في اليوم الثالث بنواحي دمشق، فأوقع به، وقتله، ووضع السيف في أصحابه، فلم ينج إلا من سبق فرسه، وعاد سيف الدولة إلى حلب ومعه أبو وائل، وبين يديه رأس الخارجي على رمح، فقال أبو فراس يذكر ذلك:

وأنقذ من مس الحديد وثقله ... أبا وائل، والدهر أجدع صاغر
وآب ورأس القرمطي أمامه ... له جسد من أكعب الرمح ضامر
وهذا من أحسن ما قيل في الرأس المصلوب على الرمح.
ولبعضهم في مثل ذلك:
وعاد لكنه رأس بلا جسد ... يسري، ولكن على ساق بلا قدم
وقال أبو الطيب في خلاص أبي وائل:
ولو كنت في أسر غير الهوى ... ضمنت ضمان أبي وائل
فدى نفسه بضمان النضار ... وأعطى صدور القنا الذابل
ومناهم الخيل مجنوبة ... فجئن بكل فتىً باسل
كأن خلاص أبي وائل ... معاودة القمر الآفل
دعا فسمعت وكم ساكت ... على البعد عندك كالقائل
فلبيته بك في جحفل ... له ضامن وبه كافل
وعدت إلى حلب ظافراً ... كعود الحلي إلى العاطل
وكان سيف الدولة اصطنع بني كلاب، وأدناهم، وآمن سربهم، فقهروا العرب وعلت كلمتهم، إلى أن بدرت منهم جفوة أحفظته فأسرى إليهم، وأوقع بهم، وملك حرمهم وأموالهم، ثم صفح عنهم وكرم، وجمع الحرم، ووكل بهن الخدم وأفضل عليهن، فقال أبو الطيب من قصيدة:
فعدن كما أخذن مكرمات ... عليهن القلائد والملاب
يثبنك بالذي أوليت شكراً ... وأين من الذي تولي الثواب
وليس مصيرهن إليك شيناً ... ولا في صونهن لديك عاب
ولا في فقدهن بني كلاب ... إذا أبصرن غرتك اغتراب
وكيف يتم بأسك في أناس ... تصيبهم فيؤلمك المصاب
ترفق أيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب
هذا كلام ما لحسنه غاية.
وعين المخطئين هم، وليسوا ... بأول معشر خطئوا فتابوا
وأنت حياتهم غضبت عليهم ... وهجر حياتهم لهم عقاب
وما جهلت أياديك البوادي ... ولكن ربما خفي الصواب
وكم ذنب مولده دلال ... وكم بعد مولده اقتراب
وجرم جره سفهاء قوم ... وحل بغير جارمه العذاب
كأنما اقتبسه من قول الله سبحانه: " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " ونحو من هذا قول زياد في خطبته البتراء " والله لآخذن المحسن بالمسيء "
ولو غير الأمير غزا كلاباً ... ثناه عن شموسهم ضباب
وما أحسن ما كني عن الحرم بالشموس، وعن المحاماة دونهم بالضباب.
ولكن ربهم أسرى إليهم ... فما نفع الوقوف ولا الذهاب
كذا فليسر من طلب المعالي ... ومثل سراك فليكن الطلاب
وكتب إليه أبو فراس في تلك الحال يداعبه:
وما أنس لا أنس يوم المغار ... محجبة لفظتها الحجب
دعاك ذووها بسوء الفعال ... لما لا تشاء وما لا تحب
فوافتك تعثر في مرطها ... وقد رأت الموت من عن كثب
وقد خلط الخوف لما طلع ... ت دل الجمال بذل الرعب
تسرع في الخطو لا خفة ... وتهتز في المشي لا من طرب
فلما بدت لك دون البيوت ... بدا لك منهن جيش لجب
وما زلت، مذ كنت، تأتي الجميل ... وتحمي الحريم وترعى الحسب
وتغضب حتى إذا ما ملكت ... أطعت الرضا وعصيت الغضب
فكنت حماهن إذ لا حمى ... وكنت أباهن إذ ليس أب
فولين عنك يفدينها ... ويرفعن من ذيلها ما انسحب
ينادين بين خلال البيو ... ت لا يقطع الله نسل العرب
أمرت وأنت المطاع الكريم ... يبذل الأمان ورد النهب
وقد رحن من مهجات القلوب ... بأوفر غنم وأغلى نشب
فإن هن يا بن الكرام السراة ... رددن القلوب رددنا السلب
وقال أيضاً يمدحه ويذكر نسوة بني كلاب:
قد ضج جيشك من طول القتال به ... وقد شكتك إلينا الخيل والإبل

وقد درى الروم مذ جاورت أرضهم ... أن ليس يعصمهم سهل ولا جبل
في كل يوم تزور الثغر لا ضجر ... يثنيك عنه، ولا شغل، ولا ملل
فالنفس جاهدة، والعين ساهرة، ... والجيش منهمك، والمال مبتذل
توهمتك كلاب غير قاصدها ... وقد تكنفك الأعداء والشغل
حتى رأوك أمام الجيش تقدمه ... وقد طلعت عليهم دون ما أملوا
فاستقبلوك بفرسان أسنتها ... سود البراقع والأكوار والكلل
فكنت أكرم مسئول وأفضله ... إذا وهبن فلا من ولا بخل
ويقال: إن سيف الدولة غزا الروم أربعين غزوة له وعليه، فمنها أنه أغار على زبطرة وعرقة وملطية ونواحيها فقتل وأحرق وسبى، وانثنى قافلاً إلى درب موزار فوجد عليه قسطنطين بن فردس الدمستق فأوقع به وقتل صناديد رجاله، وعقب إلى للدانه وقد تراجع من هرب منها فأعظم القتل وأكثر الغنائم، وقد عبر الفرات إلى بلد الروم، ولم يفعله أحد قبله، حتى أغار على بطن هنزيط، فلما رأى فردس بعد مغزاة وخلو بلاد الشام منه غزا نواحي أنطاكية، فأسرى سيف الدولة يطوي المراحل: لا ينتظر متأخراً، ولا يلوي على متقدم، حتى عارضه بمرعش، فأوقع به وهزمه، وقتل رؤوس البطارقة، وأسر قسطنطين بن الدمستق، وأصابت الدمستق ضربة في وجهه، وأكثر الشعراء في هذه الوقعة، فقال أبو الطيب:
لكل امرئ من دهره ما تعودا ... وعادات سيف الدولة الطعن في العدا
وأن يكذب الإرجاف عنه بضده ... ويمسي بما تنوي أعاديه أسعدا
ورب مريد ضره ضر نفسه ... وهاد إليه الجيش أهدى وما هدى
ومنها:
سريت إلى جيحان من أرض آمد ... ثلاثاً، لقد أدناك ركض وأبعدا
فولى وأعطاك ابنه وجيوشه ... جميعاً ولم يعط الجميع لتحمدا
وما طلبت زرق الأسنة غيره ... ولكن قسطنطين كان له الفدا
وقال أبو فراس:
وآب بقسطنطين وهو مكبل ... تحف بطاريق به وزرازر
وولى على الرسم الدمستق هارباً ... وفي وجهه عذر من السيف عاذر
فدى نفسه بابن عليه كنفسه ... وللشدة الصماء تقنى الذخائر
وقد يقطع العضو النفيس لغيره ... وتدفع بالأمر الكبير الكبائر
وسار سيف الدولة لبناء الحدث - وهي قلعة عظيمة الشأن - فاشتد ذلك على ملك الروم، فجمع عظماء أهل مملكته، وجهزهم بالصليب الأعظم وعليهم فردس الدمستق، ثائراً بابنه قسطنطين في عدد لا يحصى، حتى أحاطوا بعسكر سيف الدولة، والتهبت الحرب، واشتد الخطب، وساءت ظنون المسلمين، ثم أنزل الله نصره، فحمل سيف الدولة يخرق الصفوف طلباً للدمستق، فولى هارباً، وأسر صهره وابن بنته، وقتل خلق كثير من الروم، وأكثر الشعراء في هذه الوقعة، فقال أبو الطيب وذكر الحدث:
بناها فأعلى والقنا تقرع القنا ... وموج المنايا حولها متلاطم
وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم
تفيت الليالي كل شيء أخذته ... وهن لما لما يأخذن منك غوارم
وذكر ولد الدمستق فقال:
وقد فجعته بابنه وابن صهره ... وبالصهر حملات الأمير الغواشم
مضى يشكر الأصحاب في فوته الظبا ... بما شغلتها هامهم والمعاصم
ويفهم صوت المشرفية فيهم ... على أن أصوات السيوف أعاجم
يسر بما أعطاك لا عن جهالة ... ولكن مغنوماً نجا منك غانم
وقال السري في بناء الحدث:
رفعت بالحدث الحصن الذي خفضت ... منه الحوادث حتى ذل جانبه
أعدته عدوياً في مناسبه ... من بعد ما كان رومياً مناسبه
فقد وفى عرضه بالبيد واعترضت ... طولاً على منكب الشعرى مناكبه
مصغ إلى الجو أعلاه فإن خفقت ... زهر الكواكب خلناها تخاطبه
كأن أبراجه من كل ناحية ... أبراجها والدجى وحف غياهبه
ولأبي فراس في ذكرها:

رأى الثغر مثغوراً فسد بسيفه ... فم الدهر عنه وهو سغبان فاغر

ملح شعر سيف الدولة
ومما أنشدني أبو الحسن محمد بن أحمد الإفريقي المتيم لسيف الدولة في وصف قوس قزح، وهو أحسن ما سمعت فيه على كثرته:
وساق صبيح للصبوح دعوته ... فقام وفي أجفانه سينة الغمض
يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فمن بين منقض علينا ومنفض
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفاً ... على الجو دكناً والحواشي على الأرض
يطرزها قوس الغمام بأصفر ... على أحمر في أخضر تحت مبيض
كأذيال أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض أقصر من بعض
وهذا من التشبيهات الملوكية التي لا يكاد يحضر مثلها السوقة، ونظيره قول ابن المعتز في وصف الهلال:
فانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وقول أبي فراس - وهو مما يعرب عن استخدامه نفائس الفرس - :
وكأنما البرك الملاء تحفها ... ألوان ذاك الروض والزهر
بسط من الديباج بيض فروزت ... أطرافها بفرواز خضر
وقوله من قصيدة:
والماء يفصل بين الزهر ال ... روض في الشطين فصلا
كبساط وشي جردت ... أيدي القيون عليه نصلا
وأنشدني أبو الحسن العلوي الهمداني، قال: أنشدني سيف الدولة لنفسه. وأنا أراه من قوله في صباه:
أقبله على جزع ... كشرب الطائر الفزع
رأى ماء فأطعمه ... وخاف عواقب الطمع
وصادف فرصة فدنا ... ولم يلتذ بالجرع
ينظر معناها إلى قول ابن المعتز:
فكم عناق لنا وكم قبل ... مختلسات حذار مرتقب
نقر العصافير وهي خائفةمن النواطير يانع الرطب
ويحكى أنه كانت لسيف الدولة جارية من بنات ملوك الروم، لا يرى الدنيا إلا بها، ويشفق من الريح الهابة عليها، فحسدتها سائر حظاياه على لطف محلها منه، وأزمعن إيقاع مكروه بها من سم أو غيره، وبلغ سيف الدولة ذلك، فأمر بنقلها إلى بعض الحصون احتياطاً على روحها، وقال:
راقبتني العيون فيك فأشفق ... ت ولم أخل قط من إشفاق
ورأيت العذول يحسدني في ... ك مجداً يا أنفس الأعلاق
فتمنيت أن تكوني بعيداً ... والذي بيننا من الود باق
رب هجر يكون من خوف هجر ... وفراق يكون خوف فراق
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي، قال: أنشدني ابن خالويه بحلب لسيف الدولة:
تجنى علي الذنب والذنب ذنبه ... وعاتبني طلماً وفي شقه العتب
وأعرض لما صار قلبي بكفه ... فهلاً جفاني حين كان لي القلب!
إذا برم المولى بخدمة عبده ... تجنى له ذنباً وإن لم يكن ذنب
يشبه هذا المعنى:
وإذا ما الجفاء جهز جيشاً ... سبقته طليعة من تجنى
وأنشد أبو الحسن أحمد بن فارس، قال: أنشدني شاعر يعرف بالمتيم لسيف الدولة:
قد جرى في دمعه دمه ... فإلى كم أنت تظلمه؟
رد عنه الطرف منك فقد ... جرحته منك أسهمه
كيف يستطيع التجلد من خطرات الوهم تؤلمه؟
وأنشدني غير واحد له في أخيه ناصر الدولة أبي محمد عند وحشة جرت بينهما.:
رضيت إليك العليا وقد كنت أهلها ... وقلت لهم بيني وبين أخي فرق
ولم يك بي عنها نكول، وإنما ... تجافيت عن حقي فتم لك الحق
ولابد لي من أن أكون مصلياً ... إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق
وأنشدت له أيضاً في وصف نار الكانون:
كأنما النار والرماد معاً ... وضوءها في ظلامه يحجب
وجنة عذراء مسها خجل ... فاستترت تحت عنبر أشهب
نظيرهما في الحسن قول كشاجم:
كأنما الجمر والرماد وقد ... كاد يواري من ناره النورا
ورد جني القطاف أحمر قد ... ذرت عليه الأكف كافورا
وقول أبي طالب المأموني:
ما ترى كيف أسقمها ال ... قر فأصحت تخبوا وطوراً تسعر

وغدا الجمر والرماد عليه ... في قميص مذهب ومعنبر

الباب الثالث
في ذكر أبي فراس
الحارث بن سعيد بن حمدان وأخباره وغرر أخباره وأشعاره
هو ابن عم سيف الدولة المقدم ذكره، وابن عم ناصر الدولة.
كان فرد دهره، وشمس عصره، أدباً وفضلاً، وكرماً ونبلاً، ومجداً وبلاغة وبراعة، وفروسية وشجاعة، وشعره مشهور سائر بين الحسن والجودة، والسهولة والجزالة، والعذوبة والفخامة، والحلاوة والمتانة، ومعه رواء الطبع، وسمة الظرف، وعزة الملك. ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلا في شعر عبد الله بن المعتز، وأبو فراس يعد أشعر منه عند أهل الصنعة ونقدة الكلام، وكان الصاحب يقول: " بدئ الشعر بملك، وختم بملك " يعني امرأ القيس وأبا فراس، وكان المتنبي يشهد له بالتقدم والتبريز، ويتحامى جانبه فلا ينبري لمباراته، ولا يجترئ على مجاراته، وإنما لم يمدحه ومدح من دونه من آل حمدان تهيباً له وإجلالاً، لا إغفالاً وإخلالاً. وكان سيف الدولة يعجب جداً بمحاسن أبي فراس، ويميزه بالإكرام عن سائر قومه، ويصطنعه لنفسه، ويصطحبه في غزواته، ويستخلفه على أعماله، وأبو فراس ينثر الدر الثمين في مكاتباته إياه، ويوفيه حق سؤدده، ويجمع بين أدبي السيف والقلم في خدمته.
قطعة من أخباره مع سيف الدولة وأشعاره فيه
سوى الروميات
حكى ابن خالويه قال: " كتب أبو فراس إلى سيف الدولة،وقد شخص من حضرته إلى منزله بمنبج كتاباً صدره: " كتابي - أطال الله بقاء مولانا! - من المنزل وقد وردته ورود السالم الغانم مثقل البطن والظهر وفراً وشكراً " . فاستحسن سيف الدولة بلاغته، ووصف براعته. وبلغ أبا فراس ذلك فكتب إليه:
هل للفصاحة والسما ... حة والعلا عني محيد
إذ أنت سيدي الذي ... ربيتني، وأبي سعيد
في كل يوم أستفي ... د من العلاء وأستزيد
ويزيد في إذا رأي ... تك في الندى خلق جديد
وكان سيف الدولة قلماً ينشط لمجلس الأنس؛ لاشتغاله عنه بتدبير الجيوش وملابسة الخطوب، وممارسة الحروب، فوافت حضرته إحدى المحسنات من قيان بغداد، فتاقت نفس أبي فراس إلى سماعها، ولم ير أن يبدأ باستدعائها قبل سيف الدولة، فكتب إليه يحثه على استحضارها، فقال:
محلك الجوزاء أو أرفع ... وصدرك الدهناء بل أوسع
وقلبك الرحب الذي لم يزل ... للجد والهزل به موضع
رقه بقرع العود سمعاً غدا ... قرع العوالي جل ما يسمع
فبلغت هذه الأبيات المهلبي الوزير فأمر القيان والقوالين بحفظها وتلحينها، وصار لا يشرب إلا عليها.
وكتب أبو فراس إلى سيف الدولة:
يا أيها الملك الذي ... أضحت له جمل المناقب
نتج الربيع محاسناً ... ألحقنها غرر السحائب
راقت ورق نسيمها ... فحكت لنا صور الحبائب
حضر الشراب فلم يطب ... شرب الشراب وأنت غائب
وتأخر حضرته لعلة وجدها، فكتب إليه:
لقد نافسني الدهر ... بتأخيري عن الحضرة
فما ألقى من العل ... ة ما ألقى من الحسرة
وأهدى الناس إلى سيف الدولة في بعض الأعياد وأكثروا، فكتب إليه أبو فراس:
نفسي فداؤك قد بعث ... ت تهدي بيد الرسول
أهديت نفسي، إنما ... يهدي الجليل إلى الجليل
وجعلت ما ملكت يدي ... صلة المبشر بالقبول
لما رأيتك في الأنا ... م بلا مثال أو عديل
وكتب إليه يعاتبه:
قد كنت عدتي التي أسطو بها ... ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي
فرميت منك بغير ما أملته ... والمرء يشرق بالزلال البارد
فصبرت كالولد التقي لبره ... أغضى على ألم لضرب الوالد
وعزم سيف الدولة على الغزو، واستحلاف أبي فراس على الشام، فكتب إليه قصيدة منها:
قالوا المسير فهز الرمح عامله ... وارتاح في جفنه الصمصامة الخذم
حقاً لقد ساءني أمر ذكرت له ... لولا فراقك لم يوجد له ألم
لا تشغلن بأمر الشام تحرسه ... إن الشام على من حله حرم

وإن للثغر سوراً من مهابته ... فهي الحياة التي تحيا بها النسم
وما اعترضت عليه في أوامره ... لكن سألت، ومن عاداته " نعم "
وقال له:
وما لي لا أثني عليك وطالما ... وفيت بعهدي والوفاء قليل
وأوعدتني حتى إذا ما ملكتني ... صفحت، وصفح المالكين جميل
وكتب إليه يعزيه:
لا بد من فقد ومن فاقد ... هيهات ما في الناس من خالد
كن المعزي لا المعزى به ... إن كان لا بد من الواحد
وكتب إليه:
أيا عاتباً لا أحمل الدهر عتبه ... علي، ولا عندي لأنعمه جحد
سأسكت إجلالاً لعلمك أنني ... إذا لم تكن خصمي لي الحجج اللد
وكان لسيف الدولة غلام يقال له نجا، قد اصطنعه ونوه باسمه وقلده طرسوس وأخذ يقرع باب العصيان والكفران، وزاد تبسطه وسوء عشرته لرفقائه، فبطش به ثلاثة نفر منهم وقتلوه. فشق ذلك على سيف الدولة، وأمر بقتل فتكته فكتب إليه أبو فراس:
ما زلت تسعى بجد ... برغم شانيك مقبل
ترى لنفسك أمراً ... وما يرى الله أفضل
وكتب إليه يستعطفه:
إن لم تجاف عن الذنو ... ب وجدتها فينا كثيره
لكن عادتك الجمي ... لة أن تغض على بصيره
وكتب إليه يستعطفه:
دع العبرات تنهمر انهمارا ... ونار الشوق تستعر استعارا
أتطفأ حسرتي وتقر عيني ... ولم أوقد مع الغازين نارا
أقمت على الأمير وكنت ممن ... تعز عليه فرقته اختيارا
إذا سار الأمير فلا هدواً ... لنفس أو يؤوب، ولا قرارا
ستذكرني إذا طردت رجال ... دققت الرمح بينهم مرارا
وأرض كنت أملؤها رجالاً ... وجو كنت أرهجه غبارا
إذا بقي الأمير قرير عين ... فديناه اختياراً واضطرارا
يمد على أكابرنا جناحاً ... ويكفل عند حاجتها الصغارا
أراني الله طلعته سريعاً ... وأصحبه السلامة حيث سارا
وبلغه أمانيه جميعاً ... وكان له من الحدثان جارا
وكتب إليه:
ألا من مبلغ سروات قومي ... إذا حدثن جمجمن الكلاما
بأني لم أدع فتيات قومي ... وسيف الدولة الملك الهماما
شريت ثناءهن ببذل نفسي ... ونار الحرب تضطرم اضطراما
ولما لم أجد إلا فراراً ... أشد من المنية أو حماما
حملت على ورود الموت نفسي ... وقلت لصحبتي موتوا كراما
وهل عذر وسيف الدين ركني ... إذا لم أركب الخطط العظاما
وهل فعله في كل أمر ... وأجعل فضله أبداً إماما
وقد أصبحت منتسباً إليه ... وحسبي أن أكون له غلاما
أراني كيف أكتسب المعالي ... وأعطاني على الدهر الذماما
ورباني فققت به البرايا ... وأنشأني فسدت به الأناما
فأحياه الإله لنا طويلاً ... وزاد الله نعمته دواما

ما أخرج من فخرياته
قال من قصيدة يذكر فيها إيقاعه ببني كعب وهو على مقدمة سيف الدولة وكان قد حسن بلاؤه في تلك الوقعة:
ألم ترنا أعز الناس جاراً ... وأمنعهم وأمرعهم جنابا
لنا الجبل المطل على نزار ... حللنا النجد منه والهضابا
يفضلنا الأنام ولا نحاشي ... بأنا الرأس والناس الذنابى
ولما أن طغت سفهاء كعب ... فتحنا بيننا للحرب بابا
منحناها الحرائب غير أنا ... إذا جارت منحناها الحرابا
ولما ثار سيف الدين ثرنا ... كما هيجت آساداً غضابا
أسنته إذا لاقى طعاناً ... صوارمه إذا لاقى ضرابا
دعانا والأسنة مشرعات ... فكنا عند عودته الجوابا
صنائع فاق صانعها ففاقت ... وغرس طاب غارسه فطابا
وكنا كالسهام إذا أصابت ... مراميها فراميها أصابا

هذا أحسن ما قيل في معناه، وقد أخذه الأستاذ أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي في كتاب فتح تولاه للصاحب بأصفهان وهنأ مولاه كافي الكفاة، فكتب هذه المناجح التي هي نتائج عزائمه، وثمرات صرائمه، فما يرى عبده وصنيعته، وسائر من يكنفه ظله وتريشه عنايته، نفوسهم إذا وفقوا لمذهب من مذاهب الخدمة وهدوا لأداء حق من حقوقه النعمة، إلا سهاماً إذا أصابت فراميها المصيب، وما لها في المحمدة نصيب " .
ولأبي فراس من قصيدة أولها:
أيلحاني على العبرات لاحي ... وقد يئس العواذل من صلاحي
تملكني الهوى بعد التآبي ... وراضني الهوى بعد الجماح
إلا يا هذه هل من مقيل ... لضيفان الصبابة أو مراح
فلولا أنت ما قلقت ركابي ... ولا هابت إلى نجد رياحي
ومنها:
ومن جراك أوطنت الفيافي ... وفيك غذيت ألبان اللقاح
أصاحب كل خل بالتجافي ... وآسو كل داء بالسماح
إذا ما عن لي أرب بأرض ... ركبت له ضمينات النجاح
ولي عند العداة بكل أرض ... ديون في كفالات الرماح
وله من قصيدة كتب بها إلى جعفر بن ورقاء:
إنا إذا اشتد الزما ... ن وناب خطب وادلهم
ألفيت حول بيوتنا ... عدد الشجاعة والكرم
للقا العدا بيض السيو ... ف وللندى حمر النعم
هذا وهذا دأبنا ... يودى دم ويراق دم
وله من قصيدة أولها:
أقلي فأيام المحب قلائل ... وفي قلبه شغل عن اللوم شاغل
ويقول فيها:
تطالبني البيض الصوارم والقنا ... بما وعدت جدي في المخايل
والله ما قصرت في طلب العلا ... ولكن كأن الدهر عني غافل
مواعيد أيام تطالبني بها ... مراءات أزمان ودهر مخاتل
وأخلاف أيام عما أريغه ... كما دفع الدين الغريم المماطل
خليلي، شدا لي على ناقتيكما ... إذا ما بدا شيب من الفجر ناصل
فمثلي من نال المعالي بسيفه ... وربتما غالته عنها الغوائل
وما كل طلاب من الناس بالغ ... ولا كل سيار إلى المجد واصل
وإن مقيماً منجح العز خائب ... وإن مريعاً خائب الجهد نائل
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... وإني لها فوق السماكين جاعل
أصاغرنا في المكرمات أكابر ... وآخرنا في المأثرات أوائل
إذا صلت صولاً لم أجد لي مصاولاً ... وإن قلت قولاً لم أجد من يقاول
وله من قصيدة أخرى:
عذيري من طوالع في عذاري ... ومن رد الشباب المستعار
وثوب كنت ألبسه أنيق ... أجرر ذيله بين الجواري
وما زادت عن العشرين سني ... فما عذر المشيب إلى عذاري؟
أخذه من قول أبي نواس:
وإذا عددت السن كم هي لم أجد ... للشيب عذراً للنزول براسي
رجع وما استمتعت من راعي النصابي ... إلى أن جاءني داعي الوقار
تلاعب بي على هوج المطايا ... خلائق لا تقر على الصغار
ونفس دون مطلبها الثريا ... وكف دونها فيض البحار
وما يغنيك من هم طوال ... إذا قرنت بأحوال قصار
عزيز حيث حط السير رحلي ... تداريني الأنام ولا أداري
فأهلي من أنخت إليه عيسي ... وداري حيث كنت من الديار
وله:
لنا بيت على عنق الثريا ... بعيد مذاهب الأطناب سامي
تظلله الفوارس بالعوالي ... وتفرشه الولائد بالطعام
وله:
لقد علمت سراة الحي أنا ... لنا الجبل الممنع جانباه
يفيء الراغبون إلى ذراه ... ويأوي الخائفون إلى حماه
وله:
لئن خلق الأنام لحث كأس ... ومزمار وطنبور وعود
فلم يخلق بنو حمدان إلا ... لمجد أو لبأس أو لجود
وله:

علونا جوشناً بأشد منه ... وأثبت عند مشتجر الرماح
بجيش جاش بالفرسان حتى ... ظننت البر بحراً من سلاح
وألسنة من العذبات حمر ... تخاطبنا بأفواه الرياح
وأروع جيشه ليل بهيم ... وغرته عمود للصباح
صفوح عند قدرته كريم ... قليل الصفح ما بين الصفاح
وكان ثباته للقلب قلباً ... وهيبته جناحاً للجناح
وله من قصيدة:
قتلت فتى بني عمرو بن عبد ... وأوسعهم على الضيفان ساحا
ولست أرى فساداً في فساد ... يجر على فريقيه صلاحا
كان سيف الدولة قد أبعد كلاباً وشردها، فقصدت أبا فراس وهو ببالس في خف من أصحابه، وعليهم كثير من عوسجة، فهزمهم، ثم طرحوا أنفسهم عليه وقدمت وفودهم إليه، فخرج وتوسط في أمرهم مع سيف الدولة، وقال في ذلك:
سلي عنا سراة بني كلاب ... ببالس عند مشتجر العوالي
لقيناهم بأسياف قصار ... كفين مؤونة الأسل الطوال
فولى بابن عوسجة كثير ... وساغ الخطو في صنك المجال
يرى البرغوث إذ نجاه منا ... أجل عقيلة وأحب مال
تدور به إماء بني قريط ... وتسأله النساء عن الرجال
يقلن له السلامة خير غنم ... وإن الذل في ذاك المقال
وعادوا سامعين لنا فعدنا ... إلى المعهود من شرف الفعال
ونحن متى رضينا بعد سخط ... أسونا ما جرحنا بالنوال
أخذه من قول أبي نواس:
وكلت بالدهر عيناً غير غافلة ... بجود كفك تأسو كل ما جرحا
وله من قصيدة أولها:
وقوفك بالديار عليك عار ... وقد رد الشباب المستعار
ومنها:
وكم من ليلة لم أرو منها ... حننت لها وأرقني ادكار
عسفت بها عواري الليالي ... أحق الخيل بالركض المعار
فبت أعل خمراً من رضاب ... لها سكر وليس لها خمار
إلى أن رق ثوب الليل عنا ... ونادت قم فقد برد السوار
ومنها:
إذا ما العز أصبح في مكان ... سموت له، وإن بعد المزار
مقامي حيث لا أهوى قليل ... ونومي عند من أقلى غرار
أبت لي همتي وغرار سيفي ... وعزمي والمطية والقفار
ونفس لا تجاورها الدنايا ... وعرض لا يرف عليه عار
وقوم مثل من صحبوا كرام ... وخيل مثل من حملت خيار
وكم من بلد شنناهن فيه ... ضحى وعلامنا بره المعار
وكم ملك نزعنا الملك عنه ... وجبار به دمه جبار
وله من قصيدة أخرى:
ولو نيلت الدنيا بفضل منحتها ... فضائل تحويها وتبقى فضائل
ولكنها الأيام تجري بما جرت ... فيسفل أعلاها وتعلو الأسافل
لقد قل أن تلقى من الناس مجملاً ... وأخشى قريباً أن يقل المجامل
ولست بجهم الوجه في وجه صاحبي ... وإن سأل الأعمار ما هو سائل
وله:
بخلت بنفسي أن يقال مبخل ... وأقدمت جبناً أن يقال جبان
وملكي بقايا ما وهبت مفاضة ... ورمح وسيف قاطع وسنان
وله:
بأطراف المثقفة العوالي ... تفردها بأوساط المعالي
وما تحلو مجاني العز يوماً ... إذا لم تجنها سمر العوالي
ممالكنا مكاسبنا إذا ما ... توارثها رجال عن رجال
إذا لم تمس لي نار بأرض ... أبيت لنار غيري غير صالي
وله:
غيري يغيره الفعال الجافي ... ويحول عن شيم الكريم الوافي
لا أرتضي وداً إذا هو لم يدم ... عند الجفاء وقلة الإنصاف
تعس الحريص وقل ما يأتي به ... عوضاً عن الإلحاح والإلحاف
إن الغني هو الغني بنفسه ... ولو أنه عاري المناكب حافي
ما كل ما فوق البسيطة كافياً ... وإذا قنعت فبعض شيء كافي
وتعاف لي طمع الحريص فتوتي ... ومروءتي وقناعتي وعفافي

ما كثرة الخيل العتاق بزائدي ... شرفاً، ولا عدد السوام الضافي
خيلي وإن قلت كثير نفعهابين الصوارم والقنا الرعاف
ومكارمي عدد النجوم، ومنزلي ... مأوى الكرام ومنزل الأضياف
لا أقتني لصروف دهري عدة ... حتى كأن خطوبه أحلافي
شيم عرفت بهن مذ أنا يافع ... ولقد عرفت بمثلها أسلافي
وله:
أتعجب إن ملكنا الأرض قسراً ... وأن تمسي وسائدي العراب
وتربط في مجالسنا المذاكي ... وتنزل بين أرحلنا الركاب
وهذا العز أورثنا العوالي ... وهذا الملك ملكنا الضراب
فقصرك إن حالاً ملكتنا ... لحال لا تذم ولا تعاب
وله:
ونحن أناس لا توسط عندنا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا ... ومن خطب الحسناء لم يغله المهر

الإخوانيات
قال وكتب بها إلى أخيه أبي الهيجاء:
حللت من المجد أعلى مكان ... وبلغك الله أقصى الأماني
فإنك لا عدمتك العلا!أخ لا كإخوة هذا الزمان
كسوت أخوتنا بالصفاء ... كما كسيت بالكلام المعاني
وقال لصديق له وأحسن:
لم أؤاخذك بالجفاء لأني ... واثق منك بالوداد الصريح
فجميل العدو غير جميل ... وقبيح الصديق غير قبيح
وله:
ما كنت تصبر في القدي ... م فلم صبرت الآن عنا
ولقد ظننت بك الظنو ... ن لأنه من ضن ظنا
وقال:
أشفقت من هجري فسل ... طت الظنون على اليقين
وضننت بي فظننت بي ... والظن من شيم الضنين
وقال وكتب ببها إلى أخيه:
ولقد أبيت وجل ما أدعو به ... حتى الصباح وقد أقض المضجع
لا هم إن أخي لديك وديعتي ... أبداً، وليس يضيع ما تستودع
وكتب إلى أبي العشائر وهو أسير بأرض الروم:
نفى النوم عن عيني خيال مسلم ... تأوب من أسماء والركب نوم
وخطب من الأيام أنساني الهوى ... وأحلى بفي الموت والموت علقم
ووالله ما شببت إلا علالة ... ومن نار غير الحب قلبي يضرم
فمن مبلغ عني الحسين ألوكه ... تضمنها در الكلام المنظم
لذيذ الكرى حتى أراك محرم ... ونار الأسى بين الحشا تتضرم
وأترك أن أبكي عليك تطيراً ... وقلبي يبكي والجوانح تلطم
لم يسمع أحسن من هذا البيت في التفجيع بمنكوب.
وأظهر للأعداء فيك جلادة ... وأكتم ما ألقاه، والله يعلم
وما أغربت فيك الليالي وإنها ... لتصدعنا من كل شعب وتثلم
طوارق خطب ما تغب وفودها ... وأحداث أيام تفذ وتتئم
فما عرفتني غير ما أنا عارف ... ولا علمتني غير ما كنت أعلم
ومنها:
أندعو كريماً من يجود بماله ... ومن جاد بالنفس النفيسة اكرم
إذا لم يكن ينجي الفرار من الردى ... على حالة فالصبر أرجى وأحزم
لعمريي لقد أعذرت لو أن مسعداً ... وأقدمت لو أن الكتائب تقدم
وما عايك ابن السابقين إلى العلا ... تأخر أقوام وأنت مقدم
ومالك لا تلقى بمهجتك القنا ... وأنت من القوم الذين هم هم
لعاً يا أخي لا مسك السوء! إنه ... هو الدهر في حاليه بؤسي وأنعم
وكتب إليه قصيدة أخرى منها:
أأبا العشائر إن أسرت فطالما ... أسرت لك البيض الخفاف رجالا
لما أجلت المهر فوق رؤوسهم ... نسجت له حمر الشعور عقالا
ما احسن ما اعتذر له مع إحسانه التشبيه.
يا من إذا حمل الحصان على الوجى ... قال اتخذ حبك التريك نعالا
ما كنت نهزة آخذ يوم الوغى ... لو كنت أوجدت الكميت مجالا
أخذوك في كيد المضايق غيلة ... مثل النساءتربب الرئبالا

زلل من الأيام فيك يقيله ... ملك إذا عثر الزمان أقالا
بالخيل ضمراً والسيوف قواضباً ... والسمر لدناً والرجال عجالا
وقال:
ما كنت مذ كنت إلا طوع خلاني ... ليست مؤاخذة الإخوان من شاني
يجني الخليل فاستحلي جنايته ... حتى أدل على عفوي وإحساني
إذا خليلي لم تكثر إساءته ... فأين موقع إحساني وغفراني
يجني علي وأحنو صافحاً أبداً ... لا شيء أحسن من حان على جاني
وقال:
ما لصاحبي إلا الذي من بشره ... عنوانه في وجهه ولسانه
كم صاحب لم أغن عن إنصافه ... في عشرة وغنيت عن إحسانه
وكتب في وصف كتاب ورد عليه من صديق له:
ووارد مورد أنساً يؤكده ... صدوره عن سليم الورد والصدر
شدت سحائبه منه على نزه ... تقسم الحسن بين السمع والبصر
عذوبة صدرت عن منطق جدد ... كالماء يخرج ينبوعاً من الحجر
وروضة من رياض الفكر دبجها ... صوب القرائح لا صوب من المطر
كأنما نشرت أيدي الربيع بها ... برداً من الوشي أو ثوباً من الحبر
وقال لأبي الحصين القاضي:
من بحر شعرك أغترف ... وبفضل علمك أعترف
أنشدتني فكأنما ... شققت عن در الصدف
شعراً إذا ما قسته ... بجميع أشعار السلف
قصرن دون مداه تق ... صير الحروف عن الألف
وقال أيضاً:
إني عليك أبا حصين عاتب ... والحر يحتمل الصديق ويغفر
وإذا وجدت على الصديق شكوته ... سراً إليه، وفي المحافل أشكر
هكذا شرط الصداقة، لا كما حكاه أبو إسحاق الصابي في قوله:
ومن الظلم أن يكون الرضى س ... راً، ويبدو الإنكار وسط النادي
ومن العدل أن يشاع بهذا ... مثل ما شاع ذاك في الأشهاد

الشكوى والعتاب
سوى ما وقع في الروميات
قال:
أراني وقومي فرقتنا مذاهب ... وإن جمعتنا في الأصول المناسب
فأقصاهم أقصاهم من مساءتي ... وأقربهم مما كرهت الأقارب
غريب وأهلي حيث ما كر ناظري ... وحيد وحولي من رجالي عصائب
نسيبك من ناسبت بالود قلبه ... وجارك من صافيته لا المصاقب
وأعظم أعداء الرجال ثقاتها ... وأهون من عاديته من تحارب
وما الذنب إلا العجز يركبه الفتى ... وما ذنبه إن حاربته المطالب
ومن كان غير السيف كافل رزقهفللذل منه لا محالة جانب
وقال:
مالي أعاتب؟ مالي؟ أين يذهب بي؟ ... قد صرح الدهر لي بالمنع والياس
أبغي الوفاء بدهر لا وفاء له ... كأنني جاهل بالدهر والناس
وقال:
تمنيتم أن تفقدوني، وإنما ... تمنيتم أن تفقدوا العز أصيدا
أما أنا أعلى من تعدون همة؟ ... وإن كنت أدنى من تعدون مولدا
إلى الله أشكو عصبة من عشيرتي ... يسيئون في القول غيباً ومشهدا
وإن حاربوا كنت المجن أمامهم ... وإن ضاربوا كنت المهند واليدا
وإن ناب خطب أو ألمت ملمة ... جعلت لهم نفسي وما ملكت فدا
وقال:
أيا قومنا لا تنشبوا الحرب بيننا ... أيا قومنا لا تقطعوا اليد باليد
فيا ليت داني الرحم منا ومنكم ... إذا لم يقرب بيننا لم يبعد
عداوة ذي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
وقال:
ويغتابني من لو كفاني غيبه ... لكنت له العين البصيرة والأذنا
وعندي من الأخبار ما لو ذكرته ... إذا قرع المغتاب من ندم سنا
وقال:
إذا كان فضلي لا أسوغ نفعه ... فأفضل منه أن أرى غير فاضل
ومن أضيع الأشياء مهحة عاقل ... يجوز على حوبائها حكم جاهل
الغزل والنسيب
قال:

تبسم إذ تبسم عن أقاح ... وأسفر حين أسفر عن صباح
وأتحفني براح من رضاب ... وراح من جنى خد وراح
فمن لألاء غرته صباحي ... ومن صهباء ريقته اصطباحي
وقال:
سكرت من لحظه لا من مدامته ... ومال بالنوم عن عيني تمايله
فما السلاف دهنتي، بل سوالفه ... ولا الشمول ازدهتني، بل شمائله
ألوى بعزمي أصداغ لوين له ... وغال صبري ما تحوي غلائله
وقال:
من أين الرشأ الغرير الأحور ... في الخد مثل عذاره المتحدر
قمر كأن بعارضيه كليهما ... مسكاً تساقط فوق ورد أحمر
وقال:
قد كان بدر السماء حسناً ... والناس في حبة سواء
فزاده ربه عذاراً ... تم به الحسن والبهاء
لا تعجبوا ربنا قدير ... يزيد في الخلق ما يشاء
وقال:
وظبي غرير في فؤادي كناسه ... إذا اكتنست عين الفلاة وحورها
فمن خلقه أجيادها وعيونها ... ومن خلقه عصيانها ونفورها
وقال:
وشادن قال لي لما رأى سقمي ... وضعف جسمي والدمع الذي انسجما
أخذت دمعك من خدي، وجسمك من ... خصري، وسقمك من طرفي الذي سقما
وقال:
أساء فزادته الإساءة حظوة ... حبيب على ما كان منه حبيب
يعد علي الواشيان ذنوبه ... ومن أين للوجه الجميل ذنوب؟
وقال:
أيها الغازي الذي يغ ... زر بجيش الحب جسمي
ما يقوم الأجر في غز ... وك للروم بإثمي
وقال:
وإذا يئست من الدن ... و رغبت في فرط البعاد
أرجو الشهادة في هوا ... ك لأن روحي في جهاد
وقال:
وكنى الرسول عن الجواب تظرفاً ... ولئن كنى فلقد علمنا ما عنى
قل يا رسول ولا تحاش فإنه ... لا بد منه أساء بي أم أحسنا
الذنب لي فيما جناه لأنني ... مكنته من مهجتي فتمكنا
وقال:
عدتني عن زيادته عواد ... أقل مخوفها سمر الرماح
ولو أني أطعت رسيس شوقي ... ركبت إليه أعناق الرياح
وقال:
يا عسوفاً بالمستهام الشفيق ... وعنيفاً على الرفيق الرفيق
أسرق الدمع من نديمي بكأس ... فاحلي عقيانها بالعقيق
وقال:
لطيرتي بالصداع نالت ... فوق منال الصداع مني
وجدت فيه اتفاق سوء ... صدعني مثل صد عني
وقال:
يا ليلة لست أنسى طيبها أبداً ... كأن كل سرور حاضر فيها
باتت وبت وبات الزق ثالثنا ... حتى الصباح تسقيني وأسقيها
كأن سود عناقيد بلمتها ... أهدت سلافتها خمراً إلى فيها
وقال:
مسيء محسن طوراً وطوراً ... فما أدري عدوي أم حبيبي
وبعض الظالمين وإن تناهى ... شهي الظلم مغتفر الذنوب
وقال:
قمر دون حسنه الأقمار ... وكثيب من النقا مستعار
وغزال فيه نفار، وما ين ... كر من شيمة الظباء النفار
لا أعاصيه في اجتراح المعاصي ... في هوى مثله تطيب النار
قد حذرت الملاح دهراً ولكن ... ساقني نحو حبة المقدار
كم أردت السلو فاستعطفتني ... رقية من رقاك يا عيار
وقال:
من السلوان في عيني ... ك آيات وآثار
أراها منك بالقلب ... وفي الأضلاع أبصار
إذا ما برد القل ... ب فما تسخنه النار
وقال:
يا معشر الناس هل لي ... مما لقيت مجير
أصاب غرة قلبي ... ذاك الغزال الغرير
فعمر ليلي طويل ... وعمر يومي قصير
وقال:
أجملي يا أم عمرو ... زادك الله جمالا
لا تبيعني برخص ... إن في مثلي يغالى
أنا إن جدت بوصل ... أحسن العالم حالا

الأوصاف والتشبيهات
قال في وصف الجسر:

كأنما الماء عليه الجسر ... درج بياض خط فيه سطر
كأننا لما تهيا العبر ... أسرة موسى حين شق البحر
وجلست يوماً في البستان والماء يتدرج في البرك، فقال في وصفه، وكل واصف فإنما يشبه الموصوف بما هو من جنس صناعته، أو ربما بما يكثر رؤيته له:
أنظر إلى زهر الربيع ... والماء في برك البديع
وإذا الرياح جرت علي ... ه في الذهاب وفي الرجوع
نثرت على بيض الصفا ... ئح بيننا حلق الدروع
وقال في وصف النار والفحم:
لله برد ما أش ... د ومنظر ما كان اعجب
جاء الغلام بناره ... هوجاء في فحم تلهب
فكأنما جمع الحل ... ي فمحرق منه ومذهب
وكأنها لما خبت ... ما بيننا ند معشب
وقال:
مددنا علينا الليل والليل راضع ... إلى أن تردى رأسه بمشيب
بحال ترد الحاسدين بغيظهم ... وتطرف عنا عين كل رقيب
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... مبادي نصول في عذار خضيب
وقال:
وجلنار مشرف ... على اعالي شجرة
كأن في رءوسه ... أحمره وأصفره
قراضة من ذهب ... في خرق معصفرة
وقال في جارية مسبية:
وخريدة كرمت على آبائها ... زمناً، وعند سبائها لم تكرم
خطبت بحد السيف حتى زوجت ... كرهاً، وكان صداقها للمقسم
راحت وصاحبها لعرس حاضر ... برضا الإله وأهلها في مأتم
ينظر معنى البيت الأول " والثالث " إلى قول المتنبي:
تبكي عليهن البطاريق في الدجى ... وهن لدينا ملقيات كواسد
بذا قضت الأيام ما بين اهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد
ولأبي فراس في طعنة أصابت خده:
لما رأت أثر السنان بخده ... ظلت تقلبه بوجه عابس
خلف السنان به مواقع لثمها ... بئس الخلافة للمحب البائس
حسن الثناء بقبح ما صنع القنا ... يوم الطعان بصحن خد الفارس

الحكمة والموعظة
قال:
غنى النفس لمن يعق ... ل خير من غنى المال
وفضل الناس في الانف ... س، ليس الفضل في الحال
وقال:
المرء نصب مصائب لا تنقضي ... حتى يوارى جسمه في رمسه
فمؤجل يلقى الردى في اهله ... ومعجل يلقى الردى في نفسه
قال:
أنفق من الصبر الجميل فإنه ... لم يخش فقراً منفق من صبره
والمرء ليس ببالغ مدة مما ترى ... وعساك ان تكفي الذي تخشاه
وقال:
عرفت الشر لا للش ... ر لكن لتوقيه
فمن لا يعرف الشر ... من الناس يقع فيه
وقال:
لعمرك ما الأبصار تنفع أهلها ... إذا لم يكن للمبصرين بصائر
وهل ينفع الخطي غير مثقف ... وتظهر، إلا بالصقال، الجواهر
وكيف ينال المجد والجسم وادع ... وكيف يحاز الحمد والوفر وافر
وقال:
إذا لم يعنك الله فيما تريده ... فليس لمخلوق إليك سبيل
وإن هو لم يرشدك في مسلك ... ضللت، ولو أن السماك دليل
وقال:
لست بالمستضيم من هو دوني ... اعتداء، ولست بالمستضام
رب أمر عففت عنه اختياراً ... حذراً من أصابع الأيتام
أبذل الحق للخصوم إذا ما ... عجزت عنه قدرة الحكام
الروميات من غرر أبي فراس
لما أدركت أبا فراس حرقة الأدب، وأصابته عين الكمال، وأسرته الروم في بعض وقائعها وهو جريح، وقد أصاب سهم بقي نصله في فخذه، وحصل مثخناً بخرشنة، ثم بقسطنطينية، وتطاولت مدته بها لتعذر المفاداة، وقد قيل: على كل نجح رقيب من الآفات، وقد كانت تصدر أشعاره في الأسر والمرض واستزادة سيف الدولة، وفرط الحنين إلى أهله وإخوانه وأحبابه، والتبرم بحاله ومكانه، عن صدر حرج، وقلب شج، تزداد رقة ولطافة، وتبكي سامعها، وتعلق بالحفظ لسلاستها، فمنها قوله:

ما للعبيد من الذي ... يقضي بهى الله امتناع
ذدت الأسود عن الفرا ... ئس ثم تفرسني الضباع!
وقوله:
قد عذب الموت بأفواهنا ... والموت خير من مقام الذليل
إنا إلى الله لما نابنا ... وفي سبيل الله خير السبيل
ولما شقت فخذه عن نصل السهم الذي أصابه قال:
فلا تصفن الحرب عندي، فإنها ... طعامي مذ بعت الصبا وشرابي
وقد عرفت وقع المسامير مهجتي ... وشقق عن زرق النصول إهابي
ولججت في حلو الزمان ومره ... وأنفقت من عمري بغير حساب
وقال بخرشنة:
إن زرت خرشنة أسيراً ... فلقد حللت بها مغيرا
ولقد رأيت النار تنت ... هب المنازل والقصورا
ولقد رأيت السبي يجل ... ب نحونا حواً وحورا
من كان مثلي لم يبت ... إلا أميراً أو أسيرا
ليست تحل سراتنا ... إلا الصدور أو القبورا
وكتب إلى سيف الدولة قصيدة منها:
دعوتك للجفن القريح المسهد ... لدي، وللنوم القليل المشرد
وما ذاك بخلاً بالحياة وإنها ... لأول مبذول لأول مجتد
ولا زال عني أن شخصاً معرضاً ... لنبل العدا إن لم يصب فكأن قد
ولكنني أختار موت بني أبي ... على سروات الخيل غير موسد
وآبى وتأبى أن أموت موسداً ... بأيدي النصارى موت أكمد أكبد
نضوت على الأيام ثوب جلادتي ... ولكنني لم أنض ثوب التجلد
فمن حسن صبربالسلامة واعد ... ومن ريب دهر بالردى متوعدي
فمثلك من يدعى لكل عظيمة ... ومثلي من يفدي بكل مسود
تشبث بها اكرومة قبل فوتها ... وقم في خلاصي صادق العزم واقعد
فإن تفتدوني تفتدوا شرف العلا ... وأسرع عواد إليكم معود
يدافع عن اعراضكم بلسانه ... ويضرب عنكم بالحسام المهند
متى تخلف الأيام مثلي لكم فتى ... طويل نجاد السيف رحب المقلد
ولا وأبي ما ساعدان كساعد ... ولا وأبي ما سيدان كسيد
وإنك للمولى الذي بك أقتدي ... وإنك للنجم الذي أهديتني كل مقصد
وانت الذي بلغتني كل غاية ... مشيت إليها فوق أعناق حسدي
فيا ملبسي النعمى التي جل قدرها ... لقد أخلقت تلك الثياب فجدد
ألم تر أني فيك صافحت حدها ... وفيك شربت الموت غير مصرد
وفيك لقيت الألف زرقاً عيونها ... بسبعين فيها كل أشأم أنكد
يقولون جنب عادة ما عرفتها ... شديد على الإنسان ما لم يعود
فقلت أما والله ما قال قائل ... شهدت له في الخيل ألأم مشهد
ولكن سألقاها فإما منية ... هي الظن أو بنيان عز مؤيد
ولم أدر أن الهر من عدد العدا ... وان المنايا السود يرمين عن يد
وكتب إلى والدته وفد ثقل من الجراح التي به:
مصابي جليل والعزاء جميل ... وظني بأن الله سوف يديل
جراح تحاماها الأساة مخافة ... وسقمان باد منهما ودخيل
وأسر أقاسيه وليل نجومه ... أرى كل شيء غيرهن يزول
تطول بي الساعات وهي قصيرة ... وفي كل دهر لا يسرك طول
تناساني الأصحاب إلا عصابة ... ستلحق بالاخرى غداً وتحول
وإن الذي يبقى على العهد منهم ... وإن كثرت دعواهم لقليل
أقلب طرفي لا أرى غير صاحب ... يميل مع النعماء حيث تميل
وصرنا نرى أن المتارك محسن ... وان خليلاً لا يضر وصول
كأنه مأخوذ من قول المتنبي:
إنا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إنعام وإفضال
رجع:

تصفحت أحوال الزمان فلم يكن ... إلى غير شاك للزمان وصول
أكل خليل أنكد غير منصف ... وكل زمان بالكرام بخيل
نعم دعت الدنيا إلى الغدر دعوة ... أجاب إليها عالم وجهول
وفارق عمرو بن الزبير شقيقه ... وخلى أمير المؤمنين عقيل
فيا حسرتي من لي بخل موافق ... أقول بشجوي مرة ويقول
وإن وراء الستر أما بكاؤها ... علي، وإن طال الزمان، طويل
فيا أمتا لا تعدمي الصبر، إنه ... إلى الخير والنجح القريب رسول
فيا أمتا لا تحبطي الأجر، إنه ... على قدر الصبر الجميل جزيل
تأسي كفاك الله ما تجدينه ... فقد غال هذا الناس قبلك غول
لقيت نجوم الأفق وهي صوارم ... وخضت سواد الليل وهو خيول
ولم أرع للنفس الكريمة خلة ... عشية لم يعطف علي خليل
ولكن لقيت الموت حتى تركته ... وفيه وفي حد الحسام فلول
ومن لم يوق الله فهو ممزق ... ومن لم يعز الله فهو ذليل
ومن لم يرده اله في الأمر كله ... فليس لمخلوق إليه سبيل
وكتب إلى سيف الدولة:
هل تعطفان على العليل ... لا بالأسير ولا القتيل
باتت تقلبه الأك ... ف سحابة الليل الطويل
فقد الضيوف مكانه ... وبكاه أبناء السبيل
وتعطلت سمر الرما ... ح وأغمدت بيض النصول
يا فارج الكرب العظي ... م وكاشف الخطب الجليل
كن يا قوي لذا الضعي ... ف ويا عزيز لذا الذليل
قربه من سيف الهدى ... في ظل دولته الظليل
لم أرو منه ولا شفي ... ت بطول خدمته غليلي
ولئن حننت إلى ذرا ... ه لقد حننت إلى وصول
لا بالقطوب ولا الغضو ... ب ولا الكذوب ولا الملول
يا عدتي في النائبا ... ت وظلتي عند المقيل
أين المحبة والذما ... م وما وعدت من الجميل؟
احمل على النفس الكري ... مة في والقلب الحمول
وكتب إلى والدته:
لولا العجوز بمنبج ... ما خفت أسباب المنيه
ولكان لي عما سأل ... ت من الفدى نفس أبيه
لكن أردت مرادها ... ولو انجذبت إلى الدنية
أمست بمنبج حرة ... بالحزن من بعدي حريه
فيها التقى والدين مج ... موعان في نفس زكيه
لا زال يطرق منبجاً ... في كل غادية تحيه
يا أمتا لا تحزني ... وثقي بفضل الله فيه
يا أمتا لا تيأسي ... لله ألطاف خفيه
أوصيك بالصبر الجمي ... ل فإنه خير الوصيه
وكتب إلى غلامين له:
هل تحسان لي رفيقا ... يحفظالود أو صديقاً صدوقا
لا رعى الله يا خليلي دهراً ... فرقتنا صروفه تفريقا
كنت مولاكما وما كنت إلا ... والداً محسناً وعماً شفيقا
فاذكراني وكيف لا تذكراني ... كلما استخون الصديق صديقا
بت أبكيكما وإن عجيباً ... أن يبيت الأسير يبكي الطليقا
وكتب إلى غلامه منصور:
مغرم مؤلم جريح أسير ... إن قلباً يطيق ذا لصبور
وكثير من الرجال حديد ... وكثير من القلوب صخور
قل لمن حل بالشآم طليقاً: ... بأبي قلبك الطليق الأسير
أنا أصبحت لا أطيق حراكاً ... كيف أصبحت أنت يا منصور
وكتب إليه:
ارث لصب بك قد زدته ... على بلايا أسره أسرا
قد عدم الدنيا ولذاتها ... لكنه ما عدم الصبرا
فهو أسير الجسم في بلدة ... وهو أسير القلب في أخرى
وكتب إليه أيضاً:

يا ليل ما أغفل عما بي ... حبائبي فيك وأحبابي
يا ليل نام الناس عن موجع ... ناء على مضجعه نابي
هبت له ريح شآمية ... متت إلى القلب بأسباب
أدت رسالات حبيب بها ... فهمتها من بين أصحابي
بلغني أن الصاحب كان يستظرف هذين البيتين ويستلحمهما ويكثر الإعجاب بهما.
وكتب إليهما:
لأيكم أذكر ... وفي أيكم أفكر
وكم لي على بلدتي ... بكاء ومستعبر
ففي حلب عدتي ... وعزي والمفخر
وفي منبج من رضا ... ه أنفس ما أذخر
ومن حبها زلفة ... بها يكرم المحشر
وأصبية كالفرا ... خ أكبرهم أصغر
يخيل لي أمرهم ... كأنهم حضر
وقوم ألفناهم ... وغصن الصبا أخضر
فحزني ما ينقضي ... ودمعي ما يفتر
أيا غفلتا كيف لا ... أرجى كما احذر
وماذا القنوط الذي ... أراه وأستشعر
بلى، إن لي سيداً ... مواهبه أكثر
بذنبي أوردتني ... ومن فضلك المصدر
وقال وقد حضره العيد:
يا عبد ما عدت بمحبوب ... على معنى القلب مكروب
يا عبد قد عدت إلى ناظر ... عن كل حسن فيك محجوب
يا وحشة الدار التي ربها ... أصبح في أثواب مربوب
قد طلع العيد على أهلها ... بوجه لا حسن ولا طيب
ما لي وللدهر وأحداثه ... لقد رماني بالاعاجيب
وقال وقد سمع حمامة تنوح بقربه على شجرة عالية:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة ... أيا جارتي هل تشعرين بحالي
معاذ الهوى ما ذقت طارقة الهوى ... ولا خطرت منك الهموم ببال
أتحمل محزون الفؤاد قوادم ... على غصن نائي المسافة عالي
أيا جارتا ما انصف الدهر بيننا ... تعالي أقاسمك الهموم تعالي
تعالي تري روحاً لدي ضعيفة ... تردد في جسم يعذب بالي
أيضحك مأسور وتبكي طليقة ... ويسكت محزون ويندب سالي
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ... ولكن دمعي في الحوادث غالي
وكتب إلى سيف الدولة:
أما لجميل عندكن ثواب ... ولا لمسيء عندكن متاب
إذا الخل لم يهجرك إلا ملالة ... فليس له، إلا الفراق، عتاب
إذا لم أجد من خلة ما أريده ... فعندي لأخرى عزمة وركاب
وليس فراق ما استطعت فإن يكن ... فراق على حال فليس إياب
أخذه من قول القائل وهو أوس بن حجر:
إذا انصرفت نفسي عن السيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل
رجع:
صبور ولو لم يبق مني بقية ... قؤول ولو أن السيوف جواب
وقور وأحداث الزمان تنوشني ... وللموت حولي جيئة وذهاب
بمن يثق الإنسان فيما ينوبه ... ومن أين للحر الكريم صحاب
وقد صار هذا الناس إلا أقلهم ... ذئاب على أجسادهن ثياب
تغابيت عن قوم فظنوا غباوة ... بمفرق أغبانا حصى وتراب!
ولو عرفوني بعض معرفتي بهم ... إذا علموا أني شهدت وغابوا
إلى الله أشكو أننا بمنازل ... تحكم في آسادهن كلاب
تمر الليالي ليس للنفع موضع ... لدي ولا للمعتفين جناب
ولا شد لي سرج على متن سابح ... ولا ضربت لي بالعراء قباب
ولا برقت لي في اللقاء قواطع ... ولا لمعت لي في الحروب حراب
ستذكر أيامي نمير وعامر ... وكعب، على علاتها، وكلاب
أنا الجار لا زادي بطيء عليهم ... ولا دون ما لي في الحوادث باب

ولا أطلب العوراء منها أصيبها ... ولا عورتني للطالبين تصاب
بني عمنا، ما يفعل السيف في الوغى ... إذا قل منه مضرب وذباب
بني عمنا، نحن السواعد والظبا ... ويوشك يوماً أن يكون ضراب
وما أدعي ما يعلم الله غيره ... رحاب علي للعفاة رحاب
وأفعاله للراغبين كريمة ... وأمواله للطالبين نهاب
ولكن بنا منه بكفي صارم ... وأظلم في عيني منه شهاب
ألم فيه بقول البحتري:
سحاب عداني جوده وهو ريق ... وبحر خطاني فيضه وهو مفعم
وبدر أضاء الأرض شرقاً ومغرباً ... وموضع رحلي منه أسود مظلم
رجع:
وأبطأ عني والمنايا سريعة ... وللموت ظفر قد أطال وناب
فإن لم يكن ود قريب تعده ... ولا نسب بين الرجال قراب
فأحوط للإسلام أن لا يضيعني ... ولي عنه فيه حوطة ومناب
ولكنني راض على كل حالة ... لنعلم أي الخلتين سراب
وما زلت أرضى بالقليل محبة ... لديه، وما دون الكثير حجاب
وأطلب إبقاء على الود أرضه ... وذكرى منى في غيرها وطلاب
كذاك الوداد المحض لا يرتجى له ... ثواب، ولا يخشى عليه عقاب
ومثله للمتنبي:
وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوىً يبغى عليه ثواب
رجع:
وقد كنت أخشى الهجر والشمل جامع ... وفي كل يوم لقية وخطاب
فكيف وفيما بيننا ملك قيصر ... وللبحر حولي زخرة وعباب؟
أمن بعد بذل النفس فيما تريده ... أثاب بمر العتب حين أثاب
فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب
وكتب إليه:
بالكره مني واختيارك ... أن لا أكون حليف دارك
يا تاركي إني لشك ... رك ما حييت لغير تارك
كن كيف شئت فإنني ... ذاك المواسي والمشارك
وكتب إليه:
أبى عرب هذا الدمع إلا تسرعا ... ومكنون هذا الحب إلا تضوعا
وكنت أرى الحب أني مع الصبر واجد ... إذا شئت لي ممضى وإن شئت مرجعا
فلما استمر الحب في غلوائه ... رعيت مع المضايعة الغر ما رعى
فحزني حزن الهائمين مبرحاً ... وسري سر العاشقين مضيعا
وهبت شبابي والشباب مضنة ... لأبلج من أبناء عمي أروعا
أبيت معنى من مخافة عتبه ... وأصبح محزوناً وأمسي مروعا
فلما مضى عصر الشبيبة كله ... وفارقتني شرخ الشباب فودعا
تطلبت بين العتب والهجر فرجة ... فحاولت أمراً لا يرام ممنعا
وصرت إذا ما رمت في الخير لذة ... تتبعتها بين الهموم تتبعا
وها أنا قد حلى الزمان مفارقي ... وتوجني بالشيب تاجاً مرصعا
أما ليلة تمضي ولا بعض ليلة ... أسر بها هذا الفؤاد المفجعا
أما صاحب فرد يدوم وفاؤه ... فيصفى لمن يصفى ويرعى لمن رعى
أفي كل دار لي صديق أوده ... إذا ما تفرقنا حفظت وضيعا
إذا خفت من أخوالي الروم خطة ... تخوفت من اعمامي العرب أربعا
وإن أوجعتني من أعادي شيمة ... لقيت من الاحباب أدهى وأوجعا
ولو قد رجوت الله لا شيء غيره ... رجعت إلى آلي وأملت أوسعا
لقد قنعوا بعدي من القطر بالندى ... ومن لم يجد إلا القنوع تقنعا
وما مر إنسان فأخلف مثله ... ولكن يرجى الناس أمراً مرقعا

تنكر سيف الدين لما عتبته ... وعرض بي تحت الكلام وقرعا
فقولا له من صادق الود: إنني ... جعلتك مما رابني منك مفزعا
ولو أنني أكننته في جوانحي ... لأروق ما بين الضلوع وفرعا
فلا تغترر بالناس، ما كل من ترى ... أخوك إذا أوضعت في الأمر أوضعا
فلله إحسان علي ونعمة ... والله صنع قد كفاني التصنعا
أراني طرق المكرمات كما أرى ... علي، وأسعى لي علياً كما سعى
فإن يك بطء مرة فلطالما ... تعجل بي نحو الجميل فأسرعا
وإن يجف في بعض الامور فإنني ... لأشكره النعمى التي كان اودعا
وإن يستجد الناس بعدي فلم يزل ... بذاك البديل المستجد ممتعا
وكتب إليه أبو فراس: مفاداتي إن تعذرت عليك فأذن لي في مكاتبة أهل خراسان ومراسلتهم ليفادوني وينوبوا عنك في امري، فأجابه سيف الدولة بكلام حسن، وقال له: ومن يعرفك بخراسان؟ فكتب إليه أبو فراس:
أسيف الهدى وقريع العرب ... إلام الجفاء؟ وفيم الغضب؟
وما بال كتبك قد أصبحت ... تنكبني مع هذي النكب
وأنت الكريم، وأنت الحليم ... وأنت العطوف، وأنت الحدب
وما زلت تسعفني بالجميل ... وتنزلني بالمكان الخصب
وإنك للجبل المشمخ ... ر لي، بل لقومك، بل للعرب
علا يستفاد، وعاف يفاد، ... وعز يشاد، ونعمى ترب
وما غض مني هذا الإسار ... ولكن خلصت خلوص الذهب
ففيم يقرعني بالخمو ... ل مولى به نلت أعلى الرتب؟
وكان عتيداً لدي الجواب ... ولكن لهيبته لم أجب
أتنكر أني شكوت الزمان ... واني عتبتك فيمن عتب
فألا رجعت فأعتبتني ... وصيرت لي ولقومي الغلب
فلا تنسبن إلي الخمول ... عليك أقمت فلم أغترب
وأصبحت منك فإن كان فضل ... وإن كان نقص فأنت السبب
وإن خراسان إن انكرت ... علاي فقد عرفتها حلب
ومن أين ينكرني الأبعدون ... أمن نقص جد؟ أمن نقص أب
ألست وإياك من أسرة ... وبيني وبينك عرق النسب؟
وداد تناسب فيه الكرام ... وتربية ومحل أشب
ونفس تكبر إلا عليك ... وترغب إلاك عمن رغب
فلا تعدلن فداك ابن عم ... ك، لا، بل غلامك عما يجب
وأنصف فتاك فإنصافه ... من الفضل والنسب المكتسب
فكنت الحبيب، وكنت القريب ... ليالي أدعوك من عن كثب
فلما بعدت بدت جفوة ... ولاح من الأمر ما لا أحب
فلو لم أكن بك ذا خبرة ... لقلت صديقك من لم يغب
وكتبت إليه أيضاً:
زماني كله غضب وعتب ... وأنت علي والأيام ألب
وعيش العين لديك سهل ... وعيشي وحده بفناك صعب
فكيف وأنت دافع كل خطب ... مع الخطب الملم علي خطب
فلا تحمل على قلب جريح ... به لحوادث الأيام ندب
أمثلي تقبل الأقوال فيه ... ومثلك لحوادث الأيام ندب
جناني ما علمت، ولي لسان ... يقد الدرع والإنسان، عضب
وزندي وهو زندك ليس يكبو ... وناري وهي نارك ليس تخبو
وفرعي فرعك السامي المعلى ... وأصلي أصلك الزاكي وحسب
وفضلي تعجز الفضلاء عنه ... لأنك أصله والمجد ترب
فدت نفسي الامير وكان حظي ... وقربي عنده ما دام قرب
فلما حالت الأعداء دوني ... وأصبح بيننا بحر ودرب
ظللت تبدل الأقوال بعدي ... ويبلغني اغتيابك ما يغب
فقل ما شئت في فلي لسان ... مليء بالثناء عليك رطب

وقابلني بإنصاف وظلم ... تجدني في الجميع كما تحب
وبلغ أبا فراس أن والدته حضرة سيف الدولة من منبج تكلمه في المفاداة، وتتضرع إليه، فلم يكن عنده ما رجت من حسن الإيجاب، ووافق ذلك عنفاً من الدمستق بأبي فراس ومن معه من الأسرى، وزيادة في إرهاقهم، فكتب إلى سيف الدولة:
يا حسرة ما أكاد احملها ... آخرها مزعج وأولها
عليلة بالشآم مفردة ... بات بأيدي العدى معللها
إذا اطمأنت، وأين؟ أو هدأت ... عنت لها ذكرة تقلقلها
تسأل عنا الركبان جاهدة ... بأدمع ما تكاد تمهلها
يا من رأى لي بحصن خرشنة ... أسد شرى في القيود أرجلها
يا من رأى في الدروب شامخة ... دون لقاء الحبيب أطولها
يا أيها الراكبان هل لكما ... في حمل نجوى يخف محملها
يا امتا هذه منازلنا ... نتركها تارة وننزلها
ومنها:
يا سيداً ما تعد مكرمة ... إلا وفي راحتيك أكملها
ليست تنال القيود من قدمي ... وفي اتباعي رضاك أحملها
لا تتيم والماء تدركه ... غيرك يرضى الصغرى ويقبلها
أنت سماء ونحن أنجمها ... أنت بلاد ونحن أجبلها
أنت سحاب ونحن وابله ... أنت يمين ونحن أشملها
بأي عذر رددت والهة ... عليك دون الورى معولها
جاءتك تمتاح رد واحدها ... ينتظر الناس كيف تقفلها
تلك العقود التي عقدت لنا ... كيف وقد أحكمت تحللها
أرحامنا منك، لم تقطعها؟ ... ولم تزل دائباً توصلها
سمحت مني بمهجة كرمت ... أنت، على يأسها، مؤملها
إن كنت لم تبذل الفداء لها ... فلم أزل في هواك أبذلها
تلك المودات كيف تهملها ... تلك المواعيد كيف تغفلها
أين المعالي التي عرفت بها ... تقولها دائباً وتفعلها؟
يا واسع الدار كيف توسعها ... ونحن في صخرة نزلزلها
يا ناعم الثوب كيف تبدله ... ثيابنا الصوف ما نبدلها!
يا راكب الخيل لو بصرت بنا ... نحمل أقيادنا وننقلها
رأيت في الضر أوجهاً كرمت ... فارق فيك الجمال أجملها
قد أثر الدهر في محاسنها ... تعرفها تارة وتجهلها
لا يفتح الناس باب مكرمة ... صاحبها المستغاث يقفلها
أينبري دونك الكرام لها ... وأنت قمقامها وأجملها
وأنت إن عز حادث جلل ... قلبها المرتجى وحولها
منك تردى بالفضل أفضلها ... منك أفاد النوال أنولها
فإن سألنا سواك عارفة ... فبعد قطع الرجاء نسألها
لم يبق في الناس أمة عرفت ... إلا وفضل الامير يشملها
نحن أحق الورى برأفته ... فأين عنا وكيف معدلها
يا منفق المال لا يريد به ... إلا المعالي التي يؤثلها
أصبحت تشري مكارماً فضلاً ... فداؤنا ما علمت أفضلها
لا يقبل الله قبل فرضك ذا ... نافلة عنده تنفلها
وكتب إلى أبي المعالي وأبي المكارم ابني سيف الدولة:
يا سيدي أراكما ... لا تذكران أخاكما
أوجدتما بدلاً به ... يبني سماء علاكما
أوجدتما بدلاً به ... يفري نحور عداكما
من ذا يعاب بما لقي ... ت من الورى إلاكما
لا تقعدا بي بعدها ... وسلا الأمير أباكما
وخذا فداي جعلت من ... ريب المنون فداكما!
وقال لما طال أسره يسب الشامتين ويتشوق محله بمنبج:
قف في رسوم المستجا ... ب وناد أكناف المصلى
تلك المنازل والملا ... عب لا أراها الله محلا
أوطنتها زمن الصبا ... وجعلت منبج لي محلا

حيث التفت رأيت ما ... ء سائحاً وسكنت ظلا
والماء يفصل بين زه ... ر الروض في الشطين فصلا
كبساط وشي جردت ... أيدي القيون عليه نصلا
من كان سر بما عرا ... ني فليمت ضراً وهزلا
ما غض مني حادث ... والقرم قرم حيث حلا
أنى حللت فإنني ... شرق العدا طفلاً وكهلا
ما كنت إلا السيف زا ... د على صروف الدهر صقلا
ولئن قتلت فإنما ... موت الكرام الصيد قتلى
يغتر بالدنيا الجهو ... ل وليس بالدنيا مملى
وقال من قصيدة:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ... أما للهوى نهي عليك ولا أمر
بلى أنا مشتاق وعندي لوعة ... ولكن مثلي لا يذاع له سر
إذا الليل أضوى بي بسطت يد الرجا ... وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر
تكاد تضيء النار بين جوانحي ... إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
ومنها:
وإني لجرار لكل كتيبة ... معودة أن لا يخل بها النصر
وأصدأ حتى ترتوي البيض والقنا ... وأسغب حتى يشبع الذئب والنسر
ومنها:
أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى ... ولا فرسي مهر ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على امرئ ... فليس له بر يقيه ولا بحر
وقال أصيحابي: الفرار او الردى ... فقلت: هما أمران أحلاهما مر
ولكنني أمضي لما لا يعيبني ... كما ردها يوماً بسوأته عمرو
وكتب إلى سيف الدولة قصيدة منها:
ما لي جزعت من الخطوب، وإنما ... أخذ الإله لبعض ما أعطاني
إن لم تكن طالت سني فإن لي ... رأي الكهول ونجدة الشبان
قمن بما سر الاعادي موقفي والدهر برز لي مع الاقران
يا دهر خنت مع الاصادق خلتي ... وغدرت بي في جملة الإخوان
لكن سيف الدولة المولى الذي ... لم أنسه وأراه لا ينساني
أيضيعني من لم يزل لي حافظاً ... كرماً ويخفضني الذي أعلاني
إني أغار على مكاني أن أرى ... فيه رجالاً لا تسد مكاني
وقال من قصيدة:
يعز على الأحبة بالسآم ... حبيب بات ممنوع المام
وإني للصبور على الرزايا ... ولكن الكلام على الكلام
جروح ما يزلن يردن مني ... على جرح قريب العهد دام
تاملني الدمستق إذ رآني ... فأبصر صيغة الليث الهمام
أتنكرني كأنك لست تدري ... بأني ذلك البطل المحامي
فلا هنئتها نعمى بأخذي ... ولا وصلت سعودك بالتمام
أما من اعجب الأشياء علج ... يعرفني الحلال من الرام
وتكنفه بطارقة تيوس ... تباري بالعثانين الضخام
لهم خلق الحمير فلست تلقى ... فتىً منهم يسير بلا حزام
يريغون العيوب، وأعجزتهم، ... وأي العيب يوجد في الحسام
ثناء طيب لا خلف فيه ... وآثار كآثار الغمام
ألاز على التعرض للمنايا ... ولي سمع أصم عن الملام
بنو الدنيا إذا ماتوا سواء ... ولو عمر المعمر ألف عام
ألا يا صاحبي تذكراني ... إذا ما شمتما البرق الشآمي
إذا ما لاح ليلمعان برق ... بعثت إلى الأحبة بالسلام
وكتب إليه ابن الأسمر يوصيه بالصبر، فأجابه:
ندبت لحسن الصبر قلب نجيب ... وناديت بالتسليم خير مجيب
ولم يبق مني غير قلب مشيع ... وعود على ناب الزمان صليب
وقد علمت امي بأن منيتي ... بحد حسام أو بحد قضيب
كما علمت من قبل أن يغرق ابنها ... بمهلكة في الماء أم شبيب

كانت أم شبيب رأت في منامها - وهي حبلى - كأن نار أخرجت من بطنها فاشتعلت الآفاق ثم وقعت في الماء فانطفأت، فلما كان من أمره ما كان ونعى إليها لم تصدق، حتى قيل: إنه قد غرق في الماء، فأقامت المناحة.
تجشمت خوف العار أعظم خطة ... وأملت نصراً كان غير قريب
وللعار خلى رب غسان ملكه ... وفارق دين الله غير مصيب
ولم يرتغب في العيش عيسى بن مصعب ... ولا خف خوف بالحزون خبيب
وأحفظ أبو فراس الدمستق في مناظرة جرت بينهما فقال له الدمستق: إنما أنتم كتاب ولا تعرفون الحرب، فقال له أبو فراس: نحن نطأ أرضك منذ ستين سنة بالسيوف أم بالاقلام؟ ثم قال:
أتزعم يا ضخم اللغاديد أننا ... ونحن أسود الحرب، لا نعرف الحربا
فويلك! من للحرب إن لم نكن لها؟ ... ومن ذا الذي يضحي ويمسي لها تربا؟
ومن ذا يكف الجيش من جنباته ... ومن ذا يقود العين أو يصدم القلبا
وويلك، من أردى اخاك بمرعش ... وجلل ضرباً وجه والدك العضبا
وويلك من خلى ابن أختك موثقاً ... وخلاك باللقان تبتدر الشعبا
أتوعدنا بالحرب حتى كاننا ... وإياك لم يعصب بها قلبنا عصبا
لقد جمعتنا الحرب من قبل هذه ... فكنا بها أسداً وكنت بها كلبا
وسل برد، سل عنا أباك وصهره ... وسل أهل برداليس أعظمهم خطبا
وسل قرقاشا والشمقمق صهره ... وسل سبطه البطريق أثبتهم قلبا
وسل صيدكم آل الملابين، إننا ... نهبنا ببيض الهند عرضهم نهبا
وسل أهل بيرام واهل بلنطس ... وسل آل شنوان الخناجرة الغلبا
وسل بالبطرصيس العساكر كلها ... وسل بالمسيطر ناطس الروم والعربا
ألم تكفهم قتلا ونهبا سيوفنا ... وأسد الشرى الملأى وإن جمدت رعبا
بأقلامنا أجحرت أم بسيوفنا؟ ... وأسد الشرى قدنا إليك أم الكتبا؟
تفاخرنا بالضرب والطعن والقنا ... لقد أوسعتك النفس يا ابن استها كذبا
رعى الله اوفانا إذا قال ذمةوانفذنا طعنا وأثبتنا ضربا
وقال من قصيدة:
خليلي ما أعددتما لمتيم ... أسير لدى الأعداء جافى المراقد
فريد عن الاحباب لكن دموعه ... مثان على الخدين غير فرائد
جمعت سيوف الهند من كل وجهة ... وأعددت للأعداء كل مجالد
إذا كان غير الله للمرء عدة ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد
فقد جرت الحنفاء حتف حذيفة ... وكان يراها عدة للشدائد
وجرت منايا مالك بن نويرة ... عقيلته الحسناء أيام خالد
وأردى ذؤاباً في بيوت عتيبة ... بنوه وأهلوه بشدو القصائد
ولما خفف عن أبي فراس ورفه، ونوظر في أمر الهدنة والأسارى، وأجيب إلى ملتمسه بعد أن أكرم وبجل قال:
ولله عندي في الإسار وغيره ... مواهب لم يخصص بها أحد قبلي
حللت عقوداً أعجز الناس حلها ... وما زلت لا عقدي يذم ولا حلي
إذا عاينتني الروم قد ذل صيدها ... كأنهم أسرى يدي بلا كبل
وأوسع أياماً حللت كرامة ... كأني من أهلي نقلت إلى أهلي
فأبلغ بني عمي وأبلغ بني أبي ... بأني في نعماء يشكرها مثلي
وما شاء ربي غير نشر محاسني ... وأن يعرفوا ما قد عرفتم من الفضل

ما أخرج من مزدوجته الطردية
ما العمر ما طالت به الدهور ... العمر ما تم به السرور
أيام عزي ونفاذ أمري ... هي التي أحسبها من عمري
ما أجور الدهر على بنيه ... وأغدر الدهر بمن يصفيه

لو شئت مما قد قللن جداً ... عددت أيام السرور عدا
أنعت يوماً مر لي بالشام ... ألذ ما مر من الأيام
دعوت بالصقار ذات يوم ... عند انتباهي سحراً من نومي
قلت له اختر سبعة كبارا ... كل نجيب يرد الغبارا
يكون للأرنب منها اثنان ... وخمسة تفرد للغزلان
واجعل كلاب الصيد نوبتين ... يرسل منها اثنان بعد اثنين
ثم تقدمت إلى الفهاد ... والبازيارين بالاستعداد
وقلت إن خمسة لتقنع ... والزرقان الفرخ والملمع
وأنت يا طباخ لا تباطا ... عجل لنا اللفات والأوساطا
ويا شرابي البلقسيات ... تكون للراح ميسرات
بالله لا تستصحبوا ثقيلا ... واجتنبوا الكثرة والفضولا
ردوا فلانا وخذوا فلانا ... وضمنوني صيدكم ضمانا
فاخترت لما وقفوا طويلاً ... عشرين أو فويقها قليلا
عصابة أكرم بها عصابه ... معروفة بالفضل والنجابة
ثم قدنا صيد عين باصر ... مظنة الصيد لكل خابر
جئناه والشمس قبيل المغرب ... تختال في ثوب الأصيل المذهب
وأخذ الدراج في الصياح ... مكتنفاً من سائر النواحي
في غفلة عنا وفي ضلال ... ونحن قد زرناه بالآجال
يطرب للصبح وليس يدري ... أن المنايا في طلوع الفجر
نحن نصلي والبزاة تخرج ... مجردات والخيول تسرح
وقلت للفهاد: إمض وانفرد ... وصح بنا إن عن ظبي واجتهد
فلم يزل غير بعيد عنا ... إليه يمضي ما يفر منا
وسرت في صف من الرجال ... كأنما نزحف للقتال
فما استوينا كلنا حتى وقف ... غليم كان قريباً من شرف
ثم أتاني عجلاً قال السبق ... فقلت إن كان العيان قد صدق
سرت إليه فأراني جاثمه ... ظننتها يقظى وكانت نائمة
ثم أخذت نبلة كانت معي ... ودرت دورين ولم أوسع
حتى تمكنت فلم أخط الطلب ... لكل حتف سبب من السبب
ومنها:
ثم دعوت القوم: هذا بازي ... فأيكم ينشط للبزاز
فقال منهم رشأ: أنا، أنا ... ولو درى ما بيدي لأذعنا
ومنها:
جئت بباز حسن وهبرج ... دون العقاب وفويق الزمج
زين لرائيه وفوق الزين ... ينظر من نارين في غارين
كأن فوق صدره والهادي ... آثار مشي الذر في الرماد
ذي منسر فخم وعين غائره ... وأفخذ مثل الجبال وافره
ضخم قريب الدستبان جداً ... يلقى الذي يحمل منه كداً
وراحة تحمل كفي سبطة ... زادت على قدر البزاة بسطه
سر وقال هات قلت مهلا ... احلف على الرد فقال كلا
أما يميني فهي عندي غالية ... وكلمتي مثل يميني وافية
فقلت خذه هبة بقبله ... فصد عني وعلته خجلة
ثم ندمت غاية الندامة ... ولمت نفسي أكثر الملامه
على مزاحي والرجال حضر ... وهو يزيد خجلاً ويحصر
فلم أزل أمسحه حتى انبسط ... وهش للصيد قليلاً ونشط
ومنها في وصف البازي واستيلائه على الكركي:
حتى إذا جندله كالعندل ... أيقنت أن العظم غير الفضل
صحت إلى الطباخ ماذا تنتظر ... انزل عن المهر وهات ما حضر
جاء بأوساط وجردباج ... من حجل الطير ومن دراج
فما تنازلنا عن الخيول ... يمنعنا الحرص من النزول
وجيء بالكأس وبالشراب ... فقلت: وفرها على أصحابي

أشبعني اليوم ورواني الفرح ... فقد كفاني بعض وسط وقدح
ومنها:
ثم انصرفنا والبغال موقره ... في ليلة مثل الصباح مسفرة
حتى أتينا رحلنا بليل ... وقد سبقنا بجياد الخيل
ثم نزلنا فطرحنا الصيدا ... لما عددنا مائة وزيدا
فلم نزل نشوي ونقلي ونصب ... حتى طلبنا صاحياً فلم نصب
شرباً كما عن من الزقاق ... بغير ترتيب وغير ساق
ولم نزل سبع ليال عددا ... أسعد من راح وأحظى من غدا
وحكى بديع الزمان أبو الفضل الهمذاني قال: قال الصاحب أبو القاسم يوماً لجلسائه وأنا فيهم - وقد جرى ذكر أبي فراس - : لا يقدر أحد أن يزور على أبي فراس شعراً، فقلت: ومن يقدر على ذلك وهو الذي يقول:
رويدك لا تصل يدها بباعك ... ولا تغز السباع إلى رباعك
ولا تعن العدو علي، إني ... يمين إن قطعت فمن ذراعك
فقال الصاحب: صدقت، قلت: أيد الله مولانا قد فعلت. ولعمري إنه فد حسن، ولكن لم يشق غبار أبي فراس.
وكتب على ظهر الجزء المشتمل على مزدوجته التي أولها:
ما العمر ما طالت به الدهور ... العمر ما تم به السرور
هذه الأبيات:
أروح القلب ببعض الهزل ... تجاهلاً مني بغير جهل
أمزح فيه مزح أهل الفضل ... والمزح أحياناً جلاء العقل

فصل
قد أطلت عنان الاختيار من محاسن شعر أبي فراس، وما محاسن شيء كله حسن؟ وذلك لتناسبها وعذوبة مشاعرها. ولا سيما الروميات التي رمى بها هدف الإحسان. وأصاب شاكلة الصواب، ولعمري إنها - كما قرأته لبعض البلغاء - لو سمعته الوحش أنست، أو خوطبت به الخرس نطقت، أو استدعي به الطير نزلت.
ولما خرج قمر الفضل من سراره، وأطلق أسد الحرب، عن إساره، لم تطل أيام فرحته، ولم تسمح النوائب بالتجافي عن مهجته. ودلت قصيدة قرأتها لأبي إسحاق الصابي في مرثيته على انه قتل في وقعة كانت بينه وبين موالي أسرته، وما أحسن وأصدق قول المتنبي:
فلا تنلك الليالي، إن أيديها ... إذا ضربن كسرن النبع بالغرب
ولا يعن عدواً أنت قاهره ... فإنهن يصدن الصقر بالخرب
وذكر ابن خالويه أن آخر شعر لأبي فراس قوله عند موته، رحمه الله تعالى!:
أبنيتي لا تجزعي ... كل الانام إلى ذهاب
نوحي على بحسرة ... من خلف سترك والحجاب
قولي إذا كلمتني ... فعييت عن رد الجواب
زين الشباب أبو فرا ... س لم يمتع بالشباب
اللهم ارحم تلك الروح الشريفة!!
الباب الرابع
في ملح شعر آل حمدان
وغيرهم من أمراء الشام وقضاتها وكتابها
" أخبرني جماعة من أهل الأدب أن المتنبي لما عوتب في آخر أيامه على تراجع شعره قال: قد تجوزت في قولي، وأعفيت طبعي، واغتنمت الراحة منذ فارقت آل حمدان " وفيهم من يقول:
وقد علمت بما لاقته منا ... قبائل يعرب وبنو نزار
لقيناهم بأرماح طوال ... تبشرهم بأعمار قصار
يعني أبا زهير مهلهل بن نصر بن حمدان، ومنهم من يقول - يعني أبا العشائر - :
أأخا الفوارس لو رأيت مواقفي ... والخيل من تحت الفوارس تنحط
لقرأت منها ما تخط يد الوغى ... والبيض تشكل والأسنة تنقط
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي لبعضهم:
أغمام ما يدريك ما أفعالنا ... والخيل تحت النقع كالأشباح
تطفو وترسب في الدماء كأنها ... صور الفوارس في كؤوس الراح
وأنشدت لأبي العشائر:
سطا علينا، ومن حاز الجمال سطا، ... ظبي من الجنة الفردوس قد هبطا
له عذران قد خطا بوجنته ... فاستوقفا فوق خديه وما انبسطا
وظل يخطو فكل قال من شغف: ... يا ليته في سواد الناظرين خطا
وقال بعض الرواة: دخلت على أبي العشائر أعوده من علة هجمت عليه فقلت له: ما يجد الأمير؟ فأشار إلى غلام قائم بين يديه اسمه نسطوس كأن رضوان غفل عنه فأبق من الجنة، وأنشد:
أسقم هذا الغلام جسمي ... بما بعينيه من سقام

فتور عينيه من دلال ... أهدى فتوراً إلى عظامي
وامتزجت روحه بروحي ... تمازج الماء بالمدام
وكان أبو الحسن الماسرجي ينشد في تدريسه مسألة " الحر لا يقتل بالعبد " هذين البيتين، وهما لبعض آل حمدان:
خذوا بدمي هذا الغزال، فإنه ... رماني بسهمي مقلتيه على عمد
ولا تقتلوه إنني أنا عبده ... ولم أر حراً قط يقتل بالعبد
وأنشدت لبعضهم، وهو أحسن ما سمعت في معناه:
للعبد مسألة لديك جوابها ... إن كنت تذكره فهذا وقته
ما بال ريقك ليس ملحاً طعمه ... ويزيدني عطشاً إذا ما ذقته!
ووجدت بخط أبي بكر الخوارزمي هذه الأبيات منسوبة إلى أبي وائل تغلب ابن داود بن حمدان، ورويت لغيره:
لا والذي جعل الموا ... لي في الهوى خدم العبيد
وأصار في أيدي الظبا ... ء قياد أعناق الأسود
وأقام ألوية المني ... ة بين أفنية الصدود
ما الورد أحسن منظراً ... من حسن توريد الخدود
ووجدت بخطه لحمدان الموصلي:
يا رسول الحبيب ويحك قد أل ... قى عليك الحبيب حسناً وطيبا
وتعلمت حسن ألفاظه تل ... ك فظرفت بادئاً ومجيبا
ولقد كدت أن أضمك لولا ... أن يسيء الظنون أو يستريبا
خيفة أن يكون ذاك كما قي ... ل قديماً: صار الرسول حبيبا
ولأبي وائل الحمداني لما أسره المبرقع:
يا خليلي، أسعداني فقد عي ... ل، اصطباري على احتمال البليه
غربة قارظية، وغرام ... عامري ومحنة علوية
ولأبي زهير، وهو مما يتغنى به:
وزعمت أني ظالم فهجرتني ... ورميت في قلبي بسهم نافذ
فنعم ظلمتك فاغتفر لي زلتي ... هذا مقام المستجير العائذ
وأنشدني الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي هذه الأبيات ولم يسم قائلاً، ثم وجدتها في بعض التعليقات منسوبة إلى بعض آل حمدان:
أجل عينيك في عيني تجدها ... مشربة ندى ورد الخدود
وصافحني تجد عبقاً بكفي ... يضوع إليك من ردع النهود
وخذ سمعي إليك فإن فيه ... بقايا من حديث كالعقود
وأنشدني أبو الحسن محمد بن أبي موسى الكرخي، قال: أنشدني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن بن القاضي أبي القاسم التنوخي، قال: أنشدني أبو المطاع ذو القرنين بن ناصر الدولة أبي محمد لنفسه، تغمدهم الله تعالى برحمته وأسكنهم بحبوحة جنته!:
إني لأحسد " لا " في أسطر الصحف ... إذا رأيت اعتناق اللام للألف
وما أظنهما طال اجتماعهما ... إلا لما لقيا من شدة الشغف
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:
أفدى الذي زرته بالسيف مشتملاً ... ولحظ عينيه أمضى من مضاربه
فما خلعت نجادي في العناق له ... حتى لبست نجاداً من ذوائبه
فكان أنعمنا عيشاً بصاحبه ... من كان في الحب أشقانا بصاحبه
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:
قالت لطيف خيال زارها ومضى: ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقال: خلفته لو مات من ظمأ ... وقلت قف عن ورود الماء لم يرد
قالت: صدقت الوفا في الحب عادته ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي!
وانشدني أيضاً قال: أنشدني لنفسه في جارية كانت معاجرها تبلى بسرعة:
أرى الثياب من الكتان يلمحها ... ضوء من البدر أحياناً فيبليها
وكيف تنكر أن تبلى معاجرها ... والبدر في كل حين طالع فيها
وقد أحسن غاية الإحسان، والعرب تزعم أن البدر يبلي الثياب الحلوة، وقوله:
أيا من صبرت على فقده ... وإن كان لي مؤلماً موجعا
لقد نال كل الذي يشتهي ... حسود علينا ببين دعا
وأنشدني أيضاً للحسين بن ناصر الدولة:
لو كنت أملك طرفي ما نظرت به ... من بعد فرقتكم يوماً إلى أحد
ولست أعتده من بعدكم نظراً ... لأنه نظر من مقلتي رمد

منصور وأحمد ابنا كيغلغ

أديبان شاعران، من أولاد أمراء الشام، فمن مشهور ملح منصور قوله:
خنت الذي أهوى من الناس ... ونمت عن جودي وعن باسي
يوم أرى الدجن فلا أرتوي ... من ريق إلفي ومن الكاس
وقوله:
كأنها والقرط في أذنها ... بدر الدجى قرط بالمشتري
قد كتب الحسن على وجهها ... " يا أعين الناس قفي وانظري "
وقوله من أبيات:
يدير في كفه مداما ... ألذ من غفلة الرقيب
كأنها إذ صفت ورقت ... شكوى محب إلى حبيب
وقوله:
عاد الزمان بمن هويت فأعتبا ... يا صاحبي فسقياني واشربا
كم ليلة سامرت فيها بدرها ... من فوق دجلة قبل أن يتغيبا
قام الغلام يديرها في كفه ... فحسبت بدر التم يحمل كوكبا
والبدر يجنح للغروب كأنه ... قد سل فوق الماء سيفاً مذهبا
وقد أكثروا في وصف القمر على الماء، وبيت منصور هذا من غرر ذلك، وأحسن ما سمعت فيه - على كثرته - قول القاضي التنوخي:
أحسن بدجلة والدجى متصوب ... والبدر في أفق السماء مغرب
فكأنها فيه بساط أزرق ... وكأنه فيها طراز مذهب
وقول أبي الفتح كشاجم:
ما زلت أسقاها على ... وجه غزال مونق
بقمر منتقب ... بخاتم منتطق
والبدر فوق دجلة ... والصبح لما يشرق
كحلية من ذهب ... على رداء أزرق
ومن ملح منصور قوله:
كتبت إليك بماء الجفون ... وقلبي بماء الهوى مشرب
فكفي تخط وقلبي يمل ... وعيني تمحو الذي تكتب
وقوله:
ألبسني ذلة العبيد ... من قلبه صيغ من حديد
ونم طرفي بما ألاقي ... من كمد دائم المزيد
وكيف يخفي الهوى عميد ... ودمه صاحب البريد
وقوله:
قالوا: عليك سبيل الصبر، قلت لهم: ... هيهات! إن سبيل الصبر قد ضاقا
ما يرجع الطرفعنه حين يبصره ... حتى يعود إليه القلب مشتاقا
ولأحمد:
لا يكن للكأس في كف ... ك يوم الغيث لبث
أو ما تعلم أن ال ... غيث ساق مستحث
وله:
ولولا أن برذون ال ... هوى يعتلف الرطبه
ركبناه إلى الصيد ... وأرسلنا له كلبه
فصدنا ثعلب الهجرا ... ن تلك الخبة الضبه
وصيرنا لزيت الوص ... ل من جلد استها ربه
وله، ويروي لديك الجن:
قلت له والجفون قرحى ... قد أقرح الدمع ما يليها
ما لي في لوعتي شبيه ... قال: وأبصرت لي شبيها؟!
وله:
بدت من خلل الحجب ... كمثل اللؤلؤ الرطب
فأدمى خدها لحظي ... وأدمى لحظها قلبي
وله:
واعطشي إلى فم ... يمج خمراً من برد
إن قسم الناس فحس ... بي بك من كل أحد

أبو محمد جعفر وأبو أحمد عبد الله ابنا ورقاء الشيباني
من رؤساء عرب الشام وقوادها، والمختصين بسيف الدولة. وما منهما إلا أديب شاعر جواد ممدوح، وبينهما وبين أبي فراس مجاوبات، وإليهما أرسل أبو فراس يقول من قصيدة:
أتاني عن بني ورقاء قول ... ألذ جنىً من الماء القراح
وأطيب من نسيم الروض حفت ... به اللذات من روح وراح
ولو أني اقترحت على زماني ... لكنتم، يا بني ورقا، اقتراحي
ولأبي أحمد في جوابها من قصيدة أولها:
أصاح قلبه أم غير صاح ... وقد عنت له عفر البطاح
ظباء الوحش تحكي مائلات ... ظباء الإنس بالصور الملاح
ومنها:
يدرن مراض أجفان صحاح ... فيا عجبي من المرضى الصحاح
وما زالت عيون العين فينا ... تؤثر فوق تأثير السلاح
ومنها:
أمطلعة الهلال على قضيب ... ومسدلة الظلام على الصباح!
عدتني عن زيارتك العوادي ... ودهر للأكارم ذو اطراح!
ومنها:

أمدره تغلب لسناً وعلماً ... ومصقع نطقها عند التلاحي
لقد أوتيت علماً واضطلاعا ... بآداب وألفاظ فصاح
لمقولك المضاء إذا انتضاه ال ... قصيد على المهندة الصفاح
وله من قصيدة:
ألا ليت شعري، والحوادث جمة ... وما كنت في دهري إلى الناس شاكيا
أمخترمي ريب المنون بحسرة ... تبلغ نفسي من شجاها التراقيا؟
إلى الله أشكو أن في الصدر حاجة ... تمر بها الأيام وهي كما هيا
ومنها في ذكر بني كعب وإيحاشهم سيف الدولة حتى أضربهم:
وإنهم لما استهاجوا صياله ... وما كان عن مستوجب البطش وانيا
كمن شب ناراً في شعار ثيابه ... وهيج ليثاً للفريسة ضاريا
وله من قصيدة أجاب بها عن قصيدة أبي فراس التي أولها:
لعل خيال العامرية زائر
عمرن بعمار من الإنس برهة ... فها هن صفر ليس فيهن صافر
أخلت بمغناها دمى وخرائد ... وحلت بأقصاها مها وجآذر
أهن عيون باللحاظ دوائر ... على عاشقيها أم سيوف بواتر؟
ضعائف يقهرن الأشداء قدرة ... عليهم وسلطان الصبابة قاهر
ومنها:
ألا يا ابن عم يستزيد ابن عمه ... رويدك إني لانبساطك شاكر
تصفحت ما أنفذته فوجدته ... كما استودعت نظم العقود الجواهر
وذكرني روضاً بكته سماؤه ... فضاحكه مستأسد وهو زاهر
عرائس تجلوها عليك خدورها ... ولكنما تلك الخدور دفاتر
فعدلاً، فإن العدل في الحكم سيرة ... بها سار في الناس الملوك الأساور
ولما قال أبو فراس:
إنا إذا اشتد الزما ... ن وناب خطب وادلهم
من أبيات قد مرت أجابه أبو محمد جعفر بن محمد بن ورقاء بقوله من أبيات:
أنتم كما قد قلت بل ... أعلى وأشرف يا ابن عم
ولكم سوابق كل فخ ... ر واللواحق من أمم
أحسنت والله العظي ... م نظام بيتك حين تم
فيما ذكرت من السيو ... ف وما ذكرت من النعم
حتى كأن بنظمه ... للحسن دراً منتظم
وكتب أبو محمد عند حصوله ببغداد بعد وفاة سيف الدولة إلى أبي إسحاق الصابي، وكانت بينهما مودة وتزاور فانقطع عنه أبو إسحاق لبعض العوائق:
يا ذا الذي جعل القطيعة دأبه ... إن القطيعة موضع للريب
إن كان ودك في الطوية كامناً ... فاطلب صديقاً عالماً بالغيب!
فأجابه أبو إسحاق بهذه الأبيات:
قد يهجر الخل السليم الغيب ... للشغل وهو مبراً من ريب
ويواصل الرجل المنافق مبدياً ... لك ظاهراً مستبطنا للعيب
لا تفرحن من الصديق بشاهد ... حتى يكون موافقاً للغيب
وتأمل المسود من شعر الفتى ... أهو الشبيه أم خضاب الشيب؟
وإذا ظفرت بذي وداد خالص ... فاغفر له ما دون غش الجيب
وكتب إليه أبو إسحاق قصيدة طويلة فأجابه بقصيدة منها:
ومشمولة صرفت بشربها ... وجوه لحاتي قاطبات الحواجب
إذا جال فيها المزج خلت حبابها ... عيون الأفاعي أو قرون الجنادب
وعاذلة في بذل ما ملكت يدي ... رددت لها المسعى بصفقة خائب
فإن زئير الأسد من كل جانب ... ليشغل سمعي عن صياح الثعالب
أفي الحق أن قايست غير محقق ... فظاظة جندي إلى ظرف كاتب
ولا سيما أنت الذي نشرت له ... محاسن كالأعلام فوق المراقب
وما زلت بين الناس صدر محافل ... وعين مقامات وقلب مواكب
وكتب إليه أبو أحمد قصيدة منها:
يا هلالاً يدعى أبوه هلالا ... جل باريك في الورى وتعالى
أنت بدر حسناً، وشمس علواً، ... وحسام عزماً، وبحر نوالا

أبو حصين علي بن عبد الملك الرقي القاضي بحلب

هو الذي يقول فيه السري الموصلي من قصيدة:
لقد أضحت خلال أبي حصين ... حصوناً في الملمات الصعاب
كساني ظل وابله، وآوى ... غرائب منطقي بعداغتراب
وكنت كروضة سقيت سحاباً ... فأثنت بالنسيم على السحاب
وكتب إليه أبو فراس - وقد عزم على المسير إلى الرقة - قصيدة افتتاحها:
يا طول شوقي إن كان الرحيل غدا ... لا فرق الله فيما بيننا أبدا
فأجابه القاضي بقصيدة أولها:
الحمد لله حمداً دائماً أبداً ... أعطاني الدهر ما لم يعطه أحدا
ومنها:
إن كان ما قيل من سير الركاب غداً ... حقاً فإني أرى وشك الحمام غدا
ومنها في ذكر سيف الدولة:
لولا الأمير وأن الفضل مبدؤه ... منه لقلت بأن الفضل منك بدا
دام البقاء له ما شاء مقتدراً ... تمضي أوامره، إن حل أو عقدا
يذل أعداءه عزاً، ويرفع من ... والاه فضلاً، ويبقى للعلا أبدا
وكتب أبو حصين إلى أبي فراس من قصيدة جواباً:
من واثب الدهر كان الدهر قاهره ... ومن شكا ظلمه قلت نواصره
إن كان سار فإن الروح تذكره، ... والعين تبصره، والقلب حاضره
يا من أخالصه ودي، وأمحضه ... نصحي، وتأتيه من وصفي جواهره
أتى كتابك والأنفاس خافتة ... والجسم مستسلم، والسقم قاهره
والطرف منكسر، والشوق طارقه، ... والوجد باطنه، والصبر ظاهره
فانتاشني وأعاد الروح في بدني ... وشد صدعاً وكسراً أنت جابره
ما زلت في نزهة منه وفي زهر ... وأحسن الروض ما دامت زواهره
حسبي بسيدنا فخراً أصول به ... هو الفخور وما خلق يفاخره
من ذا يطاوله؟ أم من يماجده؟ ... أم من يساجله؟ أم من يكاسره؟
أم من يفاقهه؟ أم من يشاعره؟ ... أم من يجادله؟ أم من يناظره؟
أم من يقاربه في كل مكرمة؟ ... أم من يناضله؟ أم من يساوره؟
أم من يبارزه؟ أم من يواقفه ... في كل معترك؟ أم من يصابره؟
الحرب نزهته، والبأس همته ... والسيف عزمته، والله ناصره
والجود لذته، والشكر بغيته ... والعفو والعرف والتقوى ذخائره
ومنها:
هذا جواب عليل لا حراك به ... قد خانه فهمه، بل مات خاطره
يشكو إليك بعاداً عنك أتلفه ... وطول شوق ونيراناً تخامره
إن كان قصر فيما قال مجتهداً ... فأنت بالعدل والإحسان عاذره
وقال أيضاً فيه:
آليت إني ما بقيت ... رهين شكر الحارث
فإذا المنية شارفت ... ورثت ذلك وارثي
رقي له من بعد سي ... دنا وليس لثالث
قسماً على صدق الضمير ... ولست فيه بحانث

أبو الفرج سلامة بن بحر
أحد قضاة سيف الدولة
يقول شعراً يكاد بأجزاء الهواء رقة وخفة، ويجري مع الماء لطافة وسلاسة، كقوله:
من سره العيد فما سرني ... بل زاد همي وأشجاني
لأنه ذكرني ما مضى ... من عهد أحبابي وإخواني
ونظيرهما لغيره:
من سره العيد الجدي ... د فما لقيت به سرورا
كان السرور يتم لي ... لو كان أحبابي حضورا
ولأبي الفرج، ويروى للقاضي أبي النعمان البصري:
نوح حمام بيثرب غرد ... هيج شوقي وزاد في كمدي
واكبدي من عذابكم! وكذا ... من ذاق ما ذاقت صاح واكبدي!
فارقت إلفي فصار في بلد ... بالرغم مني، وصرت في بلد
وأنشدني أبو علي محمد بن عمر الزاهر، قال: أنشدني القاضي أبو الفرج ببيروت لنفسه:
مولاي ما لي منك بخت ... قد ذبت من كمد ومت
تصفو بك الدنيا ولا ... يصفو لعبدك منك وقت
مولاي ما ذنبي إلي ... ك؟ فلو عرفت الذنب تبت

لا أنني أنسيتكم ... أو أنني للعهد خنت
إن كان ذاك فلا بقي ... ت، وإن بقيت فلا سلمت

أبو محمد عبد الله بن عمرو
بن محمد الفياض
كاتب سيف الدولة ونديمه، معروف ببعد المدى في مضمار الأدب وحلبة الكتابة، أخذ بطرفي النظم والنثر، وكان سيف الدولة لا يؤثر عليه في السفارة إلى الحضرة أحداً لحسن عبارته وقوة بيانه، ونفاذه في استغراق الأغراض، وتحصيل المراد، وقد ذكره أبو إسحاق الصابي في الكتاب " التاجي " ومدحه السري بقصائد منها قوله من قصيدة:
محت رسم الكرى عن مقلتيه ... رواسم لا تمل من الرسيم
تروم وقد فرعن بنا فروعاً ... من الفياض طيبة الأروم
إذا طافت بعبد الله لاقت ... سمات المجد في الوجه الوسيم
لك القلم الذي يضحي ويمسي ... به الإقليم محمي الحريم
هو الصل الذي لو عض صلاً ... لأسلمه إلى ليل السليم
أخو حكم إذا بدأت وعادت ... حكمن بعجز لقمان الحكيم
ملكت خطامها فعلوت قساً ... برونقها وقيس بن الخطيم
نجوم لا تعوز فمن درار ... يسار بضوئهن ومن رجوم
كحلي الخود مؤتلف النواحي ... ووشي الروض مختلف الرقوم
وكان يعجن مداده بالمسك، ولا تلاق دواته إلا بماء الورد، تفادياً من قول القائل:
دعي في الكتابة لا روي ... له فيها يعد ولا بديه
كأن دواته من ريق فيه ... تلاق فريحها أبداً كريه
وإيثاراً لما قال الآخر:
في كفه مثل سنان الصعده ... أرقش بز الأفعوان جلده
كأنما النقش إذا استمده ... غالية مدوفة بنده
ومن ملح شعره قوله، ولم أسمع في معناه أحسن منه:
قم فاسقني بين خفق الناي والعود ... ولا تبع طيب موجود بمفقود
كأساً إذا أبصرت في القوم محتشماً ... قال السرور له قم غير مطرود
نحن الشهود وخفق العود خاطبنا ... نزوج ابن سحاب بنت عنقود
وأنشدني أبو علي محمد عمر الزاهر، قال: أنشدني ابن الفياض لنفسه بحلب في غلام أثير لديه استوحش منه لميله إلى غلام آخر يقال له إقبال:
أنكرت إقبالي على إقبال ... وخشيت أن تتساويا في الحال
هيهات! لا تجزع فكل طريفة ... ربح يهون وأنت رأس المال
قال: وأنشدني لنفسه في ذلك الغلام:
الآن تهجرني وأنت المذنب ... وظننت أنك عاتب لا تعتب
وأمنت من قلبي التقلب واثقاً ... بوفائه لك، والقلوب تقلب
وقال:
وما بقيت من اللذات إلا ... محادثة الكرام على الشراب
ولثمك وجنتي قمر منير ... يجول بخده ماء الشباب
أبو القاسم الشيظمي
قال يصف نمرقة رآها بجنب سيف الدولة:
نمرقة منها استعا ... ر الروض أصناف الملح
فيها لمن يبصر من ... ريش الطواويس ملح
كأنما دارت على ... سمائها قوس قزح
أبو ذر أستاذ سيف الدولة
قال:
نفسي الفداء لمن عصيت عواذلي ... في حبه لم أخش من رقبائه
الشمس تطلع في أسرة وجهه ... والبدر يطلع من خلال قبائه
وله أيضاً:
مروع منك كل يوم ... محتمل فيك كل لوم
إن كنت أنكرت ملك رقي ... عصباً صراحاً بغير سوم
فقل لجنبي: أين قلبي؟ ... وقل لعيني: أين نومي؟
أبو الفتح البكتمري
يعرف بابن الكاتب الشامي، له شعر يتغنى بأكثره ملاحة ولطافة، أنشدني أبو بكر الخوارزمي، قال: أنشدني ابن الكاتب لنفسه بالشام:
وروضة راضية عن الديم ... وطأتها بناظري دون القدم
وصنتها صوني بالشكر النعم
قال: وأنشدني لنفسه:
قالوا: بكيت دماً؟ فقل ... ت: مسحت من خدي خلوقا
أبصرت لؤلؤ ثغره ... فنثرت من جفني عقيقا
لولا التمسك بالهوى ... لحملت في دمعي غريقا
وأنشدني غيره له:

قمر كأن قوامه ... من قد غصن مسترق
وكأنما اصطبح الربي ... ع بوجنتيه واغتبق
وكأنما قلم الزمر ... د فوق عارضه مشق
وله من أبيات:
سقاني بعينيه كأس الهوى ... وثنى وثلث بالحاجب
كأن العذار على خده ... فذالك من مشقة الكاتب
ووجدت على ظهر دفتر عراقي الخط هذين البيتين منسوبين إليه:
ردوا الهدو كما عهدت إلى الحشا ... والمقلتين إلى الكرى ثم اهجروا
من بعد مالكي رمتم أن تغدروا ... ما بعد فرقة بيعين تخير
وله زعم في الميضأة:
أحق بيت من بيوت الورى ... بصونه قدماً وإيثاره
بيت إذا ما زاره زائر ... فقد قضى أعظم أوطاره
يدخله المولى بخز كما ... يدخله العبد بأطماره
وهو إذا ما كان مستنظفاً ... مروءة الإنسان في داره
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي، قال: أنشدني بعضهم لنفسه في أبي الفتح ابن الكاتب، ولم ينصف فضله:
إن أبا الفتح فتى كاتب ... والشعر من آلته فضل
أنشدنا شعراً فقلنا له: ... ذا غزل ويحك أم غزل؟
وملت عنه نحو أصحابنا ... أسألهم: هل عندكم نعل!؟

أبو الفرج العجلي الكاتب
أنشدني أبو بكر الخوارزمي له أبياتاً تعجب من سلاستها وسهولة مأخذها وعذوبة ألفاظها، وذكر أنه من أفراد مطبوعي تلك البلاد، فمنها قوله:
أقول له يا مذيقي الهوى ... ولم أك فيما مضى ذقته
سألتك بالله لا تدنني ... إلى أجل ما دنا وقته
ملكت فؤادي فعذبته ... ولو أنه في يدي صنته
ومنها قوله:
أرسلت نظرة وامق لك خائف ... من عين واش لحظه ما يفتر
وجعلت أوهم أن قلبي مضمر ... شيئاً سوى نظري، وأنت المضمر
ومنها قوله:
وأريه أني سلوت، وإني ... لمشوق والله صب إليه
وهواه يدب في كل قلب ... كدبيب السواد في عارضيه
ومنها قوله وأنشدنيه غيره:
عذار كالطراز على الطراز ... وبدر في الحقيقة لا المجاز
ولو جاز السجود له سجدنا ... ولكن ليس ذاك بمستجاز
أبو عبد الله الحسين بن خالويه
أصله من همذان، ولكن استوطن حلب، وصار بها أحد أفراد الدهر في كل قسم من أقسام الأدب والعلم، وكانت إليه الرحلة من الآفاق، وآل حمدان يكرمونه، ويدرسون عليه، ويقتبسون منه، وله شعر لم يحضرني منه الآن إلا قوله في وصف برد همذان:
إذا همذان اعتارها القر وانقضى ... برغمك أيلول وأنت مقيم
فعينك عمشاء وأنفك سائل ... ووجهك مسود البياض بهيم
وأنت أسير البرد تمشي بعلة ... على السيف تحبو مرة وتقوم
بلاد إذا ما الصيف أقبل جنة ... ولكنها عند الشتاء جحيم
ولبعضهم في برد همذان:
همذان متلفة النفوس ببردها ... والزمهرير، وحرها مأمون
غلب الشتاء مصيفها وخريفها ... فكأنما تموزها كانون
ولأبي علي كاتب بكر:
يا بلدة أسلمني بردها ... وبرد من يسكنها للقلق
لا يسلم الشاتي به من أذى ... من لثق أو دمق أو زلق
ولأبي الربيع البلخي في الشاش:
الشاش في الصيف جنة ... ومن أذى الحر جنه
لكنني تعتريني ... بها لدى البرد جنه
وفي مثل هذه الصنعة، وإن كان في غير المعنى، لغيره:
يا شادناً مت قبله ... قد صار في الحسن قبله
امنن علي بقبلة ... تشفي فؤاداً موله
ولابن خالويه أيضاً:
إذا لم يكن صدر المجالس سيداً ... فلا خير فيمن صدرته المجالس
وكم قائل: ما لي رأيتك راجلاً؟ ... فقلت له: من أجل أنك فارس!
أبو الفتح عثمان بن جنى
النحوي اللغوي

هو القطب في لسان العرب، وإليه انتهت الرياسة في الأدب، وصحب أبا الطيب دهراً طويلاً، وشرح شعره، ونبه على معانيه وإعرابه، وكان الشعر أقل خلاله لعظم قدره، وارتفاع حاله. فمن ذلك قوله في الغزل:
غزال غير وحشي ... حكى الوحشي مقلته
رآه الورد يجني الور ... د فاستكساه حلته
وشم بأنفه الريحا ... ن فاستهداه زهرته
وذاقت ريقه الصهبا ... ء فاختلسته نكهته
وله:
أيا دارهم ما أنت أنت مذ انتووا ... ولا أنا مذ سار الركاب أنا أنا
وجود المنى أن لا يكاثر بالمنى ... ونيل الغنى أن لا يكاثر بالغنى
ومن كان في الدنيا أشد تصوراً ... تجده عن الدنيا أشد تصونا

الشمشاطي
هو أبو الفتح الحسن بن علي بن محمد، لم يقع إلي من شعره إلا قوله في البنفسج:
إشرب على زهر البنفس ... ج قبل تأنيب الحسود
فكأنما أوراقه ... آثار قرص في الخدود
وقوله في الجلنار:
وبدا الجلنار مثل خدود ... قد كساها الحياء ثوب عقار
صبغة الله كالعقيق تراه ... أحمراً ناصعاً لدى الاخضرار
وممن يليق ذكره بهذا المكان من أعيان الشام، وليس يحضرني شعر أبو القاسم الآدمي، وإذا حصلت عليه ألحقته به، وهذا أخر الباب الرابع.
الباب الخامس
في ذكر أبي الطيب المتنبي
وما له وما عليه
هو - وإن كان كوفي المولد - شامي المنشأ، وبها تخرج، ومنها خرج.
نادرة الفلك، وواسطة عقد الدهر في صناعة الشعر، ثم هو شاعر سيف الدولة المنسوب إليه، والمشهور به، إذ هو الذي جذب بضبعه، ورفع قدره، ونفق سعر شعره، وألقى عليه شعاع سعادته، حتى سار ذكره مسير الشمس والقمر، وسافر كلامه في البدو والحضر، وكادت الليالي تنشده، والأيام تحفظه، كما قال وأحسن ما شاء:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمراً ... وغنى به من لا يغني مغردا
وكما قال:
ولي فيك ما لم يقل قائل ... وما لم يسر قمر حيث سارا
وعندي لك الشرد السائرا ... ت لا يختصصن من الأرض دارا
إذا سرن من مقول مرة ... وثبن الجبال وخضن البحارا
هذا من أحسن ما قيل في وصف الشعر السائر، وأبلغ منه قول علي بن الجهم حيث قال:
ولكن إحسان الخليفة جعفر ... دعاني إلى ما قلت فيه من الشعر
فسار مسير الشمس في كل بلدة ... وهب هبوب الريح في البر والبحر
فليس اليوم مجالس الدرس، أعمر بشعر أبي الطيب من مجالس الأنس ولا أقلام كتاب الرسائل، أجرى به من ألسن الخطباء في المحافل، ولا لحون المغنين والقوالين، أشغل به من كتب المؤلفين والمصنفين. وقد ألفت الكتب في تفسيره، وحل مشكله وعويصه، وكثرت الدفاتر على ذكر جيده ورديئه، وتكلم الأفاضل في الوساطة بينه وبين خصومه، والإفصاح عن أبكار كلامه وعونه. وتفرقوا فرقاً في مدحه والقدح فيه والنضح عنه، والتعصب له وعليه. وذلك أول دليل دل على وفور فضله، وتقدم قدمه، وتفرده عن أهل زمانه، بملك رقاب القوافي، ورق المعاني، فالكامل من عدت سقطاته، والسعيد من حسبت هفواته " وما زالت الأملاك تهجي وتمدح " .
وأنا مورد في هذا الباب ذكر محاسنه ومقابحه، وما يرتضى وما يستهجن من مذاهبه في الشعر وطرائقه، وتفصيل الكلام في نقد شعره، والتنبيه على عيونه وعيوبه، والإشارة إلى غرره وعرره، وترتيب المختار من قلائده وبدائعه، بعد الأخذ بطرف من طرق أخباره ومتصرفات أحواله، وما تكثر فوائده وتحلو ثمرته، ويتميز هذا الباب به عن سائر أبواب الكتاب كتميزه عن أصحابها بعلو الشأن في شعر الزمان، والقبول التام عند أكثر الخاص والعام.
ذكر ابتداء أمره

ذكرت الرواة أنه ولد بالكوفة في كندة سنة ثلاث وثلاثمائة، وأن أباه سافر إلى بلاد الشام، فلم يزل ينقله من باديتها إلى حضرها، ومن مدرها إلى وبرها، ويسلمه في المكاتب، ويردده في القبائل، ومخايله نواطق الحسنى عنه. وضوامن النجح فيه، حتى توفي أبوه وقد ترعرع أبو الطيب وشعر وبرع، وبلغ من كبر نفسه وبعد همته أن دعا إلى بيعته قوماً من رائشي نبله، على الحداثة من سنه والغضاضة من عوده. وحين كاد يتم له أمر دعوته تأدى خبره إلى والي البلدة، ورفع إليه ما هم به من الخروج، فأمر بحبسه وتقييده، وهو القائل في الحبس قصيدته التي أولها:
أياه خدد الله ورد الخدود ... وقد قدود الحسان القدود
ومنها استعطافه ذلك الأمير والتنصل مما قذف به:
أمالك رقي، ومن شأنه ... هبات اللجين وعتق العبيد
دعوتك عند انقطاع الرجا ... ء والموت مني كحبل الوريد
دعوتك لما براني البلى ... وأوهن رجلي ثقل الحديد
ومنها:
وقد كان مشيهماً في النعال ... فقد صار مشيهماً في القود
وكنت من الناس في محفل ... فها أنا في محفل من قرود
تعجل في وجوب الحدود ... وحدي قبل وجوب السجود!
أي: إنما تجب الحدود على البالغ، وأنا صبي لم تجب علي الصلاة بعد، ويجوز أن يكون قد صغر سنه وأمر نفسه عند الوالي، لأن من كان صبياً لم يظن به اجتماع الناس إليه للشقاق والخلاف.
ومن شعره في الحبس ما كتب به إلى صديق له قد كان أنفذ إليه مبره:
أهون بطول الثواء والتلف ... والسجن والقيد، يا أبا دلف
غير اختيار قبلت برك بي ... والجوع يرضي الأسود بالجيف
يشبه قول أبي عيينة:
ما أنت إلا كلحم ميت ... دعا لي إلى أكله اضطرار
" رجع " :
كن أيها السجن كيف شئت فقد ... وطنت للموت نفس معترف
لو كان سكناي فيك منقصة ... لم يكن الدر ساكن الصدف
ويحكى أنه تنبأ في صباه، وفتن شرذمة بقوة أدبه، وحسن كلامه، وحكى أبو الفتح عثمان بن جنى قال: سمعت أبا الطيب يقول: إنما لقبت بالمتنبي لقولي:
أنا ترب الندى ورب القوافي ... وسمام العدا وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها الل ... ه غريب كصالح في ثمود
وفي هذه القصيدة يقول:
ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسح بين اليهود
وما زال في برد صباه إلى أن أخلق برد شيايه، وتضاعفت عقود عمره، يدور حب الولاية والرياسة في رأسه، ويظهر ما يضمر من كامن وسواسه، في الخروج على السلطان، والاستظهار بالشجعان، والاستيلاء على بعض الأطراف، ويستكثر من التصريح بذلك في مثل قوله:
لقد تصبرت حتى لات مصطبر ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم
لأتركن وجوه الخيل ساهمة ... والحرب أقوم من ساق على قدم
والطعن يحرقها والزجر يقلقها ... حتى كأن بها ضرباً من اللمم
قد كلمتها العوالي فهي كالحة ... كأنما الصاب مذرور على اللجم
بكل منصلت ما زال منتظري ... حتى أدلت له من دولة الخدم
شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ... ويستحل دم الحجاج في الحرم
وقوله:
سأطلب حقي بالقنا ومشايخ ... كأنهم من طول ما التثموا مرد
ثقال إذا لاقوا، خفاف إذا دعواكثير إذا شدواقليل إذا عدوا
وطعن كأن الطعن لا طعن بعده ... وضرب كأن النار من حره برد
إذا شئت حفت بي على سابح ... رجال كأن الموت في فمها شهد
وقوله:
ولا تحبسن المجد زقاً وقينة ... فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وان ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك في الدنيا دوياً كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشر
وقوله:
وإن عمرت جعلت الحرب والدة ... والسمهري أخاً، والمشرفي أبا
بكل أشعث يلقى الموت مبتسماً ... حتى كأن له في قتله أرباً

قح يكاد صهيل الخيل يقذفه ... من سرجه مرحاً للعز أو طربا
الموت أعذر لي، والصبر أجمل بي، والبر أوسع، والدنيا لمن غلبا
وكان كثيراً ما يتجشم أسفاراً بعيدة أبعد من آماله، ويمشي في مناكب الأرض، ويطوي المناهل والمراحل، ولا زاد إلا من ضرب الحراب، على صفحة المحراب. ولا مطية إلا الخف أو النعل، كما قال:
لا ناقتي تقبل الرديف ولا ... بالسوط يوم الرهان أجهدها
شراكها كورها، ومشفرها ... زمامها، والشسوع مقودها
وإنما ألم في هذا المعنى بأبي نواس في قوله:
إليك أبا العباس من بين من مشى ... عليها امتطينا الحضرمي الملسنا
قلائص لم تعرف حنيناً على طلا ... ولم تدر ما قرع الفنيق ولا الهنا
وكما قال في شكوى الدهر ووصف الخف:
أظمتني الدنيا فما جئتها ... مستسقياً مطرت علي مصائبا
وحبيت من خوص الركاب بأسود ... من دارش فغدوت أمشي راكبا
وكما قال في الاعتداد بالرحلة، والقدرة على الرجلة:
ومهمه جبته على قدمي ... تعجز عنه العرامس الذلل
بصارمي مرتد، بمخبرتي ... مجتزئ، بالظلام معتمل
إذا صديق نكرت جانبه ... لم تعيني في فراقه الحيل
في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلاد من أختها بدل
وشتان ما بين حاله هذه والحال التي قال فيها:
وعرفاهم بأني من مكارمه ... أقلب الطرف بين الخيل والخول
وكان قبل اتصاله بسيف الدولة يمدح القريب والغريب، ويصطادها ما بين الكركي والعندليب.
ويحكى أن علي بن منصور الحاجب لم يعطه على قصيدته فيه التي أولها:
بأبي الشموس الجانحات غواربا ... اللابسات من الحرير جلاببا
ومنها:
حال متى علم ابن منصور بها ... جاء الزمان إلي منها تائبا
إلا ديناراً واحداً، فسميت الدينارية.
ولما انخرط في سلك سيف الدولة، ودرت له أخلاف الدنيا على يده، كان من قوله فيه:
تركت السري خلفي لمن قل ماله ... وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا
وقيدت نفسي في هواك محبة ... ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا
وهذا البيت من قلائده، وإنما ألم فيه بقول أبي تمام:
هممي معلقة عليك رقابها ... مغلولة، إن الوفاء إسار
ولكنه أخذ عباءة وردها ديباجاً، وأرسلها مثلاً سائراً، وكرر هذا المعنى فزاد عليه حتى كاد يفسده في قوله:
يا من يقتل من أراد بسيفه ... أصبحت من قتلاك بالإحسان

نبذ من أخباره
لما أنشد سيف الدولة قصيدته التي أولها:
أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل ... دعا فلباه، قبل الركب والإبل
وناوله نسختها وخرج فنظر فيها سيف الدولة، فلما انتهى إلى قوله:
يا أيها المحسن المشكور من جهتي ... والشكر من جهة الإحسان، لا قبلي
ما كان نومي إلا فوق معرفتي ... بأن رأيك لا يؤتى من الزلل
أقل أنل أقطع احمل عل سل أعد ... زد هش بش تفضل أدن سر صل
وقع تحت أقل: قد أقلناك، وتحت أنل: يحمل إليه من الدراهم كذا، وتحت أقطع: قد أقطعناك الضيعة الفلانية ضيعة ببلاد حلب، وتحت احمل: يقاد إليه الفرس الفلاني، وتحت عل: قد فعلنا، وتحت سل: قد فعلنا فاسل، وتحت أعد: أعدناك إلى حالك من حسن رأينا، وتحت زد: يزاد كذا، وتحت تفضل: قد فعلنا، وتحت أدن: قد أدنيناك، وتحت سر: قد سررناك. وتحت صل: قد فعلنا.
قال ابن جني: فبلغني عن المتنبي أنه قال: إنما أردت سر من السرية، فأمر له بجارية.
قال: وحكى لي بعض إخواننا أن المعقلي - وهو شيخ كان بحضرته ظريف - قال له - وحسد المتنبي على ما أمر به - : يا مولاي قد فعلت به كل شيء سألكه، فهلا قلت له لما قال لك هش بش: هه هه هه، يحكي الضحك، فضحك سيف الدولة، فقال له: ولك أيضاً ما تحب، وأمر له بصلة.
وذكر القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز في كتاب " الوساطة " أن أبا الطيب نسج على منوال ديك الجن فقال:
احل وامرر وضر وانفع ولن واخ ... شن ورش وابر وانتدب للمعالي

وحكى ابن جني قال: حدثني أبو علي الحسن بن أحمد الصنوبري، قال: خرجت من حلب أريد سيف الدولة، فلما برزت من السور إذا أنا بفارس مثلثم قد أهوى نحوي برمح طويل، وسدده إلى صدري، فكدت أطرح نفسي عن الدابة فرقاً، فلما قرب مني ثنى السنان وحسر لثامه فإذا المتنبي، وأنشدني:
نثرنا رءوساً بالأحيدب منهم ... كما نثرت فوق العروس الدراهم
ثم قال: كيف ترى هذا القول؟ أحسن هو؟ فقلت له: ويحك! قد قتلتني يا رجل، قال ابن جني: فحكيت أنا هذه الحكاية بمدينة السلام لأبي الطيب، فعرفها وضحك لها، وذكر أبا علي من التقريظ والثناء بما يقال في مثله.
قال: وأنشدت أبا علي ليلاً قصيدة المتنبي التي اولها:
واحر قلباه ممن قلبه شبم
فلما وصلت إلى قوله فيها:
وشر ما قنصته راحتي قنص ... شهب البزاة سواء فيه والرخم
أعجب جداً به، ولم يزل يستعيده، حتى حفظه، ومعناه: إذا تساويت ومن لا قدر له في أخذ عطاياك فأي فضل لي عليه؟ وما كان من الفائدة كذا لم أفرح به، وإنما أفرح بأخذ ما تختص به الأفاضل.
قال: وحدثني المتنبي قال: حدثني فلان الهاشمي من أهل حران بمصر، قال: أحدثك بطريفة، كتبت إلى امرأتي بحران كتاباً تمثلت فيه ببيتك:
بم التعلل لا أهل ولا وطن ... ولا نديم ولا كأس ولا سكن؟
فأجابتني عن الكتاب، وقالت: ما أنت والله كما ذكرته في هذا البيت، بل أنت كما قال الشاعر في هذه القصيدة:
سهرت بعد رحيلي وحشة لكم ... ثم استمر مريري وارعوى الوسن
قال: ولما سمع سيف الدولة البيت الذي يتلوه وهو يقول:
وإن بليت بود مثل ودكم ... فإنني بفراق مثله قمن
قال: سار وحق أبي.
قال: ولما سمع قوله لفنا خسرو:
وقد رأيت الملوك قاطبة ... وسرت حتى رأيت مولاها
قال: ترى هل نحن في الجملة؟ سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: كان أبو الطيب المتنبي قاعداً تحت قول الشاعر:
وإن أحق الناس باللوم شاعر ... يلوم على البخل الرجال ويبخل
وإنما أعرب عن عادته وطريقته في قوله:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
فحضرت عنده يوماً بحلب وقد أحضر مالاً من صلات سيف الدولة، فصب بين يديه على حصير قد افترشه، ووزن وأعيد في كيس، وإذا بقطعة كأصغر ما يكون من ذلك المال قد تخللت خلل الحصير، فأكب عليها بمجامعه ينقرها ويعالج استنقاذها منه، ويشتغل بذلك عن جلسائه حتى توصل إلى إظهار بعضها، فتمثل ببيت قيس بن الخطيم:
تبدت لنا كالشمس بين غمامة ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب
ثم استخرجها، وأمر بإعادتها إلى مكانها من الكيس، وقال: إنها تحضر المائدة.
وسمعته يقول: لما أنشد المتنبي عضد الدولة قصيدته فيه التي اولها:
مغاني الشعب طيباً في المغاني
وانتهى إلى قوله فيها:
وألقى الشرق منها في ثيابي ... دنانيراً تفر من البنان
قال له عضد الدولة: لأقرنها في يديك، ثم فعل.
قال: ولما قدم أبو الطيب من مصر بغداد، وترفع عن مدح المهلبي الوزير، ذهاباً بنفسه عن مدح غير الملوك، شق ذلك على المهلبي، فأغرى به شعراء بغداد، حتى نالوا من عرضه، وتباروا في هجائه، وفيهم ابن الحجاج وابن سكرة محمد بن عبد الله الزاهد الهاشمي، والحاتمي، وأسمعوه ما يكره، وتماجنوا به، وتنادروا عليه، فلم يجبهم ولم يفكر فيهم، وقيل له في ذلك، فقال: إني فرغت من إجابتهم بقولي لمن هم أرفع طبقة منهم في الشعراء:
أرى المتشاعرين غروا بذمي ... ومن ذا يحمل الداء العضالا
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مراً به الماء الزلالا
وقولي:
أفي كل يوم تحت ضبني شويعر ... ضعيف يقاويني قصير يطاول
لساني بنطقي صامت عنه عادل ... وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل
وأتعب من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
وما التيه طبي فيهم غير أنني ... بغيض إلي الجاهل المتعاقل
وقولي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل

قال: وبلغ أبا الحسين بن لنكك بالبصرة ما جرى على المتنبي من وقيعة شعراء بغداد فيه، واستحقارهم له، وكان حاسداً له، طاعناً عليه، هاجياً إياه، زاعماً أن أباه كان سقاء بالكوفة فشمت به وقال:
قولا لأهل زمان لا خلاق لهم ... ضلوا عن الرشد من جهل بهم وعموا
أعطيتهم المتنبي فوق منيته ... فزوجوه برغم أمهاتكم
لكن بغداد جاد الغيث ساكنها ... نعالهم في القفا السقاء تزدحم
قال: ومن قوله فيه:
متنبيكم ابن سقاء كوفا ... ن ويوحى من الكنيف إليه
كان من فيه يسلح الشعر حتى ... سلحت فقحة الزمان عليه
ومن قوله أيضاً فيه:
ما أوقح المتنبي ... فيما حكى وادعاه
أبيح مالاً عظيماً ... حتى أباح قفاه
يل سائلي عن غناه ... من ذاك كان غناه
إن كان ذاك نبياً ... فالجاثليق إله
ثم إن أبا الطيب المتنبي اتخذ الليل جملاً، وفارق بغداد متوجهاً إلى حضرة أبي الضل بن العميد مراغماً للمهلبي الوزير، فورد أرجان، وأحمد مورده، فيحكى أن الصاحب أبا القاسم طمع في زيارة المتنبي إياه بأصبهان، وإجرائه مجرى مقصوديه من رؤساء الزمان، وهو إذ ذاك شاب وحاله حويلة، ولم يكن استوزر بعد، وكتب إليه يلاطفه في استدعائه، وتضمن له مشاطرته جميع ماله، فلم يقم له المتنبي وزناً، ولم يجبه عن كتابه ولا إلى مراده، وقصد حضرة عضد الدولة بشيراز، فأسفرت سفرته عن بلوغ الأمنية، وورد مشرع المنية، واتخذه الصاحب غرضاً يرشقه بسهام الوقيعة، ويتتبع عليه سقطاته في شعره وهفواته، وينعي عليه سيئاته، وهو أعرف الناس بحسناته، وأحفظهم لها، وأكثرهم استعمالاً إياها وتمثلاً بها في محاضراته ومكاتباته، وكان مثله معه كما قال الشاعر:
شتمت من يشتمني مغالظاً ... لأصرف العاذل عن لجاجته
فقال: لما وقع البراز في ال ... ثوب علمنا أنه من حاجته
وكما قال الآخر:
وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... ولم أر كالدنيا تذم وتحلب
وكما قال الآخر:
نبئت أني إذا ما غبت تشتمني ... قل ما بدا لك فالمحبوب مسبوب

قطعة من حل الصاحب وغيره نظم المتنبي واستعانتهم بألفاظه ومعانيه في
الترسل
فصل له من رسالة في وصف قلعة افتتحها عضد الدولة: وأما قلعة كذا فقد كانت بقية الدهر المديد، والأمد البعيد، تعطس بأنف شامخ من المنعة، وتنبو بعطف جامع على الخطبة، وترى أن الأيام قد صالحتها على الإعفاء من القوارع، وعاهدتها على التسليم من الحوادث، فلما أتاح الله للدنيا ابن بجدتها، وأبا بأسها ونجدتها، فما لبثوا أن رأوا معقلهم الحصين ومثواهم القديم، نهزة الحوادث، وفرصة البوائق، ومجر العوالي، ومجرى السوابق.
وإنما ألم بألفاظ بيتين لأبي الطيب أحدهما:
حتى أتى الدنيا ابن بجدتها ... فشكا إليه السهل والجبل
والآخر:
تذكرت ما بين العذيب وبارق ... مجر عوالينا ومجرى السوابق
وفصل له - لئن كان الفتح جليل الخطر، عظيم الأثر، فإن سعادة مولانا لتبشر بشوافع له، يعلم معها أن لله أسراراً في علاه لا يزال يبديها، ويصل أوائلها بتواليها.
وهو من قول أبي الطيب:
ولله سر في علاك، وإنما ... كلام العدى ضرب من الهذيان
فصل - ولو كان ما أحسنه شظية في قلم كاتب لما غيرت خطه، أو قذى في عين نائم لما انتبه جفنه.
وهو من قول أبي الطيب:
ولو قلم ألقيت في شق رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتب
وقول نصر:
ضنيت حتى صرت لو زج بي ... في ناظر النائم لم ينتبه
ومنه أخذ ابن العميد قوله:
فلو ان أبقيت في جسدي قذى ... في العين لم يمنع من الإغفاء
فصل للصاحب في التعزية - إذا كان الشيخ القدوة في العلم وما يقتضيه، والأسوة في الدين وما يجب فيه، لزم أن يتأدب في حالات الصبر والشكر بأدبه، ويؤخذ في ثارات الأسى بمذهبه، فكيف لنا بتعزيته عند حادث رزيته، إلا إذا روينا له بعض ما اخذناه عنه، وأعدلنا طائفة مما استفدناه منه.
وإنما هو حل من قول أبي الطيب:

أنت يا فوق أن يعزى عن الأح ... باب فوق الذي يعزيك عقلا
وبألفاظك اهتدى فإذا عزا ... ك قال الذي له قلت قبلا
وفصل له - وقد أثنى عليه ثناء لسان الزهر، على راحة المطر.
وهو من قول أبي الطيب:
وذكي رائحة الرياض كلامها ... تبغي الثناء على الحيا فيفوح
والأصل فيه قول ابن الرومي:
شكرت نعمة الولي على الوسم ... ي ثم العهاد بعد العهاد
فهي تثني على السماء ثناء ... طيب النشر شائعاً في البلاد
من نسيم كأن مسراه في الأر ... واح مسرى الأرواح في الأجساد
ومما أورده من أبيات أبي الطيب كما في قوله في كتاب أجاب به ابن العميد عن كتابه الصادر إليه عن شاطئ البحر في وصف مراكبه وعجائبه: وقد علمت أن سيدنا كتب وما أخطر بفكره، سعة صدره، ولو فعل ذلك لرأى البحر وشلاً لا يفضل عن التبرض، وثمداً لا يكثر عن الترشف:
وكم من جبال جبت تشهد أنني ال ... جبال وبحر شاهد أنني البحر
وله من رسالة في التهنئة ببنت أولها - أهلاً بعقيلة النساء، وكريمة الآباء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، ثم يقول فيها:
ولو كان النساء كمثل هذي ... لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال
وهما لأبي الطيب من قصيدة في مرثية والدة سيف الدولة إلا أنه يقول:
ولو كان النساء كمثل فقدنا
وللصاحب من كتاب تعزية - وقلنا: قد أخذ الزمان من أخذ، وترك من ترك، فهو لا شك يعفو عن القمر، وقد أسلم الشمس للطفل ولا يصل الصروف بالصروف، ولا يجمع الكسوف إلى الخسوف، فأبى حكم الملوين، وقد غبنك إذا قاسمك الأخوين، إلا ان يعود فيلحق الباقي بالفاني، والغابر بالماضي:
وعاد في طلب المتروك تاركه ... إنا لنفعل والأيام في الطلب
ما كان أقصر وقتاً كان بينهما ... كأنه الوقت بين الورد والقرب
أقول: هذا كعادة المصدور في النفث، وشكوى الحزن والبث، وإلا فما يعجب السفر من تقدم بعض، وكل بين الراحلة والرحل، لا يترك الموت ساعياً على وجه الأرض، حتى ينقله إلى بطن الترب:
نحن بنو الموتى فما بالنا ... نعاف ما لا بد من شربه
تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمان هن من كسبه
فهذه الأرواح من جوه ... وهذه الأجسام من تربه
وهذا غيض من فيض ما اغترفه الصاحب من بحر المتنبي، وتمثل به من شعره. ولو ذكرت نظائره لامتد نفس هذا الباب.
وليس هو بأوحد في الاقتباس من كلامه، هذا أبو إسحاق الصابي رسيله في ذلك وزميله، وقد قرأت له غير فصل فيما أشرت إليه، ونبهت عليه: فمنه ما كتب في تقريظ - شاب مقتبل الشيبة، مكتمل الفضيلة، ولقد آتاه الله في اقتبال العمر جوامع الفضل، وسوغه في عنفوان الشباب محامد الاستكمال، فلا تجد الكهولة خلة تتلافاها بتطاول المدة، وثلمة تسدها بمزايا الحنكة.
وإنما هو حل نظم أبي الطيب، وإن كان في معنى آخر:
لا تجد الخمر في مكارمه ... إذا انتشى خلة تلافاها
وأخذ من قول البحتري:
تكرمت من قبل الكؤوس عليهم ... فما استطعن أن يحدثن فيك تكرما
ومنه ما كتب إلى ابن معروف تهنئة بقضاء القضاة - منزلة قاضي القضاة تجل عن التهنئة، لأن ما تكتسبه الولاة بها من الصيت والذكر، ويدرعونه فيها من الجمال والفخر، سابق لها عنده، وحاصل قبلها له، وإذا مد أحدهم إليها يداً تجذبها إلى سفال، جذبتها يده إلى المحل العالي، فكأن أبا الطيب المتنبي عناه أو حكاه بقوله:
فوق السماء وفوق ما طلبوا ... فإذا أرادوا غاية نزلوا
ومنه ما كتب - وعاد مولانا إلى مستقر عزه عود الحلي إلى العاطل، والغيث إلى الروض الماحل.
وإنما من قول أبي الطيب:
وعدت إلى حلب ظافراً ... كعود الحلي إلى العاطل
وإذا كان هذان الصدران المقدمان على بلغاء الزمان يقتبسان من أبي الطيب في رسائلهما، فما الظن بغيرهما؟ وما احسن قول الشاعر:
ألا إن حل الشعر زينة كاتب ... ولكن منهم من يحل فيعقد

وممن يحذو حذوهما الأستاذ أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي، وما أظرف ما قرأت له في كتابه إلى أبي سعيد الشيبي: زقد أتاني كتاب شيخ الدولتين فكان في الحسن، روضة حزن بل جنة عدن. وفي شرح النفس، وبسط الأنس، برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب.
وهو من بيت أبي الطيب:
كأن كل سؤال في مسامعه ... قميص يوسف في أجفان يعقوب
وفصل لأبي بكر الخوارزمي - وكيف أمدح الأمير بخلق ضن به الهواء، وامتلأت من ذكره الأرض والسماء، وأبصره الأعمى بلا عين وسمعه الأصم بلا أذن.
وهو حل نظم أبي الطيب:
تنشد أثوابنا مدائحه ... بألسن ما لهن أفواه
إذا مررنا على الأصم بها ... أغنته عن مسمعيه عيناه
ولأبي بكر من رسالة - ولقد تساوت الألسن حتى حسد الأبكم، وأفسد الشعر حتى أحمد الصمم.
وهو قول أبي الطيب:
ولا تبال بشعر بعد شاعره ... قد أفسد القول حتى أحمد الصمم
وهذا ميدان عريض، وشوط بطين، وفيما ذكرته كفاية.
ولاستقراقات الشعراء من أبي الطيب باب هذا مكانه.

أنموذج لسرقات الشعراء منه
- قال المتنبي:
وقد أخذ التمام البدر فيهم ... وأعطاني من السقم المحاقا
أخذه أبو الفرج الببغاء فلطفه وقال:
أوليس من إحدى العجائب أنني ... فارقته وحييت بعد فراقه
يا من يحاكى البدر عند تمامه ... ارحم فتى يحكيه عند محاقه
2 - وقال أبو الطيب:
قد علم البين منا البين أجفانا ... تدمى، وألف ذا القلب أحزانا
أخذه المهلبي الوزير وقال:
تصارمت الأجفان منذ صرمتني ... فما تلتقي إلا على عبرة تجري
3 - وقال أبو الطيب وهو من قلائده:
وكنت إذا يممت أرضاً بعيدة ... سريت فكنت السر والليل كاتمه
أخذه الصاحب وقال:
تجشمتها والليل وحف جناحه ... كأني سر والظلام ضمير
4 - وقال أبو الطيب، وهو أيضاً من قلائده:
لبسن الوشي لا متجملات ... ولكن كي يصن به الجمالا
أغار عليه الصاحب لفظاً ومعنى فقال:
لبسن برود الوشي لا لتجمل ... ولكن لصون الحسن بين برود
وإنما فعل ببيته ما فعل أبو الطيب ببيت العباس بن الأحنف:
والنجم في كبد السماء كأنه ... أعمى تحير ما لديه قائد
فقال:
ما بال هذي النجوم حائرة ... كأنها العمى ما لها قائد
وهذه مصالتة لا سرقة، وهي مذمومة جداً عند النقدة.
5 - وقال أبو الطيب، وهو من فرائده:
سقاك وحيانا بك الله، لإنما ... على العيس نور والخدور كمائمه
أخذه السري بن أحمد، قال ابن جنى: أنشدني لنفسه من قصيدة يمدح بها أبا الفوارس سلامة بن فهد، وهي قوله:
حيا به الله عاشقيه فقد ... أصبح ريحانه لمن عشقا
ولم أجد أنا هذه القصيدة في ديوان شعره، والبيت نهاية في العذوبة، وخفة الروح.
6 - والسري كثير الأخذ من أبي الطيب في مثل قوله:
وخرق طال فيه السير حتى ... حسبناه يسير مع الركاب
وهو مأخوذ من قول أبي الطيب:
يخدن بنا في جوزه وكأننا ... على كرة أو أرضه معنا سفر
7 - وقال السري:
وأحلها من قلب عاشقها الهوى ... بيتاً بلا عمد ولا اطناب
وهو من قول أبي الطيب:
هام الفؤاد بأعرابية سكنت ... بيتاً من القلب لم تضرب به طنبا
8 - وقال السري:
وأنا الفداء لمن مخيلة برقه ... عندي وعند سواي من أنوائه
وإنما ألم فيه بقول أبي الطيب:
ليت الغمام الذي عندي صواعقهيزيلهن إلى ما عنده الديم9وقال أبو الطيب، وهو من قلائده:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
وقال أيضاً:
وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرغام
أخذ أبو بكر الخوارزمي معنى البيتين، وهما قريب من قريب، فقال:
فديتك ما بدا لي قصد حر ... سواك من الورى إلا بدالي
وأنك منهم وكذاك أيضاً ... من الماء الفرائد واللآلي
وتسكن دارهم وكذاك سكنى ال ... حجارة والزمرد في الجبال

وهذا معنى اخترعه المتنبي، وكرره في تفضيل البعض على الكل، فأحسن غاية الإحسان حيث قال:
فإن يك سيار بن مكرم إنقضى ... فإنك ماء الورد إن ذهب الورد
10 - وقال:
وإن تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فإن في الخمر معنىً ليس في العنب
ألم به أبو الفتح علي بن محمد البستي الكاتب فقال:
أبوك حوى العليا وأنت مبرز ... عليه إذا نازعته قصب المجد
وللخمر معنىً ليس في الكرم مثله ... وفي النار نور ليس يوجد في الزند
وخير من القول المقدم فاعترف ... نتيجته والنحل يكرم للشهد
وقال أيضاً:
أبوك كريم غير أنك سابق ... مداه بلا ضيم عليه ولا ذيم
فلا يعجبن الناس مما أقوله ... وأقضي به فالغيث أندى من الغيم
11 - وقال أبو الطيب:
وصرت أشك فيمن أصطفيه ... لعلمي أنه بعض الأنام
أخذه أبو بكر الخوارزمي فقال:
قد ظلمناك بحسن ال ... ظن يا بعض الانام
12 - وقال أبو الطيب:
أتى الزمان بنوه في شيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم
أخذه أبو الفتح وحسنه فقال:
لا غرو إن لم تجد في الدهر مخترفاً ... فقد أتيناه بعد الشيب والخرف
13 - وقال أبو الطيب:
هما الغرض الأقصى، ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا، وأنت الخلائق
امتثله أبو الحسن السلامي فقال:
وبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا، ويوم هو الدهر
14 - وقال أبو الطيب:
لم تزل تسمع المديح ولك ... ن صهيل الجياد غير النهاق
أخذه أبو القاسم الزعفراني ولطفه جداً فقال:
وتغنيك في النداء طيور ... أنا وحدي ما بينهن الهزار
وإذا قد ذكرت أنموذجاً من سرقات الشعراء منه، فلا بأس أن أذكر سرقاته من الشعراء، سوى ما أورده القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز في كتاب " الوساطة " فشفى وكفى وبالغ فأوفى، وسوى ما مر منها في أماكنها من فصول هذا الكتاب.

صدر من سرقاته
1 - قال مخلد الموصلي:
يا منزلاً ضن بالسلام ... سقيت رياً من الغمام
ما ترك الدهر منك إلا ... ما ترك الشوق من عظامي
أخذه أبو الطيب فجوده حيث قال:
ما زال كل هزيم الودق ينحلها ... والشوق ينحلني حتى حكت جسدي
2 - وقال عمرو بن كلثوم:
فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وإبنا بالملوك مصفدينا
أخذه أبو تمام فأحسن إذ قال:
إن أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
وأخذه أبو الطيب فلم يحسن في تكرير لفظ النهب وذكر القماش إذ هو من ألفاظ العامة:
ونهب نفوس أهل النهب أولى ... بأهل المجد من نهب القماش
3 - وقال بشار بن برد:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه
أخذه أبو الطيب وذكر الرماح مكان الأسياف فقال:
وكأنما كسي النهار بها دجى ... ليل، وأطلعت الرماح كواكبا
4 - وقال مسلم بن الوليد:
أرادوا ليخفوا قبره من عدوه ... فطيب تراب القبر دل على القبر
ألم به أبو الطيب فقال:
وما ريح الرياض لها ولكن ... كساها دفنهم في التراب طيبا
5 - وقال الفرزدق:
وكنت فيهم كممطور ببلدته ... يسر أن جمع الأوطان والمطرا
أخذه أبو الطيب فقال:
وليس الذي يتبع الوبل رائداً ... كمن جاءه في داره رائد الوبل
6 - وفي قوله في هذه القصيدة:
وخيل إذا مرت بوحش وروضة ... أبت رعيها إلا ومرجلنا يغلي
رائحة من قول امرئ القيس:
إذا ما ركبنا قال ولدان أهلنا: ... تعالوا إلى أن يأتي الصيد نحطب
7 - وقال أبو نواس، ويقال: إنه أمدح بيت للمحدثين:
وكلت بالدهر عيناً غير غافلة ... بجود كفيك تأسو كل ما جرحا
أخذه أبو الطيب وزاد فيه حسن التشبيه فقال:
تتبع آثار الرزايا بجوده ... تتبع آثار الأسنة بالقتل
8 - وقال أبو نواس، وهو من قلائده في وصف الخمر:

إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همه من صدره برحيل
أخذه أبو الطيب ونقله إلى معنى آخر فقال:
وما هي إلا لحظة بعد لحظة ... إذا نزلت في قلبه رحل العقل
9 - وقال ابن عيينة، ويروي للخليل:
زر وادي القصر، نعم القصر والوادي ... في منزل حاضر، إن شئت، أو بادي
ترقى به السفن والظلمان حاضرة ... والضب والنون والملاح والحادي
وهذا أحسن ما قيل في وصف مكان يجمع بين أوصاف البر والبحر والحاضرة والبادية، ألم به أبو الطيب في وصف متصيد عضد الدولة بناحية سهلية جبلية تجمع الأضداد:
سقياً لدشت الأرزن الطوال ... بين المروج الفيح والأغيال
مجاور الخنزير والرئبال ... داني الخنانيص من الأشبال
مستشرف الدب على الغزال ... مجتمع الأضداد والأشكال
10 - وقال بعض العرب، وهو من الأمثال السائرة:
إذا بل من داء به ظن أنه ... نجا، وبه الداء الذي هو قاتله
أخذه أبو الطيب فقال واحسن:
وإن أسلم فما أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام
11 - وقال بعض الرجاز:
هل يغلبني واحد أقاتله ... ريم على لباته سلاسله
سلاحه يوم الوغى مكاحله
أخذه أبو الطيب فأكمل الوصف وأظهر الغرض حيث قال:
من طاعني ثغر الرجال جآذر ... ومن الرماح دمالج وخلاخل
ولذا اسم أغطية العيون جفونها ... من أنها عمل السيوف عوامل
وقال أبو تمام:
غربت خلائقه وأغرب شاعر ... فيه فأبدع مغرب في مغرب
أخذه أبو الطيب فقال:
شاعر المجد خدنه شاعر اللف ... ظ كلانا رب المعاني الدقاق
13 - وقال أبو تمام ك
يمدون بالبيض القواطع أيدياً ... فهن سواء والسيوف قواطع
أخذه أبو الطيب فأوقع التشبيه على الجملة حيث قال:
همام إذ ما فارق الغمد سيفه ... وعاينته لم تدر أيهما النصل
14 - وقال ابن الرومي:
لا قدست نعمى تسربلتها ... كم حجة فيها لزنديق
أخذه أبو الطيب فقال:
فإنه حجة يؤذي القلوب بها ... من دينه الدهر والتعطيل والقدم
15 - ولابن الرومي وأجاد:
وأحسن من عقد العقيلة جيدها ... وأحسن من سربالها المتجرد
أخذه أبو الطيب فقال:
ورب قبح وحلي ثقال ... أحسن منها الحسن في المعطال
16 - وقال عبيد الله طاهر:
وجربت حتى لا أرى الدهر مغرباً ... علي بشيء لم يكن في تجاربي
أخذه أبو الطيب فقال:
قد بلوت الخطوب حلواً ومراً ... وسلكت الأيام حزناً وسهلا
وقتلت الزمان علماً فما يغ ... رب قولاً ولا يجدد فعلا
وكرر هذا المعنى فقال:
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا ... فلما دهتنا لم تزدني بها علماً
17 - وكتب ابن المعتز إلى عبيد الله بن سليمان يعزيه عن ابنه أبي محمد ويسليه ببقاء أبي الحسين القاسم أبياتاً منها:
ولقد غبنت الدهر إذ شاطرته ... بأبي الحسين وقد ربحت عليه
وأبو محمد الجليل مصابه ... لكن يمنى المرء خير يديه
فأخذ أبو الطيب هذا المعنى، وقال لسيف الدولة من قصيدة يعزيه بها عن أخته الصغرى، ويسليه ببقاء الكبرى حيث قال:
قاسمتك المنون شخصين جوراً ... جعل القسم نفسه فيك عدلا
فإذا قست ما أخذن بما غا ... درن سرى من الفؤاد أن جدك أعلى
18 - وكان أبو الطيب كثير الأخذ من ابن المعتز، على تركه الإقرار بالنظر في شعر المحدثين: فمما أخذه منه قوله:
وتكسب الشمس منك النور طالعةً ... كما تكسب منها نورها القمر
وهو معنى قول ابن المعتز:
البدر من شمس الضحى نوره ... والشمس من نورك تستملي
19 - وأخذ قوله، وهو من قلائده، ولعله أمير شعره:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي

من مصراع لابن المعتز، ذكر ابن جني قال: حدثني المتنبي - وقت القراءة عليه - قال: قال لي ابن حنزابة وزير كافور: أحضرت كتبي كلها وجماعة من الأدباء يطلبون لي من أين أخذت هذا المعنى، فلم يظفروا بذلك! وكان أكثر من رأيت كتباً.
قال ابن جني: ثم إني عثرت بالموضع الذي أخذه منه، إذ وجدت لابن المعتز مصراعاً بلفظ لين صغير جداً فيه معنى بيت المتنبي كله على جلالة لفظه وحسن تقسيمه، وهو قوله:
فالشس نمامة والليل قواد
ولن يخلو المتنبي من إحدى ثلاث: إما يكون ألم بهذا المصراع فحسنه وزينه، وصار أولى به، وإما أن يكون قد عثر بالموضع الذي عثر به ابن المعتز فأربى عليه في جودة الأخذ، وإما أن يكون قد اخترع المعنى وابتدعه وتفرد به، فلله دره! وناهيك بشرف لفظه، وبراعة نسجه! وما احسن ما جمع فيه أربع مطابقات في بيت واحد، وما أراه سبق إلى مثلها، وما زال الناس يعجبون من جمع البحتري ثلاث مطابقات في قوله:
وأمة كان قبح الجور يسخطها ... دهراً فأصبح حسن العدل يرضيها
حتى جاء أبو الطيب فزاد عليه مع عذوبة خمس مطابقات، ولكنه لا يستقل إلا بإنشاد بيتين قبله. وهي:
عذيري من الأيام مدت صروفها ... إلى وجه من أهوى يد النسخ والمحو
وأبدت بوجهي طالعات أرى بها ... سهام أبي يحيى مسددة نحوي
فذاك سواك الحظ ينهى عن الهوى ... وهذا بياض الوخط يأمر بالصحو
20 - وقال ابن الرومي:
أرى فضل مال المرء داء لعرضه ... كما أن فضل الزاد داء لجسمه
فليس لداء العرض شيء كبذله ... وليس لداء الجسم شيء كحسمه
ألم به أبو الطيب فقال:
يتداوى من كثرة المال بالإق ... لال جوداً كأن مالا سقام

بعض ما تكرر في شعره من معانيه
1 - قال في سيف الدولة:
وأنت المرء تمرضه الحشايا ... لهمته، وتشفيه الحروب
وقال يذكر الحمى التي كانت تغشاه بمصر:
وما في طبه أني جواد ... أضر بجسمه طول الجمام
2 - وقال يمدح بدر بن عمار:
ليت الحبيب الهاجري هجر الكرى ... من غير جرم واصلي صلة الضنا
وقال يمدح المغيث بن بشر العجلي:
إذا بدا حجبت عينيك هيبته ... وليس يحجبه ستر إذا احتجبا
وقال وقد حجبه بدر عمار:
أصبحت تأمر بالحجاب لخلوة ... هيهات لست على الحجاب بقادر
من كان ضوء جبينه ونواله ... لم يحجبا لم يحتجب عن ناظر
فإذا احتجب فأنت غير محجب ... وإذا بطنت فأنت عين الظاهر
4 - وقال من قصيدة يمدحه بها:
أمير أمير عليه الندى ... جواد بخيل بأن لا يجودا
وقال:
إلا أن الندى أضحى أميراً ... على مال الأمير أبي الحسين
5 - وقال يمدح بدر الدين بن عمار:
ومال وهبت بلا موعد ... وقرن سبقت إليه الوعيدا
وقال من القصيدة التي كتبها إلى السلطان من حبسه:
لقد حال بالسيف دون الوعيد ... وحالت عطاياه دون الوعود
6 - وقال من قصيدة يمدح بها أبا العشائر:
فسرت إليك في طلب المعالي ... وسار سواي في طلب المعاش
7 - وقال يمدح سعيد بن عبد الله:
قد علم البين منا البين أجفانا ... تدمي وألف في ذا القلب أحزانا
وقال في خلاص أبي وائل:
كأن الجفون على مقلتي ... ثياب شققن على ثاكل
8 - وقال يمدح بدر بن عمار:
كأنك بالفقر تبغي الغنى ... وبالموت في الحرب تبغي الخلودا
وقال في الحسين بن إسحاق التنوخي:
كأنك في الإعطاء للمال مبغض ... وفي كل حرب للمنية عاشق
9 - وقال:
الذي زلت عنه شرقاً وغرباً ... ونداه مقابلي ما يزول
وقال في سيف الدولة:
ومن فر من إحسانه حسداً له ... تلقاه منه حيث ما سار نائل
10 - وقال يمدح أبا أيوب أحمد بن عمران:
فكأنما نتجت قياماً تحتهم ... وكأنما ولدوا على صهواتها
وقال في الحسن بن عبيد الله بن طغج:
وطعن غطاريف كأن أكفهم ... عرفن الردينات قبل المعاصم
11 - وقال يشكو الحمى بمصر:

جرحت مجرحاً لم يبق منه ... مكان للسيوف وللسهام
وقال في مرثية والدة سيف الدولة:
رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام ... تكسرت النصال على النصال
12 - وقال يمدح أبا علي هارون بن عبد الله الكاتب:
وشكيتي فقد السهام لأنه ... قد كان لما كان لي أعضاء
وقال قبيل مسيره من مصر يهجو كافوراً:
لم يترك الدهر من قلبي ومن كبدي ... شيئاً تتيمه عين ولا جيد
13 - وقال يصف مدينة مرعش:
تصد الرياح الهوج عنها مخافة ... وتفرغ فيها الطير أن تلقط الحبا
وقال من قصيدة في مدح كافور:
إذا أتتها الرياح النكب في بلد ... فما تهب بها إلا بترتيب
14 - وقال يمدح الحسن بن عبيد الله بن طغج:
إذا ضوؤها لاقى من الطير فرجة ... تدور فوق البيض مثل الدراهم
وقال من كلمة يمدح فيها عضد الدولة:
وألقى الشرق منها في ثيابي ... دنانيراً تفر من البنان
وقال يمدح أبا شجاع محمد بن أوس:
ولقد بكيت على السباب ولمتي ... مسودة، ولماء وجهي رونق
حذراً عليه قبل يوم فراقه ... حتى لكدت بماء جفني أشرق
15 - وقال وقد أهداه عبد الله بن خراسان هدية:
هدية ما رأيت مهديها ... إلا رأيت العباد في رجل
وقال يمدح بدر بن عمار:
أحلماً نرى أم زماناً جديداً ... أم الخلق في شخص حي أعيدا
ومثله في الحسين بن إسحاق التنوخي:
هي الغرض الأقصى، ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا، وأنت الخلائق
ثم كرره وزاد فيه فقال من كلمة يمدح فيها ابن العميد:
ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا
نسقوا لنا نسق الحساب مقدماً ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا
والأصل فيه قول أبي نواس:
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
وقال:
متى تخطي إليه الرجل سالمة ... تستجمع الخلق في تمثال إنسان
16 - وقال في سيف الدولة:
هو الشجاع يعد البخل من جبن ... وهو الجواد يعد الجبن من بخل
وقال وقد ضرب أبو العساكر خيمة على الطريق فكثر سؤاله وغاشيته:
فقلت إن الفتى شجاعته ... تريه في الشح صورة الفرق
والأصل فيه قول أبي تمام:
أيقنت أن من السماح شجاعةً ... تدمى، وأن من الشجاعة جودا
17 - وقال يمدح أبا شجاع عضد الدولة:
ومن أعتاض منك إذا افترقنا؟ ... وكل الناس زور ما خلاكا
وقال في مثله فتبرد وبالغ:
إنما الناس أنت، وما النا ... س بناس في موضع منك خال
18 - وقال في سيف الدولة:
إذا اعتل سيف الدولة اعتلت الأرض ... ومن فوقها والبأس والكرم المحض
وقال فيه أيضاً:
وما أخصك في برء بتهنئة ... إذا سلمت فكل الناس قد سلموا
19 - وقال يمدح كافوراً ولم يلقه بعد:
تجاوز قدر المدح حتى كأنه ... بأحسن ما يثنى عليه يعب
وقال في عبد الله بن يحيى البحتري:
وعظم قدرك في الآفاق أوهمني ... أني بقلة ما أثنيت أهجوكا
وقال يعزي عضد الدولة وقد ماتت عمته:
وكان من عدد إحسانه ... كأنه أسرف في سبه
والأصل في هذا قول البحتري:
جل عن مذهب المديح فقد كا ... د يكون المديح فيه هجاء
20 - وقال وهو مما سبق إليه:
نال الذي نلت منه مني ... لله ما تصنع الخمور
وقال:
أفيكم فتىً حي فيخبر ناعباً ... بما شربت مشروبه الراح من ذهني
21 - وقال يمدح سيف الدولة:
عليم بأسرار الديانات واللغى ... له خطرات تفضح الناس والكتبا
وقال في أبي العشائر علي بن الحسين:
كأنك ناظر في كل قلب ... فما يخفى عليك محل غاش
وقال:
ووكل الظن بالأسرار فانكشفت ... له سرائر أهل السهل والجبل
22 - وقال لبدر بن عمار يمدحه:
فاغفر فدى لك واحبني من بعدها ... لتخصني بعيطة منها أنا
وقال:

له أياد إلي سالفة ... أعد منها ولا أعددها
23 - وقال وهو من قلائده:
خير أعضائنا الرؤس ولكن ... فضلتها بقصدك الأقدام
وقال من " المتقارب " :
وإن القيام الألى حوله ... لتحسد أرجلها الأرؤس
34 - وقال من قصيدة في مدح سيف الدولة:
وما الحسن في وجه الفتى شرف له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق
وقال في وصف الخيل:
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعظائها فالحسن عنك مغيب
وقريب منه قوله:
يحب العاقلون على التصافي ... وحب الجاهلين على الوسام
25 - وقال في معنى قد تصرفت فيه الشعراء:
ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام
وقال في صباه:
عش عزيزاً أو مت وأنت كريم ... بين طعن القنا وخفق البنود
26 - وقال لعلي بن إبراهيم التنوخي يمدحه:
إذا ما لم تسر جيشاً إليهم ... أسرت إلى قلوبهم الهلوعا
وقال من " الخفيف " :
بعثوا الرعب في قلوب الأعادي ... فكأن القتال قبل التلاقي
وقال:
قد ناب عنك شديد الخوف واصطنعت ... لك المهابة ما لا يصنع البهم
وقال:
أبصروا الطعن في القلوب دراكاً ... قبل أن يبصروا الرماح خيالا
وقال:
صيام بأبواب القباب جيادهم ... وأشخاصهم في قلب خائفهم تعدو
وقال:
تغير عنه على الغارات هيبته ... وماله بأقاصي البر أهمال
والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم " نصرت بالرعب " ثم أكثر الناس منه، ومن أوجز ما قالوا قول علي بن جبلة العكوك:
غدا مجتمع العزم ... له وقصر عما تشتهي النفس وجده
وقال:
لحى الله ذي الدنيا مناخاً لراكب ... فكل بعيد الهم فيها معذب
28 - وقال من الخفيف " :
ومعال إذا ادعاها سواهم ... لوزمته خيانة السراق
وقال:
مسكية النفحات إلا أنها ... وحشية بسواهم لا تعبق
والآن حين أذكر ما ينعى على أبي الطيب من معائب شعره ومقابحه:
ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها ... كفى المرء فضلاً أن تعد معائبه
ثم أقفى على آثارها بمحاسنه وسياق بدائعه وفرائده:
فحسن دراري الكواكب أن ترى ... طوالعفي داج من الليل غيهب

فمنها قبح المطالع
وحقه الحسن والعذوبة لفظاً، والبارعة والجودة معنى، لأنه أول ما يقرع الأذن ويصافح الذهن، فإذا كانت حاله على الضد مجه السمع، وزجه القلب، ونبت عنه النفس، وجرى أوله على ما تقوله العامة " أول الندى دردى " .
ولأبي الطيب ابتداءات ليست لعمري من أحرار الكلام وغرره، بل هي - كما نعاها عليه العائبون - مستشنعة لا يرفع السمع حجابه، ولا يفتح القلب لها بابه، كقوله:
هذي برزت لنا فهجت رسيساً ... ثم انصرفت وما شفيت نسيسا
فإنه لم يرض بحذف علامة النداء من " هذي " ، وهو غير جائز عند النحويين، حتى ذكر الرسيس والنسيس، فأخذ بطرفي الثقل والبرد.
وكقوله:
أوه بديل من قولتي واها
وهو برقية العقرب أشبه منه بافتتاح كلام في مخاطبة ملك.
زكقوله - وهو مما تكلف له اللفظ المتعقد، والترتيب المتعسف، لغير معنى بديع يفي شرفه وغرابته في استخراجه، ولا تقوم فائدة الانتفاع به بإزاء التأذي باستماعه:
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه ... بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
وكقوله في استفتاح قصيدة في مدح ملك يريد أن يلقاه بها أول لقية:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا
وفي الابتداء بذكر الداء والموت والمنايا ما فيه من الطيرة، التي تنفر منها السوقة، فضلاً عن الملوك.
حكى الصاحب قال: ذكر الأستاذ الرئيس يوماً الشعر، فقال: وإن أول ما يحتاج فيه إليه حسن المطلع، فإن ابن أبي الشباب أنشدني في يوم نيروز قصيدة لبتداؤها:
أقبر وما طلت ثراك يد الطل؟
فتطيرت من افتتاحه بالقبر وتنغصت باليوم والشعر، فقلت: كذاك كانت حال ابن مقاتل لما مدح الداعي بقوله:
لا تقل بشرى ولكن بشريان ... غرة الداعي ويوم المهرجان

فإنه نفر من قوله " لا تقل بشرى " أشد نفار، وقال: أعمى وتبتدئ بهذا في يوم مهرجان؟! قال الصاحب: ومن عنوان قصائده التي تحير الأفهام، وتفوت الاوهام، وتجمع من الحساب ما لا يدرك بالأرتيماطيقي، وبالأعداد الموضوعة للموسيقى:
أحاد أم سداس في أحاد ... لييلتنا المنوطة بالتنادي
وهذا كلام الحكل ورطانة الزط وما ظنك بممدوح قد تشمر للسماع من مادحه فصك سمعه بهذه الألفاظ الملفوظة والمعاني المنبوذة؟ فأي هزة تبقى هناك؟ وأي أريحية تثبت هنا؟.
وقد خطأه في اللفظ والمعنى كثير من أهل اللغة وأصحاب المعاني، حين احتيج في الاعتذار له، والنضح عنه، إلى كلام لا يستأهله هذا البيت، ولا يتسع له هذا الباب.
ومن ابتداءاته البشعة التي تنكرها بديهة السماع قوله:
ملث القطر أعطشها ربوعاً ... وإلا فاسقها السم النجيعا
وقوله:
أصلث فإنا أيها الطلل ... نبكي وترزم تحتنا الإبل
وقوله:
بقائي شاء ليس هم ارتحالا ... وحسن الصبر زموا لا الرحالا
قال الصاحب: ومن افتتاحاته العجيبة قوله لسيف الدولة في التسلية عند المصيبة:
لا يحزن الله الأمير فإنني ... لآخذ من حالاته بنصيب
قال الصاحب: لا أدري لم لا يحزن سيف الدولة إذا أخذ المتنبي بنصيب من القلق!

ومنها
إتباع الفقرة الغراء بالكلمة العوراء
والإفصاح بذلك في شعره عن كثرة التفاوت، وقلة التناسب، وتنافر الأطراف، وتخالف الأبيات، وما أكثر ما يحوم حول هذه الطريقة، ويعود لهذه العادة السيئة، ويجمع بين البديع النادر والضعيف الساقط. فبينا هو يصوغ أفخر حلي، وينظم أحسن عقد، وينسج أنفس وشي، ويختال في حديقة ورد، إذا به وقد رمى بالبيت والبيتين في إبعاد الاستعارة، أو تعويص اللفظ، أو تعقيد المعنى، إلى المبالغة في التكلف، والزيادة في التعمق، والخروج إلى الإفراط والإحالة والسفسفة، والركاكة والتبرد والتوحش، باستعمال الكلمات الشاذة، فمحا تلك المحاسن، وكدر صفاءها، وأعقب حلاوتها مرارة لا مساغ لها، واستهدف لسهام العائبين، وتحكك بألسنة الطاعنين: فمن متمثل بقول الشاعر:
أنت العروس لها جمال رائق ... لكنها في كل يوم تصرع
ومن مشبه إياه بمن يقدم مائدة تشتمل على غرائب المأكولات وبدائع الطيبات، ثم يتبعها بطعام وضر، وشراب عكر، أو من يتبخر بالند المعشب المثلث، المركب من العود الهندي والمسك الأصهب والعنبر الأشهب، ثم يرفقه بإرسال الريح الخبيثة، ويفسده بالرائحة الردية، أو بالواحد من عقلاء المجانين ينطق بنوادر الكلم، وطرائف الحكم، ثم يعتريه سكرة الجنون فيكون أصلح أحواله وأمثل أقواله أن يقول: اعذروني فإن العذرة متعذرة.
فمما نشر أبو الطيب من هذا النمط قوله:
أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي؟
وهو ابتداء ما سمع بمثله، ومعنى تفرد بابتداعه، ثم شفعه بما لا يبالي العاقل أن يسقطه من شعره فقال:
كيف ترثي التي ترى كل جفن ... راءها غير جفنها غير راقي
وقوله:
ليالي بعد الظاعنين شكول ... طوال، وليل العاشقين طويل
يبن لي البدر الذي لا أريده ... ويخفين بدراً ما إليه وصول
وما عشت من بعد الأحبة سلوة ... ولكنني للنائبات حمول
وما شرقي بالماء إلا تذكراً ... لماء به أهل الخليط نزول
يحرمه لمع الأسنة فوقه ... فليس لظمآن إليه سبيل
من قصيدة اخترع أكثر معانيها، وتسهل في ألفاظها، فجاءت مصنوعة، ثم اعترضته تلك العادة المذمومة، فقال:
أغركم طول الجيوش وعرضها ... علي شروب للجيوش أكول
إذا لم تكن لليث إلا فريسة ... غذاه ولم ينفعك أنك فيل
ثم أتى بما هو أطم منه فقال، وذكر الصاحب أنه من أوابده التي لا يسمع طول الأبد بمثلها:
إذا كان بعض الناس سيفاً لدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول
فإن تكن الدولات قسماً فإنها ... لمن ورد الموت الزؤام تدول
قال الصاحب: قوله " الدولات " و " تدول " من الألفاظ التي لو رزق فضل السكوت عنها لكان سعيداً.

وقال من قصيدة جمع فيها الشذرة والبعرة، والدرة والآجرة:
لك يا منازل في الفؤاد منازل ... أقفرت أنت، وهن منك أواهل
وهذا ابتداء حسن ومعنى لكيف، ثم قال:
وأنا الذي اجتلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل
وهو وإن كان مأخوذاً من قول دعبل:
لا تطلبا بظلامتي أحداً ... طرفي وقلبي في دمي اشتركا
فإنه آخذ بأطراف الرشاقة والملاحة، ثم استمر في قصيدته، فجاء بالمتوسط المقارب والبديع النادر والرديء النافر، حيث قال:
ولذا اسم اغطية العيون جفونها ... من أنها عمل السيوف عوامل
وهذا معنى في نهاية الحسن واللطف لو ساعده اللفظ، ثم قال:
كم وقفة سجرتك شوقاً بعدما ... غري الرقيب بنا ولج العاذل
فلم يحسن موقع قوله " سجرتك " أي ملأتك " هكذا الرواية بالجيم، ولو كانت بالحاء من السحر لم يكن بأس " ثم قال وملح:
دون التعانق ناحلين كشكلتي ... نصب أدفهما وضم الشاكل
أي: قريب بعضنا من بعض، ولم نتعانق خوف الرقيب. ثم قال فأحسن غاية الإحسان:
للهو آونة تمر كأنها ... قبل يزودها حبيب راحل
جمع الزمان فما لذيذ خالص ... مما يشوب، ولا سرور كامل
حتى أبو الفضل بن عبد الله رؤ ... يته المنى وهو المقام الهائل
قال ابن جني: وهذا خروج غريب ظريف حسن، وما أعرفه لغيره، يقول: إن المنى رؤيته إلا أن هيبته تهول. ثم قال فجمع أوصافاً في بيت واحد:
للشمس فيه وللرياح وللسحا ... ب وللبحار وللأسود شمائل
ثم قال وتحذق وتبرد:
ولديه ملعقيان والأدب المفا ... د وملحياة وملمات مناهل
وإنما ألم في صدر هذا البيت بقول أبي تمام:
نأخذ من ماله ومن أدبه
ثم قال:
علامة العلماء واللج الذي ... لا ينتهي، ولكل لج ساحل
ثم قال فأحال:
لو طاب مولد كل حي مثله ... ولد النساء وما لهن قوابل
قال القاضي أبو الحسن: إم طيب المولد لا يستغنى به عن القابلة، وإن استغنى عنها كان ماذا؟ وأي فخر فيه؟ وأي شرف ينال به؟ ثم توسط وقارب فقال:
ليزد بنو الحسن الشراف تواضعاً ... هيهات تكتم في الظلام مشاعل
ستروا الندى ستر الغراب سفاده ... فبدا، وهل يخفي الرباب الهاطل؟
ثم قال وتوحش وتبغض ما شاء الحاسد:
جفخت وهم لا يجفخون بها بهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل
يريد بالجفخ الفخر والبذخ، ثم قال:
يا أفخر الناس فيك ثلاثة: ... مستعظم، أو حاسد، أو جاهل
أي: يا هذا افخر، فحذف المنادى، وتباغض وتبادى، ثم قال:
لا تجسر الفصحاء تنشد ههنا ... شعراً، ولكني الهزبر الباسل
ثم قال وأرسله مثلاً سائراً، وأحسن جداً:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
ما نال أهل الجاهلية كلهم ... شعري، ولا سمعت بسحري بابل
ثم قال وتعسف في اللفظ:
أما وحقك وهو غاية مقسم ... للحق أنت، وما سواك الباطل
الطيب أنت إذا أصابك طيبه ... والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل
وتقدير الكلام: الطيب أنت طيبه إذا أصابك، والماء أنت غاسله إذا اغتسلت به، وإنما ألم فيه بقول القائل:
وتزيدين طيب الطيب طيباً ... إن تمسيه، أين مثلك أينا؟!
وقال من قصيدة كهذه التي تقدمت:
قد علم البين منا البين أجفانا ... تدمى، وألف في ذا القلب أحزانا
أملت ساعة ساروا كشف معصمها ... ليلبث الحي دون السير حيرانا
بالواخدات وحاديها وبي قمر ... يظل من وخدها في الخدر حشيانا
وحشيان - بالحاء المهملة - من الغريب الوحشي، الذي لا يأنس به السمع، ولا يقبله القلب، يقال: حشى الرجل حشياً فهو حشيان، إذا أخذه البهر. يقول: إذا وخدت الإبل تحت هذا القمر أخذه البهر لترفه. ومن المؤدبين من يروي خشيانا بالخاء معجمة من الخشية.
ثم قال، وأحسن ولطف وظرف:
قد كنت أشفق من دمعي على بصري ... فاليوم كل عزيز بعدكم هانا

ثم أراد أن يزيد على الشعراء في وصف المطايا، فأتى - كما قال الصاحب - بأخزى الخزايا، فقال:
لو استطعت ركبت الناس كلهم ... إلى سعيد بن عبد الله بعرانا
قال الصاحب: ومن الناس أمه، فهل ينشط لركوبها؟ والممدوح لعل له عصبة لا يريد أن يركبوا إليه، فهل في الأرض أفحش من هذا السخف وأوضع من هذا التبسط؟ ثم أراد أن يستدرك هذه الطامة بقوله:
فالعيس أعقل من قوم رأيتهم ... عما يراه من الإحسان عميانا
وقال، ثم قال وأجاد في مدح الممدوح:
إن كوتبوا، أو لقوا، أو حوربوا، وجدوا ... في الخط واللفظ والهيجاء فرسانا
كأن ألسنهم في النطق قد جعلت ... على رماحهم في الطعن خرصانا
كأنهم يردون الموت من ظمأ ... أو ينشقون من الخطي ريحانا
ثم قال:
خلائق لو حواها الزنج لانقلبوا ... ظمي الشفاه جعاد الشعر غرانا
احتج عنه أصحاب المعاني بما يطول ذكره.
والعجب كل العجب من خاطر يقدح بمثل قوله في قصيدة:
وملمومة زرد ثوبها ... ولكنه بالقنا مخمل
يفاجئ جيشاً بها حينه ... وينذر جيشاً بها القسطل
ثم يتصور في هذا الكلام الغث الرث به حيث يقول:
جعلتك في هذا القلب لي عدةً ... لأنك باليد لا تجعل
ولو قاله بعض صبيان المكاتب لاستحيا له منه.

ومنها
استكراه اللفظ وتعقيد المعنى
وهو أحد مراكبه الخشنة التي يتسمنها، ويأخذ عليها في الطريق الوعرة فيضل ويضل ويتعب ولا ينجح، إذ يقول في وصف الناقة:
فتبيت تسئد مسئداً في نيها ... إسئادها في المهمه الأنضاء
وتقديره: فتبيت تسئد مسئد الأنضاء في نيها إسآدها في المهمة: أي كلما قطعت الأرض قطعت الأرض شحمها على احتذاء ومثال هذا بهذا.
ويقول في المدح:
أنى يكون أبا البرايا آدم ... وأبوك، والثقلان أنت، محمد
وتقديره: أنى يكون آدم أبا البرايا وأبوك محمد وأنت الثقلان.
وقال من نسيب قصيدة:
إذا عذلوا فيها أجبت بأنه ... حبيبتا قلبي فؤادي هيا جمل
أراد " يا حبيبتي " ثم أبدل الياء من حبيبتي ألفاً تخفيفاً، و " قلبي " منصوب لأنه بدل من حبيبتا، و " فؤادي " بدل من قلبي، وهذ كقولك: أخي سيدي مولاي، نداء بعد نداء، ويقال في النداء: يا زيد، وأيا زيد، وهيا زيد.
وأشباه هذه الأبيات كثيرة في شعره كقوله:
لساني وعيني والفؤاد وهمتي ... أود اللواتي إذا اسمها منك والشطر
وقوله:
فتى ألف جزء رأيه في زمانه ... أقل جزيء بعضه الرأي أجمع
وقوله:
لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هو ... عقمت بمولد نسلها حواء
وهو مما اعتل لفظه، ولم يصح معناه، فإذا قرع السمع لم يصل إلى القلب إلا بعد إتعاب الفكر، وكد الخاطر، والحمل على القريحة، ثم إن ظفر بعد العناء والمشقة فقلما يحصل على طائل.
ومنها
عسف اللغة والإعراب
وهو مما سبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عند المحتجين عند الاعتذار له، والمناضلة دونه، كقوله:
فدى من على الغبراء أولهم أنا ... لهذا الأبي الماجد الجائد القرم
ولم يحك عن العرب " الجائد " وإنما المحكى رجل جواد، وفرس جواد، ومطر جواد.
وكقوله:
فأرحم شعر تتصلن لدنه ... وأرحام مال لا تني تتقطع
وتشديد النون من " لدن " غير معروف في لغة العرب.
وكقوله:
شديد البعد من شرب الشمول ... ترنج الهند أو طلع النخيل
والمعروف عند العرب الأترج، والترنج مما يغلط فيه العامة. قال الصاحب: لا أدري الاستهلال أحسن، أم المعنى أبدع، أم قوله ترنج أفصح؟ وكقوله::
وتكرمت ركباتها عن مبرك ... تقعان فيه ليس مسكاً أذفرا
فجمع الركبات ثم انتقل إلى التثنية فقال " تقعان " ، وهو ضعيف وغير سديد في صناعة الإعراب.
وكقوله:
ليس إلاك يا علي همام ... سيفه دون عرضه مسلول
وكقوله:
لم تر من نادمت إلا كا ... لا لسوى ودك لي ذا كا
فوصل الضمير بإلا، وحقه أن ينفصل عنه كما قال الله تعالى: " ضل من تدعون إلا إياه " .
وكقوله:

لأنت أسود في عيني من الظلم
وألف التعجب لا تدخل على أفعل، وإنما يقال: أشد سواداً وحمرة وخضرة.
وكقوله:
جللاً كما بي فليك التبريح
وحذف النون من " يكن " إذا استقبلها الألف واللام خطأ عند النحويين، لأنها تتحرك إلى الكسر، وإنما تحذف استخفافاً إذا سكنت.
وكقوله:
أمط عنك تشبيهي بما وكأنه
والتشبيه بما محال وكقوله:
لعظمت حتى لو تكون أمانة ... ما كان مؤتمناً بها جبرين
قال الصاحب: وقلب هذه اللام إلى النون، أبغض من وجه المنون، ولا أحسب جبرائيل عليه السلام منه بهذا المجاز، هذا على ما في البيت من الفساد والقبح.
وكقوله:
حملت إليه من ثنائي حديقة ... سقاها الحجا سقي الرياض السحائب
أي: سقي السحائب الرياض.

ومنها
الخروج عن الوزن
كقوله:
تفكره علم، ومنطقه حكم ... وباطنه دين، وظاهره ظرف
وقد خرج فيه عن الوزن لأنه لم يجئ عن العرب مفاعيلن " في عروض الطويل غير مصرع، وإنما جاء مفاعلن " ، قال الصاحب: ونحن نحاكمه إلى كل شعر للقدماء والمحدثين على بحر الطويل، فما نجد له على خطئه مساعداً.
قال القاضي أبو الحسن: وقد عيب أيضاً بقوله:
إنما بدر بن عمار سحاب ... هطل فيه ثواب وعقاب
لأنه أخرج الرمل على " فاعلاتن " وأجرى جميع القصيدة على ذلك في الأبيات غير المصرعة، وإنما جاء الشعر على " فاعلن " وإن كان أصله في الدائرة فاعلاتن.
ومنها
استعمال الغريب الوحشي
وإذا كان المتنبي من المحدثين، بل من العصريين، وجرى على رسومهم في اختيار الألفاظ المعتادة المألوفة بينهم، بل ربما انحط عنهم بالركاكة والسفسفة، ثم تعاطى الغريب الوحشي، والشاذ البدوي، بل ربما زاد في ذلك على أقحاح المتقدمين - حصل كلامه بين طرفي نقيض، وتعرض لاعتراض الطاعنين.
فمن ذلك الفن الذي ينادي على نفسه، ويقلق موقعه في شعره وشعر غيره من أبناء عصره - قوله:
وما أرضى لمقلته بحلم ... إذا انتبهت توهمه ابتشاكا
والابتشاك: الكذب، ولم أسمع فيه شعراً قديماً ولا محدثاً سوى هذا البيت وقوله في وصف الغيث:
لساحيه على الأجداث حفش ... كأيدي الخيل أبصرت المخالي
الساحي: القاشر، ومنه سميت المسحاة لأنها تقشر وجه الأرض، والحفش: مصدر حفش السيل حفشاً، إذا جمع الماء من كل جانب إلى مستنقع.
وقوله في وصف السيف:
ودقيق قدي الهباء أنيق ... متوال في مستو هزهاز
قدي: بمعنى مقدار، يقال: بينهما قيد رمح، وقدي رمح.
وقوله:
تطس الخدود كما تطسن اليرمعا
تطسن: أي تدق، واليرمع: الحجارة الرخوة.
وقوله:
وإلى حصى أرض أقام بها ... بالناس من تقبيلها يلل
اليلل: إقبال الأسنان وانعطافها على باطن الفم، ولم أسمعه في غير شعره.
وقوله:
الشمس تشرق والسحاب كنهوراً
الكنهور: القطع من السحاب العظيمة.
وقوله:
وكيف أستر ما أوليت من حسن ... وقد غمرت نوالاً أيها النال
والنال: المعطي.
وقوله:
أسائلها عن المتديريها
قال الصاحب: لفظة " المتديريها " لو وقعت في بحر صاف لكدرته، ولو ألقى ثقلها على جبل سام لهده، وليس للمقت فيها نهاية، ولا للبرد معها غاية، المتديروها: المتخذوها داراً.
قال الصاحب: ومن أطم ما يتعاطاه التفاصح بالألفاظ النافرة، والكلمات الشاذة، حتى كأنه وليد خباء، وغذي لبن، لم يطأ الحضر، ولم يعرف المدر، فمن ذلك قوله:
أيفطمه التوارب قبل فطامه ... ويأكله قبل البلوغ إلى الأكل
وليس ذلك سائغاً لمثله، وهو وليد قرية، ومعلم صبية.
ومن الجموع الغريبة التي يوردها قوله في جمع الأرض:
أروض الناس من ترب وخوف ... وأرض أبي شجاع من أمان
وقوله في جمع اللغة:
عليم بأسرار الديانات واللغى
وقوله في جمع الدنيا:
أعز مكان في الدنى سرج سابح
وقوله في جمع الأخ:
كل آخائه كرام بني الدنيا
قال الصاحب: لو وقع " الآخاء " في رائية الشماخ لاستثقل، فكيف مع أبيات منها:
قد سمعنا ما قلت في الأحلام ... وأنلناك بدرة في المنام
والكلام إذا لم يتناسب زيفته جهابذته، وبهرجته نقاده.
ومنها

الركاكة والسفسفة
بألفاظ العامة والسوقة ومعانيهم كقوله:
رماني خساس الناس من صائب استه ... وآخر قطن من يديه الجنادل
وقوله:
وإن ما ريتني فاركب حصاناً ... ومثله تخر له صريعا
وقوله:
إن كان لا يدعى الفتى إلا كذا ... رجلاً فسم الناس طراً إصبعا
وقوله:
قسا فالأسد تفزع من يديه ... ورق فنحن نفزع أن يذوبا
وقوله:
تألم درزة والدرز لين ... كما يتألم العضب الصنيعا
وعلى ذكر الدرز فقد حكى الصاحب في كتاب الروزنامجة من حديث لحظة الطولونية المغنية ما يشبه معنى هذا البيت، وهو أنه قال: سمعتها تقول: يا جارية، علي بالقميص المعمول في النسج، فقد آذاني نقل الدروز.
وقوله:
لسري لباسه خشن القط ... ن ومروي مرو لبس القرود
وقوله:
ما أنصف القوم ضبه ... وأمه الطرطبه
رموا برأس أبيه ... وباكوا الأم غلبه
وقوله:
بياض وجه يريك الشمس طالعة ... ودر لفظ يريك الدر مخلشا
وقوله:
إن كان مثلك كان أو هو كائن ... فبرئت حينئذ من الإسلام
قال الصاحب: " حينئذ " ، ههنا من عير منفلت.
قال: ومن ركيك صنعه، في وصف شعره، والزراية على غيره، قوله:
إن بعضاً من القريض هراء ... ليس شيئاً، وبعضه أحكام
منه ما يجلب البراعة والذه ... ن، ومنه ما يجلب البرسام
وقال: ههنا بيت نرضى باتباعه فيه، وما ظنك بمحكم مناوية ثقة بظهور حقه وإيراء زنده؟، ولو لم يكن التحكيم بعد أبي موسى من موجب العزم، ومقتضى الحزم، وهو:
أطعناك طوع الدهر يا ابن يوسف ... بشهوتنا والحاسدو لك بالرغم
وقوله:
تقضم الجمر والحديد الأعادي ... دونه قضم سكر الأهواز
وقوله:
فكأنما حسب الأسنة حلوة ... أو ظنها البرني والآزاذا
قال الصاحب: إذا جمع السكر إلى البرني والأزاذ تم الأمر.
قال: وكانت الشعراء تصف المآزر، تنزيهاً لألفاظها عما يستشنع ذكره، حتى تخطى هذا الشاعر المطبوع إلى التصريح الذي لم يهتد له غيره فقال:
إني على شغفي بما في خمرها ... لأعف عما في سراويلاتها
وكثير من العهر أحسن من هذا العفاف.
قال القاضي: ومن أمثاله العامية قوله:
وكل مكان أتاه الفتى ... على قدر الرجل فيه الخطى
ومنها
إبعاد الاستعارة والخروج بها عن حدها
كقوله:
مسرة في قلوب الطيب مفرقها ... وحسرة في قلوب البيض واليلب
وقوله:
تجمعت في فؤادهم همم ... ملء فؤاد الزمان إحداها
وقوله:
لم يحك نائلك السحاب، وإنما ... حمت به فصبيبها الرحضاء
وقوله:
إلا يشب حلواء البنين على الصبا ... فلا تحسبني قلت ما قلت عن جهل
فجعل للطيب والبيض واليلب قلوباً، وللسحاب حمى، وللزمان فؤاداً، وللكبد شيباً، وهذه استعارات لم تجر على شبه قريب ولا بعيد، وإنما تصح الاستعارة وتحسن على وجه من الوجوه المناسبة، وطرق من الشبه والمقاربة.
قال الصاحب: وما زلنا نتعجب من قول أبي تمام:
لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي
فخف علينا بحلواء البنين.
ومنها
الاستكثار من قول ذا
قال القاضي: وهي ضعيفة في صنعة الشعر، دالة على التكلف، وربما وافقت موضعاً تليق به فاكتست قبولاً، فأما في مثل قوله:
قد بلغت الذي أردت من الب ... ر ومن حق ذا الشريف عليكا
وإذا لم تسر إلى الدار في وق ... تك ذا خفت أن تسير إليكا
وقوله:
لو لم تكن من ذا الورى اللذمنك هو ... عقمت بمولد نسلها حواء
وقوله:
عن ذا الذي حرم الليوث كماله ... تنسى الفريسة خوفه لجماله
وقوله:
وإن بكينا له فلا عجب ... ذا الجزر في البحر غير معهود
وقوله:
أفي كل يوم ذا الدمستق مقدم ... قفاه على الإقدام للوجه لاثم
وقوله:

أبا المسك ذا الوجه الذي كنت تائقاً ... إليه، وذا الوقت الذي كنت راجيا
وقوله:
وأعجب من ذا الهجر، والوصل أعجب
وقوله:
أريد من زمني ذا أن يبلغني ... ما ليس يبلغه في نفسه الزمن
وقوله:
يضاحك في ذا اليوم كل حبيبة
فهو - كما تراه - سخافة وضعف، ولو تصفحت شعره لوجدت فيه أضعاف ما ذكرناه من هذه الإشارة، وأنت لا تجد منها في عدة دواوين جاهلية حرفاً، والمحدثون أكثر استعانة بها، لكن في الفرط والندرة، أو على سبيل الغلط والفلتة.

ومنها
الإفراط في المبالغة
والخروج فيه إلى الإحالة
كقوله:
ونالوا ما اشتهوا بالحزم هوناً ... وصاد الوحش نملهم دبيبا
وقوله:
وضاقت الأرض حتى صار هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
فبعده وإلى ذا اليوم لو ركضت ... بالخيل في لهوات الطفل ما سعلا
وقوله:
وأعجب منك كيف قدرت تنشا ... وقد أعطيت في المهد الكمالا
وأقسم لو صلحت يمين شيء ... لما صلح العباد له شمالا
وقوله:
بمن أضرب الأمثال؟ أم من أقيسه ... إليك وأهل الدهر دونك والدهر؟
وقوله:
ولو قلم ألقيت في شق رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتب
وقوله:
من بعد ما كان ليلي لا صباح له ... كأن أول يوم الحشر آخره
فهو مما يستهجن في صنعة الشعر، على أن كثيراً من النقدة لا يرتضون هذا الإفراط كله.
ومنها
تكرير اللفظ في البيت الواحد
من غير تحسين
كقوله:
ومن جاهل بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنه بي جاهل
وقوله في هذه القصيدة:
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيس كلهن قلاقل
قال الصاحب: وما زال الناس يستبشعون قول مسلم:
سلت وسلت ثم سل سليلها ... فأتى سليل سليلها مسلولا
حتى جاء هذا المبدع فقال:
وأفجع من فقدنا من وجدنا ... قبيل الفقد مفقود المثال
وأظن المصيبة في الراثي أعظم منها في المرثي.
وقوله:
عظمت فلما لم تكلم مهابة ... تواضت وهو العظم عظماً عن العظم
قال الصاحب: وما أحسن ما قال الأصمعي لمن أنشده:
فما للنوى جد النوى قطع النوى ... كذاك النوى قطاعة لوصال
لو سلط الله تعالى على هذا البيت شاة فأكلت هذا النوى كله! وقوله:
ولا الضعف حتى يتبع الضعف ضعفه ... ولا ضعف ضعف الضعف بل مثله ألف
وقوله:
ولم أر مثل جيراني ومثلي ... كمثلي عند مثلهم مقام
وقوله:
العارض الهتن ابن العارض الهتن اب ... ن العارض الهتن ابن العارض الهتن
وقوله:
وإني وإن كان الدفين حبيبه ... حبيب إلى قلبي حبيب حبيبي
وقوله:
لك الخير غيري رام من غيرك الغنى ... وغيري بغير اللاذقية لاحق
وقوله:
ملولة ما تدوم ليس لها ... من ملل دائم بها ملل
وقوله:
قبيل أنت أنت وأنت منهم ... وجدك بشر الملك الهمام
وقوله:
وكلكم أتى مأتى أبيه ... فكل فعال كلكم عجاب
وقوله:
وما أنا وحدي قلت الشعر كله ... ولكن شعري فيك من نفسه شعر
وقوله:
إنما الناس حيث أنت، وما النا ... س بناس في موضع خالي
وقوله:
ولولا تولى نفسه حمل حمله ... عن الأرض لانهدت وناء بها الحمل
وقوله:
ونهب نفوس أهل النهب أولى ... بأهل النهب من نهب القماش
وقوله:
وطعن كأن الطعن لا طعن عنده
وقوله:
أراه صغيراً قدرها عظم قدره ... فما لعظيم قدره عنده قدر
وقوله:
جواب مسائلي أله نظير ... ولا لك في سؤالك لا ألالا
قال الصاحب: ما قدرت أن مثل هذا البيت يلج سمعاً، وقد سمعت الفأفاء، ولم أسمع باللألاء، حتى رأيت هذا المتكلف المتعسف، الذي لا يقف حيث يعرف.
ومنها
إساءة الأدب بالأدب
كقوله:
فغدا أسيراً قد بللت ثيابه ... بدم، وبل ببوله الأفخاذا
وقوله:

وما بين كاذتي المستغير ... كما بين كاذتي البائل
وقوله:
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع ... فإن لحت حاضت في الخدور العوائق
ويقال: لما أنكرت عليه " حاضت " غيره فجعله " ذابت " ، وذكر البول والحيض مما لا يحسن وقوعه في مخاطبة الملوك والرؤساء.
وأقبح موقعاً من ذلك قوله في قصيدة يرثي بها أخت سيف الدولة، ويعزيه عنها حيث يقول:
وهل سمعت سلاماً لي ألم بها ... فقد أطلت وما سلمت عن كثب
وما باله يسلم على حرم الملوك، ويذكر منهن ما يذكره في قوله:
يعلمن حين تحي حسن مبسمها ... وليس يعلم إلا الله بالشنب
وكان أبو بكر الخوارزمي يقول: لو عزاني إنسان عن حرمة لي بمثل هذا لألحقته بها، وضربت عنقه على قبرها، قال الصاحب: ولقد مررت على مرثية له في أم سيف الدولة تدل مع فساد الحس، على سوء أدب النفس، وما ظنك بمن يخاطب ملكاً في أمه بقوله:
بعيشك هل سلوت فإن قلبي ... وإن جانبت أرضك غير سالي؟
فيتشوق إليها، ويخطئ خطأ لم يسبق إليه، وإنما يقول مثل ذلك من يرثي بعض أهله، فأما استعماله إياه في هذا الموضع فدال على ضعف البصر بمواقع الكلام، وفي هذه القصيدة:
رواة العز فوقك مسبطر ... وملك علي ابنك في كمال
ولعل لفظه السبطرار في مرائي النساء من الخذلان الرقيق الصفيق المتبر قال: ولما أبدع في هذه القصيدة واخترع قال:
صلاة الله خالقنا حنوط ... على الوجه المكفن بالجمال
فلا أدري هذه الاستعارة أحسن أم وصفه وجه والدة ملك يرثيها بالجمال أم قوله في وصف قرابتها وجواريها.
أتتهن المصائب غافلاتفدمع الحزن في دمع الدلال!؟ومنها الإيضاح عن ضعف العقيدة ورقة الدين
على أن الديانة ليست عياراً على الشعراء، ولا سوء الاعتقاد سبباً لتأخير الشاعر، ولكن للإسلام حقه من الإجلال الذي لا يسوغ الإخلال به قولاً وفعلاً ونظماً ونثراً، ومن استهان بأمره، ولم يضع ذكره وذكر ما يتعلق به في موضع استحقاقه، فقد باء بغضب من الله تعالى، وتعرض لمقته في وقته، وكثيراً ما قرع استحقاقه، فقد باء بغضب من الله تعالى، وتعرض لمقته في وقته، وكثيراً ما قرع المتنبي هذا الباب بمثل قوله:
يترشفن من فمي رشفات ... هن فيه أحلى من التوحيد
وقوله:
ونصفي الذي يكنى أبا الحسن الهوى ... ونرضى الذي يسمى الإله ولا يكنى
وقوله من قصيدة مدح بها العلوي:
وأبهر آيات التهامى أنه ... أبوكم، وإحدى مالكم من مناقب
وقوله:
تتقاصر الأفهام عن إدراكه ... مثل الذي الأفلاك فيه والدنا
وقد أفرط جداً؛ لأن الذي الأفلاك فيه والدنا هو علم الله عز وجل.
وقوله:
الناس كالعابدين آلهةً ... وعبده كالموحد اللاها
وقوله:
لو كان علمك بالإله مقسماً ... في الناس ما بعث الإله رسولا
أو كان لفظك فيهم ما أنزل ال ... توراة والفرقان والإنجيلا
وقوله:
لو كان ذو القرنين أعمل رأيه ... لما أتى الظلمات صرن شموساً
أو كان صادف رأس عازر سيفه ... في يوم معركة لأعيا عيسى
عازر: اسم الرجل الذي أحياه المسيح عليه الصلاة والسلام، بإذن الله عز وجل.
أو كان لج البحر مثل يمينه ... ما انشق حتى جاز فيه موسى
وكأن المعاني نلوذ من الزمان بظله ... أبداً، ونطرد باسمه إبليسا
وقوله وقد جاز حد الإساءة:
أي محل أرتقي؟! ... أي عظيم أتقي؟!
وكل ما خلق الل ... ه وما لم يخلق
محتقر في همتي ... كشعرة في مفرقي
وقبيح بمن أوله نطفة مذرة، وأخره جيفة قذرة، وهو فيما بينهما حامل بول وعذرة، أن يقول مثل هذا الكلام الذي لا تسعه معذرة.

ومنها
الغلط بوضع الكلام في غير موضعه
كقوله:
أغار من الزجاجة وهي تجري ... على شفة الأمير أبي الحسين
وهذه الغيرة إنما تكون بين المحب ومحبوبه، كما قال أبو الفتح كشاجم وأحسن:
أغار إذا دنت من فيه كأس ... على در يقبله الزجاج

فأما الأمراء والملوك فلا معنى للغيرة على شفاهها! وكقوله:
وغر الدمستق قول الوشا ... ة إن علياً ثقيل وصب
فجعل الأمراء يوشى بهم، وإنما الوشاية السعاية ونحوها " من الرعية " ، ومن شأن الممدوح أن يفضل على عدوه، ويجري العدو مجرى بعض أصحابه وليس في اللغة أن يقال: وشى فلان بالسلطان إلى بعض رعيته.
وكقوله في وصف الحمى المعرقة:
إذا ما فارقتني غسلتني ... كأنا عاكفان على حرام
وليس الحرام أخص بالأغتسال منه من الحلال.
وكقوله في وصف مهرة:
وزاد في الأذن على الخرانق
وأذن الفرس يستحب فيها الدقة والانتصاب، وتشبه بطرف القلم، وأذن الأرنب، على الضد من هذا الوصف.

ومنها
امتثال ألفاظ المتصوفة
واستعمال كلماتهم المعقدة، ومعانيهم المغلقة، في مثل قوله في وصف فرس:
وتسعدني في غمرة بعد غمرة ... سبوح لها منها عليها شواهد
وقوله:
إذا ما الكأس أرعشت اليدين ... صحوت فلم تحل بيني وبيني
وقوله:
نال الذي نلت منه مني ... لله ما تصنع الخمورا!
وقوله:
كبر العيان علي حتى إنه ... صار اليقين من العيان توهما
وقوله:
ولولا أنني في غير نوم ... لكنت أظنني مني خيالا
قال الصاحب: ولو وقع قوله:
نحن من ضايق الزمان له في ... ك، وخانته قربك الأيام
في عبارات الجنيد والشبلى لتنازعته المتصوفة دهراً بعيداً.
ومن أشد ما قاله في هذا المعنى قوله:
ولنك الدنيا إلي حبيبة ... فما عنك لي إلا إليك ذهاب
ومنها
الخروج عن طريق الشعر
إلى طريق الفلسفة كقوله:
ولجدت حتى كدت تبخل حائلاً ... للمنتهى، ومن السرور بكاء
وقوله:
والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون قبل الفراق
وقوله:
إلف هذا الهوى أوقع في الأن ... فس أن الحمام مر المذاق
وقوله:
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل: تخلص نفس المرء سالمة، ... وقيل: تشرك جسم المرء في العطب
وقوله:
خلفت صفاتك في العيون كلامه ... كالخط يملأ مسمعي من أبصرا
وقوله:
تمتع من سهاد أو رقاد ... ولا تأمل كرى تحت الرجام
فإن لثالث الحالين معنى ... سوى معنى انتباهك والمنام
قال ابن جني: أرجو أن لا يكون أراد بذلك أن نومة القبر لا انتباه لها.
ومنها
استكراه التخلص
قال القاضي: لعلك لا تجد في شعره تخلصاً مستكرهاً إلا قوله:
أحبك أو يقولوا: جر نمل ... ثبيراً وابن إبراهيم ريعا
فأما قوله:
فأفنى وما أفنته نفسي، كأنما ... أبو الفرج القاضي له دونها كهف
وقوله:
لو استطعت ركبت الناس كلهم ... إلى سعيد بن عبد الله بعرانا
وقوله:
أعز مكان في الدنا سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب
وبحر أبو المسك الخضم الذي له ... على كل بحر زخرة وعباب
فهي وإن لم تكن مستحسنة مختارة فليست بالمستهجن الساقط.
ومنها
قبح المقاطع
كقوله بعد أبيات أحسن فيها غاية الإحسان، وترقى الدرجة العالية، وهي:
ولله سر في علاك، وإنما ... كلام العدا ضرب من الهذيان
أتلمس الأعداء بعد الذي رأت ... قيام دليل أو وضوح بيان؟
رأت كل من ينوي لك الغدر يبتلي ... بغدر حياة أو بغدر زمان
قضى الله يا كافور أنك واحد ... وليس بقاض أن يرى لك ثاني
فما لك تختار القسي، وإنما ... عن السعد ترمي دونك الثقلان
وما لك تعنى بالأسنة والقنا ... وجدك طعان بغير سنان؟!
ولم تحمل السيف الطويل نجاده ... وأنت غني عنه بالحدثان
أرد لي جميلاً أو لم تجد به ... فإنك ما أحببت في أتاني
هذا البيت الذي هو عوذتها.

لو الفلك الدوار أبغضت سعيه ... لعوقه شيء عن الدوران
وقوله في قصيدة منها:
في خطة من كل قلب شهوة ... حتى كأن مداده الأهواء
ولكل عين قرة في قربه ... حتى كأن مغيبه الأقذاء
هذا البيت الذي جعله المقطع.
لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هو ... عقمت بمولد نسلها حواء
وكقوله في آخر القصيدة:
خلت البلاد من الغزالة ليلها ... فأعاضهاك الله كي لا تحزنا
هذا آخر المقابح والمعائب، وأول المحاسن والروائع والبدائع والقلائد والفرائد التي زاد فيها على من تقدم، وسبق جميع من تأخر.

فمنها
حسن المطالع
كقوله:
فديناك من ربع وإن زدتنا كربا ... فإنك كنت الشرق للشمس والغربا
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه أن نلم به ركبا
وقوله:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول، وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة ... بلغت من العلياء كل مكان
وقوله:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم ... أكل فصيح قال شعراً متيم؟
لحب ابن عبد الله أولى: فإنه ... به يبدأ الذكر الجميل ويختم
وقوله:
أعلى الممالك ما يبنى على الأسل ... والطعن عند مجبيهن كالقبل
وقوله:
فؤاد ما تسليه المدام ... وعمر مثل ما يهب اللئام
وقوله:
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن ... يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
وقوله:
اليوم عهدكم فأين الموعد ... هيهات ليس ليوم عهدكم غد؟
الموت أقرب مخلباً من بينكم ... والعيش أبعد منكم لا تبعدوا
وقوله:
المجد عوفي إذ عوفيت والكرم ... وزال عنك إلى أعدائك الألم
ومنها
حسن الخروج والتخلص
كقوله:
مرت بنا بين تربيها فقلت لها: ... من أين جانس هذا الشادن العربا
فاستضحكت ثم قالت: كالمغيث ... يرى ليث الشرى وهو من عجل لإذا انتسبا
وقوله:
وغيث ظننا تحته أن عامراً ... علا لم يمت أوفى السحاب له قبر
وقوله:
وإلا فخانتني القوافي، وعاقني ... عن ابن عبيد الله ضعف العزائم
إذا صلت لم أترك مصالاً لصائل ... وإن قلت لم أترك مقالاً لعالم
وقوله:
نودعهم والبين فينا كأنه ... قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيبق
وقوله:
ةمقانب بمقانب غادرتها ... أقوات وحش كن من أقواتها
أقبلتها غرر البلاد كأنما ... أيدي بني عمران في جبهاتها
وقوله:
حدق يذم من القواتل غيرها ... بدر بن عمار بن إسماعيلا
وقوله:
ولو كنت في أسر غير الهوى ... ضمنت ضمان أبي وائل
فدى نفسه بضمان النضار ... وأعطى صدور القنا الذابل
ومنها
النسيب بالأعرابيات
كقوله:
من الجآذر في زي الأعاريب ... حمر الحلى والمطايا والجلابيب؟
إن كنت تسأل شكا في معارفها ... فمن بلاك بتسهيد وتعذيب؟
سوائر ربما سارت هوادجها ... منيعة بين مطعون ومضروب
أي: لكثرة الرغبة فيهن، وشدة الذب عنهن، والمحاربة دونهن.
وربما وخدت أيدي المطي بها ... على نجيع من الفرسان مصبوب
كم زروة لي في الأعراب خافية ... أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
قد وقع التنبيه على حسن هذا البيت في شرف لفظه ومعناه، وجودة تقسيمه، وكونه أمير شعره.
قد وافقوا الوحش في سكنى مراتعها ... وخالفوها بتقويض وتطنيب
فؤاد كل محب في بيوتهم ... ومال كل أخيذ المال محروب
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب

أفدي ظباة فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة ... أوراكهن صقيلات العراقيب
ومن هوى كل من ليست مموهة ... تركت مشيبي غير مخضوب
ومن هوى الصدق في قولي وعادته ... رغبت عن شعر في الوجه مكذوب
وناهيك بهذه الأبيات جزالة وحلاوة وحسن معادن.
وله ظريفة في وصف البدويات قد تفرد بحسنها وأجاد ما شاء فيها، فمنها قوله:
هام الفؤاد بأعرابية سكنت ... بيتاً من القلب لم تضرب به طنبا
مظلومة القد في تشبيه غصناً ... مظلومة الريق في تشبيه ضربا
وقوله:
إن الذين أقمت واحتملوا ... أيامهم لديارهم دول
الحسن يرحل كلما رحلوا ... معهم، وينزل حيثما نزلوا
في مقلتي رشأ تديرهما ... بدوية فتنت بها الحلل
تشكو المطاعم طول هجرتها ... وصدورها ومن الذي تصل
وصفتها بقلة الطعم، وهي محمودة في نساء العرب.
ما أسأرت في القعب من لبن ... تركته وهو المسك والعسل
قالت ألا تصحو فقلت لها ... أعلمتني أن الهوى ثمل
وقوله:
ديار اللواتي دارهن عزيزة ... بطول القنا يحفظن لا بالتمائم
حسان التثني ينقش الوشي مثله ... إذا مسن في أجسادهن النواعم
ويسمن عن در تقلدن مثله ... كأن التراقي وشحت بالمباسم

ومنها
حسن التصرف في سائر الغزل
كقوله:
قد كان يمنعني الحياء من البكا ... فالآن يمنعه البكا أن يمنعا
حتى كأن لكل عظم رنة ... في جلده ولكل عرق مدمعا
سفرت وبرقعها الحياء بصفرة ... سترت محاسنها ولم تك برقعا
فكأنها والدمع يقطر فوقها ... ذهب بسمطي لؤلؤ قد رصعا
كشفت ثلاث ذوائب من شعرها ... في ليلة فأرت ليالي أربعا
واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معا
وهي مما يتغنى به لرشاقتها وبلوغها كل مبلغ من حسن اللفظ وجودة المعنى، واستحكام الصنعة.
وكقوله:
أيدري الربع أي دم أراقا؟ ... وأي قلوب هذا الركب شاقا؟
لنا ولأهله أبداً قلوب ... تلاقي في حسوم ما تلاقى
معناه ينظر إلى قول ابن المعتز:
إنا على البعاد والتفرق ... لنلتقي بالذكر إن لم نلتقي
ومنها:
فليت هوى الأحبة كان عدلاً ... فحمل كل قلب ما أطاقا
ومنها:
وقد أخذ التمام البدر فيهم ... وأعطاني من السقم المحاقا
وبين الفرع والقدمين نور ... يقود بلا أزمتها النياقا
وطرف إن سقى العشاق كأساً ... بها نقص سقانيها دهاقا
وخصر تثبت الأحداق فيه ... كأن عليه من حدق نطاقا
وقوله:
كأنما قدها إذا انفتفلت ... سكران من خمر طرفها ثمل
يجذبها تحت خصرها عجز ... كأنه من فراقها وجل
وقوله:
مثلت عينك في حشاي جراحة ... فتشابها كلتاهما نجلاء
نفذت علي السابري، وربما ... تندق فيه الصعدة السمراء
وكقوله:
كأن العيس كانت فوق جفني ... مناخات فلما ثرن سالا
لبسن الوشي لا متجملات ... ولكن كي يصن به الجمالا
وضفرن الغائر لا لحسن ... ولكن خفن في الشعر الضلالا
ومنها
حسن التشبيه بغير أداة التشبيه
كقوله:
بدت قمراً، ومالت غصن بان ... وفاحت عنبراً، ورنت غزالا
وقوله:
ترنو إلي بعين الظبي مجهشة ... وتمسح الطل فوق الورد بالعنم
وقوله:
قمراً ترى وسحابتين بموضع ... من وجهه ثقل ما تحوي مآزره
وقوله:
عرفت نوائب الحدثان حتى ... لو انتسبت لكنت لها نقيبا
وقوله:
فأتيت معتزماً ولا أسد ... ومضيت منهزماً ولا عل
وقوله في وصف الخيل:

خرجنا من النقع في عارض ... ومن عرق الركض في وابل
وقوله:
وجياد يدخلن في الحرب أعرا ... ءً ويخرجن من دم في جلال
واستعار الحديد لوناً وألقى ... لونه في ذوائب الأطفال

ومنها
الإبداع في سائر التشبيهات والتمثيلات
كقوله:
وإن نهاري ليلة مدلهمة ... على مقلة من فقدكم في غياهب
بعيدة ما بين الجفون كأنما ... عقدتم أعالي كل هدب بحاجب
ذكر ابن جني أنه مثل قول بشار:
جفت عيني عن التغميض حتى ... كأن جفونها عنها قصار
وذكر القاضي أنه مأخوذ من قول الطرمي في رطاناته:
ورأسي مرفوع إلى النجم كأنما ... قفاي إلى صلبي بخيط مخيط
وقوله:
كأن رقيباً منك سد مسامعي ... عن العذل حتى ليس يدخلها العذل
كأن سهاد العين يعشق مقلتي ... فبينهما في كل هجر لنا وصل
وقوله:
رأيت الحميا في الزجاج بكفه ... فتشبهتها بالشمس في البدر في البحر
وقوله في الحمى:
وزئرتي كأن بها حياء ... فليس تزور إلا بالظلام
بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي
وقوله في وصف الظبي:
أغناه حسن الجيد عن لبس الحلى ... وعادة العري عن التفضل
كأنه مضمخ بصندل
وقوله في سرعة الأوبة وتقليل اللبث:
وما أنا غير سهم في هواء ... يعود ولم يجد فيه امتساكا
قال ابن جني: قد اختلف أهل النظر في هذا الموضع، فقال قوم: إن السهم والحجر ونحوهما إذا رمي به صعدا فتناهى صعوده كانت له في آخر ذلك لبثة ما، ثم يتصوب منحدراً. وقال آخرون: لا لبثة له هناك، وإنما أول وقت انحداره وقت صعوده.
وقوله - وهو أحسن ما قيل في وصف محنة نهكت صاحبها، واشتدت به، ثم عاد إلى حال السلامة وقد هذبته تلك الحال وزادته صفاء وسهولة:
وربتما شفيت غليل صدري ... بسير أو مقام أو حسام
وضاقت خطة فخرجت منها ... خروج الخمر من نسج الفدام
وقوله وهو مما لم يسبق إليه:
كريم نفضت الناس لما لقيته ... كأنهم ما جف من زاد قادم
وكاد سروري لا يفي بندامتي ... على تركه في عمري المتقادم
وقوله وهو من بدائعه:
رضوا بك كالرضا بالشيب قسراً ... وقد وخط النواصي والفروعا
وقوله في وصف الشعر:
إذا خلعت على عرض له حللاً ... وجدتها منه في أبهى من الحلل
بذي الغباوة من إنشادها ضرر ... كما تضر رياح الورد بالجعل
وذلك أن الجعل إذا طرح عليه الورد غشى عليه.
ومنها
التمثيل بما هو من جنس صناعته
كقوله:
وإنما نحن في جيل سواسية ... شر على الحر من سقم على البدن
حولي بكل مكان منهم خلق ... تخطي إذا جئت في استفهامها بمن
" من " إنما يستفهم بها عمن يعقل، يقول: هؤلاء كالبهائم، فقولك لهم " من أنتم " خطأ، إنما ينبغي أن يقال لهم " ما أنتم " لأن موضع " ما " لما لا يعقل، ويحكى أن جريراً لما قال:
يا حبذا جبل الريان من جبل ... وحبذا ساكن الريان من كانا
قال الفرزدق: ولو كان ساكنه قروداً؟ فقال له جرير: لو أردت هذا لقلت ما كانا ولم أقل من كانا.
وكقوله:
نتاج رأيك في وقت على عجل ... كلفظ حرف وعاه سامع فهم
وقوله:
من اقتضى بسوى الهندي حاجته ... أجاب كل سؤال عن هل بلم
وقوله:
أمضى إرادته فسوف له قد ... واستقرب الأقصى فثم له هنا
" سوف " للاستقبال، و " قد " موضوعة للمضي ومقاربة الحال، يقول: إذا نوى أمراً فكأنما يسابق نيته، وقوله:
دون التعانق ناحلين كشكلتي ... نصب أدقهما وضم الشاكل
وقوله:
ولولا كونكم في الناس كانوا ... هراء كالكلام بلا معان
وقوله:
قشير وبلعجان فيها خفية ... كراءين في ألفاظ ألثغ ناطق
وقوله:
إذا كان ما تنويه فعلاً مضارعاً ... مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم

المضارع ما كان في أوله إحدى الزوائد الأربع، مثل: أقوم، ونقوم وتقوم، ويقوم، يقول: إذا نويت فعلاً أوقعته قبل فوته. وقبل أن يقال لم يفعل، وأن يفعل، وقوله:
وكان ابنا عدو كاثراه ... له يآءي حروف أنيسيان
" أنيسيان " تصغير إنسان وتحقيره، وإنسان عدد حروفه خمسة، وهو اسم مكبر، فإذا صغرته زدت عليه ياءين فزادت حروفه ونقص معناه، فكذاك إذا كان لعدوه ابنان فكاثره بهما، فيكونان زائدين في عدده ولكن ناقصين، لسقوطهما وتخلفهما.

ومنها
المدح الموجه
كالثوب له وجهان ما منهما إلا حسن، كقوله:
نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدنيا بأنك خالد
قال ابن جني: لو لم يمدح أبو الطيب سيف الدولة إلا بهذا البيت وحده لكان قد بقي فيه ما لا يخلقه الزمان، وهذا هو المدح الموجه، لأنه بنى البيت على ذكر كثرة ما استباحه من أعمار أعدائه، ثم تلقاه من آخر البيت بذكر سرور الدنيا ببقائه، واتصال أيامه، وكقوله:
عمر العدو إذا لاقاه في رهج ... أقل من عمر ما يحوي إذا وهبا
مال كأن غراب البين يرقبه ... فكلما قيل هذا مجتد نعبا
وقوله:
تشرق تيجانه بغرته ... إشراق ألفاظه بمعناها
وقوله:
تشرق أعلااضهم وأوجهم ... كأنما في نفوسهم شيم
وقوله:
إلى كم ترد الرسل فيما أتوا له ... كأنهم فيما وهبت ملام
وقوله:
يخيل لي أن البلاد مسامعي ... وأني فيها ما تقول العواذل
وقوله:
كأن ألسنهم في النطق قد جعلت ... على رماحهم في الطعن خرصانا
ومنها
حسن التصرف في مدح سيف الدولة
بجنس السيفية
كقوله:
لقد رفع الله من دولة ... لها منك يا سيفها منصل
وقوله:
لولا سمي سيوفه ومضاؤه ... لما سللن لكن كالأجفان
وقوله:
عزاءك سيف الدولة المقتدى به ... فإنك نصل والشدائد للنصل
وقوله:
يسمى الحسام وليست من مشابهة ... وكيف يشتبه المخدوم والخدم
كل السوف إذا طال الضراب بهايمسها غير سيف الدولة السأم
وقوله:
تهاب سيوف الهند وهي حدائد ... فكيف إذا كانت نزارية عربا
وقوله:
تحير في سيف: ربيعة أصله ... وطاببعه الرحمن، والمجد صاقل
وقوله:
قلد الله دولة سيفها أن ... ت حساماً بالمكرمات محلى
فإذا اهتز للندى كان بحراً ... وإذا اهتز للعدا كان نصلا
وقوله:
وأنت حسام الملك والله ضارب ... وأنت لواء الدين والله عاقد
وقوله:
لقد سل سيف الدولة المجد معلماً ... فلا المجد مخفيه ولا الضرب ثالمه
على عاتق الملك الأغر نجاده ... وفي يد جبار السموات قائمه
وإن الذي سمى علياً لمنصف ... وإن الذي سماه سيفاً لظالمه
وما كل سيف يقطع الهام حده ... وتقطع لزبات الزمان مكارمه
وقوله:
إن الخليفة لم يمسك سيفه ... حتى بلاك فكنت عين الصارم
وإذا تتوج كنت درة تاجه ... وإذا تختم كنت فص الخاتم
وقوله:
من للسيوف بأن تكون سميها ... في أصله وفرنده ووفائه
طبع الحديد فكان من أجناسه ... وعلي المطبوع من آبائه
ومنها
الإبداع في سائر مدائحه
كقوله:
ملك سنان قناته وبنانه ... يتباريان دماً وعرفاً ساكبا
يستصغر الخطر الكبير لوفده ... ويظن دجلة ليس تكفي شاربا
كالبدر من حيث التفت رأيته ... يهدي إلى عينيك نوراً ثاقبا
كالشمس في كبد السماء وضوؤها ... يغشى البلاد مشارقاً ومغاربا
كالبحر يقذف للقريب جواهراً ... جوداً، ويبعث للبعيد سحائبا
وقوله:
ليس التعجب من مواهب ماله ... بل من سلامتها إلى أوقاتها
عجباً له حفظ العنان بأنمل ... ما حفظها الأشياء من عاداتها
لو مر يركض في سطور كتابه ... أحصى بحافر مهره ميماتها

كرم تبين في كلامك ماثلاً ... ويبين عتق الخيل في أصواتها
أعيا زوالك عن محل نلته ... لا تخرج الأقمار من هالاتها
فيه مدح، ومثل مضروب، وتشبيه نادر.
ذكر الأنام لنا فكان قصيدة ... أنت البديع الفرد من أبياتها
وهذا البديع الفرد من أبيات هذه القصيدة، وكقوله:
وما زلت حتى قادني الشوق نحوه ... يسايرني في كل ركب له ذكر
واستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغر الخبر الخبر
هذا ضد قولهم " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " :
أزالت بك الأيام عتبي كأنما ... بنوها لها ذنب وأنت لها عذر
وكقوله:
ألا أيها المال الذي قد أباده ... تعز فهذا فعله بالكتائب
لعلك في وقت شغلت فؤاده ... عن الجود أو أكثرت جيش محارب
وقوله:
بعثوا الرعب في قلوب الأعادي ... فكأن القتال قبل التلاقي
وتكاد الظبا لما عودوها ... تنتضي نفسها إلى الأعناق
كل ذمر يزيد في الموت حسناً ... كبدور تمامها في المحاق
كرم خشن الجوانب منهم ... فهو كالماء في الشفار الرقاق
ومعال إذا ادعاها سواهم ... لزمته جناية السراق
وكقوله:
خير أعضائنا الرءوس ولكن ... فضلتها بقصدك الأقدام
وكقوله:
قوم بلوغ الغلام عندهم ... طعن نحور الكماة لا الحلم
كأنما يولد الندى معهم ... لا صغر عاذر ولا هرم
إذا تولوا عداوةً كشفوا ... وإن تولوا صنيعة كتموا
تظن من فقدك اعتدادهم ... بأنهم أنعموا وما علموا
إن برقوا فالحتوف حاضرة ... أو نطقوا فالصواب والحكم
أو شهدوا الحرب لاقحاً أخذوا ... من مهج الدارعين ما احتكموا
أو حلفوا بالغموس واجتهدوا ... فقولهم " خاب سائلي " القسم
أو ركبوا الخيل غير مسرجة ... فإن أفخاذهم لها حزم
تشرق أعراضهم وأوجههم ... كأنها في نفوسهم شيم
أعيذكم من صروف دهركم ... فإنه في الكرام متهم
وكقوله:
الناس ما لم يروك أشباه ... والدهر لفظ وأنت معناه
والجود عين وأنت ناظره ... والبأس اع وأنت يمناه
يا راحلاً كل من يودعه ... مودع دينه ودنياه
إن كان فيما تراه من كرم ... فيك مزيد فزادك الله
وكقوله:
تمشي الكرام على آثار غيرهم ... وأنت تخلق ما تأتي وتبتدع
من كان محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع
وكقوله:
فلما رأوه وحده دون جيشه ... دروا أن كل العالمين فضول
وكقوله:
وأوردهم صدر الحصان وسيفه ... فتى بأسه مثل العطاء جزيل
جواد على العلات بالمال كله ... ولكنه بالدارعين بخيل
وكقوله:
أرى كل ذي ملك إليك مصيره ... كأنك بحر والملوك جداول
إذا أمطرت منهم ومنك سحابة ... فوابلهم طل وطلك وابل
وقوله:
ودانت له الدنيا فأصبح جالساً ... وأيامه فيما يريد قيام
وكل أناس يتبعون إمامهم ... وأنت لأهل المكرمات إمام
ورب جواب عن كتاب بعثته ... وعنوانه للناظرين قتام
وكقوله:
هم المحسنون الكر في حومة الوغى ... وأحسن منهم كرهم في المكارم
ولولا احتقار الأسد شبهتها بهم ... ولكنها معدودة في البهايم
وكقوله:
أغر أعداؤه إذا سلموا ... بالهرب استكثروا الذي فعلوا
إنك من معشر إذا وهبوا ... ما دون أعمارهم فقد بخلوا
كتيبة لست ربها نفل ... وبلدة لست حليها عطل
وكقوله:
لو كفر العالمون نعمته ... لما عدت نفسه سجاياها

كالشمس لا تبتغي بما صنعت ... منفعة عندهم ولا جاها
وكقوله:
فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... وخلت بياضاً خلفها ومآقيا
وهذا أحسن ما يمدح به ملك أسود، ولا نهاية لحسنه، وشرف معناه، وجودة تشبيهه وتمثيله:
ترفع عن عون المكارم فعله ... فما يفعل الفعلات إلا عذاريا
أبا كل طيب، لا أبا المسك وحده ... وكل سحاب لا أخص الغواديا
يدل بمعنى واحد كل فاخر ... وقد جمع الرحمن فيك المعانيا
ألم فيه بقول أبي نواس:
كأنما أنت شيء ... حوى جميع المعاني

ومنها
مخاطبة الممدوح من الملوك
بمثل مخاطبة المحبوب والصديق، مع الإحسان والإبداع وهو مذهب له: تفرد به، واستكثر من سلوكه، اقتداراً منه، وتبحراً في الألفاظ والمعاني، وفعاً لنفسه عن درجة الشعراء، وتدريجاً لها إلى مماثلة الملوك، في مثل قوله لكافور:
وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوىً يبغي عليه ثواب
وما شئت إلا أن أدل عواذلي ... على أن رأيي في هواك صواب
وأعلم قوماً خالفوني فشرقوا ... وغربت، أني قد ظفرت وخابوا
إذا نلت منك الود فالمال هين ... وكل الذي فوق التراب تراب
وقوله له " وقد أهداه مهراً أسوداً " :
فلو لم تكن في مصر ما سرت نحوها ... بقلب المشوق المستهام المتيم
وقوله لابن العميد يودعه:
تفضلت الأيام بالجمع بيننا ... فلما حمدنا لم تدمنا على الحمد
فجد لي بقلب إن رحلت فإنني ... مخلف قلبي عند من فضله عندي
وقوله لعضد الدولة:
أروح وقد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا
فلو أني استطعت حفظت طرفي ... فلم أبصر به حتى أراكا
من قصيدة تشتمل على أبيات من هذا الطراز، سأكتبها في آخر الباب.
وكقوله لسيف الدولة:
ما لي أكتم حباً قد برى جسدي ... وتدعي حب سيف الدولة الأمم؟
إن كان يجمعنا حب لغرته ... فليت أنا بقدر الحب نقتسم
يا أعدل الناس إلا في معاملتي ... فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
إذا رأيت نيوب الليث بارزة ... فلا تظنن أن الليث يبتسم
أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم
يا من يعز علينا أن نفارقهم ... واجداننا كل شيء بعدكم عدم
ما كان أخلقنا منكم بتكرمة ... لو أن أمركم من أمرنا أمم
إن كان سركم ما قال حاسدنافما لجرح إذا أرضاكم ألم
وبيننا، لو رعيتم ذاك، معرفة ... إن المعارف في أهل النهى ذمم
كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم ... ويكره الله ما تأتون والكرم
ما أبعد العيب والنقصان من شرفي ... أنا الثريا وذان الشيب والهرم
ليت الغمام الذي عندي صواعقه ... يزيلهن إلى من عنده الديم
أرى النوى تقتضيني كل مرحلة ... لا تستقل بها الوخادة الرسم
لئن تركنا ضميراً عن ميامننا ... ليحدثن لمن ودعتهم ندم
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... ألا تفارقهم فالراحلون هم
شر البلاد بلاد لا صديق بها ... وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
وشر ما قنصته راحتي قنص ... شهب البزاة سواء فيه والرخم
وهي - على براعتها، واستقلال أكثر أبياتها بأنفسها - تكاد تدخل في باب إساءة الأدب بالأدب، وقد تقدم ذكره.
ومنها
استعمال ألفاظ الغزل والنسيب
في أوصاف الحرب والجد وهو أيضاً مما لم يسبق إليه، وتفرد به، وأظهر فيه الحذق بحسن النقل، وأعرب عن جودة التصرف والتلعب بالكلام، كقوله:
أعلى الممالك ما يبني على الأسل ... والطعن عند محبيهن كالقبل
وقوله، وهو من فرائده:

شجاع كأن الحرب عاشقة له ... إذا زارها فدته بالخيل والرجل
وكقوله:
وكم رجال بلا أرض لكثرتهم ... تركت جمعهم أرضاً بلا رجل
وما زال طرفك يجري في دمائهم ... حتى مشى بك مشي الشارب الثمل
وكقوله:
والطعن شزر والأرض واجفة ... كأنما في فؤادها وهل
قد صبغت خدها الدماء كما ... يصبغ خد الخريدة الخجل
والخيل تبكي جلودها عرقاً ... بأدمع ما تسحها مقل
وكقوله:
تعود أن لا تقضم الحب خيله ... إذا الهام لم ترفع جنوب العلائق
ولا ترد الغدران إلا وماؤها ... من الدم كالريحان تحت الشقائق
وكقوله:
فأتتك دامية الأظل كأنما ... حذيت قوائمها العقيق الأحمرا
وإذا الحمائل ما يخدن بنفنف ... إلا شققن عليه برداً أخضرا
وكقوله:
قد سودت شجر الجبال شعورهم ... فكأن فيه مسفة الغربان
وجرى على الورق النجيع القاني ... فكأنه النارنج في الأغصان
وكقوله:
حمى أطراف فارس شمري ... يحض على التباقي في التفاني
بضرب هاج أطراب المنايا ... سوى ضرب المثالث والمثاني
كأن دم الجماجم في العناصي ... كسا البلدان ريش الحيقطان
فلو طرحت قلوب العشق فيها ... لما خافت من الحدق الحسان
وكقوله:
كرعن بسبت في إناء من الورد

ومنها
حسن التقسيم
حكى أبو القاسم الآمدي في كتاب الموازنة بين شعري الطائيين، قال: سمع بعض الشيوخ من نقدة الشعر قول العباس بن الأحنف:
وصالكم هجر، وحبكم قلى ... وعطفكم صد، وسلمكم حرب
وأنتم بحمد الله فيكم فظاظة ... وكل ذلول من مراكبكم صعب
فقال: والله هذا أحسن من تقسيمات إقليدس، وقول أبي الطيب المتنبي في هذا الفن أولى بهذا الوصف:
ضاق الزمان ووجه الأرض عن ملك ... ملء الزمان وملء السهل والجبل
فنحن في جذل، والروم في وجل ... والبر في شغل، والبحر في خجل
وكقوله:
الدهر معتذر، والسيف منتظر ... وأرضهم لك مصطاف ومرتبع
للسبي ما نكحوا، والقتل ما ولدوا ... والنهب ما جمعوا، والنار ما زرعوا
وقوله:
فلم يخل من نصر له من له يد ... ولم يخل من شكر له من له فم
ولم يخل من أسمائه عود منبر ... ولم يخل دينار ولم يخل درهم
وقوله:
قليل عائدي، سقم فؤادي ... كثير حاسدي، صعب مرامي
عليل الجسم ممتنع القيام ... شديد السكر من غير المدام
وقوله:
بمصر ملوك لهم ما له ... ولكنهم ما لهم همه
فأجود من جودهم بخله ... وأحمد من حمدهم ذمه
وأشرف من عيشهم موته ... وأنفع من وجدهم عدمه
وقوله:
لم نفتقد بك من مزن سوى لثق ... ولا من البحر غير الريح والسفن
ولا من الليث إلا قبح منظره ... ومن سواه سوى ما ليس بالحسن
وقوله:
يجل عن التشبيه: لا الكف لجة ... ولا هو ضرغام، ولا الرأي مخذم
ولا جرحه يؤسى، ولا غوره يرى ... ولا حده ينبو ولا يتثلم
محلك مقصود، وشانيك مفحم ... ومثلك مفقود، ونيلك خضرم
وقوله:
أذم إلى هذا الزمان أهيله ... فأعلمهم فدم، وأحزمهم وغد
وأكرمهم كلب، وأبصرهم عم، ... وأسهدهم فهد، وأشجعهم قرد
وقوله:
وغناك مسألة، وطيشك نفحة ... ورضاك فيشلة، وربك درهم
وقوله:
عربي لسانه، فلسفي ... رأيه، فارسية أعياده
وقوله:
سقتني بها القطربلي مليحة ... على كاذب من وعدها ضوء صادق
سهاد لأجفان، وشمس لناظر، ... وسقم لأبدان، ومسك لناشق
وأغيد يهوى نفسه كل عاقل ... عفيف، ويهوى جسمه كل فاسق
ومنها
حسن سياقة الأعداد
كقوله:

على ذا مضى الناس: اجتماع وفرقة ... وميت ومولود، وقال ووامق
وقوله:
ألا أيها السيف الذي ليس مغمداً ... ولا فيه مرتاب، ولا منه عاصم
هنيئاً لضرب الهام والمجد والعلا ... وراجيك والإسلام أنك سالم
وقوله:
لا يستحي أحد يقال له ... فضولك آل بويه أو فضلوا
قدروا عفوا، وعدوا وفوا، سئلوا ... أغنوا، علوا أعلوا، ولوا عدلوا
وقوله من قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
ورب جواب عن كتاب بعثته ... وعنوانه للناظرين قتام
حروف هجاء الناس فيه ثلاثة: ... جواد، ورمح ذابل، وحسام
لما سمى الجيش جواباً جعل حروفه جواداً ورمحاً وحساماً، اقتداراً واتساعاً في الصنعة، وقوله:
ومرهف سرت بين الجحفلين به ... حتى ضربت وموج الموت يلتطم
فالخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم
قال ابن جني: قد سبق الناس إلى ما ذكر ما جمعه في هذا البيت، ولكن لم يجتمع مثله في بيت ما علمت، وقد قال البحتري:
اطلبا ثالثاً سواي فإني ... رابع العيس والدجى والبيد
وهذا اللفظ عذب، ولكن ليس فيه جميع ما في بيت المتنبي، وقوله:
أنت الجواد بلا من ولا كدر ... ولا مطال ولا وعد ولا مذل
وقوله:
بي حر شوق إلى ترشفها ... ينفصل الصبر حين يتصل
فالثغر والفجر والمخلخل وال ... معصم دائي، والفاحم الرجل
وقوله:
ولكن بالفسطاط بحراً أزرته ... حياتي ونصحي والهوى والقوافيا
وقوله:
أميناً وإخلاقاً وغدراً وخسة ... وجبناً، أشخصاً لحت لي أم مخازيا؟

ومنها
إرسال المثل في أنصاف الأبيات
كقوله:
مصائب قوم عند قوم فوائد
وقوله:
ومن قصد البحر استقل السواقيا
وقوله:
وخير جليس في الزمان كتاب
وقوله:
إن المعارف في أهل النهى ذمم
وقوله:
وربما صحت الأجسام بالعلل
وقوله:
وفي الماضي لمن بقي اعتبار
وقوله:
وتأبى الطباع على الناقل
وقوله:
ومنفعة الغوث قبل العطب
وقوله:
هيهات تكتم في الظلام مشاعل
وقوله:
ومخطئ من رميه القمر
وقوله:
وما خير الحياة بلا سرور
وقوله:
بجبهة العير يفدى حافر الفرس
وقوله:
ولا رأي في الحب للعاقل
وقوله:
ولكن طبع النفس للنفس قائد
وقوله:
وليس يأكل إلا الميت الضبع
وقوله:
كل ما يمنح الشريف الشريف
وقوله:
والجوع يرضي الأسود بالجيف
وقوله:
ومن فرح النفس ما يقتل
وقوله:
ويستصحب الإنسان من لا يلائمه
وقوله:
إن النفيس غريب حيثما كانا
وقوله:
فمن الرديف وقد ركبت غضنفراً
وقوله:
إذا عظم المطلوب قل المساعد
وقوله:
ومن يسد طريق العارض الهطل
وقوله:
وأدنى الشرك في نسب جوار
وقوله:
وفي عنق الحسناء يستحسن العقد
وقوله:
لا تخرج الأقمار من هالاتها
وقوله:
إن النفوس عدد الآجال
وقوله:
ولكن صدم الشر بالشر أحزم
وقوله:
أنا الغريق فما خوفي من البلل
وقوله:
أشد من السقم الذي أذهب السقما
وقوله:
فإن الرفق بالجاني عتاب
وقوله:
إن القليل من الحبيب كثير
وقوله:
بغيض إلي الجاهل المتعاقل
وقوله:
وليس كل ذوات المخلب السبع
وقوله:
وللسيوف كما للناس آجال
وقوله:
في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
وقوله:
فأول قرح الخيل المهار
وقوله:
والبر أوسع والدنيا لمن غلبا
وقوله:
ليس التكحل في العينين كالكحل
وقوله:
ويبين عتق الخيل في أصواتها
ومنها
استرسال المثالين
في مصراعي البيت الواحد
كقوله:
وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب
وقوله:
في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلاد من أختها بدل
وقوله:

الحب ما منع الكلام الألسنا ... وألذ شكوى عاشق ما أعلنا
وقوله:
ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
وقوله:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا
وقوله:
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن ... يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
وقوله:
وأتعب من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
وقوله:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه ... إن العبيد لأنجاس مناكيد
وقوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
وقيدت نفسي في ذراك محبة ... ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا

ومنها
إرسال المثل والاستملاء والموعظة
وشكوى الدهر والدنيا والناس وما يجري مجراها
كقوله:
وما الجمع بين الماء والنار في يدي ... بأصعب من أن أجمع الجد والفهما
وقوله:
يخفي العداوة وهي غير خفية ... نظر العدو بما أسر يبوح
وقوله:
والأمر لله، رب مجتهد ... ما خاب إلا لأنه جاهد
وقوله:
إليك فإني لست ممن إذا اتقى ... عضاض الأفاعي نام فوق العقارب
وقوله:
خير الطيور على القصور، وشرها ... يأوي الخراب ويسكن الناووسا
وقوله:
ليس الجمال لوجه صح مارنه ... أنف العزيز بقطع العز يجتدع
وقوله:
وليس يصح في الأفهام شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
قال ابن جني: هذا كما يقول أهل الجدل " من شك في المشاهدات فليس بكامل العقل " .
وقوله:
وقد يتزيا بالهوى غير أهله ... ويستصحب الإنسان من لا يلائمه
وقوله:
وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا ... إذا لم يكن فوق الكرام كرام
وقوله:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وقوله:
وأحب أني لو هويت فراقكم ... فارقته والدهر أخبث صاحب
وقوله:
من خص بالذم الفراق فإنني ... من لا يرى في الدهر شيئاً يحمد
وقوله:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواً له ما من صداقته بد
وقوله:
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
وقوله:
تلف الذي اتخذ الشجاعة جنة ... وعظ الذي اتخذ الفرار خليلا
وقوله:
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللاتي سررن ألوف
وقوله:
وإذا خفيت على الغبي فعاذر ... أن لا تراني مقلة عمياء
وقوله:
إن كنت ترضى بأن يعطوا الجزي بذلوا ... منها رضاك ومن للعور بالحول؟!
وقوله:
فآجرك الإله على مريض ... بعثت به إلى عيسى طبيبا
وقوله:
إذا أتت الإساءة من لئيم ... ولم ألم المسيء فمن ألوم
وقوله:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل
وقوله:
إذا ما قدرت على نطقة ... فإني على تركها أقدر
وقوله:
واحتمال الأذى ورؤية جاني ... ه غذاء تضوي به الأجسام
وقوله:
وتوهموا اللعب الوغى والطعن في ال ... هيجاء غير الطعن في الميدان
وقوله:
وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا
وقوله:
ومن الخير بطء سيبك عني ... أسرع السحب في المسير الجهام
وقوله:
وليس الذي يتبع الوبل رائداً ... كمن جاءه في داره رائد الوبل
وقوله:
أبلغ ما يطلب النجاح به ال ... طبع، وعند التعمق الزلل
وقوله:
كم من مخلص وعلاً في خوض مهلكة ... وقتلة قرنت بالذم في الجبن
وقوله:

وما قلت للبدر أنت اللجين ... ولا قلت للشمس أنت الذهب
ومن ركب الثور بعد الجوا ... د أنكر أظلافه والغبب
وقوله:
فقر الجهول بلا قلب إلى أدب ... فقر الحمار بلا رأس إلى رسن
لا يعجبن مضيماً حسن بزته ... وهل يروق دفيناً جودة الكفن
وقوله:
إذا ما الناس جربهم لبيب ... فإني قد أكلتهم وذاقا
فلم أر ودهم إلا خداعاً ... ولم أر دينهم إلا نفاقا
وقوله:
ذريني أنل من لا ينال من العلا ... فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين لقيان المعالي رخيصة ... ولا بد دون الشهد من إبر النحل
وقوله:
تمن يلذ المستهام بمثله ... وإن كان لا يغني فتيلاً ولا يجدي
وغيظ على الأيام كالنار في الحشا ... ولكنه غيظ الأسير على القد
وقوله:
ومكائد السفهاء واقعة بهم ... وعداوة الشعراء بئس المقتني
لعنت مقاربة اللئيم فإنها ... ضيف يجر من الندامة ضيفنا
وقوله:
وما الخيل إلا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرب
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيب
وقوله:
تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضى منها وما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع
كأنه مأخوذ من قول لبيد:
أكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل
وكقوله:
وأتعب خلق الله من زاد همه ... وقصر عما تشتهي النفس وجده
فلا ينحلل في المجد مالك كله ... فينحل مجد كان في بالمال عقده
ودبره تدبير الذي المجد كفه ... إذا حارب الأعداء والمال زنده
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
إذا كنت في شك من السيف فابله ... فإما تنفيه وإما تعده
وما الصارم الهندي إلا كغيره ... إذا لم يفارقه النجاد وغمده
وقوله:
إنما تنجح المقالة في المر ... ء إذا وافقت هوىً في الفؤاد
وإذا الحلم لم يكن في طباع ... لم يحلم تقادم الميلاد
إنما أنت والد، والأب القا ... طع أحنى من واصل الأولاد
وقوله:
وما الحسن في وجه الفتى شرفاً له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق
وما بلد الإنسان غير الموافق ... ولا أهله الأدنون غير الأصادق
وجائزة دعوى المحبة والهوى ... وإن كان لا يخفى كلام المنافق
وما يوجع الحرمان من كف حارم ... كما يوجع الحرمان من كف رازق
وقوله:
إنما أنفس الأنيس سباع ... يتفارسن جهرة واغتيالا
من أطاق التماس شيء غلاباً ... واقتسار لم يلتمسه سؤالا
كل غاد لحاجة يتمنى ... أن يكون الغضنفر الرئبالا
وقوله:
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال
وقلما يبلغ الإنسان غايته ... من كل ماشية بالرجل شملال
إنا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال
ذكر الفتى عمره الثاني، وحاجته ... ما قاته، وفضول العيش أشغال
وقوله:
يرى الجبناء أن العجز حزم ... وتلكخديعة الطبع اللئيم
وكل شجاعة في المرء تغني ... ولا مثل الشجاعة في الحكيم
قيل له: أنى يكون الشجاع حكيماً؟ فقال: هذا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه!.
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأذهان منه ... على قدر القرائح والعلوم
وقوله:
ولقد رأيت الحادثات فلا أرى ... يققاً يميت ولا سواداً يعصم
والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
لا يخدعنك من عدو دمعه ... وارحم شبابك من عدو يرحم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
قال ابن جني: أشهد بالله لو لم يقل غير هذا البيت لتقدم به أكثر المحدثين.
وهذه الأبيات كلها غرر وفرائد، لا يصدر مثلها إلا عن فضل باهر، وقدرة على الإبداع ظاهرة.
والظلم من شيم النفوس، فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم
ومن البلية عذل من لا يرعوي ... عن جهله، وخطاب من لا يفهم
ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
وقوله:
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه ... حريصاً عليها مستهاماً بها صباً
فحب الجبان النفس أورده التقى ... وحب الشجاع النفس أورده الحربا
ويختلف الرزقان والفعل واحد ... إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا
وقوله:
وفيك إذا جنى الجاني أناة ... تظن كرامة وهي احتقار
بنو كعب وما أثرت فيهم ... يد لم يدمها إلا السوار
بها من قطعه ألم ونقص ... وفيها من جلالته افتخار
لهم حق بشركك في نزار ... وأدنى الشرك في نسب جوار
لعل بنيهم لبنيك جند ... فأول قرح الخيل المهار
وما في سطوة الأرباب عيب ... ولا في ذلة العبدان عار
وقوله:
من اقتضى بسوي الهندي حاجته ... أجاب كل سؤال عن هل بلم
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ... بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم
هون على بصر ما شق منظره ... فإنما يقظات العين كالحلم
لا تشكون إلى خلق فتشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرخم
وكن على حذر للناس تستره ... ولا يغرنك منهم ثغر مبتسم
وقت يضيع وعمر أنت مدته ... في غير أمته من سائر الأمم
أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم
وقوله:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول، وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة ... بلغت من العلياء كل مكان
ولربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الأقران
لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان
وقوله " يمدح كافوراً:
لحا الله ذي الدنيا مناخاً لراكب ... فكل بعيد الهم فيها معذب!
ألا ليت شعري هل أقول قصيدة ... ولا أشتكي فيها ولا أتعتب!؟
وبي ما يذود الشعر عني أقله ... ولكن قلبي، يا ابنة القوم، قلب
أما تغلط الأيام في بأن أرى ... بغيضاً تنائي أو حبيباً تقرب؟
وقوله يمدحه أيضاً:
أبي خلق الدنيا حبيباً تديمه ... فلما طلبي منها حبيباً ترده؟
وأسرع مفعول فعلت تغيراً ... تكلف شيء في طباعك ضده
وقوله يمدحه أيضاً:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
وعادي محبيه يقول عداته ... وأصبح في ليل من الشك مظلم
ومنها:
وما كل هاو للجميل بفاعل ... ولا كل فعال له بمتمم
ومنها:
فأحسن وجه في الورى وجه محسن ... وأيمن كف فيهم كف منعم
وأشرفهم من كان أشرف همه ... وأكثر إقداماً على كل معظم
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو مساءة مجرم؟
وقوله يمدح المغيث بن علي العجلي:
فؤاد ما تسليه المدام ... وعمر مثل ما يهب اللئام
ودهر ناسه ناس صغار ... وإن كانت لهم جثث ضخام
وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرغام
وشبه الشيء منجذب إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطغام

ولو لم يعل إلا ذو محل ... تعالى الجيش وانحط القتام
ولو حيز الحفاظ بغير عقل ... تجنب عنق صيقله الحسام
وقوله:
أبداً تسترد ما تهب الدن ... يا فيا ليت جودها كان بخلا
فكفت كون فرحة تورث الغ ... م وخل يغادر الوجد خلا
وهي معشوقة على الغدر لا تح ... فظ عهداً ولا تتمم وصلا
كل دمع يسيل منها عليها ... وبفك اليدين عنها تخلى
أي: كل من أبكته الدنيا فإنما يبكي لفوت شيء منها، ولا يخليها الإنسان إلا قسراً بفك يديه.
وفي هذه القصيدة:
شيم الغانيات فيها فلا أد ... ري لذا أنث اسمها الناس أم لا؟
ولذيذ الحياة أنفس في النف ... س وأشهى من أن يمل وأحلى
وإذا الشيخ قال أف فما م ... ل حياة وإنما الضعف ملا
آلة العيش صحة وشباب ... فإذا وليا عن المرء ولى

ومنها
افتضاضه أبكار المعاني
في المراثي والتعازي
كقوله:
سالم أهل الوداد بعهدهم ... يسلم للحزن لا لتخليد
أي: إذا مات الصديق يسلم صديقه للحزن لا للخلود، لأن كلا ميت.
فما ترجى الخلود من زمن ... أحمد حاليه غير محمود
أي: أحمد حاليك أن تبقى مع صديقك، وهو مع ذلك غير محمود لتعجيل الحزن وانتظار الأجل.
وقوله:
المجد أخسر والمكارم صفقة ... من أن يعيش بها الكريم الأروع
والناس أنزل في زمانك منزلاً ... من أن تعايشهم وقدرك أرفع
قبحاً لوجهك يا زمان؛ فإنه ... وجه له من كل قبح برقع
أيموت مثل أبي شجاع فاتك ... ويعيش حاسده الخصي الأوكع؟
وقوله:
عدمته وكأني سرت أطلبه ... فما تزيدني الدنيا على العدم
من لا يشابهه الأحياء في شيم ... أمسى يشابهه الأموات في الرمم
أحسن والله أبدع ما شاء!.
وقوله:
وقد فارق الناس الأحبة قبلنا ... وأعيا دواء الموت كل طبيب
سبقنا إلى الدنيا، فلو عاش أهلها ... منعنا بها من جيئة وذهوب
تملكها الآتي تملك سالب ... وفارقها الماضي فراق سليب
هذا كقول بعضهم في الموعظة: " وإن ما في أيديكم أسلاب الهالكين، ويستخلفها الباقون كما تركها الماضون " .
علينا لك الإسعاد إن كان نافعاً ... بشق قلوب لا بشق جيوب
فرب كئيب ليس تندى جفونه ... ورب كثير الدمع غير كئيب
وللواجد المكروب من زفراته ... سكون عزاء أو سكون لغوب
وقوله:
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى ... أن الكواكب في التراب تغور
ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى ... رضوى على أيدي الرجال تسير
خرجوا به، ولكل باك خلفه ... صعقات موسى يوم دك الطور
حتى أتوا جدثاً كأن ضريحه ... في كل قلب موحد محفور
كفل الثناء له برد حياته ... لما انطوى فكأنه منشور
وقوله في تعزية سيف الدولة عن أخته:
ولعمري لقد شغلت المنايا ... بالأعادي فكيف يطلبن شغلا
وكم انتشت بالسوف من الده ... ر أسيراً وبالنوال مقلا
خطبة للحمام ليس لها رد ... وإن كانت المسماة ثكلا
وإذا لم تجد من الناس كفواً ... ذات خدر أرادت الموت بعلا
هذا أحسن ما قيل في مرثية حرم الملوك.
وقوله في مرثية طفل لسيف الدولة وتعزيته عنه:
فإن تك في قبر فإنك في الحشا ... وإن تك طفلاً فالأسى ليس بالطفل
ومثلك لا يبكي على قدر سنه ... ولكن على قدر المخيلة والفضل
عزاءك سيف الدولة المقتدى به ... فإنك نصل، والشدائد للنصل
ولم أر أعصى فيك للحزن عبرة ... وأثبت عقلاً، والقلوب بلا عقل

تخون المنايا عهده في سليله ... وتنصره بين الفوارس والرجل
ويبقى على مر الحوادث صبره ... ويبدو كما يبدو الفرند على الصقل
وما الموت إلا سارق رق شخصه ... يصول بلا كف ويسعى بلا رجل
يرد أبو الشبل الخميس عن ابنه ... ويسلمه عند الولادة للنمل
إذا ما تأملت الزمان وصرفه ... تيقنت أن الموت ضرب من القتل
وما الدهر أهل أن يؤمل عنده ... حياة وأن يشتاق فيه إلى النسل
وقوله:
نحن بنو الدنيا فما بالنا ... نعاف ما لا بد من شربه
تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمان هن من كسبه
فهذه الأرواح من جوه ... وهذه الأجسام من تربه
لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه
لم ير قرن الشمس في شرقه ... فشكت الأنفس في غربه
يموت راعي الضأن في جهله ... موتة جالينوس في طبه
وربما زاد على عمره ... وازداد في الأمن على سربه
وغاية المفرط في سلمه ... كغاية المفرط في حربه؟
فلا قضى حاجته طالب ... فؤاده يخفق من رعبه!

ومنها
الإيجاع في الهجاء
كقوله:
إن أوحشتك المعالي ... فإنها دار غربه
أو آنستك المخازي ... فإنها لك نسبة
وقوله:
إني نزلت بكذابين ضيفهم ... عن القرى وعن الترحال محدود
جود الرجال من الأيدي، وجودهم ... من اللسان، فلا كانوا ولا الجود!
ما يقبض الموت نفساً من نفوسهم ... إلا وفي يده من نتنها عود
يعني العود الذي يتناوله المعالج للشيء القذر ليكون واسطة بينه وبين يده.
وقوله:
العبد ليس لحر صالح بأخ ... لو أنه في ثياب الحر مولود
لا تشتر العبد إلا والعصا معه ... إن العبيد لأنجاس مناكيد
من علم الأسود المخصي مكرمة ... أقومه البيض أم آباؤه الصيد؟
أم أذنه في يد النخاس دامية ... أم قدره وهو بالفلسين مردود؟
وذاك أن الفحول البيض عاجزة ... عن الجميل فكيف الخصية السود
كأنه من قول أبي علي البصير:
عجز الراكب البصير، وأولى ... منه بالعجز راجل مكفوف
وقوله:
فلا ترج الخير عند امرئ ... مرت يد النخاس في رأسه
وقوله:
أخذت بمدحه فرأيت لهواً ... مقالي للأحيمق يا حكيم
ولما أن هجوت رأيت عياً ... مقالي لابن آوى يا حليم
فهل من غادر في ذا وهذا ... فمدفوع إلى السقم السقيم
وقوله:
لقد كنت أحسب قبل الخصي ... بأن الرءوس مقر النهى
فلما نظرت إلى عقله ... رأيت النهى كلها في الخصى
وقوله يهجو إسحاق بن إبراهيم بن كيغلغ:
يمشي بأربعة على أعقابه ... تحت العلوج ومن وراء يلجم
وجفونه ما تستقر كأنها ... مطروفة أو فت فيها حصرم
وتراك أصغر ما تراه ناطقاً ... ويكون أكذب ما يكون ويقسم
وإذا أشار مكلماً فكأنه ... قرد يقهقه أو عجوز تلطم
يقلي مفارقة الأكف قذاله ... حتى يكاد على يد يتعمم
ومنها
إبراز المعاني اللطيفة
في معارض الألفاظ الرشيقة الشريفة والرمز بالطرف والملح
كقوله في الجمع بين مدح سيف الدولة وقد فارقه، وبين مدح كافور وقد قصده في بيت واحد:
فراق ومن فارقت غير مذمم ... وأم ومن يممت حير ميمم
ثم قال معرضاً بسيف الدولة:
وما منزل اللذات عندي بمنزل ... إذا لم أبجل عنده وأكرم
رحلت فكم باك بأجفان شادن ... علي، وكم باك بأجفان ضيغم
المصراع الثاني تصديق لقوله:
ليحدثن لمن ودعتهم ندم
وما ربة القرط المليح مكانه ... بأجزع من رب الحسام المصمم

فلو كان ما بي من حبيب مقنع ... عذرت، ولكن من حبيب معمم
وهذا أيضاً مما نبهت عليه من إجرائه الممدوح من الملوك مجرى المحبوب في كثير من شعره:
رمى واتقى رمي، ومن دون ما اتقى ... هوى كاسر كفي وقوسي وأسهمي
وكقوله في مدح كافور والتعريض بالقدح في سيف الدولة:
قالوا: هجرت إليه الغيث؟ قلت ل ... هم إلى غيوث يديه والشآبيب
إلى الذي تهب الدولات راحته ... ولا يمن على آثار موهوب
ولا يروع بمغرور به أحداً ... ولا يفزع موفوراً بمنكوب
يا أيها الملك الغاني بتسمية ... في الشرق والغرب عن نعت وتلقيب
يعني أنا مستغن بشهرته عن لقب كلقب سيف الدولة.
أنت الحبيب ولكني أعوذ به ... من أن أكون محباً غير محبوب
وهذا أيضاً من ذاك.
وقوله من قصيدة لسيف الدولة بعد ما فارق حضرته باستزادة يومه وشكر أمسه، وهو من فرائده:
وإن فارقتني أمطاره ... فأكثر غدرانها ما نضب
وإني لأتبع تذكاره ... صلاة الإله وسقي السحب
ومنها التعريض بكافور:
ومن ركب الثور بعد الجوا ... د أنكر أظلافه والغبب
وقوله في هز كافور والتعريض باستزادته:
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله ... فإني أغني منذ حين وتشرب
يقول: مديحي إياك كما يطرب الغناء الشارب، فقد حان أن تسقيني من فضل كأسك.
وهبت على مقدار كفي زماننا ... ونفسي على مقدار كفيك تطلب
وقوله أيضاً في التعريض بالاستزادة:
أرى لي بقربي منك عيناً قريرة ... وإن كان قرباً بالبعاد يشاب
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الذي أملت منك حجاب؟
أقل سلامي حب ما خف عنكم ... وأسكت كيما لا يكون جواب
وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب
وكقوله في وصف الفرس:
ويوم كليل العاشقين كمنته ... أراقب فيه الشمس أيان تغرب
وعيني إلى أذني أغر كأنه ... من الليل باق بين عينيه كوكب
أي: كأنه قطعة من الليل، وكأن الغرة في وجهه كوكب، وعينه إلى أذنه لأنه كامن لا يرى شيئاً، فهو ينظر إلى أذني فرسه، فإن رآه قد توجس بهما تأهب في أمر وأخذ لنفسه، وذلك أن أذن الفرس تقوم مقام عينيه، وتقول العرب: أذن الوحشي أصدق من عينيه.
له فضلة عن جسمه في إهابه ... تجيء على صدر رحيب وتذهب
شققت به الظلماء أدنى عنانه ... فيطغى، وأرخيه مراراً فيلعب
أي: إذا جذبت عنانه طغى برأسه لطماحه وعزة نفسه، وإذا أرخيت عنانه لعب برأسه.
وأصرع أي الوحش قفيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب
وكقوله في التوديع:
وإني عنك بعد غد لغاد ... وقلبي في فنائك غير غاد
محبك حيث ما اتجهت ركابي ... وضيفك حيث كنت من البلاد
وكقوله:
سر حيث شئت يحله النوار ... وأراد فيك مرادك المقدار
وإذا ارتحلت فشيعتك سلامة ... حيث اتجهت وديمة مدرار
وأراك دهرك ما تحاول في العدا ... حتى كأن صروفه أنصار
أنت الذي بجح الزمان بذكره ... وتزينت بحديثه الأسمار
وكقوله في اللطف بالصديق والعنف بالعدو:
إني لأجبن عن فراق أحبتي ... وتحس نفسي بالحمام فأشجع
ويزيدني غضب العداة جراءةً ... ويلم بي عتب الصديق فأجزع
وكقوله في حسن الكناية:
تشتكي ما اشتكيت من ألم الشو ... ق إلينا، والشوق حيث النحول
وإنما كنى عن تكذيبها ولم يصرح به: أي أنا أشتكي الشوق ونحولي يدل على ذلك، وهي غير ناحلة فليست مشتاقة.
وكقوله:
أبيض ما في تاجه ميمونه ... عفيف ما في ثوبه مأمونه
أي: عفيف الفرج، فكنى به.
وكقوله في حسن الحشو:
صلى عليك الله غير مودع ... وسقى ثرى أبويك صوب غمام
" غير مودع " حشو، ولكنه حسن.
وكقوله:

ويحتقر الدنيا احتقار مجرب ... يرى كل ما فيها، وحاشاك، فانيا
سبحان الله! ما أحسن الحشو بقوله " وحاشاك " ! وكقوله:
إذا خلت الأرض منك حمص، لا خل ... ت أبداً فلا سقاها من الوسمي باكره
وكقوله في العيادة:
لا نعذل المرض الذي بك، شائق ... أنت الرجال، وشائق علاتها
ومنازل الحمى الجسوم، فقل لنا: ... ما عذرها في تركها خيراتها؟
أي: لا عذر للحمى في تركها جسمك، إذ هو أفضل الجسوم.
وكقوله:
قصدت من شرقها ومغربها ... حتى اشتكتك البلاد والسبل
لم تبق إلا قليل عافية ... قد وفدت تجتديكما العلل
وقوله:
تجشمك الزمان هوىً ووداً ... وقد يؤذي من المقت الحبيب
وكيف تعلل الدنيا بشيء ... وأنت لعلة الدنيا طبيب؟
وكيف تنوبك الشوى بداء ... وأنت المستجار لما ينوب؟
وكقوله في التهنئة وهي تهنئة سيف الدولة:
المجد عوفي إذ عوفيت والكرم ... وزال عنك إلى أعدائك الألم
وما أخصك في برء بتهنئة ... إذا سلمت فكل الناس قد سلموا
وكقوله:
إنما التهنئات للأكفاء ... ولمن يدني من البعداء
وأنا لا يهنئ عضو ... بالمسرات سائر الأعضاء
وكقوله:
الصوم والفطر والأعياد والعصر ... منيرة بك، حتى الشمس والقمر
ما الدهر عندك إلا روضة أنف ... يا من شمائله في دهره زهر
ما ينتهي لك في أيامه كرم ... فلا انتهى لك في أعوامه عمر
فإن حظك من تكرارها شرف ... وحظ غيرك منها النوم والسهر
وكقوله:
تغير حللي والليالي بحالها ... وشبت وما شاب الزمان الغرانق
وكقوله:
تسود الشمس منا بيض أوجهنا ... ولا تسود بيض العذر واللمم
وكان حالهما في الحكم واحدة ... لو احتكمنا من الدنيا إلى حكم
وقوله:
مشب الذي يبكي الشباب مشيبه ... فكيف توقيه وبانيه هادمه
وما خضب الناس البياض لأنه ... قبيح، ولكن أحسن الشعر فاحمه

ومنها
حسن المقطع
كقوله:
قد شرف الله أرضاً أنت ساكنها ... وشرف الناس إذ سواك إنسانا
قال ابن جني: لا يعجبني قوله " سواك إنسانا " لأنه لا يليق بشرف ألفاظه، ولو قال " أنشاك " أو نحو ذلك لكان أليق بالحال.
قلت أنا: ولو قال غير ما قاله لم يكن فصيحاً شريفاً. لأن في القرآن " ثم سواك رجلاً " ولا أفصح ولا أشرف مما ينطق به كتاب الله عز ذكره وكقوله:
سما بك همي فوق الهموم ... فلست أعد يساراً يسارا
ومن كنت بحراً له يا عل ... ي لم يقبل الدر إلا كبارا
وكقوله يمدح سيف الدولة:
أنلت عبادك ما أملوا ... أنالك ربك ما تأمل
وكقوله في المغيث بن علي العجلي:
وأعطيت الذي لم يعط خلق ... عليك صلاة ربك والسلام
ذكر آخر شعره وأمره
لما أنجحت سفرته، وربحت تجارته بحضرة عضد الدولة. ووصل إليه من صلاته أكثر من مائتي درهم - استأذنه في المسير عنها ليقضي حوائج في نفسه، ثم يعود إليها، فأذن له، وأمر بأن تخلع عليه الخلع الخاصة، ويقاد إليه الحملان الخاص، وتعاد صلته بالمال الكثير، فامتثل ذلك، وأنشده أبو الطيب الكافية التي هي آخر شعره، وفي أضعافها كلام جرى على لسانه كأنه ينعي فيه نفسه، وإن لم يقصد ذلك، فمنه قوله:
فلو أني استطعت خفضت طرفي ... فلم أبصر به حتى أراكا
وهذه لفظة يتطير منها، ومنه:
إذا التوديع أعرض قال قلبي ... عليك الصمت لا صاحبت فاكا
ولولا أن أكثر ما تمنى ... معاودة لقلت ولا مناكا
أي: لو أن أكثر ما تمنى قلبي أن يعاودك لقله له: ولا بلغت أنت أيضاً منتك، وهذا أيضاً من ذاك، ومنه:
قد استشفيت من داء بداء ... وأقتل من أعلك ما شفاكا

أي: قد أضمرت يا قلب شوقاً إلى أهلك، وكان داء لك، فاستشفيت منه بأن فارقت عضد الدولة، ومفارقته داء لك أيضاً أعظم من داء شوقك إلى أهلك، وهذا شبه قول النبي صلى الله عليه وسلم " كفى بالسلامة داء " وقول حميد بن ثور:
وحسبك داء أن تصح وتسلما
و " أقتل ما أعلك ما شفاكا " من ألفاظ الطيرة أيضاً، ومنه:
وكم دون الثوية من حزين ... يقول له قدومي ذا بذاكا
الثوية: من الكوفة، يقول له " قدومي ذا بذاك " أي هذا القدوم بتلك الغيبة، وهذا السرور بذلك الحزن، لم يقل " إن شاء الله تعالى " ومنه:
ومن عذب الرضاب إذا انخنا ... يقبل رحل تروك والوراكا
تروك: اسم ناقة لم ير مثلها لعضد الدولة أمر له بها، والوراك: شيء يتخذه الراكب كالمخدة تحت وركه.
يحرم أن يمس الطيب بعدي ... وقد عبق العبير به وصاكا
وهذا أيضاً من تلك الألفاظ، ومنه:
وفي الأحباب مختص بوجد ... وآخر يدعي معه اشتراكا
إذا اشتبهت دموع في خدور ... تبين من بكى ممن تباكى
وهذا أيضاً من ذاك، ومه:
فزل بعد عن أيدي ركاب ... لها وقع الأسنة في حشاكا
هذه استعارة حسنة لأنه خاطب البعد وجعل له حشا، ومنه:
وأيا شئت يا طرقي فكوني ... أذاة أو نجاة أو هلاكا
جعل قافية البيت الهلاك فهلك، وذلك أنه ارتحل عن شيراز بحسن حال ووفور مال، فلما فارق أعمال فارس حسب أن السلامة تستمر به كاستمرارها في مملكة عضد الدولة، ولم يقبل ما أشير به عليه من الاحتياط باستصحاب الخفراء والمبذرقين، فجرى ما هو مشهور من خروج سرية من الأعراب عليه ومحاربتهم إياه، وتكشف الوقعة عن قتله وابنه محسد ونفر من غلمانه، وفاز الأعراب بأمواله وذلك في سنة أربع وخمسين وثلثمائة.
أنشدني أبو القاسم المظفر بن علي الطبسي الكاتب لنفسه في مرثية المتنبي:
لا رعى الله سرب هذا الزمان ... إذ دهانا في مثل ذاك اللسان
ما رأى الناس ثاني المتنبي ... أي ثان يرى لبكر الزمان؟
كان من نفسه الكبيرة في جي ... ش وفي كبرياء ذي سلطان
كان في لفظه نبياً، ولكن ... ظهرت معجزاته في المعاني
فصل وقد جمح بي القلم في إشباع هذا الباب وتذييله، وتصييره كتاباً برأسه في أخبار أبي الطيب والاختيار من أشعاره والتنبيه على محاسنه ومساويه، وقد كان بعض الأصدقاء سألني عمل ذلك، وله الآن فيه كفاية، وبه غنية، فإن أحب إفراده عن الأبواب كان كتاباً على حدة، وإن نشط لانتساخ الجميع تضاعفت الفوائد لديه، وانثالت القلائد عليه، بمشيئة الله وإرادته.
والحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.

الباب السادس
في ذكر النامي والناشي والزاهي
وإخراج غرر أشعارهم
أبو العباس أحمد بن محمد النامي
شاعر من فحولة شعراء العصر، وخواص شعراء سيف الدولة، وكان عنده تلو المتنبي في المنزلة والرتبة، وقد أخرجت من ديوانه ما هو شرط الكتاب من عقائل شعره وفرائد عقده، فمن ذلك قوله من قصيدة:
له من هواها ما لصب متيم ... وذمة حب عهده لم يذمم
أفارق نفسي شعبة بعد شعبة ... فريقين باتا منجداً بعد متهم
فقد كثرت في كل أرض ديارهم ... ككثرة عذالي علي ولومي
ولم أر يوماً كان أثلم للحشا ... من اليوم بين الجزع والمتثلم
ومنها:
لكم يا بني العباس سيف على العدا ... حسام متى يعرض له الداء يحسم
أخف إلى يوم الوغى من حماية ... وأثبت من شوق بقلب متيم
وقوله من أخرى:
أمير العلا، إن العوالي كواسب ... علاءك في الدنيا وفي جنة الخلد
يمر عليك الحول: سيفك في الطلا، ... وطرفك ما بين الشكيمة واللبد
ويمضي عليك الدهر: فعلك للعلا، ... وقولك للتقوى، وكفك للرفد
ومنها في وصف أشعاره:
ريايحن أذهان: سماحك غارس ... لها، فاجنها بالعرف من روضة الحمد
من المذهبات الدارميات شرد ... تدق معانيها على الملك الكندي
وقوله من أخرى:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11