كتاب : خريدة القصر وجريدة العصر
المؤلف : العماد الأصبهاني

فأَقسَمَتْ لا نَشَزَتْ عنه وقد ... أَقسم لا مال إِلى طَلاقها
ومنها:
ليس لفخر الدين ندٌّ في الوَغى ... إِذا الحروب شمرت عن ساقها
تهابُه الأُسود في آجامها ... وَحَيَّةُ الوادي لَدى إِطراقها
ويخضِب السُّيوفَ باصطباحها ... من عَلَق النَّجيع واغتباقها
كأَنما أَعداؤه أَحبّةٌ ... يشتاق في الحرب إِلى اعتناقها
والخيلُ لا تقتحم الموت إذا ... دارت رَحى الحرب سوى عِتاقِها
سَحَّتْ بجَدْواه سَحاب كَفِّه ... فخافت العُفاة من إِغراقها
عليه من حُسنِ الثناء حُلَّةٌ ... قَشيبةٌ لم يَخْشَ من إِخلاقها
ومنها:
أَمضى حسامٍ عقدته الدَّوْلة النّورية الغَرّاء في نِطاقها
أَرسل نور الدين منها شُهُباً ... على العِجى لم يثن من إِحراقها
وقال:
رُوَيْدك كم تَجْني وكم تَتَدَلَّلُ ... عَلَيّ وكم أُغْضي وكم أَتَذَلَّلُ
لَزِمْتَ مَلالاً ما تَمَلُّ لُزومَه ... فقلبي على جَمْر الغَضا يتَمَلْمَل
وَوَكَّلْتَني بالليل أَرعى نجومَه ... وأَنت بطول الصَدّ عني مُوَكَّل
ولا غَرْوَ إِن جادت جفوني بمائها ... إِذا كان مَنْ أهواه بالوَصل يبخل
وقد صار هذا السُّخْط منك سَجِيَّةً ... فَليْتَكَ يَوْماً بالرِّضا تتجَمَّلُ
فكُنْ سالكاً حُكمَ الزمان فإِنه ... يجورُ مِراراً ثم يَحْنُو فيَعْدل
وقد كان حُسْنُ الصَّبْر من قبلُ ناصري ... فإِن دام ذا الإِعراض عني سَيَخْذُل
وأَحْزَمُ خلق الله رأْياً فتىً إِذا ... نبا منزِلٌ يوماً به يتحوَّل
فكم ملَّ منّي عائدي ومَلَلْتُه ... وعاصيت في حُبِّيك من كان يعذِلُ
وأَيّامُنا تُطْوى ولا وَصْلَ بيننا ... وتُنْشَر والهِجران لا يَتَزَبَّلُ
أَرى الحُسْنَ قد ولَّى عِذارك دَوْلَةً ... ولكنه عمّا قليلٍ سيُعْزل
فأَحْسِن بنا ما كان ذلك ممكناً ... وأَجْمِل فقتلي عامداً ليس يَجْمُل
وقال:
ترنُّمُ الوُرْقِ على غصونها ... دَلَّ أَخا العِشق على شُجونها
فجاد بالدَّمْع مَعين جفنِه ... ودَمْعُها لم يَبْدُ من عيونها
دعْ عنك لَوْمَ عاشقٍ أَضْلُعُه ... تحسّ حرَّ النّار في مضمونها
قد زاحم الوُرْقَ على رَنينها ... وشارَك النِّياق في حنينها
وقد بكى شوقاً إِلى قرينه ... كما بكت شوْقاً إِلى قرينها
وليس يبكي فقدَ ليلى أَحَدٌ ... في عَرْصَةِ الدّار سوى مَجْنونها
أَفدي الذي تفعلُ بي جُفونه ... فِعْل الظُّبا تُسَلُّ من جُفونها
ما ضَرَّه لو أَصْبحت أَخلاقه ... كَقَدِّه تُسعفني بلينها
وقال، مما يكتب على خريطة:
يا حاملي لا رأَيتَ الدهر إِقلالا ... وزادَك الله توفيقاً وإِقبالا
أَعطاك رَبُّك أَموالاً تنالُ بها ... بين الوَرى من جميل الذِّكر آمالا
الرزقُ يأْتيك والأَعمارُ ذاهبةٌ ... أَنْفِق ولا تَخْش من ذي العرش إِقْلالا
وقال من قصيدة:
وَمِيضَ بَرْقٍ أَرى في فيك أَمْ شَنَبا ... وهل رَشَفْتُ رُضاباً منه أَمْ ضَربَا
أَفْدي الذي ما أَبى باللَّحظِ سَفْكَ دمي ... لكن متى ما طلبْتُ العَطْف منه أَبى
ظَبْيٌ من الترك أَصْمَتْني لواحِظُه ... وأَسهم الترك إِن أَصْمَتْ فلا عجبا
يبدو بضِدَّيْن في خدَّيْه قد جُمِعا ... ماء الشباب ونار الحسن فاصْطحَبا
فذلك الماء أَبكى ناظريَّ دماً ... وذلك الجَمْرُ أَذْكى في الحَشا لَهَبا

شكا فؤاديَ مِنْ عِبْءِ الهوى تعباً ... كما شكا خصْرُه من رِدْفِه تَعبا
يَهُزُّ أَعْطافَه دَلُّ الصِّبا فترى ... غُصْناً من البان يثنيه النسيمُ صَبا
يا مُطْلِعَ البدر فوقَ الغُصْن معتدلاً ... يلوح ما بَيْنَ شُرْبوشٍ وطَوْقِ قَبا
إِعْدِل فإِن رُسومَ الجَوْر قد دَرَسَتْ ... مُذْ صار فينا مَكينُ الدّين مُحْتَسِبا
ثم سمع فتيان أنني أثبت شعره، وأجريت في الفضلاء ذكره، فقصدني بقصيدته وحضر عندي لزفاف خريدته، وسألني إثباتها في ديوان الفضل وجريدته، فحليته بفريدته. وذلك مما أنشدني لنفسه يمدحني به:
نَعَشْتَ قوماً وكانوا قبْلُ قد دَثَروا ... لولا عُلاك، فطاب الوِرْدُ والصَّدَرُ
أَحْيَيْتَ شعرهُمُ من بعد مِيتَته ... قِدْماً، وقد شعروا قِدْماً وما شَعُروا
أٌقسمتُ ما رَوْضةٌ مُخضرَّةٌ أُنُفٌ ... بانَتْ تَسُحّ على أَقطارها القُطُر
ذُبابُها هَزِجٌ، نُوّارُها أَرِجٌ ... نباتُها بَهِجٌ مُسْتَحْسَنٌ عَطِر
كأَنَّ فاراتِ مِسْكٍ وَسْطها فُرِيَتْ ... فَنَشْرُها بأَماني النفسِ مُنْتَشِر
شَقّ النسيم على رِفْقٍ شقائقها ... فضُرِّجَتْ بدمٍ لكنه هَدَرُ
قَثْب الزَّبَرْجَد منها حُمّلتْ صَدَفَ الياقوت، فيها فتيتُ المِسْك لادُرَر
أَحداق نَرْجِسها ترنو فأَدمُعُها ... فيها تَرَقْرَقُ أَحياناً وتَنْحَدِر
وللأَقاصي ثُغورُ الغِيد باسمة ... سيكت بإٍسْحَلَةٍ أَنيابُها الأُشُرُ
تُريكَ حُسنَ سَماءٍ وهي مُصْحِيةٌ ... والأَنْجُم الزُّهر فيها ذلك الزَهَرُ
تبدو بها طُرَرٌ من تحتها غُرَرٌ ... يا حَبَّذا طُرَرُ الأَزْهارِ والغُرَرُ
يوماً بأَحسنَ مِنْ خَطّ العماد إِذا ... أَقلامُه نُشِرَتْ عن حِبْرِها الحِبَرُ
ولا العُقودُ بأَجيادِ العَقائل كالدُّمى فَمُنْتَظِمٌ منها ومنتثِر
على ترائب كافورٍ تُزَيِّنُها ... حِقاق عاج عليها عاجَتِ الفِكَر
تلك اللآلي تَروقُ النّاظرين فما ... يَسُومها سأَماً مِن حسنِها النظر
يوماً بأَحسنَ من نظم العِماد ولا ... من نثره، فبه ذا العصرُ يفتخر
أَضحت صِعاب المعالي عنده ذُلُلاً ... تحوي دقائقَها من لفظه الدُّرَرُ
كأَنما لفظُه السِّحر الحَلال أَو الماء الزُّلال النَّقاخُ الطيِّب الخَصِر
شِيبَتْ به قَهْوَةٌ حمراءُ صافيةٌ ... عُصارُها غَبَرَتْ من دونه العُصُر
ولا السحائب بالأَنداء صائبةً ... فَجَوْدُها غَدِق الشُؤْبُوبِ مُنْهَمِر
حتى إِذا انقشعت من بعد ما هَمَعَتْ ... أَثْنى عليها نباتُ الأَرض والشَّجَر
يوماً بأَغْزَر من كَفِّ العماد ندىً ... فكلُّ أَنْملةٍ من كَفِّه نَهَر
فلِلغمائم تقطيبٌ إِذا انْبَجَست ... وبِشْرُه دونه عند النَّدى القمر
ما ابن العميد ولا عبد الحميد ولا الصابي بأَحسَن ذِكْراً منه إِنْ ذُكِروا
ولو يناظره في الفقه أَسعدُ لم ... يَسْعَد، وأَحْصَره عن نُطْقِه الحَصَر
هذا ومَحْتِده ما إِن يساجِلْه ... خَلْقٌ إِذا الصِّيدُ في نادي العلى افتخروا
أَصِخْ محمَّدُ إِني جشدُّ معتذِرٍ ... إِنّ المقصِّر فيما قال يعتذر
يا ابن الكِرام الأُلى سارتْ مكارمُهم ... حتى تعجَّبَ منها البَدْوُ والحَضَر
راووق حِلْمِك فيها أَنت تسمعه ... يُبدي الجميلَ وفيه العيب يستتر
وأنشدني لنفسه في غلام شواء:
أَنا في الهوى لحمٌ على وَضَمٍ لِما ... عايَنْتُ من بَرْحٍ ومن بُرَحاءِ
بِمُشَمِّرٍ عن مِعْصَمَيْه مُزَنَّرٍ ... يهتَزُّ بَيْنَ التِّيه والخُيَلاء

غَمِر اللِّباس، متى بدا لك وَجْهُه ... أَبصرتَ فوق الأَرض بَدْرَ سماء
ما مَدَّ مُدْيَتَه لِقَطْع شِوائِه ... إِلاّ أَرانا أَعجَبَ الأَشياء
ظَبْيٌ لواحِظُه أَشَدُّ مواقِعاً ... مِنْ شَفرةٍ بيدَيْه في الأَحْشاء
يَسْطو على ما ليس يَعْقِل مثلما ... يسطو بمُدْيَته على العُقلاء
فاعْجَبْ لِشوّاءٍ فَعالُ جُفونه ... في الناس ضِعْفُ فعال بالشاء
وأنشدني أيضاً لنفسه:
اقْدَحْ زِنادَ السُّرورِ بالقَدَحِ ... والمَحْ به ما تشاء من مُلَحِ
صَهْباء قُلْ للّذي تَجَنَّبَها ... صَهْ، باءَ بالهَمِّ تاركُ الفَرَحِ
وأنشدني لنفسه:
وشادنٍ، صِبْغةُ شُرْبُوشِه ... في لَوْنها والفِعل، كاللَّهْذَمِ
مُعْتَقِلٌ من قَدِّه ذابلاً ... ولَحْظُه أَمضى من المِخْذَم
بلا غَرْوَ أَنْ راحَ ومَلْبُوسُه ... كأَنَّما أصدَرَهُ عن دمي
كأَنَّهُ بدرٌ تَجلّى لنا ... من شَفَقٍ أَحمرَ كالعَنْدَم

أبو الحسن علي بن جهير
من الشعراء المعروفين بدمشق. وكان يغني بشعره، وله نظم مطبوع مقبول، عذب معسول، وإليه تنسب هذه القطعة التي يغنى بها:
القلب مع الحبيب سائرْ ... والنوم من الجفون طائرْ
ابن روبيل الأبار
هو أبو محمد الحسن بن يحيى بن روبيل الأبار، من أهل دمشق. ذكره وحيش الشاعر وقال: كان شيخاً مطبوعاً ديناً ناسكاً لا يشرب الخمر ولا يقرب المنكر؛ وله دكان في سوق الأبارين يبيع الإبر. قال: ورأيت ابن الخياط جالساً على دكانه، وتوفي بدمشق سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة.
قال: ومن شعره في مدح ابن الصوفي رئيس دمشق:
يا مُحْيِيّ الدّين بعد ما دَثَرا ... ومُشْبِهاً في زمانه عُمَرا
ومَنْ إِذا ما ذَكَرْتَ سيرَته ... سمعتَ ذِكْراً يُجَمِّل السِّيَرا
أُنْظُر إِلى عبدك الحقير فقد ... جار عليه الزَّمان واقتدرا
وخانه سَمْعُه وناظره ... مِنْ بعد ما كان يَثْقُب الإِبَرا
وصار في السّوق كالأَجير، وهلْ ... يُفْلِح من صار يُشْبِه الأُجرا
وماله موئلٌ يلوذُ به ... سِواكَ يا مَنْ يُجَمِّلُ الوُزَرا
قال: وكان مع نسكه وعفته، مغرى بهجو زوجته. وذلك أنها أشارت عليه بمدح كبير فمدحه فما نفع، فهجاه فصفع، فقال: لولا زوجتي لما صفعت، ولولا تغريرها بي لما وقعت. فقال يهجوها:
أُغْرِيَتْ زوجتي بشُرْب العُقارِ ... أَسكنتْني بجنب دار القِمارِ
أَطعَمَتني مُخّ الحِمار فلمّا ... أَبصرتْني قد صِرْتُ مثل الحمار
بذلتْ فرجها وصاحت إِلى النّا ... س هلمّوا يا مَعْشر الفُجّار
وقال:
لي قِطَّةٌ أَنظفُ مِنْ زوجتي ... ودُبرها أَنظفُ مِنْ فيها
وكلّ ما صوّره ربُّنا ... من الخنا رَكَّبه فيها
وقال:
قرديَ في الأَقمين وَقّادُ ... وقِرْدُ إِمراتيَ عَوّادُ
لأَنها مُغرمةٌ بالغِنا ... وتشرب الخمرَ وترتاد
وجملة الأَمرِ بأَني لها ... ما دُمتُ طولَ الدهر، قوّادُ
وقال فيها، وكان يسكن في درب صامت من دمشق:
في دربِ صامتَ قَحبةٌ ... قد أَشبعت كلَّ المَدينه
ولها أَخٌ في رأْسه ... قَرْنٌ ولا صاري السفينه
يرضى بما ترضى به ... ويبيع عُنْبُلَها بتينه
لو كان سلمانٌ يعيش لما رضي مِنْ ذا بسينه
قال، وقلت له: ومن سلمان؟ قال: كان ضامن البد بدمشق قديماً. والبد هو الماخور.
عبيد بن صفية
جارية ابن الصوفي ذكر لي سالم بن إسحق المعري أن هذا عبيداً كان شاباً ذكياً، نشأ بدمشق، ولد مملوكة يقال لها صفية من إماء ابن الصوفي وزير صاحب دمشق، فمات في عنفوان شبابه.
قال: وأنشدني لنفسه:

مدحتُ أَبا الفضل الأَمين، جهالةً ... بشعرٍ إِذا ما أَظلم الشِّعر أَشرقا
فأَلبسني ثوباً خليعاً كعِرْضه ... فلم يبق إِلاّ ساعةً وتمزقا

المشتهى الدمشقي
أبو الفضل جعفر بن المحسن ذو النظم المشتهى، والفضل الذي له في فنه المنتهى، واللفظ الرائع، والخاطر المطاوع، نظمه معتدل المنهاج، صحيح المزاج، أحبر من الديباج، وأزهر من السراج الوهاج.
له في الفستق:
كأَنّما الفُسْتُق المُمَلَّحُ إِذْ ... جاء به مَنْ سَقاك صَهْباءَ
مثلُ المَناقيرِ حين تفتحُها ... وُرْقُ حمامٍ لِتشربَ الماء
وله فيه:
أُنظرْ إِلى الفُسْتُق المَمْلوح حين بدا ... مُشَقّقاً في لطيفات الطيافيرِ
واللُّبُّ ما بين قِشْرَيْه يلوح لنا ... كأَلسُنِ الطيرِ ما بين المناقير
وله:
دع حاسِدِيّ وما قالوا فقولُهم ... مما ينّبه بي في البدْوِ والحَضَرِ
فليس يُرْمى من الأَغصان ذو ورَقٍ ... وليس يُرْجَم إِلاّ حامل الثمر
وله:
وكنت أَرجّي أَن أَرى منك رُقعةً ... أُنَزّه فيها ناظري بقراتِها
ولكن قضتْ نَفْسُ المودَّةِ نحبَها ... لديك وما أَعلمتْني بوفاتها
وله:
وروضة أَبْذنج تأَمَّلتُ نَبْتها ... لها منظرٌ يزهو بغير نظير
وقد لاح في أَقْماعِه فكأَنَّه ... قُلوبُ ظِباءٍ في أَكفِّ صُقور
وله:
ومعذِّرين كأَنَّ نبتَ خُدودِهم ... أَشْراكُ ليلٍ في عِراض نهار
يتصيَّدون قلوبنا بلحاظهم ... مُتَعَمِّدين تصيُّدَ الأَطيار
حتى إِذا اكتستِ الخُدودُ صنائعاً ... ناديتُ من شعفي وشدة ناري
يا أَهل تِنّيس وتُونةَ قايسوا ... كم بين طَرْزِكُمُ وطَرْز الباري
وله:
وما قلتُ شعراً رغبةً في لِقا امرئٍ ... يُعوِّضُني جاهاً ويُكْسِبني بِرّا
ولا طرَباً مني إلى شُرب قهوةٍ ... ولا لحبيبٍ إِن نأَى لم أُطِقْ صبرا
ولكنني أَيقنتُ أَنيَ مَيِّتٌ ... فقلت عساه أَن يخلِّد لي ذِكرا
وله في غلام عدل محنك:
يا أَهلَ رحبةِ مالكٍ ... قلبي المشوق على المقالي
مِنْ بعض أَولاد العُدو ... ل بقامةٍ ذاتِ اعتدالِ
ما صار بدراً كاملاً ... حتى تحنّك بالهلال
وله في الجرب، أبيات حقها أن تكتب بماء الذهب، وهي:
رآني الفضلُ في فضلي سماءً ... فأَطلع ذي الكواكب فيّ حَبّا
وكفَّ بها يدي عن كل وَغْدٍ ... يقبّلُ ظهرها وكساه رُعبا
وأَوقع بين أَظفاري وبيني ... ليأخذَ ثأْرهنّ لديَّ غَصبا
لأَني كنت أنهبهن قَصّاً ... فصيّرني لهنّ الدهر نَهْبا
البديع الدمشقي
أبو فراس طراد بن علي الدمشقي ذكره الشريف حيدرة العلوي الزيدي المصري المولد، وهو شيخ ورد واسطاً من جانب فارس سنة خمس وخمسين وخمسمائة، قال: وكان ينظم نظماً ركيكاً ينتجع به، فلما رأى أنه قلما ينفق نظمه صار رائضاً للخيل وصاروا يحسنون إليه لأجل الرياضة. قال: فارقت مصر منذ عشرين سنة وسألته عن الشعراء بها فذكر من جملتهم البديع الدمشقي، وقال: هو معدود في الشعراء، ووهب له صاحب مصر يوماً ألف دينار.
فمما أنشدنيه من شعره، من قصيدة:
هكذا في حبّكم أَستوجبُ ... كبِدٌ خحَرّى وقلب يَجِبُ
وَجَزا مَنْ سهِرت أَجفانُه ... هِجرةٌ تمضي وأُخرى تعقِبُ
يا لَقومي كلّ ما سهَّلْتمُ ... من طريق الصبر عِندي يصعُب
كلُّ ما حلّ بقلبي منكمُ ... فالعيون النُّجْلُ فيه السبب
وبقلبي بدرُ تِمٍّ طالِعٌ ... ما جرت قطُّ عليه السُّحُب
وَجْهُهُ روضةُ حسنٍ أَسفرت ... خدُّه من وَردها مُنْتَقِب
زفراتٌ في الحَشا محرقةٌ ... وجُفونٌ دمعها منسكِب

قاتل الله عَذولي ما درى ... أَنّ في الأَعين أُسداً تثب
لا أَرى لي عن حبيبي سلوةً ... فدعوني وغرامي واذهبوا
قد قبلنا ما حكمتُمْ في الهوى ... ورضينا فعلامَ الغضب
ومنها:
يوَمِنَ الرَّيْحان في عارضه ... أَرجلُ النمل بمسكٍ تكتب
فوحقِّ الحب ما أَدري: الدُّجى ... شَعرُه أَم صُدغه أَم عقرب
وأنشدني من أخرى:
يا نسيماً هبَّ مِسكاً عَبِقا ... هذه أَنفاس رَيّا جِلِّقا
كُفَّ عنّي، والهوى، ما زادني ... بردُ أَنفاسك إِلاّ حُرَقا
ليت شعري، نقضوا أَحبابنا ... يا حبيب النفس، ذاك المَوْثِقا
يا لَصبٍّ أَسروا مُهجته ... بسهامٍ أَرسلوها حَدَقا
وأَداروا بعده كأْس الكرى ... وهو لا يشرب إِلاّ الأَرَقا
يا رياح الشوق سُوقي نحوهم ... عارضاً من سحب دمعي غدِقا
وانثري عِقد دموعٍ طالما ... كان منظوماً بأَيّام اللِّقا
ومنها:
أَسروا قلبي جميعاً عندهم ... بأَبي ذاك الأَسيرَ المُوثَقا
ليت أَيامَ التصابي تثبتت ... بالفتى أَوْ ليته ما خُلقا
وأنشدني له في هجو الجبيلي الشاعر:
أَتى الجبيلي بشعرٍ مثل شِعرته ... كالعَيْر ينهق لمّا عاين الأُتُنا
فكم جهَدتْ بأَن أَهزو بحليته ... فصار يخرى عليها واسترحتُ أَنا

الجبيلي
أنشدني له الشريف حيدرة الزيدي في حمام يناها الأفضل بمصر، كتبت على بابها:
يا داخلَ الحمّام مُستمتِعاً ... منها بريح المسك والمَنْدَلِ
إِيّاك أَن تذهَل من حُسنِ ما ... تنظره في أَوَّل المنزل
في كلّ بيت جَنّةٌ زُخرفت ... ما مثلها في الزمن الأول
رقّتْ وراقتْ فهي في حُسنها ... تحكي زمان الملك الأَفضل
البائع الأعور الدمشقي
قرأت بخط أبي سعد السمعاني من تاريخه المذيل، للبائع الدمشقي في ذم الخلطة:
تعجبني الوحدة حتى لقد ... يعجبني من أجلها لحدي
فليتني إن كنت في جَنَّةٍ ... أَو في لظىً، كنتُ بها وحدي
كيلا أَرى كلَّ أَخي فَعلةٍ ... مُستفحِلٍ مستكلِبٍ وَغْدِ
باب في ذكر محاسن جماعة
من العلماء بدمشق ومن أهل القدس
ثقة الدين
أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله
ابن عبد الله بن الحسين، الدمشقي الشافعي الحافظ، من أصحاب الحديث. لقيته بدمشق وسمعت عليه من التاريخ الذي صنّفه. واتفق لي أيضاً سماع شيء مما ألفه.
وذكر السمعاني أنه رفيقه، وقال: كان أبو القاسم بن أبي محمد من أهل دمشق، كثير العلم، غزير الفضل، حافظاً، متقناً، ثقة، ديناً، خيراً، حسن السمت، جمع بين معرفة المتون والأسانيد، مثبتاً، محتاطاً، رحل في طلب الحديث. ورد بغداد سنة عشرين وخمسمائة ورجع إلى دمشق، ورحل إلى خراسان على طريق أذربيجان. ثم وافيت نيسابور سنة تسع وعشرين، وصادفته بها، وكنت أسمع بقراءته، واجتمعت معه ببغداد سنة ثلاث وثلاثين، وبدمشق سنة خمس وثلاثين، وسألته عن مولده فقال: في العشر الآخر من محرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة.
وأنشدني لنفسه بالمزة من أرض دمشق:
أَيا نفسُ ويْحكِ، جاء المشيب ... فماذا التَّصابي وماذا الغَزَلْ
تولّى شبابي كأَنْ لم يكن ... وجاءَ مشيبي كأَن لم يَزَلْ
فيا ليت شِعْريَ ممّن أَكون ... وما قدَّرَ اللهُ لي في الأَزَل!؟
قال السمعاني: وأنشدنا أبو القاسم الحافظ الدمشقي لنفسه ببغداد:
وصاحبٍ خان ما استودعتُه وأَتى ... ما لا يليق بأَرباب الدِّياناتِ
وأَظهر السرَّ مُختاراً بلا سبب ... وذاك والله من أَوفى الجنايات
أَما أَتاه عن المختار من خبرٍ ... أَن المجالس تُغْشى بالأَمانات

وذكر أنه كتب إلى أصحابنا من دمشق، في ابتداء كتاب، يعاتبني على ترك إنفاذ كتاب دلائل النبوة لأحمد البيهقي وغيره من الكتب، وقد لزم فيها ما لا يلزم:
ما خلت حاجاتي إِليك وإِن نأَتْ داري مُضاعَهْ
وأَراك قد أهملتها ... وأَضعتها كل الإِضاعه
أَنسيتَ ثَدْيَ مودّةٍ ... بيني وبينك وارتضاعه
ولقد عهِدتُك في الوفا ... ءِ أَخا تميم لا قُضاعه
وأَراك بكراً ما تخا ... ف على الصّداقة والبضاعه
فلما وصلت إلى الشام، وأقمت بدمشق، ترددت إليه، ورأيته قد صنف تاريخ دمشق. وذكر أنه في سبعمائة كراسة، كل كراسة عشرون ورقة. وسمعت بعضه منه. وأورد من شعره فيه.
ودخل إلي بكرة يوم الأربعاء تاسع عشر شهر ربيع الأول سنة إحدى وسبعين فعرضت عليه ما أورده السمعاني في حقه، والآن أنت قد سمعته مني. ووعدني أن يكتب لي من شعره ما أورده في هذا الكتاب.
وهو الحافظ الذي قد تفرد بعلم الحديث، والاعتقاد الصحيح، المنزه عن التشبيه، المحلى بالتنزيه، المتوحد بالتوحيد، المظهر شعار الأشعري بالحد والحديد، والجد الجديد، والأيد الشديد.
ومما أنشدنيه لنفسه، وقد أعفى الملك نور الدين قدس الله روحه، أهل دمشق من المطالبة بالخشب، فورد الخبر باستيلاء عسكره على مصر، فكتبه إليه يهنيه، وأملاه علي في الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة أربع وستين وخمسمائة:
لمّا سمحتَ لأَهلِ الشّام بالخشبِ ... عُوّضتَ مصر بما فيها من النَّشَبِ
وإِن بذلتَ لفتح القدس مُحْتَسِباً ... للأَجر، جوزيت خيراً غير محتسَب
والأَجْرُ في ذاك عند الله مرتٌََبٌ ... فيما يُثيب عليه خيرُ مرتقِب
والذّكر بالخير بين الناس تكسِبه ... خيرٌ من الفضّة البيضاء والذهب
ولستَ تُعْذَرُ في تَرك الجهاد وقد ... أَصبحتَ تملِكُ من مصرٍ إِلى حلب
وصاحب المَوْصِل الفيحاء مُمْتَثِلٌ ... لما تُريد فبادرْ فَجْأَة النُّوَب
فأَحزَمُ الناس من قوّى عزيمتَه ... حتى ينالَ بها العالي من القُرَب
فالجَدّ والجِدّ مقرونان في قَرَنٍ ... والحزم في العزم والإِدْراك في الطلب
وطهِّرِ المسجدَ الأَقصى وحَوْزَنَهُ ... من النَّجاسات والإشراك والصُّلُب
عساك تظفر في الدُّنْيا بحسن ثَنا ... وفي القِيامة تلقى حُسنَ مُنقَلَب
وتوفي رحمه الله بدمشق، بين العشائين، ليلة الأحد حادي عشر رجب سنة إحدى وسبعين، ودفن بمقبرة باب الصغير. وصلى عليه الملك الناصر صلاح الدين في ميدان الحصا، وكان الغيث قد احتبس في هذه السنة، فدر وسح عند ارتفاع نعشه، فكأن السماء بكت عليه بدمع وبله وطشه، بلت الأرض برشه. ورثاه جماعة من الفضلاء.
أنشدني فتيان بن علي الأسدي الدمشقي المعلم الأديب لنفسه. وهذه القصيدة مشتملة على حقيقته وطريقته ووفائه ووفاته:
أَيُّ ركنٍ وَهى من العلماء ... أَيُّ نجمٍ هوى من العَلْياءِ
إِنّ رُزْءَ الإِسلام بالحافظ العا ... لم أَمسى من أَعظم الأَرزاء
أَقفرتْ بعده رُبوعُ الأَحاديث وأَقوتْ معالمُ الأنباء
أَيُّها المبتغى له الدهرَ مِثْلاً ... أَتُرجّي تَعانق العَنْقاء
كان ناديه كالرّياض إِذا ما ... ضحك النَّوْر عن بُكا الأَنْداء
كان حِبْراً يَقْري مسامعنا من ... أَسود الحِبْر أَبيضَ الآلاء
كان من أَعلم الأَنام بأَسما ... ءِ رجال الحديث والعلماء
فهي من بعدُ في المَهارق كالأَفْعال إِذا عُرِّيَتْ من الأَسماء
كان من وَصْمة التغيّر والتَصحيف أَمْناً لخابط العَشْواء
كان في دينه قويّاً قويماً ... ثابتاص في الضرّاء والسرّاء
كان علاّمةً ونسّابةً لم ... يخْفَ عنه شيءٌ من الأَشياء
يا لَها من مُصيبةٍ صمّاءِ ... لم يَحِدْ سهمها عن الإِصماء

هَدمت ذروة المعالي ووارتْ ... جسد المجد في ثَرى الغَبراء
قد أَرانا سريرُه كيف كانت ... قبلُ تُجْلى أَسرّةُ الأَنبياء
سيّرتْ نعشَه الملوكُ وأَملا ... كُ السّموات بالبُكا والدُّعاء
وامترى حزنُه مدامعَ أَهل الأَرض حتى جرتْ دُموع السّماء
حَسْبُه أَنّه بهِ استُسْقِيَ الغيثُ فجادتْ به يدُ الأَنواء
نَعَش الله نعشه وسقاه ... رحمةً، بالغمامة الوَطفاء
قد وددنا أَنّ العيون استَهلَّتْ ... عِوَض الدمع بعده بالدماء
وَلتلك الدموع كانت نجيعاً ... قَصَرَتْه حرارةُ الأَحشاء
ولقد قرّت الأَعادي عُيوناً ... طالما أُغضِيت على الأَقْذاء
كم به جُرّع العدوّ ذُعافاً ... من أَفاويق البُؤْس والبأْساء
لم يزل يرغَم العدوَّ ويسعى ... رافلاً في مطارف النَّعماء
من يكن شامتاً فللموت بأْسٌ ... ليس يُثْنى بالعِزّة القعساء
وله وثبةٌ تذِلّ لها أُسْدُ الشَّرى والجيوش في الهيجاء
من يمت فَلْيمت مَمات أَبي القا ... سم عن عِفّةٍ وطيبِ ثناء
كم حوى لحدُه من العلم والحلم وكم ضمّ من سناً وسناءِ
إِن يكن في الموتى يُعَدّ فقد خلّف علماً أَبقاه في الأَحياء
مودَعٌ في سَوادِ كلّ فؤادٍ ... بتصانيفه بياض وَلاءِ
وإِليه تُنْمى بنوه وطيب الأَصل مستأْزرٌ بطيب الجَناء
لكُمُ يا بني عساكر بيْتٌ ... سامِقٌ في ذُرى العُلى والعَلاء
لم يزل مُنْجِباً أَبوكم فما بُشّر إِلاّ بالسادة النُّجباء
ولكُم في الأَنام صيتٌ رفيع ... مُشرِفٌ فوق قِمّة الجوزاء
فتعَزّوْا عنه بصبرٍ وإِن كا ... ن مضى باصطبارنا والعزاء
نحن نبكي عليه حُزناً وكم قد ... صافحته في اللَّحد من حَوْراء
يا أَبا عُذْرِ كل مَعنىً دقيقٍ ... جَلَّ قدراً كالدُّرَّة العذراء
صَبْرُنا يا ابن بَجْدة العلم أَمسى ... عنك مستصعِباً شديد الإِباء
علماءُ البلاد حلّتْ حُباها ... لك يا مَنْ عمّ الورى بالحِباء
ما عسى أَن نقول فيك وقد فا ... تت أَياديك جُملة الإِحصاء
أَنت أَعلى من أَن تُحَدَّ بوصفٍ ... بلغتْه بلاغةُ البلغاء
أَنت أَولى بأَن تُرَثّيك حتّى ... يُبْعَثَ الخلقُ، أَلسنُ الشعراء
فعليك السلامُ ما لاح وجه الصّبح من تحت طرَّةٍ سوداء
وسقى التربةَ التي غبتَ فيها ... كلُّ جَوْنٍ ودِيمةٍ هَطْلاء

الصائن ابن عساكر
أخو الحافظ كان عزير العلم، كبير القدر، وافر المعرفة بجميع العلوم، متقناً، مفضلاً على أخيه. توفي بدمشق بعد وصولي إليها، ولقيته بها، وله شعر حسن.
الحافظ أبو محمد
عبد الخالق بن أسد بن ثابت الدمشقي له:
قلَّ الحِفاظُ فذو العاهات مُحترمُ ... والشَّهْمُ ذو الرأْي يؤذى مع سلامتِهِ
كالقوس يُحْفَظ عَمْداً وهو ذو عِوَجٍ ... ويُنْبَذ السَّهْم قصداً لاستقامته
وله في فقيه:
أَبدى خِلافاً لوعدِ وَصلٍ ... وهدّد الهجرَ بائتلافِ
فلا عجيبٌ، نَشا فقيهاً ... والفقهُ يحلو مع الخلاف
وله:
قالوا ترى ماءَ وَجْنتيْه، به ... لهيبُ نارٍ ما ينطفي أَبدا
فقلت لا تعجبوا فذا لهبي ... لاح بمرآة خدّه وبدا
كمثل بدرٍ أَلقى تَشَعْشُعَه ... في الماء لمّا أَضاء مُتَّقِدا
وله:
قال العواذلُ ما اسمُ مَنْ ... أَضنى فؤادَك، قلتُ: أحمدْ
قالوا: أَتحمَد وقد ... أَضنى فؤادك، قلت: أَحمد
لقيته بالشام في دمشق. مدرس بالمدرسة الصادرية. وتوفي بها سنة أربع وستين. وكان يلقب بالحافظ وهو متطرف في كل فن.
أبو علي الحسن بن مسعود

ابن الحسن الوزير الدمشقي حافظ من أصحاب الحديث وذكره السمعاني في المذيل، وقال: كان متودداً مطبوعاً، حسن العشرة، دمث الأخلاق، سافر إلى أصفهان، ومنها إلى نيسابور، ومرو، وبلخ، وهراة، وغزنة، وبلاد الهند، وسمع الحديث. قال: وسألته عن مولده، فقال: خامس صفر سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، وتوفي بمرو سابع المحرم سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.
قال السمعاني: أنشدنا لنفسه:
يا سادتي ما عاقني عنكمُ ... قِلىً، ولكنْ قِلَّةُ الكُسْوَهْ
بردٌ وثلجٌ ووُحولٌ ولا ... خُفّ ولا لِبْد ولا فَرْوَهْ
فكيف مَن أَحواله هكذا ... بمَرْو في بُحْبوحَةِ الشَّتْوَهْ
وأنشدنا لنفسه بمرو:
ذكَّرتْني حَمامةُ المَرْوينِ ... حين ناحت لياليَ النَّيْرَبَيْنِ
ورماني صرفُ الزمان ببَيْنِ ... فرَّقَ الله بين بَيْني وبَيْني
قال وأنشدنا أبو بكر لامع بن عبد الله الصائغ بمرو، وأبو بكر محمد بن علي بن ياسر ببلخ، قالا: أنشدنا الحسن بن مسعود الحافظ لنفسه:
أَخِلاّيَ إِن أَصبحتُمُ في دياركمْ ... فإِني بمرو الشّاهِجان غريبُ
أَموت اشتياقاً ثم أَحيا بذكركم ... وبين التّراقي والضُلوع لهيب
فما عجبٌ موتُ الغريب صَبابةً ... ولكن بقاه في الحياة عجيب

المؤتمن الساجي
من أصحاب الحديث هو المؤتمن بن أحمد بن علي بن الحسين بن عبد الله الشافعي المقدسي، من أهل بيت المقدس. سكن بغداد. وهو حافظ معروف كبير من أصحاب الحديث.
قرأت في تاريخ أبي سعد السمعاني ببغداد يقول: سمعت عبد الله بن أحمد الحلواني بمرو يقول: سمعت والدك أبا بكر السمعاني يقول: ما رأيت بالعراق من يعرف الحديث ويفهمه غير رجلين، المؤتمن الساجي ببغداد، وإسماعيل بن محمد بن الفضل بأصفهان.
وسمعت أنه توفي ثامن عشر صفر سنة سبع وخمسمائة.
وله مقطعات من الشعر. قال: قرأت بخط أبي بكر محمد بن علي بن فولاذ الطبري.
أنشدنا المؤتمن الساجي لنفسه:
وقالوا كُنْ لنا خِدْنا وخِلاًّ ... ولا والله أَفعل ما يشاءوا
أُحابيهم بكُلّي أَو ببعضي ... وكيف وَجُلُّهم نَعَمٌ وشاءُ
قال: وقرأت بخطه، أنشدنا المؤتمن لنفسه:
يا ربّ كن ليَ حِصْناً ... عند انثلام الحُصون
فقد حَفِظْتَ كثيراً ... فوقي ومِثلي ودوني
أبو المعالي المقدسي
ليس من أصحاب الحديث، ولم يكن في زماني، واتفق ذكره ها هنا.
وله في الورد:
ووردةٍ غضّة القِطاف لها ... والليلُ بادي الظلام، أَنوارُ
كأَنّها إِذا بدت تُغازلني ... وجهُ حبيبٍ عليه دينار
وله:
بكا على ما كان من مَردتِهْ ... بكاءَ داوُودَ على زَلَّتِهْ
من يكن العِزُّ له في أستِه ... فذُلُّه بالشَّعر في لحيته
القاضي شمس الدين أبو عبد الله
محمد بن محمد بن موسى يعرف بابن الفراش. من أهل دمشق، كبير المحل، كثير الفضل، صحيح العقد، رجيح العقل، مشمول الشمائل حلوها، مقبول الفضائل صفوها، جامع بين علم الأحكام والحكم، صانع في ترصيع البديع من الكلم، قد غلب عليه الوقار، وكأن كلماته يعصر منها العقار.
كان قاضي العسكر في آخر عهد نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله بالشام إلى أن مضى لسبيله، وفاز في الخلد بسلسبيله.
وولاه الملك الناصر صلاح الدين في دولته أمانة خزانته، وقرره على قضاء عسكره، وخاصته. وما زلنا ي الأيام المنورة النورية قرينين في المخيم، وقريبين في المجثم، وحلفي مجاورة، وإلفي محاورة، نتفق ولا نفترق، ونأتلف ولا نختلف، وأقتبس من نطقه وصمته، وأستأنس بخلقه وسمته، ونتواسى في المعيشة كالشقيقين الشفيقين، ونتساوى في العيشة كالصديقين الصدوقين، وهو أصدق من خطب إلي صداقته، وجعل صداقها صدقه، وأسبق من جرى في حلبة الوفاء فأعطى الكرم حقه، ما كسبت فيي الشام غيره، ولا حسبت إلا خيره، وما لقيت من لم ألق سوءه سواه، ولا ألفيت شرواه، وله في كل فن من العلوم يد قوية، وفكرة في النظم والنثر سوية، وقريحة في إبداع القافية والروي روية.
ومما أنشدنيه من شعره:

سضحاب النَّدِّ مُنتشِرُ الضبابِ ... وبنت الكأْس راقصةُ الحَبابِ
وعينُ الدّهرِ قد رَقَدتْ فأَيقظ ... سروراً طرفُه بالهمّ كاب
ولا تستصْرِخَنَّ سِوى الحُمَيّا ... إِذا باداك دهرُك بالحِراب
إِذا مُزِجتْ يطير لها شَرارٌ ... يَفُلّ شَبا الهموم عن الضِّراب
ولا تقلِ المشيب يعوق عنها ... فقد ضمِنَتْ لنا رَدّ الشباب
ولا تبغ الفِرار إِلى لئيمٍ ... تُلاطفه فيخشُن في الجواب
فلي هِممٌ، إشذا سطتِ الليالي، مجاثمها على هام السحاب
هي الدنيا تَسُرُّ إِذا أَرادت ... وتَحْزُن مَنْ تريد ولا تُحابي
إِذا انتبهتْ حوادثها لشخصٍ ... فليس يُنيمها سَمَرُ العِتاب
فإِن زادت فأَوْسِعْها فُؤاداً ... قويّ الجأْش مُنْفَسِح الرِّحاب
متى كَمُلَتْ رياض الفضل خِصْباً ... فأَرضُ الحظّ مُجْدِبة الجَناب
تُضيءُ المُشْكلاتُ بفضلِ قَوْلي ... ويرتاع المُلاسِن في خطابي
وإِن طال المُفاخِرُ بالمَعالي ... وحاولني تقاصر عن هِضابي
وأَعْجَبُ كيف تخفيني اللّيالي ... ووجه الشمس يَخْفى في شِهابي
وُجوهُ مَناقبي حَسُنَتْ ولكن ... بِذَيْل الحظّ قد طاب انتقابي
ثياب العِرض إِن دَنِسَتْ لِقَوْمٍ ... فكن ما عشت مُبْيَضَّ الثياب
وأَسلمني الزّمانُ إِلى أُناسٍ ... إِذا عُدُّوا فليسوا من صِحابي
رَقُوا ظُلماً وأَنفسُهم ترامت ... بهم طبعاً إِلى تحت التراب
عليهم للكلاب مزيدُ فضلٍ ... وليس لهم مُحافظةُ الكلاب
لهم دون الرغيف سِهامُ لؤمٍ ... تَصُدُّ القاصدين عن الطِّلاب
وكتب لي من نظمه بخطه، قال:
وقلت في بعض الأغراض التي اقتضت ذلك، وكان سببه أنني أنشدت لبعض الأًدقاء شعراً لمهيار، فتبرم منه لضيق صدره بسبب من الأسباب، فمازحته ببعض هذه الأبيات كأنها على لسانه:
لقد سمح الدّهرُ بالمُقْتَرحْ ... وكان السكوتُ تمامَ الفرَحْ
وما زال إِنشادُك الشعر لي ... يَمُرُّ بسمعيَ حتى انقرَحْ
ونغَصتَ عَيْشي بترداده ... وأَفسدتَ من حالتي ما صلضح
فلا خير في نظم هذا القريض ... ولا في تغزُّله والمِدَحْ
لحا الله قلباً يحبّ المِلاح ... ولثْمَ الأَقاحي ورَشْف القَدَحْ
ويهتَزُّ عند اهتزاز الغصون ... ويعجبه ظَبْيُ سِرْبٍ سَرَحْ
وتُطربه رَوْضةُ العارِضيْن ... وما في شمائِلها من مُلَحْ
لئِن سَرَّكُمْ حُسنُ وَجْهِ الحبيب ... فما ذاك عنديَ إِلاّ تَرَح
وللهِ دَرُّ عجوزٍ تروق ... لطرفِ الحكيمِ إِذا ما لَمحْ
ويُعْجِبُه صِبْغُ حِنّائِها ... وما بين أَسنانها من قَلَح
لها رَحِمٌ مثلُ حبل العِقال ... إِذا ما دنوت إِليه رَشَح
وإِن حَرَّكتْه ذُكور الرّجال ... تخيَّلْت ذاك كنيفاً فُتِح
فهذي مقالة هذا الحكيم ... ولا خَيْرَ فيمن إِلها جَنَح
فَدَعْ قوله واختصر صورةً ... كأَنّ الجمال لها قد شرح
إِذا ما استدارتْ نطاق الخصور ... وماستْ قُدودٌ بزَهْوِ المِدَحْ
فكم من غريقٍ بماء الجفون ... وكم من زِنادِ فؤادٍ قَدَح
أَدِرْها وروِّ بها حائِماً ... ودارِكْ بقيَّةَ عُمْرٍ نَزَح
ولا تَجعلِ المزج إِلاّ الرُّضاب ... وواصل غَبوقك بالمُصْطَبَح
أَطِعْ في حبيبك غِشّ الهوى ... وعاصِ العذول إِذا ما نصح
ولُذْ بضلالك قبل الهدى ... وبادِرْ ظلامك قبل الوَضَح
وَدَعْ عنك وَضْعَ شِباك المُحال ... ونَصْب الفخخ وعَدَّ السُّبَحْ

ولا تُغْلِقَنّ بحمْل الهمو ... م بابَ السّرور إِذا ما انفتح
وإِنْ خِفتَ من عاتبٍ فاستترْ ... بليل الشَّباب إِذا ما جَنَح
فَتَبّاً لدهرٍ يُعِزُّ اللئام ... وقدرُ الكرام به مُطَّرَحْ
ذَلول إِذا ما امتطاه الجهول ... وما رامه الحُرُّ إِلا مُمْتَدَح
وقد طُمِسَتْ أَوجهُ المَكْرُمات ... وقد عُطِّلَتْ هُجْنُها والصُّرُح
ولا خير فيمن غدا طائِعاً ... للؤمٍ أَلَمَّ وبُخْلٍ أَلَحْ
إِذا بهرجته عُقولُ الرّجال ... وأَخجله النّقْص لمّا افتضح
لئن قَصَّرَتْ خُطوةُ الحظّ بي ... فماليَ عن هِمّتي مُنْتَزَح
وإِن عَدَّ مُفْتخِرٌ فضلَه ... فبي يُخْتَمُ الفضلُ بل يُفْتَتَح
وكم للفضائلِ من خاطبٍ ... وما كلُّ خاطب بِكرٍ نَكَح
قال، وقلت:
لا تَلْقَ دهرك بالعِتابِ ... فعُهوده ذات انقلابِ
والبَدْ إِذا وَثب الرَّدى ... واصبر على مَضض المُصاب
فالدّهرُ يخدع بالسرو ... ر كمثل تلميع السَّراب
ما جئته مُسْترْوِحاً ... إِلاّ حصلت على اكتئاب
فإِذا طلبت صفاءه ... فابشُر بأنواع العذاب
لا تَشكُوَنَّ فما يُبا ... لي إِن شكوتَ ولا يُحابي
يا صاحبي ماذا يَضُرّ الأُسْدَ من حَنَق الذِّئاب
لولاكِ، غِزلانِ الفَلا ... ما هان مُرْتَكَب الصِّعاب
أَلِفَتْ مُنازَلَة القلو ... ب فما تَمَلُّ من الحِراب
يدنو فيمنعه الحَيا ... فيعود مَسدول الحجاب
والبدرُ أَحسنُ ما يكو ... ن إِذا تنقَّب بالسَّحاب
لله عيشٌ سالفٌ ... واللّهو مَوْفورُ النِّصاب
وسرورنا مُستيقِظٌ ... فرِحٌ، وطرف الهمّ كاب
إِذا نُقْلنا لَثْمُ الخدو ... د وشُربنا خَمْرُ الرُّضاب
إِذ نحن في جاه الصِّبا ... والعمرُ مجهول الحساب
فارحلْ عن الدنيا وجِدَّ وَدَعْ مُلاعبة التَصابي
دَعْها فقد جاء المشيب بعَزْلِ سلطان الشباب
ما اللَّهْوُ بعدَ الأربعين وإِن قَدَرْت، بمُستطاب
بعثتْ طلائِعَها المنو ... ن إِليك مُسْرَجةَ العِراب
وقلت: لما ولي الملك السعيد رضي الله عنه لسيدنا الأجل عماد الدين أبي حامد محمد بن محمد، ابن أخي العزيز، الإشراف على ديوانه وسائر مملكته مضافاً إلى ما كان يتولاه من ديوان الإنشاء، وكان قد ولد له ولد بعقب ذلك. ولم يتفق إنفاذها إليه في ذلك الوقت بسبب رحيل اتفق للملك السعيد ورحلنا معه في سنة ثمان وستين وخمسمائة. وهي محتاجة إلى تنقيح:
خان المُحالف والمُعاهدْ ... وجفا المُوالي والمُساعد
سهِرت عيونُ فضائلي ... لكنّ طرف الحظّ راقد
أخذ بصَفقةِ تاجرٍ ... طلب المقاصد بالقصائدْ
فاخِرْ فإِنك في زما ... نك صالح، والوقتُ فاسد
أَوَليس قومك معشرٌ ... كانت عوائِدهم عوائد
لا تتعب الحسّاب في ... عدد الكرام فأَنت واحد
فلئن فَخَرْتَ بمن مضى ... فلْتفخرنّ بك المَشاهد
فابشُر بمولودٍ يجدّدُ ذكر آباءٍ أَماجد
ولدٌ أتانا مُخبراً ... في مهده عن خير والد
ما فتَّ في عضدٍ ولكن فتَّ أَكباد الحواسد
رفعتْ دموعي بعدكم ... مما أُكابده جرائد
أَين الذين نعدّهم ... عند النوائب والشدائد
يَلْقَوك في شُوس الخطو ... ب مشمّرين عن السواعد
نَفقت ملابيس النِّفا ... ق وسوق أَهل الفضل كاسد
رُفعت دواوين الكفا ... ة وخُلْخِلَتْ منها القواعد
واستبهمت حتى لقد ... أَيِس المُعَلِّل والعوائِدْ

فنهضتَ فيها قائِماً ... بسِدادها والغيرُ قاعد
فَصَحَتْ وصحّ زمانها ... من ذا يُغشّ وأَنت ناقد
وملأْتَ أَسماع الرُّوا ... ة من الفوائد والفرائد
وحفِظت عَقد مودّتي ... فنشرت أَلوية المحامد
سرقت عزيمتُك الرُّقا ... دَ فبتّ مهجور المَراقد
غار الزمان فسلَّهُ ... سيفاً لأَهل الشرّ حاصد
وقلت في سنة ستين وخمسمائة وكتبتها إلى بعض الأصدقاء:
نواحي الأَرض ضاحكةُ الرُّبوعِ ... وعينُ المُزنِ هاطلة الدموعِ
ووجه الأَرض بسّام المُحَيّا ... وشادي الدَّوْح ممنوعُ الهجوع
وأَغصانٌ كأَنّ بها انتشاءً ... تصابت وهي شائبة الفروع
لقد طالت ليالي الهمّ فائْذَنْ ... عَصيُّ الهجرِ ذو وصلٍ مُطيع
ولا يسقيكها إِلاّ غزالٌ ... عَصيُّ الهجرِ ذو وصلٍ مُطيع
عُقاراً لو سطت في يوم حربٍ ... لأَوْدت بالخُبَعْثِنَة الشجيع
ولو مرّتْ على حلم ابن قيسٍ ... لأَضحى وهو كالطفل الرضيع
وقلت بسبب صديق:
إذا غرت خيولُ الهجر يوماً ... عليكَ، فكنْ لها ثَبْتَ الجَنانِ
وإِن خان الصديق فلا عجيبٌ ... أَليس الأَصدقاء بني الزّمان
وقلت لما كنت بحلب بعد وفاة الملك السعيد رضي الله عنه، وقد توالت الفتن، وحرجت الصدور، متشوقاً إلى دمشق ومتذكراً لها:
عروسُ الكأْس يجلوها نديمي ... علينا في ثيابٍ من نعيم
أَدِرْها واحْيِ أَباحاً تراها ... رَميماً بين أَجداث الهموم
وداوِ بها جِراحات الليالي ... فلستَ على التّداوي بالمَلوم
ولا تكسِر حُمَيّاها بمَزْجٍ ... فتضعُفَ عن مُقاومة الغريم
وأَعجَبُ كيف تبرُز وهي شمسٌ ... مكلَّلةَ الجوانب بالنّجوم
إِذا طافت همومُك حولَ كأْسٍ ... ترامتْ نحوها شُهْبُ الرُّجوم
وقد زَفّ الربيع إِليك رَوْضاً ... قشيبَ الزَّهْر مُعْتَلَّ النسيم
فَحُثَّ اليَعْمَلات إِلى دمشقٍ ... سقاها اللهُ هَطّال الغيوم
فيا لله درُّكِ من ديارٍ ... تَراضَعنا بها حَلَب الكروم
فما رقأَتْ دموعي حين غابت ... جواسقُها ولا اندملت كُلومي
إِذا ما طُفت حول دروب مقرى ... فعرِّج بي إِلى دَيْر الحكيم
وبادرْ نحو رَبْوتِها ففيها ... إِذا واجهتها بُرْءُ السقيم
وحيِّ النّيْرَبين فكم مضى لي ... على الشرفَيْن من شجنٍ قديم
إِذا الخُطباء في الأَغصان قامت ... تهُزُّ النائمين عن النعيم
إِذا كأْس الصَّبا دارت سُحَيْراً ... تحُلُّ معاقد الدُرّ النظيم
لقد أَهدت لها الخضراء بُرْداً ... بديع النَّسج مختلف الرُّقوم
وفي تلِّ الثعالب راح عنها ... ففيها منشإي وبها تميمي
لقد حلّت جِنانُ الخُلد فيها ... وفي حلبٍ هَوْت نارُ الجحيم
إِذا عُرضت عليك رأَيت فيها ... عِراصَ الخير دائرةَ الرُّسوم
مُناخُ للأَراذل منذ كانت ... محرَّمَةٌ على الحرّ الكريم
أَقمتُ بها فلم يظفر طِلابي ... بذي أَدبٍ ولا خِلٍّ حميم
وأَرذلُ من ترى فيها وأَخزى ... ذوو الأَقداء والحسب الصميم
تُرى يحنو الزمان عليَّ يوماً ... فأَشكو ما لقِيت إِلى رحيم
لعلّ الله أَن يُدني زماناً ... تَهُبّ لنا به ريحُ القُدوم
وأبناء الزمان كما تراهم ... أَفاعٍ دأْبُها نَفْثُ السّمومِ
فلا يحنو القويُّ على ضعيفٍ ... ولا يصل المَخوف إِلى رَؤوم

وسُقت إليهم الآمال حَثّاً ... فما وجدتْ سوى مرعىً وَخيم
رأَيتُ سحائباً فظننتُ فيها ... رَذاذاً مُنْعِشاً لثرىً عديم
يحاربني الزمان وأَيّ والٍ ... يناصفني وأَيامي خُصومي
تَبَلَّغْ باليسير وعِش كريماً ... وغُضّ الطرف عن نظر اللئيم
فقد عقمت عن الكرم اللّيالي ... فلا تَرْجُ الوِلادة من عقيم
وناديتُ العفاف: إِذا اقتسمنا ... فكن ما عشتُ في الدنيا قسيمي
وقلت لما خرجت من حلب متوجهاً إلى الملك الناصر صلاح الدين أدام الله دولته، وكان حينئذ بحمص، ولم يسمعها:
سرى ما بيننا سِرُّ الغُيوبِ ... يُبَشِّرُنا بنصرك عن قريبِ
ركبتَ إِلى الحروب جِيادَ عزمٍ ... مصرَّفةً عن الرأْي المُصيب
تبسّمتِ البلادُ إِليك أُنساً ... وكانت قبلُ مُوحِشةَ القُطوبِ
لقد ولّت شَمال الشِّرْك لمّا ... أَنار الدينُ من أُفقِ الجَنوب
تركت صوارخَ الأَعداء فيها ... مُخَرَّقةَ المَدارع بالحريب
تكاد قلوبُهم بالخوف منها ... تطير عن المساكن بالوَجيب
وما سهِرتْ رماحُك فيه إِلاّ ... لترقُد في التَّرائب والجُيوب
عصت حلبٌ وقاتل ساكنوها ... وليس قتالُهم لك بالعجيب
لأَنك ناصرُ الإِسلام حقّاً ... وهم رهط المُغيرة أَو شَبيب
وقد قالت سُعودك عن قريبٍ ... إِليك أَسوقهم سَوْق الجَنيب
جِهادُك إِن طلبت الغزوَ فيهم ... أَهَمُّ إِليك من غزو الصليب
فَزُرْ باب العراق وما يليه ... بكل مُزَنّرٍ طرِبِ الكُعوب
وفَجِّرْ مَنْبَع الأَوْداج حتى ... تَخوضَ الخيلُ في العَلَق الصبيب
ترى الإِسلام قد وافاك يعدو ... إِلى لُقياك مشقوق الجُيوب
وقد نادى مُؤَذِّنهم، فنادى ... ليوثُ الغاب: حيَّ على الحروب
أُناسٌ دَبّت الأَعلالُ فيهم ... وليس لهم كسيفك من طبيب
وقد وَلّى الوزيرُ وعن قريبٍ ... سينقلب الوزير إِلى الَقليب
أَحاط بجمعهم في كلِّ نادٍ ... ظلامُ الكفر في ليل الذُّنوب
ومُذ أَطلعتَ شمس النَّصل فيهم ... علا أَعناقَهم شَفَقُ الغروب
فلا يَغْرُرْكُمُ أَن كفّ عَنْكُمْ ... فإِنّ الأُسْدَ تجثِمُ للوُثوب
إِذا ابتسمتْ سيوفُ الهند يوماً ... فمَبْسِمُها يدلُّ على النّحيب
ولم يَذْخَرْك نور الدين إِلاّ ... لتدفع عنه نائبةَ الخُطوب
فخلِّص ابنه بالسيف منهم ... فقد حبسوه في بلدٍ جديب
يَبيتُ وقلبُه المحزون أشهى ... إِلى لُقياك من ضمِّ الحبيب
صغيرٌ بينهم، لا بل أَسيرٌ ... غضيضُ الطرف مبخوس النصيب
تذكَّرْ عهده واحْنُن عليه ... ونَفِّسْ عنه تضييق الكُروب
ولا يَغْرُرْكَ من يُوليك وِدّاً ... ويَلْوي عنك أَجفان المُريب
أَتيتُك والرِّماحُ تَخُبُّ نحوي ... وخُضت عَجاجةَ اليوم العصيب
رأيتُ كواسرَ الأَبطال حولي ... مُحَدَّدة المخالب والنُّيوب
وسِرتُ إليك محزوناً فلمّا ... رأَيتُك قلتُ للأَحزان: غيبي
رأَيتُ المارقين ومَنْ يليهم ... جميعاً من عَصِيّ أَو مُجيب
إِذا غنّت صواهِلهم وأَبدى ... لها الخطيُّ أَخلاق الطّروب
فَراشاً عاينتْ ناراً فأَبدت ... تهالُكَها على جمر اللّهيب
فأَوْسِع طَعْنَ من عاداك ظُلماً ... كما وسَّعْتَ رِزق المُسْتَثيب
أَماتتني الهمومُ بأَرض قومٍ ... بما فعلوا وأَخذلني كُروبي
وها قد قمتُ من قبري لِتحيا ... بقُربك مُهجة الميت الغريب

وقد هاجرتُ إِنكاراً لما قد ... رأيتُ من المثالب والعيوب
ولي دهرٌ يُراقبني فأَرْمِدْ ... بلَحظٍ منك أَلحاظ الرّقيب
وشمسي تحرُق الحُسّاد كَبْتاً ... وتُعيي وصفَ ذي اللَّسَنِ الخطيب
عَلَتْ في أَوْجها وحَضيضُ حظّي ... يُجاذِبها بأَرسان المغيب
وقلت في سنة سبع وخمسمائة، وكتبتها إلى بعض الأصدقاء في سبب اقتضاه:
أَتطمعُ في عِقالك أَن يُحلاّ ... وتُدرك في ظلام الصُّدغ مَحْلا
وكنتُ أَقول لي صبرٌ مُعينٌ ... فلمّا صحّ هجرُك لي تخلّى
أَتسمع في مُحِبّك قولَ واشٍ ... وما سَمِع المُعَنّى فيك عَذْلا
لقد حلّلتَ من قتلي حراماً ... وحرَّمتَ الوصال وكان حِلاّ
وتسمح لي بخمر اللَّحظ صِرْفاً ... وتمنعني مِزاجَ الرّيق بُخلا
لقد عذَّبْتني، وأَصبتَ فيه ... لأَنّ الحبّ بالتعذيب أَحلى
لقد نصحت دعاوى العشق قوماً ... يظنّون البَلا في الحبِّ سهلا
فواحدُهم يَلَذُّ له زماناً ... ويطمع أَن يرى أَمناً وعدلا
إِذا ابتسم الوِصال يهيم عِشقاً ... وإِن عَبَس الصّدودُ سلا ومَلاّ
وشرطُ العِشق أَن تبقى أَسيراً ... وتجعلَ حُبَّهم قَيْداً وغُلاّ
فيا دهرُ ارتدِع عني وإِلاّ ... ستلقى من مُعين الدين نَصْلا
فتى إِن زُرْتَه أَلفيتَ عزماً ... يدافع من كُروب الدّهر ثِقْلا
وتلقى للخطوب حِمىً مَنيعاً ... وتُبصر جانباً للّهْو سَهلا
فآلاءُ المكارم منك تَتْرى ... وآيات المحامد فيك تُتْلى
مدحتك لا لأَجلِ يسيرِ حَظٍ ... ولكن مطلبي أَوفى وأَغلى
أُؤَمِّلُ همةً لك أَمتطيها ... وأَبلغ في خفارتها المَحَلاّ
فَتنْعَشُ قوةً وتُزيلُ هَمّاً ... وتُحيي مَيِّتاً وَتَرُبُّ شَمْلا
وأنشدني لنفسه:
الصَّفْوُ من ماءِ العِنَبْ ... يا صاح أَحلى ما شُرِبْ
راحٌ تُريك بمَزْجها ... في الكأْس سِلسلة الذهب
طُبِخَتْ بنار الدّهر لا ... نارِ التَّضَرُّم واللَّهبْ
لا يَمْنَعَنَّكَ شُرْبَها ... شهرُ المحرَّم أَو رجب
وانهب زمانك إِنه ... لِشباب عمرك يَنْتَهب
وأنشدني لنفسه:
أَصوغ الحُلى في كلِّ يومٍ وليلةٍ ... وأُتْعِبُ منّي في صياغتها النَّفْسا
ولو مُتُّ ضَرّاً ما عَقدْتُ قِلادةً ... على جيدِ مَنْ لا يستحقُّ لها لُبْسا
وأنشدني أيضاً لنفسه بمصر:
صَيْدُ السرور أَجلُّ في المعقولِ منْ صَيْد الطُّيور
كم بين حَملك للكؤو ... س وبين حملك للصُّقور

الفقيه الوجيه برهان الدين
مسعود بن شجاع الحنفي
مدرس المدرسة النورية بدمشق. قرأ على برهان الدين البلخي رحمه الله في عنفوان عمره ثم هاجر في طلب العلم إلى بخارى وسمرقند، فغاص من بحره في غمره، ثم عاد إلى الشام، وأقام بمدرسة حلب، وتنقلت به أحواله، وتحولت في البلاد رحاله، ورتبه نور الدين قاضياً بعسكره سنة، ثم توسلنا له عنده في تفويض التدريس بالمدرسة الكبيرة إليه، فحصل له ما لم يخطر بباله، وظهر بذلك حالي حاله، ورفع نفسه عن درجة الشعر، وكان له في الغربة أنجع وسيلة، وأنجح فضيلة.
وسألته مراراً أن ينشدني ما أثبته، ويسمعني ما أطريه وأنعته، فماطل بما طلب منه بعد عدة، وادعى الإملاق عن جدة، ولم يخش من الصديق أثر موجدة. ووقفت على قطعة بخطه كتبها ببخارى إلى بعض علمائها وليست من جيد نظمه، ولا من النمط اللائق بعلمه، وإنما جنى هو على أدبه، حيث لم يرد أن ينوه به. فمن جملة أبياتها، وأنا مضطر إلى إثباتها:
أَيصبر قلبي عنهمُ بعد ما ساروا ... ودمعي من الشوق المُبَرِّح مِدْرارُ

همُ جيرةٌ جاروا عليّ ببُعدهم ... فليتهُم عادوا إِليّ وإِن جاروا

الفقيه سديد الدين أبو عبد الله
محمد بن يوسف العقيلي الحوراني
وعثقيل قرية من قرى اللوى بحوران. من فقهاء أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، صحب برهان الدين أبا الحسن علي بن الحسن البلخي بدمشق، وأخذ عنه، واستفاد منه، ورسخت في العلوم قدمه، وسمت إلى الفضائل هممه، وهمت بالفوائد ديمه، ودرس بجامع قلعة دمشق الفقه، وعدم في مجاراته المثل والشبه.
ذكره القاضي شمس الدين محمد بن محمد، وأثنى عليه، وعلى محاروته ومذاكرته. وقال: لم أر أكثر منه إنصافاً، وإمهاء للخاطر في البحث النظري وإرهافاً، وتوفي سنة أربع وستين وخمسمائة، وله شعر ما بجودته باس، وله من الأدب والحكم قاعدة وأساس.
وأنشدني شمس الدين له من أبيات:
ما أَليق الإِحسانَ بالأَحسن ... عقلاً إِلى الكافر والمؤمنِ
وأَقبح الظلم بذي قُدرةٍ ... حُكِّم في الأَرواح مُستأْمن
يا من تولّى عابتاً مُعرِضاً ... يُعْذَل في هجري فلا ينثني
شمس الدين أبو الحسن
علي بن ثروان بن الحسن الكندي
كان أديباً فاضلاً، أريباً كاملاً، قد أتقن الأدب، وقرأ اللغة على ابن الجواليقي وغيره من صدور العلم وبحوره، ولم يزل الأدب بمكانه مشرقاً في دمشق بنوره، في آفاق ظهوره. وقد ذكرت تاج الدين الكندي ابن عمه من أهل بغداد، وهذا، لإقامته بدمشق، أوردته مع أهلها، والأصل من الخابور. رأيته بدمشق مشهوداً لفضله بالوفور، مشهوراً بالمعرفة بين الجمهور، موثوقاً بقوله، مغبوقاً مصبوحاً من نور الدين بطوله. وتوفي بعد سنة خمس وستين وخمسمائة. وله شعر كثير، وفضل نظم ونثير، ولم يقع إلي ما أشد يد الانتقاد عليه، وأصرف عنان الانتقاء إليه.
ومن جملة ذلك أنه قصد بعض رؤساء الزبداني وهو الأمير حجي بن عبيد الله فلم يجده، فكتب على بابه هذين البيتين، أنشدنيهما التاج البلطي بمصر:
حَضَر الكِنديُّ مَغْناكم فلم ... يَرَكم مِنْ بعدِ كدٍّ وتعبْ
لو رآكم لتجلّى همُّه ... وانثنى عنكم بحُسن المُنْقَلَبْ
وله أيضاً من قصيدة أولها:
هتك الدَّمعُ بصوبٍ هَتِنٍ ... كلَّ ما أَضمرتُ من سِرٍّ خَفيّ
يا أَخلاّي على الخَيْف أَما ... تَتَّقون الله في حَثِّ المَطيّ
باب في ذكر فضائل جماعة من الفضلاء
أيضاً بدمشق من الكتاب والأجناد وغيرهم
ابن النقار الكاتب الدمشقي
أدركت حياته بدمشق، وكان شيخاً قد أناف على التسعين وقيل على المائة. وكان مليح الخط حلوه، فصيح الكلام صفوه، وتولى كتابة الإنشاء بدمشق لملوكها إلى أن تملكها نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله، وكتب له أيضاً مدة يسيرة. وله نظم مقبول، وشعر معسول، وتوفي سنة ثمان أو تسع وستين وخمسمائة.
فمن شعره السائر ويغنى به:
الله يعلم أَنني ما خِلتُهُ ... يَصْبو إِلى الهِجران حين وصلتُهُ
مَنْ مُنصفي من ظالمٍ مُتَعَتِّبٍ ... يزداد ظُلماً كلَّما حكَّمْتُهُ
ملَّكتُه روحي ليحفظَ مُلكَه ... فأَضاعني وأَضاع ما ملَّكته
لا ذنبَ لي إِلاّ هواه، لأَنّني ... لمّا دَعاني للسَّقام أَجبته
أَحبابنا، أَنفقتُ عُمري عندكم ... فمتى أُعوّض قَدْر ما أَنفقته
وبمن أَعود إِلى سواكم قاصداً ... والقلب في عَرَصاتكم خلّفته
وَلِمَنْ أَلوم على الهوى وأَنا الذي ... قُدتُ الفؤاد إِلى الغرام وسُقته
أَأَرومُ غيركمُ صديقاً صادقاً ... هيهاتَ، ضاق العمر عمّا رُمته
ياذا الذي جعل الخلاف سجيّةً ... فعصيْتُ فيه عواذلي وأَطعته
قد كنتُ أَعذِلُ كلَّ صَبٍّ في الهوى ... وأَلومه في العِشق حتى ذُقته
ما لي سوى قلبي وفيك أَذبتُه ... ما لي سوى جمعي وفيك سكبته
ومن جملة مولدي الأتراك الأجناد بدمشق
أحمد بن طرخان

سافر إلى ديار بكر، وصار والياً بقلعة قريبة من ميافارقين، وغزا الأرمن، وأبلى في جهادهم بلاء حسناً. وكان نحوياً ذكياً لسناً، وتوفي في سنة سبع أو ثمان وستين وخمسمائة، وله شعر.
فمن ذلك قوله في أبيات يغنى بها:
قلبي أَشارَ بِبَيْنِهِمْ ... وعليه كان وَبالُهُ
فسَلوه بعد فِراقهم ... وبِعادهم ما حالُه

ابن الزغلية الكاتب
من أهل دمشق زين الكتاب أبو الحسن علي بن جعفر بن أسد بن علي المعروف بابن الزغلية، قال: جدي جوهري، وأبي صائغ، فلا جرم، ورثتهما في الصناعة والصياغة، والخط والبلاغة، فأنا فيهما مبالغ. منظوم طروسه كالجواهر، وعقود نقوده كالحلي الفاخر، بل كالنجوم والزواهر. شيخ بهي، رواؤه شهي، وخطه مقلي، للعلم طراز وللنظم حلي، لقلمه حلاوة، ولكلمه طلاوة.
كان يكتب كل سنة لنور الدين مصحفاً، ويصير ببره في صرف الصروف عنه متصرفا، خطه كالروض الأنف، والوشي المفوف، والعذار المقتض عذرة الهوى العذري، والزلال الصافي لعين الحائم عند رؤيته في طلب الري. وقد نيف على السبعين، وتوفي بدمشق في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين.
وأنشدني بدمشق لنفسه سنة إحدى وسبعين من قصيدة زعم أنه مدح بها الصالح بن رزيك وأنفذها إليه إلى مصر سنة أربع وخمسين وهي:
أَبُثّكما لو أَن نائبة تَعْرو ... تُفَرَّج بالشكوى إِذا غُلب الصبرُ
ولكنّ داء الحُبِّ أَعيا دواؤه ... وما لي إِلى ما لست أَغنى به فقر
خليليّ هل أَلفيتُما أَو أَلِفتُما ... سوى الوصل يشفي داءَ من شفَّه الهجر
دعا للهوى مَنْ تَلْحَيان، فقد دعا ... مُجيباً، وكُفّا العَذْل إِن لم يكن عُذر
ستُبدي شؤوني عن شؤونيَ كُلِّها ... وهل لامرئٍ نمّت مدامعُه سِرّ
وخالبةٍ بالحُسنِ حاليةٍ به ... مُنىً صدقُها خَتْلٌ وصُحبتها خَتْر
تَشابه جفناها وجسمي وخصرها ... وجانس منها لفظَها العِقد والثغر
يهون عليها أضن يَعِزَّ رُضابُها ... بَروداً على مَنْ حَشْوُ أَحشائه جَمر
مُنيتُ بما يُوهي الجليدَ وحبّذا ... لو انقاد لي ذا القلب أَو أَصحبَ الفكر
ومنها في المديح:
ولو شئتُ أَعداني على الدهر إِذْ عدا ... أَميرُ الجيوش المالك الصالح الغَمْرُ
مليكٌ يَعُمّ الأَرضَ واكفُ كفّهِ ... ففي كل قُطرٍ من سحائبها قَطر
ومنها:
حوى قصباتِ السَّبْق في المجد والعُلى ... ومَنْ دونَه مِنْ دونِه المَسْلكُ الوَعْرُ
فيُخفِق عن غاياته كلُّ من سعى ... ويَخفِقُ في راياته العزّ والنصرُ
تمنَّتْ خراسانٌ سياسةَ عدله ... وتاهت على أَرض العراق به مِصر
ومنها:
وأَكرم نفساً أِن يُهَزَّ إِلى ندىً ... وأَكبر قَدراً أَن يُرى وبه كِبرُ
يميلُ إِلى الشكر الجميل سيادةً ... ويأْبى، وَقاراً، أَن يَميل به السُّكر
فلا طربٌ إِلاّ على نغم الظُّبى ... ولا سُكرَ إِلاّ أَن يُرنِّحه شُكر
ومنها:
أَرى ما وراء الحُجبِ عَيْناً بها عَمىً ... وأَسْمَعَ ما في النفس أُذْناً بها وَقْرُ
إِذا ما دجا ليلٌ من الخَطب مُظلمٌ ... تَبلَّج من إيراء آرائه فجر
ولا عَيْبَ في أَخلاقه غير أَنها ... صفتْ فَنَقَتْ ظنَّ الورى أَنها الخمر
ولا تِيهَ فيه غير أن يمينه ... بها أَنَفٌ من أَن يُقاس بها البحر
فقد غمر العافين ساكنُ يَمِّها ... فما ظنُّهم إِن هاج آذِيُّها الغَمْر
فَمن في النُّهى قيسٌ وفي الجودِ حاتِمٌ ... وفي عدله كسرى وفي بأْسه عمر
له قلمٌ يَعْنو له مُبرَمُ القضا ... وتعجِز عن أَفعاله البيض والسُّمرُ
وساحةُ صدرٍ ضاق عن رُحبها الفضا ... وراحةُ جودٍ شحَّ عن سَحِّها القَطر
ومنها:

مِنَ القوم إِن أَبدَوْا أَعادوا وإِن عَدَوْا ... أَبادوا، وإِن أَجْرَوْا إِلى غاية جَرّوا
بُحورٌ إِذا أَجدّوْا، بدور إِذا بدَوْا ... لُيوث إِذا كرّوا، غُيوث إِذا برّوا
إِذا قيل هذا صائلُ الدّهر أَقدموا ... وإِن عَرضت إِحدى الدّنايا لهم فرّوا
تطيع المنايا والأَمانيُّ أَمرَهم ... فإِن حاربوا ساءوا وإِن سالموا سرّوا
ومنها:
أَيا كاشف الغماء إِن جلّ فادحٌ ... ويا مُسبغ النَّعماء إِن مَسّنا ضُرُّ
حفِظتَ ثُغور المسلمين وصانعتْ ... صروفَ الرَّدى عنهم صنائعُك الغُرُّ
فلا دعوةٌ إِلاّ وأَنت مُقيمها ... ولا دولةٌ إِلاّ وأَنت لها ذُخر
ولا مُقتِرٌ إِلاّ وأَنت له غنىً ... ولا مُعْسِرٌ إِلاّ وأَنت له يُسر
ومنها:
فَهُنِّئتِ الأَيّام منك بمالكٍ ... به انتصر الإِسلام وانخذل الكفرُ
ومنها:
طوتني خطوبٌ للزمان شديدةٌ ... وأَنت امرؤٌ في كفّه الطيُّ والنَّشْرُ
أَقمتُ على رَغمي وقلبيَ راحلٌ ... فجاء إِلى عُلياك يعتذرُ الشِّعر
وأنشدني له في الصالح بن رزيك من قصيدة، في سنة ثلاث وخمسين:
مُناصِح الفكرِ في نَجْواك مُتَّهَمُ ... وفاخر الشّعر مِنْ لُقياك مُحتشِمُ
ومنها:
يا أَيُّها الملك الأَعلى الذي شهدتْ ... بفضله الأُمّتان العُرْبُ والعجمُ
أَنت الذي بك يَدري من له أَربٌ ... قَدْرَ الكلام إِذا لم تُعرَف القِيَمُ
شَمْسٌ، وكلُّ ضياءٍ بعده ظُلَمُ ... بُرْءٌ، وكلُّ صلاحٍ بعده سَقَمُ
ومنها:
وحلّ في صدر دَسْت الملك منه فتىً ... يستوقف الطَّرْف، في عِرنينه شَمَمُ
حالٍ بِدرِّ المعالي جِيدُ همّته ... عالٍ على رأسه من مجده عَلَم
يُرجى نَداه ويُخشى حَدُّ سطوته ... كالغيث والليث، مِفْضالٌ ومنتقم
ومنها:
وهل يخاف صُروفَ الحادثاتِ فتىً ... أَضحى بحبل أَبي الغارات يعتصمُ
بمطفئٍ جَمراتِ الرَّوْع وهي لظىً ... تُذْكى بوقع المواضي فهي تضطرم
بخائِضٍ لججَ الهيجاء يسبحها ... وموجُها من قلوب الدَارعين دم
بمُشْرقِ الرأْي، والآراءُ مظلمةٌ ... وثابتِ الجَأْش، والأَبطال تصطدم
ومُبْصِر الأَمر، والأَقدارُ تستره ... عن أَن يراه البصير الحاذِق الفَهِم
غيثٌ إِذا انهلّ روَى كلَّ ذي ظمأٍ ... له السّماح سماءٌ والندى دِيَم
ليثٌ مَخالبه بيضٌ مُجَرَّدةٌ ... بُتْرٌ، وسُمْر العوالي حوله الأَجم
ومنها:
يا مالكاً في مواليه له نَعَمُ ... تَتْرى وعند مُعاديه له نِقَمُ
ومنها:
فمن يناوئك في هذا الأَنام وفي ... يمينك الماضيان: السيف والقلمُ
أَمْ مَنْ يباريك في حزمٍ ومأْثَرَةٍ ... وعندك المُسْعِدان الرأْي والحِكمُ
ومنها:
إِنّي أُجِلُّك أَن أَلقاك مُشتكياً ... إِلى عُلاك هموماً كلّها هِمَمُ
أُغالط النفسَ بالتسويف في زمني ... فعَيْن حاليَ تبكيني وأَبتسم
وكم معافىً تروق العينَ صورتُه ... وحشْوُ أَحشائه من همِّه أَلَمُ
وإِن قضى لي بتأخير الندى ومضى ... فمُقتضيك العُلى والجود والكرم
وأنشدني له من قصيدة يهنئ فيها ببرء الملك العادل نور الدين رحمه الله:
بُرءٌ أَبرَّ على إِرواءِ باكرةً ... من السّحائب ظمآنَ الثرى جَدِبا
شفى به اللهُ مجداً قد أَلَمَّ على ... شَفاً، وأَحْيا حيَاً أَبلَلْتَ فانسكبا
ومنها:
يا أَفصح العَرب العَرْباء قاطبة ... وإِن غدا لملوك التُّرك مُنتسِبا
ما جال طرفُ الكرى في جفنِ مأْثَرَةٍ ... حتى تصرّم عنك الداءُ وانجذبا

عفَّتْ عوافيك آثارَ الهموم فما ... أَبقت لها في فيافي فكرةٍ أَربا
وردَّ دونك، نورَ الدين، قاصرةً ... أَيدي المُلِمِّ أَيادٍ تُخْجِل السُّحُبا
يا رحمةً عمَت الإِسلام قاطبةً ... ونعمةً خصّتِ الأَهلين والقُربا
حاشا جمالك أَن يكساه طيفُ ضنىً ... وثوب عزِّك أَن تُنضاه مُسْتَلَبا
ولا عَرَتْك من الآلامِ حادثةٌ ... تَضْحي لها عن عيون الناس مُحْتَجِبا
ومنها:
وعش مُنيلَ ذوي ودٍّ، مُبيدَ عدىً ... ما شئت، مَرْجُوَ آلاءٍ، مَخُوف شَبا
إِن أَمَّ سعدَك طرفُ الحادثات كبا ... أَوْ رام مجدَك نابُ النائبات نبا
وأنشدني له من قصيدة في نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله وكان قد أهدى له مصحفاً بخطه:
يا جُنَّةً إِن رماني سهمُ حادثةٍ ... وجَنَّةً ليَ إِن خُوِّفتُ بالنارِ
وفي القناعة لي عِزٌّ أَصولُ به ... لكنّ عائلتي يهوَوْن إيساري
إِذا ذكرتُ لهم فضل القناعة لم ... يسمَعْن وعظي ولم يقبلْن أَعذاري
وليس لي شافع أَرجو النجاة به ... سوى كتاب عظيمِ المُلك جبّار
لو أَن حظّي كخطّي كنت أَكسِب من ... دون الورى كلَّ يومٍ أَلف دينار
فليت حظّي كخطّي في ملاحته ... وليت رزقي كآدابي وأَشعاري
زيادةُ الحِذْق نقصُ الرزق فارْضَ بما ... تُؤْتى ولا تتكفّر فِعْلَ كفار
وقد طوى الله سرّ الغيب مقتدِراً ... عنا لنيفذ فينا حُكمه الجاري
يقوى رجائي وفرطُ اليأْس يَضعِفُه ... فتنقضي مُدَّتي في غير إِيثاري
ذقتُ النعيم وذُقت البؤس في زمني ... فما وفى ليَ إِحلائي بإِمراري
واحَسْرتا لتقضّي العمر في لعبٍ ... أَقضي ولم أَقضِ أَغراضي وأَوطاري
عسى إِلهي، إِذا ما مِتُّ، يغفر لي ... فإِنه خير مَنّانٍ وغفّار
وأنشدني له في المؤيد ابن العميد بدمشق من قصيدة:
وله من ضوامر الصُّمِّ رُقشٌ ... جارياتٌ بوعده والوعيدِ
فإِذا نمنم الكتابة في الطِّرْ ... س أَرانا وشياً كوشي البرود
وإِذا أَنشأَ الكلام ووشّا ... ه شأى فيه فنَّ عبدِ الحميد
وأَبو الفضل ابن العميد مُقِرٌّ ... ذو اعترافٍ بالفضل لابنِ العميد
وله في القريض غُرُّ مَعانٍ ... حار فيها الوليد وابنُ الوليد
وأَيادٍ من الصنائع بيضٌ ... تَسترقُّ الأَحرار رِقّ العبيدِ
عرَف العارفون فضلك بالعلم وقال الجُهّال بالتقليد
وأنشدني له من قصيدة في مدح القاضي كمال الدين ابن الشهرزوري:
بكُتْبك تَنْفَلُّ الكتائب نُكَّصاً ... مُنَكَّسةً راياتُها لا تُعَقِّبُ
إِذا تُليت خال العدوُّ كلامها ... كِلاماً، وما عنها فؤادٌ مُحَجَّبُ
وأَقلامُك اللاتي بها تَصْدَع القنا ... وتقضي على حدِّ السيوف وتقضِب
إِذا ما علت فوق الطُّروس حِسبتها ... خطيباً على أَعلى المنابر يخطب
بأَسودِها تبيذُّ كلُّ مُلِمَّةٍ ... وتخضرُّ منها الأَرض، والعامُ أَشهب
وما طاب في الأَرض العريضة نفحةٌ ... لِعِرْض امرئٍ إِلاّ ونَشْرُكَ أَطيب
وأنشدني له من قصيدة في كمال الدين ابن الشهرزوري:
أَصلى فؤادَك ذكرُه أَهلَ الغضا ... لمّا استقلَّتْ عيسُهم جَمْرَ الغضا
وحدا بركبهمُ شُروقاً سائقٌ ... عَجِلٌ، إِذا وَنَتِ الركائبُ حَرّضا
وظللتَ تَتْبَعُهم وقلبك خافقٌ ... كالبرق في جُنح الدُّجَنَّةِ أَوْمضا
ودموع عينك قد مَرَتْها زَفْرةٌ ... مُذْ خَيَّمَتْ رَحَلَ السّرورُ وَقُوِّضا
وبأَيْمُن الأَظعان في اَحْداجهم ... نَجْلاءُ يَشْهَر لحظُها سيفَ القضا

غرّاءُ تحكيها الغزالة في الدُّجى ... نُوراً ويحكيها الغزال تَعَرُّضا
ميّالةُ الأَعطاف ناعمة الصِّبا ... لو لامستْ حجراً أَصمَّ لَرَوَّضا
فتانةٌ مِلء المجاسد، أَوْدَعَتْ ... في القلب داءً للمنيَّة عرّضا
نجني الشقيقَ مُذَهَّباً من خدِّها ... بلحاظنا، والأُقحوانَ مُفَضَّضا
صَدَّ وشطّ مزارها وتنكَّرت ... وغدا مُمَرَّ عهودها مُتنَقَّضا
قد كنت جاراً يا هنيدةُ برهةً ... ما بين كاظمةٍ إِلى ذات الأَضا
لَهْفي على زمنٍ بقُرْبكِ فاتني ... يا ليتني استقبلت منه ما مضى
واهاً لدهر غالنا بصُروفه ... وأَعارنا إِحسانه ثم اقتضى
فسقى زمانَ وصالنا مُتراكِمٌ ... كندى كمال الدين أضعني المرتضى
ومنها:
لو لم يكن لِبنانه شِيَمُ الحيا ... ما أَزهر القِرطاسُ منه ورَوّضا
ما جاش في صدر المُلَطَّف صدره ... إَلاّ ظننت الجيشَ قد ملأَ الفضا
ومنها:
قومٌ إِذا عبس الزّمان تهلّلوا ... بمكارمٍ زَخَرت بحوراً فُيَّضا
شرعوا على دين السماح شريعةً ... قضتِ المكارمُ أَن تُسَنّ وتُفْرَضا

نشو الدولة أبو الفضل
أحمد بن عبد الرحمن بن علي بن المبارك السلمي من دمشق من بني نفاذة شاب محب للفضل، حريص على تحصيله، بجملته وتفصيله، وقد كتب ديوان شعري ورسائلي، وهو يتولى الإشراف على الهري بالقلعة.
أنشدني له من قصيدة يمدح بها الملك الناصر صلاح الدين سنة سبعين حين أخذه دمشق:
بدا في سماء المُلْكِ من شخصك البدرُ ... وقابله الإِقبال والفتح والنصرُ
ومُذْ حلَّ برجَ السَّعْد في خير طالعٍ ... وأَيْمَنِه، مِنْ حوله الأَنْجُمُ الزُّهْر
وجلَّى ظلامَ الشِّركِ إِقبالُ نوره ... فأَصبح مخذولاً له الذُّلُ والقهر
أتى بعدما نادت دمشقُ لبعده ... إِلى ربّها: تالله مسّنيَ الضرّ
شكت بعده لمّا توطّن غيرَها ... وقالت، وكم أَمثالها، ليتني مِصر
وكانت له يعقوبَ إِذ هو يُوسُفٌ ... فأَضحت به تزهو وباشَرَها البِشْرُ
ومنها:
إِذا اسودّ خطبٌ دونه الموت أَحمرٌ ... أَتت بالأَيادي البيض أَلامه الصُّفْرُ
فمذ ظهرت منصوبةً جُزِمَتْ بها ... ظهورُ العدى، من رفعها انخفض الكُفْر
فللّه حمدٌ لا يزال مُجَدَّداً ... على ما حَبا من فضله وله الشكر
أَتاح لنا من بعد يأْسٍ مبرِّحٍ ... مليكاً غدا من بعض خُدّامه الدهر
ومنها:
ولِمْ لا يجوز الأَرض شرقاً ومَغرِباً ... ولله في إِعلاء تُتْبته سِرُّ
وكم لصلاح الدين، مُذْ كان، من ندىً ... إِذا ضوّع النادي به خَجِل العِطْر
فيا ملِكاً أَعيا الملوك اقتدارُه ... عَياناً، فقالوا: صغّر الخَبَرَ الخُبْر
وقد أَدْنتِ الأَيام مَنْ كان يُرْتجى ... وَكَرَّ غِنى جَدْواك وانهزم الفقر
ومدحني بدمشق، وقصدني بقصيدة نسج فيها على منوالي في طلب التجنيس أولها:
إِنّ مَنْ أَمرضتُمُ لا يُعادْ ... فاستمعوا عنه حديثاً يُعادْ
واستخبروا ريح الصَّبا هل صَبا ... إِلى سواكمْ أَو عنا لحدِّ حاد
وهل هواءٌ مُخْبِرٌ عن هوىً ... يُقْصَر، فالوجد به ذو امتداد
إِنْ قلّ يومَ البيْن صبري فقد ... أَضحى سَقامي بكم ذا ازدياد
ومنها:
أَظلُّ من فَرْط ضلالي أَسىً ... أَسأَلُ عن أَخباركم كلَّ غادْ
ما ضَرَّكم لو طاف بي طيفكم ... وهل يزور الطيفُ إِلفَ السُّهاد
فإِن سمحتم بِسُراه إِلى ... أَسيركم، فلْتأْذنوا بالرُّقاد
يا ساكني قلبيَ، يا ساكبي ... ماءً بجفني، يا مُضيعي الوداد

كيف تجورون على جيرةٍ ... وقد حَلَلْتُمْ منهم في السَّواد
ضَنَّتْ سُلَسْماكم بتسليمها ... ولم تساعدنا بوصلٍ سعاد
واهاً لوَصْلٍ بالجفا ما وفى ... منكم، وقُرْبٍ بالقِلى ما أَفاد
إِذا دنوتم ونأَى وصْلُكم ... سِيّان عندي قُرْبُكم والبِعاد
أَبلغتُمُ الأَعداء فيّ المُنى ... ونال منّي حاسدي ما أَراد
يا طيبَ أَيامٍ مَضتْ بالحِمى ... وعَيْشنا بالخَيْفِ لوْ كان عادْ
مرّ كأِيّام الصِّبا وانقضى ... وكان أشهى من بلوغ المراد
وشادنٍ دام ثنائي على ... قَوامه لما تثنَّى وماد
ريمٌ رماني بشَبا لحظه ... وصدّ عني حين للقلب صاد
جرَّد سيفاً جفنُه جفنُه ... يَزينه من عارِضَيْه نِجاد
قد كتب الحُسْنُ على خدِّه ... خطاً له أَسودُ قلبي مِداد
ظبيٌ تصيد الأُسْدَ أَلحاظُه ... يا لأُسودٍ بظِباء تُصاد
يقتل من أَضحى له عاشِقاً ... ولا يعاف القتل من لا يُقاد
يا صنماً كلُّ محبٍّ له ... مِنْ حسنه يعبده أَو يكاد
راقت معانيه وأَوصافُه ... فأَشبهت رِقَّةَ ماء الثِّماد
دقَّتْ عن الأَفهام حتى حكت ... عبارةَ المولى الأَجلِّ العِماد
الواضح المشكل من علمِه ... للخلق، والناهج سُبلَ الرشاد
هَداه بل أَهداه ربُّ الورى ... فهو لمن ضلَّ عن الحق هاد
جِداله يُنبيك عن خاطرٍ ... يَفُلُّ غَرْبَ العَضْب يوم الجِلاد
يا مَنْ غدا دينهمُ واحداً ... واختلف المَذهب والاعتقاد
دعوا الدعاوى وإِليه ادّعوا ... فإِنما تقليدُه الإِجتهاد
واعتمدوا تسليم ما قاله ... لِتربحوا منه عناءَ العِناد
كَبْتُ الأَعادي ما حوت كُتبه ... مِن حِكَمٍ تُحْييه حتى المَعادْ
ما روضةٌ غنّاءُ، أَشجارُها ... أَضحى قريباً عهدُها بالعِهاد
أَغاثها الغيثُ وأَحيا الحَيا ... ما كان منها قد تعفّى وباد
إِذا بكى الغيثُ بها يلبس البنفسَجُ الغضُّ ثِياب الحِداد
والقطرُ لمّا عمَّ أَقطارَها ... عمّم بالنبت رؤوسَ النِّجاد
وكلُّ غُصن قد نشا وانتشى ... مُنذ تربّى في مُهود المِهاد
تختالُ تيهاً بالصِّبا لا الصَّباد ... والزَّهر يُزْهى إِذا له الجَوْد جاد
أَبهجَ مما أَوْدَعَتْ طِرْسَهُ ... يَدٌ لَها منه علينا أَياد
وخاطر يُشهِدنا أَنه ... أَفصح من ينطِق علماً بضاد
يقدَحُ فِكراً ما خَبتْ ناره ... قطُّ ولا تَصْلِد منه الزِّناد
أَقلامه أَضحت بها قسمةُ الأَرزاق والآجال بين العباد
طاب نِجاداً وزَكا مَحْتِداً ... وشاد بنيان المعالي وساد
ومنها:
أَيا عِماد الدين يا مَنْ به ... قد راج سوقُ الفضل بعد الكسادْ
أَنتَ جوادٌ وِردُ إِنعامه ... واردُه لم يخش يوماً جُواد
ومنها:
وكيف أُهدي نحوه مِدْحةً ... ولفظها من فضله مُستفاد
أَتته في وزنٍ سريعٍ إِلى ... خدمته تسعى بغير اتّئاد
رَوِيُّها روّاه إِنعامه ... فما لها، لولاه، قوتٌ وزاد
ومنها:
فاسلم لعبدٍ أَنت أَنشأَته ... فهْو بما أَوْلتَه ذو اعتداد
وعِش، سَمِيّ المصطفى، راقياً ... ذُرى المعالي، والعِدى في الوِهاد

المهذب أبو طالب
محمد بن حسان بن أحمد بن الحسن بن الخضر

الدمشقي المولد، اليمني الأصل، كهل من أهل الفضل، عديم المثل، في النظم والنثر الممتنع السهل، الرائق الجزل، له الفصول المسجوعة في كل فن، والكلم المطبوعة بكل حسن، وكلامه بضاعة وعاظ دمشق وقصاصها، وهو مسبوك من إبريز الحكم وخلاصها، محوك من لب المعاني ومصاصها، ونثره كالدر النظيم، يرصعه بالنطق الإيادي، في نطاق كلام العبادي، وله مبتكرات رائعة، ومخترعات رائعة، ومبتدعات مليحة، ومذكرات صحيحة.
زارني في دمشق في المدرسة التي أدرس فيها، لمودة يصفيها، في رابع عشر ربيع الأول سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. وهو قليل الانبساط في قصد الناس، كثير الاحتراز والاحتراس. فحين ظفرت به شددت يدي عليه، وملت بجانبي إليه، وقلت له: طالما ماطلني الزمان بدين لقائك، وناضلني في دين إخائك، وعاقتني الأٌدار عنك، وراقتني الآثار منك، حتى صدق الخبر الخبر، وحقق النظر الأثر، والآن حين سمح القدر، ومنح الظفر، فنصرف هذه الأوقات إلى اقتناء أقوات الأرواح، وندير بمحاورتك لصرف هم الفضل من مغناك المستلذ صرف الراح. وجاذبته أطراف الكلام، وأعطاني المعاني الحسان الكرام، ونشدت عند إنشاده ضالة الفضائل، وحاورت منه سحبان وائل. فمما أنشدنيه لنفسه من قصيدة:
أَظُبىً تُجَرَّدُ من عيون ظِباءِ ... يوم الأُبيرِق تحت ظِلِّ خِباءِ
أَمْ أُسدُ خِيسٍ أُبرزت لطعاننا ... ورماحُهُنَّ لواحِظُ الأَطلاء
عَلِقت أَسِنَّتُهنّ في عَلَق النُّهى ... منا، فلم تخرج بغير دماء
وهززْنَ أَعطاف الغصون فَشُقْننا ... بل سُقْننا بأَزِمّة البُرَحاء
والرَّكْب بين أُثَيْل مُنْعَرَج اللِّوى ... والجِزْع، مُزْوَرٌّ إِلى الزَّوْراء
تخْفي هوادِجُه البدورَ وقلّما ... تَخْفى بدورُ التِّمِّ في الظلماء
ويَلُحْنَ من خَلَل البَراقِع مثلما ... في الدَّجْن لاحتْ غُرَّة ابنِ ذُكاء
بين الحواجب والعيون مَصارع العشاق لا في ملتقى الأَعداءِ
وقُدود أَغصان الحُدوج كأَنها الأَلِفات فوق صحائف البيداء
من كل هَيْفاءِ القَوام مُزيلةٍ ... باللحظ منها عَقْل قلب الرائي
تُملي أَحاديثَ الجوى بجفونها ... سِرّاً، وتشكو الشوق بالإِيماء
وحديث أَبناء الغرام بحاجبٍ ... أَو ناظرٍ، من خَشية الرُّقباء
واهاً لقتلى عِشقِ كلِّ مُذيبةٍ ... بالصدّ قلبَ الصخرة الصمّاء
قتلوا بأَسياف العيون، وضائعٌ ... دمُ من يطالب مُقلَة الحسناء
وإِذا الهوى سُلَّتْ صوارمُه على ... قلبٍ فصاحبُه من الشهداء
ومُهَفْهفٍ نَضِر الصِّبا ، ثَنَتِ الصَّبا ... منه كقَدِّ الصَّعْدة السمراء
مُتَلثّم بالشمس خَشيةَ ناظرٍ ... يُدميه منه بصارم الإيحاء
قمر منازله القلوب، وشرقهُ ... فلك الجُيوب، وغَربه أحشائي
سقت المَلاحةُ وَرْدَ روضة خدِّه ... طلَّ الحيا وسُلافة الصّهباء
فحماه عن لثم الشِفاه بعقرب ... سوداء، في كافورةٍ بيضاء
دبّتْ فأَحرقها الشُّعاع فأَمسكت ... عن سعيها من خيفة الألآء
أَمُعيرَ غُصْنِ البان هَزَّة عِطفة ... تيهاً، ورقةَ جسمه للماء
ومجرِّداً بيد الجمال على الورى ... هِنْدِيَّ لحظ المُقلةِ الحَوْراءِ
أَترى ظهير الدين فيما ينتضي ... عيناك يوم تشاجُرِ الآراء
وأنشدني له من قصيدة أولها:
أَرأَيت أَحداقاً قُلِبْن قواضِبا ... يَفْلُلْن مُرْهَفَة السيوف مَضاربا
تالله ما استصوبتُ رأْي أُولي نُهىً ... جعلوا مديح الباخلين مكاسبا
واستمطروا سُحُب الأَكُفِّ فأُمطروا ... نِعماً، ولكن تستحيل مصائبا
وقوله من قصيدة في المعنى أولها:
أَذكى صَبابتك الخليطُ الرّاحل
ومنها:
لا أَبتغي عَرَضاً ولا تصحيفه ... والوُدّ منك يقلّ عنه النّائلُ

فَعَلام يخضعُ ذو النُّهى لمحقَّرٍ ... فانٍ، وأَيام الحياة قلائلُ
ومنها في المدح:
ولرمحه وحسامه وسهامه ... رعدٌ وبرق في العَجاج ووابلُ
وأنشدني له من قصيدة:
هتك الدُّجى برقُ الخيالِ السّاري ... سَحَراً، فنارُ الشوقِ أَيّة نارِ
سمحت به خِدَع المُنى فرأَيتُه ... وَهْماً بوحي لواحظ الأَفكار
والليلُ ممدودُ الرُّواق مخيّمٌ ... مُرْخٍ ذوائبَه على الأَقطار
فكأَنّه الزِّنْجيُّ جرَّ ذُيولَه ... مَرحاً، عليه حُلّةٌ من قار
وأَلذُّ زَوْرةِ عاشقيْن تناجيا ... بعد الكرى في خَلْوة الأَستار
حيث الجُسوم من الفُسوقِ طواهرٌ ... والفِسق في الأَرواح ليس بعار
لا تُخْدَعنّ، فما البدور كواملاً ... إِلا بدور معاقد الأَزرار
من كلّ خطّارِ القَوام إِذا انثنى ... أَزرى بقَدّ الأَسمر الخطّار
حَمَلَ الدُّجى في طُرَّةٍ من تحتها ... فلق الصباح يضيء للنُّظَّار
ومشى يُعربد بالعيون كأَنما ... سُقيت لواحظه كؤوسَ عُقار
وَسْنان، في رشَفات بَرْد رُضابه ... حرُّ الجوى وتلهُّب التَّذْكار
سلب القلوبَ بوَرْدِ خدٍّ أَحمرٍ ... وسُطورِ مسكٍ لُقِّبَتْ بعِذار
فكأَنما أَضحى كمال الدين في ... نهب القلوب له من الأَنصار
وأنشدني له في وصف الخصر من قصيدة أولها:
قُضُب النَّقا هزَّتْ عليك قدودا ... وأَرتْك آرامُ الخيام خُدودا
ومنها:
وبمُهجتي مَنْ هزَّ تيهاً قدُّها ... بيد الجمال على النَّقا أُمْلودا
هيفاء، جاذَبَ رِدْفُها من عِطْفها ... خصراً، تراه على الضَّنا مَعْقودا
دَقَّتْ معاقدُه، ورقَّ فخِلْته ... عَدَماً يصارع في الظنون وُجودا
ونقلت له من رسالة وَسَمها:
بالنَّسْر والبُلبل
فاختصرتها وأولها: طار طائر عن بعض الشجر، وقد هب نسيم السحر، وانفلق عمود الفلق، وانخرق قميص الغَسَق. مشهورٌ بالقَسْر، موسوم بالنَّسْر، والليل قد شابت ذؤابته، وابيضَّتْ قِمّته، وانهزم زِنْج الظلماء، من صَوْلة روم الضياء.
والفجر مثلُ عِذار مَنْ صارت له ... سِتّون عاماً بعد حُسن سَواده
أَو ثغرِ محبوبٍ تبسّم في الدَّجى ... إِذ زار من يهواه بعد بِعاده
وعلا حتى صار روحاً لأجساد السحب، ونديماً لدراري الشُّهُب، وعديلاً للأَفلاك، ونزيلاً للأَملاك.
فكأَنّه للشّمس جسمٌ، والسُّهى ... عينٌ، وللمِرِّخ قلبٌ يخفِقُ
ولكلّ نجمٍ في السّماءِ شَرارةٌ ... تُردي شياطين الرُّجوم وتحرقُ
غابوا لمطلِعه إِليهم واختَفوْا ... ورأَوْه يجمع نفسه فتفرّقوا
كأنما أجنحته ركبت من العواصف، واستلبت من البروق الخواطف، وأخذت من رمز الألفاظ، واستعيرت من غمز الألحاظ.
كأَنها مُقلة الحبيب إِذا ... خاف حُضور الرقيب أَوحَذِرا
أَوحى بها والعيون ترمُقه ... وهماً إِلى من يحبّه فَدَرى
منفرداً في طريق طلبه انفراد البدر، متوحداً في مضيق أربه توحد ليلة القدر، كأنه سهم رشق عن قوس القضاء، أو نجم أشرق في أفق السماء. والأرض تحته دخانية اللون، مائية الكون، مستبحرة الأكناف، متموجة الأطراف، كأنه صرح ممرد من قوارير، أو سطح الفلك الكري في التدوير.
أَو لجّة البحر إِثر عاصفة ... صافحت المتنَ منه فاصطفَقا
فطار عقل النُّوتيّ من فَرَقٍ ... وخرَّ موسى جَنانِه صَعِقا
يقبض أجنحته ويبسط، ويصعد إلى السماء تارة ويهبط، يجرح بأسنة قوادمه أعطاف القبول وأطراف الصبا، ويقد الشمأل بخوالف كأنها غروب الظبى، ويفتق بخوافيه جيوب الجنوب، ويخرق بصدره صدر الرياح في الهبوب.
فكأَنّ لمعَ البرق خطفُ هُوِيِّه ... وكأَنّ رشْق السهم نفضُ سُمُوِّهِ
وكأَنما جعل الرّياح خوافياً ... لجناحه في خفضه وعُلوّهِ

حتى أشرف من شرف مدائن الهواء، واطلع من رواشن أبراج السماء، على روض أريض، وظل عريض، وأنهار متدفقة، وأشجار مونقة، وطل منثور، وورد ومنثور؛ ومكان بهج، وزهر أرج؛ وحديقة ندية النبات، وبقعة مشكية النفحات، عنبرية الأرجاء، كافورية الهواء، قد صقلت بمصاقل القطر مرايا أزهارها، وعقدت لرؤوس أغصانها تيجان نوارها، وأكاليل جلنارها، ونشرت النسائم مطويات حللها من سفاطها، ورقصت حور نباتها على سعة بساطها.
كليالي الوِصال بعد صُدودٍ ... من حبيبٍ كالبدر بل هو أَبهى
إِن رأَيت الغنى ونيل المنى جَمْعاً وقابلتَه بها فهي أَشهى
ذات نبات خضر، وماء خصر، ضاحكة القرار، مشرقة الأنوار، وكأن شجراتها عرائس أبرزت للجلاء، أو قباب زبرجد نصبت في الروضة الخضراء، وكأن الفلك دنا إشليها، فتناثرت نجومه عليها.
رَوْضٌ أَريض وصوبٌ صائب وحياً ... مُحْيٍ، وغيثٌ مُغيثٌ دائم الدِيَمِ
تبارك الله ذو الآلاء كم سَفَرَتْ ... وُجوه أَحكامه للخلق عن حِكَمِ
فمن وَرْدٍ فِضّيّ الأَوراق، ذَهبيّ الأَحداق، كافوريّ الصبغة، مسكي الصيغة، مائي الجسم، هوائي الرسم، حاكت الصبا إهابه، وخاطب الشمال أثوابه، وفتحت الجنوب أكمامه، وحسرت الدبور عن وجه جماله لثامه، فظهر في أفق الشجر، كأنه شهب السحر، أو خدود الحور في القصور، ظهرت في غلائل من الكافور، أو أعشار المصاحف ذهبت أوساطها، أو غرر الوصائف عظم اغتباطها
أو وجنة الحِبِّ قَرَّت في ملاحتها ... عينُ المُحِبّ فأَبدتْ حُمرةَ الخَجَلِ
رقَّتْ فأَيسرُ وَهْمِ الفكر يجرحُها ... فكيف إِن لمستها راحة القُبَل
ومن آمن زمردي الإهاب، زبرجدي الجلباب، ذي ورقكأسنة الصعاد، أو كالصفاح جردت للجلاد من الأغماد، قد أخذ خضرة الفلك لوناً، وحلة جبل قاف كوناً، أشبه في اخضراره مرائر قلوب العشاق، عقيب الانشقاق، لروعة يوم الفراق.
كأَنه ودُّ مَنْ تمّت مودّته ... باقٍ مع الدّهر لا يَبْلى مدى الأَمد
يُهجى إِلى مَنْ له حُسْنٌ يضنُّ به ... أَي قد غسلتُ بماءِ اليأْس منك يدي
ومن نرجس كأجفان الملاح، أو كإشراق تبلج الصباح، منكس الأعراق، مطرق الأحداق، قائم على ساق خضرة، ألفية نضرة كأنه مدافات فضة قد رصعت خشية الانفطار، بمسامير من نضار.
متشوِّفٌ كالصبّ خوفَ رقيبه ... إِذا حان وقت زيارةٍ لحبيبه
فله إِلى جانيه نظرةُ خائفٍ ... منه، وشكوى مُدْنَفٍ لطبيبه
ومن بنفسج استعير لونه من زرق اليواقيت، وأخذ من أوائل النار في أطراف الكبريت، أو ثاكلات الأولاد، أظهرن الحزن في ثياب الحداد، أو بقايا قرص في خد وردي، أو أثر عض في عضد فضي، ذي أوراق خمرية، وأعراق عطرية، صاغت الأنداء من الزمرد قوامه، ونسجت الأهواء من الطل أكمامه، وأخذت من نسمات المسك نسمته، ومن أنفاس العنبر رائحته.
وكم في الرَّوْض من بِدَع وصُنْعٍ ... وآياتٍ تدل على القديمِ
وأَسرارٍ يحار العقلُ فيها ... فليس تكون إِلاّ من حكيمِ
ومن غصون تجتمع وتفترق، وتترنح وتعتنق، والنسائم تحل عقد أزرار الزهر، والأهوية تفتح أقفال أبواب الحصر، والشمس تسفر وتنتقب، وحاجب الغزالة يبدو ويحتجب، والعهاد يتعاهد بالقطار أكنافها، والسحب تطرز بالبروق عذبها وأطرافها. وهي آية من آيات الربيع أظهرها للعيان، ومعجزة من معجزات القدير أقامها على الزمان.
تُجْلى عرائسها بكلّ مُصَبَّغٍ ... وتميس تحت غلائل الأَزهارِ
فكأَنما فَتَقَ الربيعُ لأَرضها ... بيد النسيم نَوافِجَ العطّار

فوقف في الهواء حين رآها، وقال: هذه غاية النفس ومناها، ها هنا ويلقي المسافر عصاه، وتستقر بالغريب نواه، وفي قرار هذا الوادي يثبت سيلي، ولمثله شمرت عن ساق الجد ذيلي. أين المذهب، وقد حصل المطلب، وأين الرواح، وقد أسفر الصباح! ومن بلغ غاية مراده، لم يلتفت إِلى حساده، ومن نال الأماني، لم يبالي بالمباني. ماء مصطخب الأوتار، وظل ممدود الإزار، وروض يمرح فيه الطرف، ولا يقطعه الطرف، وأزهار كقراضة الذهب، تناثرت من حرارة اللهب، أو كالفضة أخلصها سبك الكير، ونثرت في زوايا المقاصير، أو مصبغات أصناف الحلل، نشرت للناظرين بعد إتقان العمل. وخلوة من واش ورقيب، وبعيد يخشى أو قريب.
على مثلها ظلت فرداً أهيم وجداً وأمعن وحدي المطارا
فأَستخبرُ الشُّهُبَ النيّرا ... تِ عنها وأَقطع داراص فدارا
فبينا هو صافُّ الأَجنحة عليها، ينظر من الأُفق بعين التعجّب إِليها، إِذ سمع صوتعاً من بلبلٍ سِحريّ، على وكرٍ شَجَريّ، يناغي النسائم بنعمة مِزماره، ورَنَّة أَوتاره، ودساتين حناجر كالحناجر، وأَلحانٍ أَعذب من نقرات المزاهر، ينثر دُرّاً من عُقود أَلحانه، ولؤلؤاً من أَصداف افتنانه بين أَفنانه، ويرجّع قراءة مكتوب غرامه، ويتلو آيات حزنه من مصحف آلامِه.
ويهتف طوراً بذكر الفراق ... وطوراً بذكر بِعاد الحبيبْ
ويغتنم الوقت وقت الوصا ... ل حين خلا من حضور الرقيب
فقال هذه غريبة أخرى من غرائب القدر، وعجيبة ثانية لم ترها العين ولا هجست في الكر، وكاسات خمر تدار في الخمر، وعقود سحر تحل في السحر، ونغمة لم أسمعها من ذي منقار، وألحان ما رئي مثلها لسار ولا قار، كأنها ما قيل عن مزامير آل داوود، وتسابيحهم في الركوع والسجود، أو معبد والغريض، يتباريان في الطويل والعريض، أو إسحاق الفريد، يعدل عوده عند الرشيد، أو هزج شداة العجم، أو رجة حداة العرب في الظلم، أو أصوات رهبان الصوامع، أو تلاوة من تتجافى جنوبهم عن المضاجع.
نغمة تجلِب السُّرور وتحيي ... ميَّت القلب من ثرى الأَحزانِ
وتردّ الشباب بعد ثمانين وتُزري برنَّةِ العيدان
ما أُدبرت إِلاّ وقيل اسمعوا دا ... وود يتلو زَبوره في الجِنان
ثم هوى إلى القرار، لينظر من النافخ في المزمار، فرأى البلبل يتلو سور بلباله، في محراب وباله، ويرجع سجع ألحانه، في ربع أحزانه.
فكأَنه ثَكْلى على ولدٍ ... فَقَدَتْهُ بعد الضَّعفِ والكِبَرِ
فلها انتحابٌ حين تذكره ... ينسيك لذّة نغمة الوَتَرِ
فقال السلام عليك من طائر صغير حقير، يظهر في صورة كبير خطير، وشاد ظريف طريف، بغير أليف ولا حليف، ذي جسم كأنه سواد خال في بياض خد الحبيب، أو ظلمة حال المحب شاهد وجه الرقيب، أنت صاحب هذا اللحن المطرب، والصوت المعجب، ما أراك إلا صغير الحبة، بادي المحبة، ضئيل الجسم، نحيل الرسم، ليلي الإهاب، ظلمائي الجلباب، تقتحمك العين لحقارتك، وتنبو عنك لصغرك ودمامتك، قد اصفر منقارك لأحزانك، ولبست حداد أشجانك، وصوتك والمسرة فرسا رهان، ونغمتك والطرب رضيعاً لبان.
يُثير صوتك في القلب إِن ترنمتَ حُزْنا
وتُخجل النايَ حُسْنا ... وتعجز العود لَحْنا
وأنا مع عظم صورتي التي حازت خلال الكمال، وأحرزت خصال الجمال، صبحي الريش، لا أتغذى بالحشيش، ذو العمر الذي أفنى لبد، واستنفد الأبد، وقد تعجب منه لقمان، واحتاج إليه فرعون وهامان. ليس للطيور مطاري، عند طارئ أوطاري. أنا ملك الطيور، وسلطان ذوات الأجنحة على مر الدهور، ومالي حلاوة هذه النغمات، ولا لذاذة هذه الأصوات.
ولِعمري كذلك الدهر لا ير ... فع إِلاّ مَنْ كان بالخفض أَوْلى
ينظر العاقلُ اللبيب بعينٍ ... هي لا شكّ حن تنظر حَوْلا

ويحك! من أين لك هذه الملح المسكية النشر، والمنح العنبرية العطر، جبلتك عنصر هذه الفضائل، أم استمليت طرف أخبارها من قائل؟ فقال له البلبل: يا من سبح في بحر التخليلط وعام، وظن أن القدر يعطي ويمنع بالأجسام، فيعرض عن الصغار ويقبل على العظام.. أما صغري فلا أقدر على تغييره، والأمر للصانع الحكيم في تدبيره، أما علمت أن الأرواح لطائف وهي أشرف من الأجسام، والأجسام كثائف والمعتبر فيها جودة الأفهام، وإنسان العين صغير ويدرك الأكوان والألوان، والإنسان عظيم والمعتبر منه الأصغران: القلب واللسان، ما يكون الدر بقدر الصدف، وشتان ما بينهما في القيمة والشرف، ولا الآدمي كالفيل، وبينهما بون في التفضيل، واللؤلؤ قطر يقع في أعماق البحور، ويعلق بعد ذلك على الترائب والنحور، وليس الاختصاص بظواهر المباني، وإنما هو بلطائف المعاني. وكم من صغير وهو في عين ذي النهى كبير، وفي فكر اللبيب أخي الفضل خطير.
وما نطق الفيلُ الكبير بعُظْمه ... وقد نطقت قِدْماً مُقَدَّمة النمِل
كذلك ما أَوحى إِلى النَّسر ربُّنا ... وإِن كان ذا عُظْمٍ وأَوحى إِلى النحل
وأما النغمة التي قرع طرف سمعك سوط لذتها، ورشق هدف قلبك نبل طيبتها، فإنني رصعت شذرها في عقد ألحاني، على نغم بعض الأغاني. وذلك أن هذه الروضة فجرت أنهارها، وغرست أشجارها، وفتقت نوافج عطرها، وأشرقت مباهج زهرها، وأقيمت عمد قبابها، وعلقت أستار أبوابها، وهيئت على أمر مقدر، لبعض ملوك البشر، فهو يأتيها كل ليلة إذا ولى النهار، وأظلمت الأقطار، وصبغ الليل ثوب الكون بظلمته، فأشبه لباس العباسي في خلافته مع من يختار من ندمائه، ويؤثر من أصفيائه، وقد أشعلت له فيها الشموع، واتقدت بأشعتها الربوع، ونصبت ستائر القيان، واصطفت صنوف الحور والولدان، وأفرغت شموس الخندريس في أفلاك الكؤوس، بأيدي بدور الرهبان ونجوم القسوس، وعقدت الزنانير على الخصور، وأسبلت طرر الشعور، على غرر البدور، ورجعت أناجيل الألحان، وقبلت صلبان الصور بأفواه الأشجان، ونقرت أوتار المثالث والمثاني، وقامت العقول ترقص في قصور الصور والمباني.
وينقضي ليلهم في لهو وطرب، وجد ولعب، وهزج ورمل، واعتناق وقبل، وأحاديث كقطع الرياض، ومحادثات كبلوغ الأغراض، حتى يخرج الليل من إهابه، ويعرج على ذهابه، ويسفر الصباح، وقد هز عطفي ذلك الارتياح، وأنا خبير بشد دساتين عيدان الألحان، بصير بحل عرى النغمات الحسان، فمنهم تعلمت طرفها، وشددت وسطها وطرفها، وصرت فيها إلى ما ترى، وعند الصباح يحمد القوم السرى.
فقال النسر: إنك سقيتني بحديثك أسكر شراب، وفتحت لي بأخبارك أغرب باب، كيف السبيل إلى المبيت لتعلم هذه النغم الشهية، والفوز بحفظ هذه الأصوات الأرغلية؟ فقال البلبل: بالجد والاجتهاد، تدرك غاية المراد، وبالعزمات من استوطأ فراش الكسل، وأم العجز أبداً عقيم، والخمول لا يرضى به إلا مليم، وبالحركات، تكون البركات، وثمار السعود، لا تطلع في أغصان القعود، وبالهز تسقط الثمار، وبالقدح توجد النار، والحياء توأم الحرمان، والهيبة والخيبة أخوان،
ومن هاب أَمراً ثم لم يك مُقْدِماً ... عليه بصدق العزم والقول والفعلِ
يفوت ولا يعطيه منه مُرادَه الزّمان، وبعد المَقْر يُجنى جَنى النحل
إِذا تقوست قامة النهار، وجعلت رجل الشمس في قيد الاصفرار، وولت مواكب النور، لقدوم سلطان الديجور، وأنارت روضة السماء بزهر الكواكب، وطلعت الشهب فيها من كل أفق وجانب، فأت إلى هذا المكان، عسى أن تسعدك بمطلوبك عناية الزمان، واختف عن رامق يراك، فإنه أعون على مبتغاك، وإياك أن تقول: إن قدر شيء وصل، وإن كان في الغيب مقضي حصل، فكم قد غر سراب هذا المقال من العقال، وما حصلوا إلا على الآمال.
ومُدْمِنُ القرع للأَبواب منتظرٌ ... بكثرة القرع للأَبواب أَن يلِجا
فانهض إِذا ضقت ذَرْعاً بالأُمور ولا ... تقعد، وقم مستثيراً وانتظر فرجا

فلما سمع النسر مقاله ودعه وطار، وقال لعل في الانتظار، بلوغ الأوطار. وأثبت في نفسه الرجوع، وقال أمنع عيني هذه الليلة لذة الهجوع، وقال أصبر على العذاب الأليم، ومن طلب عظيماً خاطر بعظيم، وبالصبر يحلو صاب المصاب، وبالجلد تصاب أغراض الصواب، ومن لم يتحمل أعباء الأثقال، ولم يصبر لصعاب الأهوال، تكدر صفاء مسرته وقعد قائم سعادته، وخذله الزمان، وقتله الحرمان.
ثم سقط على بعض الأشجار، متوخياً بزعمه مضي النهار، وأدركه الليل فنام، وغرق في بحر الكرى وعام، وكلما حركت سواكنه داعيات الطلب، وأقامت قاعدة مزعجات الأرب. قال: الليل بعد في إبان شبابه، ولعله ما جاء الملك مع أصحابه، وساعة تكفي العاقل، ولمحة تشفي الفاضل، وكثرة الحرص سبب الحرمان، وربما أفضت فوارط الطلب إلى الهوان، واغتنام راحة ساعة من العمر، فرصة جاد بها بخيل الدهر، وكم نائم حصل مراده، وساهر أخطأه إسعاده.
ولم يزل في رؤيا أحلام الأباطيل، وإقامة المعاريض الفاسدة التأويل، حتى وضح فلق الصبح من مشرقه، وتمزقت عنه جلابيب غسقه، وبدا حاجب أم النجوم، وامتدت أشعتها على التخوم، فتنبه من رقدة غفلته، وطار من وكر جهالته، وأم روضة البلبل طائراً، ونزل عليها دهشاً حائراً، وقد تفرق جمع الملك في السكك، تفرق الشهب في الفلك، وغلقت أبوابها، وتفرقت أصحابها.
فقال له البلبل: يا هذا! ما الذي شغلك حتى أشغلك، وما الذي مناك، حتى عدمت مناك؟! وأن من شد وسط اجتهاده، وصل إلى بلوغ مراده، وبصدق الطلب، تدرك قاصية الأرب، ومن ركن إلى إطالة البطالة، استحالت منه صورة الحالة، والليل مطايا الأحرار، إلى بلوغ الأوطار، ونجائب ذوي الألباب، إلى بلوغ المحاب.
فلما أكثر البلبل على النسر العتاب، وانغلقت عنه أبواب الصواب، ودعه وطار، وقد عدم الأوطار. وكذلك حال ذوي الأحوال، ومن له دعوى الصدق في المقال، والعقال يؤاخذون بخطراتهم، ويطالبون بعثراتهم، ويهجرون لأجل لحظة، ويقطعون بسبب لفظة، ويتكدر عليهم مشرب أوقاتهم لأجل هفوة، ويمر حلو خلواتهم بأقل جفوة، فكيف من تفرش له فرش الغفلة، ويتوسد وساد حب المهلة، ويلذ له كرى اللعب والبطالة، ويستمرئ مرعى الغي والجهالة، ويعتقد أنه بمثل ذلك لا يطالب، وعلى مثل ذلك الحال لا يعاتب، هيهات إن سعداً لغيور، وإن الله لأغير من سعد، نامت عين الخليل، فأمر بذبح إسماعيل، ونام يوسف متلقياً لأسرار الغيوب، ففرق القدر بينه وبين يعقوب، ونام محمد صلى الله عليه فقيل له: يا أيها المدثر، قم فأنذر. نحن لا نرضى لبعض أصحابك بالمنام، فكيف نرضاه لك وأنت سيد الأنام.
وأم هذه الرسالة بفصل وعظي ليس من شرط الكتاب.

الأمير يغمر بن عيسى
ابن العكبري
من موليد الأتراك بدمشق وأمرائها المعروفين. لقيته بدمشق، وهو ذو فضائل مقرظة، وشمائل حلوة وفظنة متيقظة. شاب من جملة الأمراء شجاع مقدم مقدام متظرف، من الأدب متطرف. خان أمله، وحان أجله، وفل الشبا الطرير من شبابه الطري، وجرى القدر بأفول كوكبه الدري، وكبوة جواده الجري، وذلك في سنة ثمان أو تسع وخمسمائة، وأخلفت وعود رجائه، وذوى عود بهائه.
وجدت رسالة له بخطه ذكر فيها ما يتضمن معاشرة الإخوان، وتعب الزمان، والحث على اغتنام الفرص، ووصف الصيد والقنص، وشرب المدام، وتقلب الأيام. ونقحناها وصححناها، وحذفنا منها وأصلحناها، وكللناها ورصعناها، وأوردنا منها ما وقع الاختيار عليه نظماً ونثراً، وأحيينا له بإيرادها ذكراً. وهي: للصبا أطال الله بقاء مولاي الأخ الكامل الفاضل، روح جسد الإخاء وقلبه، وحلى معصم الصفاء وقلبه، ومدار فلك الوفاء وقطبه، وختام رحيق الحياء وقطبه، ويتيمة جيد الفضل وعقده، وفريدة حبل الطول وعقده، ويمين شخص البراعة وشماله، وجنوب مهب الشجاعة وشماله، وإنسان عين الزمان، والملاذ به من الحدثان.
أَخ لي على جَوْر الزمان وعَدْله ... وعوني على استهضامه واشتماله
إِذا غالني خَطْبٌ وقاني بنفسه ... وإِن نالني جَدْبٌ كفاني بماله
فتىً جعل المعروف من دون عِرْضه ... ولم يقتنع عنه بزُرْقِ نِصاله
أَباد أَعاديه بغَرْبِ حُسامه ... وجاد لِعافيه بسَيْب نَواله

كريمٌ فما الغيثُ الهَتون إِذا همى ... يُباريه باسْتهلاله وانْهماله
وكما الرِّزق إِلاّ من طَلاقةِ وَجهه ... وما الموتُ إِلاّ لمحةٌ من جَلاله
وما البحر إِلاّ قطرةٌ من مَعينه ... ولا البدر إِلاّ دُرّةٌ من كماله
وما العلمُ إِلاّ لفظةٌ من مقاله ... ولا الفضلُ إِلا خَلّةٌ من خِلاله
وما الأَرض إِلاّ حيث مَوْطِئ نَعْلِه ... ولا النّاس إِلاّ من ذَوِيه وآله
فلا زال مَعْمورَ الجَناب مُسَلَّماً ... ولا زالت الأَقدارُ طَوْعَ مقاله
رب الفصاحة ومنشيها، ومعيد السماحة ومبديها، أخي المكارم وخدينها، رأس المفاخر وعرينها مسلماً من أوقات الزمن، معصوماً من إحنات المحن، ذا صبوة يؤذن باجتلاب السرور معينها، ويذعن لانتصاب الحبور معينها، ويحدو إلى اغتنام العمر حاديها، ويشدو بغرام الدهر شاديها. إذ هو دهر تدل أفعاله على غدره، وتنبئ أقواله عن مكره، يسترد ما وهب، ويعيد ما نهب ويفرق ما ألب، ويحمق من أدب.
نَكِدٌ يُشتِّتُ ما التأَمْ ... وَيَلُمُّ شَعْباً مُنْثَلِمْ
ويُكَدِّر الصافي ويمْزُجه لِوارده بِدَم
ويُغِضُّ إِن هَنّا وليْس يفي وإِن أَعطى الذِّمم
ذو النَّقْص مَرزوقٌ لديْه وذو الفضائل قد حُرِمْ
فالحازمُ اليقِظُ الذي ... بعُهوده ما يَعْتَصِم
ويفوز بالعيش اللذيذ وللمسرَّة يَغتنم
من قبل أَن يُمْسي ويُصبحَ في حساب ذوي الرِّمَم
وينالَ قِسْم تُراثِه ... عَصَباتُه وذوو الرَّحِم
فاللبيب من انتهز فرصة، قبل أن تصير غصة، وبذل في نيل آرائه جهده وحرصه، وأنفق فاضل شبابه قبل أن يعاين فيه نقصه، قبل أن يصير ما كنزه لنفسه، وما أحرزه عن نابه وضرسه، بعد حلوله في رمسه، مأكلة لزوج عرسه. أيقظنا الله وإياك عن سنة الغفلة، ووفقنا لاستخدام المهلة، وأعاننا على دنيا لا يدوم نعيمها، ولا يبرأ سقيمها، ولا تندمل كلومها، ولا يسلم سليمها، غرارة تضل مبتغيها، مكارة تخيب روادها ومنتجعيها:
دارُ سوءٍ فما تقيم على حا ... لٍ ولا تستقيم في الأَفعالِ
طبعها اللُّؤْم والخِلابة والحِقد ونقضُ العُهود والأَحوال
وانتزاعُ الغِنى بنازلة الفقر وحُلْوِ النَّعما بمُرّ الزوال
فالأَريب اللبيب يستنفد الدنيا وأَعراضَها ببذل النوال
فليس للمقيم بها مقام، ولا للمنتقم من صرفها انتقام، إلا بمداومة الصهباء، في الإِصباح والإمساء، لصرف الهم عن قلبه بصرف الراح، وجعل قدحه الكبير من الأٌداح، ومباكرة دنه وخماره، ومراوحة عوده ومزماره.
ولقد استنفدت كل المجهود، في بلوغ المقصود، فرأيت تحصيل الجار، قبل الدار، والرفيق، قبل الطريق، إذ لا سبيل إلى جمع المسرة إلا بالمصافي من الإخوان، ولا إلى دفع المضرة إلا بالكافي من الأعوان، وفتح الله لي بسادة أمراء، وقادة كبراء، يجزون عن الإساءة بالإحسان، ويقابلون الذنب بالغفران، إن قطعوا وصلوا، وإن خزن عنهم بذلوا، وإن فوضلوا فضلوا، وإن نوضلوا نضلوا، وإن فوخروا فخروا، وإن جني عليهم اعتذروا.
عِصابةٌ من سَراة الناس مُنْجِبَةٌ ... صِيدٌ، غطارفة، ليسوا بأَغمارِ
غُرٌّ ميامينُ، وصّالون قاطِعَهم ... شُمْس العَداوةِ، أَخّاذون بالثار
هُم، إِذا المَحْلُ وافى، سُحْبُ أَمطارِ ... وإِن رَحا الحرب دارتْ، أُسدُ أَخْدار
المُنْعمون فلا مَنٌّ يُنَكِّدُه ... والمانعون حِمى الأَعراض والجار
والطاعنون وساقُ الحرب قائمةٌ ... والمُطعمون على عُسْرٍ وإِيسار
يُغْضُون عَمَّن أَتى ذنباً بِحِلْمِهمُ ... ولا يُجازون عن عُرْفٍ بإِنكار
مَناظرٌ حَسُنتْ والفعلُ يَشْفَعُها ... منهم فنالوا بهذا طيب أخبار
تراضعوا دَرَّة الإِنصاف بينهمُ ... فما يجول لهم جَوْرٌ بأَفكار
تَجَلْببوا بِجَلابيب المكارم والآداب لكنهم عارون مِنْ عار
من تَلْقَ منهم تَقُلْ لاقيتُ سيِّدَهم ... مثلُ النجوم التي يسري بها الساري

آراؤهم سديدة، وأنباؤهم رشيدة، وأقوالهم مفيدة، وأفعالهم حميدة، وطرائقهم مستقيمة، وخلائقهم كريمة، يجودون إن ضنت الغيوم، ويكتمون السر إذا أذاعه النموم، وينيرون إذا جن الظلام، ويجيرون إذا جارت الأيام، ويغدقون إذا غبر العام. فَصِرْتُ من عَقدهم، وانتظمتُ في عِقدهم، فرأَيت كلاَّ منهم قد حاول من هذا الأَمر ما حاولت، وتناول في تحصيله أَكثر مما تناولت، وأجمعت آراؤهم على ما رأيت، ووافقت رواياتهم ما رويت.
فلما اتفقت الشهوات، وزالت الشبهات، شرعنا في استدامة المدام، وأتبعنا الليالي فيها والأيام، لا نفيق من صبوح وغبوق، ولا نسأم من خلاعة وفسوق، ما بين نغم أوتار ودلف راووق، مستوطنين منزلاً للخلوة، وارتشاف القهوة. فاقتضى ما بيننا من اقتراح الألفة والتألف، واطراح الكلفة والتكلف، أن قسمنا الأيام والليالي بيننا أقساماً، فكل يعد في نوبته للاجتماع طعاماً ومداماً، ويعرف يومه وليلته، ويستعمل قدرته، ويستنفد طاقته في إظهار الأفانين العجيبة. ويجمع بين آلات الطرب والطيبة، وساعاتنا بالسرور تمضي، وأوقاتنا بالحبور تنقضي.
ولم نزل على ذلك المنهاج، متمازجين بأعدل المزاج، حتى انتهت النوبة إلى سيد كريم من الجمع، ألف حلو العطاء وما عرف مر المنع، فنادى مناديه في نادينا، يجمع حاضرنا وبادينا: إلي، قدموا الحضور إلى المنزل الرحب، وثقوا بالأهل والرحب. فأجبنا المنادي، وحللنا النادي، وولجنا داراً قد دار على المكارم سورها، وأجد بالجد العامر معمورها.
فلما اطمأن بنا المكان، وساعد الزمان والإمكان، جاء غلام حسن القوام، عذب الكلام، كأنه بدر التمام، ومصباح الظلام، إذا رنا فالربيب ينظر من عينيه، والقضيب يهتز من عطفيه.
ما في الوجود له شَكْلٌ يُماثِلُهُ ... من البرية لا أُنْثى ولا ذَكَرُ
تحيَّر الحُسْنُ في تكوين صُورتِه ... وأَظلم النيّران: الشمسُ والقمرُ
إِذا تبدّى فبدرٌ طالعٌ حَسَنٌ ... وإِن تثنَّى فغصنٌ ناعمٌ نَضِر
قد كمل حسنه وخلقه، وحسن زيه وخلقه، فقال بلسان عذب، وكلام كاللؤلؤ الرطب: عرفتم أيها السادة، ما جرت به العادة، وأكل الطعام، قبل شرب المدام، فاعزموا إذا دعيتم، ولا تأبوا إذا استدعيتم. فنهضنا ملبين نداه، مجيبين دعا، فسار أمامنا، واتخذناه إمامنا، إلى طعام تكل عن وصفه الألسن، ويشتمل على ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، فاعتمدنا مذهب الإيثار، وأكلنا حسب الاختيار، ورفعنا فاضل الخوان إلى الحاشية والغلمان، ثم استحضرنا الطسوت والأباريق، والغسول المتخذ من ماء الورد والمسك السحيق، فغسلنا الأيدي والأفواه، واستعملنا الطيب والأفواه. فلم نلبث حتى أقبل غلام أحسن من الأول وصفاً، وأكمل رشاقة وظرفاً.
مُهَفْهَفٌ جَلَّ حُسناً أَن تُكَيِّفَه ... في الخَلْقِ دِقَّةُ أَفهامٍ وأَفكارِ
حاز الجمال فكلُّ الخَلْق يَمْنَحُه ... مَحَبَّةً بين إِعلان وإِسرار
في وجهه آيةٌ للحُسن باهرةٌ ... جَلَّتْ فَذَلَّ لديْها كلُّ جَبّار
تمازَجَ المِسْكُ والكَافور واتفقا ... بِوَجْنَتَيْه ولاذ الماءُ بالنّار
قد تحلى بالجمال، وتردى بالكمال، سكران من خمرتي صباً ودلال، يتمايل كأنه غصن عبثت بعطفيه ريحاً صباً وشمال، وفي يمينه ثلاثية ذات شعاع ونور، وفي يمينه كأس من بلور.
حَمْراء في كأْسها السَّرَّاءُ تَطَّرِدُ ... فما تَحِلّ بها الضَّرّاءُ والكَمَدُ
كأَنَّها جذوةٌ قد ضمها بَرَدُ ... إِذا صببتَ عليها الماءَ تتقدُ
يسعى بها شادِنٌ أَلمى أَغَنُّ كحيل الطَّرْفِ نمّ به التَّوْريد والغَيَد
فقال بلسان فصيح، وكلام عذب صريح، ولفظ مليح، ومعنى رجيح: السلام عليكم يا مسرة نفوس الأوطان، وقرة عيون الإخوان. فقلنا: وعليك السلام يا بدعة الزمان، ومجمع الحسن والإحسان، ويا مفحم قس وسحبان، فقال: اعلموا أحلكم الله دار الأمن والأمان، وأمتع ببقائكم الإخوة والندمان، أني رسول إليكم من جامع اللذات والأفراح، ومحلها في الكاسات والأقداح، بنت الكروم المنقذة من الهموم، المفرحة على الخصوص والعموم.

راح لا يلوذ النصب بساحتها، ولا يكدر التعب صفو راحتها، ولا يحل الحزن بدارها، ولا يطفئ الماء ضوء نارها. بكر ما أيمت، ومرة حلت لما حرمت، كلما عتقت زادت جدة، وإذا كسرت بالمزج ازداد حدة، قد قصر عن وصفها الواصفون، وحار في إدراك نعتها العارفون. وأنا أقول بلسانها، والذي في يدي عنوانها، وها هي الآن قد برزت من خدرها، وتجلت بحبابها لا بدرها، وقد أنالتكم رضاع درها، وأعفتكم من وزن جذرها، وكفي تدعوكم إلى نفسها، وتمنحكم ثمار غرسها، وتبيحكم حمى مسها وتنبيكم أن هذه ليلة عرسها، فهلموا، وألموا.
وتقدم فسرنا خلفه، واجتنبنا خلفه، وهو ينحرف إلينا كالظبي الغرير، ويتعطف لدينا كالغصن النضير، ويشرق علينا كالبدر المنير. فأدخلنا مجلساً صغر عندنا ما رأيناه، وأنسانا كل ما رويناه.
مجلِسٌ حُفّ بالسَّنا والسَّناءِ ... بايَعَتْنا فيه يدُ السرّاءِ
في زمانٍ صفا وراق ورقّ الجوُّ لما وافى نسيمُ الهواء
وكسا رَبْعَه الربيعُ وحلاّ ... هُ بلون الصفراء والحمراء
ضاع عَرْفُ الصَّهْباء والوقت والنَّدْ ... مان فيه وطيبُ نَشْر الكِباء
فبلغنا كلَّ المُنى والأماني ... وغَنينا عن الغِنى بالغِناء
وشُغِلْنا عن القَنا بالقَناني ... والتَهَيْنا عن الظُّبى بالظِباء
وانْعَكفنا على ارتشاف دم العنقود ضَرْباً عن قصد سفك الدِّماء
بين إِخوان نَجْدةٍ وأُولى بأْ ... سٍ وفضلٍ ويقظةٍ وحِباء
وسخاءٍ وحكمةٍ ووقارٍ ... ووفاءٍ وفطنةٍ وحياء
وجمالٍ وحُسْن خَلْقٍ ولطفٍ ... وكمالٍ ونَخْوةٍ وذَكاء
قد أطلعت بدر الكمال سماؤه، وأبرزت نجوم الإقبال أفناؤه، وحف بالنور والنور، والورد والمنثور، ونضد بالزهر والريحان، بين الحور والولدان، بكؤوس مدام كالأرجوان، بين اتفاق أوتار، واختلاف ألحان. وهم يسكرون بكاستهم قبل كاساتهم، وبسوالفهم لا بسلافاتهم، فناول كل واحد رطلاً، ولم يترك أحداً منا عطلاً، وقال:
باكِرْ كُؤوسك يا نديمي ... وذَر الوُقوفَ على الرُّسومِ
واشرب هنيئاً واسقِني ... كأْساً تُريح من الهُموم
بِكراً مُعَتَّقَةً وِلا ... دَتُها من الدَّهر القديمِ
من قبل مَهْبِط آدمٍ ... والكونُ في دار النعيم
حمراء يُشرِق نورها ... في ظُلْمة الليل البهيم
وتَخال نَظْمَ حَبابها ... في كأْسها زُهرَ النُّجومِ
من كفّ أَحورَ يَنْثني ... كالغصن من مَرِّ النسيم
رشأٌ مَلاحته تُحَيِّرُ كلَّ ذي لُبٍّ سليم
أَحوى أَحمٌ عليه جلْباب النَّضارة والنّعيم
في مجلسٍ مُسْتَنْزَهٍ ... ما بين كاعبةٍ ورِيم
ونحن ما بين قيام وقعود، واشتمام رائحة ند وعود، واستماع ناي وعود، إلى أن أخذت الراح منا بعض حقها، وصرنا في قبضتها وتحت رقها، وتقضى أكثر النهار، ولاح علينا دلائل الفرار، وهدأت منا النزوة، وبان فينا الفتور والنبوة، ومالت الرؤوس طيباً وطرباً، وارتاحت النفوس عجباً وعجباً، فحينئذ قر لنا القرار، واطمأنت بنا الدار، فتذاكرنا الأخبار، وتناشدنا الأشعار، فقام فينا سيد القوم خطيباً، وأوسعنا لوماً وتثريباً، وعنفنا بالوعظ، وأغلظ في اللفظ، وقال: يا غافلين عن الزمن الأنيق، والعيش الرقيق، أما تستمتعون ما سمحت به يد الزمان البخيل، وتستلذون المقام قبل الرحيل. ثم تناول رطلاً كبيراً، وأطرق يسيراً، ونظر إليه شزراً، وأطال روية وفكراً، فتطاولت إليه الأعناق، ورمقت نحوه الأحداق، فقال:
أُنطر إِلى الماء فيه النّار تلْتهبُ ... كأَنه فِضّةٌ قد شابها ذَهبُ
واستغنم العيش واشربها مُعَتَّقةً ... وانهب زمانك واللَّذاتُ تُنْتَهَب
من كفّ أَحورَ في أَجفانه مَرَض ... به قلوبُ ذوي الألباب تُسْتَلَب
أَحمّ أَحوى رَخيم الدلّ مُنْفرد ... في حسنه، وإِليه الحسن يَنتسب

للخمر من ذاته وصفٌ يشرِّفها ... ما لا يجود به من مائه العنبُ
من خدِّه لونُها القاني، وسكرتُها ... من ريقه، ولها من ثغره حَبَبُ
ونادى بلسان قد أطلقته النشوة، واعتقلته القهوة: يا إخوتي اشتغلوا بالعقار عن إنشاد الأشعار، وبسماع الأوتار، عن اتباع الأوتار، وبالإصغاء إلى الألحان، عن البكاء على من نفد عمره وحان، وتأملوا بدوراً يحملون شموساً، ويجلون لديكم عروساً، ويديرون لديكم خندرياً، ويغادرون رسم العقل بها دريساً، ويحيون بقتلها مزجاً مهجاً ونفوساً، إن أقبلوا فالبدور متجلية، وإن انثنوا فالغصون مائلة مستوية. وانظروا شعوراً زينها التجعيد، وخدوداً طرزها التوريد، وعيوناً صحتها السقام، ويقظتها المنام، ونظرتها الحمام، ولحافظها السهام، وأصداغاً مبلبلة، وقدوداً معتدلة، وأفواهاً ضمنت مسكاً وكافوراً ودراً ومداماً، وشفاهاً ضمنت شفاء وطيباً ومداماً، وخصوراً توشحت بالنحول، وأردافاً استغنت بالعرض عن الطول، فتلقينا قوله بالقبول، واشتملنا على ارتضاع در الشمول، وعدلنا إلى مشاهدة الشهود العدول، إلى أن بعث الليل رسوله، وأرخى علينا ذيوله، وزحف بعساكره، وخيم بدساكره، فنورنا ظلمه بغرر الجمع، وطعنا بهمه بأسنة الشمع. ولم نزل كذلك إلى أن هب النسيم، وسكر النديم، ورق من الليل الأديم، وامتد الضياء ولاح، وغرد الطائر وتاح، وانفرقت طرة الظلام عن جبين الصباح، ونادى المؤذن: حي على الفلاح، ونحن ما بين قتيل من كاسه، صريع من نعاسه، ساه عن جلاسه، لاه بوسواسه، همود جمود خمود، لا نسمع لنا ركزاً، ولا يكلم بعضنا بعضاً إلا رمزاً.
غيَّبَتْنا شواهدُ الصَّهْباءِ ... وتلاها سَماعُ طيبِ الغِناء
فبقينا صَرْعى سماعٍ وسُكْرٍ ... واعترانا خَطْباً بَقاً وفَناء
مَنْ رآنا رأَى مناظر أَموا ... تٍ وفينا مَخابر الأَحياء
قد كملت أدوات الفرحة، وعزمنا على الصبحة، إذ طرقنا مخبر، وبما شاهده لنا مبشر. فسألناه عن قصته وما رواه، وحقيقة ما عاينه ورواه، فقال: العجائب لا تورد على وهلة، والغرائب تفتقر في وصفها إلى مهلة، والعجول ما يحمد فعله، والرائد لا يكذب أهله. رأيت صيداً لا يصيده إلا الصناديد، ولا يناله إلا الصيد، في مكان لا أصفه إلا بالحصر عن صفته، ولا أعرفه إلا بالجهل عن معرفته. فأصغينا نحوه، ونحونا صغوه، وملنا عن الاصطباح إلى اللاصطياد، وأمرنا بإصلاح الزاد. فحين سفرت الشمس وحسرت نقابها، ورفعت عنها يد النهار حجابها، أسرجت الخيول، وأجريت كأنها السيول، واستصحبنا كل جارحة وجارح، وركبنا كل سابحة وسابح.
فمن أدهم اجتاب برد الليل واتخذ الصباح غرة، وأحمر لبس قميص سهيل يملأ القلب مسرة، يسبقان في الشوط هبوب الرياح، ويطيران لوقوع السوط بغير جناح، ومن أشقر كلون المريخ أديمه، قد تم خلقه وكرم خيمه، وأبلق امتزج الليل فيه بالنهار، مأمون العثار، ميمون الآثار، لا يعرفان الوجى، وما ركبهما إلا من نجا. ومن أشهب موشي الإهاب، كأنه مشيب من باقي شباب، وأصفر كالشمس حين توارت بالحجاب، وكلون الحبين عند معاينة الأحباب، يفوتان البرق في لمعانه، ويفوقان الطائر في يطرانه. ومن كميت كالكميت لوناً وصفاء، وورد كالورد احمراراً وبهاء، ومن حصان كحصن، أو برق في مزن، ومن حجر ذات حجر، كأنها سحرة مسفرة عن فجر، ومن خضراء كستها خضرة الفلك أبهى وشاح، وأعارتها الريح سرعة بغير جماح، نادرة العينين، قليلة لحم الفخذين، واسعة المنخرين. ومن بيضاء قدت من فلق الصباح، وحكت ترائب الصباح.
جيادٌ تفوتُ الطَّرْفَ سَبْقاً وسُرعةً ... عِتاقٌ عِرابٌ من مَعَدٍّ وعدنانِ
يُنالُ عليها كلُّ صعبٍ مَرامُه ... ويغدو لها النائي، إِذا استُحضِرت، دانِ
تَمُتُّ بأَنسابٍ كرامٍ، نجارُها ... نِجارٌ قديمٌ من جِياد سليمان
ويمنعها من أَن تطير عَرامةً ... إِذا قُرِعَت بالسّوط، فَضلات أَرسان

طول الدلائل، مشرقات الكواهل، دقيقات السوالف، لينات المعاطف، جَثْلات السَّبائب، قويّات المَناكِب، عظيمات الهياكل، قُبُّ الأَياطِل، تحثّ بنا المسير إلى حيث نصير، فكلما ننتهي إلى غدير، أن نمر بنمير، وقفنا عليه، وشربنا دوراً لديه، وإذا حللنا بمرج أقمنا فيه، ونهلنا القهوة في أرجائه ونواحيه. فما توسط نهارنا، إلا وقد انكسر بالخمر خمارنا، ونشأت نشوة النفوس، وتلاشت الدوخة من الرؤوس. وما حاولنا النزول، حتى قاربت الشمس الأفول، فوصلنا إلى الموضع الذي أعرب عنه، ولم نر أطيب منه، فألقينا به العصا، وما ألفينا من عصا، ونزلنا عن المراكب، إلى المراتب، وآثرنا مفارقة الجنائب، واخترنا مقارفة الحبائب، وقد أجهدنا اللغوب، واضطهدنا الركوب. فنلنا من الطعام، وملنا إلى المنام، في روضة أريضة، طويلة عريضة.
أَقامت السُّحبُ فيها غيرَ وانيةٍ ... تَسْقي ثَراها بهطّالٍ من المَطَرِ
مُخَيِّماتٍ عليها مُسْيَ ثالثةٍ ... لكنها قُوِّضَتْ محمودةَ الأثر
أَدارها الفَلَكُ الدوّار مُحْتفِلاً ... بها فزيَّنَها بالأَنْجُم الزُّهُر
زهت أزهارها، وبهر بهارها، وأنار نوارها، مهتزة أعطافها، معتزة أطرافها، صافية نطافها، ضافية أريافها، نضرة أكنافها، عطرة أردافها، قد سلت عليها يد الأفق، سيفاً من البرق، وصوت هنالك الرعد، فوفى له من السحاب الوعد، وحلت السماء أفواه عزاليها، فجادت عليها بكل ما فيها، فاهتزت الأرض وربت، وأخذت زخرفها وازينت، وأنبتت من كل زوج بهيج، وتنسمت بكل نشر أريج، من شقيق كالعقيق، في بهج الرحيق، ووهج الحريق، وأقاح كالثغور، ومنثور كالدر المنثور، وورد كالخدود، وبانات كالقدود، ونفل وحوذان، وشقائق نعمان، وخزامى وأقحوان، ما بين أبيض بقق، وأحمر قان، ضاحك من بكاء الغيوم، مفاخر بناجمات زهره زهر النجوم، دال على وحدانية الحي القيوم، إذا حاول الثناء على الحيا منعه الخجل والحياء، وحصره الحصر والإعياء، فشدا بذكر رائحته، مدحاً لغاديته ورائحته. وهذه في تقريظه وتحميده. قد أحدقت بها أشجار مختلفات الأجناس، مثقفات الأغراس، قد تساوين في الطول والطلل، وتسامين عن المثل والمثل، تسقى بماء واحد ويفضل بعضها على بعض في الأكل.
دَوْحٌ زكا فعليه من أَوراقه ... كِلَلٌ ومن أَزهارها إِكليلُ
تُصْبي الوَرى منه بدائعُ مَنْظرٍ ... بَهِجٍ يَرُدُّ الطَّرْف وهو كليل
تَخِذَتْه أَصنافُ الطيور مواطِناً ... فَلهنّ فيه تنقُّلٌ ومَقِيل
وتجاورٌ وتَزاورٌ وتذاكرٌ ... وتَحاوُرٌ وتَشاوُرٌ وهَدِيل
شَدْوٌ وتسبيحٌ وبَثُّ صَبابةٍ ... وتسجُّعٌ وترنُّمٌ وعَويل

كلما هب عليهن الهواء أمالهن كالشارب الثمل، وأدنى بعضهن إلى بعض للضم والقبل، وعطف على كل قضيب قضيبا، كما اعتنق محب حبيبا. والورق قد أخفين بأوراقهن بديع ألوانهن، وهتكن أستارهن بفنون ألحانهن في أفنانهن، ينحن ويبحن، ويغنين ويغردن، ويصدحن تارة ويسبحن، ويعجمن طوراً ويفصحن، كأنهن قينات حجبتهن ستور، أو قينات ضمتهن خدور، يتزاورن بلا رسل، ويتواصلن عن غير ملل، قد أمن المغيب، واطرحن الكاشح والرقيب، وسكن أطيب منزل، ووردن أعذب منهل. وهنالك نهر، كأن حصاه الدر والجوهر، وتراه المسك الأذفر، وماءه من نهر الكوثر، المدخر ليوم المحشر، مغدودق المشارع، سهل الشرائع. فبتنا بها ليلتنا، ونلنا أمنيتنا. فلما تبلد وجه الصباح، نادى منادي الراح: حي على الاصطباح. فقلنا ما قصدنا إلا الصيد، ولا كرامة ولا كيد. ونهضنا إلى خيولنا فركبناها، وإلى آلات القنص فاشتملناها، وإلى الجوارح فجردناها، وإلى المناهل فوردناها. فرأينا صيداً تحار لكثرته الأفكار، وتقصر عن إدراكه الأبصار. فمن أرانب وغزلان، وحبارج وكروان، وحجل ودراج، وطير مما قد هاج، وهي في عدد الرمل والنجوم. فجعل كل صنف من الجوارح جزء مقسوم، فأفردنا الكلاب للأرانب والفهود للظباء، والبزاة للحجل، والشواهين لطير الماء. وسرنا صفاً، كأننا نحاول زحفاً. والظباء في مرابضها نائمات، وعما يراد بها غافلات، في بلهنية من العيش ودعة، وخصب في المرعى وسعة، قد أمنت البوائق، ونسيت العوائق. والأرانب في مجاثمها لبود، تحسبها أيقاظاً وهي رقود. والحجل قد فارق ثبجه، وضيع مدخله ومخرجه، منتصباً على الإكام، لا يفتر عن الكلام، كأنه وامق مستهام، أو طافح خبلته مدام، في غفلة من فتكات القدر، وأمنة من آفات الغير. والدراج قد أخذ في الصياح، لما أحس تبسم الصباح، والبوزجات تجاوبه بالنباح، كأنما الدراج يدعوها إليه، أو كأن الكلاب تطلب ثأراً لديه. وطير الماء في ذلك النهر العجاج، المتلاطم الأمواج، قد شرع في الازداوج، يطرب مع إلفه ويمرح، ويختال عجباً به ويسبح، قد اتخذ الماء معقلاً يحميه، ولا يعلم أن حتفه فيه.
فما كان إلا عن قليل، ولا سرنا إلا جزءاً من ميل، حتى نفرت الظباء من مرابضها وكنسبها، مستبدلة منا وحشة بعد أنسها. فمن غزالة تزجي خشفها، وتتشوف حذراً عليه وتقلب طرفها، وتود لو تحفظه وتقيه، وبروحها من البلاد تفديه. ومن فحل قد طار روقاه، واشتد أزره وقواه، وقد تقدم على السرب، كأنه طالب للحرب، غير محتفل بنا يمشي الهوينا ويرعى، ويلتفت تارة إلينا ويسعى، قد اعتمد على السبق في الإباق، وأمن من وشك الطلب واللحاق. ومن ظبيات يرتعن ويلعبن، ويجئن ويذهبن، غافلات عما يراد بهن، غير حافلات بما أتى إليهن.
فعمدنا إلى الفهود، وهن خلف الرجال قيام وقعود، فما منها فهد إلا وقد سمي باسم، ووسم بوسم، فاستدعينا طريفاً، وكان خفيفاً ذفيفاً، إذا عدا سبق وميض البرق المتألق، وإذا نزا كان كالسيل المتدفق.
كأَنّ الريح حين يلوحُ سِرْبٌ ... أَعارتْه مُعاجَلَة الهُبوبِ
يُغير فيجعل النائي قريباً ... ويسلُب مهجة الظبي الرّبيب
تُلاحِظ منه حين يَجُول جسماً ... تدرّع حالياً حَبَّ القلوب
وجاء الفهاد بفهد نبيل، عريض طويل، صغير الراس، قوي الأساس، يقظ الحواس، صعب المراس، شرس الأخلاق، أهرت الأشداق، قد لبس حلة الأرقم، واقتبس خلة الضيغم، فأخذ جله وبرقعه، ولوهدة من الأرض أودعه، فانساب انسياب الصل مسرعا، وجد لما وجحد إلى مراده مشرعا، وهو يتستر استتار المريب، ويتبع الجري بالتقريب، وكلما حان من السرب التفات، وقف حتى يظن أنه نبات. فلم يزل على كلتا حالتيه، حتى دنا منه وشد عليه، ودخل في جمعه ففرقه، وعمد إلى شمله فمزقه، فطلب كل طريق النجاة، رغبة في الحياة، فما شاف، إلى الأخشاف، ولم يكن إلا أسرع من أن يرد الناظر طرفا، حتى جعل إهاب الفحل ظرفا. فجاء الفهاد إليه، ونزل عليه، وذبح ما صاده، وناوله فؤاده، وقال: ما تقولون في الشبعة، والعمل بمقتضى الصنعة، فقد أحسن الطريف، وصدر منه الفعل الظريف، ولم يبق عليه للذم مكان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. فقلنا: الرأي ما تراه، فدونك وإياه.

ثم أحضر الفهاد فهدة وحشية، تخال ظهرها حشية، قريبة عهد بالبرية، قد جرعت الوحوش كؤوس المنية، طويلة الرقبة والظهر والفخذين، عريضة الأذنين والصدر قصيرة الساعدين، وجهها عبوس، مستوحشة لا أنوس، قد حل في براثنها البوس، فطريدتها من الحياة يؤوس.
وَجْهٌ كأَنّ البدر حالة تِمّهِ ... أَهدى له تدويره وكمالَهُ
وَجَناته مَنْموشةٌ فكأَنما ... أَلقى عليها كلُّ خدٍّ خالَه
فاعترضتنا شاةٌ وطَلاها وهيَ بعينها تُراعيه، ومن أَطيب النبات تُرْعيه، فاستترنا منها، وتخفَّيْنا عنها، وقلنا للفهّاد: امض وانفرد، واقض واقتصد، فهذا مكان قصير النبات، قليل الشجرات، لا يتهيأ فيه النزول، ولا يمكن للفهد فيه الدخول، فنحن ندور عليها ونردها إليك، ولا شك أنها تطمع فيك وتحمل عليك. فلما عاينتنا وقفت، ولأغنها استوقفت، وهاج بها القلق، وبان عليها الفرق، فتشاغلنا عنها حتى قر قرارها، وسكن نفارها، وخمدت نارها، وتوارى أوارها، وانعكفت على مرعاها، ظناً أنه يخفى مرآها، ليتم ما قدر في الأزل، وتستوفي ما بقي لها من الرزق والأجل. ثم عدنا فيه راغبين، وللفتك بها راغنين، فقمصت مليا، وخلصت نجيا، وطلبت مخرجا، فلم تجد معرجا، فقصدت الجانب الخالي نحو الفهاد، وهو لها ولخشفها بالمرصاد، فلما تمكن من الإرسال، أخذ برقع الفهدة بلا استعجال، وأرسلها فشدت، وقويت واشتدت، فأشفقت الغزالة على خشفها، فرضيت دونه بحتفها، إذ كان غير عارفٍ بالهرب، ولا قادر على التعب. ونظرت مداها، فقصرت خطاها، وتثاقلت في عدوها، وتكاسلت عن نزوها، لتطمع الفهدة في صيدها، وتحظى بسلامة وليدها، ولم تعلم بماذا الدهر دهاها، وبأي فادحة رماها، وبأي لافحة أصلاها، وبأي دمنة طل دم طلاها، فاستقامت الفهدة على العنز، فلم ينجها سرعة العدو والجمز، فتلتها للجبين، وأخذت منها بالوتين، وشغلتها بحينها عن الحنين، وانفرد الخشف كالحزين، يتفلت، ويتلفت، ويتأسف، ويتخوف، فأدركتنا عليه الشفقة، وملكتنا له الرقة، وعزمنا أن نخلي سبيلها، ولا نفرد عنها سليلها، فتراكضنا إليها، وترامينا عليها، فوجدنا الفهاد قد ذكاها، وأباح الفهدة حماها، فقلنا فات ما ذبح، وفاز من ربح. ثم قال: ما ترون في الاقتصار على هذا الطلق، والاقتناع بما اتفق، فالفهود معكم كثيرة، ومدة نهار الصيد قصيرة، وإصلاح الجارح أصلح، والإحسان إليه أربح، فما تركتم فيه وجدتموه، وما شرهتم عليه حرمتموه. فقلنا: افعل ما بدا لك، ودع جدك وجدالك.
ثم قدم الفهاد فهداً ربيباً، عاقلاً أديباً، كامل الأنس، كأنه من الإنس، قد هذبت التربية أخلاقه، وأذهبت شقاقه، وحلى الإصلاح مذاقه، فهو ولاج خراج، مهتاج كأنه محتاج، دخال إذا أدخل، نزال إن أنزل، مرواح إن أرسل.
يَشُدّ على الطّريدة ثم يَهوي ... فليس ترى به إِلاّ التماحا
فيُرديها مُعاجَلَةً كأَنْ قد ... تضمّن كفُّه القَدَرَ المُتاحا
له خُلقُ اللّيوث فكلّ وقت ... يزيد على بَسالتها جِماحا
وخَلْقٌ تنظر الأَبصار منه ... كأَنّ عليه من حَدَقٍ وِشاحا

الريح حاسرة في مجراه، والظباء حائرة في مرجاه، قد نقي بياضه، وحلك سواده، وأمن إعراضه، فملك قياده، فأخذنا معنا، والتأمنا واجتمعنا، وجئنا إلى أرض سبخة لا حشيش بها ولا مدر، ولا شيح ولا حجر، وبها قطيع قد نيف على العشرين، ولم يبلغ الثلاثين، فلما قربنا من السرب، طبنا أنفساً بالخصب، ووثقنا بالكسب، وهو في الهرب، ونحن في الطلب، نخشى أن يفوتنا، ونحرم منه قوتنا، فأجمعنا على أن نطرحه وندور عليه، ونرده إليه. فتركنا الفهد من تحت الهواء، ومضينا في طلب الظباء، وهو قد لم بعضه في بعض، كي يخال قطعة من الأرض، وقورنا حتى جئناها من أمامها، كأننا نسوقها بزمامها، فانقلبت على أعقابها، ملتفة بأصحابها، ملتفتة إلى طلابها، ونحن نقودها إلى حتفها، ونذودها عن إلفها، فحين ضيقنا عليها الحلقة والخناق، اعتمدت على الإباق، وأمنت اللحاق، فرماها صرف القدر على الفهد، ووفى له فيها بالعهد، فقام عليها مستطيلاً مغيرا، فخلناه من سرعته برقاً مستطيرا، فأفرد منها عنزاً حائلا، رعت العشب حولاً كاملا، فنظرنا وإذا بالعجاج قد ثار، ودم الأدماء قد فار، فأسرعت بنا إليه الجياد، وقد سبقنا عليه الفهاد، وهو يرقص فرحاً، ويرتجز مرحا؛ ويقول: ما في الحق مرية، وليس بعد عبادان قرية، ولا بد أن نكتفي بالحصة من خلاله وحلاله، ونكفيه الغصة في خطاه وملاله، فالشقي من طمع، والسعيد من قنع، والرزق مقسوم، والحريص محروم، والتلويح يغني عن التصريح، وهل جزاء الجميل غير الجميل، وما على المحسنين من سبيل. فقلنا إليك فوضنا أمره، ومنك نطلب نفعه وضره.
فلما قضينا من الفهود الوطر، أفضينا إلى المرج ويممنا النهر، وجعلنا طريقنا مظنة الأرنب، وتقاسمنا لصيدها جياد الأكلب.
شَمَرْدَلاتٌ واسِعاتُ الآماقْ ... سُودُ الزلاليم وَشُهْلُ الأَحْداقْ
غُلْبٌ مَهاريت طِوالُ الأَعناقْ ... قُبٌّ سَواطٍ شَرسات الأَخلاقْ
يلثُمن تُرْبَ الأَرض لَثْمَ المُشْتاق ... كأَنهن يستَمِحْن الأَرزاق
للوحش من سُلْطانهن إِفراق ... لا عاصمٌ منها له ولا واق
ولا مجيرٌ لا ولا شافٍ راق
فجر كل واحد منا كلبا، وتفرقنا كأننا نحاول نهبا، فطفقت الأرانب نافرات، والكلاب لهن كاسرات، فحصلنا منهن على الفرج والنزه، ونكبنا عنهن وتركنا إلحاح الشره.
واستحضرنا البزاة والشواهين، وعرضناهن علينا أجمعين.
فاستدعى النقيب بالكلاب، فجيء بباز أصفر نقي، شاطر ذكي، طويل عريض، أزرى بلونه على البيض، نادر الأحداق، طويل الساق، قصير الجناح، يسبق في الطيران عاصف الرياح، صحيح سمين، قوي أمين، لا يرجع عن كل ما يرسل عليه، ويسبق حمامه إليه.
شَهْمٌ غدا يَزينه اصفرارُهُ ... محمودةٌ في صَيْده آثارُهُ
طائرُه لم يُنْجِه فِرارُه ... ولم يُوَقِّ نفسَه فرارُه
ولم يردّ فتكه حِذارُه ... كأَنّما سفكُ الدِّما شِعارُه
أَو حلَّ في مِنْسره شِفارُه
ثم استدعى بالفاره، فأتي بباز أحمر، أسود المنسر، رحب المنخر، مليح المنظر، أزرق الحجر، أسود القفا، أحدب الظهر، شديد القوى حديد البطش والقهر.
فاق البُزاةَ بلَوْنِه المتمرّجِ ... وعلا بحمرته على الإصبهرجِ
ذو مِنْسرٍ رَحْبِ المَناخِرِ أَسودٍ ... شمطاءُ هامته كرأس الزُّمَّج
وكأَنّ زُرْقَة عينه في ماقها ... سَبَجٌ أَداروه على فَيْروزج
سَلَبَ العُقاب سَوادَه فتراه من ... كلّ الجاورح حالياً بنَموذج
غطراف عريض الصدر قوي الأكتاف، من أحسن الأنواع والأصناف، يحسن النزول، ولا يعرف عما يرسل إليه النكول.
ثم استدعى بالفاتك، فجاءوا بالباز الأسود الحالك، قد ادرع بحلة الغراب، وارفتع عن خلقة العقاب، زمجي الراس، قوي الأساس.
جَوْنٌ تُلاحِظ منه منظراً حسناً ... له تَصيرُ البُزاة البيض كالرَّخَمِ
يَنال حامِلُه من حَمْله تعباً ... يَفِرّ منه إِلى الإِعراض والسَّأَم
كأَنّ ما بين هاديه ونَيْفَقه ... تَلَهُّبُ النّار في دِقٍ من الفَحَم

مقرنص حيل، في كل خصاله مكمل، لا يستنكف من صيد السمانى والحجل، ولا يضعف عن الكركي والحرجل.
ثم استدى بالجسرة فحضر زرق أبيض لطيف، رشيق ظريف، كبير الراس، سهل المراس، قد حير عقول الناس، أحمر العينين، قصير الجناحين، غليظ الساقي، حسن الكف، مدور ملتف.
مُوَضَّنٌ، كبياض الثّلج ما سمحت ... بمثل صورته كلُّ الأَعاصيرِ
كأَنّ حُمْرَة عينيه وهامته ... سُلافةٌ فَضِلتْ في كأْس بَلُّور
فانظر إِلى نُقَطٍ في جُؤْجؤٍ لطُفَتْ ... كأَرجل النَّمل في تِمْثال كافور
مقرنص بيت، قد سلم من لعل وليت، تصير الطيور له كسيرة، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة.
ثم استدعى بالشهاب فأقبل بشاهين بيضاء كافورية، من كل عيب برية، مدنرة الصدر مدرهمة القفا، شيمتها ترك الغدر والأخذ بالوفا.
بيضاء كافوريّة اللون ما ... تنجو سباع الطير من كَيْدها
إِن أُطْلِقَتْ فالطيرُ من خوفها ... حاصلةٌ بالرّغم في قيْدها
وكلُّ ما يعلوه ريشٌ ففي ... قبضتها كرْهاً ومن صَيْدها
فكلية الدوران، بريقية الطيران.
ثم استدعى بالصاعقة فرأوا شاهين حمراء كالدينار، شديدة الاحمرار، طويلة الجناحين، قصيرة الساقين.
بحريّة أَرْبَتْ على العُقْبانِ ... جَلَّتْ عن الأَشكال والأَقرانِ
تَرْقى فما تُدْرَك بالعِيان ... الطائرُ القاصي لها كالدَّاني
تنقضّ كالنّجم على الشيطان
عريضة بعد الأكتاف والصدر، غير متعرضة للخلاف والغدر.
ثم استعدى بالمنجنيق فحضرت شاهين صفراء محية، نادرة بحرية، كثيرة النشاط، كبيرة الأقراط، طرية الأرياش، فرية الاستيحاش.
بُحَيْرِيةٌ مُحِّيَّةُ اللّوْن طُرِّزَتْ ... بأَفعالها المُسْتحسناتِ نُعوتُها
إذا أُرسِلتْ رامت عُلُوّاً كأَنما ... أُعدّ لها في منتهى الجوّ قوتُها
فإِنْ نحن أَقلعنا الطيور تحدَّرت ... كصاعقةٍ حِرصاً عليها تُميتها
صيدها الخفاف والثقال، وعثرة طائرها ما تقال.
ثم استدعى بالحطام فعبر بكرك أسود بحري، حسن سري، مردد ملتف، واسع الصدر قوي الكف.
مُشْرَئِبٌ ماضي البراثن ساطٍ ... مُستحيلٌ للطَّيْر منه النَّجاءُ
مُسْتَحِلٌّ سفك الدماء فما يسكن يوماً حتى تُراق الدِّماء
كم وكم لاذ بالهواءِ عِتاقُ الطّير منه فلم يَصُنْها الهواءُ
وكذاك استجار بالماء طير الماء خوفاً فما أجار الماء
مشمر عن ساق، كأنه متنمر لإباق، يثب إلى فوق، كأن به إلى السماء داعي شوق.
فلما استكملنا العدد، واستتممنا العدد، أخذ كل واحد منا بسباقة بازه وشاهينه، وسرنا على التؤدة والهينة، والسواعد والأنامل، لهن قواعد وحوامل، وحذرنا السهو والتغافل، وتحريق اليد والتراسل، وكل من طار بين يديه طائر أرسل عليه، والباقون ينظرون إليه، والبوزجات على الخيل قيام وقعود، كأنهن فهود.
فمِنْ أَبيضٍ ساطس أَقبَّ شَمَرْدَلٍ ... يفوق بياضَ الأُقْحُوان المُنَضَّدِ
ومن أَبلقٍ يلقى العيونَ بحُلَّتَيْ ... بياضٍ نقيٍّ واحمرارٍ مُوَرَّد
إِذا طائرٌ رام النَّجاة تبادرا ... إليه كسهمَيْ قوسِ رامٍ مُسَدّد
فإِن غاب شمّا التُرْبَ قصّاً كأَنما استعانا عليه بالدّليل المُجَوِّد
فهي تنظر طائراً تبيره، أو كامناً في نبجة تثيره، فطار بين يدي صاحب الزرق حجلة، وارتفعت إلى السماء فأرسله، فلزم لها وجه التراب ينظر إليها بإحدى عينيه شزرا، ويخفي نفسه عنها نكراً، فلما بعدت همت بالنزول، وأرخت رجليها، فنزا طالعاً إليها، فلقفها ونزل، وحسن فيما فعل، وسارع صاحبه إليه، وذبح في رجليه، ولم يقم حتى أشبعه، وبالشقة رفعه، وقال: ما كل من وعد وفى بالوعد، وليس في كل واد بنو سعد.

ثم طار عن يسار صاحب الباز الأصفر فحل دراج وعلا، ولحق بأعنان السماء فأرسله عليه فتواطى واعتنق الكلا، يجر فاضل سباقيه، ولا يفتر من النظر إليه، فعاين الدراج مدرجا، ورأى نبجا، وعزم على النزول به، طمعاً في حمايته وتأشبه، وشآه الباز محلقا، وتلقفه متعلقا، فقال صاحبه قد حصل، فقرط من كفه ونزل، وولج النبج، وأقسم أن لا يخرج، وانغمس الباز معه في العوسج، انغماس القرم المحوج، فدنا منه صاحبه وقرب، وأقام يده له فركب، فصرنا بأجمعنا نطلبه، وألقينا الكلاب لعلها تجذبه، وهن ينشقنه، كأنهن يشتقنه، ينبحن ويشخرن، ويبصبصن بأذنابهن ويكشرن، وقد قاسين محنا، كأن له عندهن إحنا، فعجبنا من كيده، وعجنا عن صيده، والكلاب تشم رائحته ولا ترى له جرما، كأنما أتى إليها جرما، تجد الفتك به غنما، والترك له غرما، فوقفنا حوالي النبجة، ونظرنا من خلال العوسجة، فإذا هو فيها كامن، وبها واثق آمن، فوكزناه بمنسأة فطار، وعجل الفرار. فأرسل الباز في كتفه، فأذاقه مر حتفه، ونزل عليه، وذبح في رجليه، وأطعمه ما اشتهى، وخلص منه الباقي لما اكتفى، وتمثل بقول من نطق بالحكمة، ما كل بيضاء شحمة.
وانحرفنا فأقلع من ورائنا ديك حجل، كمذعور وجل، يجد في الطيران، مرتفعاً إلى كيوان. فنام الغطريف له ففتح يده عليه وأرسله، فخرج مبرياً إليه وواصله فحصله، فأعجبنا ما رأيناه، وعوذناه بالله وفديناه، فمضى صاحبه وذبح في كفه، وأشبعه إلى أنفه، وقال: ليس الخبر كالعيان، ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان.
وسرنا فرأينا من بعد أشباحا، فقربنا إليها ارتياحا، فألفينا كراكي، كأنهن بخاتي، واقفات على غدير الماء، متعلقات على المرعى، فرمقننا بأحداقهن، وتطاولن بأعناقهن، ولما رآهن صاحب الباز الأسود ستره، وما أظهره. فقام الباز على دابرتيه إليهن، وحملق عينيه عليهن، فقال: أرى بازي تقاضاهن، لما ضاهاهن فما ترون في الإرسال، وعلى نتكل في جميع الأحوال. فقلنا: بازك قادر، وأنت به خابر، فأرسله إن قوي العزم، وأسرع فهو الحزم، فأنزل يده له فسقط عنها كالورقة، يفتح جناحيه ويقلقهما كالبوتقة، وأطلق فرسه، خلفه ليحرسه. فأقلعن، وعن الأرض ارتفعن، فحصل بينهن، وقصد حينهن، وسلب أكبرهن وأصلبهن، فصار صاحبه إليه، وجعل رجله على رجليه، وفتح فكيه، وذبح في كفيه وكتف جناحيه، وناوله رأسه وأشبعه عليه، وهو يقول: زاحم بعود أو دع، إذا قالت حذام فصدقوها، إن الجبان حتفه من فوقه.
وانتهينا إلى مظنة طير الماء فوجدنا نقيعاً كبيرا، وطيراً كثيرا، فتقدم الذي على يده الشهاب وصفر لها، وخلى سبيلها، فدارت أضيق حلقة، وأخذت أوفى طبقة، ولحقت بالحبك، ولاحقت قبة الفلك، فأقلعنا إليها الديازج مع الملاعق، فانقلبت أسرع من نزول الصواعق، فزجت ديزجا وعلقت ملعقا، فجاء وشق لها جنبه، وأطعمها قلبه، وقال: الخير لا يؤخر، والمحسن بالإحسان إليه أجدر، فقلنا له: رأيك صائب، ومخالفك خائب.
ومشينا قليلا، فألفينا فيضاً عريضاً طويلا، وعاينا طيراً مهولا، فأرسل الصاعقة عن يده فأسرعت في الدوران، وارتفعت في الطيران، كأن لها في السماء أربا، أو كأن بينها وبين الملائكة نسبا. فطيرنا لها الذكور والإناث، واعتمدنا في إطارتها الاستحثاث، فانقلبت أسرع من الكوكب المنقض، والشؤبوب المرفض، فصادت أنثى، فعاد فحلها إليها حثا، ليخلصها منها، ويذود دونها عنها، وجاء إليها ضرباً بالجناحين، فلم يعلم أنه جان جنى الحين، فعلق الشاهين برجله رأسه، وجرعه من الحتف كأسه، فأسرع صاحبه النزول، وذبحهما وهو يقول: على مثل ليلى يقتل المرء نفسه، ما كل غانية هند، فتى ولا كمالك، لكل مقام مقال، ولكل مقال رجال، ولكل رجال فعال، ولكل فعال مآل، وما بعد الهدى إلا الضلال.
وسقنا فرأينا نهرا، ووجدنا عنده إوزا، فأطلق المنجنيق، فارتفعت إلى العيوق، فأقلعنا لها الإوز، وقلنا: من عز بز. فانقلبت كالبرق الخاطف، بدوي الرعد القاصف، وهبوب الريح العاصف، وقصدت سمتهن، وصارت من إشفاق الغرق تحتهن، وحملت عزة، واحتملت إوزة. فقال صاحبها: كل الصيد في جوف الفرا، والحق ما فيه مرا، وفي اللجاج حرمان، والزيادة ما لها نقصان. وفداها وعوذها، وأشبعها وأخذها.

ثم أتينا إلى ساقية فرأينا فرافير فرفعنا الحطام عليهن فارتفع، ودار وما وسع، يحفظ رؤوسنا، ويطيب نفوسنا، إلى أن غاب عن الأبصار، وتوارى عن النظار، فأشفقنا من أفوله، وشككنا في نزوله، فطيرنا له الفرافير وكانت عشرا، فنزل كأن له عندهن وترا، فصاد واحداً فأخذناه وخلصناه، ثم عدنا وأرسلناه، فأعاد من دورانه أحسن مما أبدى، ثم انقلب إلى الطيور ولآخر أردى. ولم يزل كذلك يصيد ونرفعه، ويحسن وما نشبعه، حتى أتى على الجميع، وأبدع في الصنيع، فعند ذلك وفيناه طعمه، ووفرنا قسمه.
ثم عدنا إلى المضارب، لقضاء المآرب، فوجدنا من تخلف من الأصحاب، قد أعد يابس الأحطاب، فأضرمت النيران، وقدم الخوان، وحضر عليه الإخوان، وشرعنا في تناول ما أعده الطاهي وهياه، وحضرنا ما قنصناه فاشتويناه، ثم شرعنا الخيام، وأقعدنا القيام، وأحضرت الراح وآلاتها، ودارت بالأقداح سقاتها، فاجتلينا شموس العقار، من أيدي الأقمار، وحركت الأوتار، وجاوبتها الأطيار، وعلت الأصوات، وحلت الأوقات، والقمر طالع، والماء للنسيم دارع، والغدير لمقابلة النجوم له كأنه سماء، ونحن إلى ما في أيدي السقاة ظماء، نستجلي محياها، ونستحلي حمياها.
نستغنم العمرَ والأَقدارُ غافلةٌ ... عنّا، وغَرْبُ شَبا الأَيام مكفوفُ
ونقطع الدَّهر ف أَمنٍ وفي دَعةٍ ... وَصْلاً، وطَرْفُ صُروف الدهر مَطْروف
وأَطيبُ العيش ما جاد الزمان به ... مُسَلَّما، ليس تعروه الأَراجيفُ
فما الحياة ولو طالت بدائمةٍ ... فلا يَغُرَّكَ تعليل وتسويف
وما برحنا كذلك إلى أن غرب القمر، ودنا السحر، وكره السهر، فأخذنا من النوم نصيبا، وضاجع كل محب حبيبا، فلام طوى الليل سرادقه، ونشر الصبح بيارقه، انتبهنا من الرقاد، وانتهبنا آلات الاصطياد، وفزنا في اليوم على الأمس بالازدياد.
ولم نزل عشرة أيام، في صيد وشرب مدام، حتى مللنا ما كنا فيه، وعزمنا على ما ينافيه، فملنا عن الحركة إلى السكون، وانتقلنا من الصحاري إلى الوكون، وقلنا: إلى متى سفك الدما، والفتك بالدمى، وحتمام نفرق بين الألاف، ونفوق سهم البين إلى الأحلاف، فهل وثقنا بالأقدار، ونسينا تقلب الليل والنهار، وهل أمنا أن نصاب بما أصبنا به، وننتاب بظفر الزمان ونابه، فرجعنا نطلب منازل، خوالي منالمكاره حوالي بالمكارم أواهل، فلما دنونا من العمران، ووجدنا رائحة الأوطان، قال بعض الإخوان: ما ترون في النزول بالبستان؟ فامتثلنا أمره، والتثمنا صدره، والتزلمنا حكمه، وارتسمنا رسمه، ودخلنا إلى بستان، كأخلاق الجان، معمور بالروح والريحان، تتشاجر الورق في اوراق أشجارها، وتنفث في عقد سحرها نفحات أسحارها، وتتجاوب البلابل ببلابل أشجانها، وتتناوب العنادب بفنون ألحانها في أفنانها.
فمن فائزٍ بالوَصْل لم يذق النَّوى ... يُناغي جِهاراً إلفَه وينوحُ
وراقٍ ذُرى غُصنٍ رطيب فدأَبه ... ينادي إِلى محبوبه ويصيح
وذاتِ قرينٍ لم تفارقه لحظةً ... فمِنْ شَعفٍ تغدو به وتروح
ومِنْ فاقدٍ إِلفاً يَهيم صبابةً ... إِليه ويُبدي حُزنَه وينوح
وانتهينا منه إلى قصر قصرت عن نعته الهمم، وصغرت عنده إرم، شاهق البناء، رائق الفناء، فائق الأرجاء، فاستدللنا بالظاهر على الباطن، ويحسن المسكون على إحسان الساكن، فيه بركة قد حركت راؤها، وفي وسطها فوارة قد ارتفع إلى السماء ماؤها، كأنها رمح قد طعن به في نحر السحاب، فجاد عليها بواكف الرباب، قد أديرت بأكواب وأباريق، مملوءة من سلسبيل ورحيق، فاستوينا في الإيوان، وتناولنا ما حضر من الألوان، وارتحنا إلى الراح، واستهدينا كيمياء الأفراح.
فأقبل شادن رخيم الدلال، عديم المثال، منتشي الطرف، متثني العطف، فصيح اللهجة، مليح البهجة، خفيف الخصر نحيفه، ثقيل الردف كثيفه، ساجي اللحظ، شاجي اللفظ، متأود القد، متورد الخد، قد أطلع البدر من أزراره، وأودع الدعص في إزاره.
رَشَأٌ يتيه بحُسنِه وجَمالِهِ ... فاق البدور بِتِمِّه وكمالِهِ
أَزْرى بكل مُوَحَّدٍ في حُسْنه ... حتى ببهجة شمسه وهلاله

يسقي الشَّمول بلحظه وبلفظه ... ورُضابه ويَمينه وشِماله
فالسُّكر من لحظاته وفُتورها ... لا ما يعاطي الشَّرْب من جِريالِه
حيّا فأَحيانا بوَردة خدِّه ... وشدا فأَطربنا بسحر مقاله
ريا من ماء نضارة ونعيم، وفي يده كأس مزاجها من تسنيم، فأسكرنا النظر إليه، قبل تناول ما في يديه، وحيانا بنرجس عينيه، وحبانا بورد خديه، فعقرنا الألباب بالعقار، وخلعنا العذار في حب العذار، وقضينا الأوطار بالأوتار، وتوفرنا على معاطاة الشراب، ومناغاة الأحباب، وما توقرنا عن الرضا برشف الرضاب، والاقتضاء بكشف الحجاب.
وما زلنا على تلك الحال، حتى استهلت من رجب غرة الهلال، فخالفنا الهوى، وحالفنا التقى، وانتجعنا صوب الصواب، وادرعنا ثوب الثواب، واستدركنا فارط الزلل، وخفنا حابط العمل، ومنينا من تلك الرفقة بالفرقة، ودقعنا من تلك الصحبة إلى الغربة، وتفرقنا في البلاد، وتشتتنا في الأغوار والأنجاد.
وهذه سيرة الأيام في الأنام، وفعالها بالخاص والعام، لذتها كالأحلام، ويقظتها كالمنام، جعلنا الله من الفائزين بالخلود في دار السلام.
قد كتبت هذه الرسالة على ما بها، ورددت غلطها إلى صوابها.
ومن شعره في غير الرسالة قوله في حبيب حرم وداعه، نقلته من خطه:
وكنتُ إِذا ذِكْرُ التفرُّق راعني ... أُطمِّن قلبي منكم بوَداعِ
فحالتْ أُمورٌ دون نفسي وسُؤلها ... فقنَّعْتها من ذكركم بسماع
وقوله يذم صاحباً له:
وصاحبٍ لا أَعاد الدهرُ صُحْبته ... صَحِبْتُه، وأَراه شَرَّ من صُحِبا
لا يستقيم على حالٍ فأَعرفَه ... ولا يفوه بخيرٍ، جَدّ أَو لعِبا
إِن زرتُه قاضياً حقَّ الإخاء له ... غاب احتجاباً وإِن أَهملتُهُ عَتِبا
وإِن تنصَّلتُ مما قال مُعتذِراً ... أَبى القَبُول، وإِن عاتبتُه غضبا

أبو طالب بن الخشاب
وهو عقيل بن يحيى، من أهل باب شرقي من دمشق من عوامها. رأيته شيخاً في دار العدل بدمشق في شعبان سنة إحدى وسبعين. وقد خدم الملك الناصر بقصيدتين. فمما أثبته له من القصيدتين قوله:
من لي بِخِلٍّ جائر في حبِّهِ ... أَبداً يعنّفني بكثرة عَتْبِهِ
إِنْ بان آلم مُهجتي بِبِعاده ... أَو آب أَوْدعني الأَسى في قُربه
لو كان يعلم ما أُلاقي في الهوى ... من صدِّه لانتْ قَساوة قلبه
ومنها:
والدهر لا يبقى على حال فلا ... تأْمن لياليَ جَدْبه أو خِصْبه
ومنها في المدح:
وقد ظمئتُ فلم أَجد بدلاً من الماء الزُّلال سوى مَواطِر سُحْبه
ومن القصيدة الأخرى:
أَطاعتك أَطراف الرُّدَيْنية السُّمْرِ ... وسالمك التوفيق في البرّ والبحرِ
وعشتَ مدى الأَيّام لا قال قائل ... كبا بك زَنْدٌ في عظيمٍ من الأَمر
وكان عرقلة الشاعر ينبزه بالرقبة. وله فيه شعر.
أبو الحسن بن أبي الخير
سلامة النصراني الدمشقي
كاتب تاج الملوك أخي الملك الناصر. فيه أدب وذكاء. كتب لي من شعره قوله:
يا حبّذا يومنا، والكأْس ناظمةٌ ... نظمَ الحَباب عليها شَمْلَ أَحبابِ
ونحن ما بين أَزهارٍ تحفّ بأَنْهارٍ وما بين أَقداح وأَكواب
والماءُ تلعب أَرواحُ النسيم به ... ما بين ماضٍ وآتٍ، أَيَّ تلعاب
كأَنه زَرَدُ الزَّغْف السوابغ، أو ... نقش المَبارد، أَو تفريك أَثواب
وقوله:
سَلِ الحبيب الذي هام الفؤاد به ... هل يذكر العَهد، إِنّ العهد مذكورُ
أَيّام نأخذُها صَهْباءَ صافيةً ... يُمْسي الحزين لديْها وهو مسرور
يسعى بها غُصن بانٍ في كثيب نقاً ... له على القوم ترديد وتكرير
إِذا أَتاك بكأْسٍ خِلْتَها قَبَساً ... يسعى به في ظلام الليل مَقْرور
يُعْطيكه وهو ياقوتٌ، ويأْخذه ... إِذا أَشرت إليه، وهو بَلُّورُ
والأَرضُ قد نَسَجتْ أَيدي الربيع لها ... وشْياً تردَّتْ به الآكام والقُور

كأَنّ منثورها، والعينُ ترمُقه ... دراهمٌ حين تبدو أَو دنانير
ما شئتَ من منظرٍ في روضها نَضِرٍ ... كأَنما نَوْرُه من حسنه نُور
تظلُّ أَطيارُها تشدون بها طرباً ... إِذا تبدَّتْ من الصبح التباشير
من بُلبلٍ كلّما غنّاك جاوَبَه ... فيها هَزارٌ وقُمْرِيّ وشُحْرور
كأَنما صوت ذا صَنْجٌ، يجاوبه ... من ذاك نايٌ، وذا بَمٌّ، وذا زِير
وله في مدح تاج الملوك أيضاً في زمن الربيع:
تاجُ الملوك، أَدامَ الله نعمته، ... أَسْخى البريَّة من عُجْم ومن عَرَبِ
مولىً، أَياديه في أَرض يَحُلُّ بها ... أَجدى وأَحسن آثاراً من السُّحُبِ
يُفَتِّح النَّورُ فيها من أَنامله ... فتنجلي منه في أَثوابه القُشُبِ
حتى ترى روضَها يحكي مواهبَه ... فالبعض من فضّةٍ والبعض من ذهب
وله من قصيدة فيه بعث بها إليه في المعسكر في أيام الربيع:
مولايَ، مجدَ الدين، قد عاودتْ ... دمشقَ مِنْ بعْدِك أَشجانُها
نَيْرَبُها قد مات شوقاً إِلى المَوْلى وواديها ومَيْدانُها
مالتْ إِليه في بساتينها ... من شدَّ الأَشواق أَغصانُها
وأَقسمْت من بعده لا صحا ... من لوعةِ الأَشجان نَشْوانها
وماسَ من أَشواقِه آسُها ... واهتزّ إِذْ بان له بانُها
وغنَّتِ الأَطيارُ من شَجْوِها ... واختلفت في الدَّوْح أَلحانها
واصفرّ في الرَّوْضة مَنْثُورها ... مِنْ شوقِه واخضرّ رَيْحانها
رقرقت الدمعَ عليه كما ... ترقرقت بالماء غُدرانها
فلا خَلَتْ يا خيرَ هذا الورى ... بُطْنانها منك وظُهْرانها
تلك هي الجنة، لكنّها ... مُذْ غِبْتَ عنها غاب رضْوانها
وله فيه وقد وعده بخلعة:
يا من له الشُّكر، بعد الله مُفْتَرَضُ ... عليّ، ما عِشْتُ في سِرّي وفي علني
إِن كان غيرُك لي مولىً أُؤَمِّلُه ... وأَرتجيه، فكانت خِلعتي كفني
وله يقتضيه بالخلعة وقد عزم على المسير إلى العسكر المنصور:
مولايَ جُدء لي بوَعْدي ... من قبل سَيْرِ الرِّكابِ
أَنعِمْ عليَّ بثوبٍ ... تَرْبَحْ جزيل الثواب
ثوب تكاملَ حُسْناً ... كخُلْقِك المستطاب
كأَنّه زمن الوصْل في زمان الشباب
وفوطة مِثل شَعْري ... رقيقة أَو شرابي
طويلة مثل ليلي ... لمّا جفا أَحبابي
كأَنها رَمَضان ... إِذا أَتى في آب
وله فيه:
يا حبَّذا أَبواه إِذ ... وَلَداه من كرمٍ وخِيرِ
وكذاك قد يُستخرج الدُّرّ النفيس من البحور
والشّمس من أَنوارِها ... يبدو سَنا القمر المُنير
ما زال مُنذُ فِطامه ... في عَقْلِ مُكْتَهِلٍ كبيرِ
مولىً حوى فضل الأَكا ... بر وهو في سنّ الصغير
ولقد رَقى دَرَج الأَوا ... ئل وهو في الزمن الأخير
وله فيه:
يا مَنْ يَعُمُّ سَماحُه ونوالُه ... كرماً كما عَمَّ السَّحابُ المُمْطِرُ
ويفوح ما بَيْنَ الأَنام ثناؤه ... فكأَنه في كلّ حيٍّ عَنْبَرُ
إِني شقيتُ وفي ظِلالك أَنعُمٌ ... ولقد ظمئت وفي يمينك أَبْحُر
ولقد ذَلَلتُ وأَنت حِصْنٌ مانعٌ ... ولقد ضَلَلْت وأَنت بدرٌ نَيِّر
أَغنى نداك الناسَ إِلاّ فاقتي ... فاللهُ يُغني من يشاء ويُفْقِر
فلئن نظرتَ إِليّ نظرة مُجْمِلٍ ... فلأَنت أَولى بالجميل وأَجدَر
ومدحني في مصر بهذه القصيدة، وهي في حسن الفريدة، في ذي القعدة من سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة:
أَمُطيلَ عَذْلي في الهوى ومُفَنِّدي ... هل أنت في غَيِّ الصَبابة مُرْشدي
هيْهاتَ، ما هذا المَلامُ بزاجري ... فانقُض، أَبَيءتَ اللعن، منه أَو زِد

أَنت الفِداء ومَنْ يلوم لشادنٍ ... أَنا في هواه مضلَّلٌ لا أَهتدي
يجلو لعينك غُرَّةً في طُرّةٍ ... فيُريك أَحسن أَبيضٍ في أسود
يسطو على عُشّاقه من قَدّه ... وجفونِه، بمُثَقَّفٍ ومُهَنَّد
قمرٌ يظَلُّ الماءُ في وَجَناته ... والنارُ بين تَرَقْرُقٍ وتَوَقُّد
ومن العجائب أَنّ ناراً خالطت ... ماءً وأَن ضِرامها لم يَخْمَدِ
وكذاك ماءُ الدَمع إِن أَنْضَجْ به ... نارَ الصَّبابة والأَسى، تَتَوَقَّد
فصَبابتي لمّا تَخِفَّ، وأَدمُعي ... لمّا تجِفّ، وزفرتي لم تَبْرُد
كم بِتُّ أَرعى الفَرْقَدَيْن كلاهما ... شَعفاً بمن يرنو بِعَيْنَيْ فَرْقَد
آليتُ أَرقُدُ في هواه، ومن يكن ... ذا لوعةٍ وعلاقةٍ لم يَرْقُد
علّ الليالي يكتَسِينَ بشاشةً ... يوماً فتُنْجِز بعد مَطلٍ موعدي
إِنْ رقّ لي بعد القساوة قلبُه ... فالماء يقطُر مِنْ صِفاح الجَلْمَد
فأَجِلْ لحاظَك في محاسن وجهه ... إن تستطع نظراً إِليه وَرَدِّد
تنظرْ إِلى الأَنوار بين مُمَسَّكٍ ... ومسبج ومُنَرْجَسٍ ومُوَرَّج
فكأَنها نَوْرُ الربيع إِذا بدا ... أَوْ حسنُ خَطِّ محمَّدِ بن محمد
هذا عماد الدين والدنيا معاً ... وملاذُ كلِّ مُؤَمِّلٍ أَو مجتدي
هذا الذي ما أُغْلِقَتْ أَبوابُه ... من دون مُسْتَجْدٍ ولا مُسْتَنْجِد
هذا الذي أَحْيا العُلومَ وأَهلَها ... بعد الرَّدى، والعُرْفُ إِحياءُ الرَّدي
وأَبان منها كلَّ نَهْجٍ دارسٍ ... دَرْسَ الرُّسُوم من الدِّيار الهُمَّد
بيضاء حسنٍ ما دجت إِلاّ بدا ... فأَضاء مثلَ الكوكب المُتَوَقِّد
لو عاش حينئذٍ فرام تشبُّهاً ... عبدُ الحميد بخطِّه لم يُحْمَد
يَقِظٌ له القلمان في إنشائِه ... وحسابه، في مَصْدَرٍ أَو مَوْرِد
إِن حاول الإنشاء يوماً ما، فيا ... ناهيك من دُرٍّ هناك مُنَضَّد
ويُضَمِّنُ اللفظَ البديع معانياً ... أشهى من الماء الفُراتِ إِلى الصَّدى
وكأَنّ خطَّ حِسابه في طِرْسِه ... شَعرٌ تَنَمْنَمَ في عوارضِ أَغْيَدِ
لو قُلِّدَ الدُّنْيا كفاها وحدَه ... في الحالتين، ولم يُرِدْ من مُسْعِد
ولقام منتهِضاً بكلّ عظيمةٍ ... فبعلمه في الفقه كلٌّ مقتدي
فلوَ انّ أسعد عاش بعد وفاته ... يوماً فساجله به لم يَسْعَد
وإذا انبرى للشعر خِلْتَ قريضَه ... أَطواقَ دُرٍّ في نحورِ الخُرَّد
شِعْرٌ ترشَّفُه النفوس كأَنّه ... لفظُ الحبيب مقرِّراً للمَوْعِد
أو طيبُ وَصْلٍ بعد كُرْهِ قطيعةٍ ... من ذي انبساط بعد طولِ تَجَعُّد
وإِذا تفاخر بالأرُوم مَعاشِرٌ ... فله العلاءُ عليهم بالمَحْتِد
مازال يُخْبِر فضلُه بل نيلُه ... عن حُسْنِ شيمته وطيبِ المولد
جَلَّ الذي أَعطاك يا ابن محمّدٍ ... في كلّ فضلٍ باهرٍ طولَ اليد
أَقسمتُ بالكرم الذي أُوتيتَه ... لولاك ما اتّضحتْ سبيلُ السُّؤْدُد
وكتب إلي أيضاً:
أَلا قُلْ لمن ذَمّ الزمان جَهالةً ... وَعَنّفه فيما جَناه وفَنّدا
دَعِ العجز وانهض غير وانٍ إِلى امرئٍ ... يكُنْ لك فيما أَنت راجيه مُسْعِدا
فإِنّك لم تبلغ من الدهر طائلاً ... وتحمَدُه حتى تزورَ مُحَمّدا

وإِنّ عماد الدين أضمنعُ مَعْقِلٍ ... إِذا ما رَماك الدَّهرُ يوماً تَعَمُّدا
وأَسيرُ هذا الناس فضلاً وسُؤْدُداً ... وأَعوزُهم نِدّاً وأَكثرهم نَدى
تَفَرَّدَ إِلاّ أَنه الناسُ كُلُّهُم ... وإِن كان في عَلْيائه قد تفرّدا
مُعِزٌّ مُذِلٌّ مانِح مانعٌ معاً ... يُرَجَّى ويُخْشى واعِداً مُتَوَعِّدا
إِذا ما رمى يوماً بإيعاده العِدى ... أَقام لخوف الانتقام وأَقْعدا
جديرٌ بحلّ الأَمر أَشكل حلُّه ... برأيٍ به في كل عَشْواءَ يُهْتَدى
له قلمٌ ما هزّه في مُلِمَّةٍ ... من الدهر إِلاّ هزّ سيفاً مُهَنّدا
إِذا انْسَلَّ من بين الأَنامل خِلْتَهُ ... يُنَظّمُ في القرطاس دُرّاً مُبَدّدا
إِذا ما رنا يوماً بعين كحيلةٍ ... رأَيتَ لَدَيْه ناظرَ الرمح أَرْمدا
وإِن يتحرَّكْ يسكُنِ الخطْبُ فادحاً ... ويبيضُّ وجهُ الرُّشْدِ إن هو سَوَّدا
لأَنت عماد الدين أَحسنُ شيمةً ... وأَطيبُ هذا الناسِ أَصلاً ومَحْتِدا
فلو جاز يوماً أَن يُخَلَّدَ سيِّدٌ ... كريم بما أَسدى لكنتَ المُخَلَّدا

باب في ذكر محاسن جماعة
من الفضلاء من حمص وحماة وشيزر
حمص
القائد أبو العلاء الحمصي
المحسن بن أحمد بن الحسين بن معقل الأزدي، من أهل حمص، سمعت وحيش الشاعر بدمشق يقول: إنه توفي سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وله ثلاثة أولاد فاقتسموا ديوانه أثلاثاً، وظنوه تراثاً، فقلت لهم: هذا لا يجديكم نفعاً، وإثبات شعر والدكم يوجد لكم رفعاً، فما قبلوا مني وتفرقوا به وفرقوه، ولا ثبتوا على حفظه ولا أثبتوه. له من قصيدة:
هل لسارٍ في دُجى هجركَ هادِ ... أَم لعانٍ أَسَرَتْ عيناكَ فادِ
قد تعدَّيْتَ فأَشمتَّ العِدى ... وتمادَيْتَ فجاوزتَ التَّمادي
يا صحيحَ الجسم من داء الضَّنا ... وَخَلِيَّ القلب من ضَرِّ البعاد
خَفْ مع القُدْرة من ظلمي فقد ... نُهِي القادر عن ظلم العباد
نِمْتَ عما بي وجَفْني أَرِقٌ ... لم يَدُق من كَلَفٍ طيبَ الرُّقادِ
وثَنَيْتَ العِطف عنّي لاهياً ... مُؤثراً عكس طِلابي ومُرادي
فأَبِنْ لي مُخْبِراً بالله هل ... أَنت من أَولاد شَدّادِ بن عاد
وَيْحَ قلبي ما الذي أَوْقعه ... في هوى صَعْبِ الرِّضا صعب القياد
يتجنَّى والتجنّي أَبداً ... سببٌ داعٍ إِلى نقض الوداد
وله:
دَعا مُهْجَتي رَهْنَ أَوصابها ... وَحِلف هواها وأَطرابها
وَكُفّا فلي عنكما شاغِلٌ ... بتسهيد عَيْني وتَسْكابها
فَيا لِيَ من ظبيةٍ بالحِمى ... تَتيهُ بإِفراط إِعجابها
مُقَسَّمة الحُسْن بين القِناع ... وبين اللِّثام وجِلْبابها
فبدْرُ الدُّجى فوق أَطواقها ... وحِقْف النَّقا تحت أَثوابها
ولو أَنّ يوسُف في عصرها ... لأَصبح مِنْ بعض حُجّابها
رُوَيْدكُما بو قِيذ الصُّدود ... ومُدْوى لواعجِ أَوْصابها
فأَيْن السُّلوُّ وأَين الخلاصُ ... لنفسٍ أُصيبت بأَحبابها
تملَّكها مَنْ لأَجفانه ... نِصالُ الرُّماة ونُشّابها
هذه رقيقة، رفيقة، لطيفة، طريفة، ولعل ناظمها قصد بها معارضة الرئيس أبي منصور بن الفضل الكاتب المعروف بصر بعر فيكلمته التي أولها:
تفيض نفوس بأوصابها ... وتكتمُ عُوّادَها ما بها
وما أَنصفتْ مُهجةٌ تشتكي ... هواها إِلى غير أَحبابها
ومنها:
ومن شرف الحبّ أَنّ الرِّجا ... ل تَشْري أَذاه بأَلبابها
وفي السِّرْب مُتْرِبةٌ بالجمال ... تُقَسِّمه بين أَترابها

فللبدر ما فوق أَزرارها ... وللغُصن ما تحت جلبابها
كأَني ذَعَرْتُ بها في الخِبا ... ءِ وَحْشيةً عند مِحرابها
أُتَبِّعها نظراً معجلاً ... يُعَثِّر عيني بُهدّابها
متى شاء يقطِف وردَ الخدود ... وَقَتْهُ الأَكُفِّ بعُنّابها
وكم ناحلٍ بين تلك الخيا ... م تحسِبه بعض أَطنابها
لا يعارض هذا السحر، ولا يناقض هذا الشعر، إلا من يفتضح، وبينة قصوره تتضح، فإن الشاعر المفلق، إذا في قصيدة ووفق، فالألسنة تصقلها، والرواة تنقلها، ولا يتفق لشاعر في مدة عمره إلا قصائد معروفة، وهمته لاستحسان الناس لها مصروفة، فالأريب، اللبيب الأديب، ذو القريحة الصحيحة يتعرض لقبول النصيحة، ولا يعرض بمعارضتها نفسه للفضيحة، فإن نظم مثلها، واحكم صقلها، فمن أين له قبولها، ومتى ينفق ويتفق سوقها وسولها، وما كل حسن مبخوت، وإن نظم دونها فهو ممقوت، ومن ملك القدرة على حر الكلام في سر البلاغة، وسحر الصياغة، غاص بحر الفكر، لاستخراج الدرر، ولم ير من همته إلا التفرد بالثناء الغرر، لتتفرد بالقبول فرائده، ولتفد العقول فوائده، وتنير بالإشراق مقاصده، وتسير في الآفاق قصائده.

سعادة بن عبد الله الأعمى
من أهل حمص يعرف بسعادة، ويكتب على قصائده سعيد بن عبد الله، وكان مملوكاً لبعض الدمشقيين مولدا. شاب ضرير، شبا خاطره طرير، قد توفرت بصيرته وإن ذهب بصره، وأقرحت قريحته وشبت فكره.
لقيته بحمص مراراً، وسافر إلى مصر في أول مملكة السلطان الملك الناصر، وعاد بوفر وافر، وغنى ظاهر، وحصلت له زيادة على ألف دينار، وهو محظوظ مرزوق من نظم الأشعار.
كتب جالساً بين يدي الملك الناصر صلاح الدين بدمشق في دار العدل، أنفذ ما يأمر به من الشغل، فحضر سعادة الضرير ووقف ينشد هذه القصيدة في عاشر شعبان سنة إحدى وسبعين:
حَيَّيْتك أَعطافُ القُدود ببانها ... لمّا انثنتْ تيهاً على كُثْبانها
وبما وقى العُنّابُ من تُفّاحها ... وبما حماه اللاّذ من رُمّانها
من كلِّ رانيةٍ بمُقلةٍ جُؤْذَرٍ ... يبدو لنا هاروت من أَجفانها
وافَتْك حاملة الهلال بصَعْدَةٍ ... جعلت لواحظها مكانَ سنانها
حوريّةٌ تَسقيك جَنَّةُ ثغرها ... من كوثرٍ أَجْرَتْه فوق جُمانها
نزَلت بوَاديها منازلَ جِلَّقٍ ... فاستوطنت في الفِيحِ من أَوطانها
فالقصرِ فالشَّرَفَيْنِ فالمرجِ الذي ... تحدو محاسنه على استحسانها
فجِنان برْزَتها فيا طوبى لمن ... أَمسى وأصبح ساكناً بجِنانها
بحدائقٍ نُظِمت حليُّ ثمارِها ... نظمَ الحليّ على طُلى أَغصانها
فكأَنهنّ عرائس مَجْلُوَّةٌ ... وكأَنها الأَقراط في آذانها
ومرابع تُهدي إِلى سُكّانها ... طيباً إِذا نَفَحت على سكّانها
أرجاً لدى الغَدَوات تحسب أَنه ... مِسْكٌ إِذا وافاك من أَردانها
فالنَّوْر تيجان على هاماتها ... والنُّور أَثواب على أَبدانها
والوُرْق قَيْناتٌ على أَوراقها ... تَفتَنّ بالألحان في أَفنانها
أَحنو إِلى الهَضبات من أَنشازها ... لا بل إِلى الوَهَدات من غيطانها
وأَحنّ من شوقٍ إِلى مَيْطورها ... وأَهيم من توْقٍ إِلى لَؤانها
وأَبيتُ من وَلَهٍ وفَرْط صبابةٍ ... أَبكي على ما فات من أَزمانها
أَيّام كنتُ بها وكانت عيشتي ... كالرَّوْضة المَيْثاء في إِبّانها
والربوةُ الشماء جنّتيَ التي ... رضوان منسوب إِلى رضوانها
دارٌ هي الفردَوْس إِلاّ أَنها ... أَشهى من الفردوس عند عِيانها
ومنها يصف البركة والفوارة:
لنُهود بركتها قدودٌ، رقصها ... أَبداً على المزموم من أَلحانها
ومعاطفٌ عَطَفَ النسيمُ قِسِيَّها ... فَهَوَتْ بنادقها على ثعبانها
دُحِيَتْ كُراتُ مياهها بصوالجٍ ... جالت فوارسهنّ في مَيْدانها

واعتدَّ شاذروانها بعساكرٍ ... لمعت جواشنها على فرسانها
وتقلَّدت أَجيادُها بقلائدٍ ... نُثرت نظائمُهنّ فوق جِرانها
وتضاحكت أفواهها بمباسمٍ ... تُرْوي مَراشفُها صَدى ظمآنها
بمروَّقٍ صاف كأَنَّ زُلاله ... مُتَدَفِّقٌ من راحتيْ سلطانها
سلطانِها الملك ابن أَيوب الذي ... كفّاه لا تنفك عن هطلانها
بمواهبٍ لو لم أكن نوحاً لما ... نُجّيتُ يوم نداه من طُوفانها
سَمْح يروح إلى النّدى براحةٍ ... قد أَعشب المعروف بين بَنانها
وفتىً إِذا زخَرت بحارُ نواله ... غرقت بحارُ الأَرض في خُلجانها
غيث يكُرّ من الظُّبى بصواعق ... ماء الرَّدى يجري على نيرانها
بصوارمٍ أَجفانها قِمم العِدى ... لا ما كساها القَيْنُ من أَجفانها
فضيّةٍ ذهبية فلُجَيْنها ... يختال يوم الرَّوع في عِقيانها
محمرّة بدم الفوارس خُضْرها ... فالوَرْد منثور على رَيْحانها
من كلّ لامعةٍ بليلِ قَتامها ... كالنّار لامعةٌ بليلِ دُهانها
تلك السيوف المُرْهَقات بكفّه ... أَمضى على الأَيّام من حدثانها
قُطُبٌ إِذا اقترنت كواكب بيضها ... بكريهةٍ كانت ردى أَقرانها
مهزوزةٌ للضرب في يد ماجدٍ ... ضرب أَطاح الروس عن أبدانها
ملك إِذا جُلِيتْ عرائس ملكه ... رصعت فريدَ العدل في تيجانها
وإِذا جحافله أَثَرْنَ سحائباً ... لمعت بُروق النصر في أَحضانها
من كل شهباء الحديد كأَنما الأَمواج مائجة على شجعانها
وكتيبةٍ كم قد كتبن لها الظُّبى ... كتباً يلوح العِزُّ من عُنوانها
وإِذا ذوابله هُزِزْن رأَيتها ... والموت مُشْتَمِلٌ على خِرصانها
من كلّ جاعلةٍ بكلِّ كريهةٍ ... رأسَ الفتى رأساً على جُثمانها
سمراء لا يثني حطيماً صدرّها ... إِلاّ ومن نَحْرٍ فمٌ للسانها
وإِذا صواهله مَزَعْن حسِبتها ... ما دقَّ يومَ الرَّوْع من أَرسانها
من كلَ سَلْهَبةٍ أَلحّ بها الطّوى ... حتى طواها الضُّمْر طيّ عِنانها
جرداء تطّرِح البروق إِذا دَنَتْ ... وتفوت ما قد فات من لمعانها
خيْلٌ هي العِقبان في طيرانها ... لا بل هي السِّيدان في عَسَلانها
فالشُّهْب ما حملتْه في أَرماحها ... والغُلْب ما نقلته في عَدَوانها
كم قُدْتَّهُنَّ أَبا المظفر ظافراً ... والأُسْدُ صائلةٌ على عِقْبانها
متواثباتٍ للطِّعان، فلا كبَتْ ... تلك العِتاق الجُرْد يومَ طِعانها
عثقِدتْ سبائبُهنّ بالهمم التي ... أَشطانُهُنّ تنوب عن أَشطانِها
هِمَمٌ رَقَتْ بك فارتقيت من العُلى ... رُتباً، مكانُ الشمس دونَ مكانها
أَقسمتُ ما هَدَّمْنَ أَركان العِدى ... إِلاّ بما شَيَّدْتَ من أَركانها
فكواكب الأَفلاك من خُدّامها ... وعصائب الأَملاك من اَعوانها
فلذاك بَهْرام إِلى بَهْرامها ... يُعْزى، وكِيوان إِلى كيوانها
فإِذا سَلَلَتْ سَللتَ بيض حِدادها ... وإِذا هززت هززت سُمْر لِدانها
فافْخر فلو رَوَّعْتَ روميةً بها ... خَرَّتْ كنائسها على رُهبانها
أَو لو بها صبّحتَ قُسطنطينةً ... خفّضتَ ما رَفعتْه من صُلبانها
فانهض إِلى فتح السواحل نهضةً ... قادتْ لك الأعداء بعد حِرانها
واسلم صلاحَ الدّين وابقَ لدولةٍ ... ذَلّت لدولتها ملوكُ زمانها
خضعتْ لها الشُّجْعان عند صِيالها ... وَعَنَتْ لها الأَقران عند قِرانها
فَلَكَ ابنَ أَيّوب بن شاذي ملكها الضّافي وللشّاني قذى شَنَآنها

ولك الذي قد سرَّ من أَفراحها ... وله الذي قد ساء من أَحزانها
فاسعدْ بها يا أَيُّها الملكُ الذي ... دانتْ لديْه على جلالة شانها
واستجْلِ من مِدَحي الحسانِ خريدةً ... حَسّانُ مفتقرٌ إِلى حُسّانها
وافَتْكَ ترفُل في ثياب بهائها ... وإِبائها وحيائها وصِيانها
كالكاعب العذراء حين تبخترتْ ... في دُرّها المنظوم أَو مَرْجانها
وأَتَتْكَ تنشرُ ما طواه حَسُودها ... من فضلها وسَدادها وبيانها
في دارِ عدلٍ مُذْ طلعتَ بأُفْقِها ... بدراً جَلوْتَ الظُّلْم عن سُكّانها
فبقيتَ مُعْتَصِباً بتاج بهائها ... في دَسْتِ مجلسها وفي إِيوانها
ما أَصبحت أَيدي الرعيّة تجتني ... عَفْواً ثِمار الأَمْن من بستانها
وقام إليه اليوم الذي يليه، وقد جلس السلطان في دار العدل، وقد احتفل الحفل، بحضور أهل الفضل، فأنشده:
لا يُقْعِدَنّك ما حَلُّوا وما عَقَدوا ... هُمُ الذئاب وأَنت الضَّيْغَمُ الأَسدُ
كم يخطِفون بروقاً ما بها مَطكَرٌ ... ويقصِفون رُعوداً ما بها بَرَدُ
والقوم قد قعدوا عمّا نهضتَ به ... من السِّداد، فلا قاموا ولا قعدوا
فلا ثيابُ المعالي فوقَهُم جُدُدُ ... ولا طريق الأَماني نحوهم جَدَد
إِيّاك تغفُل عنهم مثل ما فعَلوا ... إِيّاك ترقُد عنهم مثل ما رَقدوا
ماذا الكرى يا صلاح الدين عن أَرِقٍ ... من قبل سيفك قد أَودى به السَّهَد
ولْهان تَزْفِر نارٌ في جوانحه ... يَشُبُّها القاتلان: الخوفُ والحَسَدُ
لا يستطيع اهتداءً فهو مرتبكٌ ... حيران، فيه وفي آرائه أَوَد
مخيَّبُ السَّعْي لا يعتاده ظَفَرٌ ... مُضَلَّلُ الرأي لا يقْتاده رَشَد
فكيف يَرْقَع خَرْقاً وهو مُتَّسِعٌ ... أَم كيف يُصْلِح أَمراً وهو مُنْفَسِد
لمّا رآك وقد أَقبلت تَقْدُمُها ... أُسداً عرائنها الإِقدام والعدد
أَلقى السلاح وما فُلّتْ ظُبى قُضُبٌ ... تَفْري الرؤوس، ولا دُقَّت قَناً مُلُد
وراح مِنْ بعد ذاك الجمع مُنفرداً ... وَمَنْ نَحاك بِجَمْعٍ سوف ينفرد
يَطوي الحُزونَ فيَطويه ويَنْشُرُه ... حُزْنٌ له منه وَجْدٌ فوق ما يَجِدُ
وفي شَباه الذي أَغْمدتَهُ فَلَلٌ ... وفي حشاه الذي أَقلقته كَمَدُ
وحوله عُزَّلٌ لو أَنهم قصدوا ... أَضحى القنا وهو في لَبّاتِهم قَصَد
خانوا فخانوا، وما حازوا الذي طلبوا ... خابوا فآبوا وما نالوا الذي قَصَدوا
لمَّا دَعَوْك أَجبت القوم في لِجَبٍ ... السيفُ ناصره والواحدُ الصَّمَد
حتى إِذا ما رأَوْا في الدِّرع منك فتىً ... كأَنه من ثباتٍ في الوغى أُحُد
صَدُّوا وما عَطَفُوا، أَلوَوْا وما وقفوا ... ولَّوْا وما رجَعوا، ذلّوا وما أَسِدوا
فرّقتهم فِرقاً، فاستسلموا فَرَقاً ... بِظاهر القَرْن، والأَقرانُ تطّرِد
صدَعْتَ ما شعبوا، قطعتَ ما وصلوا ... فَلَلْتَ ما شَحَذوا، حللتَ ما عقدوا
حقَنْتَ منهم دِماءً لو تُراقُ جَرَتْ ... منها مُدودٌ لها من هامِهم مَدَد
عَفَفْت من قتلهم يومَ الوغى فنجَوْا ... ولو ترى القتلَ رأياً ما نجا أَحد
فهم عبيدُك إِن لانوا وإن خَشُنوا ... وإِن أَقرّوا بما أَوليتَ أَو جَحَدوا
وهم أَساءوا فأَحسنتَ الغَداةَ بهم ... صُنْعاً يُحَدِّث عنه الفارس النَّجِدُ

أَوْسعتَ فِرْعونهم لما طغى غَرَقاً ... بزاخرٍ: لُجَّتاه النَّقْعُ والنَّجَد
حَبابُه البَيْضُ، والبِيضُ الحداد له ... خُلجٌ، وأَمواجُه لما طَغى الزَّبَدُ
إِذا تلامعَ مَوْجُ السّابغات به ... على الكُماةِ عَلاه من دَمٍ زَبَدُ
عَرَمْرَمٌ كالدَّبى الطيّار مُنْتَشِرٌ ... تُحْصى الرِّمال ولا يُحًصى له عدد
إِذا نَهَدْتَ إِلى أَرض العدوِّ به ... لم يَبْق من مائها غَمْرٌ ولا ثَمَدُ
تسمو عليه سَماءٌ من عَجاجته ... مبنيَّةٌ من قناه تحتها عُمَدُ
سماءُ نَقْعٍ لشيطان العدوّ بها ... من الأَسنّة شُهْبٌ كلُّها رَصَد
وفي دياجيه نارٌ من صوارمه ... تكاد تقطُر ماءً وهي تَتَّقِد
نار تُشَبّ على أَيدي غطارِفةٍ ... لا يَبْرُق الجوّ إِلاّ كلّما رَعَدوا
شُمّ الموانيف في أَفعالهم رَشَدُ ... في النائبات وفي أَقوالهم سَدَد
ما جِنّ عبقرَ جِنٌّ كلّما عَزَفوا ... ما أُسْدُ بِيشَة أُسْدٌ كلّما حَرِدوا
من كلِّ أَرْوَعَ، أَمّا رُمْحُه ثَمِلٌ ... لا يَسْتَفيق، وأَما سيفه غَرِد
في كلِّ يومِ جِلادٍ لو أَلمّ به ... عَمرو بن وُدّ عَداه الصَّبْر والجَلَد
شِمْ بالشآم سيوفاً من عزائمهم ... إِذا غَمَدْتَ المواضي ليس تنغَمِد
ولا تَخَفْ فالعوالي شوْكُها ثَمَرٌ ... حُلْوُ الجَنا، والمعالي صابُها شُهَدُ
واخْطُب بحدّ المواضي كلَّ شامخةٍ ... في أَنْفِها شَمَمٌ في جِيدها غَيَدُ
فمن يكن بالمواضي خاِباً أَبداً ... زُفَّت إِليه بلادٌ كُلُّها خُرُد
هل بعد جِلّق إِلاّ أًَنْ ترى حَلَباً ... وقد تَحَلَّلَ منها مُشْكِلٌ عَقد
وقد أَتتك كما تختار طائعةً ... وقد عنا لك منها الحِسن والبلد
أَبا المُظَفَّر كم قد نلتَ من ظَفَرٍ ... لؤلؤه بلواءِ المُلْك مُنعقِد
وكم هززتَ قُدوداً من رِفاقِ ظُبىً ... بها رِقابُ الأَعادي في الوَغى قِدَد
وكم شَهِدْتَ جِلاداً فاسْتَلَبْتَ به ... حُشاشةَ الجَلْد والشُّجعان تَجْتَلِد
بصارمٍ مُرْهَف الحَدَّيْن ذي شُطَبٍ ... كأَنّها شُعْلةُ البرقِ التي تَقِد
صافي الحديدة لا يعْتاقُه عَذَلٌ ... عن المَضاء ولا يعتادُه فَنَد
وتحت سَرْجِك ممّا أَنتَ راكبُه ... رُوحٌ من البرق، من مُزنٍ لها جَسَد
أَمَقُّ أَجْرَدُ صُلْب الصُلْب مُنْدَمِجٌ ... أَصكّ لا صَكَكٌ فيه ولا جَرَد
مُلَمْلَمُ الرِّدْف مَحْبُوك القَرا مَرِجٌ ... يَزِينه الثابتان الرُّسْغ والعضد
سَهْل القياد على ما فيه من شَرَسٍ ... صعبٌ ففيه الرِّضى المحبوب والحَرَد
وفي الصَّفاة وفي أَردافه زَلَقٌ ... وفي القناة وفي أَعطافه رَوَد
ترمي به الأَملَ الأَقصى فتدركه ... حتى كأَنّك فوق الريح مُقْتَعِد
وكيف لا تدرك الآمال يا أَسداً ... له الرِّماح عَرينٌ والظُّبا لَبَد
يا ابن الذين إِذا ما استُمْنِحوا مَنَحوا ... وابنَ الذين إِذا ما استُرْفِدوا رَفَدوا
هذي صفاتُك إِلاّ أَنها دُرَرٌ ... غُرٌّ فمنتثرٌ منها ومُنْتَضِد

مواهبٌ هُنّ في ثغر النَّدى شَنَبٌ ... مناقبٌ هنّ في جيد العُلى جَيَد
رغائب لك لا تفنى غرائبُها ... فعند كلِّ يدٍ من بيضهن يَد
فللمُحاسِن منها نافِخ صَرِدُ ... وللمُخاشن منها لافِحٌ وَمِد
فاسلم وجيشُك لا يُنْنى له عَلَمٌ ... واسعد وبيتُك لا تهوي له عُمَدُ
بحيثُ من مُخْطَفٍ لَدْنٍ له طُنُبٌ ... وحيث من مُرْهَفٍ عَضْبٍ له وَتَد
وحيث شأنُك سامٍ ما له صَبَبٌ ... وحيث شانيك هاوٍ ما له صُعُد
ثم لقيت سعادة الضرير فاستنشدته الكلمة الطائية التي مدح بها الملك الناصر بمصر، لما وفد إليه بها في مبدإ الأمر، وقد حبي بالنصر، فأعطاه ألف دينار من التبر. وأملى من حفظه:
وقفتُ وأَنضاءُ المَطِيّ ضُحىً تُمْطُو ... وُقوفَ جَوٍ أَنْحى على قُرْبِه الشَّمْطُ
على دارساتٍ من رُسومٍ كأَنّها ... صحائف كُتْبٍ لا يَبينُ لها خَطُّ
معالم دارٍ بل معاهد عَرْصةٍ ... بها للقَطا من بعدِ ساكِنها لَغْط
فلو لَقَطَتْ يوماً عقيقَ مدامعي ... بدِمْنَتِها ظمياءُ أَمْلَلَها اللَّقْط
ولو سفَح الكِنديُّ بالسِقْط مثلَ ما ... سَفَحْتُ بها أَثنى على دَمعه السِقْطُ
خليليّ هلْ مِنْ حاملٍ لي تحيّةً ... إِلى قمرٍ نجمُ الثريّا له قُرْط
نَشَدْتُكما بالشام عُوجا فسَلِّما ... على ظَبَياتٍ أُسْدُ أَلحاظها تَسْطو
على المائسات اللاءِ رَنَّحها الصِّبا ... على الآنسات اللاءِ نَفَّرَها الوَخْط
وقولا لِمَنْ يَعْطو إِليها صَبابةً ... فتنفِرُ عنّا كالمَهاةِ ولا تَعْطو
أَشَرْطُك يا ظمياء أَن لا تهاجرٌ ... مُقيمٌ لِمَنْ يَهْواك أَم عُدِم الشَّرْط
بنفسي وأَهلي أَنتِ مِنْ بابليّةٍ ... لها وإِليها الحَلُّ، في السِّحْر، والرَّبْط
وبي دُمْيَةٌ مِنْ دونها تُحْطَمُ القنا ... ويجري على أَعطافهنّ دمٌ عَبْط
مُخَفَّفَةُ العِطْفين مَهْضُومة الحَشا ... مُثَقَّلَةُ الرِّدْفَيْن يوهِنُها المِرْط
أَتَتْ بين حِقْفِ مائج وأَراكةٍ ... مُنَعَّمَةٍ أَوراقها الشَّعَرُ السَّبْ
فنصّت على الكافور منها سوالفاً ... على الجُلَّنار الغضّ من مِسْكها نَقْط
وعَنّتْ بِعُنّابٍ تَنوء بحمْله ... أَنابيبُ دُرٍّ زانها الخَلْقُ لا الخَرْطُ
ونار شفاهٍ حَوْلَ جَنَّةِ مَبْسِمٍ ... مَزاجاهما شَهْدٌ جَنِيٌّ وإِسْفَنْط
فلا، ولمّاها العذبِ، لا كنتُ ناقضاً ... عهودَ هواها لا ولا سالياً قطّ
وكيف وعندي من هواها صَبابةٌ ... تكاد بها مني الجوانح تنقطُّ
ووَجْدٌ كوَجْد الناصر المَلْك بالعُلى ... وبالشَّرف السامي الذي ما له هَبْط
فتىً مُهْتَدي الآراء في كلِّ حادثٍ ... مُضِلٌّ لآراءِ الملوك بها خَبْط
له هَيْبَةُ الليث الذي ما به ونىً ... وأُكْرومةُ الغَيْثِ التي ما لها غَمْط
وما كُتْبُه، مُذْ كان، إِلاّ كتائبٌ حُروفُ ظُباها في الطُّلى ما لها كَشْطُ
وليس له، ما عاش، إِلاّ من القَنا ... قَنا الخطِّ، أٌَلامٌ إِذا ذُكِرَ الخَطّ
يَخُطُّ بها ما شاء من صُحُف الظُّلى ... فطوراً لها شَكْلٌ وطَوْراً لها نَقْط
أَنابيب تجري كالأَنابيب من دَمٍ ... إِذا بَرْيُها في الرَّوْع أَتْبَعَهُ القَطّ
أَفاعي رِماحٍ أُضْرِيَتْ في عُداتِه ... فليس لها من غير أَرواحهم نَشْط

يُجيدُ بهنّ الطعنَ ضَرْبٌ بضربه ... غداةَ الوغى ينقدّ هامٌ وينعطّ
فتىً من بني أَيّوب إِن همَّ أَوْ همى ... فما الغيثُ إِذ يحبو وما الليث إِذ يسطو
وما يُوسُفٌ في الملك إِلاّ كيوسُفٍ ... ولكن له من غير إِخوته رَهْط
ملوكٌ حُجورُ الأَرْيحيّات مذ نَشَوْا ... مُهودُهم، والمَكْرماتُ لهم قِمْطُ
شبابٌ وشيبٌ مذ تسامَوْا ومذ عَلَوْا ... على صَهَواتِ السَّبْعَة الشُّهْبِ ما حَطّوا
شبابٌ وشيبٌ مذ تسامَوْا ومذ عَلَوْا ... على صَهَواتِ السَّبْعَة الشُّهْبِ ما حَطّوا
ومذ أنبضوا رَمْياً بنَبْلِ ذكائهم ... أَصابوا المعاني المُبْهَماتِ ولم يُخْطوا
شآبيبُ في سِلْمٍ، محاريب في وغىً ... يطير لِقَدْح المُرهَفات بها سِقط
ومنها يصف غارته على غزة، وعوده من تلك الغزوة بالعزة:
فتىً مُذْ غزا بالخيل والرَّجْل غَزَّةً ... نأى عن نواحيها الرِّضا ودنا السُّخْط
رماها بأُسْدٍ ما لهنّ مَرابِضٌ ... ولا أُجُمٌ إِلا ّالذي يُنْبِت الخَطّ
وعاث ضواحيها ضُحىً بكتائبٍ ... من التُّرك، لا رزمٌ طَغامٌ ولا قِبْط
رماهم بأَمثال السَّراحين شُزَّباً ... عليها أُسودٌ بل أَساوِدَةٌ رُقْط
وطاحت على تلك الرمال جُسومُهم ... ففي كل سَقْطٍ من جماجمهم سُقْط
ومنها:
أَلا أَيُّها الصّدّيق يوسُف مَسَّنا ... من الضُّرِّ ما لا نستطيع به نخطو
فأَوْفِ لنا كَيْل النَّدى متصدِّقاً ... فإنّ جزاء المحسنين هو الشَّرْط
فأنشد، ليلة أخرى بدمشق وأنا حاضر، فيه هذه القصيدة. منها:
في أَعين البِيض والأَسَلِ ... صِيدَ الرِّجال بأَشراكٍ من الحِيَل
فالأَعينُ النُّجْل داءٌ لا دواءَ له ... فكن عليماً بداء الأَعيُنِ النُّجُل
ومنها:
بواضحات الثّنايا ما ثَنَيْنَ فتىً ... على الثنيّة إِلاّ وهو غير خلي
أَقْبلْن يضحكن عن بيضٍ لآلِئُها ... أَصدافهنّ شِفاهٌ حُلوةُ القُبَل
من كلِّ هيفاء في أَوراقِ حُلَّتِها ... غصن من القدِّ في دِعْصٍ من الكَفَل
كالخيزُرانة وافتْ وهي حاملةٌ ... روضاً من الحسن في روضٍ من الحُلَل
فما ترى سَوْسَناً يُصْبيك من طُرَرٍ ... حتى ترى نَرْجِساً يُضْنيك من مُقَل
فإن ضممتَ ضممتَ البان من هَيَفٍ ... وإِن لَثِمتَ لثمت الورد من خجل
وإِن شربتَ شربت الرّاح من شَنَبٍ ... يجري على واضحٍ عَذْب اللَّمى رَتِل
وَرُبَّ باديةٍ من بيت باديةٍ ... في ريقها عَلَقٌ يَشْفي من العِلَل
وخَمْرَةٍ عندنا منها خُمارُ هوىً ... وعندها حين تمشي نَشوة الثَّمِل
صهباء ممزوجة بالمسك أو بشذى ... ذكر ابن شاذِي صلاح الدين والدُّوَلِ
القائدِ الخيلَ تهوي في أَعنّتها ... مثلَ الأَجادل، والأَبطالُ في جدل
والليلُ من رَهَجٍ والصبح من قُضُبٍ ... والبحر من مُهَجٍ والبرّ من قُلَل
والأَرضُ من نَزَوات اللَّمْ في شُعَلِ ... والجوّ من هَفَواتِ النَّقْعِ في طَفَل
والبيضُ من عَلَق الأَقران في حُلَلٍ ... حُمْرٍ، ومن قُمَم الشُّجْعان في خِلَل
والشمسُ، شمس الضحى، في النَّقْع آفلةٌ ... وشمسُ هِمَّتِه الغرّاء لم تَفِل
كالغيث والليث، هذا منه في خَجَلِ ... عند العطاء، وهذا منه في وَجَل
يلقى القنا وهو أمضى من عواملها ... في القول والفعل والآراء والعمل
ويَنْثَني ولها في كفّه قَصَدٌ ... يُثْني عليه ثناءً غير مُنفصِل

تُثْني على مَلِكٍ أَعطى أَسنّتَها ... من الفوارس أَقصى السُؤْل والأَمل
مُعَذَّلٌ في النَّدى صَبٌّ به أَبداً ... وكيف يُعْذَل صَبٌّ غير مُعْتَذِل
أَغرُّ يَعْذُبُ صابُ الحادثات له ... فصابُها عنده أَحلى من العسل
جَذْلان، أَبهج في الظَّلْماءِ من قمرٍ ... يقظان، أَثبت في الهيجاء من زُحَل
صعب العريكة، سَهْل الرّاحتين، له ... رأيٌ حصيفٌ قويمٌ غيرُ ذي مَيَل
رأيٌ شديد القِوى، ما فيه من خَوَرٍ ... لا بل سدي النُّهى ما فيه من خَلل
ورايةٌ ما هَفَتْ يوماً ذوائبها ... إِلاّ على قدّ عَسّالٍ من الذُّبُلِ
صفراءُ، خافقةٌ بالنّصر، حائزةٌ ... بالحَوْل ما لم يَحُزْه الغير بالحِيَل
منشورة ليس يُطوى عزمُ ناشرها ... حتى ينالَ مكاناً قطّ لم يُنَل
وصارمٌ مُرْهَفٌ خَفَّتْ مضاربُه ... فليس يَسْبق إِلاّ سُرعةَ الأَجل
سيفٌ ليُوسفَ ما قُدَّت حديدتُه ... إِلاّ من الظَّفَر المقرون بالجَدَل
محمرّةٌ بالدَّم المسفوح خُضرته ... فآسُها نابتٌ في وَرْدِه الخَضِل
كأَنّه وهو في يُمْناه مُنْصَلِتٌ ... برقٌ جلا عارضاً في عارضٍ هَطِل
وذابِلٌ عَطْفُه يهتزّ من طَرَبٍ ... إِلى الطِّعان ولا يهتزُّ من خَطَل
صُلبُ المَكاسِر، لَيْن المَتْنِ، فارسُه ... له من الجيش ما يَهْوى من النَّفَل
بلَهْذَمٍ من نجوم القذف، طاعنُه ... يكاد يُنْفِذُه من صَفحة الجبل
يزداد من طَوْله طُولاً براحته ... إِذا طِوال الرُّدَيْنِيّات لم تَطُل
وسابحٌ لو يُجاري الريحَ عاصفةً ... لقُيِّدَت خطوات الرّيح بالفشل
سهلُ القياد فما يُعزى إِلى شَغَبٍ ... جَمُّ النَّشاط فما يُدْعى إِلى كسل
ثَبْتُ الشَّوى والقَرا، والرِّدف مجتمعٌ ... مُلَمْلَمٌ مُشمخرُّ المَنْكِبَيْن عَلي
إِذا تَأَمَّلْتَ أَعلاه وأَسفلَه ... رأَيت حُسْناً مقيماً غير مُرْتَحِل
صافي الأَديم صقيل، لونُ كُمْيَتِه ... من الكُمَيْت فلم يَنْقص ولم يَحِل
بادي الحُجُول تُريك النجمَ غُرَّتُه ... بواضحٍ كصِقال المشرفيّ جَلي
إِذا دنى وَجَرى من تحتِ راكبه ... نال المُنى بين ذاك الرَّيْثِ والعَجَل
نجمٌ يمرّ ببدرٍ في دُجى قَتَمٍ ... صقرٌ يكُرّ بليثٍ في شَرى أَسَل
بماجدٍ من بني أَيّوبَ طينَتُه ... من طينة الجود لا من طينة البَخَل
بواحدٍ حَوْلَه في كلّ نائبةٍ ... من العزائم جيشٌ غيرُ مُنْخَذِل
ومنها:
يا أَيّها البطلُ المعروف بالكرم الموصوف، والرّجل المُوفي على الرَّجل
يا أَيُّها النّاصِرُ المَلْك الذي قَهَرَتْ ... بسيفه مِلَّةُ الإِسلامِ للمِلَل
ومنها:
فلا بَرِحْتَ لدُنْيا أضنتَ مالكُها ... شمساً مدى الدهر لا تنأَى عن الحَمَل
وأنشدني لنفسه قصيدة فيه، منها في صفة الجيش والخيل:
جيشٌ تَجيش على مِثْل الصُّقورِ به ... أُسْدٌ بارثِنُها من كلّ ذي شُطَبِ
في صفة الخيل:
من كلِّ مُنْجَرِد الخدَّيْن تحسبه ... رُوحاً من البرق في جسمٍ من السُّحبِ
وأنشدني لنفسه في الشمعة:
وقائمةٍ لا تَمَلُّ القيام ... على بِرْكةٍ من لُجَينٍ بديعِ
إِذا ابتسمتْ بين جُلاّسها ... حَباها التَّبَسُّمُ فَيْض الدموعِ
وأنشدني لنفسه أيضاً في الشمعة:
وشادنٍ نادمتُه ... تحت رُواق الغَيْهَبِ
بدرُ دُجىً مُقترِنٌ ... من كأسه بكوكب

يطعن أَحشاء الدُّجى ... عند الرِّضا والغضب
بصَعْدَةٍ من فضّةٍ ... لَهْذَمُها من ذهب
وأنشدني لنفسه في النار:
يا حُسْنَ نارٍ أَتَتْنا ... في حِنْدِس الظَّلْماءِ
وافتْ إِلينا تَهادى ... في حُلَّةٍ حمراءِ
حتى إِذا ما توارت ... عن ذلك الإِيراء
أَبدتْ قُراضةَ تِبْرٍ ... في خِرْقَةٍ دَكْناءِ
وأنشدني لنفسه في كانون النار:
وجاثمٍ بيننا على الرُّكبِ ... لا يتشكَّى الغَدَاةَ من تَعَبِ
مُسَلْسَلٌيَعْذُبُ العَذابُ له ... فهو كقلبِ المُتَيَّم الوَصِبِ
بينما أن تراه في سَبَحٍ ... يختال، حتى تراه في ذهب
وأنشدني لنفسه في قصيدة أولها:
كم بين شَدّي بأَشْطان النَّوى عِيري ... وبين شُربي على شَدْوِ النَّواعيرِ
ما بين مُنْتَسِجٍ ضافٍ ومُطَّرِدٍ ... صافٍ كمِثْل الصَقيلات المباتير
ومنها:
ونَرْجِسٍ أَدمعُ الأَنداء حائرةٌ ... منه على عَسجَدٍ في وَسْط كافور
ومنها في صفة الورد، وقال هذا معنى ما سبقت إليه:
والوردُ ما بين أَغصانٍ تُحارِبنا ... عند القِطاف بأَظفار السَّنانير
ومنها:
قُمْ للصَّبوح فقد لاح الصَّباح لنا ... وبَشَّر الدّيكُ عنه بالتباشير
وقامَ مُرْتَقِصاً ما فوق مِنْبَرِهِ ... مُصَفِّقاً بين تهليلٍ وتكبيرِ
يقول هُبُّوا إِلى الّلذات وابتدِروا ... فقد صفا عَيْشُكم من كلِّ تكدير
إِيّاكمُ أَن تَعُقُّوا بنتَ خابيةٍ ... كانت وِلادتها من عهد سابور
كأَنّها ونَميرُ الماء يُرْهِقُها ... نارٌ تَسَرْبَلُ سِرْبالاً من النُّور
كأَنّها، وَيَدُ الساقي تكُرّ بها ... ياقوتةٌ رقصت في ثوب بَلُّور
وأنشد الملك الناصر أيضاً قصيدة منها:
جِبالُ عُلاً تُطاوِلُها هِضابُ ... وأُسْدُ وغىً تُواثِبها ذئاب
وكيف تساجِل الصُّبْحَ الدّياجي ... وكيف يُماثِلُ البازَ الغراب
سيُخْمِدُ نارَ هذا الخطب مَلْكٌ ... لنيرانِ الحروب به التهاب
فتىً للمُعْتَدين به عِقابُ ... كما للمُجْتَدين به ثواب
فتىً دانتْ لِعِزَّتِه الليالي ... وذَلَّت تحت أَخْمَصِه الصِّعاب
ومنها:
سيَرتُق فَتْقَ هذا المُلْك منه ... قواضبُ، للرؤوس بها انقضابُ
ويمرِعُ بالبَوار جَنابُ قومٍ ... لهم عن نُصْرة الدين اجتنابُ
فلا تقبل لهم، ما عِشْتَ، عُذراً ... وإِنْ خضعوا لَدَيْكَ وإِن أَنابوا
همُ حَشضدوا عليك بكلّ وادٍ ... عصائبَ، بالضَّلال لها اعتصاب
وجيشاً مُذْ دعاك على اغترارٍ ... صلاحَ الدين، عاجَلَه الجواب
بأَرعنَ مثلِ رُعْن الطَّوْد مَجْرٍ ... تَضيق به من الأَرض الرِّحاب
خميس سوف ترضى البيض عنه ... إِذا زأَرت ضراغِمُه الغِضاب
تكُرّ على الصُّقور به أُسودٌ ... عليها للقَنا الخَطِّيِّ غاب
كأَنّ مُثار قَسطَلِه عليهم ... إِذا طلَعت شُموسُهم ضَباب
فلمّا أَقدموا للطعن وَلَّوْا ... ولمّا أَيقنوا بالنُّجْح خابوا
ظفِرتَ أَبا المظفّر بالأَعادي ... وفُلِّلَ منهمُ ظُفْرٌ وناب
وكانوا كالحديد، فحين أُصْلُوا ... صلاحَ الدين، نارَ سطاك ذابوا
أَصابوا بالهزيمة حين وَلَّوْا ... ولو وقفوا الغداةَ لما أَصابوا
غداةَ هزمتَهم فلَوَوْا وقالوا: ... غنيمتُنا السَّلامةُ والإِياب
ومنها:
وما ضَحِكتْ ثُغور الشام إِلاّ ... وفيها من مَحاسِنكم رُضاب
فأَوجُهُكم كواكبُها الدّراري ... وأَيديكم مشارِبُها العِذاب

عَصَمْتُم بالعَواصِم كلَّ ثَغْرٍ ... بِذَبٍّ لا يُفَلّ له ذُبابُ
أَطَرتم عنه عاديةَ الأَعادي ... كما طارتْ من الرّيح الذُّباب
وَصَلْتُمْ فالعذاب بكم نعيمٌ ... وصُلْتُم فالنَّعيم بكم عذاب
سيشكُر صُنْعَك عنه رِجالٌ ... فهم فيكم دعاءٌ مُستجاب
وأنشده في تلك الأيام قصيدة أخرى موسومة، أولها:
أَلا حبّذا وصْلُ الحبيب الذي شفا ... مُحِبّاً من الداء الدّويّ على شَفا
ومنها:
ويا حَبّذا صِرْفٌ من الرّاح قَرْقَفٌ ... صَرَفْتُ بها عني الأَسى فَتَصَرَّفا
عفا الله عنها من كريمةِ كَرْمَةٍ ... بها منزل الأَحزان والهمّ قد عفا
يطوف بها ساقٍ رشيقٌ مُهَفْهَفٌ ... تكامَلَ فيه الحسن لما تَهَفْهَفا
غزالُ نَقاً، لمّا براه إِلهُه ... بَرى جسمَ ماءٍ فيه قلبٌ من الصَّفا
من الغيد أَجْزيه عن الغَدْرِ بالوفا ... صفاءً، فَيَجْزيني عن الوَصْل بالجَفا
ومن عجبٍ أَن لا يزيد تَعَطُّفاً ... ومن شِيَمِ الأَغصان أَن تتعطفا
فواشَقوتي إِن لم يكن ليَ مُسْعَداً ... وواضَيْعَتي إِن لم يكن لي مُسْعِفا
وقائلةٍ ماذا الكَلال عن السُّرى ... وعزمُك عَضْبٌ كلّما هُزَّ أُرْهِفا
وقد أضجزلت كفُّ ابن أَيذوب للوَرى ... عَطاءَ إِذا ما أَشفق السَّمْحُ أَسرفا
فقلتُ لها: إِني كيعقوب أَكمَهٌ ... فقالتْ: لك البُشْرى إِذا زُرْتَ يُوسُفا
إِلى ملكٍ إِن جاد زاد، وإِنْ سطا ... أَبادَ، وإِن أَعطى أَفاد وأَتْحفا
ومنها في صفة السيف والقلم:
إِلى مَن له باعٌ طويلٌ، وصارمٌ ... صقيلٌ، إِذا ما أَنصفَ الهامَ نَصَّفا
وأَرقشُ من صُمِّ اليراع مُثَقَّفٌ ... إِذا هزّه فاق الوَشيجَ المُثَقَّفا
فهذا من الأَعناق يكشِط أَحرفاً ... وهذا من الأَرزاق يَسْطُر أَحرفا
فذاك الذي يُجري نَجيعاً مُضَرَّجاً ... وذاك الذي يُسْدي صنيعاً مُفَوَّقا
ومنها:
كريمٌ إِذا ما جاءه معدِمٌ حبا ... حَليمٌ إِذا ما جاءه مُجْرِمٌ عَفا
ومنها:
أَيا مَنْ يخاف الشِّرْكُ عَزْمتَه التي ... بها أَمِنَ التوحيدُ لمّا تَخَوّفا
ويا من إِذا ما ضَلَّ عن سنَن الهُدى ... سِواه، قضى بالعدل فينا وأَنصفا
أَثِرْها نِحافاً كالسَّراحين سُزّباً ... وَقُدْها خِفافاً كالشّواهين شُرَّفا
عليهنّ من راياتك الصُّفْر رايةٌ ... إِذا زحفت لم تُبْقِ في الأَرضِ مَزْحَفا
وغابُ قناً سُمْرٍ إِذا طَعَنَتْ به ... أسودُ بني شاذي الحُماة تَرَعَّفا
وكُنْ قائداً أَعلام جيشٍ عرموم ... كأَعلام رَضْوى كلّما سار مُوجِفا
لهُامٍ إِذا ما رفرف النَّقْعُ فوقه ... رأَيت له فوق السِّماكَيْن رَفْرَفا
فما إِن ترى صُبْحاً من اللَّمْعِ فوقه ... إِلى أَن ترى ليلاً من النَّقْع مُسْدِفا
بكلِّ صقيلٍ يقطُر الدمَ حَدُّه ... كأَنّ على مَتْنَيْه حمراءَ قَرْقَفا
شَققتَ به لمّا تبسّم ثغرُه ... عيونَ جِراحٍ في الجماجم ذُرَّفا
ستُنْصَر نصرَ المُصْطفى يوم بدرِه ... وما يَنْصُر الرَّحْمنُ إِلاّ مَنِ اصطفى
ولسعادة الضرير الحمصي من قصيدةٍ أنشدها للملك الناصر بحماة في ثامن صفر سنة اثنتين وسبعين أولها :
يا وابلَ المُزْنِ إِن حَيَّيْتَ حُيِّيتا ... عنّا العِراق وإِن رَوَّيْت رُوِّيتا
ومنها :
للّهِ كم من فتاةٍ في مَرابعها ... تَهْدي إِلى كَبِد العُشّاق تَفْتيتا
ومِنْ مَهاةٍ مَهاةُ الرَّمْل تُشْبِهها ... عَيْناً وتشببهاً أُمُّ الطَّلى لِيتا

بيضاء تُسْبِلُ سُوداً من ذوائبها ... ما زال منهنّ ذَوْب المِسك مَفْتوتا
وتنِفُث السِّحرَ من أَجفان فاتنةٍ ... تُعَلِّمُ السّحرَ هاروتاً وماروتا
ومنها في صفة السيف :
كم زُرْتُها والقنا من دونها أُزُرٌ ... فما نَكِلْتُ ولكن زِدْت تَثْبيتا
ولي خليليٌ خَلِيٌّ أَستعينُ به ... عَضْبٌ به الماذِيُّ مَبْتوتا
يرعى نبات الطُّلى في كل مُعْتَرَكٍ ... وليس ترعى المنايا فيه تَنْبيتا
أَجرى الفِرَنْدُ على صَفْحَيْه جَدْوَلَه ... وصافح الحتفُ حتفاً فيه مَسْؤُوتا
وأَشبه الذَرَّ ذَرٌّ فيه مكتَمِنٌ ... لا يرتضي غير أَرواح العِدى قُوتا
أَجاده بسَرَنْديب وأَخْلَصه ... قَيْنٌ فجاء صقيل المَتْن إِصْليتا
يَظَلُّ يُرْعِدُ لا من خِيفةٍ فإِذا ... سَقْيتَه من دمٍ غَنّاك ما شِيتا
ومنها :
ورُبّ ليلٍ جعلنا في دُجُنَّتِه ... كأْسَ المُدامِ إِلى اللذات خِرِّيتا
كأْساً تُجَمِّعُ أَشتاتَ السرورِ لنا ... كما تُشتِّت شملَ الهمِّ تَشْتيتا
فَسَقِّنيها بلا رَيْثٍ ولا مَهَلٍ ... ولا ازورارٍ إذا زُرْت الحوانيتا
واضرِم بنار السواقي نار ساقيةٍ ... لم نَكْرَ عَن شربها ليلاً بتكريتا
وغَنِّني ومغاني اللهو آهلةٌ ... هاتِ الحديثَ عن الزَّوْراء أَوهِيتا
وعَنْ سميّ ابن يعقوبَ الذي حِجَجي ... إِلى أَياديه لا يَلْزَمْن توقيتا
الناصرِ العادلِ المَلْكِ الذي بشَبا ... إِنصافه عاد عُود الظلم مَنْحوتا
والطاعِن الغرّ آلافا مَصاليتا ... والواهب الْحُمر آلافاً يواقيتا

حماة
ابن قسيم الحموي
هو أَبو المجد مسلم بن الخضر بن مسلم بن قسيم الحموي التنوخي . أبو المجد مجيدٌ للشعر ، وحيدٌ للدهر ، فريدٌ للعصر ، ذو رقةٍ للقلوب مسترقة، وللعقول مسترقة ، ولطفٍ للب سالب ، وللخلب خالب ، وللصبر غالب ، ولدر البحر جالب ، ولدر الفكر حالب ، وفي عقد السحر بعقوده نافث ، وبنسيم السحر في نسيبه عابث ، نهجه محكم ، ونسجه معلم ، ومذهبه مذهب ، وأسلوبه مهذب ، وحوكه رفيع ، وسبكه بديع ، وسلكه متسق ، ومطلعه مشرق ، وروضه مونق ، وعود فضله مورق.
كان ثالث القيسراني وابن منير في زمانها ، وسبقهما في ميدانهما ، نبغ في عصر شيخوختهما ، وبلغ إلى درجتهما ، وراق سحرهما سحره ، وفاق شعرهما شعره ، لكنه خانه عمره ، وفل شبا شبابه ، وحل حبي آدابه ، وأمر جنى جنابه ، وحل شعوب بشعابه ، وذلك في سنة نيفٍ وأربعين وخمسمائة .
ووجدت في ديوانه لحناً فاحشاً ، ووهناً بالخطل جائشا ، ونظرت في ديوان شعره، فالتقطت فرائد دره ، وقلائد سحره ، وشحذت من غراره ما قبل الشحذ ، وأخذت من خلاصته ما استوجب الأخذ ، وأوردت لمحاً من ملحه ، ونبذاً من منتقاه ومنتقحه .
الباء
فمن ذلك قوله :
أَهلاً بطيف خيالٍ زارني سَحَراً ... فقمتُ والليلُ قد شابت ذوائبهُ
أُقبّل الأَرضَ إِجلالاً لزَوْرته ... كأَنْما صَدَقت عندي كواذبه
وكِدتُ لولاه وُشاةُ الصُّبح تُزْعجه ... بالبَيْن أُصغي لما قالت خَوالبه
ومودِع القلبِ من نار الجوى حُرَقاً ... قضى بها قبل أَنْ تُقْضى مآرِبه
تكاد من ذِكْر يوم البين تَحْرُقه ... لولا المدامعُ ، أَنفاسٌ تُغالبه
وصار من فَرْط ما أَضناه يَحْذَره ... فَرْطُ الضَّنا ، فهو بالي الجسم ذائبه
فللمدامع ما تُخفي ضمائره ... وللضَّنا منه ما تُخْفي جلاببه
ومنها في مدح الرقيب :
عابوا الرّقيب ولولاه لما حُمِدتْ ... عواقبُ الحُبّ وانساغت مَشارُبُه
ولست أعذِلُه فيما يحاول من ... حفظ الأَحبّة بل لا كان عائبه
إِني لأَعشقُ عذّالي على كَلَفي ... به ويحسُن في عيني مُراقبه
ومنها :

لم تُبق عندي النَّوى لُبًّا أَحارُ به ... يوم الفِراق ولا قلباً أُحارِبُه
ومنها :
وُمْنَتضٍ صارماً من لَحظ مُقلتِه ... على مُضاربه تُخْشى مَضاربُه
بدرٌ كأَن الثريّا في مُقَلَّدِه ... نِيطت بأَحسن ما ضَممَّتْ ذَوائبه
يا وَيْحَهُ أَنجومُ الليل تعشقه ... أَم قُلِّدَتْ مِدَحي فيكم ترائبه
وقال من قصيدة :
أَما والذي أَهدي الغرام إِلى القلبِ ... لقد فتنتني بالحِمى أَعينُ السِّرْبِ
رَمْتنا ولكن عن جُفونٍ مريضةٍ ... عَرَفْن مكان الحُبِّ من كَبِدِ الصَّبّ
وَأَطْلعنِ مِنْ سِجَفْ الخُدور أَهِلّةً ... جَعَلْنَ سماء الحسن أَسِنمَة النُّجْب
وما كنت أَدري أَنّ غِزلان عالجٍ ... مَراتعُها بين الأَكِلَّةِ والحُجْب
لقد أَخذوا بالبَيْن من كلّ عاشقٍ ... بَقِيَّةٍَ نَفْسٍ لا تُفيق من الحُبّ
رأَتْهُنّ من حَمْل السِّهام عوارياً ... وما عندها أَنَّ الكنائن في النَّقْبِ
ولو علم المُشتاق أَنّ حِمامه ... مع الرَّكْب لم يقرأْ سلاماً على الرَّكْب
ولمّا رأَيْنَ القُرْبَ عَوْناً على الجَفا لِذي الحُبِّ سَلَّطْنَ البِعاد على القُرْب
قيا قُرْبَ ما بين الصَّبابة والحَشى ... ويا بُعدَ ما بين المَسَرَّة والقلب
وما صَدّ عني النومَ مثلُ مُهَفْهَفٍ ... كأَنَّ به معنىً من الغُصُن الرَّطْب
ثنى عن نفيس الدُّرِّ فضلَ لِثامِه ... كما افترّ بدرٌ في الدُّجُنَّةِ عن شُهْب
ومنها :
تَقَلَّد من أَلحاظه مِثْلَ عَضْبِه ... فأَصبح يعتدّ الجُفونَ من القُربِ
وقد كنت أَخشى السيفَ والسيفُ واحدٌ ... فما حيلتي إِذ قلد العَضْب بالعضب
خليليّ هل أَلقى من الدَّهر مُسْعِداً ... يعرّفني مُرَّ الزَّمان من العَذْب
وقال من أبيات :
يا مالكَ القلبِ أَنت أَعلمُ مِنْ ... كلِّ طَبيبٍ بعلَّةِ القلبِ
إِن كنتُ أَذنبتُ في هواكَ فقد ... أَصبح هجري عقوبَة الذنب
إِنّي لأَرضى البِعاد منك إِذ ... كنتَ له مُؤثراً على القُرْب
وهجرُك المُرُّ إِن رضيتَ به ... أَطْيبُ عندي من وَصْلك العَذْب
ولائمٍ في هواك قلتُ له ... قبلَ سماعِ الكلامِ والعَتْبِ
قُمْ يا عَذولي فإِنّ قلبك لا ... تخِطُرُ فيه وَساوسُ الحبّ
جسمَك أَبلى السَّقامُ أَم جسدي ... وقلبُك المُسْتهام أَم قلبي
دَعْني بِداء الهوى أَموت فما ... أَطيبَ في الحبّ مِيتَةَ الصَّبّ
وقال في غلامٍ مجدورٍ :
رأَوا جُدَرِيّاً لاح في صَحْنِ خَدّه ... كدُرِّ العقود في نُحور الكواعب
وما هو إِلاّ البدرُ لمّا تكاملت ... مَحاسُنه نقَّطْنه بالكواكب
وقالوا رمتْه النائبات ضَلالةً ... وماعلموا أَنّ العُلى بالنوائب

الجيم
وقال يصف الشقيق :
وترى الشقيق كأَنّ روضتَهُ ... لمّا سقاه مُضاعفُ النَّسْجِ
حُلَلٌ مُعَصْفَرةٌ شُقِقْن على ... مُتَقابلاتِ ثَواكِلِ الزَّنِجْ
وله في زهر الباقلاء :
لله في زمن الربيع وصائفٌ ... حُفَّتْ بزَهْرَةِ باقلاءٍ مُبْهِجَهْ
وَلَوَتْ بمَفْرَقِهِا عِصابَة لؤلؤٍ ... فكأَنّ شمساً بالنجوم مُتَوَّجَهْ
وكأَنّ أنملها حَبَتْكَ بدُرّةٍ ... بيضاء مُطْبِقَة على فَيْروزَجه
الحاء
وله من قصيدةٍ :
بِمثلِ ذا لا يُعالَجُ البَرْحُ ... كيف يُداوي بقاتلٍ قَرْحُ
عابو ضلالي به فلا رَشِدوا ... واستقبحوا عِلّتي فلا صَحّوا
يا وَجْبَةَ القلب حين قُلتُ له ... علّك من نشوةِ الهوى تصحو

هذا وكم لي أرَاك تنصحُه ... فما ثنى من عِنانه النُّصْحُ
لكنه ينطوي على حُرَقٍ ... لِنارها في فؤاده قَدْح
وكلما زُيِّن السُّلُوُّ له ... قال أَعنديَ يَحْسُن القُبْح
ويا مُمِيتي بالهجر حَسْبُك قد ... أَتْعَبَني قصدُك الذي تنحو
وكان مَزْحاً هواك أَمْسِ فيا ... هَوْلة ما جرّ ذلك المَزْح
ومنها في وصف فرس :
ومُقْرَبٍ لو أَعرتَه اللَّمْحَ بالعي ... ن كبا في غُباره اللَّمْحُ
على الدُّجى منه مَسحةٌ وعلى ... مَتْن الضيا من يمينه مَسْح
أَغرّ ، صافي الأَديم أَدهم لا ... يخجل إلّا من لونه الجُنِح
كأَنما قُدَّ جسمه من دُجا ال ... ليل ومنوجهه بدا الصُّبح
قصّر عن شأوه الجِياد كما ... قصّر عن مَكْرُماتك المَدْحُ
ومنها في المدح :
كأَنني البُحتِريُّ أُنْشِدِه ... وهو على عِظْم شأنه الفتح
فكلُّ مجدٍ لمجده تَبَعٌ ... وكلُّ طَوْدٍ لِطوده سَفْح
ومنها :
قد كنتُ خرباً للدهر قبلُ وفي ... أَيّامه تم بيننا الصُّلْح
ومنها :
فاْسلم فأَنت السواد من مقلة الدّ ... هر ومن بَيْضة العُلى المُحّ
وقال من قصيدة :
سَلْه مِنْ سُكْرِ الهوى كيف صَحا ... فسقى الدَّمْعُ الجفونَ القُرَّحا
زاده في الحبّ وَجْداً بكم ... لائمٌ لام عليكم ولحا
فاستلذّ الهجر واستدنى النّوى ... وارتضى السُّخْط وخان النُّصَحا
وسقى الأَطلالَ مِن أَجفانه ... مَدْمعاً لولاكمُ ما سفحا
لا رَعاهُ الله إن مال إِلى ... سَلْوَةٍ بعدكمُ أو جَنَحا
وصحيح الشَّوْق مصدوع الحشا ... نَطَق الدَّمْع به فافتضحا
بات لا يطرُقُه طَيْفُكمُ ... ربَّ طَيْفٍ ضَلَّ لمّا سَنَحا
وقال من أبياتٍ في وصف كتاب:
حَيِّ كتاباً فَضَضْتُ خاتِمَه ... عن مثل وَشْي الرّياض أَو أَملحْ
يا كرّم الله وجه كاتبه ... عرّض لي بالجَفاء أَو صَرَّح
شحّ بأَلفاظه وخاطِرُه ... بالدرّ من كلّ خاطرٍ أسمح
حتى أَتاني كتابُه فشفا ... كلَّ فؤادٍ بِبَيْنِه مُقْرَح

الدال
وقال من قصيدة :
وَحَقِّ الهوى لا خُنْتُ ميثاق عهدِهِ ... وإِني لأُغري من فُؤادي بوجدهِ
وخَلْفَ الثنايا الغُرِّ ما يَبْرُدُ الجَوى ... ويَذْهب من جَمْرِ الغرام بوَقْدِه
ومنها :
وَحَيٍّ على الماء النّميرِ طرقْتُه ... وقد مَلَّ ساري الليل من طُول وَخْدِه
فلم تر عيني والخيامُ كأَنّما ... تُزَرّ على غِزْلان خَبْتٍ وأُسْده
بأَصبرَ من قلبي على فَقْدِ صبره ... ومني على فَقْد الحبيب وبُعْده
ومنها :
وقد كان مفتوناً بمُرْسَلِ صُدْغه ... على وَجْنَةٍ كالبدر ليلةَ سَعدِهِ
فلما رأَت أَن ليس في حِمْص عَقْرَبٌ ... مَواشِطُه أَخْفَيْنَ عقرب خدّه
وَقُلْن لساقيها ودُرُّ حَبابها ... مُوَكَّلَةٌ أَيدي المِزاج بنَضْده:
أَأَنْتَ أَعرتَ الكأْسَ واضحَ ثغره ... أَمِ انتثرت فيها فرائد عِقده ؟
وقال من أخرى :
هذا الفِراق وأَنت شاهُدُه ... فإِلامَ تكتمُ ما تكابِدُهُ
خَلِّ السُّلُوَّ لمن يَليق به ... ولْيُبْدِيَنَّ هواكَ جاحِدُه
فالبيْنُ ما ظهرت علائمه ... والحبّ ما نطقت شواهده
ومنها :
ولقد رقَبْتُ الطَّيْفَ أَسأَلهُ ... عنكم فما صدَقت مواعدُهُ
والمستمرُّ على قطيعتهِ ... في الحبّ فاسدةٌ عقائده
ومن العجائب أَن يَزيد به ... داءُ السَّقام وأَنت عائده

ومنها في المدح :
مُتَيَقِّظٌ ورِث الكمال فما ... يخَشى اعتراضَ النقص زائدُهُ
فالرِّزق والأَجلُ المُتاحُ معاً ... في ضمن ما رَقَشَتْ أَساوِده
وتكفَّلَ الفَلكُ المُدارُ له ... بأَسدَّ ما يَقضي عُطارِدُهُ
ومنها :
لو قاستِ الكُرَماءُ حاتِمها ... بك أَيُّها المقصودُ قاصدُه
لتَستَّرْت خجلاً مكارمُه ... وتحَوّلت بُخْلاً عوائده
لم يَرْقَ مجداً أَنت فارعُه ... من نام ليلاً أَنت ساهده
وقال من أخرى في ابن منير :
وأَين البِيض من لحظاتِ بيضٍ ... قطعتُ بها الليالي غيرَ سُودِ
وفي الحيّ المُمَنَّع من عقيلٍ ... عقائلُ كالصَّوارم في الغُمود
نواعمُ مثلُ أَيّام التداني ... قُرِنَّ بمثل أَيّام الصُّدودِ
تَذُبّ عن اللِّحاظ بكل عَضْبٍ ... وتُدْني للقلائد كلَّ جيد
ومنها :
ودونَ مَها الخُدورِ أُسودُ حربٍ ... تواثَبُ في الكريهة كالأُسود
فوارسُ تَجْتنى ثمرَ المعالي ... بأَيدي النصر من ورق الحديد
ومنها :
وما وادٍ كأَنّ يد الغوادي ... كَسَتْهُ قلائد الدُّرِّ النضيدِ
حَلَلْن فما حَلَلْن به نِظاماً ... وقد غادَرْنُه أَرِجَ الصَّعيد
يضوع تُرابه مِسْكاً إِذا ما ... سَحَبْنَ عليه أَذيالَ البُرود
فَبِتْنَ وما حَطَطْنَ به لِثاماً ... يَخْلْنَ حَصاه من دُرِّ العقود
بأَحسنَ من صفاتك في كتابٍ ... وأَنفسَ من كلامك في قصيد
وقال يصف الرمانة :
ومُحْمَرَّةٍ من بنات الغصو ... ن يمنعها ثِقْلُها أَن تميدا
مُنَكَّسة التّاجِ في دَسْتها ... تفوق الخُدودَ وتحكي النُّهودا
تُفَضُّ فَتَفْتَرُّ عن مَبْسِمٍ ... كأَنَّ به من عَقيقٍ عُقودا
كأَنّ المقابل من حَبِّها ... ثُغورٌ تُقَبِّل فيها خُدودا
وقال من قطعة:
مَنْ لِصَبٍّ مَسَّهُ فَرْطُ الكَمَدْ ... وفؤادٍ خانه فيك الجَلَدْ
أَنا مأسورٌ وما أَرجو فِدىً ... ومريضٌ غير أَني لم أُعَد
أَنا مقتولٌ ولكن قاتلي ... في الهوى ليس عليه من قَوَد
يا قضيباً ماس في دِعص نقاً ... وغزالاً بين جَفنيْه أَسد
سُقْم جفنيْك الذي أَلبسني ... ثوبَ سُقْم وعذابٍ مُسْتَجَدّْ
لك وجهٌ جَلَّ مَنْ صوَّره ... لو رآه بدرُ تِمٍّ لسجد
وقال ، وهذه الأبيات على خمسة أوزانٍ وخمس قوافٍ :
قل للأَمير أَخي الندى والنائل ... الهطّال للشعراءِ والقُصّادِ
لا زلتَ تنتهك العِدى بالذابل ... العسّالِ في الأَحشاءِ والأَكباد
ووُقيتَ من صَرْف الرّدى والنازِلِ ... المُغتالِ بالأَعداءِ والحُسّاد
وقال في قصيدة :
يا باكي الدارِ بكاظمةٍ ... وبكاءُ الدّارِ من الكَمَدِ
أَفنيتَ الدَّمْعَ على حجرٍ ... وأَضعت الصبر على وَتَدِ
فاذخَرْه مخافَةً نازِلةٍ ... أَأَمنتَ اليومَ صُروفَ غَد
هي عينُك لو لم تَجْن لما ... عاقبتَ جفونك بالسَّهد
ومنها :
فأَتيتَ الماء تحاوله ... والماء مُنْيَةُ كلِّ صَدِ
فالوَيْلُ لنفسك إِن وردتْ ... والويل لها إِنْ لم ترد
أَقبلتَ فقلت أُقبّلهُ ... ولو أنّ الموت على الرَّصَد
فرشفت مُجاجَةَ مُبْتَسَمٍ ... أَشهى وأَلَذَّ من الشَّهد
ومنها :
يا أَين الصبرُ فأَنْشُدَه ... وعساي أُدَلُّ على الجَلَد
ظَعَنَ الأَحبابُ وعندهم ... قلبي سَلبوه ولم يَعُد
وبراني السُّقْم بهم فبق ... يتُ بلا قلبٍ ولا جسد

الذال
وقال :
الوصلُ من الحياة أَحلى وأَلذّ ... لو يُنْصِف من أَضاع عهدي ونَبَذْ

لم يَشْقَ بحُكْمه الذي فيّ نَفَذْ ... لو رَدّ إلى المحبّ ما منه أَخذ

الراء
وقال :
وأَهيفِ القدِّ سهل الخد أَسمر كال ... خَطِّىّ صِرتُ به بين الورى سَمَرا
إنّ القلوب لتَهواه وما برِحت ... منه على خطرٍ إِن ماس أَو خَطَرا
وكان غير عجيبٍ من ملاحته ... أَن يجمع الحُسْنُ فيه الغُصْنَ والقمرا
عاثتْ لِحاظُكَ في بُستانِ وَجْنَتِه ... فقام مُفْتَرِساً باللَّحظِ مُنْتَصِرا
وقال لي القلبُ لمّا صار في يده ... هذا الذي لُمْتني فيه فكيف ترى
دَعْني أُهَتّكُ سِتري في مَحّبته ... وما أُبالي ألآمَ الخَلْقُ أَم عَذَرا
وقال من قصيدة :
وأَشهى ما إِلىَّ إذا أَضاءَت ... سماءُ الكأْس من شمس العُقارِ
وأَغْيد مثل مَتْن الرِّيح لِيناً ... تَفُلّ جُفونُه جَفْنَ اصطباري
كأَنّ بخدّه ماءً وناراً ... تولّد منهما ليلُ العِذار
وتَسْكَر مُقْلتَاه براح فِيهِ ... ففي لحظاته أَثر الخُمار
سقاك على تورُّد جُلَّنار ال ... خدود مُدامةً كالجُلنَّار
ومنها في المديح :
أَفِرُّ إِليك من وَشَل العطايا ... وأَسْبح من نوالك في الغِمار
وإِنكمُ إذا طلَعت نجوم الْأ ... سّنة في دُجى ليل الغُبار
لَآباءُ المكارم والمعالي ... وأَبناء الضَّراغِمَة الضّواري
فأَنت الشمس لم يكْفُرْك ليلٌ ... دَجا والبدرُ جَلّ عن الِسَّرار
وقال ، وقصد أن لا تخلو كلمةٌ من صاد وكلمة من سين ، وفي الأبيات تعسف :
تُصْغي لتستمع اصطِخا ... بَ لسانه الصُّمُّ السَّوادِرْ
وَصَل السَّجاحَة بالصَّبا ... حِة سالبٌ بالصوتِ ساحِرْ
صَلَتان يَسْتَثْنى لعْصم ... ته وسيرته الخَناصر
ساعٍ لمصلحة المُجا ... لس والمُصاحب والمُسامِر
مُتَوَصِّلٌ سرَّ الصد ... يق وآسِفُ الخَصْمِ المُساورِ
وَلَصيتُه السامي الصّفا ... ت بسائر الأمصار سائر
صَدَقَتْ فِراسةُ واصفيه ... فسَلْ بمُصْمي السهم ناصر
نِدْسٌ بصائب حِسِّه انْت ... صر السَّوالف والمُعاصِر
وَسَما بأَخْمَصِه سما ... ءَ الخالصين سَنا العناصِر
وقال من أبياتٍ يصف المطر ووقوعه على الماء :
والغيثُ منسكِبٌ كأَنّ حَبابه ... دُرٌّ يُبَثُّ على المياه وُيْنَشرُ
فحسِبْتُ أَنّ الروض منه مُنَوِّرٌ ... والأَرض غَرْقى والغدير مُجَدَّر
وقال من قصيدة :
أَلآلٍ ضَواحِكٌ أَمْ ثغورُ ... وليالٍ حَوالِكٌ أَمْ شُعورُ
وشمُوسٌ من القَراطق تبدو ... سافراتٍ وجوهُها أَم بدور
كتَمَتْها الخدُور عنّا غداةَ الب ... ين يا حُسْنَ ما كَتَمْنَ الخُدور
وتراءتْ لنا فَخِلْنا بأَنْ قد ... وُشِّحَتْ بالثُّغور منها النُّحور
حاسرات سُجْفَ الأَكِلَّة تيهاً ... ولها من قَنا الوشيج سُتور
ومنها :
وقفوا للْوَداع والَأرضُ من ثِقْ ... ل التّشاكي يوم الفِراق تمورُ
ثم ساورا والعيسُ من وَلَه البْي ... ن على أَنْفُسِ الكُماةِ تسير
آه يا مُلْبسي السُّهادَ لِمَنْ بَعْ ... دَهُمْ حُلَّةَ الرُّقاد أُعير
كدّر العَيْشُ عيشتي واللّيالي ... رُبّما شابَ صَفْوَها التكدير
ومنها في المدح :
صاحَ بالسيف مُصْلَتاً في الأَعادي ... فأَجابته هامُها والنُّحورُ
ولو أنّ الأرواحَ تُعْطى أماناً ... منه كانت خوفاً إليه تطيرُ
وكأَنّ الطُّلى تفاريد لفظٍ ... وكأَنّ السّيوف فيها ضمير
وقال ، وقد أوردت هذه الأبيات لبعض المغاربة فوجدتها في ديوان ابن قسيم :

ما كنتُ لولا كَلَفي بالعِذارْ ... أَصبو إِلى الشُّرْب بكأْس العُقارْ
سال كَذَوْبِ المِسْكِ في وَجْنةٍ ... وَرْدِيّةٍ تجمع ماءً ونار
هذا وما دبَّ جُنوني به ... فكيف إن تَمَّ به واستدار
وفاتِر المُقْلَة ما زِلتُ من ... نواظر الخلقِ عليه أَغار
ملّكتْهُ رقِيّ على أَنه ... يُجيرُ قلبي فتعدّى وجار
وَيْلاهُ من صِحَّةِ أَجفانه ... وما بها من مَرضٍ واحوِرار
وآهِ من وَجْنَتِه كّلما ... تعقربَ الصُّدْءغ عليها ودار
أَهْيَفُ ما تحت مَزَرِّ القَبا ... أَبْلَجُ ما تحت مَدَبِّ العِذار
مثلُ قضيب البانِ لكنّه ... يحمل في أَعلاه شمسَ النهار
وكلّما تاه عليّ اسْمُه ... وجدته في الورد والجُلَّنار
وقال :
خير ما أَصبحتَ مَخْلوعَ العِذارِ ... فانِفِ عنك الهمَّ بالكأْسِ المُدارِ
قُمْ بنا ننتهبِ اللذَّة في ... ظلِّ أَيام الشّباب المُسْتعار
إِنما العارُ الذي تحذَره ... أَن تراني من لباس العار عاري
لا وَمَنْ داويتُ قلبي باْسمه ... لا تَدَرَّعْتُ بأَثوابِ الوَقار
وَلَخَيْرٌ منه أَنْ أَشرَبها ... في سَنا الصُّبْح على صَوْتِ القَمارِي
قهوة تُعْشَق مِنْ ذي هَيَفٍ ... قَمَرِيِّ الوجهِ ليْليِّ العِذار
تَسْكَرُ الأَلبابُ من أَلفاظِه ... فهي تُغْني الشَّرْب عن شُرْبِ العُقار
وإِذا حدَّثْتَه عن وَصْلِه ... راح لا يلْقاك إلاّ بازوِرار
قمرٌ قبَّلْتُ منه وَجْنَةً ... حَشْوُها ما شئتَ من ماءٍ ونار
نالَ منه اللَّحْظُ ما نال به ... فهو فينا أَبداً طالبُ ثار
تفِرس الصهباءُ منه فارساً ... بَدويَّ اللَّفظِ تُرْكِيَّ النِّجار
وإِذا طاف بها تحِسَبُه ... بدرَ ليلٍ حاملاً شمسَ نهار
وسعيدٌ مَنْ تقضَّي عُمْرُه ... بين كاساتِ رُضابٍ وعُقار
في اصطباحٍ واغتباقٍ واقترا ... بٍ واغترابٍ وانتهاكٍ واستتار
شغلتْه الراحُ أَن تُبْصِرَه ... واقفاً يندب أَطلال الديِّار
نِعْمَ دُنْياه التي راح بها ... طرباً يعثر في فَضْل الإِزار
فإِذا ماتَ التْقى من ربَّه ... رحمةً تُسْكِنه دارَ القَرار
وقال من قصيدة:
سَفَرَتْ فخِلْتُ سَوادَ مِعْجَرِها ... ليلاً تَقَنَّعَ جُنْحَه بَدْرُ
برزت لنا يومَ الوَداعِ وقدْ ... بَهَرَ الكواعبَ حَوْلَها الخَطْر
من كلِّ جائلة الوِشاح إِذا ... قامت وناءَ بِرِدْفها الخصرُ
فكأَنها شمسُ الضُّحى طَلَعَتْ ... وكأَنهنّ كواكِبٌ زُهْر
نَفِد الزّمانُ ولم أَنل أَرَباً ... مِنْ وصِلهم وتصرَّمَ العُمْر
كم أَجتنى ثمر الوفا ويدي ... مِنْ فضلِ ما عَلِقَتْ به صِفر
وإِذا الهوى عَذُبَتْ موارده ... للعاشقين فَحُلْوُه مُرُّ
يا مَنْ جفا طَرْفي فأَرَّقَهُ ... وخلا بقلبٍ حَشْوُه جَمْر
عاقِبْ بسلبِ سوى الرُّقادِ فلي ... إلاَّ على فَقْد الكرى صَبْر
فلعلّ طيْفاً منك يَطْرُقني ... تحت الظّلام فيُحَمَد الهَجْرُ
ومنها في المخلص :
أَأَلُوم دهراً ما لِحادثِه ... نَهْيٌ عليّ ولا له أَمرُ
أَم كيف أَشكو صَرْف نائبةٍ ... ونَوالُ نصرِ الله لي نصر
وقال :
كم يهتِك الدهرُ سِتري ثم أَسْتُرُهُ ... وكم يقابل إِقبالي بإِدبارِ

وكلّما رُمْت منه مَخْلَصاً قعدت ... بيَ العوائقُ بين الباب والدار
؟؟؟

السين
وقال :
يا مَنْ يَعيب عليَّ حُبَّ مُدَلَّلٍ ... تَرِفٍ بأَردية الجمالِ نفيسِ
لا دَرَّ دَرّكُ هل أَصابك عارضٌ ... حتى رجَعتَ بصورة المَنْكوس
قمرٌ عصْيتُ اللهَ من كلَفي به ... وتبِعت طاعة شيخنا إبليس
ونقضتُ توبتيَ التي أَبرمتُها ... نقضاً أَباح مُحَرَّماتِ كؤوسي
يسطو وتفرِسه المُدامةُ بغتهً ... فَفَديتْهُ من فارسٍ مَفْروس
قد كان يعتقد المسيحَ ويرتضي ... عند الصّباح بضجةً النّاقوس
ولَطالمَا حمل الصليبَ وَعظَّمَ ال ... هوت بالتسبيح والتقديس
وأَتى على مَهْلٍ يَقُصُّ طرائق الإْن ... جيل بين شَمامسٍ وقُسوس
كالبدر كالطّاووس إلاّ أَنه ... في الحُسن فوق البدر والطّاووس
وبسينِ طُرَّتِه من التعويج ما ... في نُون حاجبه من التّقْويس
يرضى ويغضب فهو في حالاته ... حُلْوُ التبَسُّم قاتلُ التعبيس
إن زار نلتُ به المرادو إِن يَغِبْ ... فالذِّكر منه مُضاجعي وجَليسي
وإذا رمى باللَّحظ قال قتيلُه ... والدَّمْعُ في الوَجناتِ غيرُ حبيس :
لولاك يا سَقِم النواظر لم يكن ... ظبْيُ الكِناس يصيد لَيْثَ الخِيس
وقال :
يا قلْبُ على فِراقهم لا تاسا ... تُخْطي وتلوم في خَطاك النّاسا
لو كنتَ زجَرتَ طَرْفك الخَلاّسا ... ما رُحْتَ لأَسْهُم الهوى بُرجاسا
الشين
وقال :
كَمْ ذي جَلَدٍ حَشاه بالوَجْدِ حَشا ... مَنْ طَرَّز بالعِذار خدّاً ووشى
سْطَرا شَعَرٍ كلاهما مُنْذُ نشا ... بالمِسْك على حديقِ وردٍ نُقِشا
الصاد
وقال :
ما مِنْ أَحدٍ يَزيد إلاّ نَقَصا ... فارحم أَسفي وَداوِ هذي الغُصَصا
لم تَلْقَ فُديتَ مثلَ قلبي قَنَصَا ... الشوقُ أَطاع فيكَ والصبرُ عَصى
الضاد
وقال في حب أهل البيت عليهم السلام :
ويدٍ بآلِ مُحّمدٍ عَلِقَتْ ... مِنّي فلستُ بغيرهم أَرضى
جعل الإلهُ عليَّ حُبَّهُمُ ... وعلى جميع عباده فَرْضا
فأَثارَ ذلك مِنْ زنادقةٍ ... حَسَداً فسَمَّوْا حُبَّهْم رِفضا
وعَجِبْتُ هل يرجو الشَّفاعة مَنْ ... ينوي لآلِ محمدٍ بُغْضا
وقال في صديقٍ له مرض وشفي :
تَمَرَّض الجُودُ لمّا اعتادك المَرَضُ ... وأَصبح الدّهرُ للعلياء يعترِضُ
أَضحى قذًى في عيون المكرُمات كما ... أَمسى يُرى وهو في أَحشائها مَضَض
مَهْلاً شقيقةَ نفسِ المجد كلُّ أَذىً ... بالأَمس أُبْرِم عاد اليوم ينتقِض
سهمٌ رمته الليالي وهي غافلةٌ ... فما تمكَّنَ حتى فَلَّه الغَرَض
وقال رباعية :
يا مَنْ سلب الفؤادَ أَين العِوَضُ ... أَصْمَيْتَ وقلّما أُصيب الغَرَضُ
إِن كان بكيده لك المُعْتَرِض ... فالجَوْهر أَنت والأَنام العَرَض
الظاء
وقال من قصيدة :
يا مُسْعِراً بالعَذْل أَثناءَ الحَشا ... عذلاً أَضرَّ على الجوانح مِنْ لَظى
ما الوَجْدُ إلاّ أَنْ تُقَبِّلَ مَبْسِماً ... خَصِراً فيوسعَ نارَ شوقك مُلْتَظى
ما نام عَزْمي عن مُعاودةِ السُّرى ... إلاَّ وجدتُ من الصَّبابةِ مُوقِظا
ومنها في المدح :
جمع المَهابَة في طلاقة وَجْهه ... كَمَلاً فكان الحازِم المُتَيَقِّظا
وثَنا نداه له ثَنايَ فلن أُرى ... يوماً بغير مديحه مُتلِّفظا
وقال في الغزل :
ومُهَفْهفٍ جعل الغرامُ مَحله ... قلبي فخِفْتُ عليه حَرَّ شُواظِه

قمر هجرتُ لهجره سِنَةَ الكرى ... وسئمتُ من بصري ومن إيقاظه
تخشى القلوبُ عليه فاترَ طَرْفِه ... فكأَنهنّ نَفَرْنَ من أَلحاظه
ما شِمتُ وَجَه البدر من أَعطافه ... حتى جَنَيْتُ الدُّرَّ من أَلفاظه
هذا الذي لمّا استمال قلوبَنا ... قامتْ بخالص ودّه وحِفاظه

العين
وقال :
وَصَلَ الكتابُ فما فضَضتُ خِتامَه ... حتى تأَرَّجَ طِيبُه وتضوَّعا
كالرَّوض إلاَّ أَنّ وَشْيَ سُطوره ... أَسنى ندًى عندي وأَحسنُ مَوْقِعا
فأَزَرْتُ منّي الطرفَ أَحسنَ ما رأَى ... منشورُه والسمعَ أَطيبَ ما وعا
الغين
وقال :
ولقد سَنَحْنَ لنا بِحْمصَ جآذِرٌ ... عُقِدَتْ ذوائبهن بالأَرْساغِ
وما بالهم حُجِبتْ عقاربُ أَرضهم ... وقتْلَننا بعقارب الأَصداغ
الفاء
وقال :
أَسيرُ حُزْنٍ كَلِفُ ... نِضْوُ سَقامٍ دَنِفُ
لم يَخْلُ جَفْنُ عينه ... من عبراتٍ تَكِف
قد فعل الحبُّ به ... أَكثرَ ممّا أَصف
بين ضلوعي كَبِدٌ ... حَرّى وقلبٌ يَجِف
والنفسُ بالذُّلِّ لكمْ ... مُقِرَّةٌ تعترف
كأَنّ قلبي كُرةٌ ... يخطَفها مُخْتَطِف
أَصرِف همّي بالمُنى ... لو أَنه ينصرف
والحبّ لا يعرفه ... إلاّ المُحبُّ الكَلِف
يعلمُ مَنْ يظلمني ... أَنّيَ لا أَنتصف
سَقْياً لأَيِام مضتْ ... وليس منها خَلَف
وعيشنا مجتمعٌ ... وشَمْلُنا مُؤْتَلِفُ
وقال :
أَنت لي غيرُ مُنصِفِ ... يا كثيرَ التَّعَسُّفِ
يا هِلالاً مُرَكّباً ... في قضيبٍ مُهَفْهَفِ
أَنت ناري وجَنّتي ... وطبيبي ومُدْنِفي
أَنت يا قاتلي بسف ... ك دمي غيرُ مُكْتَف
وعلى العهد لا تدو ... م وبالوعد لا تفي
وإذا زُرْتَ بان في ... ك دليلُ التَكَلُّف
والذي بان مِنْ غرا ... مِيَ بعضُ الذي خفِي
أَنت غرَّرْتني بصَفْ ... حة خّدٍ مُزَخْرَف
وَجْنَةٌ مثل ما يُصَفَّ ... ق ماءٌ بقَرْقَف
فمتى يكمُلَ العِذا ... رُ عليها وأَشتفي
وقال من أخرى يمدح بها معين الدين انر بدمشق سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة :
وكم ليلةٍ عاطانيَ الراحَ بدرُها ... ونادمني فيها الغزالُ المُشَنَّفُ
ومنتَقش بالمِسْك وَشْيُ عِذاره ... كما انتظمتْ في جانب الطِّرْس أَحرفُ
وقد يتبادى لفظُه وهو أَعجم ... كما يتقاوى خَصْرُه وهو مُخْطَف
أَدقّ من المعنى الغريبِ وفوقه ... أَرقُّ من الماء المَعين وأَلطف
معانٍ من الحسن البديع كأَنها ... خِلالُ مُعينِ الدين تُتْلى وتُوصف
ومنها في المدح :
ومُسْتَصِغْرٍ في الله كلَّ عظيمةٍ ... ولو أَنه منها على الموتِ مُشْرِفُ
كأَنّ الملوك الغُرَّ حول سريره ... نجومٌ على شمس الظهيرة عُكَّفُ
ومنها :
فإن تَلْقَهُ تَلْقَ ابنَ هيجاءَ دهُره ... يريك عِنان الدَّهر كيف يُصَرَّف
سَخِيٌّ جَرِيٌ لَوْذَعِيٌّ كأَنه ... إِذا ما بدا ، غَيْثٌ ولَيْث ومُرْهَف
ومنها :
وقد هتف الداعي إلى الحمد باسمِه ... وقام مُنادى النصر باسمك يهتِفُ
تألَّفَ شَمْلُ الدين عندك والعُلى ... وشَمْلُ العِدى والمال لا يتأَلَّف
القاف
وقال من قصيدة :
أَبَتْ عبارت العَيْن بعدك أَن تَرْفا ... ولوعُة ما بين الجوانح أَن تُرْقى
أَعُدُّ لقاء الحتف من بعض ما أَرى ... ويَصْغُر عندي الخطبُ في جَنْب ما أَلقى

ويخِطُر في معنًى البانِ منكمُ ... فأَبكى وأَستبكي حمائمَه الوُرْقا
ومنها :
ووَجْدٍ إلى يوم الفراق شَكَوْتُهُ ... فلا لانَ لي قلبُ الفِراق ولا رَقّا
وَلِمْ فرّقوا بين المَنّيِة والنَّوى ... ولم يجدوا في الفعل بينهما فَرْقا
أَأَحبابنا واللِه ما رُمت عنكم السُّ ... لُوَّ ولا عَوَّدْتُ حُبَّكم المَذْقا
ولا لمحتْني مُقلةُ الشوق قائلاً ... لحادثِة الأَيام بعدكمُ : رِفقا
ومنها :
وأَذكر أَيام الوِصال وطيبَها ... وتلك الليالي البيضَ والزمنَ والطَّلْقا
فأَلزَمُ أَحشاءً أقام بها الجوى ... وقلباً أَبى إلا الصَّبابَة والخَفْقا
وما كنتُ أَبقى ساعةً لا أَراكمُ ... ولكنّ دهراً سدّ دوَنكُمُ الطُرْقا
فصِرْتُ إذا ما ازدَدْتُ شَوقاً إِليكمُ ... أُعِّللُ قلبي بالخيال الذي يلقى
وقال في جواب كتاب ابن منير الشاعر وشعره على الوزن والقافية :
بعثتَ الكتابَ فأَهلاً به ... يَسُرّ النواظرَ تنميقُهُ
لئن أَخْجَلَ الرَّوْضَ مَوْشِيُّه ... لقد فَضَحَ الدُرَّ مَنْسوقه
غريبُ الصناعة تجنيسُه ... نفيسُ البِضاعة تطبيقه
ومنها :
وواصلني بعد طول الجفا ... كما وصل الصَبَّ معشوقُه
فزايلَ جفنيَ تأريقُهُ ... وعاود غُصْنِيَ تَوْريقه
وَبِتُّ أُراقب مَسْطورَه ... كما راقب النجمَ عَيّوقُه
فلمّا بدتْ ليَ أَلفاظُه ... تستّرَ فِكري وتلفيقه
وكاسدُ نقصيَ أَخشى يُرا ... م في سوق فَضِلك تنفيقه
أَما خاف يُهْتَك مَسْتوره ... أَما خاف يظهر مسروقه
وقال من أخرى :
صدَقوا ما لأَنْفُسِ العُشّاقِ ... قَوَدٌ من قواتِلِ الأَحداقِ
ومنها :
أَنت صَبٌّ وتلك أُولى المطايا ... فامزُج الدَّمعَ بالدم المُهْرَاَقِ
يا مريضَ الجُفون إنّ سَقام الْأع ... ين النُّجْلِ صِحَّةُ العُشّاق
شغلتني الأَيام أَن أتلقَّى ... زائراً من خيالِكَ الطَرَّاق
ومنها :
يا رعى اللهُ سالِفاتِ الليالي ... بالحِمى والزمانُ حُلْوُ المَذاقِ
وسقاها مُنْهَلُّ دمعي إِذا لم ... يَجْرِ دمعُ السّحابة الغَيْداقِ
ومنها :
لستُ مِمّنْ يَثْني على كبدٍ حرّ ... ى يداً منه أو حشًى خفّاقِ
كَذَبوا هلْ رأَيتَ مُهْجَةَ صَبٍّ ... قطُّ تجري في إثِر دمَعٍ مُراق
إنّما الوجد أَن تَرَدَّدَ نفسُ المَ ... رءِ شوقاً بين الحَشى والتراقي
ولهذا أَبيت أَرتقب الطَّيْ ... فَ وأَشتاقُ بَرْقَ أَهل البُرِاق
وقال من قصيدة :
مُتَيِّقظ لولا تضرُّم بأسه ... كاد الوشيج على يَدْيه يُورِقُ
لو لم يَشُبْ فَرْطَ الشجاعة بالنَّدى ... لأَثار من سَطَواته ما يُحْرِق
وقال :
هل لك من داءِ الفِراق إِفراقْ ... يا صاحبَ القلبِ الشديد الأَشواقْ
إيّاكَ والطَّرْفَ الكثير الاعلاق ... فإنِه آفةُ قلبِ المشتاق
ومنها :
أَهْيَفُ القامة حُلْو الَأخلاقْ ... له إِذا مال الكرى بالأَعناقْ
حِجْلٌ صَموتٌ ونِطاق نطّاقْ ... واللّه لو عيشٌ صفا لي أَو راقْ
ما قلت من أَجل غُصون تُشْتاق ... لها من الَجْعدِ الأَثيثِ أَوراق
هلْ من طبيبٍ لسَقامي أَوْ راق

الكاف
وقال من قصيدةٍ يمدح بعض الأمراء ، ويلقب ببدر الدولة :
بكتِ الخُطوبُ وثغرُ مجدك ضاحكُ ... ونبا الحُسامُ وسيفُ عزمك باتِكُ
يا ابن الأُلى اغتصبوا الممالك بالقَنا ... وإلِى العُلى لهمُ الطريقُ السالك

ولقد عِجَرْتُ عن الهناء بدولةٍ ... نحن العبيدُ لها وأَنت المالك
عربّية الأَوصاف ذات مكارمٍ ... جُبِرَ الكسيرُ بها وعاش الهالك
عجميّة قُرِنتْ بخيرِ مُتَوَّجٍ ... زُفَّتْ إليه مدائحٌ وممالك
ملكٌ إذا برَقتْ أَسِرَّةُ وجهه ... ضَحِك المُقَطِّب واسنتار الحالك
فكأَنه فوق الحشّية جالساً ... أَسدٌ على مَتْنِ الفريسة بارك
فيغارُ منه البدرُ وهو سمُّيهُ ... ويخاف فَتكته الشجاع الفاتك
ومنها :
فاسلم فما لكَ في الشّجاعة والنَّدى ... مِثْلٌ ولا لك في الجَمال مُشاركُ
وسَقَتْكَ غاديةُ الشّباب كما سقى ... راجيك صَوْبُ نَوالك المُتدارِك
فنداك مبذولٌ ومدحك سائر ... وحِماك ممنوع وطيبك صائكُ
وقال من قصيدة أخرى :
سرى مَوْهِناً واستكْتَمَتْهُ المهالكُ ... حبيبٌ أضاء الليلَ والليلُ حالكُ
ومنها :
وكم من قَوامٍ في الأَكلّةِ مُرْهَفٍ ... يُضي له بدرٌ ويرتجّ عانكُ
من اللاءِ لا تلك الزيانب تنتمي ... إِليها ولا تلقاكَ منها العواتك
تصُدُّ الفتى عن قلبه وهو حازمٌ ... وتَثْنيه عن سُبل الهدى وهو ناسك
كأَن ضنى أحداقها وخُصورها ... تقاسَمَه عُشّاقُها والبواتك
ومنها في المخلص :
ويهماءَ باتتْ كالقِسِيِّ ضوامراً ... من الأَيْنِ فيها اليَعْمَلاتُ الرّواتِكُ
وأَصبحْن من جذب البُرِين حواكياً ... أَِزَّمَتُهَّن المُسْنَماتُ التَّوامِك
ولما أَحسّتْ أَنها من قواصدِ ... نَدى بنِ عليّ لم تَرُعْها المَهِالك
ومنها :
لقد جادَ لي حتى توهَّمتُ أنَني ... له في الذي تحوي يَداه مُشارِكُ
وخَوَّلني فوقَ الذي كنتُ آمِلاً ... فعُدتُ ونظمُ الشعر للجودِ مالك
فلا ناكبٌ عن سُبل ما أَنا قائلٌ ... ولا آخِذٌ إلاّ لما أَنا تارك
ومنها في صفة الحرب :
إذا اليومُ أَذْكى نارَ حربٍ تصافحتْ ... بساحته هامُ العِدى والسَّنابك
وللشمس لأَلاءٌ يلوح كأَنّهُ ... على البِيَض من تحت العَجاج سبَائك
وتُضْحي عِتاقُ الأعَوْجِيّاتِ ضُمَّراً ... يَعِلُ دماً منها القنا المُتشابك
لها لُجُمٌ زُرْقُ الأسنَّةِ في الوغى ... فهنَّ لأطراف العوالي عَوالِكِ
إذا صادفتْ جَلْداً من الأَرض رفَّعتْ ... بأَيدٍ وفيها أَوجهٌ وترائك
وضاقت خُروق الأَرض وهي فسيحةٌ ... عليها وما ضاقت عليها المعارك
لِيَهْنِ المعالي والعوالي وما حوَتْ ... سُروج المَذاكي منكمُ والممالك
تزولُ الجِبال الصُّمُّ وهي رصينةٌ ... ومجُدكمُ باقٍ على الدهر آرِك
لك العيدُ لا بل فيك للعيد رؤيةٌ ... أتيناك نستجدي بها ونُبارك
وأَنت أَمَتَّ البخل وهو مُخَلَّدٌ ... عطاءً وأَحْيَيْتَ النَّدى وهو هالك
وَجُدْتَ ولم تُسأَل وغيرُك واهبٌ ... إِذا سيل من دون العَطِيَّةِ ماحِك
وقال من أبيات :
مُلِّكوا حتى إِذا مَلَكوا ... أَخذوا فوق الذي تركوا
ما على الأحباب إِن تلِفت ... مُهجتي في حُبِّهم دَرَكُ
عاقَبوني بالجفا ويدي ... بذُيول العفوِ تَمْتِسك
هتكوا سِتر الوِصال فوا ... حَرَبا من عُظِمْ ما هتكوا
وطريقُ الحبّ واضحةٌ ... فلماذا غيرَها سَلَكوا
ثم عادوا بالوِصال كما ... عاد بدرُ الدولة الملك

اللام
وقال من قصيدةٍ أولها :
متى نَجَعَتْ في لوعتي وبلابلي ... نميمةُ واشٍ أَو نصيحةُ عاذلِ

وحسبُ الهوى أَني إذا رُمتُ نُصرةً ... من القلب لَبّاني بِنِيَّةِ خاذل
كأَنّ نسيماً من صَباً وشمائلٍ ... أَلمَّ بمعشوقِ الصِّشبا والشمائِل
فرنَّح في ثوب المَلاحة قَدَّه ... تَرَنُّحَ خُوطِ البانَةِ المُتمايل
ولمّا رمى باللَّحْظِ قلتُ لِجَفْنِه ... أخَلْفَك طَرْفٌ أَم كِنانُة نابِل
وما هي إلاّ مُقْلةٌ رَشَيِئَّةٌ ... أَصاب بها طَرْفي خَفِيَّ مَقاتلي
ومنها :
وإنّ بقاء النفس بعد فِراقه ... دليلٌ على أَنّ الهوى غيرُ قاتل
ومنها في المدح :
وكمْ قائلٍ لمّا فَضَضْتُ حقائبي ... لَدَيْكَ وسارتْ في عُلاك عقائلي
أَأَنتَ الذي صُغتَ النجوم قِلادةً ... ليَلْبَسَها في الحفل شَمْس الأَفاضل
وللّهِ أَخلاقٌ إذا شئت أَنتجتْ ... فصاحَة قُسٍّ من فَهاهِة باقِل
سعى الدّهر في هضمي فلما كفَلْتني ... إِليك تناهى في نُموّ فضائلي
فها أَنا منه بين شاكٍ وشاكرٍ ... وَجُودُك فيه خيرُ كافٍ وكافل
ومنها في التهنئة بالعيد ووصف الهلال :
وقد زارك العيدُ الذي أَنت عيدُه ... بأَبلجَ في بيتِ السّعادة نازِل
براه إِليك الشَّوقُ حتى أَصاره ... بِفَضْلَة جِسمٍ كالقُلامِةٍ ناحل
وقال من أبيات في ممدوحٍ اسمه عبد الله :
وحقِّ نصف اسمه الأَخير لقد ... كنتُ له قديماً كأَوَّلِه
لا تُولِني من نَداك فوق مَدى ... شُكري فتوهي قِوُى مُحَمَّلِه
وقال :
ما لِمَنْ مَلّني ولي ... ساءه قَوْلُ عُذَّلي
لَيْتَه بالذي بُلي ... تُ به في الهوى بُلي
يا خَليلَّي والمَلو ... لُ كثيرُ التنقُّل
آه من سَطوة الحبي ... ب وفَرْطِ التَّدلُّل
وقال في غلامٍ مُغرى بالبدال :
ومُغْرَمٍ بالبِدال قلتُ له : ... صِلْني فكان الجواب : لا أَفعلْ
كأَنّه والذي يديم له النّع ... مة مني يخاف أن يَحْبَل
لو قيسَ بالرُّمْح قَرْنُ والده ... لكان منه بمثله أَطْول
يأتي ويؤتى إذا مخافة أَن ... يقالَ هذا عليه قد أفَضْل
فهو قليل الخلاف لو شئت أَن ... يبِذُلَ عَشْراً بالفَرْد لم يَبْخل
لا يعرِف الغدرَ بالحَريف ومِنْ ... عادته أَن ينام في الأوّل
لكلِّ مِيلٍ بِعَيْنِه أَثَرٌ ... وكلُّ عَيْنٍ بِمِيله تُكْحَل
أَحسن ما كان رامحاً يَقِص الْأب ... طال حتى رأَيته أَعزل
يكون من فوقُ راكباً فإذا ... تمَّ له الدَّسْتُ صار مِنْ أَسفل
ومنها :
فاغتنِم الوقتَ قَبْلَ ينبُت في ... خدَّيْك ما لا يُحَشَّ بالمنِجْلَ
فاستعِمِل النَّتْفَ ما استطعت فما ... أَقبحَ زَرْعَ اللِّحى إذا سَنْبَل
وإنّ وجهَ الإقبال عنك إذا ... وَلى رأَيت التَّعذير قد أَقبل

الميم
وقال من قصيدة :
سقاني على عَينْيه كأْسَ رُضابِه ... فأَسكرني أَضعافَ سُكرِ مُدامِه
وَأحسسُت قلبي بِداراً إلى الهوى ... فقلتُ له كُنْ منهما في ذِمامه
وما كنتُ أدري أَنّ خَمّار طَرفِهِ ... يُرَوِّق لي ما خَلْف دُرِّ لثِامه
هبوه أَعار الشمسَ ضوءَ جَبينه ... فمِنْ أَين للخَطِّيِّ حُسْنُ قَوامه
وإِن أنَتمُ أَنكرتمُ أَنّ قَدَّه ... تَقَلَّدَ مِنْ عينيه مثلَ حُسامه
فلا تنكروه إنّ حِلْيَةَ جِيده ... مُفَصَّلةٌ من ثَغْره وكَلامه
ومنها :
كأَنّ العيون النُّجْلَ قاسَمْنَه الهوى ... لأِنْ عليها مَسْحةً من سَقامِه
ومنها في المدح :
فتىً لم تزل أموالُه وعُداتُه ... على خَطَرٍ مِنْ بَذْله وانتقامِه

ولو خاف مَنْ يسري إلى ظِلِّ مجدِه ... ضَلالاً لنَاداه النَّدى مِنْ أَمامه
ولم أَكْسُه دُرَّ المديح وإِنما ... أَعرتُ نجوَم الليلِ بَدْر تَمامِه
وقال ملغزاً بالسفرة :
وجائِلة الوِشاح تُريكَ وَجْهاً ... جِنانِيَّاً تكوّن في الجحيمِ
فتاةُ السِّنِّ صاحَبَها كثيراً ... سَراةُ الناس في الزمن القديمِ
وكم جعل النِّطاقُ لها عِناناً ... تُقاد به إلى دار النعيم
حياةٌ في البِعاد وفي التداني ... وأُنسٌ للمُجالس والنديم
تجيء إِليك مُفْعَمةَ النّواحي ... وترجِع وهي ذاتُ حَشاً هَضيم
وأَحسن ما تكون إِذا أَتتْنا ... أَناةَ الخَطْو حالِيَةَ الأَديم
وقد كتبتْ أنَاملُنا عليها ... أَساطيراً مُلَوَّنَة الرُّقوم
إِذا هي أَقبلت تسعى إِلينا ... رأَيت الشمسَ تُحْمَلُ بالنّجوم
وقال في القطائف :
ومجدَّرٍ عذُبَتْ مَراشفُ ثَغرِه ... فغدَوْتُ أَلِثَمُها ولستُ بآثمِ
مُترقِرقٌ ماءٌ الجمالِ بوجهه ... أَندى وأَكرم راحةً من حاتِم
يبدو فتمَحقُه الأكفّ تَناولاً ... وهو الحبيب إلى نفوس العالَم
قَسَماً به وبما تجنّ ضُلوعُه ... يا خيرَ من جُذِبت إِليه عزائمي
ما كنتُ قبل نَداك أَلمحُ شخصه ... إلاّ بأَعيادٍ لنا ومواسم
ومنها في المائدة والسفرة :
ورأيَتُ في دارِ الحبيب وصيفةً ... كالشمس تُحْمَل وهي ذاتُ قوائمِ
وكثيرة الأَحداق تحت وِشاحها ... شمسُ الظهيرة في عُقود الناظم
ولربّما جاءتك بينَ وَصائفٍ ... نَقَّطْنَ دائرَ وجهها بدراهم
وقال من قصيدة يمدح بها أتابك زنكي بن آقٍ سنقر ، أولها :
بعزمك أَيها الملكُ العظيمُ ... تَذِلُّ لك الصِّعابُ وَتستقيم
إِذا خَطَرتْ سيوفُك في نفوسٍ ... فأَوّلُ ما يفارقها الجُسوم
ولو أَضمرتَ للأَنواءِ حَرْباً ... لما طَلَعْت لهَيْبَتِك الغيوم
أَيَلْتَمِس الفِرنج لديك عَفْواً ... وأَنت بقَطْع دابِرِهِا زَعيم
وكم جَرَّعْتَها غُصص المنايا ... بيومٍ فيه يَكْتَهِل الفطيم
فسيفُك من مَفارِقهم خَضيبٌ ... وذِكْرُك في مواطنهم عظيم
وكلُّ مُحَصَّنٍ منهم أَخيذٌ ... وكلُّ مُحَضَّنٍ منهم يَتيم
ولمّا أَنْ طلبتَهُمُ تمنَّى المَنِيّ ... ة جُوسَلِينهُم اللئيم
أَقام يطوّف الآفاق حيناً ... وأَنت على معاقله مُقيم
فسار وما يُعادِلُه مَليكٌ ... وعاد وما يُعادلِهُ سَقيم
أَلم تَرَ أَنّ كلب الروم لمّا ... تَظَنَّن أَنك المَلِك الرحيم
فحينَ رَمْيَته بك في خميسٍ ... تيّقن أنّ ذلك لا يدوم
كأَنّك في العَجاج شِهابٌ نورٍ ... تَوَقَّدَ وهو شيطانٌ رجيمُ
أَراد بَقاء مُهْجته فَوَلَّى ... وليس سوى الحِمام له حَميم
يؤمِّلُ أَن تجودَ بها عليه ... وأَنت بها وبالدُّنيا كريم
رأَيتُك والملوكُ لها ازْدحامٌ ... ببابك لا تزول ولا تَريم
تُقَبِّل من رِكابك كلَّ يومٍ ... مكاناً ليس تبلُغه النُّجوم
تَوَدُّ الشمسُ لو وَصَلْت إِليه ... وأَين من الغَزالة ما تروم
أَردتَ فليس في الد؟ُّنيا منيعٌ ... وجُدْتَ فليس في الدُّنيا عديم
وما أَحْيَيْتَ فينا العدل حتى ... أُمِيتَ بسيفك الزَّمن الظَّلوم
وصِرتَ إلى الممالك في زمانٍ ... به وبمثلك الدُّنيا عقيم
تزَخْرَف للأَمير جِنانُ عَدْنٍ ... كما لِعِدَاه تَسْتَعِرُ الجحيم
أَقرّ الله عينك من مَليكٍ ... تُخامِرُ غير هِمّته الهموم

فلا برِحت لك الدُّنيا فِداءً ... ومُلْكك من حوادثها سليم
وإن تَكُ في سبيل الله تَشْقى ... فعند الله أَجرُك والنّعيم
وقال من أخرى في الشيب :
ومُرْتَدٍ بقِناعِ الشّيْبِ جاذَبَهُ ... من أَطْيَبَهْ عِنانَ اللَّذة القِدَمُ
قضى ولم يَقْضِ من عَصْر الصِّبا أَرَباً ... كأَنّما هو في أَجفانه حُلُم
ومنها :
لو كنت أَعلم أَنّ الدهر يَعْقِبُنُي ... بُؤسي لما اختَرتُ أَنْ تُهدي ليَ النِّعَم
وحاسدٍ سرّه أَني ابتدأتُ به ... لما تيقَّن أَني منه مُنتقم
لقد سعى طالباً نَقْصي فزِدتُ به ... فضلاً وكان دليلَ الصِّحةِ السَّقَم

النون
وقال من قصيدة يهني بالبرء :
زعموا أَنك اعتللتَ وحاشا ... ك وقالوا زلَّتْ بك القَدمانِ
كذَبَ الحاسدون ما بك داءٌ ... غيرَ بَذْل اللُّهى وعِشق الطِّعان
وقال من أخرى :
أَلزمتَ طَرْفَك حِفظَ قلبك ضِلَّةً ... لقد ائْتمنتَ عليه غيرَ أَمين
لا تُنْكِرَنَّ عليّ فَيْضَ مَدامعي ... فالدَّمعُ يَنْقَع غُلَّة المحزون
بَخِل الغَمامُ وما حَلَلْت بمَعْهدٍ ... إلاّ حللتُ عليه عَقْد جُفوني
ومنها :
وبمهُجتي يا صاحبيَّ مُدَلَّلٌ ... أَنا بالحياة عليه غيرُ ضنين
وأَبيك لو تُسْقى المُدامَ وريقَه ... لجهِلتَ أَيّهما ابنة الزَّرَجون
وقال من قصيدة في مدح نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله :
قِفْ حيث تُخْتَلَس النفوسُ مُهَابةً ... ويَغيض من ماء الوجوه مُعينُه
فمن المُهنَّدِة الرِّقاق لَبوسُه ... ومن المُثقفة الدِّقاق عرينه
تبدو الشجاعُة من طَلاقِة وَجْهه ... كالرُّمْح دَلّ على القَساوةِ لِينُه
ووراء يَقْظته أَناةُ مُجَرِّبٍ ... لله سَطْوةُ بأْسه وسُكونه
هذا الذي في الله صحّ جهادُه ... هذا الذي في اللّه صحّ يقينه
مَلَك الورى مَلِك أَغرُّ مُتَوَّجٌ ... لا غدرُه يُخْشى ولا تلوينُه
إن حلّ فالشَّرفُ التليد أَنيسُه ... أَو سار فالظفرُ العزيز قرينه
والدّهر خاذِلُ من أَراد عِناده ... أَبداً وجَبّارُ السّماء مُعينه
والدّينُ يَشْهَدُ إنّه لَمُعِزُّه ... والشِّرْك يعلم إِنّه لَمُهِينه
وقال من أخرى :
أَما ومكانِ خَصْرك من قَوامٍ ... ضعيفٍ عن مُعاقرةِ التثنّي
لقد أَجللتُ وجهكَ أَن يُباري ... ببدرٍ في الدُّجُنَّةِ مُرْجَحِنِّ
وَهَبْكَ أَعرتُ فيك العَذْلَ سمعي ... أَيدري العَذْلُ أَين هواك منّي
أَبَعْدَ البُعْدِ أَطمعُ في التّواني ... وبعد الوصل أَقنع بالتمنّي
وقد هتك العَواذِلُ فيك سِتري ... وأَخْلَفَتِ المَواعِدُ فيك ظنّي
وقال من أخرى :
مُدامي من مُقَّبِله ... ومن صُدْغَيْه رَيْحاني
تكاد الرّاح تُطْلِعه ... على سِرّي وإِعلاني
أَلا للّه ليلَة با ... ت يأْمرني وينهاني
وواظمأي للذّةِ ما ... قُبيل الصُّبح سَقّاني
وذي مَرَضٍ بمُقلته ... صحيح اللحظ وَسْنان
أَقَرِّبه فيُبْعِدني ... وَأَطلُبه فيأباني
وكم يَجْني فأَعْذِرُه ... ويزعم أَنّيَ الجاني
أُمُتّهمي بما قد قيل ... من زُورٍ وبُهتانٍ
سعى دمعي بسفك دمي ... وهَتْكي سِرَّض كتمِاني
فلا واللِه ليس الغدْ ... رُ في حُبِّيكَ مِن شاني
وقال :
باكِرا شمسَ القناني ... تُدْرِكا كُلّ الأَماني
وخُذا في لذّةِ العْي ... ش على رغم الزمان
من عُقارٍ تبعث النَّجْ ... دَةَ في قلب الجبانِ

قهوة أَلبسها المز ... جُ قميصاً من جُمان
فهي من أَبيضَ صافٍ ... لاح في أَحمرَ قان
كخُدودِ الوَرد من تح ... ت ثُغور الأُقْحُوان
عاصِيا الخَلْقَ إِذا الخْل ... قُ عن الغَيِّ نهاني
وإِذا اللّه إِلى الرُّشْ ... د دعاني فَدَعاني
إنّما البُغيةُ أَن أُصب ... ح مخلوعَ العِنان
ساجداً في قِبلة الكأْ ... س لتسبيح المثاني
حيث لا يعلم دهري ... أَبداً أين مَكاني
وتكاد الكأْس أَن تخ ... ضِب أَطراف البَنان
يا غزالاً شرِبَ الرّا ... حَ ثلاثاً وسقاني
آه للرّيق الرَّحيق ... ي على الثَّغْر الجُماني
ولِطَرْفٍ هتكتْ أجفانُ ... ه سِتْرَ جِناني
ليس يا قُرَّةَ عيني ... لك في العالم ثان
قمرٌ بان لنا في ... غُصُنٍ ليس ببان
جَلَّ من أَهبط ذا الحُو ... رِيَّ من دار الجِنان
وأَرانا البدر من جي ... ب القَباء الخُسْرواني
فتعالى الله ما أحس ... نَ هذا التُّركُماني
وقال من قصيدة :
ومن الحبائب في الرَّكائب هاتِكٌ ... بجبينه ظُلَمَ اللّيالي الجون
ما شامَ صارمَ جَفْنه وجُفونه ... إِلاّ لسفك دمي وماءِ جفوني
هتك الظلامَ وسار من أَترابه ... في الرَّكب بين أَهِلَّةٍ وغصون
يَبْيرن أَفئدةَ الرّجال بما حَوَتْ ... أَعطافُهنّ وليس من يَبْرين
ومنها في المدح :
ولقد بَلَوْتُ خِلالَه فوجدتُه ... لَدْنَ المَهَزَّة شامخ العِرْنين
يُنْبيك عن وَثباتِه وثَباتِه ... ما عنده من يَقْظة وسكون

الواو
وقال في جواب أبياتٍ لابن منير ، من أبيات :
لو كان إِبليس قبلُ لاح له ... آدمُ من نقش فصِّكِ الغروي
لَخَرَّ ما شئتَ ساجداً وَعَنا ... للّهِ طَوْعاً وكان غيرَ غَوِي
والدّهرُ قد ماتَ منهُ حادثُه ... خَوْفاً فأَنىّ يكونُ غيرَ سَوِي
الهاء
وقال من قصيدة :
حَتْامَ أَنتَ عن الذي بك ساهِ ... وإِلامَ قلبُك بالصَّبابِة لاهي
ومنها :
لِلّه أَيامُ الوِصال فإِنّها ... أَمَلُ النّفوس وطيبُ لَهْوِ الّلاهي
أَيّام صُحْبَتِناالمِلاحَ ودأْبُنا ... فيها اعتناقُ ظِبا ورَشْفُ شِفاه
وَمَهاً تُضاحكها البدور مَلاحَةً ... معدومة الأَمْثال والأَشباه
من كلِّ فاتكة اللِّحاظِ إذا انثنت ... فتكتْ بقلب الخاشع الأوّاه
ومنها في المخلص :
وَتَعَمَّدَتْني النائباتُ ولم تزل ... حَتى انتصرتُ بنصر نصِر الله
ومنها :
ما زلتَ تلهو بالمَكارِم واللُّهى ... حتى ظَننّا أَنّهن مَلاهي
وإِذا تناهى جُودُ كلِّ مُتَمّم ... فنوالُ كفِّك ليس بالمُتناهي
كم مِنْ ندًى خلفي الغَداةَ نَبَذْتُه ... وأَرى نوالك لا يَزال تَجُاهي
يا مَنْ إذا مَطَرَتْ سحائبُ جُودهِ ... جاءت بلا مَطْلٍ ولا استِكْراه
ما زِلتُ أَفُتِك بالزمان بِعِزِّ ما ... أَوْلَيْتَنيه وللكرام أُباهي
ومنها :
فاقبل به دَعْوى ابنة الفكر التي ... جاءتك في ثَوْبَيْ حِجىً وتَناهى
لا تُشْتِمَتنَّ بها الحَسودَ فإنها ... ذهب القلوب وجوهر الأَفواه
أَلبستُها دُرَّ المديح قِلادةً ... فاضمن لها بلِباس ثَوْبِ الجاه
ابن رواحة الحموي
الفقيه أبو علي الحسين بن عبد الله بن رواحة ، ذكر أنه من ولد عبد الله بن رواحة صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وشاعره الذي يقول :
وفينا رسولُ الله يتلو كتابهَ ... وقد لاح مفتوقٌ من الصُّبْح طالعُ

يَبيت يُجافي جَنْبَه عن فِراشه ... إِذا اسْتَثْقَلَتْ بالمُشركين المَضاجِع
لقيته كهلاً ، لكل فضيلةٍ أهلاً ، وهو مقيم بحماة للاحتساب ، وإقراء فقة الشافعي والآداب ، شعر ابن رواحة روح الشعر ، وروح السر ، وريحان أهل الأدب ، وراحة ذوي التعب ، معنى لائق ، ولفظٌ رائق ، ورويٌ شائقٌ ، وكلام فائق ، وأسلوب موافق ، سمح الغريزة ، سهل النحيزة ، معسول الكلم ، مغسول الحكم ، لا يتكلف صنعةً ، ولا يتعسف صيغةً ، ولا يركب إلا الذلول ، الذي يسلب العقول ، إن أقصد ، بلغ المقصد ، وإن أقطع أحسن المطلع والمقطع ، وإن نسب أهب نسيم النسيب متأرج الريا ، وإن تغزل شبه بالغزالة والغزال الحبيب المتبلج المحيا .
رأيته في سني صحبتي لنور الدين يتردد في كل سنةٍ ويمدحه ، وهو بتشريفه وبجائزته يمنحه ، وكان ينشده قصائد فيما يتفق من الوقائع ، وينشد لديه مقاصد بما يتسق له في تلك الصنائع ، وسافر إلى مصر في زمان الصالح ابن زريك ، فنفقت بضائع رجائه في سوق الرواج ، وظفر داء أمله عنده من دواء النجح بالعلاج .
ولما أراد الرجوع إلى الشام ركب البحر إليه ، فقطع فرنج صقلية الطريق عليه ، وحملوه إليها أسيراً ، وأقام هناك في الأسر كثيرا ، حتى توصلب بسحر الشعراء إلى حل عقدته ، ونشط عقلته ، وعاد إلى حماة في حمى من السلامة منيع ، وذرى من الكرامة مريع ، وجعل نور الدين له من إنعامه إدراراً يكيفيه ، وكان يقبله ويقبل عليه ويروي فيه ، أنشدني لنفسه في قلعة حلب سنة ثلاث وستين في ذي الحجة :
يا ماطلاً لا يرى غَليلي ... لديه ورداً سوى السراب
تَعَلَّمَ الطَّيْفُ منك هجري ... فلا أَراه بلا اجتناب
كم كتبَ الدَّمعُ فوق خدي ... إِليك شكوى بلا جواب
أَغلقتَ باب الوِصال دوني ... فَسُدَّض للصّبر كلُّ باب
إِن كان يحلو لديْك ظُلْمي ... فَزِدْ من الهجر في عذابي
عسى يُطيلُ الوقوفَ بيْني ... وبَيْنَك اللّهُ في الحساب
وأنشدني لنفسه أيضاً :
من لِعْينَّي بالكَرى ... فأَرى الطيفَ إِن سرى
طال عهدي فعاد قلْب ... ي لِطَرْفي مُخَبِّرا
كُلَّما اشْتَقْتُ أَن أَرا ... ك أَطلتُ التَّفكُّرا
يا هِلالاً وبانةً ... وكَثِيباً وجُؤْذُرا
لم أَبُحْ بالهوى الخف ... يّ اختياراً فأُهْجَرا
إِنما السُّقْم نمّ عنه ... ودمعي به جرى
أَنت أَبديتَ لي بوجه ... ك عُذراً إلى الورى
أَنت فرّقت بين أَجف ... ان عَيْنَيَّ والْكرى
دَعْ نُوَدِّعْ خَدَّيْك لَثْم ... اً وإنْ شئتَ مَنْظرا
قبل أَن يكْمُل العِذا ... رُ عليه فما يُرى
وأنشدني له من قصيدة في العذار :
قمرٌ أَعار الصُّبْحَ حُسنَ تَبَسُّمِ ... وأَعار منه الغصنَ لِينَ تَأَوُّدِ
واخْضَرَّ شارِبُه فبان لغُلَّتي ... منه اخضِرارُ الرَّوْض حَوْلَ المَوْرِد
ومتى يُباحُ لعاشقيه مُقَبَّلٌ ... كالدُّرِّ في الياقوت تَحْتَ زَبَرَجْدَ
وأنشدني لنفسه سنة أربعٍ وستين :
مالي على السُّلْوانِ عَنْك مُعَوَّلُ ... فإِلامَ يَتْعَبُ في هواك العُذَّلُ
يزدادُ حُبُّكَ كلَّ يَوْمٍ جِدَّةً ... وكأَنّ آخِرَه بقلبي أَوَّل
أَصبحتَ ناراً للمُحِبِّ وَجَنَّةً ... خَدَّاك جَمْرُ غَضاً وريقُك سَلْسَل
لك لِينُ أَغصان النَّقا لو لِنْتَ لي ... ولك اعتدالُ قَوامِها لو تَعْدِل
يا راشقاً هَدَفَ القلوبِ بأَسهمٍ ... خَلِّ السِّهامَ فِسْحُر طَرْفِك أَقْتَلُ
ما لِلْوُشاةِ سَعَوا بنا يا لَيْتَهْم ... ثَكِلوا أَحِبَّتَهم كما قد أَثْكَلوا
جَحَدوا الذي سمعوا وقالوا غيرَه ... ولو انَّهمْ لا يسمعون تَقَوَّلُوا
هَبْ أَنَّ أَهلك أَوْعدو وتهدَّدوا ... مَنْ يَرْعَوي مِنْ ذاك أَوْ مَنْ يَقْبَل

وَيْلاهُ منهم يُشْفِقون عليك مِنْ ... أَجْلي ، وإِشفاقي أَشَدُّ وأَكمل
مالي أُعاينُ وجهَ ودِّكَ مُعْرِضاً ... حَذَرَ الرَّقيب وَوَجْهُ ودّي مُقْبِل
وأنشدني له في غلامٍ لبس الكحلي :
برزتَ للنّاسِ في قميصٍ ... أَكْحَلِ مِنْ طَرْفِكَ الكحيلِ
فيك من الحُسْنِ كلُّ فنّ ... وفيك للنفس كلُّ سُول
كيف اتَّخَذْتَ الحِدادَ لُبْساً ... ولستَ تَأْسى على القتيل
وأنشدني لنفسعه في موفق خالد بن القيسراني مستوفي نور الدين :
دَعَوْتُك مُشتاقاً لِنَيْلِ صَنيعةٍ ... فكنتَ إِلى بذل الصنائع أَشْوَقا
وكم عُقَدٍ حُلَّتْ بعزمك لم تكن ... تُحَلُّ بعزمٍ مِنْ سِواك ولا رُقا
تفاءل نورُ الدّين باسمك مثلما ... حَوى بك نَعْتاً في الأُمور مُحَقّقا
فأَصبح في الملك المُخَلَّضد خالداً ... كما كان في الرأي السعيد مُوَفَّقا
وأنشدني لنفسه في العذار :
لا تلوموا عليه قلبَ مُحِبٍّ ... فجميع القلوبِ طَوْعُ يَدَيْهِ
لا تظنّوا عِذاره طرّز الخدّ ... فما كان ذا افتقاراً إليه
إنما لحظُه أَراق دماءً ... وبدا أُثْرها على وَجْنَتَيْه
فرأى وَردَها بقتليَ نمّا ... ماً فأَوْلى بنفسَجاً عارِضَيْه
فتيقنتُ أنني ضاع ثأْري ... حين لم يبق شاهدٌ لي عليه
وأنشدني أيضاً له من قصيدة :
تودُّون عَوْدي لو قَدَرِتْ إِليكم ... وقد أَبْعَد المِقْدار في الَبْين شُقِتّي
كأَنّيَ سَهْمٌ كلّما جرّني الهوى ... إِليكم رمتْني الحادثات فأَقصتِ
ومن الغزل :
كأَني سأَلتُ الرّيح عن لين قَدِّها ... فهزّت قضيبَ البان لي حين هَبَّتِ
ومن مديحها :
له سائِلاً عِلْمٍ وجود يُجيب ذا ... على عَجَل منه وذا عن تَثَبُّتِ
فذا بنوالٍ للمُؤالف مُنْطِقٍ ... وذا بمَقالٍ للمُخالِفِ مُسْكِت
وأنشدني له في صبي مقرئ في سنة سبع وستين :
تلا فدعا قلبي إلى حُبِّ وَصْلِه ... وعهدي بما يتلوه يَنْهى عن الحبِّ
فكيف اصطباري عنه لو كان مُسْمِعي ... غِناءُ الغواني من مُقَبَّلِه العَذْبِ
وأنشدني له في غلامٍ أهدى له ورداً :
أَقول للوَرْدِ ونَشْرُ الذي ... أَهداه لي أَذْكى مِنَ الوَرْدِ
أَشْبَهْتَه في النَّشْرِ طِيباً فِلْم ... خالفَتُه في الحفظ للعهد
ومن مقطعاته في الألغاز والمعمى : أنشدني لنفسه قوله في الجلنار ملغزاً :
وما تاجُ رُومّيٍ لبَيْضَةِ باسلٍ ... عليها دَمٌ إِذ فَلَّلَتْها المَضارِبُ
تُناسِبُ أَقراط الدُّيوكِ ذُيولها ... كما العُرْفُ للتَّشْريف منها مُناسِب
لها باطنٌ كالزَّعْفَرانِ تَعَلَّقَتْ ... به من شَرارٍ أَوْ نُضارٍ كواكب
حَكَتْها صِغاراً بالخُدودِ شَبيه ما ... حَكَتْها كِباراً بالنُّهودِ الكواعِب
إذا فُرِطَتْ فهْي العَقيقُ مُبَدَّداً ... وإِن رُشِفَتْ فالشهْدُ بالثَّلْجِ ذائب
وقوله في مليحٍ اسمه إبراهيم :
صدَّني بعد اقترابٍ وجفاني ... قَمَرٌ يخَجلُ منه القَمرانِ
لستُ أَدعو باسمه ضَنّاً به ... غير أَني الذي أخْفِيه كانِ
ظَمَأي فيه ظَما آخِره ... ليتين أَوَّلُه ممّا عَراني
وقوله في اسم مبارك :
وأَغَيَدلا تحكي الأَسِنَّةُ لَحْظَه ... ولا يَمْلِكُ الَخطِّيُّ لِيناً بِقَدِّهِ
تألفَّنَي قُرْبُ السَّقام لبُعْدِه ... وحالفني وَصْلُ الغَرام لصِدَهَّ
صباحي إذا ما زارني فيه مثلهُ ... وعَيْشي إِذا ما صدَّ عني بِضِدِّه
وقوله في اسم إلياس :
أَتَيْتُ مَنْ أَهواه عَكْسَ اسمِه ... فلم أَنَلْ منه سِوى الإِسمِ

وكلَّما أَطْمَعني ضدُّه ... عاد به التيهُ إلى الرَّسْم
وقوله في إسماعيل بن بكار :
أَسْمَرُ عِيلَ الصَّبْرُ في حُبِّه ... ليس له في الحُسْن من مُشْبِهِ
إِنْ شِئْتَ أَنْ تَعْرِفَه باسْمِه ... أَفْرِدْه من رابِع حَرْفٍ به
طُوبى لِمَنْ بات لهُ ليلةً ... عكس أَبيه لهِوى قلبه
وقوله في اسم يحيى بن عطية :
مَنْ نال مِنْ يَحْيى اسمَ والدِهِ ... أَيْقَنْتُ حقّاً أَنّه يحيا
وَمَنِ ابتلاه بطُولِ هِجرته ... وجفا عليه فليس في الأَحْيا
وأنشدني له في الاستطراد بمن كان زاهداً في شبابه ثم حرص في مشيبه ورغب في الدنيا :
تَجَلَّدْتُ عنها في الشّبابِ لِعِزَّةٍ ... وأَبْدَيْتُ بعد الشَّيْب ذِلَّة مَفْتونِ
فقالتْ : أَزُهداً في شَبابٍ ، ورغبةً ... بِشَيْبٍ أَنا المشتاق وأنت ابنُ فضلون
وأنشدني له في هجو إنسانٍ بمصر :
أَحكمتْ عِرسُه ضُروبَ الأَغاني ... من ثقيلٍ في رأسه وخفيفِ
وتمنّتْ عليه كلَّ الملاهي ... غيره وحدَه لمعنًى لطيف
فقضيباً لاسمٍ وناياً لشكلٍ ... ورَباباً للجرِّ والتصحيف
وله من قصيدة :
عُدني وإلاّ فِعْدني ... إنْ صحّ جسمي تزورُ
تاريخُ وَصلك عندي ... مُذْ لَمْ أَنَلْهُ شُهور
وإِنّ هِجرانَ يومٍ ... على المحبّ كثير
وأنشدني لنفسه :
قُلْ للرّوافض : إنّكُمْ في سَبِّكم ... أَهلَ الهدى مَع حُبّنا عَلَم الهُدى
مِثْلُ النّصارى لا نَسُبُّ لأَجلهم ... عيسى وقد سَبُّوا النَّبَّي مُحَمَّدا
ثم سافر إلى مصر وأقام في ظل الملك الناصر ، وإنعامه الوارف الوافر ، وفاز بالجاه الظاهر والإحسان المتدارك المتواتر ، وكنا مخيمين بمرج الفاقوس ، مصممين على الغزاة إلى غزة ، مرنحين أعطاف نشاطنا المهتزة ، وقد وصلت أساطيل ثغري دمياط والاسكندرية بسبي الكفار ، وقد أوفت على ألف رأسٍ عدة من وصل في قيد الإسار ، فحضر ابنر رواحة منشداً مهنئاً بالعيد ، ومعرضاً بما وهبه الملك الناصر من الإيماء والعبيد ، بقصيدةٍ منها ، وذلك في عيد النحر سنة اثنتين وسبعين :
أَيَحْسُن بعد ضَنِّكَ حُسْنُ ظنّي ... فأَجمعَ بين يأسي والتَّمنّي
وما نَفْعي بعَطْفِك بعد فَوْتٍ ... كَرِقّة شامتٍ من بعد دفن
أَأَطْمَعُ أَن أَكون شهيدَ حُبٍّ ... فأَصْحبَ منك حُوريّاً بعَدْن
قيل له هذا البيت حسنٌ لولا أن الحوري مذكر .
ملكتَ عليَّ أَجفاني وقلبي ... فأَبعدتَ الكرى والعَذْل عنّي
فكم أَرعيتَ غير اللَّوْمِ سمعي ... وكم أَوْعيتَ غير النوم جفَني
صَدَدْتَ وما سوى إِفراطِ وَجْدي ... لك الداعي إلى فَرْط التجنّي
لقد أَبديتَ لي في كلّ حُسْنًٍ ... ضروباً أَبدعت كلَّ حُزن
فكم فنٍّ من البلوى عَراني ... لِعْشق الوصفِ منك بكلِّ فنِّ
كأَنّكَ رُمْتَ أَن أَسلوك حتى ... أَقمتَ الشِّبْه في بَدْرٍ وغُصْن
فأَلْبَسَ وجهُك الأَقمارَ تمّاً ... وعلَّم قَدُّك البانَ التثنّي
رماني في هواك طِماحُ طَرْفي ... إلى حُسْنٍ فأَخلف فيك ظنّي
فكم دمعٍ حَمَلْتُ عليه عيني ... وكم نَدَمٍ قَرَعْتُ عليه سِنّي
غدرتَ وما رأَيتَ سوى وفاءٍ ... فهّلا قبل يَغْلَقُ فيك رَهْني
ولو حكم الهوى فينا بعدلٍ ... لكنتَ أَحَقَّ بالتعذيب مِنّي
ومنها :
أَقمتَ الموتَ لي رَصَداً فأَخشى ... زيارتَه وإِن يك لم يَزُرني
كما رَصد العِدى في كلِّ يومٍ ... صلاح الدين في سَهْلٍ وحَزْن
يَرَوْن خياله كالطيف يَسْري ... فلو هَجَعوا أَتاهم بعد وَهْن
أَبادَهُمُ تَخَوُّفُه فأَمسى ... مُناهُمْ لو يُبَيِّتُهم بأَمْن

تملَّكَ حولهم شرقاً وغرباً ... فصاروا لاقتناصٍ تحتَ رَهْنِ
يشير إلى أنه مالك مصر ومالك الشام والإفرنج بينهما :
أَطاف عليهمُ مِنْ كلِّ فَجٍّ ... قبائلَ يُقبلون بغير وَهْنِ
أَقام بآل أَيوب رِباطاً ... رأَت منه الفَرَنْجُ مَضيقَ سِجن
فهم للدّين والدُّنيا جبالٌ ... رواسٍ لا تُرى أَبداً كَعِهْن
إذا اتبّعوا له عَزماً ورأْياً ... غَنُوا في الحرب عن ضربٍ وطعن
وإِنْ نادى : نَزَالِ ، فلن يُبالوا ... قتالَهُمُ لإِنسٍ أَو لجنّ
رجا أَقصى الملوكِ السّلمَ منهم ... ولم ير جهده في البأس يُغني
وخافتهم ملوك الناس جَمْعاً ... فلم تقِلب لهم ظَهْرَ المِجَنِّ
لهم من بأسه رُكْنٌ شديد ... ولو طُلِبوا لما آوَوْا لِرُكْن
حِوتْ آفاقُ مِصْرِهُمُ حُصوناً ... فكيف إِذا أَداروا كُلَّ حِصْن
غَطارِفَةٌ لهم سُلْطانُ عَدْلٍ ... يَسُنُّ لهم مَكارِمَهم ويُسْني
ومنها :
وكم معنًى من الإِحسان فاقوا ... به كرماً على كَعْبٍ ومَعْنِ
لهم من يوسفَ الدُّنيا جميعاً ... وليس له نصيبٌ غيرُ مُثْنِ
أَرى رأى التناسخ مِصْرَ حقّاً ... بضمّ اسمٍ إِلى عَدْلٍ وحُسْن
ولم أَر مثله ملكاً جواداً ... خزائنُه قِفارٌ وهو مُغْن
غدا كالشمس يوم وغىً بنَقْعٍ ... فَشَقّ النورُ منه مِلاءَ دَجْن
ومنها يصف الداوية من الفرنج ، وهو لا يرون مقاربة النساء لترهبهم :
أَرى داويَّةَ الكفّار خافت ... به داءً يُضَعِّف كُلَّ مَتْنِ
أَبَوْا نَسْلاً مَخافَة نَسْلِ بنتٍ ... تُفارِق دينَهم أَو قَتْلَه ابن
فقد عقموا به من غير عَقُمٍ ... كما جَبُنوا به من غير جُبْن
ومن أَفناهم عدماً حقيقٌ ... بِحَمْدٍ مثلما وجدوا ويغني
ومنها يصف الأساطيل المنصورة والسبايا المأسورة :
لقد خَبر التجارِبَ منه حَزْمٌ ... وقلّبَ دهَره ظهراً لبطن
فكفَّ الكفرَ أَن يَطْغى بمَكْرٍ ... يُحَيِّرُ كلَّ ذي فكرٍ وذهن
فساق إلى الفرنج الخيلَ برّاً ... وأَدركهم على بحرٍ بسُفْنٍ
لقد جلب الجواري بالجواري ... يَمِدْن بكلّ قدٍّ مُرْجَحِنِّ
يَزيدُهُم اجتماعُ الشَّمْل بُؤْساً ... فمِرنانٌ تنوح على مُرِنٍّ
فما مِنْ ظبيةٍ تُفْدى بليثٍ ... ولا ليْثٌ فِدى رشإٍ أَغَنِّ
زهتْ إِسكندرِيَّةُ يومَ سيقوا ... ودِمياطٌ فما مُنِيا بِغَبْن
وخَيْرُهما هناءً ما أَتاها ... بقُرْب الملك كلُّ عُلىً يُهَنّي
فلو لَبِسَتْ به للفخر بُرْداً ... لجرّت فَضْلَ أَذيالٍ ورُدْن
لقد سبق النَّدى منه السَّبايا ... فكم عَزَبٍ بأَهلٍ بات يبَنْي
وأَعْجَلُه السّماحُ عن ادّكاري ... ولو أَلقاه مَنَّ بغير مَنِّ
فأَسْلِحةٌ تَخافُ لَدَيْه خَزْناً ... وأَموالٌ تطير بغير خَزْن
وكيف يصون بحراً جودُ بحرٍ ... فيحمِل مِنّةً لأخٍ وخِدْن
وإِن الناصر الملك المُرجّى ... لَأْولى من وَلي حَيّاً بَهتْن
يُبيد عدُاته ويَشيد مَجْداً ... لآلٍ فهو يُفْني حين يُقني
إذا لاقى العِدى فأَشدُّ لَيْثٍ ... وإِن بَذَل النَّدى فأَسحُّ مُزْن
ومنها في التهنئة :
يُهنّي الملك عيداً لو عداكُمْ ... لما ظَفِرَ المُهَنّا بالمُنَهّي

الأمراء بنو منقذ الكنانيون من شيزر

كانوا من أهل بيت المجد والحسب ، والفضل والأدب ، والحماسة والسماحة ، والحصافة والفصاحة ، والفروسية والفراسة ، والإمارة والرئاسة ، اجتمعت فيهم أسباب السيادة ، ولاحت من أساريرهم وسيرهم أمارات السعادة ، يخلفون المجد أولاً لآخر ، ويرثون الفضل كابراً عن كابر ، أما الأدب فهو شموعه المشرقة ، ورياضة المونقة ، وحياضة المغدقة ، وأما النظم فهم فرسان ميدانه ، وشجعان فرسانه ، وأرواح جثمانه .
قال مجد العرب العامري بأصفهان في سنة نيفٍ وأربعين وهو يثني عليهم ، ويثني عنان مجده إليهم : أقمت في جنابهم مدة ، واتخذتهم في الخطوب جنة ، وللأمور عدة ، ولم ألق في جوارهم جوراً ولا شدة . وممدوحه منهم ، الأمير عماد الدولة أبو العساكر سلطان بن علي بن مقلد بن منقذ ، وما زالوا مالكي شيزر ومعتصمين بحصانتها ، ممتنعين بمناعتها ، حتى جاءت الزلزلة في سنة نيفٍ وخمسين فخربت حصنها ، وأذهبت حسنها ، وتملكها نور الدين عليهم وأعاد بناءها فتشعبوا شعباً ، وتفرقوا أيدي سبا ، فمنهم :

الأمير مؤيد الدولة
أبو المظفر أسامة بن مرشد
ابن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ بن محمد بن منقذ بن نصر بن هاشم بن سوار بن زياد بن رغيب بن مكحول بن عمرو بن الحارث بن عامر بن مالك ابن أبي مالك بن عوف بن كنانة بن بكر بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة بن مالك ابن حمير بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن ارفخشذ بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ بن يرد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام .
أسامة كاسمه ، في قوة نثره ونظمه ، يلوح من كلامه أمارة الإمارة ، ويؤسس بيت قريض عمارة العبارة ، نشر له علم العلم ، ورقي سلم السلم ، ولزم طريق السلامة ، وتنكب سبل الملامة ، واشتغل بنفسه ، ومحاورة أبناء جنسه ، حلو المجالسة ، حالي المساجلة ، ندى الندي بماء الفكاهة ، عالي النجم في سماء النباهة ، معتدل التصاريف ، مطبوع التصانيف ، أسكنه عشق الغوطة ، بدمشق المغبوطة ، ثم نبت به كما تنبو الدار بالكريم ، فانتقل إلى مصر فبقي بها مؤمراً مشاراً إليه بالتعظيم ، إلى أيام ابن رزيك فعاد إلى الشام ، وسكن دمشق مخصوصاً بالإكرام ، حتى أخذت شيزر من أهله ، ورشقهم صرف الزمان بنبله ، ورماه الحدثان إلى حصن كيفا مقيماً لها في ولده ، مؤثراً بلدها على بلده ، حتى أعاد الله دمشق إلى سلطنة الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب في سنة سبعين ، ولم يزل مشغوفاً بذكره ، مستهتراً بإشاعة نظمه ونثره ، والأمير العضد مرهف ولد الأمير مؤيد الدولة جليسه ، ونديمه وأنيسه ، فاستدعاه إلى دمشق وهو شيخ قد جاوز الثمانين وكنت قد طالعت مذيل السمعاني ووجدته قد وصفه وقرظه ، وأنشدني العامري له بأصفهان من شعره ما حفظه ، وكنت أتمنى أبداً لقياه ، وأشيم على البعد حياه ، حتى لقيته في صفر سنة إحدى وسبعين بدمشق وسألته عن مولده ، فقال : سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ، يوم الأحد السابع والعشرين من جمادى الآخرة ، وأنشدني لنفسه البيتين اللذين سارا له ، في قلع ضرسه :
وصاحبٍ لا أَمَلُّ الدَّهْرَ صُحْبَتهُ ... يشقى لنفعي ويسعى سَعْيَ مُجْتَهِد
لم أَلْقَه مُذْ تصاحَبْنا فحين بَدا ... لناظريَّ افترقنا فُرقَةَ الأبَدِ
لو أنصفت فهمك إن كنت منتقداً ، فرقيت عن مرقب وهماك مجتهداً ، وغصت بنظر فكرك في بحار معانيه ، لغنمت من فرائد درره ولآليه ، ولعلمت أن الشعر إذا لم يكن هكذا فلغوٌ ، وأنه إذا لم يبلغ هذا الحد من الجد فهجرٌ ولهو ، ومن الذي أتى في وصف السن المقلوع ، بمثل هذا الفن المطبوع ، فهل سبقه أحدٌ إلى معناه ، وهل ساواه في هذا النمط سواه .
وأنشدني أيضاً لنفسه ، في معنى قلع ضرسه :
وصاحبٍ صاحبني في الصِّبا ... حتى تَرَدَّيْتُ رِداءَ المشيبْ
لم يَبْدُ لي ستين جَوْلاً ولا ... بَلَوْت من أَخلاقه ما يَريب
أَفْسده الدَّهْرُ ومن ذا الذي ... يحافظ العهدَ بظَهْر المَغيب
ثم افترقا لم أُصِبْ مِثْلَه ... عُمْري ومثلي أَبداً لا يُصيب

فاعجب لها من فُرْقة باعدتْ ... بين أَليَفْين وكلٌّ حبيب
وأنشدني لنفسه من قديم شعره :
قالوا نَهَتْهُ الأربعون عن الصِّبا ... وأَخو المَشيب يجور ثُمَّتَ يَهْتدي
كم حار في لَيْلِ الشَّبابش فَدَلَّهُ ... صُبْحُ المَشيب على الطريق الَأْقَصد
وإذا عَدَدْت سِنِيَّ ثم نَقَصْتها ... زَمَنَ الهُموم فَتِلْك ساعُة مَوْلِدي
تعجب من مقاصد هذه الكلم ، وتعرض لموراد هذه الحكم ، واقض العجب كل العجب ، من غزارة هذا الأدب ، ولولا أن المداد أفضل ما ترقم بن صحائف الكتب ، لحررت هذه الأبيات بماء الذهب ، فهذا أبلغ من قول أبي فراس بن حمدان :
ما العمرُ ما طالتْ به الدّهورُ ... العمرُ ما تَمَّ به السرورُ
أَيّامُ عِزّي ونَفاذ أَمري ... هي التي أَحْسُبها من عمري
فالفضل للمُتقدِّم في ابتكار المعنى وللمتأَخر في المبالغة ، حيث ذكره في بيتٍ واحد ولم يجعل له نصيباً من العمر إلاّ ساعةَ مَوْلِده . فجميع الحياة على الحقيقة نصب ، وألم وتعب .
وأنشدني أيضاً لنفسه من قديم نظمه :
تَجَرَّمَ حتى قد مَلِلْتُ عِتابَهُ ... وأَعرضتُ عنه لا أُريدُ اقترابَهُ
إذا سقَطتْ من مَفْرَقِ المرء شَعْرَةٌ ... تأَفَّف منها أَن تَمَسَّ ثِيابَه
وأنشدني من قديم قوله في السلوان أيضاً :
لم يَبْقَ لي في هَواكُمُ أَرَبُ ... سَلَوْتُكُمْ والقُلوبُ تَنْقَلبُ
أَوْضَحْتُمُ ليَ سُبْل السُّلُوِّ وقد ... كانت ليَ الطُّرْق عنه تَنْشَعِبُ
إلامَ دَمعي من هَجْركمُ سَرِبٌ ... قانٍ ، وقلبي من غَدْرِكم يَجِبُ
إِن كان هذا لِأَنْ تعبَّدني ال ... حُبُّ فقد أَعْتَقَتْنِيَ الرِّيبَ
أَحْبَبْتُكُمْ فوق ما توهَّمَه ال ... نّاس وخُنْتُمْ أَضعافَ ما حَسبوا
تأمل هذه المعاني و الأبيات ، بعين التأني والثبات ، تعرف أن قائلها من ذوي الحمية ، والنفوس الأبية ، والهمم العلية ، وكل من يملكه الهوى ويسترقه ، قلما يطلقه السلو ويعتقه ، إلا أن يكون كبيرا غلب عقله هواه ، واستهجن في الشهوات المذمومة نيل مناه . وقوله : " فقد أعتقتني الريب " في غاية الجودة ونهاية الكمال ، أعذب من الزلال ، وأطيب من السحر الحلال ، وألعب بقلوب المتيمين من نسيم الشمال .
وقوله أيضاً من قديم شعره :
إذا اختفت في الهوى عني إساءتُهُ ... أَبدى تَجَنِّيه ذنبي قَبْل أَجْنيه
كذاك إنسانُ عيني لا يزال يرى ... عَيْبي ، ولستُ أَرى العيبَ الذي فيه
وقوله أيضاً :
يا دهرُ ما لك لا يَصُ ... دُّك عن إساءَتيَ العِتابُ
أَمْرَضتَ من أَهوى ويأْ ... بى أَن أُمَرِّضَهُ الحِجابُ
لو كنتَ تُنْصِف كانت ال ... أَمراض لي وله الثّوابُ
قد قيل في مرض الحبيب كل معنًى بكر ، مخترع لديه ومبتدع فكر ، إلا أن هذه الأبيات لطيفة المغزى طريفة المعنى ، مقصدها سهيل ، وموردها سهل ، لو سمعتها في البادية عقيل لم يثبت لها عقل ، ولا شك أن حبيبه عند استنشاق هوائها ، فاز ببرء مهجته وشفائها .
هذه الأبيات كنت نقلتها من تاريخ السمعاني فلما لقيت مؤيد الدولة قرأتها عليه وكنت أثبتها على هذا الوجه . أبصر مني العينان ، وإن لم يحط السمعان ، من أنباء تاريخ السمعاني ، الحاوي للمعاني ، أبياتاً رواها ، وناظمها بماء الحكمة رواها ، وقد بددتها في كتابي هذا غيرةً من الملتقط ، وحفظا لها من العيي المشتط المشترط .
وأما أشعاره التي أنشدنيها بدمشق سنة إحدى وسبعين من نظمه على الكبر قوله حين قلت له : هل لك معنًى مبتكرٌ في الشيب :
لو كان صَدَّ مُعاتِباً ومُغاضِبا ... أَرضيتُه وتركتُ خَدّي شائبا
لكن رأى تلك النَّضارة قد ذَوَتْ ... لمّا غدا ماء الشّبيبِة ناضِبا
ورأى النُّهى بعد الغَواية صاحبي ... فثنى العِنان يُريغ غيري صاحبا
وأَبيه ، ما ظَلَم المَشيبُ وإِنّه ... أَمَلي ، فقلت عساه عني راغبا

أَنا كالدُّجى لما تناهى عُمُره ... نَشَرتْ له أَيدي الصّباح ذَوائبا
وهذا معنًى مبتكرٌ في الشيب لم يسبق إليه .
وقوله :
أَنْستنَي الأيّام أَيامَ الصِّبا ... وذَهَلْت عن طِيب الزّمان الذّاهِب
وتنكَّرتْ حالي فكلُّ مآربي ... فيما مضى ما هُنّ لي بمآرب
وقوله :
نهارُ الشَّيْبِ يكشِف كُلَّ رَيْبٍ ... تَكَفَّلَ سَتْرَه لَيْلُ الشَّبابِ
يَنِمُّ على المَعايب والمَساوي ... كما نَمّ النُّصُول على الخِضاب
فهل لي بعد أَن ضَحَّى بِفَوْدي ... نهارُ الشَّيْب ، عُذْرٌ في التّصابي
وقوله :
أَفْدي بُدوراً تمالَوْا ... على المَلال ولجوّا
قد كنت أَحسب أَني ... من هجرهمْ لست أَنجو
هذا الذي كنتُ أَخشى ... فأَين ما كنت أَرجو
وقوله :
قُلْ للذي خَضَب المَشيبَ جَهالةً ... دَعْ عنك ذا فلكلّ صِبْغٍ ماحِ
أَوَ ما ترى صِبْغَ اللّيالي كلّما ... جَدَّدْنَه يَمْحُوه ضَوْءُ صباح
وقوله في محبوس :
حَبَسوك والطَّيْرُ النواطق إِنّما ... حُبِسَتْ لِمِيزتها على الأنَدادِ
وتهيبَّوك وأَنت مُودَعُ سِجْنهمْ ... وكذا السُّيوف تُهابُ في الأَغماد
ما الحبسُ دارُ مَهانةٍ لِذوي العُلى ... لكنه كالْغِيلِ لِلْآساد
وأنشدني قوله في الشمعة :
أُنظر إلى حُسنِ صبرٍ الشمعُ يُظْهِرُ للرّ ... ائين نُوراً وفيه النار تَسْتَعِرُ
كذا الكريم تراه ضاحكاً جَذِلاً ... وقلبُه بدخيل الهَمّ مُنْفَطِر
وقوله :
لَأَرْمِيَنَّ بنفسي كُلَّ مَهْلَكَةٍ ... مَخُوَفةٍ يَتَحامها ذَوو الباس
حتى أُصادِفَ حَتْفي فهو أَجملُ بي ... من الخُمول وأَستغني عن الناس
وقوله :
العجز لا يَنْقُصُ رِزْقاً ولا ... يَزيدُه حَوْلٌ ولا فَحْصُ
كلٌّ له رِزْقٌ سيأْتيه لا ... زيادةٌ فيه ولا نَقْص
قد ضمِن اللهُ لنا رزقَنا ... جاءت به الآثار والنَّصّ
فما لنا نطلبُ من غيره ... لولا قنوطُ النَّفس والحِرْص
وقوله في نفاق الدهر :
نافقتُ دَهْري فوجهي ضاحِكٌ جَذِلٌ ... طَلْقٌ وقلبي كئيبٌ مُكْمَدٌ باكِ
وراحَةُ القلب في الشَّكْوى ولَذَتُها ... لو أَمكنت لا تُساوي ذلِةَّ الشاكي
قد تمكنت كلمة لو أمكنت فما أحسنها موقعا ، وأجملها موضعا ، ثم قارن اللذة بالذلة وهما متجانسان .
وقوله :
إِذا حال حالِكُ صِبْغِ الشَّباب ... سقى عَهْدَه الغيثُ من حائلِ
فماذا الغُرور بِزُورِ الخِضا ... ب لولا التَّعَلُّلُ بالباطل
وقوله من قديم شعره :
أَأَن غَضَّ دَهْرِي من جِماحِيَ أَو ثَنى ... عِنانَي أَوْ زَلَّتْ بأَخْمَصِيَ النَّعْلُ
تظاهر قَوْمٌ بالشَّماتِ جَهالةً ... وكم إِحْنَةٍ في الصدر أَبرزها الجهلُ
وهل أَنا إلاّ السَّيْفُ فَلَّلَ حَدَّه ... قِراعُ الأعادي ثم أَرْهَفَهُ الصَّقْل
وقوله :
لا تُوصِ عند المَوْت إِل ... لا بالوديعة والدّيونِ
وَدَعِ التَّشاغُل بالحُطا ... م كفاكِ شُغْلُك بالمَنون
فَوَصِيَّةُ الأَموات بالأ ... حياء من شُعبٍ الجُنون
وما أحسن بيت المعري :
يُوَصّي الفتى عند المَماتِ كأَنه ... يَمُرُّ فيَقْضي حاجةً ويعودُ
ورأيته وقد أهدي له دهن البلسان ، فسألت عنه ، فقال : كتبت إلى المهذب الحكيم ابن النقاش هذه الأبيات على لسان :
رُكْبَتي تَخْدم المهذَّبَ في العِلْم ... وفي كلّ حِكمةٍ وبيانِ
وهي تشكو إِليه تأْثير طولِ الْعُم ... ر في ضَعْفِها وَمَرّ الزمان
فَبِها فاقةٌ إلى ما يُقَوِّيها ... على مَشْيِها من البَلَسان

كلُّ هذا عُلالةٌ ما لمن حا ... ز الثمانين بالنُّهوض يدان
رَغبةٌ في الحياة من بعد طول العُمْ ... ر والمَوْتُ غاية الإنسان
وقوله :
لا تَحْسُدَنّ على البَقاء مُعَمَّراً ... فالموتُ أَيْسَرُ ما يؤول إليه
وإذا دعوتَ بطول عُمْرٍ لامرئً ... فاعلم بأَنك قد دَعَوْتَ عليه
وقوله :
يا ربّ عفواً عن مُسي ... ئً خائفٍ ما كان منهُ
مُتَيَقِّن أَنْ سوف يَصْل ... ى النارِ إِن لم تَعفُ عنه
لما أنشدني في الشيب أنشدته لنفسي :
ليلُ الشَّباب تولىّ ... والشيْب صُبْحٌ تأَلّقْ
ما الشَّيْبُ إِلا غُبارٌ ... من رَكْضِ عُمري تعَلّقْ
وقلت : ما أظن أني سبقت إلى هذا المعنى . فأنشد لبعضهم بيتين وهما :
قالوا غبارٌ قد عَلا ... كَ فَقلتُ : ذا غيرُ الغُبارِ
هذا الذي نقل الملو ... كَ إلى القبور من الديار
قلت : ولكن حققت أنه من غبار ركض العمر ، وهو معنى مبتكر .
وحضرت عند الأمير مؤيد الدولة أسامة يوماً آخر بدمشق سنة إحدى وسبعين ، فأنشدني قوله في القديم في استدعاء صديقٍ إلى مجلس المنادمة بالموصل وقد غاب عنها :
أَمُهَذَّبَ الدين استمِعْ من عاتبٍ ... لولا وِدادُك لم يَفُهْ بِعتابِ
أَتُطيعُ فيَّ الدهرَ وهو كما ترى ... يقضي عَلَيَّ بفُرْقة الأَحباب
أَمَلْلَتني وجعلتَ سُكْرك حُجَّةً ... ونهضت أَم لم تستحلَّ شرابي
قَسَماً لئن لم تأْتني مُتَنَصِّلاً ... مُتَبرِّعاً بالعُذْر والإِعتاب
لأَحُرَمِّنَّ الخَنْدريس وأَغتدي ... مُتَنَسِّماً بالماء والمِحراب
وتَبُوءُ مُعْتَمِداً بإِثْمِ تَنَسُّكي ... وَبِعابِه ، أَعظم به مِنْ عاب
وقوله في الشوق والمكاتبة :
لو أَن كُتْبي بقَدْر الشَّوْقِ واصلةٌ ... تَتَابَعَتْ كَدُموعي أَو كأَنفاسي
وإِن وجدتُ سبيلاً أَو قَدِرَتْ على ... خلاص عَقْلِ أَسيرٍ في يد الكاسِ
أَجْرَيْتُ أَسودَ عَيْني فوق أَبيضها ... بمائها لا مِداداً فوق قِرطاسِ
وقُلتُ للشَّوق يا سَحبانُ أَمْلِ على ... يدي ، أُعيذُكِ مِنْ عِيّ وإِبلاس
حتى أَبوحَ بما أَشكو إِليك كما ... باح المريض بَشْكواه إلى الآسي
وقوله في العذار :
أُنظر شَمَاتَةَ عاذلي وسُرورَه ... بكُسوف بَدْري واشتهار محاقِهِ
غطَّى ظلامُ الشِّعْرِ من وَجَناته ... صُبْحاً تُضيءُ الأَرضُ من إِشراقه
وهو الجهول يقولُ هذا عارضٌ ... هو عارضٌ لكن على عُشّاقه
وأنشدني أيضاً لنفسه :
ما أَنت أَوّل مَنْ تناءَتْ دارُه ... فَعَلامَ قلبُك ليس تخبو نارُه
إِمّا السُّلُوُّ أَو الحِمام وما سِوى ... هذَيْن قسمٌ ثالث تختاره
هذا وُقوفُك للوَداع وهذه ... أَظْعان مَنْ تَهْوى وتلك دياره
فاستَبْقِ دمعك فهو أَوَّلُ خاذلٍ ... بعد الفِرَاق وإِن طما تَيّاره
فَذَرِ الدُّموعَ تَقِلُّ عن أَمد النَّوى ... إِن لم يكن من لُجَّةٍ تَمْتاره
لَيْتَ المطايا ما خُلِقْن فكم دمٍ ... سَفكَتْه يُثْقِلُ غيرَها أَوزراه
ما حَتْفُ أَنفِسنا سواها إنها ... لَهِيَ الحِمام أُتيح أَو إِنذاره
لو أَنّ كلَّ العِيس ناقةُ صالحٍ ... ما ساءني أَني الغَداة قُداره
وتناشدنا بيتاً للوزير المغربي في وصف خفقان القلب وتشبيهه بظل اللواء الذي تخترقه الريح وهو :
كأَنَّ قلبي إِذا عَنّ اذّكاركُمُ ... ظِلُّ اللواء عليه الريحُ تَخْتَرِق
فقال الأمير مؤيد الدولة أسامة : لقد شبهت القلب الخافق وبالغت في تشبيهه وأربيت عليه في قولي من أبياتٍ هي :
أَحبابَنا كيف اللقاءُ ودُوَنكُمْ ... عرضُ المَهامِه والفيافي الفيحُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16