كتاب : خريدة القصر وجريدة العصر
المؤلف : العماد الأصبهاني

ولما استلذّوا مَوْتَهم بعَذابه ... وَعَيْشَهمُ في عُدْمِه سألوا الرُّجعى
إذا فقدوا بعض الغرام توَلَّهوا ... كأنَّ الهوى سَنَّ الغَرامَ لهم شَرْعَا
وقد دفعوا عن وَجْدِهمْ كلَّ سَلْوَةٍ ... ولو وَجَدَتْه ما أطاقَتْ له دَفْعَا
وطاب لهم وَقْعُ السِّهام فما جَلَوْا ... لصائبها بِيضاً ولا نسَجوا دِرْعا
فكيفَ يُعَدُّ اللَّوْمُ نُصْحاً لَدَيْهمُ ... إذا كان ضُرّ الحُبّ عندهمُ نَفْعَا
ومنها:
خَلا الرَّبْع من أحبابِهم، وقلوبُهمْ ... مِلاءٌ بهم، فالرَّبْعُ مَن سأل الرَّبْعا
سَلِ الوُرْقَ عن يوم الفِراق فإنّهُ ... بأَيْسَرِ خَطْبٍ منه عَلَّمَها السَّجَعا
إذا صَدَحَتْ فاعلَمْ بأنّ كُبودَها ... مُؤَرَّثَةٌ غَمّاً تُكابده صَدْعَى
وذاك بأنّ البَيْنَ بانَ بإلْفِها ... وكيف ينالُ الوَصْلَ من وَجَدَ القَطْعا
وأهلُ الهوى إنْ صافحَتْهُم يدُ النَّوى ... رَأَوْا نَهْيَها أمراً وَتَفْريقَها جَمْعَا
رعى وسقى اللهُ القلوبَ التي رَعَتْ ... فَأَسْقَتْ بما أَلْقَتْ وأخرجَتِ المَرْعى
وحَيّا وأحْيا أَنْفُساً أَحْيَتِ النُّهى ... وحَيَّتْ فَأَحْيَتْنا مَناقِبُها سِمْعا
سحائِبُ إنْ شِيمَتْ عن المَوْصِلِ التي ... بها حَلَّتِ الأنواءُ أَحْسَنتِ الصُّنْعا
أوائِلُها من شَهْرَزورٍ إذا اعْتَزَتْ ... جزى اللهُ بالخيرِ الأراكة والفَرْعا
وَجَدْتُ الحَيا عنها بنُجْعَةِ غيره ... فَأَعْقَبَنا رَيَّاً وأحْسَبَنا شِبْعا
ونِلْنا به وِتْرَ العطاء وَشَفْعَهُ ... كأنّا أَقَمْنا نحوه الوتْرَ والشَّفْعا
وللحصكفي من قصيدة:
أتُرى عَلِموا لمّا رحلوا ... ماذا فعَلوا أمْ مَن قتَلوا
خدَعوا بالمَيْنِ قَتيلَ البَيْنِ فدمعُ العَين لهُم ذُلُلُ
وبسَمْعي ثَوَّرَ حادِيهِمْ ... وبعيني قُرِّبَتِ البُزُلُ
فمتى وصَلوا حتى قطَعوا ... ومتى سمَحوا حتى بَخِلوا
قد زاد جنونُ النَّفسِ بمَنْ ... للعقل محاسنُه عُقَلُ
إن قام أقام قيامَتها ... أو جالَ فَجَوْلتُه الأجَلُ
كقَضيبِ البان وفي الأجفا ... ن من الغِزلانِ له مثَلُ
أشكو زَمَنَاً أَوْلَى مِحَناً ... وجنى حَزَنَاً فَعَفَتْ سُبُلُ
العلمُ يُهانُ وليس يُصا ... ن فأيُّ لسانٍ يَرْتَجِلُ
وله من رسالة: للقلوب من دون أستار الغيوب، أطال الله بقاء القاضي، حَواسّ سلمتْ مطالعُها، وعُدمت موانعها، فلا يوقر سامعها، ولا يعشى طامعها، لأنها صفت فوُصفت، وسرحت فشُرحت، فهي تستمد القوى من أنوار ذواتها، وتتلقّاها من فيض أدواتها، وتلك لأهل الأحوال، وأنا منها على الأقوال، وأخرى تطالعها الأنوار من مظانّها، في مكامنها، وتتّصل بها القوى لدى مساكنها، من معادنها، لأنها قُصرت فنُصرت، وحُصرت فبُصرت.
كالشمس لا تبتغي بما صَنَعَتْ منفعةً عندهم ولا جاها

ومنها في التجنيس المنعكس وكل كلمة مشتقة من أختها:
فالنفس بعقود التذرُّع حالية، ولقعود التعذّر حائلة، ومن الودائع المُعجزة مالية، وإلى الدواعي المزعجة مائلة، وفي بحار الحمد راسية، وفي رحاب المدح سائرة، تجمح إلى مواصلة القمر، وتُحجم عن مصاولة القرم، لتكفّ بإظفار الأمل، وتفك بأظفار الألم، فهل كامل يُعني، ومالك يُعين، ومقتصِد يدني، ومتصدِّق يُدين، فالرغبة إلى الشهُب، من الغُربة في الشبه، رغبة مَن قصد بالإلهام، مواقع السحاب الهام، وورد شريعة الإفهام، لظما الإبهام، وتعرّض لمعان دقَّتْ عن الأفهام، ورقّت فترقّت عن الأوهام.
وله وقد أودعها رسالةً:
قُمْ سَقِّني صَفْوَها يا صاحِ والعَكَرا ... مُدامَةً تُذهِبُ الأحزان والفِكَرا
ويا نَديمي تنَبَّهْ إنّما سَكَني ... مَن لا يَلَذُّ على حُبِّ السُّلافِ كَرا

وله فيها:
هاتِها في نسائم الأسْحارِ ... حين تَشْدُو على الغصونِ القَماري
مُزّة الطّعْم وهي أحلى من الشَّهْدِ وأذكى من الكِباء القَماريّ
والتي حُرِّمَتْ عليك مع المَيْسِر دَعْ شُرْبها لأهل القِمار
فطُلوعُ الشُّموسِ عمّا قليلٍ ... سوفَ يُنسيكَ غَيْبَةَ الأقمارِ
ومنها نثراً:
فآنس أجمالاً تُزمّ، وأحمالاً تُضمّ، وأحوالاً تهول، وأهوالاً تَحول، وأوجالاً تصول، وأصوالاً تجول، وسمع تناذُر القُطّان، بمفارقة الأوطان، وتثويب الداع، بوشك الوداع، وللحداة زجل، وعلى القوم عجل، وقد بُنيت القباب، وحُثّت الرِّكاب، وفي الخدور، أشباه البدور، وتحت الأكِلّة، أمثال الأهلّة، وأيدي النَّوى لاعبة، وغِربانه ناعبة، والحيّ قد طُرق، والصواع قد سرق، وضمن مؤذّن العير، لمن جاء به حمل بعير، يا له من عامريّ، بيسَ من عام رَيّ، وخَليس مصاب، بيس من خليس مَصاب، وقد سُلبت أكناف الثغور، بنتح ذلك النور، وعدمت أرجاء العقيق، أَرَجَ ذلك الروض الأنيق، وحُرمت أبيات رامة، تلك الكرامة.
وله منها نظماً في طول الليل:
يا لَيْلُ ما فَعَلَ الصباحُ ... أَفَمَا لمُبْهَمِهِ اتِّضاحُ
لَيْلِي غُرابٌ واقعٌ ... في الشرق ليس له جَناحُ
دَلَكَتْ بَراحِ فقالت ال ... أفلاكُ ليس لنا بَراحُ
مَرِضَتْ عن السيْرِ الدُّجى ... وَرَنَتْ لها الحدَقُ الصِّحاحُ
ما زال تَبْيَضُّ العُقو ... دُ بها ويسْوَدُّ الوِشاحُ
حتى أقول عساه يَخْضِب شَيْبَهُ الدهرُ الوَقاحُ
وكأنّما خَلَعَتْ غدا ... ئراها على الجوِّ المِلاحُ
ومنها نثراً:
ما كل عبرةٍ تسفح، عن زفرة تلفح، قلبي الوطيس، وتحنُّ العيس، وعندي اللاعج، وتُرزم النواعج، فعدِّ عن دفع النفاق، ودعوى الإشفاق، إنما كمون الداء، حيث تنفُّس الصُّعداء.
فقد قلتُ يا قلبُ كُن بَعْدَهم ... جَليداً فقال ألا خَلِّ عنّي
إذا أَوْحَشَ الحيُّ من سادتي ... فلا أنا منكَ ولا أنت منّي
وله:
جاءني يَحْلِفُ أي أنّي مُحِبٌّ وشَفيقُ
يُظهِر البِرَّ وفي البا ... طِن خُبْثٌ وعُقوقُ
مِثلما يَخْدَعُكَ الضَّحْضاحُ والبحرُ عميقُ
كلُّه مَحْلٌ وإنْ غرَّ ... تْ رُعودٌ وبُروقُ
ثَمرٌ مرٌّ لجانِيهِ وأوراق تَروقُ
وعجيبٌ أنْ زكا الفر ... عُ ولم تَزْكُ العُروقُ
دِينُه دِينٌ رقيقُ ... وله وجهٌ صَفيقُ
وله، لا حاطه اللهُ، إلى كلٍّ طريقُ
هو بالفِعل عَدوٌّ ... وهو بالقَولِ صَديقُ
هو في القُربِ رحيقٌ ... وهو في البُعدِ حريقُ
هو قُدّامي مَنْجُو ... ق وَخَلْفي مَنْجَنيقُ
وإنِ اسْتُنطِقَ بَقٌّ ... وإنِ اسْتُكتِمَ بُوقُ
خَلَقُ الأخلاقِ بالهِجرانِ والتَّرْكِ خَليقُ
ففؤادي منه في تيّار أفكاري غَريقُ
إنْ أُجانِبْه يَقُلْ كا ... نتْ وضاعَتْ لي حُقوقُ
أو أُصاحِبْه فما يُلفى له عَقدٌ وثيقُ
وله منّي إنْ أَعْرَضْتُ عنه الخَنْفَقيقُ
عنديَ النارُ له فيها زَفيرٌ وشهيقُ
غير أنّ المَكر والغَدْ ... ر بمثلي لا يَليقُ
عَلَّهُ من لَمّة الجَهْل بتَوفيقٍ يُفيقُ
وله:
جَلَّنارٌ أم شَقيقُ ... وَجْنَتاهُ أم عَقيقُ
وسيوفٌ أم جُفون ... تلك أم خَمرٌ عَتيقُ
بَرَدٌ في الفَم أمْ ثَغْرٌ وريقٌ أم رَحيقُ
غُصنُ بانٍ ماس في البُرْ ... دَة أم قدٌّ رشيقُ
رَشَأٌ كلَّفني في ... حُبِّه ما لا أُطيقُ
فكأني وهَواهُ ... رِدْفُه الخصرُ الدقيقُ
وله وقد سبق ذكر أول بيت:
هل من سبيلٍ إلى رِيقِ المُريقِ دَمي ... فما يُزيل سِوى ذاك اللَّمى ألَمي
يَشْفِي به من يُهينُ الدُّرَّ مَنْطِقُها ... نَظْمَاً ونثراً بدُرِّ الثَّغر والكِلَمِ

رَوْدٌ تَرودُ حِمى قَلْبِي وتشربُ من ... دَمْعِي وتسكن من صدري إلى حَرم
نادتْ محاسِنها العُشّاقَ مُعلِنةً ... أنّ المَنى والمُنى في مُقْلتي وفمي
فما احْتكمْتُ وعيْنَيْها إلى فَمِها ... إلاّ شُغِلتُ عن الخَصْمين بالحَكَمِ
غَرّاءُ كالدُّرَّة البيضاء تَحْجُبُها ... أستارُ بحرٍ بماء الموتِ مُلتَظِم
تُهْوى فَتَهْوي المُنى دون اللَّحاقِ بها ... أَفْدِيك مِن أَمَمٍ أَعْيَا على الأُممِ
زارَتْ فَأَيْقَظتُ صَوْنِي في زيارتها ... ليَقْظتي وَنَدَبتْ الحلْمَ للحُلُمِ
آليتُ أسألُ إلْمامَ الخيالِ ولي ... عَينٌ وقد ظَعَنَ الأحباب لم تَنَمِ
كأنَّني بهمُ أَقْسَمتُ لا طَمِعت ... طيبَ الكَرى فأبَرَّتْ مُقلَتي قَسَمي
وكيف لي يَوْمَ ساروا لو صَحِبْتُهمُ ... مِن المطايا ورأسي مَوْضِعَ القَدِم
بانوا فَرَبْعُ اصطباري مُنذ بَيْنِهمُ ... بالٍ كَرَبْعِهمُ البالي بذي سَلَم
وا وَحْشَتي إذ أُنادي في مَعالِمِهمْ ... صُمّاً تُجيبُ بما يَشفي من الصَّممِ
يَشْكُو صَداها إلى عَيْنِي فَتَمْنَحُها ... دَمْعَاً إذا فاض أَغْنَاها عن الدِّيَمِ
وكلّما قال صحبي طالَ مَوْقِفُنا ... فارْحلْ بنا قالت الآثارُ بل أَقِم
مَنازِلٌ كلّما طال البِعاد عَفَتْ ... كأنما تَسْتَمِدُّ السُّقْمَ من سَقَمي
قِفوا فَأَقْوى غَرامي ما يُجَدِّدُهُ ... برَسْمِه طَلَلٌ أقوى على القِدَم
قُل للأُلى غَرَّهمْ حِلْمي ونَقَّصَهمْ ... إيّاكمُ وطريقَ الضَّيْغَمِ اللَّحِم
فالحِلْمُ جَفْنٌ وإنْ سُلَّتَّ حَفيظتُه ... فربّما كَشَفَتْ عن صارِمٍ خَذِمِ
وله قصيدة طائيّةٌ على وزن قصيدة المعري وقد أثبتُّها جميعها لإثبات أخواتها من أشعار أهل العصر كتب بها إلى الرئيس أبي طالب الحسين بن محمد بن الكُميت وهي:
أَعَذْلُك هذا أنْ رَأَيْتَهمُ شَطُّوا ... وفي الآلِ إذْ غَطَّوْا هَوادِجَهُمْ غَطُّوا
لئن قُوِّضَتْ فاراتهم وتحَمَّلوا ... لقد نُصِبَتْ في خاطِري وبه حَطُّوا
فلا تَحْسَبنَّ الشَّحْطَ يُذْهِل عنهمُ ... فأقربُ ما كانوا إذا اعترضَ الشَّحْطُ
رَضِيتُ بمن أهوى فدامَ لي الرِّضا ... وَتَسْخطُه منّي فَدام لك السُّخْطُ
رأيتُ الأُلى كلَّفْتني الصبرَ عنهمُ ... بهم قَسَمي ما إنْ تَناسَيْتُهم قَطُّ
همُ سَوَّموا لَيْلِي وصُبْحي كتائباً ... من الروم تَغْزُوني و تَخْلُفها الزُّطُّ
فَأَعْجَبُ منّي كيف أغترُّ بالهوى ... وأسألُه قِسْطاً وما شأنه القِسطُ
وعن رغبةٍ حكَّمتُ في القلب جائراً ... فَشَكْوايَ منه القَسْطَ في حكمه، قِسْطُ
نصحتُكمُ لا تركبوا لُجَجَ الهوى ... ألا إنّ بحر الحبّ ليس له شطُّ
بسِقْط اللِّوى أَبْكَى امرأَ القيسِ مَنْزِلٌوليس اللِّوى داءَ ابنِ حُجْرٍ ولا السِّقْطُ
لَقِيتُ برَهْطي كلَّ خَطْبٍ تدافَعوا ... فحينَ لَقيتُ الحُبَّ أسلمَني الرَّهْطُ
وأَرْبُطُ جَأْشِي عند كلِّ عظيمةٍ ... تُلِمُّ ويومَ البَيْن يَنْتَكِثُ الرَّبْطُ
ولمّا أذاعوا ما أسَرُّوا من النَّوى ... وظَلَّتْ على العُشّاقِ أحداثها تَسْطُو
كَتَبْنا على صُحْفِ الخُدودِ بمُذْهَبٍ ... وكان من الأجفانِ بالحُمْرةِ النَّقْطُ
ومُقْتَبِسٍ سِقْطاً أَشَرْتُ إلى الحَشا ... وجاحِمِها لمّا تعَذَّرَتِ السقْطُ
أَحِلُّ رِياضَ الحَزْنِ مُكْتَئِبَ الحَشاوَقَلْبي بحيثُ الأَثْلُ والسِّدْرُ والخَمْطُ
تعَلَّق بالقُرْطِ المُعلَّقِ قائلاً ... سُكوني مُحالٌ كلّما اضطرب القُرْطُ

وفي المِرْطِ ماءُ المُزن لَوْنَاً ورِقّةً ... عَجِبْتُ له لم يُنْدِ عالِيَهُ المِرْطُ
وفوقَ كَثيبِ الرملِ غُصنُ أراكَةٍ ... بسالِفَتَيْ رِيمِ الأراكةِ إذْ يعطو
يخافُ لضَعفِ الوَسْط يَسْقُطُ رِدْفُهُ ... ويخشى لثِقْلِ الرِّدْفِ ينتشر الوَسْطُ
وَتَسْعى على اللِّيتَيْن سُودٌ إذا الْتوتْ ... أقَرَّت لها الأصْلالُ والصِّمَمُ الرُّقْطُ
وفوقَ بَياضِ الخَدِّ خطٌّ مُنَمْنمٌ ... تَذِلُّ لذاك الخطِّ ما تُنبِتُ الخَطُّ
وذي شَنَبٍ عَذْبُ المَجاجةِ رِيقُه ... كما قُطِّبَتْ بالمِسْكِ صَهْبَاءُ إسْفِنْطُ
رَشَفْتُ وقد غابَ الرَّقيبان: مُوقِدٌ ... بغارٍ ووَقّادٌ يَغور وَيَنْحَطُّ
فيا راكباً تَمْطُو به أَرْحَبيّةٌ ... كِنازٌ تبُذُّ البرقَ والريح إذْ تَمْطُو
وإنْ هي مَطَّتْ للنَّجاءِ وأرْقَلَتْ ... عَزاها إلى فتح المَلا ذلك المَطُّ
فلو رامَتِ الكُومُ المَراسيل شَأْوَها ... لقُلنا لها: كُفّي لك العَقْرُ والشَّحْطُ
وما يَدَّعي إسآدَها السيِّدُ عاسِلاً ... بقَفْرَته لو أنّه الأطْلَسُ المِلْطُ
كأنَّ الفَلا طَيُّ الضمير، وَخَطْوَها ... مع الخَطْر خَطْرُ الوهمِ لا الوهمِ إذ يَخْطُو
بعِيسِك عُجْ بابنِ الكُمَيْت وقل له ... أبا طالبٍ ما كان ذا بيننا الشَّرطُ
بَسَطْتَ بِساطَ الأُنسِ ثم طَوَيْتَه ... ولم يتَّصِل كالطَّيِّ ما بيننا البَسْطُ
وَعَدْتَ بإيناسي وعُدْتَ تَلُطُّه ... وغيرُك يَعْرُوه إذا وعد اللَّطُّ
وما كنت أدري قبل سِمطٍ نَظَمْتَه ... بأنك بحرُ الدُّرِّ حتى أتى السِّمطُ
كتابٌ بدا فيه لعَيْني وخاطري ... ربيعان مَجْمُوعان: لَفْظُك والخطُّ
تدارَكْتَ وَخْطَ الشيْب فارتَدَّ فاحِماً ... فمن لي بأُخرى قبل أن يَشْمَلَ الوَخْطُ
عَذَرْتُ جِعاداً يقتفونَ سِباطَهم ... ولا عُذْر أن يَقْتَاف جَعْدَهمُ السَّبْطُ
أَأَحْوَجْتَني حتى اقْتضيْتُك جَأْبَةً ... بجَحْمَرِشٍ شَوْهَاءَ في جِيدها لَطُّ
ومِن قَبْلِها قد سار نحوك رائداً ... فَأَبْرمَ ذاك الحَيْدَرُ اليَفَنُ الثَّطُّ
على أنها لو نَفْطَوَيْه انبرى لها ... بطَعنٍ وإزْراءٍ لحرَّقه النِّفْطُ
ولو أُخِّرَ الشيخُ المعريُّ ما ابْتنى ... " لمن جِيرَةٌ سِيموا النَّوالَ فلم يُنْطوا "
ولا نَظَمَ الشاميُّ بعد سَماعها ... " لأيَّةِ حالٍ حُكِّموا فيك فاشْتَطوا "
تَساوى المَعاني والمَباني تَناسُباً ... كما يستوي في نَفْعِ أسنانِه المُشْطُ
وما كَنَبيط القوم مَنْبَطُ عِلمِهم ... ولا يستوي قُطبُ الفَصاحة والقِبْطُ
وكم صُنتُ نفسي عن حِوار مُجالِسٍ ... مَلاغِمُهُ الوَجْعاء، والكَلِمُ الضَّرْطُ
وما كان عندي أنّه العَوْد مَسَّهُ ... خُباطٌ وأنّ اللَّفظ من فَمِه الثَّلْطُ
فقد نَفِدَ الطِّيبُ الذي كنتُ أتَّقي ... به فاه حتى صار من طِيبيَ القُسْطُ
له دَفَرٌ في كلِّ جُزءٍ بجِسمه ... إذا فاح قُلنا ذا الفتى كل إبطُ
به زَبَبٌ قد عَمَّ أكثرَ جِلدِه ... ولكن فشافي نَبْتِ عارِضه المَرْطُ
إذا ما أَفَضْنا في الكلام رَأَيْتَه ... يُخَلِّط حتى قلت ثار به خِلْطُ
ويَنشَط للتأويل في الجَهل غارقاً ... له الوَيلُ ما يدريه ما الغَرْقُ والنَّشْطُ

وَيَعْزو إلى النُّعمان كلَّ عَضيهةٍ ... فيرتفعُ النعمان عنها وَيَنْحَطُّ
ليَ النخل أجني خَيْرَها من فروعها ... ولكن له من شِيصِها تحتها اللَّقْطُ
فَيَخْبِطُ في عَشْوَاءَ لا دَرَّ دَرُّهُ ... وَمَنْ كان مَمْسُوساً تعَهَّده الخَبْطُ
وكم قد أمرناه بضَبطِ لسانه ... ومُذ شَذَّ عنه العقل أعجزَه الضَّبْطُ
يَخُطُّ بكَفٍّ، حَقُّها البَتْكُ، أَحْرُفاً ... كما كتبتْ يوماً بأرجُلِها البَطُّ
قويٌّ على نَقْلِ الملام للُؤْمِهِ ... ضَعيفٌ به عن كلِّ صالحةٍ وَهْطُ
موَدَّتُه إثمٌ ومنظرُه أذىً ... ومنزِله جَدْبٌ وراحَتُه قَحْطُ
فلو قد رَأَتْهُ أمُّه وَبَدَتْ لها ... مَساويه وَدَّتْ أنّ مَن وَلَدَت سقْطُ
فقلْ للحُسينِ قد أطلتُ وإنّما ... لساني على الأعداء مُحتكِمٌ سَلْطُ
فقُطَّ شَوى هَمّي بُرقْشٍ تَقُطُّها ... فهُنَّ كبِيضٍ دِينُها في الوغى القَطُّ
وهذه قصيدة في التجنيس، من متاعه النفيس:
أَطِعِ الهوى فالعقلُ خازٍ خازمُ ... والجهل يُغري وهو هازٍ هازمُ
الخازي السائس القاهر، يقال خزاه إذا ساسه وقهره، وأما أخزاه بالألف فهو من الخزي.
واعْملْ فحرفُ الشَّرط صُنعُك والرَّدى ... عنه جوابٌ وهو جازٍ جازمُ
المعنى أن الموت جواب الشرط، والشرط هو العمل، وحروف الجزاء تجزم، فكذلك الموت يجزم المستقبل.
وإذا عَلَوْتَ فَواصِ بالعلمِ العُلى ... تَكْمُل فخيرُ القومِ عالٍ عالمُ
واصِ بمعنى واصِل، واصاه أي واصله.
وابْسُط يَدَيْك فإنّ قابض كَفِّه ... في بَسْطَةِ الإثْراءِ عادٍ عادِمُ
واكتُمْ نوالك فالكريم نوالُه ... غَيثٌ وجُنْحُ الليلِ ساجٍ ساجمُ
معناه كن كالغيث الساجم ليلاً فهو يُغني ولا يرى:
وإذا شَكَوْتَ إلى امرئٍ وَشَكَمْتَه ... كَرِهَ الندى لا كان شاكٍ شاكمُ
شكمته أعطيته، والشَّكم العطاء.
واسْلُ الدَّنايا تَسْلَمِ العُقْبى غداً ... في مَنْزِلَيْك، فكلُّ سالٍ سالمُ
يا ساخِط الأقْسام يَأْمُلُ رزقةً ... يَرْضَى بها والدهر قاسٍ قاسمُ
اِقْنَعْ بجِيدٍ عاطلٍ وانْظِم له ... عِقْدَ الصَّلاحِ فكلُّ حالٍ حالمُ
من الحلُم وهو ما يراه النائم.
كم من فتىً جَعَلَ القناعة جُنَّةً ... دون المطامع فهو غانٍ غانمُ
وارفَعْ مَنارَ المُهتدي بك لا كمن ... يُولي ويُلْوي فهو هادٍ هادمُ
والهجو لا تَهْجُم على عِرْضٍ به ... سَفَهَاً فشَرُّ الناسِ هاجٍ هاجمُ
ترجو وترُجم غيرَ غافِرِ زَلَّةٍ ... بِئسَ الفتى يا صاحِ راجٍ راجمُ
أي شاتم من قوله تعالى: لأَرْجُمَنَّك أي لأشتُمنَّك.
حَسْبُ الظَّلوم على ذَميم مآلِه ... باللؤم فهو بكلّ نادٍ نادمُ
وإذا المُفيضُ دعا القِداح فإنّما ... سَهْمُ المُسالم وهو ناجٍ ناجمُ
المعنى أن طالب المسألة ينجو، وسهم الناجم أي الظاهر، والمفيض الذي يُجيل السهام.
وإذا وَقَيْتَ أخاك لم أرَ سُبَّةً ... وَقْمَ العِدى والشهمُ واقٍ واقمُ
كُن كالحُسامِ كَلا الرَّفيقَ وحَدُّه ... للضِّدِّ كَلْمٌ فهو كالٍ كالمُ
تُخُطي الحظوظُ ذوي النُّهى وينالُها ... فَدْمٌ من الخَيرات عارٍ عارمُ
والدهرُ يَحْكِي ثم يَحْكُم بعدما ... يُلْقي المَعاذر فهو حاكٍ حاكمُ
ونعى إليك العيشُ نفسَك خادِعاً ... لك بالنعومةِ فهو ناعٍ ناعمُ
فالغُفْل عند الخوف مُغْفٍ مُغْفِلٌ ... والجَلْدُ عند الأمن حازٍ حازمُ
حاز أي حازر، تقول العرب حزا فلان الشيء أي حزره.

وله يصف الفرس وكتب بها صدر جواب:
ومُحَجَّلٍ لَبِسَ الظَّلا ... مَ وخاضَ في جِسمِ الصَّباحِ
يَحْوِي بحُسن سَوادِه ... فَضْلاً على البِيضِ المِلاحِ
وترى بغُرَّتِه إذا ... قابَلْتَه عَلَمَ النجاحِ
تَدْعُو محاسنُه العيو ... نَ إليه من كلِّ النواحي
وتنوبُ للظمآنِ رُؤْ ... يَتُه عن الماءِ القَراحِ
وتكاد أُذْناه تُجيبُ إذا أصاخ عن الصِّياح
غَنَّى وطَرَّبَ بالصَّهيل وظلّ يَرْقُص للمِراح
ومشى العِرَضْنى وانثنى ... كالمُنْتَشي من شُربِ راح
وسَما إلى وَحْشِ البَرا ... حِ وقال ما لك من بَراح
ذاك الذي لو كنتُ مقْترِحاً لكان من اقتراحي
ذو أَرْبَعٍ قد أُنعِلَتْ ... بالأرْبَعِ الهُوجِ الرياح
ما إن رَأَيْنا قبلَه ... طيراً يطير بلا جناح
حَسَنٌ وأحسَنُ منه في ... عَيْنِي ومن زَهْرِ البِطاح
ومِن الشِّفاه اللُّمْيِ تُبْدي عن ثغورٍ كالأقاحِ
خَطٌّ أتى فأفادوني ... دُرّاً من الكَلِمِ الفِصاح
وشَّحْتُ ألفاظي به ... وشُغِلت عن ذات الوِشاح
وله يصف الخمر:
وَصَهْباء فاتت أن تُمَثَّلَ بالفَهمِ ... أقولُ وقد رَقَّتْ عن اللَّحْظ والوهمِ
خُذوا عَرَضَاً، يا قوم، قامَ بنفسه ... فقد خَرَقَ العاداتِ، واسْماً بلا جسمِ
فقد كاد يَخْفَى كَأْسُها بضيائها ... كإخفائها بالجهل مَنْقَبة الحِلمِ
كأنَّ الشُّعاع الأُرْجُوانيَّ فوقَه ... سَنا شَفَقٍ يَنْجَاب في الليل عن نَجْمِ
إذا أقبلتْ ولَّى بها الهَمُّ مُدْبِراً ... كما أدبر العِفْريتُ من كوكب الرَّجْم
وله في المعنى:
حمراءُ تَكْثُف للعقولِ فِعالها ... أبداً وَتَلْطُف للنفوس طِباعها
شمسٌ لشمسِ العقلِ منها ظُلمةٌ ... من حيثُ يظهر في الخدود شُعاعها
أمُّ الخبائثِ مُستطابٌ دَرُّها ... إنّ الفِصال من الهموم رِضَاعها
وله:
مال والأغْصانُ مائِلةٌ ... فَعَنَتْ صُغْراً لقامتِه
وَرَنَا والكأسُ في يده ... فغَنينا عن مُدامته
لائمي والعُذر طَلْعَتُه ... أيُّ عذرٍ في مَلامتِه
وله:
بأبي مَن قَلْبُه حجَرُ ... وبه من ناظري أثَرُ
رَشَأٌ بالغُنْجِ مكتَحِلٌ ... وبضَوءِ الصُّبحِ مُعْتَجِرُ
وبثوب الحُسنِ مُشتمِلٌ ... وبِحقْف الرمل مُتَّزِرُ
رِدْفُه شِرْحٌ، وقامتُه ... وسَط، والخَصر مُختَصَرُ
خَضَعَتْ شَمْسُ النهار له ... وتلاشى عنده القمرُ
ما رأينا قبله بَشَرَاً ... تاه في أوصافه البشَرُ
جائرُ الألْحاظ كلُّ دمٍ ... سَفَكَتْه عندها هَدَرُ
شَهَرَتْ أسيافَها وَمَضَتْ ... فهي لا تُبقي ولا تَذَرُ
جنَّةُ الفِرْدوس طَلْعَتُه ... والقِلا مِن دونها سَقَرُ
ومتى أُصغي إلى عَذَلٍ ... فيه وهو السمعُ والبصرُ
وله:
يا عَذولي كُفَّ عن عَذَلِي ... إنَّ قلبي عنك في شُغُل
فأنا الراضي به حَكَمَاً ... في الذي يَقْضِي عليّ ولي
هوَ في حِلٍّ وفي سَعَةٍ ... لا يخافُ الإثْمَ من قِبَلي
وَيْحَ مَن طَلَّ الهوى دَمَه ... فَغَدَا يشكو إلى طلَلِ
وله:
انْظُرْ إلى البدرِ الذي قد أَقْبَلا ... وأراك فوق الصُّبح ليلاً مُسْبَلا
ما بَلْبَلَ الأصْداغَ في وَجَنَاته ... إلاّ ليترُك من رآه، مُبَلْبَلا
يا أيّها الرَّيَّانُ من ماءِ الصِّبا ... بي في الهوى عطَشُ الحُسين بكَرْبلا
وله:
مَن كان مُرْتَدِياً بالعقل مُتَّزِراً ... بالعِلم مُلْتَفِعاً بالفضل والأدبِ

فقد حوى شَرَفَ الدنيا وإن صَفِرَتْ ... كَفّاه من فِضّة فيها ومن ذَهَبِ
هو الغنيُّ وإنْ لم يُمْسِ ذا نَشَب ... وهو النَّسيبُ وإنْ لم يُمْسِ ذا نسَبِ
وله أيضاً:
ساروا فَأَكْبادُنا جَرْحَى، وأعيُننا ... قَرْحَى، وأنفسنا سَكْرَى من القَلَقِ
تشكو بواطِنُنا من بُعدِهم حُرَقاً ... لكن ظواهِرُنا تشكو من الفَرَقِ
كأنّهم فوق أكوار المَطِيِّ وقد ... سارت مُقَطَّرةً في حالِك الغَسَقِ
دَراريَ الشُّهْب في الأبراج زاهرةً ... تسير في الفَلَك الجاري على نَسَق
يا مُوحِشي الدارِ مذ بانوا كما أَنِسَتْ ... بقُرْبهمْ، لا خَلَتْ من صَيِّبٍ غَدَق
إنْ غِبْتُمُ لم تَغِيبوا عن ضمائرنا ... وإنْ حَضَرْتُم حَمَلْناكم على الحدَق
وله أيضاً:
ولمّا رأيتُ الخال في صَحْنِ خَدِّه ... ذكرتُ احتراقَ القلبِ في نارِ صَدِّه
وعَرَّفَنا خَفْتَانُه حَيْفَ رِدفِه ... وبالغ في شَكْوَاه عن ضَعْفِ قَدِّه
فحينَ أدار البَنْدَ مِن فوق خَصْرِه ... رَأَيْناه في الحالَيْن لازِمَ حَدِّه
فلم يَطُلِ المَشدودُ شيئاً بحِلَّه ... ولم يَقْصُرِ المَحلولُ شيئاً بشَدِّه
وله أيضاً:
عارِضاه قد يَنَعَا ... جَلّ صانِعٌ صَنَعَا
كان وَرْدُ وَجْنَتِه ... قد أُذيل فامتنعا
وله من رسالةٍ أنشأها على لسان القصّار والصياد وهي مقامة مصنوعة مُجنّسة، على الفضل والبراعة مؤسسة، كتب بها إلى بعض القضاة ويستطرد بقوم وقعوا فيه: كنت لفرط الهُيام، في بعض الأيام، وصدري ضيّق، وفؤادي شيّق، إلى الحضرة القاضيّة، والشمائل المرضيّة، قد صرّحت بالإحصار، وحرصت على الإصحار، فاجتزت في الخروج، ببعض المروج، ودجلة قد تسلسل ماؤها، وصلصل حصباؤها، وصفا شفقُها، وطفا غلفقها، وسما حَبابها، وطما عُبابها، وغدا نونُها، وبدا مكنونها، فوقفتُ أُثني على باريها، وأكاد بالدمع أباريها، أسفاً على طِيب المشاهد، بتلك المعاهد، فإذا أنا بشيخ نبيل، وذقنٍ كالزِّبِّيل، مُضْطبع بإزار، حامل أوزار، قد لوّحت الشمس طلعتَه، وصهرت صلعته، بارز الجَناجِن، بأضلاع كالمحاجن، وجهه وجه مجرم، وزيّه زيّ مُحرم، كأنه بعض القُسوس، أو موبَذ المَجوس، يتلوه آخر عار، في أقبح شعار، بادي الإملاق، في دُرُسٍ أخلاق، ليس بصيِّر، ولا شيِّر، قد أدار على سوءته السمَل، واعتمّ ببعضه واشتمل، يُقِلّ بيتاً من خُوص، يُبدي خلله عن شُخوص، تلوح من تلك الرواشن، في أمثال الجواشن، فهي أحقّ باللهف، من فتية الكهف، لأن أولئك فازوا بالنعيم، وهؤلاء احتازوا الجحيم، فبدأني الأوّل بالسلام، ثم تهيّأ للكلام، وقال: أنا شيخ ذو بنات، قليل الهَنات، أستغني بكسب يدي، وأُنفق على ولدي، وأراني قد عجزت عن العمل، وقصّرت عن بلوغ الأمل، وإن استرحت إلى الإخلال، افتضحت بالإقلال، والفقر من حالفه هان، وعدِم البرهان، والوفر من أسعده زان، وكفاه الأحزان، المال يُكسب الارتفاع، والفقر يهدم المجد اليَفاع، الفقر قبر الأحياء، والنشَب نسب الأدعياء، الفقر يُضيّق المغاني الواسعة، والمال يُفيض المعاني الشاسعة، المال درج الفرَج، ومعرج إلى المخرج، ومفتاح الفلاح، وجناح إلى النجاح:
المالُ يستُر كلَّ عَيبٍ ظاهرٍ ... والفقرُ يُظهِرُ كلَّ عيبٍ باطنِ
فترى مثالبَ ذي اليَسار مَناقِباً ... ومَحاسِنَ الصُّعْلوكِ غيرَ مَحاسن
والفِكر في الأقسام، مُورث الأسقام، أين لابس التاج، من البائس المحتاج، أين من اكتفى فاستراح، ممن اعتفى فاستماح، أين هذا الشيخ الذي ترى، ممن باع واشترى، ذلك يظلّ في الكِنّ، وأنا أظل مع الجنّ، ألِج طول النهار، في الأنهار، وأُدلج في الأسحار، إلى البحار:
مُقَسَّماً طولَ دهري ... ما بَيْنَ شَطٍّ وَنَهْرِ
فالماءُ يقشُرُ رجلي ... والشمسُ تَبْشُر ظَهري

رِجْلايَ من العجائب البحرية، وسائري من الوحوش البريّة، وقد ضجرتُ من النقع والعصر، والدقّ والقصر، أصبر على برد الماء، وجلد الصخرة الصماء، ثم المليح، أني أضربها وأصيح، كفِعل ذاك الوُغَيْد، أبي سالم بن الجُنَيْد، حين يؤذي الأحرار، ويشتكي الإضرار:
حاسِرٌ بالليلِ حافِ ... ودُجى الليلِ لِحافي
وأعُدُّ الماء غُماً ... وهو صافٍ للتّصافي
ثم أهتمّ لما يأتي، إذ كدره يكدِّر حياتي، وتراني حامل وزر، لشيءٍ طفيفٍ نزر، لا أنادي الأداني، ولا أناغي الأغاني، ولست برفيق الفريق، في رشف ريق الإبريق، أصرف بعض الأجرة، في كِرى الحجرة، وأنفق بقية الواصل، على الحُمْر الحواصل، وليس لي سعنة ولا معنة، ولا عافطة ولا نافطة، وقد ضعُفَ ساعدي، وقلّ مُساعدي، أبسط الثياب تارةً لتجفّ، ويسهل حملها وتخفّ، وطوراً تبهظني بثقلها، فلا أقدر على نقلها، إن مشيت أكوس، وإن جلست أنوس، جِلدي قد اندبغ، ولوني قد انصبغ، وبصري قد كلّ، ونظري قد قلّ، ثم كرب أن يكفُر، وأنشد لابن يَعْفُر:
ومن الحوادِث لا أبالك أنني ... ضُرِبَتْ عليَّ الأرضُ بالأسْدادِ
لا أهتدي منها لمَدْفَع تَلْعَةٍ ... بَيْنَ العُذَيب وبين أرض مُراد
آخُذ الثوب كالورق، وأردُّه كالجلد المحترق، ومن غبار الخان، وسواد الدخان، لا يراد للكسوة، ولا يصلح للرجال ولا للنسوة، بعضه مُحرَّق، وبعضه مُخرَّق، سرّه إعلان، ولابسه عريان، تُبصره في غِربال، لا في سربال، وبعد فمن أنا من الأستاذِين، ورافعي الكَواذِين، وقد تعرَّقَتْني السنون، وتعلّقتني المَنون، فإلى الله المُشتكى، ثم انتحب وبكى، فمسح الآخر عُثْنونَه، وأوضح مكنونه، ونظر إلى صاحبه شَزْرَا، وعاب فعله وأزرى، وقال: يا عجبا لهذه الفَليقة، هل تغلِبنَّ القُوباء الرِّيقة، ويحك بهذا أتيت، هلاّ حكيت، قبل أن بكيت، ثم أقبل عليّ وبسمل، ومَثُل بين يديّ وحمدل، وأحسن التحية وجعفل، وقال: اسمع أيها السيد، لا كان المُتزَيِّد، أنا رجل زاهد، وهذا بما أقول شاهد، وقد كان عوَّل على الحكاية، فعدل إلى الشكاية، أنا أعرف الشيخ عبيد، وقوام عيشي من الصيد، حداني على هذه الصناعة، رغبتي في القناعة، نظرتُ إلى الدنيا بعينها، فما اغتررتُ بمَيْنها، ولا أوثقتْني بخداعها، ولا أوبقَتْني بمَتاعها، رأيت قُصاراها الفناء، فقلتُ فيم أقاسي العناء، وكم يا نفس البقاء، وإلام هذا الشقاء، لم لا أعتبر بمن سلف، وأطَّرِح هذه الكُلَف، وأنظر إلى عِراص الحِراص، وآثار ذوي الإكثار، ودور الصدور، ومنازل أهل المنازل، ورِباع أولي الباع، وذوي الأتباع، الذي صعَّروا الخدود، فصُرِّعوا في اللحود، وجاروا عن الحدود، فجاوروا الدود، جهلوا فلهِجوا بالحُطام، ورضعوا فضرعوا بالفطام، عَمُوا فما أنعموا النظر، ومرقوا فما رمقوا العِبَر، خُوِّلوا فتخيَّلوا المقام، ومُوِّلوا فأمَّلوا الدوام، تعادَوْا على رائقها، فتداعَوا ببوائقها، منحتْهم، وبنوائبها امتحنتْهم، ونطحتْهم، وبأنيابها طحنتْهم، لبسوا فأبلسوا، وسُلبوا ما أُلبسوا، نهوا وأمروا، ولهوا وعمَروا، بلغوا وغلبوا، وجلبوا وخلبوا، برَّتْ بهم ولطفت، ثم كرَّت عليهم وعطفتْ، أعارت فأبهجت، ثم أبارت فأنهجت، ترنَّمت فأطاحت نغماتُها، ثم تنّمرتْ فأحاطت نقماتُها، كم نكست من سكَّنتْ، وكمنت لمن مكَّنت، كم وهبت ثم نهبت، وأتعبت من أعتبت، وأخمدت من أخدمت، ولكمت من أكرمت، وما رحمت من حرمت، بل أغرمت وأرغمت، فغفلوا حتى أفلوا، وطلعوا حتى عطلوا، وطلبوا حتى بطلوا، فعادت أموالهم وبالا، ولم تُغن عنهم قِبالا، ثم رغَّب في الخير وغرّب، ورطّب حُنجوره وطرَّب، وأنشد أبياتاً في الزُّهد، أحلى من الشُّهْد، بعثني على حفظها، سلامة لفظها وهي:
غريقَ الذنوبِ أسيرَ الخَطايا ... تنَبَّه فدُنياك أمُّ الدَّنايا
تَغُرُّ وتعطي ولكنّها ... مُكَدِّرةٌ تسترِدُّ العَطايا
وفي كلِّ يومٍ تُسَرِّي إليك داءً فجِسمُك نَهْبُ الرَّزايا
أما وَعَظَتْك بأحداثِها ... وما فعلت بجميع البرايا
ترى المرءَ في أَسْرِ آقاتِها ... حَبيساً على الهمِّ نُصْبَ الرّزايا

وإطلاقه حين تَرْثِي له ... وَحَسْبُك ذا أن تُلاقي المنايا
ويا راحلاً وهو ينوي المقام ... تزَوَّد فإنّ الليالي مَطايا
ثم إن الشيخ رجع، فنثر بعد الإنشاد وسجع، وذكر كلماتٍ استغربتُها، فاستعدتها منه وكتبتها، وهي:
الأيّامُ تُكدِّر، لكن المرءُ يُقَدِّر ... أحلامٌ سُعودُها، دارٌ المَيْنُ وُعودُها
الإجْرام زادُها، إذ تُرَدّي مَن يَرْتَادها ... إظْلامٌ إصْباحُها، دنيا الخُسرُ أرباحها
وحُطامٌ مَتاعها، شَيْنٌ وهو خداعها ... نِيامٌ فيها نحن، أما نُهانا غالَ الوَهْن
أنعامٌ سُكّانها، حتى عَمَّ بُهتانُها ... أَرْمَامٌ حِبالُها، عِرْسٌ الهجرُ وِصالُها
فِطام إرْضاعُها، ظِئرٌ تخدع نُهاك ... أَيْتَامٌ أولادُها، أمٌّ الغَيُّ رَشادها
إعْدام جُودُها، إذا لانعدام وُجودها ... أَسْقَام أفعالها، لكن الشَّهْدُ مَقالها
فقلت: أراك قد تكلّفتَها، ففيم هكذا ألّفتها، قال: لأنها درّ مُنظّم إن قُلِّبت وشعر منظوم إن قُلبت، وشحَّتُها بزينتَيْن، وصحّحتها كلَّ بيت من قرينتَيْن:
أما تَراها كَخَوْدٍ أقبلَتْ بقِبا ... وغَيَّرَتْ زِيَّها خَوْفَاً من الرُّقبا
تلَوَّنَتْ فَحَكَتْ في الحالتَيْن أبا ... بَراقِشٍ وأتتْ في عِدَّةِ النُّقبا
ثم كرّ يذكر المنيّة، وذمِّ الدنيا الدنيّة، وقال:
مُرَوَّغٌ طالبُها مُعَذَّبٌ خاطبُها مُنَكَّصٌ آمِلُها
مُمَنَّعٌ مَعْرُوفها مُسبَّبٌ مَخوفها مُنغَّصٌ آكِلُها
مُضَعْضعٌ جَنابُها مُشَوَّبٌ شرابها مُغَصَّصٌ ناهلُها
مُنْقَطعٌ مَتاعُها مُخَيَّبٌ مُبْتاعها مُخْتَرَصٌ نائلُها
فقلت قد عرَّفتني شِكالك، ووقفتني على حلّ إشكالك، ولعمري قطوفها دانية، ولكن مقلوبها ثمانية، ولو كانت مثل أختها، لرُزقت مثل بختها، فألقى ما كان حامله، وفرك غيظاً أنامله، وقال: إن قدرتَ في تقطيعها، على حصر جميعها، وعددت آحادَها والثُّنى، فقد بلغت المُنى، أتِّخذُك إذاً من الناس خِلاّ، وأُسَوِّغكَ ما معي حِلاّ:
تمَلُّها فهي وربّي المُعينْ ... أربعةٌ تُوفي على أربعين
تُذْكِرُك السادةَ أَعْنِي الأُلى ... عاداهُمُ فيك الشُّيَيْخُ اللعين
فلما اعتبرتها، أكبرتها، وقبّلت عينيه، وأقبلت بكُلّي عليه، فقال: مالي لا أستغني عن الخلق، بالحلال الطلق، وأتيه على أصحاب العصور، وأرباب السُّدَد والقصور، كيف أتناول ما لا يحلّ، وأتطاول إلى ما يضمحلّ، وبم أفاخر، وأبي العظم الناخر، وبعد فمن الخالد، وما يُغني الطارف والتالد، والغنيّ أسوأ حالاً من الفقير، يوم الحساب على الفتيل والنقير، واطَّلعَ على نيتي، عالمُ سِرّي وعلانيتي، فاجتزتُ يا ابن الأماجد، ببعض المساجد، وقد تلا في المحراب إمامه، أُحلّ لكم صيد البحر وطعامه، فنبّهني على الاصطياد، إذ نويتُ حُسن الارتياد، وقلتُ هذا باب الأرباح، ومن أسباب المباح، أتَّجِرُ بلا بضاعة، من غير خُسرٍ ولا إضاعة، فقصدتُ شيخاً يعمل الشبك، فحَباني أجودَ ما حبك، وادَّخرت القصب والبكر، ادخار من نصب واحتكر، وقلتُ لا بد من الآلة، والإعداد لهذه الحالة، غيري يعُدّ الدنانير، وأنا أعدّ الصنانير، ثم إني بَكَرْتُ إلى الشطّ، قبل بكور البط، فبينا أنا أسرح، وأفكر كيف أطرح، إذ دعاني هذا الشيخ الحَصيف، الذي شتاؤه مَصيف، وقال يا ابن الأنجاب، هلُمّ إلى الشيء العُجاب، أدرك هذا الحوت، وإياك أن يفوت، فإن أهملته فاز، فإنه على أوفاز، فلما تقدمتُ إليه، وأشرفت عليه، سمعته يقول لحوت آخر، أظنه طاوله وفاخر، ويحك أنا أوحد الحركة، وأرضي أرض اليُمن والبركة، أنا من خير البقاع، وأشرف الأصقاع، أنا من الكورة المذكورة، ذات السجايا المشكورة، بلدي ترابه عبير، وثوابه كبير، وحجرُه محجوج، وشجره يَلَنْجوج، ثم انفتل وتثنّى، وأوقع لنفسه وغنّى:
بقُطْرَبُلَّ القَطْرُ بلّ ... سُهولَتَها والجَبَلْ
نَشَأْتُ فهل من فتىً ... له بجدالي قِبَلْ

ويحك أريد البَيّاسيّة، لا العبّاسية، والتي أشرقت، لا التي شرّقت، والتي لها النهي والأمر، لا التي تُنسب إليها الخمر، وأنت من سكان، هذا المكان، من الجفاة الفِظاظ، والأجباس الغِلاظ، من العتاة الغدرة، أُهَيْل هذه المدرَة، لنا الظلال والأندية، ولكم الجبال والأودية، الماء منّا إليكم، والمنّة لنا عليكم، يا نَقَضَة العهود، أخلاق الفهود، أليس صاحبكم غدر، وأعقب الصفوَ الكدر، وعَقّ أربابه، وتناسى أحبابه، لا جرم أنهم جانبوه، فما كاتبوه، ونسوه، وما وانسوه، وألغوا حرمه وأنكروه، وأقسموا أنهم لا ذكروه.
فقال المقصود بالمحاورة، لقد أضعت حقّ المجاورة، مهلاً أَبَيْت اللعن، كُفّ ولا تُكثر الطعن، واسأل العفو إن عفا، فمن اغتاب خرَّق ومن استغفر رَفا، إن كنت سِحْت، تطلب السُّحت، فامضِ لطيّتِك، وانزع عن خطيئتك، وذرِ القَدْح، ودونك الكدح، مالك والنميمة، والأخلاق الذميمة، فلا وأبيك إن كان نزع، ولا نهاه الوعظ ولا وزع، فعلمتُ أنه من الحُسّاد، وطالبي الإفساد، وأمهلته حتى بسط وشرح، وقسط وجرح، ثم رميت نحوه بالشِّصّ، ودببتُ إليه دَبيب اللصّ، وكنتُ قد طعّمْت، قبل أن أَعَمْت، وقلتُ يا غافر الحُوب، وعالم الغيوب، إن كان كذب على أهل بلدي، فأوقِعه بجُرمه في يدي، فحُملتْ دعوتي على الغمام، لتورُّعي عن الحرام، وإذا هو قد عَلِقَ، واضطرب وقلق، وكلما رفعه الموج الطامي، أنشد متمثِّلاً للقَطاميّ:
ليست تُجَرَّحُ فُرّاراً ظُهورُهمُ ... وفي النُّحورِ كُلومٌ ذاتُ أَبْلادِ
فلما رأيته غويَّ الشيطان، قويّ الأشطان، خفتُ أن يقطع الشعَر، فزحفتُ وما شعر، ولذعتُه بالرُّدْنَيْن، ورفعته إلى القُوبَيْن، وقلتُ خذها من عُبَيْد، وأنشدت لفارس زُبَيْد:
عَلامَ نقولُ الرُّمْحُ يُثْقِلُ ساعدي ... إذا أنا لم أطعن إذا الخيلُ كَرَّتِ
وها هو ومن يراه، في الصرعى كما تراه، وقد تلوتُ ما بلوتُ، وألقيتُ وما أبقيت، فانظر ماذا تصنع، وما جوابك عما تسمع، فقلتُ: ورافع ذات البروج، وما لها من فروج، والذي ألهمك، أن تغتال السمك، وأحلّ لك الميْت، وأسكنهم هذا البيت، وجعل عيشك في كشف عَوارك، وإبداء شُوارك، وزواك عن طلب المعالي، وجَلاك في سلب السَّعالي، ووكلك بالسِّياحة، وطول السباحة، كاسَف البال، مُرَعْبَل السِّربال، ما كان ما زعم، ولو صدق لقلتُ نعم، أأكون خائنا، وأحلف مائنا، فأجمع بين الحنث والخيانة، وأنسلِخ من الديانة، لكن تقوّل عليّ، فيما نسبه إليّ، تعدّى، فتردّى، وفرّط، وتورّط، وعاث، فما ظَفْرَ بمن غاث، وجار، فما وجد من أجار، تزيّد وافترى، فصار إلى من ترى، كان من الطغاة، فأُخذ مع البغاة، أعوزتهم الملاحِد، فجمعهم قبر واحد، انظُر إلى سوء حاله، وقُبح مآله، مات وشفتُه قالصة، ومُقلتُه شاخصة، فلا تغمض عينه، وقد حان حينه، ولا يُشَدّ لَحْيُه، بل يُشقّ نِحيُه، وسيبدو ما أخفى من الشَّنار، ثم مصيره إلى النار، فبالله إذا سلختَه وملّختَه، فقل يا خائن وَشَيْت، وبالنميمة مَشَيْت، فهذا لأهل النمائم، وعُقباك لكل ظالم، والله ما حُلْت ولا أَذْنَبت، ولقد قلت فأطنبت، وإنما الرسول كان، أيها الشيخان، فاذهبا عجَّل الله جزاءكما، وأحسن فيكما عزاءكما، لقد حويتما النَّوْك جِدّا، وجئتما شيئاً إدّا، من يظنّ بك من بعدها الزَّهادة، ومن يقبل من صاحبك الشهادة، وحوتِ موسى وفَتاه، ما نطقت شفتاه، ولهذا نسياه وشخصا، فارتدّا على آثارهما قصصا، ولا ادَّعى يونس لحوته ذاك، فدعنا يا عُبَيْد من أذاك، لعلّه كان في المنام، فهو أشبه بالأحلام، كلا بل شبّهتُما، فنبّهتُما، وحكيتُما، فأبكيتُما، وجعلتما الحوت مثَلا، وما ضربتماه إلاّ جدلا، كنِعاج الخصم إذ تسوّروا المحراب، حتى خرّ داوود راكعاً وأناب، وسأُنيب إلى تلك الموالي، بكشف أحوالي، واحرِص على الراحة، ببراءة الساحة:
فأُقسِمُ أنّي ما نقضتُ عُهودي ... ولا حُلتُ يَوْمَاً عن وِداد وَديدي
وأَسْتَعطِف القاضي سعيداً فإنّه ... به نَجَمَتْ بين الأنام سُعودي
وأجعلُ من جُودي هُجودي على النَّوى ... فَمِنْ عَدَمٍ حتى اللقاء، وُجودي

فيا دَوْلَةَ البُعدِ الوَخيمةَ أَقْشِعي ... ويا مُدّةَ القُرب الكريمةَ عُودي
لتَبْيَضَّ آمالي وتسْوَدَّ لِمَّتي ... ويخْضَرَّ من بعد الذُبولة عُودي
وَتَنْعمَ سُكْراً نفسُ كلِّ مُخالِصٍ ... وَيَرْغَمَ غيظاً أَنْفُ كلِّ حسودِ
وله مما أودعه رسالةً أخرى سمّاها بالكُدريّة على لسان قَطاتَيْن، اختصرتها:
سِرُّ حَياةٍ وشَرُّ مَوتٍ ... حياةُ نَفسٍ وَمَوْتُ قلبِ
حِزْبان مِن باطلٍ وحَقٍّ ... ما بَرِحَا في عظيمِ حَرْبِ
فَكَوْنُ ذا في نعيمِ رُوحٍ ... بكَوْنِ ذا في أليم كَرْبِ
ومنها: ما كُدْرِيَّةٌ كدَّرَ البَينُ مَشارِبَها، وأبهمَ الحَيْنُ مَسارِبها، عضَّها بالسُّخْط، ولم تَخْطُ، وغَضَّها بالسَّجْن، ولم تَجْنِ، تُصبح كالكُبَّة، لضِيق القُبَّة، فتَطَّلِعُ من الكُوى، وتضطلع بما يوهي القُوى، تتسامع في الصياح، وتبُثُّ الرياح، جوى الارتياح، فبينا هي في دَرسها، رافعة جَرْسها، عارَضتْها أُخرى فسقطت حيالها، وأنكرت حالها، وقالت: قد وسَمْتِ القَطا بالخُرْق، فانْتَفي من الوُرْق، أصبحتِ في المقام الأمين، كأصحاب اليمين، في حِصنٍ حصين، وبناءٍ رصين، قد مُهِّدَتْ أرضُه، وتناسبَ طوله وعَرضُه، الجارحُ يدنو إليكِ، ولا سلطان له عليك، إن عَفَتْكِ النُّسور، حال دونك السُّور، وإن حامت عليك اللِّقوة، خامَتْ ولها الشِّقوَة، وإنْ جمحَ نحوك الصَّقْر، جنحَ وحظُّه الفَقْر، مُحجَّبةٌ في القصر، مؤيَّدة بالنَّصر، يقومُ بطُعْمِك سِواك، ومتى وجدتِ الصَّدى أرواك، آمنةٌ من الطَّيش، لا يَكُدُّك طلبُ العيش، أعزُّ من الغزالة في الدُّلوك، مكرَّمةٌ كبنات الملوك، قد تسلَّفْت الراحة، وربحْت السَّاحة، ما عذرُك في الرَّقص، وهو من دواعي الوَقْص، ونتائج النَّقص، ويحك إنَّ الحَصان، مَن لفَّها الخَفَر وصان، ولن تَعدم البَرزَةُ قادِحا، وقَولاً فادحا. ومنها:
فاقْنَي حَياءَكِ أنْ تصيحي ... وتقبَّلي قول النَّصيحِ
والصَّمْتُ أجملُ فاصْمُتي ... إذْ ليس نُطقُكِ بالفصيح
وأَبشري براحة الإطلاق، ومَسرَّة يوم التَّلاق، فإنَّ رضاع القلوب، فَطْمُ النُّفوس عن المطلوب، فاجعلي الحكمة زادَكِ، واعلمي أنَّ ما نقصك زادك، وهذه إشارةٌ تكفُّك وتكفيك، إنْ نجعَتْ فيك، فتأَوَّهَت المَسجونةُ آهةَ حَزين، وفاهَت عن عقلٍ رزين، وقالت: هَناكِ، نَيلُ مُناكِ، وعَداكِ، مَيْلُ عِداكِ، ومُتِّعْتِ بسَعة الفضاء، ومُنِعْتِ من صَرف القضاء، ولا حرَمَك، أن تأْوي حرَمَك، وسلَّمك، ولا أَسْلَمَك، أَأَن خلا قلبُك، وحَلا قليبُك، فما غَلا حَبُّك، ولا حبيبك، واستطعت لذَّة النَّوم، قطَّعت أُختكِ باللَّوم، كلٌّ يعبِّرُ بلسانه، ويُخبر على قدْر إحسانه، ويشرح أوصاف العرَض، ولو صاف سهمُ الهدفِ، عن الغرض، فإنَّ المناطق، أحلى من حليّ المناطق، ومنها غُثاء السَّيل، وجَمع حاطب الليل، والحشَف وسوء الكيل، إنَّما صدَّك عن الإنصاف، أَشَرُ المَكْرَع الصّاف، باختيارك طِرْت، ولهذا بَطِرْتِ، وإليك سَراحُك، فمن أجله مَراحك، ما رقصي للطّرب، بل لابتغاء المُضطرب، ولا صياحي إلاّ للحَرَب، وفَوْت الأرَب:
ورُقادي إنَّما ينْ ... فيهِ هَمٌّ أنا فيه
وفؤادي مِحَنٌ تع ... ريه هَمٌّ يعتريه
حسبي ضيق المَقرِّ، وتعذُّر المَفَرّ، في بيت تدانى سقفُه، وأقرع رأسي نَقفه، وأخلق جناحي زَقْفه، وعدَلني عن البَراح، ورَوح المَغدى والرَّواح، وِردي الغُمْرَ بعد الغَمْر، فكأنَّه قدح الخَمر، يُخال لسواده القار، ثَمَدٌ لا يُغيِّب المِنقار، على طُعمٍ يُعَدُّ من الصِّلة، دون نصف الحَوصلة، قدر ما يسقي الماء، ويُبقي الذَّماء، وكلَّما ألقاه إليّ، وبثَّه لديّ، أقول من ها هنا أُتيت، وبمثله دُهِيت، ولقد أنشدني، قبل أنْ شدَّني:
طِرْ أَيُّها الطَّير واهْجُرْ ما خُدِعْتَ به ... فليس للحُبِّ نُلقي الحَبَّ لِلعاصي
وإنَّما هذه الأشياءُ سائرُها ... وإنْ حلَتْ لك، أشراكٌ لأَقفاص

لكن الحرص والشَّره أَصَمّاني، والمِقدار بسهمه أصماني، وكنتُ لا أقبل المِنَّة، ولا أخاف الظِّنَّة، فدُفِعت إلى ما ترَيْن، أنْ عصيت الدِّين:
وإذا ما منحتُ دهري عِتابي ... فرَثى لي وجَدَّ في إعتابي
طلَعَتْ شمسُه عليَّ خُطوطاً ... فجلَتْني في لملبَس العَتّاب
وقَيِّمي الصَّغير، كأنَّه ليثٌ يُغير، علِم أَنّي أُجالسه، ثمَّ أُخالسُه، أسْتَسْلِم إليه، ثم أُسلِّم عليه، كامنة لانتهاز الفرَص، واختيار القفص على القفص، فبعثه فرط ظَنِّه، أنْ تَمثَّل على صغر سِنِّه: رُبَّ شَدٍّ في الكُرْز، وأخلى حُلَّتي من الطُّرْز، فعمد إلى القوادم فحَصَّها، وإلى الخوافي فقصَّها، وأبعدني من المؤالف، وأقعدني مع الخوالف، كيف يلائمني السكون، وأيُّ صَبرٍ يكون، إذا نظرت إلى أضرابي، ومَن عرفت من أترابي، وقد توالَفْن أزواجا، ورُحْن بعيني أفواجا، كلٌّ يرجع بالعَشِيِّ، إلى وَكره المَغْشِيّ، من طيِّب المآكل، إلى الحبيب المُشاكل، ومن صَفو المَناهل، إلى الرَّبْع الآهِلْ، قد اكتفى وانكفى، وَوَفي له كما وفى، فاذْكر مسكني، وما يفوت من سكَني، فليتَ شِعري حين آضَ، بمَن اعتاض، ولمّا راح، إلى مَن استراح، أظنّه اسْترجع تلك الفَينة، وسأل عنّي جُهَينة، فلمّا لم أعد إليه، وعَمِيَت الأنباء عليه، شدَّ إلى سِواي الرِّحال، وفي عَرارٍ خَلَفٌ من كَحْل، ليت شِعري مَن حَبا تلك الأنفال، وخلَّفني في الأُصَيْبِيَة الأطفال، ومَن هازَل الغصنَ المائل، وغازل تلك الشَّمائل:
ومَن وردَ الماءَ الذي كنتُ وارداً ... نعم ورعى العُشْبَ الذي كنت راعيا
وما أنا وابتغاء المُجون، وشكواي من السجن المسجون، إشارةٌ يطيش عنها سَهْمُكِ، ويطيح منها فَهمُك، ويستغرق مِقولُها صِفاتِك، ويغرق مِعولُها في صفاتك، فاخلعي بقدسها نعلَيك، واخْصِفي من وَرَقها عليك، فإنَّ حِمى الحقيقة، لحامي الحقيقة، مَنْ لي بذات الأضا، ووادي الغَضا، آه على عصر الكثيب، في الخِدن المُثيب، وبُكرة العلَم، بذي سلَم، ونسيم العِشا، بعَسيب أَشا، لا أشري بيوم الغَدير،، ملْكَ الخَوَرْنَق والسَّدير،، ولا أرى لبُرود الما، بَرْد عشِيَّاتِ الحِمى، إذ تَميدُ بي لِدان الأعواد، بالجَهْلَتين وبَطن الواد:
بأَصبى إلى ما فارَقَتْ يوم فارقتْ ... من العُشِّ والعيش الرِّضا والمُعاشِرِ
وماضي الصِّبا منّي إلى مَن فِراقُه ... رَدايَ ومَن لقياه إن متُّ ناشري
وما حالُ مَن تنأَى معاشِرُ أُنْسِهِ ... فيُضحي ويُمسي بين شرِّ مَعاشر
وإنَّ مُحَيّا الليث يَكشِرُ ضارِياً ... لأَمْلَحُ مِن وجه العدوِّ المُكاشِر
يمُدُّ بَناناً بالسّلام مُشيرَةً ... قضى العدلُ فيها لو تُمّدَّ لِواشِر
فها أنا حتى يُبشِر اللهُ مُنعِماً ... بقربِكُمُ للإنس غيرُ مُباشِر
والسلام على سادة الإخوان، وذادة الأحزان، سلاماً تحفُّه التّحيّات، وتحفّه الكرامات والبركات، فلبعدهم الكَرى مات.
وله وقد أودعها كِتاباً في استدعاء المُكاتبات:
فلا تُخلِني منها فإنَّ وُرودَها ... لعَيني وقلبي قُرَّةٌ وقَرارُ
وفي الكتْب نَجوى مَن يَعِزُّ حِوارُه ... وتقريبُ مَن لم يَدْنُ منه مَزارُ
قضى الله تسريحاً مُريحاً من الأسى ... بقربِكُمُ إنَّ البِعاد إسارُ
وله وقد أودعَها أُخرى:
أَما لهذا البِعاد مِن أمَدِ ... فيُطفِئَ القربُ لاعِجَ الكَمَدِ
ويجمع الدَّهر شملَ مُنفردٍ ... أصبح يبكي لنأْي مُنفردِ
فوالّذي راعَني بِبَينِكُمُ ... فَعيلَ صَبري وخانَني جلَدي
ما أَتّقي الموتَ عند ذِكرِكُمُ ... إلاّ بوَضْعي يدي على كبِدي
وطالما بِتُّ فيكمُ قَلِقاً ... أقطع ليل التَّمام بالسَّهَد
فما درى النّاسُ ما أُكاتِمُهُ ... ولا شكوْتُ الهَوى إلى أَحَدِ
وله أُخرى وقد أودعَها كتاب عِتاب:
فإنّا رِضِيعا وِدادٍ صَفا ... وناسي الرِّضاعة بئس الرَّضيعُ

أتحْفَظُه في زمان الصِّبا ... وعند اكتمال نُهانا يَضيعُ
ويِثني هَوانا، على أَنَّه ... شريفُ المَناسب، ساعٍ وَضيعُ
وله تعزيةٌ بابنٍ صغير:
أَرَّقني أَنْ بِتَّ مَتبولا ... موَكَّلاً بالحزن مَشغولا
على هلالٍ ما بلغْتَ المُنى ... فيه ولا نِلْتَ به السُّولا
فكمْ خشِينا أَنْ نرى يومَه ... لو أنَّ لِلْمَقدور تَحويلا
لكنْ غدا إشْفاقُنا باطلاً ... وكان أمر الله مَفعولا
فاصْبر على بَلواه تلْقَ الرِّضا ... فالصَّبر عند الصَّدمة الأُولى
وله وقد أودعها تعزية بامرأةٍ وذَكَرَ في وصْفها:
في حياةٍ مَزينةٍ بحَياءِ ... خلفَ سِترَيْنِ مِن حِجىً وحِجال
ذَكَرُ العقل وهي أُنثى أَلا رُ ... بَّ نِساءٍ لها عقول الرجال
وله تعزيةٌ بأخٍ: سطَّرتها عن هَمٍّ ناصب، وقلقٍ واصِب، وعَبرَةٍ سافِحَة، وزَفرةٍ لافِحة، لفقد من حرَّم فقده السُّلوان، وأضرم في القلوب النيران، ذي الرَّأي الأصيل، والحِجى والتَّحصيل، قِنْوِ أُرومته، وصِنو أُمومته، أجمع باسه لإيناسه، وأمتع ترابه في احتراسه، ومَن فقِد الدَّهر بفقده حِصن الحَزامَة، وقلَّم بيومه ظُفر الشَّهامة، وصَلَمَ أُذُن الظَّرف والوَسامَة، وأخرس لسان الفصاحة، وأصمَّ سَمع الفضل، والرجاحة، وفقأَ عين الكمال، وجدع أنف الجَمال، وصدعَ فؤادَ الإفضال، وانتزع قلبَ السُّودد من صدر الجَلال، وفَقَر ظهر السَّداد، وبقَرَ بطن الرَّشاد، فرَبْعُ النَّدى بعده بَيْتٌ مَهجور، والكرَم حَجُّه مَحجور، والشرف غامض الصُّوى، والمَجد مضَعْضَع القوى، والعرف بائر السوق، والبِرُّ ضائع الحقوق:
وفي حفرةٍ حَتف الأُسودِ مُوَسَّدُ ... وتحتَ صَفيحٍ ذُو الصَّفيحةِ مُلْحَدُ
وأوحَدُ هذا النّاس في العلم والهُدى ... وَحيدٌ، وفَردُ البأْس والجودِ مُفرَدُ
فتىً خلَّدَ الذِّكْرَ الجميلَ لعلمِه ... بأنَّ أخا الدُّنيا بها لا يُخلَّدُ
محاسنُ تُتلى من محاسنَ تَمَّحي ... فللَّه مَيْتٌ بالبِلى يتجَدَّدُ
ولو كان ينجو ذو الكمال من الرَّدى ... إذاً لنَجا منه النَّبيُّ محمَّدُ
وله في التهاني من تهنئةٍ بمولود: أبهجَني شُروق الهلال، الطّالع بالسَّعد والإقبال، الذي آنسَ بُرجَ السِّيادة، وبشَّر باليُمن والزِّيادة، تنافس في يده الرُّمح والحُسام، وحنَّت إليه في وِفاضِها السِّهام، وصُبَّت نحوه الطُّروس والأقلام، وتوقَّعَتْ ظهورَهُ ظُهور الجياد، وأتْلعَتْ لِحُلِيِّه عُطُلُ الأجياد، وتاقت إلى التَّجَمُّل بمكانه المَجامع، واشتاقت إلى التَّلذُّذ ببيانه المسامع، ولقد تخلَّقَ مَرضِيَّ الخليقة، وخلع العقوق بلبس العقيقة، وحُبِيَ بكرَم الشِّيمة، زمنَ المَشيمة، وفارقَ الغَرس زَكِيَّ الغِراس، ووافقَ النَّفاسَةَ وقت النِّفاس، ورغِبَ عن الوَضاعة، وقتَ الرَّضاعة، وأُلهِمَ هجرَ الأخلاف، قبل وصل الأخلاف، وأُكرِم باختيار المَكرُمة، قبل أخذ الحَلَمة، فاغتدى والمجد رضيعُه، ورقدَ والسُّودَدُ ضَجيعُه، وسَيَدِبُّ والشرف دِينه، ويَشِبٌّ والعُرفُ خَدينُه،، حتى يصبح مع الفِصال، مهذَّب الخِصال، وعند الإثغار، جامع الفَخار، ويَعمُرَ سُبْلَ آبائه، ويَغمُر بسيل حِبائه، فرزقه الله أمثاله، وبلَّغه فيه آماله، فهو المُجَلِّي للهموم وكان بالسَّبق المجلِّي، ولسوف يتلوه إلى الأَمد المُصلّي والمُسلِّي، ويضاعف الله السّعود بهم لسيِّدنا الأجلّ.
وله يقصد التَّجنيس:
أرى الدَّهر أغنى خَطْبُه عن خِطابه ... بوَعظٍ شفى ألبابَنا بلُبابه
وجرَّد سيفاً في ذُباب مَطامعٍ ... تهافتَ فيها وهي فوق ذُبابه
له قلبٌ تهدي القلوب صَوادِياً ... إليها وتَعمى عن وشيك انقلابه
هو اللَّيثُ إلاّ أَنَّه وهو خادِرٌ ... سطا فأَغاب الليثَ عن أُنس غابه

إذا جال أَنساكَ الرِّجالَ بظُفره ... وإنْ صال أنساكَ النِّصال بنابه
فكم من عروشٍ ثلَّها بشُبوبه ... وكم من جيوشٍ فلَّها بشبابه
ومن أُمَمٍ ما أُوزِعَتْ شُكرَ عَذبه ... فصبَّ عليها الله سَوطَ عذابه
وأشهد لمْ تسلَمْ حلاوة شُهده ... لِصابٍ إليه من مَرارة صابه
مُبيدٌ مَباديه تَغُرُّ، وإنَّما ... عواقبه مختومةٌ بعِقابه
ألَمْ ترَ مَن ساس الممالكَ قادراً ... وسارت ملوك الأرض تحت رِكابه
ودانت له الدُّنيا وكادت تُجِلُّه ... على شُهْبِها لولا خُمودُ شِهابه
أَليس أتاه كالأتِيِّ حِمامُه ... وفاجأَه ما لم يكن في حِسابه
ولم يخش من أعوانه وعُيونه ... ولا ارتاع من حُجّابه وحِجابه
لقد أسلمتْه حِصْنُه وحَصونه ... غداةَ غدا عن كَسبه باكتسابه
فلا فِضَّةٌ أنجتْهُ عند انقضاضه ... ولا ذَهَبٌ أنجاه عند ذَهابه
فحَلَّتْ شِمالُ الحَيْنِ تأليف شَمله ... وعَفَّت جُنوب البين إلْفَ جنابه
وغُودِرَ شِلواً في الضَّريح مُلحَّباً ... وحيداً إلى يوم المآب لما به
يترجِمُ عنه بالفَناء فِناؤه ... وما أَوْحشَتْ من سُوحِه ورِحابه
وعرِّجْ على الغَضِّ الشَّباب برَمسِه ... وسائلْه عن صُنع الثَّرى بشَبابه
ففي صَمته تحت الجُيوب إشارةٌ ... تُجيب بما يُغني الفتى عن جوابه
سلا شخصَه وُرّاثُه بتُراثه ... وأَفْرَده أترابُه في تُرابه
وأعجَبُ من دهري، وعُجْبُ ذوي الفَنا ... لعَمرُكَ فيه من عجيب عُجابه
وحتّى متى عَتبي عليه ولم يزَلْ ... يَزيد أذى مَن زادَه في عِتابه
إذا كنتُ لا أخشى زئير سِباعه ... فحتّامَ يُغري بي نَبيحَ كِلابه
يُناصبُني مَن لا تَزيد شهادة ... عليه سوى بُغضي بلؤم نِصابه
إذا اغْتابَني فاشْكُرْهُ عنّي فإنَّما ... يُقَرِّظُ مِثلي مِثلُه باغتيابه
ويرتاب بالفضل الذي غمرَ الورى ... وفي بعضه لو شئتَ كَشفُ ارتِيابه
ويَنحَس شِعري إنْ دبَغْتُ إهابهُ ... بهَجوي فقد نزَّهْته عن إهابه
وله من قصيدة مبدؤها في الشيب:
إذا كان مِن فَودي وَميضُ البَوارِقِ ... فمِنْ مُقلتي فَيضُ الغُيوثِ الدَّوافقِ
تبسَّم هذا الشيبُ عند نزوله ... تبسُّمَ مَظنونِ الفؤاد منافِق
شَنْئْتُ نجومَ الليل من أجْل لونه ... وأبغَضْتُ من جرّاه يوم الحدائق
على أنّه في زَعمه غير كاذبٍ ... خلاف شبابٍ زَعمه غيرُ صادق
وأحسَب أنَّ الصِّدق أوجبَ كونَهُ ... كثير الأعادي أو قليل الأصادق
تمسَّك بميعاد المَشيب وعهدِه ... وكنْ بمَواثيق الصِّبا غير واثق
ومنها:
أيا دهرُ قد شيَّبْتَ قلبي وناظري ... فأهونُ ما عندي مَشيبُ مَفارِقي
أَعندك أَنّي أَيُّها الدَّهرُ واهِنٌ ... وقد ذَرَّ في إلفِ النّوائب شارِقي
ومنها في وصف الفرس:
أَغَرُّ دَجوجِيٌّ كأَنَّ سَبيبه ... جناحا غرابٍ أُودِعا صدرَ باشِقِ
جوادٌ على حُبِّ القلوب مُحَكَّمٌ ... يُبين بحسن الخَلْق عن صُنع خالق
بهيجٌ يَهيجُ السّامعين صهيلُهُ ... ويُشعِرُ أنَّ العِزَّ خوضُ الفيالق
ومنها في وصف السيف:
وفي يَمنَتي ماضي الغِرار كأنَّه ... إذا اخترطَتْه الكَفُّ إيماضُ بارق
له ضِحْكُ مَسرورٍ ودَمعةُ ثاكِلٍ ... وعِزَّةُ مَعشوقٍ وذِلَة عاشق
يُسِرُّ قديمَ الحِقدِ وهو مُلاطِفٌ ... ويْبطِنُ في السّلسال نار الصَّواعق

له من حديد الهند أكرمُ والدٍ ... وبين قُيون الهند أصنع حاذق
ومِنْ شَقِّ هامات الفوارس شاهدٌ ... به من حميد الصَّمْتِ أبلغُ ناطِق
وإمّا بدا مِن مَشرِق الغِمْد طالعاً ... فمَغْربه بين الطُّلى والمَفارق
ها هنا قبضتُ يدي، وقضبْت جدَدي، وقطعت اختياري، وأطعْت اضطراري، فإنّي لو أتيت على فوائد الحصكفيّ المختارة، لأغرقت هذا الكتاب في أبحره الزّخّارة، فما عدَّه الانتقاءُ من نتف الحصكفيّ وأحصى كفى، وما أعدَّه الانتقاد لِمَن يُطالعه ممن بعدها كفلَ بالمَقصود ووَفى، ودأْبي في هذا الكتاب، أن أستوفيَ شرح فضائل الأفاضل من ذوي الآداب، إلاّ مَن لم يقع إليَّ ديوانه، أو مَن لمْ يجمع بيني وبينه بيانه، فإنّني مع صدِّه قنعتُ بمَوجود جَداه، ونقعْتُ الصَّدى بنَداه، والمقصود المَصدوق تكثيرُ الفائدة، وتخضير المائدة، وتوشيع المُسهَم، وتوشيح المُعلَم، وتطريز برود البُدور المُتجلِّية، وتبريز عقود العقول المُتحلِّية، فليَهَبِ المستفيدُ منها طولَها لطَولها، ولْيُعَوِّلْ على مسائل الفضائل في عَوْلها.

ومن الأكراد الفضلاء
الحسين بن داوود البَشْنَويّ
ابنُ عمِّ صاحب فنَك، عصره قديم، وبيتُه كريم، ذكر الشاتاني أنَّ والده رآه، وتوفي في سنة خمس وستين وأربعمائة، وله ديوان كبير، وشِعرٌ كثير، ومن شعره في قصيدةٍ جيميّة يذكر فيها شَعَث بِزَّته مطلعُها:
على الحُرِّ ضاقتْ في البلاد المَناهِجُ ... وكلٌّ على الدُّنيا حَريصٌ ولا هِجُ
ولا عيبَ فينا غيرَ أنَّ جِبابَنا ... خِلاطِيَّةٌ، ما دبَّجَتْها النَّواسِجُ
وله:
أَدِمْنَةَ الدّار مِن رَبابِ ... قد خصَّك الله بالرَّباب
يَحِنُّ قلبي إلى طُلولٍ ... بنَهْر قارٍ وبالرَّوابي
ومنها:
أآلُ طهَ بلا نصيبٍ ... ودولةُ النَّصْب في انتصاب
إنْ لم أُجرِّد لها حُسامي ... فلست من قيسٍ في اللُّباب
مَفاخِر الكُرْدِ في جُدودي ... ونَخوةُ العُرْبِ في انتسابي
وله:
جِسمي لعِلّةِ لَحْظِ الخَوْدِ مَعْلُول ... والقلبُ من شُغُلي بالحِبّ مَشْغُولُ
بي لَوْعَةٌ لبيانِ البَيْنِ شاغلةٌ ... ولي دَمٌ في طُلول الحيِّ مَطْلُولُ
يا دارَ سلمى عَلامَ الغيثُ مُنْتَجَعٌ ... ومِن دموعي عليكِ الغيثُ مَهْطُولُ
كيف المَليحةُ لي بالوَصْلِ باخِلَةٌ ... والسِّحرُ من عَيْنِها للعينِ مَبْذُولُ
سَقيمةُ اللَّحْظ أَبْلَتْ مُهجَتي سَقَمَاً ... ألفاظُها مُرّةٌ والثَّغرُ مَعْسُولُ
فَلَيْتَها كَحَلَتْ عَيْنِي بناظرِها ... خَوْدٌ لها ناظرٌ بالغَنْجِ مكحولُ
في طَيِّها خَفَرٌ، في طَرْفِها حَوَرٌ ... في سِنّها صِغَرٌ، في جِيدها طولُ
ما مَسّها الطيبُ إذ طاب الحياة بها ... والطِّيبُ من خَفَر الغيداءِ مَعْمُولُ
ما للهوى قد عَزَزْنَ الغانِياتُ به ... حتى تذلَّ لها الصِّيدُ البَهاليلُ
لكنّني والهوى في حُكْمِه حَكَمٌ ... جاري عزيزٌ ومني البِشْرُ مأمولُ
إن يَعْرِف الناسُ رَسْم الذُّلِّ في جهةٍ ... فالذلُّ عند بني مهران مجهولُ
نحن الذُّؤابةُ من كُرْدِ بنِ صَعْصَعةٍ ... من نَسْلِ قيسٍ لنا في المَحْتِد الطُّولُ
أمين الدولة أبو إسحاق
إبراهيم بن سعيد الشاتاني
أخو علم الدين، وكان أكبر منه سناً وناب بخلاط عن وزيرها، واستقل بنظم أمورها، وتوفي سنة أربع وخمسين بها، أنشدني علم الدين الشاتاني لأخيه هذا، مما كتبه إليه:
ولو أنّ دِجْلة فيها الفُرات ... وَسَيْحونُ والبحرُ كانتْ مِدادي
وَجَيْحونُ والنيلُ، ما بَلَّغَتْ ... عُشَيْرَ الذي يحتويه فؤادي
من الشوقِ يا مَن حوى مُهجتي ... وصَيَّر طَرْفِي حَليفَ السُّهادِ

فَشَوْقي يزيدُ وصبري يَبيد ... وَوَجْدي شديد لطول البِعاد
أَفَيْحاءُ حُيِّيتِ مِن بلدةٍ ... سَقَتْكِ الغيومُ وَصَوْبُ الغَوادي
ونالتْ ربيعةُ فيكِ الربيعَ ... وأخْصبَ رَبْعُك مِن كلِّ نادِ
ففيكِ الشَّقيقُ وفيك الحبيب ... ومن حَلَّ منّي محَلَّ السَّواد
هو العلَمُ الفَرْدُ نَجْلُ السعيد ... سعيدُ بنُ عبدِ الإله الجَوادِ
فإن سهَّل اللهُ وَصْلاً لنا ... فسوف نرى ما يَسُوءُ الأعادي
وإلاّ فإنّي الغريبُ الوحيدُ ... أُطيلُ المُقامَ على الإقتصادِ
قال: وكتب إليّ أيضاً قصيدة مطلعها:
بنَفْسي ورُوحي مَن يُرَجَّى لِقاؤه ... وعذَّبَني هِجْرانه وجَفاؤُه
لَئِنْ كانتِ الحَدْباءُ رُوحاً لأهلها ... لقد هاج للقلبِ الحزينِ عَياؤُه
ويا راكبَ الوَجْناءِ يُفْضي به السُّرى ... إلى المَوْصل الفَيْحاء يُعْطى رَجاؤُه
قال: فكتبت إليه في جوابها أبياتً من جملتها:
بنَفسيَ من أَفْضَى مُنايَ لِقاؤُهُ ... وَمَنْ وَصْلُه للمُستهام شِفاؤُهُ
بنفسيَ من وافى إليَّ كتابُهُ ... كَزَهْر الرُّبى جادَتْ عليه سَماؤُه
تجَلَّى لطَرْفي فاستنار بنورِه ... وأزْرى بإشراق الصَّباح ضِياؤهُ
ومنها:
إذا جِئْتَ أَخْلاطاً فقِفْ برُبوعها ... ونادِ بصوتٍ يُستطابُ نِداؤُه
ومنها:
أخي وشَقيق النَّفس والماجد الذي ... أجَلُّ أماني النفسِ عندي بقاؤهُ

الأمير بهاء الدولة
محمد بن الحسين بن شبل الجوني
الكردي، من نسل بهرام جونين، صاحب قلعة شاتان، كان فيه فضل وأدب، وتوفي سنة إحدى وأربعين، ذكره علم الدين الشاتاني وذكر أنه كتب إلى والده:
يا واغِلاً في المَهْمَه البَيْداءِ ... بالعِرْمِس الوَخّادةِ الوَجْناءِ
أَبَلغ أبا منصورٍ النَّدْبَ الذي ... قد حلَّ مُعتَلِياً على الجوزاء
عنّي السلامَ وقل له يا من غدا ... بقَريضه فَرْدَاً من الأكْفاءِ
حاشايَ أن أنسى حقوقاً لامرئٍ ... قد حلَّ منّي مَوْضِعَ الآباءِ
قال العلَم: وكتب إليّ وقد أردت الانفصال عن خدمته بشاتان إلى الموصل:
أما مِن رسولٍ مُبلِغ ما أقوله ... إلى علَم الدين الإمام ويُنشِدُهْ
بحُرمَة ما بيني وبينك لا تكُنْ ... مكدِّرَ ما صَفَّيْتَه وتبدِّدُهْ
كغازِلةٍ غَزْلاً وتنقُضُه بما ... يفكِّر فيه قَلْبُها وتُجدِّدُهْ
قال: وله أبيات أولها دال وآخرها دال:
دَنا من مُحبِّيه الغزالُ المُباعِدُ ... وساعدَني فيه الزمان المُعانِدُ
دَقيقُ مَجالِ الطَّوْقِ رِيمٌ مُكَحَّلٌ ... حَوى الحُسنَ جَمْعَاً فهو في الحُسن فارِدُ
دَهاني بوَجهٍ نَيِّرٍ وبمُقلةٍ ... كأنَّ بها هاروتَ للسِّحرِ عاقِدُ
دَلالُكَ لا يفنى وقد غالني الهوى ... وأنت خَلِيٌّ طولَ ليلك راقِدُ
دُموعيَ قد أَقْرَحْنَ أَجْفَانَ ناظِري ... وقد خانني صبري وقَلَّ المُساعِدُ
قال أنشدنيها هو من فيه.
الرئيس أبو طالب
الحسين بن محمد بن الكميت
من أولاد الكميت الشاعر، كان رئيس قرية يقال لها أَنْعَين من أعمال أَرْزَن، وهي ضيعة جليلة، عامرة آهلة، وبها لبني الكميت الرئاسة والمَضيف للطرّاق، من سائر الآفاق، وكان شاعراً مجيداً لبيباً، وأريباً أديباً، يناقل الفضلاء، ويُساجل الكبراء، وكانت بينه وبين الأديب الخطيب الحصكفي مُناقلات، ولما كتب إليه الحصكفي القصيدة الطائيّة، التي سبق ذكرها، ومنها:
بَسطتَ بِساطَ الأُنْس ثم طَوَيْتَهُ
أجابه ابن الكميت بطائية منها:
وما كان طَيُّ البُسْطِ إلاّ لأنني ... تيَقَّنْت أنّ البُسْط يُخْلِقُها البَسْطُ
ومنها يصف الفلاة:

وَدَيْمومةٍ للجِنِّ فيها زَمازِمٌ ... كما رَجَّعن يوماً بألحانها الزُّطُّ
وذكر علم الدين الشاتاني أنه انحدر إلى بغداد، وقصد العم الصدر الشهيد عزيز الدين بها ومدحه بقصيدة أولها:
تطاوَلَ هذا الليلُ وهو قصيرُ ... وبِتُّ أُراعي النَّجمَ وهو يَسيرُ
فقرّبه وولاّه، وأسدى إليه الجميل وأولاه، وناب عن ضياء الدين الكفرثوي، في حالتي وزارته للأمير الأحدب طغان رسلان، ولأتابك زنكي، وتوفي ابن الكميت قبل الوزير في سنة خمس وثلاثين، وله بنون فيهم الفضل والرئاسة، وديوان شعره موجود بالموصل وعند أولاده، ومن شعره:
سَلْ وأَسِلْ إن لم تَصُب دمعاً دما ... عينُك في الدار أُثَيْلاتِ الحِمى
والعلَمَ الفَرْدَ وباناتٍ به ... ظلائل، سقى الغمامُ العلَما
ومنها:
وا كبدي وأين منّي كبدي ... ماعَتْ فصارت ليَ في العين دما
//باب في ذكر محاسن فضلاء الحجاز واليمن وقد ألحقت بالقسم الثالث شعراء الحجاز وتهامة واليمن، وأوردت مما سمعته من شعرهم الأحسن، وجعلت القسم الرابع لمصر والمغرب، وأثبت فيه المعرب المغرب، المعجب المطرب، ورأيت تأخير هذا الإقليم، الذي هو أولى بالتقديم، صيانة لمنزل الوحي ومهبط الذكر القديم، عن كلام البشر النظيم، فتيمنت في خاتمة القسم الثالث باليمن، ونظمتها في سلكه، فإن ملكها الآن لمالك الشام وتوأم ملكه، فإنها معدودة من مملكة بني أيوب، الذين عصموها من النوائب العصل النيوب، وملأوها بالمفاخر وفرغوا عيابها من العيوب، لقد تملأت اليمن يمناً، وعادت عدنها عدناً، وذهبت زبد زبيدها الجافية جفاء، وصارت أرض سباها العافية سماء، وطلع بها شمس الدولة شماً أبدى نور نجدها وغورها، وجلا بسنا إحسانه وعدله ديجور جورها، فآثرت إيرادها بين الشام ومصر واسطة لعقدهما، ورابطة لعقدهما.

تمهيد تاريخي
يعرض العماد في هذا القسم - قسم الحجاز وتهامة - أسماء عدد من الشعراء، وأكثر هذه الأسماء لا يقتصر على الجانب الأدبي وإنما يجاوز ذلك ليتصل بالأحداث التاريخية، أو يشارك فيها، أو يكون جزءاً منها.
وقد يشير العماد إلى هذه الأحداث إشارة خافية أو خاطفة، وتدفع المختارات الشعرية ذاتها إلى استحضارها والتعرف إليها، وأكثر ما تكون هذه المختارات في هؤلاء الولاة والأمراء والأشراف العلويين الذين كانت لهم ولاية مكة والغلبة عليها في هذه الفترة، والذين كان تاريخهم - في منازعاتهم فيما بينهم، أو خصوماتهم فيما بينهم وبين بغداد والقاهرة - وهو تاريخها.
وعلى ذلك فإن الصلات بين أسماء الذين كانوا يقولون الشعر أو الذين كان يقال فيهم الشعر وبين الأحداث التي كانت تدفع إلى هذا الشعر، لابد أن تكون بينة واضحة، حتى يكون عملنا في تحقيق التراث ونشره مجزئاً مجدياً.
ولعل هذا أن يكون هو الذي دفعني إلى أن أقدم بين يدي هذه التراجم بهذا التمهيد التاريخي.
وإنما أردت منه أن أرسم، في خطوط سريعة واضحة، هذا الإطار الزماني أولاً، وأن أضع كلاً من أصحاب هذه التراجم - والذين تشير إليهم - في موضعه من هذا الإطار وفي مكانه من الأحداث ثانياً، وأن أكشف عن صلات ما بين الأحداث والأشخاص ثالثاً، ثم أ أتجنب أخيراً، في خلال النص، تكرار الهوامش وتباعدها وانقطاع ما بينها وإحالة بعضها على بعض.
وحرصت في هذا التمهيد على أن أعرض الأحداث في تتابعها وترابطها، وأن أرسم جداول الأسر في بدايتها وتعاقب أفرادها وانقطاعها، واعتمدت في ذلك كله على ما وقع إلي من كتب الأدب والتاريخ، منطلقاً من إشارات العماد ومختاراته.
الأشراف العلويون ولاة مكة
بدأ الأشراف العلويون الحسنيون الولاية على مكة منذ أوائل النصف الثاني من القرن الرابع، وأول من وليها منهم الموسويون، ويقال لهم بنو موسى، الحسنيون، وأولهم: جعفر بن محمد بن الحسين الأمير بن محمد الثائر - لأنه ثار بالمدينة زمن المعتز بن المتوكل، ويقال له محمد الأكبر - بن موسى الثاني بن عبد الله الصالح بن موسى الجون ابن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
وقد غلب جعفر على مكة بعد موت كافور الإخشيدي سنة 356 وقبل أن يملك الفاطميون مصر، فلما ملك المعز الفاطمي كتب له بولاية مكة.

ثم خلفه ابنه عيسى بن جعفر سنة 370 وظل يلي مكة حتى عام 384 وجاء بعد عيسى أخوه أبو الفتوح الحسن بن جعفر، وقد استثاره الحاكم بأمر الله حين طلب إليه أن يتنقص أقدار الصحابة رضوان الله عليهم في الموسم، ثفار وخلع الطاعة، وبايع لنفسه، وتلقب بالراشد، وخرج من مكة يريد الشام، ووصل الرملة، ودانت له العرب، وسلموا عليه بالخلافة، فاضطر الحاكم إلى استمالة قبائل طي، وآل الجراح بخاصة وسيدهم حسان بن مفرج، للتخلي عن أبي الفتوح، ووفق في ذلك، فلم يجد أبو الفتوح بداً من الملانية، فاستجار بمفرج، أبي حسان، وكتب له هذا إلى الحاكم، فرضي عنه الحاكم، وأبقى له ولاية مكة.
وفي خلال هذه الثورة التي ابتعد فيها أبو الفتوح عن مكة سنة 401 وليها، بأمر من الحاكم، أو تغلب عليها، أبو الطيب داود بن عبد الرحمن بن أبي الفاتك عبد الله بن داود بن سليمان بن عبد الله الصالح بن موسى الجون... ولكنه تنحي لأبي الفتوح حين عاد، وظل أبو الفتوح والياً حتى مات سنة 430.
وخلف أبا الفتوح ابنه شكر، وجمع له بين الحرمين، مكة والمدينة، وتوفي والياً سنة 453. وبموته انقطعت ولاية أسرته على مكة، لأن عمه عيسي لم يعقب ولأن أباه الفتوح لم يكن له ولد إلا شكر، ومات شكر ولم يولد له قط.
والفترة التي تلت وفاة شكر فترة غامضة، تصدى فيها للولاية عبد من عبيد شكر، فأغضب ذلك بني الطيب ونازعوه، واحترب بنو موسى وبنو الطيب السليمانيون حيناً من زمن، وكانت الغلبة لبني سليمان، ويظهر أن ولاية مكة في هذه الفترة كانت إلى رجلين منهم أحدهما: محمد بن أبي الفاتك بن عبد الرحمن بن جعفر، والآخر حمزة بن وهاس بن أبي الطيب داود السليماني.
ودخل مكة سنة 455 صاحب اليمن علي بن محمد الصليحي وانتزع إمرتها من بني أبي الطيب السليمانيين، ولما انصرف عائداً إلى اليمن أناب عنه أبا هاشم، تاج مجد المعالي، محمد بن أبي الفضل جعفر بن أبي هاشم الأصغر محمد بن عبد الله بن أبي هاشم الأكبر محمد بن الحسين الأمير بن محمد الثائر بن موسى الثاني بن عبد الله الصالح بن موسى الجون.. - فكأنما رد الولاية إلى جماعة من ولد بني موسى - فخلصت له وبقيت في أولاده.
ومحمد بن جعفر هذا رأس فرع آخر من بني موسى يقال لهم الهواشم، وهو كذلك رأس فترة جديدة يتعاقب فيها على ولاية مكة أبناؤه وأحفاده، حتى يغلب عليها فرع آخر من الأشراف هم بنو قتادة في نهاية القرن السادس.
وفي ولايته كانت الفتنة بينه وبين التركمان سنة 484، وأخذه الحجاج سنة 486.
وهو أول من أعاد الخطبة لبني العباس في مكة بعد أن انقطعت نحواً من مائة سنة، ولكنه صار يخطب بعد ذلك للعباسيين حيناً، وللفاطميين حيناً آخر، ويقدم في ذلك من تكون صلته أعظم. ودامت ولاية محمد بن جعفر إلى أن مات سنة سبع وثمانين وأربعمائة وقد جاوز السبعين سنة.
وولي مكة بعده ابنه القاسم بن محمد، وظل حتى توفي سنة 517، فتكون ولايته نحواً من ثلاثين سنة.
وخلفه ابنه فليتة وتوفي وهو في الإمارة سنة 527.
وجاء بعده ابنه هاشم بن فليتة واستمرت ولايته حتى مات سنة 549. وفي عهده، سنة 539، وقعت الفتنة بينه وبين الأمير نظر الخادم أمير الحاج العراقي، ونهب أصحاب هاشم الحجاج وهم في المسجد يطوفون ويصلون، ولم يرقبوا فيهم إلا ولا ذمة.
وخلف هاشماً ابنه القاسم بن هاشم عمدة الدين وعزل في سنة 556 في الموسم، عزله أمير الحج، ورتب مكانه عمه عيسى، وبقي عيسى إلى رمضان. ثم إن قاسما جمع كبيراً من العرب وهاجم مكة، فلما سمع به عيسى فارقها ودخلها قاسم، وأقام بها أميراً أياماً، وتغيرت نية أصحابه عليه بعد أن قتل قائداً حسن السيرة من قواده، فقتلوه، واستقر الأمر لعيسى سنة 557.
واستمر عيسى بن فليتة والياً حتى توفي سنة 570. ونازعه الولاية سنة 565 أخوه مالك بن فليتة واستولى على مكة نحواً من نصف يوم.
وخلفه ابنه داود بن عيسى، واستمر إلى رجب من عام 571.
ووليه أخوه مكثر بن عيسى، ولكنه عزل في الموسم من سنة 571، وجرىبينه وبين طاشتكين، أمير الحاج العراقي، حرب شديدة كان الظفر فيها لطاشتكين.

وولي طاشتكين، بعقد من الخليفة المستضيء، القاسم بن مهنا الحسيني أمير المدينة، مكة وجمع له بين الحرمين، ولكن القاسم رأى من نفسه - بعد ثلاثة أيام - العجز عن القيام بأمر مكة، فولي داود بن عيسى من جديد.
ويتداول داود ومكثر إمارة مكة، ويموت داود سنة 585، وينفرد مكثر بالولاية، ويكون آخر الهواشم أو آخر دولة بني فليتة الهواشم، وينتزعها منه الشريف قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن الحسين بن سليمان بن علي بن عبد الله بن محمد الثائر بن موسى الثاني.. في السنوات الأخيرة من القرن السادس سنة 597 أو 598 أو 599. ويختصم قتادة مع صاحب المدينة سالم بن القاسم بن مهنا الحسيني وفي ذلك يقول قتادة:
مصارع آل المصطفى عُدن مثلما ... بدأن، ولكن صرن بين الأقارب
وتستمر ولاية مكة في بني قتادة إلى فترة متأخرة، حين يعزل الإنكليز آخرهم الحسين ابن علي بن محمد وينفونه إلى قبرص.
جمهرة الأنساب - عمدة الطالب - شفاء الغرام - خلاصة الكلام - طرفة الأصحاب - ابن الأثير - زامباور.

الحجاز وتهامة
شكر بن أبي الفتوح الحسني
زعيم مكة شرفها الله تعالى
وجدت في مجموع للسيد الإمام أبي الرضا فضل الله الراوندي مع ولده بأصفهان أنشدني الأمير ضياء الدين أبو محمد شميلة بن محمد بن أبي هاشم أمير مكة، بقاشان قال: أنشدني شكر بن أبي الفتوح الحسني زعيم مكة لنفسه:
وَصَلَتْني الهُموم وَصْلَ هَواكِ ... وجَفاني الرُّقاد مثلَ جَفاكِ
وحَكى لي الرَّسولُ أَنك غَضْبي ... يا كفى اللهُ شَرَّ ما هو حاكِ
ابو محمد جعفر الحسني التهامي المكي
قرأت في تاريخ السمعاني نسبه، يقول: هو أبو محمد جعفر بن محمد بن إسماعيل بن أحمد بن ناصر بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل ابن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، التهامي المكي، كان عارفاً بالنحو واللغة، شاعراً يمدح الأكابر لحصول البلغة، يصحب وفدهم، ويطلب رفدهم، وكان لا يرى أحداً في العالم فوقه، ويعتقد أنه ما وجد عالم في العلم ذوقه، وفي رأسه دعاو عريضة، تدل على أنها بالوساوس مريضة، قال السمعاني جرى يوماً حديث ثعلب وتبحره في العلم فقال: ومن ثعلب، أنا أفضل منه. دخل خراسان وأقام بها وعاد إلى بغداد وورد واسطاً، هكذا قول السمعاني، وتوجه إلى البصرة على عزم خوزستان وبلاد فارس ولا أدري ما فعل الله به وذلك في سنة نيف وثلاثين وخمسمائة. قال أنشدنا جعفر بن محمد بن إسماعيل التهامي المكي لنفسه ببغداد بالمقتدية:
أما لِظَلام لَيلي من صَباحِ ... أَما للنَّجْم فيه من بَراحِ
كأَنَّ الأُفْق سُدَّ فليس يُرْجَى ... له نَهْجٌ إِلى كُلِّ النَّواحي
كأَنَّ الشَّمسَ قد نسجت نُجوماً ... تَسير مَسير أَّْوادٍ طِلاحِ
كانَّ الصُّبْح مَنُفِيٌّ طَريدٌ ... كأَنَّ اللَّيْلَ باتَ صَريعَ راحِ
كأَنَّ بَناتِ نَعْشٍ مُتْنَ حُزناً ... كأَنَ النَّسْرَ مَكْسورُ الجَناحِ
خَلَوْت بِبَثِّ بَثّي فيه أَشكو ... إلى مَن لا يُبَلغِّنُي اُقتراحي
وكيف أَكُفُّ عَنْ نَزَوات دَهْري ... وقد هَبَّتْ رِياحُ الإِرْتياحِ
وإِنَّ بعيد ما أَرجو قريبٌ ... سيأَتي في غُدُوّي أَو رَواحي
وقال أَنشدني لنفسه:
مالي بما جَرَّ طرفي من جَنىً قِبَلُ ... كانت غَراماً لقلبي نَظْرةٌ قُبلُ
مادَلَّ ناشدَ شَوْقي دَلُّ غانِيةٍ ... ولا أَفادتْ فُؤادي الأَعينُ النُجُلُ
ولا دعاني إِلى لمَياءَ لَثْمُ لَمىً ... ولا أَطال وُقوفي باكياً طَلَلُ
وإِنّما الحُبّ أَعراضٌ إِذا عَرَضَتْ ... لعاقلٍ عاقهُ عن لُبِّه خَبَلُ
أبو عبد الله محمد بن إبراهيم
الأسدي الحجازي
من أهل مكة

لقي أبا الحسن التهامي في صباه، وكان بمكة مولده وبالحجاز منشاه، وتوجه إلى العراق وغصن شبابه رطيب، وبرد آدابه قشيب، واتصل بخدمة الوزير المغربي ثم ورد خراسان وامتد إلى غزنة، وأستدر بها من أدبه مزنة، وذلك في سنة ست وأربعين وأربعمائة، وعمر إلى حد المائة، ولقي القرن بعد القرن، والفئة بعد الفئة، وكان مولده بمكة سنة إحدى وأربعمائة، وتوفي بغزنة سنة خمسمائة.
ولد وقد خدم بعض الأكابر ومدحه بقصائد وكان يستزيده:
كفَى حَزَناً أَنّي خَدمْتك بُرْهَةً ... وأَنفْقَتُ في مَدْحِيكَ شَرْخَ شَبابي
فلم يُرْوَ لي شُكْرٌ بِغيْرِ شِكايةٍ ... ولم يُرَ لي مَدْحٌ بغيرِ عِتابِ
وله:
قلتُ ثَقَّلْتُ إِذ أَتَيْتُ مِراراً ... قال ثَقَّلتَ كاهلي بالأَيادي
قلت: طولت، قال لا بل تطولت، وأبرمت، قال: حبل الوداد وذكره السمعاني مثل ما أوردته.

أبو بكر محمد بن عتيق بن عمر بن أحمد البكري
السوارقي
من أهل السوارقية، قرية بين مكة والمدينة، أقول: أبو بكر البكري شعره بكر، وله في ابتكار المعاني ذكاء خاطر وفكر، وكلامه لطائر البلاغة والبراعة وكر، شريف، فقيه ظريف، نبيل نبيه، فاضل فصيح، نسبه صريح، تفقه على الإمام محمد بن يحيى، بنيسابور، ومدح الأكابر والصدور، إلى أن لقي وجه جده العبوس، وأدركته وفاته بطوس، سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، ذكره السمعاني في تاريخه بكلام هذا معناه، وقال أنشدني لنفسه إملاء:
سِوَى عَبراتي رَقْرَقَتْها المعالمُ ... وغيرُ فؤادي هَيَّجَتْه الحمائمُ
أَبَتْ لي رُكوبَ الذُّلِّ نَفْسٌ أَبِيَّةٌ ... وأَبيضُ مَصقول الغِرارَيْن صارِمُ
تقول سُليمَى يومَ بِنْتُ ودمعهُا ... عَلَى خدِّها من لَوْعة الْبَيْن ساجِمُ
رُوَيْداً إلى كم لا تزالُ مُخاطِراً ... بنفسٍ كريماً لَوَّحَتْهُ السمائمُ
فقلتُ لها والْعِيسُ في ذَمَلانِها ... تُلاعبها أَشْطانها والخَزائِمُ
ذَرِيني فلا أَرضى بعِيشَةِ مُقْتِرٍ ... وما رَضِيَتْ عني السُّيوف الصَّوارِمُ
لَئِنْ لم أُزِرْها الحَرْبَ قُبّاً يقودُها ... إِلى الموت لَيْثٌ من قُريشٍ ضُبارمُ
فلا وَلَدَتْني من لُؤَيِّ بن غالبٍ ... لُيوثُ الْوَغى والمُحْصَناتُ الكَرائمُ
أَيطمَعُ في العلياءِ والمجدِ سالِمٌ ... وعاتِقُه من عُرْضَةِ السَّيْف سالمُ
يحاوِلُ نَيْل المجد والسيفُ مُغْمَدٌ ... ويأْمُل إِدْراك العُلى وهو نائمُ
هذا شعر معتدل لم يطر به خطأ ولا خطل. قال: وسمعت أبا نصر الخطيبي يقول: للشريف أبي بكر البكري بيت ما قيل في معناه أحسن منه، وهو:
عَلَى يَعْمَلاتٍ كالحَنايا ضَوامِرٍ ... إِذا ما أُنيخت فالكَلالُ عِقالُها
قال وأنشدني أبو الحسن علي بن محمد البروجردي إملاء بأبيورد، أنشدني الشريف أبو بكر البكري لنفسه بنوقان قوله:
أَيا ساكِني نجدٍ سلامٌ عَليكمُ ... وإِن كنتُ لا أَرجو إِباباً إِليكمُ
وإِن كان جِسمي في خُراسان ثاوِياً ... فقلبي بنجدٍ لا يَزال لَدَيْكُمُ
كافور النبوي
أحد خدام حظيرة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه سيد أسود، شاعر مجود، قرأت في تاريخ السمعاني أنه ورد العراق وخرج إلى خراسان وبلاد ما وراء النهر ومدح الأكابر، ولا أدري هل اتفق له الرجوع إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا، وكان ببخاري في حدود سنة عشر وخمسمائة، وكان بخوارزم في شهر رمضان سنة إحدى عشرة وخمسمائة. وكان أسود طويلاً لا لحية له، كان خصياً. قال أنشدنا محمود بن محمد الإمام بخوارزم، أنشدنا علي بن محمد الأدمي، أنشدنا كافور النبوي لنفسه:
حَتّامَ هَمُّك في حِلٍّ وتَرْحالِ ... تَبْغي العُلا والمَعالي مَهْرُها غالِ
يا طالبَ المَجدِ دونَ المَجدِ مَلْحَمةٌ ... في طيِّها تَلَفٌ للنَّفْسِ والْمال
ولِلَّيالي صُروفٌ قلَّما اُنجذبَتْ ... إِلى مُرادِ اُمرىءٍ يَسْعى لآِمالِ

وقال سمعت أبا الرضا محمد بن محمود بن علي الطرازي قال: وهذه قصيدة طويلة كتبت منها هذا القدر.
أقول هذا شعر يثبت على محك النقد وعيار السبك، لا كشعر يبهرجه محك المحق بعد الانتقاد باللجاج والمحك، أرق من النسيم، وأذكى من العبير، وأطيب من المسك، ولا عجب أن تفيد تربة النبي، الذي كان أفصح العرب والعجم صلوات الله عليه وسلامه، خادمها الأسود نظم الكلم، فكافور نظمه في الطيب كافور، ولفظه لقلوب المعاني تامور، وقد استغنى بحلية الفضل عن اللحية، فإن الفضل للرجال أحسن حلية، وسواده مع العلم أحسن من البياض مع الجهل، سارت شوارده في الحزن والسهل، ونقلتها رواة الحضر إلى حداة البدو، ولحنتها القيان بأغاريدها في الشدو، وما نقل إلي من نظمه غير أثبته، وإذا أنشدت غيره له كتبته، إن شاء الله تعالى.

الشريف علي بن عيسى السليماني المعروف ب
ابن وهاس
من أهل مكة وشرفائها وأمرائها، من بني سليمان من بني حسن، وكا ذا فضل غزير وله تصانيف مفيدة، وقريحته في النظم والنثر مجيدة، قرأ على الزمخشري بمكة وبرز عليه، وصرفت أعنة طلبة العلم بمكة إليه، وتوفي في أول ولاية الأمير عيسى بن فليتة أمير مكة في سنة ست وخمسين وكان الناس يقولون ما جمع الله لنا بين ولاية عيسى، وبقاء علي بن عيسى.
أنشدني له من قطعة:
أَهلاً بها من بَنات فِكْرٍ ... إِلى أَبي عُذْرِهِنَّ صَادِ
وله في مرثية الأمير قاسم جد الأمير عيسى:
يا حادِيَ الْعيس عَلَى بُعْدِها ... وَخّادةً تَسْحَبُ فَضْلَ النِّعالْ
رَفِّهْ عليهِنَّ فلا قاسِمٌ ... لها عَلى الأَيْنِ وفَرْطِ الكَلالْ
غاضَ النمّيرُ العَذْبُ يا وارِداً ... وحال عن عَهْدك ذاك الزُّلالْ
إِنْ يَمْضِ لا يَمْضِ بَطيءَ القِرى ... أَو يُودِ لا يُودِ ذَميمَ الفِعالْ
الأمير دهمش بن وهاس
الحسني السليماني
أنشدني لنفسه في الأمير مالك بن فليتة، وقد وفد إلى الشام سنة سبع وستين، ومات في الطريق بوادي الغضا ودفن بالأجولية، من مرثية فيه أولها:
مُميعُ دُموعي الجْامِداتِ الصّلائِبِ ... مُصابُ فَتىً آهاً لهُ في المَصائِبِ
فأَوْرثَ قَلْبي حَرَّ نارٍ كأَنّما ... لَظَا الجْمرِ ما بَيْنَ الحشَا والتّرائب
كأَنَّ جُفوني يَوْمَ وارَيْتُ شَخْصَه ... شآبيبُ مُزْنٍ من ثِقال السَّحائبِ
تَعجَّبَ صَحْبي كيف لم تَجْرِ مُقْلتي ... مع الدِّمْع واُعتدّوا بها في الْعَجَائب
ولم يَعْلَموا أَنَّ المَدامعَ أَصلُها ... من الْقَلْب لا من مُقْلَةٍ ذاتِ حاجِب
بِنَفْسيَ مَنْ بالأَجْوَلِيّةِ قَبْرُه ... تَمرُّ به ريحُ الصَّبا والجَنائب
مُعَطَّلَة أَكنافُه عن زِيارةٍ ... بعيد مدىً عن حُسَّرٍ ونَوادِب
إذا ذَكَرَتْه النَّفْسُ كادَتْ بذكْره ... تَفِيضُ عَلى ماءِ الْجُفون السَّواكب
أَعاذِلَتي كُفّي عن اللَّوْمِ في البُكا ... فلستُ بباكٍ غَيرَ خِلٍّ وصاحب
ذَريني أُبكّي سَيِّداً لوْ وَزَنْتُه ... بكلِّ كريمٍ لا رْجَحَنَّ بِجانِب
فما بَكَتِ الباكونَ مِثْلَك مالِكاً ... ولا خُمشِّتْ فيه خُدودُ الْكَواعِبِ
فَمَنْ لِجِيادِ الْخَيْلِ والْبِيضِ والقَنا ... إِذا دَلَفَتْ تَبْغي قِراعَ الكَتائِب
ومَنْ لِلْيتامىوالأرامِلِ أَقْفَرَتْ ... معالِمُهمْ مِنْ بِرِّه المُتعاقِب
ومن لِغِراثٍ مُرْمِلين تطاوَحَتْ ... بهم يَعْمَلاتٌ من طِلاحِ النَّجائِب
ومَنْ ذا يُجيرُ الْجارَ أَوْ يَكشِفُ الأَذى ... عن القوم في عُلْيا لُؤَيِّ بن غالِب
فُجِعْتُ به دونَ البريَّة واحداً ... فما مِثْلُه في شَرْقها والْمَغارِب
فأُقْسِم بالبيْتِ الْعَتِيق ومَن سعى ... بمَكَّة سَعيْاً بين ماشٍ وراكب

لَمَا وَجْدُ أُمِّ الذَّرْع قَدْ خَنَسَتْ له ... بزَيْزاءَ مَرْتٍ في السنِّينَ اللَّوازِب
رَمى صِيرَها شَيْمُ الْبُروق وغُودِرَتْ ... على طِفْلها تقَفْو به إِثْر ذاهِب
غَدَتْ تَرْتعي فَضْل اليَبيسَيْن وانْثَنَتْ ... فَلَمْ تَلْقَ منه غَيْرَ مُلقى العَراقِب
وَوَلَّتْ وقد أَودى بها فَقْدُ ذَرْعها ... يُقَطِّعُ من أَوْصالها كلَّ صالب
ولا وَجْدُ رَبْدا ذاتِ وَحْيٍ خَلَتْ به ... عَنِ الهَيْق في أَعلا عياس السَّباسِب
نَأَتْ تَفْتَلي زَهْرَ الرِّياضِ وغادَرَتْ ... دَفِينَتَها بينَ الرُّبى فالْجَوانبِ
فهذَّلت الْوَطْفا هذا لَيل فانتحت ... إِليه كما يَنْحو شَريدُ المَجانب
فوافَتْه يتلو بَعْضُه الْبَعْض سابِحاً ... فَمِنْ بين طافٍ مُسْتَقِرٍّ وراسِب
تَوَلَّتْ ونيرانُ الأَسَى قد تأَجَّجَتْ ... كأَنّ بَجَنْبَيْها دُفوفَ الضَّوارِب
ولا ذاتِ طَوْقٍ من حمائِم أَيْكَةٍ ... بنَعْمان تسجو في الضُحَى والغَياهِب
غَدَتْ تَرْتعي نَحْوَ اليمَام وعاوَدَتْ ... إِلى وَكْرها تَبْغيه عَوْدة آيِب
فأَلْفَتهُ قفراً من أَنيسٍ فَرَجَّعت ... فالأَجانب
بأَوجعَ من قلبي عَشِيَّةَ مالكٌ ... بِوادي الغَضا مُلْقىً صَريعَ النوائب
خَلِيليَّ مُرّا بي علي قبر مالكٍ ... فإِنّ لُباناتي بهِ ومآرِبي
وَحُطّا بِرَحْلي حيث حَلَّ فنآؤُهُ ... فإنّ بذاك التُّرْبِ نَيْلَ مَطالبي
وقُولا له إِنْ جئتُماه فَبلِّغا ... عليكَ سَلامُ اللهِ يا خير طالبي
فإِنْ تَكُنِ الآفاقُ بَعْدَكَ أَظلمتْ ... وخاب ذَوُو الآمالِ مِنْ كلِّ جانبِ
فَبالأَرْوع المَيْمون نَجْلِك إِنْجَلَتْ ... لَياليُها حتى اهتَدى كُلُّ طالِب
وللشريف علي بن عيسي بن حمزة بن وهاس بن أبي الطيب الحسني السليماني ذكر أنه مات بمكة سنة ست وخمسين وخمسمائة وكان في عشر الثمانين، أصله من اليمن من مخلاف بني سليمان أنشدني له ابن عمه الأمير دهمش بن وهاس ابن عثور بن حازم بن وهاس الحسني وقد وفد إلى الملك الناصر صلاح الدين علي باب حلب في رابع عشرين ذي الحجة سنة إحدى وسبعين:
صِلي حَبْلَ المَلامَةِ أَو فَبُتّي ... ولُمّي من عِتابِكِ أَو أَشِتّي
هِيَ الأَنْضاءُ عَزْمَةُ ذي هُمومٍ ... فَحَسْبُكِ والمَلام ولا هُبلْتِ
إليكِ فلستُ مِمَّن يَطَّبيه ... مَلامٌ أَو يَريغُ إِذا أَهَبْتِ
حَلَفْتُ بها تُواهِقُ كالْحنَايا ... بَقايا رِحْلةٍ كَسَمَالِ قَلْتِ
سَواهِمَ كالْحنايا رازِحاتٍ ... تَرَاكَعُ من وَجىً ووَنىً وعَنْت
جَوازِعَ بطنِ نَخَلْةَ عابِراتٍ ... تَؤُمُّ الْبَيْت من خمسٍ وَسِتّ
أَزالُ أُذيبُ أَنْضاءً طِلاحاً ... بِكُلِّ مُلَمَّعِ القَفَرات مَرْتِ
وأَرغَبُ عن مَحَلٍّ فيه أَضْحَتْ ... حِبالُ المَجْد تَضْعُف عند مَتّي
أَما جَرَّبْتِ يا أَيامُ مِنّي ... فَرُوكَ تَجَمُّعٍ وحَليفَ شَتِّ
أَبِيّاً ما عَجَمْتِ صَفاه إِلاّ ... وَأَثَّرَ في نُيوبكِ ما عَجَمْتِ
ورُبَّ أَخٍ كَريمِ الُوِدّ مَحْضٍ ... يُراعُ لِدَعْوتي كالسَّيْفِ صَلْتِ
أَبَتْ نفسي فلم تَسْمَحْ بِشَكْوى ... إِليه غير ما جَلَدٍ وصَمْتِ
أَقولُ لنفسيَ المِشْفاقِ مَهلاً ... أَلَيْسَ عَلَى الرَزِيَّةِ ما أَضَرْت
لَئِنْ فارقتِ خَيْرَ عزىً لأَهْلٍ ... فَخَيْرُ بني أَبيكِ بهِ نَزَلْتِ
وله من مرثية في الأمير قاسم بن محمد أمير مكة شرفها الله تعالى:
لا زَالَكِ الوابِلُ من حُفْرةٍ ... أَيّ فتىً واريْتِ رَحْب الذِّراعْ

ولا عَدَتْكِ الْجِوْنُ صَخّابَةً ... مُلْقِيَةً مِنها عليكِ البعَاع
وارَيْتِ حَمّاء على العقب إِذ ... أَدْبرن صَبّاع حباب الوقاع
الطاعِن النَّجْلاء نَغّارةً ... ذا خُلُقٍ سَمْح وصَدْرٍ وَساعْ
والمُوقد النّار إذا أُخْفِيَتْ ... في رأْس صَمْدٍ ذاتِ أَزْلٍ شَناع
في حينَ لا تَرْأَم أَولادَها النَّ ... يِّب ولا تَحْنو ذَواتُ الرّباع
قال وكتب إلى عمته وقد أرسلتإليه تقول له: إلى كم هذا البعد عنا والتغرب:
وَمُهْدِيةٍ عندي على نَأْي دارِها ... رسائلَ مُشْتاقٍ كريمٍ وسائِلُهْ
تقول إِلى كم يا ابنَ عيسى تَجَنُّباً ... وبُعْداً وكم ذا عَنْكَ رَكْباً نُسائِلهْ
فيُوشِك أَنْ تُودِي وما مِنْ حَفِيَّةٍ ... عليكَ ولا باكٍ بما أَنت فاعِلُهْ
فقلتُ لها في الْعِيسِ والْبُعد راحةٌ ... لِذي الهمِّ إِنْ أَعْيَتْ عليه مَقاتِلُهْ
وفي كاهلِ اللَّيْل الخُداريّ مَرْكَبٌ ... وكم مَرَّةٍ نجّى من الضَّيْم كاهِلُهْ
إذا لم تَعادِلك الليَّالي بصاحِبٍ ... فلا سَمَحَتْ بالنَّصْح عَفْواً أَناملهْ
فلا خَيْرَ في أَن تَرْأَمَ الضَّيْم ثاوِياً ... وغَيْظاً عَلَى طُولِ اللّيالي تُماطِلهْ
ذَرِيني فلي نَفْسٌ أَبي أَن يَدِرّها ... عِصابٌ وقلبٌ يَشْرَبُ اليأْسَ حاصِلُهْ
إِذا سيم وِرْداً بعد خمسين شَمَّرَتْ ... عن الماءِ خَوفَ المُقذِعاتِ ذَلاذِلهْ
وذكره عمارة الشاعر في شعراء اليمن وقال: هو الذي رئى المأربي والده عيسى حين قتله أخوه يحيى. وكان رأس الزيدية بالحرمين.
ومن جملة شعره أبيات كتبها إلى الأمير هاشم بن فليتة بن قاسم أمير مكة يشفع في جماعة حبسهم من الزيدية، فوهبهم له وأمر بإخراجهم إليه، منها:
أَبا قاسمٍ شَكْوَى امرىءٍ لك نُصْحُهُ ... تَفَكَّرَ فيها خُطَّةً فَتَحيَّرا
على أَيّ أَمرٍ ما تُساق عِصابةٌ ... إِلى السّجْن والَوْا جَدَّك المُتَخَيَّرا
ولمْ يَعْدِلوا خَلقْاًَ بكم آلَ أَحْمدٍ ... ولا أَنكروا إِذ أَنْكَر النَّاس حَيْدرا
أَتاك بهم ما طَنَّ في مَسْمَع الوَرَى ... وسارت بهِ الرُّكْبان عَدْلاً ومَفْخَرا
يَجُرّون أَطرافَ السَّريح عَلَى الْوَجا ... مُنَاقَلَةً بين الْهَواجِر والسُّرى
لكِ اللهُ جاراً من قلوبٍ تَطايَرَتْ ... حَشاها ومِنْ دمعٍ جَرى مُتَحدِّرا
ومِنْ كلِّ أَوّاهٍ وأَشْعَث مُخْبِتٍ ... إِذا صُدّ عن قَصْدِ الثَّنِيَّةِ كَبَّرا

أبو الحسن علي بن الحسن المعروف ب
ابن الريحاني
من أهل مكة، ذكر أنه من بني تميم، وهو علي بن الحسن بن علي بن عبد السلام بن المبارك بن محمد بن راشد السعدي التميمي، لقيته بالشام مراراً وقد وفد إلى صلاح الدين الملك الناصر في سنة سبعين فأنشدني لنفسه من قطعة في الأمير قاسم أمير المدينة:
طَوَتْ مَا طَوَت من حَزْن أَرضٍ وسَهْلِها ... وجاءَتْ سِراعاً كانقضاضِ الْجَوارِحِ
إلى حَرَمٍ جَمِّ المآثِرِ لم يزَلْ ... مَدَى الدَّهْرِ مَخصوصاً بغُرّ المدائح
إِلى القاسم القَمقامة النَّدْب ذي النُّهَى ... وَذي الْجُود في غُبْرِ السِّنين الكَوالح
إِلى ابن المُهَنّا الماجد القَرْم من غَدا ... يَبُثّ الأَيادي بين غادٍ ورائح
سَما بِكرامٍ من ذؤابةِ هاشمٍ ... غَطاريفَ صِيدٍ ماجِدين جَحاجِح
موارد جُودٍ لا تَمُرّ لِشاربٍ ... وأُسْد وَغىً بَسّالة في الْفَوادِح
ووفد إلى الشام لقصد الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله وكتب إليه بهذه الأبيات في سنة ثمان وستين وأنشدنيها لنفسه:

يا أَوْحَداً عَظَّمَتْهُ العُرْب والْعَجَمُ ... وواحِداً وهو في أَثوابه أُممُ
إِنّا قصدْناك والأَقطارُ مُظلِمَةٌ ... والبدْرُ يُرْجى إِذا ما التجَّت الظُّلَمُ
سِرْنا إِليك من البيت الحرام ولم ... نَعْدُ المقامَ به إِذْ بَيْتُكَ الْحَرَمُ

القائد سالم بن أبي سليمان
من عبيد مكة وقوادها، نوبي الأصل، وقاد الخاطر، أنشدني الأمير دهمش ابن وهاس السليماني له قال سمعته ينشد الأمير عيسى بن فليتة في العيد:
الَليْلُ مُذْ بَرَزَتْ به أَسماءُ ... صُبْحٌ، ومُسْوَدُّ الظَّلام ضِياءُ
فكأَنَّما نُورُ الغَزالَةِ ساطِعٌ ... بِجَبينها ولِضَوْئه لأْلآءُ
وكأَنَّ أَشْنَبَ ثَغْرِها بِلِثاتِها ... حَبُّ الْجُمان، فَحَبَّذا أَسماءُ
وكأَنَّما بالظَّلْم منها واللَّمى ... عَذْبُ النَّمير وقَهوةٌ صَهْباءُ
أَمّا الْقَضِيب فقَدُّها، ولِردِفها ... كُثُب النَّقا، وأَثِيثُها الظَّلْماءُ
يا حَبَّذا أَنفاسُ رَيّاها إِذا ... هَدَتِ الْعُيونُ ونامَتِ الرُّقَباءُ
بلْ لَيْتَها لِمُتَيَّمٍ أَلِفَ الضَّنا ... وَصَلَتْ، فَوَصْلُ الغانِيات شِفاءُ
هَيْهاتَ لا طَمَعٌ بذاك وطَرْفُها ... ماضي الغِرار وقَدُّها السَّمْرءُ
حَبْلُ الْوَريد لِعاشقيها هَجْرُها ... ووِصالُها مِنْ دُونه الْجَوْزاءُ
بانَتْ فأَكثرَ عاذِلي تَفْنيدَه ... والْعَذْل فيها إِذ نَأَتْ إِغراءُ
إِنَّ المُفَنِّدَ لم يَهِجْ بَلْبالَهُ ... رَسْمٌ خَلا وحَمامَةٌ وَرْقاءُ
سَفَهٌ سُؤالُ رُسومِها أَنىّ نَأَتْ ... والْقلبُ مأْهولٌ وُهُنَّ خَلاءُ
لللَّحظ من أَسماءَ يَوْمَ وَداعِها ... ما أَوْدَعَتْك المُقْلَةُ النَّجْلاءُ
سَقَمٌ يَزيدُ وحَسْرَةٌ ما تَنْقضي ... وجَوىً تذوب لِفَرْطه الأْحشاءُ
دَعْها فلن يَشْفيك دَمْعٌ هامِلٌ ... في إِثرها وتَنَفُّسٌ صُعَداءُ
وارْحَلْ إِذا أَوْلاك دَهْرٌ نَبْوَةً ... بِصُروفه أَوْ عَضَّتِ الَّلأْواءُ
وانْزِل بساحة ماجدٍ من هاشِمٍ ... عَظُمَتْ به بين الْوَرى الْعُظَماءُ
عيسي المُتَوَّجِ مَن عَلا قَدْراً ومَنْ ... طابَتْ بطِيبِ مَديحه الأَنبْاءُ
هو نُورُ رَبِّ الْعرش بينَ عِباده ... فليْعلموا، والْحُجَّةُ الْبَيْضاءُ
لله يأْمر باطناً أَو ظاهراً ... فَتَصَرُّفُ الأَقدارِ كيف يَشاءُ
مِنْ جَوْهَرٍ منه النبيُّ محمدٌ ... فَعَلَيْه من نُورِ الإِله بهَاءُ
مُتواضِعٌ لله جَلَّ جَلالُهُ ... لا يَزْدهيه الكِبْرُ والْخُيلاَءُ
يَوْماه يومٌ للنَّوال، وآخَرٌ ... يُرْدَى بِسَطْوَة بأْسِهِ الأَعْداءُ
لم يختلفْ خَصْمان في تَفْضيله ... نطقَت بذاك الُّلكْنُ والفُصَحاءُ
يا خَيْرَ أَبْنا أَحمدٍ خَيْرِ الورى ... يُثْني عليكَ الرُّكْنُ والْبَطْحاءُ
إنَّ المَعالي بعضَ ما أُوتِيتَه ... وبِمثْلِ شَخْصك تَعْتَلي العَلْياءُ
وكذا المُلوك بكلِّ أَرضٍ مثلُها ... أَرضٌ وأَنت عَلَى المُلوكِ سَماءُ
إِنَّ الثناءَ عليك من رَبِّ السَّما ... أَغْناك عمَّا قالت الشُّعراءُ
يا أَيُّها السامي المَحَلّ ومَنْ له ... مَجْدٌ أَثيلٌ عِزَّةٌ قعساءُ
جِيدِي بما خَوَّلْتَنِيه مُطَوَّقٌ ... من نعمَةٍ وبِكاهِلي أَعباءُ

فَلأَشْكُرَنْ بَيْنَ البَرِيَّةِ مُعْلِناً ... شُكْرَ الرِّياض تَجُودُها الأَنْواءُ
أَنا عَبْدُ أَنْعُمِك التي ماشانَها ... مَنٌّ ولا مَطْلٌ ولا إِكْداءُ
مْملوكُ رِقِّك وابنُ مُلْكِ أَبيك لم ... تَجْنَح بيَ الأَغْراض والأَهواءُ
إِن عَدَّ قَوْمٌ في الورى آباهُمُ ... فَبِرِقِّكُم تسمو بنا الآباءُ
هُنِّيتَ عيدَ الفِطْرِ أَنَّك عيدُه ... وله بشخصكَ حيثُ كنتَ هَناءُ
واسلمْ، وإِنْ رَغِمَ، الْحسودُ، بغبْطَةٍ ... تَبْقى إذا عَمَّ الأَنامَ فَناءُ

حجة الدين المكي الأصل المغربي المنشأ
هو أبو عبد الله محمد بن أبي محمد بن محمد بن ظفر سكن الشام في الشطر الأخير من عمره، وقرط أسماع المستفيدين بدره، وكان إمام وقته في التفسير والأدب، رأيته بحماة مقيما، ونفوس طلبة العلم إليه هيما، توفي سنة سبع أو ثمان وستين وخمسمائة بحماة وله التصانيف الحسنة، والمجموعات المدونة، ومن جملة كتبه: سلوان المطاع في عدوان الأتباع، طالعته فوجدته كتاباً مفيداً مشتملاً على حسن معنى ولفظ، وذكر تنبيه ووعظ، صنفه إبان مقامه بصقلية، سنة أربع وخمسين وخمسمائة، ويشكر في خطبته القائد الذي صنعه باسمه ويقول: بارك الله له فيما ألهمه كسبه، وكان وليه وحسبه، فلقد أنزل الدنيا بدرك منزلتها، وكوشف بشرك مزلتها، فعمل للبقاء لا للفناء، وجمع للجود لا للاقتناء وجاد لله لا للثناء، وآخى للتعاون على البر والتقوى، لا للتهافت في هوى الهوى، وزان الرياسة بنفس لا تضيق بنازلة ذرعا، ولا تصغي إلى الوشاة سمعا، ولا تدنس بطبع طبعا، وبحلم لا يرفع الغضب لديه رأساً، وحزم لا تخاف الإيالة معه بأساً، فالحمد لله الذي أباحني من إخائه حمى منيعاً، وحرماً أميناً، ومرتعاً مريعا، وورداً معيناً.
فنحن بقَرْبه فيما اشْتهيْنا ... وأَحْببنا وما اخْتَرْنا وَشينا
يقَينا ما نعافُ وإِن ظنَنّا ... به خيراً أَراناه يقَينا
نميلُ على جوانبه كأَنّا ... إِذا مِلْنا نَميل عَلَى أَبينا
وأقسم لولا أن الشكر عقد شرعي، وحق مرعي، لأقررت عينه بطي ما نشرت، والتورية عما إليه أشرت، إذ كان وقاني الله بعده، ولا أبقاني بعده، يرى أن الشكر في وجوهى آلائه ندوب، والمدح من خواص أوليائه ذنوب.
ومن نثره ونظمه في التفويض أسجاع وأبيات حكمية.
فمن النثر: معارضة العليل طبيبه، توجب تعذيبه. إنما الكيس الماهر، من استسلم في قبض القاهر. إذا كانت مغالبة القدر مستحيلة، فمن أعوان نفوذه الحيلة. إذا التبست المقادر، ففوض إلى القادر.
ومن الشعر قوله:
أَيا مَنْ يُعَوِّلُ في المْشكلات ... عَلَى ما رآه وما دَبَّرَهْ
إذا أَشْكَلَ الأَمرُ فابرأْ به ... إِلى من يرى منهُ ما لَمْ تَرَهْ
تَكُنْ بينَ عَطْفٍ يَقيك الْخُطوب ... ولُطْفٍ يهوِّنُ ما قَدَّرَهْ
إِذا كنتَ تجهل عُقْبى الأْمور ... ومالك حَوْلٌ ولا مَقْدُرَهْ
فلمْ ذا الْعَنا وعَلامَ الأَسى ... وَمِمَّ الحِذارُ وفيمَ الشَّرَهْ
وقوله:
يا رُبَّ مُغْتَبِطٍ ومَغْ ... بوطٍ برأْيٍ فيه هُلْكُهْ
ومُنافِسٍ في مَلِك ما ... يُشْقيهِ في الدَّارَيْن مُلْكُهْ
عِلْمُ العَواقِب دونَه ... سِتْرٌ وليس يُرامُ هَتْكُهْ
ومُعارِضُ الأَقدار بالْ ... آراءِ سَيْئُ الْحالِ ضَنْكُهْ
فكُنِ امرءاً مَحَضَ اليقي ... ن وَزَيَّف الشُّبُهاتِ سَبْكُه
تَفْويضُه تَوْحيدُه ... وعِناده المِقْدارَ شِرْكُهْ
وفي سلوانة التأسي: التأسي جنة البلاء، وسنة النبلاء. التأسي درج الاصطبار كما أن الجزع درك التبار.
ومن سلوانة الصبر قوله:
عَلى قَدْرِ فضل المرءِ تأْتي خُطُوبُه ... ويُعْرَف عند الصَّبْر فيما يُصِيبهُ
ومَنْ قَلَّ فيما يَتَّقِيه اصطبارُه ... فقد قَلَّ فيما يَرْتجيه نَصِيبُهُ

ومن كلامه في الصبر: صبر الملوك ثلاث قوى: قوة الحلم وثمرتها العفو، وقوة الكلأة والحفظ وثمرتها عمارة المملكة، وقوة الشجاعة وثمرتها في الملوك الثبات، وفي حماة المملكة الإقدام في المعارك، ولا يراد من الملك الإقدام في المكافحة فإن ذلك من الملك تهور وطيش وتغرير، وإنما شجاعته ثباته حتى يكون قطباً للمحاربين ومعقلاً للمنهزمين، وهذا ما دام بحضرته من يثق بذبه عنه، ودفاعه دونه، وحمايته له.
ومن سلوانة الرضا قوله: من رضي حظي. من ترك الاقتراح، أفلح واستراح. كن بالرضا عاملاً قبل أن تكون له معمولاً، وسر إليه عادلاً وإلا صرت نحوه معدولاً.
وقوله نظماً:
يا مَفْزعي فيما يَجي ... ئ وراحِمي فيما مَضى
عِنْدي لمِا تَقْضيه ما ... تَرْضاه مِنْ حُسْن الرِّضا
ومِنَ الْقطيعة أَستعي ... ذُ مُصَرِّحاً وَمُعَرِّضا
وقوله:
كُنْ مِنْ مُدَبِّرِك الحكي ... م، عَلا وجَلَّ، عَلَى وَجَلْ
وارْض الْقَضاءَ فإِنّه ... حَتْمٌ أَجَلْ وله أَجَلْ
وقوله:
يا مَنْ يرى حالي وأَنْ ليس لي ... في غيرِ ما يُرْضيه أَوطارُ
وليس لي مُلْتَحَدٌ دُونَهُ ... ولا عليه ليَ أَنصارُ
حاشا لِذاك الْفَضل والعِزِّ أَنْ ... يَهْلَكَ من أَنْت له جارُ
وإِنْ تَشأْ هُلْكي فيا مَرْحَباً ... بكلِّ ما تَقْضي وتَخْتارُ
كلُّ عذابٍ منك مُسْتعْذَبٌ ... ما لك يكنْ فَقْدُك والنّارُ
وقوله:
إِذا أَنا لم أَدْفَع قَضاءً كَرِهْتُهُ ... بشيءٍ سِوى سُخْطي له وتَبَرُّمي
فصَبْري له من حُسْنِ معرفتي به ... كما أَنّ رِضواني به مِن تَكَرُّمي
وله في سلوانة الزهد قوله في زهد النبي عليه السلام:
قال لهُ جِبْريل عن رَبِّهِ ... خُيِّرْتَ فاختر يا دَليلَ الهُدَى
نُبُوَّةً في حالِ عَبْدِيَّةٍ ... تَحْوي بها الْقِدْحَ المُعَّلى غدا
أَو حالَ تمْليكٍ تَخِرّ العِدَى ... بَيْنَ يَدَيْه صُعَّقاً سُجَّدا
فاخْتار ما يَحْظى به آجِلاً ... لله ما أَهْدَى وما أَسْعدا
وقوله:
يا مُتعَباً كَدّه الْحِرْ ... صُ في الْفُضول وكادَهْ
لو حُزْتَ ما حاز كِسرى ... وما حَوَى وأَفادهْ
ما كنتَ إِلاّ مُعَنىًّ ... ومُغْرَماً بالزِّيادهْ
لم يَصْفُ في الأرض عَيْشٌ ... إِلاّ لأَهْل الزَّهادهْ
فَرُضْ عَلَى الزُّهْد نَفْساً ... فإِنّما الخيرُ عادهْ
وقوله:
دُنياك دارُ غُرورٍ ... ومُتْعَةٍ مُسْتعارَهْ
ودارُ لبس وكَسْبٍ ... ومَغْنَمٍ وتجارهْ
ورأَس مالِكَ نَفْسٌ ... فاحْذَر عليها الخَسارهْ
ولا تَبِعْها بأَكْلٍ ... وَطِيبِ عَرْفٍ وَشارهْ
فإِنّ ملك سليما ... ن لا يفي بشَرارهْ
وقوله من قصيدة:
إِنّا بِدارٍ تُرْدي مُحارِبَها ... وتَخْفُرُ إِلإِلَّ في مُوادِعِها
وتَسْتَفِزُّ الحَليمَ عَنْ سَنَنِ الْ ... قَصْدِ وتُعْيي عَلى مُخادِعِها
مَنْ رامَ إِبقاءَها عليه فقد ... حاوَلَ ما ليس في طبائعها
أَسْرَعُ ما تنتحي بَوائقُها ... يَوْماً إِذا استجمعت لجامِعها
فَتِهْ عليها وارَبأْ بِنَفْسك عن ... طِلابها وافتفاءِ تابعِها
واشْقُق عصا بَيْعَةِ الْغُرور لها ... وانْبِذ صُراحاً إِلى مُبايعها
عَمْري لقد أَنْذَرَتْ مُنَدِّدَةً ... نَاخِعَةً نُصْحَها لسِامِعِها
مُؤْذِنَةً أَنّها مُؤَدِّيةٌ ... لساعةٍ آهِ مِنْ قَوارِعها
فالأمْنُ، واللهِ، مِنْ فَجائعها ... يَضْمَنُه الزُّهْد في مَطامِعها
وقوله:

راعَك الزُّهْدُ إِنَّما الزُّهْد رَفْضٌ ... لِفُضولٍ تَلْهي وتُطْغي وتُرْدي
ثم لا تُمْكِنُ الزَّهادةُ في الْمَقْ ... سوم رِزْقاً بل في ضُروب التَّعَدّي
مَرْحَباً بالكَفافِ عَيْشاً هَنيئاً ... ثم لا مَرْحباً بحرصٍ وكَدِّ
ما عَلِمْنا، وقد رأَينا كثيراً ... وسَمِعنا، مَنْ حاز جَداً بِجِدِّ
لا يَزالُ الْحَريص يَسْتامه الحِرْ ... صُ بنُصْب من الشَّقا وبِكَدّ
ثم لا يستطيع أَنْ يَتَعَدّى ... قَدَراً ما لِحُكْمِهِ من مَرَدِّ
وقال في آخر الكتاب: أعوذ بالله من عذاب الإعذاب، كما أعوذ به من حجاب الإعجاب، وأستكفيه عول السؤال كما أستعفيه غول الجواب، وأستدفع به فساد الخطأ كما أستدفع به كساد الصواب.
ومن ملتقطات حكم الكتاب المودعة فيه: الدنيا قريب سلبها من سلمها، وخطفها من عطفها. التنعم في الدنيا يضاعف حسرة زيالها، ويؤكد غصة اغتيالها. المال كالماء، فمن استكثر منه ولم يجعل له مسرباً ينسرب به ما زاد على قدر الحاجة غرق به. المواساة في المال والجاه عوذة بقائهما. الموثوق موموق، والأمين، بالمودة قمين. كن من عينك على حذر، فرب جنوح حين، جناه جموح عين. ما أحرى الملول، بأن يحرم المأمول. السآمة من أخلاق العامة، لا من أخلاق السامة. التنقل من خلة إلى خلة، كالتنقل من ملة إلى ملة. من لزم الرقاد، حرم المراد. من بلغ من اليسار ما فوق قدره تنكر لمعارفه. اليسار مفسدة للنساء لغلبة شهواتهن على عقولهن. أمران يسلبان الحر كمال الحرية: قبول البر، وإفشاء السر. إذا أمكنت عدوك من أذنك فقد تعرضت للغرق في بحره، والحصول في وهق سحره. من تسرع إلى الأمانة، فلا لوم على من اتهمه بالإضاعة، ومن تسرع إلى المشاركة في السر، فلا لوم على من أتهمه بالإذاعة، ومن تنصح قبل أن يستنصح، فلا لوم على من اتهمه بالخداع، ومن عني بكشف ما ستر عنه فلا لوم على من اتهمه بخبث الطباع. أصعب ما يعانيه الإنسان ممارسة صاحب لا تتحصل منه حقيقة. إحذر مقارنة ذوي الطباع المرذولة، لئلا تسرق طباعك من طباعهم وأنت لا تشعر. من غرس العلم اجتنى النباهة، ومن غرس الزهد اجتنى العزة، ومن غرس الإحسان اجتنى المحبة، ومن غرس الفكرة اجتنى الحكمة، ومن غرس الوقار اجتنى المهابة، ومن غرس المداراة اجتنى السلامة، ومن غرس الكبر اجتنى المقت، ومن غرس الحرص اجتنى الذل، ومن غرس الطمع اجتنى الخزي، ومن غرس الحسد اجتنى الكمد.
أول الهوى هون وآخره هون. الهوى طاغية فمن ملكه أهلكه. الهوى كالنار إذا استحكم اتقادها، عسر إخمادها، وكالسيول إذا اتصل مدها تعذر صدها. ليس الأسير من أوثقه عداه أسراً، إنما الأسير من أوبقه هواه قسراً، وأرهقه خسراً. الغريب ميت الأحياء، قد أعاده البين، أثراً بعد عين. العاقل يقدم التجريب على التقريب، والاختبار على الاختيار، والثقة على المقة. الرأي سيف العقل. أفضل الرأي ما أجادت الفكرة نقده، وأحكمت التروية عقده. كل رأي لم تتمخض به الفكرة ليلة كاملة فهو مولود لغير تمام. رب حيلة، أنفع من قبيلة. السلطان في حال اضطراب أموره كالبحر في حال هيجه لا ينبغي أن يقرب.
وذكر في صدر الكتاب أن السلوان جمع سلوانة وهي خرزة تزعم العرب أن الماء المصبوب عليها إذا شربه المحب سلا.
ومبدأ خطبة الكتاب: الحمد لله جاعل الصبر للنجاح ضمينا، والمحبوب في المكروه كميناً، الذي ضرب دون أسرار الأقدار حجاباً مستوراً، وقضى أن الخير على الفطن لا يزال حجراً محجورا.
ولهذا حجة الدين كتب مصنفة من جملتها درر الغرر أودعه أنباء نجباء الأبناء، وكان شخصاً عزيزاً، قد برز في العلوم على علماء عصره تبريزا.

محمد بن عيسى اليماني

ورد بغداد في سنة خمسين وخمسمائة، وكان قد أصعد من واسط، وهو فاضل مهندس، لكن له طبع شرس، نفيس النفس، مصيب الحدس، نزل في دار طبيب نصراني من بني تومة، ولم يبرح من ذلك المنزل ولن يريمه، وكان لعلة في ضيافة الطبيب، وهو يحل عليه إقليدس على الترتيب، وكان يضن به غاية الضنة، ويتقلد لمن يجعل له إليه طريقاً قلائد المنة، وكنت حينئذ مولعاً بإقليدس وحل أشكاله، وفهم ما يعرض من شكوكه وإشكاله، فتوصلت إلى أن بلغت إليه، وحللت مقالات عليه، فلما رأيته نافر الطبع بالكلية، أكدت مفارقته بالألية، ورأيته يدعي علوماً، ويدعو لنفسه أمراً عظيماً، من علم المجسطي وهيئات الفلك، والمنطق الذي من شم سمه هلك، وكان يقول بفارس، إنسان في هذا العلم فارس، وأنا لابد لي من قصده، واستيراء زنده، وغاب ثم عاد في السنة الثانية إلى بغداد، فلقيته في عرض الطريق مرة واحدة، ورأيت طباعه للمعرفة القديمة جاحدة، فما شئت ماشيته، وجادلته في شيء من العلوم وماريته وفارقته، وبعد ذلك ما رأيته. أنشدني لنفسه من أبيات عملها:
إلى الله أَن الدَّهرَ أَنيابُ صَرْفه ... عليَّ من الْغيظ المُبَرِّح تَصْرُفُ
وذَنْبي إِليه أَن نفسي إلى العُلا ... تَتُوق وعن طُرْقِ المَذَلَّة تَعْزُفُ
ولكنَّ هذا الدَّهرَ لا دَرَّ دَرُّهُ ... عَلَى الحرِّ جَوَّارٌ ولِلْجِبسِ مُنْصِفِ
وأنشدني لنفسه:
أَقولُ لنفسي وقد أَشْفقتْ ... لِكوْن الهمومِ إليها قواصِدْ
إِذا كُنتِ تَبغين كَسْبَ العُلى ... فلا تَحْفَلي بِلقاءِ الشدائدْ
أنشدني: كسب المعالي، فقلت: كسب العلا أصوب:

محمد بن المبارك اليماني
من فضلاء اليمن، ونبلاء الزمن، سافر من اليمن إلى بغداد بالبركة واليمن، وكان من الفصحاء اللسن، وأقام بها مدة وانصرف، وقد عرف مكانه من عرف. قال السمعاني في مصنفه وقد طالعته مطالعة المنتخب المنتقي، قرأت في كتاب الوشاح لأبي الحسن البيهقي أخبرني ملك النقباء محمد بن المرتضى أن محمد بن المبارك اليماني قد جرعته يد الإنفاق، كأس الإملاق، وطلق عرائس العراق، وركب أثباج الفراق، وأنشدني له:
فانْشُر مَطارفَ من هَواكَ فطالما ... أُوِلعْتَ خَوْفَ الْعاذِلين بِطَيِّها
وَدَعِ التَّأَمُّل في العَواقِب إِنه ... لا يَستبين رَشادُها مِنْ غَيِّها
المهدي بن علي بن مهدي
ملك اليمن في زماننا هذا، وسفك الدماء، وسبى المسلمين، وأقبل على شرب الخمر والعقار، وادعى الملك والإمامة ودعا إلى نفسه، وكان يحدث نفسه بالمسير إلى مكة فمات في الطريق سنة ستين، وتولى بعده أخوه وله شعر حسن يدل على علو همته، وما كان في نفسه من مضاء العزيمة وبعد الهمة في طلب الملك والفتنة. كثر بالعراق من أجفل من اليمن خوف ما بها من الفتن أنشدني له الشاعر الذي كان مقيماً باليمن وقدم العراق أبو محمد بن عتيق المصري ابن الرفا يهدد قوماً من اليمن:
أَبْلِغْ قُرَى تَعْكُر ولا جَرَما ... أَنّ الذي تكرهون قَدْ دَهَما
وَقُلْ لِجَنّاتِها سأُبدلُها ... سَيْلاً كأَيّام مَأَربٍ عَرِما
ظَنَّتْ خُوَيْلان أَن سَتَشْغَلَنُي ... عَماً لَمِا ظَنَّتِ اللِّئامُ عَما
هل يَنْقُصُ الْبَحْرَ كَفُّ غَارفِه ... أَو يُخْمِدُ النارَ قابِسٌ ضَرَما
تَعْساً لِخَوْلان لا أَبا لَهُمُ ... أَمْسَوْا وُجُوداً وأَصْبَحوا عَدَما
إِذْ نَفَخُوا مِنْ صَوارِمي ضَرَما ... واسْتَسْمَنوا من ظُنونِهِمْ وَرَما
وَقُلْ لسام إِليكُم عَجلاً ... فَوارِساً لم تَدَعْ لِحام حِمى
هَيْهاتَ قامتْ لكمْ عَلَى قَدَمٍ ... شَعْواءُ تَرْمي بِرأْسِها القَدَما
وشَمَّرتْ ساقَها الْحُروبُ وما ... أَلَفَّها الليلُ سائقاً حُطَما
مَمْلوءةً بالقَنا مُلَمْلَمَةً ... صَمّاءَ يَمْلو صمامها صمما
سَلْ يَوْمَ مَلْحاء قَوْمَ قَاسِمِها ... مَن كان غيري نُفوسَها اقْتَسما

أَنا ابنُ مَنْ أَسْأَمَ المُلوك وما ... وَنَى عَلى حالةٍ ولا سَئما
أَبْلغ أَبا كَلْبَة وإِنْ رَغِمَتْ ... أُنُوفُ أَشْياعِه وإِنْ رَغِما
أَن نُسورَ الْوَغى إِذا وَقَعَتْ ... بأَرْضِ قَوْمٍ أَطارَت الرَّخَما
نَرْمي بِنيرانِها قُرى عَدَنٍ ... صُبْحاً فَيُمسي شَرارُها الْحَرَما
أَيُشْرَب الْخَمْرُ في ذُرى عَدَنٍ ... والمَشْرَفِيّات بالْحُصَيْب ظِما
ويُلْجَمُ الدِّينُ في مَحافِلها ... والْخَيْلُ حَوْليّ تَعْلُكُ اللُّجُما
كَلاّ ومهدي أَجبةٍ خلفٌ ... له وحَيْزومُ يَمْلأُ الْحُزُما
صَلّى عَلَيْنا الإِلهُ بَعْد أَبي الْ ... قاسِم ما سَحَّ وَابِلٌ وَهَمى
ونسب عمارة اليمني في مجموعه هذه القصيدة إلى ابن الهبيني التهامي، شاعر علي بن مهدي وكان يعمل له الشعر.
وأنشدني أبو محمد بن عتيق الشاعر وكتب لي بخطه ما كتب إليه من اليمن من شعر ابن مهدي هذا:
يَميناً بِسامي الْمَجد يُدْرَك بالجِدِّ ... وحَدِّ اعتزامٍ لم يَقِفْ بي على حَدِّ
وعِزَّةِ نَفْسٍ لم تكن مُذْ صَحِبْتُها ... تُنافِسُ إِلاّ في الرَّفيع من الْمَجدِ
وَصُحْبةِ آسادٍ تَهُزُّ أَساوِداً ... فَمِنْ فِتْيةٍ مُرْدٍ عَلَى قرَّحٍ جُرْد
تَخُوضُ خِضَمَّ البحر عَبَّ عُبابهُ ... كَصُمِّ صُخورٍ في غَديرٍ من السَّرْد
تُطيحُ بِتيجانِ الْمُلوك رُؤُوسُها ... فَتُبْدِلهُا من عِزِّها صَعَرَ الْخَدِّ
لأَعْتَنِقَنَّ الْبِيضَ، لا البيض كالدُّمى ... وأَرغَبُ عن نَهْدٍ إِلى سابحٍ نَهْد
حَنِيني إِلى سَمْراءَ تَهْوِي إِلى الطُّلى ... كُزُهْدِيَ في سَمْراءَ مائسة القَدِّ
أَأَصْبو إِلى الْحُور الحِسان وهِمَّتي ... تَهِيمُ بِضَرب الْهامِ قاهِرةً ضِدّي
وقد قالتِ الْعَلْياءُ عَدِّ عن الصِّبا ... وسَلِّمْ هَوى سَلْمى ودَعْ مِنْ مُنى دَعْد
قَسَمْتُ الرَّدى والْجُودَ قِسْمين في الْوَرىفلِلْمُعْتَدي حَدِّي ولِلْمُجْتَدي رِفْدي
وما لِيَ من مالي الذي كَسَبَتْ يَدي ... تُراثٌ أُبَقِّيه سِوى الشُّكْرِ والْحَمْدِ
تُخَوِّفُني جَيْبٌ بكُثْر عَدِيدِها ... وما لجنودِ اللهِ حَوْليَ مِنْ عَدِّ
ويُرْهِبني زيدُ بن عَمْرٍو بِجنُدِه ... وبَجْدَتِه يا بِئْسَ ما حاز من جُنْد
يُقَعْقِع نَحْوي بالشِّنان وهَلْ تَرى ... عُوى الكَلبِ يُخْفي زَأْرَة الأَسَدِ الْوَرْد
إِذا قال لم يَصْدُق مَقالاً وما الصَّبا ... تُزَحزِح إِنْ هَبَّتْ ذُرى الْجبلِ الصَّلْد
وإِني ونَصرِ اللهِ رائِدُ خَيْلِنا ... وقائِدُها بين التَّهائِم والنُّجْد
وأَسيافُنا الْحُمرُ النَّواصِع من دَمِ الْ ... أَحابيشِ ما حالَتْ عَلى صِبْغَة الْوَرْد
وما لِلِدانِ السَّمْهَرِيَّةِ إِنْ شَكَتْ ... إِلينا الظَّما إِلا الوَرِيدَيْن من وِرْد
وكم رأَسِ جَبّارٍ كَوَهّاس أَصْبحتْ ... لها بَدَنٌ فينا من القَصَب الْمُلْدِ
لَئِنْ كان بُدٌّ عندكمْ من لِقائنا ... فليس لنا مّما تَخافُونَ مِنْ بُدْ
وإنْ تُخْلِفوا إِبعادَكم لي فإِنني ... مَدَى الدهر لم أُخْلِف وَعيدي ولا وَعْدي
سنبعثُها مِثلَ السَّعالي مُغيرةً ... إِلى نجدِكمْ ترمي بكلّ فتىً نَجْد
عليها قِرَى وَحْش الفَلا مِنْكُمُ فَكَمْ ... لأَجْسامِكم في جسمها شُقَّ من لَحْدِ
نُغَشّي بها أَرْضِيكُمُ فنعُيدُها ... يَباباً بلا شَخْصٍ مُعيدٍ ولا مُبْدي
وتُضْحي سَباياكُمْ مُهَوَّنَةً لنا ... تُباعُ بِفَلْسٍ ما لها مُنْكِمُ مُفْدي

لَئِنْ كنتمُ في الغَيِّ ناشِين إِننا ... هُداةُ الْورى من ظُلمِة الغَيِّ للرُّشْدِ
وإِن كنتمُ حِزْبَ الضَّلال فإِننا الْ ... هداةُ لِنهْج الْحَقّ بالسيِّد المَهْدي
لنا النَّخَواتُ اليْعرُبيَّةُ دونَكُمْ ... فلَسْنا الى هَزْل نميلُ عن الجِدِّ

فضلاء اليمن
تمهيد تاريخي:
نواجه في الصفحات التالية أسماء الصليحيين، على غير التتابع الزمني الذي توالوا فيه، ويكثر في شعر ابن القم مديحهم والإشارة إلى بعض ما كان في حياتهم من أحداث، ولذلك رأيت من الخير أن أورد تراجمهم هنا متتابعة على النحو الذي كان من تتابعهم في الحكم حتى يستقيم فهم الأحداث ويتضح تسلسلها في ذهن القارئ وحتى نتجنب الإحالة في حاشية على حاشية أخرى قد تأتي بعدها.
والصليحيون شيعة، باطنية، حكموا اليمن بين السنة 439 والسنة 532، ونشروا الدعوة للفاطميين وخطبوا لهم وورثوا الدعوة منهم حين زالت دولتهم من القاهرة.
وأولهم أبو الحسن علي بن محمد بن علي، ويعرف ب
الداعي الصليحي
خرج في جبل مسار من أعمال حراز، ولم يكن ولي الامر أحد من أهله، وكان والده القاضي محمد ابن علي شافعي المذهب، مطاعاً في عشيرته، يتولى الفصل في خصوماتها. وسار علي أول الأمر على طريقة والده حتى استماله أحد دعاة الفاطميين فسلكه في هذه الدعوة وخرجه بها، وأخذ علي يستميل القبائل ويجمع الأنصار يعاهدونه على الدعوة للمستنصر العبيدي، الخليفة الفاطمي في مصر، حتى اذا اجتمع له عدد، امتنع بهم في جبل مسار وقصد ما حوله من بلاد، واستفحل أمره، وثبت له جماعة من الشرفاء والأئمة، ولكنه تغلب عليهم وملك اليمن كله، وقتل من قتل من الملوك، وجمع في صنعاء من بقي منهم، ودان له ما بين مكة وعدن وحضرموت.
وكان فيمن قتل، نجاح صاحب زبيد، قتله بالسم على يد جارية أهداها إليه سنة 452 وفي سنة 458 473 ابن خلكان، شذرات الذهب خرج الى الحج واستخلف ابنه المكرم أحمد، واصطحب معه ملوك اليمن الذين خضعوا له، وخيم في طريقه في مدينة المهجم من تهامة ففاجأه سعيد الأحول، ابن نجاح - وكان يترقب الفرصة لاسترجاع ملك أبيه، ومعه أخوه جياش بن نجاح - فقتله وقتل معه عدداً من اهله، وأسر زوجته أسماء بنت شهاب، وتلقب بالحرة.. وظلت في الأسر حتى أنقذها ولدها المكرم أحمد بعد ثمانية أشهر، في غزوة لزبيد انتقم فيها من أولاد نجاح وتملك المدينة.
والداعي علي أحد شعراء الخريدة الذين سيتحدث عنهم العماد، وكانت امارته عشرين سنة وبعد مقتل الداعي علي خلفه ابنه المكرم أحمد بن علي سنة 459، فحارب سعيداً الأحول، وقتله، واستنقذ أمه الحرة أسماء بعد أن أسرت ثمانية أشهر، واسترد زبيداً، ثم أصيب بالفالج فشاركته الحكم زوجته أروى بنت أحمد الصليحية وتعرف بالملكة الحرة وتوفي سنة 484 في حصن أشيح.
وكان المكرم مقداماً، حازماً، صحيح الرأي، شاعراً فصيحاً.
وخلفه في حكم اليمن ابن ابن عمه: سبأ بن أحمد بن المظفر بن علي وتزوج السيدة أروى - وكانت زوجة المكرم - عن أمر المستنصر العبيدي، ومضى يؤصل حكم الصليحيين في تهامة التي كانت دولة بين آل الصليحي وآل نجاح، فكان آل الصليحي يغزونها في أيام الشتاء وعندئذ يدخل آل نجاح جزر البحر الأحمر، وفي أيام الصيف كان آل الصليحي يرتفعون إلى الجبال ويعود آل نجاح إلى تهامة.
وكان سبأ بن أحمد، ويلقب بالأوحد، شارعاً فصيحاً، واستمر يحكم حتى مات سنة 492

وبعد موته استقلت السيدة أروى بدولة آل الصليحي، فتحصنت بما تملك من معاقل، وتولت ما كانت تحكم من حصون، وأقامت لها وزراء وعمالاً، واستطاعت ان تطيل حكم الصليحيين أربعين سنة بعد أن كاد يضعف أمرهم، كما استطاعت خلال حياتها الطويلة التي امتدت 88 سنة أن تربط بتاريخ حياتها تاريخ حياة اليمن فقد تزوجت المكرم أحمد كما رأيت وكانت وراء الأحداث الكبيرة في حياته لأنها أعملت الحيلة في قتل سعيد الأحول وأسر امرأته أم المعارك بلوغ المرام 26 وبذلك ثأرت لأبيه الداعي علي الذي قتله سعيد ولأمه أسماء بنت شهاب، ثم تزوجت بالأوحد سبأ. وكانت تحكم اليمن من وراء حجاب، ترفع إليها الرقاع، ويجتمع عندها الوزراء، ويدعى لها على منابر اليمن فيخطب أولاً للمستنصر الفاطمي ثم للصليحي ثم للحرة فيقال: اللهم أدم أيام الحرة الكاملة السيدة كافلة المؤمنين..
ثم انفردت بالحكم بين السنتين 492 و532 فلما ماتت انقضى حكم الصليحيين في اليمن وآل أكثر ملكهم الى بني زريع.
وهي السيدة أروى بنت أحمد بن جعفر بن موسى وموسى أحد إخوة الداعي الصليحي الأول علي، ومنهم عبد الله، وإبراهيم.
لها في اليمن مآثر منها الجناح الشرقي بجامع صنعاء، وجامع ذي جبلة الكبير الذي دفنت فيه.
والصليحي نسبة إلى الأصلوح من بلاد حراز كما في بلوغ المرام، ولكن ابن خلكان يقول لا أعرف هذه النسبة إلى أي شيء هي والظاهر أنها إلى رجل.
وهنالك كثير من الخلافات والروايات حول تحديد بعض السنوات تجاوزنا عنه.
وفيات الأعيان - الأعلام - بلوغ المرام - طبقات فقهاء اليمن - تأريخ المستبصر - شذرات الذهب - المقتطف من تاريخ اليمن - .

أبو عبد الله الحسين بن علي القمي
ابن القم
مولده بزبيد، المعروف بابن القم من أهل اليمن، من شعراء العصر الأقرب عصره متقدم، وكان معاصر ابن سنان الخفاجي أو بعده بقريب، وكان الأمير المفضل نجم الدين أبو محمد ابن مصال ينشدني شعره ونحن على الخيل سائرون إلى بعلبك تحت رايات الملك الناصر صلاح الدين يوسف في آخر شعبان سنة سبعين فذكر أن ابن القم سمع بيتاً لابن سنان الخفاجي قد ابتكر معناه، وقد أحسن صياغة مغزاه، وهو:
طوْيتُ إِليك الباخلين كأَنني ... سَريْتُ إِلى شَمس الضُّحَى في الغَياهِبِ
وقيل هذا البيت لابن سنان الخفاجي من جملة قصيدته:
وفيكُم رَوَى النّاسُ المَديحَ ومِنكمُ ... تعلَّمَ فيه القومُ بَذْلَ الرَّغائب
فَدَعْني وصِدْقَ القوْلِ فيك لعلَّه ... يُكَفِّرُ من تلك القوافي الكَواذِب
وما كنتُ لمّا أَعرضَ البحرُ زاخِراً ... أُقَلِّبُ طَرْفي في جَهام السَّحائب
فقال من قصيدة يذكر فيها أنه مدح الممدوح فأجاز شعره، وأجازه وفره:
ولمّا مَدحْتُ الهِبْرِزِيّ ابنَ أَحمدٍ ... أَجازَ وكافاني عَلَى المَدْح بالمَدْحِ
فَعَوَّض عن شِعْري بشعرٍ وزاد في ... عَطاه فهذا رأْسُ مالي وذا رِبْحي
لفظتُ مُلوكَ الأَرضِ حتى رأَيتهُ ... فكنتُ كَمَنْ شقَّ الظَّلامَ إِلى الصُّبْح
ولم يقصر في هذا المعنى لم يبلغ رتبة ابن سنان فيه.
ومما أنشدنيه أيضاً له من قصيدة مطلعها:
سَرى طَيْفُ سُعْدى بعدما هَجَع الرَّكْبُ ... ونَجْمُ الثُّرَيّا قد تَضَمَّنَهُ الْغَرْبُ
وليس الرَّدى ما تفعلُ الْبِيضُ والْقنَا ... ولكنَّه ما يفَعلُ الصَّدُّ والحُبُّ
يُكَلِّفُني العُذّال حُبَّ سِواكُمُ ... وسَلْوَتَكُمْ حتى كأَنَّ الهوى غَصْبُ
ومنها في المخلص وقد أحسن:
وما يلتقي صِدْقُ الوِداد وطاعةُ الْ ... عَذولِ ولاكفُّ ابنِ أَحمدَ والْجَدْبُ
كريمٌ إِذا جادَتْ فواضِلُ كَفِّه ... تيقَّنْت أَنَّ البخل ما تَفعلُ السُّحْبُ
ومنها:
أَجارَ فلا خَوْفٌ وأَحْيا فلا رَدىً ... وجادَ فلا فَقْرٌ ورام فلا صَعْبُ
ويُثْني عَلَى قُصّادِه فكأَنَّه ... يُجادَ بما يُجْدي ويُحْبي بما يَحْبُو
ومنها وقد أحسن أيضاً:
كتبتُ إِليه والمَفاوز بيننا ... فكان جوابي جُودُ كَفَّيْه لا الكُتْبُ

وما كنتُ أَدري قبل قطع هِباته ... إِليَّ الفيَافي أَنَّ أَنْعُمَهُ رَكْبُ
ثم طالعت مجموع عمارة بن أبي الحسن اليمني الذي قال في أوله: ذكر شعراء اليمن ممن روي لي عنه أو رأيته فذكر أن أبا عبد الله الحسين بن علي القمي مولده بزبيد وفيها تأدب وكان أبوه يشعر، وساد أبوه في أيام الداعي علي بن محمد الصليحي، وكتب ولده الحسين هذا على خط ابن مقلة وحكاه، وكان شاعراً ومترسلاً يكتب عن الحرة، وكان في علو الهمة وسمو القدر واضح الحجول والغرة، وقد أورد من شعره رواية قوله:
الليَّلُ يعلمُ أَني لستُ أَرقُدُهُ ... فلا يَغُرُّك من قلبي تَجلُّدُهُ
فإِن دَمْعي كصَوْبِ المُزْن أَيْسَرُهُ ... وإِنَّ وَجْدي كحَرِّ النّار أَبْرَدُهُ
لي في هوادِجِكُمْ قلبٌ أَضِنُّ به ... فَسَلِّموه وإِلاّ قُمْت أَنْشُدُهُ
وبان للنّاس ما كُنّا نُكَتِّمُهُ ... من الهوى وبدا ما كنتُ أَجْحَدهُ
وقوله في مدح الداعي سبأ بن أحمد الصليحي، وكان يسكن معقلاً يقال له أشيح:
إِن ضامَك الدَّهْر فاستعصِم بأَشْيَح أَو ... أَزْرى بك الْفقرُ فاستمطِر بَنانَ سَبا
ما جاءَهُ طالبٌ يَبْغي مَواهِبَه ... إِلاّ وأَزْمَع منه فَقْرُه هَرَبا
تَخالُ صارمَه يومَ الْوَغى نَهَراً ... تَضَرَّمتْ حافَتاه مِنْ دَمٍ لَهَبا
بَني المُظَفَّرِ ما امْتدَّتْ سماءُ عُلاً ... إلاّ وأُلْفِيتُمُ في أُفْقِها شُهُبا
إِنَّ امرءاً كنتَ دون النّاس مطلَبَهُ ... لأَجدَرُ النّاس أَنْ يَحْظى بما طَلَبا
وقوله من قصيدة أولها:
أَما ونِعْمَةِ عافٍ مُخْفِق الطَّلَبِ ... رَمى إِلى غايةٍ نَحْوي فلم يَخبِ
لأَقْنَعَنَّ بِعَيْشٍ دائمِ الرَّتَب ... حتى أُبَلِّغَ نَفْسي أَشرَفَ الرُّتَب
لمْ لا أَرومُ التي أَسبابُها جُمِعتْ ... عندي وقد نالهَا قومٌ بلا سبب
أَخيفَةَ الموتِ أَثْني النَّفْسَ عن شَرَفٍ ... إِذاً بَرِئْتُ من الْعَلياءِ والأَدب
لا خيرَ في رجلٍ لم يُوهِ كاهِلَه ... حَمْلُ اللِّواءِ أَمامَ الْجحفَلِ اللَّجِبِ
يَظُنُّ هِنْدِيَّه هِنْداً فيَلْثِمُه ... فما يَزالُ بلَيْلٍ مُعْرس الضَّرَب
من مليح ما قيل في هذا المعنى قول المعري:
يقَبِّلُ الرُّمْحَ حُبّاً للطِّعان به ... كأَنما هو مَجْموعٌ من اللَّعَسِ
كأَنَّ ما في غُروبِ الْبِيضِ مِنْ شَنَبٍ ... مكانَ ما في غَروب الْبيض من شُطَبِ
فقُلْ لِقَحْطانَ إِنْ طاب الْهوانُ لها ... لا أَرْغَم اللهُ إِلاّ آنُفَ العربِ
إِنْ أُغْضِ أُغْضِ عَلَى ذُلٍّ ومَنْقَصَةٍوإِن أَصُلْ لا أَجِدْ عَوْناً عَلَى النُّوَبِ
وغالِبُ الظَّنِّ أَنِّي سوف يَحمِلني ... عُلوُّ نفسي عَلَى الإِقدام والْعَطَبِ
وقوله من قصيدة يهنئ بها المكرم بن علي زوج الملكة الحرة بدخوله عليها:
وكَرِيمَةِ الْحَسَبَيْنِ تكْنُف قَصْرَها ... أُسْدٌ تهاب الأُسْدُ من صَوْلاتها
وتكادُ من فَرْط الْحياءِ تَغُضُّ عن ... تِمْثالها الْمَرْئِيِّ في مِرْآتِها
ظَفِرَتْ يداكَ بها فَبَخٍّ إِنَّما ... لك تَذْخَرُ الْعَلْياءُ مَضْنُوناتِها
وقوله من قصيدة يمدح بها عبد الواحد بن بشارة وأحسن التخلص إلى مدحه:
ولئِن ذكرْتُ هَوَى الظَّعائن جُمْلَةً ... والْقَصْدُ صاحِبةُ الْبعيرِ الواخِد
فكما يُعَدُّ الأَكرمون جَماعةً ... والواحِدُ الْمَرْجُوُّ عبدُ الواحدِ
نُبِّئْتُ أَنك قد أَتتك قوارصٌ ... عنّي ثَنَتْك عَلَى الضَّمير الواجِدِ
عمِلتْ رُقى الواشين فيك وإِنها ... عندي لتضربُ في حديدٍ باردِ
وقوله من قصيدة:
مُشَهَّرُ الفضلِ إِنْ شمسُ الضُّحى احتجبَتْ ... عنِ الْعيون أَضاءَ الأُفْقَ سُودَدُهُ

ماتَ الكِرامُ فأَحْيَتْهُم مآثِرهُ ... كأَنَّ مَبْعَثَ أَهل الفضل مَوْلِدُهُ
لولا المَخافةُ من أَنْ لا تدومَ له ... إِرادةُ الْبذل أَعْطَت نفسَها يَدُهُ
كأَنّه خافَ أَنْ ينْسَى السَّماح فما ... يَزالُ منهُ له دَرسٌ يُرَدِّدُهُ
الْموقِدون إِذا باتوا فَواضلَ ما ... ظَلَّ الطِّعانُ بأَيديهم يُقَصِّدُهُ
بِكُلِّ عَضْبٍ تَخُرُّ الْهامُ ساجِدَةً ... إِذا رأَتْهُ كأَنَّ الهامَ تَعْبُدُهُ
وقوله:
إِنّي وإِنْ كنتُ عَبْدَكْ ... وكنتُ أُضْمِرُ ودَّكْ
لا أَشتهي أَنْ تراني ... بحالةِ النَّقْصِ عندَك
وقوله:
رَقَّ لي قَلْبُها وقد كان فَظّا ... فأَرَتْني دُرَّيْن دَمْعاً ولَفْظا
ثم قالتْ أَلستَ تَقبَلُ نُصْحاً ... من نَصيحٍ ولستَ تقبَلُ وَعْظا
بِتَّ يا بارِدَ الْجَوانح خِلْواً ... من غَرامٍ قَلْبي بهِ يَتَلَظَّى
فازَ كُلٌّ بالْحَظِّ في هذه الدنْ ... يا وَما نلتَ من زمانك حَظّا
أَنا مولى محمّدٍ وعليّ ... لستُ مولى بني زِيادٍ فأَحْظى
يعرض بجياش صاحب زبيد.
وقوله من قصيدة يعاتب جياشاً:
أَذاعَ لِساني ما تُجِنُّ الأَضالعُ ... وأَعْرَبْنَ عمّا في الضَّمير المَدامِعُ
وإِنّيَ مما يُحْدِث الْهَجْرُ جازِعٌ ... وما أَنا مّمِا يُحْدِثُ الدّهرُ جازعُ
فيا ابن نصير الدّين دَعوةَ هاتفٍ ... دعا بك لِلْجُلَّى فهل أَنتَ سامعُ
وقد كنتُ أَرجو أَن أَكونَ مُشَفَّعاً ... لَدَيْك فهل لي عندَك اليومَ شافعُ
فأَصبحتُ أُغْضي الطَّرْف في كلِّ مَجْلِسٍ ... وأَكْتُمُ أَمري وهو في الناسِ ذائعُ
وأُظهِر بِشْراً للجَليس وغِبْطَةً ... وبينَ جَنانَيّ الشِّفارُ الْقَواطِعُ
وما أَنتَ إِلاَّ البدرُ أَظَلمَ مَنْزِلي ... وكلُّ مَكانٍ نورهُ فيه ساطعُ
تَقَلَّص عنّي الظِّلُّ والظِّلُّ شامِلٌ ... وأَقصر عنّي الفضلُ والفضلُ واسعُ
أَترضى، وحاشا المجد، أَنْ يَشْبَعَ الْوَرى ... جميعاً وأمسى ضَيْفكم وهو جائعُ
وقوله مما كتبه على كأس فضة:
إِنَّ فَضْلي على الزُّجاجة أَني ... لا أُذيعُ الأَسرارَ وهي تُذيعُ
ذَهَبٌ سائِلٌ حَواه لُجَيْنٌ ... جامِدٌ راقَ، إِنَّ ذا لبديعُ
وقوله في وصف شعره:
فَلأُهْدِينَّ إِليك كلَّ كريمةٍ ... يُمْسي الْحَسودُ بِها مَغيظاً مُوجَعا
طَوْراً تُرى بينَ الورى جَوّالةً ... في الأَرض تقطَع مَغْرِباً أَو مَطْلَعا
ومنها:
أَلْبَسْتَني حُلَلاً سَيَخْلَعُها البِلى ... فَلأُلْبِسَنَّك حُلَّةً لن تُخْلَعا
وقوله يخاطب بعض الكتاب:
نُبِّئْتُ أَنك إِذْ وقفتَ عَلَى ... دَرْج الرُّسوم نَقَصْت من حَقّي
وَعَجِبْتُ إِذ عشنا إِلى زَمَنٍ ... أَصبحتَ فيه مُقَسِّمَ الرِّزْقِ
وقوله في معاتبة بعض إخوانه:
عَذَرْتُ على الصَّدِّ بعدَ الْوِزا ... رَة مَنْ كان واصَلَ مِنْ أَجْلِها
فما عُذْرُ مَنْ صَدَّ لمّا انقضَتْ ... وكان أَخاً ليَ مِنْ قَبْلِها
وقوله في مدح الأوحد سبأ من قصيدة
مَعاليكَ لا ما شَيَّدَتهُ الأَوائِلُ ... ومَجْدُكَ لا ما قالَهُ فيك قائِلُ
وما السَّعْدُ إِلاّ حَيْثُ يَمَّمْتَ قاصِداً ... وما النَّصرُ إِلاّ حيث تَنْزِلُ، نازِلُ
إِذا رُمتَ صَيْداً فالمُلوك طرائِدٌ ... أَمامك تَسْعى والرِّماح أَجادلُ
معايبُها إِن سالمتك مَواهِبٌ ... وأَعضادها إِن حاربتك مَقاتلُ
وَمُذْ رُمْتَ إِيراد العوالي تَيَقَّنَتْ ... نُفوسُ الأَعادي أَنَّهنَّ مَناهِلُ

وقد عَشِقَتْ أَسيافُك الهامَ مِنْهُمُ ... فَكُلُّ حُسامٍ مُرْهَفُ الحَدِّ ناحلُ
مَليكٌ يَفُضُّ الْجَيْشَ والْجَيْشُ حافِلٌ ... ويُخْجِلُ صَوْبَ المُزْنِ والْغَيْثُ هاطلُ
سَحابٌ غَواديه لُجَيْنٌ وعَسْجَدٌ ... ولَيْثٌ عَواديه قَناً وقَنابلُ
تَوَقّى الأَعادي بَأْسَه وهو باسِمٌ ... ويرجو المَوالي جُودَه وهو صائِلُ
وقوله:
يا صاحِبيَّ قِفا المَطِيَّ قَليلا ... يَشْفي العَليلُ من الدِّيارِ غَليلا
هذي طُلولَهمُ أَطَلْنَ صَبابَتي ... وتركْنَ قلبي من عَزايَ طُلولا
ولَئِنْ خَلَتْ منهمُ مَرابعهمْ فقدْ ... غادَرْنَ قَلْبي بالغَرامِ أَهِيلا
لو أَنَّ عِيسَهُمُ غَداةَ رَحيلهمْ ... حُمِّلْنَ وَجْدي ما أَطقْن رحيلا
من كلِّ رِيمٍ لا عَديل لِحُسْنِها ... رَحَلَتْ فكان لها الفؤُادُ عَدِيلا
كالبدرِ وَجْهاً والغَزالِ سَوالِفاً ... والرَّمْل رِدْفاً والقَناةِ ذُبولا
غادَرْتَني جاري المَدامِع حائراً ... وتَرَكْنَني حَيَّ الغَرامِ قَتيلا
وله من قصيدة يمدح الأوحد سبأ:
ضامَتْكَ أَظْعانُها بالسَّفْح من إِضَمِ ... وأَسْلَمَتْك مَغانِيها بِذي سَلَمِ
فما تَزالُ عَلَى آثارِ مُنْصَرِفٍ ... عن الوِداد بِوَجْدٍ غيرِ مُنْصَرِم
وكم أَخذتُ عَلَى قلبي المقامَ عَلَى الصَّ ... بْرِ الْجَميل فعاصاني ولم يُقِمِ
لو كانَ لي كان لي طَوْعاً فَدُونَكه ... سَلَّمْتُ فيه إِليك الأَمرَ فاحتكِم
فما أُنازِعُ فيه كَفَّ مُغتصِبٍ ... ولا أَرِقُّ له مِنْ جَوْرِ مُنْتَقِم
ولو فعلتَ به ما ظَلَّ يفعَلُهُ ... سَيْفُ المُتَوَّجِ من قَحْطانَ في القممِ
العالم العامِل الغاني بِشُهرتِه ... عن أَنْ نُشَبِّهَه بالنّار في عَلَم
مَلْكٌ تَظَلُّ عطاياه وأَنْصُلُه ... يُبارِيان نَفادَ المالِ والْبَهَم
بِجُودِ مُكْتَسِبٍ للحمدِ مُكْتَنِزٍ ... وبَأْسِ مُقتدِرٍ للحرب مُقتحِم
يَحُجُّ وُفّادُه منه إِلى حَرَمٍ ... رَحْبِ الفِناءِ حَلال الصَّيْدِ في الْحَرَم
يُفْني العِدى والقَنا كلاًّ بصاحبه ... فبَيْن مُنْعَقِرٍ قَعْصاً ومُنْحَطِم
مَعَوَّدٌ أَنْ يَرُدَّ الْخيلَ عابِسةً ... من كلِّ ثَغْرٍ بثَغْرِ النَّصْرِ مُبْتَسِم
أَخْلَتْ خزائِنَه من كلِّ مُكْتَسَبٍ ... مدائحٌ مَلأَتْ بالشُّكْرِ كلَّ فَمِ
ومنها:
إِن بان وَجْهي فَشُكْري لمْ يَبِنْ معهُ ... أَوْ شَطَّ جسمي فُوِدّي فيكَ لم يَرِمِ
فجُد وَعُدْ واعْفُ واسمح لي وهَبْ وأَعِد ... واصْفَح وأَدْنِ وأَجْمِل وارْضَ وابْتَسِم
فلستُ أَوَّلَ عبدٍ عَقَّ سَيِّده ... ولستَ أَوَّل مَوْلىً جادَ بالْكَرمِ
لا تَطْرَحَنّى فعندي كلُّ سائِرةٍ ... يَبْلى الزَّمانُ ولا تَبْلى منَ القِدَم
من كلِّ زَهْراءَ لا تَفْنى عَلَى هَرَمٍ ... تُزْري بِشِعر زُهَيْرٍ في الفَتى هَرِم
وقوله من أخرى:
معالِمُ المَجْد والعَلْياء والكَرَمِ ... الصِّيدُ من مَذْكرٍ والشُّمُّ من جُشَم
إِنْ خَوَّفوك وجاوَرْتَ النّجومَ فخَفْ ... أَوْ آمَنُوكَ وحَارَبْتَ الْوَرى فَنَمِ
وقوله في مدح السلطان قاسم بن أحمد من قصيدة:
وليلٍ كأنَّ الشُّهْبَ في ظُلُماتِه ... لآلِىءُ لم تَقْصِد لها كَفُّ ناظمِ
سَرَتْ بينَ سِتْرَيْه بِنا أَعْوَجِيَّةٌ ... كَرائمُ من أَبناء غُرٍّ كَرائم
أَحَسَّ بها نَسْرٌ فطار فأَعْجَلَتْ ... أَخاه فلم يُنْهِضْه ريشُ القَوادم

قَطَعْنَ بنا البيدَ الفِساح إِلى امرىءٍ ... له مثلُها من سُؤدُدٍ وَمكارمٍ
تَقَسَّمَهُنَّ اللِّيْلُ والبيدُ والسُّرى ... فأَقسمتُ لا عَرَّجْتُ من دُون قاسمِ
يَزُرْن بنا من يَحْقِر الأَرْضَ مَنْزِلاً ... لِعافٍ وما في الأَرْض نُزْلاً لقادمِ
قَصَدْنَ بنا من لَوْ تَجَنَّبْن قَصْدَهُ ... سَرَتْ نحونا جَدْواه مَسْرى الغَمائم
تُغيرُ الْعَطَايَا في كرائم مالهِ ... مُغار مَواضي بِيضِه في الْجَماجم
كأَنَّ مَواضِيه طُبِعْن من الشَّجا ... فَهُنَّ من الأَعداءِ بين الغلاصم
إذا خافَ عَيْنَ الحاسِدين عَلَى العُلاَ ... أَقام عَوالِيه مَقامَ التَمائمِ
كَسُوبٌ ولا أَموالَ غَيْرُ محَامِدٍ ... قَؤولٌ ولا أَقوالَ غَيْرُ الغماغم
مِنَ النَّفَرِ الغُرِّ الّذين تَعَوَّدَتْ ... مناكبُهم حَمْلَ القَنا والمَغارم
يَظَلُّ بهم وَحْشُ الفَلا في ولائمِ ... تَظَلُّ بها أَعداؤهم في مآتم
وقوله يعاتب الأوحد سبأ بن أحمد:
أَبا حِمْيرٍ إِنَّ المَعالي رخيصةٌ ... ولو بُذِلَتْ فيها النُّفوسُ الكَرائِمُ
وجَدْتُ مَطاراً يا ابنَ أَحمدَ واسِعاً ... إِلى غَرضٍ لو ساعدتني القَوادِمُ
وما أَنا إِلاّ السهَّمُ لو كان رائِشٌ ... وما أَنا إِلاّ النَّصْلُ لو كان قائِمُ
ولا عارَ إِنْ جار الزَّمانُ وإِنْ سَطا ... إِذا لم تَخُنّي هِمَتي والْعزائِمُ
فلا تَحتقِرْ جَفْناً يَبِيتُ مُسَهَّداً ... لِيُدْرِك ما يَهْوى وجَفْنُك نائِمُ
وقوله:
إِذا تضايَق عن رَحْلي فِنا مَلِكٍ ... وَسِعنْنَي أَبداً من دُونه الْهِمَمُ
كلُّ البلاد إذا لم تَنْبُ بي وَطن ... وكلُّ أَرض إِذا يَمَّمْتُها أَمَمُ
وقوله وقد كان استند إلى سلطان يقال له ابن فضل فأعطاه رمحه ذماماً فلما انقضت مدة جواره إياه التمس منه إعادة الذمام:
كنتَ أَعْطيتني ذِمامك لمّا ... خِفْتُ من صَوْلة الزَّمان ذِماما
فإِذا ما رَدَدْتُهُ يا ابنَ فضلٍ ... فبِماذا أُطاعن الأَيّاما
وقوله بديهة وقد طرحت فريسة لسبع فأعرض عنها بين يدي السلطان:
يا أَكرمَ النّاسِ في بُؤْس وفي نِعَمِ ... وخَيْرَ ساعٍ إِلى مَجْدٍ عَلَى قَدمِ
لا تَعْجَبَنْ لِعُمومِ الأَمن في بَلَدٍ ... أَضْحَيْتَ فيها فأَضحتْ منك في حَرَمِ
أَما تَرى الليثَ لمّا أَنْ طَرَحْتَ له ... فَريسةً حاد عنها وهو ذو قُدُم
مَلأْتَ بالْخوفِ أَكبادَ الْوَرى ذُعُراً ... فَعَبْدُك اللَّيْثُ لا يسطو عَلَى الْغنمِ
وقوله يصف قصيدة:
إِذا ما ادَّعت فضلاً رأَيتَ شُهودَها ... تَبَرَّعُ مِنْ قَبْلِ السُّؤال وتُقْسِمُ
وأَقللت إِذ لم . . . . . . . ... وما نقصت مذ غاب عنها مُتَمِّمُ
وقوله وهو مما سار له:
إِذا حَلَّ ذو نَقْصٍ مَحَلَّةَ فاضلٍ ... وأَصبح رَبُّ الْجاه غيرَ وَجيهِ
فإِنَّ حَياةَ الْمرءِ غيرُ شَهِيَّةٍ ... إِليهِ وطَعْمَ الموتِ غيرُ كَريهِ
وقوله يعاتب جياشاً بزبيد:
يا أَيُّها المَلك الذي ... كُلُّ المُلوكِ له رَعِيَّهْ
إِنْ كنتُ مِنَ خُدّامِكمْ ... فَعَلامَ لا أُعطى جَرِيَّهْ
أَو كنتُ من ضِيفانِكمْ ... فالضَّيْفُ أَولى بالعَطيّهْ
أَو كاتباً فلِسائرِ ال ... كتّاب أَرزاق سَنِيّهْ
والله ما أَبقى الْخُمو ... لُ عَلَى وَليِّكَ مِنْ بَقِيّهْ
وَوَحَقِّ رأْسِك إِنَّ حا ... لي لو علمت بها زريّهْ
وإذا هممتُ بِكَشفِ با ... طِنها أَبتْ نفسٌ أَبيّهْ
لا تنظرنّ إِلى التجمّ ... ل إِنّ عادته رَدِيّهْ

فَفِ لي بِوَعدِكَ إنني ... وَعُلاك من أَوْفى البريّهْ
لله أَو لمدائحي ... أَو خدمتي أَو لِلْحميّه
وقوله:
ياسَمِيَّ النبيّ عيسى فَدَتْكَ النَّ ... فسُ، لِمْ لَمْ تكن كعيسى النبيِّ
ذاكَ مُحْيي الْموْتى وأَنت بعَيْني ... ك تسوق الرَّدى إِلى كلِّ حَيّ
ومن مرائي ابن القم قوله يرثي أسعد بن عمران من قصيدة أولها:
صُدورُ آلِ قُلَيْدٍ مَأْلَفُ الأَسَلِ ... لَيْتَ الرِّماح اقتدت بالغِلِّ والْوَجَلِ
تشتاقهمْ كأشتياق الْجود أَيديَهُمْ ... أَلاّ جَفَتْهُمْ جَفاءَ الْجُبْنِ والبَخَلِ
قومٌ إِذا اسْتنُجِدوا قلَّ اعتلالُهمُ ... تُكَثِّرُ الموتَ فيهم قِلَّةُ العِلَلِ
كأَنَّما الحربُ إِنْ لم يُجْلَ مَعْرَكُها ... بماجِدٍ منهمُ تَخْشى من العَطَل
لم يَلْبَسوا السَّرْدَ إلا عادةً لهمُ ... في الْحربِ لْلحَزْم لا خَوْفاً من الأَجَل
أَمِنْتُ بعدَك ما أَخشى وكان ... الْبقاء عَلَى الإِشْفاقِ والوَهَلِ
وقوله:
لَهْفي لِفَقْدِكَ لَهْفاً غيرَ مُنْقَطِعِ ... ما كان أَقرَبَ يأْسي منك مِن طَمَعي
إِنْ تَسْتَرِحْ فأَنا المَبْلُوُّ بعدَك بالْ ... أَحزان أَو تسْلُ إِنّي دائم الجَزَع
كيف التذاذي بدُنيا لستَ ساكنَها ... أَو اغتباطي بعيشٍ لستَ فيهِ معي
ومن شعره في الهجاء قوله:
ولقد حَدَسْتُ الْحمد في ... ك فطالما كَذَّبْتَ حَدْسي
أُضْحي عَلى ما ساءني ... مُتَصَبِّراً وعليهِ أُمسي
أَرجو غداً فإِذ أَط ... لّ ذمَمتهُ وحَمدتُ أَمسي
وقوله يهجو بني بشارة وكان أحدهم قد أخذ له مدرجاً:
بَني بشارَة رُدّوا ... عليَّ بالله دَرْجي
فلَيس كلُّ طويلٍ ... مُدَوَّرٍ ساق زَنجي
وقوله:
إِن كنت أَخشاك أَو أَرجو نَداكَ فما ... في الناس مثليَ في جُبْنٍ وفي طَمَعِ
وقوله يهجو طبيباً اتخذ باباً فوسعه فوق المعتاد:
ما طوَّل البابَ الطّبي ... ب لأَنَّه شيءٌ يَزينُهْ
لكنَّه رامَ الدُّخو ... لَ فلم تُطاوعْه قُرونُهْ
وقوله من قصيدة:
لُمْ يا عَذُولُ وَفَنِّد إِنَّ أَخلقَ بي ... مِن الثّناءِ لَتَوْبيخٌ وتَفْنيدُ
إِنّي نَزَلْتُ بقومٍ ضيفُهمْ أَبداً ... عَلَى لَذَاذَتِهِ بالْمَوْت محسودُ
كأَنَّما زُرْتُهمْ أَرتادُ مَوْعِظَةً ... فقولُهمْ ليَ تَوْريعٌ وتَزْهيدُ
يا ليتَ كَفِّيَ كانتْ عندَهم أُذناً ... فإِنّ أُذنيَ أَغنتها المواعيدُ

أبو حمزة عمارة بن أبي الحسن اليمنى
من أهل الجبال، ونزل زبيد وتفقه بها، وهو من تهامة باليمن من مدينة يقال لها مرطان، من وادي وساع، وبعدها من مكة في مهب الجنوب أحد عشر يوماً، من قحطان من أولاد الحكم بن سعد العشيرة، وجد أبيه زيدان بن أحمد كان ذا قدرة على النظم الحسن، وبلاغة في اللجهة واللسن، وشعره كثير، وعلمه غزير، ذكر لي أنه وفد إلى مصر في زمان المعروف بالفائز، وأقام بها إلى أن نكب فعطب وهو بمرامه فائز، أمر بصلبه في القاهرة الملك الناصر صلاح الدين في شعبان أو رمضان سنة تسع وستين في جملة الجماعة الذين نسب إليهم التدبير عليه ومكاتبة الفرنج واستدعاؤهم إليه، حتى يجلسوا ولداً للعاضد، وكانوا أدخلوا معهم رجلاً من الأجناد ليس من أهل مصر، فحضر عند صلاح الدين وأخبره بما جرى، فأحضرهم فلم ينكروا الأمر ولم يروه منكرا، فقطع الطريق على عمر عمارة، وأعيض بخرابه عن العمارة.
ووقعت اتفاقات عجيبة في قتله.
فمن جملتها أنه نسب إليه بيت من قصيدة ذكروا أنه يقول فيها:
قد كان أَوَّلُ هذا الدين من رَجُلٍ ... سعى إِلى أَن دَعَوْهُ سَيِّدَ الأُمَمِ
ويجوز أن يكون هذا البيت معمولاً عليه، فأفتى فقهاء مصر بقتله وحرضوا السلطان على المثلة بمثله.

ومنها أنه كان في النوبة التي لا تقال عثرتها ولا يحترم الأديب فيها ولو أنه في سماء النظم والنثر نثرتها.
ومنها أنه كان قد هجا أميراً كبيراً فعد ذلك من كبائره، وجر عليه الردى في جرائره.
وعمل فيه تاج الدين الكندي أبو اليمن بعد صلبه:
عُمارة في الإِسلامِ أَبدى خِيانةً ... وبايع فيها بِيعَةً وصَليبا
وأَمسى شَريك الشِّرْك في بُغْضِ أَحمدٍ ... فأَصبحَ في حُبِّ الصَّليب صليبا
وكان خَبيثَ المُلتْقى، إِن عَجَمْتَه ... تَجِدْ منه عُوداً في النفِّاق صَلِيبا
سَيَلْقى غَداً ما كان يسعى لأجله ... ويُسْقى صَديداً في لظىً وصَليبا
فمن شعر عمارة ما أنشدنيه الأمير المفضل نجم الدين أبو محمد بن مصال ببعلبك في شهر رمضان سنة سبعين:
لو أَن قَلْبي يوم كاظمةٍ معي ... لَمَلكتهُ وكظَمتُ فيض الأَدْمُع
قلبٌ كفاك من الصَّبابة أَنَّه ... لبّى نِداءَ الظّاعنين وما دُعي
ما القلبُ أَوَّلَ غادرٍ فأَلومَهُ ... هي شِيمةُ الأَيّام قد خُلِقَت معي
ومن الظُّنون الفاسدات تَوَهُّمي ... بعد اليقين بقاءَه في أَضْلُعي
وأنشدني أيضاً لعمارة اليمني من قصيدة:
مَلِكٌ إِذا قابَلْتُ بِشْرَ جَبينه ... فارقْتُه والبِشْرُ فوق جَبيني
وإِذا لثمتُ يَمينَه وخرجتُ من ... إِبوانه لَثَمَ الملوكُ يميني
ووجدت له بعد موته قصائد يرثي بها أهل القصر فمن جملتها قصيدة أولها:
رَمَيْتَ يا دهرُ كَفَّ الْمجد بالشَّلَلِ ... وجِيدَه بعد طُول الْحَلْي بالعَطَلِ
وأنشدني الأمير العضد أبو الفوارس مرهف بن الأمير أسامة بن مرشد بن منقذ من قصيدة له في فخر الدين شمس الدولة تورانشاه بمصر عند توجهه إلى اليمن، قال: أنشدها وأنا حاضر
ما عَنْ هَوى الرَّشإِ العُذْرِيِّ إعذارُ ... لم يَبْقَ لي مُذْ أَقَرَّ الدَّمْعُ إِنكارُ
لي في القُدود وفي لَثْم الخُدود وفي ... ضَمِّ النُّهود لبُاناتٌ وأَوطارُ
هذا اختياري فوافِقْ إِنْ رضيتَ به ... أَوْ لا فدعني وما أَهْوى وأَختارُ
وخَلِّ عَذْلي ففي داري ودائرتي ... من المَها دُرَّةٌ قلبي لها دارُ
لاعَتْبُها من سَموم الْغيظ مُعتصَرٌ ... ولا عِتابي لها إِن هَبَّ إِعصارُ
ويقول فيها بعد المدح:
فابْخَلْ بِمَعْدِن هذا الدُّرِّ وهو فمي ... فالبخلُ بي كرمٌ مَحْضٌ وإِيثارُ
فكم لمجدك عندي من مُحَبَّرة ... سيّارةٍ، وحديثُ المجد سيّارُ
ومنها:
دَعْوى شُهودي عليها غيرُ غائبةٍ ... والقابضونَ أُلوفَ المال حُضّارُ
وأنشدني لعمارة أيضاً في الملك المعظم شمس الدولة:
ملك أُوَ حّدُ مجده ولو أنَّني ... ثَنَّيْتُه ثنَّيتُ في التوحيدِ
أُثْني عليه فلا أُردِّدُ مَدْحَه ... ونداه مجبول على التَّرْديد
عن كلِّ بيتٍ بيتُ مالٍ حاضرٌ ... إِذ كلّ بيت منه بيت قصيد
وأنشدني له أيضاً من قصيدة في صلاح الدين:
وما فِكْرةُ الإِنسان إِلاّ ذُبالةٌ ... تُضيءُ ولكن نورها بالْهَوى يَخْبو
وله في مصلوب بمصر يقال له طرخان كأنه وصف حاله وما إليه آل أمره من الصلب:
أَراد عُلُوَّ مَرْتَبةٍ وقَدْرٍ ... فأَصبح فوق جِذْعٍ وهو عالِ
ومَدَّ على صَلِيب الجِذْع منه ... يَميناً لا تَطُول إلى الشِّمالِ
ونَكَّس رأْسَه لِعتابِ قلْبٍ ... دعاه إِلى الْغَواية والضَّلالِ
وله في الصالح بن رزيك:
ولو لم يكنْ أَدْرى بما جَهِل الْوَرى ... من الفضل لم تَنْفُقُ عليه الفضائِلُ
لَئِنْ كان مِنّا قاب قَوْسٍ فبَيْننا ... فَراسِخُ من إِجلاله ومَراحِلُ
وقوله في هذا المعنى:
أَزال حِجابَه عَنّي وعَيْني ... تراهُ من الْجَلالة في حِجابِ
وقَرَّبَني تَفَضُّله ولكنْ ... بَعُدْت مَهابةً عند اقترابي

وله في قوم شهروا على الجمال ودخل بهم إلى البلد وهم أسراء:
تَسَنَّموا إِبلاً تَتْلو قلائِعهم ... يا عِزَّة السَّرْج ذُوقي ذِلَّة الْقَتَبِ
ومما أورده في مصنفه من شعره قوله في مبتدإ وصوله إلى مصر رسولاً من مكة في ربيع الأول سنة خمسين في زمان الفائز المصري:
الحمدُ لِلْعيس بعد الْعَزم والهِمَم ... حَمْداً يقوم بما أَوْلَتْ مِن النِّعَمِ
لا أَجْحَد الحقَّ عِندي للرِّكاب يدٌ ... تَمَنَّتِ الُّلجْم منها رُتبةَ الخُطُم
قَرَّبْنَ بُعدَ مَزارِ العِزِّ من نظري ... حتى رأَيتُ إِمام العصر مِنْ أَمَمِ
ورُحتُ من كعبة البَطْحاءِ والحَرَمِ ... وَفْداً إِلى كَعبةِ المعروف والكرم
فهل درى البيتُ أَنّي بعد فُرْقَتِه ... ما سِرْتُ من حَرمٍ إِلاّ إِلى حرم
ومنها:
أَرى مقاماً عظيم الشَّأن أَوْهَمني ... مِنْ يقْظتي أَنّها من جُملة الحُلُمِ
يومٌ من العمر لم يَخْطُر عَلى أَملي ... ولا تَرَقَّتْ إِليه رغبةُ الهِممِ
ما خوذ من قول أبي تمام، فلا ترقت إليه همة النوب
ليتَ الكواكب تدنو لي فأَنِظمَها ... عُقودَ مَدْحٍ فما أَرضَى لكم كَلِمي
ومن مدائحه في الصالح بن رزيك قوله من قصيدة:
دَعُوا كلَّ بَرْقٍ شِمْتُمُ غيرَ بارقٍ ... يلوحُ عَلَى الفِسُطْاط صادِقُ بِشْرِه
وزُورُوا المَقامَ الصّالحِيَّ فكلُّ من ... عَلَى الأَرض يُنسى ذِكْرُه عند ذكرهِ
ولا تجعلوا مقصودَكم طلبَ الغِنى ... فَتَجْنُوا عَلَى مَجْدِ المَقام وفَخْرهِ
ولكن سَلُوا منه العُلَى تظفروا بها ... فكلُّ امرىءٍ يُرجى على قَدْر قَدْرهِ
وقوله فيه:
إِن تسأَلا عمّا لقيتُ فإِننيّ ... لا مخفقٌ أَملي ولا كذّابُ
لم أَنتجع ثَمدَ النِّطاف ولم أَقف ... بِمَذانبٍ وقفتْ بها الأذناب
لكن وردتُ قَرارة العِزّ التي ... تَغدو عبيداً عندها الأَرباب
عَثَرَتْ به قَدَمُ الثَّناء فلالَعاً ... إِن لم تُقِلْها رِفعةٌ وثوابُ
وقوله مودعاً ليعود إلى مكة:
مَنْ لي بأَن تَردِ الحجاز وغيرَها ... أَخبارُ طِيبِ مَواردي ومَصادري
زارتْ بيَ الآمالُ أَكرمَ ساحةٍ ... فوق الثَّرى فغَدوْتُ أَكرم زائر
ووَفَدْتُ أَلتمِسُ الكرامةَ والغنِى ... فرَجَعتُ من كلٍ ّبحظٍ ّوافر
فكأَنَّ مكةَ قال صادِقُ فألها ... سافِرْ تَعُدْ نحوي بوجهٍ سافرِ
وقوله أيضاً:
لازَمْتُ خِدمتَه فأَدَّب خاطري ... فالمدحُ من إحسانه مَعْدودُ
فإِذا نَظَمْتُ له المديحَ فإِنّما ... أُهدي بِضاعتَه له وأُعيدُ
كم ضَمَّ فائدةَ النُّهَى ليَ واللُّهَى ... فغدوْتُ مّما قد أَفاد أُفيدُ
فَلأُشْعِرَنَّ بها مَشاعِرَ مَكّةٍ ... ولَتَسْمَعَنْ عَدَنٌ بها وزَبيدُ
صَدَرٌ حَمِدتُ به الوُرود وإِنّما ... ذُمَّت به عندي المَطايا الْقُودُ
وقوله، بعد رحيله، فيه وقد كتب على يده إلى صاحب عدن فأسقط عنه بها مالاً كثيراً فكتب إليه من عدن:
لقد غمرتْني مِنْ نَداه مِواهبٌ ... أضافتْ إِلى عِزِّ الغِنَى شَرَفَ القدْرِ
قصدتُ الْجنابَ الصّالحيَّ تفاؤلاً ... وقد فَسَدت حالي فأَصلحني دهري
ولم يَرْضَ لي معروفَه دون جاهه ... فَسَيَّر كُتْباً كالكتائب في أَمري
كأَنّ يدي في جانَبْي عَدَنٍ بها ... تَهُزُّ على الأَيام أَلويةَ النَّصر
وما فارقتنْي نعمةٌ صالحيَّةٌ ... كانّيَ من مِصْرٍ رحلتُ إِلى مصر
وعاد إلى مصر في سنة اثنتين وخمسين وقد سعي به إلى الصالح ابن رزيك في أمر فقال فيه من قصيدة يستعطفه:
فاعلمْ وأَنت بما أُريد مَقاله ... منّي ومن كلّ البريّة أَعلمُ

أَنّي حُسِدْت عَلى كرامتِك التي ... من أَجلها في كلِّ أَرضٍ أُكْرَمُ
وبدون ما أَسديتَه من نعمةٍ ... سَدَّى الرِّجالُ الحاسِدون وأَلحموا
إِن كان ما قالوا وليس بكائنٍ ... فأَنا امْرُؤٌ مّمن سعى بيَ أَلأَمُ
ومنها:
راجِعْ جميل الرَّأْي فيَّ بِنَظْرَةٍ ... تُضْحي عواطفُها تَسُحُّ وتَسْجُمُ
فالليلُ إن أَقبلتَ صُبْحٌ مُسفِرٌ ... والصُّبحُ إن أَعرضتَ ليلٌ مُظلمُ
بَدأَتْ صنائعُك الجميلَ ومثلُها ... بِأَجَلَّ من تلكَ البِداية تَخْتِمُ
ومن مراثيه فيه قوله:
أَفي أَهل ذا النّادي عليمٌ أُسائلُهْ ... فإِنّي لما بي ذاهبُ العقلِ ذاهلُهْ
سمعتُ حديثاً أَحْسُد الصُمَّ عندهُ ... ويذهَل واعيه ويَخْرَس قائلُهْ
فقد رابني من شاهدِ الحالِ أَنّني ... أَرى الدَّسْتَ مَنصوباً وما فيهِ كافلُهْ
وأَنّي أَرى فوقَ الوُجوهِ كآبةً ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الوجوهَ ثواكلهْ
دَعُوني فما هذا أَوانُ بُكائِه ... سَيأْتيكُمُ طَلُّ البُكاء ووابلهْ
ولِمْ لا نُبَكّيه ونَنْدُب فَقْدَهُ ... وأَولادُنا أَيتامهُ وأَراملهْ
فيا ليتَ شِعري بعد حُسْنِ فعاله ... وقد غاب عنّا ما بِنا الدهرُ فاعلهْ
أَيُكْرَمُ مثوى ضَيْفِكمْ وغرِيبكمْ ... فيَسْكُنَ أَمْ تُطوى بِبَيْنٍ مراحلهْ
ومنها قوله:
تَنَكَّدَ بعد الصّالح الدَّهرُ فاغتدتْ ... مَحاسِنُ أَيّامي وهُنَّ عُيوبُ
أَيُجْدِبِ خَدّي من رَبيع مَدامعي ... ورَبْعيَ من نُعْمى يَدَيْهِ خَصيبُ
ومن مراثيه أيضاً قوله:
طَمَعُ المَرْءِ في الحياة غرورُ ... وطويلُ الآمال فيها قصيرُ
وَلكَمْ قَدَّرَ الفتى فأَتته ... نُوَبٌ لم يُحِط بها التقَّديرُ
ومنها:
ما تَخَطّى إِلى جلالك إِلاّ ... قَدَرٌ أَمرُه علينا قديرُ
يا أَمير الجيوش عندك عِلْمٌ ... أَنَّ حَرَّ الأَسى علينا أَميرُ
إِنَّ قبراً حلَلْتَه لَغَنِيٌّ ... إِنَّ دهراً فارقتهَ لفقيرُ
وبعيدٌ عنك السُّلُوُّ بشيءٍ ... ولك الفكرُ مَوْطنٌ والضميرُ
ومن ذلك أيضاً وقد نقل تابوته من دار الوزارة إلى القرافة:
خَرِبتْ رُبوعُ المَكْرُمات لِراحلٍ ... عَمَرَتْ به الأَجداثُ وهي قِفارُ
نَعش الجُدود العاثرات مُشَيَّعٌ ... عَمِيَتْ بِرؤُية نَعْشِه الأَبْصارُ
شَخَصَ الأَنامُ إِليه تحتَ جَنازَةٍ ... خُفِضت برِفعة قدرِها الأَقدارُ
فكأَنَّها تابوتُ مُوسى أُودِعت ... في جانِبَيْهِ سَكينةٌ ووقارُ
وتغايَرَ الهَرَمانِ والحَرَمان في ... في تابوتِه وعَلى الكريم يُغارُ
غَضِب الإِله عَلَى رجالٍ أَقدموا ... جَهلاً عليه وآخرين أَشاروا
لا تَعْجَبا لِقُدار ناقةِ صالحٍ ... فلكلِّ عصرٍ صالِحٌ وقُدارُ
أُحِللْتَ دارَ كَرامةٍ لا تنقضي ... أَبداً وحَلَّ بقاتليك بَوارُ
ومن شعره في ولد الصالح رزيك يسترضيه:
مَوْلايَ دعوة خادمٍ ... أَهملتَه بعد احتفالِكْ
إِن كان عن سببٍ فلا ... يَذهَبْ بِحِلْمك واحتمالكْ
أَو كان عن مَلَلٍ فما ... يخشى وَلِيُّكَ من مَلالكْ
إِن خفتُ دهري بعدما ... أَعلقتُ حبلي في حبالك
ومدحتُك المَدْح الذي ... عَبَّرْتُ فيه عن فَعالكْ
فالجوُّ مسدود الهوا ... والأَرضُ ضَيّقة المسالك
وقوله في مدحهم:
إِذا نَزَلتْ أَبناءُ رُزِّيك مَنْزِلاً ... تَبَسَّم عن ثَغْر النَّباهة خاملُهْ
وخَيَّم في أَرجائِه المجدُ والعُلى ... وَجاذَبه طَلُّ السماح ووابلهْ

ملوكُ لهم فضلٌ بأَبلجَ منهمُ ... مَحافلُه تُزْهى به وجَحافُلهْ
تُزَرُّ على اللَّيْثِ الغَضَنْفَر دِرْعهُ ... وتُلْوى عَلى الطَّوْد المُنيف حمائِلُهْ
تفَيضُ علينا كلَّ يومٍ وليلةٍ ... بلا سببٍ أَفضالُه وفضائِلهْ
يُثيبُ عَلَى أَقوالنا مُتبرِّعاً ... عَلَى أَنَّها من بعض ما هو قائِلهْ
وقوله في أخي الصالح، وهو بدر بن رزيك، وقد أعطاه مهراً:
بعثتَ بِطِرْفٍ يَسِبُقُ الطَّرْفَ عَفْوُه ... وتَغْدو الرِّياح الهوج من خَلْفِه حَسْرى
حَكى الْوَردَ والياقوتَ حُسناً وحُمرةً ... وتاه فلم يَرْض العَقيق ولا الْجَمرا
وأَرسلتُه في الحُسنِ وِتْراً كأَنَّني ... أُطالب عند النّائِبات به وَتْرا
نَذَرْتُ رُكوبَ البَرْقِ قبلَ وصوله ... فَوَفَّيْتُ لمّا جاءَني ذلك النَّذْرا
زفقتُ القوافي في عُلاك عرائساً ... فساق لها الإِحسانُ في مَهرها مُهرا
وقوله من قصيدة في بعض الأكابر من آل رزيك أولها:
تَيَقَّنُوا أَنّ قلبي مِنْهُم يَجِبُ ... فاستعذَبوا من عَذابي فوق ما يجبُ
وأَعْرضوا ووُجوهُ الودِّ مُقبِلَةٌ ... وللمُكَلَّف قلبٌ ليس ينقَلِبُ
ولو قَدَرْتُ لأَسلاني عُقُوقُهمُ ... وَكم عُقوقٍ سَلَت أُمٌّ به وأَبُ
إِنْ لم يكن ذلك الإِعراضُ عن مَلَلٍ ... فسوف تُرْضيهم العُتْبى إِذا عَتبِوا
وإِنْ تكدَّر صافٍ من مَوَدَّتهمْ ... فالشمسُ تُشْرقُ أَحياناً وتَحتجب
وقوله في حسام من قصيدة:
أَنسيمُ عَرْفكِ أَم شَميمُ عَرارِ ... وسَقيمُ طَرْفكِ أَم صَفيحُ غِرارِ
جادتْ مَحَلَّكَ بالغَميم غَمامةٌ ... تَحْكي بوادِر دَمعيَ المِدْرارِ
لا تَبْعثي طَيْفَ الخيالِ مُذَكِّراً ... فهواكِ يُغْنِيني عن التَّذْكارِ
ومنها في المديح:
مَلِكٌ إِذا ما عِيبَ عِيبَ بأَنهُ ... عارِي المَناكِب من ثِياب العار
قَصَدَتْه من حُسْنِ الثَّناءِ قَصائِدٌ ... رَكبتْ إِلى التَّيّار في التَّيّار
قد قلتُ إِذ قالوا أَجدتَ مديحَهُ ... شُكْرُ الرِّياض يَقِلُّ للأَمطار
مُختارُ قَيْسٍ حاز مُختار الثَّنا ... ما أَحسن المُخْتار في المختار
وقوله من قصيدة في الكامل بن شاور:
إِذا لم يُسالِمْك الزَّمانُ فحارِبِ ... وباعدْ إِذا لم تنتفعْ بالأَقاربِ
ولا تحتقِرْ كَيْداً ضَعيفاً فَرُبَّما ... تموتُ الأَفاعي من سُمومِ العقارب
فقد هَدَّ قِدْماً عرشَ بلقيسَ هَدْهُدٌ ... وأَخْرَبَ فأْرٌ قبلَ ذا سَدَّ مَأْرِبِ
إِذا كان رأْس المال عُمْرك فاحْتَرِزْ ... عليه من الإِنفاق في غيرِ واجب
فَبيْنَ اختلاف اللَّيْلِ والصُّبْحِ مَعْرَكٌ ... يَكُرُّ علينا جيشُه بالعجائب
وما راعني غَدْرُ الشَّباب لأَنَّني ... أَنِسْتُ بهذا الخُلْق من كُلِّ صاحب
وغَدْرُ الفتى في عَهْدِه ووفائِه ... وغدرُ المَواضي في نُبُوِّ المَضارب
ومنها:
إِذا كان هذا الدُّرُّ مَعْدِنُه فَمِي ... فَصُونوه عن تَقْبيلِ راحةِ واهبِ
رأَيتُ رجالاً أَصبحوا في مآدِب ... لَدَيْكُمْ وحالي وحْدَها في نَوادِب
تأَخَّرتُ لمّا قَدَّمَتْهُمْ عُلاكُمُ ... عليّ وتأْبى الأُسْدُ سَبْقَ الثَّعالب
وقوله فيه:
وَسَمْتَ بنُعْماك الرِّقابَ تَبَرُّعاً ... وأَجيادُ شِعري ما عليهنَّ مِيسَمُ
وأُنْسِيتنَي حتى وقفْتُ مُذّكِّراً ... بنفسي وُقوفاً حَقُّه لك يَلْزَمُ
وألغَيْتني حتى رأَيتُ غَنيمةً ... دخولي مع الجَمِّ الغفير أُسَلِّمُ
كأَنّيَ لم أَخْدُمْكُمُ في مَواطنٍ ... أُصرِّح فيها والرّجال تُجَمْجِمُ

ولم أَغْشَ هذا البابَ قبلُ ولم تكن ... تُضايقني فيه الرِّجال وتَزْحَمُ
كذبْتُ عَلى نفسي إِذا قمتُ شاكراً ... وليس لسانُ الحال عنّي يُتَرْجِمُ
وقالوا تجمَّلْ لا تُخِلَّ بِعادةٍ ... عُرِفْتَ بها فالصبرُ أَولى وأَحزمُ
وهل بعد عَبّادان يُعْلَمُ قَرْيَةٌ ... كما قيل أَو مِثلُ ابن شاوَر يُعْلَمُ
وقوله:
مضى بَدْرٌ فأَغْنى عنه طيٌّ ... بما أَولى من الكَرَم الجزيلِ
وقِدْماً كنتُ أَمدحُ للعطايا ... فقد أَصبحتُ أَمدح للسَّبيل
لقد طَلَعتْ علَيَّ الشمسُ لمّا ... عَدِمْتُ وقِايةَ الظِّلِّ الظَّليل
وقوله في أخي شاور:
أَتَيْتُ إِلى بابك المُرْتَجى ... فأَلفيتُه مغلقاً مُرْتَجا
فقلتُ لِبوّابه سائِلاً ... أَيُغْلَق بابُ النَّدى والحِجى
فقال أَراك كثيرَ الكلام ... وعندي من الرأْي أَن تَخْرُجا
وإِلاّ نَتَفْتُ سِبالَ المديح ... وأَتبعتُها بِسبال الهِجا
وقوله فيه وكان بمنية غمر، فركب إليه في البحر:
ولمّا دَنا عالي رِكابِك هَزَّني ... إِليك اشتياقٌ ضاع في جَنْبه صَبري
وحين رأَيتُ البَرَّ وَعْراً طريقُهُ ... ركبتُ أَخاك البحرَ شَوْقاً إِلى البحر
وما أَنا بالمجهول عِلْمُ مَسيره ... إِليك ولا الخافي حديثي ولا ذِكري
ولا أَنتَ ممَّن يُرْتَجى لِسوى الغنِى ... ولا أَنا من أَهلِ الضَّرورة والفقر
سيسَأَلنُي عندَ القُدوم جماعةٌ ... من النّاس عمّا ذا لقيتُ من الأَمر
ولا بُدَّ أَن يجري الحديثُ بذكر ما ... فعلتَ معي فاختر بنا أَشرف الذِّكر
ومَنْ ينتجِعْ أَرضَ العراق وَجِلَّقٍ ... فمُنْيَةُ غَمْرٍ مركزُ الكرم الغَمْر
وقوله في بعض الأمراء يطلب عمامة:
رأَيتكُ في المَنام بَعَثْتَ نَحوي ... بحامِلة الْحَيا وهي الْغَمامهْ
فأَوَّلْتُ الحَيا بحَياك منّي ... وصَحَّفتُ الغَمامة بالعِمامهْ
فأَنْفِذْ لي بأَطولَ من حِسابي ... إِذا أُحْضِرْتُ في يوم القيامهْ
ومنها:
كأَنَّ بياضَها وَجْهٌ نَقِيٌّ ... وحُسْنُ الرَّقْم فوق الخَدِّ شامهْ
ولا تبعثْ بقيمتها فإِنّي ... أَراه من التكلُّف والغرامهْ
وليس القَصْدُ إِلاَّ تاج فخرٍ ... يُطَوِّل قامةً ويَصُون هامهْ
وما هذا المديحُ سوى أَذانٍ ... فقل لِنَداك حَيَّ عَلَى الإِقامهْ
وقوله من قصيدة في بعضهم:
خُذْ يا زَمانُ أَماناً من يَديْ أَملي ... لا رَوَّعتْ سِرْبَك الأَطماع مِنْ قِبَلي
ولا مَددْتُ إِلى أَيدي بَنيك يَدي ... إِذاً فلا وأَلَتْ كَفّي من الشَّلَلِ
صانوا بأَعْراضِهم أَعراضهم فغَدا ... شِعْري وسِعري مَصوناً غيرَ مُبْتَذَلِ
تركتُ مَنْ كنتُ أُطريه وأُطْربه ... فلا ثَقيلي يُعَنِّيهم ولا رَمَلي
وكيف أَنْشَطُ في أَوصافِ ذي كَرمٍ ... كسلانَ يرمي نَشاطَ المدْحِ بالكَسَلِ
حَلَّيْتُ جِيدَ عُلاه وهي عاطلةٌ ... وجاءَني منه جِيدُ المَدْح بالعَطَلِ
أُثني ويُثْني رجالٌ ضَمَّني معهم ... وَزْنُ الكلام وليس الكُحْلُ كالْكَحَلِ
وليس يُحْفَظ إِلاّ ما نَطقتُ به ... حتى كأَنَّ سِوى ما قلتُ لم يُقَل
ذَنْبي إِلى الدَّهْرِ فضلٌ لو سَترتُ به ... عَيْبَ الْحوادث لم تُنْسَب إِلى الزَّلل
إِنْ آثرتْ ثروةُ الدُّنيا مُجانَبتي ... فإِنَّها ابنةُ أُمّ الغَيِّ والخَطَل
ولي إِذا شِئتُ من تاجِ الخلافة مَن ... أَرى به شَرَفَ الأَفعال في رجل
إِن جاد أَو كاد في يَوْمَيْ ندًى ورَدًى ... فاضَتْ أَنامله بالرِّزْق والأَجَل

لو كان حَظٌّ عَلَى مِقدارِ مَنزِلَةٍ ... لم يَنْزِل المُشْتَري عن مُرْتَقى زُحَل
أَما ترى الفَلَكَ العُلْوِيّ قد جعلوا ... فيه سَمِيَّك بعد الثَّوْر والْحَمَل
ومنها:
واسمع مُحَبَّرةَ الأَوصاف خاطبة ال ... إِنْصاف طالت مَعانيها ولم تَطُل
جادت جَزالتُها لفْظاً ورقَّتُها ... معنىً بما شئتَ من سَهلٍ ومن جَبَل
وقوله في وداع بعض الأكابر:
تناولتَ المكارِمَ والمَساعي ... بأَقوى ساعدٍ وأَتَمِّ باعِ
ومنها:
إِذا سارتْ جِيادُك والْمطايا ... فيا زَمَع القُلوب من الزَّماعِ
وَداعُ رِكابك السامي دَعاني ... إِلى ذَمِّ التَّفرُّق والوَداع
ستَفْقِدُ منك أَنفُسنا حياةً ... وما فَقْدُ الحياة بمستطاع
وقوله في قضاة الزمان:
رُتبةُ الحُكْمِ السَّنِيَّهْ ... هُدِمَتْ هَدْم البَنِيَّهْ
أَخْرَب الجهّالُ منها ... كلَّ ثَغْرٍ وثَنِيَّهْ
وغدت دَنِّيَّةُ الحُكْ ... مِ بهم وهْي دَنِيَّهْ
وزار صديقاً له فلم يجده فكتب إليه:
يا سَيِّداً ساحةُ أَبوابه ... لكلِّ من لاذ بها قِبلهْ
قد استَنَبْتُ الطِّرْسَ في لَثْمِه ... كَفَّك واستَوْدعتُه قُبلهْ
فامْدُد إِليه راحةً لم يَزَلْ ... معروفُها يُخْجِل مَنْ قَبْلَهْ
وقوله وقد ابتاع جارية يلتمس ثمنها:
يا سَيِّداً يشهَدُ لي خَلْقُه ... وخُلْقُه أَنّ الورى دُونَهُ
كم لك من مَكْرُمةٍ ضَخمةٍ ... ومِنَّةٍ ليست بمَمْنونهْ
وموقفٍ بين النَّدى والرَّدى ... يخافُه النّاس ويَرْجونهْ
قد اشترى الخادمُ مَمْلوكةً ... صُورتُها بالحسن مدهونهْ
كاملةَ العقل ولكنَّها ... إِذا خَلَتْ في الفُرْش مجنونهْ
قيمتها ستّون موزونةً ... والنصفُ منها غيرُ موزونهْ
وهي عَلَى ذاك فأَنْعِمْ بها ... تحت خُصى البائع مرهونهْ
وقوله في كاتب نصراني يدعى أبا الفضل وهو يخدم على دار الكباش:
رأَيتُ أَبا النَّقْصِ ضاقتْ به ... مَذاهبه في التماسِ المعاشِ
ومِنْ حُبِّه في ذوات القُرون ... غدا وهو نائب دار الكباشِ
وقوله:
إِن كان يحسَب أَنَّ خِسَّة أَصِله ... تَحْميه من حُمَتي ومُرِّ ذُعافي
فالأُسدُ تفترسُ الكلاب إِذا عَدَتْ ... أَطوارَها، والأُسْدُ غيرُ ضِعاف
دَعْني أُثَقِّلْ بالهِجاءِ لجِامَهُ ... إِنَّ البغالَ كثيرة الإِخْلاف
لا تَأْمَنَنَّ أَبا الرَّذائل بعدها ... واحذَرْ أَمانةَ سارقٍ خَطَاف
فالمرتَجي عند اللِّئام أَمانةً ... كالمُرْتجي ثَمراً من الصَّفْصافِ
وقوله:
وقائلةٍ مالي أَرى الْجَوَّ مُظِلماً ... بأَعمالِ مصْرٍ دون كلِّ مَكانِ
فقلتُ ومصرٌ كالبلاد وإِن يكن ... عَلاها ظَلامُ فهو بابن دُخان
لقد سَئمَ الإِسلامَ طولَ حياته ... ودار عَلَى قَرْنَيْه أَلفُ قِران
مَتى تَقْبِضُ الأَيامُ عنّا بَنانَه ... وتَبْسُط كفَّ الأَروع ابنِ بنان
لقد ترك الأَعمالَ صفْراً كأَنَّها ... قوالبُ أَلفاظٍ بغيرِ معانِ
فَصَدِّقْ كلامَ النّاس فيه ولا تَقُل ... كلامُ العِدى ضربٌ من الهذيان
وقوله:
كلَّما رُمتُ سِلْمَه رام حَرْبي ... ما لِهذا الوَضيعِ قولُوا ومالي
أَجرَبُ العِرْض يَشْتفي بهجائي ... وهو عِرْضٌ بالذَّم ليس يُبالي
وقوله:
يا رَبّ هَيِّىءْ لنا من أَمرِنا رَشَدا ... واجعلْ مَعُونتك الحُسنى لنا مَدَدا
ولا تَكِلْنا إِلى تدبير أَنفسنا ... فالنَّفْسُ تعِجَزُ عن إِصلاح ما فسدا
أَنتَ الكريم وقد جَهَّزْتُ من أَملي ... إِلى أَياديك وجهاً سائلاً ويدا

وللرَّجاءِ ثوابٌ أَنت تعلمهُ ... فاجعلْ ثَوابي دوامَ السَّتْرِ لي أَبدا
وقوله حين قصد الفرنج أرض مصر:
يا رِبِّ إِنّي أَرى مصراً قد انتبَهتْ ... لها عُيون اللَّيالي بعد رَقْدَتِها
فاجْعل بها مِلَّة الإِسلام باقيةً ... واحرُس عُقودَ الهُدى مِنْ حَلِّ عُقدتها
وهَبْ لنا مِنكَ عَوْناً نستجِيرُ به ... من فِتنةٍ يَتَلظّى جَمْر وَقْدَتها
وذكر لي بعض المصريين بالقاهرة أن الصالح بن رزيك رغب عمارة في أن يعود متشيعاً ويأخذ منه ثلاثة آلاف دينار وكتب إليه:
قُل للفقيه عُمارةٍ يا خيرَ مَنْ ... أَضحى يؤلِّف خُطبةٌ وخِطابا
إِقبلْ نَصيحة مَنْ دعاك إِلى الهُدى ... قُلْ حِطَّةٌ وادخُل إِلينا البابا
تَلْقَ الأَئِمَّة شافِعين ولا ترى ... إِلاّ لديهمْ سُنَّةً وكِتابا
وعَلَيَّ أَنْ يَعْلو مَحَلُّكِ في الوَرى ... وإِذا شَفَعْت إِليَّ كنتَ مُجابا
وقبضتَ آلافاً وهُنَّ ثلاثةٌ ... صِلةً وحَقِّك لا تُعَدُّ ثوابا
فأجابه عمارة عنها:
يا خيرَ أَملاك الزَّمان نِصابا ... حاشاك من هذا الْخِطاب خِطابا
أَما إِذا ما أَفسدتْ عُلماؤكم ... مَعْمُورَ مُعْتَقَدي وصار خَرابا
وأَتى دليلُ الحَقِّ في أَقوالهم ... ودعوتُ فِكري عند ذاك أَجابا
فاشدُدْ يَدَيْك على أَكيدِ مَوَدَّتي ... وامْنُن عليَّ وسُدَّ هذا البابا
والعجب من عمارة أنه تأبى في ذلك المقام عن الانتماء إلى القوم وترك، وغطى القدر على بصره حتى أراد أن يتعصب لهم ويعيد دولتهم فهلك.

أبو بكر بن أحمد بن محمد العيدي اليمنى
تمهيد تاريخي:
الدولة الزريعية الحديث عن الشاعر العيدي وتفهم شعره يقتضينا أن نتحدث عن الدولة الزريعية التي عاش في كنفها وقال أكثر شعره فيها.
وقد جاءت الدولة الزريعية في أعقاب الدولة الصليحية. وحين تحدث العماد عن الشاعر اليمني ابن القم وجدنا أننا مضطرون إلى أن نفرد الصفحات الأولى للحديث عن الصليحيين في تتابع ملوكهم وتوالي أحداثهم.
وقد كان آخر من حكم اليمن من الصليحيين سبأ بن أحمد، الملقب بالأوحد، الذي توفي سنة 492، وزوجه السيدة أروى، الملقبة بالملكة الحرة، التي تفردت بعده بالحكم وماتت سنة 532 وقد وزر للسيدة أروى المفضل بن أبي البركات بن الوليد الحميري، ثم أخوه وابنه، وكانوا جميعاً عوناً لها على سياسة الملك، وتدبير المملكة، وقيادة الجيوش.
وكان الداعي الصليحي أبو الحسن علي بن محمد، أول الصليحيين قد فتح عدن وملوكها آنذاك بنو معن، فأقرهم على طاعته.
ولما زوج ابنه المكرم أحمد بالملكة الحرة السيدة أروى جعل صداقها خراج عدن، ثم اما قتل سنة 458 تغلب على الخراج بنو معن.
فسار إليهم المكرم أحمد وأخرجهم منها وولي عليها العباس ومسعوداً ابني المكرم الجشمي الهمداني اليامي - وكانت لهما سابقة معروفة عند المكرم لقيامهما معه عند نزوله زبيد واستنقاذه أمه من سعيد الأحول - وجعل للعباس حصن التعكر وباب البر وما يدخل منه، وجعل لمسعود حصن الخضراء وباب البحر وما يدخل منه وإليه أمر المدينة، واستخلفهما لزوجته السيدة أروى، فكانا يحملان إليها كل سنة مائة ألف دينار تزيد وتنقص.
وتوفي العباس بن المكرم فانتقل عمله إلى ابنه زريع، وبقي عمه مسعود على ما تحت يده، واستقام كل منهما على عمله، وزاد زريع فملك الدملوة في سنة 480. وكانا - أول الأمر - يحملان ما عليهما إلى السيدة أروى، ثم اجتمعا على أن يمنعا عنها ما كانا يدفعان من من خراج، فحاربهما وزيرها المفضل بن أبي البركات واصطلحا معه على النصف.
ثم تغلب أهل عدن على النصف حين أحسوا الضعف في حكم السيدة أروى بعد موت وزيرها المفضل، فسيرت إليهم ابن عمه أسعد بن أبي الفتوح بن العلاء بن الوليد الحميري فصالحهم على الربع. ثم تغلبوا على هذا الربع الباقي بعد ثورة الفقهاء على السيدة أروى بالتعكر.

ولما بعثت السيدة أروى بالمفضل لتنصر بعض أولاد جياش بن نجاح - وهو منصور بن فاتك بن جياش - على عمه عبد الواحد كتبت إلى زريع وعمه مسعود أن يلقيا المفضل بزبيد، فلقياه وقاتلا معه حتى قتلا بباب زبيد سنة 503، وتمكن المفضل من دخول زبيد.
وقد قام يعدهما أبو السعود بن زريع، وأبو الغارات بن مسعود، كل منهما في جهته.
ومات أبو الغارات فخلفه ابناه محمد وعلي، ومات أبو السعود فخلفه سبأ، وإليه صارت الدعوة عن السيدة أروى ولقب بالداعي، وكان أول من لقب بذلك من الزريعيين.
واقتتل الداعي سبأ مع محمد بن أبي الغارات، وتمت الغلبة للداعي، فاستولى على أكثر اليمن وأضحى رأس الدولة الزريعية، وتوفي سنة 533.
ثم خلفه ابنه الداعي المعظم محمد بن سبأ بن زريع فمد في سلطان الزريعيين حين استولى على حب وذي جبلة وأعمالها سنة 548 - وقد انتقلت إليه من يد الأمير منصور بن المفضل بن أبي البركات بن الوليد الحميري - . وفي عهده كانت الزلزلة باليمن سنة 549 وقد انهدم بها حصون كثيرة. ومدح الداعي بأشعار وقصائد وتوفي سنة 550 على أصح الروايات 547، 548 في بعض الروايات الأخرى بالدملوة، وقبره فيها.
واستولى على البلاد بعده ابنه الداعي المكرم عمران بن محمد وعظم شأنه، وقصده الشعراء، وانقطع بعضهم إليه على نحو ما كان من أبي بكر العيدي شاعر الخريدة الذي أصفاه مدائحه.
واستمر يحكم حتى كان ظهور بني مهدي وغلبتهم على زبيد فضعف أمر الزريعيين وبدأ نجمهم بالأفول ولم يبق لهم إلا عدن.
وتوفي بعد عشر سنين من ولايته، أعني سنة 560 في عدن. وحمله الشاعر الفاضل الكامل أبو بكر العيدي والشيخ التاجر أبو الغنائم الحراني إلى مكة وقبر في مقابرها.
وكان له ثلاثة أولاد صغار قام بتربيتهم الشيخ الموفق أبو الدر جوهر بن عبد الله المعظمي في حصن الدملوة، وبالملك لهم ياسر بن بلال بن جرير المحمدي. ومن مدائح الشاعر العيدي نعرف أن أحدهما يدعى محمداً والآخر يدعى أبا السعود انظر القصيدة الهمزية فيما نستقبل من شعر العيدي.
وفي سنة 569 دخل الملك المعظم تورانشاه، أخو صلاح الدين، اليمن يفتحها، وبعد دخوله شنق ياسر - ومعه عبده السداسي سنة 571 وزال سلطان الزريعيين عن عدن، آخر ما أبقى لهم بنو مهدي، وانقضى ملكهم.
ويقول ابن المجاور في تأريخ المستبسر ص126 - 127: وكان أبناء زريع يؤدون الخراج إلى الخلفاء الفاطميين وهو لأجل المذهب لأن القوم كانوا إسماعيلية، وكل من تولى بأرض اليمن من بني زريع يسمى الداعي أي يدعو الخلق إلى المذهب.
بلوغ المرام - طبقات فقهاء اليمن - تأريخ المستبصر - المقتطف من تاريخ اليمن - معجم البلدان

أبو بكر بن أحمد بن محمد العيدي اليمني
وزير صاحب عدن، ذكره نجم الدين بن مصال وذكر أنه يعيش. وحكى أن شاباً من الاسكندرية يعرف بأحمد بن الأبي سافر إليه وانتفع من جانبه وأن أحمد ذكر عنه أنه عمل أبياتاً يهنىء بها الداعي بعدن بطهور أولاده من جملتها:
كذُبالَةِ المِصْباح يَقْضي قَطُّها ... عند الخمُود لها بقُوّة نارِهِ
قال فقال لي يصلح أن يكون لهذا البيت توطئة قبله وعمل:
أَخْذٌ من العُضْو الشَريف قضَى له التَّ ... أْثير فيه بمقُتضَى إِيثارهِ
وبعده:
كْذبالِة المِصباح يَقْضي قَطُّها ... عند الخمُود لها بقوّة نارهِ
وأنشدني له ابن الريحاني المكي، وذكر أنه ضرير وهو كاتب السلطان علي:
تَحَدَّثَ ساري الرَّكْب عنكم بأَوْبَةٍ ... تَنَسَّم أَنفاسَ السُّرورِ بها الْقلْبُ
فيا مِنَّةً لِلْعيس إِذ أَدْنَتِ النَّوى ... ويا حَبَّذا ما عَنكمُ حَدَّث الرَّكبُ
ولما استولى شمس الدولة تورانشاه بن أيوب على عدن وجده بها حياً، وذكر لي أنه نهب له مال كثير ودفاتر، وعدد وذخائر. وسألت عنه أصحاب الملك المعظم شمس الدولة عند عوده إلى دمشق في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين، فذكروا أنه شيخ كبير، وهو ضرير، وله فضل غزير، ومحل عزيز، وجاه حريز.

ثم طالعت مجموع عمارة الشاعر اليمني في ذكر شعراء اليمن فوجدته قد أثنى على أبي بكر العيدي من عدن وقال: ومنهم من جعلت ذكره فارس الأعقاب، وجمال ما مضى وما يأتي من الأحقاب، وزير الدولة الزريعية وصاحب ديوان الإنشاء بها ووصفه بصدق اللهجة، وحسن البهجة، والدين الحصين، والعقل الرصين، والؤدد العريض، والكرم المستفيض، والتواضع الذي لا يضع من رتبته العالية، ولا يرخص من قيمته الغالية، وأما البلاغة فهو إمامها، وبيده زمامها، ولخاطره هداية النجم الساري، وسلاسة العذب الجاري، وأما عبارته فلا يشوبها لبس، ولا يعوقها حبس، فسيح في الإطالة مجاله، موف علي الروية ارتجاله، يكاد نظمه أن يبتسم ثغره، ونثره أن ينتظم دره. وقال إن له بلاغة تشهد عذوبة مطبوعها، بكرم ينبوعها، وألفاظاً تدل معانيها، على فضل معانيها.
وأما مولده فمن أهل أبين وهو أبين عدن، قال ولما ترعرع عني بنفسه، وكان ينزل إلى عدن وهي من وطنه على ليلة فيجتمع بالعلماء الواصلين من الآفاق إلى موسم عدنن ولازم الطلب، حتى تفقه وتأدب، ونظم ونثر، وكتب وحسب، ولم يزل في عدن وجمر فضله مستور بالرماد، وغمر معينه مغمور بالثماد، إلى أن مات محمد بن غزي كاتب الشيخ بلال بن جرير صاحب عدن، فتنبه بلال عليه، وأرشده رائد السعادة إليه، فجعله كاتبه، بل صاحبه.
وذكر أنه حكي له أنه كان محمد بن غزى إذا أراد أن يكتب عن بلال كتاباً أو يرد جواباً لم يستقل بنفسه دون الحضور بين يديه حتى يملي عليه مقاصد الكتاب ثم لا يختمه حتى يلحق بلال بين سطوره بخطه ما وقع الإخلال به في اللفظ والمعنى، فلما كتب له الشيخ الأديب اعتقد بلال أن الأديب مثل ابن غزى في جمود طبعه، وخور نبعه، وثمد معينه، وعدم معينه ونبوة كلامه، وكبوة أقلامه، وقصر رشائه، وفقره من فقر إنشائه، وشتان بين عزة فارس القلم، وذلة راجل الجلم، فألقى بلال إلى الأديب كتباً وردت عليه، وقال قف عليها وتصفحها حتى نخلو من مجلس السلام فأملي عليك مقاصدها، فكتبها الشيخ الأديب في ذلك المجلس في لحظة ودفعها إليه وقد كتب عنوان كل كتاب منها، فلما وقف عليها بلال قال: لم تزد والله على ما في نفسي من الجواب شيئاً ولم تنقص عنه، ففوض إليه واعتمد عليه.
وذكر أنه استأذنه يوماً على ما يجيب به عن كتب وصلت إليه، ويثيب به آخرين وفدوا عليه، فقال له يا مولاي الأديب، الدولة دولتك، والمال مالك، فأجب، وأثب، كيف شئت، وبما شئت.
وذكر أن الأديب أبا بكر كان من سؤدده أنه إذا سمع بقدوم قافلة إلى البلد خرج إلى الباب واستخبر عمن فيها من الأدباء والفقهاء، فإذا ظفر منهم بأحد بالغ في إكرامه واستخلاص بضاعته إن كان تاجراً، وإن كان باعه في الأدب قصيراً عمل له الشعر على لسانه واستنجز له الصلة، ثم أنزله مدة مقامه وزوده عند رحيله.
قال عمارة في مجموعه وهذه القصة جرت له معي، فإني قدمت عدن وأنا حينئذ لا أحسن الشعر، فعمل قصيدة على لساني، حتى فزت عند صاحب عدن بالأماني، فلما عزمت على السفر قال إنك قد اتسمت عند القوم بسمة شاعر، فانظر لنفسك وطالع كتب الأدب ولا تجمد على الفقه وحده، فإن فضيلة اللسان حلية الإنسان، ثم قدمت في العام الثاني وقد علمت شعراً أصلح من الأول ومعي إنسان جمال، فقال لي الأديب ما رأيك أن تنفع هذا الإنسان بشيء لا يضرنا، قلت: وما هو؟ قال نعمل قصيدة على لسانه، ففعل واستنجز له صلة من الداعي محمد بن سبأ. فلما انفض الجمع دعاني الداعي وقال إذا سألتك عن شيء تنصحني؟ قلت: نعم، قال أظن أن هذا الإنسان الذي أخذ له الأديب الدنانير جمالاً، قلت: هو والله جمال وإنما فضل طباع الأديب ومعونتكم له على فعل الخير صيرت هذا ومن يجري مجراه شاعراً، فضحك الداعي وأعاد الجمال فزاده ذهباً.
قال ومن أَخباره أَنّ إِنساناً يقال له أَبو طالب بن الطّرائفي مدح الدّاعي محمد بن سبأ في سنة ستّ وثلاثين بقصيدة أَبي الصلت أُميّة التي مدح بها الأَفضل وأَوّلها:
نَسخَتْ غرائبُ مَدْحِك التَّشبيبا ... وكفى به غَزلاً لنا ونسيبا
ومنها:
وأَنا الغريب مكانُه وبيانُه ... فاجُعل نوالك في الغريب غَريبا

ثم أَهدى الرَّشيدُ ابن الزُّبيرَ ديوانَ أَبي الصلت إِلى الدّاعي محمّد بن سبأ فوجد القصيدة فيه، فكتب إِلى الأَديب أَبي بكر بعَدَن كتاباً يأْمره فيه بتسيير القصيدة إِليه إلى الجبال فنسخها الأَديب بخطّه وزاد في آخرها اعتذاراً عن ابن الطّرائقي، وكان قد مات، قوله:
هذي صفاتُك يا مَكين وإِن غدا ... فيمَنْ سِواك مَديحُها مغصوبا
فاغفِر لمُهديها إِليك فإِنّه ... قد زادَها بِشَريفِ ذِكرك طِيبا
وذكر أَنّه حدّثه الفقيه أَبو العبّاس أَحمد بن محمد بن الأُبِّيّ قال: أَذكر ليلةً أَنا أَمشي مع الأَديب على ساحل عَدَن وقد تشاغلتُ عن الحديث معه فسأَلني في أي شيء أنت مفكر؟ فأَنشدته:
وأَنظرُ البدرَ مرتاحاً لِرؤيته ... لعلَّ طرف الذي أَهواه بنظرهُ
فقال لمن هذا البيت؟ قلت: لي، فأَنشدَ مُرْتجِلاً:
يا راقِدَ الليلِ بالإِسكندريَّة لي ... مَنْ يسهرُ الليلَ وَجْداً بي وأَسهُرهُ
أُلاحظ النَّجْمَ تَذْكاراً لرُؤّيَته ... وإِنْ مَرى دمعَ أَجفاني تَذَكُّرهُ
وأَنظرُ البدرَ مُرتاحاً لرؤيته ... لعلَّ طَرْف الذي أَهواه ينظُرهْ
قال: ثم سمعت أنَّ بصَره قد كُفّ، فعلمِتُ أَنّ الأيّام طَمَست بذلك مِنْهاج جَمالها، وأَطفأَت سِراج كَمالها، فأَجناه الله ثمر الخير الذي كان يغرِسُه، وحَرَسه ناظِرُ الإِحسان الذي كان يرعاه ويحُسِره، فتزايدتْ وَجاهته، وتضاعفت رفعتُه ونباهته، وأَراد الزمانُ أن يَخفِضَه فرَفعَه، وأَن يَضُرَّه فنفَعَه.
وذكر أَنّ الدّاعي عمران بن محمد بن سبأ بن أبي السعود بن زُرَيْع ليامي لمّا وقف الأَديبُ يُنشده قصيدةً عملها فيه، بعد انعكاس نور البصر من ناظره، إِلى بَصيرَة خاطره، حمل إِليه أَلفَ دينار واعتذر ولَطَف له في القول لُطفاً يسلّي الحزين، ويستخفّ الرَّزين، ثم لم يَرْضَ بذلك حتى أَمر مُنادياً فنادى في النّاس من دخلَ دارَ الشيخ الأديب فهو آمن. قال: والشعرُ الجيّد الرائق الفائق أَقلُّ خِصاله، وأَكَلُّ نِصاله. وأَورد من شعره قولَه يمدح الداعي عِمران بن محمد بن سبأ:
عادَ الهوى في فُؤادي مثلَ ما بدأَ ... لمّا تَعرَّفْتُ مِن أَهل الحِمى نَبأَ
أَمْلى على القلب ساري البرقِ مُبتسماً ... عنهم أَحاديثَ شوقٍ تُطرِب الملأَ
فبِتُّ أُروي رُبي خَدَّيّ من دِيَمٍ ... تَزْداد غُلَّةُ أَحشائي بها ظَمَأَ
رُقى العواذِل مُهْراق النَّجيع بها ... لمّا ترقرق مُنْهَلاً فما رقَأَ
لَعَلَّ لامِعَ ذاك البرقِ كان لهم ... طليعةً طالعَ الأَسرار فارتَبَأَ
لَئِنْ براني هوى أَهلِ الحِمى فَلَكَمْ ... داوَيْتُ من حُبِّهمْ دائي فما بَرأَ
يُدْنيهمُ الشوقُ منّي والحنينُ وإِن ... شَطَّ المَزار بهم عن ناظِري ونأَى
وما تقتَّصني منهم سوى رَشَإٍ ... أَفدي بمُهجة نفسي ذلك الرشأَ
أغَنَّ يَغْنى عن البدر المُنير به ... مَنْ جالس الشَّمسَ مِن أَزراره ورأَى
مِلءُ النَّواظرُ حُسناً حين تلحظُهُ ... وأَمْلَكُ الحُسن للأَلحاظ ما مَلأَ
ما اهتَزَّ غُصنُ الصِّبا مِن عِطْف قامته ... إِلاّ وأَزْرى بِغُصن البانِ أَو هَزَأَ
نَشْوان تحسَبُ صَرْفَ الرّاح رَنَّحهُ ... أَو مدحَ داعي الهُدى عاطاه فانتشأَ
عِمران أَكرمُ مَنْ جاءَ الزّمان به ... فَرْداً وأَشرفُ من في حِجْره نَشَأَ
كأَنّ قحطانَ قِدْماً كان أَوْدَع في ... ضَمائر الفضل سِرّاً منه أَو خَبَأَ
مَنْ أَوْطأَتْهُ على كِيوانَ هِمَّتُهُ ... لو كان يَرْضى على كيوانَ أَنْ يَطأَ
وأزداد فخراً عَلَى ما شاد والدهُ ... محمد، وَسَبا في مجده سَبَأَ
تناول الغَرضَ الأَقصى فأَدركهُ ... واختاز غاياتِ أَملاكِ الورى وشأَي

أغَرُّ أَبْلَجُ لو يَسْري بِغُرَّتهِ ... في فحمةِ اللَّيل بدرُ التِّمِّ ما انطفأَ
يُزْهى به الدَّسْتُ يومَ السّلم مُبتسِماً ... وفي الوغا سابحٌ سامي التَّليل وأَي
كاللَّيْث ليس بمُختارٍ فرائسَهُ ... سِيّانِ ظَبْيُ كِناسٍ عنده ولأَي
لو لم يُعِرْ عَزمَه العَضْبَ المُهَنَّد ما ... جَرى الرَّدى في غِرارَيْه ولا اجْتَرأَ
رَوّى عِطاشَ الأَماني وهي صاديةٌ ... مَكارِماً وجَلا عن بِيضها الصَّدَأَ
ما زال مَلْجَأَ من سُدَّت مَذاهِبُهُ ... في حينَ لا يَجِدُ الملهوف مُلْتَجأَ
يَلْقى بسامي ذَراه الرّائدون به ... والواردون إِليه الماءَ والكَلأ
ويَفْجَأُ الخَطْبَ منه عند رؤْيتهِ ... عَزْمٌ يُكَشِّف منه كلَّ ما فَجَأَ
فكُلَّما رَزَأَ الخطبُ الورى كَفِلَتْ ... بيضُ الصَّوارِم منه جَبْرَ ما رَزَأَ
وكم حادثٍ غال فاغتالَتْه منه ظُبّي ... تَعَوَّدتْ كشف مَكْروهٍ وَرَأْبَ ثَأَى
وكم أَلمَّتْ مُلِمّاتُ روائعها ... يَظَلُّ يَدْرَأُ عنها صَدْرَ مَنْ دَرَأ
سمَا لها دونَ أَملاك الورى فكفى ... مِنْ هَمِّ نازِلها ما هَمَّ وانْكَفأَ
يَبيتُ يَحْظَأُ نارَ الْجُود مُوقِدُها ... لِوَفده وبِعُودِ الهندِ ما حَظَأَ
خَطَّتْ يدُ المجد في وجه الزّمان به ... مآثراً يَقْتَربها كلُّ مَنْ قَرَأَ
مآثِراً كُلُّها في الفضل مُخْتَرَعٌ ... ما اقْتَصَّ من أَثَرٍ فيها ولا افتَقَأَ
قد بَرَّأَ اللهُ في التَّكوين خِلْقَتَهُ ... وخُلْقَهُ من ذَميم الفعل إِذْ برَأَ
وذَرَّ في كفِّه الأَرزاق يَقْسِمُها ... مِنْ راحتيه لِمَنْ في عصره ذَرَأَ
لِلْجود في ماله يومَ النَّوالِ خُطاً ... تُفْنيه عَمْداً إِذا جاد أمْرُؤٌ خَطَأ
يسْطو على المال إِنعاماً كأَنَّ به ... غَيْظاً على المال يومَ الجُود أَو شَنَأَ
يخضَرُّ نَبْتُ أَياديه وأَنْعُمِهُ ... للمُعْتَفين إذا نَبْتُ الرِّياض ذأَى
فَلْيَهْنِ أَعوامَه إِقبالُ دَوْلَتهِ ... فإِنَّه خَيْرُ والٍ للوَرى كَلأَ
وبُلِّغَ السُّؤْلَ في شِبْلي عَرينَتِه ... والمُبْتَدين من العَلْياءِ ما ابتدأَ
حتى ترى الكُلَّ أَبّاءً أَخا شرفٍ ... سمَا الزمان بسامي فَخْره وبأَي
ولْيَنْسإِ اللهُ للدنيا وساكِنها ... في عَمُره ضِعْفَ ما في عُمْرِها نَسَأَ
وقوله في مدح الأَميرين ولدي الداعي ويخاطب في آخر القصيدة ياسراً الذي قتله شمس الدولة:
مَلأَ النَّواظِرَ بَهْجة وبَهاءَ ... أُفُقٌ جَلا في دَسْتِه الأمَراءً
ومَقامُ إِعظامٍ قضتْ لسُعوده الْ ... أَفْلاكُ أن يستخْدِمَ العُظماءَ
طَلَعا طُلوع النَّيِّرَيْن وجاوَزا ... في المَجْدِ مطِلَعها سَناً وسَناءَ
ملكان في السَّبْعِ السِّنين وقد عَلا ... مَرْماهما الشِّيبَ الكُهولَ عَلاءَ
يَتبارَيان مَناقِباً وضرائباً ... بلغا بها مِنْ مَفْخَرٍ ما شاءَا
فمحمَّدٌ كمحمّدٍ في جُودِه ... وأَبو السعود أَبو السُّعود سخاءَ
وكِلاهِما يَحْكي المكرَّم سُودَداً ... ومَكارِماً أَنسى بها الكُرماءَ
ومآثِراً ومَفاخِراً وشَمائلاً ... وفَواضِلاً وفضائلاً وإِباءَ
والمجدُ أَرفعهُ بناءً ما غدا الْ ... أَبْناءُ فيه تقتفي الآباءَ
ولقد سَعْىَ سَعْيَ المُكَرَّم في العُلى ... نَجْلاه تَشْييداً لها وبناءَ

وتَقَيَّلا الآثارَ منه كأَنما ... أَمْلاهما آياتِها إِملاءَ
وتجارَيا طَلَق الرِّهان وبَرَّزا ... سَبْقاً وجاءَا في الرِّهان سَواءَ
كَرَماً ثَنى زُمَر الوفود إِليهما ... وسرى بأَنفاس الرِّياض ثَناءَ
ومواهِباً موصولةً بمواهبٍ ... أنوارُها تستغرقُ الأَنواءَ
إِن ضَنْ هامي المُزْن جادا أَو دَجا ... ليلُ الحوادثِ والخطوب أَضاءا
مِن يَعْرُبَ العَرْباءِ في الأَصل الذي ... جازَتْ ذَوائبُ فَرْعِه الجَوْزاءَ
وسَراةُ أَبناءِ الزُّرَيْعِ أَجلُّ مَن ... رَفعتْ به أَيدي الخميس لوِاءَ
ومُلوكُ هَمْدان الذين تبوّؤوا ... رُتَبَ الممالك عَنْوَةً وعَناءَ
سَلَكوا إِليها المَسْلكَ الصَّعْب الذي ... يُنْسي الحياةَ سُلُوكُه الأَحياءَ
وتحملَّوا أَعباءَها إِذْ لم يطق ... مَن رامها أَن يَحمل الأَعباءَ
وتَجَشَّموا فيها الصَّلاح وجَرَّعوا ... كأْسَ المَنِيَّة دونَها الأَعداءَ
حتى رَعَوْا دون المُلوك رياضَها ... وتَفَيَّئوا مِن ظِلِّها الأفياءَ
واستخدموا فيها الأَسنَّة والظُّبي ... والبأْس يُزْجي الغارةَ الشَّعْواءَ
واستوطنَتْ ما بينهمْ إِذ أَنشأَتْ ... عَزماتُهم أَرواحَها إِنشاءَ
ومضَوْا وأَبقَوْا للممالك بعدَهُم ... مَن فاق بِيضَ المُرْهَفاتِ مَضاءَ
الأَكْرمَ المُحبي الظَّهيرَ وصِنْوَه ال ... سّامي الأَثير المُشْرِقَيْن ذَكاءَ
والأَشْرَفَيْن خَلائقاً والأَكْرَمَيْ ... ن طرائقاً والغامِرَين عَطاءَ
فتَشرّفتْ رُتَبُ المَعالي منهما ... بأَعزِّ مَن بَهَر الزَّمان ضياءَ
واستنجدا تِرْبَ الرِّياسة ياسِراً ... فكَفاهما الإِغضاءَ والإِرضاءَ
وغَدا السَّعيدُ بنُ السَّعيد مُقَسِّماً ... بيديهْما السرّاء والضَّرّاءَ
ومُدَبِّراً أَمرَ البرِّية عنهما ... فيما دنا من أَرضهم وتناءَى
أَصفاهما منه الوَلاء فأَصْفيا ... فيه الوِداد وأَضْفيا الآلاءَ
فلْيَبْقَيا في ظِلِّ ملْكٍ دائم الْ ... إِقبال ما دام الزَّمانُ بقَاءَ
وهَناهُما شَهرُ الصيام ومُلِّيا ... فيه التَّهاني ما استَجَدَّ، هَناءَ
وقولُه في مدح عمران بن محمد بن سبأ:
ذِكْرُ العُذَيْبِ وما ثِلاثِ قِبابِه ... وَقَفَ الفُؤادَ على أَليم عَذابِه
وَمَهَبُّ أَنفاس الصَّبا مِن جَوِّه ... فيه شِفاءُ الصَّبِّ من أَوْصابِه
فَدَعِ النَّسيمَ يَبُثُّ من أَنبائه ... خبراً على الزَّفرات رَجْعُ جوابِه
أَسْرى عليه من العُذَيب دَلائلٌ ... نَمَّت على مَسْراه عن أَسرابهِ
لَدْن المَعاطِف باعتناق غُصونه ... عَذْب المَراشف لاغتباق شَرابهِ
أَتَرَشّفُ الأَنداءَ منه كأَنَّ مَن ... أضهواه أَوْدَعها شَهِيَّ رُضابهِ
ويَشُوقُني أَنَّ المُحبَّ يَشوقُه ... لُقُيا القَريب العهدِ من أحبابِه
فَمُخَيَّمُ الأَشواق حولَ خِيامه ... وتَشَعُّبُ الأَهواء بين شِعابِه
لله أَيامُ العُذَيْب وإِنْ يَبِت ... قلبُ المُعَنُّي المُستهامِ لِما بِه
وسقى نَدى كفِّ المُكرَّم مُلتقى ... عَقِدات أَجْرَعِه وشُمِّ هِضابه
ملِكٌ لو استسقى الزَّمانُ بجُودِه ... أَغناه عن سُقيا، مُلِثِّ سَحابِه
ملِكٌ أَفاض على الزّمان بَهاءَهُ ... فأَعادَه في عُنفوان شَبابِه
ملكٌ يَشِفُّ عليهِ نُور كَمالهِ ... فيكادُ يُلْحَظ مِنْ وراءِ حجابِه

داني مَنالِ الجْودِ مِنْ زُوّارِه ... نائي مَحَلّ المَجدِ عن طُلاّبهِ
صَعْبُ المَقاصد ليس يرضى هَمُّه ... أَنْ يَرتقي في المجدِ غير صِعابهِ
ما عنده أَنّ المآثرَ غيرُ ما ... يسمو إِليه بحَرْبه وحِرابِه
عِزٌّ طِوالُ السُّمْر مُعربةٌ به ... إِن كان يُضْمُر في صَهيل عِرابهِ
كَلِفٌ بِكُلِّ أَقَبَّ يُوهِمُ أَنّهُ ... في الجَرْي يمْرُق من رَقيق إِهابهِ
مَرِحٌ كأَنّ الرّاحَ فيه تحكَّمتْ ... وتضرّمت باللَّوْن في جِلبابِه
يرقى ذُرى الطَّوْد ارتقاءَ وعُلوه ... صُعَداً وينقَضُّ أنقضاض عُقابِه
ما يَمْتطيه إِلى تَناوُل غايةٍ ... إِلاّ وكان النصرُ تحتَ رِكابِه
إِنَّ المُكرَّمَ معدِنُ الكَرَم الذي ... في بابه يُحوى الغِنى من بابِه
جعل الطَّريقَ إِليه فجّاً مَهْيعَاً ... جُودٌ بِحارُ الأَرضِ مَدُّ عُبابهِ
ومواهبٌ للمال من سَطَواتها ... ما للأَعادي من أَليم عِقابهِ
في كلِّ أَرضٍ من غرائب ذِكْره ... سفرٌ يُقَلْقِل ناجِياتِ ركابهِ
فإِذا تضايقتِ الشّدائدُ رَحَّبَتْ ... بوُفود أنْعُمِه فِساحُ رِحابهِ
تتزاحم الأَوصاف عند مَديحه ... كتَزاحم الآمال في أَبوابهِ
نَجْني المَكارمَ من نَداه ونَجْتلي ... أَدَبَ العُلى والعطرَ من آدابِه
وكأَنّ مُجتَمع الفضائل والغِنى ... ما بين نائله وبين خِطابِه
شِيَمٌ سناها برق كلّ فضيلة ... من مُزْنها قبل انسكاب ربَابه
وخلائقٌ خُلقِت من الكَرَم الذي ... عُدِقَتْ بَمْنصِبه عُرى أَسبابِه
يَبدو عليها نُور سُؤْدُدِه الذي ... ضَوْءُ الغَزالة دونَ ضُوء شِهابِه
ما زالَ يُعرِب يَعْرُبٌ عن فضله ... ويراه رَبَّ التّاج من أَعقابهِ
حتّى تجاوز غايةَ الشّرف الذي ... أَوْفى على تأْميله وحِسابهِ
فكفى بقحطانَ بنِ هُودٍ مَفْخَراً ... أَن أَصبحتْ تُغْزى إِلى أَنسابهِ
أَعْلى مآثِرَها وشَيَّدَ فَخْرَها ... دونَ الملوكِ بطَعْنه وضِرابهِ
وبنى لها بيتاً قواضِبُ بِيضِه ... عَمَدٌ له والسُّمْرُ من أَطنابِه
يزدادُ حُسْنُ المدح فيه وإِنّما ... يبدو جَمالُ الشيءِ في أَربابِه
ويفوزُ بالشّرف المُؤَثَّل ماثِلٌ ... بفِنائه أَو لاثِمٌ لُترابِه
زانَ الزَّمانَ وزاد في تَشريفه ... بأَعزِّ نَسْلٍ من شريفِ تصابِه
وكأَنّ عِمرانَ المكرَّمَ مُلتقى ... لُبِّ العُلى وابناه لبُّ لُبابِه
شَمْسا مطالِعه، حُساما مُلكِه ... بَدْرا مَواكِبه، هِزَبْرا غابِه
فمحمَّدٌ جارى فِرِنْدَ حُسامِه ... وأَبو السْعود به مَضاءُ ذُبابهِ
نطقتْ شهاداتُ المَخايل عنهما ... أَنْ يَلْبَسا في الفضل فضلَ ثيابهِ
يتبارَيان إِلى المَكارم نُزَّعاً ... في قَوْسها بالسُّودَدِ المُتشابهِ
واللهُ بَعْضُد مُلْكَه بهما كما ... عَضَد المَكينَ ومُلكه سامى بهِ
ولْيَبْقَ محروساً جوانِبُ مُلْكِه ... بالعِزِّ مأْنوساً شَريفُ جَنابهِ
فنِهايةُ المُثْنى عليه وإِنْ غَلا ... في وصفه التقصيرُ معْ إِطنابهِ
وقوله:
يا مُحَيّا نورِ الصَّباحِ البادي ... ونَسيمَ الرِّياض غِبَّ الغَوادي
حَيِّ أَحبابنا بمكَّةَ ما بَيْ ... ن نَواحي الصَّفا وبين جِيادِ
وقوله:
أَأَحبابنا بين الصَّفا وجِيادِ ... وأَشرفِ أَرضٍ قُدِّسَتْ وبِلادِ

لَئِنْ زاد طُولُ البُعدِ منكم تَمادِياً ... فقد زادتِ الأَشواقُ طول تمادي
تَلَذُّ لكم طَعْمَ الصَّبابة مُهجتي ... ويَنْعَمُ فيكم بالغَرام فُؤادي
فهل للَّيالي عَطْفَةٌ تَشْتفي بها ... حُشاشةُ مُلتاحٍ وَغُلَّةُ صادِ
وهل تسمحُ الأَيام بالقُرب إِنّه ... نِهايةُ سُؤْلي عندها ومُرادي
وقوله في مدح ياسر بن بلال:
سَفَر الزّمانُ بِواضحٍ من بِشْرِه ... وافترّ باسِمُ ثَغْره عن ثَغْرهِ
وأَضاءَ حتى خِلْتُ فَحمةَ لَيْلهِ ... طارتْ شَراراً في تَوَقُّد فَجْره
وتمايَلَتْ أُعطافُه وكأَنَّما ... عاطاه ساقي الرّاحِ ريقَةَ خَمْرِه
وتفاوحَت أَنفاسه فكأَنَّما ... فَضَّ اللَّطائمَ فيه جالِبُ عِطره
وازداد باهرُ حُسنه فكأَنَّما ... نَثَر الربيع عليه مُونِق زَهْره
واختال في حُلَل الجَمال تطاوُلاً ... بجَمال أَيام السَّعيد وعَصره
بالياسر المُغني بأَيسرِ جُوده ... والمُقْتني عِزَّ الزَّمان بأَسْره
مَنْ طالَتِ اليَمَنُ العِراقَ بفضلِه ... وسمَتْ على أَرض الشآم ومِصْره
فأَضاءَ بَدْراً في سَماءِ فَخِاره ... وصِفاتُه الحُسنى ثواقِبُ زُهره
أَوَ ما ترى الأَيّام كيف تَبَلَّجتْ ... مِن سَعْيه وتَعَطّرت من ذِكره
سَبَق الكِرام بها وأَبدى عَجْزَ مَن ... لم يَحْوها وأَبان واضِحَ عُذره
فكأَنَّما اختُصِرَت له طُرُقُ العُلى ... منها وضلّ عُداته في إِثرهِ
أَحيا معارف كلّ مَعروفٍ بها ... ومَحا معالِمَ مُنكرِيه ونُكره
وأَفاض منها في البَرِيَّة أَنْعُماً ... نَطَق الزَّمان بشُكْرها وبِشُكره
فالمدحُ مَوْقوفٌ على إِحسانه ... ما بينَ بارعِ نَظمهِ أَو نثرهِ
والعيشُ رَطْبٌ تحت وارِف ظِلِّه ... والوِرْد عَذْبٌ من مناهِلِ بِرّهِ
والسَّعْد مُنقادٌ له مُتَصرِّفٌ ... ما بين عالي نَهْيه أَو أَمرهٍ
والملك مبتَسِمُ الثّغور مُوَرَّد ال ... وَجَنات نَشوان يَميل بسُكرهِ
لمّا غدا تاجاً لَمْفِرَقِ عِزّه ال ... سّامي وعِقْداً في تَرائبِ نَحره
مُتَفرّداً دونَ الأَنام بِصَوْنه ... مُتَكفِّلاً دون الملوك بَنْصره
وهو الذي شَهِدت بباهِر فضِله ... شِيَمٌ سَمَتْ قَدْراً بسامي قدرهِ
ثَبْتُ المَواقف في لقاءِ عُداته ... ماضي العزائم في مَجاوِل فِكرهِ
مُتَصِّرفٌ عن طاعة المَلِكين في ... ما رامَهُ من نَفْعِه أَو ضَرّهِ
مُتناهِياً في النُّصْح مجبولاً عَلى ... إِخلاصه في سِرّه أَو جَهْرهِ
حَفِظَ الإِلهُ به النِّظامَ لِدَسْتِهِ ... وقضَى لسِرِّ بلادِه في سَتْرهِ
فكأَنّه اللَّيثُ الهَصورُ مُعَفِّراً ... لِجَبين مَن مُدَّتْ يَداه لِهَصْرهِ
لِمَ لا يَذُبّ الذُّعْرَ عنه وقد نَشا ... في حِجْره وغذاه فائضُ دَرّهِ
مُتَقَحِّماً فيه العَجاجَ مُضَرِّماً ... نارَ الهِياجِ بِبيضه وبِسُمْرهِ
يَسْتَنْبط المعَنْى الخَفِيَّ بلُطفه ... ويرَى المُغَيَّب من مِراءَةِ فكرهِ
ما كانتِ الدُّنيا تضيقُ بطالِبٍ ... لو أَنَّ واسِعَ صَدْرها من صدرهِ
وكأَنَّ راحَةَ كفِّه لعفُاتِه ... بحرٌ تَدَفَّق من تَدَفُّق بحرهِ
وكأَنَّما برقُ السّحائب لائحٌ ... من بِشْرِه وقِطارها من قَطْرهِ

للهِ إنعامُ السَّعيدِ فإِنّه ... أَغْنَى العَديمَ وسدَّ فاقةَ فقرهِ
فالوفدُ ينَعُمُ في رِياض نَعيمه ... وعَدُوُّه يَشْقى بِشِدَّة أَسْرِهِ
والرَّكْبُ يَطْوي البْيدَ نحو فِنائه ال ... سّامي وينشُر فائحاً من نَشْرِهِ
عمَّ البريَّةَ فالمُقِلُّ كأَنّه ... فيهِ أَخو المال الكثيرِ لِكُثْرهِ
وغدا بوَصْل الجُود فيها مُغْرَماً ... لَهِجاً إِذا لَهِج البخيلُ بهَجْرهِ
يا مَنْ يُحاوِل حصر أَيْسَرِ وَصْفِه ... أَين البلاغة منْ تعاطي حَصْرِه
إِنّ السّعيدَ ابنَ السّعيد أَجلُّ أَنْ ... يُحْصي مأَثِرَه البليغُ بشعرهِ
ومَدائحُ المُدَّاح فيه نتائجٌ ... مِن سَعْيه وقَلائدٌ من دُرّهِ
فلْيَبْقَ مَعْمورَ الفِناء مُخَلَّدَ ال ... نّعماء مَمْدوداً له في عُمْرهِ
ولْيَهْنِ عِيدَ الفِطرِ غُرَّتُه التي ... إِشراقُها إِشراقُ غُرَّةِ فِطرهِ
ما عاد شَوّالٌ ببهَجةِ عِيده ... وسَما الصّيامُ بفَضْل ليلة قدرهِ
وقوله في مدح عمران بن محمد بن سبأ:
فَلَكٌ مَقامُك، والنُّجومُ كُؤوسُ ... بِسعودِه التَّثْليث والتَّسْديسُ
والبدرُ وجْهُك طالِعاً في دَسْتِه ... لا البدرُ أَجْلى وَجْهَه الحِنْديس
فَأَدِرْ بها زُهْرَ الدَّراري ليس في ... ما دار مِن كاساتها مَحبُوس
ورْدِيّةٌ في كل خَدٍّ وَرْدُها ... عن رَشْف رِيقِ رُضايها مَغْروس
حمراءُ مَعْقولٌ بلُطْفِ الفِكر مَعْ ... ناها عَلَى التّحقيق لامَحْسوسُ
في مَوْقِفٍ وقَفَ الفَخار مُعرِّساً ... فيه بحيثُ أَحَلَّكَ التَّعْريسُ
يا داعيَ الدّين الذي أَنِسَ العُلَى ... في حيثُ مَغْنى الجودِ منه أَنيس
يا واحدَ العُربِ الذي يسمو بها ... يومَ التَّفاخر مجدُه القُدْموس
يا مَنْ تَطابق فِعلُهُ ومَقالُهُ ... فَسَما به التَّطبيق والتَّجْنيس
حَقُّ الكواكب أَنْ تكونَ مَدائحاً ... لك والبُروجُ صحائفٌ وطُروس
يا مَن على أَيّامِه ومُقامِه ... طِيبُ الثّناء مُوقف مَحْبوسُ
يا مَنْ سَمتْ من صِيدِ كَهْلانٍ بهِ ... هِمَمٌ وطالَتْ في العَلاء رُؤوسُ
الفضلُ عِندَكَ مُشْرِقٌ أَنواره ... وبناءُ مجدك شامِخٌ مأْسوسُ
أَنتَ المُكَرْم في المُلوك مآثِراً ... جَدُّ المُجِدّ لِنَيْلها متعوسُ
بحرٌ ولكنّ النُضارَ عُبابُهُ ... لَيْثٌ ولكنّ الذَّوابلَ خِيسُ
صَرَّفتَ صَرفَ الحادِثات عن الورَى ... مَنْعاً وَرُضْت الخَطْبَ وهو شَموس
وأَقمتَ للأَشعار أَسْعاراً وكم ... عَمَرَتْ وسِعْر بديعها مَوْكوس
بجوائزٍ تُفْني الزّمان وذِكرُها ... بلقٍ عَلَى مَرِّ الزمان حَبيسِ
ما نالها من جُودِ مَحْمودٍ ولا ... نَصْرِ ابنُ حَيُّوسٍ ولا حَيُّوسُ
وإِذا لَجا يَوْماً إِليك بحاجة ... ذو حالةٍ فالرَّحْب والتأْنيسُ
يغدو جليسُك في العُلى وكأَنَّه ... للبدرِ في أُفُق السَّماءِ جَليسُ
وتَخُصُّه بمكارِمٍ، أَنواؤها ... كَفّاك، والغيثُ المُلِثّ الكِيسُ
اللهُ خَصَّك بالثَّناءِ فثَوْبُه ... لك مَلْبَسٌ لا المُعْلَم المَلْبوسُ
واختصَّ خالصةَ الإِمام برُتبةٍ ... لجلالها التعظيمُ والتقديسُ
مولاتُنا ووَلِيَّةُ الزَّمن التي ... طالتْ كما طالتْ عُلاً بَلقيسُ

هي جملةٌ، لله في تفصيلها ... سِرٌّ بِعزِّ جلالها مَحْروس
إِسمٌ شريفٌ ليس يجري ذِكرهُ ... إِلاّ أَفاض سُعودَه يِرْجيسُ
قد كاد لولا صَوْنُه في حُجْبه ... قِدْماً يُبَرْهن عنه بَطْلَيْموسُ
يَرتاحُ داعي الدّين عند سَماعه ... ويَجُرّ ذيْلَ سُروره ويَميسُ
ويَفيضُ نائلُه عليه كأَنّما ... هو في اجتذاب نَداه مَغْناطيسُ
في حيثُ يَسْجُد ذو الفِخَار لِعِزّها ... ويُقَبِّل الأَرضَ المُلوكُ الشُّوسُ
يزداد إِعظاماً به ومَهابةً ... وكذا النّفيس مَدى الزّمان نَفيسُ
والنَّيِّران المُشرِقان مُحَمَّدٌ ... وأَبو السعود وصِنْوهُ المحروس
أَبناؤك الغُرُّ الذين لِعِزِّهم ... يَعْنو رئيسُ القوم والمَرْؤوسُ
تَبْدو عليهم للكمال دَلائلٌ ... لم يَلْتَبِس بوُضوحها تَلْبيسُ
سَفَروا فأَسفر مُلْكك السّامي بهم ... وأَضاءَ وجْهٌ للزَّمان عَبوسُ
وكذا بدورُ الأُفْق ليس شبيهها ... إِلاّ بدورٌ طُلَّعٌ وشموسُ
طلَعوا عليك وللمواكب مُلْتقىً ... مِن حولهِمْ للحرب فيه وطيسُ
قد حَفَّهم من صِيدِ كهلانٍ ودا ... عي حِمْيَرَ الكُردُوس والكُردوسُ
هذا خميسٌ أَنتَ تحمي دُونَه ... بَأْساً وهذا يَقْتفيه خَميسُ
يَسْعَوْن تحت لِواءِ نصرك، كلُّهم ... في الفضل مغبوطٌ به مَنْفوسُ
والحظُّ يومَ الجُودِ مِنك مُوَفَّر ... للكلِّ لا نَزْرٌ ولا مَبْخوسٌ
فافْخَر فمالك في الملُوك مُماثِلٌ ... مَنْ ذا يُقاس ومَنْ عساه يَقيس
وقوله يمدحه:
ما البرقُ من ظُلَلِ الغَمائِم أَوْمضا ... لكنَّها قُضُب العَزائم تُنْتَضى
أَمْضَى صوارِمها المُكَرَّمُ ضارباً ... إِن المُهندَّ كيف ما اسْتُمْضي مَضَى
مُتقاضِياً إِنجاد سعدٍ لم يزل ... يُجْري مُساعدةَ القَضاء بما قَضى
ومُسامِياً زُهْرَ الكواكب إِنّه ... بِسِوَى مُجاوَرةِ الكواكب ما ارتضى
بَيْنا تراهُ في القِباب مُخيِّماً ... حتَّى تَراهُ في القِيام مُقَوِّضا
مُتَعَوِّضاً بالدَّسْت صهوةَ سابحٍ ... لولا العُلى ما اخْتار أن يَتَعوَّضا
سَبَقَ الفَعَالُ القولَ منه فيا لَهُ ... سَهْماً أَصاب لنازعٍ ما أَنْبَضا
ما كان في إِبرام عُقْدةِ رأَيهِ ... بالرُّشد مُنتظِراً إِلى أَن تُنْقضا
لم يَسْتَشِرْ في السَّيْر إلا طِرْفَه ... والأَسمَر الماضي الشّبا والأَبيضا
نَهضتْ به العَزَمات عِلْماً أَنه ... لا يَفْرِس الضِّرْغامُ حتّى يَنْهضا
وأَضاءَ في الآفاقِ نورُ جَبينه ... كضِياء بدرٍ لاح أَو صُبحٍ أَضا
مَلأَ النواظِر والخواطر قاطِباً ... والبيدَ لمّا سار فيها والقضَا
عَرَضَتْ منيرات السُّعود تحفُّه ... بمواكب التأَييد لمَّا عَرَّضا
أَبَداً يُحَرِّض في المعالي نفسَهُ ... حَسْبُ العُلَى بالرأي منه مُحَرِّضا
وكأَنّما أَعدى السُّيوف بَبأسه ... فتَعلَّمتْ منه التَّوَقُّد والمَضا
فلْيَسْلُ غايَته المُجاري، لَمْ يَدَعْ ... رَكْضُ السّوابق للَّواحق مَرْكَضا
ما كلُّ مَنْ طلب الكواكب طامِعاً ... في قبضها مُتَمكَّنٌ أَن يَقْبضِا
لم تَرْضَ إِلا سَعْيَه رُتَبُ العلَى ... إِنّ الشريف من المَساعي يُرتَضى
ثَبتَتْ به قدمُ السعادة وانجلتْ ... حُجَجٌ أَبتْ آياتُها أَنْ تُدْحضا

رَفَعَ الإِلهُ على المُلوك مَحَلَّهُ ... وقَضَى لحاسِد عِزِّه أَن يُخْفَضا
واختَّصه بسَوابغٍ من لُطفه ... وأَفاضَ أَنْعُمَه عليه وقَوَّضا
ولَئِنْ عَرا خَطْبٌ فأَمْرَضَ أَرْضَهُ ... فعَلى ظُباه شِفاءُ ما قدْ أَمرضا
أَو ناب عارضُ عِلَّةٍ فقدِ انجلى ... مُتَكَشِّفاً ما ناب منه وانقضى
أَو كان أَعْرَض مُسْتَجِمّاً رأْيَهُ ... فيها فوجْهُ قيامِه ما أَعْرَضا
وعلى عزائمه الشَّريفة أَنَّها ... تَجْزي بِضِعْفي قَرْضِه ما أَقْرضا
فالدَّيْنُ ليس بمانعٍ إِرجاؤه ... من أَنْ يُكذِّبه الغَريمُ ويُقْتَضي
فلْيَحْفُ طِيبَ الغُمْض جَفنٌ بات في ... أَسْهاره مُتَيَقِّظاً ما غَمَّضا
وَلْيَرِميَنَّ الناكثين بجِحْفلٍ ... لَجِبٍ يُصَرِّفُ فيهمُ صَرْفَ القَضا
كالعارِض المُسْوَدِّ إِلاّ أَنَّهُ ... باللاّمعات يَشِفُّ عن ماءِ الأَضا
يمتَدُّ عِثْيَرُهُ دُخاناً كلَّما ... بَدَتِ الصَّوارمُ فيه ناراً تُحْتَضى
ولتَشْفيَنْ قلبَ المُحِبَّ وقائِعٌ ... منه يبُيدُ بها العدُوَّ المُبْغِضا
وَلْيَرْجِعَنَّ به الجَموحُ شَكيمةً ... سَلِسَ المَقادةِ في السّياسة رَيِّضا
فالإِمَ يا هَمْدان إِغْماضُ الظُّبي ... صَوْناً وذا سيفُ الإِمامة مُنْتَضى
شُنْوا بها الغاراتِ رَكْضاً إِنَّما ... عِزُّ السَّوابق أَنْ تُشَنَّ وتُرْكَضا
واسْتخدِموا بِيضَ الصِّفاح وعَرِّضوا ... سُمْرَ الرِّماح لمَنْ بَغى وتَعَرَّضا
وتَيَقَّنوا أَنَّ الضَّراغم عِزُّها ... إِنْ تُمْسِ في الأَجَماتُ تُمسي رُيَّضا
والْبِيضُ أَشرفُ ما تَكونُ قَواطِعاً ... لا أَنْ تُذَهَّبَ حِلْيَةً وتُفَضَّضا
واستمْسِكوا بعُرى المُكَرَّم وارفُضوا ... ما أَوجبتْ آراؤه أَنْ يُرْفَضا
فهو العِماد ومجدُ قحطانٍ به ... يَسْمو افتخاراً مَنْ يَجيء ومَنْ مضى
إِن طال أَو عَرُض الثنَّاءُ بوَصْفه ... فبما أَطال الجودُ منه وأَعرضا
يزدادُ طِيباً في الإِعادة مَدْحُهُ ... والمِسْكُ أَعبَقُه إِذا ما خوّضا
لله عِمرانُ المُكَرَّمُ إِنَّهُ ... أَغضى وقد أَصْلى العِدى جَمْرَ الغَضا
قَسَمَ العِنايةَ لِلْبلاد مُرَقْرِقاً ... مِنْ ماءِ رَوْنَق حُسنِها ما غُيِّضا
وسقى العِطاشَ بِزاخرٍ من جُودِه ... أَغْنى به الوُرّادَ أَنْ تَتَبَّرضا
فكأَنَّه ساري السَّحائِبِ ما انتحى ... أَرْضاً بوَفْد حَياهُ إِلاّ رَوَّضا
طُبِعَتْ على الشِّيَم الشَّريفَةِ نفسُه ... فكَفَتْ طهارة ثَدْيها أَنْ يُرْحَضا
وصَفَتْ خلائقُه التي لو مازجَتْ ... صَفْوَ الزُّلال بطَبْعها ما عَرْمَضا
مُتَصَوِّرٌ ما في الخواطِر عالِمٌ ... فَحْوى المُخاطِب مُفْحِصاً ومُعَرِّضا
فاقَ المُلوكَ مَكارِماً وعَزائِماً ... وَسِعَتْ وَلِيّاً في الأَنام ومُبْغضِا
فكأَنَّما النَّعْماءِ والبَأْساءُ لا ... تَنْفكُّ بَيْن السُّخْطِ منه والرِّضا
فَلْيَبْق بَمْحَضُه الزَّمانُ وَلاءَه ... طَوْعاً فَحُقَّ لِمِثْله أَن يُمْحَضا
وقوله يمدحه:
العِزُّ في صَهَواتِ خَيْل الدّاعي ... مُتَمَطِّراتٍ يومَ يدعو الدّاعي
لُحُقُ الأَياطل، بالقساطل قَنَّعَتْ ... وجهَ النَّهارِ من الدُّجى بِقِناع
تَرْنو فتَحْوي ما رأَتْهُ كأَنَّما ... خُلَِقْت لَواحِظُها من الأَبْواعِ

من كُلِّ مُبْيَضِّ الأَديم كأَنَّه ... من ماءِ دُرٍّ في الصَّفاءِ مُماعِ
أَو كُلِّ وَرْدٍ وَرْدُ رَوْضةِ جسمِه ... مُتَفَتِّحٌ في مائس الأَقماعِ
أَو أَصْفرٍ أَبْقى على سِرْبالِهِ ... طَفَلُ العَشايا منهُ فَضْلَ شُعاعِ
أَو أَدْهَمٍ كاللَّيل إِلاّ أَربع ... خاضَتْ صَباحَ جَبينه اللَّماعِ
تلك التي يقَضْي لِعَقْد لِوائها ... بالنَّصْر صِدْقُ حَفائِظٍ ومِصاعِ
ويَقُودها شُعْثَ النَّواصي شُرَّباً ... ماضي العزائم صادِقُ الإِزماعِ
مَلِكُ المُلوك عظيمُها عِمْرانُها ... والدّاعي ابن الدّاعي ابِن الدّاعي
نَسَبٌ كإِشراق الصَّباح يُمِدُّه ... إِشْراقُ بِيضِ فضائلٍ ومَساعِ
مَلِكٌ زُرَيْعيّ النِّجار مُؤَيَّد ال ... أَنْصار رَحْبُ البابِ رحبُ الباعِ
مَشْبوبةٌ فوق الكواكب نارُهُ ... لا في ذُرى عَلَم، وَقُورِ بِقاعِ
مَلِك غَرِائبُ مَدْحِه وحَديثِه ... نُزَه العْقول ونُجْعَةُ الأسماعِ
مَلأَ الزَّمان جَلالةً ومَهابةً ... مِلء النَّواظر مِلء سَمْعِ الْواعي
ما أَجمعَتْ إِلاّ على تفضيله ... بينَ البريَّةِ أَلسنُ الإِجماعِ
يَجْلو فضائَله الْعِيانُ وإِنَّما ... حُكْمُ العِيان يُزيلُ كُلَّ سَماعِ
مَلكٌ ولاياتُ البلاد وعزلُها ... ما بين قَطْعٍ منه أَو إِقطاعِ
متكفِّلٌ دفعَ الخُطوبِ عن الورى ... في حين أَعْيا الخطبُ كلَّ دِفاعِ
يَسَعُ النَّوازِلَ ضاقتِ الدُّنيا بها ... برحيبِ صدْرٍ، لا يَضيقُ، وَساعِ
فكأَنَّما هي في فَضاءِ ضَميره ... سِرٌّ من الأَسرار غيرُ مُذاعِ
يحمي بِهيبته الجْيوشَ إِذا هَفَتْ ... أَبطالُها بالْمَعرَك الجَعْجاعِ
ويلوذُ يومَ الرَّوْع من سَطَواته ... بالأَمْن قلبُ الخائف المُرتاعِ
لا تَحْجُب اللاّماتُ عن أَلِفاتِه ... في الطعن ما في الحُجْب والأَضلاعِ
هذه صنعة طريفة، ونكتة لطيفة.
في حيثُ عِقبان الحِمام حَوائمٌ ... في النَّقْعِ واقعةٌ بلا إِيقاعِ
والخيلُ تَعْثر بالرؤوس من العِدى ... وتَخُوض في عَلَقٍ بِهِنَّ مُساعِ
يتقدَّمُ الإِنذارُ وَعْدَ مَغارِه ... لا عن تَرَقُّبِ غِرَّةٍ وخِداعِ
ومواكبٍ سالتْ بها عَزَماته ... كعُبابِ مَوْجٍ أَو سُيول تِلاعِ
خَفَقتْ بها أَعلامُه فكأَنَّها ... في الرَّوْع خافقةً قلوبُ رَعاعِ
وأَزارها أَرضَ الأَعادي صائِلاً ... لا كائلاً صاعَ الطِّعان بِصاعِ
ما بينَ أُسرته الأُولى ما منهمُ ... إلاّ مُدَبِّرُ دولة أَو راعِ
آل الزُّرَيْعِ الزّارعين من العُلى ... والمجدِ ما يسمو عن الزُّراعِ
والنّازِعين بِحُرّ أَشْطانِ القَنا ... مُهَجَ العِدى نَزْعاً بغير نِزاعِ
أَسَدٌ يسير من القَنا في غابةٍ ... ويجرُّها للطَّعن سودَ أَفاعِ
كم عَفَّروا يومَ المَعافِر من فتىً ... ومُقَنَّعٍ أَرْدَوا بِقيعةِ قاعِ
لمّا تبادَرَ غُلْبُ هَمْدانٍ وقد ... هَمَّ العُداةُ هُناك باسترجاعِ
واستبْطَنوا الأوجاع فَرْطَ مَخافةٍ ... فأَتى الرَّدى منهم على الأَوْجاعِ
وتَصدَّع الشَّمْلُ المُؤَلَّفُ منهمُ ... بِظُبيً تُزيل مَحلَّ كلِّ صُداعِ
والنَّصلُ في نَصْرِ المُكَرَّم رائع ... في أَنفُسٍ ممن عصاه شَعاعِ

وبَنُو زُرَيْعٍ منه قد لَجأوا إلى ... سامٍ بِعزِّ لوِائهم مَنّاعِ
ما إِن تَخُطُّ يدُ العُلى أَوصافَه ... إِلاّ بسُمْر الخَطّ لا بِيَراعِ
لو أَنّ تُبَّع كان أَدركَ عَصرَه ... أَضحى له من جُملةِ الأَتباعِ
خَضعَت له غُلْبُ الملوك وإنّما ... خضعتْ لضرّارٍ لها نَقّاعِ
وعَنَتْ لعالي القَدْر منه مُؤَيِّدٍ ... ماضي الأَوامر في الزَّمان مُطاعِ
مُتجاوزٍ غاياتِ كلِّ فضيلةٍ ... لم يَختلج بخَواطِر الأَطماعِ
ما زال يُتْرِعُ في المواهب إِنَّما ... إِتراع طيب الذكر في الإِتراعِ
مُتَدَفِّق كرماً وبأْساً ما لَهُ ... عن ذا ولا عن ذاك مِنْ إِقلاعِ
إِن صال أَوجَبَتِ النِّصال تباين الْ ... أَوْصالِ بعدَ تآلُفِ الأَوْضاعِ
أَوْ جادَ آذَنَ مالُه خُزّانَه ... لا عن قِلىً، بتَشَتُّتٍ ووَداعِ
والمالُ مُقْتَسَمٌ مُشاعٌ عندَه ... بيدَ النَّدى، والمجدُ غيرُ مُشاعِ
فكأَنَّما هو للعُفاةِ وَدائعٌ ... في كفِّه مضمونةُ الإِيداعِ
يَحْظى مُجالِسُه بأَشرفِ رُتَبةٍ ... ما بين عِزِّ عُلى وخِصْب مَراعِ
فكأَنَّ مَنْ يُمسي جليساً عنده ... يُمسي جليسَ البدر لا قَعْقاعِ
لا يَرْتضي سَمْعُ الفضائل منه أَن ... يُصْغي لِساعٍ في الورى لَسّاعِ
ويَسُرُّه السّاعي إِلى أَبوابه ... مُستمْطِراً سُحُبَ النَّدى لا السّاعي
وله من الأُمراءِ أَقمارٌ حَكَوْا ... منه شَريفَ خَلائق وطباعِ
وُلِدوا على دين العُلى واسْتُرْضِعوا ... دَرَّ المَكارم عنه خيرَ رِضاعِ
فمحمَّد للحمد تبعثُه على الْ ... إِطْناب فيه بَواعثٌ ودَواعِ
وأَبو السُّعودُ له حليفٌ مُسْعِدٌ ... في الفضل يخفظُ فَضْله ويُراعي
وشواهِدُ المَنصورِ تَشْهد أَنَّه ... ما الظَّنُّ في عَليائه بمُضاعِ
أُمراءُ مُلْك رَتّبوه وأُوطِئوا ... منه أَعَزَّ مَواطنٍ وبِقاعِ
فبقيتَ يا داعي الدُّعاة مُمَتَّعاً ... بالكلِّ منهم أَفضلَ الإِمتاعِ
أَبدعْتَ في كرم الفَعال مبرِّزاً ... فارشِفْ ثُغورَ مَراشِف الإِبداعِ
مِدَحٌ بها غَنُّى الرُّواةُ ورَجَّعتْ ... أَصواتَ وُرِْق الأَيْكِ بالأَسْجاعِ
وقوله في قصيدة ابتدأ فيها بوصف مكة والبيت الحرام ومواقفها العظام ويثرب مدينة النبي عليه السلام ويتشوق أهلها، ويذكر كرمها وفضلها:
لي بالحجاز غَرامٌ لست أَدفَعُهُ ... ينقاد قلبي له طَوْعاً ويَتْبَعُه
يَهُزُّني البرقُ مَكِّيّاً تَبسُّمُه ... إِذا تراءَى حِجازِياً تَطَلُّعه
ويَزْدَهيني لقاءُ الوَفْدِ أَلحظه ... من جَوّه وحديثُ الرَّكْبِ أَسُمَعُه
وفائحُ الرِّيحِ مِسْكِيّاً تأَرُّجُه ... من طيب رَيّاه نَدِّياً تَضَوُّعه
وهاتِفُ الوُرْقَ في فَرْعِ الأَراك به ... يُرَدِّدُ اللَّحْن شَجْواً أَو يُرَجعِّه
كلٌّ إِلىَّ حَبيبٌ من أَماكنه ... مُمَكَّنُ الفضل في صَدْري مُمَنَّعه
جِيادُه والصَّفا منه وَمَرْوَتُه ... ومُتّكاه وما يَحوي مُرَبَّعُه
وأَخْشَباه وودايه وأَبْطَحه ... جَديبُه، لا رأَى جَدْباً، وَمَرْبَعُه
ومَوْقِفُ الحَجِّ في سامي مُعَرَّفه ... وما تَحُدُّ مِنيً منه وتَجْمعه
والبيتُ، والبيتُ أَعلى أَنْ أُجِدَّله ... وصْفاً، وتعظيمُه عن ذاك يرفعه

في حيثُ حُجّاجه تعلو وقُصَّدُه ... عِزّاً، وسُجَّدُه تسمو ورُكَّعه
ومنهجُ الفَوْز بادي القصد واضحُه ... ومَنْهَل الجود طامي الوردِ مُتْرَعه
وفي رُبى يَثْرِبٍ غاياتُ كلِّ هوىً ... يَجِلُّ عن مَوْقِع الأَشواق موقعه
أُفْقُ الشَّريعة والإِسلام طالعةً ... شُموسُه، مُسْتجاش النَّصْر مُتْبَعُه
حيث النُبُوَّةُ مضروبٌ سُرادِقُها ... والفضلُ شامِخُ طَوْدِ الفَخْر أَفْرُعُه
وحيث كان طريقُ الْوحي مُتَّضِحاً ... بين السماءِ وبين الأَرضِ مَهْيَعة
وخاتمُ الأَنبياءِ المصطفى شَرَفاً ... محمدٌ باهِرُ الإِشراق مَضْجَعُة
صلّى الإِله عليه ما تكرّر بال ... صّلاة فرضُ مُصَل أَو تَطَوُّعُه
والمسجدُ الأَشرف السّامي بموضعه ... مَعقودُ تاج العلى منه مُرَصَّعه
وللشَّفاعة أَبوابٌ مُفتَّحَة ... مُشَفَّعٌ مَنْ بمعناها تَشَفُّعه
مَحَلُّ قُدْسٍ وتشريفٍ يُجَرُّ به ... ذيْلُ الجَمال على ذي المال يدفعه
يَشُبُّ نيرانَ أَشواقي غليلُ هوىً ... إِليه ليس سِوى مَرْآه يَنْقَعُه
ويستمِدُّ حَنيني كلُّ مُنْحَنَأٍ ... منه وعامِره الزّاكي وبَلْقعه
عَقيقُه وقبُاه والْبقيعُ وما ... يَحُدُّ أُحْدٌ لِمَن في الله مَصْرَعه
تلك المواقف، لا بَغْدادُ موقِفُه ... والكَرْخ مُصْطافُه منها ومرْبعه
وَهْي الهْوَى لا رُبى نجدٍ ورامتُه ... ولا العُذَيْبُ وواديه وأَجْرَعه
مُسْتَنْزَلُ الفوْزِ والغفُران مَهْبِطه ... ومُلْتَقى كلِّ رِضوان ومَجْمَعُه
أُحبِّه وأُحبّ النّازلين به ... وما تَضُمُّ نَواحيه وأَرْبُعه
طَبْعاً جُبِلْت عليه في الغرام به ... وأَينَ مِنْ طَبْعِ مَنْ يَهْوى تَطَبُّعُه
كسانِيَ الحُبُّ ثوبَ الإِفتتانِ به ... ولست حتّى بِخَلْعِ الرُّوحِ أَخَلعُه
أَستودِعُ الله فيه كلَّ مُنفرِدٍ ... بالفضل يُودعِ شَجْواً مَنْ يُوَدِّعه
يَكاد يَجْري مجاري النَّفْس جملتُه ... لُطفاً ويُذْهِلُ مَرآه ومَسْمَعُه
وجيرةٍ في جِوار الله يَنْزِع بي ... شَوْقٌ إِلى قُربهمْ في الله مَنْزِعه
مِنْ كلّ مَنْ بَغَّض الدُّنْيا تَوَرُّعُه ... عنها وبَغَّض ما يَحوي تَبَرُّعُه
كأَنّما الروض يَجْلو ما يُفَوِّفُه ... من خُلْقه ويُوَشِّي ما يُوَشِّعُه
فيا سَنا البارق المكّيِّ يَشْهَرُ من ... إِيماضِه الأُفقُ عَضْباً أَو يُشَعْشعه
قُلْ للأحبّة عني قول من حُنِيَتْ ... على الوفا لهمُ والشوْقِ أَضْلُعه
هل حافظٌ عَهْدُ ودّي من حَفِظْتُ له ... على النَّوى عَهْدَ ودٍّ لا أُضْيِّعه
أم هل تُجَرِّعُه مما تُجَرِّعُني ... في البعد كأسُ الأَسى أَم لا تُجَرِّعه
أَم هل يَهُزُّ ادّكاري عِطْفَه طَرَباً ... وتَسْتَهِلُّ كدمعي فيه أَدْمُعه
وإِن يكن طال مَرْمى الْبَيْن أَو قَطَعَتْ ... يداه ما ليس أَيْدي الْوَصلِ نَقطعه
فما تغيَّرْتُ عن مَحْضِ الصّفاءِ لهم ... ولا تكدَّر وِرْدٌ طاب مَشْرَعه
مَحَلُّ كلِّ لحبيبٍ حيث يعلمه ... منّي وموضعُه في القلب موضعه
هيهْاتَ ما شَغفي مما تُقَسِّمه ... سوانِحُ الرَّأْي أَو مما تُوَزِّعه
فلا عَدِمْتُ هوىً منهمْ يُحاولني ... فيه النَّوى بسُلُوٍّ عَزَّ مَطْعَمُهُ

وحَبَّذا الرَّكْبُ يُبْدي من حديثهم ... ما يَجْبُر القَلْبَ تَعْليلاً ويَصْدَعه
وحبَّذا طيبُ أَنفاسِ النَّسيم سرى ... عنهم كما فاحَ مِسْكٌ فُضَّ مُودَعه
فهل أَخو دَعْوَةٍ في الله تنَهضُ بي ... عنايةُ الذِّكر منه أَو تَضَرُّعُه
وجاد تلك الرُّبا هامٍ تَبَجُّسُه ... يَجُول من مائه فيها تَمَيُّعُه
وقوله:
حيّاكِ يا عَدَنُ الحْيَا حَيَّاكِ ... وجَرى رُضابُ لَماه فَوْقَ لمَاكِ
وافترَّ ثَغْرُ الرَّوْضِ فيكِ مُضاحِكاً ... بالبِشْر رَوْنَقَ ثَغرِك الضحّاكِ
وَوَشَتْ حدائقُه عليكِ مَطِارفاً ... يَخْتال في حَبَراتها عِطْفاكِ
فلقد خُصصتِ بسِرِّ فَضْلٍ أَصبحتْ ... فيه القلوبُ وُهُنَّ من أَسْراكِ
يَسْري بها شوقٌ إِليك وإِنَّما ... للشَّوْقِ جَشَّمها الهوى مَسْراكِ
أَصبو إِلى أَنفاس طِيبِك كلَّما ... أَسْرى بنفحتها نسيمُ صَباكِ
وتُقِرُّ عيني أَن أَراك أَنيقةً ... لا رملَ جَرْعاءٍ ورملَ أَراكِ
كم من غريبِ الحسنِ فيكِ كأَنّما ... مَرْآه في إِشراقه مَرْآكِ
وفواترُ الأَلْحاظِ تصطادُ النُّهى ... أَلحاظُها قَنْصاً بلا أَشْراكِ
ومَسارِحٌ للعيش تُقتطَفُ المُنى ... منها وتُجْنى من قُطوفِ جَناكِ
وعلامَ أَستسقي الحَيا لكِ بعدما ... ضَمِن المُكَرَّمُ بالنَّدى سُقياكِ
وهَمَتْ مَكارمُه عليك فصافَحَتْ ... عن كفّه مَغْنى الغِنى مَغناكِ
وحَباكِ بالإِيثار عنه فَجَرَّ عن ... إِيثارِه ذيلَ الثَّراءِ ثَراكِ
وتأَرَّجتْ رَيَّاكِ مِسْكاً عندما ... عَبِقَتْ بِرَيّا ذِكْرِه رَيّاكِ
فَلْيَهْنِكِ الفخرُ الذي أَحرزْتِه ... بِعُلاهُ حَسْبُك مَفْخراً وكَفاكِ
قَرَّتْ عُيونُ الخلق لاستقرارِه ... بكِ فَلْتَقَرَّ بِقُرْبه عَيْناكِ
شَرُفَتْ رُباك به فقد وَدَّت لذا ... زُهْرُ الكواكب أَنَّهنَّ رُباكِ
مُتَبَوِّئاً سامي حُصونِك طالعاً ... فيها طلوعَ البدرِ في الأَفلاكِ
بالْتَعكُر المحروس أَو بالمنظر الْ ... مأْنوس نَجْمَيْ فَرْقَدٍ وسِماكِ
وله الحُصونُ الشُّمُّ إِلاّ أَنّه ... لحلوله بك طالها حِصناكِ
فالمِسْك تراب أَرضِك مُذْ غدا ... لك قاطِناً والدُّرُّ مِنْ حَصْباكِ
وكأَنَّ بحركِ جودُه مُتَدَفِّقاً ... لو لم تَخُضْه سَوائرُ الأَفلاك
مَلِكٌ لو أن الغيثَ جاد كجُوده ... لم يُلْفَ في أَرضٍ لفقرٍ شاك
سَبْطُ الأَنامل بالمكارم لا يَرى ... إِمساكَه إِلاَّ عن الإِمساك
لا قَدْرَ للدُّنْيا لديه كأَنَّه ... في بَذْل زُخْرُفِها من النُّسّاك
أَدْنى مواهِبِهِ الأُلوفُ سريعةً ... مُتَفرِّداً فيها بلا إِشراكِ
ما اختَصَّ في الدُّنْيا سواه بفَضْلها ... مَلِكٌ من الباقين والهُلاّكِ
فالْجودُ مبتَسِمُ الثُّغور ببَذْله ... أَبداً وبَيْتُ المال منه باك
من دَوْحَة الشَّرف الزُّرَيْعيّ التي ... وَشَجَتْ بأَصلٍ في المَفاخر زاك
وسَراةُ قَحطانٍ بحيثُ مَعاقِدُ التِّي ... جان فوقَ أَسِرَّةِ الأَمْلاكِ
يُرْدي العِدى بالرأْي وهو مُخَيِّمٌ ... كَمْ من سُكونٍ فيه بَطْشُ حراك
سَلَّتْ يدُ الإِسلام منه مُهَنَّداً ... مُتَحَكِّماً في هامةِ الإِشراك

وإِذا سَما بالجْيش آذنَ كلَّ من ... نَهضَتْ إِليه جُيوشُه بهَلاك
شِيَمٌ كَمَوْشِيِّ الرّياض وراءَها ... عَزمٌ كَحَدِّ الصَارم البنّاكِ
يتلو مآثِرَها الزَّمان بأَلْسُن ... فُصُحٍ فيعجَزُ عن مدى الإِدراك
بَهَرتْ فضائلُه العُقولَ فما عسى ... يأْتي الثَّناءُ به ويَحْكي الحاكي
فَلْيَهْنِه المُلكُ الذي قال العُلى ... للدّينِ والدُّنيا به بُشْراكِ
ولْيَبْقَ تخِدُمُهُ السُّعودُ كأَنّها ... أَسرى لَدَيْه لا تُرى لفِكاك
جَذْلان، ما استدعَتْ بواعِثُ نفسِه ... كأْسَ المُنى إِلاّ أَجَبْنَ بِهاكِ
وقوله يمدح الأميرين ابني عمران:
هو مَفْخَرٌ فوق السِّماك مُخَيِّمُ ... ومآثرٌ من دُونِهّن الأَنْجُمُ
وعُلىً على وجْهِ الزَّمان نَضارَةٌ ... منها وفي ثَغْر الكمال تَبَسُّمُ
ومكارمٌ شَرَع المُكرَّمُ دينَها ... وحَكاه فيما سَنَّ منها الأَكرمُ
وتَلا مآثِرَه الأَثيرُ وهكذا الْ ... اَشْبال تَفْري ما فَراه الضَّيْغَمُ
مَلِكان للمُلْكِ الخَطير تطاولٌ ... بهما وللزَّمَن الأَخير تَقَدُّمُ
قمران في أُفُق النَّهار، وفي النَّدا ... بَحران، ذا طامٍ وهذا مُفْعَمُ
يَتَبارَيان فضلائلاً وفواضلاً ... وكلاهما فيما أَحَبَّ مُحَكَّمُ
فإِذا جرى ذِكْرُ المُلوك فَعَنْهما ... بالفضل أَلسنةُ الزَّمان تُتَرْجم
وإِذا الكِرام تطاوَلَتْ لِمَداهما ... قَصُرَتْ وأَينَ من السَّنام المَنْسِمُ
وإِذا أَفاضا في البيان وأَعْربا ... نُطْقاً فَسَحبانْ الفَصاحةِ مُفْحَمُ
فكأَنْ أَلسنةَ البلاغةِ عنهما ... تُملي بديعَ القول أَو تتكلم
فتكادُ تَنْظِمُ دُرَّ ما فاها به ... لو أَنَّ دُرَّ القول مِمّا يُنظمُ
سَبَقا إِلى العَلْياءِ في سِنِّ الصِّبا ... وتناولا أَقصى الذي يُتَوَهَّمُ
وتَسَنَّما رُتَب الفَخار وجاوزا ... في العِزِّ مَنْ يَسْمو ومن يَتَسَنَّمُ
وتعاظما كرماً وشادا في العُلى ... ما كان شادَ مُعَظَّمٌ ومُكَّرمُ
فالمجدُ مَوْقوف عليهم والنَّدى ... وإِليهما دونَ الأَنام مُسَلَّمُ
والوفْدُ مُنتجِعٌ إِلى مَغناهما ... إِذ في أَكُفِّهما السَّحابُ المُثْجِمُ
والرَّكبُ إِما مُسْتَقِلٌّ بالغِنى ... أَو قاطنٌ أَو قاصدٌ ومُيمِّمُ
لا يَسْأمُ الوفدُ الوُرودَ إِليهما ... ونداهما مُتَدَفِّق لا يَسْأَمُ
جعلا بِقاعَهما الشَريفَة مُلْتَقىً ... إِذ للنَّدى عَلمٌ هناك ومَعْلَمُ
فهلمْ ببابِهمُ الشّريفِ تَزاحُمٌ ... وكذا التزاحمُ حيث يُلفَى المَغْنَمُ
ولكلِّ أَرضٍ مَوْسِمٌ ولَدَيهْما ... في كلّ يوم بالمواهب مَوْسِمُ
ولو أنَّ هامي السُّحْبِ دام، حَكاهما ... لكنَّ جُودَهما أَعمُّ وأَدْومُ
نشآ عَلَى دينِ المَكارِم والنَّدَى ... واستنبطا بالعلم ما لا يُعلَم
واستعبدا السّاداتِ بالنِّعَمِ التي ... أَضحى لها في كلِّ جِيدٍ مِيسَمُ
فهي القلائدُ في الرِّقابِ وإِنَّما ... أَسنى القلائدِ في الرِّقاب الأَنْعُمُ
وأَمدَّ سَعدَهُما الإِلُه بِسَعْدِ مَن ... تُسْدي العَوارِف في الإِله وتُنْعمُ
مولاتِنا السّامي محل فَخارِها ... في حيث لا يسمو السُّهى والمرْزمُ
ووليَّةِ الفضل التي إِفضالها ... يَحْيا به العافي ويَغْنى المُعْدمُ
وعزائمُ الشَّيخ السعيد فإِنّه ... مُذْ كان، ماضي العَزْم فيما يَعْزِمُ

مُتَيَقِّظاً في صَوْن مُلْكِهما الذي ... عَزَماته جيشٌ لَدَيْه عَرْمرمُ
شَهَراه واعتمدا عليه لأَنَّه ... مِقدامُ بأْسٍ في الوغى وَمُقدَّمُ
يَرْمي فيُصْمي مَنْ رماه كأَنّما ... آراؤه في كلُّ بُعْدٍ أَسهُمُ
وحمى البلاد وضَمَّ مِن أَطرافها ... بالحْزْم يَعْقِد مِنْ قِوُاه ويُبْرِمُ
فلذلك حَلَّ لديهْما في رُتبةٍ ... بَعُدَت على إِدراك مَنْ يَتَوَسَّمُ
نِعَمٌ مُجَدَّدَةٌ أَقَرَّ قَرارَها ... فيمن يَليق به الكريمُ المُنْعِمُ
فلْيَسلَما في ظِلِّ مَلْكٍ عزمُه ... مِنْ دونه فيمَنْ عَصاه مِخْذَمُ
وهَنا هُما العيدُ الذي إِشراقُه ... بهما وروضُ الحُسن فيه مُنَمَنمُ
تمضي اللَّيالي والزَّمانُ عليهما ... وكِلاهُما عالي المَراتِب أَعْظَمُ
في دَوْلةٍ إِقبالها لا ينقضي ... أَبداً وعُروةُ عِزِّها لا تُفْصَمُ
وقوله:
حَنَّ والمُشتاق حَنانُ ... مُستهامُ القلبِ وَلْهانُ
مُسْتَرَقٌ في فُنونٍ هوىً ... والهَوى والحبُّ أَفنانُ
يَمَنِيُّ بالحجاز له ... سَكَنٌ ما عنه سُلوانُ
ومُعَنىّ بالخَليط ومِنْ ... دُونِه لِلْبَيْنِ إِمعانُ
أَين مَّمِنْ دارُه عَدَنٌ ... جِيرةٌ بالْخَيْفِ قُطّانُ
وَيْحَ مَنْ يهوى فليس له ... غيرَ سُحْبِ العَيْن أَعوانُ
يهتدي كلُّ لمَقْصِدِه ... وهو ساهي اللُّبِّ حَيْرانُ
كلَّما ناح الحمام هَمى ... مُسْتَهِلٌّ منه هَنّانُ
أَوْ بكى في النّاسِ ذُو شَجَنٍ ... شَجْوَه، أَبْكَتْهُ أَشجانُ
وَلَئِن غاضَت مدامعُهُ ... فهو الأَشْواق مَلآنُ
يا حَمامَ الأَيْكِ هل عَلِقَت ... بك من بَلْواه أَشْطانُ
أَم هَل استَمْلَيْتَ لَوعَتُه ... فهي في شَكْواك أَلحانُ
لا تُساجِلْه الغَرامَ فما ... في تعاطي ذاك إِمكانُ
خَلِّ مَيْدانَ الحنين لِمَنْ ... قلبُه للشَّوْق مَيْدانُ
أَنتَ تَبكي مُفْحَماً وله ... بِبُكاءِ الإِلْف تِبْيانُ
وعليه لا عليكَ من الْ ... حُبّ آثارٌ وعُنوانُ
ولك الآُلاّفُ تَجْمَعها ... بك أَوراق وأَفنانُ
وهو فَرْدُ الوَجْد قد بَعُدَت ... عنه أَحبابٌ وجِيرانُ
وغريبٌ في مَواطنه ... والهوى لا الدّارُ أَوطانُ
ما شَجاهُ البانُ مُنْثَنِياً ... بل هَوى مَنْ دارُه البْانُ
أَيُّها العُذّال حَسْبُكُمُ ... إِنَّ بعض العَذْل عُدْوانُ
ساعِدوا المُشتاق أَو فَدَعُوا ... مَن له عن شأنِكُم شانُ
لا تلُوموه على حُرَقٍ ... في الْحشا منهنَّ نيرانُ
واعذِروه في تَمايله ... كلّما هزَّتْه أَحزانُ
إِنّ كأْسَ الشَّوْق مُتْرَعةً ... ساوَرْتُه فهو نَشْوانُ
وحُمَيّا الحُبِّ فيه سَرتْ ... ولها سِرٌّ وإِعلانُ
فأَعينوه ولو بِعَسى ... لِلْجوى فالحرُّ مِعْوانُ
واسأَلوا رَكْب الحجاز له ... إنْ أَلمَّتْ منه رُكبانُ
هل هَمى دَمْعُ الغَمام به ... واستَهلَّتْ منه أَجفانُ
أَم عُهودُ الودّ عامرةٌ ... وسكونُ الخَيْف سكانُ
وَهل البَطْحاء مُعشِبةٌ ... منه والريّان رَيّانُ

أَم هل الأَحباب فيه عَلى ال ... عهدِ والخُلاّن خُلاّنُ
وقوله:
ليت ساري المُزْنِ أَسرى مِنْ مِنى ... نابَ عن عَينْي فسقى أَبْيَنا
واستَهلَّت بالرُّقَيْطا أَدْمُعٌ ... منه تَستْضحك تلِك الدَّمَنا
فكسا الْبَطحاءَ وَشْياً أَخضراً ... وأَعار الجوَّ نَوْءاً أَدْكنا
أَيْمَن الرَّمْل وما عُلِّقْتُ من ... عَقِداتِ الرّمل إِلا الأَيْمنا
وَطَنُ اللّهو الذي جَرَّ الصِّبا ... فيه أَذيال الهوَى مُسَتْوِطنا
تلك أَرضٌ لم أَزَلْ صَبّاً بها ... هائماً في حُبِّها مُرْتَهَنا
هي ألْوتْ بحبيبي فالْهوى ... بِرُباها لا اللِّوى والمُنْحَنا
وقوله في مدح عمران يعارض ابن الهبيني شاعر ابن مهدي
النصرُ قائدُ جيشِك المُتَوَجِّهِ ... والسَّعدُ رائدُ عزمك المُتَنِّبهِ
والأَرْضُ مُلْكُك والعِبادُ رعيَّةٌ ... لك من مُطيعٍ مُذْعنٍ أَو مُكْرَه
ولرأيكَ التأَييدُ حُسنُ بدَيهة ... ورَوِيَّةٍ فيه فَرَوِّ أَوِ ابْدَه
فإِذا عزَمتَ فَكُلُّ صَعبٍ رُمْتَهُ ... سَهْلٌ علَيك وكُلُّ قُطْر مُزُدَهِ
يا داعيَ الدِّين المُقيم لِيَعْرُبٍ ... مَجْداً يَهي رُكنُ الزَّمان ولا يَهي
أَعزَّ مَنْ خفقتْ عليه رايةٌ ... تَحكي إِذا خفقت فُؤادَ مُدَلَّهِ
ما العِزُّ إِلاّ عِزُّ خَيلِكَ شُرَّباً ... شُعْثاً تُباري في الطِّراد وتَزْدَهي
سمّا طراتٍ بالكُماة كما هَوَتْ ... من رأْسِ شاهقةٍ صُخُورُ مُدَهْدَهِ
فاسْتَنْهضِ الأَقدار فيما ينبغي ... واستخْدِم الأَيامَ فيما تَشتهي
وأصرِف صُروف النائبات عن الوَرى ... وأنْهَ الحوادثَ عن سُطاها تَنْتهي
وأبعثْ به جَيْشاً أَجَشَّ إِذا انتحَى ... أَرضاً نحاها بالنَّكال الأَكْرهِ
مُتلاطِمَ الأَرجاء يُحْسَب أَنّه ... بَحرٌ تلاطَمَ بالرِّياح الزّهزهِ
تَتَناكر الأَصواتُ وهي مَعارِفٌ ... للسَّمْع من ضوضائه والوَهْوَهِ
كالعارض الملْتَفّ يَخْتَلع النُهى ... قَصَفاتُ رَعْدٍ في حَشاه مُقَهْقهِ
يَخْفى وضوحُ السُّبْل تحت عَجاجه ... فكأَنّما هو مَهُمهٌ للمَهْمَهِ
وَيكِلُّ طَرْفُ الشمس عنه إِذا غدا ... كُحْلاً لناظِرها المضيء الأَمْرِهِ
فيه لُيوث البأْس ليس يَرُدّها ... إِن جَهْجَهت في الرَّوْع زَجْرُ مُجَهْجهِ
آلُ الزُّرَيْع سَراةُ هَمْدانَ الأُولَى ... وَرِثوا المكارم مِدْرهاً عن مِدْرَهِ
مُتَسربيلين السّابِريّ كأَنّما ... جَمَدَت عليهم منه أَمْواهُ النَّهي
مُتَبادِرين إلي الثُّغور كأَنّما افْ ... تَرَّت لهم عن باردٍ الظَّلْم الشَّهِي
مِنْ كلِّ صَبٍّ بالطِّعان مُوَلَّهٍ ... في مَتْن طاوٍ بالطِّراد مُوَلَّهِ
فاكشِفْ بهم ضُرَّ البلاد ودَاوِها ... بالْبِيض تَبْرَ من السَّقام وتَنْقَهِ
سَفَةُ السيوفِ دَواءٌ كُلِّ سَفاهةٍ ... من الْفضلُ للصَّمْصام لو لم يَسْفَهِ
كم ذا يُنَهْنِهُ من عزائمك التي ... تُفْني الضَّرائبَ وهي لم تَتَنَهْنَهِ
ويَكُفُّ من سَطَوات بأْسِك والظُّبي ... مِنْ فَرْط حِلمك في أَشدِّ تأَوّهِ
ولأَنتَ أَنْزَهُ في المَفاخر هِمَّةً ... من أَن تُحَضَّ على الفَعال الأَنْزَهِ
أَو أَنْ تُنْبَّه، واعتزامُك في العُلى ... يَقْظانُ مُنْتَبِهٌ بغير مُنَبِّه
شُدِه الأَعادي من سُطاك ومَنْ يَرُحْ ... ما بين أَنْياب الغَضنْفَر يُشْدَه

كم حَرَّكوا منه الهِزَبْر بَسالةً ... ولكم دَهِيٍّ مِنْ تَغْلغُلِه دُهي
مَنْ ذا يُقاس به شَبيهاً بعدما ... سمحتْ به العَلْياء عن مُتَشَبِّه
أَمْ مَنْ يَمُدُّ إِليك باعَ مُطاولٍ ... والنجمُ دُونكَ، غيرُ غِرٍّ أَبْلَهِ
لا رُتْبةٌ تسمو بغير مُؤَهَّلٍ ... فيها ولا جاهٌ لغيرِ الأَوْجَهِ
أَنت المُكرَّم مَعْدِن الكرم الذي ... يَلْقَى الوُفود بِبِشرِه لا جَبْههِ
أنتَ الذي ما أُنْشِدَت أَوصافه ... إِلا وهَزّ المجدُ عِطْفَ مُزَهْزِهِ
فاصفَح عن الأَشعار في تَقْصِيرها ... عَنْ وَصْف فضلِك أَنْ تُحيط بكُنْههِ
رَكَضْت جِيادُ الشِّعرِ في مَيْدانه ... حتى تَناهَتْ وهو مالا يَنْتَهِي
فقد استوى في العَجْز عنه مُفَوَّةٌ ... دانَ البيَانُ له، وغيرُ مُفَوَّهٍ
ولقد حكَى منه المَديحُ شفاء ذي ال ... سَّمْع الأصمِّ ضياء عَينْ الأَكْمَهِ
وغدا يُجَرِّر في نَباهَةِ قَدْره ... ذَيْلَ التَّشَرُّفِ في المقَام الأَنْبه
بمَصَرَّعٍ ومُرَصَّع ومُوَشَّحٍ ... ومُسَجَّعٍ ومُفَرَّع وموجَّه
يُهْدي إِذا ما اسْتُنْكِهَتْ أَنْفاسه ... نَفَسَ الحَدائق فاحَ لْلِمُسْتْنكِهِ
واسْعَدْ بعيدٍ أَنت تاج فَخاره ... وكمالُ بهَجتهِ ومَنظرهِ الْبَهي
وانْحَر عِداك أَضاحِياً في نُسْكه ... أَو فاعْفُ عَفْوَ القادِرِ المُتَنَزِّهِ
واسّلمْ مُطاعَ الأَمر منصورَ الظُّبي ... في ظِلِّ مملكةٍ وعَيْشٍ أَرْفَهِ

من جماعة ذكرهم عمارة اليمني في تصنيف له عن مجموع شعر اليمنيين
سلم بن شافع الحارثي
من أهل تهامة اليمن ذكر أن كتب إلى عمه علي بن زيدان وقد وفد إليه يستعينه في دية قتيل فوجده مريضاً:
إِذا أَودى ابْنُ زيدانٍ عَليٌّ ... فلا طَلَعتْ نُجومُكِ يا سماءٌ
ولا اشتمل النِّساءٌ على جَنينٍ ... ولا رَوى الثَّرى للسُّحْب ماءُ
على الدُّنيا وساكِنها جميعاً ... إِذا أَوْدى أَبو الحسن العَفاءُ
قال فأبل من مرضه وأعطاه ما سأله.
سليمان بن أبي الحفاظ
صاحب مدينى الجريب له:
كنتم تَمَنَّوْن ريحاً أَن تَهُبّ لكم ... من النسيم ولو يَوْمَيْن تَتَّصلُ
فجاءَكم مثلُ ما هاد به هُبِلَتْ ... من العْقَيم التي عادٌ بها هُبلِوا
الخطاب بن أبي الحفاظ
من الشعراء المجيدين وكان قد أخرج أخاه سليمان من مدينة الجريب زبيد ثم كتب إليه يلطف به حتى إذا قدر عليه غدر به وقتله: ومن شعره قوله: كتب بها إلى أخيه سليمان بزبيد:
عَيْنُك عينُ الرَّشَإ الخاذِلِ ... والجيدُ جِيدُ الظَّبْية العاطلِ
قد كنتُ ذا عَقْلٍ جَليد ول ... كنّ الهوى يعلب بالعاقلِ
ومنها:
كأَنّها من حُسنِها دُرَّةٌ ... أَخرجها المَوْجُ على السّاحلِ
ومنها:
إِذا بلغتَ العِرْقَ فارْبَع به ... مُعَرِّساً تعريَسةَ النازلِ
واخْصُص سُليماناً بها خَير مَنْ ... يُعْلَمُ من حافٍ ومن فاعلٍ
أَخي ومولايَ ومن لحمُه ... لحمي ومن حامِلُه حاملي
الوزير خلف بن أبي الطاهر الأموي
وزير الملك جياش بن نجاح صاحب زبيد

وصفه بالفضل والنبل، والسودد الضخم والشرف العبل، وكان من أفراد الدهر الذين انتظم بهم سلكه، وصحب جياشاً حين زال ملكه، ودخل معه إلى الهند وعاهده على أن يقاسمه الأمر إذا ملك، ونعته بقسيم الملك وبه رجع إلى الملك وقال الغرض وأدرك، ونفر بعد ذلك منه جأش جياش، وافترقا عن استيحاش. وحكي أن سبب الفساد الحادث أن الوزير خلفاً شرب ذات ليلة في داره، يقضي أوطاره من أوتاره، ويعقر همه بعقاره، فغناه ابن المصري وكان محسناً قول قيس بن الرقيات يمدح بني أمية:
لو كان حَوْلي بنو أُمَّية لم ... يَنْطِق رجالٌ إِذا هُمُ نَطقوا
إِن جُولِسوا لم تَضِقْ مجالسُهم ... أَو رَكِبوا ضاق عنهم الأُفُقُ
يُحبِهُّم عُوَّدُ النِّساءِ إِذا ... ما احمرّ تحت القَلانِس الحَدقُ
قال فطرب الوزير وشرب، وخلع على من كان في مجلسه وهم ثلاثة عشر رجلاً ثلاث مرات، ثم وصلهم بصلات، ولم يزل يستعيد الصوت ويغنيه، وقد ظهرت أمارات الطرب فيه، إلى أن أسفر فلق الصباح، ونقل المجلس إلى ابن نجاح فتوهم منه واستوحش خلف، وفارقه ولم يكن له عنه خلف.
ومن شعره قوله يجيب جياشاً حين كتب إليه يستعطفه:
إِذا لم تكنْ أَرضي لِعِرْضي مُعِزَّةً ... فلستُ وإِن نادتْ إليَّ أُجيبُها
ولو أَنَّها كانتْ كروضةِ جَنَّةٍ ... من الطِّيب لم يَحْسُن مع الذُّلِّ طِيبُها
وسِرْتُ إِلى أرضٍ سواها تُعِزُّني ... وإِن كان لا يَعْوي من الجَدْب ذِبيها

محمود بن زياد المأربي
من مأرب مدينة السد ووصفه بكونه للملوك مداحا، ووفاداً عليهم لنوالهم ممتاحا، وكان أكرم الناس بما يملك، وله الخاطر المجيد والفهم المدرك، قال مدح الملك المفضل بن أبي البركات الحميري فوصله بألف دينار، فقال في شكره من قصيدة:
وَوهبت لي الأَلف التي لو أَنَّها ... وُزِنَتْ بصُمِّ الصخر كانت أَبْهَرا
قال وأول من نوه باسمه الأمير الشريف عيسى بن حمزة السليماني الحسني صاحب عثر فإنه وجد عنده الأثرة وتأثل وتأثر. ذكر عمارة أن والده حدثه، وكان قد عمر مائة سنة وخمس سنين، أنه لما كان دخول الغز إلى اليمن أخذت الغز الشريف يحيى بن حمزة أسيراً إلى العراق، وبقي أخوه الأمير عيسى ابن حمزة أميراً في البلاد، فلم يزل يجتهد ويكاتب ويبذل الأموال حتى افتك أخاه يحيى من العراق، ولما عاد يحيى إلى عثر دبر على أخيه عيسى فقتله وعامله بالإساءة على الإحسان. الذي فعله. فقال محمود بن زياد المأربي قصيدة يذكر فيها قتل عيسى ويرثيه، وينعي على يحيى ما فعله بأخيه. فمنها بعد غزل طويل:
خُنْتَ المودَّةَ وهي أَلأَمُ خُطَّةٍ ... وسَلَوْتَ عن عيسى بن ذي المَجْدَيْنِ
ياطَفّ عَثَّرَ أَنت طَفٌّ آخرٌ ... يا يومَ عيسى أَنتَ يَوْمُ حُسَيْنِ
قد كان يَشْفي بعضَ ما بي من جَوىً ... لو طاح يومَ الرَّوْع في الخَيْلين
هَيْهاتَ إِنّ يد الحِمامِ قصيرةٌ ... لو هَزَّ مُطَّرِدَ الكُعوبِ رُدَيْني
أَبْلِغ بني حَسنٍ وإن فارقتُهم ... لا عن قلىً وحللتُ باليمَنَيْنِ
أَني وفَيْتُ بِودّ عيسى بعدَه ... لا، لو وَفَيْتُ قلعتُ أَسودَ عَينْي
كان قد نذر أن لا يرى الدنيا إلا بعين واحدة، فغطى إحدى عينيه بخرقة إلى أن مات.
قَرَّتْ عُيونُ الشامتين وأُسخِنَتْ ... عيني على من كان قُرَّةَ عَيْني
والقصيدة طويلة. ولما انتهى الشعر إلى يحيى القاتل لأخيه غضب وأقسم وقال جلدتي الله جلدة المأربي لأسفكن دمه، فقال المأربي:
نُبِّثتُ أَنك قد أَقسمت مُجتهداً ... لَتَسْفِكنّ على حُرِّ الوَفاء دمي
ولو تجلَّدْتَ جِلْدي ما غَدرتَ ولا ... أَصبحتَ ألأَمَ مَنْ يَمْشي على قَدمِ
وله من غزل قصيدة يمدح بني نفاثة من آل همدان
ما لَقينا من الظِّباءِ الْعَواطي ... خافقاتِ القُرون والأَقراطِ
هَجَّنَتْ بالبدور والدُرّ والورْ ... د وأَزْرَت بالرَّمْل والأَخواطٍ
وله يمدح أبا السعود بن زريع:

يا ناظري قل لي تراه كما هُوَهْ ... إِنّي لأَحْسبه تَقَمَّص لُؤلؤهُ
ما إِن بَصُرْتُ بزاخرٍ في شامخٍ ... حتى رأَتُيك جالساً في الدُّماؤَهُ
الدملوة معقل من معاقل اليمن.
وحكي أن المأربي هجا رجلاً من سلاطين اليمن فاعتقله لينظر فيما ذكر عنه فخافت نفس المأربي أن تتم عليه مكيدة فكتب من السجن إلى سلطان وكان صديقاً له، هذين البيتين، فركب الرجل وكسر السجن وأخرج المأربي وسلمه إلى من ممنعه من قومه، ثم لقي السلطان فشفع فيه واعتذر إليه من كسر السجن، والبيتان قوله:
أَسِفْ إِن طار، أَو طِرْ إِنْ أَسفّ، وإِنْ ... لان الفتى فاقْسُ، أَو يَقْسُ الفتى فَلِنِ
حتى تُخَلِّصني من قَعْر مُظِلمةٍ ... فأَنت آخرُ سَهْمٍ كان في قَرَني
ولده:

علي بن محمود بن زياد المأربي
له:
خَلتِ الرَّعارِعُ من بَني مَسعودِ ... فعُهودهم فيها كغير عهودِ
حَلَّتْ بها آلُ الزُّرَيْع وإِنّما ... حَلَّتْ أُسودٌ في مَكانِ أُسودِ
وله في انتقال ذي جبلة من المنصور بن المفضل إلى الداعي محمد بن سبأ
بِذي جِبْلَةٍ شوقٌ إِليك وإِنّها ... لَتُظْهِرُ للشيخ الذي ليس تُضْمِرُ
عوائِدُ لِلْغيد الغواني بأَنّها ... من الشيخ نحو ابن الثلاثين تَنْفِرُ
السلطان زكري بن شكيل
بن عبد الله البحري
من بطن من خولان يقال لهم بنو بحر. له:
يَرْمن أَفئدةً تُفَدِّيها ولو ... قُتِلت، أُيُكْرِم قاتلاً مقتولُ
فَقِسِيُّها أَجفانُها وسِهامها ... حَدَقاتُها، ولِحاظُهُنَّ تُصولُ
وله يمدح جياش بن نجاح صاحب زبيد:
كم لا تَزال تُسرُّ وَجْداً ما سرى ... مُزْنٌ، ويَسْفَحُ ماءَ عَيْنك ما انْسرى
أَطْللتَ دَمْعَك في الطُّلول وأَدْمنتْ ... حُرَقَ الحَشادِ مَنٌ تُحاكي الأَسْطُرا
عَفّى معالمَها الغَوادي والسوا ... في والعواصف والأَعاصر أَعْصُرا
ولقلّما غرِي القديم بمُحْدَثٍ ... إِلاّ وأَحدَثَ في القديم تَغَيُّرا
فتنكرتْ في العَيْن وهي معارفٌ ... في القلب يَكْبُر قدرُها أَنْ يُنْكَرا
ولقد عَلِقتُ بها غزالاً أَغْيَداً ... غَنِجَ اللِّحاظ أَغَنَّ أَحْوى أَحْورا
أَعْدي بسقُمْ جُفونِه قلبي فلو ... أَعْدى جُفوني مِنَّةً منهُ الكَرى
يَثْني الصَّباحَ يفَرعه ليلاً ويَثْ ... ني الليلَ صُبْحاً ما بخَدٍ مُسْفِرا
ومن مديحها:
المُشتري حُللَ الثَّناءِ بما حَوتْ ... كفّاه، والحامي لها أَن تُشْتَري
والمُوِقدُ النَّارَيْن ناراً للوَغى ... لا تَنْطقي أَبداً، وناراً للقِرى
من كان يمدَح للعطاءِ فإِنَّني ... للفخر أَمدحُه وحَسْبي مَفْخَرا
مَلكٌ تدارك غُصْنَي الذّاوي وقد ... عَبِثَ الزَّمان به، فأَصبحَ مُثْمِرا
وله فيه:
عُدْ إِلى الإِغْتباق والإِصْطِباحِ ... وألحُ في القَصْف من نصيحٍ ولاحِ
واسقني الرَّاحَ إِنَّها تجُلِبُ الرَّوْ ... حَ ورَيْحانَها إِلى الأَرواحِ
قهوةً طال عُمْرُها فهي ممّا ... عتَّقتها الدِّنان لِلْوضّاحِ
بَزَلوها فامتدَّ منها لجوّ ال ... لَّيْل نورٌ أَغنى من المِصْباحِ
ما يُزيلُ الهُمومَ مثلُ اصطباح ... في صَباحٍ لدى وُجوهٍ صِباح
وهو حِرْمٌ أَبو حنيفة قد ر ... خّص فيه فما به من جُناح
أَوْ ترى الدِّيكَ كالبعير، وكالأَرْ ... ض السَّمواتِ، أَو فإِنك صاحِ
وارْعَ عَيْنَيْك في عُيونٍ من الدَّهْ ... ر حَلاها حدايح السجاح
من بني عَوْهَجٍ مُنَعَّمَة الأَطْ ... راف ريّا الأَرداف غَرْثي الوِشاحِ
شَفَتاها نَقْلي وماءُ ثَنايا ... ها عُقاري وخُدُّها تَفاحي

كيف يصحو مَنْ سُكْره مِنْ لحاظٍ ... ورُضابٍ عَذْبٍ وقَدْ رَداح
قلتُ لما تَكنَّف الرَّوْضةَ الأَفْ ... راحُ والحُسْنُ من جميع النواحي
هذه الجنَّةُ التي وَعَدَ الل ... هُ وما عن نعيمها من بَراح
وكأنّا فيها اختلسنا نسيماً ... من سَجايا جيّاشٍ بن نجاح
فهو كان الذي يَروقُك لا نَوْ ... رٌ أَنيقٌ ولا نَسيمُ أَقاح
علم المجد ذي الفضائل فخر الْ ... أُمّة المُرْتضى الفتى الجَحْجاح
غافر الذنب مِسْعَر الحرب جالي الْ ... كَرب غَوْث اللاّجي حَيا المُلْتاحِ
لفظه في الصَّحائف السُّود يُغني ... ه ويكفي عن سَلّ بِيضِ الصِّفاحِ
وله:
إِن تحسبونيَ من أَجناسكم رجلاً ... فالْمَنْدَل المُصطفى نوعٌ من الخشبِ
أتى تُحيلون فضلي عن مَعادِنه ... متى استحال نُحاساً مَعْدِن الذهبِ
والدّينُ والخِيم والعَلْياءُ تعرفني ... أَجزي بِغدرٍ وفاءَ المُنعمِ الحَدِبِ
وله من قصيدة بعث بها إلى ابنه شكيل:
قل للشكيل وسَلْه ما المَعْنى بأن ... أَشقى بها وأَنا المُقيمُ ببابِها
فإِذا هَوَتْ دَلْوي تُريد قَلِبيَها ... جاءَتْ بجَنْدَلها معاً وتُرابها
وإِذا بها أَدلى سِوايَ دَلْوَهُ ... جاءَتْه مُتْرَعةً إِلى أكرابها
وله في أخرى:
عَظيمٌ يَهونُ الأَعظمونَ لِعِزِّه ... فمَطلبُه في كلِّ أَمرٍ عظيُمُه
تأَخَّرَ مَنْ جاراه في حَلْبَة العُلى ... وقَدَّمَه إِقدامُه وقَديمهُ
كتائبُه قبلَ الكتائب كُتْبُه ... ويُغْنيك عن بَطْشِ الهِزَبرْ نَئيمهُ
فلولاه لم يَثْبُت على الحمد حاؤه ... ولا وصلتْ يوماً إِلى الدال ميمهُ
تَميدُ قلوبُ العالَمين وأَرضُهم ... إِذا ما سرتْ أَعلامُه وعلومه
يُبيح لعافيه كرائمَ ماله ... ويمنع من أَنْ يُستباح حَريمُهُ
وأَحيا بلُطف الرأْي منه ومعطم الْ ... عطايا رجائي فاستقلّ رميمهُ
يشكل في إِكرامه كلُّ زائر ... ويسأَل هذا جارُه وحميمهُ

الملك أبو الطامي
جياش بن نجاح صاحب زبيد
وصفه في الشعر بالإكثار والإجادة، وفي الترسل بالتوسط فيه على العادة، قال رأيت ديوان شعره مجلداً ضخماً، وعدة مجلدات تجمع نثراً ونظماً، وهو الذي صنف كتاب المفيد في أخبار زبيد. أورد من شعره قوله:
وبجسُدتي قومي وأُكْرِمُهمُ فهل ... سوايَ حوى الإِكرامَ منه حَسودُهُ
ولو مِتّ قالوا أَظلمَ الجَوُّ بعدَه ... وغاض الحيا الهطَّالُ مُذْ غاض جُودُهُ
وقوله يذم أصحابه:
ما انتظار الدّجال إِذ أَنا أَلقى ال ... يَوْمَ كم من مُداهِنٍ دَجّالِ
ليس فيهم من سائلٍ عن صلاحٍ ... لي ولا مِنْ مُقَصِّرٍ في سؤالي
وقوله:
إذا كان حِلْمُ المَرْءٍ عَوْنَ عَدُوِّه ... عليه فإِنّ الجهل أَبقى وأَروحُ
وفي الصفح ضَعفٌ، والعُقوبة قُوَّةٌ ... إِذا كنت تعفو عن كَفورٍ وتصفحُ
وكتب إليه ابن القم الشاعر:
يا أَيُّها المَلك الذي خَرَّتْ له ... غُلْبُ الملوك نواكسَ الأَذقان
أَترى الذي وسعَ الخَلائق كلَّها ... يا ابن النصير يضيق عن إِنسان
فأجابه جياش:
لا والذي أَرْسى الجبالَ قواعداً ... ذي القوّة الباقي وكلٌّ قانِ
ما إِن يَضيق بِرَحْبنا لك مَنْزِلٌ ... ولوَ أنَّه في باطن الأَجْفانِ
وله:
تَذوبُ منَ الحيا خَجَلاً بِلَحظي ... كما قد ذُبْتُ من نَظري إِليكما
أَهابُك مِلْءَ صَدْري إِذْ فؤادي ... بجُملته أَسيرٌ في يَدَيْكا
ومما أجاد فيه قوله:

كَثيبُ نَقاً من فوقه خُوطُ بانةٍٍ ... بأَعلاه بدرٌ فوقَه ليلُ ساهِرِ

الصليحي الداعي
علي بن محمد القائم باليمن
وكان قد عزم على السفر إلى العراق فقال، ويقال إنها لغيره:
وأَلذُّ من قَرْعِ المثاني عندَه ... في الحرب أَلْجِمْ يا غُلامُ وأَسْرِجِ
خَيْلٌ بأَقصى حَضْرَمَوْتٍ أُسْدُها ... وزَئيرُها بين العِراق فَمَنْبِج
ومن شعره:
أَنكَحتُ بيضَ الهِند سُمْرَ رِماحهم ... فرؤوسُهمْ عِوَض النِّثار نِثارُ
وكذا العُلى لا يُستباح نِكاحُها ... إِلا بحيث تُطَلَّق الأَعْمارُ
عمرو بن يحيى بن أبي الغارات الهيثمي
شاعر الداعي علي بن محمد الصليحي قال على لسانه:
سَلي فرسي عني ودِرْعي وصَعْدتي ... وسيفي إِذا ما المشَرفيّةُ سُلَّتِ
أَنا ابن ربيع المنشد ابن محمد ... إِذا المُعْصِرات السود بالماء ضَنَّتِ
وسُمِّيتُ في قومي عَلِياً لأنني ... عَلَوْتُ وأَحْدَيْتُ الكواكب همتي
وقال على لسانه:
جَفا نومُ عينَيْكَ أَشفارَها ... وقد كان لولا العلَى جارَها
وقُلتُ لنفسيَ إنَّ الحياة ... على العيب مُسْبلة عارها
وقال على لسانه:
الخرم قبل العزم، فاحزِم واعزِم ... وإِذا استبانَ لك الصَّواب فَصَمِّمِ
واستعملِ الرِّفق الذي هو مُكْسِبٌ ... ذِكْرَ القلوب وجِدَّ واحْمِل واحلُمِ
واحرُس وسُس اشْجُع وصُل وامنُن وصِلْ ... واعدِل وأنصِف وارْعَ واحفَظ وارْحمِ
وإِذا وعدتَ فعِدْ بما تَقْوَى على ... إِنجازه وإِذا صَنَعت فتمِّمِ
وقال وقد رحل علي بن محمد من صنعاء واستخلف فيها ابنه المكرم.
ما لِمَنْ فارقَ الأَحبّةَ عُذرُ ... إِن نَهَى دمعَه عن الفَيْضِ صَبْرُ
إِنّ سيف الإمام كالبر ذي الموْ ... ج له في البلاد مَدٌّ وجزر
ولئن سآءنا فِراق عَليٍّ ... فبحمد ابنه لنا ما يَسُرُّ
ذاكَ بحرٌ سقى به مكةَ الل ... هُ وهذا لوَفد صنعاءَ بحرُ
السلطان عبد الله بن يعلى الصليحي
صاحب حصن خدد. له من قصيدة في رجل ادعى أنه شاعر ومدح الملكة الحرة بما لم يستحق عليه جائزة فاستشفع به قوله:
قاسَ الأَمور فلم يَجِدْ في فكرهِ ... أَمراً يقوم بواجبٍ من عُذرهِ
فمضى يُلفّق زائقاً من نثره ... وسرَى يُنَفِّق كاسِداً من شِعرهِ
ويَظُنّ أَنّ حقوقكِ ابنةَ أَحمدٍ ... جملٌ يقوم هوادجي مِنْ قدرهِ
هيهات مَنُّكِ فوق ذاك وإِنّه ... قَسَماً بحقِّك عاجزٌ عن شُكرهِ
إِنّ الذي يلقى الصَّنيعَ بجَحْدِه ... مثلُ الذي يلقى الإِله بكفرهِ
ومتى أَخَلّ بواجباتك شاكرٌ ... عن قُدْرهٍ هُدَمِت مباني فخرهِ
إِن الصَّنائع في الكِرام ودائعٌ ... تَبْقى ولو فَنِيَ الزَّمانُ بأَسرِهِ
القاضي العثماني
له من قصيدة:
إِنَّ من يَعرِفُ أَيام الصِّبا ... صَدَّ إِذْ أَبصر شَيْبي وَصَبا
والتي تعرِف مُهري أَدْهماً ... أَنْكرتْه إذ رأَتْهُ أَشْهبا
إِخوتي هُبّوا فقد هَبَّت لنا ... نغمةُ الطير وأَنفاس الصَّبا
فاصْرِفوا الهمَّ إِذا ضافكُمُ ... وخُذوا من عَيْشنا ما وَهَبا
ضَمَّ شَمْلَ الودِّ منّا مَجلِسٌ ... ترقَص الأَركان فيه طربا
كلُّ سَمْح الكفِّ لو تسأَلُه ... كلَّ ما يَمْلِك جُوداً وَهَبا
ومنها:
رُبَّ شمْطاءَ تركناها وقد ... رَكَد الليلُ وأَرخى الطُّنُبا
قالتِ الطُّرّاقُ مَنْ قلتُ أَنا ... وأُصَيْحابي، فقالتْ مَرْحبا
ثم أَوْمَتْ نحو مِصباحٍ لها ... كاديخبو سَحَراً أَوْ قد خبا
دفعت في صَحْن دَنٍّ خِلتَ في ... جَنَبات البيتِ منه لهَبا

فسقَوْني منه حتى صِرتُ من ... سكرتي أَحسِبُ مُهري أَرْنبا
ومنها:
إِن من قد عابها من بعد ما ... عُتِّقتْ في دَنّها لي حقبا
يَحْتسيها عند ريْعان الصِّبا ... ويُخلِّيها إِذا ما اضطربا
كالتي في رمضان لم تَصُمْ ... بَلَهاً منها وصامَتْ رَجَبا
قُلْ لعبد القيْس يا أَكرَمَ مَنْ ... مَدَّ كفاً بحبِاء واحتبى
فارسَ الخيلِ إِذا ما ركبا ... أَكرمَ الناسِ إِذا ما وهبا
أَصبحتْ نَجران لي مُرْتَبَعاً ... والمَدانِيّون أُماً وأَبا
في بهاليلَ صَحَوْا أَو سَكرِوا ... أَكرمونا وأَهانوا الذَّهبا
وقال في علي بن محمد الصليحي لما قتله سعيد بن نجاح من قصيدة، وقد ارتجالاً:
زيكرت مِظَلَّتُه عليه فلم تَرُحْ ... إِلاّ على الملك الأَجلّ سعيدِها
كان أَقبحَ وجههَ في ظِلّها ... ما كان أَحسن رأْسَه في عودِها
سُودُ الأَراقِم قاتلت أُسدَ الشَّرى ... يا رَحْمتي لأسودها من سُودِها
ولما طلب بسبب هذه الأبيات هرب وقال من قطعة، وعنى الصليحي:
قَتَلَتْهُ حرّابةُ ابن نجاحٍ ... وطلبتمْ بثأْره العثماني
وله:
ما العيشُ إِلاّ كاعبٌ وعُقارُ ... وأَكارمٌ نادمتُهمْ أَخيارُ
قُمْ فاسقني بالكأْسِ من تلك التي ... أَهلُ النُّهُى في وَصْفها قد حاروا
واشرَبْ ولا يَلْحقْك خوفُ عقوبة ... فيها فَرَبُّ حِسابها غَفّارُ
خُذْها فإِن حَلَّتْ نَجوْتَ وإِن تكنْ ... حَرُمَتْ، لمحو ذُنوبها استغفار
لا تصرفوا عنّي الكبير فإنّ لي ... في شُرب كأس كبيرها إِكبارُ
وسلافَةٍ من بيت ذاتِ سَوالفٍ ... بجفوننا وجفونها أَسرارُ
لو كان فيها رِيبةٌ ما كان في ... جَناتُه منها لنا أَنهارُ
ومن مديحها في بني عبد المدان:
وأَخافني مَلَكي فلمّا زُرتُهمْ ... أَصبحت أَقصِد مثلَهم وأَزارُ

الشيخ إسماعيل بن محمد المعروف ب
ابن البوقا
وزر لجياش بن نجاح ثم للملوك من أولاده من بعده وهم الفاتك والمنصور وعبد الواحد بنو جياش، وما منهم إلا من قدمه، وعظمه، وأكرمه، وكان في نفسه سيداً رئيساً جليل القدر، واسع الخير، سمحاً بماله وجاهه، وما في الكرماء إلا من لم يضاهه، مأمون الغائلة ميمون الشان، طاهر المحضر والصدر واللسان، حكى عمارة أنه لقي أولاده سعيداً وسعداً وعبد المفضل وعبد المحسن بزبيد ولهم النباهة والوجاهة، وبعد الصيت الذي زينته النزاهة، وشعر أبيهم إسمعيل كثير يتغنى بغزله رشاقة، ويتمثل بجزله وثاقة، فمن غزله قوله:
عند رَوْضِ الربيع لي أَوتارُ ... تقتضيها الصهباء والأَوتارُ
وله مطلع قصيدة يخلص فيها إلى مدح يحيى بن حمزة السليماني.
يا طاويَ الفَلَوات طَيَّ المدرجِ ... عُجْ نحو مُنْعَرج الكَثيب وعَرِّجِ
وشعره طيب حسن، وهو كثير موجود باليمن.
بنو أبي عقامة
يذكر العماد في الصفحات التالية تراجم أربعة من بني أبي عقامة، وهي أسرة توارثت القضاء أجيالاً في زبيد، ويرتفع نسبها إلى مالك بن طوق التغلبي، وأحد أجدادها محمد بن هارون كان أول القضاة بزبيد وقد جاءها أيام المأمون في خبر يرويه كثير من الإخباريين، هذا تفصيله:

كان المأمون قد أتى بقوم من ولد زياد بن أبيه وقوم من ولد هشان، وفيهم رجل من بني تغلب يقال له محمد بن هارون، فسألهم عن نسبهم فأخبروه، وسأل التغلبي عن نسبه فقال أنا محمد بن هارون، فبكى وقال أني لي بمحمد بن هارون، يعني وافق اسمه اسم أخيه محمد الأمين بن هرون الرشيد، فقال المأمون: أما التغلبي فيطلق كرامة لاسمه واسم أبيه، وأما الأمويون والزيادبون فيقتلون. فقال ابن زياد: ما أكذب الناس يا أمير المؤمنين إنهم يزعمون أنك حليم كثير العفو، متزرع في الدماء بغير حق، فإن كنت تقتلنا عن ذنوبنا فإنا والله لم نخرج أبداً عن طاعة، ولم نفارق في بيعتك رأي الجماعة، وإن كنت تقتلنا بجنايات بني أمية فيكم فالله تعالى يقول: ولا تزر وازرة وزر أخرى. قال فاستحسن المأمون كلامه، وعفا عنهم جميعاً وكانوا أكثر من مائة رجل. ثم أضافهم إلى الفضل بن سهل ذي الرياستين ويقال إلى أخيه الحسن بن سهل.
فلما بويع لإبراهيم بن المهدي ببغداد في سنة اثنتين ومائتين وافق ذلك ورود كتاب عامل اليمن بخروج الأشاعر بتهامة عن الطاعة، فأثنى الحسن بن سهل على الزيادي وكان اسمه محمد ابن زياد، وعلي المرواني والتغلبي عند المأمون، وأنهم من أعيان الرجال وأفراد الكفاة وأشار بتسييرهم إلى اليمن، فسير ابن زياد أميراً، وابن هشام وزيراً، والتغلبي قاضياً، فمن ولد محمد هارون التغلبي هذا قضاة زبيد وهم بنو أبي عقامة ولم يكن بنو أبي عقامة هؤلاء قضاة فحسب، وإنما كانوا فقهاء ومحدثين وشعراء وذوي مكانة على النحو الذي نقرأ من تراجمهم عند العماد. وقد ظل فيهم القضاء يتوارثونه، حتى أزالهم ابن مهدي حين أزال دولة الحبشة.
ويذكر المؤرخون نصرتهم للشافعية، ويقول عنهم الجعدي: وفضائل بني أبي عقامة مشهورة وهم الذين نصر الله بهم مذهب الإمام الشافعي في تهامة، وقدماؤهم جهروا ببسم الله الرحمن الرحيم في الجمعة والجماعات.
وحين يتحدث الجندي في السلوك عن القاضي الشهيد أبي محمد الحسن يقول وله كتاب نوادر مذهب أبي حنيفة التي يستشنعها أصحاب الشافعية وقد صار الكتاب في اليمن قليل الوجود لأن الجنفية اجتهدت بتحصيله وإذهابه كما فعل بنو عقامة بمفيد جياش لأنه ثلم نسبهم وإذا كان بنو أبي عقامة قد صرفوا عن القضاء بسبب من سيطرة آل مهدي وانتصارهم للشيعة، فقد بقيت لهم مؤلفاتهم وكتبهم وظل منهم، على نحو ما يذكر صاحب التاج، بزبيد والقحمة بقية: وقد حاولت أن أضبط تسلسل بني أبي عقامة في جدول يبين عن تتابعهم، غير أني لم أستطع ذلك على النحو الذي أرجو من دقة، للتباين الذي وجدته بين نسقين: النسق الذي نوحي به الخريدة، والنسق الذي توحي به عبارة التاج آخر مادة عقم حين تحدث عن أحدهم: أبي الفتوح وذكر طافة من أهله.
ولم أجد سبيلاً للترجيح، ذلك أن صاحب الخريدة ينقل عن عمارة، وعمارة موثق معتمد، وثقة كثيرون ممن أرخوا لليمن أو ترجموا لرجاله، وكانت كتبه مصدراً من مصادرهم، الذي مثلاً حين تحدث عن بني أبي عقمة في السلوك يقول: " وقد اعتمدت في ذكرهم ذكره الفقيه عمارة وقد تقدم جماعة على ما ذكر عمارة ورتبه إذ هو خبير بهم فإنه صحب أمنهم فنقل عنهم أحوال متقدميهم.
كما أن العهد بصاحب التاج أنه يستوثق مما يروي، فلا ينقل إلا مطمئناً للذي ينقله والذي ينقل عنه.
ولهذا اضطررت أن أترك ذلك إلى أن يفتح الله بشيء يهدي إلى سواء السبيل.

القاضي أبو عبد الله محمد بن أبي عقامة
الحفائلي
من قضاة زبيدة، ذكر ابن الريحاني المكي أنه كان ذا مال كثير، وكانت له دار لها بابان، على أحد البابين مكتوب: باب إلى السعد، فطالب العلم يفتى، وطالب المال يمنح وعلى الباب الآخر مكتوب: باب عن الشر يغلق، فطالب العلم يفتى، وطالب المال يرزق ذكر أنه قتله ابن مهدي علي لما تغلب على اليمن سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وكان له ولد فاضب شاعر قتله أيضاً. وأنشدني من شعره:
لِلمجدِ عنكمْ رواياتٌ وأَخبارُ ... وللعُلى نحوكمْ حاجٌ وأَوطارُ
تشتاقُكمْ كلُّ أَرضٍ تنزِلون بها ... كأَنَّكم لِبقاعِ الأَرضِ أَمطارُ
فحيثُ كنتمْ فثَغرُ الروض مُبتسمٌ ... وأَين سِرتمْ فدمعُ المزن مِدرارُ

لله قَوْمٌ إِذا حلّوا بمَنزلةٍ ... حَلَّ النَّدى ويسير الجودُ إِن ساروا
لا يَعْجَب النّاسُ منكم في مَسيرِكمُ ... كذلك الفَلكُ العُلْويُّ دَوّارُ
والبدرُ مُذ صِيغَ لا يرضى بمنزلةٍ ... فيها يُخَيِّمُ فهو الدهرَ سيّارُ
وذكره عمارة في شعراء اليمن بعد ذكر بني عقامة وقال: وممن عاصرته، وعاشرته، وكاثرته، من بني عقامة القاضي الفاضل أبو عبد الله محمد بن عبد الله وكان يعرف بالحفائلي وهو من أسماء المكتب وكان نبيلاً فاضلاً فقيهاً متكلماً شاعراً مترسلاً رئيساً ممدحاً، يثيب السائل ويجيب السائل إرفاداً وإفادرة، وجوداً وإجادة، وانتهت رياسة مذهب الشافعي في زبيد إليه وإلى ابن عمه القاضي أبي محمد عبد الله بن محمد بن أبي الفتوح فمن شعر هذا القاضي الحفائلي ما كتب به جواباً إلى ابن عمه أبي العز قوله:
رِفْقاً فَدَتْك أَوائلي وأَواخري ... أَين الأَضاةُ من الفُرات الزاخر
أَنتَ الذي نوّهتَ بي بين الورى ... ورفعت للسارين ضوءَ مفاخري
ومن شعره في الحداثة قوله:
وبُكْرةٍ ما رأَى الراؤون مُشبِهها ... كأَنّما سُرقت سِرّاً من الزمنِ
غيمٌ وظِلٌّ وروْضٌ مُونِقٌ وهوىً ... يجري من الروح مجرى الروج في البدنِ
غنَّتْ بها الطيرُ أَلحاناً وساعدها ... رقصُ الغصون على إِيقاعها الحسنِ
فقد سكرتُ وما الصهباءُ دائرة ... فيها ولا نَغَمات العودِ في أُذني
وقوله من قصيدة إخوانية:
تشتاقكم كلُّ أَرضٍ تنزلون بها ... كأَنّكم لبقاعِ الأَرض أَمطارُ
تقدم له هذا البيت.
وقوله في العتاب:
عَذَرْتُك لو كانت طريقاً سلكتَها ... مع الناس أَو لو كان شيئاً تقدّما
فأَمّا وقد أَفردتَني وخَصصتني ... فلا عُذْرَ إِلاّ أن أَعود مُكرَّما
قال عمارة، ومما كتب به جواباً من كتاب تشوقت فيه إليه:
إِذا فاخرتْ سَعدُ العشيرةِ لم يكن ... لأَخْلافها إِلاّ بأَسلافك الفخرُ
وبيتُك منها يا عُمارة شامخٌ ... هَوَتْ تحته الشِعْرى ودان له الشِعرُ
وحيث ذكرنا هذا القاضي الحفائلي فنذكر بني أبي عقامة، قضاة تهامة، ونقدم والده وهو:

القاضي أبو محمد عبد الله بن علي بن محمد بن علي
ابن أبي عقامة
وكان شاعراً مجيداً، ومن شعره:
ما لهذا الوَفاءِ في الناس قلاّ ... أَتُراهم جَفَوْهُ حتى استقلاّ
ومن ترسله يخاطب ابن عمه القاضي أبا حامد بن أبي عقامة وقد شجرت بينهما منافسات على الحكم: سل عني قومك ونفسك، ويومك وأمسك، تجدني معظماً في النفوس، قاعداً على قمم الرؤوس.
ومنهم:
القاضي أبو العز عثمان بن أبي الفتوح
ابن علي بن محمد بن علي بن أبي عقامة، وهو ابن عم الحفائلي. ذكره عمارة، في فضله بالغزارة، وفي جاهه بالنضارة، وقال ولي القضاء في الأعمال المضافة لزبيد، وكان جواداً مداحاً ممدحاً، يخلع على الشعراء ويعينهم.
وكان أبوه القاضي أبو الفتوح واحد عصره، ونسيج دهره في العلم وصنف كتباً في المذهب والخلاف، لم يتفقه أحد بعد تصنيفها إلا منها.
وفي هذا أبي العز ولده يقول القاضي الجليس أبو المعالي عبد العزيز بن الحباب، وقد أوردناه في شعراء مصر، حين دخل اليمن في أيام الراهب قصيدة منها:
أَبني عَقامةَ لست مُقتصِداً ... في وصفكم بالمَدحِ ما عِشتُ
عَلِقَتْ يدي منكم بحبل فتىً ... ما في مرائر ودِّه أَمْتُ
ومن شعر أبي العز قوله في رزيق الفاتكي الوزير:
نَفْسي إِليك كثيرةُ الأَنفاسِ ... لولا مُقاساةُ الزمان القاسي
وله:
بأَيّ المعاني من كِتابِك أَكْلَفُ ... وقد لاح طُومارٌ من النَّفس أَكلفُ
ومنها في الفخر:
أَصِخْ أُذناً وانظر بعينك هل ترى ... من الناس إِلاّ من عَقامة تردف
وضمن فقال:
ترى الناس ما سِرْنا يسيرون خَلْفَنا ... وإِن نحن أَوْمَأْنا إِلى الناس وقفّوا
ومن مراثيه قوله في أهله وقد زار مقابرهم بالعرق:

يا صاحِ قِفْ بالعِرْق وقِفْةَ مُعْوِلِ ... وانزِل هناك فَثَمّ أَكرمُ مَنزلِ
نزَلت به الشُّمُّ البواذِخُ بعدما ... لحظَتْهمُ الجَوْزاء لحظةَ أَسفلِ
أَخواي والولدُ العزيزُ ووالدي ... يا حَطْم رُمْحي عِند ذاك ومُنْصُلَي
ومنها:
هل كان في اليمنِ المُباركِ قبلنا ... أَحدٌ يُقيم صَغا الكلام الأَمْيَل
حتى أَنار الله سُدْفةَ أَهله ... ببني عَقامة بعد ليلِ أَلْيَلِ
لا خَيْرَ في قول امرئٍ متمدّحٍ ... لكن طغى قلمي وأَفرط مِقْوَلي
ومنهم:

القاضي أبو محمد الحسن بن أبي عقامة
وهو أقدم عصراً ممن ذكرناهم، كبير البيت والقدر، غزير الفضل، وكان فقيهاً شاعراً، إماماً في العربية واللغة ماهراً، قتله الملك جياش بن نجاح صاحب زبيد وقد ولي القضاء في زمانه. ولسبب قتل جياش له يقول ابن القم الشاعر يخاطب جياشاً:
أَخطأَت يا جَيّاشُ في قتل الحسنْ ... فقأْتَ والله به عَيْنَ الزمنْ
وفيه يقول:
تَفِرُّ إِذا جرَّ المُكَرَّم رمحَهُ ... وتَشْجُع فيمن ليس يُحْلي ولا يُمْري
قال والعقاميون ينقمون هذا البيت على ابن القم ويقولون: قتل صاحبهم أهون عليهم من كونه لا يحلي ولا يمري.
ومن شعر هذا القاضي أبي محمد أنه لما سمع قول المعري:
إِذا ما ذكرنا آدماً وفِعالُه ... وتزويج ابْنيه لبنَتْيه في الدُّنا
علمنا بأَنّ الخلق من أَصلِ زَنْيَةٍ ... وأَنَّ جميع الناس مِن عُنْصر الزِّنا
أجابه بقوله:
لَعَمْرُك أَمّا فيك فالقولُ صادِقٌ ... وتكذِبُ في الباقين مَنْ شَطَّ أَوْ دَنا
كذلك إِقرارُ الفتى لازمٌ له ... وفي غيره لَغوٌ كذا جاءَ شرعُنا
وشعره في نهاية من الحسن والجودة:
الغر نوق
ذكر أنه من الطارئين على تهامة ومن جيد شعره قصيدة يمدح بها القاضي المعروف بالحفائلي أولها:
غُدِقَت مَقاليدُ الإِمامهْ ... بالشُّمِّ آلِ أَبي عَقامهْ
القوم راحةُ طفلهمْ ... في المهد تَهطِل كالغَمامهْ
ومنها في الممدوح وهو طائل في معناه:
وإِذا العَروبة أَسْفرتْ ... عن وجه مِصْقعة لِثامَهْ
هنّا منابرَه الأَذا ... ن به وعَزَّتْها الإِقامةْ
وهو القائل في الوزير مفلح الفاتكي وكان حبشياً معلوطاً:
أَأَكرمَ وَجْهٍ خَطَّه كَفُّ لاعِطِ ... فَدَتْ نَعْلَك اليُسرى جُدودُ الأَشايط
بنو الأشيط عرب ريمة قبل لم يأت في اللغة لاعط وإنما جاء عالط.
ودخل هذا الشاعر المدرسة عند الفقيه ابن الأبار بزبيد وقد تضايقت المجالس لكثرة الطلبة فارتجل قوله يخاطب الفقيه:
مجلسُك الرَّحْبُ من تَزاحُمه ... لا يَسَعُ المرءَ فيه مَقْعَدُهُ
كلٌّ على قَدره ينال، فذا ... يَلْقُط منه وذاك يحْصِدُهُ
الفقيه أبو العباس أحمد بن نجارة الحنفي
وصفه بالتبريز في علم الكلام واللغة والأدب، لكنه امتطى مركب الطرب، وعرف بالخلاعة والاستهتار، واجتاز ليلة بدار القاضي أبي الفتوح بن أبي عقامة وهو سكران، وكان القاضي فظاً في ذات الله وابن نجارة يخلط في كلامه وهذيانه، وليس عند القاضي أحد من أعوانه، فصاح عليه القاضي: إل هذا الحد يا حمار، فوقف ابن نجارة وارتجل مخاطباً له:
سَكَراتٌ تعتادُني وخُمارُ ... وانتشاءٌ أَعتاده ونُعارُ
فَمَلومٌ مَنْ قال أنّي ملومٌ ... وحِمارٌ من قال أنّي حمارُ
الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله بن علي
ابن هندي
ذكره الرشيد ابن الزبير في كتاب الجنان، وقال هو خاتم أدباء العصر، بهذا المصر، وقال فمما أنشدني من شعره قوله:
عَقْلُ الفتى مَّمِن يُجالسه الفتى ... فاجعل جليسك أَفضلَ الجلساءِ
والعلم مصباح التُّقى لكنّه ... يا صاحِ مُقتَبسٌ من العلماء
وقوله:
لَثِمَتُ بِفي التَّفَكُّرِ وَجْنَتيْه ... فسالَتْ وجْنَتاه دماً عَبيطا

وصافحني خيالٌ منه وَهْناً ... فخطَّتْ في يَديْه يَدي خُطوطا
وقوله في معناه:
هَممتُ أَنْ أَفْكِرَ في حُسنِه ... فَخَرَّ مَغْشِيّاً لِفَرْط الأَلمْ
وأَشْعَرَ الوهم إِلى خدّه ... فانصبغ الخدّان منه بدمْ
وقوله أيضاً:
وإِخوانٍ بَذَلْتُ لهم وِدادي ... وحُطتُ مكانهم عندي وصُنتُ
فكم من ليل مَهْلكةٍ وبؤسٍ ... وحَدٍّ مَنِيَّةٍ فيهم ركبتُ
وكم من بحرِ مَعْطَبَةٍ وموتٍ ... سبَحت مُخاطراً فيهم وخُضتُ
أَضاعوني وما ذنبي إِليهمْ ... سوى رُخْصي لما أَنّي رَخُصْتُ
وقوله:
وكأْسِ مُدامةٍ في كَفِّ خُشِفٍ ... رَخيم الدَّلِّ مَلْثوغِ الكلامِ
حكَتْ بَهْرامَ إِذ ترك الثُّرَيّا ... يساير في الدُّجى بدرَ التَّمامِ
وقوله:
أَقْصيتْني لما افتقرت ولم أَكن ... أَرجوه منك وقد علمتَ كمالي
هذا المثلث ذو ثلاثةِ أَضلُعٍ ... لا غيرَ، وهو مُقدَّمُ الأَشكال
وقوله في أرمد:
قلتُ له وَرْدٌ بخدَّيْك، ذا ... فقال لا بَلْ دمُ عُشّاقي
قلتُ فمن أَهرقه فيهما ... فقال لي: مُرْهَف أَحداقي
قلتُ فما بُرهانه قال لي ... بقيةُ الدمِ بآماقي
وقوله وقد أحسن في التشبيه:
تَوَسَّدَ الوردَ وقد ومال بالْ ... أَجفان من عَيْنيه إِغفاءِ
فأَشْبَهَ البَدْر إِلى جَنْبه ... سَحابةٌ في الجوّ حَمراءِ
وقوله:
الخير زَرْعٌ والفتى حاصدٌ ... وغاية المزروع أَن يُحْصَدا
وأَسعدُ العالَمِ مَن قَدَّم الْ ... إِحسان في الدنيا لينجو غدا

ابن مكرمان
الشاعر من أهل جبال برع قال عمارة: وممن رأيته قد ناهز المائة الشاعر المعروف بابن مكرمان، قال ورأيت أهل تهامة يكرمونه ويعظمونه ويخلعون عليه، وله قصيدة سارت في اليمن في أفواه العامه مدح بها الأمير الشريف غانم بن يحيى بن حمزة السليماني فأثابه عنها بألف دينار فمنها:
ما عَسى أَن يُريدَ منّي العَذولُ ... وفُؤادي مُتَيَّمٌ متبولُ
هَمُّه الهجرُ للغواني وقَلبي ... سَلبتْهُ خَريدة عُطْبولُ
كيف صَبري وقد بدالي من السَّجْ ... ف أَثِيثٌ جَعْدٌ وخَدٌّ أَسيلُ
وجهُها أَبلجٌ ومَبْسِمها د ... رٌّ ولكنَّ الطَّرْف منها كحيلُ
ولها ناهدٌ وخصرٌ لطيفٌ ... وقَوامٌ سَمْتٌ ورِدْفٌ ثقيلُ
يطلب العاذلُ المُكلَّف بَيْني ... يَنْثَني القلبُ وهو لا يستحيلُ
يا خَليليَّ من ذُؤابة قحطا ... ن بنِ هودٍ أَلان جَدَّ الرَّحيلُ
إِنَّ بالسّاعد الحصينة مَلكاً ... طالبياً مَنْ زاره لا يَعيلُ
عَلَوِيّاً مُتَوَّجاً هاشميّاً ... حَسَنَيّاً نَواله مَبْذولُ
أَنتّمُ يا بني البَطين لُيوثٌ ... وغُيوثٌ وأَبحرٌ وسُيول
مارَنا طالبٌ إلى مجدكم بال ... طَّرْف إِلاّ ثَناه وهو كَليلْ
ومتى همّ أَن يُساويَكمْ أعْ ... وَزَهُ السُّودَدُ العريض الطويلُ
يا سليل البَطِين والحُرَّةِ الزهْ ... راء هي الطُّهر والحَصانُ البَتولْ
خمسةٌ خَصَّهمْ بتخصيصه الخا ... لقُ رَبّي وهو اللطيف الجليل
ما لهم سادسٌ غداة الذي مدَّ ... عليهم كساءه جِبريلُ
ما تَرَى في الملوك كالغانِم المَلْ ... ك ابن يحيى هيهات أَيْنَ المثيلُ
أَنتَ يا با الوَهَّاس بَدْرُ مَعالٍ ... ماله مُذْ أَضاء فينا أُفولُ
لك خُلْق كأَنّه عَرْفُ مِسْكٍ ... دُونه في مَذاقِهِ السَّلسبيلُ
حيث ما كنتَ أَو حللَت من الأَرْ ... ض حَليف العُلى فأَنت أَصيلُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16