كتاب : يتيمة الدهر
المؤلف : الثعالبي

ظباء أعارتها المهاحسن مشيها ... كما قد أعارتها العيون الجآذر
فمن حسن ذاك المشي جاءت فقلبت ... مواطىء من أقدامهن الضفائر
أخذه من قول ابن الرومي فزاد فيه وحسنه:
ووارد فاحم يقبل ... ممشاه إذا اختال مشية عذره
وقال في استهداء حنطة في سنة قحط ببخارى من الرجز:
يا أيّها ذا السيد المؤمّل ... أرسى من الدهر عليّ كلكل
يكاد أن ينفك منه المفضل ... ثلاثة عيشي بهنّ مثقل
القحط والعيلة والتعطّل ... لي من بني الروم إمام مقول
قد باسط السادة فيما يؤكل ... ولست ممنّ لاغتنام يسأل
لكن إذا أعياني التمحلّ ... والحنطة السمراء حين تحمل
أحسن من بيضاء حين ترفل ... واللحب للنفس الحبيب الأول
فليس لي إلا به تعللّ ... تنّور داري مهمل معطّل
ومطبخي مع الخوان مهمل ... والسوق قفر ليس فيها مأكل
والضيق في ذا العام ضيق يشمل ... لا زالت من جاه ومال تبذل
أفضل حرّ يرتجى ويسأل ... لا زالت الدينا عليك تقبل
بخيرها والخير منك يقبل ... ما زرع البرّ وطال السنبل
وقال في أبي حاتم محمد بن الربيع الطوسي:
كأن أبا حاتم لا يزا ... ل يصرف في الصرف لا في العمل
إذا حلّ أرضا دنا ظعنه ... توقّع رحيلاً إذا قيل حلّ
فتى لا يبيت على بطنة ... ولا يأكل الخبز إلاّ بخل
فتى عنده أنّه يستقل ... بكل الأمور ولا يستقل
ويوجب تدبيره أن يكون ... رئيساً يعزّ ولا يستذل
وله في ثلجة سقطت بعد النيروز و برد أضر بالأنوار:
عجباً لاذر جاء في آذار ... وتفاوت الأفلاك في الأدوار
طلعت عشاءً للبيات سحائب ... أنواؤهن خسفن بالأنوار
أبدى الربيع لنا شتاءً مضمراً ... يأبى ظهور ضمائر الأشجار
ندم الشتاء على التقضّي فانثنى ... لينال منتقما بقايا الثار
وكتب إلى صديق له رأى عنده غلاماً فاستشرطه:
رأيت ظبياً يطوف في حرمك ... أغنّ مستأنساً إلى كرمك
أطمعني فيه أنّه رشأ ... يرشى ليحشى وليس من خدمك
فاشغله بي ساعة إذا فرغت ... دواته إن رأيت من قلمك
وله وقد سمع قول محمد بن عبد الله بن طاهر: ما جمشت الدينا بأظرف من النبيذ:
ألا إن دنياك معشوقة ... تجمشها كلّ عيش لذيذ
ولكنها قطّ ما جمّشت ... من الملهيات بمثل النبيذ
وله من قصيدة:
كم غصت في مدحك فكراً على ... دّر نفيس غير مثقوب
ولم يغص رأيك يوماً على ... بّري ولا رأي لمكذوب
إن كان موعودك الجود لي ... أكذب من موعود عرقوب
فإن إخباك في مدحتي ... أكذب من ذئب ابن يعقوب
وله من أخرى:
يا من إذا مادح أثنى عليه بما ... في نفسه قام من مرآة شاهده
والمرء مرآه مرآة يلوح بها ... في الغيب منه لعينيّ من يشاهده
ألم فيه بقول الرومي:
وإذا ما محابر الناس غابت ... عنك فاستشهد الوجوه الوضاء
بشرّ البرق بالحيا وسنا الصبح بأن يقلب الدجى أضواء
وله من أخرى:
شهر الصيام باليمن طائره ... عليك ما جدّ باديه وعائده
ودام قصرك مرفوعاً مجالسه ... لزائريه ومنصوباً موائده
ودام صدر عظيم أنت ماهده ... وعش لملك عزيز أنت واحده
فأنت منظره الأبهى وناظره ال ... أعلى ومنكبه الأقوى وساعده
وله في أخوين كريم ولئيم:
بين أخلاقه التي هي أخلا ... ق وأخلاقك العتاق مسافه
ولعمري لفي ادعائك إياه ... ابن أم إبطال علم القيافة
وقال في وصف الشتاء:

وشتاء محمق الكلب فلا ... يغلو قديره
كلما رام نباحاً ... زم فاه زمهريره
وله في أكول:
إنّ أبا طالبنا ... له فم كالمعده
يهضم ما يمضغه ... من غير أن يزدرده
وله:
والموداّت ما خلت ... من تهاد مكدّره
كطبيخ خلا من اللحم يدعى مزوّره
وله، وهو من ظرفه:
تزهى علينا بقوس حاجبها ... زهو تميم بقوس حاجبها
وله في أبي الفضل المعافى بن هزيم الأبيوردي:
أصبح الملك مبتلىّ بالمعافى ... وهو ممّا به ابتلاه معافى
ورد الباب لا نتصاف من الدهر فأفنى الصحاح والأنصافا وقال في اللحام وقد اعتذر إلى بعض الرؤساء من هجائه:
قل للحيحيم إنّ مدحك عن ... هجوك ما إن يقوم معتذرا
وهل يعفى على إساءته ... تبصيص الكلب بعد ما عقرا
وله من قصيدة:
طال افتتاني بظبي ورد وجنته ... يجنى فؤادي وكّفي ليس تجنيه
نصّ ينمّ على أسرار نعتمه ... لباسه فكما يكسوه يعريه
فكيف ألثمه واللحظ يؤلمه ... والشمّ يكلمه والضمّ يدميه
وله من أخرى:
ظبي أنس فدته وحش الظباء ... شف جسمي بطول منع الشفاه
شادن يرتعي سويداء قلبي ... حسن يرنو من مقلة سوداء
شبّ فيه الشباب نار جمال ... عدّلت ناره بماء البهاء
وله في وصف ثوب أهداه إليه صديق:
أبا نصر سمحت لنا بثوب ... حكى في فرط ضيق العرض باعك
سخافة نسجه تحكيك لكن ... غلاطة نسجه تحكي طباعك
وله من قصيدة كتب بها إلى إخوان له بالشاش من رباط كان التجأ إليه من فتنة وقعت بالناحية:
فزتم بآنس ألفة وخلاط ... وتركتموني في كنيف رباط
وسعت صحون فيه إلا أنها ... من ضيق صدري مثل يمّ خياط
جاوت فيها نسوة ساسّية ... نسل الحرام حلائل السقاط
سلب الزمان شعورها وشعورها ... طهر السّواك وزينة الأماط
يحملن أطفالاً كأنّ وجوههم ... طليت بصمغ من يبيس مخاط
فيهن فيتات إذا غنّينني ... غنّينني وقصمن ظهر نشاطي
أمعاؤها أوتارها وبطونها ... أعوادها واللحن رجع ضراط
ولهن أزواج عى أكتافهم ... كنف معلقة من الأباط
إن يسهروا لتسامر فكلامهم ... لا يستبان كصرّة الوطواط
أو يرقدوا فحلوقهم وأنوفهم ... ممّا تغطّ كحقة الخرّاط
وخلال ذلك يسمعونك كارهاً ... صوت الضراط كمثل شقّ رباط
حتى يغص بع الرباط كأنّما ... إرساله من غير ذات رباط
ختموا الطريق بطينة بطنية ... ليفكّ ذك الختم رجل الواطي
لا أستطيع تحفّظاً منها ولو ... أعملت فيه توقي المحتاط
أمشي بأطراف الأصابع بينها ... حذراً كأني فوق حدّ صرط
وبراغث مثل الخطوب طوارق ... حدب الظهور غليظة الأوساط
يحسون ماء حياتنا فجلودنا ... كمصاحف محمرّة الأنقاط

أبو جعفر محمد بن العباس
بن العباس بن الحسن
هو ابن العباس بن الحسن وزير المكتفى والمتقدر، وأخباره مشهورة، وأيامه في الوزارة مذكورة وأبو جعفر هذا كاتب بليغ حسن التصرف في النظم والنثر، رمت به حوادث الدهر إلى بخاري، فأكرم مثواه كالعادة كانت للملوك السامانية في معرفة حقوق الناس وأبناء النعمة و أغذياء الرياسة، لا سيما الجامعين إلى كرم النسب شرف الأدب، وتقسمت أيامه بين الأولية السنية، والطلعة الهنية وكان على تماسك حاله وانتعاشه وارتياشه شاكياً لزمانه مستزيدا لسلطانه، وله القصيدة التي سارت في البلاد وطارت في الآفاق لحسن ديباجتها وبراعة تجنيساتها، وكثرة رونقها، وأنشدنيها غير واحد ممن انشده أبو جعفر إياها، وأولها:
لئن أصبحت منبوذاً ... بأطراف خراسان
ومجفواً نبت عن لذّ ... ة التغميض أجفاني

ومحمولاً على الصعبة من إعراض سلطاني
ومحصوصاً بحرمانٍ ... من الأعيان أعياني
وصرفٍ عند شكواي ... من الآذان آذاني
ومكلوماً بأظفارٍ ... ومكدوماً بأسنان
وملقى بين أخفافٍ ... وأظلافٍ توطَّاني
كأنّ القصد من أحدا ... ث ازماني إماني
فكم مارست في إصلا ... ح شاني ما ترى شاني
وعاينت خطوباً جرّ ... عتني ماء خطبان
أفادت شيب فوديَّ ... وأفنت نور أفناني
أغصَّتني بأرياقي ... لدى إيراق أغصاني
وقادتني إلى من هو عنِّي عطفه ثاني
سوى أني أرى في الفضل ... فرداً ليس لي ثاني
كأنَّ البخت إذ كشَّف عنّي كان غطّاني
وما خلاني إلاّ ... زماناً فيه خلاَّني
سأسترفد صبرى ... إنّه من خير أعواني
وأستنجد عزمي إنّه ... والحزم سيّان
وأنضو الهم عن قلبي ... وإن أنضيت جثماني
وأنجو بنجاتي إن ... قضاء الله نجّاني
إلى أرضي التي أرضى ... وترضيني وترضاني
إلى أرض جناها من ... جنى جنّة رضوان
هواء كهوى النفس ... تصافاه صفيّان
رخاء كرخاء شرِّ ... د الشدة عن عاني
وماء مثل قلب الصبِّ قد ريع بهجران
رفيق الآل كلآل ... وفيه أمن إيمان
وترب هو والمسك ... لدى التشيه تربان
فإن سلّمني الله ... وبالصنع تولاّني
وأولاني خلاصاً جا ... معاً شملي بخلصاني
وأرآني أودَّائي ... وآواني لإيواني
وأوطأني أوطاني ... وأعطاني أعطاني
وأخلى ذرعي الدهر ... وخلاَّني وخلاّني
فإني لا أجدُّ العو ... د ما عاد الجديدان
إلى الغربة حتى تغرب الشمس بشروان
فإن عدت لها يوماً ... فسجّاني سجاني
وللكوت الوحى الأحمر ... القاني ألقاني
وأنشدني أبو الفرج يعقوب بن إبراهيم قال: أنشدني أبو جعفر بن العباس لنفسه:
لست في ذا العذار والأمرد الحا ... سر عن رأسه العذار بخالع
الوقايات في الوقاية عندي ... فلهذا مقانعي في المقانع
وأنشدني له أيضاً:
بوجهك يا من منه أديمه ... وراق الدمى حسنا أريق دمي عمدا
فأقسم أن لو قسمت صبوتي على ... بسيم الصبا ما نسم النسم البردا
وأنشدني أبو القاسم الأليماني قال: أنشدني أبو جعفر لنفسه في أبي جعفر العتبي
ألا من مبلغ المكروب قولاً ... بدا عن نصحٍ مأمون المغيب
جعلت الدهر حربك وهو سلم ... فلم تسلم عليه من الحروب
وحالفت العبوس لغير بؤسٍ ... فأسلمك القطوب إلى الخطوب
وكان بالحضرة رجل من الظاهرية يقال له أبو العباس الظاهري، ينادم الكبراء، ويتعاطى آلة اللهو، وربما يشعر، وكان يلقب ببشار لسوء في عينيه وعبث منه بالشعر، فقال فيه أبو جعفر:
إنّ الأمير أباالعباس بشار ... قرمٌ نمته إلى العلياء أخيار
فما يفارقه في الحجر مزهره ... وما يفارقه في الحجر مزمار
وقال فيه أيضاً:
أضحى أبو العباس مع علمه ... بالقلب والإبدال مفتنَّا
فعينه غين إذا ما رنا ... وغينه عين إذا غنَّا
وقال فيه وكانت له أم ولد مغنية تحضر معه مجالس الأنس:
بشار لولا غناء حرمتك الجامع بين الإحسان والطيب
لكنت مثل المجذوم مجتنباً ... إن لم تصدق فقل لها توبي
؟؟34 - ابن أبي الثياب أبو محمد من ندماء ابن العميد، وله فيه شعر كثير، وكان فسيح مجال الفضل، وافر الحظ من الظرف، ولما فارق ابن العميد وورد بخارى نجحت سفرته وحظي بالقبول، ونادم فضلاء الصدور، وهاجى أبا جعفر محمد بن العباس، فمن قوله فيه:

إن ابن عباس أبا جعفرٍ ... يبذل للنَّاكة أوراكه
تراه من تيهٍ ومن نخوةٍ ... كأنَّه ناك الذي ناكه
وأنشدني السيد أبو جعفر الموسوي له في أبي العباس وكان يلقب بطويس:
وقائل قال سرّاً ... عن غير لبٍ وكيس
لم لا تنيك طويساً ... وأنت جار طويس
فقلت كيف افتراشي ... عنزاً ولست بتيس
وأنشدني حاضر بن محمد الطويس لا بن أبي الثياب في كتاب معنون بالحمرة:
هذا كتاب فتىً جفاؤك مضرم ... ناراً من الأشجان بين ضلوعه
ودليله في فيض مقلته دماً ... أنّ الكتاب مخضّب بنجيعه
ووجدت له بخط الرئيس أبي محمد الميكالي رحمه الله تعالى:
يا هماماً يطول كلّ همام ... بالقديم المشهود في الأقوام
والحديث الذي أذاع حديثاً ... عن سماء تهمي بغير غمام
أنت بحرّ يجيش بالدّر لكن ... نظم دّر البحار للنظّام
فارغ للشعر ذّمة في وليّ ... قد كفاه الولاء كلّ ذمام
وأعد أوجه المنى لبنيها ... ضحكاً عن مدامع الأقلام
فسواد التوقيع يجلو لعيني بياضاً من الأيادي الجسام
لست أشكو إليك أيام دهر ... أنت فيها ذخيرة للأنام
حسبي الله في إدامة نعماً ... إنك للمسلمين والإسلام
وأنشدني بديع الزمان له من قصيدة:
وهاجرة تشوي الوجوه كأنّها ... إذا لفحت خدّيّ نار تأجّج
وماء كلون الزيت ملح كأنّما ... بوجدي يغلي أو بهجرك يمزج
تعسّفها السّير الأشدّ إلى فتىً ... سنا وجهه جنح الدجى يتبلّج
وأنشدني أبو سعد يعقوب له في في وصف شمعة:
ومجدولة مثل صدر القناة ... تعرّت وباطنها مكتسي
لها مقلة هي روح لها ... وتاج على الرأس كالبرنس
إذا غازلتها الصبا حرّكت ... لساناً من الذهب الأملس
فنحن من النار في أسعد ... وتلك من النار في أنحس
وقد ناب وجهك عن حسنها ... وعن ذا البنفسج والنرجس
فيا حامل العود حثّ الغنا ... ويا حامل الكأس لا تحبس
أ؟بو الحسن علي بن هارون الشيباني
وليس بالمنجم من فضلاء الطارئين على تلك الحضرة، المتحلين بالأدب والشعر، الحاصلين بين أنياب الدهر، وهو القائل لوزير الوقت:
حمل الرياسة مل عملت ثقيل ... والدهر يعدل مرّةً ويميل
ياراكب الآثام في سلطانه ... أنظر إلى الأيام كيف تحول
هي ما سمعت وما رأيت سبيلها ... التحويل والتننقيل والتبد يل
لا تعتلل بالشغل إنّك إنّما ... ترجى لأنك دائماً مشغول
وإذا فرغت فغيرك المقصود للحاجات والمأمول
أخذه من قول أبي العباس لما قال له عبد بن سليمان أعذرني فإني مشغول فقال:
ولا تعتذر بالشغل عّنا فإنّما ... تناط بك الآمال ما اتصل الشغل
وله:
أيّها التائه في الدولة ... مهلاً في اقتدارك
كم إلى كم تجعل التيه علينا من شعارك
ما تبالي بخراب ال ... أرض في عمران دارك
أيّ شيء كان لو فكّرت في دار قرارك
ته كما شئت وصل واس ... ط علينا في جوارك
فلنا صبر على ذاك ... إلى يوم بوارك
وله في منصور بن بابقرا:
يا مكثراً للعظمة ... أسرفت في الكبر فمه
فكم رأينا من كبير ... كبره قد قصمه
غدت على أبوابه ... مواكب مزدحمهْ
فراح قد صبّ الردى ... على الثرى جهراً دمه
وانتهبت أمواله ... كذاك عقبى الظلمهْ
فأحذر وبادر إننّي ... أرى أموراً مظلمهْ
ترى لها وقت الضحى ... كمثل لون العتمهْ

أبو النصر الهزيمي المعافى بن هزيم

أديب أبيورد و شاعرها ، وله كتاب محاسن الشعر، وأحاسن المحاسن، وكان يكثر المقام ببخارى، ويخدم فضلاء رؤسائها، ويترود حسن آثارها، ثم يعاود أبيورد، وينقلب إلى معيشة صالحة، وقد دّون شعره بخاري وأبيورد.
وحدثني أبو القاسم الأليماني قال: لما احتضر الأمير الرشيد أبو الفوارس عبد الملك بن نوح بالسقطة من مهر صعب غير مروض ركبه، وقام الأمير السديد أبو صالح منصور بن نوح، فقال في تلك الحال القائلون، وتصرفوا بين التعزية والتهنئة، واجتمعت قصائد كثيرة لم يرتض منها إلا قصيدة الهزيمي التي أولها:
الطرف بالدمع أولى منه بالنظر ... فخلّه لنجيع منه منهمر
ألمّ خطب عظيم لا كفاء له ... رزء يذّم كلّ مصطبر
هذا الذي كانت الأيام توعدنا ... به وما لم نزل منه على حذر
مدّت إلى الملك الميمون طائرة ... أيدي الحوادث والأيام والغير
تركن حارس دنيانا وفارسها ... فريسةً بين ناب الموت والظفر
ما بين غبطته حيّا وغبطته ... في الملك والهلك والإيوان والعفر
إلا كرجع الصدى في وشك مدّته ... أو كالهنيهة بين السيل والمطر
يا متيةً لم يمتها قبله ملك ... فيها لكلّ عظيم أعظم العبر
كان الموفّق إلاّ عند ركضيته ... وللمنون اعتلالات على البشر
وكان أقدر مخلوق على فرس ... أبو الفوارس لولا قدرة القدر
وكلّ عمر وإن طالًت سلامته ... لا بد يوماً قصاراه إلى قصر
فالحمد لله إذ جلّت مصيبته ... عن المصيب من الآراء والفكر
في دعوة القائم المنصور دعوته ... منصور المعتلي في القدر والخطر
من كان يصلح للإسلام يحرسه ... والتاج يلبسه والقصر والسرر
سوى أبي صالح غيث الندى الهمر ... ليث الوغي الهصر غصن العلى الخضر
هذه التصريعات خطأ في صنعة الشعر على أن أبا تمام قال::
يقول فيبدع ويمشي فيسرع ... ويضرب في ذات الإله فيوجع
ومما يستجاد من شعره قوله للبلعمي من قصيدة وصف فيها الشتاء والبرد:
وشتوة شتّ أبناء السبيل لها ... وغار في نفق منها المغاوير
يشكو جليدهم مس الجليد ضحىً ... والماء جلدته قراً قوارير
فللحى من لحاء البرد أغشية ... وللعيون من الشّفاف تغوير
إذا تنكّبت النكباء عن أذن ... فللجنوب من الجنبين تقوير
وقوله:
إليك ركبت البحر والهول والدجى ... فصن أملي يا خير من ركب الطرفا
أذكرك القربى من العلم بيننا ... وقول حبيب يا أكابرنا عطفاً
وقال من أخرى:
لئن قمت في حاجتي آنفاً ... ونفضت عن وجه حالي الغبارا
فكم منّة لك في سالف ... عليّ كبيت من الشعر سارا
وما كان نفعك لي مرةً ... ولا مرتين ولكن مراراً
وله في قصيدة في الإسكافي:
خطّ كما انفتحت أزاهير الربى ... متنزّه الألباب قيد الأعين
وبلاغة ملء العيون ملاحةً ... نال النبيّ بها صلاة الألسن
ومن قصيدة يشكر فيها بعض الصدور على بذله المنشور في صيانة ضياعه:
أوليتني في ضياعي منك ما وقفت ... حمدي عليك وخير الحمد ما وقفا
لما بذلت من المنشور فهي حمى ... لا تعرف النزل والجعال والكلفا
هذا شكري على إسقاطه مؤناً ... فكيف شكري له إن أسقط العلفا
إذاً تراني كمن يحيا بزاوية ... في الخلد ثم ينال الحور والغرفا
وكتب ببخارى يستهدي التبن:
خير ما يهدى إلى مر ... تبط البرذون تبن
واحتشاميك على ما ... بيننا في الودّ غبن
ما بمن شجّعه جو ... ك عن رفدك جبن
أنت للخائف والمع ... دم إيسار وأمن
فلهذا أنت كنز ... ولهذا أنت ركن
وله من أبيات في استهداء الفحم:

هب البرد بالريّ لم ينسج ... وفي سقط البرد لم يدرج
رسولك ذاك الذي قال لي ... أحيء مع الفحم أم لا أجي؟
وأنشدني السيد أبو جعفر الموسوي قال: أنشدني الهزيمي لنفسه:
من كفّ سيف عليّ عن مقاتله ... كففت غرب لساني عن تناوله
من الفضول دخولي في مظالمه ... وتركي القول في أقصى فضائله
الله يسأل عبداً عن جريرته ... وعن جرائر قوم غير سائله
وله أيضاً:
تيه المزور على الزوّار يمنعهم ... عن الزيارة فامنعهم عن التيه
والناس ما لم يروا حرصاً بصاحبهم ... ورغبةً فيهم لم يرغبوا فيه
وله في صيغته:
كفتني ضيعتي مدح العباد ... وظعناً في البلاد بغير زاد
غدت سكني وخادمتي وظئري ... وفيها أسرتي وبها تلادي
ألا فليعتمد من شاء شيئاً ... فحزني ليس يعدوه اعتمادي
صديق المرء ضيعته وكم من ... صديق في الصداقة مستزاد
يخونك في المودّة من تؤاخي ... ومالك لا يخونك في الوداد
أخوك على المعاش معين صدق ... ومالك للمعاش وللمعاد
وله، وهو من قلائده السائدة:
لما رأيت الزمان نكساً ... وفيه للرفعة اتضاع
كلّ رئيس له ملال ... وكلّ رأس له صداع
لزمت بيتي وصنت عرضاً ... به عن الذلّة امتناع
أشرب ممًا ادخرت راحاً ... لها على راحتي شعاع
لي من قواريرها ندامى ... ومن قراقيرها سماع
هذا بيت القصيدة، وهو أمير شعره
وأجتني من عقول قوم ... قد أقفرت منهم البقاع
بشر وكعب أمام عيني ... هذا يغوث وذا سواع
وحدثني أبو الحسن الحمدوني قال: كان أبو عبد الله محمد بن أحمد بن بكر الجرجاني الملقب بالحضرة طير مطراق ورد طر أبيورد على عمل البندرة، واتخذ الهزيمي خليلاً ونديماً ومدرساً، ثم حدثت بينهما وحشة وخرج الهزيمي إلى ضيعة له، وبلغ أبا بكر أنه هجاه، فأشخصه بعدة من الفرسان وسيب عليه ما كان سوغه أباه من خراجه، قال واستقبلني عند دخوله البلد مع المشخصين، فلما وقع بصره علي قال:
بندارنا من أدبه ... أوقعنا في لقبه
فقلت له: يا أبا نصر، من هنا أتيت، وثنيت عناني معه إلى البندار، فأصلحت أمره، ولم أبرح حتى تصالحا وتمالحا وأنشدني أبو القاسم أحمد بن علي المظفري له:
قد كنت أنظر قبل اليوم في كتب ... فيها الحكايات والأشعار والخطب
ودفتر الطبّ ممّا لا ألمّ به ... إذا لم يكن فيه لي من صحتي أرب
فجاءت التسع والخمسون تحوجني ... إلى العلاج فما لي غيره كتب
وكان للهزيمي أخ يكنى بالوليد لا بأس بشعره، كقوله في رجل يكنى أبا سهل من الرجز:
يكّنى بسهل وهو حزن أوعر ... من ذاك قيل للغراب أعور
لأنه من الطيور أبصر وقوله:
في الكذب أنت أبا الفوارس فارس ... وعن الفوارس في الصناعة راجل
فتسابق الأدباء في ميدانهم ... وأبو الفوارس خلفهم متحاجل

أبو نصر الظريفي الأبيوردي
حدثني السيد أبو جعفر الموسوي قال: كان للظريفي علي الهزيمي درس، ومنه اقتبس، فخرج كاتبا شاعراً ظريفاً كلقبه وكان وارداً على الحضرة كثير الإقامة بها، مداخله لفضائلها، متصرفاً منها على أعمال البريد، وكان أبو علي البلعمي يكرمه وينادمه، فاقترح عليه قصيدة يسلك فيها طريق المتقدمين فخامة وجزالة فأنشده من الغد قصيدة في مدحه كأنها صدرت عن أحد فحولة الشعراء الجاهليين فارتضاها وخيره في أعمال البريد بلاد خراسان، فاختار بلده أبيورد وتنجز المنشور والصلة وشخص.
ومن مشهور سائر شعره قوله:
أرى وطني كعشّ لي ولكن ... أسافر عنه في طلب المعاش
ولولا أنّ كسب القوت فرض ... لما برح الطيور من العشاش
وقوله:
سر الفتى من دمه إن فشا ... فأوله حفظاً وكتماناً
واحتط على السر بإخفائه ... فإن للحيطان آذاناً
وقوله:

يكفّ ليلاً ويفسو ... وسط الندى نهاراً
يديم ذلك حتى ... يملا بخاري بخاراً
وقوله:
حوى المصريّ أنواع المخازي ... وراح وماله فيها موازي
ولو جمعت مخازيه لزادت ... بكثرتها على كتب المغازي
وقوله:
يا دولةً خلصت لأعور معورٍ ... ما أنت إلا دولة عوراء
وقوله:
خافوا على المّلك عيون العدا ... فصيَّروا عوذته أعورا
وحكى أنه تقلد مرة عمل البريد بالجبل، وكان أمراؤها لا يقيمون لأصحاب البريد وزنا، فلما وصل إلى الوالي بها قال له: أنت صاحب البريد؟ قال: نعم. فاستظرفه ونادمه وأفضل عليه.
ودخل يوما على بعض وزراء الحضرة فجلس في أخريات الناس، فقيل له في ذلك، فقال: لأن يقال لي أرتفع أحب من أن يقال لي اندفع.

رجاء بن الوليد الإصبهاني،أبو سعد.
من جلة الكتاب والعمال المتصرفين من الحضرة على أعمال خراسان وكان له أدب رائق، وكان به طرش، فإذا كلمه من لا يسمعه قال له: ارفع صوتك فإن بإذني بعض ما بروحك.
وتنسب هذه النادرة أيضاً إلى الناصر الأطروش صاحب طبرستان ويجوز أن يكون سمعها رجاء عنه فاستعملها.
وكان في ذكاء القلب وجودة الحدس بحيث يفطن لكل ما يكتب بالأصبع على يده، ويستنغى بذلك عن السماع، فيجيب عنه.
وفي التبجح بطرشه يقول:
حمدت إلهي إذا بليت بحبّه ... على طرش يشفي ويغني عن العذر
إذا ما أراد السّر ألصق خدّه ... بخدي اضطراراً ليس يدي الذي أدري
وإنما حذا به مثال من قال في أحوال:
حمدت إلهي إذ بليت بحبه ... على حول يغني عن النظر الشزر
نظرت إليه والرقيب يخالني ... نظرت إليه فاسترحت من العذر
ومن ملح رجاء قوله في باقة ريحان:
وشمّامة مخضّرة اللون غضّة ... حوت منظراً للناظرين أنيقا
إذا شّمها المعشوق خلت اخضرارها ... ووجنته فيروزجاً وعقيقاً
وقوله:
هذي المدام وهذه التحف ... والكأس بين الشّرب تختلف
فكأنّهم وكأنّ ساقيهم ... سين ترى قدّامها ألف
أخذه من قول ابن المعتز:
وكأن السقاة بين الندامى ... ألفات بين السطور قيام
وأنشدني أبو نصر سعد بن يعقوب له نتفا مليحة، منها:
خط يريك الوصل في طوماره ... متبسما والهجر في أنفاسه
فكأنما مقل الغواني كحلت ... من حسن أسطره على قرطاسه
أبو القاسم الدينوري
عبد الله بن عبد الرحمن
من رؤساء الأدباء، ورؤس الكتاب، ووجوه العمال بخراسان، وأخبرني منصور ابنه أنه من أولاد عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ومصنفاته في محاسن الآداب تربى على الثلاثين، وله شعر كثير يخرج منه الملح، كقوله من قصيدة في وصف الخمر:
كأنّها في يد الساقي المدير لها ... عصارة الخمر في ظرف من الآل
لم تبق منها الليالي في تصرّفها ... إلاّ كما أبقت الأيام من حالي
وقوله من أخرى:
يا لعصر الخلاعة المورود ... ولظلّ الشبيبة الممدود
وللهوى ولذتي وسروري ... ولسفكي دم ابنة العنقود
وارتشافي الرّضاب من برد الثغ ... ر وشمّي عليه ورد الخدود
وغدوّي إلى مجالس علم ... ورواحي إلى كواعب غيد
في قميص من السرور مذال ... ورداء من الثياب جديد
ولأيامي القصار اللواتي ... كنّ بيضاً قد حلّيت بالسعود
غّير الدهر حالها فاستحالت ... مظلمات من الليالي السود
وأتاني من المشيب نذير ... غضّ منّي وفتّ في مجلودي
وتدانت له خطامي يرغمي ... ونحاني له خصوصاً عمودي
وتيقّنت أنّني في مسيري ... إثر شرح الشباب غير بعيد
وقوله:
مضى الأخوان وانقرضوا ... فها أنا للردى غرض
مرضت فقيل لي لا بأس ... عندك إنّه عرض
فأول منزل للمر ... ء نحو معاده المرض

وقوله:
أرقت لضيف من الشيب زارا ... فأهدى إليك النّهى والوقارا
وجلّك الحلم ثوب الكرام ... وبزّك ثوب الشباب المعارا
وقد كان شرح الشباب الذي ... تولّى عدواً وإن كان جارا
أملّ على ملكيك الذبو ... ب حتى أملّهما ثم سارا
أخذه من قول أبي الطيب المصعبي:
زائر لم يزل مقيماً إلى أن ... سوّد الصحف بالذبوب وولّى
وقوله:
شوقي إليك كشوق المدنف الحرض ... إلى الطبيب الذي يشفي من المرض
فإن يكن لك عنّى يا أخي عوض ... فلا وحقّك ما لي عنك من عوض
وقوله من قصيدة في بعض الوزراء:
ومطّهم برح العنان معّود ... خوض المهالك كلّ يوم براز
وإذا توقل في ذرى يمنع ... صعب بعيد العهد بالمجتاز
تركت سنابله بصمّ صخوره ... أثراً كنقش صدر البازي
ومنها:
يا أيّها الشيخ الجليل بحقه ... لا من طريق تملّق ومجاز
إن لم يكن لي في جانبك مرتع ... فالرأي في الإبعاد لي بجواز
وأنشدني ابنه أبو منصور لأبيه في سفرجل وتفاح ورمان وآذريون أهداها إلى بعض الرؤساء في يوم مهرجان:
بعثت إليك ضحى المهرجان ... بمعشوقة العرف والمنظر
معطرة صانها في الحجال ... مطارف من سندس أخضر
نضت حين زارتك عنها الفريد ... وجاءتك في سرق أصفر
بيسر وبهنكة نضّة ... وثدي مبتلّة معصر
وبيضاء رائقة غضّة ... منقطة الوجه بالعصفر
وحقّ عقيق ملاه الهجير ... من الجوهر الرائق الأحمر
وأقداح تبر حشت قعرها ... يد الشمس بالمسك والعنبر
فكن ذا قبول لها إنّها ... هدايا مقلّ إلى مكثر
وحيّ على الراح قبل الرواح ... ومطربة الشدو والمزهر
وعش ما تشاء كما تشتهي ... بعزم يدوم إلى المحشر
وله من نتفة يسترجع بها كتاباً معاراً:
أنا أشكو إليك فقد نديم ... قد فقدت السرور منذ تولّى
كان لي مؤنساً يسلّي همومي ... بأحاديث من منى النفس أحلى
عن أبي حاتم عن ابن قريب ... واليزيدي كلّ ما كان أملى
وهو رهنّ لديك يشكو ويبكي ... ويغنّي: قد آن لي أن أخلّى
فتفضّل به عليّ فإنّي ... لست إلاّ بمثله أتسلّى
وله من أخرى في معناها:
طلبت مني كتاباً ... ألفته في شبابي
ألفته إلف عظمي ... لحمي ولحمي إهابي
وقد تأخر حتى ... لبست ثوب اكتئاب
وقد أتاني عنه ... ما لم يكن في حسابي
من نظم شعر بديع ... مستظرف مستطاب
أما كريم رحيم ... يرثي لطول اغترابي
يا رب يسّر إيابي ... قد حان وقت انقلابي
وله في أبي الحسن العتبي:
يا سائلي عن وزير ... مدحرج مستدير
كبط شطّ سمين ... عريض صدر قصير
إن كنت أبصرت قرداً ... منذ كنت فوق سرير
فهو الوزير وإن كا ... ن في عداد الحمير
وله من نتفة في قابض كفه:
الله صوّر كّفه ... لمّا براه فأبدعه
من تسعة في تسعة ... وثلاثة في أربعة
وله من أخرى:
تغّيرت مع الدهر ... لنا يا شاعر البصرة
ولم ترع لنا عهداً ... قديم الودّ والعشرة
عسى صيّرك الشيخ الذي ... يكنى أبا مرّة
وله:
لزوم البيت أرواح في زمان ... عدمنا فيه فائدة البروز
فلا السلطان يرفع من محلّى ... ولست على الرعية بالعزيز
ولست بواجد حراً كريماً ... أكون لديه في كنف حريز
وله من المسرح:
أشكو إلى الله ضيق ذات يدي ... قد بان صبري وخانني جلدي

وقد جفاني الأنام قاطبةً ... حتى عبيدي، وعقّني ولدي
وله في ابنه:
ربيته وهو فرخ لا نهوض له ... ولا شكير ولا ريش يواريه
حتى إذا ارتاش واشتدّت قوادمه ... وقد رأى أنه آنت خوافيه
مد الجناحين مدّاً ثم هزّهما ... وطار عنّي فقلبي فيه ما فيه
وقد تيقّنت أنّي لو بكيت دماً ... لم يرث لي فهو فظّ القلب قاسيه
وله في ابنه أبي طاهر:
لو كنت أعلم أنّي والد ولداً ... يكون، لا كان، في عينيّ كالرّمد
فلا أسرّ على طول الحياة به ... جبيت نفسي كي أبقى بلا ولد
كم قد تمّنيت لو أنّ المنى نفعت ... ولا مردّ لحكم الواحد الصمد
وقلت لو أنّ قولي كان ينفعني ... يا ليت أنّي لم أولد ولم ألد
وله في النارنج:
أما ترى شجر النارنج طالعةً ... نجومها في غصون لدنة ميل
كأنّها بين أوراق تحفّ بها ... زهر المصابيح في خضر القناديل
وله في البراغيث:
وحمش القوائم حدب الظهور ... طرقن فراشي على غرّة
فنقّطنني بخراطيمهن ... كنقط المصاحف بالحمرة
وله في عارض:
وعارض دنس العر ... ض ناقص في الصنّاعة
كلب بل الكلب في لو ... مه يعاف طباعه
قد رامني بالدواهي ... فقصّر الله باعه
وله:
إذا الزمان رماني ... منه بخطب جسيم
صبرت صبر كريم ... على جفاء لئيم
وله:
من عذيري من بديع ال ... حسن ذي قدٍّ رشيق
أنبتت في فمه اللؤ ... لؤ أرض من عتيق
وله:
بأبي أنت لقد طبت ... لنا ضماً وشماً
ضاق فوق العذب ... والعين وشيء لا يسمّى
وله من نتفة:
أساء وقد أتاني مستتيبا ... أما هذا من العجب العجاب
وله من أخرى:
وما آسى على دهر تولّى ... ولا جسم مباح للسقام
ولا ما فات من عمري ولكن ... أحنّ إلى صلاة من قيام
وله من أخرى:
عشت من الدهر ما كفاني ... ومرّ ما مرّ من زماني
وقد حنتني وقوّستني ... تسع وتسعون واثنتان
وقد سئمت الحياة ممّا ... ألقى من الذلّ والهوان
ومن أخ كنت أرتجيه ... لحادث الدّهر قد قلاني
ومن غلام إذا ينادي ... تصامم النذل وهو داني
مدمدم لا أراه إلاّ ... مقطّب الوجه ما رآني
فهذا ما أخرجته من ملح الدينوري فأما ابنه

أبو منصور أحمد بن عبد الله
ففاضل كثير المحاسن، وعهدي به عاماً أول صادراً من أبيورد، وكان على البريد بها ونازلاً داره بسكة البلخية نبيسابور، وأنا على موعد منه في إخراج ما يصلح لكتابي هذا من شعره وإنفاذه إلى إن شاء الله تعالى
أبو منصور أحمد بن محمد البغوي
أحد الصدور الأفراد الأمجاد بخراسان، بلغ من الأدب والكتابة والثروة والمروءة أعلى مكان، وتصرف في الأعمال الجلائل، ثم ولي ديوان الرسائل، وكان جمع كتاباً مترجماً بزاملة النتف يشتمل على ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين من محاسن الأخبار والأشعار، ولطائف الآداب ونتائج الألباب، ويقع في ثلاثين مجلدة بخطه، وقسمها على شهره فكان لا يخلو من إحدى قطاعها مجلسه وديوانه، وساق حقه لا يكاد يفارقه في سفره وحضرة، ووقع إلى بضع مجلدات منها بعد انقضاء أيامه، فتنزه الطرف في رياضها، واستمتعت النفس بثمارها، ولم يبلغني عنه شعر إلا ما أنشدنيه السيد أبو جعفر الموسوي قال: أنشدني البغوي لنفسه:
تراءت لنا من خدرها بسوالف ... كما لاح بدر من خلال سحاب
ووجنتها من تحت فاحم صدغها ... كما روحّت باز بريش عقاب
وصدر البيت الثاني مما أنسانيه الشيطان أن أذكره، فغرمته من عندي.
أبو علي محمد بن عيسى الدامغاني

تثنى به الخناصر، وتضرب به الأمثال، في حسن الخط والبلاغة وأدب الكتابة والوزارة، وكان في حداثته يكتب لأبي منصور محمد بن عبد الرزاق ثم تمكن بالحضرة خمسين سنة يتصرف ولا يتعطل حتى قيل فيه:
وقالوا العزل للعمّال حيض ... لحاه الله من حيض بغيض
فإن يك هكذا فأبو عليّ ... من اللائي يئسن من المحيض
وولي ديوان الرسائل دفعات و الوزارة مرات، وكان يقول الشعر ولا يظهره، ويحب الأدب ويكرم أهله.
وأنشدني أبو عبد الله بن السري الرامي هذين البيتين له، ثم وجدتهما لغيره:
يا أيّها القمر المنير الزاهر ... الأبلج البدر العليّ الباهر
أبلغ شبيهتك السلام وهنّها ... بالنوم وأشهد لي بأني ساهر
وأنشدني السيد الشريف أبو جعفر الموسوي قال: أنشدني أبو علي محمد ابن عيسى ولم يسم قائلاً:
تذكرّ إذ أرسلته بيدقاً ... فيك فوافاني فرزانا؟
ثم أخبرني بعض كتابه أن هذا البيت له.
وأنشدني له أيضاً من المسرح:
وكاتب كتبه تذكرني الق ... رآن حتى أظلّ في عجب
فاللفظ قالوا قلوبنا غلف ... والخطّ تبت يدا أبي لهب
ولم يذكر أن أحداً من الصدور يسع دعاؤه وتربيته وكنيته واسمه واسم أبيه وبلده بيتاً واحداً من الشعر سواه، فإن أبا القاسم الأليماني أنشدني لنفسه قصيدة فيه، ومنها هذا البيت:
إلى الشيخ الجليل أبي عليّ ... محمد بن عيسى الدامغاني

أبو علي الزوزني الكاتب
أخبرني الثقة أنه وقع إلى الحضرة ببخارى في ريعان شبابه، وله أدب بارع وخط تأخذه العين ويستولي عليه الحسن، فما زال يتصرف في ديوان الرسائل ويغرس الدر في أرض القراطيس، وينشر عليه أجنحة الطواويس، إلى أن ثقلت عليه الحركة، وأخذت منه السن العالية، وكان قصير القد طويل الفضل، وفيه يقول اللحام وما كان يهجو إلا الكبار:
وقصير من قرى زو ... رن في قامة شبر
يدّعي الكّتاب إلا أنه ... في فهم عير
ولقد فكّرت فيه ... وكذا فكّر غيري
كيف يدخل أيراً ... وهو في قامة أير
واقتدى باللحام غير واحد من الشعراء فهجوه بالقصر، ووصفوا قامته بالصغر حتى قال المعروف بالمضرب البوشنجي:
للزوزنيّ أبي عليّ قامة ... قامت بسوق هجائه المتراكم
هي عمدة الشعراء يعتمدونها ... بقواضب من شعرهم وصوارم
والبعض شّبهها بأير قائم ... والبعض شبهها بجعس جاثم
ياليتها طالت فقصّر طولها ... عنه طوال معايب وشتائم
وكان أبو علي - مع حسن خطه - حسن الشعر، كثير التنكيت، وهو القائل في أبي جعفر العتبي:
يا قليل الخير موفور الصّلف ... والذي قد حاز في التيه الشّرف
كن بخيلاً وتواضع تحتمل ... أو سخّياّ يحتمل منك الصّلف
ووجدت بخط الرئيس أبي محمد الميكالي لأبي علي في ابنه:
يا من تمنّى أن يموت أبوه ... ستذوق موتك قبل ما ترجوه
إنّ المزيد ردى أبيه قبله ... يردى ويسعد بالحياة أبوه
وأنشدني أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان له:
الحمد لله وشكراً له ... على المعافاة من الأبنه
فليس فيما المرء يبلى به ... أعظم منها في الورى محنه
وأنشدني حاضر بن محمد له في علوي:
من كان خالق هذا الخلق مادحه ... فإنّ ذلك شيّ منه مفروغ
فإنّ أطل أو أقصر في مدائحه ... فليس بعد بلاغ الله تبليغ
وله أيضاً:
إنّ أذني تملّ طول كلامه ... وفؤادي يملّ طول مقامه
إنّ أمري وأمره لعجيب ... متّ من بغضه وحبّ غلامه
أبو عبد الله الشبلي
من حسنات بوشنج وأفرادها، وكان يكتب بخاري للأفتكين الخازن، ويعنون كتبه بمحمد بن أحمد الشبلي، فلما قلد الوزارة لصاحبه وارتفع مقداره أسقط الشبلي من كتبه واقتصر على اسمه واسم أبيه، وقال بعض الشعراء:
محمد أسقط الشبلي من كتبه ... ترّفعاً باسمه عن ذكر منتسبه

كأنّني بقفاه وهو مرتجع ... تصحيف ما قد نفاه الآن عن كتبه
وتنقلت بالشبلي أحوال بعد هلاك صاحبه، فبدرت منه أمور أدت إلى نفي صاحب الجيش أبي الحسن بن سمحور إياه إلى النون من بلاد قهستان فلما طال مقامه بها قال:
تعلمت بالنون أكل الأقط ... وغزل العهون ونسج البسط
وما كنت فيما مضى هكذا ... ولكن من الدهر جاء الغلط
وإنما احتذى فيه قول بابك:
تعلّمت في السجن نسج التكّك ... وقد كنت من قبل حبسي ملك
وقد صرت من بعده عدّةً ... وما ذاك إلاّ بدور الفلك

أبو علي المسبخي
هو الذي يقول فيه الحكام من الرجز:
لم أر في الحكام كالمسبخي ... يطمع في الجلد الذي لم يسلخ
وكان باقعة في الحكام، وفي العلوم من الأعلام، وفي نفسه كما بعض العصريين من أهل نيسابور في غيره:
يا طبيباً منجّماً وفقيهاً ... شاعراً شعره غذاء الروح
أنت طوراً كمثل جامع سفيا ... ن وطوراً تحكي سفينة نوح
وتولى المظالم يبلغ مرة فكتب إليه أبو يحيى العمادي يداعبه ويطايبه ويستهديه من ثمرات بلخ، فأهدى إليه عدل صابون، وكتب إليه كتاباً قال في فصل منه وقد بعثت إلى الشيخ أيده الله تعالى عدل صابون ليغسل به طمعه عني، والسلام.
وتولى مرة قضاء سجستان فمن قوله فيها:
حلولي سجستان إحدى النوب ... وكوني بها من عجيب العجب
وما بسجستان من طائل ... سوى حسن نرجسها والرّطب
وهو القائل فيها:
يا سجستان قد بلوناك دهراً ... في حراميك من كلا طرفيك
أنت لولا الأمير فنينا لقلنا ... لعن الله من يصير إليك
وله:
وعدتني وعداً وقرّبته ... تقريب حر ليس بالمستزاد
حتى إذا ما رمت تحصيله ... كان بعيداً مثل يوم المعاد
وله:
هل الدهر إلا ساعة تنقضي ... بما كان فيها من عناء ومن خفض
فهونك لا تحمل مساءة عارض ... ولا فرحةً سّرت فكلتاهما تمضي
وعندي له أبيات قد خفي علي مكانها وفيما كتبته من شعره كفاية.
أبو الحسن أحمد بن المؤمل
كاتب أبي الحسن، فائق الخاصة من كبار الكتاب بخراسان، وأكثرهم محاسن وفضائل، وله شعر كثير يجمع الجزالة والحلاوة، فمن ملحه ما أنشدني وقوافيه متشابهة في طريقة أبي الفتح البستي:
طرا عليّ رسول في الكرى طاري ... من الطيور وأعطاني بمنقار
تركتني في بلاد لا أراك بها ... كأنّ قلبك من صخر ومن قاري
وأنشدني أيضاً لنفسه:
إن أسيافنا العضاب الدوامي ... تركت ملكنا قرين الدوام
لم نزل نحن في سداد ثغور ... وآصطلام الأبطال في وسط لام
واقتحام الأهوال من وقت حام ... واقتسام الأموال من وقت سام
وله من قصيدة في أبي نصر بن زيد أولها:
تولى ونار الشوق في القلب واقده ... ونار نشاطي منذ تباعد هامدة
نهاري بلا أنس وليلي كأنّني ... إلى الصباح ملقى تحت ساعد ساعده
ومنها:
تراعى طوال الليل عيني فراقده ... وعين الذي لا تفقد الألف راقده
أيامنا هل أنت عائدة لنا ... كما كنت أم هل بكائك عائدة؟
ومنها:
أبا نصر القرم الذي عقمت بمن ... يشاكله في مجده كلّ والده
هو القمر الفرد الذي لروائه ... تظل نجوم الأفق لا شك ساجدة
ومنها:
له قلم سوق القضاء إذا جرت ... به يده في النّهي والأمر كاسدة
ويملي فيضغي الكاتبان تطّرباً ... إلى مبدعات هنّ والسحر واحدة
ولولا خلال يحظر الدين ذكرها ... لقلت الذي يملي قران على حدة
وله وقد نقل معناه من بيتين للروزكي، وهما:
تصوّر الدينا بعين الحجى ... لا بالتي أنت بها تنظر
الدهر بحر فاتخذ زورقاً ... من عمل الخير به تعبر
وله وقد نقل معناه من بيتين للمعروفي، وهما:
إذا لم تكن من لدنك مبّرة ... وزال رجائي عن نوالك في نفسي

فأنت إذاً مثلي أنيس مصوّر ... فلم أعبد الشيء المصور من جنسي
وله من قصيدة:
سقياً لدهر مضى إذ نحن في شغل ... بالعزف والقصف عن شغل السلاطين
إذ يومنا يوم عيد طول مدّتنا ... ولينا كلّه ليل الشعانين
وفتية كنجوم اللّيل طالعة ... شمّ العرانين من شمّ العرانين
غدوا صحاحاً إلى الحانات وانصرفوا ... إلى المنازل في عقل المجانين
عادوا أراجيح من حاناتهم أصلاً ... وقد غدوا نحوها مثل الموازين
وله:
وقائلة لي ما بالك الدهر طافحاً ... وأنت مسنّ لا يليق بك السكر
فقلت لها أفكّرت في الخمر مرّةً ... فأسكرني ذاك التوهّم والفكر
وله في معناه:
وسائل عن مقتضى سكري ... وما درى لم هكذا صرت
قلت له استنشقت من منتش ... رائحة الخمر فأسكرت
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي قول الآملي من قصيدة يذكر فيها حنينه إلى أحمد بن حجر:
وحجر على عينيّ أن يطعما الكرى ... إلى أن يرى حجراً يناغي على حجر
فقال: الآن عملت أنه إنما سمى ابنه حجراً ليطرد هذا البيت وقال:
نأى منذ نأيتم نوم عيني فلم يعد ... وغبتم فغابت سرتي و مسرتي
كفى بي اعتباراً أنّني منذ عبرتم ... كيعقوب ما ترقا من الشوق عبرتي

أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفارسي
من الأعيان في علم اللغة والنحو، وورد بخاري فأجل وبجل. ودرس عليه أبناء الرؤساء والكتاب بها وأخذوا عنه، وولي التصفح في ديوان الرسائل فلم يزل يليه إلى أن استأثر الله به، وله شعر لم يقع إلي منه إلا أنشدني حاضر بن محمد الطوسي من قصيدة له في بعض رؤساء الحضرة يستهدي منه جبة خز أبيض غير لبيس وهو هذا:
وأعنّ على برد الشتاء بحبةّ ... تذر الشتاء مقّيداً مسجوناً
سوسية بيضاء يترك لونها ... ألوان حسّادي شواحب جونا
عذرا لم تلبس فكفّك في العلا ... تؤتي عذراها وتأبي العونا
تسبي بهجتها عيوناً لم تزل ... تسبي قلوباً في الهوى وعيوناً
مثل القلوب من العداة حرارةً ... مثل الخدود من الكواعب لينا
أبو جعفر الرامي
محمد بن موسى بن عمران
من أفراد الأدباء والشعراء بخراسان عامة، وحسنات نيسابور خاصة إذ هو من الرام أحد رساتيق نيسابور وكان مع سبقه في ميادين الفضل راجحاً في موازين العقل، وترقت حاله من التأديب بنيسابور إلى التصفح في ديوان الرسائل بخاري بعد أبي إسحاق الفارسي، وهبت ريحه وبعد وصيته، وله شعر كعدد الشعر غلب عليه التجنيس حتى كاد يذهب بهاؤه، ويكدر ماؤه وكل كثير عدو الطبيعة فمن ملحه التي تستملح من وجه ولا تستجاد من آخر قوله هذه الأبيات:
مضى رمضان مرمض الذنب فقده ... وأقبل شوّال تشول به قهرا
فيا لك شهراً أشهر الله قدره ... لقد شهرت فيه سيوف العدا شهرا
ومن تجنيسه المستجاد المرتضى قوله من مقصورة في وصف السيف من الرجز:
مهند كأنّما صقيله ... أشربه بالهند ماء الهندبا
يختطف الأرواح في الروع كما ... تختطف الأبصار حين ينتضى
وقوله في جارية له توفيت:
لي في المقابر درّة ... أمسى التراب لها صدف
لما غدت هدف البلاء ... أصبحت للبلوى هدف
وقوله من قصيدة:
ومن منصفي من ريب دهر فإنّني ... صريح بآدابي يد الدّهر للدّهر
أسير أسيراً للحوادث مقصداً ... بدهياء مقصوداً بفاقرة الفقر
فإن تكن الأيام أزرت بهمتي ... فلا ضير إنّي قد شددت لها أزري
أويت إلى كهف المكارم والعلا ... لأغلي به قدري وأعلى به قدري
أعادت سجاياه اللجين بجوده ... نضاراً وقد أهدت نثاراً إلى التبر
لقد صيغ من بيض السبائك طبعه ... فحال سبيك الصفر صيغ من الصفر
وله من تشبيب قصيدة:

مزجت سوابق عبرة بعبير ... وسرت عزائم صبوتي لمسيري
وتبسّمت بين البكاء فخلتها ... برقاً تألّق من خلال صبير
فكأنّما هي روضة ممطورة ... ترنو إليّ بنرجس ممطور
ومن أخرى:
لشؤون عيني في البكاء شؤون ... وجفون عيني للبلاء جفون
وخلال أثوابي خلال مذهّب ... أضناه همّ في الحشى مدفون
أبديت مكنون الهوى لما بدا ... للعين ذاك اللؤلؤ المكنون
وأزارني جنون العقارب بغتةً ... وردان فوقهما عقارب جون
والقلب مقرون بكلّ بليةّ ... منذ لاح ذاك الحاجب المقرون
وله من أخرى:
لزم السخاء فلا يقال ضنين ... ونحا الوفاء فلا يقال ظنين
ما البائس المسكين غير تلاده ... إذ يعتفيه البائس المسكين
وله من أخرى:
السحر من مقلتيك ينتثر ... والخمر من وجنتيك يعتصر
يا شاذياً سخر الجمال له ... فكلّ أفكارنا له سخر
الريق والطرف منك يا سكني ... ضدّان ذا سكر وذا سكر
خصرنيّ خصرك الهضيم ولا ... دواء إلا رضابك الخصر
الله فينا فإنّ رحمته ... حجر على من فؤاده حجر
صورك الله فتنةً فغدت ... صوراً إليك العيون والصّور
غادرت في جفن ناظري غدراً ... يمدّها الغدر منك يا غدر
يسومني الصبر عاذلي سفهاً ... والصبر عن مثل وجهك الصبر
هان على الأملس المسيب ما ... يلقاه من ثقل حمله الدبر
وله من أخرى:
لي حبيب بالشطّ شطّت دياره ... وغدا للأسود زاراً مزاره
كان جاري فجار عنّي، لا، بل ... جار بغياً عليّ واللّه جاره
فرّ منّي ندلّلاً ثمّت افت ... قر بنفسي فراره وافتراره
رشاً أرسل الرشاء من المس ... ك على عارض يروق احمراره
عاذلي اعذرا فإنّ عذاري ... عانق الشيب حين طرّ عذاره
لم يعانق ظلامي الصبح إلاّ ... بعد أن عانق الظلام نهاره
وله من نتفة:
أيها السيد الجليل الذي أصبح ... في المجد والمكارم فرداً
استمع من مريض عبدك بيتاً ... سار في الخافقين غوراً ونجدا
ليس غير الكريم من ينجز الوع ... د ولكن من يجعل الوعد نقداً

أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الجرجاني
المقلب طر مطراق
كاتب شاعر، ظريف فاضل، من أعيان العمال ببخارى، وقد تقدم ذكره عند ذكر الهزيمي.
أنشدني السيد أبو جعفر الموسوي قال: أنشدني أبو عبد الله لنفسه:
نصيبنا من طول آمالنا ... تعسفّ في خدمة دائبة
وحاصل الذلّ بلا طائل ... والشأن في منتظر العاقبة
ومما يستظرف ويستلمح من شعره قوله في فتى من أبناء الموالي بخاري وكان متهالكاً في هواه:
أما والصبر فقد بشرني ... نائب المسك بصفحات العقيق
سنة أخرى وقد أخرجني ... شعر خديك من العقد الوثيق
وأنشدني أبو سعد نصر بن يعقوب له من قصيدة في وصف الجركاه:
كأنّه سحب من فضة ضربت ... وزيّت بدنانير مفاصله
إن قرّ ليل كفى النيران ساكبه ... أو جاد غيث بغشاه هاطله
لا تخذر الهدم فيه حين تنزله ... إذا توالت على بيت زلازله
أبو محمد عدي بن محمد الجرجاني
من ذوي الفضل، الطالبين للفضل بخاري، والمتصرفين على عمل البريد منها، وله شعر حسن مشهور، فمن ذلك قوله:
متى أشربت ماء الحياة وجوهنا ... تنقّل عنها ماؤها وحياؤها
إذا كانت الصهباء شمساً فإنّما ... يكون أحاديث الرجال هباؤها
عبد الرحيم بن محمد الزهري
أديب شاعر، يقول لأبي محمد عبد الله بن محمد بن عزيز قبل وزارته:
اليمن انشقني نسيمه ... وأزاح عن قلبي همومه
بمكانة الشيخ الرئي ... س وعزّ رتبته العظيمة

فلأغنينّ بفضله ... عن ذكر خدمتي القديمة
ويقول في مرثية ابن العتبي:
مرّ على قبرك أعوانكا ... فكلّهم هالهم شانكا
ولم يزيدوك على قولهم ... عزّ على العلياء فقدانكا

أبو القاسم إسماعيل بن أحمد الشجري
كاتب شاعر، أدركته حرفة الأدب فأزعجته عن وطنه ورمت به إلى بخاري، فلم يجد للغربة شافع أدبه وفضله، ووجد متصرفاً فتماسكت حاله، ولما انقضت الدولة السامانية عاود وطنه ثم فارقه وورد به على أبي الفتح البستي فأقام عليه مدة ثم قصد الفاريات واستوطنها، ومن ملحه قوله وهو منقول من بيتين بالفارسية للأعاجم:
إن شئت تعلم في الآداب منزلتي ... وأنني قد عداني العزّ والنعم
فالطّرف والسيف والأوهاق تشهد لي ... والعود والنرد والشطرنج والقلم
وله وقد دعاه إخوان له إلى بعض المنتزهات ببخارى فخرج فلم يهتد إليهم:
ظننتم في التجشّم بي جميلاً ... وأرجو أن أكون كما ظننتم
وما أعصيكم أمراً ونهياً ... ولكن لست أدري أين أنتم
وله من قصيدة:
نهاري ولم أبصر فحياه مظلم ... وليلي إذا أبصرته غير مظلم
أتظلمني الأيام وهي خبيرةبأنّ إليهإن ظلمتتظلّمي
ومن أخرى:
باب غيرك للأخيار أخبية ... وما بابك إلا الفقر والبوس
أيخدمونك لا والله عن مقة ... ومالهم منك مطعوم وملبوس
وله من نتفة:
جميل الحيّاة، وكالدعص ردفه ... حميد سجاياه، وليس له خصم
وله من قصيدة في ابنه:
نصحتك في التأدّب ألف مرّة ... فلم ينفعك نصحي فيه ذرّة
أؤمل أن تكون لكّل باب ... من الآداب للأدباء عرّة
فلما خنت فيك رجوت أن لا ... تخلّ بكلّها فتكون غرّة
ولست أقول أنت فتى غبيّ ... ولكن فيك إعجاب وشّره
ولا أنّي علمت السّر لكن ... أدلائي على السّر الأسرّة
وكم من مضمر أمراً خفياً ... تعرفني الأسّرة فيه سّره
إذا ما لم تطع من أنت منه ... فلا تأمل تحفّيه وبرّه
ولا تغفل بحلو هواك وعظي ... فإنّ مغبَّة الإغفال مره
وكتب إلى أبي الحسن أحمد بن منصور:
ما لي وكنت مقرّباً أقصيت ... وذكرت فيما قبل ثم نسيت
وحجبت بعد الإذن، كنت مشرفاً ... بجماله في أيِّ وقتٍ شيت
حرمت حظي من تحفيّك الذي ... قد كنت مسعوداً به فشقيت
ألزلةٍ فأتوب أم لملالةٍ ... فألوم إذ شمل الملوك شتيت
إن كنت ترضى بالقطيعة شيمةٍ ... فبطاعتي لك حيث كنت رضيت
إن لم أكن في خدمتي ومودتي ... لك مخلصاً فمن الإله بريت
أبو الحسن محمد بن أحمد الإفريقي المتيم
صاحب كتاب أشعار الندماء، وكتاب الإنتصار للمتنبي، وغيرهما، وله ديوان شعر كبير، ورأيته ببخارى شيخاً رث الهيئة تلوح عليه سماء الحرقة، وكان يتطبب ويتنجم، فأما صناعته التي يعتمد عليها فالشعر، ومما أنشدني:
وفتيةٍ أدباء ما علمتهم ... شبّهتهم بنجوم الّليل إذا نجموا
فروا إلى الراح من خطبٍ يلمُّ بهم ... فما درت نوب الأيام أين هم
ومما أنشدني أيضاً:
تلوم على ترك الصلاة خليلتي ... فقلت أغربي عن ناظري أنت طالق
فوالله لا صلَّيت لله مفلساً ... يصلي له الشيخ الجليل وفائق
تاشٍ وبكتاشٍ وكنباش بعده ... ونصر بن ملكٍ والشيوخ البطارق
وصاحب جيش المشرقين الذي له ... سراديب مالٍ حشوها متضايق
ولا عجب إن كان نوح مصلِّياً ... لأنّ له قسراً تدين المشارق
لماذا اصلي؟ أين باعي ومنزلي ... وأين خيولي والحلي والمناطق؟
وأين عبيدي كالبدور وجوهم ... وأين جواريَّ الحسان العواتق؟
أصلّي ولا فتر من الأرض يحتوي ... عليه يميني؟ إنَّني لمنافق

تركت صلاتي للذين ذكرتهم ... فمن عاب فعلي فهو أحمق مائق
بلى، إن عليَّ الله وسَّع لم أزل ... أصلّي له ما لاح في الجوِّ بارق
فإن صلاة السيءَّ الحال كلّها ... مخارق ليست تحتهن حقائق
وأنشدني أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان له في فتى صبيح من أولاد الرؤساء خلع عليه دراعة وقد كان لبسها:
أتت على ماء ظهري ... درّاعة أهديت لي
إذا علتني تذكّر ... ت من علته فأدلي
وأنشدني له أيضاً:
وصديق جاءني يس ... ألني ماذا لديك
قلت: عندي بحر خمرٍ ... حوله آجام نيك
ومن ملح الإفريقي في غلام تركي:
قلبي أسيرٌ في يدي مقلةٍ ... تركيةٍ ضاق لها صدري
كأنها من ضيقها عروةٌ ... ليس لها زرٌّ سوى السحر
وقوله في معناه من المسرح:
قد أكثر الناس في الصفات وقد ... قالوا جميعاً في الأعين النجل
وعين مولاي مثل موعده ... ضيِّقة عن مراود الكحل

أبو الحسين أحمد بن محمد
بن ثابت البغدادي
أحد الفضلاء الطارئين على تلك الحضرة والمقيمين بها، وله شعر كثير النكت، كقوله وأنشدنيه له أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان:
قال لي من يسرُّه أن يراني ... ناحل الجسم لا أطيق حراكا
قم أضحى يسرُّ وجداً ويذري ... دمعة العين منه سحّاً دراكا
أين من كان واصلاً لك في الصّحة ... حتى إذا اعتللت جفاكا
كلُّ من لم يعدك في حالة السُّق ... م تمنَّى لك الرّدى والهلاكا
حذراً أن يراك يوماً من الده ... ر صحيحاً فيستحي أن يراكا
قلت لا تعجلن فإنّ رحا الده ... ر صحيحاً فيستحي أن يراكا
سوف تبرا ويمرضون وتجفو ... هم فإن عاتبوا فقل ذا بذاكا
كلُّ من لم يعدك في حالة السُّق ... م تمنَّى لك الرّدى والهلاكا
وله:
هي حالان شدَّةٌ ورخاء ... وسجالان نعمةٌ وبلاء
والفتى الحازم اللبيب إذا ما ... خانه الدهر لم يخنه العزاء
إن ألمَّت ملمّةٌ بي فإنّي ... في الملمات صخرةٌ صمّاء
صابرٌ في البلاء طبٌّ بأن لي ... س على أهله يدوم البلاء
فالتداني يتلو النائي والإق ... تار يرجي من بعده الإثراء
وأخو المال ماله منه في دنياهإلاّ مذمَّةٌ أو ثناء
وإذا ما الرجاء أسقط بين الن ... اس فالناس كلُّهم أكفاء
أبو منصور البوشجني
الملقب بمضراب الشعر استغرق أيامه ببخارى يشعر بلا رأس مال في الأدب، وكثيرا ما يأتي بالملح، وجل قوله في الوزراء، فمن ذلك قول:
أبو عليٍّ وأبو جعفرٍ ... ويوسف الهالك بالأمس
ثلاثةٌ لم يك لي منهم ... نفعٌ بدينارٍ ولا فلس
لذاك لم أبك على هالكٍ ... غيِّب منهم في ثرى رمس
وقوله:
نحن بأبواكم حيارى ... وأنتم مثلنا حيارى
فبعضنا يستجير بعضاً ... وبعضنا عندكم أسارى
وكلُّنا من شراب جهلٍ ... بوصف أحوالنا سكارى
وأي عذرٍ لنا فحولٌ ... تعدُّ في جملة العذارى
وقوله:
وكنّا زماناً نذمُّ الزمان ... ونرثي الوزارة بالبلعمي
فأخّرنا العمر حتى انتهت ... من البلعمي إلى البرعشي
وسوف تؤول على ما أره ... من البرعشيّ إلى البرمكي
وقوله:
وكنا نذم الدهر من غير خبرةٍ ... بيوسفه والبلعميِّ وغيره
إلى أن رمانا بالغفاريِّ بعدهم ... وعاندنا في عبده وعزيره
وما قد رعانا في ابن عيسى وزوره ... وفي ابن أبي زيد السفيه وسيره
ولم نرض بالمقدور فيهم فأمنَّا ... بكلِّ كسيرٍ في الورى وعويره
وأنشدني أبو النصر العتبي في أبي الحس العتبي:

قلوب الناس والهةٌ سقاما ... ونفس المجد والهةٌ سقيمه
وما فجعت بك الدنيا ولكن ... تركت بفقدك الدنيا يتيمه

الباب الثالث
في ذكر
المأموني والواثقي
ومحاسن أخبارهما وأشعارهما
لما كان أبو طالب المأموني وأبو محمد الواثقي من جملة الطارئين على بخارى والمقيمين ، ومميزين عنهم بشرف المنصب، وكرم المنتسب، وفضل المكتسب - أفردت لهما باباً يتلو الباب المقصور عليهم ليجاوراهم ويقارباهم من جهة، ويفارقاهم ويباعداهم من أخرى:
أبو طالب عبد السلام بن الحسين المأموني
من أولاده المأمون أمير المؤمنين. كان أحد - بل أوحد - أفراد الزمان شرف نفس ونسب، وبراعة فضل وأدب، فياض الخاطر بشعر بديع الصنعة، مليح الصيغة، مفرغ في قلب الحسن والجودة، ولما فارق وطنه بغداد لحاجة في نفسه وهو حدث لم يبقل وجهه ورد الري وامتدح الصاحب بقصائد فرائد ملكه العجب بها، وأبهره التعجب منها، فأكرم مورده ومثواه، وأحسن قراه، ووعده ومناه، فدبت به عقارب الحسدة من ندماء الصاحب وشعرائه، وطفقوا يركبون الصعب والذلول في رميه بالأباطيل، ويتقولون عليه أقبح الأقاويل، فطوراً ينسبونه إلى الدعوة في بني العباس، ومرة يصفونه بالغلو في النصب واعتقاده تكفير الشيعة والمعتزلة، وتارة ينحلونه هجاء في الصاحب يعرب عن فحش القدح، ويحلفون على انتحاله ما أصدر من شعره في المدح، حتى تكامل لهم إسقاط منزلته لديه، وتكدر ماؤه عنده وعليه، وفي ذلك يقول من قصيدة يستأذنه فيها للرحيل أولها:
يا ربع كنت دمعاً فيك منسكباً ... قضيت نحبي ولم أقض الذي وجبا
لا ينكرن ربعك البالي بلى جسدي ... فقد شربت بكأس الحبِّ ما شربا
ولو أفضت دموعي حسب واجبها ... أفضت من كلِّ عضوٍ مدمعاً سرباً
عهدي بعدك للذّات مرتبعاً ... فقد غدا لغوادي السحب منتحبا
فيا سقاك أخو جفن السحاب حياً ... يحبو ربا الأرض من نور الرياض حبا
ذو بارقٍ كسيوف الصاحب انتضيت ... ووابلٍ كعطاياه إذا وهبا
ومنها:
فكنت يوسف، والأسباط، وأبو ال ... أسباط أنت، ودعواهم دماً كذبا
وعصبةٍ بات فيها الغيط متَّقداً ... إذ شدت لي فوق أعناق العدى رتبا
قد ينبح الكلب ما لم يلق ليث شرىً ... حتى إذا ما رأى ليثاً قضى رهبا
أرى مآربكم في نظم قافيةٍ ... وما أرى لي في غير العلا أربا
عدّوا عن الشعر إن الشعر منقصةٌ ... لذب العلاء وهاتوا المجد والحسبا
فالشعر أقصر من أن يستطال به ... إن كان مبتدعاً أو كان مقتضبا
ومنها:
أسير عنك ولي في كلّ جارحةٍ ... فمٌ بشكرك يجري مقولاً ذربا
ومن يردُّ ضياء الشمس إن شرقت ... ومن يردّ طريق الغيث إن سكبا
إني لأهوى مقامي ذي ذراك كما ... تهوى يمينك في العافين أن تهبا
لكن لساني يهوى السير عنك لأن ... يطبق الأرض مدحاً فيك منتخبا
أظنّني بين أهلي والأنام هم ... إذا ترحّلت عن مغناك مغتربا
ثم إنه فارق الري وقدم نيسابور، فأشار عليه أبو بكر الخوارزمي بإنشاء قصيدة في الشيخ أبي منصور كثير بن أحمد يسأله فيها تقرير حاله عند صاحب الجيش أبي الحسن بن سيمجور، فعملها وأوصلها أبو بكر ووشعها من الكلام بما أوقعها موقعها، أولها:
أبى طارق الطيف إلاّ غرورا ... فينوي خيالك أن لا يزورا
فما أكره الطيف في نفسه ... ولكنّني أكره الوصل زورا
إلى الله أشكو منىً في الحشى ... تضمَّن جنباي منها سعيرا
تفارق بي كلَّ يوم خبلا ... وتفجع بي كلَّ يوم عشيرا
فإن تسألاني يا صاح ... بي نص السّرى تجداني خبيرا
ففي كل يوم تراني الركاب ... أفارق ربعاً وأحتلُّ كورا
إذا سرت عن صاحبي قلت عد ... لعودي السنين وخلّ الشهورا

أراني ابن عشرين أو دونها ... وقد طبق الأرض شعري مسيرا
إذا قلت قافيةً لم تزل ... تجوب السهول وتطوي الوعورا
ولو كان يفخر ميتٌ بحي ... لكان أبو هاشمٍ بي فخورا
ولو كنت أخطب ما أستحق ... لما كنت أخطب إلاَّ السريرا
ولو سرت صاحت ملوك البلا ... د بين يديّ النفير النفيرا
ولكنّني مكتف باليسير ... إذا سّهل الله ذاك اليسيرا
إذا أكثر الناس شيم الغمام ... فلا شمت في الأرض إلا كثيرا
فتى ملئت بردتاه علاً ... ونبلاً ومجداً وفضلاً وخيرا
إذا ضمّه الدست ألفيته ... سحاباً مطير وبدراً منيراً
وإن أبرزته وغى خلته ... حساماً بتوراً وليثاً مصورا
فطوراً مفيداً وطوراً مبيداً ... وطوراً مجيراً وطوراً مبيراً
ترى في ذراه لسان المنى ... طويلاً وباع الليالي قصير
تضمّ الأسرة منه ذكاً ... وتحمل منه المذكي ثبيرا
إليك من الشعر عذراء قد ... طوت طّيئاً وأجرت جريرا
إذا أنا أنشدتها أفحم الزمان ... و أسمع قولي الصمّ الصخورا
ولو أن أفئدة السامعي ... ن تسطيع شقّت إليّ الصدورا
ولست أحاول مهراً لها ... سوى أن تبلغ أمري الأميرا
فأنت يد ولسان له ... إذا أحدث الدهر خطباً كبيرا
فلا زلتما للعلا معصمين ... تدعى الأمير ويدعى الوزيرا
فلما وقف على صورة حاله أنهاها إلى صاحب الجيش، فاستدعاه وحين وصل إليه استقبله بخطوات مشاها إليه، وبالغ في إعظامه، وأبلغ في إكرامه، ثم خيره بين المقام بنيسابور وبين الانحدار إلى الحضرة بخاري، فأختار الخروج فوصله وزوده من الكتب إلى وزير الوقت وغيره من الأركان، ووكيله بالباب أبي جعفر الرماني، فأحسن موقعه وأثره، وحصل معه وطره ولما دخل بخاري لقي أبا الحسن عبد الله بن أحمد بقصيدته التي منها:
وليل كأنّي فيه إنسان ناظر ... يقلّب في الآفاق جفنيه دانيا
إذا ما أمالتني به نشوة الكرى ... تمايل في كّفي المثقّف صاحياً
وإن ما طمي لجّ المنى بين أضلعي ... تعسفّت لّجاً من دجى الليل طامياً
فأمسى شجاً في ظلمة الليل والجاً ... وأضحى قذفً في مقلة الصبح غادياً
حسامي نديمي والكواكب روضتي ... وبيت السّرى ساقي والسير راجياً
ولما رأى الشيخ الجليل إقامتي ... عليه وتطليقي لديه المهاريا
دعاني وأدناني وقرب منزلي ... ورحّب بي وانتاشني واصطفاينا
همامّ يبكّي المشرفية ساخطاً ... ويضحك أبكار الأماني راضياً
ولو أن بحراً يستطيع ترقياً ... إليه لأمّ البحر جدواه راجياً
وبقصائد غيرها، فتقبله بكلتا اليدين، وأعجب منه بفتى من أولاد الخلافة يملأ العين جمالاً والقلب كمالاً، وواصل صلاته، وخلع عليه، وألحقه في الرزق السلطاني بمن كان هناك من أولاد الخلفاء كابن المهدي وابن المستكفي وغيرهما.
ولما قام أبو الحسن المزني مقام العتبي زاد المأموني إكراماً وإجلالاً وأفضل عليه إفضالاً بسبب مناسبة الآداب التي هي من أوكد الأسباب وأقرب الأنساب.
ولما كانت أيام ابن عزيز وأيام الدامغاني وأيام أبي نصر بن أبي زيد جعل كل منهم يربي على من تقدمه في الإحسان إليه، وإدرار الرزق عليه، وإخراج الخلع السلطانية والحملات بمراكب الذهب له، حتى حسن حاله، وتلاحق ماله، وظهرت مروءته.
فمن شعره في المزني قوله من قصيدة أولها:
أنا بين أحشاء الليالي نار ... هي لي دخان والنجوم شرار
فمتى جلا فجر الفضاء ظلامها ... صليت بي الأقطار والأمطار
بي تحلم الدينا وبالخير الذي ... لي منه بين ضلوعها أسرار

فبكلّ مملكة عليّ تلهف ... وبكلّ معركة إليّ أوار
يا أهل ما شطّت برجلي رحلة ... إلا لتسفر عنّي الأسفار
لي في ضمير الدهر سرّ كامن ... لا بدّ أن تستلّه الأقدار
حقنت يداه دم المكارم منذ غداً ... دم كلّ حر فاه وهو جبار
طبعت مزنية منه عضباً ما له ... في غير هامات الأسود قرار
أراؤه بيض الظّبي وحديثه ... روض الربى ويمينه تياّر
ضمّت على الدينا بدائع لفظه ... فكأنّها زند وهنّ سوار
وإذا العلوم استبهمت طرقاتها ... فذووه أعلام لها ومنار
عزماتهم قضب وفيض أكفّهم ... سحب وبيض وجوههم أقمار
ختم الرياسة بالوزارة فيهم ... أسد له السّمر الذوابل زار
ومنها:
يا من إذا طر القبائل شاعر ... صلّت على آبائه الأشعار
فارحم بمنكبك السماء أما ترى ... لسواك في خطط النجوم جوار
والأرض ملكك، والورى لك غلمة ... والدهر عبدك، والعلا لك دار
ومن شعره في أبي محمد عبد الله بن أحمد بن عزيز قوله من قصيدة:
سيخلف جفني مخلفات الغمائم ... على ما مضى من عمري المتقادم
بأرض رواق العزّ فيها مطّنبّ ... على هاشم فوق السّهل والنعائم
يدين لمن فيها بنو الأرض كلّهم ... وتعنو لهم صيد الملوك الأعاظم
ويهماء لا يخطو بها الوهم خطوةً ... تعسّفتها بالمرقلات الرواسم
وقد نشرت أيدي الدجى من سمائها ... رداء عروس نقطت بالدراهم
فخلنا نجوماً في السماء أسنةً ... مذهبةً ما بين بيض صوارم
أعطّ قميصي قسطل ودجنة ... بذات الشكيّم أو بذات العزائم
أيمّم عبد الله نجل محمد ... وزير بني سامان تتميم حاتم
فمن مبلغ أهلي بأنّي واجد ... طلا بي من بحر الندى والمكارم
وأنّي من الشيخ الجليل وظلّه ... مطّنب بيت تحت ظلّ الغمائم
وأنّ عيون الجود طوع أناملي ... تدّفق حولي بالسيول السواجم
لقد عملت أرض المشارق أنّها ... بيمنك قد عادت بليث صارم
وقد أيقنت أن ليس غيرك يرتجى ... لقمع الأعادي أو لدفع المظالم
فلاذت بلا وأن ولا متقاعس ... ولا نأكل عن نصرة الدّين جاثم
ولا تارك رأياً تلّوناً ... ولا قارع عند الندى سنّ نادم
يعمّم بالهنديّ حين يسلّه ... أسود الوغى بالضرب فوق العمائم
ويسهم من أعماله في خيارها ... ويشرك من أمواله في الكرائم
فلا ملك إلاّ ما أقمت عروشه ... ولا غيث إلا ما أفضت لشائم
ولا تاج إلا ما تولّيت عقده ... على جبهة الملك المكنّى بقاسم
أبدر العزيزيين رفقاً فطالما ... كفيت بيض الرأي بيض الصوارم
فرأيك نجم في دجى الخطب ثاقب ... وعزمك غضب في طلى كل ناجم
ومنها:
وقد كان ملك الأرض قد زال نجمه ... فكنت له بالرأي أفضل ناظم
أخذت بضبع الدين حتى رفعته ... إلى حيث لا يسمو له وهم واهم
وكان سرير الملك قبلك باكياً ... فأبدى لنا من خطة ثغر باسم
محوت بما أثبته من ملاحم ... أعدت بها الإسلام كتب الملاحم
فلا زلت للملك الذي قد أعدته ... حمى واقياً من كلّ خطب وداهم
ومن قصيدة أخرى:
سألت الله مبتهلاً مناكا ... فأضعف ما سألت وقال هاكا
وردّ على يديك الملك لماّ ... غدا بالترك ينتهك انتهاكا
فأنت لربّ هذا الملك سيف ... إذا ما نابه خطب نضاكا

وقد أبت الوزارة في بخاري ... سواك كما أبت إلاّ أباكا
وكان الصدر منذ أخليت منه ... يمجّ رجاله حتى أحتواكا
وما أخلاه منك الملك إلاّ ... ليبلي من عداك بما بلاكا
فما أغنوا غناءك في فقير ... وهل يغني غناءك من عداكا
وكنت السيف أغمد يوم سلم ... فلما شبت الحرب انتضاكا
وقد كانت على الأعداء أمضى ... وأقضى من سيوفهم رقاكا
ولو نهضت رجال الأرض طرّاً ... بما كلّفت ما أغنوا غناكا
فعلت بعض قولك كلّ فعل ... ونبت بعفو رأيك عن ظباكا
غذيت بدر ضرع العلم طفلاً ... ففقت الخلق في المهد احتناكا
فلا شرب الطلاء ألهاك يوماً ... ولا بيض الطلاء عمّا عناكا
وإن غمّ الممالك ليل خطب ... جلاه صبح رأيك أو سناكا
فأفسح من خطى الخطي قدماً ... إذا أقدمت في حرب خطاكا
وأسمح من ملثّ القطر جوداً ... إذا ما صاب صّيبه نداكا
وما انفتحت بلا، شفتاك يوماً ... ولا انضمّت على نشب يداكا
تأخرّ عن مدك البحر لماّ ... جريت، فلم نسمّيه أخاكا؟
وما جاراك صوب المزن لمّا ... جرى وجرى نداك ولا حكاكا
ولكنّ الغمام عني سجوداً ... على وجه الثرى لك إذا رآكا
فأنت أجلّ قدراً أن تجارى ... وأرفع رتبة من أن تحاكى
وقد سامي السماء وماس زهواً ... على قرع السّهل بلد نماكا
فأهلوه ومن فيه وقار ... لنفسك من جميع من ابتغاكا
فها هم جنّة لك فاغتنمها ... وهم لك جنّة ممّا دهاكا
ومنها:
أكاد إلى العزيز أعزي ... لإلحاقي بهم نفسي اشتباكاً
فلو أجريت لحظك في فؤادي ... رأيت دليل ذاك كما أراكا
أعبد الله لا خيرّت بيتاً ... مدى الأيام إلاّ في علاكا
فكم لك من يد قلّدتنيها ... فلست أرى لها عنّي انفكاكا
ولو حمّلت ما حمّلتنيه ... شمام استطاع به حراكا
وقد ألبستني أثواب عّز ... وقد أوطأت أمضي السّماكا
فحسبك من علا أعليت كعبي ... برفعك فقد بلغ حباكا
سرى كلّ السر في الأرض شعري ... وخّيم إذ أرك فما خطاكا
وكنت على النّور صممت حتى ... منعت فبتّ مبتغياً رضاكا
ولو لم تقتصر حالي الليالي ... لما أدمعت سيراً عن حماكا
وقد سمّيت لي أمرين حسبي ... بعضهما إذا أثرت ذاكا
وإن لم ترض لي بالنجم نعلاً ... ولا خطّ المجرة لي شراكا
فدع ما ترتضيه لنا وخفِّض ... فأنفسنا وما ملكت فداكا
وما استنكفت من جدواك، لمن ... كفاني بذل ودِّك عن لهاكا
ولو كان استماح البحر خلقاً ... لأمّك يستمحيك وانتحاكا
فلا يممت غير ذاك بحراً ... ولا خّيمت إلاّ في ذراكا
ومن شعره في أبي نصر بن أبي زيد من قصيدة وصف فيها داره التي بناها وانتقل إليها عند تقلده الوزارة:
قد وجدنا خطى الكلام فساخا ... فجعلنا النسيب فيك امتداحا
وأفضنا ما في الصدور ففاض المدح ... قبل النسيب فيك انفساحا
وعمدنا إلى علاك فصغنا ... لصدور القريض منها وشاحا
وصدعنا في أوجه الشعر من بيض مساعيك بالندى أو أوضاحا
غّرست في ثرى الصدور عطايا ... ك غروساً أثمر ودّاً صراحا
كم كسير جبرته وفقير ... مستميح رددته مستماحا
وبلاد جوامحٍ رضتها بالعزم حتّى أنسيتهنّ الجماحا
وأمان خرس بسطت لها في القول حتّى أعدتهنّ فصاحا
شهرت منك آل سامان عضباً ... ينجح السعي غربه إنجاحا

أحمدت رتبة الوزارة من أخمد ناراً تجري القنا والصفاحا
فلو أن الممالك استنطقت فيه ... لقامت بذكره مداحا
مغرم بالثناء مغرى بكسب الحمد يهتزّ للسماح ارتياحا
لا يذوق الإغفاء إلاّ رجاءً ... أن يرى طيف مستميح رواحا
يا أبا نصر الذي نصر ... الملك فأنسى المنصور والسّفاحا
ضاقت الأرض عنك فارتدت ربعاً ... يسع البحر والحيا والسماحا
وإذا ضاقت المصانع بالسّيل أبي أن يحلّ إلا البطاحا
فهنيئاً منها بدار حوت منك جبالاً من الحلول رجاحا
كونها تؤم الوزارة ممّا ... زاد برهان سعدها إيضاحا
ذات صدر كرحب صدرك قد زا ... د على ظنّ آمليك انفساحا
يغرس الصيد في ذراها من التقبيل غرساً فيجتنبه نجاحا
بفناء نطيل فيه خطى اللحظ ونلقي للفكر فيه انسراحا
بهوها يملأ العيون بهاءً ... صحنها يملأ الصدور انشراحا
شيدها فضة وقرمدها تبر قد امتيح من نداك امتياحا
وثراها من عنبر شيب بالمسك فإن هّبت الصبا فيه فاحا
مقنعات فيها الأساطين من فو ... ق قصخور قد انبطح انبطاحا
كلّ ناد منها قد اتشح الفر ... ش بثوب الربيع فيه اتّشاحا
وأرى بين كلّ نحيين كالرو ... ض خليجاً من البساط مساحا
وسقت ماؤه حدائق غربيه إلى أن غدت به ضحضاحا
صبغة من دم القلوب فمن أبصره اهتزّ صبوة ورايتاحا
ما بكاء الرياض بالظلّ إلاّ ... خجلاً من رياضها وافتضاحا
شابه النقش فرشها مثل ما شا ... به ولدانها دماها الصباحا
وكأنّ الأبواب صحب تلاقين انغلاقاً ثم افترقن انفتاحا
وكأنّ الستور قد نشر الطا ... ووس منها في كلِّ بابٍ جناحا
وكأنّ الجامات فيها شموس ... أطلعتها ذرى القباب صباحا
والسواري مثل السواعد كّبت ... تحتها من أساسها أقداحا
وبيوت كأنّهنَّ قلاع ... مزمعات للنيرات نطاحا
ورواق كأنّما بسطت فيه دعاء أيدي الأساطين راحا
وجنان لو كنت في جنة الفر ... دوس لم أبغ غيرهنّ اقتراحا
وإذا دارت الكؤوس بها أبصرت خلد النعيم ثمّ مباحا
ومنها:
من يدي كلّ ساحر الطرف يجني الورد ... من وجنتيه والتّفاحا
وإذا الزير جاوب الناي ضرباً ... جاوب البلبل الهزار صياحا
في مقام تمحو الهموم به النشوة عنّا وتثبت الأفراحا
تطلع الشّمس أنجماً كلّما هزّ ... ت شموس الطسوس منها رماحا
وضياء السقاة والخمر والكا ... سات فيه قد عطّل المصباحا
وإذا ما المجامر اضطرمت بالجمر أحيت رياحها الأرواحا
فمتى أطعمت أزجّة عطر ... أشرعت من دخانها أرماحا
فهنيئاً منها بجنة عدن ... ضمّنت منك سيداً جحجاها
فاقطع الدهر في ميادينها الفيح اغتباقاً على الحيا واصطباحا
واملأ الفكر من موشحة فيك ولا تولها قلى واطّراحا
فلو أني استوقفت عنياً بما قلت لما اسطاع عن براجي براحا
قال مؤلف الكتاب: رأيت المأموني ببخارى سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة وعاشرت منه فاضلاً ملء ثوبه. وذاكرت أديباً شاعراً بحقه وصدقه وسمعت منه قطعة من شعره، ونقلت أكثره من خطه، وكان يسمو بهمته إلى الخلافة، ويمني نفسه قصد بغداد في جيوش تنضم إليه من خراسان لفتحها، فاقتطعته المنية دون الأمنية، ولما فارقته لم تطل به الأيام بعدي حتى اعتل علة الاستسقاء وانتقل إلى جوار ربه ولم يكن بلغ الأربعين، وذلك في سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة.
شعره في الاوصااف والتشبيهات وهذا ما اخترته من شعره في الأوصاف والتشبيهات التي لم يسبق إلى أكثرها.
قال في المنارة:
وقائمة بين الجلوس على شوي ... ثلاث فما تخطو بهن مكانا
على رأسها نجل لها لم تجنّه ... حشاها ولا علته قطّ لبانا
يشرّد في أعلاه كلّ دجنّة ... يشقّ جلابيب الظلام سنانا
وقال في الكرسي:

ومقعدٍ لي و طىء ... يقوم عند قعودي
يزهي بصدر فسيح ... رحب و بأس شديد
له رواق أديم ... على سواري حديد
إذا جلست عليه ... خلت الأنام عبيدي
وفيه أيضاً:
ومرتبة من بوادي الملو ... ك بين القيام وبين القعود
تمدّ بساطاً لمستوطىء ... ثبوته عمد من حديد
وفيه أيضاً:
ومستوقف لجلوس الحضور ... على أربع في الثرى موثقه
يمدّ على فرعه مفرشاً ... ويظهر في خصره منطقه
فمن شاء صّيره مقعداً ... ومن شاء صّيره مرفقه
وقال في طست الشمع:
وحديقة تهتزّ فيها دوحة ... لم ينمها ترب ولا أمطار
فصعيدها صفرٌ ونامي غصنها ... شمع وما قد أثمرته نار
وأيضاً:
وطاعنة جلباب كلّ دجنّة ... بماضي سنان في ذؤابة ذابل
تجود على أهل الندامى بنفسها ... وما فوق بذل النفس جود لباذل
ويقري عيون النّاظرين ضياؤها ... وقد قيدت ألحاظها بالأصائل
وقال في النار:
أم القرى عندك أم بوح ... فقد سرى أبوابه اللوح
أم ذات مرط ذهبي لها ... يعقدها في الجوّ تطويح
يسقّني أخت لها دنها ... جسم لها وهي له روح
كأنّها الشمس وما نفّضت ... من شرر عنها المصابيح
وله في الحمام:
وبيت كأحشاء المحب دخلته ... وما لي ثياب فيه غير إهابي
أرى محرماً فيه وليس بكعبة ... فما ساغ إلا فيه خلع ثيابي
بماء كدمع الصبّ في حرّ قلبه ... إذا أذنت أحبابه بذهاب
توهّمت فيه قطعة من جهنم ... ولكنّها من غير مسّ عقاب
يثير ضباباً بالبخار مجلّلاً ... بدور زجاج في شموس قباب
وله في السطل والكرنيب:
لنا من الأسطال سطل ... شأنه عجيب
كالشمس إذ عاجلها ... في الطفل المغيب
كرنيبه كمائح ... وهو له قليب
قبضته سبيكة ... في متنها نحيب
ضرب دمشقيّ فما ... يرى لها ضريب
وله في حجر الحمام:
لحجر الحمّام عندي يد ... ومنّة لست أؤديها
وهو لرجلي صقيل لا يني ... عن طبع في الرجل ينقّيها
كأنّها كورة نحل إذا ... غمّستها في الحبر تشبيها
وفي الليف:
للّيف في تنظيف جسم ... المستحم معجزه
فلا يغور درن ... في الجسم إلاّ أبرزه
كأنّه ذوائب ... قد مشطّت مجرّزه
وفي المنشفة:
منشفة حملها تخال بها ... قد فتّ كافورة على طبق
كأنّما أنبتت خمائلها ... ما ارتشفت من لآلىء العرق
وفي الزنبيل:
وذي أذنين لا يعيان قولاً ... وجوف للحوائج ذي احتمال
تكلّف شغل أهل البيت طراًّ ... وتحمل فيه أقوات العيال
مطيع في الحوائج غير عاص ... ولا شاك إليك من الكلال
تسّر إليه في الأسواق سرّاً ... يبديه إلا في الرحال
وله في كوز أخضر محرق:
وبديعة للرّيم منها جيدها ... حارت عيون الناس في إبداعها
كخريدة في مرط خزّ أخضر ... رفعت يداً لتردّ فضل قناعها
وله في الشرابية:
شمس لها من نفسها أرجل ... ستّ إذا ما شئت أو أربع
تنوء بالكوز لظئر له ... تحضنه الدهر ولا ترضع
وله في الجليد:
حجارة من صنيع الدهر تمتعنا ... ببردها وضرام الغيظ يستعر
كأنّها قطع البلّور ليس بها ... نقب ولا أثر باد ولا كدر
وله في ماء بجليد من الرجز:
ورائق مثل الهواء صافي ... بات بثوب القرَّذي التحاف
حتى نفى عنه القذاة نافي ... فرقّ حتى صار كالسُّلاف

أسرع في الجسم من العوافي ... فيه الجليد راسب وطافي
كأنه ودائع الأصداف وله في كأس جلاب من الرجز:
وكأس جلاّب بها يطفي اللهب ... يقضي بها عند الخمار ما وجب
كأنها الفضّة شيبت بالذهب ... تشابه الجليد فيها و الحبب
حسبته دّراً من المسك انسرب ... فبعضه طاف وبعض قد رسب
كأنّما المخوض فيها يضطرب ... حوت يغوص تارةً ثم يشبّ
وفيها:
وكأس من الجلاّب أطفأ بردها ... سعير خمار الكأس عند التهابه
وكانت كبرد العدل عند طلابه ... وعود وصال الحبّ بعد ذهابه
وله في السكنجبين:
ومستنتج ما بين خلّ وسكرّ ... دوائي من دائي به وشفائي
رأيت به في الكأس أعجب منظر ... مذاب عقيق فيه جامد ماء
في الفقاعة:
ورب فقاعة رأيت بها ... ثدي كعوب مسودّ الحلمه
حللت زنارها فأظهر لي ... شهب بزاة تطير عن أكمه
وفي المعنى أيضاً من الرجز:
أجسام صخر دفنت في صخر ... تناسبا واختلفا في البّحر
تحكي ثنايا خفرات غرّ ... تلوح من تحت ثياب خضر
أطرافها قد ضمّخت بالحبر ... كدرّ مفطوم رضاع الدرّ
أقعى على أذنابهن التبري ... إقعاء أسد بصرت بنمر
تفور إن حلّت كفور القدر ... بمثل أحداق جراد خزر
أو مثل أنصاف صغار الذرّ ... أو صارم فيه الفرند يجري
يعلو وينقضّ انقضاض الزهر ... كأنّما الليل انجلى عن فجر
تبدي ذرى هاماتها من جمر ... وما عدا رءوسها قد عرّي
مزنرات لا لدين كفر ... دفائن لا لانقضاء عمر
في تربة من صنع أيدي القرِّ ... قد حنطت أجيادها بالعطر
وحرمت حرم أخيذ الأسر ... دفينها ينشر ميت القبر
وبردها شفاء حرّ الصّدر ... تقسم بالله العظيم القدر
لا أرضعت إلا فطيم الخمر ... فهي شفاء السكر بعد السكر
في الأترج المربى من الرجز:
ورب سوس من الأترج ... متقّد اللون اتقاد السّرج
يعوم من إنائه في مزج ... مجت عليه النحل أيّ مجّ
فقام من رضابها في لجّ ... بظاهر كقطع الخلنج
أو العقار اعتللت بالمزج ... غصّت به فوهاء مثل البذج
سليمة من كلف وسحج ... نقّية كالعاج أو كالثلج
قد خّرطت على قويّ النسج ... حرم ثوب الخيل بالبرطنج
أفضل ما أبغي وما أرجي ... وما أعدّ للطعام الفجّ
وكلّ مأكول بطيء النضج ... وتخم تغصنّي وتشجي
بهر لها كالسائق المزجي ... يوسع ما ضاق لنا من نهج
يبرى من كلّ أذى وينجي ... ويجعل الأفواه ذات أرج
عزاه شاريه إلى الأشجّ ... وخطّه عليه بالتهجّي
جاء به الحجيج بعد الحجّ ... يفرون كل سبسب وفجّ
حتى أتوا منه بما يرجيّ ... فنلت مأمولي به وفلجي
وله في الإهليج المربى:
إهليلج خلناه لما بدا ... يمرح في لجّ من الشّهد
وسائط الجوهر قد ألقيت ... في ماء ياقوت من العقد
وله في الترنجين:
وسكّر ليس من ... السكر المستخرج
أبيض كالكافور أو ... كاللؤلؤ المدحرج
فلو حلفت أنّه ... طرزهّ لم أحرج
فهو غذاء يغتذي وهو شفاء للشجي
ظلّ من السماء يهوي ... فوق نبت العوسج
يسقط مثل اللؤلؤ ... الرطب على الفيروزج
وله في الرطب المعسل في برنية زجاج:
وشفّافة مثل النسيم كأنّها ... مكّونة الأجرام من ريّق القطر
بها من نبات النخل والنحل ملؤها ... يواقيت جمر في مياه التّبر
وله فيه:
وربّ ماء من الشّهد في زكيّ زجاج

فيه يواقيت جمر ... يضمّ قطاع عاج
وله في كعاب الغزال في برنية زجاج:
وذات لطف كقطر ضمنّت يققاً ... كأنه البرد الربيع تشيبها
شفّافة من حدائق الزرق قد طبعت ... ومن بياض عيون الحور ما فيها
وفيها أيضاً:
وبيض ظنناهنّ و الجام محدق ... بهنّ كصدر هنَّ فيه فؤاد
أنامل غيد ما وصل براحة ... وأعين عين ما لهنّ سواد
وفيها أيضاً:
وبيضٍ إذا ما لحن في الجام خلتها ... نجوم سماءٍ في سماء زجاج
وإن ضمنتّهن البراني حسبتها ... أسنة سمرٍ في رقيق عجاج
وقال في بنادق القند الخزائني في برنية زجاج:
وأبيض اللون أودعناه صافيةً ... تذيع ما استخفيت فيه وتبديه
كأنّه برد صاغ الهواء له ... من ريّق القطر كيف توقّيه
وقال في أعمدة القند الخزائني:
أنابيب من القند ... على الأطباق مبيضّه
كأنّ الجام كفّ وهي أطراف لها بضه
حكت أعمدة صيغت ... من الثلج أو الفضّه
حكت شهباً غدت في ذ ... لك المجلس منقضّه
شفاء الشارب الظمآ ... ن من أطرافها عضّه
وله في اللوز الرطب:
وافت لتخطر في ثلاث مدارع ... حذاهن في شكل النواظر حادي
توابيت في حصر الخدود تضمّنت ... مكفّن عاج في مصندل لاذي
وله في اللوز اليابس:
ومستجنّ من الجانيين ممتنع ... بحبة لم يحكها كفّ نساج
درّ تضمن من عاج تضمّنه ... والبّر لا البحر أصداف من العاج
وقال في الجوز الرطب:
ومحقق التدوير يعرب نفعه ... من كفّ ومن يجنيه ما لم يكسر
دّر يسوغ لآكليه ضمّه ... صدف تكون جسمه من وعرعر
متدرع في السلم ثوب غلالة ... درعاً مظاهرةً بثوب أخضر
وله في الزبيب الطائفي:
وطائفي من الزبيب به ... ينتقل الشرب حين ينتقل
كأنّه في الإناء أوعية ال ... نحاس لكنّ ملأها عسل
وله:
وقشمش كخزر ... للنظم لم يثقب
يبلى به الكأس لما ... بينهما من نسب
يحظى به الشارب في النادي ومن لم يشرب
كأنّه أوعية ... يحملن ذوب الضّرب
أو لؤلؤ قد علّ ... أعلاه بماء الذهب
وقال العناب:
يروقني العناّب ... فبي إليه انصباب
إذا لاح لي منه أطرا ... ف من أحبّ الرطاب
يحكى فرائد درّ ... لها العقيق إهاب
في الباقلاء الأخضر:
وباقلاء أزهر ... مثل سموط الجوهر
تضمّه أوعية ... من الحرير الأخضر
أوساطه مخطّفة ... مثل خصور ضمّر
أطرافه مذروبة ... مسروقة من أنسر
وطرف كمخلب ... وطرف كمنسر
وله في الباقلاء المنبوت:
وباقلاء عامر طيبها ... من حسنه الناظر مبهوت
كأنّه أقطاع عاج لها ... من خشب الساج توابيت
وله في البطيخ:
محقّقة ملء الكفوف كأنّها ... من الجزع كبرى لم ترض بنظام
لها حلّة من جلّنار و سوس ... مغمّدة بالآس غبّ غمام
تمازج فيها لون صبّ وعاشق ... كساه الهوى و بين ثوب سقام
وأبدي له في النّحر تخضير كاعب ... علامته ذات اعتدال قوام
رياضيّة مسكيّة عسلّيةّ ... لها لون ديباج وعرف مدام
إذا فصّلت للأكل حاكت أهلة ... وإن لم تفصل فهي بدر تمام
وله في البطيخ الهندي:
ومبيضة فيها طرائق خضرة ... كما اخضر مجرى السيل في صيب الحزن
كحقة عاج ضّببت بزبرجد ... حوت قطع الياقوت في عطن القطن
وله في الكمثرى:
وضرب من ثمار الصيف يحكي ... وقد طلعت لنا منه نجوم

قناديلا تضيء لها رءوس ... مثقّبة وليس لها جروم
وله في رمانة:
رمانة ما زلت مستخرجاً ... في الجام من حقَّتها جوهرا
فالجام أرض وبناني حياً ... تمطر منها ذهباً أحمرا
وله:
ليس الإناء بحافظ مستودعاً ... إلاّ إذا وقيته بغطاء
فإذا جعلت له الغطاء فإنّه ... بجميع ما استودعت خير إناء
فاحفظ إناءك بالغطاء فإنّه ... لا خير في أرض بغير سماء
وله في الملح المطيب:
لا تدن مني الملح إن شبته ... من الأبازير بألوان
وجهه أبرص ذو غشّة ... بين ثآليلٍ وخيلان
فإنّني أحسب أني متى ... أدنيته مني أعداني
وأته أبيض ما إن له ... في عرصة الصحفة من ثاني
فهو متى أفرد من صاحب ... إدام زهّاد ورهبان
وله في خبز الأبازير:
الملح ما أكثر أبزاره ... لا ملح أهل الزهد والنسك
كأنّ شهدانجه بينه ... حّبات رومي من الفلك
كأنّما الشيونيز من فوقه ... ما نفت الفضة في السبك
كأنّما العنّاب في وجهه ... تنقيط قرآن على الصكّ
بانجدان فضّ من مهرق ... وسمسم قد فضّ من سلك
يشبه من ثني أبا زيره ... إذا تأملناه أو يحكي
سحيق كافور مشوب به ... قراضة العنبر والمسك
وله في الرقاق:
خبز الأبازير مني كلّ من ... بتّرهات الأكل يشتهر
وعندنا منه أتراس من الفضّة ... قد رصّعها الجوهر؟
كأصحن كافور قد حشدت ... وذرّ في أوجهها العنبر
وله في الرقاق:
وخّبازةٍ لا تغذّي الرقاق ... أرتنا من الخبز أمراً عجابا
تناول بيض كتاب العجين ... فتنسخ في الوقت منها ثياباً
وتأتي بها كصفاح الغدير ... قد كّون القطر فيها قباباً
في الجبن و الزيتون:
غرامي بابن المباركة التي ... بها كلّم الله الكليم من الرسل؟
فإن نيط بابن الضرع بعد احتياكه ... وبعد اعتصاره الدهر ما فيه من ملل
رأيت أكفاّ فضّةً وأناملاً ... بهن خضاب حالك اللون ما نصل
وألفيت منها أوجه الروم فوقها ... جعود و شعور الزنج أو حدق المقل
إذا اجتمعا لي لم أمل معهما إلى ... أطايب أنواع الطبيخ ولم أبل
خيلان ضّدان الدجى والضحى معاً ... يضمّهما فتر من الأرض أو أقل
فكلني إلى خدنين ذا وضح الدجى ... نقاءً على أرض الخوان وذا طفل
فهذا خد بالعضاض مؤثر ... وذاك كصدغ حالك فوقه انسدل
وله في البوراني والبطيخ:
لدينا نديم لم يزل طول يومه ... له في المقالي فجّة وفشيش
وضرب من البطيخ في راحتيّ من ... خشونته كلم بها خدوش
تخال ربا النواريج أحدقت ... بها خفيفةً من أن تحفّ جيوش؟
ومن لم يكن في الصيف هاتان عنده ... فكيف يرجّي عمره ويعيش
وله في العجة:
عندي للضيف عجّة شرقت ... بدهنها فهي أعجب العجب
قد عضّت النار وجهها فغدت ... لياسمين بالورد منتقب
وله في الجوذابة:
جوذابة فوارة ... في دهنها المنسكب
كأنّها قد ركبت ... في جامها بلولب
لائحة في أهبها ... آثار عضّ اللهب
كنقرة من فضّة ... في حّقة من ذهب
وله في الشواء السوقي:
طرا طارىء عند العشاء فجئته ... بقرص عضيض من شواء ابن زنبور
تخال قطاع المسك رصّع رصفها ... بفيروزج النعناع في صحن كافور
وله في سمكة مشوية:
ماوية فضّية لحمها ... ألذّ ما يأكله الأكل

يضمُّها من جلدها جوشنٌ ... مذيَّل فهو لها شامل
كوَّنت من فضَّتها عسجداً ... بالقلي لما ضافني نازل
وله فيها:
ماويةٌ في النار مصليةٌ ... يصبغ من فضَّتها عسجد
كأنّما جلدتها جيوش ... من رفن الصنعة أو مبرد
وله في الفاصولياء:
وأسمر قد لفّ السعير إهابه ... ينوء بحجر من ثنياته سمر
إذا ضمّ أنواع السميط وحطّ في ... بعيدة قعر ماؤها لهب الجمر
أتاك بما في ضمنها فكأنّه ... محب كوى أحشاءه ألم الهجر
وله في الهريسة:
هريسة خلتها وقد ملأ الطّباخ منها الإناء ما وسعا
درّاً نثيراً أسلاكه قطع ... في ماء ورد وصندل نقعا
وقال في ماء الخردل:
أتحفوني على الخوان بمقطو ... ب يحاكي في الطعم فقد الأليف
يضحك الكأس منه عن شائب المفرق يبكي من غير ضرب ضيوف
فإذا ذيق أسبلت قطرة منه ... سيولاً من أعين وأنوف
وإذا ما أصغى وعنّي ذوي الأكل تداو منه بشمّ الرغيف
وله في البيض المغلق من الرجز:
وضاحك في البيض من تفصيل ... حبوبه كالجوهر المحلول
زيتونه كالسبح المصقول ... جزره فواصل التنزيل
حمّصه كالدر في التشكيل ... عدسه منتخب الجليل
كخرز محقّق التعديل ... أو ذهب بفضّة قد غولي
ولوبياء كخدود حيل ... أو أعين حذر الحذاق حول
فيها بقايا رمد قليل ... منقّط مزيّن التعسيل
وقال في البيض المغلق من الرجز:
ياقوت ما ضمّهامخنقة ... في درّة في حقه حققه
كأنّها وقد غدت مغلقة ... مذ نشرت أثوابها المرققه
تبر حوته من لجين بوتقه وقال في أقراص السحور من الرجز:
عندي للأكل إذا ... ما قمت للتسحر
ملتوية بسمنها ... بسمسم مقشّر
مثل البدر الطالعا ... ت في صدر الأشهر
أو أوجه الترك إذا ... أثّر فيها الجدري
وله في اللوزينج اليابس:
ولوزينج يشفي السقيم كأنّه ... بنان كفّ بضّة لم تغضن
بعثناه بالقطر الزكي محنطاً ... ليدفن إلاّ أنّه لم يكفّن
وله في اللوزينج الفارسي:
وزنجبيل يعزى إلى الفرس خلته ... بنان عروس في رقاق الغلائل
فإن حملت إحداه خمس حسبتها ... زيادة كفّ بين خمس أنامل
وله في الخبيص:
خبيصة في الجام قد قدّمت ... مدفونة في اللوز والسكر
يأكل من يأكلها خمسةً ... بكفّه فيها ولم يشعر
وله في الفالوزج المعقود:
فالوزج يمنع من نيله ... ما فيه من عقد وإنضاج
يسبح في لجّة ياقوتة ... للّوز حيتان من العاج
كأنّما أبرز من جامه ... ثوب من اللاذ بديباج
وله في مشاش الخليفة:
جمعت حباب الكأس حتى لحقته ... فكونّت منه في الإناء بدورا
فإن لمسته الكأس لمساً لكفّه ... رأيت الذي نظّمت منه نثيرا
في أصابع زبيب:
أحبّ من الحلواء ما كان مشبهاً ... نبات عروس في حبيرٍ معصّب
فما جملت كفُّ الفتى متطعّماً ... ألذُّ وأشهى من أصابع زبيب
وفيها:
وضربٌ من الحلو الذي عزَّ إسمه ... لوجدي بمن يعزى إليه وينسب
يصدّق معناه آسمه فكأنّه ... بنانٌ بأطراف البنان مخضَّب
وله في عدة من المطعومات قال في المزورة:
كم تكون المزورات غذائي ... إن أكل المزورات لزور
وإلي ما يكون أدمي خلّ ... وقليل من البقول يسير
فاحجبوا عنّي الطبيب وقولوا ... أنا بالطب الطبيب كفور
هات أين الكباب أين القلايا ... أين رخص الشواء أين القدير
أنا لا أترك التدّيح ولا البطّيخ والتين أو يكون النشور
وقال في المدية:

وذات شبّ في يديّ قائم ... أمرد ينفي السوء عن قاعد
شّبهتها حين تأمّلتها ... بلحية شدّت إلى ساعد
وله في مجمع الأسنان بما فيه من المحلب والخلال:
أرض من العقيان ... في صورة الطيلسان
الشكل شكل رداء ... والنقش نقش الصواني
بها ثلاث ركايا ... حفت بها بيران
ففي الركايا ثلاث ... رحب ومخنوقتان
من الزجاج القديم المستعمل ... المرواني
وكلّهن ... ملأى بالسعد والأشنان
والمحلب المتروي ... من طّيب الأدهان
وفي القليبين أيضاً ... زها خلال الرهان
حورين لا لشنانٍ ... أسرعن لا لطعان
نوع عراض تحاكي ... مضارب العيدان
وآخر ذو انخذال ... في دقّة السامان
ففي ولاية هذه ال ... ألوان عزّ الخوان
وله في طين الأكل:
علام نقلكم بالذي ... منه خلقنا وإليه نصير؟
ذاك الذي يحسب في شكله ... قطاع كافور عليها عبير
وله في الجمر والمدخنة:
وقول من أديم الصخور ... تخّيم في حلل الخيرزان
تقري قطاعاً كعرف الحبيب ... وترقى وليس بها مسّ جان
وتمنع عن مثل حرِّ القلوب ... من الجمر ما إن لها من دخان
في جمر خبا بعد اشتعاله:
أما ترى النار كيف أشعلها القر فأضحت تخبو وحيناً تسعّر
وغدا الجمر والرماد عليه ... في قميصين مذهّبٍ ومعنبر
وله في البرد:
وبيضاء كالبلور جاد بها الحيا ... فأهوت تهادي بين أجنحة القطر
تذوب كقلب الصبّ لكنّه جو ... بنار هواه وهي مثلوجة الصدر
وله في التدرج:
قد بعثنا بذات لون بديع ... كنبات الربيع أو هي أحسن
في قناع من جلّنار واسٍ ... وقميص من ياسمين وسوسن
ذبحت وهي بنت درّة برّ ... كلّ عن بعض وصفها كلّ محسن
وله في المحبرة من الرجز:
ركية من الزّجاج الصافي ... قطرة من عارض وكاف
تبرز للعين في تجفاف ... ذي حمرة مثل دم الرعاف
فهي فؤاد وهو كالشغاف ... ينبوعها أسود كالغداف
فهي وما تضمّ من نطاف ... كغسق بالصبح ذي التحاف
وما تضمّنته من غلاف ... كحقّة فيها ابنة الأصداف
وله في المقلمة والأقلام:
ومجدولة حمر يخّيل منها ... من النقس روض ما يغذَّى بوابل
ترى كلّ يوم حاملاً بأجنة ... ولوداً لهم من غير مسّ قوابل
فأولادها ما بين أسمر ذابل ... بأحشائها أو بين أبيض ناصل
تسدّد منها السّمر لا لمحارب ... وترهف منها البيض لا لمقاتل
فلا السّمر منها اعتدن حمل عوامل ... ولا البيض منها اعتدن حمل حمائل
وله في السكين المذنب:
ومرهفة أرقّ شباً وأمضى ... وأقطع من شبا السيف الحسام
تعانق في الدوي قناع يراع ... ويبقى ما استكن من السّقام
لها ذنب كصيصيةٍ أتمّت ... وصدر مثل خافية الحمام
وله في المقط:
وأسود أحشاء الدويِّ مقرّه ... يلوح لنا في حلةٍ من غياهب
يعانق أشباه الرماح وتعتلي ... قواه شبيهات السيوف القواضب
وله في المحراك وهو الملتاق من الرجز:
أهيف قد أبدت ذراه غربا ... متخذاً من الظلام أهبا
يخال في يد الغلام شطبا ... يخطو إذا استنهضته مكبّاً
يقلَّب أصواف الدويّ قلبا ... ويكرب النفس عليها كربا
وله في الاصطرلاب:
وشبيه للشمس يسترق الأخبار من بين لحظها في خفاء

فتراه أدرى وأعرف منها ... وهو في الأرض بالذي في السماء
وفيه:
وعالم بالغيب من غير ما ... سمعٍ ولا قلبٍ ولا ناظرٍ
يقابل الشمس فيأتي بما ... في ضمنها من خبرٍ حاضر
كأنّما حاجبه مذ بدا ... لعينها بالفكر والخاطر
قد ألهمته علم ما يحتوي ... عليه صدر الفلك الدائر
وله في المقراض:
وصاحبين اتفقا على الهوى واعتنقا
وأقسما بالودّ وال ... إخلاص أن لا افترقا
ضمّهما أزهر كالنّجم به قد وثقا
لم يشك في خصريهما مذ ضمّناه قلقا
من تحته عينان منذ انفتحا ما انطبقا
وفوقه نابان ما حلاّ فما مذ خلقا
يفرّقان بين كلِّ ما عليه اتُّفقا
فأي شيءٍ لاقيا ... ه ألفياه فرقا
وله في مشطي عاج وآبنوس:
لديَّ مشطان ذا كباز ... لوناً وهذاك كالغراب
فذا شباب لذي مشيبٍ ... وذا مشيب لذي شباب
وله في المنقاش:
لديَّ منقاش بديع له ... مآثر في النتف مأثوره
تعمل ناباه إذا أعملا ... في الشعر ما لا تعمل النوره
وله في الزربطانة:
مثقّفة جوفاً وتحسب زانة ... ولكنها لا زجَّ فيها ولا نصل
تسدَّد نحو الطير وهو محلِّق ... وينفذ عنها للردى نحوه رسل
يطير إلى الطير الردى في ضميرها ... فتجري كما يجري وتعلو كما يعلو
تقيّد ما تنجو به فكأنّه ... يمدُّ إليه من بنادقها حبل
وله في القفص:
وبيت لبنات الجوِّ لا يستر من فيه
حفيظٍ للذي استحفظ لكن لا يواريه
حكت أعمدة الفضَّة ... والتبر سواريه
فمن مثل قنا الخطّ ... ثراه وأعاليه
وله في قارورة الماء من الرجز:
ركيّة تشفُّ ذات طول ... من الزّجاج الفائق المغسول
تظهر ما في الجسم من فضول ... مفصحة بالطبِّ لا بقيل
من كلِّ داءٍ غامضٍ دخيل ... فهي على التحقيق والتحصيل
مرآة في كبد العليل وله في اللبد:
وواضعةٍ خدّها في الصعيد ... لأربابها عندها حرمه
نسيجة بنت جلود النعاج ... بغير سدىً ولا لحمه
تمدّ على الرقِّ رقِّ الرمال ... وتوفي على الحر في النعمه
ويعمر ذا البيت منها غمام ... به شهبةٌ خالطت أدمه
متاع لمن كان ذا خلّةٍ ... فقيراً ومن كان ذا نعمه
في قضيب الفول:
أهيف قد زاحم الحسان على ... أخصّ أسمائه إذا اقتضيا
من الملاهي وليس ينكره ... ذو ورعٍ حين ينكر اللعبا
يلهو به من ولها وما اقترف الذنوب في فعله ولا احتقبا
يضرب وجه الثرى به فترى ... كلَّ فؤاد وجداً قد اضطربا
إذا تثنَّى القلوب وقد ... أهدى إليها السرور والطربا
ومما قال على ألسنة أشياء مختلفة ما أمر بكتابة على خوان:
فضلت جميع الأواني وفقت ... فما فيَّ منقصة واحده
مقري منازل صيد الملوك ... وفيَّ أتت سورة المائدة
وله وأمر بكتابة على فناء دار:
حكم الضيوف بهذا الربع أنفذ من ... حكم الخلائف آبائي على الأمم
فكلُّ ما فيه مبذول لطارقه ... فلا ذمام له إلا على الحرم
وفي معناه من الرجز:
أبنية فياحة منيره ... في كلِّ قطرٍ من بناه كوره
لملك راياته منصوره ... قد مدّ حول الخافقين سوره
وحطَّ فوق زحلٍ سريره ... لو أدرك المختار أو عصوره
لأنزل الرحمن فيه سوره ... أو نطقت أبنية معموره
لأنطق الله له قصوره ... وقلن أقولاً له مأثوره
لا أفقد الله العلي دوره ... بهاءه وضوءه ونوره
وله في الترس:
إنّي أنا الترس بنفسي أقي ... من العوالي والظُّبى حاملي

أردُّ حدَّ السّيف في متنه ... وأقعص اللهذم في العامل

أبو محمد عبد الله بن عثمان الواثقي
من أولاد الواثق بالله أمير المؤمنين، ينظم بين شرف الأصل ووفور الفضل، ويجمع أدب اللسان إلى أدب البيان، ويتفقه على مذهب مالك، ويشعره.
ومن خبره أنه كان نزع بأهله إلى الحضرة ببخارى راجياً أن يحل بها محل أقرانه من أولاد الخلفاء وأمثاله، أو يقلد من أحد عمل البريد والمظالم ببعض الكور ما يصلح من حاله، فلم يحصل من طول الإقامة بها وكثرة الخدمة لأركانها على شيء، وضاق الأمر، فذهب مغاضباً يتوغل بلاد الترك، إلى أن ألقى عصاه بحضرة عظيمها نهر أقاخان، وما زال يعمل لطائف حيله ودقائق خدعه حتى استمكن منه واختص به وزين له ما كان في نفسه من إزالة الدولة السامانية والاستيلاء على المملكة:
إنّما تنجح المقالة في المر ... ء إذا وافقت هوىً في الفؤاد
فألقى إليه التركي مقاليد أمره، وجعل يصدر عن رأيه، وينظر بعينه، حتى كان ما كان من إلمامه ببخارى في جيوشه وانحياز الرضى نوح بن منصور عنها إلى أهل الشط على تلك الحال المغنية بشهرتها عن ذكرها، وكان الواثقي سبباً لخرق الهيبة، وكشف لثام الحشمة، وإزالة الدولة. فعلا في بخارى وعظم شأنه، وبنى التدبير على أ، يبايع بالخلافة ويتقلد التركي أعمال خراسان وما وراء النهر من يده، وهو غافل عما في ضمير الغيب، وكان يركب في ثلثمائة غلام ويقيم أحسن مروة ويبسط من جناحه في الأمر والنهي والحل والعقد، فلم يمض إلا أشهر حتى هجمت على التركي علة الذرب، وكان سببها - على ما حكاه كاتبه أبو الفتح أحمد بن يوسف - إكبابه على فواكه بخارى وكثرة تضلعه منها مع اجتواثه بهوائها ومائها، فاضطر إلأى الرجوع لما وراءه.
وما زالت العلة تشتد به في طريقه حتى أتت على نفسه، وعاد الرضى إلى بخارى، واتخذ الواثقي الليل جملا، بعد أن أتت الغارة عليه وعلى ما معه من ممالكيه وذخائره، ونجا برأسه متنكراً إلى نيسابور ومنها إلى العراق، وتقلبت به الأحوال في معاودة ما وراء النهر ومفارقته. فهذه جمل من خبره.
وهذه لمع من شعره قرأت بخطه في وصف البرد والنار والفحم:
وليلةٍ شاب بها المفرق ... قد جمد الناظر والمنطق
كأنّما فحم الغضا بيننا ... والنار فيه ذهب محرق
أو سبج في ذهبٍ أحمر ... بينهما نيلوفر أزرق
وقوله في الغزل:
قمر ضياء وصاله من وجهه ... يبدو وظلمة هجره من شعره
فالمسك خالطه الرحيق رضابه ... سحراً، ودرُّ شنوفه من ثغره
وسدَّته عضدي وبين محاجري ... لونان مثل عقوده في نحره
وبدا الصباح فمدّ نحو قراطقٍ ... يده وشدّ مزرَّها في خصره
ومن قصيدة قالها بكل شغر وصف فيها الثلج والجليد:
كأنّ الأرض رقٌّ صقَّلته ... أكفٌ صوانعٍ متدافقات
وإن غلط الزمان بشمس دحنٍ ... بدت نقط عليه مذهبات
تدوس الخيل إن مرتّ عليها ... متون سجنجلٍ متراصفات
كأن مياهها ينساب فيها ... أساود من لجينٍ ساريات
ومن نتفه في الغزل:
نفخات الصبا وصوب الغوادي ... ورياض الهوى وماء الكروم
وحديثٌ غضٌّ وخلٌّ كريمٌ ... ومزاج الصّبا وماء النعيم
الباب الرابع
في غرر فضلاء خوارزم
أبو بكر محمد بن العباس الخوازمي
باقعة الدهر، وبحر الأدب، وعلم النثر والنظم، وعالم الفضل والظرف، وكان يجمع بين الفصاحة العجيبة والبلاغة المفيدة، ويحاضر بأخبار العرب وأيامها وداووينها، ويدرس كتب اللغة والنحو والشعر، ويتكلم بكل نادرة ويأتي بكل فقرة ودرة، ويبلغ في محاسن الأدب كل مبلغ، ويغلب على كل محسن بحسن مشاهدته، وملاحة عبارته. ونعمة نعمته، وبراعة جده، وحلاوة هزله، وديوان رسائله مخلد سائر، وكذلك ديوان شعره.
من كلمات له تجري مجرى المثل وهذه كلمات له تجري مجرى الأمثال أخرجتها من رسائله

الشكر على قدر الإحسان، والسلع بإزاء الأثمان. الإذكار حيث التناسي، والتقاضي حيث التغاضي. النفس مائلة إلى أشكالها، والطير واقعة عل أمثالها. الأيام مرآة للرجال، والأطوار معيار النقص فيهم والكمال. العشرة مجاملة لا معاملة، والمجاملة لا تسع الاستقصاء والكشف، ولا تحتمل الحساب والصرف. الكريم يعز من حيث يهون، والرمح يشتد بأسه حين يلين، الاعتذار في غير موضعه ذنب، والتكلف مع وقع الثقة عتب. الدواء لغير حاجة إليه داء، كما أنه عند الحاجة إليه شفاء، الاستقالة تأتي على العثرات، كما أن الحسنات يذهبن السيئات. الذنب للعين العشواء، في محبة الظلماء وكراهية الضياء. فم المريض يستثقل وقع الغذاء، ويستمرئ طعم الماء، الكريم إذا أساء فعن خطيئة، وإذا أحسن فعن عمد ونية. الحر إذا جرح أساء وإذا خرق رفا. وإذا ضر من جانب نفع من جوانب، الحر كريم الظفر إذا نال أنال، واللئيم سيء الظفر إذا نال استنال. الآباء أبوان أبو ولادة وأبو إفادة، فالأول سبب الحياة الجسمانية، والثاني سبب الحياة الروحانية. الغيرة على الكتب من المكارم، بل هي أخت الغيرة على المحارم، والبخل بالعلم على غير أهله قضاء لحقه. ومعرفة بفضله، الرجل إذا قيّده عقال الوجل لن ينطلق نحو مطية الأمل. المحجوج بكل شيء ينطق، والغريق بكل حبل يعلق، العاقل يختار خير الشرين، ويميل مع أعدل الثقتين، الجود محتكر بر، لا محتكر بر. والكريم تاجر جمال، لا تاجر مال. والحرّ وقاية الحر من فقره، وسلاحه على دهره. العفو إلى المقر، أسرع منه إلى المصير. الفرس الجواد يجري على عتقه، و الفرع ينزع إلى عرقه. وكيف يخالف الإنسان مقتضى نسبته، ويطيب الثمر مع خبث تربته. المسافة صغيرة البقعة، صغيرة الرقعة، إذ ذرعت بذرع الهوى، ومسحت بيد الذكرى، فهي بعيدة إذا ذرعت ذرع التسلي، ونظر إليها بعين التغافل والتناسي. الغضب ينسي الحرمات، و يدفن الحسنات، ويخلق للبريء جنايات، المدح الكاذب ذم، والبناء على غير أساس هدم، الدهر غريم ربما يفي بما يعد، والزمان حبلى ربما يتم فيما يلد، الدهر أصم عن الكلام، صبور على وقع سهام الملام، يختصر العيدان ويعتصر الأغصان ويخترم الشبان، ويبلي الآمال و الأبدان، ويلحق من يكون بمن كان، الإنسان بالإحسان، والإحسان بالسلطان، والسلطان بالزمان، والزمان بالإمكان، والإمكان على قدر المكان، الدينا عروس كثيرة الخطاب، والملك سلعة كثيرة الطلاب، الحق حق وإن جهله الورى، والنهار نهار وإن لم يره الأعمى، العدل طلاق الرجال، والمحنة صقيل الأحوال. الشجاع محبب حتى إلى من يحاربه، كما أن الجبان مبغض إلى من يناسبه، وكذلك الجواد خفيف حتى على قلب غريمه، والبخيل ثقيل حتى على قلب وارثه و حميمه. الدهر يمطل وربما عجل، وما شاء الإقبال فعل. الكريم من أكرم الأحرار. والعظيم من صغر الدينار. المصيبة في الولد العاق موهبة، والتعزية عنه تهنئة. المحبة ثمن كل شيء وإن غلا. وسلم لكل شيء وإن علا، الدهر يفي بعد غدر، ويجبر عقب كسر، ويتوب بعد ذنب، ويعقب بعد عتب. التقدم للغاية تأخر عنها، والزيادة على الكفاية نقصان منها. النسيب أخو النسيب، والأديب صنع الأديب، الشرف بين الأشراف نسب ولحمة، وذمام وحرمة، فالكريم شقيق الكريم، والعظيم أخو العظيم، وإن افترق بلداهما واختلف مولداهما، إن السيوف على مقادير الأعضاء تفري، وإن الخيل على حسب فرسانها تجري إنما السؤود بكثرة الأتباع وكثرة الأتباع بكثرة الاصطناع، وإنما تحوم الآمال حيث الرغبة، ويسقط الطير حيث تنثر الحبة إنما النساء لحم على وضم، وصيد في غير حرم إلا أن يلاحظن بعين غيور، ونفس يقظ جذور، إن الولاية عزل إن لم يعمر جوانبها عدل إنما يتعلل بالمعازف شوقاً إلى الأخوان، ويؤكل لحم الثيران شهوة للحوم الضأن، ويتجوز في الزبيبي على اسم العنبي ويستخدم الصقلبي عند غيبة التركي، شراء الكاسد حسبه، وحل المنعقد صدقه، وهدية المتحّير عباده، معاتبة البريء السليم، كمعالجة الصحيح غير السقيم، الفرس الجواد إذا ضرب كبا، والسيف الحسام إذا استكره نبا، واللسان الصدوق إذا كذب هفا، عين الاستحسان آفة من آفات الإحسان، قبول شكر الشاكر التزام لزيادته، واستماع قول المادح ضمان لحاجته، لسان العين أنطق من لسان البيان، وشاهد الأحوال أعدل من شاهد الأقوال لسان الضجر ناطق بالهذر

صغير البر ألطف وأطيب كما أن قليل الماء أشهى وأعذب، ثمرة الأدب العقل الراجح، وثمرة العلم العمل الصالح طول الخدمة تؤكد الحرمة، وتأكد الحرمة أعقد قرابة ولحمة، ادعاء الفضل من غير معدنه نقيصة كما أن الإقرار بالنقص من حيث الاعتذار فضيلة القتال عن العسكر المنهزم ضرب من المحال وتعرض لسهام الآجال، باب الإحسان مفتوح لمن شاء دخله، وحمى الجميل مباح لمن اشتهى فعله وليس على المكارم حجاب، ولا يغلق دونها باب قراءة كتاب الحبيب تر سمّ الهم، شكر الرخاء أهون من مصابرة البلاء، وحفظ الصحة أيسر من علاج العلة قليل السلطان كثير، ومداراته حزم وتدبير كما أن مكاشفته غرور وتعزيز شر من الساعي من أنصت له، وشر من متاع السوء من قبله لا خير في حبّ لا تحمل أقذاؤه، ولا يشرب على الكدر ماؤه خبر الكلام ما استريح من ضده إلى ضده، تقع بين هزله وجده لا ستر أكثف من إقبال ولا شفيع أنجح من آمال، أوجع الضرب ما لا يمكن منه البكاء، وأشد البلوى ما لا يخففه الاشتكاء، أبي الله أن يقع في البئر إلا من حفر، وأن يحيق المكر السيء إلا بمن مكر ما تعب من أجدى، ولا استراح من أكدى حبذا كداً أورث نجحا، وشوكة أجنت ثمراً لإثبات على سمّ الأسود، ولا قرار على زأر من أسد وفي الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا إذا عتقت المنادمة صارت نسباً دانيا. وكانت رضاعاً ثانياً، أين يقع فارس من عسكر، ومتى يقوم بناء واحد بهدم بشر نعم الشفيع الحب، ونعم العون على صاحبه القلب هل يبرأ المريض، بين طبيبين، وهل يسع الغمد سيفين، لم أر معلماً أحسن تعليماً من الزمان، ولا متعلماً أحسن تعلماً من إنسان، من الناس من إذا ولى عزلته نفسه ومنهم إذا عزل ولاه فضله، ربما أكل الحر وهو شبعان، وشرب وهو ريّان، ليس إلاّ لأن يسّر مضيفاً ويكون ظريفاً، يشكر القمر على أن يلوح والمسك على أن يفوح، نعم العدة المدة، ونعم الواقية العافية، وبئس الخصم الزمان، وبئس الشفيع الحرمان، وبئس الرفيق الخذلان، إن ولاية المرء ثوبه، فإن قصر عنه عرى منه، وإن طال عليه عثر فيه، ما المحنة إلا سيل والسيل إذا وقف فقد انصرف وما الأيام إلا جيش والجيش إذا لم يكر فقد فر وإذا لم يقبل عليك فقد أدبر عنك وراء الغيب أقفال، وللمنح والمحن أعمار وآجال ما أكثر من يخطىء بالصنعة طريق المصنع، ويخالف بزرعه غير موضع المزدرع أكبر من الأسير من أسره ثم أعتقه، وأشجع من الأسد من قيده ثم أطلقه، أكرم من النبت الزكي من زرعه وأكرم من الكريم من اصطنعه، لا صيد أعظم من إنسان ولا شبكة أصيد من لسان، وشتان بين من اقتنص وحشياً بحبالته وبين من اقتنص انسياً بمقالته من أرد أن يصطاد قلوب الرجال، نثر لها حب الإحسان والإجمال، ونصب لها أشراك الفضل و الإفضال، في كتمان الداء عدم الدواء، وفي عدم الدواء عدم الشفاء، من لم يذكر أخاه إذا رآه فوجدانه كفقدانه، ووصله هجرانه، من أجاد الجلب أخذ به ما طلب، من ذا الذي يطمس نجوم الليل ويدفع منسكب السيل، وينضب ماء البحر، ويفنى أمد الدهر؟ من تكامل نحسه لم تنصحه نفسه، ومن لم ينه أخاه فقد أغراه، ومن لم يداو عليله فقد أدواه، نعم جنة المرء من سهام دهره نزوله عند قدره، ونعم السلم إلى الأرزاق طلبها من طريق الإستحقاق. البر ألطف وأطيب كما أن قليل الماء أشهى وأعذب، ثمرة الأدب العقل الراجح، وثمرة العلم العمل الصالح طول الخدمة تؤكد الحرمة، وتأكد الحرمة أعقد قرابة ولحمة، ادعاء الفضل من غير معدنه نقيصة كما أن الإقرار بالنقص من حيث الاعتذار فضيلة القتال عن العسكر المنهزم ضرب من المحال وتعرض لسهام الآجال، باب الإحسان مفتوح لمن شاء دخله، وحمى الجميل مباح لمن اشتهى فعله وليس على المكارم حجاب، ولا يغلق دونها باب قراءة كتاب الحبيب تر سمّ الهم، شكر الرخاء أهون من مصابرة البلاء، وحفظ الصحة أيسر من علاج العلة قليل السلطان كثير، ومداراته حزم وتدبير كما أن مكاشفته غرور وتعزيز شر من الساعي من أنصت له، وشر من متاع السوء من قبله لا خير في حبّ لا تحمل أقذاؤه، ولا يشرب على الكدر ماؤه خبر الكلام ما استريح من ضده إلى ضده، تقع بين هزله وجده لا ستر أكثف من إقبال ولا شفيع أنجح من آمال، أوجع الضرب ما لا يمكن منه البكاء، وأشد البلوى ما لا يخففه الاشتكاء، أبي الله أن يقع في البئر إلا من حفر، وأن يحيق المكر السيء إلا بمن مكر ما تعب من أجدى، ولا استراح من أكدى حبذا كداً أورث نجحا، وشوكة أجنت ثمراً لإثبات على سمّ الأسود، ولا قرار على زأر من أسد وفي الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا إذا عتقت المنادمة صارت نسباً دانيا. وكانت رضاعاً ثانياً، أين يقع فارس من عسكر، ومتى يقوم بناء واحد بهدم بشر نعم الشفيع الحب، ونعم العون على صاحبه القلب هل يبرأ المريض، بين طبيبين، وهل يسع الغمد سيفين، لم أر معلماً أحسن تعليماً من الزمان، ولا متعلماً أحسن تعلماً من إنسان، من الناس من إذا ولى عزلته نفسه ومنهم إذا عزل ولاه فضله، ربما أكل الحر وهو شبعان، وشرب وهو ريّان، ليس إلاّ لأن يسّر مضيفاً ويكون ظريفاً، يشكر القمر على أن يلوح والمسك على أن يفوح، نعم العدة المدة، ونعم الواقية العافية، وبئس الخصم الزمان، وبئس الشفيع الحرمان، وبئس الرفيق الخذلان، إن ولاية المرء ثوبه، فإن قصر عنه عرى منه، وإن طال عليه عثر فيه، ما المحنة إلا سيل والسيل إذا وقف فقد انصرف وما الأيام إلا جيش والجيش إذا لم يكر فقد فر وإذا لم يقبل عليك فقد أدبر عنك وراء الغيب أقفال، وللمنح والمحن أعمار وآجال ما أكثر من يخطىء بالصنعة طريق المصنع، ويخالف بزرعه غير موضع المزدرع أكبر من الأسير من أسره ثم أعتقه، وأشجع من الأسد من قيده ثم أطلقه، أكرم من النبت الزكي من زرعه وأكرم من الكريم من اصطنعه، لا صيد أعظم من إنسان ولا شبكة أصيد من لسان، وشتان بين من اقتنص وحشياً بحبالته وبين من اقتنص انسياً بمقالته من أرد أن يصطاد قلوب الرجال، نثر لها حب الإحسان والإجمال، ونصب لها أشراك الفضل و الإفضال، في كتمان الداء عدم الدواء، وفي عدم الدواء عدم الشفاء، من لم يذكر أخاه إذا رآه فوجدانه كفقدانه، ووصله هجرانه، من أجاد الجلب أخذ به ما طلب، من ذا الذي يطمس نجوم الليل ويدفع منسكب السيل، وينضب ماء البحر، ويفنى أمد الدهر؟ من تكامل نحسه لم تنصحه نفسه، ومن لم ينه أخاه فقد أغراه، ومن لم يداو عليله فقد أدواه، نعم جنة المرء من سهام دهره نزوله عند قدره، ونعم السلم إلى الأرزاق طلبها من طريق الإستحقاق.

فصول من غرره وهذه فصول كالانموذج جاءت من غرره وفقره على الكريم واقية من فعله، وله حصن حصين من فضله، فإذا زلّت به النعل زلة، أوصال عليه الدهر صولة، إقامته يد إحسانه، وانتزعته من مخالب زمانه.
فصل - الرجال حصون يبنيها الإحسان، ويهدمها الحرمان، وتبلغ بثمرها البر واليسر، ويحصدها الجفاء والكبر، وإنه لا مال إلا بالرجال ولا صلح إلا بعد قتال ولا حياة إلا في ناصية خوف، ولا درهم إلا في غمد سيف، والجبان مقتول بالخوف قبل أن يقتل بالسيف، والشجاع حي وإن خانه العمر، وحاضر وإن غّيبه القبر، ومن حاكم خصمه إلى السيف فقد رفع إلى حاكم لا يرتشي ولا يفتري فيما يقتضي، ومن طلب المنية هربت منه كل الهرب، ومن هرب منها طلبته أشد الطلب.
فصل لا صغير مع الولاية والعمالة، كما لا كبير مع العطلة والبطالة، وإنما الولاية أنثى تصغر وتكبر إليها، ومطية تحسن وتقبح بممتطيها، وإنما الصدر بمن يليه، والدست بمن يجلس فيه، وإنما النساء بالرجال، كما أن الأعمال بالعمال.
فصل إفراط الزيادة يؤدّي إلى النقصان، والمثل في ذلك جار على كل لسان، ولذلك قالوا: صبوة العفيف، وسطوة الحليم، وضربة الجبان، ودعوة البخيل، وجواب السكيت، ونادرة المجنون، وشجاعة الخصي، وظرف الأعرابي.
فصل قد يكبر الصغير، ويستغني الفقير، ويتلاحق الرجال، ويعقب النقصان الكمال، وكل واد عظيم فأوله شعبة صغيرة، وكل نخلة سحوق فأولها فسيلة حقيرة وقد يبتدىء العنب حصرماً حامضاً جاسيا، ثم يخرج الراح التي هي مفتاح اللذات، وأخت الروح والحياة، ويكون حشو الصدفة ماء ملح، ثم يصير جوهرة كريمة، ودرة يتيمة، ويكون أول ابن آدم نطفة، وعلقة ومضغة، ثم يخرج منها العالم الأصغر، والحيوان الأرضي الأكبر، الذي حيت له الأرض، وسخرت له الأنهار، ومن أجله خلقت الجنة والنار.
فصل قد أراحني فلان بين، لا بل أتعبني بشكره، وخفف ظهري من ثقيل المحن، لا بل ثقله بأعباء من، وأحياني بتحقيق الرجاء، لا بل أماتني بفرط الحياء، وأنا له رقيق بل عتيق، وأسير بل طليق.
فصل في فضل الحمية من رسالة ملاك الأمر الحمية، فإنه لا يكون قوي الحمية إلا من يكون قوي الحمية، ومن غلبته شهوته على رأيه شهد على نفسه بالبهيمة، وانخلع من ربقه الإنسانية، وحق العاقل أن يأكل ليعيش، لا أن يعيش ليأكل، وكفى بالمرء عاراً أن يكون صريع مأكله وقتيل أنامله، وأن يجني ببعضه على كله، ويعين فرعه على أصله، وكم من نعمة أتلفت نفس حر،وكم من أكله منعت أكلات دهر، وكم من حلاوة تحتها مرارة الموت، وكم من عذوبة: تحتها بشاعة الفوت وكم شهوة ذهبت بنفس لا يقوى بها العساكر، وقطعت جسداً كانت تنبو عنه السيوف البواتر، وهدمت عمراً انهدمت به أعمار، وخربت بخرابه بيوت بل ديار وأمصار فصل في اقتضاء حاجة وعد الشيخ يكتب على الجمد، إذا كتب وعد غيره على الجمد، ولكن صاحب الحاجة شيء الظن بالأيام، مريض الثقة بالأيام، لكثرة ما يلقاه من اللئام، وقلّة من يسمع به من الكرام.
فصل في ذكر آفات الكتب هذا والكتاب ملقى لا موقى، تسرع إليه اليد الخاطئة، وتعرض له الآفات السانحة، فالماء يغرقه، كما أن النار تحرقه والريح تطيره، كما أن الأيام تغّيره، والدخان يسود بياضه، كما أن الخل يبيض سواده، والرطوبة تضره، كما أن اليبوسة لا تنفعه، فآفاته أسرع من آفات الزجاج الذي يسرع إليه الكسر، ومن عليه الجبر، وحوادثه أكثر من حوادث الغنم التي هي لكل يد غنيمة ولكل سبع فريسة، قل آفاته خيانة الحامل، وقوع الشاغل، وعوائق الفتوح والقوافل.
فصل في ذكر إلا ولا الحمد الله الذي جعل الشيخ يضرب في المحاسن بالقدح المعلى، ويسمو منها إلى الشرف الأعلى ولم يجعل فيه موضع لولا، ولا مجال لا لإ فإن شيء إذا اعترض في المدح أنصب ماءه وكدر صفاءه وأنطق فيه حساده وأعداءه، وكذلك قالوا: ما أملح الظبي لولا خنث أنفه، وما أحسن البدر لولا كلف وجهه، وما أطيب الخمر لولا الخمار، وما أشرف الجود لولا الاقتار، وما أحمد مغبة الصبر لولا فناء العمر، وما أطيب الدينا لو دامت:
ما أعلم الناس أن الجود مكسبة ... للحمد لكنّه يأتي على النشب
فصل في الاعتداد

ذكر السيد أن اعتداده بي اعتداد العلوي بالشيعي، والمعتزلي بالأشعري، واعتدال الحجازيين بالشافعي، واعتداد اليزيدية بزيد بن علي، واعتداد الإمامية بالمهدي.
فصل في ذم عامل تقلد الخراج في هذه الناحية رجل قصده الدرهم لا الكرم وغرضه الثراء لا الثناء، وقبلته البيضاء والصفراء، لا المجد والثناء.
فصل في الاعتذار ذكر سيدي من شوقه إلى ما يتكلم فيه إلا عن لساني، ولم يترجم إلا عن شأني، وقد طويت بساط المدام، وصحيفة المؤانسة والندام، وطلقت الراح ثلاثاً، وفارقت الغناء أبداً، حتى شكتني الأقداح، واستخفني الراح، ونسي بناني الأترج والتفاح.
فصل في ذكر هدة بلغني ذكر الهدة، فالحمد لله الذي هدم الدار، ولم يهدم المقدار، وثلم المال ولم يثلم الجمال وسلط الحوادث على الخشب والنشب، ولم يسلطها على العرض والحسب، ولا على الدين والأدب، ولا بد للنعمة من عودة، ولا بد لعين الكمال من رقيه، ولأن يكون في دار تبنى، ومال يجبر وينمي ، خير من أن يكون في النفس التي لا جابر لكسرها، ولا نهاية لقدرها فصل في ذكر الرمد صادف ورود الكتاب رمدا في عيني حتى حصرني في الظلمة، وحبسني بين الغم والفمة، وتركني أدرك بيدي ما كنت أدرك بعيني، كل سلاح البصر قصير خطر النظر، قد ثكلت مصباح وجهي، وعدمت بعضي الذي هو آثر عندي من كلي، فالأبيض عندي أسود، والقريب مني مبعد قد خاط الوجع أجفاني، وقبض عن التصرف بناني فظراني شغل، ونهاري ليل، وطول ألحاظي قصار، وأنا ضرير وإن عددت في البصراء وأمّيّ وإن كنت من جملة الكتاب والقراء قصرت العلة خطوتي قلمي وبناني، وقامت بين يدي ولساني وقد كانت العرب تزاوج بين كلمات تتجانس مباينها، وتتكافأ مقاطعها ومعانيها، فيقولون: القلة ذلة، والوحدة وحشة، واللحظة لفظة، والهوى هوان، والأقارب عقارب، والمرض حرص، والمرمد، والعلة قلة، والقاعد مقعد.
فصل في مدح الفقر وإنما يكره الفقر لما فيه من الهوان، ويستحب الغنى لما فيه من الصوان، فإذا نبغ الغم من تربة الغنى فالغنى هو الفقر، واليسر هو العسر، لا بل الفقير على هذه القضية أحسن من الغني، وأقل منه أشغالاً، لأن الفقير خفيف الظهر من كل حق، منفك الرقبة من كل رق، فلا يحب إخوانه، ولا يطمع فيه جيرانه، ولا تنتظر في الفطر صدقته، ولا في النحر أضحيته، ولا في شهر رمضان مائدته، ولا في الربيع باكورته ولا في الخريف فاكهته، ولا في وقت الغلة شعيره وبره، ولا في وقت الجباية خراجه وعشره، وإنما هو مسجد يحمل إليه، ولا يحمل عنه، وعلوي يؤخذ بيده ولا يؤخذ عنه،اتجها الشرط نهاراً، ويتوقاه العسس ليلاً، فهو إما غانم وإما سالم، وأما الغني فإنما هو كالغنم غنيمة لكل يد سالبة، وصيد لكل نفس طالبة، وطبق على شوارع النوائب، وعلم منصوب في مدرجة المطالب، تطمع فيه الأخوان ويأخذ منه السلطان، وينتظر فيه الحدثان، ويحيف ملكه النقصان.
فصل في ذم عامل والله ما الذنب في الغنم بالقياس إليه إلا من المصلحين، ولا السوس في الحز وأن الصيف عنده إلا بعض المحسنين، ولا الحجاج في أهل العراق معه إلا أول العادلين، ولا يزجرد الأثيم في أهل فارس بالإضافة إليه من الصديقين والشهداء والصالحين.
فصل في ذكر الآفات

من آفات العلم خيانة الوراقين وتخلّف المتعلمين، كما أن آفات الدين فسق المتكلمين وجهل المتعبدين، وكما أن من آفات الدنيا كثرة العامة، وقلة الخاصة، وكما أن من آفة الكرم أن الجود آفة للمنع، وأن البخل سبب للجمع، وأن المال في أيدي البخلاء دون أيدي السمحاء، وكما أن آفات الحلم أن الحليم مأمون الجنبة، وأن السفيه منيع الحوزة، وكما أن من آفة المال أنك إذا صنته عرضته للفساد، وإذا أبرزته عرضته للنفاذ، وكما أن من آفات الشكر أنك إذا قصرت عن غايته غششت مناصطفك، وإذا أبلغتها أو أبلغت فيه أوهمت من سمعك، وكما أن من آفات الشراب أنك إذا قللت منه حاربت مهمتك ولم تقض شهوتك، وإذا أكثرت منه تعرضت للإثم والعار، وأبرزت صفحتك للألم والنار، وكما أن من آفات المماليك أنك إذا بسطتهم أفسدت أدبهم وأذهانهم، وإذا قبضتهم أفسدت وجوههم وألوانهم، وكما أن من آفات الأصدقاء أنك إذا استقللت منهم لم تصب حاجتك فيهم، وإذا استكثرت منهم لزمتك حوائجهم، وثقلت عليك نوائبهم، وكسبت الأعداء من الأصدقاء كما تكسب الداء من الغذاء، وكما أن من آفات المغنين أن الوسط منهم يميت الطرب، وأن الحاذق منهم ينسي الأدب.
جملة من اخباره وهذه جملة من أخباره تطرق لأشعاره أصله من طبرستان، ومولده ومنشؤه خوارزم، وكان يتسم بالطبري ويعرف بالخوارزمي، ويلقب بالطبر خزمي ، فارق وطنه في ريعان عمره وحداثة سنه، وهو قوي المعرفة قويم الأدب، نافذ القريحة حسن الشعر، ولم يزل يتقلب في البلاد ويدخل كور العراق والشام، ويأخذ عن العلماء، ويقتبس من الشعراء ويستفيد من الفضلاء، حتى تخرج وخرج فرد الدهر في الأدب والشعر، ولقي سيف الدولة وخدمه واستفاد من يمن حضرته، ومضى على غلوائه في الاضطراب والاغتراب، وشرّق بعد أن غّرب، وورد بخاري وصحب أبا علي البلعمي، فلم يحمد صحبته وفارقه وهجره بقوله:
إن ذا البلعمي والعين عين ... وهو عار على الزمان وشين
إن يكن جاهلاً يخفي حنين ... فهو الخفّ والزمان حنين
وفي نيسابور فاتصل بالأمير أبي نصر أحمد بن علي المكالي واستكثر من مدحه، ودخل أبا الحسن القزويني، وأبا منصور البغوي، وأبا الحسن الحكم فارتفق بهم وارتفق من الأمير أحمد ومدحه، ونادم كثير بن أحمد ثم قصد سجستان وتمكن من وإليها أبي الحسين طاهر بن محمد ومدحه، وأخذ صلته، ثم هجر وأوحشه حتى أطال سجنه، فمما قاله في تلك النكبة قصيدة كتب بها إلى الأمير أبي نصر أحمد بن على الميكالي:
كتابي أبا نصر إليك وحالتي ... كحال فريس في مخالب ضيغيم
أرقّ من الشكوى وأدجن من النوى ... وأضعف من قلب المحبّ المتيمّ
غدوت أخاً جوع ولست بصائم ... ورحت أخاً عري ولست بمحرم
وقعت بفخّ الخوف في يد طاهر ... وقوع سليك في حبائل خثعم
يعني سليك بن سلكة السعدي حين أسره أنس بن مالك الخثعمي
وما كنت في تركيك إلاّ كتارك ... يقيناً وراض بعده بالتوهّم
وقاطن أرض الشرك يطلب توبةً ... ويخرج من أرض الحطيم ومزمزم
وذي علة يأتي عليلا ليشتفي ... بها وهو جار للمسيح ابن مريم
وراوي كلام قعتف إثر بأقل ... ويترك قسماً خائباً وابن إهتم
جناب تجنبان ليس بمحدب ... وبحر تخطيناه ليس بمرزم
رزم الماء: إذا انقطع، أرزمه غيره: أي قطعة.
وماء زلال قد تركنا وروده ... زلالاًوبعناه بشربة علقم
لبست ثياب الصبر حتى تمزّقت ... جوانبها بين الجوى والتندم
أظل إذا عاتبت نفسي منشدا ... فهلا تلا حاميم الحوامل قبل التقدم
المصراع الثاني قاله قاتل محمد بن طلحة يوم الجمل
وأنشد في ذكرى لدارك باكياً ... ألا أنعم صباحاً أيها الربع وأسلم
ولم أر قبلي من يحارب نحته ... ويشكو إلى البؤسي أفتقاد والتنعم
ولا أحد يحوي مفاتيح جنّة ... ويقرع بالتطفيل باب جهنّم
وقد كان رأساً للتدبير ملعم ... وقد صرت في الدنيا خليفة بلعم

يعني بلعم بن باعوراء الذي أنزل فيه واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها لأنه كفر بالله بعد تعلمه الإسم الأعظم، حجد نعم الله سبحانه وتعالى:
وقد عاش بعد الخلد في الأرض آدم ... فإن شئت فاعذرني فإنّي ابن آدم
فيا ليتني أمسيت دهر راقداً ... فإنّي متى أرقد بذكرك أحلم
مكانك من قلبي عليك موفر ... متى ما يرمه ذكر غيرك يحتمي
لغيرك رديّ الوصال وثيب المقال ... وممزوج المودة فاعلم
وأنت الذي صوّرت لي صورة المنى ... وأركبتني ظهر الزمان المذحم
وصّيرت عند أبحسن الدهر أسعداً ... وكذّبت عندي قول كلّ منجّم
وصغّرت قدر الناس عندي وطالما ... لحظت صغيراً عن حماليق معظم
فجعل الله له من مضيق الحبس مخرجاً، فنهض إلى طبرستان ، وكانت حاله مع صاحبها كهي مع طاهر بن بشار، فمن قوله فيه من قصيدة:
ألا أبلغ بني بشار كلامي ... ومن لم يلقهم فهو السعيد
علام اتبعتم فرساً عتيقاً ... وليس لديكم علف عتيد
وفي حبستم في البيت بازاً ... يحيص الطير عنه أو يحسيد
فلا فرتمبوه فعلتموه ... ولا خلّيتم عنه يصيد
وقوله من أخرى:
وقال أنا المليك فقلت حقاً ... بقلب اللام توناً في الهجاء
ولم أر من أداة الملك شيئاً ... لديك سوى احتمالك للواء
ومنها:
أحين قلعت نابي كلّ أفعى ... وحادت أسد بيشة عن فنائي
وقال الناس إذ سمعوا كلامي ... ألم تكن الكواكب في السماء
يخوفني الكساد على متاعي ... وهل يخشى فساد الكيمياء
وله من أخرى:
لله في كل ما قضاه ... لطائف تحتها بدائع
سبحان من يطعم ابن شار ... ويترك الكلب وهو جائع
ثم إنه عاد نيسابور، وأقام بها إلى أن وفق التوفيق كله بقصد حضرة الصاحب بأصبهان صاحبه ولقائه بمدحه، فأنجحت سفرته، وربحت تجارته، وسعد جده بخدمته ومداخلته والحصول في جملة ندمائه المختصين به، فلم يخل من ظل إحسانه ووابله وغامر انعامه وقابله، وتزود من كتاب إلى حضرة عضد الدولة بشيراز ما كان سبباً لارتياشه ويساره، فإنه وجد قبولاً حسناً واستفاد منها مالاً كثيراً ولما انقلب عنها بالغنيمة البادرة إلى نيسابور استوطنها وقتل بها ضياعاً وعقاراً ودرت عليه أخلاف الدينا من الجهات، وحين عاود شيراز ورد منها عللا بعد نهل، فأجري له عند انصرافه رسم يصل إليه في كل سنة بنيسابور مع المال الذي كان يحمل من فارس إلى خراسان، ولم يزل يحسن حال من رواء وثروة واستظهار، يقيم للأدب سوقا، ويعيده غضا وريقا، ويدرس ويملي ويشعر ويروي، ويقسم أيامه بين مجالس الأنس، ويجري على قضية قول كشاجم:
عجباً ممّن تعالت حاله ... فكفاه الله زلاّت الطلب
كيف لا يقسم شطري عمره ... بين حالين نعيم وأدب
وكان يتعصب لآل بويه تعصباً شديداً، ويغض من سلطان خراسان ويطلق لسانه بما لا يقدر عليه، إلى أن كانت أيام تاش الحاجب ورجع من خراسان إلى نيسابور منهزماً، فشمت به وجعل يقول: قبحا له وللوزير أبي الحسن العتبي، فأبلغ العتبي أبياتاً منسوبة إلى الخوارزمي في هجائه ولم يكن قالها، منها:
قل للوزير أزال الله دولته ... جزيت صرفاً على قول ابن منصور

فكتب إلى علي في أخذه ومصادرته وقطع لسانه، وإلى أبي المظفر الرعيني في معناه، وكان يلي البندرة بنيسابور إذ ذاك، فتولى حبسه وتقييده وأخذ خطه بمائتي ألف درهم واستخرج بعض المال وأذن له في الرجوع إلى منزله مع الموكلين به ليحمل الباقي، فاحتال عليهم يوماً، وشغلهم بالطعام والشراب وهرب متنكراً إلى حضرة الصاحب بجرجان، فتجلت عنه غمة الخطب، وانتعش في ذلك الفناء الرحب، وعاود العادة المألوفة من المبار والأحبية واتفق قتل أبي الحسن العتبي وقيام أبي الحسن المزني مقامه، وكان من أشد الناس حباً للخوارزمي، فاستدعاه وأكرم مورده ومصدره، وكتب إلى نيسابور في ردِّ ما أخذ منه عليه، ففعل وزادت حاله وثبت قدمه، ونظر إليه ولاة الأمر بنيسابور بعين الحشمة والاحتشام والإكرام والإعظام، فارتفع مقداره وطاب عيشه، إلى أن رمي في آخر أيامه بحجر من الهمذاني الحافظ البديع، وبلي بمساجلته ومناظرته ومناضلته، وأعان الهمذاني الحافظ البديع عليه قوم من الوجوه كانوا مستوحشين منه جداً، فلاقي ما لم يكن في حسابه من مباراة المزني وقوته به وأنف من تلك الحال، وانخزل انخزالاً شديداً، وكسف باله، وانخفض طرفه ولم يحل عليه الحلول حتى خانه عمره، ونفذ قضاء الله تعالىفيه، وذلك في شوال سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وكان مولده في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، ورثاه الهمذاني بأبيات دس فيها سعاية ثانية، وهي هذه:
حنانيك من نفس خافت ... ولبيك عن كمد ثابت
أبا بكر اسمع وقل كيف ذا ... ولست بمسمعة الصامت
تحمّلت فيك من الحزن ما ... تحمّله ابنك من صامت
حلفت لقد متّ من معشر ... غنيين عن خطر المائت
يقولون أنت به شامت ... فقلت الثرى بفم الشامت
وعزّت عليّ معاداته ... ولا متدارك للفائت
وقال فيه من أحسن على إساءته، وهو أبو الحسن عمر بن أبي عمر الرقاني:
مات أبو بكر وكان أمرأً ... أدهم في آدابه الغّر
ولم يكن حراً، ولكنّه ... كان أمير المنطق الحرّ
من شعره في النسيب والغزل وهذه ملح ونكت من شعره في النسيب والغزل قال من قصيدة وأبدع في وصف ما يتزايد من حسن الحبيب على الأيام التي من شأنها تغيير الصور وتقبيح المحاسن:
وشمس ما بدت إلا أرتنا ... بأن الشمس مطلع فضول
تزيد على السنين ضياً وحسناً ... كما رقّت على العتق الشمول
ومن أخرى:
مضت الشبيبة والحبيبة فالتقى ... دمعان في الأجفان يزدحمان
ما أنصفتني الحادثات رمينني ... بمودعّين وليس لي قلبان
ومن أخرى:
قلت للعين حين شامت جمالاً ... في وجوه كواذب الإيماض
لا تغرنّك هذه الأوجه الغر فيا ربّ حيّة من رياض
ومن أخرى:
عذيريّ من ضحك غدا سبب البكا ... ومن جّنة قد أوقعت في جنهم
لأنّك لا تروين بيتاً لشاعر ... سوى بيت من لم يظلم الناس يظلم
ومن أخرى:
عذيريّ من تلك الوجوه التي غدت ... مناظرها للناظرين معاركا
عذيريّ من تلك الجسوم التي غدت ... سبائك تفنى الناس فيها السبائكا
ومن أخرى:
خليليّ عهدي بالليالي صوافيا ... فما بالها أبدلن جيما بصادها
خليليّ هل أبصرتما مثل أدمعي ... نفدن وحقّ الله قبل نفادها
ومن أخرى:
يفلُّ غداً جيش النوى عسكر اللقا ... فرأيك في سحّ الدموع موفقا
وخذ حجتي في ترك جنبي سالماً ... وقلبي ومن حقيهما أن يشققّا
يدي ضعفت عن أن تمزق جببها ... وما كان قلبي ناظراً فيمزّقا
ومن أخرى:
بسمت فأبدت جيدها فتكشّفت ... عن نظم درّ تحت نظم لآلي
وأرتك خديها ولاح عليهما ... صدغان ذو خال وآخر خالي
فكأن ذا ذال خلت من نقطة ... وكأن ذا دال ونقطة ذال
ومن أخرى:
قد عصاني دمعي وخلي فخلت الخلّ دمعاّ وخلت دمعي خلاّ

وأحاطت بي الخصوم فجفناً ... مستهلاً وصاحباً مستقلاً
وفؤاداً لو ظنّ إبليس أنّ ... النار في حرَّه لصام وصلى
ومن أخرى:
هّلم الخطا بدر الدجنّة وارفقا ... بعينكما فالضوء قد يورث العمى
ولا تعجباً أن يملك العبد ربه ... فإن الدمّى استعبدن من نحت الدمى
ومن أخرى:
وكم ليلة لا أعلم الدهر طيبها ... مخافة أن يتقصّ منّي لها الدهر
سهاد ولكن دونه كلّ رقدة ... وليل ولكن دون إشراقه الفجر
وسكر الهوى لو كان يحكيه لذّة ... من الخمر سكر لم يكن حرّم السكر
ولما أدارت مقلة جاهلية ... هلاك امرىء في ضمن ثوبي لها نذر
ومالت كأن قد سقيت خمر خدّها ... وكيف يميل الخمر من ريقه الخمر
حسدت عليها ناظري إذ تحلّه ... كما تحسد الأفلاك نعل فنا خسرو
ومن أخرى:
ولقد ذكرتك والنجوم كأنّها ... درّ على أرض من الفيروزج
يلمعن من خلل السحاب كأنّها ... شررٌ تطاير في دخان العرفج
والأفق أحل من خواطر كاسب ... بالشعر يستجدي اللئام ويرتجي
فمزجت دمعي بالدماء ولم أكن ... صرف الهوى والعهد إن لم أمزج
ومن أخرى:
ليس على القلب للعذول يد ... ولا ليومي من الفراق غد
كلّ فؤاد مع الهوى عرض ... وكلّ يوم مع النوى أمد
يا أيها الطالبون بي رشداً ... متى التقى الحبّ قطّ والرشد
ولي فؤاد مذ صرت أفقده ... لم أنتفع بعده بما أجد
ولي حبيب لو كنت أنصفه ... وجدت فيه أضعاف ما أجد
شهدت للقلب حين علّقه ... بأنه للوجوه منتقد
ومن أخرى:
عليك رقيب ثقيل اللّحاظ ... متى لم يحط علمه يحدس
أنمّ من المسك بالعاشقين ... وألحظ عيناً من النرجس
ومن أخرى:
قلت لما رمدت عيناك ... والدمع سجام
إنّما عوقبت عن عيني ... فاعلم يا غلام
لا أصيبت هذه العين ... بعيني والسلام
وهذه لمع من تضميناته التي كانت رشيقة، وطريقة أنيقة، يضعها في مواضعها، ويوقعها أحسن مواقعها، ويفصح بها عن اتساع روايته وكثرة محفوظاته، فمنها قوله من قصيدة في عضد الدولة:
ولمّا أكثر الحسّاد فيه ... وقالوا قد تغضّنت الخدود
أجاب الفضل عنه حاسديه ... لأمر ما يسود من يسود
لأمر ما البيت لبلعام بن قيس الكناني
بودّي لو رأى كنفيه يوماً ... ومن قد عاش تحتهما لبيد
لأن لبيدا يقول: ذهب الذين يعاش في أكنافهم
ولو أنّ الوليد رآه يوماً ... غدا ورجاؤه غضّ وليد
وحلّ عرى الزمان ولم يردّد ... أشرّق أم أغرّب يا سعيد
وله من أخرى:
حسد السّماك سميّه لما بدا ... في سرجه شخص الهمام الأبلج
السماك: فرس منسوب لعض الدولة.
وغدا فأضحى لا حقاً ضدّ اسمه ... وأراك أعوج وهو عين الأعوج
فلو أن شاعر بحتر في عصره ... ما قال في فرس ولا في أعوج
خفت مواقع وطئه فلو إنّه ... يجري برملة عالج لم يرهج
البيت كما هو للبحتري.
وقوله من أرجوزة من الرجز:
وقينةٍ أحسن من لقياها ... تملي كتاب الحسن مقلتاها
ونقطة وشكله خداها ... إذا اجتلاها اللحظ أنشدناها
واها لريَّا ثمّ واهاً واها المصراع لأبي النجم ومنها في وصف الناقة:
بجسرة قائدها براها ... في السير بل سائقها رجلاها
قد كتب العتق على ذفراها ... أيّ قلوص راكب تراها
البيت جاهلي قديم ومن قصيدة:
لعمرك لولا آل بوية في الورى ... لكان نهاري مثل ليل الميتَّم
وصمت عن الدنيا وأفطرت بالمنى ... ولم لك إلاّ بالحديث تأدمي
وأنشدت في داري وفيما أرى بها ... أمن أوفى من لم تكلم
المصراع لزهير:

ومن قصيدة في الصاحب:
ومن نصر التوحيد والعدل فعله ... وأيقظ نواّم المعالي شمائله
ومن ترك الأخيار ينشد أهله ... أجل أيها الربع خف آهله
المصراع لأبي تمام أيضاً: ومن أخرى:
أخو كلمات ما جلاها لسانه ... على أحد إلا غدا وهو خاطب
متى يروها أهل الصناعة ينشدوا ... عجائب حتى ليس فيها عجائب
المصراع لأبي تمام أيضاً ومن أخرى:
مقابل بين أقوام وألوية ... مردّد بين إيوان وديوان
إذا أتى داره الأضياف أنشدهم ... وأخوتي أسوة عندي وإخواني
المصراع لأبي تمام
يا ترجمان الليالي عن معاذرها ... وحجة الزمن الباقي على الفاني
يا أبحث الناس عن شعر وعن كرم ... يا مورث الطبع إحساناً بإحسان
يا تاركي منشداً من ظلّ يحسدني ... ليس الوقوف على الأطلال من شأني
المصراع لعبد الله بن عمار الرقيّ
طلقت بعدك مدح الناس كلّهم ... فإن راجع فإنّي محصن زاني
وكيف أمدحهم والمدح يفضحهم ... إن المسّيب للجاني هو الجاني
قوم تراهم غضابي حين تنشدهم ... لكنه يشتهي مدحاً بمجّان
البيت من قول القائل:
عثمان يعلم أن المدح ذو ثمن ... لكنه يشتهي مدحاً بمجّان
رجع:
ورابني غيظهم في هجو غيرهم ... وإنّما الشعر معصوب بعثمان
ما كلّ غانية هند كما زعموا ... وربّما سبّ كشحان بكشحان
فسوف يأتيك منّي كلّ شاردة ... لها من الحسن والإحسان نسجان
يقول من قرعت يوماً مسامعه ... قد عنّ حسان في تفريط غسان
الوشي من أصبهان كان مجتلباً ... فاليوم يهدى إليها من خراسان
قد قلت إذ قيل إسماعيل ممتدح ... له من الناس بخت غير وسنان
الناس أليس من أن يمدحوا رجلاً ... حتى يروا عنده آثار إحسان
البيت تضمين ومن أخرى:
كتبت ابن عباد إليك وحالتي ... حال صدّ طمع عليه مناهله
وما تركت كفاك في خصاصةً ... ولكنّ شوقاً قد غلت بي مراجله
أبيت إذا أجريت ذكرك منشداً ... كأنّك تعطيه الذي أنت سائله
المصراع تضمين.
ومن أخرى في عضد الدولة:
أضحت ثياب فنا خسرو مزرّرة ... على هزير وإنسان وصمصام
القائل القول عيّ السامعون به ... فميّلوا بين أوهام وأفهام
والفاعل الفعلة الغراء لامعةً ... أوضاحها بين أقلام وأعلام
والتارك التّرك والخذلان ينشدهم ... يا بؤس للجهل ضرّاراً لأقوم
المصراع للنابغة الذيباني ومنها:
أغنيتني عن أناس كان بعضهم ... عذري ومكثي فيه بعض إجرامي
المبغضين ليوم الفطر جهدهم ... لأنّهم قطّعوه غير صواّم
قوم إذا مرّ ضيف دحرجوا حجراً ... وأسموا اليوم يوم العيد أو رام
قد قدّقوا نفراً قبلي فأنشدهم ... فضلي ونقص الآلي لاقوم بإكرام
قدمت قبلي رجالاً لم يكن لهم ... في الحقّ أن يلحقوا الأبواب قدامي
تضمين كله.
ومن أخرى:
لو أنّك قد أبصرت تاشاً وفائقاً ... على ظهر يخت أدبر الظهر رزام
وقد كتب الاديار في جبهتيهما ... بإنشاء مقمورٍ وتحرير نادم
فلا تأمنن الدهر حرّاً ظلمته ... فإن نمت فاعلم أنّه غير نائم
تضمين كله.
ومن أخرى:
وقائع لو مرّت بسمع ابن غالب ... لما قال ما بين المصلّى راقم
أتتني ورحلي بالمدنية وقعة ... لآل تميم أقعدت كلّ قائم
البيت للفرزدق، قاله حين سمع وهو بالمدينة قتل وكيع بن أبي الأسود لقتيبة بن مسلم.
سل الله واسأل آل بوية إنَّهم ... بحارالمعالي لا بحار الدراهم
تحبّهم البلدان فهي نواشز ... على كلّ زوج بعدهم أو محارم

ممالك قد نادت عليه حروبهم ... بطول القنا يحفظن لا بالتمائم
ومن أخرى كتب بها من أرجان إلى الصاحب وصف فيها الحمى:
ولو أبصرت في أرجان نفسي ... عليها من أبي يحيى ذمام
ولي من أمّ ملدم كلّ يوم ... ضجيج لا يلذّ له منام
مقّبلة وليس لها ثنايا ... معانقة وليس لها التزام
كأنّ لها ضرائر من غذائي ... فيغضبها شرابي والطعام
إذا ما صافحت صفحات وجهي ... غدا ألفاً وأمسى وهو لام
إذاً لرأيت عبدك والمنايا ... تصيح به تنبّه كم تنام
وما أستباك من بعدي أسير ... يرضّ عظامه الحقّ العظام
ولا ترجيع ثكلى خلف نعش ... أمحمول على النعش الهمام
التضمين للنابغة الذبياني
ولا ترديد صبّ وهو باك ... سقيت الغيث أيّها الخيام
ولولا فقد وجهك لم أعبّس ... على ضيف يقال له الحمام
فما في العيش لولا أنت طيب ... ولا في الموت لولا أنت ذام
وكنت ذخرت أفكاري لوقت ... فكان الوقت وقتك والسلام
وكنت أطالب الدنيا بحرّ ... فأنت الحرّ، انقطع الكلام
ولمل سرت عنك رأيت نفسي ... بين القلب والرّجل اختصام
فذاك يقول منك السير عنه ... وتلك تقول منك الاغترام
وسائلني بعلمك من أراه ... وقالوا ما وراءك يا عصام
فقلت زكاة ما يحويه علم ... لمن لغلامه مثلي غلام
آخره تضمين ومن أخرى:
ويشرب لكن في إناء من الثرى ... رحيقاً خوابيها الطلاء والمناكب
ويسمع لكنّ الغناء مدائح ... ويكنز لكنّ الكنوز مناقب
لو أن حبيباً كان لاقاه لم يقل ... وأكثر آمال النفوس الكواذب
آخره تضمين ومن أخرى:
وفي الدّست شخص ودّت الأنجم ... التي تقابله لو أنهنّ مجالس
فلا تعجبوا أن يحمل الدست عسكراً ... فما كلّ أمر تقتضيه المقايس
وأن يسع الدست اللطيف لعالم ... فقد وسعت إسم الاله قراطس
أمين إذا ما الناس مالوا لغيره ... ومحترس من مثله وهو حارس
المصراع الأخير تضمين لعبد الله بن همام سار مثلاً ومنها:
وكنت آمراً لا أنشد الدهر خالياً ... سوى بيت ضرّ نجمه الدهر ناحس
أقلّي عليّ اللوم يا أمّ مالك ... وذمّي زماناً ساد فيه القلاقس
البيت كما هو لعبد الله بن همام.
فأصبح إنشادي لبيت إذا جرى ... ففيه نديم ممتع ومؤانس
ودار ندامى عطّلوها وأدلجوا ... بها أثر جديد ودارس
البيت لأبي نواس ومن أخرى:
يا من يدرّس خالياً حجابه ... سهل الحجاب مؤدب الخدام
كم تطرد الدنيا وترجع بعد ما ... قد طلّقت تطليقة الإسلام
المصراع الأخير لابن هرمة
فكأنّها شيعيّة قميّة ... وكأنّ سيدنا الوزير إمامي
ويقول للخطاب غيرك ليس ذا ... وقت الزيادة فارجعي بسلام
من بيت جرير:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
ومن أخرى:
وجدنا ابن عباد يؤديّ فرائضاً ... من المجد ظّنتها اللئام النوافلا
جدير بأن يغشى الكريهة منشداً ... أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلاً
المصراع لزيد الخيل ومن أخرى:
تعاصيهم أسيافنا فكأنّما ... يرين بريئاً من سفكن له دما
كأنّ ظباها ساعة الروع علّمت ... ولن تستطيع الحلم حتى تحلّما
المصراع الأخير لحاتم الطائي ومن عضدية:
وكم عصبة قرحي عصوك فأصحبوا ... بهم يومهم خمر وفي غدهم أمر
وصارخة للزوج كان غناؤها ... لها كنية عمرو وليس لها عمرو
من بيت أبي صخر الهذلي:
أبى القلب إلاّ حّبها عامرية ... لها كنية عمرو وليس لها عمرو
رجع:

فصيّرتها ثكلى وأصبح قولها ... كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر
المصراع الأخير تضمين ومن قصيدة في أبي نصر بن العميد:
لئن كنت أضحي من عطاياك شاعراً ... لقد صرت أمسي من جانبك مفحما
أبيت إذاأجريت ذكرك منشداً ... وأن أعتب الأيام فيه فربّما
ومالي من الأصوات مقترح سوى ... أعالج وجداً في الضمير مكتّماً
المصراع الأخير للبحتري ومن قصيدة في الأمير أبي نصر الميكالي:
نجر ذيول الفخر حتى كأنّنا ... لعزتنا في آل ميكال ننتمي
هم شحمة الدنيا فإن نتعدّهم ... إلى غيرهم نحصل على الفرث والدم
سقى الله ذاك الروض جوداً كجودهم ... وصيّر آجال العداة إليهم
وأبقى أبا نصر ليربي عليهم ... سنين كما أربى بنين عليهم
وعاش إلى أن يترك الناس مدحه ... ومن ذا الذي يرجو إياب المثلم
وفي الأمثال لا أفعل ذاك حتى يؤوب المثلم
هو الحر لا يحبو بثوب مطّرز ... غسيل ولا يدعو بكيس مختّم
ولا يعدم الراؤون منه ثلاثة ... عطاءً وعذراً وانبساطاً لديهم
ويعذب إن ينصف كما عذبت نعم ... ويثقل إن يظلم كما ثقلت لم
صفوح عن الجهال ينشد فعله ... ويشتم بالأفعال لا بالتكلم
المصراع تضمين، وهو جاهلي معروف ومن قصيدة في الهجاء:
زمن المروءة عهده بفتوّة ... عهدي بترك الشّرب في شوال
غضبان ينشد حين يبصر سائلاً ... كفّي دعاءك إنني لك قالي
وله مواعد قد حكت في طولها ... آلت أمور الشرك شر مآل
البيت ابتداء قصيدة لأبي تمام في المزنيين ومن أخرى:
متى ما زرتهم أوصيت أهلي ... وصية عائد بالجرم بادي
بتجديد الصنادق للهدايا ... وتوسيع المرابط للجياد
وإن ودّعتهم أنشدت فيهم ... سقى عهد الحمى سيل العهاد
المعراع لأبي تمام ومن أخرى شمس المعالي:
شموس لهنّ الخدر والبدر مغرب ... فطالعها بالبين والهجر غارب
ولكنّما شمس المعالي خلافها ... مشارقه ليست لهنّ مغارب
فما لقبوه الشمس إلا وقد رووا ... بأنّك شمس والملوك وكواكب
المصراع الخير من بيت النابغة
أقول لزوّار الأمير ترجّلوا ... فمن زاره من راجل فهو راكب
وإن زاره الفرسان كنت كفيلهم ... بأن يرجعوا والخيل فيهم جنائب
إذا رجعوا عن بابه فنشيدهم ... وإن سكتوا أثنت عليه الحقائب
ألا أبلغوا عنّي الأمير رسالةً ... تدّل على أني على الدهر عاتب
إلى كم يحل المرء مثلك بلدة ... بها منبر فيها لغيرك خاطب
لقد هان من امسى ببلدة غيره ... وقد ذلّ من بالت عليه الثعالب
هذه من سقطاته وعرره، الواقعة في غره فإن فيه سوء أدب، وهو بالتقريع أشبه منه بالتقريظ، وليس مما يخاطب به الملوك ومما زل فيه أقبح زلة، قوله من قصيدة في الصاحب وقد اعتل:
نعوا لي نفس المجد ساعة أخبروا ... بما يشتكي من سقمه ويمارس
فإن في لفظه النعي ما فيها من الطيرة، إذ هي مما يقع في المريثة لا في العيادة، ثم قال:
فهلاّ فداه منه من ليس مثله ... ومن ربعه في ساحة الجود دارس
جزى الله عنّي الدهر شراً فإنّه ... يضايقني في واحد وينافس
ومن سقطاته المنكرة قوله للصاحب من قصيدة:
ومهيب كأنّما أذنب النا ... س إليه فهم مغشون ذلاً
وظريف كأنّ في كلّ فعل ... من أفاعيله عرائس تجلى
فإن الكبراء والمحتشمين لا يوصفون بالظرف، إذ هو من أوصاف الأحداث والقيان والشبان، ولم يرض بالفرطة في هذه اللفظة حتى شبه أفاعيله بعرائس تجلى، فلو مدح مخنثاً لما زاد، والكامل من عدت سقطاته، ولكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة.
غرر من مدحه وهذه غرر من مدحه وما يتصل بها فمن ذلك قوله من عضدية:

غريب على الأيام وجدان مثله ... وأغرب منه بعد رؤيته الفقر
فلا حرّ إلاّ وهو عبد لجوده ... ولا عبد إلاّ وهو في عدله حرّ
عجبت له لم يلبس الكبر حلّة ... وفينا لأن جزنا على بابه كبر
وله من أخرى:
متى أشقّ رواق الملك تلحظني ... عين امرىء بغيوب المجد علاّم
متى أرى قمر الديوان مطّلعاً ... في سطو بهرام بل في ملك بهرام
متى أقبّل فرشاً لا يقبّله ... عاف فيفرق بين الترب والسام
مالي أبيت بشيزار وأصبح في ... داري فدت يقظتي نومي وأحلامي
ما يطلب الحلم من قلبي يقلّبه ... عندي من السّقم ما يكفيه أسقامي
أصبحت أشكر ليلاً أشتكي غده ... الليل عوني والأيام غرّامي
والأرض تعلم أنّي سوف أمسحها ... حتى أرى من يرى بالليل أوهامي
ومن أرجوزة من الرجز:
يا عضد الدولة من يمناها ... يا مهجة قالت لها أعلاها
من أسخط الدرهم أرضى الله ... ومن أزال المال صان الجاها
وقال من قصيدة:
بحمدك لا بحمد الناس أضحي ... وكيلي ليس يكفيه وكيل
وكانوا كلّما كالوا وزنّاً ... فصرناً كلما وزنوا نكيل
وزدت من العيال وذاك أنّي ... كتبت على لقائك من أعول
وعشت وناقص رزقي فأضحى ... مفاعلتن مفاعلتن فعول
وكنت أبيع من سقط القوافي ... وأحجر ما تضمنت الحمول
وأكتم من أبيع دقّ بزّي ... ففاض عليه نائلك الجزيل
ومن أخرى:
ألا حرّكا لي أبروزير بن هرمز ... وقولا له قم تلق أعجوبةً قم
نطلّع إلى الدنيا لتعلم أنّ ما ... ملكت من الدنيا بمقدار درهم
لعمرك لولا آل بوية لم يكن ... نهاري إلاّ مثل ليل المتيّم
ومنها:
وهم جعلوني بين عبد وقينة ... ودار ودينار وثوب ودرهم
وهم تركوا الأيام تعجب أن رأت ... سلوّي ولا أرقى السماء بسلم
وهم حالفوني أوطأوا في صلاتهم ... وصلت عن الأبطال شعري فيهم
ومن أخرى:
ختمت بك العجم الملوك وراجعت ... بك تاج ملكهم القديم المنهج
لم يفقدوا بك أزدشير وإنّما ... فقدوا نقيصة دينه المستسمج
ومن أخرى:
وغاظ مدحك أقواماً وفي يدهم ... لو طاوعوا الجود تقديمي وإحجمامي
وما ظعنت على نهر فأغضبه ... لكن ذكرت عباب الزاخر الطامي
أكلّ فاضل أقوام شهدت له ... يغتاظ من ذكره مفضول أقوام
ومن صاحبية:
وأبيض وضّاح الجبين كأنّما ... محّياه قد درّت عليه شمائله
يقّبل رجليه رجال أقلّهم ... تقّبل في الدّست الرفيع أنامله
ومنها:
أقبل أشعاري إذ اسمك حشوها ... وأشتم ملبوسي لأنّك باذله
وأخطر في حافات دار ملأتها ... طرائف باقي العيش منها وحاصله
وله من أخرى:
وأنت امرؤ أعطيت ما لو سألته ... إلهك قال الناس أسرفت سائلاً
وإني وإلزاميك بالشعر بعدما ... تعلّمته منك الذّرى والفواضلا
كملزم ربّ الدار أجرة داره ... ومثلك أعطى من طريقين سائلا
ومن أخرى:
ولقد عهدت العلم أكسد من ... بهتان فرعون لدى موسى
فأقام قاعد سوقه رجل ... ميت الرجاء ببابه يحيا
فالعلم أصبح في الورى علماً ... والشعر أمسى يسكن الشّعرى
ومن أخرى:
بنيت الدار عاليةً ... كمثل بنائك الشّرفا
فلا زالت رؤوس عدا ... ك في حيطانها شرفا
ومن قصيدة في مؤيد الدولة ذكر فيها افتتاحه قلعة من أبكار القلاع واستنزاله صاحبها المسمى كورشيار منها:
وكنت سماء والعجاج سحائباً ... وخيلك أبراجاً وجيشك أنجما

وأنزلت منها كوشيار وإنما ... تقنّصت من فوق المجرّة ضيغما
عرفتك صياد الأسود ولم أكن ... عرفتك صياد الأسود من السما
خدمتكم يا آل بوية مدّةً ... غدا بينها فرخ الوسائل قشعما
ومن أخرى في أبي الحسين المزني:
كلم هي المثال إلاّ أنها ... في الناس قد أضحت بلا أمثال
فإذا لقين فإنّهنّ عوالي ... وإذا شممن فإنّهم غوالي
ومن صاحبية:
تأخّر عن كتبي الجواب، وإنّما ... تاخر برد الماء عن كبد حرىّ
فلا تفسد عشرين ألفاً وهبتها ... بعشرين حرفاً كلامك تستمرى
ومن ميكالية:
فديتك ما بدا لي قصد حرّ ... سواك من الورى إلا بدا لي
وإنك منهم وكذاك أيضاً ... من الماء الفرائد واللآلي
وتسكن دارهم وكذلك سكنى الحجارة والزمرّد في الجبال
وهذه فقرة من مراثيه قال من قصيدة رثى بها ركن الدولة أبا علي:
ألست ترى السيف كيف انثلم ... وركن الخلافة كيف انهدم
طوى الحسن بن بويه الرّدى ... أيدري الرّدى أيّ جيش هزم
ومنها أيضاً:
طويل القناة قصير العدات ... ذميم العداه حميد الشيم
فصيح اللسان بديع البنان ... رفيع السنان سريع القلم
يكيل الرجال بأقدارها ... ويرعى البيوتات رعي الحرم
جواد عليهم بخيل بهم ... إذا ساء خصّ وإن سّر عم
فيا دهر سحقاً ولا تحتشم ... فقد ذهب الرجل المحتشم
وخطّ الفناء على قبره ... بخطّ البلا وبنان السقم
إذا تمّ أمر دنا نقصه ... توقع زوالاً إذا قيل تم
ومنها:
إذا كان يبكي الورى بالدموع ... وتبكي بهنّ فأين القيم
وقد ساءني عطل الدهر منك ... وقد كنت حلياً عليه انتظم
فما يستحق الزمان اللئيم ... مقامك فيه وأنت الكرم
وله من أخرى في مرثية أبي الفتح بن العميد:
يا دهر إنّك بالرجال بصير ... فلطالما تجتاحهم وتبير
يا دهر غيري من خدعت بباطل ... وابن العميد مغّيب مقبور
الآن نادتنا التجارب طلّقوا ... دنياكم إنّ السرور غرور
يا دهر ظلّ لمخلبيك فريسة ... رجل لعمري لو علمت كبير
رجل لو أن الكفر يحسن بعده ... هجي القضاء وأنّب المقدور
أشكو إليك النفس وهي كئيبة ... وأذمّ فيك الدمع وهو غزير
وأقول للعين الغزير بكاؤها ... خطب لعمري لو عميت يسير
قد متّ بعدك ميتةً مستورةً ... قد ساقها لي موتك المشهور
ودفنت في قبر الهموم وضمّني ... كفنان ضيق الصدر والتفكير
ضحكت إليك الحور ضحكك كلّما ... وافاك ضيف أو أتاك فقير
وضفت عليك ذيول رحمة ربنا ... والله برّ بالجواد غفور
وسقى ضريحك مستهلّ عمره ... شهر وعمر النبت منه شهور
جود ككفّك أو كعيني أو دم ... أجراه سيفك في العدى مشهور
أهوى القيامة لا لشي أن ... ألقاك فيها والأيام حضور
وأحب فيك الموت علماً أنني ... بعد الممات إلى اللقاء نصير
ومن أخرى:
أسّرك أنّ الدهر يجني لما جنى ... ولم يك في الأحبار والنصب يدعي
فيا عجبي من ناصبيّ وفرحة ... وأعجب منه الحزن في المتشيّع
وأعجب من هذين إظهار الأسى ... لمن غاب عن دار الأسى والتوجّع
ألم ترى أن الله قال تمتّعوا ... قليلاً ولم يبق قليل التمتطُّع
ومن أخرى يرثي بها مؤيد الدولة ويعزي ويهني فخر الدولة:
رزئت أخاً لو خيّر المجد في أخ ... من الناس طهراً ما عداه ولا استثنى
وقد جاءت الدنيا إليك كما ترى ... طفيليةً قد جاوبت قبل أن تدعى

صبت بك عشقاً وهي معشوقة الورى ... فقد أصبحت قيساً وعهدي بها ليلى
ولما رأت خطّابها تركتهم ... ولم ترض إلاّ زوجها الأوّل الأولى
ولم تتساهل في الكفّ ولم تقل ... رضيت إذا ما لم تكن إبل معزى
على أنها كانت جفتك تذلّلاً ... فخليتها حتى أتت تطلب الرجعى
وله من قصيدة رثى بها أبا سعيد الشيب وكان واداً له عاتباً عليه:
أيدري السيف أيّ فتى يبيد ... وأيّة غاية أضحى يريد
لقد صادت يد الأيام طيراً ... تضيق به حبانة من يصيد
وأصبح في الصعيد أبو سعيد ... ألا إن الصعيد به سعيد
وقد كانت تضيق الأرض عنه ... فلم وسعت لجثّته اللحود
بلى مسّ الثرى قلباً رحيباً ... فأعدى الترب فاتّسع الصعيد
فلا أدري أأضحك أم أبكي ... وتهدم المنيّة أو تشيد
صديق فقد فقدناه قديم ... وثكل قد وجدناه جديد
مصاب وهو عند الناس نعمى ... ونحس وهو عند الناس عيد
تهنّيني الأنام به ولكن ... تعزّيني المواثق والعهود
وسيف قد ضربت به مرارً ... فمن ضرباته بي لي شهود
فلّما أن تفلّل ظلت أبكي ... وعندي منه فعد دم جسيد
ومن عجب الليالي أنّ حمضي ... يبيد وأنّ حزني لا يبيد
وأن النصف من عيني جمود ... وإن النصف من قلبي جليد
إذا سفحت عليه دموع عيني ... نهاها الهجر منه والصدود
وآثار له عندي قباح ... يجمّش بينها الرأس الحديد
فنصف من مدامعها سخين ... ونصف من مدامعها برد
فمن هذا رأي في الناس مثلي ... أريد من المنى مالا أريد
ومن نكد المنّية فقد حرّ ... تخالف فيه إخواني الشهود
فذا هنّى وقال مضى عدوّ ... وذا عزىّ وقال مضى وديد
رأيت العقل ينفع وهو قصد ... ويلقي في المهالك إذ يزيد
كمثل الدرع إن خفّت أجنّت ... وإنّ ثقلت فحاملها جهيد
ومثل الماء يروي منه قصد ... ويقتل منه بالغرق المزيد
شهدت بأن دهراً عشت فيه ... ومتّ مقيداً فرداً مبيد
وقالوا البحر جزرّ ثم مدّ ... فما لك قد جزرت ولا تعود
بكيت عليك بالعين التي لم ... تزل من سوء فعلك بي تجود
فقد أبكيتني حيّاً وميتاً ... فقل لي أيّ فعليك الرّشيد
فها أنا ذا المهنّ والمعزّى ... وها أنا ذا المباغض والودود
وهاأنا ذا المصاب بك المعافى ... وهاأنا ذا الشقيّ بك السعيد
لقد غادرتني في كلّ حال ... أذمّ الدهر فيك وأستزيد
فلا يوم تموت به مجيد ... ولا يوم تعيش به حميد
وما أصبحت إلاّ مثل ضرس ... تأكلّ فهو موجود فقيد
ففي تركي له داء دويّ ... و في قلعي له ألم شديد
فلا تبعد إقامة رسم حق ... وإنّك أنت للشيء البعيد
وإنك أنت للسيف الحديد ... و إنك أنت للعلم السديد
وإنك أنت الدنيا جميعاً ... و لكن ليس للدنيا خلود
وله من قصيدة يرثي بها أبا الحسن المحتسبي:
وصاحب لي لو حلّت رزيته ... بالطير ما هتفت يوماً على فنن
عاشرته عشرةً لو أنّها وقعت ... بين الضّحى والدّجى سارا على سنن
حتى إذا نلت سؤلي من مواهبه ... و صاد بشباك الوصل والمنن
ثكلته بعد ما سارت محاسنه ... في العظم واللحم سير الماء في الغصن
يا دهر أثكلتني حتى أبا الحسن ... لقد أمنت عليه غير مؤتمن

وصلت سهمك منّي يوم قتلكه ... في مقتل القلب لا في مقتل البدن
جمعت ضّدين من خرق ومن أدب ... بطش الجهول ومكر العاقل الفطن
قد كنت أعجب لم أخرت من أجلي ... الآن أدري لماذا كنت تذخرني
ولم يكن في الورى ذا منظر حسن ... في مخبر حسن إلاّ أبو حسن
وله في عائد بن علي لما ضربته السموم فهلك:
عائد قد دعا به المعبود ... وجميع الورى إليه يعود
أهلكته السموم في أرض مكرا ... ن ولله في الرّياح جنود
وله في أبي سهل البستي الكاتب:
مات أبو سهل فواحسرتا ... أن لم يكن قد مات مذ جمعه
ما حزني إلاّ لأن لم يمت ... بموته من أهله تسعهْ
مصيبة لا غفر الله لي ... إن أنا أذريت له دمعهْ
وهذه نتف من أهاجيه في خلفاء العصر قال:
ما لي رأيت بني العباس قد فتحوا ... من الكنى ومن الألقاب أبوابا
ولقّبوا رجلاً لو عاش أولّهم ... ما كان يرضى به للحش بواب
قلّ الدراهم في كفيّ خليفتنا ... هذا فأنفق في الأقوام ألقاباً
وله في علوي ناصبي:
شريف فعله فعل وضيع ... دنيء النفس عند ذوي الجدود
عوار في شريعتنا وفتح ... علينا للنصارى واليهود
كأن الله لم يخلقه إلاّ ... لتنعطف القلوب على يزيد
وله في فقيه:
مجبر صيّر ابنه ناصبياً ... مجبراً مثله وتلك عجيبه
ليس يرضى أن يدخل النار فرداً ... ساعة الحشر أو يقود حبيبه
وله في أبي سعيد بن مله:
أبو سعيد زحل للكرام ... ومنسف ينسف عمر الأنام
لم أره إلاّ خشيت الرّدى ... و قلت يا روح عليك السلام
يبقى ويفنى الناس في شؤمه ... قوموا انظروا كيف بخوت اللئام
ثم تراه سالماً آمناً ... يا ملك الموت إلى كم تنام
وله فيه:
أرى لك أفعالاً تناقض أمرها ... على أنها في القبح والعار واحد
نبيذك ذا حلو، وجهك حامض، ... وماؤه ذا سخن، وفعلك بارد
وله في أبي الطيب البيهقي:
يبكي من الموت أبو طيب ... دمع لعمري غير مرحوم
ويشتكي ما يشتهي غيره ... شكاية الخير من الشوم
ساكتنا الشيخ أبو طيب ... والصمّت أحياناً من اللوم
وله فيه:
فسار الشيخ سهواً وفي كفّه ... شراب فلمناه لوماً قبيحاً
فقال لي الدخل والخرج لي ... فأدخلت راحاً وأخرجت ريحا
وله في نديم حمامي:
قل لمن ينكح بالعيون ... جواري الأصدقاء
والذي يعتقد الملك ... له قبل الشراء
أنت والله نشيط الأ ... ير كسلان الوفاء
ليت قلبي قدّ من أيرك ... في باب الذكاء
أمهل الساقي ولا تخجله ... بين الندماء
أنا بالساقي كفيل ... لك من بعد العشاء
فإذا ما انصرف النا ... س فجد لي بالأداء
لك أير جاهليّ ... من أيور السفهاء
يا كثير الماء أقرضنا ... ولو حمةّ ماء
أنت من أيرك هذا في ... عناء وبلاء
أعظم الله لك الأجر ... على هذا العناء
وله في طاهر السجزي:
ألا يا سائلي بأبي حسين ... وفي التجريب علم مستفاد
هو ابن سميه والطلاء عين ... وشبه كنيه والسين صاد
وله من قصيدة:
فإن أسكن ببلدة إبن شهرٍ ... فإن البدر ينزل في الظلام
أصغِّرها وإن عظمت ولكن ... لها أهلون ليسوا بالعظام
وفرسانٌ ولكن في الحشايا ... وأجواد ولكن بالكلام
صغارٌ. بالمطالب والسجايا ... وإن كانوا كباراً بالعظام
وله أيضاً:

أبو زيد فتى حرّ، ولكن ... لنا في أمر ذاك الحرّ ظنّه
أراه يشتري الغلام سوداً ... عفاريت فيوهمني بأنّه
وله في فائق وقد قصد الأمير أبا علي لمحاربته من الرجز:
قد خطب الصفع قفا الخصي ... فمرحباً بالخاطب الكفي
ورحل البار إلى الكركي ... فأبشروا بلحمه الطري
وله في أبي سعيد رجاء وأبي القاسم العباس ابني الوليد:
ولما أن رأيت ابني وليد ... وبينهما اختلاف في الفعال
وهبت قبيح ذا الجميل هذا ... وأسلفت العواقب والليالي
إذا اليد أحسنت منها يمين ... فسّوغنا لها ذنب الشمال
وله في رجل جليت ابنته على الختن وهي منه حبلى لأشهر:
يا جالي البنت بعد ما ثقبت ... تبزر القدر بعد ما قلبت
هذا كما قد يقال في مثل ... جصصت الدار بعد ما خربت
وهذه فقر وظرف له في فنون مختلفة قال من قصيدة:
لا يصغر الرجل الكبير ... بعشرة الرّجل الصغير
بل يكبر الرجل الصغير ... بخدمة الرجل الكبير
ويركب التّبر النفيس على الدني من السيور
ماذا يضرّ البدر قر ... ب النجم منه المستنير
بل ما يضرّ السيل مجراه على الأرض الحدور
بل ما عسى صغر السفين يغضّ من عظم البحور
قد زادني شرفاً ولم ... ينقصه من شرف حضوري
كالنار ليس بناقص ... منها اقتباس المستعير
تلقي الفتى سهل الشريعة للجليس وللعشر
أو ما رأيت البحر يغرق ... منه بالخطب اليسير
والناس مثل الجسم يعتمد ... القبيل على الدبير
يتحامل العضو الخطير ... بقوّة العضو الحقير
كتحامل الرمح الطويل ... بزجّه ذاك القصير
ومن أخرى:
يا أيّها الخاطب مدحي وهل ... يورد من غيري رشاء قليب
شيئان لم يجتمعا لأمرىء ... حبّ الدنانير وحبّ الحبيب
ومن أخرى:
ولي والله إخوان كثير ... نصيبي من فعالهم سواء
ولكنيّ رأيتك من أناس ... إذا لم يحسنوا فلقد أساءوا
ومن أخرى:
ومتى شتمت الدهر تشتم صابراً ... تبكي ويضحك ذلك المشتوم
لا ومن صاحبية لما ورد حضرته مكتوب من جهة تاش:
فإن ردّني دهري عليك طريدةً ... فلا غرو أن يسترجع القوس حاجب
هو الوكر طرنا والرّيش وافد ... وعدنا إليه الآن والرّيش ذاهب
ومنها:
جزى الله عني أهل سامان ما أتوا ... وفي الله للثأر المضيعّ طالب
هم زوّجوني لهمّ بعد طلاقه ... وذلك عرس للمآتم جالب
هم اعطشوا زرعي فشمت سحابئاً ... غرائب لما أخلفتني القرائب
فأنحوا لزرعي بالحصاد وأنضبوا ... مياهاً لها أيدي سواهم مذانب
أتحصد أيديكم ويزرع غيركم ... فأنتم جراد والملوك سحائب
أخذه من قول ابن عيينة:
أبوك لنا غيث نعيش بظلّه ... وأنت جراد لست تبقي ولا تذر
رجع:
إذا طمع السلطان فيما كسبته ... بشعري فالسلطان بالشعر كاسب
فأنتم مدحتم آل بواب لا أنا ... وأمدح من لفظ اللسان حقائب
ومن أخرى:
لاحت لوجهي أنجم ... للشيب عدن به طوالع
أودعت منهنّ الصّبا ... من لا يرى ردّ الودائع
فقصصتهنَّ وإنّما ... دهري بمقراضي أخادع
وإذا عدوّك كان بعض ... في الخطوب من تقارع
ومن أخرى:
خضّبتني الأيام لون بياض ... وخضاب الأيام ليس نباضي
وتخطتني المنون إلى شعري ... فأضحى مكفّناً ببياض
ولعمري إنّي لغير لبيب ... في قتال الأيام بالمقراض
ومن أخرى:
وارك تشكو الشيب تظلمه ... والشيب زرع بزره العمر
كالخمر يجلبها الخمار وقد ... يهجى الخمار ويمدح الخمر
وله في تلميذ عاق:

هذا أبو بكر صقلت حسامه ... فغدا به صلتاً عليّ وأقدما
أمسى يجهّلني بما علّمته ... ويريش من ريش لرمي أسهما
يا من قوساً بكفّي أحمكت ... ومسدداً رمحاً بكفي قوّماً
أرقيت بي في سلّم حتى إذا ... نلت الذي تهوى كسرت السّلّما
وله يهجو:
أبا نصر رويدك من حجاب ... فلست بذلك الرجل الجليل
ولا تبخل بهذا الوجه عنّا ... فليس بذلك الوجه الجميل
والأشعار قوم لست منهم ... ولكنّي هجرتك في السبيل
ومن قصيدة في الشكوى:
ولقد بلوت الأصدقاء فلم ... أر فيهم أوفى من الوفر
وكذاك لم أر في العدا أحداً ... أنكى لمن عادى من الفقر
ذهب الغنى ورثت عادته ... فأنا الغنيّ وغيري المثري
وتجمّعت في اثنتان ولم ... يتجمّعا في سالف الدهر
لا يبرح المقصوص موضعه ... ولقد قصصت فطرت عن وكري
ومن أخرى في نكبة المزني:
ولقد بكيت عليك حتى قد بدا ... دمعي يحاكي لفظك المنظوما
ولقد حزنت عليك حتى قد حكى ... قلبي فؤاد حسودك المحموما
ومن أخرى فيه:
قتل الموجر والعجائب جمّة ... شيخ المشايخ بل فتى الفتيان
لا تعجبوا من صيد صعوٍ بازياً ... إن الأسود تصاد بالخرفان
قد غرّقت أملاك حمير فأرة ... وبعوضة قتلت بني كنعان
ومن أخرى في أبي القاسم المزنيّ لما قبض عليه:
وثب الصغير على الكبير وقد ... يطفي التراب حرارة الجمر
لا تعجبنّ فربّ ساقية ... قد كدرت طرفاً من البحر
هذا الحسام يفلّه حجر ... وبه قوام النهي والأمر
غضبت جذيمة نفسه امرأة ... فاصطيد ذاك الحرّ بالحرّ
هيهات هذا الدهر ألأم من ... أن لا يسر العبد بالحرّ
وله، وقد طلبت جارية له بعشرة آلاف درهم:
يا طالباً روحي ليبتاعها ... أنت رسول الغمّ والحسرة
غدوت بالبدرة فارجع بها ... لست أبيع البدر بالبدرة
وله من أخرى:
أيا من قربه خبره ... ويا من بعده عبره
ويا من وصله يوم ... ويا من الشمال هجره فتره
ويا من وصله أعلى ... من الشمأل بالبصرة
ويا من نظرة منه ... تساوي مائتي بدره
ويا من قد حكى خدا ... ه قلبي فيهما جمره
ويا من طرف من أبصر بدراً بعده يكره
ويا من عينه جيش ... كثيف لأبي مرّه
ويا من نخر الشيطا ... ن في مولده نخره
وقال اليوم ألقيت ... بني آدم ي الحفره
ويا من أنذرت عينا ... ه عيني مائتي مرّه
أيا عين ارجعي ما كلّ وقت تسلم الجرّه
ويا أحسن من يسر ... يلقى صاحب العسره
وما أعذب في الأنفس ... من صفح على قدره
ويا من لست أرضي قط ... بالبحر له قطره
ولا أرضى له البدر ... على إشراقه غره
ولا أرضى له الأرض ... على فسحتها حجره
ولا أرضى له بلقيس ... بجلوها على العذره
ولا أرضى برزق الأنس ... والجن له سفره
ولا أرضى من القلب ... له عشق بني عذره
ولا أرضى له السعد ... غلاماً والمنى سخره
ولا أرضى له الرمل ... نضاراً والحصى نقره
ولا أرضى له إلاّ ... بنفسي أمةً حرّه
قد استخرجت من عيني ... عيناً في الهوى ثره
فلو فجّرتها فجّر ... ت منها أثنتي عشره
وقد أضجعني فوق ... فراش الهم والحسره
وقد علّمتني كيف ... يموت المرء من نظره
وله في وصف الخمر من قصيدة:
وصفراء كالدينار نبت ثلاثة ... شمال وأنهار ودهر محّرم

مسّرة محزون وعذر معربد ... وكبر مجوسي وفتنة مسلم
ممات لأحياء حياة لميّت ... وعدم لمن أثرى ثراء لمعدم
يدور بها ظبي تدور عيونناً ... على عينه من شرط يحيى بن أكثم
ينزّها من ثغره ومدامه ... وخدّيه في شمس وبدر وأنجم
نهض إليها والظلام كأنّه ... معاش فقير أو فؤاد معلم
وله، وقد دخل إلى صديق له فبخره وسقاه:
بخّرت ثم سقيت في دار امرى ... تضحي القلوب طوالبا لوفاقه
فكأنّما سقّيت من ألفاظه ... وكأنّما بخّرت من أخلاقه
وله:
يا من يحاول صرف الراح يشربها ... فلا يلفّ لما يهواه قرطاسا
الكأس والكيس لم يقض امتلأوهما ... فرّغ الكيس حتى تملأ الكاسا
وله:
عزل الورد عن أنوف الندامى ... وأتتنا ولاية الريحان
فاقض حق الريحان بالراح فالريحان والراح في الورى أخوان
وأن الورد وابكه بدموع ... من دموع الأقداح لا الأجفان
وله:
رأيتك أن الشرب خيّمت عندنا ... مقيماً وإن أعسرت زرت لماما
فما أنت إلا البدر إن قلّ ضوؤه ... أغبّ وإن الضياء أقاما
وله:
سقاني الوجه الحسن ... كأساً فخلّيت الرسن
وصار عندي حسناً ... قتل الحسين والحسن
وله في الند:
وطيب لا يخلّ بكلّ طيب ... يحيّينا بأنفاس الحبيب
يظل الذّيل يستره ولكن ... تنمّ عليه أزرار الجيوب
متى يشممه أنف حنّ قلب ... كأنّ الأنفس جاسوس القلوب
وله من قصيدة:
عذر من عين الزمان فإنّها ... إذا استحسنت مستحسناً قلّ طائله
وما أنت إلا البيت غنم دخوله ... كثير عواديه بعيد مراحله
وله في باقة ريحان من الرجز:
وضغث ريحان إذا ما وصفه ... واصفه قيل له زد في الصفة
دقّق صانعه ولطّفهكأنّهوشم يد مطّرفه
أو حظّ وراق أدقّ أحرفه ... أو زغبات طائر مصففّه
أو حلّة بخضرة مفوَّفة ومن أرجوزه:
لا تشكر الدهر لخير سببه ... فإنّه لم يتعمد بالهبه
وإنّما أخطأ فيك مذهبه ... كالسيل إذا يسقي مكاناً خربه
والسمّ يستشفي به من شربه ... ما أثقل الدهر على من ركبه
حدّثني عنه لسان التجربة ... ما أهون الشوكة قبل الرّطبة
وأسهل الكد على من أكسبه وله:
لا تيأسن من حبيب ... إذا توعرّ خلقه
فكلّما صلب الخبز ... كان سهلاّ مدقهّ
وله:
لا تصحب الكسلان في حاجاته ... كم صالح بفساد آخر يفسد
عدوى البليد إلى الجليد سريعة ... والجمر يوضع في الرماد فيخمد
وله:
عليك بإظهار التجلّد للعدى ... ولا تظهر منك الذبول فتحقرا
ألست ترى الريحان يشتم ناضراً ... ويطرح في الميضا إذا ما تغيرّا
وله:
تمنيت خلاّت على الدهر أربعاً ... ولم أر مسئولاً أشحّ من الدهر
جماعاً بلا ضعف، وشرباً بلا سكر ... وعمراً بلا شيب، وبذلاً بلا فقر
وله:
وأني لأرجو الشيب ثمّ أخافه ... كما يرتجى شرب الدواء ويحذر
هو الضيف إن يسبق فعيش مكدر ... عليّ وإن يسبق فموت مقدّر
وله:
لا تفرطن في حدّة أعملتها ... فيكلّ ذاك الحدّ منك وتفشلا
أو ما ترى الصمصام والسّكّين إن ... زادا على حدّ الصقال تفللاّ
وله من الرجز:
الملك عندي متعة الشباب ... والعزل عندي فرقة الأحباب
والفقر عندي عدم الشراب ... والشيب عندي كذب الخضاب
والقبح عندي عدم الآداب ... والعرس عندي ليلة الكتاب
والروض عندي ملح الأعراب ... والبغض عندي كثرة الإعراب
والسيف عندي قلم الكتاب ... والنجح عندي سرعة الإياب

والطرد عندي كلحة البواب ... والذل عندي وقفة الحجاب
والقحط عندي قلة الأصحاب ... والشؤم عندي كثرة العتاب
والعيّ عندي هذر الخطاب ... والعزّ عندي طاعة الصواب
وإلالّ عندي خلّة القحاب ... والغول عندي طلعة الكذاب
والصفح عندي أبلغ العقاب ... واللوم عندي سفه الشراب
والأمس عندي أسرع الهّرب ... والمال عندي أسرع الهرب
والغدّ عندي الحقّ للطلاب ... والفخر عندي أفخر الثياب
والسجن عندي منزل التراب ... والهول عندي موقف الحساب
وله من أخرى:
ولا تغترر بالحليم تغضبه ... فربما أحرق الثرى البرد

أبو سعيد أحمد بن شبيب الشبيبي
فرد خوارزم ومفخرتها، وكان جامعاً بين أدب القلم والسيف. وفروسية اللسان والسنان، صاحب كتب وكتائب وفضائل ومناقب ولما اختص بالدولة السامانية. والدولة البويهية، سمى صاحب الجيش، وشيخ الدولتين، وقال:
ربّ إنّ ابن شبيب أحمدا ... صاحب الجيشين شيخ الدولتين
واثق بالله يرجو المصطفى ... وأخاه المرتضى والحسنين
وسمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: كان الشيب في أيام شبابه بخوارزم يقول شعراً غليظاً جاسياً كأشعار المؤدبين، فلما عاشر الناس ولقي الأفاضل لطف طبعه، ورق شعره، كقوله وكتب به إلى:
للشبيبي صنيعتك ... حسرات لفرقتك
واشتياق إلى لقا ... ء تباشر طلع
ربّ سهلّ لقاءه ... يا إلهي برحمتك
وأنشدني أبو عبد الله محمد بن حامد قال: أنشدني أبو سعيد صاحب الجيشين لنفسه في أبي بكر الخوازرمي:
أبو بكر له أدب وفضل ... ولكن لا يدوم على الإخاء
مودّته إذا دامت لخلّ ... فمن وقت الصباح إلى المساء
وأنشدني غيره له في الأمير أبي نصر الميكالي:
يا آل ميكال أنتم غرّة العجم ... لكنّ أحمد فيكم درّة الكرم
لا تحسدوه فإنّ الله فضّله ... منكم عليكم جميعاً، بل على الأمم
لا تحسد رجلاً ما إن له شبه ... فيمن برى الله من عرب ومن عجم
فمن يحاكيه في الأفضال والكرم ... أم من يناوئه في الآداب والقلم
أم من يساجله في كلّ مكرمة ... أم من يعادله في الجود والهمم
يا آل ميكال إنّي قد نصحتكم ... نصح امرىء في هواكم غير متّهم
فاستسلموا لقضاء الله واعترفوا ... بفضل أحمد طوعاً أو على الرغم
وعندي له مقطوعات تصلح لهذا المكان، ولكنها غائبة عني الآن
أبو الحسن مأمون بن محمد بن مأمون
له من قصيدة في مدح الأمير أبي العباس مأمون بن محمد أولها:
أغاظني الدهر من إنصافه جنفا ... هل كان غيري من الأيام منتصفا
أشكو إلى غير مشكو ليشكيني ... هل ينفع الدن شفاؤه البدن
ومن أخرى في الأمير أبي عبد الله محمد بن أحمد خوارزم شباه كان:
كم له من يد عليّ إذا ما ... عدّدت لم يكن لعدّتها كمّ
ما لجهلي قصور شكري فمن ... علوم الضرورات شكر من كان منعم
لست والله ناسي البرّ ما أنسا ... ب بطبع الحياة في جسدي الدم
ومن أخرى:
لئن طال عهدي بوجه الأمير ... فقد طال عهدي بأن أسعدا
إذا شئت رؤية ما في الزمان ... فزر شخصه الفاضل الأوحدا
ترى الليث والغيث والنيرين ... والناس والبحر والمسندا
ومنها:
وبلّغه الله أقصى مناه ... وأسنى له ملك ما مهّدا
ولا زال فيروزه عائداً ... بأفضل حال كما عوّدا
أبو عبد الله محمد بن إبراهيم التاجر الوزير كان بخوارزم قال من قصيدة في أبي سعيد الشبيبي أولها:
حكم عينيك نافذ فيّ ماضي ... كيفما شئت فاقض ما أنت قاضي
وكأنّ الصباح لمّا تجلّى ... لي سيف له الشبيبي ناضي
الهزبر الذي له الدرع كاللبدة ... لليث والقنا كالغياض

ومنها في وصف القلم:
ناطق ساكب أصمّ سميع ... قلق ساكن وقوف ماضي
ناحل الجسم نابه الاسم منقّى الوسم ... في كلّ عاند ذاي اعتراض
هاكها يا أبا سعيد عروساً ... بكر فكر فكن لها ذا افتضاض
وابسط العذر في قصوري عن با ... بك في هذه الليالي المواضي
لم يكن عاق عن لقائك مولا ... ي سوى فرط حشمة وانقباض
وله:
في كلّ يوم لك ارتحال ... تصلح للملك فيه حال
ما سّرنا فيك من إياب ... إلاّ وقد ساءنا انتقال
فلا نهنيكّ بانقلاب ... إلاّ وفي عقبه زيال
حتى كأنّا نراك حلماً ... ومنك يعتادنا خيال
بذلت للملك نفس صون ... ما اعتاقها الأين والكلال
فقف قليلاً فقد تشكّى ... إسارك الخيل والبغال
ودم لخوارزم شاه يمنى ... يد لها غيرك الشمال
وقال فيه يستعطفه أيام محنته حين أساء رأيه فيه إذ كان أوحشه في أيام دولته:
يا من له في المعاني نّية حسنة ... حتى جفن جفنه من حسنها وسنه
ومن حكى خطّه زهر الربى حسداً ... وودّ سحبان من إعرابه لسنه
أحسنت رأيك في إسحاق فانفرجت ... عنه الهموم وعادت حاله حسنه
كذاك فاحسبه فينا ننج من كرب ... يمرّ فيها علينا اليوم ألف سنه
وأغض عمّا مضى فالمهر ممتنع ... صعب إلى أن يرى في رأسه رسنه
وأنت بدر دجى، بل أنت شمس ضحى ... بل أنت بحر حجى، بل أنت خصب سنه
وكتب إلى صديق له:
وعدتني بالرجوع ... من قبل وقت الهجوع
وقد تغافلت حتّى ... أضرمتني بالجوع
فبالرجوع تفضّل ... أولاً في فبالمرجوع

أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الرقاشي
من أبناء الوزراء بمدنية خوارزم، وكان ككشاجم كاتباً شاعراً منجماً، فمن غرره قوله من قصيدة في الشبيبي:
إن الهوى سبب لكلّ هوان ... وفراق من تهواه موت ثاني
سقياً لدهر كنت حلف أغاني ... فيه وخدن الراح والريحان
لم تبق لي هممي وحسن شمائلي ... منها سوى ذكرى على الأزمان
ولقد رضيت بأن أرى متفّرداً ... دون القرين مقارعاً أقراني
أرمي إذا حملوا وأظعن إن رموا ... وأقدّ منهم من أراد طعاني
تنفي الخناجر في الحناجر غصّتي ... والبيض في بيض العدا أحزاني
وأعدّ عند مواردي ومصادري ... حكم الكهول وصولة الشبان
مستبدلاً ضرب الطلا بمصارع الشكوى وضرب الدفّ والعيدان
مستغنياً بالرمح أخضب صدره ... عن كلّ مخضوب البنان حصان
مستبدلاً زرد الدموع كأنّها ... شعر تفلفل في الحي الحبشان
مستشعراً باسم الشبيبي الذي ... عمّ الورى بالبرّ والإحسان
يفدي الكماة أبا سعيد إنّه ... حامي الحماة وفارس الفرسان
يا أحمد بن شبيب المفدى على ... جور الزمان وسطوة الحدثان
أنت القرين لكلّ جد مقبل ... أنت البشير بكل فتح داني
لك عزمة بهرام من أتباعها ... لك همّة تسمو إلى كيوان
فإذا ركبت ضمنت كلّ أمان ... للخائفين ونيل كلّ أماني
وإذا أقمت فإن ذكرك ظاعن ... تسري به الركبان في البلدان
فقت الأنام حجى وفقت شجاعة ... ورجحت عند الجود في الميزان
إن الفتوح على يديك تتابعت ... كتتابع الأنوار في نيسان
حفروا الخنادق حولهم فكأنّما ... حفروا مقابرهم لدى الخذلان
تعزّزوا بالماء ثم سقوا به ... سقاوة المطر بالطوفان
غدروا فعود منهم أرواحهم ... في النار والأشباح في الغدر

خفقت بنود حولهم فكأنّما ... طارت قلوبهم من الخفقان
وسرت طوارق لطف كيدك فهم ... لطافة الأرواح في الأبدان
ولئن حسد فلست أوّل سابق ... يرميه بالبغض آلام وإن
إنّ الكريم حسّد في قومه ... وترى الحسود مطّية الأشجان
وله فيه من أخرى:
أمن الملاك أم الحفر ... هذا التاج والضرر؟
أم غرّك الصبح الذي ... أطلعت من ليل الشعر
أم عرّضت أيدي الخطوب ... صفاء ودّك للكدر
وأرى المقام بلدة ... لا تشتهي إحدى الكبر
واعد نفسي في الحضر ... لكن همّي في السفر
ومن أخرى:
كف بنحولي عن هواي مترجماً ... وبالدمع منّاماً عليّ إذ هميّ
تألمت من ثقل الهوى متشبهاً ... بخصر من أردافه إذ تألّما
وكلّ طرفي بالنجوم كأنذني ... لرعي نجوم الليل صرت منجّماً
ومنها في مدح الشيب:
خرجنا نهاراً نطلب العد ... فألبسنا ليلاً من النقع مظلماً
أثرنا سحاب النقع لما تجاوبت ... عود صهيل الخيل تستمطر الدّم
فكم من جواد قد حبسناه بعدما ... أثرناهم من كثرة النبل شهماً
وأشهب قد خضنا به الحرب فاكتسى ... دماً وقتال عاد أشقر أدهم
ومن أخرى:
وقين تنطق يمناها ... وتلقط العنّب يسرها
إذا سرت نمّ عليها الحليّ ... وضوء خدّيها وريّا
لو أن إبليس رأى وجهها ... صلى لها طوعاً ومنام
تظلمني في هجرها مثلما ... أسفلها يظلم أعلاها
ما تفعل الخمر بشرّابها ... ما فعلته فيّ عيناها
ومن أخرى:
لا الراح راحي ولا الريحان ريحاني ... ما لم تزرني ولا الندمان ندم
وما التعلّل والأيام حائلة ... ببني وينك بالآمال من شأني
وما جزعت على شيء سوى جزعي ... إن لم أمت كمداً من فقد خلاّني
وقد ذكرتك والأبطال عابسة ... والموت يبسم عن أنياب شيطان
والنبل كالشهب في ليل العجاج وباب ... الأمن ناء صبري والرّدى داني
والسمر تبكي دماً والبيض ضاحكة ... والجودّ ولون الملتقى قاني

أبو عبد الله محمد بن حامد
حسنة من حسنات خوارزم، وغرة شاد في جبينها، يرجع إلى كل فضل، ويجمع بين قول فصل وأدب جزل، ويؤلف بين أشتات المناقب، وينظم عقود محمد وله خط يستوفي أقسام الحسن، ونثر كنثر الورد، ونظم كنظم الدر.
وكان في عنوان شبابه يكتب لأبي سعيد الشيب، وهو منه بمنزلة الولد، والعضو من الجسد، فلما انقضت أيامه واختص بالصاحب أبي القاسم وغلب عليه ببراعته، وحذفه في صناعته، وتقلد بريد قم من يده وبقي بها مدة بين حسن حال وتظاهر جمال، وحين حن إلى وطنه وآثر الرجوع إلى بلده قدم من سلطان خوارزم شاه على ملك مكرم لمورده، عارف بفضله، موجب لحقه، ولم يزل ومن قام مقامه من أبنائه رحم الله السلف وأبقى عز الخلف يعدو له وإلى الآن من أركان دولتهم، وأعيان حضرتهم، ويعتمدونه للمهمات السلطانية والسفارات الكبيرة، وكان أنفذ مرة رسولاً إلى حضرة السلطان المعظم يمين الدولة أطال الله بقاءه يبلغ فاستولى على الأمد في القيام بشروط السفارة، وملك القلوب، وسحر العقول بحسن العبارة، وجمعته وأبا الفتح علي بن محمد البس الكاتب مناسبة الأدب، ومشاكل الفضل، فتجاورا وتزاورا وتصادقا وتعاشر، وتجارياً في حلبة المذاكرة، وتجاذبا أهداب المحاضرة، وجعل أبو عبد الله يرسل لسانه في ميدانه، ويرخى من عنانه، فيرمي هدف الإحسان، ويصيب شكل الصواب، فقال فيه أبو الفتح من الرجز:
محمّد بن حامد إذا ارتجل ... ومرّ في كلامه على عجل
نقب خدّ كلّ ندب سابق ... بنثره ونظمه ثوب الخجل
أقلامه يسقين كلّ ناصح ... وكاشح كأسيّ حياة وأجل
فناصحوه مشرقون بالأمل ... وكاشحوه مشرون بالوجل

أبقاه للدين والدنيا معاً ... وللمعالي ربّنا عزّ وجل
وقال فيه أيضاً:
بنفسي أخ نفسه أمّة ... وتدبيره في الورى فيلق
أخ باب إحسانه مطلق ... وباب إساءته مغلق
كريم السجايا فلا رأيه ... بهيم ولا خلقه أبلق
محمد أنت قرى ناظري ... فكيف إذا غبت لا أقلق
رهنت قلبي وحكم القلوب ... إذا رهنت أنّها تغلق
وقال فيه أيضاً من الرجز:
يا من أراه للزمان حسنة ... ومن حوى من كلّ شيء أحسنه
إن غبت عني سنةً فهي سنة ... وسنة تحضر فيها وسنة
وعلى ذكر أبي الفتح بعض العصريين من أهل نيسابور فيه:
إذا قيل من فرد العلى ومحمد ... أجاب لسان الدهر ذاك ابن حامد
همام له في مرتقى المجد مصعد ... يلوح له العّيون في ثوب حاسد
كريم حباه المشترى بسعوده ... وأصبح في الآداب بكر عطارد
به سحبت خوارزم ذيل مفاخر ... على خطّة الشعر وربع الفراق
فلا زال في ظلّ السعادة ناعماً ... يحوز جميع الفضل في شخص واحد
وحدثني أبو سعيد محمد بن منصور قال: لما ورد أبو عبد الله رسولاً على شمس المعالي وصل إلى مجلسه فأبلغ الرسالة وأدى الألفاظ واستغرق الأغراض أعجب به شمس المعالي إعجاباً شديداً، وأفضل عليه فضل كثيراً، ورغب في جذبه إلى حضرته واستخلاصه لنفسه، فأمرني بمجاراته في ذلك، ورسم لي أن أبلغ كل مبلغ في حسن الضمان له، وأركب الصعب والذلول في تحري وتحريضه على الانتقال إلى جنبته، فامثل الأمر، وجهدت جهدي، وأظهرت جدي في إرادته عليه، وإدارته بكل حيلة، وتمني جميلة، فلم يجب ولم يوجب، وقال: معاذ الله من لبس ثوب الغدر والانحراف عن طريق حسن العهد، وانصرف راشداً إلى أوطانه وحضرة سلطانه.
وقد كتبت لمعاً من شعره وليس يحضرني الآن سواها لغية عن منزلي فتأخر كيثر مما أحتاج إليه عني، قال من قصيدة ي الصاحب:
غدا دفتري أنساً وخطّي روضةً ... وحبري مد وارتجالي ساقياً
ولا شدو لي إلا التحفّظ قارئاً ... ولا سكر حين أنشد واعياً
تجشّم أوصافاً حساناً لعبده ... فطوّقه عقداً من العزّ حالياً
فلولا امتثال الأمر لا زال عالياً ... لطار مكان النظم رجلان حافياً
على أنّني إن سرت أو كنت قاطناً ... فغاية جهدي أن أطوّل داعياً
رسائله لي كالطعام وشعره ... كما زلال حين أصبح صادياً
فإن ظلّت الآمال تشكر ظلّه ... فإنّ لسان المال قد ظلّ شاكياً
كأنّ له الخلق قال لجوده ... أفضل كلّ ما تحويه ورق عبادياً
ومن أخرى:
ما أنس لا أنس أياماً نعمت بها ... وهذّبتني طوف وتردادي
أيام أركب متن الريح تحملني ... والطر والنفس والأقلام دون
كافي الكف أدام الله نصرته ... نجل الأمين الكريم الشيخ عّباد
غمر الرداء لرواد ورّاد ... سهل الحجاب لزوّار وفّاد
لا زالت الدولة العلياء تلزمه ... ما قالت العرب حّيوا الحيّ بالوادي
ومن أخرى:
ليهنك هي الملك والعمر ... ما ساير سيران الشّعر والسّمر
وطال عمر سناك المستضاء به ... ماعمّر بقين الكتب والسّير
يفدي الورى كلّهم كافي الكف فقد ... صفا به أفضل العدل والنظر
له مكارم لا تحصى محاسنها ... أو يحسب أكثر الرمل والشجر
لكيده النصر من دون الحسام وإن ... تمرّد شجع الترك والخز
ما سار موكبه إلاّ ويخدمه ... في ظلّه شيء الفتح والظفر
وإن أمرّ على طر أنامله ... أغضب له بهجة شيء والزهر
دامت تقّبلها صيد الملوك كما ... يقبل الأكرم الركن والحجر
وهي تربي على ثلاثين بيتاً

ومن أخرى كتب بها من الري إلى الزهر يهنئه بدخولها:
بريق الرأي يعبده الحسام ... وبرق السّعد يخدمه الأيام
وما اتفّقا كما اتفّقا لقوم ... هو صم والملك الهمام
همام لا يؤمّ الخطب إلاّ ... ونصر الله عزّ له إمام
وما بلدة في الأرض إلاّ ... إليه بها نزاع أو هيام
فلو أنّ البلاد أطقن سعياً ... لسارع نحوه البلد الحرام
أدام الله أيام المعالي ... وذلك أن يدوم له الدوام
وما لي غير ما هو جهد مثلي ... دعاء أو ثناء لا يرام
وله من أخرى كتب بها إليه:
سلام على نفس هي الأمة الكبر ... وشخص هو المجد المنيف على الشعر
هو الدّين والدنيا فزره تر المنى ... وتحصل لك الأولى وتحصل لك الأخرى
وله من قصيدة في أبي سعيد الشيب بزر من جرح بالمضارب ليعسكر بظاهر متوجهاً إلى الأمير أبي علي وفائق، فاتفق تعرض أرض في تلك الصحراء، فتبادر الغلمان إليهما فصادوهما فتفاءل أنه يغلب العدوين. كما اصطاد الغلمان الأرنبين، فقال:
أتاك بما تهوى وترضى المحرّم ... وجاءك بالنصر العزيز يترجم
ولا غرو أن تلقى الذي تبتع وما ... تحاول والأفلاك بالسّعد تخدم
وبختك مرفوع وجدّك مقبل ... وأمرك متبوع وقدرك معظم
ورأيك في قمع المناوب راية ... و هي الشّماء جيش عر
وحسبك صيد الأرنبين مبشراً ... بصيدك أعداءً على الغدر أقدموا
وله فيه من مهرجانية على وزن المصراع الذي أنشده في المنام، وذلك أنه رأى شخصاً مثل بين يديه وقال له: قد نلت ما لم تنله قبلك الأمم قال:
بين خمر ولكن سكرها سقم ... والحب نعمى ولكن في غد نقم
إنّ المحبين أحرار وأنفسهم ... لمن يحبون في حكم الهوى خدم
يا أيّها الظاعنون، القلب عندكم ... إن لم يكن عندكم فالقلب عبدكم
لي ينكم قمر في ثغره برد ... في قدّه غصن في وجهه صم
كأنّما ابن شيب سلّ في يده ... من مقلي حساماً حدّه خدم
القائل القول لم تنطق به عرب ... والفاعل الفعل لم تفطن به العجم
على الكنوز أمين غير متّهم ... وسيفه في رقاب الناس متّهم
وقد غدا وهو شيخ الدولي كما ... للحضرتين به عزّ ومنتظم
لذاك في النوم شخص الصدق قال له ... قد نلت ما لم تنله قبلك الأمم
ومن أخرى في أبي العباس الضّب:
زمن جديد وعيد سعيد ... وقت حميد فماذا تريد
وأحسن من ذاك وجه الرئيس ... وقد طلعت من سنة السعود
وكم حلة خطّها قد غدت ... على برد آل يزيد تزيد
وكتب إليه الشيخ أبو سعد الإسماعيلي قصيدة منها:
سلام على شيخ محمد والذي ... له الذروة العلياء والشرف العدّ
ومن صحّ منه ودّه وفاؤه ... على حين لم يحمد لذي خلّة عهد
فأجابه بقصيدة منها:
أفخر وذخر أم خطاب له مجد ... أسحر أتى أم نظم من لا له ندّ
شممت من العنوان عند طلوعه ... روائح فضل دونها المسك والندّ
وساعة فكّي الختم أبصرت جنذةً ... سقتها غوادي الفكر فهي لها خلد
فأشجارها علم وأغصانها تقى ... وأثمارها فهم وغدر رشد
تجشّمها الشيخ الإمام الذي به ... ومنه وفيه يعرف الكرم العدّ
ومن بحل أخلاقه تشرف العلى ... ويلمع في الدنيا بكنيته السّعد
ومنها:
وكيف يؤدي حقّ شعر شعاره العلاء ... وراويه ومنشده المجد
وبي حرفة منذ غبت عن حرّ وجهه ... حرارة نار العشق في جنبها برد
وله إلى أبي العلاء السري بن الشيخ أبي سعد الإسماعيلي من قصيدة:
قرأت لمن له يصفو ودادي ... نظيماً كالشّباب المستعاد

سرياً كاسم صاحبه ولكن ... به عاد الحنين إلى ازدياد
فكان اللفظ في معنى بديع ... ألذّ لديّ من نيل المراد
وكتب إلى الشيخ الوزير أبي الحسين أحمد بن محمد السهل لما رزق أبو عبد الله ابناً في المحرم سنة اثنتين وأربعمائة:
عوائد صنع الله تكنفني تترى ... فتورثني ذكراً وتلزمني شكراً
فمنها نجيب جاء كالبدر طالعاً ... سويّا سنيّاً شدّ لي نوره أزرا
وما هو إلا خادم وابن خادم ... لسّيدنا مدّ الإله له العمر
فما رأيه في الاسم لا زال مسمياً ... مواليه كي يقتنوا الفخر والذخر
فأجابه بهذه الأبيات:
سكنت إلى ما قلته أوّلاً نثراً ... نعم وإلى ما صنعته آخر شعر
فهنّأك الله النّجيب فإنّه ... من الله فضل يوجب الحمد والشكر
وما جاء إلا أن يكون لصنوه ... ظهيراً فقوّى الآن بينهما ظهر
وأثر أن يكنى بكنية جدّه ... أبي أحمد والاسم اختاره نصر
ليحمد منه الله تقواه والهدى ... وينصره في علمه والنّهى نصر

أبو القاسم أحمد بن أبي ضرغام
أحد شعراء خوارزم القلق المذكورين، وكان يهاجي أبا بكر الخوارزمي ويسابه في عنفوان شبابه، من محاسنه قوله من قصيدة في الشيب:
ابن شيب أبو حروب ... أخو ندى للحفاظ خلّ
ليث قتال وأيّ ليث ... بالسيف والرمح يستقلّ
ومنها:
خذها عروساً أتتك بكر ... لغيرك الدهر لا تحلّ
خذها وسق مهرها إليها ... إن لم يكن وابل فطلّ
ومن أخرى:
يا ملكاً آثر الصواب ... فباكر اللهو والشراب
لا يشرب الراح غير حرّ ... يرفع عن ماله الحساب
طابت لك الراح فاشربها ... صرفاً فصرف الزمان طاب
ستبصر الأرض عن قريب ... تلبس من وشيها ثياب
ما شئت من طائر تراه ... مغرّداً ما خلا الغراب
ولست ليلاً ترى بعوضاً ... ولا نهاراً ترى ذباب
ومن أخرى أولها:
ديار بيض من نثار الدرهم ... وبيضك حمر من نثار الجماجم
الباب الخامس
في ذكر
أبي الفضل الهمذاني
وحاله
وصفه ومحاسن نثره ونظمه
هو أحمد بن الحسين بديع الزمان، ومعجزة همذان، ونادرة الفلك، وبكر عطارد، وفرد الدهر، وغرة العصر، ومن لم يلق نظيره في ذكاء القريحة وسرعة الخاطر وشرف الطبع وصفاء الذهن وقوة النفس، ومن لم يدرك قرينه في ظرف النثر وملحه وغرر النظم ونكته، ولم ير ولم يرو أن أحداً بلغ مبلغه من لب الأدب وسره، وجاء بمثل إعجازه وسحره، فإنه كان صاحب عجائب وبدائع وغرائب، فمنها أنه كان ينشد القصيدة التي لم يسمعها قط وهي أكثر من خمسين بيتاً فيحفظها كلها ويؤديها من أولها إلى آخرها، لا يخرم حرفاً ولا يخل بمعنى، وينظر في الأربعة والخمسة أوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة ثم يهدها عن ظهر قلبه هذا ويسردها سرداً. وهذه حاله في الكتب الواردة عليه وغيرها.
وكان يقترح عليه عمل قصيدة أو إنشاء رسالة في معنى بديع وباب غريب، فيفرغ منها في الوقت والساعة والجواب عنها فيها.
وكان ربما يكتب الكتاب المقترح عليه في بآخر سطر منه ثم هلم جر إلى الأول ويخرجه كأحسن شيء وأملحه، ويوشح القصيدة الفريدة من قوله بالرسالة الشريفة من إنشائه، فيقرأ من النثر والنظم ويعطي القوافي الكثيرة فيصل بها الأبيات الرشيقة، ويقترح عليه كل عويص وعسير من النظم والنثر فيرتجل في أسرع من الطرف، على ريق لا يبلعه ونفس لا يقطعه.

وكلامه كله عفو ساعة، وفيض البديهة، ومسار القلم، ومسابقة اليد، وجمرات الحدة، وثمرات المدة، ومجاراة الخاطر للناظر، ومباراة الطبع للسمع، وكان يترجم ما يقترح عليه من الأبيات الفارسية المشتملة على المعاني الغربية، بالأبيات العربية، فيجمع فيها بين الإبداع والإسراع، إلى عجائب كثيرة لا تحصى، ولطائف يطول أن تستقص وكان مع هذا كله مقبول الصورة خفيف الروح، حسن العشرة، ناصع الظرف، عظيم الخلق، شريف النفس كريم العهد، خالص الود، حلو الصداقة، مر العداوة وفارق هدم سنة ثمانين وثلث وهو مقتبل الشيب غض الحداثة، وقد درس على أبي الحسين بن فارس وأخذ عنه جميع ما عنده واستفد علمه واستنزف بحره، ورد حضرة الصاحب أبي القاسم فتزود من ثمارها وحسن آثارها، ثم قدم جرح وأقام بها مدة على مداخلة الإسماعيلية والتعيش في أكن والاقتباس من أنوار واختص بأبي سعد محمد بن منصور أيده الله تعالى، ونفقت بضائعه لديه، وتوفر حظه من عادته المعروفة في إسداء المعروف وأفضل على الأفاضل، ولما استقرت عزيمته على قصد نيسابور أعانه على حركته، وأزاح علله في سفرته فوافاها في سنة اثنين وثمانين وثلاثة، ونشر ما بزّه، وأظهر طرزه وأملى أربعمائة مقامة نحلها أبا الفتح الإسكندر في الكدية وغيرها وضمنها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، من لفظ أنيق قربي المأخذ بعيد المرام، وشجع رشيق المطلع والمقطع كشج الحمام، وجد يروق فيم القلوب، وهزل يشوق فيسحر العقول، ثم شجر بينه وبين أبي بكر الخوارزمي ما كان سبباً لهب ريح هدم وعلو أمره وقرب نجح وبعد صيته، إذ لم يكن في الحسبان والحساب أن أحداً من الأدباء والكتاب والشعراء ينر لمباراته، ويجتر على مجاراته، فلما تصدى هدم لمساجلته، وتعرض لتحك به، وجرت بينهما ما يجري مكاتبات ومباه ومناظرات ومناضلات، وأفضل السنان إلى العنان، وفرع النبع بالنبع، وغلب هذا قوم وذاك آخرون، وجرى من الترجيح بينهما ما يجري بين الخصمين حاكم والقرنين الوصل، طار ذكر الهدم في الآفاق، وارتفع مقدار عند الملوك والرؤساء، وظهرت أمارة الإقبال على أموره، وأدّر له خلاف الزرق وأركبه كناف العز، وأجاب الخوارزمي داعي ربه فخلا للهدم، وتصرفت به أحوال جميلة وأسفار كثيرة، ولم يبق من بلاد خراسان وسجن وغزت بلدة إلا دخلها وجنى وحب ثمرتها، واستفاد خيرها وأميرها، ولا ملك ولا أمير ولا وزير ولا رئيس إلا مطر منه بنوء، وسرى معه في ضوء، ففاز بر النعم، وحصل على غرائب القسم وألقى عصا بهر واتخذها دار قراره، ومجمع أسبابه، وما زال يرتاد للوصلة بيتا يجمع الأصل والفضل، والطهارة والستر والقديم والحديث، حتى وفق التوفيق كله، وخار الله له في مصاهرة أبي علي الحسين بن محمد الخشن وهو الفاضل الكريم الأصيل، الذي لا يزاد اختباراً، إلا زيد اختيار، فانتظمت أحوال أبي الفضل بصهر، وتعرفت الق في عينه والقوة في ظهر، واقتنى بم ومشورته ضياعاً فاخرة وأثر معيشة صالحة وثروة ظاهرة وعاش عيشة راضية، وحين بلغ أشده وأرب على أربعين سنة ناداه الله فلباه وقدم على آخر وفارق دنياه في سنة ثمان وتسعين وثلاثة، فقالت عليه نواب الأدب، ومثل حد القلم، وفقدت عين الفضل قرتها، وجبهة الدهر غرتها وبكاه الأفاضل مع الفضائل، ورثاه الأكارم مع المكارم، على أنه ما مات من لم يمت ذكره، ولقد خلد من بقي على الأيام نظمه ونثره، والله يتولاه بعفوه وغفرانه، ويحييه بروحه وريحانه، وأنا كاتب من ظرف ملحه ولفظ غرره، ما هو غذاء القلب ونسيم العيش وقوت النفس، ومادة الأنس.

فصول من كتاباته
فصل من رقعة له إلى الخوارزمي
وهو أول ما كاتبه به
أنا لقرب دار الأستاذ أطال الله بقاءه ... كما طرب النشوان مالت به الخمر
ومن الارتياح للقائه ... كما انتفض العصفور بلله القطر
من الامتزاج بولائه ... كما التقت الصهباء والبارد العذب
ومن الابتهاج بمزاره ... كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب
ومن رقعة له إلى غيره
يعز علي أيد الله الشيخ! أن ينوب في خدمته قلمي، عن قدمي، ويسعد برؤيته رسولي، ويرد مشرع الأنس به كتابي، قبل ركابي ولكن ما الحيلة والعوائق جم:

وعليّ أن أسعى وليس ... عليّ إدراك النجاح
وقد حضرت داره، وقبلت جداره وما بي حب للحيطان، ولكن شغف بالقطّان، ولا عشق للجدران، ولكن شوق إلى السكان.
ومن أخرى لا أزال لسوء الانتقاد، وحسن الاعتقاد، أبسط يمين العجل وأمسح جبين الخجل، ولضعف الحاسة، في الفراسة، أحسب الورم شحماً، والسراب شراباً، حتى إذا تجشّمت موارده، لأشرب باردة، لم أجده شيئاً.
فصل حضرته التي هي كعبة المحتاج، لا كعبة الحجاج، ومشعر الكرم لا مشعر الحرم، ومنى الضيف، لا منى الخوف، وقبلة الصلات، لا قبلة الصلاة.
فصل ورد للخوارزمي يتلق فيه عن جنب الحر وتقلى على جمر الضجر، ويتأوه من خمار الحجل ويتعثر في أذيال الكلل ويذكر أن الخاصة قد علمت الفل لأي كان فقلت: ست الباب علم والخوارزمي أعرف والأخبار المتظاهرة أعدل والآثار الظاهرة أصدق وحلبة السباق أحكم وما مضى بيننا أشهد والعود إن نشط أحمد ومتى استزاد زدناً، وإن عادت العقرب عدناً وله عندي إذا شاء كل ما ساء وناء، ولن يعدم إذا زاد نقداً يطير فراخه، ونفقاً يصم صمم، وما كنت أظنه يرتقي بنفسه إلى طلب مساماً بعد ما سقيته نقي الحنظل، وأطعمته أخر بالخردل فإن كان الشقاء قد أستطيع، فالنفس منتظرة، والعين ناظرة، والنعل حاضرة، وهو منّي على ميعاد، وأنا له بمر.
فصل منه قد شملتني على رغم أطراف النعم، ومطر سحب المنن، ورغم التراب، وللحاسد الحائط والباب، وللكارة اليد والناب.

فصل من كتاب إلى أبيه
للشيخ لذة في العب والسبّ، وطبيعة في العنف والمنع، فإذا أعوزه من يغضب عليه فأنا بين يديه، وإذا لم يجد من يصونه، فأنا زبون، والولد عبد ليست له قيمة، والظفر به هزيمة، والوالد مولى أحسن أم أساء، فليفعل ما شاء.
فصل من كتاب تعزية إلى أبي عامر عدنان بن عامر بن محمد الضب
الموت خطب قد عظم حتى هان، وأمر قد خشن حتى لان، والدنيا قد تنكّرت حتى صار الحمام أصغر ذنوبها، فلتنظر يمنة، هل ترى إلا محنة، ثم لتعطف يسرة، هل إلا حسرة.
ومن كتاب له إليه أيضا
ً
وإن يشأ الله يفض بنا الأمر إلى حال تسعه مولى وتسعني عبداً وشد ما بخلت بهذه الكلمة، ونفرت عن هذه السمة، هذا الشيخ الشهيد أبو نصر رحمه الله مد لها الحظ، فلم يحظ، وهذا ابن عباد شد لها الرحل، فلم يحل.
ومن رقعة
مثلك في السفارة، الفأرة، طففت تقرض الحديد فقيل لها: ويحك! ما تصنعين؟ الناب ودقة رأسه، والحديد وشدة بأسه، فقالت: أشهد، ولكني أجهد، وإن تنج من تلك الأسباب، فهي الذباب، مقادير لا معاذير.
فصل من رقعة إلى خلف
سمعت منشداً ينشد:
لحى الله صعلوكاً مناه وهمّه ... من العيش أن يلقى لبوساً ومطعماً
فقلت: أنا معنى هذا البيت، لأني قاعد في البيت، آكل طيب الطعام، وألبس لين الثياب، ويف عليّ بذل، ولا يفوّض إليّ شغل ويملأ لي وطب، ولا يدفع بي خطب، هذا والله عش العجائز، والزمن العاجز.
ومنها: الرأس أيد الله الأمير! كثير الخبط والضيف كثير التخليط، وصب هذا الماء خير من شربه وبعد هذا الضيف أولى من قربه، وكأني بالأمير يقول، إذا قرئت عليه هذه الفصول: الهدم رأى بهذه الحضرة من الإنعام، ما لم يره في المنام، فكيف من الأيام، ولعله أنشأ هذا الكتاب سكران، فعدل به عادل السكر، عن طريق الشكر، وكأنه نسي مورده، الذي أشبه مولده، وإنما رفع لحنه، حين أشبع بطنه، واللئيم إذا جاع ابتغى وإذا شبع طغى، والهدم لو ترك بجلدته، يرقص تحت رعدته ما راتق في قعدته ولا تجشّ من معدته ولكنه حين لبس الحلة وركب البغل وملك الخيل والخيول، تمنى الدول، ورأس اليتم يحتمل الوهن، ولا يحتمل الدهن، وظهر الشقي يحتمل عدلي من الفحم، ولا يحمل رطلين من الشحم، ولولا الشعير، ما نهقت الحمير، ولو لم يتسع حاله، لم يتسع مجاله وكذا الكب يزمن، حين يسمن، ولا يتبع، حين يشبع وعند الجوع، يهم بالرجوع.
فصل من كتاب إلى أبي نصر بن أبي زيد

كتابي أطال الله بقاء الشيخ وفرحي في كريم يحضر ذلك الجناب فيحسن المناب ولا أعدم إن شاء الله بتلك الساحة الكريمة، من يتحل بهذه الشيمة، على أن الطباع إلى الذم أميل، والعقرب إلى الشر أقرب، واللسان بالقدح أجرى منه بالمدح، والحاسد يعمى عن محاسن الصبح، بعين تدرك دقائق القبح، والهر جسد كله حسد، وعقد كله حقد فلا يجذب التخلق بضبعه عن طبعه، ولا يأخذ التكلف بخلقه، عن طرقه.

رقعة له إلى مستح عاوده مرارا
ً
وقال له: لم لا تديم الجود بالذهب كما تديمه بالأدب؟! عافاك الله، مثل الإنسان في الإحسان كمثل الأشجار في الثمار سبيله إذا أتى بالحسنة، أن يرفه إلى السنة، وأنا ذكرت لا أملك عضوين من جسدي وهما فؤادي ويدي، أما الفؤاد فيعلق بالوفود، وأما اليد فتول بالجود، لكن هذا الخلق النفيس، ليس يساعده الكيس، وهذا الطبع الكريم، ليس يحتمله الغريم، ولا قرابة بين الذهب والأدب فلم جمعت بينهما؟ والأدب لا يمكن ثر في قصعة، ولا صرفه في ثمن سلعة، ولي من الأدب نادرة جهدت في هذه الأيام بالطباخ أن يطبخ لي جمع الشم لوناً فلم يفعل، وبالقصاب أن يسمع أدب الكتاب لم يقبل، وأنشدت في الحمام ديوان أبي تمام فلم ينفذ، ودفعت إلى الحج مقطعات اللجام فلم يأخذ، واحتج في البيت إلى شيء من الزيت، فأنشدت من شعر ألفاً ومائتي بيت، فلم تغن، ولو وقعت أرجو العجاج في توابل السكب ما عدمتها عندي ولكن ليست تقع فما أصنع، فإن كنت تحسب اختلاف إليّ فضل عليّ فراحت في أن لا تطرق ساحتي، وفرجي في أن لا تجيء، والسلام.
وكتب إلى صديق له رقعة نسختها
قد طبخت لسيدي حاجة إن قضاها وبلغ رضاها ذاق حرارة الإعطاء، أباها وفلّ شباب لقي مرارة الاستبطاء، فأي الجود أخف عليه: جوده بالعلق النفيس، أم جوده بالعرض الخسيس ونزوله عن الطريف، أم الخلق الشريف؟؟
فأجابه عنها بهذه الرقعة
جعلت فداك هذا طبخ، كله توبيخ، وثريد، كله وعيد، ولقم إلا أنها نقم ولم أر قدراً أكثر منها عظماً، ولا أكل أكثر مني ظمأ، ما هذه الحاجة؟ ولتكن حاجاتك من بعد ألين جوانب، وألطف مطالب!
فصل من كتاب إلى الأمير أبي نصر الميكالي
كتابي أطال الله بقاء الأمير، وبودي أكونه، فأسعد به دونه، ولكن الحريص محروم، لو بلغ الزرق فاه، لولا قفاه، وبعد فإني في مفاتحته بين ثقة تعد، ويد ترتعد، ولم لا يكون ذلك والبحر وإن لم أره فقد سمعت خبره، ومن رأى من السيف أثره، فقد رأى أكثره، وإذا لم ألقه، فلم أجهل إلا خلقه، وما وراء ذلك من تال أصل ونشب، وطاف فضل وأدب، فمعلوم تشيد به الدفاتر، والخبر المتواتر، وتنطق به الأشعار، كما تختلف عليه الآثار، والعين أقل الحواس إدراكاً، والآذان أكثرها استماع فصل، من رقعة إلى الشيخ الإمام أبي الطيب سهل بن محمد: أنا أخاطب الشيخ الإمام والكلام مجون، والحديث شجون، وقد يوحش اللفظ وكله ود، ويكره الشيء من فعله بد، هذه العرب تقول لا أبال في الأمر إذ هم، وقاتلة الله ولا يريدون الذم، ويل أمة للمرء إذا هم الأولى الألباب في هذا الباب أن ينظروا من القول إلى قائله، فإن كان ولياً فهو الولاء وإن خشن، وإن كان عدواً فهو البلاء وإن حسن.
وله إليه رقعة
يا لعباد الله القرض، ولا هذا الرخص، والزاد ولا هذا الكساد، أمرض ولا عاد، إذ شبع الزنجي بال على التمر، وهذا بول على الجمر، ويوشك أن يكون له دخان.
فصل مثله كمن صام حولاً، ثم لما أنظر شرب بولاً.
ومن أخرى
الماء إذا طال مكثه، ظهر خبثه، وإذا سكن متنه، تحرك نتنه، كذلك الضيف يسم لقاؤه، إذا طال ثورة، ويثقل ظله، إذا انتهى محله.
فصل من كتاب
نهت الحكماء عن صحبة الملوك، وقالوا: إن إذا خدمتهم ملوك، وإن لم تخدمهم أذلّوك، وإنهم يعظم في الثواب، رد الجواب، ويستقلون في العقاب، ضرب الرقاب، وإنهم ليعثرون على العثرة من خدمهم فيبنون لها مناراً، ثم يوقدونها ناراً ويعتقدونها ثاراً، وقالوا: كن من الملوك مكانك من الشمس، إنها لتؤذيك والسماء لها مدار، والأرض لك دار، فكيف لو أسفّت قليلاً، وتدانت يسيراً، وإن العاقل ليطلب منها مزيد بعد فيتخذ سرباً لو إذا منها وهرباً، ويبتغي في الأرض نفقاً، فراراً منها وفرقاً.
رقعة في التماس الحطب

كم الله من حبر إذا جاع حبّر شجع، وإذا اشتهى الفقا كتب الرق، هذا تسب بعده تشب، قد عرف الشيخ برد هذا البرد وخروجه في سوء العشرة عن الحد، فإن رأى أن يلبسني من الحطب اليابس فرو، ويكفيني من أمر الوقود شئت، فعل إن شاء الله تعالى.
فصل أما الكتاب فلفظه فسيح، ومعناه فصيح، وأوله بآخره رهيب وآحره لأوله قرين، وبينهما ماء معين وحور عين.
فصل أنا على بينة من أمري، وبصيرة في ديني، ولا أقول بعلوم أصحاب النجوم، وكما أعلم أن أكثرها زقّ وريح، أرى أن بعضها حق صحيح، وكان لنا صديق لا يؤمن بالصبح إيمانه بالنجوم، قرى عليه إن الله يأمر بالعدل والإحسان، فقال: إن رضي النحس.
فصل والله لولا يد تحت الحجر، وكبد تحت الخنجر، وطفل كفرح يومين قد حببت إلى العيش، وسلب من رأسي الطيش، لشمخت بأنفي عن هذا المقام، ولمن صبراً جميلاً والله المستعان.
فصل إنما يحبس البار ولو ترك القط لطار كل مطار.
فصل لم ار مثلي علق مضن يرمي به من حالق، ولكن رب حسناء طالق.

فصل من رسالة في ذم الشدق إلى الرئيس أبي عامر
هذا هو العيد، وذلك هو الضلال البعيد، إنهم يشبون ناراً هي موعدهم، والنار في الدنيا عيدهم، والله إلى النار يعيدهم، ومن لم يلبس مع اليهود غيرهم، لم يعقد مع النصارى زناهم، ولم يشب مع المجوس نارهم، إن عيد الوقود لعيد فيك، وإن شعار النار لشعار شرك، وما أنزل الله بالشدق سلطاناً، ولا شرّف نير ولا مهرجاناً، وإنما صب الله سيوف العرب على رءوس العجم لماكر من أديانها، وسخط من نيرانها، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم حين مقت أفعالهم.
فصل منه إن هذا الدين لذ تبعات، الصوم والفطام شديد والحج والمرام بعيد والصلاة والمنام لذيذ، والزكاة والمال عزيز، وصدق الجهاد والرأس لا ينبت بعد الحصاد، والصبر الحامض والعفاف اليابس، والحد الخشن، والصدق المر، والحق الثقيل والكظم، وفي اللقمة العظم.
فصل الوحشة تقتد في الصدر، اقتد النار في الزند، فإن أطفئ بارت وتلاشت، وإن عاشت طارت وطاشت، والقطر إذا تدرك على الإناء امتلأ وفاض، والعب إذا ترك فرخ وباض.
فصل من لقينا بأنف طويل، لقيناه بخرطوم فيل، ومن لحظنا بنظر سرر، بعناه بثمن نزر.
رقعة إلى خطيب
المجالس أيد الله الخطيب لا تطيب إلا بالمسامرة، والخطيب فضيحة الدنيا ونكل الآخرة، وقد حضر الخطيب كان، فليحضر الخطيب الآن، تصديقاً لقول الله تعالى ومن البقر اثنين.
أخرى سلمت على لان فرد جواب يرد على الوكلاء بشرط الإيمان، واقتصر من البشاشة، على تحريك الشاشة، ومن الاستقبال، على تحريك السب.
فصل جارنا رجل يصحب السرير، ويسحب الحرير، ويفترش الحبر، ويخوض العبير، ويظلم الصغير، ويجالس الفقير، ويؤكل جير، بعيد بون بينهما بعيد.
فل لو كان حمار لنفشت عليه التبن ونقلت على ظهر اللبن، أفاد عنه الغرامة، لا ولا كرامة، من ذاك الثور، حتى يحتمل عنه الجور؟ الموت والله ولا هذا الصوت، والمنية ولا هذه أمنية الدينّ.
فصل أما الآن والحال من الضيف يحتال، والأيام كأنها ليال، تولف والوجه بال، والكيس والرأس خال، واللحم في السوق غال، والقدر حليف خيال.
فصل له من رقعة
يا شبر، ما هذا الكبر ويا فتر، ما هذا الستر ويا قرد، ما هذا البرد ويا أرجو، متى الخروج ويا فقاع ويا فقاع، ويا فراني، متى تراني ويا لقمة الخجل نحن ببابك، ويا بيضة الغد من أتى بك ويا دبة، ويا حبة، ويا من فوق الكتب، ويا من قربه المذبة ويا من خلقه المسبة ويا دمل ما أوجعك، ويا قمل لنا حديث معك فإن رأيت آذنت والسلام.
فصل أعجوبة، ولكنها محجوبة، حتى تصلي على النبي بنشاط، وتنزل عن قيراط، ما هي رحمك الله؟ صبراً يا خبيث، إليك يساق الحديث إن عشنا وعشت رأيت الأتان تركب الطحّان، روح ولا جسد، وصوت ولا أحد والعود أحمق ومتى فز يا بيد ويا أسخف من ناقد على راقد وشر دهر آخره، ويا عجبا أيلد الأغر البهيم، ولد آزر إبراهيم:
يا أيّها العام الذي قد رابني ... أنت الفداء لذكر عام أوّلا
وما أفدى العام، لكن النعام ... ولا أشكو الأيام لكن اللئام عام أول
عدنان، والعام هذا القرنانلنا في كل أوان أمير يملأ بطنه، والجار جائع، ويحفظ ماله والعرض ضائع:

تبدّلت الأشياء حتى لخلتها ... ستبدي غروب الشمس من حيث تطلع
كانت السيادة ي المطابخ فصارت في المطبخ، أشهد لئن كثرت مزارعكم لقد قلت مشار ولئن سمنت أقف، لقد أمحل في:
رأيتكم لا يصون العرض جاركم ... ولا يدرّ على مرعاكم اللّبن
فصل من رقعة إلى من اسم شراباً في يوم مطر
عافاك الله! العاقل إن وافى أبوه على جمل البريد، من المضرب البعيد في الخطب الشديد يومنا هذا لم يستقبل حمار وإن مات لم يشيع جنازته وحل إلى الراكب، ومطر كأفواه القرب ورجل ظاهر النفاق يلتمس الشراب ممن لا يرى قربه، فكيف شربه، على أنك إلى الشرب أحوج منك إلى السكر ألا ترى كيف من الله على البيوت بالثبوت، وعلى السقوف بالوقوف، ألا تنظر إلى هذا المطر، أمطر عمارة هو أم مطر خراب، وسقيا رحمة هو أم سقيا عذاب.
فصل كتابي والتي نقضت غزلها بعد قوة أنك، طالق ثلاثاً، مردودة على أهلها من ورائها البقرة، لا ترجع لخرقاء، أو ترجع العنقاء، والله ما نقض الغزل بعد قوة، أسخف من نقض عهد وأخوة، ليس أرش الغزل إذا نقض أرش الفضل إذا رفض ولم يجعل الله إضاعة الصوف، ضاع المعروف، والحق ثقيل، وهو خير ما قيل.
فصل حديث الكتاب ما حديث الكتاب، وصل جحيم هائل، ليس وراءه طائل، لا يدري ألف أم نون وسطور كدي السرطان على الحيطان، وألفاظ أخلاط، لا يدركها استنباط، ولا يفهمها بقر، هذيان المحول، ودواء المهموم.
فصل ومثلك من ذب، عمن أحب، ولكن لذب أبواباً، ولكل مر جواب، تعلم أنه ليس في أبواب الذنب، أضعف من باب السب، وإذا تلوت قول الله عز وجل ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً علمت أن سلاح خصم أقوى، والناس رجلان كريم ولئيم، وكل بأن لا يسب خليق، إن الكريم لا ينكر الفضل، وإن النذل لا يألم العدل:
يحبك منه عرضاً لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون
وهل أفرض لك مسألة الذنب في الذباب لتعلم أن اتقاءه بال خير من اتقائه بالمذبة، وأن ذبه بالمظلة أبلغ من ذنبه بالمذلة، فإن كان لا بد من انتقام واستيفاء فأعيذك بالله أن تجهل أن آذان الأنذل في القتال وهي آذان لا تسمع إلا تسمع إلا من ألسنة نعال الأم، وترجمة أكف الخدم، وعلامة فهمها جحوظ العينين، وخدر اليدين.
فصل وجدتك تعجب أن يجد لئيم فضل صنيعك، فخفض عليك يرحمك الله، إن الذي تعجب منه يسير، في جنب ما يجده من الناس كثير إن الله تعالى خلق أقواماً وشق لهم أبصار وآتاهم بصائر فغاصوا بها على عرق الذهب ففصد ولم يزالوا بالنجم حتى رصد، واحتالوا للطائر فأنزلوه من جو السماء، وللحوت فأخرجوه من الماء، ثم جحدوا مع هذه الأفكار الغائصة والأذهان النافذة صانعهم فقالوا: أين وكيف؟ حتى رأوا السيف، فلم تعجب أن جحدوا فضلاً ليست الأرض بساطه، ولا الجبال سماء، ولا السماء فعل، ولا الليل رباطه، ولا النهار صر، ولا النجوم أشرط، ولا النار سياط.
فصل ما أشبه وعد الشيخ في الخلاف، إلا بشجر الخلاف خضرة في العين، ولا ثمر في البين فما ينفع الوعد، ولا إنجاز من بعد، ومثل الوعد مثل الرعد، ليس له خطر، إن لم ته مطر.
فصل كان عندنا رجل فار الأفراس، فاخر اللباس، لا يعد من الناس ولا تظّن أن الإنسانية بساط قوني، ولا ثوب سق طول، ولا تقدر أن المكارم ثوبان من عدن، أو وقع من لبن.
فصل معاذ الله لا أشفع لضارب القلب، ولا أرضى له غير الصلب، واعتقد في دار الضرب، أنها دار الحرب، ولكن يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا فصل لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم للمهاجرين، ما في وقتنا للمهاجرين، وما جاز لعلة الأصحاب، ما يجوز لأزواج القح.
فصل كثر ترداد أصحابي إلى فلان، فما يعيرهم إلا أذناً صماء وبابا أصم وكان يما بلغني يأذن في باب الخاصة للعامة فصار يأذن في باب العامة للخاصة وإنما تولى جارها من تولى فار، ومن لم يول منافعها لم يول مضارها.

فصل من كتاب إلى ابن فارس
نعم أيد الله الشيخ، إنه لح المسنون وإن ظنت الظنون، والناس لآدم، وإن كان العهد قد تقادم، وارتكبت الأضداد، واختلط الميلاد، والشيخ يقول: قد فسد الزمان، أفلا يقول: متى كان صالحاً؟ في الدولة العباس فقد رأينا آخرها وسمعنا بأولها، أم المدة المر وفي أخبارها: لا تكس الشوق غبار أم السنين الحربية:

والرمح يركز في الكلى ... والسيف يغمد في الطلاء
ومبيت حجر في الفلا ... والحرّتان وكرب
أم البيعة الهاشمية، وعلي يقول: ليت العشرة منكم براس، من بني فراس، أم الأيام الأموية والنفير إلى الحجاز، والعيون إلى العجز؟ أم الأمارة العدو وصاحبها يقول: وهل بعد البدر؟ أم الخلافة التيمية وصاحبها يقول: طوب لمن مات في أنا الإسلام، أم على عهد الرسالة ويوم الفتح قيل: اسكني يا فلانة، فقد ذهبت الأمانة أم في الجاهلية ولبيد يقول:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
أم قبل ذلك وأخو عاد يقول:
بلاد بها كنّا وكنّا نحبّها ... إذ الناس ناس والزمان زمان
أم قبل ذلك وروى عن آدم عليه السلام:
تغّيرت البلاد ومن عليها ... وجه الأرض مغّبر قبيح
أم قبل ذلك وقد قالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها وما فسدت الناس، وإنما طرد القياس، ولا أظلمت الأيام، وإنما امتد اظلام، وهل يفسد الشيء إلا عن صلاح، ويمسي إلا عن صباح؟ فصل منه وإني على توبيخه لي لفقير إلى لقائه، شفيق على بقائه منتسب إلى ولائه، شاكر لآلائه، وإن له على كل نعمة حول الله ناراً، وعلى كل كلمة علمها مناراً ولو عرت لكتابي موقعاً من قلبه لا غنت خدمته به، ولرددت إليه سور كأس، وفضل أنفاسه ولكني خشيت أن يقول: هذه بضاعتنا ردت إلينا، وله أيده الله العب، والمودة في القربى والمر، وما ضمه الجلد ونال الباع، وما ضمنه المشط:
والله ما هي عندي رضى ... ولكنّها جلّ ما أملك
واثنان قلما يجتمعان الخراسان والإنسانية، وأنا وإن لم أكن خرساني الطين، فإني خراساني المدنية، والمرء من حيث وجد، لا من حيث يولد، والإنسان من حيث يثبت، لا من حيث ينبت، فإن نضع إلى خراسان ولادة هدم ارتفع القلم وسقط التكليف، فالجرح جبار، والجاني حمار ولا جنة ولا نار، فليحتمل الشيخ على هنا، أليس صاحبنا يقول:
لا تلمني على ركاكة عقل ... إن تيقّنت أننّي هدم
فصل بعض الظن إثم، ولكن بعض الإثم حزم، وبلغني أن القاضي يريد أن يسجل، فأريد أن لا يجعل، حتى أحضر فينظر فيم الخصومة، وأنظر كيف الحكومة.
فصل أنت أيدك الله إذ قلدت البريد، وبردت هذا التبريد، تؤذن أنك لو وليت الديوان، لحجبت الدبر، ولو قلدت الوزارة ما كنت تصنع، كنت أول من تصفح، وإن هان على سبل الطبائع وهو الحليفة فمن الجيفة؟ يا شيخ حشمة في الرأس، وعرة بين الناس، وإذا ارتفعت فآلاتها نميمة، وليس للناس قيمة، ولو نسجت الدر في الذهب ما كنت إلا حائك، وإلا من جملة أولئك.
فصل شراب من ذاقه أخ، وصوت من يسمعه أخ، وشرف من ناله أرخ.
فصل ألا وإنّ في صدري لغصّة، وإن في رأسي لقصة، وإن لكل مسلم فيها لحصة، وإن هذا المقام فيها لفرصة.

فصل من كتاب إلى عدنان
أشهد لو خير الرئيس ما اختار فوق ما اختار له، وما الغيب، أكثر مما في الجيب، وما بقي، أحسن من الذي لقي:
هنيئاً وزاد الله ضبّ سؤدداً ... وذلك مجد يملأ العين واليد
لك اليوم أسباب السموات مظهراً ... وما اليوم مما سوف تبلغه غداً
فصل أنا، وأنا غرس الشيخ، ألف العمامة، على فضول لا تقلها جبال تهامة، ثم أسبح في الماء الغزير، وأعتقد بالأمير والوزير، ثم استظهر بسجل القاضي، ثم الشيخ هو المتعصب، ولا حلية مع ابن جملية، العار والله والنار، والقتل والدمار، والعسل والزن، والشباب والتراب المسار.
فصل وحرب تريد جنهم حطب، وعجب تريد أسوا منها منقلباً.
فصل أبق الله بقاء الشيخ الرئيس عبدان: أحدهما الذي أنبت عليه شجرة من يعطي، والآخر الذي قال: خلقتني من نار وخلقته من طين، و أنج هذا من الظلم، ومد لذلك في الحياة، فعرف لكل عاى مقدار حرمته حق خدمته.
فصل مضى العيد فلا صدقات الفطر ولا صدقات العطر، ولا فضل القدر، ولا لفظات الذكر، وأسمع الناس، يقولون إن الشيخ مستبد لي موحش مني وأنا سليم نواحي القول والفعل والنية وأنا كالحية ضمن أن لا ألسع ولا ضمن أن لا يفزع.
فصل وصلت رقعة الشيخ فسرت شوها، ونطقت وراء تعثر في أذيالها تقول خذوني، والطاعون المذنب سكران يتغافل.

فصل يعجبني أن يكون الشيخ عريض اللسان طويلة، حسن البيان جميلة، ولا يعجبني أن يطول لسانه حتى يمس به جبينه، ويضرب به صدره، ويحك به قفاه، فخير الأمور أوساطها، وأمام الساعة أشرط والغاية سوية، و تقضي فرقة.
فصل لولا شفيت من القلب، لربطتك مع الكلب، ولكن لا حيلة حصارك، وكلّي نصار.
فصل مغرز إبرة وألفا عبرة، رعاة رع، ورعايا شجاع، أمير ولكنه في الحمير، ووزير ولكنه خنزير وما شئت من البرد تحمل، ولا شيء من الحمية.
فصل أراني أذكر الشيخ كلما طلعت الشمس وهبت الريح أو نجم النجم أو لمع البرق أو عرض الغيث أو ذكر الليث أو ضحك الروض، إن للشمس محيا وللريح رياح و للنجم حلاوة وعلاه وللبرق سنة و سنة و للغيث يداه ونداه ولليث حماة و للروض سجاياه، ففي كل صالحة ذكراه، وفي كل حادثة أراه، فمتى أنساه، وأشد شوقاً، عسى الله أن يجمعني وإياه.
فصل سألني العم عن حالي بهذه البلاد وإنني في بلاد وإن لم يكن لأهلها تمييز، فأنا بينهم عزيز يطعمونني تقليد، ويردونني فريداً، والمال يجتنب فيضاً لكن لا أبلعه ريقاً، ولا أكره لو تفريقاً، فهو يأتي مداً ويذهب جزر.
فصل خلق ابن آدم خلقة الفراش مماته في المعاش، ومساره طي المضار، وإلا بين لمثلي إذا خرج من بلدة أن تبيد خلقه الحصاة، وتكنس بعده العرض وتوقد في أثره النار، ويثار في قفاه الغبار، ويحن لفراقه الكلب، ويسد لأوبته الأذنان، وتغمض عن رجعته العيان، ويقول كم سنة تعد، ورب سلم لا يرد، وما قدرت أن الشيخ بعد ما كفاه الله شر مقام، وأصح سماؤه من أشغالي وصفا جوه من لقائي، يشتاق طلعت شوقاً ببعثه على عتابي، ويهزه لاستعطافي، ولا شك في أنه اشته كما يشتهي الجرب الحك، وله العتبي فستأتيه كتبي تباعاً ورسلي ولاء، وحاجاتي قطاراً.

فصل إلى الأستاذ أبي بكر بن إسحاق
الأستاذ الهدي يأمر غاشية مجلسه، أن يفتشوا أعطاف المقبرة وزواياها، فإن وجدوا قلباً قري، يحمل وداً صحيحاً، وكبداً دامية، تقل محبة نامية، فأنا ضيعتهما بالأمس، عاى ذلك الرمس، رضي الله تعالى عن وديعته، وعنا معشر شيعته، فليأمر بردهما إليّ، فلا خير في الأجساد خالية من الفؤاد، وعاطلة عن الأكباد.
فصل إلى ابن أخته
أنت ولدي ما دمت والعلم شأنك، والمدرسة مكانك، والدفتر أليفك، وحليفك، فإن قصرت ولا أخ، فغيري خالك.
فصل من كتاب إلى ابن فريغون
كتابي والبحر وإن لم أره، فقد سمعت خبره، والليث وإن لم ألقه، فقد تصورت خلقه، والملك العادل إن لم أكن لقيته، فقد بلغني صيته.
فصل إن لي في القناعة وقتاً، وفي الصناعة بختاً، لا يبعد عن منال المال، بل يحبين فيضاً، ويتطفل علي أيضاً، وهذه الحضرة وإن احتاج إليها المأمون ولم يستغن عنها قارون، فإن الأحب إليّ أن أقصدها قصد موال، لا قصد سؤال، والرجوع عنها بحال، أحب إليّ من الرجوع بمال، قدمت التعريف، وانتظر الجواب الشريف.
فصل إن أيامي منذ لم أره ليال، وإني من حبسي لفي طل بال وإن العيش لا يلتئم إلا بعزه، والعافية لا تطيب إلا في ظله.
فصل إن الجميل عندهم من وراء جدار، والقبيح نار على منار، فإذا مدحوا سيرة رجل فقد حمدوا عثرته، ولم يبق فيه طمع للسبك، ولا موضع للشك.
فصل ليست التجربة خمسة جرب، إنما هي دفعة والتقدم ولفظة، ثم إن العاقل بفطنته كي فيقيس، والجاهل بغفلته يخس و يخس، يا أبا الفضل ليس هذا بزمانك، وليست هذه الدار بدارك، ولا السوق سوق متاعك، ناسب الكتابة وما وسقت، والأقلام وما نسفت، والمحابر وما بسقت، وشجاع إذا اتسقت، واللوم ولا هذه العلوم.
فصل إني والله لأرحم عقل طرفة إذ قال:
وليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثاً حول قبتناً تخور
كيف ضرب المثل في الشر وقلة الخير، بما هو خير كله وإن رعت لتعذره برسلها، وتحبوه بنسلها، وتكسوه بصوفها، وتنفعه بغيرها، وتغيظ عدوه بسراحها، وتقر عينه برواحها:
وتملأ بيته قطة وسمناً ... و حسبك من غنى شبع وريّ
ثم أرجع إلى حديثك: تمنى مكانه رغوثاً، وأتمنى مكانك برغوث، إن البرغوث، أجدر منك أن يغوص، أعلم أنك غرس، والغرس تيس، وحش، وما حسبتني أفقد منك منافع التيس، ولكن ما أصنع والعقل ليس.

فصل ما أعرف لعمار مثلاً إلا الغراب بقي، مذموماً على أي جنب وقع، إن طار فيقسم الضمير، وإن وقع فروع النذير، وإن حجل فمشي الأسير، وإن شح فصوت الحمير، وإن أكل فدبر البعير، وإن سرق فبلغة الفقير، كذلك ابن عمار، إن حذفت عينه فالحين وإن حذفت ميمه فالشين وإن حذفت راؤه فالرين، وإن صحف خطة فال وإن زرته فالحجاب الثقيل، وإن لم يزره فالعتاب الطويل.
فصل بلغني أن الشيخ دائم العبث بلحمي، والنقل بشتمي، وأنه حسن البصيرة في نقضي، كثير التناول من عرضي، ولحم الودي، لا يصلح للقد، ودم الصديق، لا يشرب على الريق، والولي لا يقلى، ولا يتخذ نقل، وحسب الغريم أن لا يوفى، ومن منع الصدقة فليقل قولاً معروفاُ.
فصل لولا ود الفقيه، وأنا أستبقيه، لشتمت العام والخاص، وذكرت العاض والماص، ولتجاوزت دار الرجال إلى حجرة العيال، ما هذه الأشعار التي كتبها، والفصاحة التي عرفها، بكر وتألم الطلق، أعلى رأسي يتعلم الحلق.
فصل وحرب، وإليك شكوى الحرب، وأظن أجلي قد أقترب، ربّ توفني مسلماً، وألحقن بالصالحين.
فصل حرس الله هذه الدنانير، ورزقنا منها الكثير، إنها لتفعل ما لا تفعل التوراة والإنجيل، وتغني ما لا يغني التنزيل والتأويل، وتصلح ما لا يصلح جبريل و ميكائيل.

فصل من تعزية بحرمة
على أن النساء كالصدّف، إذا انتزعت منه درّة الشرف لم يصلح إلا للتلف، والسعيد من حمل من دار الأمير نعشه، وأسعد منه من جدد فرشه، ولا خلة بالرجل أليق من الصبر، ولا حصن للنساء أمنع من القبر، أسأل الله الذي سلبه الكرمة أن يمتعه بعينها، ولا خير في النخلة وراء رطبها.
فصل قد توسطت الشباب، وتطرقت المشيب، وقبضت من أثر الزمان ونظرت في أعقاب الأمور، وطرت مع الملوك، ووقعت مع الخطوب، والحي يأمر وينهى وفارقتها والموت حزن ينظر.
فصل لو أني مولاي وأنا في قميص بأذنين، وقباء ضيق الرد، وعمامة كالقبة، وخف تركي أعلاه جراب، وأسفله غراب، على بر مضطرب التقطيع، يرقصني كالرضيع لعلم كيف تجري الفرسان، وكيف تمسح الأذنان.
صل من كتاب إلى أبيه
ولسيدنا أسوة بيعقوب في ولده، إذ ظعن إليه من بلده وليس العائق سور الأعراف، ولا رمل الأحق، ولا جبل قاف، أخاف والله أن أموت، وفي النفس مني حاجة لم أقضها، أو منية لم أحظ بعضها.
فصل مثل الشيخ في التماس الخل، مثل المكر في التماس الخل، تقدم إلى الخلال فقال: يا منكر العيال صب قليلاً من الخل، في هذا الإناء الجل فقال الخلال: قبح الله الكسل، هل التمست بهذا اللفظ العسل؟ فصل يا هؤلاء تكبروا الله في بلاده، ولا ترد في مرد، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده وما أرى آل فلان إلا مقدرين أنهم لم يأخذوا خراسان قهر، إنما كانت لأمهم مهراً فلم حولها تخيط، والله من ورائهم محيط.
فصل إني لأعجب من رأس يودع تلك الفضول فلا ينشق، ومن عنق يقلّ ذلك الرأس فلا يند.
فصل كتابي كتاب من نسي الأيام وتذكره، ويطوي العالم وينشره، ثم ينبذ أبناه دهر، وراء ظهره.
فصل أنا على قرب العهد بالمهد قطعت عرض الأرض، وعاشرت أجناس الناس، فما أحد إلا بالجهل تبعه، وبال بعته، وبالظن أخذته وبال نبذته، وما مدح وضعته في أحد إلا أضعته، ولا حمد صرفته في أحد إلا عرفته، ومن احتاج إلى الناس، وزنهم بالقسط ومن طاف نصف الشرق، لقي ربع الخلق.
فصل في مدح الأمير حلف
جزى الله هذا الملك أفضل ما جزى مخدوماً عن خدمه، ومنعماً على نعمه، وأعانه على همه فلو أن البحار عدده، والسحاب يده والجبال ذهبه لقصرت عما يهبه، فوا الله ما التمر بالبصرة، أقل خطراً من البدرة، بهذه الحضرة أني لا أراها تحمل إلى المنتجعين إلا تحت الذيل في جنح الليل، ولا شيء أيسر من الدينار، بهذه الديار، بينما المرء في سنة من نومه لتعب يومه وقصار قوت يومه، إذ يقرع الباب عليه قرعاً خفياًن ويسأل به سؤلاً حفياً ويعطي ألفاً خلفياً.
فصل للشيخ من الصدور ما ليس للفؤاد، ومن القلوب ما ليس للأولاد فكأنّما اشتق من جميع كبد، وولد بجميع البلاد سواء الحاضر فيه والبلاد وكل أفعاله غرة في ناصية الأيام، وزهرة في جنح الظلام، إلا أن ما أوجبه لفلان من روض أنا وسميه، وطوق أنا قمرية وعود جمر لساني، وخمر سكره ضماني.
فصل إلى أبيه

إن الإبل على غلط أكبادها لتحن إلى أوطانها، وغن الطير لتقع عرض البحر إلى منظر، وبلغني أن ابن ذي اليمين طاهر بن الحسين لما ولي مصر داخلها مضروبة قبابها مفروشة أرضها مزخرفة جدرانها والناس ركب ورجالاً والنثر يميناً وشمالاً، فأطرق لا ينطق حرفاً، ولا يرفع طرفاً، فقيل له في ذلك فقال: ما أصنع بهذا كله، وليس في النظارة عجائز بوشن.
والعجب من حاضر أنطو صاحب آل ياسين وقد كذب وعذب وقتل وجر برجله واهلك قومه من أجله، وقيل له أدخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين فكأنه تمنى الجنة قلق قومه على سوء جوارهم، وقبح آثارهم.
وهذا أخو كندة يقول:
وهل ينعم من كان أقرب عهده ... ثلاثين شهراً أو ثلاثة أحوال
فما ظنه بي لاثنتي عشرة سنة، على أن لي في رسول الله أسوة حسنة، وعسى الله أن يأتيني بكم جميعاً، أو يأتيكم بي سريعاً.
فصل وأجدن إذا قرأت قصة الخليل، والذبيح إسماعيل، أحسن من نفسي لسيدنا بتلك الطاعة، لو وقع البلاء، والعافية أوسع، وأظنه لو تلّني للجبين، وأخذ مني باليمين، لقطع لوتد، لصنته عن الأذنين، علي بذلك ميثاق من الله غليظ، والله على ما نقوله حفيظ.
فصل فتن تشن، ونار تلظّى، وناس يأكل بعضهم بعضاً، فالنهار مصادرة، والليل مكابرة، وقتل عمرو وسلب زيد، ونج سعد، وهلك سعيد، وثمن الرأس منديل، والبينة العادلة سكين ودار الحكم بيت القار، واليمين الغم فلان الحمار، والجامع حانة الخمار ولا شيء إلا السلاح والصياح وكل شيء إلا السكون والصلاح.
فصل قد أهديت له فارت مسك تصلان بوصول كتابي هذا، وبينهما من السلام أطيب منهما عرفاً، وأحسن وصفاً.

فصل من رقعة إلى الشيخ الجليل أبي العباس
عبد من عباد الله أجرى الله أمره على الجرم والصدق، وأنفذ حكمه بين اللحوم والجلود، وأراه البسطة في مراده، والغبطة في أولاده، والرشد في اعتقاده، ومكن له في بلاده، وله في غده أكثر مما في يده، وما بقي أطيب مما لقي، وبلغني أنه يضجر من أبناء الحاجات ترفع إليه، والقصص تقرأ لديه، وقد ضجرت ضجرة يحيى بن خالد، فأرى في المنام فيما يرى النائم كان قائلاً يقول إن ضجرت لازدحام الحاجات إليك، أضجرناك بانقطاعها عنك.
فصل وأظن الشيخ لو أني لفلان، وما أقضي لأقصي العجب من وفيه.
فصل حج البيت مخ فسئل عما رأى فقال: رأيت الصفا والجنون وقوماً يموج، وكعبة تزف عليها الستر، وترفرف حولها الطيور، وبيتاً كتبي ولكن سل عن البخت، لا عن البيت.
وابتاع بعض الهنود هذا اللحمي المشوي فاتزن بدان أرطالاً، ثم وجد الكمثرى تباع من اللحمي، إن لم يعرفوا الدينار من الدرهم، فأنا اليوم حتى ينتصف المظلوم، سكن أبو شعر المقابر، فقال: أجاور قوماً لا يغدرون، فقيل له: مهل يا أبا موسى، إنما لا يغدو لأنهم لا يقدرون.
فصل من رقعة إلى ثقيل ستأذن للخروج
نعم ولا حمر النعم، قاعة قع، كأنها ملساء، ومنهج عريان، تسلكه العميان، وسمت لا عوج فيه ولا أمت، وماء برد الشتاء، ولا يكدره الرشا، فاذهب حيث تشاء، والدنيا والعراق، والحبة بلا، ولك بالصين تخت والغنى غنى البحر، ولك ما سألت بمصر، وشر الحمام الداجن، ومقيم الماء آسن والكسل إضاعة، والطريق بضاعة، وإنك لتؤذن بالبين، وتصبح عن سري القين، ويلك ما هذه الرعونة، وما هذه الأخلاق الملعونة، تلمح بدلال، والله إنك مجاناً لغال، فابعد كما بعدت ثمود، وبرح فقد طال القعود، وأذهب ذهاباً لا تعود.
فصل كتبت وليس الشوق إلى لقائه بشوق، إنما هو العظم الكسير، والنزع العسير، والسم يسري ويسير والنار تطيش وتطير وليس الصبر عن رؤياك بالصبر إنما هو الصبر معجوناً بالصاب، وتشريح العروق والأعصاب والقلب في الميسر والأنصاب والكبد في يد القصاب.
فصل مرحباً بالشيخ وبناقة تحمل رحله، وبأرض تلبس ظله، وبيوم يطلع علينا وجهه وبليلة تلد قربه، وإنه يا خطى الناقة، فوق قوى الطاقة ويا أرض نزوي كما تنزوي الجلدة في النار ويا منظر انطو انطواء الحية والطور، وعجل إلى الظل ببارد الماء، ومن على البلد القفر بصائب القطر.
فصل أثنى عليه لو رمى به الشتاء لعاد ربيعاً، أو دع الشباب لأب سريعاً، أو صب على الفراق لا نقلب شمالاً جميعاً.

فصل جرح وما أدراك ما جرح، أكلة من التين وموت في الحين، ونظرة إلى الثمار والأخرى إلى التابوت والحفار، ونجار إذا رأى الخراساني نجر التابوت على قده، وأسلف الحفار على لحده وعطار يعد بين الحنو يرسمه وبها للغريب ثلاث فتحات: أولها لكرام البيوت، والثانية لا بيت القوت، والثالثة لثمن التابوت.
فصل كأنّما خلق للدنيا تحجي، ولملوكها تخجل، وكأنما خلق ليقبل المستحيل مانعه، وليصدق المحال سمعه فليؤمن أن البحر يمشي على رجلين، وأن المجد يتصور للعين وان العدل يتسم، والدهر يتكرم، والشمس تتكلم.
فصل إن طلبت كريماً في أخلاقه متّ ولم ألاقه، أو حكيماً في جوده، مت قبل جوده ولقد أفسدني على الناس وأفسدهم علي، فما أرضى بعده أحداً، ولم أجد مثله أبداً وهذا وصف إن أطلته طال، ونشر الأذيال، واستغرق القرطاس، والأنفاس، واستنفد الأعمار، والأعصار، ولم تبلغ التمام، والسلام.
فصل - كتبت ونصفي الراحل، والأحمال تشد،والعلوفات تعد، والجمال تقدم والجمال يشتم. وما أشبه نفسي في هذه الأسفار إلا بالخيال الطارق، أو بلمع البارق أو الغلام الآبق، أو الجواد السابق، أو بهرب السارق، أو السهم المارق، وإنما الشد والترحال،والخيل والبغال، والحمير والجمال.
فصل - عنوان الأحمق كنيته، ثم بنيته، ثم حليته، ثم مشيته،والله لأعرف البحتري، فهلا أبو حامد وأبو خالد. وإن امرأة تقعد مدة تعصر بطنها وظهرها، وتعد يومها وشهرها. فهلا تجعل سرها وجهرها، ثم تسميه البحتري لرعناء لاستحق مهرها، وخليقة أن يطم الله نهرها، فلا تلد دهرها ثم الوجه اللحيم، لا يحتمله الكريم، والأنف السمين، لا يحتمله الأمين. والقطف سير الحمير، والهرولة مشية الخنازير.
فصل - وما زالت جفنة آل تدور على الضيف، في الشتاء والصيف. حتى عثرت بحسان، فارتهنت ذلك اللسان. فسيّر فيهم القصائد الحسان. فهذا الزمان يخلق وهي جديدة، وتلك العظام بالية، وهذه محاسن باقية. وحق على الله أن لا يخلي كرما من لسان يبث أحدوثته.
فصل - لسان كمقراض الخفاجي يضعه حيث يشاء، وبحر لا تكدره الدلاء، وصدر كأنه الدهناء وقلب كأنه الأرض والسماء، وشرف دونه الجوزاء.
فصل - الإنسان يولد على الفطرة من ظرفه استظرفه، ومن لمحه استملحه، ثم لا يسمى قرطبانا. حتى يسعى زمانا، فإذا تعب دهراً طويلاً سمى كشحانا ثقيلا، وإذا شب الصبي كان بالخيار، إن شاء سمى لحم الحوار، ولقب ذنب الحمار، وكنى كذب الخار وشبه بالجدار، وأطلال الدار وإن شاء نزهة الألباب، ومتعة الأحباب، ودمية المحراب، وفرحة الأياب وعلى الأم أن تلد البنين، وتغذوهم سنين، وتلهيهم الليل والنهار، وتقيم المار والنار، فإن خرجوا مخانيث فقد قضت ما عليها، وإن قرم السرّم، فليغيرها الجرم، وإن احتك السرج، فعلى لله الفرج، وعلى ابنها الحرج.
فصل - الوجه الحسن عنوان مخيل، وضمان جميل. فإن عضده أصل كريم، فأنا به زعيم، وإن نصره بيت قديم، فأنا له نديم، والشيخ بحمد الله دارة البدر حسن إشراق، وفأرة المسك طيب أخلاق، وشجر الأترج طيب أعراق، وطيب مذاق، وطيب ورق وساق. وحرج على من هذه خصاله، أن ينبغي وصاله. فأنا أخطب إليه مودته. وأبذل روحي لها مهرا، فإن رأى أن يزوجنيها فعل إن شاء الله تعالى.
فصل - يلقى الشيخ بكتابي هذا من ذكر حريته فلقد أجدت، وثمرة الغراب وجدت. ونعم ما اخترت، والخير فيمن ذكرت. وأجبته إلى ما سأل، وسفتجت له إلى الكريم بما أمل، وقلت: أده الآن، وخاط كيساً على ماله، وضمنت له تهنئة آماله، فإن رأى أن يفك لساني، من سر ضماني، فعل إن شاء الله تعالى.
فصل - إن رضي الشيخ أن يواكل من لا يشاكل ويجانس من لا يؤانس.
فصل - مثلي أيد الله القاضي مثل رجل من أصحاب الجراب والمحراب تقدم إلى القصاب يسأله فلذة كبد، فسد باليسرى فاه، وأوجع بالأخرى قفاه. فلما رجع إلى منزله بعث توقيعاً، يطلب جملاً رضيعاً. كذاك أنا وردت فلا أكرم بسلام، ولا أتعهد بغلام، فلما وجدته لا يبالي بسبالي كاتبته أشفع لسواي.
فصل - سقاها الله من بلد، وأهلها من عدد، وفلانا من بينهم، ولا نصصت إلا على عينهم. وحبذا كتابه واصلاً، ورسوله حاصلاً، فأي تحفة لم تصل بوصوله، وفضل لم يستفد من فصوله.

فصل - اليوم طلق، والهواء رطب، والماء عذب،والبستان رحب، والسماء مصحية، والريح رخاء. فأين سيدي فلان؟ أشهد ما اليوم جميلا، ولا الظل ظليلا ولا الماء يبرد غليلا. ولا النسيم يشفي عليلا. وأقسم ما الروض إلا ثقيل، والأنس إلا دخيل، والدهر إلا بخيل. وفي ذلك يقول:
وإنّي لتعروني لذكراك روعةٌ ... كما انتفض العصفور بلَّله القطر
وليس الشوق إلى مولاي بشوق إنما هو وقع السهام، ولا الصبر عن لقياه بصبر إنما هو كأس الحمام، وما للسم سلطان هذا الهم، ولا للخمر طغيان هذا الأمر.
فصل - إن للشبان نزوة، وللأحداث رقة. ولكن يربعون إذا جاءت الأربعون. ويفزعون، وإن كانوا لا يجزعون، ولقد نظرت في المرآة فرأيت الشيب يتلّهب وينهب، والشباب يتأهّب ويذهب، وما أسرج الأشهب إلا لخبر، وأسأل الله عاقبة خير.
فصل - أجدني قد اكتهلت، والكهل قبيح به الجهل، ولاحت الشعرات البيض، وجعلت تفرّخ وتبيض.
فصل - جزى الله المشيب خيراً فإنه أناة، ولا ورد الشباب فإنه هنات، وبئس الداء الصبا وليس دواؤه إلا انقضاؤه، وبئس المثل النار ولا العار ونعم الرائضان الليل والنهار. أظن الشباب والشيب لو مثلاً لمثل الأول كلباً عقوراً، والآجر شيخاً وقوراً، ولاشتعل الأول ناراً والآخر نوراً، فالحمد لله الذي بيَّض القار، وسماه الوقار،وعسى الله أن يغسل الفؤاد كما غسل السواد، إن السعيد من شابت جملته ولم تخص بالبياض لحيته.

فصل من تهنئة بمولود
حقاً لقد أنجز الإقبال وعده، ووافق الطالع سعده، والشأن فيما بعده، وحبذا الأصل وفرعه، وبورك الغيث وصوب، والروض ونوره، وسماء أطلعت فرقدا، وغابة أبرزت أسدا، وظهر وافق سنداً، وذكر يبقى أبداً، ومجد سمى ولداً، وشرف لحمة وسدى.
فصل - كتابي من هراة ولا هراة فقد طحنتها هذه المحن كما يطحن الدقيقن وقلبتها كما يقلب الرقيق. وبلعتها كما يبلع الريق، والحمد لله عل المكروه والمحبوب وصلواته على نبيه وآله وقد خدمت الشيخ سنين،والله لا يضيع أجر المحسنين ونادمته والمنادمة رضاع ثان، ومالحته والممالحة نسب دان، وسافرت معه والسفر والأخوة رضيعا لبان، وقمت بين يديه والقيام والصلاة شريكا عنان، وأثنيت عليه والثناء من الله من الله عز وجل بمكان، وأخلصت له والإخلاص محمود بكل لسان، أفبعد هذه الحرمات، أنا طعمة فلان وفلان يتناولانني سبعاً في ثمان.
فصل - لعن الله فلاناً لا أراه في النوم، إلا أصاب في ذلك اليوم.
فصل - ورأى أفواهاً فاغرة. وأضراساً طاحنة، وعيالاً وأذيالاً الله وكيلهم، وأنا أزنهم وأكيلهم.
فصل من كتاب تعزية
ولم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكنّ نكء القرح بالقرح أوجع
والله ما يضرب الكلب، كما يضرب هذا القلب. ولا يقطر الشمع، كما يقطر هذا الدمع، وما للسم سلطان على ها الغم، ونفسي إلى القبر، اعجل منها إلى الصبر. وأني بالموت، آنس منها بهذا الصوت. أولم يكفنا الجرح، حتى ذر عليه الملح؟ ألم أكن من فلان مثقل الظهر، فما هذه العلاوة على الحمل، ولم هذه الزيادة في الثقل؟ فصل - وفيما يقول الناس من حكاياتهم أن أعرابياً نام ليلاً عن جمله ففقده، فلما طلع القمر وجده، فرفع إلى الله يده. فقال: أشهد لقد أعليته، وجعلت السماء بيته. ثم نظر إلى القمر فقال: إن الله صورك ونورك، وعلى البروج دروك. وإذا شاء قورك وإذا شاء كورك، فلا أعلم مزيداً أسأله لك ولئن أهديت إلى قلبي سروراً، لقد أهدى إليك الله نوراً، والشيخ ذلك القمر المنير، ولقد أعلى الله قدره، وأنفذ بين الجلود واللحوم أمره. ونظر إليه وإلى الذين يحسدونه، فجعله فوقهم وجعلهم دونه. فصل المرء جزوع لكنه حمول، والإنسان في النوائب شموس ثم ذلول. ولقد عشت بعد فراق الشيخ عيشة الحوت في البر، وبقيت ولكن بقاء الثلج في الحر.
فصل - توجه فلان إلى الحضرة، ويريد أن يقرن الحج بالعمرة، ولا يقتصر على المشتري دون الزهرة، ولا يقنع بالماء إلا مع الخضرة. وقصد من لشيخ الجليل يزخر بحره. وجعل الشيخ سفينة نجاته، وذريعة حاجاته.
فصل - إن ذكر الجمال طلع بدراً،أو السحاب زخر بحراً، أو العهد رسخ صخراً، أو الرأي أسفر فجراً. أو الحياء رشح خمرا، أو الذكاء توقد جمرا.

فصل - جزى الله خيراً عن بطن الساغب، وكف الراغب. وأعانه على همته ووفقه، وأخلف عليه خيراً مما أنفقه، فليس لمثل هذا العام، إلا مثل ذلك الإنعام العام. فلو انتقر، لهلك من افتقر، ولكنه أجفل وغمر الأعلى والأسفل، فكأنما عاد الشتاء ربيعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.

رقعة له إلى أبي محمد إسماعيل بن محمد
جواباً عن رقعة صدرت إليه وقد ورد هراة مرحباً بسيدي إسماعيل، وجد يفعل الأفاعيل، ولا رقعة أرقع من هذه، ما نصنع برقعة، ونحن في بقعة. فليجعلها زيادة، ثم الحاجة مقضية، والحرمات مرعية.
رقعة إليه أيضاً عند انصرافه
أنت يا سيدي أقرب رحما، وأنفذ حكماً، ودونك الدار، ولك فيها المقدار، ويسرني أن لا تغيب ولا تغبّ، وتحب الخروج وأحب أن لا تحب. ولو علمت أني إذا ناصبتك أقمت، فعلت ذلك ولو نقمت. فأقم ريثما تنقضي هذه الأشغال وتنقشع هذه الضبابات. فنتفرغ لقضاء حقك، ونتسع لواجب لك. ثم إن أبيت إلا الرج، وإلا الصد، فإني أراك قبل أن حصلت سرت، وقبل أن حوصلت طرت. وما قابلنا حقوقك إلا بالعقوق، والسلام.
فصل - لعلك يا سيدي لم تسمع بيتي الناصح حيث قال:
اسمع مقالة ناصحٍ ... جمع النصيحة والمقه
إيّاك واحذر أن تكو ... ن من الثقاة على ثقه
صدق الشاعر والله وأجاد فللثقاة خيانة في بعض الأوقات. هذه العين تريك السراب شراباً، وهذه الأذن تسمعك الخطأ صوابا. فلست بمعذور، إن وثقت بمحذور. وهذه حال السامع من أذنه، الواثق بعينه. ورأى فلاناً يكثر غشيانك هو الدني دخلته، الرديء نحلته، السيء وصلته، الخبيث جملته، وقد قاسمته في أزرك، وجعلته موضع سرك، فأرني موضع سرك. فأرني موضع غلطك فيه، حتى أريك موضع تلافيه. ما أبعد غلطك عن غلط إبراهيم عليه السلام! إنه رأى كوكباً، وبصر القمر وأبصرت القدر، وغلط في الشمس، وغلطت في الرمس، أظاهره غرك أم باطنه سرك؟ ومن هذا الفصل - وافتتح صلواتك بلعنه، وإذا استعذت من الشيطان فاعنه.
فصل من رقعة إلى وارث مال
العزاء عن الأعزة رشد كأنه الغي، وقد مات الميت فليحي الحي، واشدد على حالك بالخمس، فأنت اليوم غيرك بالأمس، قد كان ذلك الشيخ وكيلك يضحك ويبكي لك، وسيعجم الشيطان الآن عودك، فإن استنالك رماك بقوم يقولون: خير المال متلفة بين الشراب والشباب، ومنفقة بين الحباب والأحباب. والعيش بين القداح والأقداح، ولولا الاستعمال ما أريد المال، فإن أطعتهم فاليوم في الشراب، وغدا في الخراب، واليوم واطربا للناس، وغدا واحرابا من الإفلاس.
يا مولاي، ذلك المسموع من العود، يسميه الجاهل نقرا، ويسميه العاقل عقرا، وذلك الخارج من الناي هو اليوم في الآذان زمر، وهو غدا في الأبواب سمر، والعمر مع هذه الآلات ساعة، والقنطار في هذا العمل بضاعة.
فصل منه - ولله في مالك قسط للمروءة قسم، فصل الرحم ما استطعت، وقدرّ إذا قطعت، ولأن تكون من جانب التقدير، خير لك من أن تكون من جانب التبذير.
فصل - أشار إلى ضالة الأحرار، وهي الكرم مع اليسار، ونبه على قدر الكرام، وهو البشر مع الإنعام، وحدث عن برد الأكباد، وهو مساعدة الزمان للجواد، ودل على نزهة الأبصار وهو الثرى. ومتعة الأسماع وهو الثنا. وقلّما اجتمعا ووجدا معاً.
فصل - الأمير الفاضل الرئيس رفيع مناط الهمة، بعيد منال الخدمة، فسيح مجال الفضل، رحيب مخترق الجود، طيب معجم العود:
فلو نظمت الثريّا ... والشعريين قريضا
وكاهل الأرض ضرباً ... وشعب رضوى عروضا
وصغت للدرِّ ضدّاً ... أو للهواء نقيضا
بل لو جلوت عليه ... سود النوائب بيضا
أو ادّعيت الثريا ... لأخمصيه حضيضا
والبحر عبدٌ لهاه ... عند العطاء مغيضا

لما كنت إلا في ذمة القصور وجانب التقصير. ولكني أقول الثناء منجح أنى سلك، والسخي جوده بما ملك، وإن لم تكن غرة لائحة فلمحة دالة، أو إن لم يكن صداء فماء. أو لم يكن خمر فخل، وإن لم يصب وابل فطل. وبذل الموجود، غاية الجود وبعض الحمية آخر المجهود، وماش خير من لاش ووجود ما قل، خير من عدم ما جل، وقليل في الجيب، خير من كثير في الغيب، وجهد المقل، أحسن من عذر المخل، وما كان أجود من لو كان، لأن تقطف، خير من أن تقف. ومن لم يجد الجميم، رعى الهشيم.

فصول قصار وألفاظ أمثال
المرء لا يعرف ببرده، كالسيف لا يعرف بغمده، جرح الجور، بعيد الغور نار الخفاء سريعة الانطفاء، الحذق لا يزيد الرزق. والدعة لا تحجب السعة احتكم إلى الحجارة، فالتقتير نصف التجارة، غضب العاشق أقصر عمرا، من أن ينتظر عذرا، إن بعد الكدر صفواً، وبعد المطر صحواً. الراجع في شيئه كالراجع في قيئه. المرء من ضرسه في شغل، ومن نفسه في كل. الحبل لا يبرم إلا بالفتل، والثور لا يربى إلى للقتل، أرخص ما يكون النفط إذا غلا، وأسفل ما يكون الأريب إذا علا. لا تحسد الذئب على الألية يعطاها طعمة، ولا تحسب الحب ينثر للعصفور نعمة، إن للمتعة حداً، وإن للعارية ردا. ما كل مائع ماء، ولا كل سقف سماء. ولا كل بيت بيت الله، ولا كل محمد رسول الله، الكريم عند أهل اللوم، كالماء في فم المحموم، وسم المبرسم في الشهد، والشمس تقبح في العيون الرمد. الخبر إذا تواتر به النقل قبله العقل، كلفة الفضل متعينة، وأرض العشرة لينة، وطرقها بينة. إن الوالي سيعزل والراكب يستنزل النذل لا يألم العذل. المدبر يحسب النسيئة عطية، ويعتد بها هدية. الدهر بيننا جرع، وفيما بعد متسع، لا ماء بعد الشط، ولا سطح بعد الخط، من ذا الذي لا يهاب البحر أن يخوضه، والأسد أن يروضه. ود الحضر إخاء ومروة، وود السفر وفاء وفتوة. قلت قسما إن فيه لدسما، ليلة يضل بها القطا، ولا يبصر فيها الوطواط الوطا، شحاذ أخاذ، وفي الصنعة نفاذ، وهو فيها أستاذ. فارقنا خشفاً وأتى جلفا أرب ساقه، لا نزاع شاقه، أبعد المشيب أخدع الآخرة خمارها طويل الحرب سجال: فيوماً غنم، ويوماً غرم. ومطل الغنى ظلم. كذب القميص لا ذنب للذيب في تلك الأكاذيب. من الكبائر طفيلي يدب، ومن النوادر ذباب ينب، إنما يجرب السيف على الكلب، لا على القلب. إذا رضيت أن أخدم ولا أخدم، فإن العبودية لا تعدم. الجواد لا يجزع من الآكاف جزعي من المخاطبة بالكاف.ما بي المكن لولا السكان، والله ما أرضى ولو صارت السماء أرضاً، ولا أريد ولو قطع الوريد. لا تكاد السباع تأتلف كما لا تكاد لبهائم تختلف. إن اللئيم لا يخلو من خلة خير، وكذلك الكريم لا يخلو من خلة ضير. عزيز على أن لا أسعد دون الرقعة بتلك البقعة. العبث بهن الحمار، من المخاطرات الكبار. ولو شئت للفظت وأفضت، ولو أردت لسردت وأوردت.
ملح وغرر
من شعره في كل فن
أنشدني لنفسه في ابن فريغون:
ألم تر أنِّي في نهضتي ... لقيت المنى والغنى والأميرا
ولما التقينا شممت التراب ... وكنت امراءاً لا أشمُّ العبيرا
لقيت امراءاً ملء عين الزما ... ن يعلو سحاباً ويرسو ثبيرا
لآل فريغون في المكرمات ... يدٌ أوّلاً واعتذار أخيرا
إذا ما حللت بمغناهم ... رأيت نعيماً وملكا كبيراً
وأنشدني من قصيدة في أبي عامر عدنان بن محمد الضبيّ:
ليل الصّبا ونهاره سكران ... حدثان لم يعركهما حدثان
يا زمفرةً لي لا يكاد أزيزها ... يسع الضلوع إليك يا همذان
قسما لقد فقد العراق بي امرءاً ... ليس تجود بردّه البلدان
يا دهر إنك لا محالة مزعجي ... عن خطتي ولكلِّ دهرٌ شان
فاعمد براحلتي هراة فإنها ... عدنٌ وإنّ رئيسها عدنان
وله من قصيدة في الأمير أبي على أولها:
على أن لا ريح العيس والقتبا ... وألبس البيد والظلماء واليلبا
ومنها:
حسبي الفلا مجلساً والبوم مطربةً ... والسّير يسكرني من مسِّه تعبا

وطفلة كقضيب البان منعطفاً ... إذا مشت وهلال الشهر منتقبا
تظلُّ تنثر من أجفانها درراً ... دوني وتنظم من أسنانها حببا
قالت وقد علقت ذيلي تودّعني ... والوجد يخنقها بالدمع منسكبا
لا درَّ درُّ المعالي لا يزال لها ... برقٌ يشوقك لا هوناً ولا كثبا
يا مشرعاً للمنى عذباً موارده ... بيناه مبتسم الأرجاء إذ نضبا
أطلعت لي قمراً سعداً منازله ... حتى إذا قلت يجلو ظلمتي غربا
كنت الشبيبة أبهى ما دجت درجت ... وكنت كالورد أذكى ما أتى ذهبا
ومنها:
أبى المقام بدار الذّل بي كرمٌ ... وهمّةٌ تصل التوحيد والخببا
وعزمةٌ لا تزال الدّهر ضاربةً ... دون الأمير وفوق المشترى طنبا
يا سيّد الأمراء فخر فلا ملكٌ ... إلاّ تمناك مولى واشتهاك أبا
وكاد يحكيك صوب الغيث منسكباً ... لو كان طلق الحميّا يمطر الذهبا
والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا
ومن أخرى في أبي القاسم بن ناصر الدولة:
غُضِّي جفونك يا ريا ... ض فقد فتنت الحور غمزا
واقني حياءك يا ريا ... ح فقد كددت الغصن هزّا
وارفق بجفنك يا غما ... م فقد خدشت الورد وخزا
خلع الربيع على الرّبى ... وربوعها خزّاً وبزّا
ومطارفاً قد نقَّشت ... فيها يد الأمطار طرزا
أسر المطيَّ إلى المدا ... م على جنيِّ الورد جمزا
أو ما ترى الأقطار قد ... أخذت من الأمطار عزّا
أو ليس عجزاً أن يفو ... تك حسّها؟ أو ليس عجزا
حلّت عزاليها السما ... ء فعادت البيداء نزّا
وكأنّ أمطار الربي ... ع إلى ندى كفَّيك تُعزى
يا أيها الملك الذي ... بعساكر الآمال يُغزى
خلقت يداك على العدا ... سيفاً وللعافين كنزا
والمدح طلَّق ما عنا ... ك فإن عداك تجده كزَّا
لا زلت يا كنف الأمير لنا من الأحداث حرزا
ومن أخرى:
خرج الأمير ومن وراء ركابه ... غيري، وعزَّ عليَّ أن لم أخرج
أصبحت لا أدري أأدعو طغمتي ... أم بكتكينٌ أم أصيح ببزعج
وبقيت لا أدري أأركب أبرشي ... أم أدهمي أم أشهبي أم ديرجي
يا سيد الأمراء مالي خيمةٌ ... إلاّ السماء إلى ذراها ألتجي
كنفي بعيري إن ظعنت، ومفرشي ... كمّي، وجنح الليل مطرح هودجي
يا منحنون بحذف ثاني حرفه ... إن كنت فاعل ما أرى فتحرَّج
ومن أخرى في الرئيس أبي جعفر الميكالي:
اذهب الكأس فعرف الفجر قد كان يلوح
وهو للناس صباح ... ولذي الرأي صبوح
والذي يمرح بي في حلبة اللهو جموح
اسقينها والأماني ... لها عرفٌ يفوح
إن في الأيام أسرا ... راً بها سوف تبوح
لا يغرنَّك جسمٌ ... صادق الحسن وروح
إنّما نحن إلى الآ ... جال نغدو ونروح
ويك هذا العمر تفريحٌ وهذا الروح ريح
بينما أنت صحيح الجسم إذ أنت طريح
فاسقينها مثل ما يلفظه الديك الذبيح
هكذا الدنيا فسيحوا ... ووقعنا لا نصيح
إنّما الدهر عدوُّ ... ولمن أصغى نصيح
ولسان الدهر بالوعظ لواعيه فصيح
نستميح الدّهر والأيام منّا تستميح
ضاع ما نحميه من أنفسنا وهو يبيح
نحن لاهون وآجا ... ل المنى لا تستريح
يا غلام الكأس فاليأس من الناس مريح
أنا يا دهر بأبنا ... ئك شقَّ وسطيح
وبأبكار القوافي ... لا على كفءٍ شحيح
يا بني ميكال والجو ... د لعلاّتي مزيج
شرفاً إنّ مجال الفضل فيكم لفسيح

وعلى قدر الممدوح يأتيك المديح
فهناك الشرق الأر ... فع والطرف الطموح
والندى والخلق الطا ... هر والوجه الصبيح
ومن أخرى في غيره:
طرباً لقثد رقَّ الظلا ... م ورقّ أنفاس الصّباح
وسرى إلى القلب العليل عليل أنفاس الرياح
ومليحة ترنو بنر ... جسةٍ وتبسم عن أقاح
قامت وقد برد الحللي تميس في ثني الوشاح
تشدو وكلُّ غنائها ... بردٌ على كبد اقتراحي
يا ليل هل لك من صبا ... حٍ أم لنجمك من براح
سأريق ماء شبيبتي ... ما بين ريحانٍ وراح
فيم العتاب ولا لهم ... غيِّي ولا لهم صلاحي
وكعاذلاتي في الملي ... حة عاذلاتك في السماح
وهواي للبيض الصِّبا ... ح هواك للبيض الصِّفاح
وولوع كفّي بالقدا ... ح ولوع كفِّك بالرماح
وعليك إدمان الندى ... وعليَّ إدمان امتداحي
فليعل رأيك إنّه ... يلوي يد القدر المتاح
وافخر فإنك في الملو ... ك لك المعلّى في القداح
ومن أخرى:
قسماً لا ذعر الشَّيب عن اللّهو رتاعي
ويميناً لا تمثّلت له فقعاً بقاع
إنّما الدّهر الذي يصدقني حرُّ المصاع
كالني مدا وأجزيه من الحلم بصاع
واغنم الأيام ما ألفيتها خضر المراعي
لا تدع من لذة العيش عياناً لسماع
ومن أخرى في السلطان المعظم يمين الدولة وأمين الملة أطال الله بقاه:
تعالى الله ما شاء ... وزاد الله إيماني
أأفريدون في التاج ... أم الإسكندر الثاني
أم الرجعة قد عادت ... إلينا بسليمان
أظلّت شمس محمودٍ ... على أنجم سامان
وأمسى آل بهرام ... عبيداً لابن خاقان
إذا ما ركب الفيل ... لحربٍ أو لميدان
رأت عيناك سلطاناً ... على منكب شيطان
أمن واسطة الهند ... إلى ساحة جرجان
ومن قاصية السّند ... إلى أقصى خراسان
على مقتبل العمر ... وفي مفتتح الشان
لك السرج إذا شحّت ... على كاهل كيوان
يمين الدولة العقبى ... لبغداد وغمدان
وما يقعد بالمغر ... ب عن طاعتك اثنان
إذا شئت ففي أمنٍ ... وفي يمنٍ وإيمان
ومن أخرى أجاب بها عن قصيدة وردت عليه:
لعمر المعالي إن مطلبها سهل ... سوى أنها دارٌ وليس لها أهل
حنانيك من حر؟ِ ألمَّ بمشعرٍ ... هم الشاء رسلٌ إن أدرت ولا رسل
فحاول أن يستلّ بالشعر ما لهم ... وذلك ما لم يفعل اليد والفعل
شكا الجدَّ والأيام إذ لم تواته ... فلم يشك إلا ما شكى الناس من قبل
عزاءً فقي هذا السواد لنا نخل ... وصبراً ففي هذا القطيع لنا سخل
ألم تر أنّ الجود والمجد والعلى ... أمانيّ إن تحلم بها يجب الغسل
ألا لا يغرَّنَّك الحسين وجوده ... فترجو قوماً ليس في كأسهم فضل
فما كلُّ وقتٍ مثله أنت واجدٌ ... ولا كلُّ أرضٍ للحسين بها مثل
وما كلُّ جنسٍ تحته النوع داخلٌ ... ولا كلُّ ماأبصرت من شجرٍ نخل
ولن تفعل الأقوام مثل فعاله ... ولا سائر الذبان ما تفعل النحل
ومن أرجوزة عدنانية من الرجز:
يا آل عصمٍ أنتم أولو العصم ... لم توسموا إلاّ بنيران الكرم
لا ينزع الله سرابيل النعم ... عنكم فلا تخطوا بها دون الأمم
طابت مبانيكم وطبتم لا جرم ... يا سادة السيف وأرباب القلم
تهمي سجاياكم بعقيان ودم ... أنتم فصاحٌ ما خلا في لا ولم
الجار والعرض لديكم في حرم ... والمال للآمال نهبٌ مقتسم

أنتم أسود المجد لا أسد الأجم ... يا سيداً نيط له بيت القدم
بالعمد الأطول والفرع الأشم ... هل لك أن تعقد في بحر الشّيم
عارفةٌ تضرم ناراً في علم ... ويقصر الشكر عليها قل نعم
أمّا وإنعامك إنّه قسم ... وثغر مجدٍ عن معاليك ابتسم
إنّك في الناس كبرءٍ في سقم ... يا فرق ما بين الوجود والعدم
وبعد ما بين الموالي والخدم ... ما أحدٌ كهاشم وإن هشم
ولا امرؤ كحاتمٍ وإن حتم ... ليس الحدوث في المعالي كالقدم
ولا شباب النبت فيها كالهرم ... شتّان ما بين الدناني والقمم
وله من قصيدة في الشيخ الإمام أبي الطيب سهل بن محمد بن سليمان:
لسهلٍ في العلا غرر ... فهلاَّ عندكم لمح
وفيه من النّدى بدعٌ ... فهلاّ فيكم ملح
تضمَّن أمَّة رجلٌ ... وأودع عالماً شبح
فمن جاراه منقطعٌ ... ومن باراه مفتضح
وله من قصيدة في إسماعيل بن أحمد الدبراني وفيمن جمعه وإياهم الحبس من العمال:
قبحاً لهذا الزمان ما أربه ... في عملٍ لا يلوح لي سببه
ماذا عليه من الكرام فما ... تظهر إلا عليهم نوبه
ألم يجد في سواكم سعةً ... ممّن يسوّي برأسه ذنبه
لا يعرف الضيف أين منزله ... ولا يرى المجد أين منقلبه
مالي أر الحرّ ذاهباً دمه ... ولا أرى النذل ذاهباص ذهبه
أراحنا الله منك يا زمناً ... أرعن يصطاد صقره خربه
يا ساغباً جائع الجوارح لا ... يسكن إلاّ لفاضلٍ سغبه
يا ضرماً في الأنام متّقلداً ... والجود والمجد والنهى حطبه
يا خاطباً ساكتاً وليس سوى ... نعي فتىً أو فتوةٍ خطبه
يا صائداً والعلى فريسته ... وناهباً والجمال منتهبه
يا سادتي لا تلن عظامكم ... لعضّة الدّهر إن يهج كلبه
فالدّهر لونان لا يدوم على ... حالٍ سريعٌ بالناس مضطربه
أتى بشرِّ لم نرتقبه، كذا ... يأتي بخيرٍ وليس نحتسبه
وله من قصيدة في أبي نصر بن أبي زيد:
خلقت كما ترى صعب الثّقاف ... أردّ يد الخليفة في الخلاف
ولي جسدٌ كواحدة المثاني ... ولي كبدق كثالثة الأثافي
هلمَّ إلى نحيف الجسم منّي ... لتنظر كيف آثار النحاف
ألم تر أن طائشةً لظاها ... نتيجة هذه القضب الضعاف
صحبت الدهر قبل نبات فيه ... فلا تغررك خافية الغداف
نزلت من الزمان ومن بنيه ... على غصنين من شجر الخلاف
ولو شاء الزمان قرار جأشى ... لأسمعني نداء أخٍ مصافي
أبا نصرٍ نقصتك صاع قولى ... وصاع الفعل من نعماك وافي
متى يستطيع عدّ علاك لفظي ... متى ينحي على البحر اغترافي
وله من أخرى في خلف بن أحمد:
وليلٍ كذكراه كمعناه كاسمه ... كدين ابن عبادٍ كإدبار فائق
شققنا بأيدي العيس برد ظلامه ... وبتنا على وعدٍ من السير صادق
تزجّ بنا الأسفار في كلِّ شاهق ... وترمي بنا الآمال من كلِّ حالق
كأنَّ مطايانا شفارٌ كأنّما ... تمدُّ إليهنّ الفلا كفُّ سارق
كأنَّ نجوم الليل نظارةٌ لنا ... تعجّب من آمالنا والعوائق
كأنَّ نسيم الصبح فرصة آيس ... كأنّ سراب القيظ خجلة واثق
ومن أخرى:
سماء الدُّجى ما هذه الحدق النُّجل ... أصدر الدجى حالٌ وجيد الضحى عطل
لك الله من عزمٍ أجوب جيوبه ... كأنِّي في أجفان عين الدجى كحل
كأنّ الدّجى نقعٌ وفي الجو حومةٌ ... كواكبها جندٌ طوائرها رسل
كأنّ مطايانا سماء كأننّا ... نجومٌ على أقتابها برجنا الرحل

كأن السرى ساق كان الكرى كلا ... كأنها لها شرب كأن المنى نقلا
كأنّ الفلا نادٍ به الجنُّ فتيةٌ ... عليه الثرى فرشٌ حشيَّته الرّمل
كأنَّ أبانا أودع الملك الذي ... قصدناه كنزاً لم يسع روة مطل
ولمّا بلوناكم تلونا مديحكم ... فيا طيب ما نبلو ويا حسن ما نتلو
ويا ملكاً أدنى مناقبه العلى ... وأيسر ما فيه السماحة والبذل
هو البدر إلاّ أنّه البحر زاخراً ... سوى أنّه الضرغام لكنه الوبل
محاسن يبديها العيان كماترى ... وإن نحن حدَّثنا بها دفع العقل
ومن أحاجيه قوله في فص برحشاني:
أحاجيك أناجيك ... بما يهجس في صدري
بما يجمد من خمرٍ ... وما يخمد من جمر
بما يجمة من خمر ... وما يخمد من جمر
وما يورد معناه ... إذا قلت على أمري
ونجم كاد ذو الحاج ... ة في الليل به يسري
وحرفٍ من حروف النصب لولا خفَّة الظهر
أجب إن شئت بالنظم ... وإن شئت فبالنثر

الباب السادس
في ذكر
أبي الفتح البستي وسائر أهل بست
وسجستان وإيراد غررهم
أبو الفتح علي بن محمد الكاتب البستي
صاحب الطريقة الأنيقة في التجنيس الأنيس. البديع التأسيس، وكان يسميه المتشابه، ويأتي فيه بكل طريقة لطيفة، وقد كان يعجبني من شعره العجيب الصنعة البديع الصيغة قوله:
من كلِّ معنىً يكاد الميت يفهمه ... حُسناً ويعبده القرطاس والقلم
ما أراه فأرويه، وألحظه فأحفظه. أسأل الله بقاءه، حتى أرزق لقاءه. وأتمنى قربه كما تتمنى الجنة وإن لم يتقدم لها الرؤية، حتى وافقت الأمنية حكم القدر وطلع علي بنيسابور طلوع القمر. فزاد العين على الأثر،والاختبار على الخبر. ورأيته يغرف في الأدب من البحر، وكأنما يوحى إليه في النظم والنثر، مع ضربه في سائر العلوم بالسهم الفائز، وأخذه منها بالحظ الوافر، وجمعته وإياي لحمة الأوب التي هي أقوى من قربة النسب. فما زلت في قدماته الثلاث نيسابور بين سرور وأنس مقيم، من حسن معاشرته وطيب مذاكرته ومحاضرته، في جنة نعيم أجتني ثمر الغراب من فوائده، وأنظم العقود من فرائده.ولم يكن تغبني كتبه في غيبته، ولا أكاد أخلو من آثار وده، وكرم عهده.
ومن خبره أنه كان في عنفوان شبابه وأمره كاتب الباتيور، صاحب بست، فلما فتحها الأمير ناصر الدولة أبو منصور سبكتكين رضي الله تعالى عنه وأسفرت الوقعة بينه وبين باتيور عن استمرار الكشفة بباتيور أعيت أبا الفتح صحبته، وتخلف عنه، ودل الأمير عليه فاستحضره ومناه واعتمده لما كان قبل معتمداً له، إذ كان محتاجاً إلى مثله في آلته وكفايته، ومعرفته وهدايته، وحنكته ودرايته.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11