كتاب : خريدة القصر وجريدة العصر
المؤلف : العماد الأصبهاني

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مودع أرواح المعاني أشباح الألفاظ، ومطلع ذكاء الذكآء من أفلاك الإدراك للقرائح الأيقاظ، ومظهر أسرار الحكم لأحداق الضمائر الناظرة، ومنور أزهار الكلم في حدائق الخواطر الناضرة، وحافظ نظام البلاغة في كل عصر، وحاصر أقسام البراعة في نوعي نظم ونثر، الذي أفاض على الأفاضل حلل الكرامة، وخصهم لخصائصهم بالفخار والفخامة، وأرسل محمداً صلوات الله عليه بالفصاحة المعجزة في البيان، والحكمة الواضحة البرهان، وأنزل عليه الذكر العربي المبين، وجعله لحمل أمانة وحيه القوي الأمين، وأيده بذوي الفضائل الغر، والفواضل الغزر، من آله وصحابته، وعين أهل العلم لوراثته، وأصفى بشرعه مشرع أمته، صلى الله عليه وآله وصحبه وعترته.
أما بعد، فإنني لما رأيت الفضل في عصرنا هذا، وإن ضاع عرفه، قد ضاع عرفه كما أنه، وإن زان ضعفه، فقد زاد ضعفه، لفساد أمره، وكساد سعره، وهبوط نجمه، وسقوط رسمه، وحط حظه، وقلة عناية هله بحفظه، آثرت أن أثر من مآثر أهل العصر ما يخلد آثارهم، ويجدد منارهم، فإنني ألفيت أبكار أفكارهم قد عنست، وآرام شواردهم في خميلة الخمول كنست، وعرائس نفائسهم عند الأكفاء ما عرست، وبعد الوحشة ما أنست، والبواعث قلت بل عدمت، والحوادث جلت بل عظمت، وكنت منذ شمت بارقة الأهب، وركبت في استفادة العلم صهوة الطلب، ذاك وصبا الصبا في ريعان الهبوب لها مسرى ومسير، وشبا الشباب الطري طرير، وأنا أحب أن أجمع محاسن من محاسناهم الدهر المسيء، وأظهر مزاين من غفل عن التحلي بمزاياهم الزمان البذئ، وكنت قد طالعت كتابي يتيمة الدهر، ودمية القصر للثعالبي والباخرزي في محاسن أهل عصريهما الشعراء، وقد بلغا الجهد في إظهار اجتهاد البلغاء، وما وجدت بعد ذلك من عني بذلك كعنايتهما، ولا من حدث نفسه أنه يبلغ إلى غايتهما، فصنفت هذا الكتاب وألفته، ورقمت هذا الوشي وفوفته، وسميته خريدة القصر وجريدة العصر؛ لأنها حسناء ذات حلي وحلل، غانية تغبطها على الحسن أقمار الكلل. فهذا الكتاب كالروض الأنف يجمع أنواع الزهر، وكالبحر تضمن على نواصع الدرر؛ وكالدهر يأتي بعجائب العبر، يشتمل على فنون وعيون، وأبكار للمعاني وعون، وأصناف فوائد، وأصداف فرائد، وضروب ضرب، وضروع أرب، وظروف ظرف، وحروف لطف، فكم فيه من يتيمة لتاج قدره، وكريمة في خدره، وديمة لودقه، وهلال لأفقه؛ ويتضمن من شريف الكلام وحره، ودريه ودره، ولطيف القول وبديعه، وغريبه وصنيعه، ما إذا اجتليت أنواره، واجتنيت أثماره، ونظرت إلى استقامة سمته، وسلامة نحته، وجدته محمي الحريم بالصون، مفري الأديم علي الحسن، منيع الجناب للعاكف، حلو الجني للقاطف، لا يطلب إذناً على أذن، ولا يلتمس رهناً من ذهن، ولا يحتجب عنه قلب، ولا يحتجر معه لب، بل يعانق القلوب بقبوله معانقة، ويعالق الأرواح براحة معالقة.
وقد ذكرت أهل عصري، وأهل عصر آبائي وأعمامي، فالكتاب مشتمل على العصرين: السالف الماضي، والحاضر النامي. وأكثر ما أوردته شعر من أروي عن واحد، عنه، إن لم يكن أدركته وسمعته منه، ولم أقتصر على المنتقى المنتقد، والمثنخل المنتخب، بل ذكرت لكل شاعر ما وقع إلي من شعره، وأثبته: إما لمعنى غريب، أو لفظ مستحسن، أو أسلوب رائق، أو حديث بحال من الأحوال لائق، وطلبت الاستكثار من الفوائد، وضممت الشذور إلى الفرائد.
والذي بعثني أولاً على جمع هذا الكتاب أنني وجدت المعاصرين لعمي الصدر الشهيد عزيز الدين أبي نصر أحمد بن حامد من الشعراء ما فيهم إلا من أم قصده، وطلب ووفد عليه بمدحه، واسترفده من منحه، وفاز عنده بنجحه، وأدرك في ليل الأمل من الفوز ضوء صبحه، وحمل إليه بضائع فضله فحصل من إفضاله بربحه، وكلهم ممتدحه، ومستميحه ومستمنحه، فأحببت أن أحيي ذكرهم، وأقابل بمجازاة شكري شكرهم. وكانت المدائح المجموعة في عمي العزيز مجلدات، غير أن العدو لما نكبه، نهبها، وذهب بها وأذهبها، لكنه لم يسلب الأصل والمحتد، ولم ينهب المجد والسؤدد. وقد كتبت منها بعض ما حصلته، ومهدت به ذكره على قاعدة الخلود وأثلته.
وقد قسمت هذا الكتاب أقساماً.
القسم الأول
فضلاء بغداد
وما يجري معها من البلاد
خلفاء وأمراء بني العباس
الإمام المستضيء بالله أمير المؤمنين

وابتدأت القسم الأول من العراق مزكي عرقي، ومنشأ حقي، وموطن أهلي، ومجمع شملي. وهو الإقليم الأوسط، والأقنوم الأحوط، وأهله الراسخون علوماً، الباذخون حلوماً. وقدمت مدينة السلام؛ لأنها حوزة الإسلام، وبيضة مملكة الإمام، وتبركت بذكر من أدركته من الخلفاء، ومن أدركه منهم والدي وأعمامي، الذين يشتمل هذا الكتاب على محاسن أيامهم، ومزاين أجوادهم وكرامهم، وذكرت من شعر كل واحد منهم ما سمعته، تفضيلاً لكتابي هذا على الكتب المصنفة في فنها، ليربي بحسنه على حسنها، فهو - بإشراق أضواء ذكر الإمام المستضيئ بأمر الله أمير المؤمنين أبي محمد الحسن ابن الإمام المستنجد - مضيء المطالع مشرقها، صافي الشرائع مغدقها.
والإمام المستضيئ واحد العصر نبلاً، وثاني البحر فضلاً، وثالث العمرين عدلاً، بل ثالث القمرين أنواراً، وثاني القدر أثراً وإيثاراً، وواحد الزمان قدراً ومقداراً. وهو الثالث والثلاثون من خلفاء بني العباس، ذو الفضل والإفضال والنائل والسطوة والباس، ترجى موهبته، وتخشى هيبته، وتدعى هبته، وينادي نداه فيجبر ويجيب، ويجتدي جداه فيصوب ويصيب. أما السماح فهو بدر سمائه الزاهر، وأما الكرم فهو بحر عطائه الزاخر، وأما الفضل فهو جامع شتاته، ورافع راياته، وواضع شرعه، وشارع وضعه، ومشرق آفاقه، ومنفق أسواقه، قس الفصاحة، وقيس الحصافة، وصديق السماحة، وفاروق الحماسة، وعثمان الحلم، وعلي العلم. حلل الأيام معلمة منه بطراز العدل، وحلل الأنام مكرمة بإعزاز الفضل. وفي عصره المذهب تسنت الفتوح الأبكار، وجرت على الإيثار الآثار، واستخلصت مصر من الأدعياء، واليمن من الأعداء، وملك بنو أيوب، ومكن الله ليوسفهم في الأرض، وعادت مصر آهلة بالمقيمين وظائف السنة والفرض.
ولما بويع له بالخلافة في تاسع ربيع الآخر سنة ست وستين وخمس مئة، كنت بالموصل، فعملت هذه الأبيات المهموزة، ونفذتها إليه على يد الفقيه شرف الدين بن أبي عصرون، فعاد إلي بخلع منه سنية، ودنانير أميرية، وصيرها الإمام رسماً في كل سنة، والأبيات هي:
قد أضاء الزمان بالمستضيئ ... وارث البُرْد وابن عم النّبيء
جاءَ بالحقّ والشريعة والعد ... لِ فيا مرحباً بهذا المجيء
رَتَع العالمون من عدله الشا ... مل في المرتع الهنيء المريء
ورعوا منه في مَرادٍ خصيبٍ ... لا وخيم ولا وبيل وبيء
رقدوا بعد طول خوف مقضّ ... في ذَرا الأمن والمهاد الوطيء
فهنيئاً لأهل بغدادَ فازوا ... بعد بؤسٍ بكلّ عيش هنيء
سأوافي فِناءَهُ عن قريب ... مسرعاً كي أفوز غيرَ بطيء
وأحلّي عيشي بجدّ جديد ... وأهنّي فضلي بحظّ طريء
وتُريني الأيام نقداً من الآ ... مال ما كان قبله في النسيء
وأمانيّ سوف يظهر منها ... عند قصدي ذَراه كلُّ خبيء
عاد حظّي من النحوس بريئاً ... وغدا السعد منه غير بريء
ولقيتُ الدّهرَ العبوسَ وقد عا ... دَ بوجهٍ طَلْقٍ إليِّ وَضيء
ومُضيء إن كان في الزمن المُظلم فالعَود في الزمان المُضيء
ثم مدحته بعد ذلك بقصائد.
ولما خُطِب له بمصرَ سنة سبع وستين في أيام الوزير عضد الدين، كتبت إليه قصيدة، أولها:
قد خطبنا للمستضيئ بمصرٍ ... وارثِ المصطفى إمام العَصْرِ
وخذَلنا لنصره العَضُدَ العا ... ضِدَ والقاصر الذي بالقَصْر
قصدت بالعضد العاضد المجانسة، ونصرة وزير الخليفة كنصرته.
وأشعنا بها شِعار بني الع ... باس فاستبشرتْ وجوهُ النصر
ووضَعْنا للمستضيئ بأمر ال ... له عن أوليائه كُلَّ إصْرِ
ومنها:
وجرى من نَداه دِجْلَةُ بغدا ... دَ بشطر ونيلُ مصر بشطرِ
وقد اهتز للهدى كلُّ عِطفٍ ... مثلما افترَّ بالمنى كلّ ثَغْرِ
فبَجدْواهُ زائلٌ كلّ فَقرٍ ... وبنُعماه آهِلٌ كلِّ قَفْرِ
ونداهُ الهدى أزال من الأس ... ماع في كلّ خطّةٍ كلّ وَقْرِ

نشكرُ اللهَ إذْ أتمّ لنا النص ... رَ ونرجو مَزيدَ أهلِ الشكر
ونشرنا أعلاَمنا السودَ فهراً ... للعدى الزرق بالمنايا الحمر
خلفاء الهدى سَراة بني الع ... باس والطيّبونَ أهل الطهرِ
كشموس الضحى كمثل بدور ال ... تمِّ كالسحب كالنجوم الزهر
وتمام الحبور ما تمّ من خط ... بة خير الخلائف ابن الحَبْرِ
مَهْبطُ الوحي بيته منزل الذكْ ... ر بشَفْعٍ من المثاني ووِتْر
ومنها:
ليس مُثري الرجال مَنْ ملكَ الما ... ل ولكنّما أخو اللبّ مُثْر
ولهذا لم ينتفع صاحب القص ... ر وقد شارف الدُّثُورَ بدَثرِ
ومنها في مدح
لسوي نظم مدحه أهجر النظْ ... مِّ فما مَدحُ غيره غير هُجْر
وأرتنا له قلائدَ من مس ... نٍ وبِرّ ليست بجِيدٍ ونَحْر
وبإِنعامه تَزايد شكري ... وبتشريفه تَضاعف فخري
كم ثَراءٍ وقوةٍ وانشراحٍ ... منه في راحتي وقلبي وصدري
وعليِّ النُذُورُ في مثل ذا اليو ... مِ وهذا يوم الوفاء بنَذْري
واستهلّت بوارق الأنعم الغرِّ ... به في حَيا الأيادي الغُزْر
نَعشَ الحقَّ بعدَ طول عثارٍ ... جَبرَ الحقّ بعدَ وَهْنٍ وكسر
دام نصرُ الهدى بملك بني الع ... بَّاس حتى يكونَ يوم الحشر
وهذه قصيدة طويلة جداً، ولكنني اقتصرت منها على هذا القدر.
ومن قصائدي في مدحه:
هل عائدٌ زمنُ الوصالِ المنْقَضِي ... أم عائدٌ لي في الصبابة ممرضي
لا أشتكي إلاّ الغرام فإِنّهُ ... بَلوى عليِّ من السماء بها قُضي
يا لاح حالي في الهَوى مشهورةٌ ... حاوَلتَ تسليَتي وأنت مُحرّضي
خَفِّضْ عَليكَ فما الملامُ بناجعٍ ... فيمن يقولُ لكلِّ لاحٍ خَفّض
كان التعرُّضُ لي بِنصحك نافعي ... لو كان يمكن للسُّلوّ تَعرُّضي
عَرَّضت وجدي للسلوّ ومُتْعِبٌ ... كتمانُ سرٍّ للوُشاةِ مُعرِّض
أَنفقتُ ذُخر الصبر من كلفي فهل ... من واهبٍ للصبر أو مِن مُقرِض
أيبلُّ مُضنىً قلبُه مُتَهدِّفٌ ... لسهام رامٍ للّواحظِ مُنْبِضِ
شَغَفي بأغيَدَ مُقْبلٍ بوداده ... لمحبّه ويَصدّ صَدِّ المعرِض
شكوايَ من دَلٍّ يزيدُ مُحبّبٍ ... وضَنايَ من صدٍّ يدوم مُبغِّض
يا حبّذا ماءُ العُذَيْبِ وحبّذا ... بنِطافه الغُزرِ العِذاب تمضمضي
لَهفي على زمن الشباب فإنِّني ... بسوي التأسّف عنه لم أتعوض
نُقِضَتْ عُهودُ الغانياتِ وإنها ... لولا انقضاءُ شبيبتي لم تَنقض
كان الصِبا أضفى الثياب وإنما ... ذهبت نضارة عيشتي لمّا نُضي
يا حسنَ أَيام الصِّبا وكأنها ... أيامُ مولانا الإِمام المستَضِي
وهذه القصيدة أيضاً طويلة.

الإمام المستنجد بالله أمير المؤمنين

المستنجد بالله أبو المظفر يوسف أمير المؤمنين ابن الإمام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله أمير المؤمنين أبي العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله أمير المؤمنين عبد الله بن الذخيرة محمد بن أمير المؤمنين القائم بأمر الله عبد الله بن القادر بالله أمير المؤمنين أحمد بن ولي العهد إسحاق بن أمير المؤمنين المقتدر بالله أبي الفضل جعفر ابن أمير المؤمنين المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق بالله أبي أحمد طلحة بن أمير المؤمنين المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن أمير المؤمنين المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن أمير المؤمنين الرشيد أبي جعفر هارون بن أمير المؤمنين المهدي أبي عبد الله محمد بن أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنه وعن آبائه، الذي نطقت بشرفه السور، وأرخت بفضيلته السير، ووضحت حجول أيامه والغرر، وتسنى في زمانه للإسلام الظفر.
أما شرفه، فهو أوضح من ذكاء. وأما مناقبه، فهي بعدد أنجم السماء.
بويع له بالخلافة يوم الأحد، ثاني ربيع الأول، سنة خمس وخمسين وخمس مئة يوم وفاة المقتفي، وتوفي تاسع شهر ربيع الآخر سنة ست وستين وخمس مئة.
وكان يحب الفضل وذويه، ويستخدمهم، ويقربهم.
وله شعر حسن، فمنم ذلك ما ذكره الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة في كتاب صنفه له يشرح أبياته، ويقول: وإنما غرض كتابنا هذا شرح أبيات سمح بها خاطره ارتجالاً، وأنا قائم بين يديه، في شخص لا أعلمه في الحقيقة إلا هو.
سَهْلُ التَّعَطُفِ في الصواب دِرايةً ... بمآله متوقّفٌ في ضدّهِ
مُتأيِّدٌ في رَأْيه لسداده ... طلاّع أنجده بواري زنده
والسيفُ يَفْري الهامَ من إفْرِندِه ... لا ما يُقال مَضاؤه في حَدّه
وكذا اللّبيبُ يرى الصواب برأيه ... لا يَستريب بقربه أو بُعدِه
وإذا الشجاعة يُسِّرَتْ لمُسدِّدٍِ ... حاز النُّهى منم حزمه وبجدِّه
وله:
وباخِلٍ أشعل في بيته ... طرمذةً منه لنا شَمْعَهْ
فما جرت من عينها دمعة ... حتى جرت من عينه دَمعَهْ
ولأمير المؤمنين المستنجد بالله:
خاله حالٍ وحالي خالُه ... شَجِيَ الصبُّ به والخال خال
ومنها:
بان لما بان فيه يَقَقٌ ... ونُصولُ الشيب فلّ في النِّصال
ونظم شرف الدين مظفر بن الوزير ابن هُبيرة على وزنها قصيدة، منها:
وبنو الأشراف من تحملهم ... عزّة السُّؤل على ذل السؤال
وللمُستنجد في عامل له كان يمن بخدمته:
يَمُنُّ ولا يَدري بأني عالمٌ ... بأفعاله، والمنُّ بالمنّ يُوزَنُ
وفي القول تعريضٌ وفيه غباوةٌ ... ولولا تغابيه لقد كان يَفطِنُ
وهذه الأشعار أكتبها لشرف قائلها، وقد قيل:
وخيرُ الشعر أشرفه رجالاً ... وشرُّ الشعر ما قال العبيدُ
على أنها قد أعجزت الشعراء، وأعجبت البلغاء الفصحاء.
ويُنسب إلى الإمام المستنجد شعر:
وقد تُنظر الأشياء بالسمع إن جرت ... موانع صدَّتْ عن تأمُّلِ ناظِر
وله رضي الله عنه في وصف سمعة:
وصفرآء مثلي في القياس ودمعُها ... سِجامٌ على الخدّين مثل دموعي
تذوبُ كما في الحبِّ ذبتُ صبابة ... وتحوي حشاها ما حَوته ضلوعي
وقد تبركنا بذكر الخلفاء الراشدين، الذين أدركتهم وأدركهم والدي وجدي، وأولهم:

القائم بأمر الله عبد الله بن القادر بالله
توفي رضي الله عنه في ليلة الخميس ثالث عشر شعبان سنة سبع وستين وأربع مئة. وكان بويع له بالخلافة يوم موت أبيه القادر، يوم الاثنين الحادي عشر من ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وأربع مئة. وكانت مدة خلافته أربعاً وأربعين سنة وثمانية أشهر وخمسة وعشرين يوماً.
وكان ولياً من الأولياء، ولو جاز بعث نبي لكان من الأنبياء، وهو أزهد الخلفاء.
وله شعر، وقد ذكرته - وإن سبق عصره - تيمناً بذكره، وأورده السمعاني. فمن ذلك قوله:

القلبُ من خَمرِ التَّصابي منتشٍ ... مَن ذا عَذيري من شراب مُعْطشِ
والنفسُ من بَرْحِ الهوى مقتولةٌ ... ولكَمْ قتيلٍ في الهوى لم ينعش
جُمعت عليِّ من الغرام عجائبٌ ... خلفن قلبي في إسار موحش
خل يصد وعاذل متنصح ... ومعاند يؤذي ونمام يشي
وقوله سنة الغرق وهي سنة ست وستين وأربع مئة.
يا أكرم الأكرمين العفو عن غرق ... في السيئات له وِردٌ وإصدارُ
هانت عليه معاصيه التي عَظُمَت ... علماً بأنَّك للعاصين غفّار
فامنُنْ عليّ وسامحني وخذ بيدي ... يا مَن له العفو والجنّات والنار
وقوله رضي الله عنه:
سقى ليلنا بأعالي الرُّبا ... من المزن هطّالةٌ تنسجم
سَهرنا على سنّة العاشقين ... وقلنا لما يكره الله نَم
وما خيفتي من ظهور الوَرى ... إذا كان ربُّ الورى قد علِم
وقوله، وما أحسن التشبيه الذي اخترعه!:
قالوا الرحيل فأنشبتْ أظفارها ... في خدِّها وقد اعتَلقْنَ خضابا
واخضرَّ تحت بنانها فكأَنَّها ... غَرَستْ بأرض بنفسج عُنَّابا

المقتدي بأمر الله أمير المؤمنين
بن الذخيرة أبي العباس محمد بن القائم
بويع له بالخلافة نهار ليلة وفاة القائم جده، بين الظهر والعصر، وله تسع عشرة سنة. وظهرت في أيامه خيرات كثيرة، ومبرات وافرة، وآثار حسنة في البلدان القاصية والدانية، وكما ذكر عن المتوكل وأيامه إنها كانت أحسن من الخصب بعد الجدب، والسلم بعد الحرب، والأمن بعد الرعب.
توفي يوم السبت رابع عشر المحرم سنة سبع وثمانين وأربع مئة. ومدة خلافته تسع عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة أيام. والدي، رحمه الله ولد في زمانه.
ومن شعره، الذي أورده السمعاني، قوله:
أردت صفاء العيش معْ من أُحِبُّهُ ... فحاولني عمّا أريد مَريد
وما اخترت بتّ الشمل بعد اجتماعه ... ولكنّه مما يريد أُريد
وقوله:
أما والذي لو شاء غيَّر ما بنا ... فأهوى بقوم في الثرّيا إلى الثرى
وبدّلنا من ظلمة الجور بعد ما ... دجا ليلها صُبحاً من العدلِ مسفرا
لئن نظرت عيني إلى وجه غيره ... فلا صافحت أجفانها لذَّة الكرى
وإن تسعَ رجلي نحو غيرك أو سَعتْ ... فلا أمِنَتْ من أن تَزِلَّ وتعثرا
فواللهِ إنِّي ذلك المخلص الذي ... عزيزٌ علي الأيّام أن يتغيرا
الإمام المُستظهر بالله
أبو العباس أحمد أمير المؤمنين بن المقتدي بأمر الله. وكانت علامته: القاهر الله.
بويع له بالخلافة يوم الثلاثاء ثامن عشر المحرم من سنة سبع وثمانين وأربع مئة. فإن المقتدي توفي يوم السبت، ولم تظهر وفاته إلى يوم الثلاثاء، وصلي عليه في هذا اليوم. وسن المستظهر يوم بيعته ست عشرة سنة وشهران وتسعة وعشرون يوماً، لأن مولده كان يوم السبت العشرين من شوال سنة سبعين وأربعة مئة.
وكانت أيامه مواسم للتهاني، ومباسم مفترة عن ثنايا الأماني، وزمانه مذهباً، وإحسانه للبس مذهباً، وشأنهُ مهذباً، وهو أوضح وأشرح صدراً ومذهباً. وكان عصره عصر العدل والجود، وإشراق السعود وإخفاق الحسود، وأسواق الفضلاء نافقة، وحظوظ الكرام لهم موافقة، إلى أن قبضه الله حميد الأثر، كريم الورد والصدر، وجميل السير، يوم الأربعاء الثالث والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وخمس مئة. وكانت مدة خلافته خمساً وعشرين سنة وثلاثة أشهر وخمسة أيام.
ومن شعره الذي أورده السمعاني، قوله رضي الله عنه:
أذاب حرُّ الجوى في القلب ما جمدا ... يوماً مددتُ على رسم الوَداع يدا
فكيف أسلكُ نَهجَ الاصطبار وقد ... أَرى طرائقَ في مَهوى الهوى قِدَدا
قد أخلفَ الوعدَ بدرٌ قد شُغِفتُ به ... من بَعد ما قد وفى دهري بما وَعدا
إن كنت أنقضُ عهد الحبِّ في خَلَّدي ... من بعد هذا فلا عاينتُه أبدا
وله مثال إلى زين الملك أبي سعد هندو بن محمد نسخته:

بسم الله الرحمن الرحيم لكَ يا زين الملك من شريف الارتقاء ما يزلفك إلى الحسنى، في العاقبة والأولى، وما أبديته من خبايا الإخلاص فهو يقتضي عطايا الاختصاص، والسكون إلى ولائك مستدام، يبقى على مرور الأيام، والثقة بطاعتك مشتهرة عند الخاص والعام. ومع هذه الأسباب والأواخي، فما نقنع منك بالإغفال والتراخي، والله يعلم أن الشفقة على السيرة الغياثية أمرٌ قد ظهر حكمه وتم، وقد قيل: نسبه لها عمراً ثُمّ نَمْ. وفي هذه الإشارة مقنع، مع خلوص عقيدتك يا زين الملك وأنت أجدر بالمذاكرة بما يجمع بين الأجر والثواب، وجميل الذكر المستطاب، والله عنده حسن الثواب.

الإمام المسترشد بالله
أبو منصور الفضل أمير المؤمنين بن المستظهر.
ومولدي في عصره. بويع له بالخلافة يوم وفاة والده، واستشهد بالمراغة في سادس عشر ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمس مئة، فتكت به الملاحدة، خذلهم الله، فكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة وسبعة أشهر. وثلاثة وعشرين يوماً. وعلامته: الناصر الله.
ومن شعره ما أنشدت له، وهو قوله:
أنا الأشقر الموعود بي في الملاحم ... ومَن يملك الدنيا بغير مُزاحِم
ستبلغ أرض الروم خيلي وتُنْتضي ... بأقصى بلاد الصين بيضُ صواري
وقوله:
ودونَ بغدادَ وما حَوْلَها ... خليفةٌ أشجعٌ من عَنْترِ
وأورد السمعاني في المذيل قوله:
أقول لشَرْخ الشباب اصطبرْ ... فولِّي وردَّ قضاء الوطَرْ
فقلتُ قنعتُ بهذا المشيب وإن زال غيمٌ فهذا مَطَرْ
فقال المشيبُ أيبقى القُتار ... على جَمرَةٍ ذاب منها الحَجَرْ
وقوله:
قضيتُمْ حقوق الوُدِّ ثم نأيتُمُ ... فقلت: أراني الله يُمْنَ جِوارِكمْ
ولي ساعدٌ يَمري ضُروع سعودكم ... وزيّنهاريّ بفصٍّ سواركمْ
وكل نسيم هبّ من عرَصاتكم ... يُعطّر أوقاتي بَعرْف صُوارِكم
ذكرتُ بخير في البوادي نَواركم ... وخيَّم في سمعي ملام نَواركم
الإمام الراشد بالله
أبو جعفر منصور بن المسترشد. تولى الخلافة بعد والده في سادس عشر ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمس مئة. ثم خرج من دار الخلافة متوجهاً إلى الموصل، وخلع؛ وبويع الإمام المقتفي لأمر الله يوم الأحد خامس عشر ذي القعدة سنة ثلاثين، فكانت مدة ولايته سنة.
ثم تنقل إلى ديار بكر وأذربيجان ومازندران، ثم إلى أصفهان، وأقام على بابها مع السلطان داوود بن محمود، والبلد محاصر، وهناك قحط عظيم، وضر عميم.
أذكر، ونحن أطفال، وقد خرجنا من البلد وأقمنا بالربط المبنية عند المصلى بالقرب من زندَ ورد، والمعسكر قريب منا، فسمعنا أصواتاً هائلة وقت القائلة من نهار يوم الثلاثاء سادس عشرين شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين، فقيل لنا: إن الخليفة قد فتكت به الملاحدة - خذلهم الله - وخرج أهل أصفهان حافين حاسرين، وشيعوا جنازته إلى مدينة جي، ودفنوه رضي الله عنه بالجامع.
وكان له الحسن اليوسفي، والكرم الحاتمي بل الهاشمي.
وقد أورد السمعاني في تأريخه هذه الأبيات منسوبة إليه:
زمانٌ قد استنَّتْ فِصال صُروفه ... وذلّل آساد الكرام مع القَرعى
أكولته تشكو صُروفَ زمانها ... فليس لها مأوى وليس لها مرعى
فيا قلب لا تأسفْ لعيه فربّما ... ترى القوم في أكناف آفاته صَرعى
وكان قد استدعى والدي صفي الدين رحمه الله ليوليه الوزارة، فتعلل عليه، وكانت الخيرة فيه.
الإمام المقتفي لأمر الله
أمير المؤمنين أبو عبد الله محمد بن المستظهر. قد ذكرنا يوم بيعته. ونشأت أنا في ظل عارفته، وخصصت بتشريفه وكرامته، وتشرفت بخدمته، وغرفت من بحر نعمته.
ولقد كان عارفاً بأقدار الرجال، محباً لأهل المروءة والتجمل والجمال، فائض السجال، سابغ الظلال لبني الآمال.
توفي يوم الأحد ثاني ربيع الأول سنة خمس وخمسين، فكانت مدة خلافته رضوان الله عليه أربعاً وعشرين سنة وثلاثة أشهر وستة عشر يوماً، وكانت مدة عمره خمساً وستين سنة وأحد عشر شهراً وثمانية أيام، لأن مولده كان في الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربع مئة.

وكان ذا علم وافر، وفضل باهر، وعدل شامل، وإحسان كامل. وهو الذي أقام حرمة دار الخلافة، وأعاد رونقها، وحفظ رمقها، وقطع طمع الأعاجم عنها، وحكم بأسهم منها.
وله مكاتبات حسنة، وتوقيعات مستطرفة.
وذكرت ولده المستنجد بالله أولاً، لأنه أقرب عصراً، وأسير شعراً.

الأمير أبو الحسن علي بن المستظهر بالله
توفي في أيام أخيه المسترشد بالله. ومما كتب به إلى أخيه حين خرج من الدار العزيزة، واتصل بملك العرب دبيس بن صدقة، فلم يرع ذمام قصده، وسلمه إلى أخيه:
فأشمتَّ أعدائي وأوّهنْتَ جانبي ... وهِضْتَ جناحاً رَيِّشَتْه يدُ الفخر
وما أنت عندي بالملوم ولا الذي ... له الذنب هذا قَدْر حظّي من الدّهر
وله:
قد جدّدَ الدهر في الوَرى مِحَنا ... وأودع الدهر في الحشا حَزَنا
لو كان شخص يموتُ من أسفِ ... على حبيب نأى لكنتُ أنا
وكان وصولي إلى بغداد في الأيام المُقْتَفوِيِّة، وفي ظِلّها المنشأ، وفي فضلها المربي، وفي جوارها حصل الأمن، ووصل المنّ؛ وبخدمتها عُرِفتُ، وبنعمتها تَعرْفتُ، وفي جَنابها حَلا الجنى، وعَلا السنا.
وأَول مَنْ مدحته من الخلفاء المُقتفي رضي الله عنه. خَدَمْتُه في سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، بقصيدة عقيب انكشاف كربة الحصار برحيل محمد شاه عن بغداد، أولها:
أَضحتْ ثغور النصر تبسم بالظَفَرْ ... وغدت خيول النصر واضحة الغُرَرْ
ومنها:
يا ابن السَّراةِ ذوي العُلى من هاشم ... والأكرمينَ أُولي المناقب من مُضَرْ
متقلّدي الذكر المنزّل فيهمُ ... إن نازلوا بَدلاً عن العَضْب الذَّكر
أنت ابن عمِّ المصطفى وسميُّه ... إبشر فإِنّك بعده خير البشر
من راحتيك المُزن في المَحْل احتدي ... وإلى سناك البدرُ في الليل افتقرْ
أدنى وليِّ في رضاك مُعَظّمٌ ... وأَجَلُّ ذي مُلْكٍ بسخطك مُحتقَرْ
أضحى حمى الباغي رضاك ممنّعاً ... بين الورى وغدا دم الباغي هَدَرْ
لو كنتَ في زمن النبيِّ لأُنزِلَتْ ... في هذه السِّيرِ التي لَكم سُوَرْ
بكم الورى في نعمة لا تَنقضي ... لا تنقضي والله نعمةُ من شَكَرْ
في أنفس بكم تُقَرُّ وألسن ... بكم تُقِرُّ وأعينٍ بكم تَقَرّْ
عصيكمُ لم يقضِ إلا نحبه ... من دهره ومطيعكم إلا الوَطَرْ
ومنها أصف ركوبه:
لما شفعتَ العزمَ وهو مؤيَّدٌ ... بالحزم أسفر بالمُنى منك السَّفرْ
وبرزتَ مثلَ الشمسِ تُشرق للورى ... وسَناك يحجُبُ عنك ناظِر مَنْ نظرْ
فِي شيبةٍ مفطورة للهِ من ... أنواره سبحانه فيما فَطَرْ
بيضاء يستسقى بها صوبُ الحيا ... وبأصلها إذ أجدبوا استسقى عمر
وكأنما تلك المِظلَّةُ هالةٌ ... وجه الإمام بضيئ فيها كالقمرْ
ومنها في صفة الجيش:
للهِ جيشٌ للخليفة قاده ... ربُّ الخليفة بالميامن والظّفَرْ
مَجْرٌ إذا جَرَّ القنا لا يرتضي ... وجه المَجرَّة أن يكون لها مَجَر
أَشجار خَطٍّ إن تشاجرت العِدى ... أضحت لها هاماتُ مُخْيطهم ثَمرْ
فوق الجياد الجُرْدِ ما وردت وغىً ... إلا وخيل عدوّها عنها صَدَرْ
يتركن في الظمأ الزُّلال بصفوه ... ويَرِدنَ في الروع الدماء على كَدَرْ
فالأرض وهي فسيحة ضاقت به ... وعلى العدى منه فما وجدوا مَقَرْ
قد أوقدوا ناراً هم احترقوا بها ... وشِرارهم متطاير بهم الشَّرَرْ
لما أبوا ما فيه خيرهُمُ أتوا ... ما فيهم بَشَرٌ نجا إلا بِشَرْ
ومنها:
هذي أمير المؤمنين قصيدةٌ ... غَرّاهُ تَقْصِدُ قُبَّة الملك الأَغَرْ

حسناءُ يَهديها وليّ مُخلصٌ ... لكم الولاءَ فأوْلها حسن النَّظرْ
صُوَرٌ تقوم بها معانٍ منكمُ ... إنّ المعانيّ زائناتٌ للصُّوَرْ
دَقّت لمعنى السحر إلا أنها ... راقت ورقّت مثل أنفاس السحَرْ
لما رأيتُ مَنار بيتك كعبةً ... وافيت فيمن حَجّ بيتك واعتمرْ
وهجرتُ أوطاني إليه، ومَن رأى ... شرفاً له في أنْ يفارقها هَجَرْ
ونأيتُ عن قومي ليرفع دونهم ... قدري اصطناعُك لي فجئت على قَدَرْ
والقصيدة طويلة، ولقصدها فضيلة، وكانت لي بها إلى إفضاله وسيلة.
ووَليتُ بعد ذلك الأعمال الجليلة، ووليتُ بواسطَ نيابة وزيره عون الدين بن هبيرة. فانحدر إليها الخليفة مع الوزير، وأنا هناك في دست التصدير، فخرجت للاستقبال، في أهبة الإعظام والإجلال. ولما نظرت إلى الموكب الشريف، نزلت عن المركب المنيف، وجئت أسعى معفراً خد الضراعة، موفراً جد الطاعة. فلما بصر بي الإمام، أمسك عنانه فوقف، واستوقف موكبه الشريف وشرف، وقال مثنياً: هذا الذي له القصيدة التي من شأنها كذا وكذا؟ فقال له المخلص الكيا الإمام. وهو الذي يقول في هذه المظلة الشريفة:
وكأنما تلك المظلّة هالة ... وجه الإمام يضيء فيها كالقمر
فلم يبرح حتى وصى الوزير بي، وعرفه بيتي ومحتدي وحسبي، وذلك في سنة أربع وخمسين.
ومدحته، قبل أن أتولى واسط، بقصيدة أخرى، فيها:
كن عاذري في حبهم، لا عاذِلي ... يا فارغاً عن شُغل قلبي الشاغل
هَبْ أَنْ سمعي للنصيحة قابلٌ ... ما نافعي والقلبُ ليس بقابل
أخفيتُ سِرّ الوَجْدِ خيفةَ عُذّلي ... فتعرّفوا من أدمعي ومَخايلي
لم يقبلوا عذر المحبِّ وقابلوا ... حقّ الهوى من لوْمهم بالباطل
مالوا إلى وصلي فحين وَصَلْتُهم ... مَلَّوا وليس يُمَلُّ غير الواصل
يا ناشداً يبغي فؤاداً ضائعاً ... يومَ النوى إثْرَ الخليط الزائل
أين الفؤاد أَراحِلٌ في إثرهم ... أم سائلٌ ما بين دمع سائل
وأغنَّ أغنى طَرْفُه في سِحرِه ... ورُضابُه في سكره عن بابل
مَن وجهُهُ حَسنٌ وليس بمحسنٍ ... والقدُّ مُعتدِلٌ وليس بعادل
متلوِّنٌ كمدامِعي متعفِّفٌ ... كضمائري متعذِّرٌ كوسائلي
أنا في الضنى كالخصر منه أشتكي ... من جائرٍ ما يشتكى من جائل
يا قلبه القاسي تعلّمْ عطفةً ... وتمايلاً من عِطْفِهِ المتمايل
سقياً لوصل الغانيات وشربنا ... كأس الرُّضاب على غناء خلاخل
بنواظرٍ قد حِلتُهُنَّ غوافلاً ... لفتورهنّ وهنَّ غيرُ غوافل
وقُدودُ هنَّ قُدودُ سمرِ رَواعفٍ ... وجُفونُهنَّ جفون بيض مناصل
أيامَ لا عهدُ الوفاء بحائلٍ ... غَدْراً ولا أُمُّ الصَّفاء بحائل
أعقيلَة الحيّ اللّقاحِ ودُونَها ... بيضٌ وسُمْرٌ من ظُبَىً وذوابِل
بَكّرتْ تلوم على لزوم مواطنٍ ... وَضْعُ الرَّفيع بها ورَفعُ الخاملِ
طال التردّد في البلاد فلم أفز ... منها على رغم العدوّ بطائلِ
أوَما رأيتَ البحر يغرَقُ دره ... ويخلّص الأزباد نحو الساحلِ
مُضَرَّيةٌ عذَلتْ على حبِّ الندى ... من ليس يسمع فيه عذْل العاذلِ
يا هذه لولا السماحة لم يكن ... عدم الكريم على ثراء الباخل
عنفت في حب السماحة مؤثراً ... عُدْمَ الكريم على ثراءِ الباخلِ
أوَ هَل يخاف العُدْمَ مَنْ وجَد الغنى ... من جودِ مولانا الإمام العادلِ
ولقد وردتُ فِناء بحرٍ للندى ... أغنى به عن أنهرٍ وجداولِ
في كفّه للجود خمسة أبحرٍ ... فَيّاضةٍ تُسْمى بخمس أنامِلِ

ممدود ظلِّ العدل ليس بزائلٍ ... معمودُ رُكن المُلك ليس بمائلِ
ومنها في صفة الجيش:
وَعَرَ مْرَمٍ لَجِبٍ كمنْهالِ النَّقا ... مَجْرٍ ومنهلِّ السحاب الهامِلِ
ستر الغزالةَ بالعجاجةِ مُطْلِعاً ... زُهر الأسِّنة في سماء قساطلِ
فالشمسُ ما بين العجاج كأَنّها ... بدرٌ تطلّع جُنْح ليلٍ لائلِ
والنقْعُ ينصل بالنصول خِضابُهُ ... فكأنّه لونُ الشباب الناصلِ
والمُقرَباتُ بأنْسُرٍ وقوائم ... تحكي قوادِمَ أنْسُرٍ وأجادِلِ
في مأزِقٍ لا يسمع الواغي به ... إلا أنينَ صَوارمٍ وصواهِلِ
والجيش مَن مَلك الجيوشَ برأيه ... في صائب وبجأشِه في صائلِ
هزم العدى قبل اللقاء برعبه ... فغدوا بأُمِّ في الشقاوة هابل
طلبوا الفرار ولم يزل متكفّلاً ... بهزيمة الرِّعْديدِ بأسُ الباسل
ومنها:
أمُطَ؟وِّقَ الأعناق من إفضاله ... نِعَماً تسامت عن سؤال السائل
ماذا أقول، ولا يقوم بشكر ما ... تُوليه من نُغمى لسانُ القائل
أو هل بلوغ مقاصدي بقصائدي ... أم هل قَبول وسائلي برسائلي
أم قد كفى سبباً إلى درك المُنى ... صدقُ الوَلاء وحُسنُ ظنِّ الآمل
الفخر كلُّ الفخر لِي نظمي لكم ... مِدَحاً تَزِين مشاهدي ومحافِلي
لكنْ يقول الحاسدون لِمَ انثنى ... غِرِّيدُ مدحِهمُ بجيدٍ عاطل
وإذا حَظِيتُ من الإِمام برتبة ... فيها الفخار على جميع الناس لي
لا زلت غيثَ مواهبٍ وبقيت غَوْ ... ث ممالكٍ وسلمت كَهفَ أَرامل
ثم مدحت الإمام المستنجد بالله بعد انتقال الخلافة إليه بقصائد مدّة مقامي بالعراق. فمن ذلك قصيدة ضادية أوردها الراوية بالمركب الشريف في الديوان آخر شهر رمضان سنة سبع وخمسين، ومنها:
لقد بَسطَ الإِحسانَ والعدل في الأرض ... إمامٌ بحكم الله في خَلْقه يَقضي
أفاد المنايا والمنى فَوليُّه ... غدا للمنى يَقضي وحاسده يقضي
مهيبٌ يُغَضُّ الطرف دون لقائه ... يَغُضُّ حياءً وهو في الحقِّ لا يُغْضي
أفي يوسُفَ المستنجدِ الله قولُه ... كذلك كنّا ليوسُفَ في الأرض
ألا إنَّ أمراً ليس يُبرَمُ باسمه ... فإبرامه يُفضي سريعاً إلى النقض
وختم دوام المُلك فيه فلِلتُّقي ... على مُلكه ختمٌ يجلُّ عن الفَضِّ
لِسَيْبٍ وسيفِ كَفُّهُ حالتي نَدىً ... وبأسٍ فما تخلو من البسط والقبض
صرائمهُ في الحادثات صورامٌ ... إذا نَبت الآراء عن كشفها تمضي
بحزم لأسرار المقادير مُقتضٍ ... وعزم لأبكار الحوادث مُغْتضِّ
إمامٌ له ما يُسخط الله مسخطٌ ... وما غير ما يرضي الإله له مُرْضِ
لكَ النُّور مَوْصولاً بنور محمد ... أضاءَت به الأنساب عن شرفٍ مَحض
وظِلّك في شرق البلاد وغربها ... مَدِيدٌ على طول البسيطة والعَرْض
أنمْتَ عباد الله أَمْناً فلم تدع ... عيون العدى رُعباً تكحْلُ بالغمض
فعهدُ الأعادي قالصُ الظلِّ مُنقَصٍ ... ونجم الموالي طالعٌ غير منقضِّ
لقد فرضتْ منك النوافل شُكرها ... على الناس حتى قابلوا النَّفل بالفرض
وما الفرق بين الرُّشْد والغيِّ في الورى ... سوى حُبِّكم في طاعة الله والبُغض
رفَعتَ منار الدين عَدلاً فأهلُه ... من العزِّ في رفع وبالعيش في خفض
بخيلٍ كمثل العارضِ السَّحِّ كثرةً ... تَضيق صُدور البيدِ عنها لدى العَرض

مُعوَّدة خوض النَّجيع من العدى ... إذا انتجعته ألسنُ السُّمرِ بالوَخْض
إذا حَفِيت منها النِّعال تنعَّلت ... بهام عِدى رُضَّتْ بها أيَّما رَضِّ
حوافر خيل ودت الصيد أنها ... تكحل منها بالغبار لدى النفض
عوارِضكم نابت عن العارض الرّوِي ... وآراؤكم أغنت عن الجحفل العَرْض
عدوُّك مرفوض بمَجْهَل حَيرة ... لقي كلّ سيل من عقابك مرفضّ
عِقابُك أوهاهُ فأصبح ناكِصاً ... على عَقِبيه ما له مُنّةُ النّكض
لشانئكم قلبٌ من الرعب خافقٌ ... ومن وَهَج الحمّى تُرى سرعة النّبض
وما صدقتْ إلا بوارقُ عدلكم ... أوان بروقِ الظلم صادِقة الومض
ومنها في الوزير:
ويحيا ليحيي كلُّ حقٍِ قضى وهل ... قضى غيركم ما كان للدين من قَرْض
وزيرٌ بأعباء الممالك ناهضٌ ... إذا عجزت شمّ الرواسي عن النهض
مشتّتُ شملٍ للُّهى غير مُنفضٍ ... وجامعُ شملٍ للعلى غير منفضّ
ومنها:
وعزمٌ كحدّ الصارم السيف منتضي ... نَضوتَ به ثوب الغبار الذي ينضي
رجوتُ أميرَ المؤمنين رجاء مَن ... إلى كلّ مقصودٍ به قصدُه يفضي
وأشكو إليه نائباتٍ نُيوبها ... نَوابتُ في عظمي ثوابِتُ في نَحضي
ومنكرة إنْ عضّني ناب نائب ... أما عرفتْ عمودي صَليبا على العَضّ
تحضّ على نِشدان حَظٍّ فقدته ... إذا الحظُّ لم ينفع فلا نفعَ في الحضّ
يكلّفها حبُّ السلامة أنّها ... تكلّفني حبّ القناعة والغَضّ
لقد صدقتُ إنّ القناعة والتُّقى ... لأصون في الحالين للدين والعِرض
تقول: إلامَ السعيُّ في الرزق راكضاً ... ورزقك محتومٌ وعمرك في رَكض
ولو كانت الأرزاق بالسعي لم يكن ... غِنى الغِرّ معقولاً ولا فاقَة العِضّ
إذا كان هذا البحر جَمّاً نَميره ... ففيمَ اقتناعي عنه بالوشل البَرْض
كفى شرفاً في عصر يوسف أنّني ... لبست جديد العزّ في الزمن الغضّ
لساني وقلبي في وَلائك والثَّنا ... عليك فها بعضي يغار من البعض
لَسوَّدَني تسويد مدِحك في الورى ... فإِضْت بوجهٍ من ولائك مبيضّ
وما كل شعر مثل شعريَ فيكمُ ... ومَن ذا يقيس البازِل العَوْد بالنِّقض
وما عزَّ حتى هانَ شعر ابن هانئ ... وللسّنّةِ الغرّاء عِزٌّ على الرفْض
وخدمته في رجب سنة تسع وخمسين وخمس مئة بقصيدة طويلة منها:
رسمٌ عليّ لذلك الرّسم ... أنّي أُقاسِمه ضنى الجسم
دارٌ على حرب الزمانِ لنا ... جنحت بها سلمى إلى سَلمي
ما للهوى أبداً يلازمني ... فيها فهل كتب الهوى باسمي
يا صاح تعذلني على شعفٍ ... ما زال يعذرني له خصمي
إني رَضعت لِبان حبهمُ ... ويعزّ عنه وإنْ جَفوا فطمي
كلمٌ فراقهم ولومك لي ... في حبّهمْ كلمٌ على كلم
بَخِلوا عليَّ بوصل طيفهمُ ... ما كان بخل الطيف في زعمي
أنَّى يطيب ويستطيب كرى ... قلبٌ يهيم وناظرٌ يَهمي
أوَ ما سوى هجري عقابهمُ ... أم ليس غير هواهمُ جُرْمي
أمّا الغرام فأدمعي أبداً ... يُعربن عنه بألسنٍ عجم
والقلب مسكنهم فكيف رَضُوا ... أن يجعلوه مسكن الهمِّ
والسقم في جسم المحب فلِمْ ... وصفت عيون البيض بالسقم
أُدْمٌ سفكن دمي بأعينها ... يا للرجال من الدُّمى الأُدْم

بيض الظُّبى تَنْبو وترشقنا ... بيض الظباء بأعينٍ تدمي
ما كنت أعلم قبل رؤيتها ... أنَّ النواظر أسهمٌ تُصمي
أقمار خُمرٍ إن سَفرن لنا ... وإن انتقبن أهلّة اللَّثْم
يضعفن عن حمل الإِزار فلم ... يحملن أوزاراً من الإثم
لظباء كاظمةٍ مقابلتي ... غيظي من الرُّقباء بالكظم
وأغنّ بالكشح الهضيم له ... يا كاشحي أغناك عن هضمي
أحمي بجهدي في الهوى جلدي ... واللحظ منه يبيح ما أحمي
من منصفي من جور حاجبه ... ولحاظه عن قوسه ترمي
وحلا ومرّ تجنّيَا وجنىً ... يا شهده لم شيب بالسمِّ
الخمر ريقته وقد عذبت ... ما كلُّ خمر مُزّة الطعم
وإذا شفت شفةٌ عليل صدٍ ... فالظُّلم صدُّكه عن الظِّلم
أقنعت من برق الحمى سحراً ... ونسيمهِ بالشيم والشم
ورضيت من نُعم وإن مطلت ... بنَعَمْ ونعمى تلك من نعم
وبلغت من عظم الشكاة مَدىً ... فيه المُدى بلغت إلى العظم
فإِلامَ تشكو الظلم من زمنٍ ... يتهضّم الأحرار بالظلم
تأتي نوائبه منبهة ... وتمرُّ كالمرئيّ في الحلم
لا تخفض اسمك وارتفع حذراً ... فعلاً تصرّفه يد الحزم
سم نفسك العلياء واسمُ بها ... في بغية الدنيا عن الوسم
حتى متى تظما إلى ثمدٍ ... أيقنت أنّ وروده يظمي
فدع التيمم بالصعيد ففي ... كنف الإمام شريعة اليم
ملكٌ ليالي النائبات به ... تجلى وتخصب أزمن الأزم
ورأى الورى الوجدان من عدم ... في عصره والوُجْدَ من عدم
أوصافه بالوحي نعرفها ... فصفاته جلّت عن الوهم
تسمو بلثم تراب موكبه ... فلقد سمت يده عن اللثم
ما كنت تبصر نقع موكبه ... لولا تواضعه من العظم
النجم منزله ومنزله ... للوحي منزل سورة النجم
من معشرٍ آساس ملكهمُ ... صينت قواعدها عن الهدم
من كلّ سامي الأصل سامقه ... زاكي الخليقة طاهر الجذم
شم المعاطس عزّهم أَبداً ... قمنٌ بذلّ معاطس الشمّ
المنهبون الوفد وفرهمُ ... والمشترون الشكر بالشكم
قومٌ يرون إذا هم اجتمعوا ... تفريق ما غنموا من الغنم
خفوا إلى فعل الجميل فما ... يستثقلون تحمل الغُرم
حمر النصال جلوا ببيضهمُ ... ظلمات ظلم الأزمن الدهم
وخطابهم في كل داهية ... يقتاد أنف الخطب بالخطم
ومنها:
إرث النبوَّة بل خلافتها ... في يوسف المستنجد القرم
كالبدر نوراً والهزبر سطاً ... يومَ الهياج وليلة التمّ
لا بالجهام ولا الكهام إذا ... نوب الزمان عرت ولا الجهم
لو للسيوف مضاء عزمته ... ويراعه أمنت من الثّلم
وإذا المنى عقمت فنائله ... شافي العقام وناتج العقم
الدين مرتبط بدولته ... والدهر تابع أمره الحزم
لوليه من فيض نائله ... فيض الوليّ ونائل الوسمي
قسماً نصيب من الوفاء به ... أوفى النصيب وأوفر القسم
للحقّ ما يرضيك من عملٍ ... والحكم ما تمضيه من حكم
ومنها:
أما الطغاة فقد وسَمتهمُ ... ووصَمتهمْ بالذلِّ والرغم
بين الزِّجاج تصدَّعوا شُعَباً ... صدع الزُّجاج لوقعة الصدم
للوقد أنفسهم وسمعُهُمُ ... للوقر والأعناق للوَقم
إغمد حُسامك في رقابهمُ ... فالداء مفتقر إلى الحَسْم
ومنها:

آزرت ملكك بالوزير فمن ... شَرْوا كما في العزم والحزم
يحيي الذي أضحى بسيرته ... حيَّ المحامد ميت الذمّ
كبرت وجلّت فيك همته ... فله بنصحك أكبر الهمّ
هو حاتميُّ الجود ليس يرى ... إسداء نائله سوى حتم
فليهننا أنّا لملكك في ... زمن يردّ شبيبة الهمّ
وهَناك أنك بين أظهرنا ... خَلَفُ النبيّ ووارث العلم
وكما وزَنتَ عِيار فضلك بال ... إفضال زِنتَ العلمَ بالحلم
بمكارمٍ لك عَرْفُها أبداً ... فينا يَنُمُّ وعُرفها ينمي
ما روضةٌ غناء حاليةٌ ... وَشياً تُحلّيه يَدُ الرَّقم
فعرائس الأغصان قد جُلِيَتْ ... في زهرها بالوشي والوسم
وتمايلت أزهارها سَحراً ... بنسيمه المتمارِض النَّسم
فلكلِّ نَوْرٍ نُور ثاقبةٍ ... ولكلِّ ناجِمةٍ سنا نجم
دُرّانِ من طَلّ على زَهرٍ ... يا حُسنَهُ نثراً على نظم
إذْ كلُّ هاتفةٍ وهاتنة ... مشغولة بالسجع والسجم
فالوُرْق في نوح وفي طربٍ ... والوَجْد في بَوْح وفي كتم
بأتمّ حسناً من صدائح لي ... فيكم منزهة عن الوصم
دُرّية الإِشراق مشرفة ال ... دُرّيّ بل مِسكية الختم
تجري وتفتح من سلاستها ... صُمَّ الصَّفا ومسامع الصمّ
يغني الطروب عن الغناء بها ... وابن الكريم عن ابنة الكرْم
لطُفَت وطالت فهي جامعة ... عظمَ الحِجا ولطافة الحجم
ولكم سحبت الذيل مبتهجاً ... حيث الرجاء مطرز الكُمِّ
مستنزرٌ جمَّ الثناء إذا ... قابلته بعطائك الجمِّ
لم يُخطِ منذ أَصبتُ خِدْمَتكم ... أغراضَ أغراضي بكم سهمي
ولَرُبَّ مجدٍ قد أَضفت إلى ... ما نلت من خالٍ ومن عمِّ
فالدهر يصرف صَرْفه بكم ... ويكُفُّ كفَّ البسط عن غشم
ولئن نطقت بكم فوصفكمُ ... مُحيي الجماد ومُنطِق البُكم
ولما توفي الوزير ابن هبيرة، أُعتقِلتُ في الديوان ببغداد، بسبب منابتي عنه في واسط والبصرة، فمدحت الخليفة بقصيدة أستعطفته بها في شعبان سنة ستين، منها:
أُعيذُكمُ أن تغفلوا عن أموره ... وأن تتركوه نُهبةً لمُغيرهٍ
عفا الله عنكم قد عفا رَسمُ وُدِّكم ... خلعتم على عهدي دِثار دُثورهِ
بما بيننا يا صاحبي من مودّة ... وفاءَك إني قانعٌ بيسيرهِ
وهذا أوان النصح إن كنت ناصحاً ... أخاً فقبيح تركهُ بغرورهِ
وإني أرى الأرْيَ المَشور مَشورةً ... حَلَتْ موقعاً عند امرئٍ من مُشيرهِ
تحملتُ عِبءَ الوَجد غير مُطيقهِ ... وعَلّمتُ صبر القلب غيرَ صَبورهِ
صِلوا مَن قضى من وحشة البَينِ نحبه ... ونَشرُ مطاوي أُنسه في نُشوره
رعى الله نجداً إذ شكرنا بقربكم ... قِصارَ ليالي العيش بين قصورهِ
وإذْ راقت الأبصار حُسنى حسانه ... وأطْرَبتِ الأسماع نجوى سَميرهِ
وإذ بُكرات الروض ألسنةُ الصَّبا ... تعبِّر في أنفاسها عن عبيرهِ
وإذ تكتب الأنداء في شجراته ... وأوراقها إملاءَ وُرقِ طيورهِ
ومنها:
أيا نجد حيّاك الحيا بأحبّتي ... بهم كنت كالفردوس زين نُحوره
وما طاب عَرف الريح إلا لأنّه ... أصاب عَبيراً منك عند عبورهِ
ومنها:
ومُطْلَقَةٍ لمّا رأَتنيَ موثقاً ... أعِنَّة دمعٍ أُترِعَتْ من غديرهِ
تناشدني بالله مَن لي ومَن ترى ... يقوم لبيتٍ شِدْتَه بأمورهِ
فقلتُ لها بالله عودي فإنمّا ... هو الكافل الكافي بجبر كسيرهِ
ومنها:

هو الفلك الدوّار لكنْ على الورى ... مقد؟ّرةٌ أَحداثه من مُديرهِ
عذيريَ أضحى عاذلي في خُطوبه ... فيا مَن عذيرُ المُبتلى من عَذيرهِ
يُجرّعني من كأُسه صِرْفَ صَرْفِه ... فعيشٌ مَريرٌ ذوقه في مُرورهِ
ولستُ أرى عاماً من العمر ينقضي ... حميداً ولم أفرح بمرّ شهورهِ
لحى الله دهراً ضاق بي إذ وَسِعتُه ... بفضلي كما ضاقت صدور صدوره
فلم أرَ فيها واحداً غيرَ واعدٍ ... يخيِّل لي زَوْرَ الخيال بزُوره
وما كنت أدري أنَّ فضليَ ناقصي ... وأن ظلام الحظّ من فيض نوره
كذلك طول الليل من ذي صبابةٍ ... يُخبّره عن عَيشه بقصوره
وما كنت أدري أنَّ عقليَ عاقِلي ... وأنّ سراري حادثٌ من سفوره
وكان كتاب الفضل باسمي مُعنونَا ... فحاول حظّي مَحوَهُ من سطورهِ
فيا ليت فضلي الآسري قد عَدِمتُه ... فأضحى فداءً في فكاك أسيره
أرى الفضلَ معتادٌ له خَسف أهلهِ ... كما الأفق معتادٌ خسوف بدوره
أقول لعزمي إنّ للمجد منهجاً ... سهول الأماني في سلوك وعوره
فهوّنّ عليك الصعب فيه فإِنمّا ... بأخطاره تَحظَى بوصل خطيره
وما لي يا فكري سواك مُظاهِرٌ ... وقد يستعين المبتلي بظهيره
فخلِّ معنّىً خاض في غمراته ... وحسبك معنى خضت لي في بحوره
وكن لي سفير الخير تسفرْ مطالبي ... فحظُّ الفتى إسفاره بسفيره
وقل للذي في الجدب أطلق جَدُّه ... سبيل الحيا حتى همى بدروره
لماذا حبستم مخلصاً في ولائكم ... وما الله ملقي مؤمنٍ في سعيره
ومنها:
وكم فَدْفَدٍ جاوزت أجوازه سُرىً ... كأَنّي وِشاحٌ جائلٌ في خصوره
بمهريّة تحكي بكفّي زمامها ... وأحكي لكدِّ السير بعض سيوره
وخاطب أبكار الفدافد جاعلٌ ... بكار المهارى في السرى من مهوره
وإن رجاءً بالإِمام أنوطه ... حقيقٌ بآمالي ابتسام ثغوره
تمرُّ بعلياه الخلافة عينها ... فناظرها لم يكتحل بنظيره
ومنها:
أرى الله أعطى يوسفاً حسن يوسفٍ ... ومكّنه في العالمين لخِيره
برتني صروف الحادثات فآوني ... تضعْ منّيَ الإِنعام عند شكوره
كذا القلم المبريُّ آوته أنملٌ ... فقام يؤدّي شكرها بصريره
ومنها:
وما زَهرٌ هامي الرَّباب يحوكه ... تعمّم هامات الرُّبى بحريره
كانّ سَقِيطَ الطَّلّ في صفحاته ... سحيراً نظيم الدُّرّ بين نثيره
يقابل منه النرجسُ الوردَ مثلما ... رأت بوجنة المعشوق عين غيوره
وللورد خدّ بالبنفسج معذرٌ ... ونرجسه طرفٌ رنا بفتوره
بأبهج من شعرٍ مدحتكُمُ به ... ومعناكُمُ مستودَعٌ في ضميره
وما حقُّ هذا الشعر لا لجريره ... وقد سار في الآفاق جيش جريره
وكتبت إليه، وأنا على تلك الحالة قصيدةً في طلب الإدالة، منها:
مقصوده أعصي الهوى وأُطيعه ... هذا لعمر هواك لا أسطيعه
سمعي أصَمُّ عن العذول وعذلِهِ ... فعلامَ يقرع مسمعي تقريعه
غلب النزاع إلى الحسان تجلُّدي ... والقلب مغلوب العزا منزوعه
لا تنزِعَنّ إلى ملامِ متيِّمٍ ... لا يستتبّ عن النزاع نزوعه
ومَلاحة الرشأِ المليح تروقه ... وملامة اللاحي الملحّ تروعه
يا عزه لو لم يعزّ عزاؤه ... يا ذلّه إنْ لم تعنه دموعه
وبمهجتي حلو الشمائل عذبها ... لكنّه مُرُّ الصدود شنيعه

نشوان من خمر الصبا قلبي به ... أفديه مخمورُ الغرام صريعه
غصنٌ على حِقفٍ يميل ويستوي ... فكأَنّما يعصيه حين يطيعه
رثمٌ وفي قلب المحبِّ كِناسه ... قمرٌ وفي ليل العذار طلوعه
وكانّ قلبَ محبّه إقطاعه ... وكأنّ خطّ عِذاره توقيعه
مسلوب سهم اللحظ منه محبّه ... ملسوب عقرب صدغِه ملسوعه
للهِ عيشٌ بالحمى أَسلفته ... والشمل غير مفرّقٍ مجموعه
أيامَ دارت للشباب كؤوسه ... فينا ودرّت بالسرور ضروعه
رويت بأنواء العِهاد عهوده ... وزَهَت بأنوار الربيع ربوعه
أفراجعٌ ما مر من أيامه ... هيهات لا يرجى إليّ رجوعه
وجدي مقيمٌ ما يزال بظاعنٍ ... توديع قلبي أنه توديعه
مُلاّك مهجته عليكم حفظها ... فالملك ليس لمالكٍ تضييعه
لا تنسبوا قلبي إليّ فإِنّه ... لكُمُ وفيكمْ جرحه وصدوعه
قلبي المتيَّم للأحبَّة كلّه ... وندى الإمام لمُعتفيه جميعه
وبيوسف المستنجد بن المقتفي ... دين الهدى سامي العماد رفيعه
ضافي رداء الفخر صافٍ روحه ... نامي ضياء البشر زاكٍ رُوعه
حالي الضمائر بالعَفاف وبالتُّقى ... للهِ ما تحنو عليه ضلوعه
محمرُّ نصل النصر في يوم الوغى الْ ... مغبرِّ مبيضَّ العطاء نصوعه
في الأمن إلا ما له وعدّوه ... فكلاهما في الحالتين مروعه
ومنها:
للهِ أصلٌ هاشميّ طاهرٌ ... طابت وطالت في العلاء فروعه
لكَ نائلٌ محيٍ وبأسٌ مهلكٌ ... فلأنت ضرّار الزمان نفوعه
ومنها:
يا أفضل الخلفاء دعوةَ قانعٍ ... برضاك ما كشف القناع قنوعه
أيكون مثلي في زمانك ضائعاً ... هيهات يا مولاي لست تضيعه
أودع جميلاً لي أُذعه فخير من ... أودَعتَه منك الجميلَ مذيعه
حسب المؤِّمل منجحاً في قصده ... أنّ الرجاء إلى نداك شفيعه
ونظمت حينئذٍ قصيدة في عماد الدين بن عضد الدين ابن رئيس الرؤساء، وكان حينئذ أستاذ الدار، ومنها:
قلْ للإِمام علامَ حبس وليكم ... أولوا جميلكُمُ جميلَ ولائه
أوَليس إذْ حبس الغمامُ وليّه ... خلّى أبوك سبيله بدعائه
فأمر بإطلاقي وتوفير أرزاقي.
وقد أوردت من مدائحي في أمير المؤمنين المستضيئ بأمر الله ما تهيَّا، وضوَّعت من نفحات ذاك النسيم ريَّا.
ولي فيه مدائح تناسب منائحه كثرة وغزارة، وأيام دولته غضارة ونضارة. فمن ذلك قصيدتان: صادية إليها القلوب صاديةٌ، وضادية نفوس ذوي التضاد من روعتها متضادية.
فالصادية نظمتها في سنة تسع وستين، في أيام نور الدين محمود بن زنكي رضي الله عنه، وأولها:
أطاع دمعي وصبري في الغرام عصى ... والقلب جرّع من كأَس الهوى غصصا
وإنَّ صفو حياتي ما يكدّره ... إلا اشتياقي إلى أحبابيّ الخلصا
ما أَطيب العيش بالأحباب لو وصلوا ... وأَسعد القلب من بلواه لو خلصا
زمُّوا فؤادي وصبري والكرى معهم ... غداة بانوا وزمُّوا للنوى القلصا
وقفت أُتبِعهم قلبي يسايرهم ... وأُرسل الدمع في آثارهم قَصصا
ومقلة طالما قرّت برؤيتهم ... أضحى السهاد لها من بعدهم رمصا
لم تحدر الدمع إلا أنها رفعت ... إلى الأحبّة من كرب الهوى قِصصا
رخصت بعد غلائي في محبتكم ... وربِّ غالٍ عزيزٍ هان إذ رخصا
أرى أمانيِّ منكم غير صادقةٍ ... كذا حديث المنى ما زال مخترصا
يا هل تعود ظلال العيش سابغةً ... وكيف يرجع عيشٌ ظله قلصا

وحبذا قرصٌ للدهر ممكنةٌ ... والدهر من لم تزل أوقاته فرصا
لهفي على عُنْفُوان العمر كيف مضى ... عني وشيكاً ولما تمّ لي نقصا
ما كنت أعلم ريعان الصِّبا حلماً ... إذا انقضى أصبحت لذّاته نُغصا
أيامَ أخلع في اللهو العِذار كما ... أهوى وأَلبس من أَطرابه قُمصا
أيامَ لا رَشَئي يعتاده مَللٌ ... ولا رِشاء الصِّبا من قبضتي ملصا
إذ الليالي بما أهوى مُساعفتي ... تدني إلى النجح آمالاً إليّ قصى
أروح ذا مَرَحٍ بالوصل مبتهجاً ... أناله سُؤله من دهره الحصصا
أطاعت الغانيات الغيد منه فتىً ... إذا لحى في هُواهنّ العَذول عصى
ما بالهُنّ زَهِدْن اليوم فيه وقد ... أفاده الشيبُ تجريباً وثقل حصى
كَرِهْنَ بعد سوادٍ شيب لِمَّته ... لمّا رأَينَ بياضاً خِلْنهُ بَرَصا
بمهجتي رشأَ قلبي له قنصٌّ ... فيا له رشا للأُسد مُقتنصا
تمضي عزائمه في قتل عاشقه ... عمداً ويطلب في تعذيبه الرُّخَصا
يا لائما بشباك العذل يقنصني ... ولست إلا لا شراك الهوى قنصا
بغيتَ راحة من تعتاصُ سلوته ... وأتعب الناس من يبغي الذي عَوِصا
لا تحرصنَّ على ما أنت طالبه ... فربَّما حُرم المطلوبَ من حرصا
تبغي بقرع عصا التقريع لي رَشَداً ... كما ينبّأ ذو حلم بقرعه عصا
أقصِرْ فلي شَعَفٌ بالمجد طال له ... باعي وطرف حسودي دونه بخصا
لو أنصف الدهر كان الفضل في دَعَةٍ ... منه وعاثر حظّ الفضل منتعصا
ربّى الزمانُ بنيه شرَّ تربيةٍ ... فالجهلُ ذو بطنةٍ والفضلُ قد خمصا
لولا زمان الإِمام المستضيئ لنا ... لما امتحى ذنب أيامي ولا محصا
مَن ألزم الله كلّ الخلق طاعته ... مُخوّفاً منه عِصياناً وَشقّ عصا
مَن لا خمائل لولا سحبه هطلت ... ولا مخايل لولا برقه وبصا
قد عاش في العِزّة القعساء حامده ... ومات جاحده من ذِلَّةٍ قعصا
مولىَ لراحة أهل الأرض راحته ... وكم يُفرِّج عنّا الحادث اللّحِصا
بالجود للمعتفي حلو الجنى سلساً ... بالبأس للمعتدي مُرُّ الإِبا عفصا
يا سيّد الخلفاءِ الأوصياء ومَن ... نَبْتُ المنى منه في روض النجاح وصى
يا مُحِكماً كلَّ نظم للزّمان وهَى ... وجابراً كلّ عظمٍ للمنى وهصا
بالحقّ إن دانت الدنيا له ودنا ... سحاب معروفه الهامي إذا نشصا
أنمت عدلاً عيون العالمين بما ... أذهبت عنها القذى والرّيْن والغمصا
عدوّكم واقعٌ في الرُّعب طائره ... حتى لقد حسب الدنيا له قفصا
وحسبُ كلّ حسودٍ أنَّ ناظره ... إلى مهالكه من حيرة شخصا
يا خيرَ مَن حجَّ وفدُ الله كعبته ... على المطيّ الذي في سيره قمصا
وما توجّه ذو عزمٍ إلى أملٍ ... إلا لدى بابه عن حَجّه فحصا
سأجتدي وابلاً من جوده غَدقاً ... وأمتري حافلاً من خِلفه لَخِصا
وإنْ عنديَ ذا التوحيد من شَكَرَ ال ... نعمى لديك وذا الإشراك من غمصا
من ذا الّذي سار سيري في ولائكمُ غداةَ قال العدا لا سير عند عصا
بعثي على الحقِّ أصفى مصر من رَنَقٍ ... بها وأخرس منها باطلاً نبصا
ومنها في مدح نور الدين محمود بن زنكي قدس الله روحه:
ونالَ عبدُك محمودٌ بها ظفراً ... ما زال يرقبه من قبل مرتبصا

كلب الفرنج عوى من خوف صولته ... وقيصر الروم من إقدامه معَصا
سطا فكم فِقْرَةٍ للكفر قد وُقمَتْ ... وكم وكم عنقٍ للشرك قد وقصا
من خوف سطوته أنّ العدوَّ إذا ... أمَّ الثغورَ على أعقابه نكصا
ورُبَّ معتركٍ رحب الفضاء به ... أضحى على مُسعريه ضيِّفاً لَقِصا
لما انتشى الهامُ من كأْس النجيع به ... غنّى المهنّد والخَطّيُّ قد رقصا
وللكُماة على أهوالها نَهَمٌ ... نامٍ كانّ بها نحو الردى لعصا
والحرب عضّت بأنيابٍ لها عُصُلٍ ... والصَّفُّ أحكَم من أَضراسها لَصَصا
والبِيض فيه بقدِّ البَيض ماضيةٌ ... والسُّمر تخترق الماذِيَّة الدُّلُصا
وكلّ نفسِ مشيحٍ رَهن ما كسبت ... والسامِريُّ رَهينٌ بالذي قَبصا
ومن دماء مساعير الهياج نرى ... على سوائعها من نضحها نُفَصا
أعاد عبدك نور الدين منتصراً ... ما كان يغلو من الأرواح مُرتخصا
وكم أخاف العدا بالأولياء كما ... أخافت الأُسد في إصحارها النُحصا
والمبطلون متى طالت رقابهُمُ ... أبدى من الهُون في أعناقها الوَقَصا
عدى نَداك أمير المؤمنين على ... حظٍّ تعدّى ودهرٍ رَيبُهُ قَرَصا
نعشتَ فضلي بإِفضالٍ حَلَلْتَ به ... من عَقده ما لَواهُ الحظُّ أو عَقَصا
تَملَّ مدحَ وليٍّ فخرُ ناظمه ... أنّ القريض إلى تقريظكم خلصا
لا يصدق الشعر إلا حين أمدحكم ... وكلُّ مدح سوى مدحيكُمُ خرصا
وكيف أحصي بنطقي فضل منتسبٍ ... إلى الذي في يديه نطق كلِّ حصى
وأما الضادية، فإِنّني نظمتها بالشام أيضاً، في أيام الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة سبعين، وهي:
أصَحُّ عيون الغانيات مريضها ... وأفتك ألحاظٍ الحسان غضيضها
تَهزُّ قُدود السُّمر للفتك سمرها ... وتشهر من أجفانها البيض بيضها
وقد طال فكري في خُصورٍ ضعيفةٍ ... بأعباءِ ما في الأُزْرِ كيف نُهوضها
غَرِضْنَ بشيبي والشبيبة إنما ... يغرّ الغريراتِ الحسانَ غَريضها
سوافر غُرّ عن وجوهٍ لحُسنها ... معانٍ على فهمي يدقّ غموضها
نوافر مسودُّ الشباب أليفها ... حَبائب مبيضُّ المشيب بَغيضها
عن المُقْتِر البادي القَتِير نِفارُها ... وعند الفتى الحالي الثراء رُبوضها
كأن قلوب العاشقين بدينها ... رُهون غرامٍ ما تؤدَّي قُروضها
وقد غرّ في ميعادها وهو خُلّبٌ ... كما غرِّ مِن شَيم البروق وميضها
أجرْني بصبرٍ إنّ فيض مدامعي ... سيولُ هموم في فؤادي مغيضها
وهل مطفئاتٌ أدمعي نارَ لَوعةٍ ... توقّد في أرجاء قلبي مضيضها
تُكلّفُني نقض العهود بسلوةٍ ... ثباتي على إبرام وَجدي نقيضها
أأغضي على حدٍّ من الضيم مُرمضٍ ... وسيفيَ بتّارُ الحدود رميضها
أغثنيَ بالإرشاد فالطرق إنما ... يَدُلُّ بها خِرِّيتُها ونَفيضُها
النِّفَضَةُ والنَّفِيضَةُ: قوم يبعثون في الأرض ينظرون: هل بها من عدو، أو خوف.
أعِنّي على بلوايَ فالعمر غَمرة ... يعاين أهوال الرَّدى من يخوضُها
شَجاني انضمامي والخطوبُ كثيرةٌ ... إلى خطّةٍ يؤذي الأُسودَ بعوضُها
تساوي لديها غَثُّها وسمينها ... وأودي بها منحوضُها ونحيضها
التحيض: الكثير اللحم، والمنحوض: الّذي أُخذ لحمه.
ولي عند تحقيق المعاني أدَّلة ... تزيَّف في وقت النُّضار نقوضها
حُظوظي على عِلاّتِها وشَتاتِها ... كأبياتِ شِعرٍ ما يصحّ عَروضُها

جوامِدُ لكنْ نار عزمي تُذيبها ... جوامحُ لكنْ طول صبري يروضها
ستشرق في أوج الصعود سُعودها ... وإنْ زاد إظلامَ الحظوظ حضيضها
بجودٍ أمير المؤمنين وسَيبه ... تَفيضُ على أرض الأماني فُيوضُها
إمام البرايا خيرها مُستضيئها ... غزير الأيادي جَمُّها مُستفيضها
تفيض لترويض الرجاء مياهه ... وللنُجح يُرجَى عِدُّها ونضيضها
جزيل العطايا وافر الفضل وارِف ال ... ظِلاّل طويل المأثرات عريضها
تبدّل بالأموال آمال وَفدِه ... فكم فاقةٍ منّا بوجد يعيضها
ويفتح من مُدّاحه باللُّها اللّها ... وقد حال من دون القريض جَريضها
إذا اقترحت منّا القرائح مُدحَه ... تسابق من شوقٍ إليه قريضها
مُواليه مشكور المساعي نَجيحها ... وشانيه مردود المباغي دَحُوضها
أتتنا وفود المكرمات بجوده ... ووافى إلينا قَضُّها وقضيضها
إذا ظمئت آمالنا وردت له ... بحار لهىً يروي العطاش فضيضها
من الأسرة الغُرّ الّتي بولائها ... أفاض المبرّات الغزار مفيضها
مكرّمة أعراضها ومهانةٌ ... لإظهار عزّ الأولياء عُروضها
موالاتهم في الله عن صدق نيّة ... غسولٌ لأدران الذنوب رحوضها
هُم الكاشفو الغمّاء في كلّ لزبةٍ ... عدا بنيوب النّائبات عضوضها
أضاء بهم شرق البلاد وغربها ... وحيزت لهم أطوالها وعروضها
ومن عجب صلّت لقبلة بأسهم ... رؤوس أعادٍ من ظُباهم محيضها
تدلُّ على الرُّعب الّذي في قلوبها ... مفاصل للأَعداء شاجٍ نقيضها
وما هامرٌ هامٍ من الودق إن بكى ... تبسَّم مرهوم الرّياض أريضها
تأرّج واديها وطاب نسيمها ... وغرّد شاديها وغنّى غريضها
بأغزر من جود الإِمام الّذي به ... إذا شكت الآمال يشفي مريضها
حباني على ضَنّ الزّمان بثروةٍ ... جلا زُبدها في عيشتي ومخيضها
جناح رجائي رِيشَ والنّاس منهمُ ... رجائيَ محصوص الخوافي مَهيضها
إليك أميرَ المؤمنين أحثّها ... نياقاً تردّى بالهُزال نغوضها
طلائع آمالٍ رَذايا مطالبٍ ... تداعت بتعريق النُّحول نحوضها
حوامل آرابٍ حوامل نُجحها ... إذا عقمت ميلادها ونفوضها
لئن عافت الأقدار عن قصد بابكم ... وعارضني عند المسير عروضها
فإِنّي أنَّى كنت في ظلّ طاعةٍ ... لغير هداكم ما تقام فروضها
سأطلب ريّي في ورود بحاركم ... وأهجر قوماً أظمأتني بروضها

باب في ذكر محاسن الوزراء والكتاب
للدولة العباسية وما نمى إلي من شعرهم
الوزير ظهير الدين
أبو شجاع محمد بن الحسين بن عبد الله بن إبراهيم، من أهل روذراوَر.
مولده بقلعة كِنكِوَر سنة سبع وثلاثين وأربع مئة. وزر للإمام المقتفي، بعد عزل عميد الدولة أبي منصور بن جَهير، سنة ستّ وسبعين وأربع مئة. وعزل سنة أربع وثمانين يوم الخميس تاسع عشر صفر. ولما قرأ التوقيع بعزله وانصرف، كان يُنشد:
تولاّها وليس له عدوّ ... وفارقها وليس له صديق

فخرج إلى الجامع ماشياً يوم الجمعة من داره، وانثالت العامة عليه تصافحه وتدعو له، وكان ذلك سبباً لإلزامه بيته. ثم أخرج إلى روذراور، وهي موطنه قديماً، فأقام هناك مدّة، ثم خرج إلى الحجّ وسافر إلى مكّة في موسم سنة سبع وثمانين، فخرج العرب على الرُّفقة بقرب الرَّبَذَة، فلم يسلم من الحجيج سواه. وجاور بعد الحجّ بمدينة الرّسول صلوات الله عليه إلى أن تُوفّي في النصف من جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانين، ودفن بالبَقيع عند القبّة الّتي فيها قبر إبراهيم عليه السلام ابن رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وكان عصره أحسن العصور، وأيامه أنضر الأزمان، ولم يكن في الوزراء من يحفظ أمر الدين وقانون الشريعة مثله، صعباً شديداً في أمور الشرع، سهلاً في أمور الدنيا، لا تأخذه في الله لومة لائم. ذكره ابن الهمذاني في الذيل وقال: (كانت أيامه أوفى الأيام سعادة للدولتين، وأعظمها بركة على الرعية، وأعمها أمناً، وأشملها رخصاً، وأكملها صحةً، لم يغادرها بؤس، ولم تشبها مخافة. وقام للخلافة في نظره من الحشمة والاحترام، ما أعادت سالف الأيام.
وكان أحسن الناس خطاً ولفظاً.
وله شعر حسن، وذكر أنه لم يقل بعد الوزارة غير هذه القطعة في الزهد:
قد آن بعد ظلام الشَّيب إبصاري ... للشّيب صبحٌ يناجيني بإِسفار
ليلُ الشّباب قصيرٌ فاسْرِ مُبتكراً ... إِنّ الصّباحَ قصارى المُدْلِجِ السّاري
كم اغتراريَ بالدُّنيا وزُخْرُفِها ... أبني بِناها على جُرْفٍ لها هارِ
وكم كذوبٍ بعهدٍ لا وفاءَ له ... تعّلم الغَدرَ منها كلُّ غدْارٍ
دارٌ مآثمها تبقَى ولذّتُها ... تفنى ألا قُبِّحت هاتيك من دارٍ
فما انتفاعي بأوطارٍ مضت سَلَفاً ... قضيتُها وكأنْ لمْ أقضِ أوطاري
فليت إذ صَفِرتْ ممّا كسبْتُ يدي ... لم تعتَلِقْ مِن خطاياها بأوزارِ
ليس السَّعيدُ الّذي دُنياهُ تسعدهُ ... إنَّ السّعيدَ الّذي ينجو من النّارِ
أصبحت من سيئآتي خائفاً وَجِلاً ... واللهُ يعلم إعلاني وإسراري
إذا تعاظَمَني ذنبي وآيسَني ... رجوتُ عفوَ عظيمِ العفوِ غفّارِ
وقرأت في المذيل تأريخ أبي سعد السمعاني: سمعتُ أبا علي أحمد بن سعيد العجلي يقول: قلت للوزير أبي شجاع: أردت أن أقرأ عليك ديوان شعرك. فقال: لا، ولكن أنشدك أبياتاً من شعري. وأنشدني لنفسه:
ليس المقادير طوعاً لامرئ أبداً ... وإنّما المرء طوعٌ للمقاديرِ
فلا تكن إن أتت باليُسْر ذا أشَرٍ ... ولا يَؤُوساً إذا جاءت بتَعسيرِ
وكن قنوعاً بما يأتي الزَّمانُ به ... فيما يَنوبُك من صفوٍ وتكديرٍ
فما اجتهادُ الفتى يوماً بنافعه ... وإنّما هو إبلاءُ المعاذير
وأورد السَّمعانيّ في المذيّل: أنشدني المُباركُ بن مَسْعود الغَسَّال له:
ما كان بالإِحسان أوْلاكُم ... لو زرتُمُ من كان يهواكُمُ
أحبابَ قلبي ما لكم والجفا ... ومَنْ بهذا الهَجر أغراكمُ
ما ضركُمْ لو عُدتُمُ مُدْنَفاً ... مُمرّضاً من بعض قتلاكمُ
أنكرتمونا مُذْ عهدناكمُ ... وخُنْتُمونا مذ حَفِظْناكمُ
لا نظرتْ عيني سوى شخصِكمْ ... ولا أطاع القلب إلاّكمُ
جُزتمْ وخُنْتمْ وتحاملْتُم ... على المُعَنّى في قضاياكمُ
ما كان أغناني عن المُشتكى ... إلى نجوم الليل لولاكمُ
سَلُوا حُداةَ العيس هل وردت ماءً سوى دمعي مطاياكمُ
أو فاسألوا طَيْفَكمُ هل رأى ... طَرْفي غَفا من بَعْدِ مَسْراكمُ
أحاول النَّوم عسى أنّني ... في مُستَلَذّ النَّوم ألقاكمُ
يا ظَبَيات الإِنس في ناظري ... وُرودُكم والقلب مرعاكمُ
خونوا وُجوروا وانصفوا واعدلوا ... في كلّ حالٍ لا عدِمْناكمُ

ما آن أنْ تَقضُوا غَرِيماً لكم ... يخشاكمُ أن يتقاضاكم
ونقلت ببغداد من مجموع له:
وإِنّي لأُبْدي من هواك تَجَلُّداً ... وفي القلبِ منّي لوعةٌ وغليلُ
فلا تَحسَبي أنّي سَلوت فربّما ... تُرى صِحّةٌ بالمرء وهو عليلُ
وله:
أيذهب جُلُّ العُمْرِ بيني وبينكمْ ... بغير لقاءٍ إنَّ ذا لَشَدِيدُ
فإِن يسمح الدَّهْر الخؤون بوصلكم ... على فاقتي إني إذَنْ لَسعِيدُ
وله، نقلتهُ من مجموع آخر:
وأسلمني الباكون إلا حمامة ... مطوَّقة قد صانعت ما أصانِعُ
إذا نحن أنفَدْنا الدُّموعَ عَشيّةً ... فموعدُنا قَرْنٌ من الشَّمس طالع
إذا لم يكن إلا صدودٌ وجفوةٌ ... فما أنا فيما بين هذين صانع
أبيتُ بليلٍ ليس فيه راحِمٌ ... ولا مُسْعدٌ إِلاّ الحَمام السّواجع
ونقلت من ذيل التأريخ لابن الهمَذاني: أنه سئل الوزير أبو شجاع إجازة أبيات كثيرٍ التي منها:
إذا قيل هذا بيتُ عزة قادني ... إليه الهوى واستعجلتني البوادر
فقال:
ألا ليتَ شعري والعِدا يُوعدونني ... أيعذُرني إنْ زرْتُ عَزَّةَ عاذر
أمر على أبيات عزّة خائفاً ... عِداها فجنْبي عنهُمُ متزاوِرُ
ألا إنّ بيتاً لا أزورُ فِناءَهُ ... لأشهَى من البيت الّذي أنا زائرُ
إذا حضر الواشونَ أبديت سَلْوةً ... وفي القلب من حُبِّيكِ داءٌ مخامرُ
تعاللتِ عنّي كي تخوني مودَتي ... وتلك التي يا عَزِّ كنتُ أحاذِرُ
تقولين لم أضْمِرْ بقلبي خيانةً ... دَعِيني فما للنّاس إلاّ الظَّواهرُ
وله في نظام الملك لمّا قصده إلى أَصفهان، وكتب بذلك إلى بغداد:
مَن مبلغٌ ساكني الزوراء مَأْلكةً ... أنّي بمنزل عزٍّ صِينَ من هُون
حيث اشتريتُ غلاء العِزّ مرتخصاً ... بصفقةٍ لم أكن فيها بمغبون
فاليوم أيقنت أنَّ الدَّهْرَ سالمني ... وأن أيدي العدا قد قصّرت دُوني
لا زال ركن قوام الدّين مُستَلَمَاً ... مُشَيّداً بالمعالي غير مَعْيُون
يفيض في النّاس فضلاً ينعشون به ... والله يُعطيه أجراً غيرَ ممنون
وله فيه:
أترى الزْمانَ يجور في أحكامه ... والدَّهْر ينصُرني بعدل قوامه
كلاّ فجارُ أبي عليّ في الحِمى ... من عِزّهِ والخصبُ من إنعامه
متبوِّئاً للعزّ في سلطانه ... متهنّئاً بالأمن في أيّامه
من مبلغٌ أهل العراق وفيهمُ ... مَن لو ذُكرتْ له بكى بسجامه
أني نزلتُ بدار أكرم طائع ... لإلهه ونبيّه وإمامه
هيهات أخشى الدّهر بعد تحرٌُّمي ... بجواره وذمامه وطعامه
ذاك امروٌ يخشى الإِله ويتَّقي ... متحرّجاً في حلّه وحَرامه
فسل اللّياليَ إن جهلت حديثه ... تخبر بطول سجوده وقيامه
فليهن سلطان البلاد سُعودُه ... فالله يكلأ ملكه بنظامه
وإني أذكر من فضائله مما ذكره ابن الهمذاني لمعاً، وهو أنه ظهر منه من التلبس بالدين وإظهاره، وإعزاز أهله والرأفة بهم، والأخذ على أيدي الظلمة ما أذكر به عدل العمرين وكان لا يخرج من بيته حتى يكتب شيئاً من القرن ويقرأ في المصحف ما تيسر، وكان يؤدي زكاة أمواله الظاهرة في سائر أملاكه وضياعه وإقطاعه، ويتصدق سراً.
وعرض عليه رقعةٌ فيها: إن في الدار الفلانية بدرب القيار امرأة معها أربعة أطفال أيتام وهم عراة جياع، فاستدعى صاحباً له وقال له: مر واكسهم، وأشبعهم. وخلعَ أثوابه وحلف: لا لبستها ولا دفئت حتى تعود وتخبرني أنك كسوتهم وأشبعتهم. ولم يزل يرعد إلى أن عاد صاحبه إليه وأخبره بذلك. فلا جرم أن الله تعالى ختم له بالخير، كما قال الله تعالى: والعاقبة للمتقين.
ومن أشعاره في أمير المؤمنين المقتدي، وأثبتها لكونها في الخليفة:

بقيتَ أمير المؤمنين مخَلّداً ... تُطِلّ بأسبابِ العَلاءِ على النّجم
وتفديك أرواح المَوالي على الرِّضا ... وتفديك أرواح الأعادي على الرّغمْ
فقرٌ بذخر الدِّين عَيْناً وصِنْوِهِ ... أبي جعفر يا معدِن الجود والحَكْم
إذا الدَّهْرُ لم يثلمْ عُلاكَ فإِنّه ... جدير بأن يلقى أماناً من الذمّ
فلا زلت في الإقبال ما ذرّ شارق ... وما درّ في أرضٍ حَيا الدِّيَم السُّجْم

الوزير عميد الدولة
أبو منصور محمد بن محمد بن محمد بن جهير
كان ذا شهامة وصرامة، وحصافة وفصاحة، وحماسة وسماحة. له من الوقار والهيبة ما لم يعرف في غير الطود الأشم، والبحر الخضم.
ورد مع فخر الدولة أبيه بغداد في أيام القائم بأمر الله سنة أربع وخمسين وولي أبوه الوزارة، وكان بميافارقين يخدم بني مروان، ثم كاتب أمير المؤمنين وبذل بذولاً، وأخرج إليه نقيب النقباء طراد الزينبي فقرر معه ما أراد تقريره. ثم خرج معه كأنه مودع له، وتم إلى بغداد. وتولى وزارة القائم، وبقي فيها إلى آخر عهد القائم، ومعه ولداه: أبو منصور، وأبو القاسم زعيم الرؤساء.
فلقب هذا عميد الدولة، وكان ينوب عن والده. فلما عزل أبوه في أيام المقتدي بعد ما وزر له سنين سنة إحدى وسبعين، خرج عميد الدولة إلى نظام الملك واسترضاه، وعاد إلى بغداد وتولى الوزارة مكان أبيه.
وخرج أبوه عن السلطان ملكشاه لفتح ديار بكر ومحاربة ابن مروان في ميافارقين، وكان فتحها على يده. وبقي في وزارة المقتدي إلى أن عزل وتولى الوزير أبو شجاع، ثم وزر للمقتدي بالله بعد عزل أبي شجاع ثانياً. ووزر بعد وفاته للمستظهر بالله، وعزل مرة وأعيد إلى الوزارة، وعزل في سنة ثلاث وتسعين وأربع مئة، وعاش بعد ذلك.
وله مقطعات حسنة، فمنها له وأورده السمعاني في الذيل:
يقول صديق باللسان مُخاتِر ... كما قيل في الأمثال عَنقاء مُغرِبُ
فأمّا إذا ما رمتَ شخصاً معيّناً ... من النّاس موجوداً فذلك مُتْعِبُ
وله:
إلى متى أنت في حِلٍّ وتَرْحالِ ... تبغي العُلى والمعالي مَهُرها غالِ
يا طالب المجد دون المجد مَلْحَمةٌ ... في طَيّها بالنّفس والمالِ
ولليالي صروف فلّما انجذَبَتْ ... إلى مُرادِ امريءٍ يسعى لآمالِ
ذكر فصل في عميد الدّولة ذكَرَهُ ابن الهمذانيّ في تأريخه، قال: إنتشر عنه الوقار والهيبة والعِفّة وجودة الرّأي، وخدم ثلاثة من الخلفاء، وَوزَر لاثنين منهم. وكان عليه رسوم كثيرة وصلات جَمّة مع استِزادة النّاس له. وكان نظام المُلك يصفه دائماً بالأوصاف العظيمة، ويشاهده بعين الكافي الشهم، ويأخذ رأيه في أهمّ الأمور، ويقدّمه على الكُفاة والصّدور. ولم يكن يعابُ بأشدّ من الكِبْر الزائد، وأن كلماته كانت محفوظة مع ضَنّه بها. ومن كلّمَه بكلمةٍ قامت عنده مقام بلوغ الأمل. فمن جُملة ذلك ما قال لوَلَد الشّيخ الإمام أبي نَصر ابن الصبّاغ: اشتغل وادأب، وإلا كنت صباغاً بغير أب.
لم يكن له من الشعر ما يثبت إلا الأبيات التي أوردتها.
سديد الملك
أبو المعالي المفضل بن عبد الرزاق بن عمر العارض في الأيام الجلالية
هو والد حسام الدين أبي الخطاب، وسأورده في فضلاء أصفهان وصدورها. وإنما أوردت سديد الملك هاهنا، لكونه وزر للمستظهر عشرة أشهر. ولي في رمضان سنة خمس وتسعين، وعزل في رجب سنة ست وتسعين وأربع مئة، وعاد محترماً إلى أصفهان.
ذكر ابن الهمذاني في التأريخ: أنه لما استدعي إلى بين يدي الخليفة حين أفيضت عليه خلع الوزارة، غلبه الحصر، فقال: تاج الرؤساء نسيب بن الموصلايا للخليفة: المفضل بن عبد الرزاق يخدم، ويقول كما قال الله تعالى: (رب أوزعني أن أشكر نعمتك).
أنشدت له بيتين بأصفهان، وهما:
قلْ للوزير وكلّهم جذلان ... لا تشمَتوا فوراءَه الحدثان
المَلك بعد أبي عليّ لعبةٌ ... يلهو بها النِّسوان والصّبيان
الوزير جلال الدين
أبو علي الحسن بن صدقة

وزير المسترشد بالله أمير المؤمنين. ناب في دولته. كبير القدر، خطير الأمر، ذو الأصالة والجلالة والبسالة، والصدق في المقالة، والفضل الكثير، والكرم الغزير.
وكان صديق عمي العزيز رحمة الله عليهما، وهما كالأخوين، وكنفس واحدة لا نفسين، بل كانا في الدولتين شمسين.
أنشدني له محمود الكاتب المعروف بالمولد البغدادي بالشام، وذكر أنه رآه يكتب بخطه إلى المواقف المسترشدية هذه الأبيات يوم جلوسه في الوزارة ثانية بعد النكبة:
بدأتَ بنُعْمى ثمّ واليتَ فِعلَها ... وتابعتَها في حالة البعد والقرب
ولم تُخْلِني من حُسْن رأيك إن سطا ... بيّ الدّهر واسودّتْ به أَوْجُه الخَطْب
فأقررتَ عَينَ الأولياء بأوْبتي ... وأرغمتَ حُسّادي وأوطأتَهم عقبي
فلا زلتَ في عّزٍ يدوم ونعمةٍ ... يقصّر عنها مُنتهى السَّبْعةِ الشُّهْب
وتُنْسَب إليه هذه الرّباعِيّة:
آتيك غداً ولو حَماكِ الأهل ... لا أرجع عنك أو يتِمَّ الوصل
آتيك ولو سُلَّ عليَّ النَّصْل ... السّيف أو الفراق كلٌّ قَتْل

الوزير عون الدين أبو المظفر
يحيى بن هبيرة
نسبه من شيبان بموجب ما أثبته عنه: يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعيد بن حسن بن أحمد بن الحسن بن جهم بن عمر بن هبيرة بن علوان بن الحوفزان، وهو الحارث بن شريك بن عمرو بن قيس بن شراحيل بن مرة بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن الصعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط ابن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد ابن عدنان. أخرج له هذا النسب بعد سنين من وزارته، وذكره الشعراء في مديحهم إياه.
وكان غزير العلم، ذا هيأة، ... ذا هيبة، مفوهاً، مهيباً.
وزر للمقتفي وللمستنجد، وتوفي ليلة الأحد ثالث عشر جمادى الأولى سنة ستين وخمس مئة، وهو وزير الإمام المستنجد. وكانت مدة وزارته للإمامين إلى حين وفاته ست عشرة سنة وشهرين وتسعة أيام.
وكان يتبرك بيوم الأربعاء، ويقول: هؤلاء المنجمون يتطيرون من التربيعات، وأنا وليت يوم الأربعاء رابع ربيع الأول سنة أربع وأربعين وخمس مئة.
وكان مقرباً لأولي الفضل والدين.
وصنف تصنيفاً في شرح الصحاح وسماه الإفصاح، وبذل على حفظه ونسخه أمواله، حتى كان في زمانه لا يشتغل إلا به.
ورزق من الشعر والشعراء ما لم يرزق أحد، وأجاز عليه.
سمعت صاحب الخبر ابن المهدي يقول يوماً له: ق جمعت من القصائد التي مدحت بها ما يزيد على مئتي ألف بيت، وكان كل سنة يحمل منها مجلداً، فلما توفي الوزير، وبيعت كتبه، اشترى الشريف ابن المهدي ما كان جمعه من خزانة الوزير، وسمعت أنها أخذت منه وغسلت.
ومدائحي فيه كثيرة.
وله شعر حسن، فما أروي له أبيات هنأ بها الخليفة بالعيد:
بك العيدُ يُزْهَى بل بك الدّين يفخرُ ... وأنت الّذي من كلِّ ما فيك أكثرُ
فدٌمْ للأَماني مثلَما أنت حيث قد ... بلغت إلى ما لم يكن عنه مظهر
أفرضٌ على أن ليس في النّاس ناطقٌ ... من الفضل إلا ما به أنت أخبر
وله:
يا غايةَ الحُسْن هذا غاية الكَمَدِ ... ومُنتهى البدْر هذا منتهى جَلَدي
إن كان حسنك لا يُفضي إلى أمدٍ ... فإِنّ وجديَ لا يُفْضي إلى أمدِ
وله:
ركبت بحار الحبّ جهلاً بقدرها ... وتلك بحار لا يُقَفَّى غَريقُها
فسرنا على ريح تدُلُّ عليكُمُ ... فبانت قليلاً ثمَّ غاب طريقها
إليكم بكم أرجو النّجاة فما أرى ... لنفسيَ منها سائقاً فيسوقها
وله:
تمسكْ بتقوى الله فالمرء لا يبقى ... وَكلُّ امرئٍ ما قَدَّمت يدهُ يلقى
ولا تظلِمَنَّ النّاسَ ما في يديهِمُ ... ولا تذكُرنْ إفْكاً ولا تحسُدَنْ خلقا
ولا تقربن فعل الحرام فإنّما ... لذاذته تفنى وأنت به تشقى
وعاشِرْ إذا عاشرتَ ذا الدّين تنتفِعْ ... بدربتهِ واحذر معاشرة الحَمقى

ودارِ على الإِطلاق كُلاً ولا تَكُنْ ... أخا عجلٍ في الأمر واستعمل الرِّفقا
وخالِفْ حُظوظ النّاس فيما يرونه ال ... أماني ولا تَستَعْرِ فَنَّ لها الصّدقا
تَعَوَّد فِعال الخير جمعاً فكلّما ... تَعَوَّده الإِنسان صار له خُلْقا
ولده عز الدين محمد كان كبير الشان رفيعَ المكان. ناب عن والده مدة وزارته، وكان روض الدولة به في ريعان نضارته.
وحبس عند موت أبيه إلى يوم ولاية المستضيئ بأمر الله، فأخرج المحبوسين وما خرج، فعرف أنه درج.
وله شعر كثير، وقلما نظم شيئاً إلا وعرضه علي، أو سيره إلي. لكنني فقدته كما فقدته، ولو وجدته أوردته.
ولده أبو البدر ظفر لقبه شرف الدين كان جذوة نار لذكائه، وحدة خاطره، وجودة قريحته. يشتعل ذكاءً، ويتوقد فطنةً. وهو محب للفضل والتحلي به.
وله شعر يروق، وعبارة تشوق. امتحن بالحبس في أيام والده سنين بقلعة تكريت، ثم تخلص. ولما توفي الوزير، رقي عنه إلى الإمام أنه عازم على الخروج من بغداد مختفياً، فقبض وحبس.
وقد أثبت له قصائد أنشدنيها لنفسه، نظمها على أسلوبه الرائق مجرياً مهر خاطره الماهر في مضمار مهيار، أرق من صفو العقار. فمن ذلك، وأنشدنيه لنفسه في مدح الإمام المستنجد بالله:
طُلَّ دمٌ بالعِتاب مطلوبٌ ... وطاح دمعٌ في الرَّبع مسكوبُ
وذلَّ قلبٌ أمسى الغرامُ به ... وهو بأيدي الغُواة مَنْهُوب
لا أنف للعِرق يستثير له ... ولا سليم الصُّدود مَطْبوب
يركب في طاعة الهوى خَطَراً ... تُضرَمُ من دُونِه الأنابيب
إذا ادْلَهمَّ الدُّجى أضاء له ... من زَفَرات الضُّلوع أُلْهُوبُ
لا موعدٌ مُطْمِعٌ ولا أملٌ ... ولا لِقاءٌ في العمر محسوب
مقتنِعاً من وصاله بمُنىً ... أصدَقُ ما عندها الأكاذيب
يا غادَة الحيِّ بعضَ هجرِكِ لي ... حَسْبِيَ أَنّي إليك منسوب
مقتنِعاً من وصاله بمُنىً ... أصدَقُ ما عندها الأكاذيب
يا غَادَة الحيِّ بعضَ هجرِكِ لي ... حَسْبِيَ أَنّي إليك منسوب
ما بعد دمعي دمعٌ يُراقُ ولا ... فوقَ عذابي لدَيْك تَعْذيبُ
لم يبق للنّاصحين من أَملٍ ... فيِّ ولا للعُذَّال تأنيب
وضاق صدر البيداء عن رحلي ... وحُلِّئَت تحتيَ المصاعيب
ألا سقى الله أرض كاظِمةٍ ... صوْبَ حياً قَطْرُهُ شآبيب
وخصَّ داراً أمسى الوصال بها ... وهو أَمينُ الأكنافِ مَرْهوب
رحابُها حيث سِرُّنا خَمَر ... وحيث إعلانُنا أهاضيب
يا حَرَجات الظِّلال أَين أَحبّا ... ؤك والعاقِرونَ والنِّيَبُ
وأين تلك القِباب مُشْرعَةً ... تمنَعُها غِلْمَةٌ يعاسيب
تؤمّها العاشقون عن وَلَهٍ ... فهي لأشُواقهمْ محاريب
فالآن لي في رِباعِها عِبَرٌ ... ومن أقاصيصها تَجاريب
فمن ثراها عليَّ أرْدِيَةٌ ... ومن دموعي لها جَلابيب
كم عند دَوحِ الغَضى لذي عَلَقٍ ... قلبٌ بأيدي الحِمام مَغْصوب
إذا رَكِبْنَ الأغصان صِحْنَ بنا ... فكلُّ عقلٍ في الرَّكْبِ مسلوب
يا خابِط الليل غيرَ مُتَّئدٍ ... رفقاً فثوب الظّلام غِرْبيب
ما لك لا تألف الرّفيقَ ويُدْ ... نِيك إلى فضل زاده الذّيب
ضمّكما الاتّفاق في قَرَنٍ ... فأنتما صاحبٌ ومصحوب
ومنها:
ما ليّ لا أمدحُ الشَّبابُ ولي ... من نوره شارةً وتَطريب
إذا تمايلت في مُلاءته ... فحبّذا راغِبٌ ومرغوب
أصنعُ ما شئتُ في حمايته ... وهو إلى الغانيات محبوب
وكيف لا أُوسعَ المشيبَ قِلىً ... وهو بماء العيون مخضوب

أيْامه ذِلةٌ ومَبْخَلَةٌ ... ولونه نفرةٌ وتثريب
يلومني النّاس أن رأوا كلمي ... ليس لها في المديح أسلوب
قد سلكتْ مذهباً تَدِين به ... تبراء لا حبة ولا حوب
بكاءُ ربعٍ أو وَصف غانية ... وضِدّها خالبٌ ومخلوب
وهل لعرض الزّمان غير فتى ... يمدحه تغمُر المحاريب
إمام حَقٍّ لنا بطاعته ... كلُّ منيع الجَناب مرهوب
تسنّم المُلْكَ وهو ذو ضلعٍ ... فلم تنل حُضْرَهُ السّلاهيب
وقام بالأمر بعد أن نغِلت ... فيه قلوبٌ وعزَّ مطلوب
فانتظم الأمر غير مُحْتفلٍ ... كذّب غرّ وغرَّ مكذوب
أفاض صِرْفاً ماءَ الظُّبا فغدا ... وهو بصرف النّجيع مقطوب
عوّد فرسانَهُ السُّرى فلهم ... في غَمَرات الظّلام تشبيب
لا يسألون النّجمًَ ما خبرُ ال ... ليل ولا النّافضين ما رِيبوا
كأنّهم ما دَرَوْا على خَطَر ال ... شُّقّة أنَّ الصبَّاح مكتوب
من معشر أعْنَقَتْ بهم هممٌ ... حيث رِواق النُّجوم مضروب
لا يسألون الرّكبان عن غِرَة ال ... خصب ولا أَين سامت النّيب
إنْ رحلوا فالثّرى بهم رمض ... أو نزلوا فالثراء منصبوب
أو طلبوا فالفضاء ذو حَرَج ... أَو رَكِبوا فالقضاء مركوب
أو كلّفوا الدَّهْرَ غيرَ عادته ... أصحَبَ للأمر وهو مصحوب
وأنشدني لنفسه على وزن قصيدة الأبيوردي التي يقول فيها:
ترنْحَ من بَرْحِ الغَرام مَشُوقُ ... غداةَ نأت بالوائليّة نوقُ
قال هو:
أضاءت لنا بالأبرقَينِ بروق ... نواقل منها كاذبٌ وصدوق
يُذعْنَ لنا من أهل وَجْرةَ ريبةً ... يخِفُّ إليها السَّمع وهو فَروق
وما كلُّ مطويٍّ من السّرّ مُنكر ... ولا كلُّ منشور الحديث يروق
أبارق ذاك الشِّعب هل أَضمر النّوى ... تفرُّقهم أَو ضمَّهُنّ وَسيق
وهل حَرَجات الحَيّ بدّلن أدمعاً ... عن السُّحْب لم ترقع لهنّ خروق
لعَمْرُكَ ما البرقُ اليمانيُّ وامِقٌ ... ولا ذلك الشِّعبُ الرّحيب مَشوق
وهل تزع الأَشجانَ خفقة لامعٍ ... وقد علِقت بالجانحاتِ علوق
لحى الله يوماً بالثنِيّة أشرفتْ ... علينا بأقصى أرض وجْرَةَ نُوق
يرفّعهنَ الآل فَوْضى كأنما ... أغار على أطرافهنّ سَرُوق
إذا حَثْحث الحادي بهنُّ أطَغنَهُ ... جوافل أدنى سيرهِنَّ عنيِق
كأنّ توالي الظُّعْن والآل دونَها ... سَفِينٌ بمُسْتَنّ الفُراتِ غريق
إذا أفلت شمس الأصيل بدت لنا ... شموسٌ لها فوق الحُدوج شُروق
تسير بها الأظعانُ أَنّى تيمّمَتْ ... قواصدَ لا يشقى بهنّ رفيق
أجيراننا إِنّ القلوبَ لديكمُ ... فهل للجُسوم نحوَكُنّ طريق
لئن جمعتكم نيّةٌ يمنيّةٌ ... وفرّقكم وحش الفِجاج عميق
فودّي على الأَيّام ما تعلمونه ... وعهدي على طول المَزار وثيق
ولي عبراتٌ لا تضنّ بمائها ... تديّمُ في أجراعكم وتريق
فإِن يروها دمعي وإِلاّ سقيتُها ... دماً ما له إلا الغرام مُريق
يقولون بعض الصّبر عنهم ومنْ لنا ... بأنْ يتساوى مُوثَقٌ وطليق
ولكنَّ حُبّاً أنتمُ بَدءُ غرسه ... رَطيبٌ على مَحْل الزّمان وَرِيقُ
ألم تعلمي يا ضرَّة البدرِ أنَّني ... جديرٌ بفعل الصّالحات خليق

عفيف محاني الرّبوتين وما لنا ... سوى ذلك الستر الرقيق رفيق
ينوب عن الوحي الكفاح وكأسنا ... دموعٌ ومشمولُ الرُّضاب رحيق
إذا خفّت الأحلام وَقّرَ حَبْوَتي ... نِجارٌ وسيع الدّوَحتَيْنِ عريق
تجاذِبُني طُرقَ العَلاء بهِمَّةٍ ... لها فوق مرسي النّيِّريْنِ سُموق
ولكنَّ لي في باطن النّفس حاجةً ... تَنِمُّ عليها زفرةٌ وشهيق
أُجمّع أسباب المعالي تعلُّلاً ... وأُعجِزُ في ألفاظها وأفوق
وأَنظِم ما لا تنظم العرْبُ مثلَهُ ... وأَيّ لسان بالمُقال ذَليق
ودخلت يوماً إليه ببغداد قبل نكبته بسنة، في صفر سنة تسع وخمسين وخمس مئة، فأنشدني قصيدة عملها على وزن قصيدة مِهيار التي أولها:
بكَر العارِضُ تحدوه النُّعامى ... فسُقِيتِ الغيث يا دار أَماما
وسألني أن أعمل قصيدة على وزنها ورويّها، وهي:
أخلَفَ الغيثُ مواعيدَ الخُزامى ... فقفِ الأنضاءَ تستسقي الغَماما
وخُذِ اليَمْنَةَ من أَعلى الحِمى ... تَلْقَ بالْغَوْر حَميماً وجِماما
وأبحني ساعةً من عُمُري ... أملأ الدّار شَكاةً وسلاما
أصف الأشواق في تلك الرُّبا ... وأعاطي التُّرْب سَوْفاً والتئاما
فَلعلّي أنْ تداوي حُرَقي ... غفلة الغَيران أو أرضي النَّدامى
أيُّ حلمٍ خفّ في حُبِّهمُ ... وعقولٍ رفضت فيه الملاما
ودموعٍ كلّما كَفْكَفَها ... زاجرُ العَذْلِ أَبَت إِلاّ انسجاما
يا وُلاة الغَدْر ما دِينُكُمُ ... أحرامٌ فيه أن تقضوا ذِماما
قد رضينا إنْ رضيتم بالأذى ... وعزيزٌ بعزيزٍ أن يُضاما
خَطَرتْ لي يا زميلي سَحَراً ... نسمةٌ أحسبها ريح أُماما
خطرت والعينُ تقري طيفَها ... والكرى يمزجُ للرَّكْب المُداما
ومنها:
فارجع الطَرْفَ وقل لي في خَفَا ... أهِضاباً ما تراها أم خِياما
ما صنيعي بِمَهاةٍ كُلمَّا ... زوَّدَتْني رشفة زدت أُواما
أهُيامٌ أم لَظَى في كبِدي ... لفحت حتى انثنى الظَّلمُ ضِرام
ليس إِلا فرط وجدي بهمُ ... ظَعَنَ العاذل عنّي أم أقاما
أنا من أسْرِ الهَوى في رِبقَةٍ ... حكمت للحرّ فيها أن يساما
وطني حيث أناخَتْ عيسُكم ... ومقامي حيثما اخترتم مقاما
كل خِلٍ يجتني لذَّتهُ ... وأنا الجاني أراكا وبَشاما
أَنِسَتْ بي وحش أَوطانكُمُ ... فرعى اللهُ ظباءً ونَعاما
كلَما آنسَ قلبي وحشةً ... ملأت سمعي رُغاءُ وبُغاما
وأبيتُمْ ليَ إِلاّ نفرةً ... وأبى حبْلَكُمُ إلا انصراما
يا زماني ولكم أَدعو به ... ومن الضِّلَّة أن أدعو الرِّماما
لست عندي بالّذي أَعتِبُه ... كيف عتبي زَمَناً يأبى الكِراما
أنا حِرزٌ لك من ذمِّ الورى ... فأتِ ما شئِت حلالاً وحراما
لو بغيري حمَلت أيّامهُ ... لَتَمنّت أنها أمست عُقاما
أطمعَ الدَّهرَ بنوه إِذْ رأوا ... أكْبَرَ النِّعْمة ظِّلاً وحُطاما
فأقرّوه على غفلته ... أخملَ الأبرار أمْ أعلى اللئاما
كلُّ شخصٍ تقتضيه دولةٌ ... ترفع النّفسَ وتستَدْعي التّماما
وهو لا ينفكُّ حرباً لامرئٍ ... يطلب الذِّروةَ منه والسَّناما
أنا مَن قد رَضيَ النَّاسُ وقد ... أتعبَ النّفسَ فتى أرضى الأَناما
لا أسوم الدّهرَ إِلاّ صالحاً ... يشتكي الدّهر ولا أشكو الأَثاما

كلّما قرَب منّي مُعرضاً ... لم يَزِدْه شَرَفي إِلاّ احتكاما
فهو لا يسألني إِلا الرّضى ... ولغيري شَدّ ما أعطى زماما
فعملت قصيدة، أولها:
خطرتْ تحمل من سَلْمى سلاما ... فانثنى يشكر إِنعاما النُّعامى
مُغرمٌ هاجت جواه نَسْمةٌ ... يا لها من نسمةٍ هاجتْ غراما
نفحةٌ أذكَت بقلبي لَفْحةً ... كلمَّا هبّت له زادتْ ضِراما
عاتبت سلمى سُحَيْراً أم ترى ... غازلت بالرّوض أَنفاس الخُزامى
يا لأوطارِي فقد أنشرها ... نشرها من بعد ما كانت رِماما
ذكَرت ريحُ الصّبا رَوْح الصِّبا ... وزماناً كنتُ بل كانَ غلاما
ونَديماً ليَ لم أندَمْ به ... يا رعاه الله من بين النّدامى
ألْهمَ الدَّوْحَ التّثنِّي بثّه ... شَجْوَهُ بل علّم النَّوْحَ الحَماما
قال ما أطيبَ أَيّامَ الصِّبا ... قلت ما أَطيَبَهُ لو كان داما
كان وعداً بالأماني مُزْنَهُ ... كلَّما استسقيتُهُ عاد جَهاما
وهضيم الكَشْحِ في حبِّي له ... لم يَزدْني كاشحي إِلاّ اهتضاما
كَرُمَ العاشِقُ منه مثلَما ... لؤُمَ العاذِلُ فيه حين لاما
بقَوامٍ علّم الهزّ القنا ... ولِحاظٍ تُودِعُ السُّكرَ المُداما
أتراه إِذْ تثنَّى ورنا ... سمهريّاً هزّ أَمْ سَلّ حُساما
خدّه يجرحه لحظ الورى ... فلذا عارِضُهُ يَلْبَسُ لاما
ويريك الخطّ منه دائراً ... هالةَ البدر إذا حطَّ اللّثاما
وكثيب الرَّمل قد أخجله ... وقضيب البان رِدفاً وقَواما
أنا منه ومن العُذّال في ... نَصَبٍ أشكو مَلالا وملاما
لم تكن تلك وقد لاحَظْنَني ... لحظاتٍ إنّما كانت سهاما
تركت في غَمَراتِ مُهْجَتي ... غمرات ملكت منها الزِّماما
مهجة أَرخصَها سَوْمُ الهوى ... وتسامى عزّةً من أنْ تساما
ومقامي بعد توديعهِمُ ... بالحِمى ما خِلتُهُ إلا حِماما
عَدِمَ الإِصباح ليلي بعدَكُمْ ... أسفروا لي مرّةً تجلو الظّلاما
بِتّ عن طيفِكُمُ مُستخبِراً ... من غرامي بكُمُ من كان ناما
وغرامي رُمْتُ أن أكتمه ... فأبى الدّمعُ لأَسراري اكتتاما
ولماذا ظمِئتْ نحوَكُمُ ... مقلةٌ إنسانُها في الدّمع عاما
يا رفيقيَّ ارفقا بي فالهوى ... عُنْفُهُ يكفي المحِبَّ المُستهاما
أنْجِداني فبنجْدٍ أَرَبي ... حين غيري شام بالغَوْر الشَّآما
وانشُرا عنديّ أخبار الحِمى ... فبأَخبار الحِمى قلبيَ هاما
ناظري من دمعتي في شُغُلٍ ... فانظُرا عنّيَ هاتيك الخِياما
سار قلبي يوم ساروا وانْثَنَوْا ... نحوَ نجدٍ وأقاموا فأقاما
عَلِّلاني بأحاديثهِمُ ... فأحاديثهُمُ تَشفي الأُواما
هذهِ أَطلالُهُم تشكو الظَّما ... فدعا الأدمُعَ تنهلَ انسجاما
وقِفا نستَسقِ جَدْوَى ظَفَرٍ ... فهو من بَخَّلَ بالجود الغَماما
ومنها:
فهو الغيثُ إذا بَثَّ اللُّها ... وهو اللّيْث إذا فَلَّ اللُّهاما
لم يزِدْ أَعداءه يومَ الوَغى ... والقنا إِلا انحطاطاً وانحِطاما
إجتلَى من مَشرِق المجدِ السَّنا ... وامتطى من بازِل المُلْك السّناما
وأَضاءَتْ بِسَنا سُنّتِهِ ... ظُلَمُ الظّلم لأيّام الأيامى
أَوْلَدَتْ أنعُمُهُ عُقْمَ المُنى ... وشفى من يأسِنا الدّاءَ العُقاما

كرمٌ يُحيي وبأسٌ مهلِكٌ ... وهما ما صَحِبا إِلاّ هُماما
ومنها:
أنت عذْرُ الدَّهْر يا واحدَهُ ... ولقد أعظم لولاه اجتراما
ببنيه ملكاً أو سُوقةً ... ملأ الأرضَ طغاةً وطَغاما
ليس بِدْعاً سَقَمي من صِحَتي ... القنا حُطِّم من حيث استقاما
وإذا المرءُ تشكّى خطّةً ... كانت الصِحّة للنّفس سَقاما
ومنها:
صُغتها منظومةً في مدحِكُمْ ... فتَلاها الدُّرُّ فَذَّاً وتُؤاما
جمعت لفظاً ومعنىً شائقاً ... بَعُدا في الحُسن مرمىً ومراما
هِيَ راحٌ كيف حَلّتْ عَجَباً ... وهي سِحرٌ كيف ما كانت حراما
فاغتنمها إنّما أوفى الورى ... مَنْ يَرى من مِثْليَ الحمدَ اغتناما
ونظم ابن الخُراساني أيضاً على وزنها وجماعة من الشّعراء اقْتُرِح ذلك عليهم ولم يبلغ أحد منا شأو مهيار في بيتي قصيدته اللذين هما في رقة الصبا ورونق الصبا، وهما:
حَمِّلوا ريح الصبّا نَشْرَكُمُ ... قبلَ أنْ تحملَ شِيحاً وثُماما
وابعثوا أشباحكم لي في الكرى ... إن أذِنْتم لجُفُوني أن تناما
ولمهيار: أروض الوادي أم أبيض الغسق؟ ولشرف الدين بن الوزير ابن هبيرة على وزنها:
أَسلمني إلى الغَرام والأرَقْ ... طيفٌ متى شاء على النّأي طرقْ
يخبِطُ جَفْني بأباطيل المُنى ... ويَسْحَر العين ببشرٍ ومَلَقْ
ما وردتْ أحلامه من مُقلتي ... فصَدَرت إِلاّ برِيِّ وشَرَقْ
ولا انثنت عن كبِدي ركابُهُ ... بخبرٍ إلا الزّفير والقلق
ضمانة من حبّ ليلى عَلِقت ... بمهجة خاليةٍ من العَلَق
أحسبها ثاويةً قد تَخِذَت ... في كلّ شِعْبٍ من هوى النّفس نفقْ
إليك يا خِلْوَ الهوى عن عَذَلي ... ما وَجْدُ سالٍ عنْهُمُ كمن عشِق
دعانيَ الحبُّ فمِلْتُ معه ... وذو الغرام مصحب فمنطلق
يا راكب اللّيل على ناجِيةٍ ... قد خلطت وَخْدَ الذمِّيل بالعَنَق
يَؤُمّ نَجْداً والعَقيقُ همُّهُ ... مُسترشداً ينفض أخلاق الطرق
عرج على بانات سلع فبها ... ما شئت من مُصطَبحٍ ومُغْتبقْ
دارٌ لليلى روّضتْ بقربها ... تلك البِطاح واكتست ذاك العَبَقْ
فابلغ سلامي إن وجدتَ أذناً ... واعيةً أو عطفَةً ممّن أبق
آهٍ لسُقْمٍ كلِفَ الآسي به ... وولعٍ حَمّلني ما لم أطِقْ
وجسدٍ أنْحَلَه ذكرهُمُ ... ومضجع ينبو إذا النّجمُ خَفَق
يا جُلَساءَ الوَصْلِ هل دَوْحُ الحِمى ... كعهدنا ريّان مُخضرّ الورق
وهل مجاري ذلك الشِّعْب عَفَتْ ... آثارُها أم روّضت تلك الطّرق
وهل ظباؤكن في أرجائه ... تشب فيه مرحاً وتستبق
هَيْهات ما تسأل إِلاّ زفرةً ... جائلةً بين الضّلوع والحدق
سَقْياً للأيّامٍ أَطعْنَ أَمَلي ... حتّى علِقتُ من زماني بِسَبَق
وليلة ما فطّن الواشي بها ... شهدِتُ وصل صُبْحها قبل الشَّفق
وخَلَوات بين هاتيك الرُّبا ... وقُبلة أصبْتُها على فرق
تسألني لمياء ماذا غرست ... أَشواقُها في كبدي من الحُرق
أيُّ قلوبٍ لم تُقطّع أسفاً ... لبعدكم وأَي دمعٍ لم يُرَقْ
ما لي وللدّهر أَعنْ رَويّةٍ ... يجحدني فضْليَ أم ذاك خُلُقْ
يا للزّمان كيف ضاع نَقْدُه ... لأهله من جاهلٍ أو مُستَحق
وكيف أمستْ فُرُطات صَرْفِهِ ... إلى أولي الفضل دِراكاً تستبق

عارٌ عليك يا زمانُ ما أرى ... ذا العلم عارٍ والجهول مُنتَطِق
ما شرُفتْ نفس امرئٍ بأدبٍ ... إلا وعُدّ فيك من إحدى السُّوَق
ويحَ الرّجال رفِعت آدابهم ... فالفضل فرعٌ عندهم على الحمُق
واستحوذَ الجهلُ على قلوبهمْ ... حتّى لقد صار البغيض من نطَق
وعاد مَن كان يُعدّ عالماً ... يبيع في سوق الكساد ما نَفَق
صبراً على عتب اللّيالي إنّها ... ما أصْحبت مَجبولةٌ على الخرَق

الأكرم أبو العباس السديد بن عبد الواحد بن محمد
ابن هبيرة
حكي: أن شرف الدين أبا البدر ابن الوزير عون الدين نظر إلى القمر في بعض الليالي، وهو يدخل تحت السحاب تارة وينكشف أخرى، فقال للحاضرين: ليأخذ كل منكم في هذا المعنى شعراً.
فقال الأديب مفلح:
كأنْما البدر حين يبدو ... لنا ويستحجب السحابا
خريدةٌ من بني هلالٍ ... لاثَتْ على وجهها نِقابا
وقال شرف الدين:
إذا تطلّع بدرُ التّمِّ من فُرَجٍ ... بين السَّحاب وغارَتْ حولَهُ الشُّهُبُ
تخاله من رثيثٍ في مُلاءَته ... خرقاء تسفر أحياناً وتنتقب
وقال الأكرم:
فكأنّ هذا البدر حيث تُظلّه ... سحبٌ فيخفى تارةً ويؤوبُ
حسناءُ تبدو من خِلالِ سُجوفها ... طوراً فتنظر نحوها فتغيبُ
الأجل فخر الدين
أبو جعفر مكي بن محمد بن هبيرة أخو الوزير عون الدين توفي في زمان أخيه. أنشدت له قوله يرثي أخاه أبا الفرج:
أما عن سبيلٍ للمنيّةِ مَذْهَبُ ... ولا عن طِلاب الموت ويحكَ مَهْرَبُ
فكن مستعِدّاً للمَنُون فإِنّها ... إذا هجمت طاش الشُّجاع المُجَرِّبُ
تفكّرتُ في الدّنيا فلم أر لذّةً ... تدوم ولا مستحسَناً ليس يُسلبُ
ولا آملاً إِلاّ ويرجع خائباً ... ولا سالماً في النّاس إلاّ ويعْطَبُ
تُرى فجعت مثلي خليلاً وصاحباً ... وقرّة عينٍ كان يُرجى ويُرهب
ومنها:
أبا الفرج المسلوب من كلِّ ناظرٍ ... تعتِّبتَ عَن هَجْري وما كنتَ تعتِب
عجبتُ لمن خلّفت كيف قراره ... وإنَّ بقائي بعد موتك أعجب
فيا ابن الهُبَيْريّ الّذي ليس دونه ... أرى اليوم خّلاً في البَرِيَّة يصحَبُ
لئن غبت عن عينيَّ في التُّربِ قسوةً ... وكلُّ نفيس في التُّراب يغيِّبُ
فها كبِدي حرَّى تذوبُ ومهجتي ... تبيت على جمر الأَسى تنقلّبُ
فلا لذّ لي من بعد موتكَ مطْعَمٌ ... ولا طاب لي من بعد فقدك مَشْرَبُ
أمين الدولة
أبو سعد العلاء بن الحسن بن وهب بن الموصلايا
كاتب الإنشاء بدار الخلافة. كتب لثلاثة من الخلفاء: القائم والمقتدي، والمستظهر رضي الله عنهم خمساً وستين سنة. وكان ابتداء خدمته لدار الخلافة في أيام القائم سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئة، وتوفي ثاني عشر من جمادى الأولى سنة تسع وتسعين بعد أن أضر، وكان يملي على ابن أخته الأجل أبي نصر، ولم يبطل إلى أن مات. وكان نصرانياً فأسلم في أيام المقتدي على يده ووزارة أبي شجاع، ولم يزل موقراً موفور الخدمة، ينوب عن الوزارة المقتدية والمستظهرية، حتى قال عميد الدولة للمستظهر عنه وابن أخته: هما يمينا الدولة وأميناها. وكان لا يُبرم دونهما أمر. وكان كثير الصدقة والصلة، ذكر عنه أنه فرق في يوم من أيام الغلاء ثلاثين ألف رطل خبزاً.
كان بليغ الإنشاء سديد الآراء؛ رسائله تعبر عن غزارة فضله، ووفور علمه، وكان نثره أحسن من نظمه، لتمرنه عليه، وانقطاعه إليه. على أن له مقطعات مستعذبة أراها أحلى من الأرْي، وأزين من الحلي، وهي في أسلوب شعر الكتاب بعيدة من التكلف في الصنعة، أرق معنى من الدمعة، وأعذب لفظاً من كلمة كريم مستبشر الطلعة.
فمن تلك القطع الموشية، المؤنسة غير الوحشية قوله:
يا هِنْدُ رقّي لفتىً مُدنَفٍ ... يحسن فيه طَلَبُ الأَجرِ

يرعى نجوم اللّيل حتّى يرى ... حلّ عُراها بيدِ الفجرِ
ضاق نطاق الصّبر عن قلبه ... عند اتّساع الخَرق في الهَجْرِ
قد راقتني هذه الأبيات لرقّتها، وحلاوة الاستعارة في معناها مع دقتها، ولقد ساعده التوفيق، في هذا التطبيق، وما كل شاعر يخلص من هذا المضيق، هكذا شعر الكتاب يجمع إلى اللطافة طرافة، وإلى الحلاوة طلاوة.
وله أيضاً:
وكأسٍ كساها الحسن ثوبَ مَلاحةٍ ... فحازت ضِياءً مشرقاً يشبه الشمْسا
أضاءت على كفّ المُدير وما درى ... وقد دجت الظّلماءُ أصبح أَو أمسى
وله:
أقول للائمي في حُبِّ ليلى ... وقد ساوى نهارٌ منك ليلا
أَقِلَّ فما أقلّتْ قطُّ أرضٌ ... مُحبّاً جرّ في الهِجران ذَيْلا
ولو ممّن أحبُّ مَلأت عيناً ... لكنت إلى هواه أشدّ ميلا
وله في المستظهر بالله:
يا حبّذا ظبيٌ نشا ... يضمنه هذا الرَّشا
ظبيٌ شعاع نوره ... أَهدى إلى العين العَشا
تمايلتْ أعطافه ... من غير سكرٍ فانتشى
لمّا ارتوى من حسنه ... زاد القلوبَ عطشا
تمايلتْ أعطافه ... من غير سكرٍ فانتشى
لمّا ارتوى من حسنه ... زاد القلوبَ عطشا
فإِنْ لوى عنانه ... إلى النَّوَى وأَوَحشا
وشاء أنْ يغدر بي ... لقول نمّامٍ وشى
لُذْتُ بظلّ مالكٍ ... رُقى المّعالي مذ نّشا
مُستظْهِرٍ بالله دا ... مَ مُنعِماً ومُنعِشا
وعاش ما عاقب ضَؤْ ... ء الصُّبح ظلماء العِشا
يأخذ لي بالثّار من ... عُدْوانهِ كما يشا
وأنشدني الشيخ الإمام الأفضل عبد الرحيم بن الأخوة البغدادي الشيباني بأصفهان، قال: أنشدني ابن المُوصَلايا لنفسه:
يا خليليّ خلّياني ووجدي ... فملام العَذول ما ليس يُجْدي
ودعاني فقد دعاني إلى الحك ... م غَريم الغَرام للدّين عندي
فعساه يرِقُّ إذ ملك الرقّ ... بنقدٍ من وصَلْه أَو بوعد
ثمّ من ذا يُجيرُ منه إذا جا ... رَ ومن ذا على تَعدّيه يعدي
أنا أستحلي هذا النوع من التجنيس وأستعذبه، ويحسبه زلال الماء قلبي في الرقة والصفاء فيشربه ويتشربه.
وأنشدني الشيخ أبو منصور بن أحمد الجواليقي، ولي منه إجازة، قال: أنشدنا العلاء بن الحسن بن وهب الكاتب لنفسه:
أحنّ إلى روض التصابي وأرتاحُ ... وأمْتَحُ من حَوْض التّصافي وأمتاحُ
وأشتاق رِيماً كلّما رُمْتُ صَيده ... تَصُدُّ يدي عنه سيوفٌ وأرماح
غزالٌ إذا ما لاح أو فاح نَشْرُه ... تعذَّبُ أرواحٌ وتعذُبُ أرواح
بنفسي وإن عَزّتْ وأهلي أهلّة ... لها غُرَرٌ في الحسن تبدو وأَوضاح
فتتّضحُ الأعذار فيهم إذا بَدوا ... وتفتضِح اللاحون فيهم إذا لاحوا
وكرخيَّةِ عَذْراء يُعْذِر حبُّها ... ومن زندِها في الدّهر تقدح أقداح
إذا جُليت في الكأس والليلُ ما انجلى ... تقابل إصباح لديك ومِصباح
يطوف بها ساقٍ لسُوق جمالهِ ... نَفاق لإِفساد الهوى فيه إصلاح
به عُجْمَةٌ في اللفظ تُغري بوصله ... وإن كان منه بالقطيعة إفصاح
وغُرَّتُهُ صبحٌ وطُرَّته دُجىً ... ومبسِمُه دُرٌّ وريقته راح
أباح دمي مذ بُحْتُ في الحبّ باسمه ... وبالشّجْو من قبلي المحبّون قد باحوا
وأوعدني بالسُّوء ظُلماً ولم يكن ... لإِشكال ما يفضي إلى الضّيم إيضاح
وكيف أخاف الضّيمَ أو احذر الرّدى ... وعوني على الأيّام أَبْلَجُ وضّاح
وظلّ نظام الملك للكَسر جابرٌ ... وللضُّرّ منّاعٌ وللنّفع مَنّاح
وله، نقلته من مجموع:

وإنّي لصَبٌّ بالصِّبا مُذْ غدا لها ... هبوبٌ بهاتيك الخِيام تَجول
ومن عجبٍ أنْ أَبتغي من نسيمها ... شِفاء عليلٍ والنّسيم عليلُ
وقرأت في كتاب الذيل لابن الهمذاني المؤرخ، أنه عمل قصيدة في نظام الملك، وأنفذها على يد الشيخ الإمام فخر العلماء أبي بكر بن فورك الشافعي رضي الله عنه إلى المعسكر بتبريز، فمثل بين يدي نظام الملك، وقال: إن كاتب الإمام قد أصحبني عروساً آثر أن تُجلى بهذا المجلس السامي، فأنشدها منشد هناك بمحضر من الأئمة والزُّهاد والأدباء والكتاب، فما فيهم إلا من طرب، وكتب بعضهم إليه متمثلاً بهذا البيت:
وتقسم النّاسُ المسرَةَ بينهم ... قسماً فكان أجلّهم حظّاً أنا
والقصيدة هي هذه:
أثِرْها في أزمّتها تَهادى ... وغادِ بها الثنايا والوهادا
وأنْجدها إذا ضَعُفَتْ بعزم ... يُذِلُّ لها التهائِمَ والنّجادا
عساها أن تبلّغ بي محلاّ ... عهدتُ به مع المحلِ العهادا
وَتُنزلني على نصبي بربع ... يوّطئ لي النّدى فيه المهادا
وتعلقني من الأنجاد إِمّا ... حللتُ بهم جميعاً أو فرادى
بأثقلهم إذا وزنوا حصاةً ... وأثقبهم إذا قدحوا زنادا
وأسرعهم إلى العليا جواباً ... وأَسبقهم إلى النُّعمى جوادا
وأصنعهم لمتبع مُراداً ... وأمرعهم لمنتجع مَرادا
وأخشنهم على الأعداء مسّاً ... وألينهم لذي طلب قِيادا
وأضفاهم على اللهوفِ ظِلاً ... وأَوفاهم من المعروف زادا
هنالك لن ترى المقصود إلا ... غياث الدولة الملكَ الجوادا
أغرُّ إذا اجتبي لبناء مجد ... على فلك العلى أَرسى وشادا
وإنْ أمَّ العُفاة ذَراهُ لَبَّى ... نَداهُ نِداهمُ عفواً وجادا
ومدَّ إلى مطالب سائليه ... يداً ألِفت إلى الكرم امتدادا
وردَّ مقاصدَ الآمالِ بيضَا ... وقد لبست على الجود الحدادا
تخيَّر ذِروة العليا محلاّ ... وطيبَ الذكر في الدُّنيا عَتادا
وصيَّر ما حوتْ كفاه نهباً ... لوفد الحمد قصداً واعتمادا
ولم تترُك مكارمه عليه ... طريفاً في يديه ولا تِلادا
ولما أن تفرَّد بالمعالي ... وأدرك من مداها من أَرادا
وأمطى كاهل الباغي نَداه ... من الإِحسان ما أَعيا وَآدا
أفادَ معالِمَ الحمد انتظاماً ... وزادَ غنائمَ المجد انتضادا
وحرّم أن ترى الأيام فيها ... لغير نظام علياه اطّرادا
وقاوَمَ صولة العدوان عَدلٌ ... أقامَ به من الحقِّ العمادا
وخصَّ مواقف التقوى بفعل ... أمات الغيّ واستحيا الرشادا
نَحا فيه صلاحاً لم تُخالط ... مشارِبهُ قذى ومحا فسادا
أيا من لم يَفدْ أحد عليه ... بحسن رجائه إلا أفادا
ويا من كلما ازدحمت عليه ... مطايا الخائفين حمى وذادا
ويا من كلما شكت الليالي ... إليه الجدبَ والسنةَ الجمادا
أمال إلى بني الآمال عِطفاً ... إذا أبدا لمكرمة أعادا
وخلّى الجودَ يخلو بالأماني ... يحكِّمها ويعطيها المرادا
أجِلْ طرفَ انقيادك في محبّ ... إذا كدر الهوى أصفى الودادا
رأى طيّ الضلوع على ولاء ... لمجدك لم يجد فيه ازديادا
وغالى فيه إذ أرخصت فيه ... نوالاً منك راوَحَه وغادى
ووافى نشرَ أنعمكم لديه ... وَوالى في محبتكم وَعادى
وآلى لا انثنى يهدي إليكم ... ثناء ما ارتوى فلم مِدادا
وأصدق في الوفا قولاً وفعلا ... وأَوثق فيه عقداً واعتقادا
ومنها:
ولو لم أبدِ ما أشكو إليه ... لفاتحني بأنعمه وبادا

فعش ما غردت في الأيك ورق ... وماء ما جرى في العود عادا
فِدى لك من ببذل العِرض منه ... عن المال المصون لديه فادى
وكلُّ يدٍ لواهي العقد ضمّت ... على بخل أنامله الجِعادا
فما يُثنى عليه إذنْ بخير ... ولا يَثني لمكرمة وسادا
ولم يَرِ زنده في الرشد يوماً ... ولم يَرَ في مقاصده سدادا
ولا عدِمت أوامرُكم نَفاذاً ... ولا عرفت عوارفكم نفادا

تاج الرؤساء
أبو نصر ابن أخت ابن الموصلايا
وهو هبة الله ابن صاحب الخبر، الحسن بن علي. رباه خاله، وكتب بين يديه في ديوان الإنشاء في الأيام القائمية والمقتدية والمستظهرية. أسلم مع خاله على يد الإمام المقتدي. وكان لما أضرّ خاله، يكتب عنه ما جرت به العادة من الإنهاءات، فلما توفي خاله، رد ديوان الإنشاء إليه في الأيام المتسظهرية. وخرج في الرسالة إلى السلاطين مراراً وعاد من الرسالة إلى بركيارق - بعد موته - إلى بغداد. وتوفي حادي عشر جمادى الأولى، سنة ثمان وتسعين وأربع مئة، وله سبعون سنة. وبين موته وموت خاله سنة إلا عشرة أيام.
وكان لا يقاربه أحد في الإنشاء والعبارة. ولم يكتب كتاباً قطّ فرجع فيه إلى مبيضة.
وجدت من شعره في الألغاز مقطعات مستحسنة، فمنها قوله:
ومنكوح إذا ملَكته كفّ ... وليس يكون في هذا مراء
له عين تجللها ضياء ... فإِن كحلت فبالميل العماءُ
يظلُّ طليقه للوصل هَوْناً ... وللحاشي بزورته احتماء
وقد أوضحتُهُ وأبنتُ عنه ... ففسّرهُ فقد بَرح الخفاء
هذا اللغز في الخاتم. وقوله:
ومَيتة فيها حَراك إذا ... قامت على منبرها خاطبهْ
ساعية في غير منفوعِها ... فهي إذن عاملة ناصبهْ
إن وُطئت تحملُ من وَقتها ... حتى ترى مجذوبة جاذبهْ
تَعرى من اللبس وفي جيدها ... قلائد تُلفى بها كاسبهْ
تمدُّ غرثاها بريّ إذا ... أَضحت بروق للحيا كاذبةْ
هذه دالية الماء، وما دامت ملقاة فهي كالميتة. فإذا قامت على حائطها الذي شبهه بالمنبر، صارت ذات حركة، وهي ساعية في نفع غيرها. وإذا وطئت بالأرجل، تحمل من وقتها، أو تحمل من يطؤها. وقلائدها الحبال التي كفّتها بها معلقة. وغرثاها: جياعها، أي النّبات. ولو تهيأ له أن يقول عطاشها لكان أحسن. على أنّ الشعر جيد السبك، حسن الاستعارة، مليح العبارة، صائب المعنى.
الأجل أبو الحسن ابن رضوان
كان يلقب بنظام الدورة. كان كاتباً في ديوان الإنشاء في الدولة المستظهرية بعد نسيب ابن الموصلايا، وعاش إلى قريب من آخر أيامها.
قرأت له في الكتاب الذي ألفه الشيخ أبو المعالي الكتبي في الألغاز هذه الأبيات في اللغز:
وقائلةٍ هلمَّ بغير لفظ ... ولا لغة تبين من اللغات
ترى عذباتها يَخفقنَ حيناً ... كما خفق اللواء على القناة
محلّتها سواد القلب ترعى ... جناباً منه ليس بذي نبات
هي النار، ومن عادة العرب أن توقدها ليلاً للضيف والضال، فكأنها تقول: هلم بلسان الحال. وخفق عذباتها: لهبها. وقوله: محلتها سواد القلب؛ لأن القلب معدن نار الهوى، ومنبع الحرارة من البدن أيضاً. وليس بين صفات هذا اللغز تناسب، لأن بين نار القِرى ونار القلب بوناً بعيداً، فقد أخطأ فيه. ويجوز أن يكون قد ألغز كل واحدة من النارين، فإنه كما تدعو نار القرى الضيف تدعو نار الهوى النفس، لكن بالبيت الثاني أبعد، فليس لنار الهوى لهب تشبه عذباتها بخوافق الألوية.
تاج الرؤساء ابن الأَصباغي الكاتب
كتب بديوان الزمام في بعض الأيام المستظهرية، وناب عن ديوان الزمام في أيام المقتدي. وله تصنيف في علم الكتابة. وجماعة الحساب وكتاب العراق يكتبون الحساب على طريقته. وأسلم في صفر سنة أربع وثمانين وأربع مئة قبل إسلام ابني الموصلايا بيوم حيث خرج التوقيع الشريف بإلزام أهل الذمة الغيار، وكان من بركات ذلك إسلامهم.
أنشدني الشيخ الإمام عبد الرحيم بن الأخوة الشيباني بأصفهان، قال: أنشدني ابن الأصباغي الكاتب لنفسه:

عقرتهم معقورَةٌ لو سالمتْ ... شرّابها ما سُميتْ بعُقار
ذكرت طوائلها القديمة إذ غدت ... صرعى تداس بأرجل العصّار
لانت لهم حتى انتشوا وتمكنتْ ... منهم فصاحت فيهمُ بالثار
وله في اللغز:
مقامر مذ كان لم يُقمَر ... كأنما يعلب بالسُدّر
يعشَقُه الناس على جورِه ... والجور ممقوت على الأكثر
شبابه المرموق في شيبه ... وشيبه مذ كان لم يخطر
يدلُّ في البيع ولكنّه ... يميل أحياناً مع المشتري
حديثُه مع أنه صامت ... يَهيج مِن شِقشِقة السمَّر
هو القمر، وإنما قال مقامر لأنه رأى اسمه فعلاً، وهو قمر دائماً ولا يكون مقموراً. ولعب السدر معروف عند المقامرين، وهو معشوق الناس. وجوره: علوه عن منالهم. وشبابه: إبداره. وشيبه: نقصانه. والمنجّمون يذكرون أنّ له ميلاً مع المشتري. وحديثه: طلوعه ودوام ضوئه. والسمر: جمع سامر.
وله في اللغز أيضاً:
ما حائم في كلام العُجم والعَربِ ... وما له في ورُودِ الماء من أَرَب
مَجْدولُ طيّ الحشا يهتزُّ من هَيَفٍ ... ومن نُحولٍ ومن شُربٍ ومن طرب
يبكي فيذري دموعاً ماؤها سَرِبٌ ... في السُّكْر لا من جوى بادٍ ولا حَرَب
إذا انتدى وابتدا بالشُّرب بادَرَه ... في آخر الدْور ذَرْعُ القيء والذَّرَب
تسري به اللّيلَ والإِصباحَ يعملةٌ ... ذَفُوفَة السّير في نقلٍ وفي خبب
تجري مع الرّيح لا تشكو الكَلالَ ولا ... تحيص عن صوبها حَيْصَ الوجِي اللغِب
هذا وراكبُها يعتاقُ نهضته ... تقاعس بني عَقد الرّأس والذَّنَب
فما يجوز بسمعي قدُّ قامته ... طولاً ولا عُرُضاً في الميل والنكب
إذا امتطى عَنْسه جدَّ النّشاط به ... وإن تَرجَّل عنها باءَ بالعَطب
ينقضُّ عنه إذا ما انقضّ منصلتاً ... في السّير مثل رجوم الجِنّ بالشُّهُب
يناضل الغيث من جودٍ ومن كرمٍ ... حتّى يكادَ يرُدُّ الماء في السُّحُب
وقد تركت له وصفاً تجيبَ به ... والخِلّ يغني أخاه النَّدْب عن تعب
هذا اللُّغز في دولاب الماء. والحائم: العطشان يطلب الماء وقوله: انتدى وابتدا من التجنيس المصحف. وقوله: بادره في آخر الدّورِ ذَرْع القيْ. في نهاية حُسن الاستعارة، والعبارة كناية عن صّب الماء الذي ملأ كوزَه منه. واليعملة: هي الماء الّذي تدريه. والذفوفة: السريعة. والخبب: ضرب من السّير. والحَيص: الميل وطلب الهرب. وقوله: راكبها، الهاء راجعة إلى اليعملة. والراكب: الدولاب. والعنس: الناقة، وهي هاهنا الماء. وإذا امتطاه جد به نشاط الحركة؛ وإن نزل عنه الماء عطب. والمنصلت: العاري. وقوله: يناضل الغيث، أي يراميه ونضاله: صب الماء.
فأجاب بعض أصدقائه:
جاءت صفاتُك تَبغي كشف مُضمرها ... يا واحدَ الدّهر فَرْدَ العلم والأَدبِ
حلّيتَه أدهماً لِلّيل صبغته ... أَقبَّ نَهْداً عجيب النقل والخَبب
كأنّه إذ جرى في شَوطه عَنَقاً ... إيّاه والفَلك الدّوار في قُطب
تراه يهوي إذا جَدّ المسير به ... يظَلُّ في صَعَدٍ طَوْراً وفي صَبَب
يقول طارَ ولا غَرْوٌ وجُملته ... ترى جناحاً بلا ريشٍ ولا زغَبِ
مُسخرَّاً في طريقٍ لا انقضاءَ له ... لا يشتكي من وجَىً فيه ولا تعَبِ
يسقي وللغير جَدْواه ومسكبُه ... فيا له أبداً من عاملٍ نصِب
إن أَنْ أبدى سُروراً قلبُ صاحبه ... وإن بكى قرّت العينان من طرب
قال صديقنا أبو المعالي الكتبيّ في كتاب الألغاز: هذه الأبيات أجود سبكاً، وأسلس حوكاً.
وقوله: مسخراً في طريق لا انقضاء له، مأخوذ من قولهم: سير السواني لا ينقطع. والسواني: هي الدالية. وفي دعاء بعض الحكماء: اللهم! ارفعني إليك بخط مستقيم؛ فإن المستديرَ لا طرفَ له.

أبو طاهر ابن الأصباغي
أخو تاج الرؤساء أبي غالب
كان يخدم عفيفَا القائمي، وانصرف عن خدمته، فبلغه أنه تهدده، وكان عفيف قد بنى داراً وأنفق على سقفها في التذهيب أكثر من خمسة آلاف دينار، فعمل هذه الأبيات. وذكر ابن الهمذاني في تأريخه أنه عملها تاج الرؤساء أبو غالب فيه:
تنوّق وزوّق واذهب السّقف والعُمرا ... فإِن تمّ فاكتب تحت زُنَّاره سطرا
علوٌّ وإقبال ومجد مؤثَّلٌ ... لصاحبه حقُاً ومالكهِ الدَّهْرا
لمن عنده في الدّار وجه مقدَر ... على مثل هذا الوجه والأوجه الأخرى
وهذا دعاء أنت منه مُبرّأ ... وكان أمير المؤمنين به أحرى
فتطير منها عفيف، ومات بعد شهر، وأخذ المقتدي السقف، فكأن الله أنطق ما في الغيب على لسانه.
الأجل سديد الدولة
أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الأنباري، منشئ ديوان الخلافة، من بيت السؤدد والكرم والفضل، وهو شيخ الدولة، كتب لخمسة من الخلفاء، وتوفي في الأيام الزاهرة المستنجدية سنة ثمان وخمسين وخمس مئة، وولي ولده مكانه.
وكان رحمه الله غزير الفضل، رائق الخط واللفظ، ولمكان فضله لم يخل ديوان من شعر أهل العصر من مدحه، لا سيما الغزي، والأرجاني. ولو جمع ما فيه من شعر الأرجاني، لكان ديواناً بنفسه. فاضل مفضال، ومنشئ منشئ بالحقيقة لأبكار الأفكار، عارف بنقد الشعر وجهابذته، فكل ما زيف على محك انتقاده، أذن الدهر بكساده. وكل إبريز خلص على سبكه، ولم يبهرج على محكه، وأجازه صيرفي نقده، ولم يصمه برده، نفق وراج، وصار درة على كل تاج.
وترددت إليه ببغداد، وما كان يتعاطى الشعر تغنياً عنه، وكنت أهابه وأكبره من أن أستنشده، لكنني أثبت من شعره البيتين والثلاثة على حسب ما أنشدتها. فمن ذلك رباعياته الخالبة للِخلب، السالبة للب، فمنهما:
يا قلب إلاَم لا يُفيدُ النّصح ... دَعْ مزحْك كم هوىً جناه المزح
ما جارحة منك خلاها جرح ... ما تشعر بالخُمار حتىّ تصحو
ومنها:
الدَّهر يعوقني عن الإِلمام ... مَعَ ما أنّي إلى التَّصابي ظام
لا تأخذني بما جنت أيّامي ... ما ذنب السَّهم حين يخطي الرّامي
ومنها:
يا ريح تحملي من المهجور ... شكواه إلى المُعَسكر المنصور
قولي لمعذّبي شَبيه الحور ... ما أنت عن الجواب بالمعذور
وأنشدني مجد العرب العامري الشاعر بأصفهان، لسديد الدولة في ابن أفلح الشاعر:
يا فتى أفلح وإنْ ... لم يكنْ قطُّ أفلحا
لك وجهٌ مشوهٌ ... أسود قدّ من رحى
وكان وجهه منكراً. وأنشدني أبو المفاخر محمد بن أبي الشرف محفوط بن العلاء بن أسعد بن إسرائيل الجرباذقاني قال: أنشدني سديد الدولة لنفسه:
إن قدَّم الصاحب ذا ثروةٍ ... وعاف ذا فقرٍ وإفلاس
فالله لم يدعُ إلى بيته ... غير المياسير من النّاس
قال: فلما رجعت إلى أصفهان أنشدتهما لوالدي، فقال: لما قال: إن قدم الصاحب، كان الأحسن أن يقول: وأخر، أو يغير لفظه قدم، والأولى أن يقول:
إن آثر الصاحب ذا ثروة ... وعافَ ذا فقر وإِفلاس
فيكون قد جمع بين صناعتين: التطبيق، لأن آثر: اختار، وعاف: كره. والتجنيس بين آثر وثروة. وقوله: فالله لم يدع إلى بيته قاصر عن جواب الشرط، فالفاء وحده لا يصلح جواباً، فالأولى والأحسن أن يقول:
إن آثر الصّاحب ذا ثروةٍ ... وعاف ذا فقرٍ وإفلاس
لا غَزوَ فالربُّ إلى بيته ... دعا المياسيرَ من النّاس
وله في بعض الوزراء:
إنَّ زماناً قد صرتَ فيه ... مرشّحاً للوزارتين
قد أسخنَ الله كلَّ عين ... فيه ولكنْ لا مِثل عيني
وله:
الآن وما روضه العمر ندي ... لا تخل من الكؤوس والرّاح يدي
في باقي العمر فز بعيش رغدٍ ... عن الدّنيا إذا مضَتْ لم تَعُدِ
ثقة الدولة ابن الدُّرَيني

المعروف بابن الإبري، أبو الحسن علي بن محمد من بغداد. كان من أركان دولة المقتفي رضي الله عنه. مجموع الكرم والفضل والورع والدين، لم يزل متعصباً لأصحاب الشافعي رضي الله عنه.
وبنى ببغداد مدرسة لهم وسلمها إلى شيخنا شرف الدين يوسف الدمشقي وأقمت بها ثلاث سنين للتفقه، وهي المدرسة المعروفة بالثقتية على الشط تحت دار الخلافة. وكان جاهه على نفع ذوي الحاجات موقوفاً، وما له في وجوه البر والخيرات مصروفاً.
توفي في شهور سنة تسع وأربعين وخمس مئة.
له اليد الطولى في العربية، والنظم، والترسل. أنشدني له بعض الأفاضل ببغداد أبياتاً قد صدر بها كتاباً:
وإِنّي إِذا الظّلامُ رواقَهُ ... وساوَرَ طرْفي فيه هَمٌّ مؤرِّقُ
أُجاذِب أَطراف الحنين نُوَيْقةً ... تَحِنُّ إلى رملِ الحِمى وتُحَمْلِقُ
وتشتاق سَعْدانَ الحِمى ومناخها ... ولكنّني منها إلى الرَّملِ أشوقُ
وله:
قالوا أبيّاتك ماذا بها ... أَعْطَى كأنّ الشِّعر لم يُرضِهِ
فقلت: أعطاني بها حُلَّةً ... أخلق من شِعْري ومن عِرضهِ
وكلُّ مدحٍ هكذا أجْرُهُ ... يَقْدِر بانيه على نَقْضِهِ
وله من الخمريّات:
إذا ما حساها في الدُّجُنّة شاربٌ ... ظننّاه بالبدر المُنيرِ تَلَثَّما
وكم ليلةٍ لم يَبْدُ منهنَّ كوكبٌ ... أقمنا حَبابَ الكأس فيهنَّ أنجُما

جماعة أفاضل أماثل من بيت رئيس الرؤساء
آل الرفيل بني المظفر
كان جدهم وزير القائم بأمر الله، وقصته في نصر الدولة مع البساسيري مشهورة، وله مآثر في ذلك مأثورة.
الأجلّ أبو محمد الحسن
ابن الأجل أبي نصر محمد ابن الوزير رئيس الرؤساء أبي القاسم علي بن الحسن ابن المسلمة. وجدت له في مجموع من مدائح عميد الدولة ابن جهير:
تذكَر والذِّكرى تهيجُ البلابِلا ... بوادي الغضا من آل نُعْمٍ منازِلا
عفتها الرّياح الجاريات جنائباً ... تهُبُّ بها طوراً وطوراَ شمائلا
ومنها:
أصاحِ تبصّرْ هل ترى لمح بارقٍ ... يُضيء قُصوراً باللِّوى ومعاقلا
إذا ما استطار في الغمام ظننته ... أكفّ كُماةٍ ينتضون مناصلا
يناسبه قلبي خفوقاً ولوعتي ... ضِراماً غداةَ الحَيُّ غَلّسَ راحلا
ومنها في التخلص:
سقى الله دهراً ضَمَّ شملي وشملكم ... جميعاً وأيّاماً مضيْنَ قلائلا
حويت بها جُلّ الأَماني كما حوى ... نَصِيرُ أميرِ المؤمنين الفضائلا
وله في وصف البخيل المستبشر، والكريم العابس:
لا تَمْدَحن طَلقَ المُحَيّا باسِماً ... لا خيرَ يُرْجَى عنده لمؤّمل
إِنَّ السماء إذا اكفهرَّ سحابُها ... كان البشير بصوبٍ غَيْثٍ مُسبِلِ
وله:
لنا برمٌ ذكيّ النشّر يغني ... عن الكافور أو عَرْف الكِباءِ
إذا ما السّلك أبرزه نَظيماً ... حكى للحُسن أزرار الفِراء
وله في اللّيمو:
يا رُبَّ ليموَةٍ حيّا بها قمرٌ ... حُلْوُ المقبَّل أَلمى بارد الشَّنَبِ
كأنّها كُرَةٌ من فضّة خُرِطَتْ ... واستودعوها غلافاً صيغ من ذهب
وله في النّارنج:
أنظر إلى النّارنج يَجْ ... لُوه من الصُّبح وَضَحْ
من حمرةٍ في خضرةٍ ... كأنَّها قوس قُزَحْ
وله في الباقلاء الأخضر:
وخضرآءَ مُحقوقِفٌ ظَهْرُها ... تضمُّ لآلئ لم تثقبِ
وتحمل في رأسها شوكة ... أشبّهها إبرة العقرب
وله:
لم يبق شيءٌ في الأنام يسرّني ... إلاّ صروف الدّهر بالبُخَلاء
أحياؤهم موتى وأموات النَّدى ال ... أجواد بالمعروف كالأَحياء
وله:
أما رأيتَ الأفْقَ لمّا غَدا ... هِلاله مُلتقِمَ الزُّهْرَهْ
كعاشِقِ قَبّلَ معشوقهُ ... فاستقبلَتْ من فمه دُرّهْ
أثير الدين

أبو جعفر عبد الله بن عميد الدين أبي شجاع المظفر بن هبة الله بن المظفر ابن رئيس الرؤساء، ابن عم الوزير عضد الدين.
ذو المكان المكين، والفضل المبين، والحلم الرصين، والعلم المتين، المستكمل أدوات الكتابة: من حسن الخط والعبارة، والتصرف في اليراعة والبراعة.
هو ابن العميد الثاني نسباً وأدباً، واحد العصر فضلاً وحسباً، ابتلي بالاعتقال في الدولة المستنجدية، واستضاءت أمانيه بالأيّام المستضية. وما أجمعه لشتات المعالي، وأبدعه لأبيات المعاني، وأسلكه لجدد السلامة، وأمكنه لقيادة الجودة والنفاسة! اعتناؤه بالنثر أكثر، واشتغاله بالترسل أشهر، فهو الأثير الأثير فلكه في مطالع النجوم، الكبير دركه لمجامع العلوم، المأثور أثره في المنثور والمنظوم، فرند خاطره العضب الغرار ذو أثر، ومدعو صناعاته في زمانه غير كثر.
اتفق اجتماعي معه في التوكيل بالديوان العزيز. ومما أنشدنيه لنفسه في عشرة محرم سنة إحدى وستين وخمس مئة في القمري:
وورقاء تندب فوق الغصون ... على نفسها خوفَ قنّاصها
وأشجى بكاها على نخلة ... تذكّرها كرب أقفاصها
وأنشدني لنفسه في المسك:
ما أنسَ لا أنسَ مسكاً كان يمسك لي ... بطيبه رمقاً في الحبس كان بقي
يهدي نسيمَ جنان الخلْد لي وأنا ... في النّار أشكو إليه شدّة الحرق
فلو قدرت أجازيه وهبت له ... سواد عيني وفضلَ الطِّيب من خلقي
وأنشدني لنفسه في الفرس:
وأدهم كالليل لما بدا ... مسيرَهُ والصبح قد أقبلا
ودَعه الصبح بتقبيلةٍ ... ما بين عينيه وقد طوّلا
والبرق إذْ خَجَّله عَدْوه ... حَجَّلَ منه كل ما أَقبلا
وأنشدني لنفسه في السوط:
أنا سوط كالرعد لكن بلا صو ... تٍ أسوق السحاب من حيث تجري
قبضتني يد كبحرٍ فمن أب ... صر قبلي بحراً يسيرُ ببرّ
فقلت له: ألمعت في هذا ببيتي الشهاب بن الصيفي، اللذين أنشدنيهما لنفسه:
لِمْ لا أَتيه على الرماح إذا ... فخرت وتحسدني الظُّبى البُتْر
واليّ سوق الريح حالمةً ... طوداً أشمّ وقابضي بحر
فإنه وصف الفرس، والراكب وكفه، والمقرعة في هذا البيت، ولا يلحق شأوه أحد في معناه.
فقال: الذي قلت، غير هذا المعنى.
وأنشدني أثير الدين ابن رئيس الرؤساء لنفسه في السكين:
وذات حدّ يكلُّ السيف وهي إذا ... دانت على قِمم الأقلام لم تحم
تخافها الأسْدُ في الآجام ضاريةً ... فكيف تقوى بها الأقلام في الأُجُم
لكنّها إنْ برت روس اليراع مشت ... فوق الطّروس بلا ساق ولا قدم
وكلّمتك على القرطاس كاتبةً ... لا من كلام لِسانٍ ناطق وفم
وهذه آية الأقلام أظهرها ... موسى حديد كموسى جاء في الأمم
وأنشدني في التفاح لنفسه:
وتفّاحٍ أتى من خ ... دَ قاتلتي وقد جَنَت
فقلت لها لقد أهدي ... تِ ما قد جلّ عن صفتي
بعثت به شهود دمي ... وحمرته ببينتي
وأنشدني لنفسه في الأترج:
أمسيت أرحم أترّجاً وأحسبه ... لصفرة فيه من بعض المساكين
عجبت منه فما أدري أصفرته ... من فرقة الغصن أو خوف السكاكين
فقلت له: قد التفتّ في هذا البيت إلى بيت الغزي:
كالشمع يبكي ولا يدري أعَبرته ... من صحبة النار أو من فرقة العسل
ثم قلت: ولكن، لي بيتان في الأترج، وهما:
وأترّجة صفراء لم أدر لونها ... أمن فَرْق السكين أم من فرق السكن
بحقِّ علتها صفرة بعد خضرة ... فمن شجر بانت وصارت إلى شجنْ
فعجب من ذلك، وقال: متى نظمها فلم تخطئ المعنى؟ وأنشدني أيضاً لنفسه في الشمعة:
وشمعة في الظلام تؤنسني ... والنار فيها وفيّ تأتلق
تشبهني في الدجى وأفضُلُها ... إنّيَ طولَ النهار أحترق
وأنشدني لنفسه في الديوان، عند حضوري معه في الاعتقال، في تاسع عشر رجب سنة ستين وخمس ومئة:

إنّي لأعشق من تملا محاسنه ... أذني ولم تَر عيني وجهه الحسنا
والعشق بالقلب إمّا العين تصدقه ... وصف الحبيب وإما تصدق الأذنا
وأنشدني لنفسه ما يكتب على مروحة:
أحسن ما روّح بي شادن ... يداه تحكي اللؤلؤ الرطْبا
يروّح الجسم بترويحه ... وحسنه قد روّح القلبا
وأنشدني لنفسه في الدفتر:
خير ما جالس اللبيب كتابٌ ... لا قرين فيه ريا ونفاق
وهو مثل الرّياض حقاً كما أَو ... راقه بينه لها أوراق
وأنشدني لنفسه:
قلت شعراً قالوا بغير عروض ... ناقص والعروض بالميزان
قلت إنّي لصّ القوافي وديوا ... نيَ من شعر كلّ ذي ديوان
أَسرق الشعر لا بوزنٍ وما يس ... رق إلاّ حرف بلا ميزان
وأنشدني لنفسه:
وصَيْت بي من كان أخ ... ذ عطاي مُنْية قلبِه
والذَّنب للأيّام في ... عكس الرّجاء وقلبه
كالمرء يأكل رزقه ... في الصّيد من يد كلبه
وهو مأخوذ من قول أبي نواس:
أنعت كلباً أهله من كدّه ... وكُلّ صيدٍ عندهم من عنده
وله في مرثية ابن التلميذ الطبيب، وكانت وفاته سنة ستين:
أودى أبو الحسن الطبيب، فمن ترى ... يبقى ليوم فضيلة مشهود
قد قلت لما أن نعوه وأَمطروا ... حمر الدُّموع على الثّياب السُّودِ
فُقِد الطَبيب فليس توجد صحة ال ... موجود منّا بعد ذا المفقودِ
مرض الصحيح أسىً عليه وبعده ... هلك المريض بطبّ كلّ بليدِ
فكأَنّما الأرواح من أنفاسه ... كانت تدبُّ بأعظم وجلودِ
قد كان يصطاد القلوب ببشره ... وبلطفه ويلين كلّ شديد
وإذا انتحت ألفاظه لبلاغة ... ركب القريب فنال كلّ بعيد
فالنّاس مأتمهم عليه واحد ... من شامتٍ ومؤالف وحسودِ
وأنشدني لنفسه في كتاب صنّفه الوزير في شرح الصحاح، وهو:
كسرتَ الصحاح بتفسيرها ... وأصبحت تضربها في الكسور
أكنت دليلا عليها لنا ... وهل كان أعمى دليل البصير
وما كنت تقصد تهذيبها ... ولكن لتهذي بها في الصدور
وأنشدني له:
يا علّة الفالج لا تتركي ... مَنْ صحَّة العالم في سقمه
وأنشدني له في الحبس:
أفادني السجن منه عقلاً ... لعقله سُمتي اعتقالا
لكنَّه شفَّني بغم ... غادرني بالضنى خيالا
يضيء للعقل كلّ شيء ... إذ صرتُ من دقتي هلالا
وله فيه:
إن حاول الدهر إخفائي فإنَّ له ... في حبسيَ الآن سراً سوف يبديه
أعدَّني للعُلى ذخراً ومن ذَخرتْ ... يداه في الدهر شيئاً فهو يخفيه
وله في استهداء تقويم:
تفاءلت بالتَّقويم حين طلبته ... لعلَّ به تقويم ما اختلَّ من حالي
وللفأل في بعض الأمور إصابة ... وقد يحكم التقويم أيضاً بإقبالي
فأنعِمْ به حتى يقولوا تطوَّلَتْ ... يداه بما نالت من الفَلك العالي
وله في يهودي كان كاتباً بالعين وشفائي، وصرف:
خدمت بالعين وقد فرّقوا ... بينكما يا سخنة العين
العين لا تسخو بإنسانها ... لو كنته ما زلت بالعين
وأنشدني في الغزل له:
تجري دموعيَ شوقاً إنْ نظرت إلى ... بدر السماء وبدرُ الأرض قد غابا
ما أطيبَ العيشَ لو كانا معاً طلعا ... وأجملَ الصبرَ لو كانا معاً غابا
وجدي بكم فوق ما قد كنت أعهده ... لم ينقص البعد من وجدي ولا عابا
يكفيكُمُ سهري في وقت نومكُمُ ... ومُرُّ عيشي إذا ما عيشكم طابا
وله في الزهد ومناجاة الله قبل خروجه:
يا أكرم الأكرمين يا مَنْ ... يطمع في جوده العبيدُ
ليس عجيباً خلاص مثلي ... مِنْ سجنِ مَنْ بأسه شديدُ

هل هو إلا عبدٌ لمولى ... له جميع الورى عبيدُ
يا مُخرج الأعظُم البوالي ... عَجِّلْ خروجي كما أريدُ
فكلّ ما قد كرهت منّي ... قد تبت منه فما أعودُ
قد بان في شدّتي صديقي ... وبان لي المبغض الحسود
وكان هذا لِلوصل أهلا ... وذاك أهلا له الصّدود
وقد أفادتنيَ الليالي ... تجارباً مثلها يفيد
وأنشدني له إلى جهة أم أمير المؤمنين المستنجد بالله أبياتاً كان التوقيع عليها سبب الإفراج:
يا من لها شرف كفا ... طمة وعائشة ومريمْ
وعطاؤها كالغيث لا ... بل جودها أندى وأكرم
والخير من بركاتها ... وجودها الله يعلمْ
لا فخر مثل فخارها ... فيمن تأخر أو تقدّمْ
ولها أمير المؤمني ... ن خليفة مولى محكّمْ
مثل النبيّ محمد ... في الناس ممدوح معظّمْ
إن كان يوسف حسنُهُ ... في مصر أعجبَ من تَقدّمْ
فالحسن في كلّ البلا ... د ليوسف هذا مسَلَّمْ
فبحقّه قسماً تذكر بالسعيد عساه يرحَمْ
وله من أبيات يصف بها مرثية بعضهم:
رَثيتَ مَن ذكره يغثي ... فاصبرْ على القيء يا سميع
فإنّه كالمدام مُرٌّ ... والفيء من شربها ذريعُ
لكنْ لها نشوة الحميّا ... في آخر الأمر يا خليع
وله في النثر في صديق له زاره في محبسه، ثم انقطع عنه: إن استدعينا حضورك أيدك الله، عرضناك للعناء، وإن تاركناك أعناك على البعد والجفاء. والأولى بك أن ترد أمر ترددك إلى هوى مودتك، فإنه ينشطك على المواصلة والطلب، وتتهم مشورة الرأي في مقام الخطار، فإنه يثبطك عن التعب أو العطب. فإن فرسان الوغى، وأهل الصبابة والهوى، لو لم ينزلوا من قلل عقولهم قليلاً، لم يجدلوا قتيلاً، ولا وجدوا إلى قضاء وطر سبيلاً. وقد زرع أيده الله زرعاً ما يقوم بسقيه، غير سعيه؛ ولا ينشيه، إلا تردده وتمشيه. فإن راعاه رعاه، وإن جنى عليه بجفاه حُرمَ جناه.
(وله إلى ابن عمه شهاب الدين، وقد رزق ولداً: عرفت أطال الله بقاك مقدم القادم الميمونة غرته، المأمولة رؤيته، الطالع في سماء مجده هلالاً، الناطقة شواهده بأنه يصير بدراً يملأ العيون جمالاً وكمالاً، فتضاعف تصيبي من المسرة به والاستبشار، ووددت أن تمتد يدي عند الورود به إلى النثار، وشكرت الله على هذه الموهبة النفيسة التي زاد بها عدد هذا البيت فتزينوا بجمالها، وترشحوا للتكثير بها وبأمثالها، والخالق المصور بفضل حكمته يجعله على فطرة الحكمة وعلى الهمة مولوداً، وفي مهاد السيادة والزيادة ممهوداً، وفي الخير والصلاح ناشياً، وإلى رتب النهى والعلى كل يوم صاعداً راقياً، وأن يجعله لبيباً نجيباً، وإلى كل القلوب قريباً حبيباً، ويتبعه بأخوة بدور، يقرون الأعين ويشرحون الصدور، ويملأون الأفنية والدور والمجالس والصدور، ليقوى بهم أزره، ويبقى إلى آخر الدهر صيته وذكره، ويرزق الاستمتاع بهذا الولد السار البار، وبما سيتلوه من الأولاد الصغار والكبار، موقى فيهم كل ما يخافه ويحذره، ملقي منهم جميع ما يختاره ويؤثره، ولا بَرِحَ يستظلّ ويظللهم، بظل جدهم الصاحب الكبير جامع شمله في العز وشملهم، ليكونوا لقول الأول مستحقين:
سعوا للمعالي وهم صبية ... وسادوا وجادوا وهم في المهود
ونالوا بِجِدِّهمُ جَدّهمْ ... فإنّ الجدودَ عُلا للجدود
وله رسالة عَمِلها لبعض أصدقائه إلى بعض الكتّاب:
أعزّ الله دعوة مستهام ... بذكرك في الصباح وفي المساء
دعاك على النوى بلسان شوق ... دُعا الظمآن من عطش بماء
يصعّد فيك أنفاساً ضعافاً ... فلو هبّت لطار إلى اللقاء
وما تقوى على ذا البعد نفسي ... ولا نفس بأرض أو سماء

كتب خادم المجلس السامي هذه الخدمة، عن خاطر مملوء بالمحبة وناظر مردود عن النظر بعده إلى أحد من هذه الأمة، ولسان، مملوء ببث الأشواق والأشجان، فائض عن جنان رحب، وبيان سكب. وذا كان الصاحب المخدوم محبباً إلى أنفس مواليه، والخادم المشتاق بليغاً لسناً فيما يخاطب به أو ينشيه، تدفقت ينابيع الكلم من خلال خطابه وكتابه، وارتفعت عوارض التهم عن أوصاف ذاته بالمحبوب وغرامه، وصارت عبارات المحبين من أهل الهوى، وإشارات الممتحنين بالأشواق على طول البعد والنوى، مسلوكة على طريقته، مسبوكة على جسم لطيمته، مرددة من منطقة، مرقعة بخرق خرقه.
لا يدعي كلفي في الحب ذو كلف ... أنا الأمير على العشاق كلِّهم
ولولا أن شكل الزمان وشغل القلب الشاغل بالأهل والأوطان، يقيدان ذا الصبابة عن الخفوف، إلى من هو به صب مشغوف، والقدوم، على من يشتري يوم وصاله بالنوم وانضاء الركائب وعناء الجسوم، لكنت أجعل مقيلي دائماً لديه، ورحيلي وافداً من منزلي عليه، ومن حضرته إليه. وها أنا مذ الآن مجدّ في قصده، وآخذٌ أهب المسير عند إقبال القر لتقر به عيناي، وأستريح به من شدة عناي، وأشتو عنده شتاء الأعرابي النازل على آل المهلب حين ذم زمانه وشكا محله، فما زال به إكرامهم وافتقادهم حتى حسبهم أهله. ووصل إلى الخادم تشريف حلله وجمله، فود لو اتبع إنفاذ تشريفه، باستنهاضه في بعض المآرب وتكليفه. ولقد تأمله عليه صدور العراق فما منهم إلا من شكر وبشر، وأثنى عليه خيراً وذكر.
وبعد، فلئن ألبس خادمه خلعة غدا ثوبها مبهجاً، وسيكون غداً منهجاً، فقد ألبس مجده حلة من الثناء والإطراء يبقى حديثها على الأيام طرياً أرجاً، والله لا يسلب كافة أوليائه، سابغ نعمه وآلائه في قرب أو بعد، وكسوة حر أو برد، والسلام).
وكتب إلي، وهو في الاعتقال سنة إحدى وسبعين، زمان اشتغالي بحل أقليدس:
ماذا يضرّ العزيز يوماً ... إن زار في أسره الذليلا
لو كان يبدي إليّ مَيْلاً ... لكان يسعى إليّ مِيلا
يا ملهماً حلّ كّلِ شَكْلٍ ... يقيم في حلّه الدليلا
أقليدسي في الأسار شكل ... فابغ إلى حلّهِ سبيلا
فكتب جوابها قطعةً طويلة على وزنها.
وأنشدني لنفسه ممّا كتبه إلى صديق له يستزيره وهو في الحبس:
الحيُّ لِمْ يُهْجَرُ في حبسه ... والمَيْتُ لا يهجر في الترب
إن لم يكن لي فرج عاجل ... فعجّلوا لي فرج القرب
فأنتم الدّنيا إذا أقبلت ... عليّ كانت منية القلب

كمال الدين
أبو الفضل عبيد الله بن الوزير عضد الدين بن رئيس الرؤساء.
شهم مهيب، وله فهم مصيب. وهو غضنفر بني المظفر، وقيل آل الرفيل. لما تولى أبوه الوزارة، صار أستاذ الدار، فغضت لهيبته الأبصار.
وبيني وبينه من المعرفة وله عند من العارفة ما يوجب علي عرفان قدره، والاعتراف بشكره.
وله شعر يروق ويفوق، ومنه قوله في بعض المماليك المستنجديه، وكان مليحاً:
وأهيف معسول الفكاهة واللمى ... مليح التثنّي والشمائل والقدّ
به ريَ عيني وهو ظامٍ إلى دمي ... وخدّي له وردٌ ومن خدّه وردي
ولي فيه مديح، ومن ذلك أنّه كتب إلى أخي من العراق يشكره على تكفله بأسبابنا، وتكلفه لآرابنا، فعملت فيه قصيدةً، وسيرتها إليه من الشام، مطلعها:
قضى عمره في الهجر شوقاً إلى الوصل ... وأبلاه من ذكرى الأحبّة ما يبلي
وكان خليّ القلب من لوعة الهوى ... فأصبح من بَرْح الصبابة في شغل
وأطريه اللاحي بذكر حبيبه ... فآلى عليه أن يَزِيد من العذل
وإنّ مرير العيش يحلو بذكركمْ ... وهل لمرير العيش غيريَ مُسْتَحْل
وصالكم الدنيا وهجركم الردى ... وقربكُمُ عزّي وبُعدكُمُ ذلّي
ومستحسنٌ حِفظ الوداد فراقبوا ... لأجل اقتناء الحمد نهديّ لا أجْلي
نَفى الصبر من قلب المتيّم حَبلُهُ ... وكيف ثبات القلب في مسكن الخبل
فقلبيَ بين الشوق والصبر واقفٌ ... على جَدَد بين الولاية والعزل

إذا ما بقاء المرء كان بوصلٍ مَنْ ... يحبَ فإن الهجر نوعٌ من القتل
وهل نافعي عذل ونصح على الهوى ... وعذليَ يُغري بي ونصحيَ لا يسلي
وما كنت مفتون الفؤاد وإنّما ... عليّ فتوني دلَه فاتنُ الدلّ
نحولي ممّن شدّ عَقْدَ نطاقه ... على ناحلٍ واهٍ من الخصر منحلّ
إذا رام للصدِّ القيامَ أبت له ... روادفه إِلاّ القيامَ على وصلي
كبدر تجلّى في هَزِيع من الدجى ... وغصنٍ تثنّى فوق حقف من الرمل
وناظره نشوانُ لا من سلافة ... سقيمٌ بلا سقمٍ كحيل بلا كحل
وأشهد أنّ الحسن ما خطّ خطّه ... بعارضه والسحر ما طَرفه يُملي
وما لحظه إلاّ عُقارٌ فإنّني ... وجدت هوى عينيه يذهب بالعقل
سقى الله بالزوراء عصر استقامتي ... لإنجازه الوعد المَصَون من المَطلْ
غداة نضوت الجد أبلى جديده ... ولا عيشَ إلا هزّ عِطْفي إلى الهزل
أنادمُ غرّاً من أفاضل أهلها ... كراماً وكلٌّ حلية الزمن العطل
وإخوان صدق للصداقة بيننا ... صفاء صدور طهّروها من الغِلّ
ندارس آي العقل من سورة الهوى ... ونفهم معنى العلم من صورة الجهل
وها أنا قد أصبحت بالشام شائماً ... سنا بارق من غير وبل ولا طلّ
يؤهَلني للبعد من كلّ حظوةِ ... ويحرمني اللذات بعدي من الأهل
ولا صاحب عندي أحاول نصره ... بتخفيف ما يعروه من فادح الثفل
وإنّي أرى عين الخصاصة ثروتي ... إذا عجزت عن سدها خَلّة الخِلّ
أُلايِنُ حسادي الأشدّاء رِقبةً ... لهم وأعاني الصعب بالخُلُق السهل
وأبقي مداراة اللئيم لعلّه ... يبيت ولا يطوي الضمير على دغل
سوى السوء لا تجدي مداراة حاسدي ... كما يستفاد السّمّ من صلة الصّلّ
ومن نقص دهري قصد فضلي بصرفه ... ليرخص منه ما من الحقّ أن يغلي
وإنّي من العلياء في الكنف الّذي ... به حظُّ فضلي كلّما انحطّ يستعلي
وماذا بأرض الشام أبغي تعسّفاً ... ولا ناقتي فيها ترام ولا رحلي
ولي حرمٌ منه الأفاضلُ في حمىً ... من الصون بالمعروف بالبذل في حِلّ
ومن جملة المديح:
أبي الفضل فيه أن يكون كماله ... لغير كمال الدين أعني أبا الفضل
رحيب النوادي والندى واسع الذرا ... رفيع الذُّرا عالي السنا وافر الظِّلِّ
نداه حيا المعروف قد شمل الورى ... عموماً وغيث الخصب شرّد بالمحل
إذا خفيت سُبْلُ الكرام فإنّه ... كريم المساعي بينهم واضح السبل
وفي الجدب إن جادت سماهُ سماحة ... بدا زَهَرُ الإسعاف في الأمل العقل
تساوى له الإعلان والسرّ في العلى ... فخلوته ملء المهابة كالحفلِ
فتى السنّ إلاّ أنّ للملك قوةً ... بما هو يستهديه من رأيه الكهل
من القوم أمّا المال منهم فعرضة ال ... سماح وأمّا العِرض منهم فللبخل
أَضاء زمان المستضيئ إمامِنا ... بآرائه الميمونة العَقد والحلّ
فمن رأيه ما يطلع السعد من سنا ... ومن عزمه ما يطبع النصر من نصل
ومنها في صفة الروض:
وما روضة غناء مرهوبة الثرى ... مُضَوَّعة الأسحار طيّبة الفصل
شمائلها طابت وطاب شمالها ... سقتها شَمُولاً عند مجتمع الشمل
تردّد أنفاس النسيم عليلة ... عليها فيشفي مرُّها كلَّ معتلّ
تهبّ الصبا فيها بِليلٍ بَليلةً ... على زهَر من عبرة الطلّ مبتلّ
لها من ثغور الأقحوان تبسّم ... وتنظر عن أحداق نرجسها النُّجْل

كأنّ نُعاماها تبلّغ نحونا ... تحايا قرأناها على ألسن الرسل
تؤرّج أرجاء الرضا كأنما ... تجامل في حمل التحية عن جُمْل
مرجعةٌ فوق الغصون حمامُها ... فنونَ هدِيلٍ بين أفنانها الهُدل
تنوح بها الورقاء شجواً كأنّها ... مفجّعة بين الحمائم بالثكل
مطوّقة أبلت سوادَ حِدادِها ... ففي الجيد باق منه طوق له كُحْلي
بأحسن من أَخلاقك الزُهْر بهجة ... وأذكى وأزكى من سجيتك الرسل
ومنها:
إليك سرت منّي مطايا مدائح ... من الشكر والإحماد مُوقرةَ الحمل
سوائر في الآفاق وهي مطيفة ... ببابك دون الخلق مخلوفة العُقْل
تهذّب معناها بصقليَ لفظها ... كما بان إثر المشرفيّ لدى الصقل
وإن يجل شعري في مديحك رونقاً ... وحسنأً فإنّ الشهد من نِحَل النَّخل
سلمت ولا لاقت عداك سلامةً ... ورهطك في كُثر وشانيك في قُلّ
ودمت ولا زالت بسطوك ديمة ال ... وبال على الأعداء دائمة الوبل
ودرّت لك النعمى على كلّ آمل ... بقيت بقاء الذرّ والحرث والنسل
أخوه:

عماد الدين
أبو نصر علي بن الوزير عضد الدين أبي الفرج محمد بن عبد الله بن المظفر رئيس الرؤساء. شاب يتوقد ذكاء، ويتوقر حياء، ويتوقى لله اتقاء، ويتوقل في ذروة المجد ارتقاءً، ويتوقع لحظوة الجد احتظاءً، مرتدٍ بالتقوى، ومسدٍ للجدوى، ومتحلّ بمحاسن الأخلاق، ومتجلّ بأنوار الفضائل في الآفاق. قد خلّى الدنيا وتحلى بالدين وسلك طريق أهل اليقين، وملك التوفيق من الله رب العالمين، فأصبحت وزارة والده بسيرته حالية عالية، وبقيمة فضله غالية، وبديمة إفضاله هامية.
وله نظم أرق من النسيم السحرين وأدق من المعنى السحري، وأعطر من العنبر الشحري، وله عندي فوائد، ولي فيه مديح وقصائد.
ومن شعره السائر، في البادي والحاضر، ويغنى به:
قف باللّوى إن تناءت الدارُ ... فعند تلك الأوطان أوطارُ
وشِمْ لها بارِقَ السحاب فإنْ ... ضَنَّ فماءُ الجفون مدرار
أحبابنا أزمعوا الرّحيل وما ... أظنّ أنّي أعيش إنْ ساروا
راحوا بقلبي وخَلَّفوا جسداً ... جارَ عليه السَّقام مذ جاروا
أحِبّ نجداً إن انجدوا وإذا ... غاروا فعندي للغور إيثار
لا عُذْر لي في الحياة بعدهُمُ ... النْار في حبّهمْ ولا العار
وبيني وبين هذا الوزير عضد الدين خلوص وداد، وخصوص اتحاد. ولما وصلت إلى الشام، وأحوجني التلبس بأشغال المملكة إلى المقام، كتبت إليه قصيدة أتشوقه فيها وأمدحه بها، وذلك عقيب وزارة أبيه، وزهده وتأبيه، أولها:
لائم للمِحبّ غير ملائمْ ... هام قلبي وقلبُهُ غير هائمْ
لم يزل واجداً عليَّ لأنّي ... بتُّ للوجْد واجداً وهو عادم
أغتدي للهوى سليباً سليماً ... وهو سال منم الصَّبابة سالمْ
ناصحي غير عالم بالَّذي بي ... ومن الغَبْن ناصح غير عالمْ
خَلِّ يا خِلُّ في الهوى عذل صبّ ... واجد من لواذع العذلِ واجم
لا ترع بالملام مَنْ ليسَ يخْشى ... في سبيل الغَرام لومة لائم
لا تظنْ الهوى مفارقَ قلبي ... فهو وصفٌ كما علمتَ ملائم
لفؤادي ضمانةٌ وغرامٌ ... أتْلَفاه بلا ضمين وغارم
نار وجدي دخانها في شحوبي ... وفؤادي صالٍ ووجهيَ ساهم
قد كتمت الهوى وباح به الدَّم ... ع فسرّي ما بين مُفش وكاتم
من لِصَبّ رمته مُقلةٌ رئمٍ ... حبّه من ضميره غير رائم
لجفون البيض الصوارم بيضٌ ... لم تزَلْ في الجفون وهي صوارم
وبوادي العُّذَيْب أُدْم ظباء ... فاتكات لحاظها بالضراغم
وبنفسي ظامي الوشاح على عذ ... ب لماه قلبي المُعذّب حائم

فحِمى العشق آهلُ الربع منه ... وحِمى الصبر عنه عافي المعالم
ساحر طرفهُ وساجٍ وإنّي ... لتمنّيه ساهِرُ الطّرف ساجم
قرّبَ الطيفُ وصلَهُ وهو ناءٍ ... وأتاني مستيقظاً وهو نائم
أنصفاني رأيتُما قطُّ مظلو ... ماً قضى نحبَه على حبّ ظالم
حبّذا والحبيب في الوصل منّي ... راغبٌ والحسود بالكره راغم
وسقى الله عيشنا المتقضّي ... ورعى الله عهدّنا المُتقادم
حين عصْرُ الصِّبا كحاليَ حالٍ ... وهو في مَرّه كأحلام حالم
فليالي العراق بيضٌ من البي ... ض غوانٍ من الغَواني غَوانِمْ
وزماني مساعِدٌ ورفيقي ... في الهوى مُسعدٌ ودهري مسالم
ومنادي المنى مُجاوبه الاس ... عافُ والسؤل للنجاح منادم
ومن الأكرمين كلُّ نديمٍ ... لستُ من قربه مدى الدهر نادم
ما فقدنا السرور إلاّ هِدانا ... كلُّ هادٍ لما بنى الهمُّ هادِم
وبذاك الجَناب أوطان أوطا ... ري كما أنَّها مغاني المغانم
ومَراد المُراد بالعُرف زاهٍ ... ومَراح المِراح بالعَرف فاغم
ومبيتي ما بين كأسٍ وثغر ... راشفاً منهما متى شئتُ لائم
ورد خّدٍ نَدٍ وغُصن قوامٍ ... ذا جنيٌّ غضٌّ وذلك ناعم
فأنا اليوم بالشَآم وحيدٌ ... لِسَنا البارِق العراقيّ شائم
لا وَدودٌ على وفائي مُقيمٌ ... لا وفيٌّ بشرط وُدّيَ قائم
أبداً بين هِمَّتي وزماني ... في اقتراحي وفي اطّراحي ملاحم
عَظُمت هِمّتي وها أنا أستصْ ... غرُ في المطلب العظيم العظائم
ما نجا من مطاعِن العجز راضٍ ... بِمَلاهٍ من عَيشه ومطاعم
مبتَغي قلبيَ المُشوق ببغدا ... دَ وجسمي نائي المَحلّ بجاسِم
ليتَ شعري متى يُبشّر عنّي ... أصدقائي فيها بنيّ قادمْ
ما لشَمْلي بها سوى أمر مولا ... ي عماد الدّين الممّلك ناظمْ
ومنها في تقريظه:
واحد العصر ثالث الشمس والبد ... ر وثاني الحيا بغير مُزاحم
إنْ يكن مانِحَ المراحم بالجو ... دِ فبالبأس مانِعٌ للمحارم
شَيّدَ المجدَ وهو في المهد شدّت ... بتمام العلى عليه التّمائم
وهو بالحزم مُدركٌ كلَّ سؤلٍ ... ولَعمْري كم حازماً رام حازِم
نُطْقُ قسٍّ ورأي قيسٍ وإقد ... مُ عليّ وجود كَعْب وحاتِم
وندىً فرّق الخزائن مقتا ... داً إلى المُعدِم الغِنى بالخزائم
بشّر البِشر منه كلِّ مُرجٍّ ... دِيمة الخير بالنِّجاح الدائم
طالعةٌ طلقةٌ وباعٌ طويل ... ويدٌ بسْطَةٌ وثغرٌ باسم
وعطايا غُزْر وغُرُّ أيادٍ ... وسجايا زُهرٌ وبيضُ عزائم
كفلت كفّه بنُجْح الأماني ... ونُشور الآمالِ وهي رمائم
فله في التُّقى مآثر نزّهْ ... ن سجاياه عن جميع المآثم
ومنها:
ما رياضٌ فاحتْ لطائف نفا ... س صَباها لطائِفٌ ولطائم
أَظهرَتْ سِرَّ نشرِها فكأنْ قد ... مشت الريح بينها بالنّمائم
وَشْي نوارها المفوّفُ أسدى ... وأنارت فيه أكفُّ الغمائم
كقدودٍ تعلَّقتْها قلوبٌ ... ذات شجو غصونها والحمائم
فَبِشَدْو الغِناءِ للوُرقِ أعرا ... سٌ وبالنوح للحَمام مآتم
من سجايا بني المُظْفّر أبهى ... ومساعيهمُ الحِسان الكرائم
ما استقامت إلاّ بهم سُنَّةُ الشر ... ع ودين الهدى ودولةُ هاشم

واستوت في خضارِم الرأي فلك ال ... ملك منهم على مَراسي المراسم
أحسنوا العفو والتجاوزَ حتّى ... مَهّدوا حرمةً لأهلِ الجَرائم
كم بكت أعين اللّيالي فعادتْ ... وهِيَ اليوم ضاحكات المباسمْ
وبشمس الورى عليّ أبي نَصْ ... رٍ تجلّى عنّا ظلام المظالم
ذو نوالٍ لكلّ عاف معاف ... ولسقم الرّجا مداوٍ مداوم
ففدا كم بني المظفّرِ عاصٍ ... لم يطع أمره من الأمر عاصم
من محاسُنّه المحاسن بالش ... رّ وما زال للمساوي مُساوم
كم رديءِ رَدٍ وساعٍ كمينٍ ... في سعيرٍ وجاحدٍ فيَّ جاحم
ومنها:
يا ابن من حكمه على الخَلْق طرّاً ... وعلى ماله مرجّيه حاكم
أنا راقٍ في هُضْب علياك مدحاً ... ولطرز الثناء بالنظم راقم
غير قاصٍ عن قاصدٍ لك عُرفاً ... لفقار افتقاره هو قاصم
لم يَزلْ فائزاً بصدق الأماني ... كلُّ راجٍ لظنّه فيك راجم
بالمُوالين قوّة للموالي ... والخوافي بها نهوض القَوادم
وكان يُنعت قبل وزارة والده بشهاب الدين.
ولما اعتقلت بالديوان ببغداد، كتبت إليه قصيدة طويلة:
لو كنتَ تعلم منتهى بُرحَائه ... حابَيْتَ إبقاءً على حَوْبائه
ولكنت تترك في الغرام ملامه ... كيلا يزيد اللّوْم في إغرائه
لا تنكِرنْ ضحكي أريك تجُّلداً ... ضحك الحَيا بالبرق عين بكائه
ما كنت أعلم دمع عيني مفشياً ... سراً لهم أشفقت من إفشائه
حتى جرى في الخدّ منّي أسطراً ... فعرفت أنَّ الشوق من إملائه
ما كان أعذب بالعذيّب لدى الصّبا ... عيشاً أمنت فناءه بفنائه
إذ كاسمه ماء العذيب وأهله ... في العزّ تحسدهم نجوم سمائه
والحيّ شمس الأفق تخبأ وجهها ... منه حياءً من شموس خبائه
أيام لم أبصر جميلاً فيهم ... إلاّ وفاء إلى جميل وفائه
ومقرطق ألفيت قلبي آبقاً ... منّي له فالقلب قلب قبائه
قلق الوشاح محبُّه قلق الحشا ... فكلاهما ظامٍ إلى أحشائه
ويشدُّ عَقْد نِطاقه في خصْره ... حذراً عليه لضعفه ووهائه
بدرٌ فؤادي في محبّة وجهه ... بدريّه المعدود من شهدائه
إشراق غرِّة وجهه في صدغه ... يبدي لك الإصباح في أمسائه
منشور إقطاع القلوب عذاره ... فالحسن جند وهو من أمرائه
وله الشباب الغضّ أبدع كاتب ... إذ خطّه المرقوم من إنشائه
في عارضيه سواد أبصار الورى ... قد شفّ من ماء الصّبا لصفائه
والصُّدغ منه لعارضيه معارض ... وسواد ذاك الخطّ من أفيائه
رَمق المحبّ ولم يدعْ رَمقاً له ... هلا أخذت زمامه لذمائه
أعدى سقام اللّحظ منه محبّه ... يا محنتي منه ومن أعدائه
وسقام مقلته زيادة حسنها ... وأراه في جسمي زيادة دائه
يا صاحبيّ الصاحيين من الهوى ... قد طال عهدكما بكأس طلائه
لا تطمعا في أن أفيق فإننّي ... يا صاحبيَّ سكرت منم صهبائه
لا تسمعاني فيه ما أنا كارهٌ ... إنّ المحب يصدُّ عن نصحائه
ولقد أصمّ عن الكلام تغافلاً ... لأُنزّه الأسماع عن فحشائه
أروي حديث الحادثات وخطبُها ... لي يخطب الأهوال من أهوائه
يخفي الزمان سناي في إظلامه ... إخفاء ألْثغ سينه في ثائه
لما مضيت له براني صَرْفه ... مثل اليراع فبرْيه لمضائه

حتَّام أرضي الضّيم من أدوانه ... وإلى متى أغضي على أقذائه
إحفظ لسانك أن يطول فإنّما ... قصر اللّسان يكُفُّ من غلوائه
والشمْع قطع لسانه من طوله ... وحياته سببٌ إلى إردائه
ومقاسمٌ في ثروتي لمّا رأى ... عدمي غدا مستأثراً بثرائه
قوَّمت في زمن الشدائد غصنه ... فاعوج إذْ هبّت رُخاء رَخائه
ونفعته لمّا تناهى ضرّه ... فأعضته السّراء من ضرّائه
قلبي من الإشفاق محترقٌ له ... كالشمع وهو يعيش في أضوائه
متناومٌ عنّي إذا ناديته ... ولطالما استيقظت عند ندائه
إنْ أستزده يزد كراه وزائدٌ ... تحريك مهد الطفل في إغفائه
ولئن جفاني الدهر في أحداثه ... فلأصبرن على فظيع جفائه
فالله يفعل ما يشاء بخلقه ... وجميع ما يجري لنا بقضائه
فاستعد من ريب الزمان بصاحب ... تعدي فضائله على عدوائه
واشك الزمان إلى شهاب الدّين كي ... يبدي رياض الخصب في شهبائه
ونداه ناد فإنّ أندية المنى ... مخضرّة الأكناف من أندائه
وهو الشهاب حقيقةً فالفضل من ... أنواره والطول من أنوائه
كالشمس في آرائه كالغيث في ... آلائه كالصبح في لألائه
لله راحته ففيها راحةٌ ... لمؤمّليه ومرتجي نعمائه
فعداته يفنون من إعطابه ... وعفاته يحيون من إعطائه
يغضي حياءً والمهابة كلّها ... في أنفس الأعداء من إغضائه
ويغضُّ عيناً للوقار ونوره ... لتغضّ عين الشمس دون لقائه
إنْ كان ما غثت معاني مدحه ... منّي فما رنت حبال حِبائه
ومنها في الاستنجاد على الإمام المستنجد:
أبني المظفر ما يزال مظفّراً ... راجيكمُ أيداً بنيل رجائه
وإذا عرا خطب ملمٌّ مؤلمٌ ... داويتُمُ بالجود من أدوائه
يا من علا يحكي أباه وجدّه ... زان العلاء بجدّه وإبائه
يعني الزمان بمن عنيت بأمره ... حاشاك تترك عانياً بعنائه
فانصر أبا نصرٍ على زَمَنٍ أبى ... نصري لفضل أنت من أبنائه
واشفعْ تشفّع وعده بنجازه ... أنّى يخيب وأنت من شفعائه
ذكرْ بحالي الصاحبَ المولى الّذي ... يقوي أمير المؤمنين برائه
وقل استجار كريم بيتٍ بي وذو ال ... بيت الكريم يجد في إحيائه
والمستجير بنا مجارٌ لم يَزلْ ... ولو أنّ هذا الدهر من أعدائه
شافِهْ أميرَ المؤمنين بحاله ... فأرى شفاهك موجبٌ لشفائه
وبعده البيتان اللذان سبق ذكرهما وهما:
قل للإمام علام حبس وليّكم ... أولوا جميلكم جميل ولائه
أوليس إذْ حبس الغمام ولِيَّه ... خلّى أبوك سبيله بدعائه
ومنها:
لولاك كان رويُّ شعري ظامئاً ... لا يطمع الراوون في إروائه
والفضل بين بنيه أوْكدُ نسبةً ... فَأغث كريماً أنت من نسبائه
وإنما ذكرت شعري فيه، إعراباً عن فضله ونبله، وتسييراً للمثل في ذكر سيرة مثله.
عمر:

تاج الدين
أبو علي الحسن بن عبد الله بن المظفر، أخو عضد الدين الوزير، الكريم المطلق، والحليم الموفق، والصاحب المصحب، والمغدي للكرام المقيت.
ولي في الوزير وفيه مدائح إن أثبتها أكثرت في الكتاب نظمي، وخرجت عما هو رسمي.
وتاج الدين هذا جواد بني المظفر، ورئيس بيت رئيس الرؤساء، وشيمته أصفى من زلال الماء، وقرائحه في نظم أبيات. غير أبيات. وأكثر ما رأيت ميله إلى اللغز والمعمى والأحاجي. وسأورد من ذلك ما أتذكره، وأنا على ما سلف منه في حقي من العارفة أعرف له وأشكره.

بنو المطلب
الأجل رضي الدين
هبة الله بن محمد بن الوزير ابن المطلب، من بيت السؤدد والفضل.
أدواته في الأدب كاملة تامة، ذو نوادر للخاصة والعامة.
له الخط الرائق، والفضل الفائق. إذا كتب أغضى ابن مقلة مقلته حياء، وأغلق ابن البواب بابه خجلاً. وإذا ترسل فاسترسل كان لفظ عبد الحميد، للفظه عبداً غير حميد، لكن له لوثة ما تكاد تصحي سماء فضله بسحابها، ولا تبرز شمس أدبه من حجابها.
قصر حظه عن خطه، فصار موجباً لخموله وحطه. وحيث نسخت آي الفضل في عصرنا فلم تقم سوقه، اقتنع بأن يكون ناسخاً لما رأى عهد الأدب منسوخاً، وعقده مفسوخاً.
ورأيت أهل الأدب الأكابر ينبزونه بالجرذ، ويتطايبون معه به، وهو كثيراً ما يذكره فيما ينظمه تعريضاً، وربما صرح به.
ونثره في غاية الحلاوة، واستشهاداته واقعة موقعها، وأبياته مضحكة.
أنشدني لنفسه:
فديت من في وجهها سنَّةٌ ... أشهى إلى القلب من الفرض
تنسى عهوداً سلفت بيننا ... كأنما قد أكلت قرضي
هذه إشارة إلى أن أكل الطعام الذي قرضه الفأر، يورث النسيان على ما يقال.
وأنشدني لنفسه في الهجو:
ألا قبّح الله هذي الوجوه ... وبدَّلها غيرها أوجها
فلا أفقها مُؤذِنٌ بالندى ... ولا بالعُلى مؤذِنٌ أوجها
وأنشدني لنفسه في الهزل:
بنفسي كلُوُمٌ من هواك أليمةٌ ... وأخفي الذي بي في الهوى وأكايمُ
ولي في الرّضا والسخط عندك، فاعلمي ... سفيعان: . . . قائمٌ، ودراهمُ!
وأنشدني لنفسه في ابن دينار، كاتب منثر الوزير في محرم سنة إحدى وستين، وكان أحاله عليه فمطله:
مولاي في منثركم كاتبٌ ... يزيد في ظلميَ إفراطا
مضيع للمال لكنه ... أضحى على شؤمي محتاطا
ظنّ أباه من عطاياك لي ... فليس يعطينيَ قيراطا
وأنشدني لنفسه في الأديب مفلح أيضاً حيث مطله وكان هو عامل المنثر يخاطب حاجب الوزير:
قل لابن تركان حليف الندى: ... جواهري في النظم لم تثَقب
والقول يا مولاي لو رُمْتَهُ ... عند وزير العصر لم يصعب
مولاي يا من برُّه عاجل ... ليس بمجنوب ولا متعب
مفلحُ عُرقوب ولكنني ... أطمع في برّك من أشعب
يقول مَن لقَّبنا هازئاً: ... هذا جَسدَىً ممتنع المطلب
واعجباً من جرذٍ شاعرٍ ... يُحال بالبرّ على ثعلب!
وأنشدني له أيضاً في نائب الوزير بسبب إحالته على المنثر، وكان قد دافعه:
يا سيدي والطَّالب الغالب ... قد وقع اللَّصُّ على النائب
ولست أهجو مفلحاً بعدها ... قد صحَّ أنَّ الذنب للنائب
وأنشدني لنفسه في ابن تركان:
يا ابن تركان لن يدومَ سِوى الل ... ه بعلمي، وكلُّ هَمّ يزولُ
كلُّ حيّ، وإن تمادى به العم ... رُ طويلاً، إلى الممات يؤول
وأنشدني لنفسه في بعض الوزراء:
يا سيد الوزرآء، عبدكَ لم يزل ... يرجو العلوَّ لظلّك الممدود
فعلام ذِيدَ، وللعفاة مناهِلٌ ... من حوضك المتُلاطِم المَوْرود؟
نَثَلَ الكنائنَ للنّضال ذِياده ... عنكم فأصمى عِرضَ كلِّ حسود
وغدا يهذ من المديح قصائداً ... تزهى إلى إحسان كلِّ قصيد
وبكلِّ عافية يروح ويغتدي ... منْ ربّه لكن بغير ثريد
وأنشدني في ذم الغيم لنفسه:
ما أقبح الغيم ولو أنَّهُ ... يُمطرنا دُرّاً وياقوتا!
فكيف والآفاق مغبرةٌّ ... شوهاء لا ماءً ولا قوتا؟
وأنشدني لنفسه في واسط، ويذكر مخالطة النسيم روائح السحاه، وفيه نوع تحميض:
لله واسط! ما أشهى المقام بها ... إلى فؤادي وأحلاه إذا ذكرا!
لا عيب فيها ولله الكمال سوى ... أنَّ النسيم بها يفسو إذا خّطرا
وأنشدني لنفسه:
نَفْضُ التُراب عقوقٌ عن مناكبنا ... لأنَّه نَسَبُ الآباء في القِدَمِ

وأنشدني لنفسه في امرأة له بذلت نفسها لغيره، وتمنعت عليه، وقد لبست على ابنها نقاب سواد:
قلتُ لها إذ أقبلتْ ... في حُلّة كالسبج
ومنظرٍ يسبي العقو ... ل لحظه بالغنج
تضايقي تضايقي ... لا بدَّ أنْ تنفرجي!

أبو سعد محمد بن علي بن عبد المطلب
كان في عهد الوزير ابن المطلب، وزير الامام المستظهر رضي الله عنه متصرفا. وكان هجاماً على الهجاء وثلب الكبراء.
له:
عُزلتُ وما خُنْت فيما ولي ... تُ وغيري يَخون ولا يُعزّلُ
فهذا يدلُّ على أنَّ مَن ... يوّلي ويعزل لا يعِقل
وله في الهجو السخيف:
. . . حتى يسيل فوه ... ويدّعي أَنَّه . . .
ثلاثة حبّبت إليه ... التيه، والعجبُ، والسّقوط
تراه في الدَّست مثل ميت ... ذرّ على وجهه الحنوط
وأنشدني مجد الدين ابن المطلب بدمشق لأبي سعد ابن المطلب:
تنانيركم للنَّمْل فيها مدارجُ ... وفي قِدركم للعنكبوت مناسِجُ
وعندكم للضَّيف يومَ يزوركمُ ... حَوالاتُ سوءٍ كلها وسَفائج
إذا سهل الإذن العسير ورفعت ... ستورك فانظرني بما أنا خارج
وسّيانٍ بيت العنكبوت وجوسق ... منيف إذا لم تقض فيه حوائج
بهاء الدين كافي الدولة ابن حمدون الكاتب
كان عارض العسكر المقتفوي. ثم صار صاحب ديوان الزمام المستنجدي. وهو كلف باقتناء الحمد، وابتناء المجد. وفيه فضل ونبل، وله على أهل الأدب ظل. وألف كتاباً كبيراً سماه التذكرة، وجمع فيه الغث والسمين والمعرفة والنكرة، فوقف الإمام المستنجد على حكايات ذكرها نقلاً من التواريخ نوهم في الدولة غضاضة، ويعتقد للتعرض بالقدح فيها غراضة، فأخذ من دست منصبه وحبس، ولم يزل في نصبه إلى أن رمس. وذلك في أوائل سنة اثنتين وستين وخمس مئة.
وأنشدني لنفسه في مروحة الخيش ملغزاً:
ومرسلة معقولة دون قصدها ... مقيدة تجري حبيس طليقها
تُمرّ خفيف الريح وهي مقيمة ... وتسري وقد سُدّتْ عليها طريقها
لها من سليمان النبي وراثة ... وقد ضربت إلى النبيط عروقها
إذا صدق النَّوْءُ السِمّاكيّ أمحلت ... وتمطرُ والجوزاء ذاكٍ حريقها
تحيتها إحدى الطبائعِ، إنّها ... لذلك كانت كلّ روح صديقها
وقال:
وحاشا معاليك أنْ يُستزادَ ... وحاشا نَوالُك أن يقتضى
ولكنّما أستزيد الحظوظَ ... وإنْ أمرتني النهى بالرّضى
وقال:
يا خفيف الرأس والعقلِ معاً ... وثقيلَ الرُّوح أيضاً والبدنْ
تدّعي أنّك مثلي طيّبٌ ... طيب أنت ولكنْ باللبن!
أبو المظفر ابن السببي
الملقب عز الدولة، من أهل بغداد وأعيانها. كان شاباً ظريفاً، متودداً لطيفاً، ذا كياسة، ورياسة ونفاسة، ملء الفضائل، حلو الشمائل، حسن البهجة، لسن اللهجة. أناب ابن البلدي في وزارته بوزر دمه، وتوصل في قطع يده وقدمه، وذلك في آخر سنة خمس وستين وخمس مئة. ولم يمض شهران حتى انقضت أيام المستنجد، وفتك بالوزير المتبلد، ولم يتم ثأره، حتى ظهرت في تبديل الدولة آثاره.
ومن نظمه السلس، وهو أرق من النفس، ويغنى به:
يا ناجِياً من عذاب قلبي ... وسالماً من رسِيس وَجْدي
لا تتقرب إلى ثيابي ... فإنَّ داء الغرام يعدي
تزعم أنَّ الفؤاد عندي ... لو كنت عندي لكان عندي
قد غّير الدهر كلّ شيء ... سوى جفاكم وحسن عهدي
وله:
أعيذكمُ من لوعتي وشجوني ... ونار أسى بين الضلوع دَفينِ
وبَرَّح جوى لم يُبق منّي بقيةً ... سوى حركاتٍ تارةً وسكونِ
سهرنا بنعمانٍ ونمتم ببابلٍ ... فيا لعيونٍ ما وفت لعيون!
أكاذب سمعي عن أحاديث غدركم ... وأعرفها عن صحّةٍ ويقين
ألا مخبرٌ عنّي قلوباً أبيةً ... يقول لها: كم ذي القساوة؟ ليِني!
الأجل سعد الدين

أبو عبد الله الحسين بن شبيب الطيبي. ولد بالطيب، وسكن بغداد، وخص بأمير المؤمنين المستنجد، وولاه إشراف المخزن، وأحله محل أمينه المؤتمن، وخف على قلبه، وجن بحبه، وصار له بمنزلة النديم السمير، وحصل من أثرته بالمقام الأثير. وكان يداعبه ويصحف عليه في خطابه، ويستدعي منه تصحيف جوابه، فمن ذلك أنه أقبل يوماً، فقال له الخليفة: ابن شتيت؟ فقال في الحال: عندك، يعني ابن شبيب، فقال هو: عبدك.
وله نظم رائق، بالإحسان لائق. واتفق له هذا البيت في المستنجد من قصيدة:
أصبحت لبَّ بني العبّاس كلّهم ... إنْ عُدّدَتْ بحروف الجُمَّل الخلفا
والمستنجد: هو الثاني والثلاثون من خلفاء بني العباس، ولب: اثنان وثلاثون بحساب الجمل.
واتفق للقاضي أبي بكر الأرجاني في المسترشد، وكان التاسع والعشرون من خلفاء بني العباس، وقد عدهم في قصيدة وقال:
خلائف نظموا في سِلك دهرهم ... ونورَ وجهك منهم في المتون سرى
عشرون تتبعها منهم ثمانيةٌ ... كاتوا المنازِلَ والمسترِشدُ القمرا
ابن شبيب، حلو التشبيب، ورقيق النسيب. وله أشعار تخجل الدر منظوماً، والوشي مرقوماً، والروض ناظراً، والبدر زاهراً.
ومن جملة شعره السائر، ولفظه الساحر، قصيدة له يستطرد فيها بمؤذن يعرف بعباس، جهر الصوت، كان يصل صوته إلى أقاصي المحال ببغداد وقت الصباح:
وشى بالصبح عبّاس ... وثوب الليل أدراس
ومنها:
وقد مجّ فم الأبري ... ق مما قهقه الكاس
ويقول في آخرها:
فما أطيب ليلَ الوص ... ل لو يخرس عباس!
وله قصيدة في الإمام المستنجد أولها:
إذا حلّ تشرينُ فاحلل أوانا ... فإنّ لكلّ سرورٍ أوانا
وله من قصيدة في الإمام المستضيء:
سرى، والدّجى تصبي غدائره الجُونُ، ... نسيمٌ على سرَ الأحبّة مأمونُ
وما استيقظ الواشون إلا بنشره ... فقالوُا، وما قالُوه وَهْمٌ ومظنونُ
وبحر الهوى طامي الغوارب مزبدٌ ... مخيف، وفُلكي بالصّبابات مشحونُ
إذا جاد فالبحرانِ جرعة شاربٍ ... وإن زاد فالسبعُ الأقاليم ماعونُ
ومنها:
فأنقذ مِصراً من يَدَيْ كلّ كافرٍ ... لنعماه، لا عقل لَدَيْهِ ولا دينُ
إذا ما أراد الله إهباطَ دولةٍ ... تبيذقَ منها في الدُّسوتِ الفرازينُ
ولمّا مضى فِرْعَوْنُها فَرّ عَوْنُها ... وأدركها موسى الكليمُ وهارونُ
وَقد بقيت في نفس يَعقوبَ حاجة ... إلى سيفك الماضي هي الغرب والصينُ
قسوتم ولِنتم غِلظةً وتعطّفاً ... وفي جانب اللهِ القساوةُ واللينُ
وله من قصيدة فيه:
فمن ذا يبلغ أهل الغرام ... بهذا العجيب الذي قد بَدَرْ؟
فإنّيَ قد رَقَّ لي من قسا ... فمن شاء سرّ ومَنْ شاء برّ
وما بعد ذلك من غايةٍ ... إذا شهد القلب غاب النظر
وله يهنيء الإمام المستضيء بأمر الله بالخلافة، ويذكر الخلع التي أفاضها على أرباب دولته، ومتقدمي جنده وخاصته، ووجوه الناس من رعيته. وكان رسم له في أيام والده المستنجد أن ينظم أبياتاً على وزن أبيات ابن الحجاج التي أولها:
يا دار يا دار الوزير النّاصح
أمسى بخير في حماه وأنْعمي ... ما دام يبقى في الصبّاح الصّالح
وفي هذه الأبيات صوت يعرف بالصباح الصالح. فتأخر عملها إلى حين تولى الخلافة، فقال يمدحه على الوزن والروي:
بكر الغمام لها بدمع سافح ... طرباً إلى نغم الحمام الصّادح
وتنّبهَ النّوّار في جَنباتها ... سحراً لدغدغة النسيم المازح
بالغ في وصف النسيم باللطف بتشبيهه بالمازح، وتشبيه مروره المنبه بالدغدغة، فأحسن في الاستعارة.
وافترّ ثغرُ الأقحوانة ضاحكاً ... لمّا حَبته يَدُ السحابِ الدّالح
ووشى بها ووشت به أنوارها ... يا حّبذا نَفس الكتوم البائح
وتسلسلت رُقْشُ الجداول، وانثنت ... تستنُّ بين أراكها المتناوح

تجري وتجري الريحُ بين غصونها ... فتميل من راح وطيبِ روائح
فإذا أعير بديعه من روضها ... طُرَفاً، أقام بها، فليس ببارح
خَلعَ الربيع على الرُّبا لما انتشى ... وَشْياً، وضمخها بمسك نافح
خِلع الإمام المستضيء، فإنّها ... عظمت وجلّت عن بلاغة شارح
سفرت لنا من طيبها أيّامه ... عن وجه معشوق الدلال مسامح
عاد الزّمان به إلى رَيْعانه ... بعد ارتداد مَفارق ومَسايح
رُفِعت لنا عنه السجوُف، فلاح لي ... كالبدر سُلَّ عن السحاب الرائح
فتبادروا لَثمَ الصعيد، وبايعوا ... طَوْعاً لمجتهدٍ تقيّ صالح
يا صاحب الدعوى العريضة، إنّه ... صبٌّ إلى ضوء الصباح الصابح
ما بعدها لمؤّملٍ من غايةٍ ... هذا أمير المؤمنين، فصافح!
هذا الذي عادت بُسنّة عدله ... سُنَنُ النبيّ إلى الطريق الواضح
فخراً، بني العبّاس، إنَّ لبيتكم ... شَرَفاً يُنيفُ على السّمِاك الرامح
ماذا يقول الجاحدون لفضلكم؟ ... علت المجرَّةُ عن عُواء النّابح!
وبفضلكم نطق الكتاب مفصّلاً ... أفكيفَ يبلغه فصاحة مادح؟
يا سعد أخبية الذين تحمَّلوا ... سَعد السعود خِلاف سَعد الذابح
يشير إلى والده المستنجد، ويقول: إن زمان هذا السخي الرحيم السهل الجانب، خير من زمان أبيه الحازم، الشديد السطوة، الصعب الشكيمة.
جاءتك تخِطبكَ الخلافة كفوها ... فاستجلها عَفواً بغير مشايح
وأفِضْ على عَطش البرايا رحمةً ... سَيباً كَمنهلّ الغمام السافح
وانْشر رِداءَ العدل في أقطارِها ... تَنجُ البغاث من اختطاف الجارح
واستدِركِ الأرماقَ منك بنظرةٍ ... تخلصْ بها من كلّ خَطبٍ فادح
ولقد تجّهمها الزمان، فأَحْيِها ... عدلاً يقرّبُ بالبعيد النازح
وقال يمدحه قبل إفضاء الخلافة إليه:
أوحى فِراقُ المُنجدِ ... فالصّبرُ غير مُنجدِ
قالوا: غَداً فِراقُهمْ ... فجاء قبل الموعدِ
بُحتُ بما ألقاه لمّ ... ا زاد عن تجلّدي
وَشَفّني طول الضنى ... حتى تلاشى جسدي
لولا الأنينُ لخفي ... تُ عن عيون الحُسَّد
يا صاحبيَّ، استمعا ... ما لم يَدُرْ في خَلدِ
ألفُ مريضٍ عُللوا ... رُمانةً في بَلد
فما تُرى بناظرٍ ... ولا تُنالُ بيدِ
عَزَّ الذي تبغي، فقد ... عزَّ وجودُ المسعد
سقى حُمولَ الظاعن ... ين كلُّ جَوْنٍ مُرْعِدِ
ولا عَدَتْهم روضةٌ ... أزهارُها كالعسجدِ
نرجسها مُركّب ... في قُضب الزُّمرَدِ
كأنما مرّ بها ال ... مولى أبو محمد
وجادَها بَنانُه ... بسائح مُطّردِ
يلبس إنْ جمّشه الر ... يح صُنوفَ الزَّرَدِ
فتارة صَفيحةً ... وتارة كالمبرَدِ
سَرَى إلينا جُودُهُ ... من غير ضَرْبِ مَوْعدِ
وشمتُ من أخلاقه ... شَمائلَ التفرُّدِ
ودَلَّ حسن بِشرهِ ... على كريم المحِتدِ
للِه منه ساعةٌ ... مسعودةٌ في مولدي!
قبّلتُ ظهرَ كفه ... فيها بغير عَددِ
وافترّ لي حين بدا ... ثغرُ الزمان الأغيد
وردّني إلى الشبا ... ب والنَّعيم الأرْغد
ودَبَّ من ألفاظه ... سكر الصِبّا في جسديِ
فمن عجيب ما جرى ... أنّيَ لم أعَرْبدِ
يقول: إنه في بعض خرجات المستنجد بالله إلى الصيد، أدناني من خدمته، وأعطاني يده فقبلتها، ولطف بي، وحادثني ساعة.

يا من أُرَجِّيه على الدهرِ لِيوْمي وغَدي
ومن أفَدّيهِ ببذْ ... ل النفس لا بالصَّفَد
أصغ إلى شعري الذّي ... يبقى بقاء المُسَندِ
بكم عُرِفْتُ والسهى ... مُعَرَّفٌ بالفَرْقَدِ
دام عليكم ظَّل مَوْ ... لانا الامام الأمْجَدِ
العالم الحَبر الملي ... ك لقائم المُستنجِدِ
ناب عن الله وعن ... شَرْع النَّبيّ أحمد
به حَمِدْنا زمناً ... من قبله لم يُحمَدِ
فخُلّدِت أيّامه ... في صَفو عيشٍ رَغَدِ
ولسعد الدين بن شبيب من قصيدة في المستنجد:
مستنجدٌ باللهِ مالكها ... أمسى لأِفلاك العْلى قُطْبا
إنْ عدَّد الخلفاء حاسبنا ... ألفيته لجميعهم لُبّا
لأن المستنجد كان الثاني والثلاثين من خلفاء بني العباس، ولب: في حساب الجمل اثنان وثلاثون.
وأعاد المعنى في نظم آخر، فلطف:
أنت الإمام الذي يحكي بعيرته ... من نابَ بعد رسول الله أو خَلفا
أصبحتَ لبَ بني العباس كلّهم ... إنْ عُدّدِت بحروف الجُمَّل الخلفا
الأمير السيد عزّ الدين
أبو الحسن علي بن المرتضى العلوي. مولده ومنشؤه بغداد، ووالداه من أصفهان.
كان في خدمة الخاتون زوجة المقتفي. وتفقه ولده هذا وبرع على مذهب أبي حنيفة، ووجد الكرامة الكثيرة من الخليفة، وأهل للرتب الشريفة، والمناصب النيفة، فلم يمل إلا إلى العلم ونشره، ولم يرغب إلا في الفقه المؤذن برفع قدره.
وله إلمام بنظم أبيات من الشعر، تدل على إبرازه بالبر. وهو مدرس جامع السلطان بمدينة السلام، مشتمل على الإفادة مشمول بالإكرام.
أنشدت له في سنة سبعين بالشام:
لا تحزَنَنَّ لذاهبٍ ... أبداً، ولا تجزَعْ لآِتِ
واغنَمْ لنفسك حظّها ... في البينِ من قبل الفواتِ
وقوله:
صُن حاضِرَ الوقتِ عن تضييعه ثقةً ... ألاّ بقاءَ لمخلوقٍ على الدَّوْم
وهَبْكَ أنَّك باقٍ بعده أبداً ... فلن يعودَ إلينا عينُ ذا اليوم

الأجل صفي الدين
أبو القاسم عبد الله بن زعيم الدين صاحب المخزن يحيى بن جعفر. شاب شؤبوت خاطره دفوق، وشبا قريحته ذلوق. مشبوب الذكاء، محبوب اللقاء، مجبول من الكرم والحياء، متأدب متهذب، متحبب إلى الناس، متجنب للالتباس. وهو البحر ابن الجعفر، والليث ابن القسور.
وله شعر يقطر منه ماء السلاسة، وينشر به عرف الرياسة. وله في مدح الإمام المستضيء بأمر الله يهنيه بالخلافة، في سنة ست وستين وخمس مئة:
يا إماماً أولى الغنى ... كلَّ راج ومُجتَدِ
وكريماً أمواُلهُ ... للعطايا بمرصد
ومُطِلاً على السِمّا ... ك بمجدٍ مُوطَّدِ
ومَناراً به إذا ... أظلم الخطبُ نهتدي
كم وكم كفَّ عَدْلُهُ ... كفَّ طاغٍ ومُعتدِ
وبك اخضرّ ما ذَوَى ... من سَماح وسُؤدَدِ
فَابْقَ واسْلَمْ ودُمْ كذا ... أبدَ الدَّهْر واخْلُدِ
وارْقَ ما شِئْتَ آمِناً ... دَرَجَ العزّ وازْدَدِ
تُخلِق الدهرَ لابِساً ... ثوبَ سَعْد مُجَّددِ
بعلاءٍ مُجّمعٍ ... وثراءٍ مُبَدَّدِ
وانتصارٍ على العِدى ... واقتدارٍ مؤيَّدِ
يا مُعيني على الزّما ... نِ وكهفي ومُسْعِدي
أنا عبدٌ جَلا ندا ... كَ صَدا حظّيَ الصَّدِي
بك مدحي قد اغتدى ... كالجُمانِ المُنَضَّدِ
في معاليك حقّق ال ... لّهُ ظَنّي ومَوْعِدي
كنتُ أرجو لك الخِلا ... فَة، فأسْعَدْ بها اسْعَدِ!
وله أيضاً فيه على وزنين وقافيتين:
جُودُ الإمام المستضيء غمامة للمجتدي ... تروى بها آمالُهُ

مُنحَ الوَرى منه بأبْلجَ في الشّدائد مُنجد ... معدومةٌ أمثالُهُ
إنّ الخليفةَ بالخليفة في المكارِم تقتدي ... فدليلها أفعالُهُ
وبجُودهِ الخَيْران منها في النّوائب يهتدي ... فسراجُها أفضالُهُ
وَردَ الرّجاء به على أحْلى مراشف مَوْرِدِ ... مُعْذَوْذبٍ سَلساُلهُ
قال السماح، وقد حبا: أكرمْ به من مُرِفد ... مبذولة أموالُهُ
أحيا مناقبَ جَدِهّ العبّاس عمّ محّمد ... فبذاك تمَّ جَلاُلهُ
خَجِل الحَيا بسخائه متبرّعاً بندى يَدِ ... متتابع تَهْطاُلهُ
جُود السّحاب بمائة والمستضيءُ بعَسْجَدِ ... فاعتاقَه إخْجاُلهُ
دان الزمان لفخره ولماله من مَحْتِدِ ... وعنت له أقياُلهُ
وأمدَّه الرحمان منه بناصر وبمسْعِدِ ... وأطاعه إقبالُهُ
وأجاب فيه دُعاءَ قِنٍّ مخلص متعّبدِ ... نطقت بذلك حالُهُ
وقال أيضاً يمدحه ويهنئه بالخلافة:
قد أمَّنَ الله ما كنّا نُحاذِرُهُ ... بعدل مولى زكت منه عناصرُهُ
خليفةٌ عمّ أهل الأرض قاطبة ... جوداً، وطبّقت الدنيا مآثرُهُ
واستبشرَ الدَّهْرُ لما صار مالِكهُ ... تَمْضي عليه بما يَهْوى أوامرُهُ
أجرى إلى العدل من سيل بمنحدرٍ ... فيا له بحرَ جُودٍ عَبَّ زاخرُهُ
ينهْنِهُ العلمُ منه غَرْبَ بادِرَة ... وجُودُهُ باقتنا الحمد آمِرُهُ
فاللهُ من غِير الأيّام كالِئُهُ ... بلطفه وعلى الأعداء ناصِرُهُ
سمعاً إمامَ الهدى من عبد نعمتكم ... عبد صفت لكمُ منه سرائرُهُ
ما زال يأمُلُ هذا اليوم مبتهلاً ... فحينَ وافى وَفى بالنَّذْرِ ناذرُهُ
بسطت آمالَهُ من بعد ما قبضت ... فطار بالنُّجْح في مَسعاه طائرُهُ
ولاؤكم يا بني العبّاس جُنَّتُهٌ ... وحُبّكمْ أخلصت فيه ضمائرُهُ
غرستموه فأضحى مُخِلصاً لكمُ ... تجيد في شكر نُعماكم خواطرُهُ
يا ابن الخلائف، دْم واسلم، وكن أملي ... بك هتدى في ظلام الليل حائرُهُ
قد أحكمَ الله عَقْداً أنت عاقده ... وعِز ملكك قد شُدَّتْ مرائرُهُ
وقال يمدحه:
عَدْل الإمام المستضيء الحَسَنْ ... أجارَ من جَوْر صُروفِ الزَّمَنْ
كم من عيونٍ في الورى أُسهرتْ ... بالجَوْر قد أهدى إليها الوَسَنْ
وطالما رُوّع قلبُ العُلى ... فالآن قد قرَّبه واطْمَأنّْ
وأصبحت دولتُهُ روضةً ... زاهرةً تُذِهبُ عنّا الحَزَنْ
وطوَّقَ الأعناقَ معروفُهُ ... فينا بأطواق اللُّهى والمِنَنْ
ولو رأى إفضالَهُ حاتِمٌ ... هامَ به من دَهَش وافتنْ
قد أوضحت سيرته بالنَّدَى ... لكلّ سارٍ في المعالي سَنَنْ
فما هَفا المذنب إلا عفا ... ولا شَكا الإمحالَ إلاّ هَتَنْ
قُلْ لإمام العصر: يا ذا الذّي ... حلَّ من الفخر الذُّرى والقُننْ
خِلافةٌ بالنصر قُلِدّتْها ... أنت حقيقٌ بحلاها قَمِنْ
دعا عبدٍ مخلصٍ يستوي ... في حبّكم إسرارُهُ والعلَنْ
وَلاؤكم أضحى له جُنّةً ... من كلّ ما لا يُتَّقي بالجَنَنْ
جرت أياديكم وآلاؤكم ... منه كمجرى دمه في البَدَنْ

لِسانُهُ منذ بدا ناطقاً ... لُزَّ مع الشكر لكم في قَرَنْ
يقول: إنْ لم أُلْفُ مُسْتَهَتراً ... بشكر ما أوليتموه، فَمنْ؟
فدُمْ رفيع القدر ذا قدرةٍ ... ما هتفت قُمرّيةٌ في فَنَنْ
وأنشدت له، وذكر لي شمس الدين بن نزار أنها للعالمة جوهرة بنت الدوامي، وهي ببغداد من المعروفات الحسان:
هبَّ النسيم بحاجرٍ ... فتنّبهتْ أشواقُهُ
ووَشتْ بما حوت الضلو ... عُ من الجوى آماقُهُ
ناديتُ والبيَنُ المش ... تُّ غدت تُزَمُّ نِياقُهُ
يا مُشِبهَ الشّمس المني ... رة في الضُّحى إشراقُهُ
الصّبّ فيك مُعَذَّبٌ ... مُضنَي الحَشى مُشتاقُهُ
والقلب في أسر الهوى ... ما تنقضي أعلاُقهُ
إرْحَمْ معنّىً في الهوى ... ما إنْ يحّل وَثاقُهُ
أمسى لَديِغَ هواكمُ ... ووِصالُكمْ تِرْياقُهُ

باب في محاسن الشعراء
الحيص بيص
وأفضلهم الأمير الهمام شهاب الدين أبو الفوارس، سعد بن محمد بن الصيفي التميمي، من ولد أكثم بن الصيفي. ذو الجزالة، والبسالة والأصالة. جزل الشعر فحله، قد علا محله، وغلا فضله، وأطاعه وعر الكلام وسيله.
قرأت عليه ديوانه، واغتنمت زمانه، وشكرت إحسانه.
فمن كلامه المنثور في خطبة ديوانه، يفضل الشعر على النثر، قوله: وحسب الشعر فخراً أن الإنسان يسمع المعنى نثراً فلا يهز له عطفا، ولا يهيج له طرباً. فإذا حول نظماً فرح الحزين، وحرك الرزين، وكرم البخيل، ووقر الإجفيل. وقرب من الأمل البعيد، وسن الغناء لغير الغريد. وكم أوجف بالجبان إلى مأقط الحرب العوان، فروى حد السيف والسنان، من دماء الشجعان. وكم أعاد جلمود اليد الصيخود، هاطل غمامة بالجود، فهمت لغير سائل وسحت على غير شائم. وكم ارتسن الجليد القرحان بحبل الصبابة والتهيام. وكم أحدث سلوة للمعمود وقد أعيت مداخله، وكلت لوامه وعواذله. وكم استل سخيمةً من ذي غمر عجز عن مداراته الحجا، وضعفت عن استرجاع وده الرقي. فما كان متصرفاً هذا التصرف في النفوس والأخلاق، فأكبر بشأنه، وأعظم بمكانه!.
ومنها يصف حاله: وقد علم عصري وبنوه، وزماني وأهلوه، أني ابتدرت شعفات الفضل غلاماً يفعةً، هاجراً إليه كل خفض ودعه، ففرعتها شامذ النطاق، مشمراً عن ساق، أستلين عندها السيال والغرقد، وأستخشن وثير المضجع والمرقد، فانغمست في كبات العلوم جرياً، وعمت في جمتها ملياً، ونازلت خمس أبطالها مدرها هبرزياً، وشهدت معارك الجدال، مع فرسان المذاهب والأقوال، فعرقت الجباه، وألقمت الحجارة الأفواه. ثم جاشت بالشعر مراجلي، وأستمرت إليه أعناق رواحلي، وأذكرني ما غبر من مساعي أوائلي، فعطفت عليه عطف باغم فقيد، ذات طلاً فريد، بغارب بعيد، لا مرعى ولا مورود، فوجدته قد بعد للؤم الزمان، وبعد لفقد الإحسان. وأبت إلى القوة فيه، عن كتمان قوافيه، فما هو إلا أن فهت به قائلاً حتى كفر فضائلي بذكره، وغمر أريج علومي برياه ونشره، وطفق يطوي البلاد طي الربد المجلحة، يخلط البيد بالآكام، والحضيض باليفاع، حتى كان كما قلت:
سرى ذكر فضلي حيث لا الريح تهتدي ... طريقاً، ولا الطير المحلق واقع
وله ابتداءات حسنة مخترعة، ومخالص مستطرفة مبتدعة. فمن جملة ابتداءاته، وقد خلع على الوزير، فمدحه بقصيدة أولها يشير إلى الخلعة:
جعلت من الحدثان أحصن أدرع ... فلقد سنن على الكريم الأروع
ومن جملة مخالصه:
تزاحم أشجاني إذا ما ذكرتهم ... زحام المقاوي عند باب ابنِ مسلم
ومنها وقد وصف الحرب:
كأنّما دمُ أوداج الرجال به ... سيلٌ تَدافَعَ، أو جودُ ابنِ حمادِ
وله في عمي العزيز مدائح، ومن جملتها قطعة كتبها إليه بأصفهان في قحط:
أظنّ اعتقاد النسخ صحَّ دليُله ... فعاد إلى ترتيبِ أوصافِهِ الدَّهْرُ
عزيزٌ يَمير المعتفين، وسبعة ... شداد، وجيّ في مساغبها مصر
فمن شعره ما استخرجته من ديوانه على ترتيب الحروف في الافتخار والمديح: الهمزة قوله من قصيدة:

ترى الجار فينا غير شاكي خَصاصة ... إذا ضاق ذرع الحيّ بالنُّزَلاء
كأنّ القُرومَ الهادرات عشيّةً ... مراجلنُا في أزْمة وشتاء
سعيت فلم أترك قديماً، وإن أعش ... نسخت بفخري مفخر القدماء
ومنها:
بنفسيَ من جور الحوادث وعكة ... وعند قراع الدارعينَ شِفائي
أما في ملوك الخافَقْينِ ابنُ همّةٍ ... يكفّ بميسور الكفاف عَنائي؟
يصون نَداهُ ماء وجه أراقه ... طِلابَي للجدوى من البخلاء
وهيهات ذاك الآل أن ينقع الصدى ... وإن خاله الظّمآن مورد ماء
ومنها في التخلص إلى المدح:
إليكم، فإنّي سيّد القول، ما جرى ... لساني، وهذا سيّد الوزراء!
إذا ما بنى مجداً، وقلت قصيدة، ... علونا على السادات والفصحاء
ومنها:
وقور يشدّ الخطب حبوة حلمه ... إذا روعة حلّت حُبا الحلماء
بنانٌ ووجهٌ حين يُسأل حاجةً ... نَضُوحانِ ماءً من حَيا وحياء
ومنها في وصف القلم:
ومضطمر الجنبين يَخْطِر مائساً ... على لاحبٍ من طِرْسه وقوِاء
يذيب على الأطراس كلّ بليغة ... تذوب عليها أنفس العلماء
وله من قصيدة في مدح الإمام المسترشد بالله، أولها:
العزّ حيثُ البلدةُ الزوراءُ ... والمجد حيثُ القّبةُ البيضاءُ
فخر تسامى أن يزان بمدحه ... فالنطق عيّ والصُّمات ثناء
ومنها:
يقظان أبلج ينجلي بجبينه ... ودليله الاشكال والظلماء
فتوُّهمُ المتجادلين حقيقة ... منه، وليل المدلجين ضياء
غيث وليث يرعوى لبنانه ... بأس العدى واللَّزْبَة الغبراء
فلمحفظيه مَتألف ومَعاطب ... ولمعتفيه مكارم وعطاء
خمصان يقلى الزّادَ غير ممرض ... وله التقّية مطعم وغداء
نور أضاء الأفقَ ساطع لمعه ... فعلى الزّمان وأهِلِه لألاءُ
ومنها في صفة الجيش:
وعرمرمٍ كاليمّ هِيج بعاصف ... شَرِقت بفضل عبابه البيداءُ
نسخ الفلا والصبحَ رَكَضْ ُجياده ... فالأرض جوّ والصبّاح عِشاءُ
طردت فوارسه وما لاح العدى ... حرصاً، فكل كتيبة دفواء
تدنو له عُتُق القشاعم مثلما ... يحتفّ بالمتصدّق الفقراء
والخيل تقتحم الغبار كأنّها ... نبل الجَفير وقد أُجيد رِماء
تزجي سنابكها سحاباً قطره ... منها مسيح هاطل ودماء
ينقلن كلّ مُساور ذي همّة ... تجلى بحدّ حسامه الغَمّاء
حنّ الكمُاةُ إلى النّجيع ولونه ... فلذاك كلّ عصابة حمراء
وطمى أتِيُّ الحرب حتى ماؤه ... مهج الفوارس، والرؤوس غُثاء
أجرى أمير المؤمنين جِياده ... ظمأى، وعاد بهنّ وهي رواء
فبِطاء خيل الطّالبين سريعة ... وسراع خيل الهاربين بِطاء
رهباً لأِغلبَ، لا مفرَّ لهارب ... منه ولو أنّ النّجوم وقاء
وقوله من قطعة في مديح الوزير الزينبي:
إنّي خبرت علاه خُبْرَ مجرّبٍ ... فجعلت صفو قلائدى لثنائه
وتعلمتْ منّي الخواطر جوده ... فبدائهي في الحمد مثلُ عطائه
ولقد أغيب فتعتريني ظلمة ... في الحسّ يجلوها ضياء لقائه
ملآن من كرم، فإن فتّشته ... أبصرت خلو القلب من شَحْنائه
وقوله في ابن طغايرك:
لفخر الدين أخلاق كرام ... يضيق الحمد عنها والثناء
تنكُّرُها على الأعداء نار ... وعَطفَتُها على العافين ماءُ
إذا مرَّت على ليلٍ بهيمٍ ... تجّلله التّبلّج والضياءُ
وله من قطعة:
أظَللُّ مريضاً بالصَّدى دون وِرِدْكم ... وأشقى به والوارداتُ رِواءُ
وأحبِس أعناقَ المطيّ عن السُرى ... وللشوق ما بين الضلوع مَضاءُ

ولمّا دنت داري إليكم تعرّضت ... موانع قُرْبى عندَها عُدَواءُ
فللّهِ دَرُّ القَيْل من آل أرْتَقٍ ... إذا ذُكِرَتْ أكرومَةٌ وحياءُ!
البآء وقوله في الافتخار:
خُذوا من ذِمامي عُدَّةً للعواقبِ ... فيا قربَ من بيني وبين المَطالب!
لَواني زماني بالمرام، ورَّبما ... تقاضيته بالمُرْهَفات القواضبِ
على حين ما ذُدْت الصِبّا عن صبابةٍ ... ذِيادَ المطايا عن عِذاب المَشاربِ
ورُضتُ بأَخلاق المشيب شبيبةً ... مُعاصيةً لا تستكين لجاذبِ
عقائلُ عزم لا تُباح لضارِعٍ ... وأسرار حزمٍ لا تُذاع للاعبِ
وللهِ مقذوفٌ بكلّ تَنُوفَةٍ ... رأى العز أحلى من وصال الكواعبِ
أغرَّ الأعادي أنّني بِتّ مُقْتِراً ... ورُبَّ خلّوٍ كان عونا لواثبِ؟
رُوَيدَ كُمُ، إنّي من المجدِ مُوسِرٌ ... وإن صَفِرتْ عما أفدتم حقائبي
هل المال إلا خادِمٌ شهوةَ الفتى ... وهل شهوة إّلا لِجَلْبِ المعاطِبِ
فلا تطلبنْ منه سوى سّدِ خَلَّةٍ ... فإن زاد شيئاً فليكنْ للمواهبِ
مَرِهت بإدْماني سُرى كلّ حادثٍ ... ولا كحلَ إّلا من غبار المواكبِ
فلا تصطلوها، إنّها دار مِيّةٌ ... مَواقدُها هامُ الملوكِ الأغالبِ
سأضرمها حمرا، ينزو شرارُها ... على جَنَباتِ القاع نَزْوَ الجنادبِ
بكلّ تميميّ كأنّ قميصَهُ ... يُلاثُ بغصن البانة المتعاقبِ
ومنها:
إذا كذب البرق اللموعُ لِشائمٍ ... فبرقُ ظُباها صادقٌ غيرُ كاذبِ
فوارسُ باتوا مُجمعين، فأصبحوا ... وآثار عقد الرأي عقد السبائبِ
إذا شَرَعوا الأرماحَ للطّعنِ خلْتَهُمْ ... بدوراً تجارى في طِلابِ كواكبِ
أسودٌ إذا شبّ الخميسُ ضِرامَهُ ... أسالوا نفوس الأسْدِ فوق الثّعالب
ومنها:
ورَكْب كأنَّ العيسَ أيّانَ ثوّروا ... تساوق أعناق الصَّبا والجَنائبِ
خِفاف على أكوارها، فكأنّهم ... من الوَبَرِ المأنوس عند الغَواربِ
هذه مبالغة في خفة الرجال على الرحال كأنهم بعض أوبار الأباعر.
إذا أضمرتهم ليلة أظهرتهم ... صبيحتها بين المنى والمآرب
ومنها في طلب غرض:
وبي ظمأ لم أرضَ ناقع حرّهِ ... سواك، فهل في الكأس فضل لشارب؟
وله من قطعة إلى بعض الأمراء:
أبا عُمارَة، إنْ شطت منازلنا ... فَمِنْ معاليكَ إدناءٌ وتَقريبُ
كما يجوز ضياءُ الشمس مطلَعَها ... ويبعث العَرْفَ للمستنشق الطِيّبُ
أنت الأمير، ووجه الشمس ملتثمٌ، ... واليوم ليلٌ بركض الخيل غِرْبيبُ
أحِنّ شوقاً على نأي الدّيار بنا ... كما تَحِنُّ إلى حِيرانها النيّبُ
ولو ثنت عن وِداد الشيء غيبُته ... لما أضَرَّ لفَرط الشوق يَعقوبُ
وقوله في الافتخار من أخرى:
نَكِبّا صَمْتي، وخافا صَخَبي، ... لا ركبتُ الخيل إنْ لم أغضَبِ
وأحذرا آخرَ حِلْمي، إنّما ... لَهْذَمُ الذابل أقصى الأَكعُبِ
وأْذنا للقول من مَعْدِنه ... إنّ جدّض القول غير اللَّعِب
ومنها:
يا رُواةَ الِشّعر، لا تَرْوُوهُ لي ... فبغير الشعر شِيدَتْ رُتَبي
وَدَعُوهُ لضعافٍ عيُّهُمْ ... مانعٌ عنهم زُهَيْرَ المكسب
وَرَدُوا الفضل، وما بلّوا به ... مَسْمَعاً، والشّرب غير المشرب
ومنها:
لست بالقاعد عن مَكرُمَةٍ ... وأبو رَغْوان ذو المجد أبي
عَفّروا للسّلْم من أوُجهِكُمْ ... إنَّها خيلُ حكيم العَرَب
قبل يومٍ هامُهُ في صعدٍ ... حيثُ ما أبدانُه في صَبَبِ

يعسل الذئب إلى معركه ... شائم الأرزاق عند الثعلب
وله من قصيدة في وصف أبيات كتبت إليه:
صادرات ألفاظهنّ عذاب ... عن خلال مهذَّبات عِذابِ
كلّ روعاء لو تقلّدها الفا ... رس أغنت عن صارم قرضاب
أذكرتني أيام عصر التّصابي ... ومَراحي، وابن عهد التصابي؟
حين لا آمرٌ يطاع سوى الله ... و، ولا حاكم سوى الأحباب
وله يصف حصاناً لمظفر الدين يرنقش البازدار صاحب قزوين:
مظفّر الدين، إن فاق الرجال فقد ... فاق الجياد بيوم الطرد أشهُبهُ
تعلم السبقَ منه في مناقبه ... من فرط ما راح يُجريه ويَرْكَبُهُ
مصغٍ إلى هاجس من سرّ فارسه ... كأنه بضمير الركض يضربُهُ
يدنو عليه بَعِيدُ الأرض مرتكضاً ... كأنّ مربطه في الشّدّ سَبْسَبُهُ
يرنقش كسليمان بأشهبه ... إذا غدا ورُخاء الرّيح مركبُهُ
لما تعوّد في حربٍ خِضابَ دمٍ ... غدا لدى السّلْمِ بالحِنّاء يَخضِبُهُ
ومن قطعه:
تطيش الرزايا حوله وهو راسخ ... يزيد وقاراً من طروق النوائب
وكتب عند قصده الموصل في أيام أتابك غازي بن زنكي:
يَقَرُّ بعيني أن أُجّشمَها السُّرَي ... سِراعاً كظِلْمانِ المُرُوت السَّباسبِ
ِلأنظُرَ بالحَصْباء من سِيفِ دجلةٍ ... أغرَّ كنَصْلِ السَّيْفِ جمّ المَناقب
تنوّرتُ منه لمعةَ المجدِ يافعاً ... فما رِمْتُ حتّى طوَّحَتْ بالغَياهبِ
فجاء عماد الدّين وابن عماده ... طليق المحَيّا في قُطُوب النّوائبِ
يموتُ الرّدَى والمحل عندَ قبابه ... إذا سَلَّ سَيْفَيْ نَصْلهِ والرّغائب
وقوله من مديح في شرف الدين علي بن طراد الوزير الزينبي:
لَبِيق الغِنى لا ينُقصُ الفقرُ جودَهُ ... ولا يُمْتَرَى معروفه بالعواصب
مُريح غريب الحلم والخَطبُ طائش ... ومُغْري سَرايا صبرِه بالنّوائب
وحامل غُرْم الحيّ جلّ سراته ... مَريِرُ القُوى مستروحٌ للمتاعب
هو المرءُ، أقصى البأس منه لنَجْدة أل ... طريدِ، وأدنى مالِهِ للمواهب
وما زال مِطْعامَ العشيّ، وسيّد ال ... نَّدِيّ، مشاراً في الوغى والمواكب
وقوله فيه:
ما طاب شيء في الزّمان لسامعٍ ... أو ناشقٍ إلا وعرضُك أطيبُ
َكلاّ ولا بَعْدَ النَّدى عن شائمٍ ... مستمطر إلاّ وجودُك أقربُ
ضَنْك الجوانح بالهضيمة مخرج ... وإذا حلمت فإنَّ صَدْرَك سَبْسَبُ
قد أعتب الدّهرُ الخؤونُ لعاتب ... أوسعتَهُ صدراً ولم يك يُعْتِبُ
فسُطاك موتٌ لأعادي قاتلٌ ... ونَداك للعافِينَ غيثٌ صَيّبُ
ومن قوله فيه يصف الفضل:
أبعدت بالفضل عمّن قبله سَفَهاً ... وبِتُّ للفضل منه أيَّ مقتربِ
والفضُل كالصبح يَهْدِيَ مَنْ له نظرٌ ... ولا يَصيرُ به الأعمى إلى أرَب
وله قصيدة في مدح الأمير هندي الزهري، وكان موضعه الزاب:
أجَا وسَلْمَى أم بلاد الزّابِ؟ ... وأبو المُهَنَّدِ أم غضنفرُ غابِ؟
رفع المنارَ بنو زهيرٍ في العلى ... بالفارس المتغطرف الوهابِ
بأَغرَّ بسّامٍ كأنَّ بَنانَهُ ... في كل مكرمة قطارُ سَحابِ
بالمانع البذّال غير مدافَعٍ ... في بذلِ معروفٍ وعزِّ صحابِ
عمّت فواضُلهُ وعَمَّ ثناؤه ... فالحمد والإِحسان في إصقابِ
ومنها في صفة الجيش:
وإذا الفلاة تضايقت أرجاؤها ... يوم الِهياجِ بجَحْفَل غلاّبِ
وتمطّرتْ قُبُلُ العُيُونِ، كأنّها ... بالقاع تحت القوم مُعْطُ ذئابِ
ظمأى إلى ماء الجراح كأنما ... تجري مواردُها بخدع سَرابِ

تطوي نضير الثمد وهي سواغبٌ ... طلباً لرعيِ جماجمٍ ورِقابِ
وأحْلَوْ لَكَ اليومُ المضيئةُ شمسهُ ... فالظُّهرُ جُنْحٌ غيرُ ما مُنجابِ
فعلى الدروع غَلائلٌ من عِثْيَرٍ ... وعلى مِجَنِّ الشّمسِ فضلُ نقابِ
لاقيت فخر الدين يكشف نَقْعَها ... كشفَ الغَزالةِ مضمحلَّ ضَبابِ
وقوله:
وكنتُ كبازيّ من الطّير أشهبٍ ... يُهاب تجلّيه وتخشى مخالِبُه
إذا انقضّ في إثْرِ البُغاثِ تفرّقت ... شَعاعاً، ومَنْ لم يَنْجُ حانت مَعاطبه
فأصبحت فّلاً بعد رائعِ نَجْدَتِي ... لِصِرْدانها، والدهرُ جَمٌّ عجائِبُهْ
وقوله:
الخُرْقُ يُرْهَبُ، لكنَّ الأناةَ لها ... عند التأيدّ أَضعافٌ من الرَّهَبِ
لا يأمَنُ الدَّهرَ بأسَ الجمر لامسهُ ... وقد يروح سليماً لامسُ اللَّهَبِ!!
وقوله:
سلامةُ المرءِ ساعةً عَجَبُ ... وكلُّ شيء لِحَتْفِهِ سَبَبُ
يَفِرُّ والحادثاتُ تطلُبُهُ ... يهرُبُ منها ونَحْوَها الهَرَبُ
فكيف يبقى على تقلّبهِ ... مسلمَّاً مَنْ بقاؤه العَطَبُ!
وله من قطعة:
نشوانُ من ذكر العلاء، كأنّما ... في كل مَنْقَبَةٍ مُدامة شارِبِ
ويبيتُ منه جارُهُ وضيوفه ... رَغَداً وأمناً في حِمىً ومَلاعِبِ
وقوله في التهنئة برجب:
أدْنَتْ لك العلياءُ نازِحَها ... فبعيدُ كلِّ فضيلةٍ كثَبُ
وَبَرَعْتَ في بأسٍ وفي كرمٍ ... فالحاسدانِ: البِيضُ والسُّحُبُ
فليهن عصراً أنت واحدُهُ ... فضلاً، وبعضُ شهورِهِ رَجَبُ
التاء وقوله في مديح الوزير الزينبي، في الأيام المسترشدية:
صُلْتُ منه بصقيل الص ... فْحِ مَطْرُوِر الشَّباةِ
بكريم الأصل مَشْ ... عُوفٍ بحبّ المأثُراتِ
بجميع العرض، والأم ... والُ منه للشَّتات
من قريش في نواصي المج ... دِ والغُرِّ السَّراةِ
شأنُهُمْ طعنُ الغَطا ... ريفِ وإدْمانُ الصِّلاتِ
واغتصابُ العزّ بالأي ... دي الطِوّالِ الغاشماتِ
واقتيادُ الخيلِ جُرْداً ... مثلَ سِيدانِ الفلاةِ
يَتَعَثَّرْنَ بملفو ... ظ الظُّبا والقَنَواتِ
بحروبٍ مظلماتٍ ... وَوُجوهٍ مُشْرِقاتِ
وقوله فيه من قطعة:
كأنّ مِجَنّ الشّمسِ فوقَ جبيِنِه ... إذا ما وجوهُ الحادثاتِ اكفهرّتِ
يدلّ عليه نَشْر عرض كأنّه ... رِياح الخُزامَى إذْ جَرَتْ فاستمرتِ
كثير اهتزاز العِطْف من طرب العلى ... إذا ما أحاديثُ المماجيدِ كَرَّتِ
وقوله في الوزير عضد الدين بن رئيس الرؤساء، وكان أستاذ الدار في الأيام المستنجدية:
أقولُ لِمْنِطيقٍ من الحَيّ فْوَهٍ ... بليغٍ إذا ما الْسنُ اللُّدّ كَلَّتِ
زعيمٍ بغُرمِ الفَوْت غير مُجَمْجِمٍ ... إذا لفظةٌ عن مسلك القول ضَلّتِ:
تحمَّلْ، رعاك اللهُ، شكري إلى الذّي ... به عظُمت حالُ المعالي وجَلَّتِ
إلى عضد الدين الجواد ابن عزّهِ ... نِجارٌ كشمس الصّبحِ حين تجلّتِ
فَثَمَّ النَّدَى الهامِي إذا السُّحْب أخلفتْ ... وثَمَّ الحِمَى الحامي إذا البِيضُ ذَلّتِ
حييّ جريء في العُفاة وفي العِدى ... إذا عدّةٌ زادت لفضليه قلّتِ
فيحتقر الجَمَّيْن دثْراً وجَحْفَلا ... عطاء وإقداماً إذا الخيلُ وَلَّتِ
يُسَنُّ قميصاه على شامخ الذُّرى ... إذا ما الحُبا من سَوْرة الخَطْب حُلّتِ
فلا زال فرّاعاً لِكلّ منيفة ... من المجدِ لو طارت بها الرّيح زَلَّتِ
الثاء وقوله في مدائح الوزير الزينبي:

يفضّله على ماء الغَوادي ... نَدى كَفَّيْهِ والخُلُقُ الدَّمِيثُ
له دوُنَ المَعابِ وُقوفُ وانٍ ... وفي طلب العلى عَنَقٌ حثيثُ
وزيرٌ في الثراء وفي الأعادي ... بنائله ونَجدته يُغِيثُ
قَشيِبُ العِرضِ لا يُرْمي بذمٍّ ... وعرضُ عدوّهِ سَمَلٌ رَثيِثُ
تَضاءلُ دُوَنهُ مُهَجُ الأعادي ... فنظرتُهُ لأنُفِسها تَمِيثُ
رزين العِطْفِ يحسب أنّ طَوْداً ... بِنِيقٍ منه عِمَّتهُ يَلُوثُ
تركتُ عليه غُرّاً، لو زُهَيْرٌ ... أصاخ لفضلها، فمن البَغِيثُ؟
الجيم وقوله في مديحه:
جُمِعَتْ لك الأوصافُ غيرَ منازَعٍ ... في غايةٍ، وسواك منها مُخْدَجُ
فحِماك معَتَصمٌ، وكفُّك دِيمةٌ، ... وسُطاك مَعْطَبةٌ، ووجهُك أبلجُ
هَيْفٌ على مُهَجِ الأعادي زعزعٌ ... وعلى الوليّ نسيمُ ليلٍ سَجْسَجُ
تكبو العزائم في محاولة العلى ... حِيناً، وعزمُك يستطيرُ ويمعَجُ
جذلانُ مبتسمٌ إذا ازورَّ الرَّدَى ... وإذا يُنيلُ المُعتفينَ فأبهجُ
وقوله فيه، وكأن حسن مدائحه فيه مقصور على حبي منائحه:
دعوت الّذي أرسى ثَبِيراً بِحَوِْلهِ ... وأعقب ظلما الدُّجَى بالتبلّجِ
دعاءَ بليغِ الالتماس مصرّح ... بآماله لا بالعيَيِ المُلَجْلجِ
بأن يَهديَ الآراءَ منك صوابها ... لدى كلّ مسدود المطالع مُرْتَجِ
ويجلو دجى الظلماء من كلِّ حادثٍ ... بواضحِ أمرٍ مثلِ وجهِك أبلجِ
وذلك مقدورٌ ليمنِ نقيبةٍ ... خُصصت بها في كلِّ أمرٍ بمَخْرَجِ
فإنّك من حبّ الصلاح تكادُ أن ... تصيب النَّدَى عند الضِّرام المؤجّجِ
إذا أخدجَ الرأيُ اللبيبُ لطارقٍ ... أتيتَ تماميَّ الحِجا غير مُخْدَجِ
شِعارْك إيساعُ الجَهالةِ رأفةً ... مع الحذق في ضرب الكَمِيّ المُدَجَّجِ
وقوله في الحكمة:
لا يُعْجِزَنْك المجدُ من بُعْدِه ... وإن نَضا عِيسَك إدلاجا
واسْلُكْ إلى إحراز غاياِتهِ ... وعراً من الرأي ومنهاجا
كم خاملٍ صار بتدبيره ... ما بين أبناء العلى تاجا
كوَرَقِ التُّوت على ضَعْفِهِ ... أصبح بالتدبير دِيباجا
الحاء وقوله في مدح الوزير الزينبي من قطعة:
إنّ الوزارة وهي مُعتَلَجُ العلى ... ومَقامُ كلِّ مُسَوَّدٍ جَحْجاحِ
نِيطتْ بأبلجَ من ذُؤابِة هاشمٍ ... جمِّ المآثِرِ ذي سُطاً وسَماحِ
نَشوانَ من رَجْعِ المديح كأنّما ... في كلّ قافيةٍ حُمَيّا راحِ
ومنها:
نكّبتُ عن سَنَن الفَخار توكّلاً ... منّي على المستبصر اللمّاحِ
وعلمت أنّ به أصيرُ إلى العلى ... فأجدت فيه قلائدي وفصِاحي
وله اعتْناءٌ بالرجال أظنّه ... ينتاشني عن موقف المُدّاحِ
وقوله فيه:
يظنّ الهوى العُذْريّ وجدي بمجده ... وما هو إلا الدارِميُّ المُبِّرحُ
ويحسبُ أني مادحٌ، وكأننّي ... لصدق مديح الزينبيّ مسبّحُ
مكارمُهُ أدنى من الغيث للغِنى ... وغُرَّتهُ من رَوْنَق الصبح أوضحُ
يَعافُ إباء فيه أدنى خَسِيفةٍ ... ويغتفرُ الجُرْمَ الجليلَ ويصفَحُ
ويهتزّ عِطْفاه ِلأُحدوثة العلى ... كما مال للكأس النَّزيفُ المرنّحُ
إذا طاشتِ الأحلام يوماً فَحْلُمهُ ... من الأورق العاديّ ذي النّيِق أرجح
وإن ضاق قلب بالصغيرة لامريءٍ ... فقلب عليٍّ بالكبيرة أسمح
وقوله ارتجالاً في أول لقية الأمير دبيس بن صدقة:
إنّي َلأُفْكِرُ في علاك فأنثني ... حيرانَ لا أدري بماذا أمدحُ

إن قلت: ليثٌ كنتَ أقتلَ سطوةً ... أو قلت: بحر ندى فكفّك أسمح
الدال وقوله في وصف الخال واللمى والعذار:
وليس اللّمى والخال زينة نظرة ... ولكنّها قلبُ المُتَيَّمِ ذي الوَجْدِ
نهبت سويداء الفؤاد بنظرة ... فقسمتها بين المُقَبَّلِ والخدِّ
وقوله من قصيدة في الوزير الزينبي:
كيفَ الرُّقادُ، ولاتَ حينَ رقادِ! ... رَحلَ الشَّباب ولم أفُزْ بمراد
هِمَمٌ عن الغَرَض المحاول بُدّلتْ ... أملاً فبَدلتِ الكرى بسهاد
سِيّانِ: معتلجُ الحِمامِ، وحسرة ... ضربتْ وجوهَ العزمِ بالأسدادِ
إنَّ المعَاليَ حالَ دونَ بلوغِها ... عَدَمُ الثَّراء وقِلّةُ الإنجادِ
فعلى العراقِ كآبة من مُغْرَمٍ ... جعل الضّلوعَ ركائبَ الأحقادِ
يُبدِي حَفائظه، وليس بحاصل ... إلا على الإبراقِ والإرعادِ
ومنها:
طَرَقتْ بأشراف العُذَيْبِ مُسَهَّداً ... أغضى الجفونَ على قَذىً وقَتادِ
والجَوُّ من فَقْدِ الصبّاح كأنّه ... أسوانُ مشتملٌ بثوبِ حِدادِ
ومنها:
ما أنصفتْ بغداد ناشئَها الذّي ... كَثْرَ الثّناءُ به على بغداد
سَلْ بي إذا مدَّ الجدالُ رِواقَهُ ... بصوارمٍ غير السيوف حِدادِ
وجرت بأنواع العلوم مقالتي ... كالسيل مَدَّ إلى قرار الوادي
وذعرت ألبْابَ الخُصوم بخاطر ... يقظانَ في الإصدار والإيراِد
فتصدّعوا متفرِّقينَ كأنهّم ... مالٌ تفرْقه يدُ ابْنِ طِرادِ
وقوله في مدحه من قصيدة:
قربا مني حُسامي وجوادي ... وانظرا صدق ضرابي وطِرادي
ودَعاني من أحاديثِ الهوى ... فالعلى بين عِنانٍ ونِجادِ
إن بَرَى جسمي سَقامٌ عارِقٌ ... فبحُبُ المجد لا حُبِّ سُعادِ
لَقِحَتْ حربُ بني فاعلة ... جهلوا حّقي ولم يرعوا ودادي
ومنها:
نَطَقُوا لا نَطَقُوا في فارع ... رفع الفضلَ إلى السبع الشداد
نَقَمُوا منه عَلى أحرزَها ... والصّبا أغيد مخضر المَرادِ
بأس مطرور الشّبا بشفعه ... كلم تسخر من قسِّ إياد
ووراء الضيم نفس مرّة ... تسلبنّ العزَّ من خَرطِ القَتادِ
ومنها:
كَررِّا لَحْظَكما في عارضٍ ... لبسَ الصّبح به ثوبَ سواِد
يلمع البارقُ من حافاته ... بدِلاصٍ ونصالٍ وصِعادِ
مستهلّ القَطْرِ، لكنّ ملؤهُ ... حَلَبُ الأوداجِ، لا صَوْبُ العِهاد
ملأ الخَرقَ رِجالاً وقَناً ... وجِياداً مثلَ مبثوثِ الجرادِ
واستمرّ الطعن حتّى فُجِعَتْ ... ذُبلُ الخَطّيِّ بالزُّرقِ الحِدادِ
وأتى الضَّرْبُ دِراكاً مثلَما ... رادفَ الجُودَ عليّ بن طِرادِ
أسد يُخْشَى، وغيثٌ يرتجى ... في غنى مُقْوٍ وإرْغامِ معادي
وقوله من قصيدة في مدح السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه في السهم والقوس وغيرهما:
أَلْقِ الحدائجَ تَرْع الضُّمرَّ القودُ ... طال السُّر وتشكّت وَخْدَك البيدُ
يا ساريَ الليلِ لا جَذبٌ ولا فَرَقٌ ... النّبتُ أغيدْ والسلطانُ محمودُ
قَيْلٌ تألفت الأضداد خيفته ... فالموردْ الضَّنْكُ فيه الشاءُ والسِّيدُ
أغرّ يُشرقُ ديجورُ الظلامِ به ... ومشرقاتُ الضحى من غزوه سُودُ
تروى غروب الظّبا والمعفين به ... ما أنبطَ الجُرح أو ما أسبلَ الجودُ
ومنها:
يَزيدُه جَذَلاً صوتُ الصريخِ ضُحى ... كأنّما الحربُ في ألحاظه رُودُ
الْهُوبُ حربٍ له يوم الوغى شُعَل ... وماءُ سلم شهيّ الطعم مورودُ
ومنها في وصف السهام:
يصْمِي بطيرٍ من الأعوادِ هافيةٍ ... أو كارهنّ المَجالِي واللغَّاديدُ

من كلّ أهيفَ ممشوق يظاهره ... مُؤَلَّلٌ من حديد الهند مجرود
ألفى به النّسر عهداً من قوادمه ... يَمِيره، ورواقُ الحربِ ممدودُ
كأنّ مرماهُ مغناطيسُ أنْصلِه ... ففيه قبلَ انتحاء القصدِ تسديدُ
لو أبصرتْ عينُ داوودٍ مَنافِذَهُ ... لما تحدّى بِنَسْجِ السَّرْدِ داوودُ
ومنها في صفة القوس:
من قلب مَحْنِيَّةٍ مَلْوِيّةٍ قُذُفٍ ... سِيّانِ في قصدها قربٌ وتبعيدُ
لها رنينٌ إذا ما انْبِضَتْ زَجِلٌ ... كما أرنَّ أبِيُّ النّفس مجهودُ
كأنّها حاجب المذعور، مرشقة ... ما فيه للخوفِ تدريجٌ وتجعيدُ
وتنثني حين تلفى غيرَ مُوتَرَةٍ ... كأنّها حاجبٌ بالغيظِ معقودُ
وفي صفة الرمح:
له ألَفُّ قَويم القدّ معتدلٌ ... مثقَّفٌ من عروق الخَطّ أُمْلُودُ
سكران من عَسلان في مَعاطفه ... لكّنه عند طعنِ النّحرِ غرّيدُ
وفي صفة السنان:
يجري به وهو كَيْوان لزرتته ... وينثني وهو كالمريخ مَزْؤُودُ
وفي صفة السيف:
وصارم يسبق التقحيمَ، قَتْلَتهُ ... يومَ الكريهةِ والإيماء تقديدُ
يغتالُ من لمعانٍ لحظَ ناظرهِ ... فما لمِقُلة راءٍ فيه ترديدُ
كأنّه جدولٌ والبحرُ قابضُهُ ... إذا انتضاه شديدُ البأس محدودُ
وفي صفة الفرس:
على أقبَّ رحيبِ الصدرِ ذي خُصَلٍ ... فيه علي الريح تبريزٌ وتجويدُ
نَوّام مربطة، يقظان معركة، ... سهل العنانِ، وفي التَّعْداءِ تشديدُ
مصغٍ إلى هاجس من سرّ فارسه ... كأنّه بضمير الرَّكض مجلودُ
وفي صفة الجيش:
في جحفل كأتِيّ الطّود ذي لَجَبٍ ... له بمخْترقِ البيدا تنضيدُ
كأنّما القاعُ طِربىٌ وهو أسطره ... والبيِضُ والسُّمْرُ إعرابٌ وتأكيدُ
كأنَّ حَيّا تَهادَوْا نارَ ممْسِيةٍ ... نار السنابك تعليها الجلاميدُ
لاحت به الطّلعةُ الغرّاء، إذ حجبت ... شمس الضُّحى، فضياء اليوم موجودُ
من نور أبلجَ، لا في عوده خَوَرٌ ... للعاجمينَ، ولا في الرأي تفنيدُ
صَدقُ البديهة في تأميم مقصده ... وللِرَّويَّةِ تصويبٌ وتصعيدُ
ومنها في مدح قوم الممدوح:
قومٌ أنامِلُهم سُحْبٌ، وأعصرهم ... خِصْبٌ، وعافِيُهم في الجَدْبِ مورودُ
ومنها:
من كلّ متعصبٍ بالتاج، يَنْعَتُهُ ... على المنابر تعظيمٌ وتمجيدُ
يُهاب، وهو جَنِينٌ قبلَ رُؤْيتِهِ ... ويستقادُ إليه وهو مولودُ
وفي التهنئة بالصوم والعيد:
يا صائماً قبلَ صومِ اليوم من وَرَعٍ ... هنّاك باليُمْن هذا اليومُ والعِيدُ
وله من قصيدة في مدح السلطان طغرل بن محمد بن ملكشاه:
أأهجع أم آوي إلى لِينِ مرقدِ ... ولم يَرْوَ في كّفيِ غرارُ مهنَّدي؟
ومنها في الافتخار:
إذا أخمد النّيرانَ قرٌّ مُراوِحٌ ... بأهداب رَجّافِ العشيّةِ مرْعدِ
ولم يُطقِ العجلانُ في قَبْسِ ضَرْمةٍ ... حِفاظاً، لِما يعروه من رعشة اليدِ
ولاذت بفرث المُودياتِ مع الدُّجَى ... من القُرِّ رعُيْانُ العَزِيبِ المبدَّدِ
رأيت ضيوف الدارِمييِّن هُجَّعاً ... لدى مثوى من رِجال وموقدِ
ومنها في صفة الركب:
أقولُ لرَكْبٍ مُدْلِجينَ تذارعوا ... بُرودَ الفَيافِي بالرَّسِيمِ المُردَّدِ
نَشاوَى من التّهويمِ حتّى كأنّما ... سقاهم سُهاد الليل خمرةَ صَرْخَدِ
إذا ساور الإعياءُ منهم غَرِيمَهٌ ... نَفاه مقالٌ من فصيح مغرّدِ
وقد لفظوا عن عِيسهم كلَّ مثقلٍ ... من الرَّحْلِ حتّى بُلْغَهَ المتزوّدِ
خذوا برقاب العيسِ إنْ رمتم الغِنى ... إلى ذي الأيادي طغرل بن محمّدِ
ومنها:

يُذَمُّ بأفواه العِشارِ عشيّة ... وتَحْمَدُه العِقبانُ عندَ ضحى الغدِ
ومنها:
وأبلج متلاف كأنّ نَوالَهُ ... تحدَّرُ سيلٍ من ذُرَى الطّود مُزْبدِ
هنيء الندى، لا واهبٌ بوسيلة، ... ولا شائب المعروفِ منه بموعِدِ
ومنها:
إذا غَدَرَتْ دارٌ، وَهبْتَ ترابَها ... لأَيدي المَذاكِي والعجاج المْصَعِّدِ
ومنها:
وكم جلّ جُرمٌ فاغتفرتَ خطيرَهُ ... بحْلمٍ جميلِ الصفحِ رَحْبِ التغمُّدِ
وقوله من قصيدة في السلطان مسعود بن محمد نظمها بمرو سنة اثنتين وعشرين:
حيّ نجداً وأين من مَرْوَ نجد؟ ... إنّما يبعثُ التحيّةَ وَجْدُ!
عرضت بيننا البلادُ، وأضحى ... للمطايا دونَ التّزاوُرِ وَخْدُ
شامخاتٌ من الجبال صِعابٌ ... وقِفارٌ من التنائف مُلْدُ
ووراء الفراق طيفُ خيالٍ ... لم يَعُقْهُ عن الزيارة بُعْدُ
يفضل اليقظةَ الكرى حين يخطو ... والظّلام الصّباح أيانَ يبدو
لا تظنّوا أنّ الغرامَ وإنْ بِنّ ... ا وبِنْتُمْ يقضي عليه الصدُّ
دون سَلْوانِ حبّكم زفَراتٌ ... لا فحلتٌ لها ضِرامٌ ووَقْدُ
ومنها:
هان عندي الزَّمانُ بؤْسَي ونُعَمى ... وتساوى نحس لديَّ وسعدُ
وإذا الحبّ لم يَدُمْ، فسواءٌ ... عَذُبَ الوصلُ، أو أمرّ البعدُ
يفعل اللهُ ما يشاء، فما مِنْ ... هُ مفرٌّ، ولا لمِا شاء ردُّ
حازمُ القوم عاجزٌ في توقّي ... ه، وكالجاهل اللبيبُ الأسَدُّ
ما لفضلي يُذالُ بين أناسٍ ... جودُهم موعدٌ، وشعريَ نقدُ!
كنزوا المالَ للخطوب، وذمّي ... لَهُمُ من أشدِّ خطبٍ أشدُّ
كم أذَلْتُ المديح في حمد قومٍ ... كان كفراً بالمجد ذاك الحمدُ
حرجاً ألجأ الصدوق إلى المَيْ ... نِ، وما من لوازم العيش بدُّ!
لستُ أخشى فوتَ الغنى وأمامي ... شرفُ الحظ والمليكُ الجَعْدُ
ملك عنده قِراءانِ للضي ... فِ وللجيش: فتكه، والرِّفْدُ
كلّما نازلَ الكتائبَ والفق ... رَ، شكا جَحْفَلٌ، وأثنى وَفْدُ
نِعْمَ مَنْ لئّمتْهُ هَبْوَةُ حربٍ ... وجلاه تحت السنَوَّرِ طردُ
وادا ملّ سيفُه الغِمْدَ أضحى ... وله مَفرِقُ المتوَّجِ غِمْدُ
دارهُ حَوْمةُ الوَغَى من غِوارٍ ... وحشاياه عُودُ سرجٍ ولِبْدُ
ومنها:
مُتْلِفٌ ما احتواه جوداً وبذلاً ... يُهْدَمُ المالُ حيثُ يُبْنَى المجدُ
وله من مدح المظفر بن حماد:
ظِلُّ الأسنّةِ لا جُدْرانُ بغدادِ ... وسابغُ الزُّغْفِ لا مَوْشيّ أبرادِ
أدنى إلى المجدِ من عيشٍ يقارنهُ ... تهضُّمٌ من أباةِ الحمدِ أوغاِد
فارْغَبْ بنفسك أنْ يقتادَها رَغَدٌ ... ودونه جائر في حكمه عادِ
رحلت عنكم، فلا جِيدٌ بملتفتٍ ... إلى الدّيار، ولا شوقٌ بمُعْتاِد
وكم وراءَ رحيلي من مخّبرةٍ ... رَوْعاء بارقةٍ بالشرّ مِرْعاِد
يا غامزين قناةَ غيرَ خائرةٍ ... وراِسنينَ شديداً غير منقادِ
كفّوا عن الأورق العاديّ، إنّكم ... لا تستطيعون نقلَ الأورق العادي
ولا تسنّوا لأقوالي سِبابَكُمُ ... فما العَضِيهَةُ من شأني ولا عادي
ومنها:
وإن أكن مادحاً من غير قارصة ... فرّبما كنت يوماً حَيّةَ الوادي
وفي المخلص بعد وصف معرك:
وبالفلاة لنا يومٌ تراجمه ... بالهام يُنْجِزُ مأمولي وميعادي
كأنّما دَمُ أوداجِ الِرجال به ... سيلٌ تدافَعَ أو جود ابْنِ حَمادِ
ومن قطعة:
إلامَ أمَنّي النفسَ كلَّ عظيمةٍ ... ودهريَ عنها دافعٌ لي وذائدُ؟

وأسْتَوْكِفُ المعروفَ أيديَ معشر ... تموتُ الأماني عندَهُمْ والمحامدُ
إذا أنا بالغُرّ القوافي مدحتهم ... لعذر، هجتني بالمديحِ القصائدُ!
وله من قصيدة في مدح الوزير محمود بن أبي توبة وزير السلطان سنجر:
كّفي منالكِ عن لومي وتفنيدي ... صَبابتي بالعلى لا الخُرَّدِ الغِيدِ
أطلتُ حتّى حسِبتُ المجدَ منقصهً ... كلاّ ولو أنّه حَتْفُ المَماجيدِ
لمّا رأيت غراماً جلّ عن عَدَلٍ ... حسبته بهوى الحُسّانِة الرُّودِ
لا والرواقصِ في الأَنساعِ يبَعثُها ... زجرُ الحُداةِ بإِنشادٍ وتغريدِ
إذا ونَيِنَ من الإرْقال، واضطمرت ... من اللُّغُوبِ، خلَطْنَ البيدَ بالبيدِ
يَحْمْلَن شعثاً على الأكوار تحَسبُهُمْ ... أزِمَّةَ العيسِ من همّ وتسهيدِ
ما حَنَّ قلبي إلى الحسناء من عَلَقٍ ... لكنّني بالمعالي حِدُّ معمودِ
صَبابتي دون عِقْدٍ زانه عنقٌ ... إلى لواءٍ أمامَ الجيشِ معقودِ
أمِيس تيِهاً على الأحياء كلّهم ... علماً بأنّ نظيري غيرُ موجودِ
كيف الإجادةُ في نظمٍ وقافيةٍ ... عن خاطرٍ بصُروفِ الدهِر مكدودِ؟
كم قد قَريْتُ هنيَّ العزم نازلةً ... والخَطبُ يجْلِبُ في ساحات رِعْديدِ
تبصَّروُها مراحا في أعنّتها ... يَجِفْنَ ما بين مقتولٍ ومطرودِ
تَكِرَ في ليلةٍ ليلاءَ من رَهَجٍ ... على نجيع لخيلِ اللهِ مورودِ
تنزو بحُمْسِ هفت أضغانهم بهمُ ... فحطَّموا في التّراقي كلَّ أمْلُودِ
كأنَّ فَرطَ توالي الطّعنِ بيَنُهمُ ... وَلْغُ العواسلِ أو معروفُ محمودِ
الواهب الحتف والعيش الخصيب معاً ... فالموتُ بالبأسِ، والإحياءُ بالجودِ
ومنها:
إن أمسك الغيثُ لم يحبسْ مكارمَهُ ... طولُ المِطلِ ولا خُلْفُ المواعيدِ
مالٌ مُذالٌ وعرضٌ دون بذلته ... خوضُ الأسنّة في ماء اللَّغادِيدِ
أرقّ من خلق الصباء شيمته ... فإن يهجْ فهو كاسٍ خُلْقَ جلْمُودِ
ومنها:
فكلُّ مُعّضِلِ خطبٍ في رَوِيَّتِهِ ... حديدُ سابغةٍ في كفِّ داوودِ
ومنها في التهنئة:
فضلت حدّ التهاني فانصرفت إلى ... هنّي بك العيد من هنّيت بالعيدِ
وله من قصيدة في الأمير دبيس بن صدقة:
يغبّ الغيثُ أكنافَ البلادِ ... ويخلفُ بارقُ السُّحُبِ الغوادي
ويغبرُّ الشتاءُ، ومنه يرجى ... نموُّ الروض، أو رِيُّ الصَّوادي
وسيفُ الدولة الملك المرَجَّى ... سَحُوحُ الجودِ مُنْهَلُّ العِهاِد
يُبِيدُ نواله فَقْرَ المَقاوِي ... وحد حُسامِهِ مُهَجَ الأعادي
إذا افتخرت ملوكُ الأرضِ طرّاً ... بتعديد المساعي والأيادي
شآها عند معتبر المَعاِلي ... طويلُ الرمحِ واليدِ والنِّجاِد
طليقُ الوجهِ أغلبُ مَزْيديٌّ ... مضيء النار مرفوع العِمِاد
ومنها:
وباعثها إلى الغارات تهفو ... سِراعاً مثلَ مبثوثِ الجرادِ
فيَوْماً بالمشارق في مُغارِ ... ويوماً بالمغارب في جِلادِ
أجلت الخيل في الآفاق حتّى ... تخوّفت السماء من الطَّرادِ
وباراك الملوكُ فكنتَ منهم ... مكانَ الشامخاتِ من الوِهادِ
ومنها:
أطِعْ فيَّ العلى وازْجُر رجالاً ... سَعَوا في شأن مجدي بالفسادِ
فإنَّ الجاهلينَ بغيرِ خُلْفٍ ... لأهلِ لفضلِ قد خُلِقُوا لأعادي
ومنها:
أنا الرجلُ المُقرُّ بفخر فضلي ... وهمّتيَ الأصادِقُ والأعادي
فإنْ حَرْبٌ فعَمْروٌ في زُبَيْدٍ ... وإن نُطْقٌ فقُسٌّ في إيادِ
ولم أمنحك هذا الرأسَ إّلا ... لترفعني على السبع الشِّدادِ
ومنها:

وكم بدروبِ بغدادٍ حديث ... يَسُرُّكَ نَشْرُهُ في كلّ نادِ
بأنّي قد بلغتُ بك الثريّا ... وأنّي للترقّي في ازديادِ
فكن حيثُ الظّنونُ، فكُلُّ كسبٍ ... سوى الذِكْرِ الجميلِ إلى نَفادِ
وله من قطعة في مدح الوزير الزينبي:
جوادٌ، إذا ما أفقر البذلُ كفَّهُ ... غدا الشكرُ يُغني عرضه والمحامدُ
ويقظانُ في كسبِ العلى، غير أنَّهُ ... عن الجُرْمِ نوّامُ الحَفيظةِ راقدُ
وله فيه:
دأماءُ الجُودِ وخِضْرِمُهُ ... وحُسامُ البأسِ مُهَنَّدُهُ
مضّاءُ العزمِ وثاقبُهُ ... ومُصيبُ الرأيِ مُسَدّدُهُ
قَرَّاءُ الضيفِ وخادِمُهُ ... ومُشارُ الدهر وسيّدُهُ
يدنو للقِرْنِ فيَصْرَعُهُ ... ولِمَحْلِ العامِ فيَطْرُدُهُ
فالموتُ الفصلُ تَقَحُّمُهُ ... والطَّوْدُ الثَّبْتُ تأيُّدُهُ
وقوله:
مدحتكُمُ للوُدِّ، لا لرغيبة، ... وشتّانَ ما بينَ الرَّغائِبِ والوُدِّ
فجُدْتُمْ ولم أقدِمْ على ردِّ جودِكم ... محافةً أنْ أرْمى بداهيةِ الصدِّ
ونفّرتُمُ إنسَ القوافي وقد دنت ... إليكم دُنُوَّ العاطشاتِ إلى الوِرْدِ
ولمّا رأيتُ المدحَ فيكم فريضةً ... تحرَّجتُ من أخذ الجزاء على الحمدِ
فقل لرئيس الدين: مالي وللنّدى ... وحاجات نفسي منك في طلب المجدِ؟
قال: أرسل إلي شرف الدين الزينبي فضة، لأصوغ لي دواة من الفضة، فصغتها، وكتبت عليها:
قد حويتُ الشُّهْدَ والسُّمَّ معاً ... بالندى والبأس في لونِ مِدادِ
وفضلتُ الجنسَ، إذ يُكْتَبُ بي ... مدحُ مولانا عليِّ بْنِ طِرادِ!
وله في التغزل:
عجزتُ فما لي حِيلةٌ في هواكُمُ ... سوى أننّي أزدادُ وَجْداً مع الصَّدِّ
ولو أننَّي جاهدتُ نفسيَ فيكُمُ ... سلوتُ، ولكنْ لا جِهادَ على العبدِ
وله في الحكمة:
لا تلبس الدهرَ على غِرَّةٍ ... فما لِمَوْتِ الحيّ من بُدِّ
ولا يخادِعْك طويل البقا ... فتحسب الطولَ من الخُلْدِ
يَنْفَذُ ما كان له آخِرٌ ... ما أقربَ المَهْدَ من الَّلْحدِ!
وله:
وفُرْقةُ ما يعاد عليك صعبٌ ... فكيف فراقُ شيء لا يُعادُ؟
وله في المطل:
رُبَّ رِفْدٍ وإنْ تكاثر عَدّاً ... قلّ من فَرْطِ كَثْرِة التَّرْدادِ
إنّما الجودُ كالحياةِ، ولكن ... يعتريها السَّقامُ بالميعادِ
وسؤالُ الأحرارِ من غيرِ خُلْفٍ ... ثمنٌ للنَّدَى من الأجوادِ
الراء وله في الوزير جلال الدين أبي علي ابن صدقة في الأيام المسترشدية، وكان قد عتب عليه:
وراءَك أقوال الوُشاةِ الفَواجرِ ... ودُونَك أحوال الغرام المُخامِرِ
فلولا وَلُوعٌ منك بالصَّدِّ ما سَعَوْا ... ولولا الهوى لم أنتدب للمعاذِر
تزاور نومي أنْ هجرتِ، وطالما ... صغاِ صغْوَ جَفْنٍ، إذ وصَلْتِ، وناظِرِ
لقد أنجمت تلك العهودُ، كانّها ... جَوافلُ طيرٍ نُفِّرَتْ بالخوادرِ
فلا الطَّيْفُ للطَّرْفِ القَريحِ بسانحٍ ... ولا الحِبُّ للصبّ المُعَنَّى بزائرِ
سليمٌ من الأشواق شِيبَ بكاذب ... وأمنٌ من الإلمام رِيع بهاجرِ
وباكٍ إذا ما اجدب العامُ عندَه ... سقى التُّربَ من أجفانِهِ بالمواطرِ
أصَخْت ولو أرعيت بعديَ مَسمَعاً ... لرُدَّ على أعقابه كلُّ فاجرِ
وحملتني ذنبَ الكذوبِ، ولم تَزَلْ ... يدَ الخَطبِ تُدْمِي ناقلاً غير عائرِ
عصيتُ أميرَ العَذْلِ فيك، وطالما ... تداوَلَ سمعي مُجْلبِاً بالزواجرِ
إذا عُدِّدَتْ أنواع صدكِ، واغتدتْ ... أوائلها مشفوعةً بالأَواخرِ
محاها هَوىً لا يستفيقُ، كما انمحى ... بِحْلم جلالِ الدين عُظْمُ الجَرائرِ
ومنها:

إذا ما أتاه مُجْرِمٌ وهو قادرٌ ... توهمتهُ من عفوِهِ غيرَ قادرِ
وله من قصيدة في أنوشروان الوزير، في الحلم:
وكم من سفِيه الرأي والقولِ أجلبت ... فَواحشُهُ إجلابَ هوجاءَ ذاعرِ
يقولُ ليَ الفحشاءَ كيما أجِيبه ... فيغدو بقولي في عِدادِ النَّظائرِ
كررتُ عليهِ الحلمَ حتّى تبدّلت ... جرائمُهُ، من خجلهٍ، بالمعاذرِ
ومنها:
وحاجة مصدورٍ سَهِرْتُ لنُجْحِها ... وقد نام عنها رَبُّها غيرَ ساهرِ
قطعتُ لها لَيْلَيْ سُرىً وَروِيَّةٍ ... فجاءت وما نَمَّ الصباحُ بجاشرِ
ومنها:
وإنّي لمشتاقٌ إلى ذي حَفِيظهٍ ... شديدِ مَضاء البأس مُرِّ البوادرِ
متى سُمْتُهُ بالقولِ نصراً جرت به ... مقاول أغماد فِصاحُ المجازرِ
فيفتكُ فيمن رامَ ظُلمي بأوّلٍ ... ويسألُ عمّن جرَّ حربي بآخِرِ
يكونُ نصيري في دِاركيَ للعلى ... ولن تُدْرَكَ العَلياءُ إلاّ بناصرِ
ومنها:
هجرنا إلى آمِالنا كلَّ مطعمٍ ... فلم تَرَ إّلا ضامراً فوق ضامرِ
بيوم وَغىً تُعمِى العجاجةُ شمسَهُ ... وتُطْلِعُ زُهْرَ الذابلاتِ الشّواجِر
جَبَهْناهُمُ فيه بطعنٍ كأنّه ... خُروقُ العزالي واستنانُ المواطرِ
وسقْناُهمُ تحت العَجاجِ كأنّما ... تَخِبُّ بِغزْلانِ الصَّريمِ النّوافِر
فلولا ادّكارٌ من أناةِ ابْنِ خالدٍ ... لما كفّ عن ضربِ الطُّلَى غَربُ باترِ
وله من قصيدة:
بني دارمٍ، إنْ لم تُغيروا فبدّلوا ... عمائمكم يومَ الكَريهِة بالخُمْرِ
فإن القُرى والمُدْنَ حِيزَتْ لأَعْبُدٍ ... وما سلمت أفْحُوصَةٌ لفتى حُرِّ
ربطتم بأطنابِ البيوتِ جِيادَكُمْ ... وخيلُ العدى في كلِّ مَلْحَمةٍ تَجْري
إذا ما شببتم نارَ حربٍ وقَودُها ... صدورُ المَواضي الِبيضِ والأسَلِ السُّمْرِ
ضَمِنْتُ لكم أنْ تَرجِعُوها حميدةً ... تَواجَفُ غِبَّ الرَّوْعِ بالنَّعَمِ الحمْرِ
أنا المرءُ لا أوفي المنى عن ضراعة ... ولا أستفيدُ الأمْنَ إلا منَ الذُّعْرِ
ولا أطرقُ الحَيَّ اللِئامَ بمدحهٍ ... ولو عَرَقَتْنِي شدّةُ الأزُمِ الغُبْرِ
تغانيت عن مالِ البخيلِ، ِلأَنَّنِي ... رأيتُ الغِنى بالذُّلِّ ضرباً من الفَقْرِ
وله:
أقرب من قولك يا عَمْرُو ... حالٌ بها ينكشفُ الضُّرُّ
فلا تَبِتْ أسْوانَ في غَمْرَةٍ ... ضاق بها ذَرْعْكَ والصَّدْرُ
واتّخذِ الصبرَ لها جُنَّةً ... فمن شِعارِ الحازمِ الصبرُ
هي العلى عِلْقٌ إذا قِسْتَهُ ... مسترخَصٌ، والثمنُ العُمْرُ
إنّ امرءاً مات على مجده ... لخاَلدٌ ما خلد الذكرُ
لا خيرَ في مُثْرٍ بلا شاكرٍ ... فإنّما المالُ هو الشكرُ
أحجار سَوْءٍ جُعِلَتْ آلةً ... وسِرُّها النفعُ أو الضُّرُّ
يُصيب من يبذلُهُا أجرَهُ ... وللّذي يَحرزُها الوِزْرُ
ومنها:
إن شام غيري بارقاً من ندىً ... بفضله، فهو إذَنْ نُكْرُ
أيُّ مَحَلٍّ لنجومِ الدُّجَى ... يبقى إذا ما جهِلَ البدْرُ
وله من قصيدة في الأمير مظفر بن حماد، في الحث على السفر والمخلص:
ومعنّفٍ في المجد يحرق نابَهُ ... متخمّطٍ في عَذْلِهِ متنمِّرِ
قال: اتخذت الإغترابَ مطيّةً ... فارْفُقْ بنفسك من سِفارِك واحضُرِ
فأجبته: إنّ الهلالَ بسيرِه ... بدرٌ، ولولا سيُرهُ لم يُقْمِرِ
دعْ عنك لومي، إن عزميَ والسُّرَى ... أخوا لِبانٍ: كالنّدى ومظفّر
ومنها في المديح:
خِرْقٌ، إذا عنّتَ وَغىً وخَصاصهٌ ... جادَتْ يداهُ بوابلٍ مُثْعَنْجِرِ

فالقَرْنُ والرجلُ الفقيرُ ِكلاهما ... غَرِقانِ من عُرْفٍ وقانٍ أحمرِ
وإذا خبت نارُ اليَفاعِ، فنارُهُ ... تهْدِي رِكابَ الخابطِ المتنوِّرِ
نارٌ تكادُ منَ المكارمِ والندَّىَ ... تخبو، فلولا البأسُ لم تَتَسعَّرِ
رُفِعَتْ ِلأبلجَ من كنانةَ، دَأبُهُ ... ضربُ الجماجمِ تحتَ ظِلِّ العِثْيَرِ
لِمُعَذَّلٍ في الجودِ، صَوْبُ يمينِهِ ... يُزْري بسيلِ الشاهِقِ المتحدِّرِ
باع الثراءَ من الثناءِ بطيِبِه ... وشِرا الثنا بالمال أربحُ مَتْجَرِ
فإذا غدا صِفْرَ اليدَيْنَ، فإنّه ... ملآنُ من شرفِ العُلى والمفخرِ
سهلُ الخلائقِ والودادِ كلاهما ... لا بالملولِ هوىً ولا المتكبِّرِ
تنجابُ أستارُ الحجابِ إذا انتدى ... للحيِّ عن متواضعٍ متوقّرِ
تُخْشَى سُطاه على لَطافةِ وجهِهِ ... ولَرُبَّ برقٍ بالصواعق مُنْذِرِ
أَلِفَتْ قِراعَ الدّارِعِينَ سيوفُهُ ... فيكادُ يمرُقُ مُغْمَدٌ لم يُشْهَرِ
وتعودّت خوضَ النُّحُورِ رماحُهُ ... فإذا جرتْ للطّعنِ لم تتأطَّرِ
وغنينَ من وِرْدِ الدّماءِ جيادُهُ ... في الحربِ عن ورد النَّمِير الأخضرِ
زَوْلٌ تُعيض الحَيَّ غُرَّةُ وجهِهِ ... تحتَ اللثامِ عنِ الصباح المُسْفِرِ
لا تَطَّبيهِ مع الشبيبة للهوى ... خدعٌ، ولا تُلْهيه بهجةُ منظِر
ومنها في صفة الجيش:
ومزمجرٍ بالقاع يُظْلِمُ صبحُه ... مما يثير من العجاجِ الأكدرِ
مَجْرٍ كأنَّ خُيُوَلهُ ورِجالَهُ ... غِزْلانُ وَجْرَةَ تحتِ جنَّةِ عَبْقَرِ
أعمى القَتامُ به الكُماةَ، فخيُلُه ... لولا بريقُ حديدِهِ لم تنظُرِ
فيه السوابغُ والدِّلاصُ كأنّها ... غُدُرُ الفلاةِ تلوحُ للمتبِّصرِ
غادرتهم صَرْعَى بأوّلِ حملةٍ ... من غير تثنيةٍ وغير تكرّرِ
وإلى عُلى بكرٍ نَمَتْك عِصابةٌ ... طيبُ الثناءِ لهم لطيبِ العُنْصُرِ
قوم إذا كَرهوا الحريرَ بَسالةً ... لَبسُوا لزينتهم ثيابَ سَنَوَّرِ
يتقارعون على الضيوفِ إذا الدُّجَى ... سُدَّتْ مطالعْهُ بريحٍ صَرْصَرِ
من كلِّ متبوعِ اللِّواءِ، مؤمَّلٍ ... في المَحْلِ، مُنْتَجَعِ النَّدَى، مُسْتَمْطَرِ
تتلو الذئابُ المُعطُ كبّةَ خيلهِ ... ثِقةً بأنّ طعامَها من مَنْسِرِ
أرِجُ الثناءِ لدى النَّدِيِّ، كأنّما ... تُتْلَى مدائحُ عِرْضِهِ من مِجْمَرِ
وله من أخرى في الهم:
كأنَّ بلادَ اللهِ مما أجِنُّهُ ... من الهمّ أحْبُولٌ تُحاذِرُهُ العُفْرُ
يَضيقُ بيَ الخَرْقُ الوَسيِعُ كآبةً ... ولولا همومُ النفسِ لمَ يضقِ القَفْرُ
يظنّون فخري رائقَ الشعِر عندَهُمْ ... ولا عيبَ لي إلا الفصاحةُ والشعرُ
إذا لم يكن لي ناصرٌ من صوارمي ... فما لي من قولٍ أنِّمقُهُ نصرُ
وكم عارِ مدحٍ مُثْقِلٍ لأبيِتّي ... وإن كان لي لمّا نطقتُ به عذرُ
وله من قصيدة في السلطان مسعود:
وما عذبٌ مواردُهُ بَرُودٌ ... له بالرَّعْنِ جَرْيٌ وانحدارُ
أصاب بَمرِّهِ عُلْوِيَّ وَقْبٍ ... تَقاصَرُ عن تناوُلهِ البحارُ
حديث المجِّ من كرماءِ رَعْيٍ ... لهنّ بكلّ ناضرةٍ مطارُ
له خَصَرٌ، ونسمته اعتلالٌ ... إذا ما اسْتوقد الشِّعرَي النَّهارُ
بأعذبَ من غياث الدين وُداً ... إذا ما علقَمَ البَرِمَ النِفارُ
ومن قوله فيه:
وصاحبٍ من بني الآمال خُضْتُ به ... بحراً من الآل ذا لُجٍّ وتيّارِ

يلفُّه النومُ أحياناً فأفِرشُهُ ... حديثَ مجدٍ يجلّي نومةَ السّاري
يرجو، ويرقُدُ عمّا قد سَهِرتُ له، ... والمجدُ لا يُبْتنَى إلاّ بمسهار
إذا اطبَّاهُ مُناخٌ عند باديةٍ ... أذكرته دَعَةً من ريفِ أمصارِ
علماً بأنّ اعتزامي سوف يُنزِلُنا ... بمنزلٍ من غياث الدين مُختارِ
حتّى أنخنا بميمونٍ نقيبتُهُ ... منزّهِ العرْضِ عن ذامٍ وعن عارِ
القاتل المحل حيثُ المُزْنُ مُكديةٌ ... بهاطلٍ من ندى كفّيه مِدرارِ
يَجِلُّ عن منحِة الأموال آونةً ... فالجودُ منه بآجالٍ وأعمارِ
ويُكْرِمُ السيفَ عن غِمْدٍ فيَغْمِدهُ ... ، إذا يُجرِّدُهُ، في رأسِ جبّارِ
ومنها:
تناطُ حُبْوَتُهُ في يومِ نَدْوَتِهِ ... بصافحٍ عن عظيمِ الجُرْمِ غفّارِ
وله من قصيدة في الوزير الزينبي:
أعِيذُ قريشاً أنْ تُصيخُ لكاشحٍ ... كذوبٍ، وما يقضي بظلمٍ أميرُها
وعندَ قريشٍ شيمةٌ نبويّةٌ ... يُخبّرُها ما في النفوس ضميرُها
لهم مَهْبِطُ الوحيِ المَجيدِ، ومنُهمُ ... بَشيرُ البَرايا مُرْسَلاً ونَذيرُها
ومنهم أغرُّ الوجه يُشرقُ وجهُه ... بشيبِتهِ، جادَ البلادَ مَطيِرُها
وجهل بحِلْمِ قد غفرتم عظيمَهُ ... إذا ما شفى غيظَ النفوسِ قديرُها
ويوم نِزالٍ قد دَلَفْتُمْ لِشرّهِ ... فأبليُتمُ والخيلُ تَدْمَى نحورُها
ومنها:
ومَنْ كقريشٍ في المعاركِ والنَّدَى ... يموتُ مُناديها ويَحْيا فقيرُها
إذا ما مساعيهم أعيدَتْ وكُرِّرتْ ... أضاء الدجى والشّمسُ لم يَبْدُ نورُها
أبرَّ عِليّاها على كل ماجدٍ ... فأوّلهُا حاز العلى وأخيرُها
تلا ابْنُ طِرادٍ في المعالي سَميَّهُ ... فلا سورةٌ أّلا الوزيرُ أميرُها
ومنها في صفة الروض:
وما أنُفٌ من روضةٍ ذاتِ بهجة ... ممنَّعِة الأكنافِ غَضٍّ نضيرُها
لها نَفَحاتٌ بالعشيّ، كأنّها ... لَطِيمَةُ داريٍّ يُفَتُّ عبيرُها
أقامَ بها القَيْلُ التَّريفُ وأسرةٌ ... كِرامُ التلهّي نَشؤها وكبيرُها
تصبّ على نُوّارهِا قرقفيّةٌ ... يَميِسُ لِعَرْفِ الطِّيبِ منها مديرُها
يكادُ نسيمُ الجوِّ بعدَ رُكودِهِ ... يموجُ انتشاءَ إذْ تُصَبُّ خمورُها
بأطيب من عَرْفِ الوزير، وإنْ غْدت ... أصائلُها مطلولةً وبُكورُها
ومنها في الاستعطاف:
تيمَّمْتُ زَوراء العراقِ، وذادَني ... عن القصد بُهتانُ الأعادي وزورُها
وماليَ ذنبٌ أختشي من عِقابه ... سوى صحبةٍ مجدُ الإمامِ غَفورُها
يعني صحبة دبيس حين خرج إلى المسترشد.
أقمتُ بها حيثُ الرِّضا ذو مَخايلٍ ... وفارقتُها لمّا بدا لي غرورُها
ومنها:
ومن عجبٍ تغشى البلادَ قلائِدي ... وتُعرضُ عن زَوْراِئكم لا تزورُها
وفيكم غدت ألفاظُها مستجيبةً ... ملائمة أعجازُها وصدورُها
ومنها:
أقِلْني عثاري واتّخذها صنيعةً ... يُطَرِّبُ شاديِها ويَلْهى سَمِيرُها
فما الدهرُ أّلا حِلْيَةٌ مستعارةٌ ... جديرٌ بكسبِ الحمدِ من يستعيرُها
وله في مدحه:
إذا ما عليُّ الخيرِ عُدَّ فَخارُهُ ... فكلُّ ثَرىً روضٌ، وكلُّ دُجى فَجْرُ
عَمِيدٌ بِحُبِّ المجدِ، ما في وِصالِهِ ... إذا انقضتِ الأهواءُ صدٌّ ولا هَجْرُ
هزيمانِ عن عافيهِ والمحتمي به ... لِفَرْطِ النَّدى والنَّجْدَةِ: الذلُّ والفقرُ
تَرى المُخْصِباتِ الخُضْرَ غُبْراً بفتكه ... وتخضرُّ من جَدْوَى أنامِلهِ الغُبْرُ

يَوَدُّ نسيمُ الليلُ لُطفَ خِلالِه ... وترهَبُهُ من بأسه البِيضُ والسُّمْرُ
يُسِرُّ النَّدى، والحمدُ فاشٍ حديثُهُ، ... فنائُلهُ سرٌّ، وإحمادُهُ جَهْرُ
وله فيه من قطعة:
أبي اللهُ إّلا ما تُرِيدُ، فكُنْ له ... شكوراً، فنُعْمَى اللهِ تبقى على الشكرِ
ودُمْ سالماً، إنّ المعالي بهيجةٌ ... بتصريفها ما بين نَهْيِكَ والأمرِ
فإنَّ على الأيّام نَضْرةَ زهرةٍ ... بوجهك يا ابْنَ الماجدِينَ بني النَّضْرِ
ومن قوله فيه:
تُناطُ أيادي الله منه وعنده ... إلى وَرِعٍ جَمِّ المحامدِ شاكرِ
يُعيدُ النَّوارَ النافراتِ أنسيةً ... وَيْحبسُ منها شكرَهُ كلُّ طائرِ
ومنها:
أغرُّ، مَرِيرُ البأسِ، سهلٌ ودادُهُ ... رفيعُ عمادِ البيتِ، جَمُّ المآثرِ
إذا ما عصت صِيدُ الرِّقابِ مرادَهُ ... بَراها بحدِّ الرأي قبلَ البواترِ
نمى لِمَعدٍّ، والمساعي حميدةٌ ... مردّدةٌ بين النُّفوسِ الطواهرِ
فجاء كَنصْلِ السيفِ أكرمَ صاحبٍ ... وألينَ ملموسٍ، وأخشنَ ناصرِ
فتى مالُهُ نَهْبُ الفقيرِ، وبأسُهُ ... حِمى المستجيرِ في الليالي الغوادرِ
وله فيه:
مُسْمَهِرُّ البأسِ من مُضَرٍ ... يقشعرُّ الموتُ من حَذَرهْ
تطرَبُ الألبابُ مصغيةً ... لحديثِ المجدِ من سِيَرِهْ
كلَّما أوسعتَ مبتلياً ... خُبْرَهُ أربى على خَبَرِهْ
تُهْزَمُ الأحداثُ كالحةً ... بارتجالِ الرأي لا فِكَرِهْ
وإذا ما أجدبتْ سنةٌ ... كان سُقْيا الحيِّ من مطِرهْ
هو بحرٌ من فضائله ... ومديحي فيه من دُرَرِهْ
شرفُ الدين الذي وضَحَتْ ... ظُلَمُ الأحداثِ من غُرَرِهْ
ومن قوله فيه:
هو المرءُ: أمّا فضلُهُ فهو شاملٌ ... عميمٌ، وأمّا مدحُهُ فهو سائرُ
يَقَرُّ بعيني مدحُهُ وثناؤهُ ... وإنْ باتَ جفْني وهْوَ بالنظم ساهرُ
وله من قصيدة في مدح أتابك غازي بن زنكي بالموصل سنة أربع وأربعين وخمس مئة:
إلامَ يراك المجدُ في زيِّ شاعرِ ... وقد نَحَلتْ شوقاً فروعُ المنابِرِ؟
كتمتَ بصِيتِ الشعرِ علماً وهمّةً ... ببعضهما ينقادُ صعبُ المفاخرِ
لئنْ سرَّكَ التجويدُ فيما نظمتُهُ ... فنظمُ القوافي غيرُ نظمِ العساكرِ
لَعَمْرُ أبيك الخيرِ، إنّك فارسُ ال ... مَقال، ومحيي الدارسات الغوابرِ
وإنّك أغنيتَ المسامعَ والنُّهَى ... بقولك عمّا في بطونِ الدَّفاتر
ومنها:
ولا خيرَ في فضلٍ تباعدَ عزُّهُ ... ولو فاق أضواء النجومِ الزَّواهرِ
يذلُّ شديدُ الأيْدِ أنْ تقطعَ الطُّلَى ... إذا لم يُعنْهُ غَرْبُ أبيضَ باترِ
ومنها:
أقولُ لِخلٍّ بالعِراق يَسُرُّهُ ... مُقامي، ويأبى لي شِعارَ المسافرِ
حريصٍ على علم الخفيّ، ودُونَهُ ... جدائلُ حزمٍ مُحْصَداتُ المرائرِ
إذا استنطقتني في هواه مَوَدَّةٌ ... محا الرأيُ حُبّاً آذِناً بالفَواقرِ
تنكّر من كتمان سرّي. ولو درى ... بخُرْق زماني، بات في الصمتِ عاذري
تطاولَ همّي، فابْغني ذا نباهةٍ ... يُجّلي دُجَى ظلمائه عن خواطري
فبات لَمُوحَ الطّرف، والعصرُ أغبرُ ال ... مَطالع، والأيّامُ شُوسٌ لناظرِ
فلمّا استجال الرأي وانهزمت به ... روِيَّتُهُ عن غادرٍ بعد غادرِ
ورَدَّ إليَّ الأمرَ ردَّ مُسَلِمٍ ... إلى عالمٍ بالدهرِ والناسِ ماهرِ
سَهِرتُ لبرقٍ من ديارِ ربيعةٍ ... ولم أكُ للبرقِ اللَّمُوعِ بِساهرِ
ومنها في التخلص:

وما البرقُ إّلا البِشْرُ عند أسرَّةٍ ... بوجهِ عمادِ الدينِ رَبِّ المفاخِرِ
وله في عضد الدين وزير الإمام المستضيء:
آل المظّفرِ، والأيّامُ شاهدةٌ، ... بيضُ العَوارفِ والأنسابِ والأثَرِ
تشكو مَراجِلُهم فَرْطَ الوقودِ كما ... تشكو النواصفُ فَرْطَ القُرِّ والخصَرِ
فساهراتٌ من التَّرْدادِ في صَرَدٍ ... وراسياتٌ من الإيقادِ في سُعُرِ
إذا استراحتْ ظُباهم من منازلةٍ ... فلاغباتٌ لِعَقْرِ النِّيبِ والجُزُرِ
ومن مقطوعاته في المعاني قوله:
تعجَّبَ صحبي أنْ كتمتُ فلم أشِعْ ... علومي الّتي في بعضها شَرَفُ القدرِ
فقلتُ لهم: مالَ الزمانُ وأهُلهُ ... إلى فضلِ قولٍ، فاقتصرتُ على الشعرِ
وقوله في العذار:
شكّوا أشمسٌ أنتَ أم قمرٌ؟ ... ولِفَرْط حسنِكَ أشكلَ الأمرُ!
فانجاب ليلُ الشكّ حينَ قضى ... ليلُ العِذارِ بأنّكَ البدرُ
وقوله:
ومن السعادةِ للّئامِ تَرَفُّعِي ... عن هَجْوِهمْ، لمناقبي ومفاخري
فلو انتدَبْتُ له، أتيتُ بمعجزٍ ... منه، لِفيضِ عُيوُبِهمْ وخواطري
وقوله:
أسدٌ باتَ يتَقي سَوْرَةَ الذّئ ... بِ، وبازٌ يَخْشَى من العُصْفُورِ
وقوله:
إذا شوركْتَ في حالٍ بدُونٍ ... فلا يغشاك عارٌ أو نُفُورُ
تشاركَ في الحياة بغيرِ خُلْفٍ ... أرسطا لِيسُ والكلبُ العَقُورُ
وقوله:
وجوهٌ لا يُحَمِّرُها عتابٌ ... جدير أنْ تصَفَّرَ بالصَّغارِ
فما دانَ اللئامُ لغيرِ بأسٍ ... ولا لانَ الحديدُ لغيرِ نارِ
وقوله في كبير زاده ثم انقطع عنه، وتعذر لقاؤه:
إنْ عزّ لُقياك وماءُ النَّدى ... هامٍ، فإنّي شاكرٌ عاذرٌ
يسقي السَّحاب الجَدْبَ سَحّاً، ولا ... يجتمعُ الممطورُ والماطرُ
وقوله مما يكتب على المقرعة:
لم لا أتيهُ على الرّماح إذا ... فخرتْ وتحسُدنُي الظُّبى البُتْرُ؟
وإليَّ سوقُ الرّيحِ حاملةً ... طودْاً أشمَّ، وقابضي بحرُ
وقوله:
إذا المرءُ لم يُرْزقْ مع الأيْدِ همّةً ... فلا شرفٌ في الأيْدِ منه ولا فخرُ
ألم تَرَ أنَّ البازَ يسمو لصيده ... عزيزاً، ويَهْوِي نحوَ جيفتِه النَّسْر؟
وقوله في التحريض:
قول المحرّض يزدادُ الشُّجاعُ به ... بأساً، ويغدو جبانُ القومِ ذا أشَرِ
ما السيفُ سيفاً وإنْ أرضاك جوهرُهُ ... لولا الصَّياقلُ والإمهاءُ بالحجرِ
وقوله في صفة الجيش:
ويومٍ تظمأ الأرواحُ منه ... وتَرْدَى من جماجمه الشِّفارُ
تَضيقُ بخيله فِيحُ الموامِي ... ويَكْسِفُ شمس ضحْوِتهِ الغُبارُ
كأنَّ رِماحَهُ أشطانُ جدلٍ ... تُرَنِّخُها من الطُّولِ البِئارُ
تسابِقُ طيرُهُ زُرقْ العَوالي ... إلى مُقَلٍ، فطعنٌ وابتسارُ
جعل الطير والأسنة متسابقاتٍ إلى مقل الرجال، والطعن أفخره ما أصاب المقل، والطير شأنها ابتسار عيون القتلى. وهذا أبلغ من قول النابغة الذبياني:
إذا ما غزوا بالجيش، حَلَّقَ فوقهم ... عصائبُ طيرٍ تهتدي بعصائبِ
الزّاي وقوله:
حُثَّ الكَريمَ على النَّدَى، وتقاضَهُ ... بالوعِد، وابْعَثْهُ على الإنجازِ
وَدَعِ الوثوقَ بطبعه، فلطالما ... نَشِطَ الجوادُ بشوكة الِمْهمازِ
السين وقوله:
لا تُنكري شَعَثي، ولو حسبت ... تلك البروُد هوابيَ الرَّمْسِ
فالحظُّ قد غطّى مطالعَهُ ... بخلُ الملوكِ وعزّةُ النفسِ
ولقد شكوتُ الأمسَ قبلَ غدٍ ... فأتى غَدٌ فشكرتُ للأمسِ
الصّاد وقوله في خالص المسترشدي:
إذا شائباتُ الدَّهْرِ كدَّرْنَ صَفْوَتِي ... جلوتُ قَذاها عن فُؤادي ب خاِلصِ

بِخِرْقٍ إذا عَزَّ الحَيا غير باخلٍ ... وماضٍ إذا جدّ الوغى غير ناكصِ
الضاد وقوله:
إذا مَرِض النمر أبو عليٍّ ... رعاه الله فالمجدُ المريضُ
يرى الناسُ العوارفَ نافلاتٍ ... وهنّ عليه واجبةٌ فروضُ
فدامت صحّةُ العلياءِ منه ... ودام المدحُ فيه والقَريضُ
الطاء وقوله في مدح الوزير الزينبي:
وأحلاف مجدٍ مُوجِفينَ إلى العلى ... لهم من قُصَيّ حيثّما انتسبوا رَهْطُ
تَقِلُّهُمُ الجُرْدُ الجِيادُ كأنّها ... سَراحِينُ ثَلاّتٍ بَموْماتِها مُعْطُ
يَرْودُونَ رأياً من لبيبٍ مُغامرٍ ... لكلٍّ عقالٍ من رَويتِهِ نَشْطُ
منحتهمُ أسطارَ طِرْسٍ ومعركٍ ... بليغَيْن ممّا أنبت الخطُّ والخطُّ
فعادت لهم صِيدُ الملوكِ أذِلَّةً ... لكلّ طليقٍ من كُماتِهِمُ رُبْطُ
وَمنْ كالوزيرِ الزينَبّي مقرَّباً ... بعيدَ العلى إذْ حال من دُونِهِ الشَّحْطُ
فتى لا يُدانِيِه رضاهُ للينةٍ ... تذلُّ، ولا يَثْنِيهِ عن كرم سُخْطُ
العين وقوله من قصيدة في مدح أنوشروان بن خالد، الوزير:
وفتيان صِدْقٍ من تَمِيمٍ تناثلوا ... دروعَهُمُ والليلُ ضافي الوشائعِ
وَقيذَيْنِ من عَرْقِ السُّرى، وقلوبُهُمْ ... شِدادٌ على مَرّ الخطوبِ الصوادعِ
يقودون جُرْداً مُضْمَراتٍ، كأنّها ... كواسرُ عِقبانِ الشُّرَيْفِ الأباقِعِ
تَجَارى إلى شَعْواءَ، لا السَّيفُ عندَها ... بصادٍ، ولا ظامي الرّجالِ بناقِعِ
ضَمِنْتُ لهم مُلْكَ العِراقِ، فأوسعوا ... ضِرابَ الطُّلى بالمُرْهَفاتِ القواطعِ
وكنتُ إذا ما ساوَرَتْني كَريهةٌ ... بَرزْتُ لها في جَحْفَلٍ من مُجاشِعِ
فلم أسْتكِنْ من صَرْفِ دهرٍ لحادثٍ ... ولا ارتعتُ من وقعِ الخُطُوبِ لرائعِ
قِناعَكِ ما اسْطَعْتِ الغَداةَ، فإنّها ... صَبابةُ مجدٍ لا هوىً بالبراقعِ
سَلِي غانياتِ الحيّ عن مُتخمطٍ ... إذا السُّجْفُ مِيطَتْ عن ظباء الأجارعِ
وكم زَوْرَةٍ قابلُتها بتجنّبٍ ... ومبذولِ وصلٍ رُعْتُهُ بالقطائعِ
وسكرى من الوَجدِ الدَّخيلِ أبَحْتُها ... عَفافَ تقيٍّ لا عفافَ مُخادعِ
إذا المرء لم يَعْتَدَّ إلا لصَبْوةٍ ... أتاه الرّدَى ما بين ناءٍ وقاطعِ
وإن هو لم يجهدْ إلى العِزِّ نفسَهُ ... تحمَّل أوْقَ الذُّل في زِيِّ وادعِ
أبى الله إّلا وثبةً مُضَرِبّة ... تُبِيحُ المواضي من دماء الأخادعِ
تَعُمُّ الفَضا من أدكن البُرْدِ قاتمٍ ... وتكسو الثَّرِى من أحمرِ اللَّوْنِ ناصعِ
فلا تاجَ إّلا وَهْوَ في رُسْغِ سابحٍ ... ولا رأسَ إّلا وَهْوَ في كفِّ قاطعِ
إذا ما حَمَوْا أرماحهُمْ بِدُروِعهم ... أبَحْنا حِماها بالرماحِ الشّوارعِ
وإن ناجزونا بالطِعّانِ سَفاهةَ ... أعدناهُمُ بالرِّقِّ بعضَ البضائعِ
ومنها في صفة الغام:
بدا لأصيَحْابي غَمامٌ كأنَّهُ ... أعَيْلامُ رَضْوَى للمُجِدِّ المُتابعِ
تعرَّضَ نجْديّا كأنّ وميضَهُ ... سيوفٌ جَلاها صاقلٌ غِبَّ طابعِ
كأنَّ العِشارَ المُثْقَلاتِ أجاءَها ... مَخاضٌ فجاءت بين مُوفٍ وواضعِ
فما زعزعتهُ الرّيحُ حتّى تصادمَتْ ... على الأكْمِ أعناقُ السُّيُول الدَّوافعِ
فأضحتْ له البيداءُ يَمّاً، وبُدلَتْ ... يَرابيعُ ذاك المُنحَني بالضَّفادعِ
فلا مُوِضعٌ إلا مخيضٌ رِكابهُ ... ولا واضعٌ إلا فُوَيْقَ المناقعِ

فقال خبيرُ القومِ: عامٌ بغبطةٍ ... نديُّ الثّرى، والجوُّ غضُّ المراتعِ
فقلت: لأنْدَى منه لو تعلمونه ... أنامِلُ نُوشَروانَ تَهْمِي لتابعِ
قوله: ندي الثري لحن، يعني به ندي مخففاً من الندى، ولا أعلم أنه يجوز بالتشديد إلا بمعنى النادي.
وقوله من قصيدة في ملك العرب دبيس من صدقة:
أمجداً بلا سعيٍ؟ لقد كذبتكمُ ... نفوسٌ ثَناها الذُّلُّ أنْ تترفّعا
سلُوا صَهَوات الخيلِ عنيّ، فإننّي ... جعَلْتُ ظُهورَ اللاحِقيّات مَضجَعا
ومنها:
وَفَيْتُ لقَيْلٍ من ذُؤابةِ خِنْدِفٍ ... إذا ما أضاعَ القومُ حقَّ أمريٍء رعى
هو ابنُ الّذي جازى مُناولَ سَوْطِهِ ... فأغنى وأقنى حين أعطى وأوسعا
يعني أن سيف الدولة سقط السوط من يده يوماً، فناوله إنسان إياه، فأعطاه وأغناه.
تَغِيبُ شموسُ الصبُّحِ من نَقْعِ خيِلِه ... وتغدو نُجُومُ الليلِ بالصبُّح طلُعَّا
تَخالُ سُقاطَ السُّمْرِ والدَّمِ إنْ غزا ... غُثاءً وسَيْلاً من يَفاعٍ تَدفَّعا
ومنها في صفة الجيش:
وذي رَهَجٍ جَمِّ الغَماغمِ مُجلبٍ ... غدا عَرْضُهُ من أوسع الخَرْق أوسعا
طويل القنا تخشى النُّجومُ طِعانهُ ... بأمثالها ما لم تَرَ السُّمْرَ شُرَّعا
إذا استثبحَ الظمآن فارطَ خيلهِ ... يظَنُّ الغَديرَ السابرِيَّ المُرفعَّا
تُخُيِّرَتِ الأبطالُ والخيلُ عندهُ ... فلم تَرَ إّلا سابقاً وسَمَيْدَعا
وطالتْ به عندَ التّجاوُب ألسُنٌ ... فأحمدت فيه ذا صهيلٍ ومِصقْعَا
كأنّ على أقطارِه من وَجِيفهِ ... غَضىً نَّبَهتهُ حَرْجفٌ فتجعجعا
طَردْت رخيَّ البال من سَوْرَةِ الرَّدَى ... كما جفَّل المُصطادُ سِرباً مُذعذَعا
فغادرتهُ من عادةِ البذلِ للقرِى ... يقوتُ عُقاباً كاسراً وسَمَعْمَعا
وكنت متى استمطرت بِيَضكَ والقنا ... دماءَ الأعادي في الوَغَى، هَطَلاً معا
ومنها في البحر والروض:
وما الأخضرُ الطّامي يَعُبُّ عبابُهُ ... بأكرمَ من كفّيك في الجَدْبِ مَنْجَعا
ولا أنُفٌ من روضةٍ ذات بهجةٍ ... سقتها الصبَّا كأسا من الغيث مُتْرَعا
أقام بها الشَّرْبُ الكرامُ عشيّةً ... وقد هجم الليلُ البهَيمُ فأمتعا
إذا أمسك الغيثُ المُلثُّ بأرضها ... سَقَوْها من الأيدي عُقاراً مُشَعْشَعا
وإن دارتِ الصَّهْباءُ فيهم، تجاذَبُوا ... أحاديثَ مجدٍ يجعَلُ النِّكسَ أروعا
فما الهُجرُ مسموعاً لهم عندَ سكرةٍ ... وما الحلمُ فيِهمْ بالسُّروُرِ مضيَّعا
بأطيبَ من ذكرى دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ ... إذا ردَّدَ الساري ثناءً ورجّعا
توالَتْ عليه الفادحاتُ، ولم يَجِدْ ... عن الصّبرِ حتّى أدرك المجدَ أجمعا
ما زال يُرْخي للنَّوَى من قياده ... إلى أن أفادَ الحيَّ شملاً مُجَمَّعا
ولو لم تكن فيه سَرِيرَة قادرٍ ... لمَا راحَ من جَورِ الرَّزايا مُمَنَّعا
وقوله:
حَلَفْتُ بما شادتْ تَمِيمٌ من العَلى ... أولُو الفضل في يومِ النَّدى والوقائعِ
يمينَ صَدُوقِ القولِ من غير خِلْفَةٍ ... كريمِ المساعي والثنا والمطامعِ
لَئِنْ لم تَلُذْ بالوُدِّ من بعد نِبذِه ... مَلاذَ الأراوَى بالطَّوال الفَوارعِ
ليَعْتَلِجَنْ بين البيوتِ مع الضحُّى ... مَقالٌ كأطراف الرِّماحِ الشَّوارعِ
وله في الوزير الزينبي يهنئه بالخلعة، قال: جئته وهو يتهادى في ديوان الخلافة، والناس حافون به، وللحديد حوله صليل، فتولجت كثافة الجمع، وخضت وعر الهيبة مسترسلاً. فلما بصر بي، قبض قدميه عن السعي، وأنصت لأمارات المقالة من أسرة وجهي، فوضعت يدي على كم الخلعة، وقلت:

جُعِلَتْ من الحَدثانِ أحصَنَ أدْرُعِ ... فلقد سُنِنَّ على الكريمِ الأروعِ
شَرُفَتْ على شرف اللَّبُوص، فغُودرت ... فلَكَاً لشمسِ عُلَىً حَميدَ المطلعِ
زُرَّتْ على طَوْد الأناةِ، وضمّنت ... بحرَ النَّدَى، وحوت شِراسَ الأدْرُعِ
حسد اللّباسُ العبقريُّ مقامَها ... من ماجدٍ في نكسه متودعِ
نَضِرِ النعيمِ، يكادُ ساحبُ ذيلِهِ ... يخضرُّ منه ثرى الجديبِ المُدْقِعِ
يختالُ في شَرَفيْنِ شَأوُ عُلاهما ... لبني المناقبِ سامقٌ لم يفْرَعِ
نَجْرٌ كمنبلجِ الصباح يَزِينُهُ ... سعيٌ كعَرْفِ الرّوضةِ المتضوّعِ
ومنها:
يغدو لدى الحاجاتِ أسمعَ مُنصتٍ ... ويروحُ لّلاحي كأنْ لم يَسْمَعِ
قالّلائمُ المنطيقُ أعجمُ قائلٍ ... والمقُرَمُ السَّكِّيتُ أفصحُ مُسمعِ
ومنها في صفة السحاب:
وإذا جرت هُوجُ الرّياحِ عشيّةً ... ما بين نكْباءِ الهُبُوبِ وزَعْزَعِ
فُرُطاً لمؤتلفٍ كأنّ رُكاَمهُ ... في جوّه عَقِداتُ رملِ الأجرعِ
أو مُؤْثَراتٌ من ركائبَ بُزَّلٍ ... نَزَعُوا بمُعتَلِجِ المُناخِ الجعجع
فاقتَدْنَ منه كلَّ أكحلَ داجنٍ ... هولِ التصاخبِ بالمكان البلقعِ
دانٍ يكادُ الوحشُ يكرَعُ وَسْطَهُ ... وتَمَسُّهُ كفُّ الوليدِ المُرْضَع
هذا أبلغ من قول الطرماح:
دانٍ مُسِفّ فُوَيْقَ الأرضِ هَيْدَبُهُ ... يكادُ يَلْمُسهُ من قام بالرّاحِ
متتابعٌ جَمٌّ كأنّ رُكامَهُ كبّاتُ قيصَر أو سَرايا تُبَّعِ
زَجِلُ الرُّغودِ يكادُ يُخْدِجُ عندَهْ ... شاءُ الملا، ويَمُوتُ سَخْلُ الموضعِ
فَهَمى، فألقى بالعَراءِ بعَاعَهُ ... سَحّاً كمندفعِ الأَتيِّ المترعِ
فتسلوتِ الأقطارُ من أمواهه ... فالقارةُ العلياءُ مثلُ المَدْفَعِ
وغدا سَرابُ القاعِ بحرَ حقيقةٍ ... فكأنّه لِتَيقُّنٍ لم يخدعِ
متعطمطاً غَصَبَ الوحوشَ مكانَها ... تَيّارهُ، فالضَّبُّ جارُ الضِّفدَعِ
فضل الوزيرُ الزينبيُّ بجوده ... ذاك الندى حقّاً بغير توسّع
ومنها في صفة الركب:
ومُسَهَّدِين على الرِّحال يَميزُهْم ... شرفُ الرَّجاءِ عن النُّفوسِ الهُجَّعِ
شُعْثٍ كأنَّ على الرَّكائِب منُهمُ ... غولاً تَجارَى بالنَّعامِ الأجدعِ
نَحَلُوا على شَعَثِ الرِّحالِ، فأشبهت ... أعوادُها منهم عَرِيقَ الأضْلُعِ
وتفاضلوا شحباً، فأبعدُ همه ... أوفاهُمُ وَصَباً وإنْ لم يوجعِ
خَفَقُوا بهامِهِمُ على أكوارِهِمْ ... خَفْقَ السُّجُودِ من الصَّلاةِ الرَّكَّعِ
وطغت بإنجادِ النُّعاس أزمّةٌ ... فَجُعِلْنَ طَاعةَ راحةٍ أو إصبعِ
ومنها:
كتَمَ الدُّجَى والقاعُ سِرَّ سُراهُمُ ... فأباحه صبحُ المكانِ المُتْلِعِ
يَبغونَ مُشِكي المُجْدِباتِ وماجداً ... تُغْنِي رَغائُبهُ غَناءَ الهُمَّعِ
ناداهُمُ كرمُ الوزير، فأُنزِلُوا ... بعد التماحلِ بالخَصِيب المُمْرعِ
بِمُوَسِّعِ المعروفِ غيرِ مُضَيِّقٍ ... ومُضِّيق الأعذارِ غيرِ مُوَسَّعِ
ومنها في صفة السيف:
متّبسمٌ قبلَ الضِّرابِ، وإنّهُ ... من بَعِد فتكِتهِ غَزيرُ الأدُمعِ
برقٌ أضِيفَ إلى سَحابِ أنامِلٍ ... والبرقُ لولا سُحْبهُ لم يلمَعِ
بل جدولٌ في رَعْنِ طَوْدٍ أيْهَمٍ ... حَوْليهِ بحرُ نائلٍ مُتَدفِّعِ
عَدِمَ النُّبُوَّ غِرارُهُ، فكأنّه ... من غيرِ حدّهِ عزمِهِ لم يُطْبَعِ
ومنها في صفة الفرس:
طِرْفٌ يراه الطَّرْفُ عندَ وَجِيِفهِ ... جبلاً يسيرُ على الرِّياحِ الأربعِ

رَحْبُ اللَّبانِ. كأنَّ لونَ إهابهِ ... شَفَقٌ تجلَّلَ قَشْعَ غيمٍ مُقْلِعِ
ومنها في المقطع:
ما أقنعتني في وَلائِكَ غايةٌ ... فبِدُونِ تبليغي العُلَى لم تُقنعِ
وقوله في الغزل:
صحا القلبُ من وُدِّ الغَواني، ووُدُّها ... من السّورة العلياء ليس براجعِ
وفرّق جيشَ الجهلِ شيبُ وُجوهِنا ... حصينُ الحِمى لا يُدَّرَي بالرَّوادعِ
منَّعمةٌ لا الصّبرُ عنها بناصرٍ ... مُجيرٍ، ولا العَذْلُ الطّويلُ بنافعِ
يذودُ الكَرى عن مُقلةِ الصَّبِّ صَدها ... وتسخَرُ عندَ الوصلِ من نفسِ هاجعِ
أسِرُّ هواها غَيرةً، فَتُذِيعُهُ ... حرارةُ أنفاسٍ، وفيضُ مدامعِ
وأظْهرَ سُلْواني لها، ووراءهُ ... غَرامٌ كضربِ المُرْهَفاتِ القواطعِ
ولّما استراح العَذْلُ من بَعْدِ شِدًّةٍ ... إلى بارقٍ في مَفْرقِ الرّأس لامِعِ
تضاعفَ سلطانُ الهوى، فكأنّما ... أطاف بِغَمْرٍ في الخلاعِة يافعِ
وقوله في أنوشروان:
يُجيبُ نداهُ قبلَ أن يستغيثَهُ ... وخيرُ النَّدَى ما لم يكن بدواعِ
يُضيء ابتهاجاً بالعُفاةِ، كأنّما ... مُحَيّاهُ في الجَدْوَى ظَهِيرةُ قاعِ
يُرَى عن جليلِ الجُرمِ بالحلمِ مُعِرضاً ... وعندَ دقيقِ القولِ أحسنَ واعِ
ومن قوله في قصيدة في وصف الخيل عند شربها:
إذا ما احتستْ، خِلْتَ الرِّياحَ جرت ضحُى ... على قَصَبِ الآجامِ وهْيَ زعازعُ
ومن قوله في الوزير الزينبي:
أغرُّ، رَحيبُ الصّدرِ أمّا مَلامُهُ ... فَعاصٍ، وأمّا جودُهُ فَهْوَ طائعُهْ
تُضِيءُ ظلامَ الليلِ غُرَّةُ وجههِ ... وتُظلِمُ منه بالطِّرادِ وقائعُهْ
فتى هامُ أبناءِ المعالي صِلاتُهُ ... قديماً، وأطواقُ الرِّقابِ صنائعُه
وقوله فيه:
قومك أغرى معشراً بالنَّدَى ... وخيرُ من أصغى إلى الدّاعي
صِيدٌ، ومن رائق أخلاقهم ... تشبّهُ المَرْعِيّ بالرّاعي
تضُمُّ منه هَبَواتُ الوَغَى ... كلَّ طويلِ الرُّمحِ والباعِ
وقفتُ في المسعى، ولمّا أقُلْ ... سعيت كيلَ الصّاِع بالصّاعِ
مُضّيعُ المالِ ومِتْلافُهُ ... والعهدُ وافٍ حافظٌ راعِ
يُنيخُ منه جارُهُ بالنَّدَى ... والعُرْفُ والخِصْبُ بِجَعْجاعِ
ومن قوله فيه:
رعاك ضمانُ اللهِ، ما أظلم الدُّجَى ... بَهِيماً، وما ابيضَّتْ وجوهُ المطالع
وما طاب ذكرُ المحسنينَ، وما جرى النَّ ... سِيمُ بأرجاءِ المُرُوتِ البلاقعِ
أضاءت بك الأحداثُ حتّى كأنّها ... بشائرُ في ألحْاظِنا والمسامعِ
وطابت بك الأيّامُ حتّى كأنّها ... إيابُ شبابٍ، أو وِصالُ مُقاطع
ومن قوله فيه:
يبذُلُ المالَ، فإن حلَّ به ... لاجيءٌ من صَرْفِ دهرٍ، مَنَعَهْ
ولدَى الفاقةِ خِصْبٌ وغِنىً ... ولَدَى الخِيفةِ أمنٌ ودَعَهْ
أبداً يَجمعُ بالبأسِ الغِنى ... ويَفُضُّ الجودُ ما قد جمَعَهْ
زينبيٌّ يفخَرُ الدَّهْرُ بهِ ... أحرز المجدَ غُلاماً يَفَعَهْ
ضّيقُ الأعذارِ، لكنْ ضيفُهُ ... من حِماهُ وقِراهُ في سَعَهْ
وقوله من مدائحه في عمي الصدر الشهيد عزيز الدين أبي نصر أحمد بن حامد بن محمد، وكان حينئذ مستوفي السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه، كتبها إليه بعد غيبته عنه:
ألا، مَنْ مُبْلِغٌ عنّي هُماماً ... أشمَّ كَذِروْةِ الطَّوْدِ الرَّفيعِ؟
يُباري بالنَّدَى والبأسِ سَيْحَ ال ... غمامِ، وهبّةَ السَّيفِ القَطُوعِ
إذا ما حلَّ أرضاً ذاتَ مَحْل ... أعاد المَحْلَ خصْباً من ربيعِ

ألُوكةَ صادقِ الدّعوى أمينٍ ... بريءٍ من نِفاقٍ في خضوعِ
بأنّي مغرمٌ بهواك أطوي ... على البُرَحاء أخّاذَ الضُّلُوعِ
أحنُّ حنينَ رازحةٍ فَقِيدٍ ... تراوِحُ في الأزمَّة والنُّسُوعِ
إلى الوجهِ الطَّليقِ لمعتفيه ... على العّلات، والكَلِفِ النَّفُوعِ
وما غالت هوايَ نَوَىً شَطُونٌ ... ولكنْ زادَ بُعْدِي في وَلوُعي
ولو مكّنت من عَطْف المطايا ... لكانَ إلى أبي نصرٍ رُجُوعي
وله في مدح أمير المؤمنين علي عليه السلام:
صِنْوَ النّبيِّ، رأيتُ قافيتي ... أوصافَ ما أوتيتَ لا تمَنعُ
فجعلتُ مدحي الصَّمْتَ عن شرفٍ ... كلُّ المدائحِ دُونَهُ يَقَعُ
ماذا أقولُ، وكلُّ مُقْتَسَمِ ... بين الأفاضلِ فيك مجتمِعُ؟
الفاء وقوله في الذم:
خليلَيَّ من عُليا تَميمِ ابْن خِنْدِفٍ ... نداءَ أبيٍّ للهَضيمَةِ عارفِ
خُذا برِقابِ العِيسِ عن عُقْرِ منزلٍ ... بَغيضٍ إلى النُّزّالِ شَيْنِ المواقفِ
عن الحيِّ: لا الجارُ المقيمُ بآمنٍ ... لَدَيْهمْ، ولا الجاني عليهِمْ بخائفِ
بيوتٌ قصيراتُ العمِادِ، كأنّها ... وَجارُ ضِباعٍ أجحرتْ للمخلوفِ
إذا نزلَ النّاسُ اليَفاعَ، تزاوروا ... إلى سُتُراتِ الغائطِ المتقاذفِ
جِفانُهُمُ أردانُهُمْ يستُرُونَها ... إذا أطعُموا نَسْرَ البُزاةِ الخوطفِ
أذىً كصدورِ السَّمْهَرِيّةِ مُرْهَفٌ ... وذُلٌّ كعِيدانِ الأراكِ الضَّعائف
ظواهرُ أمثالُ الصَّباحِ، ودُونها ... بواطِنُ سودٌ كالدُّجى المتكاثف
عَداكم غَمامُ العامِ أخصبَ أهُلهُ ... وجادكُمُ صَوْبَ اللِّدانِ الرَّواعفِ
وله من قصيدة في شرف الدين البيهقي:
حاشا لدينِ العلى يُلْوي بواجبه ... وأنت للدّينِ من بين الورى شَرفُ
خيرُ المَوارد أدناها لِذِي ظمأٍ ... وشرُّها بطويلِ المتحِ يُعْتسفُ
لولا الحوادثُ، إذْ أمسين ضاريةً ... كما تَضارى ذئاب الثَّلَّة لغُضفُ
وجورُ دهرٍ أعاد الحالَ رازحةً ... فالملكُ يمدحُ والمخدومُ يَحترفُ
لَما طَمحْتُ إلى عيشٍ أرَمِّقهُ ... أعبُّهُ تارةً عبّاً، وأرتشفُ
وما جَزِعْتُ لخطبٍ غانَ في شرفي ... والشّمسُ تُشرقُ أحياناً وتنكسفُ
وإن علا نورَ مجدي ليلُ نازلةٍ ... فهالةُ البدرِ في لألائِها كلفُ
ومنها:
وكم ثلمتَ غُروبَ البيضِ ماضيةً ... بمُضْمرِ القدِّ في أعطافهِ هَيفُ
الجودُ عندَك طبعٌ لا تكلَّفُه ... وعندَ غيرِك أفعالُ النَّدى كُلَف
وقوله يف الحكمة:
اضطرارُ الحرَّ الكريمِ إلى الدُّو ... نِ، وإنْ حازَ غايةَ الإسرافِ،
لا يَشِينُ المجدَ المُنِيفَ، ولا ين ... قُصُ قدرَ الشريفِ في الأشرافِ
هل يُعابُ العطّارُ يوماً إذا أص ... بحَ ذا حاجةٍ إلى الكَنافِ؟
القاف وله من قصيدة سارت في مدح الوزير الزينبي:
لمن جِيرةٌ دونَ اللِّوى والشقائقِ ... يُغَطُّونَ بالأعدادِ ثوبَ السَّمالقِ؟
ومنها، وقد أحسن:
عِجالُ السُّرَى، لا يستقلُّ مُعرسٌ ... بِهمْ غيرَ إزجاءِ الطَّلاحَى الأيانِقِ
كأنَّ فَتيتَ المسكِ ذَرُّ سحيقةٍ ... مع الصُّبح في أكوارهم والنَّمارِقِ
إذا رحَلُوا عن منزلٍ، غادروا به ... مِهاجا لمشتاقٍ وِطيباً لناشقِ
وفوقَ الحَوايا كلُّ غيداءَ، دُونها ... حميّةُ غيرانٍ ولوعةُ عاشقِ
سَحَبْنَ فُضولَ الرَّيْطِ صَوناً كأنّما ... خِفافُ المطايا من شعورِ المفارقِ
يعني: أضفين الملابس حتى سوين من الصون بين أخفاف إبلهن وبين شعور مفارقهن.

وأعرضُ عن زَجْرِ الحُداةِ تحرُّجا ... عن النّظمِ في ذكرى مَشُوقٍ وشائقِ
توّهمتُ حِلمي بَعْدَهُنَّ سَفاهةً ... وخِلْتُ أناتي خِفّةَ المُتَنازِقِ
وعهدي بنا والدَّارُ قربٌ لشاحِطٍ ... ووصلٌ لمهجورٍ ووُدٌّ لوامقِ
ومُرتَبَعُ الحيِّ الجميعِ من الحِمى ... رياضُ العَوالي في رياضِ المَبارقِ
مَجامعُ أيسارٍ، ومَوْقِفُ سُمَّرٍ، ... ومَطْعَنُ فُرسانٍ، وشاراتُ راشقِ
ومَبْرَكُ أنْضاءٍ، ومُلْقَى سوابغٍ، ... ومَسْحَبُ أرماحٍ، ومُنْضَى سوابقِ
فلمّا دعا داعي النَّوَى واستخفّنا ... تجاوُبُ غربانِ الفراقِ النّواعقِ
ظَلِلْتُ أداري دمع عينٍ قريحةٍ ... أبَي الوَجْدُ إلا أن تجودَ بدافقِ
كأنّ إهابي مُشْعِرٌ جَبَريّةً ... غَداةَ سَرتْ ظُعْنُ الخليطِ المفارقِ
تنفّستُ حّتى قال صحبي: ضريمةٌ ... من النّارِ هاجتها رياحُ المشارِق
أهجراً وما أضمرتُ غدرا، ولا سَرى ... مشَيبيَ في ليلِ الشّبابِ الغُرانِق
إذنْ فوِصالُ الغانياتِ نقيصةٌ ... أمَحَّتْ فما فيها اعتصامٌ لواثق
ذرِ الدّمعَ يجري مُسْتّهلا، فما الهوى ... بِدانٍ، ولا وعدُ الحِسانِ بصادق
وإنّ وراءَ الحبِّ حِبّاً وصالُهُ ... مَجالُ المَذاِكي في دماءِ المَواذقِ
منعتُ القِرى إنْ لم أنُدْها عوابسا ... تُثيرُ عجاجَ المأزقِ المتضايقِ
خوارجَ من ليل الغُبار، كأنّها ... رُجومُ نُجومٍ أو سِهامُ مُراشقِ
تَجانَفُ عن ورِدْ الفلاةِ ظميئةً ... فلا وِرْدَ إّلا من دماءِ الفيالق
يُعيدُ عليها الكَرَّ كلُّ مُجاهرٍ ... بأخذِ العلى والمجدِ غيرِ مُسارق
رجالٌ نبتْ أغمادُهم بسيوفهمْ ... فعاجوا على إغمادها في العواتقِ
يَزينون ما أبقى الطِّعانُ من القَنا ... لهم برؤوس الصَّيدِ لا بالبيارِقِ
أرُوعُ به ضبحاً ظهيرةَ يومه ... تعصّبَ تاجٍ واحتلالَ سُرادِقِ
دعوتُ تَميماً والرّجال بعيدة ... وقد ضِقتُ ذَرْعا بالخطوبِ الطّوارقِ
فقام بنصري من قُرَيْشٍ مُمَجَّدٌ ... شديدُ مَضاءِ البأس سهلُ الخلائق
فتى قُدَّ قَدَّ المَشْرَ فيَّ، فَصَفْحُهُ ... لِصَفْحٍ، وحدّا شَفْرَتَيْهِ لِعاتقِ
يشامُ نَدَى كفّيهِ من بِشرِ وجهِهِ ... كما شِيمَ مُنْهَلُّ الحَيا بالبوارقِ
ومنها في وصف العود:
وما منَدلٌ فاهتْ به بعدَ هَجعةٍ ... جِمارُ غَضىً شُبَّتْ بأتلعَ شاهقِ
من القُطُر الأحوى كأنّ أريِجَهُ ... يَذِيعُ لَدى الدّارِيّ دُون المحارِقِ
أتِيحَ له نَشْرُ الخُزامَى ونَفْحُهُ ... من الغيدِ ما بين الطُّلى والبنائقِ
تهادته أرواحُ الصَّبا فبَعَثْنَهُ ... لِشُرْبِ جلالٍ بالِحمى فالأبارقِ
فمادت بمن لم يسكر الخمر نشوةً ... من الطّيب في عِرنينه والمَناشقِ
بأطيبَ من عرض الرّضا حين تنشر ال ... مدائحُ غُرّاً بينَ نادٍ ومازِقِ
وله من قصيدة فيه، مطلعها:
ذَريني وأهوالي نَفِرُّ ونلتقي ... سيَهْزِمُها عنّي حُسامي ومنطقي
ومنها:
وإنّ صباباتي بأجردَ سابحٍ، ... وأسمرَ خَطَّيٍّ، وعَضبٍ مُذَلَّقِ
هجرتُ الهوى والعمرُ غَضٌّ نباتُهُ ... فكيف وقد لاحَ المَشيِبُ بِمَفْرِقي!
ومنها:
وربّ لُهامِ الجيشِ جَمّ بُنُودُهُ ... وَشِيكَ نَفاذِ الأمر من آل سلجقِ
تُحَجِّبُهُ عندَ المقامِ سُتُورُهُ ... وفي الحربِ أستارُ العجاجِ المرَوَّقِ

مَهيب الرُّؤا، معدودة لفَظاتُهُ، ... يُحاذِرُهُ الموتُ الزُّؤامُ ويتّقي
وَلَجْتُ عليه والملوكُ بِنَجْوَةٍ ... يُذادُونَ عن صعب المَراتجِ مُغْلَقِ
ومنها:
وعَنْس كأعواد القِداحِ زَجَرْتُها ... على لاحبٍ من نازحِ الغَوْرِ سَمْلَقِ
ورَدْتُ بها أعقابَ ماءٍ كأنّه ... من الأَجْنِ أغبارُ السَّليطِ المُعَتَّقِ
ومنها في المدح:
يُهابُ نَداه مثلَما هِيبَ بأسُهُ ... إذ المُغْرِقُ الجيّاشُ مثلُ المحرَّقِ
قشيبُ رِداء العِرضِ، لكنَّ مالهُ ... يمزّقُهُ العافُون كُلَّ مُمَزَّقِ
فشَمْلُ العُلى من سعيه في تجمُّعٍ ... وشمل اللُّهَا من بذلِه في تفرّقِ
ومنها في المقطعة والنهنئة:
لِيَهْنكَ عيدٌ أنتَ عيدٌ ِلأهلهِ ... سرورٌ لمهموم ووُجْدٌ لِمُمْلِقِ
ولا زِلتَ تبقى للمكارمِ والعلى ... فأنت الَّذي يبَقىَ الفَخارُ إذا بَقِي
تعطَّلَ جِيدي من حِلَى كُلِّ مِنَّةٍ ... وراحَ بما أوليتَ أيَّ مُطَوَّقِ
ومن قوله:
وما معزمٌ صبُّ الفؤادِ وشتْ به ... مَدامِعُهُ إثْرَ الخَليطِ المُفارقِ
تذكّرَ نُوّاراً من الثَّغْرِ ضاحكاً ... ونَشْراً عِطاريّاً كروضِ المَبارقِ
لِهيفاءَ مِقلاقِ الوِشاح، قَوامُها ... لعُوبٌ كمتن الصَّعْدَةِ المتناسقِ
تعلَّقَها والقلبُ لم يعرفِ الأسى ... ولا اعتاقه صَرفُ الليالي بعائقِ
وباتَ يُرَجّي بعد ما شطّتِ النَّوى ... زِيارةَ طَيْفٍ بالتحّيةِ طارقِ
بأوجدَ منَي للعلى، غيرَ أنّه ... إذا فارقتْ محبوبةٌ لم يفارقِ
وقوله في الوزير ابن هبيرة، في الأيام المستنجدية، وقد دعاه إلى خوانه، فكتب يستعفي من الحضور:
يا باذلَ المال في عدلٍ وفي سَعَةٍ ... ومُطعمَ الزّادِ في صُبحٍ وفي غَسَقِ
وحاشِرَ النّاسِ أغنتهمْ فَواضِلُهُ ... إلى مَزِيدٍ من النَّعماءِ مندفقِ
في كلّ بيتٍ خِوانٌ من مكارمه ... يميرُهُمْ وَهْوَ يدعوهم إلى الطَّبَقِ
فاض النَّوالُ، فلولا خوفُ مفعمةٍ ... من بأسِ عدلِك نادى النّاسُ بالغرقِ
فكلُّ أرضٍ بها صَوْبٌ وساكبةٌ ... حتّى الوغى من نَجيعِ الخيلِ والعَرَقِ
صُنْ مَنْكبِي عن زِحامٍ إن غَضِبتُ له ... تمكّن الطّعنُ من عقلي ومن خُلُقي
وإنْ رَضيتُ به فالذُّلُّ منقصةٌ ... وكم تكلّفتُهُ حملاً فلم أطِقِ
أنا المريضُ بأحداثي وسَوْرَتِها ... وليس غيرَ إبائي حافظٌ رَمَقي
فَهَبْهُ لي كعطاياك التّي كَثُرَتْ ... فالجود بالعزّ فوق الجودِ بالورقِ
إنّ اصفرارَ مِجَنِّ الشّمسِ عن حَزَنٍ ... على علاها لمرماها إلى الأُفُقِ
وإنْ توهّم قومٌ أنّه حُمُقٌ ... فطالما اشتبهَ التّوقيرُ بالُحُمقِ
وقوله في صفة مروحة الخيش لغزاً:
ولَيْنَة الأعطافِ خوّارة ... ذات غصونٍ لونُها أورقُ
غبراء لا تبرحُ ممطورةً ... وَهْيَ على الغَبرةِ لا تُورِقُ
موثقة، مطلقة، لَيْنَة، ... شديدة، ثابتة، تَقْلَقُ
تسعى بلا رجل على طائر ... للذرّ في مسلكها مَزْلقُ
تجري مدى الشّمسِ، على أنّها ... محصورة مذهبُها ضيّقُ
طيّارة يمنع إبعادَها ... أسبابُها والسُّورُ والخندقُ
كأنّها، من حَيرةٍ، ناشدٌ ... يَدْأبُ نِشْداناً ولا يلحقُ
إذا أريحت خِلْتَها والهاً ... ثَكْلَى بها من حزنها أوْلَقُ
كرّارّةٌ في حربِ شمسِ الضّحى ... لا تَرْهَبُ البأسَ ولا تَفْرَقُ
ما بين إدريسَ ونُوحٍ لها ... في حالَتْيها نسبٌ مُعْرِقُ

تُهْدِي الكَرى للمُستهامِ الذّي ... ينبو به المضجعُ والنُّمْرُقُ
لا يسألُ المُجْبلُ معروفَها ... ويجتدي نائَلها المُعرِقُ
تنقُصُ مَنْ خاشَنَها بَزَّها ... وتُوسِعُ الجودَ لمن يرفُقُ
قويّةُ السّلطانِ في مُدْنها ... ضعيفةٌ إنْ ضمهَّا سَمْلَقُ
تُجْبَلُ حالُ الأرضِ من فضلها ... سِيرافُ من إحسانها جِلَّقُ
من لي بأخرى مثلها للّذي ... أعيا على الآسي، فما يعرقُ؟
وقوله في الحكمة:
مِنَّةُ الدُّونِ في الرِّقابِ حِبالٌ ... مُحْصَداتٌ كأحْبُلِ الخَنّاقِ
غيرَ أنّ التّخنيقَ مُرْدٍ، وهذا ... ألمٌ دائمٌ مسمع الدّهرِ بلقِ
فإذا أخفق الرَّجاءُ من الدُّو ... نِ، فأكرمْ بذاك من إخفاقِ!
سَوْرَةُ السُّمِّ في التَّعزّزِ أولى ... من شقاءٍ بالذُّلِّ في التِّرْياقِ
الكاف وقوله مما يكتب به بتطريز الإبرة على قميص امرأة:
إذا اشتملتُ على شمسٍ وبدرِ دجَى ... يهدى به الرَّكبُ أنَّى وجهةٍ سلكوا
فَمَنْ دعاني قميصاً، بات يَظْلِمُني ... وإنّما أنا لو أنصفتُمُ فَلَكُ
اللام وقوله في مدح ابن هبيرة الوزير في الأيام المقتفوية، وفيه حسن صنعة المقابلة:
يَفُلُّ غَرْبَ الرَّزايا وهي باسلةٌ ... ويُوِسُع الجارَ نصراً وَهْوَ مخذولُ
ويشهَدُ الهولَ بَسّاماً، وقد دَمَعت ... شوسُ العيونِ، فذمَّ القومَ إجفِيلُ
وتُتقى مثَلما تُرجَى فَواضُلهٌ ... وجُودُهُ، فهو مرهوبٌ ومأمولُ
عارٍ من العارِ، كاسٍ من مَناقِبِه ... كأنّه مُرْهَفُ الحدَّيْنِ مصقولُ
سهلُ المكارمِ، سهلٌ في حَفِيظَتِهِ، ... فبأسُهُ والنّدى مُرٌّ ومعسولُ
قالي الدَّنايا وصّبْوانُ العلى كَلِفٌ ... فالعارُ والمجدُ مقطوعٌ وموصولُ
الصّدرُ يحيا لدى قولٍ ومُعْتَركٍ ... إذا تشابَهَ مقطوعٌ ومفلولُ
تَهمي الأسنّةُ والأقوالُ ماضيةٌ ... فالحِبرُ والقِرنُ مطرودٌ ومفضولُ
جوادُ مَحْلٍ، له من فخره شِيَةٌ، ... وفيه من واضح العلياءِ تحجيلُ
يَصيدُ وحشَ المعالي وهَيْ َنافرةٌ ... كأنّ مَسعاهُ للعلياء أحْبُولُ
وقوله من قصيدة في أنوشروان:
عفا الله عنها. هل يُلمُّ خَيالُها ... فيقضى على رغم الرَّقيبِ وِصالُها
وما ملتقى الطّيفِ المُلِمِّ بناقعٍ ... غَلِيلاً. ولكنْ مُنْيَةٌ وضَلالهُا
تذكرّتُها والحيُّ للحيِّ جِيرَةٌ ... يهونُ تلاقيها ويدنو منالُها
وقومي وقومُ العامرّية عُصبةٌ ... كذاتِ البَنانِ ما يُرامُ انفصالُها
رفاقُ نَدىً لا يستهلُّ نَوالُها ... وأحلافُ درعٍ لا يُفَلُّ نِزالُها
وفي ألْسُنِ الواشينَ صمتٌ عن الخَنا ... إذا أرشقت بالقول طاشت نِبالُها
فبتُّ كأنّي شاربٌ قَرْقَفِيَّةً ... من الرّاح لم يَفْلُلْ شَباها زُلالُها
أبى حبّها إّلا غرامي، وأصبحت ... تقطَّعُ إّلا من فراقي حِباُلها
كأنّ خوافي ناهضٍ مُتَمَطِّرٍ ... غَدَت بفؤادي يومَ زُمَّتْ جِمالُها
عَدمْتُ اصطباري، والنَّوى مطمثّنةٌ، ... فكيف احتمالي حين جدَّ احتمالُها
وممّا شجاني أنَّ حُبّيَ سالمٌ ... من الفحش، والدّنيا كثيرٌ وبَالُها
إذا رفّت العشّاقُ ساهرتُ عفّةً ... سَواءٌ عليها حِرْمُها وحلالُها
تَجَنَّبُ بي عن مَحْرمِ الله خشيةٌ ... وتكثُرُ عندي رُخصةٌ واحتيالُها
ومن رام ما أبغيه، فالحربُ عندَهُ ... فتاةٌ، وتحطيمُ المعالي بِعالُها

ستُسفرُ لي تلك الدُّمَى مستدقّةً ... إذا هَلَكت تحتَ العجاجِ رِجالُها
لَدُنْ غُدوَةً لا أمنَعُ السّيفَ حَقَّهُ ... من الهامِ، أو يُبدي شعاري مقالُها
بفتيان صِدْقٍ من ذُؤابة دارِمٍ ... مَواضٍ إذا أعيا الكُماةَ اقتتالها
عَثَرْنَ جِيادي بالوشيج، وربّما ... أعِيدت وتيجانُ الملوكِ نعاُلها
وَغَىً ضاق عنها القاعُ طرداً وكَثْرَةً ... فشاركتِ البَيْداء فيها جبالُها
أذَلْتُ مديحي، والحوادثُ جَمَّةٌ، ... بأعراض لؤمٍ من أذاها نَوالُها
ودونَ مديحي كلُّ دَهْياءَ، لو رمت ... دعائمَ رَضْوَى لاستمرَّ انهيالُها
فإنْ تجهَلُوني فالقَنا ومُجاشعٌ ... وعزمي وحزمي والعلى واحتلالُها
وإنْ صَدِئتْ أعراضُهم فصوارمي ... بماء طُلاهم سوف يصدا صِقالُها
وإنّ مقامي في فِناء ابن خالدٍ ... لأوّل حربٍ عاث فيهم صيالُها
هو المرءُ يُغني مُعطياً عن سؤاله ... إذا شانَ بيضَ الأعطياتِ سؤالهُا
مَنيعُ الِحمى، لو ساور الموتُ جارَهُ ... لردَّ المنايا الحمرَ تنبو نصالهُا
مرائرُ عهدٍ لا يُرامُ انتقاضُها ... وعجلى عطايا لا يُخافُ مِطالُها
وأبلجُ سامي الطَّرفِ لا تستفزّه ال ... دَّنايا ولو زانَ الدَّنايا جَمالُها
تطيشُ الرَّزايا وهو ثَبْتٌ كأنّما ... جرت بِشَرَ ورْىَ نسمةٌ واعتلالهُا
ومنها في صفة السيل:
وما مقبلٌ من قُنّة الطَّودِ زاخرٌ ... له صَخَباتُ الأسدِ عَنَّ مَصالُها
تَظَلُّ به عُصْمُ اليَفاعِ غريقةً ... ويتبَعُها ضَبُّ الفَلا وغَزالُها
إذا مرّ بالوَعْساءِ وهو مزمجرٌ ... تَدَهْدى له كُثبانُها ورِمالُها
ترى شجرَ الغُلاّن فيه كأنّها ... سفائنُ يَمٍّ أسلمتها رجالُها
كأنّ بياضاً راغياً في عُبابه ... لغُامُ المَطايا أثقلتها رِحالُها
أفادته غِبَّ المَحْلِ وَطْفاءُ جَوْنةٌ ... أقامتْ نُعاماها وغابَ شَمالُها
سرتْ لبني الآمالِ من بعد هَجعةٍ ... إلى الصّبحَ سَحّاً وَدْقُها وانهمالُها
بأغزرَ من يُمناهُ جوداً إذا همى ... على مُعْتَفِيها رِفْدُها ونَوالُها
ومنها في المقطع:
ألا رَجُلٌ ألقي عليه عظيمةً؟ ... وهيهاتَ، أعيت عقدةٌ وانحلالُها
فيغضب لي حتّى أديرَ رَحى وَغَىً ... تكونُ ديارَ النّاكثينَ ثِفالُها
ومن قوله في الوزير جلال الدين بن صدقة في الأيام المسترشدية:
لَمَعتْ كتلويح الرِّداءِ المُسْبَلِ ... والليلُ صبغُ خِضابه لم يَنْصُلِ
نارٌ كسَحْرِ العَوْدِ أرشدَ ضوؤها ... بالبيد أعناقَ الرِّكابِ الضُّلِّلِ
طابت لِمُعتِسفِ الظّلامِ، كأنّما ... شُبَّتْ على قُنَنِ اليَفاعِ بِمَنْدِل
فعلمتُ أنّ بني تميمٍ عندَها ... يتقارعونَ على الضُّيوف النُّزُّلِ
العاقرينِ الكُومَ وهي منيفةٌ ... والضّاربينَ الهامَ تحتَ القسْطلِ
والسّسائسينَ الملكَ لا آراؤُهم ... تهفو، ولا معروفُهم بمقلّلِ
قومي، وأين كمثلٍ قومي والقَنا ... والبِيضُ بينَ مُقصّدٍ ومُفللِ؟
نَجُلوا أخا وَجْدٍ بغير خَريدةٍ ... جعَلَ النَّسِيبَ لِذابلٍ أو مُنْصُلِ
شَغلتهُ عن وصف الهوى ذِكَرُ العُلى ... فنضا شِعارَ الشّاعرِ المتغزّلِ
قَضَّى شبيبَتهُ لمجدِ مَشِيبهِ ... فإذا المشيبُ بدا له لم يَوْجَلِ
ومنها:
يَحْمِلْنَ فُرساناً كأنّ دُرُوَعُهمْ ... سُنَّتْ على مثلٍ الجبال المُثَّلِ
قوماً إذا طُبِعت نُصُولُ سيوفِهم ... قام النَّجِيعُ لها مَقامَ الصَّيْقلِ
ومنها:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16