كتاب : خريدة القصر وجريدة العصر
المؤلف : العماد الأصبهاني

أَبْكَيْتُمُ عيني دماً لفِراقكم ... فكأَنّما إِنسانها مجروح
والبيت المشار إليه :
وكأَنّ قلبي حين يَخْطُرُ ذكركُمْ ... لَهَبُ الضَّرام تعاورته الرّيح
فقلت : له صدقت ، فإن الوزير المغربي قصد تشبيه خفقان القلب وأنت شبهت القلب الواجد باللهب ، وخفقانه باضطرابه عند اضطرامه لتعاور الريح ، فقد أربيت بالفصاحة على ذلك الفصيح .
وأنشدني أيضاً من قوله أيام شبابه وهو مُعْتَقَلٌ وقد جرى ذكر الخيال :
ذَكَر الوفاءَ خيالُك المُنْتابُ ... فأَلَمّ وهو بودّنا مُرْتابُ
نفسي فِداؤك من حبيبٍ زائرٍ ... مُتَعَتَّبٍ عندي له الإعتاب
مُسْتَشْرِفٍ كالبدر خَلْفَ حجابِه ... أَوَ في الكرى أَيضاً عليك حِجاب
ودّي كعهدِك والدّيارُ قريبةٌ ... من قبل أَن تتقطَّع الأَسباب
ثَبْتٌ فلا طولُ الزّيارة ناقِصٌ ... منه وليس يزيده الإِغْباب
حَظَر الوفاءُ عليّ هَجْرَك طائعاً ... وإذا اقُتِسرتُ فما عليّ عِتاب
قلت له أحسنت ، وتذاكرنا قول أبي العلاء المعري في الخيال :
لو حَطَّ رحليَ فوق النجم رافعُه ... أَلفيتُ ثَمَّ خَيالاً منكَ مُنْتَظِري
وأبلغ من هذا في بعد المسافة :
وذكرتُ كم بين العَقِيق إلى الحمى ... فَجِزْعُت من أَمد النَّوى المُتَطاوِل
وعَذَرْتُ طَيْفَك في الجفاء فإِنه ... يَسْري فيُصْبِحُ دونَنا بمراحِلِ
ثم أنشدني الأمير أسامة قصيدةً نونية ، لنفسه ، منها :
مُحَيّاً ما أَرى أَمْ بَدْرُ دَجُنْ ... وبارُق مَبْسِمٍ أَم برقُ مُزْنِ
وثغرٌ أم لآلٍ أَم أَقاحٍ ... وريقٌ أَم رَحيقٌ بنت دَنّ
ولحظٌ أَم سِنانٌ ركّبوه ... بأَسمرَ من نبات الخَطّ لَدْن
ومنها :
فيا مَنْ منه قلبي في سعيرٍ ... وعيني منه في جَنّاتِ عَدْنِ
إِذا فكَّرتُ في إِنفاق عُمري ... ضَياعاً في هواك قَرَعْتُ سِنّي
وآسَفُ كيف أَخْلَق عهدُ ودّي ... وآسي كيف أَخلف فيك ظنّي
وأَعجبُ ما لقيتُ من الليالي ... وأَيُّ فِعالها بي لم يَسُؤْني
تَقَلُّبُ قَلْبِ مَنْ مَثْواه قلبي ... وجَفْوَةُ مَنْ ضَممتُ عليه جفني
وأنشدني لنفسه من قصيدة :
حتّامَ أَرغبُ في مَودَّة زاهدِ ... وأَروم قُرْبَ الدّار من مُتباعِدِ
وإِلامَ أَلتزمُ الوفاء لغادرٍ ... جانٍ وأُسْهِرُ مُقْلَتَّي لراقد
وأَقول هِجْرَتُه مَخافَةَ كاشحٍ ... يُغْري بنا وحِذَارَ واشٍ حاسِدِ
وأَظُنُّهُ يُبدي الجفاءَ ضَرورةً ... وإِذا قطيعُته قطيعةُ عامد
يا هاجراً أَفنى اصِطباري هَجْرُه ... وابتَزَّ ثوبَ تَماسُكي وتَجالُدي
كيف السّبيلُ إلى وِصالك بعدما ... عَفَّيْتَ بالهِجران سُبْلَ مَقاصدي
ويلومُني في حَمْلِ ظُلْمِك جاهلٌ ... يَلْقى جَوى قلبي بقلبٍ باردِ
يَزْري على صَبْري بصبرٍ مُسْعِدٍ ... ويَصُدُّ عن دمعي بطرفٍ جامد
أَتُراك يعطِفُك العِتابُ وقلّما ... يَثْني العِتابُ عِنانَ قلبٍ شارد
هَيْهات وصْلُك عند عَنْقا مُغْرِبٍ ... ورضاك أَبْعدُ من سُهًى وفراقد
وَمِنَ العَناءِ طِلابُ ودٍّ صادقٍ ... من ماذقٍ وصلاحُ قلبٍ فاسد
وأنشدني لنفسه في الحباب من أبيات :
وقدعلاها حَبابٌ ... كاللؤللؤ المنظومِ
رأَيت شمسَ نهارٍ ... قد رُصِّعتْ بالنُّجوم
واجتمعنا عند الملك الناصر صلاح الدين بدمشق ليلةً ، وكان يلعب بالشطرنج ، فقال لي الأمير أسامة : أما أنشدك البيتين اللذين قلتهما في الشطرنج . فقلت : هات فأنشدني لنفسه :
أُنْظُر إلى لاعبِ الشِّطْرَنْج يجمعُها ... مُغالِباً ثم بعد الجمعِ يَرْميها
كالمرءِ يكدحُ للدُّنْيا ويجمعُها ... حتى إِذا مات خَلاّها وما فيها

وأنشدني لنفسه ، وقد نظمه في غرضٍ له في نور الدين رحمه الله :
سلطانُنا زاهِدٌ والناس قد زهَدِوا ... له فكلٌّ على الخيراتِ مُنْكَمِشُ
أَيّامُه مثلُ شهِر الصوم طاهرةٌ ... من المعاصي وفيها الجوع والعطش
وأنشدني لنفسه :
أَأَحْبابنا هَلاّ سَبَقْتُمْ بوَصْلِنا ... صُروفَ اللّيالي قبل أَن نتفرّقا
تشاغلتمُ بالهَجِر والوَصلُ مُمْكِنٌ ... وليس إِلينا للحوادث مُرْتَقى
كأَنّا أَخذنا مِنْ صُروفِ زماننا ... أَماناً ومن جَوْرِ الحوادثِ مَوْثِقا
وقال :
قمرٌ إذا عاينتُه شَغَفاً به ... غَرَسَ الحياءُ بوجْنَتَيْه شَقيقا
وتلهّبتْ خجَلاً فلولا ماؤُها ... مُتَرَقْرِقا فيها لصار حَرِيقا
وازورّ عني مُطْرِقاً فأَضّلني ... أَنْ أَهتدي نحو السُّلُوِّ طريقا
وقال :
صَدَّ عنّي وأَعْرَضا ... وتناسى الذي مضى
واستمرّ الصدود وانْ ... قطع الوصلُ وانقضى
واختفتْ في الهوى ذُنو ... بٌ بَدَتْ حين أَبْغضا
صرَّح الآن هَجْرُه ... لي بما كان عَرَّضا
كلُّ عَيْبٍ يبين في السُّ ... خْط يخفى مع الرِّضا
وإِذا اسُتْعِطف المَلو ... لُ تجنّى وأَعرضا
ليتَ مَنْ مَلّني وأَنْ ... حَل جِسْمي وأَمرضا
عاد بالوصلِ أَو قضى ... فيَّ بالعدل إِذْ قضى
وقال :
أَقولُ للعينِ في يومِ الوَداعِ وقدْ ... فاضتْ بدمعٍ على الخدَّيْنِ مُسْتَبِقِ
تَزَوّدي اليومَ مِنْ توديِعهم نَظَراً ... ثم افَرُغي في غدٍ للدَّمْعِش والأَرق
وقال في المعنى :
يا عينُ في ساعِة التَّوْديع يَشْغَلُكِ الْبك ... اء عن آخر التّسْليم والنّظَرِ
خُذي بحَظِّكِ مِنْهمْ قبلَ بَيْنِهِم ... ثم اجهَدي بعدَهُمْ للدَّمْعِ والسَّهَر
وقال :
يا مُدَّعي الصَّبر عن أَحبابه ولهُ ... دَمْعٌ إذا حَنَّ ذِكْراهُمْ يُكَذِّبُهُ
خَلَّفَتْ قلبك في أَرضِ الشآم وقد ... أَصبحتَ في مصر يا مغرورُ تَطْلُبه
هلاّ غداةَ النّوى استصحبته وإِذا اخْت ... ار المُقامَ فهّلا كنتَ تَصْحَبُه
أَفردتَه بالأَسى في دار غُرْبَته ... وعُدتَ لا عُدتَ تَبْكيه وتَنُدُبه
هَيْهاتَ قد حالتِ الأيّام بَيْنَكُما ... فَعَزِّ نَفْسَك عمّا عَزَّ مَطْلَبه
وقال :
صبري على فَقْدِ إِخواني وفُرْقَتِهمْ ... غَدْرٌ وأَجْمَلُ بي من صَبْرِيَ الجزَعُ
تقاسَمَتْهُمْ نوًى شَطَّتْ بهم ورَدًى ... فالحيُّ كالمَيْتِ ما في قُرْبِه طَمَعْ
وأَصبحتْ وَحْشَةُ الغَبْراء دونَهُمُ ... مِنْ بَعْدِ أُنْسي بهم والشَّمْلُ مُجْتَمِعُ
وعِشْتُ مُنْفِرداً منهم وأُقْسم ما ... يكاد مُنْفَرِدٌ بالعيش ينَتْفع
وقال :
ما حِيلتي في المَلول يَظْلِمُني ... وليس إن جار منه لي جارُ
وِدادهُ كالسَّحاب مُنْتَقِلٌ ... وعهده كالسَّرابِ غَرّارُ
آمَنَ ما كنتُ منه فاجأَني ... بغدره والمَلولُ غدّار
عَوْني عليه مدامِعٌ سُفُحٌ ... وزَفْرَةٌ دون حَرّها النار
وقال :
أَصبحتُ لا أَشكو الخطوبَ وإِنما ... أَشكو زماناً لم يَدَعْ لي مُشْتكى
أَفنى أَخّلائي وأَهلَ مَوَدَّتي ... وأَباد إِخوانَ الصّفاء وأَهلكا
عاشوا براحَتِهم ومُتُّ لِفَقْدِهم ... فَعَليَّ يَبْكي لا عليهم مَنْ بكا
وبَقِيتُ بعدَهُمُ كأَنَّي حائرٌ ... بمفَازةٍ لم يَلْقَ فيها مَسْلَكا
وقال :
ونازحٍ في فُؤادي مِنْ هَواه صَدًى ... لم يُرْوِ غُلَّتَه عَلِّشي ولا نَهَلي

في فيهِ ما في جِنانِ الخُلْد من دُرَرٍ ... ومن رُضابٍ ومن خمرٍ ومن عسل
لو كنتُ أَعلمُ أَنّ البين يفجَؤني ... رَوَّيْتُ قبلَ النَّوى قَلبي من القُبَل
وقال :
إِن يحسُدوا في السِّلْم مَنزِ ... لتي من العِزّ المُنيفِ
فبما أُهين النَّفْس في ... يومِ الوغى بين الصُّفوف
ولطالما أَقدمتُ إِقد ... ام الحُتوفِ على الحُتوف
بعزيمةٍ أَمضى على ... حدِّش السيوف من السيوف
وقال :
إِلقَ الخُطوبَ إِذا طرقْ ... نَ بقلبِ مُحْتَسِبٍ صبورِ
فسينقضي زمنُ الهمو ... م كما انقضى زمنُ السّرور
فمن المحال دوامُ حا ... لٍ في مدى العُمْرِ القصير
وقال :
بكاءُ مِثْلِيَ مِنْ وَشْك النَّوى سَفَهُ ... وأَمرُ صَبْرِيَ بعد البَيْنِ مُشْتَبِهُ
فما يُسَوِّفُني في قُرْبِهمْ أَمَلٌ ... وليس في اليأس لي رَوْحٌ ولا رَفَه
أُكاتِمُ الناسَ أَشْجاني وأَحِسَبُها ... تَخْفى ، فيُعْلِنُها الِإْسقامُ والوَلَه
كأَنني من ذُهول الهمّ في سِنَةٍ ... وناظري قَرِحُ الأَجفانِ مُنْتَبِه
أَذنبتُ ثم أَحلتُ الذنبَ من سَفَهٍ ... على النَّوى وَلَبِئْس العادُة السَّفَه
أَقمتُ طَوْعاً وساروا ثم أَنَدُبُهمْ ... هلاّ صَحِبْتُ نواهم حيثُ ما اتّجهوا
أضرَّ بي ناظرٌ تدمى مَحاجِرُه ... وخاطرٌ مُذْ نَأَوْا حَيْرانُ مُنْشَدِه
فما يلائمُ ذا بعد النّوى فَرَحٌ ... ولا يروق لهذا منظرٌ نَزِه
سَقُيْاً لدهرٍ نِعْمنا في غَضارته ... إذ في الحوادث عما ساءنا بَلَهُ
وعيشُنا لم يخالط صفوَه كَدَرٌ ... وودُّنا لم تَشُبْ إِخلاصَه الشُّبَه
مضى وجاء زمانٌ لا نُسَرٌّ به ... كلُّ البريَّةِ منه في الذي كرهوا
وقال في الزهد :
مَثُوبةُ الفاقِد عن فَقِده ... بصبره ، أَنفعُ مِنْ وَجْدِه
يَبْكيه في حُزْنٍ عليه فهل ... يَطْمَعُ في التّخليد منْ بَعْدِه
ما حيلةُ النّاس وهل مِنْ يدٍ ... لهمْ بدفع الموت أو صَدِّه
وُرودُه لا بدّ منه فما ... يُنْكَرُ مالا بُدَّ مِنْ وِرْده
سِهامُه لم يَسْتَطِعْ رَدَّها ... داوودُ بالمُحْكَمِ من سَرْدِه
ولا سليمانُ ابْنُه ردَّها ... بِمُلْكِه والَحْشِد من جُنْدِهِ
عَدْلٌ تساوى الخَلْقُ فيه فما ... يُمَيَّزُ المالِكُ من عبده
كلٌّ له حَدٌّ إِذا ما انتهى ... إِليه وافاه على حَدِّه
تجمعُنا الأرضُ وكلُّ امرئٍ ... في لحده كالطفل في مَهده
أَما ترى أَسلافنا عَرّسوا ... بمنزلٍ دانٍ على بُعْدِه
تَبَوّءوا الأرضَ ولم يُخبِروا ... عن حَرِّ مَثْواهُمْ لا بَرْدِه
لو نطَقوا قالوا التُّقى خيرُ ما ... تَزَوَّد العبدُ إلى لَحدِه
فارجِع إلى الله وثِقْ بالذي ... أتَاك في الصّادقِ مِنْ وعده
للصابرين الأَجرُ والأَمْنُ مِنْ ... عذابه والفوزُ في خُلْده
وقال :
أَيُّها المَغْرورُ مَهْلاً ... بَلَغَ العُمْرُ مَداهُ
كم عسى مَنْ جاوز السب ... عين يبقى كم عساه
أَنَسِيتَ الموتَ أَم ، أَمَّنَ ... ك الله لظاه
تظِلمُ الناسَ لِمَنْ تر ... جوه أو تخشى سطاهُ
أَنت كالتَّنور يَصْلى الن ... ار في نفع سِواه
وقال يرثي ولداً له :
أَزور قبرك والأشجانُ تمنعُني ... مِنْ أَن أَرى نَهْجَ قَصْدي حين أَنصرفُ

فما أَرى غير أَحجارٍ مُنَضَّدَةٍ ... قد احْتَوَتْكَ ومأْوى الدُّرَّةِ الصَّدَفُ
فأَنْثنى لستُ أَدري أَين مُنْقَلَبي ... كأَنّني خائف في الليل يَعْتَسِف
إِن قصّر العُمْرُ بي عن أَن أَرى خَلَفاً ... له ففي الأَجر عند الله لي خَلَف
أَقول للنفس إِذ جدَّ النِّزاعُ بها ... يا نفسُ ويَحْكِ أَين الأهلُ والسَّلف
أَليس هذا سبيل الخَلْق أَجمِعِهم ... وكلُّهُم بوُرودِ الموت مُعْتِرف
كم ذا التأَسُّفُ أم كم ذا الحنين وهل ... يَرُدُّ مَنْ قَدْ حواه قَبْرُه الأَسَف
وقال :
تَقَلُّبُ أَحوالِ الزّمان أَفادني ... جميلَ الأسى في يَنُوب من الخَطْبِ
إِذا حَلَّ ما لا يُستطاع دِفاعُه ... فما أَجملَ الصبرَ الجميل بذي اللُّبّ
وقال :
صَبْراً لأَيامٍ تنا ... هتْ في مُعاندتي وعَضّي
فالدَّهْرُ كالميزان ما ... يَنْفكُّ مِنْ رفعٍ وخَفْضِ
هذا مع الأَفْلاكِ مُرْ ... تفعٌ وذا بحَضيض أَرْضِ
وإِلى الفناء جميعُ مَنْ ... خَفَضَتْه أَو رَفَعَتْهُ يُفْضي
وقال :
أَرجأْتُ كُتْبي إِلى حين اللقاءِ فقد ... أَكْدى رَجائي وزاد الشوقَ إِرجائي
وأَلجأَتْني إِلى صبري مَوانِعُ أَيّ ... امي فلم يُسْلِني سَعْي وإِلجائي
حتى أَحاطَتْ بيَ الأشواقُ واشْتملتْ ... عليَّ واسْتحوذَتْ مِنْ كل أَرجائي
فهل سبيلٌ إِلى قُربٍ يُميط شَجَا ... صَدْري فقد طال تَبْريحي وإِشجائي
وقال :
حُسْنْ التّواضعُ في الكريم يَزيدُه ... فَضْلاً على الأَضْراب والأَمْثالِ
يكْسُوه مِنْ حسن الثَّناءِ مَلابِساً ... تَنْبو عن المُتَرَفِّع المُخْتال
إِنّ السيول إِلى القَرارِ سَريعةٌ ... والسّيْل حَرْبٌ للمكان العالي
وقال وكتب بها إلى ولده الأمير مرهف من حصن كيفا جواباً عن كتاب أنفذه إليه مع مستميحٍ لم يتمكن من بلوغ مآثره من بره :
أَبا الفوارس ما لاقْيتُ من زمني ... أَشدَّ من قَبضِه كَفّي عن الجُودِ
رأى سَماحي بِمَنْزورٍ تجانفَ لي ... عنه وُجُودي به فاجْتاح مَوْجُودي
فِصرْتُ إِن هَزّني جانٍ تَعَوَّدَ أَنْ ... يَجْني نَدَايَ رآني يابِسَ العُود
وقال في المعنى :
أَبا الفوارس إِن أَنكرتَ قَبْضَ يَدي ... مِنْ بعد بَسْطَتِها بالجُودِ والكَرَمِ
فالذَّنْبُ للموتِ أَرجاني إِلى زَمنٍ ... غَلَّتْ أَكُفَّ النّدى بُؤْساه بالعَدَم
وقال :
حَذَّرَتْني تَجارِبي صُحْبَةَ الع ... لَمَ حتّى كَرِهْتُ صُحْبَة ظّلِي
ليس فيهم خِلٌّ إِذا ناب خَطْبٌ ... قلتُ ما لي لدِفَعْه غيرُ خِلّي
كُّلُهْم يَبْذُل الوِداد لدى اليُسْر ... ولكنهم عِدىً للمُقِلِّ
فاعْتَزِلْهُم ففي انفرادِك مِنْهُم ... راحةُ اليَأْسِ من حِذار وذُلٍ
وقال :
سُقُوفُ الدُّورِ في خَرْبِرْتَ سُودٌ ... كَسَتْها النّارُ أَثوابَ الحِدادِ
فلا تَعَجبْ إذا ارتفعتْ علينا ... فلِلْحَظِّ اعتناءٌ بالسَّواد
بياضُ العَيْنِ يكسُوها جَمالاً ... وليس النّورُ إلاّ في السَّواد
ونور الشَّيْب مكروهٌ وَتْهوى ... سوادَ الشَّعْرِ أَصنافُ العِباد
وطِرْسُ الخطِّ ليس يُفيدُ عِلْماً ... وكلُّ العِلْم في وَشْي المِداد
وقال يرثي ولده عتيقاً :
غالَبَتْني عليك أَيدي المَنايا ... ولها في النّفوس أَمرٌ مُطاعُ
فَتَخَلَّيْتُ عنك عَجْزاً ولو أَغ ... نى دِفاعي لطال عنك الدِّفاعُ
وأَرادتْ جَميلَ صَبْري فرامَتْ ... مَطْلباً في الخُطوب لا يُسْتطاع
وقال فيه :

كلما امتدّ ناظري ردّهُ الدَّمْ ... عُ حَسِيراً عن أَن يرى لكَ شِبْها
لم يَرُقْني مِنْ بعد فَقْدِك مَرْأًى ... فيه للعَيْنِ مُسْتَرادٌ وَمْلهى
كنتَ عندي أَلذَّ مِنْ رَغَد العَيْ ... شِ وأَحلى من الحياة وأَشهى
وقال في مدح الملك الناصر صلاح الدين سلطان مصر والشام واليمن :
سَمِعَتْ صُروفُ الدَّهْرِ قولَ العاتِبِ ... وَتَجَنَّبَتْ حَرْبَ المَليكِ الحارِبِ
وَتجافتِ الأيّامُ عن مَطْلوبه ... ومُرادِه ، أَكْرِمْ به من طالب
هُوَ مَنْ عَرَفْنَ فلوْ عَصاهُ نهارُه ... لرماه نَقْعُ جُيوشِه بَغياهِب
وإِذا سَطا أَضْحَتْ قلوبُ عُداتِه ... تُلْوى كَمِخْراقٍ بِكَفَّيْ لاعِبِ
مَنْ ذا يُناوي النّاصرَ المَلك الذي ... في كفه بَحْراً ردًى ومَواهِب
وإِذا سرى خِلْتَ البَسيطَة لُجَّةً ... أَمواجُها بَيْضٌ وبيضُ قَواضِب
مَلَكَ القُلوبَ مَحَبَّةً وَمهابةً ... فاقتادَها طَوْعاً بَهْيَبِة غاصِب
وله في الشيب والانحناء والعصا :
حَنانيَ الدَّهْرُ وأَب ... لَتني اللّيالي والغِيَرْ
فصِرْتُ كالقَوْسِ وَمِنْ ... عَصَايَ للقوْسِ وَتَرْ
أَهْدِجُ في مَشْي وفي ... خَطْوي فُتورٌ وَقِصَر
كأَنني مُقَيَّدٌ ... وإِنّما القَيْدُ الكِبَرُ
والعُمْرُ مِثْلُ الماء في ... آخره يأْتي الكَدَر
وله في الخيال :
يا هاجِراً راضياً وغَضْبانا ... ومُعْرِضاً هاجِداً ويَقْظانا
هَجَرْتَ إِمّا لِهَفْوَةٍ فَرَطَتْ ... منّي وإِمّا ظُلْماً وعُدْوانا
طَيْفُك ما باله يُهاجِرني ... مَنْ أَعْلَمَ الطَّيْفَ بالذي كانا
وله :
يُهَوِّنُ الخطبَ أَنَّ الدهرَ ذُو غِيَرٍ ... وأَنّ أَيامَه بَيْنَ الوَرى دُوَلُ
وأَنّ ما ساء أَو ما سَرّ مُنْتَقِلٌ ... عنّا وإِلاّ فإنّا عنه نَنْتَقِل
وله :
تناسَتْنِيَ الآجالُ حتى كأَنّني ... رَذِيَّة سَفْرٍ بالفَلاةِ حَسِيرُ
ولمّا تَدَعْ مِنْي الثّمانُون مُنَّةً ... كأَني إِذا رُمْتُ القِيام كَسِيرُ
أُودّي صَلاتي قاعداً وسُجودُها ... عليَّ إِذا رُمتُ السُّجودَ عَسير
وقد أَنذرتْني هذه الحالُ أَنني ... دَنَتْ رِحْلَةٌ مني وحان مَسِير
وله من قصيدةٍ يصف ضعفه في كبره من قطعة :
فاعجبْ لضعفِ يدي مِنْ حملِها قلماً ... مِنْ بعد حَطْمِ القَنا في لَبَّةِ الأسَدِ
وأنشدني أيضاً لنفسه :
ليَ مَوْلىً صَحِبْتُه مَذْهَب العُمْ ... رِ فلَمْ يَرْعَ حُرْمَتي وذِمامي
ظنّني ظِلَّه أُصاحِبُه الدَّهْ ... رَ على غير نائلٍ واحترام
فافْترقنا كأَنّه كان طَيْفاً ... وكأَني رأَيْتُه في المنامِ
وللأمير مجد الدين مؤيد الدولة ابن منقذ في مدح الملك الناصر :
لَهْفي لِشْرخِ شَبِيبتي وزَماني ... وتَرَوُّحي لفُتُوَّةٍ وطِعانِ
أَيّامَ لا أُعطي الصَّبابَة مِقْوَدي ... أَنَفاً ، ولا يَثْني الغَرامُ عِناني
وإذا اللّواحي ، في تَقَحُّمِيَ الوَغى ... لا في المُدامِ ولا الهوى تَلْحاني
وإِذا الكُماةُ على يقينٍ أَنَّهُمْ ... يَلْقى الرَّدى في الحرب مَنْ يَلْقاني
أَعْتَدُّهُمْ وهُمُ الأُسُود فرائِسي ... فهمُ دَرِيئةُ صارِمي وسِناني
والأُسْدُ تلقى مِثْلها مني إِذا ... لاقَيْتُها بقُوى يدٍ وجَنانِ
كم قد حَطَمْتُ الرُّمْحَ في لَبّاتِها ... فَتَرَكْتُها صَرْعى على الأَذقان
حتى إذا السَّبْعُون قَصَّرَ عَشْرُها ... خَطْوي وعاث الضَّعْفُ في أَركاني

أَبْلَتْنِيَ الأيّامُ حتى كلَّ عَنْ ... ضَرْبِ المُهَنَّدِ ساعِدي وَبناني
هذا وكمْ للدّهرِ عندي نَكْبَةٌ ... في المال والأَهلين والأوطان
نُوَبٌ يَروض بها إِبايَ وقد عَسا ... عُودي فما تَثْنيه كَفُّ الحاني
لا أَستكينُ ولا أَلينُ وقد بَلا ... فيما مضى صَبْري على الحِدْثان
فالآن يطمَع في اهتضامي إنه ... قد رام أَمراً ليس في الإِمكان
والناصرُ الملك المُتَوَّجُ ناصِري ... وعُلاه قد خَطَّتْ كتابَ أَماني
قد كنتُ أَرهَبُ صَرْفَ دَهْري قبلَه ... فأَعاد صَرْفَ الدَّهْرِ من أَعواني
أَنا جارَه ويدُ الخُطوبِ قصيرةٌ ... عن أَن تنال مُجاوِرَ السُّلطْان
مَلكٌ يَمُنُّ على أسارى سَيْبِه ... فيُعيدهُم في الأَسر بالإِحْسان
خَضَتْ له صِيْد المُلوكِ فِمِنْ بُرى ... أَقلامِه غُرَرٌ على التيجان
مَلأَ القلوبَ مَحبَّةً وَمهابةً ... فَخَلَتْ من البغضاء والشَّنَآن
لي منه إِكرامٌ عَلَوْتُ به على ... زُهْرِ النُّجوم ونائلٌ أَغناني
قَرَنَ الكَرامَة بالنَّوالِ مُوالياً ... فعَجِزَتْ عن إِحصاء ما أَولاني
فَنَداهُ أَخْلَفَ ما مضى مِنْ ثَرْوَتي ... وبقاؤه عن أُسْرتي أَسْلاني
فَلأَهْدِيَنَّ إِلى عُلاه مَدائحاً ... تَبْقى على الأَحْقاب والأَزْمان
مِدَحاً أَفوقُ بها زُهَيْراً مثْلَما ... فاقَ المليكُ الناصرُ ابنَ سِنان
يا ناصِرَ الإِسلام حينَ تخاذَلَتْ ... عنه الملُوك ومُظْهِرَ الإِيمان
بك قد أَعزّ اللّهُ حِزْبَ جُنودِه ... وأَذَلَّ حِزْبَ الكفرِ والطُّغْيان
لمّا رأَيْتَ النّاسَ قَدْ أَغواهمُ الشّيْ ... طانُ بالِإلْحادِ والعِصْيانِ
جَرَّدْتَ سَيْفَكَ في العِدى لا رَغْبَةً ... في المُلكِ بل في طاعِة الرَّحمانِ
فضربْتَهم ضَرْبَ الغرائب واضِعاً ... بالسَّيْفِ ما رفعوا من الصُّلْبان
وغَضِبتَ للّهِ الذي أَعطاك فَصْ ... لَ الحُكْمِ غِضْبَةَ ثائرٍ حَرَّان
فقتلتَ مَنْ صَدَق الوَغى ووسَمْتَ مَنْ ... نجَّى الفِرارُ بِذِلَّةٍ وهَوان
وبذلتَ أمَوالَ الخَزائن بعد ما ... هَرِمَتْ وراء خَواتمِ الخُزَّان
في جمع كلِّ مُجاهدٍ ومُجالِدٍ ... ومبارزٍ ومُنازِلِ الأَقران
من كلِّ مَنْ يَرِدُ الحروبَ بأَبيضٍ ... عَضْبٍ ويصْدُرُ وهو أَحْمَرُ قان
ويخوض نيران الوغى وكأنّه ... ظَمْآنُ خاضَ مَوارِدَ الغُدْران
قومٌ إِذا شِهدوا الوغى قال الورى ... ماذا أَتي بالأُسْدِ مِنْ خَفّان ؟
لوْ أَنهم صَدَموا الجبال لَزَعْزَعوا ... أَركانها بالبِيض والخِرْصان
فهمُ الذّخيرةُ للوقائع بالعِدى ... ولفتحِ ما اسْتَعْصى من البُلدان
أَنت الذي علمتهم ... فارس الفرسان
فاسلم مدى الأيام يا مَنْ ما له ... ثان
واسْعَد بشهر اللِه فهو مُبَشِّرٌ ... لعُلاكَ بالتَّأْييد والغُفْران
في دَوْلةٍ عَمَّتْ بنائلها الورى ... فدعا لها بالخُلْدِ كلُّ لِسان
وله في الهزل :
خَلَعَ الخَليعُ عِذاره في فِسْقِه ... حتى تَهَتَّك في بُغًي ولِواطِ
يأْتي ويُؤْتى ليس يُنْكِر ذا ولا ... هذا كذلك إِبرُة الخيّاط
وله :
يا عاتِبينَ عِتابَ المُسْرتيب لنا ... لا تَسْمَعوا في الهوى ما تَدّعي التُّهَمُ

مَنْ لي بأَنّ بَسيطَ الأَرض دوَنكُمُ ... طِرْسٌ وأَنّيَ في أَرجائه قَلَم
أَسعى إِليكم على رأَسي ويمنعني ... إِجلاليَ الحُبَّ أَنْ يَسْعى بيَ القَدَم
وله قصيدة مشهورة كتبها إلى دمشق بعد خروجه منها إلى مصر في زمان بني الصوفي كتبها إلى الأمير أنر ، ويشير إلى بني الصوفي ، أنشدنيها لنفسه وهي ذات تضمين :
وَلُوا ولمّا رَجَوْنا عَدْلَهُمْ ظَلَموا ... فليتَهُمْ حَكَموا فينا بما عَلمِوا
ما مَرّ يوماً بفكري ما يَريُبُهمُ ... ولا سعتْ بي إلى ما ساءُهمْ قَدَمُ
ولا أَضَعْتُ لهم عهداً ولا اطّلَعَتْ ... على ودائعهم في صَدْرِيَ التُّهَم
فليتَ شِعْري بِمَ استْوجَبْتُ هَجْرَهُمُ ... مَلُّوا فَصَدَّهُمُ عن وَصْلِيَ السَّأَم
حَفِظْتُ ما ضَيَّعُوا أَغضيْتُ حينَ جَنَوْا ... وَفَيْتُ إِذ غدروا واصلتُ إذْ صَرَموا
حُرِمْتُ ما كنتُ أَرجو مِنْ وِدادِهمُ ... ما الرّزقُ إلّا الذي تَجْرِي به القِسَم
مَحاسِني مُنْذُ مَلُّوني بأَعْيُنِهِمْ ... قَذًى وِذكرِيِ في آذانِهمْ صَمَم
وبعدُ لوْ قيلَ لي ماذا تُحِبّ وما ... هَواكَ من زِينة الدُّنْيا لقلتُ هُمُ
هُمُ مجالُ الكَرى من مُقْلَتَيَّ ومن ... قلبي مَحَلُّ المُنى جارُوا أَوِ اجْتَرَمُوا
تَبَدَّلُوا بي ولا أَبغي بهم بَدَلاً ... حسبي هُمُ أَنصفوا في الحُكمِ أَو ظلموا
يا راكِباً تَقْطَعُ البْيداَء هِمَّتُه ... والعِيسُ تعِجَزُ عمّا تُدْرِكُ الهِمَمُ
بَلِّغْ أَميري مُعينَ الدّين مَأْلُكَةً ... مِنْ نازح الدار لكن ودُّه أَمَم
وقُلْ له أَنتَ خَيْرُ التُّرْك فَضَّلَك الْح ... ياء والدّينُ والإِقدام والكَرَم
وأَنتَ أَعدلُ من يُشْكي إِليه ولي ... شَكِيَّةٌ أَنت فيها الخصمُ والحَكَمُ
هَلْ في القضّية يا مَنْ فَضْلُ دَوْلَتهِ ... وعدلٌ سيرته بين الورى عَلَم
يضيعُ واجِبُ حقّي بعد ما شَهِدَتْ ... به النّصيحةُ والإخِلاصُ والخِدَم
وما ظنَنْتُك تنسى حقَّ مَعْرِفتي ... إِن المعارف في أَهل النُّهى ذِمَم
ولا اعتقدتُ الذي بيني وبينك مِنْ ... ودٍّ وإِن أَجلب الأعداءُ ينَصَرِم
لكن ثِقاتكُ ما زالوا بعَتْبِهِمُ ... حتَّى استوتْ عندك الأنوارُ والظُّلَم
باعُوك بالبَخْس يَبْغُون الغِنى ولهمْ ... لَوْ أَنَّهم عَدِمُوك الوَيْلُ والعَدَم
وللّهِ ما نصحوا لما استشرتَهُمُ ... وكلُّهمْ ذو هوًى في الرأي مُتَّهَم
كم حَرَّفوا من مَعانٍ في سَفِارتَهِمِ ... وكم سَعَوْا بفسادٍ ضَلّ سَعُيُهُم
أَين الحِمَيَّةُ والنفسُ الأَبِيَّةُ إِذ ... سامُوكَ خُطَّةَ خَسْفٍ عارُها يَصِم
هَلاّ أَنِفْتَ حياء أَو مُحافظةً ... من فعل ما أَنكرته العُرْبُ والعَجَم
أَسْلَمْتَنا وسُيوفُ الهندِ مُغْمَدَةٌ ... ولم يُرَوِّ سِنان السَّمْهَرِيِّ دَم
وكنتُ أَحسِبُ مَنْ ولااك في حَرَمٍ ... لا يعتريه به شَيْبٌ ولا هَرَم
وأَنَّ جارك جارٌ للسَّمَوْأَلِ لا ... يَخْشى الأعادي ولا تَغْتالُه النِّقَم
وما طُمانُ بأَوْلى من أُسامةَ بالْو ... فاءِ لكن جرى بالكائن القلمُ
هَبْنا جَنَيْنا ذُنوباً لا يُكَفِّرُها ... عُذْرٌ فماذا جَنى الأطفالُ والحُرَمُ
أَلقيتَهُمْ في يد الإِفْرَنْج مُتَّبِعاً ... رضى عِدًى يُسْخِط الرَّحْمنَ فِعْلُهُم

هُمُ الأعادي وقاك اللهُ شَرَّهُمُ ... وهمْ بَزْعِمهمُ الأعوانُ والخَدمَ
إذا نهضتَ إِلى مَجْدٍ تُؤَثِّلُهُ ... تقاعدوا ، فإِذا شَيَّدْتَه هَدَموا
وإِن عَرَتْكَ من الأَيّام نائبةٌ ... فكُلُّهُمْ للذي يُبْكيك مُبْتَسِم
حتّى إِذا ما انْجَلَتْ عنهم غَيابتَهُا ... بِحَدِّ عَزْمِك وهو الصّارِمُ الخَذِم
رَشَفْت آخر عَيْشٍ كُلُّه كَدرٌ ... وَوِرْدُهُمْ مِنْ نَداك السَّلْسَلُ الشَّبِم
وإِن أَتاهُمْ بقَوْلٍ عنك مُخْتَلَقٍ ... واشٍ فذاك الذي يُحْبى وُيْحَتَرم
وكُلُّ مَنْ مِلْتَ عنه قَرَّبوه وَمَنْ ... وَالاكَ فَهْو الذي يُقْصي ويُهْتَضَم
بَغْياً وكُفْراً لِما أَوْلَيْتَ مِنْ مِنَنٍ وَمَرْتَعُ البَغْي لولا جَهْلُهُمْ وَخِم
جَرِّبْهُمُ مِثْلَ تجريبي لِتَخْبُرَهُمْ ... فللرّجال إِذا ما جُرّبوا قِيَمُ
هل فيهمُ رُجُلٌ يُغْني غِنايَ إِذا ... جَلَّى الحوادثَ حَدُّ السَّيْفِ والقلم
أَمْ فيهُم مَنْ له في الخَطْبِ ضاق به ... ذَرْعُ الرجال يَدٌ يَسْطو بها وَفَمُ
لكنّ رأيَك أَدْناهُمْ وأَبْعدني ... فلَيْتَ أَنّا بقدر الحُبّ نَقْتَسِم
وما سَخِطْتُ بِعادي إذْ رضِيتَ به ... وما لِجُرْحٍ إذا أَرضاكم أَلم
ولستُ آسى على التَّرْحال من بلدٍ ... شُهْبُ البُزاةِ سَواءٌ فيه والرَّخَم
تعلَّقَتْ بحبال الشَّمْسِ فيه يدي ... ثم انثنتْ وهي صفْرٌ مِلْؤُها نَدَم
فاسلم فما عشْتَ لي فالدَّهْرُ طَوْعُ يدي ... وكلُّ ما نالني من بُؤْسِه نِعَم
وأردت أن أورد من نثره ما يزهر فجره ويبهر سحره ، فوجدت له جواب كتابٍ كتبه القاضي الفاضل ابن البيساني إليه من مصر عند عوده إليها ونحن بدمشق سنة إحدى وسبعين ، وأثبت أولاً الرسالة الفاضلية وهي أديبة غريبة ، صنيعةٌ بديعة ، جامعة للدرر ، لامعة بالغرر ، وهي : وصل كتاب الحضرة الشامية الأجلية ، المؤيدة الموفقة المكرمة ، مجد الدين ، قدوة المجاهدين ، شيخ الأمراء ، أمين العلماء ، مؤيد الدولة ، عز الملة ، ذات الفضيلتين ، خالصة أمير المؤمنين ، لا زالت رياض ثنائها متناوحة ، وخطرات الردى دونها متنازحة ، والبركات إلى جانبها متوالية ، والليالي بأنوار سعادتها متلالية ، والأيام الجافية ، عن بقية الفضل بها متجافية ، وأحكامها الهافية ، تاركةً للمجد فيها فئةً تتحيز إليها المكرمات إذا لم يكن لها فيه . فأنشده ضالة هوى كان لنشدانها مرصدا ، ورفع له ناراً موسويةً سمع عندها الخطاب وآنس الخير ووجد الهدى ، وكانت نار الغليل ، في فؤاده بخلاف نار الخليل ، فإنها لا تقبل ندى الأجفان بأن يكون برداً وسلاما ، ولا ترى بمائها إلا أضرى ما كانت ضراما ، وشهد الله حوالةً على علمه بما هو فيه ، لا إحالةً بما يخالفه الضمير وينافيه ، ولقد كان العبد ناكس الرأس خجلاً ، غضيض الطرف حياء ، مقيد النظر إطراقاً ، حصر القول تشورا منه ، فارقها على تلك الصفة فلا هو قضى من حقها فرائض لزمت ، والله وتعينت ، ولا الضرورة في مقامها بحيث تبلغه أنسها أذنت ، ولا مدت هذه الطيفية والسحابة الصيفية بالنوى المستأنفة ما اقتربت ، ولا الأيام بالبعد ما أساءت فإنها بالقرب ما أحسنت :
وإن امرءًا يَبْقى على ذا فؤادُه ... ويُخْبِرُ عنه إِنه لصبور
ويعود إلى ذكر الكتاب الكريم ، وسجد لمحرابه وسلم ، وحسب سطوره مباسم تبسم ، ووقف عليه وقوف المحب على الطلل يكلمه ولا يتكلم ، وهطل جفنه وقد كان جمادى ودمعه وقد كان على صفحة المحرم ، وجدد له صبابةً لا يصحبها أمل ، وخاف أن لا يدرك الهيجاء حمل ، وقال الكتاب :
إنّا مُحَبُّوكَ فاسْلَمْ أَيُّها الطَلَلُ
وعز والله عليه أن يدخل كاتبه القلوب ويخرج من المقل ، وأنشد نيابةً عنها :
وإِن بلاداً ما احْتَلتْ بي لعاطِلٌ ... وإنّ زماناً ما وفى لي لَخَوّانُ

وما يحسب العبد أن الملك يعجزعن واحدٍ وهو بالورى مستقل ، وأن السحاب يعرض عن ذكي الروض وهو على الفلا مستهل .
ولقد كتب في هذا المعنى بما يرجو أن لا يرجا ، وأنهى منه ما اقتضى الصواب أن ينهى ، والله المسؤول لها في عاقبةٍ حميدة ، وبقيةٍ من العمر مديدة ، فإنها الآن نوح الأدب وطوفانها العلم الذي في صدرها ، ولا غرو أن يبلغ عمره بعمرها ، على أن يتحقق خلودها في الجنة بعملها ، وفي الدنيا بذكرها ، فإن الدارين يتغايران على عقائل فخرها ، ولا يتعيران عن إجرائها على رفع قدرها ، وعلى أنها طالما أقامت الحد على الدنيا السكرى حتى بلغت في حدها من العمر الثمانين ، وآذنت الأيام بسلاح الحرب من سيفها وسلاح السلم من قلمها تأديب الجانين ، وما حملت العصا بعد السيف حتى ألقت إليها السلم فوضعت الحرب أوزارها ، ولا استقلت بآية موسى إلا لتفجر بها أنوار الخواطر وتضرب بحارها ، وما هي إلا رمحٌ وكفى بيدها لها سنانا ، وما هي إلا جواد يجنب السنين خلفها فتكون أناملها لها عنانا .
وعلى ذكر العصا فإن تيسر الكتاب المجموع فيها حسب أنه ثانية العصا ، وأضيف إلى محاسنها التي لا تحصى أو يحصى الحصا .
وكان من مدةٍ قد شاهد بحلب كتباً بخط المولى الولد دلت على مضضٍ ومرض ، ولعله الآن قد عوفي من الأمرين ، وقرت بوجهه العين ، وجددت عهداً بنظره ، وقرت عليها لسانه إسناد خبره ، وبلت غلة الحائم ، ورأت منه هلال الصائم ، وطالعها وجه الزمان المغضب منه بصفحة المباسم ، وفي مواعيد الأنس منه الضامن الغارم ، وهو يسلم عليه تسليم الندى على ورق الورد ، ويستثمر الوفاء من غرس ذلك العهد ، ولكتاب الحضرة العالية من الخادم موقع الطوق من الحمام يتقلد فلا يخلع ، ويعجبها فلا تزال تسجع ، بحلبه طوقاً على الأسى إلا أنه بدر الدمع مرصع ، ولا يمنعه منه شعار السرور أن يحزن لفرقتها ويجزع ، فإذا أنعم به فمع ثقةٍ ويخشى أن يكون هذا الشرط له قاطعا ، بل مع من اتفق فإنه كالمسك لا يدعه العرف الضائع أن يكون ضائعاً :
أُكْتُبه تكتبْ لي أَماناً ماضياً ... وابعثه تبعث لي زماناً راجعا
إِن أَشتريه بِمُهجتي فقليلةٌ ... فاسمَح به فمتى عرَفْتُك مانعا
وجواب مؤيد الدولة ، وقرأته عليه فسمعه :
وَصَل الكتابُ أَنا الفِداءُ لِفْكَرةٍ ... نَظَمَتْ نفيسَ الدُّرِّ فيه أَسْطُرا
وَفَضَضْتُه عن جَوْنَةٍ فتأَرَّجَتْ ... نَفَحاتُه مِسْكاً وفاحَتْ عَنْبرا
وأَعدْتُ فيه تأَمُّلي مُتَحيِّراً ... كيف استحال اللفظُ فيه جَوْهرا
الخادم يخدم المجلس العالي الأجلي الأوحد الصدر الفاضل ، فضله الله برفع درجاته في الجنان ، كما فضله بمعجز البلاغة والبيان ، وبلغه من الخيرات أمله ، وختم بالحسنى عمله ، وجمل ببقائه الدنيا ، وأجزل حظه من رحمته في الأخرى ، بسلامٍ يغاديه نشره ويرواحه ، ودعاءٍ لا يحجب عن الإجابه صالحه ، وثناءٍ يضيق عن حصر فضائله منادحه ، وما عسى أن يقول مطريه ومادحه ، والفضل نغبةٌ من بحره الزاخر ، وقطرةٌ من سحابه الماطر ، تفرد به فما له من نظير ، وسبق من تقدمه في زمانه الأخير ، فتق عن البلاغة أكماماً تزينت الدنيا منها بالأعاجيب ، وأتى بآيات فصاحةٍ كادت أن تتلى في المحاريب ، إذا استنطقت ازدحمت عليه العقول والأسماع ، ووقع على الإقرار بإعجازها الاتفاق والإجماع ، فسبحان من فضله بالبلاغة على الأنام ، وذلل له بديع كلامٍ ما كأنه من الكلام ، تعجز عن سلوك سبيله الأفهام ، وتحار في إدراك لطف معانيه الأوهام ، هو سحرٌ لكنه حلال ، ودرٌ إلا أن بحره حلوٌ سلسال .

ولا يظن ، أدام الله ببقائه جمال الزمان وأهله ، ويسر له إظهار مكتوم فضله ، أن الخادم يسلك سبيل النفاق في مقاله ، ولا إعارة شهادةٍ في وصف كماله ، لا والله ما ذلك مذهبه ، ولا هو مراد المجلس العالي ولا أربه ، ولكنها شهادة ولا يحل كتمها ، وقضيةٌ جرى بقول الحق فيها حمكها ، ولولا أن الخادم قد بقي فيه أثرٌ من إقدام الشباب ، لأحجم عن إصدار كتابٍ أو رد جواب ، لكنه على ثقةٍ من كريم مساهلة المجلس العالي وحسن تجاوزه ، ويقينٍ أن فضله جدير بستر نقص الخادم وسد معاوزه ، وهو يضرب عن ذكر ما عنده من الشوق إلى كريم رؤيته ، والوحشة بمحبوب خدمته ، ويقتصر على ما قاله زهير :
إن تُمْسِ دارُهُم منّي مُباعَدةً ... فما الأَحبّةُ إلا هُمْ وإِنْ بَعُدوا
فأما ما أنعم به من ذكر الخادم في مطالعاته ، فهو كذكر موسى أخاه هرون عليه السلام في مناجاته ، ولا سواء ، موسى ذكر شقيقه ، والمجلس العالي ذكر رفيقه ، وهذه اليد البيضاء مضافةً إلى سالف أياديه ، مقابلةٌ بالاعتراف بالمنة لساميه ، فلقد شرفه بذكره في ذلك المقام العالي ، وإن كان لا يزال على ذكر الإنعام المتوالي ، تقريب مالك رقه وإكرامه قد شرفاه ، وإنعامه قد أغناه عن الخلق وكفاه ، وإن سأله أجاب سؤاله ، بما يحقق رجاءه وآماله ، وإن أمسك عن غنى فضله بفضله ، فاجأه بتبرع مواهبه وبذله ، فالخادم من تشريف مالك رقه ذو تاج وسرير ، ومن غزير إنعامه في روضةٍ وغدير ، وذلك ببركات المجلس العالي ويمن نقيبته ، وجميل رأيه في الخادم وحسن نيته ، لكن يشوب ما هو فيه من إنعام لم تبلغه أمانيه أسفٌ قد أقض لين مهاده ، وسلك من القلب حبة سواده ، على ذاهب عمره ، وقوة أسره ، إذا لم يكن أبلاهما في خدمة مالك رقه ، وبذل رأسه بين يديه إبانةً عن صحة ولائه وصدقه ، والخادم يتسلى عما فاته من الخدم في المهم ، بخدمته بصالح دعائه في الليل المدلهم ، والله سبحانه يتقبل من الخادم فيه صالح دعائه ، وينصره على جاحدي نعمائه ، بمحمدٍ وآله.
فأما ما أنعم به من ذكر أصغر خدمه مرهف فهو يخدم بتقبيل قدمه ، والخادم يقول ما قاله أبو الفتيان ابن حيوس عن خدمة أبو الحسن رحمه الله لمحمود بن صالح .
على أَنه لا فُلَّ غَرْبُ لسانه ... مَدى الدَّهْرِ لا يَحتاجُ مِنّي مُتَرْجما
وهو يقوم بالجواب عن شريف الاهتمام ،وجزيل الإنعام .
وأما ما تطول به من ذكر كتاب العصا وشرفه ، حتى توهم أنه أحسن فيما صنفه ، وعند وصوله من ديار بكر ، لا يلقي عصا تسياره إلا بمصر ، يقتفي أثر عصا الكليم ، إلى جنابه الكريم ، إلا أنه آية إقراره بالربوبية لفضله وإفضاله ، ساجدٌ سجود السحرة لتعظيمه وإجلاله ، يتلقف من إنعامه حسن التجاوز عن نقصه ، ويعوذ بكرمه من منافثة علمه وفحصه ، وتشريف الخادم ولو بسطرٍ واحدٍ عند خلو البال ، والفراغ من مهم الاشتغال ، يرفع من قدره ، ويوجده أنه بالمكان المكين من حسن ذكره ورأيه ، أدام الله أيامه في ذلك أعلى إن شاء الله تعالى .
وكتب إلي وقد رحلنا من دمشق في خدمة الملك الناصر إلى حلب في شوال سنة إحدى وسبعين :
عِمادَ الدين أَنت لكل داعٍ ... دعاك لِعَوْنه خيرُ العِمادِ
تقومُ لنصره كرَماً إذا ما ... تقاعد ذو القَرابة والوداد
قضى لك بالعُلى كرمُ السّجايا ... وما أُوتيتَ من كرم الوِلاد
أَبُّثك وَحْشتي لك واشتياقي ... إِليك وما لقيتُ من البِعاد
وإِني في دمشق ومَنْ حَوَتْهُ ... لبُعدِك ذو اغتراب وانفراد
ومثلُك إِن تطلَّبَه خَبيرٌ ... بهذا الخَلقْ ليس بِمُستفاد
أَنار بك الزمانُ فلا عَلَتْهُ ... لفَقد عُلاك أَثوابُ الحِداد
وكتب إلي أيضاً في ابتداء مكاتبة :
يا عِمادي حين لا مُعْتمَدٌ ... وصَدى صوْتيَ في الخَطْب المُلِمِّ
والذي بَوَّأَني من رأَيه ... في أَعالي ذروة الطَّوْد الأشَمِّ
مُنذُ فارقُتك أُنْسي نافرٌ ... وسَنا صُبحي كليلٍ مُدْلَهِمّ
فإِلى من أَشتكي شيئاً إِذا ... غاب عني مُشتكي طارقِ غمّي

وإِذا كنتَ مُعافىً سالماً ... في اعتلاءٍ وسُعودٍ هان هَمّي
خادم المجلس العالي يخدم بالثناء والدعاء :
ويومئُ بالتحيّة من بعيدٍ ... كما يومي بأصبعه الغريقُ
وعنده من الشوق مع قرب العهد إلي شهي رؤيته ، والوحشة لخدمته ، ما يعجز الأقلام شرحه ، ويحرق الطرس لفحه ، وهو ينحرف من مقام الاشتكاء ، إلى مقام الدعاء ، ويرغب إلى الله أن يكلأه بحفظه في سفره ومقامه ، ويجزل حظه من فضله وإنعامه .
ووصلت منه مكاتبةٌ إلى الملك الناصر صلاح الدين في صفر سنة اثنتين وسبعين فقال لي القاضي الفاضل : خذها وأوردها في الخريدة والجريدة وهي :
لا زِلتَ يا مَلِكَ الإِسلام في نِعَمٍ ... قرينُها المُسْعِدانِ : النَّصْر والظَّفَرُ
تُرْدي الأَعادي وتَسْتَصْفي ممالكَهمْ ... وعونُك الماضيانِ : السَّيْفُ والقَدَر
فأَنت إِسكندرُ الدُّنْيا ، بنُورِك قد ... تضاءل المُظْلمان : الظُّلْم والضَّرر
أَعدْتَ للدَّهر أَيّام الشباب وقد ... أظلَّه المُهْرِمان : الشَّيْبُ والكِبَر
وجاد غَيْثُ نَداك المسلمين فمِنْ ... سحابه المُغْنِيان : الدُّرُّ والبِدَر
وسِرْتَ سِيرةَ عَدْلٍ في الأَنام كما ... قضى به الصَّادقان : الشَّرْع والسُّوَر
فَفُقْ بنصرٍ على الكفار إنّهم ... يُرْديهمُ المُهْلِكان : الغَدْرُ والأَشرُ
ثَناهُمُ إِذْ رأَوْا إِقبالَ مُلْكهمُ ... إِليهمُ المُزْعِجان : الخَوْف والحَذَر
وما الفِرار بمنُجْيهم وخَلْفَهُمُ ... مِنْ بأسه المُدْرِكان : السُّمْرُ والبُتُر
وسوف يعفو غداً منهم بصارِمه ... وجيشِه المُخْبِران : العَيْنُ والأَثَر
ولو رَقُوا في ذُرى ثَهْلانَ أَسْلَمَهُمْ ... لسيفه العاصمان : الحِصْنُ والوَزَر
قضى بتفضيله عمَّنْ تقدّمه ... ما اسْتُودِع المُخبران : الكُتْبُ والسِّيَر
عَدْلٌ به أَمِنَ الشاءُ المُهَمَّل أَن ... يروعَه الضّاريان : الذئبُ والنَّمِر
وَجُودُ كَفٍّ إذا انْهَلَّتْ تفرَّقَ في ... تيّارها الزاخِران : البحرُ والمطر
مكارمٌ جُمِعَتْ فيه ، توافَقَ في ... تَفْضيلها الأَكرمان : الخُبْرُ والخَبَر
فاسلم وعِشْ وابقَ للِإسلام ما جَرَتِ الْأ ... فلاك والنَّيِّران : الشمسُ والقمر
بنَجْوَةٍ من صورف الدهر يقصُر عن ... مَنالها المُفْسدان : الخَطْبُ والغِيرَ
المملوك لبعده عن خدمة مولاه قد أنكر الزمان ، فما هو الذي كان ، وأوهت الأيام ما أبقته من يسير قوته ، واسترجعت ما أعارته من ضعيف نهضته ، وأذاقته طعم الاغتراب ، وأدخلت عليه الهم من كل باب ، فهو في زاوية المنزل ، عن كلمات الناس فيه بمعزل ، فهو كما قال :
أَنا في أَهِل دمشق وهُمُ ... عددُ الرَّمْلِ وحيدٌ ذو انفراد
ليس لي منهم أَليفٌ وشَّجَتْ ... بيننا الأُلْفةُ أَسبابَ الوِداد
يحسبوني إنْ رأَوْني وافداً ... قد أَتاهم من بقايا قومِ عاد
وانفِرادي رَشَدٌ لي والهوى ... أَبداً يصرِف عن سُبْل الرَّشاد
وقد سألني أن أنتجز له مطلوباً عند الملك الناصر فكتب إلي يستحثني :
عمادَ الدّين مَوْلانا جَوادٌ ... مَواهبه كمُنْهَلّ السّحابِ
يُحكِّم في مَكارمه الأَماني ... ولو كلَّفْنَهُ ردَّ الشباب
وعُذرك في قضا شُغلي قَضاءٌ ... يُصرِّفه فما عُذْرُ الجواب

أخوه الأمير أبو الحسن
علي بن مرشد بن علي بن مقلد بن منقذ :

وسيأتي ذكر جده الأمير الأكبر مفردا ، أمير العصابة ، كثير الإصابة ، سيد بني منقذ ، ذو بأس مردٍ وندىً منقذ ، كبير آل مقلد ، لم يثن أحد جيده من عارفته غير مقلد ، وهذه شيمته ، مذ فارقته مشيمته ، ونيطت به تميمته ، فارس الخيل فارس الخير ، طاهر الذيل عالي الطير ، سمي جده ، ووارث جده ، شيزريٌ ما أحد بشيٍ زرى عليه ، بل كل لسانٍ ثاني الثناء إليه ، كنانيٌ ملأ بالأدب كنانته ، وشفع بعلمه عفافه وديانته .
ورد بغداد حاجاً بعد العشرين وآب ، وأقام بها فصلي تشرين وآب ، وعاد إلى بلده وأقام ولم يرمه ، وساعده القدر بما رامه وما لم يرمه ، فشعره كالشعرى علوا ، ونثره كالنثرة سموا ، ذكره السمعاني في تاريخه فقال : أنشدني أبو الحجاج يوسف بن مقلد التنوخي الدمشقي الجماهيري ، أنشدني الأمير أبو الحسن بن مرشد بن منقذ لنفسه ببغداد :
ودَّعْتُ صَبْري ودمعي يوم فُرْقَتِكم ... وما علمتُ بأَنّ الدَّمع يُدَّخَرُ
وضَلَّ قلبيَ عَنْ صَدْري فُعْدتُ بلا ... قلبٍ فيا وَيْح ما آتي وما أَذَرُ
ولو علمتُ ذَخَرْتُ الدَّمْع مُبْتَغِياً ... إِطفاء نارٍ بقلبي منك تَسْتَعِرُ
وقال : سمعت أبا الحجاج يقول : سمعت الأمير علي بن مرشدٍ يقول : سمعت دراجاً يصيح بدرب الحبيب ، فعملت فيه هذه الأبيات فأنشدنيها :
يا طائراً لعبتْ أَيدي الفِراق به ... مثلي فأَصبحَ ذا هّمٍ وذا حَزَنِ
داني الأسى نازحَ الَأوطان مُغْترِباً ... عن الأحبّة مَصْفُوداً عن الوطن
بلا نديمٍ ولا جارٍ يُسَرُّ به ... ولا حَميمٍ ولا دارٍ ولا سَكَن
لكنْ نطَقتَ فزال الهمُّ عنك ولي ... همٌّ يُقَلْقِلُ أَحشائي ويُخْرِسُني
وكلُّ مَنْ باح بالشَّكْوى استراح ومَنْ ... أَخفى الجوى نَثَّ عنه شاهِدُ البَدَن
أَرَّقْتَ عيني بِنَوْحٍ لستُ أَفهمُه ... مَعْ ما بقلبَي مِنْ وَجدٍ يُؤَرِّقني
وما بَكَيْتَ ولي دمعٌ غواربُه ... إِذا ارْتَمَتْ منه لم تَنْشَقَّ بالسُّفُن
وقال : حدثني أبو الحجاج ، حدثني الأمير أبو الحسن بن مرشد ، أنه كتب إلى صديقٍ له :
ما فُهتُ مع مُتَحِّدثٍ مُتشاغِلاً ... إلاّ رأَيتُك خاطِراً في خاطري
ولو استطعتُ لزُرتُ أَرضَك ماشياً ... بسواد قلبي أَو بأَسودِ ناظري
وله كتب بها إلى أخيه مؤيد الدولة أسامة وهو بالموصل :
أَلا هل لمخزونٍ تذكَّر إِلْفَهُ ... فَحَنَّ وأَبدى وَجْدَه مَنْ يُعينُهُ
وعَيْشاً مضى بالرَّغْم إِذ نحنُ جِيرةٌ ... تَرِفُّ على رَوْض الوِصال غُصونُه
لَدى منزلٍ كان السرورُ قرينَكم ... به فتولَّى إِذ تولَّى قرينُه
فلو أَعْشَبتْ مِنْ فَيْض دمعي مُحولُه ... لما رَضِيَتْ عن دمع عيني جُفونُه
وأنشدني له ابن أخيه الأمير عضد الدولة مرهف :
لأَشْكُرَنَّ النوى والعِيسَ إِذ قَصَدتْ ... بي مَعْدِن الجُودِ والِإحسان والكرَمِ
فسِرتُ في وطني إِذ سِرْتُ عن وطني ... فمَنْ رأَى صِحَّةً جاءتْ من السَّقَم
وقد ندمتُ على عُمرٍ مضى أَسفاً ... إِذ لم أَكُنْ لك جاراً منه في القِدَم
فاسلم ولا زلتَ محروسَ العُلى أبداً ... ما لاحتِ الشُّهْب في داجٍ من الظُّلَم

الأمير عز الدولة سديد الملك
أبو الحسن علي بن مقلد بن منقذ ، من الطبقة الأولى ، جد الجماعة ، موفور الطاعة ، أحكم آساس مجده وشادها ، وفضل أمراء ديار بكرٍ والشام وسادها ، ذو المجد الباذخ ، والجد الشامخ ، والمحتد الراسخ ، والفطنة واللسن ، والمنظر الحسن ، والنظم الذي هو ألذ عند المسهد من لذيذ الوسن ، وهو من جلالته في النفوس ، ومنزلته عند الرئيس والمرؤوس ، ممدوح فحول الشعراء ، ومنهم ابن حيوس ، ولابن حيوس فيه من قصيدة طويلة ، اقتصرت منها على أبيات قليلةٍ ، كتبها إليه من طرابلس إلى ثغر حلب ، مطلعها :
أَمّا الفِراقُ فقد عاصَيْتُه فأَبى ... وطالتِ الحربُ إلّا أَنَّه غَلَبا

أَرانيَ البَيْنُ لَمّا حُمَّ عن قَدَرٍ ... وَداعُنا كلَّ جِدٍّ قبله لَعبِا
ومنها :
يا ابنَ المُقَلَّد قد قلَّدْتَني مِنَناً ... ما قاربَ الحمدُ أَدناها ولا كَرَبا
وَيُمْنُ جَدِّك أَفضى بي إِلى مَلِكٍ ... ما ابتَّزهُ الشِّعْرُ إلاّ هَزَّه طَرَبا
ومنها :
يَعِنُّ ذِكْرُك أَحياناً فيُخْبِرُني ... فَرْطُ الإِصاخَةِ عن قلبٍ إِليكَ صَبا
أُثْنى فيُعْجِبه قولي وُيكْثِرُ من ... سَلامتي بعد إِذ فارقْتُك العَجَبا
وكلُّ ما نلْتُ من عزٍّ وَمكْرُمَةٍ ... وثروةٍ فإِلى آلائك انتسبا
ومنها :
يا بنَ الذين إِذا شَبِّتْ وغًى ملأُوا ... دُروعَهم نَجْدَةً واستفرغوا العَيِبا
وخَوَّفوا النّاسَ فارتاعَتْ مُلوكُهمُ ... تَرَوُّعَ السِّرْبِ لمّا عارَضَ السُّرَبا
مَنْ أَمَّ مَسْعاك أَنضى فِكْره سَفَهاً ... ولستَ تلقاهُ إِلاَّ خائباً نَصِبا
وكم حَلَلْتَ بثَغْرٍ عَزَّ ساكنُه ... سَدَدْتَه بسَدادٍ صَحَّح اللَّقَبا
ضافَرْتَ مالكَه ، دامتْ سعادتُه ... بِمَحْضِ ودٍّ أَزال الشَّكّ والرِّيَبا
فأَنتمُا فيه سَيْفا عِصمةٍ ورَدًى ... أَمضى مِنَ الباترات المُرْهَفات شَبا
إِنْ طاوَلا عَلَوا أَو فاضَلا فَضَلا ... أَو حاربا حَرَبا أو خاطَبَا خطَبَا
إِني أَقول لي المَيْنُ من شِيَمي ... إِني شريكُك فيما عَنَّ أَو حَزَبا
لمّا اشتكى مُرْشِدٌ أَعْظَمْتُه نَبَأً ... ذادَ الكَرى واستثار الهَمَّ والوَصَبا
حتَّى إذا جاءتِ البُشْرى بصحَّته ... قَضَتْ بتسكين قلبٍ طالما وَجَبا
فلا بَرِحْتَ وإِنْ سيء العِدى أَبداً ... تلقى الخُطوبَ بِجَدٍ يخْرُق الحُجُبا
فالأمير أبو الحسن علي ، له فضلٌ جلي ، وشعرٌ كأنه في نضارته حلي ، وهو وفي ، بعلمه ملي ، قديم العصر من الطبقة الأولى ، لكن رأيت ذكر مثله أولى ، فأدبه في سوق الفضائل أروج وأغلى ، ونسبه عند الأفاضل أبهج وأعلى ، وسأورد من شعره ما شددت عليه يدي ، وهو منتقحي ومنتقاي ومنتقدي .
أنشدني مجد العرب العامري بأصفهان قال : أنشدني الأمير أبو سلامة مرشد لأبيه الأمير أبي الحسن علي بن مقلد بن منقذ لنفسه في غلامٍ ضربه ، وما أبدع هذا المعنى وأغربه ، وأعجزه وأعجبه :
أَسْطو عليه وقلبي لو تمكَّن مِنْ ... كَفَّيَّ غَلَّهما غَيْظاً إِلى عُنُقي
وأَسَتِعزُّ إِذا عاتَبْتُه حَنَقاً ... وأَين ذُلُّ الهوَى من عِزَّةِ الحَنق
استعارة الحنق في هذا الموضع ، معنىً مبتكر له حسن الموقع ، فما أقوى هذا التحقيق ، وما أحسن هذا التطبيق .
قال وأنشدني أيضاً لنفسه :
ماذا النَّجيعُ بوجْنَتَيْك وليس مِنْ ... شَدْخ الأنُوف على الخُدود رُعافُ
أَلحاظُنا جَرَحَتْك حين تَعَرَّضَتْ ... لك أَم أَديمكُ جَوْهَرٌ شضفّاف
وقرأت له من مجموع :
إِذا ذكرتُ أَياديكَ التي سَلَفَتْ ... مع سُوءِ فِعْلي وزَلاّتي ومُجْتَرمي
أَكادُ أَقُتل نفسي ثم يمنعني ... عِلْمي بأَنك مَجْبُولٌ على الكَرَم
وله :
مَنْ كان يرضى بِذُلٍّ في وِلايته ... مِنْ خوفِ عَزْلٍ ، فإني لستُ بالرّاضي
قالوا فتركب أحياناً فقلتُ لهم : ... تحت الصّليبِ ولا في موكب القاضي
وله :
ألَا حَبَّذا رَوْضَتا نَرْجِسٍ ... تُحَيّا النَّدامى بِرَيْحانها
شرِبنا عليها كأَحْداقِها ... عُقاراً بكأْسٍ كأَجفانِها
ومِسْنا من السُّكْر ما بَيْنَها ... نُجَرِّرُ رَيْطاً كقُضْبانها

وذكر سيدنا صفوة الدين البالسي ، وقد حكي لي أن الأمير أبا الحسن بن منقذ كان راكباً في جماعة ، فنزلوا بروضةٍ فيها الشقائق والأقحوان فاستحسنوها ، فقالوا : تعالوا ننظم فيه شعراً ، وزعم أن منهم ابن حيوس ، فقالوا : ابدأ أنت ، فقال :
كأنَّ الشَّقائق والأُقْحُوان ... خدودٌ تُقَبِّلُهُنَّ الثُّغُورُ
فهاتيك يُخْجِلُهُنَّ الحَياء ... وهاتيك يُضْحِكُهُنّ السُّرورُ

الأمير مجد الدين أبو سلامة
مرشد بن علي والد أسامة :
لئِن نَسِيَ امرؤٌ عَهْداً فإِني ... لِعهدِ أَبي فِراسٍ غيرُ ناسِ
وما عاش الأَميرُ أَبو فِراسٍ ... فما مات الأميرُ أَبو فِراس
كان يقول العامري كنيتي أبو فراس ، وأراد في البيت أن أبا فراس بن حمدان ما مات وهذا يعيش ، فإن شعره كشعره ، وكان العامري يتبجح بالبيتين .
وقال السمعاني في التاريخ : أنشدني ولده الأمير أبو عبد الله محمد بن مرشد بن علي بن مقلد بن منقذ من حفظه ، عند القبة التي فيها قبر أيوب النبي عليه السلام عند عقبة أفيق بنواحي الأردن . قال : وأنا قائم أكتب وهو وغلمانه على الخيل . قال : أنشدني والد مرشد بن علي لنفسه بشيزر . وحضرت عند الأمير أسامة بدمشق في صفر سنة إحدى وسبعين واعترف بأن هذه القصيدة لأخيه :
ظَلومٌ أَبَتْ في الظُّلْمِ إِلاّ تَمادِيا ... وفي الصَّدِّ والهِجْران إِلاّ تَناهِيا
شَكَتْ هَجْرَنا والذَّنْبُ في ذاك ذَنْبُها ... فيا عَجَبا مِنْ ظالمٍ جاء شاكيا
وطاوَعَتِ الواشين فيَّ وطالما ... عَصَيْتُ عَذولاً في هواها وواشيا
ومال بها تِيُه الجمال إلى القِلا ... وهَيْهاتَ أَنْ أُمسي لها الدهرَ قاليا
ومنها في العتاب :
ولا ناسياً ما اسْتَوْدَعَتْ من عُهودها ... وإِن هي أَبْدَتْ جَفْوَةً وتناسِيا
وقلتُ أَخي يرعى بَنِيَّ وأُسرتي ... ويحفظ فيهم عُهْدتي وذِماميا
ويَجْزيهمُ ما لم أُكَلِّفْه فِعْلَه ... لنفسي فقد أَعْدَدْتُه مِنْ تُراثيا
فأَصبحتُ صفْرَ الكفّ ممّا رجَوْتُه ... أَرى اليأْس قد غَطَّى سبيل رجائيا
فما لَك لمّا أَنْ حَنى الدَّهْرُ صَعْدَتي ... وثَلَّمَ مني صارماً كان ماضِيا
تنكَّرْتَ حتى صار بِرُّك قَسْوَةً ... وقُرْبُك منهم جَفْوةً وتنائيا
على أَنني ما حُلتُ عمّا عَهِدْتَه ... ولا غَيَّرَت هذي الشُّؤونُ ودِادِيا
فلا زَعْزعَتْك الحادثاتُ فإنّني ... أَراك يَميني والأَنام شِماليا
وقرأت في بعض الكتب كلمةً نظمها الخطيب أبو الفضل يحيى بن سلامة الحصكفي في جواب رسالةٍ وصلت من الأمير علي بن مرشد من سيزر ، وإنما أوردتها هاهنا لكونها في مدح بني منقذ ، وقد ذكرت ما فيه كفاية من شعر الخطيب الحصفكي عند ذكره وهي :
حوى مُرْشِدٌ وابناه غُرَّ المَناقِبِ ... وحَلُّوا من العَلياء أَعلى المَراتِبِ
ذوائبُ مجدٍ ما علمتَ بأَنهم ... من العلم أَيضاً في الذُّرى والذوائبِ
أَتَتْ مِنْ علّي روضةٌ جاد رَوْضَها ... سحائبُ فضلٍ لا كَجَوْدِ السَّحائب
أَلم تر أَنّ المُزْن فاضت فَنُوِّلَتْ ... رَبابٌ وأَروى منه حَلْيَ الكواعب
بأَبياتِ نظمٍ أَفحمتْ كلَّ شاعرٍ ... وآياتِ نثَرٍ أَعجمتْ كُلَّ خاطِب
وغُرِّ مَعان أَعْجَزَتْ كلّ عالمٍ ... وأَسطرِ خَطٍّ أَرعشتْ كلَّ كاتب
ربيعٌ بِوَرْدٍ وافدٍ لمُطالعٍ ... ورَبْعٌ لوَفْدٍ وارد بمطالب
وخو درمت بالسحر عن قوس حاجب ... لها في العلى فخرٌ على قوسِ حاجِب
فلو قَطَبَتْ راحا لما قطَّبتْ لها ... وُجوهٌ ولا غطّت على حِلْم شارب
مناقبُ نَدْبٍ قال جدّي ابن مُنقذٍ ... عليٌ وعمي نجمه ذو المناقب

وبيتي كبيتي في القريض مُؤَسَّس ... بغير دَخيلٍ فهو إِحدى العجائب
بنى منقذٌ مجداً تلاه مُقَلَّدٌ ... وقصّ عليٌّ نهجَه في المذاهب
ولم يأْلُ جهداً مُرْشِدٌ في اقتفائهم ... وأَبناءُ ذاك البدر زُهْرُ الكواكب
إِليهم نوى إِرْقالَه كلُّ خائفٍ ... ومنهم حوى آمالَه كلُّ راغب
وفيهم روى أوصافَه كلُّ مادحٍ ... وعنهم زوى أَوْهامَه كلُّ عائبِ
لهم نارُ حربٍ أَطفأَت حربَ وائلٍ ... ونارُ قرىً أَوْفَتْ على نار غالب
مغارِسُهم طابَتْ وطابَ حديثُهم ... وأطيبُ مَسْمُوع حديثُ الأَطايب
مناسِبُهم غُرٌّ وأَكثَرُ فخرهِم ... بما استأْثروه لا بِغُرِّ المَناسِب
مكاسِبُهم حُسْنُ الثَّناء فما ابَتَغْوا ... به كبني الرعي دَنيَّ المَكاسِب
متاعب دُنْيا أَوْ بقَتْ بمَتاعها ... وأَيُّ سُرورٍ في مَتاعِ مَتاعب
رآني عليٌّ لاعِباً بقرائنٍ ... فجاء بأُخرى مثلِها غيرَ لاعب
تحدّى كلامي فاعْترفتُ بفَضْلِه ... وأَين الحِقاق من مِصاع المَصاعِب

الأمير شرف الدولة أبو الفضل
إسماعيل بن أبي العساكر سلطان بن علي بن منقذ ، كان أبوه ابن عم مؤيد الدولة أسامة أمير شيزر ، وسمعت أنه كان شابّاً فاضلاً ، وسكن بعد أخذ شيزر منهم بدمشق ، وتوفي سنة إحدى وستين قبل وصولي إليها بسنة ، سمعت من شعره قوله :
ومُهَفْهَفٍ كتب الجَمالُ بِخَدِّه ... سطراً يُحَيِّر ناظِر المُتَأَمِّلِ
بالغتُ في استخراجه فوجدتهُ ... لا رأيَ إِلاّ رأي أَهِل المَوْصِل
وأثني عليه الأمير مرهف بن أسامة بن منقذ ، وأنشدني له أشعاراً مليحة ، ومن جملتها بيتان في النحل والزنبور ، وهما :
ومُغَرِّدَيْن ترنَّما في مجلسٍ ... فنفاهُما لِأذَاهما الأَقوامُ
هذا يجودُ بما يجودُ بعكسِه ... هذا فيُحْمَد ذا وذَاكَ يُلام
يعني العسل من النحل ، وعكسه اللسع من الزنبور .
وأنشدني أيضاً لابن عمه شرف الدين من أول قصيدة :
سَقام جَفْنَيْك قد أَفضى إِلى بدني ... فَمَنْ لجفني بما فيه من الوَسَن
وأنشدني أيضاً لابن عمه المذكور شرف الدولة إسماعيل :
سُقيتُ كأْسَ الهوى عَلاًّ على نَهَلِ ... فلا تَزِدْنَي كأْسَ اللَّوْم والعَذَلِ
نأَى الحَبيبُ فبَي مِنْ نَأْيِه حُرَقٌ ... لو لابستْ جَبَلاً هدّت قوى الجبل
ولو تطلبَّتُ سُلواناً لزِدتُ هوىً ... وقد تزيد رُسوباً نهضُة الوَحِل
عَفَتْ رُسومي فعُجْ نحوي لتَنْدُبَني ... فالصَبُّ غِبَّ زِيال الحِبِّ كالطَّلَل
صحوتُ من قهوةٍ تُنْفى الهمومُ بها ... لكنّني ثَمِلٌ مِنْ طَرْفِه الثَّمِل
وما اعتبرتُ الذي استأْنفتُ من حَزَنٍ ... إِلاّ وطاح بما استسلفتُ من جَذَل
أُصَبِّرُ النَّفسَ عنه وهي قائلةٌ ... ما لي بعاديةِ الأَشواقِ من قِبَل
كم مِيتةٍ وحَياةٍ ذُقتُ طَعْمَهُما ... مُذْ ذُقتُ طعم النَّوى لليأْس والأَمل
وكم رَدَعْتُ فؤادي عن تَهافُتِه ... إِلى الصَّبابة رَدْعَ الحازِم البَطَل
حتى أَتاحتْ ليَ الأَقدارُ غُرَّتَهُ ... وكنتُ من أَجَلي منها على وَجَل
فطار لُبّي وطاحتْ شِرَّتي ووهى ... حَوْلي وعَزَّ عزائي وانقضتْ حِيَلي
والنفسُ إِن خاطَرتْ في غَمْرةٍ وَأَلَتْ ... منها وإِن خاطرت في الوَجْدِ لم تَئِل
لها دُروعٌ تَقيها من سهامِ يدٍ ... فهل دروعٌ تَقيها أَسْهُمَ المُقَلِ
وزاد وجديَ أَن زادت مَلاحَتُه ... كلٌّ بما هو فيه غايُة المَثَل

فانظر إِليه تَرَ الأَقمار في قمرٍ ... وانظر إليّ تَرَ العُشّاق في رَجُل
بأَيِّ أَمْريَّ أَنجو من هوى رَشإٍ ... في جَفِنه سحرُ هاروتٍ وسيفُ علي
تاللّه لا مَنْظَرٌ للعين أَحسنُ مِنْ ... عَيْنٍ تُظاهِرُ بين الكُحْل والكَحَل
ووجنةٍ تَعِبتْ بالَّلْثم فامتزجتْ ... بحمُرِة اللّونِ فيها حُمْرةُ الخَجَل
ظبيٌ إِذا استلّ سَيْفَيْ مُقلَةٍ ويَدٍ ... ذَلّتْ لديه أُسوُد الغابِ والأَسَل
تأَبَّط الرُّمْح إِذ وافاه مُعْتدلاً ... ولو تَثَنَّي رآه غيرَ مُعتدِل
إذا رمى طرفهُ باللَّحْظِ قال له ... قَلبي : أَعِدْ لا رَماكَ اللّهُ بالشَّلَل
أَمِنْ بني الروم ذا الرّامي الذي فَتَكتْ ... سِهامُه بالورى أَم من بني ثُعَل
يُزْهي بوَجْنته خالٌ غَدوتُ به ... مِن الصَّبابِة مَحسوباً من الخَوَل
خالَسْتُه ضَمَّةًَ عند الوَداع له ... زالتْ ولذَّتُها في القلب لم تَزُل
ونِلتُ من ثَغْرِه رشْفاً على حَذَرٍ ... من الرقيب وتَقْبيلاً على عَجَل
ولست أُنِكْرُ بعد الوصل فُرقَتَهُ ... لأنَّ عُمْرَ الفتى مُفْضٍ إلى أَجَل
إنْ خِفتُ رَوْعةَ هِجران الحبيب فقد ... أَمِنْتُ في حُبِّه من رَوْعَة العَذلَ

أخوه الأمير أبو الفتح
يحيى بن سلطان بن منقذ
لقبه فخر الدين ، ذكره لي الأمير مرهف بن أسامة ، وذكر أنه قتل على بعلبك في سنة أربعين وخمسمائة .
وأنشدني من شعره ما كتبه إلى أبيه يطلب منه رمحاً :
يا خيرَ قومٍ لم يزل مَجْدُهمْ ... في صفحاتِ الدَّهرِ مَسْطورا
عبدُك يبغي أسمراً ذِكْره ... ما زال بين الناس مَذْكورا
مُسدَّدٌ والجَوْرُ من شأْنه ... إِن نال وِتراً صار مَوْتورا
وإِن تفضّلتَ به عاد عن ... صُدور أَعدائك مَكْسورا
الأمير عز الدولة أبو المرهف
نصر بن علي بن مقلد :
عم مؤيد الدين أسامة ، كنا قد حضرنا عند الملك الناصر ليلةً بدمشق سنة إحدى وسبعين ، والأمير مؤيد الدين أسامة حاضر ، وتناشدنا ملح القصائد ، ونشدنا ضالة الفوائد ، وجرى حديثٌ اقتضى إنشاد الأمير أسامة بيتين لبعضهم في المشط الأسود والمشط الأبيض وهما :
كنتُ أَستعمل السّواد من الأَم ... شاط والشَّعْرُ في سَواد الدّياجي
أَتلقىّ مِثْلاً بِمِثْلٍ فلما ... صار عاجاً سَرَّحْتُه بالعاج
ثم قال الأمير أسامة : أخذ هذا المعنى عمي نصر وعكسه وقال :
كنتُ أستعمل البياض من الأَمش ... اط عُجْباً بِلّمَتي وشَبابي
فاتَّخَذْتُ السَّوادَ في حالة ال ... شيب سُلُوَّا عن الصِّبا بالتّصابي
وقال لي الأمير أسامة : كان عمي نصر قد أخرج حجةً عن والدته فرآها في النوم كأنها تنشده ، فانتبه والأبيات على حفظه :
جُزِيتَ مِن وَلَدٍ بَرّ بصالحةٍ ... فقد كَسَبْتَ ثواباً آخر الزَّمَنِ
وقد حَجَجَتَ إِلى البَيْتِ الحارم وقد ... أَتَيْته زائراً يا خَيْرَ مُحْتَضن
فلا تَنَلْك يدُ الأيّام ما طَلَعَتْ ... شَمْسٌ وما صَدَحَتْ وَرْقاءُ في فَنَن
وكان هذا نصر صاحب قلعة شيزر بعد والده سديد الملك ، وكان كريماً ذا أريحية .
قال الأمير مرهف بن أسامة ، وهو بمحضرٍ من والده يحدثني أنه كتب القاضي أبو مسلم وادع المعري إلى الأمير أبي المرهف نصر في نكبةٍ نالته :
يا نصرُ يا ابن الأكْرَمِين ومَنْ ... شَفَعَ التِّلادَ بطارِف الفَخْرِ
هذا كتابٌ من أَخي ثِقَةٍ ... يَشْكو إِليك نوائب الدَّهْرِ
فامْنُنْ بما عَوَّدْتَ مِنْ حَسَنٍ ... هذا أَوانُ النَّفْع والضرِّ

فكتب إليه الأمير نصر إنه لم يحضرني سوى ما هو مودعٌ عندك ، وكان ستة آلاف دينار ، فاصرفها في بعض مصالحها واعذر.
وذكر أن نصراً كان براً بوالده سديد الملك . ولوالده فيه :
جزى الله نصراً خَيْرَ ما جُزِيَتْ به ... رِجالٌ قَضَوْا فَرْضَ العَلاء ونَفَّلوا
هو الولَدُ البَرُّ العَطوفُ فإِن رمى ... به حادثٌ فَهْو الحِمامُ المُعَجّلُ
يُفَدِّيك يا نَصْرٌ رِجالٌ مَحَلُّهُمْ ... من المجد والإِحسان أَنْ يَتَقَوَّلُوا
سأُثْني بما أَوْلَيْتَ بالْمَوْقِف الذي ... تَقِرُّ به الأَقدامُ أَوْ تَتَزَلْزَل
وأَلقاكَ يومَ الحَشْرِ أَبيضَ ناصِعاً ... وأَشكرُ عند اللهِ ما كنتَ تَفْعَل

الأمير عضد الدولة أبو الفوارس
مرهف بن اسامة بن منقذ ذو المجد الأثير ، والفخر الأثيل ، والبيت الأصيل .
أنشدني بدمشق سنة إحدى وسبعين لنفسه :
سَمَحْتُ بُروحي في رِضاكَ ولم تكُنْ ... لتُعْجِزَني لولا رضاك المَذاهِبُ
وهانَتْ لِجَرّاكَ العظائمُ كلُّها ... عَلَيَّ ، وقد جَلَّتْ لَدَيَّ النّوائب
فكان ثَوابي عن وَلائي تَجَهُّمٌ ... رَمَتْني به منك الظُّنُونُ الكَواذِبِ
فَمَهْلاً فلي في الأَرض عن منزل القِلا ... مَسارٍ إذا أَخْرَجْتَني ومَسارِبُ
وإِن كنتَ ترجو طاعتي بإِهانتي ... وقَسْري فإنَّ الرَّأْي عنك لَعازِب
وأنشدني أيضاً لنفسه وهو حاضر عند والده ، وذكر أنه مما كتبه إلى والده :
رَحَلْتُم وقلبي بالوَلاء مُشَرِّقٌ ... لديْكُمْ وجسمي لِلْفَناء مُغَرِّبُ
فهذا سعيدٌ بالدُّنُوِّ مُنَعَّمٌ ... وهذا شَقِيٌّ بالبِعاد مُعَذَّب
وما أَدَّعي شَوْقاً فَسُحْبُ مَدامعي ... تُتَرِجمُ عن شوقي إِليكم وتُعْرِب
ووالله ما اخْتَرُت التَّأَخُّر عنكم ... ولكن قضاءُ اللهِ ما مِنه مَهْرَب
الأديب أبو عبد الله محمد بن يوسف بن منيرة
الكفرطابي
ذكر أنه كان قرأ على الطليطلي ، لقيت من قرأ عليه وهو أبو الثناء محمود ابن نعمة بن أرسلان الشيزري بدمشق .
واستنشدته من شعر أستاذه ، فأنشدني له بيتين لم تخل كلمةٌ منهما من زاي وهما : قال أنشدنيهما لنفسه :
تجاوزْتُ أجواز المَفاوِز جازياً ... بأَزرق عَزَّته نزوع النواهزِ
وزَجَّيْتُ بُزْلاً كالجَوازي مُجَهّزاً ... وأَزْجَيتُ عَزْم الهِبْزِرِيّ المُناجِز
وأنشدني أيضاً قال أنشدني أستاذي ابن منيرة لنفسه في السيف :
ومُهَنَّدٍ تقْفو المَنُونُ سَبيلَه ... أَبداً فكيف يُقال رَيْبٌ مَنونِ
شَرِكَ المنايا في النّفوس فَرُحْنَ عَنْ ... غَبْنٍ وراحَ ولَيْسَ بالمَغْبُونِ
لو أَن سيفاً ناطقاً لتحدَّثَتْ ... شَفراته بسرائرٍ وشُجون
فكأنّما القَدَرُ المُتاح مُجَسَّمٌ ... في حَدِّه أَو عزم عزّ الدين
الأديب أبو الثناء محمود بن نعمة بن أرسلان
الشيزري
لقيته بدمشق سنة ثلاثٍ وستين وخمسمائة ، وأنشدني من أشعاره ، وأجناني من ثماره ، ونزهني في أزهاره ، وكتب القصيدة الميمية بخطه ، وأبرز لي من سفط تبريزه در سمطه ، ووعدني أن يكتب لي من شعره ما أوشح به كتابي هذا وأطرزه ، وأحرزه في كنز الفضائل وأكنزه ، فعاقه القدر عن نجاز وعده ، وطرق الكدر ، بطرق ثمد صفو ورده ، وتوفي بعد سنة خمسٍ وستين وخمسمائة بدمشق .
ومن مشهور شعره بيتٌ جمع فيه ست تشبيهات ولم يسبق إليه ، فإن أكثر ما جمع خمس تشبيهات بيت القائل :
فأَمْطَرَتْ لُؤْلؤاً مِنْ نَرْجِسٍ وسَقتْ ... ورْداً وعَضَّتْ على العُنّاب بالبَرَدِ
وبيت محمودٍ الشيزري :
تَنْضُو السَّحائبَ عَنْ بدرٍ وأَنْجمِه ... وتمسَحُ الطَّلَّ عَنْ وَرْدٍ بِعُنّابِ
فشبه النقاب بالسحاب ، والوجه بالبدر ، والحلي والشنوف بالنجوم ، والعرق بالطل ، والخد بالورد ، والأنامل المخضبة بالعناب .

وله في كافات الشتوة :
يقولون كافاتُ الشّتاءِ كثيرةٌ ... وما هي إلاّ فَرْدُ كافٍ بلا مرِا
إِذا صَحّ كافُ الكيس فالكُلُّ بَعدَها ... يَصِيحُ : وكلُّ الصَّيْدِ يُوجَدُ في الفَرا
وللأمير الأديب أبي الثناء محمود بن نعمة بن أرسلان الشيزري ، أنشدني لنفسه بدمشق في وزن قصيدة عملها مؤيد الدين أسامة بن منقذ يشكو ابن الصوفي بدمشق وهذا يجيبه عن تلك القصيدة :
يا ظالِماً نارُه في القلبِ تَضْطَرِمُ ... مَهْلاّ فظُلمُك تَغْشى نُورَه الظُلَمُ
كأَنَّك القوسُ تُرْدي وهي صارخةٌ ... وما أَلمَّ بها من غيرها أَلَم
تَجْني وتُلزِمني ذنباً أَتيتَ به ... ووجهُ غَدْرِك بادٍ ليس يلتثم
فكم تُحيلُ على الأَيّام صُنْعَك بي ... ودونَه تَعْجز الأيّام والأُمَم
والبُعْدُ أَيْسَرُ ما استوجبتَ من جهتي ... والهَجْرُ واللَّوْم والتفنيدُ والسَّأَم
يا مَنْ وهبتُ له قلبي فعذَّبَه ... وما اعتراني على إِعطائه ندم
بِئْس الجزاءُ بما أَوْلَيْتُ عَوَّضني ... والله يكرهُ ما يَأْتيه والكَرَم
قُل للذي باعني بَخْساً بلا ثمنٍ ... بأَيِّ عُرْوَة رِبحٍ أَنت مُعْتَصِمٍ
وعاذلٍ بات يَلْحاني على قمرٍ ... أَهوى الوفاءَ وأَنْ تُرْعى له ذِمم
فقلتُ والعَذْل يَطْويني وَيْنُشُرني ... أُكْفف فَهَمُّك لا تُثْني له الهِمَم
لا تُهْدِيَنْ ليَ نُصْحاً لستُ أَقبلُه ... واعلم بأنك في ذا النصح مُتَّهَم
مَنْ يتركُ العَيْنَ مُعْتاضاً بها أثراً ... عَمْداً ويُكذِبُ سَمْعاً ما به صَمَم
يا أَيُّها الرّاكِبُ الطاوي لِطِيَّتِه ... أَرضاً تَكِلُّ بها الوَخّادَةُ الرُّسُم
أَبلغ أُسامَةَ عن ذي النّصح مَأْلُكَةً ... فيها البصائر والآداب والحِكَم
في أَيّ دينٍ يُجازي المحسنون بما ... يَسُوءهم ولماذا تُجْحَد النِّعَم
أَتيتُمونا وقد ضاق الفضاء بكم ... ولم يَقَرِ بكم قُورٌ ولا أَكَم
والسُّمْرُ قد شَرَعَتْ فيكم أَسِنَّتُها ... وأُرْهِفت لكم الهِنْديَّةُ الخُذُم
وقد تَبَرَّأَ منكم كلُّ ذي نَسَبٍ ... وما أَجارَكُمُ عُرْبٌ ولا عَجَم
أَلْفَيْتُمونا لكم خيرَ المُجير وقد ... طافت بكم نُوَبُ الأيّام والنِّقَم
أَتَتْكُمُ رَوْضَةٌ غَنّاء مُزْهِرةٌ ... من جودنا وغَديرٌ مُتْرَعٌ شَبِم
ومَنْزِلٌ عند خير المُنْزِلين لكم ... رَحْبُ الذُّرى ومُقامٌ طاهر حَرَم
وأُطرِفَتْ أَعيُنُ الأعداء دوَنكُمُ ... ولم تَطُلْ نحوَكُمُ كَفٌّ ولا قَدَم
فحين أَدركَكمْ ما تأْمُلون بنا ... وما أَصابَكُمُ عارٌ ولا سَقَمُ
كفرتُمُ صُنْعنا المشكورَ أَنْعُمُهُ ... بِلُؤْمِكم وهو ما بين الورى عَلَم
وكنتمُ عَوْنَ مَنْ يبغي عَداوتَنا ... والله عونٌ لِمَنْ بالحقّ يَعْتَصِم
بَغْيٌ تُشَيِّده الأَطماعُ كاذِبةً ... وكلُّ مالا يَشيدُ اللهُ ينهدم
كما بغى ابن أبي سُفيان حين بغى ... ما ليس فيه له إِرْثٌ ولا قِسَم
ولو نشاءُ سَلَقْناكم بأَلِسنةٍ ... لُدٍّ بها تلتقى الأَقدام والِقمَم
لكن أَجارَتْكُمُ منّا مُحافَظَةٌ ... لها المُقاتل والأَطفْال والحُرَمُ
فأَين كُنتْم ، وبيضُ الهِندِ مُصْلَتَهٌ ... والسَّمْهَرِيَّةُ والأَكباد تَنْحَطم
والأعْوَجِيَّةُ بالأَبطال مُقِبلَةٌ ... والخَلْقُ صِنْفان : مَقتولٌ ومُنْهَزِم

والخَوْفُ قد طَبَّق الأقطار أَجْمَعَها ... فالهامُ تُفْلَق والأَصْلاب تَنْفَصِم
هناك تأْتي المنايا طَوْعَ بُغْيِتَنا ... فلم تزل في نفوس القَوْم تَحْتَكِم
ونحن أُسْدُ وغىً أَرماحها أَجَمُ ... وَمِنْ فوارسها الأَبطال والبُهَم
ومثل يومٍ فَشَتْ في النّاس روعتُه ... من الفَرَنْج وموجُ المَوْتِ مُلْتَطِم
قُمْنا وقد قَعَد الأَقوام أَجْمَعُهُمْ ... فما تَساوَتْ به العِقْبان والرَّخَم
والباطنيَّةُ مُذْ هَمُّوا بأَجْمَعِهم ... وأَظهروا بفَساد الدّين ما كتَموا
وغَرَّهُمْ عَدَدٌ جَمٌّ وداخَلُهْم ... عُجْبٌ بما اجتمعوا فيه وما اجْتَرَموا
وأَيْقَنوا أَنّ صُبْحَ الحقّ لاحَ لَهُمْ ... والخَلْقُ دونَهُمُ تغشاهُمُ ظُلَمُ
ثُرْنا لهم ثَوْرةً في الله صادِقةً ... وَهَتْ عُرى عُرِفْهم فيها وما عَزَمَوا
هذا وإِنْ رابَتِ السُّلْطانَ حادِثَةٌ ... واستعجمتْ وقَضاءُ اللّه يَنْعَجِم
قُمْنا لها فكفَيْناها بأَنْفُسِنا ... وما تُساعِدنُا الأَعْوان والخَدَم
وإنْ أَتى المَحْلُ يوماً صاب صَيِّبُنا ... وجاد فيه إِذا ما ضَنَّتِ الدِّيَم
وإِنْ تقاسَمْتُمُ بالحُبِّ كان لكم ... منه النَّصيبُ الحقيرُ التّافِهُ الزَّنِم
فكم أَتَيْتَ بقولٍ منكَ مُخْتَلَقٍ ... ومال له قَدَمٌ صِدْقٌ ولا قِدَم
وما نَزَلْتَ على قومٍ ذَوي رَحِمٍ ... إِلاّ وشُتِّتَ مِنْ جَرّاك شَمْلهُمُ
إنِي لأَخْشى على مصرٍ وإِن عَمُرَتْ ... تُضْحي وأَبياتُها من رَأْيِكُمْ رُمِمَ
فاللّه يَكْفي أَميرَ المُؤمنين شَدِي ... فَسادَ فِعلكُمُ ما أَوْرَق السَّلم
///أهل معرة النعمان وقد غلب عليهم الشعر منهم:

بنو سليمان
من أهل المعرة
التنوخيون
هم من البيت القديم، والمجد الصميم، وما زالوا القضاة بالمعرّة، القُصاة من المعرة، ومنهم أبو العلاء الشاعر المُفلِق، الذي امتلأ بفضله المغرب والمشرق، وكان سليمان بن أحمد بن سليمان جد جد أبي العلاء قاضي المعرة في سنة تسعين ومائتين، ثم بعده ولده محمد أبو بكر، وفيه يقول أبو بكر الصنوبري الشاعر:
بأبي يا ابنَ سُلَيْما ... ن لقد سُدتَ تَنوخا
وهمُ السادةُ شُبّا ... ناً لَعَمْري وشيوخا
أدركَ البُغيةَ مَن أض ... حى بناديك مُنيخا
وارِداً عندك نِيلاً ... وفُراتاً وبَليخا
واجداً منكَ متى استصر ... خَ للمجد صَريخا
في زمانٍ غادر الهِم ... ماتِ في الناسِ مُسوخا
ثم بعده ولده سليمان، أبو الحسن، ومن شعره في الناعورة:
وباكيةٍ على النّهر ... تنوحُ ودمعُها يَجري
تُذكِّرُني أحِبّائي ... وحالي ليلةَ النَّفْرِ
وتولى قضاء حمص أيضاً. ثم عبد الله أبو محمد ولده وهو والد أبي العلاء، ولعبد الله شعر في مَرثية والده وقد توفي بحمص سنة سبع وسبعين وثلاثمائة:
إنْ كان أصبح مَن أهواهُ مُطَّرَحاً ... ببابِ حِمص فما حُزني بمُطَّرَحِ
لو بان أَيْسَرُ ما أُخفيه مِن جَزَعٍ ... لمات أكثرُ أعدائي من الفرحِ
وله:
سمعتُم بأَجْوَرَ مِن ظالمٍ ... أَعَلَّ الفؤادَ وما عادَهُ
وقد كان واعدني زَوْرَةً ... فَأَخْلفَ يا قوم ميعادَهُ
ثم ولده أبو العلاء أحمد، وهو المعروف المشهور الفضل والفضيلة، وأخوه أبو المجد محمد بن عبد الله، وله أيضاً شعر، وهو أكبر من أبي العلاء، ومن شعره:
كَرَمُ المُهَيمِنِ مُنتَهى أَمَلي ... لا نِيَّتي أرجو ولا عملي
يا مُفْضِلاً جَلَّتْ فواضِلُهُ ... عن بُغيَتي حتى انقضى أَجلي

كم قد أَفَضْتَ عليَّ مِن نِعَمٍ ... كم قد سَتَرْتَ عليَّ مِن زَلَلِ
إنْ لم يكن لي ما ألوذُ به ... يومَ الحسابِ فإنَّ عَفْوَكَ لي
وعبد الواحد أبو الهيثم، أخو أبي العلاء وله شعرٌ، منه في الشمعة:
وذاتِ لونٍ كَلَوْني في تغَيُّرِهِ ... وأَدمُعٍ كدموعي في تحَدُّرِها
سهرتُ ليلي وباتَتْ بي مُسَهَّدَةً ... كأنَّ ناظِرَها في قلبِ مُسْهِرِها
ولعبد الواحد أيضاً:
قالوا تراه سلا لأنّ جفونَهُ ... ضَنَّتْ عَشِيَّةَ بَيْنِنا بدموعِها
ومنَ العجائبِ أنْ تفيضَ مَدامِعٌ ... نارُ الغرامِ تُشَبُّ في يَنبوعِها
والذين هم من أهل هذا العصر من شرط كتابنا هذا من ولد محمد أخي المعري أبي العلاء أولهم:

القاضي أبو المجد
محمد بن عبد الله بن محمد أبي المجد أخي أبي العلاء بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان بن داود بن المُطهِّر بن زياد بن ربيعة بن الحارث بن ربيعة بن أنور بن أرقم بن أسحم بن النعمان، وهو الساطع وسمي بذلك لجماله، بن عديّ بن عبد غطفان بن عمرو بن بَريح بن جَذيمة بن تَيْم اللات، وهو مجتمَع تَنوخ. وتمام النسب مذكور في نسب أبي يعلى بن أبي حُصَيْن فإنهما مجتمعان في داود بن المطهّر.
ذكر لي ابن ابنه القاضي أبو اليسر الكاتب أنه كان فاضلاً أديباً، فقيهاً أريباً، نبيهاً لبيباً، مفتياً على مذهب الشافعي رضي الله عنه قاضياً بالمعرة إلى أن دخلها الفرنج خذلهم الله تعالى في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة فانتقل إلى شيزر وأقام بها مدة، ثم انتقل إلى حماة وأقام بها إلى أن مات في محرّم سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، ومولده سنة أربعين وأربعمائة، وأدرك عم أبيه أبا العلاء، وقرأ عليه أشعاره ومصنفاته وأخبرني أن له ديوان شعر ورسائل.
ومن منثور كلامه: الصنعة مُحكمة، والمرجِّمون كثير، والدلائل قائمة على الصانع، والسعادة والشقاء سابقان، والفكرة حسيرة، والعاقل كالجاهل تحت القدر، والحريص تَعِب، وجِماع الخيرات مراقبة الله، والشرع أولى مُتَّبَع، والخير حميد، والشر وخيم، وأخلاق الرسول صلّى الله عليه وسلَّم من اقتدى بها اهتدى ونجا من الحَيرة والضلال، وليس للعِرض ثمن يكافيه، والسؤال ثمن النوال، وسعة الأخلاق رحمة من الخلاّق، والصبر عَونٌ حاضر، والقناعة ثروة لا تنفد، ولتكن لك نفس ترفعك عن دَنيّات الأمور، وعِرض ينجو بك من ذم الناس، وصدق يستريح إليه من يخشى الكذب؛ وحافظ على دينك حفاظ الخيل على موضعها من الأرض، وإياك والجزع على ما فات، والتفريط فيما بقي؛ ودافِع ما لا بدّ منه من غدٍ إلى غدٍ فإن الدهر لا يُعتِب في فعله، ولا تجمع على من ضيّع أمره ولا تُمكِّن فيه الفُرص في كل وقت، ولا تدنِّس المروءة فإنها تجمع أبواب المحاسن وتؤلف بين أشتات الفضائل. من عظُمتْ في نفسه الدنيا صغُر عند الله وعند الناس قدرُه.
ومن شعره ما أنشدنيه أبو اليسر الكاتب لجدِّه هذا أبي المجد:
رأيتُكَ في نومي كأنّكَ مُعرِضٌ ... مَلالاً، فداويْتُ المَلالةَ بالتَّرْكِ
وأصبحتُ أبغي شاهداً فعدِمتُه ... فعُدتُ فغلَّبْتُ اليقين على الشكِّ
وعهدي بصُحْفِ الودِّ تُنْشَرُ بيننا ... فإنْ طُوِيَتْ فاجعلْ خِتامَكَ بالمِسكِ
لئن كانت الأيام أبلى جديدُها ... جديدي، ورَدَّتْ من رحيبٍ إلى ضَنْكِ
فما أنا إلا السيفُ أخلَقَ جَفْنُه ... وليس بمأمونِ الغِرارِ على الفَتكِ
وأنشدني أيضاً له:
وقفتُ بالدارِ وقد غُيِّرَتْ ... معالِمٌ منها وآثارُ
فقلتُ والقلبُ به لَوْعَةٌ ... تحرقُه، والدمعُ مِدرارُ
أَيْنَ زمانٌ فيكِ قَضَيْتُه ... وأين سُكّانُكِ يا دارُ
وأنشدني له بعض أهل المعرة:
جَسَّ الطبيبُ يدي جَهْلاً، فقلتُ له: ... إليك عني، فإنّ اليوم بُحْراني
فقال لي: ما الذي تشكو، فقلتُ له: ... إني هَوِيتُ، لجَهلي، بعضَ جيراني
فقامَ يَعْجَبُ من جهلي، وقال لهمْ: ... إنسان سَوْءٍ فداووه بإنسانِ

وأنشدني الأمير مُؤيّد الدولة أسامة بن مُرْشد بن مُنقذ بدمشق سنة إحدى وسبعين قال أنشدني القاضي أبو المجد لنفسه:
وقائلةٍ، رَأَتْ شَيْبَاً علاني: ... عَهِدْتُكَ في قميصِ صِباً بديعِ
فقلتُ وهل تَرَيْنَ سوى هَشيمٍ ... إذا جاوزتِ أيامَ الربيعِ
قال الأمير أسامة: لما فارق أهله بالمعرة وبقي منفرداً وله غلام اسمه شَعْيَا فقال:
زمانٌ غاض أهلُ الفضلِ فيه ... فَسُقْياً للحِمام به ورُعْيا
أسارى بين أتراكٍ ورومٍ ... وفَقدِ أحبّةٍ ورِفاقِ شَعْيَا
قال وقد سبقه إلى هذا المعنى الوزير المغربي فإنه لما تغيرت عليه الوزارة وتغرّب كان معه غلام اسمه داهر فقال:
كفى حَزَنَاً أني مقيمٌ ببلدةٍ ... يُعلِّلُني، بعد الأحبّةِ، داهرُ
يحدِّثني ممّا يُجَمِّعُ عَقْلُه ... أحاديثَ منها مستقيمٌ وجائر
قال الأمير أسامة: ولما بُليت بفُرقة الأهل كتبت إلى أخي أستطرد بغلامَيْ أبي المجد والوزير المغربي اللذين ذكراهما في شعرهما:
أصبحتُ بعدَك يا شقيق النفسِ في ... بَحرٍ من الهمِّ المُبرِّح زاخِرِ
مُتفَرِّداً بالهمّ، مَن لي ساعةً ... برفاقِ شَعْيَا أو عُلالةِ داهرِ
وناولني القاضي أبو اليسر الكاتب كرّاسة بخط جده أبي المجد من مسوّدات شعره كتبها وقد أناف على الثمانين، فنقلتُ منها على ترتيب حروف المعجم ما انتخبته. فمن ذلك قوله: الهمزة
تولَّى الحكمَ بينَ النّاس قومٌ ... بهم نزلَ البلاءُ من السّماء
كأنَّهمُ الذِّئابُ إذا تعاوتْ ... سَواغِبُها على آثار شاءِ
يقولُ القائلونَ إذا رأَوهُم ... لقد جارَ القضاءُ على القضاءِ
وقوله:
قال الطبيبُ أرى سَقامَكَ من دَمٍ ... فأجَبْتُهُ ما بي سوى الصَّفراءِ
وأطالَ في أوصافِه، فعذَرْتُهُ ... في جهلهِ، إذ ليسَ يعلَمُ دائي
قُمْ يا طبيبُ فليسَ طِبُّكَ كاشفاً ... ضُرِّي ولا هذا الدَّواءُ دوائي
وقوله:
غدَرَ الزَّمانُ بنا فغَيَّرَ وُدَّه ... مَنْ كانَ يُعرَفُ بالصَّفاء إخاؤُهُ
وإذا حكَتْ أفعالُهُمْ أفعالَهُ ... فهو الزَّمانُ وكلُّهُم أبناؤُهُ
وكذاكَ عادتُهُ وعادةُ أهلهِ ... فمُريدُ صِدقهما يطولُ عناؤه
فلأصبِرَنَّ على أليم سِهامِه ... وسهامه وإن استمرَّ بلاؤه
الألف وقوله:
صَدَّ الهوى عنّي فواصَلَني الأسى ... وخَفيتُ حتّى ما أَبينُ من الضَّنا
ويُطيلُ عَذْلي جاهلٌ أنَّ الهوى ... ليست تجوزُ عليه أحكامُ النُّهى
ومن الدَّليل على اقتِداريَ أنَّني ... أرضى من التَّسويف ما لا يُرْتَضى
وقوله:
أَأَحْبابَنا كنتُ أرجو اللِّقا ... وآمُلُ أَلاّ تَشُطَّ النَّوى
فقد حال من دون ذاكَ الزَّمانُ ... وطالَ طالَ عليَّ المدى
ومُضمَرُ حُبِّكُمُ لا يُذاعُ ... فلا تَعكِسوا لفظَه في الحَشا
الباء
قالت رأيتُكَ لمْ تَشِبْ ... والشَّيبُ يُسرِعُ في المُحِبِّ
فأجَبْتُها يا هذه ... ما الذَّنْبُ إنْ أَنْصَفْتِ ذَنبي
أنتِ التي عَوَّقْتِ جَيْ ... شَ الشَّيبِ عن رأسي بقلبي
وقوله:
وقائلَةٍ ما بالُ ليلِكَ ساهراً ... وقد نامَ فيه كلُّ ذي شَجَنٍ صَبِّ
فقلتُ لها كيف السَّبيلُ إلى الكَرى ... وفي بلدةٍ جسمي وفي غيرها قلبي
الثاء وقوله:
تُرى مَجْمَعُ الحَيِّ الذينَ صحِبتُهُمْ ... على عهدِنا أمْ غَيَّرَتْهُ الحوادثُ
وهل يَبرُدُ الشَّوقَ الذي ضَرَّمَ الحشا ... بنار الأسى أنْ يَنْفُثَ البَثَّ نافِثُ
وهل يرجِعَنْ ذاكَ الزَّمانُ وطِيبُه ... وأيَّامُهُ المُسْتَعْذَباتُ الدَّمائثُ
الجيم وله:

لا تسْتَعِنْ إلاّ الإلهَ فإنَّهُ ... عَونُ الضَّعيفِ ومُستَجارُ اللاّجي
ومتى عَرَتْكَ من الخُطوبِ مُلِمَّةٌ ... فدفعتَها بالله كنتَ النّاجي
هو عُدَّتي في كلِّ يومِ كريهةٍ ... ومَلاذ آمالي ومَولى حاجي
وقوله:
يا هِمَّةً ألحِقَتْ بالشَّمسِ غايتُها ... لمّا تناهَتْ بها في أَوْجِها الدَّرَجُ
سئمتُ منكِ ومن جَدٍّ لنا تَعِسٍ ... كم ذا العناءُ فلا موتٌ ولا فرَجُ
الحاء وقوله:
قد أوسَعَ اللهُ البلادَ ولِلفتى ... إلى بعضِها عن بعضِها مُتَزَحْزَحُ
فخَلِّ الهُوَينَى إنَّها شَرُّ مركَبٍ ... ودونَكَ صعبَ الأمر فالصَّعبُ أَنجَحُ
فإنْ نِلتَ ما تَهوَى فذاكَ، وإنْ تَمُتْ ... فلَلموتُ خيرٌ للكريم وأَرْوَحُ
الدال وقوله:
يا مُخلِفي ما كانَ من وَعْدِ ... ومُعَذِّبي بالهَجر والصَّدِّ
كالشَّمس أنتَ ودونَ وَصلِكَ لي ... كمسيرها يوماً من البعد
وقوله:
أنا في حُبِّكَ يا مَوْ ... لايَ في قُربي وبُعدي
مثلَما كنتُ وَودّي ... لكَ في الحالين ودّي
وقوله :
سلوت عنكم لأني في محبتكم ... ما فزت إلا بتسويف وترديد
ولا ظفرت بشئ من نوالكم ... غير المنى وأكاذيب المواعيد
وقوله:
ألا يا ساحِرَ الطَّرفِ ... متى تُنجِزُنا المَوعِدْ
فمَنْ حرَّمَ أنْ تَرْحَ ... مَ مَنْ يَهواكَ أو تُسْعِدْ
الراء وقوله:
يا مريضَ الوَعدِ والنَّظَرِ ... أنتَ مِنْ وعَدي على خطَرِ
خُذْ بقلبي كم تُعَذِّبُه ... بأليمِ الشَّوقِ والفِكَرِ
جُدْ بنَومي كمْ تُشَرِّدُهُ ... وتُعَنِّي العينَ بالسَّهَرِ
وقوله:
إذا ضاقَ صدرِيَ بالعاذلات ... وحرَّقني الشَّوقُ في نارهِ
وناديتُ هيهاتَ منِّي الحبيبُ ... وهيهاتَ داريَ من دارهِ
رجعتُ إلى الله رَبِّ العباد ... وأحسنتُ ظَنِّي بإقرارِه
وقوله:
أبا حَسَنٍ جزاكَ اللهُ خَيراً ... فقد أَوليتَ إحساناً كثيرا
صَحِبْتُ خلائقاً لكَ زاهِراتٍ ... نجوماً في المعالي بل بُدورا
خلائقَ لو مزجتَ البحرَ يوماً ... بها لَغَدا بها عَذْباً نَميرا
وقوله:
مَنْ كانَ يشكو مِنْ أَحِبَّتِهِ ... هَجراً فلستُ بمُشْتَكٍ هَجْرا
سمحوا فما سمحَ الزَّمانُ بهم ... ووَفَوا ففَرَّقَ بينَنا غَدْرا
فَلأُوسِعَنَّ مَذَمَّةً زَمني ... ولأُوسِعَنَّ أحِبَّتي عُذرا
وقوله:
ولمّا رأيتُ المالَ كالظِّلِّ زائلاً ... ومَيلَ بني الدُّنيا إلى جانبِ الغَدْرِ
أَنِفْتُ من الحِرْصِ الدَّنِيِّ تَقُنَّعاً ... وأَقعدَني خُبري بضُرِّي على قَتْر
فلمّا تَعَفَّفنا نُسِبْنا إلى الغِنى ... ولمّا تَقَّبَضْنا نُسِبْنا إلى كِبْرِ
وقوله:
قالوا نراكَ ببيتٍ واحدٍ ولقدْ ... تضيقُ عنكَ على رُحْبٍ بها الحُجَرُ
فقلتُ ذاكَ على قدري ورفعته ... دليلُ صِدقٍ إذا ما أُنعِمَ النَّظَرُ
كُلٌّ منَ السَّبْع بالبيتين مُشتهِرٌ ... وخُصَّ بالفرد منها الشَّمسُ والقمرُ
كذا الجوارحُ من فَضلٍ ومن شرَفٍ ... يَحُلُّ أَضْيَقُهُنَّ السَّمعُ والبصرُ
وقوله:
قالوا اصْطَبِرْ تَحْظَ بما ترتجي ... والحُرُّ من شيمته الصَّبرُ
وقد تصبَّرْتُ ولكِنَّني ... أخافُ أنْ لا يصبرَ العُمْرُ
وقوله:
وبِيضٍ أَوانس عُلِّقْتُهُنَّ ... مثلَ الغصونِ إذا تُثمِرُ
شَكَونَ من الوَجْدِ ما أَشتكيه ... وأَضمَرْنَ منه كما أُضْمِر
ولكنَّهنَّ منعنَ الوِصالَ ... حِذارَ الرَّقيبِ الذي أَحذَرُ

الزاي وقوله في العِذار:
ومُهَفْهَفٍ يُردي بصارِمِ لحظِهِ ... مَنْ غَرَّهُ طمَعٌ بضَعف جِهازِهِ
كم واثقٍ بفؤاده في صَبرهِ ... عنه ففرَّ الصَّبرُ عندَ بِرازِهِ
كمُلَتْ مَحاسِنُهُ بخَطِّ عِذارِهِ ... والثوبُ يَكمُلُ حُسنُه بطِرازِهِ
السين وقوله:
قصرْتُ رَجائي على خالقي ... ومَنْ يرتجِ اللهَ لَنْ يَيأَسا
عسى لطفُهُ كاشِفاً كُربَتي ... كما كشَفَ الكربَ عن يونُسا
وقوله:
من شاءَ أنْ يعرف ما قدرُه ... عندَ الغَواني شائِبَ الراسِ
فلْيَعتَرِضْ سوداءَ نُوبِيَّةً ... كالقِرْدِ في حُجرة نَخّاس
فكيف لو رامَ بها كاعِباً ... سمراء تَحكي غُصنَ الآس
أو وَردَةً، تُحسَبُ من حُسنِها ... حُوريَّةً وهي من النّاس
إذاً لراحَ الشيخُ من كلِّ ما ... وسوسَ في الصَّدر على ياس
لا سيَّما إنْ حسَّنَتْ شيبَهُ ... في عينِها حالةُ إفلاس
وقوله:
ورائقِ الحُسنِ لا انحرافَ له ... عن التَّجافي وقِلَّة الأُنسِ
خليفةَ البدر في الكمال إذا ... أمرضَهُ الإجتماعُ بالشَّمس
الصاد وقوله:
جوارحي قد أصبحت كلُّها ... ناقصةً عن عهدها ناكِصَه
فليتَ روحي وبها مُسْكَةٌ ... من عنَتِ الدُّنيا غدَتْ خالصه
الطاء وقوله في الخريطة " مُعَمَّى " :
وحافظَةٍ للسرِّ ما شئتَ حِفظَه ... مَسيحيَّةٌ ما شرَّفَتْ بِيعَةً قَطُّ
ومن جنسها فيها ذوائبُ أربَعٌ ... فما شَعِثَتْ يوماً ولا مَسَّها مشْطُ
الظاء وقوله:
وكتابٍ نزَّهْتُ طَرفِيَ فيه ... مالكٍ للقلوبِ والألحاظِ
ذي فنونٍ كأَنَّهُ زَهَرُ الرَّوْ ... ضةِ، عَذبِ الأغراضِ والألفاظ
فتراهُ يُصبي الحليمَ وقد كا ... ن أراهُ فظاظَةَ الوُعَّاظِ
العين وقوله يرثي والده:
لمثلِها كنتُ أصونُ الدُّموعْ ... فلْتذرِفِ العينُ ويَنْأَ الهُجوعْ
وإنْ يَغِضْ ما فاضَ من أَدْمُعي ... مَزَجْتُهُ من مُهجَتي بالنَّجيعْ
قد كنتَ نجماً هادياً فالورى ... في حَيرَةٍ منذُ هجرتَ الطُّلوع
وقوله:
لم يدرِ ما طعمُ الفِراقِ المُوجِعِ ... مَنْ لم يَبِنْ عن إلْفِهِ ويُوَدِّعِ
هيهاتَ وَصْلُ العامرِيَّةِ بعد ما ... حلَّتْ بوادٍ من سَبيعةَ مُسْبِعِ
بيضاء فاترة اللِّحاظِ إذا مَشَتْ ... ماسَتْ كغُصنِ البانَةِ المُترعرِعِ
وتبرْقَعَتْ خَفراً فتَمَّ جمالُها ... لا يُستَرُ الصُّبحُ المنيرُ ببُرقُعِ
لو أنها زارتْ وغابَ وُشاتُها ... نَمَّ النَّسيمُ بنَشرها المُتَضَوِّعِ
وتَصيدُني بحِبالَتينِ: حِبالَةٍ ... من ناظري، وحِبالَةٍ مِن مِسمَعي
لا نلتقي إلاّ بجسمٍ ناحِلٍ ... أبداً وقلبٍ بالفراق مُروَّعِ
أبكي إذا بعُدَتْ فإنْ دنَتِ النَّوى ... يوماً جرَتْ خوفَ التَّفرُّقِ أدمُعي
ومنها:
لو أنَّ عينك أبصرت ما في الحشا ... عند اذّكار فراقهمْ لم تهجَعِ
وعلمتَ أَنِّي لا أخونُ ولا أُرى ... إلاّ على شرف الوفاء الأرفَعِ
مِن شيمتي حِفظُ الوِدادِ وصَوْنُهُ ... لا شيمةِ المُتَمَوِّهِ المُتَصَنِّعِ
وافٍ إذا غدرَ اللِّئامُ، مُكاثِرٌ ... عدد الكرام بعَزْمَةٍ لمْ تُصرَعِ
وقوله:
كتبتُ إليكَ كَلاكَ الإلهُ ... بحِفظٍ وأحسنَ فيكَ الصَّنيعا
وعنديَ مِن بعدِكم لوعَةٌ ... تُقيمُ الضُّلوعَ وتَمري الدُّموعا
واسأَل مَن قد قضى بالفرا ... قِ، قُرباً يَسُرُّ وشَمْلاً جميعا
الغين وقوله في الحكمة والقناعة:

للهِ أَمرٌ لا يُغالِبُه ... في الرِّزْقِ يَقدِرْهُ ويُسْبِغهُ
فاقْنَعْ بأَيسر ما به قنع ال ... مُجتازُ من زادٍ يبلِّغُهُ
الناسُ في الدُّنيا على سَعَةٍ ... فعليكَ ما التَّقوى تُسَوِّغُهُ
الفاء وقوله:
ومُرهَفِ الخَصرِ عَذْب اللَّفظِ ما نظرت ... عيناه إلاّ إلى صَبٍّ به كَلِفِ
لا يَصدقُ القولَ في صَدٍّ ولا صِلَةٍ ... ولا يدوم على وُدٍّ ولا شَنَفِ
كالظَّبي لولا الذي بالظبي من خَنَسٍ ... والبدر لولا الذي بالبدر مِنْ كَلَفِ
شبَّهْتُهُ في اعتدال القَدِّ بالألِفِ ... وبالقضيب قضيب البانَةِ القَصِفِ
وما تجَمَّعَ نَوْرُ الأرضِ في غصُنٍ ... ولا أُجِمَّتْ مياهُ الحسن في ألِفِ
وقوله في التوكُّل:
لي في التوَكُّلِ مذهَبٌ ... لا أستطيع له خِلافا
أرجو القويَّ ولستُ أَرْ ... جو من بني الدُّنيا ضِعافا
ما لي رجاءٌ في سوا ... هُ إذا الزَّمانُ عليَّ حافا
إنِّي جعلتُ توكُّلي ... أمني إذا ما القلبُ خافا
وقوله يرثي أباه:
طَرفِيَ مِنْ بعدِكَ مَطروفُ ... ودَمعُهُ للبينِ مَذروفُ
يلومني الناس على أنَّني ... بطول حُزني بكَ مَشعوفُ
والدَّمع لا يمنعُ من فَيضِهِ ... عَذْلٌ ولا يَردَعُ تعنيفُ
فلْيجزَعِ النّاسُ عليه فقد ... أسلمهمْ لِلُّجَّةِ السَّيفُ
لا يُنكَرُ المُنكَرُ مِنْ بعدِه ... فيهم ولا يُعرَفُ مَعروفُ
وقوله:
للوصل بعد الصَّدِّ فضلٌ، من درى ... كيف الغرامُ فليسَ عنه بخاف
وإذا الفتى لم يلقَ يوماً جفوةً ... هانتْ عليه فضيلةُ الإنصافِ
القاف وقوله:
لا تَعذُلاني في اشتياقي ... ودَعا دُموعي والمآقي
قد ضاقَ صدري بالشَّتا ... تِ وعِيلَ صبري بالفراق
وأشَدُّ مِمّا بِتُّ في ... هِ من غَرامٍ واشْتِياقِ
علمي بأنَّكَ تشتكي ... ما بي وتلقى ما أُلاقي
وقوله:
لا يَزَعْكَ العُذَّالُ عن طلبِ المَجْ ... دِ ولا يَطَّبيكَ عَيشٌ أَنيقُ
وارْكَبِ الليلَ إنْ نهى عنه جُبْنٌ ... فمُعاني السُّرى بنُجْحٍ حَقيقُ
رُبَّ جهلٍ أَدنى إلى النُّجْحِ مِنْ حِلْ ... مٍ إذا ما أَعانَهُ التَّوفيقُ
وقوله:
ولقد لقيْتُ الحادثاتِ فما جرى ... دمعي كما أجراهُ يومُ فِراقِ
وعرَفتُ أيّامَ السّرور فلم أجِدْ ... كرُجوعِ مُشتاقٍ إلى مُشتاقِ
وقوله:
لا يَبلُغُ المخلوقُ ما هو طالبٌ ... من أمره إلاّ بأمر الخالقِ
ومن العجائب أن تُرى مُتَطَلِّباً ... رزقاً وتتبَعُ غير أمر الرّازِقِ
وقوله:
إن كان طَرفي عارماً في لحظِهِ ... فلعفَّتي من غَيِّه إطراقُ
أو رُحْتُ في سَمَلٍ فليس بعائبٍ ... للبِيضِ أنَّ جُفونَها أَخلاقُ
ما للزّمان يَحولُ دونَ مطالبي ... ومناقبي في جِيدِهِ أطواقُ
إن كان يبغي الدَّهرُ إصداقي لها ... وَجهي، فوفَّرَها عليه طلاقُ
والمرءُ إن نالَ السّعادةَ أنجَحَتْ ... آمالُهُ وتيسَّرَ المُعتاقُ
ومتى تولّى عنه الحَظُّ فإنَّما ... خَفقُ الرِّكاب وراءه إخفاقُ
وقوله:
ليتَ شِعري متى يكونُ التّلاقي ... وفِراقي لِطول هذا الفِراقِ
لستُ أشكو إليكَ مثلَ الذي تش ... كو من الوَجْدِ ألسُنُ العشّاقِ
إنَّما يُنجِدُ الفؤادَ على الشَّوْ ... قِ فؤادٌ خالٍ من الإشتياقِ
فإذا ما تواقفا يومَ بينٍ ... شرِبا مُرَّهُ بكأسٍ دِهاقِ
الكاف وقوله:

ما زال يخدَعُ قلبي سِحرُ مُقلتِهِ ... ويستقيدُ له حتى تملّكَهُ
وإنَّ يوماً أراه فيه أحسِبُه ... أسرَّ يومٍ من الدنيا وأبركَهُ
وقوله:
يا مغاني الصِّبا بباب حُناكِ ... لا بوادي الغضا ووادي الأراكِ
لا تَخَطَّتْكِ غادياتُ الثُّريّا ... إنْ تعدَّتْكِ رائحاتُ السِّماكِ
أسلفتني الأيامُ فيكَ سُروراً ... فاستردَّ السرورَ ما قد عراك
وعزيزٌ عليَّ أنْ حَكَمَ الدَّهْ ... رُ على رَغْمِ ناظِري ببِلاك
بكِ وَجدي إذا النّجومُ استقلَّتْ ... كهمومي في كَثرةٍ واشْتباكِ
وقوله:
ويومِ دَجْنٍ خانتْهُ أَنْجُمُهُ ... في الصّحو والغيمِ فهو مُشترَكُ
كأنّما الشمس والرّذاذ معاً ... فيه بكاءٌ يشوبُهُ ضحِكُ
اللام وقوله:
قولا لمولاي الذي صُدغُهُ ... مُبلبِلٌ قلبي ببَلْبالِهِ
عبدُكَ قد أنهى إليكَ الهوى ... يرجوكَ أن تنظرَ في حالهِ
فإن جفا في قوله واعتدى ... وذاك من شيمة أمثالِهِ
فأوهِماهُ أنَّ ما قالَهُ ... في غيظِه ضِدٌّ لإفضالهِ
وعاوِداهُ فعسى مُهجَتي ... يشملُها السَّعْدُ بإقبالِهِ
وقوله في الرضا والقنوع:
رَضِينا وسلَّمنا لمالِكِ أمرِنا ... وهل يملكُ العبدُ الخيارَ على المَولى
زمَنْ لم ينَلْ من دهرهِ ما يريدُهُ ... وحاولَ عِزّاً فالقنوعُ به أولى
وليس لِلَيْتٍ إن أطلتَ بها المُنى ... غَناءٌ ولا لَوٌّ تفيد ولا لولا
وقوله في ضد القناعة:
رأيتُ كثير هذا الخَلقِ يرضى ... لِقِلَّتِه بمَيسورٍ قليلِ
فلا تقنعْ من الأيام إلاّ ... بلُقيا الموتِ أو حَظٍّ جَزيلِ
وقوله:
وكنتُ أُطيلُ الهَمَّ بالعزمِ كلَّما ... سَما وكَبا دونَ اللَّحاقِ به مالي
فَهَوَّنَ ما ألقاهُ أنِّيَ واجِدٌ ... كِرامَ الوَرى مِثلي وحالُهُمُ حالي
فيا عَزْمُ لَمْ تُمدَدْ لِحَظٍّ فَخَلِّني ... أبِتْ خالياً ممّا يمُرُّ على بالي
وقوله:
أَمِنَ المَوتِ فاجِعِي بالعراني ... نِ من الأهل، أم ذَهاب المالِ
أم فِراقِ الأوطانِ أم قِلَّةِ المُسْ ... عِدِ عندَ النُّهوضِ في كلِّ حال
لست أدري من أيِّ ذلكَ أبكي ... ليت شِعري، ما للزَّمانِ وما لي
وقوله من قصيدة:
حيِّ العُذَيْبَ وأهلَهْ ... وارْبَعْ لديهِ وقُلْ لَهْ
لا زال فيكَ شِفاءٌ ... لكلِّ قلبٍ مُدَلَّهْ
وابْلِغْ، هُدِيتَ، سلامي ... شموسَه والأهِلَّهْ
وخُصَّ بالعَذْبِ منهُ ... واقصُر عليه أَجَلَّه
مَنْ مِلَّتي في هواه ... والسَّتْرُ أحسنُ مِلَّهْ
نظرتُه وفؤادي ... لم يعرف الحبَّ قبله
له من الظّبي جِيدٌ ... زانَ العُقودَ ومُقلَهْ
وقَدُّهُ غصنُ بانٍ ... ورِدْفُهُ دِعْصُ رَمْلَهْ
كأَنَّ جمرةَ خدَّيْ ... هِ في فؤاديَ شُعلَهْ
ومنها:
كأنَّ حَظِّي سَوامٌ ... قد أحسنَ الدَّهرُ شَلَّهْ
كأنَّني السّيفُ يَخشى ... حَدِّي فيَكرهُ سَلَّه
وقوله:
العِزُّ لي وطَنٌ لا الأرضُ أسكنُها ... وفخريَ المجدُ لا دَثْرٌ من المالِ
وما مآثِرُ آبائي وإنْ كَرُمَتْ ... وكان أخفضُها يعلو على العالي
بمانعاتِيَ من أُخرى أحاولُها ... حتى يكونَ لها شَدِّي وتَرحالي
وكيفَ أرضى بمجدٍ ماتَ صاحبُه ... إن لم يُبِرَّ عليه آخَرٌ تالي
وليس يقضي فُروضي مَنْ تكلَّفَها ... ولا يُنَوِّهُ باسمي غير أفعالي
ومنها:
والموتُ راحةُ ما بالنفس من حُرَقٍ ... أو رتبةٍ تنظرُ الجوزاء من عال

وما أرى نخَواتي قَطُّ تترُكُني ... حتى أكونَ من الحالين في حال
الميم وقوله:
هل من سبيلٍ إلى ظَبيٍ كَلِفْتُ به ... مستوطِنٍ خلَدي مُستعذِبٍ ألمي
غضبان يطرد عن عيني الكرى حَذَراً ... من أن يُلِمَّ خيالٌ منه في الحلُمِ
ما زرتُ أطلب ما في الثغر من شَبَمِ ... إلاّ رجعتُ بما في الطرف من سقَمِ
هَبْ أنَّ تعذيبَ قلبي قد أُحِلَّ له ... فمن أحلَّ له أن يستبيحَ دمي
وقوله في الزهد:
إذا جانبْتُ، مقتدراً عليها ... كبائر ما جنَتْ كَفُّ الأثيمِ
فلا تستكثري لمَمي فإنِّي ... سأَقدَمُ في الحساب على كريم
وقوله:
إلا إنَّ عُقبى لذَّةِ المرء عكسُها ... إذا نام عمّا تقتضيه المكارمُ
وما لذَّتي إلاّ انتباهي لصاحبٍ ... أُشَرِّدُ عنه همَّهُ وهو نائمُ
وقوله:
رأيتُكَ ذا بشْرٍ يروقُ لحُسنِه ... متى طمِعَتْ نفسي بها ردَّها عِلمي
وما كلُّ غصنٍ راقَ نَوراً بمُثمرٍ ... لِجانٍ، وليست كلُّ بارقَةٍ تَهمي
النون وقوله:
يا واعِدينا بالوِصا ... لِ وبَذلِهِ كم تَمطُلونا
وتوافقون وتَغدُرو ... نَ فتُذنِبونَ وتَعْتِبونا
وأراكُمُ لا ترحمو ... ن وباللِّقا لا تسمحونا
فبعيشكم رُدُّوا القلو ... بَ وأمسِكوا عنها العيونا
وقوله:
كن ساجداً للقِردِ في زمانِه ... ومُدَّ للجاهل في عِنانِه
ودارِهِ وخَلِّه لشانِه ... فإنه يعثُرُ في ميدانِهِ
الهاء وقوله:
لي حبيبٌ أغارُ من كلِّ طَرفٍ ... ولِسانٍ إذا أشارَ إليه
أجمعَ النّاظِرونَ في كلِّ ظَرفٍ ... وجَمالٍ، دونَ الأنام، عليه
وقوله:
إن تولَّتْ عنكَ دُنيا ... كَ فلا تحزنْ عليها
إنَّما تَخرُجُ منها ... مثلما جئتَ إليها
وقوله في الرَّمَد:
ما رَمِدَتْ عيني ولكنَّه ... لمّا جفا من كنتُ أهواهُ
مزجتُ دمعي بدمي بعدّهُ ... فاحمرَّ من دمعيَ مجراهُ
الياء وقوله:
أقصِرا مِن ملامَتي عاذِلَيّا ... وأقِلاّ فالوَجْدُ وقفٌ علَيّا
فرَّقَ الشَّملُ حينَ جمَّعَهُ اللَّيْ ... لُ وضَمَّتْ يدايَ قلبي إلَيّا
واقتنصنا بدرَ السّماءِ اقتِناعاً ... وغَنينا من قُرطِهِ بالثُّرَيّا
واجْتنينا من خدِّهِ الوردَ غَضّاً ... ورشفنا من الرُّضاب الحُمَيّا
صوتُ داعٍ ببينِهِم فاسْتَقَلّوا ... واستقلَّ الفؤادُ يحدو المَطِيّا
وقوله:
إنَّ المُروَّةَ والفُتُوَّ ... ةَ عند ذي النفس الأبيَّهْ
أنْ لا يَفِرَّ عن المَخو ... فِ من الحِمام إلى الدَّنِيَّهْ
وأُنشِدْتُ له من قصيدةٍ نظمها عند موته وأُنشِدَت على قبره في عَزائه:
أشفقتُ من موتي ويومَ مَعادي ... غُصصاً أُكابدُها وقِلَّةَ زادِ
ومنها:
وخَفيتُ بعدَ ثلاثةٍ أو سبعةٍ ... من كاشحٍ لي أو صحيح وِدادِ
يعني به رسمَ العَزاء وهو إمّا ثلاثة أيام أو سبعة أيام:
ولقد علمت وما عملتُ، ولم أزلْ ... تبَعاً لغيّي تاركاً لرشادي
أثقلتُ بالآثام ظهريَ عامِداً ... حتى رثا لي حاملو أعوادي
كم من شريفٍ ماتَ عن خلَفٍ له ... فأضاعَهُ خَلْفٌ من الأولادِ

ولده أبو محمد عبد الله
ابن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان هو والد تقي الدين أبي اليسر الكاتب، أنشدني لوالده عبد الله قوله:
يا مَن تنكَّب قوسَه وسهامه ... وله من اللحظِ السقيم سيوفُ
تُغنيك عن حملِ السلاح إلى العدى ... أجفانكَ المرضى فهُنَّ حُتوفُ

ذكر انه سافر إلى مصر ولقي الأفضل وأقام عنده مكرّماً إلى أن توفي سنة ست عشرة وخمسمائة وقبره في جانب المقطم بها، ورثاه ابن عمه أبو عديّ النعمان ابن وادع بقوله:
لعَمرُكَ ما مَن مات والقومُ شُهَّدُ ... كآخرَ منّا ماتَ وهو غريبُ
كأنّ النوى آلتْ عليه أَلِيّةً ... بأنك، عبَد الله، لستَ تؤوبُ
ألم يكفِ أنّ البينَ شَعَّبَ شملَنا ... وشتَّتَ حتى شَعَّبَتْه شَعُوبُ
وكان مولده معرة النعمان سنة سبع وستين وأربعمائة.
ولأبي المجد، أبيه، فيه وقد حُمّ:
قالوا تألّم عبُد الله، قلتُ لهم ... رَضيتُ فيه الذي يرضاه مولاهُ
إن حاد بالسُّوء عنه فهو جادَ به ... وليس عندي سُخطٌ إنْ تَوفّاهُ

ولده القاضي أبو اليسر شاكر
ابن عبد الله بن محمد أبي المجد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان شيخ كبير، كان منشئ الملك العادل نور الدين رحمه الله قبلي، فلما استعفى وقعد في بيته توليتُ الإنشاء. كتب إلي في ذي الحجة سنة سبعين بدمشق وقد شربتُ الدواء:
كيف أمسيتَ بعد شرب الدواءِ ... يا سليلَ الأبدال والنُّجباءِ
دفع اللهُ عنك ما تتوقَّى ... من جميع الشرور والأدْواءِ
إنّ قلبي عليك منذ افترقنا ... مُشفقٌ من كراهةٍ في الدواءِ
غير أني أرجو من الله أن تُ ... عْقَبَ منه بصحةِ الأعضاءِ
ودعائي واصلته لك وال ... له جدير بأن يجيب دعائي
فكتبت إليه في جوابها أبياتاً، منها:
إن ودّي هو الدواء وشربي ... من وَلاءٍ يجري بماء الصفاءِ
بركاتُ الإشفاق منك أعا ... دتْني بعد الإشفاء حِلْفَ الشِّفاءِ
وجديرٌ بمن يُواليكَ أن يصب ... ح بين الورى من السُّعداءِ
أنت فأْلي في اليسر والشكر والص ... حّة والوجد والغنى والثراءِ
ورجائي ما زال يَعْبَق طيباً ... أَرَجُ النُّجح منه في الأرجاءِ
فتقبَّلْ واقبلْ مديحي وعُذري ... قَبِلَ الله في عُلاكَ دعائي
وذكر لي أن مولده بشيزر في جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وأربعمائة.
وأنشدني بدمشق سنة إحدى وسبعين:
وَرَدْتُ بجهلي مَوْرِدَ الحبِّ فارتوتْ ... عروقيَ مِن مَحْضِ الهوى وعظامي
ولم تكُ إلاّ نظرةٌ بعد نظرةٍ ... على غِرّةٍ منها ووَضْعِ لِثامِ
فحلّت بقلبي من بُثَيْنَ طِماعةٌ ... أقرّت به حتى الممات غرامي
وقوله:
لا تخدمِ السلطانَ وانصح إذا ... خدمتَه في مدّة الخدمَهْ
أَقِمْ له الحُرمة في أنفس ال ... خدّام فالصُّحبة بالحُرمَهْ
واجلُبْ له بالعدل شكرَ الورى ... فالعدلُ فيهم يُسبغُ النِّعمَهْ
واعلمْ بأن الظلمَ في عصره ... يقضي له في اللَّحدِ بالظُّلمَهْ
والعدل في أيامه مُؤنسٌ ... في قبره بالنور والرحمَهْ
وقوله:
وجدتُ الحياة ولذّاتِها ... مُنَغَّصةً بوقوعِ الأذى
إذا استحسنَتْ مُقَلُ الناظرين ... ففي الحال يظهر فيها القذى
وأطيبُ ما يُتَغذّى به ... ففي وقته يستحيل الغذا
فلا حبّذا طول عمر الفتى ... وإن قَصُرَ العمر يا حبّذا
تولّى ديوان الإنشاء بالشام سنين كثيرة وله مقاصد حسنة في الكتب، وهو حميد السيرة جميل السريرة.
ولداه أبو البركات محمد
وأبو المجد سليمان
ذكر القاضي أبو اليسر أن مولد ولده أبي البركات بحلب في ذي الحجة سنة خمس وأربعين وخمسمائة وهو يسكن المعرة وأنشدني له:
نظرَ المُحِبُّ إلى الحبيب فتاقا ... ورَنا إلى ذي وَجْدِه فأفاقا
سُبحانَ مَن جمع المحاسنَ كلّها ... فيه فضاهى خَلْقُه الأخلاقا
وأنشدني لولده سليمان وذكر أنه كتب إليه من المعرة في عيد الفطر سنة سبعين ومولده بدمشق سنة خمسين وخمسمائة:

تَهَنَّ بالصوم وبالفِطرِ ... وعش سعيداً آخر الدهرِ
يا سيّداً فاق جميع الورى ... بالعلم والزُّهد وبالذِّكْرِ
إني جدير أن أنال الذي ... آمُلُ من نُعماكَ يا ذُخْري
إني إذا نافستُ لا أرعوي ... لأنني نجلُ أبي اليسرِ

القاضي أبو مسلم وادع
ابن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان
أخو القاضي أبي المجد جدّ أبي اليسر. كان أبو العلاء عمّ أبيه. ذكر أنه تولى القضاء بمعرة النعمان وكَفَرطاب وحماة وكان مشهوراً بالكرم. وله رسائل عذبة الألفاظ وشعر، منه قوله:
وقائلةٍ ما بال حِبِّك أرمداً ... فقلتُ وفي الأحشاءِ من قولها لَدْغُ
لئن سَرَقَتْ عَيْنَاه من لون خدِّه ... فغير بديعٍ ربما نفض الصِّبْغُ
وقوله:
ولمّا تلاقَيْنا، وهذا بناره ... حريق، وهذي بالدموع غريقُ
تقلّدتِ الدُّرَّ الذي فاض جَفْنُها ... فرصَّعهُ من مُقلتَيَّ عَقيقُ
وقوله:
وقفنا وقد غاب المُراقبُ وقفةً ... أمِنّا بها أن يفتِك السُّخطُ بالرِّضا
على خلوةٍ لم يجرِ فيها تنَغُّصٌ ... بها عاد وجهُ الليل عنديَ أبيضا
تعيد حديثاً لا يُمَلُّ كأنّه ... حياةٌ أُعيدتْ في امرئٍ بعد ما قضى
مولده سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة.
ولده أبو عديّ النعمان بن وادع
معروف بالشعر. أنشدني له القاضي أبو اليسر يرثي أباه وادعاً وجماعة من بني سليمان:
سقى اللهُ قبراً بالمعرّةِ مُفْرَداً ... سَحاباً من الغُفران ليس بمُقلِعِ
ثوى من بلادِ الله في خير بُقعةٍ ... وأُودِعَ فيها وادِعاً خَيْرَ مُودَعِ
فتىً شَغَلَتْ أخلاقُه ثم خَلْقُه ... بها عن سِواها كلَّ مرأى وَمَسْمَعِ
وحَيّا قبوراً بالمُقَيْبِرة التي ... حَوَتْ من تَنوخٍ كلَّ قَرْمٍ سَمَيْدعِ
وخَصَّ به الشيخ النبيه أبا العلا ... أخا العلم، تِرْب المجد، حِلْف التورُّعِ
وثانيه عبد الله جدّي فقد مضى ... كريمَ المُحيّا، أَرْوَعاً وابنَ أَرْوَعِ
وشخصين قد حلاّ بأعلى جرنجس ... شريفَيْن قد حلاّ بأَشرفِ مَوْضِعِ
ومسجد قيسٍ لاعدته سحابة ... تُساجِلُ في تَهْتَانِها فَيْضَ أدمعي
إلى أن يضاهي حَوْلَةَ المِسْكِ رادعاً ... خمائلُ رَبْعِيٍّ من الروضِ مُمْرِعِ
فثَمَّ رِمامُ ابني وعمّي ومعشرٍ ... عليّ كرامٍ صُرّعوا خَيْرَ مَصْرَعِ
وأنشدني الأمير مؤيد الدولة أسامة بن منقذ لأبي عديّ، وذكر أنه كان صديقه:
يا أيها المُلاّك لا تر ... تجوا الأمْلاكَ وارْجُوها إلى القابلِ
فالعامَ قد صحّتْ ولكنها ... للعدلِ والمُشْرِف والعامل
أنشدني أبو جعفر محمد بن حواري المعري للقاضي أبي عدي النعمان بن وادع قصيدة، وذكر أنه توفي سنة نيف وخمسين وخمسمائة:
أهلاً وسهلاً بالخيال الوافي ... إذ سارَ في سَدَفٍ من الأسدافِ
مُتَجَلْبِباً ثَوْبَ الظلام ليختفي ... فيه، ونورُ الشمس ليس بخاف
أهدَتْ بأطراف البنانِ تحيّةً ... قُرِنَتْ بأطراف القَنا الرَّعّافِ
بدويّةٌ لا سترَ تَلْقَى دونها ... بَعْدَ الصوارم غير بُعْدِ فيافي
أَلِفَتْ بها الظَّبياتِ حتى أنها ... كادتْ تُناجيها بعقد القاف
حُبٌّ تمكن في الفؤاد فلا أرى ... حتى المَعاد لدائِه مِن شافِ
ليسَ الرُّقى برُقىً لصاحبه ولا ... عَرّافُ نجدٍ فيه بالعرّافِ
جاءَتْ تَلافى القلبَ منه فعَزَّها ... أن يستردّ الشيء بعد تلافِ
مشياً على أقدامِها وبودّها ... لو بُدِّلَتْ بقوادمٍ وخَوافِ

كالروضةِ المِئْناف زارتْ في الكَرى ... أَهْلَ الهوى في روضةٍ مِئْنافِ
جَرَّتْ على أفواف بُرْد بهارِها ... أَذْيَالَ بُرْدِ حريرها الأفوافِ
فتأرّجا حتى كأنَّ قسيمةً ... مرّت بذال الروضِ للمُسْتافِ
وتوفي أبو عدي بعد سنة خمسين وخمسمائة.

بنو علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان
ابن أخي أبي العلاء
وتولّى أيضاً بمعرة النعمان القضاء. فمنهم:
أبو مرشد سليمان
ابن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان ابن عم أبي المجد جد أبي اليسر انتقل إلى شيزر بعد أخذ الفرنج المعرة وتوفي بها. له رسائل وشعر من جملته قوله وقد لزم حرف النون في كل كلمة منه، أنشدنيه أبو اليسر لابن عم جده هذا سليمان:
نَزِّهْ لسانَك عن نفاقِ مُنافقِ ... وانصحْ فإنّ الدين نصْحُ المؤمنِ
وَتَجَنَّبِ المَنَّ المُنَكِّدَ للنَّدى ... وأَعِنْ بنَيْلِكَ مَن أعانكَ وامْنُنِ
وتَناهَ عن غَبَنٍ وَغَبْنٍ واغْتنِمْ ... حسن الثناء من الأنام وأحْسِنِ
واسْتغْنِ عمّن ضَنَّ وانْأَ بجانبٍ ... عن ناكب جانٍ خَؤونٍ مُدْهِنِ
واسْتَأْنِ إنْ نَبَذَ الأناة مُعاندٌ ... ونأى بجانب شانئٍ مُتلَوّن
واقْنَ القناعةَ جُنّةً مأمونةً ... تَحْصُنْكَ مانِعةً نبالَ الألسُن
وأَنِلْ وأحسِنْ فالنباهةُ والثّنا ... وسَنا المناقب للمُنيل المُحْسن
والمَيْنُ مَنْقَصةٌ تَشينُ وإنها ... لنتيجةُ الوَهِنِ المَهينِ الهَيِّن
وانظُرْ مواطِنَ من نُسِبْتَ لنَسلِه ... من لَدْنِ نوحٍ نِظْرَة المُتَبيِّن
فلعنّ نفسك أنْ تيَقَّنَ كَوْنَها ... ممّن نَأَتْهُ مَنيّةٌ عن مَوْطِن
فتُنيبُ مُحسِنةَ الإنابة والثنا ... وتَجُنّ نِيّةَ ناسِكٍ مُتدَيِّن
والناسُ منذ تكوّنتْ دُنياهمُ ... يَمْضُون بَيْنَ مُؤَبَّنٍ ومُؤَبِّن
وكأنّ مدفوناً ينادي دافِناً ... بلسان مُنْطَلِق الإبانةِ مُعْلِن
إنّ المنايا قدَّمَتْنا فانتظرْ ... نَبَأَ المَنيّةِ بعدنا وَتَيَقَّن
مِحَنُ النفوسِ نصائحٌ منبوذةٌ ... ومن العناء نصيحةُ المُتحيِّن
ابن أخيه
أبو سهل عبد الرحمن
ابن مدرك بن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان مولده ومنشؤه بشيزر وحماة، وتوفي في الزلزلة التي كانت بحماة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة. ومن شعره قوله، أنشدنيه أبو اليسر:
جرحتُ بلحظيَ خدّ الحبيب ... فما طالَبَ المُقلةَ الفاعِلَه
ولكنه اقْتصّ من مُهجَتي ... كذاك الدِّياتُ على العاقله
وقوله:
رضيتُ به مولى على كُرْهِ فِعلِه ... وإن كان لا يرضى بكونيَ عَبْدَهُ
وملَّكْتُه قلبي لأحفظ ودَّه ... فخان ولم يحفظ لقلبيَ عَهْدَهُ
سأصبرُ حتى يحكمَ اللهُ بيننا ... ويُنجز من مستعمِل الصبر وَعْدَهُ
وأنشدني له جمال الدين أبو علي بن رواحة الفقيه الشاعر:
بالله يا صاحبَ الوجه الذي اجتمعتْ ... فيه المحاسنُ فاستولى على المُهَجِ
كيف التخلُّصُ من جفنيْك إنهما ... حَتفٌ لكلّ خَلِيٍّ في الهوى وَشَجِ
خُذني إليك فإن لم ترض بي صَلَفَاً ... فاطرُدْ بيَ العينَ عن ذا المنظرِ البَهِجِ
وقوله:
ولمّا سألتُ القلبَ صَبْرَاً عن الهوى ... وطالبته بالصدقِ وهو يَروغُ
تيقَّنْتُ منه أنه غيرُ صابرٍ ... وأنّ سُلُوّاً عنه ليس يَسوغُ
فإن قال لا أسلوه قلتُ صدقتَني ... وإن قال أسلو عنه قلت: دروغُ
أخوه:
أبو المعالي صاعد
ابن مدرك بن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان مولده ومنشؤه بشيزر وحماة، وتوفي بمعرة النعمان، ومن شعره ما أنشدنيه القاضي أبو اليسر قوله:

ألا أيها الوادي المَنِينيُّ هل لنا ... تلاقٍ فنشكو فيه صُنعَ التفرُّقِ
أبُثُّكِ ما بي من غرامٍ ولوعةٍ ... وفرطِ جوىً يُضْني وطولِ تشوُّقِ
عسى أن تَرِقّي حين مُلِّكتِ رِقَّهُ ... وتَرثي له ممّا بهَجرِك قد لقي
بوَصْلٍ يُرَوِّي غُلَّةَ الوَجدِ والأسى ... ويُطْفى به حَرُّ الجوى والتحرُّقِ

أبو الحسن علي
ابن مَرْضِيّ بن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان مولده ومنشؤه بشيزر وحماة، أنشدني القاضي أبو اليسر قوله:
تولّى الشبابُ وحانَ المماتُ ... وقرّبَ لي الشَّيبُ إتيانَهُ
وينظر ما في الكتاب الذك ... يي من حيثُ ينظرُ عُنوانَهُ
إذا مِتّ جاوَرْتُ مَن لم يزل ... يُجيرُ من النارِ جيرانه
فأسألُ توفيقَه في المَعادِ ... ورحمتَه لي وغفرانَه
فليس الموفَّق إلاّ الذي ... يُوفّقه اللهُ سبحانَه
جماعة من أهل معرة النعمان
هبة الله بن مُيسر بن مِسعر المعري
كان في زمان أبي المجد، جدّ أبي اليُسر الكاتب، وهو من بني عمه.
ذكر لي أبو اليسر أنه قال في جدّه وهو محبوس يستغيث به من كلمة:
لِمَن طَلَلٌ بأعالي زَرودِ ... مَعاهِدُهُ ماثِلاتُ العُهودِ
ومنها:
أُنادي وقد أَصْمَدتْني الخُطوبُ ... أخاكم، وَمَنْ للقتيلِ الشهيدِ
أبا المجدِ، والمجدُ منك اسْتمَدَّ ... عُلاً ونُهىً ضافياتِ البُرودِ
فيا مُنتهى غاية المستغيث ... ويا مَفْزَع المُستَجيرِ الطَّريدِ
دعوتُك لمّا بَراني البِلى ... وأَثْقَل رِجْلَيَّ حَمْلُ الحديدِ
وما أرتجي في سِواكَ الصلاحَ ... لحالي ولا عنك لي من مَحيدِ
أحمد بن علي بن عبد اللطيف المعروف ب
ابن زريق
أنشدني تقي الدين أبو اليسر الكاتب لأحمد بن زريق يرثي عمه شكر بن أبي المجد وكانت وفاته في سنة تسعين وأربعمائة:
ما لِذا الدهر صَرْفُه لا يغِبُّ ... كلَّ يومٍ يروعُنا منه خَطْبُ
نَكْبَةٌ ثم نكبةٌ ثم أُخرى ... قَدْكَ رفقاً جُرحٌ وَكَلْمٌ وَنَدْبُ
أَأَبا طاهرٍ نَعِيُّكَ أذكى ... لهباً في جوانحي ليس يَخْبُو
أنت من أُسرةٍ لهم قصبُ ال ... سَّبْقِ إلى الفضل، والكواكب صَحْبُ
أَأَبا المجدِ إنَّ نَهْيَك عمّا ... أنا منه على الغرام مُلِبُّ
لعجيبٌ مني سوى أن عليا ... كَ إلى حُسْن مَرْجِع الصبر تَصْبُو
مَسْلَكٌ نَهْجُه على الناس وَعْرٌ ... هو، إلاّ عليكَ وَحْدَكَ، صَعْبُ
ابن الدُّوَيدة
هو أبو الحسن عليّ بن أحمد بن محمد بن الدويدة.
شعراء بني الدويدة فيهم كثرة، قد أورد منهم الباخَرْزي في دُمية القصر جماعة، فمن جملتهم أحمد أبو هذا، ومنهم محمد جده كان في زمان أبي العلاء. وهذا علي هو أقربهم عصرا، فقد أنشدني القاضي أبو اليسر الكاتب له من قصيدة يرثي عم أبيه أبا مسلم وادعاً:
يَدَ البين واصلَكِ القاطِعُ ... وعاجلَكِ الأجلُ الرائعُ
ومنها:
أبت ما يحطّ العلى منك ما ... أباه أبو مسلمٍ وادعُ
فتىً تجتليه لِحاظُ الرجاء ... كما يُجْتَلى القمرُ الطالِعُ
وله يمدح أبا المجد أخاه:
يا أبا المجد يا محمدُ يا ابن ال ... مُفْضِلينَ الذين شادوا الفخارا
يا شريفَ المَقال والفِعلِ أَسْعَدْ ... تَ بذَيْنِ الأسماعَ والأبصارا
وحيث ذكرنا بني الدويدة فلنورِدْ من شعرهم نُبَذا، ولنور من زناد فضلهم جذا، وكانوا ثلاثة أخوة شعراء أحدهم علي، والآخر محمد، والآخر عبد الله الملقب بالقلق.
ووالدهم:
أبو الحسين أحمد بن محمد بن الدويدة
وكان في عصر بني صالح، وهذا البيتان له، وأوردتهما في موضع آخر لغيره على حسب الراوي:
كنتُ أستعمل السّواد من الأم ... شاط، والشَّعرُ في سواد الدياجي

أتلقّى مِثْلاً بمثْلٍ، فلمّا ... صار عاجاً سرّحته بالعاجِ
ومن شعر ولده:

أبي البركات محمد
من قصيدة يرثي بها أبا العلاء المعري:
الآن غاض المجدُ فِضْ يا مَدْمَعُ ... كان الذي كُنّا نخاف ونجزَعُ
كَسَفَ الحِمامُ بأحمدٍ شمساً لنا ... في الخافقيْن منَ المعرّة تَطْلُعُ
ومن شعره ولده:
أبي سالم عبد الله
المعروف بالقاق الأبيات التي قالها في ابن صالح حيث أعطى ابن حيّوس وحرم الشعراء وهي سائرة في الآفاق:
على بابِكَ المَيمونِ مِنّا عِصابَةٌ ... مفاليسُ فانظر في أمورِ المفاليسِ
وقد قنعتْ منّا العصابةُ كلُّها ... بعُشْر الذي أعطيتَه لابْن حيّوس
وما بيننا هذا التفاوتُ كلُّه ... ولكن سعيدٌ لا يُقاس بمنحوس
ومن شعر الخليعة:
والدتهم
في والدهم أحمد:
قم يا عليلاً عليه قلبي ... من كلّ ما راعه مَرُوعُ
قم لستُ أخشى عليك شيئاً ... الدِّرهمُ الزَّيْفُ ما يَضيعُ
الناظر
وأنشدني الأمير مؤيد الدولة أسامة بن منقذ للناظر المعري أبياتاً كتبها إلى جده:
حاشاك يا ابن أبي المتوّ ... ج أن تَهُمَّ بقَطْعِ رَسْمي
أهلُ المعرّة من عرفْ ... تُ ومن قتلتُهم بعِلمي
وأخاف أن يَرْمِي سِوا ... يَ بسَهمِه ويُقال سَهْمِي
قال: فأضعف رسمه.
عبد الكريم بن عبد المحسن
أنشدني له أبو اليسر في مدح عمّ أبيه أبي مسلم:
يا وادعُ اسْلَمْ في السرو ... ر مهنَّئاً أبداً بنجلكْ
ما في القُضاة كمثلِ عب ... دِ الواحد الزاكي ومثلك
سعيد بن عبد المحسن
أنشدني أبو اليسر له من قصيدة في مدح جده القاضي أبي المجد:
لم تُنْصِفي أَسْرَفْتِ في إيعاده ... وَوَعَدتِهِ فَغَدَرْتِ في ميعادِهِ
واصلتِ بين غرامهِ ودمائه ... وقطعتِ بين جفونه ورُقاده
ومنها:
ما زالَ رَيْبُ الدهر يكسِر جانبي ... حتى لَجَأْتُ إلى ظلال جوادِه
بذُرى أبي المجد الذي من حِلمهِ ... عفَّى الرواسي الشُّمَّ في أطواده
سُبحانَ مازِجِ خلقه وخِلالِه ... بسَماحِهِ ووفائه وسَدادِه
بنو أبي حصين من معرة النعمان
ويجتمعون مع بني سليمان في داود بن المطهَّر.
فمنهم الكبير السيد والشاعر المجوّد:
القاضي أبو يعلى
عبد الباقي بن أبي حصين
وهو أبو يعلى بن عبد الله بن المحسِّن بن عبد الله بن محمد بن عمرو بن سعيد بن محمد بن داود بن المطهِّر بن ربيعة بن زياد بن ربيعة بن الحارث بن ربيعة بن أنور بن أرقم بن أسحم بن الساطع، وهو النعمان بن عدي، بن عبد غطفان بن عمرو بن بَريح بن جَذيمة بن تيم اللات، وهو مُجتمَع تَنوخ، ابن أسد بن وَبْرة بن تغلِب بن حُلوان بن عمران بن الحاف بن قُضاعة بن مالك بن حمير، وقال ابن الكلبي مالك بن عمرو بن مُرّة بن زيد بن مالك بن حِمير بن سبأ بن يَشجُب بن يعرب بن قحطان بن عابَر، وهو هود عليه السلام، بن أَرْفَخْشَذ بن سام بن نوح بن لمك بن مَتُّوشَلَخ بن أخنوخ، وهو إدريس عليه السلام، بن يارد بن مَهْلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام.
حسن السبك، متَّسِق السِّلك، متفنّن في ضروب الشعر ومعرفة صناعته، يكاد يقطر ماء اللطافة من شعره، قضيتُ له بالتقدّم على بيته، في حسن مَقْصِده في قصيدته وجودة بيته. له من قصيدة:
بانوا فَجَفْنُ المُسْتهام قَريحُ ... يُخفي الصبابةَ مَرّةً ويبوحُ
مِن طَرْفِه وَصَلَتْ جراحةُ قَلْبِه ... وإليه فاض نجيعُها المَسفوحُ
ومنها، وأحسن:
لم يُبْقِ بُعدُهمُ له من جسمه ... شيئاً فواعَجباه أين الرُّوحُ
ومنها في الاعتذار عن ترك التصرف:
يا مَن رَقَدْتُ وباتَ ليس براقدٍ ... عما يُزيلُ مكارهي ويُريحُ
لا تطلُبَنَّ ليَ التَّصَرف إنني ... لعسى، وفي تصريفها تقبيحُ

وقد استعنتُ على الحياة بأنني ... تغدو عليَّ قناعةٌ وتروحُ
والعمر قد ذهب البقاء بشَرْخِهِ ... عني، وأخلس عارضٌ ومَسيحُ
فإذا كنى رجلٌ طلاقَ معيشةٍ ... يوماً، فتسريحي لها تصريحُ
لم يُدْنني طمعٌ إلا طَبَعٍ ولا ... شِعري لجائزة عليه مديحُ
أغلقتُ باب الحِرص خَشيةَ وَقفةٍ ... بفِناء مَن ما بابه مفتوحُ
وعفوتُ عن جُرم الزمانِ ولم أُرِدْ ... منه القِصاص وفيّ منه جروحُ
وله من قصيدة أولها:
أبدى الفِراقُ كواكبَ الأغلاسِ ... فانقادَ صَعْبُ مُناك بعد شِماسِ
جعلوا الوداعَ لنا مَواعِدَ نلتقي ... فيها، فكان رجاؤُنا في الياسِ
ولَرُبَّ نَاْيٍ كان فيه من الضَّنا ... شافٍ، ومن كَلْمِ الصّبابةِ آسِ
ومنها في صفة القلم:
لا يبلغُ الشرفَ اليراعُ وإنما ... خَيْرُ الرِّياسة ما أتى برئاسِ
بمُهنّدٍ في جسمه من جَوْهَرٍ ... ما في الفتى من جوهرٍ حسّاس
وأَصمَّ رَعّاف وليس بذي دمٍ ... فتراه يَرْعَفُ من دماء الناس
أَظْمَى، كَصِلِّ الرمل، يُؤمَنُ مَتْنُه ... والحَتفُ راسٍ في شَباةِ الراس
كلاّ مَنارُ العلم أرفعُ والعُلى ... مقرونةٌ منه إلى أمراس
فُرسانُه فوق الدُّسوتِ وما همُ ... كمُلازمي سَرَواتِها الأحْلاسِ
إن طاعنوا فبألسُنٍ، أو ناضلوا ... أغنى قياسهمُ عن الأقواس
أفراسُهم قَصَبٌ، لها قصبُ المدى ... فضلاً إذا مَزَعَتْ مع الفرّاس
رُقْشٌ يذوبُ لُعابُها، أفواهُها ... لا ذاتُ أنيابٍ ولا أضراس
مَبئرِيّةٌ فإذا تبارَتْ قَطَّرَتْ ... عَرَقَاً من الأنقاسِ في الأطراس
تجري إذا هي بالشباب تلفّعت ... ونقوم إن بلغت إلى الأحلاس
أكياس مالهمُ القلوب، وهكذا ... خُلقُ السَّراةِ وشيمة الأكياس
وبحارهُمْ كُتب العلوم فكلما ... قرأوا أصابوا الدُّرَّ في قرطاس
وهي الحُلِيّ لهم ولكن ربّما ... فُقِدَتْ فأعطتهم من الوسواس
وله:
ولما التقينا للوداع، وقلبُها ... وقلبي يفيضان الصَّبابةَ والوَجْدا
بكتْ لؤلؤاً رَطْبَاً ففاضَتْ مَدامعي ... عَقيقاً، فصار الكلُّ في نَحْرِها عِقْدا
وله من قصيدة في ولد له مات فرآه في النوم:
أهلاً بطيف خيالِكَ المُعتادِ ... شَقَّ الترابَ إليَّ شِقُّ فؤادي
أهدى الثرى لي في الكرى شخصاً له ... أهديتُه حَمْلاً على الأعوادِ
شتّانَ بين الحالتين قَبَرْتُه ... في يقظتي، ونشرتُه برُقادي
ومصائبُ الآباء بالآحادِ إن ... يوجدْ لها جَلَدٌ ففي الآحادِ
أنشدني القاضي الصفيّ أبو غانم بن حُصَيْن قال: أنشدني والدي أبو البيان محمد قال: أنشدني عمّي أبو يعلى في الزلّي والمنشفة الرومي عند دخول الحمام:
وروميٍّ خلعتُ عليه يوماً ... ثيابيَ كلَّها مع طيلساني
فلا بالمنطق الروميّ أثنى ... عليّ وقال هذا قد كساني
ولا قال اشكروا عني فلاناً ... فإني لا يُطاوعني لساني
فعُدت لأخذها فتشبّثتْ بي ... له أختٌ من البيض الحسانِ
وأنشدني بالإسناد له في الوسخ والمُدَلِّك مُلغِزاً:
رُبَّ قميصٍ مكَّنْتُ منه فتىً ... مَزَّقه فاستبانَ للعَينِ
وكان يَخْفَى عنها فأظهره ... وحاكه كلّه طِرازَيْنِ
هذا معناه أن المُدلِّك في الحمّام يجمع الوسخ كله على العضدَيْن كأنه طِرازيْن.

أخوه أبو سعد
عبد الغالب بن أبي حُصَيْن عبد الله
ذو سعد، وجد له طالب، ذكره السمعاني في تاريخه وذكر أنه أنشده له ابن أخيه أبي البيان:

قَلبٌ وقُلْبٌ في يَدَ ... يْكَ مُعَذَّبٌ ومُنَعَّمُ
ظمآنُ يطلب قطرةً ... تَشْفِي صَداهُ ومُفْعَمُ
هذان البيتان كنت استلمحتهما من بعض الكتب فاستملحتهما، فإنهما جمعا التجنيس والتطبيق والموازنة ولزوم ما لا يلزم واللطافة والرقّة والمعنى واللفظ ولم أعرف قائلهما إلى أن طالعت المذيّل فشعرت بالشاعر، وعرفت عرف عُرفه العاطر، وسجّلت له بخطر الفكر والخاطر.
ونسب أيضاً إلى عبد الغالب هذين البيتين:
رأيتُ مِرْآتها تُقابلها ... فقلتُ والقلبُ في تلهُّبِهِ
كأنّما الشمسُ عند مَشْرِقها ... قابلها البدرُ عند مَغْرِبه
لقد أبدع في تشبيه المرأة والمرآة المتقابليْن بالقمرين إذا تقابلا في المَطلع والمغيب، محاكمييْن للمحب والحبيب.
وله:
جَسَّ الطبيبُ يدي وقال بنَبضِه ... معنىً يدلُّ على دَمٍ فَلْيُفْصَدِ
فأجبتُه يكفيك ما أبصرتَه ... متحدِّراً من دمعيَ المُتوَرِّدِ
فأشار بالعُنّابِ فاهتاجَ الهوى ... إذ كان مِن شكوايَ عُنّابُ اليدِ
وأتى بوَرْدٍ في الصفات فزادني ... قلقاً على قلقي وبان تجَلُّدي
وأَمَرُّ ما قاسيتُه ولَقيتُه ... حُجَجٌ أُلَفِّقُها، حَياءَ العُوَّدِ
وأنشدني أبو اليسر الكاتب له يرثي بعض بني سليمان:
لم يَكْفِ قلبي ما به من وَجْدِه ... وخروجه بعذابه عن حَدِّهِ
ومنها:
يا والد المدفون بين ضُلوعنا ... فَوِّضْ إلى مُعْطِيكه في فَقْدِهِ

أخوه القاضي أبو غانم
عبد الرزاق بن أبي حُصَيْن
أنشدني ابن أبي البيان ابنه، القاضي أبو غانم بالشام سنة سبعين وخمسمائة، قال أنشدني جدي أبو غانم بالشام لنفسه يصف الفُقّاع:
ومحبوسٍ بلا جُرْمٍ جَناهُ ... له حَبسٌ ببابٍ من رَصاصِ
يُضَيَّقُ بابه خوفاً عليه ... ويُوثَقُ بعد ذلك بالعِفاصِ
إذا أطلقته خرج ارتقاصاً ... وقبَّلَ فاكَ من فرح الخَلاصِ
هذه الأبيات الحسنة، صقلتها الألسنة، وهي عروس في كنّها، خَندريس في دنّها، مطبوعة في فنّها، يُعدّ هذا الأسلوب من النظم مُعمّى، ويدل على أن لقائله فضلاً جمّا.
وأنشدني القاضي أبو غانم قال أنشدني جدي أبو غانم لنفسه في حجر الرِّجْل مُعَمّى:
وعجيبةٍ أبصرتها فَخَبّأتُها ... لُغزاً لكلِّ مُساجلٍ ومُناضلِ
ما يستقرّ بكفّ ألكنَ ناقصٍ ... حتى يُجَرَّ برِجْل أَرْوَعَ فاضِلِ
وقد أوردهما السمعاني في تاريخه منسوبين إلى أبي حصين والد أبي غانم.
أبو حصين عبد الله
له شعر، ونسب إليه السمعاني البيتين في حجر الرجل. وأنشدني له القاضي أبو اليسر وذكر أنه يرثي والده وقد مات في الحج:
دمٌ فوق صدري وَكَفْ ... من الجفن لمّا ذَرَفْ
ومنها:
لفقدان من لا أرى ... يدَ الدهرِ منه خَلَفْ
ومنها:
لميتٍ غدا ثاوياً ... بطَيْبَةَ بين السلَفْ
أبو القاسم المحسن والد أبي حصين
ذكره السمعاني في تاريخه، المؤلف بين مُشتريه ومِرِّيخه؛ وكتابه، الدَّالّ على وفور آدابه، فذكر أنه أنشده أبو البيان محمد بن أبي غانم عبد الرزاق، قال أنشدني أبي لجدّه:
وكلٌّ أُداويه على حسْب دائه ... سِوى حاسدي فهي التي لا أنالُها
وكيف يداوي المرءُ حاسدَ نعمةٍ ... إذا كان لا يُرضيه إلاّ زوالُها
قال وأنشدّنا أبو البيان قال أنشدني أبي لجدّه وذكر أنه أنشده لنفسه:
إذا ما رأيت امرأً كاسباً ... يخاف العواقبَ في كسبه
يريد الغنى ويخاف الرَّدى ... فذرْهُ ولا تَكُ من حِزبِه
فما يدركُ المرءُ أُمنيَّةً ... وخوفُ المنيَّة في قلبه
أبو البيان محمد بن أبي غانم بن أبي حصين
كان قاضي حمص، وذكر لي القاضي أبو اليسر أن له ديواناً وشعراً حسناً، وقد ذكره السمعاني في تاريخه ولقيَه وروى عنه.
أبو الرِّضا عبد الواحد بن الفرج بن النوت
المعري

كان في زمن بني كلاب، وسمعت أنه توفي في سنة ثمانين وأربعمائة، وكان مغفّلاً، ولكنه كان ببديهته على الأدباء مفضَّلاً، ومن جملة بديهته أنَّ مُعزّ الدولة الكِلابي صاحب حلب عبر في جيشه بالمعرَّة، وابن النوت واقفٌ في حقلٍ له فخاف على زرعه فتلقّاه ووقف في طريقه وأنشده:
الشمسُ تشرقُ من خلال الموكب ... أم بدرُ تِمٍّ طالعٌ في غَيْهَبِ
هذا مُعزُّ الدولة الملكُ الذي ... عُقِدَ اللواءُ له بأعلى كوكب
في البحر أعهَدُ مَركباً من تحتنا ... وأراه بحراً فوق هذا المركب
فقال له مُعزّ الدولة: تمنَّ، فقال: أتمنّى أن لا يجول عسكرك في زرعي، فحماه له.
وجلس معز الدولة على قُوَيق، زمان المدِّ وخيَّمَ به وذكرَ ابنَ النوتِ وبديهته فنفّذ في طلبه فأُحضر على البريد فلما رآه على شاطئ النهر قال بديهاً:
رأيتُ قُوَيقاً إذ تجاوزَ حدَّه ... له زجلٌ في جريه وضجيجُ
وكان ثمال جالساً بشَفيرِه ... فشبَّهتُه بحراً لديه خليجُ
فقال له معزّ الدولة: قد زعم الشعراء الحلبيون أنَّ هذا ليس بشعرك، وكان فيهم ابن سِنان الخفاجيّ، فإن قلت بديهة أعطيتُكَ جائزتهم كلّهم، ثم نظر إلى غرابين على نشَزٍ فقال: قل فيهما: فقال:
يا غرابين أنتما سببُ البيْ ... نِ فكيف اجتمعتما في مكان
إنَّما قد وقفتما في خُلُوٍّ ... لفراق الأحباب تشْتَوِران
فاحذرا أن تُفرِّقا بين إلفَيْ ... نِ فما تدريان ما تلقيان
وقال وقد عبر على دارٍ قديمة تُنقَض وأحجارُها تُقلع والمعاول فيها تعمل:
عبرْتُ برِيعٍ من سِياث فراعني ... به زجل الأحجار تحت المعاولِ
تناولَها عَبلُ الذِّراعِ كأنَّما ... رمى الدَّهرُ فيما بينها حربَ وائل
فقلت له: شُلَّتْ يمينُكَ، خَلِّها ... لمُعتبِرٍ أو زاهدٍ أو مسائل
منازلُ قومٍ حدَّثتنا حديثَهم ... ولم أَرَ أحلى من حديث المنازل
وقال أبو الرضا ابن النوت:
نَسري فيبدو من نعال جِيادِنا ... قبَسٌ يضيءُ الليلَ وهو بهيمُ
فكأنَّ مُبيَضَّ النعال أَهِلَّةٌ ... وكأنَّ مُحمرَّ الشرار رُجومُ
وكتب إليَّ القاضي أبو اليسر الكاتب من شعر ابن النوت قصيدة في مرثية أبي العلاء المعرِّيّ منها:
سُمْرُ الرِّماحِ وبِيضُ الهندِ تَشْتَوِرُ ... في أخذ ثأرِكَ والأقدارُ تعتذرُ
والدَّهرُ فاقدُ أهل العلم قاطبةً ... فإنهم بك في ذا القبر قد قُبِروا
فهل ترى بك دار العلم عالمَةً ... أنْ قد تزعزعَ منها الحِجرُ والحَجَرُ
العلم بعدكَ غِمْدٌ فات مُنْصلُه ... والفهمُ بعدك قوسٌ ما لها وتَرُ
أبو العلاء بن أبي النَّدى
بن عمرو المعرّيّ
وقيل ابن جعفر اشتغل صغيراً بالفقه، وكان في الذكاء عديم الشبه، وهو في المدرسة الحنفية النوريّة بحلب عند العلاء الغزنوي، سمْح البديهة والروِيَّة، صحيح الرَّويّ، شاعر فقيه مجيد، وحيد فريد، غدرَ به عمره، وطوي نَشْره، وغيَّضَ فيضَه قبرُه، ونضبَ عند تموُّجِ عُبابه بحرُه، وذلك في سنة نيّفٍ وخمسين وخمسمائة، وله حدود خمس وعشرين سنة، ولو عاش لكان آية، فلم يُبقِ في علم من العلوم غاية، أنشدني له أبو غانم بن عبد الواحد بن حياة المعري من قصيدة له في الأمير السيد بهاء الدين الشريف:
مِنْ أينَ كانَ لكُنَّ يا حَدَقَ المَها ... علمٌ بنَفْثِ السِّحْرِ في عُقَدِ النُّهى
أمْ مَنْ أعارَ البانَ في مُهَجِ الورى ... فتكاً فأصبح بالقَنا مُتَشَبِّها
من كلِّ مَيّادِ القوامِ مُنَعَّمٍ ... يختالُ في سُكْرِ الشَّباب ويُزْدَهَى
واهي الجُفون فلو تكفَّلَ جَفنُهُ ... فِعلَ الصَّوارمِ لاستقلَّ وما وهى
يبدو بوجه كلَّما قابلتَهُ ... أهدى إليك من المحاسن أوجُها
كالفضَّةِ البيضاءِ إلاّ أنَّهُ يلقاكَ من ذهَب الحياءِ مموَّها

فله على القمر المنير فضيلةٌ ... كفضيلة القمر المنير على السُّها
جَمُّ البهاء كأنَّما جُمِعَت له ... تلك الصفاتُ الغُرُّ من شِيَمِ البها
البدرُ يَقصُرُ أنْ أُقايسَه به ... والشمسُ تَصغُرُ أن أشبِّهَه بها
وظلمت شامِخَ مجده إنْ جئته ... عند المديح ممثِّلاً ومُشَبِّها
ومنها:
أنتم، بني الزَّهراءِ، أهلُ الحُجَّة الزَّهْ ... راءِ إنْ فطنَ المُجاورُ أوْ سَها
فإلامَ يُجحَدُ في البريَّةِ حَقُّكُمْ ... قد آنَ للوَسنانِ أنْ يتنبَّها
صُنتُم ببذل عُروضِكُم أعراضَكُم ... وصيانة الأعراض في بذل اللُّها
ماذا أقولُ وما لِوصفِ عُلاكُمُ ... حَدٌّ ولا لِنُهاكُمُ مِنْ مُنتهى
منكم سَنا الشَّرف المُبينُ جميعُه ... وإلى بهاء الدينِ بعدَكُمُ انتهى
وأنشدني له سعيد بن عبد الواحد بن حياة:
لا غَرْوَ إنْ كان مَنْ دوني يفوزُ بكم ... وأنثني عنكُمُ بالويلِ والحَرَبِ
يُدنى الأراكُ فيُمسي وهو مُلتثِمٌ ... ثغرَ الفتاةِ ويُلقى العودُ باللَّهَب
وأنشدني له في المِروحة:
وقابضةٍ بعِنان النسيم ... تصرِّفُه كيف شاءت هُبوبا
فمن حيث شاءت أهَبَّتْ صباً ... ومن حيث شاءت أهبَّت جَنوبا
تُضَمَّخُ بالطيبِ أردانُها ... فتُهدي لمُلبسها الطّيبَ طِيبا
إذا أقبل القَرُّ كانت عدوّاً ... وإن أقبل القيظُ صارت حبيبا
وقوله أيضاً في وصف غلام ينظر في مرآة:
روحي الفداءُ لساجي الطرف ساحرِه ... تَحار في وصفه الألبابُ والفِكَرُ
يُرَنِّحُ التّيهُ قدّاً منه مُعتَدِلاً ... كالغُصنِ ما شانه طولٌ ولا قِصَرُ
بدا لنا فازدهانا حسْنُ صورته ... حتى امترَيْنا لها في أنه بشَرُ
وقابلَتْ وجهَهُ مِرآتُه فبدَتْ ... كأنَّها هالةٌ في وسْطِها قمر
وقوله:
وإنّي وإنْ وطَّنْتُ نفسي على النَّوى ... وكانت بأذيال المُنى تتعلَّقُ
لَتَعتادُني من ذِكْرِ ليلى وساوِسٌ ... تكاد لها نفسي على النأي تزْهَقُ
أُظَنُّ لإظهار التَّجَلُّدِ سالياً ... وفي كبدي نارٌ من الحبِّ تحرُقُ
أَساكِنَةَ الزَّوراءِ رِفقاً بهائمٍ ... شآمٍ، له قلبٌ مع الحبِّ مُعرِقُ
حشاه على بُعدِ المَزار مُدَلَّهٌ ... خَفوقٌ، ومَسعاهُ لقربِكَ مُخفِقُ
خُذي قلبَهُ رَهناً ورُدِّي له الكَرى ... لعلَّ خيالاً منكَ في النوم يَطرُقُ
فواعجبا للطّيفِ ليس بواصلٍ ... إلى الجَفْنِ إلاّ وهو وَسْنان مُطبَق
يَصدُّ إذا الأبواب تُفتَحُ دونَهُ ... ويَقرُبُ منها شخصُه حين تُغلَق
وما ذاك دأبُ الزّائرينَ وإنّما ... زيارتُه للصّبِّ فَقْدٌ مُنَمَّق

القائد أبو المجد محمد بن سعيد
أصله من المعرَّة يُعرف بابن حُرَيْبَة، له رياسَة وكياسة، يتولّى الدواوين، ويتصرّف للسلاطين، وله رأيٌ مصيب، وخاطر في النّظم مجيب. ممّا أنشدني لنفسه:
وروضٍ أنيق من شقيقٍ كأنّه ... خُدودُ العَذارى يَنتَقِطْنَ بإثْمِدِ
يُضاحِكُ من نَورِ الأقاحي أهلَّةً ... من التِّبْر في هالاتِ دُرٍّ مُنَضَّدِ
وأنشدني له من قصيدة طويلة في صلاح الدين عند نصره على المَواصلة:
وكان قد عَمَّهُمْ عَفواً لو اعترفوا ... لعمَّهم فضلُه لكنَّهم جحدوا
والعفو عندَ لئيمِ الطَّبْعِ مَفسَدَةٌ ... تَطْغى، ولكنَّه عند الكريم يَدُ
ولمّا وصلنا إلى حمص متوجِّهين في خدمة الملك الناصر إلى حرب الحلبيين والمَواصِلة في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين تلقّانا القائد أبو المجد فأنشد الملكَ الناصِرَ:

إذا خفقت بنودُكَ في مَقامٍ ... رأيتَ الأرضَ خاشعةً تَميدُ
وإنْ طرَقَتْ جِيادُكَ دارَ قومٍ ... فشُمُّ الشامخات لها وُهود
وإنْ برَقَتْ سيوفُكَ في عدوٍّ ... فما من قائمٍ إلاّ حصيدُ
وأنشد أيضاً:
سيوفُكَ، أعناقَ العُداة تُميلُ ... وخوفُكَ آفاق البلاد يَجولُ
وكفُّك فوقَ النيل نَيلاً لأنَّه ... إذا سال ماءً فالنُّضارُ تُسيلُ
وكلُّ كثيرٍ من عدوٍّ ونائل ... إذا صُلْتَ فيه أو وصلْتَ قليلُ

أبو الحسن علي بن إبراهيم بن علي المعروف ب
ابن العلاّني المعرّيّ
من الشعراء المذكورين. ومضى إلى مصر ومدح الفضل، قرأت بخط الكاتب ابن النقّار الدِّمشقيّ أنه كان فخر الملك ابنُ عمّار صاحب طرابلس اقترح على الشعراء أن يعملوا على وزن قصيدة ابن هانئ المغربي:
فُتِقَتْ لكُم ريحُ الجِلادِ بعَنبَر
فسبقهم أبو الحسن عليّ المعروف بابن العلاّني المعرّي وعمِل ما أعجبه وأجازه عليه واستغنى به عنهم، وهو:
هل بارعُ الشُّعراء غيرُ مقصِّرِ ... عن بارعٍ مِنْ مجدِكَ المُتخّيَّرِ
أم كنهُه ما ليس يدركه بذا ... قول كمَنسوق الجُمان مُحبَّر
فعلى البليغ الجهدُ منه فإن يجِدْ ... يُحمَد، وإن يكُ مُقصراً فليُعذَرِ
يا ناصر الدين الذي لو لم تَطُلْ ... منه مُقارَعة العِدى لم يُنصر
لِيطُلْ بقاؤك للمكارم والعُلى ... فربوعُهُنَّ معالمٌ لم تَدْثُرِ
ولْتَرْعَ عينُ الله منكَ حُلاحِلاً ... سبق الورى سبق الجواد المُحضِر
يحتاطُك التوفيقُ، لا يألوكَ في ... تسهيله لكَ كلَّ صعبٍ أوعَرِ
وإذا دجَتْ ظُلَمُ الأُمور فلا تزَلْ ... سبّاقَها بسراجِ رأيٍ أَنوَرِ
للَّه همَّتُكَ الخطيرةُ إنَّها ... خُلقَتْ لِصَبٍّ بالعلى مُستهتَرِ
لِمؤَرَّقٍ في المجد مَضّاءٍ على ال ... أَهوال ثَبْتٍ ما يُراعُ بمُسهِر
والمجدُ صعبُ المُرتَقى إلاّ على ... يقظان في ذات الإلهِ مُشَمِّرِ
واري زِناد الفكر، وقّاعٍ بما ... يُبدي العِيانُ، على الخفيّ المُضمَر
شِيَمٌ نِظامُ المُلكِ مَخصوصٌ بها ... دلَّتْ على ملِكٍ كريم العنصُر
إنَّ العُلى ما بينَ كَفٍّ بَرَّةٍ ... منه ووَجهٍ بالطّلاقَةِ مُسفِرِ
عَلياؤُهُ ما يُستطاعُ مرامُها ... فلنُقللِ الحُسّادُ أَو فلتكْثِر
سيفَ الخِلافة لا تزَلْ عضْبَ الشَّبا ... تَفري بحدَّيك الخطوبَ فتنفري
لو بان شخصُ المجد لمْ يَكُ في الورى ... إلاّك منه عليه عَقْدُ الخِنصَرِ
خُلُقٌ أبى إلاّ السماحَ سجيَّةً ... تتغيَّر الدُّنيا ولم يتغيَّر
ولقد سمعت وما سمعت بجائد ... في عسرةٍ يُعطي عطاء الموسِر
ما روضةٌ غنّاءُ أَشراطيَّةٌ ... أُنُفٌ يَنِمُّ بها نسيم العَبْهَر
ولِيَ الحَيا تدبيجَها فكأنَّه ... واشي رُقومٍ أو مقوِّمُ أسطُر
يختال جوُّ تِلاعِها ووِهادِها ... في وارفٍ واصي النَّبات مُنوِّر
غَبَقَتْه سارية الغمائم واجتلى ... بالنَّوْر من صَوغِ الرَّبيع المُبكِر
مَعَجَتْ صَبا نجدٍ بها وكأنّما ... فضَّتْ خِتامَ التُبَّتِيِّ الأذْفَر
عبقاتِ نَوْرٍ لم تخل أنفاسه ... إلاّ بداهةَ نكهَةٍ من عنبَر
كصفات فخر الملكِ في إنشائها ... زهرَ الثناءِ بوَبْلِها المُستَمطِر
أّعَذولَ هذا البحر في بذل الندى ... ما العذل إلاّ ضائعٌ في الأبحر
لَفِّقْ مَلامَكَ أو فذَره فلم تكن ... لِتَسُدَّ أُسْكوبَ الغمام المغزِر
أَلِفَ الجيادَ فما تزالُ جيادُه ... تردي إليه بكلِّ ذِمْرٍ مُعْوِر

تُدحى بأيدي الخيل هاماتُ العِدى ... فكأنَّهُنَّ لواعبٌ بالمَيسر
في كلِّ يومٍ يسترون عَجاجةً ... قصُرَتْ لِحاظُ الطَّير دون المنْسر
قد عُوِّدَتْ رِيَّ الأسنَّةِ، كلّما ... شكَتِ الغليل، من النجيع المُهْدَر
صارت مشارعُها مُتونَ سلاهِبٍ ... لُحْقِ الأياطِل كالسَّعالى، ضُمَّر
من كلِّ يَعبوبٍ سما بتليله ... عنُق كجِذْعٍِ من أراكٍ مُوبَر
مُستلحِقٍ أولى الطرائد، صارعٍ ... للقِرْنِ في قتَم الغُبار الأكدَر
يُنثالُ في طلب العدوِّ كما أتى ... سنَدٌ بمَهوى سيلِه المُتحدِّر
وصوارمٍ بُتْر المضارب لم تقع ... إلاّ على تَرِب الجبين مُعَفَّر
من كلِّ أبيضَ ناطِقٍ في هامةٍ ... تحكي خطيباً فوق صهوة مِنبَر
يكسو أديم الأرضِ صِبغةَ عَنْدَمٍ ... لم تبدُ إلاّ عن دمٍ مُثْعَنْجِر
يبري أَكُفّاً ثمَّ يُتبِعُ أَذْرُعاً ... تحكي أنابيبَ القنا المُتكَسِّر
أَيَظُنُّ جندُ الشِّركِ عزمَكَ مُغفِلاً ... حَزَّ الطُّلى منهم وقطعَ الأبهَر
لَتساوِرَنهمُ بها مَلمومةٌ ... بالأُسْدِ تذأَى في قناً وسَنَوَّر
فلَتَنْسِفَنَّهُمُ سطاك بعاصفٍ ... يجتثُّ أصل المشركينَ بصَرصَر
وليجِلُبَنَّ ذوي القِسيِّ أَعدّها ... للشِّرك كلُّ مُباسلٍ مُتنَمِّر
يقذفن في مُهَج الطُّغاة طوائراً ... بمثال أجنحة الجراد الطُّيَّر
حتى تغيبَ حجولُ خيلك في الوغى ... ممّا تخوض من النَّجيع الأحمر
تدبيرُ مُعتزمٍ طلوبٍ ثأرَه ... بسيوفه طلبَ الهِزَبْر القَسْوَر
يا مُنفِد الأموال لا مُستبقياً ... لسوى مساعٍ كالنُّجوم النُّيَّر
عجباً لكفِّك كيف لا يخضرُّ ما ... تحوي عليه من الأصمِّ الأسمر
كشفتْ تجاربُكَ الزَّمانَ فعلَّمتْ ... أهلَ التجارب كيفَ حَلْبُ الأشْطُر
ودّعت شهراً أنت في هذا الورى ... بعُلُوِّ قدرِكَ مثلُه في الأشهر
تقضي فروضَ الصّوم أكرمَ صائمٍ ... وأهلَّ عيد الفطر أكرمَ مُفطِر
لا تعدَمُ الأعيادُ إن ألبسْتَها ... ببقائك الممدود أحسن منظر
فإذا سلمتَ فكلُّ عيدٍ عندنا ... مُوفٍ على عيدٍ أغَرَّ مُشهَّر
دامت لكَ النَّعماءُ موصولٌ بها ... توفيقُ منصور اللّواء مُظفَّر
وأنشدني الأديب أبو محمد بن عتيق المصري الشاعر قدم من اليمن العراق وأقام بها، قال أنشدني ابن العلاّني:
وذي هَيَفٍ راقَ العيونَ انثناؤه ... بقدٍّ كرَيّانٍ من البانِ مُورِقِ
كتبتُ إليه هل: تروم زيارتي ... فوقّع: لا، خوفَ الرّقيب المُصَدَّق
فأيقنت من لا بالعناق تفاؤلاً ... كما اعتنقتْ لا ثم لم تتفرّق
من قصيدة لأبي الحسن علي بن العلاّني يمدح بها الأفضل ابن أمير الجيوش أوَّلها:
سل الربع عن أحبابنا أين يمَّموا ... لئن ظعنوا عته فبالقلب خيَّموا
من مديحها:
لِيَزْدَدْ عُلُوّاً مُلْكُ مِصرَ فإنّها ... به حَرَمُ الله العزيز المُحرَّمُ
فمكَّةُ مصرٌ، والحجيج وفودُه ... ويمناه ركنُ البيت، والنيل زمزم
صفاتك ملُْ الخافقين فمُنْجِدٌ ... يسير بها في كلِّ فَجٍّ ومُتهِمِ
وشاكرُ ما تولي مُقِرٌّ بعَجزه ... ولو أنَّه في كلِّ عضوٍ له فم
وله:
عَجِبَتْ لِوَخْطِ الشَّيبِ عاذلَةٌ رأتْ ... شِعراً تلفَّعَ بالبياض سوادُه
لا تعجبي ما شاب منه فَوْدُه ... إلاّ لِهَمٍّ شابَ منه فؤادُه
وله:
أَلَمْ تَعطِف على النَّضْو الطّريحِ ... وطولِ تأوُّهِ القلب القريح

ولم ترحم صبابةَ ذي اشتياقٍ ... غريق الجَفنِ بالدَّمع السَّفوح
ألا يا أحسنَ الثَّقلَينِ أَلاّ ... نهاكَ الحسنُ عن فعل القبيح
أيا قلبي المعذَّبَ بالأماني ... أَطعني تَنْجُ باليأس المُريح
ويا نظري طَمَحْتَ إلى بعيدٍ ... فما للبدر والطَّرف الطَّموح
نصحتُك والهوى لكَ مُستزِلٌّ ... يُريكَ الغِشَّ في رأي النصيح
وله:
إلى الله أشكو حبَّ أهيفَ فاتنٍ ... وقعت فما لي من يديه خلاصُ
جرحْتُ بلَحظي خدَّهُ وهو جارح ... بعينيه قلبي، والجروح قِصاص
وله في الأفضل من قصيدة:
زارتْ وواشيها نسيمُ المَندَلِ ... ورقيبُها في الليل وِسواس الحُلي
ومنها:
وسمعتُ في الدنيا بسبعة أبحُرٍ ... ورأيتُ ثامنَها يمينَ الأفضل
وله من قصيدة في القاضي أبي مسلم وادع:
بالجِزع من إضَمٍ رُبوعٌ مُثَّلُ ... دَرْسٌ وفيه لأُمِّ عمرو مَنزِلُ
فقفوا بنا نبكِ المرابعَ باللِّوى ... فمنازلَ الأحباب كانت فانزلوا
أبكي لأحبابٍ كأنِّي شاهدٌ ... نجواهُمُ، وخيالَهُم أتخيَّلُ

أخوه يحيى بن إبراهيم بن علي
العلاّني
ومن شعره:
زعمتمُ أنَّ قلبي عند غيركُمُ ... أَثِمْتُمُ وأَميرِ المؤمنين علي
إنْ كنتُ أضمرتُ هَجراً أو همَمتُ به ... يوماً فلا بلَّغ الرحمن لي أملي
أو دار في خلَدي يوماً، لأجلكم ... مَرُّ القطيعة وافاني به أجلي
إن كان قُدَّ قميصُ الحبِّ من دُبُرٍ ... فإنَّ قلبي عليه قُدَّ من قُبُلِ
بنو عبد اللطيف أهل كتابة وفضل
أبو الحسين علي بن محمد
بن سعيد بن عبد اللطيف
شاعر فاضل من معاصري محمود بن علوي بن المهنّا، وله إليه مجيباً له عن أبيات نفَّذها إليه يستعير كتاباً
وقفتُ على هذه الأحرفِ ... فألفيتها غير مستعطَفِ
وما كنت ممّن يمَلُّ الصَّديق ... ولا كنت للوعد بالمُخلف
وقد جدتُ بالجزء وهو الذي ... به لا يُجاد على مُعتَف
ولو لم تكن ثالث الناظرين ... لما كنتَ ناظرَه فاعرِف
وخَلِّ العِتابَ فإنِّي أخافُ ... تلجلُجَ من ليس بالمنصِف
بنو الحوّاريّ
في المعرّة
أقدمهم عصرا
ً
العميد أبو بشر بن الحوّاريّ
له وقد وقف على داره بالمعرّة بعد هجوم الفرنج:
أهذه بين إنكاري وعِرفاني ... مساربُ الوحش أم داري وأوطاني
جهِلْتُها ولقد أبْدَتْ ملاعبُها ... عهد الصِّبا بين إخواني وخِلاّني
فعُجْتُ أَسألُها والدَّمع مُنسكبٌ ... والقلب في لوعةٍ من وَجده عان
يا دارُ ما لي أرى الأيامَ قد حكمت ... فينا وفيك بحكم الجائر الجاني
فلو أجابت لقالت هكذا فعلت ... قِدماً بجيرة نُعمان ونُعمان
وفي مدائن نوشروانَ مُعتبَرٌ ... للسائلين وفي سيفٍ وغُمدان
فاذهب لشأْنِكَ فالدُّنيا لها دولٌ ... تمضي وتأْتي وكلٌّ بينها فان
أبو اليقظان بن حوّاريّ
عمّ أبي جعفر الذي أوردنا شعره. له:
يَضِنُّ بالبِشر خوفاً أن يؤول إلى ... رِفْدٍ، فلستَ تراه وهو مبتسمُ
فهو الغنيُّ وعِرضُ المُقتِرين له ... وهو المليءُ وفي أخلاقه العدم
وله:
ألا إنَّ الشبابَ إذا تولّى ... فإنَّ مقام صاحبه قليلُ
وفي وضَح المشيب على كلامي ... دليلٌ ليس تنكرُه العقول
كرَكْبٍ عَرَّسوا ليلاً فلمّا ... بدا ضوء الصّباح دنا الرّحيلُ
أبو الحسن علي بن المؤيّد بن حواريّ

فقيهٌ عارفٌ بالأصول، أديب شاعر عروضي، وهو أخو أبي جعفر وكان له شعر طيّب، دخل عليه جماعة في داره بالمعرة ليلاً فقتلوه وذلك في سنة ثمان أو تسع وخمسين وخمسمائة. وهو فقيه شاعر أديب عارف بالعروض.
أنشدني له عبد القاهر بن المهنّا قاضي معرّة مصرين:
يا خليليَّ سَقِّياني كُمَيتاً ... لقَّبوها بدرَّة الأقداحِ
أنقذاني من نشوة الهمِّ بالرّا ... حِ فصَحوي في نشوةٍ من راحِ
بينما أذَّنَ المؤذِّنُ بالعُو ... د اتّئدْ للصَّبوحِ قبل الصّباح
إذ تجلّى من مشرق البيت بدرٌ ... يحمل الشمس في عمودِ صباحِ
فحَبا أوجُهَ النَّدامى شُعاعاً ... حسَرَت منه مُقلَةُ المِصباح
وله:
يا هند ما هذا الجفاء، أما له ... من آخرٍ، ولكلِّ شيءٍ آخرُ
ووَعَدْتِ من طيف الخيال بزَورَةٍ ... أنّى، ودونَ الطَّيف طَرفٌ ساهرُ
ومن شعره كتبه إلى أبي العلاء المُحسِّن بن أبي النّدى الفقيه سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة في مهرجان وافق أوّل شهر رمضان:
للَّه يومُ المِهرجان وطيبُه ... لو لمْ يكدِّرْهُ الصِّيامُ المُقبلُ
ما كان أحلاه لشُربِ مُدامَةٍ ... ووِصال معشوقٍ يجودُ ويبذُل
وسلافةٍ خُلِقَتْ، وآدم طينةٌ ... فمضت بأصلاب الكروم تنقَّل
حتى إذا ما حان وقت ظهورها ... عنباً أُتيحَ لها الزمان الأعدلُ
وسقى فروَّى من ثرى زرَجونها ... نَوءُ الثُّريّا والسِّماك الأهطلُ
سمحتْ لها الأنواءُ ماءَ عُيونها ... من قبل أن سمحَتْ بها قُطْرُبُّلُ
فبدا كما صنع الثُّريّا ربُّها ... عنقودُها المُتَنَظَّمُ المُتهلِّلُ
أبو جعفر محمد بن حوّاري
من المعرة شاب من تُنّائها. مسكنه بحلب. أنشدني لنفسه بدمشق في ذي الحجة سنة سبعين:
توَقَّ زوالَ الحسنِ عند كماله ... ولا تكُ من صَرفِ النَّوى غيرَ خائف
أَلم ترَ أنَّ الوَردَ لما تكاملتْ ... محاسنُه أودت به كفُّ قاطف
وأنشدني لنفسه:
لاحظتُه فبدا النَّجيعُ بخدِّه ... فاقتصَّ، لا متعدِّياً، من ناظري
فكلاهما حتى الممات مُضرَّجٌ ... بدمائه من جائر أو ثائر
وأنشدني لنفسه:
خَفِ الزَّمانَ ولا تأمن غوائلَه ... فما الزمان على شيءٍ بمأمونِ
غداً ترى الشَّعرَ قد غطَّت غياهبه ... ضياءَ خدِّكَ فاستسعيتَ في الهون

الشيخ عبد الرحمن الواعظ المعري

الملقّب بشمس الدين، من المعاصرين، يعرف في الشام بابن المنجِّم، وتوفي بدمشق بعد العَود إليها سنة ستين وخمسمائة، ذو البديهة المستجيبة، والقريحة العجيبة، والمنطق واللسن، والكلام الحسَن، والقالة والحالة، والتحقيق والتدقيق، والمنظر الصبيح، والمِقوَل الفصيح، اجتمعت له الصباحة والفصاحة، والبهجة واللهجة، مواعظه مبكية مضحكة، وكلماته بالوعيد منجية مهلكة، إذا وعظ كانت عباراته أرقّ من عبرات الباكين، وإذا انشد كانت غرره آنَقَ من درر الناظمين، وثغور الضاحكين. حضرت ببغداد مجالسه وشهدت محاسنه فألفيته جوهريّ الوقت، جهوريّ الصوت، وهو كما قال الحريريّ: بزواجر وعظه يقرع الأسماع، وبجواهر لفظه يطبع الأسْجاع، وبكلامه يأسو الكُلوم، ويجلو الهموم، وبنكته يَنكُتُ العقولَ ويَبهَتُ الحُلوم، فما رأيت في مجلسه إلاّ قلوباً ترقّ، ودموعاً تترقرق، وجيوباً تُشَقَّق، ونفوساً تكاد من وجدها تزهَق، وأنفاساً تتصاعد، وحُرَقاً تتزايد، وأيدياً إلى قابل التوب تُرفَعْ، وشعوراً لقِطْع الحَوب تُقطع. قال يوماً وقد قصَّ شعر شاب، من التوّاب. شابٌّ جفا، قصَّ شعره بمقصّ الوفا، وألبسه قميصاً كان عليه وقال: من وافقَ وفَّق، فقصَّ بقصصه وأشعاره شُعوراً، فكأنَّه بنغماته داوُدُ يتلو زَبورا، وخرج أعيان أهل من ثيابهم إليه، وخلعوها عليه، فقلتُ يجب أن نُسَمِّيَه المَعرّي المُعرّي، وأنا في حدود خمس عشرة سنة، وكان ذلك يوم عاشوراء بالمدرسة النظامية سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، ولم أزل إلى آخر سنة إحدى وخمسين ألقاه في محافل الأماثل، ومجالس الأفاضل، ولم يزل شحّاذاً أخّاذاً، فصّالاً قوّالاً، نتّاشاً حوّاشا، فاتقاً راتقا، ماهراً حاذقا، لا يخلو يوماً شرَكُه من صيد، لو رآه الحريريُّ لم يذكر أبا زيد، له في كلِّ حادثٍ حديث، وفي كلِّ خطبٍ خطبة، وفي كلِّ نائبٍ نوبة، وفي كلِّ ملِمٍّ إلمام، وفي كلِّ جمعة جمع، وفي كل سبت وقت، وفي كل نادٍ نداء، وفي كل ناشئٍ إنشاء، وفي كل فصلٍ فصل، وفي كلِّ سهم نصْل، وفي كل مدخَلٍ دُخول، وإلى كل مَحفِلٍ وصول، وإلى كل موردٍ ورود، وفي كل مشهَدٍ شهود، وفي كل مأتمٍ نِياحة، وفي كلِّ يَمٍّ سِباحة.
حضرت عند شيخ الشيوخ إسماعيل الصوفي ببغداد وهو قائم يورد فصلاً، ويملأ الجمع فضلاً، ومما أنشأه على البديهة وأنشده فيه بيتين علِقا بالحفظ، لرقة المعنى واللفظ، وهما:
يا أخلاّئي وحقِّكُمُ ... ما بقي من بعدِكم فَرَحُ
أيُّ صَدرٍ في الزمان لنا ... بعد صدر الدين ينشرحُ
وسمعته يُنشد في سيدنا وأستاذنا شرف الدين يوسف الدمشقي المفتي ببغداذ:
مَن ذا يُباهي أو يُضا ... هي في الخليفة أو يُلاسنْ
لفقيهها الشرفِ الذي ... جمع المكارمَ والمحاسنْ
وكان له على الواعظ علي الغزنويّ، الملقب ببرهان الدين، رسمُ تعهُّدٍ، فسمعته يُنشده يوماً:
يا مَن يطوفُ بكعبة ال ... إحسانِ منه المُستميحُ
إن طاف طوفانٌ بنا ... من عُسرةٍ فنَداكَ نوح
أو ظَلَّ عازَرُ قصدِنا ... ميتاً فجَدواكَ المسيح
وأثْرَتْ ببغداد حاله، ونمى مالُه، وحلَت عيشته، وحَلِيَت معيشته، وكان مولعاً بالاستكثار، من نكاح البكار، وهو ذو حظٍّ من النسوان، وقَبولٍ عند الحِسان، أنشدني له في بعضهنّ:
جارةٌ قد أجارها الْ ... حُسْنُ من كلِّ جانب
فهي بين النساء كال ... بدر بين الكواكب
وأقام ببغداد حتى تبغدذ، وتمتع فيها وتلذّذ، وكان نظيفاً عفيفا، نظيفاً ظريفا، غلب على نظمه الإكثار، واستوى في نظمه الصُّفْر والنُّضار، قوّة إيراده وحسن إنشاده يُطَرِّقان بين يدي الضعيف من شعره، ويُنَفِّقان الزّيف من نظمه ونثره، وربما سمحت بديهته بما تضِنُّ به رَوِيَّة الفضلاء، من نوادر تبْهَر خواطر الشعراء، وتُفحِم شقاشق البلغاء. ومما أنشدنيه لنفسه ببغداذ سنة خمسين وخمسمائة بيتين في الطبقة العليا ، في ذم الدنيا وهما:
أُفُِّ للدُّنيا وأُفُّ ... كلُّ مَنْ فيها يلفُّ
مثلُ خيّاطٍ حريص ... كلّما شلَّ يكُفُّ
وآخران في وصف فرسٍ أدهم:
وأدهَمَ يستعيرُ الليلُ منه ... وتطلعُ بين عينيه الثَّريّا

إذا لاح الصباحُ يطير طيراً ... وتُطوى دونه الأفلاكُ طَيّا
وأنشد له من غزَلِ قصيدةٍ عمِلها في مدائح الإمام المقتفي لأمر الله رضي الله عنه:
يا ساهراً عبراتُه ذُرُفٌ ... في الخَدِّ إلاّ أنَّها علَقُ
أتُقيمُ بعدَهُمُ وقد رحلوا ... ومطيّتاك الشوقُ والقلق
وقال بديهاً وقد سمعني انشد بعض الأصدقاء قطعة سمعتها في الجرب من جملتها: دب في الجسم والتهب، فقطع علينا الإنشاد وأنشأ يقول:
دبَّ في الجسم والتهبْ ... فهو كالنار في الحطبْ
صِحْتُ من حَرِّ نارهِ ... صيحةَ السُّخط والغضب
مُتعِبٌ قلبيَ الجَرَبْ ... ومُطيلٌ ليَ النَّصَبْ
فمتى يأمُلُ الخَلا ... صَ مُعنّىً به تعِب
مطَرَتْ قلبَهُ الهمو ... مُ فأودت به السُّحُب
فهو ما فوق جسمه ... طافياتٌ من الحَبَب
وأنشدني أيضاً لنفسه:
ولمّا أصبح الوصلُ ... صحيحاً ما به داءُ
أتى الهَجرُ فلا سِينٌ ... ولا هاءٌ ولا لاءُ
ولا ميمُ ولا راءُ ... ولا حاءُ ولا باءُ
يعني أتى الهجر فلا سهلاً ولا مرحبا.
واحسن ما أنشدنيه لنفسه في وصف الشارب والخال والوجنة:
وشاربٍ مثل نصفِ الصاد صادَ به ... قلبي رشاً ثغرُه أنقى من البرَدِ
كأنَّما خالُه من فوق وجْنتِه ... سوادُ عينٍ بدا في حُمرَةِ الرَّمَدِ
وأنشدني لنفسه في تفاحةٍ ذات لونين حمرة وصفرة:
تفّاحةٌ ذكَّرني نصفُها ... خدَّ حبيبي حين قبَّلْتُهُ
ونصفُها الآخر شبَّهْتُه ... صفرةَ لوني حين ودَّعته
بنو المهنّا في المعرّة
قاضي معرة مصرين هو:
أبو محمد عبد القاهر بن علويّ بن المُهنّا
شابٌّ لقيتنه بحماة في شوال سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. وأنشدني لنفسه يخاطب قاضي حلب في نائبه وكاتبه:
لا عجَبٌ إن خرِبَ الشامُ أو ... أَقْوَتْ مَغانيه ولا غَرْو
قد أصبح المجدُ به حاكماً ... وأصبح المُنشي له ضَوْ
مولايَ مُحيي الدين، غيِّرهما ... عنّا فتَحْوى شُكرَنا أو
وأنشدني لنفسه، في المُعَمّى، في الدّواة:
وما أمٌّ يجامِعُها بنوها ... جِهاراً فهي حاملةٌ عقيمُ
ترى أولادَها فيها رُقوداً ... يُضَمُّ عليهم رحِمٌ رحيمُ
تُصانُ عن الغبيِّ الغمر ضَنّاً ... بها وينالُها النَّدبُ الكريمُ
ومما أنشدنيه أيضاً قوله:
وشادنٍ أهيَفَ عاتبتُه ... على تمادي الهَجر والصَّدِّ
فأرسل الدمع على خدِّهِ ... فكان كالطّلِّ على الورد
وقوله:
يلومني اللائم في الْ ... حُبِّ لعلّي أنتهي
وفي فؤادي حسرَةٌ ... لفَرطِ وجدي أنت هي
وقوله:
لا غروَ إن كنت ذا فقرٍ وآخرُ قد ... نالَ الأمانيَّ من مالٍ ومن ولدِ
فالجهلُ والمالُ ملزوزان في نمَطٍ ... والفضل والفقر مقرونان في صفدِ
وقوله:
لهَفي على مهفهفٍ ... يتيه دَلاًّ وصِبا
أصبحتُ بعدَ بينِه ... نِضواً كئيباً وصِبا
مال فؤادي في الهوى ... إليه عمداً وصَبا
يحنو عليه كلّما ... هبَّت جَنوب وصَبا
وقوله من أول قصيدة:
أَشاقَكَ رَبْعٌ بالعواصم ماحِلُ ... فدمعُكَ مسفوحٌ وجسمُكَ ناحِلُ
وجَفنُكَ مَقروحٌ وقلبك خافقٌ ... وصبرك مسلوبٌ وحالُكَ حائِلُ
وما ذاك إلاّ أنَّ سكان رامةٍ ... تولَّوا فأقوَتْ أَرْبُعٌ ومنازل
عمُّ أبيه:

أبو سلامة محمود بن علوي
ابن المهنا بن الفضل بن عبد القاهر بن الرشيد بن المهنا ذكره ابن ابن أخيه قاضي معرة مصرين، وذكر أنه كان تاجراً بحلب وتوفي سنة خمس وخمسمائة عن سبعين سنة ومن شعره في المعرة:
أنا من بلدةٍ قضى اللهُ يا صا ... ح عليها كما ترى بالخرابِ

قتلوا أهلها وبادوا جميعاً ... من شيوخٍ وصِبيةٍ وشَبابِ
وله في بني منقذ:
تَمَفْضَلْتُمُ يا بني مُنقذٍ ... وجهلُكمُ واضحٌ ظاهرُ
وأنكرتمُ فضلَنا في الورى ... وذلكُمُ بَيِّنٌ باهرُ
ومنّا البليغ ومنّا الرشيد ... ومنّا المرصّع والناظر
وهمْ فضلاء لهم في القريض ... يدٌ لا يطاولها شاعر
وحيث ذكر هؤلاء في شعره فنحن نورد لكل واحد منهم أبياتاً.
فمن شعر:
المرصَّع
وهو أبو المكارم الفضل بن عبد القاهر جد أبي سلامة قوله:
ليلي وليلى نفى نومي اختلافَهما ... بالطول والطَّوْلِ، يا طوبى لو اعتدلا
يجودُ بالطُّول ليلي كلما بَخِلَتْ ... بالطَّوْلِ ليلى وإن جادتْ به بَخِلا
وقوله في الناظر ابن أخيه:
يا ابن أخي إن أردت ظلمي ... وأَخْذَ مالي بغير حقِّ
صبرتُ، واللهُ ذو امتنانِ ... ما عاش خَلْقٌ بغير رزق
وقوله:
قلَّ الحفاظُ فذو العاهات في دَعَةٍ ... والشهمُ ذو الرأي يُرْزى في سلامتِه
كالقوسِ تُحفَظُ عمداً وهي مائلةٌ ... ويُبعَدُ السهمُ قصداً لاستقامته
وقوله في فاصد:
لم أَنْسَ دستَ حكيمٍ ... أبداه يوماً لفَصْدِ
ترى المباضع فيه ... قد نُضِّدَتْ أيَّ نَضْدِ
كمِثل أقلام تِبرٍ ... تُمَدُّ من لازَوَرْدِ

ومن شعر:
الناظر أبي نصر
المهنّا بن علي بن عبد القاهر
قوله:
جَرادٌ وأعاريبُ ... ورومٌ وأبو مُسلمْ
أيا ربِّ لك الحمدُ ... فأنت المُفْضل المنعمْ
وقوله في الشقائق:
كأنّ الشقائق والأُقْحوان ... خدودٌ تُقَبِّلُهُنَّ الثغورُ
فهاتيك أخجلَهُنَّ الحَيا ... وهاتيك أضحكهنَّ السرور
ومن شعر:
البليغ
وهو أبو الماجد أسعد بن علي، أخو الناظر، وكان من معاصري أبي العلاء بن سليمان.
قوله يرثي أبا المجد محمد بن عبد الله بن سليمان:
جليلٌ رزؤنا فيه جليلُ ... عليه لكل عايلةٌ عويلُ
فأكثِرْ ما استطعتَ الوَجدَ فيه ... ولا تُقْلِلْ، فمُشْبههُ قليلُ
أَضيقُ بحملِ هذا الخطب ذَرْعَاً ... على أني لك أسىً حَمول
ولو قُصِدَ التناصفُ كان أَوْلَى ... من العَبراتِ أرواحٌ تَسيل
ومنها:
إذا أعطَتك دنياكَ الأماني ... فقد أعطتك همّاً لا يزول
ومنها:
تقَضَّى العمر فيه وما تقضَّى ... عليه الوجدُ والحزن الطويل
ومن شعر:
أبي اليُمن الرشيد
بن علي بن المهنا
في القطايف:
شفاءُ نفسي لو به أُسْعِفَتْ ... قطايفٌ تَعْذُبَ في اللَّقْمِ
يشهدُ بالشَّهدِ لنا ظاهر ... وباطنٌ في اللون والطعم
كأنها الإسفَنجُ في مائه ... غريقةً في دُهنِها الجَمِّ
القطيط ويلقب أيضاً ب البديع
هو أبو الحسن علي بن محمد بن علي العبسي من معرة النعمان. كتب لي القاضي أبو اليسر الكاتب من شعره مما كتبه إلى جده القاضي أبي المجد محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان:
نداك، ابنَ عبد الله، ليس بمقتضي ... ومثلُك في اللَّزْبات مَن دفع الجُلَّى
وأَعتدُّ تقليدي لغيرك مِنّةً ... وإن هي حَلَّتْ منه في عُنقي غُلاّ
تعافُ سؤالَ الفرع نفسي نفاسةً ... إذا وجدتْ فيما تحاوله أصلا
ولا سيَّما العَضْب الذي منك جَرَّدتْ ... يدُ المجد، ما أَنْبَاه خَطبٌ ولا فلاَّ
أَعَمُّ الورى جُوداً وأمنعُهم حِمىً ... وأوفاهُمُ قَوْلاً وأحسنُهم فعلا
أبو سعيد يحيى بن سند
المعلم بالمعرة ذكر القاضي أبو اليسر أنه كان معلماً. وأنشدني من شعره هذه الأربعة أبيات وهي تُقرأ على سبعة أوزان:
جودي على المُسْتَهْتَر الصَبِّ الجَوِي ... وتعطفي بوصاله وترحّمي

ذا المبتلى المتفكرِ القلبِ الشجي ... ثم اكشِفي عن حاله لا تظلمي
وصلي ولا تستكبري ذنبي الدني ... وترأَّفي بالوالِه المُتَتَيِّمِ
يبدو القِلى بتغيُّرِ الحِبِّ الأبي ... المتلفي بكماله المُستَحكِمِ

أبو عبد الله بن واصل
كان من المعروفين لقيت يحيى ابن ابنه أبي سالم وكان نائب جمال الدين وزير الموصل بحلب في الأيام الأتابكية، ثم أقام بدمشق وتوفي بها، وابنه الآن مستوفي دمشق. وكان هذا، أبو عبد الله، معاصر أبي المجد جد أبي اليسر.
وأنشدني أبو اليسر لأبي عبد الله بن واصل في جده:
لا أَمْلَكَ اللهُ هذا الحكمَ غيرَكُمُ ... ولا انقضى من أبٍ إلاّ إلى ولدِ
ولا خَلَتْ منكمُ الدنيا فإنكمُ ... بني سليمانَ، منها الرُّوحُ في الجسدِ
الفيّاض بن جعفر
من أهل المعرة أنشدني القاضي تقي الدين أبو اليسر الكاتب للفياض من قصيدة في مرثية جد أبيه القاضي أبي محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان:
يا عاذلي أَقْصِرْ، عدمْتُك عاذلا ... فلقد غدوتَ بمن رُزِئْنا جاهلا
ومنها:
يا قاضياً ما زال في أحكامه ... كبني أبيه الغُرِّ بَرَّاً عادلا
لله أيُّ نهىً وأيُّ جلالةٍ ... أَوْدَعْتُ منكَ صفائحاً وجَنادلا
ومنها:
قاضٍ قضى الرحمن فيه أنّه ... مُذْ كان يحكم حكم عَدلٍ فاصلا
متواضعاً لله جلَّ ثناؤه ... وإن اعتدى للنَّيِّرَيْن مُطاوِلا
يُمضي اليراعَ عواملاً في كفه ... فيرُدُّ ماضيةَ الرماح عواطلا
ودُروج كُتْبٍ قد ثَنَيْنَ كَتائباً ... أَدْرَاجَها وقنابلاً وقبائلا
بذّالُ ما يحويه في طلبِ العُلى ... أيامَ يَغْدُو كلُّ خَلقٍ باخلا
ومنها:
من ذا يُجيب مَسائلَ الفقه التي ... ما غيرُه عنها يجيب السائلا
أبني سليمانَ الأكارم إنكمْ ... ما زِلتمُ للخائفين معاقِلا
سُدْتُمْ وساد جُدودكم فهناكم الرّ ... حمنُ عاجلَ فضلكم والآجلا
أبو المواهيب المعري
عبد المحسن بن صدقة بن عبد الله بن حديد من شعراء المعرة المعروفين، وعاش بعد سنة خمسمائة، ووقعت إليّ له قصيدة في مدح القاضي أبي علي عمار بن محمد بن عمار، بطرابلس، فخر الملك ذي السعدين يهنئه فيها بعيد الفطر سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وذلك قبل استيلاء الفرنج خذلهم الله عليها وهي نقلتها من خط ابن النقار الكاتب الدمشقي:
مُحِبٌّ من البَيْن المبرِّحِ مُشفِقُ ... يكاد من التفريق في النوم يَفْرَقُ
إذا سَجَعَتْ وُرْقُ الحمام خوالياً ... شَجاه وإن هَوَّمْن فهو مُؤَرَّق
وغيرُ عجيبٍ أن ينوح مُقَيَّدٌ ... إذا ما تغنّى في الأراك مُطوَّق
أَأَحبابَنا جُرْتُم مع البَيْنِ فاعدِلوا ... وجُزْتُمْ مدى هِجرانكم فَتَرَفَّقوا
ففيكم على طبع الجفاء نواعمٌ ... يُرِينَ لُباناتِ الهوى كيف تَعْلَق
سَدَلْنَ دُجى لَيْلِ الذّوائب واعتلت ... وجوهٌ بها مثل الأهلَّة تُشرقُ
فلا صبحَ إلاّ ما تنفّسَ مُسفِرٌ ... ولا ليلَ إلاّ ما يعسعسُ مَفرِقُ
ولا نارَ إلاّ ما تجُنُّ أَضالعي ... ولا ماء إلاّ دمعيَ المُترقرق
ولمياءِ أطرار الظلال، تمايلت ... علينا غصون بالنسيم وأَسْؤُقُ
تثنّى على شَدْو الحمام وإنَّها ... لتُصْبَحُ من كأس الجِمام وتُغْبَقُ
إذا ذَكَتِ الشِّعرى العَبورُ أَقالَنا ... بها الحَرَّ دوحٌ ممطِرُ الظِّلِّ مُورِقُ
لجأْنا إليها عائذين ببانِها ... وغدرانُها من تحتها تتدفّقُ
وقد رشفتنا الشمس حتى سيوفنا ... على وَقدها لم يبق فيهنَّ رونق

إذا ورَدَ الظمآنُ صلَّ بغِمده ... مَشوقاً إلى الماء الحسامُ المُذَلَّقُ
ولم يغنه شربٌ من الدم أحمرٌ ... وقد شاقه وِردٌ من الماء أزرق
ورُبَّ فلاةٍ جبتُها وهو مؤنسي ... وخَيفانَةٍ تجري مِراراً وتُعنِق
إذا سابقتها الرّيح شدَّت بأربعٍ ... فآلت وبَرَّت أنها ليس تُسبَق
قطوفٌ على جذب العِنان وإنَّها ... من السهم ما بين الخميسين أَمرق
وردتُ بها في الشام ماءَ معاشرٍ ... نداهم على وُسْعٍ من المال ضيِّق
مكارمهم وعدٌ ولا خيرَ خلفَها ... وودّهمُ المصنوعُ منهم تملُّق
تمخَّضَ لي بالوعد عاماً أَكُفُّهم ... وخلَّفتُها خلفي به وهي تُطلَقُ
يَمُنّونَ إن مَنَّوا ومَنُّوا بنَزره ... ولا خيرَ في طوقٍ من التبر يَخنُقُ
وظِلْتُ أُخَطِّيها البلادَ ودونَها ... طرابُلُسٌ حيث الأماني وجِلّق
ورجَّحتُ ما بين الملوك فمال بي ... رجاءٌ بذي السَّعدين أوفى وأوفق
مليكٌ به الآمالًُ ألقَتْ عصا النّوى ... فقرَّتْ وفي اوصافه المدح يصدُق
زجرْتُ به طيرَ المُنى فسَنَحْنَ لي ... وطائرُه الميمونُ فيها مُحلِّق
وعرَّضَ لي غيثٌ على الشَّيْم مُرعِدٌ ... من الشام ثجَّاجُ السحائب مُغدِق
توالى فلولا رحمةٌ منه أقلعَتْ ... لَخُيِّلَ أنّي فيه لا شكَّ أَغرَقُ
هو البحر إلاّ أنَّه غيرُ مالحٍ ... هو البدرُ إلاّ أنَّه ليس يُمْحِقُ
له خُلُقٌ كالرّوضِ حُسناً وبهجةً ... هي السيف بل أمضى، ورأيٌ موفَّق
ومن ذا الذي يستصعبُ الرزقَ بعدما ... درى أنَّ يُمناهُ عن الله تَرزُق
وَفَيْنَ الليالي خِيفةً عنه من فتىً ... يُصمِّم في أحداثها ويُطَبِّق
حمى الثَّغرَ من رشف المواضي فقد كفى ... تأَشُّبَ ما يحميه سورٌ وخندَق
لكم، آل عمّارٍ، على الجود مَسحَةٌ ... سحابُ النّدى فيها من التِّبر مُغدِقُ
مُساويكُمُ في الدهر طَولاً برغمه ... جَهولٌ بما فيكم من المجد أحمق
فلا تشكر الأقدارَ يا بنَ محمدٍ ... على الملك إنَّ الله فيك محقِّق
أَلاق عليٌّ شَمله وسما له ... به الدَّسْتُ إلاّ أنَّه بك أَلْيَق
فلا زلتَ فخرَ الملك، تؤمن خائفاً ... ويخشاك حسّاد ويرجوك مُملِق
وهُنِّيتَ داراً وطَّد السَّعدُ أُسَّها ... فصار إلى النّجم البناءُ المُوَثَّق
تقابل فيها الحُسن من كلِّ وِجهةٍ ... فأقطارُها من نور وجهكَ تُشرق
متمَّمَةُ الطّول الذي ليس يُرتَقى ... مُجدّدة السّعد الذي ليس يَخلُق
سمَتْ بك عن إيوان كسرى جلالةً ... فليس يدانيها على الأرض جَوسَق
ولا زلتَ تلقى العيدَ، جيشك وافرٌ ... به ولواء المجد فوقك يخفق
وقد رُفعتْ راياته فكأنّها ... مصوَّرةٌ، عن صدق بأسك تنطق
أَساودُها وثّابةٌ وأُسودها ... بِشَرْي مُجاجات الرّدى تتَمَطَّق
سواكن ما لم تقلَقِ الرّيحُ بُرهةً ... وتسكن فيها الريح طَوراً فتقلَق
فقل للعِدى آراؤه الدّهرُ فاحذروا ... سُطاه، ومن راياتِه الأُسْدُ فافرَقوا
فليثُ الشَّرى يُخشى على الأرض وَثْبُه ... فكيف به إن جاء وهو محلِّق
وقد رسَفَتْ في السّابِرِيِّ مَقودَةٌ ... تهادَى بها خيلٌ حوالَيكَ سُبَّق
تَخالَجُ في الأبصار حُسناً كأنّما ... تَجافيفُها الضافي عليهنَّ زِئبق

تَزِلُّ بناتُ الدّهر عن صفَحاته ... فليس به للحادثات تَعَلُّق
تَمطّى بها وَرْدٌ كُمَيْتٌ وأشهبٌ ... وأحمرُ وضّاحٌ وجَوْنٌ وأبلق
ولمّا كبَت عن شأْوِها الرّيحُ وكَّلوا ... بجامحِها مَقلاً عسى الريحُ تلحَق
المَقلَةُ حَصاةٌ تلقيها في الماء تعرف قدره وأظنُّها ثقلاً.
ولم يُعيِها ما حُمِّلَتْهُ كأنّها ... هِضاب أقلّت ما تحوك الخدَرْنَق
لكَ الله مولىً، حيث مجتَمع المُنى ... من الخَلق أضحى مالُك المُتفرِّق
فتحتَ يداً تُعطي الرّجاءَ ودونها ... كما شئت بابٌ دون قذعِك مُغلَق
ومن مَزّقتْ كفاه في الحمد مالَه ... فليس له بالذمِّ عِرضٌ مُمَزَّق
إليكَ مديحاً راحَ فيك، ونشرُه ... من الروض أذكى بل من الطّيب أعبق
أَسيرُ أياديك الجِسام مُقيَّدٌ ... عليك ثناءً وهو في الأرض مُطلَق
يَضوع به النادي نشيداً كأنّما ... صفاتُك فيه فأْرُ مِسكٍ تفتَّق
ويشدو به الحادي فيرتاح نحوه ... مُصيخاً إلى ذِكراك غربٌ ومشرق
وفيك أطاعتني القوافي كأنّها ... لمدحك تهوى أو لنظمي تعشق
وقد كسُدَت هذي البضاعةُ برهةً ... ولم تك إلاّ في زمانك تَنفُق
فلا قلَصَ الظلُّ الذي قد مددتَه ... ولا انجاب هذا البارقُ المتأَلِّق
وكان هذا الممدوح قد أمر بمدِّ مرَسٍ طويلٍ من أعلى داره الجديدة إلى ظاهر البلد وفيه هياكل من الوحش والخيل يتبع بعضها بعضاً على ما جرت به العادة من قبل في قلعة حلب في الميلاد وكان ذلك مقاماً مشهوداً ، ومن العجائب معدودا.
فقال يصف الحال ويمدحه:
لك أوَّلٌ وَجْداً ولي بك ثانِ ... يا رَبعُ بعدَ تحمُّل الأظعانِ
فامْزُجْ بلَدْنِ ثراكَ دمعي مُبدِياً ... لك منه نَوْرَ معالمٍ ومَغان
من أسودٍ جَوْنٍ وأصفرَ فاقعٍ ... من أبيضٍ يقَقٍ وأحمرَ قانِ
لو مسَّ تُربَك قبل مَنشَر آدمٍ ... لغدَوْتَ أوَّلَ نشأةِ الحيوان
لَيُساجِلَنَّ الغيثَ دمعي حِقبةً ... لأَعَزِّ صَحبٍ في أعزِّ مكان
يا لَلهوى كم لَجَّ فيه مُواصِلاً ... قلبي لِمَنْ قد لَجَّ في هِجراني
قرَنَ التّدَلُّلَ بالتّذَلُّلِ، والرِّضا ... بالسُّخط منه، وشِدَّةً بلَيان
شِبه الأُسود خلائقاً وبدائهاً ... للناس في خَلْقٍ من الغِزلان
فتراه يَحرُن بعد ما ينقاد لِلْ ... عُشّاق أو ينقادُ بعدَ حِرانِ
فكأنه أحوال إخواني به ... عند التقلُّب أو صروف زماني
يتخلَّقون الوُدَّ إلاّ أنَّهم ... خُلقوا من البغضاءِ والشَّنآن
قد أجلبوا غيظاً عليَّ ولم أُبَلْ ... بدراً طلعتُ لحاسدي فعواني
فهُمُ الكتابُ لبعضِ ما في طيِّهِ ... ما يُستدَلُّ عليه بالعنوان
ولقد أمِنتُهمُ بواحد عصره الط ... ائيّ في بذل السماح الثاني
خِفتُ الزّمان فمُذْ حلَلْتُ ببابه ... جاءت إليَّ صروفه بأمان
أبدى مناقبه لأُحسن وصفَها ... فكفيته وأنالني فكفاني
وثنى مكارمَه إليَّ ووجهَه ... فاقتادني بالحُسن والإحسان
وافى إلى هرِمٍ زهيرٌ وانتهت ... بالأخطل الدنيا إلى مروان
ولوِ ابنُ ثابت نال نيلي لم يَفُهْ ... بمدائح ابن الأيهم الغسّاني
ولقد غدوت أَعدُّ منه قرابةً ... مَتّ النبيُّ بها إلى سلمان
عزَّتْ طرابُلُسٌ فيالكِ بلدةً ... طالت بمالكها على البلدان
موجٌ بظاهرها وموجٌ باطنٌ ... سبحان مُحرزِها من الطّوفان

يا حسنَها في ليلةٍ راحتْ بها ... في الله وهي كثيرة النيران
ميلادُ مَن لم تشتهر أعمامُه ... لكن خُؤولته بنو عمران
هذا البيت يدلُّ على قلَّة دين قائله بل على المُروق منه فإن عيسى عليه السلام لم يكن له أب، وهو يقول لم تشتهر أعمامه.
والدارُ رابية البناء كأنما ... حَلَّ الوفود بها على كيوان
لاثوا بها مَرَساً وقد بَطِرَت بما ... نظرت به خوفاً من النَّزَوان
بذَّ الخيولُ بد الأُسودَ وأُدركتْ ... غِزلانه بكواسر العِقبان
وانقضَّ فارسه به فكأنّه ... نجمٌ يصوِّبُه على شيطان
يا منعماً آمنته من ذايمٍ ... حَمداً وآمَنني من الحِرمان
لو كان ما أُثني عليك بقدر ما ... أوْلَيْتَني لمَدَحْتُ بالقرآن
لكنني في وصف فضلك باقلٌ ... وأَزيد عند سواك عن سَحبان
يَفديك قومٌ ضاع شِعري فيهمُ ... وغدوتُ جارَهُمُ فضاع زماني
أزرى بفضلي نقصُه إذ لم أكن ... كُفؤاً له ومدحتُه فهجاني
أنتَ الّذي أَعذبتَ وِرْدَ مطالبي ... وأطلت في أمد الرّجاء عِناني
أَنْسَتْ طرابُلُسٌ بما أوليتَ لِلْ ... مملوك طيب معرَّة النُّعمان
ومن شعر:
مواهيب بن حديد المعرّي
هذي الخميلةُ للربيع المُونِقِ ... من وَشْيِ ذاك البارق المُتأَلِّق
ومنها:
والشِّعر مثل الشَّعر يُسعدُ أَسْوداً ... فإذا تبيَّضَ عاد بالحظِّ الشّقي
في كلِّ يومٍ للقوافي عَثْرَةٌ ... يَشْقى بها حظّي وخِجْلَةُ مُطرق
أُسقى الثِّماد، وليتني مع قِلَّةٍ ... فيه بأول نهلةٍ لم أَشْرَق
ومنها:
وتلفَّتتْ بغدادُ ترجو مَقدَمي ... فِعلَ المُحبِّ إلى الحبيب الشَّيِّق
فصرفتها شوقاً إلى ذي جبلَةٍ ... وتركت كلّ مُلوك أهل المشرق
وجعلت أنتقد الكرام وأصطفي ... ملكاً يليق به المديح وأنتقي
فحللت بالمتبرِّع المُتطوِّل الْ ... هَطِل الجواد الماجد المتحلق
جُمعَت محاسنُه إلى إحسانه ... فتأَلَّفَتْ فيه ولم تتفرَّق
طبعاً بغير تطبُّعٍ، صُنعاً بغيْ ... رِ تصنُّعٍ، خُلْقاً بغير تخلُّق
فَتَكاتُه بنواله في ماله ... فتكاته يوم الوغى في الفيلَق
الطَّلقُ وجهاً، والفوارسُ تدَّعي ... والثَّبْتُ جأْشاً، والمواكبُ تلتقي
غَمْرُ المطاعم، والسحاب بخيلةٌ ... فسحُ المطاعن في المجال الضيِّق
ترك الملوك له الشجاعةَ والنَّدى ... رغماً لأدْرَبَ بالأُمور وأَحْذَق
فاحْلُلْ به يَفضِل، وسَلْ يفصِلْ، وقل ... يسمع، وصِفْهُ على غُلُوِّكَ تَصْدق
واجلِبْ إذا نزل الملوكُ محامداً ... كَسُدَت إلى سوق المُقَدَّم تَنفُق
ومتى عداك الرزق فاسأل فَضْلَ مَن ... أجراه من كفِّ المُفضّل، تُرزق
فتحَ الرّجاءُ لكلِّ حاجب حاجةٍ ... من عند بابكَ كلَّ بابٍ مُغلَق
فأَصِخْ بسمعكَ نحو روضِ سجيَّةٍ ... من راحتيك وزهرةٍ من منطقي
مدْحٌ سرى في الأرضِ وهو مُقيَّدٌ ... بك وصفُه، يا لَلأَسير المطلقِ
وسمعت أنه كان كثير التخليط، مائلاً إلى جانبي الإفراط والتفريط، أوضَع في تلف نفسه عَنَقَه، فضرب بعض ملوك اليمن عُنُقَه.

أبو الحسن علي بن جعفر
بن الحسن بن البوين
من أهل المعرّة ذكره لي الأمير مؤيد الدولة أسامة بن منقذ وقال: كان يخدم جدّي، ثم انتقل إلى مصر وكتب إلى والدي قصيدةً، وكتب والدي إليه في جوابها قصيدةً. وأنشدني الأمير أسامة لابن البوين:
ليلُ الشباب يُغطِّي كلَّ سيِّئةٍ ... فاحذر نهار مَشيبٍ كاشف الرِّيَب

إيّاك أن تصبحَ الأيّامُ تاليةً ... من سوء فعلك ما يبقى على الحقب
وذكره أبو الصلت أمية بن عبد العزيز في رسالة له وقال: لمْ يُقبِل الأفضل على أحد من الشعراء كإقباله على رجل من أهل معرة النعمان يُدعى أبا الحسن علي بن جعفر بن البوين، فإنَّه أفاض عليه سحائب إحسانه، وادرَّ عليه حَلوبَةَ إنعامه، ولقبه بأمين الملك وأدناه واستخلصه، ولم يكن شعره هناك بل متكَلَّفاً، ولست أعرف أحداً من أهل تلك البلاد يروي له بيتاً واحداً فما فوقه لمنافرة الطِّباع كلامه، ونُبوّ الأسماع عن طريقته. فأمره الأفضل يوماً أن يصف مجلساً عُبِّيت فيه فواكه ورياحين، فقال من مزدوَجَةٍ طويلةٍ يصف الأُتْرُجّ المُصَبَّع:
كأنّما أُتْرُجُّه المُصبَّعُ ... أيدي جُناةٍ من زُنودٍ تقطَعُ
فغلِطَ ولم يفطَن وأساءَ أدبه ولم يشعر، لأنَّه قصد مدح الأُترجِّ فقفَّزَ نفس الملك منه، وصرفها عنه، ولو قصد ذمَّه لما زاد على ما وصفه من الأيدي المقطوعة من زنودها. والبليغ الحاذق من إذا وصف شيئاً أعطاه حقَّه، ووفّاه شرطَه، ووصفه بما يناسبه في حالتي مدحه وذمِّه، ووضع كل شيءٍ مكانه من نثره ونظمه.
وأين هذا الشاعر في أدبه ومعرفته بالصناعة وفطنته من أبي علي حسن بن رشيق حين أمره المُعزّ بن باديس بوصف أُترُجَّةٍ مُصبَّعةً كانت بين يديه فقال على البديهة:
أُتْرُجَّةٌ سَبْطَةُ الأطراف ناعمةٌ ... تلقى العيونَ بحسنٍ غير مبخوس
كأنَّما بسطت كَفّاً لخالقِها ... تدعو بطول بقاءٍ لابن باديس
ومن شعر ابن البوين قوله:
يا من تنافَسَ فيه السمعُ والبصرُ ... كما تغاير فيه الشمس والقمر
ومَن تحكَّم في الأرواح فاحتكمت ... أن لا يُحكَّم فيها بعده بشر
وقوله:
مَنْ لا يُجازي على الإحسان مادحَه ... لم يخشَ هاجيه منه خِجلَةَ النّدم
إن كنتُ قد جُرتُ في المدح المُعارِ فقد ... عدلْتُ في الهَجو إباءً على الكرم
وابتعت كتباً من خزانة القصر بالقاهرة فوجدت مكتوباً بخط ابن البوين على بعضها ما ذَكر أنّه له فمن ذلك قوله:
الكاتبين بأقلام السيوف على ... هام العِدى أسطُراً يَحْمِدْنَ مَنْ سطَرا
الناقطين بخُرصان الذَّوابل مِن ... حروف ما زَبروا ما تُخجِل الزُّبُرا
وقوله:
فيم التنافسُ والحياةُ ذميمةٌ ... والدهر في صدق المواعد مائنُ
عُدِمَ البقاءُ وعيشةٌ مَرضِيَّةٌ ... وسلامةٌ من سوء ما هو كائن
لا تأْسَ إن منعتْكَ دَرَّةَ ثديها ... وجفَتْكَ، فالمغبون فيها غابن

السابق المعري
أبو اليمن بن أبي مهزول
هو قريب العهد، داني العصر، سافر إلى العراق في زمان ابن جهير، واجتمع بابن الهبارية، وأحسن ما سمعت له قوله في الهجو، أنشدنيه غير واحد:
إليَّ أرسلْتَ مقالَ الخَنا ... ستحرق النارُ فمَ النّافخ
أقدمْتَ يا أوقحَ مِنْ أَيِّلٍ ... على ابتلاع الأرقم السّالخ
يا حلقة الخاتَم يا إبرةَ الْ ... خيَّاطِ يا مِحبرَةَ الناسخ
وأنشدني القاضي أبو اليسر الكاتب له بيتين في مرثية عم أبيه وادع من قصيدة:
أبا مسلِمٍ لا زلتَ منّا على ذِكْرٍ ... ولا درسَتْ آياتُ عَلياك في الدهر
وكنّا نُعِدُّ الصبرَ للخطب يعتري ... إلى أن أُصِبنا عند يومك بالصبر
وله في غلام ينظر في مرآة:
وظبيٍ قابل المرآةَ زَهواً ... فأحرق بالصّبابة كلَّ نفس
وليس من العجائب أن تأَتَّى ... حريقٌ بين مرآةٍ وشمس
وقوله وقد سافر إلى خراسان:
قالوا تزوَّجْ بأرضٍ مَرْوٍ ... تعيشُ في غِبطةٍ وخير
قلتُ صدقتم بأيِّ مالٍ ... أعيش فيها وأيِّ أَيْرِ
وقال يهجو ابن البوين الشاعر:
شعر البويني له روعةٌ ... ليس لها في النَّقد محصول
مثلُ حِبال الشمس ممدودةً ... ما فاتها عَرْضٌ ولا طول
أبو المُعافى بن المُهذَّب
هو سالم بن عبد الجبار بن محمد بن المهذَّب

بنو المهذب كانوا في المعرة ذوي الفضل المُذْهَب، والمذهب المُهذَّب، وهذا أبو المُعافى كان في عصر مسلم بن قريش وهو أمير حلب فقال فيه:
أَمُسلِمُ لا سُلِّمْتَ من جاذب الرَّدى ... تَخِذْتَ وزيراً ما شددْتَ به أزرا
كسَبت، ولم تربح، بحرب ابن مُنقذٍ ... من الله والناس المذمَّة والوِزرا
فمُتْ كمداً بالجسر لستَ بجاسرٍ ... عليه وعايِنْ شيزراً أبداً شَزْرا
فقال شرف الدولة مسلم لما سمع: مَن هذا الرجل؟ فقالوا: من أهل المعرة رعيتك فقال: أَوْصوا به الوالي ليُحسن إليه، وحذِّروه أن يجني عليه. فهذا ما يعرفنا ولو لم تكن له شكاية من والينا لما قال هذا.
وله في الخِيريّ:
أُنظر إلى الخِيريّ ما بيننا ... مُقمَّصاً بالطَّلِّ قمصانا
كأنما صاغته أيدي الحَيا ... من أحمر الياقوت صُلبانا
وله يصف الوباء والإفرنج بالشام:
ولقد حلَلتُ من الشآم ببُقعةٍ ... أَعْذِرْ بساكن ربعها المسكينِ
وُبْئَتْ وجاورَها العدوُّ فأَهلُها ... شهداءُ بين الطّعن والطاعون

حلب
حَمَاد الخرّاط
هو حماد بن منصور البُزاعيّ وبِزاعا بين حلب ومنبج، ليس بالشام في عصرنا هذا مثله رِقّةَ شِعرٍ وسلاسةَ نظمٍ، وسهولة عبارة ولفظ، ولطافة معنى، وحلاوة مَغزى، بأُسلوبٍ سالبٍ للُّبِّ، خالبٍ للخِلْبِ، وصنعةٍ عاريةٍ من التكلُّف، نائيةٍ من التعسُّف، تترنَّح له أعطاف السامعين، وتُنبِع رِقَّته في رياض اللطف الماء المَعين،. لمّا كنت بحلب وعند تردّدي إليها في عهد نور الدين، سقى الله ثراه عِهاد الرحمة مازلت أسمع من شعره ما يزيدني طرَباً، ويفيدني عُجْباً به وعَجَبا.
ومن جملة ما علقته من شعر حماد، وهو يُحيي كلَّ جماد، قوله:
مَنْ لعليل الفؤاد مَحزونِ ... مُتيَّمٍ بالمِلاحِ مَفتون
نافسَ مجنونَ عامرٍ بهوىً ... يُعَدُّ فيه بألف مجنون
غرَّر بالنفس في هوى قمرٍ ... بائعها فيه غير مغبون
لَدْنِ مَهَزِّ الأعطاف يخطِر كالْ ... قضيب في دِقةٍ وفي لين
جوّال عقد النِّطاقِ يجذبه ... نقاً، نبا عن أديم يَبرين
يكسر بالوعد لي ممرَّضَةً ... تميتُني تارةً وتُحييني
كأنما شامَ من لواحظها ... غِرارَ صافي المَتْنَينِ مَسنون
يأمنُ قلبي على هواهُ وإنْ ... كان على القلب غيرَ مأْمون
أقولُ للنفسِ إذ تَعَزَّزُ بالْ ... جمال عِزِّي إن شئتِ أو هوني
لا صبرَ لا صبر عن محبَّة مَنْ ... أُطيعه في الهوى ويَعصيني
يُسخطُني بالجفا فأَلحَظُ مِنْ ... سُخطي رِضاه به فيُرضيني
وله:
أما أنْباكَ طيفُك إذْ أَلَمّا ... بأَني لم أَذُقْ للنوم طَعما
تؤَرِّقُني وتبعثُ لي خيالاً ... لقد أوسعتَ بالإنصاف ظُلما
ولم تسمحْ به سِنةٌ ولكنْ ... يمثّله لقلبي الشَّوْقُ وَهما
فدَتْكَ النَّفسُ كم هذا التجنّي ... وفيمَ تصُدُّ مُجتنباً ومِمّا
وحَقِّ هواك ما أذنبتُ ذنباً ... فتهجُرَني، ولا أجرمتُ جُرما
ألا يا مالكي في الحبّ عِشْقاً ... حكمتَ فمن يردّ عليك حُكما
أذَلَّني الهوى لك بعد عِزّي ... وقادَتْني لك الأشواق رغْما
فلا واللهِ ما أضمرتُ صبراً ... ولا والله ما أزمعت صُرْما
ولا راجعتُ في الهِجران رَأْيَاً ... ولا أَمْضَيْتُ في السُّلوان عَزْمَا
لِعَيْنِكَ ما أسأل العينَ دمعاً ... وجسمِك ما أذاب الجسمَ سُقْما
وله:
أفي اليوم يا بَيْنَ الحبيبِ أمِ الغدِ ... يُحَقُّ وعيدي أم يُقَرَّب مَوْعِدي
أرى عِيسَ مَن أهواهُ تُحْدَج للنَّوى ... بعينِ ضعيف الصبر واهي التجَلُّدِ
فيا لفؤادي من غرامٍ مُجَمَّعٍ ... ويا لَجفوني من مَنامٍ مُبَدَّدِ

ومهزوزةِ الأعطاف مال بها الهوى ... إليَّ مَميلَ الريحِ بالغصنِ النَّدي
تُوَدِّعني والطَّرْفُ للطَّرْف باذِلٌ ... لطائفَ لم تسمح بها اليدُ لليدِ
تقولُ وسِلْكُ الدمعِ ينثرُه البُكا ... على صَحْنِ مَطلولِ الأديم مُوَرَّد
وقد زَحزحتْ ياقوتَتَيْن أضَلَّتا ... شَتيتَ أَقاحٍ كالجُمانِ المُنَضَّد
تَوَقَّ بعهدي وارْعَهُ إنها نوىً ... لها أمَدٌ في جَرْيِها وكأنْ قَدِ
فللهِ ما قالتْ وولَّتْ لو أنَّه ... يَبُلُّ ويَشْفي غُلَّةَ الهائم الصَّدِي
قفي واسْعدينا يا سُعاد ونَوِّلي ... قليلاً وإنْ لم يُجْدِ نفعاً وزوِّدي
وله:
توَلَّعي يا نَسَمَاتِ نَجْدِ ... بالشِّيحِ في ذاك الحِمى والرَّنْدِ
لعلّ رَيّاكِ إذا ما نَفَحَتْ ... تعودُ حَرَّ لَوْعَتي ببَرْد
أصبو إلى ريح الصبا لو أنها ... تُهدي حديث الحيِّ فيما تُهْدي
أسألُها هل صافحتْ مَواقِفاً ... أَوَدُّ لو صافحتُها بخَدّي
أشتاق تقبيلَ ثَراها كلّما ... هاجَ اشتياقي واستطار وَجْدِي
أَستودِعُ اللهَ بها قلبي فقد ... طال به بعد الفِراق عَهْدِي
كان معي قبلَ رحيلي عنهمُ ... ثم رحلتُ وأقام بعدي
يا قمري متى تلوحُ طالعاً ... تُطْفي بماءِ الوَصْلِ نارَ الصَّدِّ
لَهْفِي على زمانِ قُرْبٍ ما وفى ... بما أُلاقي من زمانِ البُعدِ
أبكي ويبكي رحمةً لي مَعْشَرٌ ... ما عندهم منَ الهوى ما عندي
تجَمَّعوا فيكَ على الحبِّ معي ... لكنني كنتُ المُعَنَّى وَحْدِي
ويلاهُ من شوقٍ تبيتُ نارُه ... تَشُبُّ بين أَضْلُعي وجِلْدي
ومن غليلٍ في الفؤادِ كلّما ... ذكرتُ في حُبِّك صَفْوَ وِرْدي
يا بَيْنُ أنجزتَ وعيدي فمتى ... تُنجِزُ أيام اللقاءِ وَعْدِي
ولائمٍ عنَّفني وما درى ... أنّ ضلالي في هواك رُشْدي
قلتُ له دعني فلا وحقِّه ... لا حُلْتُ عن نُصحي له وودّي
أول من نظم على هذا الأسلوب ابن المعلم من بلد واسط في كلمته التي أولها:
تنَبَّهي يا عَذَبَاتِ الرَّنْدِ ... كم ذا الكرى هَبَّ نسيمُ نجدِ
وقد أوردتُ ذلك في أشعار الواسطيّين.
وقال حمّاد الخراط:
تذكَّر بالحمى عهداً فحنّا ... وأظهر من هواه ما أجنّا
ولاح له على هضَبات نجدٍ ... بريقٌ يخطَفُ الأبصار وهْنا
تعرَّضَ والعواذل هاجعاتٌ ... ولم يطْرُق له التغميضُ جَفنا
فأنَّ صبابةً ولو أنَّ رضوى ... تحمَّلَ بعضَ لوعته لأنّا
أهاتفةَ الأراكِ بكَيتِ شَجْواً ... لِوَشْكِ البين أم رجَّعْتِ لحنا
دعيني والبكاءَ فلستِ منّي ... وإن هَيَّجْتِ لي شوقاً وحُزنا
وما مَن ناحَ عن ثكلٍ وفَقدٍ ... كمن أوفى على فنَنٍ فغنّى
كلانا يا حمامةُ، حينَ تَبلى ... سرائرُ حبِّه، الصَبُّ المُعَنّى
نسيمَ الريحِ هل راوَحْتَ سهلاً ... لذاكَ الجَوِّ أم غاديْتَ حَزْنا
أعِدْ نفحاتِ أنفاسِ الخُزامى ... لتنشُرَ ما طواه البينُ عنّا
منىً ليَ أن أَسُفَّ شذاهُ غَضّاً ... لو انَّ المرءَ يُدرِكُ ما تمنّى
وأن أُحْبى بِرَيّا البان إمّا ... ترنَّحَ في هبوبك أو تثنّى
بحقِّكِ هل مسحتِ كثيبَ رملٍ ... على العلَمَيْن أم جاذَبْتَ غُصنا
ألا لله أيّامٌ تقضَّتْ ... به ما كان أعذبَها وأهنا
أراني كلّما أبديتُ فنّاً ... من الذِّكرى أجَدَّ لشوقُ فَنّا
سقى تلكَ العهودَ عِهادُ دَمْعٍ ... يجودُ لها إذا ما الغيثُ ضَنّا

وقال:
بدْرٌ بدا للعيونِ تَرمُقُه ... يرشُقها لحظُه وترشِقُه
طالعَنا والقلوبُ مغربُهُ ... عَلاقةً والجيوبُ مَشرِقُه
تيَّمني شكلُه وقامتُه ... وصادني قُرطُه وقَرْطَقُه
ثناه دَلُّ الصِّبا فأَرَّقَني ... قضيبُ بانٍ يهتزُّ مُورِقُه
يشكو كما أشتكي مؤَزَّرُه ... إذا تلوّى به مُمَنْطَقُه
يفترُّ عن لؤلؤٍ يُنظِّمُه ... لناظري ثغرُه ومَنطِقُه
أقولُ والقلبُ مُغرمٌ بهوىً ... تلذعُه نارُه وتَحرقُه
مولاي مولايَ ذا الأسير أما ... تَفُكُّه بالرِّضى وتُطلِقُه
وإنَّه العبدُ ليس يملكُه ... غيرُ رحيمٍ، بالوصل يعتقُه
يا باخلاً ما يكادُ يسمحُ لل ... صّبِّ ولا بالخيال يطرقه
لا روَّع الله مَن يُرَوِّع بالصّ ... دود قلبي عمداً ويُقلقه
وأصلحَ الله غادراً أبداً ... يكذبُني في الهوى وأصْدُقُه
وقال:
فديْتُ بدراً في القلب مطلعُه ... يسير فيه وليس يقطعُه
أنزله الحُبُّ منه مَنزلةً ... زعزعَ منه ما لا يزعزعُه
ما ضرَّه، لا عدِمْتُ سطوتَه ... لو رقَّ ممّا ينال موضعه
ضنَّ ببعض الرِّضى على كَلِفٍ ... لولا هواه المصون أجمَعُه
مولاي أسرفتَ في تحَيُّن مَن ... يعطيكَ ما عنده وتمنعه
شفيعُه ذلُّه إليك إذا ... أعزَّكَ الحُسْنُ لو تُشَفِّعُه
أما ترى ما تقولُ شاكيةً ... إليكَ أنفاسُه وأدمعُه
حسبُك بادي شحوبه خَبَراً ... عن بعض ما تحتويه أضلعُه
بالله راجعْ جميلَ رأيكَ في ... وِداد خِلٍّ إليكَ مرجعُه
ولا تُضِعْ عهدَ ذي محافظةٍ ... فأظلمُ الناس مَن يضيِّعُه
وقال:
ألا هل لماضي العيشِ عندكِ مرجِع ... وهل فيه بعد اليأس للصَّبِّ مطمَعُ
لقد أُولِعَتْ بالصَّدِّ عنّي وإنَّني ... لفُرقتها، ما عشتُ، بالوجْدِ مُولَعُ
أُضاحِكُ حُسّادي فيغلبُني البُكا ... وأكتُم عُوّادي وإنّي لمُوجَع
إذا خطرت من ذكرها ليَ خطْرَةٌ ... تكاد لها أنياطُ قلبي تقطَّع
وقال:
عاقرَني لحْظُ عينِه السِّحْرا ... حتّى تطفَّحْتُ بالهوى سُكْرا
ومال نشوانَ غيرَ مُحتشِمٍ ... والرّاحُ قد سوَّلَتْ له أمرا
فملتُ حتّى الصّباح معتنِقاً ... منه قضيباً، مقبِّلاً بَدرا
إذا تناولْتُ من مراشِفِه ... كأْساً سقاني بلحظِه أُخرى
كان وِصالي نَذراً عليه فقد ... جادَ ووفّى، فديْتُه، النَّذْرا
يا مَن دعاني إلى الغرام به ... لبَّيكَ أَلْفاً في الحبِّ لا عَشرا
جئتُكَ طَوعاً فاعصِ المَلامَ وصِلْ ... فيه بنا الوصلَ واهجَرِ الهَجرا
ليتكِ يا ليلةَ السّرور به ... بُدِّلْتِ في كلِّ ساعةٍ دهرا
وباخِلٍ جادتِ المُدام به ... فبِتُّ أُولي مذمومَها شُكرا
لمّا أباحتْ سُلافَ رَبقتِه ... وصرَّفَتْني في صِرفها جَهرا
غنَّيْتُ أُدني لوائمي طرباً ... حَلَّت ليَ الخمرُ فاسقني الخمرا
زِدْ، عَمرَك الله، من مُجاجتها ... ولا تراقب زَيداً ولا عَمرا
طالعْ معي دَنَّها تَجِدْ عجباً ... ليلةَ بينٍ قد أطلعَتْ فجرا
وابتدرَتْ للغروب أنجمُها ... نحو فُرادى بدُورِنا تَتْرى
يا حبَّذا والكؤوسُ دائرةٌ ... أجسامُ ثلجٍ تقاذفَتْ جَمرا
ترى اليواقيتَ من مُشَعْشَعِها ... قد كُلِّلَتْ من حَبابها شَذْرا

فاشرب على مَن تُحِبُّ مِن زَهَرِ الْ ... حُسْنِ وناوِلْ أحبابَكَ الزَّهرا
واعْتَضْ عن الوَرد وَجْنَةً وعنِ الْ ... مِسْكِ لِثاثٍ تضوَّعَتْ نَشرا
هاكَ بديلاً عن كلِّ نَرجِسَةٍ ... عيناً وعن أُقحوانةٍ ثَغرا
فالعمْرُ يوماً إذا ظفِرْتَ به ... فلا تُضَيِّعْ بتركِه العُمرا
نِعمَ شعارُ الفتى السّرور فإنْ ... عدِمتَه فانتجِعْ له الشِّعرى
واستمطرِ الجودَ من أبي الحَسَنِ الْ ... ماجد واسأَلْ سماءَه القَطرا
يغشاكَ بحرٌ إذا تبجَّسَ بالنّ ... والِ والبِرِّ أخجلَ البحرا
إيه عليّاً شِدِ العلاءَ بما ... تحوي به في زمانك الفخرا
وانهضْ إلى المجد نهضةً تثمِرُ الْ ... حَمدَ وتُبقي الثّناءَ والذِّكْرا
فلا ترعْكَ الصِّعابُ واسْعَ لها ... بجِدِّ عزمٍ يُسَهِّلُ الوَعرا
فربَّ ذي همَّةٍ ينال بها ... على ثنائي مَنالةَ اليُسرا
وما المعالي وَقفٌ على وَرِمٍ ... يَعقِدُ للتّيه أنفَه كِبرا
بشرى لعبدٍ يلقاكَ عائده ... بوجه سَفرٍ منوّرٍ بِشرا
عَرفُكَ أزكى وأنت أطهرُ أخْ ... لاقاً وأعلى بينَ الورى قَدرا
تهَنَّ واسلَمْ وابسط لشاكرِكَ الْ ... مُقِرِّ بالعجز دونه العُذرا
وله:
ما لثناياكَ وللخمر ... وما لأجفانكَ والسِّحْر
تريدُ أنْ تقتلَني كان ما ... تريدُ أو تبلُغَ بي شكري
يكفيك أنّي من ضلال الهوى ... لا أعرف العرفَ من النُّكْر
ليتَك تدري أنّني بالذي ... ينال قلبي منك لا أدري
عوَّدْتني الصَّبرَ ، وصدقُ الهوى ... يحكم بالتسليم والصّبر
وها أنا أحملُ ثِقلَ الهوى ... فيكَ على المَقصوف من ظهري
أُقسم يا مولاي حقّاً بمَن ... ملَّكَ سلطان الهوى أمري
لم ترَ أبهى منك عيني ولا ... أسكنتُ أحلى منك في صدري
فدَيْتُ من لو قابل البدرَ في ... تمامه أوفى على البدر
ولو مشى والغصنَ في روضةٍ ... كان على قامته يُزري
مُرْتَدَفُ الرِّدْفِ إذا ما انْثَنَتْ ... أعطافُه، مختصَرُ الخصر
وله:
فدَيتُ أميراً له حاجِبٌ ... يُفَوِّقُ عن قوسه أسهُما
يصيدُ النّفوسَ إذا ما رَنا ... ويُصمي القلوبَ إذا ما رمى
أغارَ على سَرْحِ ألبابِنا ... فصيَّره للهوى مغنَما
إذا هزَّ من قدِّه صَعْدَةً ... وأشْرع من لحظه لَهْذَما
دعوتُ الأمانَ، ومَنْ لي به ... إذا جيشُ بهجته صَمّما
تعلَّقْتُه من بني التُّركِ لا ... يَرِقُّ لتَركي به مُغرَما
خلعتُ عِذارِيَ في حبِّه ... فلستُ أُبالي بمَن أو بما
فمالي أُجَمْجِمُ زُورَ الحديث ... ووَيلي على رَشف ذاك اللَّمى
فما ذقتُ لا وحياة الحبيب ... ألذَّ وأعذب منه فما
إذا ما تأَمَّلْتَني باكياً ... فقل قد تذكرُه مَبسِما
ومثَّل باردَ ذاكَ الرُّضاب ... على ما به نحوه من ظما
أيا قمرَ الأرض أخجلتَ في ... تمامكَ والحسنِ بدرَ السّما
وأشبهْتَه في النّوى والبعاد ... فقل أهيمُ بمَن منكما
وله:
مرحباً مرحباً بوجْ ... هِكَ يا بدْرُ مرحبا
ما أَلذَّ العذاب في ... كَ وأحلى وأَعذبا
إنَّ لي في هواك يا ... قمرَ الأرض مذهَبا
أشتهي أنْ أُلامَ في ... كَ وأُلْحَى وأُعْتَبا
ليَرُدَّ اسمَكَ العَذو ... لُ إليَّ المُحبَّبا

يا قضيباً تهزُّه ... نشوةُ الدَّلِّ والصِبا
كلّما ماسَ في الغِلا ... لة واهتزَّ في القِبا
استُخِفَّتْ له القلو ... بُ وحُلَّتْ له الحُبا
وله:
اللهُ للجائرينَ جارُ ... أين استقلّوا وأين ساروا
لا أَوْحشَتْ منهمُ المغاني ... ولا خلتْ منهمُ الديارُ
قومٌ بعُدْنا على التّداني ... منهم فلم ينفعِ المَزار
فِداهُمُ قلبيَ المُعَنّى ... بهم وأحشائيَ الحِرار
وظالمٍ ليس لي عليه ... بحكم عِشقي له انتصارُ
ما لأَميرٍ سوى هَواهُ ... على قلوب الهوى اقتِدارُ
وله:
يا لَقلبي لِمَريضٍ ... في الهوى ليس يُعادُ
وقتيلٍ بالعيونِ النُّجْ ... لِ فيه لا يُقاد
يا مُرادَ النّفس لو ت ... مُّ لِمَعشوقٍ مُرادُ
في سبيل الحب بذلُ ال ... نَّفس فيكم والجِهادُ
صادني منكم غزالٌ ... نافرٌ ليس يُصادُ
بين أحشائي له مرْ ... عىً فسيحٌ ومَراد
دارَه القلبُ على النّأ ... يِ ومأْواهُ الفؤادُ
وله الحبُّ على ما ... كان منه والوِدادُ
لا تقولوا لي تقاضا ... هُ دُنُوٌّ أو بِعادُ
كلُّ حسْنٍ وهَوىً من ... هُ ومنِّي مُستَفاد
فمتى أصحو وغَيُّ الْ ... حُبِّ في عيني رشاد
وسماع اللَّوم قدْحٌ ... وهوى النَّفس زِنادُ
هذه وَقدَةُ نارٍ ... ما لأقصاها رماد
وله:
نَمْ هنيئاً لكَ محبوبُ الكرى ... إنَّ طرفي فيك يهوى السَّهَرا
حبَّذا يا بدرُ ليلٌ بِتُّه ... فيك حتى الصبح أرعى القمرا
طالَ بالهجر وقد كان الذي ... أشتكي في الوصل منه القِصَرا
ليلُ يا ليلُ فقدْنا جُملةً ... أنا محبوبي وأنت السَّحَرا
فعسى تأْخُذُ أَو آخُذُ عن ... ذاك أو هذا بحقٍّ خبَرا
عجباً لي أتركُ العينَ، وقد ... عزمَ البينُ، وأقفو الأثَرا
بيدي أطلقتُ قلبي من يدي ... حيثُ لم أسْرِ بجسمي إذْ سَرى
أَتَّقي الغَيرانَ في صحبته ... وأُحاشى درَكاً أو خَطَرا
كذَبَتْكَ النَّفسُ ما العاشِقُ مَنْ ... يتحامى في هواه الضَّررا
ينظرُ الآراءَ مختاراً وهل ... صدقَ الحبُّ فأبقى نظرا
يَطرُقُ الشّهرةَ في الحبِّ وما الْ ... تَذَّ صَبٌّ لمْ يرُحْ مُشتهِرا
وعلى رِسلِكَ في كتمانه ... إنَّ ما أَخفيتَهُ قد ظهرا
وله من أُخرى:
صافِحْ بصدرِ العيسِ صدرَ النهارْ ... وانهضْ مع الشمسِ لشمسِ العُقارْ
حَيِّ بها وجهَ الربيع الذي ... من جوهر الزَّهْر عليه نِثار
وقال:
يا قمري تَعْلَمُ مَن ... أصبحَ فيكَ مُمْتَحَنْ
يا صَنَمَ الحُسْن وما ... نُصِبَتْ إلاّ للفِتن
فانعكفتْ منك القلو ... بُ في الهوى على وَثَن
يا قوتَ نَفسٍ شَرِبَتْ ... أشجانَها مع اللبَنْ
يا مُلبسي ثوبَ الضَّنا ... وسالبي طِيبَ الوَسَنْ
يا حَسَنَ الوجهِ الذي ... يدينُ بالفِعل الحَسَن
يَفديك عَبدٌ طائعٌ ... مُلِّكْتَه بلا ثمن
وحَقِّ مَن أسكن في ... قلبي هَواك فَسَكَن
لا حُلتُ عن حُسن الوفا ... ما صَحِبَتْ رُوحي البدن
وله من أبيات شائقة رائقة يُغَنَّى بها:
لا تَتْعَبِ العواذِلُ ... فالحُبُّ شُغْلٌ شاغِلُ
باطلُه حَقٌّ وحقُّ الناصحين باطل
يا مَوْقِفاً غالت به ... ألبابَنا الغوائل
كيف النجاةُ منه والناصِرُ فيه الخاذل

أشكل من أين أصبت بينه الشَّواكِل
كلُّ العيون أَسْهُمٌ ... وكلُّها مَقاتِل
وكلُّ عِطفٍ كَرْمةٌ ... وكلُّ طَرْفٍ بابل
فكيف يصحو أو يُفيق ثَمِلٌ أو ذاهل
ما تفعل الشَّمول ما ... تفعله الشّمائل
يَهُزُّها من القدو ... دِ الأَسَلُ النّواهل
أَعْدَلُها أَجْوَرُها ... والمستقيمُ المائلُ
يا قانصَ الظِّباء في ... أعينِها الحبائل
وبين كلِّ لحظتيْن سائفٌ ونابل
تَوَقَّ يا مخدوعُ في الغِزلان مَن تُغازِل
من تَبِعَ الصيدَ دها ... هُ الصيدُ وهو غافل
إن الأسود هذه الضعائفُ المَطافِل
يصرَعْن أرشاقاً وهُنَّ الشُّرَّدُ الجَوافِل
يرمينَنا عن نفثا ... تٍ سمُّهنَّ قاتل
وله:
تكلَّمَ بالأَدْمُعِ ... وقال فلم تَسْمَعي
شكا بالبُكا لو رَحِمْتِ شكوى فتىً مُوجَع
ودلَّ بماءِ الجفون ... على النار في الأضلُع
وأشفَق يوم النَّوى ... على سِرِّه المُودِع
فأومضَ باللَّحظ ثمَّ عضَّ على الأصبع
يقول علامَ عَزَمْتِ ... فَدَيْتُكِ، أن تصنعي
أليس لهذا المغيب يا شمسُ من مَطْلَع
ولا لذهاب القرا ... ر والنومِ من مَرْجِع
ويا عَيْنُ قد أزمع اصطباري مع المُزْمِع
وأسرع قلبي الرحيلَ ... مع الراحلِ المُشْرِع
فهل لك أن ترقُدي ... وهل لك أن تهجَعي
عسى لطُروق الخيال ... طريقٌ على مَضْجَعي
يُعلّلني بالدواء ... وإن كان لم يَنْجَع
ويُقنعه خادعاً ... بما ليس بالمُقنِع
إذا أُولِعَ اليَأْسُ بي ... فَزِعْتُ إلى المَطْمَع
وقلتُ لنفسي خذي ... عُلالته أو دعي
وله:
صدقَ الحُبُّ لستَ لي بصديقِ ... فالْهُ عني وخَلِّني وطريقي
أيها النائم الذي ماله عِلْمٌ إذا نام كيف ليلُ المَشوق
إنّ برِّي، والوجْد مالِكُ أمري ... بالهوى، بالمَلام عَيْنُ العُقوق
ولَغِشُّ المُريدِ لي السوءَ بالإغراءِ فيه كِفاءُ نُصْح الشفيق
ضِلَّةً ما اهتديتُ والليلُ داجٍ ... دون صَحْبِي إلى اشتيامِ البروق
وتعرَّضتُ للنسيم عسى أُبْرِدُ قلباً من لوعتي في حريق
وعقيقُ الدموعِ ينثُرُه نَظْمُ بُكائي على ظِباء العقيق
يا رَفيقي وقد تفَرَّدْتُ في نَهْجِ وَلوعي ما أنت لي برفيق
تَتَأَنَّى إفاقتي ومنَ الصَّحْوِ رَواحي سَكْرَانَ غيرَ مُفيقِ
أَتَرَى، أم قذىً بعَيْنَيك، ما ها ... ج غرامي يوم افتراقِ الفريق
من بُدورٍ تطلَّعت لمغيبٍ ... وشموسٍ تولَّعَتْ بشروق
ما علِمنا مغارِباً قبل يوم البَيْن تسْتَنُّ في غَوارِب نُوق
قَرُبَتْ والمَرامُ غيرُ قريبٍ ... وَنَأَت والغرام غير سحيق
وأعادتْ تَعِلَّةً بدأ الطَّيفُ بها أَمْسِ في طريق الطُّروق
يوم ردَّتْ على الكرى جَفْنَ عيني ... عِدَةٌ ليس عهدُها بوثيق
لاحَ فيها الخليقُ لي بوَفاءٍ ... تحت جُنْحِ الظلام غيرَ خَليق
زَوْرَةٌ كان زُورُها، وأبي الصبْوَة، أحلى عندي من التحقيق
أثرٌ ردَّ لي على اليأْس عَيْنَاً ... فاتني لحظُ حُسنِها المَوْموق
مِن حبيبٍ وافٍ وخِلٍّ مُصافٍ ... ووصالٍ شافٍ وعيشٍ أنيق
تحت ظلٍّ من النعيم ظَليلٍ ... فوق غُصن من الشباب وَريق
وقال:
مُوسى هواكمْ بجانب الطُّورِ ... يسعى بقلبٍ في الحُبِّ مكسورِ
حَيْرَانَ في ظُلمة الجفاء فهل ... نارُ انعطافٍ تُدْنيه من نور
فبادروه ببَدْرِ ضاحيةٍ ... من طُرَّتَيْه في شَكْلِ دَيْجُور
نادوه لطفاً بعبدِ ودِّكُمُ ... سِرَّاً وناجوه بالمَعاذير

ما الشان أنّا على محبّتنا ... لم نَخْلُ من هاجرٍ ومهجورٍ
نهجُ سبيلٍ يسعى الوشاةُ به ... لصفوِ لَذّاتنا بتكدير
قولوا لفرعونِ تيهِ ظالِمتي ... ما مثلُ عِشقي لها بمَكْفور
قد شاع في الناس أنني كَلِفٌ ... بذاتِ لحظٍ كالسيف مَشهور
فُتورُ أجفانها المِراضِ جَنى ... تمَرُّضي في الهوى وتَفْتيري
بَكَتْ لِتَبْرا من ظُلْمِ مُقلَتِها ... إليّ والدمعُ شاهدُ الزُّور
غداةَ قامت بصورةٍ هي أُنموذَجُ مُستحسَنِ التَّصاوير
بغُصنِ قَدٍّ وحِقْفٍ رادِفَةٍ ... نيطت إليه بخَصْر زُنْبور
زَنَّرَ مَجْرَى نِطاقها هَيَفٌ ... نُزِّه عن مَعْقِدِ الزَّنانير
بيضاء شفّافة الأديم كما ... غَشَّيْتَ ياقوتَةً ببَلُّور
ذات جبينٍ تَحُفُّه طُرَرٌ ... عَنْبَرُها مُحدِقٌ بكافور
لو أنّ بستان وجهِها الجامع الأفنان حُسناً بغير ناطور
داويتُ دائي بعَطْفِ نَرْجِسه الناعس لَثْمَاً ووَرْدِه الجُوري
وكنتُ عالَيْت دُرَّ مَبْسِمها المنظومِ من أدمعي بمنثور
أذاكَ أَشْفَى أم طِيبُ زَوْرَتِها ... أيام قال الكرى لها زوري
دَنَتْ علي نَأْيها وأَسْعدَها ... إباحةُ النومِ كلَّ مَحظور
فبِتُّ أَلْهُو بما أحاوله ... من بِدَع الحُسن غيرَ مَوْزُور
رُؤيا تمَلَّيْتُها وأَحْسِبُني ... حقَّقْتُها في الهوى بتعبيري
ويا عَذولي دَعْ ذكر مَسْأَلةٍ ... مُشْكِلَةٍ عُرِّضَتْ لتفسير
فما أنا في النفير إنْ حضرت ... لذّاتُ أَهْلِ الهوى ولا العِير
وليس خُبْري ما صافَحَتْكَ به ... فدع عُلالاتِها أخابِيري
حماقةٌ ضاع في تتَبُّعِها ... مَحْفُوظُ شعري وضَلَّ تفكيري
أين اشتغال الهموم مما تَقا ... ضاه فراغُ القوم المسارير
بياض وَصفٍ للحبّ سوّد لا ... صحائفي ثَمَّ، بل دفاتيري
ولم يُفِدْ غير أنه سببٌ ... خِفَّتُه أَصْلُ كلِّ توقير
عاد إلى الجِدِّ هَزْلُه فغدا ... مَعْذُولُه وهو جدُّ مَعْذُور
وله في وصف الخال:
ومُهَفْهَفٍ كالغصن ما ... ل بعِطْفه مَرُّ النَّسيمِ
في وجهه نارُ الحيا ... ءِ يَشُبُّها ماء النعيم
يا حبَّةَ القلب التي ... فرَّتْ إليه من الصميم
بَطَنَ الهوى فظهرتِ جا ... ئلةً على صافي الأديم
حتى دُعيتِ وقد أقمتِ عليه بالخالِ المُقيم
يا من أقام قيامتي ... بالخدِّ والقدِّ القويم
وَجَنَى سَقامي في الهوى ... بفُتورِ ناظره السَّقيمِ
ورمى فؤادي إذْ رنا ... تيهاً إليّ بلحظِ رِيم
يا جَنّةً تدعو القلو ... بَ إلى مُباشرة الجَحيم
وجَلا صباح جَبينِه ... في لَيْلِ طُرَّتِهِ البهيم
انظُرْ لذُلّي يا عزيزُ بعينِ مُقتدِرٍ رحيم
واعطِفْ عليَّ تكَرُّماً ... فالعَطفُ أولى بالكريم
وله:
أما لذا الليلِ سَحَرْ ... يا أملي فَيُنْتَظَرْ
يا مُسْهِري بصَدِّهِ ... حاشاك مِن طُولِ السَّهَر
يا قمراً بِتُّ لفَرْ ... ط حبّه أَرْعَى القمر
ويا قضيباً رُحْت من ... خَطْرَته على خَطَر
ويا غزالاً كلّما ... جاذبْتُه الأُنْسَ نَفَر
إن قُلتُ قد رَقَّ قسا ... أو قلت قد أوفى غَدَر
أو قلتُ قد عاد إلى العادة في الوَصْل هَجَر
إحْذَرْ خِلافي فعسى ... يُنْجي منَ الخوف الحَذَر
مَوْلاي عُدْ من قبل أن ... يَشيع في الناسِ الخَبر
ويُصبحَ السِّرُّ الذي ... تعرِفُه قد اشتهر
وله:

جِدُّ الهوى أوَّلُه مُزاحُ ... وكلُّ نارٍ فلها اقتداحُ
آهاً لقلبي من حِمىً مُمنَّعٍ ... أغرى به تعرُّضٌ مُباح
ونظرةٍ فتحتُ عنها ناظري ... وهيَ لبابِ شِقْوتي مِفتاح
يا قمراً صَوْنِي لديه بِذْلةٌ ... إذا بدا وسَتريَ افتضاحُ
ماذا يقول فيك عُذّالي وما ... أدري غَدَوْا بلَوْمِهم أم راحوا
الغَيُّ ما يَزْعُمُه مُرْشدهمْ ... والغِشّ ما تقوله النُّصّاح
سِرُّ الهوى المُودَعُ فيه أنه ... لولا الهوى لم تُخْلقِ المِلاح
الناسُ أبناءُ الهوى شَقُوا به ... أو نَعِموا أو كتموا أو باحوا
فسادُهُمْ فيهِ هو الصلاحُ ... وَفَرْطُ خُسْرانِهمُ رَباح
الحبُّ في ليل الورى صَباحُ ... فيه البُدورُ الأوْجُهُ الصِّباح
للقَطْف منها الوَرْدُ والتُّفّاحُ ... والشّهْدُ للرَّشْفِ بها والرّاح
مَواطنٌ مالي، ولو بَرَّحَ بي ... وَجْدِيَ، عنها أبداً بَراح
وله من قطعة:
يا سيِّدي، دعوةَ الذّليلِ ... إعطِف على المُدْنَفِ العليلِ
أَطْفِ بماءِ اللِّقاءِ ناري ... واشْفِ ببرد الرِّضا غَليلي
يا واحدَ الحُسن حارَ فكري الدّ ... قيقُ في وصفك الجليل
لكنني أكتفي بمعنىً ... مُخْتَصَرٍ واضِح الدّليل
ما لكَ بينَ الورى ولا لي ... في الحسن والحُزْن من عَديل

سعيد الحلبي
شاب من جملة المهاجرين إلى مصر في الدولة الملكية الناصرية الصّلاحيّة، وفيه شيمة أدب وصلاحية. أنشدني بعض الأصدقاء بمصر له من قصيدة نظمها في محيي الدين ابن الشّهرزوري قاضي حلب أوّله:
أساكنةَ العقيق كمِ العُقوقُ ... نشَدْتُكِ هل إلى صِلةٍ طريقُ
سلبتِ الغُمْضَ عن أجفان عيني ... فبانَ لبينه الطَّيفُ الطَّروق
وأسلمتِ الفؤادَ إلى خُفوقٍ ... فلا، وأبيكِ، ما سكن الخفوق
صِلي يا عَلْوُ منّي حبلَ وُدٍّ ... له بوَكيد حبِّكُمُ عُلوق
جُعِلْتُ فِداكِ كيف أصبتِ قلباً ... إلى غير اقترابِك ما يتوق
رمتْ عيناكِ حبَّتَه بنَبْلٍ ... له من كلِّ جارحةٍ مُروقُ
وما أصغى إلى عَذْلٍ فتُلْغى ... عهودٌ أو تُضاعَ له حقوق
إذا تبِع العواذِلَ فيك قلبي ... فلا تبعَتْهُ أحشاءٌ وَمُوق
فتاةٌ لا تُفيق من التَّجنّي ... فها أنا من هواها لا أُفيق
تحمَّل خصرُها من مَنكبيها ... ومن أردافها ما لا يُطيق
فيا للَّه من رِدْفٍ كثيفٍ ... يقوم بحمله خَصْرٌ دقيق
حلفْتُ بها سَوالِكَ كلِّ فَجٍّ ... يكلِّفُها السُّرى ما لا تُطيق
نِياقٌ كلّما قضَّتْ صَبوحاً ... مِن المَسرى تداركها غَبوق
تُساق على الكَلال وقد تشكَّتْ ... من الإدلاجِ أعناقٌ وسوق
إذا حملَتْ إلى جَمْعٍ فريقاً ... أراق دماءها بمِنىً فريق
على أكوارها كلُّ ابن سَفْرٍ ... أُشَيْعِثُ مِن وَجاها يستفيق
أبى إلاّ عِتاقَ العيسِ ما لا ... يبينُ لعينه البيتُ العتيق
يميناً لا يُمازِجُها نُكولُ الْ ... يمينِ ولا يُلائمها فُسوق
لقد قامت حدود الدِّين فينا ... بمحيي الدين واتَّضحَ الطَّريق
بطَلْق الوجه ما يلقاكَ إلاّ ... ووجه نوالِه بهِجٌ طليق
ومنها:
دنا التَّوديعُ عنك فوا ضَياعي ... إذا سِيقَتْ بنا عنك الوُسوق
أَتيتُ مُوَدِّعاً لكمُ وقلبي ... جَزوعٌ من فراقكُمُ فَروق
وقُودُ العِيس تنتظر انقيادي ... وها أنا والمطايا والطّريق

غداً أُومي إليكم من بعيدٍ ... كما يومي بإصبعه الغريق
الوأْواء الحلبي
شيخ بحلب قريب العصر منا. أنشدني الشيخ الفقيه عليّ بن الخيمي الواسطيّ بها، وكان شابّاً قد سافر إلى الشام وعاد في تلك المدة سنة أربع وخمسين وخمسمائة - وأنا حينئذٍ نائب الوزير عون الدين فيها - ولما وصلت إلى الشام سنة اثنتين وستين سألت عنه فقيل لي توفي من سنتين.
قال أنشدني الوأْواء الحلبي بحلب لنفسه في المناظرة:
طال فكري في جَهولٍ ... وضميري فيه حائر
يستفيد القولَ منّي ... وهو في زِيّ مُناظِر
وذكر أنه لقيه شيخاً مسناً، وأنشده لنفسه من قصيدة:
أبى زمني أنْ تستقرَّ بيَ الدّارُ ... وأَقسم لا تُقضى لنفسيَ أوطارُ
أَخِلاّيَ، كيف العدلُ والدَّهر حاكمٌ ... وكيف سُلوِّي والمُقدَّر أقدارُ
فما غِبتمُ عن ناظري فيراكُمُ ... ولم ينسَكُمْ قلبي فيحْدُثَ تَذكار
لئنْ غربَتْ شمس النّهار فمنكُمُ ... شموسٌ بقلبي ما تغيب وأقمار
تَجُنُّ الدَّياجي إذ تُحَلَّ ذوائب ... ويسطو نهار حين تُعقَد أزرار
وبي فرَقٌ بادٍ إذا ما تفرَّقوا ... ولي مدمع جارٍ إذا ما همُ جاروا
وماءُ جُفوني فاض من نار مُهجتي ... فمَن مُخبري هل تُجمَعُ الماءُ والنّار
لئنْ عِفتمُ نَصري إذا حلَّ حادثٌ ... فلي من دموعي في الحوادث أنصار
وأَقتَلُ داءٍ للفتى في حياته ... قَتيرٌ بدا في العارضَيْنِ وإقتار

الشيخ الزكي
أبو علي الحسن بن طارق الحلبي
من المتأخِّرين ذو نَظمٍ كاسمِه حسَنٍ حالٍ، وعِلمٍ عالٍ، وذكاءٍ ذكيّ، وأصل زكيّ. سافر إلى بلادنا تاجراً ببضاعتَي أدبه ونشَبه، عارضاً في سوق الفضل عقود دُرره وغُرره، ذكره السيد الشريف أبو الرّضا الرّاونديّ، فقال: أنشدني ابن طارق الحلبي لنفسه في الدار التي بناها بهاء الدين عبد الله بن الفضل بن محمود بقاشان. ومن العجيب أن ابن طارق لم يخرج من قاشان إلاّ بعد موته وكان بين نظمه هذه الأبيات وموت بهاء الدين أشهر قريبة:
عَمَرْتَ دارَ فَناءٍ لا بقاءَ لها ... ظَنّاً بأَنَّكَ عنها غيرُ مُنتقِلِ
أَتعبْتَ نفسَك، لا الدُّنيا ظفرتَ بها ... وأنتَ لا شكَّ في الأُخرى على وجَل
دارُ الإقامَةِ أوْلى بالعِمارة من ... دارٍ نعيمُكَ فيها غيرُ متَّصل
فاعملْ لنفسِك ما ترجو النَّجاةَ به ... فليس يُنجيكَ إلاّ صالحُ العمل
قال وأنشدني ابن طارق لنفسه:
لِعَيْنِكُمُ ما قد لقِيتُ وما ألقى ... وحُقَّ لمِثلي أن يبوحَ بما يَلقى
ترحَّلْتُمُ عنّي فلم تبْقَ لذَّةٌ ... يلَذُّ بها قلبي، وهيهات أن تبقى
وودَّعتموني فاستهلَّت مدامعي ... فلا ذكركم يُنسى ولا أَدمُعي تَرقا
شَقِيتُ بما لاقَيتُ بعد فِراقِكُمْ ... ومَن غِبتُمُ عنه فلا بدَّ أن يشقى
الشيخ أبو محمد الحسن بن إبراهيم
التَّنوخيّ
من المتقدمي العصر ذكره لنا سيدنا الأفضل عبد الرحيم بن الأُخوّة الشيباني البغدادي بأصفهان، وقال طالعتُ ديوانه وهو يشتمل على أكثر من عشر آلاف بيت فلم أختر منها غير عشرين بيتاً من جملتها:
لم يبْقَ من مهجتي شيءٌ سوى الرَّمَقِ ... واخجلتاه من الأحباب كيف بقي
ويا فؤادي وطَرفي قد أبحْتُكُما ... يومَ الرَّحيل نِهابَ الهمِّ والأَرق
ودَّعتُهم ودموع العين جاريةٌ ... والوجدُ قد ألهب الأنفاسَ بالحُرق
حتى لقد خِلتُ ماء البحر من نفسي ... يفنى ودمعي يَعُمُّ البرَّ بالغرق
وما افترقنا بملتفِّ الأراك ضُحىً ... حتى تعلَّقَ وهْجُ الشوق بالورق
وقرأت في مجموع بيتين لأبي محمد الحلبي وهما:
قالت وأَبثَثْتُها مُغازَلَةً ... أَذعتُه في بديع أشعاري
فضحتَني في الهوى فقلتُ لها ... أَخذتُ للبدر منكِ بالثار

وقرأت في كتاب المُذيّل للسّمعاني في التاريخ أنشدني عبد الرحيم بن الأخوة البغدادي بأصفهان، أنشدنا أبو محمد الحلبي لنفسه:
شرُفَتْ نفسُ كريمٍ ... هي للذل تُنافي
وتصونُ النَّفسَ عن تط ... لاب ما فوق الكفاف
قال وأنشدني لنفسه:
يا مَن كساني سَقاماً ... وجسمُه منه عار
رَضيتُ لو كنتَ ترضى ... فيه بذُلِّي وعاري

الرئيس جمال الملك
أبو غانم الحلاوي الحلبي
ممن ظرفاء المتأخرين، هو بالحقيقة حَلاويّ أهل الأدب، ذكره مجد العرب العامريّ لنا وأثنى عليه، وقال هو من أعيان المتأَدِّبين بالشام، ذو رياسة وكياسة، ورقَّة في الطبع وسلاسة، وحلاوة وطلاوة، وأدب غير مفتقر إلى علاوة، قال أنشدني لنفسه:
إنَّ الأعاريبَ الذين تحضَّروا ... وقَلَوْا مصاحبةَ الفضاء النّازح
لم يسكنوا ظِلَّ الجدار وإنّما ... هم بين غادٍ في القلوب ورائحِ
الأثير أبو المعالي
الفضل بن سهل الحلبي
شيخ بهيّ، له منظر شهيّ، لقيته ببغداد، وكان يستنشدني ما انظمه في زمان الصِّبا متعجِّباً به، مستغرباً له، وتوفي ببغداد سنة سبع أو ثمان وأربعين وخمسمائة. ومن شعره:
مُدْنَفٌ وصحتُه ... بَعْدكُمْ من العجبِ
بالعراق مسكنُه ... والطبيب في حلب
المُفدَّى الشامي
أنشدت له بيتاً واحداً، من شعرٍ له في مسلم بن قريش في عصره وهو على حصار حرّان، وهو:
بقيَّة صِفّين والنَّهروان ... فدونك ما سنَّ فيهم علي
نصر بن إبراهيم بن أبي الهيجا
البازيار الحلبي
ذكره لي وُحيش الشاعر، وقال ما معناه أنَّ مولد نصر ومنشأَه بدمشق، وكان لصبيان المكتب سائقاً، ثم صار معلّماً فائقاً، ثم صار شاعراً حاذقاً، مُجيداً في حلبة النَّظم سابقاً، وفي ذروة العلم سامقا، ثم عاد طبيباً حاذقا، رابح السوق نافقا، موفّقاً في كلِّ صنعة موافقا، وتوفي بها سنة اثنتين وأربعين، وقد بلغ السبعين.
وأنشدني من قصيدة له في مدح الوزير المزدقاني، وكان إذ ذاك وزير صاحب دمشق:
تجافى الكرى ونبا المَرقَدُ ... وقلَّ مُعينُكَ والمُسعدُ
لقد كنت أطمع في زَورةٍ ... من الطَّيف لو أنّني أَرقُدُ
وصفراء كالتِّبر كرخِيّة ... يطوف بها شاذِنٌ أَغيَد
جلا الصبح وهْناً بلألائها ... فصُبْحُ النّدامى به سرمد
وفي المستقِلّين رُعبوبةٌ ... بأَنوارها الرَّكبُ يسترشد
لقد كنتُ أجحدُ وَجدي بها ... فنمَّتْ جفوني بما أجحد
ومنها في المدح:
أيا ابن الّذين بنَوا في العُلى ... منازلَ من دونها الفَرقَدُ
وأحيَوا لمَن قهروا ذِكرَه ... فإن قيل أَفنَوا فقد خَلَّدوا
وأنشدني وُحَيش لنصر البازيار الحلبي من قصيدةٍ في مدح الرئيس المحيي بن الصوفي، عند فتكه بالباطنيّة في دمشق، وكان ذلك عصر يوم الأربعاء سابع عشر شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة:
أَطيف المالكيّة زار وَهْناً ... حماكَ الغُمْضَ أم داءٌ دفين
وفي العيس التي بكَرَت بُدورٌ ... تُرَنِّحُها على كُثُبٍ غُصون
وأنت تسومني صبراً جميلاً ... وهل صبرٌ إذا خفَّ القَطين
أَتلتمسُ العَزاءَ وقد بدا لي ... حبيبٌ ظاعنٌ ونوىً شَطون
وتأْمر أَن أًصون دموع عيني ... أفي يوم النّوى دمعٌ مَصون
لقد جنتِ العيونُ عليَّ حَتفاً ... أيا للهِ ما جنتِ العيون
ومنها:
عجبتُ لمَن يقيمُ بدار سوءٍ ... يَذِلُّ على الخُطوب ويستكين
نُسامُ الخسف بين ظهور قومٍ ... تساوى الغَثُّ فيهم والسَّمين
وما أهل العُلى إلاّ سيوفٌ ... ونحن لها الصّياقلُ والقُيون
ومنها في التخلُّص:
لِيَوْمِ الرَّوعِ سابغَةٌ دِلاصٌ ... ولِلتَّرحال شَوشاةٌ أَمون
وفي الآفاق مضطَرَبٌ فسيحٌ ... ولم تضِق السُّهولَةُ والحُزون

وفي جدوى الوجيه رجاءُ صِدقٍ ... إذا كذبَت على الناس الظُّنون
فمَن يُنضي المَطِيَّ إلى سواه ... فما حركاته إلاّ سكون
ومنها في وصف فتكه بالإسماعيلية وقتل في ذلك الأسبوع بدمشق أكثر من عشرة آلاف نفس، ولم يتعرَّض لِحُرَمِهم وذَراريهم:
فقل لذوي النفاق بحيث كانوا ... أبادَ حِماكُمُ الأَسَدُ الحَرونُ
ملكناكُمْ فصُنّا مَنْ وراكم ... ولو مُلِّكتمونا لم تصونوا
أَسلنا من دمائكم بحوراً ... جُسومكمُ لجائشها سَفين
الدُّمَيْك بن أَبي الخُرجَين
هو الشيخ أبو منصور بن المسلم بن علي بن أبي الخرجين الحلبي التَّميميّ السَّعديّ، كان معلِّماً بدمشق، ذكر لي الكاتب زين الكتّاب علي بن جعفر المعروف بابن الزغلية وهو شيخ مليح الخط والعبارة، أنه كان في المكتب عنده وهو أُستاذه، وتوفي سنة نيف وعشرين وخمسمائة، وكتب لي قصائد بخطِّه من شعره وأعارني الجزء وهو يشتمل على قوله:
رأيتُ عذابي في محبَّتكم عَذبا ... وبُعدَ دياري من دِياركُمُ قُربا
جنيتم علينا إذْ جَنينا ودادَنا ... لكم، ومنحناكم على بغضكم حُبّا
وخُنتم فما خِبتم رجاءً ورغبةً ... كأنَّكمُ الأيّام في منعها تُحبى
تخالَفَ نوعُ الحُسن فيمن عشقتُه ... هِلالٌ غَلا لمّا علا غُصُناً رَطبا
أَحلَّ فراقي حين فارقَه الصِّبا ... وشبَّ فؤادي بالجوى عندما شبّا
وجسَّره الواشي على الجَوْر فاعتدى ... وقد كنت أرجو منه أنْ يُحسِنَ العُقبى
كذا الدّهرُ يقضي بالنَّعيم وبالشَّقا ... فيأْخذ إن أعطى ويبغض إن حبّا
رأيت الفتى يأْتيه ما لا ينالُه ... بسعيٍ ولو أَنضى الرَّكائبَ والرَّكْبا
وإن رامَ إدراكَ المُنى بفضيلةٍ ... فقد رام أمراً ليس يدركُه صعبا
وإنَّ صديق المرء أوسع رحمةً ... وأكثرُ إنصافاً له من ذَوي القُربى
تجاور فيه هيبةٌ ومودَّةٌ ... فلم يخْل من ودّ ومن هيبةٍ قلبا
ويذهب بالودِّ المِراء ويمتري ... حفائظَ لا تُبقي على صاحبٍ صَحْبا
إذا حُرمَ الإنسانُ قلَّ نصيرُه ... وصار قضاءُ الحادثات له ذَنبا
وإن هي أعطتْه السعادةَ صيَّرَتْ ... له الجهلَ حِلماً والعدوّ له حِزبا
تحيَّرت الألباب في الجدِّ واغتدتْ ... تَعُدُّ خَفاهُ عن بصائرها خَطبا
تساوى ضُروب النّاس فيه جَهالةً ... ولو عرفوه رامَ كلٌّ له كَسبا
توقَّ قليل الشَّرِّ خوفَ كثيره ... ولا تحقِرَنَّ النَّزْرَ رُبَّتما أَربى
فإنَّ صغير الشيء يَكبُر أمرُه ... وكم لفظةٍ جرَّتْ إلى أهلها حربا
وقوله:
توالَفَ في زَمِّ الرَّكائب إخوانُ ... وخالف في حثِّ النَّجائب جيرانُ
فباكٍ من الوَخْدِ الوَحِيِّ وضاحكٌ ... وصاحٍ من الوجد النَّجيِّ وسكران
أُناسٌ سُقوا كأْساً من البَيْنِ مُرَّةً ... شُجونُ نَداماهم عليها وأَشجان
تحيَّتهم نجوى تَلوعُ وصَبوَةٌ ... غِناؤهم شكوى تَروعُ وإرْنان
إذا قُرِعوا مَسَّ الأسى قرعوا له ... ظنابيبَ صبرٍ ما لِفحواه وجدان
وما كلُّ شيءٍ ظنَّه المرءُ كائناً ... يقوم عليه للحقيقة برهان
أَأَحبابَنا إنْ خلَّفَ البعدُ بَعدكمْ ... قلوباً ففيها للتَّقرُّق نيران
رَجَونا مَعيناً من زفير وَقودِها ... مُعيناً فما جفَّتْ من الدَّمع أجفان
فلا تعجبوا من بعدكم في بقائها ... عشِيّاً وقد بانتْ حُمولٌ وأَظعان
وهل ينفعُ الإنسانَ قلبٌ ترادفَتْ ... عليه همومٌ طارقاتٌ وأحزان

رحلتم على أنَّ القلوبَ ديارُكمْ ... وأنَّكم فيها، على النّأْي سُكّان
يقول أُناس بحْتَ بالشَّوق، والحِجى ... دليلاه فعلٌ يقتضيه وكتمان
فقلتُ خَفِيُّ الشوق للمرء جَهْرةٌ ... طِباعاً وسِرُّ الحبِّ للمرء إعلان
بنفسي حبيبٌ فاتن الطرف أَحْوَرٌ ... شهيّ الثَّنايا فاتر الطَّرف وَسنان
ترقرقَ ماء الحسن في صحن خدِّه ... ليُسقى به غصنٌ من البان ريّان
إذا ما أذاعتْ بالسِّرار لِحاظُه ... إلى اللبِّ لبّاها من اللبِّ إذعان
عَرَفتُ به عكس القضيَّة في الهوى ... فمنه وصالٌ لي ومنِّيَ هِجرانُ
أَبَنْتُ له عند الوَداع تَجَلُّدي ... ولي كبدٌ حرَّى به وهو حيران
وما باختيار المرء تشعَبُ نِيَّةٌ ... فتبرَحُ أَوطارٌ وتَنزح أوطان
عسى مَوردٌ من ماء جَوشَن ناقعٌ ... فإني إلى تلك الموارد ظمآن
تُجاذبني عن عَزمةٍ الهجر هِجرَةٌ ... ويُوبِقني من طاعة الصبر عِصيان
أحِنُّ حنين الوالهات إليكُمُ ... وتمنعني منكم خطوبٌ وأزمان
زيادة حدّي نقصُ جدّي وإنّما ... زيادة فضل المرء للحَظِّ نقصان
وما كلُّ إنسان ينال مراده ... ويسعدُه فيما يحاولُ إمكان
وعيشُ الفتى طعمانِ حُلْوٌ وعلْقَمٌ ... كما حاله قِسمان رِزقٌ وحِرمان
وأمنيّة الإنسان رائد نفسه ... وراضٍ بأفعال الزَّمان وغضبان
وما كلُّ نظّارٍ بناظِرِ فكرِه ... وما كلُّ من يهديه نَهْجٌ وتِبيان
سأُعمِلُ نَصَّ العِيس تَذرَعُ بوعُها ... تنائِفَ لا إنسٌ بهنَّ ولا جان
وأَدَّرِعُ الليل البهيمَ وأمتطي ... عزائمَ ترجوها صِفاح وخُرصان
فإنَّ الهُوَينا للهَوان أَمارةٌ ... إذا لم يكن عن قدرة المرء عُدوان
أبا حسنٍ ما انفكَّ يأْتي مُواتِراً ... إليَّ جميلٌ من نَداك وإحسان
مَلَكْتَ به منّي ثناءً ثنيتُه ... فسارت به في البرِّ والبحر رُكبان
شكرتُك شُكر الأرض للغيث واصباً ... أصابَ ثراها منه سَحٌّ وتَهتان
تحلَّت بأنواع الرِّياض كأنَّها ... تجلَّت لعين الدَّهر، فالدَّهر جَذلان
وإنّي على إسهابه لَمُقَصِّرٌ ... ويَبْسُطُ عُذراً للمُقصِّر عِرفان
أَخذْنا بأقسام الفضيلة بيننا ... فإن كنت سَحباناً فإنَّكَ لقمان
لقد وَجدتْ منك الأمانةُ كافياً ... بها وافياً إن معشَرٌ عهدَها خانوا
حَصيفٌ إذا خَفّوا، عفيفٌ إذا عَفَوْا ... عَيوفٌ إذا اشتفّوا، أمينٌ إذا مانوا
بلغتَ من العلياء أشرفَ منزلٍ ... يُقصِّرُ عن كونٍ بنجواه كيوان
دلَلْتَ على أخلاقِكَ الغُرِّ بالذي ... فعلتَ من المعروف، والفعلُ عُنوان
وأَلسنةُ الأقوام في البعد كتْبُهُمْ ... تَناجى بها عند اللُّبانةِ أَذهان
فصِلْني بكُتْبٍ تشْفِني بوصولِها ... فإنِّي إليها شَيِّقُ القلب ولهان
فلا عدِمَتْ منك المكارمُ نِسبةً ... فإنَّك من طرْف المكارم إنسان
وقوله:
غرامٌ على طول البِعاد يزيدُ ... وحبٌّ على مرِّ الزَّمان جديد
وصبرٌ إذا حاولتُ أَثني عِنانَه ... لِيُصْحِبَ طَوعاً صدّ وهو كنود
أَبى القلبُ إلاّ أن يُتَيِّمَهُ الهوى ... ويُسلِمَه التَّذكار فهو عَميد
فرَتْهُ على نأْي المنازل وَفرَةٌ ... وجاد عليه بالصّبابة جِيد

وأَصْباهُ مُرتاحاً قضيبٌ على نقاً ... تَهُبُّ له ريحُ الصَّبا فيَميد
أيا سائقَ الأظعان من أرض جَوشَنٍ ... سَلِمْتَ ونِلتَ الخِصبَ حيثُ تَرود
أبِنْ ليَ عنها تشْفِ ما بي من الجَوى ... فلم يَشْفِ ما بي عالجٌ وزَرود
هَلِ العَوَجان الغَمْرُ صافٍ لواردٍ ... وهل خضَبَتْهُ بالخَلوق مُدود
وهل عينُ أَسمونيث تجري كمقلتي ... عليها وهل ظِلُّ الجِنان مَديد
إذا مرِضَتْ وَدَّتْ بأَنَّ ترابَها ... لها دون أكحال الأُساة بَرود
وهل ساحرُ الألحاظ تُحفَظُ عنده ... مواثيقُ فيما بيننا وعهود
تُمَثِّلُ لي عيني على النّأْي شخصَه ... فيَقرُبُ مني والمزارُ بَعيد
أراحَ عليَّ الشَّوقُ عازبَ زَفرتي ... وردَّ إليَّ الهمَّ وهو طريد
وقد غرَّني قلبٌ أرانيَ أنَّه ... على طول أيّام الفِراق جَليد
وأعجَبُ منّي أن صبرْتُ ليالياً ... وإنَّ اصطباري ساعةً لشديد
وما كنت أدري أن تَشُطَّ بك النّوى ... ويسعى عدوٌّ بيننا وحَسود
وأن نصيبي من ودادك لوعةٌ ... لها في فؤادي والضُلوع وَقود
قَسوتَ فما يُدني ثَواكَ تَقَرُّبٌ ... إليك ولا يثني نواك صدود
وأفنيتُ عُذرَ النفس فيك ولم أزل ... أَسُدُّ طريقَ العُذر وهو سديد
وقد يُحْبِبُ الإنسانُ ما فيه نقصُه ... ويُبغِضُ ما يَنمي به ويزيد
ويؤثِرُ من غير الضَّرورة ضُرّهُ ... ويرغب عمّا سرَّه ويَحيد
هو الجَدُّ لا يُعطي المَقادةَ صعبُه ... ويبدئ في إسماحه ويُعيد
نُريد من الأيّام تصفو من الأذى ... وتضْفو ولا يقضي بذاك وُجود
وكيف نرومُ العيشَ خِلواً من القَذى ... وللماء من بعد الصَّفاء رُكود
تجَمَّعَ من بعد اجتماع مودةٍ ... خليل، وعن ذوب النُّضار جُمود
وأين الذي يبقى عليك ودادُه ... وأين الذي تختاره وتُريد
إذا كان يُعطى المرءُ ما يستحقّه ... تساوى شقيٌّ في القضا وسعيد
ومِن حُبِّنا الدُّنيا، على سوء فعلها ... يُعافُ ذميمُ العيش وهو حميد
وأَنّى ترى طَرْفاً عن الحِرص طارِفاً ... لِيسأَمَهُ والزُّهدُ فيه زهيد
وليس لمرءٍ في القناعة بُغيَةٌ ... فتُلفى، وشيطان المَراد مَريدُ
إذا لم تجدْ ما تبتغيه فخُضْ بها ... غِمارُ السُّرى، أُمُّ الطِّلاب وَلود
فكم خرَّقَتْ بطنَ الجَبوب أَساوِدٌ ... وكم ركبت ظهر الصعيد أُسود
فلا قرةٌ إلاّ وأنت مؤمَّلٌ ... ولا ثروةٌ إلاّ وأنت تجود
وله:
إذا الله أعطاكَ الغِنى فأفِدْ به ... سِواكَ ولا تَحرمْهُ يَحرِمْكَ فضلَهُ
فذاك امتحان، إنْ تُنِلْه تنَلْ به ... مَزيداً وإن تمنعه يجتَثُّ أصلَه
ولابن أبي الخرجين:
الناسُ كالأرض ومنها همُ ... منْ خَشِنِ اللَّمْس ومِن لَيْنِ
مَرْوٌ تَوَقَّى الرِّجْلُ منه الأذى ... وإثْمِدٌ يُجعَلُ في العين
وله:
تُنمَى إليه السَّمهَرِيَّةُ والظُّبى ... فتطولُ للقربى به وتصول
يُجدي ويُردي فهو في محْل الحيا ... خِصْب وفي خِصب الحياة مُحول
وله في مُغَنٍّ:
خَفَّ الثَّقيلُ فجاء طَوْعَ بَنانه ... لما دعاه وأَصْحَبَ المَزمومُ
لا يخرج النَّقَراتِ عن موضوعها ... فكأَنَّه في ضَربه معصوم
وله:
يا أبا البِشْر بشَّر الله رَبعاً ... أنتَ فيه ثاوٍ، بصَوبِ الربيع

لم أجِدْ للزَّمان غيرَكَ خِلاًّ ... أَصطفيه، كم واحدٍ بجميع
وله:
فارقْتنا إذْ لا رِضىً منّا به ... مَن يرتضي بُعْدَ السَّحاب الهامِرِ
ما كنتَ إلاّ السيفَ فارق غِمدَه ... للضَّرْب ثُمَّتَ عادَ عودةَ ظافر
وله من قصيدة:
تَظَلُّ الملوكُ له طائعين ... إذا ما عفا أو وَفى أو بَذَلْ
وينتحلون الذي يصنعون ... وأين الطِّباع وما يُنتَحَل
مَناقب طُلْتَ عليهم بها ... غَلَتْ وعلَتْ في مَداها زُحَل
سبقتْ بها شيبَهم والشبابَ ... صَبِيّاً كسَبْقِ الشُّروقِ الطَّفَل
تَمَنّى عِداك بقولٍ مَداك ... وأينَ المُنى من بلوغ الأَمَل
ومجداً تليداً فما أدركو ... هُ بالحَوْلِ منهم ولا بالحِيَل
فلا زال أمرُك في كلِّ ما ... تُحاوله أَبداً مُمْتَثَل
ومنها في وصف بلدٍ آمنَهُ:
فأَعْتَقْتَها من مُثار العَجاج ... وأَقطعْتها لمُباح الأَجل
أبو النَّصر بن النحاس الحلبي
كان من المجيدين المفيدين المعاصرين لابن سنان الخفاجي قبل سنة خمسمائة، ومن بديع شعره قوله:
ملكتَ قلبي مُستَرِقاً له ... وكان حرّاً غيرَ مُستعبَدِ
سكنتَ فرداً فيه حتى لقد ... خِفتك تشكو وَحشة المفرد
فلو تنازعنا إلى حاكمٍ ... قضى لك استحقاقه باليد
وقوله يصف عُجَّةً:
أبا الحسن استمِعْ قولي وبادِرْ ... إلى ما تشتهي، تفديكَ نفسي
فعندي عُجَّةٌ تُزهى بلونٍ ... كلَون البدر في عشرٍ وخمس
أجادت في صناعتها عجوزٌ ... لها في القلي حِسٌّ أَيُّ حِسِّ
فلم أرَ قبل رؤيتها عجوزاً ... تصوغ من الكواكب عَيْنَ شمس
وقوله، أورده أبو الصَّلت في الحديقة:
انظر إلى حظِّ ابن شِبْلٍ في الهوى ... إذ لا يزال لكلِّ قلبٍ شائقا
شغلَ النِّساءَ عن الرجال وطالما ... شغل الرجال عن النِّساء مُراهقا
عَشِقوه أمرَدَ فالتحى فعَشِقْنَه ... اللهُ أَكبرُ ليس يعدَمُ عاشقا

أبو محمد إسماعيل بن علي الدمشقي المعروف ب
ابن العينزربي
له:
أَعينيَّ لا تستبقيا فيضَ عَبرَةٍ ... فإنَّ النَّوى كانت لذلكَ موعدا
فلا تعجبا أن تُمطِرَ العينُ بعدَهُمْ ... فقد أبرقَ البينُ المُشِتُّ وأَرعدا
ويومٍ كساه الغيمُ ثوباً مُصنَّعاً ... وصاغتْ طِرازَيه يدُ البرق عَسْجَدا
كأنَّ السّما، والرعد فيها، تَذكرا ... هوىً لهما فاستعبرتْ وتنهَّدا
ذكرتُ به فيّاضَ كفَّيْكَ في الورى ... وإن كانتا أَهمى وأبقى وأَجودا
وله:
عراني جَوىً شُبَّتْ به في الحَشا نارُ ... وأَرَّقني شوقٌ شديدٌ وتَذكار
فرِفقاً بقلبي حيث شطَّتْ بكم نوىً ... وحِفظاً له والجارُ يحفظُه الجارُ
فيا عجبا أنّي أعيش مع النّوى ... جَليداً على ما يفعل الدّهر صبّار
وما كنتُ أرضى أن أحِلَّ ببلدةٍ ... وتنأَى، ولكن لا تُغالَبُ أَقدارُ
وما ليَ فيما شتَّتَ الشَّمْلَ حِيلةٌ ... هو الدّهر نهّاءٌ عليَّ وأَمّارُ
فيا راكباً إمّا عرَضْتَ فبلِّغَنْ ... سلامَ أخي شوقٍ به الدّهر غدّار
إلى ساكني مصرَ فإنَّ بها المُنى ... وإن كثُرَتْ في صفحة الأرض أَمصار
ومنها:
لئن لم أسِرْ سعياً إليك مبادراً ... فكم ليَ بيتٌ في مديحك سيّار
ترى في سماء المجد عبدَك كوكباً ... ولكنه للناظم الشِّعر غرّار
نجم بن أبي درهم الحلبي
ذكره وُحَيْشٌ الشاعر وقال مولده بحلب ونشأ بدمشق وتخيّل من ابن الصّوفي ومضى إلى حلب، ثم عاد بعد ذلك ، وتوفي بحلب سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، وكان شاعراً هجّاءً، قال ومن جملة أهاجيه قوله في قوم من دمشق يقال لهم بنو نُفايَة:

أَبني نُفاية إن سَعْدَكُم ... جاءت به الأيّام عن غلَطِ
قد صار هذا النّاس أَكثرُهم ... سقَطاً فكيف نُفايةُ السَّقَط
قال وله في غلام يسبح في نهر ثورا وهو يتجنَّب ويتجبَّن النزول في الماء:
يا واقفاً متحيِّراً ... في الماء من خوف الغرَقْ
أَجِرِ الغريقَ بدمعه ... ففؤادُه يشكو الحُرَق
مَنْ قال إنَّكَ مالكٌ ... رِقّ القلوب فقد صدق
الشَّعرُ أسودُ حالكٌ ... والثَّغْرُ مُبيَضٌّ يقَق
وكأنَّ طُرَّةَ رأْسِه ... ليلٌ أكَبَّ على قَلَق
هل في الورى أحدٌ رأى ... شمساً تبدَّت في غسق
ي لائمي في حبِّه ... ما اخترتُ ذاكَ بل اتَّفق
لا يأْمَنُ الإنسانُ في ... شُرْبِ الزُّلال من الشَّرَق
قال ابن رُواحة الشاعر ما رأيت أحداً أبلغ منه في محبة السنة وهو في حلب، وأنشدني له في شريفٍ بدمشق:
أَصبحتَ كالكِشْكِ في أَضْلَيْه مُفتخراً ... ويستحيلُ إلى ضُرٍّ وتخليط
ما أنت إلاّ كباناسٍ فأوَّلُه ... عذبٌ فراتٌ ومنه ماء قلّوط
وله في ابن أبي قيراط بديهةً:
يا ابن أبي قيراط لِمْ لَمْ تكنْ ... تَرعى حقوقَ ابن أبي درهَمِ
هذا وفيما بيننا نِسبةٌ ... مثلُ انتساب الكَفِّ والمِعصَم
وله مطلع قصيدة:
سأنفُضُ بُردي من جميع مطامعي ... فليستْ عَشِيّاتُ الحِمى برواجِعِ

جرجس الفيلسوف الأنطاكي النصراني
ذكره أبو الصّلت أُميّة في رسالته عند ذكر الطبيب اليهودي أبي الخير سلامة بن رحمون، قال وكان بمصر طبيب من أهل أنطاكية يسمى جرجس ويلقب بالفيلسوف على نحو ما قيل في الغراب أبو البيضاء واللديغ سليم، قد تفرغ للتولع به، يعني بابن رحمون، والإزراء عليه، يزوّر فصولاً طبية وفلسفية يبرزها في معارض ألفاظ القوم وهي مُحال لا معنى لها، وفارغة لا فائدة فيها، ثم يُنفذ بها من يسأله عن معانيها ويستوضح أغراضها، فيتكلم عليها ويشرحها بزعمه دون تيقظ ولا تحفظ بل باسترسال واستعجال وقلة اكتراث فيؤخذ فيها عنه ما يضحك منه.
وأُنشدت لجرجس هذا فيه وهو أحسن ما سمعته في هجو طبيب:
إن أبا الخير على جهلِه ... يَخِفّ في كِفَّتِه الفاضلُ
عليلُه المسكين من شُؤْمِه ... في بحر هُلْكٍ ما له ساحل
ثلاثةٌ تدخل في دفعةٍ ... طَلْعَتُه والنعش والغاسل
قال أبو الصلت ولبعضهم يعني به نفسه:
لأبي الخير في العِلا ... جِ يدٌ ما تُقَصِّرُ
كلُّ من يَسْتَطِبُّه ... بعد يَوْمَيْن يُقْبر
والذي غاب عنكم ... وشَهِدْناه أكثر
وقال آخر في بعض أطباء عصرنا:
قل للوَبا أنتَ وابنُ زُهْرِ ... قد جُزْتُما الحَدَّ في النِّكايَه
ترَفَّقا بالورى قليلاً ... في واحدٍ منكما كِفايه
وقال آخر:
ما خطر النَّبْضُ على بالِه ... يوماً ولا يعرفُ ما الماءُ
بل ظنّ أنّ الطِّبَّ دُرّاعَةٌ ... ولِحيةٌ كالقُطنِ بَيْضَاء
وقال شاعر آخر في مثلهم:
وطبيبٍ مُجَرَّبٍ ماله بالنُّجْح في كلّ ما يُجرِّبُ عادَهْ
مرَّ يوماً على مريض فقلنا: ... قُرَّ عيناً، فقد رُزِقْتَ الشَّهاده
ولجرجس في هذا الطبيب:
جنونُ أبي الخير الجنونُ بعَينِه ... وكلُّ جنونٍ عنده غايةُ العَقْلِ
خذوه فغلُّوه وشُدُّوا وَثاقه ... فما عاقلٌ مَن يستهين بمُخْتَلِّ
وقد كان يؤذي الناس بالقول وحدَه ... فقد صار يؤذي الناس بالقول والفعل
أبو طالب عبد الله بن علي
بن غازي الحلبي

من أهل هذا العصر. ذكره لي الفقيه الشاب أبو الفضل محمد بن يوسف الغَزنوي وقال لقيته بحلب وهو من مقدّميها المُقدَّمين، ومُميَّزيها المحترمين، فأعارني جزءاً استملاه من ديوانه، فأعرته نظري لأخرج منه ما يُعرب عن إحسانه، فانتخبت ما حَلِي من نظمه أوزان من أوزانه، وأضربت صفحاً عما شان من شانه، وأوردت ما يروق جني ورده، ويشوق هَنِيُّ وِرْده، ويصوب وبل فضله، ويصيب نبل نُبله، ويحلو حلبُ درِّه، ويجلو جلبُ دُرِّه، فمن ذلك قوله:
قد قلتُ في وقتِ الصباحِ ... والراحُ مَحمولٌ براحِ
يا صاح دونك والخلا ... عة والتهتك بالمِلاح
لا تَأْلُ جهداً عن طِلا ... بك واعْص فيه كلَّ لاح
وقوله:
ليس الحِذار عن الأهوال يَثْنِيني ... ولا السِّنون لأخذ الثارِ تَنْسِيني
فالعُودُ مني صليبُ العَجْم ليس له ... في كلِّ حادثةٍ للدهر من لين
ولي من السيفِ عَونٌ ليس تخذلُه ... كفّي وَفاءً إذا الإخوان خانوني
أرضيْتُ كلَّ خليطٍ في مُخالَطةٍ ... وما رأيتُ أخاً في البؤس يُرْضيني
وقوله:
إن أخملت أرضُ الشآم فضائلي ... في أهلها للجَهلِ من رؤسائها
فالعينُ تَقْصُرُ أن ترى أجفانها ... وترى الكواكبَ في مَنار سمائها
وقوله:
أَصِلُ الأحِبّة في الغِنى فَقْرَاً إلي ... حُسنِ الثَّنا وأَصُدِّ في الإعدام
وأنا الذي لو أنّ روحي في يدي ... نزَّهْتُها عن صُحبة الأيّام
وقوله:
لكلٍّ على مرِّ الزمان تنَقُّلُ ... وهمي على مَرِّ الزمان مُقيمُ
فحتى متى يا دهرُ ما لي مسَرّةٌ ... وحتى متى عَيْشِي لَدَيْكَ ذميم
وقوله من قصيدة:
وغدوتُ أقتنِصُ الظِّباءَ فمرَّ بي ... قمرٌ على غُصُن بدا في يَلْمَقِ
فعيوننا حُبُكُ النِّطاق بخَصرِه ... ولحاظُه بقلوبنا كاليغلق
لا مُسْعِدٌ للعاشقين سوى الدُّجى ... والصُّبح واشٍ بينهم بتفرُّق
وقوله:
لا خيرَ في صُحبة الدنيا وزُخْرُفِها ... وآخِرُ الأمر من حالاتها العَطَبُ
يظنُّ كلُّ جَهولٍ أن تسالِمَهُ ... وسِلْمُها أبداً في أهلها الحَرَب
اُنْظُرْ منازل مَن قد كان مُحْتَكِماً ... تُغْنيك عن كلّ ما تأتي به الكُتُب
وقوله:
إذا أرضاك ذو لؤمٍ بقولٍ ... فإنك منه تَسْخَط في الفِعال
فَخَفْ منه العواقب ما تَدانى ... وجانِبْ منه أسباب الوِصال
وقوله:
وقائل ليَ إذ لفَّقْتُ مَدْحَهُمُ ... زُوراً وَمَيْناً وقد أزرى به الخَرَص
مُبْيَضُّ مَدْحِك في مُسْوَدِّ فِعلِهمُ ... كأنما هو في أعراضهم بَرَص
وقوله:
إغتنم يا صاحِ إمْكانَ الفُرَصْ ... إنما دنياك لهوٌ يُفْتَرَصْ
يا خليليَّ على عهد الصِّبا ... كلُّ من أدعو لبلواي نَكَصْ
كم صديقٍ شَبِثَتْ كَفّي به ... فإذا رُمت به النصر ملص
وقوله:
حِفْظُ اللسان سلامةٌ للراس ... والصمت عِزٌّ في جميع الناسِ
والفكر قبل النُّطق يُؤمَنُ شَرُّه ... والفكر بعد النُّطق كالوَسواس
وقوله:
اغتنم الصَّوْنَ بالسكوت ولو ... تنال بالقول غايةَ الأمَلِ
فكم كلامٍ أضرَّ صاحبَهُ ... وعنده كان مُنتهى الأجَلِ
وقوله:
بساطُ العمر يُطوى بعد نشرٍ ... بهَزْل ثم جِدٍّ في التمادي
ولا شيءٌ من الثَّقَلَيْن يبقى ... فما هذا التنافس في النَّفادِ
وقوله:
لمّا نظرتُ حُمول الحيِّ سائرةً ... وَمَنْ أُحِبُّ بذاك الظَّعْن قد رحلا
غدا الرِّكاب بدمعي غارقاً وبدا ... ذاك الغريق بنار الوَجْد مُشتعلا
فلو أتَتْني المنايا يومَ بَيْنِهمُ ... كانت تلاحظني بالبَيْنِ مُشْتَغِلا
وقوله:

راحٌ إذا ما بَدَتْ في كفِّ كاعِبةٍ ... تُخالُ شمساً بَدَتْ في هالةِ القمر
دقَّت لطافَتُها عن عين شاربها ... فلا تُحَسُّ بغير الوهم في البَشر
وقوله:
مُهَفْهَفُ القامة مَمْشُوقُها ... يختال في تيهٍ من الشَّكْلِ
والدُّرُّ والياقوت في خَدِّه ... قد خالطته أَرْجُلُ النَّمْلِ
وقوله:
ومُهفهفٍ كالغُصنِ في هَيَفٍ ... أُسْقى شَمولاً من شمائله
دَبَّ العِذار بخدِّه فَبَدَتْ ... شَعَرَاتُه عَوْنَاً لعاذِله
ومنها:
لا دولةٌ تبقى على أحدٍ ... والدهرُ ذو لهوٍ بآمله
وقوله:
إذا هاجَ بي شوقي مررتُ بداركمْ ... مُرورَ مَشوقٍ ذاهل العقل جازِعِ
ويعظُمُ عندي أن أُدِلّ بشافعٍ ... إليكم وآبى أن أَذِلَّ لمانع
وقوله:
قد بَدَتْ شمسٌ على غصنٍ ... كهلالِ الفِطر تُرْتَقَبُ
ثم وَلَّتْ وهي قائلةٌ ... حيثُ ما أسفرتُ يَنْتَقِبُ
أُنظروه بعد مُنْصَرفي ... فَسَنَا خَدّي له حُجُب
وقوله:
إغْنَمْ نعيمك في الشبابِ ... وامْزُجْ كؤوسَك بالرُّضابِ
واقْطُفْ بها ثمر النعيم وخُذْ لنفسك في الذَّهابِ
وقوله:
باتَ نديمي والكأْسُ يمزُجها ... بالدمع مني ومنه بالأُشَرِ
ظَبْيٌ كحدّ الظُبى لواحظُه ... قد كُحِلَتْ بالفُتور والحَوَر
ونحن في غفلةِ الزمان وما ... يشوبها روعةٌ من الحذر
والكأس شمسٌ وكفُّه فلكٌ ... ووجهه البدر في دُجى الطُّرَرِ
ما خِلْتُ يا صاح قبلَ ليلتِنا ... يُجمَعُ ليلٌ للشمس والقمر
ولا حَسِبْتُ الزمان يسمح لي ... بابن ذُكاءٍ في صورة البشر
وقوله:
قطعتُ الرّجا بالزُّهد في سائر الناسِ ... ونزَّهتُ روحي بالتَّفَرُّدِ والياسِ
ولا هَمَّ ممّن ليس تعرف في الورى ... وهَمُّكَ ممّن قد صَحِبْتَ من الناسِ
وقوله:
بَدَرَتْ كالبدر في يدِها ... قهوةٌ كالشمسِ تَشْتَعِلُ
ثم قالتْ وهي باسمةٌ ... اغْتنمنا أيها الرجلُ
انتهزها فرصةً سَنَحَتْ ... إنما أيّامنا دُوَل
وقوله:
مُقامنا بديارٍ لا صديق بها ... وسوف نطلُب بالتَّرْحال إخوانا
اِطْوِ السُّهوبَ وسِرْ في الأرض مُغترِباً ... عسى تصادف في الآفاق إنسانا
وقوله:
فلا تَغْتَرَّ من خِلٍّ ببِشْرٍ ... ولا بتَوَدُّدٍ عند التلاقي
فكم نَبْتٍ نضيرٍ راق حُسْناً ... عِياناً وهو مُرٌّ في المذاق
وقوله في الحثّ على العلم:
العلم يزكو على الإنفاق فاغتنموا ... تعليمَه لذوي الأحساب والكرَمِ
ليَسْنَحَ الفخرُ ممن قد تعلَّمه ... منكم وتشتهروا بالفضل في الأُمَم
وقوله:
لا تَشْكُرِ الإنسان عن ... خَبَرٍ ولكن لاختبارِ
الناس مثلُ معادنٍ ... خبُتْ وطابت في النِّجار
وقوله:
تَهونُ رزايا الدهر في كلّ حادثٍ ... إذا لم تكن مقرونةً بفراقِ
وأعظمُ لذّات الزمان لأهله ... بشيرٌ أتى مِن عازبٍ بتلاق
وقوله:
بالثّنايا العِذاب زِدْ في عذابي ... إنني صابر لعُظْمِ المَنابِ
ليس يشكو الغرامَ غيرُ ظَلومٍ ... ضَيَّع الحزمَ في هوى الأحباب
وقوله:
قطعتُ وِصالك لا عن قِلىً ... ونَكَّبْتُ عنك حِذار الرقيبِ
وما كلُّ ناءٍ بعيد المحلِّ ... إذا كان مسكنه في القلوب
وإني بعين اشتياقي أراك ... بفكري تلاحظني من قريب
وقوله:
أرى الرُّشْدَ سوءَ الظنّ والغَيَّ حُسْنَه ... ومن قد أضاع الحَزمَ يَصْبِر للنُّوَبْ
وحفظُك للأسرار يُبلغك الرَّجا ... وهتكُك للأسرار يُوردُك العَطبْ
وقوله:

هل لجَدٍّ عاثرٍ من وَثْبَةٍ ... أم لحظٍّ قاعدٍ بي من قيام
فأنا المُغْفَلُ ما بين الورى ... لا لنقصي بل لنقصٍ في الأنام
وقوله في الشيب:
يا مُشيراً بعد شيبٍ بالتَّصابي ... ضاق ذَرْعِي عن حبيب وصِحابِ
لستُ ذا حِرصٍ على لذّاته ... قَصُر الخَطْوُ فما لي من طِلابِ

القاضي ثقة الملك
أبو علي الحسن بن علي بن عبد الله بن أبي جرادة
من أهل حلب، سافر إلى مصر وتقدم على وزرائها وسلاطينها خاصة عند الصالح أبي الغارات ابن رُزّيك، وهو من بيت كبير من حلب، وذو فضل غزير وأدب، وتوفي بمصر في جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، ومن سائر شعره ما يغنَّى به، أنشدني له بعض أصدقائه بدمشق:
يا صاحبيَّ أَطيلا في مؤانستي ... وذكِّراني بخُلاّنٍ وعُشّاق
وحَدِّثاني حديث الخَيفِ إنَّ به ... رَوحاً لقلبي وتسيلاً لأخلاقي
ما ضرَّ ريحَ الصَّبا لو ناسَمَتْ حُرَقي ... واستنقذَتْ مُهجَتي من أسْرِ أَشواقي
داءٌ تقادم عندي، مَن يُعالجُه؟ ... ونَفثَةٌ بلغَتْ مِنّي، مَنِ الرّاقي؟
يفنى الزَّمانُ وآمالي مُصَرَّمةٌ ... مِمَّن أُحِبُّ على مَطْلٍ وإملاق
يا ضيعةَ العمْر لا الماضي انتفعْتُ به ... ولا حصلت على علمٍ من الباقي
وأنشدني الشّريف إدريس بن الحسن بن علي بن يحيى الحسني الإدريسي المصري لابن أبي جرادة قصيدةً في الصالح بن رُزّيك يذكر قيامه بنصر أهل القصر بعد فتكة عباس وزيرهم بهم وقتله جماعةً منهم وقيام ابن رزّيك في الوزارة أَولها:
مَنْ عَذيري مِنْ خليلي مِن مُرادِ ... مَن خفيري يوم أرتاد مُرادي
ومنها في مدحه:
حامل الأعباء عن أهل العَبا ... آخذٌ بالثّأْر من باغٍ وعاد
من عُصاةٍ أضمروا الغدر فهم ... أهل نَصْبٍ ونِفاق وعِناد
قتلوا الظافر ظلماً وانتحَوا ... لبني الحافظ بالبيض الحِداد
واعتدى عبّاس فيهم وابنُه ... فوق عُدْوان يزيد وزياد
مثل سَفرٍ قتلوا هاديَهمْ ... ثم ضَلّوا مالهم من بعدُ هادِ
جاءهم في مثل ريحٍ صرصرٍ ... فتولّوا مثل رَجْلٍ من جراد
بعد ما غرَّهُمُ إملاؤه ... ولهيب الجمر من تحت الرَّماد
وتظَنَّوا أَنْ سترتاعُ بهم ... هل تُراعُ الأُسْدُ يوماً بالنِّقاد
وأنشدني لابن أبي جرادة في ابن رزّيك لما قتل ابن مدافع محمداً سيّد لوائه قبل الوزارة من قصيدة:
لعَمري لقد أفلح المؤمنونا ... بحَقٍّ وقد خسر المُبطلونا
وقد نصر الله نصراً عزيزاً ... وقد فتح الله فتحاً مُبينا
بمن شاد عُلياهُ واختاره ... ولقَّبه فارس المسلمينا
وكان محمد ليثَ العرين ... فأَخلى لعَمرُك منه العرينا
وقد كاد أن يتبين الرّشاد ... فأعجله الحَيْن أنْ يستبينا
ولا بدَّ للغاصب المُستدين ... على الكُره من أنْ يُوَفّي الدُّيونا
ومن يخذُل الله ثمَّ الإمامَ ... فليس له اليوم من ناصرينا
ولمّا استجاشت عليه العِدى ... وشبَّ له القوم حرباً زَبونا
سقاهم بكأْسٍ مريرِ المَذا ... ق لا يَعذُبُ الدَّهرَ للشاربينا
وأشبعَ منهم ضِباعَ الفلاة ... فظلُّوا لأَنعُمِه شاكرينا
وأنشدني الأمير مرهف بن أُسامة بن منقذ، قال: أنشدني أبو عبد الله بن أبي جرادة لنفسه:
لَهفي لفَقد شبيبةٍ ... كانت لديَّ أجَلَّ زاد
أنفقْتُها مُتَغَشْمِراً ... لا في الصلاح ولا الفساد
ما خِلْتُ أَنّي مُبتلىً ... بهوى الأصادِق والأعادي
حتى بكَيْتُ على البيا ... ضِ كما بكيت على السّواد

قال ومن شعره قوله:
أَحبابَنا شَفَّنا لِهَجركُمُ ... وبُعدِنا من وِصالِكُمْ، خَبَلُ
فإن قطعنا لا تَحفِلون بنا ... وإن وصلناكُمُ فلا نصِلُ
فأرشدونا كيفَ السبيلُ فقد ... ضاقت بنا في هواكُمُ الحِيَلُ
شأْنُ المحِبِّين أنْ يدوموا على الْ ... عَهد وشأْنُ الأحِبَّة المَلَل
ثم طالعت بمصر ديوانه فكتبت منه ما ارتضيتُه، وذَخَرت من نقده ما وفَّيته حق الانتقاد، وأنجزته بعد ما اقتضيته. فمن ذلك قوله:
لقاؤكَ أغلى من رُقادي على جفني ... وقُرْبُكَ أَحلى من مُصاحَبة الأمن
أَيا مَنْ أَطَعْتُ الشوقَ حتى أتيتُه ... وأَيقنتُ أَنّي قد لجأْتُ إلى رُكْنِ
لئن لم أَفُزْ منكَ الغَداةَ بنظرةٍ ... تُسَهِّلُ من وَعرِ اشتياقي فواغَبْني
وقوله:
وَجدٌ قديمٌ وهوىً باقِ ... ونظرةٌ ليس لها راقِ
ودمعُ عينٍ أبداً حائرٌ ... ليس بمنهَلٍّ ولا راقِ
أَحبابنا هل وَقفةٌ باللِّوى ... تُسعِفُ مُشتاقاً بمُشتاق
وهل نُداوَى من كُلوم النَّوى ... بلَفِّ أَعناقٍ بأعناق
ما زلتُ من بينِكُمُ مُشْفِقاً ... لو أنَّه ينفع إشفاقي
أعوم في لُجَّة دمعي إذا ... ما أُضرِمَتْ نيرانُ أَشواقي
وَجْدي بكم نَقْدٌ، وميعادُكم ... مُنكسرٌ في جملة الباقي
يا ساقياً خمرةَ أجفانه ... لهفي على الخمرة والساقي
أما تخافُ الله في مُقلةٍ ... لا عاصمٌ منها ولا واقِ
كأَنَّها كَفُّ الأَجَلِّ انبرَتْ ... تَعْدو على المال بإنفاق
وقوله:
إنَّ بين السُّجوف والأرواقِ ... فتنةً للقلوب والأحداق
ومَريضُ العهودِ تُخبرُ عَيْنا ... هُ بما في فؤاده من نِفاق
أنا منه في ذِلَّةٍ وخُضوعٍ ... وهو مني في عِزَّة وشِقاق
سدَّدَ السَّهْمَ من جفونٍ إذا ما ... فُوِّقَتْ لم يكن لها من فواق
وليالٍ من الصِّبا بتُّ أَسْتَعْ ... رِضُ فيها نفائس الأعلاق
حيث لا نَجمُها قريبٌ من الغر ... بِ وليست بُدورُها في مَحاق
فُزْتُ بالصَّفْو في دُجاها ولم أَدْ ... رِ بأَنَّ الإشراقَ في الإشراق
يا خليليَّ هل إلى معهد الحَيِّ ... سبيلٌ للهائم المُشتاق
إنَّ وَجدي به وإن طال عهدي ... لحديدُ القُوى سديدُ الوَثاقِ
مثلُ وَجد القاضي المُوَفَّق بالمج ... دِ وقِدماً تصاحَبا بوِفاق
ذاكَ مولىً كأنَّما سلَّم اللَّ ... هُ إليه مفاتح الأرزاق
ذو مَعالٍ مُقيمةٍ في ذُراه ... وثناءٍ يسيرُ في الآفاق
وندىً لا يزال يدأبُ في طُرْ ... قِ النَّدى سائراً إلى الطُّرّاق
وقوله كتبه إلى أخيه بالشام من مصر:
فؤادٌ بتَذكار الحبيب عميدُ ... وشوقٌ على طول الزّمان يزيد
وعينٌ لبعد العهد، بين جُفونِها ... قريبٌ، ولكن اللقاء بعيد
وما كنت أدري أنَّ قلبي صابرٌ ... وأنّي على يوم الفراق جليد
ومنها:
أريدُ من الأيّام ما لست واجِداً ... وتوجدُني ما لا أكادُ أُريدُ
وقوله:
سريرةُ حُبٍّ ما يُفَكُّ أَسيرُها ... ولوعةُ قلبٍ ليس يخبو سعيرُها
ونفسٌ أبتْ أنْ تعرف الصبر عنكُمُ ... وكيف وأنتمْ حُزنُها وسرورها
وهل حاملٌ منّي إليكم تحيَّةً ... إذا تُليَتْ يوماً يضوعُ عبيرها
ومنها:
رعى اللهُ أَيّامَ الصِّبا كلَّما هفَتْ ... صَباً، فشفى مرضَى القلوب مُرورُها
فهل لي إلى تلك المنازل رَجعَةٌ ... أُجَدِّد من وَجدي بها وأزورها
لئنْ نزحَتْ داري فإنَّ مودَّتي ... على كدَر الأيّام صافٍ غديرُها

وقوله فيمن تردَّد إليه فتعذَّر لقاؤه عليه:
عزَّني أنْ أراكَ في حالة الصَّحْ ... و كما عَزَّني أوانُ المُدام
وكما لا سبيل أن نتناجى ... من بعيدٍ بألسن الأقلام
فعليك السّلامُ لم يبقَ شيءٌ ... أَترجّاه غيرُ طيف المنام
وقوله من قصيدة:
يا غائبين وما غابت مودَّتُهم ... هل تعلمون لمن شَفَّ الغرامُ شِفا
إن تَعتِبوني فعندي من تذَكّرِكُمْ ... طَيْفٌ يُطالع طَرفي كلما طَرَفا
أو تجحدونيَ ما لاقيتُ بعدَكُمُ ... فلي شواهدُ سُقمٍ ما بهِنَّ خَفا
واهاً لقلبٍ وهى من بعدِ بينكُمُ ... وكنتُ أعهد فيه قوَّةً وجَفا
فالريح تُذكي الجَوى فيه إذا نفحتْ ... والوَجد يقوى عليه كلّما ضعُفا
فارقتُكم غِرَّةً مني بفرقتكمْ ... فلم أجد بدلاً منكم ولا خلَفا
ومنها:
وقد فضَضْتُ لعَمري من كتابكُمُ ... ما يشبه الوُدَّ منكم رقَةً وصفا
فبِتُّ أَستافُ منه عنبراً أَرِجاً ... طَوراً وأنظرُ منه روضةً أُنُفا
أودُّ لو أنّني من بعض أسطره ... شوقاً وأحسد منه الّلام والألِفا
آليتُ إن عادَ صرْفُ الدَّهر يجمعُنا ... لأَعفوَنَّ له عن كلِّ ما سلفا
لهفي على نفحةٍ من ريح أرضكُمُ ... أَبُلُّ منها فؤاداً مُوقِراً شَعِفا
ووَقفةٍ دونَ ذاكَ السَّفح من حلبٍ ... أَمُرُّ فيها بدمعٍ قَطُّ ما وقفا
أنفقتُ دمعي قصداً يومَ بينكُمُ ... لكنَّني اليومَ قد أنفقتُه سَرَفا
ما لي وللدهر ما ينفكُّ يقذفُ بي ... كأنني سهمُ رامٍ يبتغي هدفا
وقوله:
ما على الطَّيف لو تعمَّد قَصدي ... فشفا غُلَّتي وجَدَّد عهدي
وأتاني ممن أحبُّ رسولاً ... وانثني مُخبراً حقيقةَ وَجدي
إن أحبابنا وإن سلكوا اليوْ ... مَ، وحاشاهُمُ، سبيلَ التَّعدِّي
ونسُونا فلا سلامَ يوافي ... بوفاءٍ منهم ولا حُسْنَ رَدِّ
لهُمُ الأقربونَ في القرب منّي ... وهمُ الحاضرونَ في البعد عندي
ما عهِدناهُمُ جُفاةً على الخِ ... لِّ ولكن تغيَّر القوم بعدي
ليتهم أسعفوا المحِبَّ وأَرْضَو ... هُ بوَعْدٍ إذ لمْ يجودوا بنَقد
حبَّذا ما قضى به البينُ من ض ... مٍّ ولثْمٍ لو لمْ يشُبْهُ ببُعْدِ
لكَ شوقي في كلِّ قربٍ وبعد ... وارتياحي في كلِّ غَورٍ ونَجد
ولئن شطَّ بي المَزارُ فحسبي ... أنني مُغرَمٌ بحبِّك وحدي
وقوله من أبيات كتبها إلى الأمير مؤيد الدين أسامة بن منقذ:
أحبابَنا فارقتُكُمْ ... بعد ائتلافٍ واعْتِلاق
وصفاءِ ودٍّ غير مَمْ ... ذوقٍ ولا مُرِّ المَذاق
ووثائقٍ بينَ القلو ... ب تظَلُّ مُحكمةَ الوِثاق
نفَقَتْ بسوق المَكْرُما ... تِ فليس فيها من نِفاق
لكنني وإن اغتربْ ... تُ وعَزَّني قربُ التلاقي
لا بدَّ أن أتلو حقي ... قةَ ما لقيتُ وما أُلاقي
أمّا الغرامُ فما يزا ... لُ به التّراقي في التّراقي
وكذلكُمْ وَجدي بكم ... باقٍ وصبري غيرُ باق
وطليق قلبي مُوثَقٌ ... وحبيسُ دمعي في انطلاق
ومنها:
أَمْلَلْتُهُمْ مِن طول ما ... أَمْلَلْتُهُمْ وصفَ اشتياقي
يا ويحَ قلبي ما يزا ... ل صريع كاسات الفراق
بل ليتَ أيّامي الخوا ... لي باقياتٌ لا البواقي
وقوله:
غرامٌ بدا واشتهر ... ووَجْدٌ ثوى واستقرّْ
وجسمٌ شجَتْه النَّوى ... فلِلسُّقْمِ فيه أَثَرْ
وقلبٌ إلى الآن ما ... علمتُ له من خبَر

وليلٌ كيوم الحسا ... ب ليس له من سحَرْ
ولي مقلةٌ ما يزا ... ل يعدو عليها السَّهَر
كأنَّ بأجفانها ... إذا ما تلاقت قِصَرْ
بنفسيَ من لا أرا ... هُ إلاّ بعين الفِكَرْ
ومَن لستُ أسلو هوا ... هُ واصَلني أم هجَرْ
ألينُ له إن جفا ... وأعذره إن غدر
وأركبُ في حبِّه ... على الحالتينِ الخطرْ
وقوله:
عنَّفَ الصّبَّ ولو شاءَ رَفَقْ ... رَشأٌ يرشُق عن قوس الحَدَقْ
فيه عُجْبٌ ودلال وصِباً ... وتَجَنٍّ ومَلالٌ ونزَق
ليَ منه ما شجاني وله ... من فؤادي كلُّ ما جلَّ ودَقّْ
ومنها:
يا خليلَيَّ أَعيناني على ... طول ليلٍ وسَقامٍ وأَرَقْ
أتظنّان صلاحي مُمكناً ... إنَّما يَصْلُح مَن فيه رمَقْ
وقوله:
ما على طيفِكُمُ لو طرقا ... فشفى منّا الجوى والحُرقا
ومنها:
قاتل الله فؤاداً كلَّما ... خفَقَ البرقُ عليه خَفَقا
وجُفوناً بَلِيَتْ مُذْ بُدِّلَتْ ... منكمُ بعد نعيمٍ بشقا
وبنفسي شادنٌ يوم النَّقا ... كهلالٍ في قضيبٍ في نَقا
أسرتني نظرةٌ من لحظه ... فاعجَبوا مني أَسيراً مُطلَقا
وبِوُدّي عاذِرٌ من غادرٍ ... نكثَ العهدَ وخان المَوثِقا
لم أزل أصحَبُ في وَجدي به ... جسداً مُضنىً وطَرفاً أَرِقا
يا خليليَّ على الظَّن ومَنْ ... ليَ لو أَلقى خليلاً مُشفِقا
حَلِّلاه ما سبى مِن مُهجَتي ... واستذِمّاهُ على ما قد بقا
وانشُدا قلبي وصبري فلقد ... ذهبا يوم فراقي فِرَقا
وقوله:
مَن صَحَّ عُقدةُ عَقدِه ... وصفَتْ سريرَةُ وُدِّه
لم يعترض في قربه ... رَيْبٌ ولا في بعده
وقوله مما يُكتب على سيف:
أنا في كفِّ غلامٍ ... بأْسُه أَفْتَكُ مِنّي
أنا عند الظَّنِّ منه ... وهو عند الظَّن منّي
وقوله كتبه إلى أخيه:
هل لِلمُعَنّى بَعد بُعد حبيبه ... إلاّ اتِّصالُ حَنينِه بنحيبِه
جُهدُ المُحبِّ مَدامِعٌ مَسجومَةٌ ... ليست تقومُ له بكشف كُروبِه
أَحبابَنا بانَ الشَّبابُ وبِنتُمُ ... عن مُدنَفٍ نائي المحلّ غريبه
أمّا المدامعُ بعدكم فغزيرةٌ ... والقلبُ موقوفٌ على تعذيبه
لي أُلفةٌ بالليل بعد فراقكم ... والنَّجمِ عند شُروقه وغُروبه
وأكاد من ولَهي إذا ما هبَّ لي ... ذاك النَّسيمُ أطيرُ عند هُبوبه
وقوله من قصيدة:
بِوُدّي لو رَقّوا لفيض دموعي ... ومَن ليَ لو مَنُّوا برَدِّ هُجوعي
بُليتُ بمُغتال النَّواظِر مُولَعٍ ... بهجري، ولا يرثي لطول وَلوعي
فحَتّامَ أَدنو من هَوى كلِّ نازحٍ ... وأرعى بظهر الغيب كلَّ مُضيع
وهل نافعي أَنّي أَطعتُ عواذلي ... إذا ما وجدتُ القلبَ غيرَ مُطيع
وما ليَ أخشى جَورَ خصميَ في الهوى ... وخصمي الذي أَخشاه بين ضلوعي
فيا ويحَ نفسي من قِسِيِّ حواجِبٍ ... لها أسهمٌ لا تُتَّقى بدروع
ومن عَزْمَةٍ أَذْكَتْ غرامي وأَبعدَتْ ... مَرامي وأَلقتني بغير رُبوع
وقوله من أُخرى:
عُهودٌ لها يومَ اللِّوى لا أُضيعُها ... وأَسرارُ حبٍّ لستُ ممَّن يُذيعها
أَصاخَتْ إلى الواشينَ سمعاً ولم يزل ... يقولُ بآراءِ الوُشاة سَميعُها
ومنها:
وما كان هذا الحبُّ إلاّ غَوايةً ... فوا أَسفا لو أَنّني لا أُطيعُها
تقضَّتْ ليالٍ بالعقيق وما انقضت ... لُبانةُ صَبٍّ بالفريق وَلوعُها
ولمّا أفاضَ الحيُّ فاضتْ حُشاشَةٌ ... أَجَدَّ بها يومَ الوداع نُزوعُها

وقفنا وللألحاظ في مَعْرَك النَّوى ... سِهامُ غَرامٍ في القلوب وُقوعُها
ومنها:
وبِيضٍ أَعاضَتني نَواها بمثلها ... أَلا رُبَّ بِيضٍ لا يَسُرُّ طُلوعُها
خلعتُ لها بُردَ الصِّبا عن مناكبي ... وعِفْتُ الهوى لمّا عَلاني خليعُها
وقوله كتبها إلى والده يتشوَّقه:
شوقي على طول الزّما ... نِ يزيدُ في مِقداره
وجَوى فؤادي لا يَقِ ... رُّ وكيف لي بقراره
والقلب حِلفُ تقلُّبٍ ... وتحَرُّقٍ في ناره
والطَّرْفُ كالطِّرْفِ الغر ... يق يعومُ في تيّاره
وتأسُّفي وتلهُّفي ... باقٍ على استمراره
من ذا يرِقُّ لنازِحٍ ... عن أهله ودياره
لعبَ الزّمانُ بشَمْله ... وقضى ببُعد مَزارِه
فالسُّقمُ من زُوّاره ... والهَمُّ من سُمّاره
والصبر من أعدائه ... والدمع من أنصاره
وهمومُه مقصورةٌ ... أبداً على تذكاره
وقوله إلى القاضي الأجلّ الأشرف ابن البيساني متولي الحكم بعسقلان:
لعلَّ تَحَدُّرَ الدَّمع السَّفوحِ ... يُسَكِّنُ لوعة القلب القريحِ
وعلَّ البرقَ يروي لي حديثاً ... فيرفعهُ بإسنادٍ صحيحِ
ويا ريحَ الصَّبا لو خبَّرتني ... متى كان الخيامُ بذي طُلوحِ
فلي من دمع أجفاني غَبوقٌ ... تُدار كؤوسه بعد الصَّبوح
وأشواقٌ تقاذف بي كأني ... عَلَوْتُ بها على طِرْفٍ جَموح
ودهرٌ لا يزال يحُطُّ رحلي ... بمَضْيَعةٍ ويُرويني بِلُوحِ
كريمٌ بالكريم على الرَّزايا ... شحيحٌ حين يُسأَل بالشَّحيح
وأيّامٌ تُفرِّقُ كلَّ جَمعٍ ... وأحداثٌ تجيزُ على الجريح
فيا لله من عَوْدٍ بعُودٍ ... ومِنْ نِضْوٍ على نِضوٍ طليحِ
وأعجبُ ما مُنيتُ به عِتابٌ ... يؤرِّقُ مُقلتي ويُذيبُ روحي
أتى من بعد بُعدٍ واكتئابٍ ... وما أنكى الجروح على الجروح
وقد أُسرى بوجدي كلُّ وفدٍ ... وهَبَّتْ بارتياحي كلُّ ريح
سلامُ الله ما شَرَقَتْ ذُكاءٌ ... وشاق حنينُ هاتفةٍ صَدوح
على تلك الشَّمائل والسَّجايا ... وحسن العهد والخُلُق السَّجيح
على أُنْس الغريب إذا جفاه الْ ... قريبُ ومَحْتِد المجدِ الصَّريح
على ذي الهِمَّة العَلياء والمِنَّ ... ةِ البيضاءِ والوجهِ الصَّبيح
ومنها:
صَفوحٌ عن مؤاخذة المَوالي ... وليس عن الأعادي بالصفوح
هُمامٌ ليس يبرَح في مقامٍ ... كريم، أو لدى سعي نجيح
حديدُ الطَّرف في فعلٍ جميلٍ ... وقورُ السَّمع عن قولٍ قبيح
مددتُ إليه يدي فشدَّ أزري ... وذادَ نوائب الدَّهر اللَّحوح
وفزتُ بوُدِّه بعد ارتيادٍ ... ولكن صدَّني عنه نُزوحي
وما أدركت غايته بنظمي ... ولو أدركت غايةَ ذي القروح
ولكني وقفت على عُلاه ... عَتادي من ثناءٍ أو مديح
وقوله من قصيدة:
إلامَ ألومُ الدَّهر فيكمْ وأعْتِبُ ... وحتّامَ أرضى في هواكمْ وأغضبُ
أما مِن خليلٍ في الهوى غير خائنٍ ... أما صاحبٌ يوماً على النُّصح يصحَب
بأَيَّةِ عُضوٍ ألتقي سَورةَ الهوى ... ولي جسَدٌ مُضنىً وقلبٌ معذَّبُ
عذيريَ مِنْ ذِكرى إذا ما تعرَّضت ... تعرَّضَ لاحٍ دونها ومؤنِّبُ
ومنها:
أرى الدَّهرَ عوناً للهموم على الفتى ... وضِدّاً له في كلِّ ما يتطلَّب
فأبعَدُ شيءٍ منه ما هو آمِلٌ ... وأقرب شيءٍ منه ما يتجنَّبُ

وقد يحسب الإنسان ما ليس مدرِكاً ... كما يدرِكُ الإنسانُ ما ليس يحسب
وقوله من قصيدة كتبها إلى والده سنة ثلاث وأربعين:
ظنَّ النَّوى منك ما ظنَّ الهوى لَعِبَا ... وغرَّه غَرَرٌ بالبَيْنِ فاغْتربا
فظلَّ في رِبْقَةِ التَّبْريح مُؤْتَشِباً ... مَن مات من حُرْقَةِ التَّوديع مُنْتَحِبا
مُتَيَّمٌ في بني كعبٍ به نسبٌ ... لكنه اليوم عُذْريٌّ إذا انتسبا
أجاب داعي النَّوى جهلاً بموقِعها ... فكانَ منها إلى ما ساءه سببا
يا عاتِبَيَّ رُوَيْداً من مُعاتَبتي ... فلستُ أوّلَ مُخْطٍ في الورى أَرَبَا
رُدّا حديثَ الهوى غَضّاً على وَصَبٍ ... يكادُ يقضي إذا هبَّتْ عليه صَبا
وجَدِّدا عهده بالسَّمع عن حلبٍ ... فإنَّ أَدْمُعَه لا تَأْتَلي حَلَبَا
ومنها:
للهِ قلبي ما أغرى الغرامَ به ... وحسنُ صبريَ لولا أنه غُلِبا
يا قاتلَ اللهُ عَزْمَاً كنتُ أَذْخَرُه ... رُزِيتُه في سبيل الحب مُحْتَسِبا
إذا تفَكَّرْتُ في أمري وغايتِه ... عَجِبْتُ حتى كأني لا أرى عَجَبَا
ومنها:
أَسْتَودِع اللهَ أحباباً أُشاهِدهمْ ... بعين قلبي وليستْ دارُهم كَثَبَا
أصبحتُ لا أرتجي مِن بعد فُرْقتهم ... خِلاًّ أُفاوضه جِداً ولا لَعِبَا
فإن سُرِرتُ فإني مُضْمِرٌ حَزَنَاً ... أوِ ابْتسمتُ وجدتُ القلب مكتئِبا
وقوله:
قالوا تَرَكْتَ الشِّعرَ قلتُ لهم ... فيه اثنتان يعافُها حسبي
أمّا المديح فجُلُّهُ كذبٌ ... والهجوُ شيءٌ ليس يَحْسُنُ بي
وقوله في كسرِ الخليج بمصر:
حبَّذا كَسْرُ الخليجِ ... وهو ذو مرأى بهيجِ
حبَّذا ما نحنُ فيه ... مِن دُعاءٍ وضجيج
والشَّواني فيه تجري ... كالصَّياصي في النَّسيج
نحن في جوِّ سماءٍ ... ما لَدَيْها من فُروج
كبُدورٍ في بُروجِ ... أو سُطورٍ في دُروجِ
أو زُهورٍ في مُروجِ ... أو ملوك في سروجِ
وله منها في المدح:
قلتُ إذ أقبل كالد ... رِّيِّ في الليلِ الدَّجُوجي
ما رأينا قطُّ بحراً ... سائراً نحو الخليج
وقوله من قصيدة:
من لي بأَحورَ قُربي في محبَّته ... كالبعدِ، لكن رجائي منه كالياسِ
مُستعذِبٌ جَوْرَه فالقلب في يده ... مُعذَّبٌ، ويدي منه على راسي
ودَّعْتُه مِن بعيدٍ ليس من مَلَلٍ ... لكن خَشِيتُ عليه حَرَّ أنفاسي
وقوله:
ما ضرَّهُم يومَ جَدَّ البَينُ لو وقفوا ... وزَوَّدوا كَلِفَاً يودي به الكَلَفُ
تخلَّفوا عن وَداعي ثُمَّتَ ارتحلوا ... وأخلفوني وُعوداً ما لها خَلَفُ
ومنها:
أَسْتَودِعُ الله أحباباً أَلِفْتهُمُ ... لكن على تَلَفي يوم النَّوى ائتَلفوا
تَقَسَّموني، فقِسْمٌ لا يُفارِقُهمْ ... أَيْنَ اسْتَقلّوا وقسمٌ شَفَّه الدَّنَفُ
عَمْرِي لَئِنْ نَزَحَتْ بالبين دارُهمُ ... عنّي فما نزَحوا دمعي ولا نزَفوا
يا حبّذا نظرةً منهم على وَجَلٍ ... تكادُ تُنْكِرني طوْراً وتعترِف
وتوفي أبو علي بن أبي جرادة بالقاهرة في جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.

أخوه:
القاضي الأعز أبو البركات بن أبي جرادة
كان أميناً على خِزانة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بن آق سُنقُر وهو عدلُها، وبيده عَقدُها وحَلُّها، إلى أن توفي بعد سنة خمسٍ وخمسين وخمسمائة، ووجدتُ من شعره في ديوان أخيه من قصيدة كتبها إليه بمصر:
يميناً بما ضمَّتْ غداةَ المُحصَّب ... جَنوبُ مَنىً من ذي بِطاحٍ وأخشَب
ومنها:
وشُعْثٍ على شُعْثٍ كأنَّ وجوههمْ ... شُموسُ نهارٍ أو أهلَّةُ غيهب

فهم يقصدون البِرَّ في كلِّ وِجهةٍ ... ويجتلبونَ الأجر من كل مجلَب
لَبَرَّحَ بي شوقٌ على إثر ظاعنٍ ... مقيمٍ على حُكمِ القِلا والتَّجَنُّب
ومنها:
أَسُكّانَ مِصرَ هل إليكم لذي هوىً ... ولو في منام العَين وَجهُ تَقَرُّب
سقى جانب الوادي الذي عُقدَتْ به ... قِبابُكُمُ، صوبُ الحَيا المُتهدِّب
فروَّضَ من مَغناكُمُ كلَّ تَلْعَةٍ ... وطَفَّحَ من بطحائكم كلَّ مِذْنَب
وهبَّت لكم ريحُ الصَّبا بتحيَّةٍ ... أرقَّ من الشَّكوى إليكم وأعذب
ومنها:
خليليَّ من عُليا ربيعةَ مالنا ... عَقَقنا وكُنّا من أبرِّ بني أَبِ
رحلنا وخلَّينا أعِزَّةَ أهلنا ... يُراعونَ مَسْرى الطّارق المُتأَوِّب
وصرعى بأكناف الرِّحال كأنَّهمْ ... سُكارى ولم تُقرَعْ كؤوسٌ بأكؤبِ
يئنّونَ مِمّا أثخَنَ البينُ فيهمُ ... أنينَ أسيرِ الثائرينَ المُعذَّب
لهم بقدوم الرَّكْبِ أُنسٌ وغِبطةٌ ... وإن لم يكن من نحونا شَدُّ أركَب
فإن آنسوا ذِكراً رَمَوا بأكفِّهمْ ... إلى كلِّ قلبٍ في لظىً متقلِّب
وإن عاينوا منّا كتاباً تطالَعَتْ ... بَوادِرُ دمعٍ بالدِّماء مخضَّب
قصدنا لهم ضِدَّ الذي قصدوا له ... لقد عاقبتْ آراؤنا غيرَ مُذنِبِ
إلى أيِّ حيٍّ غيرهم أنا راحِلٌ ... وفي أَيِّ أهلٍ بعدهم مُتطلَّبي
أعاتبَ نفسي في اصطباري عنهمُ ... وأذهبُ في تأنيبها كلَّ مذهب
وإمّا رأى الأقوامُ مني تجلُّداً ... فما الشأن إلاّ في الضَّمير المُغيَّب
فكتب جوابَه إليه من مصر إلى حلب:
أتاني ومَنْ طابتْ به أرضُ يثربِ ... على شِدَّةِ البَلوى وطول التَّرقُّب
أمينٌ إذا ما استُودِعَ السّرَّ صانه ... وإن خانَ فيه كلُّ خِلٍّ مُهذَّب
فأكرِم به من زائرٍ متعَمِّدٍ ... وأحسِن به من واصلٍ مُتعَتِّب
سرَرْتُ به نفسي وأقرَرتُ ناظري ... وأكثَرتُ إعجابي به وتعجُّبي
وقبَّلْتُه في الحال ثم وضعتُه ... على كبدٍ حرَّى وقلبٍ معذَّب
وقابلت ما وافى به من تحيَّةٍ ... بما شئت من أهلٍ وسهلٍ ومَرحَب
وأَمَّلْتُ منه أن يُسَكِّنَ لوْعتي ... فهيَّجَ بَلبالي وزادَ تلهُّبي
ومنها:
أَأَحبابَ قلبي والذينَ أَوَدُّهُمْ ... وأَشتاقُهُمْ في كلِّ صبحٍ وغيهَب
بغير اختياري فاعلموا وإرادتي ... نزلتُ على حكم القِلا والتَّجَنُّب
رحلتُ بقلبٍ عنكمُ غيرِ راحلٍ ... وعِشتُ بعيشٍ بعدكم غيرِ طيِّب
لقد فلَّ غربي غُربَتي عن بلادكُم ... وأجرى غُروبَ العينِ مني تغَرّبي
وما زلتُ أصفيكم على القرب والنَّوى ... هواكُمْ وأرضاكمْ بظهر المُغَيَّب
فلا تحسبوا أَني تسلَّيتُ عنكمُ ... فما الهجر من شأني ولا الغدر مَذهبي
سعيتُ لكم سَعْيَ الكريمَ لأهله ... وما كلُّ ساعٍ في الأنام بمُنجِب
لعَمري لقد أبلغْتُ نفسيَ عُذرَها ... وإن كنتُ لم أَظفرْ بغايةِ مطلبي
وصاحبتُ أيّامي على السُّخطِ والرِّضى ... بعزمةِ مَصقولِ الغِرارَيْنِ مِقضَب
سقى حَلْباً جَودُ الغَوادي وجادَها ... وحيّا ثراها بالحَيا المُتحلِّب
بكلِّ مُلِثٍّ وَدْقُه غيرُ مُقلعٍ ... وكلُّ مُلِبٍّ بَرقُه غيرُ خُلَّب
ومنها:
وقد كنتُ قبلَ اليومِ جَلداً على النَّوى ... فهدَّ الأسى رُكني وضعضعَ مَنكِبي
فما وَجدُ مِقلاتٍ تذَكَّرُ بالضُّحى ... طَلاها ولا وَحشِيَّةٍ أُمِّ تَوْلَبِ

ولا ذاتِ طَوقٍ ما تَمَلُّ هديلَها ... رَقوبٍ إذا لم تذرَفِ الدَّمعَ تَندُبِ
كَوَجدي إذا ما جنَّني الليل وانتفى ... رُقادي وصبري واستمرَّ تكرُّبي
لحا الله دهراً فرَّقتنا صروفُه ... فشَعَّبَ منّا الشَّملَ في كلِّ مَشعَبِ
خُلقتُ على ريبِ الحوادثِ صابراً ... كأني على الأيّام قُنَّةُ مَرْقَب
ولكنني أرجو من الله أنه ... سيُنعم بالي منكمُ بالتَّقرُّب
ووجدت أيضاً في ديوان أبي علي الحسن بن أبي جرادة أنه وصلته من والده رقعة فيها شعر بخط أخيه ومن جملته:
أَمالِكَ ناظري والقلبِ حقّاً ... يقيناً في الدّنُوِّ وفي البِعاد
قنعتُ بأن أراكَ بعَين سَمعي ... على أَنَّ اشتياقي في اتِّقاد
وكنتُ أُطيلُ في الشَّكوى اجتهاداً ... فلم تُغْنِ الإطالة باجتهادي
ولمّا لمْ أَفُزْ ببلوغِ قصدي ... عَدَلتُ إلى اقتصارٍ واقتصاد
فلا تبخلْ عليَّ بفضل طِرْسٍ ... عليه رَقْشُ كفِّك بالمداد
ففيه قوَّةٌ لذِماءِ نفسٍ ... كَدِقِّ الجمر في هابي الرَّماد
فلا برحَتْ تخصُّكَ كلَّ يومٍ ... تحيّاتي وإن شَحَطَتْ بلادي
أَحِنُّ إلى اللِّقاءِ وأنت عندي ... مقيمٌ في السُّويدا والسَّواد
فأجابه عن ذلك بقصيدة منها:
أَطعتُ ولم أكن طوعَ القِيادِ ... وغالبَني الزَّمان على مُرادي
وباعدتُ الأحِبَّةَ بعدَ قربٍ ... وقاربتُ النَّوى بعدَ البِعاد
ومنها:
فبِتُّ كأَنَّني في عَقد عَشْرٍ ... وأفكاري تُطّوِّفُ في البلاد
أَسيرَ صبابةٍ ونجِيَّ شكوى ... وحِلْفَ كآبةٍ وأخا سُهاد
غريبَ الدّار أصحَبُ غيرَ أهلي ... وأُصبحُ ساكناً بسوى بلادي
وما استأْخَرْتُ سُلواناً ولكن ... عَدَتْني عن زيارتِك العوادي

والده
عليّ بن أبي جرادة
لم أعرف أنه كان شاعراً، لكنني وجدت في ديوان ولده وردتْ إليه من أبيه أبياتٌ وكانت بغير خطِّه فأوردت منها:
أما اقتنع الدَّهرُ الخَؤون ولا اكْتفى ... بِفُرْقَتِنا حتى أَشَطَّ وأسرَفا
وغادرَ قلبي بالهموم موَكّلاً ... وصيَّره طبعاً له لا تكلُّفا
وخالفَ فيما بينَ عينيَّ والكرى ... وحالف فيما بين جفْنَيَّ والجَفا
وأضرَمَ في الأحشاء نارَ صبابةٍ ... لها لهبٌ لو باشرَ اليمَّ ما انطفى
لئن كان ذا وِتْرٍ لقد بان وِترُهُ ... وإن كان ذا غَمْرٍ لقد فاز واشتفى
وكنتُ على وَعدٍ من الصَّبر صادقٍ ... متى رُمْتُهُ في حادثٍ جادَ بالوفا
فلما تناهى في هواك صبابتي ... تقاضيته فيما عهِدتُ فأخلَفا
ومنها:
فإنْ تُعقِبِ الأَيّامُ قرباً نَلَذُّهُ ... فنُعمى بها مَنَّ الإلهُ وأسعفا
وإن تكنِ الأُخرى فإنِّيَ قائلٌ ... عليكَ سلامٌ ما بدا النَّجمُ أو خفا
وداعُ مُحِبٍّ قد تطاوَلَ عمرُهُ ... وأصبحَ من نَيلِ الرَّجاءِ على شَفا
فكتب ولده في جوابها قطعة منها:
تملَّكني صَرفُ الزَّمان فصرَّفا ... وأنهلَني كأْسَ الهُموم وصرَّفا
وعوَّضني ممَّن أُحِبُّ تأَسُّفا ... وهل ينفعُ المحزونَ أن يتأَسَّفا
ومنها:
خليليَّ شَفَّ الوَجْدُ قلبَ مُتيَّمٍ ... فأصبحَ من نَيلِ الشِّفاء على شَفا
وضاعفتِ الأحزانَ عندي صحيفةٌ ... على أنَّني صيَّرْتُها ليَ مُصحَفا
الفقيه أبو المجد
مَعدان بن كثير بن الحسين البالِسيّ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16