كتاب : خريدة القصر وجريدة العصر
المؤلف : العماد الأصبهاني

إن لله تعالى قضايا واقعة بالعدل، وعطايا جامعة للفضل، ومنحا يبسطها إذا شاء ترفيها وإنعاما، ويقبضها إذا أراد تنبيها وإلهاما، ويجعلها لقوم صلاحا وخيرا، وعلى آخرين فسادا وضيرا، وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد، وأنه بعد ما كان من امتساك الحيا، وتوقف السقيا، الذي ريع به الآمن، واستطير له الساكن، ورجفت الأكباد فزعا، وذهبت الألباب جزعا، وأذكت ذكاء حرها، ومنعت السماء درها واكتست الأرض غبرة بعد خضرة، ولبست شحوبا بعد نضرة، وكادت برود الأرض تطوى، ومدود نعمه تزوى. يسر الله تعالى رحمته، وبسط نعمته، وأتاح منته، وأزاح محنته، فبعث الرياح لواقح، وأرسل الغمام سوافح، بماء دفق، ورواء غدق، من سماء طبق، استهل جفنها فدمع، وسح مزنها وهمع، وصاب وبلها ونفع، فاستوفت الأرض ريا، واستكملت من نباتها أثاثا وريا، فزينة الأرض مشهورة، وحلة الرياض منشورة، ومنة الرب موفورة، والقلوب ناعمة بعد بؤسها، والوجوه ضاحكة بعد عبوسها، وآثار الجوع ممحوة، وسور الحمد متلوة ونحن نستزيد الواهب نعمة التوفيق، ونستهديه في قضاء الحقوق إلى سواء الطريق، ونستعيذ به من المنة أن تصير فتنة، ومن المنحة أن تعود محنة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الوزير أبو بكر محمد بن القصيرة
قرأت له في بعض التعاليق، هذا البيت شاهدا له بجودة النظم بالتوفيق والتحقيق، وهو من أبيات يهنىء فيها بمولود:
لم يستهل بُكىً ولكن منكرا ... أن لم تُعدّ له الدروع لفائفا
ولم يورد القيسي مصنف قلائد العقيان شيئا من شعره، لكنه وشح كتابه بنثره، ووصفه بترجح الأقلام في بيانه، وتبجح الأيام بمكانه، وإنه كان في سماء العلى وتاجها دريا ودره، ولمشرفي الشرف وجهة الوجاهة غرارا وغرة، واشتملت عليه دولة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين اشتمال الجفن على البصر، والأكمام على الثمر، والهالة على القمر، إلى أن أضمر رمسه، وكورت شمسه. قال القيسي: فمن كلامه رقعة راجعني بها: وافتني لك - أطال اله بقاءك - أحرف كأنها الوشم في الخدود، تميس في حلل إبداعها كالغصن الاملود، وإنك لسابق هذه الحلبة لا يدرك غبارك في مضمارها، ولا يضاف سرارك إلى إبدارها، وما أنت في أهل البلاغة إلا نكتة فلكها، ومعجزة تتشرف الدول بتملكها، وما كان أخلقك بملك يدنيك، وملك يقتنيك، ولكنها الحظوظ لا تعتمد من تتجمل به وتتشرف، ولا تقف إلا على من توقف، ولو اتفقت بحسب الرتب لما ضربت إلا عليك قبابها، ولا خلعت إلا عليك أثوابها، وأما ما عرضته فلا أرى إنفاذه قواما، ولا أرضى لك أن تترك عيون آرائك نياما، ولو كففت من هذا الخلق، وانصرفت عن تلك الطرق، لكان أليق بك، وأذهب مع حسن مذهبك، فقديما أوردت الأنفة أهلها موارد لم يحمدوا صدرها والموفق من أبعدها وهجرها، وسأستدرك الأمر قبل فواته، وأرهف لك مفلول شباته، فتوقف قليلا، ولا تنفذ فيه دبيرا ولا قبيلا، حتى ألقاك هذه العشية، وأعلمك بما تنبني عليه القضية.
وكتب عن أمير المسلمين إلى طائفة متعدية: يا أمة لا تعقل رشدها، ولا تجري إلى ما تقتضيه نعم الله عندها، ولا تقلع عن أذي تفشيه قربا وبعدا جهدها، فإنكم لا ترعون لجار ولا غيره حرمة، ولا تراقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، قد أعماكم عن مصالحكم الأشر، وأضلكم ضلالا بعيدا البطر، ونبذتم المعروف وراء ظهوركم، وأتيتم ما ينكر مقتديا في ذلك صغيركم بكبيركم، وخاملكم بمشهوركم، ليس فيكم زاجر، ولا منكم إلا غوي فاجر، وما ترى إلا الله عز وجل قد شاء مسخكم وأراد نسخكم وفسخكم، فسلط عليكم الشيطان الرجيم يغركم ويغريكم، ويزين لكم قبائح معاصيكم، وكأنكم به قد نكص على عقبيه عنكم، وقال إني بريء منكم، وترككم في صفقة خاسرة، لا تستقيلونها إن لم تتوبوا في دنيا ولا آخرة، وحسبنا هذا إعذارا لكم، وإنذارا قبلكم، فتوبوا وأنيبوا وأقلعوا وانزعوا، واقضوا من أنفسكم كل من وترتموه، وأنصفوا جميع من ظلمتموه وغششتموه ولا تستطيلوا على أحد بعد، ولا يكن إلى أذاه صدر ولا ورد، إلا عاجلكم من عقوبتكم ما يجعلكم مثلا سائرا، وحديثا غابرا، فاتقوا الله في أنفسكم وأهليكم، وإياكم والاعتزاز فإنه يورطكم فيما يرديكم ويسوقكم، إلى ما يشمت به أعاديكم، وكفى بهذا تبصرة وتذكرة، ليست لكم بعدها حجة ولا معذرة...

وكتب عن أمير المسلمين إلى صاحب قلعة حماد: وصل كتابك، الذي أنفذته من وادي مني صادرا عن الوجهة التي استظهرت عليها بأضدادك، وأجحفت فيها بطارفك وتلادك، وأخفقت فيها من مطلبك ومرادك، فوقفنا على معانيه، وعرفنا المصرح به والمشار إليه فيه، ووجدناك تتجنى وتثرب على من لم يستوجب التثريب وتجعل سيئك حسنا، ونكرك معروفا وخلافك صوابا بينا، وتقضي لنفسك بفلح الخصام، وتوافيها الحجة البالغة في جميع الأحكام، ولم تتأول أن وراء كل حجة أدليت بها ما يدحضها، وإزاء كل دعوى أبرمتها ما ينقضها، وتلقاء كل شكوى صححتها ما يمرضها، ولولا استنكاف الجدال، واجتناب تردد القيل والقال، لفضضنا فصول كتابك أولا فأولا، وتقريناها تفاصيل وجملا، وأضفنا إلى كل فصل ما يبطله، ويخجل من ينتحله، حتى لا يدفع حجته دافع، ولا ينبو عن قبول أدلته راء ولا سامع.
ومنها: وأنت تحتفل وتحتشد، وتقوم وتقعد، وتبرق غيظا وترعد، وتستدعي ذؤبان العرب، وصعاليكهم من مبتعد ومقترب؛ فتعطيهم ما في خزائنك جزافا، وتنفق عليهم ما كنزه أوائلك إسرافا، وتمنح أهل العشرات مئين وأهل المئين آلافا، كل ذلك لتعتضد بهم، وتعتمد على تعصبهم، وتعتقد أنهم جنتك من المحاذير، وحماتك من المقادير، وتذهل عما في الغيب من أحكام العزيز القدير...
وكتب إلى أهل مكناسة عنه: أما بعد، - أصلح الله من أعمالكم ما اختل، وأصح من وجوه صلاحكم ما اعتل - ، فقد بلغنا ما أنتم بسبيله من التقاطع والتدابر، وما ركبتم رؤوسكم فيه من التنازع والتهاتر، قد استوى في ذلك عالمكم وجاهلكم، وصار شرعا سواء فيه نبيهكم وخاملكم، لا تأتمرون رشدا، ولا تطيعون مرشدا، ولا تقيمون سددا ولا تنحون مقصدا، ولا تفلحون إن لم ترعووا عن غوايتكم أبدا، فلا يسوغ لنا أن نترككم فوضى وندعكم سدى، ولابد لنا من أخذ قناتكم بثقاف إما أن تستقيم أو تتشظى قصدا، فتوبوا من ذنب التباغض بينكم والتباين، واعصوا شياطين التحاقد والتشاحن، وكونوا على الخير أعوانا، وفي ذات الله إخوانا، ولا تجعلوا للغواية عليكم يدا ولا سلطانا. واعلموا أن من نزغ بينكم بشر، أو نفث في فتنة بضر، وقام عندنا عليه الدليل، واتجه إليه السبيل، أخرجناه عنكم، وأبعدناه منكم. فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين، ولا تتولوا عن الموعظة وأنتم معرضون، ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون.

الوزير أبو المطرف ابن الدباغ الكاتب
لم يورد له نظما، ووصفه بالاشتهار بالبلاغة، والاقتصار على حسن البلاغ في كل إراغة، وكلف المعتمد به، فاعتماده عليه لحسن مذهبه، فانبري لشأنه الشاني، فأصابت كماله عين الراني، فأحله اضطراب الحالة حلة الاضطرار، وأفضى به الاغترار إلى الاعترار، وحصل دون درك الإيثار، في شرك العثار، فانتقل إلى المتوكل متوكلا، فرفع ووسع له منزلة ومنزلا، وكر إلى سرقسطة بلده ومحله، ليكون مع ولده وأهله، فبات ليلة في بعض حدائقها، فرمقته النوائب بأحداق بوائقها، فطرقه عدو له وهنا، وكسا قواه بفري أوداجه وهنا، وطعنه بمداه ورداه رداه، وسقاه من الموت الأحمر كأس حمامه، وتركه لا يستيقظ من منامه.
ومن كتبه، وكان كثير الشكوى من الدهر ونوبه: كتابي، وأنا كما تدريه، غرض للأيام ترميه، ولكن غير شاك لآلامها، لأن قلبي في أغشية من سهامها، فالنصل على مثله يقع، والتألم بهذه الحالة قد ارتفع، كذلك التقريع إذا تتابع هان، والخطب إذا أفرط في الشدة لان، والحوادث تنعكس إلى الأضداد، إذا تناهت في الاشتداد، وتزايدت على الآماد.
وكتب في مثل ذلك: كتابي، وعندي من الدهر ما يهز أيسره الرواسي، ويفتت الحجر القاسي، ومن أجلها قلب محاسني مساويا، وانقلاب أوليائي أعاديا، وقصدني بالبغضة من جهة المقة، واعتمدني بالخيانة من جانب الثقة، فقس هذا على سواه، وعارض به ما عداه، ولا تعجب إلا لثبوتي لما لا يثبت عليه الحلق السرد، وبقائي على مالا يبقى عليه الحجر الصلد، ولا أطول عليك فقد غير علي حتى شرابي، وأوحشتني ثيابي، فها أنا أتهم عياني، وأستريب من بناني، وأجني الإساءة من غرس إحساني، وقاتل الله الحطيئة في قوله، فلشد ما غرر بقوله:
من يزرع الخير يحصد ما يسر به ... وزارع الشر منكوس على الراس
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس

أنا والله فعلت خيرا فعدمت جوازيه، وما أحمدت عوائده ومباديه، وزرعته فلم أحصد إلا شرا، ولا اجتنيت منه إلا ضرا، وهكذا جدي فما أصنع، وقد أبى لي القضاء إلا أن أفني عمري في بوس، ولا أنفك من نحوس. ويا ليت باقيه قد انصرم، وغائب الحمام قد قدم، وعسى أن تكون بعد الممات راحة من هذا النصب، وسلوة عن هذه الخطوب والنوب، ودع بنا هذا التشكي فالدهر ليس بمعتب من يجزع، ولا في الأيام رجاء ومطمع.
وله من فصل في تعزية: من أي الثنايا طلعت النوائب، وأي حمى رتعت فيه المصائب، فواها لحشاشة الفضل أرصدها الردى غوائله، وبقية الكرم جر عليها الدهر كلاكله، ويا حسرتا للجة المواهب كيف سجرت، ولشمس المعالي كيف كورت، ويالهفي على هضبة الحكم كيف زلزلت، وحدة الذكاء والفهم كيف فللت، فإنا لله وإنا إليه راجعون أخذا بوصاياه، وتسليما لقضاياه.
وله فصل: لئن كانت الأيام تنئيك، فالأماني تدنيك، ولئن كنت محجوبا عن الناظر، فإنك مصور في الخاطر، أناجيك بلسان الضمير، وأعاطيك سلاف السرور.
وله فصل في ذم كتاب: وردني لك كتاب خلته للطفه سماء، وتوهمته من خفته هباء، وفضضته عن أسطر فيها سواد، لم يتحصل منه مستفاد، فتعوذت برب ذلك الفلق، من شر ذلك الغسق.
وله: كنت عهدتك لا تمتنع من مداعبة من يداعبك، ولا تنقبض عن مراجعة من يخاطبك، فمن أين حدث هذا التعالي، وما سبب هذا التغالي، عرفني، - جعلت فداك - ، ما الذي عداك، ولعلك رأيت الحضرة قد خلت من قاض فطمعت في القضاء وجعلت تأخذ نفسك بأهبته، وتترشح لرتبته، وأنت الآن لا شك تنفقه في الأحكام، وتتطلع شريعة الإسلام، وهبك تحليت بهذا السمت، وتأهبت وتهيأت لذلك الدست، ما تصنع في قصة السبت، دع عنك هذا التخلق وارجع إلى أخلاقك، وعد في إطراقك، وتجاهل، ما قبلك جاهل، وتحامق مع الحمقى وأنت عاقل، فلا تمنع لذة الاسترسال، ولا تبع الدنيا بخدمتك في سائر الأحوال، فما أشبه إدبارها بالإقبال، وكثرتها بالإقلال.
وله يستدعي خمرا: أوصافك العطرة، ومكارمك المشتهرة، تنشط سامعها من غير توطية، في اقتضاء ما عرض من أمنية، وللراح من قلبي محل لا تصل إليه سلوة، ولا تعترضه جفوة، إلا أن معينها قد جف، وقطينها قد خف، فما توجد للسباء، ولو بحشاشة الحوباء، فصلني منها بما يوازي قدري، ويقوم له شكري، فإن قدرك أرفع من أن تقتضي حقه زاخرات البحار، ولو سالت بذوب النضار، لا يصافنه العقار.
وله يستدعي إلى مجلس أنس: يومنا يوم قد تجهم محياه، ودمعت عيناه، وبرقعت شمسه الغيوم، ونثرت صباه لؤلؤه المنظوم، وملأ الخافقين دخان دجنه، وطبق بساط الأرض هملان جفنه، فأعرضنا عنه إلى مجلس وجهه كالصباح المسفر، وجلبابه كالرداء المحبر، وحليه يشرق في ترائبه، ونده يعبق في جوانبه، وطلائع أنواره تظهر، وكواكب إيناسه تزهر، وأباريقه تركع وتسجد، وأوتاره تنشد وتغرد، وبدوره تستحث أنجمها محيية، وتقبل أنملها مفدية، وسائر نغماتها خذ وهاتها، وأملها أن تحث خطاك، حتى يلوح سناك، ونشتفي بمرآك.
وله: ورد كتابك فنور ما كان بالإغباب داجيا، وحسن مشافها عنك ومناجيا، واسترد إلى الخلة بهاءها، وأجرى في صفحة الصلة ماءها، وعند شدة الظمأ يعذب الماء، وبعد مشقة السهر يطيب الاغفاء، ورأيت ما وعدت به من الزيارة فسرني سرورا بعث من إطرابي، وحسن لي دين التصابي، فارتحت كأنما أدار علي المدام مديرها، وجاوب المثاني والمثالث زيرها، ولا تسأل عن حالي استطلعتها فهي كاسفة بالي، كاشفة عن خبالي بصبح لاح من خلال ذؤابتي، وتنفس في ليل لمتي، فأدجى مطالع أعملي، وأراني مصارع آمالي.
وله فصل: يا ليت شعري كيف اتغير على بعضي، وأمنحه قطيعتي وبغضي.
وله فصل:

طلع علينا هذا اليوم فكاد يمطر من الغضارة صحوه، ويقبس من الإنارة جوه، ويحيي الرميم اعتداله، ويصبي الحليم جماله، فلفتنا زهرته، ونظمتنا بهجته، في روضة أرضعتها السماء شآبيبها ونثرت عليها كواكبها، ووفد عليها النعمان بشقيقه، أو قبل فيها الهند بخلوقه، وبكر إليها بابل برحيقه، فالجمال يثني بحسنه طرفه، والنسيم يهز لأنفاسه عطفه، وتمنينا أن يتبلج صبحك من خلال فروجه، وتحل شمسك في منازل بروجه، فيطلع علينا الأنس بطلوعك، وتهديه بوقوعك، ولن تعدم نورا يحكي شمائلك طيبا وبهجة، وراحا تخالها خلالك صفاء ورقة، وألحانا تثير أشجان الصب، وتبعث أطراب القلب، وندامى ترتاح إليهم الشمول، وتتعطر بأرجهم القبول، ويحسد الصبح عليهم الأصيل، ويقصر بمجالستهم الليل الطويل.

الوزير الفقيه الكاتب أبو القاسم ابن الجد
وصفه بالإعجاز، في الصدور والأعجاز، وإقطاع استعارته جانبي الحقيقة والمجاز، وإنارة أفق أدبه، ونضارة روض السداد به، والافتتان بالعلم، والازديان بالحلم، قد احتوت على السحر الحلال مهارقه، وأضاءت بنور الإقبال مشارقه، وجادت بصوب النوال بوارقه. كان بالدرس مشتغلا، وللأنس بالعلم معتزلا، حتى استدعاه أمير المسلمين فأجاب، وأحسن عنه المناب. وقد أورد من نثره الباهر، ونظمه الزاهر، ما تسلب الألباب أساليبه، وتروي الآداب شآبيبه، وفي رسائله ما هو مؤرخ لسنة اثنتي عشرة وخمسمائة وقد عاش بعد ذلك طويلا، وأوتي جاها عريضا طويلا. فمن ذلك رقعة ذكر القيسي أنه راجعه بها عن معاتبة، في توقف مجاوبة، وهي: لو أطعت نفسي، - أعزك الله - ، بحسب هواها، ومحتمل قواها، لما خططت طرسا، ولا سمعت للقلم جرسا، ولنمت في حجر العطلة مستريحا، ولزمت بيت العزلة حلسا طريحا، ولكنني بحكم الزمان مغلوب، وبحقوق الإخوان مطلوب، فلا أجد بدا من إعمال الخاطر وإن غدا طليحا، وتناهى تبليحا ولما طلع علي طالع خطابك الكريم، في صورة المقتضي الغريم، تعين الأداء، ووجب الأعداء، واتصل بالتلبية النداء وقد كنت تغافلت عن الكتاب الأول، تغافل الساكن إلى العدو المنازل، فهزتني من الثاني كلمات مؤلمات، ولكنها في وجوه الحسن والإحسان سمات، لم توجد في المعرفة طريقا، ولا سوغتني في النظرة ريقا، فتكلفت هذه الأسطر تكلف المضطر، حفزه ثقل البر، وأنت بفضلك تقبل وجيزها، ولا تبخل بأن تجيزها، والله يطيل بقاءك محسود النجابة، ولا يخلي دعوتي لك من الإجابة.
وله من قصيدة:
لئن راق مرأى للحسان ومسمع ... فحسناؤك الغراء أبهى وأمتع
عروس جلاها مطلع الفكر فانثنت ... إليها النجوم الزاهرات تطلع
زففت بها بكرا تضوَّع طيبها ... وما طيبها إلا الثناء المضوّع
لها من طراز الحسن وشي مهلل ... ومن صنعة الإحسان تاج مرصّع
وله مراجعا:
سلام كأنفاس الأحبّة موهنا ... سرت بشذاها العنبري صبا نجد
سلام كإيماض الغزالة بالضحى ... إلى الروضة الغناء غبّ الحيا العد
على من تحراني بمعجز شعره ... فأعجز أدنى عفوه منتهى جهدي
حبانِيَ من حَبْك اللسان بِلاَمَة ... مضاعفة التأليف محكمة السرد
دلاص من النظم البديع حصينةٍ ... ترد سنان النقد منثلم الحد
عليها من الإحسان والحسن رونق ... كما ديس متن السيف من صدأ الغمد
وفيها على الطبع الكريم دلالة ... كما افترَّ ضوء السقط عن كرم الزند
أبا عامر لا زال ربعك عامرا ... بوفد الثناء الحر والسؤدد الرغد
لقد سمتني في حومة القول خطة ... لففت لها رأسي حياء من المجد
وكتب إلى أحد الشعراء مراجعا:
أما ونسيم الروض طاب به فجر ... وهبّ له من كلّ زاهرة عِطْرُ
تَحَامَى له من سرّه زَهَرُ الرُّبى ... ولم يَدْرِ أن السر في طيه نشر
ففي كلّ سهب من أحاديث طيبه ... تمائم لم يعلق بحاملها وزر
لقد فغّمتني من ثنائك نفحة ... ينافسني في طيب أنفاسها العطر

تضوّع منها العنبر الورد فانثنت ... وقد أوهمتني أن منزلها السِّحْر
سرى الكبر في نفسي لها ولربّما ... تجانف عن مسرى ضرائِبِي الكبر
وشيت بها معنى من الراح مطربا ... فخيل لي أن ارتياحي بها سكر
أبا عامر، أنصف أخاك فإنّه ... وإياك في محض الهوى الماء والخمر
أمثلك يبغي في سمائيَ كوكبا ... وفي جوك الشمس المنيرة والبدر
ويلتمس الحصباء في ثَعَب الحصى ... ومن بحرك الفيّاض يُستخرج الدر
عجبت لمن يهوى من الصَّفر تَوْمَةً ... وقد سال في أرجاء معدنه التبر
ومن رسائله، كتب عن أمير المسلمين، وناصر الدين، إلى أهل إشبيلية: كتابنا - أبقاكم الله، وعصمكم بتقواه، ويسركم من الاتفاق والائتلاف لما يرضاه، وجنبكم من أسباب الشقاق والخلاف ما يسخطه ويأباه - ، من حضرة مراكش حرسها الله لست بقين من جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وقد بلغنا ما تأكد بين أعيانكم من أسباب التباعد والتباين، ودواعي التحاسد والتضاغن، واتصال التباغض والتدابر، وتمادي التقاطع والتهاجر، وفي هذا على فقهائكم وصلحائكم مطعن بين، ومغمزلا يرضاه مؤمن دين. فهلا سعوا في إصلاح ذات البين، سعي الصالحين، وجدوا في إبطال أعمال المفسدين، وبذلوا في تأليف الآراء المختلفة، وجمع الاهواء المفترقة، جهد المجتهدين، ورأينا والله الموفق للصواب، أن نعذر إليكم بهذا الخطاب، فإذا وصل إليكم، وقرىء عليكم، فاقمعوا الأنفس الأمارة بالسوء، وارغبوا في السكون والهدوء، ونكبوا عن طريق البغي الذميم المشنوء، واحذروا دواعي الفتن، وعواقب الإحن، وما يجر داء الضمائر، وفساد السرائر، وعمى البصائر، ووخيم المصائر، وأشفقوا على دياركم وأعراضكم، وثوبوا إلى الصلاح في جميع أغراضكم وأخلصوا السمع والطاعة لوالي أموركم، وخليفتنا في تدبيركم وسياسة جمهوركم، أخينا الكريم علينا أبي القاسم إبراهيم، أبقاه الله، وأدام عزه بتقواه، واعلموا أن يده فيكم كيدنا، ومشهده كمشهدنا، فقفوا عند ما يحضكم عليه، ويدعوكم إليه، ولا تختلفوا في أمر من الأمور لديه، وانقادوا أسلس انقياد لحكمه وعزمه، ولا تقيموا على ثبج عناد بين حده ورسمه، والله تعالى يفيء بكم إلى الحسنى، وييسركم لما فيه صلاح الدين والدنيا، بقدرته.
وله فصل لأجل الفقيه أبي الفضل ابن عياض إلى أحمد بن حمدين: أما وكنف برك لمن أمك من أهل الفضل ممهد، وجفن رعايتك لهم مسهد، ومنزل حفايتك بهم متعهد، وكل وعر يلقونه في سبيل قصدك مستسهل، لا يرويهم دونك منهل، ولا يضل بهم للعلم مجهل، وممن رأى أن يقتحم نحوك ظهري لجة ومحجة، ويقرن في أم كعبة فضلك بين عمرة وحجة، ويرحل إلى حضرتك المألوفة مهاجرا، ويعتمدها في طلب العلم تاجرا، ليجتهد في جمعه وكسبه اجتهاد مغترب، ويملأ من بضائعه وفوائده وعاء غير سرب، ومذهبه الاقتباس من أنوارك، والالتباس برهة من الدهر بجوارك، والاستئناس بأسرة بشرك ومسرة جوارك، فلان وله في الفضل مذاهب يبهرج عندها الذهب، وعنده من النبل ضرائب لا يفارق زندها اللهب، وستقربه، فتستغربه، وتخبره، فتكبره، إن شاء الله تعالى.
وكتب عن أمير المسلمين في معنى ابن عياض إلى ابن حمدين: فلان - أعزه الله، وأعانه على ما نواه - ، ممن له في العلم حظ وافر، ووجه سافر، وعنده دواوين إغفال، لم تفتح لها على الشيوخ أقفال، وقصد تلك الحضرة ليقيم أود متونها، ويعاني رمد عيونها، وله إلينا ماتة مرعية أوجبت الإشادة بذكره، والاعتناء بأمره، وله عندنا مكانة حفية تقتضي مخاطبتك بخبره، وإنهاضك إلى قضاء وطره، وأنت إن شاء الله تسدد عمله، وتقرب أمله، وتصل أسباب العون له.
وكتب عن أمير المسلمين إلى أهل سبتة بولاية الأمير أبي زكرياء يحي بن أبي بكر:

كتابنا، - أبقاكم الله وأكرمكم بتقواه، ويسركم لما يرضاه، وأسبغ عليكم نعماه - ، وقد رأينا، والله بفضله يقرن جميع آرائنا بالتسديد، ولا يخلينا في كافة أنحائنا من النظر الحميد، أن نولي أبا زكريا يحي بن أبي بكر محل ابننا الناشيء في حجرنا أعزه الله، وسدده في ما قلدناه إياه، مدينتي فاس وسبتة وجميع أعمالهما حرسهما الله، على الرسم الذي تولاه غيره قبله فأنفذنا ذلك لما توسمناه من مخائل النجابة قبله، ووصيناه بما نرجو أن يحتذيه ويمتثله، ويجري عليه قوله وعمله، ونحن من وراء اختباره، والفحص عن أخباره، لأنني بحمد الله في امتحانه وتجريبه، والعناية بتخريجه وتدريبه، والله عز وجل يحقق مخيلتنا فيه، ويوفقه من سداد القول والعمل لما يرضيه، فإذا وصل إليكم خطابنا فالتزموا له السمع والطاعة، والنصح والمشايعة جهد الاستطاعة، وعظموا بحسب مكانه منا قدره، وامتثلوا في كل عمل من أعمال الحق نهيه وأمره، والله تعالى يمده بتوفيقه وهدايته، ويعرفكم يمن ولايته بعزته.
وكتب عنه إلى أبي محمد عبد الله بن فاطمة: كتابي، - أطال الله في طاعته عمرك، وأعز بتقواه قدرك، وشد في ما تتولاه أزرك، وعضد بالتسديد والتوفيق أمرك - من حضرة مراكش حرسها الله وقد رأينا والله ولي التوفيق، والهادي إلى سواء الطريق، أن نجدد عهدنا إلى عمالنا عصمهم الله بالتزام أحكام الحق، وإيثار أسباب الرفق، لما نرجوه في ذلك من الصلاح الشامل، والخير العاجل والآجل، والله تعالى ييسر لما يرضيه من قول وعمل منه، وأنت - أعزك الله - ، ممن يستغني بإشارة التذكير، ويكتفي بلمحة التبصير، لما تأوي إليه من السياسة والتجربة، فاتخذ الحق أمامك، وملك يده زمامك، وأجر عليه في القوي والضعيف أحكامك، وارفع لدعوة المظلوم حجابك، ولا تسد في وجه المضطهد المهضوم بابك، ووطيء للرعية حاطها الله أكنافك، وابذل لها إنصافك، واستعمل عليها من يرفق بها، ويعدل فيها، واطرح كل من يحيف عليها ويؤذيها، ومن سبب عليها من عمالك زيادة، أو خرق في أمرها عادة، أو غير رسما، أو بذل حكما، أو أخذ لنفسه منها درهما ظلما، فاعز له عن عمله، وعاقبه في بدنه، وألزمه رد ما أخذ متعديا إلى أهله، واجعله نكالا لغيره حتى لا يقدم أحد منهم على مثل فعله، إن شاء الله وهو تعالى ولي تسديدك، والملي بعضدك وتأييدك، لا إلاه غيره.
وكتب عنه إلى أهل غرناطة من كتاب: قد اتصل بنا أنكم من مطالبة فلان على أولكم، وفي عنفوان عملكم، وإنه لا يعدم تشغيبا وتأليبا من قبلكم، فإلى متى تلحون في الطلب، وتجدون في الغلب، وتقرعون النبع بالغرب، ولقد آن لحركتكم به أن تهدأ، وللنائرة بينكم أن تطفأ، ولذات بينكم أن تصلح، ولوجوه المراشد قبلكم أن تتضح وإذا وصل إليكم خطابنا هذا فاتركوا متابعة الهوى، واسلكوا معه الطريقة المثلى، ودعوا التنافس على حطام الدنيا. وليقبل كل واحد منكم على ما يعنيه، ولا يشتغل بما ينصبه ويعنيه، ولابد لكل عمل، من أجل، ولكل ولاية، من غاية، ولن يسبق شيء إناه، وإذا أراد الله أمرا أسناه، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، وفقكم الله لما فيه صون أديانكم وأعراضكم، وتسديد أنحائكم وأغراضكم.

ذو الوزارتين المشرف
أبو بكر محمد بن أحمد بن رحيم
ذكره لي الفقيه اليسع بمصر، وقال أدركته سنة عشرين وخمسمائة وهو صاحب ديوان إشبيلية وذكره الفتح في قلائد العقيان وأثنى عليه وعلى نجاره، وثنى الحمد إلى علاء مجاره، ووصفه بشرف السؤدد، وكرم المحتد، والسجاحة في السجية، والسماحة والأريحية، والسلامة من الكبر والخيلاء، والاستقامة في الفكر والذكاء، والاستقلال بالإبرام والنقض، والاستبداد بالبسط والقبض، والرفع والخفض، وافتقار الدولة إليه افتقار الجسد إلى الروح، والمشكل إلى الوضوح. وقد أورد من شعره قصيدة نظمها في شعبان سنة خمس عشرة وخمسمائة في الأمير أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين:
سقى الله الحمى صوب الولي ... وحيا بالاراكة كل حي
وإن ذكر العقيق فباكرته ... سحائب معقبات بالروي
تروي مسقط العلمين سكبا ... تُلبَسِّهُ جنى الزهر الجني
ولا بليت لمرسية برود ... مطرزة بأسباب الحلي

ذكرت معاهدا أقوت وكانت ... أواهل بالقريب وبالقصي
أقول وإن غدوت حليف شجو ... أعلل لوعة القلب الشجي
لأصرف عفة طرفي وكفي ... عن اللحظ العليل النرجسي
وأخزن منطقي عن كل هُجر ... وأهجر كلّ مِلْسَانٍ بَذِيّ
ولما أن رأيت الدهر يدني ... دَنِيَّا ثم يسطو بالسني
وجدت به على الأيام غيظا ... كما وجد اليتيم على الوصي
طلبت فما سقطت على خبير ... يخبّر عن ودود أو صفي
كما أني بحثت على كريم ... فما ألفيت ذا خلق رضي
ولولا واحد لسددت عيني ... فلم تفتح على شخص سري
هو الملك المعظم من ملوك ... ينير بها سنا الأفق السني
لهم همم تعالى كل حين ... يفوت بها ذرى النجم العلي
وحسن خلائق رقت فجاءت ... كما وهب النسيم مع العشي
مصون العرض مبذول العطايا ... ندي الترب مبرور الندي
جواد جوده أن سِيلَ سَيْلٌ ... ويأتي عرفه مثل الأتي
يمد إلى العفاة يمين يمن ... تُلَيِّنُ قَسْوةَ الدهر الأبي
تحلى ملكه بعلى نهاه ... كما ازدان المقلد بالحلي
تدار عليه أكواس المعالي ... فتأخذ1 من هِزَبْر أريحي
يطارد بالضحى خيل الأعادي ... ويأوي كل وفد بالعشي
لإبراهيم عند الله سرّ ... يدق به عن النظر الخفي
يرى غيب الأمور إذا ادلهمّت ... بعين الرأي والفكر البدي
ويوضح كل مشكلة فيرمي ... بها فيصيب شاكلة الرمي
درت صنهاجة ولها علاها ... بأن علاه مفتخر الندي
وتعلم أنه سيف محلّى ... لدفع الخطب أو قرع الكمي
وكم من سيد فيهم ولكن ... أتى الوادي فطمّ على القَرِيّ
أيا لَيْثَ الحروب ومن تردّى ... رداء الفضل والخلق الرضي
لقد أصبحت روح العدل حقا ... وأسود مقلة الملك الحفي
سواك يريح من وخد المطي ... ويقصر عن مدى الأمد القصي
وأنت تصادم العلياء لما ... غدت مرقى لكل فتى علي
تصادر كل معضلة نؤود ... متى هجمت بصدر السمهري
وتكشف كل غماء بهدي ... حكى هدي النبي الهاشمي
أبا إسحاق يا ابن أمير ملك ... يقصر عنه ملك التُّبَّعيِّ
ليوسف مفخر يروى ويتلى ... كما يتلى الحديث عن النبي
ركبت مناهج التقوى ففاتت ... أمورك كل أمر معتلي
وسرت بسيرة العمرين عدلا ... ولم تقعد مضاء عن علي
أيا ملك الملوك لدي قول ... فوطيء لي على كنف وطي
وحسِّن فضل أخلاق كرام ... إذا حيّت فعن مسك ذكي
لك الفضل الذي أوليتنيه ... فأشكره ولي حق الولي
وأمري مظلم بالشرق حتّى ... تبلجه لدى المولى العليّ
وهذا وقت خدمة كل أمر ... فسبب لي إلى السَّبب الحظي
ومهما دار قول نمقته ... رجال لا تضاف إلى سري
فلا تسمع لمشاء نميم ... ودع أقوال همّاز غوي
دعي في الصفاء فليس يعطي ... بقدر الحب والود الخفي
وليت قلوبنا شقت فتدري ... بها فضل الخؤون على الوفي
ويهني المجد عزّ نلت فيه ... جزيل الاجر بالسعي الزكي
كلامي قاده ودي فأهدي ... إليك قصيدة مثل الهدي
فخدها كالعروس تفوت طبعا ... أيا ويح الشجي من الخلي
وله من قصيدة فيه:
بيني وبين النوى دخل فان صدعت ... شملي فعنديَ تفويض وتسليم
وإن تكن نثرت سلكي نوى قذف ... فان سلك رجائي فيك منظوم
وله:

نفديك من منزل بالنفس والذات ... كم لي بمغناك من أيام لذات
نجني بك العيش والآمال دانية ... أعوام وصل قطعناها كساعات
تُسْقَى لديك اغتباقات مسلسلة ... والدهر قد نام عنا باصطباحات
يا قبة الدهر لا زالت مجددة ... تلك المعالم ما دامت مقيمات
حفظت من قبة بيضاء حف بها ... نهر تفضض يجري بين دوحات
عليك منِّيَ ريحان السماء كما ... حيتك مسكة دارين بنفحات
لله يوم ضربنا للمدام به ... رواق لهو بكاسات وجامات
ومنها:
وللمياه ابتسام في جداولها ... كما تشق جيوب فوق لبات
حدائق أحدقتها للمنى شجر ... خضر وأودية حفت بروضات
جنات أنس رعى الرحمان بهجتها ... حسبت نفسي منها وسط جنات
منازل لست أهوى غيرها سقيت ... حيا يعمم وخصت بالتحيات
وله من قصيدة يهنيء فيها أخاه الوزير أبا الحسن بمولود:
خلصت إليك مع الأصيل الأنور ... أمنية مثل الصباح المسفر
غراء إلا أنها من خاطري ... بمكان أسود ناظري من محجري
أرجت شَذىً أرْجَاؤُها فكأنها ... قد ضمخت بلخالخ من عنبر
أهدت إليك مع النسيم تحية ... فتقت نوافجها بمسك أذفر
فأتت كما زارتك عاطرة اللمى ... بيضاء صيغت جوهرا في جوهر
هيفاء رود ذات خصر صائم ... ومعاطف لدن وردف مفطر
هزت جوانب همتي فكأنما ... عجبا بها أنا تُبَّع في حمير
يا حسن موقع ذلك الأمل الذي ... تزري حلاوته بطعم السكر
نظم السرور كما نظمت لآلئاً ... بيد الصبابة في مقلد معصر
ورد الكتاب، به فرحت كأنني ... نشوان راح في ثياب تبختر
لما فضضت ختامه فتبلجت ... بيض الأماني من سواد الأسطر
قبلت من فرح به خد الثرى ... شكرا ولا حظ لمن لم يشكر
يا مورد الخبر الشهي وحامل ال ... أمل القصي وهاديَ النبأ السري
زدني من الخبر الذي أوردته ... يا برد ذاك على فؤاد المخبر
صفحا وعفوا للزمان فإنه ... ضحكت أسرّة وجهه المتنمر
طلع البشير بنجم سعد لاح من ... أفق العلى وبشبل ليث مخدر
لله درك أي فرع سيادة ... أعطيته وقضيب دوحة مفخر
طابت أرومته وأينع فرعه ... والفرع يعرف فيه طيب العنصر
أنت الجدير بكل فضل نلته ... وحويته وبكل مكرمة حري
تهنى رُحَيْماً انها قد أنجبت ... برحيم المحمود أسنى مذخر
نامت عيون الدهر عن جنباته ... وحمت مناهله متون الضمر
وصفا له ولأخوة يتلونه ... ماء الحياء لديك غير مكدر
فلآنت بدر السعد وهو هلاله ... ولأنت سيف المجد وهو السمهري
أفدي البشير بمهجتي وبتالدي ... وبطار في وعذرت ان لم يعذر
بأبي أبوه أخي كبيري سيدي ... أسدى إليّ مواهبا لم تصغر
ذاك الذي علقت بعلق نفاسة ... منه المنى فكأنه لم يشعر
مصباح من هامت به ظَلْمَاؤُهُ ... ومنار هدي السائر المتحير
بدر ولكن إن تطلع كامل ... ليث ولكن عند عزمته جري
ندب تدل على علاه خِلاَلُهُ ... كالسيف يدري فضله في الجوهر
سيف تحلى بالعلاء رئاسة ... وصفت جواهره لطيب المكسر
لو كانت العلياء شخصا ماثلا ... لرأيته منها مكان المغفر
ومنها:
نحن الرحيميون إن ذكر الندى ... نذكر وإن ذكر الخنى لم نذكر
إن أخبروك أو اختبرت علاهم ... أنساك طول الخبر طيب المخبر

شرف سقاه الفضل وسمي العلى ... فتضوع أزهار الثناء الأعطر
ساداتنا سادات كل معاشر ... إن حصلوا ولآنت سيد معشري
فإذا تلاحظت المكارم من فتى ... مضر أشار إليك أهل المحضر
وإذا جروا يوم المكرِّ سبقتهم ... وأتوا لقسمة مغنم، لم تحضر
ومنها:
هو مفخري يوم الجدال ومنصلي ... يوم النزال ورايتي في العسكر
من لم يرد علياه لم يرد العلى ... ما لم يرد بحريمه لم ينصر
ومنها:
أنا ذاك شيمتي الوفاء وإننّي ... لا بالملول ولست بالمتغيّر
وإذا تنكرت الأحبة فالرضى ... مني الجزاء ولست بالمتكبر
إني لأصبر عند كل عظيمة ... وإذا ظلمت مجاهرا لم أصبر
مهما تقسني بالرّجال وجدتهم ... مثل الحصا ووجدتني كالجوهر
فإليكها مثل العروس زففتها ... سكرى تجرّ ذيولها بتبختر
ومنها:
فابسط بفضلك عذر وافدة العلى ... وابسط لها وجه الكريم الموسر
واسمح لها لا تنتقدها إنها ... مع مفرط الاعجاز قول مقصر
وغني له بشعر يشهد قبول القلوب بحسنه، فعمل على وزنه، والشعر الذي غني به:
خليلي سيرا واربعا بالمناهل ... وردَّا تحيات الخليط المنازل
فإن سأل الأحباب عني تشوقا ... فقولا تركناه رهين البلابل
فقال:
وإن يَتناسوني لعذر فذكرا ... بأمري ولا تدري بذاك عواذلي
لعل الصبا تأتي فتحيي بنفحة ... فؤاديَ من تلقاء من هو قاتلي
فيا ليت أعناق الرياح تقلني ... وتنزلني ما بين تلك المنازل
وله من قطعة أولها:
خص يا غيث مربع الأحباب ... وتعاهد بالعهد عهد التصابي
ولتسلم على معرس سلمى ... ولتصل بالرباب دار الرباب
هي روضات كل أنس وطيب ... ومغان سكانها أصل ما بي
فكساها العلاء ثوب بهاء ... وسقاها الجمال ماء الشباب
ثم سارت ألبابنا فبقينا ... بين أهل الهوى بلا ألباب
فأصيب بها القلوب فصارت ... لشقائي مآلف الأوصاب
أمرضتني مرضى صحاح ولك ... نّ عذابي بين الثنايا العذاب
أقسم الشوق أن يقسم قلبي ... بين قوم لم يسألوا عن مصابي
فرقة آثرت صدودي وأخرى ... أخذت جِدَّ سيرها في الذهاب
أي وجد أشكو وقد صار قلبي ... رهن أيدي الصدود والاغتراب
بعت حظي من الوفاء متى ما ... لم أمت حسرة على الأحباب
ولئن همت بالجمال فإني ... أبدا عفت موضع الارتياب
ودعتني عن المقابح نفس ... خلقت من محاسن الآداب
وله:
يا بغيتي قلبي لديك رهينة ... فلتحفظيه فربما قد ضاعا
أوقدته وتركته متضرما ... بأوار حبّك يستطير شعاعا
لا تسلميه فإنه نزعت به ... تلك الخلال إلى هواك نزاعا
حاشا لمثلك أن تضيع ضراعتي ... ولمثل حبي أن يكون مضاعا
إني لأقنع من وصالك بالمنى ... ومن الحديث بأن يَكون سماعا

الوزير الكاتب أبو محمد ابن القاسم
كان والده صاحب شنتبريه، وصفه بالكرم والنفاسة، والشرف والرئاسة، والتدبير والسياسة، والوقار، الذي لا تستخفه كأس العقار، والمآثر التي آثرتها ألسنة الإيثار، بحسن الآثار، وذكر أن الدولة مع فقرها إلى غنائه، وفخرها بمضائه، وإنارة فجرها بأضوائه، ونضارة روضها بنواره وأنواره، تخلت عنه تخلي الحسناء عن حليها، والعقود عن درها، والبروج عن دريها، وذكر أنه قد أنس بوحشة انفراده، ولبس حلة انزوائه عن أنداده، وانقبض عن مخالطة الناس، ورفض مجالسة سائر الأنواع والأجناس، وولى وجهه شطر مسجد التقوى، ولزم بيته ونفسه تتقوت بغذاء العلم وتتقوى.

فهذا على ما ذكره صاحب قلائد العقيان، قريب الزمان من عصر أهلنا الأعيان، وحكى عنه أنه لما انفصل عن أمير المسلمين، اختار لمسكنه سلا، واعتقد أنه بمجاورة بني القاسم يتسلى، وكانت ولايتها إلى أبي العباس، ولأبي محمد لديه يد أنجته من نكبة تمت له من البؤس واليأس، فلما سار إليه لم يرفع له الرأس ولم يوله في حال الوحشة الإيناس، فنسبه فيه إلى قلة الوفاء، وحسبه من كثرة الجفاء،ة فكتب إليه أبو العباس يعتذر، بأنه من أمير المسلمين يحذر:
واحسرتا لصديق ما له عوض ... إن قلت من هو لا يلقاك معترض
ألقاه بالنفس لا بالجسم من حذر ... لعلة ما رأيت الحر ينقبض
فكتب الوزير أبو محمد ابن القاسم إليه في جوابه:
شدّ الجياد إذا أجريت منقبض ... ما للوجيه على الميدان معترض
أنى تضاهيه فرسان الكلام ومن ... غباره في هواديهن ما نفضوا
جرت على مستو من طبعه كلم ... هي المشارب لكن ما لها فرض
كأن منشدها نشوان من طرب ... أو بلبل من سقيط الطل ينتفض
تحية من أبي العباس زار بها ... طيف من العذر في أثوابه يمض
لا بالجلي فتستوفي حقيقته ... ويستبان بعين ما لها غمض
لكن أغض عليه جفن ذي مقة ... كما يسد مكان الجوهر العرض
يا من يعز علينا أن نعاتبه ... إلا عتاب محبّ ليس يمتعض
ناشدتك الله والانصاف مكرمة ... أما الوفاء بحسن العهد مفترض
هب المزار لمعنى الريب مرتفع ... ما للوداد بظهر الغيب ينخفض
أما لكل نبيه في العلى حيل ... تقضى الحقوق بها والمرء منقبض
كن كيف شئت فمن دأبي محافظة ... على الذمام وعهد ليس ينتقض
وهمة لم تضق ذرعا بحادثة ... إن الكريم على العلات ينتهض
والحر حر وصنع الله منتظر ... والذكر يبقى وعمر المرء ينقرض
ومن منثوره ما ذكر القيسي في كتابه، أنه كتب إليه في جوابه، فراجعه به من رقعة كتبها إليه مودعا ووصف النجوم:

عذيري من ساحر بيان، وناثر جمان، ومظاهر إبداع وإحسان، ما كفاه أن اعتام الجواهر اعتياما، وجلاها في أبهج مطالعها نثرا ونظاما، حتى حشر الكواكب والافلاك، وجلبها نحوي كتائب من هنا وهناك، وقدماً حمل لواء النباهة، وأعجز دواء البداهة، فكيف بمن نكل حتى عن الروية، ورفض الخطابة رفضا غير ذي مثنوية، وليس الغمر كالنزر، رويدك أبا النصر، فما سميت فتحا لتفتح علينا أبواب المعجزات، ولا مليت سروا لترتقي عنا إلى الأنجم الزاهرات، فتأتي بها قبيلا، وتريد منا أن نسومها كما سمتها قودا وتذليلا، وأنى لنا أن نساجل احتكاما، أو نباسل اقداما، من أقدم حتى على القمرين، وتحكم حتى في انتقال الفرقدين، وقص قوادم النسرين. ثم ورد المجرة وقد تسلسلت غدرانها، وتفتح في حافاتها أقحوانها، وهناك اعتقد التنجيم، وأحمد المراد الكريم، حتى إذا رفع قبابه، ومد ما أحب أطنابه، سئم الدهناء، وصمم المضاء، فاقتحم على العذراء رواقها، وفصم عن الجوزاء نطاقها، وتغلغل في تلك الارجاء، واستباح ما شاء أن يستبيحه من نجوم السماء، ثم ما أقنعه أن بهر بإدلا له، حتى ذعرها بجياد أقواله، وغمرها باطراد سلساله، فله ثم خيل وسيل، لأجلهما شمر عن سوق التوأمين ذيل، وتعلق برجل السفينة سهيل، هنالك سلم المسالم، وأسلم المعارض والمقاوم، فما الأسد وإن لبس الزبرة يلباً، واتخذ الهلال مخلبا، وإنما انتهض تحت صبا أعنته، وقبض على شبا أسنته، وما الشجاع وإن هال مقتحما، وفغر عن الدواهي فما، وقد أطرق مما رآه، وما وجد مساغا يأباه. وما الرامي وقد أقعص عن مرامه، ووجئت لبته بسهامه، أو السماك وقد قطر دفينا، وغودر بذابله طعينا، وما الفوارس وقد جللت سربتها عجاجة، ومسخت حليتها زجاجة، وكذلك قطب زحل، واضطرب المريخ في نار وجده واشتعل، ووجل المشتري فامتقع لونه وضياؤه، وشعشع بالصفرة بياضه ولألاؤه، وتاهت الزهرة بين دل الجمال، وذل الاستبسال، فلذلك ما تتقدم آونة وتتأخر، وتغيب تارة ثم تظهر، وأما عطارد فلاذ بكناسه، ورد بضاعته في أكياسه، وتحجبت الشمس بالغمام، واعتصم بمغربه قمر التمام. هذه حال النجوم معك، فكيف بمن يتعاطى أن يشرع في قول مشرعك، أو يطلع من ثنية فضل مطلعك.
ومنها في وداعه: فخذ السانح من عفوي، وتجاوز لمقتي وصفوي، ثم متعني بفكري فقد رجع فليلا، ودع لي ذهني عسى أن يتودع قليلا، وإني وقد أضله من بينك الشغل الشاغل، وردعه من قربك الظل الزائل، ولا أنس بعدك إلا في تخيل معاهدك، وتذكر مصادرك النبيلة ومواردك، فسر في أمن السلامة محافظا، وتوجه في ضمن الكرامة مشاهدا بالأوهام ملاحظا، رعاك الله في حلك ومرتحلك، وقدمت على السني من متمناك والمرضي من أملك، بمن الله وفضله.
وكتب إليهما الفقيه الحافظ أبو الفضل ابن عياض في ذلك: قد وقفت - أعزكما الله - على بدائعكما الغريبة، ومنازعكما البعيدة القريبة، ورأيت ترقيكما من الزهر إلى الزهر، وتنقلكما من الدراري بعد الدر، فأبحتما حمى النجوم، وقذفتماها من ثواقب افهامكما بالرجوم، وتركتماها بعد الطلاقة ذات وجوم، فحللتما بسيطها غارة شعواء، لها عوت أكلب العواء، هناك افترست الفوارس، ولم تغن عن السماك الداعس، وغودرت النثرة نثارا، وأغشى لألأؤها نقعا مثارا، كأن لكما عندها ثأرا، وأشعرت الشعريان ذعرا، وقطعت إحداهما أواصر الأخرى، فأخذت بالحزم منها العبور، وبدرت خيلكما وسيلكما بالعبور، وحذرت اللحاق عن أن تعوق، عن منحنى العيوق. فخلفت أختها تندب الوفاء، وتجهد جهدها في الاختفاء، وكأن الثريا حين ثر تم بقطينها، اتقتكم بيمينها، فجذذتم بناتها، وبذلتم للخضيب أمانها، فعندها استسهل سهيل الفرار، فأبعد بيمينه القرار، وولى الدبران إثره مدبرا، فذكر البعاد فوقف متحيرا، وعادت العوائد بعراقها وشامها، وألقت الجوزاء الأمان بنطاقها ونظامها، فمهلا أعزكما الله سكنا الدهماء، فقد ذعرتما حتى نجوم السماء، فغادرتماها بين برق وفرق، وغرق أو حرق، فزحزحا في مجدكما قليلا، واجعلا بعدكما للناس إلى البيان سبيلا، فقد أخذتما بآفاق المعالي والبدائع، لكما قمراها والنجوم الطوالع.
فكتب أبو محمد ابن القاسم إليه مراجعا عنها:

لمثل نباهتك سارت الأخبار، وفيك وفي بداهتك اعتبار، لقد نلت فيها كل طائل، وقلت فلم تترك مقالا لقائل، وعززت بثالث هو الجميع، وبرزت فأين من شأوك الصاحب والبديع، جلاء بيان، في خفاء معان، هذا أثبت للسهى جلالا، وأشاد فيه لذوي النهى أمثالا، وذاك رفع للأقمار لواء، وألقى على شمس النهار بهجة وضياء، أقسم بسبقك، ومقدم حقك، لئن أفحمت بما نطقت، لقد أفهمت عن أي صبوح رققت، ومهما أبهمت تفسيرا، فدونك منه شيئا يسيرا، لمالا اعتمدنا نحن ذلك المظهر، فما أبعدنا هنالك الأثر، بل اقتصدنا في الإصعاد، وقدنا من تلك النيرات كل سلس القياد، حتى إذا اشمأز طلقها، فعز أبلقها، وصبحنا مواردها، فافتتحنا ماردها، وثنينا عنان الكريمة، وارتضينا إيانا ببعض الغنيمة، هببت أنت هبوب زيد الفوارس، وقربت تقريب الالد المداعس، تومض في رجوم، وتمتعض للنجوم، فاستخرجتها من أيدينا، وازعجتها عن نواحينا، ثم صيرت إليك شملها، وكنت أحق بها وأهلها، ومن هنالك أوصلت سراك، فصبحت الفيالق، وفتحت المغالق، وتسنمت تلك الحصون، وأقسمت لتخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون، فأذعن لشروطك الشرطان، وازدحمت بالبطين حلقتا البطان، وثار بالثريا ثبور، وعصفت بالدبران دبور، وهكذا استعرضت المنازل، واستهضم جميعنا الخطب النازل، ثم تيامنت نحو الجنوب، فواها للمعاصم والجنوب:
لم يبق غير طريد غير منفلت ... وموثق في حبال القِدّ مسلوب
استخرجت السفينة من لججها، وجالت الناقة بهودجها، وغودرت العقرب يخفق فؤادها، وذعرت النعائم فخاب إصدارها وإيرادها، ولما تصفحت تلك الآفاق، وأنخت فيها وشددت الوثاق، عطفت الشمال، واتبعت أسباب الشمال، فلا مطلع إلا ألقى إليك اليمين، واستدارت حوله الفكة فسميت قصعة المساكين، وانتهيت إلى القطب فكان عليه المدار، وتبوأته ففيه عن جلالتك افتخار، ثم أزحت صعادك، وأرحت ممسك الأعنة جيادك، ونعمت بدار منك محلال، ثم ما نمت عن ذي إكبار لك وإجلال، تتيمه بسحر الكلام، وتشجمه أن يستقبل استقلالك بالإعلام، وإذ لا يتعاطى مضمارك، ولا يشق غبارك، فدونك ما قبلي من بضاعة مزجاة، وإليك مني معطي طاعة وطالب نجاة، إن شاء الله عز وجل.
وله من رسالة: أبابل في ضمن أقلامك، وما أنزل على الملكين في وزن كلامك، أم وهو البيان لا غطاء دونه، وما أحقه بأن يكونه.

الوزير أبو عامر ابن أرقم
وصفه بالارتواء من ورد الآداب النمير، والاحتواء على كنز الفضل الغزير، والاستواء على سرير الملك في البراعة، والاستيلاء على إبداع الصنائع بسر الصناعة، والانتشاء من سلاف سلفه، في فضله وشرفه، فقد كان أبوه الوزير الكاتب أبو الأصبغ مبرا في الكتابة على مباريه، سابقا لمجاريه، فنشأ ولده أبو عامر عامرا بحد أبيه، مربوبا في حجر حجره، مهادا في مهاد الإحسان بين سحر البيان ونحره، ومن شعره الذي أورده ما يشعر بفضله، ويعرف بفرده، في مدح الأمير عبد الله بن مزدلي:
سريت والليل من مسراك في وهل ... مبرأ العزم من أيْنٍ ومن كسل
وسرتَ في جحفل يهدي فوارسه ... سناك تحت الدجى والعارض الهطل
والبدر محتجب لم تدر أنجمه ... أغاب عن سَرَرٍ أم غاب عن خجل
هوت أعاديك من سار يُؤرّقه ... ركض الجواد وحمل اللامة الفضل
إذِ الملوك نيام في مضاجعهم ... يستحسنون بهاء الحلي والحلل
لله صومك برا يوم فطرهم ... وما توخيت من وجه ومن عمل
نحرت فيه الكماة الصيد محتسبا ... وحسب غيرك نحر الشاء والإبل
إذا صرير المدارى هزهم طربا ... ألهاك عنه صرير البيض والأسل
وإن ثنتهم عن الاقدام عاذلة ... مضيت قدما ولم تأذن إلى العذل
كم ضم ذا العيد من لاه به غزل ... وأنت تنشد أهل اللهو والغزل
في الخيل والخافقات البيض لي شغل ... ليس الصبابة والصهباء من شغلي
ظللت يومك لم تنقع به ظَمَأ ... وظل رمحك في علّ وفي نهل
وكلما رامت الروم الفرار أتت ... من كل صوب وضمتها يد الاجل
فصار مقبلهم نهبا ومدبرهم ... وعاد غانمهم من جملة النفل

وكم فككت من الاغلال عن عنق ... وكم سددت بهذا الفتح من خلل
أنت الأمير الذي للمجد همتّه ... وللمسالك يحميها وللدول
وللمواهب أو للخَطّ أنمله ... ما لم تحنّ إلى الخطية الذبل
ومنها:
الجابرين صدوع المعتفي كرما ... والكاسرين الظبي في هامة البطل
والعادلين عن الدنيا ونضرتها ... والسالكين على الاهدى من السبل
ومن نثره ما كتبه في حق رجل حرفته استجداء الأعيان، واستعداء معروفهم على نوب الزمان، يعرف بالزريزير ويصف الزرزور: يا سيدي الأعلى، وعلقي الأغلى، وسراجي الأجلى، ومن أبقاه الله، والأمكنة بمساعيه فسيحة، والألسنة بمعاليه فصيحة، موصله وصل الله حبلك حيوان يصفر كل أوان، ويسفر بين الإخوان، رقيق الحاشية، أنيق الشاشية، يعتمد على كدواء، ويسمع بجدواء، وينظر من عين، كأنها عين، ويلقط بمنقار، كأنه من قار، أطبق على لسانه كأنه إغريضة، في جوف إحريضة، يسلي المحزون، بالمقطع والموزون، وينفس عن المكظوم، بالمنثور والمنظوم، مسكي الطيلسان، تولد بين الطائر والإنسان، كما سمعت بسمع الفلاة، وعمرو بن السعلاة، قطع من منابت الربيع، إلى منازل الصقيع، ومن مطالع الزيتون، إلى مواقع السحاب الهتون، فصادف من الجليد، ما يذهب قوى الجليد، ومن البرد، ما لا يدفعه ريش ولا برد، والحدائق قد غمضتى أحداقها، وانحسرت أوراقها، والبطاح قد قيدت الفور، بحبائل الكافور، وأوقعت الصرد، في شرك الصرد، فمني البائس بما لم يعهده، كما وسم بالزرزورولم يشهده، ولما فال رأيه، وأخفق أو كاد سعيه، التفت إلى عطفة أشمط، وإلى أديمة أرقط، فناح، ثم سوى الجناح، وقد نكر مزاجه، ونسي ألحانه وأهزاجه، ولا شك أنه واقع بفنائك، وراشف من إنائك، وآمل حسن غنائك واعتنائك، وأنت بارق ذلك العارض، ورائد ذلك الأنف البارض، تهيء له حبا، يجزيك عنه ثناء جميلا رحبا، وقد تحفظ يا سيدي رسائل، جعلت له وسائل، فسام بها أهل الأدب، سوء العذاب، ودعي البطي منهم إلى الإهذاب:
وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البُزْل القناعيس
وإذا ألقي كتابي إليك، يفسر هذه الجملة عليك، لازلت منافسا للعلوم، آسيا للأحوال والكلوم.

الوزير أبو محمد ابن سفيان
قرضه صاحب القلائد بالرتبة العالية، والحالة الحالية، والجد الصاعد، والهمة الواطئة بأخمصها هام الفراقد، والرأي المتوصل به إلى إنالة المقاصد، وإلانة الشدائد، واليراع المستخدم به بيض الصفائح لسود الصحائف، والبلاغة الموضحة غرر الكلم الفصائح في جباه المعارف، وقيامه في دولة آل ذي النون، قيام الأمين المأمون، حتى أنقت نظارة أيامها، وأغدقت غزارة انعامها، ورجيت بوارقها، وأمنت بوائقها، ووصفه بالأدب العذب الجني، الرحب الجناب، السامي الربى، الهامي الرباب، والكلمات الآخذة بمجامع القلوب الوالجة في مسامع القبول، وأثبت من عقوده ما يثبت شهادة العقول، بشهدها المعسول. فمن ذلك من أبيات كتبها إلى القادر ابن ذي النون:
خطبت بسيفي في الزمان يراعة ... سبقت إلى كفي وصلى المنصل
أو لست من وطيء السماء تأوّدا ... وسما فقد سفل السماك الاعزل
أغْشَى العوالي والمعالي باسما ... وأقوم في الخطب البهيم فأفضل
ومتى أعُدْ ليلا نهار صحيفة ... وضحت كواكبه عليه تهلل
وإذا أجلت جياد فكري في مدى ... سبقت فكبر حاسدون وعللوا
رمدت عيون الحاسدين أما ترى ... قمر العلى والمجد ليلة يكمل
ما الذنب عندهم ودونك فاختبر ... إلا هوى بالمكرمات موكل
همم إلى صرف العلى مصروفة ... وحجى أقام وقد تزحزح يذبل
وبلاغة بلغت بآفاق الدنا ... وغدت تحية من يقيم ويرحل
ولئن يضع فضلي ويذهب نقصهم ... صعدا فأرجح كفّة من يسفل
فلأغشينّ الحادثات بصارم ... خَذِمٍ غِرَارَاهُ حريق مشعل
وبصيرة تذر الخطوب لوائحا ... فكأنَّها في كفّهن سجنجل

ومشرب كالنّار إن يذهب به ... حَضْرٌ وإن يسكن فماء سلسل
نهد إذا استنهضته لملمّة ... أعطاك عفوا عدوه ما تسأل
قيد الأوابد والنواظر إن بدا ... قلت: الجواد أم الحبيب المقبل
ومفاضة زَغْفٌ كأنّ قميصها ... ماء الغدير جرت عليه الشمأل
ترد العوالي منه شرعة حتفها ... وتعب فيه مناصل فتفلّل
وعزائم بيض الوجوه كأنها ... سرج توقد أو زمان يقبل
شيم عمرن ربوع مجد قد خلت ... فأضاء معتكر وأخصب ممحل
وله:
يا ضرة الشمس قلبي منك في وهج ... لو كان بالنّار لم تسكن ذُرى حجر
أبيت أسهر لا أغفي وإن سنحت ... إغفاءة فكمثل اللمح بالبصر
إذا رأيت الدجى تعلو غواربها ... والنجم في قيده حيران لم يسر
أقول ما بال بازي الصبح ليس له ... وقع وما لغراب الليل لم يطر
فإن سمحت بوصل أو بَخِلْت به ... شكوت ليلي من طول ومن قصر
لا أفقد النجم أرعاه وأرقبه ... في الوصل منك وفي الهجران من قمر
وله في الغزل أيضا:
نفسي فداك وعدتني بزيارة ... فظللت أرقبها إلى الإمساء
حتى رأيت قسيم وجهك طالعا ... لم تنتقصه غضاضة استحياء
فعلمت أنك قد حجبت وأنه ... لوراء وجهك ما سرى بسماء
وله يعرض بأحد الملوك، ويخاطب أبا أمية إبراهيم بن عصام:
امرر بقاضي القضاة إن له ... حقا على كل مسلم يجب
وقل له إن ما سمعت به ... عن سرّ من راء كلّه كذب
قد غرّني مثل ما غُرِرْتَ به ... فجئته يستحثّني الطرب
حتى إذا ما انتهيت سرت إلى ... سراب قَفْرٍ من دونه حجب
وملّة للسماح ناسخة ... لها نبيّ الاهه الذهب
وله إليه وقد كتب عين زمانه فوقعت نقطة على العين، فظن أبو أمية أنه أبهمها، واعتقدها وعددها وانتقدها:
لا تلزمنّي ما جنته يراعة ... طمست بريقتها عيون ثنائي
حقدت عليّ لزامها فتحولت ... أفعى تمجّ سمامها بسخاء
غدر الزمان وأهله عرف ولم ... أسمع بغدر يراعة وإناء
ومن نثره ما كتبه إلى الوزير أبي محمد ابن القاسم من رسالة: كتبت وما عندي من الود أصفى من الراح، وأضوأ من سقط الزند عند الاقتداح، وليس فيما أدعيه من ذلك لبس، وكيف وهو ما تجزي به نفسا نفس، فإن شككت فيه، فسل ما تطوي لي جوانحك عليه، أو اتهمته فارجع، إلى ما أرجع، عند الاشتباه إليه، تجده عذباً قراحا، سائل الغرة لياحاً. ولم لا يكون ذلك وبيننا ذمة تجل أن تحصى بالحساب، بيض الوجوه كريمة الأنساب، لو كانت نسيما لكان بليلا، ولو كانت زمانا لم تكن إلا سحرا أو أصيلا.
فراجعه أبو محمد برقعة فيها.
كتبت عن ود ولا أقول كصفو الراح فإن فيها جناحا، ولا كسقط الزند فربما كان شحاحا، ولكن أصفى من ماء الغمام، وأضوأ من القمر في التمام.
فراجعه عنها: كتبت - دام عزك - عن ود كماء الورد نفحة، وعهد كصفائه صفحة، ولا أقول أصفى من ماء الغمام، فقد يكون معه الشرق، ولا أضوأ من القمر في التمام، فقد يدركه النقص ويمحق، وليس ما وقع به الاعتراض مختصا بصفو الراح، ولا بسقط الزند عند الاقتداح، فإن أمور العالم هذه سبيلها، وجياد الكلم تجول كيف شاء مجيلها، وإنما نقول ما قيل، ونتبع من أجاد التحصيل، وحسن التأويل، فنستعير ما استعار، ونسير في التملح في القول إلى ما أشار، وبين أنا لم نرد من الراح الجناح، ولا من الزند الشحاح، ولا من ماء الورد ما فيه مادة الزكام، ولا زيادة في بعض الأسقام.

الوزراء بنو القبطرنه
ذكر أنهم أركان المجد وأثافيه، ولهم قوادم الحمد وخوافيه، وإنهم للمعالي نجوم، وللأعادي رجوم، ولهم النظم الفائح الفائق، والنثر الشائع السابق، فمنهم: أبو محمد ذكر أنه كتب إليه وذكر منها أبياتا:
أبا النصر إن الجدّ لا شكّ عاثر ... وإن زمانا شاء بينك جائر

ولا توّجت من بعد بعدك راحة ... براح ولا حنّت عليك المزامر
ولا اكتحلت من بعد نأيك مقلة ... بنوم ولا ضمّت عليها المحاجر
ومنها:
تشيّعك الألباب وهي أواسف ... وتتبعك الألحاظ وهي مواطر
وله:
يا خليليّ لقلب ... نيل من كل الجهات
ليم أن هام بريَّا ... وبِلَيْلَى والبنات
وبأن صادته أسْمَا ... بين بيض خفرات
بلحاظ ساحرات ... وجفون فاترات
وبجيد الظبية ارتا ... عت وظلت في التفات
وبعيني مغزل تر ... عى غزالا في الفلاة
تتمشّى بين أترا ... ب لها حور لِدات
وعليها الوشي والخ ... زّ وبرد الحبرات
راعها لما التقينا ... ما درت من فتكات
عثرت ذعرا فقلنا ... لا لعاً لِلْعَثَرات
ضحكت عجبا وقالت ... لأخصّ الفتيات
راجعيه ثم قولي ... إئتنا في السمرات
وارقب الأعداء واحذر ... للعيون الناظرات
فإذا أعلق فيها النو ... م أشراك السنات
وعلا البدر جلابي ... ب لباس الظلمات
فاطرق الحي تجدنا ... في ظهور الحجرات
فالتفينا بعد يأس ... بدليل النفحات
وتلازمنا اعتناقا ... كالتواء الألِفاَت
وبثثنا بيننا شج ... وا كنفث الراقيات
وبردنا لوعة الح ... بّ بماء العبرات
وتشاغلنا ولم نعل ... م بأن الصبح آت
وبدت فيه تباشي ... ر مشيب في شوات
وله:
ومنكرة شيبي لعرفان مولدي ... ترجّع والاجفان ذات غروب
فقلت: يسوق الشيب من قبل وقته ... زوال نعيم أو فراق حبيب
وله:
إذا ما الشوق أرقني ... وبات الهمّ من كثب
فضضت الطينة الحمرا ... ء عن صفراء كالذهب
وذكر صاحب قلائد العقيان أنه بات مع إخوته في أيام الصبا، في روضة رائقة الحلى، موهوبة الربى، وقد عاقروا العقار، ونبذوا الوقار، وقد ارتضعوا للانتشاء درا، وصرعوا للإغفاء سكرا، فلما خلع الصباح رداءه على الأفق، وهزم كتائب الغياهب يقق الفلق، قام الوزير أبو محمد فقال:
يا شَقِيقِي وافي الصباح بوجه ... ستر الليل نوره وبهاؤه
فاصطبح واغتنم مسرّة يوم ... لست تدري بما يجيء مساؤه
ثم استيقظ أخوه أبو بكر فقال:
يا أخي قم تر النسيم عليلا ... باكر الروض والمدام شمولا
في رياض تعانق الزهر فيها ... مثلما عانق الخليل خليلا
لا تنم واغتنم مسرّة يوم ... إن تحت التراب نوما طويلا
ثم استيقظ أخوهما أبو الحسن، وقد هبّ من الوسن، فقال:
يا صاحبيَّ ذرا لَوْمِي ومعتبتي ... قم نصطبح خمرة من خير ما ذخروا
وبادرا غفلة الأيام واغتنما ... فاليوم خمر ويبدو في غد خبر
وقال الوزير أبو بكر يستدعي:
دعاك خليلك واليوم طل ... وعارض خدّ الثرى قد بقل
لِقِدريْن فاحا وشمّامة ... وإبريق راح ونعم المحل
فلو شاء زاد ولكنّه ... يلام الصديق إذا ما احتفل
وللوزير أبي بكر أيضا في المعنى:
هلمّ إلى روضنا يا زهر ... ولح في سماء المنى يا قمر
هلمّ إلى الأنس سهم الإخاء ... فقد عطلت قوسه والوتر
إذا لم تكن عندنا حاضرا ... فما لغصون الأماني ثمر
وقعت من القلب وقع المنى ... وحسّنت في العين حسن الحور
وله إلى الوزير أبي محمد ابن عبدون يستدعي شواذانقا:
أغادية باتت مع النّور والتقت ... على الغور ريح الفجر مرت بدارين
خطت فوق أرض من عرار وحبوة ... وحطت بروض من بهار ونسرين

وباتت بوادي الشحر تحت ندى الصَّبا ... إلى الصبح فيما بين رشّ وتدخين
ومرّت بوادي الرند ليلا فأيقظت ... به نائمات الورد بين الرياحين
إذا ملت عن مجرى الجنوب فبلّغي ... سلاميَ مبلول الجناح ابن عبدون
وبين يدي شوقي إليه لبانة ... تخفّق من قلب للقياه محزون
مضى الأنس إلاّ لوعة تستفزّني ... إلى الصيد إلا أنّني دون شاهين
فمنَّ به ضافي الجناح كأنّه ... على دستبان الكف بعض السلاطين
إذا أخذت كفاه يوما فريسة ... فمن عقد سبعين إلى عقد تسعين
ولأبي الحسن أخيه:
ذكرت سُلَيْمَى وحرّ الوغى ... كجسمي ساعة فارقتها
وأبصرت بين القنا قدّها ... وقد ملن نحوي فعانقتها

أبو محمد عبد الرحيم بن عبد الرزاق
الوزير الكاتب، وصفه باشتمال مطارف المعارف، واعتلاق حبائل الفضائل، وإعلام اعلام العلوم، والتبحر في علوم النجوم، واشتغاله آخر عمره بطلب الكيمياء، واشتعاله بحبها اشتعال النار في الحلفاء، وأفسد ذلك شكل عينيه، ولم يحصل منها طائل في يديه. وأورد له هذين البيتين في الغزل:
إن التي منتك نفسك نائلا ... منها وبرق عداتها لك خلب
أمست يعللها سواك فأصبحت ... علقت معالقها وصرّ الجندب
أبو محمد ابن الحبير
الوزير الكاتب، قال: شيخ الأوان، القاعد على كيوان، ووصفه بالكلام الرائق، والنظام المتناسق، ومن شعره الذي أورده:
رأيت الكتابة والجاهلو ... ن قد لبسوا عزّها لامه
فقلت لكل فتى عالم ... بديع الفصاحة علاّمه
إذا عزّ غيركم بالوداد ... فلا أنبت الله أقلامه
وله:
أركابهم شطر العذيب تساق ... يوم النوى أم قلبي المشتاق
عميت عليّ عيون رأيي في الهوى ... لله ما صنعت بي الأشواق
ولقد أقول لصاحب ودّعته ... وقد استهل بدمعي الإشفاق
يا فائزا قبلي برؤية دوحة ... أضفت ظلال فروعها الأعراق
من تغلب الحرب التي إن غولبت ... شقيت بحد سيوفها الأعناق
فَهُمُ إذا ما جالسوا أو راكبوا ... أخذوا بحقهم الصدور فراقوا
قاض كأنّ الليث حشو بروده ... وكأنّ ضوء جبينه الإشراق
بالله ربّك خُصَّهُ بتحية ... من ذي خلوص قلبه تواق
يصبو إلى تلك العلى فكأنّه ... صبّ أصابت لبّه الأحداق
ثاو بأرض بداوة لكنّها ... بالمالكِييِّنَ الكرام عراق
قوم إذا ومضت بروقهمُ همى ... صوب الحيا وأنارت الآفاق
وإذا استقل بنانهم بيراعة ... لبست وشيع برودها الأوراق
وإذا انتدوا وتكلموا أنسيت ما ... صانته من أعلاقها الأحقاق
أنصاركم وحماة مجدكم وما ... أولاكموه من العلى الخلاّق
بلقالق ذَلِقٍ كأنّ حديثها ... دُرُّ يفصّل بينها النساق
فهم إذا ألقوا حبال كلامهم ... غلبوا جهابذة الكلام وَفَاقُوا
لمّا جروا شَأواً ونالوا ما اشتهوا ... وثنوا أعنتهم وهم سبّاق
نصبت لهم حسدا على ما خوّلوا ... من سؤدد ونفاسة أوهاق
أبو محمّد ابن عبد الغفور
الوزير الكاتب. ذكره لي الفقيه اليسع بمصر وقال: أدركته بمرّاكش سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، وهو كاتب أمير المسلمين، ووجدت مؤلف قلائد العقيان يذكر هوجه، ويستوعر منهجه، ويرميه بالحقد والحسد، وينميه إلى الغل والنكد، غير أنه يثني على نظمه البديع، ونثره الصنيع. ومن شعره في مدح الأمير، أبي بكر يحيى بن سير، يذكر فرسا أشهب سابقا:
يا ملكا لم يزل قديما ... بكلّ علياء جدّ وامق

وسابقا في الندى أتتنا ... جياده في المدى سوابق
لله منها أسيل خَدّ ... هَرِيتُ شِدْقٍ مثل الجوالق
حديد قلب حديد طرف ... ذو منكب يشبه البواسق
ذو وحشة في الصهيل دلت ... منه على أكرم الخلائق
أشهب، كالرجع مستطير ... كأنّه الشيب في المفارق
حَثّ غداة الرهان حتّى ... أجهد في إثره البوارق
ما أنس لا أنس إذ شآها ... مشرّبات مثل البواشق
وبذّها شرّبا عتاقا ... لم يَرض عن حَضرها العواتق
فقمن يمسحن منه رشحا ... مطيّبات به المخانق
أفديه من شافع لبيض ... قد كنّ عن بغيتي عوائق
أنصع منه لرأي عيني ... سود عذار الفتى الغرانق
وله من قصيدة يمدح أمير المسلمين:
خليليّ عوجا بي على جانب الحمى ... عسى الظبية اللعساء تكشف عن ضرّي
وإن خفتما جورا عن القصد فاكشفا ... نوافج يفعمن التنوفة بالعطر
ولما رنت تلك الفتاة وأعرضت ... إلى القبة الغراء بالكُثُبِ العفو
خلعت لها نعلي حياء من الحجى ... وطفت بأركان العلى ثاني النّحر
قبّل منها ترب كسرى جلالة ... وأستنزل الشعري بأدمعي الغزر
فيا مقلة ما كان أضيع دمعها ... ويا لوعة يغلي بها مرجل الصدر
ومنها:
أمير له في سدفة الخطب مطلع ... كما انشقت الظلماء عن وضح الفجر
لأذهب بالضرغام هاجر نومه ... وأرعب فالدنيا به جمّة الوكر
ومنها يصف الخيل:
بأشقروقاد الإهاب كأنّما ... تشجّم من خمر صريح ومن جمر
أظل بهاديه على كل ريعة ... كما نبهت نار المعالم للسفر
خفي السرى للطيف لم يسم الندى ... بوقع ولم يشعر به نوّم الكدر
تودّ الثريا أن تكون عليقة ... بالسماكين والنسر
وله من قصيدة:
أرعى من النجم للرعايا ... أروع سام عن النظير
لذت به من صروف دهري ... وكان من جورها مجيري
ومدّ نحوي كفا بجود ... أهمى من العارض المطير
ألقى شعاعا عليّ ليلا ... فخلتني في ضحى منير
حمى بأرض الاله ثغرا ... حقا له لذّة الثغور
وأصبح الشرك في تباب ... يدعون بالويل والثّبور
قرّت به أعين البرايا ... وأعلموا أكؤس السرور
ومنها:
وَشنّ غاراتها عليهم ... مثل العراجين في ضمور
أهلّة لا تزال تسري ... لتحرز الحظ من ظهور
وله إلى أمير المسلمين في غزوة غزاها:
سر حيث شئت تحلّه النوار ... وأراد فيك مرادك المقدار
وإذا ارتحلت فشيّعتك سلامة ... وغمامة لا ديمة مدرار
تنفي الهجير بظلها وتنيم بال ... رش القتام وكيف شئت تدار
وقضى الإلاه بأن تعود مظفرا ... وقضت بسيفك نحبها الكفار
هذا ممّا تمنّاه الولي، لا ما تمنَّاه الجعفي فإنه قال: حيث ارتحلت وديمة، ما تكاد تنفذ معها عزيمة، وإذا سفحت على ذي سفر، فما أحراها بأن تعوق عن الظفر، ونعتها بمدرار، وكأن ذلك أبلغ في الإضرار:
فسر ذا راية خفقت بنصر ... وعد في جحفل بهج الجمال
إلى حمص فأنت لها حلي ... تغاير فيه ربّات الحجال
وحمص أيضا بلدة في المغرب وهي إشبيلية.
وكتب عن أمير المسلمين إلى بعض الأمراء جوابا عن كتاب يعتذر فيه عن هزيمة انهزمها، ويصف من فر من العساكر ومن لزمها:

وما بعثناك لتشهد، وإنما بعثناك لتجهد، في طعن بخطي أو ضرب بمهند، فإذا لم تفعل فلا أقل من أن تجلد، وتصبر وتحمل من معك على الصبر، ولا تكون أول من فر، فتعدي بفرارك، تثبت جارك، ولو كتمتها من شهادة لما أثم قلبك، فلا تؤثر الكتب، بما يثير عليك العتب، ولتأنف، من المستأنف، من إيثار الدنية، على المنية، ولتكن لك نفس أبية، والسلام.

أبو بكر ابن عبد العزيز الأندلسي الوزير الكاتب المعروف ب
ابن المرخي
قال الفقيه اليسع، ما كتب قط لأحد لجلالة قدره. توفي سنة أربعين وخمسمائة، والفتح مصنف القلائد وصفه بالبراعة القاضية، واليراعة الماضية، والهمة العالية، والحالة الحالية، والنظم الباهر، والفضل الظاهر، ومما أورد له قوله:
قد هززناك في المكارم غصنا ... واستلمناك في النوائب ركنا
ووجدنا الزمان قد لان عطفا ... وتأنّى فعلا وأشرق حسنا
فإذا ما سألته كان سمحا ... وإذا ما هززته كان لدنا
مؤثرا أحسن الخلائق لا يع ... رف ضنا ولا يكذب ظنا
أنت ماء السماء أخصب وادي ... ه ورقت رياضه فانتجعنا
نزعت بي إلى ودادك نفس ... قل ما استصحبت من الفضل خدنا
وله يودع الوزير أبا محمد ابن عبدون:
في ذمة المجد والعلياء مرتحل ... فارقتُ صبريَ إذْ فارقت موضعه
ضاءت به برهةً أرجاء قرطبة ... ثمّ استقل فسدّ البين مطلعه
ومن نثره مما كتبه إلى الوزير أبي محمد ابن القاسم: كيف رأي مولاي في عبد له موات يرى الوفاء دينا وملة، ولا يعتقد في حفظ الأخاء ملة، فصدته الأقدار عن رأيه، وأخرته الأيام عن سعيه، فادرع العقوق ولبئست الحلة، وضيع الحقوق ولم تضع الخلة، أيرده بعيب ما جناه الدهر، أم يسمح فشيمته الصبر، بل يسمح ويصفح، ولو كان الغضب يفيض على صدره ويطفح، وله أعزه الله العقل الأرجح، والخلق الأسجح، والأناة التي يزل الذنب عن صفحاتها، ولا يتعلق العيب بصفاتها، وإن كتابه الكريم وردني مشيرا إلى جملة تفصيلها في يد العواقب، والزمان المتعاقب.
ومنها: وفلان أيده الله كما يدريه يردد محاسنه ويرويها، وينشر فضائله ويطويها، إلا أن الأمور انقلبت عليه في هذه البلاد ولا تعرف له حالة، إلا وقد داخلتها استحالة، وربما عاد ذلك إلى نقصان في الوفاء، وإن كان باطنه على غاية الأستيفاء، ولله تعالى نظر، وعنده خير منتظر.
وكتب إليه مسليا عن نكبته: الوزير الفقيه - أدام الله عزه، وكفاه ما عزه - ، أعلم بأحكام الزمان من أن يرفع إليها طرفا أو ينكر بها صرفا، أو يطلب في مشارعها شربا زلالا أو صرفا، فشهدها مشوب بعلقم، وروضها مكمن لكل صل أرقم، وما فجأته الحوادث بنكبة، ولا حطته النوائب عن رتبة، ولا كانت الأيام قبل رفعته بوزارة ولا كتبه. فهو المرء يرفعه دينه ولبه، وينفعه لسانه وقلبه، ويشفع له علمه وحسبه، وتسمو به همته وأدبه، ويعنو بين يديه شانئه وحاسده، ويثبت في أرض الكرم حين يريد أن يجتثه حاصده، ويقر له بالفضل من لا يوده، وينصره الله بإخلاصه حين لا ينصره سواعه ولا وده.
شعر:
وإن أمير المسلمين وعتبه ... لكالدهر لا عار بما فعل الدهر
وما هو إلا نصل أغمد ليجرد، وسهم سد طريقه ليسدد، وجواد ارتبط عنانه، وقطر يأتي به سحابه وسيسيله عنانه، وإن لمهارق لتلبس بعده من ثياب حداد، وإن ألسنة الأقلام لتخاصم عنه بألسنة حداد، وسينجلي هذا القتام عن سابق لا يدرك مهله، ويعتمده الملك الهمام بإكرام لا يكدر منهله، ويؤنس ربع الملك الذي أوحش ويوهله، ويرقيه أيده الله إلى أعلى المنازل ويؤهله، وينشد فيه وفي طالبيه:
وسعى إلي بِعَيْبِ عزَّةَ نسوة ... جعل الإلاه خدودهن نعالها
وأنا أعلم أنه سيتبرم بهذا الكلام، ويوليني جانب الملام، ويعد قولي مع السفاهات والأحلام، فقد ذهب في رفض الدنيا مذهبا، وتجلى التوفيق عن عينيه غيهبا، وتركنا عبيد الشهوات نمسك بخطامها، ونرتع في حطامها، وأسأل الله عملا صالحا، وقلبا مصالحا، ويقينا نافعا، وإخلاصا شافعا، بمنه.
ومن مكاتبة إلى الوزير أبي الحسن ابن مهلب:
أسير وقد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا

فلو أني استطعت خفضت طرفي ... فلم أبصر به حتّى أراكا
عمادي الأعلى وصل الله اعتلاءه ممن قدس الله شريعته، وأنفس طبيعته، وصير كرم الرأي في مضمار التجارب طليعته، وجعل الحق ينطق على لسانه، والفضل يجري على إنسانه، فمن حصل منه أدنى محبة، وأعطي من إخائه ولو مثقال حبة، نال ما اشتهاه، وبلغ من الأمل منتهاه، وعد ممن رجحت نهاه، كما عد من بهرج في نقده، وأخرج من عقده، وأسقط من ديوانه، وأهبط عن إيوانه، تبرأت منه ذمة الأدب، وهلك نعمه وزنده فلم يقم على ندب، وما زلت منذ أحرزت وده، وعلمت مكاني عنده، أحسن الظن بفهمي، وألقي بين أهل الحظوة سهمي، وأعلم أني في ولادة الإخاء منجب، ولفضل المسعى موجب، فإن واليت المخاطبة فللإدلال، وإن هبت المكاتبة فللإجلال، وإني لأنتظر من رأيه في الحالين ما يسدد سمتي ويحسن كلامي أو صمتي، وما أخلو مع تقديم المشاورة من هداية يطلع نجمها أفقه، ودراية يفتح علمها وفقه، وهو أدرى بالجميل يؤمى إليه، ويحمل عليه، إن شاء الله.
ومنها: وقد كنت أسلفت من الرغبة في أمر الوزير أبي فلان ما هو باهتباله منوط، وبين يدي إجماله مبسوط، ومن شروط رغبتي على إنعامه، وشفاعتي عل إكرامه، أن ترد عنه ظلم ذلك الخارص الذي جمع الإصرار مع الإضرار، واللجاج إلى الاعوجاج، ومتى تم عليه اعتداؤه زادت حاله اختلالا، وأمره اعتلالا، وعمادي المعظم يجعل دونه من حمايته سدا لا يستطيع الظالم أن يظهره، ويسكنه من عنايته ظلالا لا تبلغ تلك السمائم أن تصهره، بزينه واستخدامه وأقرأ عليك سلاما يترجم عن ودي، وينوب عني فيما يؤدي.

الوزير أبو القاسم ابن عبد الغفور
وصفه بالذكاء والدهاء، والبهجة والبهاء، والنظم المصون من الوهاء، والفضل المقرون حسن ابتدائه بحسن الانتهاء، والخاطر الغني غربه في اقتضاب كل غريبة، واقتصاص كل رغيبة، عن آلامها؟ وقد أورد منه شعرا كالوشي المنسوج، والرحيق المختوم الممزوج، فمن ذلك قوله:
تركت التصابي للصواب وأهله ... وبيض الطلى للبيض والسمر للسمر
مدادي مدامي والكؤوس محابري ... وندماي أقلامي ومنقلتي شعري
ومسمعتي ورقاء ضنت بحسنها ... فأسدلت الاستار من ورق خضر
وقال:
لا تنكروا أننا في رحلة أبدا ... نحثّ في نفنف طورا وفي هدف
فدهرنا سدفة ونحن أنجمها ... وليس ينكر مجرى النجم في السدف
لو أسفر الدهر لي أقصرت في سفري ... وملت عن كلفي بهذه الكلف
وقال:
رويدك يا بدر التمام فإنني ... أرى العيس حسرى والكواكب طلعا
كأنّ أديم الصبح قد قدّ أنجما ... وغودر درع الليل منه مرقعا
فيا ليل هل أضمرت عني رحلة ... ويا صبح هل أسررت نحوي مرجعا
يحض على زور الشباب سمية ... لأصبح شيخا بالشباب مبرقعا
وإني وإن كان الجمال محبّبا ... وأشهى إلى قلبي وأبرد موقعا
لآنف من حسن بشعري مفترى ... فآنف من حسن بشعري مدّعى
الوزير أبو جعفر ابن أحمد
ذكره اليسع وقال: وزر لعبد المؤمن سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، ليس هذا ذاك، فإن وزير عبد المؤمن هو ابن عطية ومصنف القلائد وصفه بالعقل والإصابة، والإجادة في الكتابة، لكنه كان منحوسا غير مبخوت، ومنحوا بصرف الحدثان ذا أثل بخطواته منحوت، وقد أورد من نثره، ما يدل على كرم فرنده وجودة أثره، فمن ذلك قوله وقد أهدي إليه ورد: زارنا الورد بأنفاسك، وسقانا مدامة الأنس من كأسك، وأعاد لنا معاهد الأنس جديدة، وزفّ إلينا من فتيات البر خريدة، واحمر حتى خلته شفقا، وابيض حتى أبصرته من النور فلقا، وأرج حتى قلت أرج المسك في ذكائه، وتضاعف حتى قلت الورد من حيائه، فليتصور شكري في رواه، وليتخيله في نفحته ورياه. إن شاء الله تعالى.
الوزير أبو مروان ابن مثنى
وصفه بالتقعير والتقعيب، والتوغير في المبهج الغريب، وكان من وراد حياض دولة ابن ذي النون، ورواد رياض جوده الهتون. وله إلى ابن عكاشة يذكر من عدم الراح استيحاشه:
يا فريدا دون ثان ... وهلالا في العيان

عدم الراح فصارت ... مثل دهن البلسان
فكتب إليه ابن عكاشة:
يا فريدا لا يُجَارَى ... بين أبناء الزمان
جاء من شعرك روض ... جاده صوب البيان
فبعثناها سلافا ... كسجاياك الحسان

الوزير القائد أبو الحسن علي بن محمد
ابن اليسع
قال الفقيه اليسع، هو ابن عم جده حزم ولم يدركه. ومصنف القلائد وصفه مع علو شانه، وسمو مكانه، بخلع العذار، والاشتهار في الاستهتار، واقتصاص عذرة الخد مع العذراء ذات الخمار، وأخذ العقار، ونبذ الوقار، وحب المجون، وشرب الزرجون، فأفضى به ذلك إلى وهن ملكه، ووهي سلكه، وخلعه بسبب الخلاعه، وضياع قدره لما قدره من الإضاعه. وأورد من شعره ما يدل على حسنه وإحسانه في العبارة والبراعه. فمن ذلك قوله يخاطب أبا بكر ابن اللبانة، وكانا على طريقين فلم يظفرا من التلاقي باللبانة.
تشرق آمالي وشعري يغرب ... وتطلع أشجاني وأنسي يغرب
سريت أبا بكر اليك وإنّما ... أنا الكوكب الساري تخطّاه كوكب
فبالله إلا ما منحت تحية ... تكر بها السبع الدراري وتذهب
وبعد فعندي كل علق تصونه ... خلائق لا تبلى ولا تتقلّب
كتبت على حالين بعد وعجمة ... فياليت شعري كيف يدنو ويقرب
وذكر أنه قصد المعتمد فأمر الوزيرين أبا الحسن ابن سراج وأبا بكر ابن القبطرنه بالمشي إليه إجلالا لموضعه، واحتفالا بموقعه، وتنويها بقدومه، وتنبيها على خصوص فضله وعمومه، فوافياه وهو في خلوة مع خشف، وطرف ونشوة ورشف، فاختفى عنهما خشفه، وشف لهما عنه سجفه، فلما انصرفا عزما على أن يكتبا إليه. كتب الوزير أبو الحسن إليه:
سمعنا خشفة الخشف ... وشمنا طرفة الطرف
وصدقنا ولم نقطع ... وكذبنا ولم ننف
وأغضينا لإجلال ... ك عن أكرومة الضيف
ولم تنصف وقد جئنا ... ك ما تنهض من ضعف
وكان الحق أن تحمل ... أو تردف في الردف
فكتب إليهما مراجعا لهما:
أيا أسفي على حال ... سلت بها من الظرف
ويا لهفي على جهل ... بضيف كان من صنفي
الوزير المشرف أبو محمد ابن مالك
من غرناطة، مات سنة ثلاثين. وصفه بسمو الهمم، ونمو الكرم، وصفو الشيم، كصوب الديم، ووفور الوقار، وظهور المقدار، وذكر أنه ولاه أمير المسلمين ابن تاشفين ماله بالأندلس، وتمكن قبوله الأنفس من الأنفس، وبحر أدبه زاخر، وزهر فضله باهر، وأورد من نظمه بيتين زعم أنه قالهما في مجلس طرب مؤنس وهي:
لا تلمني إذا طربت لشجو ... يبعث الأنس والكريم طروب
ليس شق الجيوب حقا علينا ... إنما الحق أن تشقّ القلوب
وذكر أنه اجتاز عليه بطرطوشة، والحدود فيها بحده منغوشة، وأنه أسمعه من شعره كل مستطاب مستفاد، استطابته العين الساهدة للرقاد، فمن ذلك قوله:
سالت بِمَيّ صروف الدهر والنُّوَب ... وبان حظك منها وانقضى السبب
فماء خدّك في الخدين منسجم ... ونار وجدك في الأحشاء تلتهب
تعجّب النّاس من حاليك فاعتبروا ... وكل أمرك فيه عبرة عجب
ضدّان في موضع كيف التقاؤهما ... النار مضرمة والماء منسكب
وذكر أنه اجتمع به في إشبيلية في روض مونق، وزهر مفتق، وقطف وسيم زهره، كأنما البدر قارن الزهرة، فسألني وهي في كفه، أن أقول شيئا في وصفه، فقلت:
وبدر بدا والطرف مطلع حسنه ... وفي كفه من رائق النور كوكب
فقال أبو محمد:
يروح لتعذيب القلوب ويغتدي ... ويطلع في أفق الجمال ويغرب
ويحسد منه الغصن أيّ مهفهف ... يجيء على مثل الكثيب ويذهب
الوزير أبو القاسم ابن السقاط الكاتب

كان كاتبا لأبي محمد ابن مالك المذكور. وصف استعذاب مقاطعه، واستغراب مطالعه، وتضوع نشر وفائه، وتوضح بشر صفائه، وتبسم ثغر أدبه عن أقاحي المعاني الزهر، وتنسم أرج فضله في نواحي الأماني الغر، لكنه عابه بالاشتهار بالمردان، والاستهتار بحب الصبيان، وأورد من نظمه ما شاكل عقود اللآلي في نحو الحسان، فمن ذلك قوله:
سقى الله أيامنا بالعذيب ... وأزماننا الغرّ صوب السحاب
إذا الحب يا بثن ريحانة ... تجاذبها خطرات العتاب
وإذ أنت نوّارة تجتنى ... بكف المنى من رياض التصابي
ليالي والعيش سهل الجنى ... نظير الجوانب طلق تالجناب
رميتك طيرا بدوح الصبا ... وصدتك ظبيا بوادي الشباب
وقوله يصف يوما رق ظله، وراق طله، ودارت أفلاك سعادته، ودرت أخلاف إرادته:
ويوم ظللنا والمنى تحت ظله ... تدار علينا بالسعادة أفلاك
بروض سقته الجاشرية مزنة ... لها صارم من لامع البرق بتاك
توسّدنا الصهباء أضعاف كأسه ... كأنا على خضر الأرائك أملاك
وقد نظمتنا للرضى راحة الهوى ... فنحن اللآلي والمودات أسلاك
تطاعننا فيه ثُدِيّ نواهد ... نهدن لحربي والسنوّر أفناك
وتجلى لنا فيه وجوه نواعم ... يخلن بدورا والغدائر أحلاك
وقوله:
ويوم لنا بالخيف راق أصيله ... كما راق تبر للعيون مذاب
نعمنا به والنهر ينساب ماؤه ... كما انساب ذعرا حين ريع حباب
وللموج تحت الريح منه تكسّر ... تؤلف فوق المتن منه حباب
وقد نجمت قضب لدان بشطه ... حكتها قدود للحسان رطاب
وأسنع مخضر النبات خلالها ... كما أقبلت نعمى فراقَ شباب
قال: وكتبت إليه:
عسى روضة تهدي إليّ أنيقة ... تُدَبِّجُ أسطارا على ظهر مهرق
أحلّي بها نحري علاء وسؤددا ... وأجعلها تاجا بَهِيَّا لمفرقي
فكتب إلي مراجعا:
أتتني عن شخص العلاء تحية ... كرأد الضحى في رونق وتألق
أنمّ من الريحان ينضح بالندى ... وأطرب من سجع الحمام المطوق
سُطيران في مغزاهما أمن خائف ... وسلوة مشغوف وأنس مشوّق
نصرت أبا نصر بها همم العلى ... وأطلقت من آمالها كل مُوثَقِ
قال: فزارني متجهما فبسطني، وواجما فنشطني، والسماء قد نسَخ صحوها، وغيّم جوها، فأنشدني:
يوم تجهّم فيه الأفق وانتثرت ... مدامع الغيث في خد الثرى هملا
رأى وجومك فارتدت طلاقته ... مضاهيا لك في الاخلاق ممتثلا
ومن رسائله المعسولة، وفضائله المقبولة، مما تهش إليه كل نفس، مكاتبته في استدعاء صديق إلى مجلس أنس: يومنا - أعزك الله - يوم نقبت شمسه بقناع الغمام، وذهبت كأسه بشعاع المدام، ونحن من قطار الوسمي، في رداء هدي، ومن نضير النوار، على نضائد النضار، ومن نواسم الزهر، في لطائم العطر، ومن غر الندمان، بين زهر البستان، ومن حركات الأوتار، خلال نغمات الأطيار، ومن سقاة الكؤوس، ومعاطي المدام، بين مشرقات الشموس، وعواطي الآرام، فرأيك في مصافحة الأقمار، ومنافحة الأنوار، واجتلاء غرر الظباء الجوازي، وانتقاء درر الغناء الحجازي، موفقا إن شاء الله تعالى.
وله فصل من رسالة في إهداء فرس: قد بعثنا إليك بجواد يسبق الحلبة وهو يرسف ويتمهل، متى ما ترقى العين فيه تسهل، يزحم منكب الجوزاء بك منكبه، وينزل، عنه مثله حين يركبه، إن بدا قلت ظبية ذات غرارة تعطو إلى العرارة، أو عدا، قلت انقضاضة شهاب، أو اعتراضة بارق ذي التهاب، فاضممه إلى آري جيادك، واتخذه ليومي رهانك وطرادك، إن شاء الله تعالى.
وله فصل: ما روضة الحزن، وقد نفح بها النسيم بليلا، وسفح عليها الغمام دمعا همولا، فريعت أحداق أنوارها، وتفتحت نوافج آسها وعرارها، بأعطر من شكري لك وقد غص النّديّ بزواره، وقرئت آيات القطر واستقريت معالم آثاره.
وكتب عن أحد الأمراء إلى قوم علية شفعوا لجناة:

طاعتكم - وفقكم الله - ثابتة الرسوم، واضحة الوسوم، وصانتكم بالسلطان عصمه الله صيانة الجبان بالحياة، وإعدادكم للمكافحة عن الدولة وطدها الله، إعداد المهلب للبيات. فمالكم والشفاعة، لرعاع ندوا عن عصمة الجماعة، ونفروا وخاسوا بذمام الطاعة، وختروا ثم ودوا لو تكفرون كما كفروا فارفضوهم عن جماعتكم، وذودوهم عن حياض شفاعتكم، ذياد الأجرب، عن المشرب، نحن لا نقبل على توسل مستخف بالنفاق مستتر، ولا نقبل الخدعة من متماد على الغواية مصر.
وله يستشفع بمدل بذمام شباب صوح نوره، وبرح به الزمان وجوره: يا سيدي الأعلى وظهيري، ومنجدي في الجُلّى ونصيري، المنيف في دوحة النبل فرعه، الحنيف في ملة الفضل شرعه، ومن أبقاه الله لرحمة أدب مجفوة ينظمها، وحرمة مقطوعة يلحمها، الوفاء لمحاسن الأخلاق، وفى الله جديد أنعمك من الدروس والاخلاق، كالعلم المذهب، والخضاب الموشى لراحة الحسب، تستفيد به بهجة التكحل في العين، ورونق التشبب في مصوغ التبر واللجين، وقد رتبته النهى أشرف ترتيب، وبوبته العلى أبدع تبويب، فما أحقه بصدر النادي، وأسبقه إلى المرتبة بشرف المبادي، رعاية لأواصر الآداب، والمحافظة على الخلة في أعصر الشباب، وتذكرا بعهود الصبا وأطلاله، وأوقات اللذات المنثالة في بكره وآصاله وما أسحبت الليالي في ميادينه من لبوس، نعيم وبوس، وأجنت الأيام في بساتينه من زهرات، أفراح ومسرات، حذوا للخلق الاكمل، وأخذا بقول الأول:
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
وموصله وصل الله سراءك، وأثل علاءك، أبو فلان ذاكر مشاهدك الغر الحسان، وناشر ما تعتمده في صلته من مقاصد الحسن والإحسان، ما نظمني معه سمط ناد، وما احتواني وإياه مضمار شكر وأحماد، إلا وأثبت من مآثرك خليطي الدر والمرجان، وجاء بطليعة السوابق في إمضاء مفاخرك رخي اللبب مرخي العنان، ولقد فاوضني من أحاديث ائتلافكما في العصور الدارسة العافية، وانتظامكما في زهرات الأنس في ظلال العافية، واتساقكما في حبرات العيش الرقاق الضافية، وارتشافكما لسلافة النعيم المزة الصافية، بأفانين الغيطان والنجود، وزخارف الروض المجود، ومعاطف الطرر بين خيلان الخدود، ما لو لقيت بشاشته الصخر لمنح بهجة الإيراق، ولو ألقيت عذوبته في البحر لأصبح حلو المذاق، ولو رقي به البدر لوقي آفة المحاق، ولو مر ببيداء لعادت كسواد العراق وأزمع أن يسير بنواعج لواعجه في ذلك الدو، ويطير بجناح ارتياحه إلى متقاذف ذلك الجو، ليكحل بالتماحك جفونه، ويجلو بأوضاحك دجونه، ويجدد بلقائك عهدا أنهج البين رسمه، ويشاهد بمشاهدة علائك سرور محت يد البين وسمه، ويحط من أفناء بشرك بالآهل العامر، ويسقط من أنواء برك على الحافل الغامر، فخاطبت معرضا عن التحريض، ومجتزيا بنبذ العرض ولمح التعريض، وبائحا له بأسرارك الخطرات ذكر العهود القديمة، وارتياحك للقاء مثله من أعلاق العشرة الكريمة، وأنت ولي ما تتلقاه من تأنيس ينشر موت رجائه، ويعمرؤ مقفر أرجائه، لازلت عاطفا على الاخلاء بكرم الود، قاطفا زهر الثناء من كمام الحمد.

ذو الوزارتين
أبو عبد الله محمد ابن أبي الخصال الكاتب الغافقي ثم القرطبي
ذكره مصنف تاريخ الأندلسيين وقال: مات في أول وهلة من الفتنة الثانية بالأندلس في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. لقيته طائفه من عبيد لمتونة المتغلبين على قرطبة وهو يخرج من داره للفرار إلى موضع يتحصن فيه فذبح عند باب ولم يعرفوا قدره ولا علموا مكانه، وأما مصنف قلائد العقيان فإنه وصفه بالرواء والنباهة، والروية والبداهة، والنبل والوجاهة، والفضل والنزاهة، والوقار الواقي حلمه من السفاهة، والفخار العاري رسمه من عار العاهة، والأدب الزاخر البحر، والحسب الزاهر البدر، والمذهب الباهر الفخر، لكنه نبه على خمول منشاه، ونزول مرباه، وإنما ظهر بذاته، وتطهر من بذاذاته، وقدمته براعته، وفخمته عبارته، وبلغت به بهو البهاء بلاغته، وخصته للمراتب خصاله، وأخلصته للمناصب خلاله، وأورد من بدائعه ما بدا به سنا إحسانه، وجرى شأن شانئه حسدا لعلو شأنه، فمن ذلك قوله في مغن زار بعد الإغباب، ومحا رسم العتاب بالإعتاب:
وافى وقد عظمت علي ذنوبه ... في غيبة قَبُحَتْ بها آثاره

فمحا إساءته بها إحسانه ... واستغفرت لذنوبه أوتاره
وذكر أنه كان باشبيلية سنة ثلاث وخمسمائة، ورحل أمير المسلمين عنها فسار ابن أبي الخصال معه، وأخلى بالبلد مجمعه، فكتب إليه يستدعي من كلامه، ما يثبته في ديوانه، وينبته بين زهر بستانه، فكتب إليه الوزير جوابا: الحذر - أعزك الله - ، يؤتى من الثقة، والحبيب يؤذى من المقة، وقد كنت أرضى من ودك، وهو الصحيح بلمحة، وأقنع من ثنائك، وهو المسك بنفحة، فما زلت تعرضني للامتحان، وتطالبني بالبرهان، وتأخذني بالبيان، وأنا بنفسي أعلم، وعلى مقداري أحوط وأحزم، والمعيدي يسمع به لا أن يرى، وإن وردت أخباره تترى، فشخصه مقتحم مزدرى، لا سيما بمن لا يجلي ناطقا، ولا يبرز سابقا، فتركه والظنون ترجمه، والقيل والقال يقسمه، والأوهام تحله وتحرمه، وتحفيه وتخترمه أولى به من كشف القناع، والتخلف على منزلة الامتناع، وفي الوقت من فرسان هذا الشأن، وأذمار هذا المضمار، وقطان هذه المنازل، وهداة تلك المجاهل، من تحسد فقره الكواكب، ويترجل إليه منها الراكب، فأما الأزاهر فملقاة في رباها، ولو حلت عن المسك حباها، وصيغت من الشمس حلاها، فهي من الوجد تنظر بكل عين شكرا لا نكرا، وإذا كانت أنفاس هؤلاء الأقران مبثوثة، وبدائعهم منثوثة، وجواهرهم على محاسن الكلام مبعوثة، فما غادرت متردما، ولا استقبلت لمتأخرها متقدما، فعندها يقف الاختيار، وبها يقع المختار، وأنا أنزه ديوانه النزيه، وتوجيهه الوجيه، عن سقط من المتاع، قليل الإمتاع، ثقيل روح السرد، مهلك صر البرد إلا أن يعود به جماله، ويحرس بنقصه كماله، وهبه أعزه الله استسهل استلحاقه، وطامن له أخلاقه، أتراني أعطي الكاشحين في إثباته يدا، وأترك عقلي لهم سدى، وما إخالك ترضاها لي مع الود خطة خسف، ومهواة حتف، لا يستقل ظعينها، ولا يبل طعينها.
وله من أخرى: أوثر حقك وإن أبقى علي دركا، وبوأني دركا، وقد حملت فلانا ما سمح به الوقت، وإن اشتبه القصد والسمت.
ومن أخرى: نبذ الوفاء، فحذفنا الفاء، وجفا الكريم، فالغينا الميم... أقسم بالمتبسم البارد، والحبيب الوارد، قسما تبقى على الشيب حدته، ويعز على المشيب جدته، ذكرى من ذلك العهد مدت بسببه، ومتت إلى القلب بنسبه...
وله يعتذر من استبطاء المكاتبة:
ألم تعلموا والقلب رهن لديكم ... يخبركم عني بمضمره بعدي
ولو قلبتني الحادثات مكانكم ... لأنهبتها وفري وأوطأتها خدي
ألم تعلموا أنّي وأهلي وواحدي ... فداء ولا أرضى بتفدية وحدي
وله من رسالة إلى وزير نكب، وكبير للنصب نصب، وهو أبو محمد ابن القاسم: مثلك - ثبت الله فؤادك، وخفف عن كاهل المكارم ما آدها وآدك - ، يلقى دهره غير مكترث، وينازله بصبر غير منتكث، ويبسم عند قطوبه، ويفل شباة خطوبه، فما هي إلا غمرة ثم تنجلي، وخطرة يليها من الصنع الجميل ما يلي، لا جرم أن الحر كيف كان حر، وإن الدربرغم من جهله در، وهل كنت إلا حساما انتضاه، قدر أمضاه، وساعد ارتضاه، فإن أغمده فقد قضى ما عليه، وإن جرده فذلك إليه، أما أنه ما سلم حده، ولبس جوهر الفرند خده، لا يعدم طبنا يشترطه، ويمينا تخترطه، هذه الصمصامة، تقوم على ذكرها القيامة، طبقت البلاد أخباره، وقامت مقامه، في كل أفق آثاره. وأما حامله فنسي منسي... وما الحسن إلا المجرد العريان، وما الصبح إلا الطلق الإضحيان، وما النور إلا ما صادم الظلام، ولا النور إلا ما فارق الكمام، وما ذهب ذاهب، أجزل حظه لعوض واهب.... إلى هاهنا من قلائد العقيان.
وذكر محمد الغرناطي في نزهة الأنفس، في أخبار أهل الأندلس، الوزير أبا عبد الله محمد ابن أبي الخصال وأثني عليه، وأورد له مسمطة في منادب قرطبة والزهراء. وهي:
سمت لهم بالغور والشمل جامع ... بروق بأعلام العذيب لوامع
فباحت بأسرار الضمير المدامع ... ورب غرام لم تنله المسامع
أذاع بها مرفضها المتصوب
ألا في سبيل الشوق قلب موكّل ... بركب إذا شاموا البروق تحملوا
هو الموت إلا أنّني أتجمّل ... إذا قلت هذا منهل عنّ منهل
وراية برق نحوها القلب يجنب
أفي الله أما كل بعد فثابت ... وأما دنوّ الدار منهم ففائت

ولا يلفت البين المصمّم لافت ... ويا ربّ حتى البارق المتهافت
غراب بتفريق الأحبة ينعب
خذوا بدمي ذاك الوميض المضرجا ... وروضا لقبر العاشقين تأرّجا
عفا الله عنه قائلا ما تحرجا ... تمشَّى الردى في نشره وتدرجا
وفي كل شيء للمنية مرهب
سقى الله عهدا قد تقلّص ظلّه ... حيا نظرة يحيي الربى مستهله
وحيا به شخصا كريما أجلّه ... يصحّ فؤادي تارة ويعلّه
ويلأمه بالذكر طورا ويَشْعَب
رماني على فوت بشرح ذكائه ... فأعشت جفوني نظرة من ذكائه
وغصت بأدنى شعبة من سمائه ... سعاني وجاء البحر في غلوائه
فكل قريّ ردع خدّيه يركب
ألم يأته أني ركبت قعودا ... وأجمعت عن وفد الكلام قعودا
ولم أهتصر للبين بعدك عودا ... وأرهقني هذا الزمان صعودا
فربع الذي بين الجوانح سبسب
على تلك من حال دعوت سميعا ... وذكّرت روضا بالعقاب مريعا
وشملا بشعب المذحجي جميعا ... وسِرْباً بأكناف الرصافة ريعا
وأحداق عين بالحمام تقلب
ولم أنس ممشانا إلى القصر ذي النخل ... بحيث تجافى الطود عن دمث سهل
وأشرف لا عن عظم قدر ولا فضل ... ولكنّه للملك قام على رجل
تقيه تباريح الرياح وتحجب
وكم مرجع ينتابه برسيسه ... ومعتبر ألقى بأرجل عيسه
يرى أم عمرو في بقايا دريسه ... كسحق اليماني معتليه نفيسه
فرفعته تسبي القلوب وتعجب
ببيضاء للبيض البهاليل تعتزي ... وتعتزّ بالبالي جلالا وتنتزي
سوى أنها بعد الصنيع المطرّز ... كساها البلى والثكل أسْمال مُعْوِز
فتبكي وتبكي الزائرين وتندب
وكم لك بالزهراء من متردد ... ووقفة مستنّ المدامع مقصد
تسكن من خفق الجوانح باليد ... وتهتك حجب الناصر بن محمد
ولا هيبة تخشى هناك وترقب
لنعم مقام الخاشع المتنسك ... وكانت محل العَبْشَمِيّ المملك
متى يزد النفس العزيزة يسفك ... وإن يسم نحو الأبلق الفرد يملك
وأي مرام رامه يتصعّب
قصور كأن الماء يعشق مبناها ... وطورا يرى تاجا بمفرق أعلاها
وطورا يرى خلخال أسواق سفلاها ... إذا زل وهنا عن ذوائب مهواها
يقول هوى بدر أو انقض كوكب
أتاها على رغم الجبال الشواهق ... وكلّ منيف للنجوم مراهق
وكم دفعت في الصدر منه بعائق ... فأودع في أحشائها والمفارق
حُساماً بأنفاس الرياح يذوّب
هي الخود من قرن إلى قدم حسنا ... تناصف أقصاها جمالا مع الأدنى
ودرجن بالأفلاك مبنى على مبنى ... توافقن في الإتقان واختلف المعنى
وأسباب هذا الحسن قد تتشعَّبُ
فأين الشموس الطالعات بها ليلا ... وأين الغصون المائلات بها ميلا
وأين الظباء الساحبات بها ذيلا ... وأين الثرى رحلا وأين الحصا خيلا
فواعجبا لو أن من يتعجب
كم احتضنت فيها القيان المزاهرا ... وكم قد أجاب الطير فيها المزامرا
وكم فاوحت فيها الرياض المجامرا ... وكم شهدت فيها الكواكب سامرا
عليهم من الدنيا شعاع مطنب
كأن لم يكن يقضى بها النهي والأمر ... ويجنى إلى خزَّانها البر والبحر
ويسفر مخفورا بذمتها الفجر ... ويصبح مختوما بطينتها الدهر
وأيامه تعزى إليها وتنسب
ومالك عن ذات القسي النواضح ... وناصحة تعزى قديما لناصح
وذي أثر باق على الدهر واضح ... يُخَبّرُ عن عهد هنالك صالح
ويعمر ذكر الذاهبين ويخرب
تلاقى عليها فيض نهر وجدول ... تصعد من سفل وأقبل من علِ
وهذي جَنُوبِيّ وذلك شمألي ... وما اتفقا إلا على خير منزل
وإلا فإنّ الفضل فيه مجرب

كأنّهما في الطيب كانا تنافرا ... فسارا إلى فَصْلِ القضاء وسافرا
فلما تلاقى السابقان تناظرا ... فقال ولي الحق مهلا تضافرا
فكلكما عذب المجاجة طيب
ألم تعلما أن اللجاج هو المقت ... وأن الذي لا يقبل النصح منبتّ
وما منكما إلا له عندنا وقت ... فلما استبان الحق واتجه السمت
تقشّع عن نور المودة غيهب
وإن لنا بالعامري لمظهرا ... ومستشرفا يلهي العيون ومنظرا
وروضا على شطي خضارة أخضرا ... وجوسق ملك قد عَلاَ وتجبرا
له تِرَةٌ عند الكواكب تطلب
تَخَيَّرَهُ في عنفوان الموارد ... وأثبته في ملتقى كل وارد
وأبرزه للأريحي المجاهد ... وكل فتى عن حرمة الدين ذائد
حفيظته في صدره تتلهب
تقدم عن قصر الخلافة فرسخا ... وأصْحَر بالأرض الفضاء ليصرخا
فخالتْه أرض الشرك فيها منوخا ... كذلك من جاس الخلال ودوخا
فروعته في القلب تسري وتذهب
أولائك قوم قد مضوا وتصدعوا ... قضوا ما قضوا من أمرهم ثم ودّعوا
فهل لهم ركن يحس ويسمع ... تأمّل فهذا ظاهر الأرض بلقع
ألا انهم في بطنها حيث غيّبوا
ألست ترى أن المقام على شفا ... وأن بياض الصبح ليس بذي خفا
وكم رسم دار للأحبة قد عفا ... وكان حديثا للوفود معرّفا
فأصبح وحش المنتدى يتجنّب
ولله في الدارات ذات المصانع ... أخلاء صدق كالنجوم الطوالع
أشيع منهم كل أبيض ناصع ... وأرجع حتى لست يوما براجع
فياليتني في فسحة أتأهّب
أقرطبة لم يثنني عنك سلوان ... ولا مثل إخواني بمغناك إخوان
وإني إذا لم أسق ماءك ضمآن ... ولكن عداني عنك خطب له شان
وموطىء آثار تعد وتكتب
لك الحق والفضل الذي ليس يدفع ... وأنت لشمس الدين والعلم مطلع
ولولاك كان العلم يطوى ويرفع ... وكل التقى والهدي والخير أجمع
إليك تناهى والحسود معذب
ألم تك خصت باختيار الخلائف ... ودانت لهم فيها ملوك الطوائف
وعض ثقاف الملك كل مخالف ... بكل حسام مرهف الحد راعف
به تحقن الآجال طورا وتسكب
إلى ملكها انقاد الملوك وسلّموا ... وكعبتها زار الوفود ويمموا
ومنها استفادوا شرعهم وتعلموا ... وعاذوا بها من دهرهم وتحرموا
فنكب عنهم صرفه المتصحب
علوت فما في الحسن فوقك مرتقى ... هواؤك مختار وتربك منتقى
وجِسْرُكِ للدنيا وللدين ملتقى ... وبيتك مرفوع القواعد بالتقى
إلى فضله الأكباد تنضى وتضرب
تولّى خيار التابعين بناءه ... ومدوا طويلا صيته وثناءه
وخطّوا بأطراف العوالي فِنَاءَهُ ... فلا خلع الرحمان منه بهاءه
ولا زال مسعى كَائِدِيِهِ يخيب
وتابع فيه كل أروع أصيد ... طويل المعالي والمكارم باليد
وشادوا وجادوا سيدا بعد سيد ... فبادوا جميعا عن صنيع مخلد
يقوم عليهم بالثناء ويخطب
مصابيحه مثل النجوم الشوابك ... تخرق أثواب الليالي الحوالك
وتحفظه من كل لاه وسالك ... أجادل تنقض انقضاض النيازك
فأنشازهم بالطبطبية تنهب
أجِدَّكَ لم تشهد به ليلة القدر ... وقد جاش مد الناس منه إلى بحر
وقد أسرجت فيه جبال من الزهر ... فلو إن ذاك النور يقبس من فجر
لأوشك نور الفجر يفنى وينضُب
كأن الثريا ذات أطواد نرجس ... ذوائبها تهفو بأدنى تنفس
وطيب دخان الند في كل معطس ... وأنفاسه في كل جسم وملبس
وأذياله فوق الكواكب تسحب
إلى أن تبدت راية الفجر تزحف ... وقد قضي الفرض الذي لا يسوف
تولوا وأزهار المصابيح تقطف ... وأبصارها صونا تغض وتطرف

كما تنصل الأرماح ثم تركب
سلام على غيَّابها وحضورها ... سلام على أوطانها وقصورها
سلام على صحرائها وقبورها ... ولا زال سور الله من دون سورها
فحسن دفاع الله أحمى وأرهب
وفي ظهرها المعشوق كل مرفع ... وفي بطنها الممشوق كل مشفع
متى تأته شكوى الظّلامة ترفع ... وكلّ بعيد المستغاث مدفع
من الله في تلك المواطن يقرب
وكم كربة ملء الجوانح والقلب ... طرقت وقد نام المُوَاسُون من صحبْي
بروعتها قبر الولي أبي وهب ... وناديت في الترب المقدس: يا رب
فلبّت بما يهوى الفؤاد ويرغب
فيا صاحبي إن كان قبلك مصرعي ... وكنت على عهد الوفا والرضا معي
فحط بضاحي ذلك الترب مضجعي ... وذرني فجار القوم غير مروع
وعندهم للجار أمن ومرحب
رعى الله من يرعى العهود على النوى ... ويظهر بالقول المخير ما نوى
ولبيه من مستحكم الود والهوى ... يرى كل واد غير واديه محتوى
وأهدى سبيليه التي يتجنب

ذو الوزارتين الكاتب أبو محمد ابن عبد البر
ذكره صاحب قلائد العقيان بأنه كان واحد الأندلس، وهادى الأنفس بالهدى، وبحر البيان، وفخر الزمان، إلا أنه حصل عند عبَّاد المنبوز بالمعتضد في طالع سعده آفل، وبغمام نعماه حافل، ولولا فراره، لأظلم نهاره، ولولا هربه، لم يقض قبل أن يقضى نحبه أربه، وقد أورد من نظمه ونثره ما يسخر بالسحر، ويسخر له قلائد الدر، فمن ذلك في رجل مات مجذوما:
مات من كنّا نراه أبدا ... سالم العقل سقيم الجسد
بحر سقم ماج في أعضائه ... فرمى في جلده بالزبد
كان مثل السيف إلا أنه ... حسد الدهر عليه فصدي
وقوله:
لا تكثرنّ تأملا ... واحبس عليك عنان طرفك
فلربما أرسلته ... فرماك في ميدان حتفك
ومن نثره من رسالة: كتابي عن حال قد طال جناحها، وآمال قد أسفر صباحها، ويد قد اشتد زندها، ونفس قد انتجز في كل محاول وعدها، بما وردني به كتابك.
ومن أخرى: مكاتبة الصديق عوض من لقائه إذا امتنع اللقاء، واستدعاء لأنبائه إذا انقطعت الأنباء، وفيهما أنس، تلذ به النفس، وارتياح تنعش به الارواح، وارتباط يتصل فيه الاغتباط، وافتقاد، يتبين منه الاعتقاد والوداد، ومثل خلتك الكريمة عمرت معاهدها، ومثل عشرتك الجميلة شدت معاقدها، ومثل مكارمك البرة حمدت مصادرها ومواردها، وإذ قد تسببت لي أسبابها، فلا أقطعها، وإذ قد انفتحت لي أبوابها، فلا أدعها...
الوزير الكاتب أبو الفضل ابن حسداى
وصفه بالإجراء في ميدان البلاغة إلى أبعد أمد، والاستمداد من البيان والبراعة أغزر مدد، وكان من درجة الأكفاء محطوطا غير محظوظ، وبأهل الذمة ملحقا غير ملحوظ، محفوفا بالحرمة لكن في منصب غير محفوظ، حتى هداه الله فلحق به، وسما بعد ذلك في رتبه، وكان في زمان المنعوت في المغرب بالمقتدر، وأورد له قطعة فيه كالدر المنتثر نظمها في مجلس أنس دارت كؤوسه، وأنارت شموسه، ورقدت حوادثه، وتنبهت مثانيه ومثالثه، وهي:
توريد خدك للأحداق لذّات ... عليه من عنبر الأصداغ لامات
نيران هجرك للعشاق نار لظى ... لكن وصلك إن واصلت جنات
كأنما الراح والراحات تحملها ... بدور تم وأيدي الشرب هالات
حشاشة ما تركنا الماء يقتلها ... إلا لتحيا بها منا حشاشات
قد كان في كأسها من قبلها ثقل ... فخف إذ ملئت منها الزجاجات
عهدٌ لِلُبْنَى تقاضته الأمانات ... بانت وما قضيت منها لبانات
يدني التوهم للمشتاق منتزحا ... من الأمور وفي الأوهام راحات
تقضى عدات إذا عاد الكرى وإذا ... هب النسيم فقد تهدى تحيّات
زور تعلل قلب المستهام به ... دهرا وقد بقيت في النفس حاجات
لعل عتب الليالي أن يعود إلى ... عتبي فتبلغ أوطار ولذات

حتى تفوز بما جاد الخيال به ... فربما صدقت تلك المنامات
وله وقد ركب مع المنعوت بالمستعين في زورق، في يوم مونق:
لله يوم أنيق واضح الغرر ... مفضض مذهب الآصال والبكر
كأنما الدهر لما ساء أعتبنا ... فيه بعتبى وأبدى صفح معتذر
نسير في زورق حف السفين به ... من جانبيه بمنظوم ومنتثر
مد الشراع به نشرا على ملك ... بذ الأوائل في أيامه الأخر
هو الإمام الهمام المستعين حوى ... علياء مؤتمن عن هدي مقتدر
تحوي السفينة منه آية عجبا ... بحر تجمع حتى صار في نهر
تثار في قعره النينان مصعدة ... صيدا كما ظفر الغوّاص بالدرر
وللندامى به عبّ ومرتشف ... كالريق يعذب في ورد وفي صدر
والشرب في ود مولى خلقه زهر ... يذكو وغرتّه أبهى من القمر
ومن نثره استدعاء كبير إلى عرس أمير وهو أبو عبد الرحمان ابن طاهر صاحب المظالم: محلك - أعزك الله - في طي الجوانح ثابت وإن نزحت الدار، وعيانك في أحناء الضلوع باد وإن شحط المزار، فالنفس فائزة منك لتمثل الخاطر بأوفر الحظ، والعين منازعة إلى أن تمتع من لقائك بظفر اللحظ، فلا عائدة أسبغ بردا، ولا موهبة أسوغ وردا، من تفضلك بالحفوف إلى مأنس يتم بمشاهدتك التئامه، ويتصل بمحاضرتك انتظامه، ولك فضل الإجمال، بالإمتاع من ذلك بأعظم الآمال، وأنا، أعزك الله على شرف سؤددك حاكم، وعلى مشرع سنائك حائم، وحسبي ما تتحققه من نزاعي وتشوقي، وتنبينه من تطلعي وتتوقي، وقد تمكن الارتياح، باستحكام الثقة، واعترض الانتزاح، بارتقاب الصلة، وأنت، وصل الله سعدك، بسماحة شيمك، وبارع كرمك، تنشئ للموانسة عهدا، وتوري بالمكارمة زندا، وتقتضي بالمشاركة شكرا، حافلا وحمدا، لازلت مهنئا بالسعود المستقبلة، مسوغا احتلاء غرر الأماني المتهللة، بمنه.

الوزير أبو عامر ابن ينق
قال اليسع: طبيب كاتب شاعر، وأنا أروي عنه شعره كله وأجازني. ومصنف القلائد وصفه بالذكاء الباهر، والذهن الزاهر، والفهم الحاضر، وحدة القريحة والخاطر، لكنه ذو عجب مستهو، غير أن فضله الحسن على نسخ قبح عجبه محتو، وأورد من شعره المستبدع، ونظمه المصرع لمرصع قوله:
حسبي من الدهر أن الدهر يفتح لي ... بكر الخطوب وإني عاثر الأمل
دعني أصادي زماني في تقلّبه ... فهل سمعت بظل غير منتقل
وكلما راح جهما رحت مبتسما ... والبدر يزداد إشراقا مع الطفل
ولا يروعك إطراقي لحادثة ... فالليث مكمنه في الغيل للغيل
فما تأطّر عطف الرمح من خور ... فيه ولا احمرّ صفح السيف من خجل
لا غرو إن عطلت من حليها هممي ... فهل يعيّر جيد الظبي بالعطل
ويلاه هلا أنال القوس باريها ... وقلد السيف جيد الفارس البطل
ومنها في المديح:
أغرّ إن تدعه يوما لنائبة ... جلى ولا يكشف الجلى سوى جلل
قد أوسع الأرض عدلا والبلاد ندى ... والروض طلق الربى والشمس في الحمل
يرعى الممالك في قرب وفي بعد ... ويأخذ الأمر بين الريث والعجل
ذو عزمة لخطوب الدهر جردها ... أمضى من الصارم المطرور في القلل
وذو أياد على العافين جاد بها ... أشفى من البارد السلسال لِلْغُلَلِ
مصرّف قصب الأقلام نال بها ... مناله بشبا الخطية الذبل
من كل أهيف ما في متنه خطل ... والسمهرية قد تعزى إلى خطل
دع عنك ما خلدت يونان من حكم ... وسار في حكماء الفرس من مثل
وانظر إليها تجدها أحرزت سبقا ... في الحمد منها وحاز السبق في مهل
وله يتغزل:
وهيفاء يحكيها القضيب تأودا ... إذا ما انثنت في الرَّيْط أو حبراتها
يضيق الإزار الرحب عن ردفها كما ... تضيق بها الأحناء من زفراتها
وما ظبية وجناء تألف وجرة ... ترود ظلال الضال أو أثَلاتها

بأحسن منها يوم أومت بلحظها ... إلينا ولم تنطق حذار وشاتها

الوزير الكاتب أبو بكر ابن قزمان
خدم في أول عمره المنعوت بالمتوكل. في الغرب آخر يعرف بابن قزمان ينظم الأزجال وصفه بالإعجاز والإيجاز، والتبريز في البيان في ميدان الإحراز، وإن صدور عمره كانت أحسن له من الأعجاز، فإنه مني بالذلة بعد الاعتزاز، وأخلف الدهر له في مواعده فلواها دون النجاز، وأورد له من قوله ما يترنح لحسنه عطف الاهتزاز، وهو:
ركبوا السيول من الخيول وركّبوا ... فوق العوالي السمر زرق نطاف
وتجللوا الغدران من ماذيهم ... مرتجة إلا على الأكتاف
الوزير الكاتب أبو بكر ابن الملح
وصفه بالأخذ من طرفي الدين والدنيا، وحلول كنفي العلم والعلياء، فإنه لاذ بالتوبة، بعد الحوبة، وطلب الوزر، من الوزر، وخطا بالصفوةن بعد الصهوة، ورقى صهوة المنابر بعد القهوة، وكاس، بعد الكأس، وأدنى سنا الطهر بعد دجى الأدناس، ولبى سريعا منادي الهدى في نزع ما ارتداه في خلع العذار من اللباس، وقد أورد من قوله ما هو أنضر من روض الورد والآس، وهو قوله:
والروض يبعث بالنسيم كأنما ... أهداه يضرب لاصطباحك موعدا
سكرانُ من ماء النعيم فكلّما ... غنّاه طائره وأطرب رددا
يأوي إلى زهر كأن عيونه ... رقباء تقعد للأحبة مرصدا
زهر يبوح به اخضرار نباته ... كالزهر أسرجها الظلام وأوقدا
ويبيت في فنن توهم ظله ... يمسي ويصبح في القرارة مرودا
قد خفّ موقعه عليه وربّما ... مسح النعيم بعطفه وتأودا
وله يتغزل:
حسب القوم أنني عنك سال ... أنت تدري قضيتي ما أبالي
قمري أنت كل حين وبدري ... فمتى كنت قبل هذا هلالي
أنت كالشمس لم تَغِبَّ ولكن ... حجبت ليلها حذار الملال
وله يتغزل أيضا:
ظبي يموج الهوى بناظره ... حتى إذا ما رمى به انبعثا
مبتدع الخلق لاكفاء له ... يعد شكوى صبابتي رفثا
أنكر سقمي وما قصدت له ... وما تعرّضت للهوى عبثا
أقسم في الحب أن أموت به ... فما قضى برّه ولا حنثا
الوزير الفقيه أبو أيوب ابن أبي أمية
توفي سنة اثنتين وعشرين أثنى عليه بكل فضيلة، وثنى عليه عنان كل محمدة جميلة، ونزهه من كل رذيلة، ووصفه بأنه في وفاء الوقار، ونجاء النجار، يبقي بوفائه ذماء الذمار، ويذكي لذكائه كباء الكبار، رأيه ري، وزنده وري، شيم بارق الحسنى والحسن من شيمه، ولم شعث الأمل كرمه من كرمه، يستسقى الحيا بمحياه، ويستنشق نشر الخير من رياه، وذكر أنه دعي للقضاء فاستعفى، وعاف الأوزار وناظر ديانته ما أغفى، وإن لديه ينبت الحق وينبت الباطل، ويثبت العالم وينتفي الجاهل، وإنه كالبحر الزاخر في المحاضرة، وكالبدر الزاهر في المجاورة، وهو واحد الأندلس الأوحد، وعضبها المجرد، وله إنشاء، للسامع منه انتشاء، وقد أثبت من شعره ما يثني الإحسان إلى جيده الجيد، وتغري الاعراب بصيده الصيد، فمن ذلك يصف متنزها حله:
يا منزل الحسن أهواه وآلفه ... حقا لقد جمعت في صحنك البدع
لله ما اصطنعت نعماك عندي في ... يوم نعمت به والشمل مجتمع
وله أيضا في وصف متنزه:
يا دار أمّنك الزما ... ن صروفه ونوائبه
وجرت سعودك بالذي ... يهوى نزيلك دائبه
فلنعم مثوى الضيف أن ... ت إذا تحاموا جانبه
خطر شأوت به الديا ... ر فأذعنت لك ناصبه
وله فيه:
أمسك دارين حيّاك النسيم به ... أم عنبر الشحر أم هذي البساتين
بشاطىء النهر حيث النور مؤتلق ... والراح تعبق أم تلك الرياحين
الوزير الفقيه القاضي
أبو الفضل جعفر ابن الأعلم

وصفه بتدرع التورع عبادة، متنسكا زهادة، واعتقال العقل واعتلاقه، والاعتناء بالنبل واعتناقه، إلا صبوة أخذت بالعافية صبوة، ونوبة لم يجد في الاقلاع منها نبوة، وجده أبو الحجاج الأعلم، وهو في عصره العلامة والعلم، وأورد لأبي الفضل ما أبى الفضل به أن يصادف نظير، وعرف أن روض معرفته بالأدب مؤنق نضير، وذكر أنه لقيه بشنتمرية داره، ومطلع اهلاله وابداره، ومن جملة ما أشعرنا به من شعره وأدرأنا به من دره، في وصف قلم:
متألّق تنبيك صفرة لونه ... بقديم صحبته لآل الأصفر
ومهفهف ذلق صليب المكسر ... سبب لنيل المطلب المتعذر
ما ضرّه أن كان كعب يراعة ... وبحكمه اطَّرَدَتْ كعوب السمهري
وله عند فراق الصبا والصبوة، واكتهال نبت الكهولة وشد عقد التوبة، بانحلال ما كان للحوبة من الحبوة:
أما أنا فقد ارعويت عن الصبا ... وعضضت من ندم عليه بناني
وأطعت نصّاحي وربّ نصيحة ... جاءوا بها فلججت في العصيان
أيام أحْيَا بالغواني والغنا ... وأموت بين الرّاح والريحان
أيام أسحب من ذيول شبيبتي ... مرحا وأعثر في فضول عناني
وأجل كأسي أن ترى موضوعة ... فعلى يدي أو في يدي ندماني
في فتية فرضوا اتصال هواهم ... بمناهم دينا من الأديان
هزت عُلاهم اريحيات الصبا ... فهي النسيم وهم غصون البان
من كل مخلوع الأعنة لم يبل ... في غَيِّهِ بتصارف الأزمان
أنحى على الجريال حتّى نوّرت ... في وجنتيه شقائق النعمان
أقول: قد هز عطف طربي هذا المعنى، وانتشيت لما انتشقت هذا النسيم الذي يبل به المعنى. وله في الزهد والعظة، وذكر الموت لاستقامة اليقظة:
الموت سغْلٌ ذكره ... عن كلّ معلوم سواه
فاعمر به ربع إدّكا ... رك بالعَشِيّ وبالغداه
واكحل به طرف اعتبا ... رك طول أيام الحياه
قبل ارتكاض النفس ما ... بين الترائب واللهاه
فيقال هذا جعفر ... رهن بما كسبت يداه
عصفت به ريح المنو ... ن فصيرته كما تراه
فضعوه في أكفانه ... ودعوه يجني ما جناه
وتمتّعوا بمتاعهال ... مخزون واحووا ما حواه
يا مصرعا مستبشعا ... بلغ الكتاب به مداه
لقيِّتُ فيك بشارة ... تشفي فؤادي من جواه
ولقيت بعدك أحمدا ... عبد الإلاه ومجتباه
في دار خفض ما اشتهت ... نفس المقيم به أتاه
وأورد من نثره في الأوصاف، ما هو أروق وأرق من السوالف والسلالف. فمن ذلك في وصف فرس: أنظر إليه سليم الأديم، كريم القديم، كأنما نشأ بين غبراء واليحموم، نجم إذا بدا، ووهم إذا عدا، يستقبل بغزال، ويستدبر برال، ويتحلى بشيات تقسمت الجمال.
وفي وصف سرج: بزة جياد، ومركب أجواد، جميل الظاهر، رحيب ما بين القام والآخر، كأنما قد من الخدود أديمه، واختص بإتقان المجيد تحكيمه.
وفي وصف لجام: متناسب الأشلاء، صحيح الانتماء، إلى ثريا السماء، نكله نكال، وسائره جمال.
وفي وصف رمح: مطرد الكعوب، صحيح اتصال العالية بالأنبوب، أخ كلما استنبته ينوب، ويصدق كل أمل مكذوب، خطي الأرومة، سهمي العزيمة، يستد برديني، ويرد بقعضيني، ظمآن على كثرة وروده، عريان تنسب صنعاء إلى وشي بروده.
في وصف قميص: كافوري الأديم، بابلي الرسوم، تباشر منه الجسوم، ما يباشر الروض من النسيم.
وفي وصف بغل: مقرف النسب، مستخبر للشرف من كثب إن ركب أقنع اعتماله، وإن نسب استقل به أخواله.
في وصف حمار: وثيق المفاصل، عتيق النهضة إذا ونت المراسل، يشفي امتهانه ويدني من الأمل رديانه.

الفقيه القاضي أبو الوليد الباجي
إمام في الأصول والفروع، ومن مصنفاته: الوصول إلى معرفة الأصول، كتاب التسديد في أصول الدين، الإشارة.

ذكر أنه كان فقيه الأندلس وامامها، والذي جلى بنور علمه ظلامها، وأنه رحل إلى المشرق فأشرقت أنوار أقباسه، وأحيا ليالي الطلب بنعي نعاسه، وأنفق أنفاسه في العلم حتى اقتبس من أنفاسه، وعاد إلى الأندلس فاستقر من العزة في الأعين والأنفس، وصار إلى المنعوت بالمقتدر، فراش جناح نجاحه في الورد والصدر، وذكر أن نظمه موقوف، على ذاته غير مصروف، إلى رفث القول وبذاذاته، وله في الزهد:
إذا كنت أعلم مستيقنا ... بأن جميع حياتي كساعه
فلم لا أكون ضنينا بها ... وأجعلها في صلاح وطاعه
وله يرثي ولديه وقد ماتا غريبين، وذويا قضيبين:
رعى الله قبرين استكانا ببلدة ... هما أسكناها في السواد من القلب
لئن غيبا عن ناظري وتبوّءا ... فؤادي لقد زاد التباعد في القرب
يقر بعيني أن أزور ثراكما ... وألزق مكنون الترائب بالترب
وأبَكي وأبُكي ساكنيها لعلنّي ... سأنجد من صحب وأسعد من سحب
فما ساعدت ورق الحمام أخا أسى ... ولا روّحت ريح الصبا عن أخي كرب
ولا استعذبت عيناي بعدكما كرى ... ولا ظمئت نفسي إلى البارد العذب
أحنّ ويثني اليأس نفسي عن الأسى ... كما اضطر محمول على المركب الصعب

الوزير الفقيه أبو مروان ابن سراج
ذكر أنه درس علوما درست معالمها، ودعا للرفع آدابا تداعت دعائمها، فتح أقفال المبهمات، وبين أغفال المشكلات، وشرح وأوضح، ونصح مناضليه وفصح، ولما طوي بساط عمره طويت المعارف، وتنقص فضلها الوافر وتقلص لها الوارف، ووصفه بالضجر عند السؤال فما يكاد يجيب، والمستفيد منه يكاد لغيظه عليه يخيب، وأورد من شعره قوله في مدح المظفر ابن جهور:
أمّا هواك ففي أعزّ مكان ... كم صارم من دونه وسنان
وبني حروب لم تزل تغذوهم ... حتى الفطام ثديها بلبان
في كلّ أرض يضربون قبابهم ... لا يمنعون تخيّر الأوطان
أو ما ترى أوتادها قصد القنا ... وحبالهنّ ذوائب الفرسان
عجبا لأسد في القباب تكفّلت ... برعاية الظبيات والغزلان
ولقد سريت وما صحبت على السرى ... غير النجوم إرادة الكتمان
في ليلة نظرت إليّ نجومها ... ومقحم الغمرات غير جبان
قالت فتاتهم وقد نبهتها ... والليل ملقي كلكل وجران
كيف اجترأت على تجاوز من ترى ... من نائم حولي ومن يقظان
أو لست إنسانا وما إن تنتهي ... هذي نهاية جرأة الإنسان
فأجبتها: أنّ ابْنَ جَهْوَرٍ الرّضى ... منع المخاوف أن تحل جناني
ومنها في العتاب والاستماحة:
أتعود دلوي من بحور سماحكم ... صفرا وليست رئة الأشطان
ويكون ربعي مستبينا جدبة ... حتى أهيم بنجعة البلدان
قسي بمن ينأى برفع مكانه ... بنديّك العالي وخفض مكاني
أمن السوية أن تحلوا بالربى ... من أرضه وأحل بالغيطان
إن ترخصوا خطري فكم مغل له ... يستام فيه بأرفع الأثمان
الوزير الفقيه أبو عبيد البكري
ذكر أنه رأى هذا الفقيه في سن ابن محكم، وقد فاق كل متكلم، وهو غلام ما أبدر قمره، ولا أينع ثمره، ولا تفتق لعذاره زهره، وقرظه بأنه كان حلي الزمان العاطل، وصيت الدهر الخامل، وقطب مدار الأدب في أفلاكه، وواحد المغرب ومقرب أملاكه، وكانوا يتهادونه تهادي العيون للوسن، والأسماع للصوت الحسن، غير أن شربه المدام مدام، ولم يزل منه له من غير ندامة ندام، قد صار هجيره، لا يهجره أصيله وهجيره، وله في البيان مصنفات، بفرائد الحكم مشنفات، قال أبو نصر صاحب قلائد العقيان إنه رآه وقد جرى ذكر ابن مقلة وخطه فقال:
خط ابن مقلة من أرعاه مقلته ... ودت جوارحه لو أصبحت مقلا
فالدر يصفر لاستحسانه حسدا ... والورد يحمر من إبداعه خجلا
وله فصل من كتاب راجع به الفقيه أبا الحسن ابن دري:

وتالله إني لأتطعم جنى محاورتك فتقف في اللهاة، وأجد لتخيل مجالستك ما يجده الغريق من النجاة، وأعتقد في مجاورتك ما يعتقده الجبان في الحياة.
أما تخطئ الأيام في بأن ترى ... بغيضا تنائي أو حبيبا تقرب
ورأيت رغبتك في الكتاب الذي لم يتحرر ولم يتهذب، وكيف التفرغ لقضاء ارب، والنشاط قد ولي وذهب، فما أجد، إلا كما قال:
نزراً كما استنكهت عائر نفحة ... من فارة المسك التي لم تفتق
وإن يعن الله على المراد، فيك والله يستفاد، وبرغبتك أخرجه إلى الوجود من العدم، وإليك يصل أدنى ظلم.
وله فصل يهني الوزير أبا بكر بن زيدون بالوزارة: أسعد الله بوزارة سيدي الدنيا والدين، وأجرى لها الطير الميامين، ووصل بها التأييد والتمكين، فالحمد لله على أمل بلغه، وجذل قد سوغه، وضمان حققه، ورجاء صدقه، وله المة في ظلام كان أعزه الله صبحه ومستبهم، غدا شرحه، وعطل نحر كان حليه، وضلال دهر صار هديه:
فقد عمر الله الوزارة باسمه ... ورد إليها أهلها بعد إقصار

الفقيه الأجل قاضي الجماعة
أبو عبد الله ابن حمدين
وأظنه هو الذي سبق ذكره في مصنف ابن بشرون، وصفه بحماية الدين ورعاية أهله، والهداية إلى سبله، وأنه مالك زمام العلوم ومحيي رسمها، ومعلي اسمها، وبه اجتثت أصول الملحدين، ورثت حبال المفسدين، في سنة تسع وتسعين، وأورد من نثره ما لذت قطوفه، وبذت قلائد الدر صنوفه، وذلك من كتاب، فضل يراجع به ابن شماخ: عمر بابك، وأخصب جنابك، وطاوعك زمانك، ونعم به إيوانك:
وسقي بلادك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي
فما درج لسبيله من كنت سلالة سليله، ووارث معرسه ومقيله: ومنها: بيننا وسائل، أحكمتها الأوائل، ما هي بالأنكاث، والوشائج الرثاث، من دونها عهد جناه شهد، أرج عرف النسيم، مشرق جبين الأديم، رائق رقعة الجلبات، مقبل رداء الشباب، كالصباح المنجاب، تروق أساريره، ويلقاك قبل اللقاء تباشيره.
ورثناهن عن آباء صدق ... ونورثها إذا متنا بنينا
الفقيه الأستاذ أبو محمد عبد الله بن محمد
ابن السيد البطليوسي
ذكر أنه رَكن في آخر زمانه إلى إقراء علوم النحو، وإثبات ما عفت منه يد المحو، والقناعة بشكر الحظ بعد الصحو، وأورد من كلامه، ما يجلو عن الليل بسناه دجى ظلامه، فمن ذلك قوله في طول الليل:
ترى ليلنا شابت نواصيه كبرة ... كما شبت، أم في الجو روض بهار
كأن الليالي السبع في الأفق علقت ... ولا فصل فيها بينها لنهار
وله رقعة يصف فيها كتاب قلائد العقيان: تأملت كتابه الذي شرع في إنشائه، فرأيت كتابا ينجد ويغور، ويبلغ حيث لا يبلغ البدور، وتبين به الذرى والمناسم، وتغتدي له غرر في أوجه ومواسم، فقد أسجد الله الكلام لكلامك، وجعل النيرات طوع أقلامك، فأنت تهدي بنجومها، وتردي برجومها، فالنثرة من نثرك، والشعري من شعرك، والبلغاء لك معترفون، وبين يديك متصرفون، وليس يباريك مبار، ولا يجاريك إلى الغاية مجار، إلا وقف حسيرا، وسبقت ودعي أخيرا، وتقدمت لا عدمت شفوفا، ولا برح مكانك بالآمال محفوقا. وله في وصف زيرطانة:
وذات عمى لها طرف بصير ... إذا رمدت فأبصر ما تكون
لها من غيرها نفس معار ... وناظرها لدى الأبصار طين
وتبطش باليمين إذا أردنا ... وليس لها إذا بطشت يمين
وله يجيب شاعرا قرطيبا:
قل للذي غاص في بحر من الفكر ... بذهنه فحوى ما شاء من درر
لله عذراء زفّت منك رائحة ... تختال من حبرها المرقوم في حبر
صداقها الصدق من ودي ومنزلها ... بصيرتي وسواد القلب والبصر
هزّت بدائعها عطفيَّ من طرب ... لحسنها هزّة المشغوف بالذكر
كأنما خامرتني من بشاشتها ... راح وسكر بلا راح ولا سكر
ما كنت أحسب أن النيرات غدت ... بصيدها شرك الأوهام والفطر
ولا توهّمت أيام الربيع ترى ... في ناضر غضّة الأنوار والزهر
أما الجزاء بشيء لست مدركه ... ولو بدرت إلى التوجيه بالبدر

لكن جزائي صفاء الود أضمره ... إذا القلوب انطوت منه على كدر
جاراك ذهني في مضمارك فكبا ... ذهني وفزت بخصل السبق والظفر
وهل بطليوس في نظم مناظرة ... يوما لقرطبة في حكم ذي نظر
وله من مكاتبة: نحن نتدانى إخلاصا، وإن كنا نتناءى أشخاصا، ويجمعنا الأدب، وإن فرقنا النسب، فالأشكال أقارب، والأداب مناسب، وليس يضر تنائي الأشباح، مع تقارب الأرواح، وما مثلنا في هذا الانتظام، إلا كما قال أبو تمام:
نسيبي في رأيي وعلمي ومذهبي ... وإن باعدتنا في الأصول المناسب
وله في الزهد:
وما دارنا إلا موات لو أننا ... نفكر والأخرى هي الحيوان
شربنا بها عزّا بدون جهالة ... وشتان عز للفتى وهوان
وله من قصيدة يمدح المستعين ابن هود:
هم سلبوني حسن صبري إذ بانوا ... بأقمار أطواق مطالعها بان
لئن غادروني في اللوى إنّ مهجتي ... مسائرة أضغانهم أينما كانوا
سقى عهدهم بالخيف عهد غمائم ... ينازعها مزن من الدمع هتّان
أأحبابنا هل ذلك العهد راجع ... وهل لي عنكم آخر الدهر سلوان
ولي مقلة عبري وبين جوانحي ... فؤادٌ إلى لقياكم الدهر حنّان
تنكّرت الدنيا لنا بعد بعدكم ... وحفت بنا من معضل الخطب ألوان
ومنها:
رحلنا سوام الحمد عنها بغيرها ... فلا ماؤها صدَّا ولا النبت سعدان
إلى ملك حاباه بالمجد يوسف ... وشاد له البيت الرفيع سليمان
إلى مستعين بالإلاه مؤيد ... له النصر حزب والمقادير أعوان
بوجه ابن هود كلما عرض الورى ... صحيفة إقبال لها البشر عنوان
فتى المجد في برديه بدر وضيغم ... وبحر وقدس ذو الهضاب وثهلان
من النفر البيض الذين أكفهم ... غيوث ولكن الخواطر نيران
ليوث شرى ما زال منهم لدى الوغى ... هزبر بيمناه من السمر ثعبان
وله يعزّي الوزير أبا عيسى ابن لبون في أخيه:
للمرء في أيامه عبر ... ولصفو يحدث بعده كدر
خرس الزمان لمن تأمّله ... نطق وخبر صروفه خبر
نادى فأسمع لو وعت أذن ... وأرى العواقب لورأى بصر
كم قال: خبّوا طالما هجعت ... منكم عيون حقها السهر
أبأذن من هو مبصري صمم ... أم قلب من هو سامعي حجر
لولا عماكم عن هدى نذري ... ومواعظي ما جاءت النذر
هذي مصارع معشر هلكوا ... ووعظتكم بالصمت فاعتبروا
ومنها في الشيب:
قالت أرى ليل الشباب بدت ... للشيب فيه أنجم زهر
فأجبتها: لا تكثري عجبا ... من شيبة لم يجنها كبر
بكن طويت من الهموم لظى ... أضحى لها في عارضي شرر
ومنها:
حسنت شمائلكم وأوجهكم ... فتطابقا مرأى ومختبر
والحسن في صور النفوس وإن ... راقتك من أجسامها الصور
لا ضعضعت أيدي الخطوب لكم ... ركنا ولا راعتكم الغير
وله في وصف فرس:
وأدهم من آل الوجيه ولاحق ... له الليل لون والصباح حجول
تحيّر ماء الحسن فوق أديمه ... فلولا التهاب الخضر ظل يسيل
كأن هلال الأفق لاح بوجهه ... فأعيننا شوقا إليه تميل
كأنّ الرياح العاصفات تقلّه ... إذا ابتلّ منه محزم وتليل
إذا عابد الرحمان في متنه علا ... بدا الزهو في العطفين منه يجول
فمن رام تشبيها له قال موجزا ... وإن كان وصف الحسن منه يطول
هو الفلك الدوار في صهواته ... لبدر الدياجي مطلع وأفول
وله يتشوق حرسها الله تعالى:
أمكّة تفديك النفوس الكرائم ... ولا برحت تنهل فيك الغمائم
وكفت أكفّ السوء عنك وبلغّت ... مناها قلوب في ثراك حوائم

فإنّك بيت الله والحرم الذي ... لعزّته ذل الملوك الأعاظم
وقد رفعت منك القواعد بالتقى ... وشادتك أيد برّة وعواصم
وساويت في الفضل المقام كلاهما ... ينال به الزلفي وتمحى المآثم
ومن أين تعدوك الفضائل كلها ... وفيك مقامات الهدى والمعالم
ومبعث من ساد الورى وحوى العلى ... بمولده عبد الإلاه وهاشم
نبي حوى فضل النبيين واغتدى ... لهم أولا في فضله وهو خاتم
وفيك يمين الله يلثمها الورى ... كما يلثم اليمنى من الملك لاثم
وفيك إبراهيم إذ وطيء الصفا ... ضحى قدم برهانها متقادم
دعا دعوة فوق الصَّفا فأجابه ... قطوف من الفج العميق وراسم
فاعجب بدعوى لم تلج مسمعي فتى ... ولم يعها إلا ذكيّ وعالم
ألهفي لأقدار عدت عنك همّتي ... فلم تنتهض مني إليك العزائم
فياليت شعري هل أرى منك داعيا ... إذا جأرَتْ لله فيك الغماغم
وهل تمحون عني خطايا اقترفتها ... خطى فيك لي أو يَعْمُلاتٍ رواسم
وهل لي من سقيا حجيجك شربة ... ومن زمزم يروي بها النفس حائم
وهل لي في أجر الملبين مقسم ... إذا بذلت للناس فيك المقاسم
وكم زار مغناك المعظم مجرم ... فحطت به عنه الخطايا العظائم
ومن أين لا يضحي مرجيك آمنا ... وقد أمنت فيك المها والحمائم
لئن فاتني منك الذي أنا رائم ... فإن هوى نفسي عليك لرائم
وإن يحمني حامي المقادير مقدما ... عليك فإني بالفؤاد لقادم
عليك سلام الله ما طاف طائف ... بكعبتك العليا وما قام قائم
إذا نسم لم يهد عني تحية ... إليك فتهديها الرياح النواسم
أعوذ بمن أسناك من شر خلقه ... ونفسي فما منها سوى الله عاصم
وأهدي صلاتي والسلام لأحمد ... لعليّ به من كبّة النار سالم

الوزير الأستاذ أبو الحسين ابن سراج
أطرى فضله، بما أطرب أهله، وذكر أنه لما ضمت عليه من القبر ضلوعه، عفت رسوم المجد ودرست ربوعه، وتفرقت جموعه، وعادت المعارف مناكر، والمعالم مجاهل، وأورد له من رقعة خاطبه بها: كتبت وروض العهد قد أفصحت أناشيده، وديوان الود د صحت أسانيده، ودوح الإخاء يتفاوح زهرا، ويتناوح مجتني ومهتصرا، والله يصوب مزنته بشآبيب الوفاء، ويمنح نغبته، أعلى درجات العذوبة والصفاء، برحمته، وأما تلك المراجعة فكأنها لما عاقت عقّت، وقد نالها من عتابي في ذلك ما استحقت.
وله يصف كتابا:
كتاب يزدري بالسحر حسنا ... وسمت به زمانك وهو غفل
معان تعبق الآفاق عنها ... يشيب لها حسودك وهو طفل
وله في ثوب رآه على غير أهله، وكان عهده، على من كان يوده:
يا لابس الثوب لا عربت من سقم ... ولا تخطاك صرف الدهر والغير
ويحي عليه ولهفي من تبدّله ... كم قد تطلّع من أطواقه القمر
وكم ترنّح في أثنائه غصن ... منعم النبت يدمي خده النظر
وكم ثنيت يدي عنه وقد نعمت ... وظل منها فتيت المسك ينتثر
فاليوم أوحش عما كنت أعهده ... كذاك صفو الليالي بعده الكدر
وله:
لما تبوأ من فؤادي منزلا ... وغدا يسلط مقلتيه عليه
ناديته مترحما من زفرة ... أفضت بأسرار الضمير إليه
رفقا بمنزلك الذي تحتلّه ... يا من يخرّب بيته بيديه
وله:
لئن لم تفز عيناي منك بنظرة ... ولم أقض من لقياك ما كنت آمل
فعالم ما تخفي السرائر عالم ... بأنّك في عيني وقلبي ممثل
وأنّك ممن أنتحيه بخلتي ... وأمحضه ودي لصدر وأوّل
وله:
بما يعينيك من غنج ومن دعج ... ومن صوارم تنضوها على المهج

لا ترتضي الحلف في وعد تركت به ... قتيل حبك قد أوفى على الفرج
أولا فثنّيه للمشتاق يله به ... وفيت أم لم تفي قولي بلا حرج
وكتب شافعا:
بثّ الصنائع لا تحفل بموضعها ... فيمن نأى أو دنا ما كنت مقتدرا
كالغيث ليس يبالي حيثما انسكبت ... منه الغمائم تربا كان أو حجرا

ذو الوزارتين
الفقيه القاضي، قاضي قضاة المشرق أبو أمية إبراهيم ابن عصام
وصفه بالمهابة التي يطرق الدهر لها توقيرا، ويشرق السعد لبهائها منيرا، وإنه نظم الرئاسة في سلك القضاء، وهزم الكتائب بالمضاء، مستنير بذكائه لا يستشير غير رأيه، وأورد من نظمه ونثره ما يستمد البحر من غزارته، والروض من نضارته، فمن ذلك أنه كتب إليه أبو الحسن ابن الحاج:
ما زلت أضرب في علاك بمقولي ... دأبا وأورد في رضاك وأصدر
واليوم أعذر من يطيل ملامة ... وأقول زد شكوى وأنت مقصر
فأجابه أبو أمية:
الفخر يأبى والسيادة تحجر ... أن يستبيح حمى الوفاء مزور
وعليك أن ترضي بسمع ملامة ... عنّي السناء وعهده لا يُفخر
ولديّ أن نفث الصديق لراحة ... صبر الوفي وشيمة لا تغدر
وكتب إليه أبو العباس الغرباقي:
أما ترى اليوم يا ملاذي ... يحكيك في البشر الطلاقه
والقلب يرتج مثل قلب ... راقب من إلفه فراقه
والجو صافي الأديم زهر ... مدّ على أرضه رواقه
فامنن بمشي إليه إنّي ... مالي على الصبر عنه طاقه
فأجابه أبو أمية:
عندي لما تشتهي بدار ... يشهد أني عل علاقه
فاخبر بما شئت صدق عهدي ... تجد دليلا على الصداقه
واسكن إلى رأي ذي احتفاء ... يعجز من رامه لحاقه
يطلع برّ الصديق بدرا ... أمّنه عمره محاقه
وكتب إلى أبي العباس المذكور:
كتبت وعندي للنزاع عزيمة ... تسهل تجشيم اللقاء على بعد
ومعهد أنس ما عهدت تحفيا ... فهل مقرض بري ومستقرض حمدي
وإن عاق من عهد لبرك عائق ... تلطفت في العذر الجميل إلى ودّي
وكتب إليه كاتبه باق وهو بالعدوة، بهذه الأبيات:
قصي الدار في أسر الغرام ... أليم القلب من وقع الملام
يضاهي دمعه دمع الغوادي ... ويحكي شجوه شجو الحمام
وتذكره البدور سنا وجوه ... زهاها الحسن عن حمل اللثام
ترق له الرياح فتقتضيه ... إذا هبّت تحية مستهام
ولولا طاعة ملكت قيادي ... لأبلج في الذؤابة من عصام
لما آثرت بعدا عن حبيب ... تجرع بعده غصص الحمام
فأجابه أبو أمية:
ذخرنا البر من لطف النظام ... ومال برأينا سحر الكلام
وعندي للمطيع مطاع أمر ... يجرد للقاء ظبي اعتزام
الفقيه الإمام الحافظ أبو بكر ابن عطية
ذكر أنه حافظ الحديث النبوي، وضابط المسموع منه والمروي، وشيخ العلم وحامل رايته، والعارف بالأدب وروايته، طال عمره، وطار ذكره، وطاب نشره، وطاف في الآفاق نظمه ونثره. فمن شعره قوله يحذر من أهل الزمان:
كن يذئب صائد مستأنسا ... وإذا أبصرت إنسانا ففر
إنما الإنسان بحر ما له ... ساحل فاحذره إياك الغرر
واجعل الناس كشخص واحد ... ثم كن من ذلك الشخص حذر
وقوله في الزهد:
أيها المطرود عن باب الرضا ... كم يراك الله تلهو معرضا
كم إلى كم أنت في جهل الصبا ... قد مضى عمر الصبا وانقرضا
ثم إذا الليل دجت ظلمته ... واستلذ الجفن أن يغتمضا
فضع الخد على الأرض ونح ... واقرع السن على ما قد مضى
وقه في هذا المعنى:
قلبي يا قلبي المعنًّي ... كم أنا أدعى فلا أجيب
كم أتمادى على ضلال ... لا أرعوي لا ولا أنيب
ويلاه من سوء ما دهاني ... يتوب غيري ولا أتوب

وا أسفي كيف برء دائي ... داء كما شاءه الطبيب
لو كنت أدنو لكدت أشكو ... ما أنا من بابه قريب
أبعدني منه سوء فعلي ... وهكذا يبعد المريب
ما لي قدر وأي قدر ... لمن أحلت به الذنوب
وله في الزهد أيضاً:
لا تجعلن رمضان شهر فكاهة ... تلهيك فيه من القبيح فنونه
واعلم بأنك لا تنال قبوله ... حتى تكون تصومه وتصونه
وله في المعنى:
إذا لم يكن في السمع مني تصاون ... وفي بصري غضّ وفي مقولي صمت
فحظي إذن من صومي الجوع والظما ... وإن قلت إني صمت يومي، فما صمت
وله يعاتب بعض إخوانه:
وكنت أظن أن جبال رضوى ... تزول وأنّ ودك لا يزول
ولكن الأمور لها اضطراب ... وأحوال ابن آدم تستحيل
فإن يك بيننا وصل جميل ... وإلا فليكن صبر جميل
وله:
كيف السلو ولي حبيب هاجر ... قاسي الفؤاد يسومني تعذيبا
لما درى أن الخيال مواصلي ... جعل السهاد على الجفون رقيبا

ابنه الوزير الفقيه الحافظ القاضي أبو محمد
عبد الحق ابن عطية
قرظه بأنه فرع أصل العلاء، ونبع دوح الذكاء، وهو في كل علم علم، وله في كل معرفة يد وقدم. وأورد من نظمه المستجاد ما يتضوع كباء، ويتضوح ذكاء، فمن ذلك قوله من قصيدة:
وليلة جبت فيها الجزع مرتديا ... بالسيف أسحب أذيالا من الظلم
والنجم حيران في بحر الدجى غرق ... والبرق فوق رداء الليل كالعلم
كأنما الليل زنجي بكاهله ... جرح فيثعب أحيانا له بدم
وله يتخلق بأخلاق الشيب قبل المشيب من قطعة:
سقيا لعهد شباب ظلت أمرح في ... ريعانه وليالي العيش أسحار
ايام روض الصبا لم تذو أغصنه ... ورونق العمر غض والهوى جار
والنفس تركض من تضمير شرتها ... طرفا له في رهان الفتك إحضار
عهدا كريما لبسنا منه أردية ... كانت عيونا ومحت وهي آثار
مضى وأبقى بقلبي منه نار أسى ... كوني سلاما وبردا فيه يا نار
وله في الأمير عبد الله ابن مزدلي وقد قفل منصورا في بعض غزواته:
ضاءت بنور إيابك الأيام ... فاعتز تحت لوائك الإسلام
أما الجميع ففي أعم مسرة ... لما انجلى بظهورك الاظلام
ومنها:
كم صدمة لك في العدى مشهورة ... غصّ العراق بذكرها والشام
في مأزق فيه الأسنة والظبي ... برق ونقع العاديات غمام
والضرب قد صبغ النصول كأنما ... يجري على ماء الحديد ضرام
والطعن يبتعث النجيع كأنما ... ينشق عن زهر الشقيق كمام
وله يصف روضا ونرجسا غضا:
نرجس باكرت منه روضة ... لذّ قطع الروض فيها وعذب
حثّت الريح بها خمر حيا ... رقص النبت لها ثم شرب
فغدا يسفر عن وجنته ... نوره الغض ويهتز طرب
خلت لمع الشمس في مشرقه ... لهبا يحمله منه لهب
وبياض الطل في صفرته ... نقط الفضّة في خط الذهب
ومن نثره:

فأول ما أقول في شكره الذي أفعم الأفق طيبا، وأسمع الصم خطيا واعتقادك في جهتي أن الوشاة أثنوا بالذي عابوا، وصافت سهامهم فما أصابوا، الغواة لا يتركون أديما صحيحا، ولا يدرون في المعالي رأيا رجيحا، بل يتسنمون إلى ذوائب الشرف بالأذى، ويطرقون المشارب الزرق الجمام بالقذى، فإن ألفوا مهزا، أوصادفوا الشفرة محزا، سدوا وألجموا وصرخوا بالغضاضة وهيمنوا، وأي حيلة فيمن يخلق مايقول، وإني بالخلاصة والسلامة من الناس شيء ما إليه سبيل، وما زلت مذ صحبت الأمجاد، وثافنت الحساد، أجعل هذه الأمور دبر الأذن، وأقنع لها بابلاء التجارب والفتن، علما بأن سري سيبينه اطراد الإعلان، وأن قول الغوي ستفضحه شواهد الامتحان، وبأواخر الأمور يقضى للأوائل، والله عز وجهه عند لسان كل قائل، ولو تتبعت كل وشاية بالتكذيب، وأجبت كل نعيق ونعيب، لما اتسع لغير ذلك العمر، ولا استراح من وساوسه الفكر، وعياذا أن يخفى الصواب بين عهدك الوفي، وظنك الألمعي، وتثبتك الشرعي، والله تعالى يعمر بالسؤدد ريعك، ويوسع بحمل أثقال المعالي وأعبائها ذرعك، ويجعل من كفايته ووقايته جنَّتَكَ من الزمن ودرعك.
وله من كتاب تعزيه إلى الأمير عبد الله ابن مزدلي بمصاب أخيه المستشهد: أدام الله تأييد الأمير الأجل محروسة بحسام القدر جوانبه، مكتنفة بجنن السعد مذاهبه، جارية مسرى الأنجم مراتبه، وأطال بقاءه، جابر صدوع الرئاسة عند انفصامها، وخلف سلف النفاسة وسطى نظامها، ولا زال توزن به الأوائل فيرجع، ويعارض بعزته بهيم النوائب فيصيح. كتبته من فؤاد دام، ودمع هام، ولب حائر، وقلب في جناحي طائر، ونفس يجري بذوبها النفس، ولا تفيق إلا ريثما تنتكس، بهذا الطارق المطرق، والنبأ المغص المشرق، والضارب بين مفرق الإسلام وجبينه، والمغيل في غيل الملك وعرينه، مصاب أخيك سقى الله ثراه، وضوأ بأنوار الشهادة أفقه وذراه، وبرد له بنوافح الرحمة مضجعا، وأزجى إليه الغوادي مربعا ثم مربعا، هلال ملك بادره السرار عند إبداره، ودوح مجد هصرته المنون أوان إثماره، حين مالت به الرئاسة كما اهتز الغصن تحت البارح، وافتر بابه عن شباة القارح، فإنا لله وإنا إليه راجعون تسليما فيه للقضاء المصمم، وتأسفا منه على فرد يفدي بالخميس العرمرم، ولله دره حين التقت عليه الفوارس وحمى الوطيس واشتد التداعس، وعظم المطلوب فقل المساعد، وهب من سيفه مولى نصله لا يجارد، فرأى المنية، ولا الدنية، وجرع الحمام، ولا النجاء برأس طمرة ولجام، فشمر عن أكرم ساعد وبنان، وقضى حق المهند والسنان، ولبس قلبه فوق درعه، ولم يضق بالجلاد رحيب ذرعه.
وأثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت أخمصك الحشر
ومضى وقد وقع على الله أجره، ورفع في عليين ذكره، وخلد في ديوان الشهادة فخره ولا غرو أن عض الزمان في غارب، فالشر لا يحسب ضربة لازب، أو أناخ كلكله مرة، فالعيش طورا شماس وطورا غرة، ومثلك، دام أمرك من حلب الدهر أشطرا، وعرف الأيام بطونا وأظهرا، وخبر امتزاج النعم بالنوائب، وغني بفهم التجارب، يرغم بجميل الصبر أنف الحادث، ويفل بلامة الجلد جد الكارث، ويعلم أن الدهر وإن سر حينا فهمه ناصب، والدنيا إذا أخضر منها جانب جف جانب، فأنت أعلى الله يدك أثقف قناة، وأصلد صفاة، وأصلب على البري عودا، وأثقب مع الوري زنودا، من أن يضعضع الريب لهضبة عزمك ركنا، أو يعمر الخطب بساحة حلمك مغني، أو يقذف الدهر عليك بصرف، أو يبدع إلا بسجية وعرف لا يعتب الجازع الزمن، ولا يرد الفائت الحزن، والله عز وجل يلم بسعدك الشعث ويرأب الشعب، ويضفي من رئاستك الذوائب ويعلي الكعب، ويذيق الذين يضاهونك هونك، ويجعل الذين يحسدونك دونك.
وله يصف فحما:
جعلوا القرى للقر فحما حالكا ... قدح الزناد به فأورى نارا
فبدا دبيب السقط في جنباته ... كالبرق في جنح الظلام أنارا
ثم انبرى لهبا وثار كأنه ... في الحرق ذو حرق يطالب ثارا
فكأنه ليل تفجر فجره ... نهرا فكان على المقام نهارا
وله في الوداع:
أستودع الله من ودعته ويدي ... على فؤادي خوفا من تصدّعه
بدر من الود حازته مغاربه ... فالنفس قد أشخصت طرفا لمطلعه

أتبعته بعد توديعي له نظرا ... إنسانه غرق في بحر أدمعه
ما أوجع البين في قلب الكريم غدا ... يفارق المجد في ثوبي مودّعه
يذيقه البين تعذيبا ويمنعه ... من أن يطير شعاعا أسر أضلعه
يسطو به البين مغلوبا فليس سوى ... تململ في فراش من تفجعه
وله يصف الزمان وأهله:
داء الزمان وأهله ... داء يعزّ له العلاج
أطلعت في ظلماته ... ودّا كما سطع السراج
لصحابة أعيا ثقا ... في من قناتهم اعوجاج
كالدر ما لم تختبر ... فإذا اختبرت فهم زجاج
ومن مكاتبة له: لا زال منهلّ سحاب العدل، ممتدّ أطناب الظل، مخضر جوانب الفضل، لا يقرع باب أمل إلا ولجه، ولا يعن لما تكره النفوس من أمر إلا فرّجه. كتبته عن منبر ودك الذي لا تخبو ناره، ولا تأفل عندي شموسه وأقماره، ونظير عهدك الذي لا يخلع لبسة الكرم، ولا يزداد إلا طيبا على القدم، وعطر حمدك الذي بنوافجه أحاور وأحاضر، وبمحاسنه أباهي وأكاثر، والله تعالى يملأ بمحامدك أسماعا ويطلق ألسنا، ويبقيك للفضل عينا كريمة وأثرا حسنا، ويديم ما بيننا في ذاته زكي الفروع ثابت الأصول حصين الشّكّة مرهف النصول. ورد كتابك الكريم روضة الحزن، غب المزن، وحديقة الزهر، تبسمت لوفد المطر، تتجارى إلى محاسنه العين والنفس، ويترقرق من خلاله الأنس، فانتهيت منه إلى ما ما يقتضي رضى وتسليما، ويسر كما سمي اللديع سليما أطل عليهم إطلال الفجر على الظلام، وأخذ هنالك بضبع الإسلام، وأقام مرة كالحية النضناض، وطورا كالأسد القضقاض، يسرب إلى محلتهم من يضرم نار الحرب في أكنافها، ويأتي أرضهم ينقضها من أطرافها، ولولاه ما علا هنالك للإسلام اسم، ولا حيي للمدافعة رسم ولا لاح للمكافحة وسم، ولا عنّ لتلك العلل المجهولة على تلك الأقطار جسم، ولكنه ركب صعب الأهوال وصدق الصيال، وهي أقطار أن لم تقم القوة منها ميلا وجنفا، ويستعمل الجد لها نظرا أنفا، وإلا فعقدها بمدرج نثار، وهي في طريق انتكاث وعثار، والله يكفي المسلمين فيها، وينعم عليهم بتلافيها.

الوزير الفقيه الحسيب المشاور القاضي
أبو الحسن ابن أضحى
وصفه بالنسب المضي، والحسب الرضي، والشرف الباذخ، والعلم الراسخ، والحلم الراجح، والعلم الصالح، والمحتد القديم، والعنصر الكريم، والمعشر الأكابر، الموروث مجد أوائلهم للأواخر، إن سخا فالغيث، أو سطا فالليث، له الوقار والسكينة واللبث، وفي المعالي الإسراع وعن الدنايا الإبطاء والمكث، قال: وبما أحليه وعنه تقصر الحلي، وبه يتزين الدهر ويتحلى، ما عرفت له صبوة، ولا حلّت له في محظور حبوة، وقد تولى القضاء وحكم بالعدل، وأتى بالخطاب الفصل. ومن شعره المعتدل المزاج، المشتعل السراج، العذب المجاج، الرحب الفجاج، قوله في جواب شفيق رفيع:
ومستشفع عندي بخير الورى عندي ... وأولاهم بالشكر مني وبالحمد
وصلت فلما لم أقم بجزائه ... لففت له رأسي حياء من المجد
قال صاحب قلائد العقيان: كان لصاحب البلد الذي تولى القضاء به ابن من أحسن الناس صورة، وكانت محاسن الأقوال والأفعال عليه مقصورة فكتبت إلى القاضي فيه مداعبا له فراجعني بهذه القطعة:
أتتني أبا نصر نتيجة خاطر ... سريع كرجع الطرف في الخطرات
فأعربت عن وجد كمين طويته ... بأهيف طاو فاتر اللحظات
غزال أحم المقلتين عرفته ... بخيف مني للحين أو عرفات
رماك فأصمى والقلوب رمية ... لكل كحيل الطرف ذي فتكات
فظن بأنّ القلب منك محصب ... فلباك من عينيه بالجمرات
تقرب بالنساك من كلّ منسك ... وضحى غداة النحر بالمهجات
وكانت له جيان مثوى فأصحبت ... ضلوعك مثواه بكلّ فلاة
يعز علينا أن تهيم فتنطوي ... كئيبا على الأشجان والزفرات
فلو قبلت للناس في الحب فدية ... فديناك بالأموال والبشرات
وله:
يا ساكن القلب رفقاكم تقطّعه ... الله في منزل قد ظلّ مثواكا

يشيّد الناس للتحصين منزلهم ... وأنت تهدمه بالعنف عيناكا
والله والله ما حبي لفاحشة ... أعاذني الله من هذا وعافاكا
وله يتوجع من الفراق ويصف الوداع:
أزف الفراق وفي الفؤاد كلوم ... ودنا الترحل والحمام يحوم
قل للأحبة كيف أنعم بعدكم ... وأنا أسافر والفؤاد مقيم
قالوا الوداع يهيج منك صبابة ... ويثير ما هو في الهوى مكتوم
قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة ... ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم
وله إلى الأمير عبد الله ابن مزدلي من قطعة:
يا أيها الملك مضمون لك الظفر ... أبشر فمن جندك التأييد والقدر
ومنها:
وقد طلعت على البيضاء من كثب ... كما تطلّع من جنح الدجى القمر
حللت في أرضنا في جحفل لجب ... كما يحل بها في الأزمة المطر
وحولك الصيد من لمتونة وهم ال ... أبطال يوم الوغى والأنجم الزهر
والعرب ترفل فوق الغرب سابحة ... كالأسد ليس لها إلا القنا ظفر
من كل أروع وضّاع عمامته ... كالبدر نحو لقاء البدر يبتدر
شعراه البر والتقوى ومؤنسه ... في ليله رمحه والصارم الذكر
ذؤابة المجد من قحطان كلهم ... أبوهم حمير ذو المجد أو مضر

الفقيه الكاتب أبو عبد الله اللوشي
وصفه بالشيمة المشيمة منها بارقة الوفاء، والسريرة المديمة له بحسن السيرة ديمة الصفاء، والفضل المحتوية عليه أثوابه، والنبل المنتمية إليه آدابه، ووصمه بعد ذلك بالخلق الحرج، والعطن الضيق اللجج،وأورد من نظمه ونثره، ما يعرب عن رفعة قدره، فمن ذلك من قطعة راجع بها أبا القاسم ابن السقاط:
لله أبيات أتتنا خمسة ... مثل الفرند نظمن نظم الجوهر
جمعت من السحر الحلال محاسنا ... من كل معنى رائق مستندر
سوَّى وشيعتها لسان حائك ... ووشى سداها خاطر كالسمهري
فأتت حبيبا أن يفوه بمثلها ... وأتت بما يزري بنبل البحتري
فالبس هنيئا برد مجد سابغ ... واسحب ذيولك زاهيا وتبختر
وله من رسالة إلى الفقيه عبد الحق ابن عطية: أطال الله بقاءك مخدوما بأيدي الأقدار، معصوما من عوادي الليل والنهار، مكتنفا من لطائف الله الخفية، وعوارف صنائعه الحفية، بما يدفع عن حوزتك نوائب الخطوب، ويصنع لك في طي المكروه نهاية المحبوب، لله تعالى أقدار لا يتجاوز مداها، وأحكام لا تخطئ مراميها ولا تتخطاها، وآثار يحلها المرء ويغشاها، ولهذا من كتبت عليه خطى مشاها، غير أنه قد يخير الله لعبده في الأمر المكروه، ويلبسه في أثناء المحنة ثوبا من المنحة لا يسروه، فمن الحزامة لمن تحقق بالأيام ومعرفتها، وعلم صروف الليالي بكنه صفتها، أن يضحى عند الخطوب شهما يواثبه، ولا يتوقى ظهر ما هو راكبه، إذ لا محالة أن العيش ألوان، وأن حرب الزمان عوان، وحتم أن يستشعر الصبر والجلد مناوي الرجال، ويقرر في نفسه أن الأيام دول وأن الحرب سجال، ويعتقد أ، ما يعرضه في خلال النضال من زخز الكفاح، ويعترضه بمجال الرجال من حفز الرماح، غمار يقلع، وغبار يقشع، لا سيما إذا كان الذي أصابه جرح أشواه، وسهم غرب صاف عن المقتل إلى سواه، ثم أجلت الحرب عن قرنه ترب الجبين، شرقاً بدم الوتين، وقد اربت لذة غلبه، وفرحة منقلبه، على ما غاله من وصبه، وناله من تجشم نصبه، وراح بعزة الظفر، وهزة بلوغ الأمل وقضاء الوطر وأيم الله يا سيدي تكدر بعدك المحيا، ونغص فراقك الدنيا، واقشعرت بعدك النعمى، وأصبح طرف لا أراك به أعمى، إلى أن وافى راجلك بشيرا، فاغتديت جذلا وارتددت بصيرا، وقلت عودة من الزمان، وعطفة من درك الآمال والأمان، فالحمد لله الذي وهب هذه المسرة بتمامها، وأطلق النفس من عقلة اغتمامها، والشكر له على ما من به من إيابك، وأنعم فيه من فيئتك واقترابك، فإنها النعمة المالكة خلدي، المالئة لساني ويدي، التي هي أحلى من الأمان، وأسنى من كرة العمر وعودة الزمان.
الفقيه الحافظ القاضي أبو الفضل عياض بن موسى
ابن عياض

توفي بفاس سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. وصفه بالاعتناء بعلوم الشريعة، واختصاصه برتبتها الرفعية، والانتباه للنباهة، والاتجاه للوجاهة، وكان كبير الشان، غزير البيان، وأورد من نثره رقعة ذكر أنه كتبها على يدي تحية للرئيس أبي عبد الرحمن ابن طاهر وهي: عمادي أبا نصر، مثنى الوزارة وحيد العصر، هل لك في منة تفوت الحصر، تخف محملا، وتبلغ أملا، وتشكر قولا وعملا، شكرا تترنم به الحداة ثقيلاً ورملا، إذا بلغت الحضرة مسلما، ولقيت الطاهر ابن الطاهر فخر الوزارة مسلما، وحللت من فنائه الأرحب حرما، ولمست بمصافحته ركن المجد يندي كرما، فقف شوقي بعرفات تلك المعارف، وأنسك شكري بمشاعر تلك العوارف، وأطف إكباري بكعبة ذلك الجلال سبعا، وبوئي لودادي في مقر ذاك الكمال ربعا، وأبلغ عني تلك الفضائل سلاما، يلتئم بصريح الحب التئاما، ويحسن عني بظهر الغيب مقاما، ويسير عني بارح الجد إنجادا وإتهاما.
وله إليه:
أبا النصر إن شدّوا رحالك للنوى ... فإن جميل الصبر عنك بها شدّوا
وإن تتركوا قلبي مقيما وترحلوا ... فماذا ترى في مهجة معكم تغدو
ومن شعره قوله:
عسى تعرف العلياء ذنبي إلى الدهر ... فأبدي له جهد اعترافي أو عذري
فقد حال ما بيني وبين أحبة ... ألفتهم إلف الخمائل للقطر
هم أودعوا قلبي تباريح لوعة ... بنانهم أذكى وأنكى من الجمر
على أن لي سلوى بأنّ فراقهم ... فإن طال لم يمزج بصد ولا هجر
سأفزع للريح الشمال لعلّني ... أحمّلها نجوى تلجلج في صدري
تبلغ منها للوزير تحية ... معطرة الأرجاء دائمة النشر
تظلله من حر كل هجيرة ... وتؤنسه في وحشة البلد القفر
وتنبئه أني أكنّ صبابة ... لحسن بدا في غير شعر ولا شعر
أهزّ بها عطفيّ من غير نشوة ... وأرخي بها ذيلا من التيه والكبر
وإني أشدو في النّوادي بذكره ... كما شدت الورقاء في الغصن النضر
أجل، وعساها أن تبلغ مهجتي ... فأبلي بها عذري وأقضي بها نذري
وله في زروع بينها شقائق النعمان:
أنظر إلى الزرع وخاماته ... تحكي وقد هبت عليها الرياح
كتيبة خضراء مهزومة ... شقائق النعمان فيها جراح
وله عند ارتحاله من قرطبة، أنشدني الفقيه اليسع بمصر قال أنشدني القاضي عياض لنفسه:
أقول وقد جدّ ارتحالي وغرّدت ... حداتي وزمًّت للفراق ركائبي
وقد غمضت من كثرة الدمع مقلتي ... وصارت هواء من فؤادي ترائبي
ولم تبق إلا وقفة يستحثها ... وداعيَ للأحباب لا للحبائب
رعى الله جيرانا بقرطبة العلى ... وجاد رباها بالعهاد السواكب
وحيَّا زمانا بينهم قد ألفته ... طليق المحيا مستلان الجوانب
أإخواننا بالله فيها تذكروا ... معاهد جار أو مودّة صاحب
غدوت بهم من برّهم واحتفائهم ... كأني في أهلي وبين أقاربي
وله في لزوم ما لا يلزم المتشابه:
إذا ما نشرت بساط انبساط ... فعنه فديتك فاطو المزاحا
فإنّ المزاح كما قد حكى ... أو لو العلم قبل عن العلم زاحا
أي بعد. قال صاحب قلائد العقيان: خرجنا لنزهة فلما انصرفنا أصاب غفارتي شوك شقّها فلما وصلت موضعي أمر ببعثها إليه فتأخرت وحضرت الجمعة فكتبت إليه معاتبا في توقفها: قد بقيت أعزك الله كالأسير، ولقيت التوحش بجناح كسير، إن أردت النهوض لم تنهض، وليت من لا يريش لم يهض، وقد غدوت من المقام، في مثل السقام، فلتأمر من يردها، لعلي أحضر الصلاة وأشهدها، لا زلت سريا، تطلق من يد الوحشة محبوسا بريا.
قال، فكتب في جوابه:

أدام الله يا وليي جلالك، وأبقى حليا في جيد الدهر خلالك، الغفار عند من ينر فيها، وقد بلغت غير مضيع تلافيها، ونرجو تمامها قبل الصلاة وإدراكها، وتصل مع رسولي وكأنما قد شراكها، وإن عاق عائق، فليس مع صحى الود مضائق، والعوض رائق لائق، وهو واصل، وأنت بقبوله مواصل، والسلام ما ذر شارق، وأومض بارق.
ومن شعره:
لك الخير ندي لهذا الودا ... ع عقل يهيم وعقل يراع
يعز علينا تنائي الديار ... وذاك سلامك لي والوداع
لكم أمل كان لي في اللقاء ... وأمنية قد طواها الزماع
فلم أجن منها سوى حسرة ... فوجد جميع وأنس شعاع
لئن حمل القلب ما لا يطاق ... فما كلف الجفن لا يستطاع

الفقيه القاضي أبو الحسن ابن بياع
ذكر أنه صاحب وقار وسكون، وروضة أزهار وعيون، ودوحة أفنان وفنون، وبحر علم علت قيمة درره، وهطلت ديمة غرره، رواية شعر العرب ورجزها، والعارف بمطول المعاني وموجزها، وله في الطب يد حاذق، ومعرفة موفق موافق، وأورد من شعره قوله في صفة الربيع:
أبدت لنا الأيام زهرة طيبها ... وتسربلت بنضيرها وعشيبها
واهتزّ عطف الدهر بعد خشوعها ... وبدت بها النعماء بعد شحوبها
وتطلعت في عنفوان شبابها ... من بعد ما بلغت عتيَّ مشيبها
وقفت عليه السحب وقفة راحم ... فبكت لها بعيونها وقلوبها
فعجبت للأزهار كيف تضاحكت ... ببكائها وتباشرت بقطوبها
وتسربلت حللا تجر ذيولها ... من لَدْمها فيها وشق جيوبها
ولقد أجاد المزن في إنجادها ... وأجاد حر الشمس في تربيبها
ما أنصف الخيري يمنع طيبه ... لحضورها ويبيحه لمغيبها
وهي التي قامت عليه بدفئها ... وتعاهدته بدرها وحليبها
فكأنّه فرض عليه موقت ... ووجوبه متعلق بوجوبها
وعلى سماء الياسمين كواكب ... أبدت ذكاء العجز عن تغيبها
زهر توقد ليلها ونهارها ... وتفوت شأو خسوفها وغروبها
فضلت على سير النجوم بسيرها ... وسروِّها ف الخلفتين وطيبها
فتأرّجت أرجاؤها بهبوبها ... وتعانقت أزهارها بنكوبها
وتصوبت فيها فروع جداول ... تتصاعد الأبصار في تصويبها
تطفو وترسب في أصول ثمارها ... والحسن بين طفوّها ورسوبها
فكأنما هي موحشات أساود ... تنساب بين نقابها ولصوبها
فأدر كؤوس الأنس في حافاتها ... واجعل سديد القول في مشروبها
فحديث إخوان الصفاء لذاذة ... تجنى ويؤمن من حمالة حوبها
واركض إلى اللذات في ميدانها ... واسبق لسد ثغورها ودروبها
أعريت خيلك صيفها وخريفها ... وشتاءها هذا أوان ركوبها
أو ما ترى الأزهار ما من زهرة ... إلا وقد ركبت فقار قيبها
والطير قد خفقت على أفنانها ... تلقي فنون الشدو في أسلوبها
تشدو وتهتز الغصون كأنما ... حركاتها رقص على تطريبها
وله في فتح:
كذا تصان السيوف في الخلل ... ويفخر الحظ بالقنا الذيل
وتكرم الخيل في مرابطها ... بر الفتاة العَرُوب بالرجل
ويعطف النبع كالحواجب أو ... أحنى وتُمقى السهام كالمقل
ويؤثر النثرة الكمي إذا ... خير بين الدروع والحلل
فتح أنارت له البلاد كما ... أشرفت المقربات للنهل
هدّت له الروم هدة ملأت ... قلوب أبطالهم من الوجل
فما أطاقوا الولوج في نفق ... وما أطاقوا الصعود في جبل
ألقوا بأديهم فلا سبب ... يفرق بين القناة والبطل
فمجرءى الأسد في مرابضها ... كمجرئ الغانيات في الكلل
وربما لم تقم مناصلها ... مقام تلك اللواحظ النجل

تغامسوا في الدروع زاخرة ... كي يسلموا من حرارة الأسل
فما أفادتهم الدروع سوى ال ... نقلة من خفّة إلى ثقل
كأنّهم والرماح تحفزهم ... جري فِصَالٍ سلكن في الوحل
جاءوا بها زغفا مضاعفة ... قد أخلصت بالحديد والعمل
مثل عيون الدبا فصيرها ... دم وطعن كأعين الحجل
هناك سل بالوزير من شهد ال ... حرب وإن كنت شاهدا فقل
ولا تخف إن حكيت مغربة ... عنه مقام المكذّب الخطل
فإنه الأوحد الذي ترك ال ... هر بلا مشبه ولا مثل
حدِّث بما شئت عنه من حسن ... وعظّم الأمر ثم لا تسَل
ففضله يبهر الأهلّة في ... سعودها والشموس في الحمل
وذكر أنه كتب إليه مراجعا من قصيدة:
هوى منجد يلقى به الليل متهم ... يصرّح عنه الدمع وهو مجمجم
ومنها:
لأجفانه من كل شيء مؤرق ... ومن أين للمشتاق شيء ينوم
وليس الهوى ما الرّأي عنه مزحزح ... ولكنه ما الرأي فيه مفخم
ومنها:
ولولا أبو نصر ولذّات أنسه ... تقضَّت حياتي كلها وهي علقم
فتى فتح الله المعارف باسمه ... ومن دونه باب من الجهل مبهم
وقوله:
أرى بارقا بالأبلق الفرد يومض ... يذهِّب جلباب الدجى ويفضِّض
كأن سليمى من أعاليه أشرفت ... تمد لنا كفا خضيبا وتقبض
إذا ما توالى ومضه نفض الدجى ... له صبغة المسودِّ أو كاد ينفض
أرقت له والقلب يهفو هفوّه ... على أنّه منه أحرّ وأرمض
وبت أداري الشوق والشوق مقبل ... عليَّ وأدعو الصبر والصبر معرض
وأستنجد الدمع الأبيًّ قياده ... فتنجدني منه جداول فيّض
وأعذل قلبا لا يزال يروعه ... سنا النار يستشري أو البرق يومض
تظنهما ثغر الحبيب وخدّه ... فذا ضاحك منه وذا متعرّض
إذا بلغت منك الخيالات ما أرى ... فأنت لماذا بالشخوص معرض
إلى أن تعرّى عن سنا الصبح سدفة ... كما انشق عن صفح من الماء عرمض
ومدت إلى الغرب النجوم مروعة ... كما نفرت عير من السيل ركَّض
وأدركها من فجأة الصبح بهتة ... فتحسبها فيه عيونا تمرّض
كأن الثريا والغروب يحثها ... لجام على رأس الدجى وهو يركض
وما تمتري في الهقعة العين أنها ... على عاتق الجوزاء قرط مفضض
ومنها في صفة الحرب:
سل الحرب عنه والسيوف جداول ... تدفَّق والأرماح رقط تنضنض
وبالأرض من وقع الجياد تمدد ... ولكنه مما يروم تقبض
وبالأفق للنقع المثار سحائب ... مواخض لكن بالصواعق تمخض
وقد سهكت تحت الحديد من الصدا ... جسوم بما علَّت من المسك ترحض
ومدّت إلى ورد الصدور عيونها ... صدور العوالي والعيون تغمض
وأشرفت البيض الرقاق إلى الطلى ... لتكرع فيها والرؤوس تخفض
فلست ترى إلا دماء مراقة ... تخاض إلى أكباد قوم تخضخض
وقوله من أخرى:
جهلت وقد علاك الشيب أمرا ... يقوم بعلمه الطفل الرضيع
ولولا ذاك ما قدرت أني ... أنوء بحمل ما لا أستطيع
فحسبك أو فحسبي منك دهر ... يشت بصرفه الشمل الجميع
وشوق تقتضيه نوى شطون ... فتقضي عنه واجبها الدموع
حملت الحب مؤتما عليه ... فكيف تضيع ذلك أو تذيع
لقد جشمت نفسك متلفات ... بكل ثنية منها صريع
وحال الصب تخضبه دموع ... كحال القرن يخضبه النجيع
وقد تحمي الدروع من العوالي ... ولا تحمي من الحدق الدروع

وربّ فتى تراع الأسد منه ... يقنِّص قلبه الرشأ المروع
وقوله:
لهواك في قلبي كريقك في فمي ... غيري يقول: الحب مر المطعم
فأدر علي بمقلتيك كؤوسه ... حتى يدبّ خماره في أعظمي
إن التلذذ في هواك تلذذ ... لو كان أقتل من ذعاف الأرقم
أحبب بحب لا يثير ملامة ... ملئت بمؤلمه عيون اللوم
شغل النواظر والقلوب ولم يدع ... من لم يسمْه من الأنام بميسم
ومن العجائب شغل شيء واحد ... في الحال أمكنه ولم يتقسم
وأقام أزمنة وليس بجوهر ... وجرى وليس بمائع مجرى الدم
يا أيها القمر الذي إنسانه ... يرمي أناسا للعيون بأسهم
لم أبد حبك غير أنّ جوانحي ... فاضت به فيض الإناء المفعم
لا ذنب لي، علم الذي أسررته ... نظرا ولم أرمق ولم أتكلم
وأمرت بالشكوى إليك وإنما ... ينمي إلى الإنسان ما لم يعلم
ولربما لم تشكني فأماتني ... يأسي فذرني تحت أمر مبهم
وتلافني قبل التلاف فإنني ... من حمير وسيأخذونك في دمي
الطاعنين بكل أسمر داعس ... والضاربين بكلّ أبيض مخذم
والواردين الصادرين إذا الوغى ... لفحت بجمرتها وجوه الحوم
ولعلهم تسمو بهم هماتهم ... أن يدركوا في الظبي ثأر الضيغم
وزاره نفر من إخوانه فقال فيهم عند تلقيهم بإحسانه:
أهلا وسهلا بكم من سادة نجب ... كالذبل السمر أو كالأنجم الشهب
أجملتم وتفضلتم بزورتكم ... وليس ينكر فضل من ذوي الحسب
أضاء منزلنا من نور أوجهكم ... وطاب من عيشنا ما كان لم يطب

الأديب أبو جعفر الأعمى التطيلي
وصفه بالفهم الفائض، والذهن الدّرّاك لخفيات الغوامض، والبصيرة بأسرار المعاني بعين الإطلاع، والفكرة المستخرجة من معادن الفوائد فرائد الجواهر بيد الاضطلاع. إن فقد المرئيات لفقد ناظره، فقد أبصر مغيبات النكت بناظر خاطره، لم يفز حيا نجحه بالهطول، ولم تعز حياته بالطول، وقد أثبت له كل ما يعجب ويطرب، ويحظى به المستحلي له المستعذب. فمن ذلك قصيدة رثى بها بعض أعيان إشبيلية وقد اغتيل، ولم ير بعده إلا على عويله التعويل، فإنه كان له مفتقدا، وفي فضله معتقدا، وهي من سياراته التي بها الآفاق طنت، وارتاحت أسماع الرفاق إليها وحنت:
خذا حدّثاني عن فُلٍ وفلان ... لعلَّ يرى باق على الحدثان
وعن دول جسن الديار وأهلها ... فنين وصرف الدهر ليس بفان
وعن خرمي مصر الغداة أمُتِّعَا ... بشرخ شباب أم هما هَرِمَان
وعن مخلتي حلوان كيف تناءتا ... ولم تطويا كشحا على شنآن
وطال ثواء الفرقدي بغبطة ... أما علما أن سوف يفترقان
وزايل بين الشعريين تصرّف ... من الدهر لا وانٍ ولا متوان
وإن تذهب الشعرى العبور لشأنها ... فإن الغظُمَيْضا في بقية شان
وجنّ سهيل بالثرايا جنونه ... ولكن سلاه كيف يلتقيان
وهيهات من جور القضاء وعدله ... شآمية ألوت بدين يمان
فأجمع عنها آخر الدهر سلوة ... على طمع خلاّة للدبران
وأعلن صرف الدهر لابنَيْ نُويرة ... بيوم ثناء غال كلّ تداني
وكانا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر لو لم تنصرم لأوان
وهان دم بين الدّكادك واللِّوى ... وما كان في أمثالها بمهان
فضاعت دموع بات يبعثها أسىً ... يهيِّجه قبر بكلّ مكَان
ومال على عبس وذبيان ميلة ... فأودى بمجني عليه وجان
فعوجا على جفر الهباءة عوجة ... لضيعة أعلاق هناك ثماني

دماء جرت منها التلاع بملئها ... ولا دخل إلا أن جرى فرسان
وأيام حرب لا ينادي وليدها ... أهاب بها في الحرب يوم رهان
فبات ربيع والكلاب تهرَّه ... ولا مثل مود من وراء عُمان
وأنحى على ابني وائل فتهاصرا ... غصون الردى من كرّة ولدان
تعاطى كليب فاستمر بطعنة ... أقامت لها الأبطال سوق طعان
وبات عديٌّ بالذنائب يصطلي ... بنار وغى ليست بذات دخان
فذلت رقاب من رجال أعزّة ... إليهم تناهى عزّ كل مكان
وهبوا يلاقون الصوارم والقنا ... بكل جبين واضح ولبان
فلا خدّ إلا فيه خَدّ مهند ولا صدر إلا فيه صدر سنان
وصال على الجونين بالشعب فانثنى ... بأسلاب مطلول وربقة عان
وأمضى على أبناء قيلة حكمه ... على شرس أدلوا به وليان
ولو شاء عدوان الزمان ولم يشأ ... لكان عذير الحي من عدوان
وأي قبيل لم يصدع جميعهم ... ببكر من الأرزاء أو بعوان
خليلي أبصرت الردى وسمعته ... فإن كنتما في مرية فسلاني
خُذَا من فمي هلا وسوف فإنني ... أرى بهما غير الذي تريان
ولا تعداني أن أعيش إلى غد ... لعل المنايا دون ما تعدان
أبا حسن ألق السلاح فإنها ... منايا وإن قال الجهول أماني
أبا حسن إن المنايا وقيتها ... إذا أتلفت لم تتبع بضمان
أبا حسن إحدى يديك رزئتها ... فهل لك بالصبر الجميل يدان
أبا حسن هل يدفع المرء حينّه ... بأيد شجاع أو بكيد جبان
أبا حسن أما أخوك فقد قضى ... فيا لهف نفسي ما التقى أخوان
ونبهني ناع مع الصبح كلما ... تشاغلت عنه عنّ لي وعناني
أغمِّض أجفاني كأني نائم ... وقد لجت الأحشاء في الخفقان
بنفسي وأهلي أي بدر دُجنّة ... لستّ خلت من شهره وثمان
وأي فتى لو جاءكم في سلاحه ... متى صلحت كف بغير بنان
يقولون لا تبعد ولله دره ... وقد حيل بين العير والنزوان
ويأبون إلا ليته ولعلّه ... ومن أين للمقصوص بالطيران
تَوَقَّوْهُ شيئا ثم كروا وجعجعوا ... بأروع فضفاض الرداء هجان
فتى كان يعروري الفيافيَ والدجى ... ذوات جماح أو ذوات حران
قليل حديث النفس عما يريبه ... وإن لم يزل من ظنه بمكان
أبيّ فإن يتبع رضاه فمصحب ... بعيد وإن يطلب جداه فدان
لك الله خوّفت العدى وأمنتهم ... فذقت الردى من خيفة وأمان
إذا أنت خوَّفت الرجال فخفهم ... فإنك لا تجزي هوى بهوان
رياح وهبها عارضتك عواصفا ... فكيف انثنى أو كان ركن أبان
بلى ربّ مشهور البلاء مشيع ... قتيل بمنخوب الفؤاد هدان
أتيحت لبسطام حَيدَة عاصم ... فخر كما خرت سحوق ليان
تداعت له أبيات بكر بن وائل ... ولم ترجعيه لا ظفرت بثان
وحسب المنايا أن تفوز بمثله ... كفاك ولو أبقيته لكفاني
سقاك كدمعي أو كجودك واكف ... من المزن بين السح والهملان
شآبيب غيث لا تزال ملثة ... بقبرك حتى يلتقي الثريان
أبا حسن وفّ اعتزاءك حقه ... فقد كنتما أرضعتما بلبان
تماسك قليلا لست أول مبتلى ... ببين حبيب أو بغدر زمان
وله يرثي:
سل دمعيَ المبذول من حيلة ... لي أو له من نوميَ الممنوع
وحنينيَ الموصول كيف تعرضت ... شبهاته لرجائيَ المقطوع
لا تركننّ إلى الزمان وصرفه ... فتك الزمان بآمن ومروع

يا وانيا يَأسى على ما فاته ... إن الونى طرف من التضييع
ومداجيا تخذ الخديعة جُنة ... ألا أنفت لرأيك المخدوع
دافع بعزمك أبو بجهدك إنها ... عزمات حكم ليس بالمدفوع
وانظر بعينك أو بقلبك هل ترى ... إلا صريعا أو مثال صريع
أبني عبيد الله أين سراتكم ... من عاثر بعنانه المخلوع
دهر كأن صروفه قد جمعت ... من نثر منتظم وشتّ جميع
يهْنِ البقيع وليته لم يَهَنِهِ ... قبر غدا شرفا بكلّ بقيع
ومنها:
وإذا عجبت من الزمان بحادث ... فلتابع يبكي على متبوع
وإذا اعتبرت العمر فهو ظلامة ... والموت منها موضع التوقيع
وله في المعنى:
السوم حين لففت المجد في كفن ... نفسي الفداء على أن لات حين فدا
يا حسرة ملأت بين الضلوع جوى ... ما ضر لاعجها أن لا يكون ردى
في ذمة الله قبر ما مررت به ... إلا اختبلت أسى أن لم أمت كمدا
أودى الزمان وكيف اسطاعه بفتى ... قد طال ما راح في أتباعه وغدا
ملء القلوب جلالا والعيون سنا ... والحرب بأسا وأكناف النَّديّ ندى
من لا يقدم في غير العلى قدما ... ولا يمد لغير المكرمات يدا
كأنه كان ثأرا بات يطلبه ... حتّى رآه فلم يعدل به أحدا
يا يوم منعي عبيد الله أي جوي ... بين الجوانح يأبى أن يجيب نِدَا
وأي غرب مصاب لا يكفكفه ... دمعي الهتون ولا أنفاسي الصعدا
ولا البلابل من مثنى وواحدة ... باتت تسلّ سيوفا أو تسن مُدَى
ولا الهموم وقد أعيت طوارقها ... كأنّما بتن لي أو للدجى رصدا
قل للدجى وقد التفت غياهبها ... فلو تصوب فيها الماء ما اطردا
إن الشهاب الذي كنا نجوب به ... أجوازها قد خبا في الترب أو خمدا
لهفي ولهف المعالي جار بي وبها ... صرف الردى وأرانا أيَّةً قصدا
يا صاحبيَّ ولا يحبسكما ظمأ ... طال الحيام وهذي أدمعي فردا
وحدثاني عن العليا وقد رزئت ... مسنونها اللدن أو مصقولها الفردا
واه لها وترته ثم قد علمت ... أن لا تنال به عقلا ولا قودَا
هل نافع والأماني كلها خدع ... قولي له اليوم: لا تبْعُدْ وقد بعدا
وهل تذمم هذا الرزء من قلق ... قام المصاب به أضعاف ما قعدا
أما ويوم عبيد الله وهو أسى ... لقد تخير منا الموت وانتقدا
يا ماجدا أنجز العلياء موعده ... اليوم أنجز فيك الموت ما وعدا
إن الفؤاد الذي ما زلت تعمره ... قد ريع بعدك حتى صار مفْتَأدا
سل المنايا على علم وتجربة ... في أي شيء بغى الإنسان أو حسد
تنافس الناس في الدنيا وقد علموا ... أن سوف تقتلهم لذاتها بددا
تبادروها وقد آدتهم فشلا ... وكاثروها وقد أحصتهم عددا
قل للمحدث عن لقمان أو لُبَدٍ ... لم يترك الموت لقمانا ولا لُبَدَا
ولا الذي همّه البنيان يرفعه ... إن الردى لم يغادر في الشرى أسدا
ما لابن آدم لا تفنى مطالبه ... يرجو غدا وعسى أن لا يعيش غدا
وله يتغزل:
بحياة عصياني عليك عواذلي ... إن كانت القربات مما تنفع
هل تذكرين لياليا بتنا بها ... لا أنت باخلة ولا أنا أقنع
وله:
هو الهوى وقديما كنت أحذره ... والسقم مورده والموت مصدره
يا لوعة رجلا من نظرة أمل ... الآن أعرف رشدا كنت أنكره
جدّ من الشوق كان الهزل أوله ... أقل شيء إذا فكرت أكثره

ولي حبيب دنا لولا تمنعه ... وقد أقول نأى لولا تذكره
وله من قصيدة:
سطا أسدا وأشرق بدرتم ... ودارت بالحتوف رحى طحون
وأحدقت الرماح به فأعيا ... عليّ أهالة هي أم عين
وله:
مللت حمص وملّتني ولو نطقت ... كما نطقت تلاحينا على قدر
وسوّلت لي نفسي أن أفارقها ... والماء في المزن أصفى منه في الغدر
أما اشتفت مني الأيام في وطني ... حتى تضايق في ما عزَّ من وطري
ولا قضت من سواد العين حاجتها ... حتى تكر على ما كان في الشعر
وله يمدح أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين من قصيدة:
كم مقلة ذهبت في الغي مذهبها ... بنظرة هي شان أو لها شان
رهن بأضغاث أحلام إذا هجعت ... وربما حلمت والمرء يقظان
فانظر بعقلك إن العين كاذبة ... واسمع بحسك أن السمع خوّان
ولا تقل كل ذي عين له نظر ... إن الرعاة ترى ما لا ترى الضان
دع الغنى لرجال ينصبون له ... إن الغِنَى لفضول الهم ميدان
واخلع لبَوسَكَ من شُحّ ومن أمل ... لا يقطع السيف إلا وهو عريان
وصاحب لم أزل منه على خطر ... كأنّني علم غيب وهو حسان
أغراه حظ توخاه وأخطأني ... أما درى أن بعض الرزق حرمان
ومن مديحها:
إني استجرت على ريب الزمان فتى ... إن لا يكن ليث غاب فهو إنسان
حسبي بعليا عليّ معقلا أشبا ... زمان سربي به في الأمن إيمان
صعب المراقي ولكن ربما سهلت ... على المنى منه أوطار وأوطان
ومنها في صفة الخيل:
الواهب الخيل عقبانا مسوَّمة ... لو سوِّمت قبلها في الجوعقبان
من كل ساع أمام الريح يقدمها ... منه مهاة وإن شاءت فسرحان
دجنة نصف الأنوار غرتها ... ونبعة يدعي أعطافها البان
عصا جذيمة إلا ما أتيح لها ... من أمر موسى فجاءت وهي ثعبان
ومنها في صفة السيف:
هيم رواء لو أن الماء صافحها ... لزال أو زل عنها وهو ظمآن
يكاد يخلق مهراق الدماء بها ... فلا تقل هي أنصاب وأوثان
موتى فإن خلعت أكفانها علمت ... أن الدروع على الأبطال أكفان
نفسي فداؤك لا كفؤ ولا ثمن ... ولو غدا المشتري منها وكيوان
والتبر قد وزنوه بالحديد فما ... ساوى ولكن مقادير وأوزان

الوزير أبو العلاء ابن صهيب
وصفه بالاستيلاء في حلبة الذكاء على السباق، والاعتلاء على رتبة الأكفاء والاستحقاق، وإصابة سهم الفهم إلى المرئي الخفي، وإهداء هدى الفكر البكر من فضائل ذوي الفواضل إلى الكفؤ الكفي. وذكر أنه صحب أبا أمية وبه شقي، ولقي من الهوان عنده ما لقي، وائتلفا على مماذقة، وغير موافاة ولا موافقة، وزعم أن له فيه أهاجي لم ير إثباته وقد أورد من شعره في مدحه أبياته وهي:
ذكرت وقد نم الرياض بعرفه ... فأبدى جمان الطل في الزهر النضر
حديثا ومرأى للسعيد يروقني ... كما راق نور الشمس في صفحة الدهر
سريت وثوب الليل أسود حالك ... فشق بذاك السير عن غرة البدر
فلا أفق إلا من جبينك نوره ... ولا نقش إلا في أناملك العشر
حنانيك في بر النفوس لعلها ... تؤدي بلثم الكف عارفة البر
وعندي حديث من علاك علقته ... يسير كما سار النسيم على النهر
فيبلغ أقصى الأرض وهي عريضة ... ويهدي جَنِيّ النًّوْرِ من روضة الشعر
ففي كل أفق من حديثك عاطر ... يسير به لفظي ويطلعه فكري
ودونك مني قطعة الرّوض قطعة ... تحييك عن ودي وتنفح عن شكري
وله إلى ذي الوزارتين الكاتب أبي بكر ابن القصيرة:
كتبت على رسمي قبرّا بطالب ... رضاك وطولا من نهاك بأحرف

أبَاهي بها عبد الحميد براعة ... وأحملها حمل الغريب المصنف

الأديب أبو القاسم ابن العطار
ذكر أنه أحد نحاة إشبيلية وأدبائها وظرفائها، الخالعين العذار وألبائها، لا يقبل ملاما في مدام، ولا يقتل غراما في غلام، ولا ينهر هواه عن نهر، ولا يبهر إلا بمزهر وزهر. وقد أورد من شعره في ذلك ما يتقلد به لبات الرياض، وتنظر عن فتونه وفنونه في السحر فاترات العيون المراض، فمن ذلك في وصف نهر ركبه، حين استعذبه وأعجبه:
ركبنا على اسم الله نهرا كأنه ... حباب على عطفيه وشي حباب
وإلا حُسَامٌ جال فيه فرنده ... له من مديد الظل أي قراب
ول فيه:
عبرنا سماء النهر والجو مشرق ... وليس له إلا الحباب نجوم
وقد ألبسته الأيك برد ظلالها ... وللشمس في تلك البروج وجوم
وله فيه:
لله بهجة منزه ضربت به ... فوق الغدير رواقها الأنسام
فمع الأصيل النهر درع سابغ ... ومع الضحى يلتاح فيه حسام
وله فيه:
مررنا بشاطي النهر بين حدائق ... بها حدق الأزهار تستوقف الحدق
وقد نسجت كف النسيم مفاضة ... عليه وما غير الحباب لها حلق
وله فيه:
هبت الريح بالعشي فحاكت ... زردا للغدير ناهيك جنّه
وانجلى البدر بعدهدء فصاغت ... كفّه للقتال منه أسنّه
وله يصف عشية أنس:
لا كالعشية في رواء جمالها ... وبلوغ نفسي منتهى آمالها
ما شئت شمس الأرض مشرقة السنا ... والشمس قد شدت مطي رحالها
في حيث تنساب المياه أراقما ... وتعيرك الأفياء برد ظلالها
وله:
لله حسن حديقة بسطت لنا ... فيها النفوس سوالف ومعاطف
تختال في حلل الربيع وحليه ... ومن الربيع قلائد ومطارف
وله فيالغزل:
وسنان ما إن يزال عارضه ... يعطف قلبي بعطفة اللام
أسلمني للهوى فواحزنا ... إن بزّني عفّتي وإسلامي
لحاظه أسهم وحاجبه ... قوس وإنسان عينه رام
وله:
رقّت محاسنها ورقّ نعيمها ... فكأنّما ماء الحياة أديمها
رشأ إذا أهدى السلام بمقلة ... ولى بلب سليمها تسليمها
سكرى ولكن من مدامة لحظها ... واغضض جفونك فالمنون نديمها
وله:
الحب نسبح في أمواجه المهج ... لو مد كفا إلى الغرقى به الفرج
بحر الهوى غرقت فيه سواحله ... فهل سمعتم ببحر كله لجج
بين الردى والهوى في لحظه نسب ... هذي القلوب وهذي الأعين الدعج
دين الهوى حظّه عقل بلا كتب ... كما مسائله ليست لها حجج
لا العدل يدخل في سمع المشوق ولا ... شخص السلو على باب الهوى يلج
كأن عيني وقد سالت مدامعها ... بحر ييض ومن آماقها خلج
جار الزمان على أبنائه وكذا ... تغتال أعمارنا الآصال والدلج
بين الورى وصروف الدهر ملحمة ... وإنما الشيب في هاماتها رهج
وله:
بأبي غزال ساحر الأحداق ... مثل الغزالة في سنا الإشراق
شمس لها فوق الجيوب مشارق ... ومغارب بجوانح العشاق
نثر العقيق ونظم در رائق ... في مرشقيه وثغره البراق
عقد من السحر الحلال بلفظه ... وبها تحل معاقد الميثاق
هلا وقد مدّت إليه ضراعتي ... يدها تصافحها يد الاشفاق
ديَم الغمام برعدها وببرقها ... كاثرتها بسحائب الأشواق
ما أدمعي تنهل سحا إنما ... هي مهجتي سالت على الآماق
وله:
ألا يا نسيم الريح بلغ تحيتي ... فما لي إلى إلف سواك رسول
وقل لعليل الطررف عني بأنّني ... صحيح التصابي والفؤاد عليل
أينشر ما بيني وبينك في الهوى ... وسرك في طي الضلوع قتيل
وله:
هب النسيم مع العشي فشاقني ... إذ كان من جهة الحبيب هبوبه

وكأنه إذ هب من تلقائه ... عرف القرنفل والعبير يشوبه
قد كنت ودعت الصبا بوداعه ... وأخو الصبابة لا تفيق ندوبه
لو لم أجب داعي الهوى وعصيته ... لغدت جفوني بالدموع تجيبه
وله:
لا بد للدمع بعد الجري أن يقفا ... وهبك سال فؤادي عنده أسفا
وبي غزال إذا صادفت غرته ... جنيت من وجنتيه روضة أنفا
كالبدر مكتملا كالظبي ملتفتا ... والروض مبتسما والغصن منعطفا
ما همت فيه ولا هام الأنام به ... حتى غدا الدهر مشغوفا به كلفا
أيرتضي الفضل أن أطوى على حرق ... وفي مراشفه اللعس الشفاه شفا
ما صافح الروض كف المزن من مقة ... إلا أرتنا به من خطه صحفا
وله:
ما لي على سطوات الدهر من جلد ... ألقيت نحو تباريح الهوى بيدي
حلئت عن منهل السلوان في رشأ ... بجيده حلية من صنعة الغيد
مذ قادني طرفه للحين أعلمني ... أن العيون لها قتل بلا قود
وله في الوزير أبي حفص الهوزني وقد مات بنهر طلبيرة عند افتتاحها من قصيدة:
وفي كفه من مائع الهند جدول ... عليه لأرواح العداة تحوّم
بحيث الصّدَى بين الجوانح يلتظي ... ونار الوغى بالمشرفية تضرم
وما من قليب غير قلب مدجّج ... ولا شطن إلا الوشيج المقوّم
ووجه الضّحى من ساطع النقع كاسف ... بيوم له زرق الأسنة أنجم
ولما رأوا أن لا مقرّ لسيفه ... سوى هامهم لاذوا بأجرأ منهم
وكان من النهر المعين معينهم ... ومن ثلم السدّ الحسام المثلّم
فهلا ثنى عنه الردى في زلاله ... رداء برقراق الفقاقيع معلم
فيا عجبا للبحر غالته نطفة ... وللأسد الضرغام أردَاهُ أرقم
وله يتغزل:
ليل يعارضه الزمان بطوله ... ما لي به إلا الأسى من مسعد
نظّمت لؤلؤ أدمعي في جيده ... فكأنّها فيه نجوم الأسعد

الأديب الحاج أبو عامر ابن عيشون
وصفه بأنه أحيا لبوس البؤس والنعيم، ووجد تعب المسافر وراحة المقيم، فآونة كالنسر الطائر، وتارة النسر الواقع، وطورا في القصور، وبرهة في البلاقع، ومرة في غنى، وأخرى في فقر، وليلة في مغنى، ويوما في قفر، وذكر أنه رحل إلى المشرق فما أحمد الرحلة، ولا حصل منها النحلة، ودخل مصر في عهد الأفضل خاملا لا يعرف، وآملا لا يسعف، خالي الكيس، بادي الأخلال بالعذير والتنكيس، كاسيا من الإفلاس، عاريا من اللباس، قد بات ليله اتقد، وقد كاد يتلفه البرد، وكان قد دخل عليه ابن طوفان وهو مغنّي الأفضل وشم ريح حاله، وشام بارقة إمحاله، فاستدعى منه أن يعمل أبياته يلحنها، ويشدوها عند الأفضل لحسنها، فلعله يجد فرصة، ويجر إلى نار أمله من النجح قرصة، فعمل:
قل للملوك وإن كانت لهم همم ... تأوي إليها الأماني غير متئد
إذا وصلت بشاهنشاه لي سببا ... فلن أبالي بمن منهم نفضت يدي
من واجه الشمس لم يعدل بها قمرا ... يعشو إلى ضوئه لو كان ذا رمد
فلما كان من الغد، وافاه بخمسين دينار وكسوة، وذكر أنه غناه بالشعر فحل منه بقبول وحظوة. وله:
قصدت على أن الزيارة سنة ... يؤكّدها فرض من الودّ واجب
فألقيت بابا سهل الله إذنه ... ولكن عليه من عبوسك حاجب
مرضت ومرّضت الكلام تثاقلا ... علي إلى أن خلت أنك عاتب
فلا تتكلّف للعبوس مشقّة ... سأرضيك بالهجران إذ أنت غاضب
فما الأرض تدمير ولا أنت أهلها ... ولا الرزق إن أعرضت عني جانب
وله:
كتبت ولو وفّيت برك حقه ... لما اقتصرت كفى على رقم قرطاس
ونابت عن الخط الخطي وتبادرت ... فطورا على عيني وطورا على رأسي
سل الكأس عني هل أديرت فلم أصغ ... مديحك ألحانا يسوغ لها كاسي

وهل نافح الآس الندامى فلم أدع ... ثناءك أذكى من منافحة الآس

الأديب أبو الحسن حكم بن محمد غلام البكري
وسفه بالخاطر المولد المخترع، المفتضّ عذرة المعاني المفترع وذكر أنه كان ذا جأش جاش، وبرى نبل النبل وراش، وطال رشاء غمره حتى برح زكي غمره، وطواه الدهر بعد طول نشره، ولقي آخر الدولة العبادية في عنفوانه، وريعان الدولة المرابطية في آخر زمانه، وله قلائد استغربت واستعذبت، وسوائر شرقت في البلاد وغربت، فمن ذلك:
أرقني بعدك البعاد ... فناظري كحله سهاد
يا غائبا وهو في فؤادي ... إن كان لي بعده فؤاد
الله يدري وأنت تدري ... أن اعتقادري لك اعتقاد
تذكر والحادثات بله ... ليس لها ألسن حداد
ونحن في مكتب المعالي ... يصبغ أفواهنا المداد
يستر ستر الصبا علينا ... والأمن من تحتنا مهاد
لا نتهدى لما خلقنا ... نجهل ما الكون والفساد
ومنها:
أذمة بيننا لعمري ... يحفظها السيد الجواد
سبحان من خصكم بأيد ... بهنّ تستعبد العباد
إذا استهلت لنا سماء ... أو رق من تحتها الجماد
آثاركم في العلا قديما ... دانت لها جرهم وعاد
والآن تبلى وربّ جود ... حل على ناره الرماد
وأنت في ألْسُنِ البرايا ... معنى بألفاظها معاد
حسب العدى منك ما رأوه ... لا وريت للعدى زناد
لم يعلم الصائدون منهم ... أنك عنقاء لا تصاد
وإ، في راحتيك سعدا ... تندق من دونه الصعاد
والليث شبعان لا يبالي ... إذا نزت حوله النِّقاد
وله:
تظن مرادا بالعقيق وجدولا ... إذا كرعت فيه القبول تسلسلا
وإن مدت الأغصان أطناب ظلها ... بشطيه خلناه حساما مفللا
تنفس من تلقائه بعد هجعة ... نسيم فخلناه عليلا معللا
وجرر ذيلا صافح النور سحرة ... وذاع فحيّاه الحيا فتبللا
يحث البهار الغض يوميء باسما ... لتقبيله خدا من الورد مخجلا
ولم أر عيرا كالرباب إذا ونى ... وجد به سوط العقيقة أرقلا
يرنّ حفافيه أجش مقهقه ... يوهمنا في الدار ضبطا مرسلا
وليل ككحل العين قد مد جنحه ... جناحا على الأرض البسيطة مرسلا
وسمت بنار الكأس قطري بهيمه ... فغادره وسمي أغر محجلا
كأن بقاياه غداف شبيبتي ... ألمّ به صفر المشيب ليرحلا
وله:
ألاحت وللظلماء من ودنها سدل ... عقيقة برق مثل ما انتضيَ النصل
أطارت سناها في دجاها كأنها ... تبلج خد حوله فاحم جثل
لدى ليلة رومية حبشية ... تغازلنا من شهبها أعين شهل
تودّ عيون الغانيات لو أنّها ... إذا مرضت عند الصباح لها كحل
بدت في حلاها فاتّقينا نجومها ... بأنجم راح في الشفاه لها أقل
إلى أن بدا للصبح في طرة الدجى ... دبيب كما استقرت مدارجها النمل
نعيم أرى الأيام تثني عنانه ... علينا إذا ألقى ثنيته الحسل
أفي لهوات الليث رَبْعٌ أبيته ... ولو علني فيها مجاجته الصل
ذكرت الدنا والأهل فيها فليس لي ... بها عقوة آوي إليها ولا أهل
وأفردني صرف الزمان كأنّني ... طرير من الهندي أخلصه الصقل
الأديب أبو عامر ابن المرابط

ذكر أنه كان يقصد في نظمه الترقيق لا التشديق، والإعذاب لا الإغراب، والإحلال لا الإعلاء، والتفهيم لا التفخيم، والتقريب لا التغريب، والتحريك لا التعريك. لكن هلاله لم يقمر، وقمره لم يبدر، وبدره لم يتم، وتمامه ما أزهر، وزهره ما أنور، ونوره ما أثمر، وثمره ما ينع، وينعه ما طلع، وطلعه ما بسر، وبسره ما أتمر، وحج عمرة، لم يبلغ قران العمرة، ومشتري شبابه لم يصادف قران الزهرة، فحضره الأجل مغيرا، واحتضره دون الأمل صغيرا. ومن شعره قوله:
سر إن اسْطَعْتَ فإنّي ... لست أسطيع مسارا
ذلك البدر الذي قا ... بلت لا يهوى السرارا
قلدوا مبسمه الدر ... وجفنيه الشِّفارا
كلّما أومأ باللح ... ظ يمينا ويسارا
لا ترى عيناه إلا ال ... قوم قتلى وأسارى
لا ترع يا شادن الأج ... رع كم تهوى النفارا
لك هذا القلب ترعا ... ه أرَاكاً وعَرَارا
وقوله:
هنالك الريّ من دموعي ... يا ظبيُ والظل من ربوعي
فرد معينا ورِد ظليلا ... غير مذود ولا مروع
وقوله:
من رأى ذاك الغزال ضُحىً ... يتمشّى في أجَارِعِه
ينفض الأجفان عن سنة ... أشربتها في مضاجعه
نظرت الظبي روعه ... قانص أدنى مراتعه
بشر ما مثله قمر ... سنّ قتلي في شرائعه
وقوله من قصيدة:
أعيدوا عليّ الربع إلا تحية ... أخفف منها والركاب تبَوُعُ
دعونيَ والأطفال أبكي فإن يكن ... ضلالا فإني للضلال تبوع
وقوله من أخرى:
فتناوحت فيه الرياح ضُحىً ... حتى تبل ترابه المزن
وتسيل أبطحه وأجرعه ... ويرفّ ذاك السهل والحزن
وقوله:
تقول مطيتي لما رأتني ... وبينك لا توادعني فُواقا
لقد أخذ السرى مني ومنها ... مآخذ لا نطيق بها مساقا
لقد عنيت بنا النّكبات حتّى ... لودّت كل نائية فراقا

الأديب أبو الحسن باقي بن أحمد
وصفه بالأدب الباهر، والحسب الزاهر، وذكر أنه لم يزل منقبضا، وبدهره في صد عرضه غرضا، وقصر مدحه، على القاضي أبي أمية ولزم كسره، وألف مع عدم الانجبار كسره، فمن شعره ما كتب به إليه:
الدهر لولاك ما رقّت سجاياه ... والمجد لفظ عرفنا منك معناه
كَانَ العُلى والنُّهى سرا تضمنه ... صدر الزمان فلما لحت أفشاه
آيات فضلك تتلوها ونكتبها ... في صفحة البدر ما أبدى محياه
فأنت عضب وكف الدهر ضاربة ... تنبو الخطوب ولا تنبو غِرَارَاهُ
وله:
يا ماجدا في قربه ... من كل هم لي فرج
ومملكا بمقاله ... وفعاله رق المهج
هل طَنّ أذنك لِلِّقَا ... ءِ عيني تختلج
قال: وصحب القاضي أبا أمية إلى العدوة، فمرّوا بفاس، وفيها الوزير أبو محمد بن القاسم.
فكتب إليه:
نسيم الصّبا بذمام العلى ... تَمَشَّ على الروض مشي الكسير
وسر عبق النشر حتى تحل ... محل السيادة ربع الوزير
فطأمن حشاها دُوَيْنَ الضلوع ... حذار مهابته أن تطير
وقبّل أنامله إنّها ... ضرائر في فيضها للبحور
وذكر بحاجة ضيف له ... فؤاد يقيم وجسم يسير
له أمل قبل وشك الرحيل ... طويل المدى ومداه قصير
وقل إن لقيا الوزير الأجل يقرّب كلّ بعيد عسير
الأديب أبو جعفر ابن البني
وصفه بالانتهاك، والمجون والاستهلاك، وامتطاء مركب الهوى، والانضواء إلى من غوى، والانطباع في النظم، واضطلاع بحدة الفهم، وله في الطرب سهم يخطي، وحظ يبطي، وذكر أنه أبعده ناصر الدولة إلى ميورقة، فلما قربت السفينة منها، نشأت ريح فردته إلى موضعه عنها، فقال في أصحابه وأحبابه، وقد صدوا عن جنابه:
أحبتنا الألى عتبوا علينا ... فأقصرنا وقد أزف الوداع

لقد كنتم لنا جذلا وأنسا ... فهل في العيش بعد كم انتفاع
أقول وقد صدرنا بعد يوم ... أشوق بالسفينة أن نزاع
إذا طارت بنا حامت عليكم ... كأن قلوبنا فيها شراع
وله:
يا من يعذبني لما تملكني ... ماذا تريد بتعذيبي وإضراري
تروق حسنا وفيك الموت أجمعه ... كالصقل في السيف أو كالنور في النار
وله يهجو قوما ويمدح منهم رجلين:
ما في بني يوسف ساع لمكرمة ... سواك أو صنوك العالي أبي الحسن
كرُمْتما واغتدى باللؤم غيركما ... والشوك والورد موجودان في غصن
هذا آخر الجماعة الذين أوردهم بالذكر من الأعيان أبو نصر الفتح بن محمد القيسي الأندلسي مصنف قلائد العقيان، وسألت عنه بمصر فقيل عاش بالمغرب إلى عهد شاور بمصر فقد توفي سنة خمس وخمسين وخمسمائة وقال لي بعض المغاربة: توفي قبل هذا التاريخ. وقد أتى في كتابه بكلام كالسحر رقة ودقة، وكالزلال عذوبة وصفاء، وكالخمير طربا وانتشاء، ولو نقلته على وجهه لم أكن إلا ناسخا، ولم أبد في الصنعة علما راسخا، لكنني اختصرت وصفه لكل فاضل بلفظي، ونمقته بمعنى من حفظي، وكسوت المعنى صورة أخرى، وجلوته في الحلية الحسنى، فإن فتحا قبًّح ذكر قوم ووضعهم، ونبه خاملين فرفعهم، وحاد عن الصحيح لمرضه، ووسم الحسن بالقبيح لغرضه، ومن جملة ذلك أنه ترب على أبي بكر ابن باجة، وأطلع نوره في سماء السماجة، وقد أجمع الفضلاء على أنه لم يلحق أحد مداه في زمانه، ولم يوجد شرواه في إحسانه، وقد ختم به علم الهندسة، وتداعت بموته في إقليمه مباني الحكم المؤسسة.
من جماعة ذكرهم أبو نصر الفتح بن محمد بن عبيد الله القيسي الأندلسي مؤلف قلائد العقيان في محاسن الأعيان لم نثبتهم إلا من هذا الكتاب، ولم ننظم إلا بعقودهم منه شمل الآداب.

أبو بكر ابن عبد الصمد
وذكره ابن بشرون في كتابه فقال: أبو يحيى ابن عبد الصمد. ذكره في آخر حديث المعتمد ابن عباد وأنه جاء إلى قبره بأغمات، بعد أن مات، وقال بعد أن طاف بقبره والتزمه، وخر على تربه ولثمه:
ملك الملوك أسامع فأنادي ... أم قد عدتك عن السماع عواد
لما خلت منك القصور فلم تكن ... فيها كما قد كنت في الأعياد
أقبلت في هذا الثرى لك خاضعا ... وتخذت قبرك موضع الانشاد
قال: وه قصيدة أطال إنشادها، وبني بها اللواعج وشادها.
أبو نصر الفتح بن عبيد الله
ابن خاقان
مؤلف كتاب قلائد العقيان. وصفه الرشيد ابن الزبير في كتاب الجنان وقال: كان ذرب طية اللسان، غزير ركيًّة البيان، كأنما يغرف من بحر زاخر، أو يقطف من زهر ناضر، حسن صناعة، وسعة براعة، وله تواليف تشهد له بدارية، وتصانيف تدل على توسعه في الرواية، إلا أنه كان يضع من نفسه بشدة تبدله، وكثرة تنقله، وغضه من ذوي الرتب، وإساءة الأدب على الأدب، وتحليه من الخلاعة بما تعزف عنه نفس كل ذي عقل رصين، واشتفافه من الدنايا إلى ما لا يرضاه أهل المروءة والدين، وهو متوسع في النثر، قليل البضاعة في النظم، ولم أجد له منه ما يدخل فيما يدخل لأهل طبقته، فأما رسائله فقد أورد منها ما يغني الوقوف عليه من صفته. فمن ذلك رسالة يصف فيها نزهة وقنصا وهي:

ما تزال الغرائب أيد الله الملك الأجل معرضة في متنزهاته، وتثور له في ثنيات متوجهاته، فتزيد الأنس انفساحا، وتورث النفس ارتياحا، فتنطلق من عقالها ويتدفق بحر مقالها، وخرجنا معه في لمة من جنوده، وأمة من عبيده، وهو يقتادهم بزمام اصطناعه، ويرتاد لهم أخصب بقاعه، ووجه الشمس أومض إيماضه، وأفاض من سناها ما أفاضه، واعلام الدولة قد حفوا بلوائه، وتألقوا بسمائه، كأنهم النجوم إشراقا، والدرر انتظاما واتساقا، فساروا يسمون صفحات البسيطة بحوافر الخيل، ويثيرون قتاما كقطع الليل، فبينما هم ينجدون ويتهمون، ويبحثون عن القنص في كل مكان يتوهمون، إذ سنح لهم في البسائط سائح، وارتاع من رجة الموكب آمن سارح، قد اتخذ العشب جحراً، وضم إلى ترائبه سحرا ونحراً، فمرق كالسهم يمرق من الفوق، ومر لا يستمسك بواضح طريق، فتارة يسلك مستبينا، وتارة لا يعرج شمالا ولا يمينا، وما زالت الجياد تباري استنانه، وذوات المخالب تحاكي روغانه، حتى عادت عليه الأرض قفصا، وساقته إلينا قنصا، فعلقته كف كائد، لا حبالة صائد، فأخذه صاغرا، وفم الحمام قد تعرض له فاغرا، فذكاه بشفرته، وقذف زاده في ثغرته، وما زلنا نستوفر عددها، ونقصر أمدها، حتى ملأت الحائق، وأتبعت الركائب، وأذكت الهاجرة شواظ لهيبها، ولوت الصبا عنان هبوبها، فملنا إلى حدائق امتد عليها من أوراقها رواق، وغازلتنا من أزهارها جفون وأحداق، فحططنا بساحتها، وانبسطنا في رحب سياحتها، ودارت بيننا راح، تلقيناها بالراح ولوعا، وحسبناها شمسا طلعت طلوعا، ومازلنا نديرها كبارا وصغارا، نجوم اتخذت الأفواه مغارا، إلى أن فني اليوم أو هم، وكاد وجهه أن يدلهم، فقمنا إلى صهوات الجياد، وما منا إلا من يميل كالغصن المياد، فصرنا وما نفرق بين البكر والأصائل، ولا ندري الأواخر من الأوائل، ويمن الملك الأجل يهدينا، ونوره يسعى بين أيدينا، فلا زالت ليالينا به مشرقة، وغصون أمانينا في جنابه مورقة، ما عبق زهر، وتدفق نهر.
ومن أخرى: أطال الله بقاء الوزير الأجل، عتادي الأسرى، وزنادي الأوري، وأيامه أعياد، وللسعد في زمانه انقياد، أما أنا أدام الله عزك فجوي عاتم، وأعيادي مآتم، وصبحي عشاء، وما لي إلا من الخطوب انتشاء، أبيت بين فؤاد قلق، وطرف مسهد، نائي المحل عن مزار العود، حيران لا أرى الروض المنور، ولا أحس سهيلا إذا ما لاح ثم غور، قد بعدت دار إليّص حبيبة، ودنت مني حوادث بأدناها تودي الشبيبة، وأي عيش لمن لزم المفاوز لا يريمها، حتى ألفه ريمها، قد رمته النوائب فما ابقى، وارتقت إليه الحوائج في وعر المرتقى، يواصل النوى ولا يهجر سيرا، ولا يزجر في الإراحة طيرا، قد هام بالوطن، هيام ابن طاب بالحوض والعطن، وحن إلى تلك البقاع، حنين أثلات القاع، ولا سبيل إلى تشعب صدع بينه مشاعب، أو تكلمه للدار أحجار وملاعب، وليس له إلى أن يجنح، ولا يرى أمله يسنح، قد طوى البلاد وتطرف الأرض وتوسطها ولم يلف مقيلا، ولا وجد مقيلا. إلى الله الشكوى لما أقاسي، وبيده الأقدام والنواصي، فإلى متى يعتري السعد، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ومن أخرى:
سقى بلدا أمست سليمى تحله ... من المزن ما يروي به ويسيم
سقى الله ذلك الجانب الذي حواك، وخص منه بالوابل مثواك، حتى يخلع الربيع فيه سندسيات بروده، ويجمع في النضرة بين تهامته ونجوده، فإنه جناب حل فيه الذكاء والنبل، وقل لسقياه عندنا الوبل، ورعيا لأيامنا المعلمات الذيول، المعطلات عرفي الصبا والقبول، وقد نعمنا ببكرها وآصالها، وأمتعنا بتواليها واتصالها، فاليوم لم يبق منها إلا ذكره لها في الفؤاد صدع، وللعراك والسلوة ردع، وعساها تعود، فيورق عود.
وكتب عن أحد الرؤساء: أما بعد: فإن الأيدي قد امتدت، ودواعي التعدي قد اشتدت، وأموال الناس تنتهب، وزواجر كتاب الله لا ترهب، وأنت تنام عن كف هذا الانتهاب، وتلين في موضع السطوة والارهاب، وتعكف على الراح وروحاتها وتقف بين بكرها وروحاتها وقدماً أفسدت الراحة الأحوال، وجرت إلى أهلها الأهوال، فدعها فليس بأوانها، واكتف من صحيفة الشر بعنانها وأكثر الصولة، وأجدر أن يكون للمكروه عندك جولة، فلينب عن سوطك سيفك، حتى يرهب خيالك وطيفك.
ومن أخرى:

الدهر أعزك الله إن بني مشيدا هده، وإن وهب نفيسا استرده، وإن حل نعمة أصارها شرقا، وإن كحل نومة أعقبها أرقا، ولا برهان إلا ما شاهدته غداة لقيتك بظهر الفلاة، وسقيتك ألذّ من طيب الحياة، والسرور قد غار في جو الجوى، والقرب قد حار في جيش النوى، فلم يك بين التسليم والوداع مهلة، ولم يبح من الالتياع من الشفاء نهلة، فما وخدت ركابك إلا وقلبي يتبعها، ولا أنجدت قناتك إلا وطرفي يقرعها، فما جيرة ابن حطان وقد انتسب إلى القبائل، ولا الحارث ابن عباد وقد نشب في حر بوائل ولا ابن مفرغ وقد خاف ولاة سمية، ولا عبد الله ابن قيس وقد فر من بني أمية. إلا دون وجدي غداة كففت دمعي المتسرب، ووقفت كناظر مع الصبح في أعقاب نجم مغرب، فلله أيامنا الموشية، وقوفنا بالسراة عشية، وانتشائي من مقلة وكأس، واجتلائي شارب زبرجد أو عذار آس، والتماحي خدّاً كمورد الشقيق، واستصباحي بثغر كالدر في حق من العقيق، زمان صحونا إلا من المدام، وسلونا إلا عن الندام، وتفرعنا إلا من الندى، وتورعنا إلا من معاقبة العدى، وأدرنا ذهبا سائلة، ونظرنا رقبا شائلة، وبتنا لم نرم السهر، ولم نشم برقا إلا الكأس والزهر، والشمل جامع، والدهر مجيب وسامع، فالآن منازلي أكوار، ومواصلي بطل مغوار، فتلك تضنيني بطول السفار، وذاك ينتضيني للملمات انتضاء الشفار، فأنا بين عر يعيي، وذعر يميت ويحيي، ونوى لا يقال لعاثرها لعا، وهوى قد حشا بالجوى أضلعا، والله يريح مما عرى، ويمن بنظره إلى قرقرى.
وله إلى بعض إخوانه يوصيه بكتب أودعها عنده ويصف هرا:

استوهب الله لك أيها العماد الأعلى، والسراج الأجلى، والطود الأشم، والبدر الأتم، من النعم أبقاها، ومن العصم أوقاها، لا زلت لعنان السيادة مالكا، ولمنهاج السعادة سالكا، كتبت أعزك الله والود قائم رسمه، لائح وسمه، وإن كانت الأيام قد أزاحتني عن قربك، وأظمأتني إلى شربك، فإنها لم تلحق وثاقة عقدنا انحلالا، ولا صحة عهدنا اعتلالا، ولو جرت الأقدار على اقتراحي، وأطلقت من الأشغال سراحي، لاخترت مجاورتك، وآثرت محاورتك، فإنك بحر تلفظ الجواهر غواريه، وتعذب للوارد مشاربه، فيصدر عنك وقد ملأ من الدر حقائبه، وأثقل من البر ركائبه، والله يقرب لقاءك ويدنيه، ويهنئه على أفضل حال ويسنيه، وفي علمك ما استودعته أمانتك، واستحفظته صيانتك، من كتبي التي هي أنفس ذخائري وأسراها، وأحقها بالصيانة وأحراها، وما كنت أرتضي منها بالتغريب، لولا الترجي لمعاودة الطلب عن قريب، ولا شك أنها منك تنال، وبمكان تهمم واهتبال، ولكن ربما طرقها من مردة الفأر طارق، وعاث فيها كما يعيث الفاسق المارق، فينزل فيها قرظاً، أو يفسد منها طولا وعرضا، إلا أن يطوف عليها هر نبيل، ينتمي من القطاط إلى أنجب قبيل، له رأس كجمع الكف، وأذنان قد قامتا على صف، ذواتا لطافة ودقة، وسباطة ورقة، يقيمهما عند التشوف، ويضجعهما عند التخوف، ومقلة كأنها تقطيعة من الزجاج المجزع، وكأن ناظها من عيون الباقلاء منتزع، قد استطال الشعر فوق أحداقه، وحول أشداقه، كإبر مغروزة على العيون، كما تبرد أطرافه القيون، له ناب كحد المطرد، ولسان كظاهر المبرد، وأنف أخنس، وعنق أوقص، وحلق سرق، غير ملتصق، أهرت الشدقين، لاحق الأطلين، موشى الساعدين والساقين، منمنم اليدين والرجلي، يرجل بها وبره ترجيل ذوي الهمم، لما شعث من اللمم، فينفض ما لصق به من الغبار، وعلق به من الأوبار، ثم يجلوه جلاء الصيقل للحسام، والحمام للأجسام، فينفي قذاه، ويواري أذاه،ويقعي إقعاء الأسد إذا جلس، ويثب وثبة النمر إذا اختلس، له ظهر شديد، وذنب مديد، تارة يهزّه هزّ السمهري المثقف، وتارة يلويه لي الصولج المعقف، تجول يداه في الخشب والأرائك، كما يجول في الكسائد شائك، يكب على الماء حين يلغه، ويدني منه فاه ولا يبلغه، ويتخذ من لسانه رشاء ودلوا، ويعلم به إن كان الماء مرا أو حلوا، فتسمع للماء خضخضة من نزعه، وترى للسان نضنضة من جرعه، يحمي داره حماية النقيب، ويحرسها حراسة الرقيب، فإن رأى كلبا، صار عليه إلبا، وصعر خده، وعظم قده، حتى يصير نده، أنفة من جنابه أن يطرق، وغيرة على حجابهأن يخرق، فإذا رأى فيه هرا، أوجف إليه مكفهرا، فدافعه بالساعد الأشد، ونازعه منازعة الخصم الألد، فإذا أطال مفاوضته، وأدام مراوضته، أبرز برثنه لمبادرته، وجوشنه لمصادرته، ثم تسلل إليه لواذا، واستحوذ عليه استحواذا، فشد عليه شدة، وضمه من غير مودة، فأطار وبره نسالا، وأرسل دمه إرسالا، بأنياب عصل، أمضى من النصل، ومخلب كمنقار الصقر، درب للأقتناص والعقر، ففر قرنه ممزق الإهاب، مستبصرا في الذهاب، قد أفلت من بين أظفار وناب، ورضي من الغنيمة بالإياب، هذا وهو يخاتله دون جنة، ويقابله بلا سيوف ولا أسنة، وإنما جنته، منته، وشفاره، أظفاره، وسنانه، أسنانه، إذا سمعت الفأر منه مغاء، لم تستطع له إصغاء، وتصدعت قلوبها من الحذر، وتفرقت شذر مذر، تهجع العيون وهو ساهر، وتستثير الشخوص وهو ظاهر، يسري من عينيه بنيرين وضاحين، تخالهما في الإظلام مصباحين، يسوف الأركان، ويطوف في كل مكان، ويحكي في ضجعته السوار تحنّيا، وقضيب الخيزران تثنيا، يغط إذا نام، ويتمطي إذا قام، لا يكون للنار مستدفئا، ولا للقدر مكفئاً، ولا الرماد مضطجعا، ولا للجار منتجعا بل يدبر بكيده، ويقتصر على صيده، قد تمرد بقتل الأحناش والخشاش، وافترس الطير في المسارح والأعشاش، فيستقبل بمشمه، ويجعل الاستدلال أكبر همة، ثم يكن للفأر حيث يجد لها عيثا، أو يسمع لها عوثا، أو يلمح منها ريثا، فيلصق بالأرض، وينطوي بعضه في بعض، حتى يستوي منه الطول والعرض، فإذا تشوفت الفأر في جحرها، وأشرفت بنحرها وصدرها، دب إليها دبيب الصل، وامتد نحوها امتداد الظل، ثم وثب في الحين عليها، وجلب الحين إليها، فأثخنها جراحا، ولم يعطها براحا، فصاحت من شدة أسره، وقوة كسره، وكلما كانت صيحتها أمد، كانت قبضته عليها أشد، حتى يستأصل

أوداجها فريا، وعظامها بريا، ثم يدعها محرجة الذماء، مضرجة بالدماء، وإن كان جردا مسنا، لم يضع عليه سنا، وإن كان درصا صغيرا فغر عليه فاه، وقبض مترفقا على قفاه، ليزداد منه تشهيا، وبه تلهيا، ثم يتلاعب به تلاعب الفرسان بالأعنة، والأبطال بالأسنة، فإذا أوجعه عضا، وأوعبه رضا، أجهز في الفور عليه، وعمد بالأكل إليه، فازدرد منه أطيب طعمة، واعتقده أهنأ نعمة، ثم أظهر بالالتعاق شكره، وأعمل في غيره فكره، فرجع إلى حيث أثاره، وتتبع آثاره، راجيا أن يجد في رباعه، ثانيا من أتباعه، فيلحقه بصاحبه في الردى، حتى يفني جميع العدى، وربما انحرف عن هذه العوائد، والتقط الفتات من حول الموائد، إبلاغا في الاحتماء، وبروزا في النعماء، فما له على خصاله ثمن، ولا جاء بمثاله زمن.اجها فريا، وعظامها بريا، ثم يدعها محرجة الذماء، مضرجة بالدماء، وإن كان جردا مسنا، لم يضع عليه سنا، وإن كان درصا صغيرا فغر عليه فاه، وقبض مترفقا على قفاه، ليزداد منه تشهيا، وبه تلهيا، ثم يتلاعب به تلاعب الفرسان بالأعنة، والأبطال بالأسنة، فإذا أوجعه عضا، وأوعبه رضا، أجهز في الفور عليه، وعمد بالأكل إليه، فازدرد منه أطيب طعمة، واعتقده أهنأ نعمة، ثم أظهر بالالتعاق شكره، وأعمل في غيره فكره، فرجع إلى حيث أثاره، وتتبع آثاره، راجيا أن يجد في رباعه، ثانيا من أتباعه، فيلحقه بصاحبه في الردى، حتى يفني جميع العدى، وربما انحرف عن هذه العوائد، والتقط الفتات من حول الموائد، إبلاغا في الاحتماء، وبروزا في النعماء، فما له على خصاله ثمن، ولا جاء بمثاله زمن.
وقد أوردت أدام الله عزك من وصفه فصلا معربا، وهزلا مطربا، إخلاصا من الطوية واسترسالا، وتسريحا للسجية وإرسالا، على أني إذا استعرت في لغته لسان أبي عبيد، وأظهرت في صفته شأن أبي زبيد، ما انتهيت في النطق إلى نصابك، ولا احتويت في السبق على قصابك، والله تعالى يبقيك لثمر النبل جانيا، ولدرج الفضل بانيا، ما طلع في أفق بدر، وانطبق على قلب صدر، إن شاء الله تعالى.
وكتب معزيا: كتبت أعزك الله والجوانح ملتهبة، واللوعة للسلو منتهبة، والدموع متسربة، والضلوع مضطربة، لوفاة من هدت ركن المجد وفاته، وأعيت الواصف صفاته، وأحسنت مساعيه، وأخصبت للرائد مراعيه، فوا رحمة للحسب قبضت روحه، وللأدب ركدت ريحه، وللذكاء خبت شعله، وللعلاء تمزقت حلله، لقد نصب من الصبر عده، وعاد شحاحا زنده، وذوى عراره المتنسم ورنده، وحق له أن يقفر ضلوعا، ولا يظهر في سماء الجزع طلوعا، وقد تعطل الزمن ممن كان في لبته حليا، وفي فمه ضريا، وفي حره نسيما، وفي كؤوسه خمرا وتسنيما.
ومنها: ومما كف اللوعة عن مجده، وخفف لذعة وجده، أنه أودى وقد استوفى طلقه، ولبس العمر حتى أخلقه، وسحب أذيال تمنيه، وصحب الدهر حتى كاد يفنيه، ومضى وما حملته المنساة، ولا ملته الأساة، ولا شجيت بالعيش نفسه شجو لبيد، ولا أقفر من أهله عبيد، ولا ذوي من جدب غرسه، ولا مل كما ملت صخرا سليمى عرسه، وهي المنية لا يثنيها التعمير، ولا يصرفها التأميل بل والتأمير، فقد مضى من كانت السيوف له يقمن وينحنين، وقضى كعب بعد أن طوى سنين وشايع بعد بنين، وأودى الجعدي وقد أدرك أيام الخنان، وأبقت منه الحوادث ما أبقت من السيف اليمان.
ومن أخرى في وصف غريق في البحر:
أتاني وأهلي بالعراق عشية ... وأيدي المطايا قد قطعن بها نجدا
نعي أطار القلب عن مستقره ... وكنت على قصد فأغلطني القصدا

نعوا والله باسق الأخلاق فلا يخلف، ورموا قلبي بسهم أصاب صميمه وما أخلف، لقد سام الردى فيه حسنا ووسامة، وطوى بطيه نجدا وتهامة، فتعطل منه الندى والندي، وأثكل فيه الهدى والهدي، كم راع البدر ليلة إبداره، فروع العدو في عقر داره، وكم فل السيوف طول قراعه، ودل عليه الضيوف موقد النار ببفاعه، وتشوف إليه السرير والمنبر، وتصرف فيه الثناء المحبر، أي فتى، غدا له البحر ضريحا، واعتدى عليه الحين ماء وريحا، فتبدل من ظل علاء ومفاخر، إلى قعر طامي البحر زاخر، وعوض من صهوات الخيل، بلهوات اللجج والليل غريق حكى مقلتي في دمعها، وأصاب نفسي في سمعها، ومن حزني لا استسقى له الغمام فما له قبر تجوده، ولا ثرى تروى به تهائمه ونجوده، فقد آليت أن لا أودع الريح تحية، ولايورثني هبوبها أريحية، فهي التي أثارت من الموج حنقا، ومشت عليه خببا وعنقا، حتى أعادته كالكثبان، وأودعته فيه قضيب بان، فيا عجبا للبحر ختل شكله، وللدهر كيف حمل ثكله، ووا أسفا لزلال غاص في أجاج، ولسلسال فاض عليه بحر عجاج، وما كان إلا جوهرا آب إلى عنصهر، وغاب عن عين مبصره، لقد آن للحسام أن يغمد ويشام، وللحمام أن يبكيه بكل أراكة وبشام، وللعذارى أن لا يحجبهن الخفر والاحتشام، وينحن فتى ما ذرت الشمس إلا ضر او نفع، ويبكين من لم يدع فقده للأنس المنتفع، صديق ما حمدت فيه الأيام حتى ذممتها، ولا ينبت به أركان المنى حتى هدمتها، ولو غير الحمام زحف إليه جيشه، أو سوى البحر رجف عليه ارتجاجه وطيشه، لشبا من شدته من يهيبه ليث الشرى، ويرهبه البطل الباسل إذا استشرى، من كل أروع إن عجل إليه المكروه ثبطه، أو جاءه الشر تأبطه، لكنه الموت لا ترده الصوارم ولا الأسل، ولا يفوته ذباب لفظ العسل.

أبو إسحاق إبراهيم ابن خفاجة الأندلسي
سبق ذكره وقد أوردت من شعره البديع، وآثرت من فجره الصديع، ثم عثرت من رسائله، التي هي من دلائل فضائله، ما أثبته هاهنا، فمن ذلك رسالة كتبها إلى أبي الفتح ابن خاقان المقدم ذكره: سيدي الأعلى، وعلقي الأغلى، حلى بك وطنك، ولا خلا منك عطنك، كتبته والود على أولاه، والعهد بحلاه، ترف زهرة ذكراه، ويمج الري ثراه، منطويا على لذعة حرقة، ولوعة فرقة، أبيت بها بليل لا يندى جناحه، ولا يتنفس صباحه، فها أنا كلما تنسمت الريح أصيلا، وتنفست نفسا بليلا، أصانع البرحاء تنشقا، وأتنفس الصعداء تشوقا، فهل تجد على الشمال لفحة كما أجد على الجنوب نفحة، أم هل تحس لذلك الوهج ألما، كما أجد لهذا الأرج لمما، وحقك قسما، تشتمل على الإيمان كرما، إن في هذه اللواعج، ما يقتضي إنضاء النواعج، ويحمل على حزق، جيب الخرق، وجر ذيل، وبرد الليل، حتى أهبط أرض ذلك الفضل، فأغتبط وأرد مشرع ذلك النبل، فأتبرد، وعسى الله بلطفه أن ينظم هذا البرد، ويعيد ذلك الود، فيبرد الاحشاء، كيف شاء، بمنه. وإن كتابك الكريم وافاني فأنهى تحية، هزتني أريحية، هز المدامة تتمنى، والحمامة تتعنى، فلولا أن يقال صبا لالتزمت سطوره، ولثمت مسطوره، وماأنطقتني صبوة استفزتني، فهزتني، ولكن فضلة راح في كأس العلى تناولتها، فكلما شربت، طربت، فلوى توقع غمرات الشيب، لابتدرت شق الجيب، ثم صحت: واطرباه، وناديت: واحر قلباه، ووقفت من جملته على ما وقع موقع القطر، وحسبك ثلجا، وطلع طلوع هلال الفطر، وكفاك مبتهجا، وما أغرب فيما أعرب عنه من تفسير حالك، وتفصيل حلك وارتحالك، ولا غرو أن تجد بك الرواحل، وتتهاداك المراحل، فما للنجم أخيك من دار، ولا في غير الشرف من مدار، فحل أنى شئت وارتع، وطر حيث أحببت أوقع، فما انتضتك يد المغارب، إلا ماضي المضارب، ولا تعاطتك أقطار البلاد، إلا طيب الميلاد، فما صار أن نعق ببينك غراب، وخفق برحلك سراب، إذ لم يغض من فضلك اغتراب، ولا أخل بنصلك ضراب، لا زلت مخيما بمنزلة مجد يجتمع من اتساع، في ارتفاع وامتناع، بين إمرة بغدان، ومنعة غمدان، بحول الله ومنه.
وكتب أبو إسحاق ابن خافجة أيضاً إلى بعض الوزراء:

وكيف ي بقربك ودونك كل علم باذخ، مج الليل عليه رضابه، وصافحت النجوم هضابه، قد نأى بطرفه، وشمخ بأنفه، وسال الوقار على عطفه، فهو يعبس، ولا ينبس، كأنما أطرق به اعتبار، واجتنى منه جبار، وقد لاث من غمامة عمامة، وأرسل من ربابة ذؤابة، تطرزها البروق الخواطف، وتهفو بها الرياح العواصف، بحيث مدت البسيطة بساطا، وضربت السماء فسطاطا، فلا حظ منك إلا ذكر يجري، وطيف يسري، وعسى، أن يلين من جانب الدهر ما عسى، فيجذب بضبعي جاذب من سنائك، إلى سمائك، حتى أرتقى، إلى حيث السهى، والمجرة من مجر أذيالك، ومواطيء نعالك.
ومنها في صفة قصيدة: قد كنت صنعتها، منذ الزمان الأطول فأفرعتها، وفرغت منها غير أن إرجاءها، لا يقطع رجاءها، وإمهالها، لا يوجب إهمالها، وقد استثبت مجدك في جلائها، واستنهضت سروك لزفافها وهدائها، علما أن ما أوتيته في البلاغة من امتداد عنان، وانفساح ميدان، يطلعها هنالك في ملح تترى، ويبرزها في صور من الملاحة ترى، فلا تنشرها حلة حتى تجلى عروس، ولا يسمع منها تكميل حتى يجتلى طاووي، ومعذرة في ميدان العجز عن إنصاف تلك الأوصاف، وأما والبحر من كرمك، والسحر من قلمك، إنه لينقل من قلم علم مشهور بالسياسة، وخدمة الرئاسة، من انتساب واكتساب.
ورث السيّادة كابرا عن كابر ... موصولة الأسناد بالإسناد
لا زلت تجتلي من كنف ذلك الشرف وسماء ذلك السناء بحيث تطيف النعم بك نجوما، وتنقض النقم دونك رجوما.
فصل من أخرى:
أطال الله أيها السيد بقاءك، كما وصل عزتك واتقاءك، وأسنى مرتبتك وأعلاك، كما أسنى مناقبك وجلاك، وأخلق بها من دعوة هتكت حجاب الظلماء، وقرعت باب السماء، تثبت هنالك مع التوحيد سطرا، وتكتب في ديوان القبول صدرا، فإنها من قلب كرم في مشايعتك سره حتى لست أدري أضمير، أم ماء نمير، وهل من محيد، عن هوى أروع وحيد، أرى به الفضل قد مثل صوره، والنبل قد أنزل سوره، والصبح قد تبلج باسما، والروض قد تأرج ناسما، فهنيئا لتلك الدولة الميمونة أنك علم تلك السعادة، ووسطى قلادة تلك السيادة، وآخر مملك خلع عليك نجاده، وأوطأ عقبيك أنجاده، وأتبع برأي ورايتك إنجاده، أ، تسمو أعطافه عزة، وتحتمي أطرافه نجدة، ويستقل على قدم به النصر، ويبسم عن ثغر إليه الثغر، ويطلع من تجاهه الفتح يندي جبينه عرقا، ويمينه علقا، وقد قام على قد من الرمح رطيب، وسفر عن خد من السيف خضيب، وخفق جناح العلم سرورا، ونطق لسان القلم صريرا.
فصل من رسالة أخرى: واتفق لي أن فصلت تلك العشية والأفق قد أضحى، وأبل من مرضه وصحا، وصفحة الشمس محطوطة القناع، مصقولة كمرآة الصناع، فما هممت بأن أجزع وادي الحضرة حتى طفق جفن الجو يندي، ومطرف الغمامة يتأر ويسدي، أقسمت المطي أن تخف، وبسقت السماء أن تكف، فمال بي وأقلع، وتسنم المقطع، حتى أن حكم الهواء طيشا، ورذاذ ذلك الرباب طشا، فقلت: اللهم حوالينا ولا علينا، فما كان إلا أن عدل عنا، وضرب بجرانه غير بعيد منا، والرعد نفث رقى، وغنى ما شاء وسقى، وأفضى بنا الركض إلى مصاب سمائه، ومهراق عزالي مائه، وقد عمه لثق، وعمره غدق، وصعوده زلق، وهبوطه غرق، وحسبك من وحل يقيد مطايا الركبان، ويكب الرجالة على الأذقان، فلا ترى إلا خدودا، تعفر سجودا، ويروداً تصبغ حما وسودا، فما شئت من ممسك ومزعفر، ومعنبر ومصندل ومعصفر.
وسواء نجد هناك ووهد ... وسبيل قصدته ومسيل
وقد اعتل بين ظل وصحو ... نشر تلك الصبا وذاك الأصيل
وانتشى منه كل قطر فلولا ... هضب تلك العلى لكان يميل
فسرنا، وما كدنا، بين ساحة، ومساحة، حتى شارفنا الديار وقد عبس وجه السماء، وأدركنا أدهم المساء، يسمو النشاط بطرفه، وسيل عرق الندى على عطفه، وأشقر الشفق قد جاء خلفه، ونفض على مسقط الشمس عرفه، يمرح عزة لسبقه، ويجر من نحره عنان برقه، وذكر الله ملء الصدور والأفواه، وشفاء الألسنة والشفاه، وما كنا لنعبر مسافة تلك المجابة، إلا بدعوة اتفقت هناك مجابة، ولحقنا أدهم الإظلام يخب، وتنفس عن شمال تهب، فما اجتلينا وجه الأنس إبلا بشعلة مصباح، ينوب عن غرة صباح، كأنما كرع مجاجة راح، وأطلع إلى بارقة سماح.

عدة من فضلاء الأندلس

كانت بهم حياة معالم العلم الدرس، أوردهم الرشيد ابن الزبير في كتاب الجنان، ولهم في النظم والنثر سموط الجمان، وعقود اللؤلؤ والمرجان. فمنهم:

أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد
هذا من شعراء اليتيمة، وصفه برجاحة الفضل على كل مواز موازن، فإنه كان ذا فكر لأنوف أبيات المعاني خازم، ولشنوف أبيات المعالي خازن، وله تصانيف وتواليف أغرب فيها وأعرب، وأعجز وأعجب، ومن ذلك كتاب حانوت عطار، وهو يتمل على ملح من أبكار الأفكار، ومن جملة فقره قوله: من كتم الحق بعد ما ظهر، وستر البرهان بعد ما بهر، فإنما يجحد المسك طيبه بعد شمه، ويدعي ظلمة البدر ليلة تمه.
وقوله في وصف جبان: يزحف يوم الزحف إلى خلف، ويروعه الواحد وهو في ألف أزهد في الحرب من بني العنبر، وأدهش من مستطعم الماء على المنبر، بنو العنبر أشار إلى قول بعضهم:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
ومستطعم الماء على المنبر خالد بن عبد الله القسري وخبره مشهور.
وقوله في سلطان مضيع: إن كان من يعجبه اللهو، ويغلبه السهو، فهو.
وقوله في أوصاف، أهل إنصاف: إخوان استوت بواطنهم وظواهرهم، وصفت علانيتهم وسرائرهم، كلهم السموءل إلا دينه وفاء، وحاتم إلا جاهليته سخاء، وزياد إلا سميًّتهُ دهاء، وإيَّاس إلا عجبه ذكاء.
وقوله في ضد ذلك: إخوان أخون من السراب للعين، ومن أهل الكوفة للحسين، يادرون الهفوة بالإشاعة، ويسبقون الزّلَّة بالإذاعة.
وقوله في المؤاساة: المقل يرثي للمقل، لعلمه مرارة الفاقة، وضعف الطاقة، حتى أنه ليشد من أزره، بالنزر من بره، وللمساكين أيضا بالندى ولع.
وقوله في الشفاعة: جعلني سبيلا من جعلك مقصدا، ورآني زائدا من رآك موردا.
وقوله في المطل: المطل عدو النفس والإنجاز حبيبها، والتسويف مرضها والتعجيل طبيبها.
وقوله في ذم رجل: فيه عن الشكر سكر، وعن الحمد جمد، وعن الحسن وسن، وعن الإعطاء إبطاء، وأنا أرغب إلى الله في وجهين: أحدهما لقاؤك بلا وجهين، والآخر أن أرى علق النفاق، في سوقك قليل النفاق.
ومن قوله في صفة الشعراء: جرير كلب منابحة، وكبش مناطحة، جارى السوابق بمطية، وفاخر غالبا بعطية.
أبونواس، خرم القياس،وترك السيرة الأولى، ونكب عن الطريقة المثلى، وجعل الجد هزلا، والصعب سهلا وصادف الأفهام قد كلت ونكلت، وأسباب العربية قد انحلت ونحلت، والفصاحات الصحيحة قد سئمت وملت، فمال الناس إلى ما عرفوه، وعلقت نفوسهم بما ألفوه، فتهادوا شعره، وأغلوا سعره، وشغفوا بأسخفه، وفتنوا بأضعفه وقد فطن باستضافه، وخاف من استخفافه، فاستطرد بفصيح طرده.
ومن شعره ابن شهيد قوله من قصيدة أولها:
طرقتك بالدهنا وصحبك نوًّم ... والليل أدهم بالثريا ملجم
ومنها في مدح بني الشامي وتنزيه الممدوح عن النسبة إلى بلد، ولم يسبقه إليه أحد:
والشام خطتكم وليست نسبة ... إلا كما نسبت إليه الأنجم
وله:
ولما تَمَلَّأ من سكره ... ونام ونامت عيون العسس
دنوت إليه على بعده ... دنوًّ رفيق درى ما التمس
أدب إليه دبيب الكرى ... وأسمو إليه سموَّ النفس
فبت به ليلتي ناعما ... إلى أن تبسم ثغر الغلس
أقبل منه بياض الطلى ... وألثم منه سواد اللعس
قوله: أدب إليه دبيب الكرى، أحسن ما قيل في هذا المعنى، قول أمريء القيس:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سموَّ حباب الماء حالا على حال
ونحوه قول ابن حجاج:
فديته من طارق في الكرى ... يسقط بالليل سقوط الندى
ولأبي عامر ابن شهيد في وصف السيف والرمح:
ومن تحت حضني أبيض ذو شقائق ... وفي الكف من عسَّالة الخط أسمر
هما صاحباي من لدن كنت يافعا ... مقيلان من جد الفتى حين يعثر
فذا جدول في الغمد يشفى به الصدا ... وذا غصن في الكف يجنى ويثمر
وله في وصف حمَّام:
أنعم أبا عامر بلذّته ... واعجب لأمرين فيه قد جمعا
نيرانه من زنادكم قدحت ... وماؤه من بنانكم نبعا
وله في وصف فرس:

وكأنني لما انحططت به ... أرمي الفلاة بكوكب طلق
وكأنّني لما طلبت به ... وحش الفلاة على مطا برق
وله:
بطل إذا خطب النفوس إلى الوغى ... جعل الظبي تحت العجاج صداقها
وإذا الملوك جرت جيادا في الندى ... والباس قطًّع سيفه أعناقها
ومنها:
ولو أن أفواه الضراغم منهل ... للورد أورد خيله أشداقها
وله من أبيات مرثية:
وقالوا أصاب الموت نفسا كريمة ... فقلت لصحبي هذه نفس صالح
هذا من قول دريد ابن الصمة:
تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا ... فقلت: أعبد الله ذلكم الرّدي
وقد أحسن مهيار الاتباع في قوله:
بكر النعيّ فقال أودى خيرها ... إن كان يصدق فالرضيُّ هو الرّدِي
ولابن شهيد رسالة في البرد: صبحتنا اليوم خيل البرد، مغيرة على سوام كل ممتد، وانقبضت إلى باب الإيوان، وقد خدشني بصارم وسنان، وجعلت مجني حطبا دل على نفسه، وقد تشظى من يبسه، وسلطت عليه حاجب الشرر، ورميته منها ببنات الحديد والحجر فوافقها قليلا، وعاركها حينا، لها عجيج، وله من حر نزالها ضجيج، ثم أثخن بها ضربا فبددت شمله وألفت شملنا واستحالت حية لا يستحل قتلها ترمي من ألوان، وتهدد بلسان، فلذعت البرد لذعة، ونكزته على فؤاده نكزة، خرّ لها عن جبينه، ومات من حينه، وغشينا من فائض حمتها حرّ كان لنا حياة، ولذلك وفاة، فالحمد لله على نعمته، وما أرانا من غريب قدرته، ودلّنا على لطيف بدعته، ولما استحال الجمر رمادا، وتمهد لنا من الدفء مهادا، ولمحته العين كالورد، عليه كافور الهند، انبسطت يد شاكرك فذكر ما كلفته، من الزيادة في المعنى الذي اعتمدته

أبو مروان ابن أبي الخصال
سبق ذكر أخيه أبي عبد الله ابن أبي الخصال، وكان حميد الخصال، شديد النصال، سديد المصال، ولهذا رسائل كثيرة، ومحاسن أثيرة، فمن رسائل أبي مروان، رسالة كتبها إلى بعض الإخوان:
أرى النوى تقتضيني كل مرحلة ... لا تستقل بها الوخّادة الرسم
كتبت أدام الله عزكم واللوعة مرتكمة، وأيدي النوى محتكمة، وزمامي بكفها تقوده وأتبع من خلفها على مشيتها أنقلب، وليس لي وراءها مذهب، ترميني منها بكل حاصب، وأغدو وأروح على سقم واصب:
وأرجو غدا فإذا ما أتى ... بكيت على أمسه الذاهب
بينا أتوهم مصافحكتكم، وأمثل لنفسي مناجاتكم، وأتخيل مسامحة الأيام بلقائكم، وأن تطلع نجومي في سمائكم، فأكرع في مواردكم شاربا، وأصبح عن الحوادث بكم جانبا، إذا بها قد جرت في سجيتها من الإقصاء، ودفعت في صدري إلى الصحراء، فسقط في يدي، وتضاعف الأسى والوجد علي، وخذل بعضي بعضي، وأطبقت سمائي على أرضي، وصارت الصغرى التي كانت العظمى، وجلت الحادثة بي أن تنمى، ومت غمّا أو كدت وإن لم أمت حقيقة فقد مت.
وإن أسلم فلم أسلم ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام
وكنت أرى أن قد انتهيت من البلاء إلى أبعد طرف وغاية لا تتخلف، والآن فقد عادت لي الأطراف أوساطا، وأفرطت في التناهي إفراطا، إلى الله أشكو فقدكم وبعدكم، فطالما لقيت منها بعدكم، وأسأله وهو الملي، وأستوهبه وهو الغني، لما يعقب اعتباطا، ويطوي من الأرض بيني وبينكم بساطا، وذلك إليه، وهين عليه.
وكتب إلى مغنّ: للسرور أطال الله بقاءك مخضوبة بالمدام راحتك، وموصولة بالدوام راحتك. آلتان أنيستان، وحالتان نفسيتان، فمتى اقترنتا فقد اقترنت بيمنى يسرى، وعظم سلطان السرور واستولى، وحضرتنا إحداهما وهي ابنة العنقود، وتعذرت الأخرى وهي رنة العود، فإن رأى أن يضيف إلى اليسرى يمنى، ويجعل للقلادة وسطى، حتى يشرف خامل المسرة قدرا ويطلع هلال الأنس بدرا، فعل منعما.
ومن أخرى إلى صديق أراد زيارته ثم انصرف قبل الوصول إليه:
ذهبت من الهجران في كل مذهب ... ولم يك حقا كل هذا التجنب
ما بال سيدي راجع به الله، وأجارنا من عتبه بعتباه، وقد قبض خطوه، وقصر عن الزيارة شأوه، بعد أن شارف أفقنا، وشام برقنا، ونزل منا بحيث يسمع السرار، وتتراءى للناظر النار.
كأن لم يكن يوما يزورة صالح ... وبالقصر ظل دائم وصديق

فهلا ذكر أيام الحمى فعطف، ومر بربع الأحبة فوقف، ورعى عهد أثلاث القاع، وحنّ إلى نسيم الخزامى بهذه الأجزاع، ولولا أشغال تصدت، وأعواد صدت، لتيممت أرضه، وقضيت فرضه، وهيني فعلت وحدي ذلك فما أقع من معشر يتوكفون لقاءه، ويتطلعون سناءه.
وكتب إلى أمير المسلمين: أطال الله بقاء أمير المسلمين، وناصر الدين، والعدل حلية أيامه، والنجح عاقد أعلامه، واليمن مكانف سلطانه، وحافظ نظامه، ولا زال يمده النظر، ويطالعه اليسر، ويشرق بمساعيه المنيرة العصر، كتبته من نصيحته التي فرضتها الشريعة، وطاعته التي هي العروة الوثقى الوثيقة المنيعة، والتزامي لأمره سريع أقيمه، وحظ من البر أستديمه، وأستعين الله على إتيان وفقه، وأداء ما فرض من حقه.
وكتب إليه أيضاً: أطال الله بقاء أمير المسلمين، ورايته معوَّدة الظفر، ودولته مشرقة الغرر، وعز سلطانه ملء السمع والبصر، كتبته وأنا أعتصم بحلبه، وأستوطن حزم عدله، وأتوسد بردي ظله.

أبو الحسن علي بن عطية البلنسي المعروف ب
ابن الزقاق
قال: شاعر متأخر في الزمان، متقدم في الإحسان، له ألفاظ أرق من نفحات حدائق الرياض، ومعان أدق من عبرات الأحداق المراض، فمن ذلك قوله:
يا برق نجد هل شعرت بمتهم ... وهب الكرى لوميضك المتبسم
ما طالعته في الدجى لك لمحة ... إلا وقال لِمُزْنِ مقلته اسجم
ومنها:
ولقد طرقت الحي في غسق الدجى ... والليل في زي الحصان الأدهم
متنكبا زوراء مثل هلاله ... نَصّلْتُ أسهمها بمثل الأنجم
وقوله:
وقفت على الربوع ولي حنين ... إلى الأحباب ليس إلى الربوع
ولو أني حننت إلى مغاني ... أحبائي حننت إلى دموعي
وقوله:
وحبب يوم السبت عِنْدي إنَّه ... ينادمني فيه الذي أنا أحببت
ومن أعجب الأشياء أنِّيَ مُسْلِمٌ ... حنيف ولكن خير أيَّامِي السبت
وقوله:
أديراها على الزهر الندي ... فحكم الصبح في الظلماء ماض
وكأس الراح تنظر عن حباب ... ينوب لنا عن الحدق المراض
وما غربت نجوم الليل لكن ... نقلن من السماء إلى الرياض
وقوله يصف حمَّاما:
رب حمَّام تلظى ... كتلظي كل وامق
ثم أذرت عبرات ... صوبها بالوجد ناطق
فغدا منه ومني ... عاشق في جوف عاشق
وقوله مما يكتب على قوس:
دع الخطيَّ يثني عطفه لي ... فإن لأسهمي فضلا عليه
إذا كان العلى قتل الأعادي ... أيفضل غير أسْرَعِنَا إليه
وقوله وهو أحسن ما قيل في دقة الخصر:
وإنسية زارت مع الليل مضجعي ... فعانقت غصن البان منها إلى الفجر
أسائلها أين الوشاح وقد سرت ... معطلة منه معطرة النشر
فقالت وأومت للسوار: نقلته ... إلى معصمي لما تقلقل في خصري
وقوله:
ومرتجة الأعطاف أما قوامها ... فلدن وأما ردفها فرداح
ألمت بنا والليل في قصر بها ... يطير وما غير السرور جناح
فبت وقد زارت بأنعم ليلة ... يعانقني حتى الصباح صباح
على عاتقي من ساعديها حمائل ... وفي خصرها من ساعديَّ وشاح
وقوله:
وعشية لبست ملاء شقيق ... تزهى بلون في الخدود أنيق
أبقت بها الشمس المنيرة مثل ما ... أبقى الحياء بوجنة المعشوق
ولو استطعت شربتها كلفا بها ... وغنيت منها عن كؤوس رحيق
وقوله في غلام جرح في خده:
وأحوى رمى عن قسيِّ الحور ... سهاما يُفَوّقُهُن النظر
يقولون وجنته قسمت ... ورسم محاسنه قد دثر
وما شق وجنته عابثا ... ولكنها آية للشر
جلاها لنا الله كيما نرى ... بها كيف كان انشقاق القمر
هذا معنى مخترع، أغرب فيه وأبدع.
وقوله:
زارتك من رقبة الواشي على فرق ... حتى تبدي وميض المرهف الذلق

وخفض الجأش منها أن ملك يدي ... بحر يغص به الواشي من الشرق
سَكَّنْتُها بعد ما جالت مدامعها ... من مقلتيها فريدا في ظبي الحدق
فأقبلت بين صمت من خلاخلها ... وبين نطق وشاح حائل قلق
تبدو هلالا ويبدو حليها شهبا ... فما نفرق بين الأرض والأفق
فأرسلت من مثنى فرعها غسقا ... في ليلة أرسلت فرعا من الغسق
في ليلة خلتها زنجية طفقت ... تزهى بعقد من الجوزاء متّسق
غازلتها والدجى الغربيب قد خلعت ... منه على وجنتيها حلة الشفق
فودعت ودموع المزن تسعدني ... عند الفراق بدمع واكف غدق
ومنها:
أنا الذي ظل بالأحداث مشتملا ... دون الأنام اشتمال السيف بالعلق
كأس وعاري حظوظ في شبيبته ... وكم قضيب يد عار من الورق
وقوله:
مظلول أملود الصبا مياسه ... خلع الشباب عليه فهو لباسه
قمر وأكناف الحشا آفاقه ... ظبي وأحناء الضلوع كناسه
لم أدر إذ جاءت بنكهته الصبا ... أتضوٌّع الكافور أم أنفاسه
ولقد عيينا غذ تمايل سكرة ... ألحاظه مالت به أم كاسه
للحسن مرقوم على وجناته ... سطر وصفحة خده فرطاسه
إن خالفت تلك المحاسن فعله ... فالسيف يطبع من سواه باسه
وقوله يصف فرسان حرب:
ومسددين إلى الطعان ذوابلا ... فازوا بها يوم الكفاح قداحا
متسربلي قِمْص الحديد كأنها ... غدران ماء قد ملأن بطاحا
شبوا ذبال الزرق في ليل الوغى ... وأبان كل مذرب مصباحا
سرج ترى الأرواح تطفيء غيرها ... أبدا وهذي تطفيء الأرواحا
لا فرق بين النيرات وبينها ... إلا بتسمية الوَشِيجِ رماحا
هبها تبدت في الظلام كواكبا ... لم لا تغور مع النجوم صباحا
يجني الكماة النصر من أشجارها ... لما غدت بأكفهم أدواحا
لا غرو أن راحت نشاوى واغتدت ... فلقد شربن دم الفوارس راحا

أبو العلاء عبد الحق بن خلف بن مفرج الشاطبي الكاتب المعروف ب
ابن الجنان
ذكره ابن الزبير في كتاب الجنان، وقال: هو حي إلى الآن، وذلك في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة.
وله:
وكنا وريب الدهر وسنان والنوى ... بعيد مداها لا تروع لنا سِرْبَا
فعدنا وقد صرنا بمرأى ومسمع ... فأبصِر به عينا وأسمِع بها قربا
أبا حسن إن كنت أصبحت نازحا ... أراقب لمع البرق أو أسأل الركبا
فكم قد تجاذبنا الحديث لياليا ... تقلده أجيادها لؤلؤا رطبا
وهل كنت إلا الشمس لاحت لناظر ... فآونة شرقا وآونة غربا
باب في ذكر جماعة من الغرب
استفدت شعرهم من الشيخ الصالح أبي علي الحسن بن صالح الأندلسي المالقي وغيره:
ابن الطراوة المالقي
هو الشيخ الأستاذ أبو الحسين النحوي، ذكر لي الشيخ الصالح الحافظ أبو علي الأندلسي أنه عاش ابن الطراوة نيفا وتسعين سنة ومات قبل سنة ثلاثين وخمسمائة. وله مصنفات في النحو. وكان من الشعراء المجيدين. وكان يعرف بالأستاذ. وذكر أنه لا يلقب بالأستاذ في المغرب إلا النحوي الأديب. قال: أنشدني لنفسه، في أهل بلد استسقوا فلم يمطروا وأقشع سحابهم بعد بدوّه:
خرجوا ليستسقوا وقد نشأت ... سَحَرية قمِن بها رشح
حتى إذا اصطفوا لدعوتهم ... وبدا لأعينهم بها نضح
كشف الغطاء إجابة لهم ... فكأنّهم خرجوا ليستصحوا
ووجدت له في كتاب الجنان لابن الزبير قوله:
وقائلة أتكلف بالغواني ... وقد أضحى بمفرقك النهار
فقلت لها حضضت على التصابي ... أحق الخيل بالركض المعار
ولأبي الحسين ابن الطراوة:
ولماتخلوا من جراوة وانتموا ... لكلب وراموا أن يقال لهم عرب

أباحوا فروج المحصنات تشبها ... بما فعلت في جاهليتها كلب
وله يهجو:
تظلمنا ولم نزل أبدا للظلم جنانا ... قد كان من خطأ الأيام ما كانا

أبو الحسن ابن هارون المالقي
الفقيه المشاور. أنشدني الشيخ الصالح أبو علي الحسن بن صالح، قال أنشدني الفقيه المشاور أبو الحسين ابن هارون لأخيه أبي الحسن:
لا تحرصن فإنّ الحرص مندمة ... إذ ما يصيب الفتى قد خط بالقلم
قال وأنشدني لأخيه يمدح القاضي أبا الفضل عياض بن عياض قاضي سبتة:
ظلموا عياضا وهو يحكم عنهم ... والظلم بين العالمين قديم
جعلوا مكان الراء عينا في اسمه ... كي يكتموه وأنه معلوم
لولاه ما فاحت أباطح سبتة ... والروض ول فنائها معدوم
وأنشدني الشيخ الصالح ابن صالح الأندلسي لأبي الحسن ابن هارون الأندلسي في الزهد:
أراك يغرّك الأمل ... ويقطع دونه الأجل
وحالك في تنقله ... كمثل الفيء ينتقل
فديتك كيف لا تبكي ... وأنت غدا سترتحل
ورأسك بعد حلكته ... غدا بالشيب تشتعل
أرى زمن الصبا ولى ... وجاء الشيب والكسل
فهل لشبابنا رد ... وهل في رده حيل
نعم سيعود إن عادت ... عليك الأعصر الأول
وفي الأيام معتبر ... لها في أهلها دول
فقوم قد علوا فيها ... وأقوام بها سفلوا
وكم صرعت محبيها ... ولا بيض ولا أسل
وكم باتوا على فرش ... عليها تضرب الكلل
أباد الدهر جمعهم ... وجوزوا بالذي عملوا
فما للنفس غافلة ... وبالشهوات تشتغل
وتزعم أن غدت نجدا ... بمن تهواهم الإبل
وكم من قبلكم قوم ... على الدنيا قد اقتتلوا
فما بلغوا الذي طلبوا ... ولا ما أمَّلوا وصلوا
ألا لله ذو جد ... بنوم ليس يكتحل
ينادي الله مجتهدا ... وثوب الليل منسدل
بقلب حازن وجل ... ودمع العين منهمل
ابن حلو الشاعر
بالمغرب الأوسط، من أهل جيجل، أنشدني الفقيه نصر بن عبد الرحمان الإسكندري ببغداد في ذي الحجة سنة ستين وكتبه لي وقال أنشدني الشيخ أبو العباس النجامي الأنصاري المغربي بدمشق لابن حلو الشاعر المغربي:
يحتاج من كلف الحاجات مثلكم ... نقف الشوارب بعد الكي في الراس
فلو سلختم قرانا في جماجمكم ... كونوا حثالة خلق الله في النّاس
قال: أنشدني أبو العباس أيضاً، قال: أنشدني ابن حلو وقد قدمته في زقاق ضيق وقلت: للسن حق:
إن كنت قدمتني للسن معتمدا ... فالعلم أفضل تقديما من العمر
ما للكبير بلا فهم مقدمة ... ولو يكون بعمر الشمس والقمر
أبو القاسم عبد الرحمان
ابن خرشوش المغربي
ذكره أبوالفتح نصر بن عبد الرحمان الغزاري الإسكندري قال: كان ذا أدب مجيدا في علم الشعر، آباؤه من سلاطين المغرب، له نفس سامية، وهمة عالية، وقصائد كثيرة، وأنشدني كثيرا من شعره قال: وأنشدني بدمشق لنفسه في وصف صبي كان يستحسنه جدا يعرف بابن أبي النجم:
مَلامِيَ في حُبِّيكَ يا ابن أبي النجم ... يطول وصدي عنه في غاية الحزم
سأعصي مقال العاذلين وإن غدا ... وصالك عن مضناك أقصى من النجم
وما يظُبى عينيك من سحر بابل ... ومن سقم أهدى السقام إلى جسمي
أرح دنفا لم تدر عيناه ما الكرى ... ولا جسمه يدري شعارا سوى السقم
أبو الحسن عبد الله ابن شمّاخ الكاتب
له:
لئن بعدت دار اعتاربك وانتهى ... بك الشوق فيها منتهى لا تحدّه
فما أنت إلا بين ذكر تشيده ... وعقد اصطبار للملم تشده

وقد يكره المرء النوى وهي سلم ... إلى كل ما يختاره ويودّه
وكم مرة ذقت الحوادث مرة ... وقاسيتها والبين قد جد جدّه
فلم يلق مني حد صبر يفله ... ولم يلف عندي طود عز يهدّه
وله في الهناء بمولود:
أيها الدهر لنت بعد عناد ... وبثثت السرور في كل ناد
نشأت نعمة وعندي شكر ... في ذرى الحاجب الرفيع العماد
وانجلى الليل عن تلألؤ نجم ... ثاقب النور طيب الميلاد
فالزمان القطوب طلق المحيا ... والمراد الجموح سهل القياد
هي بشرى لت لكل ولي ... وأمرت على قلوب الأعادي
فلنا دولة الصّعود وفيهم ... ما بقوا صولة الظبي والصعاد
أنت حظي من الملوك وسؤلي ... وطريقي من المنى وتلادي
فاستدم ما منحت بالحمد حتّى ... تدرك الشيب من بني الأولاد
نقل قول البحتري:
وبقيت حتى تستضيء برأيه ... وترى الكهول الشيب من أولاده
وله:
وبنفسي أحوى الجفون غرير ... مخصب الحسن مجدب الإحسان
محمد ابن السبّي
يهجو القاضي ابن حمدين أنشدني الحكيم يحيى بن إسماعيل بن يحيى البياسي من الأندلس:
يريد ابن حمدين أن يجتدى ... وجدواه أدنى من الكوكب
إذا سئل حكّ استه ... ليثبت دعواه من تغلب
هذا ينظر إلى قول جرير يهجو الأخطل:
والتغلبي إذا تنبه للقرى ... حك استه وتمثل الأمثالا
وذكر أنه لقبه ابن سارة وهو حينئذ حدث السن، فقال له: أجز يا فتى:
هذي البسيطة كاعب أترابها ... حلل الربيع ووشيها الأزهار
فأجازه بديها:
وكأن هذا الجو فيها عاشق ... قد شفه التعذيب والأضرار
فإذا شكا فالبرق قلب خافق ... وإذا بكى فدموعه الأمطار
ولفرط ذلة ذا وعزة هذه ... تبكي الزهور ويبسم النّوار
وأنشدني له وقد قضى له بعضهم بعض حاجة:
سألتك أيها الأستاذ حاجه ... بلا ضجر تكون ولا لجاجه
فجئت ببعضها وتركت بعضا ... ومن حق المقصر أن يفاجه
جزاك الله عني نصف خير ... فإنّك قد أتيت بنصف حاجه
وله من قصيدة في ابن حمدين:
لا بد أن يقع المطلوب من سؤلي ... ولو بني داره في دارة القمر
ابن الرّفاء
ومن أهل بلنسية، توفي شابا في حدود سنة أربعين وخمسمائة، وله:
يا ضياء الصبح تحت الغبش ... أطراز فوق خديك وشي
أم رياض دَبَّجَتْهَا مزنة ... وبدا الصدغ بها كالحنش
لست أدري أسهام اللحظ ما ... أتقى أم لدغ ذاك الأرقش
بأبي منك قسيّ لم تزل ... راميات أسهما لم تطش
رَشَقَتْ قلبا خفوقا يلتظي ... كضرام بيديْ مرتعش
رب ليل بته ذا أرق ... ليس إلا من قتاد فُرُشي
سابحا في لجج الدمع ول ... كنبي أشكو غليل العطش
ونجوم الليل في أسدافه ... كسيوف بأكف الحبش
وسماء الله تبدي قمرا ... أوضح الغرة كابن القرشي
ليس فرقا في السنا بينهما ... والبها إن طَلَعَا في غبش
غير أن الأفق مغمور بذا ... وبذا حومة باب الحبش
باب من أبواب بلنسية. ولقيت في هذا أبياتا قالها بعضهم وكانت:
معشر الناس بباب الحبش ... بدر تمّ طالع في غبش
بائع الفخار في حانوته ... عجبا من حسنه كيف وشي
علق القرط على مسمعه ... من عليه آفة العين خشي
أنا ظمآن إلى ريقته ... لو بها جاد لروّى عطشي

أبو بكر يحيى ابن بقي الأندلسي
من شعراء الخريدة ، توفي سنة أربعين وخمسمائة
ومشمولة في الكأس تحسب أنها ... سماء عقيق زينب بالكواكب
بنت كعبة اللذات في حرم الصبا ... فحج إليها اللهو من كل جانب
المخزومي الأعمى

من غرناطة ذكره وقال: كان نذلا هجاء. ومن هجائه في ابن رعمان وهو رجل من أكابر غرناطة:
خلا نجل رعمان ليلا بعرسه ... فجامعها في ساعة الدبران
فجاءت به مأبون أشوه خلقة ... كريم عجان لا كريم بنان
وتدور إحدى مقلتيه لأختها ... كأنهما عنزان ينتطحان
وما وقع المأبون من حِرِ أمِّهِ ... إلى الأرض إلا فوق رأس ختان
أبو بكر البكّي
وبكة حصن في شرق الأندلس. بلغ الهرن وتوفي بعد سنة ستين وخمسمائة وكل ما ينظمه هجو ومن شعره قوله:
أخاف من الجوارح أن يلموا ... ومالي بالجوارح من يدين
فإما تدخلونيَ حِرْحَ أسْمَا ... فأقلب كل ذي نظر وعين
يعني: لاتّساع الموضع:
وإلا فارفعوني إن قدرتم ... على قرن الوزير أبي الحسين
أسماء: زوجته وله:
قالوا الكتابة أعلى خطة رفعت ... قلت الحجامة أعلى عند أقوام
لا تحسبوا المجد في طرس ولا قلم ... المجد في صوفة أو مبضع دام

أبو بكر محمد الأبيض
توفي بعد سنة ثلاثين وخمسمائة، أنشدني له في تهنئة مولود:
يا خَيْرَ معن وأولاها بعارفة ... شُكْراً لِنَعْمَاء عنها الدهر قد نفسا
ليهنك الفارس الميمون طائره ... لله أنت فقد أذكيته قبسا
وتعشق الدرع مذ شدت لفائفه ... وأبغض المهد لما أبصر الفرسا
أصاخت الخيل آذانالصرختهواهتز كل هِزَبْرٍ عند ما عطسا
تعلم الركض أيام المخاض به ... فما امتطى الخيل إلا وهو قد فرسا
أبو عبد الله محمد ابن عائشة البلنسي
قد سبق ذكره وأوردت له بيتين. أحد كتاب أمير المسلمين، والبلغاء الموصوفين، وكان متعففا، متزهدا متقشفا، أجاب إلى الكتابة بعد امتناع وإباء، وحصل منه بكل حظ وحباء، ومن شعره قوله:
لله ليل بات في جنحه ... طوع يدي مَن مهجتي في يديه
وبته أسهر أنسا به ... ولم أزل أسهر شوقا إليه
عاطيته صفراءمشمولةكأنها تعصر من وجنتيه
ما أحسن قول القائل حين قال:
أمن خديك تعصر قال: كلا ... متى عصرت من الورد المدام
ولابن عائشة قوله: وهو مما أبدع فيه وزاد على من تقدم:
إذا كنت تهوى وجهه وهو روضة ... بها نرجس غض وورد مضرج
فزد كلفا فيه وفرط صبابة ... فقد زاد فيه من عذار بنفسج
وقوله وقد سبق:
ودوحة قد علت سماء ... تطلع أزهارها نجوما
كأنما الجو غار لما ... بدت فأغرى بها النسيما
هفا نسيم الصبا عليها ... فخلتها أرسلت رجوما
وقوله وقد أسن واكتهل، واهتبل فرصة العمر وإلى الله ابتهل:
ألا خلياني والأسى والقوافيا ... أرددها شجوا وأجهش باكيا
أآمن شخصا للمسرة باديا ... وأندب رسما للشبيبة باليا
تولى الصبا إلا توالي ذكرة ... قدحت بها زندا من الوجد واريا
وقد بان حلو العيش إلا تعلة ... تحدثني عنها الأماني خواليا
فيا يرد ذاك الماء هل مك قطرة ... فها أنا أستسقي غمامك ناشيا
وهيهات حالت دون حُزْوَى وعهدها ... ليال وأيام تخال لياليا
قفل في كبير عادة عائد الصبا ... فأصبح محتاجا وقد كان ساليا
فيا راكبا مستعجل الخطو قاصدا ... ألا عج بشقر رائحا ومغاديا
وقف حيث سال النهر ينساب أرقما ... وهبَّ نسيم الأيك ينفث راقيا
معنى ابتكره، وما من ذي فضل إلا وعلى هذا الإغراب شكره:
وقل لأثيلات هناك وأجرع ... سقيت أثيلات وحييت واديا
وليس ببدع أن تعذب في الهوى ... فحييت من أجل الحبيب المغانيا
أبو بكر الخولاني المنجم
منجم المعتمد ابن عباد، كتب إلى ابن اللبانة وقد عاد من أغمات فقصدنا زائرا للمعتمد عند اعتقاله بها وزوال أمره:

بدرت إلى تقبيل عين أبي بكر ... لرؤيته البدر المنير على البدر
وقبلت فَاهُ ناقل الحكم التي ... هي السحر من نظم يروق ومن نثر
ولو لم يدافعني عن القدم التي ... خطت نحوه قبلت أخمصها عمري
لقد نال ما استدعى حسادتنا به ... وما حسد في مثل هذا بنا يزري
حسدناه أن نال البعيد مزاره ال ... ممثل منا في الخواطر والفكر
وإن قبّل الكف المبرة في الندى ... على الزاخر الفياض والواكف البشر
وإن شام لألاء الجبين الذي به ... تكشفت الظلماء في سالف الدهر
وما أبعدتنا عن مزارك غدرة ... يضاف بها للدائمين على الغدر
ولكن أمور ليس تخفى لناظر ... فلسنا بمحتاجين فيها إلى العذر
وأحفل بتسليم على البش دائما ... لرؤية ملهوف ورؤية معتر
على مكسب الأملاك زهوا ونخوة ... بنيلهم تقبيل أنمله العشر
إذا ما استرحنا بالتمني فإنه ... لقاؤك في الزاهي وساحاته الخضر
ولا بأس أن يدني الأله مزارنا ... ويجمعنا من حيث ندري ولا ندري
أمين ولا تكريرها لي مقنع ... ولو أنني كررتها عدد القطر
أبو القاسم الأسعد بن إبراهيم ابن بلّيطة
شاعر المعتصم ابن صمادح، ومجازيه المنائح بالمدائح، سبق ذكره في ما أورده ابن بشرون المهدوي، فلما اشتبه أوردت ها هنا مما أورده ابن الزبير في كتاب الجنان من شعره وهو قوله من قصيدة طائية:
برامة ريم زارني بعد ما شطا ... تقنصته بالحلم والشط فاشتطا
رعى من أناس في الحشا ثمر الهوى ... جنيا ولم يرع العرار ولا الخمطا
فاشممني من خده روضة الجنى ... وألذعني من صدغه حية رقطا
أمحمرة العينين من ذوق سكره ... متى شربت ألحاظ عينيك أسفنطا
وما ذاب كحل الليل في دمع فجره ... إلى أن تبدي الصبح كاللمة الشمطا
كأن الدجى جيش من الزنج وافد ... وقد أرسل الإصباح في أثره القبطا
ومنها في وصف الديك:
وقام لنا ينعي الدجى وشقيقه ... يدير لنا من بين أجفانه سقطا
إذا صاح أصغى سمعه لندائه ... وبادر ضربا من قوادمه الأبطا
ومهما اطمأنت نفسه قام صارخا ... على خيزران نيط من ظفره خرطا
كأن أنوشروان أعلاه تاجه ... وناطت عليه كف مارية القرطا
ومنها في العذار:
أرى صورة المسواك في حمرة اللمى ... وشاربك المخضر بالمسك قد خطا
عسى قزح قبلته فأخاله ... على الشفة اللمياء قد جاء مختطا
توهم عطف الصدغ نونا بخدها ... فباتت بمسك الخال تنقطه نقطا
وقوله:
جرت بمسك الدجى كافوة السحر فغاب إلا بقايا منه في الطرر
صيح يفيض وشخص الليل منغمس ... فيه كما غرق الزنجي في نهر
قد حار بينهما عن برزخ قمر ... يلوح كالشّنف بين الخد والشعر
وقال في مجدور الوجه:
من رأى الورد تحت قطر نداه ... لم يعب فوق وجنتي جدريا
أنا شمس أردت في الأرض مشيا ... فنثرت النجوم فوقي حليا
وقوله وينسب إلى غيره:
لَبِسُوا من الزرد المضاعف نَسْجه ... ماء طفا للبيض فيه حباب
صف كحاشية الرداء يؤمه ... صف القنا فكأنّه هداب
هذا معنى ابتكره واخترعه وابتدعه ولم يجز أحد في مضماره معه وإليه نظر قول ابن خفاجة:
وغدت تحف به العصون كأنّها ... هدب تحف بمقلة زرقاء
ولابن بليطة:
سكران لا أدري وقد وافى بنا ... أمن الملاحة أم من الجريال
تتنفس الصهباء من لهواته ... كتنفس الريحان في الآصال
وكأنّما الخيلان في وجناته ... ساعات هجر في زمان وصال
وقوله في أسود أحدب يسقي الخمر:

يا رب زنجي لهوت به ... شمس الضحى لدجاه ممقوته
محدودب قد غاب كاهله ... في منكبيه فما ترى ليته
وكأنّه والكأس في يده ... جُعَلٌ يدحرج فَصَّ ياقوته

ابن المصيصي الأندلسي
له يتغزل:
شكوت إليه بفرط الدنف ... فأنكر من علتي ما عرف
وقال: الشهود على المدعي ... وأما أنا فعليّ الخلف
فجئت ابن جهور المرتضى ... فقيه الملاح وقاضي الكلف
فقلت له إنني عاشق ... فقال الشهود على ما تصف
فقلت له: أدمعي شُهَّدِي ... فقال: لئن شهدت تنتصف
فأرسلت منهملات معا ... كمثل السحاب إذا ما يكف
وكان بصيرا بأمر الملاح ... ويعلم من أين أكل الكتف
فأوما إلى الخد أن يُجْتَنَى ... وأوما إلى الريق أن يرتشف
ومنها:
فلما رآه حبيبي معي ... ولم يختلف في الهوى مختلف
أزال العتاب فعانقته ... كأني لام وإلْفِي ألف
وظلت أعاتبه في الجفا ... فقال عفا الله عما سلف
هذا آخر ما أورده من كتاب خريدة القصر وجريدة العصر الإمام العالم الأوحد الصاحب الصدر الصاحب ذو الرئاستين جمال الحضرتين أكفى الكفاة أفصح البلغاء، أبلغ الفصحاء شرف الكتاب أمين الملك عمدة الملوك والسلاطين عماد الدين عزيز الإسلام فتى الفرق ذو البلاغتين رئيس الأصحاب أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد الأصفهاني الكاتب الملكي الناصري قدس الله روحه ونور ضريحه. والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16