كتاب : خريدة القصر وجريدة العصر
المؤلف : العماد الأصبهاني

ضربوا عليك من القَتام سُرادِقاً ... ركَزوا شعاع الشمس فيه رماحا
وجلَوْا ظلام الليل بالصبح الذي ... قسموه بين جيادهم أوضاحا
وأتوا بغدران المياه جوامداً ... قد فصّلوها ملبساً وسلاحا
هذا معنى حسن، قد جوّده الأعشى النحوي من شعراء المغرب، ولا أدري أيهما أسبق إليه:
ملك إذا ادّرع الدلاص حسبته ... لبس الغديرَ وهزّ منه منصلا
ولمحمد بن البين:
بُرودٌ قد خلِقنَ عليّ حتّى ... حكينَ الصّبرَ في يوم الوَداع
فجدّدْها ليشهد كلّ راءٍ ... بأني من هباتِك باتّساع
وحمِّلْ عاتِقي ثقْلَ المعالي ... فإنّي بالتحمّل ذو اضطلاع

باب في ذكر عدة من شعراء المغرب
من أهل العصر
الأديب الحكيم أبو الصلت أمية
ابن عبد العزيز بن أبي الصلت الأندلسي كان أوحد زمانه، وأفضل أقرانه، متبحراً في العلوم، وأفضلُ فضائله إنشاء المنثور والمنظوم، وكان قدوة في علم الأوائل، ذا منطق في المنطق بذّ سحبان وائل، سمعت أبا الفتح نصر بن عبد الرحمان بن إسماعيل الفزاري في ذي الحجة سنة سنتين ببغداد وروى لي كثياً من شعره: أن أمية من أهل المغرب، وسكن ثغر الإسكندرية، وله الباع الأطول في الأصول والتصانيف الحسنة على أسلوب كتاب اليتيمة للثعالبي، ثم وقع ديوان هذا أبي الصلت بيدي في دمشق فأخذته وانتخبت منه ما أوردته ونبهت على ما هو من روايتي في مواضعه، وكل شره منقح ملقح، ممدح مستملح، صحيح السبك، محكم الحوك، نظيم السلك، قويم الفلك، وذلك على ترتيب الحروف، وقد قرأت في ديوانه شعره بتاريخ سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، ولا شك أنه عاش بعد ذلك.
الهمزة فمن ذلك قوله في غلام اسمه واصل وهو مغنٍ مليح:
يا هاجراً سمّوه عمداً واصلا ... وبضدّها تتبيّن الأشياء
ألغيتَني حتى كأنّك واصل ... وكأنني من طول هجرك راء
وله ملغزاً بالظل من قطعة:
أُحاجيك ما لاهٍ بذي اللبِّ هادئ ... على أنه لا يعرفُ اللهْوَ والهُزْءا
بعيد على لمس الأكفّ منالُه ... وإنْ هو لم يبعد عِياناً ولا مرْأى
يُراسِل خِلاً إن عدا عدوَ مسرعٍ ... حكاه وإن يبطئ لأمرٍ حكى البطئا
ترى الرّحْلَ محمولاً عليه كأنّما ... مراسله من دونه يحمل العِبئا
ولم يخشَ يوماً من تعسف قفْرةٍ ... أساودها تسعى وآسادها تدْأى
يغيب إذا جنح الظّلام أظلّه ... لِزاماً ويبدو كلّما أنِسَ الضّوءا
ولكن يحيى ضده في ثباته ... فلا برعتنا الحادثات به رزءا
مليك إذا استسقى العفاة يمينه:توهّمتها من فيض نائلها نوءا
شوى مجده قلب الحسود لما به ... وأعياه أن يلقى لعلّته بُرءا
وقوله:
كم أرجّي الأراذلَ اللؤماءَ ... وإخال السّراب في القفْر ماءَ
ويْحَ نفسي ألا جعلت لربّي ... دون هذا الأنام هذا الرجاءَ
وقوله:
لا غرْوَ أنْ سبقتْ لهاكَ مدائحي ... وتدفّقتْ جدواك ملءَ إنائها
يُكسى القضيب ولم يحن إثماره ... وتطوّق الوَرْقاء قبل غِنائها
الباء وقوله من قصيدة في الأفضل سنة أربع عشرة وخمسمائة:
نسختْ غرائب مدحكَ التّشبيبا ... وكفى به غزَلاً لنا ونسيبا
لله شاهِنْشاه عزمَتُك التي ... تركت لك الغرضَ البعيدَ قريبا
لا تستقرّ ظباك في أغمادها ... حتى تروّيها دَماً مصبوبا
والخيللا تنفكّ تعتسِف الدّجى ... خبباً الى الغارات أو تقريبا
تصبو الى ما عُوّدتْ من شنها ... فتواصل الإسآدَ والتّزويبا
وترى نَمير الماء صفْواً كلّما ... وردَتْه طرْقاً بالدّماء مَشوبا
ومنها في صفة الخيل:
من كل منتصب القَذال تخالُه ... رشأ بإحدى الجهلتين رَبيبا
حكم الوجيهُ له وأعوَج أنّه ... سيجيء فرْداً في الجياد نجيبا

من أدهمَ للحِلي فوق لِباتِه ... شُهب تُضيء ظلامَه الغربيبا
متألق إفرَنْده في حلكةٍ ... وكأنّما ثبجٌ عله أذيبا
أو أشهب ضبغ النّجيع أديمه ... لوناً أعار لحسنه تذْهيبا
ما خِلْت ريحاً قبله امتُطيَت ولا ... أبصرتُ برقاً قبله مركوبا
تُردي بكل فتىً إذا شهد الوغى ... نثر الرّماح على الدّروع كعوبا
قد لوّحته يدُ الهواجر فاغتدى ... مثل القناة قصافةً وشحوبا
يتسابقون الى الكفاح بأنفسٍ ... ترك الإباء ضرامها مشْبوبا
تخِذوا القنا أشطانهم واستنبطوا ... في كل قلب بالطِّعان قليبا
أحييتَ عدل السّابقين الى الهدى ... وسلكتَ فيه ذلك الأسلوبا
وبثثتَ في كلّ البلاد مهابة ... طفِق الغزال بها يؤاخي الذّيبا
وهمَتْ يداك بها سحائبَ رحمة ... ينهلّ كل بنانة شؤبوبا
ومنها:
ونصرتَ دينَ الله حين رأيته ... متخفّياً بيد الرّدى منكوبا
فالخيل تسرع والفوارس ترتمي ... مُرْداً الى أجر الجِلاد وشيبا
ومنه في الدرع:
متسَرْبِلي غُدَر المياه ملابِساً ... مُستنْبِطي زُيُر الحديد قلوبا
ونصبتَ من هام العِدى لك مِنبراً ... أوفى حسامك في ذراه خطيبا
لما أعدّوا البيض هيفاً جُرّدا ... والطّاس يفهقّ مرّة والكوبا
أعددتَ للغمرات خير عَتادها ... رمحاً أصمّ وسابحاً يعْبوبا
ومنها في الدرع:
ومُفاضة كالنهر درّج متنَه ... ولعُ الرّياح به صباً وجنوبا
ومنها في السيف:
ومهنّدٍ عضْب الغرار كأنّما ... درجَتْ صغار النّمل فيه دبيبا
ذكر الكميّ مضاءَه في وهمه ... فرأيتَه بنجيعه مخضوبا
تعطي الذي أعطتكه سمْر القنا ... أبداً فتغدو السّالبَ المسلوبا
وكّلْتَ فكرَك بالأمور مراعياً ... وأقمتَ منه على القلوب رقيبا
ومنها:
وأنا الغريب مكانُه وبيانُه ... فاجعل صَنيعَك في الغريب غريبا
وقوله من قصيدة في يحيى بن تميم سنة اثنتي عشرة وخمسمائة في صفة الحرب:
تألّق منك للخُرْصان شُهْب ... على لِمم الدّجى منها مشيبُ
نجوم في العجاج لها طلوعٌ ... وفي ثغْر الكُماة له غُروب
ومنها:
وقد غشّاك من سود المنايا ... سحائب ودقهنّ له صبيب
فلا برق سوى بيض خفاف ... تُقَطُّ بها الجماجم والتّريبُ
تغادر كل سابغة دلاص ... كما شقّت من الطرب الجيوب
وقوله من قصيدة في مدحه:
بكم فضَلَ المشرقَ المغربُ ... وفي مدحكم قصّر المُطنِب
وما اعترف المجدُ إلا لكم ... فليس الى غيركم يُنسب
توارثتموه أباً عن أبٍ ... كما اطّردت في القنا الأكعب
ومنها:
إذا بلدٌ ضاق عن آملٍ ... فعندكمُ البلد الأرحب
بحيث ينادي النّدى بالعُفاة ... هلمّوا فقد طفحَ المشرب
ومنها:
دنا كرَماً ونأى هيبة ... فتاهَ به الدّست والموكب
وسالت ندًى وردًى كفّه ... فهذا يرجّى وذا يرهَبُ
وقوله من قصيدة في مدح حسن بن علي بن يحيى بن تميم:
عذيريَ من شيْب أمات شبابي ... وداعٍ لغير اللّهو غير مُجاب
فقدتُ الصّبا إلا حُشاشةَ نازع ... تداركتها إذ آذنَتْ بذهاب
بصفراءَ من ماء الكروم سقيتُها ... بكفّ فتاةٍ كالغلام كعاب
تُنير فيستغشي الزجاجة نورها ... كما ذرّ قرن الشمس دون سراب
فهل من جُناح ويكما أو تِباعةٍ ... على رجل أحيا صبًى بتصاب
ومنها:
ولم يطْف نار الهمّ مثل رجاجة ... تُشَجّ حُميّاها بماء رضاب

ولثْم خدود كالشّقائق غضّة ... وضمّ قدود كالغصون رِطاب
فقم يا نديمي سقّني ثم سقّني ... فبي ظمأ أصبحت منه لِما بي
أما والذي لو شاء لم يخلق الهوى ... لهوني ولا عذْبَ اللّمى لعذابي
لقد طال ذمّي الدّهْرَ حتى أقرّني ... من ابن عليٍّ في أعزّ خِصاب
وجدت ذراه الرحبَ أكرمَ منزل ... فقيّدْت أفراسي به وركابي
وكم ردّدَتْ نحوي الملوكُ خطابها ... فما حليتْ منّي بردّ جواب
وقوله من قصيدة في مدحه:
لم يدعُني الشوقُ إلا اقتادني طرباً ... ولم يدعْ ليَ في غير الصّبا أرَبا
وذو العلاقة من لجّ الغرامُ به ... وكلّما ليمَ أو سيمَ النزوع أبى
كانت لنا وقفة بالشِّعْب واحدة ... عنها تفرّع هذا الحب وانشعبا
ولائم ليَ لم أحفل ملامته ... ولا سمحتُ له منّي بما طلبا
قال: اسلُ فالحب قد عنّاك قلت أجل ... حتى أراجعَ من لبّي الذي عزَبا
طرفي الذي جلب البلوى الى بدَني ... فلُمْه دوني في الخطب الذي جلبا
هو الهوى وهواني فيه محتمَل ... وربّ مُرّ عذاب في الهوى عذُبا
أما ترى ابنَ عليٍ حين تيّمَه ... حبّ العُلا كيف لا يشكو له وصبا
أغرّ ما برحت تثني عزائمُه ... سيفَ الهدى بنجيع الشّرك مُختضبا
قد أصبح المُلك منه في يدي ملِكٍ ... مُرّ الحفيظة يُرضي الله إن غضبا
لو أنّ أيسر جزء من محاسنِه ... بالغيث ما كفّ أو بالبدر ما غرَبا
ومنها في وصف قصر له بناه:
إذا سقى الله أرضاً صوبَ غادية ... فليسقِ قصرَك صوبَ الرّاح ما شربا
قصر تقاصرَت الدنيا بأجمعها ... عنه وضاق من الأقطار ما رحُبا
ومنها يصف شجر النّارنج:
وحبّذا قُضُب النّارنج مُثمرة ... بين الزّبرجَدِ من أوراقها ذهَبا
وفي صفة النهر:
وحبّذا الوُرق فوق القُضب ساجعة ... والماء في خلَل الأشجار منسربا
سلّتْ سواقيه منه صارماً عجباً ... لا يأتلي الجدْبُ منه مُمعِناً هربا
حُسام ماءٍ إذا كفّ الصّبا انبعثت ... لصقلِه تركتْ في متنه شُطُبا
صفا ورقّ فكاد الجو يشبهه ... لو أن جواً جرى في الروض وانسكبا
ومنها في صفة الخمر:
...... ترتمي شرراً ... فوق البنان وهذا يرتقي حبَبا
شمطاء ما برحَتْ في الدنّ قائمة ... تفني الليالي والأيام والحِقَبا
حتى لقد جهلتْ للبُعْد عاصرَها ... وأنسيت لتراخي عهدها العنبا
وقوله فيه:
بسُمر الرّماح وبيض القُضبْ ... تُنال العُلا وتُحاز الرُتبْ
وما بلغ المجدَ إلا فتًى ... يمتّ إليه بأقوى سببْ
فكن كلِفاً بالقَنا والظُبى ... إذا كلِفوا باللّمى والشّنبْ
إليّ تناهى الهوى مثلما ... الى ابن عليّ تناهى الحسَب
كأن هواي قدودَ المِلاح ... هواه قدود الرّماح السُلُبْ
أهيم ببيض الدُمى مثلما ... تهيم يداه ببيض القُضُبْ
ويُسهرني صدّ ذات اللّمى ... ويُسهِره نيلُ أعلى الرُتبْ
ولا أقبل العذْرَ فيمن أحب ... ولا يقبل العذْلَ فيما يهَبْ
ويخفق قلبي جوًى كالبُروق ... وتهمي يداه ندًى كالسُحُبْ
وقد فعل السُقمُ بي والنُحو ... لُ فعلَ عوارفِ بالنّشبْ
فلا حسُّ في بدني للحياة ... ولا حسّ في ظله للنّوَبْ
وعهد جفوني بطيب الكرى ... كعهد مُغالبِه بالغَلَبْ
ووجدي ومفخرُه باقيا ... ن في كلّ حين بقاءَ الحقَبْ
فأبقى لي الوجدَ جيدٌ وخال ... وأبقى له المجدُ جدّاً وأبْ

وقرأت في مجموع السيد أبي الرضا الراوندي بخطه: أنشدني الزّكي بن طارق، أنشدني سليمان بن الفياض لأبي الصلت:
إذا كان جسمي من تُراب فكلّها ... بلادي وكل العالمين أقاربي
ولا بدّ لي أن أسألَ العيشَ حاجة ... تشُقّ على شُمّ الذّرى والغوارب
وقوله:
وربّ قريب الدار أبعده القِلى ... وربّ بعيد الدار وهو قريب
وما ائتلفَتْ أجسام قومٍ تناكرتْ ... على القُرْب أرواحٌ لهم وقلوب
وقوله يصف بِركة الحبش:
علّلْ فؤادَك باللذات والطرب ... وباكرِ الراح بالطّاسات والنُخَب
أما ترى البِركةَ الغنّاء قد لبِست ... فرْشاً من النّور حاكته يد السُحُب
وأصبحتْ من جديد النّبْت في حللٍ ... قد أبرز القطْر فيها كلّ محتجِب
من سوْسنٍ شرقٍ بالطّلّ محْجره ... وأقحوانٍ شهيّ الظَّلم والشّنَب
وانظر الى الورد يحكي خدّ محتشم ... من نرجس ظل يحكي لحظَ مرتقب
والنيل من ذهب يطفو على ورقٍ ... والراح من ورِقٍ يطفو على ذهب
وربّ يوم نقعْنا فيه غُلّتنا ... بجاحم من حشا الإبريق ملتهب
شمس من الراح حيّانا بها قمر ... موفٍ على غُصنٍ يهتز في كثب
أرخى ذوائبه واهتزّ منعطفاً ... كصَعْدة الرمح في مسودّة العذب
وقوله في العذار:
دب العِذار بخدّه ثم انثنى ... عن لثْم مبسمه البَرود الأشنَب
لا غَروَ أن خشي الرّدى في لثمِه ... فالرّيق سُمّ قاتل للعقرب
يقال: من خواص ريق الإنسان أنه يقتل العقرب، وهو مجرَّب.
وقوله وهو من رائق شعره:
صَبا إذ تنسّم ريّا الصِّبا ... ولجّ فأنّب من أنّبا
وكان على العذْل سهل المرا ... م سمحَ المَقادة فاستصعبا
ولم يُدْعَ للغَيّ إلا أطاع ... ولم يُدْعَ للرشد إلا أبى
فكيف السلوّ لصب يرى ... عذاب الصّبابة مستعذبا
خليليّ لي والهوى والرقيب ... حديث يحلّ عقود الحُبى
وبي والركائب والظّاعنين ... ظباء لواحظهنّ الظُّبى
وخلفَ الستور وطيّ الخدور ... ودون العَجاج وتحت الكُبا
شموس مطالعهنّ الجيوب ... وقُضْب مغارسهنّ الرّبى
حشدن لقتليَ جيشَ الغرام ... وفرّقنَ صبري أيدي سَبا
وقوله:
لا تدْعُنا ولتَدْعُ من شئتَه ... إليكَ من عُجْمٍ ومن عرب
فنحن أكّالون للسُحْت في ... دارك سمّاعون للكذب
ومن قوله وقد جفا بعض إخوانه في سكره:
يا ليت أنّ حبابَ الرمل ساورني ... بما استدار بأعلاها من الحبب
فما يفي بالذي أخفيتُ من ندم ... ما نلتُ بالكأس من لهوٍ ومن طرب
اصرف كؤوسكَ عنّي يا مصرّفها ... فليس لي بعدها في اللهو من أرب
في ابن الغمامة لي مُغنٍ يؤمنني ... من أن تحكّم في عقلي ابنة العنب
ومنها:
تُرى رضيتَ فعاد الودّ أم بقيت ... بقيةٌ تتقاضى عودةَ الغضب
التاء وقوله في ذم عبيده:
قُيِّض لي في العبيد بخْت ... أتعسه الله في البُخوت
لم أحْظَ منهم بغير فدْمٍ ... أرعنَ أم مبرمٍ مقيت
يكْلم عند الكلام إن لم ... يفلح سكيتاً لدى السكوت
ورُبّ عِلْقٍ ملكت منهم ... كالظبي في مُقلة ولِيت
أتى على الصبر كل شيء ... أعطي من حسنه وأوتي
تعجّ أحقاؤه عليه ... فويق خلخاله الصموت
سهْل على طالبيه سمْح ... يجذبه خيط عنكبوت
لا يأتَلي من مَقيل سوء ... عند ذوي الفِسْق أو مبيت
يوسع أعْفاجَه طِعاناً ... من بطلٍ غير مستميت
في كل يوم يجر عرضي ... في سكل الدور والبيوت

أنعَت بالفسق فيه إفكاً ... والفسق من أقبح النعوت
ورُبّ يوم حُميت غيظاً ... من أسود اللون كالحَميت
أرفَع صوتي به اشتِكاء ... والرفع في الصوت رفع صيت
أقول: يا ربّ هل أراه ... تحت الدّبابيس واللتوت
كم شمل كرْبٍ به جميع ... وشمل أنْسٍ به شتيت
ويحَك يا نفس أيّ جهد ... من لؤم أخلاقهم لقيت
وقوله في مدح حسن بن علي:
أيُحيي الدهر منّي ما أماتا ... ويرجِع من شبابي ما أفاتا
وما بلغَ الفتى الخمسينَ إلا ... ذوي غُصْن الصّبا منه فماتا
يقول الركب هاتا دارَ هِندٍ ... فهل يُجدي مقالُ الركب هاتا
ومنها:
بكيتُ على الفُرات غداةَ شطّوا ... فظنّ الناس من دمعي الفُراتا
وبي من ساكن الأحداج أحوى ... كريم العصر صدّاً والتفاتا
أعادَ دلالُه وجْدي جميعاً ... وأوسع صدّه صبري شتاتا
وولّى بالعزاء غداةَ ولّى ... وكيف يردّ ما ولّى وفاتا
فسائلْ عن جفونيَ كيف باتت ... وعن قلبي المعذّب كيف باتا
أما لو عادني لأعاد روحي ... وأحيا أعظُمي الرِّمَم الرّفاتا
كما أحْيى ندى الحسن البرايا ... وكان الغيثَ إذ كانوا النّباتا
مليك ما لجأت إليه إلا ... قمرت من الحوادث ما أماتا
يهزّ الرّفد عِطفيه ارتياحا ... ويحكي الطّودَ في الهيجا ثباتا
وصلت بحبله الممدود حبلي ... فما أخشى له الدهر انبتاتا
وهابتْني الليالي في ذراه ... فلست بخائف منها افتياتا
ولما حدّث الرُكبانُ عنه ... بما أولاه من فضل وآتى
مرقت إليه من خلل الدّياجي ... مروقَ السهم إذ جدّ انفلاتا
الى أن حطّ رحلي في ذراه ... بحيث انقاد لي زمني وواتى
فلا عدمَتْ به الدنيا جمالاً ... ولا فقدتْ له العلياء ذاتا
الثّاء
خلِّ لها في الزّمام تنبعث ... وارمِ بها البيد غير مكترث
من كل موّارة المِلاط لها ... وخْدٌ متى تستثِرْه لم ترث
فالحيّ كالميْتِ ما أقام على ... حالة بؤس والبيت كالجدَث
أقسمت بالله بارئِ النّسَم ال ... باعث بالحقّ غير منبعِث
والراقصات العِجال تبتدر الرُكْ ... نَ بغُرّ فوَيْقها شُعُث
إليةً لا أاف من كذِب ... يقدح في صدقها ولا حنَثِ
إنّ ابن يحيى كهل البصيرة والر ... رأي وإن لم يجُزْ مدى الحدث
الواعد الوعدَ غيرَ منتقض ... والعاهد العهدَ غيرَ منتكث
والأسد الورد والمكر والمو ... ت غرثان والكماة جُثي
... يُستمنح يجُدْ ومتى ... يُدْعَ به في ملمّةٍ يغِثِ
فأي أرض لم يسْقِ مُجدبَها ... بصوبِ معروفِه ولم يغِثِ
... بدلُها الخنث ال ... فاتر ذات الدّلال والخنث
ويلاه مما ينوب كل فتى ... لم يكتسب مجدَه ولم يرث
ما الطيّب النّجر كالخبيث ولا ... يُعَدّ صفو النُضار كالخبث
من نفرٍ لم تُدَرْ عمائمهُم ... يوماً على ريبَةٍ ولم تُلَثِ
فالشّعر وقْف على محاسنهم ... وليس جِدّ المقال كالعبث
وقوله في الغزل:
جدّ بقلبي وعبثْ ... ثم مضى وما اكترثْ
وا حزَني من شادن ... في عُقَد الصبر نفث
يقتُل من شاء بعي ... نيه ومن شاء بعث
فأي ودّ لم يخُنْ ... وأي عهد ما نكث
الجيم

وقوله من قصيدة في مدح حسن بن علي بن يحيى بن تميم وقد كثر الإرجاف بخروج أسطول صاحب صقلية الى إفريقية وقصد به المهدية في سنة سبع عشرة وخمسمائة:
للَفظك يُهجَر الروضُ البهيج ... ودون ثيابك المسكُ الأريجُ
وأنت الشمسُ مطلعُها ذراها ... وليس سوى الدّسوت لها بروج
وإن قُدِحَت زِناد الحرب يوماً ... وكان لنار معركةٍ أجيجُ
تركتَ برأيك الأبطالَ فيها ... ومن تحتِ العجاجِ لها عجيج
نماك بنو المعزّ فطُلتَ فرعاً ... كذا الخطّي ينميه الوشيج
وأمّ جنابَكَ العافون طُراً ... كما يتيمّم الركنَ الحجيج
وأعداهم سماحكَ فاستُميحوا ... ولولا البحر لم يفضِ الخليج
ولما أن توعّدكَ النّصارى ... كما يتوعّد الأسد المهيج
أتتك غُزاتها بالقُرب تتْرى ... ليُنقَضَ ما تُعالجه العُلوج
وحولكَ من حُماتِكَ كل ذمر ... له في كلّ مشتَجَرٍ ولوج
ومقرَبَةٍ تفرّج كل كرب ... إذا ملّتْ من الركض الفروج
إذا كُسيَت دمَ الأبطال عادت ... ودون لبوسِها الذّهب النسيج
وقد ريعتْ قلوب الشِّرك حتى ... كأنّ لها بأندلسٍ ضجيج
فبلّغهم رسولكَ كي يقرّوا ... فإن الأمر بينهم مريج
وإنّا الداخلون الى بلِرم ... إذا ما لم يكن منهم خروج
لأنّا القومَ ترضيناالمذاكي ... إذا صهلتْ وتؤنسنا الرّهوج
بقيتَ لنا وللإسلم ركناً ... تجانيه الخطوب ولا يَعيج
ولا غُمِدَتْ لنُصرتك المواضي ... ولا حُطّتْ عن الخيل السّروج
شأى الدرّ القريض بكم وتاهت ... على أدراجه هذي الدّروج
وقوله في يحيى بن تميم بن المعز بن باديس:
ذكرَ المعاهدَ والرسومَ فعرّجا ... وشجاه من طللِ البخيلةِ ما شجا
هيفاءُ أخجلتِ القضيبَ معاطفاً ... والريمَ سالفة وطَرْفاً أدْعَجا
وسقى النعيمُ بذَوبِه وجناتِها ... فوشى به حلل الرّياض ودبّجا
الآس أخضر والشّقائق غضّة ... والأقحوان كما علمْتَ مفلَّجا
لا تسألنّي عن صنيع جفونِها ... يوم الوداع وسلْ بذلك مَنْ نجا
لو كنت أملِك خدّها للثَمتُه ... حى أعيدَ به الشقيقَ بنفسَجا
أو كنت أهجع لاحتضنت خيالها ... ومنعت ضوء الصبح أن يتبلّجا
فبثثت في الظلماء كُحْلَ جفونها ... وعقدت هاتيك الذوائبَ بالدّجى
عرضت فعطلت القضيب على الكثي ... ب تأوّداً وتموّجاً وترجْرجا
وكأنما استلبتْ غلالةُ خدّها ... من سيف يحيى حدّه المتضرّجا
ملِك عنَتْ منه الملوك مهابة ... لأغَرّ في ظلم الحوادث أبلجا
أحلى على كبد الوليّ من المُنى ... وأمرّ في حنكَ العدوّ من الشّجا
من سرّ يعربَ ما استقلّ بمهدِه ... حتى استقلّ له المجرةَ معرَجا
يا من إذا نطق العَلاء بمجده ... خرس العدوّ مهابة وتلجلُجا
ومنها في صفة الفرس:
عجباً لطرفك إذ سما بك متنُه ... كيف استقلّ بما عليه من الحِجى
سبق البروقَ وجاء يلتهم المدى ... فثنى الرياح وراءه تشكو الوجى
وعدا فألحق بالهجائن لاحِقاً ... وأراك أعوج في الحقيقة أعوجا
كالسّيل مجّتْه المذانبُ فانْكفا ... والبحر هزته الصّبا فتموّجا
ومشى العِرَضْنة بالكواكب ملجماً ... مما عليه وبالأهلّة مُسرَجا
ما دون كفِّك مرتَجى لمؤمّلٍ ... لم يُلْفِ بابَك دون سيْبكَ مُرتَجا
بكَ يُستجار من الزّمان وريْبِه ... وإليك من نوَبِ الليالي يُلتَجا
فمتى نقِسْ بك ذا ندى كنت الحيا ... صدقتْ مخيلته وكان الزّبرِجا

وإذا عِداك بغَوْا وسعتَهم ندى ... وتكرّماً وتعفُّفاً وتحرُّجا
بشمائل تُبدى ولكن طيّها ... لفحات بأس تستطير تأجُّجا
والبأس ليس ببالغٍ في نفعه ... حتى يُقارن بالسّماح ويُمزَجا
لم نأل تدْأب في المكارم والعُلا ... متوقِّلاً هضباتِها متدرّجا
حتى أقرّك ذو العلا بقرارها ... وشفا بدولتك الصدورَ وأثلجا
فأقمْت من عُمَدِ السّياسة ما وهى ... وجلوْتَ من ظُللِ الضّلالة ما دجى
فاسلم لدفع ملمّةٍ تُخْشى ودُمْ ... أبدَ الزّمان لنيلِ حظّ يُرتجى
وأنشدي نصر الفزاري، قال: أنشدني أبو الحسن بن شهاب، قال: أنشدني أمية لنفسه:
سترتْ وجهَها بخزّ وجاءتْ ... بمُدام منقَّبٍ في زجاج
فتأملتُ في النِّقابَيْن منها ... قمَراً طالعاً وضوءَ سِراج
الحاء وقوله من قصيدة:
صَبّ براه السّقم برْيَ القِداح ... يودّ لو ذاق الرّدى فاسْتراح
غرامُه الدهرَ غريم له ... وما لبَرْح الشوق عنه بَراح
لم يرِم الوجدُ حشاه ولا ... خلتْ له جارحة من جِراح
له إذا آنسَ برق الحِمى ... جوانحُ تخفِق خفق الجناح
وإن شدَتْ ورقاء في أيكةٍ ... عاودَه ذكر حبيٍ فناح
أصبحتُ في حلبةِ أهل الهوى ... أركُض في طِرْف شديد الجِماح
وفي سبيل الحبّ لي مُهجة ... كان لها صبر جميل فطاح
أغرى بها السُقم هوى شادنٍ ... لم يخْشَ في سفْكِ دمي من جُناح
يعذّب القلبَ بهجرانِه ... وليس للقلب سواه انشراح
تلاقتِ الأضداد في خمسةٍ ... على اتفاقٍ بينهم واصطلاح
إن لان عِطفاه قسا قلبُه ... أو ثبتَ الخلخال جال الوِشاح
يا ابنَ الملوك الصّيد من حمير ... ووارثِ المجدِ القديمِ الصّراح
ليهْنكَ الجدّ الذي نلتَه ... بالجِدّ من أمرك لا بالمِزاح
مزجتَ بالبأس النّدى والتُقى ... ملحٌ أجاجٌ وزُلالٌ قَراح
كم منهلٍ مطْرَدٍ بالرّدى ... في موقف مشتَجِرٍ بالرّماح
أوردته كل سليم الشّظى ... منعّلة أربَعُه بالرّياح
كأنما سُربِل جُنح الدجى ... وبُرقِعت غرّتُه بالصباح
ينصِت للنّبْأة من حشْرةٍ ... كأنها قادمة من جناح
وقوله:
أصحوتَ اليوم أم لستَ صاحي ... يوم نادوا أصلاً بالرّواح
يوم تُصميكَ لِحاظ الغواني ... بسهام نافذات الجِراح
جدّ بي ما كان منّي مِزاحاً ... ربّ جِدّ حادثٍ عن مِزاح
فالحَ إن شئتَ أو دعْ فإنّي ... قد تمرّسْت بخطْبِ اللواحي
ولئن غالَ شبابي مشيب ... كفّ من شأويَ بعد المَراح
ولكم ردّ بغيظ عذولي ... فتولّى مؤيِساً من صلاح
ببدور من سُقاة أداروا ... أنجُمَ الراح بأفلاك راح
كلما ولّى أوان اغتباق ... شفَعوه بأوانِ اصطباح
ورخيم الدلّ عذبِ الثّنايا ... شرِقِ الخلخالِ صادي الوِشاح
باتَ يسقيني الى أن تردّى ... منكب الليل رداءَ الصباح
كلما مال فقبّلت فاه ... مجّ خمراً في فمي من أقاح
كنفَتْني لك يا ابن عليّ ... نظَرات منكَ راشتْ جناحي
نزل الدهر بها عند حُلمي ... وأجاب الحظّ حسب اقتراحي
وأيادٍ شفعتْها أيادٍ ... سبقتْ شكري لكم وامتداحي
تلك راضت جامحاتِ الأماني ... فتأتّت لي بعد الجِماح
ومنه يصف خلعة ممدوحه عليه:
وحوى رِقّي بُرد سناء ... فوقَى عِطفي بكفّ السّماح
رحت من هذا وهذا كأنّي ... قد تغشّيت دجى في صباح
ومنها:

حكتِ الأعلام منه مُذالاً ... تتهاداه بنان الرياح
كلما أرسلْتُه فوق متْني ... نازعَتْنيه صدور الرماح
أفصحَتْ في شُكره وهي خُرْس ... عجباً منها لخُرسٍ فِصاح
منَح من مَلِكٍ ليس يفْنى ... بحرُ جدواه على الامتياح
يملأ المِغفَرَ والتاج منه ... قمر الدّسْتِ وليث الكفاح
من ملوكٍ ملكوا الناس قِدْماً ... واسترقوا كل حي لِقاح
كلّما اقتيدَ لهم واستُقيلوا ... غمَدوا في الصّفح بيض الصفاح
دام في عمرٍ مديدٍ وعيشٍ ... خضِلِ الأكناف زاهي النّواحي
وقوله:
قل لذي الوجه المليحِ ... ولذي الفعلِ القبيحِ
وشبهِ القمر الطا ... لعِ والغصنِ المروح
نمْ خليّاً ودعِ التّس ... هيدَ للصبّ القريح
يا عليلَ الجفنِ علّلْ ... بجَنى ريقِكَ روحي
جد بوصلٍ منكَ أو مو ... تٍ من الصدّ مُريح
الخاء وقوله في جواب أبي عبد الله بن بشير الشاعر التنوخي عن قطعة كتبها إليه في الوزن والروي:
غير مجدٍ ملام غيرِ مُصيخ ... ومُمِضّ الكلام كالتوبيخِ
أنتَ في اللوم لي كمن لقي النا ... ر بريح وقال يا نار بوخي
أنا مالي وللهَياج وقرْع ال ... بطلِ الستميت في اليافوخ
بين أسْدٍ جروا الأساوِدَ واستغ ... شوا الى الطعن ما نضَتْ من سلوخ
قم خليلي فأنت أنبَل من عو ... شِرَ في مذهب المجون وأوخي
قم نُدِرْها سُلافة حُبِستْ من ... قبلِ شيثٍ في الدّنّ أو أخنوخ
فهي معلومة المناسبِ في أك ... رم عِرقٍ مجهولة في التاريخ
بنت كرْمٍ تحبو الشّباب شباباً ... وتُريك الشّيوخَ غيرَ شيوخ
فاسقنيه صفراءَ كالشمس أو حم ... راءَ صهباءَ فهي كالمريخ
في ذرى من يستجبِن الليثَ إن هي ... جَ ويستبْخِل الحيا إن سوخي
قلت لما سرتْ الى المُدلجِ السّا ... ري عطاياه والمقيمِ المُنيخ
أين ثمْدٌ من غامرٍ ونضوبٌ ... من جموم وراشحٌ من نضوخ
دام كهفَ العاني الطريد وغيث الر ... رائِد المقتفي وغوثَ الصّريخ
في ارتقاءٍ في عزّة وتمادٍ ... وثبوت في ملكه ورسوخ
الدال وقوله من تهنئة بمولود اسمه يحيى:
وأفضلُ الأيام يوم غدا ... لمثْلِ يحْيى المُرتضى مولدا
أعز مأمول الجَدا حاز عن ... أغرّ نائي العيب داني الجدا
يلوح في المهد على وجهه ... تجهُّم البأس وبِشرُ النّدى
فخِلتُ منه الليثَ والغيثَ ذا ... يرهَب غضبانَ وذا يُجتدى
وكوكب الحسن الذي لا يني ... يضيء وجه السُرى الأرْبَدا
والشمس والبدر إذا استجمعا ... لم يلْبَثا أن يلِدا فرْقَدا
فابقَ له حتى ترى نجلَه ... وإن عرا خطب فنحن الفدا
وقوله في الشّمعة:
وناحلةٍ صفراءَ لم تدْرِ ما الهوى ... فتبكي لهجرٍ أو لطولِ بِعاد
حكتني نُحولاً واصفراراً وحُرقة ... وفيضَ دموع واتصالَ سهاد
وقوله في استزارة صديق:
بمعاليكَ وجدّكْ ... جُدْ بلُقياك لعبدك
حضر الكلّ ولكن ... لم يطِبْ شيء لفقْدِك
وقوله:
وورد عبق أهدَيْ ... تَه غضاً الى عبدك
فلم أدرِ ومن أنقذ ... ني بالوصل من صدّك
أذاكَ الورد من خد ... دكَ أم خدّك من ورْدك
وقوله:
لا تتركَن يوماً صفا ... لك فيه طيب العيشِ للغَدْ
وانعم بها ورديةً ... من كفِّ ذي خدّ مورّد

ذاب النُضار بوجنتي ... ه وقام دونهما الزّبرْجَدْ
قال الحكيم وقد رآ ... ها في زجاجتها توقّدْ
ما بال هذي النّار لا ... ترقى كعادتها وتصعَدْ
أم ما أرى الذّهب المذا ... ب أبى الجمودَ فليس يجمُدْ
وقوله فيمن يجتهد في العلم ولا يفهمه:
وراغبٍ في العلوم مجتهدٍ ... لكنه في القَبول جلمود
فهو كذي عنّة به شبق ... ومشتهي الأكل وهو ممعود
وقوله في غلام لابس قباء أحمر:
أفدي الذي زار في قِباءٍ ... قايس في الاحمرار خدّه
صينَ به جسمُه فحاكى ... سوسنَة علِّقَتْ بورْدَه
وقوله في تمني قرب الدار:
لئن أعرَضْتِ أو عادت عوادي ... أدالت من دنوّك بالبعاد
فما بعُدَتْ عن اللُقيا جسوم ... تدانت بالمحبّة والوداد
ولكن قرب دارِك كان أنْدى ... على كبِدي وأحلى في فؤادي
وقوله في مجمرة:
ومحرورةِ الأحشاء لم تدرِ ما الهوى ... ولم تدر ما يلقى المحبّ من الوجد
إذا ما بدا برق المُدام رأيتَها ... تُثير غَماماً في النّدى من النّد
ولم أرَ ناراً كلّما شبّ جمرها ... رأيت النّدامى منه في جنّة الخلد
وقوله من قطعة:
لا تظنّوا الدمعَ يطفئ ما ... ضُمّنَتْ من حرّها الكبِد
إن نيران الهوى أبداً ... بمياه الدمع تتّقد
قصَر البلوى على جسدي ... قيصَريّ عيده الأحد
مُنتضٍ من لحظه ظُبَة ... ما لمَن أوْدى بها قوَد
وقوله:
لم أدْرِ والله وقد أقبلَتْ ... تُخجِل غُصْنَ ......
واستضحكت من لمّتي إذ رأتْ ... ............
أعِقْدها ألِّفَ من ثغرِها ... أم ثغرها .........
وقوله من قصيدة:
معاهد الحيّ كنت أعهدها ... بسْلاً على الحائمين مورِدها
والبيض بيض الظُبى مجرّدة ... يحْمي حِمى هندها مهنّدُها
وكم وكم ليلةٍ غنيت بها ... تُسعِدني غيدها وأسعِدُها
إذ لمّتي كالغُدافِ حالكَة ... يروق بيضَ الحسان أسودُها
وإذ لياليَ كلّها غُرَر ... لا ينقَضي لهوها ولا دَدُها
وربّ بيضاءَ من عقائِلها ... تبيت شمس النّهار تحسُدها
تَشيم من جفنها إذا نظرتْ ... صوارماً في القلوب تغمُدها
طرقتُها موهِناً على خطرٍ ... والنفس تُدني المُنى وتُبعِدها
فبتّ ألهو بضم ناعمةٍ ... ينْدى بريّا العبيرِ موقِدها
طاوٍ حشاها فعْمٌ مخلخَلها ... عذب لماها بضّ مجرّدها
ترشفني من فُوَيهها برَداً ... يشبّ نارَ الهوى ويوقِدها
وقوله في مغنّ قبيح الوجه حسن الصنعة:
لنا مُسمِع ما في الزّمان له نِدّ ... ولكنّه في قُبحِ صورته قِرْد
لطَرْفي وسمعي منه حالانِ هذه ... وأخرى إذا قايستَ بينهما ضدّ
يعذّب طرفي حين يلْحَظ وجهَه ... وينعُم سمعي دونه عندما يشدو
إساءَة مرآه لإحسان فعله ... كِفاء فلا حُسْن يدوم ولا سعْد
وقوله في كلب صيد:
خيرُ مُعدّ متّخَذْ ... ليومِ عيشٍ مستلَذّ
منفرد بالحسن قد ... سوبق بالجُرد فبَذْ
سبْق النّصول للقُذَذْ ... فما انبرى إلا مُغِذْ
ولا رأى حتى أخذْ
الراء وقوله من قصيدة:
أجِدُّكَ لا يسليك بينٌ ولا هجْر ... وأنّ مواعيدَ الهوى دونَها الحشْر
ومنها:
ومهما طرقْتَ الحيّ لاقاكَ دونَه ... غراب وأعراب لقاؤهما مُرّ
فهزتْ دوَينَ البيضِ بيض وأشرِعتْ ... الى الطّعن دون السُمرِ خِطيّة سُمرُ
فلا قُربَ إلا أن يخيّله الكرى ... ولا وصلَ إلا أن يسهّله الفكرُ

وبرْق دوَيْنَ الأبرقيْن كأنّما ... تُهَزّ له في الجوّ ألوية حُمرُ
أرِقْت له حتى طوى الليل ثوبَه ... وزلّت توالي الشُهْب يطردها الفجرُ
لعزمٍ قصرْتُ العيش فيه على السُرى ... وقلت لها سيري فموعدكِ القصْر
فما برحتْ ترمي بعزمي وهمّتي ... إليه الفِجاج الغُبْر واللُجج الخُضرُ
وأسري ولا يدري سُرى الليل موضعي ... كأنّ الدُجى صدري وشخصي به سرُّ
الى أن حططْتُ الرّحْلَ منه بعرْصةٍ ... أقام الغِنى في ظلّها ونأى الفقرُ
وعرّستُ حيث العيشُ أزهر مونقٌ ... وشرب الندى غمر وفينانُه نُضْر
ومنها:
تأتّى لي الإحسانُ لما مدحتُه ... وساعدني في شكره النظمُ والنثرُ
وأوفت قوافي الشّعر تتْرى كأنّها ... عوارفُه عندي ونائلُه الغمْرُ
وقوله من قصيدة:
هي العزائم من أنصارها القدر ... وهْيَ الكتائب من أشياعها الظّفَرُ
جرّدتَ للدّين والأسياف مغمدَة ... سيفاً تُفكّ بالأحداث والغيَرُ
وقمتَ إذ قعد الأملاك كلّهم ... تذبّ عنه وتحميه وتنتصرُ
بالبيض تُسقِط فوق البيض أنجُمها ... والسُمْر تحت ظِلال النّقْع تشتجِر
بيض إذا خطبَتْ بالنّصر ألسُنُها ... فمن منابرها الأكباد والقصَر
وذُبَّل من رِماح الخطّ مُشرعة ... في طولهنّ لأعمار الورى قِصَر
تغشى بها غمرات الموت أسْد شرى ... من الكماة إذا ما استُنجدوا ابتدروا
مستلئمين إذا شاموا سيوفهم ... شبّهتها خُلُجاً مُدّتْ بها غُدرُ
قوم تطول ببيض الهند أذرعُهم ... فما يَضير ظُباها أنّها بُتُرُ
إذا انتضوْها وذيل النّقْع فوقَهم ... فالشمس طالعة والليل معتكرُ
ترتاح أنفسهم نحو الوغى طرباً ... كأنّما الدّم راحٌ والظُبى زهُر
وإن هم نكصوا يوماً فلا عجب ... قد يكهم السّيف وهو الصارم الذّكر
العَود أحمد والأيام ضامنة ... عقبى النجاح ووعد الله منتظَر
وربما ساءت الأقدار ثم جرتْ ... بما يسرّك ساعات لها أخَر
ومنها:
لله بأسُك والألباب طائشة ... والخيل ترْدَى ونار الحرب تستعِر
وللعجاج على صُمّ القنا ظللٌ ... هي الدُخان وأطراف القنا شرَر
إذ يرجع السيف يبدي حدّه علقاً ... كصفحة البكر أدمى خدّها الخَفر
أما يهولك ما لاقيتَ من عدد ... سيّان عندك قلّ القوم أو كثروا
هي السّماحة إلا أنها سرَف ... وهي الشجاعة إلا أنها غَرر
ومنها في الحث على الفتك بجماعة:
فاضربْ بسيفكَ من ناواك منتقماً ... إنّ السيوف لأهل البغي تُدّخر
ما كل حين ترى الأملاكَ صافحة ... عن الجرائر تعفو حين تقتدر
ومن ذوي البغي من لا يُستهان به ... وفي الذّنوب ذنوب ليس تغتفَر
إنّ الرماحَ غصون يُستظلّ بها ... وما لهنّ سوى هام العِدا ثمَر
وليس يُصبح شمل المُلك منتظماً ... إلا بحيث ترى الهاماتِ تنتشِر
أضحى شهِنْشاه غيثاً للنّدى غدِقاً ... كل البلاد الى سُقياه تفتقِر
الطّاعن الألْفَ إلا أنها نسق ... والواهب الألفَ إلا أنها بِدر
ملك تبوّأ فوق النّجم مقعدَه ... فكيف يطمع في غاياته البشَر
يرجى نداه ويُخشى حدّ سطوته ... كالدهر يوجَد فيه النّفع والضّر
وما سمعتُ ولا حُدِّثت عن أحد ... من قبله يَهب الدنيا ويعتذر
جاءتكَ من كلمي الحالي محبّرة ... تُطوى لبهجتها الأبْراد والحبَر

هي اللآلئ إلا أن لجّتَها ... طيّ الضّمير ومن غُوّاصها الفكَر
تبقى وتذهب أشعار ملفّقة ... أولى بقائلها من قولها الحصَر
ولم أطِلها لأني جِدّ معترِف ... بأنّ كل مطيلٍ فيك مختصر
وقوله من قصيدة:
مظلومة باللحظِ ظلاّمة ... تفعل بالأشفار فِعْل الشِّفار
للدّمع في ما احمرّ من خدّها ... ترقْرق الطّلّ على الجُلّنار
قيل لي - وأنا قد انتهيت الى كتب هذا البيت - : عرفنا معنى كونها ظلامة باللحظ، فما عنى مظلومة باللحظ؟ قلت: قد وقعت لي عدة معان، منها: يجوز أن يكون المراد أنها يؤثر فيها لحظ من ينظر إليها لرقّة بشرتها فهي مظلومة بلحظ الناس، ظلاّمة بلحظها، وذكر اللحظ وهو يعمّ الجميع. ومنه يجوز أن يكون المراد أنّ لحظه مريض سقيم دون سائر جوارحها، فهي مظلومة به، ومنها أنها بلحظها تظلم الناس بقتلها وتظلم نفسها بتقلد الدماء وتأثيمها، فهي مظلومة بلحظها ظلاّمة.
ومنها في المدح:
موقّر الشّيمة إن جاذبتْ ... يوماً يد الخفّة عطف الوقار
وقوله من قصيدة:
وقائلٍ: لو سلوتَ قلت له ... مالي على ما يسومني قُدرَهْ
قليلُ عقلٍ وصادني قمر ... مبلبل الصّدغ حالك الطُرّهْ
لم يصحُ منذ انتشت لواحظُه ... وكيف يصحو وريقه الخَمرَهْ
ومنها:
كم صاحب غرّني بظاهره ... وخان عند السِّفار والخِبرهْ
يزورني مُثرياً ويطرقني ... ولا أراه في الضّيق والعُسرَهْ
نفضت منه يدي وقلت له ... لا أشتهي الخِلّ سيئَ العِشره
حسبي انحرافي عن الورى خلَفاً ... وحسب عيني بفقدهم قُرّهْ
وقوله يصف فرساً أحمر ذا غرّة:
كأنّ الصباحَ الطلق قبّل وجهه ... وسالَ على باقيهِ صافية الخمرِ
ولما رآه الورد يحكيه صِبغة ... تعاظم واستعلى على سائر الزّهْرِ
كأنّك منه إذ جذبتَ عِنانه ... على منكب الجوزاء أو مفرق النّسْر
كأنك إذ أرسلتَه فوق موجةٍ ... تدفِّعُها أيدي الرّياح الى العبْرِ
تدفّقتما بحرينِ جوداً وجودة ... ومن أعجب الأشياء بحرٌ على بحر
وقوله يصف الهرمين:
بعيشكَ هل أبصرت أعجبَ منظراً ... على طول ما أبصرتَ من هرمي مصر
أنافا بأعنان السّماء وأشرفا ... على الجوّ إشراف السِّماك أو النّسر
وقد وافيا نشْزاً من الأرض عالياً ... كأنّهما ثديان قاما على صدْرِ
وقوله:
تقريب ذي الأمر لأهلِ النُهى ... أفضل ما ساس به أمرَهْ
هذا به أولى وما ضرّه ... تقريب أهل اللهو في النّدره
عُطارِد في جُلّ أوقاته ... أدنى الى الشّمس من الزّهْرَه
وقوله:
تفكّر في نقصان مالِك دائماً ... وتغفَل عن نقصان جسمك والعُمر
ويُثنيك خوف الفقر عن كل بُغيةٍ ... وخوفُك حال الفقر شيء من الفقر
ألم ترَ أنّ الفقرَ حكّم صرْفَه ... وأن ليس من شيء يدوم على الدّهر
فكم ترْحةٍ فيه أديلت بفرحةٍ ... وكم حالِ عُسرٍ فيه آلت الى اليسر
وقوله في أبخر كثير الكلام:
وذي حديثٍ لا ينقضي أبدَ الد ... هر على ما فيه من بخَر
يصدِمُني منه إذ يكلّمني ... تنفس المستراح في السّحر
لم أدرِ لمّا دنا أحدّثني ... أم بال في جوف منخري وخَري
وقوله يصف الاصطرلاب:
أفضل ما استحبَ النّبيل فلا ... تعدِلْ به في المُقام والسّفَر
جِرْم إذا ما التمستَ قيمته ... جلّ عن التّبرِ وهو من صُفرِ
مختصَر وهو إذ تفتّشه ... عن مُلَح العلم غير مختصر
ذو مُقلةٍ تستَبين ما رمَقَتْ ... عن صائب اللحظِ صادق النّظر
تحملُه وهو حامل فلكاً ... لو لم يُدَرْ بالبنان لم يدرِ

مسكنه الأرض وهو مُنبِئُنا ... عن جُلّ ما في السماء من خبر
أبدَعهُ ربّ فكرةٍ بعُدتْ ... غايتها أن تُقاسَ بالفِكَر
فاستوجبَ الشُكرَ والثناءَ له ... من كل ذي فطنةٍ من البشر
فهو لذي اللبّ شاهد عجب ... على اختلاف العقول والفِطر
وإنّ هذي النجوم بائنة ... بقدر ما أعطيتْ من الصّور
وقوله في قصر الليل في الوصل:
يا ليلة لم تبِنْ من القِصَر ... كأنّها قُبلة على حذَر
لم تكُ إلا كَلا ولا ومضَتْ ... تدفع في صدرها يدَ السّحر
زار بها من هويت مستتراً ... والبدر في الليل غير مستتر
فبتّ حتى الصباح مضطجعاً ... بين النّقا والقضيبِ والقمر
حتى انقضتْ ليلة عدَلْت بها ... ما مرّ لي في الشّباب من عمُري
وقوله في غلام نظر إليه فأعرض عنه:
قالوا ثنى عنكَ بعد البِشرِ صفحتَه ... فهل أصاخ الى الواشي فغيّره
فقلت لا بل درى وجدي بعارضِه ... فردّ صفحتَه عمداً لأبصِرَه
وقوله:
وعاقد في الخِصْر زُنّارا ... أضرم في أحشائي النّارا
ما أطولَ الليلَ إذا لم يزر ... وأقصرَ الليلَ إذا زارا
كأنّما ليلي فني حُبّه ... يجري على ما شاءَ واختارا
وقوله:
إنّي كلِفْت ببعضِ أرْبا ... بِ المقاصِر والخُدورِ
بعزيزة ذلّت فؤا ... دي في هواها بالغُرور
هيفاء تذكُر إن مشت ... مشيَ القَطاة الى الغدير
الرّدْف منها كالنّقا ... والقدّ كالغُصن النّضير
حكتِ الزّمان تلوّناً ... لمحبِّها العاني الأسير
فوصالُها برْد الأصي ... لِ وهجرها حرّ الهجير
وقوله يستدعي صديقاً له في يوم مطر وبرد:
هو يوم كما تراه مطير ... كلبَ القرّ فيه والزّمهرير
وهمى ماؤه كما ذرفَ الدّم ... عَ من الوجد عاشقٌ مهجورُ
وأرانا الغمامَ والبردَ ذيلَيْ ... نِ علينا كِلاهما مجرور
ولدينا شمْسانِ شمس من الرّا ... ح وشمس يسعى بها ويدور
ومغنّ جيش الهموم بما تُب ... دع أوتاره لنا موتور
وعلى الدير كان قِدْر تفور ... لشهيّ الطعام فيها وُفور
ولدينا من التّذاكُرِ روض ... ولدينا من المُدام غدير
فمن الرأي أن تُشَبّ الكواني ... نُ بأجزالِها وتُرْخى السّتور
ويُحَثّ الكبيرُ إنّ كثيراً ... أن يهمّ الكبير إلا الكبير
فاترك الاعتذارَ فيه فترْكُ الش ... شُرْبِ في مثل يومنا تعذيرُ
وقوله مداعبة في شهر الصوم:
أشَهْرَ الصوم ما مثْ ... لُك عند الله من شهْر
ولكنّك حجّرْ ... تَ علينا لذّةَ السُكرِ
وغمزَ اللحظِ باللحظِ ... وقرعَ الثّغْر بالثّغْر
وإني والذي شر ... رَف أوقاتكَ بالذّكْر
وما بات يُصلّى في ... كَ من شفْعٍ ومن وتْر
لمَسْرور بأنْ تَفْنى ... على أنّك من عُمْري
وقوله:
غبْتَ عنا فغابَ كل جمالٍ ... ونأى إذ نأيتَ كل سرور
ثم لما قدِمْتَ عاودنا الأنسُ وقرّتْ قلوبنا في الصدورفلو انّا نجزي البشير بنُعمىلوهبْنا حياتنا للبشير
الزاي وقوله:
وقائلةٍ ما بال مثلِك خاملاً ... أأنتَ ضعيف الرأي أم أنتَ عاجز
فقلت لها ذنبي الى القوم أنني ... لِما لم يحوزوه من المجْد حائز
وما فاتَني شيء سوى الحظ وحدَه ... وأما المعالي فهي فيّ غرائز
السين وقوله، وهي قصيدة تامة من غرر قصائده:
نفسي الفداء لمُطمع لي مؤْيس ... غريَتْ لواحظُه بقتل الأنفس

ما ضرّ من كمُلتْ محاسن وجهه ... لو كان يحسن في الصّنيع كما يُسي
رشأ جعلت له ضلوعي مرتعاً ... ومدامعي ورداً فلم يتأنّس
وكتمت سرّ هواه خيفةَ كاشحٍ ... مترقّبٍ لحديثنا متجسّس
فوشى به دمعي ولم أرَ واشياً ... كالدّمع يُعرب عن لسانٍ أخرس
فلن تكنّفَني الوشاة وراعني ... أسْد العرين دوَين ظبْي المكنس
فلربّ مقتبل الشّباب مقابل ... بين الغزالة والغزال الألْعس
عاطَيْته حلَبَ الكروم ودَرّها ... وخلوت منه بمُسعدٍ لي مؤنس
ثم انثنى عجِلاً يكتّم سِرّه ... ويشي به ولع الحَليّ المجرّس
كالظبي آنسَ نبأة من قانصٍ ... فرنا بمُقلة خائفٍ متوجّس
قُم يا غلام وذَر مجالسةَ الكرى ... لمهجّر يصف النوى ومغلّس
أوَ ما تَرى ذا النّور بشّر بالنّدى ... والفجر ينصل من خضاب حندس
والترْبَ من خلل الحديقة مرتوٍ ... والفجر في حُلل الشّبيبة مكتسي
والروض يبرز في قلائد لؤلؤٍ ... والأرض ترفُل في غلائل سنْدس
لا تعدِمُ اللحظات كيف تصرّفت ... وجَنات وردٍ أو لواحظَ نرجِس
والجوّ بين مفكّرٍ ومصندل ... وممسّكٍ ومورّد ومورّس
وكأنّما تُسقى الأباطح والرّبى ... بنوال يحْيى لا الحيا المتبجّس
وكأنّما نفحتْ حدائق زهرها ... عن ذكره المتعطِّر المتقدّس
يا ابْنَ الذي بجودهم وسماحهمْ ... جُبِرَ الكسير وسُدّ فقْر المُفلس
الضاربين بكلّ أبيضَ مِخذَم ... والطاعنين بكل أسرَ مِدعَس
من كل أزهَ في العِمامة أبلجٍ ... أو كُل أخزرَ في التّريكة أشوَس
سكبتْ أكفهُم المنايا والمُنى ... سكْبَ الصواعق في الغيوم الرّجَّس
ومنه يصف داره:
لله مجلسك المنيفُ قبابه ... بموطّدٍ فوق السّماك مؤسَّس
موف على حُبُك المجرّة تلتقي ... فيه الجواري بالجواري الخنَّس
تتقابل الأنوار من جنَباتِه ... فالليل فيه كالنهار المُشمِس
عطِفَتْ حناياه دوَيْن سمائه ... عطف الأهلّة والحواجب والقِسي
واستشرفتْ عُمَدُ الرّخام وظوهِرتْ ... بأجلّ من زهَر الرّبيع وأنْفَس
فهواؤه من كل قدّ أهيفٍ ... وقراره في كل خدّ أملس
فلك تحيّرَ فيه كل منجِّمٍ ... وأقرّ بالتّقصير كل مهندس
فباد للَحْظ العين أحسنَ منظرٍ ... وغدا لطيب اليش خيرَ معرّس
فاطلعْ به قمراً إذا ما أطلعَتْ ... شمس الخدور عليك شمس الأكؤس
فالناس أجمع دون فضلكَ رتبة ... والأرضُ أجمع دون هذا المجلِس
وقوله في أحبّة له ركبوا البحر مسافرين:
لا واخذ الله منْ هوَيتُهم ... بما جرى منهم على راسي
حتى إذا لجّجتْ سفائنُهم ... ولجّ وجدي بهم ووسواسي
قلت لصحبي والدمع مُستَبق ... يُظهر ما بي لأعيُن الناس
ما ركِبوا البحرَ بل جرتْ بهمُ ... في بحر دمعي رياح أنفاسي
وقوله في عود الغناء:
عجباً لهذا العود لا ... ينفكّ عن غردٍ مؤانِسْ
شدَت الحمام عليه رطْ ... باً والغواني وهْوَ يابِسْ
الشين وقوله:
تحكّمَ في مهجتي كيف شا ... سقيمُ الجفون هضيمُ الحش
سقتْه يدالحسن خمرَ الدّلال ... فعرْبَد بالصدّ لما انتشى
وصدّ يُسالِفُني شادن ... أضلّ الخميلة فاستوحَشا
حبيب كتمتُ غرامي به ... فما زال يعظُم حتى فشا

خذوا اللومَ عنّي وخلوا الفؤاد ... لطائر حُسنٍ به عشّشا
ومن جرحتْه لِحاظ العيون ... فكيف يكون إذا جُمِّشا
ومن أم ورْدَ بن يحْيى الرّضا ... فكيف يحاذر أن يعْطشا
وليس بمُحوجِه وارد ... الى أن يمُدّ له في الرّشا
أغرّ قضى الله أن لا يُرَد ... د عمّا يريد وعما يشا
تنوب مهابتُه في القلوب ... مناب ظُباه وما جيّشا
مقيم من المُلك في سُدّةٍ ... ترى الذئبَ يصحب فيه الرّشا
تكاد تزاحم أفقَ السّما ... مناكِبُ أرضٍ عليها مشى
وجدنا مخائلهُ الزّاكيات ... نواطقَ عن مجده مُذْ نَشا
وقوله يصف بركة الحبش بمصر، وأورد السمعاني هذه الأبيات:
لله يومي ببِرْكة الحبَش ... والأفُق بين الضّياء والغبَش
والنّيل تحت الرياح مضطرب ... كصارم في يمين مُرتَعِش
ونحن في روضةٍ مفوقةٍ ... دبِّجَ بالنور عطفُها ووشي
قد نسجتْها يد الربيع لنا ... فنحن من نسجِها على فُرش
وأثقلَ النّاس كلّهم رجل ... دعاه داعي الصّبا فلم يطِش
فعاطِني الراح إنّ تاركَها ... من سورة الهمّ غير مُنتعِش
وسقِّني بالكبار مترَعَة ... فتلك أشْفى لشدة العطش
وقوله:
قمْ يا غُلام اسقِنا فإنّا ... الى مُعاطاتِها عِطاش
قمْ فانتعِشْنا بها دراكا ... فليس إلا بها انتِعاش
قم قتِّل الهمّ من أناسٍ ... ثم سُقوا صِرْفَها فعاشوا
في مثلِها وهي دون مِثلٍ ... خفّ وقار وطاش جاش
إنْ قُصّ من صبوةٍ جناح ... فهو بأقداحها يراش
وقوله:
لما رأيت الناسَ قد أصبحتْ ... صدورهم بالغلّ مغشوشهْ
وكلّ من أجبْتُه منهم ... منقلب العهد ولا الرّيشَهْ
لزمت بيتي وتجنّبتُهمْ ... فصرت من أطيبِهم عِيشَهْ
وقوله، وأول الأبيات استطراد:
أبا القاسم اشرَبْ واسقنيه سُلافة ... صفتْ فأتتْ تحكي ودادَ أبي الجيش
خليل فقدت الأنسَ يومَ فقدتُه ... وودّعت إذ ودّعتُه لذّة العيش
مُعنًّى بإرضاء النّديم مساعد ... على كل حالٍ من وقارٍ ومن طيْش
الصاد وقوله:
يا قوم هل لفؤادي ... مما يجنّ خلاصُ
إني بُليت بظَبي ... في القرب منه اعتياصُ
أضحتْ دموعي الغوالي ... وهنّ فيه رخاصُ
جرحت باللحظ خدّيْ ... ه والقنا عَرّاص
فشك قلبي بلحظٍ ... لم تحمِنيه الدّلاص
وقال: هذا بهذا ... إنّ الجروح قصاصُ
وقوله وقد حبس:
يا رب ذي حسدٍ قد زدْته كمَدا ... إذْ رام يُنقِص من قدري فما نقصا
إني رخصْت ولم أنفُقْ فلا عجَبٌ ... للفضل في زمن النقصان إن رخصا
وإن حُبِسْت فخير الطّير محتبس ... متى رأيت حَداة أودعَ القَفَصا
الضاد وقوله في الشيب:
عذيري من طَوالعَ في عِذارى ... مُنيتُ بمنظر منها بغيض
له لوْنان مختلفان جِدّاً ... كما اختلط الدّجى بسنى الوميض
فسوّد من شباب غيرَ سودٍ ... وبيّض من مشيبي غيرَ بي
وقوله في صدر رسالة يصف كتاب صديق ورد عليه:
تدانت به الأقطار وهي بعيدة ... وصحّتْ به الآمال وهي مراض
فمن صدْغ لامٍ جالَ في خدّ مهرَق ... فراقَ سوادٌ منهم وبياض
ومن زهْر لفظٍ صابه الدّهر فازدهت ... له بين هاتيك السطور رياض
تُراح لها منّا قلوب وأنفُس ... وتؤسَى كلومٌ بالحشا وعضاض

فلله طوْد للنُهى ليس يُرتَقى ... وبحر من الآداب ليس يُخاض
وميدان سبقٍ جلت فيه لغايةٍ ... يُحصّ جناحي دونها ويُهاض
الطّاء وقوله في الزهد:
حسبي فكم بعُدَتْ في اللهو أشواطي ... وطال في الغيّ إسرافي وإفراطي
أنفقت في اللهو عمري غير مُزدَجرٍ ... وجُدْت فيه فوفري غير محْتاط
علّي أخلّص من بحر الذنوب وقد ... غرقْت فيه على بُعْدٍ من الشّاطي
نعم وما لي ما أرجو رضاكَ به ... إلا اعترافي بأنّي المذنب الخاطي
وقوله:
سرَتْ فتخيّلت الثريّا لها قُرْطا ... وشُهْب الدّجى في صبح لبّتها سِمْطا
ولما رنَتْ عن مقلة الرّيم أقصدَتْ ... فؤادي بسهم فوّقته فما أخْطا
وخطّتْ بقلبي أسطر الشّوق صفحة ... قرأت بها سطراً من المِسك قد خطا
ونونات أصداغٍ كأنّ جفونَها ... تولّتْ بحبّات القلوب لها نقطا
ومنها في صفة المجاديف:
كأنّ حَباب الماء درّ مُبدّد ... وهنّ أكف الغيد يُعجِلنَه لقْط
وقوله في الاستعطاف:
لعلّ الرضا يوماً بديلٌ من السخط ... فيعقب روْحات الدّنوّ من الشّحْط
ويُنصفُ من دهرٍ على الحُرّ معتَدٍ ... وللجَوْر معتاد وفي الحكم مُشْتَطّ
أنا المذنب المخطي وأنت فلم تزَلْ ... تغمِّد ما يأتي به المذنب المخطي
وأجدر خلق الله بالعفو والرّضا ... مُحبّ أتت منه الإساءة في الفَرْط
وقوله يستدعي بعض الأدباء مداعباً:
أيها الخِلّ الذي جد ... د للقصف نشاطي
والإمام الفرد في الش ... عر وفي دين اللّواط
أنا ما بين دنانٍ ... وقِيان وبواطي
وأباريقَ صُفوفٍ ... مثل غزلانٍ عواطي
من سُلافٍ تذر العا ... قلَ في حال اختلاط
وترى الشيخَ بها كالط ... فل في حال القِماط
كلّما رامتْ لها مز ... جاً يدُ السّاقي المُعاطي
وثبتْ كالُهرة الشّق ... راء من تحت السّياط
فأتِنا دون اعتلالٍ ... وتراخٍ وتباطي
وقوله في المنع من ركوب البحر:
يا من يخوض البحر مقتحماً ... ما بين لجّته الى الشّطّ
لا يُطمِعنّكَ ما حباكَ به ... فالبحر يأخذ ضعفَ ما يُعطي
الظّاء وقوله:
كم ضيعتْ منك المُنى حاصلاً ... كان من الأحزَم أن يُحفَظا
فالفظْ بها عنكَ فمن حقّ ما ... يُخفي صواب الرّأي أن يلفظا
وإن تعلّلتَ بأطعماعها ... فإنّما تحلُم مستيقظا
وقوله:
أقول وقد شطّتْ به غربة النوى ... وللحبّ سلطان على مهجتي فظّ
لئن بان عنّي من كلِفْت بحبه ... وشطّ فما للعين من شخصه حظّ
فإنّ له في أسود القلب منزلاً ... تكنّفه فيه الرّعاية والحِفْظ
أراه بعين الوهم والوهم مُدرك ... معانيَ شتّى ليس يُدركها اللحظ
العين وقوله:
يا قاتلَ الله قلبي كم يجشّمني ... ما يُعجِز الناسَ عن همّ وإزْماع
كم مهمَه قُذُفٍ تمشي الرياح به ... حسْرى تلوذ بأكناف وأجزاعِ
لا يملك الذّمْر فيه قلبه فرَقاً ... ولا يهِمّ به طرْف بتَهْجاع
يبيت للجنّ في أرجائه زجَل ... كالشَّرْب هُزّ بتطريبٍ وإيقاع
أعملت للمجد فيه كل يعمُلةٍ ... كالهَيْق تنصاع من أثناء أنساع
في ليلة لِحجاج الطّير دامسةٍ ... يأوي بها الذّئب من ذعْرٍ الى الرّاعي
مرَقْت من حوزها كالنّجم مرتدياً ... بمُرهف الحدّ مثل النجم قطّاع
لا يكسِب المجدَ إلا كلّ ذي مرَح ... يُرْخي العنانَ لسيلٍ منه دفّاع

بكلّ أبيضَ ماضي الغرْب منصلتٍ ... في كفّ أبيض رحْب الصّدر والباع
يلقى الخطوبَ بجأشٍ غير مكترثٍ ... بالنائبات وقلبٍ غيرَ مُرتاع
وقوله في التجنيس:
ذكرْت نواهم لدى قُربِهم ... فجدت بأدمُعي الهُمّع
فكيف أكون إذا هم نأوا ... وهذا بُكائي إذا هُمْ معي
وقوله في الغزل:
ما قطّعَ القلبَ إلا ... غزال آل قطاعهْ
وسنان ليس على الصّب ... ر في هواه استطاعهْ
لمّا دعاني الى الحُب ... ب قلت سمعاً وطاعهْ
وقوله في الصبر على الشدة:
يقولون لي صبراً وإني لصابر ... على نائبات الدّهر وهي فواجع
سأصبر حتى يقضي الله ما قضى ... وإن لم أصبِرْ فما أنا صانِع
وقوله في جارية قدمت شمعة:
بأبي خَوْد شَموع ... أقبلت تحمِل شمعهْ
فالتقى نوراهما واخ ... تلفا قدراً ورفعهْ
ومسير الشّمس يستهْ ... دي بضوءِ النّجم بدْعَهْ
الغين وقوله:
إني لأشفِقُ أن يراني حُسّدي ... إلا مُقيدَ يدٍ ومرغِمَ باغِ
أو مُعمِلاً لزجاجةٍ يسعى بها ... خنِث الجُفون مبلبل الأصدغِ
فلو انّ عمري عُمر نوع لم أبَلْ ... فيه بمُهلةِ عطلةٍ وفراغِ
وقوله في شاعرين مدحاه، وكان أوّل قولَهُما، وعرّض بشعر آخر خبيث الطبع:
وا بأبي شاعران قد نبَغا ... بل بأبي نيّران قد بزغا
ما بلغ الأوّلون قاطبة ... من رتَبِ الفضل بعضَ ما بلغا
تدفّقا والقريض قد نضبتْ ... بحوره والكلام قد فرَغا
وأبْرَزا منه كلّ معجزةٍ ... يعجز عنها أيمّة البُلَغا
ومنها:
إنْ نسَبا أطرَبا وإنْ مدَحا ... زانا وإن يهجُوا فقد لدَغا
من قال في العالمين مثلُهما ... فقد هذَى في مقاله ولغا
ليسا كمن كنتُ حين يُنشدني ... أقول ما بال ذا البعير رَغا
كلبُ هِراشٍ تراه منفلِتاً ... عندَ حضور الخِوان ليثَ وغى
عِيبَ به ثغرنا المَصون فلو ... يكون ثغراً لكان فيها شغا
ما زلت ألقى سِفاهَه بحِجى ... يروع شيطانه إذا نزغا
أفديكُما شاعِرَيْن لو شهِدا ... عصرَ زيادٍ إذن لما نبَغا
صاغا لجيدي حُليّ لفظِهما ... فأتْقَناه وأحْكما الصّيَغا
وأهْدَيا ليَ مدْحاً سحبت به ... بُرْدَ جمالٍ عليّ قد سبَغا
أنشدهُ حاسدي فأكمِدَهُ ... حتى توهمت أنّه دمِغا
لو عدِمَتْ مُقلتاي شخصَهُما ... ما رفَهَ العيشُ لي ولا رفَغا
الفاء وقوله من قصيدة:
فهاتِها إذا النّديم أغفى
ناراً بها نار الهموم تُطفى
أشدّ من كلّ لطيفٍ لُطفا
ترى الهواءَ عنده يُستَجْفى
من يدِ ساقٍ ساقَ نحوي الحتفا
بمقلةٍ تفري الدِّلاصَ الزّغْفا
تُنعِشُ ألْفاً وتُميت ألْفا
صوّرهُ الله فأعْيا الوَصْفا
بدْراً وغُصْناً ناعماً وحِقْفا
يرْتَجّ نِصْفاً ويميسُ نِصْفا
وصيّر الحُسنَ عليه وَقْفا
فما رآهُ أحد فعفّا
وقوله في غلام واعظ حسن الوجه:
وا حزَني من جفنِك الأوطَفِ ... وخصرِك المختصر المخطفِ
يا واعظاً ما زادَني وعظه ... إلا جوى أيسرُه مُتلِفي
ما بالُ ذا الورد بخدّيْك قدْ ... أينَع للقطفِ ولم يُطَفِ
وما لفِيكَ العذْبِ لم يُلثَمِ ... وريقِك المعسولِ لم يرشَفِ
برزتَ في معرض أهل التَّقى ... وما بدا منك سوى ما خَفي
أيمنعُ القرْقَفَ مَن ريقُه ... أشدّ إسْكاراً من القَرْقف
يا موقِداً بالهجر في أضلُعي ... ناراً بغير الوصلِ ما تنطفي
إن لم يكُنْ وصل فعِدْني به ... رضيت بالوعد وإن لم تفِ

وقوله في التجنيس:
وقائلة سِرْ وابتَغِ الرّزْقَ طائِفاً ... فإنّك فيما لا يفيد لطائف
فقلت ذريني رُبّ ساعٍ مخيَّبٍ ... ولله في كلّ الأمور لطائِف
القاف وقوله من قصيدة في صفة جيش:
وملمومةٍ ظلّت بها أوجهُ الرّدى ... تديرُ عيوناً من أسنّتها زرْقا
مظاهرةٍ بالأسْدِ غُلْباً وبالظُبى ... حِداداً وبالخِرْصان مذروبةً ذلقا
إذا نشأتْ للنقع فيه غمامة ... فلستَ ترى غير النّجيع لها وَدْقا
ملأنا بها قلبَ العدوّ وسمعَه ... وناظرَهُ والبَرّ والبحرَ والأفْقا
وقوله في البراغيث:
وليلةٍ دائمةِ الغُسوقِ
بعيدةِ الممْسى من الشُروقِ
كليلةِ المتيّم المَشوق
أطال في ظلمائها تأريقي
أخبث خلْقٍ للأذى مخلوق
يرى دمي أشهى من الرّحيق
يعُبّ فيه غيرَ مُستفيق
لا يترك الصّبوح للغَبوق
لو بتّ فوق قمّة العيّوق
ما عاقهُ ذلك عن طُروق
كعاشق أسرى الى معشوق
أعلمَ من بُقْراطَ بالعُروق
من أكحلٍ منه وباسَليقِ
يفصدُه بمبضَعٍ رقيقِ
من خطمِه المذَرّب الذّليق
فصدَ الطبيب الحاذقِ الرّفيق
وقوله:
طرقَتْني لدى الهُجوع فقالت ... أكذا يهجَعُ المحبّ المشوّق
قلت لا تعجلي فلم أغْفُ إلا ... طمعاً أن يكون منكِ طُروق
فتولّت تقول: لفظ ذوي الأل ... باب سحر يُصْبي النُهى ويَروق
قد يُمَجّ الكلامُ وهو صحيح ... ويلَذّ المزوّر المخلوق
وقوله يستدعي صديقاً له الى أكل تين وشرب:
قد نعسَ التّين خلالَ الورق ... وراحَ من جِلدَتِه في خلَقْ
فانشط إليه والى قهوة ... لم يُبْق منها الدهرُ إلا الرّمقْ
كأنّها في الكأس ياقوتَة ... في درّة أو شفَقٍ في فلَقْ
والشّرط في عشرة أمثالها ... أن تسقط الحشمة فيما اتّفق
وقوله في غلام غُزّى عليه قرمزية:
أقبل يسعى أبو الفوارس في ... مرأى عجيب ومنظر أنق
أقبل في قِرمزيّة عجب ... قد صبغَتْ لونَ خدّه الشَّرِق
كأنّما جيدهُ وغرّته ... من دونها إذا برَزْن في نسق
عمود فجر فُويقه قمر ... دارَتْ به قطعة من الشّفق
وقوله:
دعْه أمام العيس تُعنَقْ ... كالسّيْل في صَيْبٍ تدفّقْ
لم يستَعِنْ بذَميلِها ... يوماً أخو أملٍ فأخْفَقْ
وأغَنّ نور الصّبْح أسْ ... فَر تحت غُرّته وأشرَقْ
قد صيغَ فتنة مَن تنَسْ ... سَك بل منيّةَ من تعشّقْ
حسنَ المخلخلِ والمؤَزْ ... زَر والموشّح والممَنطَق
أبكي دماً جفني بهجْ ... رتِه فأغرقني وأحْدَق
لم يدْرِ قلبي إذ تعلْ ... لَقَه بأي هوى تعلّقْ
وسعى بها فكأن برْ ... قاً في زجاجتِها تألّقْ
والنّجمُ يجنحُ للأفو ... ل كما هوى القُرْطُ المعلق
وكأن فأرةَ تاجرٍ ... منها خلال الشُرْبِ تعبق
وكأنّها من رقّةٍ ... دمع المحبّ إذا ترقرق
إنّي رأيت شَبيبَتي ... وصبايَ يوماً سوف يَخلقْ
وعلمْت أنّي للذّها ... ب فإن دَنيتُ فسوف أسحق
فالعمرُ ظلٌ والمُنى ... خُدَع ووعْدُ الله أصدقْ
وقوله:
لم تعْلُ كأس الرّاح يمنى الساقي ... إلا لتُرجِعَ ذاهِبَ الأرماق
فأدر عليّ دهاقها إنّي امرؤ ... لا أستسيغ الكأس غيرَ دِهاق
أو ما ترى ضحكَ الرّبى بغمائمٍ ... تبكي كمثل مدامع العشّاق
من كل باكيةٍ تسيل دموعها ... من غير أجفان ولا آماق

طفقت تُزجّيه البوارقُ حُفّلاً ... تروي البلد بوبلها الغيْداق
حتى تسربل كل جِزْعٍ روضة ... محتَفّة بغديرِه الرّقراق
وإذا الهواء الطلق جرّ نسيمه ... أذيال أرديةٍ عليه رِقاق
ضمّ الغصون على الغصون كما التقى ال ... أحباب بالأحباب غِبّ فراق
فانعمْ بورد كالخدود ونرجس ... غضّ الجنى كنواظر الأحداق
حيّا به السّاقي المدير وربّما ... ألهاكَ عنه بمقلتيه السّاقي
رشأ يُنير دجى الظّلام بغُرّةٍ ... كالبدْرِ بل كالشمس في الإشراق
كتبَ الجمالُ بخطّه في خدّه ... هذي بدائع صنعةِ الخَلاّق
الدّعصُ حشْو إزاره والغصن طيْ ... يُ وشاحه والبدر في الأطواق
ما بان صبري يوم بان وإنّما ... بدّدْته من دمعيَ المُهراق
الكاف وقوله من قصيدة:
ملك أعزّ بسيفه دين الهُدى ... وأذلّ دينَ الكفر والإشراك
وأنار في ظُلم الحوادث رأيه ... فأراك فعل الشمس في الأحلاك
لم يبق في ظهر البسيطة جامح ... إلا استقاد لسيفه البتاك
ومنها:
يا شاكياً عنتَ الزّمان وجورَه ... ألمِمْ به تلمم بمُشْكي الشاكي
يا أرض لولا حلمه ووقاره ... ما دمْت ساكنة بغير حِراك
يا شمس لو واجهْت غُرّةَ وجهِه ... لسترت نوركِ دونها وسناك
يا سُحْب لو شاهدتِه يوم النّدى ... لحصرْت جودك عنده ونداك
شتّان بين اثنين هذا ضاحك ... أبداً لآمله وهذا باكي
وقوله من قصيدة:
أنّى يفوتك مطلب حاولتَه ... وظُباك ضامنة لك الإدراكا
وبراعة تنهل مسكاً أذفراً ... من راحة لا تعرف الإمساكا
اللام وقوله يشكر حسن وساطة الممدوح في خلاصه من الحبس:
حُيّيتَ من طللٍ برامة محول ... عبثت به أيدي الصّبا والشّمأل
وغدا بكَ النّوار من درر النّدى ... ينْآد بين مؤزّر ومكلّل
وإذا أدار بك الغمام كؤوسه ... شرب النّبات على غناء البلبل
دعْ ذا لهمّ في فؤادك شاغِلٍ ... عن ذكر دارٍ للحبيب ومنزل
طرقت عَوادٍ للخطوب عدتْك عن ... ذاك الغزالِ فلاتَ حين تغزّل
إنّي سُقيت من الخُطوب سُلافة ... جعل السُقاةُ مزاجَها من حنظل
كأس ثمِلْتُ بها فملت وإنّما ... دحضت بها قدمي من الشّرف العَلي
فاحلب بضَبْعَيْ منقذي من هوة ... أصبحتُ منها في الحضيض الأسفل
وامدد إليّ يد المغيث فكم يد ... لك أنقذَتْ من كل خطب معضِل
إنّي دعوتُك حين أجحفَ بي الرّدى ... فأغث فإني منه تحت الكلكل
فإليْك مفزَعُ كل عان خائف ... ولديك فُرجةُ كل باب مقفل
قد طالت الشّكْوى وأقصَرُ وقتِها ... مودٍ بكلّ تصبّرٍ وتجمّل
واشتدّت البلوى وأنت لرفعها ... فأجبْ فإني قد دعوتُك يا علي
عمر يمرّ وكُرْبة ما تنقضي ... أبد الزمان وغُمّة لا تنجلي
وزمان سخط ما له من آخرٍ ... ورجاء عفوٍ ما له من أوّل
كم ذا التّغافل عن وليّكَ وحده ... والأمرُ يحزم دون كل مؤمّل
وعلامَ يهمل أمرَه ويضيعُه ... من ليس للصنع الجميلبمهمل
قم في خلاصي واصطنعني تصطنع ... رطْبَ اللّسان مدير باع المقول
يُثْني عليكَ بما صنعتَ وربّما ... كرُمَ الثّناءُ فذُمّ عرف المبذل
وقوله ملغزاً بالبَكرة من قصيدة:
فما كُدريَة لم تَعْلُ مذ ... طارتْ ولم تسفُلْ

لها في الجو وكْر لم ... ترِمْ عنه ولم ترْحَلْ
فما ترقى مع النِّسر ... ولا تهوي مع الأجدلْ
عَوانٌ نُكِحَتْ دهْراً ... فلم تعلَقْ ولم تحبَلْ
نشِبْتُ بها دهْراً ... في ساحتها أنزل
وواصلتُ مراسيها ... ولكن كنت من أسفلْ
فلما أن أصبتُ الما ... ءَ صبّ العارضُ المُسبَلْ
تنحّيْتُ ولم أستح ... يِ من فعلي ولم أخجلْ
وثِبْتُ ...... ... ولم أعْيَ ولم أنْكلْ
وقوله:
حُجِبَتْ مسامعه عن العُذّال ... وأبى فليس عن الغرام بسال
ويح المتيّم لا يزال معذّباً ... بخُفوق برقٍ أو طروق خيال
وإذا البلابل بالعشيّ تجاوبت ... بعثت بأضلعه جوى البلبال
وا رحمتا لمعذّب يشكو الجوى ... بمنعّم يشكو فراغ البال
نشوان من خمرين: خمرِ زُجاجةٍ ... عبثت بمقلته وخمر دلال
كالرّيم إلا أن هذا عاطل ... أبداً وذا في كل حالٍ حالي
لا يستفيق وهل يُفيقُ بحالة ... من ريقُ فيه سُلافةُ الجِريال
علِم العدوّ بما لقيتُ فرقّ لي ... ورأى الحسودُ بليّتي فرثى لي
يا من برَى جسمي بطول صدوده ... هلاّ سمحت ولو بوعد وصال
قد كنتُ أطمعُ فيك لو عاقبتني ... بصدود عتْبٍ لا صدودِ ملال
وقوله، وذلك مما أنشدنيه الفقيه نصر بن عبد الرحمان الإسكندراني الفزاري ببغداد، قال: أنشدني أبو الحسن علي بن الحسن بن معبد القرشي بالإسكندرية، قال: أنشدني أبو الصلت لنفسه بالمهديّة سنة تسع وخمسمائة في داره يصف فرساً:
وأشهب كالشِّهاب أضحى ... يلوح في مُذهَبِ الجِلال
قال حسودي وقد رآه ... يخِبّ خلفي الى القِتال
من ألجَم الصّبحَ بالثريا ... وأسرجَ البرقَ بالهلال
قال: قال أميّة: عملت هذه قبل أن أسمع بشعر ابن خفاجة الأندلسي في لاميته، له منها:
أشهبُ اللون أثقلته حُليّ ... خبّ فيهنّ فهو ملقي الجِلال
فبدا الصبح مُلجَماً بالثريّا ... وسرى البرق مُسرَجاً بالهلال
فما أعجب توارد خاطريهما، وهما في زمان واحد، في بلدين متباعدين.
وقوله في كاتب:
ومجيدٌ في النظم والنثر فذّ ... لست تدري ألفظُه الدرّ أم لا
ظلّ يملي فكان أبلغَ مُمْلٍ ... بهر السّمعَ حكمة حين أملى
وقوله:
أقول لمسرورٍ بأن ريعَ سربُنا ... وصوّح مرعانا وزلّت بنا النّعْل
لنا حسب إن غالنا الدهرُ مرّة ... وزلّت بنا نعلٌ فإنّا به نعلو
وقوله في الحث على الكسب والحركة:
لا تقعُدنّ بكِسر البيت مكتئباً ... يفنى زمانُك بين اليأس والأمل
واحتلْ لنفسِك في شيءٍ تعيش به ... فإنّ أكثر عيش الناس بالحيَل
ولا تقل إنّ رزقي سوف يدركني ... وإن قعدتُ فليس الرزق كالأجل
وقوله:
لا ترْجُ في أمركَ سعد المُشتري ... ولا تخف في فوتِه نحسَ زُحَلْ
وارْجُ وخف ربَّهُما فهو الذي ... ما شاء من خيْر ومن شرّ فعل
وقوله:
رمتني صروف الدهر بين معاشر ... أصحّهم وداً عدواً مقاتلُ
وما غربة الإنسان في بُعدِ دارِه ... ولكنها في قرب من لا يشاكل
وقوله في ثقيل:
لي جليس عجبتُ كيف استطاعت ... هذه الأرض والجبال تقلّه
أنا أرعاه مُكرَهاً وبقلبي ... منه ما يتلفُ الحياة أقلّه
فهو مثل المشيب أكره مرآ ... ه ولكن أصونه وأجلّه
الميم وقوله:
كبدٌ تذوب ومقلة تدمى ... فمتى أطيقُ للوْعتي كتما
يا تاركي غرضاً لأسهُمِه ... إذ لم تخفْ دركاً ولا إثْما
زدني جوًى بل استَزِدْكَ جوًى ... وإذا ظلمت فعاود الظّلما
فالحبّ أعدلُ ما يكون إذا ... صدعَ الفؤادَ وأنحلَ الجسْما

بأبي وغير أبي وقل له ... قمر ليقضي بالضّنى تمّا
يرنو إليك بعين مغزلة ... لم ترن إلا فوقت سهما
قبّلته إذ زار مكتتماً ... وهصرْتُ بانةَ قدّه ضمّا
ورشفْتُ من فيه على ظمإ ... برْداً إذا نقع الصّدى أظما
ثم انثنى حذر الرقيب وقد ... نمّ الصباحُ عليه إذ همّا
وطفِقت أرقب لمّتي جزِعٍ ... شيماً لذاك البرق أو شمّا
وإذا انقضى زمن فكيف به ... إلا أن استوهَبْتَه الحُلما
وقوله من قصيدة طويلة:
تقول سليمى ما لجسمكَ ناحلاً ... كأنْ قد رأتْ أنّ الحوادثَ لي سِلمُ
فقلت لها لا تعجبي رُبّ ناحلٍ ... محاسنه شتّى وسؤدده ضخْم
ولا تنكري همّ امرئ فاقَ همّة ... فكان على مقدار همّته الهم
وما أنا من يثري فيُبطرهُ الغنى ... ويُعدِم أحياناً فيضجره العُدْمُ
وقوله من قصيدة:
لا أحمد الدّمع إلا حين ينسجم ... فخلّ دمعك يسقي الرّبعَ وهو دم
أما ترى الحيّ قد زُمّتْ ركائبه ... وصاح بالبَينِ حادي الركب بينهم
وفي حشا الهودج المزرور شمس ضحى ... تنير للركب من أنوارها الظُلم
بيضاء فضّلها في الحُسن خالقنا ... فأصبحتْ وهي في الأرواح تحتكم
سكرى من الذلّ لكن ما بها سكر ... سقيمة اللحظِ لكن ما بها سقم
كروضة الحَزْنِ في رأدِ الضحى خطرت ... بها الصّباحين روّت تربها الدِّيَم
ليست تزور وإن زارت لنمّ بها ... برق من الثّغر يبدو حين تبتسم
بانوا فأي بُدور عنهم غربتْ ... بمغرب وغصون ضمّها إضَم
وللظباء وأُسد الغيل ما ضمنتْ ... تلك البراقع يوم البيْن واللثُمُ
وخلفوا الدّنفَ المشتاقَ منطوياً ... على جوانح مشبوب بها الضرَمُ
يرعى كواكبَ ليلٍ لا بَراح لها ... كأنّ إصباحه في الناس منه هُمُ
يزيدني اللوم فيهم لوعةً بهِمُ ... كالنار بالرّيح تُستشْرى وتضْطرمُ
فما تغيّرني الأقداحُ دائرة ... ولا تحركني الأوتار والنّغمُ
مالي وللدهر أرضيه ويسخطني ... وأستجدّ له مجداً ويهتدِمُ
تقلّدَتْني لياليه مولّية ... كما تقلّد نصلَ السيف منهزمُ
إن يخْفَ عن أهل دهري كنهُ منزلتي ... فالصبْحُ عن بصر العُميان منكتِمُ
ولم يزل مرتقى الأقدام سامية ... فيه وتستسفل الهامات والقمم
وقوله من أخرى:
وكأنّ الشّقيق خدّ ثَكولٍ ... ضرّجتْه دماً بموجِعِ لطْم
وكأنّ الأقاحَ بيضُ ثنايا ... جال فيها من النّدى ماءُ ظَلْم
وقوله:
صلْ هائماً بك مُغرماً ... أبكيتَ مقلتَه دما
دمع إذا ما قيلَ غا ... ضَ وهمّ أن يرْقا همَى
وكفى بدمع أخي الغرا ... م عن الضّمير متَرْجِما
قد دقّ حتى ليسَ يُدْ ... رَكُ دون أن يتوهّما
وعَداهُ خوفُ عِداهُ عن ... بثّ الغرام فجمجَما
وشَفاءُ ما يشكوهُ من ... ألمِ الهوى ذاك اللّمى
أسلمْتني لجوى الصَّبا ... بةِ يوم رُحتَ مسلِّما
وأريْتَني قدّ القضي ... ب على الكثيبِ مقوّما
عيناك عاونتا علَيْ ... يَ وأصلُ ما بي منهُما
بل يا أخا قيْسٍ إذا ... جئتَ الحطيمَ وزمْزَما
فلتُبلِغَنّ عشيرتي ... أنّي قتِلتُ على الحِمى
عرّضْت قلبي للّحا ... ظِ ولم أخلْها أسهُما
وقوله:
رشأٌ تفعلُ عيناهُ بنا ... ضِعفَ ما تفعلُ باللُّبّ المُدام
سالمتْ وجنتُه من صبغِها ... جمرة في كبدي منها ضِرام
ورمى قلبي فأدْمى خدّه ... أتراهُ انعكسَتْ فيه السِّهام

وقوله في غلام مستحسن صلى الى جنبه:
صلى الى جنْبي من لم يزَلْ ... يصْلى به قلبي نار الجحيم
فلم يكنْ لي في صلاتي سوى ... كوني في المُقعد منها المُقيم
وقلّما صحّتْ صلاة امرئٍ ... مبلبل البال بطرفٍ سقيم
وقوله في غلام مرّ وسلّم عليه:
أصبحت صباً مدنفاً مغرَما ... أشكو جوى الحب وأبكي دما
هذا وقد سلّم إذ مرّ بي ... فكيف لو مرّ وما سلّما
وقوله:
قلت لما رأيت بالدّرب عَمْراً ... تحت جحش ينيكه وحريمه
وهو من دائه المبرّح قد قا ... م على أربع بغير شكيمه
كيف حال الشيخ الأجلّ فقال ال ... حال ما حال هكذا مستقيمه
وقوله في غلام يرمي بالنشاب، ويلعب في الميدان بالصّولجان:
نفسي فداء أبي الفوارس فارساً ... من مقلتيه سنانُه وحُسامه
بطل كأنّ بسرجه من قدّه ... غصناً بعطفيه يميلُ قوامه
يزهى الجوادُ به فتحسب أنّه ... ذو نشوة قد رنّحتْه مدامه
وكأنّ عطف الصولجان بكفّه ... صدغ بدا في الخدّ منه لامُه
وكأنّما قلبي له كرةٌ فما ... تعدوه جفوتُه ولا إيلامُه
يرمي وما يخطي الرّميَّ كأنّما ... نجَلتْ لواحظَ مقلتيه سهامه
يا من تقول البدرُ يشبه وجهَهُ ... مهما تكشّف عن سناه جَهامُه
من أين للقمر المنير ضياؤهُ ... وبهاؤهُ وكمالُه وتمامُه
الله صوّرَهُ وقدّر أنّه ... حتف المحبّ وسقمُه وحِمامه
وقوله:
وأغْيد للنَّقا ما ارتجّ منهُ ... وللغصن التثنّي والقَوام
تصارمَ وصله وهوايَ حتّى ... كأنّهما جُفوني والمَنام
وقوله في طبيب اسمُه شعبان:
يا طبيباً ضجرَ العا ... لَمُ منه وتبرّم
فيك شهران من العا ... م إذا العام تصرّم
أنت شعبانُ ولكن ... قتلُك النّاس المحرّم
وقوله:
غَريَتْ يدي بثلاثةٍ عجبٍ ... بالكأس والمِضْراب والقلَم
بثلاثة لم تحوِهنّ يد ... إلا يد طُبِعتْ على الكرَم
هذان للأفراح إن شردَتْ ... يوماً وذا لشوارد الحِكم
النون وقوله من قصيدة:
وقفنا للنوى فهفت قلوبأضرّ بها الجوى وهمَتْ شؤونيناجي بعضنا باللّحظ بعضاًفتعرب عن ضمائرنا العيون
فلا والله ما حُفظت عهود ... كما ضمنوا ولا قُضيتْ دُيون
ولو حكم الهوى يوماً بعدلٍ ... لأنصفَ من يفي ممّن يخون
أمرّ بداركم فأغضّ طرفي ... مخافة أن تُظَنّ بنا الظّنون
ومنها:
جحاجِحُ ما ادْلهمّ الخطبُ إلا ... دُعوا ورُجوا ونُودوا واستُعينوا
كأنّ على أسرّتهم شُموساً ... تُنير بها الحنادسُ والدّجون
إذا حكموا بأمرٍ لم يميلوا ... وإنْ سبَقوا بوعدٍ لم يَمينوا
وقوله في اعتقاله من قصيدة:
همومُ سكنّ القلبَ أيسرُها يضني ... ووقْد خطوبٍ بعضها المهلك المضني
عذيريَ من دهرٍ كأنّي وترْتُه ... بباهِرِ فضلي فاستفاد به منّي
تعجّلني بالشّيب قبل أوانِه ... فجرّعني الدُرْديَّ من أوّل الدنّ
ومنها:
ولو لم أكن حُرّ الخلائق ماجداً ... لما كان دهري ينطوي لي على ضِغْن
وما مرّ بي كالسّجن فيه ملمّة ... وشرٌ من السجن المصاحب في السجن
أظنّ الليالي مبقياتي لحالة ... تبدّل فيها حالتي هذه عنّي
وإلا فما كانت لتبقي حُشاشَتي ... على طول ما ألقى من الذلّ والغبن
ومنها:
وكم شامت بي أن حُبِسْت وما درى ... بأني حُسام قد أقروه في الجفن
وناظر عين غضَّ منه التفاتُه ... الى منظرٍ مقذٍ فغمّض في العفن

متى صفتِ الدنيا لحرٍّ فأبتغي ... بها صفو عيش أو خُلُويِّ من الحزن
وهل هي إلا دار كل ملمة ... أمض لأحشاء الكرام من الطعن
وإن هي لانت مرة لك فاخشَها ... فإنّ أشد الطعن طعنُ القنا اللّدن
ومن أخرى:
الى كم أستنيمُ الى الزّمان ... وتخدعني أباطيلُ الأماني
ومنها:
ومضطرمُ الضّلوع عليّ غيضاً ... ألنْتُ له قيادي فازدَراني
تسحّب في المقال عليّ لمّا ... سكنتُ له سكون الأفعوانِ
ولو أنّي أساجِلُ منه كفؤاً ... بيوم الفخرِ أو يوم الطعانِ
لكفّ لسانَه عنّي بليغٌ ... كأنّ لسانهُ العضْبُ اليَماني
ومنها:
نجاءَك من لساني فهو أمضى ... بمعتركِ الجدالِ من السّنانِ
ولا تعرض لهجْوي فهو باقٍ ... على مرّ الزّمان وأنتَ فانِ
وجُرح السّيف يبرأ عن قريبٍ ... ويَعْيا البُرءُ من جرح اللّسان
ومن أخرى:
حتّامَ تنوحُ على الدِّمَن ... وتسائِلُهنّ عن السّكَن
وتروح أخا شجنَيْن فمن ... بادٍ للنّاس ومكتمن
... فقد الألاّفُ الى ... جفْنٍ يشكو فقد الوسن
... جريكَ منهتكاً ... في طرق اللهو بلا رسن
... ... صافية ... تعدي الأفراحَ على الحزن
... الدهر سوى رمَقٍ ... لو لم تتداركه لفَني
يسقيكَ سُلافتَها رشأٌ ... خلِقَتْ عيناه من الفتن
وكأنّ بأعلاه قمراً ... في جُنحِ ظلامٍ في غُصنِ
وكأنّ لواحظَ مقلتِه ... نحِلتْ أطراف ظُبَى الحسَن
ملِكٍ هطلتْ كفّاهُ لنا ... بحَيا الجَوْدِ الحوذِ الهُتُن
في سنّ البدر وسُنّتِه ... وسناه ومنظرِه الحسَنِ
يعطيك ولا يمنّ وقد ... يحمي بالمَنّ حِمَى المنَن
ندْبٍ، ندْسٍ، حلوٍ، شرس ... شهمٍ، فطِنٍ، ليْنٍ، خشِنِ
لو للأيّام شمائلُه ... لم تجْنِ عليكَ ولم تخُنِ
ولوَ انّ البحرَ كنائِلِه ... لم يدْن مداه على السفُنِ
ومن قوله في غلام اسمه جوشن:
صيّرْتُ صبريَ جوشناً لما رمتْ ... نحوي بأسهمها لواحظُ جوشَنِ
ولقد رُميتُ بأسهمٍ لكنّني ... لم ألقَ أقتلَ من سهامِ الأعيُن
وقوله:
عذّبْتني بالتّجنّي ... يا غايةَ المُتمني
قسّمت لحظي وقلبي ... ما بين حُسنٍ وحُزْنِ
وأيّ أعجب شيءٍ ... يكون منك ومنّي
إنّي إذا جئتُ ذنباً ... أسومُك الصّفْحَ عنّي
وقوله في جارية سوداء اسمه عزّة:
يا عزُّ عزَّ الوجْد صبري بما ... أصبحتِ من حسنِك تُبدينَه
ما أنتِ إلا لعبة ما بدتْ ... للمرء إلا أفسدتْ دينَه
وقد أفدتِ المسكَ فخْراً بأنْ ... أصبح يحكيكِ وتحكينه
لا شكّ إذ لونُكُما واحِد ... أنّكُما في الأصل من طينه
وقوله في غلام زنجيّ حسن الوجه سابح:
وشادنٍ من بني الزّن ... ج ساحر المقلتين
قد حال تفتير عيني ... ه بين صبري وبيني
أبصرْتُه وسْطَ نهرٍ ... طافٍ على الضّفتين
فقلت أسود عيني ... يعوم في دمع عيني
وقوله في العذار وقد لزم فيه التجنيس:
لو يعلم العاذلان ماذا جرى ... إذ عذَلاني جهلاً ولاماني
أودعني من هواه وسوسةً ... لم يلْقَها خالد ولا ماني
ظبي بخدّيه لا عدمتهما ... راءان من عنبرٍ ولامان
وقوله:
قم يا غلام الى المُدام ففضَّها ... وأدرْ زجاجتَها عليّ وثنّها
حتى أعوّضَ من دمي بسُلافها ... وأعودَ من عدم الحَراكِ كدنّها
وقوله في جارية اسمها تجنّي، قدمت شمعة:

للّه هيفاءُ قدّمتْها ... هيفاءُ كالغصنِ في التثنّي
إشراقُها والضياءُ منها ... وحرّها والدموع منّي
جاءتْ بها ساطعٌ سناها ... يرفعُ سجْفَ الظّلام عني
وقوله من قصيدة:
أقصرتُ من كلفي بالخُرّدِ العين ... فما الصبابة من شُغلي ولا ديني
ورُبّ أكلفَ قد طال الثّواء به ... في بيت أشمطَ من رهبان جيرون
يمّمتُ ساحته بالشُهب من نفَرٍ ... بيض وجوهُهُمُ شمّ العرانين
ثم انتحيت له أستامُ ذروته ... بمرهف الحدّ ماضي الغرْبِ مسنون
فانصابَ منه على كفّي غبيط دمٍ ... كأنّه سرِب من جوف مطعون
دمٌ من الراح مسفوك بمعركة ... يغادر الشَّرْبَ صرعى دون تجنينِ
أيامُ لهوٍ ولذاتٍ جريتُ بها ... مرخي الأعنّة في تلك الميادين
أستنزلُ البدرَ من أعلى منازله ... وأقنص الظّبيَ من بين السّراحين
ثم ارعويت فلم أعطِ الهوى رسَني ... وانجابَ عنّي فلم أتبع شياطيني
وقوله:
جرّد معاني الشّعر إن رمتَه ... كيما تُوَقّى اللّومَ والطّعنا
ولا تُراعِ اللفظَ من دونِها ... فاللفظ جسم روحه المعنى
وقوله في وصف كتاب وصل إليه:
وافى كتابُك قد أودَعْتَه فِقَراً ... شكا افتقاراً إليه لفظُ سَحْبانا
نظماً ونثراً تكافا الحسنُ بينهما ... حتى لخلتهما شكراً وإحسانا
ومنها:
لله أي كتابٍ زار مكتئباً ... منه وحُرّ كلام زار حرّانا
ولم أكن حيث بستانٌ ولا نهرٌ ... فزار لحظي وفكري منه بُستانا
أرى قوافيه أطياراً مغرّدة ... بألسُنِ الحمد والأبيات أغصانا
أجل وأقطف من ميماته زهَراً ... إذا وردتُ من الصّادات غُدْرانا
زهر تقيمُ على الأيام جدّته ... وإنّما توجدُ الأزهارُ أحيانا
من كل لفظٍ كماءِ المُزْن يوسعني ... ما شئتُ رِيّاً ولا أنفكّ ظمآنا
وقوله في ذمّ الدهر:
سادَ صغارُ الناس في عصرنا ... لا دامَ من عصرٍ ولا كانا
كالدّسْتِ مهما همّ أن ينقضي ... عادَ به البيدَقُ فرْزانا
الهاء وقوله يصف منزلاً في قصر:
منزلٌ ودّتِ المنازلُ في أعْ ... لى ذُراها لو أنّها إيّاه
فأجِلْ فيه لحظَ عينيكَ تُبصرْ ... أيّ حسنٍ دون القصور حواه
سال في سقفِه النُضار ولكن ... جمدتْ في قراره الأمواه
ومنها:
منظر يبعث السّرورَ ومرأى ... يُذكِرُ المرءَ طيبَ عصرِ صباهُ
طاب ممْساه للعيون فأكّد ... طيبه بالصّبوح في مغداه
وأدِرْها سُلافةً كدَمِ الخِشْ ... فِ لجفن السّرور عنها انتباه
من يدَيْ كل فاتنِ اللحظ عينا ... هُ على فعل كأسِه عوْناه
ريم قفرٍ بل ريم قصر، شغاف ال ... قلب مأواه والحشا مرعاه
قوبِلَ الحُسن فيه فاختصرت خص ... راه عمداً وأذرِفَتْ عيناهُ
وقوله:
أسلفتني الغرام سالفَتاه ... وأطرتْ عني الكرى طرّتاهُ
وأعانت وجدي على الصبر عينا ... ه فويحي مما جنت عيناهُ
رشأٌ وِردُه المدامع والأض ... لع مأواهُ والحشا مرعاهُ
لم يعِدْني بالوصل يوماً فأخشى ... بتمادي الصّدود أن ينساهُ
وقوله في وصف فرس:
وخيرُ ذخائر الأملاكِ طِرْف ... يروق الطّرْفَ حين يجولُ فيه
ترى ما بينه والخيلِ طُرّاً ... كما بين الرّويّة والبَديه
وقوله في أمرد التحى فقبُح:
قد صوّحتْ نرجسَتا مُقلتيْه ... واصفرّ ذاك الوردُ من وجنتيْه
وكان قيد اللّحظ في حُسنه ... فصار لا يوما بلحظٍ إليه
قد مسخَتْ صورتَهُ لحية ... أفرِغْ منها كل ذُلّ عليه

كأنما رقّتْ لعشّاقِه ... فاسترجعتْ أرواحهم من يديهِ
وقوله:
قامت تديرُ المُدامَ كفّاها ... شمسٌ ينيرُ الدّجى محيّاها
إن أقبلتْ فالقضيبُ قامتُها ... أو أدبرتْ فالكثيبُ رِدْفاها
للمسكِ ما فاحَ من مراشِفِها ... والبرقِ ما لاحَ من ثناياها
غزالةٌ أخجلتْ سمّيتها ... فلم تُشبَّه بها وحاشاها
هبْكَ لها حُسنَها وبهجتَها ... فهل لها خدّها وعيناها
وله يذمّ كاغداً:
كاغِدُنا يشبه حالاتِنا ... في كلّ معنى ويحاكيها
خسّ فللخَطّ به صورة ... لا شيء في القُبح يدانيها
لو كان خُلْقاً كان مُستَشْنَعاً ... أو كان خلْقاً كان تشويها
يعشّرُ الأقلامَ حتى تُرى ... مفلولةَ الحدّ مواضيها
يتركُها تُشبه أعجازُها ... في عدم البَرْي هواديها
من بعدِ ما ضاهى بأطرافِها ... أطرافَ سُمرِ الخطّ باريها
ومنها:
يقول من أبصرَ أطباقَها ... شُلّتْ يدٌ باتت تعبّيها
قد عبثَ السّوسُ بأوساطها ... وقرّضَ الفأرُ حواشيها
الياء وقوله:
عزِفْتُ عن التّشاغل بالملاهي ... وحثّ الكأسِ والطّاسِ الرّويّه
فما لي رغبةٌ في غير عِلمٍ ... تُنيرُ بديهتي فيه الرّويّه
ومن مراثيه: أ - قوله في مرثية أم علي بن يحيى:
تُضايقُنا الدنيا ونحن لها نهبُ ... وتوسعُنا حرباً ونحن لها حربُ
وما وهبَتْ إلا استردّتْ هباتِها ... وجدوى الليالي إن تحقّقتَها سلبُ
تؤمّل أن يصفو بها العيشُ ضلّة ... وهيهاتَ أن يصفو لساكنها شُربُ
إذا صقبَتْ دارٌ بأهل مودّة ... رغا بيننا في الدار بينهمُ سقْبُ
ألا إنّ أيام الحياة بأسرها ... مراحلُ نطويها ونحن لها ركْبُ
ومنها:
وما أنشبتْ كف المنيّة ظُفرَها ... فينجي طبيب من شَباها ولا طِبُ
ولا وألتْ من صيدِها ذاتُ مخلبٍ ... به كل حين من فرائسها خِلبُ
ولا ضَبِرٌ ذو لبدتين غضنْفرٌ ... له من قلوب الأرضِ في صدره قلْبُ
ومنها:
ولم أرَ يوماً مثلَ يومٍ شهدتُه ... وقد غابَ حسنُ الصبر واستحوذ الكربُ
ومأتِم شكوى وانتخابٍ تشابهتْ ... دموع البواكي فيه واللؤلؤ الرّطْبُ
فلا قلبَ إلا وهو دامٍ مفجّع ... ولا دمع إلا وهو منهملٌ سكْبُ
وقد كسفتْ شمسُ العُلا وتضاءلت ... لها الشمسُ حتى كاد مصباحها يخبو
ومنها:
مشت حولها الصّيدُ الكرامُ كرامةً ... الى أن تلقّتْها الملائكُ والرّبُّ
ومنها:
فإن لا تكن شمسُ النهار التي وهَتْ ... وهيلَ عليها التُربُ فهي لها تِربُ
لها كنَف من رحمة الله واسِع ... ومنزلُ صدقٍ عند فردوسِه رحْبُ
ب - وقوله من قصيدة في مرثية نُمَيّ بن زياد:
أتدري من بكتْهُ الباكياتُ ... ومن فجِعَتْ بمصرعه النُعاةُ
ألا فُجِعَتْ بأبلجَ من هلالٍ ... عليه لكل معلوَةٍ سمات
ضمينٌ أن تُكادَ به الأعادي ... علي أن تُنال به التِّراتُ
نمى في دوحتَيْ شرفٍ وعزٍ ... تزيّنُه العُلا والمَكرُمات
بحيثُ تكنّهُ السُمرُ العوالي ... وتكنُفُه الجياد الصافِناتُ
فلا برحَتْ جفونُ المُزنِ تهمي ... عليه دموعهنّ السّافحاتُ
غواديَ كل حين رائِحاتٍ ... إذا ونتِ الغوادي الرائحاتُ
تزجّيها الجنائبُ موقِراتٍ ... كما مشتِ العشار المُثقَلاتُ
ومنها:
فلا تنفكّ ترْفي التّرْبَ منها ... رياض بالشّقائقِ مُذهَباتُ
ومنها:
رمتْه يدُ الحِمام فأقصدتْهُ ... ولم تفغنِ العوائدُ والأساةُ

ولو غير الحِمام بغى سميّاً ... لفلّ شباة أسرته السَّراةُ
وهبّ لآل زيّادٍ أسود ... براثنُها السّيوفُ المُرهفاتُ
إذا وقع الصريخُ نحاهُ منهم ... ثُبات من سجيّتها الثّباتُ
وأحسنُ ما تلاقيهم وجوهاً ... إذا كلحَتْ من الطّعن الكماةُ
وأسمحُ ما توافيهمْ أكفّاً ... إذا ذهبتْ بوفرِهمُ الهِباتُ
وخيرُ ذخائِرِ الدنيا لديهم ... جواد أو حُسام أو قناة
وسابغةُ الذّيول كما تغشّتْ ... ذُيول الريح صافية أضاةُ
فما عبثتْ بلبّهمُ الحُميّا ... ولا شربتْ عقولهمُ السُقاةُ
هذا البيت يتشرّبه العقل السليم، ويشرئبّ الى حِماهُ الخاطر المستقيم:
ولا حضَروا لأنّ العزّ شيء ... تضمّنه البداوةُ والفلاةُ
لهمُ هِمم بعيداتُ المرامي ... وأيدٍ بالمواهب دانِياتُ
جرَوا وجرى الكرامُ ليُدرِكوهم ... فخلّوهم وراءَهُمُ وفاتوا
محوتُ بهم ذنوبَ الدهر عندي ... وبالحسنات تُمْحى السّيئاتُ
عليهم عمدتي إنْ رابَ دهرٌ ... وهم ثقتي إذا خانَ الثِّقاتُ
ج - وقوله في صديق له:
فجعتني يدُ المنون بخِلٍ ... ثابتِ الودّ صادقِ الإخلاص
غائصِ الفكرِ في بحورِ علومٍ ... كل بحرٍ بها بعيدُ المغاصِ
فجعتني فيه صروفُ الليالي ... بالحلال الحلوِ اللُباب المُصاص
وترتني فيه وما لقتيلٍ ... صرعَتْهُ يدُ الرّدى من قِصاصِ
حادثٌ أرخصَ الدموعَ الغوالي ... ولَعَهدي بهنّ غيرُ رِخاصِ
فلئن فاتني فللدهرُ خلفي ... مُستحِثّ يجدّ في إشخاصي
أيها المبتغي مناضاً من المو ... ت رويداً فلاتَ حين مناصِ
قهرَ الموتُ كل عزّ وأوهى ... كل حِرزٍ وفضّ كل دِلاص
لو حللنا على الذّرى في الصّياصي ... ما طمعنا من الرّدى بخلاص
د - وقوله في شريف قتل:
حُقّ للجفن أن يصوبَ نجيعا ... لنعيّ برْحٍ أصمّ السّميعا
جلّ رُزْءُ الشريف عن أن نشقّ ال ... جيبَ فيه وأن نريقَ الدموعا
ندِس إن طرقتَ منزلَه الرّحْ ... بَ ووافيتَ بابَه المشروعا
لم تجدْ بِشْرَ وجهه عنكَ محجو ... باً ولا سيْبَ كفّه ممنوعا
عاد شملُ العُلا شتيتاً وقد كا ... ن به آهلَ المحلّ منيعا
فأجِلْ مقلتيك في الأرض هل تُبْ ... صِرُ إلا مُرزّأ مفجوعا
أين من كان للعُداةِ سِماماً ... أين من كان للعُفاة ربيعا
من يسدّ الثّغور بعدَك يا سي ... يِدَ فهرٍ أم من يقود الجميعا
من يعولُ الفقيرَ من يُنعشُ العا ... ثرَ من يؤنسُ المَخوفَ المروعا
أيها البدرُ قد أطلتَ غروباً ... عن جفوني فهل تطيقُ طلوعا
أيها الغيثُ إنّ روضَ الأماني ... آضَ يُبْساً فهل تطيقُ هموعا
ما ظنَنّا بأنّ قبلك للمج ... دِ ولا السّماح صريعا
ه - وقوله يرثي والدته وتوفيت فجأة، وكان بعض المنجّمين قد حكم بذلك في مولده واتفقت الإصابة - من قصيدة طويلة: منها:
مدامعَ عيني استبدلي الدمعَ بالدّمِ ... ولا تسأمي أن يسْتبِلّ وتسْجمي
لحُقّ بأن يبكي دماً جفنُ مقلتي ... لأوجبِ من فارقتُ حقاً وألزَمِ
أخِلاءُ صدقٍ بدّد الدهرُ شملَهم ... فعاد سحيلاً منهمُ كل مبرَمِ
طوت منهمُ الأحداثُ أوجهَ أوجُه ... وأيمنَ أيمانٍ وأعظمَ أعظُمِ
فقد كثرَت في كل أرض قبورهم ... ككثرة أشجاني ولهفي عليهمِ
وما تلك لو تدري قبورُ أحبّة ... ولكنها حقاً مساقطُ أنجُم

رزِئْتُ بأحفى الناس بي وأبرهم ... وأكبِرْ بفقْدِ الأم رزءاً وأعظِمِ
فأصبحَ دُرّ الشِّعْر فيكِ منظَّماً ... وأصبح دَرّ الدمع غيرَ منظّم
تصرّمُ أيامي وأمّا تلهّفي ... فباقٍ على الأيام لم يتصرّمِ
كأن جفوني يومَ أودعتكِ الثّرى ... نضحْنَ على جيْبِ القميصِ بعندمِ
يهيجُ لي الأحزان كَلّ فلا أرى ... سوى موجعٍ لي بادّكاركِ مؤلمِ
أنوح لتغريد الحمائم بالضّحى ... وأبكي للَمْعِ البارقِ المتبسّم
وأرسلُ طرفاً لا يراكِ فأنطوي ... على كبدٍ حرّى وقلبٍ مكلّمِ
وما أشتكي فقدَ الصّباح لأنّني ... لفقدكِ في ليلٍ مدى الدهر مُظلِم
تطول ليالي العاشقين وإنّما ... يطولُ عليكِ الليلُ ما لم تهوّمي
وما ليلُ من وارى الترابَ حبيبهُ ... بأقصرَ من ليل المحبّ المتيّمِ
فكم من بين راجٍ للإياب وآيسٍ ... وأين جميل في الأسى من متمِّمِ
ومنها:
ولم يبقَ في الباقين حافظ خُلّةٍ ... فعشْ واحداً ما عشتَ تنجُ وتسلمِ
فلستَ ترى إلا صديق لموسرٍ ... حسوداً لمجدودٍ عدواً لمعدِم
وكنتُ إذا استبدلتُ خِلاً بغيره ... كمستبدلٍ من ذئب فقرٍ بأرقَمِ
فجانبْهمُ ما اسطَعْتَ واقبلْ نصيحتي ... ومن لم يطِعْ يوماً أخا النُصح يندَمِ
فإن لم يكن بُدّ من الناس فالقَهُم ... ببِشْرٍ وصُنْ عنهم حديثك واكتُم
فمن يلقَهُم بالبِشْرِ يُحْمَدْ بفعلِه ... ومن يلقهم بالكبْرِ يُعتبْ ويُذمَمِ
ومن لم يصانع في أمورٍ كثيرة ... يُضرّس بأنيابٍ ويوطأ بمنسِم
وحين وفاة أمية بن أبي الصلت أهدى إليّ سيدنا القاضي الفاضل حديقة أبي الصّلت وقرأت في آخرها مكتوباً: توفي الشيخ الأجل أمية ابن أبي الصلت يوم الاثنين الثاني عشر من محرم سنة ست وأربعين وخمسمائة وكان آخر ما سمع منه:
سكنتكِ يا دارَ الفناءِ مصدّقاً ... بأني الى دارِ البقاء أصيرُ
وأعظَمُ ما في الأمر أنّي صائِر ... الى عادلٍ في الحُكم ليس يجورُ
فيا ليتَ شِعري كيف ألقاهُ بعدها ... وزادي قليلٌ والذّنوبُ كثيرُ
فإنْ أكُ مَجزيّاً بذنبي فإنّني ... بحَرّ عذاب المذنبين جديرُ
وإن يكُ عفو ثم عنّي ورحمة ... فثمّ نعيم دائِم وسُرورُ
وقال لعبد العزيز ولده:
عبدَ العزيز خليفتي ... ربُّ السماءِ عليكَ بعْدي
أنا قد عهدتُ إليك ما ... تدْريه فاحفَظْ فيه عهدي
ولئن عملْتَ به فإنْ ... نَكَ لا تزالُ حليفَ رُشد
ولئن نكثتَ فقد ضلل ... تَ وقد نصحتكَ حسب جهدي
وقرأت في موضع آخر أنه توفي في المحرم سنة تسع وعشرين.

جماعة من الفضلاء
كانت بينهم وبين الحكيم أبي الصلت مكاتبات منظومة ومنثورة ولم أثبت من شعرهم شيئاً فإنني لم أصادفه
أبو الضوء سراج بن أحمد
بن رجاء الكاتب
قرأت من ديوان أبي الصّلت ما كتبه الى سراج الكاتب، فمن جملة ما قرأت فيه، ما يقول فيه أبو الصلت من قصيدة طويلة، جواباً عن أبيات، قوله وهو يدلّ على فضله ونبله:
حلفتُ بها أنضاءَ كل تنوفةٍ ... إذا قطعَتْ شَهْبا أبيح لها حزْمُ
تزورُ لوفد الله أكرمَ بقعة ... وأفضلَ ما تنحو الرّكابُ وتأتمّ
لقد نالَ في رِفقٍ أبو الضوءِ رتبة ... يقصّرُ عن غاياتِها العربُ والعجم
فتًى خصّني منه على الشّحْط والنّوى ... بعهدِ وفاءٍ ما لعروته فصْمُ
تناهى لديه العلمُ والحلمُ والحِجا ... وكُمِّلَ فيه الظّرفُ والنُبلُ والفهم
رقيقُ حواشي الطّبْعِ رقّ حواشياً ... لأنْ عُدّ من أبنائِه الزّمنُ العُدْمُ

إذا هدّم الناسُ المعاليَ شادَها ... ولن يستوي الباني ومن شأنُه الهدْمُ
وإن أخّرَ الأقوامَ نقص تقدّمتْ ... به رتبة تعنو لها الرتَبُ الشُمّ
له قلم ماضي الشَّباةِ كأنّما ... يمجّ به في طِرسِه الأرقمُ السُم
كفيل بصرفِ الدهر يصرفُ كيْده ... وقد عزّ من حدّ الحُسام له حسْمُ
شدوتُ بذكراهُ فمُصْغٍ وقائِلٌ ... أخو كرمٍ حيّاه بابنته الكرْمُ
أبا الضوءِ وافاني كتابكُ يزدهي ... به النثْرُ من تلك البلاغةِ والنُظمُ
كتابٌ لو استدعى به العُصمَ قانِصٌ ... لما استعصمتْ من أن تخِرّ له العُصم
ولما فضضتُ الختْمَ عنه تضوّعتْ ... لطيمةُ سفرٍ فُضّ عن مِسكها الختم
وسرّحتُ طرْفي في رياضِ محاسنٍ ... وشاها الحيا المنهلّ بل علمكَ الجمّ
فدُم، وابقَ، واسلَمْ، واستطِلْ عِزّةً، وصِلْوسُدْ، وارْقَ، واغنَمْ، واستزِدْ نعمة، وانْمُ
فلن يتنافى اثنان: رأيُك والنُهى ... ولن يتلاقى اثنان: فعلُك والذّمُّ
ولأبي الصّلت أيضاً فيه من قصيدة، جواباً:
إيهٍ أبا الضوء هل يقضي اللقاء لنا ... وبيننا لُجَح والموجُ يلتطمُ
وافى كتابكَ مختوماً على دُرَرٍ ... يروق منتثرٌ منها ومنتظمُ
طرس غدا الغيثُ بالتّقصير معترفاً ... عما وشاهُ به من روضه القلمُ
قد أودع الزهْرَ إلا أنه فِقَر ... والأنجمَ الزّهرَ إلا أنها كلِم
ولأبي الصلت أيضاً في أبي الضوء في صدر كتاب جواباً عن أبيات:
أزَهْرَ الرّبى برُضوب الغوادي ... أم الحَلْيُ فوق نُحور الغواني
أم الإلْفُ زار بِلا موعدٍ ... فأبرأني منهُ ما قد براني
وغيّضَ دمعي وكم قد طفِقْتُ ... وعينايَ عيناه نضّاحَتانِ
أم الطِّرسُ أعملَ فيه اليراع ... وأودعَ أحسنَ رقِم البنانِ
فذُمّ لمرآه وشي الصّناع ... وبيع له الدرّ بيع الهوان
وما خِلتُ أن بُرودَ الكلام ... تقدّرُ حسبَ قدود المعاني
ولم أدرِ أنّ بنات العقو ... ل تفعلُ فعلَ بنات الدّنان
وما السّحر سحر مراض الجفونِ ... ولكنّما السّحرُ سحرُ البيان
وأين الخدودُ من الجُلّنار ... وأين الثّغور من الأقحوان
كتاب نفيْتُ اكتئابي به ... ونلتُ الأماني بظلّ الأماني
أتى من بعيدِ مرامي الضّمي ... رِ والفِكرِ مرهف غرب اللسان
زرى في التّرسلِ بابْنِ العميد ... كما قد شأى في القريض ابنَ هاني
فقرّب من فرَحي كلّ ناءٍ ... وأبعدَ من ترحي كلّ دانِ
صَفيّ نأى ودَنا ذكرُه ... فناب السّماعُ منابَ العِيان
ومهما تصافت قلوبُ الرجال ... فحالُ تباعدها كالتّداني
ولكن على ذاكَ قربُ المزار ... وأشهى وأحلى جنى في الجَنان
أبا الضوء سُدْتَ فباتَ الحسود ... يراك بحيث يُرى الفرْقَدان
فجادَك عارضُ صوب الغمام ... وجازك عارضُ صرْفِ الزّمان.

هذا الفاضل لم يقع إليّ من شعره شيء، لكنني أحببت ذكره بإثبات ما قيل فيه، وشهادة ذلك على قدره النّبيه، وإن سمح الدهر الضّنين بعد هذا بشيء من فوائده، اغتنمت إثباته، وجمعت في هذا المؤلّف شتاته، ثم وقع بيدي كتاب ألّفه ابن بشرون الكاتب بصقلية في عصرنا هذا، ووسمه بالمختار في النظم والنثر لأفاضل العصر، وذكر فيه الشيخ أبا الضوء سراجاً، وأوضح من محاسنه الغرّ ومناقبه الزّهر منهاجاً، ووصفه بصحة التصوّر، وصدق التخيّل، وسداد الرأي، وحدة الخاطر، وأنّ شعره بديع الحوك، رفيع السّلك، فمنه أنّ الفقيه عيسى بن عبد المنعم الصقلي كتب إليه يستعير منه كتاباً:
لنا حاج وأنتَ بها مليّ ... ورأيكَ في السّماح بها عليّ
فإنْ وافَتْ فذلك ما ظننّا ... وأشبه أهلهُ الفعلُ الزكيّ
وإن يعتاقُها منعٌ فقُلْ لي ... الى من يُنسَبُ الفعلُ الرضيّ
فأجابه أبو الضوء:
ألا انجابَتْ فضاءَ لنا الخفيّ ... وأعشى الأعينَ القمرُ المُضيّ
وما خابتْ بما شامَت نُفوس ... شفى غُلاتِها جود ورِيّ
من الخبرِ الذي وافى بلِرْماً ... أعيسى المجدُ أم عيسى النّبي
وكيف بدا وما أنْ حان حشْر ... وكل مواتِ هذا الخلْقِ حي
رويدَك رُبّ خوّارٍ ضعيفٍ ... غدا وهو القويّ القَسْوريّ
أعِدْ نظراً وجَلّ بحسنِ ظنٍ ... غبايا الشّكّ يبْدُ لك الجليّ
ألا خُذها وِداداً لا عِناداً ... أجَدّ صفاءَها قلبٌ صفي
وقال في رمد الحبيب، والبيت الأخير تضمين:
قالوا حبيبي أصابه رمَد ... جفا الكرى جفنَه لِما وجَدا
يا ليتني كنتُ دونَه ولهُ ... نفسي فِداء فقلّ ذاك فِدا
مرّ فأبْدى احمرارُ وجنتِه ... من دمِ قلبي هواهُ ما وجَدا
فراعني بهجةً وأدهشني ... فظلتُ أدعوهُ منشِداً غرِدا
يا أرمدَ العينِ قف بساحتِنا ... كيما نُداوي من جفنِك الرّمدا
وقوله من مرثية في ولد رُجار الإفرنجي صاحب صقلية أولها:
بكاء وما سالتْ عيون وأجفانُ ... شجون وما ذابتْ قلوب وأبدانُ
ومنها:
خبا القمرُ الأسْنى فأظلمتِ الدّنا ... ومادَ من العلياء والمجدِ أركانُ
أحينَ استوى في حُسنِه وجلالِه ... وتاهتْ به أطواد عزّ وأوطانُ
تخطّفَه ريبُ المَنون مخاتِلاً ... على غِرّة إنّ المنونَ لخوّانُ
كذلك أعراضُ البُدور يعوقُها ... إذا كمُلتْ من حادث الدّهر نقصانُ
لحُقّ بأن نبكي عليه بأدمُعٍ ... لها في مسيلِ الخدّ درّ ومَرْجانُ
وتُحرَقُ أكباد وتمرضُ أنفُس ... وتعظُم أتراح وتكبُر أشجانُ
وتهتاجُ أحزانٌ وتهمي مدامع ... وتُجمع أمواه غِزار ونيرانُ
تبكّتْ له خيماتُه وقُصورُه ... وناحتْ عليه مرهفاتٌ ومُرّانُ
وعاد صهيلُ الخيلِ في لهواتِه ... حنيناً وعافتْهُنّ لُجم وأرْسانُ
وما ناح وُرْقُ الأيكِ إلا له فلو ... درَتْ لبكتْ قبلَ الحمائم أغصانُ
فيا لك من رُزْءٍ عظيمٍ وحادثٍ ... يعزّ له صبر ويُعوِزُ سُلوانُ
ويا يومَه ما كان أقطعَ هولَهُ ... تشيبُ لمرآهُ المروّعِ وُلْدانُ
كأن منادي البعثِ قام منادياً ... لحشرٍ فهبّ الخلْقُ طُرّاً كما كانوا
وقد ضاق رحبُ الأرضِ بالخلقِ والتقتْ ... جموعهُم مرجاً رجالٌ ونسوانُ
وشُقّتْ قلوبٌ لا جيوب ورجّعتْ ... بلابِلُ وارتجّتْ نفوس وأذهان
وكانوا بلُبْسِ اللّهوِ بيضاً حمائماً ... فعادوا وهم في ملبَسِ الحزن غرْبان

أبو عبد الله محمد بن عبد الصمد بن بشير
التنوخي الشاعر

هو من معاصري الحكيم أبي الصلت أمية، وقد أثبتنا شعر أميّة فيه، وهو قطعة خائية موسومة بتنوخ، ولم يقع إلينا من شعره ما نورده إلا ما ذكره في الحديقة، وكان أبو الصلت يرى في المنام كثيراً أبا عبد الله بن بشير، وتجري بينهما محاورات في فنون الآداب، وملح الأشعار، ويجد هو أيضاً من نفسه مثل ذلك في المنام. فقال أبو الصلت:
بأبي من صَفا فأصبَح في اليق ... ظَة والنّوم مؤنِسي ونَديمي
قُدّ بيني وبينه الوِدّ والإخ ... لاصُ في الحالتين قَدّ الأديمِ
نلتقي فيهما فنرتَعُ من آ ... دابِنا الغُرّ في جِنانِ النّعيمِ
غير أنّ اللقاءَ في الحُلمِ أشْفى ... لجَوى الشّوْقِ عند أهلِ الحُلومِ
فتلاقي الأرواح ألطفُ معنًى ... في المُصافاةِ من تلاقي الجُسومِ
وأورد أبو الصلت في الحديقة هذه الأبيات، ونسبها الي محمد بن بشير:
ولقد نظمتُ من القريضِ لئالِئاً ... غُراً جعلتُ سلوكهنّ طُروسا
ورميتُ علويّ الكلامِ بمنطقٍ ... حتى انتظمتُ بليلهِ البِرْجيسا
وجليتُ للحسَنِ الهُمامِ قلائِدي ... فحبوْتُ منها بالنّفيسِ نفيسا
ملِك يودّ البدرُ لو يلقى له ... في مُنتدى شرَفِ الجلالِ جَليسا

أبو جعفر عبد الولي البني الكاتب
معروف من أهل الفضل، ولم يقع إليّ أيضاً شيء من شعره، لكنني قرأتُ في ديوان أبي الصّلت أمية الأندلسي، أنه كتب الى عبد الولي البنّي مجاوباً عن قصيدة خاطبه بها، ومن جملة أبيات أبي الصّلت فيه يصفه بكثرة الأسفار:
مجدُك عُلويّ يا جعفرُ ... والشُهبُ لا تعرِفُ سُكنى القرارْ
أنِسْتَ بالبيْن وطولِ السّرى ... فالنّاسُ أهلُك والأرضُ دارْ
إنْ سِرْت كنتَ الشّمسَ أو لم تسِرْ ... فأنتَ كالقُطبِ عليه المَدارْ
ثم طالعت كتاب الجِنان لابن الزبير، وذكر أنّه خليعُ العِذار، قليل المحاشمة في اللهو والاعتذار، لا يبالي أيّ مذهب ذهب، ولا يفكّر فيمن عذر أو عتب، وله أهاجٍ أرغمت المعاطس، وبدائع أخّرت المُنافس، وأخذت المنافِس.
وله:
قالوا تصيبُ طيورَ الجوّ أسهُمُه ... إذا رماها فقلنا: عندنا الخبرُ
تعلّمَتْ قوسُه من قوسِ حاجبِه ... وأيّد السّهْمَ من أجفانه الحورُ
يلوحُ في بُردةٍ كالنِّقْس حالكةٍ ... كما أضاءَ بجُنح الليلةِ القمرُ
وربّما راقَ في خضراءَ مونقةٍ ... كما تفتّح في أوراقه الزّهَرُ
وله:
وكأنّما رشأ الحِمى لما بدا ... لك في مضلّعه الجديدِ المُعْلم
غصَبَ الحِمامَ قِسيّهُ وأعارها ... من حُسنِ معطفه قوامَ الأسهُم
وله:
غصبْتِ الثُريّا في البعاد مكانها ... وأودعتِ في عينيّ صادق نوئِها
وفي كل حالٍ لم تزالي بخيلة ... فكيف أعرْتِ الشمسَ حلة ضوئها
وله:
صدّني عن حلاوة التّشييع ... اجتِنابي مرارةَ التّوديع
لم يقم أنسُ ذا بوحشةِ هذا ... فرأيتُ الصّواب تركَ الجميع
أبو حفص عمر بن علي المعروف ب
الزكرمي المهدوي الشاعر
لم يقع إليّ شيء من شعره. قرأت لأبي الصّلت أمية الأندلسي فيه قصيدة ضادية وهي:
سوابقَ عَبرَتي سُحّي وفيضي ... وإنْ تعْصِ الدموعُ فلا تغيضي
فقد أخذ الرّدى من كان منّي ... بمنزلةِ الشّفاء من المريض
وما وُقِيَ الرّدى بطِعان سُمر ... وشدّ سوابقٍ وقِراع بيض
أبا حفصٍ ذهبتَ بحُسنِ صبري ... وبنتَ فبانَ عن عيني غُموضي
خلصتَ الى النّعيم وبي اشتياقٌ ... دفعتَ به الطّويل الى العريض
فما أصبو الى عَبّ الحُميّا ... ولا أهفو الى نغَم الغريض
ذهبتَ فمن تركتَ لكل معنى ... شديد اللبسِ بعدكَ والغُموض
ومن خلفتَ بعدكَ للمعمى ... وللشعرِ المحَككِ والعَروض

ويا لرَجاءِ نفسٍ فيك أفضى ... الى نبإ بموتكَ مُستفيض
مصاب صاب بالمُهَجات فيْضي ... ورُزْء قال للعَبَرات فيضي
فإن قصّرْتُ في البابيْن فاعذر ... فقد شغلَ الجريضُ عن القريض
شرقتُ بأدمعي وصليتُ وحدي ... فها أنا منكَ في طرَفَيْ نقيض
سقاكَ وجاد قبركَ صوبُ مُزْنٍ ... يشقّ ثَراه من روضٍ أريض
إذا استقرى الحَيا نحرتْ عليه ... عِشار المُزْن مرهقَة الوميض
وإن مسحتْ جوانبَهُ النُعامى ... أعيرَتْ نفحة المِسك الفضيض
فقدتُك والشّبابَ وريعَ فَوْدي ... بمرأى من مطالعِه بغيض
ألمّ بلمّتي وذؤابتَيْها ... فعوّضهُنّ من سودٍ وبيض
وقبلكَ ما انتحتْ عودي الليالي ... بنابٍ من نوائبها عَضوض
فما فوجئتُ ذا قلبٍ جزوعٍ ... ولا ألفيتُ ذا طرْفٍ غضيض
ولكن قائلاً يا نفسُ شُقّي ... غمارَ الموتِ مقدِمَة وخوضي
فما قعَد الأنام عن المعالي ... لعجزِهمُ وخان بها نهوضي
وما بلغ العَلاء كشمّريّ ... قؤومٍ بالذي يعني نَهوض
سأعمِلُها هملّعةً دِقاقاً ... تقلْقلُ في الأزمّةِ والعَروضِ
لها من كلّ مرقبَةٍ وفجٍّ ... هُوِيّ القِدْح من كفّ المُفيض
فإمّا أخمص فوق الثُريّا ... وإمّا مفرِقٌ تحت الحضيض
فأشقى النّاسِ ذو عقلٍ صحيحٍ ... يعودُ به الى حظٍ مريض
قال العماد:
ذكرته في من أورده أبو الصلت: ولم أورد شعره. ومما أورد له في كتاب الجِنان قوله:
كيف تُقْلى وأنتَ جنّةُ عدْنٍ ... من رآها ليس يصبِرُ عنها
غير أنّي لشَقوتي ليس عندي ... عمل صالح يقرّبُ منها
وقوله وقد طولب بمكس بضاعة من أبيات:
ولقد رجوْنا أن ننال بمدحكم ... رِفْداً يكون على الزّمان مُعينا
فالآن نقنَعُ بالسّلامة منكمُ ... لا تأخذوا منّا ولا تُعطونا
وله في رجل بالقيروان يعرف بشبيب يهوى غلاماً اسمه جيرون فلما كبر زوّجه ابنته فقال فيه:
لله درّ شَبيبٍ في تفسّدِه ... فقد أتى بدعةً من أعظم البِدع
حداهُ فرطُ الهوى أن ينكح ابنته ... فردّه الدّينُ والإفراطُ في الورع
فظلّ ينكحُ جيروناً وينكحها ... جيرون فهو يَنيكُ البنتَ بالقمع

الشيخ أبو الفضل جعفر بن الطيب
ابن أبي الحسن الواعظ
لم يقع إليّ أيضاً من نظمه شيء، وإنما أثبت اسمه من ديوان أبي الصّلت لما لقيه فشكا إليه الإجبال للضعف والكبر، فقال فيه أبو الصلت من قطعة:
إمامَ الهُدى رفِّهْ بدائِهَك التي ... بهرْتَ بها كلّ الأنام خِطابا
فإن يكُ عاصاك القريضُ فلم يُجبْ ... فقد طالما استدعيتَه فأجابا
ولا غرو أن خلّى عن النّزْع خاطر ... رمى زمناً عن قوسه فأصابا
ألستَ ترى الصّمصامَ لم ينْبُ حدّه ... عن الضّربِ إلا حين ملّ ضرابا
باب في ذكر جماعة وافدين إلى مصر
وغيرها من المغرب
أبو الحسن علي بن فضال القيرواني
المجاشعي النحوي
هو علي بن فضّال بن علي بن غالب بن جابر بن عبد الرحمان بن محمد بن عمرو بن عيسى بن حسن بن زمعة بن هميم بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع.
قرأت في مؤلف السمعاني أنه هجر مسقط رأسه، ورفض مألوف نفسه، وطفق يدرج بسيط الأرض، ذات الطول والعرض، حتى ألقى عصاه بغَزْنَة ودرّت له أخلافها، ووجد وجه الأماني طلقاً، واتفقت له عدّة تصانيف بأسامي أكابر غزْنة، سارت في البلاد، ثم عاد الى العراق، وانخرط في سلك الخدمة النظامية مع أفاضل الآفاق، وما حلَتْ له أيامه، حتى جُلب له حِماه، وذلك في ثاني عشرين شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين وأربعمائة.

قال السّمعاني: قرأت بخط شجاع بن فارس الدّهري الشهرزوري أبي غالب، أنشدنا أبو الحسن علي بن فضال لنفسه:
كتبتُ والشوقُ يملي ... عليّ ما في الكتاب
والقلبُ قد طار شوقاً ... الى رجوع الحراب
قال: وقرأت بخط شجاع، أنشدنا علي بن فضّال لنفسه:
لا عُذْرَ للصبّ إذا لم يكن ... يخلع في ذاكَ العذارِ العذارْ
كأنّه في خدّه إذ بدا ... ليل تبدّى طالعاً من نهار
تخاله جنح ظلام وقد ... صاح به ضوء صباح فحار
قال: وقرأت بخطه، أنشدنا علي بن فضّال لنفسه:
كأن بَهرام وقد عارضت ... فيه الثُريا نظر المبصر
ياقوتة يعرضها بائع ... في كفّه والمشتري مشتري
قال: وأنشدنا عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي كتابة: أنشدنا أبو الحسن بن فضّال المجاشعي لنفسه:
يا يوسُفيّ الجمال عبدُك لم ... تبقَ له حيلةٌ من الحِيل
إن قُدّ فيه القميصُ من دُبُرٍ ... قد قُدّ فيكَ الفؤادُ من قُبُل
قال: وأخبرنا أبو الحسن علي بن أبي عبد الله بن أبي الحسين النسوي إجازة، قال أنشدنا علي بن فضّال لنفسه:
واللهِ إن الله ربّ العِباد ... وخالص النّيّة والاعتقاد
يا أملح الناس بلا مِرْيَةِ ... من غير مُستثنى ولا مُستعاد
ما زادني صدّك إلا هوى ... وسوء أفعالك إلا وِداد
وإنّني منكَ لفي لوعةٍ ... أقلّ ما فيها يُذيب الجَماد
فكن كما شئتَ فأنتَ المُنى ... واحكم بما شئتَ فأنت المُراد
وما عسى تبلُغُه طاقَتي ... وإنّما بين ضلوعي فؤاد
وقرأت في بعض الكتب للمُجاشعي يمدح نظام الملك:
قالوا الوزيرُ ابنُ عبّادٍ حوى شرفاً ... فكم وكم لكَ عبد كابنِ عبّاد
ما جاوزَ الرّيّ شِبْراً رأي صاحبه ... وأنتَ بالشّام شمس الحفل والنادي
ولابن فضّال المجاشعي:
إن تُلقِكَ الغُربةُ في معشرٍ ... قد أجمعوا فيكَ على بُغضهم
فدارِهم ما دُمتَ في دارِهم ... وأرضِهِمْ ما دُمْتَ في أرضِهمْ

أبو الحكم المغربي
الحكيم الأديب تاج الحكماء أبو الحكم عبيد الله بن المظفر بن عبد الله المريني المغربي صاحب عمّي الصدر الشهيد العزيز أبي نصر أحمد بن حامد بن محمد روّح الله روحه وروّض ضريحه. كان طبيب البيمارستان الذي كان يحمله أربعون جملاً في المعسكر أين خيّم وابن المرخم يحيى بن سعيد الذي صار أقضى القضاة في الأيام المقتفية ببغداد، كان فصّاداً فيه وطبيباً أيضاً وكان أبو الحكم كثير الهزل والمداعبة، دائم اللهو والمطايبة.
سمعت بعض أهل أصحاب عمّي يقول: كان يأتي إليه الغلام وما به شيء، فيريه نبضه فيقول له: تصلح لك الهريسة، وما زال يخدم ملازماً للعمّ، الى حين نزول الحادث الملم، فآلى أن لا يقيم بالعراق بعده، وآثر على قربه منها بعده، وركب مطية الغسق، الى دمشق، وأقام بها الى أن أتاه الأجل المحتوم، والقدر المعلوم.

فأقول: الحكيم أبو الحكم، حكم له بالحِكم، ولم يمنعه حكمه وحكمته، عن الجري في ميدان الهزل، والجمع في نظمه السّخيف بين الإبريسم والغزْل، ولم يميز في شعره حلاوة العمل من مرارة العزل، بل مزج السخف بالظرف، ولم يتكلف مكابدة النقد والصرف، فخلط المدح بالهجو، وشاب الكدر بالصفو، ونظمه في فنّه سلس، وللقلوب مختلس، ومقطّعاته مقطِّعات للأعراض، مفوّقات الى أغراض الأغراض، إذا جال في مضمار القريض الطويل العريض، يؤمن عثاره، ولا يشقّ غباره، وله قصائد غرّاء في مدح عمّي العزيز، صار بها من أولي التمييز، فلعلّه لم يُجِدْ في غيرها، لأجل ما يوالي عليه من خيرها، فقد استغنى في نعمته، وعرف بدولته، وتلك القصائد مع المدائح التي جمعت في العزيز، نهبت في جملة كتبه، لعن الله من جاهر بحربه، ولم يقع إليّ من شعر أبي الحكم، صاحب الحِكم، إلا جزئيات من جملة ما نظمه بدمشق لهواً، وضرب على الجد فيه عفواً، من كتاب، سماها نهج الوضاعة لأولي الخلاعة، فأثبتّ من الجزأين المقطوعين ما استطبته، وتركت ما عِبته، وكان أعارني من الجزأين ببغداد الشيخ البائع يحيى بن نزار.
فمن ذلك له قصيدة يمدح بها منير الدولة حاتم بن محسن بن نصر بن سرايا، ويصف مشروباً أهداه له في سنة أربعين وخمسمائة، وهو من نظيف نظمه:
لي أدمعٌ لا تزال منسكبهْ ... وزفرة لا تزالُ ملتهِبهْ
على فتاة ألِفتُها فغدَتْ ... عنّي عند الوِصال محتجبهْ
تُخجِلْ شمس الضحى إذا انتقبت ... والقمرَ التمّ غير منتقبهْ
للحسن سطْر من فوقِ وجنتها ... فليس يقرأهُ غيرُ من كتبَهْ
فقُفْل صبري لمّا طمِعْتُ بها ... أصبح من وصْلِها على خرِبَهْ
يا حبّذا ليلة لهوتُ بها ... أرشفُ من برْدِ ريقها شنَبَهْ
تخاف أن يغدرَ الظّلام بنا ... فهي لضوء الصّباح مرتقِبَهْ
ومنها في صفة المطية:
هذا وكم جبتُ مهْمَهاً قذفا ... على بعيرٍ في ظهره حدَبَهْ
ومنها في الهزل:
إذا ذُبابُ الفَلاةِ طاف به ... حرّك من خوف قَرْصِه ذنَبَهْ
يأمَنُ ممّا يخافُ راكبُه ... لأنّه عصمةٌ لمن ركِبهْ
إن هو أرخى الزّمام أسرعَ في الس ... سَيْر وإن رام مهلة جدبَهْ
ومنها في المديح:
ولست أعتدّ للفتى حسباً ... حتّى أرى في فِعاله حسبَهْ
سميّه لو غدا مساجله ... في المجدِ والمكرُماتِ ما غلبَهْ
مُبرّأ من خنًى ومن دنَسٍ ... مطهّر الجيب سالم الجنبَهْ
تصبح من عِفّةٍ صحيفتُه ... مبيضّةً ليس تُتعبِ الكتبَهْ
لم يعدم الراغبون نائله ... ولم يضيع لقاصدٍ تعبَهْ
وكل شخص يؤمّ منزله ... يقرع باباً مُبارك العتبَهْ
ما يصفُ الآن منه مادحُه ... أبشْرَه أم نداه، أم أدبَهْ
أعيَتْ سجاياه وصفَ مادحه ... وإن أجادَ المديحَ وانتخبَهْ
أهلاً بمن جاد بالعقار ومن ... جاء به مسرعاً ومن شربهْ
فدَيْتُ قطّافَهُ وعاصرَه ... ومن سعى فيه وانتفى عنَبَهْ
ومن وعاهُ في دنّه زمناً ... واكتاله في الظّروف إذ حلبَهْ
بَني سرايا لله درّهم ... ليس لهم بين ذا الأنام شبَهْ
من أبصر الأجنبيّ بينهم ... يظنّه واحداً من العصبَهْ
لا مُتّ حتى أرى عدوّهم ... مستنداً ظهرُه الى خشبَهْ
وله من قصيدة في مدح الأديب نصر الهيتي، ويوصيه فيها بمهاجرة أبي الوحش الأديب:
إذا رام قافية نظمها ... غدا طوعَه سهلُها والعسيرُ
وذاك الذي شعرُه حِنطة ... وشِعْر سواهُ لدينا شَعيرُ
وما كمقاماتِه للبديع ... وليس له اليومَ فيها نظيرُ
فقد حسد الشّامُ فيه العراقَ ... وظلّتْ به جِلّقٌ تستَنيرُ

هو ابنُ جَلا دهرِه في الخطوب ... وطلاّع أنجدةٍ ما يغورُ
إن استجمعتْ مشكلاتُ الأمو ... رِ فهو الخبيرُ بها والبصيرُ
ومنها في مدحه لجودة لعبه في النّرد:
وإن ولعتْ كفّه بالفصوص ... فإنّ الغنيّ لديه فقيرُ
تدين الشّيوشُ له والبُنوجُ ... وما لليُكوكِ لديه ظُهورُ
ومنها:
فيا من يظلّ لساني له ... يترجم عمّا يكنّ الضمير
تجنّبْ وُحَيْشاً وإنّ الفتى ... على حتفِ من يصطفيه يدور
فأخِّرْ وِدادَك عنه فقد ... يؤخَّرُ في رمضانَ السّحور
وله يتشوق الى ابن سهيل، وقد طالت غيبته:
وحشتي لابن سُهيلٍ ... أسهرتني طولَ ليلي
فبه قد كان أنسي ... وإليه كان ميلي
كم أنادي وا شقائي ... بعده، وا طولَ ويْلي
كان يكتالُ لي الوِدْ ... دَ بكيلٍ أي كيْل
فلقد طوّل بالإن ... عام والمعروفِ ذيْلي
لم يكن يُخلي الذي وا ... لاهُ من بِرّ ونَيل
حُقّ لي بعدكَ مما ... ذُبْتُ أن يسقط حَيْلي
ما لدائي اليوم من ط ... بّ ولو عاش الجُبَيلي
وله في الشريف الواسطي:
وواسطي معجب طولُه ... يشهد بالنّوْكِ له والخرَفْ
منتحل للشِّعر لا يرْعَوي ... جهلاً، مدلّ بادّعاء الشّرفْ
لو قيل منْ جدّك بيّنْ لنا ... خلّط، أو قلْ بيت شعرٍ، وقَف
وله لغز في عبد الكريم:
بمهجتي يا صاحِ أفدي الذي ... يُميتني تفتيرُ عينَيْه
صرت له ثُلث اسمه طائعاً ... وهو بوصْلي ضدْ ثلثيه
كأنما وجنته إذ بدتْ ... أنجُم خيلانٍ بخديه
هلالُ تمّ والثريّا له ... مقلوب ما يشبهُ صدغَيْه
أراد أن شبيه صدغيه عقرب، ومقلوبها برقع.
وله في عبد خصي بعد مجيئه من الحج:
جاء ريحانُ من الحَجْ ... جِ وقدأسرعَ سيرَهْ
عدم المنحوس في جلْ ... لَق خصييه وأيره
ما أراه بعدها يط ... مع في جلد عميره
وله في الهزل:
إذا جاءني يوماً نعيّ أبي الوحش ... وأبصرته فوق الرؤوس على نعشِ
وقد جعلوا من نهر قلّوط غسله ... وكفِّن في كرش وألحِدَ في حشّ
وظل لم يلقاهُ من هولِ منكرٍ ... وشدة ضيق القبر يضرط كالجحش
بذلت لصحبي زقّ خمر وقينة ... وزخرفتُ داري بالنّمارق والفُرشِ
فإنْ قيلَ لي ماذا التكرّم والسّخا ... أقول لهم مات الوضيعُ أو الوحش
وله في الأديب أبي الوحش وقد وعده بليمو ولم ينفذه إليه:
أبا الوحش يا من غدتْ عرسه ... تجود بما بين أفخاذها
وعشرون مما حوى القطرميز ... بخلت علينا بإنْفاذها
وله من قصيدة يرثي الأمير الاسفهسلار أتابك زنكي بن آق سنقر رحمه الله وهو شبيه بالهزل:
عينُ لا تذخَري الدموع وبكّي ... واستهلّي دماً على فقد زَنكي
لم يهب شخصَه الرّدى بعد أن كا ... نتْ لهُ هيبة على كل تُركي
ومنها:
خير ملك ذي هيبة وبهاءٍ ... وعظيم من الأنام بُزُرْكِ
يهَبُ المال والجياد لمن يمْ ... مَمهُ مادحاً بغير تلكّي
رُبّ بازٍ لصيدهِ وسلو ... قيّ وصقرٍ وباشقٍ وبلنْكِ
ضاع من بعده وعاش غزال ... ومَهاة وطيرُ ماءٍ وكُرْكي
ومنها:
لست أدري أمن بلادةِ حِسٍ ... ركّ شِعري أو من رخاوة فكّي
ومنها:
إنّ داراً تمدّنا بالرّزايا ... هي عندي أحقّ دارٍ بترْكِ
فاسكبوا فوقَ قبرِه ماءَ وردٍ ... وانضحوه بزعفرانٍ ومسكِ
أي فتكٍ جرى له في الأعادي ... عندما استفتح الرّها أيّ فتْكِ
إذ رمى كل نعمةٍ بزَوالٍ ... وانتقالٍ وكلّ سِترٍ بهتْكِ

عندما اعتاضَ أهلُها من سُعودٍ ... بنُحوسٍ ومن حياةٍ بهُلْكِ
ويكِ نفسي أترتَجين سُلوّاً ... بعدما قد تمكّن الحزنُ منكِ
كل خطبٍ أتتْ به نوَبُ الده ... رِ يسيرٌ بجنْبِ مصرَعِ زَنْكي
بعدما كاد أن يدينَ له الرّو ... مُ ويحوي البلادَ من غير شكّ
له من قصيدة في الهزل:
فديتُ قَذالَه ما كان إلا ... له جَلد على وقْعِ الأكفّ
وأصلبُ منه رأساً ما رأينا ... تُقاسي ما قليلٌ منه يكفي
وكانوا كلّما صفعوه ألْفاً ... أبى إلا مغالطة بألفِ
ولا يرضيه منهم ذاك حتّى ... يحابوه ببرطاش وخفّ
وله وقد زُيِّن سوق دمشق وعُلِّق سَبُعٌ على رمح:
يا رُبّ سوقٍ مزيّن حسن ... جُزتُ به والنّهارُ منسلِخُ
رأيتُ من فوقِ بابه سبُعاً ... يدخلُ فيه الهوا فينتفخُ
وله من قطعة:
وللمنايا مواقيت مقدّرة ... وذاك حُكم جرى في سالف الأبدِ
ولم تزلْ أسهُمُ الأقدار صائبة ... ولا سبيلَ الى عقلٍ ولا قوَدِ
وله من قصيدة:
ألا رُبّ وغدٍ قوّمَ الموتُ درّه ... كما أخرجت ضِغْنَ الشموسِ المهامزُ
وقِدْماً رأينا اللؤمَ يفضح أهلَه ... وتشهَد للقوم الكرام الغرائز
وفي الناس محظوظٌ سعيد ومُدبِر ... وفيهم إذا فتّشتَ ضانٌ وماعز
وله يرثي كلباً من قصيدة:
كان ذا ألفةٍ بنا وحِفاظ ... لم يكن فيه خصلة مذمومه
لم يزلْ دائماً يبصبِصُ للضي ... فِ فاعتدّ ذاك منه غنيمه
لو يباحُ الفداءُ فديناهُ بالنفس ... وإن لم تكن له النّفسُ قيمه
لو تأمّلتَه لراقَك حُسْناً ... وتمنّيت أن تكون نديمَه
إنّ هذا الزمانَ شيمتُه الغدرُ ... قديماً والغدْرُ أقبحُ شيمَه
وله، وكان ابن منير الشاعر بشيزر، وأراد أبو الوحش الأديب السفر إليه، فسأل أبا الحكم أن يكتب أبياتاً إليه في حقه فكتب:
أبا الحسين استمعْ مقالَ فتًى ... عوجِل فيما يقول فارتجَلا
هذا أبو الوحش جاء ممتدِحاً ... للقوم نوِّهْ به إذا وصَلا
واتلُ عليهم بحُسنِ شرحِك ما ... تلوتَه من حديثه جُمَلا
وخبِّر القومَ أنّه رجُل ... ما أبصرَ الناسُ مثلَه رجُلا
ينوبُ عن وصفه شمائلُه ... لا يبتغي غاقلٌ به بدَلا
ومنها:
وهو على خفّةٍ به أبداً ... معترفٌ أنّه من الثُقَلا
يمتّ بالثّلْب والرّقاعة والسُخْ ... فِ وأمّا بما سواهُ فلا
إن أنتَ فاتَحتَه لتُخبِر ما ... يصدُر عنه فتحتَ منه خَلا
فسُمْه إنْ حلّ خطّة الخسف والهو ... ن ورحِّبْ به إذا انتقَلا
واسقِه السمّ إن ظفرت به ... وامزجْ له من لسانكَ العسَلا
وله مقصورة هزلية في الشعراء وطردية، واقتصرت على ما كتبته.

الشيخ أبو محمد
عبد الله بن محمد بن المغربي الأندلسي
له في عميد الدولة بن جهير من قصيدة:
لا زال مجدُك يكبت الحُسّادا ... ويُبيرُ من ناوَى وصدّ عِنادا
ويُعيدُ أرواحاً أبتْ لنوائِبٍ ... دارتْ بها أن تصحبَ الأجْسادا
لله أيام بقربك أنعمت ... ما ضرّها إنْ لمْ تكنْ أعيادا
راقتْ محاسنُها وطاب نعيمُها ... فأتى الزمانُ حدائقاً وعِهادا
أسفي على زمنٍ مضى في غيرها ... يا ليتَ ذاهبَه استعادَ فعادا
مَن مبلِغٌ عنّي الأحبّةَ إذ نأتْ ... أوطانُهم والمعشرَ الحُسّادا
أنّي وجدتُ الجوّ طلْقاً بعدهُمْ ... والماءَ مصقولَ الأديمَ برادا
وقرَرْتُ عيناً في قرارة ماجدٍ ... بطباعهِ يستعبِد الأمجادا
وحللتُ في كنَفِ السّيادةِ فانثنى ... زمني وعاد المنصفَ النّقادا

وله فيه من أخرى مطلعها:
تبيّن من سرّهِ ما كتَمْ ... فلاحَ كنارٍ بأعلى علَمْ
ومنها:
ظننتُ الشّبابَ يفي إذ أتى ... فلم يكُ إلا خيالاً ألَمْ
وكلّ جناحِ دُجى حالك ... فأنجَمَ عن فلَق قد نجَم
ووافى المشيبُ فأهلاً به ... ولكنّه زائدٌ في الهرَمْ
ويوجِبُ ضعف القُوى والهوى ... ويبعثُ في كل حينٍ ألمْ
ومنها:
وما زال يقْفو زمانٌ زماناً ... فإمّا بحمْدٍ وإما بذَم
ولكنّ هذا الزّمان استقام ... ولولا السّياسةُ لم يستقم
لسيّدِ تغلِبَ لاحتْ له ... أناة وكفّ وقدماً ظلم
ومنها:
عميدٌ لدولة خيرِ الورى ... بذكراهُ قد طابَ نشرٌ وفمْ
وقد سكنتْ عينُ أعدائِه ... كما سكن الفعلُ جزماً بلَمْ
فليستْ على فمِ ذي البُخْلِ لا ... بأولى على فمِه من نعَمْ
ومنها:
سلِ العَضْبَ عنه تجدْ مخبِراً ... فُلولاً به من قِراعِ البُهَمْ
ويشكو امتلاء بما قد غذاهُ ... فيرعفُ في كل حينٍ بدَمْ

اسماعيل الطليطلي
وهو مستثنى في هذا الباب.
وجدت له في مجموع:
ودون البراقعِ معكوسُها ... تدبّ على وردِ خدّ نَدي
تُسالمُ في قُربِها خدّهُ ... وتلسعُ قلبَ الشّجي الأبعَد
عبد الودود الطبيب الأندلسي
من بلنسية بالأندلس هاجر الى العراق وخُراسان وعرف عند السّلاطين في عصر السلطان ملِكْشاه وهو الذي يقول فيه بعض أهل العصر وقد ضمن شعر المتنبي أنشدنيه الشيخ عبد الرحيم بن الأخوة:
عبد الودود طبيب طِبُهُ حسن ... أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا
لولا تطببه فينا لما وجدت ... لها المنايا الى أرواحنا سبلا
وأنشدني الأمير جمال الدين ابن الصيفي سنة ثمان وستين لعبد الودود بيتين يكتبان بالذهب على بيضة النّعام وكان يستحسنهما:
قبيح لمثلي أن يُحَلّى بعسجَدٍ ... وألبسَ أثواباً وملبسي الدّرّ
ولو كنتُ في بحرٍ لعزّتْ مطالبي ... ولكنّ عيبي أنّ مسكني البر
أبو هارون موسى بن عبد الله
ابن ابراهيم بن محمد بن سنان بن عطاء بن عبد العزيز بن عطية بن ياسين بن عبد الوهاب بن عاصم القحطاني المغربي الأغماتي.
وأغمات آخر مدينة بالغرب عند السوس الأقصى بينها وبين بحر الظلمات مسيرة ثلاثة أيام.
رحل موسى الى مصر، والحجاز، والعراق، والجبال، وخراسان. وأقام بنيسابور مدّة يتفقه على أبي نصر القشيري، وببهارى على البُرهان. قرأت في تاريخ السّمعاني يقول:
ذكره أبو حفص عمر بن محمد النّسفي اليخشبي في كتاب القَند في ذكر علماء سمرقند وقال:
موسى بن عبد الله الأغماتي قدم علينا سنة ست عشرة وخمسمائة وهو شاب فاضل، فقيه، مناظر، بليغ، شاعر. وفيه قلت:
لقد طلع الشمسُ من غربِها ... على خافِقَيْها وأوساطِها
فقلت: القيامةُ قد أقبلتْ ... فقد جاء أوّل أشراطِها
قال وفيه قلت:
سرّ قربُ الشيخ موسى ... كلّ قلبٍ كان يوسى
ومحا الهمّ كما يم ... حو شُعور الرّاس موسى
قرأت في كتاب السّمعاني: أنشدنا أبو بكر محمد بن محمد بن علي السّعدي بسمرقند، أنشدنا عمر بن محمد اليخشبي، أنشدني موسى المغربي لنفسه مما قاله بنيسابور:
لعمرُ الهوى إنّي وإن شطّتِ النّوى ... لذو كبِدٍ حرّى وذو مدمعٍ سكبِ
فإن كنتُ في أقصى خُراسانَ نازحاً ... فجسميَ في شرقٍ وقلبي في غربِ
أبو محمد عبد الله بن يحيى بن محمد بن بهلول
السرقسطي الأندلسي
وسرقسطه من بلاد الأندلس

كان من فقهاء الفضلاء، ويعدّ من الشعراء النّبلاء، حسن الكلام فصيحه، ظريف النّظم مليحه، مستقيم اللفظ صحيحه، قرأت في مؤلف السّمعاني أنّه ورد بغداد وأقام مدة في المدرسة النّظامية في حدود سنة خمسمائة أو قبلها، ثم خرج الى خُراسان، وسكن بمرو الرّوذِ الى أن توفي في حدود سنة ست عشر وخمسمائة، قال: أنشدني ولده أبو محمود سالم، قال: أنشدني سيدي أبو محمد بن بهلول لنفسه:
ومهفهفٍ يختالُ في أبرادِه ... مرح القضيبِ اللّدْن تحت البارِحِ
أبصرتُ في مرآةِ فكري خدّه ... فحكيتُ فعلَ جفونه بجوارحي
ما كنتُ أحسبُ أنّ فعل توهّمي ... يقوى تعدّيه فيجرحُ جارحي
لا غرْوَ أن جرحَ التّوهمُ خدّهُ ... فالسّحر يعملُ في البعيد النّازحِ
وقال: أنشدنا سالم، أنشدني والدي أبو محمد بن بهلول لنفسه، مما يخاطب به ممدوحه:
أيا شمسُ إنّي إن أتتْكِ مدائحي ... وهنّ لآلٍ نُظّمتْ وقلائدُ
فلستُ بمن يبْغي على الشّعر رشوةً ... أبى ذاك لي جدّ كريم ووالدُ
وإنّي من قومٍ قديماً ومُحدَثاً ... تُباعُ عليهم بالألوف القصائد
وقال: سمعت سالم بن عبد الله بمرو الرّوذ يقول: لمّا دنا أجل سيدي أبي محمد بن بهلول الأندلسي، وكان مريضاً، أنشأ هذه القطعة عشيةً:
خليليّ لو أبصرتُماني وقد جنى ... عليّ الضّنى ما كنتما تعرِفانيا
خليليّ لو غيرُ الذي بي أضرّني ... لكنتُ أعانيه بعلمي وماليا
ولكنّما أشكوهُ وجْدٌ مبَرّح ... ألا إنّه أعيا الطبيبَ المُداويا
إذا سألوه قال قولَ معلِّلٍ ... وإن كان يدري أنّه غيرُ ما بيا
فهل لمُحبٍّ قد تناءى حبيبُه ... بشيءٍ سوى وصل الحبيب تداويا
أيا رَبّ فارجعني بخيرٍ معجَّلاً ... الى خيرِ دارٍ ظل فيها شِفائيا
هذا شعر أضعفه مرض قائله، ولا بأس به.

أبو محمد عبد الله بن عيسى بن عبد الله
ابن أبي حبيب الأندلسي
من بيت العلم والوزارة، قرأت في مصنّف المعاني يقول: ولي القضاء بالأندلس مدة بكورة، يقال لها كورة منجة، من غرب الأندلس، ثم خرج منها على عزم الحج، وجاور بمكّة سنةً، ثم قدم العراق، وأقام ببغداد مدة، ثم أوى الى خراسان، وتوفي بهرات سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وأنشدنا لنفسه:
تلوّنتِ الأيامُ لي بصُروفِها ... فكنتُ على لونٍ من الصبرِ واحدِ
فإن أقبلتْ أدبرتُ عنها وإن نأتْ ... فأهوَنُ مفقودٍ لأكرمِ فاقِدِ
قال، وأنشدنا أبو محمد بن أبي حبيب الأندلسي لنفسه:
قد غدا مُستأنِساً بالعلمِ مَنْ ... خالطَتْهُ روعةُ المَها بِهِ
لا ينالُ العلمَ جسم رائح ... حُفَّتِ الجنّةُ بالمَكارِه
جماعة من أهل المغرب
الشيخ أبو علي الطليطلي المغربي
متبحر في جميع العلوم، ذو فنون، كلامه فيها كلؤلؤ مكنون، لم يسمح الدهر بنظيره، وافر العلم غزيره، مشرق الفضل منيره، ذكره القاضي البرهان أبو طالب النحوي عند وصوله في خدمة الوزير عون الدين يحيى بن محمد بن هبيرة الى واسط لما انحدر السّرادق الشريف المقتفوي الى العراق في رمضان سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وكنت نائباً للوزير بواسط في أسبابه فتقدّم إليّ بمقام أبي طالب النحوي عندي الى حين العود من العراق، وكنا نتجارى في العلوم مدة مقامه وأقتبس من كلامه، فذكر يوماً أبا عليّ الطليطلي وأثنى على فضله، وقال: لا يجود الزمان بمثله.
وقال أنشدني الشيخ أبو علي لنفسه:
قد مللتُ العيشَ في دارِ دُنيا ... حُلوُها مُرٌ فما إنْ تُمَلُّ
وأرى دينيَ فيها عِياناً ... كلّما أكثرتُ منها يقِلّ
كلما زادتْ يزيدُ انتِقاصاً ... فإذنْ لو كمُلتْ يضمَحِلّ
جماعة مدحوا عميد الدولة بن جهير
في الأيام المقتدية والمستظهرية من أهل المغرب
الأديب أبو الحسن
علي بن محمد المغربي القيرواني
تلميذ الشيخ أبي إسحاق الشيرازي رحمة الله تعالى عليه.

طالعت مجموعاً من قصائد مدح بها عميد الدولة ابن جهير الوزير، فوجدت لأبي الحسن المغربي من قصيدة فيه:
هجرَ الظَّلومُ وزاد في الهجران ... وسطا عليّ بجَورِه وجفاني
غدْرُ الزّمانِ كغدره فتظاهرا ... فبقيتُ بينهما أسيراً عاني
فمتى يؤمّلُ طيبَ عيشٍ من غدا ... في صدّ محبوبٍ وجوْرِ زمان
قلْ للزّمان تراكَ تعدِلُ ساعة ... أخرى فتصلحَ ساعة من شاني
هيهات قد خرفَ الزّمانُ فما له ... في الاجتماع بمن أحِبّ يَدانِ
ومنها في المدح:
لو أنّ ثَهْلاناً وحلمَك قُنطِرا ... لأمالَ حلمُك قُنّتَي ثَهْلانِ
فاصعدْ هضابَ المجدِ إنّك حُزتَها ... بالجاهِ والتّمكين والإمكانِ
قرأت في مصنّف السّمعاني، قرأت في كتاب الوشاح لأبي الحسن علي بن محمد بن القيرواني:
ما في زمانِك ماجد ... لو قد تأمّلْتَ الشّواهد
فاشهَدْ بصدْقِ مقالتي ... أو لا فكذّبْني بواحِدِ

الأديب محمد بن أبي بكر الأندلسي
وجدت له مخلص قصيدة في أبي جهير الوزير ولا بأس به:
أيا صاح في نفسي عن النّاس سلوةٌ ... إذا سلِمَتْ لي مُهجتي ووزيرها
لئن سامَتِ الأيام نفسي تعسُّفاً ... فإنّ عميدَ الدولتين نصيرُها
طائفة من أهل المغرب
ذكرهم السّمعاني في جملة أصحاب الحديث
العدل أبو الفضل بن لادخان
هو عطية بن علي بن عطية بن علي بن الحسن بن يوسف القرشي الطبني القيرواني، كان أحد الشهود ببغداد، وهو ظريف كيس، له نظم سلس، حسن الشعر رقيقه، غامض المعنى دقيقه، قرأت في الذيل للسمعاني يقول: لا أدري ولد بالغرب أو بمكة في مدة مجاورة أبيه بها، وانتقل من مكة الى بغداد وسكنها الى أن توفي بها سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. قال: أنشدنا الشيخ الأجل أبو الحسين عبيد الله بن علي بن المعمر الحسيني غير مرة. أنشدني أبو الفضل بن لادخان الشاهد لنفسه:
قالوا التَحى وانكسفتْ شمسُه ... وما دروا عُذْرَ عِذارَيْهِ
مرآةُ خدّيه جلاها الصِّبا ... فبان فيها ضوءُ صدْغيه
وقرأت في مدائح ابن جهير الوزير لابن لادخان من قصيدة فيه:
أراكَ من معجزاتِ السّعْدِ إسعادا ... جَدٌ أعاد لك الأفلاكَ حُسّادا
أيا بشيرَ المعالي عود مالِكِها ... فوقَ المُنى لك قد أطربتَ إنشادا
أطَرْتَ أنفسَ من بشّرتَ من فرحٍ ... وقيل يوم النّوى ما كنّ أجلادا
أبعْدَ ما تمّ بينٌ لا بُليتُ به ... أبكي وأقرَح أجفاناً وأكبادا
وليلةٍ بتّ من بعدِ النّعيم بها ... أشقى وأكثِرُ إعوالاً وتَعْدادا
وموقفٍ من سُليمى لستُ أذكره ... إلا رأيتُ لجيش الشوق أمْدادا
بيضاءَ تخطر في ثوب الصّبا مرَحاً ... كما تمايلَ خوطُ البان وانْآدا
ظلّتْ تُساقطُ دُرّ الدّمع والهةً ... والوجدُ ينهبُ أرواحاً وأجسادا
وقد جلا البينُ من أزرارها قمراً ... لا يعدِمُ الرّكب في لألاه إسآدا
بكيتُ في إثْر من أهوى وصحتُ فما ... عاج الحُمولُ ولا حاديهمُ حادا
راحوا بشمسٍ سحابُ النّقع يسترُها ... والمشرفيّة لا يعرِفْن إغْمادا
وفتيةٍ لقنا الخطّيّ مُشرعةٌ ... لا يألفون سوى الأدْراعِ أبرادا
لا يرهبون لصرْف الدّهرِ نائبةً ... ولا يهابون داعي الموت إذ نادى
كأنّما شرف الدين استدل لهم ... من الزّمان فما يخشون إبعادا
ومنها ما أورده ابن الهمذاني المؤرخ في الذيل، في تهنئته بفتح برْكيارُقْ وقتل تُتُشْ في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة:
ورايةٍ كاد أن يُعْنى الزمانُ بها ... أمدها بجيوش الرأي إمدادا
ضربْنَ بالرّيّ من آرائه قُضُباً ... أضحى لها مِغْفَرُ التّيجان أغمادا
ومأتمٌ قام نحو الغرب صارخُهُ ... فعاد أيامُ من بالشّرق أعيادا

ومعجزاتٍ أراد اللهُ يُظهِرُها ... في كبته لكَ أعداءً وحُسّادا
فليهن ذا الفتح من آراؤه فتحَتْ ... عن المكارم أغلالاً وأقيادا
رحلتُ والدهرُ قد ألوى بجانبِه ... وعدتُ والدهرُ بالأتباع منقادا
وذكر أن هذه القصيدة وازن بها قصيدة فيه للأبيوَرْدي منها:
يا خير من وجدَتْ أيدي المطيّ به ... من فرْعِ تغلِبَ آباءً وأجدادا
رحلتَ والمجدُ لم ترْقأ مدامِعُه ... ولم ترِقّ علينا المُزْنُ أكبادا
وغابَ إذ غبتَ عن بغدادَ رونَقُها ... حتى إذا عُدتَ لا فارقْتها عادا

محمد بن الوليد بن الأندلسي
الكاتب بمصر قرأت بخط السّمعاني في تاريخه: ذكر أبو العلاء محمد بن محمود النيسابوري، أنشد شيخنا أبو القاسم طلحة بن نصر المقدسي، قول محمد بن الوليد الأندلسي:
أدِرْها على وصْلِ الحبيبِ فربّما ... شربتُ على فقد الأحبّة والفجع
وما صلتني الكأسُ إلا شربتُها ... وأسقيتُ وجه الأرض كأساً من الدمع
باب في ذكر محاسن
جماعة من فضلاء العصر بالقيروان
أوردهم ابن الزبير في كتاب الجِنان
الفقيه أبو الفضل يوسف المعروف ب
ابن النحوي
قال: أنشدني عمر بن الصّقّال، أنشدني أبو الفضل لنفسه بالقلعة في مدح مصر:
أين مصرُ وأين سُكّانُ مصر ... بيننا شُقّةُ النّوى والبعادِ
حدّثاني عن نِيلِ مصرَ فإني ... منذ فارقتُه الى الماءِ صادِ
والرياض التي على جانبيهِ ... واجعَلاهُ من الأحاديث زادي
رقّ قلبي حتى لقد خلتُ أني ... بين أيدي الزّوار والعوّادِ
ما تراني أبكي على كل ربْعٍ ... ما تراني أهيم في كل وادِ
روشنٌ من رواشنِ النّيل خير ... بعدُ من دَجلةٍ ومن بغدادِ
ومن القصر قصرُ شدّاد ذاكَ ال ... مشرف المرتقى على سنداد
إن مصرَ لها عانٍ لعَمري ... قد تأبّتْ على جميع البلادِ
هذه الأرض إنّما هي نادٍ ... مصرُ من بينها سراجُ النادي
أسعداني يا صاحبيّ على ه ... ذا البُكا حاجتي الى الإسعادِ
وله في الإمام حجّة الإسلام أبي حامد الغزالي:
أبو حامدٍ أحيا من الدّين علمَهُ ... وجدّد منه ما تقادم من عهدِ
ووفّقه الرحمانُ فيما أتى به ... وألهمَهُ في ما أراد الى الرّشد
ففصّلها تفصيلَها فأتى بها ... فجاءت كأمثال النجوم التي تهدي
أبو بكر عتيق بن محمد بن الوراق
له يرثي رجلاً، دفن بليل:
دفنوا صُبحَهمْ بليلٍ وجاءوا ... حين لا صُبْحَ يطلبون الصّباحا
خدّوج
امرأة من أهل رُصفة لُقّبت بهذا اللقب، واسمها: خديجة ابنة أحمد بن كلثوم العامري، وهي شاعرة حاذقة مشهورة، ولها ترسّل لا يقع مثله إلا لحذّاق المترسلين، ومن شعرها:
فرّقوا بيننا ولما اجتمعنا ... فرّقونا بالزّور والبهتان
ما أرى فعلَهم بنا اليومَ إلا ... مثلَ فعل الشيطان بالإنسانِ
لهف نفسي عليك بل لهف نفسي ... منك إن بنت يا أبا مروان
كان هذا أبو مروان من أهل الأندلس، شاعراً يودّها ويشبّب بها، فغار ذلك إخوتها، وفرّقوا بينهما، فعملت لذلك أشعاراً، وكتبت الى أخيها:
أأخي الكبير وسيّدي ورئيسي ... ما بالُ حظي منكَ حظّ نحيس
أبغي رضاكَ بطاعةٍ مقرونةٍ ... عندي بطاعة ربّي القُدّوسِ
يا سيّدي ما هكذا حكمُ النُهى ... حقّ الرّئيس الرّفقُ بالمرؤوسِ
وإذا رضيتَ ليَ الهوانَ رضيتُه ... ورأيتُ ثوب الذّلّ خيرَ لَبوسِ
واشهر أبو مروان هذا، فقتله إخوتها.
محمد بن أبي بكر الصقلي
ذكره ابن القطاع في الدرة الخطيرة، وذكر أنّه كان يهوى بعض القواد، وخامره هوى برّح منه بالفؤاد، وكتم غرامه به حتى تقطعت كبده، وهو مع ذلك يستر وجده، ويزيد كمده.
وقال فيه:

هذا خيالكَ في الجفون يلوحُ ... لو كان في الجسم المعذّب روح
يا سالماً مما أقاسي في الهوى ... هل يشتفي من قلبيَ التّبريح
غادرتني غرَضَ الرّدى وتركتني ... لا عضوَ لي إلا وفيه جروح
لو عاينتْ عيناكَ قذْفي من فمي ... كبِدي ودمعي معْ دمي مسْفوح
لرأيتَ مقتولاً ولم ترَ مقْتَلاً ... ولخلتَ أنّي من فمي مذبوح
يا ويحَ أهلي قد جُرِحْتُ وما دروا ... أنّي بأسياف الجفون جريح
كبدي على صدري جرتْ فإلى متى ... أغدو أعذّبُ في الهوى وأروح

باب في ذكر جماعة وافدين إلى مصر
وغيرها من المغرب
محمود بن عبد الجبار الأندلسي
الطرسوسي
له يهجو الآمدي العجلي الوافد الى مصر:
أيها الآمديّ حُمقُك قد دلْ ... ل على أن آمِداً هي حِمصُ
بسَوادِ الرّمادِ تُخضب شَيْباً ... فلهذا سوادُه لا يَبُصّ
أخلِطِ العفْصَ فيه يا أحوجَ النّا ... سِ الى العفصِ حين يُعكس عفص
فلما بلغ الآمدي هذا الشعر، لم يهجه بل كتب إليه معاتباً:
أبِنْ لي ما الذي تبغيهِ منّي ... وما هذا التعنّتُ والتّجنّي
وأين خِلالُك الغُرّ اللواتي ... يُخَلْنَ من العذوبة ماءَ مُزْنِ
فيا من ليس يلحَن في مقالٍ ... أترضى في المقال بشرّ لحْنِ
أبو الحسن
عبد الودود بن عبد القدوس القرطبي
أورده ابن الزبير في كتابه من الطارئين على مصر، واستطرد بابن قادوس في ذكر ابن عبد القدوس بفصل هو: كان انتجع مصر معتقداً أنّه يُحمد بها المَراد، ويُنال المُراد، فاتّفق لنكد الزمان، وحظّ الحرمان، أن ورد بعض ثغور مصر، وبها رجل يعرف باسماعيل بن حميد المنبوز بابن قادوس، وكان ممّن يهتم بالجمع والادّخار، ويدين بعبادة الدّرهم والدينار، لا تندى حصاته، ولا يظفر بغير الخيبة عفاته، ولا يرشح له كفّ، ولا يُعرف له عرف، إلا أنّ له رواءً وجِدة، وبنين وحفدة، يطمع الغِرّ في نواله، ومنال النّجم دون مناله، فقصده عبد الودود بمدائح أرقّ سلكها، وأجاد سبكها، وتأنّق في وشيها وحبكها، وظن أنّ سهمه قد أصاب الغرض وقرطس، وأنه يفوز بأكثر ما التمس، فكان بارقه خُلّباً لا يجود بقَطرة، وشرابه سراباً بقفرة، ولمّا تحقق إكداء كدّه، وصلود قدحه في مدحه، قال:
شقى رجالٌ ويشقى آخرون بهم ... ويُسعِدُ اللهُ أقواماً بأقوامِ
وليس رزقُ الفتى من حسنِ حيلته ... لكن جُدودٌ بأرزاقِ وأقسام
كالصّيد يُحرَمُه الرّامي المُجيد وقد ... يرمي فيُرزَقُه من ليس بالرامي
وقال في هجو ابن قادوس:
تسلّ فللأيام بِشرٌ وتعبيسُ ... وأيقِنْ فلا النُعمى تدومُ ولا البوس
صديْتَ على قُربٍ وخُلقُكَ عسجد ... ومِلْتَ الى لغْوٍ ولفظُك تقديس
ومنها:
ترحّلْ إذا ما دنّس العزّ ملبَسٌ ... فغيرُك من يرضى به وهو ملبوس
وما ضاقتِ الدنيا على ذي عزيمةٍ ... ولا غرقَتْ فُلْك ولا نفَقتْ عيس
وكم من أخي عزمٍ جفتْهُ سُعوده ... يموتُ احتراقاً وهو في الماء مغموس
تُفَلّ السّيوف البيضُ وهي صوارم ... ويرجع صدر الرّمحِ والرمْحُ دِعْيسُ
ولولا أناسٌ زيّنوا بسعادةٍ ... لما ضرّ تربيع ولا سَرّ تسْديسُ
ولكنّ في الأفلاك سرّ حُكومةٍ ... تحيّر بطليموسُ فيها وإدريسُ
أفاضتْ سعوداً بالحجارة دونَها ... يُطافُ سُبوعاً حولها الغُلْبُ والشّوسُ
وصار فُلاناً كلّ من كان لمْ يكُنْ ... ودانَ له بالرقّ قوم مناحيسُ
فحقِّقْ ولا يغْرُرْكَ قولُ مُمَخرِقٍ ... فأكثرُ ما يُدْعى إليه نواميس
أفيقوا بني الأيّام من سِنَةِ الكَرى ... وسيروا بسيرِ الدهر فالدهرُ معكوس

هيَ القِسمةُ الضّيزى يُخوّلُ جاهِل ... وذو العلم في أنشوطةِ الدهر محبوس
وإرضاءُ ذي جهلٍ وإسخاط ذي حِجى ... نِعاج مياسير وأسْدٌ مفاليس
خُذِ العلمَ قنطاراً بفَلسِ سعادةٍ ... عسى العلم أن يفنى فيمتلئَ الكيس
ومُذْ لقّب الفرد القصير موفّقاً ... هَذَى الدهرُ واستولتْ عليه الوساويس
وقالوا سديد الدولة السيّد الرّضى ... فأكثِرَ حُجّابٌ وشدّدَ ناموس
وأعجبُ من ذا أن يلقَّب قاضياً ... وأكثرُ ما يجري من الحكم تلبيس
وأصدقُ ما نصّ الحديث فكاذب ... وأطهرُ ما صلى الصلاة فمنجوس
وأعرَفُ منه بالفرائض راهبٌ ... وأفقَه منه في الحكومة قِسّيسُ
وما الغَبنُ إلا أن تُحكّمَ نعجة ... وضرغامُ أسد الغاب في الغيل مفروس
وما لي فوق الأرض مغرز إبرةٍ ... وتُحمَلُ دِمياط إليه وتنّيس
مصائبُ من يسكُتْ لها مات حسرة ... ومن ثِقلِها بثّاً يمُتْ وهو منحوس
وفي جورِه هذا الدهر ما بأقلّه ... سيضرب في أرجاء مكّةَ ناقوس
ويُبْتاعُ مِسك بالخراء مدلّس ... ويُعبَدُ خنزير ويُرسل جاموس
وقالوا ابن قادوس تقدّس كاسمه ... ومن هو قادوس فلا كان قادوس
أيا من غدا ضِداً لكلّ فضيلةٍ ... ومن نجمُهُ في طالع السّعد منكوس
ومنها:
وقد قُلتُها هجْواً وأنفُكَ راغم ... فلا يدخُلنْ ريْب عليكَ وتلبيس
أبا الفضل إنْ أصبحتَ قاضيَ أمةٍ ... وللحكم في أرجاء ذكركَ تعريس
فإنّ قريضي بين أذنيك درّة ... وإنّ هجائي في دماغِكَ دبّوس
ورأسي ومِثلا شرِه سفْن خرْدل ... ......... مدسوس
تجمّع فيّ الخيرُ والشرّ جملةً ... فخيريَ جِبريل وشرّيَ إبليس
أطاعه في هذه القصيدة الطبع الجافي، وجاد بالكدر خاطره الصافي، وأبان فيها عن رقّة دينه وتهلهله، وعُدِم عُبوسُ بؤسِه، بِشرَ الفضلِ في تهلله.
ومما وجب إيراده في شعراء صقلية:

الأمير شيخ الدولة عبد الرحمان بن لؤلؤ
صاحب صقلية
أنشدني للطاهر الحريري في صفة الفرس، فقال شيخ الدولة في المعنى:
وأدهمَ كالليل البهيم مطهّمٍ ... فقد عزّ من يعلو لساحة عُرْفِه
يفوتُ هبوب الرّيح سبْقاً إذا جرى ... نهايةُ رجليه مواقعُ طرفِهِ
القاضي الرشيد أحمد بن قاسم الصقلي
من الطارئين على مصر، وكان قاضي قضاتها في أيام الأفضل، فدخل يوماً الى الأفضل وبين يديه دواة من عاج محلاّة بمرجان فقال:
أُلينَ لداوودَ الحديدُ بقدرةٍ ... يُقدّرُهُ في السّرْدِ كيف يريد
ولان لك المرجانُ وهو حجارة ... على أنّه صعبُ المرام شديدُ
وكان الأفضل قد أجرى الماء الى قرافة مصر، فكتب إليه يرجو إجراء الماء الى دار له بها:
أيا مَولى الأنام بلا احتشامٍ ... وسيّدَهُم على رغم الحسود
لعبدِك بالقَرافةِ دارُ نُزلٍ ... لموجود الحياة أو الفقيد
لموجودٍ يعيشُ بها لوقتٍ ... ومفقودٍ يوارَى في الصّعيد
وفي أرجائها شجرٌ ظِماء ... عُدِمْنَ الحُسنَ من ورقٍ وعود
فمذ غدتِ المصانعُ مُمْتِعاتٍ ... عدمْنَ الرّيّ في زمن الوجود
يقُلْنَ إذا سمعْنَ شجى السّواقي ... مقالةَ هائمٍ صبّ عَميد
أرى ماءً وبي عطش شديد ... ولكن لا سبيلَ الى الورودِ
وله:
إن لم أزرك ولم أقنعْ برؤياك ... فللفؤادِ طوافٌ حول مغناكِ
يا ظبية ظلْتُ من أشراكِها علِقاً ... يوم الوداع ولم تعلقْ بأشراكي
رعيت قلبي وما راعيت حُرمتَهُ ... يا هذه كيف ما راعيتِ مرعاكِ

أتحرقين فؤاداً قد حللتِ به ... بنار حبّكِ عمداً وهو مأواكِ
ما نفحة الريح من أرض بها شجني ... هل للمُحبّ حياة غير ذكراك

أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن زكرياء
القلعي الأصم
من قلعة بني حماد بالمغرب ذكره ابن الزبير في مجموعه وقال: كان جيّد الشعر، وارى زناد الفكر، لكنه مبخوس الجدّ، ورد الى الإسكندرية ومصر، وأقام بها زماناً، لا يجد من يروي ظمأته، ولا يسدّ خلّته، وعاد الى المغرب في غير أوان سفر المركب، فسار راجلاً، نعله مطيته، وزاده كُديَتُه، الى أن وصل الى قوم يعرفون ببني الأشقر من طرابلس الغرب، فامتدحهم بالقصيدة الميمية التي أولها:
تُرى فاض شؤبوب من الغيم ساجم ... ...
فأحسنوا صلته، وعظّموا جائزته، ولم أدر ما فُعل به بعد ذلك. فمن قصيدته الميمية في مدح بني الأشقر:
تُرى فاضَ شؤبوب من الوَدْقِ ساجمُ ... وأومضَ مشبوب من البرق جاحِمُ
وماذا النّدى والوقتُ بالصيف حائمُ ... وماذا السّنا والجوّ بالليل فاحمُ
وما هذه مُزْن وما ذي بوارِق ... ولكنها أيمانُكم والصّوارم
بني الأشقر استعْلوا بحقّ على الورى ... كما لم يزل فوق الكُعوب اللّهاذِمُ
مشيْتُمْ الى العليا وطار سواكُمُ ... فلم تبلغِ الأقدامَ فيها القوادمُ
وأوقعُ من تلقاهُ من طار للعُلا ... إذا لم يكن ريش الجناح المكارمُ
وفي ذا الحمى المأمولِ يأمنُ خائفٌ ... وفي ذا النّدى المعسولِ ينقعُ حائمُ
عضَدْتُمْ على أحسابكم بفِعالكم ... كما عضدَتْ أسّ البِناء الدعائمُ
تغار على مسّ الدّروع جُسومكم ... غلائلُ فيها للنُضار مراقِمُ
تتوجتمُ بالبيض حتى تخيّلتْ ... بأنّكم حرّمتموها العمائمُ
ولم يحْظَ منكم بالبَنان خواتم ... مذ اتّفقتْ أيديكمُ والقوائمُ
وما اختلفتْ أقوالكمْ وفِعالكم ... مذ اتفقت آراؤكُم والعزائمُ
على كل أرض من نداكم مياسم ... وفي كل نادٍ من ثناكم مواسمُ
وُليتم على طُلْمَيثَةٍ وهي مَعلَمٌ ... لكم بالنّدى والبأس فيها معالم
ومنها:
فإن لم أعدّدْ في قريضي كُناكُمُ ... وأسماءَكم فليفتقد ذاك لائمُ
ويغني اشتهارُ البيتِ عن ذِكر أهله ... ويُغني عن اسمِ المِسكِ بالشمّ ناسمُ
وله يمدح الأفضل:
ملِك أنتَ أم ملَكْ ... حارَ طرْف تأمَّلَكْ
أنت إن أُسعِد الورى ... فلك مُسعِد فلَك
وله:
بما استرقَتْهُ من جفونك بابلُ ... بما علمَتْ من مقلتيْكَ المناصلُ
بوجهكَ ماءُ الحسنِ في صفحاته ... كذكرك منّي في الضمائر جائل
خذوني على التّجريب عبداً فإن أكنْ ... أخالفُ أمراً فاطِّراح مُعاجل
فما طوِيَتْ إلا عليكم جوانِح ... ولا بُسِطتْ إلا عليكم أنامِل
وله يعظم حُرفَتَه:
مضى الناسُ يستَسقون من كل وجهةٍ ... الى كل مسموع الدّعاء مُجاب
فوافاهُمُ الغيثُ الذي سمحتْ به ... لهم بعد طول المنع كلّ سحاب
وفي ظنّهم أنْ قد أجيب دعاؤهُمْ ... وما علموا أنّي غسلتُ ثِيابي
وله في صفة فوّارة:
وحاكيةٍ بالماء لون اضطرابِه ... قواماً وحُسناً حين يبدو ويوبِصُ
قضيب لُجَينٍ ألمعَ الصّقْلُ متنَه ... وأخلصَهُ في السّبْكِ من قبلُ مُخلصُ
تسامى قليلاً ثمّ عاد كأنّه ... جُمان حواليها على الماء يرقُصُ
تُضايقُ أعنانَ السّماء كأنّها ... لها بين هاتيك النّجوم تلصّصُ
كأنّ نَوالاً من يمين كرامَةٍ ... يمدّ به إذ لا نرى الماءَ ينقُصُ

كرامة، الممدوح، هو: كرامة بن المنصور بن الناصر بن علّناس بن حماد صاحب القلعة، وما سمع في الفوّارة أحسن من قول علي بن الجهم:
وفوارة ثأرُها في السّما ... فليستْ تُقصّرُ عن ثارِها
ترُدّ على المُزْنِ ما أسبلتْ ... الى الأرض من صوْبِ مِدْرارِها
وله:
أخي كم تجمّعْنا مِراراً وضمّنا ... على الناس شمل بعد أن يتصدّعا
فإن كان من فعلِ الليالي ودأبها ... فلا تأسُ إن فرّقتَ أن نتجمّعا
وله:
إيّاكَ من حتْفٍ يُسيمُ بطُرّةٍ ... من حاسر في حُسنِه مستلئِم
فمصارعُ العُشّاق بين جُفونِه ... انظرْ تجدْ في خدّه أثرَ الدّم

علي بن اسماعيل القلعي المعروف ب
الطميش
من الواردين على مصر من أهل العصر، وله حين قتل ابن الأفضل أبو علي بعد حبسه المدعوّ الحافظ وإلقائه في نفوس شيعته بذور الحفائظ وإقصابه مِياجَهُم في مغائظ المفائظ واستيلائه على المملكة سنةً يدعو الى القائم المنتظر، ونقش اسمَه على الذهب الأحمر، ثم احتيل عليه فاغتيل وحان القبيل فكان القتيل، وأعيد الحافظ بعد ضياعه، وأذن ذلك بتأهيل رباعه، وتطويل باعه. فنظم الطميش فيه قصيدة منها - وقال ابن الزبير هي منسوبة إليه مما ادعاها - :
ولا بدّ من عزْمٍ يخيِّلُ أنّني ... قدحْت على الظلماء من ندْزِه فجرا
يجوبُ ظلاماً كالظّليم إذا سرى ... إذا جنّ جوْن كان بيضته البدرا
وليل صحبتُ السّيفَ يُرعدَ حدّه ... وقد شاب فيه مفرِق الصّعدةِ السمْرا
حملتُ به درعي وسيفي وإنّما ... حملتُ غديرَ الماء والغُصنَ والنّهْرا
وأشْقر وردُ اللون لولا انتسابُه ... الى البرقِ سيراً خلتُه المسك والهجرا
الى أن بدا وجهَ الصّباح كأنّه ... لحافظِ دين الله آيته الكبرى
أستغفر الله من ذلك، فإنّه لم يكن حافظاً، وإنما كان مضيّعاً. ومنها:
وقد كان دينُ الله بالأمس عابساً ... لجرّاهُ حتى لاحَ في وجهه بِشرا
وكان عليّاً حين كان الذي طغى ... معاوية والحارثيّ له عَمْرا
والحارثي كان من أعوانه. أخذه من ابن شرف حيث يقول:
مالي يُعاقبُني الزمانُ وليس لي ... ذنب كأنّي عَمْرو المضروب
ما كان أولاني بحُكمِ المُبْتَدا ... في النّحو لو أنّ الزّمانَ أديب
وله من قصيدة أخرى تجري مجرى الأولى:
زارَ الحبيبُ فلم يزُرْني غيهَب ... إنّي وقد لبس الذّوائب غيْهَبا
وكأنّها الظّلماءُ قد جُعِلتْ على ... بحر ... من السّحائب طحلبا
حكمَتْ على دمِه سيوفُ بُروقِه ... أنْ لا يُصان وأن يُراق ويُسكَبا
يستقبلُ الرّوضاتِ ماءً جارياً ... فيعودُ درّاً في الغصون مركّبا
ومنها في المديح:
...... برعْي الكلا ... حتى تراهُ بالدّماء مخضّبا
وتعافُ وِردَ الماء حتى تشْتكي ... وجناتُه بدمِ الأعادي طُحلُبا
من قصيدة منسوبة إليه:
... لكم وِداً ودمْتُم على الجفا ... ويزدادُ حُباً كلّما زدتُمُ قِلَى
ولو كان سقماً في الهوى من رضاكُمُ ... لما اخترتُ عنه ما بقيتُ تنقّلا
وزَنْتُ مماتي بالبقا عند غيرِكُم ... فألفيتُ موتي عندكم ليَ أفضَلا
الفقيه أبو محمد عبد الله بن سلامة
أصله من بجاية، ومقامه بالإسكندرية، ثم مصر، والصعيد، والريف، وهو القائل:
لي حرمةُ الضّيف لو كُنتم ذوي كرم ... وحرمةُ الجارِ لو كنتم ذوي حسبِ
لكنّكم يا بني اللّخناءِ ليس لكُم ... فضلٌ ولا أنتمُ من طينة العربِ
كم لا أزالُ على حالٍ أساءُ بها ... منكم وأغضي على الفحْشاء والرّيب
لأترُكنّ لكم أرضاً بكم عُرِفتْ ... فأخبثُ البومِ يأوي أخبثَ الخِرَبِ
وما مُقامي بأرضٍ تسكنون بها ... منّي يطيبُ ولكن حرفة الأدبِ
علي بن يقظان السّبتي

شاعر، أديب، متطبب، أصله من سبتة، ذكره بعض أهل الأدب بمصر، وقال: ورد الى البلاد المصرية سنة أربع وأربعين وخمسمائة، ومضى منه الى اليمن، ورحل الى غَدن من عدن، وسافر الى الشرق، في طلب الرزق، وزار العراق، ودار الآفاق، وله من قصيدة في الوزير الجواد جمال الدين أبي جعفر محمد بن علي بن منصور بالموصل:
أإخوانَنا ما حُلتُ عن كرم العهدِ ... فيا ليتَ شِعري هل تغيّرتُم بعدي
وكم من كؤوس قد أدرتُ بوِدّكمْ ... فهل ليَ كأس بينكمْ دار في وِدّي
أحِنّ الى مصرَ حنينَ متيّم ... بها مستهامَ القلبِ محترِقَ الكبْدِ
ومنها:
أراهُم بلحظِ الشوق في كل بلدة ... كأنّهمُ بالقرب منّي أو عندي
ولو أنّ طعْمَ الصّاب جرّعْتُ فيهمُ ... لفضّلتُه للحبّ فيهم على الشهد
ومنها في المخلص:
فكم قد قطَعْنا من مفاوِزَ بعدَهم ... وخُضْنا بها الصعْب المرامِ من الوهْد
الى أن وصلْنا الموصلَ الآن فانتهتْ ... بنا لجمالِ الدّين راحلةُ القصْدِ
وله من قصيدة في مدح الدّاعي عمران بن محمد بن سبأ، بمدينة عدن:
صبا الفؤادُ لريمٍ رمتُه فأبى ... وكان من شأنِه التّبريزُ فاحتجَبا
عاطَيتُه الكأسَ فاستحيَتْ مدامتها ... من ذلك الشّنبِ المعسول إذ عذُبا
حتى إذا غازَلتْ أجفانَه سنَةٌ ... وصيّرَتْه يدُ الصّهباء مُقترِبا
ظَلْنا به طرَباً من حسنِ نَغمتِه ... في عودِه نجْتني التّأنيسَ والطّرَبا
ونقطعُ الليلَ شدْواً بامتداح فتى ... غدا لخيرِ انتسابٍ حازض مُنتَسبا
فتى توارث دسْتَ المُلكِ في عدَنٍ ... ببابِه عن أبيه الأوحدِ ابنِ سَبا
وله في مدح أحمد بن راشد صاحب بلاد الشّحر:
اللهُ يعلمُ والفضائلُ تشهدُ ... أنّ ابنَ بجْدَتِها ابنُ راشد أحمدُ
ومنها:
لما حططتُ ببابه حفّتْ بنا ... منهُ مكارمُ في القرى لا تُجحَدُ
وتبسّمَ الجَعْدُ الثّرى لي ضاحكاً ... واخضرّ بالأرض البسيطةِ فرقدُ
وبدَتْ ليَ البشْرى من البِشْر الذي ... أبداه لي لألاؤه المتوقِّد
ورأيتُ همّتَهُ وبُعدَ صعودِها ... فعجِبْتُ من هِممٍ إليها تصْعَد
ابن شقرق السّبتي
ذُكِر لي سنة ثلاث وسبعين بمصر أنّه يعيش.
له في مدح عبد المؤمن صاحب المغرب:
قِفوا عيسَكُم في حضرةِ الملكِ الأتقى ... وقضّوا بلَثْم التُربِ من ربعِه حَقّا
وحُثّوا المَطايا المقرِباتِ ويمِّموا ... ذَراهُ الرّحيبَ الأخصبَ الأمنعَ الأوْقى
ونادِ قِطارَ العيسِ شتّان بيننا ... فيا جِدّ ما تلقى ويا جِدّ ما ألقى
سأشْدو معاليه احتفالاً كما شدَتْ ... على الرّوضةِ الغنّاء ساجعةٌ وَرْقا
ولوْ رامتِ الأفكارُ مدحةَ غيرِه ... لما أحرزَتْ فهْماً ولا وجدَتْ نُطْقا
ومنها:
وما هو إلا رحمة لمن اهتدَى ... وغوث وغيث هاطل شمَلَ الخَلْقا
وشدّ عُرَى التّوحيد فاشتدّ أزْرُه ... فدونكَ فاستمْسِكْ بعُروتِه الوُثْقى
هو البحرُ حدّثْ عن عطاياهُ إنّها ... عطايا جوادٍ عمّتِ الغرْبَ والشّرْقا
ودعْ حاتماً في جودِه فهو مثلُ ما ... تحدِّثُ عن بَيضِ الأنوقِ أو العَنْقا
وله الى صديق له:
دعني أطيلُ تأسّفي وتفجّعي ... قلبي غداةَ البيْن جِدّ مروّعِ
تبدّتْ ببَينِهمُ القطارُ فأصبحتْ ... كبِدي وقلْبي يجرِيان بأدمُعي
أسفي على زمن الوصال كأنّني ... لم أستظِلّ بظِلّه في مربَعِ
فلأمْنَعَنّ الجَفْنَ من طعْمِ الكَرى ... أسَفاً على ذاك الزّمانِ المُمْرِعِ
ولأحْفظنّ العهدَ من خِلّ نأى ... بعد التألّفِ والوِدادِ المُمْتِعِ
ومنها يصف السفينة ويحثّ صاحبه على ركوبها:

فاركبْ على اسمِ الله متْنَ ركوبَة ... خضراءَ تسبحُ فوقَ لجّ مترِع
تخِذَتْ جناحاً مثلَ قلبي خافِقاً ... وحوتْ قوادِمَ كل طيرٍ مُسرِع
تسري وتُزْجيها الرياحُ إذا سرَتْ ... وتمرّ مرّ العارض المتقشِّعِ
تستعذِبُ المِلحَ الأجاجَ لدى الظّما ... مهما العِطاشُ وردْن عذْبَ المشرع
وكأنّما رُكبانُها أبناؤها ... تحنو عليهم رأفَة بالأضلُعِ
وكأنّما الملاّحُ فيها آمِر ... يُمضي أوامرَهُ لأوّل موقِع
وله في مولود ولد عند موت أخيه:
الله أكبرُ بدرُ تمّ أطلَعا ... في إثرِ بدرٍ بالأفول تقنّعا
وبكى الغمامُ لذاك مُنتحباً كما ... ضحك الزمانُ لذا غداةَ تطلُّعا
فعجبتُ من قمرين ذلك آفِل ... بادي السّرار وذا تبلّجَ مَطْلعا
وعجبتُ من غُصنَين ذلك ذابِل ... بادي النّحول وذا رطيب أينَعا
وعجبتُ من عينٍ قد أقرّتْ وقد ... سخِنتْ بمصرَع ذاك في حالٍ معا
يا من رأى من سرّ حالة حُزنِه ... ورأى الهناءَ مع العزاءِ تجمّعا
يهني المعالي أنّها قد أسمعَتْ ... حُسنَ الحديثِ غداةَ صُمَّتْ مسمعا
هذا بنَسْجِ اليُمْنِ جاءَ مبشِّراً ... لكمُ الغداةَ فكان ناعٍ قد نعى
ولك الهناءُ أبا محمدٍ الرّضا ... ولك العزاءُ مسرة وتفجّعا
فيما تُسَرّ به تُسَرّ وبالذي ... يوماً تُساءُ به تُساءُ تَوجعا

يونس القسطلي
من الجزيرة الخضراء، وهو حيّ في زماننا هذا، له في ابن عبد المؤمن أبي سعيد، وقد جاء الى البلد:
أهلاً بمرآكَ السّعيد ومرحبا ... اليومَ رقّ لنا الزّمانُ وأعتبا
ومنها:
بكمُ تحلّى الدهرُ أحسنَ حِليةٍ ... فغدتْ لياليه صباحاً أشهَبا
وأنارَتِ الدنيا بهَديِكُمُ الذي ... أحيا مشارِقَها وخصّ المغرِبا
لله ......... له ... نور من العلم المَصون تشعَّبا
فإذا نظرتَ رأيتَ غِراً يافِعاً ... وإذا اختبَرْتَ وجدتَ عَضاً أشيبا
تبدو البدورُ له طماعةَ أن ترى ... وجهاً برَقْراقِ الشّبيبةِ مُشرَبا
فيصدّها عنه علوّ مكانِه ... عنها ونور ما هناكَ تطنّبا
ومنها:
هزّازُ أعطاف اليراعةِ والقَنا ... يصلُ الكتائبَ تارة والمكْتَبا
وتراهُ بين روايةٍ مهديةٍ ... أو رايةٍ بالنّصر تخفُق هيْدَبا
وإذا تشابهتِ الأمورُ أعادها ... عزْماً يفلّ شبا الحُسام المُقضبا
وله شمائلُ كالخمائلِ جادَها ... صوبُ السحائب عطّرتْ نور الرّبى
وله خِلال كالزّلالِ نفى القَذى ... عنه الصّبا كادتْ هوًى أن تشرَبا
ويثوبَ ذاك مرارة لمن اعتدى ... لله درّكَ ما أمرّ وأعْذَبا
يهتزّ للمعروف يفعلُه كما ... يهتزّ عطف البان تحت يد الصّبا
ويهشّ نحو المكرُماتِ سجيّة ... ويمدّ للمجد الذّراعَ الأرْحَبا
ومنها:
يا سرّ قيسٍ يا ذؤابةَ فرعها ال ... أصلي وكوكبَها المنيف المُجتبى
قد طالما اشتاقتْ إليكَ ديارُنا ... زمناً وأهدتكَ السّلام الأطْيَبا
وله من قصيدة في صاحب الجزيرة:
في البدر أثمرهُ قضيبُ البان ... برءُ المتيم أو عناءُ العاني
يا غُرّة أخذتْ فؤادي غِرّة ... ورمتْ سهام السهدِ في أجفاني
كم ليلةٍ قد بِتّ في ظلمائِها ... حلف السُهى أرعاهُ أو يرعاني
ولطالما جرّرت أذيالَ الصِّبا ... ولعاً بكُم وعصيتُ من يلْحاني
حتى ارعويتُ عن الضّلالة بالهُدى ... ورأيتُ نورَ الحقّ والبُرهانِ
بأبي عليّ طوْدُ كل فضيلةٍ ... قمرُ النّدى وضيغَمُ الشجعانِ

المورِدُ الراياتِ بيضاً في الكُلى ... ومعيدُها كشقائق النّعمان
والملجمُ الأسيافَ أرقابَ العِدا ... ومعلُّها علقَ النّجيعِ القاني
والقائدُ الخيلَ العتاقَ كأنّها ... طير تمطَّرُ من عيون عنانِ
يغزو بها بُدُناً فترجعُ ضُمَّراً ... قُبّاً كأطرافِ القِسيّ حَوانِ
ومنها:
من كلّ طعّان إذا اشْتجَرَ القَنا ... ينقضّ كالضّاري من العُقبانِ
يُهدي الى حدّ الأسنّة غُرّة ... ويردّها والموتُ ذو ألْوانِ
في حيثُ يعتنقُ الفوارسَ لا هوًى ... ويبيحُ أنفُسَها لغيرِ هَوانِ
والحرْبُ قد كشفَتْ لهم عن ساقها ... والطّعنُ يذهل منه كل جبانِ
ومنها:
قومٌ إذا ركبوا الجيادَ وجرّدوا ... بيضَ الظُبى من حيلة الأجفانِ
آدوا الكتائبَ بعضَها في بعضِها ... ومضوا بها كالنّور في النّيرانِ
وإذا هُمُ اعتقلوا القَنا وتدرّعوا ... أيقَنتَ أن اليومَ يومُ طِعان

قسم شعراء المغرب والأندلس
بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ أعن
باب في ذكر محاسن أعيان المغرب والأندلس
جماعة اتفقوا في بالأندلس في حدود سنة خمسمائة
المعتمد بن عباد
الملك بالأندلس
هو أبو القاسم محمد الملقب بالمعتمد بن أبي عمرو عباد الملقب بالمعتضد بن إسماعيل بن محمد بن قريش عمار بن عمرو بن عطاف بن نعيم. وعطاف ونعيم هما الداخلان بالأندلس. وولد المعتمد بمدينة باجة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وولي سنة إحدى وستين بإشبيلية وخلع سنة أربع وثمانين وتوفي بأغمات سنة ثمان وثمانين، وكانت بداية دولتهم من سنة أربع عشرة وأربعمائة ولم تزل أيامه صافية المشارع من الكدر، ضافية المدارع بالظفر، محمية من الغير، واضحة الحجول والغرر، إلى أن دهي من يوسف ابن تاشفين بداهية خلعته عن سلطانه، وازعجته عن أوطانه، فعاد من كانيمدحه راثيا له ناعيا، ومن كان يرجوه منتجعا عليه باكيا. وقدم إلينا بالعراق رجل من أصحاب الحديث يقال له الشيخ أبو الحسن بن صالح الاندلسي، وقدم إلى البصرة وأنا نائب الوزير ابن هبيرة بها في ذي الحجة سنة سبع وخمسين وخمسمائة وكان ينشدنيأشعار أهل المغرب ومما ذكره من حديث الملك عباد، قال: ذكر لي قاضي الجماعة بإشبيلية أبو الحسن شريح بن محمد أنه لما خلع المعتمد غربه يوسف بن تاشفين الى العدوة، فوصل الى موضع منها وأهل البلد خارجون للاستسقاء، فأنشد:
خرجوا ليستسقوا فقلت إليهم ... دمعي ينوب لكم عن الأنواء
قالوا حقيق في دموعك مقنع ... لكنها ممزوجة بدماء
وذكر أنه حكى له أنه كان المعتمد سائراً الى الجامع يوم الجمعة، ووزيره ابن عمار معه، فسمع أذان المؤذن، فقال:
هذا المؤذن قد بدا بأذانه
فقال ابن عمار:
يرجو بذاك العفو من رحمانه
فقال المعتمد:
طوبى له من شاهد بحقيقة
فقال ابن عمار:
إن كان عقد ضميره كلسانه
نقص 26
كأنك تحسبها نرجساً ... تدير الدماء عليها عقارا
تريك الرماح القدود انثناء ... وتجلو الصفاح الخدود احمرارا
إذا نار حربك ضرّمتها ... حسبنا الأسنة فيها شرارا
ستلقى فعالك يوم الحساب ... ينشر بالمسك منك انتشارا
وللشهداء ثناء عليك ... بحسن مقامك ذاك النهارا
وأنهم بك يستبشرون ... ألا تخاف وألا تضارا
وتلقى نعيماً ينسي الشقا ... وتجنى سراحاً ينسي الإسارا
وأول هذه الأبيات - وكان طلب خباء من يوسف يسافر به فوعده وأخلف - فقال:
هم أوقدوا بين جنبيك ناراً ... أطالوا لها في حشاك استعارا
أما يخجل المجد إن رحلوك ... ولم يصحبوك خباء معارا
تراهم نسوا حين جبت القفارا ... حنيناً إليهم وخضت البحارا
بعهد لزوم لسبل الوفا ... إذا حاد من حاد عنها وجارا

وقلب نزوع الى يوسف ... فلولا الضلوع عليه لطارا
ونقلت من بعض تعاليق المصريين ما أورده آنفاً، ووشحه من كلامه بما يرد من شعره الى أبيه من قصيدة:
سميدع يهب الآلاف مبتدئاً ... ويستقل عطاياه ويعتذر
له يد كل جبار يقبلها ... لولا نداها لقلنا إنه الحجر
وأولها في الاعتذار عن كبيرة:
سكن الفؤاد لا يذهب بك الفكر ... ماذا يعيد عليك الهم والسهر
وازجر جفونك لا ترضى البكاء له ... فاصبر فقد كنت عند الخطب تصطبر
وإن يكن قدر قد عاق عن وطر ... فلا مرد لما يأتي به القدر
وإن تكن خيبة في الدهر واحدة ... فكم غدوت ومن أشياعك الظفر
ومنها في قوم خذلوه وتركوه مع العدى وأهملوه:
ما الذنب إلا على القوم ذوي دغل ... وفى لهم عدلك المألوف إذ غدروا
قوم نصيحتهم غش وحبهم ... بغض ونفعهم إن صرفوا ضرر
يميز البغض في الألفاظ إن نطقوا ... ويعرف الحقد في الألحاظ إن نظروا
وكتب أيضاً الى أبيه:
مولاي أشكو إليك داء ... أصبح قلبي به قريحا
سخطك قد زادني سقاماً ... فابعث إلي الرضا مسيحا
فقوله: مسيحا، من القوافي التي يتحدى بها.
وكتب الى أبيه يشكر عن فرس أصعد بعثه إليه:
نوال جزيل يبهر الشكر والحمدا ... وصنع جميع يوجب النصح والودا
لقد جدت بالعلق الذي لو أباعه ... بذلت ولم أغبن به العيشة الرغدا
جواد أتاني من جواد تطابقا ... فيا كرم المهدي ويا كرمى المهدى
وكم من يد أوليت موقعها ند ... لديّ ولكن أين موضع ذا الاصدا
لعليَ يوم أن أوفيه حقه ... فأنعله ممن عصى أمرك الخدا
وكتب إليه جواباً عن تحفة:
يا ملكاً قد أصبحت كفه ... ساخرة بالعارض الهاطل
قد أفحمتني منّة مثلها ... يضيق القول على القائل
وإن أكن قصرت عن وصفها ... فحسنها عن وصفها شاغلي
ومن خطابه لأصحابه، كتب الى أبي بكر محمد بن عمار وزيره:
لما نأيت نأى الكرى عن ناظري ... ورددته لما انصرفت عليه
طلب البشير بشارة يجزى بها ... فوهبت قلبي واعتذرت إليه
وما أحسن قول أبي فراس لسيف الدولة:
أهديت نفسي إنما ... يهدى الجليل الى الجليل
وجعلت ما ملكت يدي ... صلة المبشر بالقبول
وكتب ابن عباد من قصره بقرطبة الى أصحاب له:
حسد القصر فيكم الزهراء ... ولعمري وعمركم ما أساء
قد طلعتم بها شموساً صباحاً ... فاطلعوا عندنا بدوراً مساء
وكتب الى بعض ندمائه، يستدعيه الى الشراب:
أيها الصاحب الذي فارقت عي ... ني ونفسي منه السنى والسناء
نحن في المجلس الذي يهب الرا ... حة والمسمع الغنى والغناء
نتعاطى التي تنسيك في اللذ ... ة والرقة الهوى والهواء
فأته تلف راحة ومحيا ... قد أعدا لك الحيا والحياء
وكتب الى أبي بكر محمد بن عمار:
قد زارنا النرجس الذكي ... وطاب من يومنا العشي
ونحن في مجلس أنيق ... وقد ظمئنا وفيه ريّ
ولي صديق غدا سمي ... يا ليته وافق السمي
فحضر أبو بكر باب القصر، وكتب إليه رقعة فيها:
لبيك لبيك من مناد ... له الندى الرحب والندي
ها أنا بالباب عبد قن ... قبلته وجهك السني
شرفه والداه باسم ... شرفته أنت والنبي
ومن شعره في الغزل، قال في قصيدة كتب بها الى أبي بكر بن عمار:
وكم ليلة قد بت أنعم جنحها ... بمخضبة الأرداف مجدبة الخصر
وبيض وسمر فاعلات بمهجتي ... فعال الصفاح البيض والأسل السمر
وباتت تسقيني المدام بلجها ... فمن كأسها حيناً وحيناً من الثغر

وتطربني أوتارها وكأنني ... سمعت بأوتار الطلى نغم البتر
وقال:
فتكت مقلتاه بالقلب مني ... وبكت مقلتاي شوقاً إليه
فحكى لحظه لنا سيف عبا ... د ولحظي له سحاب يديه
وقال:
كتبت وعندي من فراقك ما عندي ... وفي كبدي ما فيه من لوعة الوجد
وما خطت الأقلام إلا وأدمعي ... تخط سطور الشوق في صفحة الخد
ولولا طلاب المجد زرتك طيّه ... عميداً كما زار الندى ورق الورد
فقبلت ما تحت اللثام من اللمى ... وعانقت ما فوق الوشاح من العقد
من قول عمر بن أبي ربيعة:
واسقط علينا كسقوط الندى ... ليلة لا ناه ولا زاجر
وقال - وهو عليل - وقد زارته سحر جاريته:
سأسأل ربي أن يديم بي الشكوى ... فقد قربت من مضجعي الرشأ الأحوى
إذا علة كانت لقربك علة ... تمنيت أن تبقى بجسمي وأن تقوى
شكوت وسحر قد أعنت زيارتي ... فجاءت بها النعمى التي سميت بلوى
فيا علتي دومي فأنت حبيبة ... ويا رب سمعاً من ندائي والشكوى
وقال في جارية يحبها وهي بين يديه يوماً تسقيه والكأس في يدها، إذ لمع البرق، فارتاعت، فقال:
روعها البرق وفي كفها ... برق من القهوة لماع
يا ليت شعري وهي شمس الضحى ... كيف من الأنوار ترتاع
وهي من توارد الخواطر، أن ابن عباد أنشد عبد الجليل بن وهبون البيت الأول وطلب منه أن يذيله، فقال:
ولن ترى أعجب من آنس ... من مثل ما يمسك يرتاع
قال أبو الصلت في الحديقة: هذا البيت أجود، لجودة ترتيب اللفظ مع جودة معناه، وللمطابقة بين لفظي الأنس والارتياع، وتشبيه لمعان الخمر بلمعان البرق وإن كان بيت الأمير أيضاً جيداً.
وقال ابن عباد:
تظن بنا أم الربيع سآمة ... ألا غفر الرحمان ذنباً تواقعه
أأهجر ظبياً في ضلوعي كناسه ... وبدر تمام في جفوني مطالعه
إذن هجرت كفي نوالاً تفيضه ... على معتفيها أوعدوا تقارعه
وقال:
دارى ثلاثته بلطف ثلاثة ... فثنى بذاك رقيبه لم يشعر
أسراره بتستر وأواره ... بتصبر وخباله بتوقر
وقال:
يا معرضاً عني ولم أجنِ ما ... يوجب إعراضاً ولا هجرا
قد طال ليل الهجر فاجعل لنا ... وصلك في آخره فجرا
وقال:
أكثرت هجري غير أنك ربما ... عطفتك أحياناً عليّ أمور
فكأنما زمن التهاجر بيننا ... ليل وساعات الوصال بدور
وقال:
يا صفوتي من البشر ... يا كوكباً بل يا قمر
يا غصناً إذا مشى ... يا رشأ إذا نظر
يا نفس الروضة قد ... هبت لها ريح سحر
يا ربة اللحظ الذي ... شد وثاقاً إذا فتر
متى أداوي يا فدا ... ك السمع مني والبصر
ما بفؤادي من جوى ... بما بفيك من خصر
وقال:
الصبح قد مزق ثوب الدجى ... فمزق الهم بكفّيْ مها
خذ باسمها من ريقها قهوة ... في لون خديها تجلى الأسى
وقال:
أسر الهوى نفسي فعذبها ... يوم الوداع فلم أطق منعا
فأذاب حر صبابتي كبدي ... وأسالها في وجنتي دمعا
وقال:
حرم النوم علينا ورقد ... وابتلانا بهواه ثم صد
يا هلالاً حسن خد يا رشا ... غنج لحظ يا قضيباً لين قد
بودادي لك بالشوق الذي ... في فؤادي لا تدعني للكمد
لست أرضى عن زماني أو أرى ... منك حسناً لا أراه من أحد
وقال:
يا ليت مدة بعدك ... رشيقة مثل قدك
كمدة الورد ورد الر ... بيع لا ورد خدك
فعمر ذا عمر صبري ... وعمر ذا عمر صدك
رضيت منك وإن لم ... تنجز بلذة وعدك
وقال:

لو زرتنا لرأيت ما لم تعهد ... ذوب اللجين خليط ذوب العسجد
نطف تجملها فقاقع منه ما ... جمدت لتحفظ جسم ما لم يجمد
وقال في غلام اسمه سيف:
سميت سيفاً وفي عينيك سيفان ... هذا لقتلي مسلول وهذان
أما كفت قتلة بالسيف واحدة ... حتى أتيح من العينين ثنتان
أسرته وثناني غنج مقلته ... أسيره وكلانا آسر عان
يا سيف أمسك بمعروف أخا ثقة ... لا يبتغي منك تسريحاً بإحسان
وكانت له جارية تسمى جوهرة يحبها فكتب إليها يسترضيها في عتاب جرى بينهما فأجابته برقعة لم تعنونها باسمها فقال:
لم تصف لي بعد وإلا فلم ... لم أرَ في عنوانها جوهره
درت بأني عاشق لاسمها ... فلم ترد للغيظ أن تذكره
قالت إذا أبصره ثانياً ... قبّله والله لا أبصره
وما أحسن قول الصنوبري:
وشاطرة أدبتها الشطاره ... حلى الروض من حسنها مستعاره
أميرة حسن إذا ما بدت ... أقر الأمير لها بالإماره
أتت في لباس لها أخضر ... كما تلبس الورق الجلناره
فقلت لها ما اسم هذا اللباس ... فردت مرداً مليح العباره
شققنا مرائر قوم به ... فنحن نسميه شق المراره
وقال ابن عباد في الجارية:
سرورنا دونكم ناقص ... والطيب لا صاف ولا خالص
والسعد إن طالعنا نجمه ... وغبت فهو الآفل الناقص
سموك بالجوهر مظلومة ... مثلك لا يدركه غائص
وقال فيها:
جوهر قد عذبني ... منك تمادي الغضب
فزفرتي في صعد ... وعبرتي في صبب
يا كوكب الحسن الذي ... أزرى بزهر الشهب
مسكنك القلب فلا ... ترضي له بالوصب
وقال في جارية اسمها وداد:
اشرب الكأس في وداد ودادك ... وتأنس بذكرها في انفرادك
قمر غاب عن جفونك مرآ ... ه وسكناه في سواد فؤادك
وقال:
لكِ الله كم أودعتِ قلبيَ من أسى ... وكم لك ما بين الجوانح من كلم
لحاظك طول الدهر حرب لمهجتي ... ألا رحمة تثنيك يوماً الى سلمي
وقال:
ولج الفؤاد فما عسى أن أصنعا ... ولقد نصحت فلم أرد أن أسمعا
أسفي أود ولا أود وأغتدي ... وأروح أحفظ عهد من قد ضيعا
ما كان ظني أن أجود بمهجتي ... حبا وأقنع بالسلام فأمنعا
يا هاجرين قد اشتفيتم فارفقوا ... وهبوا لعثرة عاشق لكم لعا
ردوا بردكم السلام حشاشة ... لم تبق لولا أن فيكم مطمعا
وقال من أبيات:
قلت متى ترحمني ... قال ولا طول الأبد
قلت فقد أيستني ... من الحياة قال قد
ولما علقت هذين البيتين في هذا الجزء في دمشق سنة إحدى وسبعين وخمسمائة عملت في أسلوبها:
راودته في قبلة ... من وجهه الحلو ومن
فاغتاظ مني حنقا ... كأنه لي مضطغن
فقلت إن بذلت ما ... يرضيك مني قال إن
وقال ابن عباد:
حكّمه في مهجتي حسنه ... فظل لا يعدل في حكمه
أفديه ما ينفك لي ظالماً ... يا رب لا يجز على ظلمه
وقال من أبيات:
ولما التقينا للوداع غدية ... وقد خفقت في ساحة القصر رايات
بكينا دماً حتى كأن عيوننا ... لجري الدموع الحمر منها جراحات
مأخوذ من هذا البيت:
بكيت دماً حتى لقد قال قائل ... ترى ذا فتى من جفن عينيه يرعف
ومن أوصافه وملحه، قال:
ورب ساق مهفهف غنج ... قام ليسقي فجاء بالعجب
أبدى لنا من لطيف حكمته ... في جامد الماء ذائب الذهب
وقال:
لاح وفاحت روائح الند ... مختصر الخصر أهيف القد
وكم سقاني والليل معتكر ... في الماء ذائب الورد

قد أكثر الشعراء من أخذ هذا المعنى، وتصرفوا في قول ابن المعتز:
وخمارة من بنات المجوس ... ترى الدن في بيتها سائلا
وزنّا لها ذهباً جامداً ... فكالت لنا ذهباً سائلا
ومما نظمته في هذا الأسلوب من قطعة ببغداد:
رعى الله عصراً فيه فازت قداحنا ... ودارت علينا بالمسرة أقداح
وقد راقنا ورد وراح تشابها ... فلم ندر ذاب الورد أم جمد الراح
وقال ابن عباد، وقد أمره أبوه أن يصف مجنّاً فيه كواكب فضة:
مجنّ حكى صانعوه السما ... لتقصر عنه طوال الرماح
وقد صوروا فيه شبه الثريا ... كواكب تقضي لنا بالنجاح
وقال ابن عباد في شمعة:
وشمعة تنفي ظلام الدجى ... نفي يدي العدم عن الناس
ساهرتها والكأس يسقي بها ... من ريقه أشهى من الكاس
ضياؤها لا شك من وجهه ... وحرها من حر أنفاسي
وقال في وصف قصيدة:
إليك روضة فكر جاد منبتها ... ندى يمينك لا طل ولا مطر
جعلت ذكرك في أرجائها زهراً ... وكل أوقاتها للمجتني ثمر
وقال يستدعي عوداً للغناء:
غلب الكرى ودنت مطايا الراح ... واشتقن شدو حداتها النصاح
فابعث نشاط سؤومها وحسيرها ... بغناء حاديها أخي الإفصاح
ليقيم ذاك العود من رسم السرى ... ويعود في الأجسام بالأرواح
فنسير في طرق السرور ونهتدي ... لخفيفهن بأنجم الأقداح
وقال في توديع بعض جواريه:
ساويتهم والليل غفل ثوبه ... حتى تبدى للنواظر معلما
فوقفت ثَم مودعاً وتسلمت ... مني يد الإصباح تلك الأنجما
ومن أشعاره في مدة أسره، واستيلاء أمير المسلمين يوسف ابن تاشفين على بلده بأسره، قال من قطعة:
أبى الدهر أن يقنى الحياء ويندما ... وأن يمحوَ الذنب الذي كان قدما
فإن يتلقى وجه عتبي وجهه ... بعذر يغشّي صفحتيه التذمما
ستعلم بعدي من تكون سيوفه ... الى كل صعب من مراقيك سلما
سترجع إن حاولت دوني فتكة ... بأخجل من خد المبارز أحجما
وقال من أبيات:
سلت علي يد الخطوب سيوفها ... فجذذن من جلدي الحصيف الأمتنا
ضربت بها أيدي الخطوب وإنما ... ضربت رقاب الآملين بها المنى
يا آملي العادات من نفحاتنا ... كفوا فإن الدهر كف أكفنا
وكتب الى ابن صمادح حين سعى به الى أمير المسلمين بالقبائح سعي الطاعن القادح:
يا من تمرس بي يريد مساءتي ... لا تعرضن فقد نصحت لمندم
من غره مني خلائق سهلة ... فالسم تحت ليان مس الأرقم
وقال من قصيدة يصف فيها الكبل:
تعطف في ساقي تعطف أرقم ... يساورها عضاً بأنياب ضيغم
وإني من كان الرجال لسيبه ... ومن سيفه في جنة وجهنم
وقال:
قبح الدهر فماذا صنعا ... كلما أعطى نفيساً نزعا
قد هوى ظلماً بمن عاداته ... أني ينادى كل من يهوى لعا
من إذا قيل الهوى صم وإن ... نطق العافون همساً سمعا
قل لمن يطمع في نائله ... قد أزال اليأس ذاك الطمعا
راح لا يملك إلا دعوة ... جبر الله العفاة الضيَّعا
وقال:
فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورا ... أسرّك العيد في أغمات مأسورا
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً ... فردك الدهر منهياً ومأمورا
من بات بعدك في ملك يسرُّ به ... فإنما بات بالأحلام مغرورا
ومنها:
أرى بناتي في أغمات من عدم ... يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
يمشين في الأرض والأقدام حافية ... وطالما وطئت مسكاً وكافورا
وتعرض له ملحفو أهل الكدية، فقال:
سألوا اليسير من الأسير وإنه ... لنوالهم لأحق منهم فاعجب
لولا الحياء وعزة لخمية ... طي الحشا لحكاهم في المطلب

وكان قد أبلى بلاء حسناً عند خلعه، فأشار عليه وزراؤه بالخضوع والاستعطاف، فقال:
قالوا الخضوع سياسة ... فليبدُ منك لهم خضوع
إن يسلب القوم العدى ... ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه ... لم تسلم القلب الضلوع
كم رمت يوم نزالهم ... أن لا تحصني الدروع
وبرزت ليس سوى القمي ... ص عن الحشا شيء دفوع
أجلي تأخر لم يكن ... بهواي ذلي والخشوع
ما سرت قط الى القتال ... وكان في أملي الرجوع
شيم الألى أنا منهم ... والأصل تتبعه الفروع
قوله: ما سرت قط الى القتال، البيت، من قول أحد الخوارج في وقعة قديد أيام مروان الجعدي حين تمثل:
وخارج أخرجه حب الطمع ... فر من الموت وفي الموت وقع
من كان ينوي أهله فلا رجع
وقال يرثي ابنيه: الفتح ويزيد، وكانا قتلا:
يقولون صبراً لا سبيل الى الصبر ... سأبكي وأبكي ما تطاول من عمري
أفتح لقد فتحت لي باب رحمة ... كما بيزيد الله قد زاد في أجري
هوى بكما المقدار عني ولم أمت ... فأدعى وفياً قد نكصت الى الغدر
ولو عدتما لاخترتما العود في الثرى ... إذا أنتما أبصرتماني في الأسر
أبا خالد أورثتني البث خالداً ... أبا النصر مذ ودعت ودعني نصري
وقال من قطعة يرثي فيه سعداً ابنه:
إذا كان قد أودى الزمان بمثله ... ولم يبق في عود له طمع بعد
فلا بترت بُترٌ ولا قنيت قنا ... ولا زأرت أسد ولا صهلت جرد
ولا زال ملذوعاً على سيد حشا ... ولا انفك ملطوماً على ملك خد
وقال من قطعة:
نار وماء صميم القلب أصلهما ... متى حوى القلب نيراناً وطوفانا
ضدان ألّف صرف الدهر بينهما ... لقد تلون في الدهر ألوانا
وفي المجموع، قال ابن اللبانة: كنت مع المعتمد بأغمات، فلما قاربت الصدر، وأزمعت السفر، صرف حيله، واستعد ما قبله، وبعث إلي مع شرف الدولة ابنه - وهذا من بنيه أحسن الناس سمتاً، وأكثرهم صمتاً، تخجله اللفظة، وتجرحه اللحظة، حريص على طلب الأدب، شارع في اقتناء الكتب - بعشرين مثقالاً مرابطية، وثوبين غير مخيطين، وكتب مع ذلك أبياتاً منها:
إليك النزر من كف الأسير ... وإن تقبل تكن عين الشكور
تقبل ما يذوب له حياء ... وإن عذرته حالات الفقير
فامتنعت من ذلك، وأجبته بأبيات منها:
تركت هواك وهو شقيق ديني ... لئن شقت برودي عن غدور
ولا كنت الطليق من الرزايا ... إذا أصبحت أجحف بالأسير
جذيمة أنت والزباء خانت ... وما أنا من يقصر عن قصير
تصرف في الندى حيل المعالي ... فتسمح من قليل بالكثير
وأعجب منك أنك في ظلام ... وترفع للعفاة منار نور
رويدك سوف توسعني سروراً ... إذا عاد ارتقاؤك للسرير
وسوف تحلني رتب المعالي ... غداة تحل في تلك القصور
تزيد على ابن مروان عطاء ... بها وأزيد ثَم على جرير
تأهب أن تعود الى طلوع ... فليس الخسف ملتزم البدور
وأتبعتها أبياتاً منها:
حاش لله أن أجيح كريما ... يتشكى فقراً وكم سد فقرا
وكفاني كلامك الرطب نيلا ... كيف ألقي دراً وأطلب تبرا
لم تمت إنما المكارم ماتت ... لا سقى الله بعدك الأرض قطرا
وطالعت قلائد العقيان، وله في غلام رآه يوم العروبة من ثنيات الوغى طالعاً، ولطلى الأبطال قارعاً، وفي الدماء والغاً، ولمستبشع كؤوس المنايا سائغاً وهو ظبي قد فارق كناسه، وعاد أسداً صارت القنا أخياسه، ومتكاثف العجاج قد مزقه إشراقه، وقلوب الدارعين قد شكتها أحداقه.
فقال:
أبصرت طوقك بين مشتجر القنا ... فبدا لطرفي أنه فلك
أو ليس وجهك فوقه قمراً ... يجلى بنيّر نوره الحلك
وله فيه:

ولما اقتحمت الوغى دارعاً ... وقنعت وجهك بالمغفر
حسبنا محياك شمس الضحى ... عليه سحاب من العنبر
وأورد أبو الصلت في الحديقة من شعر المعتمد قوله في جارية وقفت تحجب الشمس عنه:
قامت تحجب ضوء الشمس قامتها ... عن ناظري حجبت عن ناظر الغير
علماً لعمرك منها أنها قمر ... هل تحجب الشمس إلا دارة القمر
وقوله في نكبته وهو في العقل وهو أحسن ما سمع فيه:
قضى وطراً من أهله كل نازح ... وكرّ يداوي علة في الجوارح
سواي فإني رهن أدهم مبهم ... سبيل نجاتي آخذ بالمبارح

يزيد الملقب بالراضي
ولد المعتمد بن عباد قال بعد أسر والده مع أخيه، ولم ير الدعة دعي أواخيه، علقت من المجموع: كان لا يشرب، وبلغه أن أخاه عبد الله شرب سروراً به فكتب إليه:
أتاني من بابي لمجدك عثرة ... فدب له من كل جارحة شكر
لئن كان لي فضل فمنك استفدته ... ولولا ضياء الشمس ما بهر البدر
أتشرب في ودي المدامة سيدي ... وينساغ لي في تركها أبداً عذر
سأشربها شكراً لما ظلت مولياً ... وفي مثل ذاك الود يستسهل الوزر
وقال من أبيات يصف فيها نكد أيامه:
هي الدار غادرة بالرجال ... وقاطعة لحبال الوصال
يفجع منها بغير اللذيذ ... ويشرق منها بغير الزلال
ويزداد مع ذاك عشقاً لها ... ألا إنما سعينا في ضلال
كمعشوقة ودها لا يدوم ... وعاشقها أبداً غير سال
وقال يخاطب أباه - وقد دعاه مؤنساً له، بعد وحشة تقدمت - من أبيات:
الآن تعود حياة الأمل ... ويدنو شفاء فؤاد معل
ويورق للعز غصن ذوى ... ويطلع للسعد نجم أفل
دعوت فطار بقلبي السرور ... إليك وإن كان منك الوجل
كما يستطيرك حب الوغى ... إليها وفيها الظبى والأسل
وليس لأنك قاسي الفؤاد ... ولكن لان اجترامي جلل
فمثلك وهو الذي لم نجده ... يعود لحلم على من جهل
فقد وعدتني سحاب الرضا ... بوابلها حين جادت بطل
وقال من قصيدة في أبيه، وذكر الروم:
فإن أتته فمن جبن ومن خور ... قد ينهض الغير نحو الضيغم الضاري
ومن أنصاف الأبيات التي جاءت أمثالاً، قوله:
ومن عجبٍ شكوى الجريح الى النصل
وأول البيت:
سأشكو الى مشكي فؤادي بعتبه
هذا أحسن من قول المتنبي:
شكوى الجريح الى العقبان والرخم
وقوله:
على العذب لا الملح يخشى الأسن
ومما استخرجت من شعره من قلائد العقيان أبيات له في استسعاف مقاصده، واستعطاف والده:
أعيذك أن يكون بنا خمول ... ويطلع غيرنا ولنا أفول
حنانك إن يكن جرمي قبيحاً ... فإن الصفح عن جرمي جميل
ألست بفرعك الزاكي وماذا ... يرجي الفرع خانته الأصول
وكان قد وجد عليه أبوه لاشتغاله بالكتب عن الكتائب، وبمناقب الدفاتر عن مقانب العساكر، وبالعلم المسطور، عن العلم المنشور، وبالأقلام، عن الإقدام، فكتب إليه المعتمد مستعتباً، وله موبخاً ومؤنباً، من أبيات:
الملك في طي الدفاتر ... فتخل عن قود العساكر
طف بالسرير مسلماً ... وارجع لتوديع المنابر
وازحف الى جيش المعار ... ف تقمر الحبر المقامر
واضرب بسكين الدواة ... مكان ماضي الحد باتر
ومنها:
هذي المكارم قد حوي ... ت فكن لمن حاباك شاكر
واقعد فإنك طاعم ... كاس وقل هل من مفاخر
فكتب إليه ولده الراضي مسترضياً، وعن عتابه مستعفياً، من قصيدة:
مولاي قد أصبحت هاجر ... لجميع ما تحوي الدفاتر
وفللت سكين الدواة ... وظلت للأقلام كاسر
وعلمت أن الملك ما ... بين الأسنة والبواتر
والمجد والعلياء في ... ضرب العساكر بالعساكر
لا ضرب أقوال بأق ... وال ضعيفات المكاسر

قد كنت أحسب من سفا ... ه أنها أصل المفاخر
فإذا بها فرع لها ... والجهل للإنسان غادر
ومقطعها:
هبني أسأت كما أسأت ... أما لهذا العتب آخر
ومن شعره، نقلت من مجموع للقاضي الرشيد بن الزبير:
مروا بنا أصلاً من غير ميعاد ... فأوقدوا نار شوقي أي إيقاد
لا غر وإن زاد في وجدي مرورهم ... فرؤية الماء تذكي غلة الصاد
وله يستعطف أباه من قصيدة:
سجية ذي الدنيا عداوة ذي الفضل ... ورومك قتل الطبع من أعظم الجهل
ويقول فيها:
لك الخير لم أعلم بأنك منكر ... إذا الشمس آذتني فررت الى الظل
لعمري لقد كنت الجدير برأفة ... لديك فهذا الفرع من ذلك الأصل
ومنها البيت السائر الذي سبق ذكره:
سأشكو الى مشكي فؤادي بعتبه ... ومن عجب شكوى الجريح الى النصل
وله:
يحل زمان المرء ما هو عاقد ... ويسهر في إهلاكه وهو راقد
ويغري بأهل الفضل حتى كأنهم ... جناة ذنوب وهو للكل حاقد
وله:
يا قمراً أصبح لي مالكاً ... لا تتركني هكذا هالكا
رق على قلب العميد الذي ... يود لو يجري على بالكا
حسنت في خلق وخلق فلِم ... رضيت بالقبح لأفعالكا
وله:
غصن من التبر فوقه ورق ... كأنه الصبح تحته شفق
يا أبدع الناس في محاسنه ... رق على من أذابه الأرق
مددت كفي رجاء رأفتكم ... لا تتركوني ينالني الغرق
بحر دموعي مغرق جسدي ... تداركوا مهجتي وبي رمق

أخوه الرشيد
أبو الحسين عبد الله بن المعتمد بن عباد
أورده الرشيد بن الزبير في مجموعه، وله شعر لا يبلغ درجة أخيه فيه. فمن ذلك قوله:
أريد تفرجاً عند الرواح ... ومد العين في خضر البطاح
فقد صدئت من الأحزان نفسي ... وليس جلاؤها غير المراح
فلا تتوانيا عني وهبّا ... إليّ هبوب أنفاس الرياح
أدير عليكما الأكواس تحوي ... لذيذ الراح بالماء القراح
على عود يرن كما أرنت ... فصاح الوُرْق في فلق الصباح
أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن زيدون
هو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن زيدون القرطبي، وزير آل عباد، والمتقدم فيهم. له الى عباد والد المعتمد مع باكورة تفاح خدمه بها:
يا من تزينت الرئا ... سة حين ألبس ثوبها
جاءتك جامدة المدا ... م فخذ عليها ذنوبه
وكتب إليه أيضاً مع تفاح أنفذه، وكان عباد قد ترك الشرب:
جاءتك وافدة الشمول ... في المنظر الحسن الجميل
لم تحظ ذائبة لدي ... ك ولم تنل حظ القبول
لهجرتها صفراء في ... بيضاء هاجرها قليل
الكأس من رأد الضحى ... والراح من طفل الأصيل
آثرت عائدة التقى ... ورغبت في الأجر الجزيل
يروى من قول كسرى: لست أدري هل التفاح خمر جامد، أم الخمر تفاح ذائب. أخذه الخليع: فقال:
الراح تفاح جرى ذائباً ... كذلك التفاح راح جمد
فاشرب على جامده ذوبه ... ولا تدع لذة يوم لغد
من هذا ابن زيدون.
وللسري الرفا:
وقد أضاءت نجوم مجلسنا ... حتى اكتسى غرة وأوضاحا
لو جمدت راحنا اغتدت ذهباً ... أو ذاب تفاحنا غتدى راحا
وللصنوبري:
من ينس لا أنس اتصال زماننا ... ويد الزمان على السعود مساعده
إذ تجتلى راح كورد ذائب ... أو يجتنى ورد كراح جامده
ومن شعر ابن زيدون في الغزل:
ما للمدام تديرها عيناك ... فيميل في نشواتها عطفاك
هلا مزجت لعاشقيك سلافها ... ببرود ظلمك أو بعذب لماك
بل ما عليك وقد محضت لك الهوى ... في أن أفوز بحظوة المسواك
ناهيك ظلماً أن أضربي الصدى ... برحا ونال الريّ عود أراك

إن تألفي سنة النؤوم خلية ... فلطالما نافرت في ذكراك
أو تحتبي بالهجر في نادي القلى ... فلكم حللت الى الوصال حباك
أما منى نفسي فأنت جميعها ... يا ليتني أصبحت بعض مناك
يدنو بوصلك حين شط مزاره ... وهم أكاد به أقبل فاك
ومما أورده أبو الصلت في الحديقة من شعر ابن زيدون قوله في الاعتذار والاستعطاف:
ما للذنوب التي جاني كبائرها ... غيري يحملني أوزارها وزري
من لم أزل من تأنيه على ثقة ... ولم أبت من تجنيه على حذر
الكاظم الغيظ ينتاب الضمير له ... لولا الأناة سقاه من دم هدر
لا تله عني فلم أسألك معتسفاً ... رد الصبا غب إيفاء على الكبر
هبني جهلت وكان الجهل سيئة ... لا عذر منها سوى أني من البشر
إن السيادة بالإغضاء لابسة ... بهاءها وبهاء الخود في الخفر
وقوله في الشفاعة:
واشفع فللشافع نعمى بما ... سناه من عقد وثيق النواح
إن سحاب الجوب منها الحيا ... والشكر في تأليفها للرياح
وقال ابن زيدون:
ما بال خدك لا يزال مضرجاً ... بدم ولحظك لا يزال مريبا
لو شئت ما عذبت مهجة عاشق ... مستعذب في حبك التعذيبا
ولزرته ما عدته إن الهوى ... مرض يكون له الوصال طبيبا
وقال:
متى أخفي الغرام يصفه جسمي ... بألسنة الضنى الخرس الفصاح
فلو أن الثياب نزعن عني ... خفيت خفاء خصرك في الوشح
وقال:
يا قمراً مطلعه المغرب ... قد ضاق بي في حبك المذهب
وإن من أعجب ما مر بي ... أن عذابي فيك مستعذب
ألزمتني الذنب الذي جئته ... صدقت فاصفح أيها المذنب
وقال:
وبنفسي وإن أضر بنفسي ... قمر لا ينال منه السرار
جال ماء النعيم منه بخد ... فيه للمستشف نور ونار
متجنّ يحلو تجنيه عندي ... فهو يجني ومني الاعتذار
وقال:
وقاطعاً صلتي من غير ما سبب ... تالله إنك عن روحي لمسؤول
ما شئت فاصنعه كل منك محتمل ... والذنب مغتفر والعذر مقبول
لو كنت حظي لم أطلب به بدلاً ... أو نلت منك الرضا لم يبق مأمول
وقال:
كم نظرة لك في عيني علمت بها ... يوم الزيارة أن القلب قد ذابا
قلب يطيل معاصاتي لطاعتكم ... فإن أكلفه يوماً سلوة يأبى
ما توبتي بنصوح في محبتكم ... لا عذب الله إلا عاشقاً تابا
وقال:
ودع الصبر محب ودعك ... ذائع من سره ما استودعك
يقرع السن على أن لم يكن ... زاد في تلك الخطى إذ شيعك
يا أخا البدر سناء وسنى ... حفظ الله زماناً أطلعك
إن يطل بعدك ليلي فلكم ... بت أشكو قصر الليل معك
وقال:
بيني وبينك ما لو شئت لم يضع ... سر إذا ذاعت الأسرار لم يذع
يا بائعاً حظه مني ولو بذلت ... لي الحياة بحظي منه لم أبع
ته، احتمل، واستطل، اصبر، وعز، أهن ... وول، أقبل، وقل، اسع، ومر، أطلع
هذا أحسن ما سمع في هذا الباب، لأجل ذكر الجواب، فإن الشعراء قد أكثروا ولكنه ادعاء مجرد. ولأبي الفرج الأصفهاني:
يا فرجة الهم بعد اليأس من فرج ... يا فرحة الأمن بعد الخوف والوهل
اسلم، ودم، وابق، واملك، وانم، واسم، ورد ... وأعط، وامنع، وضر، وانفع، وصل، وصل
وللمتنبي:
أقل، أنل، اقطع، احمل، عل، سل، أعد، زد، هش، بش، تفضل، ادن، سرَّ صل
والأصل في ذلك قول أبي العميثل في عبد الله بن طاهر:
أصدق وعف وجد وانصف واحتمل ... واصفح ودار وكاف واحلم واشجع
ومن شعر أبي الوليد في المديح والعتاب والشكر والاستعطاف، وغير ذلك، قال:
وطاعة أمرك فرض أرا ... ه من كل مفترض أوكدا

هي الشرع أصبح دين الضمير ... فلو قد عصاك لقد ألحدا
ومن أبيات كتب بها الى المعتمد أيضاً:
يا ندى يمنى أبي القاسم عم ... يا سنا شمس المحيا أشمس
وارتشف معسول ثغر أشنب ... تحتسيه من مجاج ألعس
وقال من أبيات:
مهما امتدحت سواك قبل فإنما ... مدحي الى مدحي لك استطراد
تغشى الميادين الفوارس حقبة ... كيما يعلمها النزال طراد
وقال من أبيات في محمد بن جهور:
هو الدهر مهما أحسن الفعل مرة ... فعن خطأ لكن إساءته غمد
حذارك أن تغتر منه بجانب ... ففي كل واد من نوائبه سعد
كرام يمد الراغبون أكفهم ... الى أبحر منهم لها باللهى مد
ولولا السراة الصيد من آل جهور ... لأعوز من يعدى عليه ومن يعدو
هم النفر البيض الذين وجوههم ... تروق فتستشفي بها الأعين الرمد
أمثلي غفل خامل الذكر ضائع ... ضياع الحسام العضب أصدأه الغمد
أنا السيف لا ينبو مع الضرب غربه ... إذا ما نبا السيف الذي طبع الهند
لعمرك ما للمال أسعى فإنما ... يرى المال أسنى حظه الطمِع الوغد
ولكن بحال إن لبست جمالها ... كسوتك ثوب النصح أعلامه الحمد
وقال في وصف خالع للطاعة:
ضلالاً لمفتون سموت بحاله ... الى أن بدت بين الفراقد فرقدا
رأى حطّاً أولى به فأحطها ... حضيضاً بكفران الصنيعة أوهدا
فذل وقد أوطيته شبح السهى ... وضل وقد لقيته قبس الهدى
فما آثر الأولى ولا قلد الحجى ... ولا شكر النعمى ولا حفظ اليدا
رأى أنه أضحى هزبراً مصمماً ... فلم يعد أن أمسى ظليماً مشردا
يود إذا ما جنه الليل أنه ... أقام عليه آخر الدهر سرمدا
وقال:
تحييني بريحان التحفّي ... وتصبحني معتقة السماح
فها أنا قد ثملت من الأيادي ... إذ اتصل اغتباقي باصطباحي
وقال:
وصلنا فقبلنا الندى منك في يد ... بها يتلف المال الجسيم ويخلف
لقد جدت حتى ما بنفس خصاصة ... وأمّنت حتى ما بقلب تخوف
أفدت بهيم الحال مني غُرة ... يقابلها طرف الحسود فيطرف
وقال:
بني جهور أنتم سماء رئاسة ... مناقبكم في أفقها أنجم زهر
طريقتكم مثلى وهديكم رضا ... ومذهبكم قصد ونائلكم غمر
وكم سائل بالغيب عنهم أجبته ... هناك الأيادي الشفع والسؤدد الوتر
عطاء ولا منّ وحكم ولا هوى ... وحلم ولا عجز وعز ولا كبر
وقال في أبي الحزم بن جهور حين حبسه:
بني جهور أحرقتم بجفائكم ... ضميري فما بال المدائح تعبق
تعدونني كالعنبر الورد إنما ... تطيب لكم أنفاسه حين يحرق
وفيه يقول:
قل للوزير وقد قطعت بمدحه ... عمري فكان السجن منه ثوابي
لم تعد في أمري الصواب موفقاً ... هذا جزاء الشاعر الكذاب
وكتبالى أبي حفص أحمد بن برد في مدة حبسه:
ما على ظني بأس ... يجرح الدهر ويأسو
ربما أشرف بالمر ... ء على الآمال ياس
ولقد ينجيك إغفا ... ل ويرديك احتراس
ولكم أجدى قعود ... ولكم أكدى التماس
وكذا الحكم إذا ما ... عز ناس ذل ناس
وبنو الأيام أخيا ... ف سراة وخساس
تلبس الدنيا ولكن ... متعة ذاك اللباس
يا أبا حفص وما سا ... واك في الفهم إياس
من سنا رأيك لي في ... غسق الخطب اقتباس
وودادي لك نص ... لم يخالفه القياس
أنا حيران وللأم ... ر وضوح والتباس

ما ترى في معشر حا ... لوا عن العهد وخاسوا
ورأوني سارياً ... يتقى منه المساس
أذؤب هامت بلحمي ... فانتهاب وانتهاس
كلهم يسأل عن حا ... لي وللذئب اعتساس
إن قسا الدهر فللما ... ء من الصخر انبجاس
ولئن أمسيت محبو ... ساً فللغيث احتباس
ويفت المسك في التر ... ب فيوطاً ويداس
يلبد الورد السبنتى ... وله بعد افتراس
فتأمل كيف يغشى ... مقلة المجد النعاس
لا يكن عهدك ورداً ... إن عهدي لك آس
وأدر ذكريَ كاساً ... ما امتطت كفك كاس
واغتنم صفو الليالي ... إنما العيش اختلاس
وعسى أن يسمح الده ... ر فقد طال الشماس
قال، وكتب الى عامر بن عبدوس:
أثرت هزبر الشرى إذ ربض ... ونبهته إذ هدا فاغتمض
وما زلت تبسط مسترسلاً ... إليه يد البغي لما انقبض
حذار حذار فإن الكريم ... إذا سيم خسفاً أبى فامتعض
وإن سكون الشجاع النهو ... س ليس بمانعه أن يعض
عبثت بشعري ولم تتئب ... تعارض جوهره بالعرض
أضاقت أساليب هذا القري ... ض أم قد عفا رسمه فانقرض
لعمري لفوقت سهم النصال ... وأرسلته لو أصبت الغرض
وكتب الى الملقب بالمعتضد والد المعتمد، وقد شرب دواء:
أحمدت عاقبة الدواء ... ونلت عافية الشفاء
وخرجت منه مثل ما ... خرج الحسام من الجلاء
وبقيت للدنيا فأن ... ت دواؤها من كل داء
وورثت أعمار العدى ... وقسمتها في الأولياء
يا خير من ركب الجوا ... د وسار في ظل اللواء
بشراك عقبى صحة ... تجري الى غير انتهاء
وبقيت مفدياً بنا ... إن نحن جزنا في الفداء
وكتب الى أبي المعالي بن عامر يستدعيه:
أبا المعالي نحن في راحة ... فانقل إلينا القدم العاليه
أنت الذي لو تشترى ساعة ... منه بدهر لم تكن غاليه
وقال في هجاء رجل كان في عينه فص:
محضت في استه الأيور حليباً ... فعلت عينه من الزبد نقطه
ولآخر كان في عينه فص وعلى محبوبه خال، وهو أبو الحسن بن منصور الديلمي:
لست آسى لفقد إنسان عيني ... وجميع الجمال في معتاضه
وحبيبي من مقلتي أخذ الخا ... ل وأعطى سوادها من بياضه
وقال ابن زيدون في المعتمد بعد المعتضد من قصيدة طويلة جميلة:
وإذا غصون المكرمات تهدلت ... كان الهديل ثناؤك المترنم
الفجر ثغر عن حفاظك باسم ... والمجد برد من وفائك معلم
ومن شعره في قلائد العقيان قوله:
يا مستخفاً بعاشقيه ... ومستغشاً لناصحيه
ومن أطاع الوشاة فينا ... حتى أطعنا السلو فيه
الحمد لله إذ أراني ... تكذيب ما كنت تدعيه
من قبل أن يهزم التسلي ... وغلب الشوق ما يليه
وقوله:
أيوحشني الزمان وأنت أنسي ... ويظلم لي النهار وأنت شمسي
وأغرس في محبتك الأماني ... فأجني الموت من ثمرات غرسي
لقد جازيت غدراً عن وفائي ... وبعت مودتي ظلماً ببخس
ولو أن الزمان أطاع حكمي ... فديتك من مكارهه بنفسي
وقوله:
ولقد شكوتك بالضمير الى الهوى ... ودعوت من حنق عليك فأمّنا
منّيت نفسي من صفائك ضلة ... ولقد تغر المرء بارقة المنى
وقوله يتغزل ويمدح المعتضد وفي آخرها ثلاثة أبيات سبق ذكرها:
أما في نسيم الريح عرف يعرف ... لنا هل لذات الوقف بالجزع موقف
ومنها:
ضمان علينا أن تزار ودونها ... رقاق الظبى والسمهري المثقف
وقوم عدى يبدون عن صفحاتهم ... وأزهرها من ظلمة الحقد أكلف

يودون لو يثني البعاد زمامنا ... وهيهات ريح الشوق من ذاك أعصف
كفانا من الشوق التحية خلسة ... فيومئ طرف أو بنان مطرف
وإني ليستهويني البرق صبوة ... الى ثغر برق إن بدا كاد يخطف
وما ولعي بالراح إلا توهماً ... لظلم لها كالراح إذ يترشف
وتذكرني العقد المرن جمانه ... مرنات ورق في ذرى الأيك تهتف
فما قبل من أهوى طوى البدر هودج ... ولا ضم ريم القفر خدر مسجف
ولا قبل عباد طوى البحر مجلس ... ولا حمل الطود المعظم رفرف
هو الملك الجعد الذي في ظلاله ... تكف صروف الحادثات وتصرف
روّيته في الحادث الأدِّ لحظة ... وتوقيعه الجالي دجى الخطب أحرف
طلاقة وجه فيمضاء كمثل ما ... يروق فرند السيف والحد مرهف
على السيف من تلك الشهامة ميسم ... وفي الروض من تلك الطلاقة زخرف
يظن الأعادي أن حزمك نائم ... لقد تعد الفسل الظنون فتخلف
ومنها:
رأيناك في أعلى المصلى كأنما ... تطلع من محراب داوود يوسف
ولما حضرنا الأذن والدهر خادم ... تشير فيمضي والقضاء مصرف
وصلنا فقبلنا الندى منك في يد ... بها يتلف المال الجسيم ويخلف
لك الخير أنّى لي بشكرك نهضة ... وكيف أؤدي شكر ما أنت مسلف
ولولاك لم يسهل من الدهر جانب ... ولا ذل منقاد ولا لان معطف
وقوله عند فراره، من محبسه وإساره، وإقامته متوارياً كالقمر في سراره، وهو في قرطبة - يخاطب ولادة - وكانت مخصوصة منه بالمحبة، ويستنهض الأديب أبا بكر للشفاعة، ويستنزل أبا الحزم بن جهور:
شحطنا وما بالدار نأي ولا شحط ... وشط بمن أهوى المزار وما شطوا
أأحبابنا ألوت بحادث عهدنا ... حوادث لا عهد عليها ولا شرط
لعمركم إن الزمان الذي قضى ... بتشتيت جمع الشمل منا لمشتط
وأما الكرى مذ لم أزركم فهاجر ... زيارته عب وإلمامه فرط
وما شرق مقتول الجوانح بالصدى ... الى نطفة زرقاء أضمرها وقط
بأبرح من شوقي إليكم ودون ما ... أدير المنى عنه القتادة والخرط
وفي الربرب الأنسي أحوى كناسه ... نواحي ضميري لا الكثيب ولا السقط
غريب فنون السحر يرتاح درعه ... متى ضاق ذرعاً بالذي حازه المرط
كأن فؤادي يوم أهوى مودعاً ... هوى خافقاً منه بحيث هوى القرط
إذا ما كتاب الوجد أشكل سطره ... فمن زفرتي شكل ومن عبوتي نقط
ألا هل أتى الفتيان أن فتاهم ... فريسة من يعدو ونهزة من يسطو
وأن الجواد الفائت الشأو صافن ... تخوّنه شكل وأزرى به ربط
وأن الحسام العضب ثاو بجفنه ... ولا ذم من غربيه قدٌّ ولا قط
عليك أبا بكر بكرت بهمة ... لها الخطر العالي وإن نالها حط
أبي بعدما هيل التراب على أبي ... ورهطي فذاً حين لم يبق لي رهط
لك النعمة الخضراء تندي ظلالها ... علي ولا جحد لدي ولا غمط
ولولاك لم يثقب زناد قريحتي ... فتلتهب الظلماء من نارها سقط
ولا ألّفت أيدي الربيع أزاهراً ... فمن خاطري نثر ومن روضه لقط
هرمت وما للشيب وخط بمفرقي ... ولكن لشيب الهم في كبدي وخط
وطاول سوء الحال نفسي فأذكرت ... من الروضة الغناء طاولها القحط
مئون من الأيام خمس قطعتها ... أسيراً وإن لم يبد سرّ ولا قسط
أتت بي كما ميط الإناء من الأذى ... وأذهب ما بالثوب من دنس مسط
أتدنو قطوف الجنتين لمعشر ... وغايتي السدر القليل أو الخمط
وما كان ظني أن تغرنيَ المنى ... وللغر في العشواء من ظنه خبط

أما وأرتني النجم موطئ أخمصي ... لقد أوطأت خدي لأخمص من يخطو
ومستبطأ العتبى إذا قلت قد أتى ... رضاه تمادى العتب واتصل السخط
وما زال يدنيني فيأبى قبوله ... هوى سرف منه وصاغية فرط
ونظم ثناء في نظام ولائه ... تحلت به الدنيا لآلئه وسط
على خصرها منه وشاح مفصل ... وفي رأسها تاج وفي جيدها سمط
عدا سمعه عني وأصغى الى عدى ... لهم في أديمي كلما استمكنوا عط
بلغت المدى إذ قصروا فقلوبهم ... مكامن أضغان أساودها رقط
يولّونني عرض الكراهة والقلى ... وما دهرهم إلا النفاسة والغبط
ولما انتحوني بالتي لست أهلها ... ولم يمن أمثالي بأمثالها قط
فررت فإن قالوا الفرار إرابة ... فقد فر موسى حين هم به القبط
وإني لراج أن تعود كبدئها ... لي الشيمة الزهراء والخلق السبط
وحلم امرئ تعفو الذنوب بعفوه ... وتمحى الخطايا مثل ما محي الخط
فما لك لا تختصّني بشفاعة ... يلوح على دهري لميسمها غبط
يفي بنسيم العنبر الورد ريحها ... إذا شعشع المسك الأحم به خلط
فإن يسعف المولى فنعمى هنيئة ... لنفس على نفس ألظ بها ضغط
وإن يأب إلا قبض مبسوط فضله ... ففي يد مولى فوقه القبض والبسط
قال يكلف بولادة ويهيم، ويستضيء بنور تجليها في الليل البهيم، وكانت من الأدب والظرف بحيث تختلس القلوب والألباب، وتعيد الشيب الى أخلاق الشباب، فلما يئس من لقياها وحجب عنه محياها، كتب إليها:
بنتم وبنّا فما ابتلّت جوانحنا ... شوقاً إليكم ولا جفّت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت ... سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا
إذ جانب العيش طلق من تألفنا ... ومورد اللهو صاف من تصافينا
وإذ هصرنا غصون الأنس دانية ... قطوفها فجنينا منه ما شينا
ليسق عهدكم عهد السرور فما ... كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
من مبلغ الملبسينا بامتزاجهم ... حزناً مع الدهر لا يبلى ويبلينا
أن الزمان الذي ما زال يضحكنا ... أنساً بقربهم قد عاد يبكينا
غيظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نغص فقال الدهر آمينا
فانحلّ ما كان معقوداً بأنفسنا ... وانبتّ ما كان موصولاً بأيدينا
وقد نكون وما يخشى تفرقنا ... فاليوم نحن وما يرجى تلاقينا
لم نعتقد بعدكم إلا الوفاء لكم ... رأياً ولم نتقلد غيره دينا
لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا ... إن طالما غيّر النأي المحبينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلاً ... منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا
ولا استفدنا خليلاً عنك يشغلنا ... ولا أخذنا بديلاً منك يسلينا
يا ساري البرق غادِ القصر فاسق به ... من كان صرف الهوى والود يسقينا
ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا ... من لو على البعد حياً كان يحيينا
يا روضة طالما أجنت لواحظنا ... ورداً جلاه الصبا غضاً ونسرينا
ويا حياةً تملّينا بزهرتها ... منى ضروباً ولذات أفانينا
ويا نعيماً خطرنا من غضرته ... في وشي نعمى سحبناً ذيله حينا
لسنا نسميك إجلالاً وتكرمة ... وقدرك المعتلى عن ذاك يكفينا
إذا انفردت وما شوركت في صفة ... فحسبنا الوصف إيضاحاً وتبيينا
يا جنة الخلد أبدلنا بسلسلها ... والكوثر العذب زقوماً وغسلينا

كأننا لم نبت والوصل ثالثنا ... والسعد قد غض من أجفان واشينا
سران في خاطر الظلماء يكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يفشينا
لا غرو حين ذكرنا الحزن حين نهت ... عنه النهى وتركنا الصبر ناسينا
إنا قرأنا الأسى يوم النوى سوَراً ... مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا
أما هواك فلم نعدل بمنهله ... شرباً وإن كان يروينا فيظمينا
لم نجف أفق كمال أنت كوكبه ... سالين عنه ولم نهجره قالينا
ولا اختياراً تجنبناك عن كثب ... لكن عدتنا على كره عوادينا
نأسى عليك إذا حثت مشعشعة ... فينا الشمول وغنانا مغنينا
لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا ... سيما ارتياح ولا الأوتار تلهينا
فما ابتغينا خليلاً منك يحبسنا ... ولا استعدنا حميماً عنك يغنينا
ولو صبا نحونا من علو مطلعه ... بدر الدجى لم يكن حاشاك يصبينا
أبكي وفاء وإن لم تبذلي صلة ... فالذكر يقنعنا والطيف يكفينا
دومي على العهد ما دمنا محافظة ... فالحر من دان إنصافاً كما دينا
وفي الجواب متاع لو شفعت به ... بيض الأيادي التي ما زلت تولينا
عليك مني سلام الله ما بقيت ... صبابة منك نخفيها فتخفينا
ولما مات عباد المعتضد قربه ولده محمد المعتمد واتخذه جليساً، وأكرمه أنيساً ورأى رعي مواته، وأحيى الموات من حرماته، فقال يرثيه، ويشكر ابنه:
أعباد يا أوفى الملوك لقد عدا ... عليك زمان من سجيته الغدر
فهلا عداه أن علياك عليه ... وذكرك في أردان أيامه عطر
أأنفسَ نفس في الهوى قصد الردى ... وأخطر علق للهدى أفقد الدهر
إذا الموت أضحى قصر كل معمَر ... فإن سواء طال أو قصر العمر
ومنها:
فهل علم الشلو المقدس أنني ... مسوغ حال ضل في كنهها الفكر
وإن مثابي لم يضعه محمد ... خليفتك العدل الرضا وابنك البر
وأرغم في بري أنوف عصابة ... لقاؤهم جهم ومنظرهم شزر
إذا ما استوى في الدست عاقد حبوة ... وقام سماطاً حفله فلي الصدر

أبو بكر محمد بن عمار
وزير المعتمد أيضاً وهو وأبو الوليد بن زيدون في حسن الشعر فرسا رهان، ورضيعا لبان، وقد ذكر أكثر الأدباء بالأندلس أنهما أشعر أهل عصرهما، وقتله المعتمد، وكان أقوى الأسباب في قتله أنه هجاه بشعر ذكر فيه أم بنيه المعروفة بالرميكية وأوله:
ألا حي بالغرب حياً حِلالا
ويقول:
تخيرتها من بنات الهجان ... رميكية لا تساوي عقالا
فجاءت بكل قصير الذراع ... لئيم النجارين عماً وخالا
ومما ينسب إليه:
مما يقبح عندي ذكر أندلس ... سماع مقتدر فيها ومعتمد
أسماء مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
وأنشدني ببغداد محمد بن عيسى اليماني، قال أنشدني بعض المغاربة باليمن لأبي بكر بن عمار وزير الملك ابن عباد من قصيدة استوزره بسببها:
أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى ... والنجم قد صرف العنان عن السرى
والصبح قد أهدى لنا كافوره ... لما استرد الليل منا العنبرا
والروض كالحسنا كساه نوره ... وشياً وقلده نداه جوهرا
أو كالغلام زها بورد رياضه ... خجلاً وتاه بآسهن معذرا
روض كأن النهر فيه معصم ... صاف أطل على رداء أخضرا
الى هاهنا أنشدنيه ونقلت تمام الأبيات من مجموع:
وتهزه ريح الصبا فتظنه ... سيف ابن عباد يبدد عسكرا
عباد المخضر نائل كفه ... والجو قد لبس الرداء الأغبرا
أندى على الأكباد من قطر الندى ... وألذ في الأجفان من سنة الكرى

من لا توازنه الجبال إذا احتبى ... من لا تسابقه الرياح إذا جرى
فإذا الكتائب كالكواكب فوقهم ... من لامهم مثل السحاب كنهورا
من كل أبيض قد تقلد أبيضاً ... عضباً وأسمر قد تقلد أسمرا
ملك يروقك خلقه أو خلقه ... كالروض يحسن منظراً أو مخبرا
ملك إذا ازدحم الملوك بمورد ... ونحاه لا يردون حتى يصدرا
قداح زند المجد لا ينفك من ... نار الوغى إلا الى نار القرى
يختار إذ يهب الخريدة كاعباً ... والطرف أجرد والحسام مجوهرا
لا خلق أفرى من شفار حسامه ... إن كنت شبهت المواكب أسطرا
ماض وصدر الرمح يكهم بالظبى ... ينبو وأيدي الخيل تعثر في البرى
أيقنت أني من ذراه بجنة ... لما سقاني من نداه الكوثرا
وعلمت حقاً أن ربعي مخصب ... لما سالت به الغمام الممطرا
أثمرت رمحك من رؤوس كماتهم ... لما علمت الغصن يعشق مثمرا
وصبغت درعك من دماء ملوكهم ... لما رأيت الحسن يلبس أحمرا
نمقتها وشياً بذكرك مذهباً ... وفتقتها مسكاً بحمدك أذفرا
فلئن وجدت نسيم حمدي عاطراً ... فلقد وجدت نسيم برك أعطرا
وله فيه من قصيدة أنشدني البيت الأول منها أبو الحسن بن علي بن صالح الأندلسي بالعراق، وهو:
علي وإلا ما بكاء الغمائم ... وفي إلا ما لنوح الحمائم
في المديح:
ملوك مناخ العز في عرصاتهم ... ومثوى المعالي بين تلك المعالم
هم البيت ما غير الهدى لبنائه ... بأس ولا غير القنا بدعائم
إذا قصر الروع الخطى نهضت بهم ... طوال العوالي في طوال المعاصم
وأيد أبت من أن تؤوب ولم تقد ... بجز النواصي أو بحزّ الغلاصم
إذا ركبوا فانظره أول طاعن ... وإن نزلوا فانظره آخر طاعم
رقيق حواشي الطبع يجلو بيانه ... وجوه المعاني واضحات المباسم
ولا غرو إن حيتك بالطيب روضة ... سمحت لها بالعارض المتراكم
ومنها مما أورده أبو الصلت في الحديقة من مختاره:
أبى أن يراه الله إلا مقلداً ... حمالة سيف أو حمالة غارم
إذا جر أذيال الجيوش الى العدى ... أطاعته أو جرت ذيول الهزائم
ليس يقصر هذا الترديد في الحسن والجود عن قول أبي حية النميري:
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة ... تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا
وفي المخالطة بين أذيال وذيول إشارة لطيفة الى تقليل عدد الممدوح، وتكثير عدد أعدائه، وذلك أمدح.
منها في وصف الفرس:
خذوا بي إن لم تهدئوا كل سابح ... لريح الصبا في أثره أنف راغم
من العابسات الدهم إلا التفاتة ... الى غرة أهدت له ثغر باسم
طوى بي عرض البيد فوق قوائم ... توهمته منهن فوق قوادم
ألا قاتل الله الجياد فإنها ... نأت بي عن أرض العلا والمكارم
ومنها:
أشلب ولا تنساب عبرة مشفق ... وحمص ولا تعتاد زفرة نادم
كساه الحيا برد الشباب فإنها ... بلاد بها عق الشباب تمائمي
ليالي لا ألوي على رشد لائم ... عناني ولا أثنيه عن غي هائم
ومنه، مما أنشدنيه محمد اليماني، أنه أنشده بعض المغاربة في صفة النهر والروض:
أنا سهادي من عيون نواعس ... وأجني عذابي من غصون نواعم
وقوم لنا بالسد بين معاطف ... من النهر تنساب انسياب الأراقم
بحيث اتخذنا الروض جاراً تزورنا ... هداياه في أيدي الرياح النواسم
تبلغنا أنفاسه فيزيدها ... بأعصر أنفاس وأذكى لناسم
تسير إلينا ثم عنا كأنها ... حواسد تمشي بيننا بالنمائم
وبتنا ولا واش نحس كأننا ... حللنا مكان السر من صدر كاتم

شعره أحق من الروض بوصفه، وأجدر بالإطراء لإطرابه، لبلاغته وسلاسته ولطفه. وقال من قطعة في مدح المعتضد عباد ويذكر فتح ابنة قرمونة وإحراقه إياها أولها:
ألا للمعالي ما تعيد وما تبدي ... وفي الله ما تخفيه عنا وما تبدي
نوال كما اخضر العذار وفتكة ... كما خجلت من دونه صفحة الخد
جنيت ثمار النصر طيبة الجنى ... ولا شجر غير المثقفة الملد
وقلدت أجياد الربى رائق الحلى ... ولا درر غير المطهمة الجرد
بكل فتى عاري الأشاجع لابس ... الى غمرات الموت محكمة السرد
ومنها في ذكر ابنه:
ببدر ولكن من مطالعه الوغى ... وليث ولكن من براثنه الهندي
ورب ظلم سار فيه الى العدى ... ولا نجم إلا ما تطلع من غمد
أطل على قرمونة متبلجاً ... مع الصبح حتى قلت كانا على وعد
فأرملها بالسيف ثم أعارها ... من النار أثواب الحداد على الفقد
فيا حسن ذاك السيف في راحة الهدى ... ويا برد تلك النار في كبد المجد
هنيئاً ببكر في الفتوح نكحتها ... وما قبضت غير المنية في النقد
ومنها:
لقد سلكت نهج السبيل الى الردى ... ظباء دنت من غابة الأسد الورد
وأكثر ما يلهيك عن كأسك الوغى ... وعن نغمات العود نغمة مستجد
وما الملك إلا حلية بك حسنها ... وإلا فما فضل السوار بلا زند
ما ألهب استهار استعاراته، وأثبت داري عباراته، وأحسن شعار شعره، وأقوم نظام نظمه، وما أروى رويه، وما أعطر ند نديه، وما أقوى مباني قوافيه، وما أحكم حكم معانيه، هذا هو السحر الحلال والنحو الحالي وأين من هذه الفوائد فرائد اللئالي، لقد أبدع صنيعاً، وصنع بديعاً، واخترع غراً واقترع عذراً، بل فرع سما، وهذا المعنى هو الكبريت الأحمر والأكسير المتخير، والإبريز العزيز، ودقة ذوق لا يعبر عنه البيان، ولا تعرفه إلا العيان، وحلاوة المذاق فوق طلاوة العيان.
وقال أيضاً في عباد من قصيدة:
إنا عبيدك أو يقول مصدق ... الحق مذموم وأنت بخيل
أترى القبول سرت إليك بنفحة ... مما ادعته فكان منك قبول
وهل استمالك من ثنائي عاطف ... إن الكريم الى الثناء يميل
وكتب إليه وقد أبلّ من علة:
الكأس ظامئة الى يمناكا ... والروض مرتاح الى لقياكا
فأدر بآفاق السرور كواكباً ... تخذت أكف سقاتها أفلاكا
راحا إذا هب النسيم حسبتها ... مسروقة الأنفاس من رياكا
رد مورد اللذات عذباً صافياً ... فلقد وردت المجد قبل كذاكا
لم ترو من راح ولا من راحة ... حتى ارتوت بدم العداة قناكا
وقال من قطعة:
وعاطلة من دماء الحرو ... ب أطلعت رأيك فيها قمر
ولم تتقدم بجيش الرجا ... ل حتى تقدم جيش الفكر
فإن يجنك الفتح ذاك الأصيل ... فمن غرس تدبير ذاك السحر
ومنها:
فعاقر سيفك حتى انحنى ... وعربد رمحك حتى انكسر
وكم نبت في حربهم عن علي ... وناب عن النهروان النهر
وكتب إليه من أبيات:
لقد فاز قدحي في هواك وقابلت ... مطالع حالي من سمائك أسعد
فإن أنا لم أشكرك صادق نية ... تقوم عليها آية النصح تعضد
فلا صح لي دين ولا بر مذهب ... ولا كرمت نفس ولا طاب مولد
وقال من قصيدة:
إني لممن إن دعوت لنصرة ... يوماً بساطاً حجة وجلاد
أذكيت دونك للعدا حدق القنا ... وخصمت عنك بألسن الأغماد
قيل كان استشعر من المعتمد وهرب منه، ثم رجع إليه، فغدا يسفك دمه عليه. فمما كتب إليه يستعطفه:
أأركب قصداً أم أعوج على الركب ... فقد صرت من أمري على مركب صعب
وأصبحت لا أدري أفي البعد راحتي ... فأجعله حظي أم الحظ في القرب
ومنها:

أما أنه لولا عوارفك التي ... جرت في مجرى الماء في الغصن الرطب
لما سمت نفسي ما أسوم من الأذى ... ولا قلت إن الذنب فيما جرى ذنبي
أخافك للحق الذي لك في دمي ... وأرجو للحب الذي لك في قلبي
سأستمنح الرحمى لديك ضراعة ... وأسأل سقيا من تجاوزك العذب
فأجابه المعتمد بأبيات منها:
تقدم الى ما اعتدت عندي من الرحب ... ورد تلقك العتبى حجاباً عن العتب
متى تلقني تلق الذي قد بلغته ... صفوحاً عن الجاني رؤوفاً على الصحب
وما أحسن قول مهيار:
أحبك وداً من يخافك طاعة ... وأعجب شيء خيفة معها حب
وكتب الى المعتمد في يوم غيم وقد احتجب:
تجهم وجه الأفق واعتلّت النفس ... بأن لم تلح للعين أنت ولا الشمس
فإن كان هذا منكما عن توافق ... وضمكما أنس فيهنيكما العرس
وكتب الى أبي القاسم محمد بن قاسم الفهري لما عاتبه حين اجتاز عليه، ولم يعرج نحوه:
لم تثن عنك عناني سلوة خطرت ... على فؤادي ولا سمعي ولا بصري
فقصرك البيت لو أني قضيت به ... حجي وكفك منه موضع الحجر
لكن عدتني عنكم خجلة سلفت ... كفانيَ القول فيها غير معتذر
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر
واجتاز على أبي بكر بن عبد العزيز ببلنسية فأخرج الى لقائه رجلاً من اليهود، فقال في ذلك يعاتبه:
تناهيتم في برنا لو سمحتم ... بوجه صديق في اللقاء وسيم
وسلسلتم راح البشاشة بيننا ... فما ضر لو ساعدتم بنديم
سألتمس العذر الجميل على العلى ... وأحتال للفضل احتيال كريم
وأثني على روض الطلاقة بالحيا ... وإن لم أفز من نشره بنسيم
ضننتم بأعلاق الرجال على النوى ... فلم تصلونا منهم بزعيم
ولكن سأستعدي الوفاء فأقتضي ... سماحك بالأنس اقتضاء غريم
وقال في فارسين تبارزا، فسبق أحدهما الآخر فطعنه، من أبيات:
كم من شجاع قدته تحت الردى ... بدم من الأوداج كالأرسان
روّى ليضرب فانتهدت بطعنه ... إن الرماح بداية الفرسان
وقال في مغن يكنى أبا الفضل، وقيل القائل غيره:
غنى أبو الفضل فقلنا له ... سبحان مخليك من الفضل
غناؤه حدٌّ على شربها ... فاشرب فأنت اليوم في حل
ومما أورده أبو الصلت في الحديقة من شعر أبي عمار وقال:
وفيت لربك فيمن غدر ... وأنصفت دينك ممن كفر
وقمت تطالب في الناكثين ... مر الحفاظ بحلو الظفر
ولم تتقدم بجيش الرجال ... حتى تقدم جيش الفكر
وعاطلة من ليالي الحروب ... أطلعت رأيك فيها قمر
فإن يجنك الفتح ذاك الأصيل ... فمن غرس تدبير ذاك السحر
وقوله من أخرى:
لله درك ما تعلق ناظري ... بمدى علاك ولا جرى تحصيل
وجه بمعرفة الدلاص مقنع ... أبداً وطرف بالعجاج كحيل
ويد بآمال العفاة نهالها ... أبداً وآجال العداة تسيل
عمرت ربوع المجد منها إنما ... تركت بيوت المال وهي طلول
وذكره ابن بشرون المهدوي في كتابه الموسوم بالمختار وقال: كان خصيصاً بالمعتمد في زمن إمارته وكلاهما نقي العذار، من ثوب الوقار، فلما صار الأمر إليه، حافظ عليه، وامتزج به امتزاج الماء بالعقار، ثم نكبه وأعطبه وآل الأمر الى أن هجاه ابن عمار، وكان قد التجأ منه الى الفرار.
فمن ذلك من قصيدة:
ألا حي بالغرب حياً حِلالا ... أناخوا جِمالاً وحازوا جمالا
وعرج بيومين أم القرى ... ونم فعسى أن تراها خيالا
يومين: قرية بالأندلس كانت أولية المعتمد منها، يذكره بها، يعني ليس له قديم أصل في المملكة:
لتسأل عن ساكنيها الرماد ... ولم أر للنار فيها اشتعالا
أيا فارس الخيل يا زيدها ... حميت الحمى وأبحت العيالا

أراك تورّي بحب النسا ... وقدماً عهدتك تهوى الرجالا
تخيّرتها من بنات الهجان ... رميكية لا تساوي عقالا
فجاءت بكل قصير الذراع ... لئيم النجارين عماً وخالا
بصفر الوجوه كأن استها ... رماهم فجاءوا حيارى كسالى
قصار القدود ولكنهم ... أقاموا عليها قروناً طوالا

المعتصم أبو يحيى محمد بن معن بن محمد
ابن صمادح
صاحب المريّة وبجانة والصّمادحيّة كان في عصر ابن عمار، وسمعت الأمير نجم الدين أبا محمد بن فضال ينشد أبياتاً كتبها أبو بكر بن عمار إليه في جواب أبيات كتبها ابن صمادح، ويستحسنها، ويطرب بها.
فأما أبيات ابن صمادح فهي معاتبة:
ودهّدني في الناس معرفتي بهم ... وطول اختباري صاحباً بعد صاحب
فلم ترني الأيام خلاً تسرّني ... مباديه إلا ساءني في العواقب
ولا قلت أرجوه لدفع ملمّة ... من الدهر إلا كان إحدى النّوائب
والأبيات التي أجاب المعتصمَ ابنُ عمار بها:
فديتُك لا تزهد وثَم بقيّة ... سيرغب فيها عند وقع التجارب
وأبق على الخلصان إنّ لديهمُ ... على البدء كرّات بحسن العواقب
تكنّفتني بالنظم والنثر عاتباً ... وسقت عليّ القول من كل جانب
وقد كان لي لو شئت ردّ وإنما ... أجرّ لساني ذكر تلك المواهب
ولا بد من شكوى ولو بتنفّس ... يخفّف من حر الحشا والتّرائب
كتبت على رسمي وبعد نسيئة ... قرأت جوابي في سطور المواكب
ثلاثة أبيات وهيهات إنما ... بعثت الى حرْبي ثلاث كتائب
وكيف يلذّ العيش في عتب سيّد ... وما لذّ لي يوماً على عتب صاحب
وقبْلُ جرت عن بعض كتبي جفوة ... ألحّت على وجهي بغمز الحواجب
سلكت سبيلي للزيادة إثرها ... فصادفت دفعاً في صدور الرّكائب
وما كنت مرتاداً ولكن لنفحة ... تعوّدت من ريحان تلك الضرائب
ولو لمعت لي من سمائك برقة ... ركبت الى مغناك هوج الجنائب
فقبّلت من يمناك أعذب مورد ... وقضّيت من لقياك أوكد واجب
وأبتُ خفيف الظهر إلا من النّوى ... وخلّفت للعافي ثقال الحقائب
سواك لغا قول الوشاة من العدى ... وغيرك يقضي بالظنون الكواذب
وقال أبو يحيى بن صمادح في بركة بناها بالصمادحية:
كأنّ انسياب الماء في صفحاتها ... حسام صقيل المتن سلّ من الغمد
تفور به فوّارة مستديرة ... لها مقلة زرقاء موصولة السّهد
أدرنا بها كأساً كأنّ حبابها ... حباب سقط الطّلّ في ورق الورد
لها في غدير الماء لألاء جمرة ... حكت نار إبراهيم في اللون والبرد
مأخوذ من قول ابن المعتز:
ومشمولة قد طال بالنقص حينما ... حكت نار إبراهيم في اللون والبرد
حططنا الى خمّارها بعد هجعة ... رِحالَ مطايا لم تزل نوقها تحدي
وأحسن ما قيل في الفوّارة قول علي بن الجهم:
وفوّارة ثأرها في السماء ... فليست تقصر عن ثارها
تردّ على المزن ما أنزلت ... على الأرض من صوب مدرارها

وذكر مؤلف كتاب قلائد العقيان المعتصم بن صمادح، فأكثر له الممادح، وذكر أنّ دولته كانت منبعاً للجود، ومطلعاً للسعود، ومشرعاً للوفود، ووصفه برواج بضائع الرجاء في سوقه، وإنارة مطالع الفضلاء بشروقه، واتّساق نظام نفائس الأفاضل، واتّساع مجالي مجالس الأماثل، وتحلّي الساعات بمذاكرة الفضل، وتخلّي الأوقات عن مساورة الجهل، وكان متنقّلاً من مدارسة الى مؤانسة، ومن مذاكرة الى معاشرة، وهو من مغنى أدب، الى مثوى طرب، لم يزاحم مليكاً على ملكه، ولم ينظر إلا في إجراء فلَكه، وإرساء فلْكه، حتى قصد، وبالنّوائب أرصد، ونوزل وقوتل، وطالت عليه الطوائل، وغالته الغوائل فقضى نحبه، وما قضى حبه، وفاضت نفسه مضضاً، وزاده إحداق الأعداء به على مرضه مرضاً.
وقال وهو متوجع مضطجع، وقد علا منهم الصوت: نغّص علينا كل شيء حتى الموت، ورمق بطرفه الكليل، حظيّة له قد أخذت في البكاء والعويل، فقال:
ترفّق بدمعك لا تفنه ... فبين يديك بكاءطويل
قال: وكتب ابن عمار إليه بعد أن أقام عنده طويلاً راجياً إذناً يجد فيه الى الانصراف سبيلاً:
يا واضحاً وضح السّحاب ال ... جود في معْنى السماح
ومطابقاً يأتي وجوه ال ... برّ من طرق المزاح
أسرفت في بر الضيا ... ف فجد قليلاً بالسراح
فأجابه:
يا فاضلاً في شكره ... أصل المساء مع الصباح
هلا رفقت بمهجتي ... عند التكلم بالسّراح
إن السماح ببعدكم ... والله ليس من السّماح
وقال ابن صمادح في صفة نهر:
انظر الى حسن هذا الماء في صَببهْ ... كأنّه أرقم قد جدّ في هربه
وقال، وأراد الركوب الى وجهة، والهبوب في نزهة، فأخبر بوفاة حظيّة له معشوقة، بالمقة مرموقة، فلم يثن عنانه، ولم يعطّل لسانه، وقال في ذلك:
لما غدا القلب مفجوعاً بأسوده ... وفضّ كل ختام عن عزائمه
ركبت ظهر جوادي كي أسلّيه ... وقلت للسّيف كن لي من تمائمه
قال، وتذكّر في بعض منتزهاته حظيّة، فهزّه الشوق إليها فكتب على جناح طائر تحية:
وحمّلتُ ذات الطوق مني تحيةً ... تكون على أفق المرية مِجْمَرا
قرأت في تاريخ الأندلس الذي صنّفه بعض أهل العصر، وهو محمد بن أيوب بن غالب الأنصاري للملك الناصر بمصر في سنة ثمان وستين وخمسمائة يذكر أن أبا يحيى محمد بن معن بن محمد بن صمادح لمّا حوصر بالمرية، وحاصره جيش أمير المسلمين كان مريضاً، واشتدت حاله، فسمع يوماً صيحة ففتح عينيه وقال: نُغّصَ علينا حتى الموت، ومات في إثر ذلك عند طلوع الشمس من يوم الخميس لثمان بقين من ربيع الأول سنة أربع وثمانين وأربعمائة. قال أبو يحيى بن صمادح:
مؤلّف من خلاف قلبه حجر ... وجسمه نعمة تدميه أنفاسي
وكلّما أتمنّى قربه جعلت ... مطامعي فيه تهوي بي الى ياسي
وقال أيضاً:
يا من بجسمي لبعده سقم ... ما فيه غير الدنوّ يبريني
بين جفوني والنوم معترك ... تصغر عنه حروب صِفّين
إن كان صرف الزمان أبعدني ... عنك فطيف الخيال يدنيني
وقال:
بأبي من زارني وهنا وقد ... طبّق الأفق دجاه فأنارا
وعلى يمناه كأس أنبتت ... من سناها فوق يسراه احمرارا
واكتسى ... فبدا ... منه ماء جامد يحمل نارا
وقال:
لعمرك إن القلب نحوك شيّق ... وأنت بما ألقى من الشوق أعلم
فودّك عن ودّي إليك مبلّغ ... وقلبك عن قلبي لديك مترجم
هذا من قول المتنبي:
ومثلك من كان الوسيط فؤاده ... فكلّمه عني ولم أتكلّم
وقال ابن صمادح:
الرّوض يشرب والأنواء تنسكب ... والشمس تظهر أحياناً وتحتجب
وللنهار على أفنانه زهر ... كأنّه فضّة من فوقها ذهب

أبو جعفر ابنه
قال:
كتبت وقلبي ذو اشتياق ووحشة ... ولو أنه يسطيع مرَّ يُسلّم
جعلت سواد العين فيه مداده ... وأبيضه طرساً وأقبلت ألثم

خيّل لي أني أقبّل موضعاً ... يصافحه ذاك البنان المكرّم
وهذا من قول أبي إسحاق الصّابي:
لما وضعت صحيفتي ... في بطن كفّ رسولها
قبّلتها لتمسها ... يمناك عند وصولها
وتودّ عيني أنها ... قرنت ببعض فصولها
حتى ترى من وجهك ال ... ميمون غاية سولها

أبو القاسم الأسعد بن إبراهيم
وقد ذاب كحل الليل في دمع فجره ... الى أن تبدّى الصبح كاللّمة الشمطا
كأنّ الدُجى جيش من الزّنج نافر ... وقد أرسل الإصباح في إثره القبطا
ومنها:
إذا سار، سار الجود تحت لوائه ... فليس يحطّ المجد إلاّ إذا حطّا
وقال في غلام مجدور، عن لسانه:
من رأى الورد تحت قطر نداه ... لم يعب فوق وجنتي جدريّا
أنا شمس أردت في الأرض مشيا ... فنثرت النجوم فوقي حُلِيّا
وقال:
لبسوا من الزّرد المضاعف نسجه ... ماء طفت للبيض منه حباب
صفّ كحاشية الرّداء يؤمّه ... صفّ القنا فكأنّه هُدّابه
وقال:
رأيت ليوسف في بيته ... فخربَهُ الله بين البيوت
حصيرَ صلاة علاه الغبار ... وقد نسجت فوقه العنكبوت
فقلت له كم لهذا الحصير ... وكم لك لم تَقر فيه القنوت
فقال هنالك ألقيته ... وثَمّ يكون الى أن أموت
وأورد أبو الصلت في الحديقة:
نشوان لا أدري وقد وافى بنا ... أمن الملاحة أم من الجريال
تتنفّس الصّهباء في لهواته ... كتنفّس الريحان في الآصال
وكأنّما الخِيلانُ في وجناته ... ساعات هجر في زمان وصال
ابن المرعزي النصراني
قال يصف كلبة صيد:
لمْ أرَ ملهًى لذي اقتِناص ... ومكسباً مَقْنعَ الحريصِ
كمِثل خطْلاءَ ذاتِ جيدٍ ... أتْلَعَ مُصفرّةِ القميص
كالقوس في شكلها ولكن ... تنْفُذُ كالسّهم للقَنيص
محبوكة الظهر لم تَجُبْهُ ... لجوف بطن لها خَميص
ومنها في المدح:
يشفع تأميله بود ... شفع القياسات بالنّصوص
وقال:
الله أكبر أنت بدر طالع ... والنقع دجن والكماة نجوم
والجرد أفلاك وأنت مديرها ... وعدوّك الغاوي وهنّ رجوم
وقال في قوم بات عندهم فلم يوقدوا عندهم سراجاً:
نزلت في آل مكحول وضيفهم ... كنازل بين سمع الأرض والبصر
لا تستضيء بضوء في بيوتهم ... لو لم يكن لك تطفيل على القمر
وقال يصف قصيدة:
أنطقتني بالندى حتى سرى نفسي ... كما تنَفَّسَ في الأنداء ريحان
وغاص في بحر نعماك المحيطة بي ... فهذه درر منه ومرجان
أبو عبد الله محمد بن خلصة
الكفيف النحوي، الضّرير ذكره أبو الصّلت. قال من قصيدة لا يخلو بيت من تجنيس:
ألْفى عذاب الهوى عذباً فآلفه ... فما يصيخ الى عذر ولا عذل
فما دمع بثّ كمين البثّ قد تركت ... كلاّ عليك هواها ربّة الكلل
لا أوسع العين عذراً أو تسيل دماً ... أو مدامعها سيلت فلم تسل
ومنها:
ملك تملك حرّ المدح لا يده ... مالت بظلم وما مالت الى بخَلِ
مهذّب الجدّ ماضي الحدّ مضطلع ... بما تحمله العلياء من ثقل
ومنها:
أغرّ لا رأيه يخشى له أبداً ... خلف ولا رأيه يؤتى من الزلل
قد جاوزت نطق الجوزاء همّته ... قدماً وما زحلت عن مرتقى زحل
يأبى له أن يحل الذمُّ ساحته ... ما صدّ من جَللٍ أو سدّ من خلل
رحب الفناء زعيم بالغناء إذا ... ما افترّت الحرب عن أنيابها العُصُل
تضمين من قول مسلم بن الوليد:
يأبى لك الذمّ في يوميك إن ذكرا ... عضْب حسام وعضْب غير مبتذل
بات الأمير إذا يفترّ عنه إذا ... ما افترّت الحرب عن أنيابها العُصُل

ومن قصيدة ابن خلصة:
والبيض تسقي ثراهم من دمائهم ... وَبْلاً وتنشئ لمع البرق في القُلل
يغرّهم بك والآمال كاذبة ... ما جمّعوا لك من خيل ومن خول
ومنها:
مكّنت حزمك من حيْزومِ مكرهم ... وقد تُصادُ أسود الغيل بالغيل
لم تدر قبلك عين أنها بصرت ... بالبرّ والبحر والرّئْبالِ في رجل
ليث الضّراب ولكن من ضرائبه ... دفع المخوف وأمن الخائف الوجل
أما قول مسلم فإنه في غاية الصّنعة والإحكام والجودة والرفعة، فإنه طابق بين الخوف والأمن في اللّفظ والمعنى، وقوله خوف المخيف في غاية الحسن. وأما ابن خلصة فقابل الدفع بالأمن وما بنيهما مقابلة، ودفع المخوف هو من الخائف.
ومن قصيدة ابن خلصة:
أيا حيا قبل الإمحال نائله ... ما لي أرى سبلاً قد حاد عن سبلي
ومايقصّرُ عن علمي ولا فهمي ... عن همّتي فاختبر إن شئت أو فسل
خدمتكم ليكون الدّهر من خدمي ... فما أحالته عن حالاته حيَلي
إن لم تكن بك حالاتي مبدّلة ... فما انتفاعي بعلم الحال والبدل
وقال يشير الى علمه بالنّحو:
مليك إذا ألهى الملوك عن اللّهى ... خمار وخمر فارق الدلّ والدّنّا
فلم تثنه الأوتار أوتار قينة ... إذا ما دعاه السيف لم يثنه المثنى
فلو جاد بالدنيا وعاد لضعفها ... لظنّ من استصغاره أنّه ضنّا
فلا عتب في إنعامه غير أنه ... إذا منّ لم يتبع مواهبه منّا
ولأبي الفرج الأصفهاني:
وردنا ذُراهُ مقترين فراشنا ... وردنا حياه مُجْدِبين فأخصبنا
ولما انتجعنا لائذين بظلّه ... أعان وما عنّى ومنّ وما منّا
ولا طعن في إقدامه غير أنه ... لبوس الى حاجاته الضرب والطّعنا
وللمتنبي
وإنّا إذا ما الموت صرّح في الوغى ... لبسنا الى حاجاتنا الطّعن والضربا
وأمدح من هذا قول مهيار:
لمّا رأوك تفرّقت أرواحهم ... فكأنما عرفتك قبل الأعين
فإذا أردت بأن تفلّ كتيبة ... لاقيتها فتسمَّ فيها واكنن
قال ابن خلصة:
لئن وردت من لفظها المنهل العذبا ... لقد جرّبت من لحظها المنصل العضبا
وقالوا كساك الحبّ أثواب ذلّة ... وهل ممكن أن أجمع العزّ والحبّا
أبا حسن أحسنت أيام ساءني ... زماني وكنت الخصب قد عاقب الجدبا
فأوليتني مرعى من الفضل ممرعاً ... وأوردتني شرباً رويت به شربا
وقال:
لا يردّ البكا عليك الذي فا ... ت فلا يعط دمعك المسؤولا
والمسرات والملمات أق ... دار وما أنت قادر أن تحيلا
سلّم الأمر إنما الأمر لل ... ه وكن قابلاً تكن مقبولا
وقال من أخرى:
تمنّى الأعادي والغرور مناهم ... فكانوا كمن ظن السراب شرابا
وقد غشيت أمَّ اللُهَيْم حصونهم ... بأدهم يكسي الشمس منه ضبابا
كأنّ على جسم الصباح ملاءة ... به وعلى وجه النهار نقابا
خميس يعجّ الجوّ خوف عجاجه ... ملأت الفلا تبّاً به وتبابا
فمن أشقر يحكي صفاء مشقر ... وأشهب مختال يخال شهابا
رماهم بها شهّاد أندية العلا ... وإن عاب لم تعدُ الذوابل عابا

ابن وهبون
هو أبو محمد عبد الجليل بن وهبون المرسيّ.
قال في ابن عباد من قصيدة؛ يصف فيها ركوبه البحر يوم نكبته وإخراجه:
كأنّما البحر عين أنت ناظرها ... وكل شطّ بأشخاص الورى شفر
شبّه الشطّ والناس قيام عليه للانتظار بشفر العين وأهدابها.
ولأبي إسحاق بن خفاجة المغربي:
وغدت تحفّ به الغصون كأنّها ... هدب تحفّ بمقلة زرقاء
ومن هذا الباب قول الأسعد بن إبراهيم: وقد سبق:
صفّ كحاشية الرّداء يؤمّه ... صَفّ القنا فكأنّه هدّاب
وقال، وقد أنشد ابن عبّاد:

لئن جاد شعر ابن الحسين فإنّما ... تجيد العطايا واللّهى تفتح اللها
تنبّأ عجباً بالقريض ولو درى ... بأنك ترويه إذن لتألّها
فأمر له بمائتي دينار.
وقال ابن وهبون في الغزل:
زعموا الغزال حكاه قلت لهم نعم ... في صدّه عن عاشقيه وهجره
قالوا الهلال شبيهه فأجبتهم ... إن كان قيس الى قلامة ظفره
وكذا يقولون المدام كريقه ... يا رب لا علموا مذاقة ثغره
وقال من قصيدة يرثي ابن عمار لما قتله المعتمد:
عجباً له أبكيه ملء مدامعي ... وأقول لا شلّت يمين القاتل
وذكره مؤلف قلائد العقيان في الشعراء المجيدين، والفضلاء المفيدين. وكان بينه وبين ابن عمار، ما أوجب إعلاقه بدولته وإلحاقه بحملته ومما أورده من شعره قوله:
سقى فسقى الله الزمان من أجله ... بكأسين من لميائه وعقاره
وحيّى فحيّ الله دهراً أتى به ... بآسَيْن من ريحانه وعِذاره
وقوله وقد ركب زورقاً في نهر إشبيلية وبين أيديهم شمعتان قد انعكس شعاعهما في اللّجّة وزاد في تلك البهجة، فقال:
كأنّما الشمعتان إذ سمَتا ... خدّ غلام محسن الغَيَدِ
وفي حشا النّهر من شعاعهما ... طريق نار الهوى الى كبدي
وقوله:
غزال يستطاب الموت فيه ... ويعذب في محاسنه العذاب
يقبّله اللثام هوًى وشوقاً ... ويجني روض خدّيه النّقاب
ووصفه مؤلف قلائد العقيان بالاستهتار بالغلمان، والاشتهار بهذا الشان، حتى صار مقوتاً بسبب ذلك مهجوراً عليه محجوراً، وله في غلام كان يشاربه، وقد تكلّل بدرّ العرق شاربه:
وشادن قد كساه الرّوض حلّته ... يستوقف العين بين الغصن والكثب
مموّه الحسن لم يعدم مقبّله ... في خدّه رونقاً من ذلك الشّنب
تدعو الى حبّه لمياء كلّلَها ... زبرجد النّبت يجلو لؤلؤ الحبب
وله في قينة:
إني لأسمع شدواً لا أحقّقه ... وربما كذبت في سمعها الأذن
متى رأى أحد قبلي مطوّقة ... إذا تغنّتْ بلحن جاوب الفنن
وله في حبيب ودّعه، وسار عنه، وخلّف قلبه معه:
إن سرت عنك ففي يديك قيادي ... أو بنتُ منك فما يبين فؤادي
صيّرت فكري في بعادك مؤنسي ... وجعلت لحظي من وداعك زادي
وعليّ أن أذري دموعي إن أنا ... أبصرت شبهك في سبيل بعادي
كم في طريقي من قضيب يانع ... أبكي عليه ومن صباح باد
تلقاك في طي النّسيم تحيّتي ... ويصوب في ديم الغمام ودادي
وله، وقد اجتاز، على فُرن، ومعه رجل من إشبيلية يسمّى ربيعا، فقال له: صف هذا الفرن. فقال:
رُبّ فرْن رأيته يتلظّى ... وربيعٌ مخالطي وعقيدي
قال شبِّهْه قلت صدر حسود ... خالطته مكارم المحسود
وله، وقد ساير غلاماً وسيماً من أولاد الوزراء ذوي الجلال، وقد وضع يمناه في شماله والناس ينظرون الى هلال شوّال:
يا هلال استتر بوجهك عنّا ... إن مولاك قابض بشمالي
هبك تحكي سناه خداً بخدّ ... قم فجئ لقدّه بمثال
وقال:
بأبي سُكيْران اللّواحظ ما رنا ... إلا وأسكر كل قلب صاح
أمل من الآمال أهيف أحور ... خلعت عليه لطافة الأرواح
متجنّد جعل الفؤاد وطيئه ... ولحاظه بدلاً من الأرماح
علمته سفك الدماء بمهجتي ... وتركته يجني بغير جُناح
وله من أبيات:
بيني وبين الليالي همّة جلل ... لو نالها البدر لاستخذى لها زحل
سَرابُ كُلّ يَبابٍ عندها شنب ... وهول كل ظلام عندها كحل
من أين أبْخس لا في ساعدي قصر ... عن المعالي ولا في مقولي خطل
ذنبي الى الدّهر فلتكره سجيّته ... ذنب الحسام إذا ما أحجم البطل
ومنها:
جيش فوارسه بيض كأنصله ... وخيله كالقنا عسّالةٌ ذبُلُ

أشباه ما اعتقلوه من ذوابلهم ... فالحرب جاهلة من منهم الأسل
يمشي على الأرض منهم كل ذي مرح ... كأنّما التّيه في أعطافه كسل
وأورد أبو الصّلت في الحديقة لعبد الجليل بن وهبون من قصيدة يمدح ابن عبّاد، ويذكر ثباته يوم الوقعة بين جيوش المسلمين والروم بالموضع المعروف بالزّلاقة من عمل بطليوس، وقد كان طعن فرسه وكبا به، فقدّم إليه بعض من ثبت معه فرساً فركبه.
من قصيدة:
وقفت بحيث تلحظك العوالي ... وهنّ الى مواردها هيام
ولم يثبت من الأشياع إلا ... شقيقك وهو صارمك الحسام
يمان في يدي ماض يمان ... فلا نابي الغرار ولا كهام
ولم يحملك طرفك بل فؤاد ... تعوّد أن يخاض به الحمام
ثبتّ به ثبات القطب لمّا ... أدار رحاه خطب لا يرام
وعادتك الطعام فإن يخرّوا ... جوادك بالطعان فما يلام
ومنها يذكر أمير المسلمين يوسف بن تاشفين وبعض أصحاب الروم ما تعاقدوا عليه من الثبات:
دعا للحرب كل سليل حرب ... يخلِّفه عن الهيجا نظام
تعرّق لحمه واخضرّ جلداً ... فهبّ مع الحسام به حسام
وجاء بعَظْلمِ الصحراء لوناً ... ولكن ثبْتُ مفرقه ثغام
فلم يثن القنا ما بيّتوه ... وتحت النّوم بأس لا ينام
مضوا في أمرهم سحراً ودارت ... بما عقدوا من الحلف المدام
فردّوها على الشّفرات بيضاً ... وحدّد في تعاطيها النّدام
وما أخذتهم الأسياف لكن ... صواعق لا يبوح لها ضرام
إذا ما برقة برقت عليهم ... فإن القطر أعضاد وهام
ومنها يذكر انهزام ملك الروم تحت الظلام وتخفّفه ومن بقي معه بإلقاء الدّروع:
ستسألك النّساء ولا رجال ... فحدّث ما وراءك يا عصام
وراقبها بأرضك طالعات ... كما يهدي صواعقها الغمام
جياد تستفيد الفتح منها ... ويفرق في مسارحه النّعام
أقمت لدى الوغى سوقاً فخذها ... مناجزة وهوّن ما تسام
فإن شئت اللجين فثم سام ... وإن شئت النظار فثمّ حام
سيعبد بعدها الظلماء لما ... أبيح له بجانبها اكتتام
يلحظ قول المتنبي:
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبر أن المانوية تكذب
نضا أدراعه واجتاب ليلاً ... يودّ لو انّه في الطول عام
وليس لو انّ الأيم السلاح ... ولكن في ضمائره احتدام
وقال من قصيدة يرثي صديقاً له من الكتّاب:
جهبذ قول وفارس ندس ... يمضي على القصد كلّ مركوب
تُرهِبُ في كفّه يراعته ... كلّ أصمّ الكعوب مرهوب
دع قضب الخط للذي حملت ... من قصب الخط في التّجاريب
يعتقل الرجح في النديّ وما ... في كفّه منه غير أنبوب
ومنها:
بان عن الصدق والوفاء أخ ... ليس أخو صدقه بمكذوب
أخذه من:
يا بدعة الأنس والنّعيم به ... أبدعت من وحشة وتعذيب
من المُعَزّى ولا أرى أحداً ... غير مصاب به ومنكوب
أحسن من هذا قول مهيار:
وخبّروني فقد عمّ المصاب به ... من المعزّى به حتى أعزّيه
يا نجل يعقوب كل ذي جلد ... عليك في مثل حزن يعقوب
ليس بلاء النّفوس محتملاً ... فيك ولا المبتلى كأيّوب
أغمدت دمعي عليك معترفاً ... بأنّ دمعي سلاح مغلوب
وقمت أثني يديّ فوق حشا ... بسيف وجْد عليك مضروب
وا حرباً إذ فقدت وا حرباً ... لو كان يجدي دعاء محروب
بدعة كون ونشأة بدرت ... أهُمُّ في صدقها بتكذيب
لبسط نور الطباع خالصه ... يجلّ عن منشأ وتركيب
...... نور مسقطه ... يجري من الدمع كلّ شؤبوب
أجرى لك الله صفو كوثره ... ورحمة ثرّة الشّآبيب

وله يذكر ركوب ابن عبّاد البحر المحيط وعبوره من ساحل الأندلس الى مدينة سبتة قاصداً الأمير يوسف بن تاشفين، والاستنجاد به على الروم:
أحاط جودك بالدنيا فليس له ... إلاّ المحيط مثال حين يعتبر
وما حسبت بأنّ الكلّ يحمله ... بعض ولا كاملاً يحويه مختصر
لم تثن عنك يداً أرجاء صفته ... إلا ومدّت يداً أرجاؤه الأخَرُ
كأنّما البحر عيْنٌ أنت ناظرها ... وكلّ شطّ بأشخاص الورى شفر
تأتي البلاد فتندى منك أوجهها ... حتى يقول ثراها هل همى المطر
ما الفقر إلا مكان لا تحلّ به ... وحيثما سرت سار البدو والحضر
الأرض دارك فاسلك حيث شئت بها ... هو المقام وإن قالوا هو السّفر
وقال يتشوّق ابن عبّاد، وقد حضر بالمَريّة في بعض الأعياد، والشعراء ينشدون ابن صمادح:
دنا العيد لو تدنو به كعبة المنى ... وركن المعالي من ذؤابة يعرب
فيا ويلتا للشعر ترمى جماره ... ويا بُعْدَ ما بيني وبين المحصب
وله وقد ارتاض له محبوبه بعد جماحه، وأذن بعد منافرته بصلحه وصلاحه:
يا نوم عاود جفوناً طالما سهرت ... فإنّ باعث وجدي رقّ لي ورثى
عانقته وهلال الأفق مطّلع ... فبات من كمدي حيران مكترثا
أنار لحظي طريقاً فوق عارضه ... وكان هاروت في أثنائه نفثا
وكان للحسن سرّ فيه مكتتم ... وشى به ناظري من طول ما بحثا
لام يدلّ على بلبال مبصره ... ما زال يبعث وجدي كل ما انبعثا
من آل مُذْحِجَ لي شخص كَلِفْتُ به ... لم ينقص العهد من ودّي ولا نكثا
وله يصف بازياً:
وصارم في يديك منصلت ... إن كان للسيف في الوغى روح
يجتاب مما لبست ضافية ... لها على معطفيه توشيح
متّقد اللحظ من شهامته ... فالجوّ من ناظريه مجروح
والرّيح تهفو كأنّما طلبت ... سليلها في يمينك الرّيح
وله يصف حرشفة:
وحرشفة إن كنت ذا قدرة على ... نفوذ الى ذاك الجنى الحلو فانفذ
كأنّي قد توّجت منها ببيضة ... وقد وضعت للصّون في جلد قنفذ

أبو بكر محمد بن عبدون
قال في خمرة كانت غدوة طيّبة المذاق، ثم عادت عشيّة خلاً:
ألا في سبيل اللّهو كاس مدامة ... أتتنا بطعم عهده غير ثائب
حكت بنت بسطام بن قيس صبيحة ... وراحت كجسم الشّنْفرى بعد نائب
أراد صهباء بنت بسطام، وأراد بقوله: كجسم الشّنْفرى بعد نائب، قول الشنفرى:
فاسقنيها يا سواد ابن عمرو ... إن جسمي بعد خالي لخلّ
ومن هذا الأسلوب، هجو مخلد بن علي الشّامي لابن المدبّر:
على أبوابه من كل وجه ... قصدت له أخو مُرّ ابنِ أدّ
يعني: ضَبّةَ بن أدّ.
أخو لخم أعارك منه ثوباً ... هنيئاً بالقميص المستجدّ
يعني: جُذاماً. وجُذام ولخْم ابنا عمرو بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أدَد زيد بن كهلان ابن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
فلو يلقى كساء أبي عبيد ... عليك لكنت أكسى من بنجد
هو عبيد بن الأبرص.
أراد أبوك أمك يوم زفت ... فلم يوجد لامك بيت سعد
وزيدٌ في الهجاء بغير دال ... أحبَّ إليك من عسل بزبد
أراند الله عُرّك في الجِعِبّا ... وعينك عين بشّار بن بُرْد
وطالعت قلائد العقيان فوجدت في قسم الوزراء أبا محمد بن عبدون. وهذا أبو محمد بن عبدون موصوف بالبيان السّحباني، والشعر الحسّاني وأثنى مؤلّف الكتاب على أدبه، ووضوح مذهبه، وذكر أنّه لما دخل آبره، حل به، وامتصّ من جناه بأعذبه، ومن جناب بأرحبه، فلما أزمع الرّحلة عنه، ركب معه الوزير أبو محمد ليشيّعه، قال القيسي: وأنشدني عند توديعه:
سلام كما حيّا لزهر الرُبى عَرف ... فلا سمع إلا ودّ لو أنّه أنْفُ

حنيني إلى تلك السّجايا فإنّها ... لآثار أعيان المساعي التي أقفو
دليلي إذا ما ضلّ في المجد كوكبي ... وإن لم يعقه لا غروب ولا كسف
نأى لا نأى عهد التّواصل بيننا ... فجدّد به رسم التّخاطب لا يعْفُ
وأطلعه يسْتامُ العقول كأنّما ... يلاحظنا من كلّ حرف له طرف
تقابلنا منه السّطور بواسماً ... أثغر تقرّى عن لمى الحبر أم حرف
معان وألفاظ كما رقّ زاهر ... من الروض أو دارت معتّقة صرف
تحلّ حبى الأحلام هزاً كأنّما ... لسامعها في كل جارحة عطف
يودّ بجدع الأنف شانيك أنّها ... لناظره كحل وفي أذنه شنف
فأنت الذي لولاه ما فاه لي فم ... ولا هجست نفس ولا كتبت كفّ
نصيري أبا نصر على الدّهر لا النّوى ... فمنك لنا نصر وأنت لنا كهف
رحلت ولا شِسعي ولا مركبي معي ... فلا حافر يقضي ودادي ولا خفّ
ولست على التشييع إن شئت قادراً ... فلا عيشة تصفو ولا ريشة تضفو
عزيز على العليا وداعك لي غدا ... فلا أدمع تهمي ولا أضلع تهفو
سأشكو إليك البين حتى رماله ... ولو غيره ما ضاق عدل ولا صرف
وله:
وما أنس ليلتنا والعنا ... ق قد مزج الكل منا بكل
الى أن تقوّس ظهر الظلا ... م وأشمط عارضه واكتهل
ومسّ رقيق رداء النّسي ... م على عاتق الليل بعض البلل
وله:
هل تذكر العهد الذي لم أنسه ... ومودّتي مخدومة بصفاء
ومبيتنا في نهر حمص والحجى ... قد حل عقد حباه بالصّهباء
ودموع طلّ العيش تخلق أعيناً ... ترنو إلينا من خدود الماء
وله، والقسم الأوّل للمتوكل بن الأفطس:
الشعر خِطّةُ خسْفٍ ... لكلّ طالب عرف
للشيخ عيبة عيب ... وللفتى ظرْفُ ظرْفِ
وله:
أقول لصاحبي قم لا بأمر ... تنبّه إنّ شأنك غير شاني
لعلّ الصّبح قد ولّى وقامت ... على الليل النوائح بالأذان
وله:
وما أنس بين النّهر والقصر وقفة ... نشدت بها ما ضلّ من شارد الحبّ
رميت بلحظي دمية سنحت به ... فلم أثْنِه إلا ومجروحها قلبي

ابن اللبانة
هو أبو بكر محمد بن عيسى الدّاني المعروف بابن اللبانة الأندلسي، روى صاحب قلائد العقيان، ووصفه بالإجادة والإحسان، ومصنّف هذا الكتاب من أهل العصر وأفاضل هذا الزّمان.
ذكر أنّ ابن اللبانة رأى أحد أبناء المعتمد وقد جلس في السوق يتعلم الصّياغة، فقال: وذلك مما أنشدنيه محمد بن عيسى اليماني عن بعض المغاربة عنه:
صرّفت في آلة الصّيّاغ أنملة ... لم تدر إلا الندى والسيف والقلما
يد عهدتك للتّقبيل تبسطها ... فتستقلّ الثّريّا أن تكون فما
للنّفخ في الصّور هول ما حكاه سوى ... هول رأيتك فيه تنفخ الفحما
وددت إذ نظرت عيني إليك به ... لو أن عيني تشكو قبل ذاك عمى
ما حطّك الدهر لمّا حطّ عن شرف ... ولا تحيّف من أخلاقك الكرما
لُحْ في العلا كوكباً إن لم تلح قمرا ... وقم بها ربوة إن لم تقم علما
واصبر فربّتما أحمدت عاقبة ... من يلزم الصّبر يحمد غِبّ ما لزما
والله لو أصفتك الشهب لانكسفت ... ولو وفى لك دمع الغيث لانسجما
وكتب الى المعتمد جواباً عن أبيات أنفذها إليه، وذلك بعد خلعه:
بُروق الأماني دون لُقياك خُلّب ... ومشرق أفق لم تلح فيه مغرب
عدمت مرادي فيك لا الماء نافع ... ولا الظلّ ممدود ولا الروض مخصب
ولا أنا في تلك الحديقة زهرة ... ولا أنا في تلك المجرّة كوكب
سقى الله عهداً كنت صيِّبَ عهده ... بمثل الذي قد كنت تسقي وتشرب

زمان بماء المكرُمات مفضّض ... لديك ومن نار الكؤوس مذهّب
لئن فلّت الأيام منك فإنّما ... يفل من الأسياف ما كان يضرب
بعثت بها يا واحد الدّهر قطعة ... هي الماء إلا أنّها تتلهّب
وجئت بها في الحسن ورقاء أيكة ... ولكنّها في الدّهر عنقاء مغرب
وقال في نكبة بني عبّاد، وموت المعتمد بأغمات:
لكلّ شيء من الأشياء ميقات ... وللمنى من مناياهنّ غايات
والدهر في صبغة الحرباء منغمس ... ألوان حالاته فيها استحالات
ونحن من لعب الشّطرنج في يده ... وربّما قمرت بالبيدق الشّاة
انفض يديك من الدنيا وساكنها ... فالأرض قد أقفرت الناس قد ماتوا
وقل لعالمها الأرضيّ قد كتمت ... سريرة العالم العلويّ أغمات
طوت مظلتها لا بل مذلّتها ... من لم تزل فوقه للعزّ رايات
من كان بين الندى والبأس أنصله ... هندية وعطاياه هنيدات
وكان ملء عيان العين تبصره ... وللأماني في مرآه مرآة
رماه من حيث لم تستره سابغة ... دهر مصيباته نبل مصيبات
له المهابات بالأرواح آخذة ... وإن تكن أخذت منه المهابات
نكرت إلا التواءات القيود به ... وكيف تنكر في الرّوضات حيّات
وبدر سبع وسبع تستنير به الس ... بع الأقاليم والسّبع السماوات
له وإن كان أخفاه السرار سنا ... مثل الصباح به تجلى الدجنّات
لهفي على آل عبّاد فإنّهم ... أهلّة ما لها في الأفق هالات
تمسّكت بعرى اللّذّات ذاتهم ... يا بئس ما جنت اللذّات والذّات
فجعت منهم بإخوان ذوي ثقة ... فاتوا وللدهر في الإخوان آفات
واعتضت في آخر الصحراء طائفة ... لغاتهم من جميع الكتب ملغاة
بمغرب العدوى القصوى دجا أملي ... فهل له بديار الشرق مشكاة
وقال من أخرى في خلعهم وإخراجهم الى البحر:
تبكي السماء بمزن رائح غاد ... على البهاليل من أبناء عبّاد
عِرّيسةٌ دخلَتْها النّآئبات على ... أساودٍ منهمُ فيها وآساد
وكعبة كانت الآمال تعمرها ... فاليوم لا عاكف فيها ولا باد
كم من دراري سعد قد هوت ووهت ... منهم وكم درر للمجد أفراد
نور ونَور فهذا بعد نُضرته ... ذوى وذاك خبا من بعد إيقاد
يا ضيف أقفر بيت المكرمات فخذ ... في ضمّ رحلك واجمع فضلة الزاد
ويا مؤمل واديهم لتسكنه ... خَفّ القطين وجفّ الزّرع بالوادي
ضللت سبل النّدى يا ابن السبيل فسر ... لغير قصد فما يهديك من هاد
إن يخلعوا فبنو العباس قد خلعوا ... وقد خلت بعد حمص أرض بغداد
ذلّوا وكانت لهم في العزّ مرتبة ... تحطّ مرتَبَتَيْ عادٍ وشدّاد
سارت سفائنهم والنّوح يتبعها ... كأنّها إبِلٌ يحدو بها الحادي
كم سال في الماء من دمع وكم حملت ... تلك القطائع من أقطاع أكباد
وقال من أخرى:
ابكو المؤيد بالنّجيع فما قضى ... حق المكارم من بكاه بدمعه
كنّا به في روض عِزّ مثمر ... يجني الأماني غضة من ينعه
والآن حط لنا ... فكأنّما ... وقفت مجاري الرزق ساعة خلعه
وقال من قصيدة يندب المعتمد، عملها بأغمات سنة خمس وثمانين وأربعمائة أولها:
تنشّق رياحين السّلام كأنّما ... أفض بها مسكاً عليك مختما
أفكر في دهر مضى لك مشرق ... فيرجع ضوء الصبح عنديَ مظلما

لئن عظمت فيك الرزيّة إننا ... وجدناك منها في المزية أعظما
قناة سعت للطّعن حتى تقصّدت ... وسيف أطال الضّرب حتى تثلّما
وطود غريب في الشّواأفاعيلُ الورى من قبلُ دهمٌ ... وفعلُك في فِعالِهمُ شياتُ
أبو تمام:
لو لم يقُدْ جحفلاً يوم الوغى لغدا ... من نفسِه وحدَها في جحفلٍ لجِبِ
أبو الطيب:
الجيشُ جيشُك غير أنّك جيشُه ... في قلبِه ويمينه وشمالِه
أبو تمام:
وكأنّ الأناملَ اعتصرَتْها ... بعد كدٍ من ماءِ وجهِ البخيل
أبو الطيب:
وعُمرٌ مثلُ ما يهَبُ اللّئامُ
أبو تمام:
إليك تجرّعْنا دُجًى كحِداقِنا
أبو الطيب:
لقى ليلٍ كعينِ الظّبيِ لوناً ... وهمٍ كالحُميّا في المُشاشِ
وأما المصراع الثاني فكثير؛ منه قول الأبيرد:
عساكرُ تغشى النّفسَ حتى كأنني ... أخو سَكرةٍ دارتْ بهامّ فيها منظّما
ولم تخفق الرايات فيها فأشبهت ... قوادم طير في ذُرى الجوّ حُوّما
ولا جرّ منها صعدة الرمح خلفه ... فتاها فقلنا: الصّلّ أتبع ضيغما
ولم يصدع النّقع المثار سنانه ... كما صدع الظّلماء برق تضرّما
ولا صوّرت في جسمه الدّرع شكلها ... فأشبه مما صوّرت فيه أرقما
جرى القدر الجاري الى نقض أمره ... فعاد سحيلاً منه ما كان مبرما
مصاب هوى بالنّيّرات من العُلا ... ولم يبق في أرض المكارم معلما
حكيت وقد فارقت ملكك مالكاً ... ومن ولهي أحكي عليك متمّما
وإني على رسمي مقيم وإن أمت ... سأترك للباكن رسمي موسّما
بكيتك حتى لم يُخَلّ ليَ البُكا ... دموعاً بها أبكي عليك ولا دما
بكاك الحَيا والريح شقّت جيوبها ... عليك وناح الرّعد باسمك معلما
وحاربك الإصباح وجداً فما اهتدى ... وغاض أخوك البحر غيظاً فما طمى
قضى الله أن حطّوك عن متن أشقر ... أشمّ وأن أمطوك أشأم أدهما
قيودك دانت فانطلقت لقد غدت ... قيودك منهم بالمكارم أرحما
عجبت لأن لان الحديد وأن قسوا ... لقد كان منهم بالسّريرة أعلما
سينجيك من نَجّى من الجُبّ يوسُفاً ... ويؤويك من آوى المسيح ابن مريما
ومن شعره في مدائح آل عبّاد قال من قطعة أولها:
ضحك الربيع بحيث تلك الأربع ... لمّا بكى للغيث فيه مدمع
ومنها:
عاطيت فيها الكأس جُؤذر كلّة ... يعطو بأكناف القلوب ويرتع
رقّ الصّبا في خدّه ورحيقه ... في كفّه فموشّع ومشعشع
وعلى فروع الأيك شاد يحتوي ... طرباً لآخر تحتويه الأضلع
يندى له رطب الهواء فيغتدي ... ويظلّه ورق الغصون فيهجع
تخذ الأراك أريكة لمنامه ... فله على الأسحار فيها مضجع
حتى إذا ما هزّه نفس الصبا ... والصبح هزّك منه شدو مبدع
وكأنّما تلك الأراكة منبر ... وكأنّه فيها خطيب مصقع
وكأنما خبر المؤيّد خبرتي ... فلسانه بالشّكر فيه يسجع
وضحت به العلياء فمنهج قصدها ... منه الى ظهر المجرّة مهيع
يندى عليك وأنت منه خائف ... وكذاك لجّ البحر مغن مفزع
فأشدّ ما تلقاه عند ليانه ... وكذا الأرقّ من الحسام الأقطع
بالله شحّ على حياتك إنّها ... سبب به تحيا البريّة أجمع
وهذا من بيت أبي فراس:
نشدتك الله لا تسمح بنفس عُلاً ... حياة صاحبها تحيا بها أمم
ما كان أرفع موضعي إذ كان لي ... في جانب العلياء عندك موضع
أيّام أطلب ما أشاء فينقضي ... وزمان أدعو من أشاء فيسمع

أنت السّحاب على مكانة ينهمي ... بالمكرمات وعن مكان يقلع
وقال من أخرى عند دخول المعتمد لُورْقَة:
تخلّلت حتى غابة الأسد الورد ... وأنزلت حتى ساكن الأبلق الفرد
وجردت دون الدّين سيفك فانثنى ... من النّصر في حلي من الدّم في غمد
بصير بأطراف المؤثّلة الشبا ... سميع بآذان المسوّمة الجرد
لقد ضمّ أمر الملك حتى كأنّه ... نطاق بخصْر أو سوار على زند
وحسّن طعم العيش حتّى أعاده ... ألذّ من الإغفاء في عقب السّهد
وحسب الليالي أنها في زمانه ... بمنزلة الخِيلان في صفحة الخدّ
وجاءت به الأيّام تاجر سؤدد ... يبيع نفيسات المواهب بالحمد
يغيثك في محل يعينك في ردًى ... يروك في درع يروقك في برد
جمال وإجْمالٌ وسبْقٌ وصولة ... كشمس الضحى كالمزن كالبرق كالرّعد
بمهجته شاد العُلا ثم زادها ... بناء بأبناء جَحاجِحَةٍ لُدّ
بأربعة مثل الطّباع تركّبوا ... لتعديل جسم المجد والكرم العَدّ
هو الشّعر من دُرّ رطيب نحَتُّهُ ... وقد تُنْحَتُ الأشعار من حجر صلد
ولا عجب إن جئت فيه ببدعة ... فما هي إلا النّار تقدح في زند
أيا معلناً لفظي ويا معلياً يدي ... ويا حاملاً كَلّي ويا حافظاً عهدي
وقال من أخرى:
ومن رمته من الأيّام حادثة ... فليس غير ابن عبّاد لها وزر
ملك غدا الرزق مبعوثاً على يده ... وظلّ يجري على أحكامه القدر
مقدّم السّبق يحكي في بسالته ... عَمْراً ولكنه في عدله عُمَرُ
يجلي علينا بدوراً من محاسنه ... وتُستهلّ لنا من كفّه بدر
لا غرو في أن تحلّى غيرهم بعلاً ... وما لهم في العُلا رأي ولا نظر
فقد يُسمّى سماء كلّ مرتفع ... وإنّما الفضل حيث الشمس والقر
يا من قضى الله أنّ الأرض يملكه ... عجّل ففي كلّ قطر أنت منتظر
كِلْني الى أحد الأبناء ينعشني ... ما لم يكن منك بحر فليكن نهر
قد طال بي أقطع البيداء متّصلاً ... وليس يسفر عن وجه المنى سفر
كأنّما الأرض عنّي غير راضية ... فليس لي وطن فيها ولا وطر
وقال من قصيدة في ابن عباد:
يجري النّهار الى رضاك وليله ... وكلاهما متعاقب لا يسأم
فكأنّما الإصباح تحتك أشقر ... وكأنّما الإظلام تحتك أدهم
وكأنّ خاطفة البروق قد التظت ... صفحات سيفك قد علاهن الدّم
تهوى قناك الطير فهي وراءها ... تهوي لتبصر حين تطعن تطعم
والخيل كانت تستريح من السرى ... لو لم يكن فوق البسيطة مجرم
ومنها:
نفر الى ماء السماء نماهم ... نسب على أوج النجوم مخيّم
بلغت الى السمع الأصمّ صفاتهم ... وأبان فيهنّ اللسان الأعجم
وسعودهم تثنى الأعنّة عنهم ... إن السعود كتائب لا تهزم
وقال في غلام جميل:
إن تكن تبتغي القتال فدعني ... عنك في حومة القتال أحامي
خذ جناني عن جنّة ولساني ... عن سنان وخاطري عن حسام
وقال يمدح ناصر الدولة مبشر بن سليمان في ميورقة، وقد ملكها بعد المرتضى:
حنيت جوانحه على جمر الغضا ... لما رأى برقاً أضاء بذي الأضى
واشتمّ في ريح الصّبا روح الصّبا ... فقضى حقوق الشوق فيه بأن قضى
قالوا: الخيال حياته لو زاره ... قلت: الحقيقة قلتم لو غمضا
يهوى العقيق وساكنيه وإن يكن ... خبر العقيق وساكنيه قد انقضى
ألِفَ السّرى وكأنّ نجماً ثاقباً ... صدع الدّجى منه وبرقاً مومضا
طلب الغنى من ليله ونهاره ... فله على القمرين مال يُقْتَضى

مهما بدت شمس يكون مذهّباً ... وإذا بدا بدر يكون مفضّضا
هذا أفاد وباد غير مقصر ... جهد المقلّ بأن يموت مقوّضا
ولربّ ربّة حانة نبّهتها ... والجوّ لؤلؤ طلّه قد رضرضا
وقد انطفت نار القرى ورعى على ... مسك الدّجى مذْرورُ كافور الغضا
والليل قد سَدّى وألحم ثوبه ... والفجر يرسل فيه خيطاً أبيضا
ومتى ركبت لها أعالي أيكة ... نشرت جناحاً للرّياح معرّضا
والبحر يسكن خيفة من ناصر ... أرضى الرئاسة بعد موت المرتضى
ماء الغمائم جرعة مما سقى ... وسنا الأهلّة خلعة ممّا نضا
خفقت عليه راية وذؤابة ... فكأنّ صلاً نحو صلّ نضنضا
وقال أيضاً يمدحه:
هلاّ ثناك عليّ قلب مشفق ... فترى فراشاً في فراش يحرق
أنت المنيّة والمنى فيك استوى ... ظلّ الغمامة والهجير المحرق
ومنها:
لك قدّ ذابلة الوشيج ولونها ... لكن سنانك أكحل لا أزرق
ويقال إنك أيكة حتى إذا ... غنّيت قيل هو الحمام الأورق
يا من رشقت الى السلوّ فردّني ... سبقت جفونك كلّ سهم يرشق
لو في يدي سحر وعندي أخْذَةٌ ... لجعلت قلبك بعض حين يعشق
جسدي من الأعداء منك فإنّه ... لا يستبين لطرف طيف يرمق
لم يدر طيفك موضعي من مضجعي ... فعذرته في أنّه لا يطرق
جفّت لديك منابتي ومدامعي ... فالدّمع يسبق والصّبابة تورق
وكأنّ أعلام الأمير مبشّر ... نشرت على قلبي فأصبح يخفق
الخيزرانة تلتظي في كفّه ... والتّاج فوق جبيه يتألّق
وكأنّ صوب حيا وصعقة بارق ... ما ضمّ منه نديّه والمأزق
متباعد الطرفين جود غافل ... عما يحلّ به وعزم مطرق
بأس كما جمد الحديد وراءه ... كرم يسيل كما يسيل الزّئبق
لا تعجب الأملاك كثرةُ ما لهم ... النبع أصلب والأراكة أوْرق
ضدّان فيه لمعتف ولمعتد ... السّيف يجمع والعطاء يفرّق
وقال يمدح ناصر الدولة:
بكت عند توديعي فما علم الرّكب ... أذاك سقيط الطّلّ أم لؤلؤ رطب
وتابعها سرب وإنّي لمخطئ ... نجوم الدّياجي لا يقال لها سرب
لئن وقفت شمس النّهار ليوشَع ... لقد وقفت شمس الهوى ليَ والشّهب
من البيض كافوريّة غير لمّة ... أبيحت سواد المسك فهو لها نهب
وبحر سوى بحر الهوى قد ركبته ... لأمر كلا البحرين مركبه صعب
له لجج خضر كما اخضرّت الرُبى ... الى أخر بيض كما ابيضّت الكثب
غريب على جنبي غراب يهزّه ... بقادمتي ورقاء أوكارها شعب
هوى بين عصف الريح والموج مثلما ... هوى بين أضلاع المعنّى به قلب
كأنّي قذى في مقلة وهو ناظر ... بها والمجاديف التي حولنا هدب
براحته بحر محيط مسخّر ... يفاد الغنى فيه ولا يذعر الركب
حوى قصبات السّبق عفواً ولو سعى ... لها البرق خطباً جاء من دونها يكبو
ويرتاح عندالحمد حتى كأنّه ... وحاشاه نشوان يلذّ له الشّرب
لو استمطر الناس الغمام بذكره ... لقام على الصلد الصفا لهم الخصب
يجود ولا يكدي وينوي فلا يني ... ويقضي فلا يغضي ويمضي فلا ينبو
سألت أخاه البحر عنه فقال لي ... شقيقي إلا أنّه البارد العذب
لنا ديمَتا ماءٍ ومال فديمتي ... تماسك أحياناً وديمته سكب
إذا نشأت بريّة فله النّدى ... وإن نشأت بحريّة فلي السحب
أحاجيكم ما واحد يجمع الورى ... ولا مرية في أنّه ذلك النّدب

أقلّوا عليه من سماع صفاته ... فإنّي لأخشى أن يداخله عجب
غفرت ذنوب الدّهر لمّا لقيته ... ودهر به ألقاه ليس له ذنب
وقال:
... نحو السماء فهم ... من مائها وعلاهم من دراريها
ومنها:
... بالحمد أعلاقاً منظّمة ... علماً بأنّك تعليها وتغليها
إذا الأمور... عطلت ... فما سواك يجليها ويحكيها
كنت أعتقد أن في طبع المغاربة يباسة، يأبى لشعرهم سلاسة، حتى أنشدت شعر ابن اللبانة فحصلت من رقته ورونقه باللبانة، وهو أصفى من اللبن وأحلى من الضرب، وأنفى للكرب، وأجلى للطرب.
ومما نقلته له من قلائد العقيان في المعتد بن عباد في صفة نهر في بستان:
أما علم المعتدّ بالله أنني ... بحضرته في جنّة شقّها نهر
وما هو نهر أعشب النّبت حوله ... ولكنّه سيف حمائله خضر
ومن شعر ابن اللبانة مما استخرجته من كتاب ابن بشرون قوله:
يوم تكاثف غيمه فكأنّه ... دون السماء دخان عود أخضر
والطلّ مثل برادة من فضّة ... منثورة في تربة من عنبر
والشمس في حجب السماء كأنّها ... حسنا تستّر تحت كلّة تُستُرِ
وقوله:
يوم كحاشية الرّداء المعلم ... أوفى بسِرّ مسرّةٍ لم تُكتم
شاهدته وكأنّه من روضة ... وكأنني من طائر مترنّم
وقوله من أخرى:
ترى الطلّ في ... مثل لؤلؤ ... ولكن تبقّى نظمه في القلائد
وتحسب في أطراف طرفائها النّدى ... بقيّة كحل في رؤوس المراود
كأنّ رياض الحزن بسط تدبّجت ... بأنواع ألوان حسان فرائد
وقوله من أخرى في صفة روض:
والورد تحت الطلّ فيها مشبه ... خداً يذوب من الحياء فيقطر
وكأنّ نرجسها أصيب بروعتي ... فعلاه لون مثل لوني أصفر
فكأنّما الرّيحان روحي كلّما ... تتغيّر الأشياء لا تتغيّر
وقوله من قصيدة:
جزعت لهم بالجزع إذ نذروا دمي ... على نظرة كانت بغير توهّم
حموا نظري ما في الخدود من الجَنى ... وقد أخذوا ما في الترائب من دمي
فردّوا عليّ الأرض حلقة خاتم ... بإعراضهم عنّي ودارة درهم
وعهدي بهم ... الكثيب وخدرهم ... يشير بعنّاب إليّ وعندم
يساقطني درّ الحديث وذوبه ... عقيق مذاب في الدّماء من الدّم
وفود يقودون العراب وتحتهم ... كرائم من رهطي جديل وشذقم
يغير على زرق المياه وقد رنت ... إليها عيون الزّرق من كلّ لهذم
وترعى ربيعاً للصوارم حوله ... رياض بما فيها من الدّهر يحتمي
وفي سدرة الوادي من الحي شادن ... ربيب ولكن في عرينة ضيغم
يدير عليّ الرّاح من لحظ ناظر ... ويمنعنيها من ثنيّة مبسم
مشى في موشّى عبقريّ كأنّه ... طراز الصبا منه بخدّ منعّم
ومال على كافورة من بنانه ... لها منبت بين الوشيج المقدّم
حبيب لو انّ الحسن شعر لما غدا ... مديح حبيب أو تعزّل مسلم
... فيه أنتما من صبابتي ... ومن رميه نحوي لمقلة مرتمي
رماني بعينيه وثنّى بسهمه ... فأثبت في قلبي ثلاثة أسهم
ومنها في وصف الطّيف:
وما أنس لا أنسى الخيال الذي سرى ... سُرى البرق في داج من اللّيل مظلم
أتى بهَدِيّاتٍ فما مدّ راحةً ... وأدّى رسالاتٍ ولم يتكلّم
لثمت الثّرى حيث استقلّت بيَ الخُطى ... فلافحني عن ردع مسك مختّم
وأمّلت تسليماً عليه فقيل لي ... على الشمس عن إذن الكواكب سلّم
ومنها في التخلّص للمدح:
ومن لم يسلّم في الدّيانة والدُّنا ... الى ناصر الأنصار ليس بمسلم

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16