كتاب : يتيمة الدهر
المؤلف : الثعالبي

وقلت للسفر قد وصلتْ إلى ... مناي، رحلي، وناقتي لكُمُ
أكرم بحظّي لقد أتى فمحا ... ما خطّه في جبيني العدمُ
وله من قصيدة في الصاحب يصف فيها علته بجرجان وتأذيه بهوائها وبراغيثها وبقها ويستأذن للعود إلى أصفهان:
ألا يا حيُّ جادتك الغوادي ... مجلَّلةَ العزالى والمزاد
ولا زالت رباك تفوح مسكاً ... يضوع نسيمه في كل نادي
فإنك جنّةُ الدنيا لثاوٍ ... أقام بخير أمصار البلاد
وأمٌّ للغريب فكلُّ آتٍ ... نظيرُ بنيك عندك في الولاد
فواأسفي على زمنٍ جنى لي ... ودادك واجتنى لك من ودادي
كذا الملك ابن عبادٍ عماد ال ... هدى وردى العدا وحيا العباد
ومن برقاه دون ظباه أسرى ... فأصلح بين غيِّك والرشاد
وجاد فكان أجرى من سحابٍ ... سقى زهر الروابي والوهاد
وقد أصبحتُ بعدك في بليدٍ ... دريَّة كلّ داهيةٍ نادي
ولولا أن سيّدنا به لمْ ... تكن جرجان تثنى من قيادي
أقمت بها أعالج كلَّ بؤسٍ ... من الأعلال لا العيش المهاد
تحدِّثني بحمّى لو تبدّت ... بخيبَر ألحقتها بالبوادي
ملازمةٌ إذا لسعت شقياً ... فكلُّ زمانها وقت العداد
تعاونها عليَّ سموم صيفٍ ... بلفحٍ من لظاهُ واتّقاد
وذبَّانٌ أُشرِّدها فتأبى ... وترجع كالمراغم ذي الكياد
كأني حين أطردها وتأبى ... أفرّق بين ذي سغبٍ وزاد
ويا ويلي من الليل الموافي ... فإني حين يطرق في جهاد
له جيشاً براغيثٍ وبقٍّ ... يطلّ عليَّ إطلال الجراد
ولي فرشٌ هي الميدان فيه ... براغثه وخمشي في طراد
وبقٌّ فعله في كلِّ عضوٍ ... فعال النار في يبس القتاد
عصائب ينتحين على عروقي ... بعوجٍ كالمباضع في الفصاد
فتروى ثم ترجع عاطفاتٍ ... عليَّ وهنَّ كالهيم الصوادي
وأنقف بعضهنّ وفي حشاها ... دمىً فأنال ثأراً من أعادي
تفرّق بين جنبي والحشايا ... وتجمع بين جفني والسهاد
ولو أني ثملت وملت سكراً ... لحالت بين طرفي والرقاد
واستر دونها وجهي بكفّي ... وعطف الردن وهو لهنّ بادي
وأظهر في صباحي كلّ يومٍ ... بوجهٍ مجدرٍ قلقِ الوساد
وأدمن حكَّ ما تركت بجسمي ... فيحسبني جربت ذوو عنادي
وقد وقف الوزير على بلائي ... بما ضاقت به حيلي وآدي
وإني لا نهار أقرّ فيه ... ولا ليلٌ يقيني منه فادي
صديقي في دجا ليلي عدوي ... وعبدي لا يجيب إذا أنادي
وأُترك في ظلام دجاه وحدي ... فأذكر ضيق لحدي وانفرادي
وفي يمنايَ مروحةٌ فطَوْراً ... أذود بها وما يغني ذيادي
وطوراً أستريح إلى انتصابي ... وطوراً أنثني ويدي اعتمادي
وعلّمني البعوض بلطم خدّي ... خلائق لسْنَ من شيمي وعادي
فهل للصاحب المأمول عطفٌ ... على عجزي عن الكرب الشداد
بإذنٍ لست أسأله اختباراً ... ولكنّ اضطراري في ازدياد
شقاءٌ لا يعاقبه رخاءٌ ... وبلوى تستنيم إلى التّمادي
وسيّدنا أدقّ الناس حدساً ... وأعرفهم بدخلةِ من يصادي
وحسبني ما بلاه في اختياري ... وشاهد من ولائي واعتقادي
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي، قال: أنشدني الزعفراني لنفسه:
لي لسانٌ كأنه لي مُعادي ... ليس ينبي عن كنه ما في فؤادي

حكم الله لي عليه فلو أنص ... ف قلبي عرفت قدر وِدادي
وأنشدني له من قصيدة فصلية هذين البيتين، وأظهر إعجاباً شديداً بهما،:
وفصلٍ فيه للأرض اختيالٌ ... لأنّ جميع ما لبست حرير
وللأغصان من طربٍ تثنَّ ... إذا جعلت تغنّيها الطيور

أبو دلف الخزرجي الينبوعي مسعر بن مهلهل
شاعر كثير الملح والظرف، مشحوذ المدية في الجدية، خنق التسعين في الإطراب والاغتراب،وركوب الأسفار الصعاب، وضرب صفحة المحراب بالجراب. في خدمة العلوم والآداب. وفي تدويخه البلاد يقول من أبيات أنشدنيها أبو الفضل الهمذاني:
وقد صارت بلاد الل ... ه في ظعني وفي حلّي
تغايرن بلبثي و ... تحاسدن على رحلي
فما أنزلها إلا ... على أنسٍ من الأهل
وكان ينتاب حضرة الصاحب، ويكثر المقام عنده، ويكثر سواد غاشيته وحاشيته، ويرتفق بخدمته، ويرتزق في جملته، ويتزود كتبه في أسفاره، فتجري مجرى السفاتج في قضاء أوطاره، وكان الصاحب يحفظ مناكاة بني ساسان حفظاً عجيباً، ويعجبه من أبي دلف وفور حظه منها، وكانا يتجاذبان أهدابها ويجريان فيما لا يفطن له حاضرهما، ولما أتحفه أبو دلف بقصيدته التي عارض بها دالية الأحنف العكبري في المناكاة وذكر المكدين والتنبيه على فنون حرفهم وأنواع رسومهم وتنادر بإدخال الخليفة المطيع لله في جملتهم وقد فسرها تفسيراً شافياً اهتز ونشط لها وتبجّح بها وتحفظ كلها وأجزل صلته عليها، وقد كتبت معظمها بأخرة، وكان السلامي هجاه بالأبيات التي أولها:
قال يوماً لنا أبو دلفٍ أب ... رد نت تطرقُ الهموم فؤادّهْ
لي شعرٌ كالماء قلت أصاب ال ... شيخ لكن لفظه برّاده
أنت شيخ المنجمين ولكنْ ... لست في حكمهم تنال السعاده
وطبيبٍ مجربٍ ما له بالح ... ذق في كل يجرِّب عاده
مرّ يوماً إلى مريضٍ فقلنا ... قرَّ عيناً فقد رزقت الشهاده
فقال أبو دلف:
ظلّ السلاميّ يهجوني فقلت له ... حييت قلبي ومعشوقي وأستاذي
إن لم تكن ذاكراً بالريّ صحبتنا ... فاذكر ضراطك من تحتي ببغداد
وأنشدني عون بن الحسين الهمذاني، قال: أنشدني أبو دلف الخرزجي الينبوعي لنفسه في أبي عبد الله العلوي:
لولا النبيُّ محمدٌ ... ووصيُّه ثم البتولُ
لعلمت أني شاعرٌ ... آسِمُ الرجال بما أقول
لكنّني أعرضت عن ... ذاك الحديث وفيه طولُ
وتركت للخمر الخما ... ر، وحبّذا تلك الشمول
وأنشدني أبو علي محمد بن عمر البلخي، قال: أنشدني أبو دلف الخزرجي لنفسه في إنسان بالدينور يقال له المشقاع:
يا من يسائلني عن المشقاعِ ... قد ضاق شعري عنده ورقاعي
كاتبته في حاجةٍ عرضتْ لنا ... فكأنّني كاتبتُ وحش القاع
نعم الفتى لو لم تكن أخلاقُه ... ممزوجةً بتوابل الفقّاع
أنا مثله في جنسه من طرزه ... إن لم أضرِّطه على الإيقاع
وأنشدني بديع الزمان لأبي دلف، ونسبه في بعض المقامات إلى أبي الفتح الإسكندري:
ويحك هذا الزمان زورُ ... فلا يغرّنّك الغرور
زوِّقْ ومخرِقْ وكل وأطبق ... واسرقْ طلبقْ لمن يزور
لا تلتزم حالةً ولكنْ ... درْ بالليالي كما تدورُ
وهذا ما اخترته من قصيدته الساسانية التي أولها:
جفونٌ دمعها يجري ... لطول الصد والهجرِ
وقلبٌ ترك الوجد ... به جمراً على جمرِ
لقد ذقت الهوى طعمي ... ن من حلوٍّ ومن مرِّ
ومن كان مِنَ الأحرا ... ر يسلو سلوة الحرِّ
ولا سيما وفي الغر ... بة أودى أكثر العمر
تعرّيت كغصن البا ... ن بين الورق والخضر
وشاهدت أعاجيباً ... وألواناً من الدهر
فطابت بالنّوى نفسي ... على الإمساك والفطر
على أني من القوم ال ... بهاليل بنى الغرّ

بنى ساسان والحامي ال ... حمى في سالف العصر
تغرّبنا إلى أنا ... تناءينا إلى شهر
فظلّ البينُ يرمينا ... نوى بطناً إلى ظهر
كما تفعل الريح ... بكُثْبِ الرمل في البر
فطبنا نأخذ الأوقا ... ت في العسر وفي اليسر
فما تنفكُّ من صمّي ... وما تفترُّ من متر
فأحلى ما وجدنا العي ... ش بين الكمد والخمر
الصمى: الشرب، والمتر، والكمد: هو النيك.
فنحن الناس مل النا ... س في البرّ وفي البحر
أخذنا جزية الخلق ... من الصين إلى مصر
إلى طنجة بل في ك ... ل أرضٍ خيلُنا تسري
إذا ضاق بنا قطرٌ ... نزلْ عنه إلى قطر
لنا الدنيا بما فيها ... من الإسلام والكفر
فنصطاف على الثلج ... ونشتو بلد التمر
فنحن الميزقانيو ... ن لا ندفع عن كبر
همُ شتّى فسلني عن ... همُ ينبيك ذو خبر
فمنا كل كمّاذٍ اللبوسات مع الهرّ
ومنا كل صلاّجٍ ... بكيذٍ وافرٍ نكر
الكماذ: النياك، واللبوسات: الأحراح، والهر: الدبر، والصلاج: الذي يصلج أي يجلد عميرة، والكيذ: الأير.
قد استكفى بمفّيه ... عن الثيِّب والبكر
فلا يخشى من الإثم ... ولا يؤخذ بالمهر
ولا يحذر من حيضٍ ... ولا حملٍ على طُهر
ومنا الكاغ والكاغ ... ة والشيشق في النحر
الكاغ والكاغة: المتجانن والمتجاننة، والشيشق: الحدائد والتعاويذ التي يلقونها على أنفسهم.
وأشكالٌ وأغلالٌ ... من الجلد أو الصُّفر
ومن دروز أو حر ... زأو كوز بالدغر
دروز: إذا دار على السكك والدروب وسخر بالنساء، حرز: إذا كتب التعاويذ والحراز، كوز: إذا أقام في المجلس، والمكوز: هو الذي يقوم في مجالس القصاص فيأمر القاص أصحابه بإعطائه ثم إذا تفرقوا تقاسموا ما أعطوه. والدغر: المقاسمة.
ومن درّع أو قشّع ... أو دمّع في القرّ
درع: إذا جاء الهراس وطلب قصعة من الهريسة فإذا أعطاه إياها لحسها، قشع: إذا مشى وعينه إلى الأرض لطلب القطع، دمع: إذا بكى في الأسواق عند البرد حتى يعطى.
ومن رعّس أو كبّ ... س أو غلّس في الفجر
رعس: إذا على حوانيت الباعة فأخذ من هنا جوزة ومن هنا تمرة وتينة، كبس: إذا دار فإذا نظر إلى رجل قد حلّ سفنجته كبسه وأخذ منه قطعة، غلس: إذا خرج إلى الكدية بغلس.
وحاجورٌ وكذّابا ... تُ أهل الأوجه الصفر
الحاجور: الذي يثقب بيضة ويجعلها في حجره وهي تسيل ماء أصفر، الكذابات: العصابات يشدونها على جباههم فيوهمون أنهم مرضى.
ومن شطَّب أو ركّ ... ب للضربات والعقر
شطب: إذا عقر نفسه بالموسى وجعل يكذب على الأعراب والأكراد والصوص، ركب: إذا طلى بالشيرج حتى يسوده جلده واوهم أنه جلد أو لطمته الجن ليلاً.
ومن مَيْسَر أو مَخْطَ ... ر واستنغَزَ للثغر
ميسر: إذا كدى على أنه من الثغر، ويقال هل: الميسراني. مخطر: إذا بلع لسانه وأوهم أن الروم قطعوه.
ومن ناكذ في القينو ... ن من جوفِ أبي شمر
المناكذة: أن يتقاسموا ما يأخذونه من الثياب والسلاح بعلة الغزو. والقينون: موضع القسمة. أبو شمر: أول من كدى بعلة الغزاة.
ومن رشّ وذو المكوى ... ومن درمَكَ بالعطر
رش: إذا كدى بعلة ماء الورد يرشه على الناس. ذو المكوى: الذي يبخر الناس. درمك: إذا باع العطر على الطريق.
ومن دكّك أو فكّ ... ك أو بلّغك بالحر
المدكك: الذي يخرج اللوى من العصيان ويحتال على من به وجع الضرس حتى يجعل دود الجبن فيما بين أسنانه ثم يخرجه ويوهم أنه أخرجه بالرقية، فكك: إذا فك السلاسل على الطرق. بلغك: إذا جر الخواتيم بالإبريسم الرقيق.
ومن قصّ لإسرائي ... ل أو شبراً على شبر
من قص: هو الذي يروي الحديث عن الأنبياء والحكايات القصار ويقال لها الشبريات.

ومن بشْرَك أو نوْ ... ذك أو أشرَك بالهبر
بشرك: نزيا بزي الرهبان تزهداً. نوذك: إذا كدي على أنه من الحجاج، أشرك بالهبر: إذا شركاءه ما يأخذه.
ومن قدّس أو نمّ ... س أو شولس بالشعر
قدس: إذا أكل الكبد المطحونة المجففة في شهر رمضان خاصة وأوهم أنه يطوي ولا يفطر في الشهر إلا مرة أو مرتين. نمس: من الناموس. شولس: من الشالوسة، وهم الزهاد يكدون بلباس الشعر.
ومنا العشيريون ... بنو الحملة والكرّ
العشيريون: الذين يتثاقفون على دوابهم كالغزاة يكدون.
ومنا المصطانيو ... ن من ميزَقَ بالأسر
المصطبانيون: قوم يزعمون أنهم خرجوا من الروم وتركوا أهاليهم رهائن عندهم فطافوا البلاد ليجمعوا ما يفكونهم به، وتكون معهم شعورهم ويقال لذلك الشعر: المصطبان، ميزق: كدى.
ومنا كلّ زمكدان ... غدا محدودب الظهر
ومنا كلّ مطراش ... من المكلوذة البتر
المطراش: الذي معه يده يكدى عليها، ويقال اليد المقطوعة: المكلوذة.
وفي المدرجة الغبرا ... ء منا سادة الغبر
المدرجة: هؤلاء قوم يقعدون وينامون في السكك والأسواق على طريق المارة ومدرجة الرياح فتعلوهم غبرة التراب حتى يرحموا ويعطوا.
ومنا كلُّ قنّاءٍ ... على الإنجيل والذكر
القناء: الذي يقرأ التوراة والإنجيل ويوهم أنه كان يهودياً أو نصرانياً فأسلم.
ومن ساق الولا بالما ... ء أو قوْسِ أبي حجر
ومن ساق: هؤلاء قوم يسقون الناس الماء، والولا: أن يثق فيقول: أنا المولى الأبطحي، ومنهم من يكون معه قوس عربية، وأول من فعل ذلك في الحضر أبو حجر.
ومن طفْشَلَ أو زَنْكَ ... لَ أو سطّل في السر
طفشل: إذا علق لسانه وتشبه بالأعراب، زنكل: إذا احتال في سلبهم، سطل: إذا تعامى وهو بصير، يقال للأعمى: الإسطيل.
ومن زقّى الشغاثات ... غداءاتٍ وبالعصر
زقى: صلى. والشغاثات: المساجد، واحدها شغاثة، يكدون فيها إذا صلى الناس.
ومن دشَّش أو رشَّ ... ش أو قشَّش يستدري
دشش: إذا جعل في استه شبه حشو كحقنة وينام على الطريق ويخرج من استه كالدشيشة، رشش: إذا كانت معه مبولة مع خصاه فإذا جاءه البول رششه على الناس، ويقال له: المرشش، قشش: إذا فسا في المساجد فيتأذى به المصلون فيعطونه حتى يخرج.
ومن يزنقُ أو يخن ... قُ أو يذلق بالدّبر
يزنق: يثقب في بدنه ثقبة وينفخ فيها حتى يتورم بدنه، يخنق: يصنع المنديل في رقبة نفسه ويفتله حتى ينتفخ رأسه ووجهه، يذلق: يمشي عريان الاست.
ومنا كلُّ مستعشٍ ... من النعارة الكدر
مستعش: قوم يدورون على أبواب الدور فيما بين العشاءين ويقولون:رحم الله من عشى الغريب الجائع، وينعرون بذلك حتى يأخذوا من كل دار كسرة ويرجعوا بها.
ومن شدّد في القول ... ومن رمّد في القصر
ومن شدد: قوم يكون معهم دفاتر حديث يروونها ويشددون على الناس في اللواط وشرب الخمر، القصر: هو الآتون يدخله الواحد من القوم فيطرح نفسه في الرماد ثم يخرج وعليه غبرة الرماد، ويوهم أنه أوى إليه من شدة البرد وعدم الملبوس.
ومن يزرع الهادو ... ر تكسيحاً من البذر
ومن يزرع في الهادور: قوم ينظرون في الفال والزجر والنجوم ويعطون قوماً دارهم حتى يأتوهم ويسألوهم عن نجمهم وعما هم فيه فينظروا لهم ثم يردون الدراهم عليهم وربما أخذوا وقالوا لا نأخذها لأن نجمك ما خرج كما تريده. الهادور: كلام الحلقة التي يجتمع الناس عليها، والتكسيح: الممانعة.
إلى أن يقع التنب ... ل في محصدة الجزر
التنبل: هو الأبله الذي يقبل المخاريق على نفسه، ويغتر بما يورد المنجم عليه، فيخرج هو أيضاً دراهمه طمعاً في ردها فيأخذها منه ويسخر به.
ومن قنْوَنَ أم بنْو ... نَ أو طيَّن بالشعر

وقنون: من المقنون، وهو الذي يقول: كان أبي نصرانياً وأمي يهودية وإن النبي صلى الله عليه وسلم جاءني في النوم وقال: لا تغتر بدين أبويك واتبع ملتي، فأسلمت. بنون: إذا انتسب إلى البانوانية وهم الشطار وقال: كنت محبوساً فاحتلت بكذا حتى خرجت، طين: وجهه وساعديه بطين الحمرة وروى الأشعار على رؤوس الأشهاد في الأسواق.
ومنا منفذ الطين ... وأصحاب اللحى الحمر
منفذ الطين: قوم يخضبون لحاهم بالحناء، ويدعون أنهم شيعة ويحملون السبح والألواح من الطين ويزعمون أنها من قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما فيتحفون بها الشيعة.
ومَنْ شقَّف بالماء ... ومن شقَّف بالجمر
والمشقف: هو الذي يأخذ ماء النوشادر فيكتب بها الرقاع ويتركها بين يديه فإذا مر به الأبله له جرب بختك وخذ رقعة من هذه فيأخذها ثم يعطيه إياها فيقذفها في النار فيظهر المكتوب أسود، وقد يعمل هذا الجنس بماء العفص فإذا غمس في ماء الزاج خرج أسود، ويقال للرقعة: الشقيفة.
ومنْ كدى على كيسا ... ن في السرِّ وفي الجهر
كيسان: قوم عرفوا قوماً من الكيسانية والغلاة فيجيبونهم، ويكدون عليهم بالمذهب.
ومنا النائح المبكي ... ومنا المنشد المطري
والنائح المبكي: قوم ينوحون على الحسين بن علي، ويروون الأشعار في فضائله ومراثيه، رضي الله عنه!.
ومن ضرّب في حبِّ ... عليٍّ وأبي بكر
ومن ضرب في حب: قوم يحضرون الأسواق فيقف واحد جانباً ويروي فضائل أبي بكر رضي الله عنه، ويقف الآخر جانباً ويروي علي رضي الله عنه، فلا يفوتهما درهم الناصبي والشيعي، ثم يتقاسمان الدراهم.
ومن يروي الأسانيد ... وحشو كلِّ قمطرّ
ومن يروي الأسانيد: هؤلاء يروون الأحاديث على قوارع الطرق.
ومنّا كلّ ممرورٍ ... غدا غيظ بني البظر
كل ممرور: قوم يلبسون الثياب المخرقة ويحلقون لحاهم ويوهمون أنهم موسوسون وأن المرار غلب عليهم فيروون ما يريدون من فضائل أهل البيت وينسبهم العامة إلى الجنون فلا يؤاخذونهم يما يقولون ويأخذون من الشيعة ما يريدون.
ومن يكحل من مستعر ... ضٍ دمعته تجري
ومن يكحل: هو الذي معه قطنة مغموسة في الزيت يمرها على عينيه لتدمع ويأخذ في شكاية حاله واستعراض الناس في مسألته وذكر قصته، وأنه قطع عليه الطريق أو غصب على ماله، والمستعرضون أمهر القوم.
وفي الموقف منا ك ... لُّ جبارٍ أخي الصبر
كل جبار: هو الذي يقف في المقام قائماً أو قاعداً ولا يبرح أو يأخذ ما يريد.
متى يحفُ يقل بشبا ... شة الخشنى في خصر
البشباشة: اللحية، والخشنى: الذي لا يكدي، وهو عندهم عيب كبير.
وقرّاع أبي موسى ... لديه دبّة البزر
وقراع رأس أبي موسى: هو الخشنى، يقول: إن رأس هذه السفلة عنده أهون من دبة البزر استخفافاً به وبجفائه.
ولا ينطسُ أو يلح ... ن ما يطلب بالقسر
وجرّار عيالاتٍ ... عليهم أثر الضرُّ
ولا ينطش: لا يذهب، أو يلحن: يعطي. وجرار عيالات: هو الذي يكتري الصبيان والنساء ويكدي عليهم.
ومن ينفذ سبحاتٍ ... وحلوى وأبا شكر
ومن ينفذ سبحات: هو الذي يطرح على أبواب الحوانيت السبحات وأقراص الحلوى، فمنهم من يعطي ويرد عليه، ومنهم من يلقي الملح، ويقال للملح: أبو شكر.
ومنّا حافر الطرس ... بلا خرطٍ ولا جهر
حافر الطوس: هو الذي يحفر القوالب للتعاويذ فيشتريها منه قوم أميون لا يكتبون وقد يحفظ البائع النقش الذي عليه فينفذ التعاويذ إلى الناس ويوهم أنه كتبها، ويقال للقالب: الطرس.
وبركوشٌ وبركك ... ومعطى هالك الجزر
بركوش: هو الذي يتصامم ويقول للإنسان تكلم على هذا الخاتم باسمك واسم أبيك فيسمع وينبئه به، وبركك: هو الذي يقلع الأضراس ويداوي منها، والهالك: الدواء، والجزر: البصر، ويقال للعين: الجزارة.
ومن قرْمَطَ أو سرْمَ ... ط أو خطَّط في سفر
قرمط: هو الذي يكتب التعاويذ بالدقيق والجليل من الخط، وسرمط: كتب، والسرماط: الكتاب.
وحرّاقٍ وبزّاقٍ ... بني الشّخِّير والنشر

ومن ذكّر والقوم ال ... زكوريون في الصدر
الحراق: الذي تكون معه مرآة تشعل منها النار وتسمى حراقة. والبزاق: الذي يرقي المجانين وأصحاب العاهات ويتفل عليهم، ذكر: كدى على الأبواب، وهو من أجلائهم.
ومن دهشم بالكرش ... ويستبرد في النهر
ومن دهشم: مخرق وموه بأنه صائم. والكرش الصوم والجوع أيضاً ويكون قد أكل في منزله فإذا عطش في النهر بعلة الاستبراد وشرب ما أراد.
ومن يعطي الضماناتِ ... من الزنكلة العفر
الزنكلة والعفر: واحد، وهم المعافرون يأخذون الحجيج ويضمنون الجنة.
ويشرى عشّ ؤرضوانِ ... بنذر الثمن النزر
ويشري عش رضوان: يعني أنه قول: إن لم أحج عنك فحظي من الجنة وقف عليك اللهم اشهد بشراء البيع، والعش: البيت، يريد به الجنة.
ومن حنّن كفّيه ... وحفَّ الطّست كالحرّ
حنن: هو الذي يخضب كفيه بالحناء، وحف شاربه فيتركه كالطست المجلوة وكالحر المنتوف، فيدعى أنه من الصوفية العلماء الزهاد فيتشبث به لذلك.
ومنّا الشيخ هفصويه ... ويحيى وأبو زكر
هفصويه: هؤلاء الذين سماهم قوم نبط وعجم، يكدون ولا يتكلمون العربي.
ومن كان على رأي اب ... ن سيرين من العبر
ومن كان على رأي ابن سيرين: هؤلاء من البصراء يعبرون الرؤيا ويدكون من هذه الجهة.
وشكّاكٍ وحكّاكٍ ... ومعطى بلح الأجر
الشكاك: الذي يبيع دواء الفار واسمه الشك، والحكاك: الذي يكون معه حجارة محمولة من دربند يظهر فيها الحديد من الدراهم والدنانير، يقال للواحد منها المحك، بلح الأجر: هو السبح التي تحمل من الجبل يقال لها دموع داود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام.
وسمقون عليه السر ... مل الكحل وذو الغزر
سمقون: الصبي الذي يأخذ بيد الضرير يوهم أنه ابنه، والسرمل: القميص المخرق.
ومن ربّى ومن فتّى ... وأجرى عقد الزرّ
ومن ربى: هؤلاء قوم شطار يقولون بالصاحب والغلام فيربون الصبيان.
ومنّا قافة الرزق ... وأهل الفال والزجر
وقافة الرزق: قوم يتعاطون التنجيم.
ومن يعمل بالزيج ... وبالتنور والجفر
الجفر: الذي يكون بين أيديهم على هيئة الفلك يدور.
ومنا البشتداريو ... ن تحت الرحل كالحمر
والبشتداريون: قوم يستأجرهم المكدون الذين يخرجون إلى القرى فيحملون رحالاتهم وما يجمعون بها من الحب والصوف وغيره.
ومن مرّق في مصطب ... ة الفتيان في قدر
ومن مرق: يطبخون المرق في دار القوم فيبيعونها من المرضى والضعفاء منهم.
ومنا كلّ مراسٍ ... جسورٍ جاهلٍ هزر
المراس: الحواء معه سلال فيها حيات.
يرى الخشّ فيأتيه ... بلا خوفٍ ولا ذعر
الخش: الأفعى.
فيستل الذي يخشا ... ه من شصوصةً الخزر
الشوص: الأنياب بقلعها ويترك واحدة.
ويبقى منه مما يص ... لح للمحنة والسّبر
فقد أنزل فيه ... ملك الموت على قبر
فهذا هالكٌ لسعاً ... وهذا كفُّه يبري
وقد يلتمس الخبز ... بمكروهٍ من الأمر
ومنّا كلُّ نطّاسٍ ... على البزرك مستجري
النطاس: القوي القلب من الدستكاريين تراهم على الدواب ومعهم الكلاليب والمباضع يداوون الرمدى وغيرهم من الأعلال، والبزرك: المواضع.
ومنا كلُّ من شرش ... ر بالهلاّب والكسر
الشرشرة: القمار، والهلاب: الثياب، والكسر: الدرهم والمرجان والدينار.
إذا حاف علبه بخت ... ه سقَّف بالنحر
وحاف عليه: يعني أنه إذا قمر فانقلب الفص عليه رفع طرفه إلى السقف ونحر نحو السماء وتكلم بالكفر.
ومنا كلُّ إسطيلٍ ... نقيِّ الذهن والفكرْ
الإسطيل: الأعمى.
ومنا كلُّ سبّاعٍ ... عظيم الليث والببر
ومن قرّد أو دبّ ... ب من كلّ فتىً غمر
ومن قرد أو دبب: هم الذين يكدون على الدببة والسباع والقردة:
وسمّانٍ ووسنانٍ ... ومن قتّت كالكبر

والسمان: الذي يعطي النساء دواء السمن، والسنان: الذي يعطي دواء الأسنان، وقتت: أكل القت بين أيدي الناس كالجمل.
ودكّاكٍ السفوفات ... لريح الجوف والخصر
الدكاك: الذي يرقى من القولنج، ويكون معه حب مصنوع يحتال حتى يبلعه العليل فيزعم أنه انحل بالرقية.
ومنا ذو الوفا الحرّ ال ... مدلِّج ذو الكرّ
والمدلج: الذي يأخذ حاجته من البقال والجبان ويحصل عليه أجرة الشهر لبيته فيهرب ليلاً ويفوز بما يلزمه أداؤه.
ومنا شعراء الأر ... ض أهل البدو والحضر
ومنا سائر الأنصا ... ر والأشراف من فهر
ومنا قيِّم الدين ال ... مطيع الشائع الذكر
يكدى من معزّ الدو ... لة الخبز على قدر
ومن يطحن ما يطح ... ن بالشدة والكسر
ومن يطحن: هم الذين يطحنون النوى والحديد والزجاج بأيديهم وأضراسهم.
ومطليُّ دن الأخّ ... مع المصموع كالبثر
ومطلي دم الأخ: هم الذين يضربون دم الأخوين والكثيراء والضموغ وينفخونها على أجسادهم فتخرج بهم بثور يمرضون منها فيكدرون.
ومنا كلُّ مشقاعٍ ... من الفتيان كاللغر
المشقاع: الأرعن الذي يكتري الثياب البيض ويلبسها. واللغر: هم السفل من الناس.
يلذ الشورز الوجدا ... ن بالخبّ وبالمكر
الشورز: الأمرد. ويلذ: يدور به العرب من المكدين فؤدبه، ويقول: هذه الفتوة، ولا يجوز أن تكون وحدك، فإما أن تصير غلاماً لأحدنا وإما أن تخرج من دار الفتيان، فإذا صار مع أحدهم طبخ له قدر الدسكرة، ويقال للقدر بما فيها: الخشبوب.
إلى أن يأكل الخشبو ... ب كرساً أكلّ مضطر
وما في البيت غير الب ... تّ أو بارية القفر
وما للشوزر السوء ... سوى الغيلة والغدر
وأن يصميه حتى ... تراه طافح السكر
يصميه: يسقيه الصمى، وهو الخمر.
فتجري فيه كيذات ال ... بهاليل ولا يدري
الكيذات: الأيور: البهاليل: رؤساء المكدين.
ومنا سعفة الريح ... لضرب الكلب والهرّ
وسعفة الريح: قوم يرعدون رعدة شديدة تهتز لها مفاصلهم وتصطك أسنانهم، ويقول أحدهم: إنه قتل سنوراً أو كلباً فلطمته الجن.
وذو القصعة والمسرا ... د والمكناس والعشر
وذو القصعة والمساد: هؤلاء قوم ينخلون التراب في الطرق ويعلقون على أنفسهم القصلع ويغسلون الأسواق بالماء ويخرجون إلى البيادر فليقطون القصرى وهو ما بقي في السنبل من الحب بعد أن يداس.
وفي الأسواق والأنها ... ر والبيدر والقصر
ومن يقراء بالسبع ... وإدغام أبي عمر و
وأصحاب المقالات ... من الفاجر والبرِّ
ومن علاّفةٍ ركّبت ال ... باز مع الصقر
ومن علافة: هذه امرأة تتزوج بمن يحسن أن يكدي فيشد يدها مجموعة الأصابع ويدعى أنها مقطوعة ويسمى الباز، وربما عوجها كأنها مفلوجة، والصقر: هو أن يشد عينيها ويقول: إنها رمدى أو عوراء ويقال لها أيضاً النعلة.
ومنّا الكابليون ... ومن يلعب بالجرّ
ومن يمشي على الحبل ... ومن يصعد بالبكر
ومنّا الزنج والزُّط ... سوى الكبّاجة السُّمر
والكباجة: اللصوص، كبج إذا سرق.
ومنا من صما يوماً ... فقد هرّب في المصر
ومنا من صما: يقول إن من شرب منا الخمر وعرف به فقد أفسد على نفسه البلد، والشيء الفاسد يقال له الهريب، والشيء الجيد يقال له الكسيح.
ومنّا كل ذي سمتٍ ... خشوع القنِّ كالحبر
يرقّي وتراه با ... كياً دمعته تجري
فإن كبّن في السرّ ... فبالمذقان يستذري
كبن: خري، والكبن الاسم منه، يقول: إنه يظهر الورع والزهد فإذا خلا المسجد وأخذه البطن يخرى تحت السارية أو خلف المنارة ويمسح استه بالمذقان وهو المحراب.
وإن كرّس لا والل ... ه لا تمَّ إلى الظهر
ومن صاح بآمين ... من المزلق والذعر
من المزلق: يريد هؤلاء العراة، الواحد مزلق، يصيحون بآمين من الأسواق.

سخام القصّ قد نقّ ... عهم مثل بني النّمر
سخام القصي: سواد الأتون.
فذا بقّالنا سطلٌ ... وذا استأذنا خرّي
فذا بقالنا سطل: يقول إذا صاحوا بآمين دعوا على أصحاب الحوانيت ذا بقالنا أعمه يا رب.
وذت فصابنا عسمٌ ... وذا البزاز لا تبري
وعسم: من العسوم وهو المفلوج.
ومن ردّهم غُلِّ ... ف من غالبة الحجر
ومنّا كل من يم ... رح في الإسظيل كالمهر
ومن كدّة بهلولٍ ... تخطّى ثمّ كالحجر
الإسظيل: الجامع، والكدة: المرأة التي تسأل الناس ومعها زوجها في الجامع.
ومن يخرج بالياب ... س يوم الفطر والنحر
من يخرج باليابس: قوم يخرجون في أيام الأعياد إلى المصلى عراة خفاة يكدون.
ومنا من تمشّى يم ... ح البلدان كالنسر
ومن يأوي المصاطيب ... مع المذلقة الضُّمر
ومن يأوي الشغتثات ... مع العقّة في الستر
وأصحاب التجافيف ... من الثامول الصبر
أصحاب التجافيف: قوم يأوون المساجد عليهم مرقعات كالتجافيف بعضها مركبة فوق بعض، يقال لهم الثامولة الصبر لصبرهم على شدة فقرهم.
وأصحاب الشقاعات ... من المشّاطح العكر
الشقاعات: جمع شقاع، وهو الوطاء إذا كان من ألوان أو لون واحد يكون مع جنس منهم، فيدورون في المواضع ويبسطون الشقاع ويصلون عليها ولا يأوون إلى موضع فلهذا يقال لهم: المشاطح، لأن المشطح هو الذي يطوف دائباً لا يفتر.
بنو التّضريب والتدري ... بِ والتّفتيق والأطر
بنو التضريب والتدريب: قوم ليس لهم عمل إلا جمع الخرق معهم فهم أبداً في رتق أو فتق.
ترى للقمل في كلِّ ... شقاعٍ مائتي وكرِ
ومن دمَّج في الثلج ... وفي الوحل بلا طمر
دمج: إذا قام في البرد.
ولا ينظر إلاّ كا ... لحاً ذا نظرٍ شزر
فلا يبرح أو يأخ ... ذ ما يأخذ بالصقر
ومن الغمّير منا فت ... يةٌ من رغلٍ قذر
همُ بيتُ المشاميل ... مع النّابير الحفر
المشاميل: الرغفان، واحدها مشمول، والقنابر: جمع قنبرة، وهو الكسرة من الخبر.
غدوا مثل الشياطين ... عليهم أثرُ الفقر
فيأتون ببربازا ... ر كالقفيا من المجري
بربازار: لأنه ذو ألوان، والقفيا: هو خبز السبيل الذي يجريه الأعلاء على الفقراء والضعفاء فيكون لهم رجل مجرى.
وعبّوه أنابيرٌ ... من الزغبل والبرِّ
وعبوه أنابير: يعني أنهم إذا جمعوا الخبز جعلوه كالأنبارات بين أيديهم من ألوان وكل ما خالف الحنطة فهو الزغبل، ثم يتقاسمون ما يجتمع لهم منها.
كما يقتسم البيد ... ر بالقفزان والكسر
وظلّوا يفتنون ... على مالك بالعسر
وخصوه بجوازات ... ونصف فجله نمري
وخصوه بجوازات: يعني أن ما يبقى من المأكول يجعلونه لصاحب الموضع، وإن كانوا في أتون جعلوه للوقاد.
سقى الله بني ساسا ... ن غيثاً دائم القطر
ترى العريان منهم ظا ... هر السُّمرة والخطر
كنمروذ بن كنعان ... قويّ الصدر والأزر
رجالٌ فطنوا للثق ... ل والأغلال والإصر
خلنجيون ما حاضوا ... ولا باتوا على طهر
الخلنجي: الذي يخرى ولا يغسل استه، ما حاضوا: أي ما تطهروا.
رأوا من حكمةٍ خرط ال ... قلاداتِ مع العذر
؟يقولون لمن رقّى تحوَّل فينا تزري
وراحوا خارج الدار ... بواريةٍ مع الحصر
فحيثما اكتروا قالوا ... من الخشني لا نكري
إذا ما سمّروا القشقا ... ش ذا العثنون والزجر
سمروا القشقاش: أي رأوه وهو الشيخ الطويل اللحية، ذو الزجر: العالم المتقشف الورع.
لقوه بنثاراتٍ ... من البندق والبسر
وحيّوه بآلافٍ ... من القنّادر الفطر

يعني أنهم إذا رأوا شيخاً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ضؤطوا عليه، والقنادر: الضرط، والفطر: الذي لم ينضج بعد، من الفطير، ويصيح الواحد إلى الآخر بندقة بسرة ويضرط.
وكم بين الغرابيب ... وبين الببغ والقمر
ألا إني حلبت الده ... ر من شطرٍ إلى شطر
وجبت الأرض حتى صر ... ت في التّطواف كالخضر
وللغربة في الحرِّ ... فعالُ النار في التّبر
وما عيش الفتى إلا ... كحال المدِّ والجزر
فبعضٌ منه للخير ... وبعضٌ منه للشرّ
فإن لمت على الغرب ... ة مثلي فاسمعنْ عذري
أمالي أسوةٌ في غر ... بتي بالسادة الطُّهر
همُ آل الحواميم ... هم الموفون بالنذر
هم آل رسول الل ... ه أهل الفضل والفخر
بكوفان وطيِّ كر ... بلاكمْ ثمّ من قبر
وبغداد وسامرا ... وباخمرى على السكر
وفي طوس مناخ الرك ... ب في شعبان في العشر
سولمانٌ وعمّارٌ ... غريبٌ وأبو ذرّ
قبورٌ في الأقاليم ... كمثل الأنجم الزهر
فإن أظفر بآمالي ... شفيتُ غُلّة الصدر
وألممت بأوطانٍ ... قويّ النهي والأمر
وقد تخفق فوقي ع ... زّةً ألوية النصر
وإما تكن الأخرى ... وعزُّ جائز الكسر
فلا أُبْتُ مع السفر ... غداة أوبة السَّفر
ولا عدْتُ متى عدت ... بلا عزٍّ ولا وفر
وحسبي القصب المطحو ... ن فيه ورقُ السدر
وأثوابٌ تواريني ... من الإيذاء والأزر
؟أبو القاسم عبد الصمد بن بابك شاعر شعاره إحسان السبك، وإحكام الرصف، وإبداع الوصف، يشبه كلامه مرة في الجزالة والفصاحة كلام المفلقين، من الشعراء المتقدمين، ويناسب تارة في الرشاقة والملاحة قول المجيدين، من المحدثين والمولدين، وهو القائل في وصف شعره:
أزرتْك يا ابن عبادٍ ثناءً ... كأنّ نسيمه شرقٌ براح
ولفظاً ناهَبَ الحلْيَ الغواني ... وأهدى السحر للحدق الملاح
وله في استعطاف الصاحب:
أي جرمٍ لواثقٍ بك راجي ... خبطته غوارب الأمواج
وطني أنتِ والمكارم زادي ... فلمن أزجر القلاص النواجي
فارعَ يا كافي الكفاة ثناءً ... نفث السحر في العيوم السواجي
لو أزرتَ الحراب ملعب طوقي ... لارتشفن الثناء من أوداجي
أنا مذْ حرَّقت سمومك ظلّي ... جمرةٌ في شواظك الوهّاج
لا تقابل زيارتي بازورارٍ ... ومجاجاً عسّلته بأجاج
ليس في الشرط جنس حظّي فوقَّع ... في عيون الحساد بالإخراج
وكان أيام الصاحب يشتي بحضرته ويصيف بوطنه، كما قال من قصيدة جرجانية يتسحب فيها على كرم الصاحب ويقرع باب استبطائه ويستأذنه للعود إلى بلده:
ألا يا أيها الملك الرؤوف ... إلى كم يعصي بالنفس اللهيفُ
أأسحب في ذراك فضول ذيلي ... ويسحب ذيل نعمتك الضيوف
فإنْ يملك سواي عنانَ حظّي ... ولي من دونه اللّفظ الشريف
فكلّ مطرَّقٍ مالٌ، ولكنْ ... تعود بها إلى القيم الصروف
لواني عن طريق اليأس أني ... على ثقةٍ بأنك لا تحيفُ
فحِزْ إرث الزمان وعشْ حميداً ... يُناخ ببابك الهمُّ العكوف
وحادثْ بالسراح أخا اشتياقٍ ... يلاعب ظلّه جسدٌ نحيف
له بالريف من جرجان مشتى ... وبالنخلات من غمّي مصيف
وقرأت للصاحب فصلاً في ذكره واستملحته، وهو: وأما ابن بابك، وكثرة غشيانه بابك. فإنما تغشى منازل الكرام، والمنهل العذب كثير الزحام.

قال مؤلف الكتاب: وقد كانت تبلغني لمع يسيرة من شعره فتروقني وتشوقني إلى أخواتها، حتى استدعى أبو نصر سهل لن المزربان من بغداد مجموع شعره كعادته في استنساخ الظرف واستجلاب الغرر، وبذل النفائس في استحداث الملح، فأهدى إليه ابن بابك مجلدة من شعره بخطه يسحب ذيلها على الروض الممطور. والوشي المنشور. فلم أدر الدفتر أملح أو الخط أحسن أم الشكل أصبح أو اللفظ أبرع أم المعنى أبدع، وجمعت يدي منها على الضالة المنشودة، والغريبة الموجودة، فأخرجت منها غرراً ما هي إلا أنس المقيم وزاد المسافر ومنية الكاتب وتحفة الشاعر، كقوله في وصف الشراب من قصيدة:
عقارٌ عليها من دم الصبّ نفضةٌ ... ومن عبرات المستهام فواقعُ
معوّدةٌ غصب العقول كأنّما ... لها عند أرباب الرجال ودائعُ
تحيَّر دمع المزن في كأسها كما ... تحيَّر في ورد الخدود المدامع
وقوله من أخرى في وصف إضرام النار في بعض غياض طريقه إلى الصاحب:
ومقلةٍ في مجرِّ الشمس مسحبها ... أرعيتها في شباب السذقة الشهبا
حتى أرتني وعين النجم فاترةٌ ... وجه الصباح بذيل الليل منتقبا
وليلةٍ بت أشكو الهمّ أولها ... وعدت آخرها أستنجد الطربا
في غيضةٍ من غياض الحزن دانيةٍ ... مدّ الظلام على أرواقها طنبا
يهدى إليها مجاج الخمر ساكنها ... فكلما دبَّ فيها أثمرت لهبا
حتى إذا النار طاشت في ذوائبها ... عاد الزمرُّد من عيدانها ذهبا
ومنها:
مرقْتُ منها وثغر الصبح مبتسمٌ ... إلى أغرَّ يرى المذخور ما وهبا
ذو غرّةٍ كجبين الشمس لو برقتْ ... في صفحة الليل للحرباء لانتصبا
يا أغزر الناس أنواءً ومحتلباً ... وأشرف الناس أعراقاً ومنتسبا
أصبحت ذائقةً بالوفر منك وإنْ ... قال العواذل ظنٌّ ربّما كذبا
إن المنى ضمنت عنك الغنى فأجبْ ... فالبحر يمنح فضل الريِّ من شربا
فحسن ظنّي قد استوفى مدى أملي ... وحسن رأيك لي لم يبق لي أربا
ومن أخرى:
حجبت وما حجبت عن الصباح ... وليلُ الصّبِّ ممطول البراح
وبات السقم يكمن في عظامي ... كمون الموت في حدِّ الصفاح
ومنها:
كسوت الحمد ذا عرضٍ مصونٍ ... يمتَّعُ في حمى مالٍ مباح
مزوحُ اللفظ مجذوعَ العطايا ... جموحُ العزم مجنونَ السماح
إذا اشتجرت على الملك العوالي ... هززت أصمَّ موشَّى الجناح
يُريق على الظُّبا ريق المنايا ... ويكحل بالردى مقل الرماح
وقوله من أخرى يمدح ويعاتب ويستبطئ:
أرى الأيام تسرف غي عقابي ... ودون رياضتي شيب الغراب
ألا يا عامر الآمال مالي ... أسير الطرف في أملٍ خراب
أفون مطارح الأمل انتظاراً ... وأسرح بين سقمٍ واغتراب
أراعُ ولا أراعي والأماني ... لقىً بين اكتئابٍ وارتياب
وكم كسرٍ جبرْتَ فكان طوقاً ... على نحرِ الدعاء المستجاب
وقوله من أخرى:
لقد نشر النيروز وشياً على الرّبا ... من النور لم تظفر به كفُّ راقم
كأن ابن عبادٍ سقى المزن نشره ... فجاد برشّاشٍ من الوبل ساجم
ومن أخرى يهنئه بالأضحى:
ليهنك عيدٌ لو تناجت سعوده ... لما اقترحت إلا سماءك مطلعا
فضحِّ بمنْ ماطلتُه عدَّة الردى ... فما اكتنّ صدر السيف إلا ليقطعا
وله من قصيدة يذكر خلعة أمر له الصاحب بها:
وخلعةٍ فاجأت بلا عِدّةٍ ... من منعمٍ في عطائه سرفُ
غلَّت لساني عن الثناء فما ... يجري ولكنْ لشأنها يصفُ
ومن أخرى:
أقبلت في شرف اللباس فأبلسوا ... نظر البغاث إلى انقضاض الجارحِ
إشتقّ من خلع الفخار عمامةً ... ورفاء تهزأ بالكئيب البارح
ومزنر الأردان ناقلني الضنا ... وافترَّ عن سمطيّ شتيتٍ واضح

كالزبرقان تهافتت أنواره ... ليلاً بمضطرب الخليج السابح
ومهلهلِ النهدين نازع عِطفهُ ... علمٌ كمنعطف العذار الجامح
لأنلتني شرف المقام، ورعي بي ... قلب الزمان، وصنت وجه مدائحي
لله منزلنا التي من شأنها ... جرّ الرماح على السّماك الرامح
ومن قصيدة في فخر الدولة:
خلقت يقظان مروح العنان ... موقّر الجأش جموح الجنان
أظلم الدهر فقد سرّني ... وعشت من أحداثه في أمانِ
فإن تكن أيام دهري خلتْ ... فشأن أيامي البواقي وشاني
لقد تفيَّأتُ ظلال الصبا ... وصمّ عن طاعتي العاذلان
واستوقفت طرفي في خصور الدمى ... وانتهبت عقلي حضور الدنان
أفتِّق جلد الليل عن ضوئها ... والصبح كالنار خلال الدخان
يسعى بها في سقطات الندى ... أغنُّ معقودُ حواشي اللسانِ
مروّعُ المقلة طاوي الحشى ... مؤنّث الدلِّ مريض البنان
مقرطقٌ تنفر أذياله ... عن موجةٍ يجذبها غصن بان
مزنَّرٌ يقلق سرباله ... كأنّما زرّ على خيزران
في يده شمطاء مقتولةً ... ترفل في ملحفتي أرجوان
إذا استدارت فرقاً صرّحت ... عن شررٍ وابتسمت عن جمان
إذا ظغا لؤلؤه خلته ... طلاًّ على أرضٍ من الزعفران
تذكّرني أنفاسها سحرةً ... والليل والصبح طليقا رهان
نشوةَ أنفاس الأمير الذي ... أدرك ما شاء برغم الزمان
لم يحسن في تشبيه طيب رائحة الشراب بنفس الممدوح وهو ملك معظم لأنه إنما يشبه بنفس المعشوق، وقد مر مثل هذا النقد في شعر المتنبي، وكان ينبغي أن يقول:
نسيمُ أفعال الأمير الذي ... أدرك ما شاء برغم الزمان
رجع:
يا فلم الأمة درْ بالذي ... تهوى فقد دان لك المشرفان
مقبل الراحة ما صُوِّرت ... كفّ؟اه إلا للندى والطعان
فالحزم والعزم له عدّةٌ ... والمال والسيف له جنّتان
قد رقم النيروز وشْي الرُّبا ... فارقم حواشي جامك الخسرواني
واقتبل اللّذات واستدعها ... باللهو والقصف وعزف القيان
واجتلِ وجه الراح في روضةٍ ... تبسّم عن مثل وجوه الغواني
وارع رياض العز في غبطةٍ ... واسكن مدى الأيام ظلَّ التهاني
ومن أخرى في مهرجانية:
أيا شاهانشاه صلِ الأماني ... بتجديد البشائر والتهاني
فقد جرت السعود وجاء يحدو ... سبوت الدهر سبت المهرجان
وإنْ طغتِ المثالب والمثاني ... فعاتبها بقهقهة القناني
فقد برد النسيم وجاء يسعى ... بها خِصِر المراشف والبنان
فلا عدمت يداك سقيط مزنٍ ... يصفق بالرحيق الخسرواني
ومن أخرى يصف مجلس إملاك نثرت في الدنانير:
وهزّ العقدُ متن الأرض حتى ... كأنْ قد أشربت حلب العصير
وأرسلت السماء رشاش نبرٍ ... شتيت الورق كالورق النّثير
لقد أمطرتها ذهباً ولكنْ ... جلوت الشمس في يومٍ مطير
كواكب زرن وجه الأرض حتى ... لقد أذكرتنا عام الهرير
ومن أخرى:
يا ساقي قضيبُ الرند ريانُ ... والبدر ملتحفٌ والصبح عريانُ
وللصبا عثراتٌ لا تقال، وفي ... سجع الحمائم ترجيعٌ وإرنان
فغالباً نفثتي بالراح واختلسا ... عقلي فقد نفح النسرين والبان
واسترجعا لمتي واستنفدا طربي ... قبل الشروق فللأطراب أوطان
وعرضا بهوى لبني فلي ولها ... وللزجاجة إن عرضتما شان
اليأس وردي إذا سحبُ المنى هطلت ... والصبر زادي إذا أهل الحمى بانوا

ها إن حلبة أرض الله شوط فتى ... في بسطتي يده بطشٌ وإحسانُ
لله ثم لشاهنشاه خلفتها ... ما طل في رملات القاع حوذان
إن كان للفلك العلوي مرتكضٌ ... فيها فللفلك الأرضي سلطانُ
ومن أخرى في أبي علي الحسن بن أحمد لما تقلد الوزارة هو وأبو العباس الضبي على سبيل المشاركة والمشاطرة:
برق الثناء وشق ذاك القسطل ... وجرى عنانك والسماك الأعزلُ
ورآك للتشريف أهلاً فاجتبى ... بوفائه ملكٌ يقول ويفعلُ
فأعرت شطر الملك ثوب كماله ... البدرُ في شطر المسافة يكملُ
أنظر إلى حسن وصفه لوزارته المشتركة، وتدبيره نصف المملكة لفخر الدولة.
ومن أخرى:
ذنبي إلى الدهر أني ما خضعت له ... ولا طويت له ثوبي على درنٍ
قد كنت أوقفُ من عنسٍ على طللٍ ... فصرت أسرع من عذلٍك على أذن
هذي بقية نفس فارقت وطناً ... وفرقة النفس تتلو فرقة الوطن
نقلت عن عقر دارٍ كنت آلفها ... إلف القرارة صوب العارض الهتن
حتى ترنحتُ في إفياء دولتها ... ترنح الظل بين الماء والغصن
فالآن قصر باعي وانتهى طربي ... وشمرت في عقابي سطوة الزمن
وقوله من أخرى:
رب ليلٍ مرقتُ من فحمتيه ... أنا والعيس والقنا والبروقُ
وقادٍ كخفقة النبض يغشى ... مقلة راعها الخيال الطروق
واستهلت لمصرع الليل ورقٌ ... ثاكلاتٌ حدادها التطويق
فتضاحكتُ شامتاً وكأن ال ... صبح جيبُ على الدجا مشقوق
سبك الشرق منه تبراً مذاباً ... لفرند الشعاع فيه بريق
وتمشت على الرياض النعامى ... وثنى قده القضيب الرشيقُ
فكأن التراب مسكُ فريكُ ... وكأن الأصيل صبحٌ فتيق
ليس إلا تطرف العيش حتى ... يتوشى لك المراد الأنيق
إنما العيش رنةٌ من حمامٍ ... وسلافٌ يشجه معشوق
ومهب من الشمال عليلٌ ... ووشاحٌ من الرياض أنيق
وملاءٌ من الشباب جديدٌ ... ورداءٌ من النسيم رقيق
وجمالٌ من الرذاذ نثيرٌ ... في مروجٍ ترابهن خلوق
لا ترد مشرع الصبابة فاليأ ... س رفيق إذا استقل الفريقُ
شافه الهم إن طغى بحريقٍ ... سلهُ من زناده الراووق
صفقته يدٌ كأن عليها ... صدفاً فيه لؤلؤٌ وعقيق
وله أيضاً:
لم أرض باليأس ولكنني ... أسوف الخسران بالربح
تألفتني خطراتُ المنى ... تألف المسبار في الجرح
ومن أبيات في غلام يشتكي من قروح به:
يا أيها الرشأ الموفي على شرفٍ ... ماذا دعاك ولم أذنب إلى تلفي
لا تشكون قروحاً آلمتك فقد ... سرقتها من فؤادي الهائم الدنفِ
أحب منك وإن لج العوازل في ... لومي دلال الرضا في نخوة الصلف
ومن أبيات في الاعتذار من ترك التوديع:
إن لم أودعك فعن عذرةٍ ... فاثنِ إليها أذناً واعيه
قرت بك العين فنزهتها ... عن نظرةٍ ليس لها ثانية
؟أبو إبراهيم إسماعيل بن أحمد الشاشي العامري قد كان يقع التعجب من إخراج الشاش مثل أبي محمد المطراني في حسن شعره وبراعة كلامه، فلما أخرجت من إسماعيل من ألقى إليه القول الفصل زمامه، وملكه المعنى البديع عنانه، كان كما قيل: " جرى الوادي فطم على القرى " وهو أحد الأفراد بحضرة الصاحب، وممن رفعتهم سدته، وشرفتهم خدمته.
ولولا أن الفالج أبطله الآن، لكان قد بلغ من التبريز أعلى مكان. ولكنه بالري لقى، وفي طريق المنية لقى. وعنده بقية مما استفادة في أيام الصاحب تتماسك معها حال معيشته. وتنزاح بها علل نفسه. وهذا أنموذج من شعره قال في الصاحب من قصيدة شبب فيها بشكاية الإخوان وذكر مرضاً عرض للصاحب:
سرينا إلى العليا فقيل كواكبُ ... وثرنا إلى الجلى فقيل قواضب

وفاضت لنا فوق السنين نوافلٌ ... فما شك محل أنهن سحائب
خلقنا أشداء القلوب على الهوى ... فما تزدهينا الآنساتُ الربائب
فمن دأبه منا نحولٌ ودقةٌ ... فمما جنى أحبابنا لا الحبائب
أبيت أنادي الدهر جدلي بصاحبٍ ... وجل طلاب الدهر ما أنا طالبِ
فما جاد لي منه بغير مجانبٍ ... وآخرُ خيرٌ منه ذاك المجانب
خليلٌ تحامته الأباعد والتوت ... على مهج الأدنين منه العقارب
عقارب لا يجرحن غير مودةٍ ... فهن لحبات القلوب لواسب
وما كان ظني أن تبين شبيبتي ... وإن بان جيرانٌ وشطت أقارب
فمذ راعني شرخ الشباب بفرقةٍ ... تيقنتُ أن لا يستدام مصاحب
أخلاي أمثال الكواكب كثرةً ... وما كل ما يرمي به الأفق ثاقبُ
بلى كلهم مثلُ الزمان تلوناً ... إذا سر منهم جانبٌ ساء جانب
مضى الودّ والإنصاف والعهد منهمُ ... فما بقيت إلا الظنون الكواذب
وكنت أرى أن التجارب عدةً ... فحانت ثقات الناس حتى التجارب
تدرع لإخوان الزمان مفاضةً ... ولا تلقهم إلا وأنت محارب
إن لم تكن مندوحةٌ من مصاحبٍ ... فسيفٌ ورمحٌ والفلا والركائب
فهن إلى وفد الخطوب كتائبٌ ... وهن إلى كافي الكفاة صواحب
إلى ملك مذ أشرقت شمس جوده ... تبسم في وجه الرجاء المطالبُ
إلى من حمى عود العلا فهو ناضرٌ ... ورد إليه ماءه وهو ناضب
إلى من رعى بالجود سرب نعميه ... فلا تتمطى في ذراه النوائب
وكل نعيمٍ لم يعوذ بشاكرٍ ... تفنن فيه للذهاب مذاهب
لعمري بني عبادٍ المجدُ راسياً ... ولكن لإسماعيل منه المناكب
زرارة لم يحلل بواديه مفخرٌ ... ولكن حوى غر المفاخر جانب
وحلت قريشٌ في اليفاع بهاشم ... وإن كان سباقاً إلى المجد غالب
فديناك يا كهف البرية ما الذي ... أعار المعالي سقمك المتناوب
عليها من الإشفاق ثوبُ كآبةٍ ... وخطبٌ يدانيه الضنى
وفي كل دارٍ للأرامل ضجةٌ ... بأدعيةٍ ضوضاؤها متجاوب
ولو شئت تأديب الليالي فعلتهُ ... فلم يرَ منها في جنابك خارب
ولم تقرب الحمى حماك ولم يكن ... لسورتها في سورة المجد سارب
وحوشيت أن تضري بجسمك علةٌ ... ألا إنها تلك الغروم الثواقب
ولا عج تدبيرٍ وجائش همةٍ ... سرى منهما بني الجوانح لاهبُ
فلا تعذروها أن رأت اشرف الورى ... وحلت به فالحر في الشمس ناشبُ
لقد كانت الأيام حجبَ شمسها ... دياجي همومٍ دجنها متراكب
فلما انتضاك البرء عادت كأنها ... غياهب بأس قشعتها مواهب
نظرت إلى دنياك نضره قادر ... فلم يبق فيها سائل ومغالب
سواي فإني سائل انتغب لي ... سحائب نعمى كلهن ربائب
فما في لساتي شكر ما أنت منعم ... ولا في بناتي حصر ما أنت واهب
أنلني بقدري لا بقدرك إنما ... تجود على قدر الآتي المذانب
وقال من أخرى نمن البسيط
مستوقفي بين ذل الصد والملل ... لاحظ لي منك إلا لذة الأمل
أرضي بطيفك بل أرضى بذكرك أن ... يتدلى وذاكري مقرونين في الغزل
لا ترحلن فما أبقيت من جلدي ... ما أستطيع به توديع مرتحل
ولا من الغمض ما أقري الخيال به ... ولا من الدمع ما أبكي على طلل
نعم لي العزمة الغراء إن وجدت ... لم تحتفل بوجيف الخيل والإبل
تحوي مرادي على رغم العواذل من ... رب الأكاليل لا من ربه الكلل

قد زدت يا ليلة التوديع في حزني ... ولم تزل يا صباح الوصل في جذل
وأنت يا جسداً لج القضاء به ... حتى برته يدُ الأوجاع والعلل
كيف احتملت الضنا في الظاعنين ضحى ... وكنت للشوق فيهم غير محتمل
عجبت أن يحل السقم في بدن ... لو شاء جاز الردى سراً من الأجل
لم يبق منه سوى قلب يقلبه ... في ملطب العز بين البيض والأسل
مقسم قلبه في كل مرحلةٍ ... شوقاً إلى العز لا شوقاً إلى الغزل
نفسي الفداء إذا ما الروع صبحني ... للأعين الخزر لا للأعين النجل
لله جسمي فما أبقى حشاشته ... على الحوادث والأسقام والوجل
يعدو سقامي على مثل الخيل ضنى ... ويقرع الخطب مني صفحة الجبل
ولا يرى في فراشي عائدي شبحاً ... ويحمل الدرع مسلوباً عن البطل
أنا المقيم وأشعاري على سفرٍ ... كادت تؤلف أعلاماً على السبل
سارت شوارد أوصاف الوزير بها ... سير الجنوب بصوب العارض الهطل
يروي القريض ولما يسم قائله ... فيشهد المجد أن المدح فيه ولي
إذا سهرت لتحبير المديح له ... راسلت طبعي ومن إحسانه رسلي
ما بعده لشذور القول مدخرٌ ... في مقلة الريم أعلى بغية الكحل
وما به حاجةٌ في المدح تنظمه ... الشمس تكبر عن حلي وعن حللِ
لكنه ملكُ هامت عزائمه ... بالجود فهو يروم البذل بالحيل
ما قال لا قط مذ حلت تمائمه ... بخلاً به فوجدنا الجود في البخل
أولى الملوك بتدبير الممالك من ... يغني ويقني ولم يورث ولم يسلِ
ومن يبيت من الأيام في خجلٍ ... إن لم يبت والليالي منه في وجل
ومن يطبقُ وجه الأرض عسكره ... يوم القراع ويلقى القرن في الفضل
ومن يقود الأسود السود بالوعل ... ومن يصيد البزاة الشهب بالحجل
ومن يهم فلا يغزو سوى ملكٍ ... ولا يفرق غير الملك في النقل
يا راحلاً عنه إن البحر معترضٌ ... فما ورودك ظمآناً على وشل
لا تترك السيف مشحوذاً مضاربه ... وتطلب النصر عند الجفن والخلل
قد وقر الدهر بالتدبير هيبته ... وأرجف الأرض بالغارات والغيل
تجري الجياد من القتلى على جبلٍ ... ومن دمائهم يرحضن في وحل
ومن جماجمهم يصعدن في نشزٍ ... ومن ذوائبهم يقمصن في شكل
تحملت صهوةٌ أخرى شواكلها ... من طول ما حملت سبياً على الكفل
قومٌ إذا ابتدروا يوم الوغى فرقاً ... تكاد تعثر أخرهم على الأول
قومٌ أعفاء عن غير العدو فلو ... غزون بالبحر لم يعلقن بالبلل
إن التحكم في الدنيا بأجمعها ... لمفرد الرأي أمرٌ ليس بالجلل
يا من دعته ملوك الأرض راعيها ... حاشا لما أنت راعيه من الخلل
إن الملوك على أيامنا مقلٌ ... فاخلق برأيك أجفاناً على المقل
ومن أخرى:
رأيت على أكورانا كل ماجدٍ ... يرى كل ما يبقى من المال مغرما
ندوم أسيافاً، ونعلو عوالياً ... وننقض عقباناً، ونطلع أنجما
إلى من يسير الدهر تحت لوائه ... وتركز أعلام العلا حيث خيما
ومن أخرى في فخر الدولة:
أما شبا السيف مسلولاً على القمم ... فقد حمدنا ولم نذمم شبا القلم
لا أشتكي الدهر والأيام من حولي ... أسوسها والخطوب الربد من خدمي
فلو رماني بعد النوم ناظُرها ... بريبةٍ أطبقت أجفانها قدمي
فالآن أورد ذودي غير محتشمٍ ... وأنزع الغرب ريانا إلى الوذم

ولا أؤاخذ أيامي بما صنعت ... في نعمة البرء ما يعفو عن السقم
فإن برتني غواديها فلا عجبٌ ... على النفوس جنايات من الهمم
ما زلت منغمس الآمال في عدمٍ ... أو في وجودٍ يداني رتبة العدم
حتى طلعت وعين السعد ترمقني ... كالصبح منبلجاً عن حالك الظلم
آوي إلى ظل شاهنشاه من زمني ... كما أوى الصيد مذعوراً إلى الحرم
زرت الملوك لتدنيني إليه كما ... يبغي إلى الله زلفى عابدُ الصنم
خلفتهُم وهمُ خطاب خدمتهِ ... ومثل ما بي من وجدٍ بها بهم
يرون بي حسراتٍ في قلوبهم ... لكنما ثمراتُ السعي بالقسم
وكم نصحتُ لمن بغداد موطنهُ ... والنصح من أجلب الأشياء للتهم
فكان ذا رمدٌ لج الأساة به ... وما اهتدوا أن يداووا عينه فعمي
هي القرابة من لم يرع حرمتها ... فالسيف أولى به وصلاً من الرحم
له تطاع ملوك الأرض قاطبةً ... وللشباب تراعي حرمة الكتم
حاشا له أن أسمي غيره ملكاً ... وأن أقر بفضل الباز للرخم
كل يدل بأشباحٍ يسوسهم ... وما سواه رعاة البهم لا البهم
ما قام من سوق أهل الفضل لم يقمِ ... لو أن ما دام من نعماه لم يدم
أعطى فأحيا موات الجود نائلهُ ... فالخصب من فعله والاسم للديم
ومنها في ذكر تطهير ابنيه:
أمسست شبليك في حق الهدى ألماً ... لولا الهدى لسفكنا فيه ألف دمٍ
جلوت سيفاً ليرتاح الشجاع له ... شذبت غصناً لتنمي قامة النسم
وله من أخرى:
بلوت الليالي فلم يتزن ... بأدنى الإساءة إحسانها
فلا تحمدنها على وصلها ... ففي نفس الوصل هجرانها
وأنشدت له:
تنكب حدة الأحد ... ولا تركن إلى أحد
فما بالري من أحدٍ ... يؤهل لاسم لا أحد

أبو حفص الشهرزوري
من ظرفاء الأدباء والشعراء، ولشعره وحلاوة، وعليه طلاوته، ولا عيب فيه إلا قلة ما وقع لي منه، وكان في بصره سوء فلما ورد حضرة الصاحب قدمه إليه كتابه فجاراه الصاحب في مسائل لم يحمد أثره فيه. فقال له مداعباً:
وكاتبٍ جاءنا بأعمى ... لم يحوِ علماً ولا نفاذا
فقلت للحاضرين كفوا ... فقلب هذا كعين هذا
ثم استنشده من ملحه، فأنشده أبياتاً أعجب بها، فلما أنشده:
دعوت على ثغره بالقلح ... وفي شعر طرته بالجلح
لعل غرامي به أن يقل ... فقد برحت بي تلك الملح
قال: نسجت على منوال جميل في قوله:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الغر نم أنيابها بالقوادح
وما أحسنت بعض إحسان ابن المعتز في قوله:
يا رب إن لم يكن في وصله طمعٌ ... وليس لي فرجٌ من طول هجرته
فاشفِ السقام الذي في جفن مقلته ... واستر ملاحة خديه بحليته
ثم أنشده قوله:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف ... بما جناه وانتهى عما اقترف
لقوله قل للذين كفروا ... إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
فأمر أن يكتبا في سفينة الملح مع ما أنشده أياه.
ومن قوله في غلام مختط:
الآن أحسن مما كان بستانهُ ... طابت فواكه فيه وريحانهُ
فيه من الورد محمر جوانبه ... ونرجسٌ كحلت بالغنج أجفانهُ
غطت عناقيد أصداغٍ مهدلةٍ ... تفاح حسنٍ به قد زين بستانهُ
خاف القطاف على بستان وجنته ... فشوكت حذر السراق حيطانهُ
وقوله:
حكت السماء ندي يدي ... ك فلم أطلق سعياً إليك
وحكيتُها يا سيدي ... بالدمع من أسفي عليك
بنو المنجم

قد تقدم ذكر بعضهم في أهل العراق، وهذا مكان من يحضرني شعره منهم، وما منهم إلا أغر نجيب، ولهم وراثة قديمة في منادمة الملوك والرؤساء، واختصاص شديد بالصاحب، وفيهم يقول:
لبني المنجم قطنةٌ لهيبه ... ومحاسنٌ عجيمةُ عربيه
ما زلت أمدحهم وأنشر فضلهم ... حتى اتهمت بشدة العصبيه
وضرب السلام المثل في السماع بأحدهم في قوله لعضد الدولة:
عبد رمى يفعاً إليك مقشعاً ... فالآن قد وخط المشيب عذاره
ولطالما أثني عليك فظن أن ... بني المنجم منطقٌ أوتاره
أنشدت لهبة الله بن المنجم:
شكى إليك ما وجد ... من خانه فيك الجلد
حيران لو شئت اهتدى ... ظمآن لو شئت ورد
يا أيها الظبيُ الذي ... ألحاظه تُردي الأسد
أما لأسراك فدى ... أما لقتلاك قود
الراح في إبريقها ... أحسن روحٍ في جسد
فهاتها نصلح بها ... من الزمان ما فسد
ولأبي عيسى بن المنجم:
آخ من شئت ثم رم شيئاً ... تلف من دون ما تروم الثريا
وسمعت أبا الفتح علي بن محمد البستي، يقول: أنشدت لأبي عيسى:
رغيف أبي علي حل خوفاً ... من الأسنان ميدان السماك
إذا كسروا رغيف أبي علي ... بكى يبكي فهو باكي
فبنيت عليه قولي لبعض من أطايبه:
لنا شيخٌ بفقحته يواسي ... ويحلق شاربيه بالمواسي
إذا بايتهُ من جوف بيتٍ ... فسا يفسو فساءً فهو فاسي
ولأبي عيسى:
لوم النديم منغص ... طيب المجالس والندامِ
وسماحة الحر الكري ... م تزيد في طيب المدامِ
فإذا شربت الراح فاش ... ربها من النفر الكرامِ
وتنكبن ما استطعت أخ ... لاق اللئام بني اللئام
ولأبي الفتح بن المنجم:
كنت أدعو عليه بالشعر حتى ... زاده الشعر في الأنام جمالا
وإذا كان هكذا كان خذلا ... ني دقيقاًك وكان شؤمي جلالاً
وأضر الأشياء أن عذولي ... في هواه أشد مني خبالا
ولأبي محمد بن المنجم:
إذا لم تنل همم الأكرمين ... وسعيهم وادعاً فاغترب
فكم دعةٍ أتعب أهلها ... وكم راحةٍ نتجت من تعب
ولأبي الحسن بن المنجم:
هو الدهر لم تبدع علي صروفه ... ولم يأت شيئاً لم أكن أتخيله
وما راعني المكروه إذ هو عادتي ... لديه، ولكن راع قلبي تعجله
تعجل حتى كاد آخر فعله ... يجيء ولما ينقطع بعد أوله
وعمى ابن بابك على أبي الحسن بن المنجم بيتاً، هو:
بكرُ العواذل في الصبا ... ح يلمن من فرط اصطباحي
فأخرجه أبو الحسن وكتب إليه:
بأبي وأمي أنت من ... خل أعز أخي سماحِ
عميت لي بيتاً وجد ... تُك فيه عفتَ بكور لاحي
فنقرته نقراً فط ... ن ولاح من كل النواحي
ووجدته من قول مغ ... رى بالخلاعة والمزاح
بكرُ العواذل في الصبا ... ح يلمن من فرط اصطباحي
فانشط وأبهم غيره ... ليجوب ظلمته صباحي
ويصح عندك في الحجى ... أن المعلى من قداحي
فأجابه ابن بابك:
بأبي محاسن زرتني ... وبديعةٍ سلت مزاحي
وخلائق كالنور با ... ح بسره نفس الصباح
وخلائقٍ لو صورت ... سكنت أنابيبُ الرماح
كشفت ضباب حديقتي ... وأجابها مزن اقتراحي
فأتت تخايل في نظا ... م هز أعطاف ارتياحي

أبو طاهر بن أبي الربيع

هو عمرو بن ثابت بن سعد بن علي الذي ذكره الصاحب في كتاب له وقال وأما قصيدة أبي طاهر بن أبي الربيع، فأحسن من الربيع، ومن قطيعة الربيع، وإنها لوثيقة الجزالة، أنيقة الأصالة. تنطق عن أدب مهيد الأسر. شديد الأزر. وله عندنا أسلاف بر أرجو أن لا تبقى في ذمتنا حتى نقضيها، فوعد الكريم ألزم من دين الغريم. وأول قصيدته التي وصفها الصاحب:
أما لصاحبي بالعذيب معرجُ ... على دمنٍ أكنافها تتأرجُ
وصهباء بكرٍ يرسب الدر قعرها ... ومطفاه أعلى كأسها حين تمزجُ
سلامٌ على عهد التصابي فإنني ... إلى الرتبة العليا بظلك أحوجُ
إليك ابن عبادٍ شددنا غروضها ... وضوء النهار في دجال الليل يولج
وعبر عن مكنون ما في ضمائري ... خلوص ولائي والثناء المدبج
وقوله من قصيدة:
سحبت دلادلها على الغبراء ... سحب تثج ودائع الأنواء
والشمس تلحظ من خروق حجابها ... مرضى الجفون سقيمة الأضواء
وكأنما هتك الحجاب متيمٌ ... عن غر وجه الغادة الحسناء
وكأن مولي الرياض ضرائرٌ ... تزهى بخضرتها على الخضراء
قد أبرزت زهراتها وازينت ... وتعطرت وتبرجت للرائي
والنور منحسر القناع كما بدت ... للناظرين محاسنُ العذراء
والنبت ريان المهزة مائلٌ ... شرقٌ محاجرُ زهره بالماء
مسحت بأجنحة الصبا أعرافه ... وجلت مداوسها متون إضاء
فترى الظباء إذا وردن حيالها ... ككواعبٍ قابلتهن مرائي
أخذ من قول ابن المعتز:
وترى الرياح إذا مسحن غديره ... صفينه ونقين كل قذاةِ
ما إن يزال عليه ظبيٌ كارعٌ ... كتطلع الحسناء في المرآة

أبو الفرج الساوي
أشهر كتاب الصاحب بحسن الخط، مع أخذ من البلاغة بأوفر الحظ، وكان الصاحب يقول: خط أبي الفرج يبهر الطرف. ويفوت الوصف، ويجمع صحة الأقسام، ويزيد في نخوة الأقلام. وأما شعره فمن أمثل شعر الكاتب كقوله، في مرثية فخر الدولة:
هي الدنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركم حسن ابتسامي ... فقولي مضحكٌ والفعل مبكي
بفخر الدولة اعتبروا فإن ... أخذت الملك منه بسيف هلكِ
وقد كان استطال على البرايا ... ونظم جمعهم في سلك ملكِ
فلو شمس الضحى جاءته يوماً ... لقال لها عتواً أف منك
ولو زهر النجوم أبت رضاه ... تأبى أن يقول رضيت عنك
فأمسى بعد ما قرع البرايا ... أسير القبر في ضيق وضنك
أقدر أنه لو عاد يوماً ... إلى الدنيا تسربل ثوب نسكِ
دعي يا نفس فكرك في ملوكٍ ... مضوا بل لانقراضك ويك فابكي
فلا يغني هلاكُ الليث شيئاً ... عن الظبي السليب قميص مسك
هي الدنيا أشبهها بشهد ... يسم وجيفة طليت بمسك
هي الدنيا كمثل الطفل، بينا ... يقهقه إذ بكى من بعد ضحك
ألا يا قومنا انتبهوا فإنا ... نحاسب في القيامة غير شك
وأنشدت له في وصف البرغوث:
وأصهب في قد شونيزةٍ ... أقفز من فهدٍ على خشف
يسهرني تخمشه دائباً ... وعبثه يعمل في حتفي
أبو الفرج بن هندو
وهو الحسين بن محمد بن هندو، من أصحاب الصاحب، وممن تخرجوا بمجاورته وصحبته، فظهر عليهم حسن أثر الدخول في خدمته، أنشدني أبو حفص عمرو بن علي المطوعي، قال: أنشدني أبو الفرج لنفسه بالري:
لا يوحشنك من مجدٍ تباعده ... فإن للمجد تدريجاً وتدريباً
إن القناة التي شاهدت رفعتها ... تنمي فتصعد أنبوباً فأنبوبا
وأنشدني أيضاً له:
يسر زماني أن أناط بأهله ... وآنف أن أعزى إليه لجهلهِ

ويعجبني أن أخرتني صروفه ... فتأخيرها الإنسان برهان فضلهِ
فإنا رأينا قائم السيف كلما ... تقلده الأبطال قدام نصله
وله أيضاً في الغزل:
تقول لو كان عاشقاً دنفاً ... إذا بدت صفرةٌ بخديه
لا تنكريه فإن صفرته ... غطت عليها دماء عينيه
وله:
عابوه لما التحى فقلنا ... عبتم وغبتم عن الجمالِ
هذا غزالٌ وما عجيبٌ ... تولد المسك في الغزال
وقال:
كم من ملح على أذاه ... يسل في فكه حساما
صب قذى القول في صماخي ... فصار حلمي له فداما
قال مؤلف الكتاب: قد كان اتفق لي في أيام صباي معنى بديع لم أقدر أني سبقت إليه، ولا ظننت أني شوركت فيه، وهو قولي في آخر هذه الأبيات الأربعة:
قلبي وجداً مشتعل ... على الهموم مشتمل
وقد كستني في الهوى ... ملابس الصب الغزل
إنسانةٌ فتانةٌ ... بدر الدجى منها حجل
إذا زنت عيني بها ... فبالدموع تغتسل
وأنشدني أبو حفص من قصيدة لأبي الفرج:
يقولون لي ما بال عينك مذ رأت ... محاسن هذا الظبي أدمعها مطل
فقلت زنت عيني بطلعة وجهه ... فكان لها من صوب أدمعها غسل
فصح عندي تشارك الخواطر وتواردها في المعاني، إذ لم يكن مجال للظن في سرقة أحدنا من الآخر، والله أعلم بحقيقة الحال.
ومن غرر صاحبياته قصيدته التي أولها:
لها من ضلوعي أن يشب وقودها ... ومن عبراتي أن تفض عقودها
بذلك لها الدمع المصون وإن غدت ... تمانعني في نظرةٍ أستفيدها
سلام عليها حيث حلت فإنني ... عدمت فؤادي منذ عز وجودها
وكن ليلةٍ زارت وقد لان أهلها ... وسامح واشيها، وغاب حسودها
فحلت بتضييق العناق عقودها ... وحلي من در المدامع جيدها
وركبٍ أطار والنوم عنهم وأججوا ... من العزم ناراً مستنيراً وقودها
على كل هوجاء النجاة كأنها ... تطير فما يؤذي الصخور وخودها
تؤم بها بحر الفضائل والعلا ... ولا سفنُ إلا رحلها وقتودها
يجوزون أجواز السباسب باسمه ... فيصفر داجيها ويدرج بيدها
فقد ملكوا العلياء إذ عبدوا السرى ... ولن يملك العلياء إلى عبيدها
إليك تحملنا أماني أجدبت ... على ثقةٍ أن النجاح يجودها
ومنها من وصف الجيش والحرب:
وشهباء يثني كمتاً نجيعها ... إذا قارعت والكمت شهباً كديدها
تبدت لنا في روضةٍ القنا ... بماء الطلى أغوارها ونجودها
أدارت سقاة البيض والسمر بيننا ... كؤوس المنايا حين غنى حديدها
شفيت غليل الطير منها موسعاً ... قراها وهامات الكماة سهودها
غمائم إيماض السيوف بروقها ... لديها وإرزام الخيول رعودها
ولا غيث إلا أني يصب على العدا ... بنوء الظبا حمر المنايا وسودها
يبشرك النيروز باليمن مطلعاً ... وتبدأ أفعال الندى وتعيدها
كسونا بك الأشعار فخراً وزينةً ... فخيم بين الشعريين قصيدها
وسار بها الركبان في كل بلدة ... ولولاك ما جاز اللهاة نشيدها
وملح أبي الفرج كثيرة، ولا يسع هذا الباب إلى هذا الأنموذج منها:

الباب السابع
شعراء الجبل والطارئون عليه من العراق
في ذكر سائر شعراء الجبل والطارئين عليه من العراق وغيرها
وملح أخبارهم وأشعارهم
أبو الحسين أحمد بن فارس
بن زكريا المقيم

كان بهمذان من أعيان العلم وأفراد الدهر، يجمع إتقان العلماء، وظرف الكتاب والشعراء، وهو بالجبل كابن لنكك بالعراق وابن خالويه بالشام وابن العلاف بفارس وأبي بكر الخوارزمي بخراسان، وله كتب بديعة، ورسائل مفيدة، وأشعار مليحة، وتلامذة كثيرة، منهم بديع الزمان، وأنا أكتب من رسالة لأبي الحسين كتبها لأبي عمرو محمد بن سعيد الكاتب فصلاً في نهاية الملاحة يناسب كتابي هذا في محاسن أهل العصر، ويتضمن أنموذجاً من ملح شعراء الجبل وغيرها من العصريين وظرف أخبارهم، كأبي محمد القزويني وابن الرياشي والهمذاني المقيم بشيراز وابن المناوي، وأبي عبد الله المغلسي المراغي وغيرهم، ثم أورد ما وقع إلي من ملح أبي الحسين، إن شاء الله تعالى.

الفصل من الرسالة المذكورة
ألهمك الله الرشاد، وأصحبك السداد، وجنبك الخلاف، وحبب إليك الإنصاف. وسبب دعائي بهذا لك إنكارك على أبي الحسن محمد بن علي العجلي تأليفه كتاباً في الحماسة وإعظامك ذلك، ولعله لو فعل حتى يصيب الغرض الذي يريده، ويرد المنهل الذي يؤمه، لاستدرك من جيد الشعر ونقيه ومختاره ورضيه كثيراً مما فات المؤلف الأول، فماذا الإنكار؟ ولمه هذا الاعتراض؟ ومن ذا حظر على المتأخر مضادة المتقدم؟ ولمه بقول من قال: ما ترك الأول للآخر شيئاً، وتدع قول الآخر: كم ترك الأول للآخر؟ وهل الدنيا إلا أزمان ولكل زمان منها رجال؟ وهل العلوم بعد الأصول المحفوظة إلا خطرات الأوهام ونتائج العقول؟ ومن قصر الآداب على زمان معلوم، ووقفها على وقت محدود؟ ولمه لا ينظر الآخر مثل ما نظر الأول حتى يؤلف مثل تأليفه ويجمع مثل جمعه، ويرى في كل ذلك مثل رأيه؟ ما تقول لفقهاء زماننا إذا نزلت بهم من نوادر الأحكام نازلة لم تخطر على بال من كان قبلهم؟ أو ما علمت أن لكل قلب خاطراً ولكل خاطر نتيجة؟ ولمه جاز أن يقال بعد أبي تمام مثل شعره ولم يجز أن يؤلف مثل تأليفه؟ ولمه حجرت واسعاً، وحظرت مباحاً، وحرمت حلالاً، وسددت طريقاً مسلوكاً؟ وهل حبيب إلا واحد من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم؟ ولم جاز أن يعارض الفقهاء في مؤلفاتهم، وأهل النحو في مصنفاتهم، والنظار في موضوعاتهم، وأرباب الصناعات في جميع صناعاتهم، ولم يجز معارضة أبي تمام في كتاب شذ عنه في الأبواب التي شرعها فيه أمر لا يدرك ولا يدري قدره؟ ولو اقتصر الناس على كتب القدماء لضاع علم كثير، ولذهب أدب غزير، ولضلت أفهام ثاقبة، ولكلت ألسن لسنة، ولما توشى أحد الخطابة، ولا سلك شعباً من شعاب البلاغة، ولمجت الأسماع كل مردد مكرر، وللفظت مقلوب كل مرجع ممضغ، وحتام لا يسأم.
ولو كنت من زمان لم تستبح إبلي
وإلى متى
صفحنا عن بني ذهل
ولمه أنكرت على العجلي معروفاً، واعترفت لحمزة بن الحسين ما أنكره على أبي تمام في زعمه أن في كتابه تكريراً وتصحيفاً وإيطاء وإقواء ونقلاً لأبيات عن أبوابها إلى أبواب لا تليق بها ولا تصلح لها إلى ما سوى ذلك من روايات مدخولة، وأمور عليلة، ولمه رضيت لنا بغير الرضى؟ وهلا حسبت على إثارة ما غيبته الدهور، وتجديد ما أخلقته الأيام، وتدوين ما نتجته خواطر هذا الدهر، وأفكار هذا العصر، على أن ذلك لو رامه رائم لأتعبه، ولو فعله لقرأت ما لم ينحط عن درجة من قبله، من جد يروعك، وهزل يروقك، واستنباط يعجبك، ومزاح يلهيك! وكان بقزوين رجل معروف بأبي محمد الضرير القزويني حضر طعاماً وإلى جنبه رجل أكول فأحس أبو حامد بجودة أكله، فقال:
وصاحب لي بطنه كالهاويه ... كأن في أمعائه معاويه
فانظر إلى وجازة هذا اللفظ، وجودة وقوع الأمعاء إلى جنب معاوية، وهل ضر ذلك أن لم يقله حماد عجرد أبو الشمقمق؟ وهل في إثبات ذلك عار على مثبته؟ أو في تدوينه وصمة على مدونيه؟ وبقزوين رجل يعرف بابن الرياشي القزويني، نظر إلى حاكم من حكامها من أهل طبرستان مقبلاً عليه عمامة سوداء وطيلسان أزرق وقميص شديد البياض وخفه أحمر، وهو مع ذلك كله قصير، على برذون أبلق هزيل الخلق طويل الحلق، فقال حين نظر إليه:
وحاكمٍ جاء على أبلقٍ ... كعقعقٍ جاء على لقلق
فلو شاهدت هذا الحاكم على فرسه لشهدت للشاعر بصحة التشبيه وجودة التمثيل، ولعلمت أنه لم يقصر عن قول بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبه

فما تقول لهذا؟ وهل يحسن ظلمه في إنكار إحسانه وجحود تجويده؟ وأنشدني الأستاذ أبو علي محمد بن أحمد بن الفضل لرجل بشيراز يعرف بالهمذاني، وهو اليوم حي يرزق، وقد عاب بعض كتابها على حضوره طعاماً مرض منه:
وفيت الردى وصروف العلل ... ولا عرفت قدماك الزلل
شكا المرض المجد لما مرض ... ت فلما نهضت سليماً أبل
لك الذنب لا عتب إلا عليك ... لماذا أكلت طعام السفل
طعامٌ يسوي ببتع النبيذ ... ويصلح من حذر ذاك العمل
وأنشدني له في شاعر هو اليوم هناك يعرف بابن عمرو الأسدي، وقد رأيته فرأيت صفة وافقت الموصوف:
وأصفر الليون أزرق الحدقه ... في كل ما يدعيه غير ثقة
كأنه مالك الحزين إذا ... هم برزق وقد لوى عنقه
إن قمت في هجوه بقافيةٍ ... فكل شعرٍ أقوله صدقه
وأنشدني عبد الله بن شاذان القاري ليوسف بن حمويه من أهل قزوين ويعرف بابن المنادى:
إذا ما جئت أحمد مستميحاً ... فلا يغررك منظره الأنيقُ
له لطفُ وليس لديه عرفٌ ... كبارقةٍ تروق ولا تريقُ
فما يخشى العدو له وعيداً ... كما بالوعد لا يثق الصديقُ
وليوسف محاسن كثيرة، وهو القائل، ولعلك سمعت به:
حج مثلي زيارة الخمار ... واقتنائي العقار شرب العقار
ووقاري إذا توقر ذو الشي ... بة وسط الندى ترك الوقار
ما أبالي إذا المدامة دامت ... عذل ناهٍ ولا شناعة جاري
رب ليل كأنه فرع ليلي ... ما به كوكبٌ يلوح لساري
قد طويناه فوق خشف كحيلٍ ... أحور الطرف فاترٍ سحار
وعكفنا على المدامة فيه ... فرأينا النهار في الظهر جاري
وهي مليحة كما ترى، وفي ذكرها كلها تطويل، والإيجاز أمثل، وما أحسبك ترى بتدوين هذا وما أشبهه بأساً.
ومدح رجل بعض أمراء البصرة ثم قال بعد ذلك وقد رأى توانيا في أمره قصيدة يقول فيها كأنه يجيب سائلاً:
جودت شعرك في الأم ... ير فكيف أمرك قلت فاتر
فكيف تقول لهذا؟ ومن أي وجه تأتي فتظلمه؟ وبأي شيء تعانده فتدفعه عن الإيجاز والدلالة على المراد بأقصر لفظ وأوجز كلام؟ وأنت الذي أنشدتني:
سد الطريق على الزما ... ن وقام في وجه القطوب
كما أنشدتني لبعض شعراء الموصل:
فديتك ما شبت عن كبرةٍ ... وهذي سني وهذا الحساب
ولكن هُجرتُ فحل المشيب ... ولو قد وصلت لعاد الشباب
فلم لم تخاصم هذين الرجلين في مزاحمتهما فحولة الشعراء وشياطين الإنس ومردة العالم في الشعر؟ وأنشدني عبد الله المغلسي المراغي لنفسه:
غداة تلوت عيسهم فترحلوا ... بكيت على ترحالهم فعميتُ
فلا مقلتي أدت حقوق ودادهم ... ولا أنا عن عيني بذاك رضيت
وأنشدني أحمد بن بندار لهذا الذي قدمت ذكره، وهو اليوم حتى يرزق:
زارني في الدجى فنم عليه ... طيب أردانه لدى الرقباءِ
والثريا كأنها كف خودٍ ... أبرزت من غلالةٍ زرقاء
وسمعت أبا الحسين السروجي يقول: كان عندنا طبيب يسمى النعمان ويكنى أبا المنذر، فقال فيه صديق لي:
أقول لنعمان وقد ساق طبهُ ... نفوساً إلى باطن الأرضِ
أبا منذرٍ أفنيت فاستبقِ بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعضِ
وهذه ملح من شعر أبي الحسين بن فارس، منها قوله في الشكوى:
سقى همذان الغيث لست بقائلٍ ... سوى ذا، وفي الأحشاء نارٌ تضرمُ
وما لي لا أصفي الدعاء لبلدةٍ ... أفدت بها نسيان ما كنت أعلمُ
نسيت الذي أحسنته غير أنني ... مدينٌ، وما في جوف بيتي درهم
وله:
وقالوا كيف حالك قلت خيرٌ ... تقضى حاجةٌ وتفوت حاجُ
إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا ... عسى يوماً يكون لها انفراج
نديمي هرتي وأنيس نفسي ... دفاتر لي ومعشوقي الشراب
وقوله:

كل يوم لي من سل ... مى عتابٌ وسبابٌ
وبأدنى ما ألاقي ... منهما يودي الشبابُ
وقوله:
يا ليت لي ألف دينارٍ موجهةٍ ... وأن حظي منها فلس إفلاسِ
قالوا: فما لك منها؟ قلت: يخدمني ... لها ومن أجلها الحمقى من الناس
وقوله:
مرت بنا هيفاءُ مقدودةً ... تركيةٌ تُنمي إلى التركِ
ترنو بطرفٍ فاترٍ فاتنٍ ... أضعف من حجة نحوي
وقوله:
قالوا لي اختر فقلت ذا هيف ... بي عن وصالٍ وصده برحُ
بدرٌ مليح القوام معتدلٌ ... قفاه وجهٌ ووجه ربحُ
وقوله:
اسمع مقالة ناصحٍ ... جمع النصيحة والمقه
إياك واحذر أن تبي ... ت من الثقات على ثقه
وقوله:
إذا كان يؤذيك حر المصنف ... وكرب الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع ... فأخذك للعلم قل لي: متى؟
وقوله:
وصاحب لي أتاني يستشير وقد ... أدار في جنبات الأرض مضطربا
قلت أطلب أي شيء شئت واسع ورد ... عند الموارد إلا العلم والأدبا
وقوله:
إذا كنت في حاجةٍ مرسلاً ... وأنت بها كلفٌ مغرمُ
فأرسل حكيماً ولا توصه ... وذاك الحكيم هو الدرهم!
وقوله:
عتبتُ عليه حين ساء صنيعه ... وآليت لا أمسيت طوع يديه
فلما خبرت الناس خبر مجربٍ ... ولم أر خيراً منه عدت إليه
أخذه من قول القائل:
عتبتُ على سلمٍ فلما هجرته ... وجربت أقواماً رجعت إلى سلم
وقوله:
تلبس لباس الرضا بالقضا ... وخل الأمور لمن يملكُ
تقدر أنت وجاري القضا ... ء مما تقدره يضحك

براكويه الزنجاني المعروف بالثلول
كل ما سمعت من شعره ملح و ظرف ونكت لا يسقط منها بيت، أنشدني بديع الزمان له:
مضى العمر الذي لا يستعادُ ... ولما يقض من ليلى مرادُ
بليت وذكرها عندي جديدٌ ... وشاب الرأس واسود الفؤاد
تواصى للرحيل بنو أبيها ... فقلت لغير رأيكم السداد
وأنشدني أبو نصر المغلسي قال: أنشدني براكويه لنفسه في غلامه يوسف:
مضى يوسف عنا بتسعين درهماً ... وعاد وثلث المال في كف يوسف
وكيف يرجى بعد هذا صلاحه ... وقد ضاع ثلثا ماله في التصرف؟
وأنشدني غيره له:
وأهيف نالت الأيام منهُ ... غداة أظل عارضه السواد
تعرض لي ومرض مقلتيه ... فما وريت له عندي زناد
وقلت ارجع وراءك وابغ نوراً ... أجئت الآن إذ ظهر الفساد
فغيرك من يصيد بمقلتيه ... وغنجهما وغيري من يصاد
وقوله:
أقسم زمانك بين الورد والآس ... واطلب سرورك بين الكيس والكاس
واجعل طبيبك ذا، واجعل أنيسك ذا ... واخطب إلى الناس ود الناس باليأس
وقد مضى الناس فانظر ما الذي صنعوا ... ولا تكن لرسوم الناس بالناسي
وقوله:
خرجت مباركاً من باب دراي ... أحاول حاجةً فإذا زهيرٌ
فلم أثن العنان وقلت أمضي ... فوجهك يا زهير خراً وخيرُ
وقوله:
هلم إلينا يا أخا الفضل والحجى ... فإن لدينا من صنوف الأطايب
أطايب لهوٍ من سرورٍ ولذةٍ ... ومن طيبات الرزق قدرٌ لطالبِ
مطيبةٌ بكرٌ بخاتم نارها ... وخطابها يأتون من كل جانب
وأنت لها أولاهم بافتضاضها ... فحي عليها الآن يا خير صاحب
أبو الحسن علي بن محمد بن مأمون الأبهري
أنشدني عون بن الحسين الهمذاني، قال: أنشدني ابن مأمون الأبهري لنفسه:
ألا يعجب الناس مما دعو ... ت، يا للأنام لفقد الكرم
تيممت أحمد في حاجةٍ ... فقابلني بحجابٍ أصم
وإن الفتى لحقيقٌ بأن ... يهان إذا خف منه القدم

ومستخبرٍ كنه ما بيننا ... ومن الحال قلت أخٌ وابن عم
كلانا إلى منسب نعتزي ... وتجمعنا آصرات الرحم
ولكن له الفضل في أنه ... يصول بقرنٍ وأني أجم
وأنشدني أيضاً له:
خليلي ماذا أرتجي من غدٍ امرئ ... طوى الكشح عني اليوم وهو مكين
وإن امرءاً قد ضن عنك بمنطقٍ ... يسدّ به فقرُ امرئ لضنينُ
وله:
ما كل من جدد الزمان له ... إلفاً تناسى حبيبه الأولُ
أكنت يا سيدي ويا أملي ... شغلت عني فعنك لم أشغلُ
حسبك أني من طول هجرك لا ... أدري نهاري أم ليلتي أطولُ
وله:
متى ترغب إلى الناس ... تكن للناس مملوكاً
وإن أنت تخففت ... على الناس أحبوكا
وإن ثقلت عافوك ... وملوك وسبوكا
إذا ما شئت أن تعصي ... فمر من ليس يرجوكا
وسل من ليس يخشاك ... فيدمي عندها فوكا

أبو علي الحسن بن محمد الضبيعي
من بعض كور الجبل، يقول في وصف مجمرة ومدخنة:
ومنحوتةٍ من جنس قلبك قسوةً ... برزت بها في مثل قدك لينا
حوت جمرةً في لون خدك حمرةً ... وفي حر أحشائي هوى وحنينا
يذكرني ما فاح من عرف ندها ... شهوراً مضت في وصلنا وسنينا
وله في وصف المجمرة:
ومبرقةٍ والبر تنوي وما نوت ... جفاي ولا إبراقها بعقوقِ
لها قسطلٌ في كل نادٍ تثيره ... على كل خل مخلصٍ وصديق
أتت حاملاً شمساً توقد في دجاً ... وأبناء حامٍ في برود عقيقِ
كأن دخان الند من فوق جمرها ... بقايا ضبابٍ في رياض شقيق
وله:
ولما عدتني عنه بادرة النوى ... أبى القلب مني أن يسير مع الركب
فسرت وقد خلفت قلبي عنده ... فيا من رأى شخصاً يسير بلا قلب
وله في غلام تركي:
أضيغمٌ أم غزالُ ذاك أم بشرُ ... شمس تزيت بزي الترك أم قمرُ
لقد تحير وصفي في حقيقته ... كما تحير في أجفانه الحور
وله:
أنا مملوكٌ لمملو ... ك وللدهر صروفُ
أيها السائل عن مو ... لاي مولاي وصيفُ
يا غزالاً لحظ عيني ... ه مناياً وحتوفُ
ما الذي ورد خدي ... ك ربيعٌ أم خريفُ
أبو الحسين علي بن الحسين الحسني الهمذاني
من علية العلوية، ومحاسن الحسنية، وكان الصاحب صاهره بكريمته التي هي واحدته، فرزق منها عباد بن علي الذي تقدم ذكره، ولما قال الصاحب قصيدته المعراة من الألف التي هي أكثر الحروف دخولاً في المنظوم والمنثور وأولها:
قد ظل يجرح صدري ... من ليس يعدوه فكري
وهي في مدح أهل البيت، تبلغ سبعين بيتاً - تعجب الناس منها، وتداولتها الرواة:
فسارت مسير الشمس في كل بلدةٍ ... وهبت هبوب الريح في البر والبحر
فاستمر الصاحب على تلك المطية، وعمل قصائد كل واحدة خالية من حروف من حروف الهجاء، وبقيت عليه واحدة تكون معراة من الواو، فانبرى أبو الحسين لعملها، وقال قصدية فريدة ليس فيها واو، ومدح الصاحب في عرضها، أولها:
برقٌ ذكرت به الحبائب ... لما بدا فالدمع ساكب
أمدامعي منهلةُ ... هاتيك أم غزر السحائبْ
نثرت لآلي أدمعٍ ... لم يفترعها كف ثاقب
يا ليلة سرت ليلى تخ ... ب لنآيها عنا الركائب
جعلت قسي سهامها ... إن ناضلته عقد حاجب
لم يخط سهمٌ أرسلت ... ه، إن سهم اللحظ صائب
تسقيك ريقاً سكره ... إن قسته للخمر غالب
كم قد تشكى خصرها ... من ضعفه ثقل الحقائب
كم أخجلت بضفائرٍ ... أبدت لنا ظلم الغياهب
إخجال كف الصاحب ال ... قرم المرجى للسحائب
ملك تلألأ من معا ... قد عزه شرف المناصب

نشأ سحائب رفده ... في الخلق تمطر بالرغائب
خذها إليك فإنني ... نقحتها من كل عائب
ألفيت ما لاقيت من ... إلقائه إحدى المصاعب
حرفاً يعلل كل حر ... فٍ حل من لفظ المخاطب
ها ذاك ترب الهاء إن ... لم أبده فالنهج لاحب
لكن له تمثال قا ... فٍ خطه في السطر كاتب
أني اغترفت خليجها ... من بحرك العذب المشارب
فانعم بملكٍ دائباً ... ما حج بيت الله راكب
وله في دار بعض الملوك:
دار علت دار الملوك بهمةٍ ... كعلو صاحبها على الأملاك
فكأنها من حسنها بهائها ... بنيت قواعدها على الأفلاك

أبو سعد علي بن محمد بن خلف الهمذاني
أحد أفراد الزمان الذين ملكوا القلوب بفضلهم، وعمروا الصدور بودهم يرجع إلى أدب غزير، وفضل كثير، ويقول شعراً بارعاً كأنما أوحى بالتوفيق إلى صدره، وحبس الصواب بين طبعه وفكره، وكان الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي جاز به عند منصرفه من الحج، فخدمه أبو سعد بنفسه ونظمه ونثره. وانعقدت بينهما معاقدة المشالكة، وصدافة المناسبة. ولما أنشده الأمير أبياتاً لأبي الفتح علي بن محمد البستي مشابهة القوافي، قال أبو سعد أبياتاً فيه، على سبيل أبي الفتح فيها نهج، وعلى منواله نسج، فمنها قوله:
ما سر مولاي نبي الهدى ... بوحي جبريل وميكال
إلا قريباً من سروري بما ... رزقت من ود ابن ميكال
لكن نواه قد أطاشت دمي ... فالله فيه لدمي كالي
وقوله:
أبى الفضل أن يحظى به غيره أهله ... من الناس فاختص الأمير أبا الفضل
وإني وإن أصبحت حراً فإنني ... عبيد عبيد الله ذي المن والفضل
هل الفضل إلا ما حوته خلاله ... وما بعده فضلٌ يعد من الفضل
ومما وقع إلي بعد ذلك من غرر شعره التي رضي فيها عن طبعه قوله:
أصرح بالشكوى ولا أتأول ... إذا أنت لم تجمل فلم أتجمل؟
أفي كل يومٍ من هواك تحاملٌ ... علي ومني كل يومٍ تحمل؟
وإني على ما كان منك لصابرٌ ... وإن كان من أدناه يذبل يذبل
وما أدعي أني جليدٌ، وإنما ... هي النفس ما حملتها تتحمل
وأنشدني أبو حفص عمر بن علي له:
زاد غرامي لهباً ... فطر غمامٍ سكبا
فعاقني عن قصدكم ... كما تعوق الرقبا
وكان عهدي قبل ذا ... بالماء يطفي اللهبا
فكيف قد فارق لي ... طباعه وانقلبا
هكذا الدهر يُرى ... في كل يوم عجبا
أبو علي الحسين بن أبي القاسم القاشاني
شاعر حسن الشعر، كثير الملح والنكت، أنشدني غير واحد له:
عيني مذ شطتِ الديار بكم ... تحكي سماءً والدمع أنجمها
كأن في وجنتي أبالسةً ... تسترق السمع وهي ترجمها
وأنشدني أبو منصور اللجيمي الدينوري، قال: أنشدني أبو علي لنفسه في العنب:
نهاني عذولي بل لحاني إذ رأى ... ولوعي بالأعناب أكثر قضمها
فقلت له الصهباء كانت عشيقتي ... فقد ألزمتني رقةُ الحال صرمها
فعللت بالأعناب نفسي كمنعظٍ ... نأت عرسه عنه فواقع أمها
وأنشدني أيضاً، قال: أنشدني أيضاً لنفسه:
يا ليلة جمعي والمدام ومن ... أهواه في روضةٍ تحكي الجنان لنا
لأشكرنك ما ناحت مطوقةٌ ... على الغصون كما طوقتني مننا
وأنشدني غيره لأبي علي:
أليس عجيباً أن جسمي ناحلٌ ... نحول خلالٍ بل نحول هلال
وأحمل ثقلاً في الهوى لا تقله ... متون جمالٍ بل متون جبال
وأنشدني أبو حفص عمر بن علي، قال: أنشدت بالري لأبي علي:
قل للذي يظهر التبرم بي ... وبالرقاع التي أسطرها
حاجة مثلي إليك عارفةٌ ... عندك بالله لست تشكرها
أبو القاسم عمر بن عبد الله الهرندي

أنشدني الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي له:
الريحُ تحسدني علي ... ك ولم أخلها في العدا
لما هممت بقبلةٍ ... ردت على الوجه الردا
وأنشدني له:
وقالوا أي شيءٍ منه أحلى ... فقلت المقلتان المقلتان
نعم والطرتان هما اللتان ... على عمر الهرندي فتنتان
وأنشدني هرون بن جعفر الصيمري، قال: أنشدني عمر الهرندي لنفسه:
لا أحب المدام إلا العتيقا ... ويكون المزاج من فيك ريقا
إن بين الضلوع مني ناراً ... تتلظى فكيف لي أن أطيقا
بحياتي عليك يا من سقاني ... أرحيقاً سقيتني أم حريقا
وعلى ذكر الحريق والرحيق فقد قال بعض أهل نيسابور:
وعقارٍ عيشُ من عا ... قرها عيشٌ رشيق
فهي للأنس نظامٌ ... وإلى اللهو طريق
وهي للأرواح في أب ... داننا نعم الصديق
قلتُ لما لاح لي من ... ها شعاعٌ وبريق
أشقيقٌ أم عقيقٌ ... أم رحيقٌ أم حريق؟
وأنشدت له في ذم المتصوفة:
تباً لقومٍ جعلوا ... ديناً لدنيا مأكله
تستروا بأنهم ... صوفيةٌ محنبله
وما يساوي نسكهم ... قمامةٌ من مزبله
إتخذوا شباكهم ... إحفاءهم للأسبله
وله من قصيدة في أبي الفتح بشر بن علي:
رؤياك في أمري روية حازمٍ ... ذي حنكةٍ فأقول قولاً برما
إن تقصني أمسيت مضغة ضيغمٍ ... أو تدنني أصبحت ذاك الضيغما
وله فيه من قصيدة وقد كتب به دابته في نهر عميق فهلكت وسلم أبو الفتح:
بنحس أعاديك دار الفلك ... وما دار يوماً بسعدٍ فلك
وإن هم دهراً بما لا أقول ... فنفسي الفدا وعلي الدرك
بقيت جواداً فلا تحزنن ... لفقد الجواد الذي قد هلك
فإن أذنب الدهر في أخذه ... فخير من الطرف ما قد ترك

أبو عبد ا لله المغلسي المراغي
قد تقدم له ذكر في الفصل من رسالة أبي الحسين بن فارس، وهو القائل في محك الذهب:
ومشتملٍ من صبغة الليل بردةً ... يفوف طوراً بالنضار ويطلسُ
إذا سألوه عن عويصٍ ومشكلٍ ... أجاب بما أعيا الورى وهو أخرسُ
وله في اللواء:
ومرتفعٍ للناظرين محاربٍ ... ترى رأسه في بسطه الباع مائلا
حكى ثملاً أصغى إلى البين فاغتدى ... يشق عن الأذيال منه الغلائلا
وأخبرني أبو الحسين النحوي أن له في الأوصاف وما يجري مجرى العويص شيئاً كثيراً، وإذا وقع إلي منه ما يصلح للإلحاق بهذا الفصل ألحقته، إن شاء الله تعالى.
القاضي أبو بكر الأسي
من أهل الري، بلغتني له أبيات يسيرة في نهاية خفة الروح، كقوله:
يا غزالاً هو للحس ... ن مقر ومحط
لم تكن أنت بهذا الح ... سن والبهجة قط
مذ بدا في عاج خدي ... ك من العنبر خط
وقوله:
وزائرٍ زار خائفاً رصداً ... لم أرجُ منه زيارةً أبدا
لو جاز أن يعبد امرؤ أحداً ... من دون رب الورى إذا عبدا
قمت لإكرامه فباس يدي ... أكرم بها في الهوى علي يدا
يا قبلةً أصبحت لها شفتي ... تموت من غيظ راحتي كمدا
فصل في ذكر نفر من الطارئين على بلاد الجبل
الطارئون على بلاد الجبل
أبو عبد الله البطحاوي قال:
يا حمامي وحميمي ... وغرامي وغريمي
وسقيم الود والعه ... د لذي جسم سقيم
لم يزل ذكرك مذ فا ... رقت ندماني نديمي
وجهك الزاهر لي رو ... ضٌ ورياك نسيمي
غير أني اشتكي من ... ك إلى غير رحيم
معرض عن وجه إقبا ... لي خلي عن همومي
ابن حماد البصري قال:
إن كان لا بد من أهل ومن وطنٍ ... فحيث آمنُ من ألقى ويأمنني
يا ليتني منكرٌ من كنت أعرفه ... فلست أخشى إذاً من ليس يعرفني

لا أشتكي زمني هذا فاظلمه ... وإنما أشتكي من أهل ذا الزمنِ
قد كان لي كنزُ صبرٍ فافتقرتُ إلى ... إنفاقه في مزاراتي لهم وقني
وقد سمعت أفانينَ الحديث فهل ... سمعت قط بحر غير ممتحن
شمسويه البصري قال في غلام يبيع الفراني:
قلت للقلب ما دهاك: أجبني ... قال لي: بائع الفراني فراني
ناظراه فيما جنى ناظراه ... أو دعاني أمت بما أو دعاني
أبو الفضل النهر عاسي قال:
لولا تعاليل النفوس وأنها ... مخدوعةٌ ما سرها محبوبُ
خاب امرؤ محض النصيحة نفسه ... كل يشوبُ لنفسه ويروب
أحمد بن بندار قال:
وقالوا يعود الماء في النهر بعد ما ... عفت منه آثار وجفت مشارعُهْ
فقلتُ إلى أن يرجع الماء عائداً ... ويعشب شطاه تموت ضفادعه
أبو عبد الله الروزباري قال في وصف الثلج:
ما لابن هم سوى شرب ابنة العنبِ ... فهاتها قهوةً فراجة الكرب
أدهق كؤوسك منها واسقني طرباً ... على الغيوم فقد جاءتك بالطرب
أما ترى الأرض قد شابت مفارقها ... بما نثرن عليها وهي لم تشبِ
نثار غيثٍ حكى لون الجمان لنا ... فاشرب على منظرٍ مستحسنٍ عجبِ
جاد الغمام بدمعٍ كاللجين جرى ... فجد لنا بالتي في اللون كالذهبِ

الباب الثامن
في ذكر من هم
شرط الكتاب من أهل فارس والأهواز
سوى من تقدم ذكرهم في ساكني العراق كعبد العزيز بن يوسف وأبي أحمد الشيرازي، وسوى من يتأخر ذكرهم في الطارئين على خراسان كأبي إسحاق المتصفح كان ببخارى وأبي الحسن محمد بن الحسين النحوي المقيم الآن بإسفرائين من نيسابور وأبي الحسين الأهوازي صاحب كتاب القائد والفرائد المقيم كان بالصغانيات.
أبو بكر هبة الله بن الحسين الشيرازي
المعروف بابن العلاف كان بفارس للأدب مجمعاً، وللشعر مفزعاً، مع التصرف في مدارج الأحكام، والمعرفة بشعب الحلال والحرام، والقبول التام، عند الخاص والعام، خنق التسعين ولم تبيض له شعرة، وهو القائل في التبرم بشبابه من قصيدة:
إلام وفيم يظلمني شبابي ... ويلبس لمتي حلل الغراب
وآملُ شعرةً بيضاء تبدو ... بدو البدر من خلل السحاب
وأدعى الشيخ ممتلئاً شباباً ... كذي ظمأٍ يعلل بالسراب
فيا هلكي هنا لك من مشيبي ... ويا خجلي هنا لك واكتئابي
ألا يا خاضب الشيب المعنى ... أعني في الشباب على الخضاب
فكافور المشيب أجل عندي ... وفي فودي من مسك الشباب
وأين من الصباح ظلامُ ليلٍ ... وأين من الرباب دجى ضباب
ألا من يشتري مني شباباً ... بشيبٍ واسوداداً باشهباب
ومما يستحسن من شعره في عضد الدولة قوله:
يا علم العالم في الجود ... مثل جوداً غير موجود
بيضت من وجه الندى بالندى ... ما اسود في أيامه السود
كم لك في كسبك للحمد من ... سعي على الأيام محمود
بين مطيعٍ لك أصفدتهُ ... وبين عاصٍ لك مصفود
بك استوى الجود على خدمةٍ ... كما استوى الفلك على الجودي
كم موردٍ منك ندى أو ردى ... بين الرضا والسخط مورود
وسؤددٍ منك بعز العلا ... يا عضد الدولة معضود
والدهر طوعٌ لك في كل ما ... تحده من كل محدود
وكل جارٍ لك من جوره ... في ظل أمنٍ بك ممدود
فعش وعيد سالماً آمناً ... ما عاد لطف الماء في العود
واسعد يد الدهر بما شئت من ... ملكٍ لأبنائك موطود
ومما يستجاد من شعره قوله في الغزل:
خداك للخنس السبع العلا فلك ... ومقلتاك لشراد الهوى شرك

وفيك نفعٌ وضر يجريان كما ... يجري بما يحتوي في وسعه الفلك
فالضر أجمع مخصوصٌ به بدني ... والنفع بيني وبين الناس مشترك
وقوله:
أبعد دنو الدار من داركم أجفى ... فلا غلةٌ تشفي ولا لوعةٌ تُطفى
وكنت إذا سلسلت في كأس ذي هوىً ... من الريقِ السلسال في كأسه أصفى
ففيم يخون العهد من صنت عهده ... ويمزجني من كان يشربني صرفا
وقوله في الزهد:
ما عذر من جر غاوياً رسنةً ... ما عذره بعد أربعين سنه
أكلما طالت الحياة به ... أطال عن أخذ حذره رسنه
قل لي إذا مت كيف تنقص من ... سيئةٍ أو تزيد في حسنه

أبو بكر بن شوذبة الفارسي
وجدت في سفينة بخط الشيخ الرئيس أبي محمد عبد الله بن إسماعيل الميكالي لأبي بكر بن شوذبة الفارسي:
إذا لم يكن ممن يؤوب هديةٌ ... فلا لقيته بالسعادة دارهُ
وإن يهد أقلاماً ونقساً وكاغداً ... فلا قر يوماً بالمقام قراره
وإن يهدِ برداً أو رداءً محبراً ... فلا زال عنا ظله وجواره
وله:
يا ضماني على البربيع وشرطي ... طال شوقي فما ترى في التلاقي
استزرني بحرمتي، أو فزرني ... إن هذا الربيع ليس بباق
آفة البدر ما علمت كسوفٌ ... وكسوفُ المحب يوم الفراق
وله:
أنعم بيوم المهرجان فإنه ... يومٌ أتاك به الزمان جديدُ
ومضى المصيف وحره وعجاجه ... وأتى الخريف ووقته المحمودُ
وإن كان هذا اليوم عيداً للورى ... فبقاءُ عمرك كل يوم عيدُ
والراحُ طيبةٌ إذا ما عللت ... بسماعِ أهيف في يديه عودُ
وله:
أكل من كان له نعمةٌ ... أوسع من نعمةِ إخوانهِ
أم كل من كانت له كسرةٌ ... يبذلها في بعض أحيانه
أم كل من كان له جوسقٌ ... مشرفٌ شيد بأركانه
يرى بها مستكبراً تائهاً ... على أدانيه وخلانه
أحمد بن الفضل الشيرازي
كان يهوى فتى من أولاد الأغنياء المترفين بشيراز، فقال فيه:
ومن البلية والعظائم أنني ... علقتُ واحد أمه وأبيه
فهما ذوا حذرٍ عليه تراهما ... يتلقطان كلامه من فيه
قد دللاه وأورثاه رعونةً ... من نخوةٍ مشتقةٍ من تيه
المعروف المنبسط الشيرازي
سمعت أبا نصر سهل بن المرزبان يقول: أضاف المنبسط بعض إخوانه ثم خرج وخلاه في منزله، فكتب إليه:
يا خالي الجيب من عقلٍ ومن أدبِ ... وإن تحليت من خالٍ ومن نسب
تركتني ومعي في البيت واحدةٌ ... وأنت تعلم ما يجري به لقبي
أبو رجاء أحمد بن عفو الله الكاتب الشيرازي
قال:
غضبت من قبلةٍ بالكره جدت بها ... فها فمي لك فاقتصيه أضعافا
لم يأمر الله إلا بالقصاص فلا ... تستجوري ما يراه الله إنصافاً
أبو عبد الله الخوزي
قال:
ويل لمن عدله القاضي ... والله عنه ليس بالراضي
تمضي القضايا بشهاداته ... وهو إلى النار غداً ماض
أبو الحسن بن أبي سهل الأرجاني
قال:
مدحت ابن كلثوم صهر الوصي ... فأنزلني بالمحل القصي
فأطعمه الله سلح الخصي ... وكلل يافوخه بالعصي
أبو علي بن غيلان السيرافي
قال:
قد كنت ألتمس الشرا ... ب فقد بدا لي في الشراب.
وأهمني خبزُ الشعي ... ر ولم يكن ذا في حسابي
ابن خلاد القاضي الرامهرمزي
هو أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد.

من أنياب الكلام، وفرسان الأدب، وأعيان الفضل، وأفراد الدهر، وجملة القضاة الموسومين بمداخلة الوزراء والرؤساء، وكان مختصاً بابن العميد تجمعهما كلمة الأدب ولحمة العلم، وتجري بينمها مكاتبات بالنثر والنظم، كما تقدم ذكر صدر منهما، وهكذا كانت حاله مع المهلبي الوزير، وهو الكاتب إليه لما استوزر:
الآن حين تعاطى القوس باريها ... وأبصر السمت في الظلماء ساريها
الآن عاد إلى الدنيا مهلبها ... سيف الوزارة بل مصباحُ داجيها
تضحي الوزارة تزهى في مواكبها ... زهو الرياض إذا جادت غواديها
تاهت علينا بميمونٍ نقيبته ... قلَّتْ لمقداره الدنيا وما فيها
معزُّ دولتها هنَّئتها فلقدْ ... أيَّدتها بوثيقٍ من رواسيها
فأجابه المهلبي بهذه الأبيات:
مواهب الله عندي ما يدانيها ... سعيٌ ومجهودٌ وسعي لا يوازيها
والله أسأل توفيقاً لطاعتهِ ... حتّى يوافق فعلي أمره فيها
وقد أتتني أبياتٌ مهذّبةٌ ... ظريفةٌ جزلةٌ رقَّتْ حواشيها
ضمّنتها حسن إبداع وتهنئةٍ ... أنت المهنّا بباديها وتاليها
فثِقْ بنيل المنى في كلّ منزلةٍ ... أصبحت تعمرها مني وتبنيها
فأنت أوّل موثوقٍ بنيَّته ... وأقرب الناس من حالٍ ترجّيها
ومن ملح ابن خلاد قوله في نفسه:
قل لابن خلاّدَ إذا جئته ... مستنداً في المسجد الجامعِ
هذا زمانٌ ليس يحظى به ... حدّثنا الأعمش عن نافعِ
وقوله وقد طولب بالخراج:
يا أيها المكثر فينا الزمجره ... ناموسه دفتره والمحبره
قد أبطل الديوان كتب السحره ... والجامعين وكتاب الجمهره
هيهات لن يعبر تلك القنطره ... نحوُ الكسائي وشعر عنتره
ودغفلٍ وابن لسان المره ... ليس سوى المنقوشة المدوره
وقوله:
غناءٌ قليلٌ ومحمدٌ ... إذا اختلفت سمر القنا في المعارك
تجمّلْ بمالٍ واغدُ غير مذمّمٍ ... بمشراط حجّام ومنوال حائكِ
وما يتغنى به من شعره قوله في غلام من أبناء الديلم:
يا منْ لصبٍّ قلقٍ ... بات يراعي الفلكا
جار به مسلّطٌ ... يجوز فيمن ملكا
يهزأ من عاشقه ... يضحك منه إن بكى
مرّ بنا يخطر في ... سريحةٍ دللّكا
كشادنٍ ريع من ال ... صياد أبدى شركا
فقلت يا أحسن من ... تبصر عيني من لكا
فقال لي بغنّةٍ ... إليك لا أجرحكا
تبّاً لقاضٍ يبتغي ... من المعاصي دركا
فقلت والله الذي ... صيّرني عبداً لكا
ما إن أردتُ ريبةً ... ولم أرِدْ سوءاً بكا
وأنت في قولك ذا ... آثمُ ممن أشركا
وقوله من قصيدة في عضد الدولة أبي شجاع رحمه الله تعالى:
جادتْ عِراصَكِ مزنةُ يا دارُ ... وكساك بعد قطينك النوّار
فلكمْ أرقتُ بعقوتيك صبابةً ... ماء المدامع والجوانح نار
ولقد أُديل من الجهالة والصبا ... زمنٌ على زنةِ العقول عيار
ومنها في المدح:
كرّ الفرار بيمنه وسعوده ... فعلت به لذوي الحجى أقدارُ
عمُرتْ من الأدب الفقيد دياره ... ودنا من الكرم البعيد مزارُ
والفقه والنظر المعظّم شأنه ... ظهرا وناضل عنهما أنصار
عادت إلى الدنيا بنوها واغتدتْ ... تبني القوافي يعربٌ ونزار
وسمت إلى فصل الخطاب وأهله ... والقائلين بفضله أبصار
آب الحصين وعنترٌ ومهلهلٌ ... والأعشيان وأقبل المرّار
والنابغان وجرولٌ ومرقّشٌ ... وكثيِّرٌ ومزرَّدٌ وضِرار
وسما جريرٌ والفرزدق والذي ... يعزى الصليب إليه والزّنار

وغدا حبيبٌ والوليد ومسلمٌ ... والآخرون يقودهم بشّار
وأتى الخليل وسيبويه ومعمرٌ ... والأصمعي ولم يغبْ عمّار
نشرت بفنا خسرو أربابها ... كالأرض ناشرةً لها الأمطار
أحيا الأمير أبو شجاعٍ ذكرهم ... فنما القريض وعاشت الأشعار
ولما توفي ابن خلاد رثاه صديق له بقصيدة في نهاية الحسن، أولها:
همم النفوس قصارهنّ همومُ ... وسرور أبناء الزمان غمومُ
ومصير ذي الأمل الطويل وإن حوى ... أقصى المنى حتفٌ عليه يحوم
وسعادة الإنسان على استحلائها ... مرٌّ وعقد وفائها مذموم
وسنيحها برحٌ، وخصب ربيعها ... جدبٌ، وناصع عيشها مسموم
لا سعدها يبقى، ولا لأواؤها ... يفنى، ولا فيها النعيم مقيم
محسودها مرحومها، ورئيسها ... مرؤوسها، ووجودها معدوم
وبقاؤها سبب الفناء، ووعدها ... إيعادها، وودادها مصروم
أمّا الصحيح فإنه من خوف ما ... يعتاده من سقمه لسقيمُ
وسليمها طيّ السلامة دائباً ... يرنو إلى الآفات وهو سليم
وغنيُّها حذر الحوادث والردى ... في ظلّ أكناف اليسار عديمُ
سيَّان في حكم الحمام وربيه ... عند التناهي جاهلٌ وعليم
أودي ابن خلاّدٍ قريعُ زمانه ... بحرُ العلوم وروضها المرهوم
لو كان يعرف فضله صرف الردى ... لانحاز عنه ونابه مثلوم
عظمت فوائد علمه في دهره ... فمصابه في العالمين عظيم
إقليم بابل لم يكن إلاّ به ... فاليوم ليس لبابلٍ إقليم
أنّى اهتدى ريب المنون لسائرٍ ... فوق النجوم محلّه المرسوم
ظلم الزمان فبزَّ عنه كماله ... ومن العجائب ظالمٌ مظلوم
لا تعجبنَّ من الزمان وغدره ... فحديث غدرات الزمان قديم
لو كان ينجو ماجدٌ لتقيَّةٍ ... نجّى ابن خلاّد التُّقى والخيمُ
لكنّه أمرُ الإله وحكمه ... وقضاؤه في خلقه المحتوم
روضٌ من الآداب عضُّ زهره ... ركّد الهجير عليه فهو هشيم
وحديقةُ لما تزل ثمراتها ... تحفُ الملوك أصابهنَّ سموم
شمّامة الوزراء حلو حديثه ... تحفٌ لهم دون النديم نديم
ريحانة الكتّاب من ألفاظه ... يتعلّم المنثور والمنظوم
أما العزاء فما يحلُّ بساحتي ... والصبر عنك كما علمت ذميمُ
وإذا أردت تسلّياً فكأنني ... فيما أدرت من السلوِّ مليم
فعليك ما غنّى الحمامُ تحيّةٌ ... ومع التحيةِ نضرة ونعيم

محمد بن عبد العزيز السوسي
أحد شياطين الإنس، يقول قصيدة تربى على أربعمائة بيت في وصف حاله وتنقله في الأديان والمذاهب والصناعات، أولها:
الحمد لله ليس لي بختٌ ... ولا ثيابٌ يضمّها تختُ
سيان بيتي لمن تأمّله ... والمهمه الصحصان والمرت
أمِنتُ في بيتي اللصوص فما ... للص فيه فوقٌ ولا تحت
فمنزلي مطبقٌ بلا حرسٍ ... صفرٌ من الصفر حيثما درت
إبريقي الكوز إن غسلت يدي ... والطين سعدي وداري الطست
وعاجل الشيب حين صيَّرني ... فرزدقي المشيب إذ شبت
سلكت في مسلك التصوف تن ... ميساً فكم للذبول قصّرت
سوّيت سجادةً بيومٍ وأح ... فيت سبالاً قد كنت طوّلتُ
وفي مقام الخليل قمت كما ... قام لأني به تبرّكت
وقلت إني أحرمت من بلدي ... وفي حرامي إن كنت أحرمت
ثم كتبت العطوف حتى بتد ... بيري بين الرؤوس ألّفت

حتى إذا رمت عطف بعلٍ على ... عرس عكست المنى وطلّقتُ
حرفي منقّى من التراب فكم ... ذرّيته مرّةً وغربلت
يا ليت شعري مالي حرمت ولا ... أعطي من إن رأيته اغتظت
بل ليت شعري لما بدا يقسم ال ... أرزاق في أيِّ مطبقٍ كنتُ
والحمد لله قاسم الرزق في ال ... خلق كما اختار لا كما اخترت

أبو محمد السوسي
قال:
باكرْ عليَّ ببكرٍ ... حمراءَ من كفِّ بِكْرِ
وأحي بالقفص قصفي ... وأفنِ في العمر عمري
روِّحْ براحك روحي ... وحِزْ بسكري شكري
أبو الحسن بن غسان
سمعت أبا الحسن محمد بن الحسين الفارسي النحوي يقول: ورد أبو الحسن بن غسان البصري الطبيب على أبي مضر عامل الأهواز في جملة شعراء امتدحوه، ومرض في أثناء ذلك، فعالجه أبو الحسن حتى برئ من مرضه، وكتب للشعراء ولأبي الحسن خطوطاً ترويجها فكتب إليه:
هبِ الشعراء تعطيهم رقاعاً ... مزوَّرةً كلاماً من كلامِ
فلم صلة الطبيب تكون زوراً ... وقد أهدى الشّفاء من السقام؟
//الباب التاسع
ذكر من هم
شرط الكتاب من أهل جرجان وطبرستان
القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز
حسنة جرجان، وفرد الزمان، ونادرة الفلك، وإنسان حدقة العلم، ودرة تاج الأدب، وفارس عسكر الشعر، يجمع خط ابن مقلة إلى نثر الجاحظ ونظم البحتري، وينظم عقد الإتقان والإحسان في كل ما يتعاطاه، وله يقول الصاحب:
إذا نحن سلَّمنا لك العلم كلَّه ... فدع هذه الألفاظ ننظم شذورها
وكان في صباه خلف الخضر في قطع عرض الأرض، وتدويخ بلاد العراق والشام وغيرها، واقتبس من أنواع العلوم والآداب ما صار به في العلوم علما وفي الكلام عالما، ثم عرج على حضرة الصاحب وألقى بها عصا المسافر، فاشتد اختصاصه به، وحل منه محلاً بعيداً في رفعته، قريباً في أسرته، وسيَّر في قصائد أخلصت على قصد، وفرائد أتت من فرد، وما منها إلا صوب العقل، وذوب الفضل، وتقلّد قضاء جرجان من يده، ثم تصرفت به أحوال في حياة الصاحب وبعد وفاته، بين الولاية والعطلة، وأفضى محله إلى قضاء القضاة، فلم يعزله عنه إلا موته رحمه الله.
وعرض عليّ أبو نصر المصعبي كتاباً للصاحب بخطه إلى حسام الدولة أبي العباس تاش الحاجب في معنى القاضي أبي الحسن، وهذه نسخته بعد الصدر والتشبيب: قد تقدم وصفي للقاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز أدام الله تعالى عزه فيما سبق إلى حضرة الأمير الجليل صاحب الجيش أدام الله تعالى علوه من كتبي ما أعلم أني لم أؤد فيه بعض الحق، وإن كنت دللته على جملة تنطق بلسان الفضل وتكشف عن أنه من أفراد الدهر في كل قسم من أقسام الأدب والعلم، فأما موقعه مني فالموقع تخطبه هذه المحاسن وتوجبه هذه المناقب، وعادته معي أن لا يفارقني مقيما وظاعنا ومسافراً وقاطناً، واحتاج الآن إلى مطالعة جرجان بعد أن شرطت عليه تصيير المقام كالإلمام، فطالبني مكاتبتي بتعريف الأمير مصدره ومورده، فإن عنَّ له ما يحتاج إلى عرضه وجد من شرف إسعافه ما هو المعتاد ليستعجل انكفاءه إليّ بما يرسم أدام الله أيامه من مظاهرته على ما يقدم الرحيل ويفسح السبيل من بدرقة إن أحتاج إليها وإلى الإستظهار بها، ومخاطبة لبعض من في الطريق بتصرف النجح فيها، فإن رأى الأمير أن يجعل من حظوظي الجسيمة عند تعهد القاضي أبي الحسن بما يعجل رده، فإني ما غاب كالمضل الناشد، وإذا عاد كالغانم الواجد، فعل أن شاء الله تعالى.
ولما عمل الصاحب رسالته المعروفة في إظهار مساوىء المتنبي عمل القاضي أبو الحسن كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه في شعره فأحسن وأبدع وأطال وأطاب، وأصاب شاكلة الصواب، واستولى على الأمد في فصل الخطاب وأعرب عن تبحره في الأدب، وعلم العرب، وتمكنه من جودة الحفظ وقوة النقد، فسار الكتاب مسير الرياح، وطار في البلاد بغير جناح، وقال فيه بعض المصريين من أهل نيسابور:
أيا قاضياً قد دنت كتبه ... وإن أصبحت داره شاحطه
كتاب الوساطة في حسنه ... لعقد معاليك كالواسطه
فصل من كتاب الوساطة

؟؟

فصل من هذا الكتاب المذكور
ومتى سمعتني أختار للمحدث هذا الإختيار، وأبعثه على الطبع، وأحسن له في التسهل، فلا تظنن أني أريد بالسهل السمح الضعيف الركيك، ولا باللطيف الرشيق الخنث المؤنث، بل أريد النمط الأوسط، وما ارتفع عن الساقط السوقي وانحط على البدوي الوحشي، وما جاوز سفسفة نصر ونظرائه، ولم يبلغ تعجرف هميان بن قحافة وأضرابه، نعم ولا آمرك بإجراء أنواع الشعر كله مجرى واحداً، ولا أن تذهب بجميعه مذهب بعضه، بل أرى لك أن تقسم الألفاظ على رتب المعاني، فلا يكون غزلك كافتخارك، ولا مديحك كوعيدك، ولا هجاؤك كاستبطائك، ولا هزلك بمنزلة جدك، ولا تعريضك مثل تصريحك، بل ترتب كلاًّ مرتبته وتوفيه حقه، فتلطف إذا تغزلت، وتفخم إذا افتخرت، وتتصرف للمديح تصرف مواقعه، فإن المدح بالشجاعة والبأس، يتميز عن المديح باللباقة والظرف، ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمدام، ولكل واحد من الأمرين نهج هو أملك به، وطريق لا يشاركه الآخر فيه، وليس ما رسمته لك في هذا الباب بمقصور على الشعر دون الكتابة، ولا بمختص بالنظم دون النثر، بل يجب أن يكون كتابك في الفتح أو الوعد أو الوعيد أو الإعذار، خلاف كتابك في الشوق أو التهنئة أو اقتضاء المواصلة، وخطابك إذا حذَّرت وزجرت أفخم منه إذا وعدت ومنيَّت، فأما الهجو فأبلغه ما جرى مجرى التهكم والتهافت وما اعترض بين التعريض والتصريح، وما قربت معانيه، وسهل حفظه، وسرع علوقه بالقلب ولصوقه بالنفس، فأما القذف والإفحاش فسباب محض وليس للشاعر فيه إلا إقامة الوزن وتصحيح النظم.
فصل آخر منه وكانت العرب ومن تبعها من سلف هذه الأمة تجري على عادة في تفخيم اللفظ وجزالة المنطق لم تألف غيره ولا عرفت تشبيهاً سواه، وكان الشعر أحد أقسام منطقها، ومن حقه أن يخص بتهذيب ويفرد بزيادة عناية، فإذا اجتمعت تلك العادة والطبيعة وانضاف إليها العمل والصنعة خرج كما تراه فخما جزلا وقوياً متيناً، وقد كان القوم أيضاً يختلفون في ذلك وتتباين فيه أحوالهم فيرق شعر الرجل ويصلب شعر الآخر، ويدمث منطق هذا و يتوعر منطق غيره.
وإنما ذلك بحسب اختلاف الطباع وتركيب الخلق. فإن سلاسة اللفظ تتبع سلاسة الطبع، ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة، وأنت تجد ذلك ظاهراً في أهل عصرك وأبناء زمانك وترى الجافي الجلف منهم كرّ الألفاظ جهم الكلام وعر الخطاب، حتى إنك ربما وجدت الغضاضة في صوته ونغمته وفي حديثه ولهجته، ومن شأن البداوة أن تظهر بعض ذلك، ومن أجله قال النبي صلى الله عليه وسلم من بدا جفا ولذلك تجد شهر عدي بن زيد وهو جاهلي أسلس من شعر الفرزدق وجرير وهما إسلاميان، لملازمة عدي الحاضرة، وإيطانه الريف وبعده عن جلافة البدو وجفاء الأعراب، وترى رقة الشعر أكثر ما تأتيك من قبل العاشق المتيم، والغزل المتهالك. وإذا اتفقت الدماثة والصبابة وانضاف الطبع إلى الغزل، فقد جمعت لك الرقة من أطرافها.
ولما ضرب الإسلام بجرانة واتسعت ممالك العرب وكثرت الحواضر ونزعت البوادي إلى القرى، وفشا التأدب والتظرف، اختار الناس من الكلام ألينه وأسهله، وعمدوا إلى كل شيء ذي أسماء فاستعملوا أحسنها مسمعاً، وألطفها من القلب موقعاً، وإلى ما للعرب فيه لغات فاقتصروا على أسلسها وأرشقها كما رأيتهم فعلوا في صفات الطويل، فإنهم وجدوا للعرب نحواً من ستين لفظاً أكثرها بشع شنع، فنبذوا جميع ذلك وأهملوه، واكتفوا بالطويل لخفته على اللسان وقلة نبوّ السمع عنه في البيان.
قال مؤلف الكتاب: وأنا أكتب من خطبة كتاب القاضي في تهذيب التاريخ فصلين، بعد أن أقول: إنه تاريخ في بلاغة الألفاظ وصحة الرواية وحسن التصرف في الانتقادات، وأجريتهما وما تقدمهما من كتاب الوساطة مجرى الأنموذج من نثر كلامه، ثم أقفّي على أثره بلمع من غرر أشعاره، إن شاء الله تعالى.

فصل - ولولا التاريخ، لما تميز ناسخ من منسوخ، ومتقدم من متأخر وما استقر من الشرائع وثبت مما أزيل ورفع، ولا عرف ما كان أسبابها وكيف مست الحاجة إليها، وحلصت وجوه المصلحة فيها، ولا عرفت مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحروبه وسراياه وبعوثه، ومتى قارب ولا ين وسارر وخافت، وفي أي وقت جاهر وكاشف ونبذا أعداءه وحارب، وكيف دبّر أمر الله الذي ابتعثه له، وقام بأعباء الحق الذي طوقّه ثقله، وأي ذلك قدم وأيها أخر، و بأيها بدأ وبأيها ثّنى وثلّث، وإن الولد البر ليتفقد من آثار والده، والصاحب الشفيق ليعني بمثله من شأن صاحبه، حتى يعد إن أغلفه مستهيناً به مستوجباً لعبته، فكيف لمن هو رحمة الله المهداة إلينا ونعمته المفاضة علينا، ومن به أقام الله دينانا وديننا وجعله السفير بينه وبيننا؟ وأيّ أمر أشنع وحاله أقبح من أن يحل الرجل محل المشار إليه المأخوذ عنه ثم يسأل عن الغزوتين المشهورتين من مشهور غزواته والأثرين من مستفيض آثاره، فلا يعرف الأول من الثاني، ولا يفرق بين البادي والتالي.
فصل آخر وهذا كتاب قصدت به غرضيّ دين ودنيا: أما الدين فان اقتديه من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخباره ومعارف أحواله وأيامه، وذكر ما طمس الله من معالم الشرك و أوضح معارف الحق، وما خفض بعلو كلمته وعلى أيدي أنصاره وشيعته، من رايات كانت عالية على الأبد، مكنوفة بحصافة العدد، وكثافة العدد، ما يعلم به العاقل المتوسم أن تلك الفئة القليلة والعدة اليسيرة - على قلة الأهبة، وقصور العدة وخمول الذكر وضعف الأيدي وعلو أيدي الأعداء وشدة شوكة الأقران - لا تستمر لها ولا تتفق بها مغالبة الأمم جمعا. ومقاومة الشعوب طرّاً، وقهر الجنود الجمة، والجموع الضخمة، وإزالة الممالك الممهدة والولايات الموطدة. في الدهر الطويل والزمن المديد - مع وفور العدة وانبساط القدرة. واستقرار الهبية - إلا بالنصرة الإلهية. والمعونة السماوية و إلا بتأييد لا يخص الله به إلاّ الأنبياء، ولا ينتخب له إلا الأولياء. وإن اختص فيه من معاناة أنصاره وأتباعه، والقائمين بإظهار دينه في حياته، وعمارة سبيله بعد وفاته، من مصابرة اللأواء، ومعالجة البأساء. وبذل النفوس والأموال وأخطار المهج والأرواح، ما يزيد القلوب للإسلام تفخيما. وبحقه تعريفاً. ولما عساها تستكبر من أفعالها تصغيراً. وفي الإزدياد منه ترغيباً، ما أجريه في خلال ذلك من تذكير بآلاء الله، وتنبيه على نعم الله، بما اقتص من أنباء الأولين، وأبث من أخبار الأخرين، و أبين من الآيات التي أمر الله بالمسير في الأرض لأجلها، وبعث على الاعتبار وبأهلها. فقال أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين قبلهم فيحرص العاقل على استبقاء نعمة الله عنده بالشكر الذي ضيعّه من سلبه الله تلك النعم، ويتحرّز من غوائل الكفر الذي أحل بهم تلك النقم.
وأما غرض الدينا فأن أقيم بفناء الصاحب الجليل أدام الله بهاء العلم بدوام أيامه من يخلفني في تجديد ذكرى بحضرته، وتكرير اسمي في مجلسه، وينوب عني في مزاحمة خدمته، على الإعتراف بحق نعمته، وعملت أني لا أستخلف من هو أمس به رحماً، وأقرب منه نسباً، وهو أرفع عنده موضعاً، وألطف منه موقعاً، وأخص به مدخلاً و مخرجاً، وأشرف بحضرته مقاماً وموقفا، من العلم الذي يزكو عنده غراساً، فيضعف ريعاً ويحلو طعماً. ويطيب عرفاً ويحسن اسماً. فاخترت لذلك هذا الكتاب ثقة بوجاهته، وعلماً بقرب منزلته، وكيف لا يكون عنده وجيهاً مكيناً، ومقبولاً قريناً. وإنما هو نتاج تهذيبه، وثمرة تقويمه، وجناء تمثيله، وريع تحريكه؟ فلولا عنايته لما صدقت النيّة، ولولا إرشاده لما نفذت الفطنة. ولولا معونته لما استجمعت الآلة، وما يبعد به عن إيثار العلوم وتعظيمها، وعن تقديمها وتقريبها، وهو الذي نصبه الله لها مثالا، وأقامه عليها مناراً، وجعله لها سنداً، ولإحيائها سبباً.
ملح من شعره في الغزل والتشبيب وسائر الفنون قال:
أفدي الذي قال وفي كّفه ... مثل الذي أشرب من فيه
الورد قد أينع في وجنتي قلت ... فمي باللّثم يجنيه
وقال:
بالله فضّ العقيق عن برد ... يروي أقاحيه من مدام فمه
وامسح غوالي العذار عن قمر ... نقّط بالورد خدّ ملتثمه

وقال من المسرح:
قل للسقام الذي بناظره ... دعه وأشرك حشاي في سقمه
كلّ غرام تخاف فتنته ... فبين ألحاظه ومبتسمه
وقال:
أنثر على خديّ من وردك ... أودع فمي يقطف من خدّك
ارحم قضيب البان وارفق به ... قد خفت أن ينقدّ من قدّك
وقل لعينيك بنفسي هما ... يخفّفان القسم عن عبدك
وقال:
قد برّح الشوق بمشتاقك ... فأوله أحسن أخلاقك
لا تجفه وارع له حقّه ... فإنه خاتم عشّاقك
وقال في الفصد:
يا ليت عيني تحملت ألمك ... بل ليت نفسي تقسّمت سقمك
وليت كفّ الطبيب إذ فصدت ... عرقك أجرت من ناظري دمك
أعرته صبغ وجنتيك كما ... تعيره إن لثمت من لثمك
طرفك أمضى من حدّ مبضعه ... فالحظ به العرق وارتجر ألمك
وله:
وفارقت حتى ما أسرُّ بمن دنا ... مخافة نأيٍ أو حذار صدود
وقد جعلت نفسي تقول لمقلتي ... وقد قربوا خوف التباعد جودي
فليس قريباً من يخاف بعاده ... ولا من يرجَّى قربه ببعيد
وله:
من ذا الغزال الفاتن الطرف ... الكامل البهجة والظرف
ما بال عينيه وألحاظه ... دائبة تعمل في حتفي
واهاً لذاك الورد في خدّه ... لو لم يكن ممتنع في القطف
أشكو إلى قلبك يا سيدي ... ما يشتكي قلبي من طرفي
وله:
هذا الهلال شبيهة في حسنه ... وبهائه كلاّ وفترة جفنه
هبك ادعيت بهاءه وضياءه ... كيف احيتالك في تأود عصنه
لو لاحظتك جفونه بفتورها ... أقمست أنّك ما رأيت كحسنه
وقال:
يا قبلة نلتها على دهش ... من ذي دلال مهفهف غنج
قد حير الخشف غنج مقتله ... والورد توريد خدّه الضرج
إذا تثنى أو قام معتدلاً ... قال له الغصن أنت في حرج
قد قسم الحسن مقلتيك أبا القاسم بين الفتور والدّعج
قل لهما يرفقا بقلب فتّى ... طويت أحشاءه على وهج
فمنهما لا عدمت ظلمهما ... سقم فؤادي ومنهما فرجي
وله سامحه الله:
وغنج عينيك وما أودعت ... أجفانها قلب شج وامق
ما خلق الرحمن تفاحتي ... خدّيك إلاّ لفم العاشق
لكنني أمنع منها فما ... حظّي إلاّ خلسة السارق
وله أيضاً:
من عاذري من زمن ظالم ... ليس بمستحي ولا راحم
تفعل بالأحرار أحداثه ... فعل الهوى بالدّنف الهائم
كأنمّا أصبح يرميهم ... عن جفن مولاي أبي القاسم
وله أيضاً من المسرح:
ولو تراني وقد ظفرت به ... ليلاً وستر الظلام منسدل
وللسكرى في الجفون داعية ... وقد حداها حاد له عجل
وحوصّت أعين الوشاة كما ... جّمش معشوقه الفتى الغزل
فذاك مغف وذاك مختلط ... يهذي وهذا كأنّه ثمل
وقلت يا سيدي بدا علم ال ... صبح وكاد الظلام يرتحل
ثم انثى يبتغي وسادي إذ ... أيقن أنّ الوشاة قد غفلوا
فبات يشكو وبتّ أعذره ... وليس إلاّ العتاب والعلل
لخلتنا ثمّة شعبتي غصن ... يوم صباً نلتوي ونعتدل
يا طيبها ليلة نعمت بها ... غرّاء أدنى نعيمها القبل
وله سامحه الله تعالى:
يا نسيم الجنوب بالله بلّغ ... ما يقول المتيّم المستهام
قل لأحبابه فداكم فؤاد ... ليس يسلو ومقلة لا تنام
بنتم فالسهاد عندي مقيم ... مذ نأيتم والعيش عندي حمام
فعلى الكرخ فالقطيعة فالشطّ ... فبات الشعير منّي السلام
يا ديار السرور لازال يبكي ... بك في مضحك الرياض غمام
رب عيش صحبته فيك عضّ ... وجفون الخطوب عنّا نيام

في ليال كأنهنّ أمان ... من زمان كأنّه أحلام
وكأنّ الأوقات فيها كؤوسّ ... دائرات وأنسهنّ مدام
زمن مسعد وإلف وصول ... ومنىّ تستلذها الأوهام
كلّ أنس ولذة وسرور ... قبل لقياكم عليّ حرام
وله:
سقى جانبي بغداد إخلاف مزنة ... تحاكي دموعي صوبها وانحدارها
فلي فيهما قلب شجاني اشتياقه ... ومهجة نفس ما أمل ادكارها
سأغفر للأيام كلّ عظيمة ... لئن قرّبت بعد البعاد مزارها
وله من قصيدة يتشوق فيها بغداد، ويصف موضعه بناحية رامهرمز، ويمدح صديقاً له من أهلها:
أراجعة تلك الليالي كعهدها ... إلى الوصل أم لا يرتجى لي رجوعها؟
وصحبة أقوام لبست لفقدهم ... ثاب حداد مستجدّ خليعها
إذا لاح لي من نحو بغداد بارق ... تجافت جفوني واستطير هجوعها
وإنّ أخلفتها الغاديات رعودها ... تكلّف تصديق الغمام دموعها
سقى جانبي بغداد كلّ غمامة ... يحاكي دموع المستهام هموعها
معاهد من غزلان أنس تحالفت ... لواحظها أن لا يداوي صريعها
بها تسكن النفس النفور ويغتدي ... بآنس من قلب المقيم نزيعها
يحن إليها كل قلب كأنمّا ... يشاد بحّبات القلوب ربوعها
فكلّ ليالي عيشها زمن الصبا ... وكلّ فصول الدهر فيها ربيعها
وما زلت طوع الحادثات تقودني ... على حكمها مستكرهاً فأطيعها
ومنها:
فلما حللت القصر قصر مسرتي ... تفرقّن عني آيسات جموعها
بدار لها يسلى المشوق اشتياقه ... ويأمن ريب الحادثات مروعها
بها مسرح للعين فيها يروقها ... ومستروح للنفس ممّا يروعها
يرى كلّ قلب بينها ما يسرّه ... إذا زهّرت أشجارها وزروعها
كأنّ خرير الماء في جنباتها ... رعود تلقت مزنة تستريعها
إذا ضربتها الريح وانبسطت لها ... ملاءة بدر فصّلتها وشيعها
رأيت سيوفاً بين أثناء أدرع ... مذهبة يغشى العيون لميعها
فمن صنعة البدر المنير نصولها ... ومن نسج أنفاس الرياح دروعها
صفا عيشنا فيها وكادت لطيبها ... تمازجها الأرواح لو تستطيعها
وله من قصيدة:
من أين للعارض السارق تلهّبه ... وكيف طّبق وجه الأرض صيّبه؟
هل استعان جفوني فهي تنجده ... أم استعار فؤادي فهو يلهبه؟
بجانب الكرخ من بغداد لي سكن ... لولا التجمّل ما أنفك أندبه
وصاحب ما صحبت الصبر مذ بعدت ... دياره، وأراني لست أصحبه
في كل يوم لعيني ما يؤرقها ... من ذكره، ولقلبي ما يعذّبه
ما زال يبعدني عنه وأتبعه ... ويستمرّ على ظلمي وأعتبه
حتى لوت لي النّوى من طول جفوته ... وسّهلت لي سبيلا كنت أرهبه
وما البعاد دهاني بل خلائقه ... ولا الفراق شجاني بل تجبنّبه
لمع من شعره في حسن التخلّص قال من قصيدة في الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد من المتكامل:
أو ما انثيت عن الوداع بلوعة ... ملأت حشاك صبابةً وغليلاً
ومدامع تجري فيحسب أنّ في ... آماقهن بنان إسماعيلاً
ومن قصيدة في أبي مضر محمد بن منصور:
إذا استشرفت عنياك جانب تلعة ... جلت لك أخرى من رباها جوانبا
يضاحكنا نوّارها فكأنما ... نغازل بين الروض منها حبائبا
تبسّم فيها الأقحوان فخلته ... تلقاك مرتاحاً إليك مداعباً
وحلّ نقاب الورد فاهتزّ يدّعي ... بواديه في ورد الخدود مناسباً
أقول وما في الأرض غير قرارة ... تصافح روضاً حولها متقارباً

أباتت يد الأستاذ بين رياضها ... تدفّق أم أهدت إليها سحائباً
ألبسها أخلاقه الغرّ فاغتدت ... كواكبها تجلو علينا كواكباً
أوشّت حواشيها خواطر فكره ... فأبدت من الزهر الأنيق غرائباً
أهزّ الصّبا قضبانها كاهتزازه ... إذا لمست كّفيه كّفك طالباً
أخالته يصبو نحوها فتزينّت ... تؤمّل أن يختار منها ملاعباً
ومن قصيدة في دلير من بشكروز:
وما أقيم بدار لا أعز بها ... ولا يقرّ قراري حيث أبتذل
وقد كفاني انتجاع الغيث معرفتي ... بأن دلير لي من سيبه بدل
تجنّب نشوات الخمر همتّه ... وأعلمتنا العطايا أنه ثمل
ومن قصيدة في شيرزاد بن سرخاب:
ألم تر أنواء الربيع كأنّما ... نشرن على الآفاق وشياً مذهّباً
فمن شجر أظهرن فيه طلاقة ... وكان عبوساً قبلهنّ مقطّباً
ومن روضة قضّى الشتاء حدادها ... فوشحن عطفيها ملاًء مطيباً
سقاها سلاف الغيث ريّا فأصبحت ... تمايل سكراً كلّما هّبت الصّبا
كأن سجايا شيرزاد تمدّها ... فقد أمنت من أن تحول وتشحباً
ومن قصيدة في الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير:
ولما تداعت للغروب شموسهم ... وقمنا لتوديع الفريق المغربّ
تلقين أطراف السجوف بمشرق ... لهنّ وأعطاف الخدور بمغرب
فما سرن إلاّ بين دمع مضيعّ ... ولا قمن إلا فوق قلب معذّب
كأن فؤادي قرن قابوس راعه ... تلاعبه بالفيلق المتأشّب
ومن قصيدة له فيه أيضاً:
ليلة للعيون فيها وللأسماع ما للقلوب والآمال
نظمت للندام فيها الأماني ... مثل نظم الأمير شمس المعالي
ومن قصيدة في الصاحب:
وما بال هذا الدهر يطوي جوانجي ... على نفس محزون وقلب كثيب
تقسّمني الأيام قسمة جائر ... على نضرة من حالها وشحوب
كأنّي في كفّ الوزير رغيبةً ... تقسّم في جدوى أغرّ وهوب
ومن أخرى فيه وصف الإبل:
يقربن طلاّب العلا من سمائها ... ويهدين روّاد الندى لجوادها
فلاقين مولانا وقد صنع السّرى ... بهنّ صنيع كّفه بتلادها
غرر من شعره في المدح، وما يتصل به قال من قصيدة في الصاحب:
يا أيها القرم الذي بعلّوه ... نال العلاء من زمان السولا
قسمت يداك على الورى أرزاقها ... فكنّوك قاسم رزقها المسئولا
ومن أخرى فيه:
فتى كيف ما ملنا رأينا له يداً ... بعيدة رمى الشكر مطلبها سهل
خفيف على الأعيان محمل منِّها ... ولكن على الأفكار من عدِّها ثقل
ووالله ما أفضى من المال مانشا ... إلى كفِّه إلاّ العنان أو النصل
ومن أخرى في:
يا من إذا نظر الزما ... ن إليه أكثر عجبه
رحل المصيف فلا تزل ... أبداً تودّ ركبه
وبدا الخريف فحيِّ خا ... لصة الزمان ولبه
زمن كخلقك ناصر ... إن كان خلقك يشبه
رقَّ الهواء فما ترى ... نفساً يعالج كربه
وصفا وإن لاحظت ... أبعده ظننتك قربه
فلو استحال مدامةً ... ما كنت أحظر شربه
فتهنَّه يا فرده ... وتملَّه يا قطبه
ومن أخرى فيه:
ولا ذنب للأفكار أنت تركتها ... إذا احتشدت لن تنتفع باحتشادها
سبقت بأفراد المعاني وألَّفت ... خواطرك الألفاظ بعد شرادها
فإن نحن حاولنا اختراع بديعةٍ ... حصلنا على مسروقها ومعادها
ومن أخرى فيه:
أغرُّ أورع تلهينا وقائعه ... في المال والقرن عن صفَّين والجمل
مستوضع بثدي المجد مفترسٌ ... حجر المكارم مفطومُ عن البخل

أمضى من السيف لفظاً غير لجلجةٍ ... تغشَّاه إن مال مضطرٌ إلى العلل
ومنها:
وسائلٍ لي عن نعماك قلت له ... تفصيلها مستحيلٌ فارض بالجمل
هذي صبابة ما أبقت يداي وقد ... عرفت حرفهما فانظر ولا تسل
ومن أخرى فيه من المسرح:
لا وجفونٌ يغضُّها العذل ... عن وجناتٍ تذيبها القبل
ومهجة للهوى معرَّضةٍ ... تعيث فيها القدود والمقل
ما عاش من غاب عن ذراك وإن ... أخرَّ ميقات يومه الأجل
ومن قصيدة عيادة له:
بعيني ما يخفي الوزير وما يبدي ... فنورهما من فضل نعمائه عندي
سأجهد أن أفدي مواطيء نعله ... فإن أنا لم أقبل فما لي سوى جهدي
لأعدي تشكيك البلاد وأهلها ... وما خلت أن الشكو بعدي على البعد
ولم أدر بالشكوى التي عرضت له ... ونعماه حتّى أقبل المجد يستعدي
وما أحسب الحمَّى وإن جلَّ قدرها ... لتجسر أن تدنو إلى منبع المجد
وما هي إلاّ من تلهُّب ذهنه ... توقَّد حتى فاض من شدة الوقد
ليفدك من نعماك مالك رقّةً ... فكلُّ الورى بل كل ذي مهجة يفدي
وما زالت الأحرار تفدي عبيدها ... لتكفيها ما تتَّقي مهجة العبد
ومن أخرى التهنئة بالبرء:
بك الدهر يندي ظلُّه ويطيب ... ويقلع عمّا ساءنا ويتوب
ونحمد آثار الزمان وربَّما ... ظللنا وأوقات الزمان ذنوب
أفي كلِّ يومٍ للمكارم روعة ... لها في قلوب المكرمات وجيب
تقسَّمت العلياء جسمك كلَّه ... فمن أين فيه للسقام نصيب
إذا ألمت نفس الأمير تألَّمت ... لها أنفس تحيا بها وقلوب
ومنها:
وواللَّه لا لاحظت وجهاً أحبُّه ... حياتي وفي وجه الوزير شحوب
وليس شحوباً ما أراه بوجهه ... ولكنَّه في المكرمات ندوب
فلا تجزعن تلك السماء تغيَّمت ... فعمَّا قليلٍ تبتدي فتصوب
تهلَّل وجه المجد وايتسم الندى ... وأصبح غصن الفضل وهو رطيب
فلا زالت الدنيا بملكك طلقةً ... لا زال فيها من ظلالك طيب
ومن قصيدة في أبي مضر محمد بن منصور:
هذا أبو مضرٍ كفتنا كفُّه ... شكوى اللئام فما نذُّم لئيما
هذا الجسيم مواهباً هذا الشريف ... مناصباً هذا المهذَّب خيما
سمكت كهمته السماء ومثَّلت ... فيها خلائقه الشراف نجوما
نشوان قد جعل المحامد والعلا ... دون المدامة ساقياً ونديما
أعدى الأنام طباعه فتكرَّموا ... لو جاز أن يدعى سواه كريما
ومن قصيدة في دلير بن بشكروز:
كريمٌ يرى أن الرجاء مواعد ... وان انتظار السائلين من المطل
وخير الموالي من إذا ما مدحته ... مدحت به نفسي وأخبرت عن فضلي
ومن أخرى:
قل للأمير الذي فخر الزمان به ... ما الدهر لولاك إلا منطقٌ خطل
كفتك آثار كفيَّك التي ابتدعت ... في المجد ما شاده آباؤك الأول
ما زال في الناس أشباه وأمثلة ... حتى ظهرت فغاب الشّكل والمثل
درر من شعره في وصف الشعر قال من قصيدة:
ومن الشعر إلاّ ما استفزَّ ممدَّحاً ... وأطرب مشتاقاً وأرضى مغاضبا
أطاع فلم توجد قوافيه نفَّراً ... ولم تأته الألفاظ حسرى لواغبا
وفي الناس أتابع القوافي تراهم ... يبثّون في آثارهن المقانبا
إذ لحظوا حرف الروي تبادروا ... وقد تركوا المعنى مع اللفظ جانبا
وإن منعوا حرَّ الكلام تطرَّقوا ... حواشيه فاجتاحوا الضعيف المقاربا
ولكننَّي أرمي بكلِّ بديعةٍ ... يبتن بألباب الرجال لواعبا
تسير ولم ترحل وتدنو وقد نأت ... وتكسب حفاظ الرجال المراتبا

ترى الناس إمّا مستهاماً بذكرها ... ولوعاً وإمّا مستعيراً وغاضباً
أذود لئام الناس عنها وأتقي ... على حسبي إن لم أصنها المعايبا
وأعضلها حتى إذا جاء كفؤها ... سمحت بها متشرفات كواعبا
وأيّ غيور لا يجيب وقد رأى ... مكارمك اللاتي أتين خواطبا
ومن أخرى:
ووفاك وفد الشكر من كلّ جهة ... ثناًء يسدّى أو مديحاً ينظّم
يزف إلى الأسماع كل خريدة ... تكاد إذا ما أنشدت تتبسّم
أطافت بها الأفكار حتى تركنها ... يقال أأبيات تراها أو أنجم
ومن أخرى:
أهدن لمجدك حلّة موشيةً ... تكسو الحسود كآبةً وذبولاً
أحيت حبيباً والوليد ففصلاً ... منها وشائع نسجها تفصيلاً
فأفادها الطائي دقة فكرة ... والبحتري دمائةً وقبولاً
ومن أخرى:
لو لم أشرّف بامتداحك منطقي ... ما انقاد نحوك خاطري مزموماً
لكن رأى شرف المصاهر فاغتدى ... يهدي إليك لبابه المكتوما
فحباك من نسج العقول بغادة ... قطعت إليك مقاصداً وعزوما
لما تبينّت الكفاءة أقسمت ... أن لا تغربّ بعدها وتقيما
لا تبغها مهراً فقد أمهرتها ... نعماك عندي حادثاً وقديماً
ألزمت شكرك منطقي وأناملي ... وأقمت فكري بالوفاء زعيماً
من أخرى:
أتتنا العذارى الغيد في حلل النّهى ... تنشّر عن علم وتطوي على سحر
تلاعب بالأذهان روعة نشرها ... وتشغل بالمرأى اللطيف عن السبر
ألذّ من البشري أتت بعد غيبة ... وأحسن من نعمى تقابل بالشكر
فلم أر عقداً كان أبهى تألّقاً ... وأشبه نظماً متقناً منه بالنثر
ترى كلّ بيت مستقلاّ بنفسه ... تباهى معانيه بألفاظه الغرّ
تحلّت بوصف الجسم ثم تنكّرت ... ومالت مع الأعراض في حيزّ تجري
أرنتّ سحاب الفكر فيها فأبرزت ... لآلي نور في حدائقها الزّهر
فجاءت ومعناها ممازج لفظها ... كما امتزجت بنت الغمامة بالخمر
أشدّ إليه نسبةً من حروفه ... وأحوج من فعل جميل إلى نشر
نظمتها عقداً كما نظم الحجى ... وفاءك في عقد السماحة والفخر
كأنك إذ مّرت على فيك أفرغت ... ثناياك في ألفاظها بهجة البشر
كفتنا حمياّ الخمر رقة لفظها ... وأمّننا تهذيبها هفوة السكّر
وكتب إليه بعض أهل رامهرمز أبياتاً يمتدحه فيها، وقد كان بلغه عنه أبيات يشكو فيها أهل ناحيته، فقال: هلا انتقل، واتصل ذلك بقائلها فضمن أبياته اعتذاراً من المقام لتعذر النقلة. فكتب إليه مجيباً له قصيدة منها:
بدأت فأسلفت التفضّل والبرا ... وأوليت إنعاماً ملكت به الشكرا
وللسابق البادي من الفضل رتبة ... تقصّر بالتالي وإن بلغ العذرا
أتتنا عذراك اللواتي بعثتها ... لتوسعنا علماً وتلبسنا فخرا
فأنصحن عن عذر وطوقّن منّةً ... وقلن كذا من قال فليقل الشعرا
فأوليتها حسن القبول معظّماً ... لحق فتى أهدى بهنّ لنا ذكرا
تناهي النهى فيها وأبدع نظمها ... خواطر ينقاد البديع لها قسراً
إذا لحظت زادت نواظرنا ضياً ... وإن نشرت فاحت مجالسنا عطرا
تنازعها قلبي مليّا وناظري ... فأعطيت كلاّ من محاسنها شطرا
فنزّهت طرفي في وشيّ رياضها ... وألقطت فكري بين ألفاظها الدرّا
تضاحكنا فيها المعاني فكلّما ... تأملت منها لفظةً خلتها شعرا
فمن ثيب لم تفترع غير خلسة ... وبكر من الألفاظ قد زوّجت بكرا
يظل اجتهادي بينهن مقصّراً ... وتمسي ظنوني دون غايتها حسرى

إذا رمت أن أدنو إليها تمنّعت ... وحقّ لها في العدل أن تظهر الكبرا
وقد صدرت عن معدن الفضل والعلا ... وقد صحبت تلك الشمائل والنّجرا
فتمّت لك النعمى وساعدك المنى ... وملّيت في خفض أبا عمر العمرا
كفتنا وإياك المعاذير نيّةً ... إذا خلصت لم تذكر الوصل والهجرا
مدحت فعدّدت الذي فيك من علاً ... وألبستني أوصافك الزهر الغرّا
وما أنا شعبة مستمدة ... لمغرز فيض منك قد غمر البحرا
وقد كان ما بلّغته من مقالة ... أنفت بها للفضل أن يألف الصغرا
إذا البلد المعمور ضاق برحبه ... على ماجد فليسكن البلد القفرا
وكم ماجد لم يرض بالخسف فانبرى ... يقارع عن هماته البيض والسمرا
ومن علقت نيل الأماني همومه ... تجشّم في آثارها المطلب الوعرا
فلا تشك أحدث الزمان فإنّني ... أراه بمن يشكو حوادثه مغرى
وهل نصرت من قبل شكواك فاضلاً ... لتأمل منهنّ المعونة والنصرا
وما غلب الأيام مثل مجرّب ... إذا غلبته غاية غلب الصبرا
فقر له من كل فن قال من قصيدة:
يقولون لي فيك انقباض وإنّما ... رأوا رجلاً عن موقف الذلّ أحجما
وما زلت منحازاً بعرضي جانباً ... من الذّم أعتدّ الصيانة مغنما
إذا قيل هذا مشرب قلت قد رأى ... ولكن نفس الحرّ لا تحمل الظمأ
ولم أقض حقّ العلم إن كان كلّما ... بدا طمع صيّرته لي سلّما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلّةً ... إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما
وقال من أخرى:
وقالوا اضطراب في الأرض فالرزق واسع ... فقلت: ولكن مطلب الرزق ضيقّ
إذا لم يكن في الأرض حرّ يعينني ... ولم يك لي كسب فمن أين أرزق
ومن أخرى:
على مهجتي تجني الحوادث والدهر ... فأما اصطباري فهو ممتنع وعر
كأني ألاقي كلّ يوم ينوبني ... بذنب، وما ذنبي سوى أنّني حرّ
فإن لم يكن عند الزمان سوى الذي ... أضيق به ذرعاً فعندي له الصبر
وقالوا توصل بالخضوع إلى الغنى ... وما علموا أنّ الخضوع هو الفقر
وبيني وبين المال بابان حرّماً ... على الغنى: نفسي الأبية، والدهر
ومنها:
إذا قال هذا اليسر أبصرت دونه ... مواقف خير من وقوفي بها العسر
إذا قدّموا بالوفر أقدمت قبلهم ... بنفس فقير كلّ أخلاقه وفر
وماذا على مثلي إذا خضعت له ... مطامعه في كفّ من حصل التبر
وكتب على لسان غيره:
أبا حسن طال انتظار عصابة ... رجتك لما يرجى له الماجد الحرّ
وقد حان بل قد هان لولا المطال أن ... يحلّ لهم عن وعدك الموثق الأسر
وقد فاتهم من قربك الأنس والمنى ... وحاربهم فيك اختيارك والدهر
فإن كنت عوضّت عنهم بغيرهم ... فعوضهم راحاً يزول بها الفكر
فأنس الفتى في الدهر خلّ مساعد ... وإن فاته الخلّ المساعد فالخمر
فإمّا رسول بالنبيذ مبادر ... وإلا فلا تغضب إذا غضب الشعر
وقال من قصيدة كتبها إلى أخوين له من انقباضه عنهما وإغبابه زيارتهما:
أيها معهد الأحباب ذكّرهم عهدي ... ودم لي، وإن دام البعاد، على الودّ
ولي خلق لا أستطيع فراقه ... يفوتّني حظي ويمنعني رشدي
نفور عن الإخوان من غير ربية ... تعدّ جفاءً والوفاء لهم وكدي
غذيت به طفلاً فإن رمت هجره ... تأبّى وأغرتني به ألفة المهد
كما ألفت كفّا البذل والندى ... فأعيا كما أن تمنعا كفّ مستجدي

على أنني أقضي الحقوق بنيتي ... وأبلغ أقصى غاية القرب في بعدي
ويخدمهم قلبي وودّي ومنطقي ... وأبلغ في رعي الذّمام لهم جهدي
فإن أنتما لم تقبلا لي عذرةً ... وألزمتماني فيه أكثر من وجدي
فقولا لطبعي أن يزول فإنّه ... يرى لكما حق الموالي على العبد
وقال:
جفاؤك كلّ يوم في مزيد ... وما تنفكّ تّشمت بي حسودي
فإن يكن الصدود رضاك فاذهب ... فإنّي قد وهبتك للصدود
فحسبي منك أن يهواك قلبي ... وحسبك أن أزورك كل عيد
وأهدى إلي صديق له بعض إخوانه تحفة وفيها أفراخ وباقلاء وباذبجان فقال على لسانه يذكر ذلك:
أبي سيد السادات إلاّ تظرّفاً ... وإلاّ وصالاً دائماً وتعطّفا
وساعدني فيه الزمان فخلته ... تحرّج من ظلمي فتاب وأسعفا
وأهيف لو للغصن بعض قوامه ... تقصّف عاراً أن أسميه أهيفا
تحّين غفلات الوشاة فزارنا ... يعرّج عن قصد الطريق تخوفّا
فما باشرت نعلاه موضع خطوة ... من الأرض إلاّ أورثاه تصلّفا
وتلحظ خدّيه العيون فتنثي ... تساقط فوق الأرض ورداً مقطّفا
فقلت أحلم أم خواطر صبوة ... تصوره أم أنشر الله يوسفا
وفيم تجلّى البدر والشمس لم تغب ... أحاول منها أن تحول وتكسفا
أما خشيت عنياك عنياً تصيبها ... وغصنك ذا إذ مال أن يتقصّفا
ولم يحذر الواشين من لحظاته ... تقلّب سيفاً بين جفنيه مرهفا
فقال اشيتاقاً جئتكم وصبابةً ... إليكم وإكراماً لكم وتشوقّا
وليس الفتى من كان ينصف حاضراً ... أخاه، ولكن من إذا غاب أنصفا
ومرّ فلم أعلم لفرط تحّيري ... أطير سروراً أم أموت تأسّفا
فيازورةً لم تشف قلباً متّيماً ... ولكنّها زادت غرامي فأضعفا
فلما تمثلّنا الهدية خلته ... تمّثل فيها بهجة وتظّرفا
ولما مددنا نحوهنّ أناملاً ... براها الضنى في حبه فتحّيفا
إلى باقلاء خيف أن لا تقلّه ... يداي لما بي من هواه فنصّفا
حملنا بأطراف البنات ولم نكد ... بناناً زهاها الحسن أن تتطّرفا
وسوداً تروّت بالدهان وبدّلت ... بتوريدها لوناً من النار أكلفا
كأفواه زنج تبصر الجلد أسوداً ... وتبصر إن فرّت لجينا مؤلفا
كخلق حبيب خاف إكثار حاسد ... فأظهر صرماً وهو يعتقد الوفا
ومنتزع من وكر أم شيفة ... يعزّ عليها أن يصاد فيعسفا
يغذّى غذاء الطفل طال سقامه ... فحنّ عليه والداه ورفرفا
فلما بدت أطراف ريش كأنه ... مبادي نبات غبّ قطر تشرّفا
تكلّفه من يرتجي عظم نفعه ... فكان به أحفى وأحنى وأرأفا
يزقّ بما يهوي ويعلف ما اشتهى ... ويمنع بعد الشبع أن يتصرّفا
فلما تراءته العيون تعجّباً ... وقيل تناهى بل تعدّي وأسرفا
أراق دماً قد كان قبل يصونه ... كدمعة مضنى القلب روّعه الجفا
تضّرب حتى خلت أن جناحه ... فؤادي حيناً ثم عوجل وانطفا
فجيء به مثل الأسير تمكّنت ... أعاديه منه بعد حرب فكتّفا
له أخوات مثله ألفت ثنىً ... على مثل ما كانا زماناّ تألّفا
وقال لي الفأل المصيب مبشّراً ... كذا أبداً ما عشتما فتألّفا
فيا لك من أكل على ذكر من به ... تطيب لنا الدينا تعطّف أم جفا
ولم أر قبل اليوم تحفة بعده ... ومن عاشر الحرّ الظريف تظّرفا

أبو الحسن علي بن أحمد الجوهري

نجم جرجان في صنائع الصاحب وندمائه وشعرائه، فسكن دورة صناعة الشعر في ريعان عمره، وعنفوان أمره، وتناول المرمى البعيد بقريب سعيه، وكان في إعطاء المحاسن إياه زمامها كما قيل جذع يبن على المذاكي القرح.
وكان الصاحب يعجب أشد الإعجاب بتناسب وجهه وشعره حسناً، وتشابه روحه وشمائله خفة وظرفاً، ويصطنعه لنفسه، ويصرفه في الأعمال والسفارات، وعهدي به وقد ورد نيسابور رسولاً إلى الأمير أبي الحسن في سنة سبع وسبعين وثلثمائة يملأ العيون جمالاً، والقلوب كمالاً، وحين انكفأ إلى حضرة الصاحب وجهه إلى أبي العباس الضبي بأصبهان، وزوده كتاباً بخطه ينطق بحقائق أوصافه وأخباره، وهذه نسخته بعد الصدر.

أوصافي لمولاي - أدام الله تعالى عزه! - تودع الشوق إليه حبات القلوب كما تملأ له بالمحبة أوساط الصدور. فلا تغادر ذا قدح فائز في الفضل وخصل سابق من خصال العلم، إلا ونار الحنين حشو ثيابه أو يرحل إليه، وينيخ ركائب السير لديه، لا جرم أن جلّ من يحضرني يطالبني بالإذن له في قصده، ويهتبل غرة الزمان في الخطوة بقربه، نعم وذوو التحصيل إذا حظوا لدي بزلقة، وأحفصوا عروة خدمة، واعتقدوا أنهم إن لم يعتمدوا ظله، ولم يعتلقوا حبله، كانوا كمن حج ولم يعتمر، ودخل ظفار ولم يحمر، إلا أن جميعهم إذا دفعته اندفع، وإذا خدعته انخدع، غير واحد ملط ملحف مشطّ يغريه الرد بالمراجعة، ويغويه المنع للمعاودة، ويقول بملء لسانه إلى أن يسأم، ويقتضي طول زمانه حتى يسأم، وكم جررته على شوك المطل، ونقلته من حزن إلى سهل. وصرفته على إنجاز وعد بوعد، ودفعته من استقبال شهر إلى انسلاخ شهر، ثم خوفته كلب الشتاء أجعل الربيع موعداً، وحذرته وهج المصيف أعطيه للخريف موثقا. وكم شغلته بعمالة بعد عمالة، ووفادة بعد وفادة، أريد في كل أن أصدفه عن وجهته، وأصده عن عزمته، ليس لغرض أكثر من أن السؤال منه والدفاع مني تساجلا، والالتماس منه والامتناع من جهتي تقابلا، فلما خشيت صبابته بأصبهان أن يردها، بل بخدمة مولاي أن يعتقدها، تجنّى على قلبه، أو يتحيف بمس من الجنون ثابت عقله، ألقيت حبله على غاربه، وبردت بالإذن جمرات جوانحه، فإن يقل مولاي من ذا الذي هذا خطبه وهذه خطته؟ أقل من فضله برهان حق، وشعره لسان صدق. ومن أطبق أهل جلدته، على أنه معجزة بلدته. فلا يعد لجرجان بعيداً ولا قريباً أو لأختها طبرستان قديماً ولا حديثاً مثله، ومن أخذ برقاب النظم أخذه. وملك رق القوافي ملكه، ذاك على اقتبال شبابه وريعان عمره، وقبل أن تحدثه الآداب، وقيل جري المذكيات غلاب، أبو الحسن الجوهري أيده الله وبناؤه عند مولاي منذ حين، وخصوصه بي كالصبح المبين، إلا أن لمشاهدة الحاضر، ومعاينة الناظر، مزية لا يستقصيها الخبر، وإن امتد نفسه، وطال رعانه ومرسه، وقد ألف إلى هذه الفضيلة التي فرع بنيها، وأوفى على ذوي التجربة والتقدمة فيها، نفاذاً في أدب الخدمة، ومعرفة بحق الندام والعشرة، وقبولاً يملأ به مجلس الحفلة، إنصاتاً للمتبوع إلا إذا وجب القول، وإعظاماً للمخدوم إلا إذا خرج الأمر، وظرفا يشحن مجلس الخلوة، وحديثاً يسكت به العنادب ويطاول البلابل، فإن اتفق أن يفسح له في الفارسية نظماً ونثراً طفح آذيه. وسال أتيه، فألسنة أهل مصره إلا الأفراد بروق إذا وطئوا أعقاب العجم، وقيود إذا تعاطوا لغات العرب، حتى إن الأديب منهم المقدم، والعليم المسوّم، يتلعثم إذا حاضر بمنطقه كأنه لم يدر من عدنان، ولم يسمع من قحطان، ومن فضول أخينا أو فضله أنه يدعى الكتابة ويدارس البلاغة، ويمارس الإنشاء، ويهذي فيه ما شاء، وكنت أخرجته إلى ناصر الدولة أبي الحسن محمد بن إبراهيم فوفق التوفيق كله صيانة لنفسه، وأمانة في ودائع لسانه ويده، وإظهاراً لنسك لم أعهده في مسكه. حتّى خرج وسلم على نقده، وإن نقده لشديد لمثله. ومولاي يجريه بحضرته مجراة بحضرتي، فطعامه ومنامه وقعوده وقيامه. إما بين يدي، أو بأقرب المجالس لدي. ولا يقولن هذا أديب وشاعر، أو وافد وزائر. بل يحسبه قد تخفف بين يديه أعواماً وأحقاباً، وقضى في التصريف لديه صباً وشباباً. وهذا إنما يحتاج إلى وسيط وشفيعى ما لم ينشر بزه، ولم يظهر طرزه. وإلا فسيكون بعد شفيع من سواه. ووسيط من عداه. فهناك بحمد الله درقه وحدقه ووجنة مطرفه، وما أكثر ما يفاخرنا بمناظر جرجان وصحاريها. ورفارفها وحواشيها، فليملأ مولاي عينه من منتزهات أصبهان، فعسى طماحه أن يخفف، وجماحه أن يقل.

وشريطة أخرى في بابه: وهي أنه ليس موضعاً لماله، فسبيل ما يرزأه أن يكون ما أقام في حجره، وإن أذن له مولاي في العود داخلاً في حظر. فما أكثر ما يباري البرامكة تبرمُّاً بجانب الجمع، وتخرقُّاً في مذاهب البذل. ونسبة للرياح إلى الإمساك والبخل. فبينا تراه والثروة أقرب وصفيه، حتى تلقاه والحاجة أحد خصميه، وكم وكم تداركت أمره فما ازداد الخرق إلا واسعاً لا يقبل رتقاً، وتهاوناً لا يسع تلافياً، وما كنت مع إبرامه لأفسح له في الخروج وأمد له طول النهوض مع أنسي الشديد بحضوره، واستمتاع النفس بعقله وجنونه، غير أني أزرته من ينظر بعيني. ويسمع بأذني، ومن إذا ارتاح للأمر فقد ارتحت، وإذا انشرح صدراً فقد انشرحت.
ونكتة أخرى: وهي واسطة التاج، وفاتحة الرتاج. مولاي سمح بماله، مقرب لمناله، بخيل بجاهه، ضنين بكلامه. وأبو الحسن لا يقبل العذر، أو يصدق النذر، فيجعل جوده بلسانه، أبلغ من جوده ببنانه. وحقاً اخبر أن قصده الأكثر الارتفاع، لا الانتفاع، غير أني أنبأت عن سره. وعن سن بكره، وانقضت الخطبة، والسلام.
ولما انقلب من أصبهان إلى جرجان، مسروراً لم تطل به الأيام حتى أصبح مقبوراً.
ملح من مقطوعاته في كل فن قال:
ومغلَّفٍ بالمسك في خدّيه ... سطراً يشوق العاشقين إليه
ما جاءه أحدٌ ليخطف نظرةً ... إلاَّ تصدَّق بالفؤاد عليه
وقال:
من عاصمي يا ابن أبي عاصم ... من لحظك المقتدر الظالم
يا خاتم الحسن أغث مدنفاً ... صارت عليه الأرض كالخاتم
وقال:
يا ليل أفدي أختك البارحة ... ما كان أذكى ريحها الفائحة
كانت لها خاتمةٌ لو درت ... وجدي بها كانت هي الفاتحة
وقوله:
عشقت وكم من كريمٍ عشق ... وخفت وكم من حسودٍ فرق
لقد سرق اللحظ منك الفؤاد ... خلاساً، وكم مثل قلبي سرق؟
وقال:
يا حبذا الكأس من يديّ قمرٍ ... يخطر في معرض من الشفّق
بدا وعين الدجى محمرَّةٌ ... أجفانها من سلافة الفلق
وقال يصف حب الرمان:
وحبَّات رمانٍ لطافٍ كأنّها ... شوارد ياقوت لطفن عن الثقب
أشبهها في لونها وصفائها ... بقطرات دمعٍ وردّت من دم القلب
وقال يصف الباذنجان:
وباذنجانةٍ حشيت حشاها ... صغار الدرّ باللبن الحليب
تقمصّت البنفسج واستقلت ... من الآس الرطيب على قضيب
ولابن الرومي:
إذا أجاد الذي يشبهه ... وأحكم الوصف فيه بالنعت
قال كرات الأديم قد حشيت ... بسمسم قمعت بكيمخت
وقال في ليلة راكدة الهواء هب فيها نسيم طيب:
بادر الصهباء فالدهر فرص ... ولقد طاب نسيماً وخلص
أهدت الريح إلينا نسماً ... جمَّش الأرواح منَّا وقرص
قكأنَّ الكأس لما جليت ... طرب الجوُّ عليها فرقص
وإذا خصَّ زمانٌ بمنىً ... فزمان الورد باللَّهو أخص
وقال:
وعارض كالبنفسج الغض ... يزهي على صحن سوسنٍ فضّي
سألت عنه فقيل ذا قمرٌ ... درّع ثوب الظلام للعرض
نظرت فيه فصدَّ معتدياً ... وكاد بعضي يصدُّ عن بعضي
وقال يستدعي صديقاً له:
عفا الدهر عنَّا واستقلَّت بنا المنى ... وحثَّ بنا ربعٌ من الأنس عامر
وضَّمت أكفُّ الراح شمل عصابةٍ ... وجوههم للزهرات ضرائر
فإن زرتني شوقاً وإلاّ فإننّي ... إذا جدَّ جدُّ السكر والشوق زائر
وقال في معنى لم يسبق إليه:
ألا يا أيها الملك المعلَّى ... أنلني من عطاياك الجزيله
لعبدك حرمةٌ والذكر فحشٌ ... فلا تحوج إلى ذكر الوسيله
وقال يهجو من الزجر:
انظر إلى أمر عجيب قد حدث ... أبو تميمٍ وهو شيخٌ لا حدث
قد يحبس الأصلع في بيت الحدث وقال في أبي نصر الكاتب النيسابوري:
إني قصدت أبا نصرٍ بمسألةٍ ... يقلُّ وصفي إيَّاها عن الكلم

فظلَّ يرعد خوفاً من مكالمتي ... وكاد يسقط قرناه على القدم
فقلت نفسك إنّي وفد مكرمةٍ ... واذهب فإنك في حلًّ من الكرم
وقال فيه:
حكوا لي عن أبي نصر ... وقد أورد من حقَّق
بأنَّ الشيخ يستدخل أيرين إذا استحلق
فما صدقت حتى قلت للشيخ وقد أطرق
أيحوي الغمد سيفين فقال الشيخ يا أحمق
وما تنكر أن يعمل ملاَّحان في زورق
وقال فيه:
أبو النصر قد أبد ... ع في إبنته بدعنه
حكوا لي أنه يبلع عرض الأير في دفعه
وذا من كاتبٍ شيخٍ ... عميد مثله شنعه
ولولا أنه شيخ ... تركنا عذله فظعه
وخليناه يستدخل خمساً شاء جو سبعه
ومن يحسد طست الشمع يا قوم على الشمعة
غرر من قصائده قال من قصيدة:
يا سقيط الندى على الأقحوان ... شأنك الآن في الصبوح وشاني
أنت أذكرتني دموعي وقد صوَّ ... بن بين العتاب والهجران
إن يكن للخليج فيك أوان ... بتقضّي المنى فهذا أوابي
شجرٌ مدنف وجوٌّ عليلٌ ... وصباحٌ يميل كالنشوان
صاح إنّ الزمان أقصرعمراً ... أن يراع المنى بصرف الزمان
رق عنّي الليل فانهض ... برقيقٍِ من صوب تلك الدنان
قهوةٌ عقَّها النواظر لما ... حسبتها عصارة العقيان
كعصير الخدود في يقق الأو ... جه أو كالدموع في الأجفان
ومن قصيدة في الصاحب يمدحه ويعتذر من خروجه حاجاً من غير إذنه ويعرض بقوم أساءوا المحضر له بجرجان:
قليل لمثلي أن يقال تغيَّرا ... وفارق مخضلاًّ من العيش أخضرا
زمانٌ كعتبي من حبيبٍ نودُّه ... إذا مرّ منه أدهرٌ كنَّ أشهرا
يقولون بغداد الذي اشتقت برهةً ... دساكرها والعبقريَّ المقيَّرا
إذا فضَّ عنه الختم فاح بنفسجاً ... وأشرق مصباحاً ونوَّر عصفرا
ودجلتها الغناء والزوّ نافضاً ... جناحيه يحكي الطائر المتحدّرا
إذا رفع الملاّح جنبيه خلته ... تشقَّق من غيظٍ على الماء معجرا
وقمرة روضٍ حسنها وحديثها ... إذا الليل من بدر الزجاجة أقمرا
إذا رقَّصت حول المثاني بنانها ... ترى كلَّ جزء من فؤادك مزهرا
وليلٍ على النجميّ شطت نجومه ... عن العين حتى قيل لن يتصورا
تغور ويبديها الظلام كأنَّها ... عيون سكارى منتشين من الكرا
عكفنا على صهباء لو مرّت الصبا ... بها لاكتست ثوباً من الحسن أحمرا
ندامى كأنَّ الدهر يعشق شملهم ... فإن عزموا يوماً على البين أنكرا
أذلك خيرٌ أم بساط تنوفةٍ ... نداماك فيها الغول والقهوة السّرى
فقلت أما والله لولا تقاته ... لطال على العذَّال أن أتستَّرا
دعوني ومرو الثعلبية إننّي ... أرض بمرو الثعلبية عنبرا
رعى الله مولانا الوزير ورأيه ... جواداً إلى العلياء لن يتغيَّرا
يمثّل ديناً بين قلبي وناظري ... فلست أرى شيئاً سواه ولا أرى
لقد طويت عن خطبتي صحف الندى ... وقد كنت عنواناً عليها مسطَّرا
تحيَّر عيشي بالعراق وهمتّي ... بجرجان أبدت دهشةً وتحيُّرا
حججت لعمر الله مكَّة معذراً ... وكنت بحجّي ذلك الباب أعذرا
رأى الدهر أنّي ناهضٌ بقوادمي ... فطَّيرني من قبل أن أتخيرا
وأبصر أيامي تفتّح ناظري ... فأعمينني من قثبل أن أتبصرا
رويدك لم أهجر علاك وإنما ... بخلت بنفسي أن تملَّ وتهجرا

وقدت فكنت النار تأكل نفسها ... وسلت فكنت الماء ينصبُّ في الثرا
قدرت على قتلي فاقتصد ... وكنت على قتلي بسيفك وأثمرا
وأقسم لو روَّيت سيفك من دمي ... لأورق بالودّ الصريح وأثمرا
فكم مدبرٍ بالودّ تلقاه مقبلاً ... وكم مقبلٍ تلقاه بالودّ مدبرا
ومن قصيدة كتبها من دهشتان إلى الصاحب وهو على بعض ضياعها يصف تبرمه بها وخراب مستغله بجرجان:
يا ليلةً قصرت فطابت وانقضت ... وأفدت منها ظلمة وضياء
حميت بأنفاسي نجومك فانثنت ... يجذبن من برد الصباح رداء
أيديّ ضعفت عن الأعنة فاقنعي ... بالكأس طرفاً والهوى بيداء
لو لم تخن قدمي مقاصد همتي ... لم أرض إلاّ الفرقدين حذاء
نكبتني الأيام في مستحضرٍ ... قد كان سبق عدوه النكباء
أبقى الحفا منه ثلاث قوائمٍ ... مثل الأثافي ما يرمن فناء
ولطالما ترك الرياح هبوبه ... حسرى تخال أمامهنَّ وراء
هذا وقد أخذت بآفاق المدى ... كفُّ الوزير توزِّع النعماء
وقد استقل سريره بعلائه ... يستعرض الشعراء والندماء
عيدٌ أنو شروان قال لعظمه ... ضحّوا بأكوابٍ وعفّوا الشاء
يتقرَّب الدهقان فيه ببنته ... فيزقُّها في كأسها حمراء
نسج الزمان من الندى لثنائه ... بيد السحاب غلالةً دكناء
واغبرَّ وجه الجوِّ ممَّا رفرفت ... فيه الغيوم فأشبه الغبراء
وسجا أديم الأرض من برد الضحى ... حتى تراه في الإناء إناء
ونعى الشتاء إليَّ بيتي إذ رأى ... أعلاه ليس يكفكف الأنداء
وسوارياً لو دبَّ فوق متونها ... نملٌ هوت من أصلهنَّ هباء
وعليلةٍ بليت بلاي وأصبحت ... غرفاتها عن أهلهنَّ خلاء
أخشى الرياح إذا جرت من حلولها ... أبداً وأحذر فوقها الأنواء
قولا لمن ذمَّ القوافي وادَّعى ... أنَّ القريض يهجِّن الرؤساء
ويقول بغياً عل تصرَّف شاعرٌ ... أو نافس العمّال والضمناء
سائل دهشتان العتود بمن يلي ... أعمالها عن حملي الأعباء
هيهات لا تحقر عيون قصائدي ... إنّي خدمت ببعضها الوزراء
ويها وصلت إلى ابن عبَّاد العلا ... وخدمت تلك الحضرة الغراء
ومتى لثمت يديه أو أنشدته ... لم أقتنع بالمشرقين حباء
فراقت بطحاء المكارم عنده ... ونزلت أرضاً بعده شنعاء
مغنى اللصوص ومنبع الشرِّ الذي ... أفنى الرجال وجشَّم الأمراء
قوم إذا شبقوا أتوا أنعامهم ... أو أعدموا باعوا البنات إماء
مثل الثعالب ينبعثن فإن عوى ... ذئب دخلن الأيكة العوصاء
كانوا ذوي ثقتي فصرت كأنَّني ... عين تقلَّب منهم الأقذاء
وولايتي عزل إذا لم أعتنق ... باب الوزير وتلكم الآلاء
ومن أخرى يصف ضيق ذات يده، وخراب حجرته، وكثرة عياله، ويهنىء الصاحب ببنائه الجديد بجرجان:
أهش لأنواء الربيع إذا انبرت ... وأكره أبواء الربيع وأنكر
تظلُّ جفوني كلّما مرَّ بارق ... تطول إلى خيط السماء وتقصر
حذاراً على خاوي الجوانب مائلٍ ... يكاد بأنفاسي عليه يقطّر
لدى عرصاتٍ أصبحت غرفاتها ... مناخل أمطارٍ تروح وتبكر
أساطين حكتها السنون كأنّها ... قيام تثنَّت للركوع تكبِّر
رثى لي أعدائي بها وتطيَّرت ... برؤيتها العين التي لا تطير
يقولون هلاَّ تستجدَّ مرمةً ... وحالي منها بالمرمة أجدر

إذا كشفت الأيام وجه تجمُّلي ... وأظهرت الحال التي أنا مضمر
فكلُّ مكانٍ للتبذُّل موقفٌ ... وكلُّ لباسٍ للتَّهتُّك مئزر
ثمانيةٌ يرجون صوب قصائدي ... على أنه من صوب طبعي أنزر
يمدُّون أعناق النعام إلى يدي ... وتفتح أفواه السباع وتفغر
إذا رحت عن دار الوزير تبسَّطت ... أناملهم نحو الندى تتشمَّر
يرون خطيباً ملء بردي ومطرفي ... يحدِّث عن آلائه ويخبِّر
بنيت إلى دنياك دنياً جديدةً ... هي الجنَّة العليا وأنت المعمِّر
معارج مجدٍ واحدٍ فوق واحدٍ ... تعثَّر فيها فكرتي وتحيَّر
طرائح عزٍّ لبنةٌ فوق لبنةٍ ... تربّع في صحن العلا وتدور
بنيت لعمري سؤدداً لا بنيّةً ... وهل سؤددٌ إلا بربعك يعمر
ومن أخرى:
تثنَّى إلى برد النسيم المرفرف ... يبثُّ جوىً من قلبه المتشوِّف
تنسَّم أنفاس الضحى بحشاشةٍ ... توقّد من حرِّ الغرام وتنطفي
تجافيت إلا عن محاسن قهوةٍ ... أجرُّ إليها شملة المتظرِّف
دعوا رمقي يستنصر الراح إنها ... سلالة مجدٍ في غلالة مدنف
ومن أخرى:
زرًّ الصباح علينا شملة السحب ... ومدّت الريح منها واهي الطنب
صكَّ النسيم فراخ فانزعجت ... ينفضن أجنحةً من عنبر الزغب
لو لم يقل هذا البيت لكان أشعر الناس!
تسعى الجنوب بطرفٍ حولها ثملٍ ... من الندى وفؤادٍ نحوها طرب
ومنها:
كفى العواذل أنِّي لا أرى قدحاً ... إلاَّ شققت عليه جلدة الطرب
إن قيل تاب يقول الغيُّ لم يتب ... أو قيل شاب يقول اللهو لم شب
ومن أخرى:
لو ثار ما اقتدحته النفس من هممي ... لصكَّ ناصية الجوزاء ملتهبا
لو أن ساعدي اليمنى تساعدني ... على سوى الجود صغت الأرض لي ذهبا
يا مسرجاً صهوات الريح منتجعاً ... قرِّب خطاك فإن الجود قد قربا
لا تركب البحر إلا بحر مكرمةٍ ... يسقي الفرات ولا يودي بمن ركبا
سكنَّت روعة حالي بعدما أدرّعت ... من اعتراض عوادي فقرها رعبا
فصرت منك أقوِّي بالغنى سبباً ... وأدّعى لمحلّي في العلا سببا
ومن أخرى في فخر الدولة:
سرير بأحداق النجوم مسمَّر ... وملك بأعراف السحاب معمَّم
تقود صروف الدهر في عرصاته ... جياداً بسلطان السياسة تلجم
يزمُّ بفخر الدولة الدهر مذعناً ... ويملك أعناق الخطوب ويخزم
مكارمه في جبهة الدهر غرَّةٌ ... وسؤدده في غرَّة الدهر ميسم
ومن أخرى:
الصبح يرمق عن جفون مخمّرٍ ... والليل يرفع من ذيول مشمِّر
والجوُّ في حجب النسيم كأنّما ... تسعى إليه يد الشمال بمجمر
ريحٌ تمايل بين أنفاس الضحى ... بممسَّك من ثوبها ومعنبر
ملك تهيّبه النجوم إذا بدا ... وتحار بين مهللٍ ومكبِّر
يكفي القوافي أنها بعنايتي ... تختال بين سريره والمنبر
لو أنها شعرت بعظم مقامها ... لم تقتنع بعمومة في بحتر
ما زال يأمل أن يعود إلى المنى ... شعري بتشريفٍ عليه مزرَّر
فبعثت منه جوهرياتٍ أبت ... أن لا تكون ضرائراً للجوهر
ومن أخرى في أبي العباس الضبي بأصبهان:
إني ملكت عنان الرأي من زمنٍ ... إذا سعيت لمجدٍ كان لي قدما
إنّي أهين جمان الدمع منتثراً ... إذا رأيت جمان العزِّ منتظما
أفدي بوجه هرند زندروز وإن ... شربت ماء حياتي عندها شبما
تركت فيه على الجسرين دسكرةً ... يشدو بذكرى فيشجي طيرها نغما
محلّة ما طرقت الدهر جانبها ... إلا عزمت على دهري كما عزما

أنّي أحجُّ بطاح اللهو آونة ... إذا رأيت محلّي عندها حرما
لم تثنني لمع للشيب في لممي ... عن أن ألمَّ بأطراف المنى لمما
وإنما قدم التوفيق تحملني ... إلى فتى ملء حيزوم العلا همما
ومن أخرى:
إذا ما أدلَّ السابقون فإننَّي ... أدلُّ الخدمة المتقادم
وربَّ مصلِّ سابقٍ بوفائه ... وكم قاعدٍ في نصحه ألف قائم
سأخدمه عمري ويخدم بابه ... إذا متُّ عني خادمٌ بعد خادم
ومن أخرى:
قد كان أمسك وحي الشعر مذ قطعت ... يد الحوادث عن نعمائه علقي
فما نظمت لمعنى عقد قافيةٍ ... إلا نثرت له عقداً من العرق
وهذه لليال قد سهرت لها ... أروى معالي مولانا على نسق
وقلت حين رأيت الطبع ينسجها ... نسج الربيع حواشي روضه العبق
عسى خطرت ببالٍ فاتسقت ... له فرائد نظمي كلَّ متسق
ومن أخرى في يوم ميلاده وتحويل سنه:
يوم تبرجت العلا ... فيه ومزِّقت الحجب
يوم أتاه المشتري ... بشهاب سعدٍ ملتهب
بسلالة المجد الفصيح ... وصفوة المجد الزرب
ملكٌ إذا ادّرع العلا ... فالدهر مسلوب السلب
وإذا تنمر في الخطو ... ب فيا لنارٍ في حطب
وإذا تبسّم للندى ... مطرت سحائبه الذهب
يا غرة الحسب الكريم ... وأين مثلك في الحسب
هذا صباحٌ حلِّيت ... بسعوده عطل الحقب
ميلادك الميمون فيه ... وهو ميلاد الأدب
عرِّج عليه بمجلسٍ ... ريَّان من ماء العنب
واضرب عليه سرادقاً ... للأنس ممتدِّ الطنب
فرِّخ وعشِّش في المسرّ ... ة منه وأستأنس وطب
ومن أخرى:
بشعلة الرأي تذكي الباس ... ولذة المجد تنسي لذّة الكاس
ما كلُّ ما احمرَّ للعينين منظره ... وردٌ، ولا كلّ ما يخضرُّ بالآس
ليت الجهول بطرق المجد يتركه ... ما كلُّ غصنٍ له ماءٌ بمياس
لا تنفع المرء في الهيجاء شكتّه ... حتى يشدَّ إليها شكَّة الباس
كل يشنَّج عند السيف جبهته ... ولا هوادة عند السيف للراس
الحق أبلج بادٍ لا خفاء به ... والملك أشوس لا يعنو لأنكاس
وليس كلُّ ابتسامٍ من أخي كرم ... بشراً، ولا كلُّ تقريبٍ بإيناس
ومن أخرى في الأستاذ أبي الحسن بن علي بن القاسم العارض يستدعي منه الشراب:
الدهر مخبره مسكٌ ومنظره ... والروض مطرفه وردٌ ومعجزه
والجوُّ يفتح جفناً في محاسنه ... من الندى وأديم الغيث محجره
يسعى الشمال بندٍّ في جوانبه ... من النسيم وحرُّ الشمس مجمره
طاب الصبوح وكأسي جدُّ فارغة ... كأنّها خاتم قد غاب خنصره
أشتاقه ونسيم الورد يعذلني ... أن لست اسكر مهتزاً فأسكره
ومن أخرى في الحسن الحسنى:
لا عتب إن بذلت عيني بما أجد ... فقد بكى لي عوَّادي لما عهدوا
لو أن لي جسداً يقوى لطفت به ... على العزاء ولكن ليس لي جسد
تبعتهم بذماءٍ كان يمسكه ... تعلُّلي بخيالٍ كلَّما بعدوا
يا ليلةً غمضت عنّي كواكبها ... ترفَّقي بجفونٍ غمضها رمد
أهوى الصباح وما لي فيه منتصفٌ ... من الظلام ولكن طالما أجد
لو أن لي أمداً في الشوق أبلغه ... صبرت عنك، ولكن ليس لي أمد
بكيت بعد دموعي في الهوى جلدي ... وهل سمعت بباكٍ دمعه جلد
تذوب نار فؤادي في الهوى جلدي ... وهل سمعت بنار ذوبها برد
قالوا: ألفت رباجي، فقلت لهم: ... الحب أهل، وإدراك المنى ولد
أندى محاسن جي أنه بلد ... طلق النهار، ولكن ليله نكد

إذا استحب بلاد للمعاش بهافحيثما نعمت حالي به بلد
وللمكارم قومٌ لا خفاء بهم ... هم يعرفون بسيماهم إذا شهدوا
للَّه معشر صدق كلّما تليت ... على الورى سورة من مجدهم سجدوا
ذرية أبهرت طه بجدهم ... وهل أتى بأبيهم حين ينتقد
وإن تصنّع شعرٌ في ذوي كرمٍ ... يا ابن النبي فشعري فيك مقتصد
أصبت فيك رشادي غير مجتهدٍ ... وليس كل مصيبٍ فيك مجتهد
بسطت عرض فناء الدهر مكرمة ... طرائق الحمد في خافاتها قدد
ومن أخرى يصف فيها سقامه وكربه ويشكو تأخر إخوانه عن عيادته ويخاطب بها أبا الفتح محمد بن صالح ليعرضها في مجلس الصاحب:
قلت لمّا تأخّر العوّاد ... أيُّ سقمٍ عليله لا يعاد
ما لكم إخوة الرجاء وما لي ... كلّ أيامكم نوىً وبعاد
قد صددتم عنّي صدود التعالي ... لسقامي كأنّ سقمي وداد
إن تجنبتم العدوى فلم لم ... أعدكم بالهوى وسقمي سهاد
ملّني مضجعي وعاف نديمي ... مجلسي واجتوى جفوني الرقاد
طرَّز السقم ما كسانيه بالعزِّ فهذا حتفٌ وهذا حداد
لي وشاحٌ من الضَّنا ونجادٌ ... ووسادٌ من الأسى ومهاد
قلمي يتقي بناني، وسيفي ... وعناني، ويتقيني الجواد
وتناست يدي مناولة الكأ ... س وسمعي ما ينفر العوّاد
لو سوى العزِّ نالني مرَّضتني ... خدمةٌ دونها الشباب المفاد
قد لواني عن جنة العزِّ سقمي ... ويح نفسي كأن سقمي ارتداد
روضةٌ نورها العلا وغديرٌ ... كلُّ أكنافه ندىً معتاد
باعد العرُّ بين عيشي وبيني ... فبياض الزمان عندي سواد
يا أبا الفتح قد تفرّدت عني ... بمنىً لا تخصها الأعداد
بلِّغ المجلس الرفيع سلامي ... واشتياقي وقل سقاك العهاد
واجتهد أن تقبّل الأرض عني ... حيث لا يستطيعه القوّاد
حيث يبدو الوزير في معرض ... الفضل ويهتزُّ غصنه المياد
وتغنّم خير التبسُّم فيه ... إنّ بشر السلطان غنمٌ مفاد
ثم قل إنّ حال خادم مولا ... نا لحالٌ يملُّها العوَّاد
سقمٌ مجحفٌ وعرٌّ كريه ... واختصاصٌ بكربةٍ وانفراد
كلُّ عضوً منّي له حسرات ... واشتياق كأنَّ كلَّي فؤاد
ومن أخرى:
قولا لعاذلتي جمحت فلم أزد ... إلا لجاجاً في الهوى وجماجا
جنح الظلام فبادري بمدامةٍ ... بسطت إليك من العقيق جناحا
صهباء لو طافت بها قمريةٌ ... أذكت عليها ريشها مصباحا
رعت الزمان ربيعه وخريفه ... فأتت تبثُّ الورد والتفاحا

أبو معمر الإسماعيلي
أبو معمر بن أبي سعيد بن أبي بكر الإسماعيلي
جمع الشرف النفس إلى شرف الطبع، وكرم الأدب إلى كرم النسب واستولى على أمد الفقه في اقتبال العمر، وحسن تصرفه في الشعر، حتى كتب الصاحب في وصف قصيدة نفذت منه فصلاً من كتاب طويل إلى أبيه أبي سعيد، وهذه نسخة الفصل.

وبعد فهل أتاك حديث الإعجاب منا، وقد طلعت من أرضك فقرة الفقر، وغرة الغرر، وحديقة الزهر، وخليفة المطر، تلك حسنة انتشرت عن ضوئك، وغمامة نشأت بنوئك. ونار قدحت بزندك. وصفيحة فضل طبعت على نقدك، وإنها لقصيدة ولدنا أبي معمر، عمره الله تعالى ما اختار، وعمر به الرباع والديار. خطت بأقدام الإجادة، وقطعت مسافة الإصابة، وسعت إلى كعبة القبول، وحلت حرم الأمن خير الحلول. تلبي وقد تعرت من لباس التعمل، وتجردت عن عطاف التبذل. فلم تدع منسكاً من البر إلا قضته، ولا مشعراً من الفضل إلا عمرته. ولا معرفا من العلم إلى شهدته، ولا محصباً من الفهم إلا حضرته، واجتمعنا حولها وإنا لأعداد جمة، وفينا واحد يقال إنه أمه، كأنا عديد الموسم يعظمون الشعائر. ويعلقون الستائر. ويحتضنون الملتزم، ويلثمون المستلم. وهذا الكتاب يرد عليكم بالخبر أسرع من اللمح البارق، نعم ومن اللمع الخاطف، وأخف من سابق الحجيج وإن كان المثل الأعلى لبيت الله العتيق. فأحمد الله إذ قرن فضل فتاك بفضلك، وجعل فرعك كأصلك، وأنبت غصنك على شجرك، واشتق هلالك من قمرك، وأراك من ظهرك، ومن يحذو على نجرك، ويصل فخره بفخرك، ويشيد من بناء الدراية ما أسست، ويسقي من شجر الرواية ما غرست.
قال مؤلف الكتاب: فمن غرر شعر أبي معمر قوله من قصيدة الصاحب:
ما عهدت القضيب بالحقف ولا البدر للتَّمام استسرا
حبذا الطارق الذي زار وهناً ... فأعاد الظلام إذ زار فجرا
ثمل العطف وهو ما نال خمراً ... عطر الحبيب وهو ما مسَّ عطرا
والحياء الملمَّ بالخدِّ منه ... صيرفيٌّ يبدّل العين أخرى
ضمنَّي ضمَّة الوداع فعاد الشفع منا عند التعانق وترا
وسقاني بفيه خمراً بروداً ... عاد بعد الفراق في القلب جمرا
ملكٌ طوعه الملوك علاءٌ ... وهو طوع العفاة جاهاً وقدرا
ملك أنهب العروض فأضحى العرض منه على البرية حظرا
ملكٌ لا يرى سوى الحمد مالاً ... لا ولا الكنز غير ما جرَّ شكرا
فإذا المحل حلَّ حلَّ غماماً ... وإذا النقع ثار ثار هزبرا
وإذا ما أفاد نحَّل كعباً ... وإذا ما أفات نهنه عمرا
وإذا ما سطا تطاول جهراً ... وإذا ما حبا تطوَّل سرّاً
وقوله من قصيدة في وصف الثلج:
لك الخير من سارٍ معانٍ على السُّرى ... نصبنا قرى الأرض الفضاء له قرى
أجاز الدجى حتى أناخ إلى الضُّحى ... قلائصه غرُّ الشواكل والذرى
فرحنا وقد بات السماء مع الثرى ... وغاب أديم الأرض عنَّا فما يرى
كأنَّ غيوم الجوِّ صوَّاغ فضَّةٍ ... تواصوا برد الحلي عمداً إلى الورى
وللقطر نفحات تصوب خلالها ... كصوب دلاء البئر أسلمها العرى
لقد عم إحسان الشتاء وبرده ... بلى خصَّ أرباب الدساكر والقرى
وقوله من الرجز:
وليلةٍ من الليالي القاسية ... مدَّت ظلاماً كالجبال الراسيه
فغادرت كلّ الورى سواسيه ... البيض دهماً والعراة كاسيه
لبستها والصبر من لباسيه ... بهمّةٍ على الأسى مواسيه
ونبعة صليبة لا جاسيه ... حتى شممت الصبح في أنفاسيه
فالصبر صبر النفس لا عن ناسيه
وكتب إليه بعض العصريين من أهل نيسابور:
يا فريداً في المجد غير مشارك ... عزَّ باريك في الورى وتبارك
يا أبا معمر عمرت ولا زا ... لت سعود الأفلاك تعمر دارك
يا هلال الأنام قد كتب الأيام في دفتر العلا آثارك
ولسان الزمان يدرس في كلِّ مكانٍ على الورى أخبارك
سيدي أنت من يشقُّ غبارك ... بأبي أنت من يروم فخارك
أنت من فيه خالق الخلق بارك ... وحباك العلا وزكَّى نجارك
ما ترى في مناسبٍ في الآ ... داب قد صار دأبه تذكارك
شوَّقته إليك أوصافك الغرُّ فجاب البلاد حتى زارك
هل تراه لديك أهلاً لأن تمنحه يا أخا العلا إيثارك

فهو ضيفٌ قراه أنفس علقٍ ... فاقره الودَّ واسقه أشعارك
وتملّ الزمان في ظلِّ عيشٍ ... مثمرٍ لا يملُّ قطُّ جوارك
فأجابه بهذه الأبيات:
زارك الغيث وانتحى القطر دارك ... كلَّما التفَّ صوبه وتدارك
فلها من نداك ديمة فضلٍ ... طبقتها فأظهرت آثارك
ولها من علاك شمسٌ حوتها ... فهي تجلو على الورى أنوارك
وبها منك للعلوم بحارٌ ... جاورتها فمن يخوض بحارك
يا قريباً في البرّ ما يتجافى ... وبعيداً إلى مدى لا يشارك
وبديعاً ملء الصفات فلو رمت فخاراً لما حصرت فخارك
جاءنا نظمك البديع فقلنا الروض إمَّا أعرته أو أعارك
هو روض أطاعك الحسن فيه ... فأطاع الإحسان فيه اختيارك
وسطا بالبياض خطُّك حتى مدَّ ليلاً وما خلعت نهارك
وتناهيت في الخطابة حتى ... عجز القرن أن يشقَّ غبارك
راعه شأوك البعيد ومن يجري ويجري إذا رأى مضمارك
فانثنى جامد القريحة يستشعر أنّ الأشعار باتت شعارك
يا كريماً ضمَّت عليه المعالي ... فادَّرعها واشدد بها آزارك
قد أتاك الثناء وهو أبيٌّ ... ذاك ممّا منحته إيثارك
فاصحب الفخر وامض في الخير قدماً ... واقض في طاعة الندى أوطارك

القاضي الجرجاني
القاضي أبو بشر الفضل بن محمد الجرجاني
صدر كثير الفضل. جم المناقب، جزل الأدب، فصيح القلم، حريص على اقتناء الكتب. وله يقول الصاحب وقد اعتل:
تشكّي الفضل من سقمٍ عراه ... فإن الفضل أجمع من أنينه
وعاد بعقوتي يشكو جواه ... كما يحنو القرين على قرينه
فقلت له وقاك الله فيه ... فإن السعد يطلع من جبينه
هوالعين التي أبصرت منها ... وصار سواد عيني في جفونه
ستفديه يميني لا شمالي ... فعين المرء خيرٌ من يمينه
وكان ولاه جرجان: فلما انقضت أيام الصاحب وعاد الأمير شمس المعالي من خراسان إلى مملكته ولاه قضاء قضاته مضافاً إلى رياسة جرجان، وله شعر ينطق به لسان فضله، كقوله من قصيدة في الأمير شمس المعالي من الخيفيف:
سنة أقبلت مع الإقبال ... وزمانٌ من الميامن حالي
رفرفت فوقنا سحائب نعمى ... مطرتنا السرور في كلِّ حال
حسبي الله في الأمور نصيراً ... ثم حسبي الأمير شمس المعالي
قد رآه خليفة الله في الأر ... ض فريداً فقال للاقبال
ما رأينا له مثالاً وهذا ... لقبٌ مثله فقيد المثال
عانق اللفظ وفق معناه فانظر ... كيف أنس الأشكال بالأشكال
ولدا توأمين كالجسم والرو ... ح بعيدين من سماء المنال
ومعالٍ مشتقَّة من معانٍ ... ومعانٍ مشتقَّةٍ من معالي
لم ينل من جداه مثل الذي نلت ولا قيل في علاه مقالي
ويشيع الذي يشيد من المج ... د وقولي يسير كالأمثال
لي من شبيه ضياعي وأفرا ... سي ودوري وأعبدي وبغالي
حرس الله ملكه ووقاه ... في بقاءٍ يطيب بالإمهال
سايس الملك سالم النفس طلق العيش مستوفياً شروط الكمال
ابوالقاسم العلوي الأطروش
من نازلي إستراباذ، وأفاضل العلوية، وأعيان أهل الأدب، كتب إلى القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز رقعة تشمل على النظم والنثر، نسختها:

الشيخ أدام الله عزه من مودته ما لا أزال أحرص عليه، وأفادني حظاً كثرت المنافسة مني فيه، إذ هو الأوحد الذي لا يجاري إلى غاية طول وكرم طبع. وإن من اعتلق منه سببا واستفاد منه وداً، فقد أحرز الغنيمة الباردة، وفاز بالخير والسعادة، ورجوت أن تكون الحال بيننا زائدة، إذ محله عندي المحل الذي لا يتقدمه فيه أحد، وشغل قلبي بانقباضه عنّي مع الثقة الوكيدة بأني مغمور المحل عنده، موفور الحظ من رأيه وعنايته، لا أعدمني الله النعمة ببقائه ودوام سلامته، وأنهضني بالحق في شكره، وما هو إلا قصر النفس على تطلب محمدته والسعي بها إلى مرضاته. وقد كتبت في هذه الرقعة أبياتاً، مع قلة بضاعتي في الشعر، وكثرة معرفتي بأن من أهجي إليه الشعر الجيد المطمع الممتنع، المصبوب في قالبه، فكمن حمل التمر إلى هجر، والقضب إلى اليمن، وهي هذه:
يا وافر العلم والإنعام والمنن ... ووافر العرض غير الشحم والسمن
لقد تذكرت شعر الموصليَّ لما ... سمعت من لفظك العاري عن الدرن
يا سرحة الماء قد سدَّت موارده ... أما إليك طريقٌ يا أبا الحسن
إني رأيتك أعلى الناس منزلةً ... في العلم والشعر والآراء والفطن
فاسمع شكاة ودودٍ ذي محافظةٍ ... يعفي المودة عن السرِّ والعلن
لقد نمتك ثقيفٌ يا عليُّ إلى ... مجد سيبقى على الأيام والزمن
مجدٌ لو أنَّ رسول الله شاهده ... لقال إيهٍ أبا إسحاق للفتن
صلى الإله على المختار من رجلٍ ... ما ناحت الورق فوق الأيك والفنن
فإن وقع فيها خطل أو زلل فعلى الشيخ اعتماد في إقالة العثرة وصرف الأمر إلى الجميل الذي يوازي فضله ويشاكل نبله. لأني كنت من قبل أهدي البيت والبيتين إلى الإخوان، وبعد العهد به الآن. فإن رأى - اراه الله محابه! - أن يتأمل ما خاطبته به فعل إن شاء الله.
وأنشدت له في بعض رؤساء جرجان:
خليليَّ فرَّا من الدهخذا ... خذا خذراً من وداده خذا
يكنّى بسعدٍ، ونحساً حذا ... وكلُّ الخلائق منه كذا

ابو نصر عبد الله بن البجلي الإستراباذي
أنشدني أبو نصر محمد بن عبد الجبار العتبي قال: وجد بخط البجلي هذه الأبيات من قصيدة في الأمير شمس المعالي:
لله شمسان تذكيرٌ لخيرهما ... وللمؤنَّثة النقصان ملتزم
أزرى بتلك سناً من غير معرفةٍ ... فيها، وزين هذا المجد والكرم
يا أيُّها الملك الميمون طائره ... وخير من في الورى يمشي به قدم
لو كنت من قبل ترعانا وتحرسنا ... لما تهدّى إلينا الشيب والهرم
وأنشدني له غيره:
دمعي يفيض ولا يغيض كأنّما ... من ماء ذاك الوجه جاد بمدِّه
وأرى فؤادي فوق جمرٍ محرقٍ ... فكأنّه من فوق حمرة خدِّه
وجهٌ أعار الصبح من مبيضِّه ... شعرٌ أعار الليل من مسودِّه
وكأنّ وجنته اكتست من وصله ... وكأنما الصَّدغ اكتسى من صدِّه
فصل في ذكر شعراء طبرستان
أبو العلاء السبروي
واحد طبرستان أدباً وفضلاً، ونظماً ونثراً، وقد تقدم ذكره فيما جمعه وابن العميد من مشاكلة الأدب، وما كان يجري بينهما من المساجلة في المكاتبة، وله كتب وشعر سائر مشهور كثير الظرف والملح، فمنها قوله:
مررنا على الروض الذي قد تبسَّمت ... ذراه وأوداج الأبارق تسفك
فلم نر شيئاً كان أحسن منظرا ... من الروض يجري دمعه وهو يضحك
وقوله من قصيدة:
أما ترى قضب الأشجار قد لبست ... أنوارها تتثنَّى بين جلاَّس
منظومةٌ كسموط الدرِّ لابسةٌ ... حسناً يبيح دم العنقود للحاسي
وغرّدت خطباء الطير ساجعةً ... على منابر من وردٍ ومن آس
وقوله في النرجس:
حيّ الربيع فقد حيّاً بباكور ... من نرجسٍ ببهاء الحسن مذكور
كأنّما جفنه بالغنج منفتحاً ... كأسٌ من التبر في منديل كافور
وقوله في التفاح:

وتفاحةٍ قد همت وجداً بظرفها ... فما شعر ذي حذقٍ يحيط بوصفها
أشبِّه بالمعشوق حمرة نصفها ... وبالعاشق المهجور صفرة نصفها
وقوله في الغزل:
ومعشَّق الحركات تحسب نصفه ... لولا التمنطق بائناً من نصفه
يسعى إليك بكأسه فكأنّما ... يسعى إليك بخدّه في كفه
يا من يسلَّم خصره من ردفه ... سلَّم فؤاد محبِّه من طرفه
ومن قصيدة من الرجز:
ذو طرَّة كأنّما ركّب في ... صفيحة الفضة شباك سبج
وعارضٍ كالماء في رقته ... تزهر فيه وجنةٌ ذات وهج
كأنّما نساج ديباجته ... من ورق النسرين والورد نسج
وقال:
نبا قلبه من شغل قلبي بغيره ... فقلت: رويداً إنّما أنت أوَّل
فقال: دع العذر الضعيف فليس من ... يولَّى على أمرٍ كمن عنه يعزل
وقوله من قصيدة:
حيِّ شيبا أتى لغير رحيل ... وشباباً مضى لغير إياب
أيَّ شيء يكون أحسن من عا ... ج مشيبٍ في آبنوس شباب
وكتب إليه شاعر غريب يشكو إليه حجابه أبياتاً أولها:
جئت إلى الباب مراراً فما ... إن زرت إلاّ قيل لي قد ركب
وكان في الواجب يا سيدي ... أن لا ترى عن مثلنا تحتجب
فأجابه على ظهر رقعته:
ليس احتجابي عنك من جفوةٍ ... وغفلةٍ عن حرمة المغترب
لكن لدهرٍ نكدٍ خائنٍ ... مقصّرٍ بالحرِّ عمَّا يجب
وكنت لا أحجب عن زائرٍ ... فالآن من ظلِّي قد أحتجب
ومن سائر شعره قوله في غلام سكران:
بالورد في وجنتيك من لطمك؟ ... ومن سقاك المدام لم ظلمك؟
خلاَّك ما تستفيق من سكرٍ ... توسع شتماً وجفوةً خدمك
مشوّش الصدغ قد ثملت فماً ... تمنع من لثم عاشقيك فمك
تجرُّ فضل الرداء منخلع النع ... لين قد لوَّث الثرى قدمك
أظلُّ من حيرةٍ ومن دهشٍ ... أقول لما رأيت مبتسمك
بالله يا أقحوان مبسمه ... على قضيب العقيق من نظمك

أبو الفياض سعد بن أحمد الطبري
شاعر مفلّق، محسن مبدع، ممتد الأوضاح والغرر في شعر الصاحب، وهو القاتل من قصيدته فيه، أولها:
الدمع يعرب ما لا يعرب الكلم ... والدمع عدلٌ وبعض القوم متَّهم
أمَّا يد الصاحب اليمنى فأكرم ما ... يدٌ تصاحب فيها السيف والقلم
وللأعنة يسري في أناملها ... أعنّة الرزق والآجال تنتظم
تخالف الناس إلاّ في محبته ... كأنّما بينهم في حبَّه رحم
ومنها في وصف أفراس قيدت إليه من فارس:
زارتك من فارس الغنَّاء ناشرةً ... أعرافها قائداها العتق والكرم
كأنَّ أعينها ولَّين أرجلها ... فالعين آمرةٌ والرجل ترتسم
من كلِّ أشهب لم تكحل بشهبته ... عينا فتىً فدرى ما الظُّلم والظُّلم
ومن أغرَّ يراع العاشقون له ... كأنَّ غرَّته ثغرٌ ومبتسم
وكلِّ أدهم عمَّت جسمه شيةٌ ... كجدِّ قوم بغوك الشرّ فاصطلموا
ومنها في وصف الخلعة والسيف:
وخلعةٍ تأسر الأحداق مخملةٍ ... بالنور للشمس من لألائها سقم
وصارمٍ لم يودِّع قطُّ مضجعه ... إلاّ وقد ودّعت أعناقها القمم
كالكوكب الفرد لكن إن رجمت به ... شيطان حربٍ طوت أوصاله الرّجم
يلقى السيوف بوجهٍ مثل وجهك لم ... يطلع من الغمد إلاّ قيل يبتسم
ومنها قوله في وصف السكين والدواة والأقلام:
ومطفلٍ من بنات الزنج مرضعةٍ ... من لم تلده ولم يخلق لها رحم
حتى إذا وضعت عادت أجنتها ... إلى حشاها فلا طلقٌ ولا وحم
أعجب لأطفالها تبكي عيونهم ... إن أرضعتهم ولا يبكون إن فطموا

ألاّف مذروبة إن تابعت لهم ... في الذبح صحوا وإن أعفتهم سقموا
ومنها في وصف الدست
وروضة لم تولّ السحب صنعتها ... ولم تحطّ بها أثقالها الدّيم
ترنو العيون إليها والشفاه فيجنين ... العلا وهي إلاّ منهما حرم
تفترّ عن شبل عّباد ولا عجبّ ... فالأسد تفترّ عنها الروض والأجم
ومن أخرى:
بدوية ضربت على حجراتها ... أيدي العريب من القنا أسداداً
ممّن يعد الوحش أهلاً والفلا ... وطناً وأكباد الأعادي زادا
قالت وقد صّبت عليّ ذراعها ... فتمكّنت فوق النجاد نجادا
أوهي قناتك بعدنا حمل القنا ... فطفقت تحمل منآدا
يا هذه منن الوزير جفونه ... وإذا شكوت إليه عاد فزادا
صابت عليّ يمينه فكأنّما ... صابت عليّ يمينه حسّادا
فالعزّ ضيف لا يراه بربعه ... من لا يرى بذل التلاد تلادا
والجود أعلى كعب وكعب قبلنا ... فمضى جواداً يوم مات جوادا
أغرت يمين ابن الأمين وفيضها ... بفنائه الورّاد والروادا
ودعت بني الآمال من أوطانهم ... فاستوطنوا الأكوار والأقتادا
ومن قصيدة في أبي علي الحسن بن أحمد:
لأخت بني نمير في فؤادي ... صدىً أعيا على الماء النمير
ليالي كان عصيان المشير ... ألذّ لديّ من رأي مشور
وينظمنا العناق ولا رقيب ... يروّعنا سوى القمر المنير
وغشّتني بمثل الكرم وحف ... وبت أعلّ من أشهى الخمور
ولا كرم سوى شعر أثيث ... ولا خمر سوى خمر الثغور
أروضتنا سقاك الله هل لي ... إلى أفياء دوحك من مصير
غنينا في ذراك على غناء ... يوافق رجعه سج الطيور
وكم في فرع أثلك من صفير ... وكم في أصل أثلك من زفير
وأحشاء تؤلّفها الحشايا ... كتأليف العقود على النحور
وشدو ترقص الأعضاء منه ... ويمّ لا يملّ عراك زير
فيا لك روضة راحت فراحت ... رضى الأبصار من نور و نور
أطاعتها عيون الغيث حتى ... جزتها الشكر ألسنة الشكور
كسون ظهورها ما تكتسيه ... بطون الصحف من فكر الوزير
إذا الحسن بن أحمد زفّ خيلاً ... يلفّ بها السهول على الوعور
عرائس تحمل الفرسان شوساً ... كعقبان تمطّى بالصقور
فقل في حومة تعطى بنيها ... ببيض الهند بيضات الخدور
أولئك معشر لهم نفوس ... تكلّفهم جسيمات الأمور
شعاب المجد سابلة عليهم ... ومن ينهى الشعاب عن البحور
ومن أخرى:
لله ما جمعت على عشّاقها ... تلك العيون ولحظها السّحار
فصفاحها أحداقها ورماحها ... ألحاظها وطعانها الآثار
وحرابها في حربها لمحبّها ... أهدابها وشفارها الأشفار
سارت أمامة فيك سيرة أهلها ... في كلّ من نمّت عليه نار
قوم إذا ابتسم الصباح أغاروا ... في كلّ حّي أنجدوا أم غاروا
يا هذه هلاّ علقت فعالهم ... فيمن عنوا بجواره فأجاروا
لن يستجيب خمارها لمحّبها ... حتى يخاض إلى الخمار غمار
بكرت يشيعها القنا الخطّار ... وتعيث في طلابها الأخطار
قالوا سيوجدك الربيع صفاتها ... فلحسنه من حسنها تذكار
فوجدت حّبي مكرهاً في فعله ... وكلاهما في فعله مكّار
يبكي ويضحك والدموع غزيرة ... ويبين في استغرابه استعبار
فكأنّه هي إذ تفيض دموعها ... بين البكاء والضحك حين تغار

عبقت بما علقته من أنفاسها ... ساعاته فكأنّها أسحار
وتبلّجت آصاله وتبرجت ... فكأنّما أبكاره الأبكار
أنظر إلى النيروز كيف تسوقه ... سحب كأجفان المحبّ غزار
سحب متى سحبت على هام الرّبى ... أذيالها فغبارها الأمطار
فالأرض أرض والسماء كأنّها ... روض ولكن زهرها الأزهار
ومصرعّين من الخمار وما بهم ... غير السرور على السرور خمار
جمحوا على الفلك المدار فكأسهم ... فلك بما تهوي النفوس مدار
ولأهم الأستاذ مولانا المنى ... فترشفوا من عيشهم ما اختاروا
يا دولة الحسن بن أحمد خّيمي ... ما طارد الليل البهيم نهار
ومنها في وصف القلم:
لما زممت الدهر عن أفعاله ... فله بأثناء الزّمام عثار
حمّلت عب الدهر أظمى مخطفاً ... تعنو له الأسماع والأبصار
وسيرت غور الدين والدينا به ... فكأنه من ضمر مسبار
أعجب به يجري على يافوخه ... رهواً وتجري تحته الأقدار
فكأنّه الفلك المدار بعينه ... وسعوده ونحوسه أطوار
جمعته والرمح الأصمّ ولادة ... وله من السيف الصقيل غرار
وله من أخرى في أبي العباس الضبي:
وإنّي وأفواف القريض أحوكها ... لأشعر من حاك القريض وأقدرا
كما تضرب الأمثال وهي كثيرة ... بمستبضع تمراً إلى أهل خيبرا
ولكّنني أملت عندك مطلباً ... أنكًبه عمّن ورائي من الورى
ألم تر أنّ ابن الأمير أجارني ... ولم يرض من أذرائه لي سوى الذري
وأوطأني الشعري بشعري منعّما ... ليفطمني عن خلق السير والسّرى
ولي أمل شدّت قواي عداته ... ثلاثة أعوام تباعاً وأشهرا
عدا الدهر عنه كي يفوز بشكره ... فكن عند ظنّي شافعاً ومذكرا
ومن أخرى:
أصبيحة النيروز خير صبيحة ... حييت بها الأنواء و الأنوار
فبكلّ شعب روضة معطار ... تفترّ عنها ديمة مدرار
ماست بها الأفنان في أسحارها ... نشوى فماست تحتها الأشجار
وتبرّجت أزهارها وتبلّجت ... فكأنّما أزهارها أبصار
وتحدّثت عنها الرياض كأنّما ... بين الرياض، ولا سرار وسرار
وعصابة للروض من قسماتهم ... روض ومن أنوارهم نوّار
يتذاكرون على علاك فتلتقي الكاسات ... والأوتار والأشعار
؟؟؟؟؟؟أبو هاشم العلوي الطبري هو الذي يقول فيه الصاحب:
إنّ أبا هاشم يد الشرف ... مادحه آمن من السرف
حلّ من المجد في أواسطه ... وخلّف العالمين في طرف
وأبو هاشم هو القائل:
وإذا الكريم نبت به أيامه ... لم ينتعش إلاّ بعون كريم
فأعن على الخطب العظيم فإنّما ... يرجى الكريم لدفع كلّ عظيم
وكتب إليه الصاحب، وقد اعتل:
أبا هاشم
ما لي أراك عليلاً ... ترفّق بنفس المكرمات قليلاً
لترفع عن قلب النبي حزازةً ... وتدفع عن صدر الوصي غليلاً
فلو كان من بعد النبيين معجزّ ... لكنت على صدق النبيّ دليلاً
وكتب أبو هاشم إلى الصاحب:
دعوت إله الناس شهراً مجرّماً ... ليدفع سقم الصاحب المتفضل
إلى بدني أو مهجتي فاستجاب لي ... فها أنا مولانا من القسم ممتلي
فشكراً لربّي حين حوّل سقمه ... إليّ وعافاه ببرء معجّل
وأسأل ربّي أن يديم علاءه ... فليس سواه مفزع لبني علي
فأجابه الصاحب:
أبا هاشم لم أرض هايتك دعوة ... وإن صدرت عن مخلص متطوّل

فلا عيش لي حتّى تدوم مسلّماً ... وصرف الليالي عن ذراك بمعزل
فإن نزلت يوماً بجسمك علّة ... وحاشاك فيها يا علاء بني علي
فناد بها في الحال غير مؤخر ... إلى جسم إسماعيل دوني تحولّي
وأطال الله بقاء مولاي الشريف ما علمت، ولو علمت لعدت. أغناه الله بحسن العادة عن العيادة، وهو حسبي.
ولأبي هاشم في فخر الدولة:
يا فلك الأرض وبحر الورى ... وشمس ملك ما لها من مغيب
دعوت مولاك بنيل المنى ... وقد أجاب الله وهو المجيب
فقال خذ ما شئت مستولياً ... ودبّر الدينا برأي مصيب
يا من كتبنا فوق أعلامه ... نصر من الله وفتح قريب

الباب العاشر
في ذكر الأمير السيد
شمس المعالي قابوس بن وشمكير
وإيراد نبذ مما أسفر عنه طبع مجده، وألقاه بحر علمه، على لسان فضله.
أختم بها الجزء الثالث من كتابي هذا، بذكر خاتم الملوك، وغرة الزمان، وينبوع العدل والإحسان، ومن جمع الله له إلى عزة الملك بسطة العلم، وإلى فصل الحكمة نفاذ الحكم. فأوصافه لا تدرك بالعبارات، ولا تدخل تحت العرف والعادات. وإلى أن أعمل كتاباً في أخباره وسيره، وذكر خصائصه ومآثره، التي تفرد بها عن ملوك عصره. فإني أتوج هذا الكتاب بلمع من ثمار بلاغته التي هي أقل محاسنه ومآثره. وأكتب فصولاً من عالي نثره، مختومة ببعض ما ينسب إليه من شريف نظمه.
ما يجري مجرى الأمثال من كلامه
الكريم إذا وعد لم يخلف، وإذا نهض لفضيلة لم يقف الرجاء كنوز في كمام، والوفاء كنوز في ظلام، ولابد للنور أن يتفتح، وللنور أن يتوضح العفو عن المجرم من مواجب الكرم، وقبول المعذرة من محاسن الشيم بزند الشفيع تورى القداح، ومن كف المفيض ينتظر فوز القداح الوسائل أقدام ذوي الحاجات، والشفاعات مفايتح الطلبات من أقعدته نكاية الأيام، أقامته إغاثة الكراممن ألبسه الليل ثوب ظلمائه، نزعه عنه النهار بضيائه قوة الجناح بالقوادم والخوافي، وعمل الرماح بالأسنة والعوالي اقتناء المناقب، باحتمال المتاعب، وإحراز الذكر الجميل، بالسعي في الخطب الجليل الدينا دار تغرير وخداع، وملتقى ساعة لوداع، وأهلها متصرفون بين ورد وصدر، وصائرون خبراً بعد أثر غاية كلّ متحرك سكون. ونهاية كل متكوّن أن لا يكون، وآخر الأحياء فناء، والجزع على الأموات عناء، وإذا كان ذلك كذلك، فلم التهالك على هالكحشو هذا الدهر أحزان وهموم، وصفوه من غير كدر معدوم إذا سمح الدهر بالحياء، فأبشر يوشك الانقضاء، وإذا أعار، فاحسبه قد أغار للدهر طعمان حلو ومر، وللأيام صرفان عسر ويسر، والخلق معروض على طوريه، مقسوم الأحوال بين دوريه لكل شيء غاية ومنتهى، وانقطاع وإن بعد المدى ترك الجواب، داعية الارتباب، والحاجة في الاقتضاء، كسوف في وجه الرجاء هم المنتظر للجواب ثقيل، والمدى فيه وإن كان قصيراً طويل النجيب إذا جرى لم يشق غباره، والشهاب إذا سرى لم تلحق آثاره، من أين للضباب، صوت السحاب، وللغراب هوى العقاب هيهات أن تكتسب الأرض لطافة الهواء، ويصير البدر كالشمس في الضياء كل غم إلى انحسار، وكل عال إلى انحدار.
فصل - يستحسن الشيخ أن يخرس عنه ألسنة الحمد، وتلتوي عليه حواجب المجد، فقد احتجب صبح ذلك الأمر. وصار مطلوباً في ليلة القدر فإن كان أنزله من قلبه ناحية النسيان. وباع جليل الربح به في سوق الخسران فيستحي له فضله من فعله، وكفى به نائباً عني في عذله، وإن كان لعذر دعاه إلى التواني، فقد أربي ذلك على سير السواني وكلا فإن كرمه يراوده عن أشرف الخصال، ويأبى له إلا محاسن الأفعال.
فصل - عاد فلان وقد علته بشاشة النجاح، ودبت فيه نشوة الاريتاح، تلوح مسرة اليسر على جبينه، وتصيح بانقضاء العسر أسرة يمينه.
فصل - وأما إعجاب ذلك الفاضل بالفضول التي عرضتها عليه، فلم يكن على ما أحسبه إلا لخلة واحدة وهي أنه وجد فناً في غير أهله فاستغربه، وفرعاً في غير أصله فاستبدعه. وقد يستعذب الشريب من منبع الزعاق، ويستطاب الصهيل من مخرج النهاق. ولكنك فيما أقدمت عليه من بسط اللسان بحضرته، وإرخاء العنان فيه بمشهده كنت كمن صالت بوقاحته الحجر، وحاسن بقباحته القمر. ولا كلام فيما مضى، ولا عتب فيما اتفق.

فصل - وجرى توقيع له قبيح بمن تسمو همته، إلى قصد من تغلو عنده قيمته، أن تكون على غيره عرجته، أو إلى سوى بيته زيارته وحجته.
ومن مشهور ما ينسب إليه من الشعر، قال:
قل للذي بصروف الدهر عَّيرنا ... هل حارب الدهر إلاّ من له خطر
أما ترى البحر تعلو فوقه جيف ... ويستقرّ بأقصى قعره الدرر
فإن تكن نشبت أيدي الزمان بنا ... ونالنا من تمادي بؤسه الضرر
ففي السماء نجوم ما لها عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر
كأنه ألمّ فيها بقول ابن الرومي:
دهر علا قدر الوضيع به ... وترى الشريف يحطّه شرفه
كالبحر يرسب فيه لؤلؤة ... سفلاً، وتعلو فوقه جيفه
ومثله:
بالله لا تنهضي يادولة السفل ... وقصري فضل ما أرخيت من طول
أسرفت فاقتدي جاوزت فانصرفي ... عن التهور ثم أمشي على مهل
مخدّومون ولم تخدم أوائلهم ... مخوّلون وكانوا أرذل الخول
وينسب له هذان البيتان، وقد يغنّى بها:
خطرات ذكرك تستثير مودّتي ... فأحسن منها في الفؤاد دبيبا
لا عضو لي إلا وفيه صبابة ... فكأنّ أعضائي خلقن قلوباً
هذا آخر القسم الثالث من كتاب يتيمة الدهر، في محاسن أهل العصر حسب تقسيم المؤلف رحمه الله تعالى، ويليه القسم الرابع في محاسن أهل خراسان وما رواء النهر نسأل الله تعالى أن يعين على إكماله بمنه وفضله

القسم الرابع
في محاسن أشعار أهل خراسان وما وراء النهر
من إنشاء الدولة السامانية والغزينة والطارئين على الحضرة ببخاري من
الآفاق والمتصرفين على أعمالها وما يستظرف من أخبارهم وخاصة أهل نيسابور والغرباء الطارئين عليها والمقيمين بها
قال مؤلف الكتاب: لما كان أول كتاب مرتهناً بآخره، وصدره موقوفاً على عجزه، ولم تكد تحصل تمام الفائدة في فاتحته وواسطته، إلا عند الفراغ من خاتمته، واستعنت الله تعالى على عمل هذا الرابع الرابع منه، وأخرجته في عشرة أبواب، والله سبحانه الموفق للصواب.
الباب الأول
اخبار واشعار السابقين قريبي العهد
في إيراد محاسن وظرف من أخبار وأشعار قوم سبقوا أهل عصرنا هذا قليلاً وتقدموهم يسيرا، ومن أبناء الدولة السامانية، وإنشاء الحضرة البخارية، وسائر شعراء خراسان الذين هم - مع قرب العهد في حكم أهل العصر.
أبو أحمد بن أبي بكر الكاتب
أبوه أبو بكر بن حامد كان كاتب الأمير إسماعيل بن أحمد، ووزير الأمير أحمد بن إسماعيل قبل أبي عبد الله الجبهاني الكبير، وكان أبو أحمد ربيب النعمة، وغذي الدولة، وسليل الرياسة، ومن أول من تأدب وتظرف وبرع وشعر بما وراء النهر وحذا في قرض الشعر حذو أهل العراق، وسار كلامه في الآفاق، وهو القائل:
لا تعجبن من عراقي رأيت له ... بحراً من العلم أو كنزاً من الأدب
وأعجب لمن ببلاد الجهل منشؤه ... إن كان يفرق بين الرأس والذنب
وكان يجري في طريق ابن بسام، ويقفو أثره في عبث اللسان، وشكوى الزمان، واستزادة السلطان، وهجاء السادة والإخوان، ويتشبه به في أكثر الأحوال، وكان ابن بسام هجا أباه وأخاه حتى قيل فيه:
من كان يهجو علياً ... فشعره قد هجاه
لو أنّه لأبيه ... ما كان يهجو أباه
فضرب أبو أحمد على قالبه، ونسج على منواله، حتى قال في أبيه:
لي والد متحامل ... من غير ما جرم عملته
إن لم يكن أشنى إليّ ... من المنون فلا عدمته
وقال في أخيه منصور:
أبوك أبي وأنت أخي ولكن ... أبي قد كان يبذر في السّباخ
تجاريني فلا تجري كجريي ... وهل تجري البيادق كالرخاخ
وكان يرى نفسه أحق بالوزارة من الجبهاني والبلغمي لما له فيها من الوراثة مع التبريز في الأدب والكتابة، ولا يزال يطعن عليهما ويصرح بهجائهما، ولا يوفيهما حق الخدمة والحشمة، حتى أوحشاه وأخافاه فذهب مغاضباً ولجّ وحجّ. ثم أقام ببغداد برهة وحنّ إلى وطنه فعاود بخاري، وحين حصل بقربة يقال لها آمل قال فأحسن:
قطعت من آمل المفازه ... قطعاً به آمل المفازه

ولم ير ببخاري غير ما يكره من إعراض الأمير، واستخفاف الوزير. فلزم منزله، واشتغل باتخاذ الندماء، وعقد مجالس الأنس، والجري في ميدان العزف والقصف، وجعل يتخرق في تبذير ماله، حتى رقت حاشية حاله. وكان مولعاً بشعر العطوي حافظاً لديوانه، مقدماً على نظرائه، كثير المحاضرة بأمثاله وغرره في مخاطبته ومكاتباته، فلقب بالعطوني، وفيه يقول أبو منصور العبدوني وكان من ندمائه مع أبي الطيب الطاهري والمصعبي:
أبا أحمد ضيعّت بالخرق نعمةً ... أفادكها السلطان والأبوان
فقد صرت مهتوك الجوانب كلّها ... ولقبت للإدبار بالعطواني
وأفكرت في عود إلى ما أضعته ... وقد حيل بين العير والنزوان
فرأيك في الإدبار رأي أخذته ... وعلّمته من مشية السرطان
ثم إنه تقلد أعمال هراة وبوشنج و باذغيث، فشخص إلى رأس عمله واستخلف عليه أباطلحة قسورة بن محمد واصطنعه ونوه به حتى صار بعده من رؤساء العمال بخراسان، وكان قسورة من أولع الناس بالتصحيفات فقال له أبو أحمد يوماً: إن أخرجت مصحفاً أسألك عنه وصلتك بمائة دينار، قال: أرجور أن لا أقصر عن إخراجه، فقال أبو أحمد: في قشور هيثم حمد، فوقف حمار قسورة وتبلد طبعه وتقشر فلسه، فقال: إن رأى الشيخ أن يمهلني يوماً فعل، فقال: أمهلتك سنة، فحال الحول ولم يقطع شعرة، فقال له أبو أحمد: هو اسمك قسورة بن محمد، فازداد خجله وأسفه، وعلى ذكر أبي طلحة فإنه كان كوسجا وفيه يقول اللحام:
ويك أبا طلحة ما تستحي ... بلغت سبعين ولم تلتحي
ولما استعفى أبو أحمد من عمله وخطب بنيسابور أجيب إلى مراده فمن قوله بنيسابور وقد طالب العمال أرباب الضياع ببقايا الخراج:
سلام الله منّي كلّ يوم ... على كتّاب ديوان الخراج
يرومون البغايا في زمان ... عجرنا فيه عن مال الزواج
وبلغه أن الساجي هجاه بالحضرة فقال:
إنّا أناسّ إذا أفعالنا مدحت ... أنسابنا فهجينا لم نخف عارا
وإن هجونا بسوء الفعل أنفسنا ... فليس يرفعنا مدح وإن سارا
وقال للجبهاني:
أيها السيد الرئيس ومن ليس ... عليه فضلاً ونبلاً قياس
أنت سهل الطباع مرتفع القدر ... ولكن منادموك خساس
ومن هجائه قوله فيه:
يا ابن جبهان لا وحقّك لا تصلح ... فاغضب أو فارضين بالحراسة
عجباً للجميع إذ نصّبوا مثلك ... في صدر ملكهم للرياسه
ولو أنّ التدبير والحكم في الخلق ... على العدل ما وليت كناسه
ومن أمثاله السائرة قوله:
إذا لم يكن للمرء في دولة امرىء ... نصيب ولا حظّ تمنّى زوالها
وما ذاك من بغض لها غير أنّه ... يرجي سواها فهو يهوى انتقالها
ومن قوله:
إني وجعفر بعد ما جرّبته ... وبلوت في أحواله أخلاقه
كمعيد شكّ في خرا قد شمّه ... فأراد معرفة اليقين فذاقه
وقوله:
أحسن إذا أحسن الزمان ... وصحّ منه لك الضمان
بادر بإحسانك الليالي ... فليس من غدرها أمان
وكتب إلى أبي نصر بن أبي حبة يستزيره فلم يجبه واعتذر بعلة فكتب إليه أبو أحمد:
تعاللت حين أتاك الرسول ... وليس كذاك يكون الوصول
وأقسم ما نابك من علة ... ولكن رأيك فينا عليل
ومما يستحسن لأبي أحمد قوله:
اختر لكأسك ندماناً تسّربهم ... أولا فنادم عليها جلّة الكتب
فالأنس بين ندامى سادة نجب ... منزّهين عن الفحشاء والرّيب
هذا يفيدك علماً بالنجوم وذا ... يأتيك بالخير المستظرف العجب
وبين كتب إذا غابوا فأنت بها ... في أنزه الروض بين العلم والأدب
إذا أنست ببيت مرّ مقتضب ... أفضى إلى خبر يلهيك منتخب
ويكمل الأنس ساق مرهف غنج ... يسعى بياقوتة سلّت من العنب
فأنت من جدّ ذا في منظر أنق ... وأنت من هزل ذا في مرتع خصب

وخير عمر الفتى عمر يعيش به ... مقسّم الحال بين الجدّ واللعب
فحظّ ذلك من علم ومن أدب ... وحظّ هذا من اللّذات والطرب
وحكي أن أبا حفص الفقيه عاتب يوماً أبا أحمد على لبسه الخاتم في يمينه.
فقال أبو أحمد: إن فيه أربع فوائد: إحداها: السنة المأثورة من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتختم في اليمين، وكذلك الخلفاء الراشدون بعده إلى أن كان من أمر صفين والحكمين ما كان حين خطب عمرو بن العاص فقال: ألا إني خلعت الخلافة من علي كخلع خاتمي هذا من يميني وجعلتها في معاوية كما جعلت هذا يساري، فبقيت سنة عمرو بين العامة إلى يومنا هذا.
والثانية من كتاب الله تعالى، وهي قوله لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ومعلوم أن اليمين أقوى من اليسار، فالواجب أن يكلف حمل الأشياء الأقوى دون الأضعف.
والثالثة من القياس، وهو أن النهي عن الاستنجاء باليمين صحيح، والأدب في الاستنجاء باليسار، ولا يخلو نقش خاتم من اسم الله تعالى، فوجب تنزيهه عن مواضع النجاسة.
والرابعة: أن الخاتم زينة الرجال واسمه بالفارسية انكشت أراى فاليمين أولى به من اليسار.
ولما عاود أبو أحمد بخاري من نيسابور، وورد على ماله كدر وأسباب مختلفة وقاسي من فقد رياسته وضيق معاشه قذاة عينه، وغصة صدره استكثر من إنشاد بيتي منصور الفقيه، فقال::
قد قلت إذ مدحوا الحياة سرفوا ... في الموت ألف فضيلة لا تعرف
منها أمان لقائه بلقائه ... وفراق كلّ معاشر لا ينصف
وقال في معناهما:
من كان يرجو أن يعيش فإنّني ... أصبحت أرجو أن أموت فأعتقا
في الموت ألف فضيلة لو أنّها ... عرفت لكان سبيله أن يعشقا
وواظب على قراءة هذه الآية في آناء ليله ونهاره وإذ قال موسى لقومه ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم فقال بعض أصدقائه: إن لله، قتل أبو أحمد نفسه، فكان الأمر على ما قال، فشرب السم فمات.

أبو الطيب الطاهري
هو طاهر بن محمد بن عبد الله بن طاهر، من أشعر أهل خراسان وأظرفهم وأجمعهم بين كرم النسب، ومزية الأدب، إلا لسانه كان مقراض الأعراض، فلا تزال تخرج من فيه الكلمة يقطر منها دمه، وتتبرأ منه نفسه. وكان وقع في صباه في شرذمة من أهل بيته إلى بخاري فارتبط بها وردت عليه ضياع نفسية للطاهرية فتعّيش بها، وكان يخدم آل سامان جهراً، ويهجوهم سراً. ويطوي على بعض شديد لهم. ويضع لسانه حيث شاء من ثلبهم، وذم وزرائهم وأركان دولتهم، وهجاء بخاري مقر حضرتهم ومركز عزهم.
فحدثني أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحربي قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن يقعوب الفارسي يقول في يوم من أيام وروده نيسابور على ديوانها: إن أصحاب أخبار السر كانوا ينهون إلى كل من الأميرين الشهيد والسعيد في أيامهما ما يقدم عليه هذا الطاهري من هجائهما، فيغضبان عليه ويهبان جرمه لأصله وفضله، ويتذممان من قتل مثله، فدخل يوماً على السعيد نصر بن أحمد فهش له وبسطه وحادثه ثم قال له في عرض الحديث: يا أبا الطيب حتى متى تأكل خبزك بلحوم الناس؟ فنكس رأسه حياء، ثم قام يجر ذيل خجل ووجل. ولم يعد لعادته في التولع به قال أبو زكرياء: ومما يحكى من كلمات السعيد الوجيزة الدالة على فضله وكرمه قوله لأبي غسان التميمي وقد حمل إلى حضرته في يوم المهرجان كتاباً من تأليفه: ما هذا يا أبا غسان؟ قال: كتاب أدب النفس، قال: فلم لا تعمل به؟ وكان أبو غسان من الأدباء الذين يسيئون آدابهم في المجالس.
ومن ملح هجاء أبي الطيب للشهيد قوله:
طال غزو الأمير للبطّ حتى ... ما له عن عداته إقفال
فهنيئاً له هنيئاً مريئاً ... كلّ قرن لقرنه قتّال
وقوله:
بخارى من خرى لا شك فيه ... يعزّ بربعها الشيء النظيف
فإن قلت الأمير بها مقيم ... فذا من فخر مفتخر ضعيف
إذا كان الأمير خرا فقل لي ... أليس الخر ء موضعه الكنيف
وهو أول من هجا بخاري وذمها ووصف ضيقها ونتنها، حتى اقتدى به غيره في ذكرها، فقال أبو أحمد بن أبي بكر:
لو الفرس العتيق أتى بخاري ... لصار بطبعه فيها حماراً

فلم تر مثلها عيني كنيفاً ... تبوّاه أمير الشرق داراً
وقال، ويروى لأبي الطيب:
بخاري كلّ شيء ... منك يا شوهاء مقلوب
قضاة الناس ركّاب ... فلم قاضيك مركوب
وقال أبو منصور العبدوي:
إذا ما بلاد الله طاب نسيمها ... وفاحت لدى الأسحار ريح البنفسج
رأيت بخارى جيفة الأرض كلّها ... كأنّك منها قاعد وسط مخرج
فيا رب أصلح أهلها وانف نتنها ... وإلاّ فعنها ربّ حوّل وفرّج
وقال أبو منصور الخزرجي، ويروى لأبي أحمد:
فقحة الدينا بخاري ... ولنا فيها اقتحام
ليتها تفسو بنا الآ ... ن فقد طال المقام
وقال الغربيامي:
ما بلدة منتنة من خرا ... وأهلها في جوفها دود
تلك بخارى من بخار الخرى ... يضيع فيها الندّ والعود
وقال أبو علي الساجي:
باء بخارى فاعلمن زائده ... والألف الأولى بلا فائده
فهي خرا محض وسكانها ... كالطير في أقفاصها آبده
وقال الحسن بن علي المروروذي:
أقمنا في بخارى كارهنيا ... ونخرج إن خرجنا طائعينا
فأخرجنا إله الناس منها ... فإن عدنا فإنا ظالمونا
وقوله من قصيدة:
أودى ملوك بني ساسان وانقرضوا ... وأصبح الملك ما ينفكّ ينتقص
أضحت إمارتهم فيهم وجوهرهم ... عبيدهم وهم في عرضها عرض
فليبك من كان منهم باكياً أبداً ... فما لما فاتهم من ملكهم عوض
من لأن مرقده فالدهر مبدله ... عنه فراشاً له من تحته قضض
هاتيك عادته فيمن تقدّمهم ... وكلّ مرتفع يوماً سينخفض
دعهم إلى سقر واشرب على طرب ... فالفجر في الأفق الغربي معترض
غدا الربيع علينا والنهار به ... يمتدّ منبسطاً والليل منقبض
والنور يضحك في خضر البنان ضحى ... والبرق مبتسمّ والرعد مؤتمض
وقوّضت دولة قد كنت أكرهها ... وزال ما كان منه الهمّ والمرض
إن أنت لم تصطبح أو تغتبق فمتى ... الآن بادر فإنّ اللهو مفترض
ومن عجبيب ما يحكى عن أبي الطيب أنه كتب إلى أخيه أبي طاهر الطيب بن محمد بن طاهر بكرة يوم الرام بهذين البيتين:
وإنّي والمؤذن يوم رام ... لمختلفان في هذه الغداة
أنادي بالصبوح كه كياداً ... إذا نادى بحيّ على الصلاة
وإذا برسول أبي طاهر جاءه قبل وصول رقعته برقعة فيها:
وإنّي والمؤذن يوم رام ... لمختلفان في هذا الصباح
أنادي بالصبوح كه كياداً ... إذا نادى بحيّ على الفلاح
وكان التقاء رسوليهما بالرقعتين في منتصف الطريق.
ومن سائر شعر أبي الطيب قوله في السعيد نصر بن أحمد:
قديماً جرت للناس في الكتب عادة ... إذا كتبوها أن يعادلها الصدر
وأول هذا الأمر كان افتتاحه ... بنصر وإن ولّى فآخره نصر
ومما يستحسن من شعره ويغني به ويقع في كل اختيار قوله:
خليليّ لو أنّ همّ النفوس ... دام عليها ثلاثاً قتل
ولكن شيئاً يسمّى السرور ... قديماً سمعنا به ما فعل
وناوله غلام له باقة نرجس فقال فيه:
لمّا أطلنا عنه تغميضاً ... أهدى لنا النرجس تعريضاً
فدلّنا ذاك على أنّه ... قد اقتضانا الصفر والبيضا
ومن ملحه قوله في الجبهاني من ضادية:
تقلّدت بالوسواس صرفاً وزرتناً ... فزدت بها تيهاً عليّ عريضا
ولست بزاو عنك وداً عهدته ... ولا قائل ما عنه مريضاً
فما كان بهلول مع الشتم والخناق ... وقذف النساء المحصنات بغيضا
وقوله في معناه:
ولست بشيء من جفائك حافلاً ... ولا من أذىً جرعتنيه مغيظا
فأطيب أحوال المجانين ما رموا ... وزنّوا وعاطوك الكلام غليظا
وكان أبو ذر الحاكم البخاري عرضة لهجائه فقال فيه من قصيدة:

أفّ للدهر أفّ له ... قد أتانا بمعضلة
بأبي ذّر الذي ... كان ملقى بمزبله
كلما بات ليلةً ... وإسته فيه مهمله
بات يقرا إلى الصبا ... ح وبئر معطّله
وقوله في ابنه:
لأبي ذّر بنّي ... طفس لا كان ذا ابنا
فهو لا يقرأ من القر ... آن إلاّ والناس
وقوله في غيرهما:
طلحة يا كبرائي ... سلحة في الأمراء
إن شاهاً أنت فرز ... ان له بادي العراء

أبو منصور الطاهري
لم يرث الفضل والشعر عن كلالة، وهو القائل:
بكيت لفقد الوالدين ومن يعش ... لفقدهما تصغر لديه المصائب
فعزّيت نفسي موقناً بذهابها ... وكيف بقاء الفرع والأصل ذاهب
ومن أحسن ما سمعت في المعنى نثراً قول بعض الحكماء لرجل مات أبوه وابنه: لقد مات أبوك وهو أصلك. ومات ابنك وهو فرعك، فما بقاء شجرة ذهب أصلها وفرعها؟! ومما يستجاد لأبي منصور قوله:
شيئان لو أن ليثاً يبُتلى بهما ... في غيله مات من همِّ ومن كمد
فقد الشباب الذي ما إن له عوضٌ ... والبعد بالرغم عن أهلٍ وعن ولد
وهو مأخوذ من قول الآخر:
شيئان لو بكت الدماء عليهما ... عيناي حتى يؤذنا بذهاب
لم يقضيا المعشار من حقيهما ... شرخ الشباب وفرقة الأحباب
وقد ملح أبو منصور في قوله:
أقول وقد رأيت له خواناً ... له من لحظ عينيه خفير
أرى خبزاً وبي جوعٌ شديدٌ ... ولكن دونه أسدٌ مزير
ومثله للرشيد وقد رأى جارية سكرى فراودها، فقالت: إن أباك ألم بي، فكف عنها، وقال:
أرى ماءً وبي عطشٌ شديدٌ ... ولكن لا سبيل إلى الورود
أبو الحسين محمد بن محمد المرادي
كان شاعر بخارى وله شعر كثير مدون، ومن مشهور أخباره أن السعيد نصر بن أحمد ركب يوماً للضرب بالصوالجة، فجاءت مطرة رشت السهلة، ولما قضى وطره وأقبل إلى الدار تصدى له المرادي فأنشد:
أشهد أنّ الأمير نصرا ... يخدمه الغيث والسحاب
رشّ تراب الطريق كي لا ... يؤذيه في الموكب التراب
لا زال يبقى له ثلاث ... العزّ والملك والشباب
فأمر له بثلاثة آلاف درهم، وقال: لو زدت لزدناك، وكان المرادي ينشد لنفسه:
إنما همّي كسيره ... وإدام من قديره
وخميره في زكيره ... بلغتي منها سكيره
وصبيح أو قبيح ... قد كفى جلد عميره
ودنينيرّ لدينا ... بات في ضمن صريره
من رأى عيشي هذا ... عاش لا يطلب غيره
ثم يقرأ على أثرها تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين.
وورد نيسابور لحاجة في نفسه فرأى من أهلها جفاء فقال:
لا تنزلنّ بنيسابور مغترباً ... إلاّ وحبك موصول بسلطان
أو لا فلا أدب يغني، ولا حسب ... يجدي، ولا حرمة ترعى لإنسان
وقال:
قال المراديّ قولاً غير متّهم ... والنصح ما كان من ذي اللبّ مقبول
لا تنزلنّ بنيسابور مغترباً ... إن الغريب بنيسابور مخذول
وقال من المصعبي:
أرى صحبة الأشراف صعباً مرامها ... وصحبة هذا المصعبيّ فأصعب
يذلّلني فيما يروم اكتسابه ... فأستام عزّاً بالمذلة يكسب
وقال في موت أبي جعفر الصعلوكي:
وقد تلفت نفسه الدنّيه ... ما كان أولاه بالمنيّه
ما أخطأ الموت حين أفنى ... من كان ميلاده خطّيه
وقال لأبي علي الصاغاني من قصيدة:
لم ألق غيرك إلا ازددت معرفةً ... بأنّ مثلك في الآفاق معدوم
أرى سيوفك في الأعداء ماضيةً ... ركنّ الضلال بها ما عشت مهدوم
يهمي الندى والردى من راحيتك فلا ... عاصيك ناج ولا راجيك محروم
وقال في بكر بن مالك:
قلّد الجيش سّيد ... وهو جيش على حده

يد بكر وسيفه ... ويده الله واحدة
ومن ملحه وظرفه قوله:
هل لكم في مطفل ... شربه شرب قبره
لو رأى في جواره ... خيط زقّ لأسكره
ولما احتضر أنقذ إليه الجبهاني يثاباً للكفن. فأفاق، وأنشأ يقول:
كساني بنو جبهان حياً وميتاً ... فأحييت آثاراً لهم آخر الزمن
فأول برّ منهم كان خلعةً ... وآخر برّ منهم صار لي كفن
ثم أغمي عليه ساعة فأفاق وقال:
عاش المراديّ لأضيافه ... فصار ضيفاً لإله السما
والله أولى بقرى ضيفه ... فليدع الباكي عليه البكا
ثم كان كأنه سراج انطفأ.

أبو منصور العبدوني، أحمد بن عبدون
من أظهر كتاب بخارى تحصيلاً، وأظرفهم جملة وتفصيلاً، وكان ريحانة الندماء، وشمامة الفضلاء، ونارنج الظرفاء، وله شعر عذب المذاق حلو المساغ في نهاية خفة الروح، وقد تقدمت له أبيات، وبلغني أن صديقاً له كتب إليه يستعيو منه دابة ويقول:
أردت الركوب إلى حاجة ... فمن لي بفاعلة من دببت
فوقع تحت البيت:
برذوننا يا أخي عامرّ ... فكن بأبي فاعلاً من غدوت
وقال في صاحب ديوان يطيل المكث فيه:
أقسم بالله وآياته ... أنّك في الثقل رحى بزر
وذا كما قلت وإلاّ فلم ... تقعد في الدار إلى العصر
والناس قد أخلوا دواوينهم ... وانصرف الطير إلى الوكر
وقال:
أكتاب ديوان الرسائل ما لكم ... تجمّلتم بل متّم بالتجمّل
وأرزاقكم لا تستبين رسومها ... لما نسجتها من جنوب وشمال
إذا ما شكا الإفلاس والضرّ بعدكم ... يقولون لا تهلك أسىً وتجمّل
خلقتم على باب الأمير كأنّكم ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وقال في أبي نصر بن أبي حبة، وكان من تلامذته:
يا قوم إنّ ابن أبي حبّه ... قد سبق الكتّاب في الحلبة
وأدخل الكتّاب من حذقه ... في الكوز والجرّة والدّبة
وقال في كتاب أدب الكتاب لابن قتيبة:
أدب الكتاب عندي ... ما له في الكتب ندّ
ليس للكاتب منه ... إن أراد العلم بد
وقال:
عنقي يا قوم كانت ... عند شربي الراح عبله
فتركت الشرب أياً ... أماً على عمد لعلّه
فانحنى الظهر وذاب الجسم ... في أيسر مهله
وحدثني أبو سعيد عن بعض مشايخ الحضرة، وقد ذهب على اسمه، أن مجلساً للأنس جمع يوماً جماعة من أفاضل بخاري كأبي أحمد بن أبي بكر والطاهر والمصعبي والخزرجي والعبدوني وفيهم فتى من أهل أشروسنه يسمى يشكر أحسن من نعم الله المقبلة، ومن العافية في البدن، فأفضى به الحديث إلى رواية الأهاجي، وطفق كل واحد منهم يروى أجود شعره في الهجاء، فقال بعض الحاضرين إن هجاء من هجوتموه ممكن معرض، فهل فيكم من يهجو هذا الفتى، يعني يشكر، فقالوا: لا والله ما نقدر على هجائه، وليت شعري أيهجي خلقه أم اسمه، فارتجل العبدوني أبياتاً منها:
ويشكر و يشكر من ناكه ... ويشكر لله لا يشكر
فتعجبوا من سرعة خاطره في ذم مثله، واشتقاقه الهجاء من اسمه وأقروا له بالبراعة، وحين رأى خجل الفتى لما بدر من هجائه إياه من غير قصد أخرج من يديه زوجي خاتم ياقوت وفيروزج وأعطاهما إياه، وقال: هذا بذلك.
أبو الطيب المصعبي محمد بن حاتم
كان في جميع أدوات المعاشرة والمنادمة وآلات الرياسة والوزارة على ما هو معروف مشهور، وكانت يده في الكتاب ضرّة البرق، وقلمه فلكي الجري، وخطه حديقة الحدق، وبلاغته مستملاة من عطارد، وشعره باللسانين نتاج الفضل، وثمار العقل، ولما غلب على الأمير السعيد نصر بن أحمد بكثرة محاسنه ووفور مناقبه ووزر له مع اختصاصه بمنادمته لم تطل به الأيام حتى أصابته عين الكمال، وأدركته آفة الوزارة، فسقى الأرض من دمه.
ومن مشهور شعره وسائر قوله:
إختلس حظّك في ديناك من أيدي الدهور
واغتنم يوماً ترجّيه بلهو وسرور
واصنع العرف إلى كلّ كفور وشكور
لك ما تصنع والكفران يزري بالكفور

وقوله في ذم الشباب:
لم أقل للشباب في كنف الله وفي ستره غداة استقلاً
زائر زارنا مقيم إلى أن ... سوّد الصّحف بالذنوب وولّى
وقوله في غلام أعجمي:
بأبي من لسانه أعجميّ ... وأرى حسنه فصيح الكلام
ويروى له ما كتب به إلى بعض إخوانه:
غبت فلم يأتني رسول ... ولم يقل علّه عليل
هيهات لو كنت لي خليلاً ... فعلت ما يفعل الخليل
وله:
اليوم يوم بكور ... على نظام سرور
ويوم عزف قيان ... مثل التمايثل حور
ولا تكاد جياد ... تروى بغير صفير
ووقع في كتاب:
قد قلت لما أن قرأت كتابكم ... عض الملل ببظر أم الكاتب

أبو علي الساجي
من فضلاء المقيمين ببخارى، ووجوه المتصرفين بها، وفيها يقول في غلام تركي:
لا سمرة، لا بياض فيه، لا سمن ... ولا هزال، ولا طول ولا قصر
ذو قامة قام فيها عذر عاشقها ... وصورة قبحت مع حسنها الصور
ويقول:
أنا بالحضرة واقف ... للتعازي والتهاني
ولتشييع فلان ... والتلقّي لفلان
وله في مرو:
بلد طّيب وماء معين ... وثرى طيبه يفوق العبيرا
وإذا المرء قدّر السير عنه ... فهويناه باسمه أن يسيرا
وله:
لا تأس من دينا على فائت ... وعندك الإسلام والعافية
إن فات شيء كنت تسعى له ... ففيهما من فائت كافيه
وله:
لست أدري ماذا أقول ولكن ... أبتغي من عريض جاهك نفعاً
والفتى إن أراد نفع أخيه ... فهو يدري في أمره كيف يسعى
أبو منصور الخزرجي
أديب شاعر في المرتبطين الذين كانوا ببخارى مع أبي غسان التميمي والبوشنجي والكسروي وأضرابهم من الأفاضل، كتب إلى أبي أحمد بن أبي بكر في أوائل شهر رمضان قصيدة منها:
الصوم ضيف ثوى فداره ... قد يؤجر العبد وهو كاره
وأحمل على النفس في قراه ... في ليله منك أو نهاره
فإن تجافى على كريم ... برّ حريص على مزاره
فالضيف ماض غداً ومثن ... عليك أن حطت من ذماره
ومن ملحه، ويروي لغيره:
أتدخل من تشاء بلا حجاب ... وكلّهم كسير أو عوير
وأبقى من وراء الباب حتى ... كأنّي خصية وسواي أير
وقال للمصعبي:
يا من تخلّق حتى صار مرتفعاً ... من السماء إلى أعلى مراقيها
لا تأمننّ انحطاطاً وارع حرمتنا ... وانظر إلى الأرض واذكر كوننا فيها
وقال، وأنشديها له أبو زكريا الحربي، وتروى لغيره:
ياذا الكواكب والدوائر ... والعجائب والمجره
أجحفت بالفطن الأريب ... فخاض في الغمرات دهره
يا عرّة في فعله ... أعطيت خيرك كلّ عرّة
أخرفت من طول السّرى ... أم زدت للحركات سرّه
أبو أحمد محمد بن عبد العزيز النسفي
قال في رئيس كان ينام بالنهار ويسهر بالليل:
ينام إذا ما استيقظ الناس بالضّحى ... فإن جنّ ليل فهو يقظان حارس
وذاك كمثل الكلب يسهر ليله ... فإن لاح صبح فهو وسنان ناعس
وقال في أبي علي الصاغاني:
الدار داران للباقي وللفاني ... والخلق كلّهم يكفيهم اثنان
فأحمد لمعاش الناس قاطبةً ... وأحمد لمعاد الناس سيّان
وقال:
إن الرؤوس بإجما ... ع آكليها ثقليه
وحقها شرب صرف ... قصيرة من طويله
أبو القاسم الكسروي
هو أردستاني من أهل أصفهان من الأدباء الطارئين على بخاري والمرتبطين بها، وكان جامعا بين الكتابة والشعر، ضارباً بأوفر السهم في الظرف، وكان يقول: قولي لعدوي أعزه الله إنما أريد اعزه الله حتى لا يوجد في الدينا، وقولي أطال الله بقاك وأدام عزك وتأييدك وجعلني فداك أي من هذا الدعاء كله فصار الدعاء لي دونه.

وكان يبغض الشطرنج ويذمها ولا يقارب من يشتغل بها ويطنب في ذكر عيوبهم ويقول: لا ترى شطرنجاً غنياً إلا بخيلا ولا فقيراً إلا طفيليا، ولا تسمع نادرة باردة إلا على الشطرنج، فإذا جرى ذكر شيء منها قيل: جاء الزمهرير، ولا يتمثل بها إلا فيما يعاب ويذم ويكره، فإذا خرى السكران قيل: قد فرزن، وإذا كان مع الغلام الصبيح المليح رقيب ثقيل: قيل معه فرزان بيدق، وإذا استحقر قدر الإنسان قيل: كأنه بيدق، ولا سيما إذا اجتمع فيه قصر القدر وصغر القدر كما قال الناجم:
ألا يا بيدق الشطرنج في القيمة والقامة
وإذا ذكر وقوع الإنسان في ورطة وهلكة على يد عدو قيل كما قال عبد الله بن المعتز وأجاد:
قل للشّقي وقعت في الفخّ ... أدوت بشاهك ضربة الرخّ
وإذا رؤي طفيلي يسيء الأدب على المائدة قيل: انظروا إلى يد الكشحان كأنها في الرقعة وإذا رؤي زيادة لا يحتاج إليها قيل: زاد في في الشطرنج بغلة، وإذا سب دخيل ساقط: قيل من أنت في الرقعة؟ وإذا ذكر وضيع ارتفع قيل كما قال أبو تمام:
قل لي متى فرزنت سر ... عة ما أرى يا بيدق
ويروى أنه دخل يوماً على عبد الله محمد بن يعقوب الفارسي وقد ولد له مولود فأنشد:
هنئت نجم سعادة ... قد حلّ أوّل أمس رحلك
فأحلّه المولى من ال ... أدب والعليا محلًك
وأطال عزّكما وعمركما ... وأكثر منك مثلك
فأمر له بثلثمائة دينار.
وكتب إلى بعض الرؤساء رسالة في الهز والاقتضاء وفي آخرها قوله:
فرأى الشيخ مولى المجد في أن ... يشرفني بإحدى الحسنيين
بنقد أرتجيه أو بيأس ... فإن اليأس إحدى الراحتين
وله من قصيدة:
كسبت ما شئت من مال فأتلفه ... كفّ كسوب بعون الله متلاف
لن يلبث المال عندي أو يفرقه ... طبع امرى همّه بذل وإسراف
إنّ عادتي فيما حوته يدي ... وعاده الله جلّ الله إخلاف
فهذه عادتي فيما حوته يدي ... وعادة الله جلّ الله إخلاف
إنّ الحقوق ليفني المال واجبها ... وفي قضاء حقوق الناس إنصاف
وله:
كفاك مذكراً وجهي بأمري ... وحسبي أن أراك وأن تراني
وكيف أحثّ من يعنى بشأني ... ويعرف حاجتي ويرى مكاني

أبو بكر محمد بن عثمان
النيسابوري الخازن
وقع إلى بخارى وتصرف بها وتقلد الحزن، وكان من أدباء الكتاب وفضلائهم، واهدى جزءاً بخطه يشتمل على ملح وغرر بخاريه به ولغيره ممن جاورهم بالحضرة، فمما كتبه قوله:
لكلب عقور أسود اللون رابض ... على صدر سوداء الذوائب كاعب
أحبُّ إليها من معانقة الذي ... له لحية بيضاء فوق الترائب
وله:
وعنينٍ يريد قيام أير ... بأدويةٍ لأوقات الجماع
فقلت له هلاك الزقِّ يوماً ... إذا ما احتيج فيه إلى الرقاع
ومما وجدته بخطه، ولست أذكر أكتبه لنفسه أم لغيره من كتاب عصره لغيبة ذاك الجزء عني، هذه الأبيات:
وهت عزماتك عند المشيب ... وما كان من حقها أن تهي
وأنكرت نفسك لما كبرت ... فلا هي أنت ولا أنت هي
فإن ذكرت شهوات النفوس ... فما تشتهي غير أن تشتهي
الحسين بن علي المروروزي
من آدب أصحاب الجيوش بخراسان وأشعرهم وأكرمهم، وفيه يقول بعض الشعراء لما صرف عن مرو بأحمد بن سهل ويذكر دار الإمارة فيها:
أقام بصحنها لؤم ابن سهل ... وفارق ربعها كرم الحسين
وكانت جنّة فغدت جحيماً ... فيا بعد اختلاف الحالتين
ومن سائر شعر الحسين قوله في أبي الفضل البلغمي لما تلطف لإطلاقه من حبس القمندر بهراة:
ألا اسقني من زبيب شمس ... عدّو همّي حبيب نفسي
أرقّ من دين آل تيم ... ومن عديّ وعبد شمس
أشرب بتذكار من تولّى ... بناء مجدي بهدم حبسي
وقوله:
ثنتان يعجز ذو الرياضة عنهما ... رأي النساء وإمرة الصبيان
أما النساء فميلهن إلى الهوى ... وأخو الصبا يجري بغير عنان

وقوله من أبيات في بعض قواده:
وجيش يكون أميراً لهم ... قصارى أولئك أن يهزموا

محمد بن موسى الحدادي البلخي
كان يقال: أخرجت بلخ أربعة من الأفراد: أبا القاسم الكعبي في علم الكلام، وأبا زيد البلخي في البلاغة والتأليف، وسها بن الحسن في شعر الفارسية، ومحمد بن موسى في شعر العربية، وكان يكتب للحسين بن علي وشعره سائر مدون كثير الأمثال والغرر، كقوله::
إن كنت أشكو من يرقّ ... عن الشكاية في القريض
فالفيل يضجر وهو ... أعظم ما رأيت من البعوض
وقوله:
ألقحت منه حرمة ... متوقعاً ما تنتج
فإذا رعايته لها ... والله سقط مخدّج
وقوله:
لا غرو إن كنت بحراً لا يفيض ندىً ... فالبحر غمر ولكن ليس بالجاري
أمسيت جاري من بين الأنام فلا ... تغفل وصاة رسول الله بالجار
وقوله من قصيدة:
كم فيك من رشا أغن كأنّما ... خلقت مفاصله بغير عظام
كم قد غللت يد النديم بقهوة ... سهدت بأن الغلّ من إكرامي
ومن أخرى:
ما بال فرقة شملنا لا تجمع ... وإلى متى يصل الزمان ويقطع
كم خلّقت يلطم خدّه وجداً بنا ... وعيون نرجسه علينا تدمع
فالورد يلطم خدَّه وجداً بنا ... وعيون نرجسه علينا تدمع
ومنها:
ولربّ كرم قد رضعت ثديه ... ومن العجائب أن كهلاً يرضع
ومن أخرى:
أذلّت فيما بيننا حرمةً ... كحرمة الإبريق والكأس
قدّك أما يمنعك الفضل أن ... رحت على عرش كناّس
ومن أخرى:
وحكى سواداً في شقائق حمرة ... صلب الغوالي في خدود الروم
ومن أخرى:
إن كان أغلق دوني بابه فلقد ... أعددت صبري لذاك الباب مفتاحاً
ومن أخرى:
يسرني من حسد الناس لي ... أنّي فيهم غير محروم
وأنّني من كرم لا بس ... وأنّني عار من اللوم
أبو الفضل السكري المروزي
أحمد بن محمد بن زيد
شاعر مرو وظريفها، وله شعر مليح خفيف الروح كثير الملح والأمثال، كقوله:
لا تعتبنّ على الزمان وصرفه ... مادام يقنع منك بالأطراف
وفذا سلمت فلا تكن لك همة ... إلاّ دوام سلامة الألاّف
وقوله:
ما أعجب الزرق وأسبابه ... كلّ له في رزقه بابه
مقدوره من بابه واصل ... والمرء لا يعرف أسبابه
وقوله:
أشرف القصد في المطا ... لب للناس أربعه
كثرة المال والولا ... ية والعز والدعة
فارض منها بواحد ... تلف ما دونه معه
دعة النفس بالكفا ... ف وإن لم تكن سعه
كلّ ما أتعب النفو ... س فما فيه منفعه
وقوله من مزدوجة ترجم فيها أمثالاً للفرس من الرجز
من رام طمس الشمس جهلاً أخطا ... الشمس بالتطيين لا تغطى
أحسن ما في صفة الليل وجد ... الليل حبلى ليس يدري ما يلد
من مثل الفرس ذوي الأبصار ... الثوب رهنّ في يد القصّار
إنّ البعير يبغض الخشاشا ... لكنه في أنفه ما عاشا
نال الحمار بالسقوط في الوحل ... ما كان يهوى ونجا من العمل
نحن على الشرط القديم المشترط ... لا إلزقّ منشقّ ولا العير سقطّ
في المثل السائر للحمار ... قد ينهق الحمار للبيطار
والعنز لا يسمن إلاّ بالعلف ... لا يسمن العنز بقول ذي لطف
البحر غمر الماء في العيان ... والكلب يروى منه باللسان
لا تلك من نصحي في اريتاب ... ما بعتك الهرّة في الجراب
من لم يكن في بيته طعام ... فما له في محفل مقام
منّيتي الإحسان دع إحسانك ... اترك بحشو الله باذنجانك
كان يقال من أتى خوانا ... من غير أن يدعي إليه هانا

وكان مولعاً بنقل الأمثال الفارسية إلى العربية، فمما اخترته من ذلك بعد المزدوجة قوله:
إذا وضعت على الرأس التراب فضع ... من أعظم التلّ إن النفع منه يقع
وقوله:
إذا الماء فوق غريق طما ... فقاب قناة وألف سوا
وقوله:
إذا لم تطق أن ترتقي ذرة الجبل ... لعجز فقف في سفحه هكذا المثل
وقوله:
في كلّ مستحسن عيب بلا ريب ... ما يسلم الذهب الإبريز من عيب
وقوله:
إذا حاكم بالأمر كان له خبر ... فقد تم ثلثاه ولم يصعب الأمر
وقوله:
ما كنت لو أكرمت أستعصي ... لا يهرب الكلب من القرص
وقوله:
أدّعى الثعلب شيئاً وطلب ... قيل هل من شاهد قال الذنب
وقوله:
هو الثعلب الروّاغ في مهمه سلك ... يرى التّو فيه وما أن يرى الشبك
وقوله:
من مثل الفرس سار في الناس ... التين يسقى بعلّة الآس
وقوله:
تبختر إخفاءً لما فيه عرج ... وليس فيما تكلّفه فرج
وقد ذكرتني هذه الأمثال الفارسية قصيدة لبعض من ذهب عني اسمه وكتبت ما اخترت منها ليقترن بما تقدمها وذلك:
ما أقبح الشيطان لكنّه ... ليس كما ينقش أو يذكر
يكفي قليل الماء رطب الثرى ... والطين رطباً بلّه أيسر
إلى شفا النار أماشي أخي ... لكنني إن خاضها أصبر
انتهز الفرصة في وقتها ... وألقط الجوز إذا ينثر
يطلب اصل المرء من فعله ... ففعله عن أصله يخبر
كم ماكر حاق به مكره ... وواقع في بعض ما يحفر
قررت من قطر إلى مثعب ... عليّ بالوابل يثعنجر
إن تأت عوراً فتعاور لهم ... وقل أتاكم رجل أعور
خذه بموت تغتنم عنده ... الحيّ لا تشكو ولا تجأر
الباب فانصب حيث ما يشتهي ... صاحبه فهو به أخبر
والكلب لا يذكر في مجلس ... إلا تراءى عندما يذكر

أبو عبد الله الضرير الأنبوردي
له شعر ذكر في أهل أنبورد، وله القصيدة التي ترجم فيها أمثال الفرس أولها:
صيامي إذا أفطرت بالسّحب ضلّة ... وعلمي إذا لم يجد ضرب من الجهل
وتزكيتي مالا جمعت من الربا ... رياءّ وبعض الجواد أخزى من البخل
كسارقة الرمّان من كرم جارها ... تعود به المرضى وتطمع في الفضل
ألا ربّ ذئب مرّ بالقوم خاوياً ... فقالوا: علاه البهر من كثرة الأكل
وكم عقعق قد رام مشية قبجة ... فأنسي ممشاة ولم يمش كالحجل
يواسي الغراب الذئب في كل صيده ... وما صاده الغربان في سعف النحل
ومن سائر شعره قوله:
وإذا أراد الله رحلة نعمة ... عن دار قوم أخطأوا التدبيرا
ومن ملحه قوله:
أردت زيارة الملك المفدّى ... لأمدحه وآخذ منه رفدا
فعّبس حاجباً فقرأت أما ... من استغنى فأنت له تصدّى
أبو محمد السلمي
كاتب متصرف في الأعمال، حسن التصرف في ملح الشعر وظرفه، كثير النوادر وسائر النتف، لا يسقط له بيت واحد.
أنشدي غير واحد له من أهل الأدب في الحاكم الجليل قوله:
لا رواء لا بهاء ... لا بيان لا عباره
لا يرى ردّ سلام الناس إلاّ بالإشارة
أنا أهواك ولكن ... أين آلات الوزارة
وله أيضاً:
أكلّ من كان له نعمة ... أوسع من نعمة إخوانه
أم كلّ من كان له جوسق ... مشرف شيد بأركانه
أم كل من كان له كسوة ... يبذلها في بعض أحيانه
يرى بها مستكبراً تائهاً ... على أدانيه وخلانه
وله:
قد كانت الضيعة فيما مضى ... تغلّ من يملكها دائبه
فأضحت الضيعة في يومنا ... مهجة من يملكها ذائبه
يستغرق الغلّة في خرجها ... ويعرض الكلفة والنائبه

فإن يقم صاحبها كلّ ذا ... ينج وإلا نتفوا شاربه
وله:
يا أبا مالك النا ... س أسباب التصافي
يا دعياً باتفاق ... عربياً باختلاف
هبك في أشرف بيت ... لبني عبد مناف
أنا ما ذنبي إذا ما اطردت فيك القوافي؟
وله:
وكنت أذمُّ أبا جعفرٍ ... وأعجبت من أمره المهمل
فلما بلونا أبا جعفرٍ ... أطلت البكاء على الأول
وله:
لو طبخت قدرٌ بمطمورةٍ ... بالروم أو أقصى حدود الثغور
وأنت بالصين لوافيتها ... يا عالم الغيب بما في القدور
وله:
قد كان أراؤكم فيما مضى كرّةٌ ... كأنَّما خرَّطتها كفُّ خرَّاط
فالآن تسعون رأياً من وزيركم ... في السوق لا تشترى منكم بقيراط
وله:
رأيت ملكاً كبيراً ... كثير مالٍ وشحنه
يسوس ذاك وزيرٌ ... قليل عقلٍ وفطنه.
وللأمير وزيرا ... ن يرميان بأبنه
فلعنة الله تترى ... على كليلٍ ودمنه
وله:
تشكىَّ فقلنا ثابتٌ ويزيد ... وأنَّ فقلنا آن منه خمود
هي العلة الموصول بالموت حبلها ... فإن ذهبت يوماً فسوف تعود
وله، ويروى لغيره:
تفاقر كي يخفي على الناس أمره ... وللناس أبصارٌ على الغيب نافذه
فأبلغ دهاة النّاس في كلِّ بلدة ... بأنَّا وإن كنتم دهاة جهابذه

أبو ذر البلخي الحاكم
قال من قصيدة في أبي العباس المأموني، وقد وثبت رجله:
إن الجبائر منك قد شدّت على ... قدم لها في المكرمات تقدّم
ولئن غدت مجبورة فلطالما ... جبر الكسير بها وريش معدم
أبو أحمد اليمامي البوشنجي
شاعر بوشنج وغرتها، وشعره مدون سائر، وبلغني أن الصاحب كان يحفظ خائية أحمد، ويتعجب من حسنها وجودتها، وهي:
أقول ونوّار المشيب بعارضي ... قد افترّ لي عن ناب أسود سالخ
أشيباً وحاجات الفؤاد كأنّما ... يجيش بها في الصدر مرجل طابخ
وما كان حزني للشباب وإن هوى ... به الشيب عن طود من الأنس شامخ
ولكن يقول الناس شيخ وليس لي ... على نائبات الدهر صبر المشايخ
ومما يستحسن من شعره:
إنّ تمام السرور للمرء أن ... يأكل من طّيبات غرس يده
وأن يغنًى بشعره ويلي ... خدمته من يحبّ من ولده
وقد حوى بعضنا الثلاث وقد ... نغّصها كلّها ضنى جسده
وقوله:
لقد فكّرت في أمري طويلاً ... فما أدري أأبخل أم أجود
أخاف البخل من غيري ومنّي ... وأعلم أنّه عار عتيد
ويعجبني السخاء وأشتهيه ... وذاك لأنّه خلق حميد
فأخشى الفقر إن طاوعت جودي ... وعدم المال في الدينا شديد
فأفضل ما أرى خلق وسيط ... لذات يدي ينقّص أو يزيد
وقوله، وهو منقول من كلام بعض السلف:
غالبت كلّ شديدة فغلبتها ... والفقر غالبني فأصبح غالي
إن أبده يفصح، وإن لم أبده ... يقتل فقّبح وجهه من صاحب
وقوله لأبي الفضل البلغمي وقد عرض عليه الشراب:
لو كنت واجد عقل أشتريه إذا ... جالست من زينة الدينا محّياه
لكنت أطلبه جهدي وأجمعه ... إلى الذي هو عندي حين ألقاه
فكيف أشرب شيئاً لا يفارقني ... حتى أفارق عقلي حين أسقاه
وكتب إلى صديق له في آخر يوم من شعبان:
فديتك هذا اليوم يوم وراءه ... ثلاثون يوماً للّذاذة تفتك
فإن شئت فأحضرنا وإن شئت فأدعنا ... إليك فما للّهو في اليوم مترك
وفي الغد إن لم تدفع الشكّ مجزع ... ومبكى فدعنا اليوم نبكي ونضحك
وله في وصف رامسية آذريون ناوله إياها عبد الحميد الحاكم وأمره بأن يصفها. فقال:
أعطاني الحاكم من كفّه ... رامسية تخبر عن ظرفه

من نور آذريون تزجى بأن ... جاءت بما حازته من عرفه
شبّهتها حين تأمّلتها ... تأمل المبدع في وصفه
بمدهن من ذهب أحمر ... مضمّناً مسكاً إلى نصفه

أبو علي السلامي
من رستاق بيهق من نيسابور، كاتب مؤلف الكتب، موفق للتجويد منخرط في سلك أبي بكر بن محتاج وبأنه أبي علي. وله كتاب التاريخ في أخبار ولاة خراسان، وكتاب نتف الظرف. وكتاب المصباح، وغيرها، وشعره في أشعار مؤلفي الكتب كشعر الصولي، ومن أشف ما وجدته له:
هذّب ما يكتب من يعتقد ... أنّ جميع الناس يلقونه
وهم مصيخون إلى لفظه ... فرام من قول الخنا صونه
البيتان لم أسمعهما منه، وإنما وجدتهما في نسخته
أبو القاسم علي بن محمد الإسكافي النيسابوري
لسان خراسان وغرتها، وعينها وواحدها، وأوحدها في الكتابة والبلاغة، ومن لم يخرج مثله في البراعة والصناعة. وكان تأدب بنيسابور عند مؤدب بها يعرف بالحسن بن المهرجان من أعرف المؤدبين بأسرار التأديب والتدريس، وأعلمهم وأدراهم بطريق التدريج في التخريج، ثم حرر مديدة في بعض الدواوين، فخرج منقطع القرين، وواسطة عقد الفضل، ونادرة الزمان، وبكر الفلك، كما قال فيه الهريمي من قصيدة:
سبق الناس بياناً فغدا ... وهو بالإجماع بكر الفلك
أصبح الملك به متسقاً ... لسليل الملك عبد الملك
ووقع في ريعان عمره، وعنفوان أمره، إلى أبي علي الصاغاني فاستأثره فحسن أثره واستخلصه لنفسه، وقلده ديوان الرسائل فحسن خبره، وسافر أثره، وكانت كتبه ترد على الحضرة، في نهاية الحسن والنضرة. وتقع المنافسة فيه، ويكاتب أبو علي في إيثار الحضرة به، فيتعلل ويتسلل لو إذا ولا يفرج عنه، إلى أن كان من كشف أبي علي قناع العصيان، وانهزامه في وقعة جرجيل إلى الصغانيان كما كان. وحصل أبو القاسم في جملة الأسرى من أصحاب أبي علي، فحبس في القمندر وقيد مع حسن الرأي فيه وشدة الميل إليه، ثم إن الأمير الحميد نوح بم نصر أراد أن يستكشفه عن سره، ويقف على خبيئة صدره فأمر أن تكتب إليه رقعة على لسان بعض المشايخ ويقال له فيها: إن أبا العباس الصاغاني قد كتب إلى الحضرة يستوهبك من السلطان ويستدعيك إلى الشاش لتتولى له كتابة الكتب السلطانية، فما رأيك في ذلك؟ فوقع تحته في الرقعة ربّ السجن أحبّ إليّ مما يدعونني إليه.
فلما عرض التوقيع على الحميد حسن موقعه منه، فأعجب به، وأمر بإطلاقه وخلع عليه وأقعده في ديوان الرسائل خليفة لأبي القاسم، وعند ذلك قال بعض مجّان الحضرة:
تبظرم الشيخ كلّه ... ولست أرضى ذاك له
كأنه لم ير من ... أقعد عنه بدله
والله إن دام على ... هذا الجنون والبله
فإنّه أوّل من ... ينتف منه السبله
وكان أبو القاسم يهجوه كما تقدم ذكره في الجزء الثاني من هذا الكتاب ومن شعره قوله:
هذا الذي يدعى كله ... ما شأنه إلا البلة
في رأسه عمامة ... مكفوفة مزّمّله
كأنها في لونها ... قدر على سفرجله
ولما توفي أبو عبد الله تولى أبو القاسم العمل برأسه، وعلا أمره، وبعد صيته، وجمعت رسائله أقسام الحسن والجودة، وازداد على الأنام تبحراً في الصناعة، وقدرة على الإنشاءات التي يؤنس مسمعها، ويؤنس مصنعها.
ويحكى أن الحميد أمره ذات يوم أن يكتب إلى بعض أصحاب الأطراف كتاباً وركب إلى متصيده، واشتغل أبو القاسم عن ذلك بمجلس أنس عقده وإخوان جمعهم عنده، وحين رجع الحميد من متصيده استدعى أبا القاسم وأمره بإحضار الكتاب الذي رسم له كتبه ليعرض عليه، ولم يكن كتبه، فأجاب داعية وقد نال منه الشراب ومعه طومار أبيض أوهم أنه مكتوب فيه الكتاب المرسوم له، فقعد بالبعد منه فقرأ عليه كتاباً طويلاً سديداً بليغاً أنشأه في وقته وقرأه عن ظهر قلبه، فارتضاه الحميد وهو يحسب أنه قرأه من مسودات مكتوبة، وأمره بختمه، فرجع إلى منزله وحرر ما قرأه وأصدره على الرسم في أمثاله.

ومن عجيب أمره أنه كان أكتب الناس في السلطانيات، فإذا تعاطى الإخوانيات كان قاصر السعي قصير الباع، وكان يقال: إذا استعمل أبو القاسم نون الكبرياء، تكلم من في السماء. وكان من علو الرتبة في النثر وانحطاطها في النظم كالجاحظ، ورسائله كثيرة مدونة سائرة في الآفاق لا يسع هذا الكتاب إلا الأنموذج مما يجري مجرى الغرر والأمثال منها.
وهذه فقر من كلامه الحمد لله الذي لم يستفتح بأفضل من ذكره كلام، ولم يستمنح بأحسن من صنعه مرام للزمان صروف تحول، وأمور تجولالأخلاق تنميها الأعراق، والثمار تنزعها الأشجارالشكر به ذكاء النعمى، والوفاء معه صلاح العقبيالسعيد من تحلى بزينة الطاعة، واقتدح بزند الجماعة العامة لا تقفه حقائق المذاهب، ولا تعرف عواقب التألب والتجاربلا يشوقنك غرارة الصبا، ولا يروقنك زخرف المنىاستعذ بالله من نزعات الشيطان ونزقات الشبانمن خلا له الجو باض وصفر، ومن تراخى له الليث نزا وطفر المخذول يرفع رأسا ناكسا، ويبل فماً يابساً.
وهذه ملح من شعره كتب إلى بعض إخوانه يستدعيه:
كتبت من الباغ يوم الفراغ ... وذا نعمة آذنت بالبلاغ
فأقبل فما دون لقياك للزمان وإحسانه من مساغ
لأنّك صفوة أبنائه ... وسائرهم فكمثل الرداغ
رداغ بخاري ولا سيما ... إذا المرء لم يحتجز بالجناغ
وقال على لسان ماوردية فضة:
الحسن من ظاهري يلوح ... والطيب من باطني يفوح
فالنصف مني نصيب جسم ... والنصف منّي نصيب روح
وكتب إلى أبي أحمد العارض مع حب بلور مخلوط أهداه له:
بعثت للفأل حباّ ... يسقيك صفو المحّبة
فعش لزرع المعالي ... ما أنبت الزرع حّبة
وكتب إلى بعض الرؤساء:
صديقك غير محتشم ... وأنت فغير مغتنم
وقد أهدى كما يهدي ... أخو ثقة لذي كرم
فرأيك في قبول العذر ... في السّكين والقلم
ذكر آخر أمره لما انقضت أيام الأمير الحميد وملك عبد الحميد أقر أبا القاسم على ديوان الرسائل، وخلع عليه، وزاد في مرتبته، فلم تطل به المدة حتى مرض مرضه الذي احتضر فيه.
فحدثني أبو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين الفارسي قال: كان أبو جعفر محمد بن العباس بن الحسين الوزير وأبو القاسم المقانعي من خلص أصدقاء الإسكافي وممن يكبرون عنده، فلما مرض الإسكافي كتب إليه اللحام وكان أبو جعفر يلقب بطويس والمقانعي بقاشر:
طويس إحدى الفواتر ... شؤماً و قاشر و قاشر
ومنهما يا أبا قا ... سم عليك أحاذر
فلا يكن واحد منهما ببابك عابر
إن لم يكن بك شوق ... إلى الثرى والمقابر
ثم إنه دخل عليه عائداص فوجده عنده أبا جعفر بن العباس بن الحسين وأبا القاسم المقانعي وابن مطران، فقال من الرجز:
ثلاثة أودوا بفذّ عصره ... أودوا به في عنفوان أمره
قصدته يوماً بعيد فجره ... وكان قلبي مولعاً بذكره
لفضله ونبله وفكره ... إذا طويس جالس في نحره
وقاشر قد انبرى من قشره ... عن سلة الشؤم وعن قمطره
فقلت قد أعوز جبر كسره ... من بعد ما كان دنا من جبره
وقد تقضّى فاطوه بغيره ... الشأن فيمن هم على ممّره
ولما انتقل إلى جوار ربه أكمل ما كان شباباً وآداباً وغدت لفراقه الكتابة شعثاء. والبلاغة غبراء، أكثر فضلاء الحضرة رزيته، وأكثروا مرثيته، فمما أحاضر به الآن قول الهرثمي الأبيوردي من قصيدة، منها:
ألم تر ديوان الرسائل عطّلت ... لفقدانه أقلامه ودفاتره
كثغر مضى حاميه ليس يسدّه ... سواه، وكالكسر الذي عزّ جابره
ليبك عليه خطّه وبيانه ... فذا مات واشيه إذا مات ساحرة

الباب الثاني
في ذكر
العصريين المقيمين بالحضرة البخارية
والطارئين عليها والمتصرفين في أعمالها
وتوفية الكتاب شرطه من ملح أشعارهم وظرف أخبارهم.

كانت بخاري في الدولة الساماينة مثابة المجد، وكعبة الملك، ومجمع أفراد الزمان، ومطلع نجوم أدباء الأرض، وموسم فضلاء الدهر.
فحدثني أبو جعفر محمد بن موسى الموسوي قال: اتخذ والدي أبو الحسن دعوة بخاري في أيام الأمير السعيد جمع فيها أفاضل غربائها كأبي الحسن اللحام، وأبي محمد بن مطران، وأبي جعفر بن العباس بن الحسن، وأبي محمد ابن أبي الثياب، وأبي النصر الهرثمي، وأبي نصر الظريفي، ورجاء بن الوليد الأصبهاني، وعلي بن هرون الشيباني، وأبي إسحاق الفارسي، وأبي القاسم الدينوري، وأبي علي الزوزني، ومن ينخرط في سلكهم، فلما استقر بهم مجلس الأنس أقبل بعضهم على بعض يتجاذبون أهداب المذاكرة، ويتهادون رياحين المحاضرة، ويقتفون نوافذ الأدب، ويتساقطون عقود الدر، وينفثون في عقد السحر. فقال لي أبي: يا بني هذا يوم مشهود مشهور، فاجعله تاريخاً لاجتماع أعلام الفضل وأفراد الوقت، وأذكره بعدي في أعياد الدهر، وأعيان العمر، فما أراك ترى على السنين أمثال هؤلاء مجتمعين، فكان الأمر على ما قال، ولم تكتحل عيني بمثل ذلك المجمع.
أبو الحسن علي بن الحسن اللحام الحرانّي
من شياطين الإنس، ورياحين الأنس، وقع إلى بخاري في أيام الحميد، وبقي بها إلى آخر أيام السديد، يطير ويقعن ويتصرف ويتعطل، ويهجو وقلما يمدح، وكان غزير الحفظ، حسن المحاضرة، حاد البوادر، سائر الذكر، ساحر الشعر، خبيث اللسان، كثير الملح والغرر. رامياً من فيه بالنكت، لا يسلم أحد من الكبراء والوزراء والرؤساء من هجائه إياه، وكان لا يهجو إلا الصدور.
فحدثني أبو بكر الخوارزمي قال: تحككت وأنا أحدث باللحام فقلت فيه:
رأيت للّحام في حلقه ... للشعر تطبيقاً وتجنيساً
نخوة فرعون ولكنّه ... جانس في حمل العصا موسى
قرينه إبليس لكنّه ... خالف في السجدة إبليسا
ورأدت بذلك فتح باب إلى مهاجاته، فلم يجبني وجرى على قضية قول المنتبي:
وأغيظ من ناداك من لا تجيبه
قال مؤلف الكتاب: لم أر للحام ديوان شعر مجموعاً، فعنيت بجمع تفاريقه وضم منتشرة، ثم اخترت منه ما يصلح لكتابي هذا، فمن ذلك قوله في الشكوى:
قد نفدت لا عدمتك النفقة ... منذ ثلاث فمهجتي قلقة
وليس في البيت ما يباع وما ... يرهن إلاّ درّاعة خلقه
وقوله:
كنت من فرط ذكاء واشتعال ... كتلظّي النار في الجزل اليبيس
فتلّبدت ولا غرو إذا ... خفّ كيس المرء مع خفّة كيس
وقوله:
أنا من وجوه النحو فيكم أفعل ... ومن اللغات إذا تعد المهمل
حتام لا ينفك لي بفنائكم ... أمل يخيبوعود ظن يذيل
حال ترشفت الليالي ماءها ... وتجمل لم يبق فيه تحمل
هذا واف أقفلت باب مطامعي ... دوني خما لله باب يقفل
ذابت على قوم سماؤك بالندى ... ويدي تردد تحت غيم جامد
وأنا الذي إن وجدت لي أو لم تجد ... لك في الثناء على طريق واحد
وقوله لما صرف عن بريد الترمذ بابن مطران:
قد صرفنا وكلّ من ... كان قلبا صرف
وصرفنا بشاعر ... نعته ليس ينصرف
أي أنه أحمق، والأحمق لا ينصرف.
وقوله لما تقلد عمل الإحصاء دفعات:
قد صار هذا الإخصاء رسماً ... علي كالرسم في المظالم
وصرت أدعي به كأني ... ولدت في طالع البهائم
وقوله:
وأرجو أن يسّهل لي وصول ... إلى المنشور من قبل النشور
مدحه قوله في أبي جعفر العتبي:
الشيخ أكبر من قولي وإكثاري ... لكن أحلّي بذكر الشيخ أشعاري
وأعتب الدهر إذ عاتبته بفتىً ... من آل عتبة نفّاع وضرّار
كأنما جاره في كلّ نائبة ... جار الأراقم في أيام ذي قار
يجري المكارم في لا وفي نعم ... فالناس في جنّة منه وفي نار
وقوله في الحسن بن مالك:
لبسنا كل داجي اللون حالك ... وقطّعنا المسالك والممالك
وأعملنا السّرى حتى نولنا ... بزمّ في ذرى الحسن بن مالك

فتى قد حاز إفضالاً وفضلاً ... ولم يحلل بها إلاّ لذلك
فقل للدهر كد غيري رجالاً ... فلسنا بعد هذا من رجالك
ما يستملح من أهاجيه قال في الحاكم الجليل من الرجز:
قولاً لنوح ثم للفتكين ... لشؤم هذا الحاكم اللعين
سللتما عن مثل ملك الصين ... كسلّة الشعر من العجين
وقال في القحطبي:
أما الهمام فهمّه ... في صون ملك المشرق
والقحطبي فللذي ... يهواه غير موفّق
ومتى يوفّق من له ... في طّي ذاك اليلمق
شره يبيع الدين فيه ... بفلذة أو جردق
ويد كأنّ بنانها ... قطعت مخازن زبئق
لو دقّ كلتا مرفيه ... لحّبه لم يرقق
أو شكّ حّبة قلبه ... في حّبه لم ينطق
يختال بين مخنث ... ومواجر مسترزق
فكأن من يغشاهماً ... في جنح ليل مغسق
من ذاكر أضياف جفنة في الزمان الأسبق
وقال وأبدع في تضمين هجائه بيتاً للنابغة في وصف الأقحوان:
يا سائلي عن جعفر علمي به ... رطب العجان وكفّه كالجلمد
كالأقحوان غداة غبّ سمائه ... جفّت أعاليه وأسفله ندي
وقال في أبي جعفر العتبي من الرجز:
تغّيرت أخلاق هذا العتبي ... وصار لا يعرف غير العتب
وغير ضرب دائم وسبّ ... وقد حشا فصار مثل الدبّ
عليه ألف لعنة من ربي وقال فيه:
ما لقينا من ... القيصرالعريض الملزّز
كان حرّاً فصار ... نبراً على كلّ أنبر
عذب الله نفسه في حبوس القمنذر
وقال فيه:
برئت من وائل وبكر ... ومفجر وابل وبكر
إن جئتكم طالباً لشغل ... وأحمد بن الحسين صدر
وقال في قوم من صنائعه وأصحابه:
صنائع الشيخ سوى حمد ... بيادق الشطرنج والنّرد
منهم أبو نصر وسبحان من ... براه من أسطمة البرد
ولعنة الله على بعضهم ... وهو أبو بكر بن شهمرد
وبعد لولا الحفظ للعهد ... لقلت في المضطرب القدّ
فارجع إلى حمد فما فيهم ... يا سيدي أنذل من حمد
ويحكى أن حمد بن شاهمرد لما سمع الأبيات اهتز لإخراجه إياه من جملة من هجاهم فلما سمع البيت الأخير استرجع وقال: ليته أجراني مجراهم ولم يخصني بالذم.
وقال يوماً أبو أحمد بن منصور للحام: قد هجوتني؟ قال:لا، قال: فاهجني وخلاك الذم، وقدم إليه القرطاس والدواة، فكتب:
قالوا أبو أحمد حرّ فقلت لهم ... حرّ لعمري ولكن فاكسروا الحاء
فإن أردتم محالاً أو به سفهاً ... فأبدلوه بياء وانقطوا الراء
وقال لأبي طلحة قسورة بن محمد:
إنّي أمرء يا أبا طلحة بنصحك صبّ
هذا زمانك فاختم ... بالطين، والطين رطب
وقد وعظتك إن كنت للمواعظ تصبو
وإن رجوتك من ... بعدها فإني كلب
أحسن فمالك عذر ... وما على الدهر عتب
فإنّ سقيا الليالي ... فيها أجاج وعذب
وقال:
يا أبا طلحة استمع ... قول من فيك قد صدق
لك وجه كأنّه ... صيغ من قمقم خلق
وخلال إخالها ... من كنيف قد انبثق
قم فلا خير فيك ... يا خلق الخلق و الخلق
وقال في بطة بن كوسيد وفي أبي مازن قيس بن طلحة وأبي يحيى الحمادي:
ملك الديوان قيس ... وأبو يحيى وبطّه
كلّهم أخزاهم الله على الأحرار سخطه
ليس فيهم من يساوي ... في نفاق السوق ضرطه
وفي أبي يحيى:
تكذب الكذبة جهلاً ... ثم تنساها قريبا
كن ذكوراً يا أبا يحيى ... إذا كنت كذوبا
وقال في بطة:
ولا تدع قطّ قفا بطّة ... فإنه قد صار كالبطه
أثري بمرو بعد أن لم يكن ... يملك إذ حلّ بها ضرطه

قال في ابن حسان:
بالراح أقسم صرفاً ... والعود والسرناء
أن ابن حسان في حا ... ل لشدّة ورخاء
ما آثر الباغ إلاّ ... لفرط داء البغاء
حتى إذا عزّ أير ... أنحى على القثاء
وقال في تميم بن حبيش:
يا تميم بن حبيش ... كل ذاك الطيش أيش
غنما أنت وكيل الباب ... لا صاحب جيش
قد تبظرمت وقدماً ... كنت في أنكد عيش
كنت ذمياً فصرت اليوم في أعلى قريش
وقال من نتفه:
ويبرز للرائين وجهاً كأنّما ... كساه إهاباً من قشور الخنافس
وقال في أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين:
محمد بن عليّ ... سبط الحسين بن حامد
وافى فسّر ولي ... به وأكمد حاسد
قد قلت لما بدا لي ... في مسك بعض الأساود
الحمد لله شكراً ... قد زاد في الزطّ واحد
وقال في أبي علي البلعمي:
وزارة البلعميّ منقلبة ... وهو كفقل غدا على خربهْ
لم يرع للأولياء حرمتهم ... فيها ولا للوجوه والكتبهْ
قد قلبت وجه كلّ مكرمة ... متى تراها عليه منقلبهْ
فهو أحق الورى بداهية ... تضحي لها راسه على خشبهْ
وقال فيه والعتبي منفي إلى بست من الرجز:
متى أرى الشيخ الذي ببست ... كالبدر يبدو طالعاً في الدّست
لحية هذا البلعمي في استي وقال فيه:
أبا عليّ أنلني بعض آمالي ... يرضيك أيري وإن لم ترض أقوالي
إن كان ساءك أقوال نطقت بها ... فسوف يرضيك عني حسن أفعالي
وقالفي ابن عزيز:
إذا فقد البؤس في بلدةٍ ... وأعوز وجدانه في العوير
ولم يوجد الجود في مجلسٍ ... سحيق الأقاصي ولا قعر دير
فمعدن وجدانه حاضر ... خوان محمد بن العزيز
خوان عظيم ولكنه ... خلي الجوانب من كل خير
فتى لا يرجّى على الحادثات ... لتقريب خير ولا دفع ضير
كثير التنقُّل في داره ... فمن أصل أيرٍ إلى أصل أير
فغلمته بقناديلهم ... يطوفون من دبره حول دير
وقال فيه:
طعام محمد بن عبد العزيز ... تداوى به المعدة الفاسده
حشائش بقراط معجونة ... به وعقاقيره الفارده
جرداقة درّة ذرَّة ... على عدد الفتية الوارده
على عدد القوم رغفانه ... فلست ترى لقمةً زائده
ارى الصوم في أرضه للفتى ... إذا حلّها أعظم الفائده
وقال فيه:
لقيت أشأم طير ... وسرت أنكد سير
مواصلاً كلَّ شرٍ ... إذا مجانباً كلَّ خير
طارت عليك نحوس ... تجري بأشأم طير
فأنت خنزير خلقٍ ... تغدو بأخلاق عير
وليس يعرف ما قد ... حوى قميصك غيري
إن ساء فيك مقالي ... فسوف يرضيك أيري
وقال في غيره من البسط:
تثنّى بما فيك من سوء التناشيم ... يأوي إليها الخنا والجهل والبكم
حماك حلّ ومن يأويه مبتذل ... لنايكيك وما في كفّك الحرم
قسمت نصفين علو شأنه بخل ... عند السؤال وسفل زانه كرم
يا كاتباً كلّما أفنى أدراجه ... دس الطوامير في وجائعه الخدم
إن الكتابة أمست غير طاهرة ... مذ حاض في يدك القرطاس والقلم
حدثني أبو القاسم الأليماني، قال: بني أبو الفضل القاشاني داراً سرّ بها فلما فرغ منها سأل اللحام وقد دخل إليها مهنئاً أن يدور فيها ويتأملها ففعل وأنشأ يقول من البسط
متى أراها ينادي حولها البوم ... وللنساء بها نوح وتلطيم
متى أراها يباباً لا أنيس بها ... متى يقام على الشيخ المآتيم
إسمع أبا الفضل لا أسمعت صالحةً ... يا كلب يا قرد يا خنزير يا بوم

وأنشدني أبو القاسم قال: أنشدني الحام لنفسه في علي بن الحسين:
إلى الله أشكو أهل يزد بأسرهم ... وألعن شخصاً جاء من جانبيّ يزد
زنيماً إلى أبناء ساسان ينتمي ... بوجه عريق اللؤم في نسب الهند
إذا عدَّ أهل الخير بضدهم ... وإنّ عدَّ أهل الشرِّ لم يك بالضدِّ
لسان إلى البهتان أهدى من القطا ... وكفّ على العدوان أعدى من الفهد
فأخرسه ربّ على ذاك قادر ... وأفرد كفيّه جميعاً من الزند
وأنشدني غيره له في الحاكم الجليل:
بعد الخمول غدوت صدر المواكب ... وجررت كبراً ذيل كل تسحب
يامن يمر على الورى متبظرما ... أنظر إلى أطلال دار المصعبي
وله في أبي مازن لما صرف عن الديوان وأمر بلزوم منزله:
أبو مازنٍ لازم منزله ... وأصبح في الناس لا ذكر له
رماه الزمان بأحداثه ... ومن حيث أخرجه أدخله
وله فيه وفي أبي بكر محمد بن سباع من البسط:
مضى أبو مازن لا ضير وارتفعت ... تهبّ لا بن سباع ريح إقبال
كذلك الدهر في تصريفه عجب ... ما زوال يبدل أنذالاً بأنذال
وله في أبي جعفر بن العباس وابن مطران:
عاد إلى الحضرة إثنان ... طويس والنذل ابن مطران
اثنان ما إن لهما ثالث ... إلاّ عصا موسى بن عمران
وقال في ابن مطران:
مازال بالشاش فوق باكية ... يسقط حتى احتواه مسقطه
وكاد فيمن يموت من سغبٍ ... هنا لولا استه وبربطه
وله فيه:
هذا الشويشي الذي وافى ... لسانه معتقل فافا
يخلف الرحمن في قوله ... لا يسألون الناس إلحافا
وقال في بعض الحكام:
قلنسوة على رأس صليب ... مساحته جريب في جريب
وإن يدي وهامته ونعلي ... قريب من قريب من قريب
وله في أهل حوارزم:
ما أهل خارزمٍ سلالة آدم ... ما هم وحق الله غير بهائم
أترى شبيه رءوسهم ولغاتهم ... وصفاتهم وثيابهم في العالم
إن كان يقبلهم أبونا آدم ... فأنا بريء من أبينا آدم
وله فيهم وقد حصل على عمل البريد بها:
لا نال من ربه مناه ... ولا شفاه ولا رعاه
من سامني الكون في بلادٍ ... رءوس سكانها جباه
أغدو بلا مؤنسٍ وأمسي ... إمساء من ليله ضحاه
لدى خسيس يظنّ تيهاً ... أن ليس في ذا الورى سواه
له ثنايا كأنمَّا قد ... عضَّ بأطرافها خراه
وقوله:
وقائل لي دنّست النجاء بمن ... يدنّس أن أقعى وإن شردا
فقلت أنصفت لكن هل سمعت بمن ... إن هرَّ كلب عليه نازل الأسدا
وله:
يا رب لا ترضي الذي يرضى ... أخسف به وبداره الأرضا
يا رب لا ترضي الذي يرضى ... أخسف به وبداره الأرضا
إن لم يكن خسف قلا عجب ... أحله جوف حرامه عرضا
وقة له:
قلقل الله ماضغيك وفكَّي ... ك وبتَّ الكفين من زنديكا
كم تصلي على جنائر موتا ... ك أما آن أن نصلي عيلكما
وله:
عبدان هامته للصفع معتاده ... لاسيما من أكف السادة القاده
كأن أيدي الندامة في تناولها ... أيدي صيام إلى كيزان برَّاده
وله:
سبحان ذي الملكوت من متقدّس ... لم يبق شيء في الورى لم يخنس
داءان كانا في الملوك فأدبرا ... وتواضعا داء البغا والنقرس
وله في أبي عبد الله الشبلي يهجوه من الرجز:
وألف أيرً من أيور الزنج ... مضربة في رقعة الشطرنج
بلا حزامٍ وبلا برطنج ... في إست بعض الناس من بوشنج
من شعره في شتى الفنون ماعلق بحفظي في فنون شتى قوله في الغزل:0
ما على مسقمي بأل ... حاظة لو ترَّفقا
لك حل دمي فرأ ... يك فيه موفّقا

أنا لا شكَّ ميّت ... فلك العمر والبقا
وقال في استهداء الشراب:
عندي يا سيدي ومولائي ... من بهواه قد طال بلوائي
وقد رأى أن يبيت مبتدياّ ... وكان ما قد رآه من رائي
وليس عندي من الشراب له ... وحقِّ ما بيننا سوى الماء
وقوله لبعض الوزراء:
إن الذين مشوا إليك على دمي ... لم أصغ فيك لهم وهم عذالي
حتى إذا ما استيأسوا مني سعوا ... ووشوا لم يجر قطّ ببالي
وقوله:
إني اعتللت علّة ... سقطت منها في يدي
وكان في الإخوان من ... لم أرهم في العودّ
فقلت في كلِّهم ... وقل امريءٍ مقتصد
أير الذي قد عادني ... في است الذي لم يعد
وله:
بعثت يا سيدي بقرعه ... فبلَّها لي ولو بجرعه
فعندنا أمرد قبيح ... لكنَّه في الفساد بدعه
وله من قصيدة:
ما إن أرقت بحرصي قطرةً فجرت ... من ماء وجهي إلاّ خلت ذاك دمي
ولا مشت قدمي في حظِّ مطعمةٍ ... إلا تمنّيت أنّي ما مشت قدمي
جاريت دهري زماناً راكباً طعمي ... فدمت أجري على حالٍ ولم يدم
فما رأيت بخيلاً حال عن بخلٍ ... يوماً ولم أر مطبوعاً على الكرم
ذكر نبذ من هجائه قال ابن مطران فيه:
أبا حسن ألا قل لي ... وبَّين منتهى أدبك
بأية حيلةٍ قوَّمت عطف الحاء من لقبك وقال أبو جعفر محمد بن العباس الوزير فيه:
من احتاج إلى السيف ... فما في فيك يكفيك
وما جارحة فيك ... لنا أجرح من فيك
وأطراف المساويك ... لتنبي عن مساويك
وقال فيه:
إن الذي أفنى الخطيئة بعدما ... أفنى الهجاء وباء بالآثام
وأباد هجَّاء الخلائق دعبلاً ... من بعده وفنى بني بسَّام
سيرد أعراض الكرام بمنه ... ولطيف قدرته من اللّحام
وقال أبو نصر الهزيمي:
لئم لا تبيع ولم لا تشتري اللحما ... ياشرَّ من شتم الأحرار أو شتما
لقد صددت عن القول الجميل فما ... فتحت مذ كنت إلا بالقبيح فما
عميت من طول ما تهجو الكرام ومن ... عمي الفؤاد بدا في ناظريك عمى
ذكر آخر عمره لما لم تزده الشيخوخة إلا بذاء، وتولعاً بأعراض الأحرار، ومجاهرة بالوقيعة في المحتشمين والكبار، ولم يسلم منه أحد من أصحاب السيوف والأقلام، وشاع من شنيع هجائه للبلعمي ما يبقى على الأيام، وساءت الآراء فيه، واتصلت الشكايات منه، خرج الأمر السلطاني بتأديبه وعرك أديمه. وتطهير الحضرة من خبث أقاويله، فأنفذ إليه وإلى الشرط مسودا امتثل فيه الأمر، ولزمه حتى عبر به النهر، فقال فيه ابن مطران الطويل:
لسانك يا لحاّم ألقاك في ورطه ... ومزدحم الأسواء لاقاك بالضغطه
لئن كان لم يدبغ لسانك دابغ ... لقد أحسنت بالأمس دبغ استك الشرطه
إلى كم تسوء الناس عيشك سالماً ... فمت هرماً يا كلب إن لم تمت عبطه
ولا نلت ما عمّرت خيراً ولم تزال ... لدائرة الأسواء رأسك كالنقطه
ثم إن البلعمي ندم على استحيائه، وخاف بادرة لسانه، وعلم أنه لم يتوجه إلا تلقاء نيسابور فكتب إلى صاحب الجيش أبي الحسن بن سيمجور وكان قد هجاه أيضاً في إذكاء العيون عليه، والجد في تحصيله، وكفاية شغله، ووافق ورود الكتاب قدوم اللحام نيسابور ونزوله خان وشمكير، فم يشعر إلا بهجوم من أزعجه وحمله وضبنه على البغال سائراً به إلى قائن، وهو مريض لا يقل رأسه، فلما شارف المقصد قضى نحبه، ولقي بصحيفته السوداء ربه.

أبو محمد المطراني
الحسن بن علي بن مطران
شاعر الشاش وحسنتها وواحدها، فإنها وسائر بلاد ما وراء النهر لم تخرج مثله إلا أبا عامر إسماعيل بن أحمد بعده، وكان ابن مطران بخير وحسن حال يرد الحضرة بالمدح، وينصرف بالمنح، ويتصرف في أعمال البرد بما يرتفق به ويرتزق منه، وشعره مدون كثير اللطائف.

حدثني السيد أبو جعفر محمد بن موسى الموسوي قال: كنت ببخارى كثيراً ما تجمعني وابن مطران، فأرى رجلاً مضطرب الخلقة من أجلاف العجم، فإذا تكلم حكى فصحاء العرب، على حبسة يسيرة في لسانه، وكان يجمع بين أدب الدرس وأدب النفس، وأدب الأنس، فيطرب بنثره، كما يطرب بشعره، ويؤنس يهزله، كما يؤيس بجده، وقد عيره اللحام في بعض أهاجيه، وكان بينهما سوق السلاح قائمة فيتهاجيان ويتهاتران ولا يكادان يصطلحان. وكان اللحام يربي عليه في الهجاء، ولا يشق غباره في سائر فنون الشعر، وبلغني أن ديوان شعر ابن مطران حمل إلى حضرة الصاحب فأعجب به فقال: ما ظننت أن ما وراء النهر يخرج مثله، ومر له في الشراب المطبوخ:
وراح عذَّبتها النار حتى ... وقت شرَّابها نار العذاب
يذيب الهمّ قبل الحسو لونٌ ... لها في مثل ياقوتٍ مذاب
ويمنحها المزاج لهيب خدِّ ... تشرَّب ماؤه ماء الشباب
فتعجب من حسن البيت الأول وتحفظه، وكان كثيراً ما ينشده، ويقول: كأنه مقلوب قول السرى في الخمر:
هات التي هي يوم الحشر أوزار ... كالنار في الحسن عقبى شربها النار
ومن سائر شعره قوله في أبي علي البلعمي من قصيدة أولها:
ألمَّ المشيب برأسي نذيرا ... وولّى الشباب بعيشي نضيرا
وأصبح ضوء صباح المشيب ... لغربان ليل شبابي مطيرا
كذاك إذا لاح ثور البكور ... لسود الطيور هجرن الوكورا
هو الشيب مخبره مظلمٌ ... وإن كان منظره مستنيرا
وقد كان إظلامه في العيون ... ن يجلو العيون ويشفي الصدورا
فأعجب بلون سوادٍ أنار ... ولون بياضٍ أبى أن ينيرا
كأنَّ الغواني رمد العيون ... يطالعن من شيب فوديّ نورا
إذا هنَّ قابلن نور المشيب ... أدرن على ذلك النور نورا
وإن هنّ واجهن زور الخضا ... ب أعرضن عن ذلك الزور زورا
ومنها في المدح:
بلوناك حين يرجى الوليُّ ... عرفاً ويخشى العدو النكيرا
فلم تك إلا اختياراً نفوعاً ... ولم تلك إلا اضطراراً ضرورا
ولم ترد الشر إلا جزاءً ... أراد بك الله خيراً كثيرا
ولو لم تخف سوء ظنِّ الشكور ... لما كنت باسوء يجزي الكفورا
وله من قصيدة:
ترمي مكايدة العدو ... بما التحفظ منه ضائع
من واقعاتٍ بالمقا ... تل قاتلاتٍ بالمواقع
وله من تشبيب قصيدة:
أخو الهوى يستطيل الليل في سهره ... والليل في طوله جارٍ على قدره
ليل الهوى سنة في الهجر مدَّته ... لكنّه سنةٌ في الوصل من قصره
وله في مثل هذه الصنعة وإن كانت في معنى آخر:
كان التصرُّف في خفض وفي دعةٍ ... أقلّ مدته فيما يقال سنه
فالآن قد صار من شؤمٍ ومن نكدٍ ... بالخفض من سنةٍ حتى يقال سنه
وله في استهداء العنب:
يا أحمد الأكرمين سيره ... فيهم وأذكاهم سريره
من بهمَّاته العوالي ... أضحت عيون العلا قريره
من يرى بشره بشيراً ... أمواجه ثرَّةٌ غزيره
لترمني راحتاك شهباً ... مضلعاتٍ ومستديره
أشبّ العنبر المعلّى ... مسكاً به دهمةً يسيره
بلاد مجموعها ثلاثٌ ... الهند والترك والجزيره
ولا يكن حبسها طويلاً ... عنّي وأعدادها قصيره
وله من نيروزية:
قد أتاك النيروز وهو بعيد ... مرَّ من قبله قريباً رسيل
سل سبيلاً فيه إلى راحة النفس براحٍ كأنها سلسبيل
واشتمالاً على السرور وهل يجمع شمل السرور إلاّ الشّمول
وهدايا النيروز ما يفعل النا ... س ولكن هديتي ما أقول
وله من تشبيب قصيدة:
مهفهفة لها نصف قضيب ... كخوط البان في نصف رداح
حكت ليناً ولوناً واعتدالاً ... ولحظاً قاتلاً سمر الرماح
وله أيضاً من تشبيب قصيدة أخرى:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11