كتاب : خريدة القصر وجريدة العصر
المؤلف : العماد الأصبهاني

أَو ما دَرَوْا لما رأَوْكَ مُحَكِّماً ... حَوَراً أَرَاهُ لَهُمْ أَعَدَّ حِمَاما
هل سلَّ أَحْوَرُكَ الأَحَمُّ حُسَامَهُ ... أم سَلَّ مملوكُ الإمام حُسَاما
مَلِكٌ رآهُ اللّهُ أكرمَ عاملٍ ... عَمَلاً وأكرمَ سادةٍ أَعْمَاما
ولحسمهِ داءَ العصاةِ أعَدَّهُ ... لهمُ حساماً ما رأَوْهُ كَهَاما
عُمَراً دَعَوْهُ لِهَوْلِ مَطْلَعِه كما ... لكمالِ سُؤْدُدِهِ دَعَوْهُ عِصَاما
سامٍ عُلاَهُ على السِّمَاكِ مَحَلُّهَا ... وأكلَّ حصرُ حدودِها الأوهاما
وحُلاحِلٌ حُلْوٌ مُمِرٌّ حُوَّلٌ ... كالدهر صُوِّرَ واصلاً صَرَّاما
حَسَدَ الأَكاسرُ لو رأوه مُلْكَهُ ... حَسَداً أَعَارَ صُدُورَهُمْ آلاما
سهلٌ له عَسِرُ الأُمورِ وسَعْدُهُ ... المَحْروسُ أَدْرَكَ كلَّ أَمْرٍ رَاما
وسُطَاه صارعةُ الأَسُودِ معاً وما ... عَلِمُوهُ أَعْمَلَ صارماً صَمْصَاما
ولُهاهُ أَسْهَلُ ما أرَادَ مُؤَمِّلٌ ... وَعُلاه أَعْسَرُ ما أَراد مَرَاما
راعَ الأسُودَ له مَصَالةُ مُصْطَلٍ ... لو رامَ حَطَّمَ هَوْلُهُ الأَعْلاَمَا
ملأَ السهولَ مع الوعورِ صَوَاهِلاً ... وَصَوَارِماً وَعَواسلاً وَسِهامَا
وملوكُ أَهْلِ الدهر أَكرمُ رَهْطِهِ ... أَرْداهم حَدُّ الحُسَامِ كِراما
وهوَ المُصَرِّعُ كلَّ دارعِ لأَمَةٍ ... حَصْداءَ أُحْكِمَ سَرْدُهَا إِحْكَامَا
ولكم رعالٍ هدَّ ساعةَ كَرِّهِ ... ومُعَسْكَرٍ عَدَد الرمالِ أَهامَا
ولكمْ علومٍ ما أَطَاعَ مَرَامُهَا ال ... أَوْهامَ أُلْهِمَ سِرَّها إلهاما
ولكم رَوَاسٍ حَطَّ عُصْمَ وعُولِهَا ... سِحْرٌ دعَاهُ حاسِدوهُ كَلاَمَا
والمادحوهُ مَدْحُهُمْ مُهْدٍ له ... سُكْراً كما علَّ الكرامَ مداما
كم آمل لك راحَ مأمولاً وكمْ ... أَمَلٍ أَراه حَوْلَ وُدِّكَ حَامَا
وَكَلاكَ مَوْلاَكَ المُعِدُّكَ عُمْدَةً ... لهمُ كلاءَةَ عدلِكَ الإِسْلاَما

بنو عرام
شعراء الصعيد وشعرهم معسول من الصنعة مقبول الحلة.
منهم:
السيد أبو الحسن علي بن أحمد بن عرام
الربعي
شيخ من أهل الأدب مقيم بأسوان فوق قوص، ملك من الأدب الخلوص، ومن الشعر الخصوص، وعدم ظل فضله القلوص، وهجر في لزوم وطنه الرحل والقلوص. وسألت عنه بمصر سنة ثلاث وسبعين فقيل إنه حيٌّ في أسوان، وهو على حظه أسوان، وطلبت شعره فأحضر لي بعض أصدقائي من أهلها ديوانه، فوجدت عالياً في سماء السحر كيوانه، وجمعت شارد حسنه وألزمته صوانه، وغبطت عليه أسوانه، وجلوت بكر نظمه وعوانه، ووضعت لمأدبة أهل الأدب إخوانه خوانه، وأحضرت عليه ألوانه، فاحمد إذا حققت برهانه أوانه. وقد أوردت من جملة نظمه الفائق الرائق، ولفظه الرائع الشائق، ما إذا حسر سحر، وإذا أصحر أحصر، وإذا أنشد نشد ضالة الأماني، وإذا أقمر نور هالة المعاني، فلابن عرام في ميدان النظز عرام، وبابتكار المعاني الحسان غرام، ولرويته في إذكاء نار الذكاء ضرام، والملوك باصطناع أمثاله يقال لهم كرام، وكل سحرٍ وخمر سوى منسوج فدامه وممزوج مدامه حرام. اعجب، بحرٌ في الصعيد يقصد بالتيمم لمائه، ونجمٌ في صعود السعود لا يرتقى إلى سمائه. فمن ذلك أنه سأله ابن عمه أبو محمد هبة إجازة بيتٍ نظمه وهو:
هذه آدُرُ الهَوَى والهواءِ ... وَمَحَلُّ الغرام والغُرَمَاءِ
فقال:
كم ليالٍ نَعِمْتُ فيها بِخَوْدٍ ... فاتتِ البدرَ في السَّنَا والسَّنَاءِ
ذات جيدٍ كالريمِ حَلاَّهُ عِقْدٌ ... حَلَّ فيه بحلِّ عَقْدِ عَزَائي
وترشَّفْتُ من رُضابٍ بَرُودٍ ... فاقَ طَعْمَ السُّلافَةِ الصَّهْبَاءِ

وتنزهتُ في رياضٍ حِسَانٍ ... غانياتٍ عَنْ صَوْبِ ماءِ السماء
بَيْنَ وَرْدٍ وَنَرْجِسٍ وأَقَاحٍ ... ففؤادي مُقَسَّمُ الأَهْوَاء
وله
أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ سُعْدَى بأَني ... ظَمِئْتُ إلى مراشفها العِذَابِ
فإني والمهيمنِ مُنْذُ بانَتْ ... رأيتُ الشَّوْقَ من أَلَم العَذَابِ
وله
حللتَ قلبي فعيني ... عليكَ تَحْسُدُ قَلْبَا
فما أرَى البُعْدَ إِلاَّ ... قد زادني منكَ قُرْبَا
وله
أَغرَّكِ من قلبي انعطافٌ ورقَّةٌ ... عليكِ وأَنْ تَجْنِي فَلاَ أَتَجَنَّبُ
فلا تأْمَني حلْمي على كلِّ هَفْوَةٍ ... ولا تحسبي أَنْ لَيْسَ لي عنكِ مَذْهَب
وكيف وعندي فَضْلةٌ من جَلاَدَةٍ ... تُعَلِّمُ أَصْلاَدَ الصَّفَا كيفَ تَصْلُبُ
وله
كتبتُ ولو أَنَّني أَسْتَطيعُ ... من الشوق والوجدِ كنتُ الكتابا
بحيثُ أَبُثُّكَ مِنِّي إليك ... حديثي وأَسْمَعُ مِنْكَ الجوابا
وله تهنئة بمولود:
قد أَطلعَ اللّهُ لنا كوكباً ... أَضاءَ شرقَ الأرضِ والمغربا
قادمُ سَعْدٍ يَقْتَضِي سَعْدُهُ ... سعادةَ الوالد إِذْ أَنْجَبَا
والأَصْلُ إِنْ طابَ ثَرَى غَرْسِهِ ... أَنْبَتَتَ فَرْعاً مُثْمِراً طَيِّبا
مَوْهِبَةٌ خصَّ بها اللّهُ مَنْ ... أَصْبَحَ للنعمةِ مُسْتوْجِبَا
فَدُمْ قريرَ العينِ حَتَّى تَرَى ... خَلْفَكَ من إِخوته مَوْكِبَا
وله من قصيدة في عز الدين موسك النصري وكان والي قوص وأسوان
بَلَغْتَ بِسَعْدِ الجدِّ أَسْنَى المراتبِ ... فناجِ إذا ما شئتَ زُهْرَ الكواكبِ
ومنها:
يُبيحون في سُبْلِ المكارمِ ما غَدَتْ ... تُبيحُهُمُ في الرَّوْعِ بيضُ القَضائبِ
فآراؤهُمْ تكفي النصالَ نصالَهُمْ ... كما كُتْبُهُمْ تُغْنِي غَنَاءَ الكتائب
ومنها:
أقولُ لِمَمْنُوٍ برَيْبِ زمانهِ ... ومَن ظلَّ مَعْضوضاً بنابِ النَّوائب
ومن أَخَذَتْ منه التَّنائفُ والسُّرَى ... فليس تراهُ غيرَ أَغْبَرَ شاحبِ
عليكَ بعزِّ الدين فاستَذِرْ ظِلَّهُ ... ولُذْ بعزيزِ الجارِ رَحْبِ الجوانب
إذا ظَمِئَتْ سُمْرُ الرماحِ بكفِّه ... سَقَاها فروّاها دماءَ الترائبِ
ومنها:
بأفعالكَ الحُسْنَى بَلغْتَ إلى العُلاَ ... وأَصبَحْتَ فَرْداً في اجتنابِ المعَايبِ
فها أنتَ مَرْضِيُّ الشمائلِ ماجِدٌ ... كريمُ السجايا طيِّبٌ من أَطَايب
قصدناكَ يا خيرَ الأَنامِ لنكبةٍ ... عرَت أَقْصَدَتْنا بالسهامِ الصوائب
وقد وَثِقَتْ آمالُنَا أَنّ قَصْدَنَا ... جَنَابَكَ يا خيرَ الورى غَيْرُ خائب
وقد عَلِقَتْ أَيْمَانُنَا منكَ ذِمَّةً ... وَقَتْنَا مُلِمَّاتِ الزمانِ المُغَالب
وإن لم تَسَعْنَا منكَ عَطْفَةُ راحمٍ ... وإِلا فَقَدْ ضاقتْ فِجاجُ المَذَاهبِ
ومنها:
ودونَك معروفاً يُفيدك عاجلاً ... ثناءً ويَبْقَى أَجْرُهُ في العواقب
وله من قطعة في مرض ممدوح:
قد قلتُ ليت الشَّكَاةَ قَدْ نَزَلَتْ ... بِمُهْجَتي لا بأَوْحَدِ العَرَبِ
ليستْ بِحُمَّى وإِنما اشْتَعَلَتْ ... نيرانُ فرطِ الذكاء باللهبِ
قد خَلُصَ الجسمُ من أَذاه كما ... تَنْقَى بِسبكٍ خُلاَصةُ الذَّهَبِ
وله من قصيدة في الأمير مبارك بن منقذ:
همُ حَمَّلوا ثِقْلَ المغارمِ مَالَهُمْ ... وخَلَّوْهُ وَقْفاً بينهمْ لِلْمَنَاهِبِ
صفائحُ في أَيديهمُ أَو صحائفٌ ... فهمْ بين كُتْبٍ تُقْتَنَى أَوْ كَتَائبِ
هواهمْ على أنَّ المآربَ جَمَّةٌ ... صريرُ يراعٍ أَوْ صَليلُ قَوَاضِب

وجادوا بفضلٍ باهرٍ وفضائلٍ ... عَطاءَيْنِ من عِلْمٍ وَفَيْضِ مَوَاهب
ومنها:
مدحتك فاسمعْ من مديحيَ قَهْوةً ... تلذُّ لذي سمعٍ وَنَشْوَانَ شاربِ
عليَّ امتداحي للكرام مناصباً ... فذلك أحلى من غناء الجنائب
وله من أخرى:
وَرِعٌ وَأَرْوَعُ باسلٌ ... عِنْدَ المَحَارِبِ والمُحَاربْ
يَهَوى المعارِفَ لا المعا ... زِفَ والمشاعِرَ لا المشارِبْ
سُمْرُ العوالي في العُلاَ ... تُلْهيه عن بيضِ الكواعب
وله من قصيدة في الملك المعظم سلطان اليمن شمس الدولة توران شاه بن أيوب، وكانت بلاد الصعيد له من أخيه قبل اليمن، يصف فيها دمشق فإن الممدوح كان يعجبه ذلك:
أرقتُ لبرقٍ في الدُّجُنَّةِ مشبوبِ ... ودمعِ سحابٍ ناشىءٍ منه مسكوبِ
فَمِنْ قلبِ صبٍ لَفْحُهُ وَخُفُوقُهُ ... كما غَيْثُهُ مِنْ مَدْمَعٍ منه مصبوبِ
ولم أَرَ ناراً من مياهٍ وَقُودُهَا ... أَلا إِنَّ هذا من فُنون الأعاجيب
وبي جِنَّةٌ من ذكرِ جَنَّات جِلَّقٍ ... وَجَنَّةُ مُشْتَاقٍ وأَنَّةُ مَكْرُوبِ
وفي شرف الوادي وفي النيربِ اغتدتْ ... مآربُ للغرِّ الكرامِ الأَعاريب
فيا بَرَدى هل جُرْعَةٌ منك عَذْبَةٌ ... لتبريدِ حَرٍ في الجوانحِ مشبوب
ويا نهرَ ثَوْرا قد أَثَرْتَ صَبَابةً ... لقلبٍ شجٍ من لوعةِ الحبِّ مَنْدُوبِ
وهل لسراةِ الناسِ عِلْمٌ بأنني ... ظمئتُ إلى ماءٍ بباناسَ مَشْروبِ
وها أنا مستسقٍ لِمزَّةَ مُزْنَةً ... كَفَتْها عُيونٌ مَدُّها من أَهاضيب
ويا ذا الجلالِ احرس حَرَسْتَا فَحُسْنُها ... شفاءٌ لمهمومٍ وداٌ لمطبوب
ودومةُ دامَ العيشُ حلواً بربعها ... وواهاً له لو أنه غيرُ مسلوب
وفي برزةٍ مكحولةُ الطرفِ بَرْزَةٌ ... تُصَبِّرُني للوجد منها، وتُغْرى بي
ويا حسنَ ولدانٍ تَرَامُوْا بطابةٍ ... فمن غالبٍ عند النضالِ وَمَغْلُوبِ
وَدِدْتُ حُلولي في رياضكِ حَلَّةً ... وهيهاتَ أين الشامُ من بلدِ النُّوبِ
بنفسيَ من تَجْنِي وأَحْمِلُ عَتْبَها ... وَيَعْذُبُ عَيْشي في هواها بِتَعْذِيبي
كظبيٍ يصيدُ الليث قَمْراً فيغتدي ... من الرُّعْبِ مأسوراً بفتكةِ رعبوب
لئن قَصَّرتْ بالقصرِ عما أَلِفْتُهُ ... وقد كنتُ عنها قَبْلَها غير محجوب
فقد جَسَرَتْ بالجسرِ وهي جَبَانةٌ ... وزارت بليلٍ أَسودِ اللونِ غِرْبيبِ
نَعِمْتُ بها في جَنَّةٍ عُجِّلَتْ لنا ... بِجِلَّقَ إِذْ لَهْوِي بها غيرُ مَقْضُوبِ
مغانٍ غوانٍ من عيونٍ بسفحها ... وقيعانِها عن ساجمِ الغيثِ شُؤْبوب
بنفسجَهُا غَضٌّ يخالِطُ زُرْقَةً ... كآثارِ عضٍ قد عَلاَ خَدَّ مَحْبوبِ
ونَرْجِسُها المبثوثُ فيها كأَعْينٍ ... بَدَتْ فاتراتٍ من خَصَاصةِ تَنْقيب
وقد غَرَّدَتْ أَطيارُهَأ فكأنّها ... قِيانٌ يُرَجِّعْنَ اللحُونَ بتطريب
رياضٌ نضيراتٌ تَرفُّ كأَنّها ... سَقَاها فَرَوَّاها بَنَانُ ابنِ أَيُّوبِ
ومنها يصف وصولهم إلى مصر حين نزل الفرنج عليها:
ولما دُعُوا من مِصرَ لَبُّوا دعاءَنا ... على كلِّ نَهْدٍ لَيِّنِ العُنْقِ يَعْبُوبِ
فأردَى كماةَ الروم شدَّةُ بَطْشِهِمْ ... فهم بين مطلولِ الدماءِ ومطلوب
فلستَ ترى في عصبةِ الشركِ حاملاً ... صليباً ولا عِلْجاً لهم غيرَ مَصْلوب
وحسبهمُ ذاكَ الطعانُ الذي غَدَتْ ... بهم قِصَداً فيهم صدورُ الأنابيب
وظلَّ عميدُ الرومِ من حَذَرِ الرَّدَى ... يَؤُمُّ طريقاً بينهم غيرَ ملحوب

ونَكَّبَ عن مصرٍ وَوَلَّى بمَنْكَبٍ ... جريحٍ بأنيابِ النوائبِ مَنْكُوبِ
وقد كادَ دينُ اللّهِ يَخْفتُ نُورُهُ ... ويُرْمَى بتبديلٍ وشيكٍ وتقليب
فحصَّنْتُمُوهُ بالأَسِنَّةِ والظُّبَا ... وتصعيدِ آراءٍ كَفَتْهُ وتَصْويب
فلست ترى إِلا مَحَاريبَ في وغى ... حَمَوْا بيضةَ الإسلامِ أَوْفى مَحَاريبِ
ومنها:
وما المُلْكُ إلا لائقٌ بأَخيكُمُ ... وغارِبُهُ إِلاّ لَهُ غيرُ مَرْكوبِ
أنتم نجومٌ وهو كالشمسِ ضَوْءُها ... مَلِيٌّ بتَشْرِيقٍ يَعُمُّ وتغريب
أَيُوسفَ مصرٍ إنما أَنْتَ يوسُفٌ ... فأَنْتَ ابنُ أَيُّوبٍ وذاكَ ابنُ يعقوب
وما بَرِحَتْ مصرٌ قديماً حُمَاتُها ... ببعثٍ من القُطْرِ الشآميِّ مَجْلوبِ
وله
لو كنتُ أَعْلَمُ أنني ... أَلقى لبُعدكِ ما لقيتُ
لأَقَمْتُ عندكِ ما بقيتِ ... على الحياةِ وما بقيتُ
فلئن نَعِمْتُ بقرْبكمْ ... فبِنأْيِكُمْ عَنِّي شَقِيتُ
وله
إذا ساءَ خُلْقُ كَريمِ الرجالِ ... لضيقٍ من الحالِ أَو نكبةِ
فإني مليءٌ بصبرٍ جميلٍ ... يُحَسِّنُ في عُسْرَتي عِشْرَتي
وله في الهجو:
شاعرُنا ذو لحيةٍ ... قد عَرَضَتْ وانفَسَحَتْ
لحيةُ تيسٍ صَلُحَتْ ... لِفَقْحَةٍ قد سَلَحَتْ
وله
قد طوىَ بعدَ أَرْضِكم سُوقَ شوقٍ ... ظلَّ للقلبِ مُزْعِجاً مُسْتَحِثَّا
وَرَمَى بي فجاجَ كلِّ فلاةٍ ... جُبْتُ حَزْناً مِنْكُمْ إليه وَوَعْثَا
وله قصيدة يرثي بها بعض العلويين:
مَوْرِدُ الموتِ واضحُ المنهاجِ ... ليس حيٌّ من الحِمَامِ بناجِ
وسواءٌ لديه ثاوٍ بِقَفْرٍ ... أوْ بقصر مُشَيَّدِ الأَبراجِ
ومنها:
إنما هذه الحياةُ غُرورٌ ... كسرابٍ بدا لنا في فِجَاجِ
تُتْبِعُ الحلوَ مَن جَنَى عَيْشِها الحُلْوِ ... بِمُرٍ من الرزايا أُجَاج
نحنُ فيها كمثلِ ركبٍ أَناخوا ... ساعةً ثم أُرْهِقوا بانزعاج
وله يعتذر من الهجو:
أُحْوِجْتُ في رَقْمِ أَهاجيهمُ ... واللومُ مصروفٌ لمن هاجَهَا
لو لم يكنْ تقبيحُهُمْ زائداً ... لكنتُ قد عَفَّيْتُ منهاجَها
وله
إني وإِن كنتُ أَمْضَي ... من الظُّبَا والرِّماحِ
فالحبُّ أَنَفذُ منِّي ... يا صاحِ في الأرْواحِ
وله من قصيدة أولها:
الوَجْدُ للدنفِ المُعَنَّى فاضحُ ... ودليلُهُ بادٍ عليه وَوَاضِحُ
كيفَ السبيلُ له إلى كِتْمانِه ... والدمعُ والسَّقَمُ المُبَرِّحُ بارحُ
إن يُمْسِ قلبي وهو صبٌّ نازحٌ ... فلأنّ من يهواهُ عنهُ نازحُ
فجوارحي وجداً عليه جَرِيحةٌ ... وجوانحي شَوْقاً إليهِ جَوَانح
وله من قصيدة في مدح الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب أخي الملك الناصر يصف عصيان المعروف بالكنز:
فأيْنَ يَنْجُو هائبٌ هارِبٌ ... من نكبةٍ شنعاءَ ذاتِ اجتياحْ
أَنَّى وظهرُ الأرضِ مَعْ بطنها ... لناصرِ الإِسلامِ في بَطْنِ راحْ
وله من قصيدة:
وإذا انتَضَى سيفاً هناك فنصلُهُ ... في غِمْدِ ثَجَّاجٍ من الدم مُزْبِدِ
وكأنما هو مُغْمَدٌ في هامِهِمْ ... فلذاك يُلْفَى الدهرَ غيرَ مُجَرَّد
وله من قصيدة في ابن عين الزمان:
يزيدُ ضياءُ الحسنِ من أَلْمَعِيَّةٍ ... مصادِرُ ما تأتيه قبلَ الموارد
ومنها:
فإن ينقرضْ عيْنُ الزمانِ فإنه ... لإنسانِ تلك العينِ عينُ المُشاهدِ
وله من قصيدة:
كريمٌ عليمٌ فهو يَلْقَى مديحه ... ومادِحَهُ في الناس بالنَّقْدِ والنقدِ
ترى الخيرَ طبعاً في علاه عزيمةً ... فهل كان مَهْدِيًّا لذاك من المَهْدِ

وله من قصيدة تنشد على المقابر أولها:
الرَّدَى للأَنامِ بالمرصادِ ... كلُّ حيٍ منه على مِيعادِ
كيفَ يُرْجَى ثباتُ أَمْرِ زمانٍ ... هو جارٍ طبعاً على الأَضداد
فإذا سرَّ ساءَ حتماً وَيَقْضِي ... بوُجودٍ إلى بِلىً ونَفَادِ
ومنها:
نحنُ في هذه الحياة كَسَفْرٍ ... ربما أُعْجلوا عن الإرْوادِ
عَرَّسُوا ساعةً بها ثم نادى ... بالرحيلِ المجدِّ فيهمْ مُناد
كم أَبٍ والِهٍ بثُكْلِ بَنيهِ ... كم يَتيمٍ فينا من الأوْلادِ
فعَلامَ المُشاجَرَاتُ وفيما ... ولماذا تحاسدُ الحُسَّادِ
يَدَّعي المرءُ إرْثَ أَرْضٍ وَدارٍ ... سَفَهاً غيرَ لائقٍ بالسَّدادِ
وهو مَوْرُوثُها إذا كان يَبْقى ... وهي تَبْقَى على مدى الآباد
وقُصَاراهُ أن يُشَيَّعَ مَحْمُو ... لاً بأكْفانِه على الأَعوادِ
وإذا الأَهْلُ والأَقارِبُ والأَحْسَابُ ... راحوا فأنتَ في الإثْرِ غاد
فالقبورُ البيوتُ مَضْجَعُنا فيها ... وما إنْ سِوَى الثَّرى من وِساد
ومنها:
كم أَحالَ البِلَى إليه قديماً ... جَسَداً ناعماً من الأجْسادِ
شاهدُ الموتِ لائحٌ في جبين ... الحَيِّ منا في ساعةِ الميلاد
وله في ضمن كتاب:
وماذا عليه لو أَجابَ بلفظةٍ ... ولم يُلْهِهِ عن ذاك سَعْدٌ ولا سُعْدَى
غرامٌ لهُ مَا بينَ بطنٍ لهذه ... وظهرٍ لذا أَنْسَى الصَّدَاقَةَ والوُدَّا
وله في الهجو:
عناصرُ الإِنسان من أربعٍ ... وخالدٌ عُنْصُرُهُ واحدُ
فمن كثيفِ الأَرْضِ تكوينُهُ ... فَهْوَ ثَقِيلٌ يابسٌ باردُ
وله من رجز في الحكمة:
من لم يَمُتْ في يومهِ مات غَدَهْ ... لا بُدَّ مِنْ مَنْهَلِهِ أَنْ يَرِدَهْ
ومنها:
من تَخِذَ العلمَ خَدِيناً عَضَّدَهْ ... وحاطَه في دينه وأَيَّدَهْ
فأَْنَسْ بهِ تُكْفَ شُرورَ الحَسَدهْ ... وَبِنْ من الناسِ وَكُنْ على حِدَهْ
وَدَعْ لهم دنياهُمُ المُسْتَعْبِدَهْ ... حاجزةً عن الرشاد مُبْعِدَهْ
دونكَ فعلَ الخير فاسلُكْ مَقْصِدَهْ ... مَنْ عَرَفَ اللّهَ يقيناً عَبَدَهْ
وله في الأمير مبارك بن منقذ من قصيدة:
لجأْتُ إِلى خير الأَنام ابنِ مُنْقِذِ ... ليصبحَ من أَسْرِ الحوادثِ مُنْقِذِي
ولذتُ بِحُرٍ في الأَنامِ مُنَجَّدٍ ... بصيرٍ خبيرٍ بالأَنامِ مُنَجَّذِ
أَقُولُ لنفسي إِن تداني مَزَارُهُ ... خذي ذِمَّةً منه لنائبة خُذِي
وله من قصيدة:
قد قُلْتُ للمُجْرى إِلى مضمارِهِ ... والمجدُ نَهْجٌ صَعْبَةٌ أَوْعَارُهُ
مما يَشُقُّ لحاقُ شَهْمٍ سابقٍ ... فإِليكَ عَمَّنْ لا يُشَقُّ غُبَارُه
بَشَرٌ تَحَلَّتْ بالفضائلِ نَفْسُهُ ... قَمَرٌ تَجَلَّتْ للورى أَنْوَارُه
وله من قصيدة أخرى:
يُغْضِي عن الزَّلَّةِ حتى يُرَى ... كأَنَّهُ من حِلْمِهِ ما دَرَى
ذو قلَمٍ يَرْقُمُ ما شاءَهُ ... إنشاؤُهُ فهو كبرقٍ سَرَى
كأنما القرطاسُ في كَفِّهِ ... أُودِعَ من أَلْفَاظِهِ جَوْهَرا
ومنها:
دُونَكَ من عَبْدِكَ مدحاً غَدَا ... قَدْرُكَ من مِقْدَارِهِ أَكْبَرا
فاصفحْ عن الهفوةِ في نُطْقِهِ ... إذا تصفَّحْتَ الذي حُبِّرَا
وله من قصيدة:
وما الحظُّ منقوصاً بقوصٍ وإنها ... أَجلُّ محطٍ للغريبِ وللسَّفْرِ
وأْسنى بلادِ اللّه إِسْنا لساكنٍ ... وخيرٌ من الكلِّ الرحيلُ إلى مصر
فلستُ على أَسْوان أَسوانَ بعدها ... وما أنا مجرٍ ذِكْرَهَا لي على فِكْرِ
فلا بارك الرحمنُ فيمن أَزاحني ... عن الظلِّ والماءِ الزُّلالِ الذي يجري

مَقيلٌ ولكن أينَ مِنِّيَ ظِلُّهُ ... وسُقْيا ولكنِّي بعيدٌ عن القطر
وله من قصيدة في مرثية أبي محمد هبة الله بن علي بن عرام وكان شاعراً مجيداً:
مَنْ لسودِ الخطوب غَيْرُكَ يُجْلِيهَا ... وقد غابَ منك بَدْرٌ منيرُ
من يحوكُ القريضَ مِثْلكَ يُسْدِيه ... على خِبْرةٍ به وَيُنِيرُ
ليس في العيشِ بَعْدَ فقْدِك خَيْرٌ ... حَبَّذَا وافدُ الردى لو يَزُور
كان ظنِّي إذا المنايا انْتَحَتْنَا ... أَنَّني أَوَّلٌ وأَنْتَ أخير
خانني الدهرُ فيه آمَنَ ما كنتُ ... عليه وعَزَّني المَقْدُورُ
كيف لي بالسلوِّ عنه وَطَيُّ ... القلبِ من فَقْدِهِ جَوًى مَنْشُور
فسقى قبرَهث نداه فَفِيهِ ... لثراهُ غِنًى وَرِيٌّ غَزِيرُ
وله بيت مفرد:
أَنْحَلَني بُعْدِيَ عَنْها فَقَدْ ... صِرْتُ كأني دِقَّةً خَصْرُهَا
فعمل ابن عمه أبو محمد أبياتاً، وأتبعه تضميناً، فقال:
وقائلٍ عهدي بهذا الفتى ... كروضةٍ مُقْتَبِلٍ زَهْرُهَا
واليومَ أَضْحَى ناحلاً جِسْمُهُ ... بحالةٍ قد رابني أَمْرُها
فقلتُ إذ ذاك مجيباً له ... والعينُ مِنِّي قد وَهَى دُرُّها
أَنْحَلَنِي بُعْدِيَ عنها فَقَدْ ... صِرْتُ كأَنِّي دِقَّةً خَصْرُهَا
وله في الحكمة:
وما المرءُ إِلاَّ من وَقَي الذمَّ عِرْضَهُ ... وعزَّ فلا ذامٌ لديه ولا غِشُّ
وليس بمن يرضى الدناءَةَ والخَنا ... طِباعاً ولا مَنْ دأْبُهُ الهُجْرُ والفُحْشُ
وله من قطعة:
أَسَعْدَ الدين قد نَشَأَتْ سَحَابٌ ... بِوَعْدِكَ والمُراد هو الرَّشَاشُ
فما بالغيمِ لي نَقْعٌ ولكن ... بفيضِ الغَيْث قد يَرْوَى العِطَاشُ
فلم أَقْصِدْكَ دونَ الناس إلا ... رجاءً أَنْ يكونَ بك انتعاشُ
ومنها:
وكم جَازَ القِفَارَ إِليكَ عَبْدٌ ... يُؤَمِّلُ أَنْ يكونَ بكَ انتياش
وأوْفَى من بلادٍ شاسعاتٍ ... يضيقُ بها لساكنها المَعَاشُ
فَآمَنَهُ الزمانُ فقد قَصَدّى ... له وأَصَابَهُ منهُ خِدَاش
وكم حصَّ الزمانُ جناحَ قَوْمٍ ... ولكنَّ الكرامَ رَعَوْا فَرَاشُوا
وله من قصيدة:
قَمَرٌ ولكنْ في الغناءِ تخالُها ... قُمْرِيَّةً قد غَرَّدَتْ برياضِ
والخدُّ وَرْدٌ والبنفسجُ فَوْقَهُ ... آثارُ تقبيلٍ ببعضِ عِضَاضِ
كَانَ السرورُ بها فلما أَنْ نَأْتْ ... ذَهَبَ السرورُ وكلُّ آتٍ ماضِ
وله
كَرِهْتُمْ مُقامي فارتحلتُ ولم يكُنْ ... مَسِيرِيَ عنكم لا مَلاَلاً ولا بُغْضَا
ولو قد صَبَرْتم فرَّقَ الدهرُ بَيْنَنا ... بِموتٍ إلى أن لا يَرَى بعضُنا بَعضا
وله
تحقَّقَ صِدْقُ الودِّ مني وصَفْوهُ ... فأصبَحَ ذا حُكْمٍ على القلبِ مُشتَطِّ
وأَعْرَضَ إعراضَ المُدِلِّ بنفسِهِ ... وتاهَ بأن أَعطى من الحُسْنِ ما أَعْطِي
وله من كلمة في الهجو:
يا سائراً في غير نَهْجِ التُّقَى ... وسادراً في غَيِّهِ خابِطَا
ومنها:
فَحْلٌ كما يَزْعُمُ لكِنّهُ ... بالدُّبْرِ للمُرْدِ غدا لائطا
وله
أَغيٌّ وقد لاحَ المشيبُ بعارضي ... وفيه لَعَمْرِي واعظٌ أيُّ واعِظِ
سأُكْرِمُ نفسي أن تُقارِفَ ريبةً ... بسرٍ دفينٍ أو بعينِ مُلاحِظ
وله
أَأُثْنِي عليكم وأَكْسُوُكُم ... مدائحَ تُطْرِبُ من يَسْمَعُ
وأُبخَسُ حَقِّي ويُخْارُ مَعْ ... عتابي على مَوْضِعي مَوْضِعُ
إذا ما رضيتُ بها خُطَّةً ... فقد زادَ من قَدْركم أَوْضَع
وله
سأَحلمُ عن خَصْمي بمجلسِ لَغْوهِ ... ولستُ حليماً عنه في حَوْمة الوَغَى

وأَستُرُ طولَ الدهر في الغيب عَيْبه ... حِفاظاً ولا أَبْغي رِضاهُ إذا بَغَى
له من قصيدة:
وعَهْدِي بريَّا وهْيَ شمْسٌ مُنِيرةٌ ... عَلَتْ غُصُنَا لَدْناً يَميسُ على نَقَا
خَلَعْتُ عِذَارِي وادَّرَعْتُ بحبها ... فَظَلْتُ أسيراً في الحُبَالةِ مُطْلَقا
تُلاحِظُني أَلحاظُها في حديقةٍ ... بها الحسنُ من كلِّ الجوانبِ أَحْدَقا
تمايلتِ الأشجارُ فيها كأنَّما ... سَقَنْها يدُ الأَنواءِ خمراً مُعَتَّقا
وصاحَ فِصَاحٌ في الغُصُونِ فخلتها ... قياناً تُغَنِّي لا حماماً مُطَوَّقا
إذا ما نسيمٌ هَبَّ ألقَيْتُ عَرْفَها ... لمشتاقهِ من مِسْكِ دارينَ أَعبَقا
بها الوردُ غَضٌّ والأقاحي مُفَلَّجٌ ... ونَرْجِسُها يَرْنو إليكَ مُحَدِّقا
تَرَى أصفراً من نُورِها ومَرَائشاً ... وأَدْكَنَ مُخْضرًّا وأَحْمَرَ مُشْرِقَا
كأنّ هديرَ الماءِ عَوْلَةُ لَوْعةٍ ... لصبٍ مَشُوقٍ لا يُطيقُ التَّفَرُّقا
يَفيضُ على تلك الرياضِ انسكابُهُ ... كجودِ ابن شَيْبانٍ إذا ما تَدَفَّقا
ومنها في وصف مجلس عرسٍ، ومعرس أنسٍ:
كأنّ دخانَ النَّدِّ في جَنَباتِها ... ضَبَابٌ وماءُ الوردِ غَيْثٌ ترقرقا
وقوله في الأمير مبارك بن منقذ وهي قصيدة طويلة:
أقولُ لنفسي إذ تزايدَ ظُلْمُهُمْ ... فِرَارَكِ من دارِ الهُويْنا فِرَارَكِ
فَلَلْمَوْتُ خيرٌ من مُقامٍ مُذَمَّمٍ ... تَرَيْنَ به بَيْنَ الليالي احتقارَكِ
وفي غيرِ أسوانٍ مَرَادٌ ومَذْهَبٌ ... فلا تَجْعَلي شَرَّ النواحي قَرَارَك
فخيرُ بلادِ اللّه ما صانَ مِن أَذًى ... وأَضحى مَحلاًّ للأميرِ مُبارك
يقولُ له من جاءَ يَطْلُبُ رِفْدَهُ ... ونَجْدَتَهُ انعَشْ بالندى وتَدَارك
ويَشْرَكُهُ في ماله كلُّ قاصدٍ ... ولكنه في المجد غيرُ مُشارَكِ
وله
وإني مُحِبٌّ للقناعة والتُّقَى ... وللْحِرْصِ والطبعِ المُذَمَّمِ فارِكُ
وساعٍ إلى صُنْعِ الجميل مُسارِعٌ ... ومُطَّرِحٌ فِعْلَ القبيحِ وتاركُ
ومَنْ لي بخِلٍ في الزمانِ مُصادِقٍ ... يُساهِمُ في بأْسائه ويشارك
وله من قصيدة في مدح الملك العادل سيف الدين أبي بكر أخي صلاح الدين:
أَحْبِبْ بعصرِ الصِّبَا المأثورِ والغَزَلِ ... أَيَّامَ لي بالغواني أعظَمُ الشُّغُلِ
وإذْ غَرِيمي غَرَامٌ لستُ أَفتَرُ مِنْ ... أوْصابِهِ وعَذَابي فيه يَعْذُبُ لي
مَنْ لي بعَوْدِ شَبَابٍ مُنْذُ فارقني ... لم ألْقَ من عِوَضٍ عنه ولا بَدَلِ
لبستُ بُرْدَ الصِّبَا حيناً بجِدَّتِه ... فأَخْلَقَ البُرْدُ حتى صِرْتُ في سَمَلِ
كم ليلةٍ نِلْتُ من نَيْل المُنَى وَشَفَت ... بذلك الوَصْلِ ما بالصدر من غُلَل
عُلِّقْتُها غِرَّةً غَرَّاءَ غُرَّتُها ... كالبدرِ حَفَّ بليلٍ فاحمِ رَجِلِ
ومنها:
صَدَّتْ وكم قد تَصَدَّتْ للوصالِ وما ... يُرْجي انعطافٌ لمنْ قد صَدَّ عن مَلَلِ
وله من قصيدةٍ في مدح الفاضل أولهاك
على اللّه مُعْتَمَدُ السائلِ ... فَعَوِّلْ على لُطْفِهِ الشاملِ
وقد مَسَّني الضرُّ حتى لَجَأْتُ ... إلى كَنَفِ الفاضِلِ الفاضِلِ
لقد وفِّقْتْ دولةٌ رأْيُها ... إلى الوَرِعِ العالِمِ العامِلِي
مليٌّ بتدبير أَحْكامِها ... وأَحكامِ مُشْكلِهِا النازلِ
وَمَنْ يَفْزعُ الحرُّ مِن فَضْلهِ ... إلى خيرِ كافٍ له كافلِ
ومن تَمَّمَ اللّهُ نقصَ الأَنامِ ... بسؤْدُدِهِ الباذخِ الكامل
تَوَاضَعَ عن رِفعَةٍ فاعتَلَى ... وكم حَطَّ كِبْرٌ إلى سافِل

كتائبُهُ كُتْبُهُ في العِدَا ... وأقلامُهُ كالقنا الذابل
إذا ما استمدَّ أتاك اليَرَاعُ ... بمَدِّ بلاغتِهِ الهاطل
ترى البَرْقَ في جَرْي أقلامِهِ ... كما الوبلُ في جُودِهِ الهامل
تظاهَر بالحقِّ في حُكْمِه ... ويأْنَفُ من باطنِ الباطل
وله من قصيدة أولها:
أَطَلْتَ من اللَّوْمِ المُرَدَّدِ والعَذْلِ ... عليَّ وإِنِّي في الغرامِ لَفِي شُغْلِ
فما الحبُّ إلا النارُ والعَذْلُ عنده ... هواءٌ به يزدادُ في قُوَّةِ الفِعْلِ
رَضِيتُ بسُلطانِ الهوَى مُتَسَلِّطاً ... عَلَى مُهْجَتي في الحكْمِ بالجَوْرِ لا العَدْلِ
بِقَلْبيَ سَهْمٌ لا بِقَلْبِكَ صائبٌ ... رُمِيْتُ به عن سِحْرِ أَعيُنِها النُّجْل
تَنامُ خليَّ الحالِ مما يُحِسُّهُ ... شَجٍ كُحِلَت عيناهُ بالسُّهْدِ لا الكُحْل
ومنها:
وإِنَّ غَزَالاً كالغزالةِ وَجْهُهُ ... ضعيفُ القوى يَسْطُو بليثٍ أَبي شِبْل
ومَنْ خَصْرُهُ المهضومُ كَيْفَ مع الضَّنَا ... ينوءُ بِرِدْفٍ باهظٍ حَمْلُهُ عَبْلِ
وفي خدِّهِ نارٌ وَمَاءُ شبيبةٍ ... وما اجتمع الضدانِ إِلاَّ عَلَى قَتْلي
ومشمولةٍ سُقِّيتُهَا من رُضَابِهِ ... وما لي سوى تقبيل خَدَّيْهِ من نُقْل
فمن شفتيه كأسُها وحَبابُها ... يَرى عِقْدَ ثَغْرٍ عِقْدُهُ غيرُ مُنْحَلِّ
ومنها:
وإني وإن شَبَّبْتُ لا عَنْ شبيبةٍ ... فمَذْهَبُ قومٍِ في القريضِ مَضَوْا قَبْلِي
أَأُخْطِىءُ في قَصْدي وأَخْطُو لِصَبْوَةٍ ... وجامعةُ الستين قد جَمَعتْ رجلي
ومنها يصف بستاناً وبركة وسواقي:
كأنّ خرير الماءِ في جَنَباتِه ... أَنينٌ لمهجورٍ يَحِنُّ إلى وَصْلِ
جَدَاوِلُهُ تَجْري عُيُوناً كأنّها ... نُصُولُ سيوفٍ لامعاتٌ من الصَّقْل
ومنها:
وفوقَ قوامِ الغُصْنِ طيرٌ لهَزِّهِ ... على أَلِفٍ للقَطْعِ ثُبِّتَ لا الوَصْلِ
وقد غَرَّدَتْ أطيارُهُ فكأَنَّها ... قيانٌ تَطارَحْنَ الغناءَ على مَهْل
وطابقها الدولابُ في حُسْنِ زَمْرِهِ ... مطابقةَ الشكلِ الملائمِ للشكل
وأظهرتِ الأسحارُ سرَّ نسيمها ... بوَسْوَسَةٍ كالخَ " ِّ يُعْرَفُ بالشكل
فلذَّ لنا ذاك النسيمُ كأنَّه ... سِرَارٌ تَهادَاهُ الأحِبَّةُ بالرُّسُل
وله
إِنْ تَمَادَى الهِجْرَانُ منك اتِّصالا ... صَيَّلاَ الحُبَّ بيننا ذا انفصالِ
وصَدودُ الدَّلالِ إن زادَ أَفْضَى ... بك عندي إلى صُدودِ المَلاَلِ
واعتقادي أنْ لوْ صَبَرْت قليلاً ... فَرَّقَتْ بيننا صروفُ الليالي
وله مما ينقش على سكين:
إذا مَلَكَتْنِيَ كفُّ الفَتَى ... فما السيفُ والأسمرُ الذابلُ
وأَفْتَكُ مِنِّي العيونُ التي ... تُعَلَّمُ من سِحْرِها بابلُ
له من قصيدة:
شكوت لها نَهْدَين في الصدرِ باعَدَا ... مُعانِقَها عن ضَمِّهِ وَهْوَ مُغْرَمُ
ولو مَلَكَتْ أَمْرًا لما كانَ خَصْرُها ... على ضَعْفِه من رِدْفِها يَتَظَلَّمُ
وله في أثناء كتاب كتبه إلى بعض أصدقائه:
أَظُنُّهُما قد صافَحَا وَرْدَ خَدِّهِ ... ومَرَّا على تلْك السوالفِ واللَّمَى
وإلاَّ غرامي فيهما وصَبابتي ... وكثرة تقبيلي هُمَا دائماً لِمَا
وله من قصيدة أولها شكوى:
لا تُطِيلي على الرحيلِ مَلاَمِي ... فلأَمْرٍ إمْرٍ كَرِهْتُ مُقامي
أيُّ خيرٍ في بلدةٍ يستوي ذو ... النقصِ فيها بفاضلِ الأَقوامِ
منها:
ضاعَ سَعْيِي وما أَفَدْتُ من الآ ... دابِ فيما مَضَى من الأعوَامِ

كم كتابٍ مثلِ الكتائبِ أَغْنَى ... عنهمُ في العِدا غَنَاءَ الحسام
كم بقَوْلٍ أَقَلْتُ من عَثَراتٍ ... كم كِلامٍ أَسَوْتُها بكَلاَمِ
منها:
وَغْدُهُمْ وَهْوَ رِفْدُهُمْ كَسَرَابٍ ... أو خيالٍ من كاذبِ الأحلامِ
وإذا نَكْبَةٌ عَرَتْهُمْ وحَلَّتْ ... بذُرَاهُمْ من الخُطوبِ الجِسَام
فَهْيَ فَوْقي تَحْتي يَميني يَسَاري ... وَوَرائي من هَوْلها وأَمامي
وإذا الأَمْنُ عَمَّهُمْ واستَقَرُّوا ... خِفْتُ منهمْ بوادِرَ الإنتقام
فأنا الدهرَ في عَذَابٍ إذا ما ... سَخَطوا أوْ رَضُوا عن الأيَّام
ليسَ دنياهمُ لغيرِ عبيدٍ ... أَدنياءِ النفوسِ من آلِ حام
حكَّمُوهُمْ فيها وفيهمْ فعادوا ... كلُّ رأسٍ منهم بغيرِ زِمام
وتولَّوْا تدبيرَها وهي كالشمسِ ... ضياءً فأصبَحَتْ كالظلام
فَدَعُونا لا تأخُذُوا ما بأيدينا ... وَرُوحُوا يا ويحكمْ بسلام
إنّ في الأرض غيرَ أُسْوانَ فاهْرَبْ ... من أَذاهُمْ إلى بلادِ الشام
فالرحيلَ الرحيلَ عنهم سريعاً ... فهمُ من لئامِ هذا الأَنام
وله من قصيدة:
قامَ بعذري له عذارٌ ... أَشْبَهُ شيءٍ ببعضِ نُونِ
انْظُرْ إِلى شَخْصِهِ تشاهِدْ ... محاسناً جَمَّةَ الفُتُونِ
وله من قصيدة يطلب فروة:
مليكٌ جميلُ الخُلْقِ والخَلْقِ لم يَزَلْ ... يروعكَ في جِدٍ، يَرُوقُكَ في لَهْوِ
يَمُنُّ بلا مَنٍ وَيُعْطِي تَعَمُّداً ... إذا غَيْرُهُ أعطاكَ عن خَطأَ السَّهْوِ
منها:
أَيَا مَلِكاً يُعْطِي على كلِّ حالةٍ ... ويُعْطي أَخُوهُ الغيثُ في الغَيْمِ لا الصَّحْوِ
وما أَبْتَغِي مالاً، ولو شئتُ لم يَفُتْ ... لديك، وهذا ليسَ قَصْدِي ولا نَحْوِي
ولكنْ لِفَضْلِ البَرْدِ في الجسم سَوْرَةٌ ... وليس بِوَاقٍ من أَذاه سوى الفَرْوِ
فجودُكَ يَكْسُوني وَيُرْوِي من الظَّمَا ... ومَدْحي لما أَوْلَيْتُ من حَسَنٍ يَرْوِي
وما أَنا ممن يَجْحَدُ العُرْفَ رَبَّهُ ... ويسترُ مشهورَ الصنيعةِ أَوْ يَزْوي
وظاهرُ أَمْرِيَ في الولاءِ كباطني ... وكم ذي نِفَاقٍ مُعْلِنٍ ضِدَّ ما يَنْوي
ومنها:
وقافيةٍ لَيْسَتْ تفارقُ مَرْكَزاً ... وتقطعُ آفاق البلادِ بلا عَدْوِ
لها رَوْنَقٌ من قبل تلحينِ وَزْنِهَا ... إِذا كان بعضُ الشعرِ يَحْسُنُ بالحَدْوِ
أَمادِحَهُ استيقظْ فشعرُكَ وافدٌ ... على لُغَوِيٍ شاعرٍ ناقدٍ نَحْوِي
فمن كان في قولٍ مُجيداً وقاصداً ... مجِيداً به فَلْيَحْذُ في نَظْمِهِ حَذْوِي
وله
كم قد تَصَبَّرْتُ عَنْهُ ... فما أَطَقْتُ سُلُوَّهْ
أَرَى الصَّلاحَ لقلبي ... إِذا نَظرْتُ دُنُوَّهْ
وله
إِنّ نهاري من بَعْدِ فُرْقَتِهِ ... كالليلِ هذا بذاكَ مُشْتَبِهُ
يقطعُ هذين مُدْنَفٌ كَلِفٌ ... يكابِدُ الوَجْدَ وَهْوَ مُنْتَبِهُ

أبو محمد هبة الله بن علي بن عرام
السديد
ذكر قاضي أسوان أنه كان أشعر من ابن عمه، وكان قوياً في فهمه، جرياً في نظمه، ماضياً في عزمه، راضياً بحزمه، وتوفي سنة خمسين وخمسمائة، ثم أهدى لي فخر الدولة بن الزبير ديوان المذكور، فحصلت على الدر المنظوم والمنثور، وقلدت الخريدة منه كل قلادة، تزين كل غادة، وأوردت في الجريدة من شعره ما يشعر بإفادة وإجادة. وهو ديوانٌ نقحه لنفسه، وصححه بحدسه، وقفى قوافيه على ترتيب الحروف، وهي للمعاني الطريفة والحكم الظريفة كالظروف.
فمن ذلك قوله:
بحقٍ وقد صُغْتُ فيك المديحَ ... جَعَلْتَ القبيحَ عَلَيْهِ جَزَائ

وَصَفْتُكَ فيه بما ليسَ فيك ... وهذا لَعَمْرُكَ عَيْنُ الهجاء
وقوله:
أَيُّها العشّاقُ هل أَحَدٌ ... قائمٌ في اللّه مُحْتَسِبُ
مَنْ مُجيري من مُدَلَّلَةٍ ... لَحْظُها الهنديّةُ القُضُبُ
هيَ بدرُ التمِّ إِنْ سَفَرَتْ ... وهلالٌ حِينَ تَنْتَقِبُ
سَفَكَتْ يومَ الفراقِ دَمِي ... فهْو مِنْ جَفْنَيَّ مُنْسَكِبُ
وله يذم السفر:
لا عِزّ للمرءِ إِلاَّ في مواطنهِ ... والذلُّ أَجْمَعُ يَلْقَاهُ مَنِ اغْتَرَبَا
فاقنعْ بما كانَ مما قَدْ حُبِيتَ به ... بحيثُ أَنْتَ وَكُن للبينِ مُجْتَنِبَا
وقوله:
ظَلَمْتُكَ مِنْ حَيْثُ قَدَّرْتُ فِيكَ ... حِفْظَ الودادِ وَرَعْيَ الْحَسَبْ
كأَنِّي جَهِلْتُ بأَنّ اللئيمَ ... عدوٌّ لكلِّ كريمِ الْحَسَبْ
وقوله:
كنتُ فيما مضى إذا صُغْتُ شِعْراً ... صُغْتُهُ في المديحِ أَوْ في النّسِيبِ
وأنا اليومَ إن صَنَعْتُ قَريضاً ... فهْو في ذمِّ الزمانِ العَجيب
وقوله في حسود:
وذي عيوبٍ بَغَى عَيْبي فَأَعْوَزَهُ ... فَظَلَّ يَحْسُدُني للعلمِ والأَدب
نَزَّهْتُ نَفْسيَ عَنْهُ غيرَ مُكْتَرِثٍ ... بِفِعْلِهِ فأَتى بالزُّورِ والكَذِب
وقوله:
ليت شعري هل يَعْلَمَنَّ بما أَلْقَى ... من الوَجْدِ مَنْ بِهِ قَد كَلِفْتُ
كيف يَدْري بذاك يا صاحِ من با ... تَ خَلِيّاً من الهَوَى وَسَهِرْتُ
وقوله:
لا تُنْكِرُوا ما بِهِ عُرِفْتُمْ ... دونَ سِوَاكُمْ من الحِرَاثَهْ
فَهْيَ لآبائكمْ قديماً ... وَهْيَ لَكُمْ بَعْدَهُمْ وِرَاثَهْ
وقوله في المدح:
أجِدَّكَ ما تَنْفَكُّ تَعْتَسِفُ الفَلاَ ... نهاراً وتَطْوِي البيدَ في غَسَقِ الدُّجَى
أخا غَزَواتٍ ما تزالُ مُخَاطِراً ... بنفسِكَ فيها حاسِراً ومُدَجَّجَا
متى يَدْعُكَ الداعي تُجِبْهُ إلى الوَغَى ... على سابحٍ كالبرقِ من نَسْلِ أَعْوَجا
أَرِحْ جِسْمَكَ المكدودَ من دَلَجِ السَّرَى ... قليلاً وذاك الطِّرْفَ من أَلَمِ الوَجَا
وقوله:
وَجَدْتُ هجائي لقومٍ مَدَحْ ... تُ يعلو، ويَسْفُلُ عند المديحْ
وهذا دليلٌ على أنّ مَدْحِ ... يَ فيهمْ محالٌ وهَجْوِي صحيح
وقوله:
لو كان للجودِ شَخْصٌ ... كان ابنُ شيبانَ رُوحَهْ
وقوله في مدح طبيب:
سيِّدُنا ما زالَ في طِبِّهِ ... بالحِذْقِ والتمييزِ مَمْدُوحَا
نَبُثُّهُ ظاهِرَ أحوالِنا ... فيكشفُ الباطنَ مَشْروُحا
كأنما فِكْرَتُهُ مازَجَتْ ... من العليلِ الجسْمَ والرُّوحا
نَظُنُّ من توفيقِهِ أَنَّهُ ... وَحْيٌ إليهِ أبداً يُوحَى
مَنْ لم يكُنْ في طِبِّهِ مِثْلَهُ ... كان بعينِ النَّقْصِ مَلْمُوحا
وقوله:
قُلْ للذي أَبْدَى الشما ... تَةَ في ابن شيبانٍ فَتُوحِ
لا بدَّ أنْ تَرِدَ المنو ... نَ ولو خُصِصْتَ بِعُمْرِ نُوحِ
وقوله:
لم يَبْقَ في الناس إلا التيهُ والبَذَخُ ... وكلُّهُمْ من فَعَال الخيرِ مُنْسَلِخُ
إن أَبْرَمُوا نَقَضُوا، أَوْ أَقْسَمُوا حَنَثُواأو عاهَدُوا نكثوا، أو عاقَدُوا فَسَخُوا
وقوله في الهجو:
كم عَذَلوه على بِغَاهُ ... شُحًّا عليه فما أَصَاخَأ
ولو رأَى في الكنيف... ... لغاصَ فغي إثرِهِ وَسَاخا
أَعياهُمُ داؤه صَبِيًّا ... فاستيأَسُوا منه حين شاخا
وقوله في المدح:
لو زُرْتُهُ في اليومِ ما زُرْتُهُ ... أوْسَعَنِي جُوداً وأَسْدَى يَدَا
كأنَّهُ أَقْسَمَ أنْ لا يَرَى ... شَخْصِيَ إِلاّ جاد لي بالنَّدَى
وقوله:

لا تَعْرِضَنَّ لشاعرٍ ذي مِقْوَلٍ ... عَضْبٍ يَفُلُّ غِرارَ كلِّ مُهَنَّدِ
وتَوَقَّ ما يَبْقَى جديداً وَسْمُهُ ... جُرْحُ اللِّسانِ أَشَدُّ مِن جُرْحِ اليَدِ
وقوله:
لا يَخْدَعَنَّكَ ما تَرَى مِن مَعْشَرٍ ... قد صارَ شُغْلُهُمُ اعتمادِيَ بالأَذَى
أنا في حُلُوقِهِمُ شَجاً يَغْشَاهُمُ ... حتى المماتِ وفي عُيونهمُ قَذَى
وله
لئن كنتَ عن مُقْلَتِي نائياً ... فإنّكَ بالذِّكْرِ في خاطري
وإنّ مَحَلَّكَ مِنِّي ... مَحَلُّ إنسانٍ عَيْنِيَ مِن ناظري
وقوله يستدعي صديقاً له:
نحنُ ثِمادٌ وأنتَ بَحْرُ ... بنا إِلى القُرْبِ منك فَقْرُ
فَعُدْ إلينا تَجِدْ نجوماً ... أنْتَ لها ما حَضَرْتَ بَدْرُ
وقوله:
خَدَمْتُكُمْ بالنظمِ والنثرِ ... عُمْرِي فما أَصْلَحْتُمُ أَمْرِي
فَرُحْتُ عنكمْ خائباً حائراً ... في فِقَرٍ أَدَّتْ إلى فَقْر
أَقْرَعُ سِنِّي ندماً تارةً ... وتارةً أَقرَأُ والْعَصْرِ
وقوله من أول مرثية:
نميلُ مع الآمالِ وهْيَ غَرُورُ ... ونطمعُ أن تَبْقَى وذلك زُورُ
وتخدعُنا الدنيا القليلُ مَتَاعُها ... وللشيب فينا واعظٌ ونَذِير
ونزدادُ فيها كلَّ يومٍ تَنافُساً ... وحِرْصاً عليها والمُرادُ حقِيرُ
ونطلبُ ما لا يُسْتَطاعُ وجودُهُ ... وللمَوْتِ منَّا أوَّلٌ وأخيرُ
وقوله في مرثية أبي الغمر:
لِيَبْكِ بنو الآداب طُرًّا أَديبَهُمْ ... وفارسَهُمْ في حَلْبَةِ النَّظْمِ والنَّثْرِ
ولا يَطْمَعوا من دَهْرِه بنظيرهِ ... فهيهات أن يَأْتِي بمثل أَبي الغمر
وقوله في الحكمة:
إذا حصَلَ القوتُ فاقنعْ به ... فإنَّ القناعةَ للمرءِ كَنْزُ
وصُنْ ماءَ وَجْهِكَ عن بَذْلِهِ ... فإنّ الصِّيَانَةَ للوَجْهِ عِزُّ
وقوله:
يا من دَعَوْهُ الرئيسَ لا عَنْ ... حقيقةٍ بل عَلَى مَجازِ
لستُ أُكافِيكَ عن قَبيحٍ ... منك بهجوٍ ولا أُجازِي
وما عسى تبلغُ الأَهاجي ... من رَجُلٍ كلُّهُ مَخَازي
وقوله في الزهد:
لما بدا لي سرُّ هذا الورَى ... وكنتُ من خيرِهِمُ آيسَا
لَزِمْتُ بيتي راحةً منهمُ ... وصِرْتُ بالوحدة مُسْتَأنِسَا
وقوله في الغزل:
قلتُ لإخواني وقد زارني ... ظَبْيٌ سقيمُ الطرفِ طاوِي الحَشا
مُفْتَتِنٌ في كل أحواله ... مُحَكَّمٌ في مهجتي كيف شا
ها فانْظُرُوا واعتَبِروا واعجَبُوا ... من أَسَدٍ يَحُكُم فيه رَشَا
وقوله:
ضِقْتُ ذرعاً فباح صَدْري بِسِرِّي ... وَسُلُوِّي فَمُعْوِزٌ مُعْتَاصُ
أَوْقَعَ القَلْبَ لَفْظُكَ العذبُ في كلِّ ... عَذَابٍ وَلَحْظُكَ القَنَّاصُ
ليس لي فيكَ مَطْمَعٌ فأُرَجِّيكَ ... ولا مِنْكَ ما حَيِيتُ خَلاَص
وقوله:
يا من غَدَتْ أَخْلاَقُهُ ... في الحُسْنِ كالرَّوْضِ الأَريضِ
اسْتُرْ بِحَقِّكَ ما تُشَا ... هِدُ من عَوارِي في قَريضي
فلأَِنْتَ تَعلَمُ أَنَّني ... ذو خاطرٍ زَمِنٍ مَريض
مُتِّعْتَ بالعُمْرِ الطويلِ ... وَفُزْتَ بالعزِّ العَرِيض
وقوله في مدح الوحدة:
أَنِسْتُ بالوَحْدَةِ حتى لَقَدْ ... صِرْتُ أَرَى الوَحْشَةَ في الخِلْطَهْ
وكنتُ فيما قَدْ مَضَى غالطاً ... وَلَنْ ترى من بَعْدِها غَلْطَهْ
وقوله في الغزل:
بأبي غزالٌ إِنْ رَنَا ... أَصْمَى بفاترِ لَحظِهِ
وإِذا رَثَى مِمَّا جَنَى ... أَحيا بباهرِ لفظه
وقوله:

كُنْ موقناً أَنَّ الزمانَ وإِنْ غَدَا ... لك رافعاً سيعودُ يوماً واضعا
والطيرُ لو بَلَغَ السماءَ مَحَلُّهُ ... لا بُدَّ يوماً أَنْ تَرَاهُ واقعا
وقوله:
لا تَرْجُ عند اللئامِ مَنْفَعَةً ... ما لَمْ تُهِنْهُمْ بها ولا تَطْمَعُ
فالهُونُ بالطبعِ عندهُمْ أبداً ... يُفيد نفعاً وفيهمُ يَنْجَعُ
وقال في الغزل:
مَنْ مُعِيني على اقتناصِ غَزَالٍ ... نافرٍ عن حبائلي رَوَّاغِ
قَلْبُهُ قَسْوَةً كجُلْمُودِ صَخْرٍ ... خَدُّهُ رِقَّةً كَزَهْرِ الباغِ
كلما رُمْتُ أَنْ أُقَبِّلَ فَاهُ ... لَدَغَتْنِي عقاربُ الأَصْدَاغ
وله في الهجو من أبيات:
فلو كان مِمَّنْ يُساوي الهجاءَ ... إذَنْ لهجوتُ وَدَاخَلْتُهُ في
مَديحي وَهَجْوِي كفيلانِ لي ... برفعِ الوَضِيعِ وَوَضْعِ الشريفِ
وقوله في الغزل:
لَدَغَتْنِي عقاربُ الصُّدْغِ منهُ ... فَسَلُوه من ريقه دِرْيَاقَا
إِنَّني عاشقٌ له وهو مُذْ كا ... نَ ظَلُومٌ لا يَرْحَمُ العُشَّاقَا
وقوله في خلٍ أخل بوده وعامله بقبيح صده:
وخلٍ سَكَنْتُ إلى وُدِّهِ ... وكدتُ له يعلمُ اللّهُ وامقْ
وَقَدَّرْتُ فيه جميلَ الإِخاءِ ... ولمَّا أَخَلْهُ عدوًّا مُمَاذِقْ
فعامَلَنِي بصنوفِ القبيح ... فِعْلَ لئيمٍ خبيثٍ مُنَافِقْ
على غير شيءٍ سوى أَنَّني ... بذلتُ له الودَّ دونَ الأَصادِق
ولستُ بأَوَّل مَنْ خانَهُ ... وِدادُ صديقٍ به كان وَاثِقْ
وقوله في الغزل:
يا لَقَوْمِي لغادةٍ جَمَعَتْ دَل ... الأغاني وسَطْوَة الأَمْلاكِ
فَتَنَتْنِي بلفظها وَثَنَتْنِي ... عَنْ رَشَادِي بِطَرْفِها الفَتَّاكِ
صَيَّرَتْنِي في العِشْقِ أَوْحَدَ دَهْرِي ... بَعْدَ أَنْ كُنْتُ أَوْحَدَ النُّسَّاكِ
وقوله:
أَتَتْنِي منك أَبْيَاتٌ حِسَانٌ ... هي الدرُّ الثمين بغيرِ شَكِّ
فكانت لا عَدِمْتُكَ بُرْءَ جِسْمي ... من البَلْوَى فَقَدْ زالَ التشكِّي
وقوله:
إذا أَثْرَيْتَ من أَدَبٍ وَعِلْمٍ ... فلا تَجْزَعْ ولو تَرِبَتْ يَدَاكَا
فمعنى الفقرِ فَقْرُ النفسِ، فاعْلَمْ ... وإنْ أَلْفَيْتَ في اللفظِ اشتراكا
وقوله:
قالوا فلانٌ قد تَعَدَّى طَوْرَهُ ... جَهْلاً عليكَ ولستَ من أَشْكالِهِ
هو يَقْتَضِي لا شكَّ ما عَوَّدْتَهُ ... من حَلْقِ لحيتهِ وَنَتْفِ سِبَالِهِ
وقوله من أول قصيدة في رضوان الوزير:
جَدَّدْتَ بعد دُروسِهِ الإِسْلاَمَا ... وَجَلَوْتَ عنه الظُّلْمَ والإِظْلاَما
وَطَوَيْتَ راياتِ الضلالِ مجاهداً ... وَنَشَرْتَ في عِزِّ الهُدَى أَعْلاَما
وقوله:
معاذ اللّه أَن أَغْدُو كَقَوْمٍ ... متى افتقروا فَهُمْ حُلفاءُ همِّ
إِذا تَرِبَتْ يداي فلستُ آسَى ... وَقَدْ أَثْرَيْتُ من أَدَبٍ وعلم
وقوله:
أَتْعَبْتُ نَفْسي وَفِكْري ... في مَدْحِ قَوْمٍ لِئَامِ
وَعزَّنِي حُسْنُ بِشْرٍ ... مِنْهُمْ وَطيبُ كلامِ
فما حَصُلْتُ لَدَيْهِمْ ... إِلاَّ عَلَى الإِعْدَام
ولو جَعَلْتُ قَرِيضي ... مَرَاثياً في الكرام
لَحُزْتُ ذِكْراً جميلاً ... يَبْقَى على الأيَّام
وقوله:
إنْ كانَ غَرَّكُمُ حِلْمٌ عُرِفْتُ به ... فإنَّ لي مَعَ حِلْمي جانباً خَشِنَا
وإنْ تَكُنْ مِدَحي أَضْحَتْ لكمْ جُنَناً ... فإنَّ أَسْهُمَ هَجْوِي تَخْرِقُ الجُنَنَا
وقوله:
كيف لا يُزْهَى علينا ... مُسْتَطِيلاً وَيَتِيهُ
وَهْوَ في الحُسْنِ فَريدٌ ... ما له فيه شبيهُ
وقوله:

جميعُ أَقوالِهِ دَعَاوِي ... وكلُّ أَفْعَالِهِ مَساوِي
ما زالَ في فَنِّه غريباً ... ليسَ له في الوَرَى مُسَاوي
وقوله:
هو المَجْفُوُّ ما أَمِنُا لدهْرٍ ... إذا ما نابَهُمْ خَطْبٌ دَعَوْهُ
فصار كأنه سَبَبٌ لديهمْ ... مَتَى حَصَلَتْ نَتَائِجُهْ رَمَوْهُ
وقوله:
يا لائمِي في غزالٍ ... قلبي رهينُ يَدَيْهِ
لا تطمعنْ في سُلُوِّي ... فلا سبيلَ إليه
كم لامني فيه قومٌ ... وَعَنَّفُوني عليه
حتى إذا أَبْصَرُوهُ ... خرُّوا سجوداً لديه
فاحفظْ فؤادَكَ فالمو ... تُ في ظُبا مُقْلَتَيْهِ
وقوله:
علامَ أَجوبُ الأَرْضَ في طَلَبِ الغنى ... وأُتْعِبُ نَفْسي والقلاصَ النواجيا
إذا كان لِي رزقٌ فليس يَفُوتُنِي ... أَكُنْتُ قريباً منه أَوْ كُنْتُ نائيا
وقوله في النزاهة والحمد:
لم تَزَلْ أَلطافُ رَبِّي ... أَبَداً عندي حَفِيّهْ
دائباً يُذْهِبُ عَنِّي ... كلَّ سُقْمٍ وَبَلِيّهْ
وقُصارَايَ وإن ... عُمِّرْتُ أَنْ أَلْقَى المنيه

ولده أبو الحسين بن هبة الله بن عرام
كان له شعر ويهاجي ابن عمه السديد، وتوفي وهو شاب بالقاهرة سنة سعبين وخمسمائة.
أبو القاسم عبد الحميد بن عبد المحسن بن محمد
الكتامي
المقيم بأسيوط الصعي من أدباء أسيوط، وهو بالعلم مغتبط مغبوط.
ومما نقلته من خطه له في مدح القاضي الأجل الفاضل:
ما الحبُّ ما أَوْلاَكَ من سَكَراَتِهِ ... أَمْراً يحولُ حُلاَك من حَالاَتِهِ
كلا وليس الحبُّ عندي غيرَ ما ... صادَ الغزالُ به أُسُودَ فلاتِهِ
قسماً بأيامِ العُذَيْبِ وباللِّوَى ... وبما تَشَاكَيْنَا على عَذَبَاتِه
لقد استجاشَ من المحاسنِ عَسْكَراً ... لا يستطيعُ القَلْبُ حَرْبَ كماته
قَمَرٌ تَجَلَّى للعيونِ فَلَمْ تَكُنْ ... بأَجَلَّ مِنْ مُوسَى لدى ميقاته
يَرْمِي القلوبَ بأَسْهُمٍ من جَفْنِه ... فكأنما الكُسَعِيُّ في لَحَظاته
وَلَئِنْ تَبَرَّأَ لَحْظُهُ من قَتْلَتي ... فكفاه نَضْحُ دَمِي على وجناته
غُصْنٌ إذا ماستْ به ريحُ الصَّبَا ... خَجِلَتْ غصونُ البان من حركاته
أَقْطَعْتُهُ قلبي فَقَطَّعَهُ أَسًى ... فعلامَ يُتْلِفَ ذاتهَ بأَذَانِهِ
من لي بوصلٍ إِنْ ظَفِرْتُ بِوَقْتِهِ ... أَحْيَيْتُ داعي الشوقِ بعد مماته
أَيَّامَ يَسْلُكُ بي هواهُ مَنْهجاً ... شهدَ التقى بالفوزِ مِنْ تَبِعَاته
والعينُ ليس ترى سوى ما تَشْتَهِي ... والقلبُ مَوْقُوفٌ على لذاته
والروضُ قد راضَ الخواطرَ عندما ... رَكَضَتْ خيولُ الغَيْثِ في جنباتِه
قد أَشْرَعَ الأَغْصَانَ أَرْمَاحاً وَقَدْ ... نَشَرَ الشقيقَ هناك من راياتِهِ
وتَدَرَّعَتْ عَذَبَاتُهُ بنسيمه ... بتشاجرِ الأَطْيَارِ في شَجَرَاتِهِ
كَتَبَ الغمامُ به سُطُورَ مُنَمِّقٍ ... في خَطِّهِ ودواتُهُ مِنْ ذَاتِهِ
ورأَى الطيورَ تُمِيلُهُنَّ بلحنها ... فأتى بها هَمْزاً على أَلِفَاتِه
وَتَبَرَّجَتْ فيه محاسنُ كِدْنَ أَنْ ... يَنْطِقْنَ من عَجَبٍ به بصفاته
فكأنما الأيامُ حين رَأَت إلى ... عبدِ الرحيمِ جَرَتْ على عَادَاتهِ
الفاضلُ اليَقِظُ المُعَظَّمُ قَدْرُهُ ... مَنْ كلُّ فضلِ الناسِ مِنْ فَضَلاته
قُطْبُ الرئاسةِ لم تَدُرْ أَفْلاَكُهُ ... مُذْ كُوِّنَتْ إِلا عَلَى إِثْبَاتِهِ

وَمُذَلِّلُ الدهر الأَبِيِّ فَقَدْ به ... صَحَّ الزمان بنا على عِلاَّتهِ
مُتَواضِعٌ والدهرُ يَعْلَمُ أنّهُ ... لا يرتقي أبداً إلى هِمَّاتِهِ
ما استَنَّ في مَيْدانِ فَضْلٍ مُنْتشاً ... إلا انتهى سَبْقاً إلى غاياته
ويميسُ في بُرْدِ الكمال مُؤَدِّياً ... شكراً ليُرْفَعَ فوقَ كلِّ لداته
ثِقةُ المليكِ ومَنْ رآه كُفَاتُهُ ... مِن دونِ هذا الخلق خيرَ كُفَاتهِ
كم عَزْمَةٍ للّه أو في حَقِّهِ ... لكَ تَغْتَدِي سَبَباً إلى إثباتِه
ما أَعجزَ الفضلُ المُنيفُ مُباهراً ... إلاّ وأنْتَ هناك مِن آياتِهِ
تجلو بحُكْمِكَ وهْوَ حُكْمُ اللّهِ عَنْ ... شَرْعِ الهُدَى ما عنَّ من شُبُهاته
والوقتُ عبدٌ ما تَشَرَّفَ قَدْرُه ... حتَّى غَدَوْتَ اليومَ مِن ساداته
كم قد زَرَعْتَ صنائعاً في ذا الورى ... وَحَميْتَ زَرْعَكَ في حَصَادِ نَبَاتِه
يَتْلُو مَحَاسِنَكَ الزَّمانُ لحسْنِ ما ... عَمَّرْتَ بالإحسانِ من أوقاتهِ
أنتَ الذي شَهِدَتْ فضيلتُهُ بما ... رَفَعَ الإلهُ لَدَيْهِ مِن دَرَجاتهِ
وَزَها الربيعُ فقيلَ مِن أخْلاقِهِ ... وَهَمَى الغمامُ فقيل بعضُ هِباته
وحياتهِ وَهْيَ اليمينُ لم أكُنْ ... أبداً لأحْلِفَ كاذباً بحياتهِ
لقد استعدَّ من الفضائلِ مَعْقِلاً ... لا يُمكِنُ الأيامَ قَرْعُ صفاتهِ
ولقد أُعِيرَ من الصُّدُودِ مَوَدّةً ... أَدْنى لقلبِ المرءِ من خَطَراته
وتناصَرَت فيه النجومُ فَسَعْدُها ... لِوَلِيِّهِ ونُحُوسُها لِعُدَاتِه
فإليكَ مِن مِدَحِ الخواطر شُعْلَةً ... أَوْرَى زنادُ رَوِيِّها لِرُوَاتِهِ
مِن مُخْلِصٍ لكَ في الوَلاءِ مُحَقِّقٍ ... بكَ أن يُبَلَّغَ مُنْتَهَى طَلَبَاتِهِ

أبو الحزم مكي القوصي
له في مروحة:
ما مُنْيَةُ النفسِ غيرُ مِرْوَحةٍ ... تُوصِلُ للقَلْبِ غايةَ الرّاحهْ
تجودُ لكن بمُسْعِدٍ ولقَدْ ... تَبْخَلُ إن لم تساعدِ الراحهْ
أَزِفَ الرحيلُ وليسَ لي من زادِ ... غيرُ الذنوبِ لِشِقْوَتِي ونَكادِي
يا غَفْلَتي عما جَنَيْتُ وَحَيْرَتي ... يوماً يُنَادى للحسابِ مُنَادِ
غَلَبَتْ عليَّ شَقَاوَتِي وَمَطَامِعي ... حتى فَنِيتُ وما بَلَغْتُ مُرَادي
يا غافلاً عمَّا يُرَادُ به غداً ... في مَوْقِفٍ صَعْبٍ على الوُرَّاد
اقرأْ كتابَكَ كلُّ ما قَدَّمْتَهُ ... يُحْصَى عليكَ بِصَيْحَةِ الميعاد
كيفَ النجاةُ لعبدِ سوءٍ عاجِزٍ ... وعلى الجرائم قادرٍ مُعْتادِ
يا غافلاً من قَبْلِ مَوْتِكَ فاتَّعِظْ ... والْبَسْ ليومِ الجمعِ ثوبَ حدادِ
أبو الربيع سليمان بن فياض الإسكندراني
من أهل الإسكندرية، ذو علمٍ فياض، وذيلٍ في العلوم فضفاض، وشعرٍ كزمان الربيع في الاعتدال، ونظمٍ أرق من الشمول والشمال؛ تاجر في العراق، وجاب الآفاق، وصحب التجر، وركب البحر، ودخل الهند وبلادها، وفوف بها من علومه أبرادها. قرأت في مجموع السيد الإمام فضل الله أبي الرضا الراوندي، أنشدني ابن طارق أبو علي الحسن الحلبي، أنشدني الفقيه سليمان بن الفياض لنفسه:
مُزَنَّرُ الخصرِ ثانِي العِطْف تياهُ ... المستعانُ على وَجْدِي به اللّهُ
علامَ يُسْخِنُ عيني وَهْوَ قُرَّتُها ... ويُسْكنُ الحُزْنَ قلبي وهو مأْوَاهُ
حدث محمد بن عيسى اليمني

أنه رآه باليمن وكان تاجراً وغرق في البحر، وقرأت فيما صنفه السمعاني أن سليمان بن الفياض تلميذ الحكيم أمية بن أبي الصلت المصري، وعليه قرأ من علومهم المهجورة، وله شعرٌ يدخل في الأذن، بغير إذن، ونثرٌ كالروض ضم إلى غدير، والمسك شيب بعبير، وذكر أنه كان بعزته سنة ست عشرة وخمسمائة قال: ومن شعر سليمان فيما ذكره صديقنا أبو العلاء محمد بن محمود النيسابوري رحمه الله.
باتت عليَّ مِنَ الأَراكِ تَنُوحُ ... تُخْفِي الصبابةَ مَرَّةً وَتَبُوحُ
قُمْرِيَّةٌ تَغْدُو تُحَاضِرُ بَثَّها ... وتُرِيحُ عازبةً أَوانَ تَرُوح
عجماءُ ما كادَتْ تُبينُ لسامعٍ ... ولها حديثٌ في الفُؤَادِ صحيح
عَجَباً لها تُبْكي الخليَّ وَجَفْنُهُ ... وهي السخيَّةُ بالدموع شَحِيحُ
أَمريضةَ الأَحْشَاءِ مِنْ فَرَقِ النوى ... مَهْلاً بِشَمْلِكِ إِنَّهُ لَصَحِيحُ
أَوَ ما رأيتِ تَجَلُّدِي وَأَنا الذي ... شَمْلِي على سَنَنِ الفراقِ طريح
تتقاذفُ الأيام بي فكأَنَّني ... لجسومِ أصحاب التناسخ روح
هذا البيت الأخير أحسن من الكل وما أظن أنه سبق إلى معناه. قال: وقال أبو الربيع سليمان في ابتداء قصيدةٍ يمدح بها القاضي الإمام علي البستي.
تَوَجَّعَتْ أَنْ رأَتْني ذاويَ الغُصُنِ ... وكم أَمَالَتْ صَبَا عَهْدِ الصِّبَا فَنَنِي
ماذا يَرِيبُكَ من نِضْوٍ جَنيبِ نَوًى ... لستَّةِ البين مطروحٍ على سَنَنِ
رمى به الغربُ عن قوس النوى عَرَضاً ... بالشرقِ أعنى على المَهْرِيَّةِ الهُجُنِ
أرضٌ سَحَبْتُ وأترابي تمائمنا ... طِفلاً وَجَرَّرْتُ فيها ناشئاً رَسَني
أَنَّى التفتُّ فكم روضٍ على نَهَرٍ ... أو استمعت فكم داعٍ على غُصُن
كم لي بظاهرِ ذاك الربعِ من فَرَحٍ ... ولي بباطنِ ذاك القاع من حَزَن
ولي بالأَّف هاتيك المنازل من ... إلف وسكان تلك الدار من سكن
ما اخترتُ قطُّ على عهدي بقربهمُ ... حظًّا ولا بِعْتُ يوماً منه بالزمن
قال: وقال سليمان يتقاضى مالاً على بعضهم وقد شمر ذيله للسفر:
فديتك زُمَّتْ للرحيل ركابي ... وَشُدَّتْ على حُدْب المطيّ عِيَابي
ولم تبق إلا وقفة لمودِّع ... فرأْيكَ في باقي يسيرِ حسابي
قال وكتب سليمان إلى القاضي أبي العلاء الغزنوي في رقعة من لوهور:
الغزنويون إخوانٌ لزائرهم ... ما دام منهم إزاءَ السمع والبصرِ
قال: ومن منثور كلامه ما كتب إلى بعض الفلاسفة بالهند يستأذنه في المصير إليه: ماذا عسى أن يصف من شوقه مشتاقٌ، يقدم قدماً ويؤخر أخرى، بين أمر أمير الشوق ونهي نهى الهيبة. فإن رأيت أن تبله من غلله وتبله من علله بالإذن له، فما أولاك به، وأحوجه إليك، والله المسئول في بلوغ المأمول بك ولك.

الشريف أبو الحسن الحسني الإسكندراني
أنشدني الفقيه أبو بكر بن أبي القاسم بن خلف التميمي الإسكندراني بمكة، حرسها الله تعالى، حذاء الكعبة المعظمة في أواخر ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة للشريف أبي الحسن الحسني الإسكندراني.
فإني شِبْهُ ظمآنٍ بِبيدٍ ... رَأَى الأنعامَ ظنَّ بها شرابا
فبدَّدَ ماءَه وأتى إليها ... فلما جاءَها وَجَدَ السرابا
القائد أبو طاهر إسماعيل بن محمد المعروف ب
ابن مكنسة
من شعراء مصر ورد علينا واسطاً من شيراز في سنة خمس وخمسين وخمسمائة رجل شريف من مصر، يقال له فخر العرب أحمد بن حيدرة الحسني الزيدي المدني الأصل المصري المولد، وكان رائضاً حسناً وله شعر قريب، فلما لم ينفق شعره عاد يروض الخيل، وكان يروض فرساً لي، ويحضر عندي، وسألته عن شعراء مصر ومن يروي شعره منهم، فذكر من جملتهم القائد ابن مكنسة. وذكر أنه كان شيخاً مسناً وهجره الأفضل لكونه رثى نصرانياً بقصيدة منها:
طُوِيتْ سماءُ المكرما ... تِ وكوِّرَتْ شمسُ المديحِ

فأبعده لأجل هذا البيت فكتب إلى الأفضل أبياتاً منها:
مثلي بمصرٍ وأنت مَلْكٌ ... يقالُ ذا شاعرٌ فقيرُ
عطاؤك الشمسُ ليس تخفى ... وإنما حظِّيَ الضريرُ
وأنشدني له في العذر عن العربدة من أبيات:
ركبتُ كميتَ الراح وهي جماحُهَا ... شديدٌ ومالي بالتَفَرُّس من خُبْرِ
وألقيتُ ما بين الندامى عِنانَها ... فجالتْ وأَلقَتْني على وَعِرِ السُّكْر
وإن بساطَ السكر يُطْوى كما جرى ... به الرسمُ فيما قيل بالسكر في العُذْر
قال: وكنت جالساً معه على دكان أبي عبد الله الكتبي بمصر فمر بنا غلام في ثوب أزرق، فقيل له: أنشدنا في هذا شيئاً، فقال بديهاًز
مرَّ بنا في ثوبهِ الأزرق ... كبدرِ تِمٍ لاح في المَشْرِقِ
لا بارك الرحمنُ فِيمَنْ رأى ... حُسْنَ عِذَارَيْه ولم يَعْشَقِ
قال: وله من أبيات:
رَقَّتْ معاقدُ خصرِهِ فكأنّها ... مُشْتَقَّةٌ من تِيهه وتَجَلُّدِي
وتَجَعَّدَتْ أَصداغُه فكأنها ... مسروقةٌ من خلقه المتجعدِ
وتأودت أعطافهُ والبانةُ السمراءُ ... لا تُرْدِيكَ دونَ تأَوُّد
ما باله يجفو وقد زَعَمَ الورى ... أنَّ النَّدَى يختصُّ بالوجهِ النَّدِي
لا تخدعنَّكَ وَجْنَةٌ محمرّةٌ ... رَقَّتْ ففي الياقوتِ طَبْعُ الجلمدِ
ووجدت هذه الأبيات في رسالة أبي الصلت الحكيم، ومن هذا المعنى أخذ أبو الحسين بن منير حيث يقول:
خُدَعُ الخدودِ تلوحُ تحت صفائها ... فحَذَارِها إنْ مُوِّهَت بحَيَائها
تلك الحبائلُ للنفوسِ وإنما ... قَطْعُ الصوارمِ تحت رَوْنَقِ مائها
وهذا أخذٌ مليحٌ خفيٌ.
ثم قرأت بعد ذلك في رسالة لأبي الصلت الحكيم يصف مصر قال: ومن شعرائها المشهورين أبو طاهر اسماعيل بن محمد المعروف بابن مكنسة وهو شاعرٌ مكثر التصرف، قليل التكلف، يفتن في نوعي جد القريض وهزله، وضاربٌ بسهمٍ في رقيقه وجزله، وكان في ريعان شبيبته وعنفوان حداثته يعشق غلاماً من أبناء عسكرية المصريين يدعى عز الدولة وهو الآن بمصر من رجال دولتها المعدودين وأكابرها المتقدمين، ولم يزل مقيماً على عشقه له وغرامه به إلى أن محا محاسنه الشعر، وغير معالمه الدهر، وكان في أيام أمير الجيوش بدر الجمالي منقطعاً إلى عامل من النصارى يعرف بأبي مليح وأكثر أشعاره فيه، فلما انتقل الأمر إلى الأفضل تعرض لامتداحه واستماحته، فلم يقبله ولم يقبل عليه، وكان سبب حرمانه ما سبق من مدائحه لأبي مليح ومراثيه ميتاً لاسيما قوله:
طُوِيَتْ سماءُ المكرما ... تِ وكُوِّرَتْ شمسُ المديحِ
من أبيات منها:
ماذا أُرَجِّي في حيا ... تي بعد موتِ أبي مَليحِ
ما كان بالنِّكْسِ الدّنيِّ ... من الرجالِ ولا الشحيحِ
كَفَرَ النصارى بعد ما ... عَقَدُوا به دينَ المسيح
وكفله عز الدولة بن فائق وقام بحاله إلى أن مات.
ومما أورده أبو الصلت من شعره وذكرته بلفظه، قال أبو الطاهر بن مكنسة من قصيدة:
أَعاذِلُ ما هَبَّتْ رياحُ مَلامةٍ ... بنار هوًى إلاّ وزادتْ تضرُّما
فكِلْني إلى عينٍ إذا جفَّ ماؤها ... رأَتْ من حقوقِ الحُبِّ أنْ تَذْرِفَ الدما
فكم عبرةٍ أَعْطَتْ غرامي زِمامَها ... عَشِيَّةَ أَعْمَلْنَ المطيَّ المُزَمَّمَا
وعينٍ حماها أن يُلِمَّ بها الكرى ... أَحاديثُ أيامٍ تقضَّيْنَ بالحمى
فللهِ قلبٌ قارَعَتْهُ هُمُومُهُ ... فلم يَبْقَ حَدٌّ منه إلاَّ تَثَلَّما
وله من قصيدة:
وعسكريٍ أبداً حيثما ... تلقاهُ يلقاك بكلِّ السلاحْ
حاجبُهُ قَوْسٌ وأَجفانُهُ ... نَبْلٌ وعطفاه تَثَنِّي الرماحْ
رَاحَ وَفِعْلُ الراح فيه كما ... يَفْعلُ بالغصنِ نسيمُ الرياح
أغار في هذا البيت على خالد الكاتب في قوله:

رَأَتْ منه عيني منظرين كما رأَتْ ... من الشمس والبدرِ المنير على الأَرْضِ
عشيَّةَ حيّاني بوردٍ كأَنّهُ ... خدودٌ أضيفَتْ بعضُهُنَّ إلى بعض
وناولني كأساً كأن مِزَأجَهَا ... دُمُوعِيَ لما صدَّ عن مقلتي غُمْضي
وراحَ وفعل الراحِ في حركاته ... كفعلِ نسيمِ الريح في الغُصُنِ الغَضِّ
وله في غلام مريض:
وقالوا براه السُّقْمُ فاعتلَّ جسمُهُ ... عساه يَرَى في الصبر عن حِبِّه عُذْرا
إذا كنتُ أَهْوَى خَصْرَهُ لنحوله ... أَاَسْلُوه لمَّا صار أَجْمَعُهُ خَصْرا
ولأبي طاهر في ورقٍ كاغدٍ أهدي إليه:
أَهْدَيْتَ لي ورقاً أَرَقَّ ... من الشراب المُسْتَحيلِ
خَلَقاً تُمَزِّقُهُ الخطو ... طُ كأَنَّه عِرْضُ البخيلِ
لا بالصبيغِ ولا الصَّقيلِ ... ولا العريضِ ولا الطويلِ
إلا بياضاً خِلْتُهُ ... وَضَحَاً على جسمٍ نَحِيلِ
وقال أبو طاهر:
قلتُ إذ عَقْرَبَ الدلا ... لُ على خَدِّه الشَّعَرْ
هذه آيةٌ بها ... ظَهَرَ الحُسْنُ واشتهر
ما رُئِي قطُّ قبلَ ذا ... عقربٌ حَلَّتِ القمر
هذا معنى مليح ولكنه سرقه من بيتين أنشدهما رجل للإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله:
حَلَّتْ عقاربُ صدغه في خدِّهِ ... قمراً يَجِلُّ به عن التشبيهِ
ولقد عهدناهُ يَحُلُّ ببرجها ... فمن العجائب كيف حَلَّتْ فيه
وله، نقلت من جنان الجنان لابن الزبير:
مالي وهذا البدرُ عندي ليلُهُ ... الدَّاجِي الطويلُ وعندَكُمْ أَقْمَارُهُ
يَثْنِي اللثامَ على مراشِفِهِ التي ... حُظِرَتْ عليَّ وعندكم إِسْفَارُهُ
وله
يا من صفا ماءُ النعيم بوجهه ... كم عيشةٍ كَدَّرْتَهَا بِصَفَائِهِ
وزجاجةٍ قَابَلْتَها فتبسَّمَتْ ... عن ثَغْرِهِ وَرُضَابِهِ وسَنَائِهِ
مُزِجَتْ فلانت مِثْلَما مُزِجَتْ بها ... أَخْلاقُهُ فأَطاعَ بعد إِبائه
ما زلتُ أرْشُفُهَا وَيَغْضَبُ ريقُهُ ... لمَّا جَعَلْتُ الخمرَ مِنْ نُظَرَائِهِ
وله
بنفسي خيالٌ زارَ وهو قريبُ ... أَحَقًّا عليه في المنام رقيبُ
سرى وغديرُ الليل طامٍ جمامُهُ ... وللشُّهْبِ فيه طَفْوَةٌ ورسوبُ
وقد أعجلته للصباح التفاتَةٌ ... فلم تكُ إلاَّ خفقةٌ وهبوب
ولولاكمُ لَمْ أَرْضَ أَنْ تَسْتَقِرَّ بي ... زخارِفُ حلمٍ صِدْقُهُنَّ كذوب
وكم أنَّةٍ أيقظتمُ نَفَسِي بها ... لها بين أَحْنَاءِ الضلوع نُدُوب
تَجَاوَر فيها بين هامٍ وجاحمٍ ... لعيني وقلبي جَدَوَلٌ ولهيب
ومنها:
أَمَسَّتْكُمُ ريحُ الصَّبا إِنَّ نَشْرَهَا ... إِذا هبَّ من تلقائكم لَيَطِيبُ
وَيَشِفِي غليلي أَنْ تَمُرَّ مريضةً ... وَبَرْدُ غليلٍ بالعليلِ عجيب
وله
لم أَرَ قَبْلَ شَعْرِهِ وَوَجْهِهِ ... ليلاً على ضَوْءِ الصباحِ عَسْعَسَا
والسكرُ في وَجْنَتِهِ وَطَرْفِهِ ... يَفْتَحُ وَرْداً وَيَغُضُّ نَرْجِساً
وله
أقولُ وَمَجْرَى النيلِ بيني وبينكم ... ونارُ الأَسَى مشبوبةٌ بضلوعي
تُرَاكمْ علمتمْ أَنَّني لو بَكَيْتُكُمْ ... على النيل لاستغرقْتُهُ بدموعي
وله
مَدَى صَبْرِي وَإنْ وَصَلُوا قصيرُ ... وَأَنْجُمُ ليلِ شوقي ما تَغُورُ
وفي أَسْرِ الغرام إذا استَقَلُّوا ... فؤادٌ كيفما ساروا يَسيرُ
غزالُ الرَّمْلِ سالفة وعياً ... ولكنْ لَحْظُهُ أَسَدٌ هَصُورُ
وهل سودُ العيونِ سوى أُسودٍ ... تَأَمَّلْ كيفَ يَفْتَرِسُ الفُتُورُ
وقفنا والهواجدُ مُشْمِسَاتٌ ... وفي الأحشاء بالهَجْرِ الهجيرُ

كأَنَّ لكلِّ كُورٍ في فؤادي ... إِذا أَذكى لَظَى الأشواقِ كِير
ومنها:
وأَغْيَدَ ما لوجنَتِهِ وفيه ... ولا ما في زجاجَتِهِ نظيرُ
سقى فأدارَ من عينيه أُخْرَى ... لأَمْرِ ما تَنَوَّعَتِ الخُمُورُ
وله
قل لأَيَّامِنَا التي قَدْ تَقَضَّتْ ... بالغَضَا هل لنا إِليكِ سَبيلُ
أَتُرَى البان في رياضك ينآ ... دُ إِذا مَسَّهُ النسيمُ العليلُ
أم ترى الشادن الغرير له ب ... ين كثِيبَيْك مَسْرَحٌ وَمَقِيل
سَلْ بِوَعْسائِهَا الخمائلَ تُجْلَى ... أشَمالٌ تَمَسُّها أَمْ شَمُولُ
إن يكن عَنْكَ عَزَّ صَبْرٌ فصبراً ... إن عُمْرَ البكاءِ فيك طويل
وإذا بانَ عَنْكَ من كنتَ تهوا ... هُ فغيرُ الجميل صبرٌ جميل
وله من قطعة:
مَنْ سُكْرُهُ بين رُضابٍ وراحْ ... فكيف يا صاحِ يُرى ذاك صاحْ
ومنها:
أَغَنُّ مجدولٌ هَضيمُ الحَشَا ... مُرْتَدِفُ الأَرْدَاف نِضْوُ الوشاحْ
في لحظهِ سِحْرٌ وفي خَدِّه ... وَرْدٌ وفي فيه أَقَاحٌ وراحْ
راحَ وفِعْلُ الراحِ فيه كما ... يَفْعَلُ بالغُصْنِ نَسيمُ الرياح
وكيف يُرْجَى لي صلاحٌ وقد ... بُليتُ يا صاحِ بحبِّ الملاحْ
شققتُ ثَوْبَ الصبرِ مِن بَعْدِه ... فليعذلِ العاذلُ وَلْيَلْحَ لاح
وله
كم ليلةٍ نادمتُ في ظلمائها ... بدراً وشمسُ الكأْسِ مَطْلَعُ زندِهِ
مشمولةٌ يا ليت رِقَّةَ طبعها ... في قلبه وصفاءَها في وُدِّه
فكأنها من ريقه وَحَبَابَها ... من ثغرِهِ، وشُعَاعَها من خدِّه
وله
ظَلَّتْ مِظَلَّتُهُمْ مثلَ الفراشةِ والبيضُ ... اللوامعُ في أيْديِكمُ لَهَبُ
جَاءُوا بها هالةً لم يستتر قمرٌ ... فيها ودائرةً ما حَلَّها قُطُبُ
لم تَبْدُ إلا وبيضُ الهندِ عائدةٌ ... إليك وهي على أَطْرَافها سَلَبُ
ومنها:
خَفَّ الحديدُ على جسمٍ تعوّدَ أَنْ ... يَجْفُو على منكبيه اللاَّذُ والقَصَبُ
وله
مَلْكٌ بكفيه وأَسْيَافِهِ ... تُقْسَمُ آجالٌ وأرْزَاقُ
ذلَّتْ لنعماك نفوسٌ كما ... ذَلَّتْ لأَسْيافِكَ أَعْنَاقُ
وله يمدح أحد أخوين ويعرض بالآخر:
همُ خَبَثُ الحديد وأَنْتَ مما ... يُصَفَّى جوهرُ السيفِ اليماني
وإن أَوْرَى زنادكمُ شراراً ... فبين النارِ بَوْنٌ والدُّخَانِ
وإن جَمَعَتْ أنابيباً قناةٌ ... فأين الكعبُ من رأْسِ السنان
وله في المدح:
قل للغمام تُبَارى فَيْضَ راحتِهِ ... وأنت في كلِّ وقتٍ غيرُ منهمرِ
وأين برقُكَ من إيماض صارِمِهِ ... وأين سَيْبُكَ من جَدْوَأه بالبِدَر
يلقاك مبتهجاً والغيثُ في يده ... يَهْمِي فيجمعُ بين الشمس والمطر
وله في جواب كتاب:
نَشَرْتُ كتابك عند الورودِ ... فناهيكَ من جَوْهَرٍ مُلْتَقَطْ
ولم أَرَ من قبله رَوْضَةً ... من الحظِّ مَطْلُولةً بالنُّقَطْ
وله أيضاً جواب كتاب:
أهلاً بها جنةً أَهْدَ ثمارَ نُهى ... وعرَّس الطَّرْفُ فيها أَيَّ تعريسِ
ما دار في خَلَدِي لولا كتابكُمُ ... أَنَّ البساتينَ تُهْدَى في القراطيس
وله يصف قبح منزله وضيقه:
ليَ بَيْتٌ كأَنَّهُ بيتُ شِعْرٍ ... لابن حجَّاجَ من قصيدٍ سخيفٍ
ضايقتني بناتُ ورْدان حتى ... أنا فيه كفارةٍ في كنيف
أين للعنكبوتِ بَيْتٌ ضعيفٌ ... مثله وهو مثلُ عقلي الضعيف
وإذا هبَّ فيه ريحُ السراويلِ ... فَسَلِّمْ على اللِّحَى والأنوف
بُقْعَةٌ صَدَّ مطلعُ الشمس عنها ... فأنا مُذْ سَكَنْتُهَا في الكسوف

وهْو لو كان بين حجِّي وَنُسْكِي ... صدَّ في بغضهِ عن التَّطْوِيف
أنت وسَّعْتَ بيتَ مالي فَوَسِّعْ ... منزلي فهو منزلٌ للضيوف
وَأَجِرْني من الضنا واجْرِني منك ... على حسن خُلْقِكَ المأْلُوفِ
وله يعتذر عن عثرة جرت منه في سكرة:
إِذا ضاقُ عن دنيا الفتى سعةُ العُذْرِ ... فبالسيفِ عَاقِبْ فهو أَيْسَرُ مِنْ هَجْرِ
ركبتُ كُمَيْتَ الرَّاح وهْي جِمَاحُهَا ... شديدٌ ومالي بالتَّفَرُّسِ مِنْ خُبْرِ
وأرسلتُ ما بين الندامى عِنَانَها ... فجالتْ وأَلْقَتنِي على وَعِرِ السكر
فإن جدتَ بالصفح الذي أنْتَ أَهْلُهُ ... تدارك ذاك الكسر منِّيَ بالجبر
وإلا فإني غيرُ باقٍ بغُلَّةٍ ... أَضُمُّ لها عُوجَ الضلوع على الجمر
وما ضاقت الدنيا على مُتَغَرِّبٍ ... تَحمَّلَ ثقلاً أن ترحَّلَ عن مصر
وإن كنتُ قد أَذَنَبْتُ ثم غَفَرْتَ لي ... فذاك على مقدار قَدْرِكَ لا قَدْرِي
وله في رمد طال بغير أمد:
ما لنهاري كأَنَّهُ الغَسَقُ ... وما لليلي ما شَقَّهُ الفَلَقُ
وما لعيني أَرَى بها عَجَباً ... تَغْرَقُ في مائها وتحترق
ولي طبيبٌ تشكو مراوِدَهُ ... وتستغيثُ الجفونُ والحدق
شِيافُهُ تطرد الشفاءَ إِذا ... مرَّ بعيني وَكحْلُهُ الأرق
وإنْ تمادى عليَّ زرتكمُ ... وقائداي العِصِيُّ والحَلَقُ
لم يَبْقَ من صيغَةِ المدام سوى ... جفونِ عَيْنٍ كأنها الشَّفَقُ
وبي من الدَّاءِ ما حكايته ... لا بدَّ منها وتركها خُرُقُ
طَبْعي ووجهُ البخيل في قَرَنٍ ... هذا وهذاك ليس ينطلق
يا عيْنُ حَتَّامَ أَنْتِ باكيةٌ ... قد نَفَذَ العيْنُ فيك والوَرِقُ
وله في صفة روضة:
ذاتُ غديرٍ خِلْتُهُ ... صَرْحَ زُجَاج مُرِّدا
ثم انثنى مُنْعَطِفاً ... مرتعشاً مُرَدَّدا
خافَ من الريح وقد ... هَبَّت به فارْتَعَدا
كأنما يد الصَّبَا ... مَدَّت عليه زَرَدَا
ومنها:
واحسرتا حتى متى ... أُنْهِضُ حَظًّا مُقْعَدا
وله في المديح:
ولم يُرَ كالمدائح فيه تَسْرِي ... خفافاً تَحمِلُ المِنَنَ الثِّقَالاَ
ونُنْشِدُهُ مدائحَهُ اقتضاباً ... فيعطينا مَنائحَهُ ارْتِجالاَ
وقال أبو الطاهر من قصيدة، وقد عزم عيه بعض الأمراء في المسير معه إلى الشام لقتال الغز، أولها:
غيرُ عاسٍ عليكِ تقويمُ عودي ... فانُقضي من ملامتي أو فزِيدي
قلْ لمولاي إذ دعاني لأمرٍ ... قُمْتُ فيه له مقامَ العبيد
ضَعُفَت حيلتي وقلَّ غَنائي ... وَدَنَتْ غايتي وَرَثَّ جَديدي
أنا ما لي وللشآم وإني ... لأَرى نارَ حَرْبِها في وَقُودِ
بَلَدٌ جِنُّهُ عَفَارِيَةُ الْغُزِّ ... وأرضٌ وحوشُها من أُسُودِ
والجِفارُ التي تقول إذا ما ... قيلَ هلا امتلأَتِ هَلْ من مزيد
وكأنْ بي على بعيرٍ تراني ... آخرَ الناس في لفيفِ الحُشُود
أَسْوَدَ الوجه ناظراً في أُمُورٍ ... معضلاتٍ من الحوادث سُود
وإذا قيلَ في غدٍ يلتقي النا ... سُ فلا تنسَ فهْو بيتُ القصيد
حين لا ناظري تراهُ ححديداً ... حين يبدو له بريقُ الحديد
حين لا يُتَّقَى لساني ولا ... يَثْنِي زمامَ البعيرِ عنِّي نشيدي
إنّ رأْيِي إذا تَسَدَّدَ نحوي ... سهمُ رامٍ لَغَيْرُ رَأْيٍ سديدِ
وإِذا ما قُتِلْتُ كنت خليقاً ... بدخولي جَهَنَّماً في خلودِ
فأقِلْني عثارها وابْق للحمد ... وكَبْتِ العِدَا وغَيْظِ الحَسُود

وقال من قصيدة في طريقة أبي الرقعمق:
أنا الذي حَدَّثَكُمْ ... عنه أبو الشَّمَقْمَقِ
وقالَ عنِّي إنني ... كنتُ نَدِيم المُتَّقِي
وكنتُ كنت كنت كنتُ ... من رُمَاةِ البُنْدُقِ
حتى متى أبقى كذا ... تَيْساً طويلَ العُنُق
بِلِحْيَةٍ مُسْبَلَةٍ ... وشاربٍ مُحَلَّق
يا ليتها قد حُلِقَتْ ... من وجه شيخٍ خَلَقِ
وقال من أخرى:
عشتُ خمسين بل تزيدُ ... رقيعاً كما ترى
أحسبُ المُقْلَ بُنْدُقَا ... وكذا الملحَ سُكَّرَا
وأظنُّ الطويل من كُلِّ ... شيءٍ مُدَوَّرَا
قد كَبِرْ بِرْ بِبِرْ بِبِرْ ... تُ وعقلي إِلى وَرَا
عجباً كيف كلّ شيءٍ ... أَرَاهُ تَغَيَّرَا
لا أرى البَيْضَ صار يُؤْ ... كَلُ إِلاّ مُقَشَّرَا
وإذا دُقَّ بالحجا ... رِ زُجَاجٌ تَكَسَّرَا
وكتب إلى أبي الصلت حين عاد من المهدية:
وما طائرٌ قَصَّ الزمان جناحه ... وأَعْدَمَهُ وكْراً وأَفْقَدَهُ إِلْفَا
تذكَّرَ فَرْخاً بين أَفْنَانِ بانةٍ ... خوافِي الخوافي ما يَطِرْنَ به ضعفا
إذا التحف الظلماءَ ناجى همومَهُ ... بترجيع نَوْحٍ كاد من دِقَّةٍ يَخْفَى
بأشفقَ مني مُذْ أطاعت بك النَّوَى ... هوائيةٌ مائيةٌ تسبق الطَّرْفَا
تولَّتْ وفيها منك ما لو أَقِيسُهُ ... بما هي فيه كان في فَضْلِهِ أَوْفَى

عبد العزيز بن فادي
شيخ من مصر له نظم مقارب. أنشدني له في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة بدمشق بعض المصريين وذكر أنه يعيش:
يا شادناً بالحُسْنِ حالِ ... سَلْ بَعْدَ بُعْدِكَ كيفَ حالي
خَلَّفْتَني نَهْبَ السّقا ... مِ أَعُدُّ أَنْفَاسَ الليالي
خالٍ من الصبرِ الجميلِ ... وَرَبْعُ سُقْمِي غيرُ خالِ
أَرْعَى نجومَ الأُفْقِ وَهْيَ ... إِلى الزَّوالِ بلا زوال
ومُعَرْبِدُ الألحاظِ صا ... حي الوعدِ سكران المِطَال
يرنو بأجفانٍ كأنّ ... لحاظَها رَشْقُ النِّبَال
أَيّامَ كان الرشدُ عندي ... أنْ أقيمَ على الضلال
سألت القاضي الفاضل عنه فقال ما هو من المعدودين، فقلت له هذا شعره، وأنشدته الذي فيه: صاحي الوعد سكران المطال. فقال هذه غاية، وعهدي به لا يصل إليها.
أبو الحسن العسكري المصري
ذكره السمعاني في تاريخه قال أنشدني أبو بكر محمد بن عثمان الدينوري أنشدني خراداذ المعري إملاءً بدمشق أنشدني أبو الحسن المصري العسكري:
رفقاً هديت وسِرْ على مَهَلٍ ... كلُّ الجمالِ عليك يا جَمَلُ
فلو انَّ ناقة صالحٍ حَملت ... ما قد حَمَلْتَ لفاتَها الأَجَلُ
وعليك أَن لا تشتكي كَللاً ... ما دام فَوْقَكَ هذه الكِلَلُ
أبو المسك كافور بن عبد الله الليثي الحبشي الخصي المعروف ب
الصوري
وقيل أبو الحسن كان مصري المنشأ، ومن مواليهم، سكن صور فنسب إليها. رحل عنها، وقطع سكناه منها، وطاف البلدان، ودخل بلاد خراسان، وأقام ببست مدةً من الدهر، ووصل إلى غزنة وما وراء النهر. وكان يحفظ كثيراً من الملح والنوادر، ويزف إليك ما شئت من بنات الخواطر. عارفٌ باللغة معرفةً صحيحة، ناظمٌ في القريض كلمات فصيحة، فاضل أديب، عارفٌ أريب. عاد إلى بغداد وأقام بها إلى أن أدركه صرف المنية، وذلك في رجب سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، ذكره السمعاني في تاريخه حسبما ذكرناه، وقال: قرأت بخط أبي الحسن عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في سياق تاريخ نيسابور: أنشدنا كافور بن عبد الله لنفسه، كتب بها إلى الرئيس محمد بن منصور البيهقي:
هل من قِرًى يا أبا سَعْدِ بنِ منصورِ ... لخادمٍ قادمٍ وافاك من صُورِ
شِعارُهُ إنْ دَنَتْ دارٌ وإن بَعُدَتْ ... اللّهُ يُبْقي أَبا سَعْدِ بن منصور

وقال: أنشدني أبو القاسم علي بن الحسن الشافعي بدمشق أنشدني أبو المسك كافور لنفسه:
باء بخاري أبداً زائدهْ ... والأَلِفُ الأُخْرَى بلا فائدهْ
فهي خرا بَحْتٌ وسكَّانها ... آبدةٌ ما مثلها آبده
وقال قرأت في كتاب سر السرور لصديقنا أبي العلاء محمد بن محمود النيسابوري قاضي غزنة لكافور، هذا:
هل من لواعجِ هذا البَيْنِ من جارِ ... لمستهامٍ عميدٍ دَمْعُهُ جارِ
أَم هل على فَتَكاتِ الشوقِ من عَضُدٍ ... يُجِيرُني من يدِ الضرغامةِ الضَّارِي
فيضُ الدموعِ ونيرانُ الضلوعِ معاً ... يا قومُ كيف اجتماعُ الماءِ والنارِ
وأنشد له:
راحَ الفراقُ بما لا أَرْتَضِي وَغَدا ... وجارَ حُكْمُ الهوى فيما قَضَى وَعَدا
فارقْتُكم فُرْقَة لا عُدْتُ أّذكُرُها ... فإِن رجعتُ فلا فارقتكمْ أَبَدا
هذا كافور أبو المسك، كلامه أطيب رائحة من المسك، خصيٌّ خص بما لم يخص به الفحول، خادمٌ خدمته لفضله الألباب والعقول: نظمه تبر المحك، وإبريز السبك، أوتي المعرفة، حتى نسج البرود المفوفة، وأنشأ الحدائق المزخرفة، ونظم اللآلىء المفوفة.

أبو الفرج الموففي
أحد كتاب مصر، من الطبقة الأولى. له في ناعورة:
ناعورةٌ تَحْسِبُ في صَوْتِهَا ... مُتَيَّماً يَشْكُو إِلى زائرِ
كأنَّما كِيزَانُهَا عُصْبَةٌ ... صِيبُوا بِرَيْبِ الزَّمَنِ الوافر
قد مُنِعُوا أن يَلْتَقُوا فاغْتَدَا ... أَوَّلُهُمْ يَبْكي على الآخِر
قمر الدولة
أبو طاهر جعفر بن رواس المصري
كان عمره بالعراق قمرٌ قمر القلوب بظرافته، وسلب العقول بلطافته، نديمٌ عديم النظير في فنونه، ظريف طريف الصنعة في مجونه، اجتمعت فيه أسباب المنادمة، وكان يقرع أبواب المسالمة، يضرب بالعود وأين إسحاق وإبراهيم، فكلاهما لو كان في عصره كاد به يهيم، ويغني ولا مثله غناء معبد والغريض، فلو رأياه لعثرا في ميدانه الطويل العريض، ويلعب بالشطرنج وأين اللجلاج، لو عاش لقتله منه الغيظ واللجاج، كان نديم قسيم الدولة سنقر البرسقي، كل يوم لقبوله عنده يرتفع ويرتقي. وهو ينظم أبياتاً مطبوعة، وينثر كلماتٍ مسجوعة، وهو صاحب نوادر ومضاحك، ولسانٌ كحد السيف باتك، يلعب ويطرب، ويشعر ويكتب، ويغني بالعود ويضرب، ويسقي ويشرب، وإن لعب بالشطرنج فاق، أو بالنرد راق، أو غنى شاق، أو ضرب بالبربط انشرح القلب الذي ضاق.
أنشدني أبو الفتح نصر الله بن أبي الفضل الخازن ببغداد: أنشدني قمر الدولة ابن دواس لنفسه في ابن أفلح الشاعر، وكان ابن أفلح أسود مشوه الخلقة:
هذا ابنُ أَفْلَحَ كاتبٌ ... مُتَفَرِّدٌ بصفاتِهِ
أَقْلاَمُهُ من غَيْرِهِ ... ودواتُهُ من ذاته
وأنشدني له فيه:
أبا قاسمٍ وَيْكَ دَعْ ذا الفَعَالَ ... هذا التكبُّرُ لا يَصْلُحُ
أتزعمُ أَنَّكَ من أَفْلَحٍ ... فَهَبْكَ صَدَقْتَ فمن أَفْلَحُ
وأنشدني له فيه:
يا ذا الذي أُقْطِعَ هَجْوَ الوَرَى ... كأنما أُعْطِي به رُوزَا
إن كان إقطاعُكَ ذا صادقاً ... فاهجُ لنا الخادمَ بَهْرُوزَا
وأنشدني له أيضاً:
أراني اللّه نعمته سريعاً ... تزولُ وَعَيْشُهُ عَنْهُ يُوَلِّي
وما مِنْ بُغْضِهِ أَدْعُو عليه ... ولكنْ أَشْتَهِيهِ يكونُ مِثْلي
وقال أبو المعالي الكتبي: أنشدني ابن أفلح الشاعر له:
لما رأيتُ المشيبَ في الشَّعَرِ الأسْوَدِ ... قد لاحَ صِحْتُ واحَزَنِي
هذا وحقِّ الإلهِ أَحْسَبُهُ ... أَوَّلَ خَيْطٍ سُدِّى مِنَ الكَفَنِ
وزارني للهناء بشهر رمضان من سنة أربع وخمسين وخمسمائة في واسط الفقيه رضي الدين أبو العلاء محمد بن السوقي، وقال: حكى لي اليوم والدي شيخ الإسلام أبو جعفر أنه حضر قمر الدولة مجلس مؤتمن الدولة ابن صدقة، وكان ناظرَ الخواص وغيرها بواسط، والناس يهنئونه بشهر رمضان، فقال قمر الدولة:

لا أُهَنِّي بالصيامِ لأَنِّي ... واثقٌ بالهناءِ يَوْمَ العيدِ
بل أُهَنِّي بالأَكْلِ والشرب والزَّفْنِ ... وصوتِ الغِنا وَجَسِّ العود
لا بصومٍ يُجَفَفُ الكِبْدَ حتى ... يَجْعَلَ العُودَ وهْو مثلُ العودِ
وله، أنشدني نصر الله بن الخازن:
أَرَانِيَ والمولى الذي أَنَا عَمْدُهُ ... طَرِيفَين في أَمْرٍ له طَرَفَانِ
قريبٌ تراني منه أَبْعَدَ ما ترى ... كأَنِّيَ يومُ العيدِ مِنْ رَمَضَانِ
وله
فغدوتَ كالبطيخ لا حُلْواً بل ال ... تشبيهُ يحكي قائماً أو قاعدا
لا يَحْمَدُ الوصَّافُ من أَوْصَافِهِ ... ما لم يكن خَشِنَاً ثقيلاً باردا
وأنشدني له أيضاً:
أَنَا مِمَّن إِذا أَتَى ... صاحبُ الدار للْكِرَا
تتجافَى جُنُبُهُمْ ... كلَّ وَقْتٍ عن الكَرَى
وأنشدني له أيضاً:
لا يظنَّ العدوُّ أنَّ انحنائي ... كِبَرٌ عندما عَدِمْتُ شبابي
ضاع مني أعزَّ ما كان مني ... فأنا ناظرٌ له في التراب
وذكر أنه سمع منه جميع هذه الأبيات. وسألته عن موته فقال كان يعيش في أيام البرسقي وهي سنة ثماني عشرة وخمسمائة، وعاش بعد ذلك سنين كثيرة.

حسناء المصرية
من الطبقة الأولى، مغنية عن الملاهي مغنية، وغانية بالحسن غنية، ولدت باليمن وتربت بالحجاز، وتعلمت ببغداد الغناء، وانخرطت في سلك قيان الملوك، ولها شعر به للشعراء تعارض، ولأهل القريض تقارض، ومن قيلها:
سلامٌ على من ليس يَدْرِي بأَنَّهُ ... هواي من الدنيا وقاصيةُ المُنَى
كتبتُ إليكم خاطباً لرضاكُمُ ... فردُّوا جواباً بالنجاح مُعَنْوَنَا
ومن النساء أيضاً ابنتها بدمشق.
تقية الصورية
من أهل الإسكندرية هي الأديبة أم علي تقية ابنة غيث بن علي بن عبد السلام الأرمنازي الصوري، مولدها صور، وهي من أهل الإسكندرية.
أتحفني القاضي أبو القاسم حمزة بن القاضي علي بن عثمان المخزومي المغربي المصري، وقد وفد إلى دمشق في شعبان سنة إحدى وسبعين بكراسة فيها شعر تقية بنت غيث، قد سمعه منها، وخطها عليه بسماعه منها، بتاريخ محرم سنة تسع وستين وخمسمائة بالإسكندرية، وأنشدني ذلك رواية عنها، فمن قولها:
أعوامُنَا قد أَشْرَقَتْ أَيَّامُهَا ... وعلاَ على ظَهْرِ السِّماكِ خيامُهَا
والروضُ مُبْتَسِمٌ بِنَوْرِ أَقاحِهِ ... لما بكى فَرَحاً عليه غَمَامُهَا
والنَّرْجِسُ الغضُّ الذي أَحْدَاقُهُ ... تَرْنُو لِتَفْهَمَ ما يقولُ خُزَامها
والوردُ يحكي وجنةً محمَرَّةً ... انحلَّ من فَرْطِ الحياءِ لِثامها
وأهدت إلى بعض الأفاضل توتا، فكتب إليها.
وَتُوتٍ أَتَانا ماؤُهُ في احمرارِهِ ... كَدَمْعِي على الأَحباب حين تَرَحَّلُوا
هدية من فافَتْ جمالاً وفطنةً ... وأبهى من البَدْرِ المنيرِ وأَجْمَلُ
فلا عَدِمَتْ نفسي تَفَضُّلَها الذي ... يُقَصِّر وَصْفِي عن مَدَاه وَيَعْدِل
فكتبت إليه تقية:
أتاني مديحٌ يُخْجِلُ الطَرْفَ حُسْنُهُ ... كمثل بهيِّ الدرِّ في طيِّ قِرْطسِ
ولها وقد أعارت ابن حريز دفتراً، فحبسه عنده أشهراً:
قل لذوي العلم وأهلِ النهى ... وَيْحَكُمُ لا تَبْذُلُوا دفترا
فإن تُعيروهُ لذي فطنةٍ ... لا بدَّ أَنْ يَحْبِسَه أَشْهُرَا
وإِنْ تَعُودُوا بَعْدَ نُصْحِي لكمْ ... تخالفوني فالبراءَ البَرا
ولها من قصيدة:
خانَ أَخِلاَّئِي وما خُنْتُهُمْ ... وأَبْرَزُوا للشرِّ وجهاً صَفِيقْ
وكُدِّرَ الودُّ القديمُ الذي ... قد كان قِدْماً صافياً كالرحيق
وباعدوني بعد قُرْبي لَهُمْ ... وَحَمَّلُوا قلبيَ ما لا أُطِيقْ
ولها من قصيدة:
هاجَتْ وساوسُ شوقي نَحْوَ أَوْطَانِي ... وبان عَنِّي اصطِبَاري بعد سُلْواني

وبتُّ أَرْعَى السُّهَا والليلُ مُعْتَكِرٌ ... والدمعُ مُنْسَجِمٌ من سُحْبِ أَجْفَني
وعاتَبَتْ مُقْلَتِي طيفاً أَلَمَّ بها ... أَهكَذَا فِعْلُ خِلاّنٍ بخلاّنِ
نأَيْتُ عنكم وفي الأحشاءِ جَمْرُ لَظىً ... وسُقْمُ جِسْمي لِمَا أَهْوَاهُ عُنْواني
إذا تذكرتُ أيّاماً لنا سَلَفَتْ ... أَعانَ دمعي على تَغْريق نسياني
وكتب بعض الأفاضل إليها، وقد مدحت نفسي:
وما شَرَفٌ أن يَمْدَحَ المرءُ نفسَه ... ولكنّ أفعالاً تُذَمُّ وتُمْدَحُ
وما كلَّ حينٍ يَصْدُقُ المرءَ قَلْبُهُ ... ولا كلُّ أصحابِ التجارةِ تَرْبَحُ
ولا كلُّ من ترجو لغيبِكَ حافظٌ ... ولا كلُّ من ضمَّ الوديعةَ يَصْلُحُ
فكتبت إليه:
تعيبُ على الإنسان إظهارَ عِلْمِه ... أَبا لِجدِّ هذا منك أمْ أنْتَ تَمْزَحُ
فَدَتْكَ حياتي قد تقَدَّمَ قبلنا ... إلى مَدْحهِم قومٌ وقالوا فأَفْصَحوا
وللمتنبي أحرُفٌ في مديحهِ ... على نَفْسِهِ بالحقِّ والحقُّ أَوْضَحُ
أَرُوني فتاةً في زماني تَفُوقُني ... وتَعْلُو على عِلْمي وتَهْجُو وتَمْدَ؛ُ

عبد المحسن الإسكندري المعروف ب
ابن الرقيق
ذكره الفقيه أبو الفتح نصر الفزاري وقال: هو كثير الهجو، بذيء اللسان، وله شعر جيد، عارف بصناعة الطب والهندسة.
قال: أنشدني أبو الفتح نصر المصري، قال: أنشدني عبد المحسن لنفسه في ابن عبد القوي:
قُلْ لابْنِ عَبْدِ القَوِيِّ يا خَرِفُ ... علامَ ذا التِّيهُ منك والصَّلَفُ
لا يَغْرُرَنْكَ الثيابُ أَبْيَضُها ... فإنما منك تَحْتَها جِيَفُ
فالدُّرُّ مُسْتَوْدَعٌ حَشَا صَدَفٍ ... وأنت درٌّ في جَوْفِهِ صَدَفُ
وله في ابني كامل:
لا بدّ لابْنَيْ كاملٍ من نَكْبَةٍ ... يَزِنانِ فيها كلَّ ما ادّخراهُ
فالكلبُ يَفْرَحُ بالذي هو آكِلٌ ... ويَضِيقُ ذرعاً بالذي يخراه
وله في أعور:
لنصرَ خُبْرٌ يُحَقِّقُ الخَبَرَا ... فَهْوَ على حالتَيْهِ ذَقْنُ خرا
وأَعْوَرُ العينِ قُبْحُ مَنْظَرِهِ ... أَثَّرَ في عَيْنِ دَهْرِنَا عَوَرا
ما كنت أَدْرِي قُبَيْلَ أَنْظُرُهُ ... أنّ المسيخَ الدجّال قد ظهرا
من قال إنّ الإله خالِقُهُ ... فإنه بالإله قد كَفَرَا
وله
يا يهودَ الزمانِ أَنتُمْ حميرٌ ... وتيوسٌ بكمْ تُقَاسُ التيوسُ
حين أَضْحى شَمْوِيلُ فيكمْ رئيساً ... وبقدرِ المَرْءُوسِ يَأْتي الرئيسُ
هوَ ثَوْرٌ وربُّهُ كان عِجْلاً ... من قديمٍ وصِهْرُهُ جامُوس
ابن سلمان القرشي
من أهل الإسكندرية هو أبو الفضل يوسف بن سلمان القرشي. أنشدني نصر بن عبد الرحمن الإسكندري الفزاري ببغداد قال: أنشدني القاضي أبو محمد العثماني الديباجي بالإسكندرية قال: أنشدني أبو الفضل يوسف بن سلمان القرشي لنفسه ذكر أنه كان من أهل الفضل وذوي اليسار بها:
أرى كُتُباً قد طال في جمعها جُهْدِي ... وزادَ إليها قَبْلَ تحصيلها وَجْدِي
تمنيتُ فيها نظرةً فَحُرِمْتُهَا ... وجاءَتْ عقيبَ المنع عَفْواً بلا كَدِّ
فأصبحتُ فيها ناظراً مُتَحَكِّماً ... جواداً بما فيها على الصادقِ الوُدِّ
أَقَلِّبُهَا من بَعْدِ غيري مُحَكَّما ... فيا ليت شعري مَنْ يُقَلِّبُهَا بَعْدي
نصر بن عبد الرحمن الفزاري
وللفقيه نصر بن عبد الرحمن الأسكندري الفزاري في معناه، وكتب لي نسبه وهو: نصر بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن علي بن الحسين بن زياد بن عبد القوي ابن عامر بن محمد بن جعفر بن أشعث بن يزيد بن حاتم بن حمل الفزاري، أنشدنيه وذكر أنه كان عني بتصنيف كتب سماها لي، أنشدنيه لنفسه في بغداد، رأيته شاباً متوقداً بالذكاء والفطنة عارفاً بالأدب.

أُقَلِّبُ كُتْباً طالما قد جَمَعْتُهَا ... وأَفْنَيْتُ فيها العَيْنَ والعَيْنَ واليدا
وأصبحتُ ذا ضنٍ بها وتمسُّكٍ ... لِعِلْمِي بما قد صُغْتُ فيها مُنَضَّدَا
وأَحْذَر جَهْدي أن تُنَالَ بنائلٍ ... مُبيرٍ وأن يغتالَهَا غائلُ الرَّدَى
وأعلمُ حقًّا أنني لستُ باقياً ... فيا ليت شعري من يُقَلِّبُها غدا

مسعود الدولة بن حريز الشاعر المصري
أنشدني الفقيه نصر بن عبد الرحمن الفزاري الإسكندري ببغداد قال أنشدني أبو الفتح نصر المصري قال سمعت ابن حريز ينشد.
ظَنَّتْ مَعينَ الدمع غيرَ مُعينها ... في بينها أو في تَعَسُّفِ بَيْنِها
صَدَقَتْ وفي صَدَفِ الجفون لآلىءٌ ... نابَ العقيقُ الرَّطْبُ عن مكنونها
ومنها:
أيامَ عيشي تشتكي سلمى وما ... تشكُو سوى تصحيفِ أَحْرف سينها
حَلَفَتْ لَتَرْقَنَّ السماءَ فمذ أًتَتْ ... قَصْرَ الخلافةِ بَرَّ عَقْدُ يمينها
أبو الحسن التنيسي يلقب برضي الدولة
أنشدني الفقيه نصر، قال: أنشدني أبو الفتح نصر قال: سمعت أبا الحسن التنيسي ينشد:
راحَ من خَمْرِ الصِّبَا مُغْتَبِقَا ... ثَمِلاً أَحْسَنَ شيءٍ خُلُقُا
تفعلُ النشوةُ في أَعْطَافِهِ ... فِعْلَ عينيه بأرباب النَّقَا
رشأٌ قد أَقْسَمَتْ أَلْحَاظُهُ ... لتُريقنَّ دِمَا مَنْ عَشِقَا
فيهما سهمان تنصيل الهوى ... فإذا مافُوِّقا قد رَشَقَا
مَنْ عذيري من غزالٍ كلَّمَا ... سُئِلَ الرحمةَ أَبْدَى حَنَقَا
ورأيتُ النرجسَ الغضَّ وقد ... أخجلَ الوردَ بما قد أَحْدَقَا
ينهبُ الناهبُ من زهرته ... ويذودُ اللمسَ عما بَسَقَا
كم أناديه وذلِّي شافعٌ ... وفؤادي يَتَلظَّى حُرَقَا
هكذا يُجْزَى بكمْ من عشقا ... لاعجاً يَسْري وقلباً مُوثَقَا
إِنْ يكن بُعْدُكَ عن حُمَةً ... فمديحي حافظُ الدين الرُّقَى
ابن غسان الكاتب المصري
أبو الحسن علي بن المؤمل بن علي بن غسان. أنشدني الفقيه أبو الفتح نصر ابن عبد الرحمن ببغداد، قال: كان ابن غسان مكثراً من الشعر عارفاً بالكتابة، رأيت ديوانه في مجلدين بخطه بالإسكندرية، وهو رواية العثماني، قال أنشدني الشيخ أبو الحسن علي بن المؤمل بن علي بن غسان الكاتب المصري لنفسه.
بكىأَسَفاً لفراق الحبيب ... وأَفْرَقَ من سطواتِ الفراقِ
عسى اللّه من بَعْدِ حَرِّ الفراقِ ... يَمنُّ عليه بِبَرْدِ التَّلاَقِ
وأنشدني أيضاً، قال: أنشدني القاضي العثماني، قال: أنشدني ابن غسان لنفسه:
فُتِنْتُ بفاتنِ الْحَدَقِ ... وزاد بِهَجْرِهِ أَرَقِي
إذا ناديتُ من جَزَعٍ ... أخذتُ القلْبَ في طَلَقِ
رويدك سَوْفَ تَلْقَاهَا ... بلا قَلْب ولا رَمَقِ
قال: وأنشدني القاضي العثماني قال: أنشدني ابن غسان لنفسه.
توكَّلْ على اللّه جلَّ اسمُهُ ... ولا ترجونَّ سواه تَعَالَى
وكلُّ امرىءٍ يَرْتَجِي غيرَهُ ... لكشفِ المُلِمَّاتِ يَرْجُو مُحَالاَ
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه.
إلى كم منك حظي في انتقاصِ ... ومالِي عن غرامك من مَنَاصِ
لقد ضيَّعتَ حين أَضَعْتَ حَقِّي ... وودِّي لم تُرَاع ولا اختصاصي
إذا أَوْعدتني شرًّا أتاني ... ووعدُ الخيرِ عندكَ في اعْتِيَاصِ
فَشرُّكَ كلَّ يومٍ في ازديادٍ ... وخيرُكَ كلَّ يومٍ في انتقاصِ
وصدُّكَ لا يَصُدُّكَ عنه شيءٌ ... وَوَصْلُكَ ذو اعتلالٍ وانتكاص
عجبتُ لِمَنْ يُؤَمِّلُ مِنْكَ خيراً ... يفوزُ به إلى يوم القصاص
وأَعْجَبُ من صدودك أَنَّ مالي ... وقد أَنْكَرْتُ فِعْلَكَ مِنْ خَلاَصِ
ابن قتادة المعدل المصري

أبو الفتح منصور بن إبراهيم بن قتادة الأنصاري
توفي في عصرنا. أنشدني الفقيه أبو الفتح نصر بن عبد الرحمن الإسكندري قال: أنشدني القاضي العثماني، قال: أنشدني الشيخ أبو الفتح منصور بن إبرايهم ابن قتادة الأنصاري المعدل بمصر المصري بالإسكندرية سنة اثنتي عشرة وخمسمائة لنفسه في التغزل:
نظري إليك يزيدُ في نَظَري ... فعلامَ تَحْجُبُنِي عن النَّظَرِ
يا جُمْلةَ الْحُسْنِ التي اقْتَسَمَتْ ... منها المحاسنَ جُمْلةُ البشَر
لِهَوَاكَ بين جَوانِحِي كُتُبٌ ... قد عُنْوِنَتْ بالدَّمْعِ والسَّهَر
قال: وأنشدني العثماني قال: أنشدني أيضاً لنفسه:
أَفْدِي خيالاً من حبيبٍ زارني ... في جنحِ ليلٍ كالقطيعة مُظْلمِ
فطفقتُ مسروراً به وسأَلْتُهُ ... أَنّى اهتدى والليلُ لم يَتَصَرَّمِ
فأَجابني إِني هتكتُ سُدُولَهُ ... حتى اهتديتُ إليكمُ بِتَبَسُّمِي
قال: وأنشدني له أيضاً:
أَسَباك منه جيدُهُ أَمْ طَرْفُهُ ... أم شَكْلُهُ أم دَلُّهُ أم ظَرْفُهُ
يا ناظري أَمْ وردُ وَجْنته الذي ... يلتذُّ للعينِ البصيرةِ قَطْفُهُ
صافحتُهُ فشكتْ أناملُهُ الأَذَى ... وتألمتْ من لَمْسِ كفَي كَفُّه
فكأنَّ جسمي جَفْنُهُ في سُقْمِهِ ... أو خَصْرُهُ وكأَنَّ هَمِّي رِدْفُه
وله في المكربل، وكان هجاه:
ما نال خَلْقٌ في الهِجا ... ما نالَهُ المُكَرْبَلُ
كلُّ الهجاءِ أخِرٌ ... وهو الهجاءُ الأَوَّلُ
لأَنَّهُ يأَخْذُهُ ... من عِرْضه وَيَعْمَلُ
وقرأت في كتاب الجنان لابن الزبير، أنشدني قتادة لنفسه في المكربل لما مات:
قالوا المكربلُ قد قضى فأَجَبْتُهُمْ ... ماتَ الهجاءُ وعاش عِرْضُ العَالَمِ
ما تسمعون ضجيج مالكَ مُعْلِنا ... وجنوده لا مرحباً بالقادم
الشيخ الأديب أبو محمد عبد الله بن عتيق الشاعر المصري المعروف ب
ابن الرفا
شيخٌ ظريفٌ، لطيف العبارة، مطبوع النظم، ذكر أنه أقام باليمن أربعين سنة، وأجفل عنها غلبة المهدي على زبيد، وأقام ببغداد، وكان يحضر مجلس ابن الصيفي عند سماع شعره، وأفاوضه في الشعر وغيره، ولا تخلو مجاذبة أطراف الحديث معه من فائدةٍ ليلة، وجدوى جديدة، وأنشدني كثيراً من شعره ووعدني بإثباته لي. فمما أنشدنيه لنفسه يوم الجمعة غرة محرمٍ سنة اثنتين وستين وخمسمائة ببغداد:
تفعلُ بي ألحاظُ هذا الغزالْ ... فعلَ الحُمَيَّا بعقول الرجالْ
قلت له وقد انفصلنا من مجلس ابن الصيفي: اكتب لي شيئاً من شعرك فقال: من عنده السكر لا يطلب الملح. قلت: الملح لا يستغني عنه طعامٌ؛ ثم وصفت نفسك، فإن البحر ملحٌ قال: ولكن لا يشرب، قلت ولكن لا يمنع الراكب ولا يحرم الجدوى، وأنشدت متمثلاً:
كالبحرِ يُعطي للقريب إذا دنا ... دُرًّا ويبعثُ للبعيدِ سحائبا
ابن مجبر الإسكندري
وهو أبو القاسم بن مجبر بن محمد ذكر أنه كان من أهل الإسكندرية. وله شعرٌ صالحٌ ومذهبٌ في الشعر عجيبٌ أنشدني الفقيه نصر بن عبد الرحمن الفزاري ببغداد سنة ستين، قال: أنشدني القاضي أبو محمد العثماني، قال: أنشدني أبو القاسم بن مجبر بن محمد لنفسه ملغزاً.
أُحاجيكَ ما سابقٌ للخيو ... لِ لا تُحْسِنُ الريحُ تَجْرِي مَعَهْ
يسيرُ على حافرٍ واحدٍ ... قوائِمُهْ فَوْقَهُ أَرْبَعَهْ
إذا المرءُ أَوْدَعَهُ عِدَّةً ... أَتَاهُ بأَضْعَافِ ما أَوْدَعَه
وَيُطْعِمُه جَهْدَهُ وهو لا ... يكادُ من الحِرْصِ أَنْ يُشْبِعَه
يَخِفُّ فتحسبُهُ ريشةً ... ولا يقدرُ البغلُ أَنْ يَرْفَعَه
وأنشدني أيضاً القاضي العثماني قال: أنشدني أبو القاسم لنفسه ملغزاً.
ما أَحرُفٌ تقرأُ مَقْلوبَهْ ... للطيرِ والأَنْعامِ مَنْسُوبَهْ

صحيحةُ الشكْلِ ولكنَّها ... مكسورةُ الأَبْعاضِ مَضْروبَهْ
أظهرتُها جَهْدي وأَخْفَيْتُها ... فهيَ مع الهتكةِ مَحْجُوبَهْ
وأنشدني أيضاً قال: أنشدني القاضي العثماني، قال: أنشدني الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد اللخمي، قال: أنشدني أبو القاسم بن مجبر لنفسه ملغزاً أيضاً:
أُحْجِيَةٌ شأْنُها عجيبٌ ... يَفْهَمُها كلُّ ذي قَرِيحَهْ
ما ذاتُ خدٍ به سَوَادٌ ... كخدِّ نوبيَّةٍ صَرِيحَهْ
وآخرٌ أَبيَضٌ نَقِيٌّ ... يُخالُ من فِضَّةٍ صريحَهْ
محجوبةٌ تُشْتَهَى ولكِنْ ... يَمْحَضُكَ الودَّ والنصيحَهْ
قال: بمصر طيرٌ يسمى الطفل يؤكل، الواحدة طفلة.

ابن جبر
هو أبو محمد يحيى بن حسن بن جبر شرف الدولة من شعراء صاحب مصر.
أنشدني الفقيه أبو الفتح نصر الإسكندري، قال: أنشدني أبو الفتح نصر المصري، قال: أنشد ابن جبر وأنا أسمع:
مديحُكَ فَرْضٌ كالصلاةِ لوَقْتِها ... تُؤَدَّى، فإن فاتت فلا بُدّ أَنْ تُقْضَى
وما أَخَّرَ المملوكَ إلاّ توعُّكٌ ... أَلَمَّ به واللّهُ قد عَذَرَ المَرْضَى
وقرأت له من قصيدة في مدح ابن رزيك:
ما بَ. من عزَّ إِلا البيضُ والأسلُ ... ولا اجتنى الحمدَ إلا الفارسُ البطلُ
ولا اقتنى المجدَ إلا مَنْ له هِمَمٌ ... بعيدةٌ بمحلِّ النَّجْمِ تَتَّصِلُ
كفارسِ المسلمينَ الأكملِ الملك النَّدْبِ ... الهمامِ الذي تَحْيا به الدُّوَلُ
هل كان قطُّ ابنُ زُرِّيكٍ بملحمةٍ ... إلا وكان مُلاقيه له الهَبَل
وله فيه أيضاً:
ولرُبَّ يومٍ قد تطايرَ شرُّهُ ... عنه يَخِيمُ الهِبِزِرِيُّ الأَرْوَعُ
أَطْفَا ابنُ رزِّيكٍ لهيبَ ضِرَامِه ... والبيضُ تَخْطبُ في الرءُوس فَتُسْمَعُ
وكتائبٌ للشِّرْكِ كنتَ إِزاءَها ... مُتعرِّضاً فانفضَّ ذاك المَجْمَعُ
ولكمْ صَرَعْتَ من الفرنجِ سَمَيْدَعاً ... بلقائه لكَ قِيلَ أَنْتَ سَمَيْدَعُ
ابن شمول المقرىء أبو الحسين
من أهل مصر. وكان الغالب عليه القرآن، وانتهت إليه رئاسة الإفراء بمصر، وهو كبير الشأن، وتوفي بعد سنة خمسمائة.
أنشدني القاضي حمزة بن علي بن عثمان، وقد وفد إلى دمشق سنة إحدى وسبعين، قال: أنشدني أبو الجيوش عساكر بن علي المقري، قال: أنشدني أبو الحسين بن شمول لنفسه:
تَبَسَّمَتْ إذْ رَأَتْني ... وشيبُ رَأْسي يَحُومُ
فقلتُ شَعْرِيَ ليلٌ ... والشيبُ فيه نجومُ
فاستضحكتْ ثم قالتْ ... كما يقولُ الظَّلومُ
يا ليتها من نجومٍ ... غَطَّتْ عليها الغُيُومُ
ابن معبد القرشي الإسكندري
هو أبو الحسن علي بن الحسن بن معبد، أنشدني الفقيه نصر بن عبد الرحمن الإسكندري الفزاري ببغداد سنة ستين، قال: أنشدني أبو الحسن الأديب هذا لنفسه بالإسكندرية، وكان حسن التصرف في النظم والنثر، كثير المعاني، لطيف الطبع، صحب ملوك المغرب مدة طويلة، وشعره مشهور مستجاد:
ومُهَفْهَفٍ طالَتْ ذوائبُ فَرْعِهِ ... كالليل فاضَ على الصباح المُسْفِرِ
قَصَرَ الدَّلالُ خُطاهُ فاعتلقتْ به ... لي مهجةٌ عن حُبِّهِ لم تَقْصُرِ
وَسْنانُ كُحْلُ السِّحرِ حَشْوُ جُفُونِه ... ففتورُها عن مُهجَتي لم يَفْتُرِ
مَلَكَ القلوبَ بدُرِّ سِمْطَيْ لؤْلُؤٍ ... عَذْبِ اللَّمَى في غُنْجِ طَرْفٍ أَحْوَر
وبوجنةٍ رَقَمَ الجمالُ رياضَها ... ببنفسجٍ من فوقِ وردٍ أحمر
كتبَ العذارُ على صحيفةِ خَدِّهِ ... هذا بداءَةُ حيرةِ المتحيّر
وَهَبَتْ محاسنه الكمالَ فأصبحتْ ... فِتَنَ العقولِ وَرَوْضَ عينِ المُبْصِر
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:
وَهَبْتُ سُلُوِّي لدينِ الصِّبا ... فصيرَّتُ مَذْهَبَهُ مَرْكَبَا

وصرتُ إِذا ما الهوى مَرَّ بي ... يقولُ له خاطري مرحبا
وإِني لأَهْوى رشاً ساحراً ... أَعارَ فتورَ العيونِ الظِّبَا
إذا ما تَثَنَّى فغُصْنُ نَقَاً ... وبدرٌ جلا شَعْرَه غَيْهَبا
وزانتْ مُحيَّاهُ خيلانُهُ ... كما تيبعُ الكوكبُ الكوكبا
وبي أَسمَرٌ ناسَبَتْهُ القَنَا ... يرُوقُكَ خدًّا حَلا مُذْهَبا
سَقَى روضَ خَدَّيه ماءُ الشبابِ ... ففتَّحَ زهراً به مُعْجِبا
وخيلانُهُ خَيَّلَتْ عنبراً ... على صفحةِ التِّبْر قد حَبَّبا
تَقَلَّدَ من لحظه صارماً ... أَسالَ النفوسَ وما ذُنِّبا
وَمُلِّكَ من حُسْنِه دَولةً ... لطاعتها كلُّ قلبٍ صَبَا
وأورده ابن بشرون في المصريين وقال: ابن معبد الطرابلسي أنشدني لنفسه:
يا حاديَ الركْب رفقاً بالحبيب فقد ... طارَ الفؤادُ وقلَّ الصبرُ والجَلَدُ
لعلّ حِبِّي يرى ذُلِّي فيرحمني ... بنظرةٍ عَلَّها تشفي الذي أَجِدُ
يا ويحَ من ظَعَنَتْ أحْبابُه وَغَدَا ... مُخَلِّفاً بعدهم أكْبادَه تَقِدُ
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:
هواك لقلبي أَجلُّ المِلَلْ ... وإِنْ سِمْتَهُ غارِماً بالمَلَلْ
حَلَوْتَ فكنت كعصرِ الصِّبا ... فَجُدْ بالقَبُولِ وَطِيبِ القُبَلْ
فوجْهُكَ حُسْناً وَوَجْدِي به ... غدا ذا وذا في البرايا مَثَلْ
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:
تنامُ وعندي غُلَّةٌ وأَلِيلُ ... وَتَلْهو وَلبْسِي لَوْعَةٌ ونُحُولُ
وأَرْضَى بحملِ الذلِّ فيكَ وليسَ لي ... لديكَ إلى نَيْلِ الوِصالِ وُصُولُ
فوا أسفاً إن لم تَجُدْ لي بزورةٍ ... يقابلني منها رِضاً وقبولُ

الشيخ أبو الحسين بن مطير
شاعرٌ مجيدٌ، وله ديوان، ووجدت له في مجموع:
مُحْكَمَةٌ كاساتُنا هذه ... وَلَهْوُنَا أَسْبابُهُ مُحْكَمَهْ
فَمَهْ لحاكَ اللّهُ من لائمٍ ... وكُنْ كمنْ سَدَّ بِصَمْتٍ فَمَهْ
تم التأليف الحاوي لشعراء مصر وأدباء العصر بمن الله تعالى بتاريخ العشرين من رجب من سنة اثنتين وأربعين وستمائة والحمد لله وصلى الله على محمد وآله وأصحابه.
قسم شعراء المغرب
بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ أعنّ
الجزء الثاني من القسم الرابع
باب في ذكر محاسن فضلاء جزيرة صقلية
أبو الحسن
علي بن عبد الرحمان بن أبي البشر
الكاتب الصقلي الأنصاري
سمّاه أبو الصلت في رسالته من أهل العصر، وأثنى على بلاغته بعد ذكر أبيات لنفسه في وصف النيل كتبها الى الأفضل ليلة المهرجان وهي:
أبْدعتَ للناس منظراً عجبا ... لا زلتَ تُحيي السّرورَ والطّرَبا
جمعتَ بين الضّديْنِ مُقتدراً ... فمَنْ رأى الماء خالط اللّهبا
كأنّما النّيلُ والشّموعُ به ... أفْقُ سماءٍ تألّقتْ شُهُبا
قد كان في فِضّةٍ فصيّرهُ ... توقُّدُ النارِ فوقَه ذهَبا
قال: وقد تعاور الشعراء وصف وقوع الشعاع على صفحات الماء. ومن مليح ما قيل فيه قول بعض أهل العصر، وهو أبو الحسن علي بن أبي البشر الكاتب:
شرِبْنا مع غُروب الشّمسِ شمسا ... مُشَعشَعةً الى وقتِ الطّلوعِ
وضوءُ الشمسِ فوقَ النّيل بادٍ ... كأطرافِ الأسنّة في الدّروعِ
ولأبي الصلت في المعنى:
بشاطئِ نهرٍ كأنّ الزّجاجَ ... وصفْوَ اللّجينِ به ذُوِّبا
إذا جمّشَتْه الصَّبا بالضُحى ... توهّمْتَه زرَداً مُذْهبا
ولابن خفاجة الأندلسي:
والرّيحُ تعبثُ بالغُصونِ وقد جرَى ... ذهبُ الأصيل على لجين الماءِ
وقرأت في مجموع شعر نظماً حراً، يفوق ياقوتاً ودراً، منسوباً الى أبي الحسن بن أبي البشر، مشتملاً من المعاني على الغرر، فمن ذلك قوله في راقصة:

هيفاء إن رقصت في مجلس رقصت ... قلوبُ مَنْ حولها من حِذْقها طربا
خَفيفة الوطءِ لو جالت بخطوتها ... في جفن ذي رمدٍ لم يشتكِ الوصبا
وقوله:
لنا في كلّ مُقترَح وصوتٍ ... مناجاةٌ بأسْرار القلوبِ
فنفْهمُ بالتّشاكي ما نُلاقي ... بلا واشٍ نخافُ ولا رقيب
وقوله:
وساقٍ كمثل الغزال الرّبيب ... بصيرِ اللّحاظِ بصيدِ القُلوبِ
جسَرْتُ عليهِ فقبّلتُه ... مُجاهرةً في جُفونِ الرّقيب
فلما توسّد كفَّ الكرى ... وأهداه لي سُكرُه من قريب
تعجّلتُ ذنباً بفتكي به ... ولكنّه من مليح الذّنوبِ
وقوله:
كتبتَ فهلاّ إذ ردَدْتَ جوابي ... جعلتَ عنّي مكان عتابي
لئِنْ كان ذنباً أنّني لم أزركمُ ... لفَقْدي للقياكم أشدُّ عِقابِ
وهذا كقول الصابئ:
إن يكن تركي لقصْدِكَ ذنبا ... فكفى بي ألاّ أراك عقابا
وقال أبو الحسن بن أبي البشر:
اللهُ يعلم كيف سرتُ ... وما لقيتُ وكيفَ بتُّ
حذَراً عليكَ وُقيتُ فيك ... من الحوادثِ ما حذرْتُ
إن لم تمُنَّ بوصف حا ... لِكَ لي بخطِّ يديك متُّ
وقال، ومما يقرأ على خمسة أوزان:
وغزالٍ مُشنَّفٍ ... قد رثى لي بعدَ بُعدي
لمّا رأى ما لقيتُ
مثل روض مُفوَّفٍ ... لا أبالي وهو عِندي
في حُبّه إذْ ضنيتُ
وجهه البدرُ طالعاً ... تاه لمّا حاز ودي
فإنني قد شَقيتُ
في قضيب مُهفهَفٍ ... لذّ فيه طولُ وجْدي
جفا فكدت أموتُ
مانع غيرُ مُسعِفٍ ... ليس يأبى نقْضَ عهدي
وليس إلا السّكوتُ
جائر غير مُنصفٍ ... حالَ عمّا كان يُبْدي
إنّ الوِصالَ بُخوتُ
وقال:
أتراني أحْيا الى أن يعودا ... نازحٌ لم يدعْ لعيني هُجودا
كيف أرجو الحياةَ بعد حبيب ... كان يومي به من الدهر عيدا
كنت أشكو الصّدود في القرب والآ ... ن قد استغرق البِعادُ الصّدودا
أشتهي أن أبوح باسمك لكن ... لقّنَتْني الوُشاة فيك الجُحودا
وقال:
الى الله أشكو دَخيلَ الكمدْ ... فليس على البُعد عندي جلَدْ
ومنْ كنتُ في القرب أشتاقهُ ... فكيف أكون إذا ما بعُدْ
وقال:
إليك أشكو عيوناً أنت قلتَ لها ... فيضي فقد فضحَتْني بين جُلاّسي
وما تركتَ عدوّاً لي علمْتَ به ... إلا وقد رقّ لي من قلبك القاسي
فإن رضيتَ بأن ألقى الحِمامَ فيا ... أهلاً بذاك على العينين والرّاسِ
وقال، وقد سئل في إجازة البيت الأخير:
تولّوا وأسرابُ الدّموع تفيضُ ... وليلي طويلٌ بالهموم عريضُ
ولما استقلّوا أسلمَ الوجد مُهجَتي ... الى عزَماتٍ ما لهنّ نهوض
توقّدُ نيران الجوى بين أضلُعي ... إذا لاح من برق العِشاء وميض
ولم تبق لي إلا جفون قريحةٌ ... وعظْم بَراهُ الشّوق فهو مهيض
فغنِّ لمحزون جفا النومُ جفنَه ... فليس له حتى الوصالِ غموض
شجاني مغاني الحي وانشقت العصا ... وصاح غراب البين: أنت مريض
وقال:
ألم يأنِ للطيف أن يعطفا ... وأن يطرُق الهائِمَ المُدْنفا
جفا بعد ما كان لي واصلاً ... وخلّف عندي ما خلّفا
أما تعطفنّ على خاضع ... لديك يناجيك مستعطفا
إذا كتبتْ يدُه أحرفا ... إليك محا دمعُه أحرُفا
ولو كنتُ أملك غرْبَ الدموع ... منعتُ جفونيَ أن تذرِفا
غراماً بإشعال نار الغرام ... وما عُذرُ صب بكى واشتفى
وقال:
قد أنصف السقمُ من عينيكَ وانتصفا ... فها هما يحكيان العاشقَ الدّنِفا

يا ساحرَ الطرف قد أُغريتَ بي كلَفا ... برْحاً وصيّرتني أستحسنُ الكلَفا
أظنّ خدّيكَ من جاري دمي اختَضَبا ... لقد تناهيْتَ في قتلي وقد ظرُفا
وقال:
يا سيّئَ القُدرة كم ذا الجفا ... لقد شفا هجرُك بي واشتفى
تُراكَ لم يكفِك ما حلّ بي ... بعدَك من طول الضّنى أو كفى
وقال مُلغزاً:
اسمُ الذي صيّرني مدنفا ... لمّا انتضى من جفنه مرهَفا
يلعب إنْ رُخِّم معكوسه ... لأنه قد نسّق الأحرفا
ألم ترَ كيف غدا ثُلثُه ... جذراً لثلثيه إذ ألِّفا
قد غلب القلب على صبره ... وهكذا يخرج إن صُحِّفا
وقال:
يا غزالاً صاغه الصا ... ئغُ من حسنٍ وظُرفِ
لا وزهرٍ في رياض ... غيرِ مبذول لقَطْفِ
ما تعرّضْتُ لريْبٍ ... إنّما نزّهْتُ طرْفي
وقال:
كيف لم يشتعل بنار اشتياقي ... قلَم لي أبُشّهُ ما ألاقي
كان حلوَ المذاق عيشيَ للقُر ... بِ فأضحى للبُعد مُرّ المذاق
فوَصَبري لآخُذنّ بثاري ... من ليالي الفراق يوم التّلاقي
وقال:
هجرتك يا سؤْلَ نفسي ولي ... فؤاد متى تذكري يخْفق
وما ذاك منّي اطّراحُ المَلول ... ولكنه نظرُ المُشفِقِ
أخاف عليكِ فلولاك لم ... أكن أتّقي جُلّ ما أتّقي
كما تتزكين بَرودَ الشّرا ... ب ظمأى مخافة أن تشرَقي
فإن سرّ حاسدَنا بُعدُنا ... فنحن على رغمه نلتقي
ومهما علِمتِ فلا تجهلي ... فإن المُحبّ سعيدٌ شقي
وقال:
عذّبتَ قلبي ببُخلِك ... فامنُنْ عليّ بوصلكْ
يا علّتي وشقائي ... ماذا لقيت لأجلك
بحُسنِ وجهك إلا ... أمّنْتني قُبحَ فعلك
أرجو انعطافَك لكن ... أخاف من طول مَطلِك
نَهاك أهلك عني ... من أجل أهلِك أهلِك
وقال وهذان البيتان يجمعان حروف المعجم:
مُزَرْفَنُ الصّدغ يسطو لحظُن عبثا ... بالخلق جذْلانُ إن تشكُ الهوى ضحكا
لا تعرِضَنّ لوَردٍ فوق وجنته ... فإنّما نصبَتْه عينُه شَرَكا
وقال في مغنٍّ:
ولنا مغنٍّ لا يزا ... ل يغيظنا ما يفعلُ
صلَف وتيه زائد ... وتبَظْرُم وتمحّل
غنّى ثقيلاً أوّلا ... وهو الثّقيل الأولُ
وقال في الشيب والتغزل:
تبلّج هذا الصبح أو كاد يفعلُ ... فأقصَر واستحيى معنّىً مُضلَّل
أتاهُ نذير الشّيب قبل أوانه ... فأقلع عن لذّاته وهو معجَلُ
فأهلاً بضيف قال هزلي لجده ... ترفق فإني حين تنزل أرحل
سقى ورعى الله الشبابَ فإنّه ... على ما جنى سترٌ من اللهو مُسبَل
بنَفسيَ من شطّت به غربة النّوى ... ومن هو في لحظي وفكري ممثّل
ومن لجّ قلبي في هواه وغرّني ... رضاه فلا يسلو ولا يتبدل
صحوت وعندي من هواه بقية ... تعمّ جميع العاشقين وتفضُل
عجبت لطرف قد تضرّجَ من دمي ... فما احمرّ إلا خده وهو أكحل
وما كنت أدري قبل لُقيا لحاظِنا ... بأن لدى الألحاظ سهم ومقتَل
وقال:
يا ذا الذي كل يومٍ ... يزيد عقلي خبالا
ولّهْتَني بك حتى ... رأيت رُشْدي ضلالا
أدعو عليك وقلبي ... يقول يا ربّ لا، لا
وقال:
ولقد وجدتُ الصبر بعدكمُ ... صعباً وكنت أظنه سهلا
واستعبَرَتْ عيني فقلت لها ... هلاّ حذرْتِ الأعيُنَ النُّجْلا
لا مرحباً بالبيْن من أجَلٍ ... تنْأى الحياةُ به ولا أهلا
قد كان لي مُلْكاً دُنوّكمُ ... فالآن أصبح بُعدُكم عَزْلا
وقال:

كيف أعتدّ بلُقيا هاجر ... قبلما حاول وصلي صرَما
عجبي من سقَمٍ في طرفه ... يورِثُ السُّقْم ويَشْفي السّقَما
لو تجاسرتُ على الفتك به ... لم أعُدْ أقرَعُ سنّي ندَما
أيّ شيء ضرّني لو أنّني ... كنت في الحِلّ طرقت الحرَما
أنا عندي من شفى غُلّته ... من حبيب مُسعِدٍ ما أثِما
وقال:
فيه لي جنة وفيه نعيم ... وعذاب أشقى به ونعيمُ
جاءني عائداً ليعلمَ ما بي ... من تجنّي هواه وهو عليم
هو يدري ما أوجب السُقمَ لكن ... ليس يدري بما يقاسي السقيم
ثم نادى وقد رأى سوءَ حالي ... جلّ محْيي العِظام وهي رميم
وقال:
ألا فليُوطِّنْ نفسَه كلّ عاشق ... على خمسة محثوثةٍ بغَرام
رقيبٍ وواشٍ كاشح ومفنِّدٍ ... مُلحّ ودمعٍ واكفٍ وسَقام
وقال:
لا فرّج الله عنّي ... ولا شفى طولَ حُزني
وألهبَ الشّوقُ قلبي ... وأمكن العجزُ منّي
إن لم أروّحْ فؤادي ... من ذا القِلَى والتّجنّي
وقال:
وصلَ الكتابُ وكان آنسَ واصلٍ ... عندي وأحسنَ قادمٍ ألقاه
لا شيء أنفَسُ منه مُهدَى جامعاً ... شمِلَ المنى إلا الذي أهداه
ففضَضْتُه وجعلت ألثُم كلّ ما ... كتبَتْهُ أو مرّت عليه يداه
وفهمت مودَعَه فرحت بغِبطة ... جذْلانَ مبتهجاً بما أدّاه
وعجِبْتُ من لفظٍ تناسق فيه ما ... أعْلاه ما أجْلاه ما أحْلاه
ولقد غُبِطتُ عليه عِلْقَ مضِنّةٍ ... عُدِمتْ له الأشكال والأشْباه
كالروض باكَرَهُ الحَيا فتفتّحت ... أزهاره وتضوّعَت ريّاه
كالعقد فُصِّل لُؤلؤاً وزبرجدا ... فتقابلت أولاهُ معْ أُخراه
دُرٌ ترفّعَ قدْرُه عن قيمة ... منظومة صُغراهُ معْ كُبْراه
وقال معمى وهو تميم، وموضعه حرف التاء:
اسمُ الذي أضحى فؤادي به ... مُعذّباً صبّاً بتعذيبه
إن صيّروا أوّلَه ثانيا ... غدا اسمُه بعضَ صِفاتي به
وقال:
الموت في صحُفِ العشّاق مكتوبُ ... والهجر مِن قبلُ تنكيدٌ وتعذيبُ
إن طال ليلي فوجه الصّبح مطلعُهُ ... من وجه من هو عن عينيّ محجوب
من لي بإعلامِه أنّي لغيبته ... ذيل المدامع في خدّيّ مسحوب
كأنّ أجفانَ عيني من تذكّرهِ ... غصن مَروح من الطّرْفاءِ مهْضوب
طالعتُ كتاباً صنفه بعض فضلاء عصري هذا الأقرب بالمهدية، وذكر فضلاء صقلية.
فمنهم:

أبو الفضل جعفر بن البرون الصقلي
ذكر أنه أحد الأفراد، في النظم المستجاد، وأورد من شعره ما يصف الراح، ويصافي الأرواح، فمن ذلك قوله:
وساحِرِ المقلتين تحسَبُه ... من حور عِين الجِنان منفَلِتا
يَبسِمُ عن لؤلؤٍ وعن برَدٍ ... ما بين زهر العقيق قد فُتِتا
تكسف بدرَ السماء بهجتُه ... وإن رنَتْ مقلتاه أسكرتا
فالوجهُ كالشمس مُذهَب شرِق ... والصدرُ والجيدُ جوهر نُحِتا
قلت له والغراب يعبثُ بي ... وناظري في سناه قد بُهِتا
ألا وهل عطفَة تُعدّ مُنى ... منكَ فإنّ العَذول قد شمِتا
فقال منّي إليك شيْمُ سَنا ... يسوم ذا الشوقِ في الهوى عنَتا
ومرّ كالبَدْرِ في سماوَتِه ... يختال في زهوِه وما التفتا
وقوله:
إني أبثّكَ سيّدي ... ما ليس يحملُه بشرْ
محَن كتِبنَ بمَفرِقي ... وافى بهنّ ليَ القدر
عُلِّقتُ ألوَدَ لم أكن ... أدري لعَمرُك ما الخبر
أبصرتُه في يلمَّقٍ ... كالغُصنِ أثمرَ بالقمَر
فسطا عليّ بجورِه ... أكذا الكريمُ إذا قدَر
وقوله:

حتى متى قلبي عليكَ عليل ... والى متى هذا الصّدودُ يطولُ
أشكو إليك كأنني لكَ راغب ... ألا يكون عليّ منكَ قَبول
وإذا تعرّض لي هواكَ بنظرة ... أعرضْتَ حتى ما إليك سبيل
وقوله:
ولولا أنني أُغفي لعلّي ... ألاقي الطّيفَ مُزوَرَّ الجنابِ
فأقضي من ذِمامكَ بعضَ حقٍّ ... تقاصر دونه أيدي الركاب
لما طعِمتْ جفوني الغمْض حتى ... يُجَدِّد عهدَها منك اقترابي

الفقيه أبو محمد بن صمنة الصقلي
وصفه بحسن المحاضرة والمحاورة، وطيب المفاكهة والمذاكرة، واستضافة علم الشعر الى علم الشرع، وظرافة الخلق، وسلامة الطبع، وأورد له شعراً سنيِّ الصنع، جنّي الينع، وهو قوله:
ترَكوا العتاب وجانبوا العَتْبا ... فأقِلهُمُ وأنثلهُمُ العُتْبَى
واصفح لهم عمّا جنَوا كرَما ... حُباً لهم وكرامةً حُبا
أحبابَنا لي عندكم مِقَة ... نهبَتْ جميعَ إساءةٍ نهْبا
ومحبّةٌ في الصدر ثابتَة ... محَتِ الذّنوبَ فلم تدع ذنْبا
أوليتكم مني صحيح هوى ... فشفى مريضَ سقامكم طِيّا
وجزيتكم بقطيعةٍ صِلةً ... وحمَلْتُ ما حُمِّلْتُ من أعْبا
ووردْتُ مِلحاً ماءَ وُدِّكُمُ ... فشربتُه وسقيتكم عذْبا
وذكر أن الفقيه عيسى بن عبد المنعم الصقلي بلغه عنه كلام أحفظَه، فكتب إليه:
جنّبَنا اللهُ سيّئَ القالَهْ ... وصاننا عن مواقف الخالَهْ
منّا وفينا فلا رعَوْا أبدا ... حرّابَة بالمقال نبّالَهْ
ذوو بضاع تُعدُّ ألسنَة ... وهْيَ مُدى في النّفوس فَعّاله
فأجابه، وقرن بالعتبى عتابه:
ما لحبيبي مُعتباً ماله ... أحال إفْكُ الوشاة أحوالَهْ
غيّره ميْنُ كاشِح مذِقٍ ... وشَى وكان الإله سئّالَهْ
بفيه عفر التراب بل تربت ... يداه في ما حكى وما قاله
أراد قطْعاً لوصْلِنا حسَدا ... قطّع حدّ الحُسام أوصاله
وُدٌ برَضْوى شددْتُ عُقدَتَه ... فكيف رام الغبيّ زلزاله
بل كيف أرمي بأسهُمي بصَري ... أعمى ويحوي الحسود آماله
يا ولدي والمَكينُ من خلَدي ... بموضع لم أبِحْهُ إلا لَهْ
فناقلُ الزّور غير ما ثِقَة ... إذ كان يسعى ليُفسِدَ الحاله
عبد الرحمان بن رمضان المالطي
قال: ويعرف بالقاضي، وليس له في علوم الشريعة يد، بل هو شاعر له من بحر خاطره وغزارة غريزته مدد، ومعظم شعره في مدح روجار الإفرنجي المستولي على صقليه يسأله العودة الى مدينة مالطة، ولا يحصل منه إلا على المغالطة.
له وقد احتجب عنه بعض الرؤساء:
تاه الذي زُرتُه ولاذا ... عنّي ولم يُخفِ ذا ولا ذا
وكان من قبلُ إن رآني ... يبسُطُ لي سُندُسا ولاذا
فصار كلّي عليه كلاًّ ... يا ليتني متّ قبلَ هذا
وقال في ذم إخوان الزمان:
إخوان دهرِكَ فالقَهُمْ ... مثلَ العِدا بسلاحكا
لا تغتَرِرْ بتبسّمٍ ... فالسّيف يقتُل ضاحكا
عبد الحليم بن عبد الواحد
السوسي الأصل، الإفريقي المنشأ، الصقلي الدار سكن مدينة بلرم، واستدر من ذوي كرمها الكرم، وله نظم كالعقود، وحلب كالعنقود، له في صقلية:
عشقْتُ صقليّةَ يافعا ... وكانت كبعض جنان الخلود
فما قُدِّر الوصلُ حتى اكتهلتُ ... وصارت جهنّم ذاتَ الوَقود
ونسب إليه هذه الأبيات وهي مشهورة جداً:
قالت لأتراب لها يشفَعْنَ لي ... قولَ امرئٍ يُزْهى على أترابه
وحياةِ حاجته إليّ وفقرِه ... لأُواصلنّ عذابه بعذابه
ولأمنَعنّ جفونَه طعْم الكرى ... ولأمزِجنّ دموعه بشرابه
لمَ باح باسمي بعد ما كتمَ الهوى ... دهراً وكان صيانتي أوْلى به

ونسب إليه أيضاً هذه الأبيات:
شكوتُ فقالت كل هذا تبرُّما ... بحُبّي أراح الله قلبكَ من حُبّي
فلما كتمتُ الحبّ قالت لشدّ ما ... صبرْتَ وما هذا بفعل شجيّ القلب
فأدنو فتُقصيني فأبعُدُ طالبا ... رضاها فتعْتَدّ التباعد من ذنْبي
فشكواي تُؤْذيها وصبري يسوءها ... وتُحرَجُ من بُعدي وتنفر من قربي
فيا قوم هل من حيلة تعلمونها ... أشيروا بها واستوجبوا الأجْرَ من ربي
وله:
كرّرتُ لحظيَ فيمن لحظه سقمي ... فقال لي: فيمَ تكرارٌ وتردادُ
فقلت عيناك مرضى يا فديتُهُما ... فلا تلُمْ لحظاتي فهي عوّاد

البثيري الصقلي
هو عبد الرحمان بن محمد بن عمر، من مدينة بثيرة حامل القرآن، ومساجل الأقران، ذكر أنّ باعه في الترسّل أمدّ، وخاطره في النثر أحدّ، وأورد له قصيدة مدح بها روجار الفرنجي صاحب قصلية، يصف المباني العلية، ذكر أنه أنشدها لنفسه، منها:
أدِرِ الرّحيق العسْجَديّه ... وصِلِ اصطباحَكَ بالعشيّهْ
واشرَبْ على وقْع المثا ... ني والأغاني المعبَديّه
ما عيشة تصفو سوى ... بذُرى صقليّةٍ هنيّه
في دولة أرْبَتْ على ... دول الملوك القيصريّه
ومنها:
وقصورِ منصوريةٍ ... حطّ السّرورُ بها المطيّه
أعجِبْ بمنزلها الذي ... قد أكمل الرحمان زِيّه
والملعبِ الزاهي على ... كل المباني الهندسيّه
ورياضِه الأُنُفُ التي ... عادت بها الدُنْيا زهيّه
وأسودِ شاذِروانِه ... تهمي مياهاً كوثريّه
وكسا الربيعُ ربوعَها ... من حسنه حُللاً بهيّه
وغدا وكلّل وجهَها ... بمُصبَّغاتٍ جوهريّه
عطّرنَ أنفاسَ الصَّبا ... عند الصّبيحة والعشيّه
وهي قصيدة طويلة.
قال ابن بشرون: لما عرض عبد الرحمان عليّ هذه القصيدة، سألني أن أعمل على وزنها ورويها، فقلت:
للّه منصوريّة ... راقت ببهجتها البهيّه
وبقصرها الحَسَنِ البِنا ... والشّكل والغُرَفِ العليّه
وبوحشِها ومياهِها ال ... غُزْرِ العُيونِ الكوثريّه
فقد اكتست جنّاتُها ... من نبتِها حُللا بهيّه
غطّى عبيرَ تُرابِها ... بمُدبّجاتٍ سُندسيّه
يُهدي إليكَ نسيمُها ... أفواه طيبٍ عنبريّه
واستوسَقَتْ أشجارُها ... بأطايِبِ الشّجر الجنيّه
وتجاوبت أطيارُها ... في الصّبح دأباً والعشيّه
وبِها رُجارُ سما العُلا ... مِلكُ الملوكِ القيصريّه
في طيب عيشٍ دائِمٍ ... ومشاهِدٍ فيها شهيّه
واقتصرت من القصيدتين على ما أوردته، لأنهما في مدح الكفّار فما أثبته.
عبد الرحمن بن أبي العباس الكاتب
الاطرابنشي
أورد له في وصف منتزه المعتزية المعروف بالفوّارة:
فوّارةَ البحرينِ جمّعْتِ المُنى ... عيش يطيبُ ومنظر يُستعظَمُ
قُسمتْ مياهُك في جداولَ تسعةٍ ... يا حبّذا جرَيانُها المتقسِّمُ
في مُلتقى بحرَيك معتركُ الهوى ... وعلى خليجِكِ للغَرام مخيَّمُ
لله بحْرُ النّخلتَيْنِ وما حوى ال ... بحرُ المَشيدُ به المقام الأعظمُ
وكأنّ ماء المفرَغيْن وصفْوَه ... دُرّ مُذاب والبسيطة عندَمُ
وكأن أغصان الرّياض تطاولت ... ترنو الى سمَكِ المياه وتبسِمُ
والحوتُ يسبَحُ في صفاء مياهها ... والطير بين رياضها يترنّم
وكأنّ نارنْجَ الجزيرة إذ زَها ... نار على قُضُب الزّبرجدِ تُضرَمُ
وكأنّما الليمونُ صُفرةُ عاشق ... قد بات من ألم النّوى يتألم
والنخلتان كعاشقَيْنِ استَخلَصا ... حذَرَ العدى حِصْنا منيعاً منهُمُ

أو ريبَة علقَتْهُما فتطاولا ... يستَمحِيان ظُنونَ من يتوهّم
يا نخلتَيْ بحرَيْ بلِرْم سُقيتُما ... صوبَ الحيا بتواصلٍ لا يُصرَمُ
هُنّيتُما أمْن الزّمان ونِلتُما ... كلّ الأماني والحوادثُ نوّمُ
بالله رِقّا واستُرا أهلَ الهوى ... فبأمْنِ ظلكما الهوى يتحرّمُ
هذا العيان بلا امْتراءٍ إنّما ... سمْعُ الكيان زخارف تُتوهَّمُ

الغاون الصقلي
أبو علي حسن بن واد الملقب بالغاون وجدت في شعره لحناً كثيراً. له من قصيد:
وكم من رفيع حطّه الدهر للّتي ... تضعضع منه الحال بعد تسامِ
وكم خامل في الناس أمسى مُرَفّعا ... ترقّى الى العلياء كل سَنام
فتعساً لدهر حطّ عُلْوَ مراتبي ... وقلّل إخواني وأكثر ذامي
إذا اخضرّ يوماً منه للمرء جانب ... غدا فجلا للعين كيف بنام
وله:
ألا لا تكُن في الهوى ظالمي ... فما قطّ أفلحَ من يظلمُ
ومنها:
ألا في سبيل الهوى ميتتي ... ومثلُك في الحبّ لا يظلمُ
إليك استَنَمْتُ فما قد ترى ... أتُنْعمُ بالوصل أم تصرِمُ
ألا ارْحَمْ عُبَيدَك هذا الضعيف ... فكلّ رحيم له يرحَمُ
ولا تكُ بالجور بِئْسَ الولي ... فإنّي لك الدهرَ مُستَسْلمُ
الفقيه أبو موسى
عيسى بن عبد المنعم الصقلي
ذكر أنه كان كبير الشان، ذا الحجة والبرهان، فقيه الأمة وأمثل الأيمة له في المعاني الأبكار البعيدة مرامي مرامها، والألفاظ التي هي كالرياض جادها هامي رهامها. وقد أورد من كلامه ما يأسو سماعه الكلوم، ويجلو سنا إحسانه العلوم، ويحكي درر الأصداف ودراري النجوم، فمن بديع قوله في الغزل، وهو أحلى من نجح الأمل:
يا بني الأصفَرِ أنتم بدَمي ... منكمُ القاتلُ لي والمُستَبيح
أمليحٌ هجر من يهواكمُ ... وحلالٌ ذاك في دين المسيح
يا عليلَ الطّرْفِ من غير ضنى ... وإذا لاحظ قلباً فصحيح
كلّ شيء بعدما أبصرتكم ... من صنوف الحسن في عيني قبيح
وله:
سلب الفؤادَ من الجوانح غادةٌ ... أدلت إليه بدلِّها المستحكم
عذراءُ تُنسبُ درعها من خدها ... وخمارها من ذي ذوائب أسحَم
وعقودُها من نهدِها في شكلِها ... وحلاتها من لوني المُتسهِّم
فكأنّها ووشاحَها وخمارَها ... وحليَّها للناظر المتوسِّم
شمس توشحت السّنا وتتوجت ... جنحَ الدجى وتقلّدت بالأنجم
وقال:
يا أملحَ الناس وجهاً ... جاوزتَ في الحسن حدّكْ
للغصن منك انعطاف ... يكاد يُشبه قدّك
قد كان قلبيَ عندي ... والآن أصبح عندك
وكنتُ من قبلُ حراً ... فها أنا صرتُ عبدَك
وقال في جارية مصفرة اللون، بديعة الحسن:
فضح الهوى دمعي وعيل تصبّري ... بخريدة ترنو بعَينَي جُؤذَر
صفرا تولّعَ بالبياض لباسها ... وخمارها بمعصفرات الأخمُر
فكأنها في دِرعها وخمارها ال ... مُبيَضِّ والمحمرّ عند المنظر
ياقوتَة كسيَتْ صفيحةَ فضّةٍ ... وتتوجت صفْحَ العقيق الأحمر
وله من قصيدة طويلة في الرثاء أولها:
جَلّ المصابُ وجُلّ الخطب أوله ... فالحزن آخرُ ما آتى وأولُه
ومنها:
وكل وجدٍ وإن جلّت مواقعه ... فقدُ الأخلاءِ إن فكّرت أثكلُه
أبا عليّ ابْنِ عبدِ الله إنّ بنا ... عليك وجْداً غدا أدناه أقتَلُه
هل في السرور وقد أوديتَ من طمع ... لصاحب أو عديم كنتَ تكفُلُه
كم صاحب نال ما يبغي بجاهكمُ ... عفوا وكم من سرور كنتَ تشمَلُه
قد كان سعيُك في محياكَ أحمده ... وذكراك اليوم بعد الموت أجمَلُه
وله من قصيدة في المجون، يصف قول معشوقته، وقد أرسلت إليه:

أشتهي أن أرى له وتَدَ الأر ... ض لنا في بيت الرّجا والسّعادَهْ
وله:
قِفْ باللِّوى المنعَرِج ... ونادِ بالركْبِ عُج
واسألْ سُليمى أين با ... نَ ركبُها بالدَّلَج
كأنها شمس الضّحى ... مكنونةٌ في الهودَج
غراءُ تهدي ركبها ... في غسق المُدَّلج
فلا يكاد دائبا ... يُخطي سَواءَ المنهج
كأنها في درعها ... كافورة بدرُج
لاعبتُها فتيّة ... بمثلها في منعج
وأحسن الدهر لنا ... إحسان غير محرج
ينعم كلٌ بالذي ... يهواه غير مزعج
من لثم خدٍ أصبح ... ورشف ثغر أفلج
وعضِّ نهد معصر ... وعضُدٍ مُدملج
من عُكَنٍ كأنها ... طيُّ رباط المدرج
وفوقها وتحتها ... من مركَبٍ ومولِج
كلٌ على كلّ كما ... رُكِّبَ زوْجا مِسْحَج
في راحتَيْ ريح بلي ... ل وظلالِ سجْسَج
كأسُ السّرور بيننا ... صافية لم تُمزَج
حتى أتَتْ من دونِها ... زعازع في رهَج
هل راجع عهدي بها ... بالكَرْخ أو بالكرَجِ
هيهات ما في أوبةٍ ... من طمع لمُرتجي
فدعْ هُديتَ ما مضى ... وخذْ فُديتَ ما يجي
واسمعْ حديثاً حسَنا ... تقصُر عنه حُجَجي
أبصرتُ بدراً ساعياً ... بالأرض غير منبَج
وحوله كواكبٌ ... تُضيء مثلَ السُّرُج
بيضاءُ كالثلج تُري ... وجهاً كصبح أبلج
مُنَعّماً مُكلّلا ... بغيهَبٍ من سبَج
وحولَها لداتُها ... عوابثٌ بالمُهَج
يفتكْنَ بالألحاظ فت ... كَ البطل المدجّج
يجذب خصراً مُخطَفا ... بكفَلٍ مرَجْرَج
كمثل زِقٍّ ناقصٍ ... على حمار أعرج
يشفَعُه صدرٌ لها ... كأنّه في نهَجِ
مواخِرُ الفُلكِ غدتْ ... زخّارَة في لُجَج
تبسِمُ إذ تبسِمُ عن ... ذي أشرٍ مفلّج
يا ليتني قبّلتُه ... ففي لماهُ فرَجي
تُصبي الحليم ذا النُهى ... بذي احْوِرارٍ أدعَج
وبِدلالٍ فاحم ... مُعقرَبٍ مصولَج
ومن رسائله في وصف الخط: ورد عليه كتاب فلان أطال الله بقاء فلان لفلك السيادة والكرم، وعماداً تعلو به الهمم، ليشيد من عرصات الفضل دارسها، ويبين من أعلام المجد طامسها، وينير من آفاق المعالي حنادسها، ويبسط من أوجه الليالي عوابسها، فنظرت منه الى خط موصوف، معتدل الحروف، أملس المتون، مفتح العيون، لطيف الإشارات، دقيق الحركات، لين المعاطف والأرداف، متناسب الأوائل والأطراف، يروق العيون حسنه وشكله، ويعجز المحاول بيد التناول صنعه وفعله، متضمناً معاني كأنها رقية الزمان، وصُمتَةُ الأمان، لو كانت مسارب كانت الحياة، أو مشارب فادت النجاة، فأوجب تأملي لها تألبي، واستنار بفكري فيها تعجبي، قلت سبحان ربي القيوم، أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون أكل هذا الإحسان في طاقة الإنسان، ما أرى ذلك في الممكن والإمكان، ولئن كان ذلك فنحن الأنعام يشملنا اسم الحيوان، ثم رجعت الى نفسي، وثاب إليّ حسي، فقلت عند سكون جاشي، وثبوت طيشي، وإفراخ روعي وذهاب دهشي: إن من دبّ في الفصاحة ودرج في وجرها ورضع بلبانها، وجرع من درّها، وصاحب السادات مقتبلاً، والأمجاد مكتهلاً، لخليق أن يحل الفضل وسائطه ويجمع قطريه، بل يستولي على غواربه ويملك شطريه.
وله من رسالة أسقط فيها حرف الألف واللام:

رقعتي نحوك سيدي وسندي، وذخري وعضدي، ومن بذّ وبزّ، جمع من سبق وعزّ، فذّ دهره، ووحيد عصره، وغريب زمنه، ونسيج وحده، مدّ ربي مدتك في مربوب نعمته، ومدد نصرته، وكبت من نكب عن ودك، بعظيم ذخره ومخوف زجره، وصيره موطئ قدميك، وصريع نكبته بين يديك، وسوّغك من ضروب نعمه بهنيّه ومريّه، ومتعك من موفور قسمه بحميده ومزيده، كتبت، وكبدي تسعر بجحيم ودك، ومهجتي تصهر بسموم توقك، ونفسي تجذر من فظيع بعدك ونفسي يحصر بوجيع فقدك:
وكنتُ من بعدُ غير مَيْنٍ ... قريرَ عيش قريرَ عين
حتى رمتْني صُروف دهري ... عن قوس غدْرٍ بسهم بيْنِ
فشتّتَتْ زُمرَتي وهدّتْ ... ركني ومرّت تجري بحَيْني
عجبت من عيشتي وعمري ... وكيف بي عشتُ بين ذَيْن
فصل له من رقعة: لولا أن ذنوب الحبيب تصغر عن التأنيب، وقدر الرئيس يكبر عن اللوم والتعنيف، لكان لنا وللرئيس مجال واسع، ومتسع بالغ، فيما أتاه، إن لم نقل جناه، وفيما وعد فأخلف، إن لم نقل الذنب الذي اقترف، ومهما أجللنا قدره عن أن ينسب إليه خلف الوعد وإن كان جليلاً، ما عذره إن لم يكتب بوجه العذر أنه ما وجد سبيلاً، وقد كنا نتوقع تداني العناق، فصرنا نقنع بأماني التلاق:
فجميلُ الصبر والصف ... ح بهذا الشأن أولى
قُل ومن شاء المصافا ... ة على ذا الشّرط أوْ لا
وذكر المهم، آثر وأهمّ، فشوق البعيد شديد، وسؤال القاصي أكيد، وكلاهما على الأيام يزيد، فكِلهما الى يوم جديد.

ولده أبو عبد الله
محمد بن عيسى الفقيه
ذكر أنه كاتب شاعر، بارع ماهر، مهندس منجم، لغارب الفصاحة متسنّم، في ملتقى أولي العلم كميٌ معلم، وقد أورد من شعره ما يهزّ أعطاف القلوب مراحا، ويدير على الأسماع من الرحيق المختوم راحا، وله من قصيدة:
أفشى هواه بأدمُعِ الأجفان ... وأبتْ عليه مطالبُ الكتمان
رام التّجمُّل للوشاة فلم يُطِقْ ... فعصى النّصيحَ ولجّ في العصيان
عنّتْ له فأرَتْهُ بدراً طالعاً ... من فوق غُصنٍ بان في كثبان
هيفاءُ يحسد جيدَها ريمُ الفلا ... ظلماً ويغبِطُ وجهَها القمران
ومنها:
سلبَتْ نُهاه وأورطَتْهُ تعمُّدا ... في فِتنة من لحظِها الفتّان
إنّي ابتُليتُ بحبها وأجبْتُه ... لمّا بَدا لي شخصُه ودعاني
فلُهيتُ من ولَهي العظيم عن النُهى ... وسلوتُ من شغفي عن السلوان
قولي لهما ما تأمرين لمدنف ... كلِفٍ بحبّك هائم حرّان
سنة له لم يدر ما سِنة الكَرى ... ملقى أسنّة طرفك الوسنان
أبليت طوعاً في المحبة جِدّتي ... ورضيت قسراً في الهوى بهوان
وصرفت نحو هوى الملاح بصيرتي ... وسرحت في بيدائهنّ عِناني
حتى تبيّن لي الصوابُ وأنني ... أفنيت في طلب الضّلال زماني
فتركت لهوي واطّرحت مجانتي ... وجفوت من نبَذَ الهوى وجفاني
وله من قصيدة:
كتمتُ الذي بي فانتفعت بكتماني ... وأعلنتُ حالي فاتُّهمت بإعلاني
وما خلت أنّ الأمر يفضي الى الذي ... رأيت ولكن كل شيء يُرى وانِي
وله:
لا تعذلوه فإنه مفتونُ ... سلبت نهاه مَها القصورِ العينُ
برزت فتاة منهمُ في خدّها ... وردٌ وفي وجناتها نسرينُ
في طرفها سقم وفي ألحاظها ... غنَجٌ وفي تلك المعاطف لينُ
عنّت له وتبخترت في مشيها ... فأرت غصونَ البان كيف تلين
وترجرجت أردافها فرأى بها ... كيف انتقى كثبانها يَبرينُ
ولو أنها سفرتْ فأبدت وجهَها ... لأرت ضياءَ الصُبح كيف يَبين
أنَسيتِ ليلتنا وقد خلص الهوى ... منا وحبلُ الوصلِ وهو متين
بتنا على فرش العفاف وبينا ... نجوى ترقّ لها الصفا وتلين
والليل كالزّنجيّ شدّ وثاقه ... والنجم مطّلع عليه أمين

ومنها في المدح:
هذا الذي جدواه سبعة أبحر ... تجري ولكن ماؤهنّ معين
ذو هيبةٍ كالليث إلا أنه ... متردد وله النفوس عرين
برٌ فليس الوعد منه بمخلف ... أبداً وليس العهد منه يخون
فوليُّه في الأكبرين معظم ... وعدوه في الأصغرين مهين
وله الى الفعل الجميل توثّبٌ ... وله عن القول القبيح سكون
فالظل لا متنقل والورد لا ... متكدر، والمنّ لا ممنون
خلق كنوار الحدائق زاهر ... وحِجى كأعلام الجبال رصين
وحميّة تولي الأذلّةَ عزةً ... وتعلِّم الأيام كيف تكون
ونصيحة لله يوضح نورها ... ظُلَمَ الشكوك إذا دجت فتبين
وله في الغزل؛ ويغنّى به:
مولاي يا نورَ قلبي ... ونور كلِّ القلوبِ
أما ترى ما بجسمي ... من رقةٍ وشحوب
وما بداخلِ قلبي ... من لوعةٍ ووجيبِ
فلِم بخلتَ بوصلي ... وليس لي من ذنوب
فإن يكن لي ذنبٌ ... فأنت فيه حسيبي
ومحنتي فيك جلّت ... عن فهم كل لبيب
وما لسقمي شفاء ... ولا له من طبيب
ولا لدائي دواء ... إلا وصالُ الحبيب
مولاي إن ذبتُ عشقاً ... فليس ذا بعجيب
برِّدْ غليل فؤادي ... بزورة عن قريب
ففي صميم فؤادي ... جهنّم في اللهيب
وله:
بمهجتي ظبي خدر زار مكتتما ... فردّ روحي الى جسمي وما علما
أبدى القبول مع الإقبال حين بدا ... وقدّم البشرَ والتسليمَ إذ قدما
فقلت: مولاي صلْ من شفّه سقم ... فجاد لي بوصال أذهب السقما
فعاد شكّي يقيناً في زيارته ... فلو ترحّل عن عيني لما عدما
وله في المعنى:
أتاني من أهوى على غير موعد ... فخيّل لي أن الزيارة في الحُلْمِ
تبختر في الأرداف كالغصن في النقا ... ولاح على الأزرار كالقمر التّمِّ
خضعتُ له والذلّ من شيم الهوى ... فأسعد بالتقبيل والضمّ والشمِّ
وأطلعته عمداً على ما يجنّه ... جناني من البلوى وجسمي من السقم
فأشفق من حالي ورق لذلّتي ... وجاد بوصل ردّ روحي الى جسمي
ولما مضى فكّرت في كل ما انقضى ... فصار يقيني فيه أثبتَ من وهمي
وله:
جاد بالياسمين والورد خدٌ ... وحبا الأقحوان والخمرَ ثغرُ
أنا والله عاشق لك حتى ... ليس لي عنك يا منى النفس صبر
فحياتي إن تمّ لي منك وصل ... ومماتي إن دام لي منك هجر
وله:
بأبي ظبي مليح فائق ... بابليّ اللحظ غصنيّ القوام
عسليّ الريق خمريّ الهوى ... لؤلؤي الثغر درّي الكلام
إن تثنّى ماس غصناً في نقا ... أو تبدّى لاح بدراً في تمام
حزتُ إذ نادمني من وجهه ... دعوة تمّت بروض ومدام
وخشيت البين إذ ودّعني ... فانثنى يومُ وداعي بالسّلام
وله من المراثي، ما يحل للقيام حبى المستمع الجاثي، فمنه قوله من قصيدة طويلة:
عزّ العزاء وجلّ البينُ والجزعُ ... وحل بالنفس منه فوق ما تسعُ
يا عينُ جودي بدمع خالص ودمٍ ... فما عليك لهذا الرزءِ ممتنع
فالجسمُ ينحلُ والأنفاسُ خافتة ... والقلب يخفق والأحشاء تنصدع
كوني على الحزن لي يا عين مسعدة ... فإن قلبي لما تأتينه تبَع
ومنه:
وكانت الأرض لا تحوي محاسنه ... وقد حوى شخصَه اللحدُ الذي وضعوا
مَن لليتامى وأبناء السبيل وهم ... قد ارتوَوا من أياديه وقد شبعوا
بُعداً ليوم أتاه الموت فيه فما ... به الذي بصر من بعدُ مطّلع
بكته شمس ضحاه واختفت جزعاً ... وألفيت تحت ستر الغيم تطلع

سعوا مشاةً وهم في الزي أغربة ... مسودّة من وراء النعش تتبع
ولم يكن لهمُ بالعيد من فرح ... ولا لهم في التسلي بعده طمع
لو يُفتدى لافتدته من عشيرته ... ذوو الحفيظة والأنصارُ والشيع
لكنّ من غاله الموت المحتم لا ... يفدى ولا من نيوب الخطب ينتزع
جاءت ملائكة الرضوان معلمة ... بأنّه بجنان الخلد مرتفع
وقد أعدت له أعماله غرفاً ... فيها لأنفس أهل الفضل مرتبع
الموت وِرد وكل الناس وارده ... وقد رأوه عياناً بعد ما سمعوا
ما بالهم شعروا بالموت أنهم ... سَفْر وهم لاقتناء الزاد ما شرعوا
نالوا مغبّة ما قد قدموه له ... فعلا به حصدوا منه الذي زرعوا
يا فجعةً لم تدع في العيش من أرب ... وغُصّةً في لَهاهُ ليس تبتلع
أضرمتِ ناراً على الأحشاء موصدة ... أكبادنا في لظى أنفاسها قطَع
ومنها:
بني لُبانة إنّ الله فضّلكم ... على الورى فبِكمْ في الدّهر يُنتفع
آراؤكم لذوي الإرشاد مرشدة ... وجودُكم لذوي الإكثار منتَجع
وقدركم قد سما عزاً مدى زحلٍ ... وجاهكم في ذراه الخلق قد وقعوا
وقوله من قصيدة أخرى: استهلال:
شهابُ المنايا من سماء الردى انقضّا ... وركن المعالي والجلالِ قد انفضّا
ومنها:
بكتْه المذاكي المقربات وقطّعت ... شكائمها إذ منه أعدمت الركضا
مشت وهي بين الخيل أبرَرُها دما ... وأبرزها جسماً وأهزلها نحضا
وكادت سيوف الهند تندقّ حسرة ... وأجفانها تنشقّ عنها لكي تُنضى
وخطّ على الخطية الرزءُ أحرفا ... أرادت لها حِفظاً فحوّلها حفضا
وكادت تفانَى حوله كل جُنّة ... أسىً وتذوب البيض واللامة القضّا
شهدنا على قربٍ بمشهد موته ... مشاهدَ لم تخط القيام والعرضا
ومنه:
أعاد سرورَ العيد حزناً مماتُه ... ومُبرَمُ أمر فيه حوّله نقضا
فما أحد وافى المصلى ضحى ولا ... دُجى أبصرت من همه عينه غمضا
ومنها:
ألا لم يمت من كان خلّف بعده ... أخاه علياً إذ إليه العلا أفضى
أحبّ محب للفضائل كلها ... وأفضل إنسان على كسبها حضا
ومنها:
تعزّوا فإن الموت حتم على الورى ... توافي به الآجال في الوقت إذ يقضى
وكم إسوة في المصطفى وصحابه ... وقُدْماً قفا آثارَهم فقضى الفرضا
لقد مات فيه عدّة أيُّ عدة ... لنا فعدمنا كل عيش به يرضى
وأبصارُنا كانت تسامى له وقد ... غدا الكلّ منا طرفه اليوم قد غُضّا
وقد كان طرفي ليس يغضي على القذى ... فأضحى على أقذائه اليوم قد أغضى
فظُفر الجوى الباقي بقلبي ناشب ... وباب الأسى الملقى على مهجتي عضا
ومن شعره المودَع رسائله.
له في وصف كتاب:
تضوّع منه إذ فضضتُ ختامه ... نسيمُ فتيتِ المسك والعود والندّ
ونزّهت طرفي في حدائق أزهرت ... بها زهرة السوسان والآس والورد
بصفحة نور من نهار دجت بها ... سطور ظلام حالك اللون مسودّ
وطالعت ألفاظاً يواقيت نُظّمت ... مع الجوهر المكنون والدرّ في عقد
يزيل الضنى عن ذي السّقام مرورُها ... به بل تقيم الميت من رقدة اللّحد
ومنها:
مضمنة من علم أحواله الذي ... يسرّ سرور الوصلِ في زمن الصدّ
وله صدر رسالة:
يا حالَ حالٍ بسقم النفس والجسد ... قد رُدّ عن ورد ماء الأمن والرّشَدِ
قد قيدته الليالي عن تصرفه ... الى النجاة بقيد الأهل والولد
ولو أمنتُ عليهم بعد منصرفي ... صرف الليالي لقوّت عزمتي جلدي

من بعدِ نعمةَ لم تنعم بلذّتها ... نفسي ولا بردت من لوعة كبدي
قد أسس البين عندي منزلي ولهٍ ... فمهجتي للجوى والعين للسّهد
وأرّق البعد جفني ثم فرّقني ... فالجسم في بلدٍ والروح في بلد
أخي ومولاي علّ الدهر يجمعنا ... بمنزلٍ عن جميع الشرّ مبتعد
شوقي إلى لقائك شوق الظمئان الى الماء الزلال، وارتياحي الى ما يرد من تلقائك ارتياح السقيم الى الصحة والإبلال، وتلهفي على فراقك تلهف الحيران، وتأسفي على بعدك تأسف الولهان، لكنني إذا رجعت الى شاهد العقل، وعدلت الى طريق العدل، يمازج قلبي سروراً، ويخالط شوقي بهجة وحبوراً، بما ألهمك الله تعالى إليه من صفاء النية والإخلاص، والظفر بأمل النجاة والخلاص، وأتلو عند ذلك (يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً) ثم أرجع الى قول النبي صلى الله عليه وسلم (الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن)، فأعلم أن الأمور كلها مقدرة، وأنه في اللوح مسطرة فأفزع الى الدعاء لمقدر الأمور، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أن يحسن لنا العقبى، ويقضي لنا بالحسنى، ويسبل علينا من العافية ستراً سابغاً ضافيا، ويوردنا من السلامة مورداً سائغاً صافيا، وأن يقرب بك الاجتماع، حيث يوجد الاستمتاع، بما تقرّ به الأعين وتلذّ الأسماع.
فصل من رسالة أخرى في العتب قد عاملني في مشاهد هذه الأيام، التي قمعت الخاص والعام، بأشياء لو جرت بيني وبينه على خلوة لعددتها من لذيذ الأنس، لكنها أتت في الملا بما آلم النفس، واحتملت ذلك منه رجاء أن يقلع عنه، فازداد لجاجة، وازددت حراجة، حتى استفحل الثُغاة عليّ بسبب ذلك المزاح، واستنسر البغاث إليّ وهزّ الجناح، ولو شئت حينئذ لعرفت كل واحد بما جهله من أبوّته وقيمته، وأعلمته بما لم يعلمه من خُلقه وشيمته:
فمن جهلت نفسُه قدرَه ... رأى غيرُه فيه ما لا يرى
لكنني أغضيت على موجع القذى، وصبرت على مفجع الأذى، وأعرضت عن أشياء لو شئت قلتُها. ولو قلته لم أبق للصلح موضعاً، وأنا أحرص على صحبته ممّن يرعاها حق رعايتها، وأروم حفظ ذلك بالمحافظة على ما سلف بيننا من المصافاة، والاعتداد بما له قبَلي من الحقوق المثبتة بخالص المؤاخاة، وأطرح ما أعاين من الزلات والهفوات، فأحب أن يحسن الظن بي، والذكر عني، فإن فعل ذلك فعل الأشكل به والأليق بأدبه، والأولى بجميل مذهبه، وقد أطفأت عن قلبي هذه المعاتبة ناراً موصدة، وبردت من صدري غلة موقدة.

فصل من أخرى
مسترقّ أياديها، يرغب الى شريف معاليها، أن تحلّه من نفسه النقيّة محل المصطنعين المخلصين، وتنزله من حضته الرئيسية منزلة الأولياء المختصين، فإنّ غرس فضلها السابق إليه أثمر عنده شكراً وحمداً، وأثبت لديه محبة ووداً، وهو يقسم بالله العظيم، إنه من موالاتها لعلى صراط مستقيم، ومن الإقرار بفضلها لعلى منهج قويم، ومن الدعاء لها لعلى حال مقيم، وكيف لا يكون كذلك وقد صيّره سالف إحسانه في الرق، وملكه فارط امتنانه ملك المستحق، فهو لا يفتر من جميل شكرها لساناً، ولا يخلي من خلوص ودّها جنانا.
أبو حفص
عمر بن حسن النحوي الصقلي
ذكر أنه شيخ لغة ونحو، وله في علمهما سبْحُ صحة وصحو، حصل في اعتقال الإفرنج في صقلية، وسيم أنواع البليّة، وشعره متناسب الحَوْك، متناسق السلك والسبك، وله قصيدة في مدح روجار، صاحب صقلية، وهو في قبضة الإيسار، أولها:
طلب السّلوّ لوَ انّ غير سُعادِه ... حلّت سويدا قلبه وفؤادِه
ورجا زيارة طيفها في صدّها ... وغرامُه يأبى لذيذَ رقاده
والله لولا المَلْك روجار الذي ... أزدى لحبيّه عظيمَ وداده
ما عاف كأسَ الوجد يومَ فراقها ... ورأى محيّا المجد في ميلاده
ومنها في المدح:
يهتزّ للجدوى اهتزاز مهنّد ... يهتزّ في كفيه يوم جلادِه
ويضيء في الديجور صبحُ جبينه ... فتخال ضوءَ الشمس من حسّاده
ومطالع الجوزاء أرض خيامه ... والنجم والقمران من أوتاده
وإذا الأمور تشابهت فلعَضْبه ... خطٌ يبيّض سودَها بمداده
ومنها:

يا أيها الملك الذي ثُنيَتْ به ... قدَما الفظاظة في صفا أصلادِه
ودَعته أرواح العدى فرمى بها ... لعَباً تلقّتْها ظُبى أغماده
واقتصرت منها على هذه النُغْبة مع الظمإ إليها، فما أوثر إثبات مديح الكفرة، عجل الله بهم الى لفح ناره المسعرة، وهذا الشاعر معذور، فإنه مأسور.

عثمان بن عبد الرحمن المعروف ب
ابن السوسي
مالطة مسقط رأسه، ومربط ناسه، ومغبط كأسه، وبه تهذب، وقرأ على أبيه الأدب، ثم سكن بلرم واتخذها دارا، ووجد به قرارا، ونيّف على السبعين، ومُتِّع ببنين، وله شعر صحيح المعنى، قويم المبنى، لذيذ المجنى، وذكر أنه أنشده لنفسه قبل وفاته بأيام قلائل، مرثية في بعض رؤساء المسلمين بصقلية تدل على ما حواه من فضائل، وهي قصيدة طويلة أولها:
ركابُ المعالي بالأسى رحلَه حطّا ... وطودُ العلى العالي تهدّم وانحطّا
فنائي مساءات الأسى متقرّب ... وقرب مسرات السرور لنا شطا
وكيف لنور الشمسِ والبدرِ عودةٌ ... وهذا منارُ المجد والعز قد قُطّا
أصيبَ فما ردّ الردى عنه رهطه ... بلى أودع الأحزان إذ ودّع الرّهطا
ومنها:
يعز علينا إن ثوى في بسيطة ... وردّ الردى عن كفّه القبضَ والبسطا
كأن حَماماً للحمام قد انبرى ... لأرواح أهل الفضل يلقطها لقطا
فيا رزء ما أنكى ويا حزن ما أبكى ... ويا دهر ما أعدى ويا موت ما أسْطى
عزاءً عزاءً قد محا الموت قبلنا ... ملوكاً كما يمحون من كتبٍ خطّا
جماعة من شعراء جزيرة صقلية
ذكرهم أبو القاسم علي بن جعفر بن علي السعدي المعروف بابن القطاع في كتاب: الدرة الخطيرة والمختار من شعراء الجزيرة، وهم أقدم عصراً وأسبق شعراً وقد أوردت منها غرراً والتقطت من عقدها درراً، فمنهم:
ابن القطاع مؤلف الدرّة الخطيرة
ذكر أن مولده سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وأنه قال الشعر صبياً سنة ست وأربعين، وعمّر، ورأيت أنا بمصر من رآه وعاش الى آخر زمان الأفضل ورأيت خطّه على دفتر في سنة تسع وخمسمائة فممّا أورده من شعره قوله من قصيدة:
فلا تنفدنّ العمرَ في طلب الصبا ... ولا تشقينْ يوماً بسعدى ولا نُعْمُ
فإن قصارى المرء إدراك حاجة ... وتبقى مذمّات الأحاديث والإثمُ
وقوله من أخرى:
قهوةٌ إن تبسّمت لمزاج ... خِلْتَ ثغراً في كأسها لؤلئيّا
فاصطحبها سلافةً تترك الشي ... خ، إذا ما أصاب منها صبيا
واغتنم غفلة الزمان فإن ال ... مرء رهنٌ ما دام يوجد حيا
قطعَ العذرَ يا عذولي عذارٌ ... كهلال أنار بدراً سويّا
وقوله من أخرى في مدح الأفضل، أولها:
صاحبيّ وا أسفا ... ذي ديارُها فقِفا
واسمعا أبثكما ... من حديثها طرفا
وقوله في أخرى:
فيا نفس عدّي عن صباك فإنّه ... قبيح برأسٍ بالمشي معمَّمِ
أفِق إنّ في خمسين عاماً لحجة ... على ذي الحجى إن لم يكن قلبه عَمِ
وقوله في أخرى:
من ذا يطيق صفات قوم مجدهم ... وسناؤهم من عهد سامٍ سامِ
وحِماهُمُ من عهد حام لم يزل ... يحميه منهم ليثُ غابٍ حامِ
وقوله من أخرى:
إذا ابتسمتْ يوماً حسبتَ بثغرها ... سموطاً من الياقوت قد رُصِّعتْ درّا
وإن سفرتْ عاينتَ شمساً مُنيرةً ... تردّ عيون الناظرين لها حسْرى
وتسلب عيناها العقولَ إذا رنتْ ... كأن بعينيها إذا نظرت سحرا
ومنها:
ألا إنما البيض الحسان غوادرُ ... ومن قبحت أفعاله استحسن الغدرا
يملن الى سود القرون وميلُها ... الى البيض منها كان لو أنصفت أحرى
وقوله في وصف الرمان:
رمانة مثل نهد العاتِق الرّيم ... يزهى بلون وشكل غير مسؤوم
كأنها حقّة من عسجدمُلِئتمن اليواقيت نثْراً غير منظوم
وقوله:

أنت كالموت تدرك الناسَ طرّا ... مثلما يدرك الصباحَ المساءُ
كيف يرجو من قد أخفتَ نجاءً ... منك هيهات أين منك النجاءُ
وقوله في لثغة اللسان:
وشادنٍ في لسانه عُقَدٌ ... حلّت عقودي وأوهنت جلَدي
عابوه جهلاً بها فقلت لهم ... أما سمعتم بالنفث في العُقَدِ
وقوله:
أقبل الصبحُ وصاح الدّيَكهْ ... فاسقنيها قهوةً منسفكهْ
قهوة لو ذاقها ذو نُسُكٍ ... لزم الفتك وخلّى نسكهْ
فأهِنْ دُنياك تعززك ولا ... تترك المال كمن قد تركهْ
واغتنم عمرك فيها طائراً ... قبل أن تحصل وسطَ الشبكهْ
وقوله:
انظر الى الماء حاملاً لهباً ... واعجب لنار تضيء في ماء
وقوله:
شربت درياقة للْ ... هُموم إذ لبستني
دبّت بجسمي فأرْدتْ ... همومه وشفتني
قتَلْتُها بمزاج ... وبعد ذا قتلتني
كأنها طلبتني ... بالثأر إذ صرعتني
وقوله:
تنبّه أيها الرجل النّؤوم ... فقد نجمَت بعارضك النجومُ
وقد أبدى ضياء الصبح عمّا ... أجنّ ظلامه الليل البهيمُ
عنى بالضياء الرشاد، وبالصبح الشيب، وبالظلام الغي، وبالليل الشباب.
فلا تغررك يا مغرور دنيا ... غَرور لا يدوم به نعيم
ولا تخبط بمعوجّ غموض ... فقد وضح الطريق المستقيم

أبو عبد الله
محمد بن الحسن ابن الطوبي
ذكر أنه كان صاحب ديوان الرسائل والإنشاء، ومن ذوي الفضائل البلغاء، طبيباً، مترسلاً، شاعراً، وأورد من نظمه كل مليح الحوك صحيح السبك، فمن ذلك قوله في الغزل:
يا قاسي القلب ألا رحمة ... تنالني من قلبك القاسي
جسمُك من ماء فما لي أرى ... قلبَك جلموداً على الناس
أخاف من لين ومن نعمة ... عليك من ترديد أنفاسي
سبحانَ من صاغك دون الورى ... بداً على غصن من الآس
وقوله:
أي ورد يلوح من وجنتيه ... طار منّي الفؤاد شوقاً إليه
فإذا رمتُ أجتنيه ثناني ... عنه وقْعُ السيوف من مقلتيه
وقوله في العذار:
انظرْ الى حسَن وحُسْن عذاره ... لترى محاسنَ تسحر الأبصارا
فإذا رأيت عذاره في خدّه ... أبصرتَ ذا ليلاً وذاك نهارا
وقوله في العذار:
قام عذري بعذاري ... ه فما أعظم كرْبي
قلت لمّا أن تبدّى ... نبتُه: سبحان ربّي
أحرِقَتْ فضّةُ خدي ... ك لكي تحرقَ قلبي
وقوله في غلام عرضت له بفيه حرارة:
قالوا بفيك حرارةٌ ... فعجبت كيف يكون ذاكا
ورضابُ ريقك مطفئٌ ... نيرانَ أقوام سواكا
يقع لي أن المعنى حسن، ولكن اللفظ مضطرب.
وقوله في المعنى وهو أجود سبكاً:
شكا لحرارة في فيه أعيتْ ... معالجةً فبات لها كئيبا
وكيف يصحّ ذا تفديه نفسي ... وبرْدُ رضابه يطفي اللهيبا
وقوله:
ما لامني قطّ فيه ... إلا الذي لا يراه
حتى يراه فيضحي ... مشاركي في هواهُ
وقوله:
بخدّك آسٌ وتفاحةٌ ... وعينك نرجسةٌ ذابلهْ
وريقُك من طيبه قهوة ... فوجهك لي دعوة كاملهْ
وقوله:
ومُسقمي من طرفه ... بما به من سقمِ
أوْما لتقبيل يدي ... فقلت ما ذنبُ فمي
وقوله:
قُسِم الحسن على الخل ... ق ولكن ما أقلّه
فهو في الأمة تفصي ... لٌ وفي وجهك جُملَهْ
وقوله في غلام ناوله حصرماً:
أتعبت قلبي بالصدو ... د وليس أيأسَ من وصالكْ
فخُذِ الدليل فقد زجر ... تَ لما أؤمّل من نوالك
ناولتني من حصرم ... فرجوت نقْلَك عن فعالك
إذ كان يحمض أولاً ... وتراه يحلو بعد ذلك
وقوله:
يا سَميّي وحبيبي ... نحن في أمرٍ عجيب

اتّفاقٌ في الأسامي ... واختلافٌ في القلوبِ
وقوله:
فمُه فيه لؤلؤ في شقيق ... فوقه خاتَمٌ له من عقيقِ
وله في جفونه حدّ سيف ... مرهفِ الشّفرتين عضبٍ رقيق
فإذا رمتُ أن أقبّل فاه ... صدّ عما أريد خوف الطريق
وقوله في النحول:
يا من لجسم تقضّى ... حَراكه والسكون
فعاد شكلاً بسيطاً ... تزلّ عنه العيون
يخفى على الموت لطفاً ... فما يكاد يبين
فلو تجسّم يوماً ... تناولت المنون
وقوله في المعنى:
دقّ حتى لا تراه ... فهو كالمعنى الخفيّ
أو كما يهجس في الخا ... طر شيء غير شيّ
وقوله في المعنى:
سهامُ اللحظ ترشقُه ... فتدميه وتؤلمُه
ودقّ فما تكادُ ترى ... له شخصاً تكلِّمُهُ
كمثل الروح ينبئ عن ... حقيقته توهّمُه
وقوله في غلام قبّله، فقيل له: سرقت الورد من خده، والقطع لازم في حده:
قالوا: سرقتَ الورد في قبلةٍ ... من خدّ يحيى بن أبي المعزِّ
فقلت: لا قطع على سارقٍ ... إلا إذا استخلص من حرزِ
وقوله:
لي سيدٌ جارَ على عبده ... وعبدُه باقٍ على ودِّهِ
يمنعني من يده قبلةً ... حذار أن ترقى الى خدّه
وقوله في سوداء:
تحبّكِ يا سوداء نفسي بجهدها ... فما لك لا تجزينها بودادها
وأنتِ سواد العين مني أرى به ... وليس بياضُ العين مثلَ سوادها
وقوله في وصف مغنٍّ:
إذا غنى يزيل الهمَّ عنّا ... ويأتينا بما نهواه منه
له وتر يطالب كل هم ... بوتْر فالهموم تفرُّ عنه
وقوله، مما تكتبه الشيعة على فصٍ أسود غروي:
أنا غَرَويّ شديدُ السوادْ ... وقد كنتُ أبيض مثل اللّجين
وما كنت أسودَ لكنني ... صُبِغْتُ سواداً لقتل الحسين
وقوله في فص أحمر:
حمرتي من دم قلبي ... أين من يندب أينا
أنا من أحجار أرضٍ ... قتلوا فيها الحُسينا
هو من قول الشاعر في فص أخضر:
لا تعجبوا من خضرتي ... فإنها مَرارتي
تقطّرتْ لما رأت ... ما صنعوا بسادتي
وقوله في وصف اللوز الأخضر:
أرابَك اللوز له لذة ... تجلّ عن وصف ومقدارِ
انظر إليه فله خلقةٌ ... قد أحكمتْها صنعةُ الباري
لؤلؤة في صرّةٍ ضمنت ... حُقاً وقد قُيِّر بالقاري
وقوله في وصف لحية كبيرة:
ما إن رأيتُ ولا سمعت بلحية ... عرضت كلحية جعفر بن محمد
سدّتْ عليه وجهه فكأنّما ... عيناه في ثُقبَي كساء أسود
وقوله في اعتزاله عن الناس:
يا لائمي في انتزاعي ... عن الورى وانقطاعي
لا أستطيعُ على أن ... أكون بين الأفاعي
وقوله في الخضاب:
يا خاضبَ الشيب دعْهُ ... فليس يخفى المشيبُ
حصلتَ منه على أن ... يقال شيخ خضيبُ
وقوله في عذر الخضاب:
ما خضبت المشيب للغانيات ... لا ولكن ستَرْتُه عن عِداتي
حذراً أن يروا مشيبي فيبدو ... ليَ منهم سرورُهم بوفاتي
وقوله في ذم الخضاب:
رضيتَ يا خاضب الشي ... ب خطة ليس تُرضى
سوّدْتَ منك ثلاثاً ... وجهاً وعقلاً وعِرضا
وفي مدح الشيب:
يا بكياً للشباب إذ ذهبا ... بكيت في إثر غادرٍ هرَبا
الشيبُ أوفى منه بذمته ... هل فارق الشيب قط من صخبا
وقوله في المعنى:
بكى الشباب رجالٌ بئس ما صنعوا ... والشيب أفضل في التحصيل والنظرِ
إن الشبابَ كليلٍ ضلّ مسلكه ... والشيبَ كالصبح يهدي العين للأثر
وقوله في صفة الخشخاش:
حُقٌ من العاج وفي وسطه ... دقّ من اللؤلؤ منثورُ
وقوله في لبس بني العباس السواد:

بنو العباس قد فطنوا لسر ... بنزعهم لمبيضِّ الثياب
لئن لبسوا السوادَ لقد أصابوا ... لأنهم حكوا لون الشباب
وقوله في استدعاء صديق له الى مجلس أنس:
قد شربنا المدام من كف خود ... أقبلت كالهلال والليلُ داجِ
ونعمنا لولا مغيبك عنا ... بسماع الأرمال والأهزاج
وعجبنا للماء يحمل ناراً ... في قنان كأنها خرط عاج
وفتاةٍ تكشفت للنّدامى ... وعجوزٍ تستّرت بالزجاج
فاغتنم لذّة الزمان وبادِرْ ... كلّ ضيق تخافه لانفراج
وقوله في كبير اللحية:
لحية حمدون دثارٌ له ... تكنّه من شدة البردِ
كأنها إذ غاب في وسطها ... قطيفة لُفّتْ على قِرْد
وقوله في العناق:
لم أنسَ إذ عانقتُ بدر التمام ... في غسق الليل وجنحِ الظلامْ
كأنّنا لامانِ قد قوربا ... فألصق الخطّ فصارا كلام
وقوله في الخضاب:
خضبت شعرَك زوراً ... والشيب قد فاض فيضا
كذبتَ في كل شيء ... حتى على الشعر أيضا
وقوله في المعنى:
صبْغُ المشيب بليّهْ ... على الفتى ورزيّهْ
حصلت منه على أن ... أضحكت مني البريّه
وقوله في مدح البخل:
يا لائمي في اشغالي ... بحفظ مالٍ قليلِ
البخلُ أجملُ بالح ... رِّ من سؤال البخيل
وقوله في نار الفحم:
ونار فحم ذي منظر عجب ... يطرد عنه الشرار باللهب
كأنما النار مبرد جعلت ... تبرد منه برادة الذهب
وقوله في فتى بارد:
أتيتُ إليه في قيظٍ شديدِ ... فحيّاني محيّاه بثلجِ
فقلت: عدمت عندي بادهنجاً ... ولكن وجه هذا بادهنجي
وقوله في بخيل:
أتيته زائراً أحدّثه ... ولست في ماله بذي طمعِ
فظن أني أتيت أسأله ... فكاد يقضي من شدة الجزعِ
وقوله في النرجس، وقد أتى فيه بأربع تشبيهات:
أريد لأشفي سقم قلبي بنرجس ... فيذبل إن صافحته بتنفسي
له مقلة كالتّبر والجفن فضّة ... وقدّ كغصن البان في ثوب سندس
وقوله في ذم مغن:
غنّى وإن كان مقيتاً فلا ... ينسبه الله الى المقتِ
من حُمَّ فلينظر الى وجهه ... فإنه يبرد في الوقتِ
وقوله:
لا تصلْ من صدّ تيهاً ... أبداً واستغنِ عنه
كن كمثل الكرم يعلقْ ... بالذي يقرب منه
وقوله:
يحبّ بنو آدم ربّهم ... ولكنهم بعدُ يعصونه
وإبليسُ قد شربوا بغضه ... وهم بعد ذاك يطيعونه
فهذا التنافي فما بالهم ... يرون الضلالَ ويأتونه
وقوله في الشيب:
أرى عيني إذا ثقلت مشيباً ... يكون لها انقباضٌ وانخفاضُ
كأن العين تشفق أن تراه ... مخافة أن يحلّ بها البياض
وقوله:
سلَوْنا حبّه لما جفانا ... وكان بموضع منّا شريفِ
كمثل الزهر تكرمه طرياً ... ويُطرَح إن تغير في الكنيف
وقوله:
إن أنت لم يحتج إليك الورى ... كنتَ بهم في تعب متعب
ألا ترى الماء إذا لم يكن ... شاربه عطشان لم يُشرَبِ
وقوله:
احذر صديقك إنه ... يخفى عليك ولا يبينُ
إن العدو مبارز ... لك والصديق هو الكمينُ
وقوله في راقصة:
راقصة كالغصن من فوقه ... بدرٌ منيرٌ تحت ظلماء
تلهب مثل النار في رقصها ... وهي من النعمة كالماء
كأنما في رجلها عودُها ... وزامرٌ يتبع بالنّاء
ساحرة الرقص غلامية ... منها دوائي وبها دائي
إذا بدت ترقص ما بيننا ... يرقص قلبي بين أحشائي
وقوله في العذار:
عذاره في خدّه أنه ... سبحان ربي الخالق الباري

معجزة يا قوم ما مثلها ... هل ينبت الآس على النار
وقوله فيه:
قلت لما كثّر الشّع ... رُ عليه عاشقيه
أحرِقَت فضة خدي ... ه فغالى الناسُ فيه
وقوله فيه:
كأنما عذاره ... والخد منه الأحمر
غلالة ورديةٌ ... فيها طراز أخضرُ
وقوله في مجدور:
جُدّرَ فازدادت مداجاته ... ونحن في الحب له زدنا
وكان كالفضة ما نقشت ... فزادها أن نُقِشَتْ حسنا
وقوله في العذار أيضاً:
يقول لي الآسُ قُل لي ... علامَ تكثر لَثمي
فقلت أشبهت عندي ... عذار من لا أسمّي
وقوله:
يخصّ البعيدَ بإحسانه ... وذو القرب من سيبه مخفقُ
كمثل العيون ترى ما نأى ... وليست ترى ما بها يلصق
وقوله:
لا تنكري أخلاقيَ الخارجهْ ... واختبري أخلاقيَ الوالجهْ
فالمِسك ما في الطيب شبهٌ له ... وإنما كسوته نافجَهْ
وقوله في ذم مغن:
ومغنٍ لو تغنى ... لك صوتَين لمُتّا
سمج الخلقة غثٌ ... ينحت الآذان نحتا
ويغني ما اشتهاه ... ولا يغنّي ما أردتا
كلما قال: اقترح قل ... ت: اقتراحي لو سكتا
وقوله في مثله:
غنّى كمن قد صاح في خابِيَه ... لا وهب الله له العافيهْ
ما أحد يسمعه مرةً ... فيشتهي يسمعه ثانيهْ
وقوله في مثله:
ومغنٍّ نحن منه ... بين أسقام وكُربهْ
يضرب العودَ ولكن ... ضربُه يوجب ضربَهْ
وقوله في مثله:
ومغنّ قد لقينا ... منه كرباً وبلاء
هو من برد غناهُ ... يجعل الصيفَ شتاء
وقوله في مثله:
يغني فنهوى انسداد الصماخ ... ونبصره فنحبّ العمى
دعاه رجال الى عرسهم ... فصيّر عرسهمُ مأتما
وقوله في مثله:
لنا مغنٍ غِناه ... يعود شراً عليهِ
لم يأتي منزل قوم ... فعاد قطّ إليه
وقوله في العذار:
لما رأيت عذاراً ... له خلعت عذاري
وبان للناس عذري ... فما أخاف اشتهاري
كأنه لامُ مسك ... خُطّت على جلّنار
أو البنفسجُ في الور ... د خضرة في احمرار
وقوله فيه:
وعذار كأنه لام مسك ... خطّها كاتب على جلّنار
عجب العاذلون منه وقالوا ... طاب في ذا العذار خلعُ العذار
ما رأينا بنفسجاً قبل هذا ... نابتاً في صحيفة من نُضار
وقوله في أبخر:
مالي أرى صاحبنا مَعْمرا ... قد عدم المنظر والمخبرا
تفسد ريحَ المسك أنفاسُه ... وتبطل الكافور والعنبرا
وكلّ من حدثه ساعة ... يقيم أياماً يشمّ الخرا
وقوله في أبخر دميم الخلقة:
وأبخر في فمه دبره ... تراه إن حدث يفْسو فمُه
يخفى عن الأعين لكنه ... يظهره النتنُ ولا يكتمه
وقوله في بارد:
لو كان في النار لما أحرقت ... وخاف أهلوها من الفالج
وعذِّبوا فوق الذي عذِّبوا ... إن هو لم يطرح الى خارج
وقوله في مثله:
قالوا به حمّى لها صولةٌ ... فقلت هذا كذب بينُ
قد أجمع الناس على أنه ... ما سخن الثلج ولا يسخن
وقوله في تفضيل السود على البيض:
شبيهاتِ المشيب تعافُ نفسي ... وأشباه الشبيبة هنّ حورُ
سواد العين نور العين فيه ... وما لبياضها في العين نور
وقوله في بخيل:
تبرّم إذ دخلت عليه لكن ... فطنت فقلت في عرض المقال
عليّ اليوم نذرٌ في صيام ... فأشرق لونه مثلَ الهلال
وقوله:
منجّم بكّر في حاجة ... ونجمه في الفلك العُلوي
حتى إذا حاول تحصيلها ... قارنه المريخ بالدّلو
وقوله في بعض إخوانه وقد استبطأ جواب كتابه:

أمثلي يا فدتك نفسي يُجفى ... ويُصرَف عنه وجه الود صرْفا
كتبت فلم تجبني عن كتابي ... ولم يُعِد الرسولُ عليّ حرفا
فآهاً ثم آهاً ثم آها ... وأفاً ثم أفّاً ثم أفّا
وله من قطعة يستدعي بعض إخوانه:
عندي الذي تتمنى ... عندي الذي تشتهيه
وما يتمّ سرورٌ ... إلا إذا كنتَ فيه
وقوله:
تأمّلْ إن في اسمك شرَّ معنى ... وقد يدري الغرائبَ مبتغيها
لئن سمّوك يعلى ما أرادوا ... بفتح الياء إلا الضمَّ فيها
وقوله:
صبرتُ على سوء أخلاقه ... زماناً أقدّر أن يصلحا
فلما تزوّج قاطعته ... لأني تخوّفت أن ينطحا
وقوله:
إذا سبك إنسان ... فدعه يكفك الربُّ
ولا تنبح على كلب ... إذا ما ينبحُ الكلب
وقوله:
يقرب قولُه لك كلّ شيء ... وتطلبه فتبصره بعيدا
فما يرجو الصديق الوعدَ منه ... ولا يخشى العدوّ له وعيدا
طابق ثلاثة بثلاثة في هذا البيت.
وقوله:
قاطعتُ عمران ولم أستطع ... صبراً على أشياء ليست تليقْ
فالكفّ إن حلّت بها آفة ... يقطعها المرء فكيف الصديقْ
وقوله في التصوف:
ليس التصوّف لبس الصوف ترقعه ... ولا بكاؤك إن غنى المغنّونا
ولا صياح ولا رقص ولا طرب ... ولا تَغاش كأن قد صرت مجنونا
بل التصوف أن تصفو بلا كدر ... وتتبع الحقّ والقرآن والدينا
وأن تُرى خائفاً لله ذا ندمٍ ... على ذنوبك طولَ الدهر محزونا
وقوله في الزهد:
لو قلت لي أي شيء ... تهوى لقلت خلاصي
الناس طراً أفاعٍ ... فلات حين مناص
نسوا الشريعة حتى ... تجاهروا بالمعاصي
فشرّهم في ازدياد ... وخيرُهم في انتقاص
حتى يوافوا المنايا ... فيؤخذوا بالنواصي
يا ويحَهم لو أعدّوا ... لهول يوم القصاص

أبو الحسن
علي بن الحسن ابن الطوبي
ذكر أنه إمام البلغاء، وزمام الشعراء، مؤلف دفاتر، ومصنف جواهر، ومقلد دواوين، ومعتمد سلاطين، سافر الى الشرق، وحل منه في الأفق، وكان في زمان المعز بن باديس عنفوانه، وله فيه قصيدة رُصّع بها ديوانه:
أجارتنا شدّي حزيمك للتي ... هي الحزم أو لا تعذلي في ارتكابها
وكفّي فإن العذل منك زيادة ... عليّ كفى نفسي الحزينةَ ما بها
ومنها:
وإما المُنى أو فالمنيّة إنها ... حياة لبيب لم ينل من لبابها
وهل نعمة إلا ببؤسي وإنما ... عذوبة دنيا المرء عند عذابها
سآوي الى عزّ المعزّ لعله ... سيأوي لنفس حرة واكتئابها
إليك معز الدين وابن نصيره ... حملت عقود المدح بعد انتخابها
وأثواب حمد حُكتُ أثواب وشيها ... على ثقةٍ مني بعظم ثوابها
وله من قصيدة:
أجارتنا إن الزمان لجائرُ ... وإن أذاه للكرام لظاهر
أجارتنا إن الحوادث جمة ... ومن ذا على ريب الحوادث صابر
أجيراننا إن الفؤاد لديكم ... لثاوٍ وإن الجسم عنكم لسائر
أأترك قلبي عندكم وهو حائر ... وآخذ طرفي منكمُ وهو ساهر
كذا يغلب الصبر الجميل كما أرى ... ويخسر في بيع الأحبة تاجر
وله:
أعددتُ للدهر إن أردَت حوادثه ... عزماً يحل عليه كلّ ما عقدا
وصار ما تتخطى العين هزته ... كأنما ارتاع من حدّيه فارتعدا
وذابلاً توضح العليا ذبالته ... كأنها نجم سعد لاح منفردا
ونشرةٌ ليس للريح المضيّ بها ... إلا كما عرضت للنهي فاطّردا
وسابحاً لا تروع الأرضَ أربعُهُ ... كأنه ناقد مالاً قد انتقدا
فداك مالٌ متى يحرزه وارثه ... فخير ما وجد الإنسان ما وجدا
وله:

سلِ الليل عني هل أنامُ إذا سجى ... وهل ملّ جنبي مضجعي ومكاني
على أنني جلْد إذا الضرّ مسّني ... صبور على ما نابني وعراني
وله في الغزل:
ما أحسَب السحرَ غير معناها ... والعنبر الجون غير ريّاها
إنا جهلنا ديارها فبدا ... من عرفها ما به عرفناها
كأنما خلّفت بساحتها ... منه دليلاً لكلّ من تاها
لا كثَبٌ دارها فأغشاها ... ولا فؤادي يريم ذكراها
ومنها:
الموت أولى مى قضيت بها ... نحبي فمحياي في محيّاها
وأغبط الماءَ حين ترشفه ... إذ كان دوني مقبّلاً فاها
ومنها:
وما ثنائي على قلائدها ... إلا بأن أشبهت ثناياها
أجزع من عتبها ويبعثني ... إليه كرهاً طلاب عتباها
دنوّها منك من شمائلها ... وبعدها عنك من سجاياها
وله من أخرى أولها:
رأى نورَها أو رأى نارَها ... فلما تجلى اجتلى دارَها
وقد ضرب الليل أرواقه ... وأرخت دياجيه أستارَها
فقل في جمال يضيء الدجى ... ويغشى النجومَ وأنوارَها
ومنها:
وشاطرة ردفها شطرها ... وما يبلغ الخصر معشارها
ومنها:
فيا لك عصراً قطعنا به ... لياليَ تشبه أسحارها
ولذّات عيش مضى عينها ... فها أنا أطلب آثارها
فها هي لم يبق منها سوى ... أحاديث أعشق تكرارها
قضيت الصّبا بين أوطاره ... ولم تقض نفسيَ أوطارها
وله من أخرى:
أما من وقفة أم من مقام ... أبثك عنده داءً دخيلا
جفوتَ فضاقت الدنيا وكانت ... عليّ رحيبة عرضاً وطولا
لعلك يا قضيبَ البان يوماً ... تمهد في ظلالك لي مقيلا
أما لو كان قلبك من صفاةٍ ... لشيّعني على حبّي قليلا
ولكني دُفعت الى حديد ... ينوّل كلما قرع الصليلا
لئن أنبطتَ من عيني دموعاً ... لقد أذكيتَ في قلبي غليلا
فيا عجباً دموعٌ ليس ترقا ... ووجدٌ ليس يمكن أن يزولا
ولم أسمع بأنّ حياً توالى ... على أرض تزيد به مُحولا
أين هذا من قول القاضي أبي بكر الأرّجاني حيث قال وابتكر المعنى:
يروّي ضاحيَ الوجنات دمعي ... ويعدل عن لهيب جوًى دخيلِ
وما نفعي وإن هطلت غيوث ... إذا أخطأن أمكنة المحولِ
ولأبي الحسن الطوبي:
خالسته نظراً تحمّل بيننا ... نجوى هوًى خفيَت على الجلاّس
فاحمرّ ثم اصفرّ خيفة كاشح ... فعلَ المدامة عند مزج الكاس
وله:
أيا رب قرِّبْ دارها ونوالها ... وإلا فأعظم إن هلكتُ بها أجري
ويا رب قدّر أن أعيش بأرضها ... وإلا فقدّر أن يكون بها قبري
وله:
هبني أسأتُ فأين إق ... راري بذنبي واعتذاري
هلاّ ثناك عن الحفا ... ء غناك عنّي وافتقاري
لو أن غيرك رام بي ... غدراً لكان بك انتصاري
وله:
ارفق بعينيك فإنّ الذي ... ضُمِّنَتا من سقَمٍ زائدُ
فاستودع اللحظَ لأجفانها ... فهي مِراض وهو العائدُ
وله أيضاً:
وعيشٌ هززناه هزّ النسيمْ ... قضيبَ الإراكة عند الهبوب
مزجناه باللهو مزج الكؤوس ... بشكوى الهوى ورضاب الحبيب
فيا لك عصراً قضينا به ... حقوقَ الشبيبة دون المشيب
وله في العذار:
البدرُ في أزراره ... والغصن في زُنّاره
وكأنما فتّ العبي ... رُ على مخَطِّ عِذاره
وله أيضاً:
يا عاذلي أنتَ الخليُّ فخلّني ... وحَشاً عليه من الصبابة نارُ
كيف السلوّ وكيف صبري عندما ... قامت بعذري قامةٌ وعِذار
وله في الخمر وغيرها من قصيدة:
قضيتُ أوطارَ نفسي غير متّركِ ... ولم أعقها على لحْقٍ ولا حرَكِ

وكم رددت على العذّال ما سهروا ... في حوكة فهو لم ينجح ولم يحك
وكم عدوت الى الحانات منهمكاً ... بكل عاد الى اللذات منهمك
أهين مالي وأغلي الراح دونهم ... في ظلّ عيش كما تهوون مشترك
ومسمعاً يجمع الأسماع في قرَن ... من صوت غِرّ عليه لحن محتنك
وساقياً تركب الصهباءُ نظرتَه ... الى صريع من الفتيان منبتك
غدا يصرِّفها فينا ويمزجها ... فنحن وهي مع الأيام في ضحك
والماء يحذر منها أن تطير فقد ... صاغ الحُباب عليها صيغة الشّبك
ومنها:
كأنها جوهر في ذاته عرَضٌ ... قد شيب مُنسبِكٌ منه بمنسبك
فاسمع بعينيك عنها مثل ما سمعت ... أذناك ما قيل عن نوح وعن لمَكِ
وليلة بتُّها والأرض عامرة ... حولي بحور وبانٍ ماس في نبَك
ومنها في الدّبيب:
والكأس تخدعهم عني وقد نذروا ... بأنني غير مأمون على التّكك
حتى إذا أقبلوا منه ومال بهم ... أخذ الكرى وتداعى كل ممتسك
دببت أكتم في أنفاسهم قدمي ... كأنني بينهم ماش على الحسَك
وقد تخلص غيّي من يدَي رشدي ... فيهم وأطلق فتكي من عرى نُسكي
فبتّ أنقد مما خولوا سِككاً ... وكنت قدماً أجيد النقد للسكك
وقد وثقت بعفو الله عن زللي ... فما أبالي بما خطّت يد الملك
وله من أخرى في الخمر:
وصهباء كالإبريز تبصر كأسها ... من اللمع في مثل الشراع المدّد
كما حفّ نور البدر من حول هالة ... وفاض لهيب الشوق من قلب مكمد
إذا ما احتوتها راحة المرء أمسكت ... بهُدّاب ظل من سناها مورّد
وإن ناولتها بالمزاج يدٌ عَلا ... لها زبد مثل الدِّلاص المسرّد
إذا ما تبدّى تحسب العين أنه ... نجوم لجين لُحْن في أفق مسجد
وله:
حيّى بريحان وقد ... حصِرَ اللسانُ فناب عنه
وفهمتُ من معكوسه ... تأخير ما أبغيه منه
أحسن من هذا ما طالعتُه من مجموع في الأترج:
أترجّة قد أتتك تُهدى ... لا تقبلنه وإن سُرِرْتا
لا تهوَ أُترجّة فإنّي ... رأيت مقلوبها هجرتا
عدنا الى شعر ابن الطوبي.
نبَذٌ منه في الأوصاف والتشبيهات له في وصف الثريا:
انظر الى الأفق كيف بهجتُه ... وللثريا عليه تنكتُه
كأنها وهي فيه طالعة ... قميص وشيٍ وتلك عروته
وله في الخضاب ومدحه:
بعيشك ما أنكرت من ذي صبابة ... تجمّل في ردّ الصبا فأعادَه
هبِ الشيب في خدي بياض أديمه ... زمان شبابي في الخضاب سوادَه
وله في العذر:
قدّ من الأغصان يشرق فوقه ... وجهٌ عليه بهجة الأقمار
وكأنّ ممتدّ العذار بخده ... ليل أمرّ على ضياء نهار
وله:
يا حبّذا كأسٌ يكون بها ... ريقٌ كأنّ ختامه مسكُ
باتت تعلّلني بها وبه ... حسناء ما في حسنها شكُّ
هاتيك كالدنيا فلا أحدٌ ... إلا لها بفؤاده فتكُ
وله في العذار:
قال: العذول التحى فقلت له ... حسنٌ جديدٌ قضى بتجديد
أما ترى عارضيْه فوقهما ... لام ابتداء ولام توكيد
وله يصف الكأس والحباب:
يا حبذا كأس بدت فوقها ... حبابة زهراء ما تذهب
أداره الساقي فردّ الضحى ... وانجابت الظلماء والغيهب
فقلت للشِّرب انظروا واعجبوا ... من حسن شمس وسطها كوكب
وله يصف قوّاداً يحسن الصناعة:
وأحور مائل النظرات عني ... دسست إليه من يسعى وسيطا
فجاء به على مهَلٍ وستر ... كما يستدرج اللهبُ السّليطا

أبو محمد عبد العزيز بن الحاكم عمر بن عبد العزيز
المعافري

وصفه بالبراعة في الصناعة، والمهارة في العبارة، والتنزه في رياض الرياضيت، والتنبه في سحريات السحريات، وأورد له ما اخترت منه، قوله في العذار:
فيه للعين مُنيةٌ واعتذار ... حين أبدى البديعُ منه العِذار
فات حدّ القياس إذا صيغَ ماء ... وسط درّ مركّبٍ فيه نار
وقوله في الأوصاف:
انظر الى الزُهرة والمُشتري ... إذ قابلا البدر يريكا العجبا
قد أشبها قرطين قد علِّقا ... في جانبيْ تاج صقيل المذهب
وله أيضاً:
وكأن البدر والمرْ ... ريخ إذ وافى إليه
ملكٌ توقد ليلاً ... شمعةٌ بين يديه
وله في القناعة:
أنا لعمري يئستُ ... من الغنى فاسترحتُ
وقد قنعت فحسبي ... من الغنى أن قنعت

أبو الحسن علي بن أبي اسحاق
ابراهيم بن الودّاني
وصفه بالرئاسة والنفاسة، ومن شره قوله يصف ليلة:
من يشري مني النجوم بليلة ... لا فرق بين نجومها وصحابي
دارت على فلك السماء ونحن قد ... دُرْنا على فلَك من الآداب
وأتى الصباحُ فلا أتى وكأنه ... شيبٌ أطلّ على سواد شباب
وله في الشيب:
وبرغمي لما أتاني مشيبي ... قلت أهلاً بذا الضّحوك القَطوب
ولعمري ما كنت ممن يحي ... يه ولكن تملّقُ المغلوبِ
كان في عهد ابن رشيق وبينهما مكاتبات.
أبو القاسم أحمد بن ابراهيم الوداني
أنشدت له:
ترفّق بنفسك لا تضنه ... بحرص فحرصك لا ينفعُ
فكم عاجزٍ واسعٌ ماله ... وكم حازم فقرُه مدقعُ
أبو عبد الله محمد بن علي
ابن الصباغ الكاتب
كان في عهد ابن رشيق وبينهما مراسلات، ذكر أنه ناظم ناثر.
له:
وليلٍ قطعناه بأختِ نهاره ... الى أن أماط الصبحُ عنه لثامَهُ
إذا ما أردنا أن نشب لقاصد ... ضِراماً سكبناها فقامت مقامه
ليالي نوفي اللهو منّا نصيبه ... ونعطي الصبي مما أراد احتكامه
وله:
قومي الذين إذا السنابكُ أنشأت ... دون السحاب سحائباً من عِثيرِ
برقت صوارمهم وأمطرتِ الطُلى ... علَقاً كثرثار الحيا المتفجر
الواترين فلا يقاد وتيرهم ... والفاتكين بحمير وبقيصر
والمانعين حماهم أن يُرتعى ... والحاسمين لكل داء يعتري
وله:
لا يخدعنّك حِبٌ ... يطولُ منه السكوت
فالزِّند يضمر ناراً ... وهو الأصمّ الصموت
وكتب إليه أبو علي بن رشيق عند وصوله من القيروان الى مازر في أول رسالة:
كتابٌ من أخ كشفت ... قناعَ ضميره يدُهُ
تذكّرْ منزلاً رحباً ... وعذْباً طاب مورده
وكان يطير من شوقٍ ... الى عهد يجدّدُه
فكتب إليه في جوابه:
أخٌ بل أنت سيّده ... على ما كنت تعهده
بودٍّ غير محتاج ... الى شيء يؤكّده
لعلّ الله باللقيا ... كما يختارُ يسعده
وله في وصف ذكي:
أذكَى الورى كلِّهم وأعلمم ... فما يرى مثل لبّه لبُّ
يوضح بالفهم كلّ مشكلة ... كأنما كلُّ جسمه قلب
الأمير مستخلص الدولة
عبد الرحمان بن الحسن الكلبي
له في بعض الكتاب:
نحن كلانا يضمّنا أدبٌ ... حُرمتنا فيه حرمة النّسبِ
فعَدِّ عمّن معناك خالفه ... في كل فنٍ تسلمْ من التعب
واجنحْ إلينا فإنّ أُلفتنا ... تدفع باليمن حرفة الأدب
وقوله:
قلت يومها لها وقد أحرجتني ... قولة ما قدرت أنفكّ عنها
أشتهي لو ملكتُ أمركِ حتى ... آمر الآن فيك قهراً وأنهى
فبكت ثم أعرضت ثم قالت ... خنتني في محبة لم أخنها
قلت إن أنتِ لم تجودي بوصل ... فالمنى ما عليك لو نلتِ منها
الأمير أبو محمد القاسم بن نزار الكلبي

ذكر أنه كان مقيماً بمصر وتولى شرطتها.
وله:
عضّ تفاحة وناولنيها ... آهِ منها وآهِ من مهديها
فإن اشتقتُ منه طيب ثنايا ... ه أقبّلْ مواضع العضّ فيها
وله:
إنّي متى يجفو الحبي ... ب وصلت جفوته ببيْن
ومنعتُ عيني أن ترا ... ه ولو رأته فقأتُ عيني
وجعلتُه بفعاله ... في العين مثل قذاة عين
ووضته دون الحضي ... ض لو انّهُ في الفرقدين
وقطعتُه لو كان يش ... به أحمد ابن أبي الحسين

أبو علي بن محمد بن القاف الكاتب
له:
ولما رأيتُالناس لا خير عندهم ... صددت وبيت الله عن صحبة الناس
وصرتُ جليسَ الفكر ما دمت فيهمُ ... وأعملتُ حسنَ الصبر فيه مع الياس
وله:
سأكرم نفسي جاهداً وأصونها ... وإن قرّحت من ناظريّ جفونُها
ولست بزوّار لمن لا يزورني ... ولا طارحاً نفسي على من يهينُها
وله:
إذا ما أراد المرء إكرام نفسه ... رعاها ووقّاها القبيح وزيّنا
وإن هو لم يبخل بها وأهانها ... ولم يرْعَها كانت على الناس أهونا
وله في إفشاء السر:
حدثتُ خِلّي بهمّ ... رجوت منه انفراجي
وكان سرّي لديه ... كالنّار والليلُ داج
وله:
أيها الخائف المكا ... رِهَ وطّن لها الحشا
رُبّ أمرٍ كرهتَه ... نلتَ فيه الذي تشا
أخوه
أبو العباس بن محمد بن القاف
يا تائِهاً بجماله رِفقا ... أنت الذي عذّبتني عشقا
وزعمتَ أنك لا تكلمني ... عشراً فمَنْ لك أنني أبقى
وله:
وسقانا الراحَ ساقٍ ... ما له في الحسن نِدُّ
فهي في الكأس أقاح ... وهي في خدّيه ورد
وله:
أموالكم في النجم أودعتم ... ولا تحبّون الجفا والأذى
وتكرهون الهجوَ مني لكم ... هيهاتَ ما تسمح نفسي بذا
القائد أبو الفتوح
ابن القائد بدير المكلاتي، سند الدولة، حاجب السلطان
له:
ليس في الدنيا سرورٌ ... إنما الدنيا همومُ
وإذا كان سرورٌ ... فقليلٌ لا يدوم
تركها أفضلُ منها ... ذا بهذا لا يقومُ
أبو الحسن علي بن عبد الجبار
ابن الوداني
من أهل القرآن، وسبق ذكر والده وعمه له:
يا قانطاً من حالِه ... إن القنوط من البليّهْ
لا تيأسنّ من الغِنى ... لله ألطاف خفيّهْ
أبو علي بن حسين بن خالد الكاتب
له:
وشادن قُدّ قميص الهوى ... في حبّه ما عنه لي مذهبُ
كأنما الصّدغ على خدّه ... ياقوتة تلبسها عقربُ
وله:
لا تحاول من يَزيدٍ ... فضلَه واستغن عنه
ربما عضّك كلبٌ ... إن طلبت العظْم منه
أبو بكر محمد بن سهل الكاتب المعروف ب
الرزيق
له:
ضرائبُ الناس وأخلاقُهم ... شتى ضروب عندما تخبر
منها الزلال العذب إن ذقته ... يوماً ومنها الآجن الأكدر
فالخير فيهم ثمَدٌ آجن ... والشرُّ فيهم حصرم يزْحَر
أبو الفضل مشرف بن راشد
له:
سرتْ ورداء الليل أسحمُ حالك ... ولا سائرٌ إلا النجوم الشوابك
عشية أعشى الدمعُ إنسانَ مقلتي ... ونمّت بأسراري الدموع السوافك
وطاف الكرى بالطرف وهو محجّبٌ ... كما طاف بالبيت المحجّب ناسك
سرت موهِناً ثم استقلّت فودّعت ... يجاذبها حِقفٌ من الرمل عاتك
به غصنُ بانٍ أثمر البدرَ طالعاً ... عليه قناع من دُجى الليل حالك
غريبة حسن يحسن الهجر عندها ... وأعجِبْ بها محبوبةً وهي فاتك
وأحور مكحول المدامع عاقني ... عن الصبر فاستولت عليه مهالك

رعى الله أكنافَ الجزيرة إن رعى ... سوائمها عضْبُ الغِرارين باتك
يشيد أعاديه الحصونَ منيفةً ... وهل منع الإفشينَ ما شاد بابك
وإني لآتي الحقَّ فيما أقوله ... وما أنا فيما يعلم الله فاتك
شهدتُ لقد حاز العلا بيمينه ... غداة تصدّاه الرّدى وهو ضاحك
ليوث وغًى أذكت خلال ضلوعها ... لهياً أنارته لهنّ الحسائك
ومنه يصف القتلى، وطابق أربعة بأربعة في بيت واحد:
فأقصاهمُ رضوانُ عن روح جنة ... وأدناهمُ من نفحة النار مالك
وأنا أقول إن كان قد طابق ولكن في البيت اضطراب بيّن من قبل المقابلة، فأمعن النظر فيه.
وله من أخرى:
للتّلاقي يهونُ ما قد ألاقي ... من سُهاد وعَبرة واشتياقِ
لو تخلّصت للقاء لأطفأ ... تُ غليلي بدمعيَ المهراقِ
فدموع الفراق كالنار حَرّا ... وكذا ضدّها دموعُ التلاقي
كنتُ في غبطةٍ وطيب حياة ... لو وقاني من سطوة البيْن واق
كم قطعت الدجى بوصل حبيب ... وسّع العيشَ منه ضيقُ العناق
آهِ من صبوتي التي لم تدعني ... نازعاً من صبابةِ العشّاق
وله من أخرى:
أيه الغصن لِنْ بعطفك غضّا ... وليكن منك للقطيعة رفْضُ
وأجزِ ودّي بمثله ودع السخ ... ط وعُد للرضا فللختم فضُّ
يا شقيق الفؤاد حكمُك جورٌ ... لك مني حبٌ ولي منك بغضُ
نمْ هنيئاً فما دنا من جفوني ... مذ تناءيت عن جفوني غمضُ
غير أني إذا تأخر حظي ... منك والدمع واكف مُرفضُّ
كان لي مدح صاحب الخمس إبرا ... هيم حظا له على الفخر حضُّ
وله:
ما للحبيب وما لي ... تفديه نفسي ومالي
أريدُ عنه سلواً ... فإن بدا لي بدا لي
وله:
بثناياكَ العِذابِ ... لا تُطِلْ فيك عذابي
كنْ رحيماً بي رفيقاً ... واجعلِ الوصلَ ثوابي
لا يغرّنّك صبري ... واحتمالي منك ما بي
فالأسى بين ضلوعي ... والضّني بين ثيابي
وله في ذم مغنٍ:
غنّى فكدّ وعنّى ... مني فؤاداً مُعنّى
فقلت ماذا غناء ... تنحّ بالله عنّا
وله:
ما روضةٌ بالحَزْنِ ممطورةٌ ... لم تنتهبها أعينُ الناسِ
بكى عليه الغيث فاستضحكت ... عن نرجس غضٍّ وعن آسِ
أحسنَ من وجه أبي طاهر ... وإن رمى قلبي بوسواسِ
وله في صفة الليل الطويل:
وليلٍ كأن الحشرَ أول ساعة ... به بتّه والصبرُ ليس بنافعي
غنائي به لحنُ الثقيل من الأسى ... وشربي وإن أظمأ كؤوس مدامعي
فيا لك من ليلٍ أضاقَ مذاهبي ... وإن بتّ في ثوبٍ من الحزن واسعِ

سليمان بن محمد الطرابلسي
ذكر أنه سافر الى افريقية، وانتقل الى الأندلس، وتوطّنها، واتخذها لمخالطة ملوكها سكَناً، ومن شعره قوله من قصيدة:
نبّهتهُ لما تغنّى الحمام ... ومزّق الفجرُ قميصَ الظلامْ
وقلت قم يا بدرَ تمّ أدر ... في فلك اللهو شموسَ المدام
فقام نشوان وشمل الكرى ... له يرتمي مقلتيه التئام
ومجّ في الدنّ خلوقية ... عتّقها في الدنّ طول المقام
لاحت تحاكي ذهباً خالصاً ... دار من الدرّ عليها نظام
بِنتُ عناقيد إذا خامرت ... شيخاً أعارته مجون الغلام
يا هل لعيشي معه أوبة ... تعيد في وجه حياتي ابتسام
وله من قصيدة:
أجِرْ جفوني من دمعٍ ومن سهر ... وأضلعي من جوى فيهن مستعر
جرى عليّ بما شاء الهوى قدرٌ ... يا قومُ ما حيلة الإنسان في القدر
ما كنت أحسب دمعي سافكاً لدمي ... حتى أبحتُ لعيني لذّة النظر

رميتُ نبلاً أصابتني فلست أرى ... يوماً أعاود ذاك النزعَ في وتري
وله:
سبحانَ من صاغ الأنامَ بقدرة ... منه وأفرد بالملاحة جعفرا
حمل المحاسنَ كلّها مجموعة ... في وجهه كالصيد في جوف الفَرا

أبو الفتح محمد بن الحسين
ابن القرقوري الكاتب
أثنى على نظمه ونثره كثيراً، وذكر أنه كان قدْرُه كبيراً.
له:
حسب العواذل ما قد مرّ من عذلي ... شغلن بي وأنا عنهنّ في شُغُلي
يسُمْنَني النّسك لا يسأمن معتبتي ... ولا وحقّ الصبا ما النّسك من عملي
هيهاتَ خامرني خمر العيون كما ... تخامر الخمر عقل الشارب الثّمِل
إن العيون نفثن السّحر في عُقدي ... سحراً يوهّن كيدَ الفاتك البطل
وله:
بلا مِريةٍ إنّ العذولَ لمسرفُ ... غداةَ اغتدى في مجهَلِ اللوم يعسفُ
أطال صحيحاً من ملامة مدنف ... وشتّان في أمر صحيح ومدنف
فيا طيبها من كفّه إذ يديرها ... ويدني ثناياه إليّ فأرشف
رضاب أبِن لي ما بردت ببرده ... غليليَ أم ماء زلال وقَرقفُ
ووجهك أم صبح وفرعك أم دجى ... ولحظك أم عضب الغرارين مرهف
فيا زهرة الدنيا التي ليس تُجْتَنى ... من الصون إلا بالعيون وتقطف
تقاسمك الضدان شطرٌ مثقّل ... تحمّل أعباء وشطرٌ مخفّف
أقلبي الذي راع العذولَ اضطرابُ ... فأقصر عني أو جناح يرفرف
ضَلالٌ رجاء العاذلين إنابتي ... وإن قيّدوني جاهلين وعنّفوا
وفي المخلص:
وماذا عليهم أن أجود بتالدي ... وأفني طريفي قبل يومي وأتلف
لهم ما اقتنوا فليحرصوا في ادّخاره ... ولي كنز شِعر لا يبيد ويوسف
أبو عبد الله محمد بن الحسن
ابن القرني الكاتب
ذكر أنه منجّم، حاسب، كاتب.
له في وصف الغرق:
ينضج جسمي على الفراش لما ... بالقلب من لوعة ومن حُرق
لعارض يستهلّ واكفه ... عليّ واش بالوابل الغدِق
مثل غريق نجا بمهجته ... وكابد الموجَ خشيةَ الغرق
أبو القاسم هاشم بن يونس الكاتب
ذكر أنه صاحب ترسل ومقامات، وملَح وروايات وله من قصيدة:
ألمّت بنا والليل سود ذوائبه ... تطالعنا راياتُه ومواكبُه
وبين سواد الليل أبيض ماجد ... تخرّ لديه ساجدات كواكبه
على حينَ نام الليل وانتبه الهوى ... وأونس مغناه وأوحش راكبه
ولما بدا طيف البخيلة سامحت ... بوصل ولا وصلٌ لمن هو طالبه
عجبت لدانٍ وصله وهو نازحٌ ... كأني على بعد الدّيار أقاربه
بعيدٌ قريبٌ في الفؤاد محلّه ... فدر تنائيه ونفس تصاقِبه
وبتنا ونار الحب تضرم بيننا ... ودمع الهوى يهمي على الخد ساكبه
أقبّله طوراً وطوراً أضمّه ... وأعرضتُ عن دهري فلست أعاتبه
وفارقني عند الصباح برغمه ... وكل عطاء النوم فالصبحُ سالبه
وله من أخرى:
وأغيد مجدول القوام مهفهف ... دعاني فلم ألبث ولم أتخلّفِ
فلما استمرّ الحب بيني وبينه ... وفيت له بالعهد فيه ولم يفِ
ومنها:
أكلُّ خليل هكذا غير مسعف ... وكل حبيب في الهوى غير منصف
نعم كل مسدول الغدائر غادر ... وكل لطيف الكشح ليس بملطف
ومنها:
ويوم كأن الشمس فيه عليلةٌ ... لها من وراء السّجْفِ نظرةُ مُدنَفِ
جمعتُ الهوى فيه لأبيض ماجد ... أعلّ ببكر من ثناياه قرقَفِ
وصَحْبٍ سمتْ بي همة فصحبتهم ... فمن متلفٍ مالاً وآخرَ مخلف
ومنها:
ويوم تنادوا من يجير من الرّدى ... وما لخيول القوم من متصرف

وقفتَ أبا نصر تكفكف عنهمُ ... وتطعن بالخطيِّ أشرفَ موقف
ومنها:
لقاء أعادٍ وامتطاء مطيّهم ... وتقليب هنديّ وهزّ مثقّف
أحب إليه من مُدام وقينة ... وأحور معشوق الشمائل أهيف
وله:
رُبّ ليلٍ سوادُه ... كسواد الذوائبِ
صارمي فيه حاجبي ... والرّديني كاتبي
سرت فيه كأنّني ... بعض زُهْر الكواكب
راكباً عزمة الهوى ... أي طِرْف وراكب
ونهار بياضه ... كبياض التّرائب
وهجير يحَرّ قل ... بي لهجر الحبائب
واشتياقي إليك كا ... ن دليلي وصاحبي
وله مما يكتب على سكين:
مطبوعة من شَفار ... ومن شَبا الأشفارِ
أعارها فعلُ عيني ... ك فاتكٌ لا يباري

القاضي أبو الفضل الحسن بن ابراهيم بن الشامي
الكناني
له من قصيدة، مرثية:
فلا البؤسُ مدفوعٌ بما أنت جازع ... ولا الخيرُ مجلوبٌ بعلم ولا فهم
وأن الحريص العمر يلقيه حرصه ... الى حفرة جوفاء واهية الرضم
تعلّم بأن الموت أزينُ للفتى ... وأهونُ من عيش يشين ومن وصم
أبو الفضل أحمد بن علي الفهري
صاحب الشرطة
له:
خليليّ مالي قد حُرِمتُ التدانيا ... وأصبحتُ عن وصل الأحبة نائيا
وما كان لي صبرٌ على البين ساعةً ... فها أنا في بينٍ سنينَ ثمانيا
رعى الله أحباباً وقرّب دارَهم ... وبلّغ مشتاقاً وأطلقَ عانيا
عبد الجبار بن عبد الرحمان
ابن سرعين الكاتب
له في حاسد:
وحاسدٍ لا يزال منّي ... فؤادُه الدهرَ في اشتعال
كاتبُ يمناه مثل حالي ... ومثله كاتبُ الشّمال
ذاك في راحةٍ وهذا ... في تعبٍ منه واشتغال
وله:
يا بدر تمّ على غصن من الآس ... ألا يرقُّ لقلبي قلبُك القاسي
ما لامني الناس إلا زدتُ فيك هوى ... قلبي بحبكَ مشغول عن الناس
الأمير أبو محمد
عمار بن المنصور الكلبي
ذكر أنه من أفاضل العلماء، وسادات الأماء، وذو يد في الفقه والحديث.
وله:
تقول: وقد رأيتُ رجالَ نجد ... وما أبصرتَ مثلَك من يَمانِ
ألِفْتَ وقائع الغمرات حتى ... كأنك من رداها في أمانِ
الى كم ذا الهجوم على المنايا ... وكم هذا التعرّض للطعانِ
فقلت لها: سمعت بكل شيء ... ولم أسمع بكلبيٍّ جبان
ويقول في ابن عمه شكاية:
ظننتُك سيفاً أنتضيكَ على العدى ... وما خلتُ أني أنتضيك على نفسي
وجئتك أبغي رفعةً وكرامةً ... فأمسيتُ مقهوراً بقربك في حبس
الأمير ثقة الدولة
جعفر ابن تأييد الدولة الكلبي
كان أحد ملوك صقلية.
كتب إليه بعض الكتاب:
أنت مولى النّدى ومولايَ لكن ... رُبّ مولىً يجور في الأحكام
قد وعدت الإنعام فامْنُنْ بإنجا ... زك ما قد وعدت من إنعام
فكتب إليه:
حاش لله أن أقصّرَ فيما ... يبتغيه الوليّ من إنعامي
أنا موفٍ بما وعدت ولكن ... شغلتني حوادثُ الأيام
أبو الحسن علي بن عبد الله
ابن الشامي
له من قصيدة:
يا سيدي لي أوامر كرمت ... فارْعَ لها لا عدمتُك الذِّمما
فكم أناس حقوقها جحدوا ... ظلماً وما عادل كمن ظلما
فحسّنوا جحدها بلؤمهمُ ... وإنما هجّنوا به الكُرَما
وله في الوداع:
ودّعني وانصرفا ... يحملُ وجداً متلفا
ملتفتاً وكلّما ... ثقل رجلاً وقفا
وله:
إذا نحن أعيانا اللقاء فودنا ... بمحْضِ التصافي كل حين له ورد
ولا صنعَ للأيام في نقض مُبرَمٍ ... يعودُ جديداً كلّما قدم العهد
القائد أبو محمد
الحسن بن عمر بن منكود
له يصف النيلوفر:

كؤوسٌ من يواقيت ... تفتّحُ عن دنانير
وفي جنباتها زهرٌ ... كألسنة العصافير

أبو حفص عمر بن الحسن
ابن الفوني الكاتب
ذكر أنه لغوي، شعر، كاتب، منجم، مهند.
وله في مرثية أولها:
للموت ما يولد لا للحياه ... وإنما المرءُ رهينُ الوفاه
كأنما ينشره عمره ... حتى إذا الموت أتاه طواه
من ترْم أيدي الدهر لا تُخطِه ... والدهرُ لا يخطئ من قد رماه
وله:
نفس الفتى عارية عنده ... ما بخله بالرّدّ إلا سفاه
وله:
بأبي من غدا صَمي ... مَ فؤادي محلُّهْ
والذي عقْدُ حبّه ... ليس خلْق يحُلّهْ
أيها العاذل الذي ... طال في الحب عذْلُهْ
أتراني مللْتُه ... لست ممن يملّه
لا ولا اعتضت غيره ... بل له الودّ كلّه
وله:
يا لدمعٍ أعلن الس ... رّ وقد كان مصونا
باح بالوجد فأبدى ... للورى داءً دفينا
مااذي يصلح عيني ... قبّح الله العيونا
جلبت حتفي ونمّت ... فاحْتفَتْ منّي الظنونا
وغدا ما كان شكّاً ... عند أقوامٍ يقينا
أبو بكر محمد بن علي بن عبد الجبار
الكموني
له:
ما إن رأيتُ كراقص ... مستظرف في كل فنِ
يحكي الغناءً برقصه ... كمراقص يحكي المغني
رجلاه مزمار وعو ... د في نهاية كلّ حسن
فهو السرورُ لكل عي ... ن والنعيمُ لكل أذن
وله:
يا بأبي ريّان طاوي الحشا ... يقطعه الدلّ إذا ما مشى
يحسبه الناس إذا ما خطا ... منتشياً لكنّه ما انتشى
رزيق بن عبد الله الشاعر
ذكر أنه كان محارفاً، ولم يزل حرمانه بضعف حظّه متضاعفاً، برّه بعض الرؤساء بدنانير وظن أنه يعينه، فلما عاد الى بيته وجد لصاً قد سرق جميع ما فيه.
فقال:
محاني اللهُ من ديوان سعدِهْ ... وأيأسَ راحتي من نيل رِفدِهْ
إذا ما السعدُ أسعفني بشيء ... يقوم النّحس محتسباً لردّه
أبو محمد عبد الله بن مخلوف الفأفأ
له:
يا من أقلّ فؤادي ... ولحظ عينيَ علّه
صِلْني تصلني حياتي ... وامْنُنْ عليّ بقُبله
وله:
يا من يجود بدائِه ... لا تبخلنْ بدوائِهِ
واعطف على قلب غدا ... مثواك في سودائه
وانضح بماء الوصل نا ... رَ الهجر في أحشائِه
أمرَضْتَه بجفونك ال ... مرضى فجُدْ بشفائه
أبو حفص عمر بن حسن
ابن السطبرق
ذكر أنه من أهل الدين، والورع، والعفاف.
وله في الزهد:
سيلقى العبدُ ما كسبت يداه ... ويقرأ في الصّحيفة ما جناه
ويسأل عن ذنوب سالفات ... فيبقى حائراً فيما دهاه
فيا ذا الجهل ما لك والتمادي ... ونارُ الله تحرق من عصاه
فعوّلْ في الأمور على كريم ... توحد في الجلالة في علاه
وأمِّلْ عفوه وافزع إليه ... وليس يخيب مخلوق رجاه
أبو حفص عمر بن خلف بن مكي
ذكر أنه انتقل الى تونس، وولي قضاءها، وهو فقيه، محدث، خطيب، لغوي، وفضله بالألسنة في جميع الأمكنة مأثور مروي، وله خطب لا تقصر عن خطب ابن نباتة، تعجب رواته.
ومن شعره قوله:
يا حريصاً قطع الأيامَ في ... بؤس عيش، وعناء، وتعبْ
ليس يعدوك من الرزق الذي ... قسم الله فأجمِلْ في الطلبْ
وقوله:
نعماكمُ طردتنا عن زيارتكم ... وقنّعتْنا حياءً آخرَ الأبد
إنّ الزيادة في الإحسان طاردة ... للحرِّ عن موضع الإحسان فاقْتصِد
وقوله:
لا تبادرْ بالرأي من قبل أن تس ... أل عنه وإن رأيتَ عوارا
أحمقُ الناس من أشار على النا ... س برأي من قبل أن يُستشارا
وقوله:

لا تصحبنّ إذا صحبت أخا ... جهلٍ ولو أنّ الحياة معَهْ
إن الجهول يضرّ صاحبَه ... من حيث يحسب أنه نفعَهْ
وقوله:
صديقي الذي في كل يوم وليلة ... يكلفني من أمره ما لَهُ بال
ولا يؤثر التخفيف عني فإنما ... علامة صدق الودّ عندي إدلال
وقوله من قطعة:
عادِ الجهولَ فإنه ... ممن يعينُك في هلاكِهْ
واحذر معاداة اللبي ... ب فليس يخلص من شباكِهْ
وقوله:
اجعلْ صديقك نفسك ... وجوفَ بيتك حِلْسَك
واقنع بخبزٍ وملح ... واجعل كتابَك أنسك
واقطع رجاءك إلا ... ممن يصرِّفُ نفسك
تعشْ سليماً كريماً ... حتى توافيَ رمسك
وقوله:
وإذا الفتى بعد طو ... ل خصاصة بلغ الأملْ
فكأنّ بؤسي لم تكن ... وكأنّ نُعمى لم تزُلْ
وقوله في مدح الانفراد:
من كان منفرداً في ذا الزمان فقد ... نجا من الذل والأحزان والقلقِ
تزويجنا كركوب البحر ثم إذا ... صرنا الى ولدٍ صرنا الى الغرق
وقوله في الشيب:
أيروم من نزلَ المشيب برأسه ... ما قد تعوّد قبلُه من فعلِه
من لم يميّز نقصَه في جسمه ... في الأربعين فإنّه في عقله
وقوله:
عجَباً للموت يُنسى ... وهو ما لا بدّ منه
قُل لمن يغفل عنه ... وهو لا يغفل عنه
كيف تنساه وقد جا ... ءتك رُسْل من لدنه
سوف تلقى الويلَ إن جئ ... تَ بعذرٍ لم تبِنه
وترى جسمَك في النا ... ر غداً إن لم تصنه
والذي ينجو من النا ... ر أخو التقوى فكُنْه

أبو الحسن بن عبد الله الطرابلسي
له في بدوّ الشيب:
وزائرة للشيب حلّت بعارضي ... فعاجلتُها بالنّتْفِ خوفاً من الحتف
فقالت: على ضعفي استطلْتَ ووحدتي ... رويدَك للجيش الذي جاء من خلفي
وله:
أتدري ما يقول لك العذولُ ... وتدري ما يريدُ بما يقولُ
يريد بك السلوّ وهل جميل ... سلوّك عن بُثينة يا جميلُ
وله من قطعة:
يا ربّة الهودج المزرور كيف لنا ... بالقرب منك وهل في وصلكم طمَعُ
إن تبذليه فإن الماءَ من حجرٍ ... أو تبخلي فمنال الشمس يمتنعُ
أبو القاسم عبد الرحمان بن عبد الغني
المقرئ الواعظ
له مرثية:
سيف المنية آفةُ العمْرِ ... كلّ العباد بحدّه يفْري
حكم المهيمن بالفناء لنا ... فمَنِ الذي يبقى على الدّهْر
وله:
أيا من نال في الدنيا مُناه ... تأهّبْ للفراق وللرحيل
ولا تفرحْ بشيء قد تناهى ... فما بعد الطلوع سوى النزول
أبو بكر عتيق بن عبد الله بن رحمون
الخولاني المقرئ
لا تخش في بلدة ضياعا ... حيث حياة فثمّ رِزقُ
قد ضمن الله للبرايا ... رزقهم فالعناء حُمقُ
أبو سعيد
عثمان بن عتيق الصفار الكاتب
له من قصيدة في الأمير المعتصم أبي يحيى محمد بن معن بن صمادح:
فاضَ عقيق الدمع فوق البهر ... وانحدر الطّلُّ على الجلّنار
واجتمع الغصنان لكنّ ذا ... ذاوٍ وهذا يانع ذو اخضرار
وكاد ذا ينقدُّ من لينه ... وكاد هذا يعتريه انكسار
واضطرمت في القلب نارُ الجوى ... فهذه الأدمعُ عنه شَرار
أبو حفص عمر بن عبد الله الكاتب
له:
أرقٌ أراقَ مصونَ دمعيَ كاربُه ... وهوًى هوى بجمل صبريَ غالبُه
ومنه:
نازعته بعد الجماح عنانه ... والليل أليَلُ ترجحنّ غياهبه
فقضيتُ بالتمويه منه لبانةً ... وجعلت إعتابي بحيث أعاتبه
وتشكُلُ الحالين أشكل أمره ... لما استوى صدقُ العناقِ وكاذبه
وله:

ألا إن قلبي بالغرام موكّل ... ومذ غبتَ عن عيني فقدتُ هُجوعي
منحتُ سوادَ القلب صفوَ ودادكم ... وقسّمتُه بين الحشا وضلوعي
فإن كنتِ لا تأسي لبعدي فإنني ... لبعدك وجْداً ما تجفّ دموعي

الأمير أبو محمد
جعفر بن الطيب الكلبي
أثنى عليه مصنف الدرة الخطيرة، بالفضائل الكثيرة، وذكر أن بينهما مكاتبات وشدا منها طرَفاً وطُرفاً، وأورد من شعره قوله:
ما الصبر بعد فراقكم من شاني ... رحَلَ العزاء برحلة الأظعان
ما كنت أحسب للمنية ثانياً ... فإذا الفراق هو الحِمام الثاني
بُعْداً لذاك اليوم بُعداً إنه ... أجرى دموع العين بالهملان
من ساترٍ دمعاً بفضل ردائه ... أو ممسكٍ قلباً من الخفقان
وألفت فيك الحزنَ حتى أنني ... لأسَرّ فيك بكثرة الأشجان
ومنها في المديح:
ملكٌ إذا لاذ العُفاة ببابه ... أخذوا من الأيام عقدَ أمان
يعطي الجزيل ولا يمنّ كأنّما ... فرضٌ عليه نوافلُ الإحسان
وله من قصيدة:
أراها للرحيل مُثوّرات ... جِمالاً بالجَمال محمّلاتِ
تتيهُ على الركائب في سُراها ... بأقمارٍ عليها طالعاتِ
ولو نظرت لمن تسري إليه ... لصدّت عن وجوه الغانياتِ
وجازت والفلاةُ لها ركابٌ ... كما كانت ركاباً للفلاة
ولم تعلق بشيء غير شعر ... منابتُه بأفواه الرّواة
تمرّ على المياه ولم تردها ... كأن الريّ في زجر الحُداة
أقول لها وقد علقت ذميلاً ... بأجفان لزجْري سامعات
سأتركُ عنكِ في مرعى خصيب ... وماء بارد عذب فرات
بأرضِ مدافع مأوى الأماني ... وقتّال السنين المجدبات
فيحمل عنك همّي فوق طِرْفٍ ... سَبوقٍ من خيول سابقات
أغرّ تخاله ريحاً أعيرت ... قوائم باللجين محجّلات
كساه الليل أثواباً ولكن ... تراها بالصباح مرقّعات
وحسبك ما يفرّق من نوال ... بأيدٍ للمكارم جامعات
فقد أطمعتَ في جدواك حتى ... سباع الطير من بعض العفاة
وله من أخرى:
ضحوكٌ مرةً جَهْداً وباكٍ ... وشاكرُ حالِه حيناً وشاك
ومغتبط بعيشٍ غير باق ... يروم سلامةً تحت الهلاك
ألا يا حارِ قد حارت عقول ... وعلّت بالعليل عن الحراك
وقد نصبت لك الدنيا شِباكاً ... فإيّاك الدنوّ من الشّباك
وإن شيّدت لي يا حارِ بيتاً ... فحاوِل أن يكون على السّماك
وأبْعِدْ إن قدرت على مكان ... فإني والحوادث في عراك
وله في الغزل:
لقد بليتُ بشيءلستُ أعرفه ... مولىً يجور على ضعفي وأنصفه
ما زال يطمعني لفظ له خَنِثٌ ... يمنّ بالوعد سراً ثم يخلِفُه
يا رب زدني غَراماً في محبته ... ودع فؤادي بالأشواق يتلفه
وله:
فارقتكم لا عن قِلىً وتركتُكم ... رغماً على حكم الزمان الجائر
وفقدتكم من ناظري فوجدتكم ... لما أردت لقاءكم في خاطري
وله في ذم الاجتداء من البخلاء:
وحقّك لو نلتَ النّوال معجَّلاً ... لغير سؤال كان غيرَ جميل
فكيف وما في الأرض وجه مؤمّلٍ ... ولا يُرتجى للجود غير بخيل
وله:
ألا سكنٌ إذا ما ضقتُ يوماً ... سكنْتُ إليه في شكوى همومي
أوسّع صدره وأحلّ منه ... محلّ الجود من قلب الكريم
أبو الفتح أحمد بن علي الشامي
ذكر أنه زين الأدباء، وغرة الدهماء.
له:
في السمهريّ مشابه ... ممن أحبُّ وأعشق
اللون والقدّ الرشي ... ق وطرفه إذ يرمق
قلبي لسهم لحاظه ... غرض ففيه يرشق

قال مصنف الدرة الخطيرة: سألته أن ينفذ إليّ بشيء من شعره في حين تأليف الكتاب، فكتب إليّ:
أبا قاسم والفضل فيك سجية ... وأنت بكل المعلوات خليق
ومن مجْده فوق السّماك محلِّقٌ ... ومنصبه في المكرمات عريق
يكلفني إظهار ما قد نظمته ... لياليَ غصني ناضر ووريق
وإذ لمّتي تحكي خوافيَ ناعب ... وعندي لوصل الغانيات طريق
فكن ساتراً عورات خِلّك إنه ... شقيقك والخِلُّ الصديق شقيق
وله في المجون:
احتَل لأيرِك في درع مُضعّفة ... فبين فخذيه أرماح من الشّعر

الفقيه أبو القاسم عبد الرحمان بن أبي بكر
السرقوسي
له:
أما منكمُ من مسعد ومعاون ... على حرّ وجد في السويداء كامِن
أبانَ الكرى عن مقلتيّ التهابُه ... وما هو يوماً عن فؤادي ببائن
ومنها:
وبيداء قفر ذات آل كأنما ... هو البحر إلا أنه غيرُ آسن
ترى ظعنَهم فيه غداة تحمّلوا ... طوافي فوق الآل مثل السفائن
وله:
أسارقه اللحظَ الخفيّ مخافةً ... عليه من الواشين والرّقباء
وأجهد أن أشكو إليه صبابتي ... فيمنعني من ذاك فرط حيائي
وإني وإن أضحى ضنيناً بودّه ... لأمنحه ودّي وحسن صفائي
سأكتم ما ألقاه من حُرَق الأسى ... عليه ولو أني أموت بدائي
وله:
لا تبغِ من أهل الزمان تناصفاً ... والغدرُ من شيم الزّمان وأهله
وإذا أردت دوام ودّ مصاحب ... فاغضض جفونك جاهداً عن فعله
أبو عبد الله محمد بن قاسم بن زيد
اللخمي الكاتب القاضي
له من قصيدة:
يا عذبةَ الريق عودي بعض مرضاكِ ... وعلّليه برشْفٍ من ثناياكِ
قد حاربته الليالي فيكِ جاهدة ... فصار من حيث ما يرجوك يخشاكِ
وله:
أيه المهدي لعيني السّهرا ... كان وجدي بك مقدوراً جرى
لم أكن أعلم ما عُلِّمْته ... من هواك اليوم إلا خبرا
ربّ لا حول ولا قوة لي ... صرتُ بعد العين أقفو الأثرا
عاذلي مهلاً فما العذر على ... عاشق مثلي حديث يفترى
أنت لا تأسى فدعني والأسى ... أشتفي منه وأقضي الوطرا
إنّ أوفى الناس حباً كلِف ... ظلّ فيه بالأسى مشتهرا
فعصى العاذلَ فيما قد نهى ... وأطاع الشوق فيما أمرا
وله يصف ضيق يده عن مساعدة صديقه فيما يقوم بأوده:
ولي مال من يغنى به فيكفّه ... ويعجز عن برِّ الصديق الملاطف
فلا البخل أرضاه ولا الجود أنتهي ... إليه لقد أوقِفْتُ شر المواقف
وما حيلة الحرّ المساعف إن سعى ... ولم يعط حظاً من زمان مساعف
وله في الشيب من قصيدة:
أساء صنيعاً شيبه بشبابه ... وأوقف خطّاب الخطوب ببابه
تجنّبه الأحبابُ من غير زلّة ... سوى ما تبدّى من فضول خضابه
وما أن وشى واشٍ به فأجبتُه ... ولكن شيب العارضين وشى به
ومن كانت الخمسون منه قريبة ... تباعد عن نيل المنى باقترابه
بنفسي شباب بان غير مُذمّمٍ ... ووكّل قلبي بالأسى وعذابه
فيا ليت إذ ولّى تولّى بحرمة ... وأبْرأني من موبقات احتقابه
ولكنه أبقاني الدهرَ بعدَه ... لعفْوِ إلاهي أو لمسّ عقابه
عدمت الأماني فاجتزيت بدونها ... ومن عدم الماء اجتزى بترابه
وله في الزهد:
يا ربّ صفحاً وغفراناً ومعذرة ... لمذنب كثرت منه المعاذير
يُبكيه إجرامه طوراً ويُضحكه ... رجاؤه فهو محزون ومسرور
عبد الوهاب بن عبد الله بن مبارك
له:
نفسي الفداء لظبي ... قد جاز في التيه حدّهْ
حكى القضيَ انعطافاً ... كما حكى الليث نجدَهْ
بالدمع طرّز خدي ... مذ طرّز الشَّعر خدّهْ

كأنه بدرُ تمّ ... في الأفق قابل سعده
يا ليته بات عندي ... أو ليتني بتُّ عنده
يا عاذلي فيه دعه ... يُطِلْ كما شاء صدّه
فإنما هو مولىً ... أضحى يؤدب عبد
وله:
إذا المء لم يُعرف بجدّ ولا أب ... ولم يشتهر في الناس إلا بأمّه
فلا تسألنْ عن حاله فهو ساقط ... وإن لم يشع في الناس أسباب ذمّه

أبو عبد الله محمد ابن العطار الكاتب
له:
لولا عيونُ جآذر وظباء ... ما راضت الأشواقُ صعبَ إبائي
واقتاد قلبي بعد طول تمنّع ... نحو الصبابة قائدُ البرحاء
وصبوتُ صبوةَ عاشق ذي غرة ... لعبت بمهجته يد الأهواء
باب في ذكر محاسن جماعة من المغرب الأدنى
والقيروان وأفريقية من أهل هذا العصر
ابن فرحان القابسي
هو سلاّم بن أبي بكر بن فرحان، من قابس مدينة من أعمال القيروان وكان جليساً ووزيراً لأميره مدافع بن رشيد بن رافع بن مكي بن كامل بن جامع الهلالي من بني فادع من بني علي ثم من هلال، وقتِل ابن فرحان يوم خروج الأمير المذكور من قابس واستيلاء المصامدة عليها بعسكر عبد المؤمن بن علي وذلك في سلخ شعبان سنة أربع وخمسين وخمسمائة، قال الشريف إدريس الإدريسي أنشدني أبو عمران شكر بن عامر بن محمد بن عسكر بن كامل بن جامع الهلالي الفلاعي لابن فرحان في تهنئة الأمير مدافع المذكور بشهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة من قصيدة أولها:
برَبْعِ رامةَ رام الركبُ إلماما ... فغاض صبري وفاض الدمع تَسْجاما
وقل للرّبع منا أن نلمّ به ... وأن نُحيّي به رسماً وأعلاما
سقياً لعصر الصِّبا لو كان متصلاً ... ما كان أطيبَ ذاك العيشَ لو داما
وكم كتمتُ الهوى جهدي فنمّ به ... دمعي وما زال دمع العين نمّاما
فاخلعْ عِذاركَ في راح وفي رشأ ... طاوي الوشاح ولا تحفَلْ بمن لاما
لله ريمٌ رمى قلبي فأقصده ... وأضرم النارَ في الأحشاء إضراما
بخصره هيَف أهدى النّحولَ الى ... جسمي وأهدى لسقمِ اللحظ أسقاما
ومنها:
ذرني أكفّ عن التّطواف راحلتي ... ملّت جياديَ إسراجاً وإلْجاما
ما زلتُ أفري أديمَ الأرض منفرداً ... أطوي المفاوزَ غيطاناً وأعلاما
حتى حططتُ رِحالي في ذُرى ملك ... غمر المواهب للقصّاد بسّاما
ومنها:
في متن أدهمَ ما ينفكّ يُقحمه ... على أعاديه يومَ الروع إقحاما
ما أبصرت مقلتي من قبل صافنِه ... طِرْفاً غدا حاملاً في الحرب ضرغاما
في عُصبة كأسود الغاب قد جعلت ... سمرَ الرماح وبيضَ الهند آجاما
هنِّئ مُدافعَ إن الله خوله ... عزاً ينال به كلّ الذي راما
إذا رآه العدا في يوم ملحمة ... يغشي عيونهم نوراً وإظلاما
وقبّلوا التُربَ تعظيماً لطلعته ... كما رأتْ فارسٌ كسرى وبَهْراما
يا أيها الملك المرهوبُ جانبه ... شملتَ هذا الورى فضلاً وإنعاما
سُسْتَ الرّعايا وصنتَ الملك فامتنعا ... بصارمٍ ذكرٍ تفرى به الهاما
ومنها:
قُم فافتحِ الأرضَ فالأملاك كلّهم ... سواك أضحوا عن العلياء نوّاما
ومنها:
خذ هاكها يا أبا الحملات نظم فتى ... ما زال في مدحكم للدرّ نظّاما
يشدو بأفنان أغصانِ الثناء على ... علاك فيها طيورُ المدح تَرناما
في بلدة مثل الخلد قد جمعت ... براً وبحراً وحيتاناً وآراما
كما جمعتَ خلالاً كلها حسن ... تُقىً وحلماً ومعروفاً وإقداما
لا زلت تُفني زماناً بعده زمنٌ ... مؤثل المجد وهّاباً وغنّاما
أبو الفضل ابن الفقيه
عبد الله بن نزار الهواري القابسي
وهو حي الى الآن، يخدم ولد عبد المؤمن كاتباً.

وهوّارة قبيلة من قبائل البربر، قال: أنشدني للمذكور في مدح الأمير محمد بن رشيد الهلالي أخي مدافع من قصيدة أولها:
لم يبقَ لي بعد الرحيل عزاءُ ... بان الخليطُ وشتِّتتْ أهواءُ
فاصرف عنان اللّوم عن قلِقِ الحشا ... مغرَى فإن ملامه إغراء
ومنها:
فعلتْ به أحبابه يوم النّوى ... والبينُ ما لا تفعل الأعداءُ
ساروا ولمّا يسمحوا بوداعه ... فكأن خالص ودّه شحناء
أتراهمُ خالوا الوداع محرّماً ... أم أجمعوا أن لا يكونَ لقاء
رقّت مياه الحسن فوق خدودهم ... وقسَتْ قلوبهمُ فبان جفاء
ومنها:
يا ويحَ من عبث الهوى بفؤاده ... وتحكّمت وقضت عليه ظباء
من كلّ ما في القلب من لحظاتها ... نفثات سحر ما لهنّ دواء
للبدر سُنّةُ وجهها وقوامها ... للغصن مخطفة الحشا هيفاء
إن امتداحي ما يلِمّ من الورى ... إلا لمن دانت له العلياء
مثل المليك ابن الرشيد فإنه ... بهر الملوك وحلّ حيث يشاء
وتشابهت آراؤه وسيوفه ... كلٌ بما يهوى له ضمناء
لبس الجلالةَ حلة أعلامها ... حلُمٌ يزيّن ثوبها وحياء
فهو القريب تطوّلاً وتجمّلاً ... وهو البعيد محلّهُ الجوزاء
وله المهبة في النفوس، وإن غدا ... متواضعاً والعزة القعساء
يا من شكا جورَ الزمان وظلمه ... وأصابه من مسّه الضراء
لُذ بالمليك محمدٍ فبجوده ... يحيا السماح وتكشف الغمّاء
سَلْهُ تفد واقصدْ تجدْ واشرع ترِدْ ... عذبَ النّمير وما به أقذاء
هذا العيان يُريك من أوصافه ... فوقَ الذي أهدتْ لك الأنباء
لو نظّم الأملاك سلكاً لاغتدى ... لسناه وهو الدرة الغرّاء

يحيى ابن التيفاشي القفصي
من قفصة، مدينة بالقيروان، انتقل الى قابس، وسكن بها، ومدح بني هلال، وقتله الإفرنج بصقلية بعد سنة خمسين وخمسمائة عند فتكهم بالمسلمين، قال وأنشدني لهذا الشاعر من قصيدة في الأمير مدافع أولها:
رأى البرق فازدادت جوانحه جمرا ... وبات يراعي النّجم يرتقبُ الفجرا
وما البرق مما هاجه غير أنه ... تذكّرَ من يهوى فما ملك الصبرا
خليليّ عوجا نندب الرّبرب الذي ... غدا بعدهم من بعد سكانه قفرا
دياراً بها قدْماً ملأن جوانحي ... عيون المها جمراً كما ملئت سحرا
كأن لم أجُلْ فيها بمعترك الصبا ... ولم أرتشف ثغراً ولم أنتشق زهرا
ولم أدعِ النايات فيها مجيبة ... أغانيَ أغصان تميسُ بها خضرا
ويا بأبي ذات الوشاح إذا بدت ... كشمس الضحى وجهاً وجنحِ الدجى شَعْرا
تميسُ لنا غصناً وترنو غزالة ... وتعبق كافوراً وتبدو لنا بدرا
ويأبى لها النهدان والردف أن ترى ... تمس له الأثواب بطناً ولا ظهرا
أتتني وقلب البرق يرعد غيرة ... عليها وعينُ النّجم تنظرها شزرا
وقد هجعت عين الوشاة وأسبلت ... علينا الدياجي من ملابسها سترا
فبتنا الى وجه الصباح كأنّنا ... قضيبان لا صدّاً نخافُ ولا هجرا
الى أن رأيتُ الفجر عند طلوعه ... قد التاح في إثر الدجنّة وافترّا
كأن محياه المدافع قد بدا ... بغُرّتِه في النقع يسطو بها قهرا
رضيع الندى ثدياً حليف العلا وفا ... شقيق الحيا بذلاً لخير الورى طرا
هو الغيث في بذل النّوال إذا طما ... هو الليث في يوم النّزال إذا كرّا
يريك الردى سخطاً ووجه المنى رضا ... وصوب الحيا بذلاً وحكم القضا أمرا
ومنها:

ولولاك ما أوحشت أهليَ والحمى ... ولا أصبحت يوماً يدي منهمُ صِفرا
فلي مهجة تهفو بقابس لوعةً ... وقلبٌ إذا فارقتُها يألف الضّرّا

محمد التيفاشي
عم الشاعر المقدم ذكره يحيى
هو الذي وفد على عبد المؤمن بن علي ملك المغرب ومدحه بالقصيدة المشهورة التي أولها:
ما هزّ عطفيه بين البيض والأسُلِ ... مثلُ الخليفة عبد المؤمن بن علي
قال عبد المؤمن لا ينشد بعده شيئاً وأمر له بألف دينار
السكدلي من أهل قفصة
قال وأنشدني للسكدلي في مدافع بن رشيد يهنيه بعيد النحر من قصيدة موسومة بالممدوح أولها:
خليليّ عوجا بي لتلك المرابع ... لنفسحَ بالسفحين درّ مدامعي
ولا تبخلا بالدمع علّ الذي بنا ... يبرّده سحّ الدموع الهوامع
منازل ساداتي ومغنى أحبتي ... وموضع أطرابي وخير مواضعي
به قد جنيت العيشَ غضاً وملبسي ... شبابي ومن أهواه غير ممانعي
ومنها:
ألا قاتل الله اللوى من محلة ... وقاتلَ دهراً باللوى غير راجع
يكاد فؤادي من تذكّره الحِمى ... وأهل الحمى ينقَدُّ بين الأضالع
ومنها في التخلص:
لقد ملكت روحي كما ملك العلا ... وحازَ الندى جودُ المليك المدافع
ومنها في المديح:
فما أنت إلا جوهرٌ قام ذاته ... بنور هدى من جوهر العدل ساطع
وراجيك موفور وشانيك هالك ... وأيامُك الدنيا بغير مضارع
التراب السوسي
من أهل سوسة، وهي مدينة بالقرب من المهدية، وتوفي بسوسة، قال: وأنشدني للتراب في مدح صاحب سوسة، الأمير جبارة بن كامل بن سرحان بن أبي العينين الفادعي العلوي الهلالي، من قصيدة:
سلّمْ على ذي سلَمِ ... مغنى الهوى المستغنم
وقفْ عليه سائلاً ... عن قاصرات الخِيَم
واستمطِر العينَ به ... صوبَ دموع ودم
فهذه أطلالُه ... مندرسات الأرسم
وهذه عِراصُه ... مستوحشات المَعلَم
كئيبة في حالة ال ... مُنفرِد المتيّم
لم يبق منهنّ الصبا ... ومغدقات الدّيم
سوى ثلاثٍ صائما ... تٍ قائماتٍ جُثّم
وأشعثٍ معفّر ... في بونها المهدّم
أضحت خلاء بلقعاً ... بَوالياً كالرّمم
ومنها:
وطالما عهدتُها ... خضرَ الرُبى والأكم
مأهولةً في زينة ... من نعَمٍ وأنعم
وللقيان حولها ... بمفصحات النّغم
لغالغ ما خُلِقت ... إلا لقتل المغرم
والغانيات كالدُمى ... يسحبن كل مُعلَمِ
من أبيض مفضّض ... وأخضر مُنَمنَم
من كل خَودٍ كُحِّلت ... مقتلها بالسقم
جبينها من قمر ... وفرعها من ظلم
تُريك في بنانها ... وكفِّها والمِعصم
رقماً من الوشي حكى ... رقمَ إهاب الأرقم
يفترّ عن مفلّج ... عذبِ الثنايا شبِم
حلو اللّمى وإنما ... لحظي جناه لا فمي
سقياً لأيامي بها ... وعيشِنا المنصرم
أيام غصني أخضر ... ولمّتي كالحمم
وقامتي قويمةٌ ... شبابُه لم يهرَم
وللهوى في خلَدي ... سرائر لم تُعلَم
والدهر لم يخطُ الى ... مساءتي عن قدم
ولا نهاني صاحبي ... ولا نهاني لوّمي
ثم انقضت عن سرعة ... أيامُ ذاك الموسم
كأنّني كنتُ أرى ... عيشي به في الحلم
يا رسم أحباب نأوا ... عن عاشق متيّم
إذا أباح شوقُهم ... عن شوقه المكتّم
تناثرتْ دموعُه ... عن سلكه المنظّم
أنعِمْ صباحاً واسلَمِ ... سُقيت نوءَ المرزم

إن لم أمت من أسفٍ ... وحسرةٍ عليهمِ
كذبتُ في دعوى الهوى ... لست لهم بمغرم
ومنها:
كأنني بالوصل من ... نعمان لم أنعّم
ولم أبت ريّان من ... رشف عقار المبسم
في فُرُش وثيرة ... لم تفترش لمحرم
ومنها:
حتى تولى الليلُ في ... خميسه المنهزمِ
وأقبل الصباح في ... جحفله العرَمرَمِ
كأنه لما بدا ... يشرق تحت الظلم
وجه الأمير ابن الأمي ... ر الأكرم ابن الأكرم
جُبارة ابنِ كامل ... كهفِ الندى والكرم
العارض الذي إذا ... أخلف صوبَ الدّيم
سرت سحابُ جوده ... من غيثه المنسجم
وأمطرت من الحيا ... نهراً لكلّ معدم
الفارس الذي إذا ... أسرج كلّ شيظم
وسلّ كلّ مرهف ... وسلّ كلّ لهذم
واضطرمت نار الوغى ... وفرّ حامي الحرم
وافى على طاوي الحشا ... عبْلِ الشوا مسوّم
من الهلال مسرَج ... من الثريا ملجَم
تراه إن صاحب بهم ... تحت وطيس قد حَمي
تراكبوا من خوفه ... بعضاً على بعضِهمِ
وله من قصيدة على وزن قصيدة مهيار الديلمي: بكر العارض تحدوه النعامى:
بات بالأبرق برق يتسامى ... فجفا الجفنُ لمرآه المناما
طلعتْ رايتُه خافقةً ... خفقانَ القلب أمسى مُستهاما
يسحب السحبَ به في أفقها ... معصفاتٌ من جنوبٍ ونعامى
تحت ليل كسواد البيْنِ في ... عين منْ ذاب من البين سِقاما
فأعارتْه كراهاً مقلتي ... واستعادت منه للدمع انسجاما
ثم بتنا نتبارى لوعةً ... وبكاء ونرى النوم حراما
فإذا شبّ ضرامٌ في الدجى ... قدح الشوقُ على قلبي ضِراما
وإذا حيّا بغيث دمنة ... جدت بالدمع فأنسيت الرِّهاما
فتشابهنا بكاءً واضطراماً ... وتخالفنا اهتماماً واهتماما
أيها البارقُ قد هجتَ الى ... ساكن الأبرق شوقاً وغراما
وأذعتَ السرّ بالدمع الذي ... لم أُطقْ إذ فاض للحبِّ اكتتاما
ومنها:
بذمام الحبّ يا برقُ عسى ... لك علمٌ حيّهم أين أقاما
وعسى في السحب من ماء ثووا ... حوله من جرعة تبري سقاما
أنسوا عاماً فلمّا ملكوا ... رِقّ قلبي أوحشوا عاماً وعاما
واستمالوني بوصلٍ في الهوى ... فكما ملت رأوا وصلي حراما
بعثوا العرف فأذكى لوعتي ... وسنى البرق فأبكاني سجاما
فكأنّ البرق سيفٌ ضارب ... وكأن الديم دمعي حين داما
ومنها:
وإذا هبّتْ صباً قلت لها ... بلّغي يا ريحُ من نهوى السّلاما
عُجْ شوامي السحب تحدوه الصبا ... مثلَ ما تحدو يد الحادي السّواما
فاسقِ أوطاناً بعلياء الحمى ... وابلَ الودق وجيراناً كِراما
دِمَناً جرّرْتُ أذيال الصبا ... والتّصابي في مغانيها غلاما
ومنها:
وعليها قام لي عذرُ الهوى ... في عَذارى كاليواقيت اليتامى
كبدور التمّ حسناً وبها ... وغصونِ البان ليناً وقواما
يتدللن فيورثْن الضّنا ... ويواصلن فيشفين السّقاما
ومنها:
خلّ أوصاف التصابي والصبا ... والمغاني والغواني والنّدامى
وانقلِ الهزلَ الى الجدّ ولا ... تلْهُ عن أوصاف من ساد الأناما
من إذا أبصرتَه أكبرته ... وإذا خاطبت خاطبت هُماما
وإذا استصرختَه في حادث ... فعلى الحادث جرّدتَ حساما
مقبل القلب على سُبْلِ الهدى ... معرض عن كل ما جرّ الأناما

ليس يدري ما المزاميرُ ولا ... يسمع الصّنْجَ ولا ذاق المداما
لا ولا تحمِله الأطماعُ أن ... ينقضَ العهدَ إذا أعطى الذِّماما
بيتُه كعبة بِشْر نصبت ... يفصم العزّ عن الناس انفصاما
ركنها يُمْنى يديه فاجعلوا ... بدل الركن بيُمناه استلاما
لذوي الحاج زحامٌ حولها ... زحمَةَ الحجّاج قد زاروا المقاما
كل وِردٍ هكذا مستعذب ... يُكثر الناس حواليهِ الزِّحاما

الشيخ أبو الحسين ابن الصبان المهدوي
قال: ورد الشم، واشتم بارق الفضل وشام، ولقي دولة نور الدين، وتوفي بدمشق سنة ستين، فمما أنشد لنفسه في مدح جبارة ابن أبي العينين صاحب سوسة قوله:
أرى دمعَ عينيك فاض انهمالا ... أظنّ الأحبةَ راموا زِيالا
أعدّوا الجِمال ليوم الرّحيل ... فزدتُ اشتياقاً وزادت جَمالا
وبين السّجوف هلاليةٌ ... تحل النقاب فتبدي الهلالا
وتبدي أناملَ مثل اللجين ... كُسينَ من الوشي سحراً حلالا
بعيدة مهوى مجال الشنوف ... وفي جيد أحْوى بدا القرط خالا
من البدويّات تهوى البروق ... إذا هبّتِ الريح عنها شمالا
وتنتجع الغيثَ حيث استهل ... فتطلب سهلاً سقى أم تلالا
تشدّ سُحَيراً لغاراتها ... فتلزم سرجاً وتلقى جلالا
منازلَنا بحواشي الكثيب ... سُقيتِ الغوادي غزاراً بلالا
فكيف عهدت الصبا ناسياً ... نناجي غزالته والغزالا
ويا رُبّ بيداء عند الهجير ... قطعتُ سباسبها والرِّمالا
بعَيرانةٍ أجُدٍ عرْمسٍ ... تُجدّ فتجذب آلاً فآلا
إذا ونيَت قمت في غرزها ... أقول لها سوف ننسى الكلالا
سألقي زمامَك في منزل ... تشدّ الرجال إليه الرّحالا
بحيث جبارة مُستمْطر ... يجود على معتَفيه نَوالا
فتىً للعشيرة عزّ لها ... غدا لجميع البرايا ثمالا
إذا ما العشيرة في حادث ... شكت مرضاً طب منها اعتلالا
وقال في صبي نصراني خمّار بمدينة صقلية:
ومزنّر عقَد الصليبَ بنحره ... وأدار حول وشاحه إنجيلا
خمدت بجنح الليل جمرة ناره ... فأقام خمرة دنّه قَنديلا
متطلع لذوي السُرى من كأسه ... نجمٌ يكون الى الصباح دليلا
أبو عمران ساكن بن عامر الهلالي
أصله من عرب بني هلال بإفريقية، قد مضى ذكر نسبه وهو معنى الفضل الى مطلع أدبه، ورد الى دمشق، ولما أنشدني الشريف إدريس شعره، ذكر أنه مقيم بها في سنة إحدى وسبعين وهو الذي أفادنا بمن أوردناهم من الشعراء وذكرناهم من الفضلاء.
ومن شعره:
إذا مرّ من أهوى أغضّ له طرْفي ... وأخفي الذي بي من سقام ومن ضعفِ
وأكتم عنْ سرّي هواه صيانةً ... ولو كان في كتمانه أبداً حتفي
مخافةَ أن يشكو فؤادي تحرّقي ... الى مقلتي يوماً فتبدي الذي أخفي
وأنشده زيد الحتسب بدمشق هذا البيت:
هُدِّدْتُ بالسلطان فيك وإنّما ... أخشى صدودَك لا من السلطان
والده أبو ساكن
عامر بن محمد بن عسكر الهلالي
ذكر أنه كان بدوياً، وأميراً سرياً، أنشد له ولده من قصيدة كتب بها الى قومه:
يا جار طرْفي غير هاجعْ ... والدمعُ من عينيّ هامعْ
ولقد أرقتُ مسامراً ... نجماً بدا في الشرقِ طالع
متذكّراً بصروف ده ... رٍ أصبحت فينا قواطع
إني من الشمِّ الألى ... أهل العلا أبناءِ جامع
أهلِ المراتبِ والكتا ... ئبِ والمواهبِ والصنائع
يتسابقون الى المعا ... لي كلّهم فيها مُسارِع
ولقد ملكنا قابساً ... بالمشرفيات القواطع

تسعين عاماً لم يكن ... خلقٌ لنا فيها منازع
كم من عزيزٍ كان يأ ... تي نحوَنا بالرغم خاضع
كم قاصدٍ أو طالب ... لنوالنا يأتيه طامع
وجنابُنا للمعتفي ... ن بزهرة المعروف يانع
وإذا شهدنا مجمعاً ... يوما إلينا بالأصابع
في كل يوم عَروبةٍ ... تدعو لنا زُمرُ الجوامع
عبثت بنا أيدي الزما ... ن وأحدثتْ فينا البدائعْ

الأمير عبد الرحمان بن زيري
الصنهاجي
كتب الى الأمير ساكن بدمشق وقد وعده بكتاب:
سرى البرقُ من عَليا معالِم قابس ... وفي القلب من لمع البروق كوامِنُ
يذكّرني عهدي به ومنازلي ... بساحتها والحادثاتُ سواكنُ
ونحن على تلك المواطن والرُبى ... نُزولٌ ووشكُ البين بالوصل بائن
أخادع عن سُكانها الدهرَ وحدَه ... كأني لما يأتي به الدهرُ ضامن
فمنْ لي بتبليغ السّلام إليهمُ ... فكيف وقد شاقتك تلك المواطن
ولما سرى البرقُ الذي ذكر الصّبا ... تأوهتُ شوقاً والدّموع هواتن
وناديت من عليا هلالِ بن عام ... فتًى صادقَ الدعوى إذا مانَ مائن
نمتْه رياحٌ من صليبةِ فادع ... لآل عليّ وهو للمجد صائن
وحلّت بنو دهمان منه بعشْوةٍ ... وعزّ به بين الأفاضل ظاعن
فما هو إلا في ذرى آل عسكرٍ ... لعامرهم نجلٌ وذلك ساكن
الملك أبو يحيى
تميم بن المعز بن باديس
صاحب المهدية
نسبه: تميم بن المعز بن باديس بن منصور بن بُلكّين بن زيري بن مَناد بن منقوش بن زناك بن زيد الأصغر بن واشفال بن وزغفي بن سري بن وتلكي بن سليمان بن الحارث بن عدي الأصغر وهو المثنى بن المسور بن يحصب بن مالك بن زيد بن الغوث الأصغر بن سعد وهو عبد الله بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن شداد بن زرعة وهو حمير الأصغر بن سبأ الأصغر بن كعب بن زيد بن سهل بن عمر بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وايل بن الغوث بن حيدان بن قطر بن عوف بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميع بن عمرو بن حمير وهو العرنجج بن سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر وهو هود عليه السلام بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام بن لمك بن متوشلح بن أخنوخ وهو إدريس عليه السلام بن برد بن مهلايل بن قينان بن الوشن بن شيث بن آدم عليه السلام.
مولده: بالمنصورة يوم الإثنين ثالث عشر شهر رجب الفرد سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، ووفاته ليلة السبت خامس عشر رجب سنة إحدى وخمسمائة وولد له من الأولاد الذكور مائة وعشرة بنين وأقام في ملك المهدية وما يليها من البلاد معظم عمره عظيم القدر، كريم النجر، طيب الذكر، مهذب الأمر، مذهب العصر، لقيت بدمشق ولد ولده وهو الأمير عبد العزيز بن شداد بن تميم وهو بها مقيم، وأعارني في سنة إحدى وسبعين ديوان جده فطالعته فاطّلعت على كل ما دل على جدّه وجودته وجِدّه، وأثبتّ من شعره ما تترنح له أعطاف السامعين اهتزازاً، فمن ذلك قوله:
ما اختلف الصبحُ والمساءُ ... وأنفِذَ الحكمُ والقضاءُ
إلا وللّه فيه سرّ ... يحكم في الخلق ما يشاء
وقوله في بعض السقاة:
وساقٍ قد تكنّفه الحياء ... فوجنتُه وقهوته سواء
يمجّ المسكَ من ثغر نقيّ ... كأن رُضابَه خمرٌ وماء
وقد ولِع الخُمارُ بمقلتيه ... وظل التيه يفعل ما يشاء
ويبخل بالسّلام وما يليه ... فليس لمُدنفٍ منه شفاء
وقوله:
وجهٌ هو البدر المنير وقامةٌ ... كالغصن ماسَ نَضارةً وشبابا
يسقيك من حلبِ العصير مدامة ... ومن المؤشّر مسكةً ورضابا
غنّت وكاسات المدام مدارة ... عذُبَ الوصالُ لنا بهنّ وطابا
كأسٌ من الذهب السبيك تضمّه ... قصب اللجين تعمّمَت عُنّابا
وقوله:
سُعادٌ قد ألمّت بي ... ستمحو البعدَ بالقرب

كبدرٍ تحته غصنٌ ... على حقْفٍ من الكثب
فحلّت في حمى قلبي ... على التأهيل والرّحب
وقوله:
وجاهلة بالحبّ لم تدرِ طعمَه ... وقد تركتني أعلمَ الناس بالحبِّ
أقامت على قلبي رقيباً وحارساً ... فليس لدانٍ من سواها الى قلبي
أدرتُ الهوى حتى إذا صار كالرّحا ... جعلتُ له قلبي بمنزلة القُطب
وقوله يصف منافقاً مماذقاً:
رأيتُك قاعداً عن كل خيرٍ ... وأنت الشهمُ في قالوا وقلتُ
وطَرّاراً له لطف وحذق ... وألفاظ ينمّقُها وسمْت
وثقت إليه من حسبٍ وبيتٍ ... ولولا ذاك منه ما وثقتُ
وقد يعِدُ الوعود وليس يوفى ... وليس بقائلٍ يوماً فعلتُ
كخز الماء فوق الماء طافٍ ... يروق وما له أصلٌ ونبت
كذلك زهرة الدّفلى تراها ... تشوق العينَ حسناً وهي سُحْتُ
وقوله:
ألا يا نداماي الكرام وسادتي ... سألتكمُ إلا أجبتم مقالتي
أليس معاطاةُ الكؤوس وحثُّها ... وحسنُ المثاني كارتجاع الفواخت
أحب إليكم من زمان مصرّدٍ ... تحكَّم في الفتيان حكمَ الشوامت
وقوله:
بنفسيَ تفاحَ الخدود المضرّج ... وأنفسنا أشهى إليه وأحوج
بنفسي وجه جيشه نبلُ لحظه ... يجيّشه ذاك الجبين المتوّج
وأسقيه من كأسي وأشرب فضلَه ... فنقليَ من فيه ومن فيه أمزج
هو الخمرُ إلا أنه خمر مرشف ... يمج به الثغر النقيُّ المفلّج
وقوله من قطعة:
ما العيشُ إلا مع التّهجير والدلَج ... أو المدام وصوت الطائر الهزِج
والشرب بين الغواني والقيان معاً ... فإن أوجهها تغني عن السُرّج
والقصر والبحر والبستان في نسق ... ونحن في مشرف من منظر بهج
والكأس دائرة في كفّ غانية ... بيضاء في دعج صفراء في نعج
أقول والكأس تزهى في أناملها ... رفقاً على هذه الأرواح والمهج
اللهَ في مدنَفٍ أودى بمهجته ... طرفٌ تقلّب بين السحر والغنَج
كم حجة لي ولكن ليس يقبلُها ... لو كان ينتفع المشتاقُ بالحجج
وقوله:
بنبلِ الجفون وسحْر العيون ... وميلِ الغصون كمثل الرّماحِ
ولمعِ الثغور وبيض النّحور ... وضيق الخصور وجوْلِ الوِشاح
ووردِ الخدود وميْسِ القدود ... وضمّ النهود ولثم الأقاح
وساقٍ مليحٍ كظبي ربيب ... وعود فصيح يهيج ارتياحي
وكأس المدام غداةَ الغمام ... بكفِّ الغلام فراحٌ براح
كأن الرحيقَ بكف العشيق ... نظام العقيق بجيد الرّداح
على المستهام حليف الغرام ... فما في السلام له من جناح
وقوله:
بلحظك يُقتَل البطل المشيح ... وبعض جيوشك الوجه المليح
وأنت البدر يكمل كلَّ شهرٍ ... وغصن البان فالظبي السّنيح
دنوّكمُ يبرِّد من غليلي ... وودكمُ هو الودّ الصحيح
وقوله في جارية نصرانية:
أليسَ الله يعلمُ أن قلبي ... يحبّك أيُّها الوجهُ المليح
وأهوى لفظك العذبَ المفدّى ... إذا درس الذي قال المسيح
أظاهرُ غيرَكم بالود عمداً ... وودكمُ هو الود الصحيح
وفيكم أشتهي عيدَ النصارى ... وأصواتاً لها لحنٌ فصيح
وقوله من قطعة:
رمتني سهامٌ من لحاظ غريرةٍ ... معقربة الصدغين قائمة النهدِ
مخنّثة الأعطاف مهضومة الحشا ... غلامية التقطيع ممشوقة القدِّ
وقوله من أخرى:
لئن خنتمُ أو ملتمُ لملالة ... فإني سأرعاكم على القرب والبعد
وما أنسَ لا أنس العناقَ عشيةً ... وبردي ذكيّ النّشر من ذلك البرد
وقوله من أخرى:
أيا من حلّ في عيني وقلبي ... وجال من السّويْدا في السّواد

ليهنك أن حللْتَ حمى فؤادي ... وسلّطت السهاد على رقادي
وأنك قد خلعتَ على جفوني ... من الأشواق أثوابَ الحِداد
وله:
أتسقيني وتسكرني بلحظ ... فلي سُكْرانِ من هذا وهذا
فإن كان المراد بذاك قتلي ... على حُبّيك صبراً كان ماذا
وقد فنيتْ دموعي من جفوني ... فأمسى وبْلُ أجفاني رَذاذا
وله:
يا قمراً أبصرتُه طالعاً ... ما بين أطواق وأزرارِ
يرنو بعينَيْ شادن أحور ... قد عقد الخِصر بزنّار
يطوفُ بالكأس كبدر الدُجى ... وكأسه كالكوكب الساري
قد كتبَ الحسنُ على خدّه ... هذا طرازُ الخالِق الباري
وله من أخرى:
فنادِ بمسمَعيْك لكي يغنّوا ... وحث العود من بمٍّ وزير
ولا تشربْ بلا طرب فإني ... رأيتُ الخيل تشرب بالصفير
وله من أخرى:
قمْ يا نديمي هاتِها ... حمراءَ ترمي بالشّررْ
وأمرْ سقاتك تسقنا ... فالديك ينذر بالسّحر
واشربْ على قمر الورى ... إن غاب في الغرب القمر
ما العيش إلا بالمدا ... م وبالقيان وبالوتر
تسقيكها ممشوقةٌ ... أو أهيفٌ زين الطُّرَر
وكأنما هيَ رقّةً ... دينُ المعرّي في الخبر
وله:
يا غزالاً إذا نظرْ ... وقضينا إذا خطرْ
أنت علّمت مقلتي ... رعية النجم والسهرْ
طاف بالكأس أغيدُ ... وجهه كاسمِه قمر
كيف لي بالسلوِّ عن ... ه وما عنه مصطبَر
وله من أخرى:
أغرّك قول الناس يا غاية المنى ... ويا مخجلَ الشمس المنيرة والقمر
وما خلقت عيناك إلا لآتي ... وما آفة الإنسان إلا من النظر
وله:
بأبي وجه مليح ... فيه ماءُ الحسن حارا
وله طيفٌ إذا ما ... لجّ في الهجران زارا
وله من أخرى:
أخَوْدٌ ألمّت بنا آنفاً ... أم الشمسُ والقمرُ الباهر
أرتك الهلالَ وغصن النقا ... يميّله روضه الزاهر
بعثتُ إليها بلحظ الهوى ... وطرفي لموعدها ساهر
منعّمة من بنات الملو ... ك فالحسن في وجهها حائر
وله يصف الرّاووق:
تأمل من الراووق والخمر يقطرُ ... كعيني محبٍ للتفرّق ينظرُ
براه الهوى فالدمع يغلب جفنَه ... فيخفيه أحياناً ولا بدّ يظهر
وله:
فما شفق قد ضمّ بدر غمامةٍ ... ولا كأس بلّور دِهاق من الخمر
بأحسنَ منها حين مرّت عشية ... تميس بتيه في غلائلها الخضر
وله من أخرى:
سأصبرُ مغلوباً على بعد دارنا ... وما كلّ مشتاقٍ على البعد صابر
فيا عزّ قد عزّ الذي أنت واصل ... كما ذل يا عزّ الذي أنت هاجر
فللْغصن ما شدّت عليه مناطق ... وللحقف ما ليثَتْ عليه المعاجر
تميس كغصن البانِ يهتزّ ناعماً ... وتثقلها أردافُها والغدائر
وله:
ألا حبّذا راحٌ براحٍ تديرها ... ظباءُ قصورٍ بين تلك المقاصر
معتّقة لم تلفح النار وجهها ... بعيدة عهد من قِطافٍ وعاصر
على حلو أخبار إذا ما تكرّرت ... ثنينا على تذكارها بالخناصر
وله وقد أوقد الراهب ناراً في منارة:
يا راهبَ الدير الذي ... عمرَ المنارُ بناره
هل أبصرتْ عيناك لي ... ظبياً نأى عن داره
لبس الصّليبَ مقلداً ... إذ ماس في زنّاره
كالسيف في آثاره ... والغصن في إثماره
عيناه أوشك قتلة ... من غربِه وغِرارِه
وله:
كأن الكأس لؤلؤة وفيها ... عقار عتِّقت في دون تِبر
وله:
هلالٌ ألمّ بنا موهِناً ... تحيّر في حسنه ناظري
وأوما إليّ بتقبيله ... فردّ عليه نعم خاطري

يريك الرّدينيّ من قدّه ... ويرنو عن المُرهفِ الباتر
فكم شعلة في صميم الفؤاد ... تضرّمُ من لحظه الفاتر
وله:
يا قُبلة قد نِلتها من مؤنسِ ... فتضوّعت أنفاسُها في المجلس
وضممته فضممت غصناً مائلاً ... ورشفت من ريمٍ ثنايا ألْعَس
وتأرّجَتْ أثوابه فكأنها ... ريح القَبول على جفون النرجس
وتضرجت وجناتُه فتورّدت ... وتحكمت ألحاظه في الأنفس
وله من أخرى:
وخمرٍ قد شربت على وجوه ... إذا وصفت تجلُّ عن القياس
خدود مثل ورد في ثغور ... كدُرّ في شعور مثل آس
وله:
يا رُبّ راح جلونا كأسَها سحَراً ... عذراء صافية في حلّة الورس
في راحة رخصة الأطراف ناعمة ... من كف جارية تُدمى من اللمس
بيض ترائبُها سود ذوائبها ... كأن طرَّتها غيم على شمس
وله في جارية بوجهها أثر جرح:
ومجروحة في الوجه أحسن من مشى ... وترنو بعيني ظبية تكلأ الرشا
وما جرحها في الوجه مما يشينها ... وما ضُرِب الدينار إلا لينقشا
مهفهفة تصبي الحليمَ بدلِّها ... فلو حدّثَتْ صخراً من الصمّ لانتشى
تريك النقا والغصن إمّا تعرضت ... مثقّلةَ الأرداف مهضومة الحشا
مسيحية فيها من الحسن مسحة ... فشا حسنها مثل الذي بي قد فشا
وله:
فكّرت في نار الجحيم وهولها ... يا ويلاه ولات حين مناص
فدعوت ربي أن خير وسائلي ... يومَ المعاد شهادةُ الإخلاص
وله:
ومجلس فيه ريحانٌ وفاكهةٌ ... نظلُّ نلهو به طوراً ونغتبط
كأن سوسنه المبيَضّ حين بدا ... رأس لراهبة بادٍ به الشّمَط
وله:
لله من وجهه لنا قمر ... على قضيب مهفهف طلعا
ضممتُه مرة فقبلني ... فخلتُ زهر الرياض قد سطعا
وله:
سلِ المطر العام الذي عمّ أرضكم ... أجاء بمقدار الذي فاض من دمعي
إذا كنت مطبوعاً على الصدّ والجفا ... فمن أين لي صبرٌ فأجعله طبعي
وله:
تلوّتْ عليّ بوعد كما ... تلوّي على الخدّ أصداغَها
أيا دُميةَ الدّير في بيعة ... تنوّق فيها الذي صاغها
بقلبي أمورٌ طواها الهوى ... أريد الى فيكِ إبلاغَها
الى شفة قد بهاها الهوى ... فسبّحْتُ ما شئت صبّاغها
وله من أخرى:
فيا مَنْ وجهُها سبب التّصابي ... ويا من وصلُها للقلب رافَهْ
إليك صبوتُ يا من حلّ مني ... فأكلؤهُ بإشفاق المخافه
فيا من ريقها شهْد جنيّ ... بماء الورد نكهتُه مُضافه
وله:
بليت بظبية تهوى لجاجي ... هي الشمس المنيرة في السّجوف
مبرقعة بخزّ من سواد ... كمثل البدر في وقت الكسوف
بلا قلبي وطرفي كان يحْيا ... فقلبي المبتلي والطرف عوفي
وله:
رويدكَ يا مُنى نفسي ... فما في الحب من أنفَهْ
بحق الجمر إذ تُرمى ... بحق الحجّ في عرفَهْ
بحق مِنًى ومن فيه ... وركبٍ حلّ مزدلِفَه
ألمّي بي ولو يوماً ... لتُحيي مهجتي الكِلفَهْ
وله:
يا رب غانية حُمر غلائلها ... كأنها قمرٌ في حُمرة الشفق
كأنّ غرّتَها من تحت طُرّتها ... بدرُ التّمام بدا في ظلمة الغسق
قد زرْفنَتْ فوق خديها سوالفها ... كأنما كتبت لاميْنِ في يَققِ
باتت تعللني راحاً وترشفني ... فبتّ أشرب راحَ الكرْم والحدق
وله:
أهلاً وسهلاً بقَيصَريّ ... يرشُقُني قدّه الرشيقُ
تفعل ألحاظه بلُبّي ... أضعافَ ما تفعل الرحيق
يا حاملاً خدّه وكأساً ... فذاك وردٌ وذا شقيق

يا مشبهَ البدر في كمالٍ ... يا حبّذا وجهك الطليق
وله:
يا مليكاً على القلو ... ب بجيش من الحدقِ
بأبي صدغك البهي ... م على خدك اليققِ
وله:
ألمّت بوجه كبدر الدجى ... تقنّع بالمِعجَر الأزرق
كبدر السماء بدا طالعاً ... تحفّ به زُرقةُ المشرِق
وله:
أضحكَ مَن في هواكِ باكِ ... حبُّكِ عن حبّ مَن سواك
إذ لا وصال سوى نسيم ... من نشْر مرْط ومن سِواك
وله:
أبدَيْنَ أقمارَ الوجوه طوالعاً ... من فوق أغصان القدودِ المُيّلِ
وبسَمْنَ عن دُرّ الثّغور فخِلْته ... برَداً تحدّر من سحابٍ هُطَّل
وله من أخرى:
رُبّ يوم نحن في ظل القَنا ... رُبّ يوم نحن مع بيض الدّمى
إن تكن حرب صليْنا نارَها ... أو تكن سِلماً بذلنا النِّعَما
وله:
منع التنسّكَ والوقار وبجْمَه ... مُقلٌ تقلّبها بنات الرّوم
مُقل لها فعل المُدام وتارة ... فعل الحسام بمهجة المهزوم
بيض كأنّ شعورها ووجوهها ... ليل يبلّجهُ ضياء نجوم
حدّثنَني وخلال ذاك تبسُّم ... كالدرّ منثور على منظوم
لله ليلتُنا ونحن نُديرها ... كأساً معتّقة من الخُرطوم
والطبل يخفق والمزامر حوله ... تتخالف العيدان في المزْموم
فلئن صبوتُ فقد صبا أهل النهى ... ولئن هفوتُ فلست بالمعصوم
وله:
بسقام جفونك من سقم ... وشحوب خدودي من ألم
وولوع الحب بذي شجنٍ ... وبقرعْ السن على ندم
أرضيت الشوق يعذّبني ... يا مَن قد نام ولم أنم
ولقد أصبحت لنا شغُلاً ... كعكوف الشِّرْك على الصّنم
فلئن أسفرتَ فعن قمر ... ولئن سلّمْت فبالعنَم
أفلا أشفى بوعود من ... ك شفاء المحْل من الدّيَم
أهوىً وجوىً ونوىً وأسىً ... ووقوفُ الحال على العدم
وهمُ أشجوك وقد سلِموا ... وهمُ أردَوْك بذي سلَم
وهمُ قصدوك بنبلِهِمُ ... وأقاموا الحرب على قدَم
وهم دلّوك بدلِّهمُ ... وهمُ راموك فلم ترُم
ولقد أزمعتُ سلوّكُمُ ... وعرضْتُ الغدرَ على شيمي
فكرهت الغدرَ لخسّته ... وأبتْهُ نفوس ذوي الهِممِ
وله:
يا شبيهَ الغزال عيناً وجيدا ... وشبيهَ القضيب قداً وقامهْ
أنت بدر الجمال فوق قضيب ... خدّك الورد والرّضاب مُدامَهْ
وله:
ألا حبّذا الوجهُ الذي جمع الحُسْنا ... كأن سناه الشّمسُ لكنّه أسنى
ويا من هواه في ضميري مخلّد ... وأدنى إذا فكّرْت من ثوبي الأدنى
طلبت سلوّاً من هواكَ فلم أجد ... وألزَمْتُ نفسي الصبرَ عنك فما أغنى
هواكَ الى قلبي ألذّ من المُنى ... وأعذب من ماء السّحائب بل أهنا
وله:
بنفسي القناني بأيدي الغواني ... وشدوِ القِيان وصوت المثاني
وقد ستر الشمسَ ثوبُ الغمام ... وقد ودجَ العِلجُ نحرَ الدّنان
فخُذْها عقاراً ترى لونها ... كحُمرةِ خدّ بقَرْص البنان
وبادرْ زماناً قليل الوفاء ... فكلّ مع الدهر والعيشُ فان
وله:
أيها البدرُ إلينا ... لا تبِعْ بالنّقدِ دَيْنا
دعْ نقبّلْ كفّك المخْ ... ضوبَ شئنا أم أبينا
واسقِنا سِحراً بلحظٍ ... وأدِرْ كأسا علينا
اسقِنيها مُرّةَ الطّعْ ... مِ تُريكَ الشَّيْنَ زيْنا
أنت أبهى كل من يم ... شي على الأرض الهوينا
وله:
أيا من وجهُه حُلوُ ... ويا من قلبُه خِلوُ
ويا من لحظُه سكر ... ويا من لفظُه صحوُ

ويا من قدّهُ غُصن ... نماه الدلّ والزهْوُ
لقدأصبحتَ ذا جورٍ ... على من جسمُه نِضوُ
وقد طالتْ مواعيدي ... أهذا منكَ بي لهوو
فإنْ كنتُ أخا ذنب ... أما عندكَ لي عفوُ
وله قد غُنّيَ بين يديه بقول ابن أخي عتّاب الجوهري:
إذا لم أطِقْ صبراً رجعتُ الى الشكوى ... وناديتُ جنح الليل يا عالم النجوى
فعمل ارتجالاً:
أيا قلبُ كم حذّرْتُك البثّ والبلوى ... أليس قصارى العاشقين الى الشكوى
فإن قلتَ إن الطّرْف أصلُ بليّتي ... فأنت الذي تصبو وأنت الذي تهوى
لعَمري لقد بالغْتُما في نكايتي ... وحمّلتُماني في الهوى فوق ما أهوى
بُليتُ بقاسي القلب في غاية المُنى ... فصيّرني في الحبّ في الغاية القصوى
ولا يقبل الأيْمانَ إن جئتُ حالفاً ... ولا يرحمُ الشّكوى ولا يسمعُ النجوى
وله:
إن نظرتْ مُقلتي لمُقلتِها ... تعلمُ ممّا أريدُ فحْواه
كأنّها في الفؤاد ناظرة ... تكشِفُ أسرارهُ ونجواه
وله:
وكأسٍ مثل عينِ الدّيكِ صِرْف ... وماء المُزنِ بالشّهْدِ الجَنيّ
يطوف بها مليح ذو دلالٍ ... مريض الطرف ذو خُلُقٍ رضيّ
أقام عقاربَ الأصداغ تيهاً ... ليمنَع بهجةَ الوجه الوضيّ
شربت على لواحظِه مُداماً ... كماء المُزن والمِسك الذّكيّ
وله من أخرى:
وإذا حرّك المثاني عنيدٌ ... وسمعنا زَمراً ولحْنا شجيّا
وسعى بالكؤوس بدر منير ... وسقانا الرّحيقَ صرْفاً وحيّا
ما أبالي إذا شربتُ ثلاثاً ... أيّ قاضٍ بالجَورِ يقضي عليّا

حميد بن سعيد بن يحيى الخزرجي
من ندماء تميم بن المعز بن باديس بالمهدية، وشعرائه المجيدين في البديهة والروية، وهو الذي جمع شعر الملك تميم، ونظم في عقد سلكه كل در يتيم، ومما أورده لنفسه فيه أبيات عملها على وزن شعر لتميم قال: حضرنا ليلة بين يديه فأملى علي، يعني تميماً:
يا باعثَ السُكرِ من كأس ومن مُقلِ ... يسبي الحليمَ بتكسير وتخنيث
وحاملَ البدر فوق الغُصن منتصباً ... وخالِطَ الدرّ تذكيراً بتأنيث
عاهدْتني عهْد من للعهْد ينكثُه ... فصرتَ تأخذ في طرْق المناكيث
حدثتني بأحاديث منمّقةٍ ... فما حصلتُ على غير الأحاديث
فالوعد ينشُرُني والخلفُ يقتلني ... فصرتُ ما بين مقتول ومبعوث
قال حميد وسأل الحاضرين إجازته فأنشدته:
يا من حُرمتُ وِصالاً منه يُنعشُني ... وصرتُ أقنعُ منه بالأحاديث
تشبّث السُقْمُ بي لما هجرتُ فما ... بغير طولِ الأسى والهجرِ تشبيثي
اللهَ في هجرِ مقتولٍ أضرّ به ... وجْد عليكَ وميتٍ غيرِ مبعوث
قال ثم أنشده الحصيبي:
يا ساقيَ الكأس ليس الكأس تُسكرُني ... السُكرُ من مُقلةٍ أغرتْ بتخنيثي
وهذا الحصيبي من شعراء العصر ويستغنى بذكره هاهنا عن ذكره في موضع آخر.
ثم أنشده الكفيف:
بثثْتُ حبَّك إذ ضاقَ الفؤادُ به ... فمنْ يلوم لسرٍ فيكَ مبثوثِ
نفثْتَ في القلب سحراً لا طيبَ له ... فيا لسحرٍ من الألحاظ منفوثِ
وقد حلفتُ يميناً لا يُكلّمني ... والشوقُ يقضي على رَغْمي بتحنيث
فقال له تميم: أنا انتقدت على الحصيبي، فانتقد أنت على الكفيف، فقلت: كلامه كله مختل، لأنه ذكر ضيق صدره بمحبوبه، ومن كان صحيح المحبة فما يضيق فؤاده، ثم قال: فمن يلوم لسر فيك مبثوث، والبهائم لو نطقت، تلومه، وإنما الصواب: فلا تلمني لسر فيك منثوث، والمبثوث لا وجه له، فإن المبثوث بمعنى المفرّق وكيف يبث حبه بمعنى يفرقه، وإنما أراد أن يقول نثثت حبك بالنون أي ذكرته بعد ما كان مكتوماً.
قال حميد الخزرجي: وعملت بيتين ابتداء لأبيات وهما:
وغانيةٍ محيّاها ... به يُغْنى عن السُرْجِ

لو اطّلعَتْ على الحُجّا ... ج ألهتْهُمْ عن الحجّ
وبعدهما من شعر تميم:
لها وجْه لها شعَر ... كمثل الروم والزّنْج
لها جفْنان قد شُحِنا ... بنَبل السّحْر والغنْج
لها ثغر، لها ريق ... كمثل الخمر والبنجِ
لها نهدان قد نجُما ... كنابَي فيل شِطرَنْجِ
وحكى حميد أنه دخل الى أبي عبد الله ابن النعناع وفي يده رقعة من الملك تميم إليه يتأملها ويكثر النظر فيها وقد ألهته عنّا معانيها، فقلت:
عجبت لرقعةٍ ألهتْك عنّا ... وعما كنت فيه من الحديث
أظنك قد شُغِفْتَ بها لسِرّ ... قديم قد حوتْهُ أو حديث
وحكى أبو الصلت في الحديقة: أخبرني محمد بن حبيب المهدوي قال: حضرنا ليلة في جملة النّدامى مجلس السلطان أبي يحيى تميم ابن المعز فالتفت حميد بن سعيد الشاعر الى غلامين من مماليكه متناجيين قد ضمّا خداً لخدّ فقال حميد:
انظر الى اللِّمّتَين قد حكتا
فقلت:
جنحَيْ ظلام على صباحَيْنِ
فقال:
واعجَب لغصنين كلّما انعطفا
فقلت:
ماسا من اللّين في وشاحَيْن
فقال:
ظَبْيان يحْمي حِماهما أسدٌ
فقلت:
لولاهُ كانا لنا مُباحينِ
فقال:
فلو تدانيت منهما لدنت
فقلت:
منّي في الحين أسهم الحَيْنِ

محمد بن حبيب المهدوي القلانسي
ذكره أبو الصلت في الحديقة وأورد قوله:
بدورُ وجوهٍ في ليالي ذوائبٍ ... لعِبْنَ بلبّي بين تلك الملاعب
تبرقَعْن من خوف العيون وإنما ... طلعن شموساً تحت غُرّ السحائب
وفوّقن من تحت البراقع أسهُماً ... من اللّحظ ترمي عن قِسيّ الحواجب
باب في ذكر محاسن جماعة من أهل المغرب
الأقصى من العصر
أوردهم عثمان بن بشرون المهدوي الكاتب في المختار في النظم والنثر وذكر أنهم من المُقلين
محمد بن عبد الله المهدي المعروف ب
ابن تومرت
هو الذي خرج بالمغرب، ودعا الى التوحيد، وتولّى بعده عبد المؤمن. ذكر ابن بشرون: أنشدني محمد بن محمد النثري لابن تومرت أبياتاً قالها قبل قيامه بالمغرب، وهي:
إنّي وفي النفس أشياء مخبّاة ... لألبَسنّ لها دِرْعاً وجِلبابا
كيما أطهر دينَ الله من دنَسٍ ... وأوجب الفضل للسادات إيجابا
تا الله لو ظفرَتْ كفّي بمطلبها ... ما كنتُ عن ضرب أعناق الورى آبى
اليمان بن فاطمة المرابط
أورد له:
سل مُستَهاماً بكم قد شفّه السّقم ... لا يرقدُ الليل من فِكر ومن قلق
قد أنفدَ الدمعَ فيما قد يكابدُه ... فالدمع في نزَفٍ والقلبُ في حرَق
يا ويْحَ من قد بُلي من حبّه بنَوى ... إن قال صِلْ مال للإعراض والنّزَقِ
وقال موعدُ وصْلي الحشرُ فاغن بما ... ترى إذا أو نهاكَ الحبلَ فاختنِقِ
كم مرة قلت علّ الدهرَ يسعدني ... بالوصل منكَ فيحيى عندهُ رمقي
قال اصطبرْ واحتسبْ ما صرتَ لاقيه ... مثل احتسابِ الشجي المشفي على الغرق
ثم انثنى مرِحاً والتيهُ يعطِفه ... ووردة الخدّ تحكي حمرةَ الشّفقِ
وقال: دعني واصنعْ ما تشاء ولا ... تلمُمْ بربعي واحذر أن تُسي خلقي
فحين أبصرَ ذُلّي في هواه رثى ... لحالتي واعترته سَورة الفَرَق
ومنها:
ومال نحوي يفدّيني بأسرته ... وسار بي لذُراه سير منطلق
وقال: خذها عَقاراً في زُجاجتها ... تلألأتْ كتلالي الشمس في الأفق
ونِل وصالي وقبّلْ عند ذاك فمي ... وعضّ خدّي ولا تعبأ بمطّرق
فلم يزلْ دأبنا هذا ومقصدُنا ... أيامَ شهرٍ جرتْ طلْقاً على نسقِ
يا حبذا زمن قضيتُ أطيبَه ... ما بين عود وناي خائر الطرق
في روضة أنُفٍ تزهو بأحمرها ... نعم وأصفرها والأبيض اليقق

إذا بكى القطرُ وانهلّت مدامعه ... تبسّمت ورنت إليه بالحدق

عبد الله بن حماد المراكشي
أورد من شعره قوله ينتجز وعداً ويقتضي رفداً:
يا من إليه في الحواديث يُسنَدُ ... وعليه ألوية المحامد تُعقَد
إني أتيتُ بشطر بيت سائر ... اليوم يومكم فأين الموعد
وقوله في المعنى:
بتّ ليلي أنافرُ النوم حتى ... لاح لي الصبح لا أغمّضُ عينا
وكأني لمّا وعدت، ضرير ... أجذَم قد أتاك يطلبُ ديْنا
عبد المؤمن بن يحيى السجلماسي
له في ذم قاض:
أيا عُرّة في جميع القضاة ... وأجورَ قاضٍ قضى واحتكَم
أمثلك يصلُح في قُطرنا ... يلي الحُكمَ في الشرع بين الأمم
ودارك مقسمة للزناة ... يناك بها لك كل الحُرم
فقُل لولاة الأمور اللئام ... أبعد الفقيه علي الحكَم
تولّي القضا مثل هذا البغيض ... ونجمُ قيادته قد نجَم
نصحت لكم فاقبَلوا نصح مَنْ ... يرى قتل قاضيكم في الحرَم
عبد الخالة بن عبد الصمد النولي
أورد له من قطعة:
يا لَقَومي ما لصبّ ... مُستهامٍ من نصير
شفّه حُبّ غزال ... غنج اللّحظ غرير
أهيفِ الخصر مليح ال ... قَدّ كالغُصن النضير
بمحيّا ذي جمال ... مثل بدر مستنير
ليته جاد بوصل ... بعد بُعْدٍ ونفور
وغدا وهو عنيقي ... وضجيعي في السرير
إيتني الوصل هنيئاً ... في خلوّ من غيور
وشرابي ريق ثغر ... طيّب الطعم خصير
الأفرم
هذا لقبه، وهو محمد بن علي المسيلي.
أورد من شعره في الرزق وطلبه، وأنه يجري من الله بقدره:
يقولون إنّ الرزق بالحرص يجلبُ ... وليس بمقدور يُنال ويُكسب
فصوّب وصعّدْ في البلاد مطالباً ... لرزق تنلْ منه الذي تتطلّب
وإياك والتّضجيع فيه وإنّما ... أخو الرّزق من يشقى عليه ويتعب
فما الرزق يأتي بالتوكل إنّه ... بعيد لذا التّضجيع لا يتقرّب
فقلت: بعيد أن تُنال معيشة ... بحرص عليها فالحريص معذّب
ألا إنما الأرزاق تجري بقدر ما ... يقدّرُ والمقدور عنّا مغيَّبُ
وما أن ينال المرءُ منها سوى الذي ... به الله يقضي والقضاء مغلَّب
فأرزاق هذا الخلقِ بينهمُ جرتْ ... فذا نائل عفواً وذاك مخيَّب
ولكن علينا الاجتهاد وأن نُرى ... لربّ الورى في الرّزق ندعو ونرغب
فرَبّ الورى يعطي ويمنع كيف ما ... أراد وما في ذاك منه تعقُّب
رضيتُ به ربّاً ومولى وسيّداً ... وحسبي من رب يرجَّى ويرْهب
محمد المكناسي المعروف بينطلق
له في الفراق:
إن يوم الفراق يوم عسير ... يتوقّى وقوعَه المهجور
كم أديلت للشوق فيه دموع ... واستحرّتْ للبَيْن فيه صدور
واغتدى العاقل الصّبور جَزوعاً ... للنّوى والنوى عليه أمير
أي عقل يبقى وأي اصطبار ... لمُحبّ فؤاده مستطير
إذ أحبّاؤه أشاعوا ارتحالاً ... بينهم غدوةً وقالوا المسير
ومطاياهم تُشدّ ولم يب ... ق سوى أن يقال للركب سيروا
لو تراني يوم ارتحال المطايا ... وبنان الحبيب نحوي يشير
لرأيتَ امرأ أجِنّ من الشو ... ق فأضحى كأنّه مسحور
ليس يسطيعُ أن يودّعَ حِيّاً ... دونه كاشح له وغيور
لم يزل يتبَع الحبيبَ بطرْف ... دمعُه للفراق دمعٌ غزير
وينادي والشوق يضرِم في الأح ... شاء ناراً لها لديه سعير

يا إلاهي قرّب مزار حبيبي ... ولأنْت القدير نِعْمَ النّضير

حماد بن الرفا الفاسي الشاعر
له في الاستعطاف، والتنصل من الذنب، والاستعفاء من العتب:
دع العتْبَ وارجع لي حنانيك للعتبى ... وواصل إليّ الكَتْبَ واغتفر الذّنبا
وكن كالذي ما زال في الناس مُحسناً ... وإن هم أتوا ذنبا وهاجوا به كرْبا
وللعفو عن ذنب المُسيء عبادة ... تطيب بها ذكراً وتُرضي بها الرّبّا
ونحرز في أثنائها خيرَ مكسبٍ ... يكون جمالاً في الحياة وفي العُقبى
فإن اعترافي أنني لك مُذنب ... يجدّد لي عهداً ويثمرُ لي قربا
لعلّ الليالي تستجِدّ لقاءنا ... فأشكو بِعاداً زادني فيكمُ حُبّا
لقد طال هذا البعد حتى أذاقَني ... عذاباً ولقّاني به خطبُه خطْبا
إذا الريح هبّتْ من سماوة أرضكم ... ذهِلتُ فلم أملِك فؤاداً ولا لُبّا
وأستخبرُ الركبانَ عنكم لعلّني ... بذاك أقضي من سلام لكم نحبا
فلا مبلغ عنكم إليّ رسالة ... ولا قائل خيراً ولا دافع كتْبا
فأرجع مكلوم الفؤاد تشب به ... نار الصبابات لي شبّا
لعل الذي أفضى بنا لتفرّقٍ ... يسنّي لنا لقيا ويُسنِي لنا قربا
يحيى بن عمارة
له من قطعة:
قد كنت من قبلِ أن أهوى وأعشق لا ... أرثي لأهل الهوى في كل ما صنعوا
فاليوم أعذرُهم فيه وأرحمُهم ... إذ نحن فيه سواء كلنا شرَع
فدع عتابكَ في ريم علِقْتَ به ... فقلما عاشق بالعَتْب ينتفع
قد حصحص الحقُّ إني عاشق كلِفٌ ... والعاشقون لسلطان الهوى تبَع
علي بن عبد الله المقدسي
أورد قوله في الطيف:
طاف طيفُ الحبيب ليلاً وزارا ... ما رثى لي لما ألمّ ازْوِرارا
عجباً منه إذ أتى ما تأنّى ... بل ثنى طيفَه المُلِمّ وسارا
هاج لي ساكناً وأقلق منّي ... أضرم الشوق في الجوائح نارا
ولقد نمتُ قبل زورة سارٍ ... عن أمور هيّجْن لي تذْكارا
أذكرُ الحيّ والصّبا وسُليْمى ... وأموراً أظهرتُ منها استتارا
إذ عيون الخطوب عنّا نيام ... وثغور القبول تُبدي افتِرارا
أمطر الله بالغُوَير ربوعاً ... وسقاهُنّ وابلاً مدرارا
كم قطعنا بها ليالي وصلٍ ... ووصلنا بها السرور نهارا
ولنَشْرِ الصباح عرْف ذكيّ ... عِنبَريّ النّسيم لمّا استثارا
في رياض مدبّجات بنَورٍ ... مدرِجات كِمامها أزهارا
وكؤوس المُدام تجلى علينا ... حملت في لجَينهنّ نُضارا
من رحيق في الدنّ يذكر كسرى ... قِدَماً في الزمان والنّوْبَهارا
أنجُم في الكؤوس تُبدي طلوعاً ... لعيون وفي اللّهى أنوارا
والتي تيّم الفؤاد هواها ... شمس حُسنٍ بها العقول حيارى
يُخجل الناظرين منها محيّا ... كمحيّا الصّباح حين أنارا
هي أنْسي ولذّتي ونديمي ... ودوائي إذا شكوتُ أوارا
شمّرتْ للوقوف منها بُروداً ... وأماطت عن وجنتَيْها خِمارا
ورمتني بأسهُمٍ من لِحاظٍ ... ماحطَتْ من فؤادي الأعشارا
ومتى شئت وصلها كان منها ... كون منع ولا رقيبٌ يُدارى
فلقد حال من زمانيَ حال ... ترك العقل والفؤاد مُطارا
وسعى بيننا من البيْن ساع ... شتّ شملاً مستجمعاً حين ثارا
قدرٌ سابق وحكم نَفوذ ... وخطوب رددْن منها المُعارا
أودعَتْنا الخطوب في كل أرض ... ودعتنا لحكمهنّ اضطرارا

ليت شعري وقد تنكّر دهري ... هل أرى لي عليه منه انتصارا
لا جزى الله زائر الطيف خيراً ... إنه هاج لي أموراً كبارا
سوف أبكي أيام قرب سُليمي ... ما حييتُ وأندُبُ الأقدارا

جماعة أوردهم ابن بشرون في مختاره
من أهل المغرب الأوسط الذي كان لبني حماد واستولى عليهم عبد المؤمن
الفقيه أبو حفص عمر بن فلفول
قال: هو كاتب السلطان بتلك البلاد يحيى بن العزيز الحمادي وخالصته وصاحب سرّه، وله اليد الطولى في الإنشاء الدال إعجازه فيه على البلاغة المؤدية لسحره في نثره.قال: أنشدني له الأمير عبد الله بن العزيز الحمادي عند الاجتماع به في جزيرة صقلية:
وقالوا: نأى عنك الحبيب فما الذي ... تراه إذا بان الحبيبُ المواصل
فإن أنت أحببتَ التصبّر بعده ... ولم تستطع صبراً فما أنت فاعل
فإنّ الهوى مهما تمكّن في الحشا ... وحلّ شغاف القلب ليس يُزايلُ
فكم رام أهلُ الحب قبلكَ سلوة ... وزادهم عنها هوىً متواصل
فقلت: ألا للصّبر مفزع عاشق ... وللصبر أحرى بي وإن غال غائل
سأصبرُ حتى يفتح الله في الهوى ... بوصلِ حبيبٍ طال فيها الطوائل
أبو عبد الله محمد الكاتب المعروف ب
ابن دفرير
ذكر أنه أحد كتّاب الدولة الحمادية، المتصرّفين في الكتابة السلطانية، وأورد له رسالة كتبها عن سلطانها يحيى بن العزيز الحمادي، وقد فرّ من مدينة بجاية أمام عسكر عبد المؤمن يستنجد بعض أمراء العرب بتلك الولاية: كتابنا ونحن نحمد الله على ما شاء وسرّ، رضىً بالقسم وتسليماً للقدر، وتعويلاً على جزائه الذي يجزي به من شكر، ونصلي على النبي محمد خير البشر، وعلى آله وصحبه ما لاح نجم بحر، وبعد: فإنه لما أراد الله أن يقع ما وقع، لقبح آثار من خان في دولتنا وضبع، استفز أهل موالاتنا الشنآن، وأغرى من اصطنعناه وأنعمنا عليه الكفران، فأتوا من حيث لا يحذرون، ورموا من حيث لا ينصرون، فكنّا في الاستعانة بهم والتعويل عليهم كمن يستشفي من داء بداء، ويفرّ من صلّ خبيث الى حيّة صماء، حتى بغت مكرهم، وأعجل عن التلاقي أمرهم، ويرد وبال أمرهم إليهم، فعند ذلك اعتزلنا محلة الفتنة، وملنا الى مظنة الأمنة، وبعثنا في أحياء هلال نستنجد منهم أهل النجدة، ونستنفر من كنّا نراه للمهم عدّة، وأنتم في هذا الأمر أول من يليهم الخاطر، وتُثنَى عليه الخناصر.
أبو القاسم عبد الرحمان الكاتب المعروف ب
ابن العالمي
من كتاب الدولة الحمادية، له من رسالة: ولما كنت في مضمار سلفك جارياً، ولنا موالياً، وفي قضاء طاعتنا متباهياً، رأينا أن نثبت مبانيك، ونؤكد أواخيك، ونوجب لك ولخلفك، ما أوجبه سلفنا لسلفك، تمييزاً لهم عن الأكفاء، ومجازاة لهم على محض الصفاء والولاء، فاستدم هذه النعمة العظيم خطرها بالشكر فأنت به جدير، ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن الله غفور شكور.
علي بن الزيتوني الشاعر
ذكر أنه شاعر المغرب الأوسط وأديبه، وألمعيّه وأريبه، وهو صاحب توشيح وتوشيع، وتقصيد وتقطيع، وقد سار شعره غناء، وأورد من شعره قوله في ذم المركاز:
لا آكل المِرْكازَ دهري ولو ... تقطّفه كفّي بروض الجنان
لأنه أشبه فيما يُرى ... أصابع المصلوب بعد الثمان
وقوله من قصيدة في مدح بعض القضاة وهي:
نهاه عن محارمه نُهاه ... وقرّبه لخالقه تُقاه
وقال الله ليس سواي ربّ ... ولا لشَريعتي أحدٌ سواه
هو البَرّ العطوفُ على البرايا ... وبالأيتام يرحمُ من أتاه
وشدّ به عُرى الإسلام حتى ... رأينا النُجْح وانعقدت عُراه
أمينٌ عدلُه غمر البرايا ... فما يُخشى على أحد قضاه
مسيحٌ خطوه في كل علم ... ومن ذا يقتفي أبداً خطاه
أبي شأنه طلب المعالي ... ومن يحصي ثناه أو نداه
لقد ظفرت يد علِقَتْ نداه ... ومن ناواه قد تبّتْ يداه
ابراهيم بن الهازي

ذكر أنه صاحب توشيح مليح، وربما قصر إذا قصّد، وأحسن إذا قطّع، ومن شعره:
ألا فدعوا عذلي فما أسمع العَذْلا ... كفاكم فإنّ العذل قد زادني خبْلا
وهي قصيدة واهية ومقطعها:
فواصلْ وقاطِع لستُ أبغي تحوّلاً ... فإن شئتمُ جوْراً وإن شئتمُ عدلا

علي بن الطبيب
ذكر أنّه أديب وطبيب، وأورد من شعره قوله:
يا حملة الحُسنِ هبْ لي منك إحسانا ... إني أحبّك إسراراً وإعلانا
ومنها:
إني لعبدَك لا أبغي بكم بدلاً ... ولا أحبّ سواك الدهرَ إنسانا
يوسف بن المبارك
ذكر أنه من موالي بني حماد، وله في مدائحهم من الشعر ما انسحب عليه ذيل حماد، ومن ذلك قوله:
هناكُمُ النّصر ونيل النّجاح ... في يومكم هذا بسُمْر الرّماح
فأنتم الصِّيدُ الكرامُ الألى ... شادوا العلا بالنّائل المُستَماح
ما منكم إلا همام حوى ... مناقباً جُلّى ومجداً صُراح
لا ترهبون الدهر أعداءكم ... وتمنعون العِرْض من أن يُباح
وتبذلون الرّفْدَ يوم النّدى ... وتسْعرون الحرب يوم الكفاح
وترفعون الجار فوق السُهى ... وتُكرِمون الضيف مهما استماح
لا زلتم تجنون زهر العلا ... في معرض العِزّ بحد الصّفاح
ابن أبي المليح
ذكر أنه طبيب ماهر، وكاتب شاعر، واشتهاره بالطب، وله مقطّعات جالبة للحب، سالبة للب، وله من قصيدة عيدية في الأمير عبد الله بن العزيز الحمادي يصف جنائبه، وقضاءه حق العيد وواجبه:
وجالتْ به جرد المذاكي كأنها ... عذارى ولكن نطقهنّ تحمحم
بصفراء كالتّبرِ العتيقِ صقيلة ... ودهماء يتلوها كُميْت وأدهم
وأشقر لو يجري وللبرق جهده ... لكان له يوم الرّهان التقدم
وقام لواء النّصر يتبع راية ... بها العزّ معقود عليها متمَّم
فلما قضى حق الصلاة معظماً ... ثنى والهدى في وجهه يتوسّم
فلا زال يقضي نفْلهُ وفروضه ... وبرْدُ علاه بالمدائح مُعلَم
علي بن مكوك الطيبي
أورد له هذه الأبيات:
ألا ليت شعري هل من الدهر عودة ... ليقرب ناءٍ ليس يُدرَى له أينُ
تكدّر صفو العيش مذ جدّ بينُنا ... وأي التِذاذ لا يكدّره البين
لعلّ الذي يبلي ويشفي من الأسى ... يُعيد الذي ولّى فكل به هيْنُ
غدوتُ من الأيام في حال عسرة ... تطالبني ديْناً وليس لها ديْن
حماد بن علي الملقب بالبين
له:
لمن أتشكّى ما أرابَ من الدهر ... وقد ضاق بي عن حملِ أيسرِه صدري
وقلّ الذي يجدي التشكّي وأي من ... أرجّيه في يومي لقاصمة الظهر
أراني قد أصبحت في قطر باجةٍ ... غريباً وحيداً في هوان وفي قهر
فقيراً لمن قد كنت أغنى بنيله ... وأنعم في أيامه مدّةَ العمر
أرنِّقُ عيشاً كدّر الدهر صفوه ... وصيّره بعد انجِبار الى الكسر
وعهدي به روضاً أريضاً وجنّة ... مذلّلة الأكناف رائقة الزهر
وإن رمتُ أن أغدو لأهلي عاجلاً ... بلا مهلٍ في أوّل الركب والسفْر
ثنائيَ عنه عامل الثّغر وانثنى ... يقابلني بالعُنف منه وبالزّجر
وقال: اقتنع واقنَعْ برزق تناله ... بلطف لعلّ اليُسرَ يذهب بالعُسر
وأطرق إطراق البُغاث لدى الصقر ... كأنْ لم أكن إذ ذاك منه على ذكر
محمد بن البين
أورده الرشيد بن الزبير في كتاب الجِنان من الأندلسيين، ولم أعرفه إلا منه، وأورد له:
جعلوا رُضابَك كي يُحرّمَ راحا ... ورأوا به قتلَ النفوسِ مباحا
نشروا عليك من الذّوائب حِندِساً ... فملأته من وجنتيك صباحا
ومتى أحسّوا منك طيفاً طارقاً ... ملؤوا أعنّتهم إليّ رياحا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16