كتاب : يتيمة الدهر
المؤلف : الثعالبي

وزعمت أنك في طرف من الطاعة، بعد أن كنت متوسطها، وإذا كنت كذلك فقد عرفت حاليها، وحلبت شطريها. فنشدتك الله لما صدقت عما سألتك. كيف وجدت ما زلت عنه؟ ويكف تجد بليل، وهواء عذى وماء روي، ومهاد وطي، وكن كنين، ومكان مكين، وحصن حصين. يقيك المتالف، ويؤمنك المخاوف. ويكنفك من نوائب ا لزمان، ويحفظك من طوارق الحدثان، عززت به بعد الذلة، وكثرت بعد القلة، وارتفعت بعد الضعة، وأيسرت بعد العسرة، وأثريت بعد المتربة، واتسعت بعد الضيقة، وظفرت بالولايات، وخفقت فوقك الرايات، ووطئ عقبك الرجال، وتعلقت بك الآمال، وصرت تكاثر ويكاثر بك، وتشير ويشار إليك، ويذكر على المنابر اسمك، وفي المحاضر ذكرك. ففيم الآن أنت من الأمر؟ وما العوض عما عددت، والخلف مما وصفت؟ وما استفدت حين أخرجت من الطاعة نفسك، ونفضت منها كفك، وغمست في خلافها يدك؟ وما الذي أظلك بعد انحسار ظلها عنك؟ أظل ذو ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب؟ قل نعم! كذلك، فهو والله أكثف ظلالك في العاجلة، وأروحها في الآجلة، إن أقمت على المحايدة والعنود، ووقفت على المشاقة والجحود.
ومنها - تأمل حالك وقد بلغت هذا الفصل من كتابي، فستنكرها، والمس جسدك، وانظر هل يحس؟ واجسس عرقك هل ينبض؟ وفتش ما حنا عليك هل تجد في عرضها قلبك؟ وهل حلى بصدرك أن تظفر بفوت سريح، أو موت مريح؟ ثم قس غائب أمرك بشاهدمه، وأخر شأنك بأوله.
قال مؤلف هذا الكتاب: بلغني عن بلكا - وكان أدب أمثاله - أنه كان يقول: والله ما كانت لي حال عند قراءة هذا الفضل إلا كما أشار إليه الأستاذ الرئيس، ولقد ناب كتابه عن الكتائب في عرك أديمي واستصلاحي، وردى إلى طاعة صاحبه.
أقرأني أبو الحسين محمد بن الحسين الفارسي النحوي - وقد اجتمعنا بإسفرائين عند زعيمها أبي العباس. الفضل بن علي - فصلاً من كتاب لابن العميد إلى عضد الدولة، وكنت مررت عليه وأنا عنه غافل، فنبهني على شرفه في جنسه، وحرك مني ساكناً معجباً بحسنه متعجباً من نفاسة معناه، وبراعة لفظه، وهو: قد يعد أهل التحصيل في أسباب انقراض العلوم وانقباض مددها. وانتقاض مررها. والأحوال الداعية إلى ارتفاع جل الموجود منها، وعدم الزيادة فيها: الطوفان بالنار والماء، والموتان العارض من عموم الأوباء، وتسلط المخالفين في المذاهب والآراء، فإن كل ذلك يحترم العلوم احتراماً. وينتهكها انتهاكاً، ويجتث أصولها اجتثاثاً، وليس عندي الخطب في جميع ذلك يقارب ما يولده تسلط ملك جاهل تطول مدته، وتتسع قدرته. فإن البلاء به لا يعد له بلاء، وبحسب عظم المحنة بمن هذه صفته، والبلوى بمن هذه صورته، تعظم النعمة في تملك سلطان عالم عادل، كالأمير الجليل الذي أحله الله من الفضائل بملتقى طرقها، ومجتمع فرقها، وهو نور، نوافر ممن لاقت حتى تصير إليه، وشرد نوازع حيث حلت حتى تقع عليه. تتلفت إليه تلفت الوامق وتتشوف نحوه نوازع حيث حلت حتى تقع عليه. تتلفت إليه تلفت الوامق وتتشوف نحوه تشوف الصب العاشق. قد ملكتها وحشة المضاع، وحيرة المرتاع:
فإن تغش قوماً بعده أو تزورهم ... فكالوحش يدنيها من الأنس المحلُ

وهذا فصول قصار له تجري مجرى الأمثال
وقد أخرجتها مما أخرجه الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي، من غرره وفقره، وكفاني شغلاً شاغلاً، وقادني منه شكره، وليست تنكر أياديه عندي.
فمنها: من أسر داءه، وستر ظمأه بعد عليه أن يبل من غلله ويبل من علل متى خلصت للدهر حال من اعتوار أذى، وصفا فيه شرب من اعتراض قذى خير القول ما أغناك جده، وألهاك هزله الرتب لا تبلغ إلا بتدرج وتدرب، ولا تدرك إلى بتجشم كلفة وتصعب المرء أشبه شيء بزمانه، وصفة كل زمان منتسخة من سجايا سلطانه قد يبذلك المرء ماله في إصلاح أعدائه، فكيف يذهل العاقل عن حفظ أوليائه، هل السيد إلا من تهابه إذا حضر، وتغتابه إذا أدبر اجتنب سلطان الهوى، وشيطان الميل، وغلبة الإرادة المزح والهزل بابان إذا فتحا لم يغلقا إلا بعد العسر، وفحلان إذا ألقحا لم ينتجا غير الشر.
مكاتباته الشعرية مع ابن جلاد القاضي
ما أخرج من المكاتبات بالشعر التي دارت بينه وبين أبن جلاد القاضي

أهدى ابن خلاد إلى ابن العميد شيئاً من الأطعمة، وكبت إليه في وصفها، وابن العميد إذا ذاك في عقب مرض عرض له، فكتب إلى ابن خلاد قصدية أولها:
قل لابن خلاد المفضى إلى أمد ... في الفضل برز فيه أي تبريز
يعدى اهتزازك للعلياء كل فتى ... مؤخرٍ عن مدى الغايات محجوز
ماذا أردت إلى منهوض نائبةٍ ... مدفعٍ عن حمى اللذات ملهوز
هززت بالوصف في أحشائه قرماً ... ما زال يهتز فيها غير مهزوز
لم يترك فيه فحوى ما وصفت له ... من الأطايب عضواً غير محفوز
أهديت نبرمةً أهدت لآكلها ... كرب المطامير في آبٍ وتموز
نبرمة هكذا في النسخة، ولست أعرافها، وأظن أنها شيء يجمع من الحبوب، ويدق ويعجن بحلاوة.
ما كنت لولا فساد الحسن تأمل في ... جنسٍ من السمن في دوشاب شهريز
هل غير شتى حبوبٍ قد تعاورها ... جيش المهاريس أو نخز المناخيز
رمت الحلاوة فيها ثم جئت بها ... تحذى اللسان بطعمٍ جد ممزوز
لو ساعدتك بنو حواء قاطبةٍ ... عليه ما كان فيهم غير ملموز
أوقعت للشعر في أوصافها شغلاً ... بين القصائد تروى والأراجيز
لا أحمد المرء أقصى ما يجود به ... إذا عضرناه أصناف الشواريز
ما متعة العين من خد تورده ... يزهى عليك بخالٍ فيه مركوز
مستغرب الحسن في توشيع وجنته ... بدائعٌ بين تسهيمٍ وتطريز
يوفى على القمر الموفى إذا اتصلت ... يسراه بالكأس أو يمناه بالكوز
أشهى إليك من الشيراز قد وضحت ... في صحن وجنتها خيلان شونيز
وقد جرى الزيت في مثنى أسرتها ... فضارعت فضةً تغلى بأبريز
ماذا السماح بتقريظٍ وتزكيةٍ ... وقد بخلت بمذخورٍ ومكنوز
ومنها
لا غرو إن لم ترح للجود راحته ... فالبخل مستحسنٌ في شيمة الخوزى
هكذا في النسخة، وأظن أنه لم ترح للجود رائحة.
فأجابه ابن خلاد بقصيدة منها:
يا أيها السيد السامي بدوحته ... تاج الأكاسر من كسرى وفيروز
أتى قريضك يزهى في محاسنه ... زهو الربى باشرت أنفاس نيروز
يا حسنه لو كفينا ين يبهجنا ... خطب النبارم فيه والشواريز
أقررت بالعجز والألباب قد حكمت ... به علي فقدك اليوم تعجيزي
جوز قريضي في بحر القريض فكم ... من قائل عد قوالاً بتجويز
إن عدت في حلبةٍ تجري بها طمعاً ... إني لأشجع من عمرو بن جرموز
إنا لمن معشرٍ حطوا رحالهم ... لما استبيروا على أسطمة الخوز
لا نعرف الكسم والطرذين يوم قرى ... ولا الغبوق على لحمٍ وخاميز
وأهدى ابن خلاد إليه كتاباً في الأطعمة. وابن العميد ناقه من علة كانت به، فكتب إلى ابن خلاد قصيدة منها:
فهمت كتابك في الأطعمة ... وما كان نولي أن أفهمه
فكم هاج من قرم ساكنٍ ... وأوضح من شهوةٍ مبهمه
وأرث في كبدي غلةً ... من الجوع نيرانها مضرمه
فكيف عمدت به ناقهاً ... جوانحه للطوى مسلمه
خفوق الحشى إن تصخ تستمع ... من الجوع في صدره همهمه
تتيح له شرهاً موجعاً ... وتغري به نهمةً مؤلمه
وأين تكرمك المستفي ... ض فينا إذا غاضت المكرمه
وهلا أضفت إلى ما وصف ... ت شيئاً نهش لأن نطعمه
يمد الصديق إليه يداً ... إذا ما رآه ويشجى فمه
وأين سواريزك المرتضاة ... إذا ما تفاضلت الأطعمة
وأين كواميخك المجتبا ... ة دون الأطايب بالتكرمه
وهل أنت راضٍ بقولي إذا ... ذكرت: دعوه فما ألأمه!
إذا المرء أكرم شيرازه ... فلا أكرم الله من أكرمه

وكيف ارتقابي بقياً امرئٍ ... إذا ليم أعتب النبرمه
فإذا كان يجذبك نعت الطعام ... إذا الجوع ناب أذاه فمه
إذا جعت فاعمد لمسموطةٍ ... بجوذابة الموز مستفرمه
متى قستها بالمنى جاءتا ... سواءً كما جاءت الأبلمه
وبز السرابيل عن أفرخٍ ... تخال بها فلذ الأسنمه
تهب النفوس إلى ذاقه مجه ... ولا الطبع إن زاره استوخمه
ودونك وسطاً أجاد الصنا ... ع تلفيق شطريه بالهندمه
وعالي على دفه هيدبا ... كثيفاً كما تحمل المقرمه
ودنر بالجوز أجوازه ... ودرهم باللوز ما درهمه
وقاني بزيتونها والجبن ... صفائح من بيضةٍ مدعمه
فمن أسطرٍ فيه مشكولةٍ ... ومن أسطرٍ كتبت معجمه
وفوف بالبقل أعطافه ... فوافى كحاشية معلمه
موشى تخال به مطرفاً ... بديع التفاويف والنمنمه
إذا ضاحكتك تباشيره ... أضاءت له المعدة المظلمه
وهاك خبيصاً إذا ما اقترحت ... على العبد إنعامه أنعمه
إذا سار في ثغرة سدها ... أو انساب في خللٍ لأمه
فإن شئت فادخل به مفرداً ... إن شئت فادع إليه لمه
وإياك تهدم ما قد بنا ... ه هدماً وتنقض ما أبرمه
فإن لم تجد ذاك يجدي عليك ... إذا ما سغبت فقل لي لمه
تعد من الجود وصف الطعام ... ولست تقول بأن تطعمه
وتحظر ما قد أحل الإله ... ضراراً وتطلق ما حرمه
فهل نزلت في الذي قد شرعت ... على أحدٍ أيةٌ محكمه
وهل سنةٌ فيه مأثورةٌ ... رواها لأشياخكم علقمه
وقلت تواصوا بصبرٍ جميلٍ ... فأين ذهبت عن المرحمه
ومن عجبٍ حاكمٌ ظالمٌ ... يرجى ليحكم في مظلمه
فأجابه ابن خلاد بقصدية منها:
هلم الصحيفة والمقلمه ... وأدن المحيبرة المفعمه
لأكتب ما جاش في خاطري ... فقد عظم الخوض في النبرمه
وعجل علي بهذي وذي ... فإني من الخوض في ملحمه
ألا حبذا ثم يا حبذا ... كتابي المصنف في الأكعمه
كفانا به الله ما راعنا ... بعلة سيدنا المؤلمه
أطاب الحديث له في الطعام ... ففتق شهوته المبهمه
وعاد بأوصافه للغذاء ... وطاب لنا شكر من سلمه
ومن يشكر الله بعط المزيد ... كما قال الأعمش من خيثمه
أيا ذا الندى والحجى والعلا ... ومن أوجب الدين أن نعظمه
لئن كان نبرمتي أفسدت ... ولم تأت صنعتها محكمه
فسوف يزورك شيرازنا ... فنقسم بالله أن تكرمه
يميس بشونيزه كالعرو ... س يخطر في الحلة المسهمه
ويبطل وسط مسموطةٍ ... وجوذابةٍ عندها محكمه
ويزهى الخوان بتقديمه ... عليه ويحمد من قدمه
ويرمز إخواننا دونه ... كأنّ تحاورهم زمزمه

ما أخرج من إخوانياته
وكتب إلى أبي الحسن العباسي هذه الأبيات، وهي من مشهور شعره وجيده:
أشكو إليك زماناً ظل يعركني ... عرك الأديم ومن يعدى على الزمن
وصاحباً كنت مغبوطاً بصحبته ... دهراً فغادرني فرداً بلا سكن
هبت له ريحُ إقبالٍ فطار بها ... نحو السرور وألجاني إلى الحزن
نأى بجانبه عني وصيرني ... من الأسى ودواعي الشوق في قرن
وباع صفو ودادٍ كنت أقصره ... عليه مجتهداً في السر والعلن
وكان غالى به حيناً فأرخصه ... يا من رأى صفو ود بيع بالغبن

كأنه كان مطوياً على إحنٍ ... ولم يكن في ضروب الشعر أنشدني
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
وكبت إلى بعض إخوانه هذه القصيدة، ليعرضها على أبي الحسن العباسي، وهي سائرة في الآفاق، وكأنه قد جمع فيها أكثر إحسانه، فقال:
قد ذبت غير حشاشةٍ وذماء ... ما بين حر هوى وحر هواء
لا أستفيق من الغرام ولا أرى ... خلواً من الأشجان والبرحاء
وصروف أيامٍ أقمن قيامتي ... بنوى الخليط وفرقة القرناء
ومثير هيجٍ لا يشق غباره ... فيما خباه مهيجُ الهيجاء
وجفاء خل كنت أحسب أنه ... عوني على السراء والضراء
ثبتِ العزيمة في العقوق ووده ... متنقلٍ كتنقل الأفياء
ذي ملةٍ يأتيك أثبت عهده ... كالخط يرقم في بسيط الماء
أبكي ويضحكه الفراق ولن ترى ... عجماً كحاضر ضحكه وبكائي
نفسي فداؤك يا محمد من فتى ... نشوان من أكرومةٍ وحياء
كأسٌ من الشيمِ التي في ضمنها ... درك العلا عارٍ من العوراء
عذب الخلائق قد أحطت بخبره ... وبلوته في شدةٍ ورخاء
وبلوت حاليه معاً فوجدته ... في العود أكرم منه في الإبداء
أبلغ رسالتي الشريف وقل له ... قدك اتئب أربيت في الغلواء
أنت رسالتي الشريف وقل هل ... قدك اتئب أربيت في الغلواء
أنت الذي شتت شمل مسرتي ... وقدحت نار الشوق في أحشائي
وجمعت بين مساءتي ومسرتي ... وقرنت بين مبرتي وجفائي
ونبذت حقي عشرتي ومودتي ... وهرقت مائي خلتي وإخائي
وثنيت آمالي على أدراجها ... ورددت خائبةً وفود رجائي
فرجعت عنك ما يؤوب بمثله ... راجي السراب بقفرةٍ بيداء
وعرضت ودي بالحقير ولم أكن ... ممن يباعُ وداده بلقاء
ورضيت بالثمن اليسير معوضةً ... مني، فهلا بعتني بغلاء
وزعمت أنك لست تفكر بعدما ... علقت يداك بذمة الأمراء
هيهات لم تصدقك فكرتك التي ... قد أوهمتك غنى عن الوزراء
لم تغن عن أحدٍ سماءٌ لم تجد ... أرضاً ولا أرضٌ بغير سماء
وسألتك العتبى فل ترني لها ... أهلاً، وجئت بغدره الشوهاء
وردت مموهة ولم يرفع لها ... طرفٌ ولم ترزق من الإصغاء
وأعار منطقها التذمم سكتةً ... فتراجعت تمشي على استحياء
لم تشف من كمدٍ، ولم تبرد على ... كبدٍ، ولم تمنح جوانب داء
من يشف من داءٍ بأخر مثله ... أثرت جوانحه من الأدواء
داوت جوى بجوى، وليس بحازمٍ ... من يستكف النار بالحلفاء
لا تغتنم إغضاءتي فلعلها ... كالعين تضيها على الأقذاء
واستبقِ بعض حشاشتي فلعلني ... يوماً أقيك بها من الأسواء
فلو آن ما أبقيت من جسمي قذى ... في العين لم يمنع من الإعفاء
نظيره قول المتنبي:
ولو قلمٌ ألقيت من شق رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتب
رجع:
فلئن أرحت إلي غارب سلوتي ... ووجدت في نفسي نسيم عزاء
لأجهزن إليك قبح تشكرٍ ... ولأنثرن عليك سوء ثناء
ولأكسونك كل يومٍ حلة ... متروعةً من حيةٍ رقشاء
ولأعضلن مودتي من بعدها ... حتى أزوجها من الأكفاء
وكتب إلى العلوي:
يا من تخلى وولى ... وصد عني وملا
وأوسع العهد نكثاً ... وأتبع العقد حلاً
ما كان عهدك إلا ... عهد الشبيبة ولى
أو طائفاً من خيالٍ ... ألم ثم تولى

أو عارضاً لاح حتى ... إذا دنى فتدلى
ألوت به نسماتٌ ... من الصبا فتجلى
أهلاً بما ترتضيه ... في كل حالٍ وسهلاً
ليجزينك ودي ... بمثل فعلك فعلاً
إن شئت هجراً فهجراً ... أو شئت وصلاً فوصلا
صبرت عني فانظر ... ظفرت بالصبر أم لا
إني إذا الخل ولى وليته ما تولى
وكتب إلى أبي محمد بن هندو، وقد أهدى له مداداً ارتضاه:
يا سيدي وعمادي ... أمددتني بمداد
كمسكنيك جميعاً ... من ناظري وفؤادي
أو كالليالي اللواتي ... رميننا بالبعاد
وكتب إلى أخيه أبي الحسن بن هندو صبيحة عرسه:
أنعم أبا حسن صباحاً ... وازداد بزوجتك ارتياحاً
قد رضت طرفك خالياً ... فهل استلنت له جماحاً؟
وقدحت زندك جاهداً ... فهل استنبت له انقداحاً؟
وطرقت منغلقاً فهل ... سنى الإله له انفتاحاً؟
قد كن أرسلت العيو ... ن صباح يومك والوراحا
وبعثت مصغيةً تبي ... ت لديك ترتقب النجاحا
فغدت علي بجملةٍ ... لم تولني إلا افتضاحا
وشكت إلي خلاخلاً ... خرساً وأوشحةً فصاحا
منعت وساوسها المسا ... مع أن تحس لكم صياحا
وهذه الأبيات بديعة في فنها، ولم أسمع أملح منها في معناها، إلا قول الصاحب وهو أقرب من التصريح وأظرف، وأبيات ابن العميد أجزل وأخفى، وأدخل في باب الكناية والتعريض:
قلبي على الجمرة يا أبا العلا ... فهل فتحت الموضع المقفلا
وهل فككت الختم عن كيسه ... وهل كحلت الناظر الأكحلا
إنك إن قلت نعم صادقا ... أبعث نثاراً يملأ المنزلا
وإن تجبني من حياءٍ بلا ... أبعث إليك القطن والمغزلا

هذا ما أخرج من مقارضاته
اجتمع عنده يوماً أبو محمد بن هندو، وأبو القاسم بن أبي لاحسين بن سعد، وأبو الحسين بن فارس، وأبو عبد الله الطبري، وأبو الحسن البديهي.
فحياه بعض الزائرين بأترجة حسنة، فقال لهم: تعالوا نتجاذب أهداب وصفها، فقالوا: إن رأى سيدنا أن يبتدئ فعل، فابتدأ وقال:
وأترجة فيها طبائع
فقال أبو محمد:
وفيها فنون اللهو للشرب أجمع
فقال أبو القاسم:
يشبهها الرائي سبيكة عسجد
فقال أبو الحسين بن فارس:
على أنها من فأرة المسك أضوع
فقال أبو عبد الله الطبري:
وما اصفر منها اللون للعشق والهوى
فقال أبو الحسن البديهي:
ولكن أراها للمحبين تجمع
وسئل بعض حاضري مجلسه عن قصة له. فقال ولم يقصد وزنا:
أي جهدٍ لقيته ... وشقاءٍ شقيته؟
فقال الأستاذ: قولوا على هذا الوزن شعراً، وفي المجلس أبو الحسن العباسي، وابن خلاد القاضي، فقال أبو الحسن:
بي عزالٌ مقرطقٌ ... شفني إذ هويته
أحرز السحر طرفه ... وحوى الغنج ليته
زاد في الكبر عامداً ... إذ رآني وليته
حسبي الله والرئي ... س لما قد دهيتُهُ
وقال ابن خلاد:
يا خليلي ساعدا ... ني على ما دهيتهُ
انظرا أي معذلٍ ... بقضاءٍ أتيته
سامني السيد الرئي ... س محالاً شنيته
ظل مستعدياً على ... رشأٍ قد هويته
عجباً أن يكون لي ... والياً من وليته
ما خشيت فيه الحروب في ... ه ولكن خشيته
فاز روحي لو أنني ... في منامي أريته
وقال الأستاذ:
أي جهدٍ لقيته ... وشقاءٍ شقيتُهُ
من نصيحٍ أود من ... نصحه لي سكوته
قلا صبراً وما درى ... أن صبري رزيته
قلت عنك الملام ما ... باختياري هويته

لم أكن أجشم البلا ... ء لو أني كفيته
رب ثوبٍ من المذل ... ة فيه كسيته
ضل عندي تجلدي ... فكأني نسيته
في فؤادي هوى يح ... رقني لو طويته
يا بن خلاد الذي ... شاع في الناس صيته
أنصف الهائم الذي ... شاع في الناس صيته
أنصف الهائم الذي ... يتجافى مبيته
قل لمن أشبه المها ... مقلتاه وليته
ثغره قد أشت شم ... ل اصطباري شتيته
ليس يحيى المتيم ال ... صب إلا مميته
أنت قوتي وما بقا ... ء امرئ بان قوته
أي ذنبٍ سوى المذل ... ة في الحب جيته
ما أسيغ السلو عن ... ك لو أني سقيته
كيف يرجو البقاء إن ... باين الماء حوته
ما أشاء السلو عن ... ك فإن شئت شيته
كل شيءٍ رضيتهُ ... من غرامي رضيتهُ

ما أخرج من شعره في الغزل
قال من قصيدة:
هبل البث إلا ما تحملينهِ ... أم البرح إلا ما تكلفينه
متى علقت نفسي حبيبا تعلقت ... به غيرُ الأيام تسلبنيه
شفيعي إذا استشفعت غير مشفعٍ ... ووجهي إذا وجهت غير وجيه
وقال:
ظلت تظللني من الشمس ... نفسٌ أعز علي من نفسي
فأقول واعجباً ومن عجبٍ ... شمسٌ تظللني من الشمس
وقال في الفصد لمعشوقه:
ويح الطبيب الذي جست يداه يدك ... ما كان أجهله فيما قد اعتمدك
بأي شيءٍ تراه كان معتذراً ... من مسه بحديدٍ مؤلم جسدك
لو أن ألحاظه كانت مباضعهُ ... ثم انتحاك بها من رقةٍ فصدك
ما أخرج من شعره في سائر الفنون
قال من قصيدته الهرية عارض فيها ابن العلاف:
يا هر فارقتنا مفارقةً ... عمت جميع النفوس بالثكل
لو كان بالحادثات لي قبلٌ ... إذاً أتاك الصريخ من قبلي
يا مثلاً سائراً إذا ذكر ال ... حسن تركت الحسان كالمثل
وقيل هل تفتديه إن قبل الد ... هر فداءً فقلت حيهل
أفديه بالصفوة الكرام من ال ... إخوان دون الأخدان والخلل
بل بمحل الكرى ومعتلج ال ... فكر وحب القلوب والمقل
بل بسكون الوجيب يجلبه ال ... أمن إلى قلب خائبٍ وجل
بل بحلول الشفاء يجنبه الص ... حة بعد الأوصاب والعلل
بل ببلوغ المنى وقاصية ال ... بغية عفواً ونهبه الأمل
وقال في المغني القرشي:
إذا غناني القرشي يوماً ... وعناني برؤيته وضربه
وددت لو أن أذني مثل عيني ... اك وأن عيني مثل قلبه
وللمهلبي في هذا المعنى:
إذا غناني القرشي ... دعوت الله بالطرش
وإن أبصرت طلعته ... فوا لهفي على العمشِ
وقال فيه أيضاً:
إذا غنى لنا أمماً ... حضوت مسامعي صمما
وإن أبصرت طلعته ... كحلت نواظري بعمى
وقال:
أخِ الرجال من الأبا ... عد، والأقارب لا تقارب
إن الأقارب كالعقا ... رب، بل أضر من العقارب
وقال:
وللرأي زلاتٌ يظل بها الفتى ... مركبةً فوق الثنايا أنامله
هذا ما أخرج من شعره في المعمي
قال في السفرجل:
يقولون خطبٌ من البين جلا ... ولم أر سير الخليط استقلاً
وقد لقبوه نوى غربةٍ ... ولم أر أقرب منه محلاً
وبزت سرابيله عنوةً ... فألفي لما تعرى تحلى
وأفرد من بين أترابه ... فما غض من حسنه أن تخلى
وزل فقلنا لعاً ناعشاً ... لعالٍ إذا ما تعلى تدلى
تزيد مكاسره لذةً ... إذا ما الغمام عليه استهلاً

إذا نال منه السليم استقل ... وإن نال منه السقيم استبلاً
إذا ما امرؤ مل روح الحياة ... فحاشا لذلك من أن يملا
وقال في ماء الورد:
قل للأديب أبي الحسي ... ن أتتك صماءُ الغير
نكراء في حالاتها ... لذوي البصائر معتبر
دهياء يعترف الضمي ... ر بها مسه قد الإبر
وتحفة من بعده ... تباشراً طرفاً وزر
أزرى به وسط الردى ... وهو الحياة المشتهر
فاكشف لنا عن سره ... بلطيف حدسك والنظر
وقال من الشمس:
ماذا ترى يا أبا العباس في عجبٍ ... تشابهت منه أولاه وأخراه
ترى مقمه شروى مؤخره ... حسناً، ويمناه في تمثال يسراه
من حيث واجهته أرضاك منظره ... وكيف قابلته أغناك مغناه
يهوى المباعد منه قرب منزله ... حتى إذا ما تغشاه تحاماه

الباب الثاني
في ذكر ابنه
أبي الفتح ذي الكفايتين
والأخذ بطرف من طرف أخباره، وملح بنات أفكاره
هو على بن محمد، ثمرة تلك الشجرة، وشبل ذلك القسورة وحق على ابن الصقر أن يشبه الصقرا وما أصدق ما قال الشاعر:
إن السري إذا سرى فبنفسه ... وابن السري إذا سرى أسراهما
وكان نجيباً ذكياً، لطيفاً سخياً، رفيع الهمة، كامل المروءة، ظريف التفصيل والجملة، قد تأنق أبوه في تأديبه وتهذيبه، وجالس به أدباء عصره، وفضلاء وقته، حتى تخرج وخرج حسن الترسل، متقدم القدم في النظم، آخذاً من محاسن الآداب بأوفر الحظ، ولما قام مقام أبيه قبل الاستكمال، وعلى مدى بعيد من الاكتهال. وجمع تدبير السيف والقلم لركن الدولة، لقب بذي الكفايتين، وعلا شأنه، وارتفع قدره، وبعد صيته، وطاب ذكره، وجرى أمره أحسن مجرى، إلى أن توفي ركن الدولة وأفضت حال أبي الفتح إلى ما سيأتي ذكره آخر الباب بمشيئة الله وعونه.
ومن طرف أخباره ما حدثنيه أبو جعفر الكاتب، وكان أبو بكر الخوارزمي يدعوه القمغدي لكونه قمي المولد بغدادي المنشأ، وكان أبو جعفر هذا من حاشية أبي الفتح فترامت به بعده الحوادث إلى نيسابور، قال: كان الأستاذ الرئيس قد قبض جماعة من ثقاته في السر يشرفون على الأستاذ أبي الفتح في منزلة ومكتبه ويشاهدون أحواله ويعدون أنفاسه وينهون إليه جميع ما يأتيه ويذره ويقول ويفعله.. فرفع إليه بعضهم أن أبا الفتح اشتغل ليلة بما يشتغل به الأحداث المترفون، من عقد مجلس الأنس واتخاذ الندماء، وتعاطي ما يجمع شمل اللهو، في خفية شديدة، واحتياط تمام، وأنه كتب في تلك الحالة رقعة إلى من سماه لي أبو جعفر، ونسيت اسمه، في استهداء الشراب، فحمل إليه ما يصلحهم من المشموم والنقل. فدس الأستاذ الرئيس إلى ذلك الإنسان من أتاه برقعة أبي الفتح الصادرة إليه، فإذا فيها بخطه: بسم الله الرحمن الرحيم. قد اغتنمت الليلة - أطال الله بقاك يا سيدي ومولاي! - رقدة من عين الدهر، وانتهزت فيها فرصة من فرص العمر، وانتظمت مع أصحابي في سمط الثريا، فإن لم تحفظ علينا النظام، بإهداء المدام، عدنا كبنات نعش، والسلام.
فاستطير الأستاذ فرحاً وإعجاباً، بهذه الرقعة البديعة، وقال: الآن ظهر لي أثر براعته، ووثقت بجريه في طريقي، وينابته منابي، ووقع له بألفي دينار.
وحكى أبو الحسين بن فارس، قال: كنت عند الأستاذ أبي الفتح في يوم شديد الحر فرمت الشمس بجمرات الهاجرة، فقال لي: ما قول الشيخ في قلبه؟ فلم أحر جواباً لأني لم أفطن لما أراد، فلما كان بعد هنية أقبل رسول والده الأستاذ الرئيس يستدعيني إلى مجلسه فقمت إليه، فلما مثلت بين يديه تبسم ضاحكاً إلي وقال: ما قول الشيخ في قلبه؟ فبهت وشكت، وما زلت أفكر حتى تنبهت على أنهما أرادا الخيش، فكأن من كان يشرف على أبي الفتح من جهة أبيه الأستاذ أتاه بتلك اللفظة في تلك الساعة، ولفرط اهتزازه لها أراد مجاراتي، وقرأت صحيفة السرور من وجهه إعجاباً بها، ثم أخذت أتحفه بنكت نثره، وملح نظمه.
وكان مما أ عجب به، وتعجب منه، واستضحك له، حكايتي رقعة له وردت علي، وصدرها: رقعة الشيخ أصغر من عنفقة بقة، وأقصر من أنملة نملة.

قال أبو الحسين: وجرى في بعض أيامنا ذكر أبيات استحسن الأستاذ الرئيس وزنها، واستحلى رونقها، وأنشد جماعة ممن حضر ما حضرهم على ذلك الروى، وهو قول القائل:
لئن كففت وإلا ... شققت منك ثيابي
فأصغى إلينا الأستاذ أبو الفتح، ثم أنشدني في الوقت:
يا مولعاً بعذابي ... أما رحمت شبابي
تركت قلبي قريحاً ... نهب الأسى والتصابي
إن كنت تنكر ما بي ... من ذلتي واكتئابي
فارفع قليلاً قليلا ... عن العظام ثيابي
قال: فتأمل هذه الطريقة، وانظر إلى هذا الطبع، فإنه أتى بمثل ما أنشده في رشاقته وخفته، ولم يعد الجنس، ولم يقصر دونه. وبذلك تعرف قدرة القادر على الخطابة والبلاغة.
قال: ومن شعره وهو في المكتب قوله من قصيدة في أبيه أولها:
أليلٌ هو أم شعرُ ... وبرقٌ هو أم ثغر
وحر الدر ما ضم ... نت الأحشاء أم جمر؟
ويهماء كمثل البحر ... يرتاع لها السفر
تعسفت على هولٍ ... وتحتي بازلٌ جسر
إلى من وجهه بدرٌ ... ومن راحته بحر
ومن جدواه مد لل ... ورى ليس له جزر
هو الغيث هو الليث ... هو الفخر هو الذخر
لأمر مظلمٍ يخشى ... وخطبٍ فادحٍ يعرو
وقوله من نيروزية فيه:
أبشر بنيروزٍ أتاك مبشراً ... بسعادةٍ وزيادةٍ ودوامِ
واشرب فقد حل الربيع نقابه ... عن منظرٍ متهلل بسامِ
وهديتي شعرٌ عجيبٌ نظمه ... ومديحه يبقى على الأيام
فاقبله واقبل عذر من لم يستطع ... إهداء غير نتيجة الأفهام
ومن إحسانه المشهورة قوله من قصيدة:
عودي وماء شبيبتي في عودي ... لا تعمدي لمقاتل المعمودِ
وصليه ما دامت أصايل عيشه ... تؤويه في فيء لها ممدود
ما دام من ليل الصبا في فاحمٍ ... رجل الذرى فينان كالعنقود
قبل المشيب فطارقات جنوده ... يبدلنه يققاً بسحمٍ سود
وقوله لما تقلد الوزارة بعد أبيه:
دعوت الغنى ودعوت المنى ... فلما أجابا دعوت القدح
إذا بلغ المرء آماله ... فليس له بعدها مقترح
وقال:
إذا أنا بلغت الذي كنتُ أشتهي ... وأضعافه ألفاً فكلني إلى الخمر
وقل لنديمي قم إلى الدهر فاقترح ... عليه تهوي ودعني مع الدهر
وله:
أين لي من يفي بشكر الليالي ... إذ أضافت خيالها وخيالي
لم يكن لي على الزمان اقتراحٌ ... غيرها منيةً فجاد بها لي
وقوله في أترجة أهداها إلى والده الأستاذ الرئيس:
أتتك صفراء تحكي لون ذي مقةٍ ... وريح راحٍ حشاها شادنٌ خنثُ
زففتها حين زفت لي على أملٍ ... إني غلامك لا مينٌ ولا عبثُ
وقوله من قصيدة أخرى في عذد الدولة، أولها:
عتبت على الأيام لو عرفت عتباً ... وعاتبتها لو أعقبت ذنبها عتبى
قضت بيننا أحكامها البين كلما ... طلعن بنا شرقاً غربن بها غربا
تحجب عني الشمس من نور وجهها ... وتمنح رياها الركائب والركبا
ومنها:
وكنت أظن الحب قبلُ خلابةً ... فها هو ذا يغري بمخلبه الخلبا
تدور السقاة بالأباريق بيننا ... فنحسبها سرباً يزجي لنا سربا
ومنها:
وقد نظمت شمل العصابة روضةٌ ... منورةُ النوار تحسبها عُصبا
ومنها في وصف النجائب:
متى لم أنل أقصى المنى بنجابها ... فلا نهضت نجباً تسير بنا نجبا
ولا رحلت نحو العفاة رحالها ... ولا كان لي ما بين آمالها نهبا
ولا كنت عبداً للذي الدهر عبدهُ ... أعد النجوم بعد صحبته حصبا
وقوله من قصيدة أخرى فيه، أولها:
أفضت عقوداً أم أفيضت مدامع ... وهذي موعٌ أم نفوسٌ هوامع؟

على الملك قوامٌ وللدين حافظٌ ... وللمال وهابٌ وللجار مانع
أسودٌ ولكن الحراب عرينها ... شموس ولكن الصفوف مطالع
أشاحوا وما شحوا ونابوا ومانبوا ... وكان لهم تحت المنايا مناقع
ومنها في ذلك الأعداء:
أذالهم ذل الهزيمة فانحنت ... قناة الظهور واستقام الأخادع
وكان لهم لبس المعصفر عادةً ... فخاطت لهم منه السيوف القواطع
ومنها:
بطرتم فطرتم والعصا زجرُ من عصى ... وتقويم عبد الهون بالهون نافع
ومنها:
تبسمت والخيل العتاق عوابسُ ... وأقدمت والبيض الرقاق هوالع
صدعت بصبح النصر ليل جموعهم ... وكيف بقاء الليل والصبح صادع
فما الصبح منادٌ ولا الليل خاذلٌ ... ولا النصل خوانٌ ولا السهم طالع
ومنها في وصف الشعر:
ومقترحاتٍ في القوافي بداءةً ... بدائع للإحسان فيها ودائع
كلامٌ شكورٌ أطلقت من عنانه ... صنائع تخجلن النهار نواصع
خدمت بقولي ذا ومن قبل قوله ... خدمت وغى والقول للفعل شافع
وقال من أخرى، وقد ذكر الشعر:
فإن كان مسخوطاً فقل شعر كاتبٍ ... وإن كان مرضياً فقل شعر كاتبي

ذكر آخر أمره
حدثني أبو منصور سعيد بن أحمد البريدي، قال: لما توفي ركن الدولة، وقام مقامه مؤيد الدولة خليفة لأخيه عضد الدولة، أقبل من أصبهان إلى الري، ومعه الصاحب أبو القاسم، وخلع على أبي الفتح خلعة الوزارة، وألقى إليه مقاليد المملكة، والصاحب على جملته في الكتابة لمؤيد الدولة والاختصاص به، وشدة الحظوة لديه، فكرة أبو الفتح مكانه، وأساء الظن به، فبعث الجند على أن يشغبوا عليه، وهموا بما لم ينالوا منه، فأمره مؤيد الدولة بمعاودة أصبهان وأسر في نفسه الموجدة على أبي الفتح لهذا الشأن وغيره، وانضاف ذلك إلى تغير عضد الدولة واحتقاده عليه لأشياء كثيرة في أيام أبيه وبعدها، منها ممايلته بختيار، ومنها ميل القواد إليه، بل غلوهم من موالاته وحبته، ومنها ترفعه عن التواضع له في مكاتباته، واجتمعت أراء الأخوين على اعتقاله، وأخذ أمواله. ولما اعتقل في بعض القلاع بدرت منه كلمات نمت إلى عضد الدولة، فزادت في استيحاشه منه، وأنهض من حضرته من طالبه بالأموال، وعذبه ومثل به، ويقال: إنه سمل إحدى عينيه، وقطع أنفه، وجز لحيته، ففي تلك الحال يقول أبو الفتح وقد يئس من نفسه، واستأذن في صلاة ركعتين، فصلاهما ودعا بدواة وقرطاس وكتب:
بدل من صورتي المنظر ... لكنه ما غير المخبر
ولست ذا حزمن على فائت ... لكن على من لي يستعبر
وواله القلب لما مسني ... مستخبرٌ عني ولا يخبر
فقل لمن سر بما ساءنا ... لا بد أن يسكل ذا المعبر
وأخبرني أبو جعفر الذي قدمت ذكره، وكأن مختصاً به. قال: كان أبو الفتح قبيل النكبة التي أتت على نفسه. قد أغرى بإنشاد هذين البيتين، لا يجف لسانهت من ترديدهما في أ كثر أوقاته وأحواله، ولست أدري أهماله أم لغيره:
دخل الدنيا أناسٌ قلبنا ... ورحلوا عنها وخلوها لنا
فنزلناها كما قد نزلوا ... ونخليها لقومٍ بعدنا
فلما حصل في الاعتقال، واستيقن أن القوم يريدون لا محالة وأنه لا ينجو منهم وإن بذل ماله، مد يده إلى جيب جبة عليه ففتقه عن رقعة فيها ثبت ما لا يحصى من ودائعه وكنوز أبيه وذخائره، فألقاها في كانون نار بين يديه، وقال للقائد الموكل به المأمور بقتله بعد مطالبته: اصنع ما أنت صانع فوالله لا يصل من أموالي المستورة إلى صاحبك دينار واحد، فما زال يعرضه على العذاب، ويمثل به، حتى تلف رحمه الله تعالى، وفيه يقول بعض أصحابه:
آل العميد وأل برمك ما لكم ... قل المعين لكم وذل الناصر!
كان الزمان يحبكم فبدا له ... إن الزمان هو المحب الغادر
ولأبي بكر الخوارزمي في مرثيته من قصيدة:
يا دهر إنك بالرجال بصيرُ ... فلذاك ما تجتاحهم وتبير
وهي تذكر في موضعها من شعره، إن شاء الله سبحانه وتعالى.
الباب الثالث

الصاحب بن عباد
في ذكر الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد وإيراد لمع من أخباره وغرر
نظمه ونثره
ليست تحضرتي عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم والأدب وجلالة شأنه في الجود والكرم. وتفرده بغايات المحاسن، وجمعه أشتات المفاخر، لأن همة قولي تنخفض عن بلوغ أدنى فضائله ومعاليه، وجهد وصفي يقصر عن أيسر فواضله ومساعيه، ولكني أقول: هو صدر المشرق، وتاريخ المجد، وغرة الزمان، وينبوع العدل والإحسان، ومن لا حرج في مدحه بكل ما يمدح به مخلوق، ولولاه ما قامت للفضل في دهرنا سوق، وكانت أيامه للعلوية والعلماء، والأدباء والشعراء، وحضرته محط رحالهم، وموسم فضلائهم. ومترع آمالهم. وأمواله مصروفة إليهم، وصنائعه مقصورة عليهم، وهمته في مجد يشيده، وإنعام يحدده. وفاضل يصطنعه، وكلام حسن يصنعه أو يسمعه. ولما كان نادرة عطارد في البلاغة، وواسطة عقد الدهر في السماحة، جلب إليه من الآفاق وأقاصي البلاد كل خطاب جزل، وقول فصل. وصارت حضرته مشرعاً لروائع الكلام، وبدائع الأفهام. وثمار الخواطر، ومجلسه مجمعاً لصوب العقول. وذوب العلوم ودرر القرائح. فبلغ من البلاغة ما يعد في السحر، ويكاد يدخل ف يحد الإعجاز، وسار كلامه مسير الشمس، ونظم ناحيتي الشرق والغرب، واحتف به من نجوم الأرض، وأفراد العصر، وأبناء الفضل، وفرسان الشعر، من يربى عددهم على شعراء الرشيد، ولا يقصرون عنهم في الأخذ برقاب القوافي وملك رق المعاني، فإنه لم يجتمع بباب أحد من الخلفاء والملوك مثل ما اجتمع بباب الرشيد من فحولة الشعراء المذكورين، كأبي نواس، وأبي العتاهية، والعتّابي، والنمري ومسلم بن الوليد، وأبي الشيص، ومروان بن أبي حفصة، ومحمد بن مناذر، وجمعت حضرة الصاحب بأصبهان، والري وجرجان، مثل أبي الحسين السلامي، وأبي بكر الخوارزمي، وأبي طالب المأموني، وأبي الحسن البديهي، وأبي سعد الرستمي، وأبي القاسم الزعفراني، وأبي العباس الضبي، وأبي الحسن بن عبد العزيز الجرجاني، وأبي القاسم بن أبي العلاء، وأبي محمد الخازن وأبي هاشم العلوي، وأبي الحسن الجوهري، وبني المنجم، وابن بابك، وابن القاشاني، وأبي الفضل الهمذاني، وإسماعيل الشاشي، وأبي العلاء الأسدي، وأبي الحسن الغويري، وأبي دلف الخزرجي، وأبي حفص الشهزوري، وأبي معمر الإسماعيلي، وأبي الفياض الطبري، وغيرهم ممن لم يبلغني ذكرهم أو ذهب عني اسمه، ومدحه مكاتبة الشريف الموسوي الرضى، وأبو إسحاق الصابي، وابن حجاج، وابن سكرة، وابن نباته، ولذكر كل من هؤلاء مكان من هذا الكتاب، إما متقدم أو متأخر، وما أحسن وأصدق قول الصاحب:
إن خير المداح من مدحتهُ ... شعراء البلاد في كل نادي
لمع من أخبار محاسنه
وملح من نوادر توقيعاته
سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: إن مولانا الصاحب نشأ من الوزارة في حجرها، ودب ودرج في وكرها، ورضع أفاويق درها، وورثها من أبيه كما قال أبو سعيد:
ورث الوزارة كابراً عن كابر ... موصولة الإسناد بالإسناد
يروي عن العبّاس عبادٌ وزار ... ته وإسماعيل عن عباد
قال: ولما ملك فخر الدولة واستعفى الصاحب من الوزارة قال له: لك في هذه الدولة من إرث الوزارة، ما لنا فيها من إرث الإمارة، فسبيل كل منا أن يحتفظ بحقه.
وحدثني عون بن الحسين الهمداني التميمي، قال: كنت يوماً في خزانة الخلع للصاحب، فرأيت في ثبت حسبانات كاتبها - وكان صديقي - مبلغ عمائم الخز التي صارت الشتوة في خلع الخدم والحاشية، ثمانمائة وعشرين قال: وكان يعجبه الخز ويأمر بالاستكثار منه في داره، فنظر أبو القاسم الزعفراني يوماً إلى جميع من فيها من الخدم والحاشية عليهم الخزوز الفاخرة الملونة، فاعتزل ناحية وأخذ يكتب شيئاً، فسأل الصاحب عنه: فقيل: إنه غي مجلس كذا يكتب، فقال: علي به، فاستمهل الزعفراني ريثما يكمل مكتوبه، فأعجله الصاحب، وأمر بأن يؤخذ ما في يده من الدرج، فقام الزعفراني أليه، وقال: أيد الله الصاحب:
اسمعه ممن قاله تزدد به ... عجباً فحسن الورد في أغصانه
قال: هات يا أبا القاسم، فأنشده أبياتاً منها:
سواك يعد الغنى ما اقتنى ... ويأمره الحرص أن يخزنا
وأنت ابن عبادٍ المرتجى ... تعدّ نوالك نيل المنى

وخيرك من باسطٍ كفّهوممن ثناها قريب الجنى
غمرت الورى بصنوف الندى ... فأصغر ما ملّكوه الغنى
وغادرت أشعرهم مفحماً ... وأشكرهم عاجزاً ألكنا
أيا من عطاياه تهدى الغنى ... إلى راحتي من نأى أو دنا
كسوت المقيمين والزائرين ... كسى لم يخل مثلها ممكنا
وحاشية الدار يمشون في ... ضروب من الخز إلاّ أنا
ولست أذكر لي جارياً ... على العهد يحسن أن يحسنا
فقال الصاحب: قرأت في أخبار مع بن زائدة، أن رجلاً قال له: احملني أيها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغلة وحمار وجارية، ثم قال له: لو علمت أن الله تعالى خلق مركوباً غير هذه لحملتك عليه، وقد أمرنا لك من الخز بجبة وقميص ودراعة وسراويل وعمامة ومنديل ومطرف ورداء وجورب، ولو علمنا لباساً آخر يتخذ من الخز لأعطيناكه، ثم أمر بإدخاله الخزانة، وصب تلك الخلع عليه وتسليم ما فضل عن لبسه في الوقت إلى غلامه.
وحدثني أبو عبد الله محمد بن حامد الحامدي، قال: عهدي بأبي محمد الخازن ماثلاً بين يدي الصاحب ينشده قصيدة له فيه، أولها:
هذا فؤادك نهبي بين أهواء ... وذلك رأيك شورى بين أراء
هواك بين العيون النجل مقتسمٌ ... داءٌ لعمرك ما أبلاه من داء
لا تستقرّ بأرض أو تسير إلى ... أخرى بشخصٍ قريبٍ عزمه نائي
يوماً بحزوة ويوماً بالعقيق وبال ... عذيب يوماً ويوماً بالخليصاء
وتارةً تنتحي نجداً وآونةً ... شعب العقيق وطوراً قصر تيماء
قال: فرأيت الصاحب مقبلاً عليه بمجامعه حسن الإصغاء إلى إنشاده، مستعيداً أكثر أبياته، مظهراً من الإعجاب به، والاهتزاز له، ما يعجب الحاضرين فلما بلغ قوله:
أدعى بأسماء نبزاً في قبائلها ... كأنّ أسماء أضحت بعض أسمائي
أطلعت شعري وألقت شعرها طرباً ... فألّفا بين إصباحٍ وإمساء
زحف عن دسته طرباً، فلما بلغ قوله ف بالمدح:
لو أن سحبان باراه لأسحبه ... على خطابته أذيال فأفاء
أرى الأقاليم قد ألقت مقالدها ... إليه مستبقاتٍ أي إلقاء
فساس سبعتها منه بأربعةٍ ... أمرٌ ونهيٌ وتثبيتٌ وإمضاء
كذاك توحيده ألوى بأربعةٍ ... كفرٌ وجبرٌ وتشبيهٌ وإرجاء
جعل يحرك رأس مستحسن، فلما أنشد:
نعم تجنّب " لا " يوم العطاء كما ... تجنّب ابن عطاءٍ لثغة الراء
استعاده وصفق بيديه، ولما ختمها بهذه الأبيات:
أطرى وأطرب بالأشعار أنشدها ... أحسن ببهجة إطرابي وإطرائي
ومن منائح مولانا مدائحه ... لأنّ من زنده قدحي وإيرائي
فخذ إليك ابن عباد محبرةً ... لا البحتري يدانيها ولا الطائي
قال: أحسنت أحسنت، ولله أنت، وتناول النسخة وتشاغل بإعارتها نظره، ثم أمر بخلعة وحملان وصلة.
وسمعت أبا عبد الله أيضاً يقول: أهدي إلى الصاحب هدية أهدى منها إلى شيخ الدولتين أبي سعيد الشبيبي، وكتب معها رقعة مصدرة بهذا البيت:
رويت السُّنّة المشهورة البركه ... أن الهدية في الإخوان مشتركه
وحدثني أبو الحسين محمد بن الحسين الفارسي النحوي، قال: سمعت الصاحب يقول: أنفذ إلى أبو العباس تاش الحاجب رقعة في السر بخط صاحبه نوح بن منصور ملك خراسان يريدني فيها على الانحياز إلى حضرته، ليلقى إلى مقاليد مملكته، ويعتمدني لوزارته، ويحكمني في ثمرات بلاده. فكان فيما اعتذرت به من تركي امتثال أمره والصدر ع رأيه، ذكر طول ذيلي وكثرة حاشيتي وضمنتي وحاجتي لنقل كتبي خاصة إلى أربعمائة جمل، فما الظن بما يليق بها من تحمل مثلي!

وحدثني أيضاً، قال: سمعت الصاحب يقول: حضرت مجلس ابن العميد عشية من عشايا شهر رمضان، وقد حضره الفقهاء والمتكلمون للمناظرة، وأنا إذ ذاك في ريعان شبابي، فلما تقوض المجلس، وانصرف القوم، وقد حل الإفطار نكرت ذلك فيما بيني وبين نفسي، واستقبحت إغفاله المر بتفريط الحاضرين مع وفور رياسته، واتساع حاله، واعتقدت ألا أخل بما أخلّ به إذا قمت يوماً مقامه، قال: فكان الصاحب لا يدخل عليه في شهر رمضان بعد العصر أحد كائناً من كان فيخرج من داره إلا بعد الإفطار عنده، وكانت داره لا تخلو في كل ليلة من ليالي شهر رمضان من ألف نفس مفطرة فيها، وكانت صلاته وصدقاته وقرباته في هذا الشهر تبلغ مبلغ ما يطاق منها في جميع شهور السنة.
وحدثني بديع الزمان أبو الفضل الهمذاني، قال: لما أدخلني والدي إلى الصاحب ووصلت إلى مجلسه، واصلت الخدمة بتقبيل الأرض، فقال لي: يا بني اقعد، كم تسجد. كأنك هدهد! قال: وقد قال يوماً لبعض من تأخر هم مجلسه لعلة وجدها: ما الذي كنت تشتكيه؟ قال " الحما " قال " قه " يعني " الحماقة " فقال " وه " يعني " القهوة " .
قال: واستأذن عليه الحاجب يوماً لإنسان طرسوسي فقال " الطر " في لحيته، و " السوس " في حنطته.
وسمعت الأمير أبا الفضل الميكالي يقول: سمعت بعض ندماء الصاحب يقول: كنت يوماً بين يدي الصاحب فقدم الصاحب فقلت " لا مترك " فقال " بالعجلة لمترك " ؟ وكنت أريد أن أقول لا مترك للبطيخ فسبقني إلى التنادر بهذا التجنيس.
حدثني أبو منصور البيع قال: دخلت يوماً على الصاحب فطاولته الحديث فلما أردت القيام قلت: لعلّي طوّلت فقال: لا بل تطوّلت.
وحدثني أبو منصور اللجيمي الدينوري، قال أهدي العميري قاضي قزوين إلى الصاحب كتباً وكتب معها:
العميري عبد كافي الكفاة ... ومن اعتدّ في وجوه القضاة
خدم المجلس الرفيع بكتبٍ ... مفعماتٍ من حسنها مترعات
فوقع تحتها:
قد قبلنا من الجميع كتاباً ... ورددنا لوقتها الباقيات
لست أستغنم الكثير فطبعي ... قول خذ، ليس مذهبي قول هات
قال: وكتب إليه بعض العلوية يخبر بأنه رزق مولوداً، ويسأله أن يسميه ويكنيه فوقع في رقعته.
أسعدك الله بالفارس الجديد، والطالع السعيد، فقد والله ملأ العين قرة، والنفس مسرة مستقرة. والاسم عليّ ليعلي الله ذكره، والكنية أبو الحسن ليحسن الله أمره. فإني أرجو له فضل جده، وسعادة جده، وقد بعثت لتعويذه ديناراً من مائة مثقال، قصدت به مقصد الفال، رجاء أن يعيش مائة عام، ويخلص خلاص الذهب الإبريز من نوب الأيام، والسلام.
قال: وكتب إليه أبو منصور الجرجاني:
قل للوزير المرتجى ... كافي الكفاة الملتجى
إني رزقت ولداً ... كالصبح إذ تبلجا
لا زال في ظلّك ظ ... ل المكرِمات والحجى
فسمِّه وكنِّهٍ ... مشرَّفاً متوّجا
فوقع تحتها:
هنئته هنتئه ... شمس الضحى بدر الدجى
فسمّه محسّناً ... وكنّه أبا الرجا
وعرض على بعض الإصبهانيين رقعة لأبي حفص الوراق الإصبهاني، قد أخذ منها البلى، وفيها توقيع الصاحب، وهذه نسخة الرقعة: لولا أن الذكرى - أطال الله بقاء مولانا الصاحب الجليل! - تنفع المؤمنين، وهزة الصمصام تعين المصلتين، لما ذكرت ذاكراً، ولا هززت ماضياً. ولكن ذا الحاجة لضرورته يستعجل النجح، ويكن الجواد السمح. وحال عبد مولانا - أدام الله تأييده! - في الحنطة مختلفه، وجرذان داره عنها منصرفه. فإن رأى أن يخلط عبده بمن أخصب رحله، ولم يشد رحله، فعل إن شاء الله تعالى... وهذه نسخة التوقيع: أحسنت أبا حفص قولاً، وسنحسن فعلاً، فبشر جرذان دارك بالخصب، وأمنها من الجدب، فالحنطة تأتيك في الأسبوع، ولست عن غيرها من النفقة بممنوع، إن شاء الله تعالى.

وسمعت أبا النصر محمد بن عبد الجبار العتبي، يقول: كتب بعض أصحاب الصاحب رقعة إليه في حاجة فوقع فيها، ولما ردت إليه لم ير فيها توقيعاً، وقد تواترت الأخبار بوقوع التوقيع فيها، فعرضها على أبي العباس الضبي، فما زال يتصفحها، حتى عثر بالتوقيع وهو ألف واحدة وكان في الرقعة: فإن رأى مولانا أن ينعم بكذا فعل، فأثبت الصاحب أمام " فعل " ألفأ يعني " أفعل " .
وسمعت الأمير أبا الفضل الميكالي، يقول: كتب بعض العمال رقعة إلى الصاحب في التماس شغل، وفي الرقعة: إن رأى مولانا أن يأمر بإشغالي ببعض أشغاله، فوقع تحتها: من كتب إشغالي، لا يصلح لأشغالي.
وحدثني أبو الحسن علي بن محمد الحميري، قال: رفع الضرابون من دار الضرب قصة إلى الصاحب في ظلامة لهم مترجمة بالضرابين، فوقع تحتها " في حديد بارد " .
وحدثني أبو سعد نصر بن يعقوب، قال: كان الصاحب يقول بالليالي لجلسائه إذا أراد أن يبسطهم ويؤنسهم: نحن بالنهار سلطان، وبالليل إخوان.
وحدثني أيضاً قال: قال الصاحب: ما أفحمني أحد كالبديهي، فإنه كان عندي يوماً، وأتينا بفاكهة ومشمش فأمعن فيه، فاتفق أتي قلت: إن المشمش يلطخ المعدة، فقال: لا يعجبني الميزبان إذا تطبب.
وسمعت أبا نصر سهل بن المرزبان يقول: كان الصاحب إذا شرب ماء بثلج أنشد على أثره:
قعقعة الثلج بماءٍ عذبِ ... تستخرج الحمد من أقصى القلب
ثم يقول: اللهم جدد اللعن على يزيد.
وحدثني أبو الحسن الدلفي المصيصي، قال: انتحل فلان يعني أحد المتشاعرين بحضرة الصاحب شعراً له، وبلغه ذلك، فقال: أبلغوه عني:
سرقت شعري، وغيري ... يضام فيه ويخدع
فسوف أجزيك صفعاً ... يكدُّ رأساً وأخدع
فسارق المال يقطع ... وسارق الشعر يصفع
قال: فاتخذ الليل جملاً، وهرب من الريّ.
وحدثني غيره قال: كتب إنسان إلى الصاحب رقعة وقد أغار فيها على رسائله وسرق جملة من ألفاظه، فوقع فيها هذه بضاعتنا رُدت إلينا.
ووقع في رقعة استحسنها أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟.
ووقع في كتاب بعض مخالفيه فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.
ووقع في رقعة أبي محمد الخازن وكان ذهب مغاضباً ثم كتب إليه يستأذنه في معاودة حضرته ألم نربّك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت.
وعرض على أبو الحسن الشقيقي البلخي توقيع الصاحب إليه في رقعة: من نظر لدينه نظرنا لدنياه، فإن آثرت العدل والتوحيد، بسطنا لك الفضل والتمهيد، وإن أقمت على الجبر، فليس لكسرك من جبر.
ووقع في رقعة بعض خطاب الأعمال: التصرف لا يلتمس بالتكفف إن احتجنا إليك صرفناك، وإلا صرفناك.
ورفه إليه بعض منهي الأخبار: أن رجلاً ممن ينطوي له على غير الجميل يدخل داره في الناس، ثم يتلوّم على استراق السمع، فوقع: دارنا هذه خان، يدخلها من وفى ومن خان.
وحدثني أبو الحسين النحوي قال: كان مكي المنشد قد انتاب الصاحب بجرجان، وكان قديم الخدمة له، أدبه غير مرة، فأمر الصاحب بخبسه، فحبس في دار الضرب وهي بجواره بجرجان، فاتفق أنه صعد يوماً سطح داره لحاجة في نفسه وأشرف على دار الضرب، فلما رآه مكي نادى بأعلى صوته: فاطلع فرآه في سواء الجحيم فضحك الصاحب وقال اخشوا فيها ولا تكلمون ثم أمر بإطلاقه.
وحدثني أبو النصر العتبي قال: سمعت أبا جعفر دهقان بن ذي القرنين يقول: قدمت إلى الصاحب هدية أصحبنيها الأمير أبو علي محمد بن محمد برسمه واعتذرت إليه بأن قلت: إنها إذا نقلت إلى حضرته من خراسان كانت كالتمر ينقل إلى كرمان. فقال: قد ينقل التمر من المدينة إلى البصرة على جهة التبرك وهذه سبيل ما يصحبك.
وحدثني الهمداني قال: كان واحد من الفقهاء يعرف بابن الخضيري، يحضر مجلس النظر للصاحب بالليالي، فغلبته عيناه مرة وخرج منه ريح لها صوت، فخجل وانقطع عن المجلس، فقال الصاحب: أبلغوه عني:
يا ابن الخضيريّ لا تذهبْ على خجل ... لحادثٍ منك مثل الناي والعود
فإنها الريح لا تستطيع تحبسها ... إذ أنت لست سليمان بن داود
وحكي أن مثل هذا الأمر وقع للهمداني في مجلس الصاحب فخجل، وقال: صرير التخت، فقال الصاحب: أخشى أن يكون صرير التحت، فيقال إن هذه الخجلة كانت سبب مفارقته الحضرة وخروجه إلى خراسان.

وحدثني أبو نصر النمري بجرجان قال: سمعت القاضي أبا الحسن علي بن عبد العزيز يقول: انصرفت يوماً من دار الصاحب، وذلك قبيل العيد، فجاءني رسول بعطر الفطر ومعه رقعة بخطه فيها هذان البيتان:
يا أيها القاضي الذي نفسي له ... مع قرب عهد لقائه مشتاقه
أهديت عطراً مثل طيب ثنائه ... فكأنّما أهدى له أخلاقه
وقال: سمعته يقول: إن الصاحب يقسم لي من إقباله وإكرامه بجرجان أكثر مما يتلقاني بع في سائر البلاد، وقد استعفيت يوماً من فرط تحفّيه بي أو توضّعه لي، فأنشدني:
أكرم أخاك بأرض مولده ... وأمدّه من فعلك الحسن
فالعزّ مطلوبٌ وملتمسٌ ... وأعزه ما نيل في الوطن
ثم قال لي: قد فرغت من خذا المعنى في العينية، فقلت: لعل مولانا يريد قولي:
وشيّدت مجدي بين قومي فلم أقلْ ... ألا ليت قومي يعلمون صنيعي
فقال: ما أردت غيره، والأصل فيه قول الله تعالى " يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين " .
وحدثني أبو حنيفة الدهشتاني، قال: كتب الصاحب إلى أبي هاشم العلوي وقد أهدى إليه في طبق فضة عطراً:
العبد زارك نازلاً برواقكا ... يستنبط الإشراق من إشراقكا
فأقبل من الطيب الذي أهديته ... ما يسرق العطار من أخلاقكا
والظُّرف يوجب أخذه مع ظَرفِه ... فأضف به طبقاً إلى أطباقكا
وحدثني عون بن الحسين الهمداني، قال: سمعت أبا عيسى بن المنجم يقول: سمعت الصاحب يقول: ما استأذن لي على فخر الدولة وهو في مجلس الأنس إلا انتقل إلى مجلس الحشمة، فيأذن لي فيه، وما أذكر أنه تبذّل بين يدي ومازحني قطّ إلا مرة واحدة، فإنه قال لي في شجون الحديث، بلغني أنك تقول المذهب الاعتزال، والنيك نيك الرجال. فأظهرت الكراهة لانبساطه وقلت بنا من الجد ما لا نفرغ للهزل، ونهضت كالمغاضب، فما زال يعتذر إليّ مراسلة، حتى عاودت مجلسه، ولم يعد بعدها لما يجري مجرى الهزل والمدح.
وسمعت أبا الحسن العلوي الهمداني الوصي، قال: لما توجهت تلقاء الري في سفارتي إليها من جهة السلطان، فكرت في كلام ألقى به الصاحب. فلم يحضرني ما أرضاه، وحين استقبلني في العسكر، وأفضى عناني إلى عنانه، جرى على لساني " ما هذا بشراً إلا ملك كريم " فقال " إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون " ثم قال: مرحباً بالرسول ابن الرسول، الوصي ابن الوصي.
وحدثني أبو الحسين النحوي قال: كان الصاحب منحرفاً عن أبي الحسين ابن فارس لانتسابه إلى خدمة ابن العميد، وتعصبه له، فأنفذ إليه من همدان كتاب الحجر من تأليفه، فقال الصاحب: رد الحجر من حيث جاءك، ثم لم تطب نفسه بتركه، فنظر فيه وأمر له بصلة.
وسمعت أبا القاسم الكرخي يقول: دخل أبو سعيد الرستمي يوماً دار الصاحب فنظر إلى الخلع والأحبية السلطانية المحمولة برسم الصاحب والناس يقيمون رسم النثار لها، فارتجل قصيدة أولها:
ميلوا إلى هذه النعمى نحييها ... ودار ليلى فخلّوها لأهليها
وسمعت أبا جعفر الطبري الطبيب المعروف بالبلاذري، يقول: إن للصاحب رسالة في الطب لو علمها ابن قرة وابن زكرياء لما زادا عليها. فسأله أن يعيرنيها إن كانت عنده، فذكر أنها في جملة ما غاب عنه من كتبه، فاستغربت واستبعدت ما حكاه من تطبب الصاحب ونسبته في نفسي إلى التزيد والتكثر، إلى أن ظفرت في نسخة الرسائل المؤلفة المبوبة للصاحب برسالة قدرتها تلك التي ذكرها أبو جعفر، ووجدتها تجمع إلى ملاحة البلاغة، ورشاقة العبارة، حسن التصرف في لطائف الطب وخصائصه، وتدل على التبحر في علمه وقوة المعرفة بدقائقه، وهذه نسختها، وأكثر ظني أنه قد كتبها إليّ أبو العباس الضبي.

قد عرفت ما شرحه مولاي من أمره، وأنبأ عنه من أحوال جسمه، فدلتي جملته على بقايا في البدن يحتاج معها إلى الصبر على التنقية، والرفق بالتصفية، فأما الذي يشكوه من ضعف معدته وقلة شهوته فلأمرين: أحدهما أن الجسم كما قلت آنفاً لم ينق فتنفتق الشهوة الصادقة وترجع العادة السابقة. والآخر أن المعدة إذا دامت عليها المطفئات ولزت بها المبردات قلت الشهوة وضعف الهضم، ومع ذلك فلا بد مما يطفي ويغذي. ثم يمكن من بعد أن يتدارك ضعف المدة بما يقوى منها ويزيل العارض المكتسب عنها، كما يقول الفاضل جالينوس: قدم علاج الأهم ثم عد وأصلح ما أفسدت. والأقراص في آخر الحميات خير ما نقيت به المعدة، وأصلحت بها العروق. وقوي به الطحال، ليتمكن من جدب العكر لا سيما والذي وجده مولاي ليس الذنب فيه للحميات التي وجدها والبلدة التي وردها، فلو صادف الهواء المتغير جسداً نقياً من الفضول لما أثر هذا التأثير. ولا طول هذا التطويل. وإنما اغتر مولاي بأيام السلامة فكان يتبسط في أنواع الطعام ويسرف في تناول الشراب، فامتلأ الجسم من تلك الكيموسات الرديئة، وورد بلداً شديد التحليل مضطرب الأهوية فوجدت النفس عوناً على حل مل انعقد. ونقض ما اجتمع. وسيتفضل الله بالسلامة فتطول صحبتها وتتصل مدتها لأن الجسد يخلص خلاص الإبريز، إذا زال عنه الخبث، وسبك ففارقه الدرن. وأما الرعشة التي يتألم مولاي منها، ويضيق صدراً بها، فليست والحمد لله محذورة العاقبة، وإنها لتزول بإقبال العافية. فالرعشة التي تتخوف هي التي تعرض من ضعف القوة الحيوانية كما تعرض للمشايخ، وتؤذي لمشاركتها الدماغ كثيراً من العظام، فأما هذه التي تعتاد عقيب الحمى فهي على ما قال جالينوس من أن حدوثها يكون إذا شاركت العروق التي تحدث فيها علة العصب، وتزول عنه بزوال الفضل. وعجب مولاي من تكرهه شم الفواكه، ولا غرو إذا عرف السبب، فإن العفونة التي في العروق قد طبقت روائحها آلات الشم، فما يصل إليها من الروائح الزكية، يرد على النفس مغموراً بتلك الروائح الخبيثة فتكرهها ولا تقبلها. وتأباها ولا تؤثرها.
ألا يرى مولاي أن الأشياء الحلوة توجد في فم ذي الصفراء بطعم الأشياء المرة، لامتلاء المرارة المضادة للحلاوة على آلات الذوق والمضغ والإدارة وهذا راجع إلى مثل ما حكمنا به أولاً من أن هناك فضلاً لا يمكن الهجوم على تحليله، لما يخشى من سقوط القوة، وإن كان مما لم يخرج لم يوثق بوفور الصحة، وأنا أحمد الله إذ ليست شهوة سيدي متزايدة، فالشهوة الغالبة مع الأخلاط الفاسدة تغري صاحبها بالأكل الزائد، وتعرض للمزاج الفاسد. إلا أن التغذي لا يجوز إهماله دفعة والتبرم به ضربة. فإن البدن إذا احتاج إليه وجب للعليل أن يتناوله تناول الدواء الذي يصبر عليه. وذلك أن في دقة الحمية وترك الرجوع أول فأول إلى عادة الصحة إماتة للشهوة، وخيانة للقوة.
وجالينوس يشرط في العلاجات أجمع استحفاظ القوى، لأن الذي يفعله الضعف لا يتداركه أمر، إلا أن ذلك بإزاء ما قال الحكيم الأول بقراط في البدن السقيم: إنك متى ما زدته غذاء زدته شراً، وهو في نفسه يقول: إن الحمية التي في غاية الدقة ليست محمودة، فالطرفان من الإسراف والإجحاف مذمومان، والواسطة أسلم، أغنى الله مولاي عن الطب والأطباء بالسلامة والشفاء.
وسمعت عوناً الهمداني يقول: أتى الصاحب بغلام مثاقف، فلعب بين يديه، فاستحسن صورته. وأعجب بمثاقفته، فقال لأصحابه: قولوا في وصفه، فلم يصنعوا شيئاً، فقال الصاحب:
مثاقفٌ في غاية الحذق ... فاق حسان الغرب والشرق
شبّهته والسيف في كفّه ... بالبدر إذ يلعب بالبرق
وأنشدني أبو سعيد بن دوست الفقيه، قال: أنشدني أبو علي العراقي العوامي الرازي، قال: أنشدني الصاحب لنفسه:
كم نعمةٍ عندك موفورة ... لله فاشكرْ يا ابن عباد
قمْ فالتمس زادك وهو التقى ... لن تسلك الطرق بلا زاد

جرى الشعراء بحضرة الصاحب
في ميدان اقتراحه الديارات
أقرأني أبو بكر الخوارزمي كتاباً لأبي محمد الخازن ورد عليه في ذكر الدار التي بناها الصاحب بإصبهان وانتقل إليها، واقترح على أصحابه وصفها، وهذه نسخته بعد الصدر.

نعم الله عند مولانا الصاحب أدام الله تأييده مترادفة، وأياديه لديه متضاعفة، وأرى أولياء النعم كبت الله أعداءهم تتظاهر كل يوم حسناً في إعظامه وبصائرهم تترامى قوة في إكرامه، والوفود على بابه المعمور، كرجل الجراد، وانتقل إلى البناء المعمور بالفأل المسعود فرأينا يوماً مشهوداً، وعيداً يجنب عيداً، واجتمع المادحون، وقال القائلون، ولو حضرتني القصائد لأنفذتها إلا أني علقت من كل واحدة ما علق بحفظي. والشيخ يعرف ملك النسيان لرقي، فقصيدة الأستاذ أبي العباس الضبي أولها:
دار الوزارة ممدودٌ سرادقها ... ولا حقٌّ بذرى الجوزاء لاحقها
والأرض قد واصلت غيظ السماء بها ... فقطرها أدمعٌ تجري سوابقها
بودّها أنها من أرض عرصتها ... وأن أنجمها فيها طوابقها
فمن مجالي يخلفن الطواوس قد ... أبرزن في حللٍ شاقت شقائقها
ومن كنائس يحكين العرائس قد ... ألبسن مجسدة راقت طرائقها
تفرّعت شرفاتٌ في مناكبها ... يرتدّ عنها كليل العين رامقها
مثل العذارى وقد شدّت مناطقها ... وتوّجت بأكاليل مفارقها
كلّ امرئٍ سوّغته الحجب رؤيتها ... وأشرقت في محيّاه مشارقها
مخلِّفٌ قلبه فيها وناظره ... إذا تجلّت لعينيه حقائقها
والدهر حاجبها يحمي مواردها ... عن الخطوب إذا صالت طوارقها
مواردٌ كلما همّ العفاة بها ... عادت مفاتح للنعمى مغالفها
دار الأمير التي هذي وزارتها ... أهدت لها وشحاً راقت نمارقها
هذي المعالي التي اغتصّ الزمان بها ... وافتك منسوفة والله ناسفها
إن الغنائم قد آلت معاهدةً ... لا زايلتها ولا زالت تعانقها
لأرضها كلّما جادت مواهبها ... وفي ديار معاديها صواعقها
ومن قصيدة الشيخ أبي الحسن صاحب البريد وهو ابن عمة الصاحب:
دارٌ على العزّ والتأييد مبناها ... وللمكارم والعلياء مغناها
دارٌ، تباهى بها الدنيا وساكنها ... طرّاً، وكم كانت الدنيا تمنّاها
فاليمن أصبح مقروناً بيمناها ... واليسر أصبح مقروناً بيسراها
من فوقها شرفاتٍ طال أدناها ... يد الثريا فقلْ لي كيف أقصاها
كأنها غلمةٌ مصطفّةٌ لبستْ ... بيض الغلائل أمثالاً وأشباها
انظر إلى القبّة الخضراء مذهبةً ... كأنما الشمس أعطتها محيّاها
تلك الكنائس قد أصبحن رائقةً ... مثل الأوانس تلقانا وتلقاها
فالربع بالمجد لا بالصحن متسعٌ ... والبهو لا بالحلى بل بالعلا باهى
لما بنى الناس في دنياك دورهم ... بنيت في دارك الغرّاء دنياها
فلو رضيت مكان البُسْط أعيننا ... لم تبق عينٌ لنا إلا فرشناها
وهذه وزراء الملك قاطبةً ... بيادق، لم تزل ما بيننا شاها
فأنت أرفعها مجداً وأسعدها ... جدّاً وأجودها كفّاً وأكفاها
وأنت آدبها بل أنت اكتبها ... وأنت سيدها بل أنت مولاها
كسوتني من لباس العزِّ أشرفه ... المال والعزّ والسلطان والجاها
ولست أقرب إلا بالولاء وإنْ ... كانت لنفسي من علياك قرباها
ومن قصيدة مولاي أبي الطيب الكاتب:
ودارٍ ترى الدنيا عليها مدارها ... تحوز السماء أرضها وديارها
بناها ابن عبادٍ ليعرض همّةً ... على هممٍ إسرافهنّ اقتصارها
يردُّ على الدنيا بها كلّ غدرةٍ ... إذا ما تبارت داره وديارها
وإن قيل بهتاً قد حكت تلك هذه ... فقد يتوارى ليلها ونهارها
فإن لم يكن في صحن دارك بعض ما ... أصدر فالدنيا يصحّ اعتذارها
ومن قصيدة أبي سعيد الرستمي:
نصبن لحبات القلوب حبائلا ... عشيّة حلّ الحاجبات حبائلا

نشدن عقولاً يوم برقة منشدٍ ... ضللن فطالبنا بهن العقائلا
عقائل من أحياء بكرٍ ووائلٍ ... يحببن للعشّاق بكراً ووائلا
عيونٌ ثكلن الحسن منذ فقدنها ... ومن ذا رأى قلبي عيوناً ثواكلا
جعلت ضنى جسمي لديها ذرائعاً ... وسائل دمعي عندهنّ وسائلا
وركب سَروا حتى حسبت بأنهم ... لسرعتهم عدواً إليك المراحلا
إذا نزلوا أرضاً رأوني نازلاً ... وإنْ رحلوا عنها رأوني راحلا
وإنْ أخذوا في جانبٍ ملت آخذاً ... وإنْ عدلوا عن جانبٍ ملت عادلا
وإنْ وردوا ماء وردت وإن طووا ... طويت وإن قالوا تحوّلت قائلا
وإنْ نصبوا للحرّ حرَّ وجوههم ... تمثّلت حرباء على الجِذل مائلا
وإن عرفوا أعلام أرضٍ عرفتها ... وإن أنكروا أنكرت منها المجاهلا
وإن عزموا سيراً شددت رحالهم ... وإن عزموا حلاًّ حللت الرحائلا
وإن وردوا ماءً حملت سقاءهم ... أو انتجعوا غيثاً حدوت الزواملا
أو استنفدت خوص الركائب منهلاً ... أعدن لهم من فيض دمعي مناهلا
يظنّون أني سائلٌ فضل زادهمْ ... ولولا الهوى ما ظنّني الركب سائلا
وأقسمت بالبيت الجديد بناؤه ... يحيّي ومن يحفي إليه المراقلا
هي الدار أبناء الندى من حجيجها ... نوازل في ساحاتها وقوافلا
يزرنك بالأمال مثنىً وموحداً ... ويصدرن بالأموال دثراً وجاملا
قواعد إسماعيل يرفع سمكها ... لنا كيف لا نعتدّهنّ معاقلا
فكم أنفسٍ تأوي إليها مغذّةً ... وأفئدة تهوي إليها حوافلا
وسامية الأعلام تلحظ دونها ... سنا النجم في آفاقها متضائلا
نسخت بها إيوان كسرى بن هرمزٍ ... فأصبح في أرض المدائن عاطلا
فلو أبصرت دار العماد عمادها ... لأمست أعاليها حياءً أسافلا
ولو لحظت جنّات تدمر حسنها ... درت كيف تبنى بعدهنّ المجادلا
يناطح قرن الشمس من شرفاتها ... صفوف ظباء فوقهنّ مواثلا
وعولٌ بأطراف الجبال تقابلت ... ومدّت قروناً للنطاح موائلا
كأشكال طير الماء مدّت جناحها ... وأشخصن أعناقاً لها وحواصلا
وردّت شعاع الشمس فارتدّ راجعاً ... وسدّت هبوب الريح فارتدّ ناكلا
إذا ما ابن عبادٍ مشى فوق أرضها ... مشى الزهو في أكتافها متمايلا
كنائس ناطت بالنجوم كواهلاً ... وعادت فألقت بالنجوم كلاكلا
وفيحاء لو مرّت صبا الريح بينها ... لضلّت فظلّت تستنير الدلائلا
متى ترها خلت السماء سرادقاً ... عليها وأعلام النجوم تماثلا
ومنها في وصف الماء الجاري، وهو أحسن ما سمعت فيه على كثرته:
هواءٌ كأيام الهوى فرط رقةٍ ... وقد فقد العشّاق فيها العواذلا
وماءٍ على الرضراض يجري كأنه ... صفائح تبرٍ قد سكن جداولا
كأنّ بها من شدّة الجري جنّةً ... فقد ألبستهنّ الرياح سلاسلا
ولو أصبحت داراً لك الأرض كلها ... لضاقت بمن ينتاب دارك أملا
ولو كنت تبنيها على قدر همّةٍ ... سمت بك واستسرت إليك المراسلا
عقدت على الدنيا جداراً فحرزتها ... جميعاً، ولم تترك لغيرك طائلا
وأغنى الورى عن منزلٍ من بَنَتْ له ... معاليه فوق الشعريين منازلا
ولا غرو أن يستحدث الليث بالسرى ... عريناً، وان يستطرف البحر ساحلا
ولم يعتمد داراً سوى حومة الوغى ... ولا خدماً إلاّ القنا والقنابلا

ولا حاجباً إلا حساماً مهنّداً ... ولا عاملاً إلا سناناً وعاملا
ووالله ما أرضى لك الدهر خادماً ... ولا البدر منتاباً ولا البحر نائلا
ولا الفلك الدوار داراً ولا الورى ... عبيداً ولا زهر النجوم قبائلا
أخذت بضبع الأرض حتى رفعتها ... إلى غايةٍ أمسى بها النجم جاهلا
فإن الذي يبنيه مثلك خالدٌ ... وسائر ما يبنى الأنام إلى بلى
ومن قصيدة أبي الحسن الجرجاني:
ليهنَ ويسعدْ من به سعُد الفضل ... بدارٍ هي الدنيا، وسائرها فضل
تولّ!ى له تقديرها رحب صدره ... على قدره، والشكل يعجبه الشكل
بنيّة مجدٍ تشهد الأرض أنها ... ستطوى وما حاذى السماء لها مثل
تكلّف أحداق تشهد العيون تخاوصاً ... إليه كأنّ الناس كلّهم قبل
منارٌ لأبصار الرواة، وربّها ... منارٌ لآمال العفاة إذا ضلّوا
سحابٌ علا فوق السحاب مصاعداً ... وأحرى بأن يعلو وأنت له وبل
وقد أسبل الخيري كمي مفاخرٍ ... بصحنٍ به للملك يجتمع الشمل
كما طلع النسر المنير مصفّقاً ... جناحيه لولا أن مطلعه عقل
بنيت على هام العداة بنيّةً ... تمكّن منها في قلوبهم الغلُّ
ولو كنت ترضى هامهم شرفاً لها ... أتوك بها جهد المقلّ ولم يألوا
ولكن أراها لو هممت برفعها ... أبى الله أن تعلو عليك فلم تعلو
تحجُّ لها الآمال من كلّ وجهةٍ ... وينحر في حافاتها البخل والمحل
وما ضرّها ألاّ تقابل دجلةً ... وفي حافتيها يلتقي الفيض والهطل
تجلّى لأطراف العراق سعودها ... فعاد إليها الملك والأمن والعدل
كذا السعد قد ألقى عليها شعاعه ... فليس لنحسٍ في مطارحها فعل
وقالوا تعدّى خلقه في بنائها ... وكان وما غير النوال به شغل
فقلت إذا لم يلهه ذاك عن ندىً ... فماذا على العلياء إنْ كان لا يخلو
إذا النصل لم يذمم نجاراً وشيمةً ... تأنّق في غمدٍ يصان به النصل
تملّ على رغم الحواسد والعدى ... علاك، وعش للجود ما قبح البخل
ومن قصيدة أبي القاسم الزعفراني:
سرّك الله بالبناء الجديد ... تلك حال الشكور لا المستزيد
هذه الدار جنّة الخلد في الدن ... يا فصلها وأختها بالخلود
أمةٌ زيّنت لسيدها الما ... لك لا زينة الفتاة الرود
حليها حسنها فقد غنيت عن ... كل مستطرفٍ بلبس التليد
إرم المسلمين لا ذكر شدّا ... د بن عادٍ فيها ولا اسم شديد
ما تشكّكت أن رضوان قد خا ... ن وإلا لم مثلها في الصعيد؟
كلّ مستخدمٍ فداء وزيرٍ ... خدمته الرجال بعد الأسود
ألزم الإنس كلّ جافٍ شديدٍ ... عمل الجن كل جافٍ مريد
فابتنوا ما لو أن هامان يدنو ... منه لم يرض صرحه للصعود
قد تولى الإقبال خدمته في ... ه على رسمه كبعض الجنود
ودرى أنه يزيد معيناً ... مثله فاستعان بالتسميد
قال للجصّ كن رصاصاً وللآ ... جر لما علاه كن من حديد
فتناهى البنيان وارتفع الإي ... وان حتى أناف بالتشديد
وتبدّت من فوقه شرفاتٌ ... كنساءٍ أشرفن في يوم عيد
قسماً لا مدحت بعد ابن عبا ... د منيل الشباب والتخليد
لا لقيت الزمان إلا بوجهٍ ... ماؤه لا يجول في جلمود
ويدٍ ما حسرت ردّني عنها ... فهي سيفٌ يصان عن تجريد

أجمع الناس أنه أفضل النا ... س اضطراراً أغنى عن التقليد
فلهذا أعدّ قربي منه ... نعمةً ليس فوقها من مزيد
لا ذكرت العراق ما عشت إلا ... أن أراه يؤمه في الجنود
ومن قصيدة أبي القاسم بن أبي العلاء:
دارٌ تمكّنت المناهج فيها ... نطقت سعود العالمين بفيها
ومن قصيدة أبي محمد بن المنجم:
هجرت ولو أنو الصدود ولا الهجرا ... ولا أضمرت نفسي الصروف ولا الغدرا
وكيف وفي الأحشاء نار صبابةٍ ... تشبّب لي في كلّ جارحةٍ جمرا
تقول لي الأفكار لما دعوتها ... لتنظم في معمور بنيانه شعرا
بنى مسكناً باني المفاخر أم فخراً ... وجنّتنا الأولى بدت أم هي الأخرى؟
أم الدار قد أجرى الوزير سعودها ... فلم تجر دارٌ في الثرى المجرى
وتبدو صحونٌ كالظنون فسيحة ... تقدّرها حلماً فتنعتها حزرا
وفي القبة العلياء زهر كواكبٍ ... من الضرب المضروب والذهب المجرى
إذا ما سما الطرف المحلّق نحوها ... رآها سماءً صحف أنجمها تقرا
ومن قصيدة أبي عيسى بن المنجم:
هي الدار قد عمّ الأقاليم نورها ... ولو قدرت بغداد كانت تزورها
ولو خبّرت دار الخلافة بادرت ... إليها وفيها تاجها وسريرها
ولو قد تبقّت سر من را بحالها ... لسار إليها دورها وقصورها
لتسعد فيها يوم حان حضورها ... وتشهد ديناً لا يخاف غرورها
فما حلمت عين الزمان بمثلها ... وحاشا لها من أن يحسّ نظيرها
يقول الأولى قد فوجئوا بدخولها ... وحيَّرهم تحبيرها وحبيرها
أفي كلّ قطرٍ غادةٌ وحليُّها ... وفي كل بيتٍ روضةٌ وغديرها
وأبوابها أثوابها من نفوسها ... فلا ظلم إلا حين ترخي ستورها
معظّمةٌ إلا إذا قيس سمكها ... بهمّة بانيها فتلك نظيرها
هي الهمّة الطولى أجالت بفكرها ... مباني تكسوها العلا ويعيرها
فجاء بدارٍ دار بالسعد نجمُها ... وجنِّبت المحذور ليس يطورها
وقال لها الله الوفيّ ضمانُهُ ... سأحميك ما ضمّ الليالي كرورها
أهنيك بالعمران والعمر دائمٌ ... لبانيك ما أفنى الدهور مرورها
وقد أسجل الإقبال عهدة ملكها ... وخطّت بأقلام السعود سطورها
ودارت لها الأفلاك كيف أدرتها ... ودانت إلى أن قيل أنت مديرها
وهاك ابنة الفكر قد خطبتها ... وقدّم من قبل الزفاف مهورها
فإن كان للدار التي قد بنيتها ... نظيرٌ ففي عرض القريض نظيرها
وإلاّ جررت الذيل في ساحة العلا ... وقلت القوافي قد أعيد جريرها
ومن قصيدة أبي القاسم عبيد الله بن محمد بن المعلى، أبوه يكتب لأبي دلف سهلان بن مسافر، وقد ورد الباب منذ أشهر، وهو ممن يفهم ويدري، وله بديهة ومعرفة حسنة:
بي من هواها وإن ظهرت لي جلداً ... وجدّ يذيب وشوقٌ يصدع الكبدا
رَمَت بأسهم هجرٍ لا تقوم لها ... خيل العزاء وإن ألبستها زردا
من مبلغٍ عنّي الماهات مألكةً ... تحيي الصديق وتردي كلّ من حسدا
أني ترحّلت عن قومي بها قنصاً ... فإنْ رجعتُ إليهم أبصروا أسدا
قل للوزير ابن عبادٍ بنيت هلاً ... أم منزلاً أم كلا هذين أم بلدا
فمن رأى دار مولانا وزينتها ... رأى بها كوكباً في أفقه فردا
رأى الربيع رأى الروض المريع رأى ال ... طود المنيع رأى ثهلان قد ركدا
ومن قصيدة أبي العلاء الأسدي:
أسعد بدارك إنها الخلد ... والعيش فيها ناعمٌ رغدُ
دارٌ ولكن أرضها شرفٌ ... ربعٌ ولكن سقفه مجد

قد أثمرته همة صعدٌ ... هي قبل والدنيا لها بعدُ
هي للعفاة وللندى قبلٌ ... صلّى إليها الشكر والحمد
إيوان كسرى في مدائنه ... من ابتنيت دموعه سرد
ولماردٍ همَّ يعانقه ... وكذاك يشجي الأبلق الفرد
والجعفرية لأقوام لها ... وصفا البديع وولول القرد
أحييت عباداً وأسرته ... فضلاً ولم يشقق لهم لحد
والحي مَنْ حييَتْ مناقبه ... بابنٍ يؤرّخ باسمه المجد
هذي العقيلة من بني أسدٍ ... تجلى وتحذر صولها الأسد
بكرٌ فلم يعرض لها بشرٌ ... قبلي ولم يقدح لها زند
زفّت إليك وحليها أدبٌ ... وزكي لديك ومهرها نقد
ومن قصيدة أبي الحسن الغويري:
دارٌ غدت للفضل داره ... أفلاك أسعده مداره
منها المحامد مستقا ... ةٌ والمحاسن مستعاره
شرفاتها هيفُ الخصو ... ر لها تحاسينٌ وشاره
فلكلّ طرفٍ نحوها ... ولكل جارحةٍ إشاره
وعلى جميع الدور في ال ... دنيا تقلّدت الإماره
فترابها مسكٌ سحي ... قٌ شقّ برد الليل فاره
لا تهتدي لنعوت أد ... ناها الفحول بنو عماره
ومن قصيدة لبعض الشبان من أهل البلد:
هي دنياً بنيتها أم دار ... فجميع الأفلاك فيها تدار
ولبعض الشعراء من الغرباء من قصيدة أولها:
رأينا طلعة الدار ... شموساً مع أقمار
ولي مسألة بعد ... فعاجلني بأخبار
بنيت الدار في دنيا ... ك أم دنياك في الدار
أخذ هذا المعنى من حيث أخذه أبو الحسن بن أبي الحسن البريدي:
لما بنى الناس في دنياك دورهم
وهما أخذاه من قول أبي العيناء حين قال له المتوكل: كيف ترى دارنا هذه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، عهدي بالناس يبنون الدور في هذه الدنيا وأنت بنيت الدنيا في دارك هذه.
ولبعضهم قصيدة أولها:
إن الوزير قد بنى داراً ... والسعد في أكنافها دارا
ومن قصيدة أخرى:
هنّئت جنّتك التي تبنيها ... وبقيت غضّاً ناضراً تبليها
ومن قصيدة هزلية لابن عطية الشاعر:
الملك ملكٌ والأمير أمير ... والدار دارٌ والوزير وزير
ومنها وقد جد:
تزهى الملوك بدورها ولأنت من ... تزهى به الدنيا فكيف الدور
لا يعدم الأمراء منك سياسةً ... لولا سعادتها وهي التدبير
وكان في جملة الطارئين شيخ أنطاكي في زي الكتاب حسن البيان ظريف اللهجة قد أنافت سنوه على الثمانين وخنقت التسعين، فقال قصيدة أولها:
ما أنصف الدار واقفٌ فيها ... يثني على غيرها ويطريها
فقفْ بها ناشراً محاسنها ... وانح به ما نوت نواحيها
ووفّها النعت غير مختصرٍ ... فليس نزر الثناء يكفيها
يكاد يجري السفين سافلها ... يكاد يعلو النجوم عاليها
لم يبق في الناس من إذا ذكرت ... بوحدة الكون لم يقل إليها
فعجْ بها الصحب واقضِ واجبها ... وقف بها وقفةَ المنيها
إنْ أغدُ ذا نعمةٍ فواهبها ... أنت فداك الورى ومنشيها
وما تراه عليَّ من حللٍ ... فأنت كأسٍ بها ومعطيها
وكل ما ضمّ منزلي وبدي ... من نعمةٍ لي فأنت موليها
لا نسي الله حسن فعلك بلْ ... أسأله في الحياة ينسيها
قال مؤلف الكتاب: وأنشدني أبو بكر الخوارزمي لنفسه في دار الصاحب عارض بها قصية الرستمي في الوزن والقافية إذ هي أجود القصائد فمنها:
أكلُّ بناءٍ أنت بانيه معجزُ ... بنيت المعالي أم بنيت المنازلا
فلا الإنس تبني مثلهنّ معالماً ... ولا الجنّ تبني مثلهنّ معاقلا
كنائس أضحت للغمام عمائماً ... علواً وأمسّت في الظلام قنادلا

رحابٌ كأنْ قد شاكلت صد ربّها ... وبيضٌ كأنْ قد نازعته الشمائلا
وبهوٌ تباهي الأرض منه سماءها ... بأوسع منها آخراً وأوائلا
وصحنٍ يسير الطرف فيه ولم يكنْ ... ليقطعه بالسير إلا مراحلا
تلوح نقوش الجصّ في جدرانه ... كما زيّن الوشم الدقيق الأناملا
وماءٌ إذا أبصرتَ منه صفاءه ... حسبت نجوم الليل ذابت سوائلا
رأيت سيوفاً قد سللن على الثرى ... وصارت لها أيدي الرياح صياقلا
وروضٌ كعيش السائليك نضارةً ... ووجهك بشراً حين تلحظ آملا
أصائله للنور أضحت هواجراً ... هواجره للطيب أضحت أصائلا
هي الدار أمست مطرح العلم فاغتذى ... لها ناهل الآمال ريّان ناهلا
إذا ما انتحاها الركب لم يتطلبوا ... إليها دليلاً غير من كان قافلا
وأنت امرؤٌ أعطيت ما لو سألته ... إلهك قال الناس أسرفت سائلا
وإني وإلزاميك بالشعر بعدما ... تعلّمته منك الندى والفواضلا
كملزم ربّ الدار أُجرةَ داره ... ومثلك أعطى من طريقين نائلا
وأنشدني أيضاً لنفسه فيها:
بنيت الدار عاليةً ... كمثل بنائك الشرفا
فلا زالت رؤوس عدا ... ك في حيطانها شرَفا

ذكر البرذونيات
لما نفق برذون أبي عيسى بن المنجم بأصبهان وكان أصدا قد جمله الصاحب عليه وطالت صحبته له أو عز الصاحب إلى الندماء المقيمين في جملته أن يعزو أبا عيسى ويرثوا أصداه فقال كل منهم قصيدة فريدة، فمن قصيدة أبي القاسم الزعفراني:
كنْ مدى الدهر في حمى النعماء ... مستهيناً بحادث الأرزاء
ينثني الخطب حين يلقاك عن طو ... د شديد الثبات للنّكباء
بك يا أحمد بن موسى التسلّي ... والتعزّي عن سائر الأشياء
ومعزّيك لا يزيدك خبراً ... بالذي قد عرفته بالعزاء
قد سخا طرفك المفارق بالنف ... س وطرفي من بعده بالماء
يا له جمرةٌ ونجماً وشؤبو ... باً وبرقاً وطائراً في الرواء
راكب الليل خائض السيل عيّن ال ... خيل عانته أعين الأعداء
فقد الوحش منه أوّل قطّا ... عٍ إليها المدى أمام الضرّاء
واستراحت من نقعه مقلة الشم ... س ومن لطمه خدود الفضاء
ما بدا والصباح قد لاح إلاّ ... جاءنا من قتامه بالمساء
وترى الطود حين يمثل مجمو ... عاً على ضمر القنا في الهواء
كم ركبت البراق منه أبا عيس ... ى وإن لم تكن من الأنبياء
فرسٌ لو علاه ذو الزهد عمرو ب ... ن عبيدٍ لتاه في الخيلاء
عدّة الفارس الذي خانه الصب ... ر فرامى بصدره في اللقاء
قد تملّيته وإن كنت ما شا ... هدت في ظهره وغى الهيجاء
فترى ما يراه غيرك في الحر ... ب وتقلى طريقه الندماء
كل بؤسي أتتك من قبل الل ... ه فسلَّم فيها لجاري القضاء
سوف تعتاض من خصيِّك فحلاً ... لم يشنه بيطاره بالخصاء
من لهى سيدٍ سخيٍّ سريٍّ ... يشتري بالغلاء كلّ العلاء
أي رزءٍ وأي وزرٍ على من ... يتقوّى بأنهض الوزراء
أيها الصاحب الجليل أتمّ الل ... ه نعماك عندنا بالنماء
كم كرعنا من بحر عزفك في كفّ ... ك أصفى ماءٍ بأوفى إناء
سنّةٌ سنها فتى لا يريد الو ... صل بين البيضاء والصفراء
جمع الله شمل معتصمٍ من ... ك بحبلي مودّةٍ وولاء
ومن قصيدة أبي الحسن بن عبد العزيز الجرجاني:

جلّ والله ما داهك وعزّاً ... فعزاءً إنّ الكريم معزى
والحصيف الكريم من إن أصابت ... نكبةٌ بعد ما يعزُّ يعزّى
هي ما قد علمت أحداث دهرٍ ... لم تدع عدّةً تصان وكنزا
قصدت دولة الخلافة جهراً ... فأبادت عمادها والمعزّا
وقديماً أفنت جديساً وطمساً ... حفزتهم إلى المقابر حفزا
اصغِ والحظّ هل ترى منْ ... أحدٍ منهمُ وتسمع ركزا
ذهب الطرف فاحتسبْ وتصبَّرْ ... للرزايا فالحرّ من يتعزّى
فعلى مثله استطير فؤاد ال ... حازم الندب حسرةً واستفزّا
لم يكن سمع القياد على الهو ... ن ولا كان نافزاً مشمئزّاً
ربَّ يومٍ رأيته بين جردٍ ... تتقفاه وهو يجمز جمزا
وكأنّ الأبصار تعلق منه ... بحسامٍ يهزّ في الشمس هزّا
وتراه يلاعب العين حتى ... تحسب العين أنه يتهزّا
وسواءٌ عليه هجّر أو أس ... رى أو انحطّ أو تسنّم نشزا
وكأن المضمار يبرز منه ... متنُ حسّي ينزّ بالماء نزّا
استراحت منه الوحوش وقد كا ... ن يراها فلا ترى منها حرزا
كم غزالٍ أنحى عليه وعيرٍ ... نال منه وكم تصيّد فزا
وصروف الزمان تقصد فيما ... يستفيد الفتى الأعزّ الأعزّا
فإذا ما وجدت من جزع النك ... بة في القلب والجوانح وخزا
فتذكر سوابقاً كان ذا الطر ... ف إليهنّ حين يمدح يُعزى
أين شقّ وداحسٌ وصبيبٌ ... غمزتها حوادث الدهر غمزا
غلن ذا اللمة الجواد ولزّت ... طرباً واللزاز والسلب لزّا
ولقد بزّت الوجيه ومكتو ... ماً بني أعصرٍ وأعوج بزّا
وتصدت للاحقٍ فرمته ... وغرابٍ وزهدمٍ فاستفزّا
فاحمد الله إن أهون ما تُر ... زأ ما كنت أنت فيه المعزى
قد رثينا ولم نقصر وبالغ ... نا وفي البعض ما كفاه وأجزى
ومن العدل أن نثاب أبا عيس ... ى على قدر ما فلنا ونجزى
ومن قصيدة أبي القاسم بن أبي العلاء:
عزاءً وإن كان المصاب جليلاً ... وصبراً وإن لم يغن عنك فتيلا
وخفّض أبا عيسى عليك ولا تفضْ ... دموعاً وإن كان البكاء جميلا
وراجع حجاك الثبت لا يغلب الأسى ... أساك وإن حمّلت منه ثقيلا
ولا تسنفزّنّك الهموم وبرحها ... فحملك قبل اليوم كان أصيلا
وإن نفق الطرف الذي لو بكيته ... دماً كان في حكم الوفاء قليلا
أقبّ يروق الحين حسناً ومنظراً ... ويرجعها يوم الحضار كليلا
إذا ما بدا أبدى لعطفك هزّةً ... ونفسك إعجاباً به وقبولا
كلمع الشهاب خفّةً وتوقّداً ... وجذع الحضار هادياً ودليلا
إذا قلت قفْ أبصرته الماء جامداً ... وإن قلت سر ماءٌ أصاب مسيلا
خلت قصاب السبق منه وأيقنتْ ... رياح الصبا أن لا يجدن رسيلا
خلت جلال الخز وانتحبت له ... مخالي حريرٍ رحن منه عطولا
أقام عليه آل أعوج مأتماً ... وأعلى له آل الوجيه عويلا
ففي كلّ اصطبل أنينٌ وزفرةٌ ... تردّد فيه بكرةً وأصيلا
ولو وفت الجرد الجياد حقوقه ... لما رجعت حتى الممات صهيلا
وقد أنصفته الخيل ما ذقن بعده ... شعيراً ولا تبناً ومتن غليلا
فقدت أبا عيسى بطرفك مركباً ... جليلاً وخلاًّ ما علمت نبيلا
عتادك في الجلى وكهفك في الوغى ... وعونك يوماً إنْ أردت رحيلا
تفرقتما لا عن تقالٍ وكنتما ... لفرط التصافي مالكاً وعقيلا

وهبت لعقبان الفلاة لحومه ... وكنت بها لولا القضاء بخيلا
ووزعتها بين النسور غنيمةً ... صفايا ومرباعاً لها وفضولا
وأعززته دهراً فلما سطا به الرد ... ى تجد بدّاً فصرت مذيلا
على أنها الأيام شتّى صروفها ... تذلّ عزيزاً أو تعزّ ذليلا
ومن قصيدة أبي الحسن السلامي:
فدى لك بعد رزئك من ينام ... ومن يصبو إذا سجع الحمام
ونفسي بالفداء عنيت لا من ... ينام عن الحقوق ولا يلام
ألا نفق الجواد فلا عجاجٌ ... تقوم به الحروب ولا ضرام
وكان إذا طغت حرب عوانٌ ... جرى ورسيله الموت الزؤام
إذا رميت به الغابات صلّت ... صفوف الخيل وهو لها إمام
تمهّر في الوقائع وهو مهرٌ ... ولا سرجٌ عليه ولا لجام
فلما لم يدع في الأرض قرناً ... تخوّنه فعاجله الحمام
وعوّد عافيات الطير طعماً ... وشُرْب دمٍ إذا حرم المدام
فلما لم يطقْ نهضاً أتته ... فقال لها أنا ذاك الطعام
وجاد بنفسه إذا لم يجد ما ... يجود به، كذا الخيل الكرام
وكنت البدر عارضه كسوفٌ ... بنحسٍ حين تم له التمام
فلا تبعد وإن أبعدت عنّا ... فهذا العيش ليس له انتظام
إذا لم تكشف الأصدا همومي ... فليت الخيل أصداه وهام
طوى الحدثان طرفك يا ابن يحيى ... فطرفي ما يعاوده المنام
ولم أحضره يوم قضى فيشكو ... تحمحمه الذي صنع السقام
ولا خبرت ليلة جرّ جسمٌ ... زكت عندي له نعمٌ جسام
ألم أقسم عليك لتخبرنّي ... أمحمولٌ على النعش الهمام
مضوا يتناقلون به خفافاً ... عليه من الصباغ له قيام
فبزّوه وما عرّوه درعاً ... نبت عنه الصوارم والسهام
أيقتله الحمام أشدّ قرنٍ ... واكرمه وتسلبه اللئام
أبا عيسى تعزّ فدتك نفسي ... فإن الموت قرنٌ لا يضام
أٌمْ في ظلّ إسماعيل تضمنْ ... لك الدرك السلامة والدوام
إذا بقي الوزير لنا وفينا ... فقل للدهر يهلك والأنام
وعظت بها أخاً ورثيت مالاً ... وأدّيت الأمانة والسلام
ومن قصيدة أبي محمد الخازن:
لو سامح الدهر أعصماً صدعاً ... أو كاسراً فوق مربأٍ وقعا
أو صاحباً ساقه نواهضه ... أو سبعاً في عرينه شبعا
ابقى لنا ذلك الجواد ولم ... يغدو لصفو الهبات منتزعا
لست أقيل الزمان عثرته ... فليس يدري الزمان ما صنعا
آهٍ على ذلك الجواد فقدْ ... جرّع قلبي من كأسه جرعا
آهٍ عليه من أصدأٍ جزعٍ ... طاوع دهراً أودى به جزعا
آهٍ عليه وقد سرى لمعاً ... فراح غيضاً كبارق لمعا
لم يكبُ في جريه إذا كنت ال ... خيل ولا قال راكبوه لعا
صفا أديماً وحافزاً وقحاً ... والعين والساعدين والسفعا
عريض زورٍ وبلدةٍ وصلاً ... رحيبُ صدرٍ ومنخرٍ ومعا
إذا هوى فالعقاب منخفضاً ... وإن رقى فالسحاب مرتفعا
كأنّه بالسماك منتعلٌ ... فليس يشكو في وقعه وقعا
أوجعك الله يا زمان فقد ... رحت حزيناً بفقده وجعا
قد لان للموت أخدعاه ومنْ ... خادعه الدهر عاد منخدعا
كم قلت للنفس وهي مزعجةٌ ... أيتها النفس أجملي جزعا
قد شرّع القائلون باباً إلى الصب ... ر عليه فأصبحوا شرعا

لا تصحب الهمّ في الجوادا أبا ... عيسى ودعه ولا تكنْ جزعا
فنائل الصاحب الجليل أبي ال ... قاسم إسماعيل الحيا همعا
وانظر إليه كأنه قمرٌ ... أزهر من ثنيّ دسته طلعا
ولا تضق بالذي فقدت يداً ... إن لنا في نداه متّسعا
فاسمع قريضاً من موجعٍ جزعٍ ... ويرحم الله صاحب سمعا
ومن قصيدة أبي سعيد الرستمي:
لو أعتب الدهر من يعاتبه ... ولان للعاذلين جانبه
أو كان يصغي إلى شكاة شجٍ ... صبّت على قلبه مصائبه
أحسنت عنك المناب في حرقٍ ... تشعلها في الحشى نوائبه
ولم أزل عن شكاته أبداً ... ولم أزل دائباً أعاتبه
لهفي على ذلك الجواد وهل ... يفكّ رهن المنون نادبه
لو كان غير الممات حاوله ... لفلّلت دونه مخالبه
أو كان غير المنون يخطبه ... رمّل أنفٌ أبداه خاطبه
أو حارب الدهر مشفقٌ حدبٌ ... لقمت في وجهه أحاربه
من لجوىً حلّ بي عساكره ... وحطّ بين الحشى مضاربه
فلست أرجو انقلاعه أبداً ... أو يجلب الصبر لي جوالبه
يرتدّ بين الضلوع لي نفسٌ ... من ذكره ضاق بي مساربه
لهفي على ذلك الجواد مضى ... في سفرٍ لا يؤوب غائبه
لو عرف الخيل من نعيت لها ... ضاقت بها في السُّرى مذاهبه
أو علم القفر من نعيا له ... لانسدّ للسالكين لاحبه
تباشر الوحش في الفلاة له ... فقد ضفت بعده مشاربه
فنام ملء الجفون شارده ... وسام ملء البطون ساربه
تبكي لتقريبه الرياح معاً ... فهنّ في جريها أقاربه
عهدي به والجنوب تجنبه ... إذا جرى والصبا تجانبه
والهوج في حضره تحاذره ... والنكب في سيره تناكبه
يا حسنه والعيون ترمقه ... وأنت يوم الرهان راكبه
ترخي عليه العنان في عنقٍ ... حتى إذا ما التوى تجاذبه
إن سار في السهل هاج ساكنه ... أو سار في الحزن صاح صاحبه
يوسعه إن رآه حاسده ... مدحاً ويثني عليه جاذبه
أخذه من قول أبي تمام:
عوّذه الحاسد بخلاً به
رجع:
أصدأ يحكي الظلام، غرّته ال ... بدر وتحجيله كواكبه
أعاره الروض وشي زهرته ... فعاد في لونه يناسبه
وطالبٍ لا يفوز هاربه ... وهاربٍ لا ينال طالبه
كم موكبٍ سار في جوانبه ... فاهتزّ زهواً به كتائبه
وعسكرٍ زانه تحمحمه ... فارتجّ من صوته مواكبه
ومجهلٍ راح وهو جائبه ... لولاه لم تطوه نجائبه
صبراً جميلاً وإن سلبت أبا ... عيسى جليلاً فالموت سالبه
والموت إن جار في الحكومة أم ... أنصف فالمرء لا يغالبه
في الصاحب المرتجى لنا خلفٌ ... من كلّ ماضٍ خفت ركائبه
إن نَفَق الطرف أو أصبت به ... ما نفقت عندنا مواهبه
لم يود طرفٌ وإن فقدت به ... علقاً نفيساً ما عاش واهبه
دام لنا في النعيم ما طلعت ... شمس وجلّى الظلام ثاقبه
ومن قصيدة أبي العباس الضبي:
دعا ناظري لذيذ اغتماضه ... وقلبي يستعرْ أليم ارتماضه
فقد جاد سبّاق الجياد بنفسه ... فلا ظهر منها لم يملْ لانهياضه
أبيد فما للبيد طرفٌ وطرفه ... صحيحٌ ولم يقرحه حرّ ارفضاضه
نفوسٌ عتاق الخيل فيضي لفقده ... وأعينها فيضي لوشك انقراضه
وأظهرها حطّي السروج تفجعاً ... له ورِدي ماء الردى من حياضه

لقد كان وفق الجو عند ارتفاعه ... نشاطاً وملء الأرض عند انخفاضه
لو أن خدود الورد أرضٌ لأرضه ... لما مسّها منه أذىً بارتكاضه
يريك نحول السهم عند اقتباله ... ويبدي مثول الطود عند اعتراضه
ويخفى اصطفاق الرعد رجع صهيله ... ويخفت صوت الليث بين غياضه
تعزّ أبا عيسى وليّك ثابتٌ ... وجل التسّلي لم يرعْ بانتقاضه
ومن عرف الدنيا استهان بخطبها ... ولا سيّما من طال عهد ارتياضه
ولو قبل الدهر الخؤون ذخائري ... لقدّمتها عنه رضىً باعتياضه
ولكنه يبقى الذي لا نودّه ... ويردي الذي نهوى بصرف غضاضه
وهذا الذي بي لو غدا زاد مرضعٍ ... لشيّب فوديه اشتعال بياضه
سقا الأصدأ الكدريّ ما نقع الصدا ... غمامٌ حداه الرعد عند ائتماضه
وفي بعض حملان الوزير معوضةً ... وسلوان قلبٍ مسلمٍ لانقضاضه
فسرْ كيفما آثرت فوق جياده ... ومِسْ كيفما أحببت بين رياضه
ومن أرجوزة أبي دلف الخزرجي:
دهرٌ على أبنائه وثّابُ ... تعجمهم أنيابه الصّلاب
فما لهم من كيده حجاب ... يا لك دهراً كلّه عقاب
أصبح لا يردعه العتاب ... إن المنايا ولها أسباب
تصيدنا والصيد مستطاب ... واهاً لناءٍ ما له إياب
لكلّ قلبٍ بعده اكتئاب ... مسوّمٍ تعنو له الأسراب
أصدأ بادي الحسن لا يعابُ ... قد كملت في طبعه الآداب
وهذّبت أخلاقه الذعاب ... أقبُّ مما ولّد الأعراب
ذو نسبٍ تحسده الأنساب ... وميعةٍ ينزو بها الشباب
كأنما غرّته شهاب ... كأنما لبّاته محراب
كأنما حجوله سراب ... كأنما حافره مجواب
للصخر عند وقعه التهاب ... إذا تدانى فهو الحِباب
إن القرارات له انصباب ... وإن علا فالصقر والعقاب
للريح في مذهبه ذهاب ... فالوحش ما يلقاه والهراب
دماؤها لنحره خضاب ... يا غائباً طال به الإياب
لا خبرٌ منك ولا كتاب ... ما كنت إلا روضة تنتاب
مستأنساً تألفك الرحاب ... تعشقك العيون والألباب
ترتجّ كالموج له عباب ... تناوبتك للردى أنياب
تجزع من أمثالها الأحباب ... وكنت لو طالت بك الأوصاب
يخفّ في مصرعك المصاب ... ما طاب عن إضرابك الإضراب
ولا صحا من حبك الأصحاب ... وأنت فردٌ ما له أتراب
يا حزناً إذ ضمّك الخراب ... وأغلقت من دونك الأبواب
كصارمٍ أسلمه القراب ... وقد جرى من فمك اللعاب
وامتاز منه النحل والذباب ... واعتورتك الفئة الغضاب
وفيك أطراف المدى تنساب ... حتى نضى عن جسمك الإهاب
هل هو إلا هكذا العذاب ... وقد إذا الإصطبل والجناب
يبكيك والسائس والبوّاب ... والسّرج واللجمام والركاب
قل لأبي عيسى وما الإسهاب ... بنافعٍ تمّ لك الثواب
والرأي في دفع صواب ... فاسكن فهذا الصاحب الوهّاب
شيمته السخاء والإيجاب ... في جوده وفضله مناب
آلاؤه ليس بها ارتياب ... يضلّ في إحصائها الحساب
لا زال والدعاء يستجاب ... يبقى لنا ما بقي التراب
ومن قصيدة أبي محمد محمود:
بكاءً على الطرف يسبق الطرفا ... على ذلك الإلف الذي فارق الإلفا
وقفْ مدد الأحزان وقفاً مؤبداً ... عليه وخلّ الدمع يجري له وكفا

على أصدأٍ زان الحليّ إذا اغتذت ... عليه وزان البيض والبيض والزعفا
على أصدأٍ جاراه ألف مشهّرٍ ... عتيق فوافانا وقد سبق الألفا
على فرسٍ جارى الرياح على حفّاً ... فغادرها حسرى وخلّفها ضعفى
جواب الذي ينعى إليه أيا لهفاً ... على ذلك الأصدا وقلّ له لهفى
أقام بمثواه الجياد مناحةً ... كما عقدت وحش الفلاة به قصفا
وآل الغراب والوجيه ولاحقٍ ... ادامت عويلاً لا أطيق له وصفا
فكم أقرحت خدّاً وكم ألهبت حشاً ... وكم أوجعت قلباً وكم أدمعت طرفا
ولو عرفت حسناء داود حقّه ... لما ضفّرت شعراً ولا خضّبت كفّا
فكم قد حماها يوم حربٍ وغارةٍ ... وكم نزعت من خوفها القلب والشنفا
يطير على وجه الصعيد إذا جرى ... فما إن يمسّ الأرض من أرضه حرفا
ويعطيك عفواً من أفانين ركضه ... إذا سمته التقريب أو سمته القطفا
له ذنبٌ ضافٍ يجرّ على الثرى ... طويلٌ كأذيال العرائس بل أضفى
له غرّةٌ مثل السراج ضياؤها ... وأي سراجٍ بالنوائب لا يطفا
سقى الغيث وهو مشبهاً ذلك الكتفا ... وطوداً منيفاً حاكياً ذلك الردفا
يواجه وجه الوحش إن سار خلفها ... فيجعلها من حيث لم يحتسب خطفا
ويرجع مخضوب البنان كأنه ... عروسٌ وقد زفّت إلى خدرها زفّا
وإن خاف من عين النواظر أهله ... عليه فمدّوا دون مربطه سحفا
إذا ما غزا الغازي عليه قبيلةٌ ... فلا حافراً أبقى عليه ولا خفّا
يراه كميتٍ وهو لهفان والهٌ ... لمنيته يطوي الظلام وما أغفى
ولو أنه قد كان حقّق موته ... لجزّ عليه للأسى الشعر الوحفا
وما أنا ممّن يظهر الشجو أمناً ... وإن عظيمات المصائب لا تخفى
ولولاه وفاءٌ فيه كنت أقوده ... إليك بلا منٍّ ولكنّه استعفى
كراهيةً من أن يقوم مقامه ... حفاظاً وبعض الخيل يستعمل الظرفا
وأعفيته أن الوزير معوّضٌ ... ومن ذا الذي نداه ولا يكفى
فعوّل أبا عيسى عليه فإنه ... سيطفيك خطب الدهر وهو به أكفى
ولو لم يرد تعويضه لك عاجلاً ... لقال له رفقاً وقال له وقفا
فإن صروف الدهر تحت يمينه ... فإن شاءها بعثاً وإن شاءها صرفا
هو البحر يغني الناس من كلّ جانبٍ ... فغرقاً من البحر الذي زرته غرقا
هو الغيث يعطي كلّ غادٍ ورائحٍ ... عطاءً جزيلاً لا بكيئاً ولا نشفا
كريمٌ إذا ما جاءه ابن حظيّةٍ ... ألان له عِطفاً وأبدى له عَطفا
أقام مناراً لالندى والهدى معاً ... فعاد لنا كهفاً وصار لنا لطفا
تعزّ أبا عيسى وإنْ أعوز الأسى ... وعاودْ هُديت اللهو والطيب والعرفا
وهاك كأمثال الرياض سوابقاً ... تسير قوافي الشعر من خلفها خلفا
ومن قصيدة أبي عيسى:
لقد عظمت عندي المصيبة في الأصدا ... وأبدت لي اللذات من بعده صدّا
وأهدي إلى قلبي المصاب بفقده ... من الحزن ما لو نال يدبل لانهدّا
ولو كان يغنيني الفداء فديته ... بنفسي وأهلي فهو أهلٌ لأنْ يفدى
ولكنه لبّى المنون مبادراً ... ويا ليته لمّا دعاه الردى ردّا
مضى الطرف واستولى على الطرف دمعه ... وألهب في الأحشاء من حرقٍ وقدا
مضى الفرس السباق في حلبة الوغى ... فعادت عيون الخيل من بعده رمدا
يبيد الرياح كلّها في حضاره ... فتتركه كرهاً وقد بدّلت جهدا

مواقفه عند الطراد شهيرةٌ ... تجاوز في أعجاوها الوصف والحدّا
نسيم الصبا يحكيه في هزل سيره ... وترهبه ريح الشمال إذا جدّا
فقد صار نهبي بين وحشٍ وطائرٍ ... غدا سيّداً فيها وراح لها عبدا
تسلّ أبا عيسى ولا تقرب الأسى ... وكنْ حازماً شهماً وكن بازلاً جلدا
فقد كمد الإخوان من فرط حزنهمْ ... وقد شمت الحسّاد مذ فقد الأصدا
وأصبح أبناء الشجاعة حسَّراً ... فمن قارعٍ سنّاً ومن لاطمٍ خدّا
وقد هاج لي حزناً عليه تحسّري ... فهيّمني وجداً وذكّرني نجدا
جوادٌ عزيزٌ أن يجود بمثله ... جوادٌ ومن يعدى عليه إذا استعدى
سوى الصاحب المأمول للجود والندى ... ومن كفّه من صيِّبٍ خضلٍ أندى
أتاح لنا الإحسان من كل جانبٍ ... فحصّل منا الشكر والنشر والحمدا
له همّةٌ فوق السماء مقيمةٌ ... تعلّم من يرجوه أن يطلب الرفدا
ومن قصيدة لبعض أهل نيسابور قالها على لسان أحد الندماء:
كلُّ نعيمٍ إلى نفادِ ... كل قريبٍ إلى بعاد
كلّ هبوبٍ إلى ركود ... كل نفاقٍ إلى كساد
وكل ملكٍ إلى زوال ... وكل كونٍ إلى فساد
وصادقٍ من يقول فاسمع ... والسمع بابٌ إلى الفؤاد
قد بلغ الزرع منتهاه ... لا بد للزرع من حصاد
لهفي على أصدأٍ جوادٍ ... من هبّة الصالح الجواد
منقطع المثل في البلاد ... وغرّة الطرف والتلاد
لهفي على أصدأٍ مسيحٍ ... قد كان ماء وأنت صادي
وكان ناراً وكلّ نارٍ ... فمنتهاها إلى الرماد
كان من العين والفؤاد ... في العين من مركز السواد
لو شرب الصافنات راحاً ... لكان ريحانة الجياد
عهدي به شهقاً منيفاً ... يمرّ مرّاً إلى صعاد
أسرع من لحطةٍ وأحلى ... في العين من طارق الرقاد
أجرأ من ضيغمٍ وأجرى ... من سيل ليلٍ بقعر وادي
سليل ريحٍ أخو شهابٍ ... طود جمالٍ هلال نادي
عدّة سارٍ عتاد غادٍ ... قعدة قارٍ عناد بادي
أسيْرُ مما يقال فيه ... والشعر جوّابة البلاد
كأنما خلقه سدادٌ ... قد صبّ في قالب السداد
كأنه ساحرٌ عليم ... من راكب الطرف بالمراد
عينٌ أصابته لا رأت من ... تهوي لقاه إلى التنادي
نفّذت يا دهر شرّ سهمٍ ... أتى على خيِّرٍ مستفاد
لو كان يغنى الدفاع عنه ... جعلت ترساً له فؤادي
فاصبرْ لحكم الإله وانقدْ ... للحق يا فاقد الجواد
هوّن عليك الملمّ يا أبا ... عيسى وكنْ ثابت العماد
أنت من الصاحب المرجّى ... ما عشت في نائلٍ معاد

ذكر الفيليات
لما حصل الصاحب في رقعة جرجان على الفيل الذي كان في عسكر خراسان، أمر من بحضرته من الشعراء أن يصفوه في تشبيب قصيدة على وزن قافية قول عمرو بن معدي كرب:
أعددت للحدثان سا ... بغةً وعدّاءً علندي
فمن قصيدة أبي القاسم عبد الصمد بن بابك:
قسماً لقد نشر الحيا ... بمناكب العلمين بردا
وتنفّست يمنيّةٌ ... تستضحك الزهر المندّى
وجريحة اللّبات تن ... ثر من سقيط الدمع عقدا
نازعتها حلب الشئو ... ن وقلّما استعبرت وجدا
ومساجلٍ لي قد شقق ... ت لدائه في فيَّ لحدا
لا ترم بي فأنا الذي ... صيّرت حرّ الشعر عبدا
بشواردٍ شمس القيا ... د يزدن عند القرب بعدا
وممسّك البردين في ... شبه النّقا شيةً وقدّا

فكأنما نسجت علي ... ه يد الغمام الجون جلدا
وإذا لوتك صفاته ... أعطاك مسّ الروع فقدا
فكأن معصم غادةٍ ... في ماضغيه إذا تصدّى
وكأن عوداً عاطلاً ... في صفحتيه إذا تبدّى
يحدو قوائم أربعاً ... يتركن بالتلعات وهدا
جاب المطرّف قد تفر ... د بالفراهة واستبدّا
وإذا نخلّل هضبةً ... فكأنّ ظلّ الليل مدّا
وإذا هوى فكأنّ ركن ... اً من عماية قد تردّى
وإذا استقلّ رأيت في ... أعطافه هزلاً وجدّا
متقرّطٌ أذناً تعي ... زجر العسوف إذا تعدّى
خرقاء لا يجد السرا ... ر إذا تولّجها مردّا
أوطأته مرعى نسي ... بي واجتنبت وصال سعدي
ملكُ رأى الإحسان من ... عدد العواقب فاستعدّا
كافي الكفاة إذا انثنت ... مقل القنا الخطّي رمدا
تكسوه نشر العرف ك ... فّ من جفون الطلّ أندى
لا زلت يا أمل الفعا ... ة لفارط الآمال وردا
والق الليل لابساً ... عيشاً برود الظلّ رغدا
ومن قصيدة أبي الحسن الجوهري:
قل للوزير وقد تبدّى ... يستعرض الكرم المعدّا
أفنيت أسباب العلا ... حتى أبتْ أن تستجدّا
لو مسّ راحتك السحا ... ب لأمطرتْ كرماً ومجدا
لم ترض بالخيل التي ... شدّت إلى العلياء شدّا
وصرائم الرأي التي ... كانت على الأعداء جندا
حتى دعوت إلى العدى ... من لا يلام إذا تعدّى
متقصّياً تيه العلو ... ج وفطنةً أعيت معدّا
فيلاً كرضوى حين يلبس ... من رقاق الغيم بردا
مثل الغمامة ملّئت ... أكنافها برقاً ورعدا
رأسٌ كقلّة شاهقٍ ... كسيت من الخيلاء جلدا
فراه من فرط الدلا ... ل مصعّراً للناس خدا
يزهى بخرطوم كمث ... ل الصولجان يردّ ردّا
متمرّدٌ كالأفعوا ... ن تمدّه الرمضاء مدّا
أو كمُّ راقصةٍ تشي ... ر به إلى الندمان وجدا
وكأنه بوقٌ تحر ... كه لتنفخ فيه جدّا
يسطو بساريتي لحسي ... نٍ يحطمان الصخر هدّا
أذناه مروحتان أس ... ندتا إلى الفودين عقدا
عيناه غائرتان ضيّ ... قتا لحمع الضوء عمدا
قاسوه باسطرلاب يجم ... ع ثقبه ما لم يحدّا
تلقاه من بعدٍ فتحس ... به غماماً قد تبدّى
متناً كبنيان الخور ... نق ما يلاقي الدهر كدّا
ردفاً كدكّة عنبرٍ ... متمايلٍ الأوراك نهدا
ذنباً كمثل السوط يض ... رب حوله ساقاً وزندا
يخطو على أمثال أعم ... دة الخباء إذا تصدّى
أو مثل أميالٍ نضد ... ن من الصخور الصمّ نضدا
متورِّد حوض المني ... ة حيث لا يشتاق وردا
متلفِّعاً بالكبريا ... ء كأنه ملكٌ مفدّى
أدنى إلى الشيء البعي ... د يراد من وهمٍ وأهدى
أذكى من الإنسان ح ... تى لو رأى خللاً لسدّا
لو أنه ذو لهجةٍ ... وفي كتاب الله سردا
قلْ للوزير عبدت ح ... تى قد أتاك الفيل عبدا
سبحان من جمع المحا ... سن عنده قرناً وبعدا
لو مسّ أعطاف النجو ... م جرين في التربيع سعدا
أو سار في أفق السما ... ء لأنبتتْ زهراً وورودا
ومن قصيدة أبي محمد الخازن:
حازوا سعود ديار سعدى ... ورعوا جناب العيش رغدا

وقضوا مآربٍ للصبا ... مذْ أبدلوا بالغور نجدا
سكنوا محلاًّ بالدّمى ... أضحى محلاً مستجدا
عطفتْ عليَّ ظباؤه ... ما شئت سالفةً وقدّا
وشيفت حرّ الوجد من ... بردٍ سقى الأكباد بردا
عجباً أشيم لثغرها ... برقاً ولست أحسّ رعدا
وغدوت أجني من غصو ... ن البان تفاحاً ووردا
وبنفسي القمر الذي ... لمعاً تصدّى ثم صدّا
يا هذه أهدي الوصا ... ل تكرُّماً إنْ كان يهدى
وتذكّري عهد الصبا ... في بيت عاتكة المفدّى
لا تنكري شيباً أل ... م بفوده وفداً فوفدا
وتعلّمي أنّ الشبا ... ب وإن وفى قرضٌ يؤدّى
وإذا أعير فإنه ... لا بدّ من أن يستردا
كم ليلةٍ ساورتها ... وقضيتها حسناً وجدّا
وأرى النجوم لآلئاً ... في الجوّ اللازوردا
حتى تحوّل أدهم ال ... ظلماء في الأفقين وردا
وبدا الصباح يحلُّ من ... جيب الدجى ما كان شُدا
وقريت همّي أعنساً ... تذر الربى بالوخد وهدا
فوردن أفنية العلا ... مغمورةً فحمدن وردا
حيث الفضائل والفوا ... ضل فتن إحصاءً وعدّا
حيث الوغى مشبوبةً ... نيرانها وهجاً ووقدا
ومهابةً كادت لها ... صمُّ الجبال تخرُّ هدّا
أفياله يقدحن في ... ظلم الوغى زنداً فزندا
تسري كسُحم سحائب ... بجانب تُزجى وتحدى
ولبسن دكن ملابسٍ ... غبراً معاطفهن ربدا
ورمقن عن أجفان مض ... مرةٍ على الأعداء حقدا
وفغرن أفواهاً كأف ... واه المزاد تروغ دردا
وكشرن عن أنيابها ... مثل الحراب شباً وحدّا
من كلّ جهمٍ خلته ... يوم الوغى غولاً تصدّى
كبينيّةٍ من عنبرٍ ... دعمت سواري الساج نضدا
وعليه طارونيةٌ ... يزهى بها حرّاً وبردا
لولا انقلاب لسانه ... لرأيته خصماً ألدّا
متولياً أمراً ونهي ... ياً مالكاً حلاًّ وعقدا
وكأنما خرطومه ... راووق خمرٍ مدَّ مدّا
أو مثل كمٍّ مسبلٍ ... أرخته للتوديع سعدى
وإذا التوى فكأنه الثعب ... ان من جبلٍ تردّى
وكأنما انقلبت عصا ... موسى غداة بها تحدّى
متعطّفاً كالصولجا ... ن بساحة الميدان يحدى
يُكسى الحداد وتارةً ... يكسى نسيج الدرع سردا
وكأنما هو خاضبٌ ... بالإثمد الجاري جلدا
لونٌ حكى إظلامه ... لون المشبه ليس يهدى
مستيقظٌ أبداً ويك ... بر أن يعير العين رقدا
كفلٌ تموج كالكثي ... ب تهيله صوباً وصعدا
قد ساد كلّ بهيمة ... كيساً ومعرفةً وجدّا
فكأنه يوم الوغى ... يكسى من الخيلاء بردا
وإذا انثنى من حربه ... يسعى فيرقص دستبندا
أودى بمن عادى الوز ... ير وعمّهم حصراً وحصدا
من عزمه كالعضب ق ... دّ وعلمه كالبحر مدّا
مستوحشٌ بالسلم لم ... نألف ظباه قطّ غمدا
كالغيث يهطل سائحاً ... والليث يبرز مستبدّا
وزر الملوك ونابها ال ... أعلى وساعدها الأشدّا
أيُّ اسم فخرٍ لم يحز ... ه؟ وأيّ مجدٍ لم يعدّا؟

أم أي ثغر لم يفت ... ه ولم يشده ولم يسدّا؟
كافي الكفاة المرتجى ... والسيد الهادي المفدّى
ما الحرّ إلاّ من غدا ... للصاحب المأمول عبدا
ولئن أحدت مديحه ... فلطالما أغنى وأجدى
وقربت منه فالتف ... تّ إلى الزمان وقلت بعدا
واعتضت غير مخيبٍ ... من مستمرِّ النحس سعدا
وكفيت ثمداً ناضباً ... وسقيت ماء العيش رغدا
ومنحت إنصافاً بعو ... ن الله من دهرٍ تعدّى
خذها إليك شواهداً ... في السن الراوين شهدا
هذّبتها وجلوتها ... في الحسن خاتمةً ومبدا
قد كان يكدي خاطري ... لكن بمدحك قد أمدّا
أعددت للحدثان جو ... دك دون عدّاء علندى
وعلمت أنك واحدٌ ... في العالمين خلقت فردا
تذر الوعيد نسيئة ... كرماً وتحبو الوعد مقدا
ويفوح خلقك عن عبي ... رٍ حوله زخر مندّى
أنا غرسك الزاكي بكفّ ... ك مثمر أدباً وودّا
فسأملأ الدنيا بنا استمل ... ت من جدواك حمدا
هي طاعتي حتى أرى ... متبوئاً في الترب لحدا
تفديك نفسي من عوا ... دي كل مكروهٍ ومردى
ولم يحضرني الآن من الفيليات أكثر من هذه الثلاث، وإذا وجدت من أخواتها ما يصلح للإلحاق بمشيئة الله تعالى وإذنه، والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.

خبر سبطه الشريف أبي الحسن
عباد بن علي الحسني
لما أتت الصاحب البشارة بسبطه أبي الحسن عباد أنشأ يقول:
أحمد الله لبشرى ... أقبلتْ عند العشي
إذ حباني الله سبطاً ... هو سبط للنبي
مرحباً ثمّة أهلاً ... بغلامٍ هاشمي
نبويٍّ علويٍّ ... مسنيٍّ صاحبيّ
ثم قال:
الحمد لله حمداً دائماً أبداً ... إذ صار سبط رسول الله لي ولدا
فقال أبو محمد الخازن على وزنه ورويه قصيدة أولها:
بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا ... وكوكب المجد في أفق العلا صعدا
وقد تفرّغ في أرض الوزارة عن ... دوح الرسالة غضنٌ مورقٌ رشدا
لله آية شمسٍ للعلا ولدت ... نجماً وغابةُ عزٍّ أطلعت أسدا
وعنصرٌ من رسول الله واشجةٌ ... كريم عنصر إسماعيل فاتحدا
وبضعة من أمير المؤمنين زكت ... أصلاً وفرعاً وصحّت لحمةً وسدى
ومثل هذي السعادات القوية لا ... يحوزها غيره دامت له أبدا
يا دهره حتى أن تزهى بمولده ... فمثله منذ كان الدهر ما ولدا
تعجبوا من هلال العيد يطلع في ... شعبان، أمرٌ عجيب قطّ ما عهدا
فمن موالٍ يوالي الحمد مبتهلاً ... ومخلصٍ يستديم الشكر مجتهدا
وكادت الغادة الهيفاء من طربٍ ... تعطي مبشّرها الإرهاف والغيدا
فلا رعى الله نفساً لم تسرْ به ... ولا وقاها وغشّاها رداء ردى
وذي ضغائن طارت روحه شفقاً ... منه وطاحت شظايا نفسه قددا
علماً بأن الحسام الصاحبي غدا ... مجرّداً والشهاب الفاطمي بدا
وأنه آنسد شعبٌ كان منصدعاً ... به وأمرع شعبٌ كان محتصدا
فأرفع المجد أعياناً وأسمُقُه ... مجدٌ يناسب فيه الوالد الولدا
فليهنأ الصاحب المولود ولترد ال ... سعود تجلو عليه الفارس النجدا
لم يتخذ ولداً إلا مبالغةٌ ... في صدق توحيد من لم يتخذ ولدا
ما أشرف معنى هذا البيت وأبدعه وأبرعه! ومنها:
وخذ إليك عروساً بنت ليلتها ... من خادمٍ مخلصٍ ودّاً ومعتقدا

أهديتها عفو طبعي وانتحيت بها ... سحراً وإنْ كنت لم أنفث له عقدا
وازنت ما قلته شكراً لربّك إذ ... جاء المبشّر بيتاً سار واطّردا
الحمد لله شكراً دائماً أبداً ... إذ صار سبط رسول الله لي ولدا
وقال أبو الحسن الجوهري في التهنئة قصيدته التي منها:
كافي الكفاة بقصدٍ من صرائمه ... حامي الحماة بحصدٍ من مناصله
ما زال يخطب منه الدين مجتهداّ ... قربى توطّد من عليا وسائله
وكان بعد رسول الله كافله ... فصار جدّ بنيه بعد كافله
هلّم للخبر المأثور مسنده ... في الطالقان فقرّت عين ناقله
فذلك الكنز عبّادٌ وقد وضحت ... عنه الإمامة في أولى مخايله
لما روت الشيعة أن بالطالقان كنزاً من ولد فاطمة يملأ الله به الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، والصاحب من قرية الطالقان من قرى أصبهان، وروق سبطاً فاطمياً، تأوّلوا له هذا الخبر، وأنا بريء منم عهدته.
الصاحبيّ نجاراً في مطالعه ... والطالبيّ غراراً في مقاتله
يهني الوزير ظباً في وجه صارمه ... من صارمٍ وشباً في حدّ عامله
وقال عبد الصمد بن بابك قصيدة منها:
كساك الصوم أعمار الليالي ... وأعقبك العنيمة في المآب
فلا زالت سعودك في خلودٍ ... تبارى بالمدى يوم الحساب
أتاك العز يسحب برديته ... على ميثاء حالية التراب
ببدرٍ من بني الزهراء سارٍ ... تعرّى عنه جلباب السحاب
تفرّع في النبوة ثم ألقى ... بضبعيه إلى خير الصحاب
تلاقت لابن عبادٍ فروع ال ... نبوة والوزارة في نصاب
فلا تغررْ برقدته الليالي ... ولا تشخذْ له الهمم النوابي
فمن خضعت له الأسد الضواري ... ترقّع عن مراوغة الذئاب
وكان الصاحب إذا ذكر عباداً أنشد وقال:
يا ربّ لا تخلني من صنعك الحسن ... يا ربّ حِطْني في عبّادٍ الحسني
ولما فطم قال:
فطمت أبت عبّاد يا ابن الفواطم ... فقال لك السادات من آل هاشم
لئن فطموه عن رضاع لبانه ... لما فطموه عن رضاع المكارم
ولما أملك عباد بكريمة بعض أقرباء فخر الدولة أبي الحسن قال أبو إبراهيم إسماعيل بن أحمد الشاشي قصيدة منها:
المجد ما حرست أولاه أخراه ... والفخر ما التفّ أقصاه بأدناه
والسعي أجلبه للحمد أصعبه ... والذكر أعلاه في الأسماع أغلاه
والفرع أذهبه في الجوّ أنضره ... والأصل أرسخه في الأرض أنقاه
اليوم أنجزت الآمال ما وعدت ... وأدرك المجد أقصى ما تمناه
اليوم أسفر وجه الملك مبتسماً ... وأقبلت ببريد السعد بشراه
اليوم ردّت على الدنيا بشاشتها ... وأرضي الملك والإسلام والله
والملك شدّت عراه بالنبوة فار ... تزّت دعائمه واشتدّ ركناه
وصار يعزى بنو ساسان في مصرٍ ... صنعاً من الله أسناه فأسناه
قد زفّ من جده كافي الكفاة إلى ... من خاله ملك الدنيا شهنشاه
سبطان سدّي رسول الله سلكهما ... فألحم الله ما قد كان سداه
أولاد أحمد ريحان الزمان ومو ... لانا الوزير من الريحان ريّاه
أولاد أحمد منه لا يميّزهم ... عنه ولاءٌ ولا مالٌ ولا جاه
متى ابتنى واحدٌ منهم بواحدةٍ ... فإنما صافحت يمناه يسراه
قال مؤلف الكتاب: كنت عزمت على إيراد غرر مما مدح به الصاحب في هذا المكان، فاقتصرت على ما سيمر منها عند ذكر شعرائه، وسياقة البدائع من محاسنهم، والوسائط من قلائدهم، بإذن الله سبحانه وتعالى ومشيئته وإرادته.

الفاظ له تجري مجرى الامثال
وهذه غرر من فقر ألفاظ الصاحب تجري مجرى الأمثال

وقد جمعت فيها بين ما أخرجه الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد منها في كتابه " ملح الخواطر، وسبح الجواهر " ، وبين ما أخرجته أنا سالكا سبيله، ومحتذياً تمثيله.
من استماح البحر العذب، استخرج اللؤلؤ الرطب من طالت يده بالمواهب، امتدت إليه ألسنة المطالب من كفر النعمة، استوجب النقمة من نبت لحمه على الحرام، لم يحصده غير الحسام من غرّته أيام السلامة، حدثته ألسن الندامة.
من لم يهزه يسير الإشارة لم ينفعه كثير العبارة رب لطائف أقوال، تنوب عن وظائف أموال الصدر يطفح بما جمعه، وكل إناء مؤذ ما أودعه اللبيب تكفيه اللمحة، وتغنيه اللحظة عن اللفظة، الشمس قد تغيب ثم تشرق والروض قد يذبل ثم يورق، والبدر يأفل ثم يطلع، والسيف ينبو ثم يقطع العلم بالتذاكر، والجهل بالتناكر إذا تكرر الكلام على السمع تقرر في القلب الضمائر الصحاح، أبلغ من الألسنة الفصاح الشيء يحسن في إبانه كما أن الثمر يستطاب في أوانه الآمال ممدودة، والعواري مردودة الذكرى ناجعة، وكما قال الله تعالى نافعة متن السيف لين، ولكن حده خشن، ومتن الحية ألين، ونابها أخشن، عقد المنن في الرقاب، لا يبلغ إلا بركوب الصعاب بعض الحلم مذلّة، وبعض الاستقامة مزلّة كتاب المرء عنوان عقله، بل عيار قدره ولسان فضله، بل ميزان علمه إنجاز الوعد، من دلائل المجد، واعتراض المطل، من إمارات البخل، وتأخير الإسهاف، من قرائن الإخلاف خير البر ما صفا وضفا، وشره ما تأخر وتكدر فراسة الكريم لا تبطي، وقيافة الشر لا تخطي قد ينبح القمر، فليلقم النابح الحجر كم متورط في عثار، رجاء أن يدرك بثار بعض الوعد كنقع الشراب، بعضه كلمع السراب قد يبلغ الكلام، حيث تقصر السهام ربما كان الإقرار بالقصور، أنطق من لسان الشكور ربما كان الإمساك عن الإطالة، أوضح في الإبانة والدلالة لكل امرئ أمل، ولكل وقت عمل إن نفع القول الجميل، وإلا نفع السيف الصقيل شجاع ولا كعمرو، ومندوب ولا كصخر لا يذهبن عليك تفاوت ما بيتن الشيوخ، والأحداث، والنسور والبغاث كفران النعم، عنوان النقم جحد الصنائع، داعية القوارع تلقى الإحسان بالجحود، تعريض النعم للشرود قد يقوى الضعيف، ويصحو النزيف ويستقيم المائد، ويستيقظ الهاجد للصدر نفثة إذا خرج، وللمرء بثة إذا أحوج ما كل امرئ يستجيب للمراد، ويطيع يد الارتياد قد يصلى البريء بالسقيم، ويؤخذ البرّ بالأثيم ما كل طالب حق يعطاه، ولا كل شائم مزن يسقاه إن الأحداث لا رياضه لهم بتدبير الحوادث إن السنين تغير السِّنن من ثقلت عليه النعمة، خف وزنه. ومن استمرت به الغرة حزنه أطع سلطان النهي، دون شيطان الهوى.

ملح وظرف من ألفاظه
أخبرني عن سفرتك، وعما حصل بها في سفرتك وجدت حرّاً يشبه قلب الصب، ويذيب دماغ الضب أنوب فيه نيابة الوكيل المكتري، بل المملوك المشتري قد تحملت مع يسير الفرقة، عظيم الحرقة. ومع قليل البعد، كثير الوجد عليّ أن أقول، وما عليّ القبول لا أعترض بين الشمس والقمر، والروض والمطر أكره أن أمل، وقد قصدت أن أجل، وأن أعق، وقد قصدت أن أقضي بالحق مرحباً بزائر لباسه حرير، وأنفاسه عبير زائر وجهه وسيم، وريحه نسيم، وفضله جسيم بستان النظير، وراق ورقه النضير فلان بين سكرى الشباب والشراب عصن طلعه نضير، وليس له نظير خط أحسن من عطفات الأصداغ، وبلاغة كالأمل آذن بالبلاغ فقر كما جيدت الرياض، وفصول كما تغازلت المقل المراض ألفاظ كما نورت الأشجار، ومعان كما تنفست الأسحار نثر كنثر الورد، ونظم كنظم العقد كتابك رقية القلب السليم، وغرة العيش البهيم كلام يدخل على الأذن، بلا إذن فلام كريم ملء لباسه موفق أنفاسه، ذو جدّ كعلو الجدّ، وهز كحديقة الورد، عشرته ألطف من نسيم الشمال، على أديم الزلال، وألصق بالقلب، من علائق الحب شكره شكر الأسير لمن أطلقه، والمملوك لمن أعتقه أثنى عليه ثناء العطشان الوارد، على الزلال البارد قلب نغل، وصدر دغل وعده برق خلب، وروغان ثعلب فلان يتعلق بأذيال المعاذير، ويحيل على ذنوب المقادير.
فصول له ورقاع في الملاطفة والمداعبة
فصل من كتاب له إلى أبي العلاء الأسدي

ذكرت أن أدهمك قطع الدهر ورباطه، أو قطع الموت نياطه. ووصفت الحمار الذي استعضته، فلا أدري أقرطته، أم عضدته؟ وقد كتبت بابتياع مركوب لك بعيوب، أو يعسوب، أو مرجوب بل رمست أن يقاد إليك في كيس أعجر، فإن شئت فاتركه عندك أشهب، وإلا فابتع به أدهم أو أشقر، ويجنب درج كتابي فليوصل، والنقد عند الحافر، وبه يملك الخف والحافر، ويجنب الأعز السائل، والأقرح النادر.

فصل من كتاب في الغضائري
الغضائري، وما أدراك ما الغضائري. استزاد إلى الجمال جمالاً، وعاد بدراً وكان هلالاً، فإن شئت فالغصن ميالاً، وإن شئت فالدعص منهالاً:
كأنّ جميع الناس يلقون وجهه ... بناظرك المفتون، والحبّ شامل
رويدك إن أحببت فالغصن مائلٌ ... وإنْ تصْبُ بعد الدعص فالدغص هائل
وهو يهدي إليك سلاماً كرقة خده، ونسيم عرفه، وغزارة دمعك من بعده:
سلاماً كما رقّ على الصبا ... رجاء رسول الورد في ومن الورد
تأبى أيها العبد الصالح، إلا أن تغمسنا معك في مزج المازح:
ألا ربّ ذي مزجٍ يحرّك حبله ... وحبل التُّقى من قلبه شزر
فصل
وما الشأن في أنك تنتقل في الهوى تنقّل الأفياء، وتتميّل في الحب كشارب الصهباء. فمرة الغضائري، حتى إذا حسناك قد صرت له وصار لك، وعلق بك أمله وأملك. بعت قديماً بحديث، وتليداً بطريف، واستهوتك حبائل القمى فقمت تفتل في حبله، وتحرص على وصله، ثم تطمع أن تضم ضدّاً إلى ضد، وتجمع سيفين في غمد. وهيهات! إن الغضائري قد أبلغه ذلك فازورّ وتنمّر، وغار وتنكّر، وقد كان له عزم في المسير إلى أصبهان، ففتر بفتور صبوتك، وخفت بظهور نبوتك:
نقِّلْ فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
وقد جعله بعض الشعراء للحبيب الآخر، وأما نحن فننشد لكثيِّر:
إذا ما أرادت خلّةٌ أن تزيلنا ... أبينا وقلنا الحاجبية أوّل
والله يسقي عهدك صوب العهاد، ويعدينا وإياك على البعاد.
رقعة استزارة
هذا اليوم يا سيدي طاروني يعجبني نوؤه الفاختي، وإذ قد غابت شمس السماء عنا. فلا بد أن تدنو شمس الأرض منا. فإن نشطت للحضور، شاركتنا في السرور. وإلا فلا إكراه ولا إجبار، ولك متى شئت الاختيار.
وفي مثلها
غداّ يا سيدي ينحسر الصيام، وتطيب المدام. فلا بد من أن نقيم أسواق الأنس نافقة، وننشر أعلام السرور خافقة، فبالفتوة فإنها قسم للظراف، يفرض حسن الإسعاف، لما بادرتها ولو على جناح الرياح، إن شاء الله تعالى.
أخرى - نحن يا سيدي في مجلسٍ غنيٍّ إلا عنك، شاكر إلاّ منك. قد تفتحت فيه عيون النرجس، وتوردت فيه خدود البنفسج، وفاحت مجامر الأترج، وفتقت فارات النارنج، وأنطقت ألسنة العيدان، وقام خطباء الأوتار، وهبت رياح الأقداح، ونفقت سوق الأنس، وقام منادي الطرب، وطلعت كواكب الندماء، وامتدت سماء الند، فبحياتي لما حضرت، لنحصل بك في جنة الخلد، وتتصل الواسطة بالعقد.
في مثلها - نحن وحياتك في مجلس راحه ياقوت، ونوره در، ونارنجه ذهب، ونرجسه دينار ودرهم، ويحملها زبرجد، وألسنة العيدان تخاطب الظراف، بهلم إلى الأقداح، لكننا بغيبتك كعقد عيّبت واسطته، وشباب أخذت جدته، فأحب أن تكون إلينا أسرع من الماء في انحداره، والقمر في مداره.
في مثلها - مجلسنا يا سيدي مفتقر إليك، معول في إنائه عليك، وقد أبت راحه أن تصفو إلا أن تتناولها يمناك، وأقسم غناؤه لا طاب أو تعيه أذناك، فأما خدود نارنجه فقد احمرت لإبطائك، وعيون نرجسه فقد حذفت تأميلاً للقائك، فبحياتي عليك لما تعجلت، لئلا يخبث من يومي ما طاب، ويعود من همي ما طار.
في مثلها - صرنا أيّد الله مولانا في بستان كأنه من خلقه خلق، ومن خلقه سرق، فرأينا أشجاراً تميل فتذكر تبريح الأحباب، وقد تداولتهم أيدي الشراب، وأنهاراً كأنها من يد مولانا تسيل، أو من راحته تفيض، وحضرنا فلان فعلاً نجمنا، وحمد أمرنا، وتسهل طريق الخير لنا، فلما دبت الكؤوس فيهم دبيب البرء في السقم، والنار في الفحم. رأى أن نجعل أنسنا غداً عنده فقلت سمعاً، ولم أستجز لأمره دفعاً، والتمس أن أخلفه في تجشيم مولاي إلى المجمع، ليقرب علينا متناول البدر بمشاهدته، ولمس الشمس بمطالعته، فإن رأى أن يشفعني أسعفني إن شاء الله تعالى.

فصل - أنا على طرف بيتان أذكرني ورده المتفتح بخلقك، وجدوله السابح يطبعك، وزهره الجنيّ بقربك.

فصل من كتاب آخر
علقت هذه الأحرف، وأنا على حافة حوض ذي ماء أزرق كصفاء ودّي لك، ورقة قولي في عتابك، ولو رأيته لأنسيت أحواض مأرب ومشارب أم غالب، وقد قابلني شقائق كالزنوج تجارحت فسالت دماؤها وضعفت فبقي ذماؤها، وسامتني أشجار كأن الحور أعارتها أثوابها، وكستها أبرادها، وحضرتني نارنجات ككرات من سفن ذهبت، أو ثدي أبكار خلقت، وقد نبرم بي الحاضرون لطول الكتاب فوقفت وكففت، وصدقت عن كثير مما له تشوفت.
ومن رقعة - مضيت وشاهدت أحسن منظر: فالأرض زمردة، والأشجار وشي، والماء سيوف، والطير قيان.
رقعة في الاعتذار من هفوة الكأس
سيدي أعرف بأحكام المروءة من أن يهدى إليها، وأحرص على عمارة سبل الفتوة من أن يخص عليها، وقديماً حملت أوزار السكر على ظهور الخمر، وطوي بساطها الشراب، على ما فيه من خطأ وصواب، وكنت البارحة بعقب شكاة أضعفتني ونقلتني عن عادتي، واستعفيت السقاة غير دفعة فأبوا إلاّ إلحاحاً عليّ وإتراعاً إليّ، وكرهت الامتناع خشية أن أوقع الكساد في سوق الأنس وتفادياً من أن يعقد على خنصر الثقيل، فلما بلغت الحد، الذي يوجب الحد بدر مني ما يبدر ممن لا يصحبه لبّه، ولا يساعده عقله وقلبه. ولا غرو فموالاة الأرطال، تدع الشيوخ كالأطفال. فإن رأى أن يقبل عذري، فيما جناه سكري، ويهب جرمي لمعرفته نيتي في صحوي، وإن أبى إلا معقابتي جعلها قسمين بين المدام وبيني، فعل إن شاء الله تعالى.
في تنوير باكورة خلاف قد نور
لتنوير الخلاف فضائل لا تحصى، ومحاسن تطول أن تستقصى، منها أنه أول ثغر يبسم عنه الربيع ويضحك، ودر يعقد على القضبان ويسبك، ولتمايله ادكار بقدود الأحباب، وتهييج لسواكن الأطراب، وحمل إلى قضيب منه ورداته متعادلة، ولذاته متقابلة. فأنفدته مع رقعتي هذه إليك، وسألت الله أن يعيده ألف حول عليك، وقلت:
وقصيبٍ من الخلاف بديعٍ ... مستخصٍّ بأحسن الترصيع
قد نعى شدّة الشتاء علينا ... وسعى في جلاء وجه الربيع
وحكى من أحبّ عرفاً وظرفاً ... واهنزازاً يثير ماء ضلوعي
رقةً ما نظمت نحو بديع ال ... مجد حاكى الربيع حسن صنيعي
في إهداء أترجة
ما زلت يا سيدي أفكر في تحفة تجمع أوصاف معشوق وعاشق، وتنظم نعوت مشوق وشائق. حتى ظفرت بأترجة كأن لونها لوني، وقد منيت ببعدك، وبليت بصدّك. وكأن عرفها مستعار من عرفك، وظرفها مشتق من ظرفك، فكأنها بعض من لا أسميه، وأنا أفديه، فأنفذتها وقلت:
مولاي قد جاءتك أترجةً ... من بعض أخلاقك مخلوقه
ألبسها صانعها حلّةً ... من سرق أصفر مسروقه
في إهداء أقلام
قد خدمت دواة مولاي بأقلام تتخفف بأنامله، وتتحمل نفحات فواضله، وتأنّقت في بريها فأتت كمناقير الحمام، واعتدال السهام، خمسة منها مصرية مقومة. عليها حلل مسهمة، وعشرة منها بيض كأياديه، وأيام مؤمليه، والله يديم له مواد نعمته، ويوفقني لشرائط خدمته.
تهنئة ببنت
أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتناسقون، نجباء يتلاحقون:
فلو كان النساء كمثل هذي ... لفضّلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ ... ولا التذكير فخرٌ للهلال
فادّرع يا سيدي اغتباطاً، واستأنف نشاطاً، فالدنيا مؤنثة والرجال يخدمونها، والذكور يعبدونها، والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية، وفيها كثرت الذرية، والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب، وحليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة وبها قوام الأبدان، وملاك الحيوان. والحياة مؤنثة ولولاها لم تتصرف الأجسام، ولا عرف الأنام. والجنة مؤنثة وبها وعد المتقون، ولها بعث المرسلون. فهنيئاً ما أوليت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت، وأطال بقاءك ما عرف النسل والولد، وما بقي الأمد، وكما عمّر لبد.
رقعة مداعبة

خبر سيدي عندي وإن كتمه عني، واستأثر به دوني، وقد عرفت خبره البارحة في شربه وأنسه. وغناء الضيف الطارق وعريسه وكان ما كان مما لست أذكره وجرى ما جرى مما لست أنشره، وأقول: إن مولاي امتطى الأشهب فكيف وجد ظهره؟ وركب الطيار فكيف شاهد جريه؟ وهل سلم على حزونة الطريق؟ وكيف تصرف أفي سعة أم ضيق؟ وهل أفرد الحج أن تمتع بالعمرة؟ وقال في الحملة بالكرة. ليتفضل بتعريفي الخبر فما ينفعه الإنكار، ولا يغني عنه إلا الإقرار، وأرجو أن يساعدنا الشيخ أبو مرة. كما ساعده مره، فنصلي للقبلة التي صلى إليها، ونتمكن من الدرجة التي خطب عليها، هذا وله فضل السبق إلى ذلك الميدان، لكثير الفرسان.

ومن أخرى
انفردت يا سيدي بتلك انفراد من يحسب مطلع الشمس من وجهها، منبت الدر من فمها. وملقط الورد من خدها، ومنبع السحر من طرفها، وحقاق العاج من ثديها، ومبادئ الليل من شعرها، ومغرس الغصن في قدها، ومهيل الرمل في ردفها، وكلا فإنها شوهاء. ورهاء خرقاء خلقاء، كأنما محياها أيام المصائب، وليالي النوائب، وكأنما قربها فقد الحبائب، وسوء العواقب، وكأنما وصلها عدم الحياة، وموت الفجأة، وكأنما هجرها قوّة المنّة. وكأنما فقدها ريح الجنة.
ومن كتاب مداعبة
الله الله في أخيك، لا تظهر كتابه فيحكم عليه بالماليخوليا وبالتخابيل الفاسدة، فقد ذكر جالينوس أن قوماً يبلغ بهم سوء النخيل، أن يقدروا أجسامهم زجاجاً فيجتنبوا ملامسة الحيطان خشية أن يتكسروا. وحكى أن قوماً يطنون أنفسهم طيوراً فلا يغتذون إلا القرطم، والحظّ كتابي دفعة ثم مزقه، فلا طائل فيه ولا عائد ولا فرج عنده، وعلى ذكر الفرج فقد كانت بهمذان شاعرة مجيدة تعرف بالحنظلية وخطبها أبو كاتب بكر، فلما ألح عليها وألحف كتبت إليه:
أيرك أيرٌ ما له ... عند حرّي هذا فرج
فاصرفه عن باب حرّي ... وأدخله من حيث خرج
هذه والله في هذين البيتين أشهر من كبشة أم عمرو، والنساء أخت صخر، ومن كعوب الهذلية، وليلى الأخيلية.
ومن فقر رسائله من سائر الفنون
رسالة كتبها إلى أبي علي الحسن بن أحمد في شأن أبي عبد الله محمد بن حامد، وسمعت الأمير أبا الفضل عبيد الله بن أحمد يسردها، فزادني جريها على لسانه وصدورها عن فمه إعجاباً بها، وهي: كتابي هذا وقد أرخى الليل سدوله، وسحب الظلام ذيوله، ونحن على الرحيل إذا إن شاء الله إذا مدّ الصباح غرره، قبل أن يسبغ حجوله. ولولا ذاك لأطلته كوقوف الحجيج على المشاعر. ولم أقتصر منه على زاد المسافر. فإن المتحمل له وسبع الحقوق لدي، حقيق أن أتعب له خاطري ويدي، وهو أبو عبد الله الحامدي أعزه الله تعالى، كان وافانا مع ذلك الشيخ الشهيد، أبي سعيد الشبيبي السعيد، رفع الله منازله. وقتل قاتله، يكتب له فآنسنا بفضله، وأنسنا الخير من عقله، فلما فجع بتلك الصحبة، وبما كان له فيها من القربة. لم يرض غير بابي مشرعاً، وغير جنابي مرتعاً، وقطع إليّ الطريق الشاق مؤكداً حقاً لا يشق غباره، ولا ينسى على الزمان ذماره. وكنت على جناح النهضة التي لم يستقرّ نواها، ولم تبن حصباها، ولم تلق عصاها، فأمرج الحر المبتدأ الأمر، القريب العهد بوطأة الدهر، حامل عليه بالمركب الوعر، فرددته إليك يا سيدي لتسهل عليه حجابك، وتمهد له جنابك، وتترصد له عملاً خفيف الثقل، ندى الظل، فإذا اتفق عرضته عليه، ثم فوضته إليه، وهو إلى أن يتفق ذاك ضيفي وعليك قراه، وعندك مربعه ومشتاه، ويريد اشتغالاً بالعلم ليزيده في الاستقلال، إلى أن يأتيه إن شاء الله خبرنا الاستقرار ثم له الخيار إن شاء أقام على ما وليته، وإن شاء لحق بنا ناشراً ما أوليته، وقد وقعت له إلى فلان بما يعنيه على بعض الانتظار، إلى أن تختار له أيدك الله كل الاختيار، فأوعز إليّ بتعجيله، واكفني شغل القلب بهذا الحر الذي أفردني بتأميله، إن شاء الله تعالى.
رقعة له إلى القاضي أبي بشر الفضل بن محمد الجرماني عند وروده باب الري وافداً عليه:
تحدّثت الركاب بسير أروى ... إلى بلدٍ حططتُ به خيامي
فكدّت أطير من شوقي إليها ... بقادمةٍ كقادمة الحمام

أفحق ما قيل أمر القادم؟ أم ظن كأماني الحالم؟ لا والله بل هو درك العيان، وإنه ونيل المنى سيان، فمرحباً أيها القاضي براحلتك ورحلك. بل أهلاً بك وبكافة أهلك. ويا سرعة ما فاح نسيم مسراك، ووجدنا ريح يوسف من ريّاك، فحثّ المطى تزلّ غلتي بسقياك، وتزح علتي بلقياك، ونص على يوم الوصول لنجعله عيداً مشرفاً. وتتخذه موسماً ومعرفاً. ورد الغلام أسرع من رجع الكلام، فقد أمرته أن يطير على جناح نسر، وأن يترك الصبا في عقال وأسر.
سقى الله داراتٍ مررت بأرضها ... فأدّتك نحوي يا زياد بن عامر
أصائل قربٍ أرتجي أن أنالها ... بلقياك قد زحزحن حرُّ الهواجر

رقعة في ذكر مصحف أهدي إليه
البرّ أدام الله الشيخ أنواع، وتقصر عنه أبواع، فإن يكن فيها ما هو أكرم منصباً، وأشرف منسباً. فتحفة الشيخ إذ أهدي ما لا تشاكله النعم، ولا تعادله القيم، كتاب الله وبيانه، وكلامه وفرقانه، ووحيه وتنزيله، وهداه سبيله. ومعجز رسول الله صلى الله عليه وسلم ودليله، طبع دون معارضته على الشفاه، وختم على الخواطر والأفواه. فقصر عنه الثقلان، وبقي ما بقي الملوان، لائحٌ سراجه، واضح منهاجه، منير دليله، عميق تأويله، يقصم كل شيطان مريد، ويذل كل جبار عنيد، وفضائل القرآن، لا تحصى في ألف قران، فأصِفُ الخط الذي بهر الطرف، وفاق الوصف، وجمع صحة الأقسام، وزاد في نخوة الأقلام، بل أصفه بترك الوصف آثاره، وعينه فراره، وحقاً أقول إني لا أحسب أحداً ما خلا الملوك جمع من المصاحف ما جمعت، وابتدع في استكتابها ما ابتدعت، وإن هذا المصحف لزائد على جميعها زيادة القرعة على الغرة، بل زيادة الحج على العمرة.
لقد أهديته علقاً نفيساً ... وما يهدي النفيس سوى الفيس
فصل من كتاب له إلى ابن العميد صدر جواباً عن كتابه إليه في وصف البحر، وكان أبو بكر الخوارزمي يحفظه، وكثيراً ما كان يقرؤه ويعجب السامعون من فصاحته، ولم أره يحفظ من الرسائل غيره: وصل كتاب الأستاذ الرئيس صادراً عن شط البحر بوصف ما شاهد من عجائبه، وعاين من مراكبه، ورآه من طاعة آلاته للرياح كيف أرادتها، واستجابة أدواتها لها متى نادتها. وركوب الناس أشباحها والخوف بمرأى ومسمع، والمنون بمرقب ومطلع، والدهر بين أخذ وترك، والأرواح بين نجاة وهلك، إذا أفكروا في المكاسب الخطيرة هان عليهم الخطر، وإذا لاحت لهم غرر المطالب الكثيرة، حبب إليهم الغرر، وعرفت ما قاله من تمنيه كوني عند ذلك بحضرته وحصولي على مساعدته، ومن رأى بحر الأستاذ كيف يزخر بالفضل وتتلاطم فيه أمواج الأدب والعلم لم يعتب على الدهر فيما يفتيه من منظر البحر، ولا فضيلة له عندي أعظم من إكبار الأستاذ لأحواله، واستعظامه لأهواله، كما لا شيء أبلغ في مفاخره وأنفس في جواهره، من وصف الأستاذ له فإني قرأت منه الماء السلسال. لا الزلال، والسحر الحرام، لا الحلال، وقد علم أنه كتب ولما أخطر بفكره سعة صدره، فلو فعل ذلك لرأى البحر وشلالاً يفضل عن التبرض، وثمداً لا يكثر عن الترشف.
وكم من جبالٍ جبت تشهد أنّك الجبال وبحرٍ شاهدٍ أنك البحر.
ومحاسن فقر الصاحب تستغرق الدفاتر، وتستنزف في الانتخاب منها الخواطر، وليس يتسع هذا الكتاب لغيض من فيضها وقطرة من سيحها.
مختارات من شعره في الغزل
هذا ما اخترته من ملح شعره في الغزل وما يتعلق به
قال:
تسحّبْ ما أردت علبى الصباح ... فهمْ ليلٌ وأنت أخو الصباح
لقد أولاك ربّك كلَّ حسنٍ ... وقد ولاّك مملكة الملاح
وبعد فليس يحضرني شرابٌ ... فأنعمْ من رضاك لي براح
وليس لديَّ نقلٌ فارتهنّي ... بنقلٍ من ثناياك الوضاح
وقال:
لا ترجو إصلاح قلبي بلومٍ ... حلف الجفن لا استقلَّ بنومِ
وهواه لئن تأخر عني ... طول يومي إني سيحضر يومي
وقال:
عليّ كالغزال وكالغزاله ... رأيت به هلالاً في غلاله
كأنّ بياض غرّته رشادٌ ... كأن سواد طرّته ضلاله
كأنّ الله أرسله نبياً ... وصيّر حسنه أقوى دلاله
إذا ما زدت وصلاً زدت خبلاً ... كأن حبال وصلك لي خباله
وقال:

هذا عليَُّ عليَّ في محاسنه ... كأنما وصفه أن يبلغ الأملا
وكم أقول وقد أبصرت طلعته ... هذا لي في طراز الله قد عملا
وقال:
وشادنٍ أصبح فوق الصّفه ... قد ظلم الصّبَّ وما أنصفه
كم قلت إذ قبَّل كفّي وقد ... نيّمني: يا ليت كفّي شفه
وقال في معناه:
أبا شجاعٍ يا شجاع الورى ... ومن غدا في حسنه قبله
قبِّل فمي إن كنت مؤثراً ... فاليدَّ لا تعرف القبلة
وقال في معناه:
وشادنٍ جماله ... تقصر عنه صفتي
أهوى لتقبيل يدي ... فقلت: لا، بل شفتي
وقال:
قلْ لأبي القاسم إن جئته ... هنّيت ما أعطيتَ هنّيته
كلُّ جمالٍ فائقٍ رائقٍ ... أنت برغم البدر أوتيته
وقال:
قل لأبي القاسم الحسيني ... يا نار قلبي ونور عيني
البدر زين السماء حسناً ... وأنت زينٌ لكل زين
وقال من باب الاقتباس من الحديث:
ومهفهفٍ يغني عن القمر ... قَمَرَ الفؤاد بفاتن النظر
خالسته تفاح وجنته ... من غير إبقاءٍ ولا حذر
فأخافني قومٌ فقلت لهم ... لا قطع في ثمرٍ ولا كثر
وقال في مثله:
قال لي إن رقيبي ... سيِّءُ الخلق فداره
قلت دعني وجهك ال ... جنة حُفَّت بالمكاره
وقال في مثله:
أقول وقد رأيت له سحاباً ... من الهجران مقبلةً إلينا
وقد سحّت غزالتها بهطلٍ ... حوالينا الصدود ولا غلينا
وقال:
الحبُّ سكرٌ خماره التلف ... يحسن فيه الذبول والدنف
عابوه إذ لجَّ في تصلُّفِه ... والحسن ثوبٌ طرازه الصلف
وقال:
وشادنٍ يكثر من قول لا ... أوقع قلبي في ضروب البلا
قلت وقد تيّمني طرفه ... هذا هو السحر وإلا فلا
وقال رحمه الله:
وشادنٍ ذي غنجٍ ... طاوي الحشى معتدل
أنشدته شعراً بدي ... عاً حسناً من عملي
فقال فيمنْ ولمنْ ... فقلت هذا فيك لي
فطار في وجنته ... شعاع نار الخجل
وقال:
قد قلت لما مرّ يخطر ماشياً ... والناس بين معوّذٍ أو عاشق
لم يكفِ ما صنعت شقائق خدّه ... تلبّس حلّةً بشقائق
وقال:
دعتني عيناك نحو الصبا ... دعاءً يكرّر في كل ساعه
ولولا تقادم عهد الصِّبا ... لقلت لعينيك سمعاً وطاعه
وقال:
شتمتُ من نيمّني مغالطاً ... لأصرف العاذل عن لجاجته
فقال لما وقع البزاز في ال ... ثوب علمنا أنه من حاجته
وقال:
أتاني البدر باكياً خجلاً ... فقلت ماذا دهاك يا قمر
قال غزالٌ أتى ليعزلني ... بحسنه فالفؤاد منفطر
فقلتُ قبِّل ترابه عجلاً ... واسجدْ له قال كلُّ ذا غرر
قد بايعت أنجم السماء له ... فليس لي مفزعٌ ولا وزرُ
وقال:
يا قمراً عارضني على وجلْ ... وصاله يشبه تأخير الأجلْ
وقال: تبغي قبلةً على عجل؟ ... قلت: أجلْ، ثم أجلْ، ثم أجلْ
وقال:
وشادنٍ في الحسن كالطاووس ... أخلاقه كليلة العروسِ
قد نال باللحظ من النفوس ... ما لم تنله الروم من طرسوس
وقال:
بدا لنا كالبدر في شروقه ... يشكو غزالاً لجّ في عقوقه
يا عجباً والدهر في طروقه ... من عاشقٍ أحسن من معشوقه
سمعت أبا بكر الخوارزمي، يقول: أنشدني الصاحب هذه القوافي ليلة، وقال: هل تعرفون نظيراً لمعناها في شعر المحدثين؟ فقلت: لا أعرف إلا قول البحتري:
ومن عجب الدهر أن الأمي ... ر أصبح أكتبُ من كاتبه
فقال: جودت وأحسنت، وهكذا فليكن الحفظ، وقال:
عزمت على الفصد يا سيدي ... لفضل دمٍ كظّني افتصادٍ مؤلم
فلما تأخّرت عن مجلسي ... أرقت لغير افتصادٍ دمي
وقال:

ومهفهفٍ شكل المجونْ ... أضنى فؤادي بالفتون
فنسيمه ملء الأنو ... ف، وحسنه ملء العيون
وقال:
فمن كان يقطف ورد الجنان ... فقطفي مذْ كنتُ ورد الخدود
وهمّي مذ كنت درّ الثغور ... إذا اهتمّ غيري بدرِّ العقود
وقال:
كنّا وأسباب الهوى متّفقه ... نبتاً من الورد معاً في ورقهْ
فالآن إذ أسبابه مفترقه ... قد صارت الأرض علينا حلقهْ
وقال:
يا خاطراً يخطر في تيهِهِ ... ذكرك موقوفٌ على خاطري
إنْ تكنْ آثرُ من ناظري ... عندي فلا متّعت بالناظر
وقال:
تأخّرت عنّي والغرام غريم ... وما ملّ قربُ الأكرمين كريمُ
وأوهمتني سقماً وأنت مصحّحٌ ... بلى لك عهد كيف شئت سقيم
ولو شئت لم تخلط وصالاً بهجرةٍ ... كما شيب بالماء الزلال حميم
ففي الدهر كافٍ أن يفرّق إنه ... وصيّ ظلومٌ والكريم يتيم
وقال، ويروي لغيره:
رشأٌ إذا وجدي عليه كرِدفه ... وغدا اصطباري في هواه كخصره
وكأنّ يوم وصاله من وجهه ... وكأنّ ليلة هجره من شعره
إن ذقت خمراً من ريقه ... أو رمتُ مسكاً نلته من نشره
وإذا تكبّر واستطال بحسنه ... فعذار عارضه يقوم بعذره

ملح من شعره في الصدغ والخط والعذار
قال:
يا شادناً في صدغه عقربُ ... ما يستجيب الدهر للراقي
يسلم خدّاه على لدغها ... ولدغها في كبدي باقي
وقال:
وعهدي بالعقارب حين تشتو ... تخفّف لدغها وتقلّ ضرّا
فما بال الشتاء أتي وهذي ... عقارب صدغه تزداد شرّا
وقال:
رأيت عليّاً في لباس جماله ... فشاهدت منه الروض ثانيَ مزنه
ولما تبدّى لي امتداد عذاره ... رأيت طراز الله في ثوب حسنه
وقال:
إنْ كنت تنكره فالشمس تعرفُهُ ... أو كنت تظلمه فالحسن ينصفُه
ما جاءه الشعر كي يمحو محاسنه ... وإنما جاءه عمداً يغلِّفه
وقال:
لما بدا العارض في الخدّ ... زاد الذي ألقى من الوجد
وقلت للعذّال يا من رأى ... بنفسجاً يطلع من ورد
وقال:
دبّ العذار على ميدان وجنته ... حتى إذا كاد أن يسعى به وفقا
كأنه كاتبٌ عزَّ المداد له ... أراد يكتب لاماً فابتدا ألفا
وقال:
عذارٌ كالطّراز على الطراز ... وشمسٌ في الحقيقة لا المجاز
تبدّى عارضاه فعارضاني ... وقالا لا تمرُّ بلا جواز
فقلت القلب عندكُمُ مقيمٌ ... وما حسن الثياب بلا طراز
وقال:
أنظرْ إليه كأنّه ... شمسٌ وبدرٌ حين أشرفْ
وَالْحَظْ محاسن خدّه ... تعذرْ دموعي حين تذرفْ
فكأنها الواوات ح ... ين يخطّها قلمٌ محرّف
وقال:
أبو نصر بن بكران ... مليح الحظِّ والخطِّ
فهذا النمل في العاج ... وذاك الدرّ في السّمط
وقال:
إنّ لبس السواد أقوى دليلٌ ... لأميرٍ يلي أمور العباد
وأمير الملاح يأتيه عزلٌ ... حين تلقاه لابساً للسواد
وقال:
وخطٍّ كأن الله قال لحسنه ... تشبّه بمن قد خطّك اليوم فأتمرْ
وهيهات أين الخطّ من حسن وجهه ... وأين ظلام الليل من صفحة القمرْ
وقال في صباح الحاجب:
خدّاه وردٌ وضدغه شبجٌ ... ومقلتاه الغناء والراح
إن هزّ أطرافه على نغمٍ ... شُقّت جيوبٌ وطاح أرواح
وجملة القول في محاسنه ... أنّ أمير الصباح صباح
وقال:
رقّ الزجاج ورقّت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمرُ
فكأنما خمرٌ ولا قدحٌ ... وكأنما قدحٌ ولا خمرُ
وقال:
وقهوةٍ قد حضِّرت بختمها ... فقلت للندمان عند شمّها

لا تقبضنْ بالماء روح جسمها ... فحسبها ما شربت من كرمها
وقال من المتكامل:
متغايراتٌ قد جُمعن وكلّها ... متشاكلٌ أشباحها أرواحُ
وإذا أردت مصرّحاً تفسيرها ... فالراح والمصباح والتفّاح
لو يعلم الساقي وقد جُمّعن لي ... من أي هذي تملأ الأقداح
وقال:
ولما بدا التفاح أحمرَ مشرقاً ... دعوت بكأسي وهي ملأى من الشفقْ
وقلت لساقيها أدرها فإنها ... خدود عذارى قد جُعلن على طبقْ
وقال من قصيدة:
وكأسٍ تقول العين عند جلائها ... أهلْ لخدود الغانسات عصيرُ؟
تحاميتها إلا تعلّل واصفٍ ... وقد يطرب الإنسان وهو كبيرُ
ومن قصيدة:
وصفراء أو حمراء فهي نحيلةٌ ... لرقّتها إلا على المتوهِّم
تشكّكنا في الكرم أنّ انتماءه ... إلى الكرم أم هاتا إلى الكرم ينتمي
ومنها:
تمتّع ندمانٌ بها وأحبَّةٌ ... وحظّي منها أنْ أقول ألا انعمي
لك الوصف دون القصف مني فخيّمي ... بغير يدي وارضي بما قاله فمي
أراد أنه جلس مع الشرب من غير شرب.
وقال:
وشادنٍ قلن له ما اسمكا ... فقال لي بالغنج عبّاثُ
فصرت من لثغته ألثغاً ... فقلت أين الكاث والطاث

ملح في الأوصاف والتشبيهات
قال:
أقبل الثلج فانبسطْ للسرور ... ولشرب الكبير بعد الصغير
أقبل الجوّ في غلائل نورٍ ... وتهادى بلؤلؤٍ منثور
فكأنّ السماء صاهرت الأر ... ض النثار من كافور
أخذه من قول ابن المعتز:
وكأنّ الربيع يجلو عروساً ... وكأنّا من قطره في نثار
وقال فيه:
هات المدامة يا غلام معجِّلاً ... فالنفس في قيد الهوى مأسوره
أو ما ترى كانون ينثر ورده ... وكأنما الدنيا به كافوره
وقال فيه:
هات المدامة يا غلام مصيِّراً ... نقلي عليها قبلة أو عضّه
أو ما ترى كانون ينثر ورده ... وكأنما الدنيا سبيكة فضّه
سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول عند إنشاد هذه الثلجيات: كل هذه الثلجيات عيال على قول الصنوبري:
ذَهِّبْ كؤوسك يا غلا ... م فإنه يوم مفضَّض
فقلت: قد أخذه منه من لم يزد على معناه، فقال:
جاد الغمام بدمعٍ كاللُّجين جرى ... فجدْ لنا بالتي في اللون كالذهب
وقال الصاحب في النارنج:
بعثنا من النارنج ما طاب عُرفُهُ ... فقيل على الأغصان منه نوافج
كراتٌ من العقيان أحكم خرطها ... وأيدي الندامى حولهنّ صوالج
وقال في الند:
ندٌّ لفخر الدولة استعماله ... قد زاد عرفاً من نسيم يديه
فكأنما عجنوه من أخلاقه ... وكأنه طيب الثناء عليهِ
وقال في حبة عنب:
وحبّةٍ من عنبٍ ... من المنى متَّخذَهْ
كأنها لؤلؤةٌ ... في وسطها زمرُّده
وقال فيه:
وحبّةٍ من عنبٍ قطفتها ... تحسدها العقود في الترائب
كأنها من بعد تمييزي لها ... لؤلؤةٌ قد ثقبت من جانب
وقال في الشمع:
ورائق القدّ مستحبُّ ... يجمع أوصاف كل صبِّ
صفرة لونٍ وسكب دمعٍ ... وذوب جسمٍ وحرّ قلبِ
وقال في التين:
تينٌ يزينُ رواؤه مخبورُه ... متخيّرٌ في وصفه يتحيَّرُ
عسل اللعاب لديه ممّا يجتوي ... وجنى النخيل لديه مرٌّ ممقر
وكأنما هو في ذرى أغصانه ... قطع النضار أدارهنّ مدوَّر
ويقول ذائقه لطيب مذاقه ... الله أكبر والخليفة جعفر
وقال في الخط واللفظ:
بالله قل لي أقرطاسٌ تخطّ به ... من حلّةٍ هو أمْ ألبسته حللا
بالله لفظك هذا سال من عسل ... أمْ قد صببت على أفواهنا عسلا
وقال في الوحل:
إني ركبت وكفُّ الأرض كاتبةٌ ... على ثيابي سطوراً ليس تنكتمُ

والأرض محبرةٌ والحبر من لثقٍ ... والطّرس ثوبي ويمني الأشهب القلمُ

من ملح إخوانياته
كتب إلى أبي الفضل بن شعيب:
يا أبا الفضل لم تأخّرت عنا ... فأسأنا بحسن عهدك ظنّا
كم تمنّت نفسي صديقاً صدوقاً ... فإذا أنت ذلك المتمنّى
فبغصن الشباب لما تثنّى ... وبعهد الصبا وإن بان منّا
كن جوابي إذا قرأت كتابي ... لا تقل للرسول كان وكنّا
وكتب إلى الحسين الطبيب:
إنا دعوناك على انبساطٍ ... والجوع قد أثّر في الأخلاط
فإن عسى مِلْتَ إلى التباطي ... صفعت بالنعل قفا بقراط
وكتب إلى أبي بكر الخوارزمي:
أسعدك الله بيوم الفصح ... وعشتَ ما شئتَ بيومٍ سمحِ
يا رأس مالي في الورى وربحي ... وظَفَري ونصرتي ونجحي
شرباً ولا تصغ لأهل النصح ... فالحزم أن تسكر قبل تصحي
سكر النصارى في غداة الفصح وكتب إلى أبي القاشاني:
يا أبا القاسم قلْ لي ... قل لماذا لا تزورُ
كنت قد قدمت وعداً ... فإذا وعدك زورُ
وبذرت الورد بالقو ... ل فلم تزكُ البذور
ونحرت الودّ بالهج ... ر كما يهدي الحزور
إنّ أمّ الصدق في ال ... ود لمقلاةٍ نزور
وكتبت إليه أيضاً:
مولاي لَمْ لَمْ تدعُ عب ... دك عند إحضار المدامْ
أعرفته من بينهم ... متبسّطاً وقت الطعام
أم قيل عربد ذات يو ... مٍ حين صار إلى المدام
أم لم يساعد حين مل ... ت إلى الغلامة والغلام
إن كنت تبخل بالطعا ... م فكيف تبخل بالكلام
لسنا نحاول دعوةً ... فاسمح علينا بالسلام
وقال رحمه الله:
لو فتشوا قلبي رأوا وسطه ... سطرين قد خطّا بلا كاتب
حبَّ عليّ بن أبي طالبٍ ... وحبَّ مولاي أبي طالبِ
وقال:
يا ابن يعقوب يا نقيب البدور ... كن شفيعي إلى فتىً مسرور
قل له إنّ للجمال زكاةٌ ... فتصدّق بها على المهجور
وكتب إلى أبي العلاء الأسدي:
أبا العلا يا هلال الهزل والجدِّ ... كيف النجوم التي تطلعن في الجلد
وباطنُ الجسم غرٌّ مثل ظاهره ... وأنت تعلم مما قلته قصدي
سمعت أبا الفتح علي بن محمد البستي يقول: لم اسمع في إنفاذ الحلواء إلى الأصدقاء أحسن من قول الصاحب:
حلاوة حبك يا سيدي ... تسوغ بعثي إليك الحلاوة
فقلت له: وأنا لم أسمع في النثار للرؤساء أحسن من قولك:
ولو كنت أنثر ما تستحقُّ ... نثرت عليكَ سعود الفلكْ
أؤلف كتاباً في الأحاسن، وأورد فيه أحسن ما سمعته في كل فن، فأجبته إلى ذلك، وحين ابتدأته عرضت موانع وقواطع عن استتمامه، أقواها غيبته عن خراسان، ثم وفاته رحمه الله تعالى.
وقال الصاحب:
قولوا لإخواننا جميعاً ... من كلّهمْ سيّد مرزَّا
من لم يعدنا إذا مرضنا ... إن مات لم نشهد المعزّى
وقال لمحمود التاجر:
طويت محموداً على جفوته ... مخلّصاً نفسي من خلّته
قدّرته يقلق من علّتي ... مثل انزعاجي كان من علّته
لم يطرِ ما بي لا ولا مرّ بي ... كأنّ سقمي كان من شهوته
من لم يطالعني على علّةٍ ... إن مات لم أمضِ إلى تربته
وقال للقاضي أبي بشر الجرحاني:
يصدّ الفضل عنا أيّ صدٍّ ... وقال تأخّري عن ضعف معْدَهْ
فقلت له جعلت العين واواً ... فإنّ الضعف أجمع في المودّه
وقال:
بَعُدْتَ فطعم العيش عندي علقمُ ... ووجه حياتي مذ تغيّبتَ أرقمُ
فما لك قد أدغمت قربك في النوى ... وودّك في غير النداء مرخَّمُ
ملح من مدائحه
قال من قصيدة في عضد الدولة:
همامٌ رأى الدنيا سواماً فحاطها ... لياليَ في غير الزمان وقور

ولم يخطب الدّنيا احتفالاً بقدرها ... فموقعها من راحتيه يسير
ولكن له طبع إلى الخير سابقٌ ... ورأي بأبناء الرِّجال بصيرُ
وإن لم يلاحظهم بعين حميّة ... فتلك أمور لا تزال تمور
ومن أخرى:
سعود يحار المشتري في طريقها ... ولا تتأتى في حساب المنجِّم
وكم عالم أحييت من بعد عالم ... على حين صاروا كالهشيم المحطم
فوالله لولا الله قال لك الورى ... مقال النصارى في المسيح ابن مريم
محامد لو فضت ففاضت على الورى ... لما أبصرت عيناك وجه مذمم
وكلاّ ولكن لو حظوا بزكاتها ... لما سمعت أذناك ذكر ملوم
ولو قلت إن الله لم يخلق الورى ... لغيرك لم أحرج ولم أتأثم
ومن أخرى:
يا أيها الملك الذي كلُّالورى ... قسمان بين رجائه وحذاره
فمناصح قد فاز سهم طلابه ... ومداهن قد جال قدح بواره
هذي بخارى تشتكي ألم الصدى ... وتقول قولاً نبت في أخباره
ماذا عليه لو يهم بعرصتي ... فأكون بعض بلاده ودياره
ومن عميدته ذكر فيها نقرسا نال يمناه:
أبو الفضل من أجرى إلى الفضل يافعاً ... فظلّ به يدعى وصار به يكنى
سلامته شمس المعالي وسقمه ... كسوف المعالي لا كسفن ولا بنَّا
ولم يأته ورد إلا ليشغل عن ندى ... وإلا فلم قد خصَّ بالألم اليمنى
وما يحجز البحر الخضم عن الندى ... ولا السيد الأستاذ عن جوده يُثنى
وكتب إلى مؤيد الدولة أبي منصور:
سعادة ما نالها قط أحد ... يحوزها المولى الهمام المعتمد
مؤيد الدولة وابن ركنها ... وابن أخي معزِّها أخو العضد
وقال في فخر الدولة وقد افتصد:
يا أيها الشمس إلا أن طلعتها ... فوق السماء وهذا حين يقتصد
لما افتصدت قضينا للعلا عجباً ... وما حسبت ذراع الشمس يفتصد
وقال فيه لما بنى قصره بجرجان:
يا بانياً للقصر بل للغلا ... همك والفرقد سيان
لم تبن هذا القصر بل صنعته ... تاجاً على مفرق جرجان
وقصرك المبني من قبله ... ملكك، والله هو الباني
فاقبل نثار العبد بل نظمه ... فإنه والدُّرُّ مثلان
واسمع مقالاً لم يقل مثله ... مذ كانت الدنيا لإنسان
لو كان للخلق إلهان ... لكان فخر الدولة الثاني

ملح من شعره في الهجاء والمجون
قال في ابن متويه:
يا فتى متويَّ رفقاً ... لست من ينكر أصله
إنما ينكر منه ... من جنون فيه ثقله
أنت نذل من كرام ... أنت في الطاووس رجله
كأنه مقلوب بيت المتنبي:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
وقال في معناه:
أبوك أبو علي ذو علاءٍ ... إذا عدَّ الكرام وأنت نجله
وإن أباك إذ تُعزى إليه ... كالطاووس يقبح من رجله
وقال فيه:
أحمد هذا سبط متويه ... في موته بعد غدٍ تهنيه
والشأن في أني على بغضه ... أحتاج أن أقعد للتعزيه
وقال فيه:
قال ابن متويه لأصحابه ... وقد حشوه بأيور العبيد
لئن شكرتم لأزيدنكم ... وإن كفرتم فعذابي شديد
وقال فيه:
أبصرت في كفِّ ابن متوي عصاً ... فسألته عنها ليوضح عذرا
فأجانبي إني بها متشايخ ... هذا، ولي فيها مآرب أخرى
وقال فيه:
سبط متويَّ إن دارك دار ... قد عرفت الإدبار إذ تبنيها
لا تكثر تزويقها وترفق ... عن قليل يكون قبرك فيها
وقال فيه:
كلما زدت عتاباً ... زدت في هجوك بيتا
أو ترى طبعي غيضاً ... أو أرى جسمك ميتا
وقال فيه:

سبط متوي رقيع سفله ... أبداً يبذل فينا أسفله
اعتزلنا نيكه في دبره ... فلهذا يلعن المعتزلة
وقال فيه:
رام ابن متوي أيري ... وبرجه فيه طير
فقلت تطلب أيري ... هذا وفي استك أير
فقال لي لا تحمق ... زيادة الخير خير
وقال فيه:
عندي سر لابن متويه ... وعزمي الساعة أن أفشي
أخبرني بعضي عن بعضه ... بأنه أوسع من يمشي
وقال في الغويري:
إن الغويري له نكهة ... نتنتها أربت على الكنف
يا ليته كان بلا نكهة ... أو ليتني كنت بلا أنف
وقال في رجل يتعصب للعجم على العرب ويعيب العرب بأكل الحيات:
يا عائب الأعراب من جهله ... لأكلها الحيات في الطعم
فالعجم طول الليل حياتهم ... تنساب في الأخت وفي الأم
وقال فيمن زوج أمه:
زوجت أمك يا فتى ... وكسوتني ثوب القلق
والحرُّ لا يهدي الحرا ... م إلى الرجال على طبق
وقال:
لم أر مثل جعفر مخلوقاً ... يشبه طبلاً ويحب بوقا
وقال:
يا بركة ملأى من الشبوط ... قفاك بغاء وكفِّي لوطي
وقال:
لنا قاض له رأس ... من الخفة مملوء
وفي أسفله داء ... بعيد منكم السّوء
وقال:
إن قاضينا لأعمى ... أم على عمد تعامى
سرق العبد كأن ال ... عبد من مال اليتامى
وقال:
يا قاضياً بات أعمى ... عن الهلال السعيد
أفطرت في رمضان ... وصمت في يوم عيد
وقال:
إذا ما لاح للعين ... أبو بكر فتى القاضي
وقد زاد من التيه ... على القاهر والراضي
فواجهه بإمضاض ... وقابله بإغضاض
وقالوا في حرّ أمِّك ... قمدُّ الحاكم الماضي
وقال:
رأيت لبعض الناس فضلاً إذا انتمى ... يقصر عنه فضل عيسى ابن مريم
عزوه إلى تسع وتسعين والداً ... وليس لعيسى والد حين ينتمي
وقال:
سيأتيك برق من هجائي خلّبٌ ... إذا كنت ذا برق من الودّ خلّب
وأنشد إذ أصبحت تغلب قدرتي ... بعجزك لم يغلبك مثل مغلّب
وقال:
مطفل أطفل من أشعب ... ما زال محروماً ومذموماً
لو أنه جاء إلى مالك ... لقال أطعمني زقوما
وقال:
انظر إلى وجه أبي زيد ... أوحش من حبس ومن قيد
وحوشه ترتع في ثوبه ... وظفره يركب للصيد
وقال في رجل كثير الشرب بطيء السكر:
يقال لماذا ليس يسكر بعدما ... توالت عليه من نداماه قرقف
فقلت سبيل الخمر أن تنقص الحجى ... فإن لم تجد عقلاً فماذا تحيف
وقال:
هذا ابن متوي له آية ... يبتلع الأير وأقصى الخصى
يكفر بالرسل جميعاً سوى ... موسى بن عمران لأجل العصا
وقال:
أنت تيس لا كالتيوس لأن التيس ين ... زو وأنت يُنزى عليكا
وقال:
أبو العباس تحضره جموع ... من الفقهاء لجّوا في العواء
كأنهم إذا اجتمعوا عليه ... ذباب يجتمعن على جراء
وقال:
أبو العباس قد أضحى فقيهاً ... يتيه بفقهه في الناس تيها
وذلك أنَّ لحيته أتتني ... تناظر فقحتي فخريت فيها
وقال:
أبو العباس فيه الأ ... ير ينساب انسياب الأيم
فتىً يأذن بالفق ... حة للأسياف بالشيم
وقال:
هذا الأديب الذي وافى يفاخرنا ... أضحى إلى كمر السودان مشتاقا
فما يفارق طوماراً يعالجه ... إلا بآخر يمضي فيه إعناقا
كأنما هو حرباء ببيضته ... لا يرسل الساق إلا ممسكاً ساقا
وأنشدني له الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي:
نُبِّئت أنك منشد ما قلته ... في سب عرضك لا تخاف وعيدي

والكلب لا يخزى إذا أخسأته ... والقار لا يخشى من التسويد
وأنشدني له أيضاً:
شرط الشروطي فتيَّ أيرٍ ... وما سواه غير مشروط
أبغى من الإبرة لكنه ... يوهم قوماً أنه لوطي
وأنشدني له غيره:
تزلزلت الأرض زلزالها ... فقالوا بأجمعهم مالها
مشى ذا الثقيل على ظهرها ... فأخرجت الأرض أثقالها
وقال:
قد طال قرنك يا أخي ... فكأنه شعر الكميت

ما أخرج له رحمه الله في
سائر الفنون
قال:
تصدُّ أميمة لما رأت ... مشيباً على عارضي قد فرش
فقلت لها السيب نقش الشباب ... فقالت ألا ليته ما نقش
وقال:
ولما تناءت بالأحبة دارهم ... وصرنا جميعاً من عيان إلى وهم
تمكن مني الشوق غير مسامح ... كمعتزلي قد تمكن من خصم
وقال:
كنت دهراً أقول بالاستطاعة ... وأرى الجبر ضلة وشناعه
ففقدت استطاعتي في هوى ظبي فسمعاً للمجبرين وطاعه
وقال:
لقد قلت لما أتوا بالطبيب ... وصادفني في أحر اللهيب
وداوي فلم أنتفع بالدواء ... دعوني فإن طبيبي حبيبي
ولست أريد طبيب الجسوم ... ولكن أريد طبيب القلوب
وليس يزيل سقامي سوى ... حضور الحبيب وبعد الرقيب
وقال:
ناصبٌ قال لي معاوية خا ... لك خير الأعمام والأخوال
فهو خال للمؤمنين جميعاً ... قلت خالي لكن من الخير خال
وقال:
حبُّ علي بن أبي طالب ... هو الذي يهدي إلى الجنه
إن كان تفضيلي له بدعة ... فلعنه الله على السنه
وقال في شهر رمضان:
قد تعدوا على الصيام وقالوا ... حرم الصب فيه حسن العوائد
كذبوا في الصيام للمرء مهما ... كان مستيقظاً أتم الفوائد
موقف بالنهار غير مريب ... واجتماع بالليل عند المساجد
وقال:
راسلت من أهواه أطلب زورة ... فأجابني أو لست في رمضان؟
فأجبته والقلب يخفق صبوة ... أتصوم عن بر وعن إحسان
صم إن أردت تحرجاً وتعففاً ... عن أن تكد الصب بالهجران
أولاً فزرني والظلام مجلل ... واحبسه يوماً مرّ في شعبان
وقال في مرض علوي:
يا سيداً أفديه عند شكاته ... بالنفس والولد الأعزِّ وبالأب
لم لا أبيت على الفراش مسهداً ... وقد اشتكى عضو من أعضاء النبي
وقال يرثي أبا الحسن السلمي:
إذا ما نعى الناعون أهل مودتي ... بكيت عليهم بل بكيت على نفسي
نعوا مهجة السلمي وهي سلامة ... غلبت عليها فالسلام على الأنس
وقال يرثي أبا منصور كثير بن أحمد:
يقولون لي أودي كثير بن أحمد ... وذلك رزء في الأنام جليل
فقلت دعوني والعلا نبكه معاً ... فمثل كثير في الرجال قليل
وقال:
يا أهل سارية السلام عليكم ... قد قلَّ في أرضيكم الخطباء
حتى غدا الفأفاء يخطب فيكم ... ومن العجائب خاطب فأفاء
وقال في أخوين صبيح وقبيح:
يحيا حكى المحيا ولكن له ... أخٌ حكى وجه أبي يحيى
وقال:
لقد صدقوا والراقصات إلى منى ... بأن مودات العدى ليس تنفع
ولو أنني داريت عمري حية ... إذا مكنت يوماً من اللسع تلسع
وقال:
إذا أدناك سلطان فزده ... من التعظيم واحذره وراقب
فما السلطان إلا البحر عظماً ... وقرب البحر محذور العواقب
وقال:
وقائلة لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل في الأمم؟
فقلت دعيني على غصتي ... فإن الهموم بقدر الهمم
نبذ من ذكر سرقاته
سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: قال بعض ندماء الصاحب له يوماً: أرى مولانا قد أغار في قوله:
لبسن برود الوشي لا لتجمل ... ولكن لصون الحسن بين برود
على قول المتنبي:

لبسن الوشى لا متجملات ... ولكن كي يصنَّ به الجمالا
فقال: كما أغار هو بقوله:
ما بال هذي النجوم حائرة ... كأنها العمى ما لها قائد
على العباس بن الأحنف قوله:
والنجم في كبد السماء كأنه ... أعمى تحيّر ما لديه قائد
وسمعت أيضاً أبا بكر يقول: أنشدني الصاحب نتفة له منها هذا البيت:
لئن هو لم يكفف عقارب صدغه ... فقولوا له يسمح بترياق ريقه
فاستحسنه جداً حتى حممت من حسدي له عليه، ووددت لو أنه لي بألف بيت من شعري.
قال مؤلف الكتاب: فأنشدت الأمير أبا الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي هذا البيت، وحكيت له هذه الحكاية في المذاكرة، فقال لي: أتعرف من أين سرق الصاحب معنى هذا البيت؟ فقلت: لا والله، قال: إنما سرقه من قول القائل، ونقل ذكر العين إلى ذكر الصدغ:
لدغت عينك قلبي ... إنما عينك عقرب
لكن المصة من ري ... قك ترياق مجرب
فقلت: لله در مولانا الأمير! فقد أوتي حظاً كثيراً من التخصص، بمعرفة التلصص.
قلت: ومعنى قول الصاحب في الثلج:
وكأن السماء صاهرت الأر ... ض فكان النثار من كافور
ينظر إلى قول ابن المعتز:
وكأن الربيع يجلو عروساً ... وكأنا من قطره في نثار
وقول الصاحب:
يقولون لي كم عهد عينك بالكرى ... فقلت لهم مذ غاب بدر دجاها
ولو تلتقي عين على غير دمعة ... لصارمتها حتى يقال نفاها
مأخوذ لفظ البيت الثاني من قول المهلبي الوزير:
تصارمت الأجفان منذ صرمتني ... فما تلتقي إلا على عبرة تجري
وقول الصاحب:
هات مشطاً إلى وليك عاجاً ... فهو أدنى إلى مشيب الرؤوس
وإذا ما مشطت عاجاً بعاج ... فامشط الآبنوس بالآبنوس
مأخوذ من قول أبي عثمان الخالدي:
ورأتني مشطت عاجاً بعاج ... فامشط الآبنوس بالآبنوس
وأخذ قوله:
فم الغويري إذا ... فتَّشته أنتن فم
كم قلت إذ كلمني ... واأسفي على الخشم
من قول المهلبي الوزير:
وإن أبصرت طلعته ... فوالهفي على العمش
وأخذ قوله في ابن العميد:
إلى سيد لولاه كان زماننا ... وأبناؤه لفظاً عرّياً عن المعنى
من قول المتنبي:
والدهر لفظ وأنت معناه
وقوله في القافية الأخيرة:
وناصح أسرف في النكير ... يقول لي سدت بلا نظير
فكيف صغت الهجو في حقير ... مقداره أقل من نقير
فقلت لا تنكر وكن عذيري ... كم صارم جرِّب في خنزير
من قول الحمدوني:
هبوني امرأً جربت سيفي على كلب
وقوله في البيت الأخير من هذه الأبيات:
ومهفهف حسن الشمائل أهيف ... تردى النفوس بفترتي عينيه
ما زال يبعدني ويؤثر هجرتي ... فجذبت قلبي من إسار يديه
قالوا تراجعه فقلت بديهة ... قولاً أقيم مع الروي عليه
والله لا راجعته ولو أنه ... كالشمس أو كالبدر أو كبويه
مأخوذ من قول ابن المعتز:
والله لا كلمته ولو أنه ... كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي

نبذ مما هجي به الصاحب
مازالت الأملاك تهجى وتمدح قال أبو العلاء الأسدي:
إذا رأيت مسجى في مرقعة ... يأوي المساجد حراً ضرُّه بادي
فاعلم بأن الفتى المسكين قد قذفت ... به الخطوب إلى لؤم ابن عباد
وقال أبو الحسن الغويري:
إن كان إسماعيل لم يدعني ... لأن أكل الخبز صعب لديه
فإنني آكل في منزلي ... إذا دعاني ثم أمضي إليه
وقال السلامي:
يا ابن عباد بن عبا ... س بن عبد الله حرها
تنكر الخير وأخرجت إلى العالم كرها
وقال أبو بكر الخوارزمي:
صاحبنا أحواله عاليه ... لكنما غرفته خاليه
وإن عرفت السرّ من دائه ... لم تسأل الله سوى العافيه
ذكر آخر أمره
لما بلغت سنوه الستين اعترته آفة الكمال، وانتابته أمراض الكبر، جعل ينشد قوله:

أناخ الشيب ضيفاً لم أرده ... ولكن لا أطيق له مردا
رداء للردى فيه دليل ... تردى من به يوماً تردّى
ولما كنى المنجمون عما يعرض له في سنة موته قال:
يا مالك الأرواح والأجسام ... وخالق النجوم والأحكام
مدبر الضياء والظلام ... لا المشتري أرجوه للإنعام
ولا أخاف الضرَّ من بهرام ... وإنما النجوم كالأعلام
والعلم عند الملك العلام ... يا رب فاحفظني من الأسقام
ووقني حوادث الأيام ... وهجنة الأوزار والآثام
هبني لحبِّ المصطفى المعتام ... وصنوه وآله الكرام
وكتب بخطه على تحويل السنة التي دلت على انقضاء عمره:
أرى سنتي قد ضمنت بعجائب ... وربي يكفيني جميع النوائب
ويدفع عني ما أخاف بمنه ... ويؤمن ما قد خوفوا من عواقب
إذا كان من أجرى الكواب أمره ... معيني فما أخشى صروف الكواكب
عليك أيا رب السماء توكلي ... فحطني من شر الخطوب الحوارب
وكم سنة حذرتها فتزحزحت ... بخير وإقبال وجدٍّ مصاحب
ومن أضمر اللهم سوءاً لمهجتي ... فرد عليه الكيد أخيب خائب
فلست أريد السوء بالناس إنما ... أريد بهم خيراً مريع الجوانب
وأدفع عن أموالهم ونفوسهم ... بجدي وجهدي باذلاً للمواهب
ومن لم يسعه ذاك مني فإنني ... سأكفاه إن الله أغلب غالب
وبلغته عن بعض أصحابه شماتة فقال:
وكم شامت بي بعد موتي جاهلاً ... بظلمي يسلُّ السيف بعد وفاتي
ولو علم المسكين ماذا يناله ... من الظلم بعدي مات قبل مماتي
ووجد في بعض أيام مرضته التي توفي فيها خفة، فأذن للناس، وحل وعقد وأمر ونهى، وأملى كتباً تعجب الحاضرون من حسنها، وفرط بلاغتها، وقال:
كلامنا من غرر ... وعيشنا من غرر
إني وحق خالقي ... على جناح السفر
ثم لما كانت ليلة الجمعة الرابع والعشرين من صفر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة انتقل إلى جوار ربه عفوه وكرامته، ومضى من الدنيا بمضيه رونق حسنها وتاريخ فضلها، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأواه بمنه وكرمه!!.

أنموذج من مراثيه
من قصيدة أبي القاسم بن أبي العلاء الإصبهاني تغمده الله برحمته، وأسكنه بحبوحة جنته!:
يا كافي الملك ما وفّيت حظك من ... وصف وإن طال تمجيد وتأبين
فتّ الصفات فما يرثيك من أحد ... إلا وتزيينه إياك تهجين
ما مت وحدك لكن مات من ولدت ... حواء طرّاً، بل الدنيا، بل الدين
هذي نواعي العلا مذ مت نادبةً ... من بعد ما ندبتك الخرد العين
تبكي عليك العطايا والصلات كما ... تبكي عليك الرعايا والسلاطين
قام السعاة وكان الخوف أقعدهم ... فاستيقظوا بعد ما مت الملاعين
لا يعجب الناس منهم إن هم انتشروا ... مضى سليمان وانحلَّ الشياطين
ما أحسن هذا المثل، وأمكن موقعه!! ومن قصيدة أبي الفرح بن ميسرة:
ولو قبل الفداء لكان يفدى ... وإن جلّ المصاب على التفادي
ولكن المنون لها عيون ... تكدُّ لحاظها في الانتقاد
فقل للدهر أنت أصبت فالبس ... برغمك دوننا ثوبي حداد
إذا قدمت خاتمة الرزايا ... فقد عرضت سوقك للكساد
ومن قصيدة أبي سعيد الرستمي:
أبعد ابن عباس يهش إلى السرى ... أخو أمل أو يستماح جواد
أبى الله إلا أن يموتا بموته ... فما لهما حتى المعاد معاد
ومن قصيدة أبي الفياض سعيد بن أحمد الطبري:
خليلي كيف يقبلك المقيل ... ودهرك لا يقيل ولا يقيل
ينادي كل يوم في بنيه ... ألا هبوا فقد جدَّ الرحيل
وهم رجلان منتظر غفول ... ومبتدر إذا يدعى عجول

كأن مثال من يفنى ويبقى ... رعيل سوف يتلوه رعيل
فهم ركبٌ وليس لهم ركاب ... وهم سفر وليس لهم قفول
تدور عليهم كأس المنايا ... كما دارت على الشرب الشمول
ويحدوهم إلى الميعاد حادٍ ... ولكن ليس يقدمهم دليل
ألم تر من مضى من أوَّلينا ... وغالتهم من الأيام غول
قد احتالوا فما دفع الحويل ... وأعولنا فما نفع العويل
كذاك الدهر أعمار تزول ... وأحوال تحول ولا تؤول
لنا منه وإن عفنا وخفنا ... رسول لا يصاب لديه سول
وقد وضح السبيل فما لخلق ... إلى تبديله أبداً سبيل
لعمرك إنه أمدٌ قصيرٌ ... ولكن دونه أمدٌ طويل
أرى الإسلام أسلمه بنوه ... وأسلمهم إلى ولهٍ يهول
أرى شمس النهار تكاد تخبو ... كأن شعاعها طرف كليل
أرى القمر المنير بدا ضئيلاً ... بلا نور فأضناه النحول
أرى زهر النجوم محدقات ... كأن سراتها عور وحول
أرى وجه الزمان وكل وجه ... به مما يكابده فلول
أرى شمَّ الجبال لها وجيب ... تكاد تذوب منه أو تزول
وهذا الجو أكلف مقشعر ... كأن الجو من كمد عليل
وهذي الريح أطيبها سموم ... إذا هبت وأعذبها بليل
وللسحب الغزار بكل فجٍ ... دموع لا يذاد بها المحول
نعى الناعي إلى الدنيا فتاها ... أمين الله فالدنيا ثكول
نعى كافي الكفاة فكل حرٍّ ... عزيز بعد مصرعه ذليل
نعي كهف العفاة فكل عين ... بما تقذى العيون به كحيل
كأن نسيم تربته سحيراً ... نسيم الروض تقبله القبول
إذا وافى أنوف الركب قالوا ... سحيق المسك أم ترب مهيل
أيا قمر المكارم والمعالي ... أبن لي كيف عاجلك الأفول
أبن لي كيف هالك ما يهول ... وغالك بعد عزك ما يغول
ويا من ساس أشتات البرايا ... وألجم من يقول ومن يصول
أدلت على الليالي من شكاها ... وقد جارت عليك فمن يديل
بكاك الدين والدنيا جميعاً ... وأهلهما كما يُبكى الحمول
بكتك البيض والسمر المواضي ... وكنت تعولها فيمن تعول
بكتك الخيل معولة ولكن ... بكاها حين تندبك الصهيل
قلوب العالمين عليك قلب ... وحظك من بكائهم قليل
ولي قلب لصاحبه وفي ... يسيل وتحته روح تسيل
إذا نظمت يدي في الطرس بيتاً ... مجاه منه منتظم هطول
فإن يك ركَّ شعري من ذهولي ... فذلك بعض ما يجني الذهول
كتبت بما بكيت لأن دمعي ... عليك الدهر فياض همول
وكنت أعد من روحي فداء ... لروحك إن أريد لها بديل
أأحيا بعده وأقر عيناً ... حياتي بعده هدر غلول
حياتي بعده موت وحي ... وعيشي بعده سم قتول
عليك صلاة ربك كل حين ... تهب بها من الخلد القبول
ومن قصيدة الشريف أبي الحسن الرضي الموسوي النقيب:
أكذا المنون يقطر الأبطالا ... أكذا الزمان يضعضع الأجيالا
أكذا تصاب الأسد وهي مدلةٌ ... تحمي الشبول وتمنع الأغيالا
أكذا تقام عن الفرائس بعدما ... ملأت هماهمها الورى أوجالا
أكذا تحطّ الزاهرات عن العلا ... من بعد ما شاق العيون منالا
أكذا تكبّ البزل وهي مصاعب ... تطوي البعيد وتحمل الأثقالا

أكذا تغاض الزاخرات وقد طغت ... لججاً وأوردت الظماء زلالا
يا طالب المعروف حلَّق نجمه ... حطَّ الحمول وعطل الأجمالا
وأقم على يأس فقد ذهب الذي ... كان الأنام على نداه عيالا
من كان يقري الجهل علماً ثاقباً ... والنقص فضلاً والرجاء نوالا
ويجبن الشجعان دون لقائه ... يوم الوغى ويشجع السؤالا
خلع الردى ذاك الرداء نفاسة ... عنا وقلص ذلك السربالا
خبر تمخض بالأجنة ذكره ... قبل اليقين وأسلف البلبالا
حتى إذا جلى الظنون يقينه ... صدع القلوب وأسقط الأحمالا
الشك أبرد للحشى في مثله ... يا ليت شكي فيه دام وطالا
جبل تسنَّمت البلاد هضابه ... حتى إذا ملأ الأقالم زالا
يا طود كيف وأنت عادي الذرى ... ألقى بجانبك الردى زلزالا
ما كنت أول كوكب ترك الدنا ... وسما إلى نظرائه فتعالى
أنفاً من الدنيا تبت حبالها ... ونزعت عنك قميصها الأسمالا
لا رزء أعظم من مصابك إنه ... وصل الدموع وقطَّع الأوصالا
إن قطع الآمال منك فإنه ... من بعد يومك قطع الآمالا
يا آمر الأقدار كيف أطعمتها ... أو ما وقاك جلالك الآجالا
هلاَّ أقالتك الليالي عثرةً ... يا من إذا عثر الزمان أقالا
وأرى الليالي طارحات حبالها ... تستوهق الأعيان والأرذالا
يبرين عود النبع غير فوارق ... بين النبات كما برين الضالا
لا تأمن الدنيا عليك فإنها ... ذات البعول تبدل الأبدالا
كم حجة في الدين خضت غمارها ... هدر الفنيق تخمطا وصيالا
بسنان رمحك أو لسانك موسعاً ... طعناً يشق على العدى وجدالا
إن نكس الإسلام بعدك رأسه ... فلقد رزى بك موئلاً ومآلا
واهاً على الأقلام بعدك إنها ... لم ترض بعد بنان كفك آلا
أفقدن منك شجاع كل بلاغة ... إن قال جلّى في المقال وجالا
من لو يشا طعن العدى برؤوسها ... وأثار من جريانها قسطالا
سلطان ملك كنت أنت تعزه ... ولرب سلطان أعز رجالا
إن المشمر ذيله لك خفية ... أرخى وجرر بعدك الأذيالا
طلبوا التراث فلم يروا من بعده ... إلا علاً وفضائلاً وجلالا
هيهات فاتهم تراث مخاطر ... جمع الثناء وضيع الأموالا
قد كان أعرف بالزمان وصرفه ... من أن يثمر أو يجمع مالا
مفتاح كل ندى، ورب معاشر ... كانوا على أموالهم أقفالا
كان الغريبة في الزمان فأصبحوا ... من بعد غارب نجمه أمثالا
من فاعل من بعده كفعاله ... أو قائل من بعده ما قالا
سمع يرفع للسؤال سجوفه ... ويحجب الأهزاج والأرمالا
يا طالباً من ذا الزمان شبيهه ... هيهات كلفت الزمان محالا
إن الزمان أضنُّ بعد وفاته ... من أن يعيد لمثله أشكالا
وأرى الكمال جنى عليه لأنه ... غرض النوائب من أعير كمالا
صلى الإله عليك من متوسد ... بعد المهاد جنادلاً ورمالاً
كسف البلى ذاك الهلال المجتلى ... وأجرّ، ذاك المقول الجوالا
ورأيت كل مطية قد بدلت ... من بعد يومك بالزمام عقالا
لمن الضوامر عريت أمطاؤها ... حول الخيام تنازع الأطوالا
بدلن من لبس الشكيم مقاوداً ... مربوطة ومن السروج جلالا

فجعت بمنصلت يعرض للقنا ... أعناقها ويحصن الأكفالا
طرح الرجال لك العمائم حسرة ... لما رأوك تسير أو إجلالا
قالوا وقد فجئوا بنعشك سائراً ... من ميل الجبل العظيم فمالا
وتبادروا عطَّ الجيوب وعاجلوا ... عضَّ الأنامل يمنة وشمالا
ما شققوا إلا كساك وآلموا ... إلا أنامل نلن منك سجالا
من ذا يكون معوضاً ما مزقوا ... ومعولاً لمؤمل وثمالا
فرغت أكف من نولك بعدها ... وأطال عظم مصابك الأشغالا
أعزز علي بأن يبدل زائر ... بعد التهلل عندك استهلالا
أو أن يناديك الصريخ لكربة ... حشدت عليه فلا تحير مقالا
قد كنت آمل أن أراك فأجتني ... فضلاً إذا غيري جنى أفضالا
وأفيد سمعك منطقي وفضائلي ... وتفيدني أيامك الإقبالا
وأعد منك لريب دهري جنة ... تثني جنود خطوبه فلالا
فطواك دهرك طي غير صيانة ... وأعاد أعلام العلا أغفالا
قبر بأعلى الري شق ضريحه ... لأغر حفزه الردى إعجالا
فرعاه من أرعى البرية سيبه ... وسقاه من أسقى به الآمالا
إن يمس موعظة الأنام فطالما ... أمسى مهاباً للورى ومهالا
لنسلي الدنيا عليه فإنها ... نزعت به الإحسان والإجمالا
ولأبي العباس الضبي وقد مر بباب الصاحب:
أيها الباب لم علاك اكتئاب ... أين ذاك الحجاب والحجاب؟
أين من كان يفزع الدهر منه ... فهو اليوم في التراب تراب؟!
ولبعض بني المنجم لما استوزر أبو العباس الضبي ولقب بالرئيس وضم إليه أبو علي ولقب بالجليل بعد موت الصاحب تغمده الله برحمته آمين:
والله والله لا أفلحتم أبداً ... بعد الوزير ابن عباد بن عباس
إن جاء منكم جليل فاجلبوا أجلي ... أو جاء منكم رئيس فاقطعوا رأسي
وأنشدني أبو العباس العلوي الهمذاني الوصي لنفسه في مرثية الصاحب:
مات الموالي والمحب لأهل بيت أبي تراب
قد كان كالجبل المنيع لهم فصار مع التراب
وأنشدني أيضاً فيه لنفسه:
نوم العيون على الجفون حرام ... ودموعهن مع الدماء سجام
تبكي الوزير سليل عباد العلا ... والدين والقرآن والإسلام
تبكيه مكة والمشاعر كلها ... وحجيجها والنسك والإحرام
تبكيه طيبة والرسول ومن بها ... وعقيقها والسهل والأعلام
كافي الكفاة قضى حميداً نحبه ... ذاك الإمام السيد الضرغام
مات المعالي والعلوم بموته ... فعلى المعالي والعلوم سلام
ولبعض أهل نيسابور من قصيدة:
ألا يا غرة العليا ... ألا يا نكبة الدنيا
وشمس الأرض فرد الدهر عين السؤدد اليمنى
أما استحيا أبو يحيى ... لفض المهجة الكبرى
لئن ختمت بك الدنيا ... لقد فتحت بك الأخرى

الباب الرابع
في ذكر
أبي العباس أحمد بن إبراهيم الضبي
وملح من نثره ونظمه
هو جذوة من نار الصاحب أبي القاسم، ونهر من بحره، وخليفته النائب منابه في حياته، القائم مقامه بعد وفاته، وكان الصاحب استصحبه منذ الصبا، واجتمع له الرأي والهوى، فاصطنعه لنفسه، وأدبه بآدابه، وقدمه بفضل الاختصاص على سائر صنائعه وندمائه، وخرج به صدراً يملأ الصدور كمالا، ويجري في طريقه ترسماً وترسلاً، وفي ذرى المعالي توقلا، وتحقق قول أبي محمد الخازن فيه من قصيدة:
تزهى بأترابها كما زهيت ... ضبة بالماجدين ماجدها
سماؤها شمسها غمامتها ... هلالها بدرها عطاردها
يروى كتاب الفخار أجمع عن ... كافي كفاة الورى وواحدها
وقوله فيه من أخرى:
نماه ضبة في أزكى مناصبه ... فخراً وأوطاه الشعرى وأمطاه

يعطي ويخفي ولا يبغي الثناء به ... حتى كأن الذي أعطاه غطاه
يسير يوم الوغى والدهر يقدمه ... كأنما الدهر أيضاً من سراياه
وإن بدا أحيت الآمال طلعته ... حتى تقدر محياها محياه
ومن يوالي ابن عباد مخالصة ... يحز سعادة دنياه وأخراه
فما الصنائع إلا ما تخيره ... وما الودائع إلا ما تولاه
فاسلم ودم أيها الأستاذ مبتهجاً ... وخذ من العيش أصفاه وأضفاه
فقد تقيلت في الجدوى معالمه ... كما توخيت في الجلى قضاياه
وقد كانت بلاغة العصر بعد الصاحب والصابي، بقيت متماسكة بأبي العباس وأشرفت على التهافت بموته،وكادت تشيب بعده لمم الأقلام، وتجف غدر محاسن الكلام، لولا أن الله تعالى سد ببقاء الأمير أبي الفضل عبيد الله بن أحمد ثلم الأدب والكتابة، وداوى بالدفاع عن نفسه كلم البلاغة والبراعة. وجعله فرد الزمان، ولسان خراسان، وكافل يتم الفضل، ومنفق سوق النثر والنظم. وسيمر بك في القسم الرابع من هذا الكتاب إن شاء الله من نثره الذي هو نثر الورد، ونظمه الذي هو نظم العقد، ما ينير به الليل المظلم، وينصف به الدهر الظالم.

لمع من نثر أبي العباس
فصل من كتاب له في الصاحب في ذكر أحمد بن عضد الدولة
وكنت أستحضر كاتبه، بل كاذبه، وأحذره سراً، وأبصره جهراً، وهو يروغ روغان الثعالب، ويتفادى تفادي الموارب، وقد كنت منعت المستأمنة والمنهزمة أول مورده، من تكثير عدده، علماً بأنهم مؤن بلا منن، وعناء بلا غنى.
فصل له من كتاب إلى أبي سعيد الشيبي
وقد أتاني كتاب شيخ الدولتين فكان في الحسن، روضة حزن، بل جنة عدن، في شرح النفس، وبسط الأنس، برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب.
وبعد، فإن المنازعين للأمير حسام الدولة نسور، قد اقتنصتها العصور ودولته حرسها الله في إبان شبابها واعتدالها، وريعان إقبالها واقتبالها. قد أسست على صلاح وسداد، وعمارة دنيا ومعاد. فهي مؤذنة بالدوام، في ظلّ أساورة الإسلام.
ومنها فبينا نحن في تجهيز الخيول ليوصل إلى إيثاره، ويؤخذ له بثاره إذ جن. فقلب لنا المجن، ثم لم يقنعه العصيان والكفران حتى أراد الاستيلاء على البلد، والجناية على النفوس والأهل والولد، ونظر إلي فقال: كاتب، لا منازع ومحارب، نعم وقال من يشجع من الديلم لهز الزانة في صدري وتجريد السيف في وجهي، ولم يدر أن دولة مولانا لو أنكرت الفلك لكفته عن مجراه، وأن تدبير الصاحب لو رصد النجم لصده عن مسرته، وأنه مصطنعي، فلم يعتمدني لأعظم الأمور، وأهم الثغور، إلا وقد زرع في أرض تريع، ووكل السرح إلى من لا يضيع.
فصل من كتاب له إلى أبي علي وأبي القاسم العلويين
في التعزية عن أبيهما أبي الحسين بن أبي محمد رضي الله تعالى عنهم

كتابي - أطال الله بقاء الشريفين - والدهر ينعي مهجته، والمجد يندب بهجته، والشرف محصور في قبضة حينه، والفضل مفجوع بناظر عينه، والذكر الجميل مجدل لمصرعه، والخلق الوسيع موسد في مضجعه، ورسم المحاسن داثر عاف، وشخص المكارم حاسر حاف. ومهابط الوحي والرسالة تحني ظهرها أسفاً، ومعادن الوصية والإمامة تذري دمعها لهفاً. وبقاع الحرمين متسلية على نجمها الآفل، ولابسة ثوب الحداد لركنها المائل، ويد المواساة مقبوضة عن معونة العاني الذليل، ولسان الجود معتذر إلى ابن السبيل، وطوائف العفاة تبكي العيش الرطيب والربع الرحيب. والمشارع المعصومة من درن الضن، والموارد المحروسة من كدر المن، وذوو الحاجات في حسرات مجددة، وزفرات مرددة، قد أقامت منهم حانية الضلوع، وأطارت عنهم قلوباً دامية الصدوع. وبنو الآمال عابسة وجوههم، منكسة رؤوسهم يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم ذلك لأن حادث قضاء الله - جل وجهه - استأثر بفرع النبوة، وعنصر الدين والمروة، وعصرة العدد الجم، ونجدة أهل العلم والفهم، فالدموع واكفة، والصدور راجفة، والهم وارد، والأنس شارد، والناس مأتمهم عليه واحد، ومعاقد الصبر الجميل بعده منقوضة، وقواعد البر والخير مخفوضة. فلولا أن الدهر مشحون بطوارق الغير، مشوب صفو أيامه بالكدر، ممزوج صابها بالعسل، موصول حبال الأمل فيها بأسباب الأجل يفطم أمام تكامل الرضاع، ويفرق قبل الإمتاع بحسن الاجتماع.فمن اعتصم بتوفيق الله عز اسمه، ورضي بما نفذ به حكمه. لبس في وجوه الحوادث جنة، لا تنضوها الشدائد، وأكد في مصابرة النوائب منة، لا تنقضها الخطوب الأوابد. وأخذ في الصدمة الأولى بالحزم، وذخيرة العزم، ففاز بالغنم الأكبر، والحظ الأشرف الأوفر، ومن اتبع هواه، وأرتع دينه لدنياه، فتهالك في القلق المذموم، وتقاعس عن الرضى بالقدر المحتوم، ظهر في شعار المستكبرين على الله، والمنكرين التأدب بأدب الله فعظم مصابه، وعدم ثوابه، وكان إلى الصبر بعد اقتران الوزر مآله ومآبه، لأريت المحققين برعاية المعهود، وتأبين الحبيب المفقود، كيف تتحمل الأرزاء، ويحرم العزاء، ويطاع داعي الوله، ويراع جانب القلب المرفه.
ومنها وعرف كل من ورد وصدر، وبدأ وحضر، أن من قبض فاستوحش الأنس بمفارقته، واستبشرت الملائكة لمرافقته، وكان مثل الشريفين ريحانة روضه، والبارد العذب من فيضه، والثمر الحلو من دوحته، والورق النضر من نبعته، والشاهد العدل لمآثره، والمشيد الندب لمناقبه ومفاخره، فهو في حكم الخالد وإن أصبح فانياً، والمقيم في أهله وإن أضحى بالعراء ناوياً، عزيت الشريفين أدام الله تعالى عزهما، عما ألم بساحتهما من الخطب، ولسان جزعي أنطق، وعرضت لهما بواجب السلو، وحاجتي إلى من يصرح لي به أصدق، ولكني جريت على سنة للدين محمودة، وعادة بين الأحباب معهودة، تركت أفراد كل من الأشراف سادتي إخوة الشريفين، حرس الله عليهم ما خولهم من كرم محض، وخلق غض، وأحسن متاع بعضهم ببعض، بالمخاطبة فيما اقتضاه حكم الحادثة، إذ كانت فروعهم بإذن الله متشابكة، ونفوسهم في السراء والضراء متشاركة، وقلوبهم على الصفاء متعاقدة، ومهجاتهم - لازالت مصونة - مهجة واحدة.

ملح من نظمه
قال:
ترفق أيها المولى بعبد ... فقد فتنت لواحظك النفوسا
وأسكرت العقول فليس ندري ... أسحراً ما تسقي أم كؤوساً
وقال وهو مما يتغنى به:
ألا يا ليت شعري ما مرادك ... فقلبي قد أضر به بعادك
وأي محاسن لك قد سباني ... جمالك أم كمالك أم ودادك
وأي ثلاثة أوفى سواداً ... أخالك أم عذارك أو فؤادك
وقال:
لا تركنن إلى الفرا ... ق فإنه مرُّ المذاق
الشمس عند غروبها ... تصفر من فرق الفراق
وكتب إلى الصاحب:
أكافي كفاة الأرض ملكك خالد ... وعزك موصول فأعظم بها نعمى
نثرت على القرطاس دراً مبدداً ... وآخر نظماً قد فرعت به النجما
جواهر لو كانت جواهر نظمت ... ولكنها الأعراض لا تقبل النظما
وقال في وصف الدجاج وهو المسمى بالفارسية سنكين سر:
وطيرين قد ألفا مرقدي ... نديمين لي فيه حتى الصباح

أرى من وشائع متنهيما ... نجوماً مرصعة في وشاح
وسري عندهما لا يذيع ... ولا خوف واش ولا خوف لاح
يسرانني بصفيريهما ... خفيفين عند انتشار الجناح
صفير يعيد شريد الرقاد ... وشجو يحث على شرب راح
سقى بلد الهند مغناهما ... سماء من المزن غمر السماح
ولا زال وكراهما عامرين ... بنسل مباح وخير متاح
ومما قرأته بخطه في الأوصاف والتشبيهات من شعره، وكان أنفذه إلى أبي سعيد نصر بن يعقوب، ليضمنه كتابه كتاب روائع التوجهات، في بدائع التشبيهات، قوله في الثريا، وهو مسبوق إليه قديماً:
خلت الثريا إذ بدت ... طالعة في الحندس
سنبلة من لؤلؤ ... أو باقة من نرجس
وقوله فيها:
إذا الثريا اعترضت ... عند طلوع الفجر
حسبتها لامعة ... سنبلة من درِّ
وقوله في قصر الليل:
وليلة أقصر من ... فكري في مقدارها
بدت لعيني وانجلت ... عذراء من قرارها
وقوله في طول الليل:
رب ليل سهرته ... مفكراً في امتداده
كلما زدت رعيه ... زادني من سواده
فتبنيت أنه ... تائه في رقاده
أو تفانت نجومه ... فبدا في حداده
وقوله في الأترج:
أو ما ترى الأترج منضوداً لنا ... سطراً كأشخاص جثون على الركب
وكأنما أجسادها وجسادها ... صور السلاحف قد صنعن من الذهب
وقوله في النمام:
قلت لمن أحضرني زهرة ... ومجلسي بالأنس بسام
وقرة العينين نيل المنى ... عندي ولا سام ولا حام
تجنب النمام لا تجنه ... فإنما النمام نمام
أخشى علينا العين من أعين ... يبعثها بالسوء أقوام
وقوله في الشيب:
قالوا اكتهلت فقلت ليل لابس بردي نهار
هل حسن كافور كمسك في حكومة ذي اعتبار
وشهوبة في عنبر ... كشيبة في لون قار
وفضيلة للشيب أخرى وهي أبهة الوقار
أين هذا من قول البحتري:
وبياض البازي أصدق حسناً ... إن تأملت من سواد الغراب
وكتب إلى أبي مسلم محمد بن الحسن:
يا أبا مسلم سلمت على الدهر خدين العلا أمين الجليس
بعض إخواننا تشهى علينا ... كرماً منه مستطاب الهريس
وقديد السكباج بالأكبر العذ ... ب ومغمومة مني للجليس
واتخذنا الجميع وهي كما تذ ... كر نعم الفراش للخندريس
وإذا شئت أن تساعدها فيها ... كنت فينا الرئيس وابن الرئيس

الباب الخامس
في محاسن أشعار أهل العصر من إصبهان

لم تزل إصبهان مخصومة من بين البلدان بإخراج فضلاء الأدباء، وفحولة الكتاب والشعراء، فلما أخرجت الصاحب أبا القاسم وكثيراً من أصحابه وصنائعه. وصارت مركز عزه، ومجمع ندمائه، ومطرح زواره، استحقت أن تدعى مثابة الفضل، وموسم الأدب، وإذا تصفحت كتاب إصبهان لأبي عبد الله حمزة بن الحسين الإصبهاني وانتهيت إلى ما أورد فيه من ذكر شعرائها وشعراء الكرخ المقطعة عنها، وسياقة عيون أشعارهم، وملح أخبارهم، كمنصور بن باذان، وأبي دلف العجلي، وأخيه معقل بن عيسى، وبكر بن عبد العزيز، وأحمد بن علويه، والنضر بن مالك، وعلي بن المهلب، وأبي نجدة، وأحمد ابن القاسم الديمرتي، وأبي عبد الله تاج الكاتب، وسهلان بن كوفي، وصالح ابن أبي صالح، وأحمد بن واضح، ومحمد بن عبد الله بن كثير، وعبد الرحمن ابن مندويه، وأبي بكر بن بشرويه، وابن زرويه، وأبي الهدهد، وأبي قتيبة، ومحمد بن غالب، والحسن بن إسحاق بن محارب، وأبي بكر الزبيري، وأبي علي بن رستم، وأبي مسلم بن بحر، وأبي الحسين بن طباطبا، وابن كره، والنوشجان بن عبد المسيح، وعلي بن حمزة بن عمارة، وإبراهيم بن سيارة الكادوسي، وأبي جعفر بن أبي الأسود، وأبي سعد بن نوفة، وأبي العباس بن أحمد بن معمر، وأبي عمرو همام، وأبي سوادة، وأبي القاسم بن أبي سعد، وغيرهم، ثم تأملت هذا الباب من كتابي هذا، وقرأت ما ينطق به من ذكر شعرائها العصريين وغرر كلامهم، كعبدان الإصبهاني المعروف بالخوزي، وأبي سعيد الرستمي، وأبي القاسم بن أبي العلاء، وأبي محمد الخازن، وأبي العلاء الأسدي، وأبي الحسن الغويري - حكمت لها بوفور الحظ من أعيان الفضل، وأفراد الدهر، وساعدتني على ما أقدره من حسن آثار طيب هوائها، وصحة ترتبها، وعذوبة مائها، في طباع أهلها، وعقول أنشائها، وأرجع إلى المتن فقد طال الإسناد، ولا يكاد الكلام ينتهي حتى ينتهي عنه.

عبدان الإصبهاني المعروف بالخوزي
هو على سياقة المولدين، وفي مقدمة العصريين، خفيف روح الشعر، ظريف الجملة والتفصيل، كثير الملح والظرف، يقول في الخضاب ما لم أسمع أحسن منه، ولا أظرف، ولا أعذب منه، ولا أخف:
في مشيبي شماتة لعداتي ... وهو ناع منغص لحياتي
ويعيب الخضاب قوم وفيه ... لي أنس إلى حضور وفاتي
لا ومن يعلم السرائر مني ... ما به رمت خلة الغانيات
إنما رمت أن أغيب عني ... ما ترينيه كل يوم مراتي
فهو ناع إليَّ نفسي ومن ذا ... سره أن يرى وجوه النعاة
وكان خفيف الحال، متخلف المعيشة، قاعداً تحت قول أبي الشيص:
لا تنكري صدي ولا إعراضي ... ليس المقل عن الزمان براضي
وهو القائل:
قلت للدهر من فضولي قولاً ... وحداني عليه طيب الأماني
أتراني بخلعة أنا أحيا ... ذات يوم وفاخر الحملان
قال هيهات أنت والنحس تربا ... ن وقد كنتما رضيعي لبان
لا تؤمل ركوب متنٍ سوى النعش ولا خلعة سوى الأكفان
وله أبيات:
تكلفني التصبر والتسلي ... وهل يسطاع إلا المستطاع
وقالوا قسمة نزلت بعدل ... فقلنا ليته جور مشاع
وقال أيضاً:
تعيب الغانيات عليَّ شيبي ... وتخفي شبيها عني المقانع
وقال لي العذول تعز عنها ... وإلا فانظرن ما أنت صانع
فقلت له متى قدمت خيراً ... وأيراً بعده ليست تمانع
وله من كلمة:
هيهات نجمي آفل شارد ... ولَّى فما يخرق أبراجه
أظل أخفي حججاً أدبرت ... والسبع والسبعون محتاجه
وشر أيام الفتى آخر ... فيه يسمى للشقاء خواجه
وله:
أللشيب تخشى من ملال خرائد ... وهن لعلات الفؤاد مراهم
إذا كنت ذا مال فأنت محبب ... إليهن، صيد الغانيات الدراهم
وله في كلمة وصف هنه:
ولي صاحب ما حال عن حسن عهده ... ولم تر عيني منه أوفى وأكرما
يساعدني دون الأخلاء في الدجا ... إذا نام من قد كان شوقاً تنجما
فأهدا ولا يهدي وإن نمت لم ينم ... ويغري بذكراكم إذا الليل أظلما

ينادي على لحفي وصبحي نوم ... وإن هو لم يفضض بنطق له فما
أشبهه والقطر باد ولم يبن ... بمنقار فرخ قد تلقط قرطما
وله:
تركنا لخوف الخيل والترك دورنا ... فلله صرف الدهر كيف ترددا
دهاليزنا ضاقت لخوف نزولهم ... كأنا يهود ندخل الباب سجدا
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي لعبدان:
إن كنت تنشط للغبوق فليلنا ... خلف النهار بغرة غراء
وإذا صفا لك مثلنا في دهرنا ... فاذكر عواقب ليلة كدراء
وكان أبو العلاء الأسدي عرضة لأهاجي عبدان، فمن ملح قوله فيه:
أبا العلاء اسكت ولا تؤذنا ... بشين هذا النسب البارد
وتدّعي في أسد نسبة ... لا تثبت الدعوى بلا شاهد
أقم لنا والدة أولاً ... وأنت في حلٍّ من الوالد
وقوله:
قابل هديت أبا العلاء نصيحتي ... بقبولها وبواجب الشكر
لا تهجون أسنَّ منك فربما ... تهجو أباك وأنت لا تدري
وقوله:
أبو العلاء زاعم ... بأنه من العرب
ويدعي في أسد ... أبوة بلا سبب
أقسم أني مفتر ... عليه في هذا النسب
فآثم لكنني ... ألصقه خوف الغضب
وقوله:
أضحى الملوم أبو العلاء يسبني ... وأنا أبوه يعقني ويعادي
والمنتمون إليه من أولاده ... والله يعلم أنهم أولادي
ولو أنه يسخو عليَّ بواحد ... عند التكاثر زينة للنادي
ألصقته بي واقتديت بمن رأى ... بأبيه إلصاق الدعي زياد
وقوله:
حمق بهذا الأسدي الذي ... قد كان مني آمن السرب
وإنما جربت هجوي به ... تجربة السيف على الكلب
وقوله في غيره:
رغيفك في الأمن ياسيدي ... يحل محل حمام الحرم
فلله درك من سيد ... حرام الرغيف حلال الحرم
وقال من أبيات:
يعلو ويعلى وكل من سجيته ... يعلو الكنيف ويعلة بالغراميل
وقال في رجل ارتفع قدره وكان أبوه حلاجاً:
أقول وقد قالوا ابن مأسدة غدا ... على مركب لا من حمير أبيه
ولا الصوت محلاج ولا السرج لوحه ... ولا حب قطن كالشعير بفيه
مقال الوليد البحتري فإنه ... قد أنبأنا عن مثله وذويه
متى أرت الدنيا نباهة خامل ... فلا ترتقب إلا خمول نبيه
وقال في قينة:
لنا قينة تحمي من الشرب شربنا ... فقد أمنوا سكراً وخوف خمار
تكشر عن أنيابها في غنائها ... فتحكي حماراً شمَّ بول حمار
وقال في شاعر:
ما قال بيتاً مرة ... ولا يقول ما بقي
وكل شعر قاله ... فإثمه في عنقي
وقال في علوي:
كم غاصب حقكم ليهزلكم ... وقد تفقا من شدة السمن
واحرباً إن قضيت لم أر ما ... آمله فيكم وواحزني
وقال:
أقسمت حقاً بما أوتيت من كرم ... فإنه بعد ربي غاية القسم
أن لو وليت أمور الناس مقتدراً ... ما خاف راعٍ على شاء ولا نعم
وظلت العصم للآساد آلفة ... واستأنست طلس الذؤبان بالغنم
مواهب خصك الله العزيز بها ... وليس يرضى لك الحساد بالقسم
هذا الثناء وهذاك الدعاء وما ... لي غير ذين وما ديني بمتهم
وقال:
سقيت وفي كف الحبيبة وردة ... وأترجة تغري النفوس بصونها
مداماً فلما قابلتني بوجهها ... شربت فحيتني بلوني ولونها

أبو سعيد الرستمي
محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن بن علي بن رستم
من أبناء إصبهان وأهل بيوتها، ومن يقول الشعر في الرتبة العليا، ومن شعراء العصر في الطبقة الكبرى، وهو القائل:
إذا نسبوني كنت من آل رستم ... ولكن شعري من لؤي بن غالب

ومن نظر في شعره المستوفي أقسام الحسن والبراعة، المستكمل فصاحة البداوة وحلاوة الحضارة، أقبلت عليه الملح تتزاحم، والفقر تتراكم، والدرر تنتاثر، والغرر تتكاثر:
كلم هي الأمثال بين الناس إلا ... أنها أضحت بلا أمثال
وكان الصاحب يقول مرة: هو أشعر أهل عصره، وتارة: هو أشعر أهل عصره، ويقدمه على أكثر ندمائه وصنائعه، وينظمه في عقد المختصين به، وفيه يقول مداعباً:
أبو سعيد فتى ظريف ... يبذل في الظرف فوق وسعه
ينيك بالشعر كل ظبي ... فأيره في عيال طبعه
وكان يسد ثلمة حاله، ويدره حلوبة ماله، ويسوغه خراج ضياعه، ولا يخليه من مواد إنعامه وإفضاله، وبلغني أن أبا سعيد لما أسفر له صبح المشيب وعلته أبهة الكبر، أقل من قول الشعر: إما لترفع نفسه، وإما لتراجع طبعه.
فقرأت فصلاً للصاحب أظنه إلى أبي العباس الضبي في ذكره، واستزادة شعره، وهذه نسخته: كان يعد في جمع أصدقائنا بإصبهان رجل ليس بشديد الاعتدال في خلقه، ولا ببارع الجمال في وجهه، بل كان يروع بمحاسن شعره، وسلامة وده، أما الشعر فقد غاض حتى غاظ، وأما الود ففاض أو فاظ، فإن تذكره مولاي بوصفه وإلا فليسأل عن خاله وعمه، أما العمومة ففي آل رستم، وثم الذروة والغارب، ولواء العجم وغالب، وأما الخؤولة ففي آل جنيد، كما قال شاعرهم في سعد وسعيد، وقد سألت عن خبره وفد نجران، والركب بحبلى نعمان، فلم يذكروا إلا أنه مشغول بخطبة سبطه أبي القاسم بن بحر رحمه الله تعالى لفتاه أعزه الله، وليس في ذلك ما يوجب أن يطوينا طي الرداء، ويلقى عهدنا إلقاء الحذاء، وقد يعود الصلاح فساداً، ويرجع النفاق كساداً:
فلعل تيماً أن تلاقي خطة ... فتروم نصراً من بني العوام

وهذا ما أخرجته
من محاسن شعره وما محاسن شيء كله حسن!! من قصيدة له فريدة في مؤيد الدولة:
بدت يوم حزوى من كواها المحاجر ... فعاد عذولي في الهوى وهو عاذر
فكيف وقد أبدين ما في قناعها ... وأبرزن ما التفت عليه المعاجر
مررن بحزوى والجآذر ترتعي ... فلم تدر حزوى أيهن الجآذر
ومالت على الأنقاء فاشتبهت بها ... أهن النقا أم ما تضم المآزر
وأرست على الأعجاز سود فروعها ... فأرزت بحيات الغدير الغدائر
بدور زهتهن الملاحة أن يرى ... لهن نقاب فالوجوه سوافر
سرقه من قول القائل:
ولما تنازعنا الحديث وأسفرت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
رجع:
وودعني من نرجس بجفونها ... على ورد خد لؤلؤ متناثر
وسائلة عبري متى أنت آيب ... إلينا وهل يقضي الإياب المسافر
حططت لها رحلي وسيبت ناقتي ... وأمنتها والعيس مما تحاذر
نصيبي من الدنيا رضى أم معمر ... وسائر ما تحويه في الريح سائر
وقلت اربطي جأشاً عليك فإنه ... سيغنيك عن سيري القوافي السوائر
سيكفيك سيري في الدجى إن كرهته ... صباح كضوء البدر والنجم باهر
أمير كأن الغيث من نفحاته ... يصوب ومن أخلاقه الروض زاهر
إذا ما علا صدر السرير جرى لنا ... به فلك بالخير والشر دائر
يد لأمير المؤمنين طويلة ... وناب إذا ما نابه الخطب كاشر
ينافي الكرى من حزمه وهو دارع ... ويغشى الوغى من بأسه وهو حاسر
إلى أي أرض أرحل العيس صادياً ... وبحرك مورود وروضك ناضر
ومنها:
فأقسمت ما في الأرض غيرك ماجد ... يزار ولا في الأرض غيري شاعر
بقيت مدى الدنيا وملكك راسخ ... وظلك ممدود وبابك عامر
يرد سناك البدر والبدر زاهر ... ويقفو نداك البحر والبحر زاخر
وهنئت أعياداً توالت سعودها ... كما يتوالى في العقود جواهر
وله من أخرى فيه أيضاً:
مررنا بأكناف العقيق فأعشبت ... أباطح من أجفاننا ومسايل
وكادت تناجينا الديار صبابة ... وتبكي كما نبكي عليها المنازل

فمن واقف في جفنه الدمع واقف ... ومن سائل في خده الدمع سائل
تأس بيأس أو تعز بسلوة ... فمالك في أطلال عزة طائل
ألم تر أيام الربيع تبسمت ... أجارع من أنوارها وخمائل
كأن غصون النرجس الغض بينها ... نشاوى كرىً أعناقهن موائل
كأن شقيق الأبرين كواعب ... عليهن من صبغ الجساد غلائل
وقد حملت سوسانها في حجورها ... رواضع إلا أنهن حوامل
وضمر خيل الضيمران كأنها ... مرازب فوق الهام منها أكالل
ونور قضبان الخلاف فأبرزت ... أصابع لم تخلق لهن أنامل
تخال أزاهير الرياض خلالها ... مصابيح ليل ما لهن فتائل
وقد شربت ماء الغمامة فانثنت ... كما يتثنى الشارب المتمايل
فمن أقحوان ثغره مبتسم ... وورد على أكنافه الطل جائل
وقد ماج وادي الزندروز بفيضه ... كما ماج للريح النقا المتهايل
كأن نعاج الرمل في جنباته ... يناطح بعض بعضها ويقاتل
كأن هدير الموج فوق متونه ... هدير قروم هاجهن الشوائل
سرى بين أحشاء السرى فتشابهت ... أحياته تسري بها أم جداول
إذا ماج فوق الأرض أوهاج خلته ... خيولك في الهيجا وهن صواهل
أيا ملكاً فاق الملوك وبذهم ... فراح سناناً والملوك عوامل
إذا نحن أثنينا عليه تبادرت ... فأثنت كما نثني القنا والقنابل
ينير الدجى من وجهه وهو حالك ... ويندى الثرى من كفه وهو ماحل
وذو لحظات كلهن فواضل ... وذو حركات كلهن فضائل
دهاء لديه رأي أكثم فائل ... وجود لديه حاتم الجود باخل
وحلم لديه ركن يذبل ذابل ... وعزم لديه فارس الخطب راجل
ومنها في مسألة إخراج ضيعة له من الإقطاع:
ضياعي نهبي قد تفرق شملها ... فما في يدي منهن إلا الأنامل
فكم ضيعة مالت لأبواب مالها ... قناتي وغيري منه نشوان مائل
فحظي من الحظين هم وحسرة ... وحاصلها أني على الهم حاصل
ألا ليت شعري هل أرى لي جماعة ... تمد بها فوق الشطور الحواصل
تقاربها الأنموذجات كأنها ... إذا هي صروها الثدي الحوافل
وهل أرني يوماً وكيلي حاضري ... أناقشه طوراً وطوراً أساهل
ويخرج باسمي في الأدراج كاتب ... حساباً ويستأدي خراجي عامل
على عدل مولانا الأمير توكلي ... فإحسانه في الشرق والغرب شامل
ومن أخرى فيه أيضاً، أولها:
عذيري لدى الواشين حسن عذاره ... وعذري لدى اللاحين حسن اعتذاره
بنفسي خبيب زار بعد ازوراره ... وعاودني بالأنس بعد نفاره
وأشنب معشوق الدلال منعم ... معقرب صدغ كالهلال مداره
إذا ما استعار الجلنار بخده ... أعار الحشى من خده جل ناره
سل البيض عن عاداته في عداته ... وسمر القنا عن نهبه ومغاره
وقائع نال النسر غاية سؤله ... بهن ونال النصر غاية ثاره
ومن قصيدة في الصاحب، أولها:
عقّني بالعقيق ذاك الحبيب ... فالحشى حشوه الجوى والنحيب
وإذا جفت الشؤون وخفت ... ندبتها من الضلوع الندوب
لست أدري أأدمعي أم جمان العقد ينسل أم عقيق يذوب
حبذا حبذا ونعم وسعدي ... ونصيبي من وصلهن نصيب
إذ زماني غرُّ وغصني رطيب ... وشبابي غض وبردي قشيب
إذ بوادي العقيق عيشي أنيق ... وبوادي الجنوب ريحي جنوب
كما شجاني ببطن رامة ريم ... وبظبي الكثيب ظبي ربيب
أيها الرمل كم مضى فيك عيش ... لي مهاة ومرتع لي خصيب

وأليفاي فيك ريا وأروي ... وحليفاي فيك زق وكوب
وبقلب الحسود منا ندوب ... وبطرف العذول عنا نكوب
وعفا الله عن ذنوب تقضت ... لي بها حين تستتاب الذنوب
حيث لا لوم أن يزور محب ... هاجه الشوق، أو يزار حبيب
حيث لا ينكر الغرام ولا يخشى ملام، ولا يخاف رقيب
ما يذم الشباب عندي بشيء ... غير أن المشيب منه قريب
غلب الصاحب الجواد بني الجو ... دكما يغلب الشباب المشيب
بذهم في الندى وغطى علاهم ... بعلاه فالمكرمات ذنوب
وإذا ما سعى لإحداث مجد ... فمساعيهم عليهم ذنوب
واجد بالعلا وبالمجد وجداً ... لم يجده بيوسف يعقوب
وإذا ما أتاه طالب جدوى ... راحتيه فالطالب المطلوب
قل لباغي الندى خف الله لا تسأله عمراً فإنه موهوب
من قول أبي تمام:
ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله
رجع:
إنما حاتم وأوس وكعب ... مثل في الندى له مضروب
يا حساماً مهنداً وغماماً ... ديمتاه الترغيب والترهيب
فيك ما يكمد الحسود وما فيك سوى الجود والندى ما يعيب
راحة ثرة، ووجه طليق ... ولسان عضب، وصدر رحيب
وبيان غض تلدد فيه ... حين خاطبته الألد الخطيب
وإذا ما وخدت في طلب الم ... جد فذو المجد وخده تقريب
عزمات يرض منهن رضوي ... ويكاد الوليد منها يشيب
فلشمس النهار منها وجوب ... ولقلب الزمان منها وجيب
ومنها:
وإذا ما دعوت شعري فيه ... طرب المدح واستهل النسيب
مدح كالنسب رقة ألفا ... ظ وما للنسيب منه نصيب
محكمات محكمات إذا أنشد ... ن نال المنى بهن الأديب
رفعت من أعنة الرفع حتى ... ذل منها المخفوض والمنصوب
ومنها:
أنا من قد عرفت سراً وجهراً ... أعجمي نما به التعريب
ليت شعري إذا دعيت، شعاري ... نسبي واضح وعودي صليب
لست من أمدح الملوك ولا أنض ... ي المطايا ولا الفلاة أجوب
أنا للصاحب الجليل أبي القا ... سم مولىً وخادم وربيب
ومن أخرى أيضاً:
غيضهن عبرتهن يوم الوادي ... فأرحن عازب أنس ذاك النادي
فجنين بالأسماع نور حديثنا ... وكرعن في الشكوى كروع الصادي
ووصفن سقم قلوبنا بعيونها ... فشفين منا غلة الأكباد
لا غرو أن يجنين من ثمر الهوى ... لي في مراقدهن شوك قتاد
فلطالما أسهرنني جنح الدجا ... وأطلن ليلي وانتبهن رقادي
لا والذي جعل الجفون عليلة ... وأعار حب البيض حب فؤادي
إني لأرحم من أسرن فؤاده ... سراً فما لفؤاده من فادي
وأذم أيام الفراق فإنها ... علل وإن خفيت على العواد
قل للزمان إذا تنمر ساخطاً ... وعدا علي بوجه ليث عادي
أبرق وأرعد ليس يرتعد الحشى ... لي منك بالإبراق والإرعاد
الصاحب العالي الصنائع صاحبي ... في النائبات وعدتي وعتادي
ورث الوزارة كابراً عن كابر ... موصولة الإسناد بالإسناد
يروي عن العباس عباد وزا ... رته وإسماعيل عن عباد
شرف كعقد الدر واصل بعضه ... بعضاً كأنبوب القنا المنآد
وعلاً كأيام السنين ترادفت ... آياتها بمكرر ومعاد
لا كالذين إذا سموا لكريمة ... ضحكت جدودهم من الأجداد
أعلى المكارم ما تقادم عهده ... والمجد موروث عن الأمجاد
لا والذي جعل المكارم كلها ... لك والعلا في مبدأ ومعاد
ورآك أهلاً للرشاد وللهدى ... وكساك آيات الإمام الهادي

لو كان غير الله يعبد ما انثنت ... إلا إليك أعنة العباد
هذا معنى قد أكثر الناس فيه، وأظن السابق إليه ابن أبي البغل، حيث قال في الرشيد من السريع:
لو عبد الناس سوى ربهم ... أصبحت دون الله معبودا
رجع:
هذا الربيع وأنت أكرم مجتنى ... منه وأعجبه إلى المرتاد
زارتك في حلل الرياض وفوده ... وكأنهن يمسن في الأبراد
ورأت صنائعك التي أزرت بها ... فغدت تذم إليك صوب الغادي
وحكاك وادي الزندروز فأقبلت ... أمواجه يقذفن بالأزباد
مثل الرمال تناطحت أوعالها ... فأعانهن العين بالإمداد
يرمي السواحل مده فكأنه ... ملك يهز الأفق بالإيعاد
يهدي المدينة واديان تجاورا ... وكأنما وردا على ميعاد
مدان هذا ليس ينفد فيضه ... أبداً وهذا فيضه لنفاد
روض يرف، ومزنة تهمي عزا ... ليها، وطير في الغصون ينادي
فكأن ذا يثني، وذا يدعو، وذا ... يبدي الرضا ويبوح بالإحماد
فاسعد بديناً قد نظمت أمورها ... وسددتها بالرفق أي سداد
ورعية أصلحتها بتألف ... وتعطف من بعد طول فساد
داويت من سقم النفاق قلوبها ... وشفيت مرضاها من الأحقاد
فنصبت للإسلام أكرم راية ... وقسمت أهل الجبر والإلحاد
وأفضت عدلك في البلاد وأهلها ... وضربت دون الظلم بالأسداد
ومنها في الإذكار والاستعانة والاستزادة وشكوى الخراج، ومسألة التسويغ، وما منها إلا ما لا غبار عليه، ولا شوب فيه، ولا مزيد على حسنه:
ياخير من يُدعى لخطب فادح ... ويحل عقد الحادث المنآد
عمَّت فواضلك البرية واغتدت ... طوع العنان لحاضر أو بادي
ووسائلي ما قد علمت ولاية ... مذ كنت أعهدها وصفو وداد
ومنقّبات في البلاد غريبة ... وصلت سرى الإتهام بالإنجاد
تروى ولم يسمع لهن بقائل ... تعزى إليه سوى حداء الحادي
من كل رائقة المحاسن حلوة ... ريا الرواية غضة الإنشاد
لم يكسها الإكفاء في أكفائها ... عيباً ولا أزرى بها لسناد
هذا وحرمة خدمة مرعية ... للأبعدين قديمة الميلاد
ما زلت من أبرادها متوحشاً ... بمفوف يزهى على الأبراد
يا حلية الوزراء حلّ قصائدي ... بمحاسن الإرفاد والإصفاد
مالي ظمئت وبحر جودك زاخر ... سهل مشارعه على الوراد
وريت زناد السائلين بسيله ... وبفيضه وخصصت بالإصلاد
ما كان أجمل في التجمل ملبسي ... وأعف في ظل القناعة زادي
لولا زمان أزمنت حالي له ... نوب تراوح تارة وتغادي
وأذى فراخ ضاق بي أوكارها ... وكذا البغاث كثيرة الأولاد
وأذى خراج لو سرى لأدائه ... غرر الليالي عدن وهي دآدي
أبدت نجوم الليل سود نجومه ... في مفرقي فأنار بعد سواد
حصة حصت مني جوانب هامتي ... صفعاً أوافقه من المستادي
ووفود سوء يألفون زيارتي ... من صادر أو رائح أو غادي
ورجالة مترادفون كأنما ... غصت مدارجهم برجل جراد
من كل منتفش الشوارب مسمع ... عبد لآل ربيعة أو عاد
صهب اللحى سود الوجوه كأنما ... خضبوا الرؤوس بيانع الفرصاد
ما غاب عني واحد إلا ويقفو إثره ثان وآخر بادي
هذا يواجه شاربي متهدداً ... ويقوم هذا من وراء العادي
ففرائضي من خوفهم مملوءة ... أبداً من الإخفاق والإرعاد
وإذا أصادر غدوة لم يرتفع ... عند المساء سواي في الأوراد
ما في يد النقاد من ضربي سوى ... ضربي ودق الجيد دون جياد

يا حلية الوزراء حقي واجب ... ونداك صوبا أنعم وأيادي
وقع بتسويغي خراجي كله ... أو لا فعاودني على الإيراد
وامنن عليّ بفضل جودك واكفني ... دار الخراج وجهمة الحداد
وله من أخرى:
قولوا لو سنان نام عن أرقي ... فيه وحاشا جفونه الأرق
ارث لمن قد رثى لمقلته ال ... دمع ورقت لقلبه الحرق
لم يبق من جسمه سوى رمق ... ينتظر الموت ذلك الرمق
يا بأبي منه طرة سبج ... إذا تبدت وغرة يقق
ولؤلؤ من لسانه برد ... ولؤلؤ في لباته نسق
وجه به الجلنار مبتسم ... يفتر والأقحوان متسق
شعلة نار ملاحة وسناً ... يكاد منه الجليس يأتلق
غنّى فجلّى الظلام غرته ... عنا وغصت بشدوه الأفق
فودَّت العين أنها أذن ... تسمع والأذن أنها حدق
زاد على من قال:
غنت فلم يبق في جارحة ... إلا تمنت بأنها أذن
رجع:
والله لو كانت الأزاهر وال ... أوتار ناساً وأبصروا عشقوا
شانئ أيامه يذوب شجىً ... من كمد والحسود يزدهق
كذلك النار حين أعوزها ... ما أحرقته تبيت تحترق
سرقه من قول ابن المعتز حيث قال:
كالنار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله
رجع:
وإن ذكرنا اسمه لطيبته ... يبقى بأفواهنا له عبق
والناس لولا سناه ما رمقوا ... والناس لولا نداه ما رزقوا
إسعد بشهر وافتك مقبلة ... أعياده بالسعود تستبق
ثلاثة قد قرن في قرن ... خوة روز والنضح والسذق
مقدمات من الربيع غدت ... وفودها من صبابة سبقوا
أما ترى المزن حلَّ حبوته ... في الروض فالروض زاهر أنق
فنوره من سناك مقتبس ... ونوءه من نداك مسترق
فاعمر لدنيا لولاك ما خلقت ... وأهل دنياً لولاك ما خلقوا
وعد جديداً على الزمان كما ... عاد جديداً في عوده الورق
ما صحبتك الأيام دمت لها ... فليس في صفو عيشنا رنق
وله قصيدة في نهاية الحسن وكثرة الملح والنكت، أولها:
عزيز علينا أن تشط منازله ... سقته الغوادي من عزيز تزايله
ولا زال حاديه دميثاً فجاجه ... وقمراً لياليه وصفواً مناهله
يحل عزالي الغيث حيث يحله ... ويغشى كما يغشى الربيع منازله
ومهجورة خافت عليها يد النوى ... فلم تبق في حافاتها ما أسائله
سوى كحل عين ما اكتحلت بنظرة ... إلى جفنه إلا شجتني مكاحله
وقفت فأما دمع عيني فسائل ... عليه، وأما وجد قلبي فسائله
أقلب قلباً ما يخف غرامه ... عليه، وطرفاً ما تجف هوامله
لعلي أرى من أهل ريا وإن نأت ... بأرجائه شبهاً لريا أواصله
فأصبحت قد ودعت ريا ووصلها ... كما ودعت شمس النهار أصائله
بكرهي زال الحي من بطن عازب ... وغودر مني عازب اللب زائله
وقلب إذا ما قلت خفَّ غرامه ... وأبصر غاويه وأقصر عاذله
دعاه الهوى فاهتز يهوي كما دعا ... صبا الريح غصن البان فاهتز مائله
وهاجرة من نار قلبي شببتها ... وقد جاش من حر الفراق مراجله
صليت بها والآل يجري كما جرى ... من الدمع في جفني للبين جائله
ومنها:
وبعض مذاق العرف مرٌّ وإن حلا ... إذا لم يكن أحلى من العرف باذله
وما الجود إلا ما تطوع أهله ... ولا السمح إلا ما تبرع نائله
وأروع أنواء الربيع صنائع ... لديه، وأنوار الربيع فضائله

أهان مصونات الذخائر كفه ... وهان عليه ما يقول عواذله
وفاح كما فاح الرياض فعاله ... ولاح كما لاح البروق شمائله
يسيل على العافين عفو نواله ... فيلقى ابتذال الوجه للبذل سائله
شفيع الذي يرجوه حسن صنيعه ... وسائله عند الرجاء وسائله
ولم يجتمع كفاه والمال ساعة ... كأني وريا ماله وأنامله
هذا البيت من إحسانه المشهور السائر، ومنها:
أيصبح مثلي في جنابك صادياً ... وأنت الحيا تحيا وتروي هواطله
ولولا فراخ زعزع الدهر وكرها ... عليَّ وقد غال الجناح غوائله
أعرت ظلال الحر نفس ابن حرة ... تقاصره الأيام حين تطاوله
فخذني من أنياب دهري بعاجل ... من النصر دان، أكرم النصر عاجله
بقيت مدى الدنيا لمجد تشيده ... وقرم تساميه وخصم تجادله
وهاتيك أمثال النجوم جلوتها ... عليك كما تجلو الحسام صياقله
قريض كساه المزن أثواب روضة ... فرقت أعاليه ورقت أسافله
تطيب على الأيام ريا نشيده ... وأطيب من رياه ما أنت فاعله
وله من أخرى:
وحسناء لم تأخذ من الشمس شيمة ... سوى قرب مسراها وبعد منالها
وإني لأهوى الشيب من أجل لونه ... وإن نفرت عني الدمى من فعالها
وأروع يستحي الحيا من يمينه ... فيرتد فوق الأفق حيران والها
أقام قنا الأيام بعد اعوجاجها ... وحاط ذرى الإسلام بعد ابتذالها
عزائم لو ألقى على الأرض ثقلها ... شكت منه ما لم تشكه من جبالها
وجود بنان سبح الغيث عندها ... وهلل صوب البحر عند انهلالها
يد كل ما تحوي يد من نوالها ... وبيض أياديها وغزر سجالها
تأمل فما لاحظته من هباتها ... لدينا وما لاحظته من عيالها
من النفر العالمين في السلم والوغى ... وأهل العوالي والمعالي وآلها
إذا نزلوا اخضر الثرى من نزولها ... وإن نازلوا احمر الثرى من نزالها
ببيض كأن الملح فوق متونها ... ودهم كأن الزنج تحت جلالها
انظر إلى حسن هذا التصرف وشرف هذا الكلام:
مساميح كل الغيث بعض نوالها ... وكل المعالي خلة من خلالها
سمت فوق آفاق السماء فأصبحت ... ثراها الثريا والسهى من نعالها
إليك ابن عباد بن عباس إنثنت ... أعنة شكر الدهر بعد انفتالها
بك افتر ثغر الملك واهتز عطفه ... وجرت بك الدنيا ذيول اختيالها
تشكى الثرى إظلامها ومحولها ... فأغنيتها عن مزنها وهلالها
وله من قصيدة كأنه جمع محاسنه ولطائفه فيها، أولها:
سلام على رمل الحمى عدد الرمل ... وقل له التسليم من عاشق مثلي
وقفت وقوف الغيث بين طلوله ... بمنسكب سح ومنسجم وبل
وما رمت حتى خالني الريم رمة ... وأذرف آجال الحمى الدمع من أجلي
خليلي قد عذبتماني ملامة ... كأن لم يقف في دمنة أحد قبلي
ومما شجاني والعواذل وقف ... ولي أذن صمت هناك عن العذل
ظباء سرت بالأبطحين عواطلاً ... وكنت أراها في الرعاث وفي الحجل
تبدلن أسماء سوى ما عرفتها ... لهن، فلا تدعي بسعدي ولا جمل
تشابهن أحداقاً وطول سوالف ... وخص الغواني بالملاحة والدل
ومكحولة الأجفان مخضوبة الشوى ... ولم تدر ما لون الخضاب من الكحل
ذكرت بها من لست أنسى ذنوبها ... وإن بعدت والشيء يذكر بالمثل
سقى الدمع مغنى الوابلية بالحمى ... سواجم تغني جانبيه عن الوبل

ولا برحت عيني تنوب عن الحيا ... بدمع على تلك المناهل منهل
مغاني الغواني والشبيبة والصبا ... ومأوى الموالي والعشيرة والأهل
ليالي لا روض الكثيب بلا ندى ... ولا شجرات الأبرقين بلا ظلّ
وما كان يخلو أبرق الحزن من هوى ... ولكنني أمسي بغير الهوى شغلي
فراخ نباني وكرهن وهاجني ... كما هاج ليث الغاب وعوعة الشبل
وكم قد رحلت العيس في طلب العلا ... فلما بكت سعدي حططت لها رحلي
نزلت على الأيام ضيفاً فلم أجد ... قرى عندها غير النزول بلا نزل
وقد سامني أهلي المقام بذلة ... ولست بأهل للذي سامني أهلي
سبيل الغنى رحب على كل سالك ... فما لي أسعى منه في مدرج النمل
أينكر نص العيس والبيد والدجا ... لمن عزمه عزمي ومن فضله فضلي
دعوني أصل إرقالها بذميلها ... وأطوي الدجا حتى أرى صبحها المجلي
حياً لم يفت منا ولياً وليه ... ولم يخل من أفضاله كف ذي فضل
ومبتده الجدوى إذا ما سألته ... فأعطاك لم يعتد ذاك من البذل
فتى حاز رق المجد من كل جانب ... إليه وخلّى كاهل الشكر ذا ثقل
بعفو بلا كدٍّ وصفو بلا قذى ... ونقد بلا وعد ووعد بلا مطل
من النفر الأعلين في حومة الوغى ... يميلون زهواً غير ميل ولا عزل
هم راضة الدنيا وساسة أهلها ... إذا افتخروا لا راضة الشاء والإبل
محلهم عالٍ على السبعة العلا ... وعالمهم موف على العالم الكلي
إذا أنت رتبت الملوك وجدتهم ... هم الاسم والباقون من حيز الفعل
مساميح عند العسر واليسر، لاتني ... مراجلهم في كل أحوالهم تغلي
ولم يغلقوا أبوابهم دون ضيفهم ... ولا شتموا خدامهم ساعة الأكل
ولا شددوا دون العفاة حجابهم ... وقالوا لباغي الخير نحن على شغل
لتهن ابن عباد قواف كأنها ... جنى لؤلؤ رطب من العقد منسل
أبى لي حسناً أن أبالي بعده ... بشعر ولو أنشدت للنمر العكلي
وقل له ما قال في هرم الندى ... زهير وأعشى قيس في هوذة الذهلي
وما كنت لولا طيب ذكرك شاعراً ... ولا منشداً بين السماطين في حفل
ولكنني أقضي به حق نعمة ... سرت مثلاً لما وسمت به عقلي
إذا لم تكن لي أنت عوناً ومعدياً ... على الزمن العادي عليَّ فقل من لي
من الناس من يعطي المزيد على الغنى ... ويحرم ما دون الغنى شاعر مثلي
كما ألحقت واو بعمرو زيادة ... وضويق بسم الله في ألف الوصل
أعر من ورائي من عبيدك لحظة ... بعين العلا واجمع على شكرها شملي
فما لي رجاء في سواك ولا يرى ... يمر قريضي عند غيرك أو يحلي
وهل بارق يشتام إلا من الحيا ... وهل عسل يشتار إلا من النحل
وقاك بنو الدنيا جميعاً صروفها ... جميعاً فإن الجفن من خدم النصل
وله من أخرى:
كفتك عن عذلي الدموع الوكف ... ونهتك عن عتبي الضلوع الرجف
لله عيش بالمدينة فاتني ... أيام لي قصر المغيرة مألف
حجي إلى الباب الجديد وكعبتي ال ... باب العتيق وبالمصلى الموقف
والله لو عرف الحجيج مكاننا ... من زندروز وجسره ما عرفوا
أو شاهدوا زمن الربيع طوافنا ... بالخندقين عيشة ما طوفوا
زار الحجيج منىً وزار ذوو الهوى ... جسر الحسين وشعبه واستشرفوا

ورأوا ظباء الخيف في جنباته ... فرموا هنالك بالجمار وخيفوا
أرض حصاها جوهر وترابها ... مسك وماء المد فيها قرقف
مالي وللواشين لا يهنيهم ... ما نمنموه من النميم وزخرفوا
أعياهم سبب التهاجر بيننا ... فتفاءلوا لي بالفراق وأرجفوا
لا واعتلاقي بالوزير وحبله ... ما أحسنوا ما أجملوا ما أنصفوا
ما للوزير عن المعالي مصرف ... أبداً ولا لي عن هواه مصرف
يا من نعوذ من المكارم باسمه ... ونعزه وهو الأعز الأشرف
ونجل عن خطر اليمين حياته ... فبفضل نعمته علينا نحلف
وعظيم ما أوليتني من نعمة ... ما للسماح سواك رب يعرف
يا ابن الذين إذا بنوا شادوا وإن ... أسدوا يداً عادوا وإن يعدوا وفوا
إن حاربوا لم يحجموا، أو قاربوا ... لم يندموا، أو عاقبوا لم يشفوا
ومتى استجيروا أسعفوا ومتى استنيلوا أسرفوا ومتى استعيدوا أضعفوا
إن عاهدوا لم يخفروا، أو عاقدوا ... لم يغدروا، أو ملكوا لم يسعفوا
ومنها التهنئة بالخلعة:
تهنى ابن عباد بن عباس ب ... ن عبد الله نعمى بالكرامة تردف
يهنيه زائد نعمة متجدد ... أبداً وحادث نعمة يستطرف
خلع كأنوار الربيع مدبج ... وموشم ومنمنم ومفوف
بهرت عيون الناظرين وأبرزت ... حسناً يكاد البرق منه يخطف
لو نالت الشمس المنيرة حسنها ... ما كانت الشمس المنيرة تكسف
ولئن كبرت عن الملابس والحلي ... وبك الملابس والحلى تتشرف
فالبيت يكسى وهو أشرف بقعة ... في كل عام مرة ويسجف
ألم فيه بقول من قال:
تزهى بك الخلعة الميمون طائرها ... كزهو خلعة بيت الله بالبيت
رجع:
كالشمس حفت بالسعود وحوله ... خدم كأمثال الكواكب وقف
وكأن مجلسه عروس تجتلى ... والمادحون به قيان تعزف
ما تشتهي الآذان تسمعه وما ... تهوى العيون من المناظر تطرف
أو ما ترى حسن الزمان وطيبه ... والجو صاف والجنان تزخرف
عاد الربيع إليك في كانونه ... فشتاؤه للحسن صيف صيف
شمس محجبة وظل سجسج ... وغمامة سح وروض رفرف
وعلى الجبال من الثلوج أكالل ... وعلى السماء من السحائب مطرف
نبأ تباشرت القلوب لذكره ... أذكى من المسك الذكي وأعرف
فلكل عين قرة ومسرة ... ولكل نفس عزة وتغطرف
وله من قصيدة في علي بن أبي القاسم:
معان نظمت بهن الصبا ... كما نظم الغانيات العقودا
بباب الجديد لنا موقف ... لبسنا به العيش غضاً جديدا
وكم بالمحصب من ليلة ... شفعنا إلى الصبح أن لا يعودا
ويوم قصير بتلك القصو ... ر تحسبه الغيد للحسن عيدا
تراه عبيراً وحصباءه ... عقيقاً وأشجار واديه عودا
علي بن أبي القاسم أرفق بنا ... فقد عاقنا الشكر أن نستزيدا
لئن لم تملَّ ندى أن تفيد ... لقد ملَّ راجيك أن يستفيدا
وقالوا انتجعت حياً نازحاً ... وهل عاق بعد الحيا أن يجودا
سنا البدر يغشى الثرى والورى ... جميعاً وإن كان منهم بعيدا
قواف إذا ما رآها المشو ... ق هزت لها الغانيات القدودا
كسون عبيداً ثياب العبيد ... وأمسى لبيد لديها بليدا
ولو لم أكن محسناً نظمهن ... لحسن قصدي إليك القصيدا
عرفنا بعرفك كيف الطريق ... وجودك علمنا أن نجيدا

وأنشدني أبو بكر الخوارزمي من نتفه:
ثقلاء الأرض عندي خمسة ... صالح والابن منهم أربعة
ومن نتفه:
تركت الشعر للشعراء، إني ... رأيت الشعر من سقط المتاع
وأنشدني له في أبي الحسن الغويري:
في حرِّامِّ الشعر أيري ... لست أعني أير غيري
إنما يرفع قول الشعر أمثال الغويري

أبو القاسم غانم بن أبي العلاء الإصبهاني
شاعر ملء ثوبه، محسن ملء فمه، مرغوب في ديباجة كلامه، متنافس في سحر شعره، ولم يقع إلى ديوانه بعد، وإنما حصلت من أفواه الرواة على قطرة من سيح غرره، وغيض من فيض ملحه، ولا يأس من وجدان ضالتي المنشودة من مجموع شعره، وقد مرت في الصاحبيات أبيات له قلائل إلا أنها قلائد، وهذا مكان ما أحاضر به من أخواتها الرائقة الفائقة الشائقة.
أنشدني المعروف بالقاضي الإمام الأصبهاني قال: أنشدني أبو القاسم بن أبي العلاء لنفسه:
أصبحت صباً دنفاً ... بين عناء وكمد
أعوذ من شرّ الهوى ... بقل هو الله أحد
وأنشدني أيضاً قال: أنشدني أبو القاسم لنفسه:
المستغاث من الهوى بالله ... من شادن فتن الورى تياه
ما كنت أعلم قبله حر الهوى ... والوجد ما هو والصبابة ما هي
حتى بليت أغن مدللاً ... كالريم يعصي في هواه الناهي
فمدامعي عبري وقلبي واله ... وجوانحي حرى وصبري واهي
وله:
أيها الخشف كم أود وأجفى ... وأسام الهوان صنفاً فصنفا
لو كشفت الغطاء عن سر قلبي ... لقرأت الأحزان حرفاً فحرفا
إن نفسي موقوفة بين شيئين رجائي عليهما بات وقفا
بين أن ينصف الزمان وأعطى ... أملي فيك أو أموت فأكفى
ومن قصيدة:
الطف بطرفك ما أردت وداره ... لا يفضحنك إن مررت بداره
وأنشدني له في نفسه:
رجلي وأيري وبيضي ... في إست أم القويضي
لما أراد هجائي ... وفيضه دون غيضي
ورام تدنيس عرضي ... فصار خرقة حيض
وأنشدني أبو القاسم علي بن الكرخي له فقال:
وقائلة قالت فلانة طلقت ... فقلت ونفسي أطلقت بانطلاقها
تزوج قلبي الهم يوم تزوجت ... وطلق قلبي الهم يوم طلاقها
وأنشدني الأمير أبو الفضل له من قصيدة يعاتب فيها الصاحب ويستبطئه:
فإن قيل لي صبراً للذي ... غدا بيد الأيام تقتله صبرا
وإن قيل لي عذراً فوالله ما أرى ... لمن ملك الدنيا إذا لم يجد عذرا
وأنشدني أبو النصر محمد بن عبد الجبار العتبي له من قصيدة:
ورد البشير بما أقر الأعينا ... وشفى النفوس فنلن غايات المنى
وتقاسم الناس المسرة بينهم ... قسماً فكان أجلهم حظاً أنا
أبو محمد عبد الله بن أحمد الخازن
من حسنات أصبهان وأعيان أهلها في الفضل، ونجوم أرضها وأفرادها في الشعر. ومن خراص الصاحب ومشاهير صنائعه، وذوي السابقة في مداخلته وخدمته. وكان في اقتبال شبابه وريعان عمره، يتولى خزانة كتبه وينخرط في سلك ندمائه، ويقتبس من نور آدابه، ويستضيء بشعاع سعادته فتصرف من الخدمة فيما قصر أثره فيه، عن الحد الذي يحمده الصاحب ويرتضيه كالعادة في هفوات الشبيبة وسقطات الحداثة. فلما كان ذلك يعود بتأديبه إياه وعزله، ذهب مغاضباً أو هارباً! وترامت به بلدان العراق والشام والحجاز في بضع سنين، ثم أفضت حاله في معاودة حضرة الصاحب بجرجان إلى ما يقتضيه ويحكيه في كتاب كتبه إلى أبي بكر الخوارزمي، وذكر فيه عجزه وبجره، وقد كتبته تنبيهاً على بلاغته وبراعة كلامه، واختصاراً للطريق إلى معرفة قصته، وهذه نسخته:

كتابي أطال الله بقاء الأستاذ سيدي ومولاي من الحضرة التي نرحل عنها اختياراً، ونرجع إليها اضطراراً، ونسير عن أفيائها إذا أبطرتنا النعمة، ثم نعود إلى أرجائها إذا أدبتنا الغربة، ومن لم تهذبه الإقالة هذبه العثار، ومن لم يؤدبه والداه أدبه الليل والنهار. وما الشأن في هذا، ولكن الشأن في عشر سنين فاتت بين علم ينسى وغن لا يحصى، وإنفاق بلا ارتفاق، وأسفار لم تسفر عن طائل، ولم تغن عني ريش طائر، وبعد عن الوطن، على غير بلوغ الوطر. ورجعت يشهد الله صفر اليدين من البيض والصفر، أتلو والعصر إن الإنسان لفي خسر وأنا بين الرجاء في أن أقال العثار، والخوف من أن يقال زأر الليث فلا قرار، إلا أني كنت قدمت تطهير نفسي فلججت حتى حجبت، وعدت بغبار الإحرام، وبركة الشهر الحرام، وحين خيمت بأصبهان أنهى سيدنا الأستاذ الفاضل أبو العباس أدام الله تمكينه خبري إلى الحضرة العالية، حرس الله بهاءها وسناءها، والناس هل أقبل فيتلقوني بأكبر الرتب، أم أسخط فيتحاموني كالبعير الأجرب، فورد توقيع مولانا الصاحب الجليل، كافي الكفاة أدام الله مدته، وكبت أعداءه وحسدته، بعالي خطه، وقد نسخته على لفظه، ليعلم مولانا الأستاذ أدام الله عزه أن الكرم صاحبي لا برمكي، وعبادي لا حاتمي، وأنا نتجرم ثم نتندم، ونميل على جانب الإدلال، ثم لا نروى من الماء الزلال، والتوقيع.
ذكر مولاي أدام الله عزه عود أبي محمد الخازن أيده الله للفناء الذي فيه درج، والوكر الذي منه خرج. وقد علم الله أن إشفاقي عليه في اغترابه، لم يكن بأقل منه عند إيابه، فإن أحب أن يقيم مديدة يقضي فيها وطر الغائب، ويضع معها أوزار الآيب. فليكن في ظل من مولانا ظليل. ورأي منه جميل، وبر من ديواننا جزيل. وإن حفزه الشوق فمرحباً بمن قربته التربية لدينا، فأفسدته الغرة علينا، وردته التجربة إلينا. وسبيله أن يرفد بما يزيل شغل قلبه بعياله، ويعينه على كل ارتحاله، إن شاء الله تعالى.
هذي نسخة التوقيع الوارد على سيدنا الأستاذ أبي العباس، أدام الله عزه في معناي، فلا جرم أني أخذت مالاً، وأغنيت عيالاً، وقلت ليس إلا الجمازة والمفازة، فصبحت جرجان مسى عاشرة أهدى من القطا الكدري، كأني دعميص الرمل أستاف أخلاف الطرق، وأنا مع ذلك أحسب العفو عني حلماً، ولا أقدر ما جنيت يعقب حلماً، فكأني ما خطوت إلا في التماس قربه، وما أخطأت إلا لتأثيل حرمه، وكأني لم أفارق الظل الظليل، وأخذ فيّ بقول الله تعالى فافصح الصفح الجميل، فقد روى في التفسير أنه عفو من غير عتب، وعدنا للقرب في المجلس، وكرم اللقاء والمشهد، وراجعت أيدينا ثقل الصرر، وجلودنا لين الحبر. وركبنا صهوات الخيل، وسبحنا إلى دورنا بفضلات الخير. وأقبلنا على العلم، وصافحنا يد النثر والنظم. وراجع الطبع شيئاً كان يدعي الشعر، كذلك آدم أسكن الجنة بمن الله وفضله، ثم خرج عنها بما كان من جرمه. وهو عائد إليها بفضل الله وطوله، هذا خبري، وأما كتاب سيدي الأستاذ أدام الله عزه فورد وذكرت قول سلم الخاسر طيف ألم بذي سلم لأنه حل محل الخيال، وورد بأخصر المقال، وما تركت السؤال عن خبره ساعة وردت. فعرفت من سلامته ما بشرت به فاستبشرت. وعلمت كيف كانت النكبة، وكيف انحسرت المحنة، وكيف اتفق الخروج إلى بخار المزن من المزني صاب، بعد أن أصابه الدهر بما أصاب، وشوقي إلى سيدي الأستاذ الشوق الذي كنت أصلى بناره، وداري إزاء داره. ولم أستطع في التقريب أكثر من أن خرجت عن الموصل إلى جرجان، وشارفت أدنى خراسان، ولله اللطائف التي تخلصتني من الموصل، فإني كنت في وقعة باد أباده الله وعراني مما ملكت، وهتكني فتهتكت، وخرجت على مذهب مشايخنا في ضرب الحراب، على صفحة المحراب. وهذا حديث طويل، والكثير منه قليل. ذكر الأستاذ سيدي أن الشيخ أبا الفتح الحسن بن إبراهيم أخر عنه نسخة الرسائل مع خروج الأمر الناجز، وقد عجبت من ذلك، فإن أوامر الحضرة أقدار جارية، وسيوف ماضية. وأنا أجري حديثاً، وأنتجز كتاباً جديداً. فأما شعري فليس يروى إلا في ديوان باد، منذ فارقت آل عباد، وفجعت بكتبي جملة، وضرب عليها أولئك اللصوص ضربة. بل عملت في تهنئة مولانا أدام الله سلطانه، وحرس مكانه، حين رزق سبطاً نبوياً علوياً فأشرقت الأرض، ودعت السماء، وأمنت الكواكب، وقال الشعراء. وذلك أنه لما سمع الخبر قال:

الحمد لله حمداً دائماً أبداً ... إذ صار سبط رسول الله لي ولدا
فعملت على ذلك ما قد أثبته، فإن يكن ليس بالمسخوط فمن بركة الحضرة والخدمة، وإن يكن ممقوتاً فمن بقايا الغربة. ومن خبري أن لي ضيعة بأصبهان مقطعة، وقد برقت لي في حلها بارقة مطمعة، لأن مولانا أدام الله مدته أمرني أن أعمل في السلطان العظيم، أطال الله بقاءه مدحاً نيروزياً أشق بسموطه السماطين، هذا ولو كنت عاملاً لكنت اليوم في مرموق الدرجات، فقد وردت ورأيت جماعة لم أكن يومئذ دونها، وقد صارت في منازل أحتاج إلى خافية العقاب حتى ألحق بها، زادهم الله ولا نقصني، وهناهم ولا نغّصني. ومنهم شيخنا أبو القاسم الزعفراني أيده الله، وما أقول إنه ليس بأهل لأضعاف ما خول وتخول به ومول. إذ قد تفضل الله عليه بما أعلم أنه لو حكم بما تحكم فيه وقد قرنت بالقصيدة في المولود المسعود أخرى عيدية أبقى الله مولانا ما عاد عيد، وطلع نجم جديد، وسقى الله سيدي الأستاذ العهاد، والرذاذ، والطل، والوبل، والديمة، والتهتان، وجميع ما في كتاب المطر للنضر بن شميل، فما رأيت أتم منه، وحسبي الله، وصلواته على محمد وآله الطاهرين.
فهذا كلام كما تراه يجمع بين الجزالة والحلاوة، وحسن التصرف في لطائف الصنعة، ويملك رق الإتقان، والإبداع والإحسان، ويعرب عما وراءه من أدب كثير، وحفظ غزير، وطبع غير طبع، وقريحة غير قريحة. فأما شعره فجار مجرى عقد السحر، مرتفع الحسن عن الوصف، وما أصدق قوله:
لا يحسن الشعر ما لم يسترق له ... حرُّ الكلام وتستخدم له الفكر
انظر تجد صور الأشعار واحدة ... وإنما لمعان تعشق الصور
والمقدمون من الإبداع قد كثروا ... وهم قليلون إن عدوا وإن حضروا
قوم لو أنهم ارتاضوا لما قرضوا ... أو أنهم شعروا بالنقص ما شعروا
وكان أبو بكر الخوارزمي أنشدني لمعاً يسيرة من شعر أبي محمد، كقوله في وصف غبار الركب، وذكر أنه لم يسمع في معناه أملح منه. وأجمع لأقسام الحسن والظرف، وهو:
إن هذا الغبار ألبس عطفي سواداً وديني التوحيد
وكسا عارضي ثوب مشيب ... ورداء الشباب غض جديد
وقال في الغزل:
حثَّ المطي فهذه نجد ... بلغ المدى وتزايد الوجد
يا حبذا نجد وساكنها ... لو كان ينفع حبذا نجد
وبمنحنى الوادي لنا رشأ ... قد ضل حيت الضال والرند
هنذ ترى بسيوف مقلتها ... ما لا ترى بسيوفها الهند
وأعطاني نسختي القصيدتين اللتين ذكرهما في الكتاب الصادر، فشوقني إلى سائر شعره، وبقيت أسأل الرياح عنه، إلى أن أتحفني أبو عبد الله محمد بن حامد الحامدي في جملة ما لا يزال يهديه إليّ من ثمرات أرضه، ولطائف بلده بالعقيلة الكريمة، والدرة اليتيمة، من مجموع شعر أبي محمد، وقد كانت حضرة الصاحب جمعتهما، ومناسبة الأدب ألفت بينهما، فأوجب من الاعتداد، وفر الأعداد، وجمعت يدي منه على العلق النفيس، فرتعت في روضته الأنيقة فبينا أنا أباهي به، وأهتز لحصوله، إذ أصابه بعض آفات الكتب، وامتدت إليه يد بعض الخونة:
وسهم الرزايا بالذخائر مولع ... وأي نعيم لا يكدره الدهر
فصنع الله تعالى في القوارع من إخراج ما يصلح لكتابي هذا منه، فمن ذلك قوله من قصيدة في الاستعطاف والاعتذار عند تغير الصاحب عليه واستمرار الأسفار بأبي محمد:
أيا من عفوه دانى السحاب ... صدوق البرق ثقاب الشهاب
مديد الظل معقود الأواخي ... على الجانين مضروب القباب
فكيف حجبت عنك وأنت شمس ... تجل عن التستر بالحجاب
أيرتج باب عفوك دون ذنبي ... وعفوك لم يشن برتاج باب
وإعراض الوزير أشد مساً ... على الأحرار من ضرب الرقاب
ثنى غربي وفل شبا شبابي ... وصب عليَّ أسواط العذاب
ولم تبق الليالي في بقيا ... لعتب منك فضلاً عن عقابي
فهب لزيارتي خطئي، وعمدي ... لقصدي، واغتراري لاغترابي
فما في الأرض إلا من يراني ... بعين المحنق الضرم الضباب

كأني قد أثرت بهم ذئاباً ... أو استنفرت منهم أسد غاب
حصلت وكنت ضيفك في الثريا ... وصرت ولست ضيفك في التراب
أعدني للقرى واجعل جوابي ... وإيجابي جفاناً كالجوابي
وجد برضاك فهو العيش غضاً ... وكلاّ فهو ريعان الشباب
ولو زعت الحسام العضب سخطاً ... لذاب ذبابه بين القراب
أعيذك أن تصيخ إلى عدوي ... وسمعك عن هنات القول نابي
على أنّي أتوب إليك ممّا ... كرهت فرقّ لي وأقبلْ متابي
وإن لم تعفُ عن ذنبي سريعاً ... فها إني وحقِّ أبي لمابي
سألثم مكن ثراك الروض عضّاً ... ومن يمناك منهلَّ السحاب
أصبت بخاطري فأتى بشعرٍ ... عليلٍ مسَّعهُ ألم المصاب
وما لي غير مدحٍ أم ثناءٍ ... مشيدٍ أمْ دعاءٍ مستحاب
وقوله من قصيدة في معناها هي أحسن عندي من اعتذارات النابغة إلى النعمان وإبراهيم بن المهدي إلى المأمون وعلي بن الجهم إلى المتوكل:
لنار الهمِّ في قلبي لهيبٌ ... فعفواً أيها الملك المهيبُ
فقد جاز العقاب عقاب ذنبي ... وضجَّ العشر واستعدى النسيب
وفاضت عبرةً مهجُ القوافي ... وغصَّصها التذلُّل والنحيب
وقد قصمتْ عراها واعتراها ... بسخطك بعد نضرتها شحوب
وقالت ما لعفوك ليس يندى ... لنا وسماء مجدك لا تصوب
ومن يك شوط همته بعيداً ... فمثنى عطفه سهلٌ قريبُ
تجاوزت العقوبة منتهاها ... فهبْ ذنبي اعفوك يا وهوب
وأحسنْ إنني أحينتُ ظنّي ... وأرجو أنّ ظنّي لا يخيب
أترضى أن أكون لقى مقيماً ... على خسفٍ أذوب ولا تثوب
أبيت ومقلتي أبِقٌ كراها ... وفي ألحاظها صابٌ صبيب
وقيذاً لا يلائمني طعامي ... ولا ينساغ إلى الماء الشروب
صببتَ عليَّ سوطاً من عذابٍ ... يذلّ لبأسه الدهر الغلوب
وأرهقني نكيرك لي صعوداً ... من الأشجان ليس له صبوب
وما عوني على بلواي إلا ... رجائي فيك والدمع السكوب
فإنْ تعطفْ على رجلٍ غريبٍ ... فإني ذلك الرجل الغريب
عليك أنيخ آمالي فرحِّبْ ... بها، وإليك من ذنبي أتوب
وأخطر ما يريب إذا دهتني ... غوامضه إلى ما لا يريب
فأيَّةُ طربةٍ للعفوّ إن ال ... كريم وأنت معناه طروب
فإني نشءُ دارك والمغذّى ... بسيبك والصنيعة والربيب
وأُبْتُ إليك من عفوٍ مدلاًّ ... بما يقضي علاك لمن يؤوب
ولذت ببابك المعمور علماً ... بأنّ ذراك لي مرعى خصيب
وأنّ شعابه أندى شعابٍ ... إليها يلجأ الرجل الأديب
وسقت بنات آمالي إليها ... وقد حفِيَتْ وأنضاها الدؤوب
فبوئني اختصاصك حيث تجني ... ثمار العز والعيش الرطيب
ولكنْ كادني خبٌّ حقودٌ ... لعقرب كيده نحوي دبيب
وما لجموح أٌلفته جنيبٌ ... وما لشمال فرقته جنوب
ولا يشفيه منّي لو رآني ... وقد أخذت بحلقومي شعوب
بلوت الناس من ناءٍ ودانٍ ... وخالطني القبائل والشعوب
فكلُّ عند مغمزه ركيكٌ ... وكل عند مشربه مشوب
فجدْ لي بالرضا واقبل متابي ... وعذري، إنني أسفٌ كئيب
طريحٌ في فنائك مستضامٌ ... غريبٌ لا يكلِّمني غريب
أأمنع من بوادي العلم منعاً ... كأني ليس لي فيها نصيب
وأحرم من كلامك كلّ بدعٍ ... تناهبه النواظر والقلوب
فلم لا ينتهي ويكفَّ عني ... عقابك بعد ما انتهت الذنوب

وغاية ما يصير إليه شعرٌ ... إذا استعطفت أو مدحٌ مصيبُ
ومن سقيا سحابك جاد طبعي ... ولولا الغيث لم ينبع قليب
وكتب إلى أبي العلاء بن سهلويه وقد ورد بغداد رسولاً وأبو محمد بها قصيدة منها:
أأبا العلاء وردت أكرم موردٍ ... أرض العراق وأنت أنجح آيبِ
وحويت في الحالين شأوَ مبرِّزٍ ... متحرِّزٍ لم يأت غير الواجب
وخدمت شاهنشاه أحسن خدمةٍ ... رضيت وأوثقها لرأي الصاحب
أبلغ رسالتي الوزير وقلْ له ... قولاً يسهِّل لي سبيل مطالبي
ويضيء آفاقي ويمرع مرتعي ... ويحقُّ آمالي ويخصب جانبي
بحياته قسم الكرام وعهدهمْ ... لا تلوني عنه بظنّ خائب
واذكر موالاتي الصريحة إنها ... أبهى وانضرُ من عهود حبائب
وكفاك علمك بي وودّي شاهداً ... فاذكرْ خلوص عقائدي ومذاهبي
خذها إليك شذور طبعٍ لاعبٍ ... بالعشر مرتاحٍ له لا لاعبِ
وكأنه في حسنه وروائه ... نظم العقود على نحور كواعب
أهديت من حلواء باب الطلق ما ... يزري على حلواء ذاك الجانب
وأشدّ منه حلاوة شعري الذي ... سحر القلوب بسحره المتناسب
وله من أبيات عملها بديهة لينشد الصاحب:
أبيتُ قديتك إلاّ الغضبْ ... على أخويك الندى والأدبْ
وأمرضت شعري وأحرضته ... وشبّبت تشبيبةَ المقتضب
بلِ اشتكت الغرر الستئرات ... وصاحب دواوين شعر العرب
وحال الجريض دوين القريض ... وضرب اليعاسيب دون الضرب
وقد كان شعري قضى نحبه ... فامسكه عفوك المرتقب
وأنك تحنو على سرحه ... وتعزر من مائه ما نضبْ
وتوقد من ناره ما خبا ... وتطلع من نجمه ما غرب
بكى غزلي حسن ورد الخدود ... وضرَّب بين اللّمى والشنب
وأعرض منخزلاً بعد ما ... تألَّق من حسنه والتهب
فلا توحش المهرجان الذي ... بنظمي يرى السامعين العجب
وأنظم باسمك عقد الهلا ... وأنشر عنك نضار الحسب
فهبْ لي ذنبي فأنت الشفي ... ع لا غير والمرء مع من أحبّ
وردَّ إليَّ نعيم الرضا ... ولا تصلّني بحجيم الغضب
وما لي ذنبٌ فإن كان لي ... فذنب حقيرٍ قصير الذنب
متى يرض عنّي الكفاة ... بلغت المراد ونلت الأرب
وله من صاحبية ذكر فيها برءه من مرض عرض له:
كذبت سعود المشتري فلو أنها ... حرمتْ سعادة جدّه لم تنجحِ
ما مسّه ألمٌ ولكن هزَّهُ ... ما هزَّ إفرند الحسام المصفح
نفض الأذى عن جسمه والروض قدْ ... ينقي الهشائم وهو غير مصوّح
ما بحت عنه سوى قذىً والعين لا ... تصفو من الأقذاء ما لم تضرح
عادت سلامته وأظهر دهره ... ندم المنيب وتوبة المستصفح
ومن أخرى:
ما زلت أعتسفُ المهامه والفلا ... وأواصل الأغوار بالأنجادِ
حتى نأيت عن الحواضر ملقياً ... رحلي بوادٍ في تخوم بوادي
فإذا بسعدي وهي بدرٌ طالع ... من فوق غصنٍ في نقاً منهاد
وطرقتها وعداتها رقباؤها ... في صورة المرتاب لا المرتاد
فحللت منها حيث كان وشاحها ... درعي وساعدها الوثير وسادي
وجناؤها حصني وساحر طرفها ... سيفي وفاحمها الأثيث نجادي
وعقاصها الموصول زهرة روّضتي ... ورضابها المعسول صوب عهادي
حيث الصبا عبق الحواشي مونقٌ ... تزهى بناعم غصنها المياد
والروض أحوى والحمائم هتَّفٌ ... والظلُّ ألمى والقيان شوادي
ولها ديارٌ غير شرقيِّ الحمى ... شحطت وشطّت عن لقاء أعادي

دارٌ بذي الأرطى ودارٌ بالغضا ... أخرى ودارٌ باللوى المنقاد
لو فاخرت ذات العماد بيوتها ... عادتْ مقوَّضةً بغير عماد
لا تكذبنَّ فما لها دارٌ إذا ... أنصفتني إلاّ صميم فؤادي
فلذاك لا تسقي السحائب أرضها ... إلاّ بردن حرارة الأكباد
ما أبدع هذا المعنى وأبرع هذا اللفظ!! وقد سبق إلى معنى البيتين ولكنه أبدع في الجمع بينهما وأحسن ما شاء.
ومنها:
ولرب ليلٍ لم أنمْهُ، ومقلتي ... مطروفةٌ مطروقةٌ بسهاد
شوقاً إلى نادٍ جنى ريحانه ... لمع القريض ونغمةُ الإنشاد
نادٍ تجلّى عن مقرِّ سريره ... قمرٌ أناف على البسيطة بادي
كافي الكفاة المستجار بظلّه ... والمستضاء بعزمه الوقّاد
ملكٌ محبَّته سلافة مزنةٍ ... ملكت مع الأرواح في الأجساد
ملكٌ يقال له حماد إذا التقت ... قحم السنين ولا يقال جماد
وهي طويلة، وما من أبياتها إلا غرة أو درة.
ومن أخرى:
ولما تنسَّمنا صبا صاحبيةٍ ... تعيد عجاج الجوّ وهو عبيرُ
تركنا لظى الرمضاء وهي حديقةٌ ... ندىً وحصى المعزاء وهي شذور
ونلنا هشيم النبت وهو منوّرٌ ... وردنا قتاد الأيك وهو حرير
ومنها:
وزيرٌ ومما يعجب المجد أنه ... وزيرٌ عليه للسماح أمير
ويخطب من فوق الثريّا بفخره ... فلا تعجبوا إنّ الخطيب خطير
لوى الراسيات الشمَّ أيسر سخطه ... ويكفي من السمِّ النقيع نقير
وذلَّل أعناق الليالي بهمّةٍ ... لها مرقبٌ فوق الأثير وثيرُ
وخمَّرَ رأياً لم يشطَّ ثباتُه ... فطورٌ ورأي الأكثرين فطير
له القاضيات الماضيات مهنّدٌ ... مبيرٌ وعزمٌ كالشهاب منير
وما كان للجوزاء لولا جوازه ... مجازٌ وللشعرى العبور عبور
تسعده الأقدار فيما يريده ... وتسعده الأفلاك كيف تدورُ
أواري بكرّ أبّاد صفْ صعداته ... وقد عقدت منها عليك حبور
وصفْ بأسه إذ ظلّ يصدم وحده ... ثلاثين ألفاً والجسور جسور
سبحان الله! ما أشرف هذا الكلام وأعلاه وأجله!! ومنها:
وألويةُ النصر المبين خوافقٌ ... تطيح بأشتاب العدا وتطير
وقد كشّرت عن نابها أمُّ قشعمٍ ... وللموت في وجه الكمِّي هرير
وفي يده اليمنى ثوابٌ وجنّةٌ ... وفي يده اليسرى ردىً وسعيرُ
ولي مِدَحٌ فيه غوادٍ روائحٍ ... أشيد مدى عمري بها وأشير
ووصف نسيبٍ لو أعير كثيراً ... لوفِّيَ تعظيماً وقيل كثير
وله من قصيدة في فخر الدولة:
سقى الله أياماً بشرقسِّ منبجٍ ... إلى العلم الأقصى بغربي منعَّجِ
إلى الحيرة الغنّاء مطمح ناظري ... ومسرح آمالي ومسرى تفرُّجي
منازل لو لم تخطُ سعدي بأرضها ... لما اهتزّ غصنٌ في نقا مترجرج
ولا راق درٌّ فوق أشنب واضحٍ ... ولا راع سحرٌ تحت أكحل أدعج
ولم يتحدَّرْ طلّ نرجسِ مقلةٍ ... على صفحتي تفّاح خدٍّ مضرَّج
عشية هزّت للوداع فأودعتْ ... محاسنها أعطاف جذعٍ مدبَّج
فكم غَرِدٍ لما استقلّ ركابها ... حدا طرباً والليل غضبان مدَّجي
وكم ثملٍ من نشوة الحبِّ يرتعي ... هوى عامرٍ ما بين حجلٍ ودملج
أقول وقد لاحت عوالي خيامها ... وفاحت غوالي روضها المتأرّج
أيا طارقي أحججْ ويا رائدي ابتهجْ ... ويا سابقي عرّج ويا صاحبي عجِ
ويا عبرتي كفّي ويا ناقتي قفي ... ويا شيبتي احتجي ويا صبوتي ادرجي

فقد كتبت أيدي المشيب مواعظاً ... بخطٍّ على فوديَّ غير مسبّج
ولئن كنت في بردٍ من العيش مبهجٍ ... لقد صرت في طمرٍ من الشيب منهج
ولذت من الدهر العسوف بحضرةٍ ... تحاط بأطراف الوشيج المزجَّج
هي الحضرة الغناء تهتزُّ نضرةً ... وتزري بأنواع الربيع المثجَّج
هنالك لا زند الرجاء لمرتجٍ ... بكابٍ ولا باب العطاء بمرتجِ
هكذا فلتمدح الملوك، وأبيات هذه القصيدة فرائد كلها، وقد كتبت أنموذجاً منها.
وله من أخرى في وصف الربيع:
طلع الربيع فقال للأرض اشكري ... نعم السماء وأبدئي وأعيدي
فغدتْ حدائقها تواصل شكرها ... بلسان كلّ مطوّق غرِّيد
روضٌ إذا نشرت طرائف وشيهِ ... طويتْ لها أبراد آل يزيد
ريّان لم يعثر نسيم صبابتي ... في ظلّها إلا بورد خدود
واعتلَّ نرجسه فعادته الصبا ... أحسِنْ بنظرة عائدٍ ومَعُود
وببلِّ مسكيِّ الصعيد معنبرٍ ... من مزنةٍ حثّت بجيش رعود
وزففت حرَّة مدحةٍ فخريةٍ ... تركت عبيداً وهو بعض عبيدي
وأنا الذي أجلو معاني مدحه ... زهراً طوالع في سماء قصيدي
يتنافس السحر الحلال، وتارةً ... يتناثر العثيان حول نشيدي
فليفترغْ أبكار لذّاتِ المنى ... وليضؤع الراقود للناجود
راحاً إذا كمنت جلتْ من حجبها ... فوق الخدود طلائع التوريد
ولتجلُ دولته عروساً كلَّلتْ ... علياه مفرِقَها بتاج خلود
وله من أخرى:
سمراءُ تخطر في الوشاح المذهب ... وتميس بين ربائبٍ أو ربربِ
هيفاء تعذل كلَّ يومٍ مرّةً ... شمس الضحى وتردّها في مغرِبِ
عقدت لواء الحسن ليلة أقبلتْ ... في موكب الفتيان أعجب موكبِ
غي ليلةٍ لو لم تجدْ بتبسّمٍ ... لم ينتطق خصرُ السماء بكوكب
خجلت وقد وجلت فهاك شقائقاً ... مغروسةً في أرض عاجٍ مذهب
وأرى الشباب إذا تطامن شرخه ... لتغيُّرٍ فقدِ انثنى لتغيُّبِ
ولئن أطلت فقد أطبت وإنني ... رجلٌ متى أصفُ المعالي أطنِب
أطري وأُطرب منشداً فليستعْ ... شاهانشاه نشيد مُطْرٍ مطرب

أبو العلاء الأسدي
قديم الصحبة للصاحب، شديد الاختصاص به. ممتد الغرة والتحجيل في شعرائه وصنائعه وندمائه. وكان يحبه ويأنس به. ويكاتبه نثراً ونظماً كقوله له:
قلبي على الجمرة يا أبا العلا ... فهل فتحت الموضع المقفلا
وإياه يعني بقوله:
أبا العلاء هلال الهزل والجدّ ... كم النجوم التي يطلعن للجدّ
وإليه كتب " أبا العلاء شيخي، أين ذلك الميعاد؟ وأين تلك العهود سقتها العهاد؟ وأين ليالينا بحزوى، وتصاببنا على أروى؟ بل أين الصبا وما ملك؟ وأين الشباب وأية سلك؟ وإذ قد غاب جميع ذلك مغيب الخيال الطارق، والضيف المفارق، فأين كتبك التي هي ألذ من انتهاء النفس إلى رجائها، وابتداء العين في إغفائها " من كتاب غير قصير.
فأما شعر أبي العلاء فليس بالمحل العالي، لا سيما في المدح، وقلة عيونه تمنع من إيراده يعد قلائد ولديه أبي سعيد وأبي محمد، ولما كان بعيد الصيت في أصحاب الصاحب لم أجد بداً من ذكره وكتابة ملح من أملح شعره.
أنشدني أبو بكر الخوارزمي، قال: أنشدني أبو العلاء لنفسه، قال: وأراه عرّض بالصاحب:
وربَّ كريمٍ تعتريه كزازةٌ ... كما قد رأيت الشوك في أكرم الشجرْ
وربَّ جوادٍ يمسك الله جوده ... كما يمسك الله السحاب عن المطرْ
وأنشدني غيره له:
سيسألني صديقي عنك فيما ... يدور من المسائل والحكايه
فأطرقُ إن سئلت لغير شطوى ... وإطراقي أشدّ من الشكايه
وله أيضاً، وهو ما يتغنى به:
لا لعمري ما أنصفوا حين بانوا ... حلفوا لي أنْ لا يخونوا فخانوا

شتّتوا بالفراق شملي ولكنْ ... جمعَ الله شملهم أين كانوا
وله في المجون:
أنا والله أشتهيك فكن عن ... تراً إن شئت أو كعمرو بن معدي
وتفارسْ إن شئت أو فتراجلْ ... ليس هذا مما يضرّك عندي

أبو الحسن الغويري
هو في الاختصاص بالصاحب، والاشتهار في أصحابه، كأبي العلاء، وكان كثير الشعر، قليل الملح، وكانت في خزانة الأمير أبي الفضل عبيد الله بن أحمد كجلدة ضخمة الحجم من شعر الغويري بخطه، فاستعرتها واجتمعت أنا وأبو نصر سهل بن المرزبان على إخراج ما هو شرط كتابي هذا منها، فما أقل ما حصلنا عليه من ذلك. ولم نجد له خيراً من الأبيات الدارية التي مرت في أخواتها، ومن أشف ما وقعت العلامة عليه من ذلك قوله في الاعتذار من هفوة السكر:
بالله ربِّ السماء ... بخاتم الأنبياء
بسيّد الأوصياء ... بزوجه الزهراء
بالبيت والبطحاء ... بالقبر في كربلاء
حلفت ما ليَ ذنبٌ ... الذّنب للصهباء
وليس لي من شفيعٍ ... إليك غير رجائي
فكنْ محقِّق ظنّي ... يا غرَّة الوزراء
فجرح سكري جبارٌ ... كالجرح من عجماء
وقوله في الصاحب والبيت الأخير مضمن:
قل للوزير مقالةً عن واجدٍ ... يا من نداه كالفرات الزائد
ما لي حرمت من الأمير نواله ... وسواي يكرع في الزُّلال البارد
ما ضاقت الدنيا عليَّ بأسرها ... حتى تراني راغباً في زاهد
وقوله من قصيدة ربيعية:
أيُّها الصاحب الربيع تجلّى ... في رياضٍ تحارُ فيها العقول
نرجسٌ ناضرٌ وأحمر وردٍ ... وشقيقٌ يزينه التكحيل
وغصونٌ تجرُّ أذيال نورٍ ... في حواشي جداولٍ وتميل
للزرازير في خلال الأزاهي ... ر صفيرٌ وللحمام هديل
فأقمْ رسمنا صبيحة نيرو ... زٍ به ربع أنسنا مأهول
بكؤوسٍ مملوءةٍ من مدامٍ ... أنت فيها لمن حساها عذول
واجتنبْ جلسة الثقيل إليها ... فعلى الشرب لا يخفّ الثقيل
وله من مهرحانية:
أسيوفُ الهند سلَّتْ ... أمْ ظبا أجفان هند
يا لأيام الصبا والعي ... ش في أكتاف نجد
ربّ حسناء رداحٍ ... ألصقت خدّاً بخدِّ
أطبقتْ صفرة دينا ... رٍ على حمرة ورد
أيها الصاحب عليا ... ك على الأيام تعدي
وعلى جدواك قد عوّ ... لت في حَلِّي وعقدي
مهرجانٌ ثغره يف ... ترُّ عن يمنٍ وسعد
ورده وردُ جسادٍ ... فاح عن مسكٍ وندِّ
فابقَ ما شئت كما شئ ... ت لتنويلٍ ورفد
وله:
يا أيها الشيخ الذي ... هو مشتكاي من البشرْ
أصبحت أختار العمى ... في ناظريَّ على البصر
أسفاً على عمرٍ يك ... دِّره لقاء أبي عمرْ
الباب السادس
في ذكر الشعراء الطارئين على حضرة الصاحب من الآفاق
الشعراء الطارئون على حضرة الصاحب
سوى من يقع ذكره منهم في أهل خراسان وطبرستان فإن لهم باباً مفرداً في هذا الربع الثالث، وسوى أبي طالب الماموني، وأبي بكر الخوارزمي، وبديع الزمان أبي الفضل الهمذاني، فإن لذكر كل منهم مكاناً في الربع الرابع.
أبو الحسن علي بن محمد البديهي
من شهرزور كثير الشعر، نابه الذكر، خليفة الخضر. سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: وقد جرى ذكره بين يديه، إنه كان لا يرجع من البديهة التي انتسب إليها وتلقب بها إلا إلى لفظة الدعوى، دون حقيقة المعنى، وفي ذلك يقول له الصاحب:
تقول البيت في خمسين عاماً ... فلم لقَّبتَ نفسك بالبديهي
ثم أقبل عليّ وقال: أنا أقول في البديهي ما قاله الجاحظ في عمرو القصافي زعم أنه قال الشعر ستين سنة فلم يسر له هذا البيت الواحد:
خوصٌ نواجٍ إذا جدّ الحداة بها ... رأيت أرجلها قدَّام أيديها

وكذلك البديهي قال شعراً كثير العدة، في زمان طويل المدة، فم يستملح له إلا هذا البيت:
أتمنّى على الزمان محالاً ... أن ترى مقلتاي طلعة حرِّ
وهذا الحكم منه فيه حيف شديد على البديهي، فليس شعره في سلامة المتون وقلة العيون على ما ذكره، والبيت الذي أشار إليه من أبيات بديعة أولها:
ربَّ ليلٍ قطعته باجتماعٍ ... مَعَ بيضٍ من الأخلاّء غرِّ
وكأن الكؤوس زهرُ نجومٍ ... والثريّا كأنها عقد درِّ
مرّ من كنت أصطفيه وللده ... ر صروفٌ تشوب حلواً بمرِّ
ومن سائر شعر البديهي قوله:
يا شهرزور سقيت الغيث من بلدٍتودُّ وجداً به أنّا نقابلُه
طال الفراق فلا وافٍ يراسلنا ... على العباد ولا آتٍ نسائله
وله من قصيدة صاحبية وكان الصاحب أخذه معه من بغداد إلى أصبهان أولها:
قد أطعتُ الغرام فاعصِ العذولا ... ما عسى عائبُ الهوى أنْ يقولا
وصحبناه في فيافٍ فقارٍ ... كاد فيها الخليل يجفو الخليلا
فبلونا منه دماثة أخلا ... قٍ أعادت تلك الحزون سهولا
وأوينا إلى رحابِ رحابٍ ... لم نجد للعفاة عنها عدولا
وله من تشبيب قصيدة:
ولم أرَ لي يوم الرحيل مساعداً ... على الوجد حتى أقبل الدمع مسعِدا
وكان دماً فابيضّ منه احمراره ... بنار التصابي حين فاض مصعِّدا
أخذه من قول من قال:
أرابك دمعي إذ حرى فحملتني ... من الضرّ والبلوى على مركبٍ صعب
فلا تنكرنّ دمعي فإنما ... يبيّضها تصعيدها من دم القلب
وللمعروفي بالفارسية في معناه.
خون سيبد بارم بردورخان زردم ... آرى سبيذ باشذ خودل معد
وله من قصيدة أخرى ذكر فيها حسن أيامه:
كيف تقضي ليَ الليالي قضاءَ ... يشبه العدل والليالي خصومي
ربَّ ليلٍ قطعته في هوى الشع ... ر كأنّ الشعرى العبور نديمي
فتأمّل فلست في الخلق والخل ... ق المرادين بالذميم الذميم
أنا من آلة الندى فلو أحضرتن ... ي لم يعب نداماك خيمي
يُرتضى مشهدي ويؤمن غيبي ... وأرى في الملمِّ غير مليم
ومن نوادر شعره قوله:
لمّا أتيتك زائراً ومسلِّماً ... خرج الغلام وقال إنك نائمُ
فأجبته أَبِلا لحافٍ نائمٌ ... هذا المحال وأنت عندي ظالم
أنت اللحاف فكيف تطعم عينه ... طعم الرّقاد وأنت عنه قائم
فتضاحك الرشأ الغرير وقال لي ... أو أنت أيضاً بالفضيحة عالم
والله ما أفلتَّ منه ساعة ... حتى حلفت له بأني صائم
وما يتغنى به من شعره قوله:
ذريني أواصل لذّتي قبل فوتها ... وشيكاً لتوديع الشباب المفارق
فما العيش إلا صحة وشبيبةٌ ... وكأس وقربُ من حبيبٍ موافق
ومن عرف الأيام لم يغترِزْ بها ... وبادر باللذات قبل العوائق

أبو القاسم الزعفراني عمر بن إبراهيم
من أهل العراق، شيخ شعراء العصر، وبقية ممن تقدمهم، واسطة عقد ندماء الصاحب، وما هم إلا نجوم الفضل وهذا منهم كالبدر، وكانت له في صحبته وخدمته هجرة قديمة، وله حرمة وكيدة، وحاله عنده كما قرأت في كتاب له وأما شيخنا أبو القاسم الزعفراني أيده الله فصورته لدى صورة الأخ، أو وده أرسخ. ومحله محل العم، أو اشتراكه أعم.
وكان - مع حسن ديباجة شعره، وكثرة رونق كلامه، واختلاط ما ينظمه بأجزاء النفس لنفاسته - لين قشرة العشرة، ممتع المؤانسة، حلو المذاكرة، جامعاً آداب المنادمة. عارفاً بشروط المعاقرة، حاذقاً بلعب الشطرنج، متقدم القدم فيه، وحين سرى في طريق الرشد بمصباح الشيب، وساعد الصاحب على رفض الشراب، ونفض تلك الأسباب، أراده فخر الدولة على مجالسته وأخذه بفضّ ختام توبته، ودرّت عليه بحسن رأي الصاحب سحائب إنعامه، وأجنت له ثمرات إكرامه، ففي ذلك يقول من قصيدة:

هاتها لا عدمت مثلي نديماً ... قهوةٌ تنتج السرور العقيما
قد أطعتُ الأمير إذ سامني الشر ... ب ولم أعصِ أمره المحتوما
وتخطّيت توبتي في هواه ... فوصلتُ التي هجرتُ قديما
قرقفاً تنتمي إلى الشمس لا تعر ... ف في جنسها الكرى والكروما
خالفت دنَّها الغليظ فرقَّتْ ... واستفادت من السموم نسيما
كُرمتْ عنصراً فلو مُتَّ فيها ... أبخل الناس غادرته كريما
وكأني لما رجعت إليها ... كنت من كلّ لذّةٍ محروما
كم عقارٍ صليت منها بنارٍ ... فحكيت الخليل إبراهيما
وكؤوسٍ شربت منها سروراً ... كاد يهوي والجلد ينمي هموما
قد وجدت الروض الأريض حميماً ... ووجدت الخسيف عاد حموما
شافهت بي مناي بالقرم فخر ال ... دولة اليوم جنّةً ونعيما
وبلغت الذي تمنيت واستخدم ... ت فاخترت مجلساً مخدوما
ورآني الأمير أيَّده الل ... ه لبيباً فقال كنْ لي نديما
جل الرزق موضعي ورأى آ ... ثار شاهنشاه فصار عليما
أرشدته إليَّ كفُّ كريمٍ ... ألزمته أنْ لا يكون لئيما
وكان قد نادم أخاه عضد الدولة، وله فيه القصيدة الشطرنجية التي لم يسبق إلى مثلها، وه نهاية في الحسن والظرف، فمنها:
لي فؤادٌ لو أنه لي غريمٌ ... كان عذري لديه أني عديم
وأنا مبتلىً بقلبي الذي أقع ... د فيما يسومني وأقوم
ليس يدري لجهله وهو يقضي ... أن كلّي بما جناه زعيم
غصبتني عليه خودٌ وقالت ... أنا من قد عرفت واسمي ظلومُ
هو ثأرٌ نالته يمنايَ فاطلب ... ه بحربٍ يشيب فيها الفطيم
وانثَنَت بي إلى مجالٍ فسيحٍ ... تدمنُ الركض فيه زنجٌ وروم
فأقمنا صدور فرسان حربٍ ... خلف رجّالة لها لا تريم
وإذا استقدمتْ تقدَّمت الخي ... ل وطاب الطراد والتصميم
فالتقى العسكران في حومة النق ... ع أسودٌ على أسودٍ تحوم
كل فيلٍ نُجّت من الصلم أذنا ... ه وأودى ناباه والخرطوم
وطمرٍّ إذا علته العوالي ... غاب فيها وعاد وهو سليم
فاختلطنا وجال في الحرب فرزا ... ني وقال الكميّ من لا يخيم
ثم نادى شاهي برخيه كرّاً ... ليس بعد الوقوف إلا الهجوم
فأحاطا بشاهنا في مضيقٍ ... ضاق ذرعاً بمثله المكظوم
ثم أزعجته بفيلي فولّى ... مستكيناً كما يولّي اللئيم
وكشفت العراء عن وجه رخيٍ ... فعراه الحمام وهو مليم
فتخفّتْ من الحياء وغطّت ... ورد خدٍّ كأنه ملطوم
ثم قالت خذِ الفؤاد سليماً ... إن حبس المرهون عارٌ ولوم
ولشتّان بين خيلي في الغ ... ي وخيل صراطها مستقيم
قارع الدهر فوقها عضد الدو ... لة حتى انتهى إلى ما يروم
فأباد العدا وقلم به الديّ ... ن وركن الخلافة المهدوم
وستقرّت به زلازل بغدا ... د وعاد الخليفة المظلوم
ومن غرر قصائده في فخر الدولة:
لو عاينتْ عيناك بركةَ زلزلِ ... ونزلت من عرصاتها في منزل
عمرْتَ دور قيانها بك جامعاً ... بين الغزالة والغزال الأكحل
وبسطتَ كفيَّ باذلٍ متخرِّقٍ ... فأقمت غير محلىءٍ عن منهل
وسمعت ما يدعو النفوس إلى الهوى ... طرباً ويفتح كلّ قلبٍ مقفل
وشربتَ صافيةً كأنّ شعاعها ... لهبُ الحريق من الرحيق السلسل

وغدوت مخموراً جنيب هوىً إلى ... حِجْرِ الجواري غدوة المتغزّل
فسرحْتَ بين قدودها وخدودها ... ونهودها طرف الشجيّ المتأمل
وملكت منهنّ التي لو أنها ... طيفٌ لفزت بقربه المتخيِّل
وثويتَ في قفرٍ بشاطئ دجلةٍ ... ما بين مزمارٍ وعودٍ معمل
متنقّلاً من روضةٍ مهضوبةٍ ... حلّت إلى الروض الذي لم يحلل
ورقدتّ بالنجميِّ رقدة شاربٍ ... تحت الغصون وحملها المتهدّل
وسباك صوت خرير ماءٍ سائحٍ ... وشجاك تغريدُ الحمام المهدِلِ
وسعيتَ سعياً في البطالة والصبا ... لم يدر دمعك في محلٍ محول
ولقت واأسفاً على القصف الذي ... لم أجنه بالقفص أو قطربُّل
لا أتبع الأعراب إنْ هم قوّضوا ... من مجهلٍ حتى أحطَّ بمجهل
وصرير أرجاء السّرير بمسمعي ... أحلى بقلبي من صرير المحمل
فالكرخ دار اللهو أعذبُ مشرعاً ... من مشرعٍ يختصُّ دارة جلجل
لا درَّ درُّ العيش في متربّعٍ ... بمخيَّمٍ بين الدخول فحومل
خفضُ عليك وكلُّ خفضٍ إنما ... أوقاته فرصٌ تعنُّ لمعجل
والعيش عندي ما حبيت بدرّه ... في ظلّ مغشيِّ الجناب مؤمَّل
قد ألقت الدنيا أزمّتها إلى ... ملكِ الملوك عليَّ بنِ أبي علي
فاطربْ سروراً بالزمان وحسنه ... واشرب على إقبال دولة مقبل
وقوله من نيروزية:
بي سكرٌ ما ولَّدتْهُ العقار ... ليَ جسمٌ للعين عنه ازورارُ
أنا من غادرته أيدي المطايا ... والرزايا شعاره والدثار
أيها الليل عقَّهمْ بدياجي ... ك وهيهات ذاك فيهم نوار
غادةٌ ما دجا عليها ظلامٌ ... قطُّ إلا ليلٌ علاه خمارُ
يا ربيع الربيع للعيش من بع ... د اصفرارٍ براحتيك اخضرار
لا يحول الذي بكفِّك يسقي ... بل يحول الذي سقاه القطار
فهنيئاً بطيب فصلٍ ويومٍ ... زار فيه نيروزك الزوّار
يخصب المجد في ذراك وتخضَ ... رُّ الأيادي وتورق الأخبار
وتغنِّيك في النديِّ طيورٌ ... أنا وحدي من بينهن الهزار
ومن غرر قصائده الصاحبية قوله من قصيدة:
وليلٍ دعاني فجره فلقيته ... بمجلسٍ طلق الوجه سهل التخلُّق
إذا شئت خضنا في حديث منمنمٍ ... وإن شئت عِمْنا في رحيقٍ معتَّق
يردّ شبابي وهو عنّي شاسعٌ ... ويدني التصابي بعد ما شاب مفرقي
ومنها في المدح:
لقد أعتقتني نعمةٌ لك أطلقتْ ... يمينيَ بعد اليأس من قدِّ موثق
فإنْ أنتسب كان انتسابي إلى أبي ... وكان ولائي بعد ذاك لمعتقي
ومن أخرى:
وصرت إلى الباب الذي ليس دونه ... حجابٌ ولا كفٌّ تردُّ من اجتنى
فما شمت إلاّ بارقاً كان صادقاً ... ولا رحت حتى عِمْتُ في أبحر الغنا
وقوله من أخرى:
مُسَدَّدٌ ضربت أيام دولته ... على عيون أعاديه بأسداد
هدى إلى الحق وانهلت يداه ندىً ... فهو الدّليل يعين السَّفْرَ بالزّاد
لي عند جرجان ثأرٌ سوف أطلبه ... بكلِّ رحب القرى أو مشرفِ الهادي
حتى أراه فأستغني برؤيته ... عمّا رويناه عن قومٍ بإسناد
وقوله فيه، وقد أزمع الورود عليه والطريق مخيفة:
يا شوقُ قد قَرُبَ السفر ... ودنا الرحيل المنتظر
وغدا بإذن الله أو ... تاليه يظهرُ ما استترْ
ويسير بي التيسير في ... زمرٍ بأيديهم زبر
وسيراً يبشِّر بالسعا ... دة والسلامة والظفر
سينيف بي الفرس الأغ ... ر غدا على الملك الأغرّ

يا حادييَّ ليقَّنا ... أني أفارق من فتر
وينال رفدي منكما ... ماضٍ يقهقه إنْ عثر
لا يقشعر إذا دنا ... منه الغضنفر أو زأر
وِرْدي ووردكما سرى ... ينسيكما ذكر الصدر
إن جال في عيني الكرى ... رفقاً فأعقبها العور
لا زلت أبدع في السّرى ... فعلاً تعاظمه القدر
وأشقُّ قلب الليل عن ... ولدٍ يقال له السحر
حتى يقول الحزن لي ... والسهل لست من البشر
وتقول خوص تجائبي ... لا خاب سعيك يا عمر
إن الجليل من الثوا ... ب لمن يدقِّق في النظر
سأغضُّ عن زهر الكوا ... كب أو يعنُّ ليَ القمر
إني أخفُّ إلى البحو ... ر ولا أسفُّ إلى المطر
وإذا لقيت الصاحب ال ... مأمون أدركت الوطر
وإذا جلست علوت دي ... باجاً وسائده بدر
وإذا ركبت مشى عبي ... دي في المناطق والحبر
وإأقيم مبتسماً إقا ... مة من يزاد إذا شكرْ
في نعمةٍ تصفو عليّ ... به وأخرى تنتظرْ
ذكروا فسادَ طريقنا ... واستشعروا منه الحذر
قلتُ اركبوه على الذي ... فيه وإن عظُم الخطر
فالله خيرُ حافظاً ... واسمُ الوزير لنا وزر
إن كان غاب فخوفه ... في كل قلبٍ قد حضر
ملكٌ تخرُّ له الملو ... ك الصيد من مدِّ البصر
فالطيب فوق لحاهُمُ ... وجباههم تحت العفر
وأجلّهم من حدَّ من ... ه إليه في وقت النّظر
جرجان ما نصبي ولا ... دأبي إليك على غرر
فيك الذي من ماله ... لحمي وجلديَّ الشعر
لولا ابنُ عبادٍ رأي ... ت الصبر أفضل مدّخر
وسلكت في زهدٍ عن ال ... دنيا سبيل من انزجرْ
واعتل قبل ورده ووصله بهذه القصيدة:
قد كنت أحسب أن عين ... ي سوفُ تظفر بالنظرْ
وفمي سيلثم أخمصي ... ك وما وطئت من العفر
وإذا بلغتك سالماً ... في النفس أدركت الوطر
حتّى منيت بعائقٍ ... ينهى العليل عن السفر
حمّى يعاضدها السعا ... ل وما برجلي من خدر
ولعلَّ سيدنا إذا ... عرف المقوِّق لي عذر
وقوله من أخرى في فخر الدولة:
حبيبٌ عليه من سناه رقيبُ ... يصدُّ الدُّجى عن وجهه فيغيب
تيمَّمني والليل في طرقاته ... فلما تبدّى حال عنه مريبُ
تحمَّل لوم الشمس فيه وجاءني ... هلال عن البدر المنير ينوب
فكان لراحي وارتياحي ومجلسي ... وكلي بطيب الوقت منه نصيب
وساعدني ليلي وأرخى سدوله ... وهبَّ نسيمٌ للحياة نسيب
وأنعمتَ حتى ليس يشتاق عاشقٌ ... حبيباً ولا ينوي الإياب غريب
ومنها في المدح:
ومزمعٍ حجّ ينثني عنك ماضياً ... ويذكر ما أوليته فيؤوب
عممتَ الورى بالبرّ حتى كأنما ... يردُّ عليهم من لهاك غصزب
وعرَّفتهم طرق الثناء فكلُّهم ... على طبقات شاعرٌ وخطيب
رأى المزن ما تعطي فضمَّ على الأسى ... فؤاداً كأن البرق فيه طبيب
وكم لاح برقٌ وابتسمت لشائمٍ ... فكنت صدوق الوبل وهو كذوب
وقوله من أخرى فيه:
يا سامع الزُّور فيَّ لي ذِمَمُ ... منها الضّنى في هواك والسَّقمُ
أنت الذي دِنْت بالسّجود له ... حتى لقد قيل ربُّه صنم
ولي فؤادٌ غدوت مالكه ... بلا شريكٍ فليس ينقسم
حتى إذا صرت في ذرى فلك ال ... أمة حيث التقتْ به الأمم
خيَّمتُ في دولةٍ مجدّدةٍ ... خيّم فيها الوفاء والكرمُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11