كتاب : يتيمة الدهر
المؤلف : الثعالبي

أحقاً أن قالتي زرود ... وأن عهودها تلك العهود
وقفت وقد فقدت الصبر حتى ... تبين موقفي أني الفقيد
وشكت في عذالي فقالوا ... لرسم الدار: أيكما العميد؟
ومثل هذا النمط من التشبيه قول السري:
إذا ما الراح والأترج لاحا ... لعينك قلت: أيهما الشراب؟
وقول بعض أهل العصر:
لي سيد فاتن يعلمني ... بحسنه كيف يعبد الصنم
لما رآني وفي يدي قلم ... لم يدر مولاي أينا القلم
ومنها:
إليك صدعن أفئدة الليالي ... وفيهن السخائم والحقود
فعيدان الأراك لها عظام ... وأسقية السنان لها جلود
ومنها:
وشعر لو عبيد الشعر أصغى ... إليه لظل لي عبداً عبيد
كأن لفكرة نشر ابن حجر ... ونودي من حفيرته لبيد
وقوله من أخرى:
إلمامه بمغاني داره لمم ... إذا لا أمامة في دار لها أمم
بأي حكم لأيام الفراق نأت ... بناعب كاعب والبين يحتكم؟
عقلت عيساً كأني كنت حاسدها ... بدار سلمى وترب الدار مستلم
إحدى الحسان أساءت بي وقد صرمت ... يوم الحمى وهواها ليس ينصرم
أخذه من قول ابن الرومي:
يا رب حسانة منهن قد فعلت ... سوءاً وقد يفعل الأسواء حسان
رجع:
كأن قلبي معار للنوى جزعاً ... من قلب قرن علي وهو منهزم
ناط الحمائل في ليث وفي قمر ... وفي الحمائل قد نيطت به الهمم
كأنه أجل، أو طرفه وجل، ... أو سيفه قدر في الروح يحتكم
يا مظمئ الخيل أو تروى ذوابله ... والخيل تشرب من أشداقها اللجم
إذا ملائكة النصر اختلطت بها ... تشابه العالم النوري والنسم
لم تدع يا علم المجد المقابلنا ... إلا وسبح إجلالاً لك العلم
لا يكتم النصر يوماً أنت شاهده ... واليوم من نقعه قد كاد ينكتم
النصر أسرجها، والعز ألجمها ... والحزم أمسك بالأسراج لا الحزم
قال النهار له والشمس مغمدة ... وللمنايا شموس غمدها القمم:
هذا عجاج فأين الأفق وهو قنا؟ ... وتلك خيل فأين الأرض وهي دم؟
بحد سيفك سيف الدولة انحطمت ... قواعد الشرك والأرواح تنحطم
يحدث الذئب ذئب وهو مبتهج ... ويخبر النسر نسر وهو مبتسم
وقد أرضعتك ثدي الأرض درتها ... ورمحك ابن رضاع ليس ينفطم
من آل حمدان حيث الملك مقتبل ... والمال مقتسم والحمد مغتنم
قوم إذا حكموا يوماً لأنفسهم ... جار السماح عليهم في الذي حكموا
أمن علاً أم ندىً أدعوك؟ أم بهما؟ ... فأنت ذا والحيا والصارم الخذم
أن يعجل الرأي تلحقه بغايته ... كذا الجواد من الإعجاب يحتدم
وإن تأنيت عزماً لم يفتك عداً ... إن الأسود تمطى ثم تعتزم
إن لم أقم أمماً للمدح من فكري ... فشك فيك يقيني أنك الأمم
إذا طلبتك لم ألحقك في أمد ... ما حيلتي؟ قد تناهى دونك الكلم
وما علي إذا ما كنت ناظمها ... فعطلت كل ما قالوا وما نظموا
وقوله من أخرى:
أمرن هوانا أن يصح لنسقما ... فأدمى قلوباً صاديات إلى الدمى
ومنها:
أرتنا جنى العناب للورد ظالماً ... ومن أقحوان مرمض متظلما
ما أحسن هذا البيت وأظرفه، وفيه كناية عن حك الوجه بالبنان المخضب وعض اليد بالثغر الأشنب:
طوى البين ديباج الخدود، ونشرت ... يد البين وشياً للخدود منمنما
تقسمت الأهواء قلبي كما غدا ... نوال علي في العلا متقسما
ويوم كأجياد العذارى حليه ... فريد ندىً في جيده قد تنظما
جلونا به وجهي عروس وكاعب ... على طفل زهر قد بكى وتبسما

وأخرس يصبينا بخمسة ألسن ... إلى أيها مد السنان تكلما
لدن غدوة حتى إذا الشمس ودعت ... مغاربها واستأذنتها التصرما
ثوينا كأنا بعض أبناء قيصر ... غدا فيهم سيف الأمير محكما
أطعت العلا حتى كأنك عبدها ... وإن كنت مولاها وكنت لها ابنما
مكارم لا تنفك تتعب حاسداً ... يؤخره سعي لها قد تقدما
زكت فكري فيها وأينع هاجسي ... فظلت على أهل القريض مقدما
وولد شعري فيك شعراً لمعشر ... فكنت عليهم مثل نعماك منعما
وقوله من أخرى:
سلاها لم اسود في ابيضاضه؟ ... وإلا سلاني كيف بيض مسودي؟
كأن برأسي عسكرين تحاربا ... فقد كثر استئمان جند إلى جند
وليل له نجم كليل عن السري ... تحير لا يهدى لقصد ولا يهدي
كأني وابن الغمد والطرف أنجم ... على قصدها والنجم ليس على قصد
إلى أن رأيت الفجر والنسر خاضبجناحيهورسا عل بالعنبر الوردي
وحلت يد الجوزاء عقد وشاحها ... إزاء الثريا وهي مقطوعة العقد
فقلت: أخيل التغلبي مغيرة ... أم الفجر يرمي الليل سداً على سد؟
فتىً قسم الأيام بين سيوفه ... وبين طريفات المكارم والتلد
فسود يوماً بالعجاج وبالردى ... وبيض يوماً بالفضائل والمجد
ألم تر فرعوناً وموسى تجاريا ... فغودرت العقبى لذي الحق لا الحشد؟
جهدت فلم ألغ مداك بمدحه ... وليس مع التقصير عندي سوى جهدي
يزيد على شأوي زياد وجرول ... وقد غودر ابن العبد في نظمها عبدي
وقوله من أخرى:
له سورة في البشر تقرأ في العلا ... وتثبت في صحف العطاء وتكتب
إذا ما علي أمطرتك سماؤه ... رأيت العلا أنواؤها تتحلب
يرجى ويخشى ضره وهو نافع ... كذا البحر في أزاته متهيب
يروع ويبدو الأنس منه كأنه ال ... هوى لذعه بين الجوانح يعذب
وأزهر يبيض الندى منه في الرضى ... وتحمر أطراف القنا حين يغضب
أمير الندى، ما للندى عنك مذهب ... ولا عنك يوماً للرغائب مرغب
إذا فاخرت بالمكرمات قبيلة ... فتغلب أبناء العلا بك تغلب
قناة من العلياء أنت سنانها ... وتلك أنابيب عليها وأكعب
وخيل كأمثال القنا في لبودها ... فإن صهلت فهي اليراع المثقب
وضرب يريك الخيل مج نجيعه ... وأشبهها من لون أشقر يخضب
وقوله من أخرى:
سألت بالفراق صباً، وما ين ... بئها بالفراق مثل خبير
هو بين الحشا صدوع، وفي الأع ... ين ماء، وجمرة في الصدور
نحن أبناء ذا الهوى تسكن الأن ... فس منا إلى الضنا والزفير
نال منا يوم الفراق كما تا ... ل من الناكثين سيف الأمير
في خميس للنصر فيه لواء ... عقده من لوائه المنصور
رجله كالدبا، وفرسانه كالأ ... سد بأساً، وخيله كالصقور
وسجاياك يا أبا الحسن الغ ... ر وإتعابهن شكر الشكور
لو غدا الدهر صافحاً لي عن الح ... ظ وأعلى من جد حال عثور
لتعطرت من غبار مذاكي ... ك رواحي، وكان عطري بكوري
ثم صيرت من دماء أعادي ... ك خلوقي، وكان منه طهوري
ولقيت المنون تحت عوالي ... ك معداً ذخراً ليوم نشوري
سر على السعد تستظل من الأي ... ام ظلي سلامة وحبور
بين فرضين من جهاد وشهر ... أنت في الناس مثله في الشهور
سمع النصر فيه أمرك لما ... خاطبته الأقدار بالتأمير
أنتم دارة العلا يا بني حم ... دان، سكان بيتها المعمور

وتسيرون في القنا فترى الآ ... جال مرتابة بذاك المسير
في شموس من الحديد عليها ... أنجم يفترون فوق بدور
وعجاج كأنه من دخان الن ... د يلقى الهواء بالتعطير
عبق من علاكم فكأن ال ... أرض مسك، والجو من كافور
فتحيوا بمدحتي فهي ريحا ... نة حمد تبقى بقاء الدهور
وقوله من أخرى:
ومنازلين إذا بدوا في شارق ... شبوا وقوده بوقود
ردوا على داود صنعه سرده ... لغناهم بالصبر عن داود
لا يصبحون إذا انتضوا بيض الظبا ... وشبا القنا غير المنايا السود
وقوله من أخرى:
ألم تر أعداء الأمير كوفره ... يظل لتوفير العلا غير وافر
وحساده مما تذوب كخيله ... بلغن مدى أنفاسهن الزوافر
وقوله من أخرى:
وصارم مثل لحظ البرق أسللك في ... مثال جدول ماء فيه منسكب
تنأى به الهام عن أجسامهن كما ... تنأى الخواتيم عن مقروءة الكتب
وقوله من أخرى:
في ناظر الشمس إن عنت له رمد ... ومسمع الرعد إن أصغى له صمم
يردها ونظام الملك متسق ... والموت في خرز الأعناق ينتظم
أسعد بعيد إذا كارمته حكمت ... لك المعاني وأمضى حكمها الكرم
عيد وفتح وملك والأمير له ... دامت سلامته ما أورق السلم!
الله أعطاك أقسام الفخار، فما ... خلق يساميك مذ حيزت لك القسم
لو كان يرضى لك الدنيا لما فنيت ... ونلت فيها خلوداً أنت والنعم
وقوله في صفة منارة:
سامية في الجو مثل الفرقد ... قاعدة فيه وإن لم تقعد
يكاد عاليها وإن لم يبعديغرف من حوض الغمام باليد
وقوله:
خليلي، هل للمزن مقلة عاشق؟ ... أم النار في أحشائها وهي لا تدري
أشارت إلى أرض العراق فأصبحت ... وكاللؤلؤ المبتول أدمعها تجري
تسربل وشياً من خروز تطرزت ... مطارفها طرزاً من البرق كالتبر
سحاب حكت ثكلى أصيبت بواحد ... فعاجت له نحو الرياض على قبر
فوشي بلا رقم، ونقش بلا يد ... ودمع بلا عين، وضحك بلا ثغر
ودخل على ناصر الدولة ويده وجعة قد لطخت بلطوخ، فقال له: هل قلت شيئاً؟ قال: ما علمت، قال: فقل، فقال ارتجالا:
يد في برئها برء الأيادي ... ووعك للطريف وللتلاد
يد الحسن التي خلقت سماء ... مولكة بأرزاق العباد

أبو الحسن الناشئ الأصغر
أنشدني أبو بكر الخوارزمي، قال: أنشدني أبو الحسين الناشئ بحلب لنفسه:
إذا أنا عاتبت الملوك فإنما ... أخط بأقلامي على الماء أحرفا
وهبه ارعوى بعد الهتاب، ألم يكن ... تودده طبعاً فصار تكلفا؟
قال: وأنشدني لنفسه:
ليس الحجاب من آلة الأشراف ... إن الحجاب مجانب الإنصاف
ولقل من يأتي فيحجب مرة ... فيعود ثانية بقلب صافي
وله في سيف الدولة يودعه:
أودع، لا أني أودع طائعاً ... وأعطي بكرهي الدهر ما كنت مانعا
وأرجع لا ألقى سوى الوجد صاحباً ... لنفسي إن القيت بالنفس راجعا
تحملت عنا بالصنائع والعلا ... فنستودع الله العلا والصنائعا
رعاك الذي يرعى بسيفك دينه ... ولقاك روض العيش أخضر يانعا
وله:
إذا لم تنل همم الأكرمين ... وسعيهم وادعاً فاغترب
فكم دعة أتعبت أهلها ... وكم راحة نتجت من تعب
وله أيضاً:
يا خليلي وصاحبي ... من لؤي بن غالب
حاكم الحب جائر ... موجب غير واجب
لك صدغ كأنما ... نونه نون كاتب
يلذع الناس إذا تعقرب لذع العقارب
أبو القاسم الزاهي

وصاف محسن، كثير الملح والظرف، ولم يقع إلي شعره مجموعاً، وإنما تطرفته من أفواه الرواة، واستفدته من التعليقات.
أنشدني أبو نصر سهل بن المرزبان فيما أنشدنيه من النتف التي استفادها ببغداد، وأتحفني به من اللطائف التي استصحبها: منها للزاهي:
سفرن بدوراً، وانتقبن أهلة ... ومسن غصوناً، والتفتن جآذرا
وأطلعن في الأجياد بالدر أنجماً ... جعلن لحبات القلوب ضرائر
وإنما احتذى في البيت الأول مثال المتنبي في قوله:
بدت قمراً، ومالت غصن بان ... وفاحت عنبراً، ورنت غزالا
وممن نسج على هذا المنوال أبو عامر إسماعيل بن أحمد الشاشي، فإنه قال من قصيدة:
رأيت على أكوارنا كل ماجد ... يرى كل ما يبقى من المال مغرما
ندوم أسيافنا، ونعلو قواضباً، ... وننقص عقبانا، ونطلع أنجما
وقال أبو الحسن الجوهري في الخمر إلا أنه قلب التشبيه:
يقولون: بغداد التي اشتقت برهة ... دساكرها والعكبري المقيرا
إذا فض عنه الختم فاح بنفسجاً، ... وأشرق مصباحاً، ونور عصفرا
ولبعض أهل العصر في غلام مغن:
فديتك يا أتم الناس ظرفاً ... وأصلحهم لمتخذ حبيبا
فوجهك نزهة الأبصار حسناً ... وصوتك متعة الأسماع طيبا
وسائلة تسائل عنك، قلنا ... لها في وصفك العجب العجيبا:
رنا ظبياً، وغنى عندليباً، ... ولاح شقائقاً، ومشى قضيبا
وللزاهي:
أرى الليل يمضي والنجوم كأنها ... عيون الندامى حين مالت إلى الغمض
وقد لاح فجر يغمر الجو نوره ... كما انفجرت بالماء عين على الأرض
وأنشدني أبو سعد نصر بن يعقوب في كتابه " كتاب روائع التوجيهات، من بدائع التشبيهات " للزاهي:
الريح تعصف والأغصان تعتنق ... والمزن باكية والزهر معتبق
كأنما الليل جفن والبروق له ... عين من الشمس تبدو ثم تنطبق
ومن مشهور شعر الزاهي قوله:
لولا عذارك ما خلعت عذاري ... ولكنت في وزر من الأوزار
ما كنت أحسب أن أعاين أو أرى ... تخطيط ليل في بياض نهار
حتى نظرت إلى عذارك فاغتدى ... سقم القلوب ونزهة الأبصار
فتركت قولي في الوعيد لأجله ... وعزمت فيك على دخول النار
ووجدت في كتاب أبي الحسن علي بن أحمد بن عبدان، في مجموعة المترجم بحاطب الليل، قصيدة للزاهي أولها:
الليل من فكري يصير ضياء ... والسيف تحت العجاج هباء
ومنها:
أحصي على دهري الذنوب بمقلة ... لدموعها لا أملك الإحصاء
سرقه من قول ديك الجن:
أنا أحصي فيك النجوم ولكن ... لذنوب الزمان لست بمحص
رجع:
عجباً لصرف الدهر كيف يخون من ... غمر البرية نجدة ووفاء
عدم الصباح فناب عنه بفكره ... وعلت يداه فطاول الجوزاء
وأنشدت له بيت معمى، وما أراه قاله:
من كان آدم جملاً في سنه ... هجرته حواء حواء السنين من الدمى
آدم في حساب الجمل خمس وأربعون، وحواء خمسة عشر.
وله في وصف الأترج:
وذات جسم من الكافور في ذهب ... دارت عليه حواشيه بمقدار
كأنها وهي قدامي ممثلةفي رأس دوحتها تاج من النار

الباب السابع
في ذكر أبي الفرج عبد الواحد الببغاء
وغرر نثره ونظمه
هو: أبو الفرج عبد الواحد بن نصر المخزومي، من أهل نصيبين.

نجم الآفاق، وشمامة الشام والعراق، وظرف الظرف، وينبوع اللطف، واحد أفراد الدهر، في النزم والنثر، له كلام بل مدام، بل نظام من الياقوت، بل حب الغمام، فنثره مستوف أقسام العذوبة، وشروط الحلاوة والسهولة، ونظمه كأنه روضة منورة تجمع طيباً ومنظراً حسناً. وقد أخرجت من شعره. ما يشهد بالذي أجريت من ذكره، وإنما لقب بالببغاء للثغة فيه سيجري وصفها في ذكر ما دار بينه وبين أبي إسحاق الصابي من طرف المكاتبات وملح المجاوبات، وكان في عنفوان أمره وريعان شبابه متصلاً بسيف الدولة، مقيماً في جملته، ثم تنقلت به بعد وفاة صاحبه الأحوال في وروده لموصل وبغداد ومنادمته بهما الملوك والرؤساء، وإخفاقه مرة وإنجاحه أخرى، وآخر ما بلغني من خبره ما سمعت الأمير أبا الفضل عبد الله بن أحمد الميكالي يورده من ذكر التقائه معه عند صدره من الحج وحصوله ببغداد في سنة تسعين وثلاثمائة، ورؤيته بها شيخاً عالي السن، متطاول الأمد، نظيف اللبسة، بهي الركبة، مليح اللثغة، ظريف الجملة، قد أخذت الأيام من جسمه وقوته، ولم تأخذ من طرفه وأدبه، وأنه مدح أباه الأمير أبا نصر بقصيدة فريدة أجزل عليه صلته، ولم تأخذ من طرفه وأدبه، وأنه مدح أباه الأمير أبا نصر بقصيدة فريدة أجزل عليها صلته، ثم السلامي وغيره من شعراء العراق، ثم عرض على القاضي أبو بشر الفضل بن محمد بجرجان سنة إحدى وتسعين كتاب أبي الفرج الوارد عليه من بغداد مشتملاً من النظم والنثر على ما أثرت فيه حال من بلغ ساحل الحياة، ووقف إلى ثنية الوداع، ولست أدري ما فعل الدهر به، وأغلب ظني أنه إلى الآن قد لحق باللطيف الخبير، وأنا أبدأ بسياق قصة له من عبارته وحكايته، لم أسمع أظرف منها في فنها، ولا ألطف ولا أعذب، ولا أخف؛ وإن كان فيها بعض الطول، والبديع غير مملول.
قال أبو الفرج: تأخرت بدمشق عن سيف الدولة رحمه الله مكرهاً، وقد سار عنها في بعض وقائعه، وكان الخطر شديداً على من أراد اللحاق به من أصحابه، حتى إن ذلك كان مؤدياً إلى النهب وطول الاعتقال، واضطررت إلى إعمال الحيلة في التخلص والسلامة، ببخدمة من بها من رؤساء الدولة الإخشيدية، وكان سني في ذلك الوقت عشرين سنة، وكان انقطاعي منهم إلى أبي بكر علي بن صالح الروزباري لتقدمه في الرياسة، ومكانه من الفصل والصناعة، فأحسن تقبلي، وبالغ في الإحسان بي، وحصلت تحت الضرورة في المقام، فتوفرت على قصد البقاع الحسنة، والمتنزهات المطرفة، تسلياً وتعللاً، فلما كان في بعض الأيام عملت على قصد دير مران، وهذا الدير مشهور الموقع في الجلالة وحسن المنظر، فاستصحبت بعض من كنت آنس به. وتقدمت لحمل ما يصلحنا، وتوجهنا نحوه، فلما نزلنا أخذنا في شأننا وقد كنت اخترت من رهبانه لعشرتنا من توسمت فيه رقة الطبع وسجاحة الخلق، حسبما جرى به الرسم في غشيان الأعمار وطروق الديرة، ومن التطرف بعشرة أهلها والأنسة بسكانها، ولم تزل الأقداح دائرة بين مطرب الغناء وزاهر المذاكرة إلى أن فض اللهو ختامه، ولوح السكر لصحبي أعلامه، وحانت مني نظرة إلى بعض الرهبان فوجدته إلى خطابي متوثباً، ولنظري إليه مترقباً، فلما أخذته عيني أكب يزعجني بخفي الغمز ووحي الإيماء، فاستوحشت لذلك، وأنكرته ونهضت عجلان، واستحضرته، فأخرج إلي رقعة مختومة، وقال لي: قد لزمم فرض الأمانة فيما تضمنته هذه الرقعة، وونى وسقط ذمام كاتبها في سترها بك عني، ففضضتها، فإذا فيها بأحسن خط وأملحه وأقرئه وأوضحه:

بسم الله الرحمن الرحيم
لم أزل فيما تؤديه هذه المخاطبة يا مولاي: بين حزم يحث على الانقباض عنك، وحسن ظن يحض على التسامح بنفيس الحظ منك، إلى أن استنزلتني الرغبة فيك على حكم الثقة بك من غير خبرة، ورفعت بيني وبينك سجف الحشمة، فأطعت بالانبساط أوامر الأنسة، وانتهزت في التوصل إلى مودتك فائت الفرصة، والمستماح منك - جعلني الله فداك! - زورة أرتجع بها ما اغتصبتنيه الأيام من المسرة مهنأة بالنفراد إلا من غلامك الذي هو مادة مسرتك.

وما ذاك عن خلق يضيق بطارق، ولكن لأخذي بالاحتياط على حالي، فإن صادف ما خطبته منك - أيدك الله! - قبولاً، ولديك نفاقاً، فمنية غفل الدهر عنها، أو فارق مذهبه فيما أهداه إلي منها، وإن جرى على رسمه في المضايقة فيما أوثره وأهواه، وأترقبه من قربك وأتمناه، فذمام المروءة يلزمك رد هذه الوقعة وسترها، وتناسيها واطراح ذكرها. وإذا بأبيات تتلو الخطاب، وهي:
يا عامر العمر بالفتوة وال ... قصف وحث الكؤوس والطرب
هل لك في صاحب تناسب في ال ... غربة أخلاقه وبالأدب
أوحشه الدهر فاستراح إلى ... قربك مستنصراً على النوب
فإن تقبلت ما أتاك به ... لم تشن الظن فيه بالكذب
وإن تقبلت ما أتاك به ... لم تشن الظن فيه بالكذب
وإن أتى الزهد دون رغبتنا ... فكن كمن لم يقل ولم يجب

قال أبو الفرج: فورد علي ما حيرني، واسترد ما كان الشراب حازه من تميزي، وحصل لي في الجملة أن أغلب الأوصاف على صاحبها الكتابة خطاً وترسلاً ونظماً، فشاهدته بالفراسة من ألفاظه، وحمدت أخلاقه قبل الاختبار من رقعته، وقلت للراهب: ويحك! من هذا؟ وكيف السبيل إلى لقائه؟ فقال: أما ذكر حاله فإليه إذا اجتمعنا، وأما السبيل إلى لقائه فمستمهل إن شئت قلت: دلني، قال: تظهر فتوراً، وتنصب عذراً تفارق به أصحابك منصرفاً، وإذا حصلت بباب الدير عدلت بك إلى باب خفي تدخل منه، فرددت الرقعة إليه، وقلت: ارفعها إليه ليتأكد أنسه بي وسكونه إلي، وعرفه أن التوفر على إعمال الحيلة في المبادرة إلى حضرته على ما آثره من التفرد أولى من التشاغل بإصدار جواب وقطع وقت مكاتبته، ومضى الراهب، وعدت إلى أصحابي بغير التشاغل بإصدار جواب وقطع وقت بمكاتبته، ومضى الراهب، وعدت إلى أصحابي بغير النشاط الذي نهضت به، فأنكروا ذلك، فاعتذرت إليهم بشيء عرض لي، واستدعيت ما أركبه، وتقدمت إلى من كان معي ممن يخدم بالتوفر على خدمتهم، وقد كنا عملنا على المبيت، فأجمعوا على تعجل السكر والانصراف، وخرجت من باب الدير ومعي صبي كنت آنس به وبخدمته، وتقدمت إلى الشاكري برد الدابة وستر خبري ومباكرتي، وتلقاني الراهب، وعدل بي إلى طريق في مضيق، وأدخلني إلى الدير من باب غامض، وصار بي إلى باب قلاية متميز عما يجاوره من الأبواب نظافة وحسناً، فقرعه بحركات مختلفة كالعلامة، فابتدرنا منه غلام كأن البدر ركب على أزراره مهفهف الكشح مخطفه، معتدل القوام أهيفه، تخال الشمس برقعت غرته، والليل ناسب أصداغه وطرته، في غلالة تنم على ما تستره، وتجفو مع رقتها عما تظهره، وعلى رأسه مجلسية مصمت فبهر عقلي، واستوقف نظري، ثم أجفل كالظبي المذعور، وتلوته والراهب إلى صحن القلاية، فإذا أنا بييت فضي الحيطان، رخامي الأركان، يضم طارقة خيش، مفروشة بحصير مستعمل، فوثب إلينا منه مقتبل الشيبة، حسن الصورة، ظاهر النبل والهيئة، متزي من اللباس بزي غلامه، فلقيني حافياً يعثر بسراويله، واعتنقني، ثم قال: إنما استخدمت هذا الغلام في تلقيك يا سيدي لأجعل ما لعلك استحسنته من وجهه مصانعاً عما ترد عليه من مشاهدتي، فاستحسنت اختصاره الطريق إلى بسطي، وارتجاله النادرة على نفسه حرصاً في تأنيسي، وأفاض في شكري المسارعة إلى أمر. وأنا أواصل في خلال سكناته المبالغة في الاعتداد به، ثم قال: يا سيدي أنت مكدود بمن كان معك، والاستمتاع بمحادثتك لا يتم إلا بالتوصل إلى راحتك، وقد كان الأمر على ما ذكر، فاستلقيت يسيراً ثم نهضت، فخدمت في حالتي النوم واليقظة الخدمة التي ألفتها في دور أكابر الملوك وأجله الرؤساء. وأحضرنا خادم لم أر أحسن منه وجهاً ولا سواداً طبقاً يضم ما ييتخذ للعشاء مما خف ولطف، فقال: الأكل مني يا سيدي للحاجة، ومنك للممالحة والمساعدة، فنلنا شيئاً، وأقبل الليل فطلع القمر ففتحت مناظر ذلك البيت إلى فضاء أدى إلينا محاسن الغوطة، وحبانا بذخائر رياضها: من المنظر الجناني، والنسيم العطري، وجاءنا الراهب من الأشربة بما وقع اتفاقنا على المختار منه، ثم اقتعدنا غارب اللذة، وجرينا في ميدان المفاوضة، فلم يزل يناهبني نوادر الأخبار، وملح الأشعار، ونخلط ذلك من المزح بأظرفه، ومن التودد بألطفه، إلى أن توسطنا الشراب فالتفت إلى غلامه، وقال له: يا مترف، إن مولاك ما ادخر عنا السرور بحضوره، وما يجب أن ندخر ممكنا في مسرته، فامتقع وجه الغلام حياء وخفراً، فأقسم عليه بحياته وأنا لا أعلم ما يريد، ومضى فعاد يحمل طنبوراً، وجلس فقال لي: يا سيدي تأذن لي في خدمتك؟ فهممت بتقبيل يده لما تداخلني من عظم المسرة بذلك، فأصلح الغلام الطنبور وضرب وغنى:
يا مالكي وهو ملكي ... وسالبي ثوب نسكي
نزه يقين الهوى في ... ك عن تعرض شك
لولاك ما كنت أبكي ... إلى الصباح وأبكي

فنظر إلي الغلام وتبسم، فعلمت أن الشعر له، فكدت والله أطير طرباً وفرحاً بملاحة خلقه وجودة ضربه وعذوبة ألفاظه وتكامل حسنه، فاستدعيت كيزاناً فأحضرنا الخادم عدة قطع من فاخر البلور وجيد المحكم، فشربت سروراً بوجهه، وشرب بمثل ما شربت، ثم قال لي: أنا والله يا سيدي أحب ترفيهك وأن لا أقطعك عما أنت متوفر عليه، ولكن إذا عرفت الاسم والنسب والصناعة واللقب فلا بد أن تشي ليلتنا بشيء لها طرازاً ولذكرها معلماً، فجذبت الدواة وكتبت ارتجالاً وقد أخذ الشراب مني:
وليلة أوسعتني ... حسناً ولهواً وأنسا
ما زلت ألثم بدراً ... بها وأشرب شمسا
إذا أطلع الدير سعداً ... لم يبق مذ بان نحسا
فصار للروح مني ... روحاً وللنفس نفسا
فطرب على قولي " ألثم بدراً وأشرب شمسا " ، وجذب غلامه فقبله، وقال: ما جهلت ما يجب لك يا سيدي من التوقير، وإنما اعتمدت تصديقك فيما ذكرته، فبحياتي إلا ففعلت مثل ذلك بغلامك، فاتبعت آثاره خوفاً من احتشامه، وأخذ الأبيات وجعل يرددها، ثم أخذ الدواة وكتب إجازة لها:
ولم أكن لغريمي ... والله أبذل فلسا
لو ارتضى لي خصمي ... بدير مران حبسا
فقلت: إذاً والله ما كان أحد يؤدي حقاً ولا باطلاً، وداعبته في هذا المعنى بما حضر، وعرفت في الجملة أنه مستتر من دين قد ركبه، وقال لي: قد خرج لك أكثر الحديث، فإن عذرت، وإلا ذكرت لك الحال لتعرفها على صورتها، فتبينت ما يؤثره من كتمان أمره، فقلت له: يا سيدي، كل ما لا يتعرف بك نكرة. وقد أغنت المشاهدة عن الاعتذار، ونابت الخبرة عن الاستخبار، وجعل يشرب وينخب علي من غير إكراه ولا حث ولا استبطاء، إلى أن رأيت الشراب قد دب فيه، وأكب على مجاذبة غلامه والفطنة تثنيه في الوقت بعد الوقت، فأظهرت السكر وحاولت النوم، وجاء الغلام ببرذعة ففرشها لي بإزاء برذعته، فنهضت إليها وقام يتفقد أمري بنفسه، فقلت له: إن لي مذهباً في تقريب غلامي مني، واعتمدت بذلك تسهيل ما يختاره من هذه الحال في غلامه، فتبسم وقال لي بسكره، جمع الله لك شمل المسرة كما جمعه لي بك، وأظهرت النوم، وعاد يجاذب غلامه بأعذب لفظ وأحلى معاتبة، ويخلط ذلك بمواعيد تدل على سعة وانبساط يد، وغلامه تارة يقبل يده وتارة فمه، وغلبتني عيناي إلى أن أيقظني هواء السحر، فانتبهت وهما متعانقان بما كان عليهما من اللباس، فأردت توديعه وحاذرت إنباهه وإزعاجه، فخرجت، ولقيني الخادم يريد إيقاظه وتعريفه انصرافي، فأقسمت عليه أن لا يفعل، ووجدت غلامي قد بكر بما أركبه كما كنت أمرته، فركبت منصرفاً وعاملاً على العود إليه والتوفر على مواصلته وأخذ الحظ من معاشرته، ومتوهماً أن ما كنت فيه منام لطيبه وقرب أوله من آخره، واعترضتني أسباب أدت إلى اللحاق بسيف الدولة، فسرت على أتم حسرة لما فاتني من معاودة لقائه وقلت في ذلك:
ويوم كأن الدهر سامحني به ... فصار اسمه ما بيننا هبة الدهر
جرت فيه أفراس الصبا بارتياحنا ... إلى دير مران المعظم والعمر
بحيث هواء الغوطتين معطر ال ... نسيم بأنفاس الرياحين والزهر
فمن روضه بالحسن ترفد روضة ... ومن نهر بالفيض يجري إلى نهر
وفي الهيكل المعمور منه افترعتها ... وصحبي حلالاً بعد توفية المهر
ونزهت عن غير الدنانير قدرها ... فما زلت منها أشرب التبر بالتبر
وحل علينا ما كان منها محرماً ... وهل يحظر المحظور في بلد الكفر
فأهدت لي الأيام فيه مودة ... دعتني في ستر فلبيت في ستر
أتى من شريف الطبع أصدق رغبة ... تخاطبني عن معدن النظم والنثر
وكان جوابي طاعة لا مقالة ... ومن ذا الذي لا يستجيب إلى اليسر
فلاقيت ملء العين نبلاً وهمةً ... محلى السجايا بالطلاقة والبشر
وأحشمني بالبر حتى ظننته ... يريد اختداعي عن جناني ولا أدري
ونزه عن غير الصفاء اجتماعنا ... فكنت وإياه كقلبين في صدر

وشاء السرور أن يلينا بثالث ... فلاطفنا بالبدر أو بأختي البدر
بمعطي عيون ما اشتهت من جماله ... ومضني قلوب بالتجنب والهجر
جنينا جني الورد في غير وقته ... وزهر الربا من روض خديه والثغر
وقابلنا من وجهه وشرابه ... بشمسين في جنحي دجى الليل والشعر
وغنى فصار السمع كالطرف آخذاً ... بأوفر حظ من محاسنه الزهر
وأمتعنا من وجنتيه بمثل ما ... تمزج كفاه من الماء والخمر
سرور شكرنا منه الصحو إذ دعا ... إليه ولم نشكر به منه السكر
كأن الليالي نمن عنه فعندما ... تنبهن نكبن الوفاء إلى الغدر
مضى وكأني كنت فيه مهوماً ... يحدث عن طيف الخيال الذي يسري
وهل يحصل الإنسان من كل ما به ... تسامحه الأيام إلا على الذكر
ولم أزل على أتم قلق وأعظم حسرة، وأشد تأسف على ما سلبته من فراق الفتى، لا سيما ولم أحصل منه على حقيقة علم ولا يقين خبر يؤديانني إلى الطمع في لقائه، إلى أن عاد سيف الدولة إلى دمشق، وأنا في جملته، فما بدأت بشيء قبل المصير إلى الراهب، وقد كنت حفظت اسمه، فخرج إلي مرعوباً، وهو لا يعرف السبب، فلما رآني استطار فرحاً، وأقسم ألا يخاطبني إلا بعد النزول والمقام عنده يومي ذلك، ففعلت، فلما جلسنا للمحادثة قال: ما لي لا أراك تسأل عن صديقك؟ قلت: والله ما لي فكر ينصرف عنه، ولا أسف يتجاوز ما حرمته منه، ولا سررت بعودي إلى هذه البلد إلا من أجله، ولذلك بدأت بقصدك، فاذكر لي خبره، فقال لي: أما الآن فنعم، هذا الفتى من المادرانيين جليل القدر، عظيم النعمة، كان ضمن من سلطانه بمصر ضياعاً بمال كثير، فخاس به ضمانه، لقعود السعر، وأشرف على الخروج من نعمته، فاستتر ولما اشتد البحث عنه خرج متخفياً إلى أن ورد دمشق بزي تاجر، فكان استتاره عند بعض إخوانه ممن أخدمه، فإني عنده يوماً إذ ظهر لي وقال لصديقه: إني أريد الانتقال إلى هذا الراهب إذا كان علي مأموناً فذكر له صديقه مذهبي، وأظهرت السرور بما رغب فيه من الأنس بي وأنا لا أعرفه، غير أن صديقي قد أمرني بخدمته، وحصل في قلايتي، فواصل الصوم، فلما كان بعد أيام جاءنا الرسول من عند صديقنا، ومعه الغلام والخادم، وقد لحقنا به ومعهما سفاتج وعليهما ثياب رثة. فلما نظر إلي الغلام قال: يا راهب، قد حل الفطر وجاء العيد، ووثب إليه فاعتنقته، وجعل يقبل عينيه ويبكي، ووقف على السفاتج فأنفذها مع درج رقعة منه إلى صديقه فلما كان بعد يومين حمل إليه ألفي دينار، وقال له: ابتع لنا ما نستخدمه في هذه الضيعة، فابتاع آلة وفرشاً، ولم يزل مكباً على ما رأيت إلى أن ورد عليه بالبغال والآلات الحسنة، وكتب أهله باجتماعهم إلى صاحب مصر وتعريفهم إياه بالحال في بعده عن وطنه لضيق ذات يده عما يطالب به والتوقيع بحطيطة المال عنه مقترناً بالكتب، فلما عمل على المسير قال لغلامه: سلم جميع ما بقي معك من نفقتنا إلى الراهب ليصرفه في مصالح الدير إلى أن نواصل تفقدنا من مستقرنا، وسار وما له حسرة غيرك، ولا أسف إلا عليك، يقطع الأوقات بذكرك، ولا يشرب إلا على ما يغنيه الغلام من شعرك، وهو الآن بمصر على أفضل الأحوال وأجلها، ما يبخل بتفقدي، ولا يغب بري، فتعجلت بعض السلوة بما عرفت من حقيقة خبره، وأتممت يومي عند الراهب، وكان آخر العهد به " انتهى كلامه " .

في بيان غرر من رسائله
الموصولة بمحاسن شعره
كتب إلى سيف الدولة يذكر منصرفه من الغزوات ظافراً إلى الثغر ومقامه على ابن الزيات صاحبه، وقد عصي، وأخذه إياه، وانكفاءه بعد ذلك إلى حلب: الرياسة - أيد الله سيدنا! - حلة مرموقة، يتفاضل الناس فيها بقدر الهمم، وينالونها بحسب مراتبها من الكرم، فما تدرك إلا بالسماح، ولا تملك إلا بأطراف الرماح. ولا تتقمص إلا بالحمد. ولا تخطب إلا بلسان المجد، فكل من أدركها طلبا، واستحقها بأفعاله لقبا، من غير الدخول لسيدنا تحت شرف التعبد، ورق الإخلاص لا التودد، فقد حرم نيل الكمال، وعدل عن الحقيقة إلى المحال:
لأنه الغاية القصوى التي عجزت ... عن أن تؤمل إدراكاً لها الهمم

ما تستحق ملوك الدهر مرتبة ... في الفضل إلا له من فوقها قدم
ذكاؤه إن دجا ليل الشكوك ضحىً ... وظله إن خطا صرف الردي حرم
فلو عدا الكرم الموصوف راحته ... عن أن يجاوزها لم يكرم الكرم
الشجاعة أقل أدواته، والبلاغة أصغر صفاته، يطرق الدهر إذا نطق، وينطق المجد إذا افتخر. فالآمال موقوفة عليه، الثناء أجمع مصروف إليه، نهض بما قعدت همم الملوك عن ثقله، وضعف الدهر عن معاناة مثله. بهمم سيفية، وعزائم علوية، فرد شمل الدين جديداً، وذميم الأيام حميداً، بحق أوضحه، وخلل أصلحه. وهدى أعاده، وضلال أباده:
فلا انتزع الله الهدى عز بأسه ... ولا انتزه الله الوغى عز نصره
وأحسن عن حفظ النبي وآله ... ورعي سوام الدين توفير شكره
فما تدرك المداح أدنى حقوقه ... بإغراق منظوم الكلام ونثره
لأن أدنى نعمة تستغرق جماع الشكر، وأيسر منه تفوت المبالغة في جميل الذكر، فأما هذا الفتح الشريف خطره، الحميد أثره، المشهور بلاؤه، الواجب ثناؤه، الباسق فرعه، العام نفعه، فأشرف من أن يحد بالصفات، أو يعد بأفصح العبارات، لإجراء الله تعالى سيدنا فيه من نيل الإرادة، على مشكور العرف والعادة، فيما ابتسم به من ثغر الدين، وشمل صلاحه كافة المسلمين:
كأنما ادخر الرحمن معظمة ... دون الملوك لسيف الدولة البطل
رآه أكرمهم في الخير إن ذكروا ... وصفاً، وأفضلهم في القول والعمل
فهزه وظبا الأسياف مغمدة ... واستله غير منسوب إلى الفلل
حتى غدا الدين من بعد العبوس به ... جذلان يرفل من نعماه في حلل
فلو تكلم في حال وقيل له: ... من خير هذا الورى؟ لم يسم غير علي

وله من رسالة أخرى
شهاب ذكاء، وطود وفاء، وكعبة فضل، وغمامة بذل، وحسام حق، ولسان صدق. فالليالي بأفعاله مشرقة، والأقدار لخوفه مطرقة، تحمده أولياؤه، وتشهد له بالفضل أعداؤه:من المتقارب " :
يقابلنا البدر من برده ... ويشملنا السعد من سعده
ولو فخر المجد لم تلقه ... فخوراً شيء سوى مجده
وله من رسالة أخرى
ثم إن شكري نعمة الله تعالى بما جددت نت ملاحظة سيدنا حالي، وتداركه بطول التطول مرض آمالي، ما لا أؤمل - مع المبالغة والإغراق فيه - فك نفسي بحال من رق أياديه، غير أني أحسن لها النظر، وأجمل عندها الأحدوثة والخبر، بالدخول في جملة الشاكرين، والاتسام بفضيلة المخلصين، إذ كان - أدام الله عزه! - قد نصر نباهتي على الخمول، واستنقذني من التعهد للتأميل:
فصرت أمسك عن أوصاف نعمته ... عجزاً، وينطق عن آثارها حالي
لما تحصنت من دهري بمعقله ... سمت بحملانه ألحاظ إقبالي
وواصلتني صلات منه رحت بها ... أختال ما بين عز الجاه والمال
فلينظر الدهر عقبي ما صبرت له ... إذ كان من بعض حسادي وعذالي
ألم أكده بحسن الانتظار إلى ... أن صنت حظي عن حل وترحال
بلغت ما لا يجوز السؤل نائله ... ولا يدافع عن فضل وإفضال
يا عارضاً لم أشم مذ كنت بارقه ... إلا رويت بغيث منه هطال
رويد جودك قد ضاقت به هممي ... ورد عني برغم الدهر إقلالي
لم يبق لي أمل أرجو نداك به ... دهري لأنك قد أفنيت آمالي
والله ينهضني من شكر طوله، والنهوض بحقوق فضله. لما يبلغني رتبة الزيادة، ونيل السؤل والإرادة، بمنه وكرمه.
وله من رسالة إليه يلتمس رسمه من الكسوة.
والعادة جارية بإعانتي على ما أوثره من التجمل في الخدمة بمتابعة النظر ومواصلة التفقد:
فإن رأى لا رأى سوءاً ولا برح الإقبال مشتملاً أيام دولته
أن يقتضي لي من إنعامه خلعاً ... تنوب عن منطقي في شكر نعمته
إذا تأملها الحساد لائحةً ... تيقنوا أنها عنوان نيته
فعل إن شاء الله.
وله من رسالة إلى المهلبي الوزير:

ولما كانت مناقب سيدنا من المعجز الذي لا يتعاطى استطاعة الوصف مطاولته، ولا إمكان البلاغة مساجلته، عدلت إلى شكر الله تعالى ما ألهمنيه من تأميل سيدنا، والتجمل بحمل منته، واكتساب الشرف بسمة ذكره. متحققاً أني على البعد منه حاضر بالإخلاص، لا حق بذوي الحظوة والاختصاص. إذ كانت خدمة مثلى إنما هي بلبه لا بقربه ولا بجسمه:
وفي الحقيقة لولا أن معتقلي ... عن السري جود سيف الدولة الملك
لما اقتصرت على غير المسير إلى ... من حظه في المعالي غير مشترك
لكنه فلك الفضل المحيط، وما ... من عادة الشمس أن تنأى عن الفلك
وفي هذه الرسالة:
وإن رأى المتناهي من سيادته ... إلى المحل الذي لم يرقه أحد
أن يقتضي لي حضاً من مكارمه ... يغري على العدى من أجله الحسد
فالشمس تدنو ضياء وهي نازحة ... والسحب تروي ومن أوطانها البعد
وله من رسالة إلى أبي محمد جعفر بن محمد بن ورقاء: وقد كنت أوثر أن لا يصدر كتابي هذا إلا بقصيدة في الأمير، غير أن الوقت لم يتسع لما أوثره فأنفذت هذه الأبيات، وأرجو أن يكون موقعها باسطاً لي إلى ما أوثره من المواصلة بأمثالها، ولا والله ما حسبت فيها، ولا فيما تقدمها من المنثور، عنان القلم، وهي:
جاد ربعاً حللته يا همام ... من ندى كفك العزيز رهام
فقبيح إن استزدت له صو ... ب غمام وأنت فيه غمام
ما بأرض لم تبد فيها صباح ... ما بدار حللت فيها ظلام
سؤدد عنده التفاخر ذل ... وندى عنده الكرام لئام
وسجايا كأنها الروض، إلا ... أنها للعدو موت زؤام
أنتم أنفس العلا يا بني ور ... قاء والناس كلهم أجسام
سخط المال من أكفكم ما ... حمدته السيوف والأقلام
وله من رسالة كتبها بعد وفاة سيف الدولة، إلى عدة الدولة أبي تغلب بن ناصر الدولة، يذكر رغبته في قصده وإيثاره الانقطاع إليه، وذلك في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة: ومن أبرز لسيدنا صفحة رجائه، ووفق للانقطاع إلى سعة نعمائه - فقد استظهر لما بقي من عمره، وحكم لنفسه بالفوز على دهره:
فما يقدح الفقر في حاله ... ولا يطمع الدهر في قصده
وكيف وقد صار ضيف الغما ... م وهو قريب على بعده؟
ومن علقت بأبي تغلب ... يداه احتذى البدر من سعده
همام قضى الله من عرشه ... له بالإمارة في مهده
فطود السيادة في دسته ... وشمس الرياسة في برده
ولما ورد الجواب عن مكتوبه مقروناً بإزاحة العلة في جميع ما يحتاج إليه في سفره، والتوقيع بالمبادرة في المسير إلى الموصل، وردها، ولقي أبا تغلب برسالة طويلة منها: أفصح دلائل الإقبال، وأصدق براهين السعادة - أطال الله بقاء سيدنا! - ما شهدت العقول بصحته، ونطقت البصائر بحقيقته، ونعمة الله تعالى على الدين والدنيا بما أولاهما من اختيار سيدنا لحراستهما بناظر فضله، وسترهما بظل عدله، مفصحة بتكامل الإقبال، مبشرة بتصديق الآمال:
محروسة ضمن الشكر الوفي لها ... عن الزيادة نيل السؤل في الدرك
تحقق الدهر أن الملك منذ نشا ... له أبو تغلب اسم غير مشترك
واستخلف الفلك الدوار همته ... فلو ونى أغنت الدنيا عن الفلك
موفر الحسنات، مأمون الهفوات، متناصر الصفات، ربعي النفاسات، حمداني السياسة، ناصري الرياسة، عطاردي الذكاء، موفق الآراء، شمسي التأثير، فلكي التدبير، قمري التصوير، للصدق كلامه، والعدل أحكامه، وللوفاء ذمامه. وللحسام عناؤه، وللقدر مضاؤه، وللسحاب عطاؤه:
دعوته فأجابتني مكارمه ... ولو دعوت سوى نعماه لم تجب
وجدته الغيث مشغوفاً بعادته ... والروض يجني بما في عادة السحب
لو فاته النسب الوضاح كان له ... من فضله نسب يغني عن النسب
إذا دعته ملوك الأرض سيدها ... طراً دعته المعالي سيد العرب

فأجمل بره، وتقبله مدة مقامه بحضرته، إلى أن سار عنها إلى مدينة السلام سنة تسعة وخمسين وثلاثمائة، وجعل يعاود الموصل مرة، ومدينة السلام أخرى.
وله من رسالة شكر: وكأني أرى عواقب اشتمالك علي، وتفقدك المتواصل إلي، من مرآة العقل، وبصيرة الذكاء والفضل، إذ كانت إمارات الإقبال على حالي بك لائحة، وشواهد السعادة لدي بعنايتك واضحة:
فمن نظر يسارع في صلاحي ... ومن وصف يحث على نفاقي
فإنعام أسر من التداني ... على عدم أفظ من الفراق
وله في مثلها: من كان جميل رأي سيدنا عدته، أمن من الدهر شدته، ومن فزع إلى إحسانه، استظهر على زمانه، ومن توجه برغبته إليه، لم تقدم الأيام عليه:
وأنا الذي علمت من طلب الغنى ... كيف الطريق إلى الغنى برجائه
فظللت مخصوصاً بحمد عفاته ... وغدوت ممدوحاً بشكر عطائه
وأفدت قدماً معجزات فضائلي ... من نور فطنته ونار ذكائه
فإذا نطقت نطقت من ألفاظه ... وإذا وهبت وهبت من نعمائه

ذكر ما دار بينه وبين أبي إسحاق الصابي
كان كل منهما يتمنى لقاء صاحبه، ويكاتبه ويراسله، فاتفق أن أبا الفرج قدم مرة بغداد وأبو إسحاق معتقل منذ مدة بعيدة، فلم يصبر عنه، فزاره في محبسه، ثم انصرف عنه ولم يعاوده، فكتب إليه أبو إسحاق:
أبا الفرج اسلم وابق وانعم ولا تزل ... يزيدك صرف الدهر حظاً إذا نقص
مضى زمن تستام وصلي غالياً ... فأرخصته، والبيع غال ومرتخص
وآنستني في محبسي بزيارة ... شفت كمداً من صاحب لك قد خلص
ولكنها كانت كحسوة طائر ... فواقاً كما يستفرص السارق الفرص
وأحسبك استوحشت من ضيق محبسي ... وأوجست خوفاً من تذكرك القفص
كذا الكرز اللماح ينجو بنفسه ... إذا عاين الأشراك تنصب للقنص
فحوشيت يا قس الطيور فصاحة ... إذا أنشد المنظوم أودرس القصص
من المنسر الأشغى ومن حزة المدى ... ومن بندق الرامي ومن قصة المقص
ومن صعدة فيها من الدبق لهذم ... لفرسانكم عند الطعان بها قعص
فهذي دواهي الطير وقيت شرها ... إذا الدهر من أحداثه جرع الغصص
فأجابه أبو الفرج في الحال مع رسوله:
أيا ماجداً مذ يمم المجد ما نكص ... وبدر تمام مذ تكامل ما نقص
ستخلص من هذا السرار، وأيما ... هلال توارى بالسرار فما خلص
برأفة تاج الملة الملك الذي ... لسؤدده في خطة المشتري خصص
تقنصت بالألطاف شكري، ولم أكن ... علمت بأن الحر بالبر يقتنص
وصادفت أدنى فرصة فانتهزتها ... بلقياك إذ بالحزم تنتهز الفرص
أتتني القوافي الباهرات تحمل ال ... بدائع من مستحسن الجد والرخص
فقابلت زهر الروض منها ولم أرع ... وأحرزت در البحر منها ولم أغص
فإن كنت بالببغاء قدماً ملقباً ... فكم لقب بالجور لا العدل مخترص
وبعد، فما أخشى تقنص جارح ... وقلبك لي وكر ورأيك لي قفص
فانتهى الابتداء والجواب إلى عضد الدولة، فأعجب بهما واستظرفهما، وكان ذلك أحد أسباب إطلاق أبي إسحاق من اعتقاله، ثم اتصلت بينهما المكاتبة والمودة.
وكتب أبو إسحاق إلى أبي الفرج أبياتاً في صفة القبج والخطاطيف، ثم كتب إليه هذه الأرجوزة في صفة الببغاء:
أنعتها صبيحة مليحة ... ناطقة باللغة الفصيحة
غدت من الأطيار، واللسان ... يوهمني بأنها إنسان
تنهي إلى صاحبها الأخبارا ... وتكشف الأسرار والأستارا
سكاء إلا أنها سميعه ... تعيد ما تسمعه طبيعه
وربما لقنت العضيهه ... فتغتدي بذيئة سفيهه
زارتك من بلادها البعيده ... واستوطنت عندك كالعقيده
ضيف قراه الجوز والرز ... والضيف في أبياتنا يعز

تراه في منقارها الخلوقي ... كلؤلؤ يلقط بالعقيق
تنظر من عينين كالفصين ... في النور والظلمة بصاصين
تميس في حلتها الخضراء ... مثل الفتاة الغادة العذراء
خريدة خدودها الأقفاص ... ليس لها من حبسها خلاص
تحبسها وما لها من ذنب ... وإنما تحبسها للحب
تلك التي قلبي بها مشغوف ... كنيت عنها واسمها معروف
نشرك فيها شاعر الزمان ... والكاتب المعروف بالبيان
وذاك عبد الواحد بن نصر ... تقيه نفسي عاديات الدهر!
فأجابه أبو الفرج بهذه الأرجوزة:
من منصفي من حكم الكتاب ... شمس العلوم قمر الآداب؟
أضحى لأوصاف الكلام محرزا ... وسام أن يلحق لما برزا
وهل يجاري السابق المقصر؟ ... أم هل يساوي المدرك المعذر؟
ما زال بي عن غرض معرضا ... ولي بما يصدره مستنهضا
فتارة يعتمد الخطافا ... ببدع تستغرق الأوصافا
وتارة يعني بنعت القبج ... من منطق لفضله محتج
يحوم حول غرض معلوم ... ومقصد في شعره مفهوم
حتى تجلت رغوة الصريح ... وسلم التلويح للتصريح
وصح أن الببغاء مقصده ... بكل ما كان قديماً يورده
فلم يدع لقائل مقالا ... فيها ولا لخاطر مجالا
أهدى لها من كل نعت أحسنه ... وصاغ من حلي المعاني أزينه
أحال بالريش الأشيب الأخضر ... وباحمرار طوقها والمنسر
على اختلاط الروض بالشقيق ... وأخضر الميناء بالعقيق
تزهى بدواج من الزمرد ... ومقلة كسبج في عسجد
وحسن منقار أشم قاني ... كأنما صيغ من المرجان
صيرها انفرادها في الحبس ... بنطقها من فصحاء الإنس
تميزت في الطير بالبيان ... عن كل مخلوق سوى الإنسان
تحكي الذي تسمعه بلا كذب ... من غير تغيير لجد أو لعب
غذاؤها أزكى طعام رغدا ... لا تشرب الماء ولا تخشى الصدا
ذات شغى تحسبه ياقوتا ... لا ترتضي غير الأرز قوتا
كأنما الحبة في منقارها ... حبابة تطفو على عقارها
إقدامها ببأسها الشديد ... أسكنها في قفص الحديد
فهي كخود في لباس أخضر ... تأوي إلى خركاهة لم تستر
ووصفها المعجز ما لا يدرك ... ومثله في غيرها لا يملك
لو لم تكن لي لقباً لم أختصر ... لكن خشيت أن يقال منتصر
وإنما تنعت باستحقاق ... لوصفها حذق أبي إسحاق
شرفها وزاد في تشريفها ... بحكم أبدع في تفويفها
فكيف أجزي بالثناء المنتخب ... من صرف المدح إلى اسمي واللقب
وكتب إليه أبو إسحاق بأحسن ما قيل في مدح الألثغ:
أبا الفرج استحققت نعتاً لأجله ... تسميت من بين الخلائق ببغا
بياناً منيراً كاللجين مضمناً ... نضاراً من المعنى أديباً وأفرغا
فلو لامرئ القيس انتدبت مجارياً ... كبا أو لقس في فصاحته صغا
متى ما يرم ذا الاسم غيرك رائم ... ليبلغ من غايات فضلك مبلغا
فإني أسميه به ثم أنثني ... فأسلبه باء من الاسم إذ بغى
إذا أنا سلمت البلاغة طائعاً ... إليك فأي الناس خالفني طغى
كفتك على رغم الحسود شهادتي ... بأن كنت منه ثم مني أبلغا
وما هجنت منك المحاسن لثغة ... وليس سوى الإنسان تلقاه ألثغا
أتعرفها فيما تقدم خاياً ... لعير إذا ما صاح أو جمل رغا
فيا لك حرفاً زدت فضلاً بنقصه ... فأصبحت منه بالكمال مسوغا

بقيت ولا تعدم بقاء مرفهاً ... وعشت ولا تعدم معاشاً مرفغا
ولما نقل عز الدولة بختيار ابنته المزوجة بعدة الدولة أبي تغلب إليه بالموصل - كتب عنه أبو إسحاق في معناها فصلاً من كتاب استحسنه الناس وتحفظوه وأقر له بالبراعة والبلاغة كل بليغ، وهو: قد توجه أبو النجم بدر الحرمي، وهو الأمين على ما يلحظه، الوفي بما يحفظه، نحوك يا سيدي ومولاي - أدام الله عزك! - بالوديعة، وإنما نقلت من وطن إلى سكن، ومن منبت درت لها نعماؤها، إلى منشأ تجود عليها سماؤه. وهي بضعة مني انفصلت إليك، وثمرة من جنى قلبي حصلت لديك. وما بان عني من وصلت حبله بحبلك، وتخيرت له بارع فضلك. وبوأته المنزل الرحب من جميل خلائقك، وأسكنته الكنف الفسيح من كرم شيمك وطرائقك. ولا ضياع على ما تضمه أمانتك، ويشتمل عليه حفظك ورعايتك. وأرجو أن يقرن الله موردها بالطائر السعيد. والأمر الرشيد. والعز الزائد، والمجد الصاعد. والنماء في الائتلاف، والعصمة من الفرقة بالخلاف. حتى تكون عوائد البركة بأحوالها منوطة، والعصمة من الفرقة بالخلاف. حتى تكون عوائد البركة بأحوالها منوطة، ومن عوادي الأيام وغيرها محوطة.
وإنما ألم أبو إسحاق في تسميته لها بالوديعة بالفصل الذي كتبه جعفر ابن محمد بن ثوابة عن المعتضد إلى ابن طولون في ذكر ابنته قطر الندى المنقولة إليه، وهو: وأما الوديعة - أعزك الله! - فهي بمنزلة ما انتقل من شمالك إلى يمينك، عناية بها، وحياطة لها، ورعاية لموالاتك فيها.
فلما عرضه على الوزير عبد الله بن سليمان ارتضاه جداً واستحسنه، وقال له: تسميتك إياها بالوديعة نصف البلاغة، ووقع له بالزيادة في إقطاعه ومشاهرته.
ولما قرئ الفصل من إنشاء الصابي بحضرة أبي تغلب اعتمد في الجواب عنه على أبي الفرج الببغاء، وكتب كتاباً يشتمل على هذا الفصل الذي هو الجواب عن الفصل المذكور، وهو: وأما أبو النجم بدر الحرمي - أيده الله! - المستوجب للارتضاء والإحماد، الموفى بمناصحته على كل مراد، فقد أدى الأمانة إلى متحملها، وسلم الذخيرة الجليلة إلى متقبلها، فحلت من محل العز في وطنها، وأوت من حمى السؤدد إلى مستقرها وسكنها: متنقلة من عطن الفضل والكمال، إلى كنف السعادة والإقبال. وصادرة عن أنبل ولادة ونسب، إلى أشرف اتصال وأنبه سبب، وفي اليسير من لوازم فروضها وواجبات حقوقها، ما صان رعايتي عن الوصاة بها، ونزره وفائي عن الاستزادة لها، وكيف يوصي الناظر بنوره؟ أم كيف يحض القلب على حفظ سروره، وإن سبباً قرن بإحماد أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه! - ذكرى، ووصل بحبل السيد العم ركن الدولة - أدام الله تأييده! - حبلي. ومنح عز الدولة - أيده الله! - مكنون ودي، واختص الأخوة من ولد أبيه السعيد رضي الله عنه وأيدهم بوثيق عهدي، إلى أن صرت بفضل الجماعة قائلاً، ودونها بالنية والفعل مناضلاً، وبمحاسنها المجموعة إلى ناطقاً، وبمالي عندها من المساهمة والمشاركة واثقاً - لحقيق بالتناهي في الإعظام، وخليق بالمبالغة في الإيجاب والإكرام، والله يعين على ما اعتقدته من ذلك وأخفيه. ويوفقني لما يوفي على المحبة والبغية فيه. بمنه وقدرته، وحوله وقوته.

هذا ما أخرج من
شعر أبي الفرج الذي يتغنى به
فمنه قوله:
لقد عز العزاء علي لما ... تصدى لي لتقتلني الصدود
إذا بعد الحبيب فكل شيء ... من الدنيا ولذتها بعيد
وقوله:
يا سادتي، هذه نفسي تودعكم ... إذ كان لا الصبر يسليها ولا الجزع
قد كنت أطمع في روح بالبقاء فما ... أظنني بعدكم بالعيش أنتفع
وقوله:
حصلت من الهوى بك في محل ... يساوي بين قربك والفراق
فلو واصلت ما نقص اشتياقي ... كما لو بنت ما زاد اشتياقي
وقوله:
يا مسقمي بجفون سقمها سبب ... إلى مواصلة الأقسام في جسدي
وحق جفنيك لا استعفيت من كمدي ... دهري، ولو مت من هم ومن كمد
عذرت من ظل في حبيك يحسدني ... لأنه فيك معذور على حسدي
وقوله:
يا من تشابه منه الخلق والخلق ... فما تسافر إلا نحوه الحدق
توريد دمعي من خديك مختلس ... مسقم جسمي من جفنيك مسترق

لم يبق لي رمق أشكو هواك به ... وإنما يشتكى من به رمق
وقوله:
ومهفهف لما اكتست وجناته ... حلل الملاحة طرزت بعذاره
لما انتصرت على عظيم جفائه ... بالثلب كان القلب من أنصاره
كملت محاسن وجهه فكأنما اق ... تبس الهلال النور من أنواره
وإذا ألح القلب في هجرانه ... قال الهوى: لا بد منه فداره
وقوله:
ما ضر من بعد السرور ببعده ... لو كان يجمل في صيانة عبده
يبدو فأطرق هيبة ومخافة ... من أن يؤثر ناظري في خده
قد صرت أعجب أن علة طرفه ... ليست تؤثر علة في وده
وقوله:
يا طيف من أنا عبده من أين لي ... شكر يقوم ببعض ما توليه
ينأى فتدنيه إلي على النوى ... فأراه كالتحقيق في التشبيه
ما كان أحسن حالتي لو أن ما ... أوتيت من كرم وعطف فيه
وقوله:
علمت طيفك اسعافي فما هجعت ... عيناي إلا وطيف منك يطرفني
فكيف أشكر من إن نمت واصلني ... بالطيف منه وإن لم أغف قاطعني
وقوله:
خيالك منك أعرف بالغرام ... وأرأف بالمحب المستهام
فلو يستطيع حين حظرت نومي ... علي لزار في غير المانم
وقوله:
قد كان أحسن شيء بعد بعدهم ... بروح مثلك أن تنأى عن الجسد
هم الوصال أعادوها إليك، فلم ... ذخرتها بعدهم للصبر والجلد؟
وعدت بالدمع تعليلاً كأنك قد ... أظهرت ما ليس موجوداً لدى أحد
وقوله:
يا من إذا خفت فيه العذل آمنني ... جميل إنصافه من عذل عذالي
ما يستحق زماني وهو سامحنيبمثل ودك أن أشكوه في حال
رآك غاية آمالي، فما برحت ... تسعى لياليه حتى نلت آمالي
وقوله:
أوليس من إحدى العجائب أنني ... فارقته فحييت بعد فراقه
يا من يحاكي البدر عند تمامه ... ارحم فتى يحكيه عند محاقه
وقوله:
جاورت بالحب قلباً لم تذر فكري ... للحب مستمتعاً فيه ولم تدع
مفرقاً بين هم غير مفترق ... عنه، وبين سلو غير مجتمع

وهذه غرر من
شعره في الغزل والخمر
أنشدت له في رمد المحبوب، وهو أحسن ما سمعت في معناه:
بنفسي ما يشكوه من راح طرفه ... ونرجسه مما دهى حسنه ورد
أراقت دمي ظلماً محاسن وجهه ... فأضحى وفي عينيه آثاره تبدو
غدت عينه كالخد حتى كأنما ... سقى عينه من ماء توريده الخد
لئن أصبحت رمداء مقلة مالكي ... لقد طالما استشفيت بها مقل رمد
وله في الفصد:
بأبي الغائب الذي لم يغب ع ... ني فأشكو إليه هم المغيب
باشرته كف الطبيب، فلو نل ... ت الأماني قبلت كف الطبيب
فعلت في ذراعه ظبة المب ... ضع أفعال لحظه بالقلوب
فأسالت دماً كأن جفوني ... عصرته بدمعها المسكوب
طاب جداً فلو به سمح الده ... ر لأمسى عطري وأصبح طيبي
وله غلام خرج غازياً:
يا غازياً أتت الأحزان غازية ... إلى فؤادي والأحشاء حين غزا
إن بارزتك كماة الروم فارمهم ... بسهم عينيك تقتل كل من برزا
وله في وصف معصرة:
ومعصرة أنخت بها ... وقرن الشمس لم يغب
فخلت قزازها بالرا ... ح بعض معادن الذهب
وقد ذرفت لفقد الكر ... م فيها أعين العنب
وجاش عباب واديها ... بمنهل ومنسكب
وياقوت العصير بها ... يلاعب لؤلؤ الحبب
فيا عجباً لعاصرها ... وما يغني به عجبي!
وكيف يعيش وهو يخو ... ض في بحر من اللهب؟
قوله في الخمر والقدح:
بالقفص للقصف منزل كثب ... ما للتصابي في غيره أرب
جادت به ديمة السرور، وح ... ل اللهو فيه، وعرس الطرب

دارت نجوم السرور في فلك ... منه له من فتوتي قطب
من كل جسم كأنه عرض ... يكاد لطفاً باللحظ ينتهب
نور وإن يغب، ووهم وإن ... صح، وماء لو كان ينسكب
لا عيب فيه سوى إذاعته ال ... سر الذي في حشاه يحتجب
كأنما صاغه النفاق فما ... يخلص صدق منه ولا كذب
فهو إلى لون ما يجاوره ... على اختلاف الطباع ينتسب
إذا ادعاه اللجين أكذبه ... بالراح في صبغ جسمه الذهب
جلت عروس المدام حالية ... فيه علينا الأوتار والنخب
فالراح بدر، والجام هالته ... والأفق كفي، والأنجم الحبب
حال به الماء عن طبيعته ... بالمزج حتى خلناه يلتهب
ونحن في مجلس تدير به ال ... خمر علينا الأقداح لا العلب
ينسى بأوطانه الحنين إلى ال ... أوطان من السرور ويغترب
لولا حفاظي المشهور ما أمنت ... من بعد بغداد سلوتي حلب
وله:
ومادم كأنها في حشا الدن ... صباح مقارن لمساء
فهي نفس لها من الطين جسم ... لم تمتع فيه بطول البقاء
ما توهمت قبلها أن في العا ... لم ناراً تذكي بقرع الماء
بزلت والضحى عن الليل محجو ... ب فلاحت كالشمس في الظلماء
وتلاه الفجر المنير فعنا ... ه لأنا عن نوره في غناء
مازجت جوهر الزجاج فجاءت ... كشعاع ممازج لهواء
وتحلت من الحباب بدر ... يتلاشى باللحظ والإيماء
بينما تكتسي به زرد البلو ... ر حتى ترفض مثل الهباء
فكأنا بين الكؤوس بدور ... تتهادى كواكب الجوزاء
وكأن المدير في الحلة البي ... ضاء منها في حلة صفراء
حبذا العيش حيث تسري الأماني ... بين جد الغنا وهزل الغناء
حيث سكر الشباب أقضى على قل ... بي وأمضى من نشوة الصهباء
وله وهو من أبلغ ما قيل في عتق الخمر:
وعريقة الأنساب والشيم ... موجودة والخلق في العدم
قدمت فلا تعزى إلى حدث ... إلا إذا عزيت إلى الهرم
هي آدم الكرم المولد في ال ... دنيا وحوا الخمر في القدم
كملت فضائلها وقصر عن ... أوصافها الإغراق في الكلم
ظهرت ونور الشمس في فلك ... من قبل خلق الصبح والظلم
فانهل جوهرها بمنسكب ... لم يعتصر بيد ولا قدم
واشتق معنى اسم السلاف لها ... من كونها في سالف الأمم
فكأنها في صفوها خلقي ... وكأنها في عتقها كرمي
وله:
غادني بالصبوح قبل الصباح ... واجر في حلبة الصبا والمراح
واغتنم زائر الغرام فقد بش ... ر بالغيث من نسيم الرياح
عاطنيها كالجلنار إذا ما ... كللت من حبابها بالأقاح
في اختصاص التفاح بالطيب والخم ... رة لا في كثافة التفاح
غير نكر أن تستمد شعاع ال ... شمس منها كواكب الأقداح
فهي أصل الأنوار لطفاً كما كا ... ساتها عنصر الزلال القراح
خدمتها الأجسام بالطبع لما ... شاهدت قربها من الأرواح
فتدارك بها حشاشة أفرا ... حي وحرك بها سكون ارتياحي
بين وردين من بنان وخد ... وشرابين من رضاب وراح
ونشيد مستنبط من حديث ... وغناء يغني عن الأقتراح
فألذ الحياة ما خلط العا ... قل فيه فساده بصلاح
وله في وصف شراب في قدح أزرق فيه صور:
كم منة للظلام في عنقي ... بجمع شمل وضم معتنق
وكم صباح للراح أسلمني ... من قلق ساطع إلى فلق

فعاطنيها بكراً مشعشعةً ... كأنها في صفائها خلقي
في أزرق كالهواء يخرقه ال ... لحظ وإن كان غير منخرق
كأن أجزاءه مركبة ... حسناً ولطفاً من زرقة الحدق
ما زلت منه منادماً لعباً ... مذ أسكرتها السقاة لم تفق
تختال قبل المزاج في أزرق ال ... فجر وبعد المزاج في الشفق
تغرق في أبحر المدام فيس ... تنقذها شربنا من الغرق
فلو ترى راحتي وزرقته ... من صبغها في معصفر شرق
لخلت أن الهواء لاطفني ... بالشمس في قطعة من الأفق
وله قصيدة:
كم للصبابة والصبا من منزل ... ما بين كلوا ذا إلى قطربل
جادته من ديم المدام سحائب ... أغنته عن صوت الحيا المتهلل
غيث إذاما الراح أو مض برقه ... فرعوده حث الثقيل الأول
لطفت مواقع صوبه فسجاله ... تهمي على كرب النفوس فتنجلي
راضعت فيه الكأس أهيف ينثني ... نحوي بجيد رشاً وعيني مغزل
فأتى وقد نقش الشعاع ثيابه ... بممزج من نسجها ومثقل
وكسا البنان بها خضاباً يله ... لو أنه من وقته لم ينصل
قدح البزال زنادهامن دونهافتهافتت مثل الشراب المرسل
وطغت لعجز الماء عن إطفائها ... حتى ظننت الكأس جذوة مصطلي
فوردت أروي مورد وشربت أح ... لى مشرب ونهلت أعذب منهل
ونزعت لافي السكر خنت تصوني ... بخناً ولا في الصحو شنت تجملي
وقال في الورد:
زمن الورد أظرف الأزمان ... وأوان الربيع خير أوان
أدرك النرجس الجني وفزنا ... منهما بالخدود والأجفان
أشرف الزهر زار في أشرف الده ... ر فصل فيه أشرف الإخوان
وأجل شمس العقار في يد بدر الإم ... كان من قبل عائق الإمكان
في كؤوس كأنها زهر الخش ... خاش ضمنت شقائق النعمان
واختدعها عند البزال بألفا ... ظ المثاني ومطربات الأغاني
فهي أولى من العرائس إن زف ... ت بعزف النايات والعيدان
وقال في النرجس:
ونرجس لم يعد مبيضه الكأس ... ولا أصفره الراحا
تخال أقحاف لجين حوت ... من أصفر العسجد أقداحا
كأنما تهدي التحايا به ... لطفاً إلى الأرواح أرواحا
يلهي عن الورد إذا مارنا ... ويخلف المسك إذا فاحا
أحبب به من زائر راحل ... عوض بالأحزان أفراحا
فانتهز الفرصة في قربه ... وكن إلى اللذات مرتاحا
وهاتها عذراء لم تفترع ... في الليل إلا عاد إصباحا
كأنما كل بنان حوت ... كاساتها تحمل مصباحا
واجن بألحاظك من وجنتي ... مديرها ورداً وتفاحا

غرر من
شعره في سائر الفنون
وله من قصيدة:
صحبت الدهر في سهل وحزن ... وجربت الأمور وجربتني
فلم أر مذ عرفت محل نفسي ... بلوغ غنىً يساوي حمل من
ولم تتضمن الدنيا لحظي ... منال مسرة إلا بحزن
حملت على السوابق ثقل همي ... وشاهدت العواقب صفو ذهني
وشمت بوارق الآمال دهراً ... فلم أظفر على ظمأ بمزن
ولم أر كالجياد أصح وداً ... إذا عدل الودود إلى التضني
نكلفلها عزائمنا فتكفي ... ونستدني الحظوظ بها فتدني
وهبت لمثل قطع الليل منها ... أغر كمثل ضوء الصبح مني
وكنت بحيث ظن من اعتزام ... وكان من المضاء بحيث ظني
وثالثنا ابن جد لا يرى أن ... يصاحب في تصرفه ابن وهن
حجبت لجفنه الأبصار عنه ... ومن لي أن يكون الجفن جفني
سقيت نداي ما أسنى محلى ... وأرفع همتي وأعز ركني

رسا في تربة العلياء أصلي ... وأينع في بروج العز غصني
وليس علي غير الجد فيما ... سعيت له لاأستغني وأغني
فإن أحرم فلم أحرم لعجز ... وإن أبلغ فنفسي بلغتني
وله من أخرى:
ما الذل إلا تحمل المنن ... فكن عزيزاً إن شئت أو فهن
إذا اقتصرنا على اليسير فما ال ... علة في عتبنا على الزمن
وله من أخرى:
جزيت أفضل ما يجزاه ذو كرم ... أحلافه في دياجي دهره شعل
حماه وهو غلام غير مكتهل ... عن المطامع فضل غير مكتهل
وله من أخرى:
أكل وميض بارقه كذوب ... أما في الدهر شيء لا يريب؟
أبى لي أن أقول الهجر قدر ... بعيد أن تحاور العيوب
وله من أخرى في سعد الدولة بن سيف الدولة:
لا غيث نعماه في الورى خلب ال ... برق ولا ورد جوده وشل
جاد إلى أن لم يبق نائله ... مالاً، ولم يبق للورى أمل
وله:
واليوم من غسق العجاجة ليلة ... والكر يخرق سجفها الممدودا
وعلى الصفاح من الكفاح وصدقه ... روع أحال بياضها توريدا
والطعن يغتصب الجياد شياتها ... والضرب يقدح في التريك وقودا
وعلى النفوس من الحمام طلائع ... والخوف ينشد صبرها المفقودا
وقد استحال البر بحراً، والضحى ... ليلاً، ومنخرق الفضاء حديدا
وأجل ما عند الفوارس حثها ... في طاعة الهرب الجياد القودا
حتى إذا ما فارق الرأي الهوى ... وغدا اليقين على الظنون شهيدا
لم يغن غير أبي شجاع والعلا ... عنه تناجي النصر والتأييدا
وله من أخرى:
من كل متسع الأخلاق مبتسم ... للخطب إن ضاقت الأخلاق والحيل
يسعى به البرق إلا أنه فرس ... في صورة الموت إلا أنه رجل
يلقى الرماح بصدر منه ليس له ... ظهر وهادى جواد ما له كفل
وله من أخرى:
في سالب للشمس ثوب ضيائها ... بعجاجة ملء الفضاء لهام
كالليل إلا أن ثوب ظلامه ... من عثير ونجومه من لام
يلقى الدجى من بيضه بضحى كما ... يلقى الضحى من نقعه بظلام
وله من أخرى:
قاد الجياد إلى الجياد عوابساً ... شعثاً ولولا بأسه لم تنقد
في جحفل كالسيل أو كالليل أو ... كالقطر صافح موج بحر مزبد
متوقد الجنبات يعتنق القنا ... فيه اعتناق تواصل وتودد
مثعنجر بظبا الصوارم مبرق ... تحت الغبار وبالصواهل مرعد
رد الظلام على الضحى فاسترجع ال ... إظلام من ليل العجاج الأربد
وكأنما نقشت حوافر خيله ... للناظرين أهله في الجلمد
وكأن طرف الشمس مطروف وقد ... جعل الغبار له مكان الإثمد
ما أحسن هذا التشبيه وأوقعه! وكل هذه الأوصاف ما لا مزيد عليه حسناً حسناً وبراعة. وله من أخرى:
من كل مختالة تنقب بال ... عثير وجه الضحى من الخجل
تضم أحشاءها على أسد ... تزأر في غابة من الأسل
وله من أخرى:
في خميس كأنما السمر والأب ... طال غيل حمته أسود
سلب الشمس ضوءها بشوس ... طالعات أفلاكهن حديد
عارض كلما جلته بروق ال ... بيض حثته بالصهيل الرعود
وله من أخرى:
وموشية بالبيص والزغف والقنا ... محبرة الأعصاب بالضمر القب
بعيدة ما بين الجناحين في السرى ... قريبة ما بين الكمين بالضرب
من السالبات الشمس ثوب ضيائها ... بثوب تولى نسجه عثير الترب
يعاتب نشوان القنا صادح الظبا ... إذا التقيا فيها على قلة الشرب
أعادت علينا الليل بالنقع في الضحى ... وردت إلينا الصبح في الليل بالشهب

تبلج عن شمسي نزار ويعرب ... وتفتر عن طودي علا تغلب الغلب
موقرة يقتاد ثني زمامها ... بصير بأدواء الكريهة والحرب
أصح اعتزاماً من خؤون على فلا ... وأنفذ حكماً من غرام على صب
وله من أخرى:
ويوم أغص اتساع الفضا ... ء جيش لمن أمه مهول
يخيل أن ما له آخر ... إذا ما تراءى له أول
ويغصب شمس الضحى نورها ... من الخيل ما تبعث الأرجل
دجى أنت بدر به والنجو ... م زرقك والظلمة القسطل
وله من أخرى:
في عارض ضاقت الأرض الفسيحة ... عن سراه إذا سال فيها سيله العرم
كأنه الليل لا قرب ولا بعد ... يخفى عليه ولا فج ولا علم
يهدي الغبار إليه الشمس كاسفة ... كأنها فيه سر ليس ينكتم
شق الغضنفر آجام الرماح به ... والموت يسفر أحياناً ويلتثم
فراسل الدهر في الأعداء عزمته ... وكاتب النصر عنه السيف لا القلم
وما سمعنا بليث قبل رؤيته ... إذا سرى صاحبته في السرى الأجم
الباذل العرف والأنواء باخلة ... والمانع الجار والأعمار تخترم
حيث الدجى النقع، والفجر الصوارم، والأسد الفوارس، والخطية الأجم
وله من أخرى:
وكل بعيد قرب الحين نحوه ... سلاهبك الجرد الخفاف قريب
تباشر أقطار البلاد كأنها ... رياح لها في الخافقين هبوب
تماشي بفتيان كأن جسومهم ... لخفتها فوق السروج قلوب
وله من أخرى:
أتاهم بألحاظ الجياد ولم تكن ... لينأى عليها المنزل المتباعد
من اللاء يهجون المياه لدى السرى ... ويعتضن شم الجو والجو راكد
مرن على لدغ القنا ثم حرقنه ... عليهن من صبغ الدماء مجاسد
نسجن ملاء النقع ثم حرقنه ... بكر لها منه إلى النصر قائد
عليهن من نسج الغبار غلائل ... رقاق ومن نضح الدماء قلائد
وله من قصيدة في وصف فرس:
إن لاح قلت أدمية أم هيكل ... أو عن أسابح أم أجدل
تتخاذل الألحاظ في إدراكه ... ويحار فيه الناظر المتأمل
فكأنه في اللطف فهم ثاقب ... وكأنه في الحسن حظ مقبل
وله من قصيدة يشكر بها بعض إخوانه وقد أهدى إليه بغلة:
قد جاءت البغلة السفواء يجنب من ... ها البرد غيث ندى ينهطل ماطره
عريقة ناسبت أخوالها فلها ... بالعتق من كرم الجنسين فاخره
ملء الحزام وملء اللبد مجفرة ... يريك غائبها في الحسن حاضره
أهدى لها الروض من أوصافه شية ... خضراء ناضرة إذ حال ناضره
ليست بأول حملان شريت به ... حمدي، ولا هي يا ذا المجد آخره
كم تقدمها من سابح بيدي ... عنانه، وعلى الجوزاء حافره
وله في وصف بركة:
وقوراء كالفلك المستدير ... تروق العيون بلألائها
حبتها البحار بأمواجها ... وسحب السماء بأنوائها
كأن تدفق تيارها ... يداك تفيض بنعمائها
وجودك أغزر من جريها ... وخلقك أعذب من مائها

الباب الثامن
في ذكر الخليع الشامي والوأواء الدمشقي
وأبي طالب الرقي
الخليع الشامي
أما الخليع فكنيته أبو عبد الله، وقد ذهب عني اسمه وكان شاعراً مفلقاً قد أدرك زمان البحتري وبقي إلى أيام سيف الدولة فانخرط في سلك شعرائه.
فحدثني أبو بكر الخوارزمي قال: رأيت الخليع بحلب شيخاً قد أخذت منه السن العالية، وثقلت عليه الحركة، فمما أنشدنيه لنفسه قوله:
جيراننا جار الزمان عليهم ... إذا جار حكمهم على الجيران
ما الشأن ويحك في فراق فريقهم ... الشأن ويحك في جنون جناني
خذ يا غلام عنان طرفك فاثنه ... عني، فقد ملك الشمول عنني

سكران سكر هوى وسكر مدامة ... أنى يفيق فتىً به سكران؟!
وقوله وهو مما يتغنى به:
بأي المدامين لم أسكر ... بكأسك أم طرفك الأحور
سقيت من الشمس مشمولة ... على غرة القمر الأزهر
إذا الماء خالطها جنحت ... أكاليل در على جوهر
كأن على الشرب من لونها ... ثياباً من الذهب الأحمر
وقوله لسيف الدولة:
أنا شاعر، أنا شاكر، أنا ناشر، ... أنا راجل، أنا جائع، أنا عاري
هي ستة فكن الضمين لنصفها ... أكن الضمين لنصفها بعيار
والنار عندي كالسؤال فهل ترى ... أن لا تكلفني دخول النار
وأنشدني غيره للخليع، وأنا أشك فيه:
لو لم تحل ما سميت حالا ... وكل ما حال فقد زالا
انظر إلى الظل إذا ما انتهى ... يأخذ في النقص إذا طالا

أبو الفرج محمد بن أحمد الغساني
الدمشقي الملقب بالوأواء
من حسنات الشام، وصاغة الكلام، ومن عجيب شأنه ما أخبرني به أبو بكر الخوارزمي قال: كان الوأواء منادياً في دار البطيخ بدمشق ينادي على الفواكه، وما زال يشعر حتى جاد شعره وسار كلامه، ووقع فيه ما روق، ويشوق ويفوق، حتى يعلو العيوق. ثم أخبرني أبو الحسن المصيصي بما يصدقه، وأنشدني لمعاً يسيرة من شعره، وذكر أنه سمعها من إنشاده. وأول من حمل ديوانه إلى نيسابور أبو نصر سهل بن المرزبان، فإنه استصحبه من بغداد في جملة ما حصله من اللطائف والبدائع التي عنى بها، وأنفق الرغائب عليها، وأتحفني بذلك في دفتر صغير الجرم، خفيف الحجم، ثم ألحق به ما استملاه من القوال المعروف بعين الزمان. وهو غير ثقة في الرواية والحكاية، وكنت تأنفت في إخراج ما يفتقر الأديب إلى فقره، ولا يستغني الشاعر عن غره. من شعر الوأواء في النسخة الأولى من هذا الكتاب، ولم ازد في هذه المقررة كثير زيادة.
وقرأت في بعض الكتب عن ابن حمدون قال: كان الفتح بن خانكان يأنس بي، ويطلعني على الخاص من سره، فقال لي مرة: أشعرت يا أبا عبد الله اني انصرفت البارحة من مجلس أمير المؤمنين فلما دخلت منزلي استقبلتني فلانة " يعني جارية له " فلم أتمالك أن قبلتها فوجدت فيما بين شفتيها هواء لو رقد المخمور فيه لصحا، فكان هذا ما يستحسن ويستظرف من كلام الفتح وكأن الوأواء قد سمع ذلك فألم به ونظمه في قوله:
سقى الله ليلاً طاب إذ زار طيفه ... فأفنيته حتى الصباح عناقا
بطيب نسيم منه يستجلب الكرا ... ولو رقد المخمور فيه أفاقا
تملكني لما تملكت مهجتي ... وفارقني لما أمنت فراقا
ومما أنشدنيه كل من الخوارزمي والمصيصي له، ووجدته في ديوان شعره والبيت الرابع منه نهاية في الملاحة:
أتاني زائر من كان يبدي ... لي الهجر الطويل ولا يزور
فقال الناس لما أبصروه: ... ليهنك! زارك البدر المنير
فقلت لهم ودمع العين يجري ... على خدي له در نثير:
متى أرعى بروض الحسن منه ... وعيني قد تضمنها غدير؟
ولو نصبت رحى بإزاء دمعي ... لكانت من تحدره تدور
وأقدر أنه ألم في البيت الرابع بقول ابن المعتز:
وإن تك في خديك للحسن روضة ... فإن على خدي غديراً من الدمع
ومن ملح قوله في وصف الدمع:
كل دمع فبالتكلف يجري ... غير دمع المحب والمهجور
ورد البين دمع عيني فأضحى ... كعقيق أذيب في بلور
ومن ملحه في الخمر:
عذبتها بالمزاج فابتسمت ... عن برد نابت على لهب
كأن أيدي المزاج قد سكبت ... في كأسها فضة على ذهب
وقوله:
فامزج بمائك نار كأسك واسقني ... فلقد مزجت مدامعي بدمائي
واشرب على زهر الرياض مدامة ... تنفي الهموم بعاجل السراء
لطفت فصارت من لطيف محلها ... تجري كمجرى الروح في الأعضاء
وكأن مخنقة عليها جوهر ... ما بين نار أذكيت وهواء

وكأنها وكأن حامل كأسها ... إذ قام يجلوها على الندماء
شمس الضحى رقصت فنقط وجهها ... بدر الدجى بكواكب الجوزاء
وقوله:
يطوف براح ريحها ومذاقها ... نسيم الصبا والعيش في زمن الصبا
ومن ملحه في الخط:
وشمس بأعلاه وليلين أسبلا ... بخديه إلا أنها ليس تغرب
ولما حوى نصف الدجى نصف خده ... تحير حتى ما درى أين يذهب
وقوله:
زار بليل على صباح ... على قضيب على كثيب
حتى أتت ألسن الليالي ... معتذرات من الذنوب
فيا لها زورة أخذنا ... بها أماناً من الخطوب
وقوله:
بدر تقنع بالظلا ... م على قضيب في كثيب
تدعو محاسنه القلو ... ب إلى مشافهة الذنوب
فعلت به ريح الصبا ... ما ليس تفعل بالقضيب
عقلت ركائب حسنه ... بعقولنا عند المغيب
وتلطمت وجناتنا ... بيد الدموع من النحيب
وكأنما تشويشنا ... تشويش ألفاظ المريب
يا بدر بالبدر الذي ... أطلعت من فلك الجيوب
وبعقرب الصدغ الذي ... زرفنت من حسن وطيب
ترعى وما استرعيتها ... ثمر القلوب بلا دبيب
هب لي مزارك في الكرا ... كيما أراك بلا رقيب
ومن بدائع تشبيهاته قوله:
قالت وقد فتكت فينا لواحظها ... كم ذا؟ أما لقتيل الحب من قود؟
وأسبلت لؤلؤاً من نرجس، وسقت ... ورداً، وعضت على العناب بالبرد
هذا البيت مما أحسن فيه، وضمنه خس تشبيهات بغير أداة التشبيه:
إنسانة لو بدت للشمس ما طلعت ... من بعد رؤيتها يوماً على أحد
كأنما بين غابات الجفون لها ... أسد الحمام على طرق الهوى رصدي
وقوله:
قد سترت وجهها عن النظر ... بساعد حل عقد مصطبري
كأنه والعيون ترمقه ... عمود في دارة القمر
وقوله:
جعلت تشتكي الفراق وفي أج ... فانها عقد لؤلؤ منثور
فكأن الكحل السحيق مع الدم ... ع على خدها بقايا سطور
وقوله في قوس قزح مع البروق والشمس:
سقيا ليوم قوس السماء به ... والشمس مسفرة والبرق خلاس
كأنها قوس رام والبروق له ... رشق السهام وعين الشمس برجاس
وقوله وهو مما يتغنى به:
لا تنكري ما بي فليس بمنكر ... عند التفرق دهشة المتحير
يا هذه روحي إليك هدية ... فتجملي في أخذها لي واعذري
وتأملي غير الزمان فإنها ... تحكي تغير عهدك المتغير
ولرب ليل ضل عنه صباحه ... وكأنه بك خطرة المتذكر
والبدر أول ما بدا متلثماً ... يبدي الضياء لنا بخد مسفر
فكأنما هو خوذة من فضة ... قد ركبت في هامة من عنبر
وقوله في غلام عليل:
إبيض واصفر لاعتلال ... فصار كالنرجس المضعف
كأن نسرين وجنتيه ... بشعر أصداغه مغلف
يرشح منه الجبين ماء ... كأنه لؤلؤ مصنف
وقوله:
ليت ليلي أمد من نفس العا ... شق طولاً إذ زار فيه الخليل
ما اعتنقنا حتى افترقنا وخفا ... ن الدجى عن قميصه محلول
وكأن الهلال تحت الثريا ... ملك فوق رأسه إكليل
وقوله:
وغداف الظلام في شرك الفج ... ر شريكي في قبضة الارتهان
وكأن النجوم أحداق روم ... ركبت في محاجر السودان
وقوله من أبيات:
كم حث شربي بكأسه قمر ... بقد غصن وخصر زنبور
وقوله من قصيدة:
يقمن لنا برق الثغور أدلة ... إذا ما ضللنا في ظلام الذوائب
ومما يتغنى به من شعره:
يا من سقام جفونه ... لسقام عاشقه طبيب
حزت المودة فاستوى ... عندي حضرك والمغيب
كن كيف شئت من البعا ... د فأنت من فلبي قريب
وقوله:

أستودع الله في بغداد لي قمراً ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي أن تودعني ... روح الحياة وأني لا أودعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى ... وأدمعي مستهلات وأدمعه
وكم تشفع في أن لا أفارقه ... وللضرورة حال لا تشفعه
وقوله:
بالله ربكما عوجا على سكني ... وعاتباه لعل العتب يعطفه
وعرضا بي وقولا في كلامكما: ... ما بال عبدك بالهجران تتلفه؟
فإن تبسم قولا عن ملاطفة ... ما ضر لو بوصال منك تسعفه
وإن بدا لكما من سيدي غضب ... فغالطاه وقولا ليس نعرفه
وقوله:
زمان الرياض زمان أنيق ... وعيش الخلاعة عيش رقيق
وقد جمع الوقت حاليهما ... فمن ذا يفيق ومن يستفيق
فيا من هو الفوز لي والمنى ... ومن هو بالود مني حقيق
أدر لحظ عينيك وامرجه في ... مروج الرياض تجدها تشوق
ترى مزوج الحسن في مفرد ... جليل المحاسن في دقيق
إذا ضاحك الزهر زهر الوجوه ... فكيف الخلاص وأين الطريق؟
بهار بهير به غيرة ... على نرجس وشقيق شقيق
فذا عاشق وجل خائف ... وذا خجل وكذاك العشيق
مداهن يحملن طل الندى ... فهاتيك تبر وهذي عقيق
تنظم أوراقها درها ... وتنثر منها التي لا تطيق
يميل النسيم بأغصانها ... فبعض نشاوى وبعض مفيق
ويوم ستارته غيمة ... وقد طرزت رفريفها البروق
جعلنا البخور دخاناً له ... ومن شرر الراح فيه حريق
تظل به الشمس محجوبة ... كأن اصطباحك فيه غبوق
على شجرات رافعات الذيول ... لماء الجداول منها شهيق
سجدنا لصلبان منثورها ... وقد نصرتنا عليها الرحيق
وقلنا بها ولضوء الصباح ... على عنبر الفجر لحظ وريق
أيا من هو الفوز لي بالمنى ... ومن هو بالود مني حقيق
تغنم بنا غفلة الحادثات ... فوجه الحوادث وجه مفيق
وحث الصبوح لضوء الصباح ... فمتسع الهم فيه يضيق
وقوله:
وزائر راع قلب الناس منظره ... أحلى من الأمن عند الخائف الوجل
ألقى على الليل ليلاً من ذوائبه ... فهابه الصبح أن يبدو من الخجل
أراد بالهجر قتلي فاستجرت به ... فاستل بالوصل روحي من يدي أجلي
وصرت فيه أمير العاشقين فقد ... صارت إمارة أهل العشق من قبلي
وقوله:
وما أبقى الهوى والشوق مني ... سوى روح تردد في خيال
خفيت عن النوائب أن تراني ... كأن الروح مني في محال
وقوله:
ما حكم البين إلا جار محتكماً ... ولا انتضى سيفه إلا أراق دما
يا دارهم خبرينا ما الذي فعلوا ... فربما جهل المشتاق ما علما
الله يعلم أني يوم بينهم ... ندمت إذا لم أمت في إثرهم ندما
قد سرني أنهم قد سرهم سقمي ... فازددت كيما يسروا بالضنا سقما
وقوله:
رماه ريم فأصاب ... القلب من إذ رمى
واحتج في قتلته ... بأنه ما علما
يا معشر سقم طرفه ... جسمي منه تعلما
لو قيل لي ما تشتهي ... مخيراً محكما
لقلت أن ألثمه ... نحراً ووجهاً وفما
وقوله:
له مضحك برقه خاطف ... عقول الرجال إذا ما ابتسم
أقول له إذ بدا دره: ... شهدنا لصانعه بالحكم
أرى الدر يثقبه الناظمو ... ن وما ثقبوا ذا فكيف انتظم؟!
وقوله:
تملكت يا مهجتي مهجتي ... وأسهرت يا ناظري ناظري

وفيك تعلمت نظم الكلام ... فلقبني الناس بالشاعر
وما كان ذا أملي يا ظلوم ... ولا خطر الهجر في خاطري
وقوله:
وحديث كأنه ... أوبة من مسافر
كان أحلى من الرقا ... د لدى طرف ساهر
بت ألهو بطيبه ... في رياض زواهر
بين ساق وسامر ... ومغن وزامر
حدثني أبو بكر الخوارزمي، قال: حضرت مع الشيخ أبي الحسن النمري دعوة القاضي أبي بكر الحميري، فغنى القوالين بهذه الأبيات:
قم يا غلام إلا المدام ... قم داوني منها بجام
قم فاسقني برق الثغو ... ر فقد مضى برق الغمام
بادر إلى صرف الحمي ... ا سابقاً صرف الحمام
وتغنم الغفلات من ... دهر يجور على الكرام
فاستملحها أبو الحسن، وسألني عن قائلها، فأخبرته أنها لأبي الفرج الوأواء، فاقترح علي معارضتها، فارتجلت أبياتاً ثم أتممتها قصيدة منها:
لما بدت روح الضيا ... ء تدب في جسم الظلام
وغدت نجوم الليل وه ... ي تفر من حدق الأنام
والديك يتلو دائماً ... هجو النيام على القيام
ناقضت ما قال المؤذ ... ن بالفعال وبالكلام
هو قال حي على الصلا ... ة وقلت حي على المدام
ومنها:
لما رأيت الهم يط ... رق من أتاه بلا سلام
ضيف يزور فليس يأ ... كل غير لحمي أو عظامي
والدهر قد حمل السلا ... ح على الكرام عن اللئام
داويته بالراح إن ... الراح ترياق الكرام
ومن ملح الوأواء وطرفة قوله في جرب معشوقه:
يا صروف الدهر حسبي ... أي ذنب كان ذنبي؟
طرقتني نائبات ال ... دهر في إعلال حبي
علة عمت وخصت ... في حبيب ومحب
فهو يشكو حر حب ... واشتكائي حر حب
وقوله في زرقة عين محبوبه:
يا من هو الماء في تكوين خلقته ... ومن هو الخمر في أفعال مقلته
ومن بزرقة سيف اللحظ طل دمي ... والسيف ما فخره إلا بزرقته
علمت إنسان عيني أن يعوم فقد ... جادت سباحته في بحر دمعته
وللسري الموصلي في مثله:
وقالوا بمقلته زرقة ... تشين فظل لها مطرقا
وهل يقطع السيف يوم الوغى ... إذا لم يكن متنه أزرقا؟
ومن ملح الوأواء ك
يا ذا الذي ورد خديه إذا أخذت ... منه اللواحظ شيئاً رده الخجل
ماذا يضرك أن تجني وقد ضمنت ... أضعاف ما تجتني من لحظها المقل؟
هذا لعمر ماعون بخلت به ... على العيون، وبئس الخلة البخل
وله:
رثى له مما به نابه ... صب غدا صباً بأوصابه
ميت يرى حياً ولكنه ... تربته ما بين أثوابه
أي حياة لامرئ قد بلى ... بالقرب من فرقة أحبابه؟
وقوله من قصيدة:
قد أطلت الصلاة في قبلة الكأ ... س بتسبيح ألسن العيدان
كم صلاة على فتى مات سكراً ... قد أقيمت فينا بغير أذان

أبو طالب الرقي
لم أجد ذكره إلا عند أبي بكر الخوارزمي، وسمعته يقول: إنه أحد المقلين المحسنين، الذين يطبقون المفصل في أغراضهم، وينظمون الدر المفصل في معانيهم وألفاظهم، ثم أنشدني له قوله
ولقد ذكرتك في الظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق
وكأن أجرام النجوم لوامعاً ... درر نثرن على زجاج أزرق
والفجر فيه كأنه قطر الندى ... ينهل من سح الغمام المغدق
وقوله:
ومعير وجه البدر ما في وجهه ... والغصن ما في قدة المتأود
رمدت جفوني من تورد خده ... فكحلتها من عارضيه بإثمد
وقوله:
ديباج خدك بالعذار مطرز ... وشبيه وجهك في البرايا معوز

وكأنما إنسان عينك شاهر ... سيف اللحاظ يصيح: من ذا يبرز؟
يا من أعز بذلتي في حبه ... مثلي رأيت بذلة يتعزز؟
وقوله:
ومشتمل ثوبي عفاف وفتنة ... يرى قتل من يهوى إلى النسك مسلكا
إذا طاف بالأركان به الورى ... فيقضي ولا يقضون للحج منسكا
جنى اللحظ من خديه ورداً مورداً ... ومن عارضيه ياسميناً ممسكا
فيا رائحاً منه بأوفر فتنة ... تجهز لعام بعد هذا لعلكا
وقوله:
مصفرة الظاهر بيضاء الحشا ... أبدع في صنعتها رب السما
كأنها كف محب دنف ... مبعد يحسب أيام الجفا
وقوله:
ووردة في نان معطار ... جئت بها في لطيف أسرار
كأنها وجنة الحبيب وقد ... نطقها عاشق بدينار

الباب التاسع
في ملح أهل الشام ومصر والمغرب
وطرف أشعارهم ونوادرهم
هذا باب كثرته على غرر تلقفتها من أفواه الرواة، وتطرفتها من أثناء التعليقات، ولم أجد لأصحابها أشعاراً مجموعة يتفسح في طريق الاختيار منها، وإنما هي تفاريق تلتقي أطرافها، وتجتمع حواشيها، ولن تعدم القلائد فيها بحمد الله ومشيئته.
أنشدني أبو بكر الخوارزمي للتلعفري ولم يسمه ولم يكنه:
ما أصعب العيش على بائس ... معاشه في حلب النحو
ليس له في بردها جبة ... ولا قميص لا ولا فرو
ثم أنشدني له مرة هذين البيتين ومرة لبعضهم وزعم أنهما مما يتغنى بهما:
يا راكب العيس قف وعرج ... واقرأ سلامي على بني طي
وقل لهم ظبيكم جفاني ... لما رآني وما معي شي
ووجدت للسري والسلامي هجء في التلعفري يدل على أنه من مذكوري الشعراء بتلك البلاد.
ثم أنشدني محمد بن عمر الزاهر، قال: أنشدني أبو الحسن علي بن أحمد التلعفري بنصيبين لنفسه من قصيدة أولها:
من ذا يدل على الراد جفوني ... قد ضاع بين صبابتي وشجوني
أما النجوم فقد ألفن رعايتي ... والعائدات فقد مللن أنيني
قال: وأنشدني أيضاً علي بن محمد الشاشي بميا فارقين، قال: أنشدني لنفسه في غلام نصراني:
غريب الحسن، من سماك بدرا؟ ... وبدر التم، في خديك خال
كتمت هواك إذ قلبي سليم ... فذاب القلب وانحل العقال
وكنت كمودع الحلفاء ناراً ... وكتم النار في قصب محال
وأنشدني أيضاً " من الخفيف " :
رب ليل سهرت حتى تجلى ... مغرماً في ظلامه أتقلى
والثريا كأنها رأس طرف ... أدهم زين باللجام المحلى
وقوله:
ومتيم أبدى إلي غرامه ... فعذلته والعذل فعل الجاهل
حتى إذا أبصرت مالك رقة ... كادت لواحظه تصيب مقاتلي
إن عدت أعذل عاشقاً من بعده ... فأصابني ربي بحتف عاجل
وأنشدني أيضاً قال: أنشدني أبو نصر بن أبي الفتح بن كشاجم بصيداء الشام لنفسه في وصف الكتاب من أبيات:
وصاحب مؤنس إذا حضرا ... جالسني بالملوك والكبرا
جسم موات تحيا النفوس به ... يجل معنىً وإن دنا خطرا
ملكت منه كنزاً غنيت به ... فما أبالي ما قل أو كثرا
أظل منه في مجلس حفل ... بالناس طراً ولا أرى بشرا
وإن أطفل به فيا لك من ... مستحسن منظراً كف الجليس لاستترا
وله في شمعة:
بركة صفر عمودها شمع ... تفيض ناراً من موضع الماء
تبكي إذا ما المقص خمشها ... فرط حياء من الأخلاء
كأنها عاشق مخايله ... فيه بواد لمقلة الراثي
صفرة لون، وذوب معتبة ... ودمع حزن، ونار أحشاء
قلت: شبه أربعة بغير حرف تشبيه، وقال في بخيل:
صديق لنا من أبدع الناس في البخل ... وأفضلهم فيه وليس بذي فضل
دعاني كما يدعو الصديق صديقه ... فجئت كما يأتي إلى مثله مثلي

فلما جلسنا للطعام رأيته ... يرى أنه من بعض أعضائه أكلي
ويغتاظ أحياناً ويشتم عبده ... وأعلم أن الغيظ والشتم من أجلي
فأقبلت أستل الغذاء مخافة ... وألحاظ عينيه شزراً فأعبث بالبقل
إلى أن جنت كفي لحتفي جناية ... وذلك أن الجوع أعدمني عقلي
فجرت يدي للحين رجل دجاجة ... فجرت كما جرت يدي رجلها رجلي
وقدم من بعد الطعام حلاوة ... فلم أستطع فيها أمر ولا أحلي
وقمت لو أني كنت بيت نية ... ربحت ثواب الصوم مع عدم الأكل
وكتب على تفاحة حمراء بالذهب إلى الوزير أبي الفضل جعفر بن الفضل ابن الفرات وأنفذها إليه وقد خرج إلى نزهة بالمقس:
إذا الوزير تجلى ... للنيل في الاوقات
فقد أتاه سميا ... ه جعفر بن الفرات
وله في طبيب:
عيسى الطبيب ترفق ... فأنت طوفان نوح
يأبى علاجك إلا ... فراق جسم لروح
شتان ما بين عيسى ... وبين عيسى المسيح
فذاك محي موات ... وذا مميت صحيح
وقال في فصد إسحاق بن كيغلغ:
يا فاصداً شق عرق إسحاق ... أي دم لو علمت مهراق؟
سفكته من يد معودة ... لنيل مال وضرب أعناق
لو يوم حرب أصبت من دمه ... إذاً أقام الدنيا على ساق
وأنشدني له يصف جونة الطعام من قصيدة مزدوجة:
وجونة موصوفة من الجون ... قد جمع الطباخ فيها كل فن
من كل سخن منضج وبارد ... ما بين ألوان إلى بوارد
فمن رقاق ناعم رقاق ... يحمد في المنظر والمذاق
وأرغف تشف للصفاء ... كما تشف أوجه المرائي
ومن مصوص من مخاليف الحجل ... كأنما كانت ترف في الجبل
ومن فراريج بماء الحصرم ... تصلح للمخمور أو للمحتمي
قد شوشت أكبادها ببيض ... فهي كمثل نرجس في روض
وجاءنا فيها ببيض أحمر ... كأنه العقيق ما لم يقشر
حتى إذا قدمه مقشرا ... أبرز من تحت عقيق دررا
حتى إذا ما قطع البيض فلق ... رأيت منه ذهباً تحت ورق
يخال إن الشطر منه من لمح ... أعاره تلوينه قوس قزح
ما بين أوساط لطاف القد ... مقدودة كمثل قد الند
من صدر دراج وصدر حجله ... بملحها وبقلها متبله
فيها جبن صادق الحرافه ... مقطع باللطف والنظافه
قد ألبست قضبان طلع غضه ... كأنها سلاسل من فضه
وجاءنا فيها بباذنجان ... مثل قدود أكر الميدان
قد قارن الهليون بالممازجة ... تقارن الكرات بالصوالجه
ثم أتت سكارج الكوامخ ... كمثل أنوار من اللخالخ
ما بين طرخون وبين صعتر ... وفيجن غض وبين كزبر
وبين بن عدة المشطور ... كأنه تعلية النحور
ثم أتى براضع لم يعتلف ... كأن في جنبيه قطناً قد ندف
وحمل مبرز مشبر ... كأنه بالزعفران مطلي
تخاله في خله المزعفر ... مركباً تحت عقيق أحمر
وقد عملت أطرافه سلاقه ... عجيبة الصنعة والمذاقه
زيدت من الخردل والصباغ ... وكشف القحف عن الدماغ
وصف فيه فلق الرمان ... مثل رصيع خرز المرجان
ثم أتى بناطف هياج ... يحر طبع البارد المزاج
كأنه في العين والقياس ... سبائك جاءت من الروباس
ثم أتانا بعده لوزينج ... كأنه في الأتحمي مدرج
تنشله من دهنه العميق ... كما أخذت بين الغريق
وجاءنا الغلمة بالمدام ... وغير أنقال ولا ريحان

لأن في الجونة أنواع الأرب ... وعوضاً من كل شيء يطلب
هذا هو النوع الذي اختاره ... ليس الذي عذبنا انتظاره
وأنشدني عبد الصمد بن وهب المصري، قال: أنشدني أبو نصر بن أبي الفتح كشاجم لنفسه:
غبط الناس بالكتابة قوماً ... حرموا حظهم بحسن الكتابه
وإذا أخطأ الكتابة حظ ... سقطت تاؤها فصارت كآبه
وأنشدني الخوارزمي لعبد الرحمن بن جعفر النحوي الرقي:
قل لمن تاب ولم يق ... ض من اللذات نحبه
توبة الحشوي لا تع ... دل عند الله حبه
أم من تسبقه أن ... ت إلى الجنة قحبه
وأنشدني أبو الحسن علي بن مأمون المصيصي، قال: أنشدني أبو العميد هاشم بن محمد المتيم الاطرابلسي لنفسه:
مضت للهو أوقات ... وللأوقات لذات
إليها أنا مشتاق ... وقد فاتت بمن فاتوا
وما لي عوض عنهم ... وأحيا الناس أموات
مضى أهل المروءات ... فلم تبق المروءات
وقرأت في كتاب التحف والظرف لابن لبيب غلام أبي الفرج الببغاء لأبي عمارة الصوفي في ثقيل خفيف على القلب:
وثقيل لو كان في حسناتي ... وجميع الأنام في سيئاتي
لاستخف الذنوب بل كسر المي ... زان من ثقله على الكفات
وله في ثقيل:
ثقيل براه الله أثقل من برى ... ففي كل قلب بغضة منه كامنه
مشى فدعا من ثقله الحوت ربه ... فقال: إلهي زدت في الأرض ثامنه؟
وأنشدنا أبو الحسن محمد بن أحمد الإفريقي المتيم في كتاب أشعار الندماء لأبي الحسن الممشوق الشامي - ولست أتحقق اسمه - في المشمش:
أما ترى المشمش يا خل الأدب ... مشطباً أكرم بهاتيك الشطب
مثقب الهامات من غير ثقب ... كأنها بنادق من الذهب
قد صاغها صائغها بلا تعب
وله في جام فالوذج:
إني اتخذت أبا علي ذا العلا ... معقودة لك ذات طعم طيب
فقد اغتدت في جامها وكأنها ... شمس على بدر أوان المغرب
وتخال فيها اللوز وهو منصف ... أنصاف در فوق صحن مذهب
فتعال نخمش وجهها بأكفنا ... غضبت علينا أو غدت لم تغضب
وأنشدني غيره للممشوق:
فؤادي كفيك إذا ما نطقت ... وصبري كخصرك في دقته
وما آس عارضك المستني ... ر كالقلب مني في حرقته
وبالجسم مني الذي يشتكي ... ه طرفك من غير ما علته
أشبه وعدك إما وعدت ... بعقرب صدغك في عطفته
وأزداد في كل يوم هوى ... وحبيك يزداد في فتنته
وأنشدني محمد بن عمر الزاهر، قال: أنشدني أبو الحسن الممشوق صاحب المتنبي لنفسه:
ليلة بتها بقرتم أسقي ... عاتقاً عتقت مداها الدهور
وكأن السماء والبدر والأنج ... م روض ونرجس وغدير
وأنشدني أيضاً محمد بن عمر الزاهر، قال: أنشدني أبو الحسن علي بن محمد الأنطاكي:
لما تأمل جودك القطر ... وسما ليدرك صدرك البحر
خجلا جميعاً مثل ما خجلا ... إذ قابلاك الشمس والبدر
يا صالح الخيرات ما صلحا ... إلا لك التأييد والأمر
وأنشدني أيضاً للحسن بن عبد الرحيم الزلالي صاحب كتاب الأسجاع على معنى الحمدوني في طيلسان ابن حرب:
طيلسان كان رسماً ... ثم قد أصبح وهما
لا تراه العين إلا ... بعد أن يهجع حلما
تتعب المقلة كي تد ... رك منه أثراً ما
تعب الفكرة في إخ ... راجها البيت المعمى
وقوله:
نظرة كانت لحتفي سببا ... جلب الحين لها ما جلبا
ضحكت أسماء من ذي لمة ... ضاحك الأشيب فيه الأشيبا
إنما يعرف أيام الصبا ... من صبا في غير أيام الصبا
وللأنطاكي في وصف عود:
وبربط صحب الترنام نغمته ... أحلى من اليسر وافى بعد إعسار
يملي القريض عليه لفظ محسنه ... فينبري مخبراً عنها بإجهار

ما حث أوتارره في وجهه نائبه ... سراً فيخبر بالنجوى بإظهار
وإن هفا عركت آذانه شفقاً ... عليه من وصمة النقصان والعار
وأنشدني أبو الحسن علي بن مأمون المصيصي وغيره لتميم بن معد أبي تميم صاحب مصر، وهي مشهورة:
ما بان عذري فيه حتى عذرا ... ومشى الدجى في خده فتحيرا
هممت تقبله عقارب صدغه ... فاستل ناظره عليها خنجرا
والله لولا أن يقال تغيرا ... وصبا وإن كان التصابي أجدرا
لأعدت تفاح الخدور بنفسجاً ... لثماً وكافور الترائب عنبرا
وأنشدني أبو نصر سهل بن المرزبان، قال: أنشدت بمدينة السلام لمعد ابن تميم ويروي للوأواء:
لا تظلموا الناس ولا تطلبوا ... بثأري اليوم أذى مسلم
ويا لقومي دونكم شادناً ... معتدل القامة والمبسم
وإن أبى إلا جحوداً له ... واكتتم الأمر فلم يعلم
قولوا له يكشف عن وجهه ... فإن فيه نقطة من دمي
وأنشدني المصيصي له:
وجنة من شفني هواه ومن ... أفنيت فيه دموع آماقي
كأنما الصيرفي دنر ما ... نجم منها ودرهم الباقي
ووجدت له من قصيدة:
وما بلد الإنسان إلا الذي به ... له سكن يشتاقه وحبيب
إلى الله أشكو وشك بين وفرقة ... لها بين أحشاء المحب ندوب
ترى عندهم علم وإن شطت النوى ... بأن لهم قلبي علي رقيب
وأنشدني أبو حفص عمر بن علي الفقيه لأبي منصور نزار بن معد أبي تميم وقد وافق بعض الأعياد وفاة ابنه وعقد المأتم عليه:
نحن بنو المصطفى ذوو محن ... يجرعها في الحياة كاظمنا
عجيبة في الأنام محنتنا ... أولنا مبتلى وآخرنا
يفرح هذا الورى بعيدهم ... طراً وأفراحنا مآتمنا
وأنشدني المصيصي للأمير تميم:
شربنا على نوح المطوقة الورق ... وأردية الروض المفوفة البلق
معتقة أفنى الزمان وجودها ... فجاءت كفوت اللحظ أو رقة العشق
كأن السحاب الغر أصبحن أكؤساً ... لنا، وكأن الراح فيها سنا البرق
فبتنا نحث الكأس فينا، وإننا ... لنشربها بالحث صرفاً ونستسقي
إلى أن رأيت النجم وهو مغرب ... وأقبلن رايات الصباح من الشرق
كأن سواد الليل والفجر طالع ... بقية لطخ الكحل في الأعين الزرق
أحسن في هذا البيت ما شاء.
وأنشدت للمرواني في الهلال وأجاد:
والبدر في جو السماء قد انطوت ... طرفاه حتى عاد مثل الزورق
وتراه من تحت المحاق كأنما ... غرق الكثير وبعضه لم يغرق
وهو من قول ابن المعتز:
قد أثقلته حمولة من عنبر
قال: وسمعت الشيخ الإمام أبا الطيب يحكي أن المرواني صاحب الأندلس كتب إليه صاحب مصر كتاباً يسبه ويهجوه فيه. فكتب إليه " أما بعد فإنك عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لأجبناك، والسلام " .
وأنشدني أبو سعيد بن دوست، قال: أنشدني الوليد بن بكر الأندلسي الفقيه المالكي لأميرهم محمد بن أبي مروان بن أخي المستنصر بالله المدعو الخليفة بالأندلس، وهو الحكم بن عبد الرحمن المرواني، من قصيدة كتب بها إلى صاحب مصر يفتخر:
ألسننا بني مروان كيف تبدلت ... بنا الحال أو دارت علينا الدوائر؟
إذا ولد المولود منا تهللت ... له الأرض واهتزت إليه المنابر
وذكر أن المستنصر وهو أبو الحسن قتل ابن أخيه خوفاً منه على المملكة.
قال: وأنشدني لوزير المستنصر وهو أبو الحسن جعفر بن عثمان المصحفي:
يا من أراني بألحاظ يصرفها ... عني الصبا والهوى رشدي وتوفيقي
جمعت فيك غليل العاشقين كما ... جمعت ما تشتهي من كل معشوق
وله أيضاً:
لعينيك في قلبي علي عيون ... وبين ضلوعي للشجون شجون
لئن كان جسمي مخلقاً في يد الهوى ... فحبك غض في الفؤاد مصون

نصيبي من الدنيا هواك، وإنه ... عذابي ولكني عليه ضنين
وله أيضاً في الخمر:
صفراء تطرق في الزجاج فإن سرت ... في الجسم دبت مثل أيم لاذع
لم يحسن في تشبيهه دبيب الخمر في جسم شاربها بدبيب الحية اللاذعة، وقد أحسن في البيت الذي يليه جداً:
خفيت على شرابها فكأنهم ... يجدون رياً من إناء فارغ
قال: وأنشدني لعيسى بن وطيس كاتب المستنصر:
يا سيداً أرطت بالعبد سطوته ... ما كل رق مغضب حنق
أعتق وإلا فبع، كم ذا تعذبني؟ ... إن العبيد إذا عذبوا أبقوا
وقت مني بأن الحب قيدني ... أجل وحقك إني فوق ما تثق
ومعنى بيته الثني مما زيفه نقدة الشعر المعتزلون ولا يرضونه. وإنما يميلون إلى مثل ما قال أهل العصر:
لي مولى أقسى البرية قد قا ... سيت الهموم والأشواقا
قلت إذ لج في جفائي واحت ... ج عليه فساق نحوي السياقا
أيهذا المليك رأيك في سو ... ء امتلاكي فلن أروم الفراقا
قال: وأنشدني حبيب بن أحمد الأندلسي لنفسه ك
ثلاثون من عمري مضين فما الذي ... أؤمل من بعد الثلاثين من عمري
أطايب أيامي مضين حميدة ... سراعاً ولم أشعر بهن ولم أدر
كأن شبابي والمشيب يروعه ... دجى ليلة قد راعها وضح الفجر
وأنشدت لأحمد بن عبد الرحمن المتيم النحوي:
إذا ما نلت من دنياك حظاً ... فأحسن للغني وللفقير
ولا تمسك يديك على قليل ... فإن الله يأتي بالكثير

عبد المحسن بن محمد الصوري
أحد المحسنين الفضلاء، المجيدين الأدباء، وشعره بديع الألفاظ، حسن المعاني، رائق الكلام، مليح النظام، من محاسن أهل الشام، فمن شعره قوله:
أترى بثأر أم بدين ... علقت محاسنها بعيني
في خصرها وقوامها ... ولحاظها ما في الرديني
وبوجهها ماء الشبا ... ب خليط نار الوجنتين
بكرت علي وقالت اخ ... تر خصلة من خصلتين
إما الصدود أو الفرا ... ق فليس عندي غير ذين
فأجبتها ومدامعي ... منهلة كالمرزمين
يا هذه لا تعجلي ... إن حان بينك حان حيني
فكأنما قلت اذهبي ... فمضت مسارعة لبيني
قال: وأعطاه بعض الأمراء حسنة فلبسها أياماً، ثم باعها، ولبس عمامة لطيفة، ومشى، فقال بعض من رآه: ثقلت عليه العمامة فباعها. فقال ارتجالاً:
قالوا عسى ثقلت علي ... ه فباعها من غير عدم
والله ما ثقلت عل ... ي عمامتي بل خف كمي
وقوله:
وكم آمر بالصبر لم ير لوعتي ... وما صنعت نار الأسى بين أحشائي
ومن أين صبر وفي كل ساعة ... أرى حسناتي في موازين أعدائي؟
وقوله:
ومعتذر العذار إلى فؤادي ... لجرم سابق من مقلتيه
وكم أعرضت عنه فأعرضت بي ... عن الإعراض خضرة عارضيه
ولما قلت إن الشعر يسعى ... لقلبي في الخلاص سعى عليه
وقوله:
لحظات تترامى ... بي إلى المرمى القصي
طرحني من علي ... بين ألحاظ علي
فادعي رقي وما رق ... ي بدعوى المدعي
أنا عبد المحسن الصو ... ري لا عبد المسي
وقوله:
جنى ما جنى وانصرف ... وأنكر ثم اعترف
وظن بأن القصا ... ص يمنع منه الترف
سلوا صدغه لم جرى؟ ... ولما جرى لم وقف؟
وكان على أنه ... يجوز المدى فانعطف
وقوله:
بالذي ألهم تعذي ... بي ثناياك العذابا
والذي ألبس خدي ... ك من الورد نقابا
والذي صير حظي ... منك هجراً واجتنابا
ما الذي قالته عينا ... ك لقلبي فأجابا؟
وقوله:
تعلمت وجنته رقية ... لعقرب الصدغ فما تلسع

صمت عن العاذل في حبه ... أذني فما لي مسمع يسمع
وقوله في صبي اسمه عمرو:
نادمني من وجهه روضة ... مشرقة يمرح فيها النظر
فانظر معي تنظر إلى معجز ... سيف علي بين جفني عمر
وقوله:
زففت إلى نبهان من عفو فكرتي ... عروساً غدا بطن الكتاب لها خدرا
فقبلها عشراً وهام بذكرها ... فلما ذكرت المهر طلقها عشرا
وأنشدني له وقد مر بقبر صديق له:
عجباً لي وقد مررت بآثا ... رك أني اهتديت قصد الطريق
أتراني نسيت عهدك يوماً ... صدقوا ما لميت من صديق
وقوله:
أمنون بدت لنا أم جفون ... حركات للسقم فيها سكون
بعتها ما حييت طول هجوعي ... بدموعي فأينا المغبون؟
وقوله:
تعلقته سكران من خمرة الصبا ... به غفلة عن لوعتي ولهيبي
وشاركني في حبه كل أغيد ... يشاركني في مهجتي بنصيب
فلا تلزموني غيرة ما عرفتها ... فإن حبيبي من أحب حبيبي
وقوله:
قلت وقد أوردني حبه ... موارداً ليس لها مصدر
أفسدت دنياي ولا دين لي ... تفسده فاصدع بما تؤمر
وقوله:
أتابعت أهل البيعة اليوم في دمي ... غلبت فخذ أخطارهم وتقدم
ولا تورثن عينيك سقمي فإنه ... حرام على الذمي ميراث مسلم
وقوله:
رأيت ما لم يره رائي ... ماء غدا يسبح في ماء
أومأت باللحظ إلى جسمه ... فكاد أن يدميه إيمائي
وقوله:
ظبي أقام قيامتي ... من قبل أن تأتي القيامه
عطب القلوب جفونه فعلام سموه سلامه؟
وقوله:
ولئن كنت قد رحلت بقلبي ... فاعلمي أن سر حبك فيه
لا تقولي ضيعته بعد بين ... ضيعيه إن شئت أو فاحفظيه
وقوله:
رقت فكادت لا ترى ... في كأسها إلا التماسا
لولا الحباب لخالها ... شرابها في الكأس كاسا
وقوله:
لما تبينت أن حبكم ... يحسن عندي وليس يحسن بي
بشرت طرفي بحسن عاقبتي ... فيكم وقلبي بسوء منقلبي
وقوله:
يا مطيع العذول في عصياني ... ومذيقي حرارة الهجران
اتق الله لا ترعني بالص ... د وجاز الإحسان بالإحسان
كيف أبقى على الزمان وهجرا ... نك مما جنت صروف الزمان
صرت أجفوك مكرهاً وعلى الح ... ب دليل من ناظري ولساني
فإذا عدت بالتجلد عنكم ... كذبتني نواظر الأجفان
كيف تجني ولا تخاف عقاباً ... وفؤادي معاقب غير جاني
خل ما بين مقلتيك وقلبي ... فعلينا يد من السلطان
لا تكونن ثالثاً لقويي ... ن فلو كان واحد لكفاني
لك والله في صميم فؤادي ... لذة الماء في فم العطشان
وقال يهجو بعض من أضافه:
وأخ مسه نزولي بقرح ... مثل ما مسني من الجوع قرح
قيل لي إنه جواد كريم ... والفتى يعتريه بخل وشح
بت ضيفاً له كما حكم الده ... ر وفي حكمه على الحر قبح
قال لي إذ نزلت وهو من السك ... رة والهم طافح ليس يصحو
لم تغربت قلت قال رسول الل ... ه والقول منه نصح ونجح
سافروا تغنموا فقال وقد قا ... ل تمام الحديث صوموا تصحوا
وقوله:
بدر تم يثنيه دعص وخوط ... عذري في عذاره مبسوط
أي در للثقب أي كتاب ... لو تأتت بصفحتيه الخطوط
وإذا اغتر قلت ظبي غرير ... وإذا افتر قلت در سقيط
وقوله:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف ... وتاب مما قد جناه واقترف
لقوله قل للذين كفروا ... إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
وقوله:
طرة مسك وشار أخضر ... وثغر در ومقلتا جؤذر

ريم إذا رمت أن أكلمه ... كلمني من جفونه خنجر
وإن تعوضت من عوارضه ... لثماً تجنى علي واستكبر
كأن خيلانه ووجنته ... سماء حسن نجومها تزهر
سبحان من صاغه على قدر ... فذلك الله خير من قدر
وقوله:
يا حار إن الركب قد حاروا ... فاذهب تجسس لمن النار
تبدو وتخبو إن خبت وقفوا ... وإن أضاءت لهم ساروا
قام عليها موقد مرشد ... له بفضل الزاد إيثار
فلا تلوموني إذا مسكم ... أو مسها من قربكم عار
وسائل يسأل عن حالتي ... قلت كما أسر الطين والقار
ما نظرة إلا لها سكرة ... كأنما طرفك خمار
هذا هوى يصدر عنه جوى ... تتلوه لوعات وأفكار
وهذه أفعالها هذه ... ما بعد رأي العين إخبار
ولست أعتد عليك الضنا ... ألست من جفنيك أمتار!
وقوله:
هواي الذي أبدى وأضمره يحيى ... وسؤلي في دار الخلود وفي الدنيا
وعيني التي أرعى بها من يودني ... وكفي التي أرمي الأعادي بها رميا
أأصبر عن يحيى وأطوي وصاله ... إذاً فطواني عنه صرف الردى طيا
كتمت الهوى جهدي ونفيت طاقتي ... وقد زاد حتى ما أطيق له نفيا
يود أناس لو عميت عن الصبا ... إذاً فأراني الله أعينهم عميا
فما بالهم لا قدس الله بالهم ... ولا حاط ميتاً منهم لا ولا حيا
يلومون في يحيى ولو أن لائماً ... رأى وجهه لاستقبح اللوم واستحيا
فيا منيتي كم فيك عاصيت عاذلاً ... أرى غيهم رشداً ورشدهم غيا
وكم جاءني ما قاله فيك كاشح ... فزدتك حباً كلما زادني نعيا
أأسمع فيك العذل ممن يلومني ... فلا سمعت أذني بعدهم شيا
فما أحسن الدنيا إذا كنت جانبي ... وإن غبت عن عيني فما أقبح الدنيا
وله يهجو:
حديثه كالحدث ... يرفث كل الرفث
يود من يسمعه ... لو أنه في جدث
وله يرثي:
قالوا ألمو تحضر علياً بعد ما ... دفنوه قلت هناك بئس المحضر
لا أستطيع أرى المعالي بينكم ... محمولة وأرى المكارم تقبر
لم يمض قبلك من أراه أسوة ... فأقول هذا مثل ذاك فأصبر
قد كنت جزءاً والأكارم كلهم ... جزء، ولكن الأقل الأكثر
ما كان أكثرهم وأنت جليسهم ... وأقلهم إذ شيعوك، وكبروا
ومما يتغنى به من شعره قوله:
ما عليها سهرت أم بت نائم ... بعد أن لا يلم بي طيف حالم
تسأل الناس كيف حالي ومن أع ... لم منها؟ وفاعل الشيء عالم
وغزال أغن أغيد ساجي الط ... رف مستحسن الخلائق ناعم
لم يصلني ولم يعدني وقال اك ... تم فماذا أسر حتى أكاتم
وقوله:
قبلتها أشتفي بقبلتها ... فزادني ذلك اللمى ألما
وساءلتني عن مبتدا سقمي ... مسقم جفنيك مسقمي بهما
وقوله:
يا علة الأجفان كفي كفي ... ما حملت منك وما استوثقت
وساعدينا واعلمي أنها ... قد نذرت قتلي وما أعتقت
وقوله:
أرى الليالي إذا عاتبتها جعلت ... تمن أن جعلتني من ذوي الأدب
وليس عند الليالي أن أقبح ما ... صنعن بي أن جعلن الشعر مكتسبي
إن كان لابد من مدح فها أنا ذا ... بحيث آمن في قولي من الكذب
وقوله:
إذا كسدت سوق الثناء فجوده ... طلوب لأسباب الثناء كسوب
تضيق بما تحوي يداه، وصدره ... بتفريق ما تحوي يداه رحيب
وقوله:
وغزال مثل الغزالة يحكي ... ها كمالاً إلا بقلب وود
رق جسماً فرق دمعي عليه ... فجرى مثل خده فوق خدي
وقوله:

والله ما عورضت في مهجتي ... إلا لأن أرفع عنها يدي
الأهيف الأغيد والنفس ما ... آلفها للأهيف الأغيد
يعجبها أن ترتدي حسنه ... والحسن قد يردى به المرتدي
طوفان نوح طبق الأرض لا ... يبرح منها آخر المسند
طاف علينا فاستوينا على ال ... جودي من جود أبي أحمد
أبو العلا إذ ذكرت وابنها ... في غيره كم مصلح مفسد
لو كان من أحببته بعض ما ... في يده زارت بلا موعد
وقوله من قصيدة:
فتىً كلما قالوا تناهى صعوده ... إلى كل مجد خالف القول صاعدا
ترى كل ملقى المقاليد في الوغى ... إليه إذا لاقاه ألقى المقالدا
ولست ترى بيتاً من المجد أو ترى ... من الجود أركاناً له وقواعدا
لقد شرفت أبيات عوف وطهرت ... من الرجس حتى خلتهن معابدا
وكل يعاف الورد من بعد ربه ... وأرماح عوف لا تعاف المواردا
ينالون ما أمسى بعيداً مناله ... كأنهم طالوا الرماح سواعدا
وقلبت الهيجاء أعيان خلقهم ... فقد وثبوا أسداً ودبوا أساودا
على أن من لاقيت منهم مسالماً ... لقيت به نوء السماك مجاودا
وقوله:
ود حسدت على ما بي فواعجبي ... حتى على الموت لا أخلو من الحسد
ما بعتكم مهجتي إلا بوصلكم ... ولا أسلمها إلا يداً بيد
ومن قصيدة يقول في مدحها:
طالما جاد لي وظن بأن ال ... جود يبلي في كل يوم مجدد
بيمين طالت فكم تضرب الأي ... ام عني بها وكم تتجلد
أحسن الفعل بي فأحسنت قولاً ... فاشتبهنا فقيل جاد وجود
وقوله:
وغريرة مغرورة بجمالها ... وتظن أن المنتهى كالمبتدي
ظلت تناكرني الهوى من بعد ما اع ... ترفت به زمناً فقلت تقلدي
ليكن عقابك لي بقدر تجلدي ... لا بالنوى فضعيفة عنها يدي
وقوله في أبي الجيش حامد بن سلهم:
ما زال ينحلني أبو الجيش اسمه ... فيما يجد وكل يوم جودا
حتى غدوت أنا المسمى حامداً ... وغدا يسمى حامداً محمودا
وقوله:
نام الخليون من حولي فقلت لهم: ... ما كل عين لها عين تسهدها
لا تنكروا عقلتي عامين في يده ... فإن صيداء معروف تصيدها
كأنما أهلها أهل المقيم بها ... فذلك الزهد في الأوطان يبعدها
وقال يهجو أخاه عبد الصمد:
قال لي: أنت أخو الكلب، وفي ... ظنه أن قد تناهى واجتهد
أحمد الله كثيراً أنه ... ما درى أني أخو عبد الصمد
وقوله من قصيدة أولها:
لا يتماديك على هجري ... ولا بإكثارك من ذكري
عهدتكم من حيث عاهدتكم ... لم تعرفوا شيئاً سوى الغدر
فما لكم لما نذرتم دمي ... صرتم من الموفين بالنذر
جاءت عطاياك موفرة ... فلم يكن عندي سوى النشر
مقرونة بالعذر إني لفي الت ... قصير أولى منك بالعذر
وقوله من قصيدة أولها:
حتى متى كل مشتك زاجر ... واللوم مثل الهوى بلا آخر
كم عاذل عاشق وكنت أرى ... أن الذي جرب الهوى عاذر
يا نافراً نفرة الغزال وكا ... ن الحزم لو أنني أنا النافر
يبيت ما تستعد مقلته ... من خمرها فوق ثغره قاطر
فطرفه عاصر وليس به ... خمر وفوه خمرر بلا عاصر
وشادن طائف على نفر ... شخص الكرى من يمينه دائر
صرعهم حوله وأوجسهم ... بما اشتكى نائب له ساهر
فحثني ساعة فلم ترني ... في أثر القوم بعدهم سائر
فقال أوصيك بي وأسلمه ال ... صبر على رغمه إلى الصابر
فبت في روضه ألف على الغادة طرفي وأمرح الناظر

يقول في مدحه بالكتابة وأجاد:
لا يخطر الفكر في كتابته ... كأن أقلامه لها خاطر
الول والفضل يجريان معاً ... لا أول فيهما ولا آخر
وقوله:
وأغن أغيد، وده ... مستأنس بي، وهو نافر
إن قلت زرني قال نم ... فالطيف ليس يزور ساهر
ويقول لي فيما يقو ... ل نعموما للقول آخر
حتى أشاور قلت ل ... كني هويت ولم أشاور!
وقوله:
سهلت عنده المسالك حتى ... أوصلته إلى العلا وهي وعره
ثم هامت به المعالي فصارت ... تتقي صده وتحذر هجره
وقوله من قصيدة يقول فيها:
هلموا اسلوا عن سلو يباع ... أو استخبروا عن كرى يكترى
هل الناس مثلي؟ وإلا فما ... أشد القلوب وما أصبرا
وصفراء تنفذ من كأسها ... فتترك ما حولها أصفرا
بمد إذا شعشعت كالهباء ... لمن كان قدامها أو ورا
وفي القوم من لم يكن عنده ... إذا سكر القوم أن يسكرا
سقاني وشد معي مئزراً ... فما شد من بعدها مئزرا
وقوله:
عندي حدائق شكر غرس جودكم ... قد مسها عطش فليسق من غرسا
تداركوها وفي أغصانها رمق ... فلن يعود أخضر العود إن يبسا
وقوله من قصيدة يقول في مدحها:
بئس السياسة والرياسة منزل ... أصبحت وحدك في ذراه مقيما
وجعلت تفعل مثل ما فعل الألى ... فيه وتتخذ الخطوب خصوما
ولو اختصرت على القديم كفى العلا ... إن القديم ليوجب التدما
للحادثات معي حديث مبهم ... أضحى النهار علي منه بهيما
وصناعتي عربية وكأنني ... ألقى بأكثر ما حفظت الروما
فلمن أقول وما أقول فأين بي ... فأسير أولا أين بي فأقيما
وإذت شكوت إلى امرئ ما حل بي ... فأقول يرحمني أراه حليما
وقوله من قصيدة يقول فيها:
يروح إلى كسب الثناء ويغتدي ... إذا كان هم الناس كسب الدراهم
وإن جلس الأقوام عن واجب الندى ... وحق العطايا كان أول قائم
يزيد ابتهاجاً كلما جاء قاصد ... كان به شوقاً إلى كل قادم
وقوله:
إن لها من لوعة شانا ... أضرمت الأحشاء نيرانا
وحالفت دمعي فلم يطفها ... وقد جرى سحاً وتهتانا
وآل ما زال عدواً لها ... مذ كانت النار ومذ كانا
لكن في حيني وفي شقوتي ... ما يجعل الأعداء خلانا
وغادة قمت لتوديعها ... أسعى إلى التفريق عجلانا
فغاض دمعي وجرى دمعها ... زوراً على الحب وبهتانا
ثم انتثت قائلة: ما له ... لم يبكه البين وأبكانا؟
فقلت: جار الدمع في حكمه ... ففاض من أجفان أجفانا
وقوله:
ما زال يبني كعبةً للعلا ... ويجعل الجود لها ركنا
حتى أتى الناس فطافوا بها ... وقبلوا راحته اليمنى
وقوله في أبي الجيش حامد بن سلهم:
أبا الجيش، حسب الشعر ما أنت صا ... نع فقد عجزت عن وصف ذاك القصائد
أما انصلحت للمال منك طوية ... فتصلحه حتى متى أنت حاقد
سبقت بني الدنيا فما هب قائم ... سواك إلى جود ولا قام قاعد
وقوله:
ومن بني القواد من بغته ... عن سيفه سيوف أجفانه
سلطان عينيه له سطوة ... أشد من سطوة سلطانه
وقوله:
يا ذا الذي في خده ... جيشان من زنج وروم
هذا يغير على القلو ... ب وذا يغير على الجسوم
إني وقفت من الهوى ... في موقف ضنك عظيم
كوقوف عارضك الذي ... قد حار في ماء النعيم
وقوله:
غنتني يا أعز ذا الخلق عندي ... حي نجداً ومن بأكناف نجد

واسقني ما يصير ذو البخل منه ... حاتماً والجبان عمرو بن معدي
لي وما فوق وجنتيك من الو ... رد مدام كالمسك في لون ورد
فاسقنيها ملأى فقد فضح اللي ... ل هلال كأنه فتر رند
والثريا خفاقة بجناح ال ... غرب تهوي كأنها رأس فهد
في أوان الشباب عاجلني الشي ... ب فهذا من اول الدن دردي
وقوله:
إن خيالاً زارنا وهنا ... من عندكم هاج لنا حزنا
أحبابنا، لا بلغت منكم ... أيدي النوى ما بلغت منا
فلم يغب عنكم على بعدكم ... ما فعلت غيبتكم عنا
أيسر ما في عهدكم أننا ... لما حفظنا عهدكم ضعنا

أحمد بن سليمان الفجري
شاعر ماهر، كتب إلى عبد المحسن الصوري هذه الأبيات:
أعبد المحسن الصوري لم قد ... جثمت جثوم منهاض كسير؟
فإن البحر يحمل هضب رضوى ... ويستثني بركن من ثبير
وإن حاولت سير البر يوماً ... فلست بمثقل ظهر البعير
إذا استحلى أخوك قلاك يوماً ... فمثل أخيك موجود النظير
تحرك عل أن تلقى كريماً ... تزول بقربه إحن الصدور
فما كل البرية من تراه ... ولا كل البلاد بلاد صور
فأجابه عبد المسن:
جزاك الله عن ذا النصح خيراً ... ولكن جاء في الزمن الأخير
وقد حدت لي السبعون حداً ... نهى عما امررت من المسير
ومذ صارمت نفوس الناس حولي ... قصاراً عدت بالأمل القصير
أبو حامد أحمد بن محمد الأنطاكي
المعروف بأبي الرقعمق
نادرة الزمان، وجملة الإحسان، وممن تصرف بالشعر الجزل، في أنواع الجد والهزل، وأحرز قصب الفضل، وهو أحد المداح المجيدين، والفضلاء المحسنين، وهو بالام كابن حجاج بالعراق، فمن غرر محاسنه قوله يمدح من قصيدة أولها:
قد سمعنا مقاله واعتذاره ... وأقلناه ذنبه وعثاره
والمعاني لمن عنيت، ولكن ... بك عرضت فاسمعي يا جاره
من مراديه أنه أبد الده ... ر تراه محللاً أزراره
عالم أنه عذاب من الل ... ه مباح لأعين النظارة
هتك الله ستره فلكم هت ... ك من ذي تستر أستاره
سحرتني ألحاظه وكذا ك ... ل مليح لحاظه سحاره
وما على مؤثر التباعد والإع ... راض لو آثر الرضى والزياره
وعلى أنني وإن كان قد عذ ... ب بالهجر مؤثر إيثاره
لم أزل لا عدمته من حبيب ... أشتهي قربه وآبى نفاره
يقول في مدحها:
لم يدع للعزيز في سائر الأر ... ض عدواً إلا وأخمد ناره
فلهذا اجتباه دون سواه ... واصطفاه لنفسه واختاره
لم تشيد له الوزارة مجداً ... لا ولا قيل رفعت مقداره
بل كساها وقد تخرمها الده ... ر جلالاً وبهجةً ونضاره
كل يوم له علىنوب الده ... ر وكر الخطوب بالبذل غاره
ذو يد شأنها الفرار من البخ ... ل وفي حومة الوغى كراره
هي فلت عن العزيز عداه ... بالعطايا وكثرت أنصاره
هكذا كل فاضل يده تم ... سي وتضحي نفاعة ضراره
فاستجره فليس يأمن إلا ... من تفيا بظله واستجاره
فإذا ما رأيته مطرقاً يع ... مل فيما يريده أفكاره
لم يدع بالذكاء والذهن شيئاً ... في ضمير الغيوب إلا أناره
لا ولا موضعاً من الأرض إلا ... كان بالرأي مدركاً أقطاره
زاده الله بسطة وكفاه ... خوفه من زمانه وحذاره
وقوله من أخرى أولها:
إن ربعاً عرفته مألوفا ... كان للبيض مربعاً ومصيفا
غيرت آية صروف الليالي ... ودا عنه حسنه مصروفا

ما مررنا عليه إلا وقفنا ... وأطلنا شوقاً إليه الوقوفا
آلفاً فيه للبكاء كأني ... لم أكن فيه للغواني ألوفا
حاسداً للجفون لما أزالت ... في مغانيه دمعها المذروفا
إن يعقوب قد أفاد وأقنى ... وأعاد الندى وأغنى الضعيفا
يل سيفاً من البصيرة والرأ ... ي فأغناه أن يسل السيوفا
باذلاً للعزيز تخوض المنايا ... وترد الردى وتلقى الصفوفا
ناصحاً مشفقاً محباً ودوداً ... قائماً في رضاه صعباً عسوفا
ليس يخشى فساد أمر تولاه ... وأضحى برأيه مكنوفا
ما رأيناه قط إلا رأينا ... خلقاً طاهراً وفعلاً شريفا
ورأينا قرماً كبيراً همامً ... منعماً مضلاً رحيماً رؤوفا
لذ طعم العطاء وهو إذا جا ... د وأعطى يرى الكثير طفيفا
خلق منه منذ كان كريميستلذ الندى ويقري الضيوفا
ويريش الفقير بالبذل والجو ... د ويعطي ويسعف الملهوفا
فأرانا الإله صرف الليالي ... أبداً عن فنائه مصروفا
وقوله من أخرى:
حي الخيام فإني ... مغرى بأهل الخيام
بالراميات فؤادي ... بصائبات السهام
أسقمتني وتألي ... ن لأشفين سقامي
أيام وصلي حرام ... والهجر غير حرام
لا عذب الله قلبي ... إلا بطول الغرام
سقياً لدهر تولى ... بشرتي وغرامي
كأنما ذلك العي ... ش كان في الأحلام
لم يبق من نرتجيه ... لحادث الأيام
إلا ابن أحمد ذو الطو ... ل والأيادي الجسام
كفاه أغدق جوداً ... من واكفات الغمام
يلقى العفاة بوجهه ... مستبشر بسام
معظماً ترتجيه ... للنائبات العظام
يرمي الخطوب برأي ... أمضى من الصمصام
قرم له عزمات ... تفل حد الحسام
وله من أخرى:
توهمت أمراً فلم أنبس ... بحرف وناديت بالأكؤس
حميا كأن سنا نورها ... سنا بارق لاح في الحندس
يعاطيكها رشأ طرفه ... سريع إلى تلف الأنفس
بخد يروقك توريده ... وعين تنوب عن النرجس
يقول في مدحها:
له قلم أبداً ناطق ... بأسعد قوم بالأنحس
إذا ما انتضاه لأمر رمى ... به الدهر عن صائبات القسي
رآه الوزير على غاية ... من الفضل تعلو على الخنس
ومن أخرى:
أظن ودادها من غير نية ... وهل هي فيه إلا مدعيه
فتاة لا تمل عذاب قلبي ... ولا تخليه وقتاً من أذيه
ولا ذنب له إلا التوافي ... لمن في الحب ليست بالوفيه
ويعجبني التمنع والتشاجي ... من الخود الممنعة الشجيه
فوا أسفاً على حر يعزي ... أخا رزء على عظم الرزيه
ومنها:
وذلك أن إيري فيه رطل ... وما في حرها إلا وقيه
ومن بعث المدام فليس بد ... ولاتك غير بكر بابليه
فثم هناك حر شافعي ... عظيم الشأن واست مالكيه
ونفسي غير مائلة إليها ... لأحوال مقبحة بذيه
أحب دنوها وتحب قربي ... وهذا لا يكون بلا بليه
وما لاقيتها إلا تلاقى ... مبالانا بإسقاط التقيه
وهذا الرأي لا رأي سواه ... فلا تحفل بأقوال الرعيه
ولا عيش سوى تقليب بظر ... وثقب من صبي أو صبيه
على أن أقول بكل شيء ... سوى نيك العجوز القذمليه
ولا ألوي على أحد يراني ... بعين النقص والحال الدنيه
ومن نال العلاء حجاً ومجداً ... وأفعالاً مهذبة سنيه
تشابه خلقه والخلق حسناً ... وحسبك بالنفاسة والسجيه

تشاهد منه طوداً مشمخراً ... وأفعال الملوك الكسرويه
له أقلام كيف يشاء تجري ... بتأييد القضاء بالمشيه
كأن اللفظ في القرطاس زهر ... تفتح عن معان معنويه
ومن أخرى:
كفى ملامك ياذات الملامات ... فما أريد بديلاً بالرقاعات
كأنني وجنود الصفع تتبعني ... وقد تولت مزامير الرطانات
قسيس دير تلا مزمار سحراً ... على القسوس بترجيع ورنات
وقد مجنت وعلمت المجون فما ... أدعي بشيء سوى رب المجانات
وذاك أني رأيت العقل مطرحاً ... فجئت أهل زماني بالحماقات
إني سأدخل عذالي على عذل ... في الحب أن عذلوني في الحرامات
أفدي الذين نأوا والدار دانية ... وشتتوا بالجفا شمل المودات
كم قد نتفت سبالي في صدورهم ... والصد أصعب من نتف السبالات
سقياً ورعياً لأيام لنا سلفت ... بالقفص قصرها طيب اللذاذات
إذا لا أروح ولا أغدر إلى وطن ... إلا إلى ربع خمار وحانات
أيام أسحب أذيال الهوى مرحاً ... مصرعاً بين سكرات ونشوات
عوضت منهن أحزانا تؤرقني ... بعد السرور وفرحات بترحات
لولا عذار تعالى كيف صوره ... رب العباد اتعذيبي وحسراتي
كأنه مشقة من خد من شقيت ... روحي بهجرانه أو عطف نونات
لما حللت بدار مالها أحد ... إلا أناس تواصوا بالخساسات
لو كنت بين كرام ما تهضمني ... دهر أناخ على أهل المروءات
ومنها:
لو نيل بالمجد في العلياء منزلة ... لنال بالمجد أعنان السموات
يرمي الخطوب برأي يستضاء به ... إذا دجا الرأي من أهل البصيرات
فليس تلقاه إلا عند عارفة ... أو واقفاً في صدور السمهريات
يا من غدت أوجه الأيام مشرقة ... بجوده مستهلات منيرات
مالي بلا سبب غودرت مطرحاً ... وقد حرمت عطاياك الجزيلات
ولي مدائح قدماً فيك سائرة ... مستطرفات بألفاظ طريفات
ومن أخرى:
كل بشعري مفتون ومشغوف ... وجيد الشعر منعوت وموصوف
كلفت من أمرهم ما لا أقوم به ... ومن يقوم بأمر فيه تكليف
لأنتفن سبالي طاعة لهم ... والذقن إن دام ذا الإعراض منتوف
أمسي وأصبح مجفواً ومطرحاً ... هذا ورأسي وما والاه مكشوف
وبي وعندي وفي ملكي ولا رزقوا ... رزقي قذال أصم السمع مكفوف
من تلك أقفية القوم الكشاخنة ال ... فدم الذين لهم منها مجاديف
مفوقات بتنفيش وأطبعها ... لا شك ما فيه تنفيش وتفويف
معطوفة وبنفسي يا ابن أم قفا ... على الأخادع مثني ومعطوف
كم قاتل ويداه في أطايبه ... وطيب الشيء مجني ومقطوف
فإن يكن ذا فلا غرو ولا حرج ... فلليالي وللأيام تصريف
هذا الذي من رآه دون ملمسه ... لم يأكل اللحم إلا وهو معلوف
ولم يمد إلى رأس على طرب ... يديه إلا وفي اليمنى تطاريف
بينا يرى الثوب منشوراً بلا سبب ... حتى يرى وهو بعد النشر ملفوف
فكم ألام؟ وكم ألحى؟ وهل حمقي ... إلا نتيجة رأس فيه تخفيف؟
ألفته حسب مالي من محبته ... دون البرية والمحبوب مألوف
إلف المكارم والجدوى فتى أسد ... محمد خير من ناداه ملهوف
حر إذا ذكر الأحرار مشتمل ... على السماح ببذل العرف معروف
بمثله نماء كرام سادة نجب ... شم الأنوف بها ليل غطاريف

تحصى النجوم ولا تحصى فضائله ... ولا يحيط بها وصف وتكييف
ومن أخرى:
لمن أمدح بالشعر؟ ... لمن أقصد؟ لا أدري!
إلى من إن دجا خطب ... ونابت نوب الدهر
فقد والشفع والوتر ... ومن أقسم بالفجر
تحيرت فما ادري ال ... ذي أصنع في أمري
على أني بالده ... ر وبالأيام ذو خبر
ولكني للحير ... ة سكران بلا سكر
كأني لست مخلوقاً ... لغير الجهد والضر
ومذ كنت فمدفوع ... إلى الفاقة والفقر
فما أصنع في مصر ... إذا لم أحظ في مصر؟
وفي الآفاق أقوام ... يميلون إلى شعري
ونبئت بأن القو ... م لا يخلون من ذكري
ففيم الترك للسير؟ ... وهل في ذاك من عذر؟
وقد قدمت أثقالي ... وسيري غرة الشهر
فأما أكثر الحمق ... فقد سيرت في البحر
وباقية معي يذه ... ب في البر على ظهري
ولا أترك في مصر ... لذكر الحمق من أثر
فمن بعدي ليطبي ... ه في النظم وفي النثر؟
ومن يلعب في الرأس ... من العصر إلى العصر؟
ومن من شدة الصفع ... له رأس بلا شعر؟
ومن هامته أقوى ... على الصفع من الصخر؟
ومن يضرط في الذقن ... بلا كيل ولا حرز؟
ومن ينتف بالدبق ... سبالات بني البظر؟
ولكني لا كنت ... لما في من الكبر
إذا أمراني الصفع ... تجشأت من الدبر
وهيهات ترى صفعاً ... لغيري أبداً يمري
ومنها:
ألا يا منهى الجود ... ويا ذا المجد والفخر
ويا ابن السادة الغر ... ويا ابن الأنجم الزهر
ويا أبهى من الشمس ... ضياء ومن البدر
لكاذا أنت لا تعدي ... على الأيام والدهر؟
همام طاهر الذيل ... سليل السادة الغر
كريم الأصل والخيم ... رحيب الباع والصدر
جواد غير مدفوع ... عن الإفضال والبر
وما زال إلى كل ... له عارفة تسري
لقد عمت أياديه ... جميع البدو والحضر
ومن أخرى:
عجب ما مثله عجب ... فعلوا بي غير ما يجب
قرقرت بطني فواحزني ... ذقن من بالسلح يختضب
هرباً من شرها هرباً ... فعسى أن ينفع الهرب
ذهب الناس فما أحد ... يشتهي أن تنفخ القرب
حزني أني مذ زمن ... ما لعبناه ولا لعبوا
ولكم بتنا على طرب ... ورؤوس القوم تستلب
وكؤوس الصفع دائرة ... ملؤها اللذات والطرب
وانتخبناها وهامهم ... وأكف القوم تصطخب
وكأن الصفع بينهم ... شعل النيران تلتهب
والعمى منهم وإن شغلوا ... عنه باللذات مقترب
سوف يدرون أيما رجل ... ضيعوا مني إذا طربوا
بسيوف شركها أدم ... مرهفات للعمى سبب
وعجيب والحسين له ... راحة بالجود تنسكب
أن شربي عنده رنق ... ولديه مربعي جدب
وله الورد المعاذ به ... والجناب الممرع الخصب
وهو الغيث الملث إذا ... أعوزتنا درها السحب
وإلى الرسي ملجؤنا ... من صروف الدهر والهرب
سيد شادت علاه له ... في العلا آباؤه النجب
وله بيت تمد له ... فوق مجرى الأنجم الطنب
حسبه بالمصطفى شرفاً ... وعلي حين ينتسب

رتبه في العز شامخة ... قصرت عن نيلها الرتب
ذاك فخر ليس تنكره ... لكم عجم ولا عرب
ولأنتم من بفضلهم ... جاءت الأخبار والكتب
وإليكم كل منقبة ... في الورى تعزي وتنتسب
وبكم في كل معركة ... تفخر الهندية القضب
وبكم في كل معركة ... تفخر الهندية القضب
وبكم في كل عارفة ... ترفع الأستار والحجب
وإذا سمر القنا اشتجرت ... فبكم تستكشف الكرب
وقوله من قصيدة في الرسي أولها:
باح وجداً بهواه ... حين لم يعط مناه
مغرم أغرى به السق ... م فما يرجى شفاه
كاد يخفيه نحول ال ... جسم حتى لا تراه
لو ضنا يخفى عن العي ... ن لأخفاه ضناه
ومنها " :
حبذا الرسي مولى ... رضي الناس ولاه
جعل الله أعادي ... ه من السوء فداه
فلقد أيقن بالثر ... وة من حل ذراه
من رقى حتى تناهى ... في المعالي مرتقاه
فات أن يبلغ في السؤ ... ددوالمجد مداه
ملك مذ كان بالسط ... وةممنوع حماه
بحر جود ليس يدري ... أين منه منهاه
لم يضع من كان إبرا ... هيم في الناس رجاه
لا ولا يفرق من صر ... ف زمن إن عره
من به استكفى أذى الأي ... ام والدهر كفاه
كيف لا أمدح من لم ... يخل خلق من نداه
وقوله من أخرى يقول فيها:
لو برجلي ما برأسي ... لم أبت إلا بنجد
خفة ليست لغيري ... لا أراني الله فقدي
ومحال أن يرى مث ... لي أو يبصر بعدي
رجل لا يضرط الضر ... طة إلا بعد جهد
فلذا الأمر تراه ... يأكل التمر بزبد
غير أني قيل عني ... إنني مغرى بدعد
وبليلي وبسلمي ... وبسعدي وبهند
ثم لا أملك شيئاً ... غير سنور وخلد
وحماقات وعمري ... إن لي رأساً مرندي
أصبر الأرؤس في صف ... ع بلا حرز وعد
ومنها:
خلقت كفاه من جو ... د لراجيه ورد
مورد يوردراجي ... ه إلى أعذب ورد
لا خلا من منة من ... ه إلى الأحرار يسدي
فهو القائم بالح ... ق وموفي كل عهد
ومن أخرى:
قلبي لك الخير بالأفراح معمور ... مستبشر جذل بالفتح مسرور
يقول فيها:
خذ في هناتك مما قد عرفت به ... مما به أنت معروف ومشهور
واحك العصافير صي صي صي ... صي صصصي إذا تجاوبن في الصبح العصافير
ففيك ما شئت من حمق ومن هوس ... قليلة لكثير الحمق إكسير
كم رام إدراكه قوم فأعجزهم ... وكيف يدرك ما فيه قناطير
لا تنكرن حماقاتي لأن بها ... لواء حمقي في الآفاق منشور
ولست أبغي بها خلاً ولا بدلاً ... هيهات غيري بترك الحمق معذور
لا عيب في سوى إني إذا طربوا ... وقد حضرت يرى في الرأس تفجير
والأخدعان فما زالا يرى بهما ... لكثرة المزح توريم وتحمير
وذا الفعال مع الإعراض مطرد ... صفع ونقع وتيسير وتعسير
فذا وذاك وهذا ثم ذاك وذا ... كذا الليالي لها صفو وتكدير
أستغفر الله مما قلتهعبثاًلغير شيء وما في الصحف مسطور
أقول للنفس لما استشعرت جزعاً ... وبات يردعها خوف وتحذير
إن الإمام نزاراً مدحه فثقي ... ذخر لمثلك عند الله مذخور

هو الذي ليس بعد الله من أحد ... سواه في الناس محمود ومشكور
مشمر في المعالي ذيل مجتهد ... وماله في سوى العلياء تشمير
ومن أخرى:
أترضى بالتخلف والتواني ... على ضرب اللجاجة والحران؟
وما أنا والأحاديث اللواتي ... تزهد في المثالث والمثاني؟
ألا طربت إلى النشوات نفسي ... وتقت إلى معتقة الدنان
كما طربت أباريق الندامى ... إلى أصوات قهقهة القناني
ويومك إذ تطوف به فتاة ... على الخدين منها وردتان
مهغهغة القوام إذا تثنت ... تثنت كالقضيب الخيزران
ولم أر قبلها شمساً تبدت ... ولا قمراً بأعلى غصن بان
لحاه الله من شيخ ضروط ... ضجيج ضراطه بالنهروان
ولكن رأسه جلد جليد ... صبور عند مختلف الطعان
ولم أر قبله رأساً سواه ... غدا وقفاً على حرب عوان
ولا إذا الأيدي توالت ... عليه والتقت حلق البطان
ومنها:
إلى من راحتاه ندى وجود ... علينا بالمواهب ثرتان
كريم لا يدافع عن سماح ... جواد ماله في الجود ثان
تناهت عنده الآمال لما ... غدا أقصى النهاية في الأماني
ومن أخرى:
كل يوم أنا من أي ... ري في أمر عجاب
ليس يخليني من ه ... م وحزن واكتئاب
لم يدع لي ذهباً إلا ... رماه بالذهاب
وابتدى المشؤوم أن يع ... مل في أمر التباب
هل مجير لي منه ... أهل ودي وصحابي
أو وإلا تبت والرح ... من من لعب الكعاب
أنا مبلي من بلايا ... ه بنصب وعذاب
أنا لولاه لألفي ... تقليل الاضطراب
وتجزيت بنزر ... من طعام وشراب
ولما طال انتزاحي ... عن بلادي واغترابي
لعنة الله عليه ... وبراغيث الكلاب
فلكم أوقفني مو ... قف خزي واكتئاب
ولكم أغلقت باباً ... من هواه دون باب
رب قد أبليتني من ... ه بمعتوه مصاب
عينه في كل من د ... ب على وجه التراب
ثم لا يرضيه منه ... غير دبر مستطاب
ومنها:
وبإحسان تميم ... عذت من عظم مصابي
بالأمير السيد الما ... جد والقرم اللباب
والهمام المنعم المف ... ضل والبحر العباب
والذي لا فرق ما بي ... ن جداه والسحاب
تنثني منه إلى ذي ... كرم رحب الجناب
رافع دون بني الآ ... مال أستار الحجاب
لم أزره قط إلا ... بت محمود الإياب
ذكره أعذب في الأن ... فس من ذكر الشباب
ولقد رق عن الما ... ء وعن طبع الشراب
أكثم في الرأي والفض ... ل وقس في الخطاب
وقوله:
كتب الحصير إلى السرير ... أن الفصيل ابن البعير
فلمثلها طرب الأمي ... ر إلى طباهجة بقير
فلأمنعن حمارتي ... سنتين من علف الشعير
لا هم إلا أن تطي ... ر من الهزال مع الطيور
فلأخبرنك قصتي ... فلقد وقعت على الخبير
إن الذين تصافعوا ... بالقرع في زمن القشور
أسفوا علي لأنهم ... حضروا ولم أك في الحضور
لو كنت ثم لقليل: هل ... من آخذ بيد الضرير؟
ولقد دخلت على الصدي ... ق البيت في اليوم المطير
متشمراً متبختراً ... للصفع بالدلو الكبير
فأدرت حين تبادروا ... دلوي فكان عمى المدير

يا للرجال تصافعوا ... فالصفع مفتاح السرور
لا تغفلوه فإنه ... يستل أحقاد الدور
هو في المجالس كالبخو ... ر فلا تملوا من بخور
ولأذكرن إذا ذكر ... ت أحبتي وقت السحور
ولأحزنن لأنهم ... لما دنا نضج القدور
رحلوا وقد خبزوا الفطي ... ر ففاتهم أكل الفطير
لا والذي نطق النب ... ي بفضله يوم الغدير
ما للإمام أبي عل ... ي في البرية من نظير
وله من أخرى:
سلام على الربع ربع الجدا ... سلام على تمره ةاللبا
سلام عليه سلام امرئ ... معنى بتذكار ما قد مضى
سلام عليه فكم موقف ... وقفناه فيه ندير الدلا
لعهدي فيه شيوخ لنا ... غلاظ الرقاب عراض اللحى
إذا ما قبضت على لحية ... وناديت بطني أجاب الخرا
وكنا من الظرف لو أننا ... أقمنا نصافع شهراً ولا
نعيب الوفاء ولهفي على ... أخادع من لا يعيب الوفا
ولا عذر ألا أدير اللطام ... إذا الصفع دار أتاني وكلي قفا
وقد كنت تبت ولكنني ... إذا الصفع دار أتاني الجشا
فلا تترك الصفع جهلاً به ... فما أطيب الصفع لولا العمى
ومالي أكاتمكم قصتي ... وأضرب بالطبل تحت الكسا
إذا كان في الصيف لي جنة ... لأية حال أذم الفرا
ولم أكسب الحمق لكنني ... خلقت رقيعاً كما ترى
لقد فقت فيه كما الفارس ... ي في الرمي فاق جميع الورى
كأن البنادق طوع له ... فهن يصبن له ما اشتهى
إذا ما رمى طائراً حطه ... ولو أنه بمكان السها
فيالك من موقف مبهج ... عجيب ومن منظر مشتهى
فعيد الطيور به مأتم ... وأضيافه عنده في القرى
ومن أخرى:
عاذل كم فيه تعذليني ... وكم إلى كم تؤنبيني
لو بك ما بي من التصابي ... لكنت لا شك تعذريني
إن الذي قد أذاب جسمي ... بالثغر والجيد والجفون
بدر تمام على قضيب ... ركب من نغمة ولين
ما شئت من نرجس جني ... غض وورود وياسمين
عيناه تسطو على فؤادي ... والموت في سطوة العيون
ومنها:
فأطيب العيش كان عندي ... أيام للفسق قلدوني
وكنت طباً به بصيراً ... وأقود الناس في سكون
فكم غزال أخذت قسراً ... وكم مليح حوت يميني
والناس يسعون نحو داري ... من كل أرض ويقصدوني
فذا يوافي بثوب خز ... وذا يوافي بثوب توني
وذا يفدي وذاك يهدي ... وذاك يمضي وذا يجيني
وكل علق إلى مراحي ... أهدى من الطير للوكون
وكان خلقي لهم رضياً ... أصفعهم ثم يصفعوني
قدأجمع الناس أن حمقي ... أحسن من عفتي وديني
قد عشت دهراً أعول عقلي ... والناس إذ ذاك يبعدوني
فمذ تحامقت قد كساني ... حمقي وقد عالني جنوني
ومن بلائي أبو عمير ... معرض لي إلى المنون
منصب ما ينام وقتاً ... وليس يهدي من الرنين
من كان ذا زوجة فإني ... لشقوتي زوجتي يميني
عميرة قد جلدت حتى ... خشيت والله يجلدوني
فراقبوا الله في أموري ... فطلقوها وزوجوني
ومن أخرى:
يا أهل ذا المنزل هل حيلة ... تنجي فمن ظبيكم معطبي

عقرب صدغيه فقلبي إذا ... همم توقى لدغة العقرب
وكلما لاحظني طرفه ... لاحظني عن مقلة الربرب
يبسم إن ناولني ثغره ... عن ذي غروب واضح أشنب
أنجبت في الحمق وهل فاضل ... كناقص في الحمق لم ينجب
لو علموا مالي من لذة ... لم ألح في الحمق ولم أعتب
أعتبني الدهر ولولا الذي ... عم الورى بالبذل لم يعتب
لما رأى الآمال مصروفة ... إلى السديد ابن أبي الطيب
فارقني من شره صاحب ... كان لعمري شر مستصحب
هناك لو تبصرني تائهاً ... على بني الدهر تعلقت بي
تطلب مني نائلاً بعد أن ... كنت أرى الرزق مع الكوكب
كذاك من صاحب من لم يزل ... رب جناب ممرع مطلب
أول من يثني به خنصر ... وأصفح النفس عن المذنب
مهذب الآراء محمودها ... مفضل في الشرق والمغرب
لا فرق عندي بين أقلامه ... وبين فعل الصارم المقضب
ما استهلها إلا أذلت له ... من الأعادي كل مستصعب
ومن أخرى:
إني ليرتاح قلبي ... إلى اصطحاب المثاني
بحيث تنفي همومي ... معتقات الدنان
مع شادن ذي دلا ... ل مهفهف فتان
يرنو إلي بطرف ... وناظر وسنان
أعار حسن التثني ... تثني الأغصان
إذا تبسم تيهاً ... يفتر عن أقحوان
لأسخطن عذولي ... فيه بخلع العنان
فقم رفيقي فاحثث ... كؤوسنا غير واني
وهاتها كسنا الر ... ق لاح من نعمان
صفراء مما اقتناها ... كسرى أنو شروان
صفت ورقت ففاتت ... إدراكها بالعيان
فليس تدرك بالح ... س لا ولا الأذهان
روح من الراح لكن ... ها بلا جثمان
فالريح للمسك منها ... واللون للزعفران
يقول في مدحها:
من قال من غير خبر ... بأن في الناس ثاني
لسؤدد ابني علي ... قد جاء بالبهتان
يداهما بالعطايا ... وبالندى ثرتان
ومن أخرى:
رب يوم قد قطعنا ... ه حديثاً وعتابا
وجمعنا بين خمري ... ن مداماً ورضابا
ًوشفينا غلة النفس ... دنواً واقترابا
وترشفت على شو ... ق ثناياه العذابا
وسألنا ذلك الشي ... ء جهاراً فأجابا
يقول في مدحها:
ورحلنا نطلب الس ... يد والقرم اللبابا
فرأينا العز والثر ... وة والبحر والعبابا
ورأينا أفضل النا ... س وأحلاهم خطابا
يقظاً يدرك بالفط ... نة ما فات وغابا
هذبته فطنة العل ... م فما يخشى معابا
عرف اللذة للبذ ... ل فأعطى وأثابا
وإذا ما كرم الأص ... ل زكا الفرع وطابا
ومن أخرى يقول فيها:
كأنما عذاره ... سطرا سواد في يقق
كأنما رضابه ... خمر بمسك قد فتق
ومنها:
إن نكته فاستمعن ... نصحك من خل شفق
كن حذراً كن حذراً ... كن حذراً من الغرق
لأنه من سعة ... يصلح للبحر طبق
إن قلت لي إني حسن ... والحسن مني مسترق
قلنا مقالاً بيناً ... لا كذباً ولا خرق
كل امرء صوره ... خاقه كما اتفق
كن غصناً كن قمراً ... كن شمس دجن في الأفق
كن يوسف الحسن الذي ... من طينه الحسن خلق
هل أنت إلا خلق ... زدت على كل خلق
يا أيها العلق الذي ... فقحته بلا غلق

خانك في الود الذي ... بوده كنت نثق
ومن أخرى:
خليلي من عامر اسعدا ... على الشوق خلا بلا مسعد
قفا وقفة بربوع الحمى ... فلولا الوفا لهوى الخرد
لما عجبت بالركب مستنجداً ... دموعي على الطلل الملبد
معاهد لهو كأن الهوى ... بها بعد زينب لم يعهد
فسبحان من جعل المكرمات ... جميعاً بكف أبي أحمد
وقال له كن كما تشتهي ... فكان النهاية في السؤدد
وهل غيره أحد يرتجي ... ويعدي على الزمن المعتدي
ومن أخرى:
عد عن قال وقيل ... وصعود ونزول
حصحص الحق فما ذا ... شئت من قول فقولي
غير أني أقبل النا ... س لشيء مستحيل
فاسمعن مني ودعني ... من كثير وقليل
وصغير وكبير ... ودقيق وجليل
قد ربحنا بالحماقا ... ت على أهل العقول
فرعى الله ويبقى ... كل ذي عقل قليل
ما له في الحمق والخف ... ة مثلي من عديل
فمتى أذكر قالوا ... شيخنا طبل الطبول
شيخنا شيخ ولكن ... ليس بالشيخ النبيل
طالما نادى نداما ... ه إلى شرب الشمول
قائلاً بالشادن الأغي ... د ذي الطرف الكحيل
أطرب الناس إذا عن ... ى على ثاني الثقيل
قف على المنزل بالنح ... تين فالرسم المحيل
وقفة الواله للتسآل ما بين الطلول
أهملن دمعك فالرا ... حة في الدمع المهمول
عد عما أنت فيه من ... محال وفضول
واصرف المدح إلى ذي ال ... طول والفعل الجميل
الذي ذكراه في ك ... ل محل وقبيل
ذى يد بالجود أندى ... من ندى الغيث الهطول
لم يكن قط لراجي ... ه سوى سمح منيل
أسمح الأمة بالما ... ل وبالنيل الجزيل
وإذا ما سيل الفي ... بالندى غير بخيل
لم يزل يذخر للحا ... دث والخطب الجليل
ناهض إذ عجز الأق ... وام بالعبء الثقيل
ليس يصغي في المقالا ... ت إلى عذل العذول
وإذا ما قال قولاً ... لم يكن غير فعول
ولقد عزت به الآ ... داب من بعد الخمول
ومن أخرى في الرثاء:
لعمرك إنه رزء عظيم ... وخطب أمره جلل جسيم
رزئنا من صلاة الله تترى ... عليه ما دجا ليل بهيم
وما أطت إلى البيت المطايا ... وما طلعت على الأرض النجوم
لعمرك ما المصاب به خصوص ... ولكن المصاب به عموم
سقى جدثاً به حماد أضحى ... من الوسمي هطال سجوم
ففيه المجد أمسى والمعالي ... وفيه العز والفخر القديم
أبعد وفاته يدعى همام ... لخطب أو يقال بقي كريم
كأنا يوم منعناه إلينا ... وقد فتكت بأنفسنا الهموم
ثواكل حزنهن على الليالي ... وإن قدم المدى حزن مقيم
وكان ربيعنا في كل محل ... إذا ضنت بوابلها الغيوم
جميل الفعل محمود السجايا ... يزين فعاله كرم وخيم
ومن أخرى:
هل من سبيل إلى بيتي وجاريتي ... أنى؟ وكيف وما داري بدانية؟!
أم هل سبيل إلى البيت الذي سكنت ... فيه التي بفراقي غير راضية
لا أحمد البعد عنها بعد معرفتي ... بأنها لبعادي غير حامدة
أشكو إلى الله دهراً غير متئد ... من قبح ما لج فيه من معاندتي
ما زدت فيه اجتهاداً في معاتبة ... إلا وزاد اجتهاداً في مغايظتي
أقول والدهر لا يألو مراغمة ... وليس يثنيه شيء عن مراغمتي

يا واحداً ليس إلا من يؤمله ... ويرتجى عفوه جد لي بواحدة
وامنن علي على أني وإن نزحت ... عني فما هي عن قلبي بنازحة
ناشدتك الله فيما أشرت به ... إلا قبلت ولا تهمل مناشدتي
واستعمل السخف واترك ما سواه فما ... لذاذة العيش إلا في المساخفة
والصفع إياك منه فالعمى أبداً ... بغير شك منوط بالمصافعة
ومنها:
لكن مدحت حميداً فامتدحت فتىً ... وقفاً على منة تسدى وعارفة
رأيته فرأيت البدر في أفق ... والشمس طالعة من كل شارقة
والبحر معترضاً والغيث منبجساً ... برائح المرجيه وغادية
ساس الأمور بآراء مهذبة ... صوادر بين أفكار وبادرة
مستحسن اللفظ في القرطاس موجزه ... موفق الرأي محمود المخاطبة
ذو أنمل ما انتضت في حادث قلماً ... إلا وفل شباه كل حادثة
في كل يوم له نعمى مجددة ... ليست إذا طلعت عنا بآفلة
ما زال يتبع معروفاً بعارفة ... جوداً ويجهد نفساً في معاونتي
حتى رأيت صروف الدهر عائذة ... من بعد ضربي وحربي بالمسالمة
ومن أخرى:
نشدتك أن تحول عن الوداد ... وعن حال الصلاح إلى الفساد
ولو عاينت ما لك في ضميري ... ولو شاهدت ما لك في فؤادي
إذاً لعلمت أنك منه تمسي ... وتصبح دون غيرك في السواد
فما آلوك نصحاً في وداد ... ولا آلوك جهداً في اجتهاد
وليس سوى المودة والتصافي ... أبا عبد الإله لك اعتقادي
ولو في ذاك حاولت ازدياداً ... إذاً ما اسطعت فيه على ازدياد
ولم أعهدك في طلب المعالي ... وكسب الحمد غير فتىً جواد
ومن ألف المكارم والعطايا ... كإلفك جاد عن غير اعتداد
ويوشك أن يجود بما حواه ... وأن يهب الطريف مع التلاد
ووعدك في الحياة له مرادي ... ولست أريده يوم التناد
ومنها:
فكم منن قرنت بهن شكراً ... كشكر الروض منهل الغوادي
وكم لك يا محمد من أياد ... لدي ومن جميل وافتقاد
ومن أخرى:
ليلي بتنيس ليل الخائف العاني ... تفنى الليالي وليلي ليس بالفاني
أقول إذ لج ليلي في تطاوله ... يا ليل أنت وطول الدهر سيان
لم يكف أني في تنيس مطرح ... مخيم بين أشجان وأحزان
حتى بليت بفقدان المنام فما ... للنوم إذ بعدوا عهد بأجفاني
ما صاعد البرق من تلقاء أرضهم ... إلا تذكرت أيامي بنعمان
ولا حننت إلى نجران من طرب ... إلا تكنفني شوق لنجران
لا تكذبن فما مصر وإن بعدت ... إلا مواطن أطرابي وأشجاني
ليالي النيل لا أنساك ما هتفت ... ورق الحمام على دوح وأغصان
أصبو إلى هنوات فيك لي سلفت ... قطعتهن وعين الدهر ترعاني
مع سادة نجب غر غطارفة ... في ذروة المجد من ذهل بن شيبان
وذي دلال إذا ما شئت أنشدني ... وإن أردت غناءً منه غناني
سقيته وسقاني فضل ريقته ... وجاد لي طرفه عفواً ومناني
ما زلت أجني بلحظي ورد وجنته ... وأستغير على تفاح لبنان
ما زال يأخذها صفراء صافية ... حتى توسد يسراه وخلاني
الله يعلم ما بي من صبابته ... وما علي جناه طرفه الجاني
كم بالجزيرة من يوم نعمت به ... على تصاخب نايات وعيدان
سقياً لليلتنا من يوم نعمت به ... على تصاخب نايات وعيدان
سقياً لليلتنا بالدير بين رباً ... باتت تجود عليها سحب نيسان

والطل منحدر والروض مبتسم ... عن أصفر فاقع أو أحمر قان
والنرجس الغض منهل مدامعه ... كأن أجفانه أجفان وسنان
ومنها:
أستغفر الله من عقل نطقت به ... ما لي وللعقل ليسس العقل من شاني!؟
لا والذي دون هذا الخلق صيرني ... أحدوثة وبحب الحمق أغراني
ما للشذائي من مثل يقاس به ... ولا له في اصطناع العرف من ثان
مهذب الرأي محمود خلائقه ... رحب المكارم سمح غير منان
من كان في الجود والإفضال لذته ... لم يخله الجود من فضل وإحسان
وجملة الأمر فيه أنه رجل ... يراقب الله في سر وإعلان
إن كنت قلت سوى ما فيه أعرفه ... إذا كفرت بمعبودي ودياني
إذا جرت يده في الطرس كاتبه ... تبلج الطرس عن در وعقيان
وإن تكلم جاءته براعته ... بكل ما شاء من فهم وتبيان

أبو القاسم الحسين بن الحسن
بن واسانة بن محمد المعروف بالواساني
أعجوبة الزمان ونادرته، وفريدة عصره وباقعته، وهو أحد الفضلاء المجيدين في الهجاء، وكان في زمانه، كابن الرومي في أوانه: فمن شعره قوله يهجو ابن أبي أسامة:
يا ساكني حلب العوا ... صم جادها صوب الغمامه
أنا في مدينتكم غري ... ب لست من أهل الإقامه
والخان يحدث للغري ... ب إذا أبن بن سآمه
فقرضت من طول المقا ... م بها وأعوزت المدامه
وخرجت في بعض الليا ... لي قاصداً باب السلامه
وشربت من بئر بها ... من يأتها ينقع أوامه
ورتعت في فلواته ... وعلوت مرتقياً أكامه
فلمحت في بعض الوها ... د وقد قعدت سواد هامه
فسعيت أحسبها غرا ... باً أو حداة أو حمامه
وإذا بأسود كالفني ... ق يقل إيراً كالدعامه
وإذا بشيخ تحته ... حسن الوسامة والقسامه
والشيخ يعصر تحته ... قد بل من عرق حزامه
فزجرت نايكه فقا ... ل له ألست ترى مقامه
انهض فديتك علنا ... نقضي بنهضتنا ذمامه
ونعود بعد عزوبه ... عنا وتربحنا خصامه
فسطا عليه وقال نك ... لا كان ذاك ولا كرامه
هذا الرقيع بعينه ... لي في رقاعته علامه
لولا فضول فيه لم ... يصرف إلى دبري اهتمامه
وبكى وقال لي امض وي ... ك واسأل الله السلامه
واشكره لما صار سر ... مك لا يريد له صمامه
واعلم بأني كنت من ... أهل الرياسة والزعامه
يومى إلي إذا عبر ... ت يقال ذا ابن أبي أسامه
حتى ابتليت بمعبري ... فحصلت بين الناس شامه
فعجبت من تلك الفصا ... حة وهو يعفج والعرامه
شيخ له سمة تخا ... طبني بألفاظ مقامه
والأير يغرق في استه ... قد غاب في مفساه قامه
فتضاحك الحبشي من ... ه وقال لا تسمع كلامه
هذا وعيشك دأبة ... من قبل مبلغه احتلامه
أبدا يباري باسته ... بين الورى صوب الغماه
واستله من دبره ... وكأنه عنق النعامه
وقال يهجو منشا بن إبراهيم القزاز:
قال منشا يوماً لسعدانه ... وهي سحور العينين فتانه
من بعد أن غلف العوارض بال ... طيب وغلا بالمسك أسنانه
وامتص من خمرة معتقة ... تحول بين الدنان في الحانه

وكان خشف قد باسها بفم ... وهي من البوس بعد شبعانه
هل لك في قبلة وهاك خذي ... خمسين حمراً وحل هيمانه
قالت له هاتها ودونك فاس ... طعني بجعص وعجل الآنه
فباسها ثم قال قد بقيت ... أخرى فقالت وعظمت شانه
ما هي قل لي ألم أبس شرجاً ... جمشت أعفاجه ومصرانه
ألم أقدم فما أضن به ... إلى كنيف مرد حردانه
يا ألف كشخان وابن زانية ... نعم ويا زوج ألف كشخانه
لم ترض أني قبلت مقعدة ... تحت سبال كأنها عانه
حتى تناهيت في الهون فشبه ... ت لساني ببنت وردانه
وقوله فيه:
إن منشا قد زاد في التيه ... وزاد في شامنا تعديه
فلا ابن هند ولا ذي يزن ... ولا ابن ماء السما يدانيه
وهو مغيظ علي الوصي ومن ... يعزى إليه من يواليه
يذكر أيام خيبر بهم ... وهو قذىً جال في أماقيه
وقد حكى أن فاه أطيب من ... سرمي وأني ممن يعاديه
ومن يقول القبيح فيه ومن ... أصبح بالمعضلات يرميه
فسوكوه بكل طيبة الر ... يح تعفي على مساويه
ومضمضوه من الجوارش ما ... يعمل بالمسك والأفاويه
واسقوه من خمرة معتقة ... قد صانها القس في خوابيه
واستفقحوني وايتنكهوه فإن ... كان لسرمي فضل على فيه
فحملوا الكلب والحمار على ... عياله واصفعوا محبيه
وقوله فيه:
يا راكباً يقطع عرض الفلا ... على أمون جسسرة حرف
أبلغ أبا سهل إذا جئته ... رسالة عن عبده المنفي
وقل له عرنين ذاك الفتى ... في حالة جلت عن الوصف
قد ذاب مذ ليلة ساررته ... وصار للسقم على النصف
يبكي فما ترقا له عبرة ... ويسهر الليل فما يغفي
حزناً على أرنبة غودرت ... تقطر قطراً من دم صرف
فهو بسرم الكلب يا سيدي ... من داء أنفاسك يستشفي
من عاذري من رجل زرته ... للحين والإدبار والحرف
فقال عندي لك أحدوثة ... مليحة تكتب في الصحف
فادن لكي تسمعها واحتفظ ... بالسر في مكنون ما تخفي
فقمت للغفلة مستعجلاً ... أمشي برجلي إلى حتفي
ففاه عن أنتن من جعسه ... يعد بين البخر بالألف
وشارب فيه دم فارث ... ولثه تشخب كالخلف
تحوم ذبان الخلا حوله ... مثل حمام طار من كف
كشعر زق الدبس أو شعرة ال ... حائض أو مكنسة الكنف
وشك خيشومي بنشابة ... من يد حر طامش وجف
تصمى العرانين ولو أنها ... في الدلص الموضونة الزغف
وتدرك الهارب منها ولا ... ينجو ولو كان على طرف
فانغمرت روحي وناديته ... يا أيها الثعبان بالكهف
بحق من كلم موسى على الط ... ور فدك الطور بالرجف
هب لي ما أبقيت مني فقد ... أشفى على مثل شفا الجرف
ولم أزل أدفعه جاهداً ... وقد تقاعست إلى خلف
فانقد بعض الثوب في كفه ... وقال أفلت فيا لهفي
وكان للحين على موضع ... مستشرف مرتفع السقف
فانكسرت ساقي وهيضت يدي ... واندف صدري ووهى كتفي
وقمت أجري بعدها هارباً ... أسعى على رجلي كالخشف
يا معشر الناس اسمعوا ما أنا ... قائله واسمعوا وصفي

إذا أردتم سرم أستاذنا ... فلتكن الآناف في غلف
ثم اغتسلوا شعر اللحى بعدها ... غسل الدرابيك أو القطف
وبخروها بعد تطيبها ... بكل شيء طيب العرف
وما أرى سائر ما قلته ... يغني ولا أحسبه يكفي
أو فانتفوها واستريحوا فما ... ينجيكم شيء سوى النتف
وسوكوه بخروا أمه ... في رأس كرناف من العف
فإن جالينوس ما عالج ال ... بخرة إلا بخرا القلف
وقال في الغزل، ويعرض بابن بسطام في الهجاء، ويذكر أنها لميسر:
ومهفهف يزهو علي بجيده ... وبخصره وبردفه وبساقه
وافى إلي وقلبه متخوف ... كتخوف المعشوق من عشاقه
حتى إذا مددته وحللت عن ... كفل مباح الحل بعد وثاقه
وافت إلي أصنة من دبره ... بخلاف ما قد فاح من أطواقه
فأجبته ماذا فقال بحرقة ... ودموعه تنهل من آماقه
هذا ابن بسطام أتاني طارقاً ... بلطيف حيلته وحسن نفاقه
وعلا على كفلي وبلغم مثقبي ... برياله المنهل من أشداقه
فبقى صنان رضابه في مثقبي ... زمناً لحاه الله بعد فراقه
فالله يحرمه معيشته كما ... قد سد مكسب مثقبي ببصاقه
وقال يصف ما جرى عليه من الدعوة التي عملها في قرية حرايا من أعمال دمشق:
من لعين تجود بالهملان ... ولقلب مدله حيران؟
يا خليلي أقصرا عن ملامي ... وارثيا لي من نكبتي وارحماني
ومتى ما ذكرت دعوة أولا ... د البغايا والعاهرات الزواني
فانتفا لحيتي وجزا سبالي ... وبنعل الكنيف فاستقبلاني
ما الذي ساقني لحيني إلى حت ... في؟ وما غالني؟ وماذا دهاني؟
من عذيري من دعوة أوهنت عظ ... مي وهدت بهولها أركاني
كنت في منظر ومستمتع عن ... ها ومن ذا يغتر بالحدثان
فنزت بطنتي وهاجت على نف ... سي بلاءً ما كان في حسباني
كان عيشي صاف فكدره أه ... ل صفائي بنو أبي صفوان
فارثوا لي يا معشر الناس من ض ... ري ومن طول عطلتي وامتحاني
ضرب البوق في دمشق ونادوا ... لشقائي في سائر البلدان
النفير النفير بالخيل والرج ... ل إلى فقر ذا الفتى الواساني
جمعوا لي الجموع من خيل جيلا ... ن وفرغانة إلى ديلمان
ومن الروم والصقالب والتر ... ك وخلقاً من بلغر واللان
ومن الهند والطماطم والبر ... بر والكيلجوح والبيلقان
لم يبقوا ممن عددت من الآ ... فاق من مسلم ولا نصراني
والبوادي من الحجاز إلى نج ... د معديها مع القحطاني
كل ضرب فمن طوال ومن حد ... ب قصار والحول والعوران
وشيوخ مثل الفراخ وشبا ... ن رحاب الأشداق والمصران
معد جوعت ثلاثين يوماً ... بسلاح شاك من الأسنان
من مرند ومن تكين وطرخا ... ن وكسرى وخرد وطعان
وخمار وزيرك وعجيب ... وبديع وفارس وجوان
وجريح ونار قسطا ويونا ... ن وبرحفثيا يوحنان
وطراد وجهيل وزياد ... وشهاب وعامر وسنان
قمش جمعوا بغير عقول ... ردعتهم عني ولا أديان
هل سمعتم بمعشر جمعوا الخي ... ل وساروا في الرجل والفرسان
رحلوا من بيوتهم ليلة المر ... فع من أجل أكلة مجان
يركضون البريد تسعة أميا ... ل بنص الوجيف والذملان

شره بارد وحرص على الأك ... ل بأنا قوم من المجان
ما شعرنا ونحن من آمن العا ... لم إلا بصرخة الديدبان
أدركوني فهذه غرر الخي ... ل وسمر يعسلن كالأشطان
لست أنسى مصيبتي ويوم جاءوا ... ني وقد غص منهم الواديان
وردوا ليلة الخميس علينا ... في خميس ملء الربا والمحاني
متلئب كالسيل لا يلتقي من ... ه لفرط انتشاره الطرفان
شزروني بأعين تقدح الن ... يران خوص إلى العدو زواني
أشرفوا لي على زروع وأحطا ... ب وبيت من خيره ملآن
لبن قارس وخبز كثير ... وقدور تغلي على الدادكان
وشواء من الجداء ومعلو ... ف دجاج وفائق الحملان
وشراب ألذ من زورة المع ... شوق بعد الصدود والهجران
يخجل الورد في الروائح والطع ... م ويحكي شقائق النعمان
أذكرتني جيوشهم يوم جاءو ... ني جيوش العدو في رغبان
بقدم القوم هاشمي هريت الش ... دق رحب المعي طويل اللسان
هو نمس الدجاج والبط والأو ... ز وذئب النعاج والخرفان
والشريفان أشرفا في خلال ال ... خيل في موكب من الحبشان
وسواد من عظمه طبق الأرض ... وخيل تهوين كالظلمان
وأبو القاسم الكبير على طر ... ف كميت أقب كالسرحان
وأخوه الصغير يعترض الخي ... ل على قارح عريض اللبان
وهما يهويان بالسوط والرج ... ل إلى ما يسوءني مسرعان
أي قلب يطيق شتم بني خي ... ر البرايا وأكرم النسوان؟
غير أني يوم القيامة أشكو ... هم إلى الحرة الحصان الرزان
وأنادي يا بنت خير النبيي ... ن ويا أم أكرم الفتيان
أي شيء صنعت بابنيك حتى ... غزواني في الزنج والسودان؟
والسري الذي سرى في جيوش ... أضعفتني وقصرت من عناني
بفم أشوه وشدق رحيب ... وبكف يجول كالصولجان
وأخوه الفضل الذي بان للعا ... لم من فضل أكله نقصاني
والشمولي خلقه خلق ترا ... س عريض الأكتاف عبل الحران
لست أنساه جاثياً جاحظ العي ... ن عبوساً في صورة الغضبان
كالعقاب الغرثان يقتنص اللح ... م ويهوي إلى طيور الخوان
والأديب الذي به كنت أعت ... د غزاني للحين فيمن غزاني
وكذا الكاتب الذي كان جاري ... وصديقي ومشتكى أحزاني
غيرته الأيام حتى أتاني ... جائعاً للشقاء مذ سنتان
وصديق الأشراف أخنى على خم ... ري وأفنى بالكرع ما في دناني
كلما شقق مجد رخي ال ... بال لم يعنه الذي عناني
مجرهد كالسوس في الصوف في الصي ... ف بقلب خال من الإيمان
قلت قل لي يا ابن المبشر ما شأ ... نك من بين من غزاني وشاني
ليس هذا من شهوة الأكل هذا ... من طريق البغضاء والشنآن
قلت للفيلسوف لما غدا في ال ... أكل أعني فتى أبي عدنان
واستحث الكؤوس صرفاً بلا مز ... ج مكباً كالهائم العطشان
ليت شعري أمن رسائل بقرا ... ط تعلمت ذا وسمع اليان
أنت تزداد يا خليلي بهذا ال ... فعل علماً بالعالم الروحاني
ثم لا تنس ما لقيت وما مر ... لشؤمي من عسكر الفرغاني
أعجمي اللسان أفصح من ق ... س إذا ما نشا ومن سحبان
قال ققم فأتنا بخبز ولحم ... ونبيذ في حمرة الأرجوان

وغلام مقين حسن الوج ... ه يحاكي بقده غصن بان
لم توكل فرغان إلا بتفري ... غ دناني وصبها في الجفان
إن من أعظم المصائب يا قو ... م بلائي بذلك الطرمذان
رجل كالفنيق فدم بلا ل ... ب طويل في صورة الشيطان
يققاً كالعمود يستعذب الصف ... ع ورأس أصم كالسندان
زائد الخلق ناقص العقل والدي ... ن غليظ القذال كالقلتان
يبلع الطيبات بلعاً بلا مض ... غ ويحسو النبيذ كالثعبان
لا تمتني حتى أراه وقد قص ... ر من فضل طوله شبران
وأتوني بزامر زمره يح ... كي ضراط العبيد والرعيان
ومغن غناؤه يطلق البط ... ن ويأتي بالقيء والغثيان
قصدت هذه الطوائف حمرا ... يا لهتكي وذلتي وامتحاني
قلت ما شأنكم قالوا أغثنا ... ما طعمنا الطعام منذ ثمان
وأناخوا بنا فيا لك من يو ... م عبوس عصبصب أرونان
نزلوا حجرتي وأطلقت الأفرا ... س بين الرطبان والقصلان
لم يكن مربعاً سوى ساعة ح ... تى رأيت الزروع كالفلحان
أفقروني وغادروني بلا دا ... ر ولا ضيعة ولا بستان
حيروني ودلهوني فقد صر ... ت بليداً كالذاهل السكران
أسمع اللفظ كالطنين لسهوي ... وهو لفظ يجري لغير معاني
تركوني يا قوم أفقر من فر ... خ وأعرى ظهراً من الأفعوان
أكلوا لي من الجرادق ألفي ... ن ببن تشتاقه العارضان
أكلوا لي أضعافها غير مسطو ... ر ومالوا إلى سميد الفران
أكلوا لي من الجداء ثلاثين ... قريصاً بالخل والزعفران
أكللوا ضعفها شواء وضعفي ... ها طبيخاً من سائر الألوان
أكلوا لي تبالة تبلت عقل ... ي بعشر من الدجاج السمان
أكلوا لي مضيرة ضاعفت ضر ... ي بروس الجداء والعصبان
أكلوا لي كشكية قرحت قل ... بي وهاجت لفقدها أشجاني
أكلوا لي سبعين حوتاً من النه ... ر طرياً من أعظم الحيتان
أكلوا لي عدلاً من المالح المش ... وي ملقى في الخل والأنجدان
أكلوا لي من القريشاء والبر ... ني والمعقلي والصرفان
ألف عدل سوى المصقر والبر ... دي واللؤلؤي والصيحاني
أكلوا لي من الكوامخ والجو ... ز معاً والخلاط والأجبان
ومن البيض والمخلل ما تع ... جز عن جمعه قرى حوران
فتتوا لي من السفرجل والت ... فاح والرازقي والرمان
والرياحين ما رهنت عليه ... جبتي عند أحمد الفاكهاني
درسوا لي من البنفسج والنر ... جس ما ليس مثله في الجنان
ذبحوا لي بالرغم يا معشر النا ... س ثمانين من معين وضان
ما كفاهم ما مر من غنم القر ... ية حتى أخنوا على الثيران
ذبحوها والدمع يجري على خد ... ي انسياباً مثل انسياب الجمان
أكلوا كل ما حوته يميني ... وشمالي وما حوى جيراني
ثم قالوا هلم شيئاً فنادي ... ت غلامي قم ويحك فاخبأ حصاني
لم تدع لي بطونكم يا بني البظ ... ر سواه وذا شطوب يماني
فتمالوا علي شتما ولعناً ... واستباحوا عرضي بكل لسان
من له قدرة على الشعر يهجو ... ن ومن كان مفحماً يلحاني
وكأني أنا الذي عثثت في الخي ... ر وغيرت صورة الحيوان
ثم جاء المعقبون من السا ... سة والشاكري والعبدان

فرأيت النخاع واللطم والدف ... ع وكدم الأنوف والآذان
وتفانوا صفعاً وفاح من القو ... م غبارا من الفسا والصنان
ثم لما أتوا على كل شيء ... ختموا محنتي بكسر الأواني
ثم قاموا إلى الجلاهق والبا ... شق والمحدقات والزربطان
فرأيت الحمام بعضاً على بع ... ض وبعضاً ملقى على الأغصان
ورأيت الدجاج في وسط القر ... ية ملقى مكسر السيقان
أكلوا ما ذكرت واستعملوا لي ... يا ثقاتي كراً من الأشنان
ومن المحلب المطيب بالبا ... ن وماء الكافور سبع براني
شربوا لي عشرين ظرفاً من الرا ... ح لذيذ المذاق أحمر قان
فأقاموا سواسهم والمكاري ... ن إلى أن سمعت صوت الأذان
ينقلون الأحطاب من حيث وافوا ... ها فبالطير مر لي غيضتان
جوزة كان حملها أحسن الحم ... ل وكانت ظليلة الأفنان
كان لي في فنائها منزل رح ... ب أنيق يحفه نهران
ورياض مثل البرود علاها ال ... طل بين البهار والأقحوان
وطيور ما بينها تتغنى ... بجميع اللغات والألحان
هي كهفي ومستظلي من الح ... ر وذخري لنائبات الزمان
أحرقوها يا قوم في ساعة القف ... ز وضرب الأحطاب بالنيران
كسروا السكر فاختلطت فقالوا ... كيف تبقى بغير شاذروان
قطعوا اللوز والسفرجل أحطا ... باً ومالوا بها على غلماني
والنواطير مددوا وعلوه ... حنقاً بالعصي والقضبان
طالبوني بالنيك في آخر الليل وجمع النساء والمردان
قم فأسرع فبعضنا يطلب المر ... د وبعض مستهتر بالغواني
فتوهمته مزاحاً فجدوا ... قلت هذا ضرب من الهذيان
ليس يبقى على أرامل حمرا ... يا سوى بذلهن للضيفان
لو سمعتم يا قوم في غسق اللي ... ل بكاء النساء والولدان
يتنادون بالعويل والوي ... ل وراء الأبواب والجدران
ويقولون ويلنا من أبي القا ... سم هذا المطرمذ المخرقاني
قصدته الأعداء فاستملكونا ... فحصلنا أسرى بغير أمان
أوجروني النبيذ بالرطل حتى ... صرت أمشي كمشية الفرزان
فجعوني لما سكرت بهيما ... ني وشقوا عصائب الطيلسان
كان أول النهار على رأ ... سي فأمسى على رءوس القيان
ثم راحوا بعد الهدوء إلى دا ... ري فلم يتركوا سوى الحيطان
كان لي مفرش وكل مليح ... فوقه مطرح من الميساني
وبساط من أحسن البسط مذخ ... ور لعرس أو دعوة أو ختان
غرقوه بالزيت والبول والق ... يء فأضحى وقدره بعرتان
أوقدوا زيتنا جزافاً بلا كي ... ل يكيلونه ولا ميزان
خلت داري يا إخوتي المسجد الجا ... مع ليلاً للنصف من رمضان
سرقوا جبتي وسيفي وسكي ... ني وخفي وجوربي وراني
ثم لما انتهت بهم شدة الكظ ... ة خروا صرعى على الأذقان
هوموا ساعة كتهويمة الخا ... ئف في غير أرضه الفزعان
ثم قاموا ليلاً وقد جنح النس ... ر ومال السماك والفرقدان
يصرخون الصبوح يا صاحب البي ... ت فأبكوا عيني وراعوا جناني
سحبوني من جوف بيتي على وج ... هي كأني أدعى إلى السلطان
بقلوب أشد حراً من الجم ... ر وأقسى من الصفا الصوان

قلت رقوا لذلك الطفل ميمو ... ن ولا تؤتموه يا إخواني
ما تفي أكلة بقتل غريب ... ذي عيال ناء عن الأوطان
علقوني بفرد رجل إلى السق ... ف وعذبت ليلتي بالدخان
لو رآني أبي وأمي على رأس ... ي ورجلاي بالعصا تنقران
بكيا لي من ذاك واشترياني ... من يديهم بكل ما يملكان
وقع الضرب يا خليلي على جس ... م من السوط والعصا قرحان
قلت للفضل والسري غثاني ... ومماتي قد حل بي خلصاني
واذكرا عشرتي وودي وإخلا ... صي وحنا علي واستبقياني
أنتما إن قتلتماني وحق الل ... ه من أجل أكلة تندمان
أي شيء تركتماه لضعفي ... قد مضى لي بالأمس ما قد كفاني
أحلفانيي أن ليس عندي مشرو ... ب ولا في خزانتي لقمتان
فاستشاطا علي غيظاً وقال ال ... فضل قل لي بأي عين تراني
نحن من أجهل البرية طراً ... إن حصلنا منكم على الأيمان
قطعوا الحبل فانقلبت على رأ ... سي وظهري فاندق لي ضلعان
ثم لما تمكن اليأس خلو ... ني ومالوا حشواً على الأتبان
وأجيري مسخر ينقل الأت ... بان بالذل عارياً والهوان
وهو يبكي فقلت ويحك ما تص ... نع بالتببن بعد موته الفدان
سرقوا السرج والقناديل والزي ... ت وأقداحنا وكل الناني
والنبيذ استقوه واغتنموه ... آخر الليل كاستقاء السواني
زودوه سواسهم والمكاري ... ن معاً بالجرار والكيزان
لو ترى الفضل وهو يحمل في السر ... ج قميصاً مخيط الأردان
قد حشاه لحماً وطيراً وسبعي ... ن رغيفاً من أعظم الرغفان
سرقوا الراح في الزقاق وراحوا ... بطعام منضد في الصواني
ميزوا خيلهم بكل كسير ... وعقير مدبر جربان
خلفوه يرعى بقية زرعي ... رعي لا خائف ولا متوان
ما رثى لي سوى المبارك من ض ... ري وذاك القصير الدحدحاني
رفهاني وخففا الثقل عني ... فهما من ملامتي سالمان
والسري السرى حقاً كما س ... مى أيضاً من بطنه أعفاني
هل سمعتم فيما سمعتم بإنسا ... ن عراه في دعوة ما عراني
أسعدوني يا أخوتي وثقاتي ... بدموع تجري من الأجفان
إخوتي من لواكف الدمع محزو ... ن كئيب مدله حيران
هائم الفكر ساهر الليل باكي ال ... عين واهي الوى ضعيف الجنان
لم يكن ذا القران إلى على شؤ ... مي فويلي من نحس ذاك القران
قد أحسن في هذه الفصيدة غلية الإحسان، وأبان فيها عن مغزاه أحسن بيان. وتصرف فيها وأطال، وأمكنه القول فقال. وإذا تخلص الشاعر عند الإطالة والوصف هذا التخلص، وسلم مما يؤديه إلى التكلف والتلصص. فهو الذي لا يدرك غوره، ولا يخاف بحره.
وقال أيضاً يهجو أبا الفضل يوسف بن علي، ويعرض فيها بمنشأ بن إبراهيم ابن القزاز، ويقال: إن هذه القصيدة كانت سبب عزله من عمله، وقد تصرف فيها كل التصرف، وهي سالمة عن التكلف، ولم يقل في معناها مثلها، وهي:
يا أهل جيرون هل لسامركم ... إذا استقلت كواكب الحمل
في ملح كالرياض باكرها ... نوء الثريا بعارض هطل
أو مثل نظم العقود بالذدر وال ... در ووشي البرود والكلل
يلذ للسامع الغناء بها ... على خفيف الثقيل والرمل
كنت على باب منزلي سحراً ... أنتظر الشاكري يسرج لي

وطال ليلي لحاجة عرضت ... باكرتها والنجوم لم تمل
فمر بي في الظلام أسود كال ... فيل عريض الأكتاف ذو عضل
أشغى له منخر ككوة تن ... ور وعين سجراء كالشعل
ومشفر مسبل كخب رحى ... على نيوب مثل المدى عصل
مشقق الكعب أدع القيد والر ... جل طويل الساقين في سمل
فأهدت الريح منه لي أرجاً ... مثل جني الروض في الندى الخضل
مسكاً وقفصية معتقة ... شيبا ببان وعنبر شمل
فقلت ما هكذا يكون إذا ... راح الندامى روائح السفل
أسود غاد من الأتون له ... عرف أمير نشوان في فضل
هذا ورب السماء أعجب من ... حمار وحش في البر منتع
اردده يا نصر كي أسائه ... فشأنه عضلة من العضل
فقال يخشى فوات حاجتنا ... وليس هذا من أكبر الغل
فقلت ترك الفضول يا ناقص ال ... همة عين الإدبار والكسل
بادره من قبل أن يفوتك في ... سلوكه بين هذه السبل
فصد عني تغافلاً ومضى ... يعجب من عقله ومن خللي
وصاح من خلفه رويدك يا ... أسود مالي بالعدو من قبل
ارجع إلي ذلك الرقيع وإن ... أكال في خطبه فلا تطل
أجب إذا ما سئلت مقتصداً ... في اللفظ واسكت إن أنت لم تسل
وهو بترك الفضول أجدر لو ... يسلم من خفة ومن خطل
فكر نحوي عجلان يعثر في ... مرط كساء مبرغث قمل
وقد مذى والمذي يقطر من ... غرموله في الذول كالوشل
وظن أني صيد فأبرز لي ... فيشلةً مث ركبه الجمل
سوداء قد طوقت بطوق خرا ... أصفر تزهى به على الحجل
وقال لج دراكم لأولجها ... فيك وإنكنت لم تبل فبل
فطالما أسهلت طبيعة من ... ليس لأمثالها بمحتمل
هذا على أنها مؤدبة ... من الفياشي المروضة الذلل
وطال والله ما خدمت بها ال ... ملوك خلف الستور والكلل
وكنت أغشاهم على فرش ال ... خز بلا سقطة ولا زلل
لأنها صنعتني وصنعة آ ... بائي قديماً في الأعصر الأول
وزاد في دولة اليهود بها ... شرطي على ما مضى من الدول
حتى لقد فتقت فوشهم ... وطريت بالغدو والأصل
فانظر إليها فإن رأيت لها ... شبهاً فلا تدعني أبا الجعل
وخذ عموداً أغلافه شرج ... لم يمتهن ساعة ولم يذل
قلت له لا عدمت برك قد ... بذلت ما لم يكن بمبتذل
وجدت عفواً من غير مسألة ... بدرة لا تباع بالجمل
لكنني والذي يمد لك ال ... عمر ويعطيك غاية الأمل
ما شق دبري مذ قط فيشلة ... ولا نتخاب الأيور من عملي
ولا لهذا دعيت فاطلب لمي ... لوخك من يستلذه بدلي
وهات قل لي بالله من أين أق ... بلت ودعني من هذه العلل
فقال لي بت عند عاملكم ... هذا أبي الفضل يوسف بن علي
فصاك بي طيبه وصاك به ... مني صنان في حدة البصل
تركته بالنهار اخفش لا ... ينظر في خدمة ولا عمل
قلت تزيدت وادعيت على ... شيخ نبيل ينمى إلى نبل
أبوه سمح وجده ملك ... يدعى حنيناً وعمه الصملي

لعل ذا غيره فصفه فما ... يخدع مثلي بهذه الحيل
فإن تكن صادقاً نجوت وأن ... حيت عليه باللوم والعذل
وإن تكن كاذباً صفعتك بالن ... عل فإن كنت قائلاً فقل
فقال يا سيدي عجلت بمك ... ر وهي وكان الإنسان من عجل
هذا الذي بت عنده نصف ... دون مسن وفوق مكتهل
في فيه نتن وتحت عصعصه ... عين تمج الصديد في دغل
آدر رخو العجان منخرق ال ... مبعر ألحى مهيج السفل
حيضة باسوره إذا اختلطت ... بالسلح كالسمن شيب بالعسل
له إذا ما علوته نفس ... أمضى من السيف في يد البطل
يصرع طير السماء في الأفق ال ... أعلى ويوهي مخارم القلل
أنتن من كل ما يقال إذا ... بالغ في الوصف ضارب المثل
وهو على ذاك مولع أبداً ... لشؤم بختي بالعض والقبل
نعم وفي باب سرمه وضح ... أبيت ليلي منه على وجل
أخاف يعدى أيري ببرصته ... فأغتدى مثلة من المثل
أسود كالليل بين أكرعه ... عمود صبح ينجاب عن طفل
فقلت هذى صفاته ولقد ... شغلت قلبي بذلك الرجل
فقال أما إذا اهتممت به ... فإنه في نهاية الجذل
قد طاب عيشاً وقد أصاب من ال ... لذة ما لم يصب ولم ينل
يكون مثل العروس مفترشاً ... طوراً وطوراً كالفحر في الإبل
فيجمع اللذتين مغتبطاً ... ذي دبره تارة وفي قبل
وهو عوان لم يخش من ألم ال ... حمل عقيم ولم يخش من حبل
وأنت يا ابن الخراء محتفل ... بأمره وهو غير محتفل
فقلت قل لي من أين تعرفه ... فقال ذرني من هذه العقل
كنت أجيراً بيد معصرة ... بصور كانت لكاتب البجل
وكنت أضحى النهار في ظاهر ال ... يد إذا ما انصرفت من شغلي
فنمت يوماً وكنت من سهر ال ... ليل وقيذاً كالشارب الثمل
وهبت الريح فانكشفت ولم ... أشعر وطار الشراع عن قبلي
واجتاز للحين والقاء الذي ... حم منشا في موكب زجل
حف بصفر البنود والخيل والر ... جل وبيض الصفيح والأسل
على كميت أق كالصخرة ال ... صماء قدت من قنة الجبل
ليس بأشغى ولا أجش ولا ... أهضم طاوي الحشى ولا شغل
وهو أمام الصفوف تقدمه ... جرد الهوادي شوازب المقل
مجنبات كأنهن سرا ... حين قطاء أو كالقنا الذبل
وحان منه التفاته فرأى ... ذيل قميصي قد قد من قبل
فاشتد تحديقه إلي كما ... حدق ذئب طاو إلى حمل
ولم أبت ليلتي وعيشك يا ... مولاي حتى دعيت بالرسل
فجئته خائفاً كما يلج ال ... عصفور مستكرهاً على الورل
فارتعت لما رأيت لحيته ... وكدت أخرى من شدة الوهل
وظن أني استحييته فغدا ... يبسطني بالمزاح والغزل
وقال هذا الحياء يا بإبيأنت بريد النكول والفشل
فاطرح الهيبة المضرة بي ... واعتزل الخوف أي معتزل
إن كنت أكرمتني لترفع من ... قدري فبعض الهوان أنفع لي
انتف سبالي واصفع قفاي ولا ... تنظر إلى قدرتي ولا خولي
ولا عبيدي ولا فروشي ولا ... طيبي ولا حيلتي ولا حللي
إن يشق أعلاي باللطام فقد ... يسعد بالرهز بعده سفلي

وليس بعد المزاح يا بأبي ... في الرأس من حشمة ولا خجل
ولم يزل دائباً يشمرخ شا ... قولي ويختال لي على مهل
فحين أدليت كالحمار بدا ... يرفع أجلاله عن الكفل
وخر للوجه والجبين وقد ... رطب حول خصييه بالبلل
طعنته طعنة بصدق الأنا ... بيب أصم الكعوب معتدل
فقال: أوجعت جوف مقعدتي ... وظل يدعو بالويل والهبل
وقرقت بطنه وربتما ... حذرت من مثلها ولم أبل
ثم رماني بسلحة خطمت ... أنفي فزاولتها على يل
فقلت: يا سيدي ويا أملي ... أظن ذا السرم منبني ثعل
فقال: أخطأت إذ أسلت دمي ... فقلت: كلا والله لم يسل
أين النجيع القاني؟ فديتك من ... لطخ رجيع كالورس منسحل
ألا تبرزت لا أبالك أو ... شددت من باب سرمك النغل؟
فقال لما أنشأت تعفجني ... في استي برمح لم يعتصم سفلي
ألم تكن عالماً بأن سلا ... ح استي سلاحي في كل منتضل
خذ آبنوساً حليته ذهباً ... فالحلي أولى به من العطل
ولا تلمني فكيف أصنع في ... سرم شديد الحكال مؤتكل
تمنعه اللذة الحياء فتس ... رخي حواشي مثقف نغل
نعم وعاجلتني بجانفة ... أصمت ومرت في موضع العلل
عاجلت قلبي عن التحفظ في ... أمري برهز كالبرق مشتعل
وخاض جعسي أير به هوج ... يجوز حد الجنون والخبل
يا سيدي ما اسمه فقلت أبو ال ... أسود يكنى وليس بالدؤلي
فقال: يا حبذا أبو الأسود الزا ... هد فينا بسلحة قبلي
هل رابه غيرها وقد جعل ال ... ماء طهوراً لكل مغتسل
فامض وعد بعدها لترويني ... من بعد نومي علاً على نهل
ولا تخف بعدها وصاح بفرا ... ش قصير السربال نعتمل
فقال ذاك الفراش: ماك قد ... مت كذا فاغتسل ولا تبل
فهذه عادة لسيدنا ... مورثة عن أبيه لم تزل
ولم أزل في خزانة الفرش أي ... اماً مخلى في زي معتقل
حتى انثنت صعدتي وبان له ... في اناة الفتور والكسل
ثم تغني والأير في يده ... قد خف بعد العتو والثقل
يا دار هند بالخيف من ملل ... حييت من دمنة ومن طلل
وقال لي ويك في دمشق أخ ... للوقف والخرج والضياع بلى
وهو بحب السودان أعرفه ... وليس عن رأيه بمنتقل
فخذ كتابي وسر إليه ولا ... تترك مقالاً مذ قط لم يقل
وقل سرت بي في الليل ذعبلة ... تهدي صدور المهرية البزل
تمطو جماحاً إذا المطي ونت ... حتى تراخى لها من الجذل
أهوى بطون الأقطار في غسق ال ... لميل وآوي مناهل الوعل
وليس لي شافع إليك سوى ... فيشلة أسهلت أبا سهل
فإنه سوف يلتقيها ويح ... بوها إذا أقبلت بحيهل
وتغتدي عنده أعز من ال ... أهلين والأقربين والخول
فجئته واثقاً بقول أبي ... سهل ومن يسمع المنى يخل
فما حصلنا إلا على سهر ... يعمي ورهز يوهي القوى نكل
وكان هذا ابتداء معرفتي ... به، فحسبي فاقطع ولا تصل
وقد مضى يومنا بلا عمل ... ترجى له أجرة ولا أمل

ظننت للنيك قد دعيت، ولم ... أدري بأني دعيت للجدل
صرف عنه بعض الأدباء وهو ابن خيران العبد لأنه أصال ولم يصرفه صرف عنه بعض الأدباء وهو ابن خيران العبد لأنه أطال ولم يصرفه بعد منثور يتقدم ذلك:
قلت له: اذهب مصاحباً فلقد ... حدثت عنه بحادث جلل
فمر يسعى كأنه ثمل ... من سهر كده ومن ملل
يقول في سيره وقد وضح ال ... صبح: ألا رب واثق خجل
كان نكاح إبليس زوره ... بلا شهود ولا حضور ولي
لا بارك الله فيهما فلقد ... جاءا بما لا يجوز في الملل
وعدت بالله أستعيذ من ال ... سوء ومن كل موقف رذل
والحمد للواهب السلامة من ... جرح يداوي بهذه الفتل
وإن اتفق وجود المنثور ألحقته بعون الله وقدرته.

أحمد بن محمد الطائي الدمشقي
قال:
قد غدونا إلى صلاة الغداة ... ثم ملنا منها إلىالحانات
فشربنا مدامة كدم الخش ... ف عقاراً تضيء في الكاسات
فإذا شجها السقاة بماء ... أبرزت مثل ألسن الحيات
وكأن الأنامل اعتصرتها ... من شقيق الخدود والوجنات
أبو محمد الموصلي
قال يرثي أم الأمير أبي الحسن علي بن عبد الله بن حمدان، وقد رثاها الناس على طبقاتهم:
يا أميراً علا على النجم همه ... مثل ما قد زرى على الخلق عزمه
أكثر الناس في التعازي وقالوا ... كل معنىً ينسي أخا الهم همه
فاختصرت العزاء في نصف بيت ... كل خطب إذا تعدك نعمه
أبو محمد الحسن بن علي بن وكيع التنيسي
شاعر بارع. وعالم جامع. قد برع في إبانه، على أهل زمانه، فلم يتقدمه أحد في أوانه. وله كل بديعة تسحر الأوهام، وتستعبد الأفهام. فمن ملح شعره وغرائبه قوله من قصيدة مربعة:
رسالة من كلف عميد ... حياته في قبضة الصدود
بلغه الشوق مدى المجهود ... ما فوق ما يلقاه من مزيد
جار عليه حاكم الغرام ... فدق أن يدرك بالأوهام
فلو أتاه طارق الحمام ... لم يرده من شدة السقام
له اهتزاز وارتياح وطرب ... لوجه من أورثه طول الكرب
فهل سمعتم في أحاديث العجب ... بمن مناه قرب من منه العطب
ما غاب عنه الحزم في الأمور ... لكن مقدار الهوى ضروري
صاحبه يخبط في ديجور ... منفسد التقدير بالمقدور
إذا التقى في مسمعيه العذل ... وقيل من دون المراد القتل
قال لهم لوم المحب جهل ... إن الهوى يغلب فيه العقل
ما العذر في السلوة عن غزال ... منقطع الأقران والأشكال
تستخلف الشمس لدى الزوال ... ضياء خديه على الليالي
بخفة الروح احتوى صلاحي ... فصرت لا أرغب في الفلاح
والشكل والخفة في الأرواح ... أملح ما يعشق في الملاح
من عشق الفدم وإن دق البصر ... فليقصد البيعة وليهو الصور
من كان يهوي منظراً بلا خبر ... فما له أوفق من عشق القمر
ظبي سلوي عنه مثل جوده ... خياله أكذب من موعوده
أجفانه أسقم من عهوده ... أردافه أثقل من صدوده
يا وصله صل مثل وصل صده ... يا حكمه كن في اعتدال قده
يا قلبه كن رقة كخده ... يا خصره كن مثل ضعف عهده
أما وخصر ضعفه كصبري ... له ووجه حسنه كشعري
له عذار قام لي بعذري ... لا تبت من شوقي إليه دهري
أضحى لإبليس به استقدار ... على بني آدم واستبشار

وقال: في ذا تستطاب النار ... ما لهم عن مثل ذا اصطبار
تمت لي الحيلة في العباد ... أدركت من صالحهم مرادي
بمثل ذا أمكنني إفسادي ... لأنفس العباد والزهاد
والهفتني من خده الأسيل ... إذا انجلى عن صفحتي صقيل
واحربي من طرفه الكحيل ... من منصفي منه ومن مديلي؟
من مقلة كالصارم البتار ... ألحاظها أمضى من المقدار
تحكم في لبي وفي اصطباري ... نظير حكم الدهر في الأحرار
حل قواي العقد من زناره ... ألهب قلبي خده بناره
عذر صبري مبتدا عذاره ... حيرني بالطرف واحوراره
جاء بوجه حسنه محبوب ... تطيب في أمثاله الذنوب
وقامه ذل لها القضيب ... والقد تنقد به القلوب
هفا قلبي منه إفراط الهيف ... فقلت لما أن تثنى وانعطف:
يا سيدي من دون ذا الميل التلف ... وشرط من كان ظريفاً في القطف
ما قصر القامة مثل الطول ... ولا البدين الجسم كالمهزول
عشق الرشيق الأهيف المجدول ... شأن ذوي الأفهام والعقول
لا يعشق الضخم الغليظ الجسم ... غير غليظ الطبع جاف فدم
يا حاكماً جانب في العلا ... مهلاً بمن يهواك مهلاً مهلا
يا ظالماً يقتلني مجاهره ... قد منع الوجد من المساتره
هلم إن شئت إلى المناظره ... واستعمل الإنصاف لا المكابره
في أي دين حل قتل الروح ... وهل لما تفعل من مبيح
إن قلت ذا جاء عن المسيح ... فليس ما تزعم بالصحيح
مرقص ما أخبرنا بذا الخبر ... عنه ولا لوقا حكاه في الأثر
وقد نهى عن ذا يوحنا وزجر ... ولا ارتضى متى به ولا أمر
أربعة ليس لهم عديل ... ولا لهم في أمرهم كفيل
ما فيهم من قال ما تقول ... فهل سوى إنجيلهم إنجيل
فإن زعمت أن ذا موجود ... في زبر جاء بها داود
فما الزبور بيننا مفقود ... فكيف لم تعلم به اليهود
ولم يخبر أحد سواكا ... من النصارى كلهم بذاكا
لا تتقول غير ما أتاكا ... وغلب الحق على هواكا
سفك دمي يحظر في الأديان ... فدع حجاجاً ظاهر البطلان
لا تجمع الإثم مع البهتان ... وكن على خوف من العدوان
واعلم بأني إن تمادى بي الهوى ... وخفت أن أتلف من فرط الضنى
ودمت في هجرك لي كما أرى ... ولم أجد منك لما بي مشتكى
شكوت ما تلقاه نفسي البائسه ... من خطرات للهموم هاجسه
عفت رسوم الصبر فهي دارسه ... إلى جميع عصبة الشمامسه
فإن هم لم يرحموا أنيني ... وخيبوا في قصدهم ظنوني
ولم أجد في القوم من معين ... ينصفني منك ولا يعديني
شكوت ما يلقى من الأحزان ... قلبي إلى مشيخة الرهبان
عساك تستحي من الشيخان ... وإن تهاونت بهم من شاني
فلا أراك مغضباً عبوسا ... إذا أتيت أسأل القسيسا
معونة أرجو لها التنفيسا ... عن مهجة قاربت النسيسا
واعلم بأني إن رددت شافعي ... هذا ولم يرجع بأمر نافع
فليس ذا بحاسم مطامعي ... كم طالب جد بجد مانع
لو كنت مبذولاً لنا لم تطلب ... وإنما نرغب إذ لم ترغب

وكلت النفس بترك الأقرب ... وشدة الحرص على المستصعب
وإن تماديت على جفائكا ... ودمت بالقلة من حبائكا
في هجرنا على قبيح رأيكا ... واستيأس الرهبان من إصطفائكا
فلا تلمني إن قصدت الأسقفا ... من برح السقم به رام الشفا
فلا تقل أبديت مكنون الخفا ... أنت الذي أحوجتني أن أكشفا
سوف إلى المطران أنهي قصتي ... إن دام ما تؤثره من هجرتي
فإن رثى لي طالباً معونتي ... ولم تشفعه بكشف كربتي
شكوت إن حالفته فيما حكم ... يدخلك الحرم فويل من حرم
هناك تأتي مستقيلاً ظلمي ... تسألني عطف الرضى بالرغم
ترضى بما ينفذ فيك حكمي ... إذا بك اشتد عذاب الحرم
دع ذا فهذا كله تهديد ... أرجو به قربك يا بعيد
هيهات سري أبداً جحود ... فيك وقولي كلما تريد
مولاي قد ضاقت بي الأمور ... فقلت ما قلت وقولي زور
قلبي إلا في الهوى جسور ... فلا تلم أن ينفث المصدور
مولاي بالرحمن أحي مغرما ... يخاف أن تغضب إن تظلما
إليك أشكو فعسى أن تنعما ... مهلاً قليلاً قد قتلت المسلما
يا جرجس ارفق بفؤاد هائم ... يا سيدي خف سوء عقبي الظالم
وقد رضينا بك في التحاكم ... والجور لا يشبه فعل الحاكم
أقصى رجائي منك نيل الود ... وقبلة تشفي غليل الوجد
يا جائراً أفرط في التعدي ... منك إليك في الهوى أستعدي
وقال في أزمن السنة مزدوجة:
يا سائلي عن أطيب الدهور ... وقعت في ذاك على الخبير
سألتني أي الزمان أحلى ... وأيه بالقصف عندي أولى
عندي في وصف الفصول الأربعة ... مقالة تغني اللبيب مقنعه
فصل الصيف:
أما المصيف فاستمع ما فيه ... من فطن يفهم سامعيه
فصل من الدهر إذا قيل حضر ... أذكرنا بحره نار سقر
تبصر فيه النبت مقشعرا ... والأرض تشكو حره المضرا
نهاره مقسم بين قسم ... جميعها يعاب عندي ويذم
أوله فيه ندى مبغض ... كأنه على القلوب يقبض
يلصق منه الجسم بالثياب ... وتعلق الأذيال بالتراب
حتى تراها مثل منديل الغمر ... فيهن تخطيط كتخطيط الحبر
حتى إذا ما طردته الشمس ... وفرحت بأن يزول النفس
فتحت النار له أبوابها ... وشب فيها مالك شهابها
حر يحيل الأوجه الغرانا ... حتى ترى الروم بها حبشانا
يعلو به الكرب. ويشتد القلق ... وتنضج الأبدان منه بالعرق
تبصره فوق القميص قد علا ... حتى ترى مبيضه مصندلا
إن كان رثاً زاد في تمزيقه ... أو مستجداً حل حبل زيقه
ثم يعيد الماء ناراً حامية ... تزيد في كرب قلوب الضاويه
شاربه يكرع في حميم ... كأنه من ساكني الجحيم
ينسيه ما يلقى من التهابه ... أن يحمد الله على شرابه
حتى إذا عنا انقضى نهاره ... وأرخيت من ليله أستاره
تحركت في جنحه دواهي ... سارية وأنت عنها ساهي
من عقرب يسعى كسعي اللص ... سلاحها في إبر كالشص
وحية تنفث سماً قاتلا ... تزود الملدوغ حتفاً عاجلا
تبصر ما في جلده من الرقش ... كوجنة مصفرة فيها نمش
لو نهشت بالناب منها الخضرا ... لبترت منه الحياة بترا

فإن أردت الشرب في إبانه ... على الذي وصفته من شانه
أبشر بما شئت من الصراع ... فضلاً عن التهويس والصداع
وعلل تعجز إحصاء العدد ... من جرب ومن دوار ورمد
وبعد حمى الكبد لا تنساه ... لأنه أول ما تلقاه
ولا تقل إن جاء يوماً أهلا ... فلعنة الله عليه فصلا
فصل الخريف:
حتى إذا زال أتى الخريف ... فصل بكل سوءة معروف
أهوية تسرع في كل الجسد ... وهو كطبع الموت يبساً وبرد
يخشى على الأجسام من آفاته ... فأرضه قرعاء من نباته
لا يمكن الناس اتقاء شره ... من اختلاف برده وحره
تبصره مثل الصبي الأرعن ... في كثرة التغيير والتلون
فإن أردت الشرب للعقار ... في حينه بالليل والنهار
فأنت منه خائف على حذر ... لأنه يمزج بالصفو الكدر
أحسن ما يهدي لك النسيما ... يقلبه في ساعة سموما
وهو على المعدود من ذنوبه ... خير من الصيف على عيوبه
فصل الشتاء:
حتى إذا ما أقبل الشتاء ... جاءتك منه غمة غماء
أقبل منه أسد مزير ... له وعيد وله تحذير
لو أنه روح لكان فدما ... أو أنه شخص لكان جهما
يأتيك في إبانه رياح ... ليس على لاعنها جناح
حراكها ليس إلى سكون ... تضر بالأسماع والعيون
يحدث من أفعالها الزكام ... هذا إذا ما فاتك الصدام
ثم يليها مطر مداوم ... كأنه خصم لنا ملازم
يقطعنا بغضاً عن الطريق ... وعن قضاء الحق لصديق
وربما خر عليك السقف ... وإن عفا عنك أتاك الوكف
هذا وكم فيه من المغارم ... وكثرة الإنفاق للدراهم
في ملبس يدفع شر برده ... يكف عنا منه غرب حده
ملابس تعيي الجليد حملا ... كأنما يحمل منها ثقلا
يحكي بها المنحوف أصحاب السمن ... لكن تراه سمناً غير حسن
فإن أردت بالنهار الشربا ... فيه فقد قاسيت خطباً صعبا
واحتجب أن توقد فيه النارا ... تطير نحو الحدق الشرارا
تترك مبيض الثياب أرقطا ... تحكي السعيدي لك المنقطا
وبعد ذا تسدد الثقابا ... من خوفه وتغلق الأبوابا
نعم وترخي نحوه الستورا ... حتى ترى صاحبه ديجورا
فحسن لون الراح فيه لا يرى ... لأنه صار سواء والدجى
تشرب فيه إن شربت الخمرا ... ليس لأن تلهو أو تسرا
لكن لتحمي خضر الأعضاء ... فشربها ضرب من الدواء
وإن أردت الشرب في الظلام ... عاقك عن تناول المدام
حسبك أن تندس في اللحاف ... وخشية البرد على الأطراف
ورعدة تشغل عن كل عمل ... وتؤثر النوم وتستحلي الكسل
حتى إذا ملت إلى الرقاد ... نمت على فرش من القتاد
إن البراغيث عذاب مزعج ... لكل ما قلب وجلد تنضج
لا يستلذ جنبه المضاجعا ... كأنما أفرشته مباضعا
قبح فصلاً فوق ما ذممته ... لو أنه يظهر لي قتلته
حتى إذا ما هو عنا بانا ... وزال عنا بعضه لا كانا
فصل الربيع:
جاء إلينا زمن الربيع ... فجاء فصل حسن الجميع
لبرده وحره مقدار ... لم يكتنف حدهما الإكثار
عدل في أوزانه حتى اعتدل ... وحمد التفصيل منه والجمل
نهاره من أحسن النهار ... في غاية الإشراق والإسفار

تضحك فيه الشمس من غير حجب ... كأنها في الأفق جام من ذهب
وليله مستلطف النسيم ... مقوم في أحسن التقويم
لبدره فضل على البدور ... في حسن إشراق وفرط نور
كجامة البلور في صفائها ... أو غرة الحسناء في نقابها
كأنها إذا دنت من نحره ... جوزاؤه قبل طلوع فجره
رومية حلتها زرقاء ... في الجيد منها درة بيضاء
هذا وكم يجمع من أمور ... إسراف مطريها من التقصير
فيه تظل الطير في ترنم ... حاذقة باللحن لم تعلم
غناؤها ذو عجمة لا يفهمه ... سامعه، وهو على ذا يقرمه
من كل دبسي له رنين ... وكل قمري له حنين
في قرطق أعجل أن يوردا ... خاط له الخياط طوقاً أسودا
هذا وفيه للرياض منظر ... يفشي الثرى من سرها ما يضمر
سر نبات حسنه إعلانه ... إذا سواه زانه كتمانه
فيه ضروب للنبات الغض ... يحكي لباس الجند يوم العرض
من نرجس أبيض كالثغور ... كأنه مخانق الكافور
وروضة تزهر من بنفسج ... كأنها أرض من الفيروزج
قد لبست غلالة زرقاء ... فكايدت بلونها السماء
تبصرها كثاكل أولادها ... قد لبست من حزن حدادها
يضحك فيها زهر الشقيق ... كأنه مداهن العقيق
مضمنات قطعاً من السبج ... فأشرفت بين احمرار ودعج
كأنما المحمر في المسود ... منه إذا لاح عيون الرمد
أما ترى أترجه ما أحسنه ... يختال في غلائل مبينه
وانظر إلى الخشخاش إن نظرتا ... يحكي كرات ظوهرت كيمختا
وارم بعينيك إلى البهار ... فإنه من أحسن الأنوار
كأنه مداهن من عسجد ... قد سمرت في قضب الزبرجد
فانهض إلى اللهو ولا تخف ... فلست في ذلك بالمعنف
واشرب عقاراً طال فينا كونها ... يصفر من خوف المزاج لونها
من كف طبي من بني النصارى ... ألبابنا في حسنه حيارى
إذا بدا جماله لذي النظر ... قال: تعالى الله ما هذا بشر
يبدي جمالاً جل عن أن يوصفا ... لو أنه رزق حريص لاكتفى
تزينه أحشاء كشح طاويه ... وسرة محشوة بالغاليه
لا سيما مع مسمع وزامر ... قد سلما من وحشة التنافر
دونك هذي صفة الزمان ... مشروحة في أحسن التبيان
فاصغ نحو شرحها كي تسمعا ... ولا تكن لحقها مضيعا
وارض بتقليدي فيما قلته ... فإنني أدرى بما وصفته
ولا تعارضني في هذا العمل ... فإنني شيخ الملاهي والغزل
وقال أيضاً:
باعثاً لدعوتي غلامه ... وعاتبا من تركنا إلمامه
إذا أردت أن تزار في غد ... فلا تغال في الطعام واقصد
واعمد إلى ما أنا منه واصف ... فإنني بالطيبات عارف
ابعث فخذ عشراً من الرقاق ... تلذها نواظر الأحداق
تكاد مما رق من حرسائها ... تشف للأعين من صفائها
أرقها الصانع حتى خفت ... ولطفت أجسامها ومدت
تكاد لولا حذقه في صنعته ... تطيرها أنفاسه من راحته
حتى أتت في صورة البدور ... أو مثل جامات من البلور
حتى إذا فرغت منها متقناً ... ولم ير العائب فيها مطعنا
فاعمد إلى مدور من البصل ... فإنه أكبر أعوان العمل
يحكي لعينيك اخضرار قشره ... إذا رماه ناظر بفكره

غلائلاً خضراً على جسوم ... بيض رطبات من بنات الروم
حتى إذا أحكمته تقطيعا ... وقلت قد جودته صنيعا
خلطته باللحم خلطاً جيدا ... ولم تزل تخلطه مرددا
حتى إذا أنت أجدت فعله ... ثم جمعت في الرقاق شمله
صيرته يا ذا العلا السنيه ... شابورة ليست لها سميه
ثمت أغل الشبرق المقشرا ... من فوقه حتى تراه أحمرا
مكتسياً حلته الخمريه ... من بعدما عهدتها فضيه
ثم أدر كأس الشمول منعما ... أكرم بهذا مشرباً ومطعما
فلست في فعلك ذا مبذرا ... كلا ولا في حقنا مقصرا
وله في الروض:
أسفر عن بهجته الدهر الأغر ... وابتسم الروض لنا عن الزهر
أبدى لنا فصل الربيع منظراً ... بمثله تفتن ألباب البشر
وشياً ولكن حاكه صانعه ... لا لابتذال اللبس لكن للنظر
عاينه طرف السماء فانثنى ... عشقاً له يبكي بأجفان المطر
فالأرض في زي عروس فوقها ... من أدمع القطر نثار من درر
وشي طواه في الثرى صوانه ... حتى إذا مل من الطي نشر
أما ترى الورد كخدي كاعب ... روادها فامتنعت منه ذكر
كأنما الخمر عليه نفضت ... صباغها أو هي منه تعتصر
أخجله النرجس إذ جاد له ... فاحمر من فرط حياء وخفر
قال له العين وما الخد لها ... موازناً في عظم قدر وخطر
ماذا الذي يرجى لخد بهج ... مستحسن صاحبه أعمى البصر
فاحمر من حجته إذ ظهرت ... والحق لا يدفع يوماً إن ظهر
وانظر إلى النارنج في بهجته ... يلوح في أفنان هاتيك الشجر
مثل دنانير نضار أحمر ... أو كعقيق خرطت منه أكر
وانظر إلى المنثور في ميدانه ... يرنو إلى الناظر من حيث نظر
كجوهر مختلف ألوانه ... أسلمه سلك نظام فانتثر
كأن نور الباقلا إذا بدا ... روعها من قانص فرط الحذر
كأنه مداهن من فضة ... أوساطها بها من المسك أثر
كأنها سوالف من خرد ... قد زينت بياضها سود الطرر
وانظر إلى الأطيار في أرجائه ... إذا دعا الثاكل منها وصفر
كأنها تصفر في رياضها ... سرب قيان فوق بسط من حبر
فانهض إلى اللهو ولذات الصبا ... لامك من يعذل فيها أو عذر
فقلما يغنيك من يعذل في ... ما تشتهي حتى تواريك الحفر
فكيف هجران اللذاذات ولم ... يبد نهار الشيب في ليل الشعر
والنسك في عصر الصبا كأنه ... من قبحه خلع عذار في الكبر
يا لائماً يعذلني في طربي ... حسبك قد أكثرت من هذا الهذر
أعلاف فضل العقل إلا أنه ... لعيش من آثره عين الكدر
الجهل ينبوع مسرات الفتى ... والعقل ينبوع الهموم والفكر
فاجسر على ما تشتهي جهالة ... ما فاز بالذات إلا من جسر
واشرب عقاراً لو أصابت حجراً ... لطار من خفته ذاك الحجر
عدوة الحزن الذي ما ظفرت ... قط به إلا أساءت في الظفر
لو رام أن يجيره من كيدها ... صرف الزمان الحتم يوماً ما قدر
أرقها الدهر إلى أن شاكلت ... من رقة شعر جميل وعمر
خفية الحيلة في جسم الفتى ... تحدث في الجسم دبيباُ وخدر
كأنما الأوطار فيها جمعت ... فليس في العيش لجافيها وطر
لا سيما من كف ظبي لم يشن ... بفرط طول لا ولا فرط قصر
له سهام من لحاظ صيب ... كأنما يرمين عن قوس القدر

مزنر شككني في دينه ... حتى أحلت الكفر فيمن قد كفر
لأنه كالحور في تصويره ... والحور لا يسكنها الله سقر
لو لم يكن زناره في وسطه ... يمسك ضعف الخصر منه لانبتر
وبان منه نصفه عن نصفه ... لكنه جاء له على قدر
إن قلت يحكي قمراً عنفني ... عقل له أعدمه عند القمر
أنى يوازيه وهذا ناطق ... وذاك إن خوطب لم ينطق حصر
يا لك منه منظراً أشهى إلى ... قلبي من جنة عدن أو أسر
يا طيب ذي الدنيا لنا منزلة ... لو لم نكن نزعج منها بسفر
وقال أيضاً:
علل فؤادك والدنيا أعاليل ... لا يشغلنك عن اللهو الأباطيل
ولا يصدنك عن أمر هممت به ... من العواذل لا قال ولا قيل
فخير يوميك يوم أنت فيه إذا ... ميزت في الناس محمود ومعذول
وإن أتوك فقالوا كن خليفتنا ... فقل لهم إنني عن ذاك مشغول
فإن ذلك أمر مع نفاسته ... ونبله بفناء العمر موصول
وارض الخمول فلا يحظى بلذته ... إلا امرؤ خامل في الناس مجهول
ولا تبع عاجل الدنيا بآجل ما ... ترجو فذلك أمر شأنه الطول
واسفك دم القهوة الصهباء تحي به ... روحي فإن دم الصهباء مطلول
يا خائف الإثم فيها حين تشربها ... لا تقنطن فعفو الله مأمول
قم فاسقني النض مما حرموه، ولا ... تعرض لما كثرت فيه الأقاويل
من قهوة عتقت في دنها حقباً ... كأنها في سواد الليل قنديل
عروس كرم أتت تختال في حلل ... صفر على رأسها للمزج إكليل
كأنها بأكف القوم إذ جليت ... ذوب من الذهب الإبريز محلول
في فتية جعلوا للهو طاعتهم ... فما لهم عن طريق اللهو معدول
جليسهم ليس يروى من حديثهم ... يوماً وبعض حديث القوم مملول
لا كالذين إذا ما كنت حاضرهم ... ففي سكوتهم المأمول والسول
ترى مجالسهم مملوءة لجباً ... وكل ذاك فضول عنك معزول
وقال أيضاً:
اشرب فقد طابت العقار ... وابتسم الورد والبهار
من قهوة ما انبرت لهم ... إلا وولى له انشمار
لها جيوش من الملاهي ... للهم قدامها الفرار
لألاؤها في الدجى نهار ... يظلم من نوره النهار
إذا استقرت حشا لبيب ... رأيته ما له قرار
لم يرها ناظر حديد ... إلا ثنى لحظه انكسار
خيالها جسمه لجين ... وجسمها شخصه نضار
كأنها تحته كميت ... عليه من فضة عذار
لها لدى حزن شاربيها ... ثأر وعند الحلوم ثار
فالحزن عن أهلها مطار ... والحلم في إثره مطار
فلا انتصار لذا عليها ... ولا عليها لذا انتصار
يسعى بها جؤذر غرير ... في لحظ أجفانه احورار
يحسن مني الوقار إلا ... فيه فما يحسن الوقار
أغار مني عليه حتى ... عليه من نفسه أغار
كل جمال ترى فمنه ... إذا تأملت مستعار
كأن صدغاً له تراه ... وهو على خده مدار
ميدان آس بدا جنياً ... أهلب في جانبيه نار
بيت من الحسن لي إليه ... حج مدى الدهر واعتمار
زيارة البيت كل عام ... ودهر ذا كله يزار
قلت له إذ بدا وقلبي ... من لاعج الشوق مستطار
يا جامع الحسن كل حسن ... للناس من شرطك اختصار
ما فضل الغانيات عندي ... عليك إلا امرؤ حمار
وقوله أيضاً:
اشرب فقد طابت المدام ... وافتر عن ثغره الغمام

من قهوة حرمت علينا ... والصبر عن مثلها حرام
جلت عن الوصف فهي شيء ... يدق شأنها الكلام
إذا استذم الأسى إليها ... فما له عندها ذمام
طوقها الماء سمط در ... ليس لمنثوره نظام
كأنها تحته كميت ... عليه من فضة لجام
إذا بدت للهموم ظلت ... وهي لإعظامها قيام
تلوذ منها فلا لواذ ... ينفع منها ولا اعتصام
في فتية كلهم كريم ... وخير من يصحب الكرام
يكسد سوق الفتاة فيهم ... ظرفاً ولا يكسد الغلام
أئمة كلهم عليم ... بكل ما فعله أثام
لكنني فيهم على ما ... وصفت من فضلهم إمام
وعندنا شادن غرير ... في لحظ أجفانه سقام
للحسن قدامه جيوش ... للصبر قدامها انهزام
يخف في حبه التصابي ... كمثل ما يثقل الملام
ذا العيش فافطن له وبادر ... من قبل أن يفطن الحمام
وانعم فعام السرور عندي ... يوم، ويوم الهموم عام
وقال أيضاً:
جانبت بعدك عفتي ووقاري ... وخلعت في طرق المجون عذاري
ورأيت إيثار الصبابة في الذي ... تهوى النفوس ممحق الأعمار
لا تأمرني بالتستر في الهوى ... فالعيش أجمع في ركوب العار
إن التوقر للحياة مكدر ... والعيش فهو تهتك الأستار
من تابعت أمر المروءة نفسه ... فنيت من الحسرات والأفكار
لا تكثرن علي إن أخا الحجا ... برم بقرب الصاحب المهذار
خوفتي بالنار جهدك دائباً ... ولججت في الإرهاب والإنذار
خوفي كخوفك غير أني واثق ... بجميل عفو الواحد القهار
أقررت أني مذنب ومحرم ... تعذيب ذي جرم على الإقرار
انظر إلى زهر الربيع وما جلت ... فيه عليك طرائف الأنوار
أبدت لنا الأمطار فيه بدائعاً ... شهدت بحكمة منزل الأمطار
ما شئت للأزهار في صحرائه ... من درهم بهج ومن دينار
وجواهر لولا تغير حسنها ... جلت عن الأثمان والأخطار
من أبيض يقق وأصفر فاقع ... مثل الشموس قرن بالأقمار
ناحت لنا الأطيار فيه فأرهجت ... عرس السرور ومأتم الأطيار
دار له اتصل البقاء لأهلها ... لم يحلفوا بنعيم تلك الدار
فانهض بنا نحو السرور فإنه ... ما زال يسكن حانة الخمار
فاشرب معتقة كأن نسيمها ... مسك تضوعه يد العطار
أخفى دبيباً في مفاصل شربها ... وأدق ألطافاً من المقدار
أحكامها في العقل إن هي حكمت ... أحكام صرف الدهر في الأحرار
يرضى على الأقدار شاربها الذي ... ما زال ذا سخط على الأقدار
وكأنها والكأس ساطعة بها ... ذوب تحلل في عقيق جاري
لا سيما من أغيد شادن ... يسبي العقول بطرفه السحار
فضل الغصون لأنها من غرسنا ... عند التأمل وهو غرس الباري
قد غيب الزنار دقة خصره ... حتى ظنناه بلا زنار
متنصر قويت على إسلامنا ... بالحسن منه حجة الكفار
قالوا أيصنع مثل هذا ربكم ... ويرى فساد صنيعه بالنار؟
مع مسمع حلفت له اوتاره ... أن لا تنافر رنة المزمار
فطن يحرك كل عضو ساكن ... تحريكه لسواكن الأوتار
شدوا إذا الحلماء زار حلومهم ... باعوا بطيب السخف كل وقار

والشدو أحسنه الذي لم يستمع ... إلا أطار العقل كل مطار
ذا العيش، لا نعت المهامه والفلا ... وسؤال رسم الدار والأحجار
لا فرج الرحمن كربة جاهل ... يبكي على الأطلال والآثار
وقال أيضاً:
قد رضينا من الغزال الكحيل ... بغرور العدات والتعليل
وهجرنا سواه وهو منيل ... وهويناه وهو غير منيل
فكثير البغيض غير كثير ... وقليل الحبيب غير قليل
يا عذولي زعمت صبري صواباً ... وطريق الصواب غير محيل
هلك العزم بين شوق صحيح ... أنا فيه، وبين صبر عليل
لا تعب من هويت بالبخل، إني ... لا أحب الحبيب غير بخيل
يجمل البخل بالملاح وإن كا ... ن بغير الملاح غير جميل
كل من سره حبيب جواد ... فلتطب نفسه بقرن طويل
وقال أيضاً:
ألست ترى وشي الربيع المنمنما ... وما رصع الربعي فيه ونظما
فقد حكت الأرض السماء بنورها ... فلم أدر في التشبيه أيهما السما
فخضرتها كالجو في حسن لونه ... وأنوارها تحكي لعينيك أنجما
فمن نرجس لما رأى حسن نفسه ... تداخله عجب بها فتبسما
وأبدى على الورد الجني تطاولاً ... فأظهر غيظ الوردفي خده دما
وزهر شقيق نازع الورد فضله ... فزاد عليه الورد فضلاً وقدما
وظل لفرط الحزن يلطم خده ... فأظهر فيه اللطم جمراً مضرما
ومن سوسن لما رأى الصبغ كله ... على كل أنوار الرياض تقسما
تجلب من زرق اليواقيت حلة ... فأغرب في الملبوس منه وأعلما
وألوان منثور تخالف شكلها ... فظل بها شكل الربيع متمما
جواهر لو قد طال فينا بقاؤها ... رأيت بها كل الملوك مختما
فقم فاسقني ما حرموه، فما أرى ... من العيش حلواً غير ما قيل حرما
وقال أيضاً:
قالوا عشقت كثير البخل ممتنعا ... فقلت هيهات عنكم غاب أطيبه
لو جاد هان وقيل الجود عادته ... وإنما عز لما عز مطلبه
وقال:
أرجي دنو الوصل من بعد بعده ... كما ترجى في الجدوب السحائب
وأكثر في الهجر العتاب كأنني ... لدهري من ظلم الكرام أعاتب
وأهوى مواعيد المنى عنك بالرضى ... وقد تمنع الآمال وهي كواذب
وقال:
حبذا زور أتاني ... طارقاً بعد اجتنابه
شق جنح الليل بدر ... لاح من ثني نقابه
طربت نفسي إليه ... وإلى طيب اقترابه
طرب الشيخ إذا ذك ... ر أيام شبابه
وقال:
خلعت في حبه عذاري ... وطاب لي العيش باشتهاري
وذقت طعم الجنون فيه ... فكان أحلى من العقار
إن أبد في حبه خضوعاً ... فليس ذل الهوى بعار
لو كان في الحب لي اختيار ... لكان تركي له اختياري
من روحه في يدي سواه ... فهو حقيق بأن يداري
لا تحمدوني على احتمالي ... هوانه واحمدوا اصطباري
وقال:
متى وعدتك في ترك الهوى عدة ... فاشهد على عدتي بالزور والكذب
أما ترى الليل قد ولت عساكره ... وأقبل الصبح في جيش له لجب
وجد في أثر الجوزاء يطلبها ... في الجو ركض هلال دائم الطلب
كصولجان لجين في يدي ملك ... أدناه من كرة صيغت من الذهب
قم بنا نصطبح صفراء صافية ... كالنار لكنها بلا لهب
عروس كرم أتت تختال في حلل ... صفر على رأسها تاج من الحبب
وقال:
قم فاسقني والخليج مضطرب ... والريح تثني ذوائب القضب
كأنها والرياح تعطفها ... صف ققنا سندسية العذب

والجو في حلة ممسكة ... قد طرزتها البروق بالذهب
وقال:
وسحاب إذا همى الماء فيه ... ألقت الرعد في حشاه البروقا
مثل ماء العيون لم تجر إلا ... ظل يذكي على القلوب حريقا
وقال:
جوهري الأوصاف يقصر عنه ... كل وصف لكل ذهن دقيق
شارب من زبرجد وثنايا ... لؤلؤ فوقها فم من عقيق
وقال:
صورة خالقه جامعاً ... لكل شيء حسن بارع
وكل حسن من جميع الورى ... مختصر من ذلك الجامع
وقال:
عشقت من لا ألام فيه وما ... يخلو من اللوم كل من عشقا
رأي الورى في سواه مختلف ... وأنت تلقاه فيه متفقا
وكل قلب إليه منصرف ... كأنه من جميعها خلقا
ألم فيه بقول إسحاق بن إبراهيم الموصلي: " خلق من كل قلب، فهو يغني كلا ما يشتهيه " .
وقال:
زارني في دجا الظلام البهيم ... قمر بات مؤنسي ونديمي
بحديث كأنه عودة الصح ... ة بعد يأس السقيم
تتلقى القلوب منه قبولاً ... كتلقي المخمور برد النسيم
وقال:
ظفرت بقبلة منه اختلاساً ... وكنت من الرقيب على حذار
ألذ من الصبوح على غمام ... ومن برد النسيم على خمار
وقال:
لا تلفين مقارناً ... من لا يزين من الصحاب
فالثوب ينفذ صبغه ... فيما يليه من الثياب
وقال:
ريق إذا ما ازددت من شربه ... رياً ثناني الري ظمآنا
كالخمر أروى ما يكون الفتى ... من شربها أعطش ما كانا
وقال:
حملت كأسه إلى شفتيه ... كأنه والظلام مرخى الإزار
فالتقى لؤلؤا حباب وثغر ... وعقيقان من فم وعقار
وقال:
وصفراء من ماء الكروم كأنها ... فراق عدو أو لقاء صديق
كأن الحباب المستدير بطوقها ... كواكب در في سماء عقيق
صببت عليها الماء حتى تعوضت ... قميص بهار من قميص شقيق
وقال:
سلا عن حبك القلب المشوق ... فما يصبو إليك ولا يتوق
جفاؤك كان عنك لنا عزاء ... وقد يسلى عن الولد العقوق
وقال:
كأن أوراق زهر ... للباقلاء بهية
خواتم من لجين ... فصوصها حبشية
وقال:
أسنى الأماني كلها ... وأجلى منها ما ينال
كأس ومسمعة وإخ ... وان تحادثهم ومال
وقال:
أبصره عاذلي عليه ... ولم يكن قبل ذا رآه
فقال لي لو هويت هذا ... ما لامك الناس في هواه
قل لي إلى إلى من عدلت عنه ... فليس أهل الهوى سواه
فظل من حيث ليس يدري ... يأمر بالحب من نهاه
وقال في ثقيل:
ما السقم في سفر والدين مع عدم ... يوماً بأثقل منه حين يلقاني
مالي عليه معين حين أبصره ... غير الصدود وتغميضي لأجفاني
وقال:
إن كان بعد اللقاء فودنا ... دان ونحن على النوى أحباب
كم قاطع للوصل يؤمن وده ... ومواصل بوداده يرتاب
وقال:
لا ووعد الوصل باللحظ على رغم الرقيب
واختلاس القبلة الحل ... وة من خد الحبيب
وسماع مستطاب ... جاء في لفظ مصيب
ما سوى الراح لداء ال ... هم عندي من طبيب
وقال:
يا من إذا لاحت محاسن وجهه ... غفرت بدائعها جميع ذنوبه
النجم يعلم أن عيني في الدجا ... معقودة بطلوعه وغروبه
إن كان تعذيب قلبي راحة ... لك فاجتهد بالله في تعذيبه
لو كان سفك دمي إليك محبباً ... لرأيتني متضرجاً بصبيبه
وقال:
ازهد إذا الدنيا أنالتك المنى ... فهناك زهدك من شروط الدين
فالزهد في الدنيا إذا ما رمتها ... فأبت عليك كعفة العنين
وقال:

لا تحسدن صديقاً ... على تزايد نعمه
فإن ذلك عندي ... سقوط نفس وهمه
وقال:
وجلنار بهي ... ضرامه يتوقد
بدا لنا في غصون ... خضر من الرى ميد
يحكى فصوص عقيق ... في قبة من زبرجد
وقال:
أقبل والعذل يلحونني ... فكلهم قال: من البدر؟
فقلت: ذا من طال في حبه ... منكم لي التعنيف والزجر
قالوا: جهلنا فاغتفر جهلنا ... فليس عن ذا لامرئ صبر
عذرك في الحب له واضح ... وما لنا في لومنا عذر
وقال:
بما يعنيك من فتون ... ومن فتور بها وسحر
وبالعذار الذي تولى ... خلع عذاري وبسط عذري
ومضحك منك لؤلؤي ... ممتزج مسكه بخمر
جد بالصفح عن ذنوبي ... أولا فعاقب بغير هجر
وقال:
عدت إلى الغي بعد نسكي ... ولذ لي فيك طعم محكي
أضحك للكاشحين جهراً ... ولي ضمير عليك يبكي
تمنعني أن أبوح نفس ... تأنف من ذلة التشكي
عيني التي أوقعت فؤادي ... يا عين ماذا لقيت منك
وقال:
واحربي من جفون ظبي ... أقام عذري به عذاره
أسقم جسمي بسقم طرف ... حيرني في الهوى احوراره
عجبت من جمر وجنتيه ... يحرقني دونه استعاره
هذا اختياري فأبصروه ... شاهد عقل الفتى اختياره
وقال:
لا تقبلن من الرشيد كلامه ... وإذا دعاك أخو الغواية فاقبل
ودع التزمت والتجمل للورى ... فالعيش ليس يطيب بالمتجمل
واشرب مزعفرة القميص سلافة ... من صبغة البردان أو قطربل
كأس إذا رمت الهموم بسهمها ... لم يخط نافذه سواء المقتل
تحلو وتعذب في النفوس كأنها ... كبت العدو ورغم أنف العذل
حمراء يرحب كل صدر ضيق ... معها ويفتح كل باب مقفل
تحكي ضرام النار إلا أنها ... نار لعمرك ليس تؤذي المصطلي
لا سيما من كف طاوية الحشا ... ترنو بناظرتي خذول مطفل
وقال:
كتبت وفرط شوقي قد عناني ... وقد بعد اللقاء على التداني
وما في البيت لي ثان فكن لي ... جعلت فداك يا مولاي ثاني
فعندي ما يجاوز كل وصف ... وما يرضى الخليل إذا أتاني
خروف أظهر الشواء فيه ... تأنقه فليس له مداني
غلالة باطن منه لجين ... وظاهره غلالة زعفران
وكأس مثل عين الديك صرف ... لها حبب كمنظوم الجمان
لها في كف شاربها شعاع ... تطرف منه مبيض البنان
يطوف بشمسها قمر منير ... تمكن طالعاً في غصن بان
وإن أحببت مسمعة أتتنا ... محذقة بأصناف الأغاني
تطلق هم سامعها ثلاثاً ... بتحريك المثالث والمثاني
فهذا عندنا، ولدون هذا ... لعمرك ما كفاك وما كفاني
فزرنا لا عدمتك من صديق ... تتم لنا بزورته الأماني
وقال:
فحم شبه الغلام وأدلى ... في كوانينه حياة النفوس
كان كالآبنوس غير محلى ... فغدا وهو مذهب الآبنوس
لقي النار في ثياب حداد ... فكسته مصبغات عروس
وقال:
بت ضفاً لسيد يمني ... فقراني والجود قدماً يماني
وأتت عرسه تغازل إيري ... قلت لا تفعلي فلست بزاني
ولو أني فعلت ما كنت ممن ... يتصصدى لنسوة الإخوان
فأتاني وقال نكها بعيشي ... فهي موقوفة على الضيفان
قلت قد زدت في الضيافة معنىً ... ما عرفناه في قديم الزمان
قال من أجل ذاك طار لي اسم ... وألح الضيوف في غشياني

فمتى يدعى مع اسمي ضيوف ... قيل مرعى وليس كالسعدان

القاضي أبو الحسن علي بن النعمان
أنشدني له ابن وهب:
ولي صديق ما مسني عدم ... مذ وقعت عينه على عدمي
أغنى وأقنى فما يكلفني ... تقبيل كف له ولا قدم
قام بأمري وأقنى فما يكلفني ... تقبيل كف له ولا قدم
قام بأمري لما قعدت به ... ونمت عن حاجتي ولم ينم
وأنشدني له أيضاً:
صديق لي له أدب ... صداقة مثله نسب
رعى لي فوق ما يرعى ... وأوجب فوق ما يجب
فلو نقدت خلائقه ... لبهرج عندها الذهب
إسحاق بن أحمد المارديني
أنشدني له ابن وهب يصف الثريا:
أرقني الشوق فلم أكتحل ... بلذة الغمض إلى الفجر
تسري همومي فأراعي بها ... كواكباً دائبة تسري
حتى كأن البدر إذ أشرقت ... على الثريا غرة البدر
صفحة مرآة وقد أذهبت ... بمقبض رصع بالدر
وله في الليل والنجوم:
كم مجهل بسواد الليل ملتبس ... باتت تقمه العيس المراسيل
ليل قد اختلفت أشكال أنجمه ... كأنهن عيون للدجى حول
تبدو الثريا ككف للدعاء بها ... قد مدها الصبح والجوزاء إكليل
تلوي رقاب المطايا من تطاوله ... وينهض الفجر فيه وهو مشكول
القاضي أبو عبد الله محمد بن النعمان
أنشدني له عبد الصمد بن وهب هذه الأبيات وهي مما يتغنى بها:
رب ليل لم أذق فيه الكرى ... حظ عيني فيه دمع وسهر
طال حتى خلته لا ينقضي ... ونأى الصبح فما منه أثر
غاب عني قمر أحببته ... فتعللت بأنوار القمر
كلما هيج شوقي حزني ... صحت يا ليلي أما فيك سحر
وقال:
رب خود عرفت في عرفات ... سلبتني في حسنها حسناتي
حرمت يوم أحرمت نوم عيني ... واستباحت حماي باللحظات
وأفاضت مع الحجيج ففاضت ... من جنوني سواكب العبرات
ولقد أضرمت بقلبي جمراً ... حين راحت للرمي بالجمرات
لم أنل من منى النفس حتى ... خفت بالخيف أن تكون وفاتي
وقال يصف الهلال:
انظر إلى حسن ذا الهلال وقد ... بدا لست مضين من عمره
وقد أطافت به كواكبه ... حسناً فبينته لمعتبره
مثل زناد قد صيغ من ذهب ... يقدح ناراً وهن من شرره
ثم تولى يريد مغربه ... في شفق الشمس وهي في أثره
فخلته غائصاً ببحر دم ... يقذف بالرائعات من درره
فلم أزل ليلتي أراجعه ... لحظي وأبكي للوقت من قصره
حتى تبدى الصباح منتبهاً ... قبل انتباه المخمور من سكره
وقوله في مليح بعمامة حرير حمراء:
يا من يمر ولا تم ... ر به القلوب من الحرق
بعمامة من خده ... أو خده منها سرق
فكأنها وكأنه ... قمر أحاط به شفق
فإذا مشى وإذا انثنى ... وإذا رنا وإذا نطق
شغل الجوارح والخوا ... طر والمسامع والحدق
صالح بن مؤنس
أنشدني له ابن وهب في ابن رشدين صالح:
يفديك بالمهجة يا صالح ... من كل ما يكرهه صالح
فأنت غصن صيغ من درة ... على ذراه قمر لائح
وله فيه بديها:
شربنا مثل ماء الور ... د في الطيب على الورد
ونادمت ابن رشدين ... فما حدت عن الرشد
فتى كالبدر في الرفع ... ة والإشراق والسعد
كأني منه في الجن ... ة لو أظفر بالخلد
وله فيه:
بك يا صالح أرضى ... عن زماني حين أسخط
فأدم لي الوصل إني ... بك في العالم أغبط
أنت والرحمن مذ كن ... ت على قلبي مسلط

ومصيب أنا في ال ... حب ومن بعدي يغلط
يا جواداً في لهاه ... بنداه أتبسط
أسقط الحشمة في العش ... رة فالحشمة تسقط
وله جارية اسمها خمرة وأضمره:
ما اسم إذا صحفته وعكسته ... ونقصت حرفاً منه كان سلاحا
وإذا قام ولم يحل عن حاله ... عادى العقول وصالح الأرواحا
وله في بعض آل الفرات:
قد مر عيد وعيد ... ما اخضر لي فيه عود
وكيف يخضر عودي ... والماء منه بعيد
يا من له عدد المج ... د كلها والعديد
آل الفرات نداهم ... على الفرات يزيد
وأنت فضلك فيهم ... عليك منه شهود
وكل يوم لغيري ... من راحتيك مدود
هل لي إلى الرزق ذنب ... إن كان منه صدود؟
ما الناس إلا شقي ... في دهرنا وسعيد
وقال في صفة جدي:
جد لي بجدي نعته من اسمه ... لم يلج التنور مثل جسمه
كأن بين جلده ولحمه ... لفات قطن بسطت من شحمه
يؤكل من نعمته بعظمه
وله يصف رءوسا:
قد غدونا على رءوس سمان ... ناعمات من أرؤس الخرفان
وارمات الخدود من غير سوء ... شحمات العيون والآذان
تتداعى بالوهم من قبل أن تل ... مسها كف آكل ببنان
ولأصل اللسان طيب ينسي ... ك من الطي مص طرف اللسان
ورقاق ذي نعمة وبيا ... ض وتنسيك خضرة البستان
وأتت راحنا التي هي في الأر ... واح مثل الأرواح في الأبدان
ثم وافى بنفسج في حداد ... فرأينا السرور في الأحزان
عند حر يستنفد الوصف مدحاً ... وهو عبد لسائر الإخوان
أحكمتك الأيام يا ابن حكيم ... فأريت الزمان حكم الزمان
وقال أيضاً:
سأدمن شرب الراح ما دمت باقياً ... وأمد من شرابها كل مدمن
فما تكمل الأوقات إلا بقهوة ... ولا تحسن الأيام إلا لمحسن
وقال:
إذغ هجا الشاعر في خفية ... وخفض الصوت عن الرفع
ولاذ بالجحد لما قاله ... فإنما خاف من الصفع
وقال في يوم شديد البرد:
هذا لعمرك يوم يستطير له ... من قره شعر الهامات بالرعد
لو شئت لا خائفاً لذعاً ولا ألماً ... قبضت فيه على جمر الغضا بيدي
وله في غلام صوفي:
عشقت صوفياً له شاهد ... يقيم عذري عند عذالي
قد قصد الله بأحواله ... فليته يقصد في حالي
وقال يهجو عبيد الله بن أبي الجوع من قصيدة أولها:
هاجيك فيما قاله مادح ... فأنت في صفتك الرابح
وما يقوت الفيل من بقة ... أمثالها في فمه طائح
ورب من ترفعه خزية ... ميسمها في وجهه لائح
ففخر عبد الله في الناس أن ... يقول ناقضني صالح
يا ابن أبي الجوع قدحت امرءاً ... من فكره يحترق القادح
لقد تعرضت على غرة ... قريحة صاحبها قارح
فاركب ذلول الأمر أو صعبه ... في فقد جد بك المازح
وعق من أهلك من شئته ... فإنما أنت له فاضح
واغد بما تهوى وروح إنني ... غاد بما تكرهه رائح
يا أيها الصعو الذي لم يزل ... يرقص حتى دقه الجارح
ومنها:
إن زأر الليث على ما أرى ... وهاج يوماً ضرط النابح
وود أن يفلت من بعدما ... أنحى على أوداجه الذابح
إن الذي تطمع في قربه ... نجم لمن يرمقه لائح
يا شارباً في يده حتفه ... لم تدر ما خاض لك الجارح
أراك قد لججت في غمرة ... يغرق في تيارها السابح

فقد تمرست بمن شعره ... كالبحر لا ينزفه الماتح
كم جامح قبلك ألجمته ... بالذل حتى سكن الجامح
وقوله:
يا ذا الذي عن رشده قد عمي ... لو كنت جلداً حدت عن أسهمي
لو كنت شهماً حازماً ضابطاً ... لما تقلبت على الشيهم
ما أنت في فعلك إلا كمن ... تطعم الريق من الأرقم
كيف يخوض البحر من مثله ... يغرق في دائرة الدرهم
فاثبت أو أجزع كل ذا واحد ... لا عاصم اليوم لمستعصم
استقدر الله على كا ما ... ألصق منك الأنف بالمرغم
تجاسر الجوع على صالح ... تجاسر الكلب على الضيغم
وفاه باسمي مفصحاً بعدما ... تركته أسكت من أبكم
وقال قوم قد غدا شاعراً ... والشعر لا يعرف للمفحم
فقلت لا لوم على مثله ... من أخذ الصفع قفاه حمي
أنا الذي ألبسته حسرة ... بما جرى من ذكره في فمي
والله لا يجهل من بعدها ... وفي قفاه للردى ميسمي
أبين به من ميسم واضح ... يضيء كالغرة في الأدهم
فليت شعري كيف رام العلا ... وهم أن يرقى بلا سلم؟!
ومنها:
ثم أتت بالصعو مستبشراً ... يروم أن يلحق بالقشعم
في الثمر المر دليل على ... رداءة الأصل لمستطعم
وله فيه:
لا تعجبي لسكوتي بعد أشجاني ... فالعذر عن كل ما أهواه أسلاني
قد أرقأ الله دمعي بعد جريته ... وأنفذ القلب من هم وأحزان
فما أرى أحداً يصفي الهوى أحداً ... وجود هذا رعاك الله أعياني
لم يبق بين الورى إلا مكاشرة ... تبدو لنا عن صدور ذات أضغان
أقول لابن أبي الجوع المنافق إذ ... لم ينهه الحلم عني وهو ينهاني
أراك تقرعني سراً وتعجمني ... فهل وجدت صفاتي غير صوان
ترد في جبهة النقار معوله ... إذا تضعضع عنها كل كدان
العز داري وظهر العزم راحلتي ... والوحش أنسي وجن الأرض إخواني
وله في العناق، وأحسن ما شاء:
لي سيد ما مثله سيد ... تصدت الحمى له فاشتكى
عانقته عند موافاتها ... والأفق بالليل قد احلولكا
فجاءت الحمى كعاداتها ... فلم تجد ما بيننا مسلكا
وقوله يصف برادة على حامل نحاس:
أم الحياة على سرير نحاس ... عريانة أبداً بغير لباس
هي في الموات لدى الورى معدودة ... لكنها ضمنت حياة الناس
وقوله:
بعين الله أنت فإن عيني ... إذا ما غبت دامية الجفون
كأنك مهجتي فإذا تدانى ... فراقك حم لي ريب المنون
وقال يصف البنفسج والورد:
بنفسج جاء في حداد ... ووردنا في معصفرات
فاشرب على مأتم وعرس ... جلا جميعاً عن الصفات
وسأله ابن رشدين المسير معه إلى القاش فقال مرتجلاً:
يا آمري بالمسير في لجج ال ... نيل كأن سخرت لي الريح
ما جمد الماء لي فأركبه ... كلاً، ولا صامت التماسيح

محمد بن الحسن اليمني
أنشدت له في صالح:
يا قاطعي بعد وصل ... تسوم ما لا أسومك
يا ليت أني يوماً ... من الزمان نديمك
فالشوق عندي غريم ... كما السلو غريمك
وقوله:
فاضح الغن النضير ... كاسف البدر المنير
أنت عذري في حياتي ... ومماتي ونشوري
ما سرور غاب عنه ... صالح لي بسرور
محمد بن هرون بن الأكتمي
أنشدت له في بعض الوزراء يهجوه:
يا وزيراً إلى المكا ... ييل والبيع ينسب
من يرم حبك يتعب ... وأمانيه تكذب
وإذا ما رجوته ... قلت ما مات أشعب
يا وضيعاً ترجل ال ... مجد مذ صار يركب

وله يهجو ابني كشاجم أبا النصر وأبا الفرج:
يا ابني كشاجم أنتما ... مستعملان مجربان
مات المشوم أبوكما ... فخلفتماه على المكان
وقرنتما في عصرنا ... ففعلتما فعل القران
لغلاء أسعار الطعا ... م وميتة الملك الهجان
وقوله في عزاء:
بقاؤكما يعيد الميت حياً ... وإن غطاه دونكما التراب
فلا تستشعرا حزناً عليه ... فيذهب لا عدمتكما الثواب
وله في غلامه راشد:
يا قمر الليل كن شهيدي ... فأنت من أعدل الشهود
هل نمت أو ذقت طعم غمض ... مذ هجعت أعين الرقود
وكيف يلتذ باغتماض ... من لج مولاه في الصدود
فكن شفيعي إلى حبيب ... قد زاد في كثرة الجحود
وقال رحمه الله:
كأن الأباريق مملوءة ... ظباء وقوف على ساحل
رماها بأسهمه قانص ... فخضبها بالدم السائل
وقوله في شمعة:
باكية ضاحكة ... خدامها جلاسها
مظهرة أنوارها ... إن جز منها راسها
كأنها عاشقة ... تذيبها أنفاسها
وقال:
لو أنصفت عطفت أو رقت ... ما أضنت الجسم ولا سلت
أفدي التي إن أقبلت أقبلت ... دنياي أو غنت لنا أغنت
وقال:
يا أيها ذا استمع مقالي ... فليس في قصتي ضلال
ثلاثة مالها مثال ... السجن والجوع والعيال
إن دام هذا علي منهم ... صححت ما شنعوا وقالوا
أليس إن مت مات شعري ... أفنى وما قلته يقال
وقوله:
أكثر العذال لومي ... يا ابن رشدين وزادوا
وبقلبي منك وجد ... ماله الدهر نفاد
قد تجافى عن جفوني ... مذ تجافيت الرقاد
فيك يا صالح للقل ... ب صلاح وفساد
أنا من حبك مولا ... ي عليل لا أعاد
وقوله:
دافعت أيامي بأيامي ... حتى مضى أكثر أعوامي
وإنما عمر الفتى كله ... كأنه طارق أحلام
يا ويح من أمسى على غرة ... وأنفه من حتفه دامي
يرمي بسهم للردى صائب ... من حيث لا يشعر بالرامي

عبيد الله بن محمد بن أبي الجوع
أحد رواة المتنبي الأدباء، وأصحابه العلماء، وممن تمهر في لغات العرب وأجاد أنواع الأدب، فمن شعره قوله رحمه الله تعالى:
أظنك يا سيدي إذ جفوت ... توهمت بي نبوة الغادر
وخلت بأني ملالاً سلوت ... ولست بسال ولا صابر
وقد علم الله أني علي ... ك أشفق مني على ناظري
وقال:
صالح يا مشبه بدر الدجى ... بالحسن والإشراق والرفعة
وجهك في الليل كشمس الضحى ... نوراً فما تصنع بالشمعة
وقال:
يا أطيب الناس ريحاً ... وأطيب الناس راحا
وما به أتصدى ال ... أطراب والأفراحا
هات اسقني أو تراني ... لا أعرف الأقداحا
واحفظ علي فؤادي ... من أن يطير ارتياحا
لو كنت كاسمك يا صا ... لح اعتمدت الصلاحا
لكن أبى الله إلا ... أن تفسد الأرواحا
قال: وكتب إلى بعض إخوانه يستدعيه بهذه الأبيات:
شعبان قد صار نضواً ... ولم نفد فيه لهوا؟!
وليس ذلك منا ... جهلاً ولا كان سهوا
فبالمودة إلا ... بكرت للقصف عدوا
حتى نقوم فنرفوا ... ما خرق الدهر رفوا
من بعد تقديم جدي ... مسمن ظل يشوى
له ثلاثون يوماً ... يحبو إلى الضرع حبوا
وأوفر الزور في الخ ... ل قد تبوأ مثوى
لما انتزعت حشاه ... عوضته البقل حشوا
وقد عنيت بجام ... ملأته لك حلوى
وقهوة بنت كرم ... صفت من الذم صفوا

ما شعشعت قط إلا ... سطت على الهم سطوا
جنبتها كل وغد ... يمحو المحاسن محوا
إلا إذا ما اقتنصنا ... عذب الخلائق حلوا
وشادن ذي دلال ... يشدو فيلهيك شدوا
إما غناءً وإما ... عجائباً عنه تروى
حتى تظل بما في ... ه من وقارك خلوا
وعندنا لك ورد ... يحدو المسرة حدوا
ريحانه لا يوازي ... لوناً وعطراً وسروا
فما اعتذارك في أن ... تفني زمانك صحوا
وأنت بعد قليل ... بالصوم والله تطوى
أبا علي ألا اسمع ... نصيحة ليس تزوى
فإنما نحن سفر ... على محجة بلوى
ولا تعرج ذميماً ... على معاهد حزوى
وله في أبخر:
لا تنفس في مجلس أنا فيه ... وتنفس سراً وراء الباب
ثم لا تعترض لسر صديق ... إن ذاك السراء سوط عذاب
إنما فوك فقحة كل وقت ... تتصدى الأنوف كالنشاب
تصرع الطائر المحلق في الج ... و ولو غاب في سواء السحاب
وقوله:
أرى اللذات تعبر بي يميناً ... على رغمي وتعبر بي شمالاً
فأجرع دونها غصصاً لأني ... أشاهدها وما أعطيت مالاً
وقوله:
وعذار مجعد ... فوق خد مورد
كلما رمت فرصة ... لسعت عقرب يدي

الحسن بن محمد الشهواجي
كتب إلى صالح بن رشدين يستهديه مشورباً في يوم نيروز:
اليوم يا صالح ما تبصر ... وصحو من مطله يكرر مستنكر
وقد مضى الوعد وحصلته ... وصفوة مثلي فيه مستنكر
فهات ما يحضر إني امرؤ ... يقنعه منك الذي يحضر
وله:
قولي ماض على العباد فما ... يرد في جده ولا لعبه
ولي لسان كأنه ظبة ال ... سيف طويل أكاد أعثر به
وقوله:
وقهوة كشعاع الشمس صافية ... شربتها مع شرب سادة كرما
إذا ثنوا أرؤس الفرسان في رهج ... حازوا الفخار وأجروا بالسيوف دما
إذا رأيتهم أيقنت أنهم ... نجوم كل فخار لا نجوم سما
وقوله:
تضيق بي الدنيا إذا كنت غائباً ... وأسرح في أقطارها حين تقرب
وأنت جناحي كلما طرت للعلا ... وسيفي الذي أسطو به حين أضرب
وقوله:
وقهوة في كأسها ... ترمي الندامى بالشرر
قد جمعت نشر الربا ... وبرد أنفاس السحر
أطيب ما شربتها ... على غناء ووتر
طوبى لمن حج إلى ... كعبتها ثم اعتمر
وقوله:
وعلو قدرك وهو أبعد غاية ... في كل حال من علو الكوكب
لأسيرن مديحك الحسن الذي ... ألبسته ثوب الثناء الطيب
حتى يحدث من بأرض المشرق ال ... أقصى حديثك من بأرض المغرب
وقوله:
ومهفهف ساق أغن سقيته ... قبل الصبوح سلافة عذراء
ما صاح ديك الصبح إلا صيحة ... حتى توسد كفه اغفاء
جعلته قبل رقاده كاسلته ... لما استقل لسانه فأفاء
أبو علي صالح بن رشدين الكاتب
أحد أئمة الكتاب، المهرة في سائر الآداب، صحب المتنبي وروى شعره، وكان جيد المعاني، أنشدني له محمد بن عمر الزاهر:
قل لمولاي منعماً ... لم صرمت المتيما
أنت أعطشتني إلي ... ك وأبكيتني دما
فإذا شئت أن ترى ... عاشقاً ميتاً ظما
فأدر في ناظري ... ك تجدني توهما
وقوله:
أجنة نحن فيها ... أم نحن في المرزجوش
ما بين آس وماء ... ينساب بين العروش
وقهوة ذات حسن ... وطاجن ذي نشيش
وسيد رشت منه ... لما تطاير ريشي

وزاره ابن أبي الزلازل في منزله، فلم يره، فطرح له رقعة من طاق في المنزل، وكتب اسمه على الباب. فلما أتى صالح ورأى اسمه على الباب ووجد الرقعة فقرأها فوجده يعتبه فيها على انقطاعه عنه، فذهب صالح في الوقت إلى منزل ابن أبي الزلازل فلم يجده. فكتب اسمه على بابه وترك رقعة فيها:
قد، ومن خصني بودك، أذكى ... طول شوقي إليك في قلبي نارا
سرت فيه تلقاء داري قصداً ... فإذا النور قد تغشى الديارا
فتعجبت أن أرى الأفق ليلاً ... مدلهماً وجوف داري نهارا
وإذا خطك البديع على البا ... ب يبت الضياء والأنوارا
فتمنيت أن خدي نعلا ... أخمصيك اللذين نحوي سارا
غير مستنكر لمثلك أن يس ... بق فضلاً وأن يفوت فخارا
ثم أصبحت أشتكي عثر السك ... ر وعزمي زيارتيك ابتكارا
فإذا رقعة تمر بها الري ... ح يميناً طوراً وطوراً يسارا
فتأملتها وكانت من اللا ... ئي تروق القلوب والأبصارا
ما توهمت أنني قبلها أق ... رأ خطاً يزيل عني الخمارا
قابلتني منها سهام عتاب ... جعلت درعي الحصين اعتذارا
وأحاشيك أن تكون خليلاً ... مذق الود للصديق معارا
فلما رأى ابن أبي الزلازل الرقعة كتب إليه بهذه الأبيات:
بأبي أنت سابق لا يجارى ... قاده نحوي اشتياق فزارا
عاقني الحظ أن أراه وأن نق ... ضي عند اجتماعنا الأوطارا
يا ابن رشدين قد أفدت بك الرش ... د وبدلت بعد عسر يسارا
كنت بالأمس عند إخوان صدق ... أدباء ندير كأساً عقارا
قد جعلنا محمود ذكرك نقلاً ... وشربنا من قبله تذكارا
ثم إني انصرفت سكران أعت ... س طريقي تمايلاً وعثارا
والدجى كالهموم في قلب من فا ... رق عشقاً وغربة وادكارا
أخبط الليل مفرداً إذ تراءى ... لي نور أضاء ثم استطارا
فهنيئاً إني أودك وداً ... ترتضيه مغيباً وجهارا
ثم أخبرتني بشكواك فيها ... فوقاني الإله فيك الحذارا
لم أزل دائباً أكرر قولي ... كان لي فيك حافظ الجار جارا

أحمد بن محمد العوفي
أنشدني له محمد بن عمر الزاهر قوله:
يا حسرة في نفوس ... ويا شجى في حلوق
يا فضة بين ثنيي ... غلالة من عقيق
علي لا زلت همي ... في صبحتي وعببوقي
ودون سلوة وجدي ... وجدان بيض الأنوق
وأنشدني أيضاً:
يا موقظاً طرف همي ... من بعد ما كان أغفى
تظن ما بت أخفي ... ه من جوى بك يخفى
ولي لسان دموع ... ما يكتم الناس حرفا
إذا تظلم طرفي ... وقعت بالطرف تكفى
وأنشدني له:
قد عابني برقادي ... خياله حين زارا
ولا وحبيه ما إن ... فعلت ذاك اختيارا
طعمت في أن أراه ... طوعاً فنمت اضطرارا
فتلك علة نومي ... يا ملزمي فيه عارا
القائد أبو تميم سلطان بن جعفر
كتب إلى صالح بن رشدين رسالة يستدعيه فيها إلى الشراب، فامتنع عليه وكتب له هذه الأبيات:
يا أيها القائد الجليل ومن ... أصبح بالمكرمات يفتخر
آليت لا أشرب المداد، وإن ... كانت ذنوب المداد تغتفر
يكفي أخا العقل أن سورتها ... تجني على عله ويعتذر
فكتب إليه القائد أبو تميم:
أبا علي حاشاك يا أملي ... من أن أراك الغداة تعتذر
قلبي إذا غبت ساعة قلق ... يكاد شوقاً إليك يستعر
فسر إلينا فوقتنا حسن ... ساعد فيه السحاب والمطر

قال ابن رشدين: حضرت عند القائد أبي تميم في ضيعة له، فلما عمل فينا الشراب نظرت إلى جارية له تسمى عبدة ذاهبة وجائية، فحملني النبيذ أن أخذت رقعة وكتبت فيها إليه:
صالح لا يزال يطلب عبده ... من كريم يصفي الأخلاء وده
قد بثثت الغداة وجدي وحبي ... من ولي يولي لمولاه مجده
فإذا شئت أن أرى لك عبداً ... فتفضل أبا تميم بعبده
فقرأها وأمسك، فارتعت وخفته، وتماديت في الشرب معه، ثم نهضت إلى منزل أنزلني فيه بقربه، فلما استقر بي انفذ لي الجارية ومعها درج فيه طيب كثير، وعليها ثياب رفيعة حسنة، ورقعة فيها شعر:
قد بعثنا أبا علي بعبده ... وقضينا بذاك حق المودة
وحمدناك إذ خطبت إلينا ... أسأل الله أن يهنيك حمده
فخذنها فأنت أكرم كفء ... وهي ما عشت كاسمها لك عبده
وقال الخادم الذي جاء بها: يقول لك مولاي: لا تخرج غداً من منزلك أو يأتيك رسولي. فلما أصبحت جاءني القائد أبو تميم بجواريه المغنيات وطباخه، معه طعام كثير قد أعده وشراب، فما زلنا نأكل ونشرب إلى الليل وانصرف فرحاً مسروراً.

أبو هريرة أحمد بن عبد الله
بن أبي العصام
أنشدني له ابن وهب:
لئن ذهبت أيام لذتنا الأولى ... بذي الأسل ما وجدي عليها بذاهب
ألا ليت أياماً مضت لم تكن مضت ... ففقدي لها يا صاح إحدى المصائب
رعى الله أيام السرور فإنها ... تمر سريعات كمر السحاب
وقوله في رثاء صالح:
قد أفسد الموت على صالح ... كل الذي أصلحه صالح
وانصرف البواب عن بابه ... وصاح في مجلسه الصائح
خلوه في دار البلى مفرداً ... وناح في أوطانه النائح
يا ليت شعري ما الذي قاله ... إذ راح في حفرته الرائح
يا أيها الناس ألا فاسمعوا ... قولي فإني مشفق ناصح
لا تؤثروا الدنيا على غيرها ... ففرق ما بينهما واضح
فالحمد لله وشكر له ... كل امرئ عن أهله نازح
وقوله:
من رسولي إليك أو من شفيعي ... يا شبيه الهلال عند الطلوع؟
أنت في القلب شاهد ليس يخلو ... من ضميري وأنت بين ضلوعي
وقوله:
أما ترى الغيم كالباكي بأربعة ... والأرض تضحك كالجذلان من فرح
فقم فديتك نشكو ما نكابده ... من الزمان وما نلقى إلى القدح
وقوله:
كم لي بدير القصير من قصف ... مع كل ذي نشوة وذي ظرف
لهوت فيه بشادن غنج ... تقصر عنه بدائع الوصف
وقوله:
أذكرتني يا دير من قد مضى ... من أهل ودي ومصافاتي
كم كان لي فيك وفيهم معاً ... من طيب أيام وليلات
أشكو إلى الله مصاباتهم ... وفقدنا أهل المروءات
وقوله:
كتمت حبك في قلبي فما وسعه ... هذا وليس له شغل سواه معه
يا من إذا ما بدت للناس صورته ... رأيت فيها فنون الحسن مجتمعه
والله ما حلت عما قد عهدت ولا ... أصغيت أذناً إلى العذال مستمعه
رفقاً بمن لو تسلى عنك يا أملي ... بكل شيء على الدنيا لما نفعه
أبو القاسم بن علي بن بشر الكاتب
أنشدني له محمد بن عمر الزاهر يصف العذار:
من عذيري إلى العذار الجديد؟ ... من رسولي إلى القريب البعيد؟
دب في خده العذار فحاكى ... ظلمة النحس في بياض السعود
وقوله:
أما ترى ناظراً شاهداً ... بالحب والأعين رسل القلوب
ودون إلحاح جفوني به ... تخبر عما في فؤادي الكئيب
وأنت لا شك به عالم ... لأن عند المرد علم الغيوب
وقوله:
ضممته ضم مفرط الضم ... لا كأب مشفق ولا أم
ولم نزل والظلام حارسنا ... جسمين مستودعين في جسم
ألثمه في الدجا وبرق ثنا ... ياه يريني مواقع اللثم

ثم افترقنا عند الصباح وقد ... أثرت فيه كهيئة الختم
وقوله:
إذا ذكرت أياديك التي سلفت ... مع قبح فعلي وزلاتي ومجترمي
أكاد أقتل نفسي ثم يدركني ... علم بأنك مجبول على الكرم
وقوله:
أنت مني بحيث مأوى الغرام ... وبحيث افتقاد طيب المنام
في فؤادي وناظري وهما من ... ك قرينا صبابة وانسجام
وقوله:
لحى الله امرءاً يوعيك سراً ... لتكتمه وفض الله فاه
فإنك بالذي استودعت منه ... أنم من الزجاج بما حواه
وقوله:
بيضاء جنح جبينها ... في ليل طرتها البهيم
ضدان ما اجتمعا لغي ... ر تشتت الصبر المقيم
ولذكرها أندى على ال ... أكباد من برد النسيم
ووصفت نعمة حسنها ... فنعمت في صفة النعيم
وقوله:
ديون المكارم لا تقتضى ... كما تقتضى واجبات الديون
ولكنها في قلوب الكرام ... تجول مجال القذى في العيون
وقوله:
طرفي على ما عهدت في أرقه ... فيك وقلبي يزداد من حرقه
ولي حبيب أقام معتنقي ... كما أقام الشهاب في غسقه
وجملة الأمر أنني رجل ... قدمت قبل الفراق من فرقه
هذا حديثي والشمل مجتمع ... فما حديثي في عقب مفترقه؟!
قال لي الزاهر: أخبرني ابن بشر أنه كان له جد لأم يعرف بكولان، وكان هو من أهل الأدب والكتابة، وحسن الشعر والخطابة قال لي حججت سنة من السنين، وجاورت بمكة حرسها الله، فاعتللت علة تطاولت بي، وضاق معها خلقي، ثم صلحت منها بعض الصلاح، ففكرت في أنني عملت في أهل البيت تسعاً وأربعين قصيدة مدحاً، فقلت: أكملها خمسين. ثم ابتدأت فقلت:
بني أحمد يا بني أحمد
ثن ارتج علي فلم أقدر على زيادة معظم ذلك علي واجتهدت في أن أكحل البيت فلم أقدر، فحدث لي من الغم بهذه الحالة ما زاد على غمي بإضافتي وعلتي، فنمت اهتماماً بالحال، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم، فجئت إليه فشكوت إليه ما أنا فيه من الإضافة وما أجده من العلة وأخرى من القلة، فقال لي: تصدق يوسع عليك، وصم يصح جسمك، فقلت له: يا رسول الله، وأعظم مما شكوته إليك أنني رجل شاعر أتشيع، وأخص بالمحبة ولدك الحسين وتداخلني له رحمة لما جرى عليه من القتل، وكنت قد عملت في أهل بيتك تسعاً وأربعين قصيدة، فلما خلوت بنفسي في هذا الموضع حاولت أن أكملها خمسين، فبدأت قصيدة قلت فيها مصراعاً وأرتج علي إجازته، ونفر عني كل ما كنت أعرفه فما أقدر على قول حرف، قال: فقال لي قولاً نحا فيه إلى أنه ليس لي هذا إلي، لقول الله تعالى: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " ثم قال لي: اذهب إلى صاحبك، وأومأ بيده الشريفة إلى ناحية من نواحي المسجد، وأمر رسولاً أن يمضي بي إلي حيث أومأ، فمضى بي الرسول على ناس معهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فقال له الرسول: أخوك وجه إليك بهذا الرجل، فاسمع ما يقوله، قال: فسلمت عليه، وقصصت عليه قصتي كما قصصت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: فما المصراع؟ قلت:
بني أحمد يا بني أحمد
فقال للوقت قل:
بكت لكم عند المسجد
بيثرب، واهتز قبر النبي ... أبي القاسم السيد الأصيد
وأظلمت الأفق أفق البلاد ... وذر على الأرض كالإثمد
ومكة مادت ببطحائها ... لإعظام فعل بني الأعبد
ومال الحطيم بأركانه ... وما بالبنية من جلمد
وكان وليكم خاذلاً ... ولو شاء كان طويل اليد
قال: ورددها علي ثلاث مرات، فانتبهت وقد حفظتها.

الحسن بن خلاد رحمه الله تعالى
أنشدني الزاهر له:
ومنهتك له نظر ... يصون مواقع النظر
هلال لو بدا للسف ... ر ألهاهم عن السفر
فوا ويلاه من قمر ... يريك مساوي القمر
لقد أصبحت من كلفي ... بغرته على غرر
وقوله:
يا مريداً مني الوص ... ل ووصلي في يديه
أنا لا أعرف من لا ... يعرف الحق عليه
وقوله من أبيات:

نختال في حلل الصبا ... كالبدر في حلل الغيوم
وإذا تثنت جال في ... أعطافها ماء النعيم
ينسيك طيب نسميها ... بعد الكرى برد النسيم
وله أول قصيدة:
هو السيف لا يكسوك ما لم يجرد ... فجرده واسترفد بغربيه ترفد

أبو الحسن اللطيم
أنشدني ابن وهب قوله:
لا تنكري سرعة اختلاسي ... لذات أيامي القصار
فإن علمي بغدر دهري ... صيرني خالع العذار
وقوله:
أهديت لي تذكرةً خاتماً ... اسمك منقوش على فصه
فما اعترتني زفرات الهوى ... إلا تروحت إلى مصه
سليمان بن حسان النصبي
رحمه الله
أنشدني ابن وهب له:
وهتوف ورقاء أرقت العي ... ن، وزادت خبل الفؤاد خبالا
ذات طوق من الزبرجد يحكي ... صفو عيش عني تولى وزالا
أيقظتني والصبح قد خالط اللي ... ل كما خالط الصدود الوصالا
وتراها كأنما بدموعي ... خضبوها أو خاضت الجريالا
وقوله يصف الراي المقلي وهو ضرب من السمك:
ما رأينا مثل هذا ال ... راي حسناً، ما رأينا
صار تبراً بعد أن كا ... ن عقيقاً ولجينا
وقوله في شمعة:
ومجدولة مثل صدر القناة ... تعرت وباطنها مكتسي
لها مقلة هي روح لها ... وتاج على الرأس كالبرنس
إذا رنقت لنعاس عرا ... وقطت من الرأس لم تنعس
وإن غازلتها الصبا حركت ... لساناً من الذهب الأملس
وتنتج في وقت تلقيحها ... ضياء يجلي دجا الجندس
فنحن من النور في أسعد ... وتلك من النار في أنحس
وقد ناب وجهك عن ضوئها ... وعن ذا البنفسج والنرجس
ولكنها آلة للندام ... ونجم تألق في المجلس
توقدها نزهة للعيون ... ورؤيتها منية الأنفس
تكيد الظلام كما كادها ... فتفنى وتفنيه في مجلس
فيا ربة العود حثي الغناء ... ويا حامل الكأس لا تحبس
ويا صالح انعم وعش سالماً ... على الدهر في عزك الأقعس
وله يصف روضة:
وروضة ذات غدير مستئق ... وزهر مثل عشور المهرق
ونرجس مثل العيون الرمق ... أجفانها من لؤلؤ مفلق
باهتة قد فتحت لم تطبق ... وسوسن غض النبات مونق
يشف فيه كالزجاج الأزرق ... وقد حكاه في ضياء الرونق
بنفسج مثل اللجين المحرق ... يا حسنها من روضة لم تطرق
كأنها سافرة عن خلقي ... أو حسن ما ألفته عن منطقي
باكرتها مثل انفلاق الفلق ... وشهبة حائرة في الأفق
في عصبة غر كرام سبق ... يخطرن فيها بقسي البندق
كل فتى في قصده موفق ... كأنه من نفسه في فيلق
مقرطس في رميه مؤنق ... وهو يراعيها بطرف شيق
خوفاً عليها وهو عين المحنق ... فصاد ما شاء بلا تعوق
وراح من نجيعه في يلمق
وقوله في الحمام:
أنت في الحمام موقو ... ف على قلبي وسمعي
فتأملها تجدها ... كونت من بعض طبعي
جرها من حر أنفا ... سي وفيض الماء دمعي
وله يصف ناعورة:
كم نعرت بالحي ناعورة ... حنينها كالبر بط الناعر
فتارة تحسبها قينة ... تردد الزمر على الزامر
وتارة ثكلى جرى دمعها ... في مستهل واكف ماطر
كأنما كيزانها أنجم ... دائرة في فلك دائر
الحسن بن علي الأسدي كاتب السر
كتب إليه أحمد بن محمد بن إسماعيل الرسي يطلب منه الكتاب الذي عمله المعروف بالأنيس، فأنفذ إليه الجزء الأول منه وكتب إليه:
قد بعثنا بمؤنس لك في الوح ... شة خل يدعى كتاب الأنيس

فيه ما يشتهي الأديب من العل ... م، وفيه جلاء هم النفوس
فيه ما شئت من بدور معان ... ضاحكات إلى وجوه شموس
والنفيس البهي ما زال يهدى ... كل حين إلى البهي النفيس
فلما قرأ رقعته كتب على ظهرها ارتجالاً:
قد قرأت الكتاب يا خل نفسي ... فهو لي مؤنس وأنت الأنيس
فهو تأليف ذى ذكاء وفهم ... وهو وقف على العلوم حبيس
وحكى عنه أنه قال: قد كان أبو الحسين جنبك الأخشيدي من كرماء الناس، وكانت بيني وبينه مودة، فكنت أغشاه كثيراً للحوائج التي تعرض إليه، فاستخدم بوابا، فحجبني غير مرة، فكتبت إليه:
يا علم المكرمات والسؤدد ... إليك أشكو بوابك الأسود
يبعدني كلما دنوت، وما ... حق الكريم الوداد أن يبعد
في كل يوم ألقى بطلعته ... طالع نحس يسوءني أنكد
وجه شتيم بكل فاحشة ... عليه من كل مشهد يشهد
كلب يهر الضيوف إن طرقوا ... فناءك الرحب كالح اعقد
أبعده وانف الخبيت عنك كما ... ينفي القذى عنه خالص العسجد
أولا، فلن تستطيع تنظم ما ... عنك من المكرمات قد بدد
وما انتفاع الورى ببحر ندى ... تذاد عنه العطاش لا تورد
فما شعرت حتى جاءني خادم له يقال له بشرى، وكان يحبه، والبواب الأسود معه، وقال لي: إن مولاي يقرأ عليك السلام، ويقول لك: قد غمني ما جرى من البواب،وقد قرئ علي الشعر. ولو كنت أحسن قوله لأجبتك، ولكني قد أنفذته إليك، وأمرت بشرى أن يضربه بين يديك ثلاثين مقرعة، ونحبسه، فشكرت له، وقلت لبشرى: قل له يا سيدي ما أحب أن تبلغ به إلى هذا كله، وسألت بشرى أن لا يضربه، فقال: والله ما لي إلى تركه من سبيل، وقد قال لي: سيقول لك لا تضربه وعلي لئن رددته إلي بلا ضرب لأضربنه بين يدي مائة مقرعة، قلت: فإذا كان كذلك فاضربه ضرباً خفيفاً. ولا تحثنه، فضربه بحضرتي ضرباً خفيفاً، وانصرف به، ولا والله ما رأيته في داره بعدها.

أبو القاسم أحمد بن محمد
بن إسماعيل ابن طباطبا الحسني الرسي
أنشدني له ابن وهب قوله:
يا بدر بادر إلي بالكاس ... فرب خير أتى على ياس
ولا تقبل يدي فإن فمي ... أولى بها من يدي ومن رأسي
لا عاش في الناس من يلوم على ... حبي وعشقي لأحسن الناس
وقوله:
قل للذي حسنت منه خلائقه ... باكر صبوحك واسبق من تسابقه
أما ترى الغيم مجموعاً ومفترقاً ... يسير هذا إلى هذا يعانقه
كعاشق زار معشوقاً يودعه ... قبل الفراق فآلى لا يفارقه
وقوله:
قالت: أراك خضبت الشيب قلت لها: ... سترته عنك يا سمعي ويا بصري
فايتضحكت ثم قالت من تعجبها: ... تكاثر الغش حتى صار في الشعر
وقوله:
عيرتني بالنوم جوراً وظلماً ... قلت: زدت الفؤاد هما وغما
اسمعي حجتي وإن كنت أدري ... أن عذري يكون عندك جرما
لم أنم لذة ولا نمت إلا ... طمعاً في خيالك أن يلما
وقوله:
خليلي، إني للثريا لحاسد ... وإني على صرف الزمان لواجدا
أيبقى جميعاً شملها وهي سبعة ... وأفقد من أحببته وهو واحد؟
كذلك من لم تخترمه منية ... يرى عجباً فيما يرى ويشاهد
وقوله: وقوله، وهو مما يتغنى به:
قالت لطيف خيال زارني ومضى: ... صف لي هواه ولا تنقص ولا تزد
فقال: أبصرته مو مات من ظمأ ... وقلت قف عن ورود الماء لم يرد
قالت: صدقت الوفا في الحب عادته ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي
وقوله:
سأعتبها حق ما استعبت ... وإن لم تكن أبداً معتبه
وسوف أجربها بالصدود ... ومن يشرب السم للتجربه؟!
ولده
أبو محمد القاسم بن أحمد الرسي
أنشدني له ابن وهب:

إذا الكروان صاح على الرمال ... وحل البدر في برج الكمال
وجعد وجه بركتنا هبوب ... تمر به الجنوب مع الشمال
وحركت الغصون فشابهتها ... قدود سقاتنا في كل حال
فهات الكأس مترعة ودعني ... أبادر لذتي قبل ارتحالي
فكل جماعة لا شك يوماً ... يفرق بينهم صرف الليالي
وقوله:
إذا التحف الجو بالأدكن ... وغنى الحمائم بالأعن
وهب نسيم الصبا سحرة ... بريح البنفسج والسوسن
وحن إلى القصف ألافه ... فبادر إلى شبخك المنحني
فنفس من الحنق أوداجه ... وسق الندامى ولا تنسني
وقوله يهجو ابن كلس المتطبب:
توق معز الدين شؤم ابن كلس ... ولا تقبلن منه مقال مدلس
فإنا أردناه لكافور شربة ... فزاد على تقديرنا ألف مجلس

أخوه
أبو إسماعيل إبراهيم بن أحمد الرسي
أنشدت له:
عرفت الديار على ما بها ... وأوقفت ركبي على بابها
وناديت فيها بأعلى النداء ... مراراً بأسماء أربابها
فلم أر فيها سوى بومها ... تصيح جهاراً بأترابها
فأعلمني ذاك أن الزما ... ن أخنى عليها وأودى بها
ولده
أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم
ابن أحمد رحمهما الله تعالى!
أنشدني له الزاهر:
شم النسيم لذيذاً ... من قبل أن لا تشمه
واصرف عن القلب ما اسط ... عت بالمسرة همه
وغالط الدهر إن كن ... ت لست تملك حكمه
وقد نصحتك جهدي ... فلا تصم وتكمه
وقوله:
صدفت عنا نوار ... ولقد كانت تزور
ثم قالت: كيف أودى ... ذلك الغضن النضير؟
وشباب يتلالا ... فيه للناظر نور
قلت: إن أنصفت هذا ... لابن خمسين كثير
أبو الحسن العقيلي
رحمه الله
أنشدني الزاهر قوله:
لنا أخ يحسن أن يحسنا ... جناه للجانين عذب الجنى
قد عرفت روضة معروفه ... بأنها تنبت زهر الغنى
إذا تبدى وجه إحسانه ... تنزهت فيه عيون المنى
وقوله:
الصبح ينشر فوق مس ... ك الليل كافور الضياء
والبرق يذهب ما تفض ... ضه الغيوم من السماء
فاشرب على ديباج نب ... ت قد أحاط بشرب ماء
فالعيش في زمن الربي ... ع رقيق حاشية الرداء
وقوله:
وراح تتيه بأنفاسها ... على ما يفوح من العنبر
كأن زجاجاتها درة ... تشف عن الذهب الأحمر
وقوله:
تاه الربيع بآذريونه وزها ... لما بدا منه نشر في الربا أرج
كأن أغصانه فيروزج بهج ... من فوق ذهب في وسطه سبج
وقوله:
اشرب على زهر البنفسج قهوة ... تنفي الأسى عن كل صب مكمد
فكأنه قرص بخد غريرة ... أو عين زرق كحلن بأثمد
وقوله:
ونارنجة بين الرياض نظرتها ... على غصن رطب كقامة أغيد
إذا ميلتها الريح مالت كأكرة ... بدت ذهباً في صولجان زمرد
وقوله:
ومدامة يبدو إليك جنينها ... وعليه تاج لم يصغه صائغ
تخفى لفرط صفائها فكأنما ... إبريقنا الملآن منها فارغ
وقوله:
إن كنت تعلم أن لي ... علماً بأسرار السرور
فاعمل بحسب وصيتي ... لك في ملازمة البكور
ودع الصغير مكانه ... واعدل إلى جهة الكبير
ما بين ورد كالخدو ... د وأقحوان كالثغور
وعليك بالذهب الذي أجراه روباس العصير
ما زال يسبك بالذي ... قد شب من نار الهجير
حتى صفا فكأنه ... دمع الطليق على الأسير
وقوله:
نحن أناس نوالنا خضل ... يرتع فينا الرجاء والأمل

كل فتى ليس في مودته ... مذق. ولا في خلاله خلل
لو أبصر البحر فيض أنملنا ... فاض على وجه فيضه الخجل
تسبق أموالنا مؤملنا ... لا يعترينا مطل ولا بخل
تسمح قبل السؤال أنفسنا ... بخلاً على ماء وجه من يسل

أبو القاسم بن أبي العفير الأنصاري
رحمه الله!
أنشدت له:
وروض كحسن العرف يسري وبهجة ... من الزهر فيها شاكلت بهجة الحمد
يريك عناق العاشقين عناقه ... بثغر على ثغر وخد على خد
وعارضه المتنبي بحضرة كافور في قصيدته الميمية التي أولها:
نظر المحب إلى الحبيب غرام
فقال له: العرب لا تقول " إليه غرام " وإنما تقول " له " فقال له الأنصاري: تقول: إليه، ولديه، وله، وحروف الخفض ينوب بعضها عن بعض. والوزير أبو بكر بن صالح الروزباري حاضر. والوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات حاضر. فقال الأنصاري:
أما الثناء فصادر بك وارد ... باد بما تسدي إلي وعائد
لك يا أبا بكر إلى صنائع ... أيقظن أحوالي وجدي راقد
أوليتني نعماً متى أنكرتها ... شهدت علي مواهب وفوائد
نعم أقر بها، وكم من نعمة ... يخفى المقر بها ويحظى الجاحد؟
ولرب ليل قد هجرت رقاده ... لك والردى مغف وطرفي ساهد
أتحلل الكلم العوان تحللا ... فأغافص المعنى كأني صائد
وقصائد لي فيك ولا أنها ... كلم شهدت بأنهن مشاهد
ولهن في عين الولي شواهد ... تترى، وفي عين العدو جلامد
لما رعيت مودتي وخلطتني ... ببني أبيك ظننت أنك والد
ولقد علمت، وأنت خير معلم، ... أن الثناء على الليالي خالد
لما تعرض لي بمقت حاسدي ... أبدى الملام، وكيف يرضى الحاسد؟
ما زال ينشد قائماً حتى إذا ... أنشدت عارضني لأني قاعد
في مجلس أما الوزير فمنكب ... فيه يؤيده وأنت الساعد
ولى ولا أنا شاكر لسؤاله ... فيه، ولا هو للإجابة حامد
أحمد ببن محمد الكحال
أنشدني له الزاهر وقد كتب إلى بعض إخوانه يستهديه جرة نبيذ:
لو قد سألتك حسب قد ... رك ما رضيت بألف جره
ولقل ذاك لقدر من ... لا تحصر الأوصاف قدره
فابعث إلي بجرة ... وكفاف ما أبغيه جره
وتوخها كبر الجرا ... ر، فرب وافية كزكره
من رسم بسطام الذي ... أحيا بحسن الرسم ذكره
لا بوطساً يؤذي الندي ... م، ولا مذاقته بمره
واعلم بأن محلها ... عند الضرورة مثل صره
وكتب إلى بعض إخوانه يستدعيه:
لا تتركن لغد مالاً ولا سبدا ... فلست تقتل علماً هل تعيش غدا
خذ من زمانك ما جاد الزمان به ... فمن جنى بعض ما يهوى فقد سعدا
أنت ابن وقتك فاحذر أن تضيعه ... فليس يرجع وقت فائت أبدا
وعند عبدك شيء إن نشطت له ... وزرت زدت أياديك الكرام يدا
راي طري كقاب الفتر تحسبه ... ذوباً من الفضة البيضاء أو بردا
كأن كفاً عليه جرشت قطعاً ... من اللجين صغار النظم أو زردا
كأن قاليه بالقلي ألبسه ... من الشقائق أثواباً له جددا
كأنه في سعير القلي منقلياً ... صب تقلبه كف الهوى كمدا
كأن ياقوتة حمراء هللها ... صواغها ذهباً للحسن متحدا
كأنه كان في نهر الحياة فما ... يكاد يسلم منه روحه الجسدا
وقهوة تذكر الأفلاك ساكنة ... مشمولة أفنت الأيام والمددا
يديرها قمر في كفه قمر ... من الرحيق يزيل الهم والكمدا
فلا تضيع سروراً جاء عن كثب ... عجزاً فتكتسب التوبيخ والفندا

أبو الحسن محمد بن الوزير الحافظ
كتب إلى صديق يستدعيه الاتجالاً:
لنا مسمعة حلوه ... ولون يفتق الشهوه
فالبارع من مجد ... ك إن لم تجب الدعوه
وأهدى إلى بعض إخوانه مقطاً وكتب إليه:
إني بعثت مقطاً غير محتشم ... ولم أجل في الغنى فكري ولا العدم
ولو بعثت سوادي ناظري لما ... كانا كفاءً لما تولي من النعم
فاقبله واجعله مما يستعان به ... فإنه خادم السكين والقلم
وقوله يصف النرجس:
خواتم من لجين ... فصوصها كارباء
وليس تضحك إلا ... إذا بكتها السماء
وقوله:
منذ حل السواد زاد البياض ... واعتداءاته طوال عراض
وإذا ما طغى المشيب فلا المن ... قاش يقوى به ولا المقراض
وكثير أرى جساماً صحاحاً ... لأناس فيها قلوب مراض
وأهدى إلى الإخشيد خاتماً، وكتب معه:
وذي عنق لم يطل ... عليه ولم يقصر
ومنين قد حصرا ... على قدر الخنصر
وقد زاد في ضمره ... على الفرس المضمر
وأسفله فضة ... وأعلاه من جوهر
بعثت به معسراً ... إلى ملك موسر
ولا غرو أن يهدي ال ... مقل إلى المكثر
وقوله:
قد قلت إذ سار السفين بهم ... والسوق ينهب مهجتي نهبا
لو أن لي عزاً أصول به ... لأخذت كل سفينة غصبا
أحمد بن محمد بن عبد الكريم
اليتيم النحوي
أنشدت قوله:
إذا ما نلت من دنياك حظاً ... فأحسن للغني وللفقير
ولا تمسك يديك على قليل ... فإن الله يأتي بالكثير
وقوله:
خاطبت شمس النهار إذ بدت ... وقلت ما أنت لي بمنصفة
إن التي أشبهتك مائلة ... من بعد ذاك الوصال قد جفت
فعاتبيها فليس يقنعني ... يا شمس من شبهك الذي أتت
لما رأتني على الفاء لها ... صدت وما أنصفت ولا وفت
أبو محمد بن أبي عمرو الطرازي
أنشدت له من " مجزوء الرجز " :
نار جرت في غاية ... ترمى العلا بالشهب
كأنها جيش وغى ... فرسانه من ذهب
وقوله يصف الفستق:
وفستق رأيت من ... ه طرفاً من الطرف
كأنه لما بدا ... والراح فينا تختلف
زمرد ضمنه ... من خالص العاج الصدف
أبو الحسن علي بن لؤلؤ الكاتب
أنشدت له:
رب صبح كطلعة الوصل جلى ... جنح ليل كطلعة الهجران
زار في حلة البزاة فولى الل ... يل عنه في حلة الغربان
وقوله:
يوم كأن الروض خاط لضوئه ... قراطق من وشي غلائلها الغدر
كأن صفاء الجو ناظر أزرق ... له الغيم جفن هدب أجفانه القطر
كأن أعالي السرو بين رياضه ... مطارف لفت في مواكبها خضر
أبو القاسم عبد الصمد بن فضالة الصفار
قال يصف الورد:
لا تصحب الدنيا كئيباً مكمدا ... من ذا رأيت من البرية خالدا؟
قم فاغتنم طيب الربيع وحسنه ... فلقد حباك به الغمام وأسعدا
ورد كأن أصوله وفروعه ... سقيت دماً حتى ارتوى فتوردا
وشقائق شق القلوب كأنه ... خد مليح ضم صدغاً أسودا
والماء يجري في الرياض كأنه ... سيف صقيل من قراب جردا
فاشرب عليه فإنه وقت إذا ... ولى تفاوت أن ينال فيوجدا
وله:
فلو زين الحسن في وجهه ... بهجر الصدود ووصل الوصال
لتسم وإن كنت ما إن أرى ... بديع الجمال جميل الفعال
ابن الزيعي
قال يصف دير القصير من قصيدة يقول فيها:
يا حسرة في القلب ما أقتلها ... كأنها في القلب أطراف الأسل
فكم وكم من ليلة طيبة ... أحييتها في الدير في خير محل

دير القصير الفرد في صفائه ... يا من رأى الجنة من غير عمل
أشربها راحاً شمولاً قرقفاً ... تدب في الجسم فما تبقي علل
يديرها ذو غنج بطرفه ... يحيي إذا شاء وإن شاء قتل
كأنه غصن من البان وقد ... زاد عليه بالقوام المعتدل
ألثغ حتف النفس في لثغته ... تاه بها على الورى تيه مدل
إن قال نار قال ناغ أو يقل ... نور يقل نوغ بدل وغزل
فاحثث كؤوس الراح يا ساقينا ... واغتنم الدهر فللدهر دول
من قبل أن يطرقنا بين فلا ... ينفع عند البين ليست ولعل

محمد بن عباس البصري
المعروف بصاحب الراقوية
قال:
لا تعذلوني فما مثلي بمعذول ... جسمي سقيم وأمري غير مجهول
إن مل مولاي وصلي بعد ألفته ... فإن مولاي عندي غير مملول
ملكت قلبي ولم تعطف على دنف ... ما كل ذاك على قلبي بمعزول
وقوله:
يا حامل الكأس أدرها واسقني ... قد ذعر الشوق فؤادي فانذعر
أما ترى البركة ما أحسنها ... إذا تداعى الطير فيها وصفر
أما ترى نوارها أما ترى ... حسن مسير مائها إذا انحدر
كأنما الجوهر في ألوانه ... نثر في تلك النواحي فانتشر
وقوله:
أما طغان فقد طغى ... والطرف منه قد بغى
شهر السلاح بطرفه ... فتكاً وما شهد الوغى
لولا مخافة عقرب ... في صدغه أن يلدغا
للثمت منه ممسكاً ... ومصندلاً ومصبغا
وقوله:
أتاني في قميص اللاذ يسعى ... عدو لي يلقب بالحبيب
فقلت له لم استحليت هذا ... فقد أصبحت من زي عجيب؟
فقال الشمس أهدت لي قميصاً ... غريب اللون في شفق المغيب
فصوبي والمدام ولون خدي ... قريب من قريب من قريب
وقوله:
وشمعة ظلت أناجيها ... تبيت تبكي وأبكيها
كأنما صفرتها صفرتي ... ومدمعي دمع مآقيها
أعارها قلبي من ناره ... فمثل ما فيه كذا فيها
أبو عبد الله الحسين المعروف بالجمل
له في طبيب:
إذا سقام عراك نازله ... فاندب أبا جعفر لنازله
يعرف ما يشتكيه صاحبه ... كأنما جال في مفاصله
أبو عبد الله بن العرمرم
قدم له صديق سمكا في يوم شديد البرد فقال ارتجالا:
شيخ وبرد وسمك ... لكل ما يخشى شرك
فهاتها صافية ... وضمن الكأس الدرك
ولا تبال بعدها ... من لام فيها وترك
وقوله:
وليتم أمر الخراج محمدا ... فغدا الخراج بغير جيم يكتب
إن كان من عدم الرجال دهيتم ... فالكلب عن قليل يخطب
وقوله في أبخر:
أردت لقاءه فلقيت منه ... كما يلقى الخلاء من الفقاح
وجالسني فلم أشعر بأني ... ولم أبعد جليس المستراح
أحمد بن صدقة الكاتب
كتب إلى ابن رشيد يستدعيه:
بالله يا صالح قم مسرعاً ... إلى عقار أدركت تبعا
وساعد الليلة في شربها ... وخذ من السكر بها مصرعا
وقد بذلنا لك أرواحنا ... لما رأيناك لها موضعا
أبو الحسن بن أبي ياسر
قال يصف شمعة:
وهيفاء من ندماء الملوك ... تزيد فينقص من قدرها
إذا ضحكت جنح داجي الظلام ... بكت فجرى الدمع من نحرها
فإن نعست للكرى نعسة ... فإيقاظها القص من شعرها
محمد بن عاصم الموقفي
أنشدني له الزاهر في الفصادة:
ألا قل لعلوان كيف أجترأت ... على الأسد الباسل الخادر؟
وكيف أرقت دماً دونه ... يراق دم الجحفل الثائر؟
ترفق قليلاً على مرفق ... به مرفق البدو والحاضر
فليس الحديد على ساعد ... ولكن من الدهر في الناظر
وقوله:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11