كتاب : خريدة القصر وجريدة العصر
المؤلف : العماد الأصبهاني

فكأنّ حرَبهُمُ أوارُ ضَرِيمةٍ ... بالقاع، أو بأسُ الوزيرِ أبي علي
ومن قصيدة له في عز الدولة أبي المكارم بن الوزير ابن المطلب أستاذ دار المسترشد بالله:
لمن الخيلُ كأمثالِ السَّعالِي ... عادياتٍ تتمطّى بالرّجالِ؟
ما عجاتٍ بَغطاريفِ وَغىً ... جَلَبُوا الموتَ بأطرافِ العوالي؟
حظَرَ الغِمْرُ عليهم دَعَةً ... فأباحُوا غارةَ الحيِّ الحِلالِ
لغُلامٍ هتفَ المجدُ به ... فغدا يفرعُ غاياتِ القِلالِ
حالفَ الدَّهرَ بأيمانِ العلى ... ليَلُفَّنّ رعالاً برِعالِ
ويُعيدُ الصّبحَ ليلاً بُمشارٍ ... من عجاجٍ ونجومٍ من نِصالِ
فاتّقُوا وثبةَ ليثٍ خادرٍ ... أكْلُتهُ الموتُ إذا يُدْعَي نَزالِ
ففؤادي من أذى مِصْركُمُ ... شارةٌ أودى بها كَرُّ النَّبالِ
كلمّا أوسعتُ حِلْمي جاهلاً ... أوسع الجهلُ له فُحشَ المقالِ
كلَّ يوم حسنُ صفحٍ مُطمعٍ ... يَشْمِتُ الفتكَ بلين الإحتمالِ
يا بني الأشعارِ، كفّوا سَفَهاً ... واقصُروُا، إنّ بِنا مجديَ عالِ
فالقوافي لكُمُ مسترزَقٌ ... ومَطايا أملي نحوَ المعالي
لكم البُلْغَةُ من مَكَسبها ... ولي الحالانِ: من مجدٍ ومالِ
ومنها:
توميء الأيدي إذا لُحْتُ كما ... أومأتْ غِبَّ صيامٍ لهلالِ
إننّي سَلِمٌ لمن سالَمني ... وفتى الرَّوْعِ لمن رامَ قتالي
عزّ بأسي أن أرَى مُضْطَهَداً ... وأبى لي غَرْبُ عزمي أن أبالي
ومنها:
لا تُلْمني في شقائي بالعلى ... رَغَدُ العيشِ لِرَبّاتِ الحِجالِ
إنّني في المجدِ أعْصى عاذِلي ... كظهيرِ الدِّينِ في بذلِ النَّوالِ
وله من قصيدة:
يا حُرَّةَ الأبَوْيِن، إنّ صَبابتي ... عَظُمَمتْ، ومالي في وِصالك طائلُ
سَدَّ العَفافُ عليَّ كلَّ ثَنِيّةٍ ... فالهَجْرُ عندي للوِصالِ مماثلُ
إنّ المياهَ حَسَدْنَ صَفْوَ مَدامعي ... فصفت لِوُرّادِ المياهِ مَناهلُ
وتأوُّهي أعدى الحَمامَ وبانَهُ ... فالبانُ مهتزٌّ، وتلك هَوادلُ
ولقد عَلِمْتُ بأنَّ نفسيَ صارمٌ ... والحادثاتُ وإن كَرِهْتُ صَياقلُ
وله من قصيدة نظمها بمرو:
أقولُ لقلبٍ هاجَهُ لاعجُ الهوى ... بصحراء مروٍ واستشاطتْ بَلابِلُهْ
وضاقت خُراسانٌ على مُعْرِقِ الهوى ... كما أحرزت صَيدَ الفَلاةِ حَبائُلهْ
أعنّي على فعل التّصُبُّرِ، إننّي ... رأيتُ جميلَ الصبّرِ يُحْمَدُ فاعِلُهْ
فلمّا أبى إّلا غَراما وصَبوةً ... أطعتُ هواكم، واستمرَّت شَواغِلُهْ
وأجريتُ دمعاً لو أصاب بسَحِّهِ ... رُبا المَحْلِ يوماً أنبتَ العشبَ هاطِلُهْ
هَبُوني أمرتُ القلبَ كِتمانَ حبّكم ... فكيف بجسمٍ باحَ بالوجدِ ناحلُهْ؟
وكنتُ أمرتُ العزمَ أن يخذُلَ الهوى ... وكيف اعتزامُ المرءِ والقلبُ خاذلُهْ؟
فكيف التّسلّي بعدَ عشرٍ وأربعٍ؟ ... أبى لي وفاءٌ لا تَذُبُّ جَحافِلُهْ
وله في بعض الأكابر، وقد عثر به فرسه:
لا تُنكِرنَّ لِطِرْفٍ أنت راكبُهُ ... فَرْطَ العِثارِ ولا الإفراطَ في الزّللِ
فكيف تجري إلى الغاياتِ سالمةً ... ريحٌ تكَلَّفُ حملَ البحرِ والجبلِ؟!
وله من قطعة كتبها إلى أمير المؤمنين المسترشد بالله:
خليفةَ الله، مالي كلّما بَسطَت ... نفسي الرَّجاءَ طوى الحرمانُ آمالي؟
وكلّما كثرتْ والحالُ شاهدة ... وسائلي، آذنت حالي بإِقلال
ومنها:
فهوِّنوا المالَ في إحراز حمِدكُمُ ... فالحمدُ للمُقتني خيرٌ من المال

وله في جمال الدولة إقبال المسترشدي قصيدة أولها:
عفا ضارجٌ من آل ليلى فعاقلُ ... وخفّت بأعباء القَطيِنِ الرَّواحلُ
ومنها:
وهيَّجَ وَجْدي، والدُّجَى مُرْجَحِنَّةٌ، ... حمامٌ بأغصان الأراكة هادِلُ
سَجَعْنَ، وقلتُ الشّعرَ، لكنّ أدمعي ... سوافحُ من حَرِّ الفراقِ سوابلُ
عداكُنَّ رامي الصّبح. إنّ صَبابتي ... تَقاصَرُ عنها الفاقداتُ الثَّواكلُ
وفي الظُّعْنِ فَتّاكُ اللِّحاظِ إذا رنا ... فسيّانِ عندي لَحْظُه والمعَابِلُ
يُظاِهرُ سحرَ العينِ خمرُ رُضا بِهِ ... كأنّ مُحَيّاه على الفَوْدِ بابِلُ
من البيضِ. أمّا وُدُّهُ فهو صارمٌ ... قَطُوعٌ، وأمّا وعدُهُ فهو ماطلُ
تعلّقتُهُ والحِلْمُ من مَرَح الصِّبا ... سِفاهٌ، وحقّي في البطالة باطلُ
وكم زارني سَلِمُ اللِّقاء، وإنّه ... من الحسن شاكٍ في السّلاح مقاتلُ
إذا ما تثّنى قدُّهُ فهْوَ رامحٌ ... وإنْ كرَّ من ألحاظه فهْوَ نابلُ
وعهدي بنا والنّازحُ الدّارِ رابعٌ ... مقيمٌ بنا، والقاطعُ الحبل واصلُ
لياليَ ألحاظُ الوُشاةِ رواقدٌ ... لنا، وقلوبُ الحادثاتِ غَوافلُ
فياليت شِعري والأمانيُّ ضِلَّةٌ ... من النّفس والأيّامُ مُعْطٍ وباخلُ
هلِ الدّارُ تدنو بالأحبّة بعدَما ... تفرَّق مجموعٌ وأقفرَ آهِلُ؟
عَدِمتُ اصطباري والنّوى مطمئّنةٌ ... فكيف أطِيقُ الصَّبرَ والحيُّ راحلُ؟
وله من قصيدة:
خفِّضا، ولا موتَ إّلا بِأَجَلْ ... واحْذَراني، سَبَقَ السّيفُ العذَلْ
ورِدا بي كبّة الخيلِ ضُحىً ... لِضرامِ الهامِ أو طعنِ المُقَلْ
لا تَظُنّا ضحِكي عن طربٍ ... فالسَّنا يُخبِرُ عن فَرْطِ الشُّعَلْ
ضِقْتُ ذَرْعا ببني اللؤم، فما ... تركت شكوايَ للشعر غَزَلْ!
وغدا ترتيلُ دَمِّي لَهُمُ ... شاغلً القولِ عن الثَّغْرِ الرَّتِلْ
مِلْءُ أهْبِ القومِ، إن فتّشتَها ... يا أخا سُفيانَ، كبرٌ وبَخَلْ
جَهِلوني، والعلى عارفةٌ ... بمقامي في نِزالِ وجَدَلْ
ومنها:
طالَ إجماميَ عن شأوِ المَدى ... وإذا يُرْتَبطُ الطِّرْفُ صَهِلْ
ولقد مَلَّ مُقامي أسرتي ... جارَ بغدادَ، ومثلي لا يُمَلّ!
وقوله:
أداري المرءَ ذا خُلُقٍ نَكِيرٍ ... وأعرِضُ صافحا عن ذنب خِلِّي
وأجعَلُ خُوصَ أفكاري حُلِيّاً ... فأغبطُهُ، كم طَوْقٍ كغُلِّ
وأغدو من غِنى نفسي غنّياً ... عن الدُّنيا، ولي حالُ المُقِلّ
ولا أرضى اللئيمَ لكشفِ ضُرٍّ ... ولو أسِلمتُ للموتِ المُذِلِّ
وكم ضَحِكٍ كتمتُ به دموعاً ... لِيَسْلَمَ عندَهُ سرّي وعقلي
ومن قوله يتضمن استزادة:
شرِبتُ دماً إنْ حال وُدّيَ ساعةً ... إلى غيرِ صفوٍ، أو أقَمْتُ على الذُّلِّ
وإنْ رُحتُ إّلا حامداً، غيرَ أنّني ... أخو حالة: إن لم أقُلْ، نَطَقت قبلي!
وإنْ بِعتُ آمالي من المجدِ والعلى ... مَبِيعَ الكسالى بالمَواطنِ والأهلِ
وإنْ بات يَثْنيني عن العزم موعدٌ ... بكى الفضلُ من إنجازه لأولي الجهلِ
فلا يخدَعَنَّ الحيَّ صبري، فإننّي ... لأمْرَقُ عندَ المودياتِ من النَّبْلِ
ومن قوله:
هَنا رَجَبَ الشّهورِ وما يليهِ ... بقاؤُك أنت يا رَجَبَ الرِّجالِ
له البركاتُ. لكنْ كلَّ حولٍ ... وأنت مباركٌ في كلّ حالِ
وله من قصيدة في مدح جمال الدين، وزير الموصل، مطلعها:
يا لَلصَّوارمِ والرّماحِ الذُّبَّلِ ... نَصْراً، ومن أنجدتُما لم يُخْذَلِ

سِيَانِ شيبي والشّبابُ توقُّرا ... فكذاك في إدراكِ كلِّ مؤمَّلِ
كَرُمَ الدُّجَى عمّا يَشِينُ، ولم أبِتْ ... خَشْيانَ واشيةِ الصباحِ المقبلِ
ومنها:
وَلئِنْ غَرِضْتُ فصارمٌ ذو رَوْنَقٍ ... خَفِيَتْ جواهرُهُ لفقدِ الصّيْقَلِ
ولَئِنْ جَهِلْتُ، وغيرُ شعري واصفي، ... فالعيبُ أنّي حازمٌ لم أجْهَلِ
ما للملوكِ تسنَّمُوا شَعَفاتِها ... وبَقِيتُ في قعر الحضيضِ الأسفلِ
إنْ كان بأساً فالمعاركُ والوغى ... أو كان فضلاً فهي حقُّ الأفضلِ
ظَلَمَتْ فضائليَ المَقاوِلُ، مثلَما ... ظَلَمَتْ جمالَ الدّينِ مأوى العُيَّلِ
ومنها:
ثقُلت به الأعناقُ من مِننِ النَّدَى ... فالهام مُطْرِقةٌ لِذاك المُثْقِلِ
ومنها:
من سَمْرَقَنْدَ إلى تِهامةَ شاهدٌ ... فضلُ الجَمال على الحَيا الُمتَهلِّلِ
السُّحْبُ تُمطرُ ما تُظلُّ، وجودُهُ ... يَسرِي، ودار مُقاِمهِ بالمَوْصِلِ!
ومنها يصف بناء سور المدينة، وعمارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم:
وتَقَرُّ عينُ مُحَمَّدٍ بِمُحَمَّدٍ ... مُحيي دَرِيسَيْ شَرْعِه والمَنْزِلِ
مِعمارِ مرقده، وحافظِ دينِهِ ... ومُعينِ أمّتِهِ بجودٍ مُسْبِلِ
جَعَلَ المدينةَ مصرَ رِيفٍ آهلاً ... نَشوانَ يَمْرَحُ بالنَشاطِ المُخْضلِ
فكأنّها بالخِصْبِ منِ قُرَنائهِ ... بلدٌ على شطّ الفُراتِ السَّلْسَلِ
ولو أنّهُ في عصره، نَزَلَتْ له ... في مدحه سُوَرُ الكتابِ المُنْزَلِ
خِرْقٌ يُنساطُ قمِيُصُه ورِداؤهُ ... بعُبابِ زَخّارٍ وهَضْبَةِ يَذْبُلِ
وقوله:
نَصَبُوا القَنا قبلَ الطِّعانِ، فَخِلْتُه ... من فَرْطِ نَفْعِهمُ نباتَ القَسطلِ
حتّى إذا شَرَعُوه، قلت: كواكبٌ ... منقضّةٌ في جِنْحِ لِيلِ ألْيَلِ
وقوله:
لامَ على العُذْرِ، ويا رُبَّما ... يشتبهُ العادمُ بالباخلِ
وقوله في الحكمة:
علمي بسابقة المقسوم، ألْزَمِني ... صبري وصمتي، فلم أحْرِصْ ولم أسَلِ
لو نِيلَ بالقول مطلوبٌ، لَما حُرِمَ ال ... كَلِيمُ مُوسى، وكان الحَظُّ للجبلِ
وحكمةُ العقلِ إنْ عزّتْ وإن شَرُفَتْ ... جهالةٌ عندَ حكمِ الرّزقِ والأجلِ
وقوله:
إحذرِ الهزلَ وجانِبْ أهلَهُ ... إنه ينقُصُ من قدرِ النّبيلْ
إنْ يُجَبْ أو لا يُجَبْ قائلُهُ ... فسفيهٌ أنت منه أو ذليلْ
وقوله:
إذا قيلَ: الكريمُ أخو العطايا ... وبذّالُ الرَّغائب والنّوالِ،
فأكرمُ منه ذو خُلُقٍ أبيٍّ ... يصونُ الوجهَ عن ذُلِّ السُّؤالِ
وهل يُلْفَى جوادٌ مثلَ حُرٍّ ... أجلَّ النّفسَ عن مِنَنِ الرّجالِ؟
وقوله من قصيدة في مدح أمير المؤمنين، المقتفي لأمر الله، يصف القر الشديد:
وإذا استمرَّ المَحْلُ يشفَعُ شرَّهُ ... خَصَرٌ يعضُّ له الحصى والجَنْدَلُ
واستخمد الشَّفّانُ كلَّ ضَرِيمةٍ ... وإذا تَلَظِّي كلِّ جمرٍ أفْكَلُ
ببعيدة الإصباح حالكةِ الدُّجى ... سَهِرَ النَّؤومُ بها ونام المُفْضِلُ
تثْنِي مَطارفَها الجوارحُ عندَها ... حتّى تُظِلَّ الرّاحَ فيها الأنْمُلُ
وأطارتِ الهَوْجاءُ كلَّ مُطَنَّبٍ ... فالرَّثُّ فانٍ والصَّحيحُ مُرَعْبَلُ
واستهذَمَ الجدبُ الغواربَ والذُّرا ... حيثُ البهازِرُ والصِّعابُ الُبَّزلُ
في أزْمَةٍ قُذُفٍ كأنّ أخيرَها ... من بؤسها للضّعف عنه أوّلُ
غبراءُ رَيعانِ الرَّبيعِ، لَقِيطُها ... في المَحْلِ لا مَرْعَىً ولا مُتَبَقَّلُ
فقَدِيرُ زادِ المُتْرَفِينَ على الطَّوى ... قِدٌّ تَناهَبُهُ الأكُفُّ، وحنظَلُ

آوى أميرُ المؤمنينَ مُحّمدٌ ... بدر الضّيوفِ، فكلُّ وعرٍ مُسْهِلُ
وقَرَى فأشهبُ كلِّ جَوْنٍ هاطلٌ ... هامٍ، وأغْبَرُ كلِّ روضٍ مُبْقِلُ
وله من قصيدة في المخلص:
بَعَثْتُ عليهم صارماً من قوارصي ... تطيرُ له الأعراضُ في كلّ مَحْفِلِ
كأنَّ شَباهُ، والرُّواة تهزُّهُ، ... شبا مُرْهَفٍ، أو بأسُ بدرِ بْن معقلِ
وقوله:
نحن قومٌ من تَميمِ بْنِ مُرٍّ ... نُمِطرُ العافينَ والعامُ مَحْلُ
نفْصِحُ الخُطْبةَ والقومُ لُكْنٌ ... ونَرُدُّ الجيشَ والخيلُ قُبْلُ
حلَماءٌ لا يحُلُّ حُبانا ... عند طَيشِ الخَطْبِ طيشٌ وجَهْلُ
أوجهٌ غرٌّ، وأيدٍ بسطٌ ... ونَدى غَمْرٌ، وملقىً، وظلُّ
ومنها:
وخَمِيس ضارب بِجِرانٍ ... مُجْلِب، سَوْرَتُهُ ما تَقِلُّ
فلَّ منظومَ الشناخيبِ ركْضاً ... وعوادي بأسِهِ ما تُفَلُّ
. . .ف البيداء حتّى اطمأنّت ... بفضاء الجوّ أرضٌ تحلُّ
وأديمُ الأرضِ خافٍ فما يُنْ ... ظَرُ إّلا حافرٌ وأظَلُّ
صُلْتُ فيهم بَيراعٍ ورأيٍ ... فانجلى نقعٌ وأدرك تَبْلُ
قلمٌ يقطُرُ سُمّاً وشَهْدا ... فهو في الحالينِ نحلٌ وصِلُّ
وقوله من قصيدة في سديد الدولة الكاتب ابن الأنباري:
عَلِقتْهُ والصِّبا غَضُّ الأدِيمْ ... مُهملَ الوَفْرَةِ من آل تَمِيمْ
يحسُنُ التّاجُ على مَفْرِقِهِ ... ناشراً في يومِ بؤسٍ ونعيمْ
يُنْهِلُ الصَّعدةَ من أقرانه ... ويلبّي طارقَ الليلِ البهيمْ
رُتَبٌ غادَرْنَهُ ذا شُغُلٍ ... بهواها عن هوى ظبيٍ ورِيمْ
فالهوى والقلبُ من هّمته ... بين إعمالِ رَوِيّ وَرَسِيمْ
وعلى الأحياء دَيْنٌ فادحٌ ... أوسع الدّهرَ به مَطْلُ الغَريِمْ
كلّما طولعَ، حالت دونه ... سَوْرَةُ الِمقدارِ لا بأسُ الخصومْ
يا لقومي من نِزارٍ غارة ... تَخْلِطُ القومَ برِيثاً بسقيمْ
تُعْجلُ الفارسَ عن تحصينه ... وجريحَ القوِم عن شدِّ الكُلُومْ
فبعيدٌ دَرَكُ المجدِ، ولم ... أحمِلِ النّفسَ على الهولِ العظيمْ
وأثيرُ النَّقْعَ من أنديةٍ ... يعَبقُ المَنْدَلُ فيها بالنَّسيمْ
قال: من فرط طيبها، لنعم أهلها، يستفيد العود منها طيباً. ووجه آخر، وهو أن النسيم يعبق بالمندل، فذكر المعنى مقلوباً، وهي عادة عربية.
بميامينَ صِباحٍ كشموسٍ ... وخناذيذَ جيادٍ كنجومْ
عادياتٍ ترُجفُ الأرضُ لها ... برجالٍ مثلِ جنّان الصَّرِيمْ
يوم لا حسنُ القوافي شافعٌ ... عن ذوي الطّعن ولا وُدُّ الحميمْ
واشتجارُ الضرب من حِرّته ... يُذْهِلُ الأمَّ عن الطّفلِ الرَّؤوُمْ
وسليمُ الغِلّ مُلْقٍ نفسَهُ ... فترى كلَّ سليمٍ ككَليمْ
أضعف الرَّوْعُ قُواهم، فاغتدى ... عَسَلانُ الرّمحِ في ساق الهَزِيمْ
أنا بالرَّوْع كفيلٌ، والعلى ... كافلاتٌ ليَ بالملك العَقِيمْ
وبنو الزَّوراء من هَزْلِهِمُ ... شُغِلوا عن حَمْلِ أعباء الهمومْ
حَسِبُوا أَنّي منهم مثل ما ... صحّفَ القومُ رحيماً برَجِيمْ
لستُ بالكَلّ على حبّكُمُ ... مُنْصُلي ماضٍ، وبيتي في الصَّميمْ
إنّ ذا الأعوادِ منّي لأب ... باذل الرِّفْدِ ومَنّاع الحَرِيمْ
ضاربُ القبّةِ لِلاّجي، وقد ... أخذَ الضّيمُ بأطواقِ المَضِيمْ
حينَ لا أمرُ بني طاعته؟ ... يُوجبُ الحكمَ، ولا فتوى العليمْ

مَنْ لخيلٍ أن ترَى مبثوثةً ... أمَمَ الحيِّ تَمَطَّى في الشَّكيمْ
توسِعُ الأعداءَ طرداً مثلما ... طردَ الفقرَ فتى عبدِ الكريمْ
وله من قصيدة في مدح الأمير قرواش بن مسلم بن قريش:
أقِمْ يا حُسامي في صِوانِك واسلمِ ... شَرِبتُ دماً إنْ لم أرَوِّك بالدّمِ
قيل له: لم لا تقول شربت دمي؟ فقال: الذي قلته معنى عربي، وهو أبلغ، فإن العرب إذا أخذوا في الدم الدية، قالوا شرب الدم، وعدوه عاراً.
ألا، إنَّ وَجْدي بالمعالي مُبَرِّحٌ ... وأبرَحُ من وَجْدي بها وَجدُ مِخْذَمي
طوَيتُ لها خمساً وعشرينَ حِجّةً ... وواحدة طيَّ الرِّداء المُسَهَّمِ
أذُودُ الصِّبا عن مطمحٍ غيرِ ماجدٍ ... وأنهى الهوى عن موقفٍ غير مُكْرِمِ
يقولون: جانبت النَّسيِبَ، وإنّما ... نَسِيبيَ ذكرى غارةٍ وتقحُّم
وفي غَزَلِ العلياءِ لو تعلمونه ... شفاءُ غرامٍ وادّ كارُ مُتَيَّمِ
وكم مُغْرَمٍ بالمجد عَزَّ سُلُوُّهُ ... فأعرض لا يُصغي إلى لَوْمِ لوَّمِ
إذا قيل: هذا مفخرٌ، ظلّ مائساً ... كما اضطربَ المجهودُ من أمّ مَلْدَمِ
سأبعَثُها شَعْواء إمّا لِمَغْنمٍ ... يحقّقُ آمالي، وإمّا لِمَغْرَمِ
تَمِيميّة لا صبرُها عن تقاعسٍ ... مُذِلّ، ولا إقدامُها عن تهجُّمِ
تُجِدُّ رُسُومَ المالكين ودارمٍ ... وسُفيانَ والصَّيْفيِّ منها وأكثمِ
بحورُ نَوالٍ لم تَغِضْ دُونَ واردٍ ... وأطوادُ ملكٍ لم تُنَلْ بالتَّسنُّمِ
سَهِرتُ وما حبُّ الحِسانِ بمُسهِري ... وهل مُنجدٌ فيما يرومُ كمُتْهِمِ؟
لِبْرقٍ كلمع الهُنِدْوُانيّ، دونه ... سحيقةُ حيٍّ أنجموا بالتهّضُّم
ترامت بهم أيدي النّوى، فتزاوَرُوا ... إلى عازب عن أرضهم متوخَّمِ
وعهدي بهم والدّهرُ مُلْقٍ قيادَهُ ... إلى كلّ مشبوحِ الذِّراع غشمشمِ
لَبُوسُهُمُ من سابريٍّ مُعَسْجَدٍ ... وأرضُهُمً من لاحقيٍّ مُسَوَّمِ
غَنيّينَ من أرحامهم ووجوهم ... نهاراً وليلاً عن شموس وأنجمِ
فبِتُّ كما بات السَّلِيمُ بقفرةٍ ... سرت في أعاليه مُجاجةُ أرقمِ
ومنها:
تَزاَحمُ أشجاني إذا ما ذكرتُهم ... زِحامَ المقاوِي عندَ بابِ ابنِ مُسْلِمِ
نفى واضحُ القشرينِ عن شمس أرضه ... دُخانَ قدورٍ أو عجاجهَ مَصْدِمِ
عفيفُ إزارِ الليلِ، لا يستفزُّهُ ... ظلامٌ، ولا تغتالُهُ ذاتُ مِعْصَمِ
ومنها في وصف الخمر:
وما نَشوةٌ من قَرْقَفٍ صَرْخَدِيةٍ ... تَدَفَّقُ من ضَنْكِ الجِرانِ مُفَدَّمِ
إذا سُكبت في الكأسِ خِلْتَ شُعاعَها ... على غَسَقِ الظلّماءِ جذوة مَضرمِ
لها حَبَبٌ يَرْفَضُّ عنها، كأنّه ... عيونُ جرادٍ أو زواهرُ أنجمِ
أتيحت لمشعوفِ الفؤادِ مُذلّةً ... رمتهُ الغَواني عن قِسِيِّ التصرُّمِ
فعادت بأشجان، وهاجت صبابةً ... له، وتمّشت في مُشاشٍ وأعظُمِ
بأحسنَ من هزّ القوافي لِعِطْفه ... إذا رجّعتْ بالأفوهِ المترنّمِّ
يُطيفُ به من قيسِ حُوثةَ فتيةٌ ... جريثونَ في يومَيْ نَدى وتقدّمِ
يُحَيَونَ بسّاماً، كأنّ رِداءَهُ ... يُلاثُ بِرُكنْي يَذُبلٍ ويَلَمْلَمِ
ومنها في وصف الجيش:
ومَجْرٍ كُمنْهالِ الشّقيقِ وعالجٍ ... مضرٍّ بأكناف البلاد عَرَمْرَمِ
خلا فَرَقاً من بأسه كلُّ مَرْبِضٍ ... وأقفر من إرهابه كلُّ مَجْثَمِ
يُخالُ، إذا مالخَرْقُ ضاق بخيله، ... بِنا قَرْمَدٍ، أوجنبَ رَعنٍ مُلمْلَمِ

كأنّ بأعلى بَيْضه من عجاجه ... رِداءَ خُداريٍّ من الليلِ مُظلمِ
فلا أفقَ إّلا من إزار عجاجةٍ ... ولا أرضَ إّلا من سَراة مُطَهَّمِ
تلته سباعُ الطّيرِ والوحشِ، فاغتدى ... بطِرْفٍ ومِغْوارٍ وسِيدٍ وقشْعَمِ
غلا حرُّهُ حتّى كأنّ اشتجارَهُ ... سَنا لَهَبٍ في عَرْفجٍ متضرِّمِ
وأجلبَ حّتى لو رمى الأرضَ صاعقٌ ... لما نمّ من ألفاظه والتَّغمغمِ
طِعانٌ كقرع النِّيبِ غيرُ مباعدِ ... وضربٌ كوَلغِ الذِّيبِ غيرُ ملعثمِ
شككتُهمُ شَكَّ الطرائدِ بالضُّحَى ... وسُقتُهمُ سَوْقَ الطَّوِيّ المحزّمِ
والقصيدة طويلة، وفيها في المقطع في وصف القصيدة:
فخذها حَصاناً لم تزَنَّ بريبة ... أتتها، ولم تخطَبْ لِنكْسٍ مُذَممٍَّ
يشجّعُ من قلب الجبان نَشيدُها ... ويُفصحُ من لفظ العيي المجمجم
وقوله من قصيدة:
كُبَّتْ جِفانُ القومِ من دارِمٍ ... إنْ لم يَلُوذُوا بشَبا صارمي
ومنها:
علوتُ عن تأثيرِ قولِ الخَنا ... فلستُ أخشى سَفَهَ الشّاتمِ
لو رُجِمَ النّجمُ بأيدي الورى ... لم تُدْمِهِ قَطُّ يَدُ الرّاجمِ
أقتلُ حِلماً، ويقولُ العلى: ... واعجباً للقاتل الباسمِ!
ومنها في صفة قومه:
صِيدٌ ومن رائق أخلاقِهم ... يشتبهُ المخدومُ بالخادمِ
وقوله من قصيدة أولها:
أظلما ورمحي ناصري وحُسامي؟ ... وذُلاً وعزمي قائدي وزِمامي؟
ومنها:
ولمّا التقينا بالكثيب، وأسبلت ... غِزارُ دُموع للفراق هوامي
ولاذت بخدّاع الصِّبا عامرّيةٌ ... ترومُ اغتراراً من شبابِ غُلامِ
تفاوِضُني نظمَ الهوى، ودُموعُها ... على الخدّ منها غيرُ ذاتِ نِظامِ
وأعدى الدُّجى نوم الوُشاةِ وقد مضى ... هَزِيعٌ، فألقى كَلْكَلاً بإكامِ
وفاحَ النَّقا من رَدْعِها، فكأنّما ... أصاب من الدّاريّ فَضَّ ختامِ
بكيتُ، فقالت: خامَرَ القلبَ حُبُّهُ، ... فقلتُ: لغيرِ الغانياتِ غَرامي
منعتُ القِرى إنْ لم أقدْها عوابساً ... تَشُبُّ على الأعداء نارَ حِمامِ
فأدرِك مجداً أو تجلى عجاجتي ... من الطّرد عن ثاو بغيرِ زِحامِ
ومنها:
وكم صَوْنِ جسمٍ بعدَ موتٍ أذَ لَّهُ ... كما ذَلَّ بالتّصبير جسمُ هِشامِ
وقوله:
رأتْ جَمَّ المآثرِ من نِزارٍ ... مَهِيبَ اللَّحْظِ يُبْدَأ بالسّلامِ
إذا شَهدَ النَّدِىَّ لفصل حكمٍ ... تحفّظ عندَهُ هَذَرُ الكلامِ
ومن مديحه في السلطان الأعظم سنجر:
إذا مدحتُ معزّ الدّينِ آونةً ... فما زُهيرٌ بمذكورٍ ولا هَرَمُ
إن قلتُ فالدرُّ يُخْفِي حسنَ رونِقهِ ... أو جادَ فالبحرُ يَسْتَحْيي ويحتشمُ
ومنها:
مُستبشرٌ ووجوهُ الخيلِ عابسةٌ ... وعابسٌ وقَؤُولُ الَهْجرِ مُبتسمُ
وجهٌ وكفٌّ، مضى عند مندفقٍ، ... كما تقابلَ قَرْنُ الشمسِ والدِّيَمُ
فالواهبُ الرَّخْصُ يُغني فقر سَائلِهِ ... والواضحُ الطَّلْقُ تجلى عنده الظُّلَمُ
كلُّ الملوكِ وإن جلّت مراتبُهُمْ ... لِسْنجَرٍ ومعالي سِنْجَرٍ خَدَمُ
ومن قوله في الوزير أنوشروان بعد عزل الزينبي عن الوزارة:
شكراً لدهري بالضَّمير وبالفمِ ... لمّا أعاض بُمْنِعمٍ عن منعمِ
لا سلوةً بل صبوة بمَحاِسنٍ ... بَرَدَ الوصالُ له فؤادَ المغرمِ
ومنها:
سَعِدَ الجَهُولُ وراح علمي ذائدي ... عمّا أرومُ، فليتني لم أعلمِ
وغدوتُ ذا حزنٍ بفضلٍ مُطربٍ ... غيري، فكنتُ كمنعِم لم ينعمِ

واستهونَ القومُ المقالَ سفاهةً ... فالفضلُ للسَّكَّيتِ لا المتكلّمِ
ونَدِمْتُ للعمر المُقَضَّى عندَه ... فَلكادَ يَقْضي بالحِمام تندّمي
همٌّ ثوى بينَ الضّلوعِ مُبَرِّحٌ ... لولا الوزيرُ وفضلُهُ لم يُنْجِمِ
ومنها في وصف الخائف الطريد اللاجيء إلى الممدوح:
ومشرّدٍ ينزو به فَرَقُ الرَّدى ... نَزْوَ المُدامةِ بالنَّزيفِ المُفَعمِ
جمّ الظّنون يكادُ يدرَأ خوفُهُ ... محضَ اليقين إذا بدا بتوهمِ
رسبت به السُّدَفُ الضِّخام كأنّه ... صلدٌ توّغل لُجَّ يمٍّ خِضْرِمِ
يأوي لتعريسٍ، فيبعَثُ رجلَه ... مرُّ النّسيم على المكان المُريمِ
يقول: إنه لتوهم خوفه يبطل يقين الأمن عنده، وإذا أراد التعريس، بعث رجله، أي عداه، مرور النسيم على الرتم، وهو نبت ضعيف، فيخيل له أن صوت ضعيف الريح على ضعيف النبت، طارق من عدو.
نَسعَ المطيّةَ، والرَّسِيم لحِذْرِهِ ... بحجارة المَعْزاء كالمتبّغمِ
أي شد لسان مطيته بنسعة، ليكفها عن البغام.
يهفو به ضَخْمٌ تَخاذَلَ دونَهُ ... نصرُ المطاع، فبأسُهُ لم يَعْصمِ
آويَتهُ فحميتَه من ذُعره ... دونَ الرّجالِ، وكان عينَ المسلَمِ
وطَرِيدِ مُجدبةٍ غدت بثرائه ... شهباءُ مُرديةٌ كحدّ اللَّهْذَمِ
سَفَعَتْهُ من غَبرائِها عرّاقةٌ ... تَذَرُ الخميلةَ تربةَ المتيمّمِ
ما زال إخلافُ النّجومِ ينوشُهُ ... حتّى أثاب به فُوَيْقَ المُصرمِ
حتّى إذا ما الذَّوْدُ صرَّمَ نَحضَهُ ... لَسُّ الرُّغامِ بكل فَجٍّ أقتمِ
وأقام بالصِرّمِ العَزِيبِ، فلم يُطِقْ ... دَرَكَ المَعاطنِ بالِلقاحِ المُعْظمِ
الصرم أبيات يسيرة مجتمعة.
واشتد مَحْلٌ، فاغتدت أشلاؤُهُ ... للِمُتْرَفِ العَيّافِ أكرمَ مَطْعمِ
أمَّ الطريدُ نوالَ مُولي نعمةٍ ... فأناخ عندَك بالمُجيرِ المُطْعِمِ
ومن قوله في مدح السلطان مسعود:
كفيلٌ بعَسّاَليْ فلاةٍ وغابةٍ ... إذا حَميَتْ حربٌ وطال احتدامُها
فَسُمْرٌ ومن ماء النُّحُورِ شرابُها ... وغُبْرٌ وأشلاءُ الملوكِ طعامُها
ومن قوله في الوزير الزينبي:
كأنّ كأساً خَندريسيَةً ... تَعْلَى بماء المُزْنَةِ الهامي
يُراوحُ المسك على شَرْبِها ... ما بينَ مُستافٍ وَرَثّاِم
صِينتْ عن اللغوِ. فأقرانُها ... رزانُ أعطافٍ وأحلامِ
كرامُ أخلاقِ الوزير التي ... خلُصْنَ من عابٍ ومن ذامِ
أخلاقُ طَلْقِ الوجهِ في جِدَهِ ... مستبشرٍ للهول بسّامِ
خِرقٌ. ندى راحتِهِ دائماً ... من العطايا ودمِ الهام
دُرُّ كلامي منه مستخرَجٌ ... إذْ هولجُّ الخِضْرِمِ الطّامي
ومن قوله فيه:
وأقْسِمُ ما يمّمتُ بالعزم وجْهَةً ... إلى أحد إّلا وكنتَ الميَمَّما
ولا راحَ جسمي ظاعناً عن مقامه ... بمجدكَ إلا كان قلبي مخيّما
وهل ساجدٌ بالصِّين إّلا لكعبة ال ... حِجاز إذا ما كان للهِ مُسلما؟
ومن قوله فيه:
إذا ما نظرتُ إلى وجهه ... شكرتُ الزمانَ ولم أذْمُمِ
وهان عليَّ افتقادُ الغِنى ... وما واجدُ المجدِ بالمُعدِمِ
وقوله في الحكمة:
لا تَضَعْ من عظيم قدرٍ وإنْ كن ... تَ مشاراً إليهِ بالتّعظيمِ
فالشَّريفُ الكريمُ ينقُضُ قدراً ... بالتّعَدّي على الشَّريف الكريمِ
وَلَعُ الخمرِ بالعقول رمى الخم ... رَ بتنجيسها وبالتحريمِ
وقوله:
وما يدفَعُ المقدورَ حزمٌ، وإنّما ... يؤّمنُك التعنيفُ من كلّ لائمِ
وقوله في الخمر والسكر، والاعتصام بها من الهم، والشكوى من العلم:

إذا جارَ هَمٌّ فاعتصِمْ بُمدامةٍ ... فإنَّ حُميّاها لمعتصمٍ تحمي
وإنْ قيل: مُغْرَىً بالخَلاعةِ عاكفٌ ... على الجهلِ، قل لا، بل هَزِيمٌ من الهَمِّ
وخلّ تكاليفَ الحياةِ لِنشْوَةٍ ... تريك الغنى المحسودَ في ساعةِ العُدْمِ
ومن كان علمُ النّفسِ ممّا يَسُرُّهُ ... فإنّي امرُؤٌ يا طالما ساءني علمي
ولم أرَ في الأشياء، والحظُّ شاهدٌ ... بما أدّعي، شيئاً أضرَّ من الفهمِ!
ومن قوله:
كم طيلسانٍ هزَمتُ حامَلهُ ... في يَلْمَقِي حينَ أشكلَ الكَلِمُ
والحربُ لا تنَفعُ الغمُودُ بها ... وإنّما تنفعُ الظُّبا الخُذُمُ
ومن قوله:
فقرُ الأبيَّ إلى إكرامِ موضعه ... أشدُّ من فقرِ ذي الإملاق والعَدَمِ
فقُمْ لراجيك من قبل النَّوال تَبِتْ ... بين التّواضعِ والإحسانِ في حَرَمِ
تحرُّكُ المُزْنِ عندَ السَّحِّ أكسبه ... جوامعَ الحمدٍ من قاصٍ ومن أممِ
وقوله:
يَلينُ في القول ويحنو على ... سامعه وَهْوَ له يقصِمُ
كشوكة العقربِ في شَكْلها ... لها حُنُوٌّ وَهْيَ لا تَرْحَمُ
النون وقوله، وقد لمس الزناد في ليلة باردة:
أنا والزِّنادُ ببردهِ وتصبّري ... سِيّانِ في الإخفاءِ والكِتمانِ
لكنّهُ بالقَدْح يُظِهرُ نارَهُ ... وسرائري أعيت على الإخوان
فإذا صَمَتُّ فَهّمةٌ لا ترتضي ... أن تشتكي إّلا إلى الرّحمان
وقوله من مدحه في شرف الدين البيهقي:
مُطمعي في مدحهم زينتهم: ... تلكم الزِّينةُ خضراءُ الدِّمَنْ
كلُّ حِلّ العِرْضِ مَحْميّ الثّرا ... لا ينالُ المجدَ ما عاش ولَنْ
طيّبَ الذّمَّ له حُبُّ الغِنى ... فاستمرّ العِرْضُ منه ومَزَنْ
صبّحوا المُدْنَ بها مبثوثةً ... فتكةً تبقى حديثاً في الزَّمَنْ
وخُراسانَ، فصوناً ضافياً، ... إنّها أرضُ عليّ بْنِ الحسنْ
مستريحُ الرِّفدِ، ما في جوده ... كَدَرُ المَطْلِ، ولا شَوْبُ المِنَنْ!
ومن قوله:
ما ضاق قوليَ عنشيء أحاوِلُهُ ... إّلا بشكر الذّي أوليتَ من حَسَنِ
فإن حَصرْتُ فقلبي أفوهٌ ذَرِبٌ ... وفي الضّمائر ما يُغني عن الَّلسَنِ
وقوله من قصيدة في الوزير الزينبي:
أطعتُ النُّهى في نَجدتي وبياني ... فأصبح سيفي مُغْمَداً ولساني
وداريتُ حّتى قيل جبناً، وربّما ... غدا حازمٌ في أمره كجبانِ
سجيّةُ مُنهِي النّفسِ عذراً وناهضٍ ... بأعباء صَرْفِ الدّهرِ والحدثانِ
يُبيحُ الليالي والرِّجال تهاممي ... وفاءً، ومَنْ لي عندهم بأمانِ؟
إذا أصبحت منّى سجايا مهذَّبٍ ... غدا أملي ذا وَقْفةٍ وحِرانِ
ويا رُبَّ عهدٍ حال من دون حفظه ... أذىً وردىً في الملتقى خَصِمانِ
أمان نفاق الحيّ بعد انتصاره ... فلم تلفِ منهم صادقاً بمكانِ
جَشِمتُ خِطارَ الموتِ دونَ وفائه ... أو الفقر، والحالانِ مستويانِ
وصبرٍ تكادُ الشُّمُّ من حَمْل بعضِهِ ... تكونُ وِهاداً وَهْيَ ذاتُ قِنانِ
نصَبْتُ له من رغبة الحمدِ كاهلاً ... نَهُوضاً بعِبءِ المجدِ ليس بِوانِ
وإنّي وأبناءَ العِراقِ أولي الغنى ... لَمُجْتَمِعا معنىً ومفترقانِ
أسايرُهم أبهى حُليّاً وزينةً ... ونَرْجِعُ والحالانِ مختلفانِ
إلى صَفِراتٍ من نعيمٍ، خِماصُها ... تُكاثِرُ من نَعْمائهمْ بِبِطانِ
تُطارِدُ حاجاتي إليهم أبِيَّتِي ... وتعلو غِناهم هّمتي بتغانِ
إذا عَطفتني نحوَهُمْ ألمعيّةٌ ... وفهمٌ، لَوَانِي جورُهُمْ وثناني

يَوَدّون فضلي ما كتمتُ مآربي ... فإنْ بحتُ ماتَ الوُدُّ بالشنآنِ
ويُصغَى له ما لم يكن ذا لُبانةٍ ... فإن كان لم تَنْصِت له أذُنانِ
ولولا الوزيرُ الزَّينبيُّ، رحَلْتُها ... تناهبُ تَرْبَ البِيدِ بالوَخَدانِ
تُباري نَعامَ القفرِ بُعداً عن الأذى ... وتَطوي عُقابَ الجوِّ بالطَّيَرانِ
ولكنّها شُدَّت من البأسِ والنَّدى ... بأروعَ صَفْوِ العُنْصُرَيْنِ هِجانِ
يأبيضَ من عُليا قُرَيْشٍ مُؤَمَّلٍ ... بيومٍ نوالٍ أو بيومِ طعانِ
بمشركِ نفسي بالذي هو واجدٌ ... ولو ساعدتني حالةٌ لكفانِي
ومنها في صفة الجيش:
وجونٍ من النَّقْعِ المثارِ، دِلاصُهُ ... ولمعُ الظُّبا برقانِ يأتلفان
كثيفٍ يُعيدُ الجوَّ أرضاً صليبةً ... لها الجيشُ داجٍ بالطِّرادِ وبانِ
تشابَهَ فيه وحشُهُ وجيادُهُ ... فسيّانِ فَرْطُ الرَّكْضِ والعَسلانِ
وزاحَمَتِ الجُرْدُ المَذاكي ركابهُ ... وكلُّ زمامٍ عابثٌ بِعنانِ
يَظَلُّ كُماةٌ في الدُّرُوع، كأنّما ... تخُب السَّعالي تحتَهُمْ بِرِعانِ
مساعيرُ لا يستكرهون منّيةً ... إذا صَرَّحَتْ في المأزِقِ المُتداني
أوانسُ بالحربِ العَوانِ نفوسُهُمْ ... كأنّ رضاعاً بينهم بلِبانِ
أعاروا نسيمَ اليومِ حَرَّ ذُ حُولِهم ... فأخصرهُ الرَّمضاءُ في الجَوَلانِ
وطارت بهم نحوَ اللقاءِ عزيمةٌ ... تعَّلمَ منها السَّبْقَ كُلُّ حِصانِ
كشفتَ برأيٍ ذي صوابٍ ونجدةٍ ... إليك بحَمْلِ المجدِ يصطحبانِ
وقوله فيه:
يجلّي العظيمةً من غير فخرٍ ... ويُعطي الجزيلةَ من غيرِ مِنَّهْ
ويُغلِظُ في الملتقى للكُماةِ ... وفيه لدى السِلَّمِ لُطفٌ وحَنَّهْ
ويتّخذُ الحمدَ فرضاً عليه ... إذا ما رأوه بنوا المجدِ سُنَّهْ
له في الرَّغائبِ بذلٌ وجودٌ ... وبالعِرض والجارِ بَخلٌ وضِنَّهْ
إذا ما المَحامدُ رامَ الرّجالُ ... كرائَمها، كان أولى بِهنَّهْ
من المطعمينَ ضُيوفَ الشِّتاء ... بِسودِ الّليالي غرابِيَبهُنَّهْ
يحوزون فخرَ النَّدى والوغَى ... إذا أطلقوا ما لهَم والأعِنَّهْ
تَوَدُّ عزائمَ هذا الوزي ... رِ ومعروفَهُ سُحْبُنا والأسِنَّهْ
ويغدوا لنا بأسُهُ والنَّدىَ ... من الجور والفقر حصناً وجُنَّهْ
وسمع أن القاضي الرشيد بمصر دخل على الأفضل، وبين يديه دواة من البلور وحليتها من المرجان، فقال:
ألِيَن لداوودَ الحديدُ كرامةً ... يُقَدِّرُ منه السَّرْدَ كيفَ يُريدُ
ولان لك المَرْجانُ وهو حِجارة ... ومقْطَعُهُ صعبُ المرامِ شديدُ
فقال هو:
صِيغتْ دَواتُك من يوميك، فاشتبهت ... على العيونِ ببِلّوْرٍ ومَرْجانِ
فيومُ سَلْمك مبيضٌّ بصفو نَدىً ... ويومُ حربك قانٍ بالدم القاني
وقوله:
تبدّلَ مُرْهَفُ العزَماتِ حزماً ... وتختلفُ السَّجايا بالزّمانِ
وكنتُ أجِيلُها مُتَمَطِّراتٍ ... فها أنا لا أفَرِّطُ في العِنانِ
وقوله في الحكمة:
لا تَلْطُفَنَّ بذي لؤمٍ فتُطغيَهُ ... واغْلُظْ له يأتِ مِطْواعاً ومِذْعانا
إنّ الحديدَ تُلينُ النّارُ شِدّتَهُ ... ولو صببتَ عليهِ الماءَ ما لانا
وقوله:
تظُنُّ خطوبُ الّدهرِ أنّي بكَرِّها ... أحاذِرُ حربَ الخَطْبِ وهي زَبُونُ
ولم تدرِ أنَّ الماءَ تَحْميِهِ نارُهُ ... ويُطْفِئُها بالطّبع وَهْوَ سَخِينُ
وقوله:
إنْ شاركَ الأدْوانُ أهلَ العُلى ... والمجدِ في تسميةٍ باللِّسانْ

فما على أهلِ العُلى سبّةٌ ... إنّ بَخُورَ العُودِ بعضُ الدُّخانْ
صاحِبْ أخا الشّرّ لتسطو به ... يوماً على بعض شِرارِ الزَّمانْ
والرّمحُ لا يُرْهَبُ أنبوبُهُ ... إّلا إذا رُكِّبَ فيهِ السِّنانْ
إصبِرْ على الشدّة نحوَ العلى ... فكلُّ قاصٍ عندَ ذي الصّبرِ دانْ
ما لقي الضّامِرُ من جوعه ... حوى له السّبقَ بيومِ الرِّهانْ
أشْجُعْ وُجدْ تَحْظَ بفخرَيْهِما ... فكلُّ ما قدَّرهُ اللهُ كانْ
لو نفَعَ البخلُ وذُلُّ الفتى ... ما افتقر الكَزُّ ومات الجبانْ
وقوله:
إنّي وبغدادَ كالمظلوم من قمرٍ ... حسن وليس وراءَ الحسنِ إحسانُ
أغْنِي بمدحي ولا أغْنَى بمَكْرُمَة ... كمِخْيَطِ السّلْكِ يكسو وهو عُرْيانُ
ونفذ إليه بعض الأكابر المانعين حقه دواة يسأله تسويدها بمداد، فكتب معها:
رأيتُ حُوبا كبيراً غيرَ مغتفَرٍ ... تسويدَها وهي لا تجري بإحسانِ
وسمع بعض الصوفية ينشد:
مَرَضُ الحبِّ شِفائي أبدا ... كلّما أكربني أطربني
فقال:
فبقائي في فَنائي فيكُمُ ... وسروري منكُمُ في حَزَني
واشتريتم بوصالٍ مُهجتي ... ومن العدل أداءُ الثَّمَنِ
حسنُ ظنّي فيكُمُ، إن خفتكم ... دُونَ أعمالي جميعاً، جُنَني
وإذا البلوى أفادت قُرْبَكُمْ ... فمن النُّعْمَى دَوامُ المِحَنِ
الهاء وقوله في الوزير الزينبي:
بلفظةٍ منك يَشْفي داءَ مُعضِلةٍ ... أعيا على فصحاء النّاس شافيها
عممتَ بالخير أرضَ اللهِ قاطبةً ... فظلَّ حاضرهُا يُثْنِي وباديها
تلقى عليّاً على ما فيه من شرف ... مسترسلَ المجدِ لا كبراً ولا تِيها
وكم مثالبِ أيّامٍ مقدّمةٍ ... غدوتَ بالطَّوْل والإحسانِ تُنْسِيها
سهلُ القياد لراجيه وآمله ... وفي الأعادي عزيزُ النّفس آبيها
وراءُ حُجْبِ العلى طودٌ أخو شرفٍ ... أرجو نَداهُ، فإذا كاراً وتنبيها!
الياء وقوله في أمير المؤمنين الإمام المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد ابن المقتفي بن المستظهر لما بويع بالخلافة في ربيع الآخر سنة ست وستين وخمس مئة، وهي أبيات يسيرة أعطاه بها ثلاث مئة دينار وخلعة وداراً، وأقطعه بها ضيعة كبيرة:
سألنا اللهَ أنْ نُعْطي إماماً ... نعيشُ به، فأعطانا نبيّا!!
بلغنا فوقَ ما كنّا نُرَجِّي ... هنيّاً، يا بني الدّنيا، هنيّا
وقد كشف الظَّلامُ بمستضيء ... غدا بالنّاس كلِّهمُ حَفيّا
وقوله من قصيدة نظمها في ريعان عمره، في سنة عشرين وخمس مئة:
أرادت جِواراً بالعِراق، فلم تُطِقْ ... هَواناً، فراحت تستفزّ المَواميا
كأنَّ نَعاما صِيح في أخرياته ... جوافلها لمّا مَرَرْنَ هوافيا
المراد بالصياح هاهنا الطرد والغارة، فإنه لما كان من أبين الطرد عبر عنه بالصياح.
تَجيشُ صدورُ الأرْحَبِيّاتِ غضبةً ... فما يَدَّرِعْنّ الليلَ إّلا رَواغيا
وما كِدن يعرفن النِّفارَ عن الدُّنى ... ركابيَ لولا ما رأت من إبائيا
تقيّلن أخلاقَ ابنِ عزمٍ مشّمرٍ ... على لهولِ لا يخشى الخطوبَ العواديا
يكفكفُ غَرْبَ القولِ عن ذي سفاهةٍ ... ويُوسعُ حسنَ الإطّراحِ الأعاديا
لَئِنْ جحَدَتْ بغدادُ حقّي من العلى ... فلا البحرُ مغموراً ولا الصبحُ خافيا
تركتُ بني آدابِها غيرَ حافلٍ ... رَدَايا سُرَىً يستشبحون مكانيا
إذا طار بي قولٌ إلى ما أرِيدُهُ ... كَبَتْ بهِمُ أقوالُهُمْ من ورائِيا
وسِرْبٍ كغِزْلانِ الصَّرِيمِ نوافرٍ ... عن الفحش يَستشرِفْنَ نحو عَواطِيا

إذا ما اعتجرنَ الليلَ كتمانَ زورةٍ ... إليَّ، غدا جَرْسٌ من الحَلْي واشيا
تعفّي فضول الرَّيطِ سحباً على الخُطا ... ويُخفي قَتشيبُ العبقريِّ التَّناجيا
تضوعُ الصَّبا من غير فضِّ لَطِميةٍ ... إذا مِسْنَ ما بين البيوت تهاديا
شموسُ وجوهٍ في البراقع طلقةٌ ... تُفِلُّ من الوَحفِ الأثيثِ لياليا
سنَحْنَ وللكاسُ العُقاريّ هدرةٌ ... تُعيدُ حليمَ الحيّ صَبْوانَ لاهيا
فأعرضت كي لا أسترَقّ لصبوةٍ ... وأغضيتُ كما لا أغيرُ المعاليا
ومنها:
وما المرْزِماتُ يَعتسْفنَ تنُوفَةً ... بَواغمَ من حرّ الفراقِ صواديا
يكادُ الصَّدى يهفو بهنّ محلِّقا ... إلى كلّ وردٍ لو أمِنَّ المَثانيا
براهُنُّ دْمانُ الرَّسِيمِ من السُّرى ... فجئن كأعوادِ القِسيِّ حوانيا
عشَّيةَ لا أنساعُهنَّ جواذباً ... لهنّ، ولا أقرانُهنّ ثوانيا
إذا ضاقتِ الأهْبُ الفسيحةُ بالجوى ... نشَقْنَ نسيماً أو تسّمعنَ حاديا
بأوجدَ منه للعلى، غير أنَّهُ ... إذا ما ونت لم يُلْفهِ السّيرُ وانيا
ومنها في صفة الحية:
وما مُطرِقٌ بالرّملِ يُخفي اهتزازُهُ ... رُواءً كعقدِ الخَيزرانة خافيا
يُلَعِّنُ مرهوباً، كأنَّ اعتصابَهُ ... حَبابُ مَخِيضٍ لاطَمَ الوَطْبَ رَاغيا
يؤّلنُ عُصلا لا بُنُهنَّ هنيةً ... ضعافاً، ولا أطرافهنَّ نوابيا
تَجَنَّبُهُ الرُّفْشُ القواتنُ خيفة ... ويَطويهٍ معتلُّ النّسيمِ تفاديا
إذا اعتسّ شَرّابُ الهمومِ لقوته ... تَوَدَّعَ خُمصاناً وأصبح طاويا
بأنفذَ من أقلامه في عدوّه ... إذا رقَشَتْ فوقَ الطُّرُوسِ الدّواهيا
ومنها:
بواسطَ أيْدٍ لا تزال جرئية ... تُحاربُ أحداثاً وتُولي أياديا
تعافُ الهِرَقليّاتِ حتّى كأنّما ... تنارشُ من لمس النُّضارِ الأفاعيا
خزائُنُهمْ أيدي العُفاةِ، لأنّهم ... رأوها على مرّ الزّمان البواقيا
وقوله في الوزير الزينبي:
شموسُ المواضي إن بَغْيتَ الأمانيا ... وظلُّ العوالي إن أردتَ المعاليا
وَعدِّ عن الأرضِ التّي لنعيمها ... سواك، ولو أدركته كنت عانيا
لحى اللهُ مجهودَ الفؤادِ من الأذى ... إذا هو لم يستخلص العَزْمَ شافيا
فما أحرز الآمالَ مثلُ مهاجِرٍ ... إليها، وفات النُّجحُ من بات ثاويا
عَصيتُ إبائي إذْ أطعتُ مَطامعي ... ولو كنتُ شهماً ما أطعت إبائيا
وما زلتِ مقْلاقَ الوَضِينِ إلى السُّرى ... جرئياً كصدر الهِنْدُوانيّ ماضيا
يسابقُ همّي بالخطوب رواحلي ... إلى نازح يُضحي عليهنّ دانيا
إلى أن تحاماني الظَّلوُمُ، وأذعنت ... لفضلي نفوسٌ لا تَوَدُّ القوافيا
و ها أنا عند اليوم أرضى بخُدعةٍ ... وأقنَعُ أن أدْعَى لبيباً مُداريا
ومنها في وصف البرد والجدب والقر:
إذا أخمدَ النّيرانَ رَيْعانُ زعزعِ ... يُعيدُ ذكيَّ الجمرِ قَرّانَ شاتيا
وخَرَّ على الأحفاض كلُّ معمَّدٍ ... أطال الرَّواسي في الثّرى والأواخيا
وجعجعَ قُرُّ الليلِ من فَرْطٍ صِرّه ... شِدادَ الصّفايا والعِشارَ المَواليا
وزاولَ راعي الذَّوْدِ عهداً، فلم يُطقْ ... وفاءً، ولم يبرَحْ أميناً ووافيا
ومالت إلى الصّرمِ العزيبِ جوافلٌ ... يرَيْنَ اللِّقاحَ الجَمَّ للذُّعرِ قاصِيا
على حينِ غبراءُ المطالع أزمةٌ ... تَعيدُ غنيّ الحيّ خُمصانَ عافيا
تساوى بها نِينانُ لُجٍّ وكُنَّسٌ ... بوجرةَ يَرْأَمْنَ الظِّباءَ الجوازيا

فأضحت وكثبان الصَّريمِ وعالجٍ ... من المحل قد شاكَهْنَ نِهْياً وواديا
قَرَى شرفُ الدين الغِنى، وأبت له ... مَعاذِرُهُ أن يحتبسنَ الطّواهيا
وقوله في الحكمة:
يَزيدُ في عزّ الفتى ذُلُّةُ ... حيناً وإن كان له آبيا
كسابق قصّر عن غايةٍ ... فكان بالسَّوْطِ لها حاويا
ولما بويع للإمام المستضيء بأمر الله بالخلافة، قال فيه:
أقول، وقد تولّى الأمرَ حَبْرٌ ... وليٌّ لم يزَلْ بَرّاً تقيّا
وقد كشف الظلامُ بمستضيءٍ ... غدا بالنّاس كلِّهِمُ حَفِيّا
وفاض الجودُ والمعروفُ حتّى ... حسبتُهما عُباباً أو أتّيا
سألنا اللهَ يُعطينا إماماً ... نُسَرُّ به، فأعطانا نبيّا!؟
بلَغْنا فوقَ ما كنّا نُرَجِّي ... هَنِيّاً، يا بني الدُّنيا، هَنيّا
ومن المراثي قوله من قصيدة في مرثية ملك العرب دبيس بن صدقة:
هَبْنِي كتمتُ لواعجَ البُرَحاءِ ... فمنِ المكتِّمُ عَبرتي وبكائي؟
لاتهً عن قلقي، فإنّ تصبُّري ... فيما ألَمَّ مُباينٌ لوفائي
كيف التّصبُّرُ، والهمومُ أسنّةٌ ... يَخْطِرْنَ بينَ حَيازِمي وحشائي؟
كيف التّصبُّرُ، والرَّزِيّةُ بالذّي ... جلّتْ رزّيتُهُ عن الأرزاءِ؟
بِمُطارِدِ الأيّامِ في آماله ... كطِراده في مأزِق الهيجاء
والماليء الدُّنيا بذكر مناقبٍ ... صُرِّفْنَ بينَ السير والإرساءِ
بفتى النَّدَى والبأسِ والمُرضي العلى ... في يوم مَكْرُمةٍ ويوم لِقاءِ
بأبي الأغرِّ، وأيَّ كنيةِ ماجدِ ... فقَدَ الزّمانُ، وأيَّ خِدْنِ علاءِ!
مَنْ طالما شَجُعَ الرَّدَى، فأعاده ... من بأسه والرَّأي في الجبناءِ
وتجمعّتْ غِيَرُ الزّمانِ، فردَّها ... مفلولةً بأسنّة الآراءِ
وتضايقات خُطَطٌ به، فأباحها ... خُدَعاً قضَيْنَ لِمَخْلصٍ ونَجاءِ
طرَقَ النَّعيُّ، فلم يكن لي مسمعٌ ... يُصغي إلى المكروهة الرَّوْعاءِ
وطفِقتُ أتَّهِمُ الحديثَ كغيره ... من سائر الأخبارِ والأنباءِ
فإذا الرَّدَى قد أمكنته غِرَّةٌ ... من قِرنه، فجرى بلا إِبقاءِ
لا طعمَ بعدَ أبي الأغرِّ لحالةٍ ... وإنِ اكتست من رونق وبهاءِ
صُرِعت لمصرعه المقاصدُ والمُنَى ... فالنّاسُ كلُّهُمُ بغير رجاءِ
ترك الجنودَ بضيعةٍ من بعده ... يمشونَ للأرزاق في عَشواءِ
ما زال يُعطيهم، ومن لم يُعطِهِ ... فرَضَ العطاءَ له على الأعداءِ
فَلْتَبْكِهِ البِيضُ الصَّوارمُ والقنا ... والسّابقاتُ لَواحِقُ الأمطاءِ
وَلْيَبْكِهِ اليومُ العصيبُ من الوغى ... ينزو بكلّ كتيبةٍ حَمساءِ
وَلْيَبْكِهِ رَأْدُ الصّباحِ أعادَهُ ... بِطراده كالليلةِ الليلاءِ
وَلْيَبْكِهِ اللطفُ الذّي لم تُؤْتَهُ ... خمرٌ، ولم يُرْزَقْهُ صفوُ الماءِ
وتألّفُ القلبِ الشديد بمنطقٍ ... أغنى مُؤمِّلَهُ عنِ الإِعطاءِ
ومنها:
للهِ مَنْ ودّعتُ يومَ مَراغةٍ ... والدّمعُ منحدرٌ بغير رِياءِ
أسفاً على بُعدِ المَزارِ، وكيف لي ... ببعيدِ دارٍ كافلٍ ببقاءِ؟
أعددتُهُ لشدائدي، فأصابني ... من فقده بالشّدّة الصَّمّاءِ
هجَرَ الجيوشَ، وحلَّ بين كتائبٍ ... مستسلمينَ لحادثٍ وقضاءِ
سَدِكاً برَمْسٍ لا يَرِيمُ، وطالما ... نَحَلت سوابقُهُ من الإنضاءِ
ومنها في صفة الموتى:

في معشرٍ أغضوا على جورِ الرَّدى ... بالرُّغم منهم أيَّما إِغضاءِ
رقدوا على غير الكرى، وتوسّدوا ... بعدَ الرِّحالِ نَمارِقَ الدَّهناءِ
وتضّمخوا دفُعَ َالصَّديدِ، وطالما ... رثِموا بكلّ لَطِيمةٍ ذَفْراءِ
قد شوَّهَ الحسنَ الِبلى بوجوههم ... وأسالَ كلّ كَحيلةٍ نجلاءِ
النّومُ بَعدَك للجفون محرّمٌ ... إّلا الغِشاشَ وعاِلطَ الإِغفاءِ
ولقد شفى نفسي، وهوّنَ وَجدَها ... حِلفُ العُلى وبقيّةُ الكرماءِ
مَنْ كلّما نظرت إليه عيوننا ... عدّتك في الباقين والأحياءِ
ومنها:
أنا منكُمُ، فارْعَوْا عهودَ موَدَّتي ... ولكم كريمُ مدائحي وثنائي
أوجبتَ حقّاً في أبٍ لم يَقضِهِ ... وجزاءَهُ أرجو من الأبناءِ
وقوله في مرثية جلال الدين محمد بن أنوشروان الوزير:
وكنتُ إذا ناديتُهُ لِمُسلّمةٍ ... أتاني جريئاً مُلغياً للعواقبِ
إذا اسطاع نصراً، شدَّ شِدَّةَ ضيغمٍ ... وإّلا فباكٍ لي بكاءَ الحبائبِ
يهونُ عليه وَهْنُهُ بصِيانتي ... وبِذْلتُهُ ماعزّ قدري وجانبي
ولم أدرِ أنّ الموتَ إثْرَ محّمدٍ ... يُساوِقُ أعناقَ الصَّبا والجنائبِ
وإنَّ رجائي في مساعيه ضِلَّةٌ ... ولم يبقَ منه غيرُ موقفِ راكبِ
وممّا شجاني فقدُهُ وهو يانعٌ ... نضيرٌ كغصنِ البانةِ المتلاعبِ
وأنَّ الليالي لم تُطعه لِبغيةٍ ... ولم يروَ من ماء المُنى والمَطالبِ
فوا أسفا والصَّبُّ تُحرقُهُ النَّوى ... لِمُختَرمٍ كالبدرِ بينَ الكواكبِ!
فقَدْتُك فقدَ الصّادياتِ طليحةً ... على العِشْرِ والتَّأويبِ، عذبَ المشاربِ
بَراهُنَّ إدْمانُ الرَّسيمِ، وهُدِّمتْ ... من الوَجدِ أشرافُ الذُّرا والغواربِ
فلمّا رَجَوْنَ الماءَ حيثُ عَهِدْنَهُ ... أنَخْنَ بجَعْجاعٍ من القفرِ عازبِ
فأصبحن يفحَصْن العَزازَ تلدُّداً ... وقد حالَ خَطْبٌ بين وِرْدٍ وشاربِ
وأقسِمُ إنّ الموردَ العذْبَ دُون ما ... فقَدْتُ، ووجدي فوق وجدِ الركائبِ
لك اللهُ، أمّا الصّبرُ فهو مُبايني ... عليك، وأمّا الحزنُ فهو مُصاحبي
وليس إلى سُلوان وُدِّك مذهبٌ ... ولا شَعَفي، إنْ حالَ موتٌ، بذاهبِ
ومنها:
فلا يُبْعِدَنْك اللهُ، يا خيرَ حاضرِ ... أعانَ على الجُلَّى ويا خيرَ غائبِ
سأبكيك ماسحّ الغَمامُ، وغرَّدَ ال ... حَمامُ، وما أجّتْ ظِباءُ السَّباسبِ
وقوله في مرثية نوشروان الوزير:
بَقيتَ، ولا زّلتْ بك النّعلُ، إنّني ... فقدتُ اصطباري عندَ فقدِ ابنِ خالدِ
فتىً عاشَ محمودَ المساعي ممدَّحاً ... ومات نقيَّ العِرضِ جَمَّ المحامدِ
وقوله يرثي أخاه:
دَعُوا دمعي بيوم البَيْنِ يجري ... فقد ذَهب الأسى بجميل صبري
وكيف تصُّبري وأخي رَهِينٌ ... بأرض الشّام في ظلماءِ قبرِ
بِحارةِ غُربةٍ من أرض حِمْصٍ ... لقد غدَرَ الزّمانُ وأيَّ غدرِ
أعنه أسامُ سُلواناً وصبراً؟ ... سأنُدُبهُ ولا خنساءَ صَخْرِ!
فإنْ عجَزَتْ عن النَّدْبِ القوافي ... بعثتُ الدّمعَ نظماً غيرَ نثرِ
فقَدْتُ أخي، وكان أخي ظهيري ... على الحدثانِ، سمّاعاً لأمري
فقَدْتُ مُهَنَّداً عَضْباً جُرازاً ... يَقُدُّ بكلّ رائعةٍ ويَفْرِي
إذا ما شِمتهُ لقِراعِ خطبٍ ... جلا الغَمّاءَ عن وجهي وصدري
ومنها:
أنا الباكي إذا فارقتُ خِلاًّ ... فكيف أخي وخالصتي وأزْري
وقوله يرثي بعض أمراء الأكراد، واسمه المظفر، وكان أصيب في حرب:

أقولُ، ودمعي مستهلٌّ: ودِدْتُني ... نُعِيتُ، ولم أسمع نعيّ المظفَّرِ
كأنّ شبا مرورةٍ فارسيّةٍ ... أصاب فؤادي من حديث المخبِّرِ
فبِتُّ قَتيلَ الهمِّ والحزنِ بعدَهُ ... وباتَ قَتيلَ الذّابلِ المُتأطِّرِ
نَعَوْا فارسَ الخيلِ لمغيرة بالضُّحى ... ومختلسَ لأرواحِ تحت السَّنَوَّرِ
فتى لم يكن جَهْما ولا ذا فَظاظةٍ ... ولا بالقَطوبِ الباخل المتكبّرِ
ولكن سَموحاً بالوداد وبالنَّدى ... ومبتسماً في الحادث المتنمِّرِ
سَقَى ابنَ أبي الهيجاء صائبُ مُزْنَةٍ ... كفيضِ يديهِ الهاطل المتحدّرِ
بكَيْتُ عليه حيثُ لم يدرِكِ المنى ... ولم يروَ من ماء الحياة المكدّرِ
وهوّنَ وجدي أنّه مات مِيتة ال ... كِرامِ صريعاً بينَ مجدٍ ومفخرِ
كأنّ دمَ النَّجلاءِ تحتَ بُرُوِدِه ... لَطِيمةُ مِسكٍ في إهابٍ غضنفرِ
وقوله في مرثية الأمير عنتر بن أبي العسكر، والثناء على أخيه مهلهل:
أسى وسرورٌ، ناصرٌ ومخذِّلُ ... أتاحهما لي عنترٌ والمهلهلُ
فماضٍ بكت عيني لفقدِ كمالِهِ ... وباقٍ لِما فيه من المجد أجزلُ
ومنها:
سقى عنتراً، والدّمعُ لولا جِوارُهُ ... أحقُّ به، هامٍ من المُزْنِ مُسْبلُ
قضى نَحْبَهُ جمَّ الثّناء كأنّما ... يشَبُّ على النّادي بذكراهُ مَنْدَلُ
ومنها:
لِيَبْكِ عليه معركٌ وكتيبةٌ ... ويندُبْهُ نادٍ ذو سَراةٍ ومحفلُ
ومنها:
ولو أننّي أنصفت في حكمٍ وُدِّهِ ... لَبِتُّ وكُلّي في مَراثيهِ مِقْوَلُ
وقال في مرثية ولد الخليفة المسترشد بالله:
نبأ عادَ له الصّبحُ دُجَىً ... وذُعافاً رَيّقُ الماءِ الزُّلالِ
جَلَّ أن يبكى دموعاً، فجرت ... أعينُ الحيّ بمحمّرٍ مُذالِ
وأنثنت من حَزَنِ الدّهرِ به ... غُرَرُ الآمالِ سُوداً كالليالي
وعلا عن نُدبةٍ من بشر ... فرثاه المجدُ مفهومَ المقالِ
ومنها:
قسماً، لولا الإمامُ المجتبى ... باقياً لم يُلْفَ قلبٌ لك سالِ
ما ظننت الموتَ يُمضِي بأسَهُ ... وسُطاه في بحورٍ وجبالِ
لا ولا خِلْتُ الثّرى من طوقه ... أن يجِنَّ البدرَ من بَعدِ كمالِ
إنْ عصى موتٌ فقد صرّفتَهُ ... آمراً أو ناهياً في كلّ حالِ
أو خَلَتْ منك قصورٌ أوحِشَتْ ... فجنانُ الخُلدِ ليست بخوالِ
توارى منك شخصٌ بالياً ... فالمساعي الغُرُّ ليست بِبَوالِ
شَرُفتْ نفسُك عن دار الفَنا ... لنعيم الخلدِ من غير زوالِ
حيثُ لا ترضى بزُلْفَى مَلكٍ ... ولك الجارُ المليكُ المتعالي
وقوله في مرثية الأمير أبي الحسن بن المستظهر، وكان موته في دولة المسترشد أخيه:
أمّا إذا سلِم الإمامُ الأعظمُ ... وسليلهُ، دقَّ الجليلُ المُعْظَمُ
عزَّ العزاءُ وهان حين بَقِيتُما ... فالمجدُ باكٍ طَرفُهُ متبسِّمُ
وبقاءُ شمسِ الصُّبحِ يُحدثُ سلوةً ... فينا إذا بدرٌ هوى أو أنجمُ
للهِ ثاوٍ في التُّراب، وطالما ... زُهيَ النَّديُّ به وتاه المُعدِمُ
ومطعَّنٌ بشَبا الحِمامِ، وطالما ... رَوِيَ الحُسامُ بكفّه واللَّهْذَمُ
وممنَّعُ الأقوالِ يَحْصَرُ بعدما ... نطقَ البليغةَ والفصيحُ يجمجمُ
كفّتْ يداه عن النَّدَى من بعدِما ... حسَدَ الغمامُ بَنانَهُ والخِضرِمُ
ونبت عزائمُهُ وكان مَضاؤها ... في الخطب يَرْهَبُهُ الطريرُ المِخْذَمُ
وأجَنَّ غُرَّتَهُ الثّرى من بعِدما ... عاد الصبَّاحَ بها البَهيمُ المُظلِمُ
نُهدي الصَّلاةَ له، ونُكبِرُ قدرَهُ ... ومَحَلّهُ من أن يقال تَرحُّمُ
ومنها:

لهفي عليه، لا بَوادِرُ نصرِهِ ... تحمي الصّريخَ، ولا المكارمُ تُثْجِمُ!
فثوى بموحشة الكسُوُرِ، شقاؤُها ... بسِوى نعيمِ مَعادِهِ لا يُنْجِمُ
ومنها:
في زُمرةٍ قطعوا الأحبّةَ عَنوةً ... وحدا ببيِنِهمُ القضاءُ المُبْرَمُ
رحلوا على غير الرِّكاب، وعرَّسُوا ... بمُعَرَّسٍ ثاويهِ لا يترمرمُ
متجاورينَ، كأنّهم لتهاجُرٍ ... متباعدون، فُمْنِجُدونَ ومُتْهِمُ
مُنِعُوا عن الشّكوى، فلا آبيهمُ ... آبٍ، ولا مِنطيُقُهمْ يتكّلمُ
أغضَوْا على جور المَنُونِ، وطالما ... أغضى لِلَحْظِهِمُ الخميسُ المعلِمُ
وتوسّدوا عمدَ التّرابِ، ولم يزل ... مُلْقَى نِعالِهِمُ الدِّمَقْسُ المُعْلَمُ
ركضت حروُبهُمُ لهم فتمنّعوا ... ومشى الحِمامُ إليهمُ فاستسلموا
من كلّ أغلبَ، لو تصوّرَ موُتهُ ... في مَنْسِرٍ أرداه منه تقحُّمُ
ما ينفَعُ الأسوانَ طولُ بكائِهِ ... واللهُ يفعلُ ما يشاءُ ويحكُمُ
حُمَّ القضاءُ، فكالدّنيّ ممجّدٌ ... عندَ المَماتِ، وكالجبانِ مُصَمِّمُ
يا حامليه، تكثَّرُوا ما اسطعتُمُ، ... فالشَّلْوُ طودٌ، والفريدُ عرمرمُ
وتوسّعوا في الأرضِ شَقَّ ضريحه ... ما شئتُمُ، فالطَّودُ طَودٌ أيهمُ
ومنها:
لا يُحْزِنِ اللهُ الإمامَ، فإنّه ... ليَجِلُّ عن حَزَن النّفوس ويعظُمُ
ومنها:
ولقد عجِبتُ من المنيّة، إذ غدا ... منها مطيعٌ ما أردت ومُجرِمُ
تَعصيك في الصِّنوِ الشّقيق سفاهةً ... وتطيعُ أمرَك والقَنا يتحطّمُ
فإذا سلِمتَ فكلُّ بؤسٍ نعمةٌ ... وإذا بَقِيتَ فكلُّ غُرْمٍ مَغْنَمُ
وقوله من مرثية الإمام المقتفي لأمر الله:
الخطبُ أكبرُ في النّفوسِ وأعظمُ ... من أن تُراقَ له الدّموعُ أوِ الدَّمُ
عزَّ العَزاءُ، فكلُّ جَلْدٍ عاجزٌ ... عما ألمَّ، وكلُّ أفوهَ مُفْخَمُ
سبق الغمامَ بنُدْبَةٍ وبعَبْرَةٍ ... فبدا لنا منها الرَّعُودُ المُثْجِمُ
كان قبل وفاته بأيام جاء مطر جود، ورعد مجلب، وأفرطا حتى انزعج الناس.
ولو أنّ شمسَ الصُّبحِ راقبتِ العلى ... لتغيّبتْ، فالصُّبحُ داجٍ مُظلِمُ
ولَكُوِّرت حزناً لفقد خليفةٍ ... شهِدَ السِّنانُ ببأسه والمِخذَمُ
ومنها:
غدَرَ الحِمامُ وكان من أنصاره ... يَهْديِهِ عنه مُهَنَّدٌ أو لَهْذَمُ
ومنها:
لو كان خصُمك غيرَ محتومِ الرَّدَى ... كسف الغزالةَ مستثارٌ أقتمُ
ومنها:
لكنّهُ المقدورُ لا متّأخّرٌ ... عنه إذا وافَى، ولا متقدّمُ
يبكي نَداك المعتفون عشيّةَ ... والعامُ يُخْلِفُ نَوْؤُهُ والأنجمُ
ومنها:
للهِ ما ضمَّ الضَّريحُ، فإنّه ... طَوْدٌ أشمٌّ وذو عُبابٍ خِضْرِمُ
أغضى الجفونَ ولم يكن عن حادثٍ ... يُغضِي، ولا عن ناجمٍ يتلوَّمُ
وثوى وكان يبُثُّ شكوى سيرِهِ ... وسُراهُ حافرُ طِرْفِةِ والمَنْسِمُ
لا يَرْكَنَنَّ إلى الحياة مُمَتَّعٌ ... فالبُعْدُ دانٍ، والمدى مُتَصَرِّمُ
ووراءَ آمالِ الرِّجالِ منّيةٌ ... يعدو بفارسها حَثيثٌ مِرْجَمُ
ولم أر شيئاً من أهاجيه، فإنه نزه ديوانه منها. وكانت تنسب هذه الأبيات الثلاثة إليه، وهي:
كلُّ الذّنوبِ لبلدتي مغفورة ... إلا اللّذَيْنِ تعاظما أن يُغْفَرا
كونُ الجَواليقيّ فيها ذاكراً ... نحواً، وكونُ المغربيّ مُعبِّرا
فأسيرُ لُكْنَتِهِ يُمِلُّ فصاحةً ... وجَهُولُ يقظتِه يُحيلُ على الكرى
فلما سمعها، تنمر، وما آثر أن تذكر، كرماً في جبلته، وفطنة في فطرته، ومروءة في غريزته، ونزاهة في شيمته.

وكل شعره متناسب مختار، متناسق مشتار ممتار. ولقد خليت كثيراً من الحسن، هرباً من الإكثار، وطلباً للاختصار.
وله رسائل ومكاتبات معدول بها عن الفن المعتاد، والأسلوب المعروف. وهي كثيرة. وسأورد منها نبذاً يستدل بها على الباقيات.
فمن ذلك مكاتبة إلى بعضهم: تأجيل فرض الخدمة ضامن ضررين يكسفان أنوار الولاء، وإن كان يباري الجونة عند ظهيرة القاع: أحدهما عار من سوء الأدب سابغ، والثاني تأجج نار الشوق الغانية بطبعها عن الاحتطاب لها. وبينهما وثوق بالكرم لا يعبث في صحته وحصينته عابث، وسبب الإرجاء من قبيل المشافهة، فإنها ظهر حمول للجهالات، والله تعالى يحفظ حشاشة المعالي، بطول بقاء المجلس العالي.
وكتب إلى النقيب الطاهر: صال كريم الركابي بضبع سماها زوجة على ابنة كبيدة العلوية صيال الأشراف في أيام الإنصاف على ذمي ذي كبيرة من جرم. ولا قناعة من البأس المهيب بيسير العقاب حتى تملأ السياسة ضواحي الكرخ الفيح، ويعلم كمال الرأفة بأغراض الطائفة. وإن خلا الركاب الكريم، شد غلام من تميم، راضياً وفاخراً، مع سحب ذيل خيلائه على التيجان.
وله في الاقتضاء: أرى نطاسي الوصب المثبت ماطله بالدواء، والموت بدون هذا الإهمال شجاع، فهل من معزبة خبر؟ ظني أن السهاد، يخصم الرقاد، حتى يحوي لي مبتغاي.
وله: وعرقة عرق حداد المدى بأيدي سغاب الترك لأسؤق فتو الضائنة.
من أخرى: قضاء حوائج المرملين، لا يتساند إلى إكرام شفاعة ميزها التطول، بل إلى طبع يرى الإيجاف في الإحسان دبيبا.
أخرى: بلغني أن أنيسياناً يذود صغر شأنه عن تسميته، شتيم الرواء والسحناء، مشؤوم المرافقة والصحبة، يغتاب حتى ثدي أمه، أوسع شفعائي إليك لوماً على صغره في ناديك، وذله أن يصدفك عن عوارفك وأياديك. ولقد استوعر الخلف ما استهل، وأوجف إلى حتف نفسه فعجل. فإن كان مستنداً منك إلى جذم عناية، فأذن بهجر، فأني مجازيه ولو كان دونه خرط القتاد. وإن لم يكن ذلك، فبمن أقدم؟ وعلى من تقحم؟ حذار أن تعتمد غير كتبه بإرسال الثمن الأوفى والقيمة العليا. فالقوافي ما سمعت، والقائل والباذل من علمت، والسلام.
من أخرى: رزحت حال، وقل أنصار، فمات أمل، وضاقت حيل، ولم يبق في سقاء الصبر بلل. ولقد حاولت أن أسطر صحائف شوق تنطق بحقيقة ذكر الوجد، فحاذرت بدار قلمي بشكوى حال تعنون المجد بالضراعة، وتوهم الخليل انتجاعاً.
أخرى: أرقدة عن رزقي، وأنا أرزح من نضو سفار عرقه تكرير العشر وطي المراحل؟ أفرط ضر، ونفد صبر، والرغد لا يعلم بالمسنت، والسلام.
أخرى: وأيم الله، لقد اخلولقت في الأندية الحاشدة من طول جدال كاتبكم، وهو موجف إلى الفتنة، يأبى إلا المنع. وإني لقائلها شنعاء ولو جرت حتفاً. حذار، حذار من اشتياط أفوه إذا جنى الخامل عاتب الشهير. ولئن جن الليل دون بعث العساجد المستقرة، لتبعنن كتائب القول مشمعلة لا تخص مقالاً، ولا تستثني حمى، ولغيرهم مثل السوء، والسلام.
شفاعة إلى جمال الدين الوزير بالموصل: قد تبوج بارق مكارمكم، واستطار حتى أضاء لعين الأكمة، وأسمع راعده الأصم العازب. وأنتم سننتم إليكم هذه الأطماع، ومهدتم للعفاة المسائل، وشجعتم أقلام الشفعاء، فكل هجنة تحدث من متوسل به إليكم، فهم من جنايتها برءاء، والوارد بها كنتم أقلتم عثاره في أيام تشرفي بالخدمة، وأخرستم دونه بعض ضوضاء الخطوب، وأوردتموه من جودكم علاً بعد نهل. وقد أرسل ولد مطالباً عندكم دين المكارم، ونعم الغريم أنتم، والسلام.
وله إلى الوزير ابن هبيرة في طلب قصيل: الكراع مع تعذر القصيل قد محصت جلوده، وتقارب خطوه، ودميت بالحكاك صفحاته، حتى عاد حديث الخباز عنده نافلة. وفيه: الجواد عطية الجواد، وهو نهد المراكل، مرتفع الكاهل، يفوق مرور العواصف ومروق المعابل. ومزاحمة المراكيب الكريمة مما أتيح لها من بلغة القصيل هجنة، والثمن الذي يتوصل به معدوم. على أنه مع وجود الثمن جد غال، والرأي في حل هذا الإشكال بروية صائبة من الكرم أعلى.
جواب مكاتبة بعض الأكابر:

أهلاً بها من شيم مكارم ما برح صوبها على غبراء فضلي المجدب لفقد حنو الأكرمين هامياً، والحمد لله حيث وجدت في زماني إنعاماً يكاثر إخلاصي، ووداً يعصمني من وحشة غربتي ووحدتي، حتى أراني منه في مثل الخميس الجحفل يرهج الوادي بحوافر خيله، ويدلهم رونق الضحى من هبوات عثيرة. مللت السجايا العراقية، وبعلت بالهم، فطفقت أعوم في الفلوات النازحة عوم النينان في جمة الخضرم، وأحببت الخلوة حب مجلس الشرب الكرام طاب شاديه، وأنصف ساقيه. ولولا خدمة غيركم لصرت إلى ناديكم، ولئن شاء الله لأفعلن، والسلام.
وله شفاعة: إسلم يا فارس الكتيبة، وجواد السنة الجديبة، غمر الرداء، نضير النعماء، مجدوداً. أجل يا فكاك العناة، ومطعام العفاة. أنشط ابن جابر، من الخطب الجائر، مكتسباً عند الله ثوابه، وعندي شكره وثناءه، فثم أب حدب، دمعه دافق سرب، أسرع من سهم إلى مرمى، ومنك إلى ابتدار المجد ببأس ونعمى.
إلى ابن شرف الدولة عند المطل بدراج طلب منه: أجواد هملاج، أم طائر دراج؟ لقد أوسعت الوعود وجعلت نفسك رمية العتاب، بل كرمت الأعراق المسيبية والشيم المعسولة السعدية عن التسويف وفاحش الإخلاف. إبعثه محموداً بعينه من غير تبديل، دائم الصياح، يلقط من بطون الراح، كأنه ناظم مجيد، ومطرب غريد، متى صدح كرر، يظن كل الزمان السحر.
في طلب حصان: إبعثوه خلاكم ذم جواداً سبوقاً، مشرفاً منيفاً، نهد المراكل، صريحاً، جياشاً، صهالاً، يفضل طلق الظليم وشد غزلان الصريم. واحذروا البطيء الأهضم، والهجين المقرف. وليكن كرمه مناسباً للقوافي التميمية، والمكارم الفخرية.
ومن أخرى: فاره هملاج، لا قطوف ولا مزعاج. نبيل محزمه، سام تليله، ملساء صهوته، مشرفة قطاته. مجموع صفاته لباغي الإيجاز، من الكتاب العزيز ذي الإعجاز: وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب.
أخرى: الشاكي نزيل، والمشكو منه خليل، وعزمات الآراء الكريمة ذمر غير إجفيل.
وله في تقريع شخص ذمه: ما مثلك من ألحف ظلا، ولا أوسع حمى. بل جدير بك أن تنبذ بالعراء نبذ الجيف المستحيلة. ما هذا الإقدام على أمر لو خطر ببالي، فعله في خواص أحوالي، رحت جاهلاً عاصياً مزاحماً للمنية. إبشر بما ساءك من إعراض وجوه عنايتي عنك. وأيم الله، لئن لم تقم باستدراك الفارط في ذلك مقام العبد العاجز عند الملك القادر، بما يحصن نفسك من حتفك، ويصونني عن مقام العيب، لأقلبن لك مجن العناية، ولآخذن بكل معونة قتلة لك فاضحة. شوهت عقلي وذكري عند السعراة الأخيار. أبعدك الله.
أخرى في طلب مسواك من شيخ الشيوخ: ناضراً من عود أراكة، لين المعاطف، خوار المعاجم، غير كز ولا يابس، بل أغيد اللحاء والملامس. يصيب السنة، ويعيد الأقلح وضاح المباسم.
أخرى: إني وإن كنت على قومك يا ابن الكرام حران الفؤاد، محتدم الحفيظة، حيث لفظوا ودي، ونقضوا عهدي، وأخلفوا وعدي، ولم أجزهم بغير الهجران بقية الزمان، وعما سواه فمخزون اللسان، إذ الإخاء معتصمهم المنيع مني. ولعمر الله أنهم يرادون مني طوداً أيهم، ويجدون عوداً ثفالاً لا يهفو في وداد هفوة، ولا تطيش له في ذكرهم بالغيب حبوة، ولكن رب هجر أقتل من هجر. وأنت بنجوة عما اجترحوا، وحجرة عما اجترموا، وما زلت أمنحك وداداً خالصاً من الأقذاء. والوارد بالصحيفة أوجب قبلي حقاً زاحم فيه أخيار الملوك، وقد التزمت له تحمل أثقاله مدة الحياة فمهما تحدث فيه من خير تجدني شاكراً؛ وإن تكن الأخرى وكذب الشيطان، ألزمك ما جناه قومك، وأبرز لحربك كمياً مدره حرب ثابت القدم تحت الغبار، غير مخلد إلى فرار.
ومن أخرى: ادلهم الباطل حتى ما من جذوة حق يهتدي بها إلى مسلك، وصار وداد الأكابر عاقراً في الخير، نثوراً في الشر، اللهم غفرا.
ومن أخرى: نادي المكارم مقبل الصعيد، عن فم شاد بالمحامد غريد. أجدني والحكم لله بين أوقين فادحين ينؤ بهما الطود الفارع: تلف الكتمان، وهجنة الإذاعة، وهما ما هما! واتحاد الملفى، يسن إبرام الشكوى، إذ ليس بالحي بارق يشام ولا وميض يلمح.
أخرى: فقد صبر، واسترق حر، ووضح في مخالفات عادات التخفيف عذر، وكل من المنزل والمربط صفر، لا شعير هناك ولا بر.
أخرى في طلب سرج:

مربض ضيغم، ولج خضرم، ومقر طود راس أيهم، سماه الاصطلاح سرجاً: لارثاً ولا سحيقاً ولا غلامياً، دمقسي الحشية، حديث عهد بيد الصناع، أقرب من باعك إلى العلى، والسلام.
وله إلى المسترشد: جوداً يا أمير المؤمنين بوفر دثر، لا بكيءٍ ولا نزر، لفصيح شعر، يمم لجج بحر، يرتاد غنى دهر. فالقافية سحر، والسامع حبر، والندى غمر.
وله: إن وراء الحجاب المسدل لأيهم طود، وخضم يم، مخرس خطب، قاتل جدب. جل فبهر، وعز فقهر، وجاد فغمر. ثبت الله دولته ما هبت الريح، ونبت الشيح، فعلام الإهمال؟ والسلام.
ومن أخرى: أصلح الله أمير المؤمنين، إن الموصل والإيغارين وهما الآن إقطاع لملكين سلجوقيين كانتا إجازتين للطائيين، من إمامين مرضيين: معتصم بالله، ومتوكل على الله. وبناء المجد الأشرف أعظم، وخطره أجسم، وغمامه للمعتفين أرزم، فعلام الحرمان؟ وله: أسبغ الله ظلاله ما افترق الحظ والعلم، واصطحب العقل والهم.
ما هبت الريح، ونبت الشيح، فعلام الإهمال؟ والسلام.
ومن أخرى: أصلح الله أمير المؤمنين، إن الموصل والأيغارين وهما الآن إقطاع لملكين سلجوقيين كانتا إجازتين للطائيين، من إمامين مرضيين: معتصم بالله، ومتوكل على الله. وبناء المجد الأشرف أعظم، وخطره أجسم، وغمامه للمعتفين أرزم، فعلام الحرمان؟ وله: أسبغ الله ظلاله ما افترق الحظ والعلم، واصطحب العقل والهم.

قسم شعراء العراق
فكتب إليه رسالته الشينيّة نظماً ونثراً.
وورد شيراز، ومدح قاضي القضاة عماد الدين أبا محمد طاهر بن محمد الفَزاريّ - وكان مؤثل بني الرّجاء، ومقصِد الفضلاء، ومطلع السعود، ومنبع الجود - وصل إليه هذا الشاعر في عيد الأضحى، سنة تسع وخمس مئة، وخدمه بقصيدة زاييّة بعد مقامة مقدّمها وقطعةٍ نظمها. وعاد الى الحجاز. ثم قصده بشيراز سنة سبع عشرة، ومدحه.
فأما المقامة، فأولها: حدثني بعضُ الإخوان، قال: نشّتْ بي قراراتُ الكرم ببُغْدان، لتواتر نوَب الزمان، واختلاف أرباب السلطان، وأنا يومئذٍ ذو غُلٍّ قَمِلٍ، ووِردٍ وشِلٍ، وقلبٍ وجِل، وهمٍ متّصلٍ، وجذَلٍ منفصل، فشحَذْتُ غِرارَ العزمة في ركوب غارب الغربة، والأخذ في تنفيس الكربة، وتحقيق الوثبة؛ وجعلت أرود الفكر في المسرح، وأناجي السِّرَّ في ارتياد المَطْرَح والمَنزَح، وأستشير الصديق الصدوق، وأتجنّب في الاستشارة العَقوق. فحين صَلدَ الزّنْدُ، ونبا الحدُّ، وعثَر الجدُّ، لاح بأفق المَراد، ووَفْق المُراد، خِدْنٌ حلبَ الدّهر أشطُرَهُ، واعتصر أعصُرَه، وحادثَ أحداثه، وبذّ كهوله وأحداثه.
أخضرُ الجلدة من نسل العرَبْ ... يملأ الدلوَ الى عَقْد الكرَبْ
ذو فطنة غالبة، وعزمة ثابتة. فضربتُ بقِداحه، واستصبحتُ بمصباحه، وقلتُ: أنا إليك مرتكن، وأنت ببذل المجهود في النصح زَكِن. فقال: ما عرا؟ فقلت: كلُّ الصيد في جوف الفَرا. فقال: هاتِ، ودَعِ التُّرَّهات. فقلت: إن الإفلاس، حكَم عليّ الوَسواس، فما يقول في امتداح الناس؟ فقال: لا بأس، ولكن ارتَدْ بقعة، تتّخذها نُجْعة. قلت: فلسطين. قال: بها الإفرنج الملاعين. قلت: فالشام. قال: أجفل منه الكِرام. قلت: فديار ربيعة. قال: معاقل منيعة، ذهبت جوثتها، وتصدّعت بيضتها، وتمزّق عُقَيْلُها، وطال حزنها ووَيْلُها. قلت: فديار بكر. قال: بلد قفر، وجبل وعر، عمي إنسانها، مُذْ ذهب مروانها. قلت: فشيْزَر. قال: انتقض حبلها المُشْزَر، وجاس خِلالَها العسكر، ونَغِلَ إهابُها، وغاب صالحها ووثّابها. قلت: فطرابلس. قال: ذهب عَمّارُها، وأُخرج عُمّارُها، وبقي أغمارها. قلت: فمصر. قال: دون التّيه بالتِّيه، ومرْتٌ يجُدّ قُوَى لاحقٍ ووجيه. قلت: فأصفهان. قال: قصدها هَوان، والأديب بها مهان. قلت: فخُراسان. قال: هي نصفها الأول، إذ ليس بها لأول النصف الثاني نون تُحمل. فحرت بخلوّ الأقطار من مُنتَجَع ينتجَعُ، ومُرتبَع يُرتبَعُ، وجعلت أرسُفُ في قيد الوجوم، وأرسب في يمّ الهموم، قد أُرتج عليّ بابُ الحيلة، لمُقامي بالبقعة المُحيلة. فحين رأى صلودَ زَنْدي، ونُبُوَّ حدّي، ورقودَ فكري، وخمودَ جمري، قال:
إركب على البحر الى البحر ... ومِلْ مع المدّ الى الجَزْرِ
واقصد الى البصرة، ثم اعتمد ... لقصد خُوزستانَ في البَرِّ

وأهلُها لا تغشَ أبوابَهم ... فإنّهم خُوزٌ، وما تدري
وشِمْ بروقَ الجودِ من فارس ... ففارسٌ مُرتبَعُ الفخرِ
بيضتُها شيراز، فاعْمِدْ لها ... فإنّها طاردةُ الفقرِ
بها عماد الدين خيرُ الورى ... ربُّ الندى ذو المنن الغُرِّ
قاضي القضاة العلَمُ المرتجى ... مبشّرُ الآمال بالبشرِ
فانهضْ لها منتضياً عزمةً ... وانظر الى شخصيَ في السَّفْرِ
وها أنا إن كنت في حيرة ... يسفر عن مطلعها بدري
فلما أبانت مشاورته عن مصاحبته، ونطقت أبياته بمحض صداقته، استنهضته فوجدته السُّلَيْكَ في عَدْوَته، وتأبّطَ في حيلته وجرأته، فنضينا الهمّ، وامتطينا ابنةَ اليَمّ، واتكأنا على الشِمال، فوق بساط الريح الشَمال، وتعاطينا كأس المنافثة، واقتدحنا نقص في الأصل والقصيدة طويلة بلا طائل، معانيها متكلّفة، ومبانيها مختلفة. على أنه ليس منها بيتٌ إلا وهو خالٍ غير حال، لم يخرج من التوسّط وإن لم يكن بعال ولا غال. وقد أوردت منها الأكثر، وأدنيت المعروف وأبعدت المنكر.
ومنها:
كأنّ عظامي غُدْوَةَ البيْنِ عادها ... لفَرْط الجوى والوَجْدِ، يا سلْمَ، منْحازُ
ولي من عَفافي والتقنّع زاجرٌ ... ووجهيَ للماءِ الذي في كَنّازُ
ومنها:
وركْبٍ على مثل القِسيّ صحبتُهُم ... عليهنّ أكوارٌ تُشَدُّ وأحجازُ
فرَوْا حُلّةَ الظلماءِ والشهبُ رُكَّدٌ ... الى أن بدا نجمٌ على الصبح غمّازُ
إذا لهَواتُ البيدِ مجّتْهُمُ ضحى ... تباشرنَ آكامٌ بهنّ وأنشازُ
أقولُ لهم: أعطوا المطامعَ حقّها ... فما أنا سألُ الدنيّة لزّازُ
ولولا أيادي طاهرِ بن محمد ... لما حلُمَتْ بي قطُّ في النوم شيرازُ
ولا حثّ بي لولاه في البرّ سابحٌ ... ولا رنّحتني في قَرا الكورِ أغرازُ
ولكن حداني نحوَها جودُ كفّه ... ففُزْتُ كما قبلي به معشرٌ فازوا
هو البحرُ لا يُفني عطاياه ماتحٌ ... لسَجْل العطايا بالمدائح نهّازُ
له كلَّ يومٍ منّةٌ وصنيعةٌ ... بحمد الورى والشكر يحوي ويحتازُ
سَبوقٌ الى الغايات لا يستحثُّهُ ... سوى مجدِه، والطِّرْفُ يُجريه مِهمازُ
حماني نَداه من زماني وصانني ... فليس يرى وجهي أياز وقَيمازُ
وشائجُ قربى قد رعاها بجوده ... وحمدٌ تلاه نازحُ الدارِ مجتازُ
وقربى أصول بيننا عربيّة ... رعاها فَزاريُّ الأرومةِ ممتاز
هنيّ الندى لم يذْمُمِ العيشَ جارُه ... له منه إكرامٌ يدومُ وإعزازُ
له موردٌ عذْبٌ نُقاخٌ من الندى ... ووعدٌ تلاه للمكارم إنجازُ
ففي كلّ جيد من أياديه منّةٌ ... يطولُ بها بين الأنام ويمتازُ
يرى أنفس الأشياء ذكراً يحوزُه ... فليس له إلا المدائحَ إحْرازُ
أعيذُ عطاياه من المسّ إنّما ... مدائحُنا سُخْبٌ عليها وأحْراز
أسودُ الشّرى إنْ عاينته ثعالبٌ ... تضابَحُ فالرِئبالُ للخوف قَفّازُ
أرى الناسَ طيراً قد أسفَّ ومجده ... تحلّق في أفق العلى فهوَ البازُ
أقرّ له بالفضل سامٌ ويافِثٌ ... وعُجمٌ وأعرابٌ ورومٌ وأنحازُ
ومنها:
من القوم بالبيض المواضي وبالقنا ... وبالخيل والزّغْفِ الندى والعلى حازوا
حووا بعمادِ الدين مجداً مؤثّلاً ... ونالوا المنى بل فوقَ غايتِها جازوا
ومنها:
تجمّعَ فيه ما تفرّق في الورى ... من الخيرِ فالشاني معاليه همّازُ
ومنها:
أقولُ لآمالي وقد جدّ جدُّها ... وقد بزّني قلبي من الهمّ بزّازُ
أمامَكِ شيراز، فحُطّي بجوّها ... على ملك شكرَ البريّةِ يحتازُ
ومنها:

على ماجدٍ رحْبِ النّديّ سماحُهُ ... نبا عنه إعدامٌ مضرٌّ وإعوازُ
ومنها:
ولا ينبِسُ النادي لهيبةِ مجدِه ... ومنطقُه فيه اختصارٌ وإيجازُ
ومنها:
بما شئتَ فأمُرْ، فالقضاءُ متابعٌ ... يصرِّفُهُ أمرٌ عُلاكَ وإيعازُ
ودونَكَ فاشحَذْ بالنّدى غرْبَ صارمٍ ... إذا ما نبا عضْبٌ مضى وهْوَ حزّازُ
وخُذ كلِماً يُسدي ويُلحمُ نظمُها ... مديحَكَ لم يلفِظْ بها قَطُّ رجّازُ
فلما سمع الإنشاد، وفقِه الإرشاد، قال: ما يجبُ على سُعادَ، إلا الإسعاد، وقد بلغت المُراد في المراد. ثم غاب عن العِيان، بعدما صرت في الأمان، فما أعرِفُ أين سلك، ولا في أيّ نصاحٍ انسلك، ولا أعلم أحيٌّ هو أم هلك، فعلمت أنه ملكٌ دلّ على ملك، وبدرٌ طلع في فلك! وله قصيدة طائيّة في مدح وزير فارس ناصر الدين أبي العزّ عبد الله بن زيد في عيد الفطر، سنة سبعَ عشرةَ وخمسِ مئة، على وزن قصيدة المعرّي التي أوّلها: لمَن جيرةٌ سِيموا النّوالَ فلم يُنْطوا، وهي:
أقول لسعدٍ والرِّكاب بنا تمطو ... ولابنِ ذُكاءٍ في قَذالِ الدُّجى وخْطُ
أيا سعدُ كُرَّ الطّرفَ بالدّوِّ هل ترى ... بأرجائه ظُعْنَ الأحبّة أم شَطّوا
فمن بعد لأيٍ قال والدّمعُ مائرٌ ... بعينيه يجري في الشؤون وينحطُّ
أرى لهَواتِ الفَجّ غصّتْ بعِثْيَرٍ ... أثارته أيدي العِيسِ وهْيَ بهم تمطو
ومن فوق هالات الخدور أهلّةٌ ... لها قِمَمٌ جُلْحٌ ذوائبُها شُمْطُ
وحولَ طُفاواتِ الشّموسِ جآذِرٌ ... تتيهُ بهم سُخْبُ القَرنفُلِ واللّطُّ
ومنها:
وفي الهودج الإنسيّ للإنس غادةٌ ... كشمس الضُّحى يزهو بها القُلْبُ والقُرْطُ
منعّمةٌ لم تدْرِ ما عيشُ شِقوَةٍ ... ولم يبدُ منها في جَنى خبَطٍ خبْطُ
مليحةُ مجرى الطّوقِ أمّا وشاحُها ... فصادٍ وأما الحِجْلُ منها فمنغطُّ
خدَلّجةٌ ملءُ الإزارِ خريدةٌ ... تكادُ أعاليها من الرِّدفِ تنحطُّ
إذا هي قامت قلت: عُسْلوجُ بانةٍ ... وإمّا مشت عفّى على إثرِها المِرْطُ
كأنّ لَماها والرُّضابَ وثغرَها ... حَبابٌ بكأسٍ فيه شُهدٌ وإسفِنطُ
تتيهُ به عُودُ الأراكِ إذا جرى ... عليه ويزهو من ذوائبه المُشْطُ
فمعصَهمُا حَلْيُ الأساوِرِ والبُرى ... وبالليتِ تزدانُ القلائدُ والسّمطُ
وقد قلت لمّا أن بدت لي غُديّةً ... أذاتُ اللّمى هاتيك أم ظبيةٌ تعطو
ومنها:
وركبٍ على مثل القِسيّ صحبتُهُمْ ... نَشاوَى سقاهُمُ خمرةُ السّهْدُ والخبطُ
رمَوْا بالمطايا ثُغرةَ الليلِ، وانبرت ... نواشط بالأفواهِ ما أمكنَ النّشْطُ
ومنها:
إذا كتبت أخفافُها بنجيعها ... حروفاً فمن وقع اللُّغام لها نَقْطُ
ذوارعُ أثوابِ الفلاةِ بأذرع ... عراها نَشاطٌ قد نفى هجرَها النشْطُ
الى أن نضَتْ ثوبَ الظّلامِ ومزّقت ... حواشي دُجىً عن غُرّةِ الصّبح تنعَطّ
حكى ضوؤها من ناصر الدّين سُنّةً ... على الشمس بالأنوار غُرَّتُها تسطو
أبو العزّ ذو المجد الصّريح الذي أبت ... عناصرُهُ عن أن يمازجَها خِلْطُ
من القوم إن جادوا أفادوا وإن دُعُوا ... أجابوا وإن لم يُسألوا نائلاً يُنْطوا
نقص في الأصل
يجوسُ أقاليمَ البلادِ جميعها ... براحة مَنْ فيها له القَبْضُ والبسْطُ
ومنها:
بَراها وأجراها فجاءت بمُعجِزٍ ... كمعجز عيسى، والبنانُ لها قُمْطُ
وبانت به الآياتُ حتّى كأنّها ... هِراوةُ موسى حين حفّ به السِّبْطُ

وفي كلّ سطرٍ صفُّ جيشٍ عرَمْرَمٍ ... وبيضُ الظُّبا والذُّبَّلُ الشّكْلُ والنّقْطُ
أرتنا وقد سالت بنِقْسٍ رؤوسها ... على الطِّرْسِ أنّ الحظّ يخدُمُه الخَطُّ
جرى الرّزقُ منهابالغِنى لمؤمّل ... براحته مما ترقّشُهُ قِطُّ
إذا قَطّها في مأزقٍ أو مُلمّةٍ ... فهاماتُ أرباب المَمالك تنقطُّ
لها في رِقابِ المعتدينَ جوامعٌ ... وفي أرجُلِ العافينَ من مِنَنٍ رُبْطُ
ألا يا قَوامَ الدّولةِ اسمع قصيدةً ... لها من توالي بِرّك القِسطُ والقِسطُ
ومن قبلها أنكحتُ نجلَكَ أختَها ... ولم أرَ موْلَىً مثلَه في الورى قطُّ
وأنت فتى في جنب ضَحضاحِ بحره ... من الفضل ما يحوي الفُراتانِ والشّطُّ
أسرّتُه دلّت على طيب أصلِه ... وذاك الجبينُ الصّلْتُ والخُلُقُ السّبْطُ
وعن غير قصدٍ آنس النّارَ في طوىً ... وأمّمَها موسى وقد ملّتِ الرّهْطُ
فنبّاه لمّا جاءه خالقُ الورى ... وكلّمه والنُّطقُ منْ مثله شرطُ
أيا ناصرَ الدين الوزيرُ ألوكةً ... لمغترب ألقاه في ربْعك الشّحطُ
شددتَ بإدراك الوزارة أزْرَها ... وقد تثبُتُ الأرجاءُ ما حُفظَ الوَسْطُ
ومنها بعدَ أبيات كثيرة واهية القافية، سقيمة المزاج، عديمة العلاج: نقص في الأصل
بأناملٍ سُبْطِ الحواشي جودُها ... متبجّسٌ كالعارضِ الرّجّاسِ
ومنها:
والشّرعُ لدْنُ العودِ في أيّامِه ... والعدلُ أصبحَ مُشزَرَ الأمراسِ
والدّينُ مرفوعُ الدّعائم والورى ... لنضارة الأيّامِ في أعراسِ
ومنها:
يا ابنَ الأئمةِ من قريشٍ والألى ... طالوا بطَوْدٍ من عُلاهم راسِ
العصرُ عبدُك والقضاءُ متابعٌ ... طوعَ الإشارة منك والإنباسِ
ومديحُ مجدِك في الكتاب مرتّلٌ ... جارٍ مع الأعشار والأخماسِ
أنا عبدُك القِنُّ الذي مذْ لم أزلْ ... أسطو على أعدائك الأرجاسِ
ما جالَ إلا في مديحك خاطري ... وبغير وصفك ما جرت أنفاسي
مِلْكي وإرثي يؤخَذانِ كلاهُما ... وأعودُ مقرونَ الرّجاءِ بياسي
وبذيلِ مجدِك قد علِقْتُ فلا تدَعْ ... ظنّي يعودُ ملازماً للياسِ
وله من قصيدة في المعنى:
ما بين رامةَ والكثيبِ الأعفرِ ... حيٌّ أقام قيامتي من يعْمَرِ
فاحبِسْ به خوصَ الرِّكابِ إذا بدا ... وتوَقّ من لحَظاتِ ذاك الجُؤذَرِ
ومنها:
وانشُدْ أسيرَ غَرامِه فلعلّه ... عَطْفاً يُدَلُّ عليه مَن لم يؤسرِ
وإذا مررتَ على الأراك فقل له ... لا زِلتَ تصقُلُ غرْبَ كلِّ مؤشَّرِ
هل عهدُ ناقضةِ العهودِ بحاله ... أم قد رمت بالغدر من لم يغدُرِ
فرَتِ الفؤادَ بصارم من لحظها ... مستوطنٍ في جَفْنِه لم يُشهَرِ
وأمالَها سُكْرانِ سكرُ تدلُّلٍ ... يضْنَى الفؤادُ به وسكرُ تخَفُّرِ
نقص في الأصل
بعُلاكَ قد علِقَ الرّجاءُ وأنت يا ... خيرَ البريّةِ عُدّةُ المتحيّرِ
ما شِمْتُ إلا برقَ جودِك بالنّدى ... ورجوتُ عارضَ وابلٍ لك مُمْطِرِ
وحططْتُ آمالي ببابك راجياً ... بالحقّ إدراكَ النّجاحِ المثمرِ
وصرفْتُ عن كلِّ السّماحِ مطالبي ... وعلى سماحِك كان عَقْدي خِنصَري
ووجدْتُ في مجموع قصائد من شعره، وجمعها؛ من جملتها قصيدة نظمها باليمن، وأنشدها أبا شُجاع فاتكَ بن جيّاشِ بنِ نَجاح، صاحبَ زَبيد، في صفر سنة أربع وخمس مئة، أوّلها:
أمالَتْ غصونٌ حملُهُنّ نهودُ ... ضُحىً أم تثنّتْ في البِطاح قُدودُ

وهذه القصيدة جيّدة بالإضافة الى شعره، وليست من أسلوبه. فما أدري كيف خبَرُه: أتقوّلها، أم انتحلها، أم نقلَها، أم أثّرت فيه تُربةُ اليمن، فأتى بالنّظم الحسن؟ وأرى يمانيّاته كاليمانيّات المطبوعة المصقولة عضْباً، وكاليمانيّات الموشيّة المحبّرة عصْباً. ما لَه بزَبيد زبد، بل كلّه دُررٌ وزُبَد. وجد في صنعاء الصّنيعة فأجاد الصّنعة، وأتاه اليُمْنُ باليَمن فنال شعره برفعته الرّفعة، وعرَقَهُ العِراق، فمحَق بدرَ خاطِره المَحاقُ، وما أراه فارساً بفارس، ولا جالياً لعرائس.
ونَوْرُ أقاحٍ أم ثُغورٌ تبسّمتْ ... وذيّاكَ وردٌ أم حكَتْهُ خُدودُ
وهنّ ظِباءٌ بالصّرائم سُنّحٌ ... لنا أم ربيباتُ المقاصرِ غيدُ
بدَرْن كأمثال البُدورِ تؤمّهُمْ ... خدلّجةٌ ريّا المعاصِم رودُ
عطَتْ فذكرنا مُطفِلَ الرّملِ إذ عطَتْ ... وجال لها طرْفٌ وأتلعَ جيدُ
فلم يرَ ذو عينَيْنِ من قبل شخصِها ... مَهاةَ صريمٍ للأسودِ تصيدُ
وبين الثّنايا واللِثاثِ مُجاجةٌ ... بها ضَربٌ حُلوُ المَذاقِ بُرودُ
أقول لسعدٍ والرِّكابُ سوانحٌ ... وجيشُ الكرى للمُقلتَيْن يَرودُ
ترفّقْ وقِفْ بي في اللِّوى عُمرَ ساعة ... فإنّك إنْ ساعَدْتَني لسَعيدُ
لأنشُدَ قلباً ضلّ بالرّملِ غُدوةً ... ولم تُرْعَ فيه ذمّةٌ وعهودُ
ومنها:
طوت لوعتي ثوبَ الصّبابةِ في الحشى ... فوجْدي على مرِّ الزّمان يزيدُ
وأذكى حَمامُ الأيكتيْن بنوْحِه ... لظَى كمَدٍ ما الزّندُ منه صَلودُ
أيا أيكتَيْ وادي الغَضَى هل زمانُنا ... وعيشٌ مضى في ظلّكُنّ يعودُ
أحِنُّ إليكم حنّةَ النّيبِ شاقَها ... الى مورِدِ جَمِّ النُّقاخِ وُرودُ
وأصبو كما يصبو الى الجُودِ فاتكٌ ... وأُزْهى كأنّي دَستُهُ وزَبيدُ
مليكٌ عطايا كفِّه تُبدي النّدى ... لمن أمّهُ مُستَرْفِداً وتُعيدُ
فتىً مهّدَ الأقطار وهْوَ بمهدِه ... ودانت له الأقدارُ وهْوَ وليدُ
ومنها:
يبشّرُ راجي عُرفِه طيبُ عَرفِه ... ويُعطي ولو أنّ الأنامَ وفودُ
له حسَبٌ صافي الأديم من الخَنا ... حمَتْ عنه آباءٌ له وجُدودُ
ومجدٌ تَليدٌ راسياتٌ أصولُه ... بناه طَريفٌ من نَدَىً وتليدُ
يلوحُ لنا في مطلَعِ الدّسْتِ وجهُه ... كما لاح من ضوء الصّبحِ عمودُ
فما النّيلُ إن جاشت غواربُ مائِهِ ... ومدّتْهُ من بعدِ المُدودِ مُدودُ
وعمّمَ هاماتِ التِّلاعِ بمُزبِدٍ ... به كلُّ ساقٍ لا يُطاقُ حَصيدُ
بأغزرَ من تاج المفاخرِ راحةً ... وأندى بناناً منهُ حينَ يجودُ
ولا مُخدِرٌ في أرض خفّان مُشبِلٌ ... أكولٌ لأشلاءِ الرّجالِ صَيودُ
له كلّ يومٍ من غَريضِ فَريسةٍ ... قِرًى تغتذي منه لدَيْهِ أسودُ
بأشجعَ منه والقنا تقرَعُ القنا ... وللبيض من هامِ الكُماةِ غُمودُ
تنافَرَ عنه الصّيدُ خوفَ لقائِه ... تنافُرَ سرْحٍ فيه يعبَثُ سيدُ
ويا رُبّ يومٍ قد ترامت الى الوغى ... به شُزَّبٌ قُبُّ الأياطِلِ قودُ
كسا ركضُها نورَ الصّباحِ مُلاءةً ... من النّقْع تُخفي شمسَهُ وتذودُ
يقودُ بها جيشَيْنِ في الأرض واحدٌ ... يسيرُ وهذا في السّماءِ يرودُ
إذا خفَقَتْ هذي لغزْوِ قبيلةٍ ... خفَقْن لتلكَ الحائماتِ بنودُ
وشُهْب من البيضِ الرّقاقِ متى هوتْ ... هوَى طامعٌ طاغٍ وخرَّ مريدُ

ومن حوله من آلِ حامٍ عِصابةٌ ... أسودُ وغىً فوق السّلاهبِ سودُ
إذا أضرموا نارَ الرّدى بحِرابهمْ ... فأرواحُ أبطالِ الكُماةِ وَقودُ
هم الجُنْدُ إن ناداهمُ لمُلمّةٍ ... أجابته منهم عُدّةٌ وعَديدُ
وللصُّبْحِ من نور الغَزالةِ شاهدٌ ... وللّيْلِ من ضوءِ النّجومِ شهودُ
أيا ملِكاً لولا عوارفُ كفِّه ... لما كان يُدْعى في البسيطة جودُ
لك اللهُ نهْنِهْ طِرْفَ عزمِك واتّئِدْ ... فما نِلتَهُ للواصفين يَؤودُ
بلغتَ الذي لا يبلغُ الفِكرُ شأوَه ... ولا للتّمنّي في مداهُ مَزيدُ
تحيّرتِ الأفهامُ فيك فكُنْ لها ... دليلاً وقُلْ للمدحِ أين تُريدُ
أتبغي صعوداً يُعجِزُ الشّمسَ بعضُه ... أمن فوقِ هامِ النّيّرَينِ صَعيدُ
لك الدّهرُ والأقدارُ والعصرُ والورى ... وكلُّ مليكٍ في البلادِ عبيدُ
وكم لك في الأعناقِ منهم صنائعٌ ... بها تتباهى ثُغْرةٌ ووَريدُ
فلو جحَدوا حسنَ الصّنيعِ لأذْعنت ... بشكرك منهم أعظُمٌ وجُلودُ
إليك رمت بي العيسُ تنفُخُ في البُرى ... وقد شفَعت حسنَ الرّجاء قَصيدُ
وقد رَجاني حُسْنُ ظنٍّ ظننتُه ... وأيقظَ آمالي وهنّ رقودُ
وشعرٌ من السِّحر الحلال نظمتُه ... فريدَ معانٍ قد نماه فريدُ
وحسبيَ من جَدْوى يمينكِ مِنحةٌ ... تخبّرُ عن نُعماك حينَ أعودُ
عوارفُ يُعشي ناظرَ الشّمس نورُها ... ويُظهِرُها بالرّغم منه حسودُ
وجودُك أدرى بالذي أنا طالبٌ ... وفضلك يا خيرَ الملوكِ أريدُ
وما الحمدُ إلا حُلةُ الجود وشيُها ... مقيمٌ على مرّ الزّمانِ جديدُ
وخيرُ ثيابِ المرء ذكرٌ مخلّدٌ ... ومدحٌ ضفتْ منه عليه بُرودُ
خلالُك تُملي ما أقول فليس لي ... من الشّعرِ إلا وَقفةٌ ونشيدُ
أين هذا النّفَسُ القوي من ذاك الهوس الغويّ؟ طوّحت هذه الدّالية بالطائيّة، واعتذرت عن الزّاييّة. لعل شيطانه باليمن عنا له فأعانه، أو كرَمُ ممدوحِه أحيا باعثَه فأذاب جُلمودَ خاطرِه وألانَه. أين هذه الصّنعة من تلك الشُّنعة؟ وهذه السِّمةُ من تلك الوصْمة؟ وهذه القوة من ذلك الوهْي؟ وهذا النّسيمُ من ذاك الهواء؟ وهذا الشعاعُ من ذلك الهَباء؟ وهذا البَهاء من ذلك الهُذاء؟ وهذه الغُررُ من تلك العُرَر؟ وهذا الصفو من ذلك الكدر؟ وتمام القصيدة:
تعلّمُني أفعالُ مجدِك وصفَها ... وتُدني إليّ القولَ وهْوَ بعيدُ
فخُذْ مِدَحاً يستغرقُ الحمدَ بعضُها ... تَبيدُ الليالي وهْو ليس يَبيدُ
وذكر أنّ له في الأمير المفضّل المكين سيف الدولة أبي المكارم بن أبي البركات بن الوَليد الحِميَري، وهو من أولاد التّبابعة باليَمن، سنة خمس وخمس مئة، قصيدة؛ ويصف موضعاً له ذا جبال وأنهار، وأشجار وأزهار:
أعِيابُ داريٍّ تُفضُّ وتُفتَقُ ... أم ذي الخَميلةُ عرْفُها يُتنَشُّقُ
خلعَ العِهادُ على المعاهدِ حُلّةً ... يُزْهى بسُندُسِ نَورِها الإستبرَقُ
طلّت دموعُ السُّحْبِ فوقَ طُلولها ... فرُبوعُها فيها الرّبيعُ المؤنِقُ
وتفتّحت حدَقُ الرّياضِ نواضراً ... بنواظر نحو السّماءِ تحدِّقُ
فإذا تعرّضَ للبسيطةِ عارضٌ ... فالنّجمُ تحمِلُه لريّ أسوُقُ
ومنها:
وكأنّما الرّبَواتُ وهْي نواضرٌ ... خيَمٌ يحُفُّ بها غديرٌ متْأقُ
والماء يبدرُ في الوقائعِ لامعاً ... كالبحرِ مع نورِ الغزالةِ يُشرِقُ
فإذا تخلّل في الخمائل خِلتَهُ ... صِلاً يحاذرُ وقْع نصْلٍ يمرُقُ

تتراقصُ الأغصانُ من فرَحٍ به ... ويمرُّ بالأنهارِ وهو يصفِّقُ
صافٍ كأخلاق المفضَّل رفّةً ... ما في خلائقِه الحِسانِ تخلّقُ
ملِكٌ يُقيمُ الحمد بين بُيوتِه ... وبه يعودُ المال وهو مفرَّقُ
سبْطُ الأناملِ راحتاهُ كلاهُما ... مبسوطتان كما يحاول يُنفِقُ
يعطي فإنْ نفِدَ السّؤال رأيتَه ... بتِلادِه متبرّعاً يتصدّقُ
وترى غُرابَ الجودِ في أموالِه ... بسَماحِه في كلّ يومٍ ينغِقُ
سيفٌ له ربُّ البريّةِ طابعٌ ... وغِرارُه هامَ الكماةِ يفلّقُ
قد أخلصتْهُ دولةٌ نبويّةٌ ... فبِها الصّدا في متنه لا يعلَقُ
بالجود طينةُ راحتَيْهِ كليهما ... والتّاجُ منه جبينُه والمفرِقُ
آلت مكارمُه بغُزْرِ سماحِه ... ألا يعاوِدَ عن ذَراهُ مُملِقُ
قد قُلتُ للمغرور يطلُبُ شأوَهُ ... والنّجمُ طالبُه به لا يلحَقُ
أترومُ إدراكَ الذي قد نالَه ... هيهاتَ باعُك عن ذراه ضيّقُ
ما ظالعٌ مثلَ الضّليعِ ولا ارتقى ... يوماً الى الجوزاءِ من يتسلّقُ
يا أيّها الملكُ الذي لسماحِه ... بحرٌ مواردُ جودِه تتدفّقُ
لا يرزُقُ الرّحمانُ منْ لم تُعطِه ... وكذاك ليس بمانعٍ من ترْزُقُ
طوّقتَ أجيادَ الملوكِ عوارفاً ... فهُمُ عبيدُك بالعوارِفِ طُوِّقوا
ورميتَ كلَّ معاندٍ ومكاشحٍ ... بعزيمةٍ هيَ حين تُعزى فيْلَقُ
كم وقعةٍ لك لو همَمْتُ بشرحها ... قلّ اليراعُ بها وعَزّ المُهْرَقُ
وإذا اللّواء غدا بنصرك خافقاً ... غدتِ القلوبُ من الأعادي تخفِقُ
يجري القضاء بما تحبّ لأنّه ... برضاك من ربّ السماءِ يوفَّقُ
ومنها يُغْريه بأخذ زَبيد:
لا تُهملنّ جُعِلتُ قبلك للفِدا ... أمراً فقِدْماً قد تفرْزَنَ بيذَقُ
واشحَذْ لأمرِ زَبيدَ عزمةَ عارفٍ ... بالحرب تقصِدُ شمْلَها فيمَزَّقُ
واكتُب ببأسِك في القلوب حُتوفَها ... والسُمْرُ تنقُطُ والصّوارمُ تمشُقُ
واجنُبْ لها جيشيْنِ جيشاً بالفَلا ... يسري وجيشاً في السّماء يحلّقُ
وامطِرْ صواعقَك الصّوائبَ فوقها ... ليعودَ مُرعَدُها لقىً والمُبْرَقُ
وامخُضْ لها وطْبَ المَنونِ مجاهِراً ... فزَبيدُ زُبدتُه عليها تبرُقُ
تشتاقُهم سُمرُ الرّماحِ وتنثني ... وصُدورُها بصُدورِهم تتدفّقُ
يا خيرَ من يُزْهى القريضُ بمدحه ... وأجلّ من بعُلاهُ يفخرُ منطِقُ
لولاك لم أزجِ الرِّكابَ على الوجى ... والرّكْبُ يطفو في السّرابِ ويغرَقُ
نقص في الأصل
وأرحَلُها مثلَ البُدورِ كواملاً ... الى أن تراها كالأهلّةِ نُحَّلا
إذا أوردت حِسْياً حسِبتَ رِقابَها ... حِبالاً وخِلتَ الهامَ فيهنّ كالدِّلا
حواملُ آمالٍ ثِقالٍ تتابعت ... مع الحمدِ يطلُبْنَ المليكَ المفضّلا
جعلتُ عليها الرّحلَ إمّا بلغتُه ... حراماً ووِرْدَ الجودِ عفواً محللا
فحينَ أنخناها بمغْناهُ صادفت ... ربيعاً مَريعاً من نَداهُ ومنْهَلا
ومنها:
تتيهُ به قحطانُ فخراً إذا اعتزى ... ويُضحي مُعَمّاً بالفخارِ ومُخوَلا
إذا ما احتبى أبصرتَ في الدّسْتِ ماجداً ... وإنْ سار نحو الحربِ عاينتَ جَحْفلا
ويحْمي حِماهُ بالصّوارمِ والقَنا ... ولا يرتضي إلا ذَرا العِزّ منزلا
وما تاهَ ملْكٌ بالفواضلِ والعُلى ... وجاراهُ إلاّ كان أوْفى وأنْبلا
حلا عندَه طعمُ المديحِ فجودُه ... يبالِغُ في كسب الثّناءِ وإنْ غلا

ومنها:
ولستَ تراه لاهياً عن فضيلةٍ ... ولا لسوى جمعِ العُلى متبتِّلا
يرى أنفسَ الأشياء حمداً يحوزُه ... ومكرُمةً تُغني وتُسعفُ مُرمِلا
ومنها:
ولا سارَ في جيشٍ يحاولُ غزوةً ... لأعدائه إلا غدا النّصْرُ أوّلا
ولا جُرِّدَت أسيافُه يومَ مأقِطٍ ... فعوّضَها الأغمادَ إلا من الطُّلى
ولا ظمِئَتْ أرماحُه في وقيعةٍ ... فأوردها إلا النّجيعَ من الكُلَى
تولّى كُماةُ الحربِ عنه مخافةً ... كسِرْبِ قَطاً عاينّ بالقاعِ أجدلا
إذا ما انتضى عزماً تباشرتِ الظُّبا ... وإمّا رمى بالرّأي صادفَ مقْتَلا
حوى المجدَ واحتلّ الذُّرا من فخاره ... فأدْونُ وصفٍ من مناقبه العُلى
يَميدُ ارتياحاً حينَ يغشاهُ مادحٌ ... فأشبهَ سيفاً والمدائحُ صيْقلا
لو قال: ينير ابهاجاً، لسلم له المعنى، وصحّ منه المغزى.
ومنها:
أيا ملكاً لولاهُ في الأرض لم يكن ... لينظُرَ راجٍ مُنعِماً متفضّلا
ولولا أياديهِ العَميمةُ لم يكن ... ليعرِفَ عيثاً بالمواهب مُسْبِلا
نقص في الأصل
وقد أخذَتْ مني الظُّباءُ بحقِّها ... وأصبحتُ فيها رازحَ الحالِ أعزلا
ولولا أيادٍ أسعدتني لأسعدٍ ... غدوتُ بها من بعْدِ عُسْري مُجمّلا
لما كنت من كسْر الزّمانِ وعرْقِه ... عظاميَ أرجو أن أخلّصَ مفصِلا
وجودُك قد أعيا الوَرى في زماننا ... فلستُ أرى في الأرضِ ملْكاً مبخَّلا
وفي المجموع، قال: وكتبت بهذه القصيدة من ذي جِبلَة الى الملك أبي شجاع فاتك بن جيّاش، من حضرة المفضَّل، أُثني عليه، في جُمادى الأولى سنة ستّ وخمس مئة:
ذرَعَتْ بأذرُعِها المهارَى القودُ ... ثوبَ الدُجى ورِواقُه ممدودُ
وتطلّعتْ بطُوَيْليعٍ فبدا لها ... بعدَ الأراكِ محَجَّرٌ وزَرودُ
وتنسّمتْ هضَباتِ عالِجَ طُلَّحا ... ولهنّ من فرطِ اللّغوبِ قُيودُ
أودى بهنّ هَجيرُ ناجرَ والسُّرى ... والقطعُ يقرَنُ بالبُرى والبِيدُ
والخِمْسُ مشفوعٌ بخِمْسٍ بعدَه ... والوِرْدُ يُشفَهُ ماؤه المثمودُ
فأتيْن أمثالَ القِسيّ نواحلاً ... منهنّ بادٍ أعظُمٌ وجلودُ
يحمِلْنَ أمثالَ السّهام يؤمّهُمْ ... أملٌ مدَى ما يبتغيهِ زَبيدُ
واجهن ذا السّعْدَيْن فاتكَ مالكاً ... بعُلاه جيّاشٌ سما وسعيدُ
لا بانتقاصٍ منهما في رُتبة ... وإليهِما منهُ الفَخارُ يعودُ
قد شاد إبراهيم مجدَ محمّدٍ ... وسما برُتبتِه ابنُه داوودُ
شرفُ الأوائل والأواخر خيرُ مَنْ ... يُعطي إذا ضنّ الحيا ويجودُ
ملكٌ به المعروف يعرَفُ والنّدى ... وسماحُهُ يُغني الورى ويَزيدُ
متفرّدٌ بفَخارِه في عصرِه ... للمأثُراتِ بما حَواهُ مُشيدُ
أحيا الأماني جودُه وسمَتْ به ... في المجدِ آباءٌ له وجدودُ
نقص في الأصل
جمال المُلك
أبو القاسم عليّ بن أفلح العَبسي الشاعر
من أهل بغداد، وأصله من الحِلّة السّيفية.
شاعرٌ سائرُ الشّعر، طائر الذّكر، مرهوب الشّبا حديد السِّنان، شديد الهجاء بذي اللسان. إذا اتّضح له المعنى في هجو أحد، لم يبال به أكان محسناً أم مُسيّاً، عدوّاً أو ولياً. وقلّ من أحسن إليه إلا جازاه بالقبيح، وجاراه بالذمّ الصّريح.
وكان من جملة منعوشي العمّ الشّهيد عزيز الدّين، فإنّه نوّه بذكره، ونبّه على قدره، وجذب بضَبْع فضله، وآواه الى ريع ظلّه، وولّى أشغاله جماعةً من أقاربه وأهله، حتى عُرِفوا وشرُفوا، وأثْرَوا واكتفوا. على أنّه لم ينجُ مع ذلك من قوارصه، وكان يحتمله لفضائله وخصائصه.

ولما نقلني والدي من أصفهان الى بغداد حين نبا - بعد النّكبة - بِنا الوطنُ، وضاق العطَن، ولم نجد الأمن والسّلامة، واليُمن والكَرامة، إلا في ظل الدار العزيزة النبويّة الإمامية المقتفوية، فسكنّا مدينة السلام، واتّخذناها دار المُقام، وذلك في سنة أربع وثلاثين وخمس مئة، وقد بلغت سنّي خمسَ عشرة سنة - وكان هذا ابن أفلح يجتمع بوالدي، ويقصِدُ نحوَهُ، ويبثّه شجْوَه.
وتوفّي بعد ذلك بسنتين أو ثلاث.
وطالعتُ ما جمع من شعره، وهو قليل؛ لأن الخليفة نفّذ وأخذ من بيته أشعاره كلها. وكتبت منه قصيدتين في مدح عمّي، فأثبتُّهما، ولم أُلْغِ منهما شيئاً. إحداهما ما مدحه به وأنشده بأصفهان:
هاتيك دجلةُ رِدْ وهذا النّيلُ ... ما بعدَ ذينِ لحائمٍ تعليلُ
إن كان برْدُ الماءِ عندَك ناقعاً ... حرَّ الجَوى لا الأشنبُ المعسول
عجباً لشأنك تدّعي ظمأً وفي ... جفْنيْكَ من سيلِ الجُفونِ سُيولُ
وتنحّ من لفْح الهَجيرِ وحرِّه ... وحشاكَ فيه لوعةٌ وغَليلُ
ما هذه آياتُ من عرَفَ الهوى ... وشجاه رَقراقُ الحياء أسيلُ
لا تكذبنّ فما بهذا عندنا ... أهلَ الصّبابةِ يُعرفُ المتبولُ
خلِّ الغرامَ لأهله فهمُُ به ... أولى لهنّكَ في الغرامِ دخيلُ
أنسيتَني يومَ العقيق ونحنُ في ... واديهِ بين السَّرْحتيْن حُلولُ
والحيُّ يهمِزُ بالرحيل ومُهجتي ... جزَعاً لمقترب الرّحيلِ تسيلُ
والوجدُ محتدمٌ وبين أضالعي ... قلبٌ يضِجُّ به الغرامُ عليلُ
وأقلُّ ما لاقيتُ من كُلَف الهوى ... بعدَ الصّبابةِ لائمٌ وعَذولُ
ألا اقتديتَ بحُوَّلٍ في وجدِه ... قد عارك الأشجانَ وهْوَ نحيلُ
أظننتَ أنّ العِشقَ سهلٌ بئس ما ... أوهمتهُ يا أيّها المخبولُ
يا أختَ سعدٍ قد سننتِ شريعةً ... ما سنّها في الأنبياءِ رسولُ
حلّلتِ سفكَ دمي ولم ينطِقْ به ... ذِكرٌ وتوْراةٌ ولا إنجيلُ
وقصرتِ أجفاني فما إن تلتقي ... وأطلتِ ليلي فالعَناءُ طويلُ
وقدحتِ ناراً في الحشا ومنعتِني ... إطفاءَها بالدّمعِ وهو هَطولُ
سمعاً لأمركِ ما استطعتُ وكلّ ما ... حمّلتِ من عِبْءِ الهوى محمولُ
قسماً بعصيان العذول فإنّه ... قسمٌ على حسن الوفاءِ دليلُ
إنّي عليكِ وإن صدَدْتِ لعاطفٌ ... ولكِ الغداةَ وإن قطعْتِ وَصولُ
يا صاحبيّ مضى الهوى لسبيله ... وأتى الصوابُ وقولُه المقبولُ
أبثثكما عُجَري فما ترَيانِه ... لأخيكما فالرّأيُ منه أفيلُ
طال الثّواءُ على المذلّة قانعاً ... بالدّون واستولى عليّ خُمولُ
وغدا يزاحمُ منكبي في موقف ال ... علياءِ وغدٌ أخرقٌ وجهولُ
في كلّ يوم يستفزّ سكينتي ... روعٌ يمَسُّ الحسَّ منه ذُهولُ
ممّن عهِدتُ إذا ذُكِرتُ فؤادَه ... من صدره فرَقاً يكادُ يزولُ
ما ذاك إلا أنّه لم يبقَ من ... هذا الأنام مسوّدٌ بُهْلولُ
يأوي إليه المستجيرُ فيغتدي ... نعمَ النّصيرُ وبأسُه المأمولُ
قالا: صهٍ هذا ابن حامدٍ الذي ... ما بعدَه لمؤمِّلٍ تأميلُ
يمّمْه تلقَ اليمّ يزخَرُ طامياً ... والليثَ يزأرُ هيبةً ويصولُ
وانزِلْ عليه تُنِخ بكِسْرِ فناءِ منْ ... ما ذمّ جيرتَهُ العشيَّ نزيلُ
إنّ امرءاً كفَل العزيزُ بنصره ... وغدا يسالمُ دهرَهُ لَذليلُ
نقص في الأصل
لا الصّبرُ ناصرُهُ إن ضامه كمَدٌ ... يومَ الرّحيل ولا السّلوانُ مُنجِدُه
فلم أطاع عذولاً ما يسهِّدُه ... إذا غفا كلُ طرْفٍ ما يسهِّدُهُ

هل حلّ بالعَذْلِ لاحٍ من أخي كمَدٍ ... ما ظلّ بالحبّ داعي الوجد يعقِدُه
لولا الغُرورُ وما تجْني مطامِعُه ... لذَمّ طيْفَ الكرى من باتَ يحمَدُه
وكلّ من لا يرى في الأمر مصدَرَهُ ... قبل الوُرودِ أراهُ الحتْفَ مورِدُه
كحائنٍ ظنّ مولانا العزيز على ... إمهالهُ مُهمِلاً من بات يرْصُدُه
الصّادق العزمِ لا جبنٌ يريّثُه ... إن رامَ أمراً ولا عجزٌ يفنّدُه
في كلّ يومٍ له حمدٌ يجمّعهُ ... بما توخّاهُ من مالٍ يبدّدُه
جمُّ المواهبِ ما ينفكّ من سرَفٍ ... لُجَينُه يشتكي منه وعسجَدُه
غمْرُ الرِّداءِ وَهوبٌ ما حوته على ال ... أيّام من طارفٍ أو تالدٍ يدُه
يعتدّ بالفضلِ للعافي ويشكرُه ... كأنّ عافيهِ يحبوهُ ويرفِدُهُ
موفّقُ السّعي والتّدبيرُ منجِحُه ... وثاقبُ الرّأي في الجُلّى مسدّدُه
حسنُ الرّشادِ له فيما يحاولُه ... من المقاصد هاديه ومُرشدُهُ
فما يَطيشُ له سهمٌ يفوّقُه ... في كل ما يتحرّاهُ ويقصِدُه
إذا تماثلتِ الأحسابُ فاخرةً ... أضاء في الحسَبِ الوضّاحِ محتِدُه
يُزْهى بجدّيْنِ أضحى سامياً بهما ... فما ترى عينُه من ليس يحسُدُه
يا أحمدُ الحمدُ ما أصبحت تكسِبُه ... بالفضلِ والفضلُ ما أصبحت توردُه
ليَهْنِ مجدَك نُعمى ظلّ حاسدُها ... يغيظُه ما رأى منها ويُكمدُه
جاءتك تسحَبُ ذيلَ العزّ من ملِك ... ما أيّد اللهُ إلا من يؤيّدُه
لم يلقَ غيرَك كُفؤاً يرتضيهِ لما ... إليك أضحى من التّدبيرِ يُسندُهُ
ألقى إليكَ زِمام الأمرِ معتقداً ... أنّ الأمانةَ فيمن طاب مولدُه
فاجعَلْ عِياذَك شكرَ الناسِ تحرزُه ... وانظرْ لنفسك من ذكرٍ تخلّدُه
وليَهْن جدَّك أعداءٌ ظفِرتَ بهم ... وقد عراهم من الطّغيانِ أنكدُه
نوَوْا لك المَكرَ غدراً فاستزلّ لهم ... عن ذاك أيمنُ تدبيرٍ وأحمدُه
من كلّ أخيبَ خانته مكايدُه ... فيما نواهُ وأرداهُ تردّدُه
ما أبرموا الرّأيَ في سوء بغوْك به ... إلا وعاد سحيلاً منك مُحصَدُه
ولا ورى زندُ كيدٍ منهمُ أبداً ... إلا وحدُّك بالإقبالِ يُصلِدُه
نقص في الأصل
فإنْ جحَدَتْ أجفانهُ سفكَها دمي ... فلي شاهدٌ من خدِّه غيرُ مُرقِش
ومال بعِطفَيّ الغرامُ وقد بدا ... لعينيّ حتى ظنّ أنّيَ مُنتشي
بريّان ما يحويه عقْدُ إزارِه ... وغَرْثان مِقلاق الوشاح معطّشِ
ولما تلاقينا بقلبي وطرْفِه ... على حذَرٍ ممّن ينِمُّ ومن يشي
ضعُفتُ وأعطاه الهوى فضلَ قوّةٍ ... فأوثقني أسراً ومن يقْوَ يبطِشِ
ومن يتحرّشْ بالرّدى وهْوَ وادعٌ ... قريرُ الرّزايا يلْقَ غِبّ التحرُّشِ
وكان هذا ابن أفلح فظيع المنظر، كما وصفه سديد الدّولة ابن الأنباري في قوله:
يا فتى أفلح وإن ... لم يكن قطُّ أفلحا
لكَ وجهٌ مشوّهٌ ... أسودٌ قُدّ من رَحى
وكان هكذا ذكره قمر الدّولة بن دوّاس:
هذا ابنُ أفلحَ كاتبٌ ... متفرّدٌ بصِفاتِه
أقلامُه من غيره ... ودَواتُه من ذاتِه
ومن جملة أشعار ابن أفلح، قوله:
يا من إليه المشتكى ... في كلّ نائبةٍ تلوحُ
ذا النّاصرُ المخذولُطولَ زمانِه نِضْوٌ طَليحُ
ما إنْ يبِلُّ فيستري ... حُ ولا يموتُ فيستريحُ
وقوله:
سألتُك التّوقيعَ في قصّتي ... فاحتطتُ للآجلِ بالعاجلِ

وخِفتُ أن تُجريَ في قابِلٍ ... وقّعْ فما تبقى الى قابِلِ
وقوله في أنوشَرْوان الوزير، وكان في غاية التواضع:
إنّ أنوشَرْوان ما فيهِ ... سوى قيامٍ لمُرجّيهِ
الجودُ كلّ الجودِ في رجله ... وإن تعدّى فإلى فيهِ
روّجْ لراجيك ولو حبّةً ... واقعُدْ على العرشِ من التّيهِ
وله في المعين المختصّ الوزير:
إنّ عندي للمُعين يداً ... ما حَييتُ الدّهرَ أشكرُها
صانَني عن أن تكونَ له ... منّة عندي أحبِّرُها
فأنا ما عشتُ أعرِفُها ... أبداً من حيثُ أنكِرُها
وله في الوزير أحمدَ بنِ نظام الملك:
قصدْتُ أرومُ لقاءَ الوزير ... وقد منع الإذنَ بالواحده
وكلٌّ على الباب يبغي الدّخو ... لَ والبابُ كالصّخرةِ الجامده
ولم أعلمِ العُذْرَ في غلْقِه ... فكنتُ أعودُ على قاعدَهْ
فصِحتُ محمّدُ ألاّ فتحتَ ... فقالَ الوزير على المائدهْ
ومن دونِ فتحيَ فتحُ الوجوهِ ... فعُدَّ الرّجوعَ من الفائده
وله فيه:
شكرتُ بوّابَك إذ ردّني ... وذمّهُ غيري على ردِّه
لأنّهُ قلّدني منّةً ... تستوجب الإغراق في حمدِهِ
أعاذني من قُبح ملْقاكَ لي ... وكبرِك الزّائد في حدِّهِ
فعُذْتُ أن أُضبرِعَ خدّي لمن ... ماءُ الحَيا قد غاض من خدِّهِ
وله فيه:
وزيرُنا ليسَ له عادةٌ ... ببذلِ إفضالٍ وإحسانِ
قد جعلَ الكِبْرَ شعاراً له ... فليس يقْضي حقّ إنسان
لو سلِمَ السّلطانُ من كِبْرِه ... عليه ما ردّ بإعلانِ
كأنّه لا كان من تيهه ... مورّثٌ ملكَ سليمانِ
أبوابُه مغلَقةٌ دائباً ... من دون وُفّادٍ وضِيفانِ

الشريف أبو يعلى محمد بن محمد بن صالح
ابن الهّبارية العباسي الشاعر
من بغداد من شعراء نظام الملك. غلب على شعره الهجاءُ والهزل والسّخف، وسبك في قالب ابن الحجّاج، وسلك أسلوبه، وفاقه في الخلاعة والمجون. والنّظيف من شعره في نهاية الحسن.
حكي عنه أنّه هجا بالأجرة النّظام، فأمر بقتله، فشفع فيه جمال الإسلام محمّد بن ثابت الخُجَنْدِيّ، وكان من كِبار العلماء، فقبِل شفاعته، فقام يُنشد نظام الملك، يومَ عفوِه عنه، قصيدةً، قال في مطلعها:
بعزّةِ أمرِك دارَ الفلَكْ ... حَنانَيْك، فالخَلْقُ والأمرُ لكْ
فقال النّظام: كذبت، ذاك هو الله عزّ وجلّ، وتمّم إنشادها.
ثم أقام مدّة بأصفهان. وخرج الى كرْمان، وأقام بها الى آخر عمره. مات بعد مدّة طويلة. وذُكر أنّه توفّي في سنة أربع وخمس مئة.
أنشدني شمس الدين أبو الفتح النّطْنَزيّ، قال: أنشدني أبو يعلى ابن الهبّارية لنفسه:
وإذا البَياذقُ في الدّسوت تفرزنت ... فالرّأيُ أن يتبيذَقَ الفِرزانُ
خُذْ جُملةَ البَلْوى ودعْ تفصيلَها ... ما في البريّةِ كلِّها إنسانُ
وأُنشدت له بأصفهان من قصيدة نظام الملك:
أنا جارُ دارِك وهْي في شرع العُلى ... ربْعٌ حرامٌ آمِنٌ جيرانُه
لا يزهدنّك منظري في مَخْبَري ... فالبحرُ مِلْحُ مياهِه عِقيانُه
ليس القُدودُ، ولا البُرود فضيلةً ... ما المرءُ إلا قلبُه ولسانُهُ
وأُنشِدت له في الباقلاء الأخضر:
فصوصُ زمرّدٍ في كيس دُرِّ ... حكتَ أقماعُها تقليمَ ظُفرِ
وقد خاط الرّبيعُ لها ثِياباً ... لها لونانِ من بيضٍ وخُضْرِ
وأنشدت له أيضاً بها في نظام الملك:
نظامَ العلى، ما بالُ قلبك قد غدا ... على عبدِك المسكين دون الورى فَظّا
أنا أكثرُ الورّادِ حقّاً وحرمةً ... عليكَ فما بالي أقلّهمُ حظّا
وأُنشدت له أيضاً فيه:
وإذا سخِطتُ على القوافي صُغتُها ... في غيره لأذِلَّها وأُهينَها

وإذا رضيتُ نظَمْتُها لجلاله ... كيما أشرّفَها به وأزينَها
وله، وقد عُزِل ابن جَهير وتولّى أبو شجاع الوزارة:
ما حطّ قدرَهمُ ولا أزرى بهِمْ ... عزلٌ عجِلتَ به وأنت سديدُ
لكن به ظهرتْ حقائقُ سعدهم ... والسّيفُ يُبدي ماءَه التّجريدُ
والأُسْدُ أولى بالعرين فكم غدا ... يختالُ في خِيس الخِلافةِ سيدُ
وكذا سِرارُ البدرِ أصلُ كمالِه ... وبسوءِ فعلِ النّارِ يذكى العودُ
وله في الأوصاف:
وكأنّ السماءَ والنّجمُ فيها ... لُجّةٌ مات دُرُّها فهو طافِ
أو كصرْحٍ ممرّدٍ من زُجاج ... نُثرت فيه خرقةُ الصّرّافِ
تحت ظل الكروم بين رياضٍ ... وأغانٍ ونزهةٍ وسُلافِ
فإذا راسل الهَزارُ أخاه ... رقص القلبُ من وراءِ الشِّغافِ
وإذا فرّك النّسيمُ قميصَ ال ... ماءِ أضحى مكسّرَ الأطْرافِ
وله في معناه، مطلع القصيد:
أدرها من بنات الكَرم صِرْفاً ... معتّقةً تُريك النُّكْرَ عُرْفا
فجيشُ الليلِ قد ولّى هزيماً ... وجيشُ الفجر قد لاقاه زحْفا
وعبّا الشّرقُ للإصباحِ صفّاً ... وعبّا الغربُ للظلماء صفّا
وطار النّسْرُ منحدراً فقصّت ... قوادِمُهُ الدّجى فانقضّ ضعفا
وشدّ الليلُ من درَرِ الثّريّا ... على لِيتِ السُّها في الغرب شَنْفا
كأنّ الجوّ صرْحٌ أو غَديرٌ ... صفاءً حين تنظرُه ولُطْفا
كأنّ ذراعَه فيه ذراعٌ ... تمدّ الى صِفاح البدرِ كفّا
وقد رقّ النّسيمُ وذاب لمّا ... تهلهَلَ بُرْدُ ليلتِه وشفّا
وقد أكل المَحاقُ البدرَ حتّى ... غدا في معصَم الجوزاءِ وقْفا
وقد راق المُدام ورقّ حتّى ... غدا من دمعة المهجور أصفى
نقص في الأصل
وصفت له الدّنيا وخُصّ ... أبو الغنائم بالكَدَرْ
فالدّهرُ كالدّولاب لي ... سَ يدورُ إلا بالبَقَرْ
فلمّا سمِع نظام الملك هذه الأبيات، قال: هذه إشارة إلى أنّني من طوس، فإنّه يقالُ لأهل طوس البقر. واستدعاه، وخلع عليه، وأعطاه خمس مئة دينار. فقال ابن الهبّارية لتاج الملك: ألم أقل لك؟ كيف أهجوه، وإنعامه بلغ هذا الحدّ الذي رأيته؟ وله أيضاً، أُنشدتها بأصفهان في ذمّ الدّهر:
ومن نكد الدّنيا الدّنيّةِ أنّها ... تخُصّ بإدراك المُنى كلَّ ناقصِ
وكم ذنَبٍ قد صار رأساً وجبهةٍ ... تودّ اضطراراً أنها في الأخامِصِ
وما سادَ في هذا الزّمان ابنُ حرّةٍ ... وإنْ سادَ فاعلم أنّه غيرُ خالصِ
لَحى الله عزماً حطّ رحلي لديهمُ ... وجعجع عن أرض العِراق قلائصي
وله:
كيف أصغيتَ للوشاة وألقي ... تَ زمام النُّهى الى الأغبياء
فحذفتَ الإخاءَ والوُدَّ والصّح ... بةَ حذفَ النُّحاةِ حرفَ النّداء
وله:
صنَعتْ بي الأيام في أرض قاشا ... نَ صنيعَ الحروف بالأسماء
بين قومٍ جميعُ حظّيَ منهم ... أنْ يسمّونني من الظُرفاء
وله في وصف الذّكاء:
وعنديَ شوقٌ دائمٌ وصبابةٌ ... ومن أنا ذا حتّى أقولَ له عندي
الى رجلٍ لو أنّ بعضَ ذكائِه ... على كلّ مولودٍ تكلّم في المهدِ
ولولا نداه خِفْتُ نارَ ذكائه ... عليه ولكنّ النّدى مانعُ الوَقْدِ
هذا البيت ما سبق الى معناه.
وله:
أستغفرُ اللهَ من ظنّ أثِمْتُ به ... أحسنتُه في امْرئٍ في ذا الورى غلَطا
ندِمْتُ بل تُبْتُ من ظنٍّ يقاربُه ... ك ... صُمَّ حياء بعدما ...
وله وقد نفّد ولده الى نقيب النّقباء عليّ بن طراد الزّينَبي ببغداد:
لُذْ بنظامِ الحضرتين الرِّضا ... إذا بَنو الدّهرِ تحاشَوْكْ

واجلُ به عن ناظريك القَذى ... إذا لئامُ القومِ أعشَوْكْ
واصبِرْ على وحشة غِلمانه ... لا بُدّ للورد من الشَوْك
وله:
ما صغت فيك المدحَ لكنّني ... من غُرِّ أوصافِك أستملي
تُملي سجاياك على خاطري ... فها أنا أكتُبُ ما تُملي
وله قصيدة في هجو أرباب الدّولة الجلاليّة الملكشاهيّة، ومنها:
لو أنّ لي نفساً صبرْتُ لِما ... ألقى ولكنْ ليس لي نفْسُ
ما لي أُقيمُ لدى زعانفةٍ ... شُمِّ القُرونِ أنوفُهم فُطْسُ
لي مأتمٌ من سوءِ فعلِهمُ ... ولهم بحسن مدائحي عُرْسُ
ولقد غرسْتُ المدحَ عندَهُمُ ... طمعاً فحنظلَ ذلك الغرسُ
الشيخُ عينُهُم وسيّدهُم ... خرِفٌ لعمْرُك باردٌ جِبْسُ
كالجاثليق في عُصيّتِه ... يغدو وداراً خلفَهُ القَسُّ
والنّاصحُ الهندورجيّ الى ... جنب الوزيرِ كأنّه جعْسُ
نقص في الأصل
أعلى أمورهم إذا نفقَ ال ... طّرّيخُ عنهم أو غلا الدِّبسُ
واللهِ لو ملكوا السّماءَ لما ... عرفوا ولا اهتزّوا ولا انحسّوا
أم باب إبراهيمَ أقصدُهُ ... هيهاتَ خاب الظّنُّ والحدْسُ
قد كان محبوساً وكان له ... جودٌ وزال الجودُ والحبسُ
أم أعتفي ابنَ أخيه مرتجياً ... علقاً له من ظهره تُرْسُ
ندَفتْ ... التّرك فقْحتَهُ ... حتى ظننّا أنها بُرْسُ
هذه القصيدة ألغيت منها أبياتاً كثيرة، لأنّه يعرض للسُّدّة الشريفة.
وله:
أرى الطّريقَ قريباً حين أسلُكُه ... الى الحبيبِ بعيداً حين أنصرفُ
وله:
نزورُكُم لا نُكافيكم بجفْوتِكم ... إنّ الحبيبَ إذا لم يستزر زارا
وله:
قد كنت أحرُسُ قلبي خائفاً وجِلاً ... من أن يكونَ بسيف الحبِّ مقتولا
فلم يزلْ بلطيفِ القولِ يخدَعُني ... حتى جعلْتُ دمي في الحبّ مطلولا
هذا فؤادي إليكم قد بعثتُ به ... ليقضيَ اللهُ أمراً كان مفعولا
وله:
ذكرتُكِ بالرّيحانِ لمّا شممْتُه ... وبالرّاحِ لما قابلتْ أوجهَ الشّرْبِ
تذكّرتُ بالرّيحانِ منكِ روائحاً ... وبالرّاحِ طعماً من مُقبَّلِك العذْبِ
وله:
تُريدون منّي أن تسيؤوا وتبخلوا ... ويختصّ بالأيام دونَكُمُ الذّمُّ
وما جارتِ الأقدارُ فيما جرت به ... ولا شاء بعضَ الفضلِ والأدبِ النّجمِ
ولكنّكم أبغضتموه لجهلكم ... وأحببتُمُ المالَ الذي حُبُّهُ وصْمُ
فأنتم عن العلياء عُمْيٌ لحبّه ... وعن سائل المعروفِ من أجله صُمُّ
وما جارتِ الأيام إلا لميلها ... إليكم وفي تقديمها لكم الغشْمُ
نقص في الأصل وله:
قد قلتُ للشيخ الرّئي ... س أخي السّماح أبي المطهّرْ
ذكّرْ معينَ الدّين بي ... قال المؤنّثُ لا يُذكَّرْ
وله:
هيهاتَ هيهاتَ كلّ الناسِ قد قُلِبوا ... في قالِبِ الغدرِ والإعجابِ والملَقِ
فإن تخلّقَ منهم بالنُّهى رجلٌ ... عادت به نفسه لؤماً الى الخُلُقِ
وله:
يا أيها الصّاحبُ الأجلُّ ... إنْ لم يكن وابلٌ فطَلُّ
المالُ فانٍ والذِّكرُ باقٍ ... والوفْرُ فرعٌ والعِرضُ أصلُ
فاجعَلْهُ دونَ العيالِ ستراً ... فالصّوْنُ في أن يكون بذْلُ
لا تحقِرَنْ شاعراً تراه ... فعُقْدَة الشِّعْرِ لا تُحَلُّ
وله:
خذا فُرَص اللّذّاتِ ما سمحَتْ بها ... صُروف الليالي فهي بَيْضُ أنوقِ
ولا تعذُلاني في الصّبابةِ والصِّبا ... فلومي على أدهابها لعقوقي
وما العيشُ إلا في الخلاعة والهوى ... وشُرْبِ طِلاً صافٍ ووصلِ عشيقِ
ولا تأمنا سَلْمَ الزّمانِ فإنّهُ ... صديقٌ لما صافاه غيرُ صديقِ

لقد جار في الأحكام حتى أغصّني ... وأشرَقَني في النّائبات بِرِيقي
وله من قصيدة في المدح:
وما الرّمحُ عرّاصُ الكعوبِ مثقّفٌ ... يخوضُ الكُلى في كلّ يوم لقاءِ
بأمضى شَباً من ناحل الجسم ذابلٍ ... بكفّك في يوميْ وغىً وعطاءِ
ولا المُزْنُ منهلّ الآقي كأنّه ... مودِّعُ حيٍ آذَنوا بثَناءِ
تجمّلَ للواشين ثمّ تبادرت ... مدامعُهُ في إثرِهم ببكاءِ
بأجوَدَ من أنواء كفّك ديمةً ... وأسخى بوَبْلَي نائلٍ وحِباءِ
وله من قصيدة:
طرَقَتْ وساريةُ النّجومِ هجودُ ... وسرت وشاردةُ الرِّياحِ ركودُ
نقص في الأصل
بيناهُ يرتقبُ المُنى ... حتّى تخطّفَهُ المنيّهْ
تبّاً لدهرٍ دينُه ... إخمالُ ذي الهِمَمِ العليّهْ
فالحُرُّ من دون الورى ... لرِماحِ قسوتِه دريّهْ
وخطوبُه بذوي الفضا ... ئِلِ دونَ غيرِهِمُ غريّهْ
ومنها:
قد كان لي يا ابْنَ الهُدى ... والوحي والعتَرِ الزّكيّهْ
بيت مذ عزمت ه ... ذا الأمرَ في التّخفيفِ نيّهْ
ورأيتُ مسألةَ الرّجا ... لِ حُطامَهُمْ حالاً رديّهْ
وأنِفْتُ من ذلّ السؤا ... لِ بعِزِّ نفسٍ هاشميّهْ
وظَننْتُ أني غِنَىً ... عن قصدِ حضرتِك العليهّ
فاغتالني صرْفُ الزّما ... نِ فبِعتُ شعري بالنّسيّهْ
وله:
يقول أبو سعيدٍ إذ رآني ... عفيفاً منذُ عام ما شرِبْتُ
على يدِ أيّ شيخٍ تُبْتَ قل لي ... فقلتُ على يد الإفلاس تُبْتُ
وله في شكاية الفضل:
تجاهلتُ لمّا لم أرَ العقل نافعاً ... وأنكرتُ لمّا كنتُ بالعلم ضائعا
وما نافعي عقلي وعلمي وفِطنَتي ... إذا بتَّ صِفْرَ الكفّ والكيس جائعا
وله من قصيدة يصِفُ الشّيب:
نزَل الشّيبُ بفودِيَ ضيفاً ... يا سَقاهُ اللهُ ضيفاً وجارا
وكساني وفْدُهُ كلَّ وصفٍ ... من صفاتِ الشّيخِ إلا الوَقارا
وسقاني من أذاهُ كؤوساً ... مُرّةً تعقِرُ ليست عُقارا
متّ إلا أنّ قلبيَ حيٌّ ... يعشقُ العِشقَ ويهوى الخَسارا
يتصابى بعدَما ردّ كرهاً ... من غَيابات الصِّبا ما استعارا
ما الذي تصنعُ باللهِ قُلْ لي ... ما أرى فيه عليك اقتدارا
فأنا في جانبِ البيت نِضْوٌ ... ما أطيقُ الخطْوَ إلا قِصارا
وله:
ورقّتْ دموعُ العين حتى حسبتُها ... دموعَ دموعي لا دموعَ جُفوني
همُ عذَلوني جاهليَ بقصّتي ... ولو عرَفوا ما نالَني رحِموني
وأُنشدت له، بأصفهان، من قصيدة في مدح مجد الملك مستوفي الدّولة الملكشاهيّة:
تجنّبَ في قرب المحلِّ وقصدِه ... وزارَ على شحْطِ المزارِ وبُعدِه
خيالُ حبيبٍ ما سعِدتُ بوصله ... وزورَتِه حتى شقيتُ بصدّهِ
تبسّم عن عذْبٍ شتيتٍ كشمْلِه ... وشملي يُذكي نارَ قلبي ببَردِه
فلم أدرِ من عُجْبٍ تحليَ ثغرِه ... أم افترّ ضحكاً عن فرائِدِ عِقدِه
وقابلَ نُوّارَ العَقيقِ وورْدَهُ ... بأنضرَ من نوْر الشّقيقِ وورْدِه
ورُبّ بَهارٍ مثلِ خدّيَ فاقعٍ ... يُناجي شقيقاً قانياً مثلَ خدِّه
سقاني عليه قهوةً مثلَ هجرِه ... وطعمِ حياتي مُذ بُليتُ بفَقدِه
وما أسكرتْ قلبي وكيف وما صحا ... ولا زال سكراناً بسكرة وجْدِه
ولو أنّه يسْقيهِ خمرةَ ريقِه ... لأطْفأ وجْداً قد كواهُ بوقْدِه
سقاني وحيّاني بوردةِ خدِّهِ ... وريحانِ صُدْغَيْهِ وبانةِ قدِّه

ومازَحَني بالهجرِ والهجرُ قاتلٌ ... وما مزْحُه بالهجْرِ إلا كجِدِّه
وبِتْنا كما شئنا وشاءَ لنا الهوى ... يكُفّ علينا الوصلُ فاضلَ بُردِه
زماناً نعِمْنا فيه بالوصل فانقضى ... وبانَ على رُغمي ومنْ لي بردِّه
فلا تعذُلَنّ الدّهرَ في سوء غدرِه ... ولا تطلُبنْ منه الوَفاءَ بعهدِه
وخُذْ ما أتى منه فليس بعامدٍ ... وما خطأُ المِقْدارِ إلا كعهدِه
ورفقاً فم الإنسانُ إلا بجدّه ... وليس بمُغْنٍ عنه كثرةُ كدِّه
فما يسبِقُ الطِّرفُ العَتيقُ بشدّه ... ولا يقطعُ السيفُ الذّليقُ بحدّه
ولكنّ أقداراً تحكَّمُ في الورى ... فيأخُذُ كلٌ منهمُ قدرَ جدِّهِ
وما أحدٌ نال العَلاءَ بحقّه ... وأدركه دونَ الرِّجالِ بجَهْدِه
سوى الصّدرِ مجْدِ الملك فهْوَ سما له ... بجِدٍّ وجدٍّ مستقلٍ بسعْدِه
فما قرّ صدرُ الدّين إلا بقلبِه ... ولا اشتدّ أزْرُ المُلكِ إلا بمجدِه
وحنّ إليه الدّستُ مُذْ كان مرضَعاً ... ونافس فيه التّخْتُ أعوادَ مهدِه
ومنها:
على مجده من جودِه دِرْعُ نائل ... تكفّلَ كعبِيُّ السّماحِ بسرْدِه
وله:
أما إنّه لولا الهوى وجنونُه ... لما غلِقَتْ يومَ الرِّهانِ رُهونُهُ
له اللهُ أما دمعُهُ فيُذيله ... غَراماً وأمّا وجدُه فيصونُه
وإن هو أخفى وجدَهُ وشؤونَه ... حِذاراً أذاعتْهُ ضِراراً شؤونُه
بنفسي بدراً يفضحُ البدرَ نورُه ... وغصنَ قوامٍ يُخجِلُ الغُصنَ لينُه
عقاربُ صُدْغٍ ليس يرقى سليمُها ... ورمحُ قَوامٍ لا يبِلُّ طَعينُهُ
وله:
إسقني يا ضرّةَ القمرِ ... واسلُبِ اللّذّاتِ وابتدِرِ
قهوةً حمراَ صافيةً ... تخضِبُ النُّدمانَ بالشّررِ
سبَقَتْ نوحاً فلو نطقَتْ ... لرَوتْ ما مرّ في السِّيَرِ
فجيوشُ الليلِ هاربةٌ ... وجُنودُ الصّبحِ في الأثرِ
ونجومُ الجوِّ حائرةٌ ... والدُجى يبكي على القمرِ
وغصونُ البانِ مائلةٌ ... طرباً من شدّة السُّكُرِ
ولُحونُ الطّيرِ عاليةٌ ... والصَّبا تختالُ بالشّجَرِ
ليلتي لا عيبَ فيكِ ولا ... خِلتُ أنْ تشني سوى القِصَرِ
ليتَها طالتْ عليّ ولو ... كان ذاك الطّولُ من عُمُري
لي حبيبٌ ليسَ يُنصِفُني ... مهجتي منه على خطَرِ
مالك رِقّي يعذّبني ... كم مليكٍ سيّئ الظّفَرِ
ثمّ وقعت بيدي مجلّدة مقفّاة من شعره، فأوردت منها ما انتخبتُه. فمن ذلك قوله:
أخيطُ ... بتخريقه ... وليس إلا فَيْشتي إبْرَهْ
ومنه في وصف غلام هنديّ:
أخضرُ هنديٌ لمَىً كلُّه ... والصّارمُ الهنديّ ذو خُضرَهْ
مُهفهَفُ الأعطافِ ممشوقُها ... مُبلبَلُ الأصداغِ والطُرّهْ
وله:
قُم يا غلامُ فهاتِها ... حمراء فالتّفاحُ أحمَرْ
قانٍ كخدِّك بين ريْ ... حانٍ كعارضِك المسَطّرْ
فكأنّها والمزْجُ يُل ... بِسُ رأسَها إكليلَ جوهَرْ
بدرُ الدُجى صاغت له ال ... أفلاكُ نجمَ الجوِّ مِغفَرْ
وكأنّ كفَّ مديرِها ... من لونيَ القاني معَصْفَرْ
وقوله من قصيدة:
لعلّ الخيال العامريّ إذا سرى ... يدلّ عيونَ الهاشميّ على الكرى
ويا ربِّ إن روّحتَ فكراً من الهوى ... فزِدْ نارَ قلبي حُرقةً وتسعُّرا
وإنْ كان في وصلي المَلالةُ والقِلى ... فأوْحِ إليها الهجرَ ربّي لتهجُرا
ومنها:
وإنّ ضلالي فيك أهدى من الهُدى ... وإنّ سُهادي فيك أحلى من الكرى

ودِدْتُ وما تُغْني الوَدادة والمُنى ... لو انّي أرى قلباً يُباعُ فيشترى
وقوله من أخرى:
أيّ السِّهامِ بدتْ لنا ... يومَ اللّوى تلك المحاجِرْ
غَرْثى الوِشاحِ شَبيعةُ الت ... حْجالِ مُفعَمةُ المآزِرْ
في العدلِ أنّك راقدٌ ... عنّي وأنّي فيك ساهِرْ
ساروا بقلبي في الرّكا ... بِ وسائري في الإثرِ سائِرْ
وقوله من قصيدة في المدح:
عشِقَتْ شمائلَه الوزارةُ فاغتدت ... شوقاً إليه وعن سِواهُ تنفِرُ
ويجلّ عنها قدرُه مع أنّها ... لَتَجلُّ قدراً عن سواهُ وتكبُرُ
وقوله من أخرى:
قولي بغير الذي أوليت من حسَنٍ ... كقول أهل العمى في الشّمسِ والقمرِ
فالشمسُ إن جحَدَ الأعمى فضيلتَها ... فإنّما قولُه عن آفة البصَرِ
وقوله من أخرى:
يبلبلُ منّي العقلَ صُدغٌ مبَلبلٌ ... ويملِكُ مني القلبَ أغيدُ أسمرُ
وقدٌ كغصنِ البانِ يهتزّ مائلاً ... وخصْرٌ على الرِّدْفِ الثّقيلِ مزنَّرُ
وخدٌ أسيلٌ تحت صُدغٍ مشوّشٍ ... على طرسِه سطرٌ من الحسنِ أخضرُ
وقوله:
أعورٌ مثلُ ... ... لا تَرُمْ نيلَ خيرِه
شيخُ سوء عجوزُه ... أبداً تحتَ غيرِه
وقوله في وزير:
المُلكُ راسلَه بأني مَحجِرٌ ... يا ناظري فمتى تحلّ المحْجِرا
والدولةُ الغرّاءُ قالت إنّني ... عينٌ مسهّدةٌ وأنت لها كرى
وزَر الوِزارةَ إذ سواهُ بذكرها ... أزرى وبالوزَرِ العظيمِ تأزّرا
وقوله من أخرى في العِذار:
إني خلعْتُ عِذاري ... على المليح العِذارِ
جار العِذارُ على ورْ ... دِ خدّه بالجِوارِ
بنفسَجٌ فارسيٌ ... بادٍ على جُلَنار
وقوله:
ولو أنّني استمدَدْتُ من ماء مُقلَتي ... لجاءتك كتبي وهْي حُمرٌ سُطورُها
وكيف تُلامُ العينُ إن قطرتْ دماً ... وقد غابَ عنها نومُها وسرورُها
وقوله من قصيدة في مدح مكرم بن العلاء بكرْمان:
رحيبُ رِواقِ الحِلم يكفي اعتذارُه ... الى المذنبِ الجاني اختلاقَ المعاذرِ
فليس وحاشاهُ لإحسانِ محسنٍ ... بناسٍ ولا للمُحفِظاتِ بذاكرِ
وقوله من أخرى:
كفاني عجزاً أن أُقيم على الصّدى ... وبحرُ النّدى في بُردَسِيرَ غزيرُ
وأعشو الى نارِ اللئيم سفاهةً ... وبدرُ العلى بادي الضّياء مُنير
وقوله من أخرى:
وكم ميّتٍ قد صار في التُّرْب عظمُه ... تراهُ عِياناً بالأحاديثِ والذّكرِ
ويا رُبّ حيٍّ ميتٌ لخُموله ... فسيّان ذاك القصرُ والقبرُ في الفخرِ
وقوله من أخرى:
رقّ النسيمُ وغنّتِ الأطيارُ ... وصفا المُدامُ وضجّتِ الأوتارُ
وصغا السِّماك الى المغيب وقد بدا ... نجمُ الصّباحِ كأنّه دينارُ
وكأنّما الجوزاءُ مِعصمُ قَينةٍ ... والكفّ كفٌ والهِلالُ سِوارُ
فكأنّما زُهْرُ النّجوم فوارسٌ ... تبغي السِّباقَ لها الدُجى مِضمارُ
يا حبّذا أثَلاتُ رامةَ إنّها ... كانت لياليَ كلّها أسحارُ
ومنها:
إن لم تكن وطني فلي برُبوعِها ... وطَرٌ وأوطانُ الفتى الأوطارُ
لا ذنْبَ إلا للقلوبِ فإنّها ... تهوى وإنْ لم تعلَمِ الأبصارُ
أهدى لنا نفَسُ الصَّبا أنفاسَكُم ... سحَراً فقلت عسى الصَّبا عطّارُ
وتمايلت للسّكر باناتُ الحِمى ... حتى كأنّ نسيمَه خمّارُ
الزاي، وقوله في المدح من أخرى:
فتىً يهتزّ للإحسان ظَرْفاً ... ومن فعل الدّنايا يشمئزُّ
أغرّ مُحسَّدُ العلياء ندْبٌ ... محَلُّ علائِه في الجِدّ نشْزُ

له رأيٌ كنصْلِ السّيفِ ماضٍ ... غدا في مفصِل الجُلّى يحُزُّ
مُذِلٌ للثّراء بجودِ كفٍّ ... نداها للعلى أبداً مُعزُّ
لوْ أنّ لي في كلّ عضوٍ فما ... فيه لسانٌ ناطقٌ موجزُ
السين، وقوله من قصيدة:
مغنى الصّبا مالي أراك دريا ... ولقد عهدتُك آهلاً مأنوسا
ما راح دمعي في عِراصك مُطلَقاً ... حتى غدا قلبي بهن حَبيسا
حملَتْ أهلّةُ مُهرةٍ من عامر ... يوم الكثيبِ أهلّةً وشُموسا
غرَبَتْ بهم في غُرَّبٍ يا من رأى ... شمساً يكون غُروبُها تعبيسا
يا حبّذا المتحمّلون عشيّةً ... من بطنِ وجرَةَ يُعمِلون العِيسا
متبارياتٍ كالسِّهام فأصبحت ... مما أضرّ بها الدّروبُ قُؤوسا
لا دَرُّ درُّكِ من قِلاص قلّصت ... ظلّ الهوى فغدا حِماهُ وطيسا
فلقد صدَعتِ ببينهم كبِد الهوى ... ونكأتِ قرْحاً في الحشا لا يوسى
للهِ ليلٌ بالحريم خلَستُه ... والحزمُ كوْني للسّرور خَلوسا
فجلوتُ فيه على الهموم وطوّفتْ ... بابنِ المُنى بنتَ الكروم عروسا
وشموس راحٍ في سماء الرّاحِ قد ... جعلت لنا أبراجهنّ كؤوسا
وقوله من أخرى:
فتاة جسمُها كالماء رطْبٌ ... ولكنْ قلبُها كالصّخرِ قاسِ
وفَتْ وهْناً فوافت وصلَ صبٍّ ... سقيمٍ في الغرامِ بغيرِ آسِ
وقوله:
أريدُ من الأيّامِ تطبيبَها نفسي ... ولا روحَ للمحبوس ما دام في الحبسِ
أمِنْتُ سِباعَ الوحشِ وهْيَ مَخوفةٌ ... وخِفتُ سِباع الإنس والشّرُّ في الإنسِ
وقوله من أخرى:
بدت غُرّةُ النّيروزِ باللهوِ والأنسِ ... فقُمْ نجْلُ بنتَ الدّنِّ حمراءَ كالورْسِ
معتّقةً في دنِّها قيصريّة ... توارثَها قَسٌّ من الرّوم عن قسِّ
ومنها:
وحرٍّ من الفِتيان حلو موافق ... مليح الثّنايا غير غثٍّ ولا جِبسِ
ذكيّ عليم بالزّمانِ وغدرِه ... كأنّ به للعلم ضرباً من المسِّ
يبادرُ أحداثَ الليالي وجورَها ... ويستلبُ اللّذّاتِ بالنّهبِ والخلْسِ
يقول دعوني أنهزْ فُرَص المُنى ... فوالله لا ذُقتُ المُدامةَ في رَمسي
أنِستُ به لما رأيتُ خِلالهُ ... توافقني والأنسُ من عادة الإنسيّ
ومنها:
أيعلمُ دهري أنّني غيرُ خائفٍ ... رَدايَ وأنّي من حياتي في حبسِ
أريدُ بحرصي راحةً وسلامةً ... من الشرِّ بين الناس والأمرُ بالعكسِ
ولستُ بشاكٍ صرْفَ دهري وأهلَه ... ولكنّني أشكو الى الدّهر من نفسي
وقوله في أصفهان:
بلدٌ أبو الفتح اللّئيم عميدُه ... والقاسمُ بنُ الفضلِ قيلَ رئيسُه
وظريفُه الكافي الطويلُ وعرضُه ... رثُّ الرِّداءِ كما عرَفت لَبيسُه
ونقيسبُه التّيسُ الرِّضا متبَظْرِمٌ ... مع أنّه دنِسُ المحلّ خسيسُه
وابنُ الخطيبيّ الصّغيرُ لحكمِه ... زللٌ وجُرْوُ المندويّ جليسُه
والوقف في أيدي العُلوجِ وكلّهم ... قد زادَ من مال المصالح كيسُه
وأنا وسلمانُ الأديبُ إمامنا ... وجميعُ من صقلَتْ نُهاه دُروسُه
نبكي على الفضل الذي قد صوّحت ... بسقوطهم أفنانُه وغروسُه
الشين، وقوله:
بأبي أهيفُ مهضومُ الحشا ... مستعارُ اللّحْظ من عين الرّشا
يُخجل الأقمارَ وجهاً إن بدا ... وغصونَ البنِ عِطفاً إن مشى
ثمِلُ الأعطافِ من خمر الصِّبا ... منتشي الألحاظِ صاحٍ ما انتشى
آنِسٌ بالناس غيري فإذا اس ... تأنستْ عينيَ منه استوحشا
أيّها المعرِضُ عنّي عبثاً ... من وشى بي ليت شعري لا وشى
سوف أرشو عنك قلبي فعسى ... يقبلُ المسكينُ في الحبّ الرُّشا

الصاد، وقوله من قصيدة:
أنا في أصفهانَ في تنغيصِ ... بين سعر غالٍ وشعرٍ رخيصِ
قد تحيّرتُ في عِيالٍ وفقرٍ ... وغَلاء وليس لي من مَحيصِ
لا مُقامٌ ولا رحيلٌ وقد عُدْ ... تُ أسيراً كالطائر المقصوص
ولو أنّ الطريق سهلٌ كما كا ... نَ لقرّبتُ للبِعاد قَلوصي
ضِعتُ في أصفهان بين رجالٍ ... سِفَلٍ بالعموم لا بالخوصِ
كالتّعاويذِ والتّصاوير ما في ... هِمْ من الناس غيرُ حُسن الشّخوصِ
ومنها:
عجباً للذي يشحُّ ولا يُنْ ... فِقُ حتى إذا رأى الموتَ يوصي
ذاك بذلُ المُضطرِّ بالرُّغم لِمْ لَمْ ... يكُ في البذْلِ قبلَ ذا بحريص
كل شيء يفْنى ويبقى لك الأج ... رُ وحُسْنُ الثّناءِ خيرُ قَنيصِ وقوله في الخمر:
نسيمُها كالمِسكِ في نشرِه ... وجسمُها روحٌ بلا شخصِ
لو جمَدَتْ في دنّها لحظة ... خرَطْتُ من جامدها فَصّي
وأهيف كالبدرِ في تِمّهِ ... على عذاب الناس قد وُصّي
قامتُه كالغُصن مهتزةٌ ... في كفَلٍ يرتجّ كالدّعصِ
طُرّتُه ليلٌ على غُرةٍ ... نوريّة تلمعُ كالقُرصِ
يقتصّ ممّن كان ذا عفّةٍ ... يقولُ قد أذنبتُ فاقتصِّ
تورّعاً من أن يُرى ظالماً ... تورّعَ الكافي أبي النّقص
وقوله من قصيدة:
يا دهرُ ما ازداد اللئيمُ لينقُصا ... كلاّ ولا أغلى نُهاه ليرخُصا
قد كنتُ أطمَعُ بالفضائل في العلى ... فالآنَ جُلّ مُناي أن أتخلّصا
لو كنتُ أعلم أنّ فضليَ ناقصي ... ما كنتُ من سفَهٍ عليه لأحرِصا
كالمِسكِ يُسحَقُ بالصّلاةِ لنشْرِه ... والعودِ يحْرَقُ للنّسيم مُمحّصا
والظّبيُ لولا حُسنُه لم يُقتنَصْ ... والبومُ يؤمنُه القَضا أن يُقْنَصا
ومنها في المدح:
قاسوك جهلاً بالملوكِ وظالمٌ ... من قاسَ عُلويّ الكواكب بالحَصا
واستكثروا لك ما بلغتَ وإنّني ... مستنزرٌ لك منْ أطاعَ ومن عصى
قلّت لك الدُنيا فكن لكنوزِها ... مترقّباً ولمُلكِها متربّصا
الضّاد، وقوله من قصيدة:
أنت كلّ الفضل والإف ... ضالِ والعالمُ بعضُ
وأنا اليومَ كما تع ... لَمُ في بسْطيَ قبْضُ
ما لِعرقِ الرّزقِ إن لم ... يُجْرِه جاهُك نبْضُ
وقوله في الحمى:
عادت فزارت وسادي ... بعد الفراقِ البغيضَهْ
صديقةُ المُتنبّي ... تلك الوَقاحُ الحَريضَهْ
وجمشتْني وكانت ... ثيابُ نومي رَحيضَه
وخلّفت في ضُلوعي ... ما في الجفون المريضَهْ
الطاء، وقوله من قصيدة:
يا حبّذا أهيفُ خَطُّ ... حُسنِه حُلو النّمَطْ
حُلو الصِّبا في خدّه ... بالمسك والعنبر خطْ
رطْبُ الصِّبا عذْبُ اللّمى ... حُلو الرِّضا مُرّ السّخَطْ
كأنّ برقَ ثغرِه ال ... واضح سيفٌ مخترَطْ
سطر كأن در ثغره ... عقد لآل في سقط
سرّحهُ الحسنُ بأم ... شاطِ التّصابي ومشَطْ
وصاغه اللهُ من ال ... جَمالِ شخصاً وخرَطْ
لهفي على عيشٍ مضى ... على اقتراحي وفرَطْ
فالآن نجمي راجعٌ ... محترقٌ بلْ قد هبَطْ
ومنها:
أنعِم ببسط العُذر لي ... فأنت أولى من بسَطْ
وامنُنْ برسمي عاجلاً ... نقداً ففضلي قد قنَطْ

بين كِلاب جيَف ... أعراضُهم ذاتُ نُقَطْ
ترى الأديبَ بينهم ... كاللّصّ ما بينَ الشُرَطْ
وقوله من قصيدة طويلة، على وزن طائيّة المعرّي:
سواءٌ دنا أحياء ميّة أم شطّوا ... إذا لم يكن وصلٌ فقربُهم شحطُ
إذا كان حظّي منهُمُ حظّ ناظري ... تعلّلْتُ منهم بالظِّباء التي تعطو
فكم نازحٍ أدناهُ حسنُ وِدادِه ... وإن لم تزَلْ أيدي المطيّ به تمطو
ودانٍ أبانَ الهجرُ قربَ جوارِه ... وإن ضمّنا في مضجَعٍ واحدٍ مِرْطُ
ومنها:
حلَفْتُ بها تهوي على ثفِناتِها ... عوائمَ تطفو في السّراب وتنغطُّ
لما ظلْتُ في جَرباذَقان لحاجةٍ ... سوى مدحِ علياه ولا اخترتها قطُّ
لإنعامِه في كلّ جيدٍ بجودِه ... قلائدُ في جيدِ الزّمانِ لها سِمْطُ
له راحةٌ في المحْلِ يهْمي سحابُها ... ببحرِ نوالٍ ما للجّتِه شطُّ
ومنها في القلم:
براحتِه العلياء أرقشُ ضامرٌ ... تُناسبُه في لينِه الرُّقْشُ والرُقْطُ
يمجّ رُضاباً بالمنايا وبالمُنى ... ففي جبهة الأيامِ من خطّه خطُّ
ومنها في الدّواة:
وتغذوه أمٌ في حَشاها تضمّه ... ويظهرُ أحياناً وليس به ضغْطُ
عجوزٌ لها في الزّنجِ أصلٌ ومحتِدٌ ... ولكنّما أولادُها الرّومُ والقِبطُ
إذا اعتاضَ عن جرْيٍ من الأينِ راضَهُ ... فأصحب في ميدانِه الحزُّ والقَطُّ
له في ميادينِ الطّروسِ إذا جرى ... صريرٌ كما للخيل في جريِها نحْطُ
وقوله من قصيدة مرثيّة في عليّ بن الإمام محمد بن ثابت الخُجَنديّ:
سِهام المنايا لا تطيشُ ولا تُخطي ... وحادي الليالي لا يجورُ ولا يُبطي
أرى الدهر يُعطي ثمّ يرجعُ نادماً ... فيسلِبُ ما يولي ويأخذُ ما يعطي
ويستدركُ الحسنى بكلّ إساءةٍ ... كما استدرك التّفريطَ والغلطَ المُخطي
ويختار للجهل الطّبيبَ تعللاً ... ويستفرغُ الأدواءَ بالفَصْد والسّعطِ
ويجتابُ سرْدَ السابريّ وإنّه ... إذا ما رمى رامي المقادير كالمِرْطِ
كأنّا ثمارٌ للزمانِ فكفُّه ... تعيث فتجني بالحصادِ وباللّقْطِ
أفي قلبه حِقدٌ علينا ففتكُه ... بنا فتْكُ موتورٍ من الغيظِ مشتطِّ
وما الكونُ إلا للفسادِ وإنّما ... حياتي كموتي كالجزاء مع الشّرطِ
كذاك تمامُ البدرِ أصلَ محاقِه ... يكونُ وإشراقُ الكواكب للهَبطِ
كوصل الفتاة الرّؤدِ للهجْر والقِلى ... يكون وقرب الدّار للبعد والشّحطِ
وقد قيل إنّ النفسَ تبقى لأنّها ... بسيطٌ وما التّركيبُ إلا من البسطِ
ستُفني المنايا كلّ شيء فلا تُرَعْ ... بما زخرفوا من نقطةٍ لك أو خطِّ
فلا بدّ للموت المقيت وإن أبوا ... مقالك فيها من نصيب ومن قِسط
أبى اللهُ أن يبقى سواهُ لحكمةٍ ... رآها وأقسامٍ تجِلّ عن القِسطِ
فما لك تستدني المَنونَ جَهالةً ... ببيض الظُّبا مشحوذةً وقَنا الخطِّ
لعلّك تستبطي حِمامَك شيّقاً ... رُويداً ستستوحي الذي كنت تستبطي
عرفتُك يا دنيايَ بالغدر والأذى ... فما أنتِ من شأني ولا أنت من شرطي
وقوله من قصيدة أخرى:
الحِقفُ في مئزَرِه إن مشى ... والغُصُن الرّيانُ في المِرطِ
أسخنُ من عيني على أنّه ... أضيقُ من رزقي ومن قِسطي
زار وقد شاب عِذارُ الدُجى ... ودبّ فيه الصبحُ بالوخْطِ
وقوله من قصيدة أخرى:
من يَديْ أهيفِ الشّمائل بالخا ... لِ له نونُ صُدغِه منقوطُ
يتثنّى سكرانَ من خمرة التّي ... هِ كما مال في النّسيم الخوطُ
ومنها:

أسرفوا في الذّنوب فالله يعفو ... إنّ شرّ الورى اليَؤوسُ القَنوط
وكذا الرّزقُ من يَديْ أسعدَ المس ... عودِ ظلٌ على الورى مبسوطُ
كفّهُ للنّدى كما عِرضُه الطّا ... هرُ للمدحِ والثّناءِ ربيطُ
وإذا غيرُه أبى المجدَ كسلا ... ناً أتاهُ جذلانَ وهْو نشيطُ
لم أخَلْ قبل ربعِه أنّ ربعاً ... فيه بدرٌ زاهٍ وبحرٌ مُحيطُ
لو بآرائِه الكواكبُ سارت ... لم يعُقْها وجوعُها والهبوطُ
وقوله من أخرى:
قد كانت الأرزاق محبوسةً ... فردّها بالجود منشوطَهْ
له يدٌ في الشرّ مقبوضة ... وأختُها في الخيرِ مبسوطَهْ
ومنها في الغزل:
مبلبَلُ الطّرّةِ أصداغُه ... نوناتُها بالخالِ منقوطَهْ
إذا بدا واختالَ قدّرتَه ... من حسنه بدراً على خوطَهْ
الظّاء، وقوله:
كبّرْ على الكلّ إذا لم يكن ... لي منهمُ معْ جودِهِم حظُّ
ما نافعي رِقّةُ أخلاقِهم ... وقلبُ دهري يابسٌ فَظُّ
وعظتُهم في النّثر لكنّهم ... ما هزّهم للكرم الوعْظُ
العين، وقوله من قصيدة في نظام الملك:
وأورَقَ أيكيٍّ من الطّير موجَعٍ ... بساعده شكْوٌ من الإنس موجِعُ
سهرتُ له ليلَ التّمام فلم يزلْ ... الى أن تفرّى الصبحُ أبكي ويسجَعُ
شَدا طرَباً أو ناح شجْواً ومُقلتي ... على كل حالٍ دون جفنَيْهِ تدمَعُ
أعِدْ فكِلانا بالغصونِ متيّمٌ ... له كبدٌ حرّى وقلبٌ مفجّعُ
وقود براها السّبرُ حتى تشابهت ... وأرسانَها مما تخبّ وتوضِعُ
بأشلاءِ أسفارٍ كأنّ وجوهَهُم ... بلفح الحصا قطعٌ من الليل أسفعُ
سهامُ حَنايا ناحلاتٍ رمت بهم ... مطامعُ في قوس المقاديرِ تَنزِعُ
نَشاوَى على الأكوار من بين ساجدٍ ... ومُستمسك في رحله باتَ يركَعُ
إذا ما ونتْ خوصُ النجائبِ تحتَهمْ ... حدَوْها بأوصافِ الرّضيّ فتُسرِعُ
ومنها:
ووجهُ العُلى في هالةِ الدّستِ ضاحكٌ ... وثغرُ المُنى في أوجهِ المدح يلمعُ
وماءُ الندى للحائمين مصفّقٌ ... وروضُ الغِنى للشاتمين موسّعُ
ومن قوله فيه:
ما على الرّكب إن سمحْتُ بدمعي ... في رُبوع بين اللّوى والجِزعِ
وعلامَ المَلامُ والقلبُ قلبي ... وغرامي الغرامُ والدّمعُ دمعي
يا عذولي إليك عني فإني ... منك أدرى بوجهِ ضُرّي ونفعي
كيف أصغي للّوم والحبّ قد ... سدّ بوقرِ الغرامِ طرْفي وسمعي
هذه سُنّة الهوى لستُ فيما ... جئتُه من هوى الدّيار ببِدْعِ
وله من أخرى في وصف القلم:
في كفّه من اليرا ... ع ذابلٌ مزعزِعُ
روعُ الزّمان أبداً ... من وقعه مروّعُ
إذا انبرى لحادثٍ ... فهْوَ سنانٌ مشْرَعُ
ليْنُ المجسِّ قاتلٌ ... والصِّلُّ ليْنٌ يلسعُ
أخرسُ إلا أنّه ... في إصبعَيْهِ مصقَعُ
فكم لسانٍ ناطقٍ ... أفصحُ منه إصبَعُ
يعلمُ الورْقاءَ في ال ... أغصان كيف تسجَعُ
وله:
بأبي وجهُك ما أحسنَهُ ... كيفما دُرت به درتُ معهْ
هو شمسٌ وأنا حِرباؤه ... فلذا أقبل وجهي مطلَعَهْ
وقوله:
لو قيل لي ما تمنّى ... لقلتُ قلبٌ قَنوعُ
ومسكنٌ وفتاةٌ ... فيها تُقىً وخُشوعُ
وقوله:
ما كنت أعرفُ قدرَ أي ... امي ذهبَتْ ضَياعا
حتى فجعتُ بها ولم ... أسطِع لذاهبها ارتجاعا
ومن قصيدة أخرى:
الحزنُ حزني والضّلوع ضلوعي ... والجفنُ جَفني والدّموعُ دموعي
فعلام يعذلني على برْح الهوى ... من لا يقومُ نزاعُه بنُزوعي

ولعَ الفراقُ بشمْلنا ولعَ الهوى ... بقلوبنا وبمن أحبّ وَلوعي
ولقد أُراني للعواذلِ عاصياً ... أبداً لنهْي نُهاي غيرَ مُطيعِ
أودعتهم بالكُره إذ ودّعتُهم ... حُسن العزاء عشيّةَ التّوديعِ
ووجدتُ حزنَ الحزنِ سهلاً بعدهمْ ... ومنيعَ فيض الدّمع غيرَ منيعِ
وأذبتُ يوم الجِزعِ جزْعَ مدامعي ... جزَعاً ولم أكُ قبلَه بجَزوعِ
سار الجميعُ فسار بعضي إثرَهُ ... وودِدتُ أنْ لو كان سار جميعي
يا بانُ هل بان الصّباحُ فإنّني ... مُذْ بان بتُّ بليلة الملسوعِ
زُمّا المطيّ عن الطّلول فإنّها ... بخلَتْ بردِّ جوابها المسموعِ
لسفهتُ نفسي إذ سألتُ رُبوعَها ... عن ظاعنٍ مغْناهُ بين ضلوعي
ما أنصفتك بذي الأراكِ حمامةٌ ... أبدت سرائرَ قلبِك المفجوعِ
أبكي دماً وبكنِّها مكنونة ... لكنّها تبكي بغيرِ دُموع
هيهاتَ لست من البكاء وإنّما ... هذا الغناءُ لشملِك المجموعِ
ولكيْفَ يُنصِفُك الحمامُ وربّما ... جار الحميمُ عليك بالتّقريعِ
لا ذنب عندي للزّمان فإنّه ... ما حالَ عن حالٍ يروّعُ روعي
هو طبعُه ولضَلّ رأيُ معاتِبٍ ... يرجو انتقالَ طبيعةِ المطبوعِ
وقوله من قصيدة:
يبيتُ في كفّها تُشَمرِخُه ... تحُطّه تارةً وترفعُه
كالطفل في حِجرها ترقّصُه ... تشبُرُه تارة وتذرَعُه
لكنّه المرْدراك يُرضِعُها ال ... دّرّ وأمّ الصبيّ ترضِعُهُ
وقوله من قصيدة:
يُنشدني أشعارَه دائباً ... وشعرُهُ من طيبِه مُتعَهْ
أضحكُ منه عند إنشادِه ... لأنّه ينطِقُ من قرْعَهْ
وقوله من قصيدة:
إحذَرْ جليسَ السّوء والبَسْ دونَه ... ثوبَ التّقيّة جاهداً وتدرّعِ
لا تحقِرْنَ لين العدوّ فربّما ... قتل الكميَّ النّدبَ لينُ المِبضَعِ
والصدقُ أسلمُ فاتخذْهُ جُنّة ... فالكذْبُ يفضَحُ ربَّهُ في المجمعِ
والكذبُ شَينٌ فاجتنبْه دائماً ... والبغيُ فاحذَرْهُ وخيمُ المصرعِ
حدّثهُم إن أمسكوا فإذا هُمُ ... ذكروا الحديثَ فأصغِ جُهدَك واسمَعِ
وإذا هُمُ سألوا النّوالَ فأعطِهمْ ... وإذا هُمُ لم يسألوا فتبرّعِ
لا تحرصنّ فإنّ حرصَك باطلٌ ... واصرِفْ بعزِّ اليأسِ ذُلّ المطمعِ
ولقد تعبْتُ وما ظفرتُ وكم أتى ... ظفرٌ عقيبَ ترَفُّهٍ وتودُّعِ
ولكم توقّعتُ الغِنى فحُرمتُه ... ولَقيتُه من حيثُ لم أتوقّعِ
وقوله من قصيدة مرثية:
أبني الأماني اللائذاتِ بجوده ... موتوا فقد ماتَ الأغرّ الأروعُ
غاض النّدى مات العُلى ذهب النّهى ... هلك الوَرى ضاق الفضاءُ الأوسعُ
عجَباً وأحوالُ الزّمانِ عجيبةٌ ... لفؤادِ دهرِك كيف لا يتصدّعُ
ولشمسِ جوّك كيف لم تكسَفْ جوىً ... بل كيفَ بعدَ أبي الفوارس تطلُعُ
ولحفرةٍ ضمّت مهذّبَ جسمِه ال ... قُدسيّ كيفَ الى العلى لا تُرفعُ
أتضيقُ عنك الأرضُ وهيَ فسيحةٌ ... وتضمُّ جسمكَ بعد موتِك أذرُعُ
فسقاك غيثٌ مثلُ جودِك صيّبٌ ... أبدَ الزّمانِ وديمةٌ ما تُقلِعُ
فالدّهرُ بعدَك عاطلٌ من حلْيِه ... مستوحشٌ من أهله متفزِّعُ
وقوله من مدح الشيخ الإمام أبي إسحاق، رحمه الله:
هذه سُنّةُ أبناءِ النُهى ... لستُ فيما جئتُه مبتدعا
أيّ صبٍّ لم يؤرّقْ جفنَه ... خفَقانُ البرقِ لما طلَعا
أنشُدا قلبي بجَرعاء الحِمى ... فيها خلّفْتُه منقطعا

ضاع بين الحدَقِ النّجلِ وكم ... قلبِ صبٍّ عندها قد ضُيِّعا
الغين، وقوله في ذمّ المعلمين:
ولكنّ المعلّمَ ذقنُ سُرمٍ ... خفيفُ الرأسِ ليس له دِماغُ
وقد دُبِغت رؤوسُهم فأضحت ... نواشفَ قد تحيّفها الدّباغُ
وما إنْ كان فيها قطّ شيءٌ ... فكيف تقول أدركها الفراغُ
فما لعلوِّ مثلهِمُ مجازٌ ... ولا لنَفاقِ فضلِهمُ مساغُ
وقد صيغوا من الحُمق المنقّى ... ففيهم كلُّ فاحشةٍ تُصاغُ
وقوله في ذمّ الرّيّ:
الرّيُّ دارٌ فارغَهْ ... لها ظِلالٌ سابغَهْ
على تُيوسٍ ما لهم ... في المكرُماتِ بازغهْ
لا ينفُقُ الشّعرُ بها ... ولو أتاها النّابغَهْ
وقوله:
قد قلتُ للشيخ الرّئيس الذي ... تُعْزى إليه الحكمة البالغهْ
إن علوماً كنتَ أوضحتَها ... لنا بتلك الحجّة الدّامغهْ
كادتْ تُضاهي الوحيَ لكنّها ... قد أُنزلت عن غرفة فارغهْ
الفاء، وقوله من كلمة:
وربّ فتاةٍ كرِئْمِ الصّري ... م يُسكرُ مَنْ راءَها طرفُها
إذا رام قرنانُها كفّها ... تحكّم في رأسِه كفُّها
سقتني بريقتها خمرةً ... يطيبُ لشاربِها صِرفُها
فما ظبيةٌ من ظِباءِ العقي ... قِ ضلّ بذات الأضا خشفُها
بأملحَ منها إذا ما رنت ... مدلّهةً قد سجا طرفُها
ولا بانةٌ رنّحَتها الصّبا ... وهزّ ذوائبَها عصفُها
بأحسنَ من قدّها قامةً ... إذا اهتزّ في مشيها عِطُفها
تجلّ عن النّعت أخلاقُها ال ... حِسانُ ويُتعِبُني وصفُها
كنظم مناقبِ تاج الملو ... كِ أصبح يُعجزُني رصْفُها
وفيُّ العهودِ صَدوقُ الوعو ... دِ لا يتأتّى له خُلفُها
وشمسُ عُلىً دائمٌ نورُها ... وإشراقُها لا يُرى كسْفُها
إذا ما النّوائبُ حاولْنَه ... يصرَّفُ عن أمره صرفُها
وإن أجلبتْ حادثاتُ الزّما ... ن فأهونُ ما عندَه صرْفُها
خلائقُ كالماءِ معسولةٌ ... بل الرّاحُ ناسبَها لُطفُها
وقوله من قصيدة:
كأنّ غديرَ الماءِ جوشَنُ فِضّةٍ ... من السّردِ محبوكٌ عليها مُضاعفُ
ومنها:
يجورُ على العشّاق في الحكم مثلما ... تجورُ على تلك الخُصور الرّوادفُ
ومنها في المدح:
كأنّ رؤوس الصِّيد في ساحة الوغى ... هَبيدٌ له السيفُ الشِّهابيّ ناقفُ
كأنّ رِماح الحظّ أقلامُ كاتبٍ ... براحة بدرٍ والقلوبُ معارفُ
ويومٍ كأنّ النّقْعَ فيه ستائرٌ ... له وصليلُ المُرهَفاتِ معازفُ
فيا فلَكاً بالخير والشرّ دائراً ... ويا ملِكاً في راحتيه العوارفُ
وصفْتُك فاعذُرني على طاقتي ... وإنّك حقاً فوقَ ما أنا واصفُ
ولما انتقدتُ الناسَ جمعاً نبذْتُهم ... كما نبذَ الفَلسَ الرّديءَ الصّيارفُ
ولم أرضَ إلا القاسميّ لمقصِدي ... فتىً عندَه ظلُّ المكارمِ وارفُ
ومن قوله في قصيدة:
إنما المالُ منتهى أملِ الخا ... مِلِ والودُّ مطلبُ الأشراف
لا أحبّ الفِجَّ الثّقيلَ ولو جا ... دَ ببذلِ المِئِينَ والآلافِ
وأحبّ الفتى يهَشُّ الى الضّيْ ... فِ بأخلاقه العِذاب اللِّطافِ
أريحيّاً طلْقَ المُحيّا حَييّاً ... ماءُ أخلاقِه من الكبرِ صافِ
ولو انّي لم أحظَ منه بغير ال ... بِشر شيئاً لكان فوقَ الكافي
ومن قوله:
ومدلّلٍ دقّتْ محا ... سنُ وجهِه عن أنْ تكيَّفْ
تركَ التصنُّعَ للجما ... ل فكان أظرفَ للتظرُّفْ
لو أنّ وجهَ البدر يُش ... بِهُ وجهَهُ ما كان يُكْسَفْ

الصُّدغُ مسكٌ والثّنا ... يا لؤلؤٌ والرّيق قرْقفْ
والوردُ من وجَناته ... بأنامِلِ الألحاظ يُقطَفْ
وقوله من قصيدة كتبها الى أبي الحسن ابن التّلميذ في مرضه:
زعموا لي أنّ نفسي درّةٌ ... تُعجِزُ الوصفَ وجسمي صدَفَهْ
وأنا واللهِ ما أعرفُها ... ليس في الأخلاق مثلُ النّصَفَهْ
إنّما أعرفُ جسمي وحدَه ... وأرى أعضاءَهُ المؤتلفَهْ
آه منّي أعمُرُ الحبسَ الذي ... هو لا شكّ لنفسي مَتْلَفَهْ
يا بني التّلميذِ لو وافيتكُمْ ... لم تكن نفسي بأهلي شغِفَهْ
إنّما أطلقتُ كَرمانَ بكم ... إنّكم لي عِوَضٌ ما أشرفَهْ
ومن أخرى:
ويا دهرُ لقد جُرْتَ ... الى النّكرِ عن العُرْفِ
الى كم تنقُلُ الدوْل ... ةَ من جِلفٍ الى جِلفِ
وقوله في بغداد:
بغداد دارٌ رياضُها أنفُ ... والغيثُ في عُنفوانه يكِفُ
ومع تصاريفِ طيبِ لذّتِها ... مُقامُ مثلي بمثلها شرَفُ
إذ كلّ من حلّها وأُوطِنَها ... جواهرٌ عندَ كسرِها خزَفُ
وإن رأيت الثّيابَ رائقةً ... فتلك دُرٌ في جوفها صدَفُ
القاف، وقوله من قصيدة في مدح تاج الملك، وقد عاد الى الوزاة وخلص من النّكبة:
لو أُعطيَ الدّسْتُ لساناً فنطقْ ... لقال: تاجُ الملكِ بي منكم أحقّ
الآن قرّت عينُه ولم تزلْ ... مقسومةً بين البكاءِ والأرَقْ
بعَودِ مولانا وهل من نعمة ... أكثرُ من خلاصِه مما طرَقْ
جلا ظلامَ الخطْبِ نورُ رأيِه ... ووجهه كما جلا البدرُ الغسَقْ
وكان في بحر الخطوب عائماً ... لا يختشي كالدُرِّ لا يخشى الغرَقْ
كأنّه الدينارُ في النار إذا ... زادت لظىً زادَ صفاءً وبرَقْ
والعودُ بالإحراق يبدو عرْفُه ... والمسكُ أذكى عبَقاً إذا سُحِقْ
والسيفُ لولا مِدوسُ الصّيقلِ ما ... جذّ الرِّقابَ حدُّهُ ولا ذلِقْ
ومنها:
ما كان حبساً ذاك بل صيانةً ... والصّونُ للشيء النّفيسِ مستحقّ
أمنكَرٌ صونُ الضّلوع القلبَ أم ... مستبدَعٌ صونُ الجفونِ للحدَقْ
لولا سرارُ البدرِ ما تمّ فهل ... يؤيسُ من تمامه إذا امّحقْ
وقد يُصانُ السّيفُ بالغِمدِ وقد ... يغيبُ عُلويُّ النّجومِ في الشّفقْ
وقوله رداً علي من يقول إنّ السّفر، به يبلَغُ الوطَر:
قالوا أقمتَ وما رُزقتَ وإنّما ... بالسّير يكتسبُ اللّبيبُ ويُرزقُ
فأجبتُهم ما كلّ سيرٍ نافعاً ... الخطّ ينفعُ لا الرّحيلُ المُقلِقُ
كم سفرةٍ نفعت وأخرى مثلها ... ضرّت ويكتسبُ الحريصُ ويُخفِقُ
كالبدرِ يكتسبُ الكمالَ بسيره ... وبه إذا حُرِمَ السّعادةَ يُمحَقُ
وقوله من قصيدة:
سارَ يبغي باللُّها مُدّاحَهُ ... مُنجِداً عاماً وعاماً مُعرِقا
لم يكلّفهم إليهِ رحلةً ... إنّ خيرَ الماءِ لا يستقَى
فترى البُردَ الى مُدّاحِه ... بنَداهُ ولُهاهُ حِزَقا
وقوله وهو مريض مرض موته:
لم يبق من نفسي سوى نفَسٍ ... فانٍ ومن شمسي سوى فلَقِ
جسدي الذي لعبَ السّقامُ به ... حركاتُه حركاتُ مختنقِ
لم تتركِ الأسقامُ في بدني ال ... مسكين مُعتَرَقاً لمُعترِقِ
فلقد طلبْتُ الصّبرَ محتمِلاً ... ما بي من البلوى فلم أُطِقِ
يا عائدي والنّصْحُ من خُلُقي ... لا تدْنُ من نفَسي فتحترق
وقوله:
لهفي على بغدادَ دارِ الهوى ... فإنّني من حُبّها ما أفيقْ
وكلّ وجهٍ مثلِ شمسِ الضُحى ... فوقَ قوامٍ مثلِ غصنٍ رشيقْ
وكلّ رِدفٍ وافرٍ وارمٍ ... يحمِلُه بالظّلمِ خصرٌ دقيقْ

وكل لفظٍ طيبٍ ممتعٍ ... يُسكرُ من قبلِ كؤوسِ الرّحيقْ
ما شئتَ من دلٍّ ومن منظرٍ ... زاهٍ ومن حُسنٍ وطيبٍ وضيقْ
ذات حِرٍ كالقَعْب في حَقْوها ... مقبّبٍ صُلبٍ نتيفٍ حليقْ
ناشفة المدخلِ ما يغتدي ... في باب حِرْها ... إلا يُريقْ
وقوله:
سرى والليلُ ممتدُّ الرِّواق ... وحادي النجم محلولُ النِّطاقِ
ومنها:
خيالٌ في الظلام أتى خَيالا ... كِلا جسميهِما نِضوُ اشتياقِ
فذادَهما الدموعُ عن التّشاكي ... وصدّهما النّحولُ عن العِناقِ
ولو لم يُطفئا بالدّمع ناراً ... من الزّفرات هَمّا باحتراقِ
كأنّ بوادرَ العبَراتِ خيلٌ ... مضمّرةٌ تَجارَى في السّباقِ
ولم يستمتعا بالوصل حتى ... أنار الفجرُ يؤذِنُ بالفراقِ
كأنّهما أنا وفتى سعيد ... أبو حزم تمنّينا التّلاقي
وقوله:
ملكتم القلبَ فلا تُعتِقوا ... واسطوا ولا تُبقوا ولا تَرفُقوا
وحرّموا النّومَ على مُقلتي ال ... عَبْرى ووصّوا الطيفَ لا يطرُقُ
وصدّقوا الواشي على علمكم ... بأنّه إنْ قال لا يصدُقُ
فإنّني ما خُضتُ بحرَ الهوى ... مع اعتقادي أنّه مُغرِقُ
إلا فِراراً من فؤادي الذي ... في كل يومٍ بالهوى يعلَقُ
قد جرّب العشقَ وما ينتهي ... منه فيا للّه كم يعشَقُ
ولم يكنْ أوّلَ ذي حرفةٍ ... يسعى الى الرّزق ولا يُرْزَقُ
وله:
وجهي يرقُّ عن السؤا ... لِ وحالتي منه أرقُّ
دقّت معاني الفضلِ فيّ ... وحِرفتي منه أدقُّ
الكاف، وقوله:
لكنّ دون الخبزِ في داره ... وقائعَ الدّيلم والتُرْكِ
رغيفُه اليابسُ في جيبه ... كأنّه نافجةُ المِسكِ
يرى صِيامَ الضّيفِ في بيته ... نُسْكاً ومن يزهَدُ في النُسكِ
وصونَهُ اللّقمةَ دِيناً له ... وبذلَهُ شِرْكاً من الشِّركِ
يوَدُّ من خِسّته أنّه ... أمسى بلا ضِرسٍ ولا فكِّ
وقوله في الكافي الأصفهاني:
غُلامُ زيدٍ شريكُهْ ... في عِرسِه ومليكُهْ
... زوجةَ زيدٍ ... لأنّ زيداً ...
يكتالُ ما اكتال منه ... و... مَكّوكُهْ
وقوله في غلام أسود، اسمه مختصّ:
أيا مَنْ حُبّهُ نُسكُ ... ومن قلبي له مِلْكُ
ومن قلتُ لعُذّالي ... وزرْعُ العذْلِ لا يزكو
رأيتم قبلَ مختصٍّ ... غزالاً كلّهُ مسكُ
ترفّقْ بي أوِ اقتُلني ... فإني منك لا أشكو
اللام، وقوله من قصيدة هزليّة:
إني بحبّ الجبالِ بعتُ كما ... تعلمُ أرضَ العراق بالجبل
مصارعُ العاشقينَ أكثر ما ... تكون بين العِذار والكفَلِ
أحبّ بانَ القدودِ تعطِفُه ... صَبا الصِّبا بالغُدوِّ والأُصُلِ
وكلّ طَفلٍ كأنّ غُرّته الشّم ... سُ أنارت من كِلّة الطّفَلِ
مبلبلِ الصُدغِ وردُ وجنتِه ... أحمرُ من قبلِ حمرةِ الخجلِ
ووجهُه البدرُ تحت طُرّته ... يبدو كصبحٍ بالليلِ مشتمِلِ
وقوله:
قد ضِعت في جَيٍّ لدى عُصبةٍ ... قِدري على أعراضهم تغْلي
أصونُ سَلْحي عن لِحاهُم كما ... أُجِلّ عن آذانهم نعلي
قالوا اهجُهُمْ قلت ومنْ ذا الذي ... يفسو على خرية منحلّ
لا يشترونَ الفضلَ من جهلهم ... لأنهم عُميٌ عن الفضلِ
من كلّ تيسٍ خرِفٍ باردٍ ... ثيابُه غِمدٌ بلا نصْلِ
ومنها:
ما صُغتُ فيك المدحَ لكنّني ... من حسن أوصافِك أستملي
تُملي سَجاياك على خاطري ... فها أنا أكتُب ما تُملي

وله من قصيدة على قافيتين ووزنين:
واخلَعْ عِذارَك في عِذارِ مُهفهَفٍ مثلِ القضيبِالنّاعمِ المتمايلِ
أطِعِ الهوى واعْصِ النُهىوشرَبْ على وجه الحبيبِوروضِهِ المتكاملِ
إهزِلْ فقد هزَلَ الزّمانُ وجدّ في حرب الأديبِمع الزمانِ الهازلِ
ومنها:
هي أصفهانُ وجنّةُ الفِردوسِ في حسنٍ وطيبِللخليعِ الفاعلِ
حورٌ ووِلدانٌ ومانهواه من عِلقٍ غريبِكالغزالِ الخاذلِ
قال اتّئدِ فلقد أشرْتَ عليّ بالرّأي المصيبِورُبّ رأيٍ فائِلِ
لكنْ غلِطتُ وليس يأمَنُ عاقلٌ غلَطَ الأريبِالكيّسِ المتغافلِ
لا يبذُلون متاعَهُمْإلا لمِتلافٍ وَهوبِللرّغائبِ باذلِ
بالعين يصطادُ الظّباءَ العِينَ في تلك الدّروبِولا اصطادَ الباخلِ
وأنا خفيفُ الكِيسِ فيأسر الحوادثِ والخطوبِحليفُ همٍّ شاغلِ
أُضحي وأمسي طاوياً ... للضُرِّ في مرعىً جَديبِ:من رُباها ماحلِ
سعري وشعري عندهمولديهمُ أعلى الذّنوبِوذاك جُلّ وسائلي
قلت البشارةُ لي عليك فقد خلَصت من الكروبوكلِّ شغلٍ شاغلِ
أعطاك صرْفُ الدهرِ منإحسانِه أوفى نصيبِبعدَ مَطْلِ الماطِلِ
بنَدى الرّئيس أبي المكارِمِ سوف تظفَرُ عن قريبِبالنّدى والنّائل
ندْب يُزيلُ بجودِهوسماحِه كلَّ النّدوبِعن النّزيل السّائل
فجبينُه من بِشرِهكالبدرِ في فلكِ الجنوبأو الهلال الكاملِ
ترْعى المدائحُ عندَهولدَيْه في مرْعىً خصيبِبالمكارمِ آهِلِ
وقوله من قصيدة:
جهَرْت وقلت للسّاقي أدِرْها ... فقد عزَم الظّلام على الزِّيالِ
وقد ثمِلتْ غصونُ البانِ سكراً ... وغنّى الطيرُ حالاً بعدَ حالِ
وأذّن للصّلاةِ وجاوبته ... نواقيسُ النّصارى في القَلالي
وطابَ الوقتُ فازفُفْها عروساً ... تريدُ صِبا على هرَم اللّيالي
سقانيها هَضيمُ الكشحِ طَفلٌ ... رخيمُ الحسن محبوبُ الدّلالِ
أغنُّ مهفهفُ الأعطافِ يثني ... عقولَ الناسِ طُرّاً في عِقال
على شكوى هوىً ونوىً ووجْدٍ ... وتجميشٍ وميْلٍ واعتدالِ
شربت مع الغزالة والغزالِ ... جِهاراً قهوةً كدمِ الغزالِ
وقوله من أخرى:
ومجدولةٍ جدْلَ العِنان إذا رنت ... أقرّت لها في صنعة السِّحرِ بابلُ
مهفهفة الأعطافِ لا الغصنُ مائسٌ ... إذا خطرتْ دَلاً ولا البدرُ كاملُ
وقوله:
عذْبُ اللّمى خنِثُ الصِّبا ... كالبدرِ في حُلَل الكمالِ
نشوانُ من خمرِ الصِّبا ... ريّانُ من ماءِ الدّلالِ
أنّى بدا قابلتُه ... من عن يمينٍ أو شمالِ
فكأنّني الحِرباءُ وهْ ... وَ الشمسُ جَلّ عن المثالِ
وقوله:
يا عاذلي كُفّ عن العذلِ ... واعدِلْ من الجورِ الى العدلِ
قلبي أو قلبُك يلقَى الأذى ... وعقلُك الذاهبُ أو عقلي
إني ل... عابدٌ تابعٌ ... يخدُم بعضي في الهوى كلّي
وكلّ لحظٍ فاتنٍ فاترٍ ... أكحلَ مستغنٍ عن الكُحلِ
وكلّ خدٍّ أسمرٍ أحمرٍ ... عِذارُه كالماءِ في النّصلِ
أعسرُ من رزقي ومن قصّتي ... معْ سيّدي الشيخ أبي الفضل
وقوله:
ما مُنِح الإنسانُ من دهره ... موهبةً أسنى من العقلِ
يؤنسُه إنْ ملّهُ صاحبٌ ... فهو على الوحدة في أهلِ
ما ضرّهُ عندي ولا عابَهُ ... إنْ غلَبَتْهُ دولةُ الجهلِ
الأمير مجد العرب مُصطفى الدولة

أبو فراس علي بن محمد بن غالب العامري
شاعر مبرّز محقّق، وله خاطر معجِزُ مُفلق. هو الدّاهية الدّهيا، وأعجوبة الدنيا، وله العزّة القَعساء والغُرة الزهراء، والرتبة الشّمّاء.
يصبّ الشعر في قالب السحر، ويباهي الفضلاء بالنّظم والنّثر، ويصوغه في أسلوب غري، ويمّهده في قانون عجي.

له اليد البيضاء في استخراج جواهر الأفكار من بحار الخواطر، والقدم الرّاسخة في اختراع معانٍ هي على فلَك الفضل بمنزلة النّجوم الزّواهر. كلماته متوافقة المعنى واللفظ، مستوفية من الحسن أكمل الحظّ.
بدرٌ طالع من ديار بكر، وبحر طامٍ على كل بحر. إن جال في مِضمار القريض، وجرى في ميدانه الطّويل العريض، أفحم أبا الطيّب وأبا تمّام، وردّ عقودهم واهية النِّظام. ينسج على مِنوال أبي فراس، ويكنى بأبي فراس. قال في حقّه بعض شعراء أصفهان من قطعة:
فأشعارُ الأمير أبي فراسٍ ... كأشعارِ الأمير أبي فراسِ
هو في الطبع والمنشأ شاميّ، وفي النّظم والنشيد تِهاميّ، ومولده عراقيّ.
قدم في شهور سنة سبع وثلاثين وخمس مئة أصفهان، وكان مقيماً بها الى سنة ثمان وأربعين، وانثالت التّلامذة عليه، ومالت أعناق المستفيدين إليه، ومدح بقصائده الصّدور، وشرح بفوائده الصّدور. ضاع بها عَرْفُه، ولكن ضاع فيها عُرفُه؛ فإنّه غير مجدود بفضله، وكذا الزمان غدّار بمثله، والحُرّ فيه مضيّع، والكريم مودَّع.
لقيته يوماً بالجامع، في بعض المجامع، ضيّقَ الصّدر، متوزّعَ الفكر، مُطرقاً رأسه، مصعّداً أنفاسه. فسألته عن حاله، فأنشدني ما ذكر أنّه من مقاله:
هجَرتُ للعُدم كلّ خِدْنٍ ... وصرتُ للإنقباض خِدنا
فلا أعزّي ولا أُعَزّى ... ولا أهنّي ولا أهنّى
وكان أملى ديوان على الأخ الهمام، الأجلّ الإمام، فخر الدّين نجيب الإسلام، محمد بن مسعود القسّام، الذي هو باكورة العصر، في النّظم والنّثر. فكتبَه، وجمعه، ورتّبه. وقصائده التي أنشأها بالشام أجزل وأحسن مما أنشأه بالعراق. وقِدْماً قيل: اللَها تفتَه اللَّها، والبِقاع تغيّر الطباع.
وديوانه ضخم الحجم. لكنّي اخترت منه قصائد، وإن كان الكل فرائد.
ولما وصلت الى الشام، لقيته بالموصل، وقد غيّر زِيّه، وهو يلبس الأتراك، جليس الأملاك، قريباً من صاحبها بعيداً من مذهب النّسّاك.
وآخر عهدي به سنة سبعين.
فمن شاميّاته: قال يمدح الأمير حسام الدين، تاج الدولة، قطب الملوك، أبا سعيد تمرتاش بن إيل غازي بن أرْتَق؛ ويذكر ظفره بالفرنج بعد عوده من الشّام، وأنشدها إياه بماردين في شوّال سنة أربع وثلاثين وخمس مئة:
أطاعك فيما ساءَ حاسدَك الدهرُ ... ووالاك ما عادى مُعاديك العمرُ
ولا استعرتْ إلا بحملاتك الوغى ... ولا سار إلا تحت راياتِك النّصرُ
فأنت الذي أرضى عن الدهر قربَه ... وجمّلتِ الأيامَ أيامُه الغُرُّ
كرُمتَ فمنْ كعبُ السّماحِ وحاتمٌ ... وصُلتَ فمن زيدُ الفوارس أو عمْرو
ملوكُ البرايا أنجمٌ أنتَ شمسُها ... إذا الشمسُ ذرّت غابتِ الأنجمُ الزُهرُ
هو من قول النابغة:
وإنّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا طلعَتْ لم يبْدُ منهنّ كوكبُ
حويت حسامَ الدين كلّ فضيلةٍ ... سِواك لها طيٌّ وأنت لها نشرُ
فما ينتهي إلا الى كفّك الندى ... ولا يعزي إلا الى بيتك الفخرُ
سُطاً كلّما تابعتَها جزِعَ الرّدى ... ونُعمى متى فرّقتَها جُمِع الشكرُ
ونفسٌ كأنْ من طبعها خُلِقَ السّخا ... وبأسٌ كأنْ من حرِّه طُبِع الجمرُ
الأبيات الأربعة حقّها أن تكتب بذوب التّبر، على صفحة الدهر، وترقم بسويداء الفؤاد على سواد الحدَق، وترتاح لها النفوس ارتياحَ الرّياض للدّيمة الغدَق.
مناقبُ لا الغوثُ الذي شمخَتْ به ... على العُرْب طيٌ يدّعيها ولا النّضْرُ
أنالك ما أعيا سواك من العلى ... بهنّ الطِّعانُ الشّزْرُ والنّائل الغمْرُ
ومُقرَبةٌ شُقرٌ وماذيةُ خُضرُ ... وهنديةٌ حُمرٌ وخطيّةٌ سُمرُ
نُصولٌ إذا استمطرتَها ذرّتِ الطُلا ... وخيلٌ إذا استحضرتَها أطلم الفجرُ
معوّدةٌ ألا تجوسَ عمارةً ... فترجَلَ إلا وهي من سكنِها قفْرُ
هزمْتَ بها جيشَ العدوّ مجاهداً ... فعزّ بك الإسلامُ وامتهن الكفرُ

وروّيتَ بيضَ الهندِ من مُهَجاتهم ... فهنّ قَوانٍ من دمائِهمُ حُمْرُ
وهذه أيضاً في الغاية القُصوى والدّرجة العلي.
بقيّة من نجّاه من سجنِك الفِدا ... وأعتقه من سيف والدِك الأسرُ
تركت بأطراف اللُّقانِ جسومَهم ... تذُمّ من الأرماح ما يحمَدُ النّسرُ
ما أحسن ذكرَ الذمّ والحمد في هذا البيت!
وما عُدت مُذ عامين ثانٍ وأولٍ ... وما عاد عنهم من مَهابتك الذُعرُ
فإنْ غرَبَ النّجمُ الذي انقرضوا به ... فقد كشف الظّلماءَ من نجمه بدرُ
كان والد ممدوحه يلقّب بالنّجم. وقد سلك هذا الطريق قبلَه من قال:
فإن يكُ سيّارُ بنُ مُكرمٍ انقضى ... فإنّك ماءُ الوردِ إنْ ذهبَ الوردُ
رضعتم لُبان العزِّ يا آل أرْتَقٍ ... فلا دَرَّ إلا حيثُ كنتم لها دَرُّ
عُلىً شاد منها ما بنته جدودُكم ... قِراعُكُم من دونها الخيلُ والكرُّ
سحائبُ جذْبٍ لا يغبُّ لها حياً ... مُحاربُ حربٍ من جواشنها الصبرُ
قوله: من جواشها الصبر، يكاد يُذهب الألباب، ويعيد سماعه الى الشيخ الفاني عهدَ الشّباب!
مضوا لم يَضِفْ خبْلُ الغرامِ نفوسَهم ... ولم يخترقْ أخْراتَ أسماعِهم هُجْرُ
أي: لم يصر لهم ضيفاً.
ولم يذخَروا غير الصّوارم والثّنا ... كذا وأبي العلياء فليكنِ الذُخرُ
فإن يذهبوا مثلَ الغمائم مُثْنياً ... عليها بما أهدت له البدوُ والحضرُ
فقد لمّ أشتاتَ المكارمِ بعدَهم ... أغرُّ كريمُ الأصلِ فتكتُه بِكرُ
جوادٌ يخافُ المالُ سَورةَ جُودِه ... إذا رنّحته الأريحيّةُ لا الخمرُ
تملّكتَ يا قطبَ الملوكِ محامدي ... ورِقّي ولولا الطّوْلُ لم يُملَكِ الحُرُّ
وهبتَ العلى والمجدَ فيما وهبتَه ... فما العسجد القاني وما النّشَبُ الدّثرُ
هذه مدائح، لم تدرك شأوَها القرائح.
عطاءٌ لو انّ القَطرَ كاثرَ بعضَه ... لأصبح قُلاً عندَ أيسرِه القطْرُ
تعذّرَ إلا حين عُذْتُ بك الغنى ... وأقصر إلا عندَ مدحي لك الشّعرُ
أبى قدرُه أن يسترِقّ قِيادَهُ ... ويملكَهُ إلا مليكٌ له قدرُ
وقد زارَ منه البدرَ بدرٌ محجّبٌ ... وجاورَ منه البحرَ حين طما بحرُ
مديحٌ هو السّحرُ الذي فُتقَتْ به ... عقولُ الورى من قبلُ أو دونَه السِّحرُ
لقد أصاب شاكلة الصّدق، ونطق بالحقّ.
وإني لأرجو أن يفخمَ أمره ... من النّاس من أمسى له النّهيُ والأمرُ
فما لفقير ذيدَ عن نيله غنىً ... ولا لكَسيرٍ حاد عن ظلّه جبْرُ
وقال يمدحه، ويصف بعض حروبه؛ وعرض فيه بما جرى لجدّه أرْتَق مع مسلم بن قريش وقومه بني بَدران، وأنشده بمَيّافارقين من رجب سنة سبع وعشرين وخمس مئة:
سلْ بالكثيبِ سوانحَ الغِزلانِ ... أهي الموائسُ أم غصونُ البانِ
واحفَظْ من الألحاظِ لُبَّك إنّها ... شغلُ الخَليِّ ولوعةُ اللّهفانِ
تلك السيوفُ البيضُ تُسْمى أعيناً ... للبيض والأجفان كالأجفانِ
لقد وفّى التّشبيه حقّه لفظاً ومعنى.
منْ جازئات ظِباءِ وجْرَةَ من لها ... فتكاتُ ليثِ الغابِ من خَفّانِ
سعديّةٌ لولا هواها لم يشُقْ ... قلبي برامةَ منبِتُ السّعدانِ
يدنو المزارُ ودون حُمرِ قِبابِها ... لحظُ الرّقيبِ وهبّةُ الغَيْرانِ
ما للأقاربِ من ذويك تباعدوا ... حنقاً كأنهمُ ذوو شنآن
عُربٌ أضاعوا فيك ذِمّةَ جارِهم ... والعُرْبُ تحفظُ ذمّةَ الجيران
هذا من أحسن ما وقع للشّعراء في ردّ الأعجاز على الصّدور.
فُنفِيتُ من عدنانَ إن جازيتُهم ... إلا بخُزْرِ أسنّةِ المُرّان

متقدماً لجِباً يحلّقُ فوقَه ... مستبشراً لجِبٌ من العِقبان
خُذْ بالشهامة لا الكرامة أهلَها ... تردَعْ عِداك بها عن العُدوانِ
فالحزمُ أن تضَعَ العقابَ إذا فشا ... سرُّ المظالمِ موضعَ الغُفرانِ
فاق الشعراء في إيراد هذا المعنى في هذا المعرِض، مع أنّه سبق إليه الأستاذ الشّهيد مؤيّد الدّين أبو إسماعيل رحمه الله حيث يقول:
وما الجهلُ في كلّ الأمور مذمَّمٌ ... وما الحلمُ في كلّ المواطنِ محبوبُ
مع أنّه سبق إليه المتنبي:
ووضعُ النّدى في موضع السيف بالعُلى ... مُضرٌّ كوضع السيف في موضع النّدى
وهو أيضاً أخذه من قول القائل:
وبعضُ الحلمِ عندَ الجه ... لِ للذّلّةِ إذعانُ
وفي الشرّ نجاةٌ حي ... نَ لا يُنجيك إحسانُ
من سؤدَدِ الرّجلِ الكريمِ وفضلِه ... ما يستمرّ عليه من نقصانِ
يعني: من نقصان حالٍ ومال، وهي من فِقَر الحِكم.
لا يوكِسُ السيفَ الصّقيلَ غِرارُه ... شعْثُ القِراب إذا مضى الحدّان
هذا مأخوذ من قول إمامنا الشافعيّ المطّلبيّ، رضي الله عنه:
وما ضرّ نصلَ السيف إخلاقُ غِمدِه ... إذا كان عضْباً حيثُ أنفذتَهُ برى
ما أجهلَ المتوعّدي ومُهنّدي ... والنّهدَ من صحبي ومن أخداني
بين الهِجانِ وبين فتكي عزمةٌ ... تُدني الى نادي أغرَّ هِجانِ
الهِجان: جمع هجين، ولد الأمَة. والهِجان: الكريم.
حيثُ النّدى عذبُ الموارد رائقٌ ... للوارد المتهافتِ الظمآنِ
والحُجْبُ تُرفَعُ عن أسرّة ماجدٍ ... كالنّصْلِ لم يكهَمْ له غَرْبانِ
عن غُرّةِ التّاج الذي تعنو له ... غُرُّ الأماجدِ من ذوي التّيجانِ
عن خيرِ من يردي به متمطّرٌ ... في يوم مكرُمةٍ ويومِ طِعانِ
ملك متى هبطَتْ عروقُ أرومةٍ ... بمُمَلّكٍ بسقَتْ به العِرقانِ
عافت قِرى الكومِ الأواركِ نفسُه ... وقَرى الضّيوفَ خزائنَ العِقيان
وتحرّقت أسيافُهُ إذ فارقت ... أغمادَهنّ مفارِقَ الأقرانِ
وتشكّتِ الأرماحُ إذ غشيَ الوغى ... مما يدقّقهنّ في الأبدانِ
كم موقفٍ لك لو أراد توقّفاً ... فيه الرّدى زلّتْ به القدَمانِ
هذه اللّمعة الغرّاء، التي دونَها الجوزاء، لو كشفت وجهَها في أفق السماء، كسف منه القمران، واستنار به الثّقَلان.
طأطأتَ فيه الكفرَ بعدَ بُذوخِه ... ورفعتَ فيه دعائمَ الإيمانِ
ولو رام شاعر توقفاً في هذا الموقف، زلّت به القدمان.
جمعَتْ عليك به الفِرِنْجُ جموعَها ... وتفرّقتْ لمّا التقى الجَمعان
ظنّوك ما لاقَوْا فأبطل ظنّهمْ ... طعنٌ أحقّ مظنّةَ السِّرحانِ
بذوابلٍ أبدت أسنتُهُنّ ما ... أخفت قلوبُهمُ من الأضغانِ
كأنّه فارس الميدان، ومبارز الشُجعان.
ومُدَرّبينَ على القتال كأنّما ... شربوهُ وِلداناً مع الألبانِ
من كلِّ مشبوحِ الذّراع يهُزّهُ ... قرْعُ العوالي هِزّةَ النّشوانِ
نظروا الى البيضِ الخِفاف كأنّها ... بأكفّكم مشبوبةُ النّيرانِ
والخيلُ قد عادت وِراداً شُهبُها ... مما لبِسنَ من النّجيعِ القاني
يسبَحْن طوراً في الدِّماء وتارةً ... يركُضْنَ فوق جماجمِ الشّجعانِ
هذه الأبيات كأنّها بيوت للكواكب. المعاني في كلّ بيتِ نظم، بيتُ نجم، وفي ضمن كل عبارة إشارة لطيفة، وتحت كلّ كلمة فِقرة شريفة، أو درّة يتيمة، ما لها قيمة، أو كأنّها خزائن دفائن الضّمائر، وسفائن زواخر السّرائر.
في مأزقٍ ضنْكِ المجال كأنّه ... مغْنى المبخَّلِ أو فؤادُ العاني
هذا المعنى مغْنى الحسنات، وقلب معاني الأبيات.
ستر السّماءَ عجاجُه فسماؤه ... نقْعٌ وأنجمُهُ من الخُرصان

فالصبحُ مما سُلّ فيه واحدٌ ... والليل مما ثار فيه اثنانِ
والدهُ أخوفُ من به من فارس ... صبَّ الحِمام به على الفُرسان
إحسانُه للمجتدي وجنابُه ... للملتجي وذِمامُه للجاني
ناهيك يا قُطبَ الملوكِ من امرئ ... قطبَ النّهى بتنمّرِ الشّيْحانِ
تركت به الأعرابُ للتُرْكِ العُلى ... وتعلّلت بعُلالة السُقْبانِ
تخشى بوادرَهُ إذا ادّكرتْ له ... ما تمّ من دُكْر على بدران
أيامَ خفّضَ جدُّهُ من جدِّهم ... ما كان معتلياً على كيوانِ
أجرى دماءَهُمُ فسال بآمِدٍ ... منها ومن أمواهها مَدّانِ
تَهْمي على أعدائه وعُفاته ... بثوابه وعقابه سَجْلانِ
فسَحابُ ذاك بنانُه وسحابُ ذا ... تسديدُ كلِّ حنيّةٍ مِرْنان
أغليتَ كاسِدةَ المحامدِ فاغتدت ... بعدَ الكسادِ غواليَ الأثمان
ورفعتَ قدري عن ذويك مبجِّلاً ... حتى تمنّوا منك مثلَ مكاني
فاكفُفْ أياديَ لم أطِقْ شكراً لها ... هل فيّ غيرُ إطاقة الإنسانِ
أسرفتَ في الإحسان حتى ما أرى ... إحسانَك الضّافي من الإحسان
هذا - لعَمري - مع مبالغته في المدح، أشبه بسلوك طريق القدح. وليس من الإنصاف، نسبة الممدوح الى الإسراف، وهو ذمٌّ في الحقيقة. قال الله تعالى في ذمّ فرعون: (إنّه كان عالياً من المُسرِفين).
وقوله: ما أرى إحسنك من الإحسان، وإن كان في أقصى غاية الحُسن، لكنّه معزيّ الى نوع من الهُجَن؛ فإنّه تصريح بكفران النّعم، الذي لا يليق بالكرم. وهو إنّما شرع مشرع المتنبي حيث قال:
حتى يقول الناس ماذا عاقلاً ... ويقولَ بيتُ المل ماذا مسلما
لكنّ أبا الطّيب أضافه الى قصور في الناس، وهذا أضافه الى نفسه.
وأرى غرامي يقتضي فُرقةً ... هي والرّدى من قبحها سِيّان
فإن استفدتُ الربحَ عندَك بُرهةً ... فالربحُ قد يدعو الى الخُسران
ليَطُلْ مدى يومي القصير فما غداً ... إلا ردىً ألقاهُ أو يلقاني
أنأى وشخصُك في فؤادي شاهدٌ ... بالغيب حين يَغيبُ عن إنساني
يشير الى قول القائل:
إن كنتَ لستَ معي فالذّكرُ منك معي ... قلبي يراك وإن غُيّبتَ عن بصري
وتكادُ من حُبّيك كلّ جوارحي ... عند ادّكارِك أن تكون لساني
هذه القصيدة فريدة، رصّعت بها الكتاب، وخَريدة، أتحفت بمحاسنها الألباب، ولم أتجنّب مما أوردته منها الصواب، وراعبت حقّ الفضل، بالإطراء والعذْل، تحقيقاً لقضيّة العدل.
وهذه قصيدة أخرى، حقّها أن تحرّر بذوب اللُجين، على قرن الفرقدَين. مدح بها الأمير عز الدين، عماد الدولة، شرف الملوك، أبا العساكر، سلطان بن عليّ بن مُقلَّد بن مُنقِذ الكنانيّ؛ وأنشدها بشَيزَر سنة أربع وعشرين وخمس مئة:
لمعتْ وأسرارُ الدُجى لم تُنشَرِ ... نارٌ كحاشية الرّداء الأحمرِ
هذا مطلع، كأنّه للفجر مُطلِع.
وللأبيوردي - رحمه الله - مطلع قصيدة، وافق هذا في الوزن والرّويّ واللفظ، وسأكتبها في موضعها إن شاء الله:
لمعت كناصية الحِصان الأشقر ... نارٌ بمعتلِجِ الكثيبِ الأعفرِ
تخبو وتوقدها ولائدُ عامرٍ ... بالمندليّ على القنا المتكسّرِ
ولست أدري أيهما أحسن وأجود.
رجعنا الى قصيدة العامريّ:
فعلمت أنّ وراءَه من عامرٍ ... غيْرانَ يفرَح بالنّزيلِ المُقتِرِ
يا أخت موقِدِها وما من مَوقِدٍ ... فوقَ الثّنيّةِ والكثيبِ الأعفرِ
لسواي عندي من سوامِكُم قِرىً ... وقِراي قُبلة ناظرٍ أو مَحجِرِ
وللأبيورديّ من تلك القصيدة، نسج على منواله:
يا أختَ مقتحِمِ الأسنّة في الوغى ... لولا مراقبةُ العِدى لم تهجري
هل تأمُرين بزورةٍ من دونِها ... حدَقٌ تشقّ دُجى الظلامِ الأخضرِ
وللعامريّ منها:

فارعَيْ رعاك الله مُسعفةً به ... ضيفاً متى ما يُرْعَ يوماً يشكُرِ
وافى يؤمّكِ راكباً جُنْحَ الدُجى ... متقلّداً ضوءَ الصباحِ المُسفِرِ
أحسن الصنعة حيث شبّه أدهمَهُ بالدجى، وصارمَه بالصّباح، وإنْ طبعه في قالب الأبيوردي بقوله:
فلكم هززتُ إليك أعطافَ الدُجى ... وركبتُ هاديةَ الصباحِ المسفِرِ
والفضل للمتقدّم.
ومنها للعامريّ:
فالحُسن للحسناء نوءٌ مُقلعٌ ... لا تُحمَدُ الأنواءُ ما لم تُمطِرِ
أنا ذو علمْتِ بلاغةً ونباهةً ... بين الأنامِ فخرتُ أو لم أفخَرِ
لا تُعرَفُ الفحشاءُ في بيتي ولا ... تدنو الدّنايا من جلالة عُنصُري
صارمتُ إذ صارمتُ ألأمَ معشرٍ ... ووصلتُ حينَ وصلتُ أكرمَ معشرِ
ناسٌ إذا الدّاعي دعا لمُلمّة ... لبّاه منهم كلّ أغلب مُخدِر
غضبانُ نصّل بالسّماكِ قناتَه ... عزاً وأنعلَ طِرفَه بالمشتري
فلتعلمِ الأمراءُ أنّي بعدَها ... جارٌ لمولانا الأميرِ الأكبرِ
للمنقِذيّ أبي العساكرِ والذي ... هو وحدَه من نفسه في عسكرِ
من ذاتُه من جوهرٍ ويمينُه ... من كوثرٍ ونسيمُه من عنبرِ
من لا يَني يستصغر النُعمى إذا ... أعطاكَها عفواً وإن لم تصغُرِ
من لا تراه العينُ إلا خائضاً ... في عِثْيَرٍ أو صادراً عن عِثيَرِ
بأسٌ لمستعر الضِّرامِ وهمّةٌ ... علياءُ أنست همّة الإسكندرِ
ويدٌ لها في كل أرضٍ منةٌ ... إثْرَ الحيا في كلّ عامٍ أغبرِ
أما الزمانُ فقد عنت أملاكُه ... طُرّاً لمَلْكٍ لا يُضامُ بشيزَرِ
غَمْرُ الرِّدا جزْلُ العَطا غدِقُ النّدى ... ضافي التُقى، صافي العلى والمفخرِ
قد خفّتِ الدنيا عليه لعُظمه ... حتى لكادَ يُقلّها بالخِنصَرِ
وأراه صائبُ رأيِه في يومه ... ما كان في غدهِ الذي لم يقدرِ
وأنشدني مجد العرب لنفسه:
حمِدتُ رجالاً قبل معرفتي بهم ... فلمّا تعارفنا ندِمتُ على الحمدِ
إبائي الذي لم يُبقِ لي الدهرُ غيرَه ... أبى لي مُقامي بينهم ضائعَ المجدِ
إذا قلتُ دانت لي سما كلِّ قائلٍ ... وإن صُلْتُ هانت صولةُ الأسد الورْدِ
وإلا فجانبت العلاءَ ونكّبتْ ... جَنابَ عميدِ الملكِ خيلي على عمدِ
وأنشدني لنفسه:
صبرنا على أشياءَ منكم مُمضّةٍ ... وما كلّ أبّاء مَضيمِ بصابرِ
وكم قد حلُمنا قادرينَ عليكُمُ ... وما قدْرُ حِلمٍ لا يكونُ لقادِر
وله في عمَر المَلاّ بالموصل:
لا تُنكِرَنّ عليّ يا شمسَ الهدى ... أني مررتُ عليك غيرَ مُسلِّمِ
فالشمسُ لا تخفى ولكنْ ضوؤها ... مُخْفٍ له عن ناظر المتوسّمِ
وأنشدني لنفسه بأصبهان رُباعية:
مالي ولمن أطاع عذْلي مالي ... القلبُ لمن يلومُ فيه لا لي
لم يخطُر لي سلوّكم في بالِ ... من أقبح ما قيل محبّ سالي
وأنشدني لنفسه من قصيدة:
إن لم تمَلّ فقد ملِلْتُ من النّدى ... ومظنّةُ العجبِ النّدى المملولُ
وقوله، وقد احتجب عنه بعض أكابرها:
لا تحتجبْ عن قاصِديك فدون ما ... يرجون من جدْواك ألفُ حجابِ
وعلى محيّاك الشّتيم جهامةٌ ... تغنيك عن بابٍ وعن بوّابِ
وقوله:
وفاتنِ الخلْقِ ساحرِ الخُلُقِ ... منتطق حيثُ حلّ بالحدَقِ
خفتُ ضَلالاً في ليل طُرّته ... فنابَ لي وجهُه عن الفلَقِ
بات ضجيعي وبتّ معتنقاً ... لطيفَ كشْحٍ شهيّ مُعتنَقِ
وقد خفِيا عن الرّقيب فما ... نمّ بنا غيرُ نشرِه العَبِقِ
وقوله:

وأزهرَ مثلِ البدرِ قد طاف موهِناً ... عليّ بمثل الشمسِ من قرقَف الخمر
فوالله ما أدري وقد علّني بها ... أمن طرْفه أم من مُدامته سُكري
وقوله من قصيدة:
شاهرٌ سيفين مشتبِهٌ ... منهما ساجٍ ومصقولُ
فسلوه يُنبِ أيُّهما ... دمُه في الحيّ مطلولُ
لحظُه أم ما تقلّدهُ ... فكِلا العضْبَينِ مسلولُ
ومنها:
يا رفيقيّ الطِّلاءَ ففي ... ليلِ منْ نادمتُما طولُ
وقوله من أخرى:
ما كذا يامن ألِفتُهُمُ ... تهجُرُ الأحبابُ من ألِفوا
شدّ ما أغرى الملامُ بكم ... رفَقَ اللّوّامُ أو عنُفوا
كلّما لجّوا لججْتُ هوىً ... إنْ نمى عذْلٌ نمى شغَفُ
وبجسمي مَنْ كلِفتُ به ... والهوى عُنوانُه الكلَفُ
رشأ إنْ أنكرتْ يدُه ... ما جنى فالعينُ تعترفُ
غُصُنٌ أوفى به قمرٌ ... ضُمنَتْهُ روضةٌ أنُفُ
إن يعِبْ قومٌ به هيَفاً ... فالذي أهوى هو الهيَفُ
أو يكنْ في الحبّ منقصةٌ ... فهْيَ في حكمِ العلى شرفُ
وقوله في شكوى الزّمان وفراق الخلاّن:
في كلِّ يومٍ لي نحي ... بٌ قد علا في إثْرِ حِبِّ
حتى كأن الهمّ لم ... يُخلَق لقلب غير قلبي
يا دهرُ هل ألقاك مش ... هورَ السلاحِ لغيرِ حربي
أم هل يكرّرُ صرْفُك ال ... مذمومُ شرباً غير شربي
أقصيتَ أحبابي وهِضْ ... تَ قوادمي وفللْتَ غرْبي
حسْبي وما تُجدي على ... خضِلِ المدامعِ قولُ حسْبي
يكفيك خطبٌ واحدٌ ... إنْ كنتَ تقنَعُ لي بخطْبِ
وقوله:
سلمْتَ مما التقى السّليمُ ... يا جنّةَ دونَها الجحيمُ
سلبْتَ نومي وأيّ نومٍ ... يعرِفُ من صحبُه النّجومُ
أنت بقلبي وأنت أدرى ... بما به تصنَعُ الهمومُ
فاعطِفْ وكن سيّدي رحيماً ... لعاشقٍ ما له رحيمُ
أطعتَ فيه العَذولَ غدراً ... ولم يُطِع فيك منْ يلومُ
فكلّ دمعٍ له نجيعٌ ... وكل جفْنٍ به كُلومُ
ولم يكن مُسْقَماً ولكن ... أسقمه طرْفُك السقيمُ
وقوله في محبوب خائن، وحمل نفسه على السّلوّ عنه:
لما رأيتُ الغدرَ فيك سجيّةً ... ولمحْتُ منك أمارةَ الخوّانِ
ألزمتُ نفسي بالسّلوّ حميّة ... فسلَتْ وكانت صعبةَ السّلوانِ
والحُرّ يبعثُه على حُبّ الرّدى ... في الحبّ بعضُ مواقفِ الخِذلان
وقوله في الحثّ على التغرّب. ولما جمع شعره، حذفها من ديوانه:
ولا تجزَعْ لفُرقة من تُصابي ... ولو ردّتك أرديةُ السَّقامِ
فلولا الافتراقُ لما أصابت ... مَراميَها مُقَرطِسَةُ السِّهامِ
يَزيدُ الماء طيباً وهْو جارٍ ... ويفسُدُ غيرَ جارٍ في الجِمامِ
وقد سار الهلالُ فصار بدراً ... وكم أجلى مَحاقٌ عن تمامِ
وقوله في المعنى مما أثبته في ديوانه، وقد سار:
فارِقْ تجِدْ عوضاً ممن تفارقُه ... في الأرض وانصَبْ تُلاقِ الرّفْهَ في النّصَبِ
فالأُسدُ لولا فِراقُ الخِيسِ ما فرَسَتْ ... والسّهمُ لولا فراقُ القوسِ لم يُصِبِ
وقوله:
تُسهّلُ عندي كلّ صعبٍ أريغُهُ ... عزائمُ لا تمضي السّيوفُ كما تمضي
ويحسَبُني فوق السماءِ جلالةً ... عدوّي وضدّي إن مشيتُ على الأرضِ
وقوله:
ما استحسنَ الناس من أُكرومةٍ سلفتْ ... إلا رأوها على استحسانها فيكا
ولا تحلّوا بمعنى يُستحبُّ لهم ... إلا وكان مُعاراً من معانيكا
وقوله:
يا حاكماً ما مسلمٌ واحدٌ ... يسلَمُ من أحكامِه الجائرهْ
إحتَلْت للدُنيا فحصّلتها ... والرأيُ أن تحتالَ للآخرهْ
وقوله في دار الكتب التي بناها النّطنَزيّ بأصفهان، ونقضه مراراً وأعادها:

دارُ كتبٍ بغيرِ كتبٍ ومالٌ ... من ترابٍ أنفقتَه في تُرابِ
أنت في عامرٍ بزعمك منها ... واللّها كلَّ ساعةٍ في خرابِ
وقوله:
تركتُكِ للمُغضينَ فيك على القذى ... وأشفقتُ من لومِ اللوائم فيكِ
فإنّي وإنْ قلّبتُ قلبي على لظًى ... لأرفَعُ نفسي عن هوىً بشريكِ
وقوله:
وصفوكِ عندي بالنِّفارِ وما درَوْا ... أنّ النِّفارَ سجيّةٌ للرّيمِ
ورأوا مَشابِه منه فيك فقابلوا ... عِزَّ الخِلافِ بذِلّةِ التّسليم
وقوله:
إذا سُمتُما في سلوةٍ لم أُطعكما ... وإن سُمْتُما في الصبرِ كنتُ مطيعا
ومن أملي أنْ يسترقّكُما الهوى ... فننجو جميعاً أو نُصاب جميعا
وقوله:
تهنّ بالمولود واسعَدْ به ... يا أكرمَ الناسِ على الناسِ
ولو قبِلْتَ القصدَ من قاصدٍ ... جئتُ أهنّيك على الرّاسِ
وقوله:
تكلّفتَ إعطاءَنا مرةً ... فقلنا حبانا ولم يبخَلِ
وعُدْنا نُحاولُ منك الحقي ... رَ فعُدْتَ الى يومكَ الأوّلِ
وقوله يذمّ مدينة جَيّ:
على جَيَّ العَفاء لقد لقينا ... بها أشياء كنّا نجتويها
سكنّاها فكان الموتُ خيراً ... قُصارى حظّنا من ساكنيها
وكانت من بضائِعنا اللآلي ... ولكنْ لم نجِدْ من يشتريها
وهل فيها لإنسانٍ مقامٌ ... وأنتَ من الكِرام بها وفيها
وقوله:
يقدّمُ الدهرُ لا المساعي ... كلّ صغيرٍ على كبير
ولو علا الناسُ بالمزايا ... لم يعلُ خلقٌ على الأمير
وقوله:
طال وجْدي حتى ألِفْتُ بك الوجْ ... دَ وسُقمي حتّى ألفت السّقاما
وتجافى الملامَ قومٌ ومن حب ... ي لذكراك قد حبَيتُ الملاما
أشبهَ البدرُ منك وجهاً وحاكى ال ... غصنُ لمّا انثنيت منك قَواما
واستدمت الخلافَ رداً على منْ ... قال إنّ الرُضابَ يحكي المُداما
وقوله، وكتب بها الى الفقيه الموفّق محمد بن الحسن يشكره ويستعين به في أمر عند قاضي أصفهان:
خلاصاتُ المساعي للسُعاةِ ... وللمُعطينَ حظُّ الأُعطياتِ
وفي الإخوان خوّانٌ ووافٍ ... ولكنْ أنت من أوفى الثِّقاتِ
فقد أضحى لك اسمُ أبيك معنى ... أفاد وما المعاني كالسِّماتِ
وبعد الموت لا يُجدي متابٌ ... ولكنْ نفعُهُ قبلَ المماتِ
تملّكْ رِقّ أدعيتي وصرّحْ ... بأثنيتي على ملك القُضاة
وخلِّ أبا المكارمِ والعطايا ... فلم يُخلَقْ لغير المكرُماتِ
سحابٌ عمّ وابلُه البرايا ... وليس ينالُني بلُّ اللّهاةِ
وبدرٌ تُشرِقُ الآفاقُ منه ... ولكنّي به في داجيات
على جَيّ العَفاء فإنّ جَيّاً ... عفت فيها رسوم المأثُراتِ
تلاعبنا بناتُ الدهرِ فيها ... ومن عاداتنا وأدُ البناتِ
ويكفينا من الذّمّ اقتصارٌ ... على ما قالاه كافي الكُفاةِ
...... التي سبق ذكرها، وقال تكتب على هذا الوجه:
أثّر في وجهك النّعيمُ ... وطاب من طيبِك النسيمُ
وهوّن اللومَ فيك حسنٌ ... يلومُ في الحبّ منْ يلومُ
يا رحمة وهْو لي عذابٌ ... وجنّة وهْو لي جحيمُ
طرْفُك فيما أرى وجسمي ... كِلهما فاترٌ سقيمُ
وقوله:
كلِفْتُ به وقلت بياضُ وجهٍ ... فقيل أسأتَ فاكلَفْ بالنهارِ
فلما حفّ بالإصباحِ ليلٌ ... وعُذرٌ قام عُذري بالعِذار
وقوله:
أربى على سائر الرّجالِ ... تِربُ المعالي أبو المعالي
مهذّبُ النفسِ والسّجايا ... محسّدُ الفضلِ والكمالِ
يبدو لنا كلّما تبدّى ... منه سَنا البدرِ لا الهلال
وكلما حاور النّدامى ... قبلَ كرى تُنثَرُ اللآلي

عمّركَ اللهُ إنّ عمري ... منك فما للورى ومالي
يُذيلُ مالاً يصون عِرضاً ... ليس مَدى الدهرِ بالمُذالِ
وقوله:
مزجَتْ لنا الدنيا مُنىً بمَنون ... وسَطتْ فأخفت شدّةً في لينِ
فليرْفَعِ اليقِظُ المهذّبُ نفسَه ... عن رقدةِ المتغافلِ المغبونِ
وليغنَمِ الإمكانَ ندْبٌ عالمٌ ... أفضت إليه بسرّها المكنونِ
استروحَ المكروبُ مما شفّه ... من كرْبه بتأوهٍ وأنينِ
وأبى الفتى المصدورُ إلا نفثةً ... ما إنْ يَعيها غيرُ صدرِ الدّين
يقظانُ يسحبُ في ميادين العُلَى ... أذيالَ صبٍّ بالنّدى مفتونِ
وأغرّ تنتسبُ الزّكانةُ والحِجا ... منه الى ماضي الجَنان رَكينِ
يا سيّد العلماء إنْ عُدّوا ويا ... أوْلاهُمُ بالحمدِ والتأبينِ
قد خصّ جارَك جور عبدِك دهره ... بعدَ الغِنى وخصاصة بديونِ
بخِلَ الغَمامُ وجُدْتَ فاستغنى الورى ... عن جَوْدِ ساريةٍ بجودِ يمين
فلتحْمَدَنّ على جميل صنيعةٍ ... دهراً سخا بك وهْو جِدُّ ضَنينِ
ثم فرّق الدهر بيننا، وطالبتُ الأقدارَ بلقائه، فأبيْنَهُ. وعاد الى الموصل، ولقيته بها في سنة ستّ وستين. وآخرُ عهدي به فيها سنة سبعين وخمسِ مئةٍ.
المؤيّد الآلوسي
بغدادي الدّار. ترفّع قدره، وأثرت حاله، ونفق شعره، وكان له قبول حسن، واقتنى أملاكاً وعقاراً، وكثُر رياشه، وحسُن معاشه، ثمّ عثر به الدّهر عثرةً صعُب منها انتعاشه، وبقي في حبس أمير المؤمنين المقتفي بأمر الله أكثر من عشر سنين، الى أن خرج في زمان أمير المؤمنين المستنجد بالله سنة خمس وخمسين وخمس مئة عند توليته، من الحبس. ولقيته حينئذ، وقد عشي بصره من ظلمة المطمورة التي كان فيها محبوساً، وكان زيّه زيّ الأجناد.
سافر الى الموصل، وتوفّي - بعد ذلك - بثلاث سنين. وله شعر حسن غزِل، وأسلوب مطرب، ونظم معجب. وقد يقع له من المعاني ما يندر، فمن ذلك ما أنشدني له شمس الدولة عليّ، ابن أخي الوزير عون الدّين بن هُبيرة في صفة القلم:
ومثقّفٍ يُغني ويُفني دائماً ... في طورَي الميعادِ والإيعادِ
وهبَتْ له الآجامُ حين نشا بها ... كرمَ السّيولِ وهيبةَ الآسادِ
وله هذه الأبيات السائرة التي يغنّى بها:
لعُتبةَ من قلبي طريفٌ وتالدٌ ... وعتبةُ لي حتى الممات حبيبُ
وعتبةُ أقصى مُنيتي وأعزّ منْ ... عليّ وأشهى منْ إليه أثوبُ
غلاميّةُ الأعطاف تهتزّ للصِّبا ... كما اهتزّ في ريحِ الشّمال قضيبُ
تعلّقتُها طفلاً صغيراً وناشئاً ... كبيراً وها رأسي بها سيشيبُ
وصيّرتُها ديني ودنيايَ لا أرى ... سوى حُبِّها إنّي إذنْ لمُصيبُ
وقد أخلقتْ أيدي الحوادث جِدّتي ... وثوبُ الهوى ضافي الدّروعِ قشيبُ
سقى عهدَها صوْبُ العِهاد بجودِه ... ملِثٌّ كتيّار الفرات سكوبُ
وليلتنا والغربُ مُلقٍ جِرانَه ... وعودُ الهوى داني القُطوفِ رطيبُ
ونحن كأمثال الثّريّا يضمّنا ... ودادٌ على ضيق الزمان رحيبُ
وبِتّ أديرُ الكأسَ حتى لثغرها ... شبيهاتُ طعمٍ في المدام وطيبُ
الى أن تقضّى الليلُ وامتدّ فجرُه ... وعاودَ قلبي للفراقِ وجيبُ
فيا ليتَ دهري كان ليلاً جميعُه ... وإنْ لم يكن لي فيه منكِ نصيبُ
أحبّكِ حتى يبعثَ اللهُ خلقَه ... ولي منك في يوم الحسابِ حسيبُ
وألهَجُ بالتّذكارِ باسمِك داعياً ... وإنّي إذا سُمّيت لي لطَروب
فلو كان ذنبي أن أُديم لودّكم ... جنوني بذكراكم فلست أتوبُ
إذا حضرت هاجت وساوسُ مُهجتي ... وتزداد بي الأشواقُ حين تغيبُ
فوا أسفا لا في الدّنوّ ولا النّوى ... أرى عيشتي يا عتْبُ منك تَطيبُ

بقلبي من جُبيك نارٌ وجنّةٌ ... ولي منك داءٌ قاتلٌ وطبيب
فأنتِ التي لولاكِ ما بتّ ساهراً ... ولا عاودتني زفرة ونحيبُ
وطالعتُ في مجموع من مدائح المكين أبي عليّ، في دار كتبه بأصفهان للمؤيّد فيه قصيدة، أولها:
باحَ الغرامُ من النّجوى بما كتَما ... ولْهانَ لو عطَفَتْ سلمى له سلِما
مُغرىً بفاترةِ الألحاظِ فاتنةِ ال ... ألفاظِ يجلو سَنا لألائِها الظُّلَما
ترنو بعينَين نجلاوَين لحظُهما ... أعدى الى جسدي من سُقمِه السّقَما
وتستبيك برِيقٍ باردٍ شبِم ... أفدي بنفسي ذاك الباردَ الشّبِما
لولاهُ لم ينْمِ حرُّ الوجدِ في كبِدي ... وليس حَرّ هوىً إلا لبرْدِ لَمى
أستودعُ اللهَ في الأظعان ظالمةً ... أحبّها وألذُّ الحبِّ ما ظلَما
سارت وعقلي بها في الرّكبِ معتقَل ... يقودُه حبُّها بالشّوقِ محتزما
وأرسلتْ برسولٍ من لواحظِها ... مستورداً دمعيَ المهريّة الرُّسُما
هيفاء مصقولة الخدّين تحسَبها ... إذا مشت قبَساً في البيت مضطرما
تفترّ عن شنَبِ كالفجر مبتسماً ... والدُرِّ منتظماص والنجم ملتئما
ضنّت بوصلي وقالت في الخَيال له ... غِنىً وفي زورةِ الأحلام لو علِما
وكيف يطمَع مسلوبُ التّصبُّر لم ... يعرِفْ لذيذَ الكرى أن يعرف الحُلُما
ومنها:
ولي بعزّي لو أنصفته شُغُلٌ ... عن الدُّنا والعلى مُغرىً بغيرِهما
عينُ الصوارمِ والأرماحِ طامحةٌ ... الى وُرودي بها الهيجاءَ مقتحما
ومنها في المديح:
سماحةٌ تشدَهُ الضّيفانَ إنْ دهمَتْ ... غُبرُ السّنين وبأسٌ يُشبعُ الرّخَما
إذا تقاصرتِ الآمالُ مدّ لها ... يداً ببذلِ الأيادي تُخجِلُ الدّيَما
كفٌ متى بسطَتْ كفّ الزمانِ بها ... فأوجدت وُجدةً أو أعدمت عدما
لما رأى الدهرُ ما تجْني نوائبُه ... في الناس جاء به عذراً لِما اجترما
يُنبيك عن فضله ماء الحياءِ ومن ... ماء الفرِنْد عرَفْتُ الصارمَ الخَذِما
ذو همّةٍ تملأ الدّنيا محامدُه ... طيباً كما ملأ الدُنيا بها كرما
ومنها:
إسمَعْ غرائبَ شعرٍ يستقيدُ لها ... صعبُ المعادينَ إذعاناً وإنْ رغما
أثني عليك به حتى تودّ وقد ... أنشدتُه كلُّ عينٍ أن تكون فما
وما فضَلْتُ زُهيراً في قصائده ... إلا لفضلك في تنويله هرِما
وله، أنشدنيها ولده محمد:
ألمّ خيالٌ من لُمَيّاءَ زائرُ ... وقد نام عن ليلي رقيبٌ وسامرُ
سرى والدُجى مُرخي الذوائب حالكٌ ... فخيّلت أنّ الصّبحَ دونيَ سافرُ
وما زارني إلا ولِهْتُ وشاقني ... أوائلُ شوقٍ ما لهنّ أواخرُ
وسمراءَ بيضاءَ الثّنايا إذا مشت ... تسابقُها وطءَ التّرابِ الغدائرُ
تكامل فيها الحسنُ واهتزّ قدُّها ... كما اهتزّ مصقولُ الغِراريْنِ باترُ
قوامٌ كخُوطِ البانِ هبّت به الصَّبا ... قويمٌ ولحظٌ فاتنُ الطّرفِ فاترُ
إذا عذَلوا في حُبّها ووصفتُها ... فلا عاذلٌ إلا انثنى وهْو عاذرُ
تَزيدُ نفوراً كلّما زُرتُ صبوةً ... إليها على أن الظِّباءَ نوافرُ
وترنو بعينَي جُؤذرٍ من رآهما ... رأى كيف تصطادُ الرجالَ الجآذرُ
وثغر نقيّ كالأقاحي وريقة ... كأنّ الحَيا للخمر فيها مُخامرُ
وعهدي بها ليلاً وقد جئتُ زائراً ... إليها كما يأتي الظِّماءُ العواثرُ
وبدرُ الدُجى يُغري بها كلّما ابتغت ... إليّ وصولاً والبدورُ ضرائرُ
وإني لتُصبيني إليها صبابةٌ ... تُراوحُني في حبّها وتُباكرُ

على أنّني خُضت الرّدى ولقيُها ... لِقاءَ محبٍّ أعجلته البوادرُ
وعاتبتها حتى الصّباحِ وحولَها ... ميامنُ من نُظّارِها ومياسرُ
فأصبحتُ ما بين المطامحِ والأسى ... فلا الوصلُ موجودٌ ولا القلبُ صابر
أميّاسةَ الأعطافِ عطْفاً على شجٍ ... هواكِ له ما شئتِ ناهٍ وآمرُ
يَبيتُ كما بات السّليمُ من الجوى ... ويُصبحُ كالمأسورِ عاداهُ ثائرُ
أصخْتِ لأقوالِ الوُشاةِ فبِعتِني ... وبائعُ مثلي يا لُميّاءُ خاسرُ
وهدّدني أهلوك فيك وإنّني ... لتَصغُر عندي في لِقاك الكبائرُ
ولده محمد بن المؤيّد
شابٌ ذكيّ. له شِعر حسن. ولو عاش، فضَل والده نظماً وذكاء. هاجر الى الملك العادل نور الدين بالشام، وأقام في خيمتي بالعسكر، سنة أربع وستّين وخمس مئة، وكنّا في صرْخَد، فمرِض، فنفّذناه الى دمشْق فتوفي في الطريق بضيعة يقال لها رشيدة.
وله ما أنشدنيه لنفسه، وكان نور الدين - رحمه الله - سامه أن يتوجّه الى مصر مع العساكر الذين جهّزهم إليها، وكتب بها إليه:
أيها العادلُ الذي ملأ الأرْ ... ضَ عطاءً غَمراً وأمناً وعدلا
لم أسِرْ طالباً سِوى فضلِك الضّا ... في وحاشايَ لا أصادفُ ظِلاّ
لستُ أرضى من بعدِ ظلِّ إمامِ ال ... حقّ ظلَّ الدّعيّ حاشا وكلاّ
ظِلَّ قومٍ إذا تسنّنتُ فيهم ... سحَبوا لي كُمّاً وزيقاً ورجلا
كلّ هذا إذا سلمْتُ ولا أو ... ثَقُ أسراً ولا أُبَضّعُ قتلا
في يدَيْ كافرٍ إذا قلت فيه ال ... شِعرَ سهلَ المعنى وأعربتُ جزْلا
لم يرقّقْه لي ولم يُعطِ إلا ... حِمل صخرٍ على اليديْن ونقلا
ثمّ إنْ عدتُ بعد ذاك الى بغ ... دادَ صادفتُ ثمّ سجناً وغُلاّ
كيف فارقتهم وصرت الى قو ... م يرونَ الحرامَ في الرّفضِ حِلاّ
فاجبُرِ اليومَ منعِماً قلبَ عبدٍ ... مقبلِ العمر حظّه قد تولّى
هو في العسكر المظفّر يُفني الدم ... عَ شُرباً ولحم كفّيهِ أكلا
لا استردّ الإلهُ منك الذي أع ... طى ولا ذُقْت بعد أمنِك عزلا
وله يهجو أبا المعالي ابن الذّيدان، وكان أصله يهودياً في دمشق، وكان قد وصل شِطرَنجي آخر يقال له ابن أبي زِنبيل:
فتى الدّندانِ قد جا ... ءك منْ يقلَعُ دنْدانَكْ
ومنْ يصفَع جالو ... تَك بالنّعل وحزّانَكْ
فتى الزِّنبيل بالزِّن ... بيلِ قد خدّر آذانَكْ
فإن عُدْتَ تُماريه ... وإنْ أكثرت بُهتانكْ
فما يلعَبُ بالحظّ ... ولا يقبلُ فِرْزانَكْ
وسبب ذلك وصول أبي الرضا بن أبي زِنبيل الى دمشق، وادّعى أنه يغلب ابن الذّندان، وطلب مجاراته في حلبة اللّعب بين يدي السلطان، فأبى أن يلعب معه إلا بحظّ الفِرْزان.

الكامل أبو عبد الله
الحسين بن أبي الفوارس
قرأت بخطّ أبي المعالي الكتبيّ، وأنشدني أيضاً، قوله:
صَبا الى اللهوِ في هُبوب صَبا ... وقال قُمْ فالصّبوحُ قد وجَبا
ها أنجمُ الصبحِ من مخافتها ... مِيلٌ الى الغرب تطلبُ الهرَبا
وأدهمُ الليلِ كلّما حاولَ ال ... حُظوةَ من أشهبِ الصّباح كبا
والدّيكُ قد قام في مُمزّجةٍ ... شمّر أذيالَها وشدّ قَبا
يَصيحُ إما على الدُجى أسفاً ... منه وإمّا على الضُحى طربا
وقوله:
وأغيدٍ خِلتُه والكأسُ في يده ... بدراً يُسيّرُ شمساً في دَياجيه
أدارها فظننتُ الشرقَ في يده ... وعبّها فحسِبتُ الغربَ في فيهِ
لو رأيتَ اللِّحاظَ تُنزلُ غدري ... يومَ ذي الأثلِ كنتَ تمْهَدُ عذري
منها:
إنّما فاتكَ الهوى فتعجّبْ ... تَ لكوني أسري له تحت أسري
وقوله:

إشربْ فقد جادتِ الأوقاتُ بالفرح ... وأتحفتنا بأسبابٍ من المِنَح
من كفِّ ظبيٍ تخيّلناهُ حين بدا ... يحثّ في شربنا والديكُ لم يصِحِ
بدراً يُناولنا في الليل من يده ... شمساً من الرّاحِ في صبحٍ من القدحِ
أبو عليّ الفرج بن محمد بن الأخوة
المؤدّب البغدادي. من الشعراء المشهورين، مشهود له بالفضل الوافر، وحدّة الخاطر، واختراع المعاني الأبكار، وافتراع بنات الأفكار. كان أوحد عصره، في نظمه ونثره. سلس اللّفظ، رائق المعنى، سلس الأسلوب، ذو الدُرّ الجَلوب، والبِشر الخَلوب.
توفّي يوم الجمعة، رابع عشر جمادى الآخرة، سنة ستّ وأربعين وخمس مئة.
أنشدني الشيخ أبو المعالي الورّاق، قال: أنشدني أبو عليّ بن الأخوة لنفسه، وقد قصد بعض الرؤساء، فاحتجبه:
شكري لمحتجبٍ عنّي بل سببِ ... خوفاً من المدحِ شكرُ الروضِ للسّحبِ
أعادني والمحيّا ما أُريقَ له ... ماءٌ وخلّصني من كلفةِ الكذبِ
وله في غلام نصراني، علي ثوبٌ أحمر:
ومُزنّر فتنت محاسنُ وجهِه ... إذ زار في ثوب كلون العندمِ
ما زال يجهَد في هلاك حُشاشتي ... متعمّداً حتى تسربلَ من دمي
عاتبتُه يومَ الفِراق فقال لي ... أنا لا أرى رَعْيَ الذِّمامِ لمسلمِ
وله من قصيدة في شرف الدين أبي القاسم عليّ بن طراد الوزير، الزّينبي:
أقولُ لأحبابي وللعيسِ وقفةٌ ... وللبينِ فيما بيننا نظرٌ شزْرُ
هَبوني لعينٍ مات فيكم رُقادُها ... فليس له فيها حياةٌ ولا نشْرُ
لقد بلغتْ منّا النّوى ما تُريده ... وفرّقَ ما بيني وبينَكمُ الدّهرُ
بكيتُ على عصرِ الشباب الذي مضى ... بكاءَ لَبيدٍ ضمّ أرْبدَهُ القبرُ
فأثمر دمعي بالغرام كأنّما ... عليه لسِيما دمعه ورقٌ خُضرُ
ومنها:
إذا شرفُ الدّين استثار مدائحي ... تيقّنتُ أنّ الزّهرَ يُنبتُه القَطرُ
يملّى من الأيامِ والمجدِ والعلى ... مكارمُه شفْعٌ ومحتدُه وِترُ
وأدنيتَني حتى رفعتَ مكانتي ... كذاك بناتُ البحرِ موضعها النّحرُ
إذا ما رجا الإنسانُ عمراً لنفسِه ... رجوتُ لنفسي أن يطولَ لك العمرُ
ومنها:
نوالُهمُ في عاجلِ الحالِ لي غنىً ... وحبُهُمُ في آجلِ الأمرِ لي ذُخرُ
إليك ابنَ أعراقِ الثرى من قلائدي ... فرائدَ لا ينشقّ عن مثلِها البحرُ
قصائدُ تأتيكُم بكلّ غريبةٍ ... وكلّ مديحٍ دون مسموعِها هُجرُ
دقيقُ المعاني فيكمُ غيرُ ضائع ... كذا في دقيقِ السّلك ينتظمُ الدُرُّ
تحيّر فكري في القَريض فما درى ... أشعريَ فيك الوصفُ أم وصفُك البدرُ
وله:
خُذْ من شبابِك نوراً تستضيء به ... فالشّيبُ إصباحُه في اللّهوِ إمساءُ
العمرُ عينان عينٌ منه مبصرة ... مع الشّبابِ وعينُ الشّيبِ عمياءُ
وربّ ليلٍ مريضٍ كنتَ صحّتَه ... عزّت أواسيهِ أو عزّتْه أدواءُ
يسيرُ فيه وفي قلبي أذىً وضنىً ... كأنّني دلَجٌ والسّوءُ إسراءُ
والشّهبُ ثغْرٌ وآفاقُ الظّلامِ فمٌ ... والقذْفُ لفظٌ وضوءُ الماءِ سحْناءُ
حتّامَ عينُك ما تنفكّ جاريةً ... ماءً ومُقلتُها بالبرقِ قمْراءُ
تضرّم البرقُ فيها وهي باكيةٌ ... كأنّها قبَسٌ من حولِه ماءُ
وله:
يا حاملَ السّيفِ الصّقيل مجرّداً ... في جَفنِه المعشوقِ لا في جفنِهِ
اللهَ في كلِفِ الفؤادِ كئيبِه ... والنارُ بين ضُلوعِه من حُزنِه
وسجنتَهُ في ناظريك تعمُّداً ... لتُميتَه وحويته في سجنِه
وله:
ولما أسرّتْ بالوَداعِ وقد دنت ... إليّ ودمعي في ثرى الأرضِ واقعُ
هو الدرّ لما أودعته بلفظِه ال ... مسامعَ ألقتها لدَيها المدامعُ

وله في وصف فرس أغرّ محجّل، وقد أجاد:
لبِس الصُبحَ والدُجُنّةَ بُرْدَيْ ... نِ فأرخى بُرْداً وقلّص بُرْدا
هذا البيت أنشدنيهِ غيرُ واحدٍ عنه.
وله:
وإنّ شباباً للغواني مُسالماً ... الى النّفس خيرٌ من مشيبٍ مُصانعِ
تفرّقتِ الألاّفُ والحُبّ واحدٌ ... كما الأذُن أذنٌ وهْي شتّى المسامعِ
وله:
خليليّ صبغُ الليلِ ليس يحولُ ... وما للنّجومِ الطّالعاتِ أفولُ
خليليّ قُوما فانظُرا هل لديكما ... لقلبي الى قلب الصّباحِ رسولُ
لعلّ به مثلَ الذي بي من الهوى ... فتُخفيه عنّي دِقةٌ ونُحولُ
ولما التقينا بين لُبنان فالنّقا ... وقد عزّ صبرٌ يا أميْمُ جميلُ
ولاحت أماراتُ الوداعِ وبيننا ... أحاديثُ لا يشفى بهنّ غليلُ
بكيتُ الى أنْ حنّ نِضْوي صَبابةً ... ورقّ وَجيفٌ للبُكا وذَميلُ
وقال الهوى للبَين فيه بقيةٌ ... وقال الغواني إنّه لقَتيلُ
وأنشدني الشيخ أبو المعالي الكتبيّ، قال: أنشدني أبو عليّ بن الأخوة لنفسه:
أنا الحمامة غنّت في فضائلكم ... فكيفَ أرحلُ عنها وهْيَ بستانُ
أخذه من قول ابن الهبّارية:
المجلسُ التّاجيّ دام جمالُه ... وجلالُه وكمالُه بستانُ
والعبدُ فيه حمامةٌ تغريدُها ... فيه المديحُ وطوقُها الإحسانُ
وله:
وشاعر تخدُمُه الأشعارُ ... له القوافي العونُ والأبكارُ
فُرسانُه قد أنجدوا وغاروا ... في كلّ غارٍ لهمُ مَغارُ
ومنها في غاية اللطف:
أينَ أُهَيلوكِ الألى يا دارُ ... يبقى الأسى وتنفَدُ الأوطارُ
وقرأت بخطّ السّمعاني أبي سعد: أنشدني الفرج بن أحمد لنفسه:
ما لي وللدّهر لزّتْني إساءتُه ... كما تُلزّ الى الجرباءِ جرباءُ
أساوِدٌ من مساويه تُناقشني ... إن فُهْتُ بيضاء فاهت منه سوداءُ
والحظّ يرفعُني طوراً ويخفضُني ... كأنّني من قَوافٍ وهْوَ إقواءُ
وبخطّه: أنشدني لنفسه من قصيدة:
نعم هذه الدارُ والأنعُمُ ... أتُنجدُ يا قلبُ أم تُتهِمُ
وقد يستفيقُ هوىً لا يُفيقُ ... ويشقى الفتى مثلما ينعَمُ
وقفنا وقد ضرعَتْ للنّوى ... مدامعُ لو أنّها ترحَمُ
وفوق الرِّكابِ غُلاميّةٌ ... كما ذُعِر الشّادِن المِرجَمُ
تصابِحُ روضاً كأنّ الحبي ... رَ والوَشْيَ من حوْكه يُرقَمُ
بكت لؤلؤاً كاد لو أنّه ... تماسَك في جيدِها يُنظَمُ
وشتان ما بيننا في البكا ... ودمعُك ماءٌ ودمعي دمُ
فقالَ الهوى لدواعي الغرا ... مِ إنّ بنا هلَكَ المغرَمُ
من الرّكْبِ تلوي سناتُ الكرى ... رقابَهمُ كلّما هوّموا
يناجون بالمُقَل الفاترا ... تِ سماءً مسامعُها الأنجمُ
يقصّون من لفَظاتِ الجفو ... نِ أحاديثَ لو أنّها تفهمُ
وله من قصيدة:
دمي الذي صار مسكاً في نوافجها ... فكيفَ تنفِرُ عنه وهْيَ غِزلانُ
ومنها:
روضاتُ حسنِك في عينيّ مونِقةٌ ... تسقى بماء جفوني وهْيَ صِنْوانُ

مقدار بن بختيار أبو الجوائز المطاميري
شاعر الدولتين: المستظهرية، والمسترشدية. ومدح صدَقة. وكان له قبول عند الأماثل، خاصّة عند جمال الدولة إقبال الخادم المسترشديّ.
أبو الجوائز مقدار ساعده المقدار في الأمور، ورُزق جوائز الأكابر والصدور.
وسمعت أنّه كان يحبّ الخمول، ولم يزل خلَق الثّياب.
شعره رقيق، بالثّناء عليه حقيق.
وقد سارت له هذه القطعة، أنشدنيها، وهي:
ومجدولةٍ مثلِ جدْلِ العِنانِ ... صبوتُ إليها فأصبَيْتُها
إذا لام في حبّها العاذلا ... تُ أسخطتُهُنّ وأرضيتُها

كأنّي إذا ما نهيتُ الجفونَ ... عن الدّمع بالدّمع أغريتُها
فلو أنّني أستمدّ البحورَ ... دموعاً لعينيَ أفنيتُها
ولو كان للنّفسِ غيرُ السّلوّ ... عنكِ دواءٌ لداويتُها
وأخبرنا الشيخ أبو الحسن عليّ بن أحمد بن الحسين بن اليزْدي فيما أجازه لنا، قال: أنشدني أبو الجوائز:
سرّ هوىً لم يذِعِ ... لولا وُشاةُ أدمُعي
ينشُرن من داءِ الغرا ... مِ ما طوته أضلُعي
قالوا جزِعْتَ والفِرا ... قُ آمري بالجزَعِ
حتى استسرّ آفِلاً ... كلّ منيرِ المطلَعِ
أنجدَتِ الدارُ بهم ... وأتهمَ الوجْدُ معي
لم يكُ عهدي بالحِمى ... أوّلَ عهدٍ ما رُعي
ولا وقوفي سئلاً ... ذاتَ خشوعٍ لا تعي
كم شفَع الوجدُ بها ... من أنّةٍ بمصرعي
لا رام قلبي سَلوةً ... عن ريم ذاك الأجرَعِ
ولا أصاخَ سامعاً ... للعذْلِ فيه مسمعي
لهفي على رُضابِه ... والبرَدِ الممتِّعِ
لهفَ العطاشِ حُوّماً ... على بَرودِ المشرَعِ
يا ليتَ إيماضَ البُرَيْ ... قِ عن يمين لَعْلَعِ
لما بدا اختلاسُه ... لناظري لم يلمَعِ
فلم أشِمْ وميضَهُ ... لمّا أقضّ مضجَعي
وساجعٍ لولا اغترا ... بُ إلفِه لم يسْجَعِ
يدعو فيستدعي الهوى ... لكلّ قلبٍ موجَعِ
وله في غلام أمرد، مجروح الخدّ، وأحسن:
وأغيدٍ تخجلُ شمسُ الضُحى ... من وجهه والغصنُ من قدّهِ
جرّد سيفَ اللّحظِ من جفْنه ... فعادَ بالجرحِ على خدّه
وله في العِذار، وأغرب:
وكأنّ خيطَ عِذارهِ لما بدا ... خيطٌ من الظّلماء فوقَ صباحِ
وكأنّ نملاً قيّدت خُطُواتِه ... في عارضيْهِ فدبّ في الأرواح
هذا في رقّة الماء الزُلال، ودقّة السحر الحلال.
وأنشدني أبو الفتح نصر الله بن أبي الفضل بن الخازن لمقدار بن المطاميري:
إنْ حالَ في الحبِّ عما كنتُ أعهدُه ... وباتَ يرقدُ ليلاً لست أرقدُهُ
فلا طويتُ الحشا إلا على حرَقٍ ... يبلى من الصّبرِ عنهُ ما أجدّدُهُ
يا عاذلي إنّ يومَ البيْن ضلّ هوى ... قلبي المُعنّى فقل لي أين أنشدُه
زار الخيالُ طَليحاً طالما أنِسَتْ ... جُفونُه بالكرى أو لانَ مرقدُه
ألاً به زائراً تُدنيه من جسدي ... ضمائري وخُفوقُ القلبِ يُبعدُه
وله في امرأة طويلة الذّوائب:
وفَينانةِ الفرْعِ فتّانةٍ ... تُطيلُ على الهجْرِ إقدامَها
تعجّبَ من مشيِها شعرُها ... فقبّلَ في المشي أقدامَها
وله:
لقد سلبَتْ عقلي الغداةَ وليتَها ... غديّةَ بانَ الحيُّ لم تستلبْ عقلي
أرى العذْلَ يحلو عندَ سمعي لذكرها ... وإن كان لا شيءٌ أمرّ من العذلِ
وله، وقد ألمّ فيم ببيتيْ ابن حيّوس:
قرائنُ لا فَضَّ الزمانُ اجتماعَها ... ولا اخلفتْ ما راعَ أمنَ الدُجى فجرُ
عُفاتُك والجدوى وقدرُك والعلى ... وعدلُك والدنيا ووجهُك والبِشرُ
وبيتا ابن حيّوس، هما:
ثمانيةٌ لم تفترقْ مُذْ جمعتَها ... ولا افترقتْ ما ذبّ عن ناظرٍ شفْرُ
يقينُك والتّقوى وجودُك والغِنى ... وهمّكَ والعليا وعزمُك والنّصرُ
وحكي عنه: أنّه كان واقفاً عند سيف الدولة صدَقة المزْيَدي، والقائد أبو عبد الله السِّنْبِسيّ يُنشده قصيدته التي منها:
فعُدنا وقد روّى السلامُ قلوبَنا ... ولم يجرِ منا في خروقِ المسامعِ
ولم يعلَمِ الواشونَ ما كان بيننا ... من السرِّ لولا ضجرةٌ في المدامعِ

فطرِب لها سيف الدّولة، وما ارتضاها مقدار، فقال سيف الدولة: يا مُقَيدِيرُ، ما تقول؟ قال: أقول خيراً منه. قال: أخرج من عهدة دعواك. فأنشد مقدار في الحال هذه الأبيات على الارتجال، وهو سكران، وهي:
ولمّا تناجَوا للفراق غديّةً ... رمَوا كلّ قلبٍ مطمئنّ برائعِ
وقفنا ومنّا حنّةٌ بعدَ أنّةٍ ... تقوِّمُ بالأنفاسِ عوجَ الأضالعِ
مواقفَ تُدمي كلّ عشواءَ ثرّةٍ ... صَدوفِ الكرى إنسانُها غير هاجعِ
أمِنّا بها الواشينَ أن يلهَجوا بنا ... فلم نتّهم إلا وُشاةَ المدامعِ
وأعطاني سديد الدولة بن الأنباريّ قصيدة لمِقدار فيه، في دَرْج بخطّه، فنقلتها منه. وهي:
أهدى خَيالاً الى خيالِ ... محكِّمُ الهجْرِ في وِصالي
فبات زُورُ الكرى يُريني ... مقتنصَ الأُسدِ في حِبالي
يا ليلةً ساعفتْ مَشوقاً ... فداءُ ساعاتِك الليالي
أعطيتِ كل المُنى فشكراً ... لِما توخّيتِ من فَعالِ
وفي قِباب الرِّكابِ بدرٌ ... تاهَ جمالاً على الجمالِ
هزّ قضيباً على قضيبٍ ... رغّب في الوجْدِ كلّ سالي
كم راعني في الصّباح غدراً ... وفي ظلام الدُجى وفَى لي
إذا رنا من كَحيل طرْفٍ ... أغزلَ من مُقلةِ الغزالِ
أرخصَ قتلَ النّفوسِ عُجبً ... وهي على غيره غَوالي
في خدّه للجمال خالٌ ... قلبي من الصّبر عنه خالي
علّمني حُسنُه خضوعاً ... علّمهُ عِزّةَ الدّلالِ
يا صاحبي والأبيّ منْ لا ... يُخطِرُ خوفَ الرّدى ببالِ
كم يأكلُ الغِمدَ غرْبُ ماضٍ ... يَغْنى بغربَيْه عن صِقالِ
ويشتكي والشّكاةُ مما ... ينوبُ عارٌ على الرّجالِ
الفخرُ في كسبك المعالي ... والمجدَ ما الفخرُ كسبُ مالِ
قد أمِنَتْ من خطوبِ دهري ... جوانحي عائرَ النِّبالِ
أو ينتحيني الزّمانُ كيداً ... يُعيرُ إقدامه احتمالي
واليومَ أعطى الأمانَ سرْبي ... من طُلسِهِ والقُوى حبالي
لما تفيّأتُ ظِلّ عزٍّ ... غيرَ مُصيخٍ الى انتقالِ
وعاد هَضْبي عن اللّيالي ... أمنعَ من أعصم الجِبالِ
تستغرقُ السّهمَ لي حِذاراً ... يا نابلَ الدّهرِ عن نِصالي
إنّ ابنَ عبدِ الكريم أحيا ... بجوده أعظُمي البوالي
خوّلني أنعُماً جِساماً ... تصونُ وجهي عن السُؤالِ
ونائلاً يفضُلُ الغوادي ... فضلُ يمينٍ على شِمالِ
فما أُبالي أضنّ بُخلاً ... أم جاد بذلاً أخو نَوالِ
يا راكباً يقطعُ الفَيافي ... وخْداً بمأمونة الكَلالِ
ناجيةً تقصُرُ الموامي ... ذَرعاً على الأذرُع الطِّوالِ
كأنّها مُعصفٌ طَلوبٌ ... تشرَعُ في عاصفٍ شمالِ
تبغي النّدى والنّدى مُباحٌ ... حيثُ اطمأنّت به المعالي
عندَ أمينِ الملوكِ أمنٌ ... لناشدِ الجودِ من ضلالِ
لاذَ بنُعماهُ حسنُ ظنّي ... فآلَ منه الى مآلِ
فانتاشني ناشطاً عِقالي ... وراشَني مُحسناً لحالي
وعمّني سَيْبُ راحتَيْه ... لأنّه خصّ بالكمالِ
مؤيّدَ الدّين دُمْ لعافٍ ... أشرفَهُ الدهرُ بالزُلالِ
ناجاك عن كاهلٍ طَليحٍ ... عجّ بأعبائه الثِّقالِ
فاستنقذْتهُ من اللّيالي ... يداك بالأنعُم الجِزالِ
واستجلِ غرّاءَ بنتَ فكرٍ ... تُزَفّ معْ غُرّة الهلالِ
تَزينُ ألفاظَها معانٍ ... تُلهي مَلولاً عن المَلالِ

تضوعُ أنفاسُها فيُنسي ... نسيمُ أنفاسِها الغَوالي
كأنّ كلّ القلوبِ قلبٌ ... صَبا الى سحرِها الحلالِ
تسهُلُ ألفاظُها ولكن ... غايتُها صعبةُ المَنالِ
تضمَنُ أمثالُها التّهاني ... لمُعوِزِ الشِّبهِ والمثالِ
ما كرّ عامٌ عَقيبَ عامٍ ... بلا انتقاصٍ ولا زوالِ
ونقلتُ من مجموع قصائد في مدح جمال الدّولة في الأيّام المسترشدية، منها:
أذالَ صونَ أدمعي في الدِّمَنِ ... حبسُ المطيِّ بعدَ بيْنِ السّكَنِ
أنشُدُ قلباً مُتهِماً أضلّه ... مُنجِدُه عنه شموسُ الظّعُنِ
وفي القِباب غادةٌ محجوبةٌ ... بالصّافناتِ والعوالي اللُّدُنِ
إن نظرت أراك رئماً طرْفُها ... أو خطرَتْ أرَتْك قدّ الغُصُنِ
تبسِمُ عن ذي أُشُر رُضابُه ... صهباءُ شُجّتْ بضَريب المُزَنِ
وإن رنت فمُقَلٌ عُذريةٌ ... تُقيمُ في الأحياء سوقَ الفِتنِ
يعذُبُ لي فيها العذابُ والهوى ... يحسُنُ فيه كلّ ما لم يحسُنِ
كم فرّقتْ من جلَد وجمعت ... يومَ النّوى بين حشا وشجَنِ
لِظاعِنِ الصّبرِ حواه قاطنٌ ... مستأنسُ الدمعِ نَفورُ الوسَنِ
ماذا على ذات اللّمى لو نقعَتْ ... ببرده غُلّةَ قلبي الضّمِنِ
آهٍ لإيماض البُرَيْقِ كلّما ... عنّ لعيني موهِناً أرّقني
وللنّسيم الحاجريّ كلّما ... صحّ سُرَى هبوبه أمرضني
هذا اللِّوى وذاك عذبُ مائِه ... إن لم تذُدٌ عنه فرِدْه واسْقِني
يدلّ أنفاسُ الصّبا طَليحَه ... عليه والعاذلُ قد أضلّني
يزعُمُ أنّ لومَه نصيحةٌ ... وهْوَ بها مُناصحاً يغُشّني
يا حاديَ العِيسِ وراءَ عيسِكم ... قلبٌ يُلَزُّ والشّجا في قرَنِ
دُلّوا على جَفني الكَرى لعلّه ... على خَيالٍ منكم يدُلّني
ليتَ حُلولاً باللِّوى تحمّلوا ... من الضّنى ما حمّلوه بدَني
أعذِلُ فيه كبِداً مشعوفةً ... على السُلوّ عنهمُ تعذلُني
يُنكرني الدّهرُ وسوفَ أمتطي ... غاربَ يومِ أيْوَمٍ يعرِفُني
أشرفَ بي حتى إذا تنسّمت ... هضابَهُ أخامِصي أزلّني
كم خفيت عنّي الأسودُ خيفةً ... فاليومَ كلّ أغضَفٍ ينبَحُني
مالي أغالي في الصّديق تائهاً ... وهْو على سوْمِ العِدا يُرخصُني
يفوِّقُ السّهمَ وسهمي أفوقٌ ... غدراً على بِرّي له يعُقّني
فما أُبالي والوفاءُ شيمتي ... كيفَ ثَنى الزمانُ عِطفَ الأخوَنِ
علّقتُ أطماعي فما تُسِفُّ بي ... ولا أمُدّ صفقةً للغبَنِ
وشامَ طَرْفي والبُروقُ خُلّبٌ ... بارقةً وميضُها يصدُقُني
شكراً لمن أنطقني سماحُه ... مُطّرداً والدهرُ قد أجرّني
حسبي ندَى أبي السّعودِ نُجعةً ... فقد كفاني محسناً وكفّني
مفرِّقٌ شملَ النُضارِ جامعٌ ... بين الفروضِ للعُلى والسُنَنِ
يُسرفُ في الجودِ إذا ما حسّنتْ ... عُذْرَ الجوادِ حادثاتُ الزّمن
غيثٌ إذا سُحْبُ الغيوثِ أجدبت ... طوّق أعناقَ الرّدى بالمنَنِ
ذو عاتقٍ يضفو نِجادُ سيفِه ... بأساً على يعرُبَ أو ذي يزَن
أثبتُ والموتُ يُزلُّ خطوَه ... يومَ يخوضُ غَمرةً من حضَنِ
تحمَدُ منه الخيلُ ذا حفيظةٍ ... إذا الجيوشُ جبُنت لم يجبُنِ
يجنُبُها نواصعاً حُجولُها ... وينثني وهي قواني الثُّنَن

لا تحْجِزُ البيضةُ من حُسامه ... ولا تُجِنّ ضافياتُ الجُنَنِ
أقسمتُ بالعِيس تبارى في البُرى ... بين الوِهادِ لُغَّباً والقُنَن
إنّ حُسامَ الدّين يومَ يجتدى ... في لَزْبةٍ أخو الغَمامِ الهتِنِ
تفهَقُ بالعذب الرِّوَى حياضُه ... عامَ يُضَنّ بالأُجاجِ الأسِنِ
الواهبُ النِّيبَ الوِقارَ كلّما ... ضنّ على إفالِها باللّبن
حسبُ جمالِ الدولةِ احتلالُه ... مجداً على مفارقِ الزُهْرِ بُني
وأنّ أنواءَ الغَمامِ تجتدي ... ندىً به عمّ الورى وخصّني
لو أنّ ما تبذُلُه يمينُه ... من لُجّةِ البحر المحيطِ لفَني
يصونُ أعراضَ العلى بربعِه ... مالٌ مباحٌ عرضُه لم يُصَنِ
مُذْ أنزِلَ الدهرُ على أحكامِه ... عوّدَ يومَيْهِ ركوبَ الأخشنِ
يمّمتُه أن عثَرتْ بي نكبةٌ ... لو عثرَتْ بيَذْبُلٍ لم يبِنِ
فردّ كفّي ثرّةً بيُسرِها ... حتى كأنّ عُسْرَها لم يكنِ
يا فارسَ الفيلَقِ أيُّ فارس ... على ظُباك في الوَغى لم يحِنِ
ما كُلّ ذي شقاشقٍ إن هدرَتْ ... يُعرِبُ عن فصاحةٍ ولسَنِ
أصْغِ الى غريبةٍ نظمتُها ... بغير دينِ خاطري لم تدِنِ
يسهُلُ منها الصّعبُ عند خاطري ... ويستقيمُ ميلُها لفِطَني
أسيرُ في السلامِ من نجومه ... إقبالُ إقبالٍ بها أنطقني
وقال يمدحه:
ألِفارطِ العيشِ الرّطيبِ معيدُ ... فيعودَ رثُّ هواك وهو جديدُ
بزَرودَ لا برِحَ السّحابُ مروِّضاً ... أوطان باديةٍ تضمّ زَرودُ
حيٌّ حمت شهُبُ الرماحِ شموسَه ... فشموسُهنّ أسنّةٌ وبُرودُ
قِفْ ناشداً لي في قِبابِ عُرَيبة ... قلباً شجاهُ بها هوىً منشودُ
ومسائلاً أغصونُ أحقافِ اللِّوى ... مرَحاً تَعيسُ أم القُدودُ تميدُ
ومُطارح لي في السّلوّ وحبّهُمْ ... ينمي على جفَواتِهم ويَزيدُ
خفِّضْ ملامَك يا عذولُ فطالما ... أيقظتَ أشجاني وهنّ رُقودُ
كيف الجحودُ لصبوة عُذريّةٍ ... ومن النّحولِ بها عليّ شُهودُ
ماء النُخَيلةِ أيُّ سُمْر ذوابلٍ ... تحمي نِطافَك شُرَّعاً وقُدودُ
وأثَيْلَ نازلةِ الأَجيْرعِ هل وفت ... بعدي لخائنةِ العُهود عُهودُ
حيّا عُهودَك عهدُ كلِّ سحابةٍ ... وطفاءَ مُرزِمُها المُلثُّ رَكودُ
أسَناً تألّقَ في قِبابك موهِناً ... أم لاحَ من فرق الصّباحِ عمودُ
أمثغرُ عَلوةَ شفّ تحتَ لِثامِها ... كالنَّوْر باتَ يرِفُّ وهْوَ مَجودُ
أشتاقُ ظِلّكِ والهواجرُ تلتظي ... وثَراكِ رأدَ ضُحائه فأرودُ
لا زال مطّردَ الهواملِ ماطراً ... دمعٌ إذا بخِلَ الغمامُ يجودُ
تُرْباً إذا استنشى النّسيمَ أصيلُه ... مرِضَ النسيمُ وصحّ فيه صَعيدُ
وإذا سرى طفَلَ العشيّ طليحُه ... أرِجاً تضوّع من سُراه البيدُ
هزّت إليه جوانحي صبَواتُها ... شوقاً وعاودَ كلّ قلبٍ عيدُ
أيُهوِّمُ الغَيرانُ فيك ويتّقي ... يقظان حالف طرْفَه التّسهيدُ
ويحلّ ماء غديرِه لحلوله ... وعليه حائمُ غُلّةٍ مصدودُ
وأغرَّ يبسِمُ عن أغرّ مُجاجُه ... يُذكي الضّلوعَ لَماه وهو بَرودُ
أغفى وأسهرَني هواه تململاً ... وجزِعتُ يومَ نواهُ وهو جليدُ
كالغصن أهيفُ إن تثنّى أو رنا ... فإليه تنتسبُ الظِّباءُ الغيدُ

لو حُمّلت قودُ الجبالِ شوامخاً ... كلِفاً به هوت الجبالُ القودُ
أصبحتُ أمنحُه الوِصالَ ودأبُه ... لمُواصليهِ تجنُّبٌ وصُدودُ
يا موقِداً شُعَلَ الهُوى بجوانحي ... حتّام ليس لما تشُبُّ خُمودُ
شكراً لعارفة الخيالِ فإنّه ... أدنى وصالَك والوصالُ بعيدُ
قالوا المشيبُ طوى الشّبابَ وحبّذا ... ما بان وهْو من الشّباب حميدُ
واسترجعت نُوَبُ الزمان عطاءَه ... مني ولانَ على الثِّقافِ العودُ
فوسائلي عند الحسانِ أمينُها ... كلّ المُريب وشافعي مردودُ
لا راقَ عاتِقيَ النّجادُ ولا ضفت ... كرماً عليّ من العفاف بُرودُ
إن لم يبِت صدرُ القَناة مُضاجعي ... لتُغِبُّ زورتَها الفتاةُ الرّودُ
ما أنصفتْ قِسَمُ الليالي مُفصِحٌ ... صِفرُ اليدين وثروةٌ وبليدُ
حيثُ الفضيلةُ مهبِطٌ وخصاصةُ ... ومع النّقيصة كثرةٌ وصعودُ
سأشيمُ بارقةَ النّدى من مُنعمٍ ... لولا صنائعُه لغاضَ الجودُ
جذلانُ تحمَدُ مُعتَفوه حَياضَه ... وِرداً إذا رُفِضَ الصّرى المثمودُ
لم تخْلُ من نُعمى يديْه مشارقٌ ... ومغاربٌ وتهائمٌ ونُجودُ
خضِلُ الثّرى علِقت مواهبُ كفّه ... حُسنُ الثّناء عليه وهْو شَريدُ
ألفَتْ حُسامَ الدّين حاسمَ خُطّةٍ ... شعواءَ مشهدُ خطبِها مشهودُ
قامت به العَزَماتُ منتصراً لها ... وقيامُها المتناصرونَ قُعودُ
في حيثُ يقصُرُ خطْو كلِّ مُدجّج ... والحربُ عارضُ نقْعِها ممدودُ
فوقَ الجياد يحلّ أوصال الطُّلا ... تحت العَجاج لواؤهُ المعقودُ
فعلا مَنارُ النّصرِ بعدَ هُبوطِه ... بأبي السّعودِ لها وتمّ سُعودُ
وإذا غدا الأسدُ المُدلّ معبّساً ... عن غابِ أشبُلِه توارى السّيدُ
الخائضُ الغمَراتِ غيرَ معرِّدٍ ... عنها غداةَ يُعرِّدُ الصّنديدُ
تشكو مناصلُه الطُّلا وضِرابُه ... يُبدي خِضابَ نُصولِها ويُعيدُ
ويرُدّ قائدَ كلِّ جيشٍ أرعنٍ ... ووريدُه بسِنانه مورودُ
متنصّتٌ في الرّوعِ للدّاعي إذا ... حُطِم القَنا وتصامَمَ الرِّعديدُ
فالبأسُ في لحَظاتِه متردّدٌ ... والبِشرُ في قسَماته معهودُ
متفرّدٌ بطَريف كلّ صنيعةٍ ... شهِدتْ له أنّ الفخارَ تليدُ
يا جامعَ المجدِ البَديدِ بجوده ... ومفيدَ من أعطا عليه مفيدُ
شكرتْ مَقاماتُ النّبوّة موقفاً ... لك لو يقومُ بشكره مجهودُ
هبّت زعازعُه العواصفُ وانتشت ... فيه بُروقُ صوارمٍ ورُعودُ
فمن الكُماة مُعفّرٌ ومضرّجٌ ... بنَجيعِه ومصفّدٌ منجودُ
ومن الصّفيح مفلّلٌ في قوْنَسٍ ... ومن القَنا متأوّدِ مقصود
فحمَيْتَ مُسلمةَ الثّغورِ ولم يكن ... لولاك عن صَرَدِ النّبالِ مَحيدُ
فعروشُه بك لا تُثَلّ وعزُّها ... أبداً تشُدّ بناءهُ وتَشيدُ
شهِدتْ لرمحك يوم هزِّك صدرَه ... للطّعن ثُغرةُ باسلٍ ووريدُ
وجيادُك المتمطّراتُ بأنّها ... للجيش تقتم تارةً وتقودُ
ومُفاضة كالنِّهْي إلا أنّها ... مما تخيّرَ نسجَه داوود
عضْبٌ ومطّرِدُ الكُعوبِ وسابحٌ ... قلِقُ العِنان ومُحكمٌ مسرودُ
وكذاك رأيُك في الوقائع كلِّها ... خطِلُ القنا المهزوزِ وهو سديدُ

لك يا جمالَ الدّولةِ الذّكرُ الذي ... بجميله حقَبُ الزّمانِ خُلودُ
يا واحدَ الآحادِ إني في الذي ... تُصغي إليه من الثّناءِ وحيدُ
لن أجحَدَ النِّعَم التي أوليتَني ... متبرّعاً وبها عليّ شهودُ
وقال يمدحه:
سفرَتْ فقال أدلّةُ السّفْرِ ... أشعاعُ شمسٍ أم سَنا بدرِ
وتبسّمت والليلُ معتكرٌ ... فجلا دُجاهُ تألّقُ الثّغرِ
خصِرُ المَذاقِ كأنّه برَدٌ ... عذْبُ المُجاجةِ طيّبُ النّشرِ
فكأنّما عُلّت مراشفُه ... غِبَّ الكرى بسُلافة الخمرِ
مهزوزةُ الأعطافِ إن خطرت ... فتنت بخوطِ أراكةٍ نضْرِ
للهِ أيُّ عُرَيبِ باديةٍ ... أسَروا الأسودَ بأعيُنِ العُفْرِ
كم باتَ دون قِبابِ غيدِهمُ ... قلبٌ تقلّبُه على الجمرِ
عذراءُ كلّ شجٍ بها كلِفٌ ... رمِضُ الجوانحِ واضحُ العُذرِ
تُصبي الحليمَ بمُقلَتَيْ رشأٍ ... هزأت لواحظُهنّ بالسّحرِ
وتزيدُ قلبَ محبِّها قلَقاً ... قلقَ الوِشاحِ يجولُ في الخصرِ
يلْحى العَذولُ على الوُلوعِ بها ... ويلومُ وهو بحبّها يُغري
كم مُخدِرٍ شَئنٍ براثنُه ... ضرِمِ اللحاظِ يذُبّ عن خِدْرِ
حيثُ الرّياضُ كأنّ زهرتَها ... تسِمُ الصّعيدَ بأنجمٍ زُهرِ
والحيُّ تحميهِ أغيلمةٌ ... بالمُقرَباتِ لواحقِ الضُمْرِ
عقدت سبائبَ كلِّ سلهَبَةٍ ... بذوئبِ الهنديّة البُتْرِ
من كلّ رعّافِ السِّنانِ إذا ... حطم الطِّعانُ مثقّفِ الصّدرِ
شزْرِ اللّحاظِ الى الكميّ إذا ... شرِقَ القَنا بطِعانِه الشّزْرِ
ولقد أقول لركْبِ داجيةٍ ... يُنضينَ كلّ شمِلّةٍ عُبْرِ
ومرنّحينَ من الكَلالِ وقد ... هزَم الظّلامَ طلائعُ الفجرِ
يتناشدون الخِصْبَ حيث حمى ... شوكُ الرِّماح نقائعَ الغُدْرِ
شيموا بُروقَ أبي السّعودِ إذا ... خلَبَتْ بُروقُ سحائب القَطرِ
واستمطروا دُفُعاتِ جودِ فتىً ... غَمْرِ المواهبِ ليس بالغَمْرِ

الأديب أبو طاهر محمد بن حيدر
بن عبد الله بن شعيبان البغدادي الشاعر
كان شاعراً بليغاً مُجيداً، حسن الشّعر، رقيقه.
يسكن سوق الثّلاثاء. أعور.
سمعت شيخنا عبد الرّحيم بن الأخوة البغدادي، بأصفهان، يقول: كان له شعر حسن، وكان من مادحي سيف الدّولة صدقة بن منصور.
قال: أنشدني أكثر أشعاره، فما وجدت فيها أحسن من قوله في الخمر:
ومُدامةٍ كدم الذّبيحِ سخا بها ... للشّرْبِ من لهَواته الإبريقُ
رقّت، فراقَ بها السّرورُ ولم تزلْ ... نُطَفُ السّرورِ ترقّ حين تروقُ
حتى إذا ضحِكَ الزُجاجُ لقربها ... منه بكى لفراقها الرّاووقُ
وقوله:
يا جاحدي فضلي وقد نطقت ... بفضائلي بدَهاتُه عنه
هل أنت إلا البدرُ توضحُه ... شمسُ الضّحى وكسوفُها منه
وقوله:
ما لي إذا أنا لُمْتُ أُسرةَ مزْيَدٍ ... والغُرّ من سرَواتهم لم أُعذَرِ
أم ما لقلبي كلّما كلّفتُه ... صبراً على فعَلاتِهم لم يصبِرِ
وإذا هممتُ ببسط عذرِهمُ على ... منعي وهم سُحُبُ النّدى لم أقدِرِ
وقوله في رقّاصة:
رقّاصتي هذه لخفّتها ... تكادُ تحت الثّيابِ تنسبكُ
خفيفةُ الجسم ما لها كفَلٌ ... يُثقلُها شحمُه ولا وَرِكُ
كأنّما الأرضُ تحتها كُرةٌ ... تحمِلُها وهي فوقَها فلَكُ
وقوله في صفراء:
أنت يا لائمي على شعَفِ النّف ... سِ بحبّ الوليدةِ الصّفراءِ

لا تلُمْني على صبابةِ قلبٍ ... ملكته مولّداتُ الإماءِ
أيما في العيون أحسنُ لوناً ... صفرةُ الرّاحِ أم بياضُ الماءِ
وقوله:
فتى من نَداهُ الغمْرِ يسترسلُ الحَيا ... ومن وجهه الميمونِ يطّلعُ البدرُ
وما سلّ سيفَ العزمِ إلا تجعّدت ... سِباطُ القنا واحمرّتِ الأنصُلُ الخُضرُ
هو البحرُ يحلو في فم الخلقِ طعمُه ... ويصفو وماءُ البحرِ ذو كدرٍ مُرُّ
وقوله:
أراك إذا عددتَ ذوي التّصافي ... وجدتَهُم أقلّ من القليل
كماءِ البحرِ تحسِبُه كثيراً ... وقلّته تبينُ مع الغليلِ
ذكر صديقنا عمر بن الواسطيّ الصّفّار - ببغداد - سة إحدى وستّين، قال: دخلت على ابن حيدر الشاعر في أيام المسترشد، وأنا صغير، وعنده جماعة يعودونه في مرضه الذي مات فيه، وهو يُنشد، فحفظتُه بعد ذلك من بعض الحاضرين:
خليليّ هذا آخرُ العهدِ منكمُ ... ومني فهل من موعدٍ نستجدّهُ
لأنّ أخاكم حلّ في دار غُربةٍ ... يطولُ بها عن هذه الدّارِ عهدُه
فلا تعجَبوا إذْ خفّ للبَينِ رحلُه ... وقد جدّ في إثر الأحبّةِ جِدّهُ
على أنّ في الدّارينِ تلك وهذه ... له صاحبٌ يهْوى وإلفٌ يودّهُ
وقد أزمع المسكينُ عنكم ترحُّلاً ... فهل فيكمُ من صادقٍ يستردّهُ
وأُنشدت له ببغداد:
خفِ الأمرَ وإنْ هان ... ولا يطْغَ بك الشِّبْعُ
ولا تُصْدِ بك الكل ... فةُ ما يصقُلُه الطبْعُ
فقد يُخشى من الفأ ... ر على من عضّهُ السّبْعُ
وله في سيف الدولة:
هواء بغداد أشهى لي ودجلتُها ... أمرا لغلّةِ صدري منك يا نيلُ
لو لم يكن فيك من دودانَ بحرُ ندىً ... إنعامُه في بني الآمالِ مبذولُ
تاجٌ ولكن على العلياءِ منعقدٌ ... سيفٌ ولكن على الأعداءِ مسلولُ
وله من قصيدة في سيف الدولة صدقة، أوّلها:
خُذ بي على قطَنٍ يمينا ... فعسى أريك به القَطينا
حتّى إذا طلَعت به ال ... أقمارُ رنّحتِ الغصونا
يُخلِفْن ميعادَ الوفا ... ءِ لنا ويمطُلْنَ الدّيونا
من كلّ ذاتِ روادفٍ ... كالرّملِ رجرجةً ولِينا
منْطَقْن بالنّحَفِ الخصو ... رَ وصُنّ بالتّرفِ البطونا
وأقَمن من تلك العُيو ... نِ على خواطرِنا عُيونا
ومنها:
يا بانةَ العلَمَين من ... قرَنٍ كفى بكِ لي قرينا
أأمِنتِ داعيةَ الصّبا ... بةِ لي وقولَك لي يمينا
وعليّ أيمانٌ مغلّ ... ظةٌ أُجلُّك أن تَمينا
أنْ لا أعُدّ سوى مَعي ... نِ الدّمعِ بعدَك لي مُعينا
ومنها:
يا من تسمّح للعوا ... ذِل بي وكنتُ به ضَنينا
أحسنتُ ظنّي في هوا ... ك فلِمْ أسأتَ بي الظّنونا
قد كان ما قد كنتُ خِفْ ... تُ من التّجنّبِ أن يكونا
ورأيتُ فيك قبيحَ ما ... ظنّ الوُشاةُ بنا يقينا
حتى كأنّك كنتَ لل ... هِجرانِ للواشي ضَمينا
ولقد دعوتُك قبلَ غد ... رِك بي على قلبي أمينا
جرّدتَ من حدَق القِيا ... نِ ظُباً ذعرْتَ بها القيونا
حدَقاً جعلتَ فتورَ أع ... يُنِها لأنفسنا فُتونا
وجعلْتَ من تلك الجفو ... ن على قواضبها جُفونا
أو لم تخفْ سيفاً تخو ... نَ حدّهُ الزّمنَ الخؤونا
سيفٌ تقُدّ صدورُه ... قمَمَ الفوارسِ والمُتونا
وأنشدني - ببغداد - مَن نسبه إليه في الخمر:
مرحباً بالتي بها قُتِل اله ... مُّ وعاشت مكارمُ الأخلاقِ
وهي في رقّة الصّبابةِ والشّو ... قِ وفي قسوةِ النّوى والفِراقِ
لستُ أدري أمن خُدودِ الغواني ... سلبوها أم أدمعِ العُشّاقِ

ابن الخيّاط البغدادي المعروف بالفاختة
أنشدني له الشيخ محمد الفارقي من قصيدة:
زارتْ وعقْدُ نِطاقِ الليلِ محمولُ ... وناظرُ الصُبحِ بالأنوارِ مكحولُ
وذكر أنّه سافر الى آمِد، ومعظم شعره بها.
وأنشدني له في الكامل بن بكرون بآمِد:
قُل للأجلّ الكاملِ ... بحرِ النّدى والنّائل
أنت الذي في قُمصِه ... مجتَمعُ الفضائلِ
يحيى بن صُعلوك
يلقّب بالحمامة.
شابّ من أولاد حجّاب الديوان العزيز. وكان يتفقّه لأبي حنيفة، رحمه الله، وتعاطى نظم الشعر مُديدَة. وهو ذكيّ، له حسن إنشاء وإنشاد.
فمما أنشدني لنفسه، بيتان، نظمهما في الوزير عون الدّين بن هُبَيرة لمّا حجبه:
الذّنبُ لي وأنا الجاني على أدبي ... لما قصدتُك دون الخلقِ بالمِدَحِ
رددتَني ووَقاري غيرُ منسرحٍ ... عنّي وماء حيائي غير منسفحِ
وأنشدني لنفسه:
قالوا ابنُ صُعلوكٍ به أُبْنة ... فقلت كلا وعليِّ الرّضا
منزلةٌ ما خِلتُه نالَها ... ولو سعى بين يديهِ القضا
وأنشدني لنفسه:
قد كنتُ أثلِبُ نثراً ... أُلقيه درساً فدرسا
فصرتُ أثلِبُ نظماً ... كيلا يشِذّ ويُنْسى
الشيخ الأديب أبو محمّد

الحسن بن أحمد بن حكينا
من الحريم الطّاهريّ.
ظريف الشّعر، مطبوعه. لم يجُدِ الزمان بمثله في رقّة لفظه وسلاسته. وقد أجمع أهل بغداد على أنّه لم يرزَق أحد من الشعراء لطافةَ طبعه.
وله الأبيات النّادرة، المذهبة، التي من حقّها أن تكتب بماء الذّهب.
أنشدني له بعض الأكابر ببغداد في عمي العزيز، رحمه الله، من قصيدة، هذا البيت، وهو:
فميلوا بنا نحو العِراقِ ركابَكُمْ ... لنكتالَ من مال العزيزِ بصاعِهِ
وطلبت هذه القصيدة، لأكتبها، فلم أجدها.
وأنشدني بعض الفضلاء ببغداد لابن حِكّينا:
قد كنتُ في أرغدِ ما عيشةٍ ... بمعزِلٍ عن كلّ بَلْبالِ
تيّمني خالٌ على خدِّه ... الويلُ للخالي من الخالِ
وله، وأظنّه في أنوشَروانَ الوزير:
ومُظهِر وُدّهُ لقاصده ... يكُفّ عنه الأطماعَ بالياسِ
يقومُ للنّاس مُكرِماً فإذا ... راموا نَداهُ يقومُ للنّاسِ
وله:
مدحتُهُمُ فازددتُ بُعداً بمدحهم ... فخُيّلَ لي أنّ المديحَ هِجاءُ
يقولون ما لا يفعلون كأنّهم ... إذا سُئِلوا رِفداً هم الشّعراءُ
وله في العذار:
لافتضاحي بعدَ عارِضِه ... سببٌ والناسُ لُوّامُ
كيف يخفَى ما أكتّمُه ... والذي أهواهُ نمّامُ
وله:
يا باعثاً طيفَه مثالاً ... حسنُك قد جلّ عن مثالِ
وإنّما كان ذاك رَشْقاً ... بعثَ خيالٍ الى خيالِ
وأنشدني بعض أصدقائي ببغداد لأبي محمد بن حِكّينا، في مدح عَوَرِ عينِ الحبيب، ولم يسبق إليه:
يا لائمي والمَلومُ متّهمٌ ... حسبُك ما قلتَ فيه من عوَرِ
يرشُقُ عن فردِ مُقلةٍ وله ... ألفُ جريحٍ منها على خطرِ
لُم كيف شئتَ لستُ تاركَه ... الآن صحّ التّشبيهُ بالقمرِ
وأنشدني له ببغداد الشيخ مجد القضاة، في بعض القضاة:
وباردِ التّنميسِ بين الورى ... يفعلُ ما لا يفعلُ اللصُّ
يصطادُ أموالَ الورى كلها ... بطرْحةٍ من تحتِها شِصُّ
وله في قصد ابن التّلميذ، لمرض به. أنشدني مجد الدولة أبو غالب بن الحُصين، قال: أنشدني ابن التّلميذ له:
لمّا تيمّمْتُه وبي مرضٌ ... الى التّداوي والبُرءِ محتاجُ
آسى وواسى فعدت أشكرُهُ ... فعلَ امرئٍ للهمّ فرّاجُ
فقلت إذ برّني وأبرأني ... هذا طبيبٌ عليه زِرباجُ
وكتب الى الشّريف ابن الشّجَريّ النّحوي، وكان له شعر مقارِب:
يا سيّدي والذي يُعيذُك من ... نظمِ قريضٍ يصدا به الفِكرُ
ما فيك من جدِّك النّبيّ سوى ... أنّك ما ينبغي لك الشّعرُ

وأنشدني أبو المعالي الكتبي، قال: ذكر ابن الفضل أنّه كتب الشيخ أبو محمد بنُ حِكّينا الى ابن التّلميذ، وأراد أن يصالحه بعد خصومة، أبياتاً، منها هذا البيت:
وإذا شئتَ أن تُصالحَ بَشّا ... رَ بنَ بُردٍ فاطرَحْ عليه أباهُ
يقال: إطرح فلاناً عليه، حتى يصالحك. فما ألطفَ طلبَه منه بُرداً بهذا البيت المطبوع! وأنشدني له هذا البيت، وهو حسن:
إرضَ لمن غابَ عنك غيبته ... فذاك ذنبٌ عِقابُه فيهِ
وأنشدني له أيضاً:
قسا ثمّ أجرى عبْرَني فكأنّني ... على فقدهِ الخنساءُ تبكي على صخْرِ
وله في أنوشَرْوان الوزير:
سألوني منْ أعظمُ الناسِ قدراً ... قلت مولاهمُ أنوشَرْوان
لست أحوي صفاتِه غيرَ أنّي ... ما رأيتُ الإعسارَ منذُ رآني
وإذا أظهر التّواضُع فينا ... فهو من آيةِ الرّفيعِ الشّانِ
ومتى لاحِ النّجومُ على صف ... حةِ ماءٍ فما النّجومُ دَواني
وله:
ما بالُ أشعاري وقد ضُمّنت ... مدحَكُمُ ترجِعُ بالدّلْقِ
ما فيكُمُ بخلٌ وما بي غنىً ... عن نائلٍ والنّجْحُ في الصّدقِ
ولست أستبطي ولكنّني ... ينقطعُ الغيثُ فأستسقي
وله في أمين الدولة أبي الحسن بن صاعد الطّبيب، ويعرف بابن التّلميذ، وقد نفّذ له شيئاً، وكان مريضاً:
جاد واستنقذ المريضَ وقد كا ... د ضنىً أن يلُفّ ساقاً بساقِ
والذي يدفَعُ المَنونَ عن النّفْ ... سِ جديرٌ بقسمة الأرزاقِ
وله:
ويكتبُ بالبيضِ الصّوارمِ أسطُراً ... على أوجُهِ الفرسان تنقُطُها السُمْرُ
وينظِمُهُم في الرُمحِ نظماً وإنّما ... رؤوسُهُمُ من بعدِ نظمِهِمُ نثرُ
وله:
لو كنتَ أعلمتَني بهجرك لي ... لبِستُ من قبلِ صدِّك العُدَدا
عيناك ترمي قلبي بأسهُمها ... فما لخدّيك تلبَسُ الزّرَدا
ريقتُهُ الشُهْدُ والدّليلُ على ... ذلك نملٌ في خدِّهِ صعِدا
وله في العِذار:
لا تقولوا من بعد عا ... رضه قد تغيّرا
إنّما الحسن حين م ... رّ به الحِبّ مسفرا
رامَ تبخيرَهُ فذ ... رّ على الجمرِ عنبرا
وله في المدح:
أتاني بنو الحاجاتِ من كلّ وجهةٍ ... يقولون لي أينَ الموفَّقُ قاعدُ
فقلتُ لهم فوقَ المجرّة دارُه ... ولكنّني فارقتُه وهْو صاعدُ
فإن شئتُمُ ألا تضِلّوا فيمّموا ... الى حيثُ سارت بالثّناء القصائدُ
وله في تأبين ميت:
ومنتقلٍ بالإثمِ أرساهُ جُرمُه ... فلم يقدِروا من ثِقلِه أن يُقلّوه
رأى أهلُه إبعادَه مَغْنماً لهم ... وكان كثيراً عندَهم فاستقلّوه
ولم يسمعِ الحفّارُ ساعةَ دفنِه ... وتوسيدِه إلا خُذوه فغُلّوه
وله في البخل:
لمّا فشا البخلُ وصار النّدى ... ولا رغيفٌ كلّ أسبوعِ
سرت مصاريعُ هجائي الى ... منْ خبزُه خلفَ المصاريع
فقطّعتْ بالذّمّ أعراضَهُ ... وفرّقتْها في المجاميع
وكتبت من الأجلّ شمس الدين وله سديد الدولة بن الأنباري قصيدة لابن حِكّينا بخطّه، في والده. وهي:
أدِرْها مدعدعة يا نديمي ... بماءِ الكرومِ وبين الكُرومِ
وكن أرفقَ الناس تحت الظلا ... مِ ببزْلِ الدّنان وفضّ الختومِ
الى أن تُريكَ طلوعَ الصّبا ... حِ في حبَب كانقضاض النّجومِ
ووكّلْ مصابيحَها الزاهراتِ ... بإحراقِ شيطانِ همّي الرّجيمِ
وخُذْها على أنها لُقطةٌ ... إذا اشتُريتْ بدُخولِ الجحيمِ
هي الرّوح أو مثلُها في القيا ... س مخلوقةٌ لقوام الجسوم
ومن بعض أفعالِها في النّفو ... سِ عَوْدُ السّرورِ ونفيُ الهمومِ

بَزوغيّةٌ شغلَت فكرتي ... بوصفي لها عن بكاء الرّسومِ
كُميتٌ ولكنّها لا تُردّ ... عن نيل غاياتِها بالشّكيمِ
غذتها السّنون الى أن نشتْ ... بجري الهواءِ ولفْح السّمومِ
أقرّ الشِّهادُ لها والعبي ... رُ بطيبِ المَذاقِ وعطر النّسيمِ
يدورُ بها مستديرُ العِذا ... رِ أسلبَ منها لعقل النّديمِ
يُضلّ البَصيرَ بوجهٍ منير ... ويُبري السّقيمَ بطرْف سقيم
فمن لي بقلبي وقد فرّقَتْه ... يدُ الوجدِ ما بين بدرٍ وريمِ
فيا صاحِ إن ساورتك الخطو ... بُ في كونِها عُدّه من خصومي
ومنها في المخلص، وقد أجاد:
فقل للزّمان اتّئدْ إنّني ... بأفضلِ أبنائه في حَريمِ
وإني فلا تطمَعِ الحادثا ... تُ عبدُ الكريم ابنُ عبد الكريم
ومنها في المدح:
ترى الوفْرَ عند استماعِ المدي ... حِ في مُقعِدٍ من نَداهُ مُقيمِ
يقول إذا ما رأى خلّتي ... لكِ الأمنُ منّي بألاّ تُقيمي
من القومِ لولاهُمُلم تُقمْ ... وجوهُ العطايا وسوقُ العلومِ
كم استعبدوا مُقتِراً بالنّوا ... لِ واصطنعوا جاهلاً بالحُلومِ
وأضحوا يرَوْن تلافي الفقي ... رِ أولى بهم من تلافي العَديم
ومنها:
وأصبحَلا يقتني دِرهماً ... لغير قضاءِ دُيونِ الرّسومِ
ومنها في صفة القلم:
يُجيل غداةَ الوغى مُرهَفاً ... شديدَ الجِلادِ خفيّ الكُلومِ
نحيفاً يردّ بإسهابِه ... وصولَتِه كلّ خطْبٍ جسيمِ
فما يتميّز عبدُ الحمي ... دِ حين يراهُ من ابنِ الخطيم
ومنها:
فيا منْ تغمّدني بِرّه ... ونزّهني عن سؤالِ اللّئيم
وسالت عِهادُ أياديه من ... خُراسان الى منزلي بالحَريمِ
ولم ينسَني يومَ بثّ النّوا ... ل لا في الخوص ولا في العمومِ
تهَنّ فمجدُك فوقَ النّجو ... مِ واسعَدْ فشانيك تحتَ التّخومِ
وعِشْ في السّرورِ نعِش في السّرور ... ودُمْ في النّعيم ندُمْ في النّعيم
وكتبت من مجموع بخطّ أبي الفضل بن الخازن: أنشدني الصبح أبو محمّد بن حِكّينا من قصيدة:
لاقى طريقَ النُسْكِ شاسعةً ... فاستصحب اللّذّاتِ وانحرفا
يهْوى كؤوسَ الراح تُذكِرُه ... قبَساً أضاءَ وبارقاً خطَفا
يُهدي المِزاجُ لجيدِه حبَباً ... مثلَ السّهامِ تعاورت هدَف
وإذا دعاهُ طرْفُ غانيةٍ ... للوصلِ بادره ولو زَحَفا
ومنها:
واسقِ النّديمِ تعُدْ حُشاشتَهُ ... مشمولةٌ لطُفت كما لطُفا
واعقِدْ بطرفِك صُدغَ ذي ترَفٍ ... لمّا ألمّ بخصْرِه انعطفا
كالنّون منحنياً فإنْ عبِثت ... كفّ أحالت شكلَهُ ألِفا
ذهبت بصِرْفِ الرّاحِ نخوتُه ... فطفِقتُ محتضِناً ومرتشفا
ومنها:
لله أيامٌ طرَقْتُ بها ... قبلَ الصّباحِ الدّيرَ والخزَفا
والماءُ تُطرِبُهُ منادمتي ... فلو استبدّ برأيه وقَفا
ومنها في المدح:
أهلاً بمن جُعِلت فضائلُه ... أهلاً لأنْ تستنفدَ الصُحُفا
وخلائق مثل النّسيم جرى ... فإذا تعرّضَ للعِدا عصَفا
ولقد عزمتُ بمن سواك على ... شيطان إعساري فما انصرفا
فكما ذكرتُ له نداك مضى ... وكأنّه بالنّجمِ قد قُذِفا
ومنها:
وتراهُ يرفِدُني وأُنشدُه ... مدحي فيُظهِرُ بيننا الطُّرَفا
ومنها في طلب كُسوة:
إن لم تعاجلْهُ بكُسوتِه ... أودى فمنه الثّلج قد ندفا
لو كان في النّيران مسكنُه ... قيظاً فأنشدَ شعرَهُ رجَفا
فتلقّ بالإحسانِ ممتدحاً ... أعيا عليه الجِدّ فانقصفا

وأنشدني أبو المعالي له في الموجَّه:
أراه لبُغضِه عَمراً ... يصغّرُه ويجلُدُه
وذكر لي عبد الرحيم بن الأخوة: أنّه كان بزّازاً، وكان يمدح أنوشَرْوان بن خالد.
وقال: وجدت له بيتين، وكتبتهما، وهما:
قصدتَ ربْعي وتعالى به ... قدري فدتك النّفسُ من قاصدِ
وما أرى العالم من قدره ... بحراً مشى قطّ الى واردِ
وأنشدني أبو الفتح نصر الله بن أبي الفضل بن الخازن لأبي محمد بن حِكّينا، في واعظ:
يُعيد ما قال أمسِ في غدِه ... بلا اختلافِ المعنى ولا اللفظ
حضرتُ بعضَ الأيام مجلسَه ... فكلّ ما قاله على حفظي
وله في أنوشروان الوزير، وقد ردّه:
قد جئتُ بابني فاعرِفوا وجهه ... ليأخُذ النائلَ من بعدي
فليس في التّقدير أني أرى ... قبلَ مماتي ساعةَ الرِفدِ
وله:
ولم أجْنِ ذنباً في مديحِ امرئٍ ... قابلَ شعري بالمواعيدِ
إن قلت بحرٌ فبِما نالني ... من هولِه أيامَ ترديدي
أو قلت ليثٌ فبتكليحه ... إذا أتاه طالبُ الجودِ
وله في ولده:
إبني بلا شكّ ولا خُلفِ ... في غاية الإدبارِ والحُرْفِ
أنّه الحبّالُ في مشيهِ ... يزدادُ إقبالاً الى خلْفِ
وله في أمين الدولة ابن التّلميذ:
لموفّقِ المُلكِ الأجلّ يدٌ ... حسبي بفيض نوالِها وكفى
سكن المجرّة واستهلّ ندىً ... وكذا الغمامُ إذا علا وكفا
لم آتِ أستكفيهِ حادثةً ... إلا تهلّلَ بِشرُه وكفى
ولولده فيه:
إذا افتخر الناسُ في مجلس ... فإني بترك افتخاري خليقُ
لقد جرّ كونُك لي والداً ... عليّ من الذُلّ ما لا أُطيقُ
ولوالده أبي عبد الله أحمد بن حِكّينا قرأت في تاريخ السّمعاني بخطّه: كانت له معرفة بالأدب، وكان شاعراً تلميذاً لأبي علي بن شبل الشاعر، قال: قرأت بخطّ أحمد بن محمد بن الحُصَين، أنشدنا أبو عبد الله بن حِكّينا لنفسه:
إذا جفاك خليلٌ كنتَ تألَفُه ... فاطلُبْ سواهُ فكلّ الناسِ إخوانُ
وإن نبَتْ بك أوطانٌ نشأتَ بها ... فارحَلْ فكلّ بلادِ اللهِ أوطانُ
لا تركَنَنّ الى خِلّ ولا زمنٍ ... إنّ الزّمان مع الإخوانِ خوّانُ
واستَبْقِ سرّكَ إلا عن أخي ثقةٍ ... إنّ الأخِلاّءَ للأسرارِ خُزّانُ
المهذّب بن شاهين
كان ممن خدم عمي العزيز، وكان عاملاً بنهر فروة ونهر رجا، فبانت عليه خيانة، فكتب الى العزيز:
قُل للعزيز أدامَ ربّي عزّه ... وأنالَه من خيره مكنونَهُ
إني جنَيتُ ولم تزلْ نبَلُ الورى ... يهَبون للخُدّام ما يجنونَه
ولقد جمعْتُ من الجنونِ فُنونَه ... فاجمعْ من الصّفْح الجميلِ فُنونَه
من كن يرجو عَفوَ من هو فوقَه ... فليَعْفُ عن جُرْمِ الذي هو دونَه
فعفا عنه، وأعاده الى شغله.
أبو عبد الله محمّد بن جارية القصّار
كتبت من خطّه أنّه: محمد بن المبارك، بن عليّ، بن القصّار.
جارية القصّار: كانت عوّادة مُحسِنة، مستحسَنة، حافظة للأشعار، عارفة بالأدب. وكانت ممن يعقد عليها الخِنصَر في صِناعتها وبراعتها. ورأيتها في آخر عمرها. وكانت تزوّجت بابن حريقا، عاملِ الجوالي ببغداد، وماتت عندَه في سنة إحدى وخمسين وخمس مئة.
وسمعت أبا المعالي الكتبيّ يقول: إنّه كان لها ابن، يكنى أبا عبد الله، ولا ينسب إلا إليها. وبلغ مبلغَ الشّباب، وجمع أدوات ذي الآداب، فاخترمته يدُ الحدثان في العُنفُوان، وهذه عادة الزّمان الخوّان، بعد سنة أربعين وخمس مئة.
وأنشدني أبو المعالي لأبي عبد الله، في أخي البُدَيوي العوّاد، يهجوه، ويصف برد غنائه بأبيت أرقّ من السحر، وهي:
يا بديويُّ قد نشا لك في العو ... دِ أخٌ يستغيثُ منه العودُ
أنت تدري أنّ الشتاءَ على الأش ... جارِ صعبٌ إذا أطلّ شديدُ

لو أرادَ الإلهُ بالأرضِ خِصْباً ... ما تغنّى من فوقِه محمودُ
كلّما أنبتت يسيراً من العُشْ ... بِ وغنّى غطّى عليه الجليدُ
وأنشدني أبو المعالي الكتبيّ، قال: أنشدني محمد ابن جارية القصّار لنفسه، ونقلتهما من خطّه:
وأدهمِ اللّونِ ذي حُجولٍ ... قد عقدَتْ صبحَه بليلِهْ
كأنّما البرقُ خاف منه ... فجاءَ متمسكاً بذيلِهْ
وأتحفني الشيخ أبو المعالي الكتبيّ بكرّاسة من شعره بخطّه، ورواه لي عنه. فمن ذلك قوله من قصيدة:
وصاحبٍ سُمتُه استرفاقَ مُهلتِه ... بأنْ يدومَ له رِقّي على الزّمنِ
وما تحمّلتُ عِبْأَ من قوارصِه ... على وقوفي إلا ليحملَني
وقوله في كُتّاب الديوان:
الى كم أصون لساني ولا ... تصونونَ أعراضَكم بالجميلِ
وكم تُحفِظوني ولا تحْفَظو ... نَ مكاني وأدرأ عنكم فُضولي
فأقسِم إنْ خفّ حِلمي لكم ... وهمّتْ عواطفُه بالرّحيلِ
لأنتصِفَنْ منكُمُ للقريضِ ... وللآملين ولابْن السّبيلِ
وقوله يستهدي مِداداً:
إليك اشتكائي يا ابنَ الكِرا ... مِ شَيبَ دواتي قبل الهرمْ
وشيبُ الدّويّ كما قد علمْ ... تَ يعدِلُ في القبح شيبَ اللِّمَمْ
فمُرْ بخِضابٍ كفيلٍ بردِّ ... شبابِ ذوائبِه المنعدِمْ
وقوله في ذمّ الشّيب:
أكرهُ فودي أن يشيبَ وإن ... قال جهولٌ في الشّيبِ توقيرُ
المرءُ بدرٌ والشمسُ شيبتُه ... وما له في شُعاعِها نورُ
وقوله في تمني الشيب:
من خاف إن شاب هِجران الحسانِ وإص ... حارَ النّعيمِ ورفْضَ الكأسِ والنّغمِ
فلي الى الشيبِ شوقٌ ما يُنَهنِهُهُ ... سعيٌ للُقْياهُ من عمري على قدَمِ
ما أرغدَ الدّهرُ عيشي في الشباب ولا ... أحلى فأبكي شبابي حالةَ الهرمِ
وقوله من قصيدة:
راجع أناتَك أيها الغِرّيدُ ... هذا الفراقُ وما القلوب حديدُ
واستوقفِ العيس المراسِل تدّخِرْ ... أجراً فما تُعيي عليك البيدُ
إن كنتَ تخشى من ترفّعِ خِمسِها ... ظمأ فمنهَلُ مُقلتي مورودُ
أو كان يُعجلُك المراد فإنّ لي ... نفَساً يُعيدُ الروضَ وهو صَعيدُ
علّ البخيلةَ أنْ تجودَ بنظرة ... ولقد يجودُ بمائه الجُلْمودُ
إن كان موعدنا برامةَ غالَه ... خُلفٌ فهذا موعدٌ وزَرودُ
ومنها:
وأراكةٍ نشرَتْ ذوائبها الصّبا ... حتى تعقّدَ ظلُّها الممدودُ
ومنها في المدح:
سودُ الأثافي وهْو عامٌ أشهبٌ ... بيضُ الأيادي والنّوائبُ سودُ
وله:
الى كم أعلّلُ بالباطلِ ... ولا أستقرّ على حاصلِ
وأُدفَع من باخلٍ لا يَدينُ ... بدين السّماح الى باخِل
يصون بِرضِ جبانِ الفؤادِ ... حِمى عرض بطل باسلِ
أحلّيه بالدُرَرِ المُثْمِنات ... وأرجِعُ بالأملِ العاطلِ
ومنها:
إذا كان حظّ الفتى صاعداً ... فلا بأسَ بالأدبِ النازلِ
أحِذْقاً ورزقاً لقد رُمتَ ما ... يزيدُ على أملِ الآملِ
هما خلفان فهذا المقي ... مُ يُعقَبُ من ذلك الرّاحلِ
لقد ألجأتني صُروف الزّمان ... لحكمِ ضَرورتِها الحاملِ
الى معشرٍ قد أتمّوا الرّضا ... عَ من ضرْع لؤمهمُ الحافلِ
شيوخُهمُ بعدُ لم يُفطَموا ... وعالمُهم ضُحكةُ الجاهلِ
صُدورٌ ولكنّ أعجازهم ... صُدورٌ لوخْزِ القَنا الذّابلِ
وقوم رأوا أنّني شاعرٌ ... فلم يرفعوني عن الخاملِ
ولم يعلَموا ما رُواةُ القري ... ضِ عنديَ من آلةِ الكاملِ
وما غايةُ الفضلِ نظمَ القريض ... ولكنّه نفثةُ الفاضل

وله الي ابن الدّواميّ أبي المعالي، يطلب منه شراب البلَح في مرضه من القيام:
يا سيّداً جملةُ أوصافِه ... تُملي في ممتدحيهِ المِدَحْ
قد سال واديّ بما فيه فاس ... كِرْه بشيء من شراب البلَحْ
الرّبيب أبو المحاسن بن البوشنجيّ
لهج اللهجة، بنظم الرُباعيات، أرِج البهجة، بعرْفِ الحسنات.
كان والده وزيرَ أمير الجيوش نظر أمير الحجّاج. وورث هذا موضعه، ولم يزل وزير أمير الحُجّاج في آخر الدولة المقتفوية والدولة المستنجديّة. ثم ولي بواسط وزارة أميرها، وبقي مدّة بصفو العيش ونَميرها.
وسمعت الآن - في سنة اثنتين وسبعين وخمس مئة - أنّه موسوم بالعطلة، ممنُوٌّ بالعزلة.
وقد أوردت له، من فنه، ما يسبق إليه من لفظه وحسنه.
فمن ذلك قوله:
رقّت وتأرّجت برَيّا عبَقِ ... صهباءُ تخالُها شُعاعَ الشّفَقِ
يا بدرُ أدِرعها قبَساً في الغسقِ ... تُهدي طرباً وهي ضلالُ الطُرقِ
وقوله:
رقّت وصفت واسترقّت ألبابا ... راحٌ لبِستْ من الضّنى جِلبابا
يا بدرُ أدِر وعدِّ عمّن يابى ... كأساً طُرِد الهمّ بها فانجابا
وقوله:
ما أطيبَ ما زار بلا ميعادِ ... يختالُ كغصنِ بانةٍ ميّادِ
ما طلّ ولا بلّ غليلَ الصّادي ... حتى قرُبَ البينُ ونادى الحادي
وقوله:
بِتنا وضجيعنا عفافٌ وتُقى ... نشكو أرَقاً ونستلذّ الأرَقا
يا بدر دُجنّة ويا غصنَ نَقا ... لولاك لما عرفْتُ هماً وشَقا
أبو علي بن الرئيس خليفة الدّوَوي
كان يخدم شمس الملك بن النِّظام.
كان خليفة الدّوَويّ، رحمه الله، من الموالين لعمّي العزيز، رحمه الله، المتعصّبين له.
وهذا ولده أبو علي، حُكي لي عنه أنه برَع في الأدب، وأبرّ على أهله، وأرِجت أرجاء العِراق بنشر فضله.
وله المقطّعات النادرة الدالة على ظَرْفه ولطفه، وحسن معرفته، وطيب عَرفِه.
نضَب ماء شبابه، وأتاه نذير الأجل بكتابه، وعاجله من المنون ما لم يكن في حسابه.
أُنشدت له بيتين يهجو بهما ابن كامل العوّاد، أحلى من نغَمات العود، وألطف من نغمة الرّود، وأطيب من وِجدان الحظّ المنشود، وأحسن من الرّوض المعهود، وهما:
إن وفت لابن كاملٍ صنعةُ العو ... دِ فقد خانه غناءٌ وحلْقُ
هو للضّرب مستحقٌ ولكن ... هو بالضّرب للغناء أحقّ
وله رباعيات في حسن الربيع، بالمعنى البديع، واللفظ الرّصيع، فمنها:
يا من هرَبي منه وفيه أربي ... ضدّان هما عذابُ قلبي التّعِبِ
أحيا وأموتُ وهْو لا يشرُ بي ... كم وا حرَبي فيه، وكم وا حرَبي
ومنها:
يا من أدعو فيستجيبُ الدّعوى ... لا يحسُن بي الى سواك الشّكوى
أنت المُبْلي فكن مُزيل البلوى ... لا مُسعِدَ للضّعيفِ إلا الأقوى
أبو السّمح سعيد بن سمرة الكاتب
من أهل الأدب والفضل، له اليد الطّولى في النثر البديع، والكلام الصّنيع، والتصريع والترصيع. يحذو حذو الحريري في ترسّله، وينسج على منواله.
نظم رسائل على حروف المعجم، كلّ كلمة منها فيها الحرف الذي بنى الرسالة عليه، كرسالتي الحريري: السّينية والشّينية. وسأوردهما في كلام الحريري.
وأبو السَّمْح سمحُ الخاطر، جواد القريحة، مجيب الرّويّة، مصيب المعاني الرائقة، مجيدٌ لنظم الكلِم الفائقة.
أسلم في الدولة المستنجدية، وحسُن إسلامه، وعمل قصيدة في الرّد على اليهود وإظهار معايبهم، ورتّبه الإمام كاتباً بمَنثَره.
فمما أنشدني له في الإمام المستنجد بالله، يهنّيه بعيد الفطر سنة إحدى وستين، أبيات، نظمها غير معجمة، وهي:
ملِكَ الأمر دام أمرُك مسمو ... عاً مُطاعاً ما حال حوْلٌ وحالُ
ورعاك الإلُ ما همَر الرع ... دُ وما دامَ للوَدودِ وِصالُ
وأدام العلاّمُ مُلكَ محرو ... ساً محوطاً ما حُلِّلَ الإحلالُ
عمّ أهلَ الإسلام طوْلُك طُراً ... وعداهم لعدلِك الإمحالُ

ومحا رسمَ كل عادٍ مُعادٍ ... مُلحدٍ همّه الدّها والمِحالُ
سرّ أهلَ الصّلاحِ عصرُ إمامٍ ... ما عراه لردْع روْعٍ مَلالُ
عالمٌ عاملٌ معَمٌّ مُعِمٌّ ... عادلٌ عهدُ عدلِه هطّالُ
ملكٌ راحمٌ لداعٍ ومملو ... ل لداه ردا الولاءِ طُوالُ
حالُه حالكٌ وموردُه م ... رٌّ وأسما دُروعِه أسمالُ
عمّه طَولُه وأعدمه الإع ... دامُ عمداً وما عَرا إهمالُ
أسعدَ الله كلّ دهرٍ وعصرٍ ... سُدّة المُلكِ ما أهلّ هلالُ
حاطها الله ما لحى طالحاً لا ... حٍ وما لاح للحُداة الآلُ
وأنشدني له، وقد سامه بعد الصّدورِ أن يعمل شيئاً على نحو هذا البيت، وهو:
زار داوودَ دار أرْوى وأرْوى ... ذاتُ دلٍّ إذا رأت داوودا
وليس في هذا حرفان متّصلان.
فقال:
وادِدْ دُواداً وراعِ ذا ورَعٍ ... ودرِ دارا إن زاغَ أو زارا
وزُرْ وَدوداً وأدْنِ ذا أدبٍ ... وذَرْ ذَراه إن زارَ أو زارا
وأنشدني له، وقد ضمّنه رسالة:
من الغريبِ المُعنّى ... تبغي غريبَ المعْنى
هيهاتَ هيهاتَ ماذا ... حديثُ مَنْ هو مَعْنا
أبو البقاء بن لُوَيزة الخيّاط
من الحريم الطاهري.
كان أمّياً لا يُحسن الخطّ، ولا يعرف الضّبط.
وكانت أخته عوّادة، محسنة، أقامت عند أتابَك بن زنكي بالشام الى أن قُتل، ثم عادت الى بغداد، وصارت أستاذة بحكم صنعتها.
ومن شعر أبي البقاء:
تخرّصتِ الوُشةُ عليّ زوراً ... لقد كذَبوا وحقّك في المقالِ
وقالوا إنّه سالٍ هواهُ ... وما خطرَ السّلوّ له ببالِ
وله:
من ساعة ساروا وزمّوا عيسَهم ... وخلّفوني في الدّيار وحدي
أقبّلُ الأرض ودمعي ساجمٌ ... معفِّراً فوق التّرابِ خدّي
يا ليت أنّ الراقصاتِ نُحِرَتْ ... وعُطّلتْ عن سيرها والوَخْدِ
ولم تكن ترقِلُ والحِبُّ على ... أكوارِها قاصدةً لنجدِ
لا دَرّ درُّ البيْن ما أظلمَه ... في حكمه بالجورِ والتّعدّي
شتّت شملاً جامعاً مصطحباً ... وبدّلَ القُرْبَ بطول البعْدِ
إنْ عادتِ الأحبابُ من غيبتها ... وواصلوا بعْدَ الجفا بالصّدِّ
فمُهجتي نذْرٌ وما أملِكُه ... لمن أتى مبشّراً بالوفدِ

أبو القاسم هبة الله بن الفضل الشاعر
رأيته شيخاً مسناً، مطبوعاً، حاضرَ النّادرة.
توفي ببغداد في شهور ثمان وخمسين وخمس مئة.
وله شعر كثير، لم يدوّن، والغالب عليه الهجاء والمجون، وما خلا من ذلك لا يكون له طُلاوة. هجا الأكابر، ولم يغادر أحداً من أهل زمانه.
سمعته يُنشد بيتاً له في نفي الخَيال الكرى، وهو:
ما زارني طيفُها إلا مُوافقةً ... على الكرى ثم ينْفيه وينصرفُ
ورأيته كثيراً يُنشد الوزير ابن هبيرة، ويمدحه، ويجتديه. وقال يوماً: إرحَمْ يتيماً في سنّي. وكان يتبرّم به الوزير، حتى حدّثني صديقي مجد الدولة أبو غالب بن الحصين قال: أنشد الوزير:
شعريَ قد بطّ جُيوبَ الورى ... فلو أردتَ المنعَ لم تقدِرِ
وأزهرُ السّمانُ لا ينثني ... ما دام حياً عن أبي جعفر
وحكاية الأزهر السمّان مع المنصور، مشهورة، وهي:

أنّ هذا أزهر السمان رجل من أهل الكوفة، كان يصحب أبا جعفر، رضي الله عنه، في زمان بؤسه، قبل الخلافة. فلما فوّضت الخلافة الى المنصور، جاءه أزهر مهنّئاً بذلك، فحجبه. فترصّد له في مجلس حفْل، فسلمَ عليه، فقال له المنصور: ما جاء بك؟ قال: جئت مهنئاً بالأمر، فقال المنصور: أعطوه ألف دينار، وقولوا له: قد قضيت وظيفة الهناء، فلا تعُدْ إليّ. فمضى. وعاد في القابل، فحجبه، فسلّم عليه في مثل ذلك المجلس، فقال: ما الذي جاء بك؟ قال: سمعت أنّك مريض، فجئت عائداً، فقال: أعطوه ألف دينار وقولوا له: قد قضيت وظيفة العيادة، فلا تعُدْ إليّ، فإني قليل الأمراض. فمضى. وعاد في القابل، فقال له في مثل ذلك المجلس: ما الذي جاء بك؟ قال: كنت سمعت منك دعاءً مستجاباً، فجئت أتعلّمه منك. فقال: يا هذا، إنه غير مستجاب، إني في كل سنة أدعو الله تعالى به أن لا تأتيني، وأنت تأتي! وله القطعة التي يغنّى بها في بغداد، في غاية الحسن والرّونق، الصافي عن القذى والرّنَق:
يا من هجرَتْ ولا تُبالي ... هل ترجعُ دولة الوصال
ما أطمعُ يا عذاب قلبي ... أن ينعَم في هواكِ بالي
الطّرفُ كما عهدتِ باكٍ ... والجسمُ كما تريْن بالِ
ما ضرّكِ أن تعلّليني ... في الموصل بموعدٍ مُحالِ
أهواكِ وأنت حظُّ غيري ... يا قاتلتي فما احتيالي
أيامُ عنايَ فيك سودٌ ... ما أشبههنّ باللّيالي
والعُذّلُ فيك قد نهوْني ... عن حبّك ما لهم ومالي
يا مُلزمي السلوّ عنها ... الصّبّ أنا وأنت سالِ
والقولُ بتركها صوابٌ ... ما أحسنَه لو استوى لي
في طاعتها بلا اختياري ... قد صحّ بعشقها اختلالي
طلّقتُ تجلّدي ثلاثاً ... والصبوةُ بعدُ في حبالي
ذا الحكمُ عليّ من قضاهُ ... من أرخصني لكلِّ غالِ
وقوله في ابن شماليق كَثير:
ابنُ شماليقَ ليس فيه ... نفعُ صغيرٍ ولا كبيرِ
فكيف أثني عليه يوماً ... بمنطِقِ الحامدِ الشّكور
واللهُ قد قال فيه قبلي ... يهجوه لا خيرَ في كَثير
وله في قصيدة يهجو فيها جماعة، منهم بعض الهاشميين، يطعن على نسبه:
يكنى أبا العباس وهْو بصورة ... حكمت عليه وأُسجلت بمُغمِّرِ
في كفِّ والدِه وفي أقدامِه ... آثارُ نيلٍ لا يزالُ وعُصفرِ
وإذا رأى البركيلَ يخفقُ خيفةً ... ذي الهاشميّة أصلُها من خيبرِ
نسَبٌ الى العبّاس ليس نظيرُه ... في الضّعف غير الباقِلاء الأخضرِ
يُنادى، في بغداد، على الباقِلاء الأخضر، بالعبّاسي.
وله:
رنا عن الفاترِ الكحيل ... والحتفُ في سُمّه القَتولِ
كم سلّ من مقلتيْه سيفاً ... تقبيلُه مُنيةُ القتيل
أحورُ حرُّ القلوبِ فيه ... مولِّدٌ حيرةَ العقولِ
لم يسْلُ فيه فؤادُ صبٍّ ... هام على خدّه الأسيلِ
وا ويلتي قولُ مستغيثٍ ... من ظالم واهبٍ بخيلِ
من سُقم جفنيه سُقم جسمي ... ومن ضنى خصرِه نُحولي
وأنشدتُ له في أنوشروان الوزير، في ذمّ التّواضع:
هذا تواضُعك المشهورُ عن ضعَةٍ ... فصرتَ من أجله بالكبر تُتّهَمُ
قعدْت عن أمل الرّاجي وقمت له ... فذا وُثوبٌ على الطُّلاب لا لهُم
وأنشدت له في أبي بكر وعمر ابني السّامري البيّع:
أبو بكر أخو عُمر سباني ... بسهمَي مُقلتيه وحاجبيْهِ
إذا مشَيا معي أبصرتُ أفقاً ... أحاطَ به السّنا من جانبيْهِ
يموت الحاسدون إذا رأونا ... فنخرُج بالنّبيّ وصاحبَيْه
إشارةً الى قول المشيعين للجنائز: النبي وصاحبيه.
ومما أنشد الوزير ابن هبيرة، في آخر عمره، قطعة جيميّة، استحسنتُها، فكتبتها:
أهلاً وسهلاً بمولانا فأوبتُه ... لكلّ شاك بها من ضُرّه فرَجُ
لا أعدَم اللهُ فيك الخلْقَ نافعَهم ... يا من به تفخرُ الدُنيا وتبتهجُ

ودام جُودُك عون الدّين يغمرُنا ... يا مَنْ تعيشُ بما تسخو به المهجُ
إصنَع لهمٍّ أخي همٍ تقلقله ... فصدرُه ضيق من رُعبِه حرِج
ومنها:
مولاي قد قصُرت بها نهضتي كبَراً ... فما عليّ بشكوى فاقةً حرَجُ
يا خيرَ من لاحظَ المضطرّ نائلُه ... وخيرَ ذي كرم في بابه ألِجُ
أنت المؤمّلُ للغمّاء تكشِفُها ... إذا تخطّفتِ المستصرِخ اللُّجَجُ
يا محسناً طرَدت آلاؤه كرماً ... ما في فؤادي من اللأواء يعتلجُ
طيّبْ بقيّة عمري بالتّعهد لي ... يا من له طيبُ ذِكر نشرُه أرِجُ
يا من له حجّة بالعزّ قائمة ... إرحَمْ لك الخيرُ شيخاً ما له حُججُ
فإنّ من جاوزَ العُمريْن قد خرِبتْ ... بالعجزِ منه أعالي القصرِ والأزَجُ
ففيمَ تخدَعُني الدُنيا بزينتها ... والحَينُ قد حان والأحبابُ قد درَجوا
والرّزقُ ما دمتُ حياً أبتغيه كما ... يرومُه يافعٌ في حرصه لهِجُ
ومنها:
آن الأوانُ وأعمالي التي سلَفت ... عِقدٌ يجاورُ فيه دُرّهُ السّبَجُ
وذو الجلال إذا ما شاءَ محّصها ... برحمةٍ منه بالغفران تمتزجُ
إنّ الذّنوب ذُنوبَ العفوِ يغسِلُها ... فطيمئنّ بها في الحشرِ منزعجُ
وأنت واللهِ في علمٍ وفي عملٍ ... من يستقيمُ به في العالم العِوَجُ
أولى بمجدِك أن تحنو على يفَنٍ ... مديحُه بالذي أوليتَ مبتهجُ
فالعدلُ عندك والإحسان سوقُهما ... قامت على قدَمٍ ما شانَها عرَجُ
وما أحاولُ من نَعمءَ تُسبغُها ... فثوبُها لي بما أرضاه ينتسجُ
جنابُك الرّحبُ يا أندى الكرام يداً ... فيه بصنعك عنّي الضّيقُ ينفرجُ
ومنك آمُلُ بعد الله عارفةً ... بها يزيّل عنا الشدةَ الفرَجُ
فانظُرْ إليّ بإحسانٍ تحوزُ به ... حسنَ الثّواب الذي تعلو به الدّرجُ
فليس إلاك مُجدٍ نستجيرُ به ... من الخطوبِ التي تنكيلُها سمِجُ
فالناس بالناس في الأزمان بعضُهُم ... للبعض في ظُلَمٍ تغشاهُمُ سُرُج
وله من قصيدة يشكو فيها قسمة الحظّ، من جملتها:
يُعطي البُغا لابنِ السّمي ... نِ ويحرِمُ الفافا وقَيْلَقْ
ابن السّمين: رجل شيخ، محدّث. والفافا وقيلق: كانا مملوكين لابن الأنباري، موصوفين بالحسن.
وله في أمين الدولة، المعروف بابن التّلميذ:
ليس يُعطي مَن يؤملُه ... غيرَ طلْقِ الوجهِ والقُبلِ
ولُفيظاتٍ ينمّقُها ... خُدعةَ الجمّالِ للجمَلِ
وقياماً ما يُخلّ به ... ذا يكدّي آخرَ العملِ
وسمعت أن ابن التّلميذ نفّذ إليه ثوباً أسود في جوابه، وكتب معه:
أحبّك في السّوداء تسحب ذيلَها ... خطيباً ولكن لا بذكرِ مثالبي
ونقلت من خطّ ابن الفضل الشاعر قطعة، كتبها الى البُرهان عليّ الغزْنَويّ الواعظ، وكان يذكره ويتعرّض به:
الى متى تجْني وتستعدي ... يا سيئَ التّدبيرِ والعهدِ
فحاسبِ النّفسَ على ما كلّ ما ... تأتيه من جورٍ على عمْد
ولا تُغاثثْ بعتابي على ... إغضاءِ وافٍ صالح الوُدِّ
واترُكْ برأيي دسْتَنا قائماً ... واجعلْهُ بالشّطرنْجِ لا النّردِ
ففصُّك المعلولُ في اللّعن لي ... يحرّم القمرَ بلا بُدّ
وسالفُ الصُحبة لا تنسهُ ... ولا تثوّرْ بالأذى حِقدي
ولا تجدّدْ بعتابي من ال ... إوان ما سكّنتَ من وجْدي
دعني أُصادي النّفسَ عن غيظِها ... منك بشكرِ البِرِّ والرِّفدِ
إنّ الأذى والمنّ قد صيّرا ال ... لِباس منه خلَق البُردِ

وعاد واللهِ عُقوقاً به ... تأكُلُ يا سيّدنا كِبْدي
وا عجباً من فطِنٍ كيّسٍ ... إيمانُه يأوي الى زُهدِ
أبعْدَ عشرين خلت وانقضت ... بين العراقَين الى نجْدِ
ما غيّرتْ بغدادُ في هذه ال ... مدّةِ سوءَ الخُلُقِ الجعْدِ
والشّوكُ والثّلجُ على حالةٍ ... يشوبُ حرّ الوخْزِ بالبردِ
كان أبداً يحدّث الغزْنويّ عن طريق غَزْنة، والبرد فيها والشوك، فيقول له: ما فارقتَ بعدُ تلك الطريقة.
وأنت تنهى الناس عن غيبةٍ ... في مثلِها تأمُرُ بالرّدِّ
إما بتخويفٍ من النارِ أو ... بنوعِ تشويقٍ الى الخُلدِ
وبعدَ ذا تفعلُ بي هكذا ... زِنْهار من سالوسِك السّرْدِ
وهذه العجمةُ من عندِك اقْ ... تبستها ما هي من عندي
أنا وأغراضي على تركي ال ... جدالَ بين العكسِ والطّردِ
إرجِعْ الى الله ودعْني ولا ... ترْمِ بسهمِ الطّيشِ من بُعْدِ
منْ قطعَ الوصلَ بلا موجبٍ ... ذاك الذي يصلُحُ للصّدِّ
هبْني كشيءٍ لم يكن أو كمن ... وسّدَه الحفّارُ في اللّحدِ
وفّقنا اللهُ وإيّاكَ يا ... مولايَ للخيرِ وللرُّشْدِ
لا تُصلحِ الفاسدَ منّي بما ... يخرُجُ من خردٍ الى شدِّ
ودَرْدِسَرْ يا نور عيني مكُن ... لضيّقِ الأنفاسِ بالدّرْدِ
ولا تنغّصْ من دِنانٍ خلت ... لبختيَ الأسودِ بالدّرْدي
تُريد منّي بعدَ ويلٍ جرى ... سعياً الى الخدمة بالقصدِ
هيهاتَ يأجوجُك في باطل ... باللّحْسِ للمُحْكَمِ من سَدّي
أنت تُداجيني كذا ساخراً ... أنا الذي أخنَقُ بالزُبدِ
وخاطري بالقدْح في كل ح ... رّاق سحيق واريَ الزّندِ
إبليسُ في كل بلاء به اس ... تغوى بني آدمَ من جندي
أنا الذي أمزِجُ خلّي إذا ... ما شئتُ للمُمْرَضِ بالشُهْدِ
إيارَجي أخلِطُ أخلاطَه ... مُغالطاً للخصمِ بالفَنْدِ
طِبٌ عراقيٌ على صورة الت ... حقيق لا برْخَشةُ الهندِ
عليّ مَن يُقدمُ أن يجتري ... بصولة المولى على العبدِ
عندي وفاءُ الكلب لكنّه ... مركّبٌ من قسوةِ الأسْدِ
أغاضبُ الفيلَ على أنني ... عند الرِّضا أرقُصُ للفردِ
ما لغزالِ السِّرْبِ حظٌ إذا ... ما عزّه المكروهُ بالفهْدِ
وشفةُ الشّهم قبيحٌ بها ال ... لَثْمُ لنعلِ الفرَسِ الورْدِ
يا نفْثةَ المصدور مني قِفي ... دونَ المناواةِ من الحدِّ
فاسلَمْ وسالمْني فهزْلي هو ال ... سُمّ إذا أعربَ عن جِدِّ
وقد أردف هذه القطعة بنثر، من جملته:
إنّ الله تعالى بذل المغفرة رشوةً وبرطيلاً لعباده من عبادته في جزاء العفو والصّفح، بقوله: (ولْيَعْفوا ولْيَصْفَحوا. ألا تحبّونَ أن يغفِرَ اللهُ لكم؟).
وإذا وزنَ سيّدنا ديناره في قسطاس الإنصاف، موازناً له بصَنْجة الاعتراف، درى بما جنى، وبرئت من المعاتبة أنا. لكنه يدغدغ نفسه ويضحَك، وأسامحُه ويمْحَكُ.
وقد توالى من نزَغات الشيطان أسبابٌ زعزعت أركان المودّة، وزلزلت أرضَ الألفة، ورنّقت مشرَبَ المحافظةِ، وجلّلت آفاق المصافاة بالكدورة، وأفسدت نظام الأخوّة حتى أجلت معانيَها، وأخلَت مغانيه، فعاد الالتفاتُ من الجانبين جميعاً الى المحافظة التفاتاً عنها، فتباعدتِ الضّمائرُ بعد تقاربها، وتناءت عقب تصاقبها، وانطبع في كل مرآة صورة الإيحاش، من غير مِراءٍ فيه ولا تحاش.
وحصلْنا على نِفاق أجازي ... هِ بصبري عليه غصباً ورغْما
والبصير الذي يُحابي بأن يُص ... بحَ عن رؤية المحاباة أعمى
فإلى كم تكونُ حربي بلعني ... كلّما كنت بمالمداراة سِلْما

علم الفضل أبو منصور

المبارك بن سلامة المخلطيّ البغدادي
من أهل الجانب الغربي، من مادحي الوزير جلال الدين بن صدقة.
أنشدني صديقي مجد الدولة أبو غالب بن الحصين، قال: أنشدني خالي وابن عمّ أبي شمس الرؤساء، أبو الحسن، عليّ بن محمد بن الحصين، قال: أنشدني أبو منصور ابن سلامة لنفسه:
وُجودُ الفتى فقدٌ إذا عدِم الشُكرا ... وثروتُه فقرٌ إذا لم تُفِدْ ذِكرا
ثمارُ الثّنا من دوحةِ الجودِ تُجتَنى ... ولولا احتراقُ العود ما اكتسب العطرا
ومن كان يرضى بالخمول مخيِّماً ... وإن كان حياً ميّتٌ ساكنٌ قبرا
تغرّبْ عن الأوطان في طلبِ العلى ... الى نيلِ ما تهواه لا تكرهِ المسْرى
فقد عاف دُرّ البحرِ فيه خمولَه ... ففارقَه حتى ارتقى التاجَ والنّحرا
وإنّ اسوِدادَ المسكِ بعد احمرارِه ... بفُرقته للظّبي أعقبه النّشْرا
ومن كان ذا جهلٍ بأبناء دهرِه ... فإني قد جرّبت أحوالهم خُبْرا
فألفيتُهم أعداءَ من قلّ مالُه ... على غير ما جُرْم وأخلاّء من أثرى
يكذّبني معروفُهم في مديحهم ... فأحتاجُ أن أبني لتقصيرهم عُذرا
وأنشدت له في غلام، عرض عليه أن يشرب فأبى:
وأعرضَ إذ عرَضْتُ عليه خمراً ... يروقُ الشَّرْبَ من شُربِ الظِّرافِ
فيا متحاشياً من شُربِ راحٍ ... مع النّدماء صافيةِ النِّطافِ
إذا ما كنت ذا ورَع ونُسْكٍ ... أرِقْ ما في لحاظِك من سُلافِ
وله:
بأنامل أصمت مَقاتلَنا ... فرؤوسُها بدمائِنا حُمْرُ

محمود بن محمد بن مسلم
الشّروطي البغدادي
كان شاباً، رائق الشّعر، بديع النّظم والنّثر.
أنشدني لنفسه من قطعة يغنّى بها:
يا طُلولُ بعدَهمُ ... كيفَ حالُ ذي شجَنِ
غيّرتْكِ حادثةٌ ... من حوادثِ الزّمنِ
وكان يُنشدني من شعره كثيراً، ولم أثبته.
وآخر عهدي به سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة. وتوفي بعد ذلك، وأنا بواسط.
وله ديوان.
وكان معظم مدحه في نقيب النُقَباء ابن الأتقى الزّينيّ.
وله من قصيدة في مدحه، مستحسنة، أولُها:
في حدّ رأيِك ما يُغْني عن القُضُبِ ... وفي سخائك ما يُرْبي على السُحُبِ
وفي اعتزامِك ما لو شئت تُنفذُه ... أبادَ بالخوف أهلَ الدهرِ والرُعُبِ
دانت لهيبتك الأيام خاضعةً ... وفلّ عزمُك حدّ الموكبِ اللّجِبِ
وقال عنك لسانُ الدهر ما نطقت ... به على كل عودٍ ألسُنُ الخُطَبِ
يا طلحةُ بن عليّ ما لائدِنا ... الى الغنى غيرُ ما توليهِ من سببِ
جابت بنا البيدَ عيسٌ طالما غنِيَتْ ... براحتَيْك عن الأمواه والعُشُبِ
حتى وصلنا الى ملْكٍ مواهبُه ... مقسومةٌ بالنّدى في العُجم والعرَبِ
محجّب برِواق من مَهابته ... يلقى الوفود بمالٍ غيرِ متجِبِ
ومنها:
فجدّه في صعودٍ لم يزَلْ أبداً ... ومالُه بالنّدى المنهَلِّ في صبَبِ
إن ساجَلوك وجاؤوا بانتسابِهم ... ففي السمء مقرّ الرّأسِ والذّنبِ
أو شابهوا عاطفاتٍ منك طيّبةً ... فالعودُ والعودُ معدودانِ في الخشبِ
وكلّه خشبٌ في الأرضِ منبِتُه ... لكنّ شتّان بين النّبعِ والغرَبِ
أو كان أصلُك يا ابنَ المجد أصلهمُ ... فالنّخل لا شكّ أصلُ اللّيف والرُطَبِ
لبّيكَ من منعِمٍ قال الزّمان له ... أنت المُعدّ لصَرْفِ الدهرِ والنّوَبِ
ومنها:
وكيف لا ترتضي الآمالُ رأيَ فتىً ... مذ كان في المهدِ أعطي الحكم وهْو صَبي
وأجدرُ الناس بالعلياء من شهدتْ ... له العلى وعلى حُبِّ الإمام ربي
يا من علت درجاتُ الفضلِ بي وبه ... شعري وجودُك رأسُ المجدِ والأدبِ

لما غدوتَ من الأجوادِ منتخَباً ... أتاك شري بمدحٍ فيك منتخَبِ
فلا مددتَ يداً إلا الى ظفَرٍ ... ولا وطِئْتَ ثرىً إلا على أرَبِ
وله من قصيدة في مدحه:
جرّبتُ أبناءَ هذا الدهرِ كلهمُ ... ولم أجِدْ صاحباً يصفو به الرّنَقُ
إنْ حدّثوا عن جميلٍ من خلائقهم ... مانوا وإن حدّثوا عن ميْنِهم صدقوا
هم العُدوّ فكن منهم على حذَرٍ ... لا يخدعَنْك له خلْقٌ ولا خُلُقُ
تغيّر الدهرُ والإخوانُ كلهمُ ... مالوا عليّ فلا أدري بمن أثِقُ
وله من قصيدة:
أعنِ العَقيقِ سألتَ برقاً أومَضا ... أأقامَ حادٍ بالرّكائب أو مضى
إن جاوز العلمَيْن من سِقْط اللّوى ... بالعيس لا أفضى الى ذاك الفضا
وله:
حيِّ جيراناً لنا رحلوا ... فعلوا بالقلب ما فعلوا
رحلوا عنّا فكم أسَروا ... بالنّوى صبّاً وكم قتَلوا
من لصَبٍّ ذابَ من كمَدٍ ... طرفُه بالدّمعِ منهملُ
فهْو من شدْوِ النّوى طرِبٌ ... وهْوَ من خمرِ الهوى ثمِلُ
واقفٌ بالدّارِ يسألُها ... سفَهاً لو ينطقُ الطّللُ
لو تُجيبُ الدارُ مخبرةً ... أين حلّ القومُ وارتحلوا
لتشاكَيْنا على مضضٍ ... نحن والأوطانُ والإبِلُ
يا صَبا نجدٍ أثرتِ لنا ... حُرَقاً في القلب تشتعلُ
غرّدَ الحادي ببَينِهمُ ... فله يومَ النّوى زجَلُ
يا شُموساً في القِباب ضُحىً ... حجبْتها دوننا الكِلَلُ
عجْن بالصبِّ المشوقِ فقد ... شفّه يومَ النّوى الملَلُ
وله:
ألِفْتُها وللحُدا تغريدُ ... عن رامةٍ إنْ وصلتْ زَرودُ
فلاحَ برقٌ بثنيّاتِ الحِمى ... تُشيمُه للأعينِ الرّعودُ
فمالتِ الأعناقُ منها طرباً ... كما يُميلُ الناشدَ المنشودُ
أسكرها خمرُ السُّرى تحت الدُجى ... لا الخمرُ ما جاء به العُنقودُ
وللنّسيم في الظلام يقظةٌ ... مسامرو الرّكْبِ بها رُقودُ
نوقٌ إذا ما سلِمتْ من الوجى ... أذابَها التّسْآدُ والتّسهيدُ
تبغي زَروداً حاجةً ممنوعةً ... ومقصِداً مرامُه بعيدُ
لو خُلّيتْ نالت ولكنْ عافها ... أنّ امتناعَ ركبِها قُيودُ
أو نطقت قالت كما قلت لها ... آهاً لهذا البينِ ما يُريدُ
في كل يومٍ للفراق روعةٌ ... وللرّكاب سائقٌ غِرّيدُ
دأبُ المحبّين الغرامُ والجوى ... ودأبُها الأنساعُ والقيودُ
قد شابهَ الرّكبُ الرِّكابَ في الهوى ... فكلّهم بوجْدِه عميدُ
ما للغمامِ لا عدا وادي الغضَى ... عليه من خِلاله يجودُ
وهبّ خفّاقُ النّسيم فانثنت ... غصونُه مائسةً تَميدُ
واكتستِ الكُثبانُ زهْراً مثلما ... بصِبغها لُوِّنَتِ البُرودُ
وفاحَ نشْرُ الرّوضِ تحدوهُ الصّبا ... فطاب من ريّاهُما الصّعيدُ
وابتسم النّوْرُ على هامِ الرُبا ... كما وهت عن نظمها عقود
ومالتِ الأغصانُ روّاها النّدى ... كأنّما أوراقُها بُنودُ
فلستُ أدري أغصوناً مِسْنَ لي ... أم خطرَتْ بلينِها القُدودُ
هيهاتَ يُخفي ما به مُتيّمٌ ... دموعُه بوجْدِه شهود
مجتمعُ الأضدادِ من جُفونِه ... بحرٌ ومن أحشائِه وَقودُ
عاد الهوى فليتَ أيامَ الصِّبا ... مثلُ الهوى كما مضت تعودُ
والشّعراتُ البيضُ شُبْنَ مفرِقي ... فليتَها عادت وهنّ سودُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16