كتاب : يتيمة الدهر
المؤلف : الثعالبي

فتىً تطرب الألحان من شرفٍ به ... ويسكر منه الخمر وهو مفيق
كأنه نسجه على منوال قول القائل:
ريحان ريحانه إذا ورد ال ... روض، ومنه تأدبّ الأدبُ
تشربه الكأس ليس يشربها ... يطرب من حسن وجهه الطرب
وبعد قوله فتى تطرب الألحان قوله:
ولو شئت علّمت المكارم شيمتي ... ولكنّني بالمكرمات رفيق
أخاف عليها أن تجود بنفسها ... إذا ما أتاها في الزمان مضيق
وقال أيضاً:
ومغرور يحاول نيل عرضي ... فقلت له: الكواكب لا تنال
يعاين في المكارم فيض كفّي ... ويزعم أنه ذهب النوال
ويعجب أن حويت الفضل طفلاً ... ألا الله ثم لي الكمال
أحمّل ضعف جسمي ثقل نفسي ... ونفسي ليس تحملها الجبال
وأسمع كلّ قولٍ غير قولي ... فأعلم أنّه خطل محال
وقال من قصيدة:
رضينا وما ترضى السيوف القواضب ... نجاذبها عن هامكم وتجاذب
فإياكم أن تكشفوا عن رؤوسكم ... ألا إنّ مغناطيسهن الذوائب
أقول لسعدٍ والركاب مناخة ... أأنت لأسباب المنيّة هائب
وهل خلق الله السرور فقال لا ... فقلت أثرها أنت لي اليوم صاحب
وخلّ فضول الطيلسان فإنّما ... لباسك هذا للعلا لا يناسب
عمائم طلاّب المعالي صوارمٌ ... وأثواب طلاب المعالي ثعالب
ولي عند أعناق الملوك مآرب ... تقول سيوفي هنّ لي والكواثب
خلقنا باطراف القنا لظهورهم ... عيوناً لها وقع السيوف حواجب
أؤمل مأمولاً يغير صدورها ... فواخجلتا إنّي إلى المجد تائب
وله من قصيدة في صباه:
تضاءل الدهر حتى ضاع هممي هممي ... واستفحل المجد حتى صار من شيمي
فلو يكون سواد الشعر في ذممي ... ما كان للشيب سلطانٌ على اللّمم
فالعيش من نعمي والموت من نقمي ... وحكمة الفلك الدوار من حكمي
والحزم والعزم في الأقوام من خلقي ... كما الفصاحة في الأقوال من كلمي
لو يعلم الناس قدري في زمانهم ... صلّوا لوجهي واشتاقوا ثرى قدمي
ما زلت اعطف أيامي وتمنحني ... نيلاً أدقّ من المعدوم في العدم
حتى تخوف صرف الدهر بادرتي ... فرد كفّي وأوما أن يسدّ فمي
أذمّ كلّ خليلٍ بات يحمدني ... أنا الذي ماله خلّ سوى الندم
وليس سؤلي يا قلبي سوى رهجٍ ... تجوده من دم الفرسان بالدّيم
وقال:
وعنفني في موكب الموت معشرٌ ... وقالوا أيهوى الجدب من هو في الخصب
وإني لأدري أنّ في العجز راحةً ... وأعلم أن السهل أوطا من الصعب
ولو طلب الناس المكارم كلّهم ... لكان الغنى كالفقر والعبد كالرّب
ولكن أشخاص المعالي خفيّةٌ ... على كل عين ليس تنظر باللّب
لقد زادني حرب الزمان تجارياً ... فلا عشت في يوم يمرّ بلا حرب
ومن يك يعتاد الكروب فؤاده ... فإنك يا قلبي خلقت من الكرب
وقال:
وأنا البصير بكل علم غامض ... وإذا رأيت مذلّة فأنا العمي
والذلّ أثقل من جبال تهامةٍ ... عندي وأعذب منه سمّ الأرقم
وقال:
إذا استروح الغمر من همّه ... هربت إلى الهم مستروحا
وإني على شغفي بالمدي ... ح لست أسرّ بأن أمدحا
وما ينقم الدهر شيئاً علي ... سوى أنفي منه أن أفرحا
وقال من قصيدة:
وآخذ عفو العيش لا استكدّه ... لحى الله غنماً يستفاد مع الغرم
فإن كنت أرضى بالبشاشة منكمُ ... ويستر عدمي شيمتي وتكرّمي
فربّ جوادٍ قيد الفقر جوده ... ومبتسمٍ تعبيسه في التبسّم
وله من أخرى:

وهل ينفع الفتيان حسن جسومهم ... إذا كانت الأعراض غير حسان
فلا تجعل الحسن الدليل على الفتى ... فما كلّ مصقول الحديد يماني
وله من أخرى:
حتى م نقدم والأيام تغلبنا ... وغيرنا يغلب الأيام بالفشل
يا أهل بابل عزمي قلبه فكري ... في النائبات وسيفي بعده عذلي
وعندكم نعمٌ عندي مصائبها ... لكم وصل الغواني والصبابة لي
قالوا حنيفة شجعان فقلت لهم ... كلّ الشجاعة والإقدام في الدول
ما لي أغير على دهري فأسلبه ... ويحجمون وفي أيديهم نفلي
إن لم تسلني المواضي عن جماجمهم ... إذا تطايرن فالتقصير من قبلي
غرر في المدح وما يتصل به قال من قصيدة في سيف الدولة:
يا أيها الدهر إنّ العيّ كالخطل ... ما دهرنا غير سيف الدولة البطل
نواله جعل الأرزاق من قبلي ... وعزّه صيّر الأيام من خولي
وما تمهّل يوماً في ندىً ورديً ... إلاّ قضيت للمح البرق بالكسل
ومنها في ذم الروم والأسرى منهم:
قد كنت تأسرهم بالسيف منصلتاً ... فصرت تأسرهم بالخوف والوهل
من يزرع الضرب يحصد طاعة عجبا ... ومن يربي العلا يأمن من الثكل
كانت سحابك فيهم كلّ بارقةٍ ... حمراء تهطل بالأيدي على القلل
فاليوم سحبك فيهم كلّ بارقةٍ ... غرّاء تهطل بالأموال والحلل
كأنه قول أخذه من قول أبي دهبل الجمحي في قوله:
ما زلت في العفو للذنوب وإط ... لاق لعانٍ بجرمه غلق
حتى تمنّى البراء أنهم ... عندك أمسوا في القدّ والحلق
ومنها في شكر صنائعه:
وما أريد عطاء غير ودكم ... وبشركم ينجلي من جودكم بجلي
قد جدت لي باللهى حتى ضجرت بها ... وكدت من ضجر أثني على البخل
إن كنت ترغب في بذل النوال لنا ... فاخلق لنا رغبةً، أولاً فلا تنل
لم يبق جودك لي شيئاً أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل
وله أيضاً فيه:
سيوفك أمضى في النفوس من الردى ... وخوفك أمضى من سيوفك في العدى
فتىً يتحامى لذة النوم جفنه ... كأنّ لذيذ النوم في جفنه قذي
أطرفك شاكٍ أم سهادك عاشقٌ ... يغار على عينيك من سنّه الكرى
ومن سهرت في المكرمات جفونه ... رعى طرفه في جوّها أنجم العلا
فليس ينام القلب والجفن ساهرٌ ... ولا تغمد العينان والقلب منتضي
ومن قصيدة في المهلبي الوزير:
لا تأمنوا آراءه وظنونه ... إنّ العيون لها من الأمداد
وتعوذوا بالله من أقلامه ... إن السيوف لها من الحساد
ومن أخرى في علي بن دوست بن المرزبان:
أما لو تخيرت المنى لمنحته ... كمال علي أو سلوت عن الحب
ترى الشمس أمّاً والكواكب إخوة ... وتنظر من بدر السماء إلى ترب
غنيت عن الآمال حين رأيته ... فأصبح من بين الورى كلهم حسبي
فلم أطلب المعروف من غير كفّه ... وهل تطلب الأمطار إلاّ من السّحب
ومن أخرى:
فدتك بدائع الألفاظ طرّاً ... وأبكار القوافي والمعاني
نزلت من المكارم والمعالي ... بمنزلة الشباب من الغواني
فلا زالت لياليك البواقي ... مواصلة بأيام التهاني
وله من أخرى في المهلبي الوزير:
وتطرق أقفال الغيوب بصارمٍ ... من الرأي يخشى الغيب منه ويرهب
وتطعن في صدر الكتائب معلماً ... كأنّك في صدر الدواوين تكتب
ولست أرى كسب الدراهم نافعي ... ولكنها منك المودة تطلب
وقال لأبي العلاء صاعد بن ثابت يمدحه ويستهدي منه شراباً:
أيّ يوم من صاعد لم أرح في ... ه بخيل كثيرة الأسلاب
من نوال يسري بغير سؤال ... وعطاء يهمي بغير طلاب

جئته زائراً وقد ركب الأف ... لاك والنجم تحته في التراب
بمعان سرقتها من علاه ... فكأنّي قرأتها من كتاب
وأشارت ألحاظه بدنوي ... فكأني سمعت فصل الخطاب
ثم قبلت ظاهر الكف منه ... فكأني قبلت وجه السحاب
يا جواداً أرواحنا من عطايا ... ه وأفهامنا مع الألباب
إن هذي الهموم تقدح فينا ... قدح كفيك في السلام الصلاب
فاسقنا صيب المدام سقاك الله ... صوب الآمال والآراب
خندريساً كأنّها تتقي المز ... ج بدرعٍ مسرودةٍ من حباب
خجلت من جلالكم فأتتنا ... في رداء مؤزر ونقاب
تهب المال للفقير وتغزو شربها في عساكر الأطراب
سرقت حسن خلقها من سجايا ... ك وأخلاقك الكرام الرغاب
إنها في السحاب وبل وفي الريح ... نسيمٌ ونشوةٌ في الشراب
خلق الله صاعداً يوم خلق الن ... اس للكأس والندى والضراب
ما سؤال الدنيا له وهي في عي ... نيه أدنى من ودّها الكذاب
قد ظلمناه في السؤال لأنّا ... ما سألناه ردّ شرخ الشباب
وقال من قصيدة لعضد الدولة:
يا عضد الدولة الذي قمعت ... دولته الدهر وهو جبار
أنت نهارٌ والعالمون دجىً ... وأنت طرفٌ والناس أعيار
ليس لنا في المديح محمدةٌ ... فعلك غيث والقول نوار
وله من أخرى فيه:
سلمت على عثرات الزما ... ن يا عضد الدولة المنتخب
ولا زلت ترفع من دولة ... تواضعت فيها بهذا اللقب
قسمت زمانك بين الهمو ... م تنعم فيها وبين الدأب
فيوماً تمير عفاة النسور ... ويوماً تمير عفاة الأدب
وقال من قصيدة في عضد الدولة يصف فيها نار الذسق:
لعمري لقد أذكى الهمام بأرضه ... مشهّرةً ينتابها الفجر صاليا
تغيب النجوم الزهر عند طلوعها ... وتحسد أيام الشهور اللياليا
هي الليلة الغراء في كلّ شتوةٍ ... تغادر جيد الدهر أتلع حاليا
وقال وقد كثر الإرجاف بعلة عضد الدولة رحمه الله تعالى:
إذا سمعت حديثاً عنك أحسبه ... يرتاع قلبي وما ألفي بمرتاع
تجلّد الحر لا ينسى حفيظته ... ولو رأى دمه يستنّ بالقاع
أرجوك أقرب ما قالوا به رمق ... وحين يؤيس منك المؤيس الناعي
وأسأل الركب هل أحسستم فزعا ... لو كان ميتاً لضاعت ثلّة الراعي
أرضى وأقنع بالأطماع كاذبة ... فما يضيرك لو أبقيت أطماعي
قد كاد يعرف وجه الذلّ في نظري ... ويظهر العجز والتقصير في باعي
غرر الأوصاف قال في وصف فرس أدهم أغر محجل، حمله عليه سيف الدولة أبو الحسن:
يا أيها الملك الذي أخلاقه ... من خلقه، ورواؤه من رائه
قد جاءني الطرف الذي أهديته ... هاديه يعقد أرضه بسمائه
أولايةٌ وليتنا فبعثته ... رمحاً سبيب العرف عقد لوائه
يختال منه على أغر محجلٍ ... ماء الدياج قطرة من مائه
نكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أحشائه
متمهلاً والبرق من أسمائه ... متبرقعاً والبدر من أكفائه
ما كانت النيران يكمن حرها ... لو كان للنيران بعض ذكائه
لا تعلق الألحاظ في أعطافه ... إلا إذا كفكفت من غلوائه
لا يكمل الطرف المحاسن كلها ... حتى يكون الطرف من أسرائه
وقال أيضاً في وصف هذا الفرس:
وأدهم يستمد الليل منه ... وتطلع بين عينيه الثريا
سرى خلف الصباح يطير مشياً ... ويطوي خلفه الأفلاك طيّا
فلما خاف وشك الفوت منه ... تشبّث بالقوائم والمحيا
وله وصف سكين:

مرهفةٌ تعجز وصف اللسان ... للسيف معنى ولها معنيان
تخلفه في حدّه تارةً ... وتارةً تخلف خدّ السنان
ما أبصر الراءون من قبلها ... ماءً وناراً جمعا في مكان
فقر وملح وأمثال وحكم قال في ذم العراق:
بلادٌ أنفس الأحرار فيها ... كضبّ القاع تروي بالنسيم
يجوز وينفق كلّ شيء ... سوى الآداب طرّاً والعلوم
وقال يصف كماة حرب:
نسوا أحلامهم تحت العوالي ... ولا أحلام للثوم الغضاب
إذا كانت نحورهم دروعاً ... فما معنى السوابغ في العياب
وقال يصف طيب الهواء:
ألا يا حبذا طيب الغبوق ... وملبوسٌ من العيش الرقيق
إذا ما الصبح أسفر نبّهتني ... جنوب مسّها مسّ الشفيق
ألم به بقول ابن المعتز:
والريح تجذب أطراف الرداء كما ... أفضى الشقيق إلى تنبيه وسنان
ورجع:
وفتيان تهمهمُ همومٌ ... حديثهمُ ألذُّ من الرحيق
وقال:
وكنت إذا ما حاجة حال دونها ... نهارٌ وليلٌ ليس يعتذارن
حملت على حكم القضاة ملامها ... ولم ألزم الإخوان ذنب زماني
وقال من قصيدة في سيف الدولة:
وأفلت نقفور يرقع جلده ... وفيه لآثار السلاح خروق
يجر العوالي والسهام بجسمه ... كمحتطب للحمل ليس يطيق
سرقه من قول عنترة:
وغادرن نضلة في معركٍ ... يجرّ الأسنة كالمحتطبْ
وقال:
ألا فاخش ما يرجى وجدّك هابطٌ ... ولا تخش ما يخشى وجدّك رافعُ
فلا نافع إلاّ مع النحس ضائرٌ ... ولا ضائر إلا مع السعد نافع
سرقه من قول يزيد بن محمد المهلبي:
وإذا جددت فكل شيء نافع ... وإذا حدت فكل شيء ضائر
وقال:
سعى رجال فنالوا قدر سعيهم ... لم يأت رزق بلا سعي ولا طلب
حسن التأتي مفاتيح الغنى، وعلى ... قدر المطالب تلقى شدة التعب
وقال في نظم مثل من كتاب كليلة ودمنة:
أحسد قوماً عليك قد غلبوا ... وكلّ من بادر المنى غلبا
وكنت كالكرم في تكرمه ... تلتف أوراقه بما قربا
وقال:
وإني لا أزال ألوم نفسي ... على طول التجنّب والبعاد
وما أعتاض بالأقوام منكم ... وهل يعتاض صدر من فؤاد؟
وقال:
وما استبطأت كفّك في نوالٍ ... على عدواء نأي واقتراب
ولو كان الحجاب لغير نفعٍ ... لما احتاج الفؤاد إلى حجاب
هذا أحسن ما قيل في الحجاب، وأحسبه بعد قول أبي تمام:
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملاً ... إنّ السّماء لترجي حين تحتجب
وقال:
مثل خلعت على الزمان رواءه ... عوز الدراهم آفة الأجواد
وقال:
من لم يذق غصص التفرق لم يمتْ ... الموت رمحٌ والفراق سنانُهُ
وقال:
يهوي الثناء مبرّز مقصّر ... حبّ الثناء طبيعة الإنسان
وقال:
نعلّل بالدواء إذا مرضنا ... وهل يشفي من الموت الدواء؟
ونختار الطبيب وهل طبيب ... يؤخر ما يقدمه القضاء؟
وما أنفاسنا إلاّ حسابٌ ... وما حركاتنا إلاّ فناء
وقال، وهو من قلائد البديعة، لشرف الدولة أبي الفوارس:
أسرّ إليك مقال النصيح ... ولست إلى النصح بالمفتقرْ
عليك إذا ضاغنتك الرجال ... بضرب الرؤوس وطعن الثغر
ولا تحقرنّ عدواً رماك ... وإن كان في ساعديه قصر
فإن الحسام يحزّ الرقاب ... ويعجز عما تنال الإير
وينفع في الرّوع كيد الجبان ... كما لا يضرّ الشجاع الحذر
شبِ الرعب بالرهب وامزج لهم ... كما يفعل الدهر حلواً بمر

أبو الحسن محمد بن عبد الله السلامي
من أشعر أهل العراق، قولاً بالإطلاق، وشهادة بالاستحقاق. وعلى ما أجريته من ذكره، شاهد عدل من شعره والذي كتبت من محاسنه نزه العيون، ورقى القلوب، ومنى النفوس.

ومن خبره أنه ولد في كرخ بغداد، آخر نهار يوم الجمعة لست خلون من رجب سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ونسبته في بني مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب ابن لؤي بن غالب، وأمه شاعرة، وقال الشعر وهو ابن عشر سنين، فمن أول شعر قاله في المكتب قوله:
بدائع الحسن فيه مفترقة ... وأعين الناس فيه متفقة
سهام ألحاظه مفوّقةٌ ... فكل من رام لحظه رشقه
قد كتب الحسن فوق عارضه ... هذا مليح وحقِّ من خلقه
وركب في صباه سمارية ولم يكن رأى دجلة قبل ذلك فقال:
وميدان تجول به خيول ... تقود الدارعين ولا تقاد
ركبت به إلى اللذات طرفاً ... له جسمٌ وليس له فؤاد
جرى فظننت أنّ الأرض وجهٌ ... ودجلة ناظرٌ وهو السواد
ورأى في يد غلام يميل إليه مرآه فقال:
رأيته والمرآة في يده ... كأنهما شمسةٌ على ملكِ
فقلت للصورة التي احتجبت ... من غير زهد فينا ولا نسك
يا أشبه الناس بالحبيب ألا ... تخبرنا عنك غير مؤتفك
قال أنا البدر زرت بدركم ... وهذه قطعة من الفلك
قلت فإني أرى بها صدأً ... فقال هذا بقية الحبك
وخرج من مدينة السلام، وورد الموصل وهو صبي حين راهق، فوجد بها أبا عثمان الخالدي، وأبا الفرج التلعفري، وشيوخ الشعراء، فلما رأوه عجبوا منه واتهموه بأن الشعر ليس له، فقال الخالدي: أنا أكفيكم أمره، واتخذ دعوة جمع الشعراء فيها، وحصل السلامي معهم، فلما توسطوا الشرب أخذوا في ملاحاته، والتفتيش على قدر البضاعة، فلم يلبثوا أن جاء مطر شديد وبرد ستر الأرض، فألقى أبو عثمان نارنجا كان بين أيديهم على ذلك البرد، وقال: يا أصحابنا هل لكم في أن نصف هذا؟ فقال السلامي ارتجالاً:
لله در الخالديّ ... الأوحد النّدب الخطير
أهدى لماء المزن عن ... د جموده نار السعير
حتى إذا صدر العتا ... ب إليه عن حنق الصّدور
بعثت إليه بعذرهِ ... من خاطري أيدي السرور
لا تعذلوه فإنّه ... أهدى الخدود إلى الثغور
فلما رأوا ذلك أمسكوا عنه. وكانوا يصفونه بالفضل، ويعترفون له بالحذق إلا التلعفري فإنه أقام على قوله الأول حتى قال فيه السلامي:
يا شاعراً بسقوطه لم يشعر ... ما كنت أول طامع لم يظفر
لو كنت تعرف والداً تسمو به ... لم تنتسب ضعةً إلى تلعفّر
تاه ابن بائعة الفسوق على الورى ... بقذال صفعان ونكهة أبخر
وبلادة في الشعر تشهد أنه ... تيسٌ ولو نصرت بطبع البحتري
يحلو بأفواه الأنامل صفعه ... حتى كأنّ قذاله من سكرّ
وقال فيه أيضاً:
سما التلعفري إلى وصالي ... ونفس الكلب تكبر عن وصاله
ينافي خلقه خلقي فتأبى ... فعالي أن تضاف إلى فعاله
فصنعتي النفيسة في لساني ... وصنعته الخسيسة في قذاله
فإن أشعر فما هو من رجالي ... وإن يصفع فما أنا من رجاله
ودخل يوماً إلى أبي تغلب وبين يديه درع فقال: صفها، فارتجل:
يا ربّ سابغةٍ حبتني نعمةً ... كافأتها بالسوء غير مفنّد
أضحت تصون عن المنايا مهجتي ... وظللت أبذلها لكلّ مهنّد
وورد حضرة الصاحب بأصبهان واستمطر من بنوء غزير، وسرى في ضوء قمر منير، ولقيه بقصيدة منها:
رُقى العذال أم خدع الرقيب ... سقت ورد الخدود من القلوب
وآباه الصبابة أم بنوها ... يروضون الشبيبة للمشيب
وقفنا موقف التوديع نوطي ... نجوم الدمع آفاق الغروب
تعجب من عناقٍ جرّ دمعاً وتقبيل يشيع بالنحيب
وقد ضاق العناق فلو فطنّا ... دخلنا في المخانق والجيوب
ونحن أولاك نطلب من بعيدٍ ... لعزتنا وندرك من قريب
تبسّطنا على الآثام لمّا ... رأينا العفو من ثمر الذنوب

هذا البيت من إحسانه المشهور، ولعله أمير شعره:
ولولا الصاحب اخترع القوافي ... لما سهل الخلاص من النسيب
ومن يثني إلى ليث هصورٍ ... لواحظه عن الرشاء الربيب
وكيف يمسّ حد السيف طوعاً ... قريب الكفّ من غصن رطيب
وشبهنا فكنت أبا نواس ... ولكن جل عن قدر الخصيب
ومن يك مثل عباد أبوه ... يعش بين الأنام بلا ضريب
؟؟أحرز الخائف الجاني، وكنز ال - مقل المعتفى، وأخا الغريب
أما لك غير بأسك من عتادٍ ... ولا غير العظائم من ركوب
تروض مصاعب الأيام قهراً ... وتحملها على عودٍ صليب
وتبذل دون تاج الملك نفساً ... متيّمة بتنفيس الكروب
وجربت الملوك فما أصابت ... لداء الملك غيرك من طيب
فمن غصب الإمارة إذ حواها ... فما تحوي الوزارة بالغصوب
توارثها الكفاة وتقتضيها ... مناسب معرق فيها نسيب
تمائمكم مناطقكم إذا ما ... جفت بحضور شبّان وشيب
ولو صدقتك جن الليل عني ... شغفت بفن إنسيّ عجيب
مع القرنين من قلم وطرس ... أو العبدين من طاس وكوب
أشقّ الفكر عن لفظٍ بديعٍ ... فيقدم بي على معنىً غريب
ولقي مؤيد الدولة بقصيدة أولها:
وصل الخيال ومنك رمت وصالا ... هذي الزيارة لا تعدّ نوالا
زار الخيال فلا تزرني في الكرى ... حاشا لحسنك أن يكون خيالا
قد كنت فيك شككت يا بدر الدجى ... حتى رأيتك في اللثام هلالا
وهواك علمني القريض فزاد في ... حبّيك أني منه أكسب مالا
هو منهضي نحو الأمير وهمةٌ ... حملت إليه صلاته آمالا
ووتيرة الشعراء في مدحٍ وفي ... منحٍ فتجمع مفخراً ونوالا
ضربوا لك الأمثال في أشعارهم ... لكنني بك أضرب الأمثال
ولقي الصاحب بأرجوزة حسنة، منها:
يا راقداً لو لا الخيال ما رقد ... هل لك في عارية لا تسترد
موشيّ أثواب الجمال بالغيد ... وفّر حظ جيده من الجيد
لو لم يفض ماء الشباب لاتّقد ... قد استدار صدغه حتى انعقد
وصين ورد خده عمن ورد ... إن أبا القاسم كالسيف الفرند
ذو بدهات لم تخلّد في خلد ... أغرّ ميمون به الملك أعتضد
فما تحل الوزراء ما عقد ... بجهدهم ما قاله وما اجتهد
شتان ما بين الأسود والنقد ... هل يستوي البحر والخضم والثمد
أمنيتي من كل خيرٍ مستعد ... أن يسلم الصاحب لي طول الأبد
حتى يقال لم يطل عمر لبد ... فما أبو ألفٍ رئيس معتمد
كلّ غلام منهم رب بلد ... يا سعده من والد بما ولد
وشم بروق سيفه إذا وقد ... وانساب ماء المزن فيه واطّرد
كالروح لا تكمن إلا في جسد ... يحمله عبل الشوى عبل الكبد
ينجده وهو عريقٌ في النجد ... وإن جرى كانت له الريح مدد
خاض الدماء وتحلى بالزبد ... كأنّه إنسان عينٍ في رمد
يا مجري الفكر إلى أقصى أمد ... اسمع فقد انجز حرّ ما وعد
عذراء لم يقرع بها سمع أحد ... لو عرضت على أبي النجم سجد
وخلّ من عاندني وما اعتقد ... فليس للحاسد إلاّ ما حسد
وكتب من أصفهان إلى ذي الكفايتين أبي الفتح بن العميد وهو بالري قصيدة منها:
عبر الجواد بي الفرات ودجلة ... وأتي نداك فليس يعرف معبرا
فالآن يرجع يا عليّ القهقري ... لم يستطع متقدّماً فتأخّرا
وأعيذها من أن يعارض مثلها ... بادٍ هواك صبرت أم لم تصبرا
قالت وقد بعث الملوك بمهرها ... مهري سواك فكن لغيري جوهرا

ما ضرها إلاّ تواطؤ طيء ... فيها على نحت المعاني بحترا
جمل غدا عنها جميل مفحماً ... وكثرن في تفصيلهن كثيّرا
وكان بحضرة الصاحب شيخ يكنى بأبي دلف مسعر بن مهلهل الينبوعي يشعر ويتطبب ويتنجم، ويحسد السلامي على منزلته، فيتعرض هل ويولع به. حتى ألقمه السلامي الحجر بأن قال له يوماً:
قال لنا يوماً أبو دلف أب ... رد من تطرق الهموم فؤاده
لي شعر كالماء قلت أصاب ال ... شيخ لكن لفظه براده
أنت شيخ المنجمين ولكن ... لست في حكمهم تنال السعاده
وطبيب مجرب ماله بال ... نجح في كلّ ما يجرب عاده
مر يوماً إلى عليل فقلنا ... قرّ عيناً فقد رزقت الشهادة
ولم يزل السلامي بحضرة الصاحب بين خير مستفيض، وجاه عريض، ونعم بيض، إلى أن آثر قصد حضرة عضد الدولة بشيراز، فجهزه الصاحب إليها، وزوده كتاباً بخطه إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف نسخته: قد علم مولاي أطال الله بقاه أن باعة الشعر من عدد الشعر، ومن يوثق بأن حليه التي يهديها من صوغ طبعه، وحلله التي يؤديها من نسج فكره. أقل من ذلك. وممن خبرته بالامتحان فأحمدته، وقررته بالاختيار فاخترته. أبو الحسن محمد بن عبد الله المخزومي السلامي أيده الله تعالى، وله بديهة قوية توفي على الروية، ومذهب في الإجادة يهش السمع لوعيه، كما يرتاح الطرف لرعيه، وقد امتطى أمله، وخير له إلى الحضرة الجليلة رجاء أن يحصل في سواد أمثاله، ويظهر معهم بياض حاله. فجهزت منه أمير الشعر في موكبه، وحليت فرس البلاغة بمركبه، وكتابي هذا رائده إلى القطر، بل مشرعه إلى البحر. فإن رأى مولاي أن يراعي كلامي في بابه، ويجعل ذلك ذرائع إيجابه، فعل إن شاء الله تعالى.
فلما وردها تكفل به أبو القاسم، وأفضل عليه، وأوصله إلى عضد الدولة، حتى أنشده قصيدته التي منها:
إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر
فكنت وعزمي في الظلام وصارمي ... ثلاثة أشباه كما اجتمع النسر
فبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر
فاشتمل عليه جناح القبول، ودفع إليه مفتاح المأمول. واختص بخدمة عضد الدولة في مقامه. وظعنه إلى العراق، وتوفر حظه من صلاته وخلعه، واللهى تفتح اللهى، وسير فيه قصائد كتبت عيون غررها، وكان عضد الدولة يقول: إذا رأيت السلامي في مجلس ظننت أن عطارد نزل من الفلك إلي، ووقف بين يدي. ولما توفي عضد الدولة تراجع طبع السلامي، ورقت حاله، ثم مازالت تتماسك مرة وتتداعى أخرى حتى انتقل إلى جوار ربه، في سنة أربع وتسعين وثلاثمائة.
ما أخرج من غرره في النسيب والغزل قال:
منيت بمن إذا منّيت أفضت ... مناي إلى بنفسج عارضيه
وفاضت رحمة لي حين ولّى ... مدامع كاتبيّ وكاتبيه
وقال أيضاً:
ومختصر الخصر من بعده ... هربت فألقيت في صدّهِ
وقابلني وجهه مقبلاً ... بحدّ الحسام وإفرنده
فما زلت أعصر من خدّه ... وأقطف من مجتنى ورده
أشمّ بنفسج أصداغه ... وزهراً تعصفر في خدّه
وأظما فأرشف من ريقه ... فيا حرّ صدري من برده
وما للحاظ سوى وجهه ... وما للعناق سوى قدّه
وقال أيضاً سامحه الله تعالى:
وفيهن سكرى للحظ سكرى من الصبا ... تعاتب حلو اللفظ حلو الشمائل
أدارت علينا من سلاف حديثها ... كؤوساً وغنّتنا بصوت الخلاخل
وقال من قصيدة شبب فيها بغلام بدوي كان معه:
تعلّقته بدوي اللسا ... ن والوجه والزي ثبت الجنانِ
أعانق من قده صعدةً ... ترى اللحظ منها مكان السنان
أدار اللثام على ثغره ... فأهدى الشقيق إلى الأقحوان
ومسك ذوائبه سائلٌ ... على آس ديباجه الخسرواني
يذوب اشتياقاً لنبح الكلاب ... إذا هاجنا طرب الغطرفان
أحييه بالورد والياسمين ... فيصبو إلى الشيح والأيهقان

ويشتاق فينا عواء الذئاب ... إذا هاجنا طرب العترفان
فيا بدويّ سهامُ الجفون ... صر عن ضيوفك حول الجفان
فإن كان دينك رعي الذمام ... فقل أنت من ذمتي في أمان
ومن قصيدة شبب فيها بغلام عيار من الشطار:
يا مرهفاً في لحاظة مرهف ... ومخطف القدّ سهمه مخطف
من أودع الورد وجنتيك ومن ... نقش طرز العذار أو غلّفْ
وما لهذا الصدغ المشوش قد ... عارض طرق التقبيل واستهدف
أطلع أفق العجاج لي قمراً ... بين نجوم تجول أو تزحف
يقطر ماء الجمال منه وير ... تج إذا ارتج ردفه المردف
ومسرف الحسن لا يلام إذا ... جار على عاشقيه أو أسرف
عقّف كلاّبه وأرهفه ... فقلت يكفيك صدغك الأعقف
تغنيك عن سهمك اللحاظ وعن ... صارمك العضب قدّك الأهيف
ومال كفى على سوالفه ... والموت من دون لمسها يسلف
فمر مرّ السحاب يسحب فض ... ل الكم عجباً وفاضل المطرف
وقال والورد قد تعصفر في ... خديه غيظاً وآن أن يقطف
مثلك يلقي يداً عليّ أما ... يخاف من ناظري أن يتلف
لو مر بي الليث مات خوفاً ولو ... أبصر طيفي في النوم لم يطرف
أنا العذاب المذاب والأسد الأ ... سود بأساً والمقرب المقرف
أشطر منّي فتىً إذا وقعت ... عليه عيني في الوقت لم يتلف
إذا شربنا بنت الكروم فبال ... بيض نحيا وبالقنا نتحف
لولا توقيّ أو مراقبتي ... أنّي عزيز وأنت مستضعف
نحرت حتى السماء واقعةٌ ... فوقي والأرض تحتنا تخسف
فقلت مهلاً فلست أول من ... أخطأ جهلاً من قبل أن يعرف
البدر لا ينسخ الظلام على ... ديباجتيه والبحر لا ينزف
عزمت أن أدعي عليك فلا ... تصغ إلى من لحا ومن عنف
ولا تكلني إلى اليمين فلو ... شئت أكلت الزبور والمصحف
فافترّ عن لؤلؤٍ وأسفر عن ... ورد وقبّلته فما استنكف
وقال ما تشتهي فقلت له ... نقصف حسادنا بأن نقصف
فمال بي والظلام شملته ... وفجره في يمينه مرهف
إلى رياضٍ يغازل القطر ما ... دبج من زهرها وما فوّف
ما بين فتيان لذة عرفوا ال ... عيش فنالوا نعيمه الألطف
هذا يحيّي وذا يغار وذا ... يلثم كرهاً وذاك يستعطف
برد الثرى بردنا وقد زرّر ال ... بدر علينا دواجه المحصف
وبيننا خمرتان من ريقة ال ... كرم وريق أشهى من القرقف
ولطّف الله لي بمدرجةٍ ... أمثالها عند مثلي تلطف
أنشدته شعر مكشف فأتى ... يلثم تلك السطور والأحرف
ومات سكراً فمتّ من فرحٍ ... وكاد ستر الغلام أن يكشف
وله في غلام عباسي قد التحى فازداد حسناً:
لما التحى أصبحت عمامته ال ... سوداء تجلي مخضرة الحبك
وصار يختال أن يلين بخلق ال ... خز عن ردفه أو الفتك
في كلّ يوم تراه مؤتزراً ... بالروض بين الحياض والبرك
وما علمنا أنه قمراً ... حتى اكتسى قطعة من الفلك
وقال من أرجوزة:
وليلة كأنّها على حذرٍ ... ممرّها أسرع من لمح البصرْ
من قبلها لم أر ليلاً مختصر ... ولا زماناً لم يبن من القصر
والليل لا يكرب إلاّ في غرر ... إذا وفى أحبابنا فيه غدر
زار وما اسودّ الدجى ولا اعتكر ... أبيض إلا المقلتين والشّعر

أغر أوقاتي إذا زار غرر ... فلم يكن إلا السلام والنظر
أو قبلة خالستها على خطر ... حتى انتضى الصبح حساماً مشتهر
وانفلّ من أهواه في جيش البكر ... فبتّ محزوناً كأنّي لم أزر
واحسرتا لليلنا كيف انحسر
وقال:
عذارك جادت عليه الرياض ... بأجفانها وبآماقها
وطال غرام الغواني به ... فقد طرّزته بأحداقها
وقال:
فاض ماء الجمال في الأقطار ... كلّ مطرّز بعذارِ
قد أرانا عقارب الشعر من خدّ ... يه تأوي مكامن الجلنار
وقال من قصيدة:
يفض الغزال جفون الغزل ... وقد فضح الكحل فيها الكحل
ولا وجني الورد في وجنتي ... ه ما أوجب اللثم ذاك الخجل
وقال من أخرى:
ما تسرع الألحاظ تخطف وردة ... من خدّه إلا عثرن بخاله
مذ نقبوه وزرفنوا أصداغه ... ختموا بغاليةٍ على أقفاله
وقال:
تعرّض الشعر لعارضيه ... وأطلق العشاق من يديهِ
كان الصبا يهتز في عطفيه ... والحسن تجري خيله إليهِ
حتى إذا أبصر وجنتيه ... حجبتا بمثل حاجبيه
جاد عذاريه بعبرتيه ... كأنما يغسل من خديّه
صحيفة قد كتبت عليه
وقال من قصيدة شبب فيها بغلام تركي:
علقت مفترس الضراغم فارساً ... رحب المدى والصدر والميدان
قمرٌ من الأتراك تشهد أنّه ال ... خود الحصان على أقبّ حصان
البدر في ظل الغمامة والنقا ... في سرجه والغصن في الخفتان
ألّفت طرّته وغرته وما ... كان الدجى والصبح يأتلفان
ورمى بلحظيه القلوب وسهمه ... فعجبت كيف تشابه السهمان
بطلٌ حمائله كعارضه وحا ... جبه الأزج كقوسه المرنان
حييّته فدنا وأمطر راحتي ... قبلاً فليت فمي مكان بناني
وخدعته بالكأس حتى ارتاض لي ... ودرأت عنّي الحدّ بالكتمان
والمرء ما شغلته فرصة لذّةٍ ... ناسي العواقب آمن الحدثان
وقال من قصيدة:
وأعرضت إذ رأت في عارضي درراً ... منظومة معها الأحزان تنتظمُ
وللصبابة قومٌ لا يسرّهم ... أن يلبسوا الوشي إلاّ تحته سقم
أشتاق أهلي لظبي بين أرحلهم ... والحب يوصل إذ لا توصل الرحم
ومن أخرى:
ما ضنّ عنك بموجودٍ ولا بخلا ... أعزّ ما عنده النفس التي بذلا
يحكي المطايا حنيناً والهجير جوىً ... والمزن دمعاً وأطلال الديار بلى
ومن أخرى
الحبّ كالدهر يعطينا ويرتجع ... لا اليأس يصدقنا عنه ولا الطمع
صحبته والصّبا يغري الصبابة بي ... والوصل طفل غريرٌ والهوى يفع
أيام لا النوم في أجفاننا خلسٌ ... ولا الزيارة من أحبابنا لمع
وليلة لا ينال الفكر آخرها ... كأنما طرفاها الصبر والجزع
إذ الشبيبة سيفي والهوى فرسي ... ورايتي اللهو واللذات لي شيع
أحييتها ونديمي في الدحا أملٌ ... رحب الذرى وسميري خاطر صنع
ومن أخرى:
رسولي إذا لم يغشهنّ رسول ... صباً وقبولٌ بل صباً وقبولُ
وقلبٌ سوى قلب الكتيبة باسلٌ ... وحدّ سوى حد الحسام صقيل
وما حسن صبر ما ترين ولا رضا ... بنأي ولكن المحبّ حمول
كأنه ألم في بقول المتنبي:
وما عشت من بعد الأحبّة سلوة ... ولكنّني للنائبات حمول
ومن أخرى:
أنوارٌ وأين دار نوار ... أظلم الناس في أشط الديار
ذات صدغ من البنفسج قد ما ... ل على وجنةٍ من الجلنار
ومن أخرى:
ويغريني بذكر الربع غيدٌ ... به صيد وحور فيه عينُ
سللن من الحداق السود بيضاً ... فما ندري قيانٌ أم قيون
الخمريات وما يتعلق بها

من سائر الأوصاف والتشبيهات كتب إلى صديق له يصف النارنج:
أتنشط للصبوح أبا عليّ ... على حكم المنى ورضا الصديق
بنهر للرياح عليه درع ... تذهب بالغروب وبالشروق
إذا اصفرّت عليه الشمس صبّت ... على أمواجه ماء الخلوق
وقفت به فكم خدّ رقيقٍ ... يغازلني على قدّ رشيق
وجمر شبّ في الأغصان حتى ... أضاع الماء في وهج الحريق
وكتب إليه في وصف الجلنار:
أحنّ إلى لقاء أبي عليٍّ ... ويأبى أن يحنّ إلى جواري
وقد جلبت علينا الراح حتى ... مللنا جلوة البيض العذاري
وصفّر أوجه العذّال يومٌ ... وجوه شموسه تحكي اصفراري
ونهرٌ تمرح الأمواج فيه ... مراح الخيل في رهج الغبار
إذا اصفرت عليه الشمس خلنا ... نمير الماء يمزج بالعقار
كأن الماء أرض من لجين ... مغشّاة صفائح من نضار
وأشجار محمّلة كؤوساً ... تضاحك في احمرار واخضرار
إذا أبصرن في نهرٍ سماء ... وهبن له نجوم الجلنار
فزرنا إن نار الراح تكفي ال ... ندامى خيفتي عار ونار
وقال في الدير الذي بقنطرة النوبندجان، وقد شربوا هناك ولبسوا أكاليل الزهر ورموا البنادق:
أقنطرة النوبندجان وديريها ... وحور مهى لا تألف الحور غيرها
شربنا بها والروض يخلع زهره ... على الشرب والأشجار تنثر طيرها
كتب يستهدي الشراب:
أرسلت أشكو إليكم غدوة ظمئي ... وما شككت بأني سوف أغتبق
فقد كتبت إلى أن خانني قلمي ... وقد ترددت حتى ملّني الطرق
أنت امرؤ جوده غمرٌ ونائله ... همرٌ ووبل نداه مسبل غدق
فابعث إليّ بصفو الراح يشبهه ... منّي قريض ومنك العرف والخلق
وكتب إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف:
أظنّ اليوم يهطل بالمدام ... فإن الأفق محمّر الغمام
وما عودت حمل الكأس إلاّ ... على سكر الكروم أو الكرام
وعهد سماء جودك بالعطايا ... كعهد دم الأعادي بالحسام
إذا طلعت شموس الراح فينا ... وهبنا كل مسرجة اللجام
أبحر الجود في بحر الأماني ... وبدر الملك في بدر التمام
ومن عبد ابن يوسف صير اسمي ... وصيّره الندى مولى السلامي
إذا كبت أناملنا كميتاً ... من الحبب المفضض في لجام
تحيينا بذكرك وانتقلنا ... بمدحك دون سادات الأنام
طربت فما أبالي ما ورائي ... ونار الراح مشعلة أمامي
جفون المزن مذ عدمت بواكٍ ... لرحمتنا وخدّ الورد دامي
فأحي بها فتىً أحلى مناه ... تقدّم من فداك إلى الحمام
وكتب إلى صديق يستدعيه أبياتاً منها :
يوماً لبست به الخلاعة حلّة ... وسحبتها فسحبت خير لباس
في مجلس زجل الغناء متوّج ال ... كاسات فيه مهذب الجلاس
والطير قد طربت بحسن غنائها ... لو أنها فطنت لشرب الكاس
والشمس من حسد تغير لونها ... أن لا تكون كغرّة العباس
أنا لا أبالي من فقدت من الورى ... إما حضرت فأنت كلّ الناس
وقال من قصيدة:
وظبية من بنات الإنس في يدها ... ووجهها للصبا والحسن خاتام
قد حللت لؤلؤ الأزرار عن درر ... لهنّ في ثغرها الفضيّ أتوام
وزارت الروض منها مقلتان لها ... وحشيتان وعذب الريق بسّام
والكأس للمسكر التبريّ صائغة ... والماء للحبب الدريّ نظّام
بتنا نكفكف الكاسات أدمعنا ... كأننا في حجور الروض أيتام
هذا البيت من إحسانه المشهور في ابتداع الاستعارة: وقال من أخرى:
نفرغ أكياسنا في الكؤوس ... نبيع العقار ونشري العقارا

حمدنا الهوى ونسينا الفراق ... ومن يشرب الخمر ينس الخمارا
ومن أخرى:
أشربا واسقيا فتىً يصحب الأي ... ام نفساً كثيرة الأوطار
والنفوس الكبار تأنف للسا ... دة أن يشربوا بغير الكبار
في جوار الصبا نحلّ بيوتاً ... عمرت بالغصون والأقمار
ونصلّي على أذان الطنابي ... ر ونصغي لنغمة الأوتار
بين قوم إمامهم ساجدٌ لل ... كأس أو راكع على المزمار
ومن أخرى:
نسب الرياض إلى الغمام شريف ... ومحلّها عند النسيم لطيفٌ
فاشرب وثقّل وزن جامك إنّه ... يومٌ على قلب الزمان خفيف
أو ما ترى طرز البروق وتوسطت ... أفقاً كأن المزن فيه شفوف
واليوم من خجل الشقيق مضرّجٌ ... خجلٌ، ومن مرض النسيم ضعيف
والأرض طرسٌ والرياض سطوره ... والزهر شكلٌ بينها وحروف
وكأنّما الدولاب ضلٌ طريقه ... فتراه ليس يزول وهو يطوف
ومن أخرى:
ولبّاسةٍ حلى الشباب لعوبةٍ ... بطرق الهوى عقادة للزمائم
غزال صريم في رجوم صوارم ... وبدر تمام في نجوم تمائم
وكان رقادي بين كأس وروضةٍ ... فصار سهادي بين طرف وصارم
ولو لا نسيب مطربٌ من قصائدي ... لما احتال طيفٌ في زيارة نائم
ومن أخرى:
أنسيم هل للصلح عندك موضعٌ ... فيزور طيفٌ أو تهبّ نسيمُ
والشيب دونك وهو موتٌ مضمرٌ ... والهجر وهو تفرقٌ مكتوم
بيني وبين الراح مثل حبابها ... دمعٌ على وجناتها منظوم
ومن أخرى:
وقد خالط الفجر الظلام كما التقى ... على روضة خضراء ورد وأدهم
وعهدي بها والليل ساق ووصلنا ... عقار وفوها الكأس أو كأسها فم
إلى أن بدرنا بالنجوم وغربها ... يفض عقود الدر والشرق ينظم
ونبهت فتيان الصبوح للذةٍ ... فلبّوا وما فيهم سوى الليل محرم
وفي كلّ كأس للندامى بقيّةٌ ... تلوح كدينار يغطّيه درهم
سائر الأوصاف نزل عضد الدولة شعب بوان والسلامي معه متوجهاً إلى العراق، فقال له: قل في الشعب، فقد سمعت ما قال المتنبي، فعاد إلى خيمته وكتب:
اشرب على الشعّب واحلل روضة أنفا ... قد زاد في حسنه فازدد به شغفاً
إذ ألبس الهيف من أغصانه حللاً ... ولقّن العجم من أطياره نتفا
وأثمرت حسن الأغصان مثمرةً ... من نازع قرطاً أو لابس شنفا
والماء يثني على أعطافه أزرا ... والريح تعقد في أطرافها شرفا
والشمس تخرق من أشجارها طرفاً ... بنورها فترينا تحتها طرفا
من قائل نسجت درعاً مفضضة ... وقائل ذهبت أو فضضت صحفا
ظلّت تزفّ له الدنيا محاسنها ... وتستعد له الألطاف والتّحقا
من عارض وكفا، أو طائر هتفا ... أو بارق خطفا، أو سائر وقفا
هذا مما قاله بديهاً وليس بمستحسن في الوزن إلا أن أبا تمام قال:
يقول فيسمع، ويمشي فيسرع ... ويضرب في ذات الإله فيوجع
رجع:
ولست أحصي حصي الياقوت فيه ولا ... درّاً أصادفه في مائه صدفا
يظنّ من وقفت فيه الشجون به ... أنّ الصبابة شابت والهوى خرفا
تعسفّ الشوق فيه كلّ ذي شجن ... والشوق ألطفه ما كان معتسفا
فاحلل عرى الهمّ واشربها مشعشعة ... رقّ النسيم مباراةً لها وصفا
ماذا يقول لك المدّاح؟ قد نفدت ... فيك المعاني وبحر اللفظ قد نزفا
لم يبق لي حلية إلاّ الدعاء فإن ... يسمع ظللت عليه الدهر معتكفاً
وقال من سذقيه في أبي الفوارس وأبي دلف:
ما زلت أشتاق ناراً أوقدت لهما ... حتى ظننت عذاب النار قد عذبا

يعلو الدخان بسودٍ من ذوائبها ... قد عطّ فيها قناع التبر واستلبا
قد كلّلت عنبراً بالمسك ممتزجاً ... وطوقت جلناراً واكتست ذهبا
فالنور يعلب في أطرافها مرحاً ... والخمر يرعد في أكنافها رهبا
وطار عنها شرارٌ لو جرى معه ... برقٌ دنا أو تلقى كوكبا لكبا
لو كان وقت نثار خلته درراً ... أو كان وقت انتصار خلته شهبا
والليل عريان فيه من ملابسه ... نشوان قد شق أثواب الدجى طربا
أقسمت بالطرف لو أشرقت حين خبت ... جعلت أنفس أعضائي لها حطبا
وقال من قصيدة أخرى:
فسمونا والفجر يضحك في الشر ... ق إلينا مبشّراً بالصباحِ
والثريا كراية أو كجام ... أو بنان أو طائر أو وشاح
وكأن النجوم في يد ساقٍ ... تتهاوى تهاوي الأقداح
وجمعنا بين اللواحظ والرا ... ح وبين الخدود والتفاح
وشممنا بنفسج الصدغ حتى ... طالعتنا من الثغور الأقاح
زمن فات بين بهو وشربٍ ... وغناء وراحةٍ وارتياح
معقلي نهر معقل فإن ارتح ... ت إلى منزل فدير نجاح
وحياتي بما حوته إلى الخمّ ... ار مصروفةٌ أو الملاّح
مركبي مثل لمّتي أدهم جو ... نٌ ويحكيهما نديمي وراحي
مركبة السفينة الزورق وهما أسودان، ولمته سوداء لأنه شاب، ونديمه أسود لأنه عربي، ونبيذه نبيذ التمر وهو أسود.
وقال، وكتب بها إلى الشريف الرضي، وكان خرج من داره في المطر فأعطاه كساء استتر به:
مازال بي مهر الشبيبة جامحاً ... حتى حملت على المشيب الكابي
فسمعت أقبح ما سمعت نداءها ... ما بال هذا الأشيب المتصابي
إنّي حلفت بربّ أشرف كعبةٍ ... في مشهد النشوات والأطراب
وبكل مخلوع العذار مجّررٍ ... فضل الإزار مسحّب سحّاب
بمصرع الدّنّ الجريح وحرمة ال ... وتر الفصيح وذمّة المضراب
ومتى خلفت بمثلها متأولاً ... فصدقت بالأزلام والأنصاب
وأنا دعي في البلاغة ملصق ... في الشعر منسلخ عن الآداب
ويباع في الأكراد شعري إنّه ... يغلو إذا ما بيع في الأعراب
لقد ارتقت تبغي أبا الحسن العلي ... يطمحن منه إلى الأبي الآبي
الموسوي الناصري أبوّةً ... وخؤولة علويةٌ الأنساب
في حيث أرّثت النبوة نارها ... فخبا لنور الحقّ كلّ شهاب
لا أدعي لك، إنما بك أدعي ... أنّي وصلت إلى أعز جناب
زاد الإله بكم قريشاً رفعةً ... وأقرّ عين قصيها بن كلاب
متناسلين وأنت كنت مرادهم ... مترددين إليك في الأصلاب
حتى ولدت فأغفلوا أنسابهم ... وغدا وجودك أشرف الأنساب
ألسان هاشمٍ الذي بغروبه ... تفري وناظر غالب الغلاب
أشكو إليك عشيّةً لم نفترق ... فيها على مللٍ ولا استعتاب
ما كنت إلاّ جنّة فارقتها ... كرهاً فصبّ عليّ سوط عذاب
ودّعت دارك والسماء تجودني ... بيد الغمام فلا أرى بك ما بي
ما زلت أركض في الوحول مبارياً ... فيها الخيول لواحق الأقراب
فجريت والعكاز أخصر شكّتي ... قصراً ولكني أعزّ ركابي
ورأيت غالية الطريق ومسكه ... طيناً معدّاً لي على الأثواب
وحمى كساؤك لا عدمت معيره ... درّاعتي وعمامتي وجبابي

فوليت يا بحر السماحة كسوتي ... وولي أخوك الغيث بلّ ثيابي
غيثان هذا ابن الذي من أجله ... خلق السحاب وذا سليل سحاب
فوصلت أشكو ذا وأشكر ذا وبال ... غيثين ما بهما من التسكاب
وخريدة عذراء رحت أزفها ... ما بين ألفاظ شرفن عذاب
جاءتك يحملها الجمال، وربّما ... وقف الجباء بها دوين الباب
أهديتها خجلاً إلى متغلغل ال ... أفكار محصد مرة الآداب
لأبي القريض ابن المعاني بل أخي ال ... إعراب حين بفوه والإغراب
ضمن الحسين له وموسى رتبةً ... في الفضل نافرة عن الخطّاب
انظر بعين رضاً إلى ما صنعته ... وأعره سمع مسامح وهّاب
وتجاوز الخطأ الشنيع وأخفه ... عن ناظر المتفيهق المغتاب
واجهر إذا أنشدتها في محفل ... فعثرت بين عيوبها بصواب
وقال من قصيدة عضدية في يوم صب الماء:
عدل الحبيب فمن يجور ... ودنا فأين بنا يسيرُ
عوّضت من عيسٍ تدو ... ر بي الفلا كأساً تدور
وشربت ما وسع الصغي ... ر وزدت ما حمل الكبير
نبّهت ندماني وقد ... عبرتْ بنا الشعري العبور
هببّوا فقد عيّي الرقي ... ب ونام وانتبه السرور
وأشار إبليس فقلنا ... كلّنا نعم المشير
صرعى بمعركة تع ... فّ الوحش عنها والنسور
نوّار روضتنا خدو ... د والغصون بها خصور
والعيش أستر ما يكو ... ن إذا تهتّكت الستور
هبّوا إلى شرب المدا ... م فإنّما الدنيا غرور
عذراء يكتمها المزا ... ج كأنّها فيه ضمير
وتظنّ تحت حبابها ... خدّاً تقبله ثغور
وإذا صحونا فاللسا ... ن للعذب والفكر الغزير
نفتض معنىً أو يولّد ... بيننا مثلٌ يسير
أو يمدح الملك الجلي ... ل السيّد الفرد الخطير
ما عزه شيءٍ بغا ... ه فكيف أعوزه النظير
وغداة أنسٍ بشّرت ... ك بها المعازف والخمور
إذا ماء غيثنا ... والأرض تربتها عبير
تغري بصبّ الماء يا ... ملكاً أنامله بحور
ويقول سيبك هكذا ... صبّت على العافي البدور
ويقول سيفك هكذا ... تجري، إذا غضب، النحور
هيهات تبتسم الثغو ... ر ولم تسدّ بك الثغور
قد أذعنت أرض العد ... و وجاء بالنصر البشير
هذي الأماني لي عبيدٌ ... والسرور معي أجير
لاقيته فغضضت طر ... في إذا بدا القمر المنير
وجررت أذيالي بمج ... لسة وقلت فمن جرير
وكأن عاماً عشته ... في ظلّه يومٌ قصير
وقال يصف الفقاعة، وألقاها على طريق الإلغاز:
شغفت بداية لي أشتهيها ... وما فيها عن الوصل امتناع
بباردة المجسّ وما اقشعرّت ... معصّبةٌ وليس بها صداع
تمنّع أو تحل ذؤابتاها ... ويحسر عن مفارقها القناع
وقال يصف سوداء:
يا رب غانية بيضاء تصحبني ... من العتاب كؤوساً ليس تنساغ
أشتاق طرّتها أم صدغها ومعي ... من كلها طرر سودٌ وأصداغ
كأننا لا أتاح الله فرقتنا ... يا لعبة المسك بازٍ تحته زاغ
وأمره عضده الدولة أن يعمل أربعة أبيات تكتب على خواتيم النساء فكتب:
مرقومة الجنبات بالبدع التي ... لم يهدها قط الربيع لروضة
كتمت روائحها فلما عذّبت ... بالنار فاح نسيمها فأقرّت

وكأنما الملك الأجل السيد ال ... منصور عضد الدولة تاج الملك
أذكي مجامرها بنار ذكائه ... وغدا الدخان على علوّ الهمّة
وقال من قصيدة عضدية سذقيه:
ألست ترى الأوضاح في دهمة الدجى ... ومنشؤها بالناظرين رفيقُ
دخاناً سخامي الصفات شراره ... بروقٌ وعقد الريح فيه وثيق
وليلاً كيوم الوصل أمّا رياضه ... فزهر وأما مسكه ففتيق
وبغداد بحرٌ ساحلاه جواهر ... ودجلة روضٌ طرّتاه شقيق
وقد صار ياقوتاً حصاها وعنبراً ... ثراها وأمسى الماء وهو رحيق
وقال من أخرى:
ولم نر بحراً جرى بالعقار ... ولا ذهباً صيغ منه جبل
إلى أن جرت دجلة في الشعاع ... وطنّب بالنور أعلى القلل
سحاب الدخان وبرق الشرار ... ورعد الملاهي وغيث الجدل
وما زال يعلو عجاج الدخا ... ن حتى تلوّن منه زحل
فكنا نرى الموج من فضةٍ ... فذهبه النور حتى اشتعل
وقال من أخرى يستهدي مهراً ويصفه:
إليك بعثناها شوارد ضمّنت ... معاني لولاها لما شرف الشعرُ
عروساً ولكن زوّجت بنت ليلةٍ ... مخدّرة لكنّ فكري لها خدر
إذا قال جسمي تستحل بحلة ... تقول له رجلاي بل مهرها مهر
فمن لي به إلا الدهم فازت بلونه ... ولا البرش خازت بردتيه ولا الصفر
كميتٌ تذال الشهب والبلق إن بدا ... وتسمو بما نالته من شبهه الشقر
يخوض إذا لاقى دماً لونه ... ولا ماء إلا ما ء رونقه الغمر
فغرّته مبيضّةٌ وحجولة ... ولكن أريقت فوق سائره الخمر
وأسبق من عاف إليك وشاعر ... قوافيه أفراد محجلة غرّ
فلو شامه في أرض فارس فارسٌ ... لما أمسيا إلاّ ومصرٌ له مصر
نتاج فتى في الحرب تنتج خيله ... وبالدم تسقى والنزال لها ضمر
وقال من أخرى في وصف السكر المبني بشيراز:
على نهر سل في دجى الليل من رأى ... كواكبه زهراً تأمل أم زهرا
إذا طلعت فيه النجوم فما ترى ... به العين إلا الثلج مستودعا جمرا
ثري قد أعاد الليل مسكاً عبيره ... وماءُ أعاد البدر فضته تبرأ
ومن أبيات يصف فيها ارتطامه في الوحل وتلوث ثيابه:
جملة أمري أني ركبت إلىدارك لما أتيتها الخطرا
لبست درّاعتي وعمّتي ال ... خزّ فصارا كما ترى حبرا
أصبحت في الطين عقعقاً بلقا ... وإن تعرّيت خلتني نمرا
ومن أخرى في وصف عمامة:
حسناء صافيةً بيضاء ضافية ... كأنّ رونقها في صارمٍ ذكر
يزين أطرافها طرزٌ كما رقمت ... على المجرّة طرز الأنجم الزهر
وقال في وصف زنبور:
ولابس لوننٍ واحد وهو طائر ... ملوّنة أبراده وهو واقع
أغرّ محشي الطيلسان مدبج ... وسود المنايا في حشاه ودائع
إذا حك أعلى رأسه فكأنما ... بسالفتيه من يديه جوامع
يخاف إذا ولّى ويؤمن مقبلا ... ويخفي على الأقران ما هو صانع
بدا فارسيّ الزي يعقد خصره ... عليه فباء زيّنته الوشائع
فمعجره الوردي أحمر ناصع ... ومئزرة التبري أصفر فاقع
يرجّع ألحان الغريض ومعبدٍ ... ويسقي كؤوساً ملؤها السم ناقع
غرر مدائحه العضدية وما يتصل بها
قال من قصيدة:
يزور نائلك العافي وصارمك ال ... عاصي فتحويها أيدٍ وأعناق
في كلّ يوم لبيت المجد منك غنىً ... وثروةٌ، ولبيت المال إملاق
كم خضعت في لجّة كالبحر زاخرة ... ماء المنون بها حاشاك ذفاق
في فتية من ليوث الحرب قد حفظت ... بالمرهفات لهم في الروع أرماق

من كلّ بعل حياةٍ لا يعاقدها ... إلاّ على أنه في الحرب مطلاق
أمام كل خميس كل يوم وغى ... كأنه في صدور الخيل ألحاق
رم أين شئت من الدنيا تنله فما ... للجوّ عرضٌ ولا للبحر أعماق
من شكّ أنك مخلوق لتملكه ... كمثل من شكّ أن الله خلاّق
فللسماء سماءٌ من علاك ولل ... آفاق من ذكرك المحمود آفاق
ومن أخرى:
يا أهل لست بمشتاق إلى وطني ... حتى أرى خيل فناخسر بينكمُ
أضحي بهنّأ في الأضحى بمنزلةٍ ... لا العرب نالت مراقيها ولا العجم
أصغر بأضحية في غير يوم وغى ... فما أضاحيك إلا الخيل والبهم
وإنما أنت ألطف الله جسّمه ... لنا وفي يديك الأرزاق والقسم
عدلت حتى هممنا أن نجور، وكم ... من شاكر نعماً في ضمنها نقم
إنّ المسيح وقد بانت دلالته ... لولا هداه لما ضلّت به الأمم
في كلّ ناحية لم ترعها أممٌ ... الهدي منها بيعد والأذى أمم
إن البلاد ومن فيها مروّعة ... بها إليك وإن ما طلتها قرم
وما نبالي إذا ما كنت شاهدها ... إن غاب معتضد عنها ومعتصم
عدها بنصرك أو قل سوف أدركها ... فإنّ قولك في أمثالها قسم
ومن أخرى:
يشبهها المداح في البأس والندى ... لمن لو رآه كان أصغر خادم
ففي جيشه خمسون ألفاً كعنتر ... وأمضى وفي خزّانه ألف حاتم
ومن أخرى:
ومدح غيرك ذنب لا يقال، وما ... نصوغه فيك تهليل وتحميدُ
فعش أعش في ذري رحب ودم تدم ال ... خيرات لي وابق يبق المجد والجود
وقال من أخري يصف بها قصراً بني على دجلة ونقشت على حيطانه أشعاره:
فالروض عقفت الصّبا أصداغه ... والموج صفقت الشمال طراره
وأظن دجلة أسلمت، أو ما رأي ... ت الجسر يقطع وسطها زنّاره
وحكى بناء المجد فيها غارس ... غرس الصنائع حولها أشجاره
قد صوّر الفلك المدار كأنّه ... أنشاه قبل كيانه وأداره
وبنى على شرف الثريا قصره ... وطحا على فلك النعائم داره
فالشيّد يصقل صانعوه لجينه ... والسّاج ينقش مخلصوه نضاره
شغلت خواطرنا ولحظ عيوننا ... مذ صار يجعل طرزه أشعاره
أوسع مثالاً إن خطرت بباله ... ونل السماء إذا بلغت دياره
ينسى العمالق واصفٌ أخباره ... ويهين مصر معدّدٌ أمصاره
ومن أخرى في وصف الحرب، وهو أحسن ما قيل فيها:
يا سيف دين الله ما أرضى العدى ... لو أنّ سيفك مثل عدلك يعدل
ما إن سننت لهم سناناً في الوغى ... إلا أطلّ عليه منهم أيطل
فالروض من زهر النجوم مضرّجٌ ... والماء من ماء الترائب أشكل
والنقع ثوبٌ بالنسور مطيّر ... والأرض فرشٌ بالجياد مخيّل
يهفو العقاب على العقاب ويلتقي ... بين الفوارس أجدلٌ ومجدّل
وسطور خيلك إنما ألفاتها ... سمرٌ تنقّط بالدماء وتشكل
ومن أخرى في وصف يوم الفصح وإقامة رسمه:
لو لا اشتياق الماء كفك لم يكن ... قلب الندى وحشي السحائب تنزلُ
ولقد نثرت على الهوا أمثاله ... ذا سجسجٌ صافٍ وهذا سلسل
وكأنما ذهبيّ زرّافاتنا ... ترمي بأسهم فضة تسلسل
من فوق كل ذؤابتين سحهابةٌ ... أو بين كلّ اثنين منّا جدول
فأرقت حتى ماء وجهي إنّه ... مع غير ماء الورد لا يتبدّل
فاترك لنا ماء الشباب ولا ترق ... ماء الصوارم فهو فيها أجمل
ومن أخرى وقد دخل عبد الله الدولة إصبهان والتقى مع أبيه ركن الدولة وأخويه :

لم يدر حيّ وقد جاء البشير به ... إنّ الزمان لما نرجوه متّسع
فزارها ليث غاب فرسٌ ... وبدر تمّ عليه التاج والخلع
لما تطلع والرايات تكتمه ... في ظلها وشعاع الشمس مرتفع
أعدى بإقباله من أهلها نفراً ... لم يعلموا أن درّ السعد يرتضع
فليهنها منه روض زهره درر ... فتن العقود ومزن قطره دفع
لاحظ أباك فهذي مصر معرضة ... وأنت يوسف والأسباط قد جمعوا
لكنهم ما نووا غدراً ولا نقضوا ... عهداً ولا أضمروا غلاً ولا ابتدعوا
أيا أخا الجود وابن المجد لا بلدٌ ... إلاّ بذكرك أو بالسيف يفترع
فدىً لجودك آمالي وسابقها ... ومطمع من بحار الشعر ممتنع
فالقائلون بطاء عن مداي، وإن ... أبدعت معنىً فهم في أخذه سرع
همُ إذا خلطوا شعري بشعرهم ... كالطير يهذون أو يحكون ما سمعوا
ومن أخرى يذكر فيها التقاه بالطائع لله بعد أن رده إلى مدينة السلام وكان فارقها وهو شاب وعاد وهو أشيب:
واشتاق طلعتك الخليفة مظهراً ... لك شوقه المطوي في أسراره
ودعا الملوك فلم يلبّ دعاءه ... إلاّ أحقهم بدار قراره
عظّمت أمر الله في تعظيمه ... وأقمت دين الله في استحضاره
وافاك في برد النبي محمد ... بهدي النبي وسمته ووقاره
يشكو إلى الإسلام وخط مشيبه ... ما كلّفته الترك من أسفاره
حتى بدا عضد الهدى وكأنّما ... كان الخضاب أحال شيب عذاره
حتى إذا أبدى الإمام أمامه ... ملكاً كبدر التمّ في أنواره
خلنا على الكرسي ليثاً غابه ... سمر القنا نبتت بفيض بحاره
وغداة ظلت مساير الإقبال في ... خلع الإمام وطوقه وسواره
متسوراً بأهلة متطوقاً ... بالشمس أو بالبدر أو بإطاره
في خلعةٍ صبغ الشباب بلونها ... فالخلق قد جبلوا على إيثاره
هذا من أملح ما مدح به اللباس الأسود، وقد سبق إلى ذلك.
؟؟غرر من سائر مدحه وما يتصل بها قال من قصيدة في أبي الوفاء طاهر بن محمد:
ركوب الهول أركبك المذاكي ... ولبس الدّرع ألبسك الغلائل
ويومك ضامنٌ لغدٍ علوّاً ... وعامك ملحق البشري بقابل
وله في عبد العزيز بن يوسف يذكر قدومه على الخليفة الطائع لله رسولاً من عضد الدولة وبلاغته فيما تحمله:
ولما وقفت أمام الإملم ... تأخر خلصانه والشيعْ
دنوت إلى تاجه والسرير ... فهذا تعالى وذاك اتسع
وضاحك برد النبي القضي ... ب أنساً بخوضك فيما شرع
سفرت فتيمّه ما رأى ... وقلت فأطربه ما سمع
وأثنت فضائلك الباهرات ... على ملك الدهر فيما اصطنع
طلعت فكنت كنجم الصبا ... ح دلّ على الشمس لما طلع
ومن كلف الدهر أمثالكم ... فقد كلف الدهر ما لم يسع
وما أحسنها في دلالة الرسول على المرسل.
ومن أخرى له فيه:
كرمت وسدت فالجدوى انتهاب ... إذا زرناك والمدح اقتضاب
أخزّانٌ وما أبقيت مالاً؟ ... وأبواب وقد رفع الحجاب
ومن عيدية:
وإذا هنّئ الملوك فصبّح ... ت من العيد أسعد التهنئات
وفداك المحل فالنحر في أر ... ض منىً والمهل في عرفات
وتعجّلت أجر من خلع الإح ... رام عنه الأطمار في الميقات
وأجاب الإله فيك دعائي ... غافر الذنب سامع الأصوات
زرته والغنى مني ويدي قد ... أتعب الناس عهدها بالصلات
فكأني ملكت ناصية الده ... ر فصرّفتها على شهواتي
ومن قصيدة أخرى:
إن كان بالكرم الخلود فما أرى ... في العالمين سوى سعيد يسلمُ

وله من الحسن البديع برافعٌ ... وعليه من بشر السماحة ميسم
عبقٌ به مسك الثناء تكاد في الن ... ادي نوافج ذكره تتكلم
ومن أخرى:
قد قلت حين أفاض أحمد سيبه ... يا شقوة المتشبهين بأحمد
يشرون مثل جياده وعبيده ... أفيقدرون على ابتياع السؤدد
ومن أخرى:
هو بحرٌ من مائه ذائب التب ... ر وأدنى أحجاره الياقوت
لي طعام من داره وشرابٌ ... ومقيل في ظله ومبيت
ومن أخرى له:
أقبل عليّ وقل ضيفي ومتّبعي ... وشاعري قاصدي راجي ممتاري
أنت الإمام فمن أدعو وحضرتك ال ... دنيا فأين أقضي بعض أوطاري
ومن أخرى:
أفارق بغداد لا عن قلىً ... وأسري إلى البين لا عن كرم
أروح وأغدو ولي قائدا ... ن عزّ الإباء وذلّ العدم
وأرجو فتىً مكرم للندى ... كما رجّت الأرض صوب الديم
ومن أخرى:
ليس الوزارة إلاّ عندكم ولكم ... ولا مغارسها إلا بدوركم
لو أنصفت كلّ أرضٍ في منابتها ... لكان في أرض قمٍّ ينبت الكرم
الشكوى والعتاب قال:
أفلا أجاز ولي ثلاثة أشهرٍ ... لا تعلمون بما أقيم تجمّلي
قد بعت حتى بعت طرفاً قائماً ... تحت القدور على ثلاثة أرجل
ورهنت حتى قد رهنت منادمي ... ومناشدي ومذكري ومعللي
فرأيت حالة حاسديك كحالتي ... ورأيت منزل حاسيديّ كمنزلي
ومن أخرى:
لبست العدم حتى صار ذيلي ... يضيق تقبلي فيه كزيقي
وكادحت المطالب بعد ضرّ ... ودارأت المعيشة بعد ضيق
فقد أوقدت صندوقي ثيابي ... وصبّ الماء في حبّ الدقيق
فهل في الناس يا للناس حرّ ... يبيض وجه ممتحن مضيق؟
أريد حين يصلح بعض حالي ... فإنّ الناس كلّهم صديقي
ومن أخرى:
قطعتكم برغم المجد شهراً ... أشدّ عليّ من شهر الصيام
وكيف أزوركم والمزن تبكي ... على داري بأربعة سجام
وكانت منزلا طلق المحيا ... فصارت وادياً صعب المرام
وبحراً من عجائبه خلوصي ... إليكم ظامئاً والبحر طامي
بناتي كالضفادع في ثراها ... وأهلي في الروازن كالحمام
حوالينا بذاك ولا علينا ... كفانا الله شرّك من غمام
تهافت ركّع الجدران فيها ... سجوداً للرعود بلا إمام
كأنّ مصون ما أحرزت فيها ... على أبواب مشرعة الخيام
فلا بابٌ يردّ ولا جدار ... يرد الطّرف عن وجهٍ حرام
وكانت جنّة الفردوس عادت ... ملاعب جنّةٍ ووكور هام
ومن أخرى:
زرت حتى حجبت وانتقب النا ... س نقابين طرّزا باحتشامِ
إن بوّابك القصير طويل ال ... باع في سوء عشرتي واهتضامي
هو تعويذ ملكك البارع الحس ... ن وشيطان عبدك المستضام
سمج الوجه لو غدا حاجب البي ... ت كفرنا بالحجّ والإحرام
ومن أخرى في سابور الوزير يشكو حاله وسقطه في سكره:
محاسن غضّت ناظري من تعتبا ... وفضل نهاني وصفه أن أشببّا
ترى كبرياء الملك فوق جبينه ... فتقرأ سطراً بالمهانة معربا
وليس الذي آباؤه وجدوده ال ... ملوك كمصنوع إذا ما تنسيا
فيا ناظر الإسلام هل أنت ناظرٌ ... إلى خادم أثنى عليك وأطنبا
إلى شاعر نادى وقد فغر الردى ... له فاه سابور معي فتهيّبا
ألم يخبر الشرب النشاوي بقصتي ... ولم يتغن الركب بي حين أهدبا
ولم تتحدث في الخدور بسقطتي ... عذارى يقلّبن البنان المخضبا
فدى الشعراء الشامتون بقصتي ... فتى في سماء الشعر يطلع كوكبا

فتى لم يسر إلا الذي صاغ أو روى ... وإن قعقع المغرور منهم وأجلبا
أظنوا بأني إن سقطت تكسرت ... فوافي أو عاودت فكري وقد أبى
توهن جسمي فاشمتوا أو تجملوا ... ولكنّ عضباً بين فكي ما نبا
وكم سار شعر قاعد عنه ربه ... ودوّن قول من سطيح وصوّبا
سلوا الموت عني كيف فللت غربه ... ونازعته نفسي وقد كرّ مغضبا
شربنا وكان الشرب بعد سفورنا ... على نرجس قبل الشبيبة شيبا
ودجلة تجلو في المصندل شاطئاً ... يرق وطيّاراً يحفّ وربربا
وكانت لنا في جبهة الدهر ليلةٌ ... كهمّك لان العيش فيها وأخصبا
عفا الدهر عنها بعدما كان ساخطاً ... وأحسن فيها بعدما كان مذنبا
فيا فرحتا لو كنت أصبحت سالما ... ويا سوءتا إن مركبي زلّ أو كبا
إذا لم أعربد في أواخر نشوتي ... فلا عار إن خطب علي توثبا
وصبراً على خير الخمار وشره ... بما قلت أهلا للكوؤس ومرحبا
أروح وصبغ الراح يخضب راحتي ... وأغدو بعضو من دمي قد تخضبا
فلو بصرت عين الوزير بشاعر ... على مركب قد شانه الله مركبا
رأى اللهو ميتاً والمجون ممدداً ... صريعاً وجثمان السرور معذبا
وباكرني أشياخ قومي فأكثروا ال ... فضول لعمري والأذى والتعجبا
يقولون لي تب لا تعود لمثلها ... وهيهات ضاع الواعظ عندي وخيّبا
وكم قبلها قد متّ بالسكر مرةً ... وعدت فكان العود أحلى وأطيبا
كذا أبداً إما تراني مجرراً ... ذيولي سكراً أو كسير مشعبا
ولكن على الأحرار حمل مؤونتي ... إذا ذهبت بي نبوة الدهر مذهبا
ولما جفانا من ألفنا وصاله ... وأخلف عام كان يرجى وأجدبا
رهنّا وصرّفنا وبعنا منادلا ... وحليا ومذخوراَ إلينا محببا
رأيت ابنتي قد أحرزت بعض حليها ... فأنشدت تعريضاً لها وتشبّبا
تجول خلاخيل النساء ولا أرى ... لرملة خلخالاً فقالت هيا أبا
سلبت الجواري حليهن فلم تدع ... سواراً ولا طوقاً على النحر مذهبا
فقلت لها ظل الوزير يبيحنا ... جناباً إذا رضنا به الدهر أعتبا
إذا كان بدر الملك سابور طالعاً ... فلست أبالي بعده من تغيبا
؟ما أخرج في وصف شعره قال من قصيدة في أبي الريان:
لي فيك التي ترى البحتري أم ... تار في نظمها أبا تمام
فهي لفظٌ سهلٌ ومعنى بديع ... غرّه الفكر درّة في النظام
كلما أنشدت شهدت بأن ال ... شهر أمر مسلّم للسلامي
ومن أخرى:
وأزور دارك وهي آنس جنّةٍ ... فيفيض حولي من نداك الكوثر
وأقول فيك فلا تفاخر طيّءٍ ... إلا وتسجد لي وتركع بحتر
ومن أخرى:
وهنّيته وحياً من الشعر لم يلق ... بألفاظ غيري عند غيرك درسه
صحيفته قلبي إذا ما كتبه ... وأقلامه الأفكار والطبع نقسه
ومن أخرى:
وقافية منك أوضاحها ... ولكنّ لفظي فيها لمعْ
عراقية اللفظ شامية ال ... محاسن علوية المصطنع
فيا واحد المجد صنها فمن ... سوى واحد الشعر ما تستمع
مدحتك حتى بلغت المشيب ... وكنت ببابك دون اليفع
وقال من أخرى:
وأعطيت طبع البحتري وشعره ... فمن بالي بمال البحتري وعمره
وقال من أخرى:
ومضمومة تحت حضن الدجى ... مقبّلة بشفاه الأماني
تروق زهيرا أزاهيرها ... ويعشو إلى ضوئها الأعشيان
ومن أخرى:
وقد زعمت رواة الشعر أنّي ... ملكت عنان أبلقه العقوق
///بن سكرة الهاشم

أبو الحسن محمد بن عبد الله بن محمد
شاعر متسع الباع، في أنواع الإبداع. فائق في قول الملح والظرف، أحد الفحول الأفراد، جار في ميدان المجون والسخف ما أراد. وكان يقال ببغداد: إن زماناً جاد بابن سكرة وابن الحجاج لسخي جداً. وما أشبههما إلا بجرير والفرزدق في عصريهما، فيقال: إن ديوان ابن سكرة يربى على خمسين ألف بيت، منها في قينة سوداء يقال لها خمرة أكثر من عشرة آلاف بيت، وكانت عرضة نوادره وملحه، كطيلسان بن حرب، وهن أبي حكيمة، وحمار طباب، وضرطة وهب. وحكى أبو طاهر ميمون بن سهل الواسطي أن ابن سكرة حلف بطلاق امرأته - وي ابنه عمه - أنه لا يخلى بياض يوم من سواد شعره في هجاء خمرة، ولما شعرت امرأته بالقصة كانت كل يوم إذا انفتل زوجها من صلاة الصبح تجيئه بالدواة والقرطاس وتلزم مصلاه لزوم الغريم غير الكريم، فلا تفارقه ما لم يقرض ولو بيتاً في ذكرها وهجائها، وقد أخرجت من عيون ملحه ما يجمع الحجول والغرر، ويمتع السمع والبصر.
الغزل والنسيب قال في غلام بيده غصن لوز قد نور:
غصنُ بانٍ بدا وفي اليد منه ... غصنٌ فيه لؤلؤ منظومُ
فتحيرتُ بين غصنين في ذا ... قمرٌ طالع وفي ذا نجوم
وقال:
وغزالٍ لولا تميمة شعرٍ ... ذكرته لقلت بعض الجواري
شارب أشرب الصبابة قلبي ... وعذارٌ خلعت فيه عذاري
وقال:
ويوم لا يقاس إليه يومٌ ... يلوح ضياءه من غير نار
أقمنا فيه للذات سوقاً ... نبيع العقل فيها بالعقار
وقال:
من عذيري من شادنٍ لا يراني ... وهو روحي أهلاً لردّ السلام؟
أنا من خده وعينيه والثغر ... ومن ريقه البعيد المرامِ
بين وردٍ ونرجسٍ وتلالي ... أقحوانٍ وبابلي مدام
وقال:
الغصن منسوبٌ إلى قده ... والورد منثورً على خدهِ
بدرٌ يود البدر في حسنه ... بأنه يُعزى إلى عبده
سألته في صحوة قبلةً ... فردني والموت في رده
حتى إذا السكر لوى رأسه ... قبلته ألفاً بلا حمده
وقال في غلام يهواه وهو سميه:
إذا باسمي دعيتُ حننت شوقاً ... وذكرني به الداعي حبيبي
فليت كما اتفقنا بالأسامي ... وألفتها اتفقنا بالقلوبِ
وقال:
الليالي تسوء ثم تسر ... وصروف الزمان ما تستقر
غير أني عن الحوادث راضٍ ... بعد سخط والعيش حلوٌ ومر
كنت صباً بواحد ثم ثني ... ت فلي بالجميع وصلٌ وهجرُ
من كمثلي وعن يمينه شمسٌ ... تتجلى وعن شمالي بدرُ
ذا على خده من المسك سطرٌ ... وعلى طرف ذا من الغنج سطر
بت يجري علي من ريق هذي ... ن وكأسي شهدٌ ومسكٌ وخمرٌ
لي من ريق ذا ومقلة هذا ... مع كأسي سكرٌ وسكرٌ وسكرُ
وقال:
حذار من وصل من بليت به ... فقد لقيت الردى بجفوته
دنوت منه كميا أقبله ... فلم تدعني نيرانُ وجنته
وقال:
قالوا التحى وستسلو عنه قلتُ لهم ... هل يحسن الروض ما لم يطلع الزهر
هل التحى طرفه الساجي فأهجره ... أم هل تزحزح على ألحاظه الحورُ
وقال:
يا ضاحكاً يستهل مضحكه ... عن برد واضحٍ وعن شنب
أعطيتني قبلةً رشف بها ال ... شهد مشوباً بعبرة العنب
كأنني إذ لثمتُ فاك بها ... لثمت تفاحةً من الذهب
وقال:
فديتُ من الناس من لحظه ... بلا خنجرٍ كاد أن يجرحا
كتمت هواه زمان الصبا ... وصرحت بالحب لما التحى
وقيل محا الشعر لما بدا ... محاسنه منه واستقبحا
فقلت لهم ما محا حسنه ... ولكن صبري عنه محا
بنفسي عذارٌ بدا طالعاً ... على ناضر الورد ما أملحا
فصير في رزةٍ أصبعي ... وأوثق كفي تحت الرحى
وقال:
أشبهه وحاشية لديه ... ثقالاً كلهم رخمٌ وبومٌ

ببدر التمِّ إشراقاً وحسناً ... وقد سترت محاسنه الغيومُ
عهدت البدر تكنفه نجومٌ ... وذا بدرٌ تطيف به رجوم
وقال:
عابوا وقالوا تسل عنه ... فقلتُ هذا أوان حبي
إنّ الذي عبتموه منهُ ... هو الذي يشتهيه قلبي
وكلما عبتموه عندي ... زاد جنوني به وعجبي
وقال:
أحببت بدراً ما له مشبهٌ ... في الحسن لولا أنه جافي
أحورُ في مقلته حجةٌ ... للعين والشين مع القاف
وفي ارتجاج الردف داعٍ إلى ... نونٍ وياءٍ قبل ما كاف
سألته الوصل فلم يحتشم ... وقال قدم نقدك الوافي
وقال:
يا سيدي مؤملي ... قد شفني شوقي إليكا
دمعي عليك موردٌ ... فكأنه من وجنتيكا
وقال في غلام أعرض:
قالوا بليت بأعرجٍ فأجبتهم ... العيب يحدث في غصون البان
ماذا علي إذا استجدت شمائلاً ... وروادفاً تغني عن الكثبان
إني أحب جلوسه وأريده ... للنوم لا للجري في الميدان
في كل عضوٍ منه حسنٌ كاملٌ ... ما ضرني أن زلت القدمان
وله:
ليس شرف المدام للمستهام ... مذهباً ما به من الأسقام
كلما دبت المدامة في الأع ... ضاء دب اشتياقه في العظام
وقال في غلام رش عليه ماء الورد:
ليت شعري عن ماء وردك هذا ... هو من وجنتيك أم شفتيكا
رق حسناً وطاب عرفاً فقد د ... ل بأوصافه الظراف عليكا
وقال:
بات سكران لا يحيرُ جواباً ... عن كلامي وبت ألثم فاهُ
وأتاني إبليس يأمر بالسو ... ء فما كان ذاك لا وهواه
شيمة الظرف أن أصون حبيبي ... عن قبيح يراه أو لا يراه
أي فرقٍ بين الحبيب إذا ني ... ك ولم يحتشم وبين سواه
وقال:
في وجه إنسانةٍ كلفتُ بها ... أربعةً ما اجتمعن في أحد
الخد وردٌ، والصدغ غاليةٌ ... والريق خمرٌ، والثغر من برد
لكل جزءٍ من حسنها بدعٌ ... تودع قلبي بدائع الكمد
وقال:
يا نظير البدر في صورته ... وشبيه الغصن في قامته
والذي ينتسب الورد إلى ... روضةٍ تضحك في وجنته
ما ترى في عاشق مكتئبٍ ... دمعه وقفٌ على مقلته
واقفٌ بالباب يشكو ما به ... فمتى تنظر في قصته
وقال:
بأبي الأسمر الذي فزتُ منه ... بهلالٍ يبين للناظرينا
قد سقانا فما شفانا مداماً ... وشربنا من ريقه فروينا
وقال:
غزالُ فؤادي إليه صبا ... وهش ولولاه لم يهشش
أجل نظراً في نقا خده ... وفي خدي الأصفر الأنمش
تجد صحن خديه تفاحة ... وخدي من أجله مشمشي
وقال:
خذ من الدهر ما صفا لك منه ... ودع الفكر في بنات الطريقِِ
أي شيءٍ يكون أطيب من كأ ... س رحيقٍ شيبت بريق عشيق
وقال:
تظن أني أسلو ... كلا وربٌ البنيه
الآن تيم قلبي ... باللحية السجية
الخدُ خمرة فضلٍ ... على الخدود النقيه
فيه بقية حسن ... لم تبقِ مني بقيه
وله:
أنا والله تالفٌ ... أيسٌ من سلامتي
أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي
وقال:
وشادن ما رأيته غرته الغ ... راء إلا شككت في القمر
قد قلت لما رأيت صورته ... تبارك الله خالق الصور
وقال في غلام زطي زامر:
ظبي من الزط تعلقته ... فصار معشوقي ومولاي
أحسن والإحسان لم يجمعا ... في حسنٍ إلا لبلواي
إذا نأت روحي عن جسمها ... رد لي النأي بالناي
وقال في غلام يعرف بابن برغوث من مشاهير الملاح:
بليت ولا أقول بمن لأني ... متى ما قتل من هو يعشقوهُ

حبيبٌ قد نفا عني رقادي ... فإن غمضتُ أيقظني أبوه
وقال:
مستهامٌ ضاق مذهبهُ ... في هوى من عز مطلبه
كل أمري في الهوى عجبُ ... وخلاصي منه أعجبهُ
لي حبيبٌ كله حسنٌ ... فعيون الناس تنهبه
صيغ من ماءٍ ولي نظرٌ ... ليس يروي حين يشربه
ضاع من عيني فمقلتها ... في بحار الدمع تطلبه
منعتني من مقبلهِ ... حين أدنوا منه عقربه
واستدارت فهي تحرسه ... من فمي بخلاً وترقبه
وقال:
أهلاً وسهلاً بمن زارت بلا عدةٍ ... تحت الظلام ولم تحذر من الحرس
تسترت بالدجى عمداً فما استترت ... وناب إشراقها ليلاً عن القبس
ولو طواها الدجى عنا لأظهرها ... برق الثنايا وعطر النحر والنفس
المجون وما يجري مجراه قال:
قد قلتُ لما مر بي معرضاً ... كالبدر تحت الغسق الداجي
يهتز في حشيته متعباً ... من كفل كالموج رجراج
ويلي على حل سراويله ... فإنه شد على عاج
وقال في غلام تركي شرب معه:
أيها التركي ما عن ... دك للصب النحيل
هل إلى ما يستر القر ... طق عني من سبيل؟
أشتهي ذاك وأخشى ... صولة الليث الثقيلِ
وقال:
يا ليلةً ليس فيها ... إلى الفقاح سبيلٌ
طالت على ذي اهتياج ... له قمد طويل
مسكرجٌ تتوالى ... دموعه وتسيل
رقاده في الدياجي ... حتى ينيك قليل
موترُ مستقيم ... عليه رأس ثقيل
أنزلته خان سوء ... عنه يطيب الرحيل
وقال:
قل للكويتب عني ... بأي أيرٍ تنيكُ؟
والأير منك صغير ... نضوٌ ضعيفٌ ركيك
شارك بأيرك أيري ... ونك فنعم الشريك
وقال:
إني بليت بشادن غنجٍ ... حسن الشمائل وافر الكفلِ
يبغى الدراهم وهي معوزةٌ ... عندي فحبلي غير متصل
مستعجم الألفاظ أجهل ما ... يبدي ويجهل فهمه غزلي
وإذا مدحت فليس يفهمه ... والفارسية ليس من عملي
فبحق ما بيني وبينك من ... ود بلا زيغ ولا ميل
امنن علي بقربه فعسى ... أحيا بزورته ويسمح لي
الجود منك سجيةٌ أبداً ... والمدح والتقريظ من قبلي
وقال:
إذا لم يكن للأير بختٌ تعذرت ... عليه جهات النيك من كل ناحية
حرمت الغزال الواسطي لشقوتي ... فدمعة أيري فوقه خصييه جاريه
وفاز به كل البرايا، وربما ... غدت عقدي في خدعة المرد واهيه
أقول لأيري وهو يرقب فتكةً ... به خبت يا أيري وغالتك داهيه
عزاءً فقد خاس الرجل بسيدي ... علي ولاذوا بالدعي معاويه
وقال:
لما رأت كلفي بها وصبابتي ... وتأملت شمطاً يلوح بعارضي
قالت أكلت جناك ثم أتيتنا ... بمدود من تمر عمرك حامض
أفحين نام الأير منك وصلتنا ... تبغي النكاح بغير أيرٍ ناهض
لا تعرضن لمهرةٍ إن لم ترض ... كل الرضى كسرت ضلوع الرائض
وقال:
وجاهلة هبت سفاهاً تلومني ... وما عندها من لذة القصف ما عندي
توبخني بالشيب مرشدٌ ... لعمري ولكن لست أنشط للرشد
فقلت لها كفي ملامك إنني ... بطيء عن العذال في زمن الورد
وقال:
وبات في السح معي واحدٌ ... من أكرم الناس ذوي الفضل
أفسوا فيفسو وهو لي مسعدٌ ... كأنما أملي له ويستملي
وقال:
عشقت للحين قينةً عطفت ... قلبي بالحسن كل منعطفِ
ورمت نيكاً لها فكيف به ... لولا سفاهي والبدع من حرفي

قلت أرفقي بالشريف فابتسمت ... عن لؤلؤٍ ما اعتزى إلى صدف
عجباً وأبدت كالقعب عض له ... أيري علي بيضه من الأسف
وصفقت فوقه تحسرني ... وهو كثيف المجس كالهدف
حتى إذا ما رنا له ذكري ... وطال حتى علا على كتفي
قلت بحقي عليك تطمع أن ... تولج في ذا بالشعر والشرف
تالله لا نكتني بقافيةٍ ... ولا بفخرٍ فانسل أو فففِ
أسبلت ثوبها عليه فلم ... أملك سلواً ولج بي كلفي
فعجت عنها والأير ينشدني ... بيتاً ويبكي بأدمع ذرف
قال لي الشوق قف لتلثمه ... فمن حذار الرقيب لم أقف
وقال:
أيا من كله قمر ... وكل لحاظه حورٌ
لقد طالت عداتك لي ... وأيامي بها قصر
متى في البرج تحصل كي ... تزيف ويهدر الذكر
وتنشر بيننا قبلٌ ... يطير لنارها شرر
وقال:
وسوداء بورك في بعضها ... ولا نال بؤساً فما أضيقا
نزوت عليها ولا علم لي ... بأن لها كعثناً محرقاً
وكدت في الحر أن أشتوي ... ومن شدة الضيق أن أخنقا
وألفيت من جسدينا معاً ... لمبصرنا شبحاً أبلقا
فإن أخدشت قرطست بالمنى ... وإن تممت ولدت عقعقا
وقال:
لخمرة عندي حديثٌ يطول ... رأتني أبول فكادت تبولُ
فلما نهضت أتاني الكتاب ... وجاء الهدايا ووافى الرسول
وقالت تقول بنا يا فتى ... فقلت وأنعظت لم لا أقول
وقال:
وأجر غلماني في واسط ... جوعٌ، وكانوا لا يرامونا
جادوا بما كنت ضنيناً به ... فاتسعوا مما يناكونا
لو أنّ رزقي مثلُ أدبارهم ... كنت من الإثراء قارونا
ملح من أهاجيه لخمرة قال:
غشت خميرة يوم العرس حاجبها ... بريقها وأتتني وهي مختضبه
فقلت للزوج لا تغررك حُمرتها ... فإنها القفل موضوعٌ على خربه
وقال من السريع
يا سائلي عن ليلةٍ لي مضت ... وطيبها عند أبي الجيش
وكيف غنت خمرةٌ لا تسل ... غنت فأغنتنا عن الخيش
كف على الطبل لإيقاعها ... وكفها الأخرى على الفيش
وربما مرت لها فسوةٌ ... من فمها عفت على العيش
وقال:
رب عجوزٍ مستعينيه ... سلقيةِ اللون سلوقيه
عاجية الشعر إذا استضحكت ... أبدت ثنايا آبنوسيه
ذات حر عنبلهُ بارزٌ ... كمرقبٍ في وسط بريه
وشعرةٍ بالقمل منظومةٍ ... كالودع في عقصةٍ كرديه
يفتر ذاك الصدغ عن بظرها ... كقنفذ عض على ريه
مسنة تصبو إلى أمردٍ ... فهي على العاهة لوطيه
وقال:
عجبت لخمرة البخراء أنى ... أقامت مع مؤاجرها زماناً
وليس لأيره طولٌ ولكن ... ينيكُ به فيردفه لساناً
لحاه الله كيف يدس فيها ... لساناً ربما درس القرانا
وقال:
هل لك يا خمرة في تجرةٍ ... مربحةٍ ما مثلها تجره
صيري إلى البصرة واسترزقي ... ربك بالنكهة في البصره
فلو عرضت الريق في سوقها ... لا بتيعت التفلة بالبدره
تزكو بها النخل وتحمر في ... غير أوان الحمرة البسره
وقال:
لا تسمعوا خمرة فقد هرمت ... وانكسرت تلكم القواريرُ
رث غناها ورث كعثنها ... والخلق المسترث مهجور
وكل بازٍ يمسهُ هرمٌ ... تخرى على رأسه العصافير
وقال:
وقد كنت قبل الشيب أعشق خمرةً ... وتفرطُ في عشقي وتضرطُ من حبي
إلى أن عفا حرها ودبب منعظي ... وصارت قفا نبك وصرت ألا هبي
وقال:
حسبي سواك وبسي من وصالك لي ... شغلت عنك بمن أهواه فاشتغلي

لا تعذليني على ما كان من مللٍ ... من ذا يراك فلا يصبو إلى الملل
هرمت حتى تناسيت اللحون معاً ... وصرت مفرغة الألحاظ والمقل
إن كنت أبصرت أسى منك في بصري ... فلا بلغت الذي أهواه من أملي
البحر أنت وأيري ليس من سمكٍ ... وليس بيني وبين البحر من عمل
وحصل معها في دعوة فغنت. فقال ابن سكرة:
ذنبي عظيمٌ ما أرى يُغفرُ ... في وصل من نكهتها مبعر
فالحمد لله على حكمه ... هذا دليلٌ أنني مدبر
قد قلت لما لاح لي ثغرها ... ولا منه الخزف الأخضر
وانتثر السوسن من صدغها ... وثار منها نفس أبخر
وشف قلبي نتن آباطها ... يا معشر الناس قفوا فانظروا
ما أخرج من سائر أهاجيه قال:
تهت علينا ولست فينا ... ولي عهدٍ ولا خليفه
فته وزد ما علي جارٍ ... يقطع عني ولا وظيفه
ولا تقل ليس في عيبٌ ... قد تقذف الحرة العفيفه
الشعر نارٌ بلا دخانٍ ... وللقوافي رقى لطيفه
كم من ثقيل المحل سامٍ ... هوت به أحرفٌ خفيفه
لو هجى المسك وهو أهل ... لكل مدحٍ لصار جيفه
وقال:
أما الصيام فشيء لست أعدمهُ ... مدى الزمان وإن بيتُ إفطارا
أغشى أناساً فأغشى في منازلهم ... جوعاً علي ولا أغشى لهم نارا
قد ألجموا القمل أن ترزأ دماءهم ... وألجموا في الكوى الجرذان والفارا
قال:
وهنوا بالصيام فقلت مهلاً ... فإني طول دهري في صيام
وهل فطر لمن يمسي ويضحي ... يؤمل فضل أقواتِ اللئام
وقال:
أكره أن أدنو إلى داركم ... لأنني أخشى على نفسي
ضرسي طحونٌ وعلى خبزكم ... من أكل مثلي آية الكرسي
وهو الذي أقعدني عنكمُ ... فكيف آتي ومعي ضرسي؟
وقال:
عليلٌ لا يعاد من الخساسة ... له نفس تحيد عن النفاسه
دخلت أعوده فازور عني ... كأني جئته لأدق رأسه
وقال:
قام إلى كلبٍ له مثله ... فلم يزل يعلوه بالسيفِ
فقلت ما ذنب أخيك الذي ... يقنع من زادك بالطيفِ
فقال لي لا عفو عن ذنبه ... حاف علينا أيما حيف
صانعه الضيف بعظمٍ له ... فنحن في ريب من الضيف
وقال:
كل العجائب قد سمعت وما أرى ... أني سمعت لشاعرٍ قرنان
قرن يحك به السماء ومثله ... ذنب يزور الحوت في الأزمان
وإذا تحدث أحدثت لهواتهُ ... فترى الأنوف تلوذ بالأردان
وترى أخادعه تعط كأرنبٍ ... عكفت عليه مناسر العقبان
وقال:
لا قدست أرضٌ أقمنا بها ... قريبةٌ من طبرستان
ليست خراسان ولكنها ... تقرب من أرض خراسان
لا سقيت جرجان من وابلٍ ... قطراً ولا ساكن جرجان
قومٌ إذا حل غريبُ بهم ... مات من الشوق إلى البان
وقال:
لا وصل الروح إلى تربةٍ ... تضمنت روح أبي روح
والضرطُ والفسو على قبره ... أولى من التأبين والنوح
وقال:
يا جو أمرد يا حليف البلاده ... لك في الفسق عادةٌ أي عاده
أنت لا تعرف الصلاة فقل لي ... لم تأنقت في شرا سجاده
وقال:
يا شاعراً جمت مصائب دبره ... وتكاثفت لوداقه أوجاعه
طلب التطبع في القريض بجهده ... فجرت طبيعته وقام طباعه
وقال:
علامة النحس والخذلان والشوم ... إغراض وجهك عن صقر إلى بوم
كراغبٍ في بناء الزنج من أفنٍ ... وزاهدٍ في بنات الترك والروم
وقال:
تجشأت في وجه بوابه ... ليعرف شبعي فلا أمنعُ
وقلت له إن بي تخمةً ... فهل من دواء لها ينفع؟

فقال لقد غرني معشر ... بهذا الحديث الذي أسمع
فلما نذرت بهم صاحبي ... ولاحت موائده أوجعوا
فراحوا بطاناً ذوي كظةٍ ... وأقبلت من أجلهم أصفع
وقال:
يطيل المكث في الإصطبل حتى ... يرى أير الحمار إذا اسبطراّ
فيمرسه ويكثرُ قول طوبى ... لغمدٍ ضم هذا النصل شهراً
وقال:
لنا شيخ يصلي من قعودٍ ... وينكح حين ينكح من قيامِ
صموت فمٍ أخو عي ولكن ... له دبرٌ يطفل بالكلام
وقال لكاتب وعده كاغداً فلم ينجز:
كددتني أن سألتك الورقا ... فكيف حالي إن قاسمتك الورقا
يا كاتباً برزت كتابته ... فصار فيها مقدماً لبقا
أسلم في مكتب المروءة وال ... ظرف وكسب العلا فما حذقا
حتى إذا أسلموه في مكتب ال ... لؤم جرى كيف شاء وانطلقا
ما أخرج من خمرياته وما يتصل بها من الأوصاف قال:
اشرب فلليوم فضلٌ لو علمت به ... بادرت باللهو واستعجلت بالطربِ
ورد الخدود ورد الروض قد جمعا ... والغيم مبتسمٌ والشمس في الحجب
لا تحبس الكأس واشربها مشعشعةً ... حتى تموت بها موتاً بلا سبب
وقال، وقد شرب في الغمر بواسط:
ليلتي في الغمر دهري ... أو يقضي العمر عمري
مر لي في العمر يومً ... لا أجازيه بشكر
بين غزلان النصارى ... أمزج الريق بخمر
وقال، وقد شرب عند الأمير أحمد بن ورقاء:
للأمير الجليل لا ... حط من نبل قدره
قهوةٌ أشبهت سجا ... ياه في كل أمره
ذات صفوٍ كوده ... ونسيمٍ كنشرهِ
فشربنا بحمده ... وانتقلنا بشكرهِ
وسمعنا غرائباً ... من أفانين شعرهِ
فكأنا في الخلد نر ... تع في طيب زهره
وقال:
قم يا غزال من الكرى ... روحي فداؤك من غزالِ
هذا الصبوح وأنت ... أنت وهذه بكر الحجالِ
لا تخدعن عن الشمو ... ل يشوبها ماء الشمالِ
وقال سامحه الله تعالى:
قد بدا الصبح مؤذناً بسفور ... وفرى الفجر حلةَ الديجورِ
فاستقني قهوةً تترجم بالرق ... ة عن دمع عاشقٍ مهجور
وقال:
يا ساهر الطرف قد بدا السحرُ ... وجمشتنا بنشرها الزهر
ورق جلبابٌ ليلنا ودعا ... إلى الصبوح الصباح والقمرُ
فما ترى في اصطباح صافيةٍ ... بكرٍ حناها في الحانة الكبر
رقت فراقت وفات ملمسها ... ولم يفتنا النسيم والنظر
فهي لمن شم ريحها أثرٌ ... وهي لمن رام لمسها خبر
ترى الثريا والغرب يجذبها ... والبدر يهوى والفجر ينفجر
كف عروسٍ لاحت خواتمها ... أو عقد در في الجو ينتثر
في روضةٍ راضها الربيع وما ... قصر في وشي بردها المطر
حيث نأى الناي بالعقول وقد ... أبلغ في نيل وتره الوتر
وقال، وكتب بها إلى يحيى بن فهيد بستهدي نبيذاً:
رسالة من مكد ... وشاعرٍ وشريفِ
إلى فتى مستبد ... بكل فعلٍ ظريف
إليك يحيى اشتكائي ... صحوي بيومٍ طريف
ولست مضمر نسكٍ ... كلاَّ ولا بعفيف
ولو أسام بديني ... لبعته برغيف
موت الوزير دعاني ... إلى التماس طفيف
ولم أزل وهو حي ... في كل خصبٍ وريف
وأنت منه اعتياضي ... يا ذا المحل المنيف
أجل وكهفي وغوثي ... على الزمان العنيف
وفي النبيذ سلو ... عن الغرام المطيف
فامنن علي بضمٍ ... من الدنان كثيف
مستودعٍ ذات لونٍ ... ومطعمٍ حريف

كأنها وهم حس ... أتى بحدسٍ لطيف
فقد تبدد شملي ... وأنت للتأليف
وقال:
يا من ثناه وذكره ... بين الورى مسكٌ وعنبر
إني كتبت وزائري ... ظبي مليحٌ الدل أحور
متمنعٌ في الصحو يسم ... ح بالبضاعة حين يسكر
وارى تعذر أمره ... في الكف إن سكرٌ تعذر
فامنن علي بقهوةٍ ... أنف الحبيب بها يعفر
فأنال منه أنا المنى ... وتحوز أنت ثناً وتؤجر
وقال:
إن كنت تنشط للمدي ... ح وللثناء عليك مني
فابعث إلي مع الرسو ... ل إذا أتاك بملء دنِّ
ومتى رضيت بأن أقط ... ع أو أهجن أو أزني
فاصرف رسولي خائباً ... وادفع بقبحك حسن ظني
وقال:
يا فتى الجصاص قد أع ... دمتني الإحسان دفعة
ولزمت الشح بالرا ... ح فما تسخو بجرعه
قد أتى العيد وصحوي ... فيه يا مولاي بدعه
أملي فيك قريبٌ ... ليس فيه لي منعه
شربةٌ من خمرك الصا ... في ومن ندك قطعه
ينبذ الحبُّ فيستنف ... ده الشعر برقعه
وقال:
لنا على النار قدرٌ ... بخاتم النار بكرُ
وعندنا من بقايا ... صبيحة العيد خمر
وقد دعونا غلاماً ... كالغصن أعلاه بدر
فاطلع علينا وساعد ... أو لا فما لك عذر
وقال:
على الأثافي لنا قدورُ ... ساكنةٌ النبض لا تفور
قامت على سوقها لأكل ... ونحن من حولها ندورُ
وعندنا من شراب عمروٍ ... دنٌّ رحيبُ الحشى كبيرُ
لما فضضناه فاح منه ... نسيم مسكٍ ولاح نور
فكن لنا مسعداً وبادر ... يكمل بك الحسن والسرور
واغنم من الدهر صفو يومٍ ... فهو بتكديره جدير
وقال يستهدي نبيذا في ذكره:
وزنجيةٍ لم تعرف الزنج طفلةٍ ... خميصة بطنٍ مسها عندك العطش
فجاءتك تستسقي من الخمر ريها ... فترجع كالحبلى من النسوة الحبش
فكم من هزيل مثلها في ضمورها ... عنيت به حتى تضلع وانتعش
وقال:
للورد عندي محلٌّ ... لأنه لا يملُّ
كلُّ الرياحين جندٌ ... وهو الأمير الأجلُّ
إن غاب عزّوا وباهوا ... حتى إذا عاد ذلوا
وقال من قصيدة:
ويومٍ لا يقاس إليه يومٌ ... يلوح ضياؤه من غير نار
أقمنا فيه للذات سوقاً ... نبيع العقل فيه بالعقار
الشكوى والتفجع وقال:
أرى حللاً وديباجاً حساناً ... فألحظها بطرفِ المستريبِ
وأعرف قصتي وأراد طرفي ... وفي قلبي أحرُّ من اللهيبِ
جنى نسبي علي وصد رزقي ... وأثكلني من الدنيا نصيبي
فوا أسفاً على كستيج قس ... ويا لهفاً على قوس الصليب
وقال:
قد أتى العيد لا أتى ... فلقد أنهج المهج
يليس فيه لهاشم ... ي سرورٌ ولا فرج
إنه عيد أهل ق ... م وقاشان والكرج
يتلاقى بياضهم ... بقلوبٍ من السبج
وقال يتأسف على أيام المهلبي الوزير:
يا صاحبي قفا أبثكما ... ما قد منيت به من النوبِ
وافى الربيع وقد ألفت به ... درر السقاة بدائر النخب
في روضةٍ صبغ الربيع بها ... ورد الخدود بعصفر العنب
وإذا الغلام أدار في يده ... صفراء بعد المزج كالذهب
حمراء يضحك فوق مفرقها ... ثغر الحباب كثغر ذي شنب
أسجدت فوق الخد منه فمي ... شكراً لما أوليت من طرب
هذا حديثٌ كان لي ومضى ... كالأمس ولى ثم لم يثب
أيام كنت من المهالب في ... ربعٍ أغنّ ومرتعٍ خصب

فبمن أعوذ اليوم من كمدٍ ... لا أستقلُّ به من الكرب
والورد قد وافى بنضرته ... والنفس تطلب غاية الطلب
طلقتُ لذاتي الثلاث فما ... بيني وبين اللهو من سبب
فإذا بصرت بوردةٍ قنعت ... نفسي بها وقضت مدى أربي
فعلى السرور وكل فائدةٍ ... بعد الوزير سلام محتسب
وقال:
مضى ملكٌ عم البرية جوده ... رؤوف وإن راع الأسود شفيق
سكرت بنعماهُ وجود وزيره ... فقالت لي الأيام سوف تفيق
وقال:
لا عذب الله ميتاً كان ينعشني ... فقد لقيت بضري مثل ما لاقى
طواه موتٌ طوى مني مكارمه ... فذقت من بعده بالموت ما ذاقا
وقال بعض الوزراء:
يا سيدي أنت إن لي خبراً ... أجرى لساني وصلب الحدقهْ
هاك حديثي فإن نشطت له ... فاسمع وإلا فخرق الورقهْ
مستأنس زارني وحسبك بال ... ببغاء ضيفاً ذا فقحةٍ شبقه
باكرني جائعاً فهتكني ... ومص مني دمي ولا علقه
وهو على البخت ناقة فمتى ... قدمت ثوراً بفرثه شرقه
لم يبق في روح برمتي رمقاً ... أتى على اللحم واحتسى المرقه
وعاث في سفرتي كمشبلةٍ ... غرثى بتلك الأنامل اللبقه
قلعاً وبلعاً بلا مراقبةٍ ... لله في عيلتي ولا شفقه
قل للرئيس الذي أنامله ... مبسوطةٌ بالنوال منخرقه
حلت لي الميتة التي حُرمتْ ... فكيف تنبو نفسي عن الصدقه
وقال:
يا سيداً ظل فرداً في سيادته ... يخشى ويرجى لدفع الحادث الجللِ
الشوق ينهضني والعدم يقُعدني ... فمن شناك به ما بي من الخللِ
وقال:
جملة أمري أنني مفلسٌ ... وليس للمفلس إخوانُ
ولك ذي عيش بلا درهمٍ ... فعيشه ظلمٌ وعدوان
وقال:
قيل ما أعددتَ للبر ... د فقد جاء بشده
قلت دراعةُ عريٍ ... تحتها جبةْ رعده
وقال:
وجاهل قال لي: لا بد من فرجٍ ... فقلت للغيظ: لم لا بد من فرج؟
فقال من بعد حين قلت يا عجباً ... من يضمن العمر لي يا بارد الحجج
لو كان ما قلتَ حقاً لم أكن رجلاً ... مقسمُ العمر في الروحات والدلج
أسعى لأدرك حظاً لو حظيت به ... ما كنت أول محظوظٍ من الهمج
ذنبي إلى الدهر أني أبطحي أبٍ ... ولست أعزى إلى قم ولا كرج
وقال:
أمسى يسائل عن حالي يخبرها ... وكيف أمسيت في أهلي وفي بلدي
فقلت حالي بحالٍ من رثائتها ... وعلة الحال تنسي علة الجسدِ
المدائح وما يقترب بها قال من قصيدة في الفرج:
وقائل لم غبتَ عن لحظه ... وأنت من أصغر غلمانه
فقلت ما أجهل فخري بمن ... تسمو به سادات أزمانه
هيبته تمنع من قربه ... وحب يغري بغشيانه
وقد تبلدتُ فهل حيلةٌ ... تبسط أنسي عند لقيانه
وقال لابن لوزة، وقد أهدى إليه دواه:
أخٍ مزجت بروحي روحه جرى ... مني كمجرى دمي في الجسم أفديه
ثم اتفقنا على ألقاب سالفنا ... فصرت في كل حالٍ ما أضاهيه
أهدى إلي دواةً لو كتبت بها ... دهري أياديه لم تنفد أياديه
وقال في أبي الحسن محمد بن عمر بن يحيى:
لقد أمسكت من عمر بن يحيى ... بحبل لا أخاف له انبتاتا
حباني في الحياة ورم حالي ... وأوصى بي أبا حسنٍ وماتا
فكنت مجاوراً للحبر منه ... فلما مات جاورت الفراتا
وقال يهنئ بالعيد من الوافر
عماد الدين قابلك السعود ... وعشت كما تريد لمن تريدُ
وأظهرك الإله على الأعادي ... ومات بدائه فيك الحسود
أتاك العيد مقتبلاً جديداً ... وجدك فيه مقتبلُ سعيد

يهني الناس بالأعياد فينا ... وأنت لنا برغم العيد عيدُ
وقال:
ولعمر الإله لولا أيادي ... ك لمات خواطر الشعراء
عشت تطوي الأعياد طي الأعادي ... في سرورٍ ونعمةٍ ورخاءِ
سائر الملح والنوادر قال:
اقر اللهُ عينكِ يا جفوني ... فقد أعتقت من رق السهاد
ويا عيني لك البشرى فنامي ... وتهنيك السلامة يا فؤادي
نزعت عن الهوى وبرئت منه ... إليك وكنت دهري في جهاد
وقال:
يا شاعراً نمتار من ... أفكاره الفقر الدقاقا
شعرٌ لو أن الشهد قي ... س به وجدناه زعاقا
وقال يصف رمكة شقراء:
شقراء إلا حجولٌ مؤخرها ... فهي مدامٌ ورسغُها الزبد
تعطيك مجهودها فراهتها ... في السير فالحضر عندها وتد
قال:
قلت للنزلة حلي ... وانزلي غير لهاتي
واتركي حلقي بحقي ... فهو دهليز حياتي
وقال في غلام له كبر فأخرجه:
ما تركناه وفيه ... لمحب من طباخ
هدر الطير ومن عا ... داتنا أكل الفراخ
وقال:
وهامةٍ نبطت بها لحيةً ... يظلم من قد قاسها باللحى
قد نصل الخضب إلى نصفها ... فهي كمثل النمل إذا أجنحا
وقال:
فإن كنت من هاشمٍ في الذرى ... فقد ينبت الشوك وسط الأقاحي
وقال:
هو البحر إلا أنه عذب موردٍ ... ومن عجبٍ أن العذوبة في البحر
وقال:
الجوعُ يطرد بالرغيف اليابس ... فعلام تكثرُ حسرتي ووساوسي
والموت أنصف حين عدل قسمةً ... بين الخليفة والفقير البائس
وقال:
كنتُ فقيراً ثم أغنيتني ... وعدت في الفقر من الراس
كمثل من بخره أهله ... وهو على مجمره فاسي
وله:
أما ترى الروضة قد نورت ... وظاهر الروضة قد أعشبا
كأنما الأرض سماءٌ لنا ... نقطف منها كوكباً كوكبا
وقال:
أطعمني في خروفكم خرفي ... فجئت مستعجلاً ولم أقفِ
غدوت أرجو طرافه فغدتْ ... في طرفٍ والسماك في طرفِ
وقال:
لقد بان الشباب وكان غضاً ... له ثم وأوراق تظلك
وكان البعض منك فمات فاعلم ... متى ما مات بعضك مات كلك
أخذه من قول الخريمي:
إذا ما مات بعضك فابك بعضاً ... فبعض الشيء من بعضٍ قريبُ
وقال في الزهد يخاطب نفسه:
محمدُ، ما أعددت للقبر والبلى ... وللملكين الواقفين على القبر؟
وأنت مصر لا تراجع توبةً ... ولا ترعوي عما يذم من الأمر
تبيت على خمرٍ تعاقر دنها ... وتصبح مخموراً مريضا من الخمر
سيأتيك يومٌ لا تحاول دفعه ... فقدم له زاداً إلى البعث والحشر

الباب السابع
نذكر فيه
محاسن أبي عبد الله الحسن
بن أحمد بن الحجاج وغرائبه
وهو وإن كان في أكثر شعره لا يستتر من العقل بسجف، ولا يبني رجل قوله إلا على سخف. فإنه من سحرة الشعر، وعجائب العصر. وقد اتفق من رأيته وسمعت به من أهل البصيرة في الأدب وحسن المعرفة بالشعر على أنه فرد زمانه في فنه الذي شهر به، وأنه لم يسبق إلى طريقته، ولم يلحق شأوه في نمطه، ولم ير كاقتداره على ما يرده من المعاني التي تقع في طرزه، مع سلاسة الألفاظ وعذوبتها، وانتظامها في سلك الملاحة والبلاغة. وإن كانت مفصحة عن السخافة، مشوبة بلغات الخلديين والمكدين وأهل الشطارة. ولولا أن جد الأدب جد وهزله هزل كما قال إبراهيم بن المهدي لصنت كتابي هذا عن كثير من كلام من يمد يد المجون فيعرك بها أذن الحرم. ويفتح جراب السخف فيصفع بها قفا العقل. ولكنه على علاته تتفكه الفضلاء بثمار شعره، وستملح الكبراء ببنات طبعه، وتستخف الأدباء أرواح نظمه، ويحتمل المحتشمون فرط رفثه وقذعه.

ومنهم من يغلو في الميل إلى ما يضحك ويمتع من نوادره، ولقد مدح الملوك والأمراء، والوزراء والرؤساء، فلم يخل قصيدة فيها من سفاتج هزل، ونتائج فحشه، وهو عندهم مقبول الجملة غالي مهر الكلام، موفور الحظ من الإكرام والأنعام، مجاب إلى مقترحه من الصلات الجسام، والأعمال المجدية التي ينقلب منها إلى خير حال، وكان طول عمره يتحكم على وزراء الوقت ورؤساء العصر، تحمكم الصبي على أهله، ويعيش في أكنافهم عيشة راضية، ويستثمر نعمة صافية ضافية. وديوان شعره أسير في الآفاق من الأمثال، وأسرى من الخيال. وقد أخرجت من ملحة الخيالة من الفحش المفرط، الحالية بأحسن المقرط، ونوادره التي تسر النفس، وتعيد الأنس.
ما يستغرق وصف ابن الرومي:
شرك العقول ونزهةٌ ما مثلها ... للمطمئن وعقله المستوفز
إن كال لم يملل وإن هي أوجزت ... ود المحدث أنها لم توجز
فمن ذلك وصفه لشعره ولسخفه كقوله:
فإن شعري ظريفٌ ... من بابة الظرفاء
ألذ معنى وأشهى ... من استماع الغناء
وقوله:
قرمَ إذا أنشدته ... شعري البديع تهللاً
فحسبت أن أبا عبا ... دة يمدح المتوكلا
وقوله:
إن عاب ثعلب شعري ... أو عاب خفة روحي
خريت في باب أفعل ... ت من كتاب الفصيح
وقال:
يا سيدي هذي القوافي التي ... وجوها مثل الدنانير
خفيفةٌ من نضجها هشةٌ ... كأنها خبز الأبازير
ومن أخرى يصف فيها نفسه:
حدثُ السن لم يزل يتلهى ... علمه بالمشايخ الكبراء
خاطرٌ يصفع الفرزدق في الشع ... ر ونحو ينيك أم الكسائي
غير أني أصبحت أضيع في القو ... م من البدر في ليالي الشتاء
ومن جملتها:
رجل يدعي النبوة في السخ ... ف ومن ذا يشك في الأنبياء
جاء بالمعجزات يدعو إليها ... فأجيبوا يا معشر السخفاء
وقال:
بالله يا أحمد بن عمرو ... تعرف الناس مثل شعري
شعرٌ يفيض الكنيف منه ... من جانبي خاطري ونحري
نسيمه منتن المعاني ... كأنه فلتة بجحر
لو جد شعري رأيت فيه ... كواكب الليل كيف تسري
وإنما هزله مجونٌ ... يمشي به في المعاش أمري
وقال من قصيدة:
ألست تعلم أني ... في غيبتي وحضوري
ما زلت فيك بمدحي ... أنيك أم جرير
ومن أخرى:
ويدٌ تخرج العرائس في مد ... حك بين الأقلام والأدراج
فاستمعها مني ألذ وأشهى ... من سماع الأرمال والأهزاج
بمعانٍ بخورها لك طيبٌ ... وفساها في لحية الزجاج
حلقت في الطول ذقن جريرٍ ... والأراجيز لحية العجاج
وكتب إليه بعض الرؤساء:
يا أبا عبد الإله ... بك أصبحت أباهي
غير أن السخف في شع ... رك قد جاز التناهي
وقد أعطيت من ذا ... ك ملاحات الملاهي
أقدم الآن على القو ... ل ولا تصغِ لناهي
فأجابه:
سيدي شكرك عندي ... مثل شكري لإلهي
سيدي سخفي الذي قد ... صار يأتي بالدواهي
أنت تدري أنه يد ... فع عن مالي وجاهي
ليت من عاداك عندي ... وهو ساهي الذقن لاهي
فترى لحيته في است ... ي إلى الصدغ كما هي
وقال:
وشعري سخفه لا بد منه ... فقد طبنا وزال الاحتشامُ
وهل دارٌ تكون بلا كنيفٍ ... فيمكن عاقلاً فيها المقام
وقال:
تراني ساكناً حانوت عطرٍ ... فإن أنشدت ثار لك الكنيفُ
وقال:
شعري الذي أصبحت فيه ... فضيحةً بين الملا
لا يستجيب لخاطري ... إلا إذا دخل الخلا
ومن أخرى:
ألا أيها الأستاذ دعوة شاعرٍ ... طريقته في الشعر لا تتبهرج
إذا أنت وظفت القوافي فخيرها ... وإن قل ما يرجو وما يتروج

ومن كان يحوي العطر دكان شعره ... فإن كناس وشعري له مخرج
وقال من قصيدة في بعض الوزراء خالية من السخف:
وهذي القصيدة مثل العروس ... موشحةٌ بالمعاني الملاح
بلا نفحة من فسا عارضٍ ... ولا ووزن خردلةٍ من سلاح
فلو أنها جُعلت خطبةٌ ... لكانت تحلُّ عقود النكاح
بعثت بها عنبراً في الشتاء ... وفي الصيف كافور خرطٍ رياحي
فما مسحت خفشلنج الخصى ... ولا حنكت بلعوق الفقاح
وشعري لا بد من سخفه ... ولا بد للدار من مستراح
ولما غلب على شعره هذا الفن من ذكر المقاذر، وما ينضاف إليها، سئل يوماً ابن سكرة عن قيمة ديوان شعره، فقال قيمته بربخ أي لكثرة ما يشتمل عليه مما يقع فيه، وبلغني أن كثيرا ما بيع ديوان شعره بخمسين ديناراً إلى سبعين، وأنا كاسر فصلاً على ذكر ما أشرت إليه، والحديث شجون.

قطعة من نوادره في ذلك
كتب إلى أبي أحمد بن ثوابة، وقد شرب دواء مسهلاً:
يا أبا أحمد بنفسي أفدي ... ك وأهلي من سائر الأسواء
كيف كان انحطاط جعسك في طا ... عة شرب الدواء يوم الدواء
كيف أمسى سبال مبعرك النذ ... ل عريقاً في المرة الصفراء
يا أبا أحمد ونصحك عندي ... واجبٌ في الإخاء فاحفظ إخائي
رب ريح يوم الدواء دبورٌ ... شوشت في عصاعص الأغبياء
قدروها فساً وقد كمن الجع ... س لهم في مهب ذاك الفساء
فإذا الفرش في خليج سلاحٍ ... ذائبٌ في قوام جسم الماء
فاتق الله أن تغرك ريح ... عصفت في جوانب الأحشاء
لا تنفس خناق سرمك عنه ... أو تخلي سبيله في الخلاء
والغذاء الغذاء فاحذر بأن تفس ... و فوق الفراش بعد الغذاء
احترس إنها نصحية شيخٍ ... حنكته تجارب الآراء
وأهدي إليه صديق له نبيذاً كتب له من السريع
مدامةٌ تمريةٌ صافيه ... تلبس من يشربها العافية
زففتها طوعاً إلى شاعرٍ ... ما وقفت قط له قافيه
فصادف وصول النبيذ خلفة عرضت له فكتب إليه:
مولاي قد أحسستُ لما أتى ... شعرك بالعافية الشافيه
لكنني في صورة للخرا ... جملتها مقنعةٌ كافية
قد كتبت سطراً على عصعصي ... هذا لسلطان الخرا ضافيه
وقال يهجو:
ولقد عهدتك تشتهي ... قربي وتستدعي حضوري
وأرى الجفا بعد الوفا ... مثل الفسا بعد البخور
يا خرية العدس الصحي ... ح النيء والخبز الفطير
في جوف منحل الطيبيع ... ة والقوى شيخ كبير
يخرى فيخرج سرمه ... شبرين من وجع الزحير
يا فسوةً بعد العشا ... بالبيض واللبن الكثير
وفطائر عجنت بلا المل ... ح الجريش ولا الخمير
يا ضرطة الشيخ المبج ... ل بين حسادٍ حضور
يا ريح سرقين البغا ... ل يداف في بول الحمير
يا نتن رائحة الطبي ... خ إذا تغير في القدور
يا عش بيض القمل فر ... خ في السوالف والشعور
يا بول صبيان الفطا ... م ويا خراهم في الحجور
يا بغض تدخين الجشا ... في الصوم من تخم السحور
يا حر قولنج البطو ... ن وبرد أعصاب الظهور
يا ذلة المظلوم أصب ... ح وهو معدومُ النصير
يا سوء عاقبة التعق ... د تمشية الأمور
يا حيرة الشيخ الأصم وح ... سرة الحدث الضرير
يا قعدة في دجلةٍ ... والريح تلعب بالجسور
يا قرحة السل التي ... هدت شراسيف الصدور
يا أربعاءٌ لا تدو ... ر به محاقات الشهور

يا هدة الحيطان تنق ... ض بالمعاول والمرور
يا قرحةً في ناظرٍ ... غلطوا عليها بالذرور
فتسلخت مع ما يلي ... ها في الجفون من البثور
يا خيبة الأمل الذي ... أمسى يُعلل بالغرور
يا غملة المتخدرا ... ت وراء أبواب القصور
يا ملتقى سمعف الأيو ... ر على عراجين البظور
يا وحشة الموتى إذا ... صاروا إلى ظلم القبور
يا ضجرة المحمور بال ... غدوات من ماء الشعير
يا شؤم إقبال الشتا ... ء أضر بالشيخ الفقير
يا دولة الحزن التي ... خسفت بأيام السرور
يا ضجة الصخب المصد ... ع ذي التنازع والشرور
يا عثرة القلم المرش ... ش بين أثناء السطور
يا ليلة العريان غ ... ب عشية اليوم المطير
يا نومة في شمس آ ... ب على التراب بلا حصير
يا فجأة المكروه في ال ... يوم العبوس القمطرير
يا نهشة الكلب العقو ... ر ونكهة الليث الهصور
يا عيش عانٍ موثقٍ ... في القيد مغلول أسير
يا حدة الرمد الذي ... لا يستفيق من القطور
يا حيرة العطشان وق ... ت الظهر في وسط الهجير
من لي بأن تلقاك خي ... لُ بني كلاب بلا خفير
وأرى بعيني لحمك الم ... طبوخ في نار السعير
في الأرض ما بين السبا ... ع وفي السماء بين النسور
وقال في المهلبي الوزير:
قيل إن الوزير قد قال شعراً ... يجمع الجهل شملهُ ويعمه
ثم أخفاه فهو كالهر يخرا ... في زوايا البيوت ثم يطمه
ليتني كنت حاضراً حين يروي ... ه فأفسو في راحتي وأشمه
وقال:
وذي همةٍ في حضيض الكنيف ... وقرنين في فلك المشتري
دخلت عليه انتصاف النهار ... على غفلة حين لم يشعر
وبين يديه رغيفان مع ... سكرجة كان فيها مري
فلما قعدت فسا فسوةً ... فلم تخط عصفتها منخري
وأقبل يضرط في إثرها ... فقلت أقوم وإلا خري
وقال في شيخ بني بعجوز:
أفصح ودعني من الرموز ... قد دخل الشيخ بالعجوز
من لي بها حين ضاجعته ... في ذلك الموضع الحريز
فكنت أخرا على زليخا ... وهي إلى جانب العزيز
وقال وقد ركب إلى قوم فوجد بعضهم نائماً وبعضهم شارب دواء:
قد أصبحوا كما ترى ... ما بين نومٍ وخرا
قومٌ برئت منهمُ ... لأنهم مني برا
ما إن أرى مثلاً لهم ... ولا أرى أني أرى
وقال وقد عاتب إنساناً على زلة فجاء بأكبر منها:
لي صديق جنى عل ... ي مراراً فأكثرا
ثم لما عتبته ... غسل البول بالخرا
وقال:
فقدت بختي إنهُ ... ما زال بختاً قذرا
لو كان شيئاً ناطقاً ... لكان شيخاً أبخرا
من حيث ما درتُ به ... لطخ وجهي بالخرا
وقال:
يقول قومٌ أبصروني وقد ... تلفتُ ما بينهم سكرا
قم بالحق الظهر ولو ركعةً ... فالناس قد صلوا بنا العصرا
فقلت ما أحسن ما قلتمُ ... أقوم حتى ألحق الظهرا
أقوم والركعة من عند من ... نعم وإن قمت فمن يقرا
قالوا فلا تسكر فلسنا نرى ... لعاقلٍ في سكره عذرا
والله لولا السكر يا سادتي ... ما ذقت مطبوخاً ولا خمرا
قالوا فهذا السكر ما حده ... فقلت حد السكر أن أخرا
وقال:
قومي تنحي فلست من شأني ... قومي اذهبي لا يراك شيطاني
لا كان دهر عليك حصلني ... ولا زمان إليك ألجاني

قعدت تفسين فوق طنفستي ... ما بين راحي وبين ريحاني
فما عدمنا من الكنيف إذا ... حضرت إلا بنات وردان
سمعت ميمون بن سهل الواسطي يقول: حضرت مجلس الصاحب ليلة بجرجان في جماعة من الفقهاء المتكلمين كالعادة كانت عنده في أكثر ليالي الأسبوع، فلما امتد المجلس وخالط النعاس بعض الأعيان وجد الصاحب رائحة تأذى بها وتأفف منه أن أنشد هذه الأبيات المتقدم:
قومي تنحي فلست من شاني
وجاء الفراشون بالند فتلافوا تلك الفرطة، وتقوض المجلس.
وقال في شهر رمضان وقد جاء في آب:
شهرٌ أراه يلج مع من ... يغتاظ من طوله ويدرد
فالبول قد جف من حماه ... في الجوف والجعس قد تقدد
وكان ضمن فرائض الصدقات بسقي الفرات، واستخلف على نواحي فم النيل خليفة فكتب إليه:
الحمد لله وشكراً له ... والله أهل الحمد والشكر
يا أيها الذئب الذي اخترته ... خليفة ينظر في أمري
أوصيك بالأغنام شراً وهل ... يوصي أبو جعدة بالشر
امش إليها مشية الليث أو ... فاحمل عليها حملة البر
ولا تدع في النيل من إثرها ... إلا بقايا الصوف والبعر
أنظر إلى السكباج من شمها ... أو مر مجتازاً على القدر
فاقبض على لحيته واحترز ... من حيلةٍ في أمرها تجري
أريد أن تحصي طاقاتها ... ولك ما فيها من الشعر
اعمل بها لي عمراً جامعاً ... مستظهراً فيه كما تدري
واحذر إذا وفيتها في غدٍ ... أن ينقص الكيل عن الحزر
حتى إذا جئتك سلمتها ... بذلك الإحصا إلى جحري
أوصيك في القوم بهذا الذي ... عقدته في السر والجهر
وكيف لا أوصي بهذا وقد ... بليت منهم ببني البظر
واضطرني جور زماني إلى ... معيشة تزري على الحر
والدهر قد صارت به هيضةٌ ... فنحن غرقى في خرا الدهر
وقال في ابن سكرة:
سلحةٌ بعد قرقره ... من سلاح المزوره
باتت الليل كله ... جوف بطني مخمره
ثم رامت تخلصاً ... فاغتدت ذات طرطره
ثم سارت كأسهمٍ ... عن قسي موتره
فأصابت بوثبةٍ ... جوف ذقن ابن سكره
وقال لأبي الفضل الشيرازي لما تقلد الوزارة، وعرض بأبي الفرج بن فسابخس:
سعدك للحاسدين نحسٌ ... وهم ظلامٌ وأنت شمس
ارفق عليهم فلن يعودوا ... إليك حتى يعود أمس
فأنت تحت الظلام تسعى ... وذاك تحت اللحاف يفسو
وكان يوماً جالساً بجنب الدست في دار أبي الفرج فسابخس، فعرضه له حاجة إلى الخلاء فبادر ورجع، فسئل عن مبادرته فقال:
يا سائلي عن خبري ... زاحم جوفي قذري
فكدت أن أخرى على ... دست الرئيس الطبري
فقمت أعدو حافياً ... وقد تغشى بصري
حتى خريت خريةً ... مثل الخبيص الجزري
كأنها من عظمها ... روثة كرشٍ بقري
وقال:
أبا الحسين بن نصر ... أبشر بعز ونصر
فأنت في الصدر أحلى ... من المنى جوف صدري
وليت لحية من لا ... يهواك في جوف حجري
من أين مثلي حر ... أو سفلة غيرُ حر
خراي عند القوافي ... وذقن غيري بشعري
ومن تكلف في الشع ... ر نظم سبحةِ در
نظمت من مثل طبعي ال ... خسيس سبحة بعر
وجملة القول أني ... إحدى عجائب دهري
قد در ضرعي على ما ... ترى فلله دري
وقال من إنسان طبري مات بالقولنج:
يا غصة الموت افغري ... فاك لروح الطبري
حتى تمجيها على ... علاتها في سقر
يا أيها الثاوي الذي ... أفلح لو كان خري

لمثل ذا اليوم يقا ... ل من خري فقد بري
وقال يستميح شراباً:
ألا يا إخوتي وذوي ودادي ... دعاءُ فتى إجابته مناهُ
زيادة دجلةٍ والورد غضٌ ... قد استولى على قلبي هواهُ
فهذي ليس يفتنني سواها ... وهذا ليس يسبيني سواه
أما فيكم فتى يرثي لصحوي ... فيسقيني المشوم ولو خراه
وقال:
يا عيني السفلى لحى سادتي ... قد شهدت بالزور فاستعبري
أبكي عليها كلّما سرحت ... في استي بدمعٍ سلسٍ أصفر
واتخذ دعوة كبيرة في أيام عز الدولة، ودعا إليها أقواماً شتى من رجال الدولة وقال:
قل للأمير المرتجى ... من جاءني فقد نجا
ومن أبي فذقنه ... في عصعصي قد لججا
يسبح في بحر خرا ... إذا جرى تموجا
وها هنا حكمٌ إذا ... كوى لحاهم أنضجا
ومن لم يجئ فذقنه ... في است الذي استدعي فجا
فقل لمن لجج في ... جوابه أو مجمجا
سبالك المحفوف قد ... حرك مني مخرجا
مؤزراً بالجعس في ... حافاته مصهرجا
فيه خراً معتقٌ ... كالبن حين كرجا
تدفعه مقعدتي ... بعد العشا ملهوجاً
من قبل أن تطبخه ... طبيعتي فينضجا
من كل من سرمي إلى ... لحيته قد التجا
عاشرت باستي ذقنه ... فامتزجا وازدوجا
وصعدا ونزلا ... ودخلا وخرجا
ولن ترى أحسن من ... ذقنٍ تواخى شرجا
وقال من أخرى:
أنظر لهرون وقد جاءني ... يطمع أن يبتزني ضيعتي
جذبت قوس استي في وجهه ... فقرطست لحيته ضرطتي
ومن أخرى في قائد من الأتراك أراد أخذ داره:
إن أطفالي الذين تراهم ... حول ناري في الليل مثل الفراش
أترى ما شممت ريح فساهم ... حين باكرتني وهم في الفراش
وجعيساتهم خلال الزوايا ... مثل ذرق الفراخ في الأعشاش
لا ترمهم واقبل نصيحة رأيي ... لك واحذر مغبة الغشاش
وقال من أبيات وقد دخل رجل اسمه عمرو والمزين يحفى شاربه:
قد لعمري فارت طبيعة حجري ... منذ أحفى المقراض شارب عمر
كلما قص شعرةً صر منها ... عصعصي النذل أو تفرقع ظهري
وقال من قصيدة في الوزير وقد أراده على الخروج معه لقتال أهل البطيحة:
يا سائلي عن بكاي حين رأى ... دموع عيني تسابق المطرا
ساعة قيل الوزير منحدرٌ ... أسرع دمعي وفاض منحدرا
وقلت يا نفس تصبرين وهل ... يعيش بعد الفراق من صبرا
شاورته والهوى يفتته ... والرأي رأيُ الصواب قد حضرا
أهوى انحداري والحزم يكرهه ... وتارك الحزم يكرب الغررا
لأنني عاقلٌ ويعجبني ... لزوم بيتي وأكره السفرا
الخيش نصف النهار يعجبني ... والماء بالثلج بارداً خصرا
والشرب في روشني أقول به ... كما أرى الماء منه والقمرا
ولا أقود الخيل العتاق بلى ... أسوق بين الأزقة البقرا
من كل جاموسةٍ لعنبلها ... رأس بقرنيه يفلق الحجرا
قد نفخ الشحم جوفها فغدا ... كأنه بطن ناقةٍ عشرا
لما أتتني بالليل مقبلةً ... وثوبها بالخرا قد ائتزرا
تركض مثل الحصان نافرةً ... ومن يرد الحصان إن نفرا؟
مد ذراعي في سرمها لبباً ... وسد أيري في سرمها شعرا
أحسن في الحرب من صفوفكم ... غداً قعودي أصفف الطررا
وأنتف الشعر من جبين حر ... لطفت في نتفه وما شعرا

أو مبعرٍ جعسه يطالعني ... من كوة الباب كلما زحرا
هيهات أن أحضر القتال ... وأن ترى بعينيك فيه لي أثرا
بل الذي لا يزال يعجبني ال ... دبيب بالليل خائفاً حذرا
أنا إلى تلك هي نائمة ... وذا إلى ذاك بعد ما سكرا
وضجة النيك كلما ضرطت ... واحدةٌ تحت واحدٍ نخرا
وقول بعض المميزين وقد ... شم فسانا بأنفه سحرا
في جعس هذا فطورةٌ وأرى ... أن خرا تلك بعد ما اختمرا
الدف يوم الصبوح دبدبتي ... وبوقي النايُ كلما زمرا
وخريتي كلما رميت بها ... مقتل ذقنٍ خصبتها بخرا
هذا اعتقادي وهكذا أبداً ... أرى لنفسي فأنت كيف ترى
وقال:
إذا تغني سليمٌ عاق ... المسرة عني
وافى بذقن سخيف ال ... مغني وجئت ببطني
فلحية التيس منه ... وسلحة الفيل سني

ملح مما يتمثل به من أحوال السلف
قال من قصيدة في أبي الفضل الشيرازي:
الناس يفدونك اضطراراً ... منهم وأفديك باختياري
وبعضهم في جوار بعضٍ ... وأنت حتى أموت جاري
فعش لخبزي وعش لمائي ... وعش لداري وأهل داري
يا من بإحسانه بلغت الس ... ماء في العز واليسار
فاليوم قارون في غناه ... عبدي وكسرى ركاب داري
وقال:
يا من يدي من خيره فارغه ... مليت لبس النعمة السابغه
قد هشمت رأسي بأحجارها ... ألفاظك الهاشمة الدامغة
فيا أبا قابوس في ملكه ... رفقاً أبيت اللعن بالنابغه
وقال:
إنك إنسانٌ له موقعٌ ... من ناظري في جوف إنسانه
فكيف تخشى هجو من مدحه ... فيك يرى أول ديوانه
ومن له في شعره مذهبٌ ... ذكرك فيه نور بستانه
تمضي لياليه وأيامه ... وسره فيك كإعلانه
ولست ممن يخلط الكفر في ... شكر أياديك بإيمانه
قل للذي جهز في السعي بي ... بضاعةٌ عادت بخسرانه
قل للذي جهز في السعي بي ... بضاعةٌ عادت بخسرانه
لا تغترر أنك من فارسٍ ... في معدن الملك وأوطانه
لو حدثت كسرى بذا نفسه ... صفعته في وسط إيوانه
وقال من بختيار:
فديت وجه الأمير في قمرٍ ... يجلو القذى نوره عن البصر
فديت من وجهه يشككني ... في أنه من سلالة البشر
إن زليخا لو أبصرتك لما ... ملت إلى الحشر لذة النظر
ولم تقس يوسفاً إليك كما ... نجم السهى لا يقاس بالقمر
وكان يا سيدي قباك إذا ... هربت منها ينقد من دبُرِ
بل وحياتي لو كانت يوسفها ... لم تك من تهمة العزيز بري
لأنني عالمٌ بأنك لو ... شممت ريا نسيمها العطر
سبقتها وانزبقت تتبعها ... ما بين تلك البيوت والحجر
ولم تزل بالكدين تقصرها ... من قبل وقت العشا إلى السحر
وقد علمنا بأن سيدنا ال ... أمير ممن يقول بالبظر
ولم تكن تلك تشتكي أبداً ... ما كان من يوسفٍ من الحذر
طبعك كالماء في سهولته ... لكن أبو الزبرقان من حجر
إن الملوك الشباب ما خلقوا ... إلا صلاب الفياش والكمر
وقال:
إن بني برمك لو شاهدوا ... فعلك بالغائب والشاهدِ
ما اعترف الفضل بيحيى أباً ... ولا انتمى يحيى إلى خالدٍ
وقال:
وكاتبٍ بارعٍ بلاغتُهُ ... تجلو علينا كلام سحبان
وخطه والكتاب في يده ... ينثر دراً أمام مرجان
لو كان عند المأمون جوهره ... أهداه أو بعضه لبوران
وقال في رجل سقطت امرأته من السطح فماتت:

عفا الله عنها إنها يوم ودعت ... أجلَّ فقيدٍ في التراب مغيب
ولو أنها اعتلت لكان مصابها ... أخف على قلب الحزين المعذب
ولكن رأت في الأرض أفعى مجدلاً ... على قدر غرمول الحمار المشغب
فظنته أيراً والظنون كواذبُ ... إذا أخبرت عن عام ما في المغيب
وأهوت إليه من يفاعٍ ودونه ... ثمانون باعاً في علو مصوب
فصارت حديثاً شاع بين مصدقٍ ... تحققه علماً وبين مكذب
سعى الطمع المردي إليها بحتفها ... ومن يمتثل أمر المطامع يعطب
فأعظم يا هذا لك الله ربها ... وربك أجر الثكل في شاة أشعب
قل لأشعب: هل رأيت أطمع منك؟ قال: نعم، شاة كانت لي على سطح فنظرت إلى قوس قزح فظنته حبل قت، فأهوت إليه واثبة، فسقطت من السطح فاندقت عنقها.
وسأل الهنكري مغني سيف الدولة ابن حجاج أن يصنع شعراً يغني به بين يدي صاحبه فقال:
أمير يا من ندى كفه ... يزيد على العراض الممطر
أرى يومنا يوم كأسٍ تدو ... ر من يد ذي دعجٍ أحور
وأبيض يحدوك سكر الغرام ... على لثم شاربه الأخضر
بحمرة وجنته تستدل ... على أنه من بني الأصفر
وأنك من دونه قد ضرب ... ت هامة ذي لبدةٍ قسور
وشعر ابن حجاج يا سيدي ... يغني به عبدك الهنكري
عناءٌ وشعرٌ لنا يجمعا ... ن ما بين زلزل والبحتري
وقال:
عذراً على عبل الشوى مرحٍ ... والخيل من حوله مثل الحصى عددا
في خلعةٍ لو رآها يوم يلبسها ... نمرود قبل وجه الأرض أو سجدا
وقال:
يا من إذا ما اختللتُ أيدني ... ومن إذا ما ضعفت قواني
ابق لي اليوم ضعف ما بقيت ... أمس نسور الحكيم لقمان
وقال:
يا درة الملك ويا غرةً ... في وجه هذا الزمن الأدهم
تراب نعليك على ناظري ... أعز من عيسى على مريم
وقال:
فتى له عزم إذا كلت السي ... وف مثل المرهف الصارمِ
وراحةٌ لو صفعت حاتماً ... تعلم الجود قفا حاتمٍ
ومن أخرى:
هذا حديثي تنمي عجائبه ... بكثرة القال فيه والقيل
أجزني دفنه فشاع كما ... أعجز قابيل دفن هابيل
ومن أخرى:
وأبرصٍ من بني الزواني ... ملمعٍ أبلق اليدين
قلت وقد لج بي أذاه ... وزاد ما بينه وبيني
يا معشر الشيعة الحقوني ... قد ظفر الشمر بالحسين
ومن أخرى:
كل خفيف الرجلين ثقلٌ ... خفة رجليه بالحديد
أذقهُ من غب ما جناه ... ما ذاق يحيى من الرشيد
ومن أخرى:
واستوفى عمر الدهر في نعمةٍ ... دون مداها موقف الحشر
مصيبةٌ الحاسد في مكثها ... مصيبة الخنساء في صخر
ومن أخرى:
يا من يعادي الهوى جهلاً بموقعه ... ولا يزال يعادي المرء ما جهلا
أما رأيت الهوى استولى بفتنته ... على النبييين واستغوى بها الرسلا
فإن شككت فسل زيداً بقصته ... وأورياء يقولا الحق إن سئلا
لم بت هذا طلاقاً حبل زوجته ... وذاك في رقعة التابوت لم قتلا
ومن أخرى:
مولاي يا من كل شيء سوى ... نظيره في الحسن موجودُ
إن كنت أذنبت بجهلي فقد ... أذنب واستغفر داود
ومن أخرى:
ملكٌ لو لم يكن من ملكه ... غير دارٍ وشحت بالنعمِ
لو رمى شداد فيها طرفهُ ... زهدته بعدها في إرمِ
وله، وقد خرج هارباً من غرمائه:
هربتُ من موطني إلى بلدٍ ... قد صفر الجوع فيه منقاري
يقول قومٌ فر الخسيس ولو ... كان فتى كان غير فرار
لا عيب لا عيب في الفرار فقد ... فر نبي الهدى إلى الغار

ملح من سائر أمثاله في الجد والهزل
الواقعة في فنون نوادره قال:

جميع ما لي صدقه ... لأكسرن فستقه
فبس كم تهذين يا ... سندية مطلقه
لا بد للسندان أن ... يصبر تحت المطرقة
وفيشتي لا بد أن ... أسبكها في البوتقة
لا بد أن أطعن بال ... مردي صميم الدرقه
وأن أمر الميل في ... جوف سواد الحدقه
تريد مني أترك الل ... حم وأحسو المرقه!
ليس الثريد بابتي ... بسي من الملبقه
أريد من لحم است من ... أعشقها مدققه
أحب أن لا تشفقي ... عدمت هذي الشفقه
وكل شاة في غدٍ ... برجلها معلقه
لا بد من أن يقع ال ... زرفين جوف الحلقه
وقال:
أخشى على حسبتي العدو وفي ال ... ناس لمثلي أصادقٌ وعدي
هر يراني وفي فمي غددٌ ... والهر بالطبع يألف الغددا
وإن تغافلت عنه غافصني ... واستلب الكرش من يدي وغدا
وقال:
قد وقع الصلح على غلتي ... فاقتسموها كارة كاره
لا يدبر البقال إلا إذا ... تصلح السنور والفاره
وقال، وقد سأل صديق عن حاله والعمال يصادرونه:
أيها السائل عن حا ... لي أنا المضروب زيدٌ
وأنا المحبوس لكن ... ليس في رجلي قيد
وقال:
وقائلٍ هو رأس ال ... عمال بين الناس
والرأس يصلح إن لم ... ينفعك للرواس
هذا هو الحقُّ والح ... قُّ ما به من باس
وقال:
فقرٌ وذل وخمولٌ معاً ... أحسنت يا جامع سفيان
وقال:
الحمد لله إن لي أملاً ... أنا إلى الخص منه أستند
وقال:
إن كنت تحتقر العتاب تكبراً ... فالفيل يعمل فيه قرصُ البرغش
وقال:
وما الشيء للمرء يحتاله ... ولكنه للفتى يرزقُه
وقال:
دعوت نداك من ظمئي إليه ... فعناني بقيعتك السراب
سرابٌ لاح يلمع في سباخٍ ... فلا ماءٌ لديه ولا شراب
وليس الليث من جوعٍ بغادٍ ... على جيفٍ تحيط بها كلاب
وقال:
مستحيل المعنى يصلى إلى الح ... شر ويخرى في جانب المحراب

أنصاف أبيات له وأبيات في الأمثال
قال: ورب كلام تستثار به الحربُ وقال: حتى متى ترقص في زورقي؟ وقال: خود تزف إلى ضرير مقعدِ وقال: أصبحت أخلقُ منك بالزبدِ وقال: تفور من نصف خوصةٍ قدري وقال: فقلتُ من يفسو على الكنيف وقال:
عجبت من الزمان وأي شيءٍ ... عجيبٍ لا أراه من الزمانِ
أتأخذ قوت جرذانٍ عجافٍ ... فتجعله لأوعالٍ سمانِ
وقال:
وقد غمزوا مع العيدان عودي ... ليختبروا الصحيح من المريب
فلان الخروع الخوار منا ... وبان تكرم النبع الصليب
وقال في بواب أعور حجبه عن رئيس:
سمعت فيمن مات أو من بقي ... بمقبلٍ بوابه أعورُ
واللوزة المرة يا سيدي ... يفسد في الطعم بها السكر
وقال:
ولي شفيعٌ إليك شرفني ... إيجابه لي وزاد في قدري
نبهت منه لحاجتي عمراً ... ولم أعول فيها على عمرو
يريد قول بشار:
إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمراً ثم نم
وللآخر:
المستجير بعمروٍ عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقال:
عذرتُ الأسد أن صليت بناري ... مخاطرةً فما بال الكلاب
وأزواج الحرائر لم يجابوا ... لدي فكيف أزواج القحاب؟
وقال - وقد قال له بعض الرؤساء: ما أشبهك في الإبرام إلا بابن أبي رافع:
ضربت في الإبرام يا سيدي ... لي مثلاً بابن أبي رافع
فقلت في ذلك: لا تعجبوا ... من متخمٍ يفسو على جائع
وقال:
إني بليت بأقوام مواعدهم ... تزيدني فوق ما ألقاه من محنِ
ومن يذق لسعة الأفعى وإن سلمت ... منها حشاشته يفزع من الرسن

الشكوى ووصف سوء الحال
قال في ابن العميد:
فداؤك نفس عبد أنت مولى ... له يرجوك يا خير الموالي
حديثي منذ عهدك بي طويلٌ ... فهل لك في الأحاديث الطوال
وجملة ما يعبره مقالي ... حصول استي على حر المقالي
وأني بين قومٍ ليس فيهم ... فتى ينهى إلى الملك اختلالي
فلحمي ليس تطبخه قدوري ... وحوتي ليس تقليه المقالي
ومائي قد خلت منه جبابي ... وخبزي قد خلت منه سلالي
وكيسي الفارغُ المطروح خلفي ... بعيدُ العهد بالقطع الحلال
أفكر في مقامي وهو صعبٌ ... وأصعب منه عن وطني ارتحالي
فبي مرضان مختلفان حالي ال ... عليلة منهما تمسي بحال
إذا عالجت هذا جف كبدي ... وإن عالجت ذاك ربا طحالي
وكان يكتب في حداثته لرئيس، فتأخر عنه، فكتب يسأله عن حاله في تأخره فكتب إليه:
سألت يا مولاي عن قصتي ... وما اقتضى بالرسم إخلالي
ليست بجسمي علةٌ تشتكي ... وإنما العلة في حالي
وذاك داءٌ لم تزل ضامناً ... من سقمه برئي وإبلالي
وقال:
خليلي قد اتسعت محنتي ... على وضاقت بها حيلتي
عذرت عذاري في شيبه ... وما لمت أن شمطت لمتي
إلى كم يخاسسني دائماً ... زماني المقبح في عشرتي
تحيفني ظالماً غاشماً ... وكدر بعد الصفا عيشتي
وكنتُ تماسكتُ فيما مضى ... فقد خانني الدهر في مسكتي
إلى منزلٍ لا يواري إذا ... تحصلت فيه سوى سوأتي
مقيماً أروح إلى منزلٍ ... كقبري وما حضرت ميتتي
إذا ما ألم صديقي به ... على رغبةٍ منه في زورتي
فرشت له فيه بسط الحدي ... ث من باب بيتي إلى صفتي
ومعدته من خلال الكلا ... م تشكو خواها إلى معدتي
وقد فت في عضدي ما بهِ ... ولكن عليه غلبت علتي
وأغدو غدواً ملياً بأن ... يزيد به الله في شقوتي
فأيةُ دارٍ تيممتها ... تتيم بوابها حجتي
مقداد: لحد هون تم التصحيح
وإن أنا زاحمتُ حتى أموت ... دخلتُ وقد خرجت مهجتي
فيرفعني الناس عند الوصول ... إليهم وقد سقطت عمتي
وإن نهضوا بعد للأنصرا ... ف أسرعت في إثرهم نهضتي
وإن قدموا خيلهم للركوب ... خرجت فقدمت لي ركبتي
وفي جمل الناس غلمانهم ... وليس سوائي في جملتي
ولا لي غلامٌ فأدعوا به ... سوى من أبوه أخو عمتي
ركنت مليحاً أروق العيو ... ن أيضاً فقد قبحت خلقتي
يعرق خدي جفاف الهزال ... وحاف الشناج على وجنتي
وقوسني الهم حتى انطويت ... فصرتُ كأني أبو جدتي
وكان المزينُ فيما مضى ... تكسرُ أمشاطه طرتي
وكنت برأسٍ كلون الغداف ... فقد صرت أصلع من فيشتي
ويا رب بيضاء رود الشبا ... ب كانت تحن إلى وصلتي
فصارت تصد إذا أبصرت ... مشيبي وتغضب من صلعتي
على أنني قلت يوماً لها ... وقد أمضت العزم في هجرتي
دعي عنك ما فوقه عمتي ... فإن جمالي ورا تكتي
هنالك أيرٌ يسرُّ العيون ... طويلٌ عريضٌ على دقتي
ومنها:
سوى أنّ قلبي قد ضرفت ... ه في شغله بالأسى عطلتي
وكانت بتكريت لي غلةٌ ... فغلت بأجمعها غلتي
أغاروا على سمسمي غارةً ... تعدت فأنضت إلى حنطتي
فلا أزال في نقمةٍ كل من ... أزال بحيلته نعمتي
وقال:
قد قنعنا فهات خبزا بلحمٍ ... أنا من شدة الخوى في السياقِ
فرجي أن أشم رائحة اللح ... م ولو كان من فسا مراقِ
وقال:
ما حال من يأوي إلى منزلٍ ... أرفقُ منهُ المسجد الجامعُ

لا يرتوي العطشان فيه، ولا ... يلحق ما يقتاته الجائع
وسوقه كاسدةٌ بينكم ... لا مشترٍ فيها ولا بائعُ
وقال:
أتعشى بغير خبزٍ، وهذا ... خبري منذ مدةٍ في غدائي
فأنا اليوم من ملائكة الدو ... لة وحدي أحيا بغير غذاء
أيةٌ لم تكن لموسى بن عمرا ... ن ولا غيره من الأنبياء

نبذ من لطائف نوادره في أنواع الكدية
قال:
هذا وأيام أكلي ... عند الملوك الكبارِ
ما كنت أفطر إلا ... على كبود القماري
مشويةٌ وقلايا ... فاليوم سنور داري
إذا أرادت تعشى ... تنعصت لي بقار
وقال بواسط، وقد باع ثيابه:
يا سادتي قول ميتٍ ... في مثل صورة حي
لم يبق في الخرج شيء ... أتأذنون بشيء؟
وقال، وقد تولى أقطاعاً وخرج إليها فوجدها خربة:
سيدي عبدك في الزيتِ ... فر من الموتِ إلى الموت
حال وأقطاعي خرابُ فقد ... فررت من بيتي إلى بيتي
وقال:
مالي أرى بيت ما لي حلهُ زحلُ ... وحسبه من بعيدٍ أن يرى زحلا
فما ترى لا رأيت السوء في رجلٍ ... قد شب تحت خطوب الدهر واكتهلا
وقال، وقد رأى كلاب عز الدولة يختيار تطعم لحوم الجدا:
رأيتُ كلاب مولانا وقوفاً ... ورابضةً على ظهر الطريق
فمن وردٍ له ذنبُ طويلٌ ... يعقفه وملهوبٌ خلوقي
تغذى بالجدا فوددت أني ... وحقّ اله خركوشٌ سلوقي
فيا مولاي رافقني بكلبٍ ... لآكل كل يومِ مع رفيقي
أرى القصاب قد أضى عدوي ... لشؤم البخت والملحي صديقي
فلو أني افتصدت لما وجدتم ... سوى الحلتيت داخل السليقي
جفاني اللحم وهو شقيق روحي ... فمن يعدي على ذاك الشقيق
كأن اللحم في صوم النصارى ... توهمني ابن عم الجاثليق
وأحسن ما رآه الناس لحمٌ ... جرايته تضاف إلى الدقيق
وله في مثل ذلك:
يا سيد الناس عشت في نعمٍ ... تأوي إليها ممالكُ العجمِ
بديهتي في الخصام حاضرها ... أشهر في الفيلقين من علم
والخط خجطي كما تراه ولا ال ... زهرة بين القرطاس والقلم
هذا وخبزي حافٍ بلا مرقٍ ... فكيف لو ذقت ثردة الدسم
ما لي وللحم إن شهوتهُ ... قد تركتني لحماً على وضم
وما لحلقي والخبز يجرحه ... بالملح يشكو حزونه اللقم
وله في مثل ذلك:
يا من رأى البدر حسن صورته ... فبان في البدر موضع الحسدِ
نحن سنانيرُ أهل دولتكم ... فأنصفونا من صاحب الغدد
والله لولاك لم تبت مرق الل ... حم تروي شحومه ثردي
ولم يحور لي الدقيق ولا ... كانت تحوز المسلقات يدي
وكتب لبعض الوزراء، وقد أراد عمارة مسناة داره:
خفي فما أنت بمعذوره ... ولا على نصحك مشكوره
أذاك كم يصدع قلبي به ... وإنما قلبي قاروره
في كل شيء أنت يا هذه ... مغمومةٌ بي غير مسروره
حتى مسناتي التي أصبحت ... هي خرابُ غير معموره
أيتها المرأة لا تقلقي ... من قبل أن تستعملي الصوره
لي سيد أضحت عنايته ... على مسناتي موفوره
ناهدته فيها على أنها ... تجعل بالصاروج كافوره
مني أنا لا شيء ومن سيدي ال ... آجر والصناع والنوره
وكتب إلى بعض الرؤساء يلتمس منه عماة:
يا من له معجزات جودٍ ... توجت عندي له الإمامه
مال ي إذا ما الشمال هبت ... قامت على رأسي القيامه
ودميت في القفا عيونٌ ... بالطول في موضع الحجامه

أظن هذا من أجل أني ... في البرد أمشي بلا عمامه
وقال لبختيار حين عاود الحضرة بعد هزيمة الأتراك والحجاج معه:
الحمد لله جاءت النعمُ ... وانصرفت مع مجيئها النقمُ
واطلع البدر بعد غيبته ... فانكشفت عن وجوهنا الظلم
فأي شيءٍ تريد تعمل بي ... فإنني منك لست أحتشم؟!
أريد مما أفتتحته عملاً ... يثرد في دغباجه اللقم
وقال لسهل بن بشر يعرض بطلب مركوب:
يا بان بشرٍ يا سيدي يا ابن بشر ... يا معيني على ملمات دهري
حلق الله ذقن من يتشنا ... ك وألقاه في غيابه حجر
أي شيءٍ تريد تعمل بي اليو ... م فهذا أنا وأنت وشعري؟!
أنا في واسطٍ أروح وأغدو ... بين مد من الظنون وجزر
تارةً يسنح الغنى لي فأرجو ... ه، وطوراً أرى دلائل فقري
راجلاً أعزباً فرجلي وأيري ... بين بطنٍ قد أعوزاني وظهر
غير أني أرى عميرة بالل ... يل يمشي بجلدها بعض أمري
وكعابي التي يرضضها المش ... ي من أحيلها ليت شعري
أنت تدري وحسب عبدك فميا ... يرتجي منك قولهُ أنت تدري
وكتب إلى ابن قرة يقتضي مركوباً وعد به وهو على جناح السفر:
يا سيدي دعوة ذي رحلةٍ ... مقتصرٍ في الجري مسبوقِ
والقوم قد صح بهم عزمهم ... وضربوا بالطبل والبوق
وضمروا للسير أفراسهم ... وفرسي الأشهب في زيقي
بل لي كميتٌ ما رئي مثله ... يا سيدي قط لمخلوق
كأنني في متنه راكبٌ ... داليةً في رأس زرنوق
ما في فضلٌ لا ولا فيه لي ... لأنني وهو على الريق
وقال يتنجز رداء شرب:
ويحك اسكت فضحتني يا راسي ... أنت بالضد من رؤوس الناس
أنت والله فارغ القحف إلا ... من كنوز الخباط والإفلاس
بسك اقطع ففي ضماني الرداء ال ... شرب الأميري عن أبي العباس
أبيض الغزل فيه خط سوادٍ ... مثل خط الرئيس في القرطاس
وقال يتنجز دراهم:
يا قمراً في تمامه طلعا ... هذا رسولي إليك قد رجعا
في غاية الحسن والدماثة وال ... نعمة والظرف والجمال معاً
عن طيب معناه في لطافته ... كأنه في الكنيف قد وقعا
وهو يحب الصرار يفتقها ... ويشتهي أن يجمش القطعا
فاحسم بختم القرطاس مقطعه ... وامنع يديه عليه أن تقعا
واردده من همةٍ بختمكهُ ... كأنه بالفلوس قد صفعا
وقال ينجز شعيراً لدابته:
كيتي اصهل واضرط فقال نعم ... بالسمع يا سيدي وبالطاعه
نعم ولكن أين الشعير ترى ... فقلت هو ذات بجيهم الساعه
قال فممّن فقلتُ من رجلٍ ... قد صار في الجود حاتم الباعه
وقال وقد بعثه إليه:
كان لي ابن المعدل ... بالقفيز المعدلِ
من شعيرٍ بلا ترا ... ب نقي مغربل
ما أرى مثله فلا ... نٌ قضيماً لدلدل
وقال يطلب خيشاً:
يا أحرص الناس على مبعرٍ ... يدق مستنجاه بالفيش
حتى متى تتركني في لظى ... حر حزيران بلا خيش
وقال يستعين بأبي قرة على تطهير ابنه:
يا سيدي دعوةُ من لم تزل ... تعديه بالجود على دهرهِ
إن لي ابناً أمس خلفتهُ ... في منزلي كالفرخ في وكره
يبكي إذا ما عن ذكري له ... وفي فؤادي النار من ذكره
والعزم بي قد جد يا سيدي ... في شهرنا الأدنى على طهره
قفوني إني ضعيفُ القوى ... على الذي أنوبه في أمره
فأنت سترُ الله في وجه من ... أصبح ذاك الطفل في ستره
وقال لبعض بني حمدان:

فتى يغير المدح في داره ... على صناديق وأكياس
ذقت ندى راحته مرةً ... فطعمه في جوف أضراسي
وقال لرجل دعاه إلى عرس ثم بداله:
يا وقح الوجه جيد الحدقه ... خست بوعدي وكنت غير ثقه
أين نصيبي من الطعام وما ... طمعت في لعقةٍ من المرقه
أشفقت مني وكان يقنعني ... عندك ما ليس يوجب الشفقه
قطعة لحم في وزن خردلةٍ ... على رغيفٍ كأنه ورقه
وقال يطالب مشروباً:
يا سيدي عشت لي وبعدي ... أرضُ نعليك صحن خدي
عندك يا سيدي نبيذٌ ... وليس لي منه رطل دردي
تروي وأظمأ وذاك بني ال ... أحرار ضربُ من التعدي
وقد تناهى أمري إلى أن ... بكرت من منزلي أكدي
وقال في مثل ذلك:
أبا الحسين الزمان ذو دولٍ ... أسبابها عند علة العللِ
والعيش كالصاب في مرارته ... طوراً، وطوراً أحلى من العسلِ
ودار هذي الحياة مذ بنيت ... لم تخل من ساكن ومنتقلِ
والناس في طيبهم ونتنهم ... ضدان مثل التفاح والبصل
وهم مليحٌ وأخر وحشٌ ... ما بين رامشةٍ إلى جعل
فوجه هذا للسيف وحشته ... ووجه ذاك المليح للقبل
وليس هذا وقت الخطاب على ... جرايةٍ تقتضي ولا عمل
الوقت وقت الأركال تعملها ... ما بين ثاني الثقيل والرمل
وقحبةٍ تبلع القضيب ولا ... تعجبها غيره من الحمل
فابعث بقصيةٍ تحدثنا ... عن حرب صفين أو عن الجمل
غزيرة الورد إن بي ظمأ ... لا يرتوي من صبابة الوشل
ولا تجادل أخاك معتذراً ... فلست ممن يقول بالجدل
وقال في مثل ذلك:
يا ندمي قد خلوت بحر ... ليس منه ثقلٌ على ملكيهِ
اسقنيها وحدي سروراً ببدرٍ ... يعلم الله كيف شوقي إليه
يا ابن يحيى الذي أموت وأحيا ... في موالاته وبين يديه
منك هذا النبيذ والخبز واللح ... م الذي يشرب النبيذ عليه
وقال في مثل ذلك:
استمع شرح قصةٍ أنا منها ... بين وصلٍ ممن أحبُ وهجر
لي وعدٌ على غزالٍ غريرٍ ... ينجو الوعد كل غرةِ شهر
ومغن يحبط بالحال علماً ... فهو يأتي ولا يقول بحذر
وعليك انتهاء سكرهما اليو ... م إلى غاية المراد وسكري
فأرحني من الهموم براحٍ ... تصدر الهم عن موارد صدري
وابق حياً يضاف قسطٌ إلى عم ... رك طول الحياة من كل عمر

ما أخرج من خمرياته وما ينضاف إليها
قال:
وليس العيش إلا شرب راحٍ ... إلي بشربها الساقي يشيرُ
وكأسٍ يعدل الساقون فيها ... ولكن حكم سورتها يجورُ
وشدو صغيرةٍ كالخشف يحدي ... بصوتِ غنائها الرطل الكبير
ومن أخرى:
أسقني بالكبار إما بطاسٍ ... أو بكأسٍ محرورةٍ أو بجام
لا تكلني إلى الصغار التي تح ... كي قوارير جونة الحجام
وتقلد ديوان عشرتي اليو ... م بلا مشرفٍ وغير زمام
ومن أخرى:
الشرب لا الحرب عادتي ومعي ... ستة رهطٍ حندٌ صناديدُ
الدنٌ والرطل والمشمة والن ... قل وطبلُ التكريع والعودُ
ومن أخرى:
سيدي ما أظنه ... بعد يدري بما جرى
ما درى أن عبده ... فلسه قد تقشرا
عند قومٍ معروفهم ... في قد صار منكرا
كنتُ كالمسك مرةً ... بالدنانير أشتري
فأنا اليوم بعد ما ... صرت شيخاً كما ترى
عبدُ من عنده نبي ... ذٌ إذا كان أحمرا
خمرةٌ دنُّها يض ... من مسكاً وعنبرا
كم فمٍ ذاقها قطا ... ب وقد كان أبخرا

وغلامٍ بكأسها ... راح يسعى وبكرا
هو فينا بريحها ... عبق قد تعطرا
ظل يفسو وعندنا ... أنه قد تبخرا
ومن أخرى:
أيلول والعيد واعتدال ال ... هواء في الليل والنهارِ
وشهر شوال في تكافي ... ساعات أيامه القصار
أربعةٌ تقتضيك دين ال ... سماع واللهو والعقار
فاشرب لها بالكبير إن ال ... كبير للسادة الكبار
ومن أخرى:
والكأسُ تسلبني عقلي، وأهون ما ... لهوتُ عن ذكره عقلي إذا سلبا
حمراء يمسي يناني وهو فوق يدي ... منها بمثل شعاع الشمس مختضبا
ابتعتها غير مغبونٍ ولو طالبت الخ ... مار روحي أعطيت ما طلبا
وأربح الناس عندي في تجارته ... محصلٌ يشتري بالفضة الذهبا
ومن أخرى:
يا صاحبي استيقظا من رقدةٍ ... تزري عقل اللبيب الأكيسِ
هذي المجرة والنجوم كأنها ... نهرٌ تدفق في حديقة نرجس
وأرى الصبا قد غسلت بنسيمها ... فعلام شربي الراح غير مغلس
قوما اسقياني قهوةً روميةً ... مذ عهد قيصر دنها لم يُمس
صرفاً تضيف إذا تسلط حكمها ... موتُ العقول إلى حياة الأنفس
ومن أخرى:
من شروط الصبوح في المهرجان ... خفةُ الشغل مع خلو المكانِ
وحضور الطعام قبل طلوع الش ... مس مذ أمس بارد الألوان
والعروس التي تزف إلى الأر ... طال في ثوب صبغها الأرجواني
رسموا طين دنها وهو رطبٌ ... باسم كسرى كسرى أنو شروان
وترى سوسن الكؤوس عليها ... كسوةً من شقائق النعمان
ثم خفق الطبول بين الأغاني ... واصطكاك الأوتار في العيدان
والسماع الذي يمل على الأس ... ماع ما تشتهي بلا ترجمان
كل صوتٍ من اقتراحات إسحا ... ق التي زينت كتاب الأغاني
لا أعد الصبوح إلا غب وقاً ... إن جعلت الصبوح بعد الأذان
يا خليلي قد عطشت وفي الخم ... رة ري للحائم العطشان
فاسقياني محض التي نطق الوح ... ي بتحريمهما من القرآن
والتي ليس للتأول فهيا ... مذهبٌ غير طاعة الشيطان
واعدلال بي عن التي هدت النا ... ر قواها وحنقت بالدخان
إنني خشية من النار أخشى ... كل شيءٍ يُمس بالنيران
لا تخافا علي دقة كشحي ... لا تكال الرجال بالقفزان
فاسقياني بين الدنان إلى أن ... ترياني كبعض تلك الدنان
مقعداً بعد خفتي في نهوضي ... أخرساً بعد كثرة الهذيان
سكرةٌ بعد كسرةٍ تثبت اسمي ... في المفاليج أو مع العميان
اسقياني في المهرجان ولو كا ... ن لخمس بقين من رمضان
أسقياني فقد رأيت بعيني ... في قرار الجحيم أين مكاني
أنا حودابة وذهني صديدٌ ... تحت خصي فرعون أو هامان
كل شيءٍ قدمته لي فيه ... رأس مالٍ يأوي إلى الخسران
غير حبي أله الحواميم والحش ... ر وطه وسورة الرحمن
خمسةٌ حبهم إذا اشتدى خوفي ... ثقتي عند خالقي وأماني
قد تيقنت أنهم ينقلوني ... من يدي مالكٍ إلى رضوان
بهمُ قد أمنت خوف معادي ... وبهذا الوزير خوف زماني
يا أبا طاهرٍ ولولاك ما كا ... ن لبدر المساء في الأرض ثاني
لك يا سيدي دعا الفطر والأض ... حى ويوم النيروز والمهرجان
ومن أخرى في بختيار يهنئه بالأضحى:
قد صخب البم مع الزير ... فقم قليلاً غير مأمور
قم هاتها أصفى إذا رقرقت ... في الكاس من دمعةٍ مهجور

من يدٍ عذراء لها وجنةٌ ... تحار فيها أعينُ الحور
تحدثت فانتثر الدر من ... مشمةِ النرجس والخيري
وعنبرت أنفاسها نكهةً ... تبسم عن نفحة كافور
الليل والعشر يقولان لي ... مذ أمس قولاً غير مستور
أمسلمٌ قلت نعم ظاهري ... وباطني في الخمر نسطوري
من أجل هذا أنا مذ جئتما ... ما بين سكرانٍ ومخمور
فاسعد بيوم العيد واجلس له ... في خلوةٍ جلسة مسرور
وضح فيه بالدنان التي ... تخر بين البم والزير
من كل دن دم أوداجه ... أحل من لحم الخنازير
واستحضر العود ووجه به ... حتى نصلي بالطنابير
الركعة الأولى سريجية ... وركعة التسليم ماخوري
وهي صلاة العيد لا يستوي ... تجوزي فيها وتقصيري
والله لو كنت لها حاضراً ... لحير العالم تكبيري
فاشرب على ملكٍ تمليته ... موشحٍ بالعز منصور
في قدحٍ أزرق أو ساذجٍ ... أبيض مثل الثلج بلور
واستجل مع ذاك وذا أوجهاً ... صبيحةً مثل الدنانير
كأنما عينك ما بينهم ... تدور في زهرة منثور
ومن أخرى في أبي الفتح بن العميد، وكان قد هجر النبيذ بعد القبض على بختيار. وكان ابن بقية الوزير قد شرب وابن الحجاج إذ ذاك يتولى الحسبة ببغداد:
حقي على الأستاذ قد وجبا ... فإيه قد أصبحت منتسبا
مولاي ترك الشرب ينكره ... من كان في بغداد محتسبا
إن كان من غم الأمير فلم ... وزيره بالأمس قد شربا
إن الملوك إذا هم اقتتلوا ... أصبحتُ فيهم كلبَ من غلبا
فلذاك أسكر غير مكترثٍ ... وألف مع خيشومي الذنبا
يا سادتي قد جاءنا رجبٌ ... فتفضلوا واستقبلوا رجبا
بمدامةٍ لولا أبوتها ... ما كنت قط أشرفُ العنبا
حمراء مثل النار موقدةٍ ... لم تلق لا ناراً ولا حطبا
من قال إن المسك يشببها ... ريحاً فلا والله ما كذبا
ومن أخرى في بعض الوزراء:
فُديت بي يا سيدي وحدي ... وعشت ألفي سنة بعدي
قد رحل النرجس فاشرب على ... محاسن المنثور والورد
من لي بها عندك مشمولةً ... قد أصبحت معدومةً عندي
يمزجها لي رشا أغيدٌ ... بريقةٍ أحلى من الشهد
نهاية الحر مجس استه ... وريقه في غاية البرد
جنى من البستان لي وردة ... أحسن من إنجازه وعدي
وقال والوردة في كفه ... مع قدحٍ أذكى من الند
اشرب هنيئاً لك يا عاشقي ... ريقي من كفي على خدي
ومن أخرى:
يا من حقوق النيروز تلزمهُ ... رسمك يوم النيروز مشهورُ
فاسكر من الليل واصطبح سحراً ... غداً تراني وأنت مخمور
واستنطق الزير إنني رجلٌ ... يعجبني ما يقوله الزير
ومن أخرى:
قم فاسقني الراح أو تراني ... مبلبلُ العقل واللسانِ
إذا تكلمت لم يُفسر ... قولي إلا بترجمان
وله يهنئ نصرانياً بفصحه:
أوجع دماغاً القرع بالسلقِِ ... اليوم يوم القطع والبلقِ
اليوم يوم الراح يا سيدي ... فاشرب من الراح كما تسقي
كل سيدي واشرب ونك إنما ال ... حياة بين الشرب والفسق
افطر من الصوم على فقحةٍ ... زبدتها في طرف الزق
وابق سليماً ودع الموت لا ... ينجو على الخلق ولا يبقي

ما أخرج من خرافاته في مجونه ومفاحشاته
قال:
سرى متعرضاً طيف الخيال ... فسوف لا محالة بالمحال

ولكني انتهبت فكأني حزني ... على ما فاتني أسوأ لحالي
وما خلق النساء البظر إلا ... وبالاً حيث كان على الرجال
عزيزي في الزنا من كل تيسٍ ... عتيقٍ قد تمرد في الضلال
يحسن لي الحلال فنحن طول ال ... نهار اجتمعنا في جدال
وليس سوى الزنا همي ورأيي ... فبيكار الخصى نيك العيال
وفي النيك الحرام خزعبلاتٌ ... قليلاً ما تراها في الحلال
وسرمٌ مر مجتازاً بأيري ... كما صلى العشا والدرب خالي
فقال له إلى كم تزدريني ... وتكشف بالقبيح إلي بالي
ولم تختار الحر دوني ... وتكرهني وتعرض عن وصالي
ألم تر أن شكل البدر شكلي ... وأن الحر معكوس الهلالِ
تأمل تكتي فوقي وأين ال ... وهاد من الروابي والتلال
فنكس رأسه أيري طويلاً ... وفكر في الجواب عن السؤال
وفكر ثم قال له إذا لم ... توفق للصواب فما احتيالي
أبا الدراق ما للحر ذنبُ ... إذا فكرت في عذري ولالي
ولكني رأيت الحر فينا ... يسام الخسف حالاً بعد حال
فيقطع أنفه طفلاً وينشو ... كبيراً وهو منتوف السبال
ويلكم سدقه في كل وقتٍ ... بغير خصومةٍ وبلا قتال
وأنت فسيء الأخلاق جداً ... كما تدري قليلُ الإحتمال
بأول خاطرٍ من غير فكرٍ ... تشرس من لقيت ولا تبالي
ومدخلةٍ لها ردفُ سمينٌ ... وخصرٌ كالهلال من الهزال
يؤذن في استها أيري أذان الض ... حى ويقيم في وقت الزوال
وتعصب ريح عصعصها شمالاً ... وهل ريح أرق من الشمالي
وقد بادلتها فمبالها لي ... بمشورة استها ولها قذالي
كما لابن العميد جميع شكري ... ودنيا ابن العميد جميعها لي
ومن أخرى:
حميةُ السرم ولكنها ال ... بظراء شيرازية المفرق
قالت لأيري بعد ما صب في ... دواتها أكثر من دورق
أوحشت عش استي فقل لي متى ... تؤنسه يا عنق اللقلق
فقال هيهات وهل يرجع الل ... ص إذا فر من المطبق
ومن أخرى في حسبته:
يا معشر الناس اسمعوا دعوةً ... دخالةً بالنصح خراجه
من منكمُ طار على حسبتي ... قطعت بالدرة أوداجه
لأنه أقرن ليست له ... بعدي في زوجته حاجه
كأن أيري في آستها زمجٌ ... يطلب بين الشوك دراجه
ومن أخرى:
جاريةٌ أرض نبات استها ... رقيقةُ التربة خواره
تسبح في جانب مفساتها ... عين خرا بالعرض خراره
كأن لي منها على عاتقي ... كراع شاة فوق قناره
ومن أخرى:
وقينةٍ كلُّ من يعاشرها ... مغتبطُ بالسماع مسرورً
مبرودة الريق بعد هجعتها ... وجوفها في الفراش محرور
كأن تنورها الشديد حتى ... بقرب عهد الشباب مسجور
تشم رحي استها الزناة كما ... تشم ريح اللحم السنانير
فجوفها قربةٌ وفي حرها ... خندق بول وبظرها سور
ومن أخرى:
ولم أزل وهي إلى جانبي ... كظبيةٍ عفراء وحشيه
أنب مثل التيس فوق استها ... وهي بحال النيك تيسيه
ومن أخرى:
صمدت لها وجنح الليل داجٍ ... بأخطف للطريدة من عقابِ
وأولع بالمباعر من قرادٍ ... وأوقع في المقاذر من ذباب
ومن أخرى:
فتاةُ ما عرفنا قط منها ... بحمد الله إلا كل خير
فما تهوى سوى أيار شهرا ... وليس إمامها غير الزبير
ومن أخرى:
قالوا رأيناك بما فيك من ... هشاشة الفطنة والكيس

تحبو إلى باب أستها مثل ما ... يحبو ابن عامين إلى الديس
فأي شيءٍ كان قلت الذي ... يكون بني العنز والتيس
وقال:
يا سادتي ما استرق ديني ... شيء كمثل الحر السمينِ
لما أراه يزول عقلي ... عني ويعتادني جنوني
وأشتهي أن أغوص فيه ... من مشط رجلي إلى جبيني
وكلما شلتُ منه رأسي ... رزقت قوما يغوصوني
أغيب شهراً فلا تراني ... العيون والناس يطلبوني
حتى إذا كان بعد شهرٍ ... دل على موضعي أنيني
فديته كالعروس يجلى ... في دست وردٍ وياسمين
جبينه الصلت من حديدٍ ... وشدقه الرخو من عجين
وخير ما يقتنيه أيري ... صلابةٌ بُطنت بلين
وله:
يا صاح فاشرب واسقني ... من الشراب العكبري
مع أمردٍ عصعصهُ ... بجيد بلع الكمر
أو قينةٍ طنورها ال ... محفوف صلب الوتر
حوريةٌ قد شربت ... بالرطل ماء الكوثر
من الجنان وجهها ... وسرمها من سقر
لها حر كأنه ... وجه غلام خزري
ذو شعرةٍ أطرافها ... شبه رؤوس الأير
أصيح في نيكي لها ... تقدمي تأخري
أحسنت لي هم، هكذا ... مدي وشدي واعصري
العيش ما أطيب ذا ... يا مهجتي يا بصري
لمثل ذا الوقت انتفي ... أو احلقي أو نوري
ومن أخرى:
صبيةٌ بظرها بجنبي ... يبيت مثل الصبي المخضب
مفعول باب استها بأيري ال ... فاعل فوق الفراش ينصب
وسرمها كان أمس غراً ... لم يتفقه ولا تأدب
فاليوم قد صار منذُ قاسى ... أمور أهل الزنا وجرب
إذا رأى الأير من بعيدٍ ... بوق في وجهه ودبدب
ومن أخرى:
تبول من شدق مهزول به عجفٌ ... وقد تفقا عليه بظرها سمنا
ترغي وتزيد شدقاه إذا اختلفا ... كأنه شدق مفلوج حسى لبنا
ومن أخرى:
ذات حم يسقي الفراغات صرفاً ... من عصير الخصي بغير مزاج
بات دكشاب فيشتي في خراها ... يخلط الدوغباج بالزيرباج
وقال:
لو أن سرماً كان في ... يديه ملكُ اليمن
لكان أولى منه بي ... قطعةُ بطرٍ عفن
وقال:
عمرك الله يا ابن عمروٍ ... عمر ثلاثين ألف نسر
وجهك عند الصباح شمسي ... وأنت عند المساء بدري
مولاي ذا اليوم يوم سعدٍ ... أشرف عندي من ألف شهر
نذر فيه إذا التقينا ... سكراً إلى الليل بعد سكر
مع قينةٍ لا تريد غيري ... فهي تجيني بغير حذر
أيري على أنه طويلُ ... أقصر من بظرها بشبر
لصوف شعر استها مدادٌ ... يعجنه بولها بحبر
فأي شيءٍ تقول هو ذا ... أقوم حتى أفي بنذري
وقال:
ضرطت ونحن بعكبرا ... فتشوشت سفن الغروبِ
وفست على ريح الشما ... ل فألحقتها بالجنوبِ
ومسحتُ مبقلةً استها ... فوجدتها ألفي جريب
جاءت إلي وجوفها ... يغلي ولا قدرُ الزبيب
فسلقت بيضي في آستها ... وشويت في حرها عسيبي
ومن أخرى:
وكم حديثٍ كأنه سمرٌ ... قد مر لي في الزنا مع السمر
وافرة الردف فهو يثقلها ... لطيفةُ الكشح نضوة الخصر
طعم خراها مع طعم فيشلتي ... يشبه طعم اللبا مع التمر
لو لم أشبب بشعر عانتها ... ما طاب للناس كلهم شعري
قيل لأيري وقد رأوه ولا الهار ... ب بعد الحصول في الأسر
يشتد بعد العشا إلى حرها ... عدواً بال حشمةٍ ولا فكر

ما لك هو ذا تطير قال لهم ... أطير مستعجلاً إلى وكري
ولي خصى لو خرجت أعرضه اش ... تراه مني بروحه دري
إيري عليه كأنه وتدٌ ... قد علقت فيه دبة البزر
ومن أخرى:
يا ويحكم واللحم يعر ... ض والبزاة على الكنادر
قوموا بنا نحشو البظو ... ر بفيشنا حشو المساور
نبدأ بكراعاتهم ... ونعود نعثر بالزوامر
ثم الحوافظ إنه ... ن عجائزٌ سوطٌ عواهر
أحراحهم بيض العنا ... فق واللحى سود المباعر
كشيوخ أصحاب الحدي ... ث إذا تمشوا بالمحابر
ومن أخرى:
أنا ابن حجاج إليه أبي ... ينمي وقلبي من بني عذره
لم يخل جسمي في الهوى من ضنى ... قط ولا عيني من عبره
حبائبٌ مثل حصى عكبرا ... والرقبا مثل نوى البصره
حامضة البول ولكن لها ... مستنعظٌ أحلى من التمره
لها حر درته جرةٌ ... مبعرٌ روثته صخره
فما تلاحظنا سوى مرةٍ ... حتى أتى الشيخ أبو مره

نبذ من ملحه القصار من أخباره
كان قد دعا مغنية، فلما دارت الكؤوس تساكرت عليه وتناومت وهو جالس، فقال:
غطتِ البظراء لما ... عاينت مفتاح ديري
ورجت مني خيراً ... قلت لا ترجين خيري
اقعدي عندي وهذا ... فافعليه عند غيري
أنت في دعوة أذني ... لست في دعوة أيري
وحصلت عنده مغنية كان يتعاشق لها. ونام ابن حجاج، فتفرقع ظهره فغضبت وانصرفت، فقال:
قد غضبت ستي وقد أنكرت ... قرقعةً تظهر في ظهري
وليس لي ذنب ولكنني ... أضرط بالليل ولا أدري
فليت شعري وهو غضبانةٌ ... من حجرها أضرط أم حجري
وأنا أستظرف كنايته بالفرقعة عن الضراط.
ودعا مغنية، فخلا بها، فهجمت عليه صديقه له، فتضاربتا وتجارحتا وطال بينهما الشر. فقال:
رحم الله من أتاني بموسى ... فتقصى بحده جب أيري
كل يوم أغضي له عن جنايا ... تٍ كأن الحديث فيها لغيري
ولعمري كم في صباحٍ بشرٍ ... كان لولاه قد جرى لي بخير
ووردت عليه رقعة صديقين له يدعوانه للشرب وابنه قد جدر وملح فكتب إليهما:
يا سيدي النبيذ موجود ... وبابُ شرب النبيذ مسدودُ
قد ملُح ابني فيكف يشربُ من ... أمسى ولحم ابنه تمكسود
وعرض له صداع، فانفرد إخوانه بالشرب مع مغنية كان قد اشترطها، كتب إليهم:
حصلت أنا الشقي على الصداع ... وأنتم بالتمتع والسماع
خلوتم بالتي قلبي إليها ... شديدُ الشوق مشهور النزاع
فتاةٌ أصبح الإجماع فيها ... يقر بأنها شرط الجماعِ
وحصل مع رجل يكنى أبا ا لحسين في دار رجل بخيل، فالتمس أبو الحسين العشاء بعد الغداء، فقال ابن حجاج:
يا سيدي يا أبا الحسين ... أنت رفيعُ بنقطتين
يا كلب الضرس ما يدوي ... ضرسك إلا بكلبتين
ويلك قل لي جننت حتى ... نلتمس الخبز مرتين
في دار من خبزه عليه ... ألف رقيبٍ بألف عين
وحضر في دعوة، وأخر الطعام، فقال:
يا صابَ البيت الذي ... أضيافه ماتوا جميعاً
حصلتنا حتى نمو ... ت بدائنا عطشاً وجوعاً
مالي أرى فلك الرغي ... ف لديك مشترفاً رفيعاً
كالبدر لا نرجو إلى ... وقت المساء له طلوعاً
ونظر إليه يذهب ويجيء في داره، فقال:
يا ذاهباً في داره جائياً ... بغير معنى وبلا فائدة
قد جُن أضيافك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائده
وكان بعض أصحاب الدواوين يطالبه بحساب ناحية وليها، فكتب إليه:
أيا من وجهه قمرٌ منيرُ ... يضيء لنا وراحته السحابُ
إذا حضر الحساب أعدت ذكري ... وتنساني إذا حضر الشراب

أجبني بالقناني والمثاني ... ووجهك إنه نعم الجواب
وكلني في الحساب إلى إله ... يسامحني إذا وضع الحسابُ
وركب إلى بعض الرؤساء يهنئه بعيد النحر، فلم يصادفه، فكتب إليه:
أيا من وجهه كالشمس توفي ... فيحمق نورهُ بدرٌ التمام
لعيد النحر أيامٌ قصارٌ ... تلم بنا اجتيازاً كل عامِ
أمرنا كلّنا بالنيك فيها ... وأكل الطيبات وبالمدام
فقيل لنا اشربوا وكلوا ونيكوا ... حلالاً أو على وجه الحرام
وما قيل اقطعوها بالتهاني ... وتكرار التحايا والسلام
فيا طوبى لمن صلوا قعوداً ... وناكوا في الكواشل من قيام
وقد بكرتُ أمس على كميتٍ ... يقصر خطوه طول المقام
جريح الجنب من ضغط الحزام ... قريحِ الفك من مضغ اللجام
فإن أنا لم أعد فالله أولى ... بعذري ثم أنت بلا كلام
ووردت رقعة رجل على بعض الرؤساء وهو جالس يعرض عليه جارية رباها ويصف حسنها. فأمره بالإجابة فقال:
يا ذا الذي جاء بحر له ... في السر يهديه إلى أيري
علي شغل بالمهم الذي ... تراه فاطلب نايكاً غيري
وكان له صديق ولذلك الصديق ابن يكنى أبا جعفر، وكان مستهتراً بالقحاب فسأله أن يعاتبه ويشير عليه بالتزوج، فقال:
إياك والعفة إياكا ... إياك أن تفسد معناكا
أنت بخيرٍ يا أبا جعفرٍ ... ما دمت صلب الأير نياكاً
فنك ولو أمك واصفع ولو ... أباك إن لامك في ذاكا
وكان الوزير أبو الفضل والوزير أبو الفرج قد خلوا في الديوان لعقوبة أصحاب المهلبي عقب موته، وأمرا أن تلوث ثياب الناس بالنفط إن قربوا من الباب، وقد كان المهلبي فعل مثل هذا، فحضر ابن الحجاج فحجب وخاف النفط فانصرف فقال:
الصفح بالنفط في الثياب ... ما لم يكن قط في حسابي
ليس يقوم الوصول عندي ... مقام خيطين من ثيابي
يا رب من كان سن هذا ... فزده ضعفاً من العذاب
في قعر حمراء ليس فيها ... غير بني البظر والقحاب
تفعل في لحمه المهري ... ما يفعل الجمر بالكباب
فالقرد عندي جيل عمن ... يسن هذا على الكلاب
ووردت عليه رقعة خصم له بما يسوءه فكتب على ظهرها أبياتاً منها:
إني جعلت إجابتي في ظهرها ... عمداً ليمكن فضها في المجلس
كانت كنيفاً فائضاً يجل عمن ... يسن هذا على الكلاب
ووردت عليه رقعة له بما يسوءه فكتب على ظهرها أبياتاً منها:
إني جعلت أجابتي في ظهرها ... عمداً ليمكن فضها في المجلس
كانت كنيفاً فائضاً فزرعت في ... ظهر الكنيف حديقة من نرجس
وكان ابن شيراز قد صار السبع فقتله، ثم عاد لمثله، فكتب إليه ابن حجاج:
يا من إلى مجده انقطاعي ... ومن به أخصبت رباعي
قد زاد خوفي عليك جداً ... وعظم الأمر في ارتياعي
في كل يوم سبعٌ جديدٌ ... ينفر من ذكره استماعي
تغدو إليه بلا احتشامٍ ... ولا انقباضٍ ولا امتناع
وليس قتل السباع مما يدرك بالختل والخداع
فلا تطر بعدها لسبعٍ ... مراسه غير مستطاع
إن صراع السباع عندي ... حاشاك ضربٌ من الصداع
أعدل إلى الكأس والندامى ... والأكل والشرب والسماع
وأمردٍ جامع لشرط ال ... عناق والبوس والجماع
بلى أجع لي السباع واطرح ... خصمي في بركة السباع
فإن عيشي في أن أراه ... بين سباع الربى الجياع
وكان سأل بعض الرؤساء أن يتكلم في أمر كان له فوعده ثم أمسك وسكت فقال:
يا صنماً يعبده شعري ... بلا ثوابٍ وبلا أجر
إن لم تكن دباً فخاطبهم ... بلفظة تسمع في أمري

انطق بنفسٍ قبل أن يحسبوا ... أنك من طين وآجر
وقال وقد عرضت له علة صعبة، ثم صلح بعد اليأس، فكتب إلى بختيار:
يا سيدي عشت في نعيمٍ ... حلو الجنى دائم امسره
عبدك يشكو إليك حمى ... قد سبكته الصفراء نقره
حمى لتنورها وقودٌ ... يزيد في اليوم ألف سجره
قد حفرت تربةً لصيدي ... فكدت منها أصير صبره
علة سوءٍ كانت تريني ... نفسي فوق الفراش حسره
طالعني الموت من زوايا ... برسامها ألف ألف مره
قد نصب الفخ لي ولكن ... أفلت من فخه بشعره
وقوله:
يا سيدي دعوةُ من قلبهٌ ... من خوفِ ما مر به يخفقُ
قد نصب الفخ لصيدي أبو ... يحيى ولكن أفلت العقعق
وقلده الوزير ناحية، فخرج إليها يوم الخميس، وتبعه كتاب الصرف يوم الأحد، فقال:
يا من إذا نظر الهلا ... ل إلى محاسنه سجد
وإذا رأته الشمس كا ... دت أن تموت من الحسد
يوم الخميس بعثتني ... وصرفتني يوم الأحد
والناس قد غنموا علي ... كما رجعت إلى البلد
ما قام عمرو في الولا ... ية ساعةً حتى قعد
وقال في مثل ذلك:
يا مالك الصدر ما خلوت من ال ... إيراد ما عشت فيه والصدر
قلدتني ليلةً وباكرني ... كتاب صرفي المشوم في السحر
فقد بختي فكيف درت به ... دور لي جانب استه وخري
وقال، وقد حجبه بواب لبعض الرؤساء مرات فكتب إليه:
قولاً لمن إحسانه لم يزل ... شفاء علاتي وأوصابي
بي علةٌ تقطع أسبابها ... من راحة الصحة أسبابي
أخفيت ما بي اليوم منها فما ... تطلع الناس على ما بي
وليس يشفيني سوى نهشةٍ ... من قطعةٍ من كبد بواب
تبيت فيها وهي مشبوبة ... بالنار أضراسي وأنيابي
فامنن بأن تذبح لي واحداً ... بالنعل في دوارة الباب
فنقطةٌ من دم أوداجه ... أنفع لي من رطل جلاب

ملح من نوادره في ذكر الصفع
قال:
يا سخن العين التي لم تزل ... تعيش في الناس بلا عقلِ
إن لم تزن نفسك مستأنفاً ... والخوف بين القول والفعل
حل بيافوخك مني الذي ... يحل يوم العيد بالطبل
لا تجهل اليوم على من له ... معرفةٌ بالعقل والجهل
فتى وإن زلت به نعلهُ ... أصفع خلق الله بالنعل
وقال:
هاربٌ مني وقد خاف العمى ... بقفا للنعل بادي المقتل
وبكفي شمشكٌ منتعلٌ ... والقفا حبر الشمشك المنعل
وقال:
في البيت لي درة يحدث عن ... أفعالها الموغلون في الشارع
تأكل لحم القفا السمين كما ... يأكل رز البهطة الجائع
وقال:
رب مستصفعٍ نسخت بنعلي ... بين أجفانه شروط القوافي
كل نهب الطلى مباح حتى الرأ ... س حريب الآذان والأكتاف
فاتق الله في غطاريف أذني ... ك وأعصاب أخدعيك الضعاف
وقال:
يقل لابن حسنون وما زال من ... تعجرفٍ يصغو ويستعفي
أما ترى رخ يدي جائلاً ... وشاه أذنيك على الكشف
وقال:
وقد وقع المنع والحجاب معاً ... فكل من رام بابكم صفعا
وافيته طامعاً لأدخله ... ولم أكن قط أحمد الطمعا
فواثبوني جهلاً بمرتبتي ... في تحيث أشكو الصداع والصلعا
لا تطلبوا بعدها مواصلتي ... فإن حبل الوصال قد قطعا
وقال وقد صرف عن عمل كان إليه:
قال وأجفان مقلتيه تكف ... وجسمه ظاهر السقام دنف
أعمالنا هذه التي كثر ال ... إرجاف فيها بنا فليس تقف

قد صرفونا عنها فقلت لهم ... نعم وصادف عين واو نون ألف
وقال:
قلت وقد جاء حر شاذا ... لأي معنى قد جاء هذا
قالوا لصفع العباد حتى ... يجعل أقفاءهم جذاذاً
فقمت وابناي يتبعاني ... ننسل من بينهم لواذا

نبذ من ذكر سرقاته
من ذلك قوله:
شيخٌ فتى والشباب أكثرهم ... قد علم الله غير فتيان
من قول كثير:
يا عز هل لك في شيخٍ فتى أبداً ... وقد يكون شبابٌ غير فتيان
وقوله:
وأولاد الحرائ لم يجابوا ... لدي فكيف أولاد القحابِ
من قول دعبل:
إني لأهجو من يجود بما له ... أتظنني أدع اللئيم الواضعا
وقوله:
على أني أظنك سوف تنجو ... بعرضك من يدي منجى الذئابِ
من قول أبي الزيات:
نجا بك لؤمك منجى الذئاب ... حمته مقاذره أن ينالا
وقوله:
وأحسن ما رأينا قط راحا ... إذا كانت مطية كأس راحِ
من قول أبي تمام:
راحٌ إذا الراح كن مطيها ... كانت مطايا الشوق في الاحتشاء
وقوله:
سترتُ بظله من ريب دهري ... فعز على النوائب أن تراني
من قول أبي نواس:
تسترت من دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني
وقوله:
أمشي بقلبي، لا برجلي، إنما ... تمشي بحسب هوى القلوب الأرجلُ
من قول اللجلاج:
وما زرتكم عمدا
ولكن ذا الهوى ... إلى حيث يهوى القلب تهوي به الرجلُ
وقوله:
وخمارٍ أعد الكأس ظئراً ... لطارقه فلم يرضعه غيلا
أوفيهِ خلاص التبر وزناً ... فيسبكه ويعطينيه كيلاً
من قول ابن المعتز:
وخمارةٍ من بنات المجوس ... ترى الزق في بيتها شائلاً
وزناً لها ذهباً جامداً ... فكالت لنا ذهباً سائلاً
وقوله:
فتاةٌ كالمهاة تروق عيني ... مشاهدها وتفتنُ من رآها
تكاد ترد للمجبوب أيراً ... وتحدث للفتى العنين باها
من قول جحظة:
لو مر بالأعمى لأبص ... ر أو بغنينٍ لأنعظ
نبذ مما تكرر من معانيه
قال:
وفي فمي سكرةٌ حلوةٌ ... قد نغصتها لوزةٌ مره
وله:
واللوزة المرة يا سيدي ... يفسد في الطعم بها السكر
وله:
كأنه وهو إلى جنبها ... سكرةً مع لوزةٍ مرة
وله:
نبهت منه لحاجتي عمراً ... ولم أعول منه على عمرو
وله:
فما استجارت بعمرو مظلمةٌ ... بل حين جاءتك أنت يا عمر
فالشعر قد صار فيها وأتى ... مع ذا بتفصيل ذلك الخبر
وله في عكس المعنى:
ولم تنبه عمراً حاجتي ... بل وقعت منك على عمرو
وله:
خير الستور التي نعلقها ... ستر خصى مسبلٍ على حجر
والقدر إن لم يكن لها طبقٌ ... لم يتهر العصيبُ في القدر
وله:
ولم تر العين قط أحسن من ... ستر خصى مسبلٍ على حجر
وله:
كتبت رقعةً إلي وقد عب ... ت بسطرٍ مقرمطٍ خلف سطر
يا فتى سترُ باب سرمي خصاهُ ... هات قل لي متى تعلق بستري
وله:
أحن إذا رأيت الحر ليلاً ... بجنبي وهو منتوفٌ نظيفُ
ولا آباه إن هو جاء يوماً ... وفي رأس الكلاجق منه ليف
وله:
فاستأذنيه غداً وعودي ... إلي منتوفةً نظيفه
فقد تبينت فوق رأس ال ... حر ذي الزوزك ليفه
وله:
بيضاء وهجٌ استها يفور حمى ... وريقها العذب باردٌ خصرُ
وله:
بريقهُ كالثلج مبردةٌ ... ومبعرٌ كالنار محرورُ
وله:
نهاية الحر مجس آستها ... وريقها في غاية البرد
وله:
للبرد في ريقه كزازٌ ... وللحمى في آسته حريقُ
وله:
يا زوج من ريقها حميمٌ ... وريق مفسائها صقيعُ
وله:
وغلام شظى بكرفس مفسا ... ه قديماً أسنةُ الأقلام
وله:

لا ترى كرفسا على باب مفسا ... ه يشظي بصوفه الأقالما
وله:
ودواة استها بصوفٍ ولا اللي ... فُ يشظي أسنة الأقلام
وله:
كلما استمددت من سرمها ... شعب ستي قلمي الكرفسُ
وله من السريع
فديت من لقبني مثلما ... لقبته والحق لا يغضبُ
إن قلت يا عرقوب أطمعتني ... قال فلم نفسك يا أشعبُ
وله:
وعدتني وعداً وحاشاك أن ... تروغ منه روغة الذيب
ما كنت إذ أطمعتني أشعبا ... فيه ولا أنت بعرقوب

ما جاء له في التضمين
قال، وقد كان غاب في الحضرة مع الوزير ثم عاد فلما قرب توقف عن الدخول:
أيا مولاي دعوة مستغيث ... قد التهبت جوانحه بنارِ
أغثنا بالرحيل غداً فإنا ... من الشوق المبرح في حصارِ
وأبرح ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنت الديار من الديار
وقال:
قد قلت لما غدا مدحي فما شكروا ... وراح ذمي فما بالوا ولا شعروا
علي تحت القوافي من معادنها ... وما علي إذا لم تفهم البقر
وقال:
ولم أطب إلى عذراء رودٍ ... بها عن وصل عاشقها نفارُ
ولا غرثى الوشاح كأن ورد ال ... حياء بوجنتيها الجلنار
بنفسي كل مهضوم حشاها ... إذا ظلمت فليس لها انتصارُ
ولكني طربت إلى خليلٍ ... سمحت ببذله ولي الخيار
فلما أن مضى في حفظ من لا ... يضيعه وشط به المزارُ
ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت منه مطلقةً نوارُ
فعيني ما تجف لها دموعٌ ... وقلبي ما يقر له قرار
وقال:
سيدي إن أقمت بعدك بالص ... عد فقلبي علي غير مقيمِ
غير أني أقول بالرغم مني ... فاملي أكف بأس همومي
من يكن يكره الفراق فإني ... أشتهيه لوقفةِ التسليم
وله يخاطب ابن بقية، وقد حجب عنه وهو على الشراب:
بحق رأس الأمير مثلي ... يظمأ في دولة الأمير
فما لكم تشربون دوني ... ولست في جملة الحضورِ
وقد قلت لما حجبتموني ... فاشتد من بابكم نفوري
إن دام هجرانكم على ذا ... طمتُ من بعنكم حصري
وقال:
صاح أيري ورمحه فوق خصيي ... ه ولا رمح ضمرة بن هلال
قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائلٍ عن حيال
ثم أهوى بطعنةٍ بات منها ... يرم ستي ذاك الشقي بحال
فتولى يقول وهو طعينٌ ... دمه مع خراه مثل البزال
لم أكن من جناتها علم الل ... ه وإني بحرها اليوم صالي
وقال:
أسفر الصبح فاسقياني وقد كا ... ن من الليل وجهه ف ينقاب
وانظر اليوم كيف قد ضحك ال ... زهر إلى الروض من بكاء السحاب
إن صحوي وماء دجلة يجري ... تحت غيمٍ يصوبُ غير صواب
اتركاني ومن يعيرُ بالشي ... ب وينعي إلي عهد الشباب
فبياض البازي أصدق حسناً ... إن تأملت من سواد الغراب
وقال في ابن العميد يودعه ويصف الفرس ويذمه:
أيها السيد الذي طاب في المج ... د فروعاً كريمة وأصولا
لو مشى بي الشيخ الفرق لسابقت ... ك سيراً إلى الوداع ذميلاً
فتجاوزت خانقين وخلف ... ت ورائي على الطريق جلولا
لكن لاشيخ كان جذعاً من الخي ... ل طرياً فصار جذعاً طويلاً
كلما سار سال دمع مآقي ... ه ومن حق دمعه أن يسيلا
مستغيثاً يصيح تحتي ضراطاً ... مزوجاً في طريقه وصهيلاً
أبصر القت وهو يجري فغنى ... بعد ما كاد عقله أن يزولا
أزجر العين أن تبكي الطلولا ... إن في القلب من كليبٍ غليلا
وقال يصف ضعف فرسه:

يسومني المشي مضطراً وليس له ال ... مسكين بالمشي شبراً واحداً جلدُ
ما كلف الله نفساً فوق طاقتها ... ولا تجود يد إلا بما تجدُ
وقال، وقد حجب مع جماعة من الكتاب:
قد قلت لما أن رجعت مولياً ... ومعي مدابيرٌ من الكتابِ
نحن الذين لهم يقال وكلنا ... فل العصا وطريدة الحجاب
قومٌ إذا قصدوا الملوك لمطلبٍ ... نُتفت شواربهم على الأبواب
وقال:
يا ربربُ اعبر بنا على ملكٍ ... توجهُ الله بالمهاباتِ
يقول للريح كلما عصفت ... هل لك يا ريح في مباراتي
وقال:
قالت وقد كشف الودا ... ع قناع حزنٍ قد علن
وأذل بالجزع الفرا ... ق قوي عزاءٍ ممتهن
يا من مُحنت بفقده ... حوشيتُ فيك من المحن
خلفتني والحزن بع ... دك يا قريني في قرن
فإذا صبرت ضرورةً ... صبر الوقيذ على الوسن
فترى يطيق الصبر عن ... ك أو السلو أبو الحسن
طفلٌ نشا وفؤاده ... بك الوقيذ على الوسن
كالفرخ يضعف قلبه ... عن أن يودع بالحزن
فأجبتها وهي التي اس ... تولت علي بلا ثمن
طلبُ المعاش مفرقٌ ... بين الأحبة والوطن
يا رب فازدد سالماً ... سكناً يحن إلى سكن
وكتب إلى رئيس تستهديه مشروباً وهو مع بعض أصدقائه وعندهم مغنية فلم يفعل:
يا سيدي جودك المشهور ما فعلا ... أبيع بالرخص يا هذا أم ابتذلا؟
واسوأتا من أناسٍ ظلت أطمعهم ... أن الذي التمسوه منك قد حصلا
حتى إذا عاد من أرسلته بيدٍ ... صفرٍ وما كان عندي أنه وصلا
قالوا لقينتهم غين عليه لنا ... صوتاً ضربنا له في شعره مثلاً
مازلت أسمع كم من واثق خجلٍ ... حتى بليت فكنت الواثق الخجلا

ما أخرج له في التخصل
قال من أبي تغلب، وقد توجه من الموصل إلى بغداد:
افضضِ الدن واسقني يا نديمي ... اسقني من رحيقه المختومِ
اسقني الخمرة التي نزلت في ... ها القوم آية التحريم
اسقنيها فإنني أنا والق ... س جميعاً نبولها في الجحيم
اسقنيها ولا تكلني إلى النق ... ل عليها ولا إلى المشموم
بادر الصبح بالصبيحة وجها ... فابنة الكرم شرط كل كريم
ثم قل للشمال من أين يا ري ... ح تحملت روح هذا النسيم
أترى الخضر مر لي فيك أن جز ... ت برضوان في جنان النعيم
أم تقدمت والأمير أبو تغل ... ب قد صح عزمه في القدوم
وقال في فتح قلعة أردمشت من قصيدة:
سقاني كأسه سحراً بوقتٍ ... وكان صبوحنا في يوم سبت
غلامٌ أعجمي فيه ظرفٌ ... وحذقٌ بالتلطف والتأتي
سقاني دو وسا وازددت منها ... على سكري وصبحني بهفت
فلما نمت قام وقال بروا ... لمن حولي خوى خاني بجفت
وفي باب آسته زغبٌ لطافٌ ... ملاحٌ مثل ورد الزاد رخت
ولكن كان لا يقوى لشؤمي ... وخذلاني به سواد بختي
فشدقت الصبي فدته نفسي ... بدوديكي وتيمردم درست
وكان من استه كالبنت بكراً ... مخدرة الخرا ففتحت بنتي
كما فتحت وحد السيف يدمي ... من الأعناق قلعة اردمشت
وقال في مدح صاعد:
ومهاةٍ غريرةٍ ... غضة الحسن ناهدِ
فتنتني بمعصمٍ ... وبكف وساعد
وبثغر منضدٍ ... شنب الريق بارد
ونسيم كأنه اش ... تق بارد
فهو طيباً كذكره ... في الثنا والمحامد
همةٌ في العلا اقتدت ... بالسهى والفراقد
وندى بخلت به ... كفُّ يحيى بن خالد
وقال:

كأنما باب استها ... شكلة كافٍ مطلقه
بين سطور كاتبِ ... حروفه محققه
يصكًّ لي بين يدي ... سيدنا في ورقه
باللحم والخبز الذي ... روحي به معلقه
يا من به قد فتحت ... أبواب رزقي المغلقة
وقع لمن علمه ... جودك حذق العقعقه

هذه نبذ من ملح الرائقة
وما يتصل بها
قال:
حلفتُ لقد بلغت مدى المعالي ... وأنت على تجاوزه قديرُ
فبحرك در لجته ثمينٌ ... وغيثك ماء مزنُته طهورُ
وقال لبعض الرؤساء في يوم كان المطر يجيء فيه ساعة ثم ينجلي الغيم، وتطلع الشمس ثم يعود:
يا سيدي تفديك مهجة خادمٍ ... لك يستقل لك الفداء بنفسه
يفديك من جليت أول كربةٍ ... عنه ومن أدركت آخر نفسهِ
انظر إلى اليوم الذي أشبهته ... لو كان جنسك ناشئاً من جنسهِ
يحكي نداك بغيثه فإذا انجلى ... فكأن وجهك ما انجلى من شمسهِ
لكن فضلت عليه أنك دائماً ... تبقى وهذا اليوم تابع أمسه
وقال:
هو الشيخ لما صفا جوهر ال ... فضائل منه ولم يكدرِ
أضاف الزمان إليه ابنه ... كما اقترن البدر بالمشتري
وقال لرئيس اختلف ابنه إلى الكتاب:
يا عارضاً يروي الثرى غيثه ... ومنهلاً يشفي الصدى مورده
أقعدت في الكتاب من لم يكن ... يضره أنك لا تقعده
أنت أبوه فهو يُنمي إلى ... كتابةٍ يوجبها محتدهُ
إن شئت علمهُ وإن شئت لا ... لا بد أن تحكي أباه يدُه
وقال:
لا زلت يا عمر أبي عمرو ... أبقى على الدهر من الدهر
فتى إذا ما جاء لي بحرُهُ ... أمرت من يخرى على البحر
وإن بدا لي وجهه طالعاً ... صفعت بالشمس قفا البدر
وله:
فديت عز الدولة المرتجى ... بمهجتي إن قبلت مهجتي
ومن أنا في عيلة إحسانه ... وفقر أهلي في عيلتي
ثيابه في سفطي بيتها ... وخبزه مأواه في ملتي
جرايةٌ أصبحت في رزقها ... في كل يوم أجتبي غلتي
وكان جوفي بالخوى مأتماً ... فاليوم بيت العرس في معدتي
وقال:
سيدي والذي يقيك ومن السو ... ء يميناً من أوكد الأيمان
لا جحدت النعمى لأكفر إحسا ... نك عندي يا دائم الإحسان
أنا في نزهةٍ من العيش في ظل ... ك طول الحياة كالبستان
ذاتِ زهرٍ فيه البنفسج والنر ... جس معه شقائق النعمان
جالسٌ في تبظرمٍ ترك الحا ... سد يقلى بعر آسته بوراني
وله في شارب دواء:
يا من به تتباهى ... مجالسُ الخلفاء
ومن تقصرُ عنه ... مدائح الشعراء
يا سيدي كيف أصبح ... ت بعد شرب الدواء
خرجت منه تضاهي ... في الحسن بدر السماء
في ثوب صحة جسمٍ ... مطرزٍ بالشفاء
وقال من أبيات في الصاحب:
يا أيها السيد الجليل الم ... رجو للحادث الجليل
كل مديحٍ أجملت فيه ... يقصر عن فعلك الجميل
وقال من ابن بقية:
يا بدر يا بدر التمام ... بك أشرقت خلع الإمام
يا من له الأسما العظا ... م بحرمة الأسما العظام
هب لي بقا ابن بقيةٍ ... هبةً تجدد كل عام
أنت الكريم فهب لنا ... هذا الكريم من الكرام
فلقد علمت بدعوتي ... أني على خبزي أحامي
قطعة من ملحه في
نوادره في سائر الفنون
وقال:
أعصر شبيبتي قف لي قليلاً ... أناشدك المودة أن تحولا
فديتك يا شبابي أنت ما لي ... أراك مكلكلاً نضواً عليلا
تولى حسنك المفقود عني ... وحول رحله إلا قليلاً

وقالوا الشيب يكسبه جلالاً ... معاذ الله بل خطباً جليلاً
وقال:
بياض الشيب تكرهه الغواني ... ويعجبها سوادٌ في الشباب
وشيبُ لحى الزناة فدتك ... ضراطٌ في اللحى عند القحاب
وقال:
طاقة آسٍ جنيت منها ... بلحظتي نرجساً ووردا
أرضاه مولى وليس يرضى ... مولاي بي في هواه عبدا
وقال:
فديت إنساناً على هجره ... ووصله تحسدني الناسُ
لما احتوى الورد على خده ... ودب في عارضه الآسُ
مزجت كأسي من جنى ريقه ... بمثل ما دارت به الكأسُ
وقال في أرمد:
أنا الفداء لعينٍ بعض أسهمها ... مشكوكةٌ بين أحشائي وفي كبدي
فيها سقامُ فتورٍ لا خفاء به ... تُجدد السقم في قلبي جسدي
كانت تعل فؤادي وهي سالمة ... فكيف بي وهو يشكو علة الرمد؟؟
وقال:
فديت من مر في الرصافة بي ... فقلت: يا سيدي، فلم يُجب
واصفر غيظاً علي وامتزجت ... صفرةُ ذاك اللجين بالذهب
وقال في أبي تغلب يستهديه فرساً:
اسمع المدح الذي لو قيل في ... أحد غيرك قالوا سرقا
جاء يستهديك مهراً أدهماً ... يركب الفارس منه غسقا
كالدجى تبصر من غرتهِ ... فوق أطباق دجاه فلقا
جل أن يحلق مطلوباً و من ... طلب الريح عليه لحقا
تراه واقفاً في سرجه ... يتلظى من ذكاه قلقا
فإذا طار به المشي مضى ... وهو كالريح يشق الطرقا
كالسحاب الجون إلا أنه ... ليس يسقي الأرض إلا عرقا
جمع الأمرين يعدو المرطى ... في مدى السبق ويمشي العنقا
وقال يصف الفرس الذي أهداه له أبو تغلب:
اليوم يوم سروري ... بالموصلي الذنوب
من عند قرمٍ كريمٍ ... جزل العطاء لبيب
آدابه جعلتهُ ... يُعنى بكل أديب
ركبت فيه القوافي ... فجاد بالمركوب
ذو غرةٍ يتلالا ... في حالكٍ غربيب
ولن الشباب عليه ... مع غرةٍ كالمشيب
صهيله جوف إذني ... ولا غناء غريب
وروثه المسك طيباً ... بين اللحى والجيوب
لولا اضطراري إليه ... نزهته عن ركوبي
وقال في خصم له أعمى:
سمعتم قط أعجب من ضريرٍ ... يقدر أن يجور على بصير؟
ولو شاء الوزير ولم يزل ليصلاحي في مشيئات الوزير
لألزمه العصا يمشي عليها ... وعلمزه القران على القبور
وفيه:
إن كان هذا الضرير يعنتني ... بحجةٍ مثل عينه غلقه
فوقع السوس في عصاه ولا ... بورك في قسطه من الصدقة
وقال:
لا يحسن الإشراف من مقعدٍ ... كأنه زرقة فروج
أقصر من يأجوج في قده ... وقرنه أطول من عوج
وقال:
أزجر العين أن ترى ... أزرق العين أشقرا
ما أرى البوم وجهه ... قط إلا تطيرا
وقال:
سيدي حشمتي عليك حرامٌ ... وبحكم الكريم تقضي الكرامُ
وأرى مذ ملكتني أن مثلي ... أبداً لا تفيدك الأيامُ
خادمٌ ناصحٌ، وعبدٌ محب ... وصديقٌ، وصاحبٌ، وغلامُ
خمسة قد جمعتهم لك وحدي ... لمعاني اختصاصهم والسلام
وقال يتشوق رئيساً ويصف رواقه:
لا والذي يا سيدي ... يفني الأنام وأنت باقي
ما للخليفة مثل صحن ... ك والتدلي والرواق
دارٌ غدت شرفاتها ... توفي على السبع الطباق
فقبابها وكواكب الج ... وزاء تسمو باتفاق
ولها حصونٌ تشتكي ... حيطانها بعد الفراق
ويضيع فيها الخضر وه ... و يسير في ظهر البراق
لما دخلت أطوافها ... ومشيت في طول الرواق

دارٌ بها يا سيدي ... ما بي إليك من اشتياق
وقال يناقض ابن المعتز في قوله:
لا تدعني لصبوحٍ ... إن الغبوق حبيبي
الليل لون شبابي ... والصبح لون مشيبي
وقال:
الصبح مثل البصير نورا ... والليل في صورة الضرير
فليت شعري بأي رأيٍ ... يختار أعمى على بصير
وقال:
كم من صديقٍ يروق عيني ... بالشكل والحسن واللباقه
ليس له في الجميل رأيٌ ... ولا بفعل القبيح طاقه
كأنه في القميص يمشي ... فالموذج السوق في رقاقه
وقال يصف بغلة:
تعرف لي أحسن من بغلهٍ ... جددت في البر بها عهدي
تنساب كالماء على حافرٍ ... كأنه من حجرٍ صلدِ
نابت عن الأشهب لما مضى ... نيابة الكلب عن الفهد
حشاشية من قصيدة لابن حجاج:
فأقسم لا بيسين وطه ... ولا بالذاريات ولا الحديد
ولكن بالوجوه البيض مثل ال ... أهلة تحت أغصان القدود
وشرب الري من خمر الثنايا ... وشم المسك من ورد الخدود
وتطفيتي حرار الوجه يوم ال ... فراق بمص رمان النهود
وبالخمر التي كانت لعادٍ ... ولكن بعد محنتهم بهود
مدامٌ في قديم الدهر كانت ... تعد لكل جبارٍ عنيد
مدامٌ ليس لي فيها إمامٌ ... أصلي خلفه غير الوليد

فصل
ملح ابن حجاج لا تنتهي حتى ينتهي عنها، وفيما أوردته منها كفاية، على أنها غيض من فيضها، وقراضة من تبرها، ولكن الكتاب لا يتسع لأكثر من ذلك، والله وأسأل العفو والمغفرة.
أبو القاسم علي بن جلبات
أحد أفراد الدهر في الشعر، وكنت أنشدت له لمعاً أوردتها في النسخة الأولى ثم وجدتها منسوبة إلى غيره، كقوله:
برزت لنا تحت القناع الأزرق ... ليلاً فعاد لنا كصبحٍ مشرق
الوجه بدرٌ والقناعُ سماؤهُ ... والشعر بينهما كليلٍ مُطبقٍ
ثم وقع إلي من شعره الصحيح في الخليفة القادر بالله والوزير أبي النصر سابور بن أردشير، فأخرجت غررها، وهي سوى ما يقع من شعره في مجموع أشعار أهل العراق في الوزير سابور، وإذا سقت ذلك أكرر ذكر ابن جلبات في جملتهم.
وقال أبو القاسم من قصدية في الخليفة القادر بالله:
وفي الدهر عن مطلٍ بما هو واعدٍ ... فساخطه راضٍ، وشاكيه حامدٌ
وأدركتِ الري الخلافة بعدما ... تجهمها عن موقف الحق ذائد
رأت قادراً بالله لم يعدُ قدره ... مدى العفو عما رام باغٍ وحاسدُ
رأينا به العباس معنى وصورةً ... فما عد عنا غائباً فهو شاهدُ
تقلبهُ فضلاً أشاد بذكره ... له قبله جد كريم ووالد
كذاك الأصول الزاكيات ذواهبٌ ... إلى ما رأتها بالزكاء المحاتد
ومن يكُ لله المهيمن سعيه ... ينل ساعياً في ظله وهو قاعد
ومنها:
فلله ما تأتي ولله ما ترى ... وما أنت فيه صادرُ الأمر واردُ
ومليت من رب السماء فوائداً ... عدوك منها قبل سيفك فائدُ
فوالله ما ندري أليث ضبارمٍ ... مفيت الأعادي أنت أم أنت عائد
كذا الخلفاء الراشدون الأولى مضوا ... وأنت عليهم بالبقية زائد
فلا عولت إلا على مجدك العلا ... ولا انتسبت إلا إليك المحامد
وقال في الوزير سابور بن أردشير:
رويدك قد تعاليت اطلاعاً ... على العلياء هماً وارتفاعاً
ونفسك لا ترى ببلوغ مجدٍ ... وإن أوفى على النجم اقتناعاً
إذا ما خطةٌ ضاقت عليه ... أشرت لها فأمعنت اتساعا
براي ما رأته الشمس إلا ... تمنت أن تكون له شعاعاً
وأذل بعزة صرف الليالي ... ورام عصيها حتى أطاعا
ندى وبسالةً علماً يقيناً ... بأنهما به في الخلق ذاعاً

تكفل ذا نداك وما رأينا ... جواداً كاملاً إلا شجاعاً
ودونك كل بكرٍ لم تملك ... سواك لها من الأنفِ افتراعا
رأت حسن اختراعك للمعالي ... فبارتها معانيها اختراعا
وها أنا ذا أرى لك كل وقتٍ ... ببدعٍ من مكارمك ابتداعاً
تراعي أمر ذا وتريش هذا ... فما لي لا أراش ولا أراعى؟
فلا زالت لك الدنيا فناءً ... ولا حل الفناء لها رباعاً
فقد أضحى افتراق المجد فيمن ... حوته من الورى فيك اجتماعا
وله من أخرى فيه:
فدم يا وزير العلا والنهى ... تنال المنى وتوقى الحذارا
وراعِ اختلالي سراً ولا ... تراع رباء اختلالي جهارا
ولا تستمع خبراً طارئاً ... عن المرء أو ت بتليه اختبارا
ولا تحسبن كل عودٍ يري ... ك مل أنت مورٍ من القدح نارا
فما كل وحشٍ يرى ضيغماً ... ولا كل عودٍ يسمى غفارا
وقال فيه:
أبا نصرٍ وأنت البحر طامٍ ... على العافين جياش العباب
يقيم مقام جيشٍ من ليوثٍ ... بفضل نهاه سطراً من كتاب
ومنها:
رآك لقصده أهلاً، وأنى ... يرجى الغيث من غير السحاب؟
وقد أظمأه ورد سواك إلا ال ... أقل، وأي رودٍ من سرابٍ؟
وقال من أخرى:
ويستبشر الإسلام أنك سالمٌ ... وإن بقاء الملك باسمك دائمُ
وأن المعالي ما بنى لك ذ و العلا ... وليس لما تبني يد الله هادمٌ
أنا الشمس إن لم تستبن عين ناظرٍ ... ضيائي فإنّ الذنب للعين لازمُ
وما دمت بعد الله لي عنه رازقاً ... فما أتظني أنه لي حارمُ
وقال من أخرى:
وأنت قرع زكاء الأصل منه، ولا ... يطيب إلا المنبت الثمرُ
وأنت بحر النهى ما للعقول إلى ... سواه مورد صفوٍ ما له كدرُ
وأنت بيت الندى طافت بكعبته ... حجاجه، ونداك الركن والحجر
وقد عُرفت ولم تحدد بمزلةٍ ... والشيء يجعل علماً وهو مشتهر
كالشمس تدركها الأبطار ظاهرةً ... وحد منزلها بالغيب مستتر
والملك من بعد طول الكد في دعةٍ ... كالعين أغفت وقد أعيا بها السهر
إليك جاب الفلا عزمٌ تمثل في ... تحقيقه منك قبل المورد الصدرُ
في كل طاميةٍ بالآل ظاميةٍ ... تصدى بها النفس ما يُروى بهت النظر
إذا الركائب من أشباهها لعبت ... بعد المقيل تولى حثها الأشر
أبثها فيك آمالي فما انتظرت ... لفرط ما طويت ما كنت أنتظر
حتى إذا هي حلت من ذراك حمى ... قالت: إلى منتهى المجد انتهى السفر
ألست لي يا أبا نصرٍ مدى أملي ... وأنني بك من اللأواء منتصر
فمر زماني لا ينتابني بأذى ... فإنه لك فيما شئت مؤتمر

محمد بن الحسين الحاتمي
حسن التصرف في الشعر، موفق على كثير من شعراء العصر، وأبوه أبو علي شاعر كاتب يجمع بين البلاغة في النثر والبراعة في النظم، وله الرسالة المعروفة في وقعة الأدهم، وليس يحضرني من شعره إلا بيتان هما عنوان محاسنه، وهما:
لي حبيبٌ لو قيل لي ما تمنى ... ما تعديته ولو بالمنون
أشتهى أن أحل في كل جسم ... فأراه بلحظ كل العيون
ومما اخترته لابنه قوله من قصيدة في الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين استهلالها:
حي رسم الغميم تحييى الغميما ... إن فقدت الهوى فحي الرسوما
واستمح مقلة الغمام على أط ... لاله ديمةً أبت أن تدوما
نثرت عقد دمعها فغدا النو ... ر بأعطاف روضها منظوما
هو مأوى الظباء إنساً ووحشاً ... ومحل الأسود خلقاً وخيما

كل ريمٍ يعطو فيصطاد ليثاً ... عند ليثٍ يسطو فيصطاد ريما
كم رعينا من البطاح وكأس ال ... راح والأوجه الملاح نجوما
حين رضنا من التصابي جموحاً ... وبعثنا من الوصال رميما
ودعتنا المنى إلى مرح الفت ... ك ولكننا أجبنا الحلوما
حين صرف الزمان كان اعتذاراً ... ورياح الخطوب كانت نسيما
وقد وقفنا على الطلول طلولاً ... ومثلنا على الرسوم رسوما
وخلعنا على البكاء عيوناً ... ونزفنا من الدموع جموما
ومتى يجشم الظليم مداها ... في سراها فقد ظليماً
وهي تبدي منها نجاراً ومن سي ... ر الدجى مخلفاً ومني كريما
وإلى القادر الإمام قريت البي ... د حرفاً أنضى بها الديموما
الإمام الماضي العزيم الذي را ... ح وأضحى على المعالي زعيما
وهو من أسرةٍ هم رسموا الده ... ر ذرى المجد والمعالي قديماً
وهم كالبحار جوداً وكالأنج ... م هدياً وكالسيوف عزيما
ومنها:
أنت أيدي بالخلافة ركن ال ... شرع فارتد نهجه مستقيماً
وذببت العدو عنه ولولا ... ك بلاد مريةٍ لعط أديما
أنت أنكحتني فقد أض ... حى ولداً وكان قبل عقيماً
دم تدم دولة المفاخر والمج ... د وحسن الزمان في أن تدوما
والبس المهرجان ما ابتسم الفج ... ر وأهدى من الرياض نسيماً
وقال:
منازلهم لا شافهتك النوازلٌ ... وأطلالهم حياك طل ووابلٌ
كأن الربا لم تلبس الأرض حالياً ... ولا أخملت بالنور تلك الخمائل
تعرفتها واستنكر الطرف أنها ... كما استنكرت سقم المحب العواذل
وكم قطع ليلٍ بعد ليلٍ قطعته ... وسرح الكرى عن جفن الكأس مائل
وخلت الثريا كف عذراء طفلةً ... مختمةً بالدر منها الأنامل
تخليتها في الأفق طرة جعبةٍ ... ملوكيةٍ لم تعتلقها حمائل
كأن نبالاً ستةً من لآلئ ... يوافى بها في قبة الأفق نائل
وعيشٍ كنوار الرياض استرقته ... خلاساً، وأحداث الليالي غوافل
لماماً وأغصان الشبيبة رطبةٌ ... وماء الصبا في ورد خدي جائل
ويومٍ كحلي الغانيات سلبته ... حلي الربا حتى انثنى وهو عاطل
سبقت إليه الصبح والشمس غضةٌ ... وصبغ الدجى عن مفرق الفجر ناصل
ونشوان من خمر الدلال سقيته ... شمولاً فنمت عن هواه الشمائل
شكا ظمأ منه الموشحُ، وارتوت ... بماء الصبا أردافه والخلاخل
إذا العيش مخضر الأصائل ناعمٌ ... وإذا زبرج الدنيا خليلٌ مواصلٌ
وليلٍ موشى بالنجوم صدعته ... بأبيض وشى صفحتيه الصياقل
إليك، أمير المؤمنين، ارتمت بنا ... نبات الفلا والمقربات الصواهل
إلى من له في جبهة الدهر ميسمٌ ... ومن سيفه من مفرق الدهر سائل
تشيم الحيا من كفه وهي لجةٌ ... تشقُّ جيوب القطر فيها الأنامل
ومن عودته المكرماتُ شمائلاً ... فليس له عنها، ولو شاء، ناقل
وإن راسل الأعداء فالجرد رسله ... إليهم، وأطراف العوالي الرسائل
بيومٍ عقيمٍ يلقح البيض بأسه ... ولود المنايا وهو أشمطُ ثاكل
إذا ما أسر النقع أنوارُ شمسه ... أذاعت بأسرار الحمام المناصل
فيما بدرُ لا تغرب، ويا بحرُ لا تفض ... ويا نوءُ لا تخلف حياً منك هاطل
عظمت فهذا الدهر دونك همةً ... وجدت فهذا القطر عندك يا خلُ
وقال في الأمير شمس المعالي:
كم قلوبٍ تحملت بالحمول ... ودموعٍ طلت بتلك الطلولِ

واصطبارٍ أضيع ما بين إيضا ... ع المطايا وفي المحل المحيلِ
ومنها:
وبنفسي بدرٌ يعود ضياء ال ... بدر من نور وجهه بالأفوالِ
اثمرت وجنتاه روضاً جنى ال ... ورد يفتر عن غدير شمولِ
وإلى مسرح الكارم قابو ... س أراح الندى سوام العقول
فارسُ الكائب والمن ... بر والخيل واليراع النحيل
تعبُ البيض والسلاهب والأر ... ماح والوفر والندى والعذول
وكهولٌ أوهت كواهلها السم ... ر تهادى إلى ابتغاء الدخول
يتعاطون بالصوارم كاسا ... ت المنايا على غناء الصهيل
كم يد للخطوب طالت على الأح ... رار قصرتها بباعٍ طويل
فابق ما استعبر الغمام وما عل ... ل صباً نسيمُ روضٍ عليل

الباب الثامن
في تفاريق قطع من ملح المقلين
من أهل بغداد ونواحيها، والطارئين عليها من الآفاق، والمقيمين بها.
من ملح المقلين من اهل بغداد
القاضي ابن معروف
هو أبو محمد بن عبد الله بن أحمد بن معروف، وكان - كما قرأته في فصل للصاحب - شجرة فضل، عودها أدب، وأغصانها علم، وثمرتها عقل، وعروقها شرف، تستقيها سماء الحرية، وتعذيها أرض المروءة، وقد تقدم بعض ذكره في منادمة المهلبي وغيره من الوزراء، وجمعه بين جد العلم وهزل الظرف، وخشونة الحكم، ولين قشرة العشرة، وكان على تقلده فضاء القضاة دفعات بالحرة واشتغاله بحلائل الأعمال من أمور المملكة - يقول شعراً لطيفاً في الغزل، يتعاوره القوالون والقيان ملحناً.
وقرأت لأبي إسحاق الصابي فصلاً من كتاب عن الوزير ابن بقية إلى ابن معروف، واستحسنه جداً في وصف نظمه ونثره وهو: وصل كتاب قاضي القضاة، بالألفاظ التي لو مازجت البحر لأعذبته، والمعاني التي لو واجهت دجى الليل لأزاحته وأذهبته، ولم أدر بأي مذاهبه فيها أعجب، ولا من أيها أتعجب، أمن قريض عقوده منظومة، أم من ألفاظ لآلئها منثورة، أم من ولوجها الأسماع سائغة، أم من شفائها العلة نافعة؟ وأما الأبيات التي رسم التقدم بتلحينها، وقال بمذهب أهل الحجاز فيها، فما أعرف كفؤاً لمثلها ملحناً، ولو كان إسحاق الموصلي، ولا مجيباً ولو كان امرأ القيس الكندي، ولا أرضى لها مهراً إلى حبات القلوب، ولا مجالاً إلا أرجاء الصدور، وقد جعل الله فيها من الفضل ما يشغلنا عن تعاطي الإجابة عنه، وقرن بها من الأطراب ما يكفينا تأمله عن صياغة الألحان له.
ولأبي إسحاق شعر كثير فيه، فمن ذلك قوله في افتتاح قصيدة:
أقسمت بالله ما يُرجى لمعروفِ ... في الحادثات سوى القاضي ابن معروفٍ
ولابن حجاج في بعض من كان يناوئ ابن معروف من الحكام:
يا أيها الحاكم الرقيع ... ذقنك في سلحتي نقيع
إن ابن معروف في محل ... مرامه متعبٌ منيع
فضله الله واجتباه ... للأمر واختاره المطيع
هذا له وحده فقل لي ... من أنت في الناس يا وضيع
وقد أوردت ما حضرت به من مشهور ما هو من شرط الكتاب من غرره، فمنها قوله من قصيدة:
لم تسلني الأيام عنك بمرها ... بلى زادني بعد اللقاء تتيما
وقد كنت لا أرضى من النيل بالرضا ... وآخذ ما فوق الرضا متلوما
فلما تفرقنا وشطت بنا النوى ... رضيت بطيفٍ منك يأتي مسلماً
وقال:
لو كنت تدري ما الذي صنع الهوى ... والشوق بالجسد النحيل البالي
لهجرت هجري واجتنبت تجنبي ... ووصلت من بعد الصدود وصالي
وقال:
وما سر قلبي منذ شطت بك النوى ... نعيم ولا كأسٌ ولا متصرف
وما ذقت طعم الماء إلا وجدته ... سوى ذلك الماء الذي كنت أعرف
ولم أشهد اللذات إلا تكلفا ... وأي نعيمٍ يقتضيه التكلفُ؟
وقال:
احذر عدوك مرةً ... واحذر صديقك ألفَ مره
فلربما انقلب الصدي ... ق فكان أعرف بالمضره
أبو الفرج الأصبهاني

علي بن الحسين الأموي الأصبهاني الأصل، البغدادي المنشأ، وكان من أعيان أدبائها وأفراد مصنفيها، وله شعر يجمع إتقان العلماء، وإحسان ظرفاء الشعراء، والذي رأيته من كتبه: كتاب القيان، وكتاب الأغاني، وكتاب الإماء الشواعر، وكتاب الديارات، وكتاب دعوة النجار، وكتاب مجرد الأغاني، وكتاب أخبار جحظة البرمكي، وما أشك في أن له غيرها، وكان منقطعاً إلى المهلبي الوزير، وكثير المدح، مختصاً به، فمن ذلك قوله فيه من قصيدة:
ولما انتجعنا لائذين بظله ... أعان وما عنى ومن وما منا
وردنا عليه مقترين فراشنا ... وردنا نداه مجدبين فأخصبنا
وله من قصيدة يهنئه بمولود من سرية رومية:
أسعد بمولودٍ أتاك مباركاً ... كالبدر أشرق جنح ليلٍ مقمرِ
سعدٌ لوقت سعادةٍ جاءت به ... أم حصانٌ من بنات الأصفر
متبجحٌ في ذروتي شرف الذرى ... بني المهلب منتماه وقيصر
شمس الضحى قرنت إلى بدر الدجى ... حتى إذا اجتمعا أتت بالمشتري
أخذه من مصراع ابن الرومي: شمس وبدرٌ ولدا كوبا وقال من قصيدة فيه عيدية:
إذا ما علا في الصدر للنهي والأمر ... وبثهما في النفع منه وفي الضر
وأجرى ظبى أقلامه وتدفقت ... بديهته كالمستمد من البحر
رأيت نظام الدر في نظم قوله ... ومنثوره الرقراق في ذلك النثر
ويقتضب المعنى الكثير بلفظه ... ويأتي بما تحوي الطوامير في سطر
أيا غرة الدهر ائتنف غرة الشهر ... وقابل هلال الفطر في ليلة الفطر
بأيمن إقبال وأسعد طائرٍ ... وأفضل ما ترجوه في أفسح العمر
مضى عنك شهر الصوم يشهد صادقاً ... بطهرك فيه واجتنابك للوزر
فأكرم بما خط الحفيظان منهما ... وأثنى به المثني وأطرى به المطري
وزكتك أوراقُ المصاحف وانتهى ... إلى الله منها طول درسك والذكر
وقبضك كف البطش عن كل مجرمٍ ... وبسطها بالعُرف في الخير والبر
وقد جاء شوال فشالت نعامة ال ... صيام وأبدلنا النعيم من الضر
وضجت حبيس الدنّ من طول حبسها ... ولامت على طول التجنب والهجر
أبرزها من قعر أسود مظلمٍ ... كإشراق بدرٍ مشرق اللون كالبدر
إذا ضمها والورد فوه وكفه ... فلا فرق بني اللون والطعم والنشر
وتحسبه إذ سلسل الكأس ناظماً ... على الكوكب الدري سمطاً من الدر
وقال يهنئه بالعافية:
أبا محمد المحمود يا حسن ال ... إحسان يا بحر الندى الطامي
حاشاك من عود عوادٍ إليك ومن ... دواء داءٍ ومن إلمام آلام
وقال فيه:
تأوب عيني طيفٌ ألمّ ... لظالمةٍ طرقت في الظلم
تخيل منها خيالٌ سرى ... فيسلب حلمي بذاك الحلم
فما أنس لا أنس إقبالها ... تميسُ بغصنِ سقتهُ الديم
وقد بدرت مثل بدر الدجى ... سما في السماء علواً وتم
على رأسها معجرٌ أزرقٌ ... وفي جيدها سبحة من برم
ولم ترتقب لطلوع الرقيب ... ولم تحتشم لطلوع الحشم
لقد سؤتني يا نظام السرور ... وأسقمتني يا شفاء السقم
أهذا المزار أم الأزورار ... إلمامكم ألم أم لمم
ويومٍ كمثل رداء العرو ... س حسناً وطيباً إذا ما يشم
خلعت عذاري ولم أعتذر ... ولم أحتشم فيه من يحتشم
وقابلتُ فيه صفاء الشمال ... بصفو الشمول وشجو النغم
فداؤك نفسي هذا الشتاء ... علينا بسلطانه قد هجم
ولم يبق من نشبي درهمٌ ... ولا من ثيابي إلا رمم
يؤثر فيها نسيم الهواء ... وتخرقُها خافيات الوهم
وأنت العماد ونحن العفاة ... وأنت الرئيس ونحن الخدم
وله فيه:

فداؤك نفسي من الحادثاتِ ... وريب الردى وحلول الحذر
فعالك تكبر عن موعدٍ ... ووعدك يسبق أن ينتظر
وكفك تهمي على المعتفين ... بفيض عفا وصفا من كدر
إذا عاقك الشغل عني ولم ... أذكرك نفسي خوف الضجر
تسكعتُ في حيرةٍ لا أجو ... ز منها إلى عضدٍ أو وزر
رهنت ثيابي وحال القضا ... ء دون القضاء وصد القدر
وهذا الشتاء عسوفٌ علي ... كما قد تراه قبيح الأثر
يغادي بصر من العاصفا ... ت أو دمقٍ مثل وخز الإبر
وسكان داري ممن أعو ... ل يلقين من برده كل شر
فهذي تحن، وهذي تئن ... وأدمع هاتيك تجري درر
إذا ما تململن تحت الظلام ... تعللن منك بحسن النظر
ولا حظن ربعك كالممحلي ... ن شاموا البروق رجاء المطر
يؤملن عودي بما ينتظرن ... كما يرتجى أيبٌ من سفر
فأنعم بإنجازِ ما قد وعدت ... فما غيرك اليوم من ينتظر
وعش لي وبعدي فأنت الحيا ... ة والسمع من جسدي والبصر
وقال من أخرى فيه:
يا فرجة الهم بعد اليأس والوجل ... يا فرحة الأمن بعد الروع والوهل
اسلم ودم وابق واملك وانم واسمُ وزد ... وأعط وامنع وضر وانفع وصل وصلِ
وقال في وصف الخمر من قصيدة:
وسلافٍ كالتبر أذكى من المس ... ك وأصفى صبغاً من الزعفران
كأن اليد التي تحتويها ... من صبيب العقيان في دستبان
وقريب منه قوله:
وبكر شربناها على الورد بكرةً ... فكانت لنا ورداً إلى ضحوة الغدِ
إذا قام مبيض اللباس يديرها ... توهمته يسعى بكم مورد
والأصل فيه قول أبي الشيص:
سقاني بها والليل قد شاب رأسه ... غزالٌ بحنّاء الغزالة مختضب
وقال في أبي سعيد السيرافي:
لست صدراً ولا قرأت على صد ... ر ولا علمك البكي بكافي
لعن الله كل شعرٍ ونحو ... وعروض يجيء من سيراف
وقال في القاضي الأيذجي، وكان التمس منه عكازة فلم يعطه إياها:
اسمع حديثي تسمع قصةً عجبا ... لا شيء أعجب منها تبهر القصصا
طلبت عكازةً للوحل تحملني ... ورمزتها عند من يخبي العصا فعصى
وكنت أحسبه يهوي عصا عصبٍ ... ولم أخل أنه صب بكل عصا
وكتب إلى القاضي التنوخي يلتمس منه خبرا:
يا أيها القاضي السني الذكر ... ومن علا على قضاة العصر
قد اجتمعنا في محل وعر ... ومنزلٍ ضنكٍ ومثوى قفر
خالٍ من الخير كثير اشر ... نلقى زماني ألمٍ وضر
من ليل بق ونهار حر ... فقد فقدت جلدي وصبري
وليس لي عند مجيء فكري ... سوى تشكي فادحاتِ أمري
بقلمٍ يخطها في سطر ... إلى فتى ذي أدبٍ وقدر
فاسمع لشكواي وجد بعذر ... قد صفرت محبرتي من حبر
ولم أجده مشترى فأشري ... فجد حباك الله طول العمر
بمثلها حبراً وفز بشكري ... من بين نظمٍ حسنٍ ونثر
ورب مجدٍ باسقٍ وفخرٍ ... نالهما الحر ببذل النزر

أبو الحسن بن مقلة
من أبناء الوزراء وبقية بني مقلة، يقول:
لست ذا ذلةٍ عضني الده ... ر ولا شامخاً إذا واتاني
أنا نارٌ في مرتقى نفس الحا ... سد ماءٌ جارٍ مع الإخوان
وقال من قصيدة:
وإذا رأيتُ فتىً بأعلى رتبةٍ ... في شامخٍ من عزه المترقعِ
قالت لي النفس العروف بفضلها: ... ما كان أولاني بهذا الموضع
وقال:
الدهرُ يلعب بالفتى فيهيضهُ ... طوراً، ويجبر عظمه فيُراشُ
وكذا رأينا الدهر في إعراضه ... ينحى وفي إقباله ينتاش
وقال:

أدل فيا حبذا من مدل ... ومن ظالمٍ لدمي مستحل
إذا ما تعزز قابلته ... بذل، وذلك جهد المقل
وقال:
أنت يا ذا الخال في الوج ... نة مما بي خالِ
لا تبالي بي ولا تخ ... طرني منك ببال
لا ولا تفكر في حا ... لي وقد تعرف حالي
أنا في الناس إمام ... ي وفي حبك غالي

أبو الحسن علي بن هرون بن المنجم
ذو نسب عريق في ظرفاء الأدباء، وندماء الخلفاء والوزراء، وفي أسرته يقول الصاحب:
لبني المنجم فطنةٌ لهبيه ... ومحاسنٌ عجمية عربيه
مازلت أمداحهم وأنشر فضلهم ... حتى عُرفت بشدةِ العصبيه
ولذكرهم في القسم الثالث من هذا الكتاب مكان في أصحاب الصاحب وشعرائه.
فأما أبو الحسن، الذي هو كبيرهم، فقد اقتصرت من ذكره واقتصاص أمره على نبذ حكاها الصاحب في كتابه المعروف بالروزنامجه، مما اتفق له مع أبي محمد الوزير المهلبي حين ورد الصاحب بغداد، وقد أرسل يحكيها لأستاذه ابن العميد، ثم أوردت ما علق بحفظي من ملحه.
فصل
استدعاني الأستاذ أبو محمد فحضرت وأبناء المنجم في مجلسه، وقد أعدا قصيدتين في مدحه فمنعهما من النشيد لأحضره فأنشدا قعوداً وجودا بعد تشبيب طويل، وحديث كثير: فإن لأبي الحسن رسماً أخشى تكذيب سيدنا إن شرحته، وعتابه إن طويته، ولأن أحصل عنده في صورة متزيد، أحب إلى من أن أحصل عنده من رتبة مقصر، يبتدئ فيقول ببحة عجيبة، بعد إرسال دموعه، وتردد الزفرات في حلقه، واستدعائه من جؤذر غلامه منديل عبراته، والله والله، وإلا فأيمان البيعة تلزمه وحرامها، وطلاقها وعتاقها، وما ينقلب إليه حرام وعبيده أحرار لوجه الله تعالى، إن كان هذا الشعر في استطاعة أحد مثله، أو اتفق من عهد أبي دؤاد الإيادي إلى زمان ابن الرومي لأحد شكله، بل عيبه أن محاسنه تتابعت، وبدائعه ترادفت، فقد كان في الحق أن يكون كل بيت منه في ديوان يجمله ويسود به شاعره، ثم ينشد، فإذا بلغ بيتاً يعجب ويتعجب من نفسه فيه قال: أيها الوزير من يستطيع هذا إلا عبدك علي بن هرون بن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم جليس الخلفاء وأنيس الوزراء، ثم ينشد الابن والأب يعوذه ويهتز له، ويقول أبو عبد الله استودعه الله ولي عهدي وخليفتي من بعدي، ولو اشتجر اثنان من مصر وخراسان لما رضيت لفصل ما بينهما سواه، أمتعنا الله به ورعاه، وحديثه عجب، وإن استوفيته ضاع الغرض الذي قصدته، على أنه أيد الله مولانا من سعة النفس والخلق ووفور الأدب والفضل وتمام المروءة والظرف بحال أعجز عن وصفها، وأدل على جملتها أنه مع كثرة عياله واختلال أحواله طلب سيف الدولة جاريته المغنية بعشرين ألف درهم أحضرها صاحبه، فامتنع من بيعها، وأعتقها وتزوج بها.
فصل
وسمعت عنده أبا الحسن بن طرخان، وقد نمى إلى سيدنا خبر ابنه وحذفه والفتى يبرز عليه مع التمسك بمذهبه، وليس بالعراق ولا شيء من الآفاق طنبوري يشاكله أو يقاربه، ومما يغنى به من شعر أبي الحسن ويحلف على الرسم أن لا مداني له فيه:
بيني وبين الدهر فيك عتابُ ... سيطول أن لم يمحهُ الإعتابُ
يا غائباً بوصاله وكتابه ... هل يرتجى من غيبتيك إيابُ
وإذا بعدت فليس لي متعللٌ ... إلا رسولٌ بالرضا وعتاب
وإذا دعوت مساعداً فهو المنى ... سعد المحبُّ وساعد الأحبابُ
لولا التعلل بالرجاء تقطعت ... نفسٌ عليك شعارها الأوصاب
لا يأس من روح الإله فربما ... يصل القطوع وتحضر الغياب
وإلى ههنا من كتاب الروزنامجه.
وقرأت للصابي فصلاً يشتمل على ذكره وبيتين من شعره، وهو: قد شغل قلبي أيد الله سيدنا ما بلغني من تألمه من قدمه، وأضربي وبالأحرار انقطاعه بذلك عن مساعي كرمه. وأقول له، ما أنشدنيه علي بن هرون بن المنجم لنفسه من قصيدة كتب بها إلى أبي الحواري، وقد وثبت رجله من عثرة لحقته:
كيف نال العثار من لم يزل من ... ه مقيلاً من كل خطبٍ جسيم
أو ترقى الأذى إلى قدم لم ... تخطُ إلا إلى مقامٍ كريم
وقال في قدح أصفر:

وقدحٍ مورس السربال ... من نقشه قبل المدام حال
تحسبه ملآن وهو خال أخذ معنى قوله من نقشه قبل المدام حالي قريبه أبو محمد بن المنجم فقال من قصيدة في وصف دار الصاحب:
وأبوابها أثوابها من نقوشها ... فلا ظلم إلا حين ترخي ستورها
ولقد أحسن السرقة وجود اللفظ وزاد في المعنى.

الأحنف العكبري
أبو الحسن عقيل بن محمد العكبري
شاعر المكديين وظريفهم، ومليح الجملة والتفصيل منهم. وقرأت للصاحب فصلاً في ذكره فأوردته، وهو: لو أنشدتك ما أنشدنيه الأحتف العكبري لنفسه، وهو فرد بني ساسان اليوم بمدينة السلام، وحسن الطريقة في الشعر، لامتلأت عجباً من ظرفه، وإعجاباً بنظمه، ولا أقل من إيراد موضع افتخاره فإنه يقول:
على أني بحمد الل ... ه في بيتٍ من المجد
بإخواني بني ساسا ... ن أهل الجد والحد
لهم أرض خراسان ... فقاشان إلى الهند
إلى الروم إلى الزنج ... إلى البلغار والسند
إذا ما أعوز الطرق ... على الطراق والجند
حذاراً من أعاديهم ... من الأعراب والكرد
قطعنا ذلك النهج ... بلا سيفٍ ولا غمد
ومن خاف أعاديه ... بنا في الروع يستعدي
ولهذا البيت الأخير معنى بديع، وتفسيره: يريد أن ذوي الثورة وأهل الفضل والمروءة إذا وقع أحدهم في أيدي قطاع الطريق وأحب التخلص، وقال: أنا مكدي، فانظر كيف غاص، وأبرز هذا المعنى المعتاص. إلى ههنا كلام الصاحب.
وفي هذه القصيدة!
وقالوا قد سلا عنك ... وقد حال عن العهدِ
ولا والله ما أسلو ... ولكن قل ما عندي
وأنشدني علي بن مأمون المصيصي قال: أنشدني الأحنف لنفسه:
عشتُ في ذلةٍ وقلةِ مال ... واغترابٍ في معشر أندال
بالأماني أقول لا بالمعاني ... فغذائي حلاوة الآمال
لي رزقٌ يقول بالوقف في ال ... رأي ورجل تقول بالاعتزال
وقال:
رأيت في النوم دنيانا مزخرفةً ... مثل العروس تراءت في المقاصير
فقلت جودي فقالت لي على عجلٍ ... إذا تخلصت من أيدي الخنازير
وقال:
العنكبوت بنت بيتاً على وهنٍ ... تأوي إليه وما لي مثله وطنُ
والخنفساء لها من جنسها سكنٌ ... وليس لي مثلها إلف ولا سكنُ
وقال:
قد قسم الله رزقي في البلاد فما ... يكاد يدرك إلا بالتفاريق
ولست مكتسباً رزقاً بفلسفةٍ ... ولا بشعر ولكن بالمخاريق
والناس قد عملوا أني أخو حيلٍ ... فلست أنفق إلا في الرساتيق
وقال:
قال رؤيا المنام عندك حق ... قلت هيهات كل ذاك بخارُ
ليت يقظانهم يصح له الأم ... ر فكيف المغط والنخار
وقال:
سريرٌ بت بماخور ... على دف وطنبور
وصوت الطبل كردم طع ... وصوت الناي طلير
فصرنا من حمى البيت ... كأنا وسط تنور
وصرنا من أذى الصفع ... كمثل العمى والعور
لقد أصبحت مخموراً ... ولكن أي مخمور
وقال من قصيدة:
ترى العقيان كالذهب المصفى ... تركب فوق أثفار الدواب
وكيسي منه خلوٌ مثل كفي ... أما هذا من العجب العجاب
وقال:
قام للشقوة أيري ... وجرى بالنحس طيري
وولى حل سراوي ... لك يا مولاي غيري
وتقرات علينا ... كسعيد بن جبير
أترى قد عقر الناق ... ة يا مولاي أيري
ليس لي منك سوى صب ... حك الله بخير
ابن العصب الملحي
قد أجريت ذكره عند ذكر السري الرفاء، وكان يتطايب في المداخلة والمعاشرة، ويقول شعراً خفيف الروح.
كتب غليه ابن سكرة:
يا صديقاً أفادنيه زمانٌ ... فيه ضن بالأصدقاء وشح
بين شخصي وبين شخصك بعدٌ ... غير أن الخيال بالوصل سمح

إنما يمنع التآلف منا ... أنني سكر وأنك مُلحُ
فأجابه من أبيات منها:
هل يقول الإخوان يوماً لخل ... شاب منه محض المودة قدحُ
بيننا سكر فلا تفسدنه ... أو يقولون بيننا ويكَ ملحُ
وقال في قاض:
لنا قاض له وجهٌ ... على أخذ الرشا عابس
ولكن له أيراً ... يدق الرطب واليابس
وقال:
ذرفت عين الغمام ... فاستهلت بسجامِ
وبكى الإبريق في ال ... كأس بدمعٍ من مدام
فاسقني دمعاً بدمعٍ ... من مدامٍ وغمام
واعصِ من لامك فيه ... ليس ذا وقت الملام

أبو علي الحسن بن علي الخالع
شاعر مفلق من شعراء الوزير أبي نصر سابور بن أردشير، ولذكره موضع آخر في الباب التاسع. ومن ملح شعره قوله من أبيات:
اسقنا من شرابك الصرف نموز ... جه بماءٍ من الثنايا زلال
بنت كرمٍ كأنها خجلةُ الخ ... د تبدت في حلةٍ من دلال
وقال:
هو معلمٌ لهواك فاعلم ... وهي لرسوم كا نرسّم
قف مطلق العبرات مح ... تبس الصبابة يا متيّم
حنى ترى ديباج خدّ ... ك من دموعك فيه معلم
واذكر زمان خلاعة ... لك في مغانيه تقدّم
إذ أنت في مجموع ش ... مل الغانيات به مقسّم
يثني عناقك من سعا ... دٍ ساعداً عبلاً ومعصم
ونصير من نَغَمٍ إلي ... ك معاطف الغصن المنعّم
أرعيت ألحاظي بمو ... شي الرّبى خضلٍ موشّم
متضوّع الأرجاء من ... تفس الشمال إذا تنسّم
ألقت بكلِّ قرارة ... فيه يد الأنواء درهم
والأقحوان الغضّ من ... خجل الشقائق قد تبسّم
فكأنّما ريّاه أخ ... لاق الوزير وقد تكرّم
يامن إليه مقاليد ال ... علياء عن حقّ تساّم
مات السّماح فكنت في ... إحيائه عيسى ابن مريم
الشيخ أبو محمد عبد الله
بن محمد النامي الخوارزمي
أنا أختم هذا الباب بذكر من هو للعلم مجمع، وللأدب مفزع. وإليه الرحلة اليوم ببغداد في تدريس كتب الشافعي رحمه الله، مع الشيخ أبي حامد الإسفرائيني أيده الله، وله لسان يستوفي أقسام الفصاحة، ويجمع بن العذوبة وحسن العبارة والبراعة، وشعر يشرف بصاحبه، ويأخذ من القلب بمجامعه كقوله:
أيا زائر البيت العتيق وتاركي ... قتيل الهوى لو زرتني كان أجدرا
تحج احتساباً ثم تقتلُ عاشقاً ... فديتك لا تحجج ولا تقتلِ الورى
وكقوله، وكتب به إلى أبي سعيد بن أبي بكر الإسماعيلي:
حاش لله أن أزول عن العه ... د وإن زاد سيدي في الجفاءِ
تحج احتساباً ثم تقتلُ عاشقاً ... فديتك لا تحجج ولا تقتل الورى
وأنشدني أبو الحسن الكرخي، وقال: أنشدني الشيخ أبو محمد لنفسه:
يا عينُ منكِ شكايتي وبلائي ... أنت التي أسلمتني لشقائي
لما نظرت إلى محاسن وجهه ... أشعلت نار الشوق في أحشائي
ثم اعتبرت لتخدعيني بالكبا ... فكشفت ذاك السر للأعداء
فتأملي ماذا جنيتِ وأمسكي ... بالله عنا معشر الغرباء
وقال: أنشدني أيضاً لنفسه:
عجبت من معجبٍ بصورته ... وكان من قبل نطفةً مذره
وفي غدٍ بعد حسن صورته ... بصير في الأجيفة قذره
وهو على عجبه ونخوته ... ما بين ثوبيه يحمل العذره
وقال: أنشدني أبو محمد الحامدي له بيتين في سابور استملحتهما جداً، وهما:
سابور، ويحك! ما أخ ... سك! بل أخصك بالعيوب!
وجه قبيحٌ في التبس ... م كيف يحسن في القطوب
وأنشدني أبو حفص عمر بن علي الفقيه، قال: أنشدني أبو يعلى الواسطي، قال: أنشدني النامي لنفسه:
قلت له ورأى في وجهها أثراً ... فازور عنه كئيب القلب مدهوشاً

ما حسن ديباجة الخد المليح إذا ... لم يحكِ في حسنه الديباج منقوشاً
قال: وأنشدني أبو علي الكندي، قال: أنشدني النامي لنفسه، وقد أهدى هدية مهرجانية إلى بعض الرؤساء:
هديةُ المهرجان واجبة ... على السلاطين على الفقها
وإن جرى عبدكم على سننٍ ... من التهادي فما أتى سفها
حمل على أنني لكم قلمٌ ... قط برأسين يكشف الشبها

الباب التاسع
فيما أخرج من مجموع أشعار أهل العراق
وغيرهم
في الوزير أبي نصر سابور بن أردشير
منهم من تقدم ذكره ومنهم من تأخر، ومنهم من لا يجري له ذكر فيما سواه.
قال السلامي من قصيدة فيه وقد أعيد إلى الوزارة وخلع عليه:
اليوم طبق أفق الدولة النورُ ... وأوضحت فلق الملك التباشير
فكل عينٍ إليك اليوم طامحةٌ ... وكل قلبٍ بما خولت مسرورُ
أقبلت في خلع السلطان زينها ... ذيل على أنجم الجوزاء مجرور
كأنما نسجتها في الرياض يداً ... غيثٌ فرونقها بالحسن مغمور
ورحت فوق جوادٍ كالعقاب جرى ... والجود في سرجه والمجد والخير
محمد بن أحمد الحمدوني من قصدية له فيه:
وفي الظعائن مهضومُ الحشى غنجٌ ... يخطو بأعطاف نشوان الخطا ثملِ
ظبي مشى الورد من لحظي بوجنته ... مشي اللواحظ من عينيه في أجلي
ومترف الترب مجاج الندى عطرٍ ... مفوف النور موسوم الثرى خضلِ
قد شام جدوله فيها مهندةً ... فاهتز مثل اهتزاز الخائف الوجل
إذا نسيم الصبا باحت سرائره ... أصغى إليهن سمع الغصن بالميل
والروض تسحب فيه السحب أرديةً ... مظاهراتٍ عليها أظهر الحلل
يا مؤنس الملك والأيام موحشةٌ ... ورابط الجأش والآجال في وجل
مالي وللأرض لم أوطن بها وطناً ... كأنني بكرُ معنى سار في المثل
لو أنصف الدهر أو لانت معاطفه ... أصبحت عندك ذا خيلٍ وذا خول
لله لؤلؤ ألفاظٍ أساقطها ... لو كن للغيد ما استأنسن بالعطل
ومن عيون معانٍ لو كحلت بها ... نجل العيون لأغناها عن الكحل
سحرٌ من الفكر لو دارت سلافته ... على الزمان تمشى مشية الثمل
أبو الفرج الببغاء:
لمت الزمان على تأخير مطلبي ... فقال ما وجه لومي وهو محظورُ
فقلت لو شئت ما فات الغنى أملي ... فقال أخطأت بل لو شاء سابورُ
عذ بالوزير أبي نصر وسل شططاً ... أسرف فإنك في الإسراف معذور
وقد تقبلتُ هذا النصح من زمني ... والنصحُ حتى من الأعداء مشكورُ
وما لطرف رجائي عنك منصرفٌ ... وهل يفارق جرم المشتري النور
ابن بابك من قصيدة:
شمت برق الوزير فانهل حتى ... لم أجد مهرباً إلى الإعدام
وكأني وقد تقاصر باعي ... خائضٌ في عباب أخضر طامي
مستفيض الندى كريم السجايا ... عاجل العفو آجل الإنتقام
كذب الزاعمون أن المعالي ... في صدور المثقفات الدوامي
إنما المجد والندى والمساعي ... والردى في أسنةِ الأقلام
ابن لؤلؤ من قصيدة:
خصال العلا كلها من خصالي ... وصوب الحيا قطرةٌ من شمالي
خلقتُ كما شاءتِ المكرماتُ ... بعيدُ النظير فقيد المثال
تنزهني عن دنايا الأمو ... ر نفسي وتندبني للمعالي
فللبأس طول يدي والحسام ... وللمجد والحمد جاهي ومالي
وحرفٍ تعرس فيها الرياح ... إذا ما صغت للوني والكلال
أجرت تعوج مثل القس ... ي يحملن ركباً كمثل النبالِ
ومجنوبةٍ في حواشي المط ... ي ينفضن أعرافها كالسعالي
طلبن الوزير فتى أردش ... ير صنو الندى وحليف المعالي

بعيد مدى الجود لا يتقى ... مؤمله بكريه المطال
أغر يرى لك ما لا تراه ... لديه ويعطيك قبل السؤال
ويهتز من طربٍ للسما ... ح هز الصبا للرماح الطوال
الخليع النامي من قصيدة:
في أي منزل صبوةٍ لم أنزلِ ... وبأي منطق عاذلٍ لم أعذل
ما حق هذا الربع إذ فيه الهوى ... أن يستضام بوقفةِ المستعجل
كل إن حضرت إلى الدموع سؤاله ... فالدمع أفصح من سؤال المنزل
يا هذه إن لم يكن لك نائلٌ ... فعدى وإن لم تجملي فتجملي
جودي فإن لم تحسني فتعلمي ال ... إحسان من هذا الوزير المفضل
أعدي الزمان ندا أبي نصر فلو ... سمناهت أن يهب الصبا لم يبخل
أرضى الديانة والصيانة حكمه ... بكفايتي قلمٍ وقائم منصل
يا موئل الراجي وهل للحائم ال ... صادي سوى قطر الحيا من موئل
أسعد بإقبالٍ وعيدٍ قابلاً ... بك شخص سعدٍ ليس بالمترحل
وتمل فضلك فهو أفخر ملبسٍ ... وتبو عزك فهو أمنع معقل
وأخبر متى ما شئت إخلاصي تبن ... لك نيةُ المصفي من المتجمل
ما قلت قط لمنعمٍ هب لي وفي ... تحصيل رأيك قد رغبت فهبه لي
فالآن قد أوفى النجاح على لمنى ... بسعادتي في الأصل لا بتوصلي
وعلمتُ أني مقبلٌ وعلامة ال ... إقبال أني عذت منك بمقبل
الحاتمي من أجوزة:
أولى بعفوٍ من قدر ... لا عفو عن جانٍ أصر
يلم يجن ذنباً من أقر ... الصبر عنوان الظفر
أولى بفوز من صبر ... المجد في خوض الخطر
كفي العيان المختبر ... أولى بعرفٍ من شكر
شكر الرياض للمطر ... إن يطو معروفٌ نشر
الحمد خيرُ مدخر ... إن ساءك الزمان سر
ما كسر الدهر جبر ... من زجر الهوى انزجر
بادر من العيش الغرر ... ما العيش إلى المبتدر
لهفي لعصرٍ مدكر ... إذ غصن عيشي متصر
آصاله مثل البكر ... لم تفترع منه العذر
مر كلمحٍ بالبصر ... وأرجُ النشر عطر
غصنٌ ودعصٌ وقمر ... تحت ظلامٍ من شعر
ذي ريقةٍ تشكو الخصر ... شيبت بمسكٍ وسكر
محييةٌ ميت الوطر ... وسابحٍ سامي النظر
أسرع من وشك القدر ... وخاطر الوهم خطر
وسائلٍ من منحدر ... وقبلةٍ على حذر
ومنها:
أوفى على كل البشر ... سابور مجداً وأثر
وإنما العضب الذكر ... أعاره ما لم يعر
رأياً كمحتوم القدر ... فانصاع كالنجم انكدر
يحمد إن ذم المطر ... تهفو الرواسي إن زفر
في كفه نفعٌ وضر ... ولحظه خيرٌ وشرّ
والدهر طوعٌ ما أمر يجري بما ساء وسر
ذو خلقٍ سهلٍ يسر ... كمثل نوار الزهر
وشبه أنواءِ المطر ... يحيى أفانين الثمر
من بالغٍ ومنتظر ... كالأمن من بعد الحذر
والخير في أعقاب شر ... وكالكرى غب السهر
عمرت ما شاء الوطر ... فأنت للملك وزر
دونك عذراء الفقر ... تُتلى كما تتلى السور
الخالع من قصيدة:
أفي غلائها غصنُ من البان ... يهتز في نعمةٍ أم قد إنسان
هيفاءُ مرهفة الأعطاف إن خطرت ... أهدت نشاط الهوى من خطو كسلان
تبسمت فظننا أن مبسمها ... فيه من اللؤلؤ المجلو سمطان
وأومأت بيمينٍ لو دنت لفمي ... لأفسدت صالحاً من نسك إيماني
مقسم العيش في تحصيل مأثرة ... سيارةٍ يتقاضاها لباسان

فللدروع عليه يوم ملحمةٍ ... وللدرائع منه يوم ديوان
طرز الطلاقة في ديباجة غرته ... للبشر فيها إشاراتٌ بألوان
كأن ماء الحياة الغمر منسكباً ... فيها يفيض على نوار بستان
محمد بن بلبل من قصيدة:
أضحى الرجاء لبرق جودك شائماً ... وارتد روض الحمد وحفاً ناعماً
سميت نفسي إذ رجوتك واثقاً ... ودعوتها لك مذ مدحتك خادماً
فمتى أقوم بشكر نعمتك التي ... عقدت علي من الخطوب تمائماً
لا زال جدك للعدو مزاحماً ... يعلو وآنف حاسديك رواغما
وأسعد بعيدٍ قد حبتك سعوده ... عزاً يكون مع السعادة قادماً
أحمد بن علي المنجم من قصيدة:
أيهذا الوزير محصت بالإح ... سان جور الدنيا ووزر الزمان
فاشرب الراح راحة القلب أخت ال ... روح روح المكروب أنس الأماني
وابق ما شئت في نعيم تراهٍ ... لك أنموذجاً لعيش الجنان
السفياني من قصيدة:
روض المنى بك عاد غضاً مونقاً ... واهتز غصن المجد فيه وأورقا
وابيض وجه الدهر بعد سخومه ... وارتد بعد ظلامه فتألقا
فت الأنام فما يجاريك أمرؤ ... في حلبة الفخر المنيع المرتقى
ولو غتدى ظهر المجرة راكباً ... وغدا بأذيال السهى متعلقاً
أجرى فكان مسبقاً وصفا فكا ... ن مطبقاً وعفا فكان موفقاً
أحمد بن المغلس من قصيدة:
أبروقٌ تلألأت أم ثغورُ ... وليالٍ دجت لنا أم شعورُ
غصونٌ تأودت أم قدودٌ ... حاملاتٌ رمانهن الصدور
طالعاتُ من السجوف على الرك ... ب بدورٌ أبرزتهن الخدور
مثقلاتُ أردافهن ولكن ... مرهفاتٌ من فوقهن الخصورُ
مطمعاتٌ في وصلهن ودون ال ... وصل إن رمته دماءٌ تمور
عز منهن ما يرام كما ع ... ز جنابٌ يحتل فيه الوزير
نصر المجد حافظاً حرة المج ... د أبو نصر الرضا سابور
مفردٌ في الزمان ليس يداني ... ه ومن الناس مشبهٌ أو نظير
إن يجد واهباً فغيثٌ مطيرٌ ... أو يصل واثباً فليثٌ هصورُ
سعد بن محمد الأزدي من قصيدة:
أأجفو الهوى في بعهِ لا أخاطبه ... وأمضي ولم تعلب بدمعي ملاعبه؟
ومنها في وصف الحساب:
وأقمر منشور الجناح مرفرفٍ ... تحلى بعقيانِ البروق ترائبه
وخلف غمام الخدر بدرٌ مضمخ ... بحسن بديعٍ والحلي كواكبه
أرجى أبا نصر لعصرٍ كأنما ... من النار عيناه فمن ذا يغاضبه
على عيلةٍ لو حمل الدهر ثقلها ... لزلت به رجلاه وانقض غاربه
إذا ما رآه الناس قالوا تعجباً ... تبارك مختار الكمال وواهبه
الحسن بن محمد العضدي:
يلقاك إن لاقاك دهرك كالحاً ... متبسماً كالعارض المتبسم
وإذا سما نحو العلا لم يتخذ ... غير المواهب والعلا من سلم
سيان عزمك والحسام المنُتضى ... وندى يديك وصوبُ نوء المرزم
كم منهٍ لك لم يكدر صفوها ... من وكم نعمى شفعتَ بأنهم؟
أتراك تحرمني لطيف عنايةٍ ... وبك الغداة من الزمان تحرمي
وأنا ابنُ أنعمك القديمة فليصل ... منك السماح مؤخراً بمقدم
عون بن علي العنري:
لستُ على العتب بالمنيب ... ولا للوم بمستجيب
جل غرامي وزاد سقمي ... وذبت شوقاً إلى مذيبي
غير عجيبٍ نحول جسمي ... شوقاً إلى حسنه العجيب
تلهبُ الوجنتين منهُ ... غادر قلبي على لهيب
يا دهر أغربت في التعدي ... والجور ظلماً على الغريب
شوبك لي فرقةً بشوقٍ ... أطلع من لمتي مشيبي

حسبي أبو نصر المرجى ... عوناً على الدهر والخطوب
إن ضاق دهرٌ بنا أوينا ... منه إلى صدره الرحيب

الباب العاشر
في ذكر الشريف أبي الحسن الرضى
الموسوي النقيب وغرر شعره
هو أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم ا بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، ومولده ببغداد سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، وابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز العشر سنين بقليل، وهو اليوم أبدع أبناء الزمان، وأنجب سادة العراق، يتحلى مع محتده الشريف، ومفخره المنيف، بأدب ظاهر وفضل باهر، وحظ من جميع المحاسن وافر، ثم هو أشعر الطالبيين، من مضى منهم ومن غبر على كثرة شعرائهم المفلقين، كالجماني وابن طباطبا وابن الناصر وغيرهم، ولو قلت إنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق، وسيشهد بما أجريه من ذكره شاهد عدل من شعره العالي القدح، الممتنع عن القدح، الذي يجمع إلى السلاسة متانة، وإلى السهولة رصانة، ويشتمل على معان يقرب جناها، ويبعد مداها، فأما أبوه أبو أحمد فمنظرو علوية العراق مع أبي الحسن محمد بن عمر بن يحيى، وكان قديماً يتولى نقابة الطالبيين والحكم فيهم أجمعين، والنظر في المظالم والحج بالناس، ثم ردت هذه الأعمال كلها إلى ولده أبي الحسن هذا، وذلك في سنة ثمانين وثلاثمائة، فقال أبو الحسن قصيدة يهنئ بها أباه، ويشكره على تفويضه أكثر هذه الأعمال إليه:
انظر إلى الأيام كيف تعودُ ... وإلى المعالي الغر كيف تزيدُ
وإلى الزمان نبا وعاود عطفه ... فارتاح ظمآن وأوراق عودُ
قد عاود الأيام ماء شبابها ... فالعيش غض والليالي عيد
إقبال عز كالأسنة مقبلٍ ... يمضي وجد في العلاء جديدُ
وعلاً لأبلج من ذؤابة هاشمٍ ... يثني عليه السؤدد المعقود
قد فات مطلوباً وأدرك طالباً ... ومقارعوه على الأمور قعود
ما السؤدد المطلوب إلا دون ما ... يرمي إليه السؤدد المولود
فإذا هما اتفقا تكسرت القنا ... إن غالباً وتضعضع الجلمود
وله من قصيدة في أبيه، ويذكر حجه بالناس:
دعيني أطلب الدنيا فإني ... أرى المسعود من رزق الطلابا
ومن أبقى لأجله حديثاً ... ومن عانى لعاجله اكتساباً
وما الغبونُ إلا من دهته ... فلا مجداً ولا جدةً أصابا
ونصل السيف تلسم شف ... رتاه وتخلق كل أيام قرابا
وأيامٌ تجوز عليك بيضٌ ... وقد فتحت من الإقبال بابا
وكم يومٍ كيومك قدت فيه ... على الغور المقانب والركابا
إلى البلد الأمين مقوماتٌ ... تماطلها التعجل والإيابا
بحيث تفرغ الكوم المطايا ... حقائبها وتحتقب الثوابا
معالم إن أجال الطرف فيها ... مسيءُ القوم أقلع أو أنابا
وقال في الطائع لله أمير المؤمنين من قصيدة:
لله ثم لك المحل الأعظمُ ... وإليك ينتسب العلا الأقدمُ
ولت الرتاث من النبي محمدٍ ... والبيتُ والحجر العظيمُ وزمزمُ
تمضي الملوك وأنت طودٌ ثابتٌ ... ينجاب عنك متوجٌ ومعمم
لله أي مقام دينٍ قمتهُ ... والأمر من دون القضية مبهم
فكأنما كنت النبي مناجزاً ... بالقول أو بلسانه تتكلم
أيام طلقها المطيع وأوحشت ... مذ زال عن ذات الغاب الضيغم
فمضى وأعقب بعده مستيقظاً ... سجلاه بؤسي في الرجال وأنعم
كالغيث يخلفه الربيع وبعضهم ... كالنار يخلفه الرماد المظلم
ينظر معنى المصراع الأول إلى بيت المتنبي، وهو أحسن ما قيل فيه، وهو قوله: فإنك ماء الورد إن هب الورد ومعنى المصراع الثاني من قول الشاعر:
وبعضهم يكون أبوه منه ... مكان النار يخلفها الرماد
ومنها في وصف النوق:
هن القسي من النحول فإن سما ... طلبٌ فهن من النجاء الأسهم

ما أحسن ما جمع بين القسي والأسهم في هذين الوصفين! وما أراه سبق إليه على هذا الترتيب.
ومنها:
وعظمت قدراً أن يروقك مغنمٌ ... أو أن يصل على بنانك درهم
هي راحةٌ ما تستفيق من الندى ... أبد الزمان وبدرةٌ لا تختم
ما كان يومي دون مدحك أنني ... صب بغير جلال وجهك مغرم
أنت العلا فلقصدها ما أقتني ... من جوهرٍ ولمدحها ما أنظم
ما حق مثلي أن يضاع وقوله ... باقي العماد على الزمان مخيمُ
وأنا القريب قرابةً معلومةً ... والعرق يضرب والقرائب تلحم
إني لأرجو منك أن سيكون لي ... يومٌ أغيظ به الأعادي أيوم
وأنال عندك رتبةً مصقولةً ... إن عاين الأعداء رونقها عموا
إني وإن ضرب الحجاب بطوده ... أو حال دونك يذبل ويلملم
لأراك في مرآة جودك مثل ما ... يلقى العيان الناظرُ المتوسمُ
يا دهر دونك قد تماثل مدنفٌ ... واقتص مهتضم وأوراق معدم
إني عليك إذا امتلأت حميةً ... بندى أمير المؤمنين محرم
ومذ ادرعت فناءه وعطاءه ... أرمى يرميني الزمان فأسلم
وقال من قصيدة لما خلع الطائع يذكر فيها أيامه ويرثيها ويتوجع مما لحقه وذلك في شعبان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة:
إن كان ذاك الطود خ ... ر فبعدما استعلى طويلاً
موفٍ على القلل الذوا ... هب في العلا عرضاً وطولا
قومٌ يسدد لحظه ... فيرى القروم لا مثولا
ويُرى عزيزاً حيث ح ... ل ولا يرى إلا ذليلاً
كالليت إلا أنه ات ... خذ العلا والعز غيلا
وعلا على الأقران لا ... مثلاً يعد ولا عديلا
من معشرٍ ركبوا العلا ... فأبوا عن الكرم النزولا
كرموا فروعاً بعد ما ... طابوا وقد عجموا أصولاً
نسبٌ غدا رواده ... يستنخبون له الفحولا
يا ناصر الدين الذي ... رجع الزمان به كليلا
يا صارم المجد الذي ... ملئت مضاربه فلولا
يا كوكب الإحسان أع ... جلك الدجى عنا أفولا
يا مصعب العلياء قا ... دتك العدى نقضاً ذلولاً
لهفي على ماضٍ قضى ... أن لا يُرى منه بديلاً
وزوال ملكٍ لم يكن ... يوماً يقدر أن يزولا
ومنازلٍ سطر الزما ... ن على مغانيها الحؤولا
من يزجر الدهر الغشو ... م ويكشفِ الخطب الجليلا؟
وتراه يمنع دوننا ... وادي النوائب أن يسيلا
عقاد ألوية الملو ... ك على العدى جيلاً فجيلا
صانعت يوم فراقه ... قلباً قد اعتنق الغليلا
ظعن الغنى عني وحو ... ل رحله إلا قليلاً
إن عاد يوماً عاد وج ... ه الدهر مقبلاً جميلاً
ولئن غدا طوع المنو ... ن ميمماً تلك السبيلا
فلقد يخلف مجده ... عبئاً على الدنيا ثقيلا
واستذرت الأيام من ... نفحاته ظلا ظليلا
وله من قصيدة يذكر فيها الحال يوم القبض على الطائع لله، ويصف خروجه من الدار سليماً، وقد سلبت ثياب أكثر الأشراف والقضاة، وانتهبوا وامتحنوا، فأخذ هو بالحزم ساعة، ووقف على الصورة، وبادر إلى نزول دجلة، وكان أول خارج من الدار، وتلوم من تلوم حتى جرى عليه ما جرى، ويذكر غرضاً آخر في نفسه ويشكو الزمان، ويذم عمل السلطان:
لواعج الشوق تخطيهم وتصميني ... واللوم في الحب ينهاهم ويغريني
سلا عن الوجد إني كل شارقةٍ ... تريشني الشيب والأيام تبريني
من لي ببلغة عيشٍ غير فاضلةٍ ... تكفني عن أذى الدنيا وتكفيني
أخي من باع دنياه وزخرفها ... بصونه كان عندي غير مغبون

قالوا أتقنع بالدون الخسيس وما ... قنعتُ بالدون بل قنعت بالدون
إذا ظننا وقدرنا جرى قدرٌ ... بنازلٍ غير موهومٍ ومظنون
أعجب بمسكة نفسي بعد ما رميت ... من النوائب بالأبكار والعون
ومن نجاتي يوم الدار حين هوى ... غيري ولم أخل من حزمٍ ينجيني
مرقت فيها مروق النجم منكدراً ... وقد تلاقت مصاريعٍ الردى دوني
وكنت أولاً طلاعٍ ثنيتها ... ومن ورائي شر غير مأمون
من بعد ما كان رب الملك مبتسماً ... إلي أدنيه في النجوى ويدنيني
أمسيت أرحم من قد كنت أغبطه ... لقد تقارب بين العز والهون
ومنظرٍ كان بالسراء يضحكني ... يا قرب ما عاد بالضراء يبكيني
هيهات أغتر بالسلطان ثانيةً ... قد ضل ولأجُ أبواب السلاطني
وقال في القادر بالله أبي العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر عند استقراره في دار الخلافة سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة:
شرف الخلافة يا بني العباس ... اليوم جدده أبو العباسد
وافى لحفظ فروعها وكنيه ... كان المثير مواضع الأغراس
هذا الذي رفعت يداه بناءها ال ... عالي وذاك موطدُ الأساس
كأنهم ألم فيه بقول ابن الرومي في المعتضد بالله:
كما بأبي العباس أنشئ ملككم ... كذا بأبي العباس منكم يجدد
رجع:
ذا الطود بقاه الزمان ذخيرةً ... من ذلك الجبل العظيم الراسي
فالآن فر العز في سكناته ... ثلج الضمائر بارد الأنفاس
وقفت أخامص طالبيه ورفهت ... أيدٍ نقضن معاقد الأحلاس
واحتل غاربه ولي خلافةٍ ... ما كان يلبسها على اللباس
سبق الرجال إلى ذراها ناجياً ... من نابِ كل مجاذبٍ نهاس
يقظانُ يجرح في الخطوب وينثني ... ولهاه للكلم الرغيب أواسي
ويرق أحياناً وبين ضلوعه ... قلبٌ على المال المثمر قاسي
تغدو ظبى البيض الرقاق بقلبه ... أحلى وأعذب من ظباء كناس
فكأن حمل السيف يقطر غربه ... أنسى يمين يديه حمل الكاس
أحسود ذي الغرر الشوادخ إنها ... حرمٌ على الأعيار لا الأفراس
لا تحسدن قوماً إذا فاضلتهم ... فضلوك في الأخلاق والأجناس
مجدٌ أميرُ المؤمنين أعدته ... غضاً كنوز المورق المياس
وبعثت في قلب الخلافة فرحةً ... دخلت على الخلفاء في الأرماس
أورق أمين الله عودي إنما ... أغراث مثلك في العلا أغراسي
وأملك على من كان قبلك سلوةً ... في فرط تقريبي وفي إيناسي
وله فيه من أخرى يصف فيها جلسة جلسها فأوصل إلى حضرته الحجيج وغيرهم وحضر الشريف ذلك المجلس، وعليه السواد في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة منها:
لمن الحدوج تهزهن الأنيق ... والركب يطفو في السراب ويغرق
إني اهتديتُ؟ فلا اهتديت! وبيننا ... سورٌ علي من الظلام وخندقُ
ومطلحون لهم بكل ثنيةٍ ... ملقى وسادته الثرى والمرفق
أبغاة هذا المجد، إن مرامه ... دحضٌ يزل بطالبيه ويزلق
لا تحرجوا هذي البحار فربما ... كان الذي يروي المعاطش يغرق
دعوا مجاذبة الخلافة إنها ... أرجٌ بغير ثيابهم لا يعبق
أبوكم العباس ما استسقى به ... بعد القنوط قبائلٌ إلا سقوا
بعج الغمام بدعوةٍ مسموعةٍ ... فأجابه شرق البوارق مغرق
لله يومٌ أطلعتك به العلا ... علماً يزاول بالعيون ويرشق
لما سمت بك غرةٌ مرموقةٌ ... كالشمس تبهر بالضياء وترمق
وبرزت في برد النبي وللهدى ... نورٌ على أسرار وجهك مشرق

وعلى السحاب الجون ليثٌ معظماً ... ذاك الرداء وزرٌ ذاك اليلمق
وكأن دارك جنةٌ حصباؤها ال ... جادي أو أنماطها الإستبرق
في موقفٍ تغصي العيون جلالةً ... فيه ويعثر بالكلام المنطق
والناس إما شاخصٌ متعجبُ ... مما يرى أو ناظرٌ متشوق
مالوا إليك محبةً فتجمعوا ... ورأوا عليك مهابةً فتفرقوا
وطعنت في غرر الكلام بفيصل ... لا يستقل به السنان الأزرق
وأنا القريب إليك فيه، ودونه ... لندى عدوك طود عز أعبق
عطفاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوتُ ... أبداً كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطلٌ منها وأنت مطوقُ
هذه طريقة لم يسبق إليها، وما أحسنها في جمع أطراف الاستعطاف والمدح! وله من أخرى يذم الزمان، يفتخر:
توقعي أن يقال قد ظعنا ... ما أنت لي منزلاً ولا وطنا
يا دار قل الصديق فيكِ فما ... أحس وداً ولا أرى سكنا
كيف يخاف الزمان منصلتٌ ... مذ خاف غدر الزمان ما أمنا
لم يلبس الثوب من توقعه ... للأمر إلا وظنه كفناً
لي مهجةٌ لا أرى لها عوضاً ... غير بلوغ العلا ولا ثمنا
ما ضرنا أننا بلا جدةٍ ... والبيت والركن والمقام لنا
سوف ترى أن نيل آخرنا ... من العلا فوق نيل أولنا
وأن ما بز من مقادمنا ... يخلفه الله في أواخرنا
وورد عليه أمر أهمه وأقلقه فرأى شيباً في رأسه وسنة ثلاث وعشرون سنة.
فقال:
عجلت يا شيبُ على مفرقي ... وأي عذرٍ لك أن تعجلا؟
فكيف أقدمت على عارضٍ ... ما استغرق الشعر ولا استكملا
كنت أرى العشرين لي جنةً ... من كارقات الشيب إن أقبلا
فالآن سان ابن أم الصبا ... ومن تسدي العمر الأطولا
يا زائراً ما جاء حتى مضى ... وعارضاً ما جاد حتى انجلى
وما رأى الراؤون من قبلنا ... زرعاً ذوي من قبل أن يسبلا
ليت بياضاً جاءني آخراً ... فدى بياضٍ كان لي أولا
وليت صبحاً ساءني ضوؤه ... زال وأبقى ليله الأليلا
يا ذابلاً صوح فينانه ... قد آن للذابل أن يختلى
خط برأسي يققاً أبيضاً ... فكيف من جاوز أو من علا
هذا ولم أعدّ مجال الصبا ... فكيف من جاوز أو من علا
من خوفه كنت أهاب السرى ... شحاً على وجهي أن يبذلا
فليتني كنت تسربلتُه ... في طلب العز ونيل العلا
قالوا دعِ القاعد يزري به ... من قطع الليل وجاب الفلا
قل لعذولي اليوم عد صامتاً ... فقد كفاني الشيب أن أعذلا
طبت به نفساً ومن لم يجد ... إلا الردى أذعنُ واستقتلا
وقال من الوزير أبي القاسم علي بن أحمد يستصوب رأيه في الاستتار لأمر أوجبه:
تأبى الليالي أن تديما ... بؤساً بخلقٍ أو نعيما
والمرء بالإقبال يبلغ ... وداعاً خطراً عظيماً
وينال بغيته وما ... أنضى الذميل ولا الرسيما
فإذا انقضى إقباله ... رجع الشفيق له خصيما
وهو الزمان إذا نبا ... سلب الذي أعطى قديما
كالريح ترجع عاصفاً ... من بعد م ا بدأت نسيما
ذاك الوزير وكان لي ... وزراً أحزبه الخصوما
فالآن أغدو للعدى ... وبنالها غرضاً رجيما
سدي العلا وأنرا لا ... فض اللقاء ولا ملوماً

حتى إذا لم يبق إلا ... أن يلام وأن يليما
طرح العناء على اللئا ... م مجانباً ومضى كريماً
لم يعتلقه الحبس ممته ... ناً ولم يعزل ذميما
أفنى العدى وقضى المنى ... وبنى العلا ونجا ذميماً
وجه كأن البدر شا ... طره الضياء أو النجوما
لو قابل الليل البهي ... م لمزق الليل البهيما
يجلو الهموم ورب وج ... هٍ إن بدا جلب الهموما
كان العظيم، وغير بد ... عٍ منه أن ركب العظيما
والحرّ من حذر الهوا ... ن وحاول الأمر الجسيما
بعثوا سواك لها وكا ... ن مبلداً عنها مليما
والعاجز المأفون أق ... عد ما يكون إذا أقيما
فسقى بلادك حيث كن ... ت المزن منبعقاً هزيما
فلقد سقى خدي ذك ... رك دمع عيني السجوما
وقال:
عذيري من العشرين يغمزن صعدتي ... ومن نوب الأيام يقرعن مروتي
ألا لا أعد العيش عيشاً مع الأذى ... لأن رفيق الذل حي كميتِ
تخوفني بالموت والموت راحةٌ ... لمن سل عزمي قلبه مثل همتي
وكم بين ذي أنفٍ حمي وحاملٍ ... موارن قد عودن حمل الأحشة
وقال:
أكابرنا والسابقون إلى العلا ... ألا تلك آسادٌ ونحن شبولها
وإن أسوداً كنت شبلاً لبعضها ... لمحقوقةٌ أن لا يذلك قبيلها
وقال:
حذفت فضول العيش حتى رددتها ... إلى دون ما يرضى به المتعففُ
وأملت أن أجري خفيفاً إلى العلا ... إذا شئتم أن تلحقوا بفتخففوا
حلفت برب البدن تدمى نحورها ... وبالنفر الأطوار لبوا وعرفوا
لأبتذلن النفس حتى أصونها ... وغيري قد قيدٍ من الذل يوسفُ
فقد كالما ضيعت فرصةً ... وهل ينفع الملهوف ما يتلهف
وإن قوافي الشعر ما لم أكن لها ... مسفسفةً فيها عتيقٌ ومقرف
أنا الفارس الوثاب في صهواتها ... وكل مجيدٍ جاء بعدي مردف
وقال:
بنو هاشمٍ عينٌ، ونحن سوداها ... على رغم من يأبى، وأنتم قذاتها
وأعجب ما يأتي به الدهر أنكم ... طلبتم علاً ما فيكم أدواتها
وأملتم أن تدركوها طوالعاً ... دعوها سيسعى للمعالي سعاتها
غرست غروساً كنت أرجو لقاحها ... وآمل يوماً أن تطيب جناتها
فإن أثمرت لي غير ما كنت آملاً ... فلا ذنب لي إن حنظلت نخلاتها
وقال يرثي أبا منصور أحمد بن عبيد الله بن المرزبان الكاتب الشيرازي:
أي دموع عليك لم تصب ... وأي قلبٍ عليك لم يجب
ما لي وما للزمان يسلبني ... في كل يوم غرائب السلب
أما فتى ناضر الصبا كأخي ... عندي أو زائد المدى كأبي
وإنني للشقاء أحسبني ... ألعب بالدهر وهو يلعب بي
ما نمت عنه إلا وأيقظني ... من الرزايا بفيلقٍ لجب
في كل جدارٍ تغدو المنون، ومن ... كل الثنايا مطالع النوب
يفوز بالراحة الفقيد ولل ... فاقد تطول العناء والتعب
أحمد، كم لي عليك من كمدٍ ... باقٍ؟ ومن جود أدمعٍ سرب
ولوعةٍ تحطم الضلوع إذا ... ذكرت قرب اللقاء عن كثب
إن قطع الموت حبلنا فلقد ... عشنا وما حبلنا بمنقضب
كم مجلسٍ صبحته ألسننا ... نفضن فيه لطائم الأدب
من أثر يونق الفتى حسنٍ ... أو خبر يبسط المنى عجب
أو عرضٍ أصبحت خواطرنا ... تساقط الدر منه في الكتب
كالبارد العذب روقته صبا الف ... جر أو الظلم زين بالشنب

غاض غدير الكلام ما بقي ال ... دهر وقرت شقائق الخطب
يا علم المجد لم هويتَ وقد ... كنت أمين العماد والطنب؟
يا مقول الدهر لم صمت وقد ... كنت زماناً أمضى من الشهب؟
يا ناظر الفضل لم غضضت وما ... كنت قديماً تغضي على الريب؟
كنت قريني ولست لي لدةً ... كنت نسيبي ولست من نسبي
مما يقوي العزاء عنك وإن ... شرد قلبي العزاء بالكرب
أنك أحرزتها وإن رغم ال ... دهر ثمانين طلقة الحقب
فإن دموعي جرين نهنهها ... علمي أن قد ظفرت بالأرب
فليت عشرين بت أحسبها ... باعدن بين الورود والقرب
إني أظمأ إلى المشيب، ومن ... ينجُ قليلاً من الردى يشب
إن سرني طالع البياض أقل ... يا ليت ليل الشباب لم يغب
مرّ على ذلك التراب من الم ... زن خفوق الأعلام والعذب
فثم بشرٌ أصفى من الغدق الع ... ذب وجودٌ أندى من السحب
لا تحسبن الخلود بعدك لي ... إن المنايا أعدى من الجرب
إن أنجُ منها وقد شربت بها ... فإن خيل المنون في طلبي
ولست أدري في شعراء العصر أحسن تصرفاً في المراثي منه. ولما رثى أبا منصور الشيرازي بهذه القصيدة في سنة ثلاث رثى أبا إسحاق الصابي في سنة أربع وثمانين بالقصيدة التي أوردتها في بابه، ثم لما حال الحول وتوفي الصاحب في سنة خمس وثمانين وتعجب الناس من انقراض بلغاء العصر الثلاثة على نسق في ثلاث سنين، رثاه أيضاً بقصيدة سأورد غررها في مراثي الصاحب.
وله من قصيدة رثى بها أبا محمد بن أبي سعيد السيرافي، وكان من الأعيان الأعلام في العربية وما يتعلق بها، وتوفي بعيد الصاحب:
لم ينسنا كافي الكفاة مصابه ... حتى دهانا فيك خطبُ مضلع
قرحٌ على قرحٍ تقارب عهده ... إن القروح على القروح لأوجع
وتلاحُقُ الفضلاء أعدل شاهدٍ ... إن الحمام بكل علقٍ مولع
وقال من أخرى:
يا مصعباً بخست أيدي المنون به ... فقيد قودٍ ذليل الظهر مطواع
يسقي أسنته حتى تفيض دماً ... ويهدم العيس من شد وأيضاع
وقال:
هيهات أصبح سمعه وعبانه ... في التراب قد حجبتهما أقذاؤه
يمسي ولين مهاده حصباؤه ... فيه ومؤنس ليله ظلماؤه
قد قلبت أعيانه، وتنكرت ... أعلامه، وتكسفت أضواؤه
مغفٍ وليس لذةٍ إغفاؤه ... مغضٍ وليس لفكرةٍ إغضاؤه
وجه كلمع البرق غاض وميضه ... قلبٌ كصدر العضب قل مضاؤه
حكم البلى فيه فلو يلقى به ... أعداءه لرثى له أعداؤه
إن الذي كان النعيم ظلاله ... أمسى يطنب بالعراء خباؤه
قد خف عن ذاك الرواق حضوره ... أبداً، وعن ذاك الحمى ضوضاءه
كانت سوابقه طراز فنائه ... يجلو جمال روائهن رواؤه
ورماحه سفراؤه، وسيوفه ... خفراؤه، وجياده ندماؤه
ما زال يعدو والركاب خذاؤه ... بين الصوارم والعجاج رداؤه
لا تعجبن فما العجيب فناؤه ... بيد المنون، بل العجيب بقاؤه
من طاح في سبل الردى آباؤه ... فليسلكن طريقهم أبناؤه
ومن قصيدة رثى بها والدته:
أبكيك لو نقع الغليل بكائي ... وأقول لو ذهب المقال بدائي
أعوذ بالصبر الجميل تعزياً ... لو كان في الصبر الجميل عزائي
طوراً تكاثرني الدموع، وتارةً ... آوي إلى أكرومتي وحيائي
كم عبرةٍ موهتها بأناملي ... وسترتها متجملاً بردائي
أبدي التجلد للعدو، ولو درى ... بتململي لقد آشتفى أعدائي
فارقت فيك ضعفت فصارت أنة ... أتمتها بتنفس الصعداء

لهفان أنزو في حبائل كربةٍ ... ملكت علي جلادتي وعنائي
قد كنت أرجو أن أكون لك الفدا ... مما ألم فكنت أنت فدائي
وجرى الزمان على عوائد كيده ... في قلب آمالي وعكس رجائي
وتفرق البعداء بعد مودةٍ ... صعبٌ فكيف تفرق القرباء
وتداول الأيام يبلينا، كما ... يبلى الرشاء تطاوح الأرجاء
كيف السلو وكل موقع لحظةٍ ... أثرٌ لفضلك خالدٌ بإزائي
وقال:
قل لليالي قد ملكت فأسجحي ... ولغيرك الخلق الكريم الأسجح
إن ساء فعلك في فراق أحبتي ... فلسوء فعلك في عذاري أقبح
ضوءً تشعشع في سواد ذؤابتي ... لا أستضيء به ولا أستصبح
ومنها:
والذل بين الأقربين مضاضةٌ ... والذل ما بين الأباعد أروح
وإذا رمتك من الرجال قوارصٌ ... فسهام ذي القربى أشد وأجرح
لو لم يكن لي في القلوب مهابةٌ ... لم يطعنِ الأعداء في ويقدحوا
وقال:
أنا ابن الأناجب من هاشمٍ ... إذا لم تكن نجبٌ من نجبْ
تلاثُ برودهم بالرماح ... وتلوى عمائمهم بالشهب
عتاق الوجوه، وعتق الجيا ... د في الضمر تعرفه والقبب
يشف الوضاء خلال الشحو ... ب منها وخلف الدخان اللهب
وقال:
الراح والراحة ذل الفتى ... والعز في شرب ضريب اللقاح
ما أطيب الأمر ولو أنه ... على رزايا نعمٍ في المراح
وقال وأجاد:
ستعلمون ما يكون مني ... إن مد من ضبعي طول سني
أأدع الدنيا ولم تدعني ... وسعت أيامي ولم تسعني
أفضل عنها وتضيق عني وقال من أخرى:
تجاذبني يد الأيام نفسي ... ويوشك أن يكون لها الغلابُ
نهضت وقد قعدن بي الليالي ... فلا خيلٌ أعز ولا ركاب
وما ذنبي إذا اتفقت خطوبٌ ... مغاضبةٌ وأيامٌ غضاب
وبعض العدم مأثرةٌ وفخرٌ ... وبعض المال منقصةٌ وعاب
بناني والعنان إذا نبت بي ... ربي أرضٍ ورجلي والركاب
سواءٌ من أقلّ الترب منا ... ومن وارى معالمه التراب
كأنه من قول ابن نباته: ومن لبس التراب كمن علاه رجع:
وإن مزايل العيش اختصاراً ... مساوٍ للذين بقوا فشابوا
وأولنا العناء إذا طلعنا ... إلى الدنيا، وآخرنا الذهاب
وإن مقام مثلي في الأعادي ... مقام البدر تنبحه الكلاب
رموني بالعيون ملفقاتٍ ... وقد علموا بأني لا أعاب
وأني لا تدنسني المخازي ... وأني لا تروعني السباب
ولما لم يلاقوا في عيباً ... كسوني من عيوبهم وعابوا
وقال:
سأبذل دون العز أكرم مهجةٍ ... إذا قامت الحرب العوان على رجلٍ
وما ذاك أن النفس غير نفيسةٍ ... ولكن رأيت الجبن ضرباً من البخل
وما المكرهون السمهرية في الطلى ... بأشجع ممن يكره المال بالبذل
وقال في ذم بعض الناس:
الله يعلم ميلي عن جنابكم ... ولو تناهيت لي في البر واللطفِ
فكيف بي وعلى عينيك ترجمةٌ ... من الحقود وعنوانٌ من السرفِ
أخذه من قول البحتري:
وفي عينيك ترجمةٌ أراها ... تدل على الضغائن والحقود
رجع:
أطوف منك بوجهٍ غير ملتفتٍ ... إلى المناجي وعطفٍ غير منعطف
فما أغبك من عذرٍ ولا شغلٍ ... ولا أزورك من وجدٍ ولا شغف
لا قدس الله نفساً منك جامعةً ... كيد البغال وحقد الخلد والسرف
ولا سقى الغيث داراً أنت ساكنها ... إلا بأغير ناري الذرى قصف
وقال:
زللت من موقفي على طللٍ ... بالٍ فمن عاذري من الطلل
لما تأملت قبح صورته ... رجعت أبكي دماً على أملي

وجهُ كظهر المجن مسترق ال ... حسن وأنفٌ كغارب الجمل
وقال في الخليفة القادر بالله:
تخطينا الصفوف إلى رواقٍ ... تحجبُ بالصوارم والرماح
وحبينا عظيماً من قريش ... كأنّ جبينه فلق الصباح
عليه سيمياءُ المجد يبدو ... وعنوان الشجاعة والسماح
وقال في أبي الحسن النصيح، وقد لامه في تأخره عنه:
أكافينا النصيح بقي ... ت فينا دائماً أبدا
تحث إلى العلا قدماً ... وتبسط بالنوال يدا
لئن حرقتني عذلاً ... لقد نوهت بي صعدا
علي طروق داركمُ ... وليس علي أن أردا
أخذه من قول منصور:
علي أن أزوركمُ ... وليس علي أن أصلا
وقال من التقارب:
أبيعك بيع الأديم النغل ... وأطوي ودادك طي السجل
وأنفض ثقلك عن عاتقي ... فقد طالما آذيتني يا جبل
قوارص لفظٍ كحز المدى ... وشزرات الحظٍ كوقع الأسل
وإن أذل الأذلين من ... يروم ببضع النساء الدول
وقال:
يا ليلةً كرم الزما ... ن بها لو أن الليل باقي
كان اتفاقاً بيننا ... جارٍ على غير اتفاق
فاستروح المشتاق من ... زفرات هم واشتياق
واقتص للحقب الموا ... ضي بل تسلف للبواقي
حتى إذا نسمت ريا ... ح الصبح تؤذن بالفراق
برد السوار لها فأح ... ميت القلادة بالعناق
وله في وزير بذل مالاً كثيراً حتى الوزارة فاستصوب رأيه في ذلك:
اشترِ العز بما بي ... ع فما العز بغال
بالقصار الصفر إن شئ ... ت وبالسمر الطوال
ليس بالمغبون حظاً ... مشترٍ عزاً بمال
إنما يدخر الما ... ل لحاجات الرجال
والفتى من جعل الأ ... موال أثمان المعالي
وقال:
يا عذبة المبسم بلي الجوى ... بنهلةٍ من ريقك البارد
أرى غديراً شماً ماؤه ... بادٍ فهل للماء من وارد
من لي بذاك العسل الذائب ال ... جاري خلال البرد الجامد
وقال:
وسالمتُ لما طالت الحرب بيننا ... إذا لم تظفر في الحروب فسالم
وقال:
لنا الدوحة العليا التي نزعت لها ... إلى المجد أغصان الجدود الأطايب
إذا كان في جو السماء عروقها ... فأين عواليها وأين الذوائب؟
وله في غلام أعجمي:
حبيبي ما أزرى بحبك في الحشا ... ولا غض عندي منك أنك أعجمُ
بنفسي من يستدرجِ اللفظ عجمةً ... كما يمضغ الظبي الأراك ويبغم
وقال:
كما المقام على جيلٍ سواسيةٍ ... ترجو الندى من إناءٍ قط ما رشحا
تشاغل الناس باستدفاع شرهمُ ... عن أن تسومهمُ الإعطاء والمنحا
وقال:
واهاً على عهد الشباب وطيبه ... والغض من ورق الشباب الناضر
واهاً له ما كان غير دجنةٍ ... قلصت صبابتها كظل الطائر
وأرى المنايا إن رأت بك شيبةً ... جعلتك مرمى نبلها المتواتر
لو يفتدي ذاك السواد فديته ... بسواد عيني بل سواد ضمائري
أبياض رأسٍ واسوداد مطالبٍ؟ ... صبراً على حكم الزمان الجائر!
وكان عمل قصيدة في بهاء الدولة وأنفذها إليه، فنسبه بعض الحساد إلى الترفع عن إنشادها، فقال:
جناني شجاعٌ إن مدحت، وإنما ... لساني إن نسيم النشيد جبانُ
وما ضر قوالاً أطاع جنانه ... إذا خانه عند الملوك لسان
ورب حيي في السلام وقلبه ... وقاحٌ إذا لف الجياد طعان
ورب وقاح الوجه تحمل كفه ... أنامل لم يعرق بهن عنان
وفخر الفتى بالقول لا بنشيده ... ويروي فلانٌ مرةً وفلان
وورد عليه أمر أشغل قلبه فقال:
إن أنشب الخطب فلا روعةً ... أو عظم الأمر فصبرٌ جميل

فليهون المرؤ بأيامه ... أن مقام المرء فيها قليل
إنا إلى الله وإنا له ... وحسبنا الله ونعم الوكيل

القسم الثالث من يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر وهو يشتمل على
ملح أشعار أهل الجبال وفارس
وجرجان وطبرستان
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله على آلائه، وأسأله شكر نعمائه، وأصلي على محمد المصطفى المختار، وأله وصحبه الأطهار.
وبعد، فلما تم القسم القاني من يتيمة الدهر أتبعته بالقسم الثالث منها، وهو يشتمل على ملح أشعار أهل الجبال وفاس وجرجان وطبرستان من وزراء الدولة الديلمية وكتابها وقضاتها وشعرائها، وسائر فضلائها وغربائها، وما ينضاف إليها من أخبارهم، وغرر ألفاظهم.
الباب الأول
في ذكر ابن العميد
وإيراد لمع من أوصافه وأخباره وغرره
من نثره ونظمه
هو أبو الفضل محمد بن الحسين، عين المشرق ولسان الجبل وعماد ملك آل بويه وصدر وزرائهم وأوجد العصر في الكتابة، وجميع أدوات الرياسة، وآلات الوزارة، والضارب في الآداب بالسهام الفائزة، والآخذ من العلوم بالأطراف القوية، يدعى الجاحظ الأخير، والأستاذ، والرئيس، يضرب به المثل في البلاغة، وينتهي إليه في الإشارة بالفصاحة والبراعة، مع حسن الترسل وجزالة الألفاظ وسلاستها، إلى براعة المعاني ونفاستها. وما أحسن وأصدق ما قال له الصاحب - وقد سأله عن بغداد عند منصرفه عنها - بغداد في البلاد، كالأستاذ في العباد. وكان يقال: بدئت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد. وقد أجرى ذكرهما معاً مثلاً أبو محمد عبد الله بن أحمد الخازن الأصبهاني في قصيدة فريدة مدح بها الصاحب، فلما انتهى إلى وصف بلاغته قال وأحسن ما شاء:
دعوا الأقاصيص والأنباء ناحيةً ... فما على ظهرها غير ابن عباد
والي بيانٍ متى يطلق أعنته ... يدع لسان إيادٍ رهن أقياد
وموردٍ كلماتٍ عطلت زهراً ... على رياض ودراً فوق أجياد
وتاركٍ أولاً عبد الحميد بها ... وابن العميد أخيراً في أبي جاد
ولم يرث ابن العميد الكتابة عن كلالة، بل كان كما قال ذو الرمة في وصف صياد حاذق: ؟ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب لأن أباه أبا عبد الله الحسين بن محمد المعروف بكلة في الرتبة الكبرى من الكتابة ورسائله مدونة بخراسان.
وذكر أبو إسحاق الصابي في الكتاب التاجي أن رسائل أبي عبد الله لا تقصر في البلاغة عن رسائل ابنه أبي الفضل، وعندي أن هذا الحكم من أبي إسحاق فيه حيفٌ شديد على ابن العميد، والقاص لا يحب القاص.
ومن خبر أبي عبد الله أن أصله من قم، وكان يكتب لما كان بن كاكي، فلما قتل ما كان من المعركة واستبيح عسكره، وحمل قواده وخواصه مقرنين في الأصفاد إلى الحضرة ببخارى، وفي جملتهم أبو عبد الله نفعته شفاعة فضله ونبله. فأطلق عنه وأكرم ورتب في الدار السلطانية. ولما تقلد ديوان الرسائل للملك نوح بن نصر. ولقب الشيخ كالعادة فيمن يلي ذلك الديوان حسده أبو جعفر محمد بن العباس بن الحسين الوزير، فقال فيه:
تظلم ديوان الرسائل كله ... إلى الملك القرم الهمام وحق له
من أبيات أنسانيها تطاول المدة بها، واستعجم علي مكانها، وكان إذا ذاك أبو القاسم علي بن محمد النيسابوري الإسكافي يكتب في ديوانه، ويرى نفسه أحق برتبته ومكانه، ويتمنى زوال أمره ليقوم مقامه، ويقعد مقعده. وله فيه أبيات تستظرف وتستلمح، فمنها قوله:
وقائل ماذا الذي ... من كلةٍ تطلبه
قلت له أطلب أن ... يقلب منه لقبه
وقوله فيه، وكان يحضر الديوان في محفة لسوء أثر النقرس على قدمه:
يا ذا الذي ركب المحف ... ة جامعاً فيها جهازه
أرى الإله يعيشني ... حتى يرينيها جنازة
وقوله فيه، وقد أستوزر والديوان برسمه:
قول وقد سرنا وراء محفةٍ ... وفيها أبو عبد الإله كسيرا
شقاؤك من شكواك ثم شقاؤنا ... من أيام سوءٍ قدمتك وزيرا
ترقيك من هذي المحفة حيةٌ ... إلى النعش محمولاً تصر صريرا

ولم تطل الأيام حتى أتت على أبي عبد الله منيته، ووافت أبا القاسم أمنيته، وتولى ديوان الرسائل فسبق من قبله وأتعب من بعده، ولم يزل أبو الفضل في حياة أبيه وبعد وفاته بالري وكور الجبل وفارس. يتدرج إلى المعالي ويزداد على الأيام فضلاً وبراعة، حتى بلغ ما بلغ، واستقر في الذورة العليا من وزارة ركن الدولة، ورياسة الجبل، وخدمة الكبراء، وانتجعه الشعراء، وورد عليه أبو الطيب المتنبي عند صدوره من حضرة كافور الإخشيدي، فمدحه بتلك القصائد المشهورة السائرة التي منها:
من مبلغ الأعراب أني بعدهم ... شاهدت رسطاليس والإسكندرا
وسمعت بطليموس دارس كتبه ... متملكاً مبتدياً متحضرا
ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا
نسقوا لنا نسق الحساب مقدماً ... وأتى فذلك إذا أتيت مؤخراً
بأبي وأمي ناطقٌ في لفظه ... ثمنٌ تباع به القلوب وتشتري
قطف الرجال القول وقت نباته ... وقطفت أنت القول لما نورا
ومدحه الصاحب بمدح كثيرة استفرغ فيها جهده، وألقى حميته، فمن عيون شعره فيه قوله من قصيدة:
ن لقب يهيم في كل واد ... وقتيل للحب من غير واد
إنما أذكر الغواني والمقص ... د سعدي مكثراً للسواد
وإذا ما صدقت فيه مرامي ... ومنائي وروضتي ومرادي
وندى ابن العميد إني عميدٌ ... من هواها ألية الأمجاد
لو درى الدهر أنه من بنيه ... لازدرى قدر سائر الأولاد
و درى الدهر أنه من بنيه ... لازدرى قدر سائر الأولاد
أو رأى الناس كيف يهتز للجو ... د لما عددوه في الأطواد
أيها الآملون حطوا سريعاً ... يرفع العماد واري الزناد
فهو إن جاد ضن حاتم طي ... وهو إن قال قل قسُّ إياد
وإذا ما ارتأى فأين زيادٌ ... من علاه وأين آل زياد
قبل العيد يستعير حلاه ... من علاه العزيزة الأنداد
سيضحي فيه لمن لا يوالي ... ه ويبقى بقية الأعياد
ومديحي إن لم يكن طال أبيا ... تاً فقد طال في مجالي الجياد
إن خير المداح من مدحته ... شعراء البلاد في كل ناد
ما أحسن ما أدمج الافتخار في أثناء المدح! وإنما ألم فيه بقول يزيد بن محمد المهلبي لابن المدبر:
إن أكن مهدياً لك الشعر إني ... لابن بيت تهدى له الأشعار
ومن مختار شعر الصاحب قوله فيه وقد قدم إصبهان:
قدم الرئيس مقدماً في سبقه ... وكأنما الدنيا جرت في طرقه
فجبالها من حلمه، وبحارها ... من جوده، ورياضها من خلقه
وكأنما الأفلاك طوع يمينه ... كالعبد منقاداً لمالك رقه
قد قاسمته نجومها: فنحوسها ... لعدوه، وسعودها في أفقه
ما زلت مشتاقاً لنور جبينه ... شوق الرياض إلى السحاب وودقه
حتى بدا من فوق اجرد سابحٍ ... إن قال فت الريح فاه بصدقه
يحكي السحاب طلوعه فصيله ... من رعده ومسيره من برقه
فنظمت مدحاً لا وفاء بمثله ... وسجدت شكراً لا نهوض بحقه
وقوله:
قالوا: ربيعك قد قدم ... فلك البشارة بالنعم
قلت: الربيع أخو الشتا ... ء أم الربيع أخو الكرم؟
قالوا: الذي بنواله ... يغني المقل عن العدم
قلت: الرئيس ابن العمي ... د إذاً؟ فقالوا لي: نعم!
وقوله:
أما ترى اليوم كيف جادلنا ... بمستهل الشؤبوب منسجمه
يحكى أبا الفضل في تفضله ... هيهات أن يعتزى إلى شيمه
كم حاسدٍ لي وكنت أحسده ... يقول من غيظه ومن ألمه:
نال ابن عباد المنى كملاً ... إذ عده ابن العميد من خدمه
وقوله في توديعه:

أودع حضرتك العالية ... ونفسي لا دمعتي هاميه
ومن ذا يودع هذا الجناب ... فتهنؤه بعده العافية
جنابٌ رعيت به جنةً ... قطوف مكارمها دانيه
رأيت به فائضات العلا ... وعلمت ما للهمم العاليه
كأني بغداد في شوقها ... إليك وأدمعها الجاريه
وأنت المرجى لإظفارها ... بآمالها وبآماليه
ولو كنت تأذن لي في المسير ... إذاً سرت في جملة الحاشيه
سبقت جوادك مدّ الطريق ... وسرت وفي يدي الغاشيه
ولابن خلاد القاضي فيه مدح تشوبها ملح، كقوله:
بأسعد طالعٍ عيدت يا من ... بطلعته سعادة كل عيد
فعش ما شئت كيف تشاء والبس ... جديد العمر في زمنٍ جديد
فقد شهدت عقول الخلق طراً ... وحسبك بالبصائر من شهود
بأن محاسن الدنيا جميعاً ... بأفنية الرئيس ابن العميد
ولأبي الحسن البديهي فيه من قصيدة:
إذا اعتمدتني خطوب الزمان ... وكان اعتمادي على ابن العميد
تذكرت قربي من قلبه ... فيممته من مكانٍ بعيد
تجاوز في الجود حد المزيد ... وجل نداه عن المستزيد
وفات الأنام، وفاق الكرام ... برأيٍ سديدٍ، وبأس شديد
ومما يستبدع فيه ويستحسن معناه قول أبي علي بن مسكويه له عند انتقاله إلى قصر جديد بناه:
لا يعجبنك حسن القصر تنزله ... فضيلة الشمس ليست في منازلها
لو زيدت الشمس في أبراجها مائة ... ما زاد ذلك شيئاً في فضائلها
وأنشده ابن أبي الشباب في يوم مهرجان قصدية في مدحه أولها:
أقبرٌ لنا طالت ثراك يد الطل ... وحيا الحيا المسكوب ذلك من ثل
نعيم فقدناه فما نرتجي له ... معاودةً إلا بفضل أبي الفضل
ودخل أبو بشر الفارسي الحافظ - وكان متقدماً في علم العربية، متأخراً في قول الشعر - عيه يوماً، وقد هاج به النقرس أنشده:
شكى النقرس نقريسٌ ... أخو علمٍ ونطيس
فما دام لكم قوسٌ ... فنفسي لكم جوس
فقال له: يا أبا بشر، هذه رقية النقرس.
ولا غنى لهذا الشرع عن التفسير، النقريس: الداهية، الحاذق من الادلاء، والنطيس: الفطن بالأمور العالم بها، وأنشد:
وقد أكون مرةً نطيساً ... طباً بأدواء النسا نقريسا
والقوس: صومعة الراهب، الجوس: جمع جايس، والجوسان: التردد، وفي القرآن (فجاسوا خلال الديار).
ومن أمثل شعر أبي بشر قوله:
وأني لا أكره من شيمتي ... زيارة حي بلا منفعه
ولا أحمد القول من قائلٍ ... إذا لم يكن منه فعلٌ معه
ومن ضاق ذرعاً بإكرامنا ... فلسنا نضيق بان نقطعه
وكان كل من أبي العلاء السروي، وأبي الحسن العلوي العباسي، وابن خلاد القاضي، وابن سمكة القمي، وأبي الحسين بن فارس، وأبي محمد بن هندو، يختص به ويداخله وينادمه حاضراً، ويكاتبه ويجاويه ويهاديه نثراً ونظماً، ويقال: إن أحسن رسائله الإخوانيات وما كانت به أبا العلاء، لصدوره عن صدر مائل إليه محب له مناسب بالأدب إياه.

فصول من رسائله
فصل من رسالة له إليه في شهر رمضان وهو مما لم يسبق إليه
كتابي - جعلني الله فداك - وأنا في كد وتعب، ومنذ فارقت شعبان وفي جهد ونصب من شهر رمضان، وفي العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر من ألم الجوع ووقع الصوم. ومرتهن بتضاعف حرور لو أن اللحم يصلى ببعضها غريضاً أتى أصحابه وهو منضج، وممتحن بهواجر يكاد أوارها يذيب دماغ الضب ويصرف وجه الحرباء عن التحنق، ويزويه عن التبصر، يقبض يده عن إمساك ساق وإرسال ساق:
ويترك الجاب في شغلٍ عن الحقب ... ويقدح النار بين الجلد والعصب
ويغادر الوحش وقد مالت هواديها:
سجوداً لدى الأرطى كأن رؤوسها ... علاها صداعٌ أو فواقٌ يصورها
وكما قال الفرزدق:
ليومٍ أتت دون الظلال شموسه ... تظل المها صوراً جماجمها تغلي
وكما قال مسكين الدارمي:

وهاجرةٍ ظلت كأن ظباءها ... إذا ما اتقتها بالقون سجودُ
تلوذ بشؤبوبٍ من الشمس فوقها ... كما لاذ من وخز السنان طريد
وممنو بأيام تحاكي ظل الرمح طولاً، وليال كإبهام القطاة قصراً، ونوم كلاً ولا قلة، وكسحو الطائر من ماء الثماد دقة، وكتصفيقة الطائر المستحر خفة:
كما أبرقت قوماً عطاشاً غمامةٌ ... فلما رجوها أقشعت وتجلت
وكنقر العصافير وهي خائفةٌ ... من النواطير يانع الرطب
وأحمد الله على كل حال، وأسجله أن يعرفني فضل بركته، ويلقيني الخير في باقي أيامه وخاتمته، وأرغب إليه من أن يقرب على القمر دوره، ويقصر سيره، ويخفف حركته، ويعجل نهضته. ينقض مسافة فلكه ودائرته، ويزيل بركه الطول من ساعاته، ويرد علي غرة شوال فهي أسر الغرر عندي وأقرها لعيني، ويسمعني النعرة في قفا شهر رمضان ويعرض على هلاله أخفى من السر، وأظلم من الكفر، وأنحف من مجنون بني عامر، وأضنى من قيس بن ذريح، وأبلى من أسير الهجر، ويسلط عليه الحور بعد الكور، ويرسل على رقاقته التي يغشى العيون ضوءها. ويحط من الأجسام نوؤها، كلفا يعمرها، وكسوفا يسترها، وبرينيه مغمور النور، مقمور الظهور، قد جمعه والشمس برج واحد ودرجة مشتركة. وينقص من أطرافه كما تنقص النيرات من طرف الزند، ويبعث عليه الأرضة، ويهدي إليه السوس، ويغري به الدود، ويبليه بالفار ويخترمه بالجراد، ويبيده بالنمل، ويجتحفه بالذر، ويجعله من نجوم الرجم، ويرمي به مسترق السمع. ويخلصنا من معاودته، ويريحنا من دورته، ويعذبه كما عذب عباده وخلقه، ويفعل به فعله بالكتان ويصنع به صنعه بالألوان، ويقابله بما تقتضيه دعوة السارق إذا افتتح بضوئه وتهتك بطلوعه ويرحم الله عبداً قال آمينا وأستغفر الله جل وجهه مما قلته إن كرهه، وأستعفيه من توفيقي لما يذمه، وأسأله صفحاً يفيضه، وعفواً يسيغه، وحالي بعد ما شكوته صالحة، وعلى ما تحب وتهوى جارية، ولله الحمد تقدست أسماؤه والشكر.
وقد أجمع أهل البصيرة في الترسل على أن رسالته التي كتبها إلى ابن بلكا ونداد خورشيد عند استعصائه على ركن الدولة غرة كلامه، وواسطة عقد وما ظنك بأجود كلام، لأبلغ إمام؟

فصل من أولها
كتابي وأنا مترجح بين طمع فيك، ويأس منك، وإقبال عليك، وإعراض عنك، فإنك تدل بسابق حرمةٍ، وتمتّ بسالف خدمة، أيسرهما يوجب رعاية، ويقتضي محافظة وعناية، ثم تشفعهما بحادث غلول وخيانة، وتتبعهما بآنف خلاف ومعصية. وأدنى ذلك يحبط أعمالكن ويمحق كل ما يرعى لك، لا جرم أني وقفت بين ميل إليك، وميل عليك: أقدم رجلاً لصدمك. وأؤخر أخرى عن قصدك، وأبسط يداً لاصطلامك واجتياحك، وأثني ثانية لاستبقائك واستصلاحك، وأتوقف عن امتثال بعض المأمور فيك، ضناً بالنعمة عندك، ومنافسة في الصنيعة لديك، وتأميلا لفيئتك وانصرافك، ورجاء لمراجعتك وانعطافك، فقد يغرب العقل ثم يؤوب، ويعزب اللب ثم يثوب، ويذهب الحزم ثم يعود، ويفسد العزم ثم يصلح، ويضاع الرأي ثم يستدرك، ويسكر المرء ثم يصحو، ويكدر الماء ثم يصفو، وكل ضيقة إلى رخاء، وكل غمرة فإلى انجلاء. وكما أنك أتيت من إساءتك بما لم تحتسبه أولياؤك، فلا بدع أن تأتي من إحسانك. ما لا ترتقبه أعداؤك، وكما استمرت بك الغفلة حتى ركبت ما ركبت، واخترت ما اخترت. فلا عجب أن تنتبه انتباهةً تبصر فهيا قبح ما صنعت، وسوء ما آثرت. وسأقيم على رسمي في الإبقاء والمماطلة ما صلح، وعلى الاستياء والمطاولة ما أمكن، طمعاً في إنابتك، وتحكمياً لحسن الظن بك، فلست أعدم فيما أظاهره من أعذار، وأرادفه من إنذار، احتجاجاً عليك واستدراجاً لك، فإن يشأ الله يرشدك، ويأخذ بك إلى حظك ويسددك، فإنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
فصل منها

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11