كتاب : خريدة القصر وجريدة العصر
المؤلف : العماد الأصبهاني

وبالس مدينة بالشام بين الرقة وحلب، معدن الذكاء والفهم، كثير الرقة واللطف في النّظم، محسن الشِّعر مُجيده، مقبول القول سديده، أوحد العصر فريده. حكى لي سيِّدنا الصفوة البالِسيّ المُعيدُ بالنِّظامِيَّة ببغداد في أواخر جُمادى الأولى سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة بها أن الفقيه مَعدان البالسي كان في زمان أبي بكر الشاشي تلميذه في النظامية يتفقَّه عليه فأنشده يوماً من قصيدةٍ مدحه فيها:
يا كعبةَ الفضل افْتِنا لِمْ لَمْ يَجِبْ ... فرضاً على قُصّادِكَ الإحرامُ
ولِما تُضَمِّخُ زائريكَ بطيب ما ... تُلقيه وهو على الحجيج حرامُ
ثمَّ طالعت ما صنَّفه أبو سعد عبد الكريم السَّمعاني، وسمّاه المُذيّل لتاريخ بغداد وذلك في سنة ست وخمسين وخمسمائة ببغداد وكان بعد التاريخ من مرو إلى بغداد قبلها بسنة، فقرأْت فيه تمام غزل هذه القصيدة قال: أنشدني أبو الحسن علي محمويَه اليَزْدِيّ قال: أنشدَنا الفقيه مَعدان البالسي لنفسه وقتَ التَّفقُّه يمدح شيخنا أبا بكرٍ الشّاشيّ:
نظرَ العواذلُ ما نظرتُ فهاموا ... من بعدِ ما عنُفوا عليَّ ولاموا
وعلَتْ لسُلطان الهوى عزَماتُهُم ... إذْ عنَّ جيشُ الحُسنِ وهو لُهامُ
أقول لعلَّه قال: وعنَتْ، لأجل التَّجنيس لكنَّ المَروي: وعلت.
وبه منَ الهِيفِ الرِّشاقِ ذَوابِلٌ ... ومنَ اللِّحاظِ صَوارِمٌ وسِهامُ
جَيْشٌ به ذَلَّتْ ضراغِمُ بِيشَةٍ ... عند اللِّقاءِ وعَزَّتِ الآرامُ
ما بَيْنَه إذ بثَّ رائعَ سِرْبه ... سرباً وبين الناظرينَ ذِمامُ
فاحْفظْ فؤادَك من نِصالِ ذوابلٍ ... إن أُشرِعَتْ لم يُنْجِ منها اللامُ
وغَريرةٍ إن سَلَّ صارِمَ لحظِها ... تيهُ الدَّلال ففي القلوب يُشامُ
أَدْمَاه مُغْزِلَة إذا ما بَغَّمَتْ ... ضَجَّ الزَّئيرُ وثعْلَبَ الضِّرْغامُ
بدويّة لولا تأرُّجُ طيبِها ... ما طابَ شِيخٌ بالفَلا وثُمامُ
عَرَضَ الفِراقُ على الفريق جمالَها ... ما كلُّ ما عَرَضَ الغَيورُ يُسام
ولربّما غَرَّ الجَهولَ جبينُها الْ ... وضَّاحُ ثم وثغرُها البسّام
والسيفُ مُبْتَسِمُ الفِرَنْد وعنده ... حَدٌّ تُجَذُّ به الطُّلى والهامُ
يا صاحِبَيَّ ذَرا المَلامَ فقلّما ... يَثْنِي عن القَصدِ الجَموحِ لِجامُ
ولربّما سَكَنَتْ صَبابَةُ مُدْنِفٍ ... يَأْسَاً فحرَّكَها عليه مَلامُ
مَن لي بتَسْكين الفؤادِ إذا خَفا ... بَرْقٌ وناح معَ العَشِيِّ حَمامُ
كُفّا فكلُّ لَذاذةٍ لرِضاعِها ... حَتْمَاً من الدهر الخَؤونِ فِطامُ
ومُنَعَّمٍ لا وَصْلُه في يَقْظَةٍ ... يُرْجى ولا تسخو به الأحلامُ
في وَجْنَتَيْه ومُقْلتيْه وريقِه ... وَرْدٌ يشوقُ ونَرْجِسٌ ومُدامُ
البدرُ وجهٌ والأَقاحي مَبْسِمٌ ... والدِّعْصُ رِدْفٌ والقضيبُ قَوامُ
مِن سَيْفِ ناظرِه وصَعْدَة قَدِّهِ ... يَتَعَلَّمُ الخَطِّيُّ والصَّمْصامُ
ضَلَّ الأنامُ به فلم يَرَ بعدَه ... إبليسُ أنْ لا تُعْبد الأصنامُ
ولقد خَشِيتُ فُتونَه فأجارني ... عَزْمٌ يَفُلُّ الخَطْبَ وهو حُسامُ
ومنها في المدح:
قد قلتُ للمُتَكَلِّفين لِحاقَه ... كُفُّوا فما كلُّ البحور يُعامُ
غَلَّسْتَ في طُرُقِ الرَّشادِ وهَجَّروا ... وسَهِرْتَ في طلبِ المَعادِ وناموا
هيهاتَ أينَ من النعائم مَذْهَباً ... ومقاصداً ما تقصِد الأنعامُ
والبيتان اللذان سبق ذكرهما وما أعدتهما. وراوية هذه القصيدة علي مَحْمُويه اليَزديّ شيخي سمعت عليه الحديث ولي منه إجازة فيجوز أن أرويها عنه إجازة.

وأنشدني سيدنا الصفوة البالسي معيدنا للفقيه معدان في غلام يدلّكه القيّم في حمام بيتين، كدُرّتين توأمين، أنشأهما، وما سبق إلى معناهما، وهما:
بُشْرى لقَيِّمِه إذْ باشرتْ يدُه ... جِسْماً تَوَلَّدَ بين الماءِ والنورِ
ما زالَ يُظْهِرُ لُطْفاً من صناعته ... حتى جَنى المِسْكَ من تِمْثالِ كافورِ
وأنشدني له في غلام من آل ظبيان، قوم بالشام:
يا آلَ ظبيان ما أغناكُمُ شَرفاً ... صَرْعُ الفوارس بالعَسّالِةِ الذُّبُلِ
حتى تفَرَّس من أبنائِكم رَشَأٌ ... فصار يَصْرَعُ أُسْدَ الغِيل بالمُقَلِ
وحكى لي أنه كان في أيامه شاعر بدمشق يقال له المُشتهى وكان مٌستهتراً بغلامٍ أسنانه قُلْحٌ، وما كان يسمح خاطره بوصف صفرة ثناياه، فسأل الفقيه معدان البالسي أن يعمل أبياتاً فعمل:
ومُشَهَّرٍ غَضَّتْ مَحاسِنُه ... عنه العيونَ فصارَ مُحتجِبا
خافتْ ثناياه القِصاصَ وقد ... سَفَكَتْ دمي فتصفَّرتْ رُعْبا
فكأنَّما رَصّافُ مَبْسِمِه ... حَقَرَ اللُّجَيْنَ فصاغَهُ ذَهَبَا
وقال له: قد صرّحتُ بالصفرة فيها ولكن أنظِم غيرها، فنظم تلك الليلة:
وبابليِّ اللِّحاظِ يمزُج لي ... كَأْسَيْن من طَرْفِه ومن فَمِهِ
تَظْمَا إلى ريقِه مَراشِفُنا ... ورِيُّها تحت وَرْدِ مَلْثَمِهِ
من واضحٍ يحسب الحَسودُ به ... تصَفُّراً، ضلَّ في توَهُّمِهِ
وإنما تيكَ خَمْرُ ريقتِه ... تَشِفُّ من تحت دُرِّ مَبْسِمِهِ
فقال له المشتهى: إن معك جِنّيّاً ينظم لك الشعر.
أقول هذه أبيات نوادر، كأنها جواهر، في صفرة الأسنان ومدحها لم يسبقه إلى معناه شاعر، ولم يسمح بأحسن منها خاطر، أرق من شكوى الحبيب، وأطيب من غفلة الرقيب، ولم يقع إلي من شعره أكثر مما أوردته، وإن ظفرت بشيء آخر واستحسنته أثبتّه.
أبو حسّان الضرير التدمريِّ المعريّ
هو أبو حسّان نعمة بن حسان بن نعمة بن حسان المقري، من أهل تَدْمُر، من بني جرير بن عامر. قارئ بصير من أهل النحو والأدب، قدم مُتظلِّماً من والي تدمر في صفر سنة اثنتين وسبعين إلى المخيم الملكي الناصري الصلاحي بحماة وأنشده قصيدة طويلة منها:
أَسلطانَ أرضِ الله ذا الطَّوْلِ والقَهْرِ ... حليفَ المعالي والمناقِبِ والفخرِ
ومَن عمَّ شَرْقَ الأرضِ والغربِ عَدْلُهُ ... كما عَمَّها غَيْثُ السَّحابِ من القَطْرِ
أفي عَدْلِك المبسوط والشَّرْعُ حاكمٌ ... بملكيَ أُقصى عنه بالدَّفع والزَّجرِ
وتُنْعِمُ بالخطِّ الشريف فأنثني ... إلى تَدْمُرٍ أطوي المَفاوز في القفرِ
على ثقةٍ بالدولة الناصريّة ال ... منيعِ حِماها داعياً ناشرَ الشُّكرِ
فأُمنعُ من عَوْدٍ إليك تَحُكُّماً ... ويُقْصَدُ بالإيذاءِ قلبيَ والكسرِ
ويُجعلُ إكرامي لحُرْمَةِ خطك الشريف مَذاق الهُون والمَجْرَع المُرِّ
ويُطلَبُ مني فوق ما أستطيعه ... على فاقةٍ مِن ضِيقةِ اليد والعُسْرِ
أَلَمْ تُرْعَ للشهر المعظم حُرْمةٌ ... ولا لكتاب الله أتلوه في صدري
وذاك لما قد حدَّثَتْهم ظُنونُهمْ ... بأن صلاح الدين ماضٍ إلى مصرِ
وقالوا قليلٌ جُندُه وجُموعُه ... وليس من الشرقيّ في موقع العُشْرِ
ولم يعلموا أنَّ الإله مُؤَيِّدٌ ... له ومُمِدٌّ بالمَعونةِ والنَّصرِ
وقد عَمَّتِ الآفاقَ أخبارُ نصرِه ... وجاوزَ قِنَّسْرين مُخْتَرِقَ الجِسْرِ

أبو الفضل يحيى بن نزار بن سعيد
المَنْبِجي

نزيل بغداد وداره حذا باب النوبي. أحد الباعة والتجار المعروفين المتميزين ببغداد. كان شيخاً ظريفاً مُتودِّدا، سديداً مُسدَّدا، متطرِّفاً من العلوم، حافظاً لكثيرٍ من المنثور والمنظوم، كنت أحاوره ويستنشدني شعري، ويُنشدني ما كان قد استحسنه من الأشعار، وما كنت أظن أن له شعرا، وما أجرى معي لنظمه ذِكرا، حتى طالعتُ تاريخ السمعاني فوجدته يقول فيه: أنشدني يحيى بن نزار التاجر لنفسه:
لو صَدَّ عني دلالاً أو مُعاتبةً ... لكنتُ أرجو تلافيه وأعتذِرُ
لكن مَلالاً، فلا أرجو تعَطُّفَهُ ... جَبْرُ الزُّجاجِ عزيزٌ حينَ ينكسرُ
قال وأنشدني لنفسه:
واغْيَدَ غَضٍّ زاد خَطُّ عِذارِهِ ... لعاشقه في همّه والبلابِلِ
تموج بحارُ الحُسنِ في وجَناتِه ... فَتَقْذِف منها عَنْبَراً في السواحل
وتُجري بخَدَّيْهِ الشَّبيبةُ ماءَها ... فتُنْبِتُ رَيْحَاناً جَنوبَ الجداول
قال وأنشدني لنفسه. وما أظن أنه ليحيى بن نزار لكن السمعاني ربما سمع منه فاعتقد أنه له، وربما كان له:
شَمْسُ النهارِ أم الصهباءُ في الكاس ... وذاك لأْلاؤُها أم ضَوْءُ نِبْراسِ
تالله لو لم تكن شَمْسُ النهار لما ... بدالها شفقٌ في وَجْنَةِ الحاسي
وفاتر الطَّرْف مَعْسُول الشَّمائلِ عسّالِ القَوامِ كغُصْنِ البانِ مَيّاسِ
أدارها ساقياً لَيْلاً فقدَّرها ... ناراً فأطفأَها بالمزج في الكاس
توفي رحمه الله ببغداد وأنا بواسط بعد سنة اثنتين وخمسين وخمسماية وأخوه أبو الغنائم قام مكانه.

الشيخ علي المغربي النحوي
المقيم بقلعة جعبر أصله من المغرب ووجب إيراده من المغاربة، لكنا ذكرناه ها هنا لإقامته بقلعة جعبر. أنشدني الشريف علي بن محمد بن أبي زيد العباسي المالكي بأصفهان في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وكان شاباً ظريفاً، قال: أنشدني الشيخ علي النحوي بقلعة جعبر.
ما كنتُ لو لا كَلفي بالعِذارْ ... أصبو إلى الشُّرب بكأس العُقارْ
سال كَذَوْبِ المِسْكِ في وَجْنَةٍ ... وَرْدِيَّةٍ تجمع ماءً ونارْ
هذا، وما تمّ، غرامي به ... فكيف لو تمَّ بها واستدارْ
وفاترِ الألحاظ ما زلتُ مِنْ ... نواظر الناس عليه أغارْ
مَلَّكْتُه رِقّي على أنه ... يُجيرُ قلبي فَتَعَدَّى وجارْ
وَيْلاهُ من صِحّة أجفانه ... وما بها من مَرَضٍ واحوِرارْ
حرّان
أبو محمد سعيد بن الحسن بن سلمان
ال
حران
ي
قرأت بخط السمعاني في التاريخ المُذيّل يقول: لقيتُه بنيسابور، وذكره شرف الدين أبو الحسن البيهقي في كتاب وشاح دمية القصر قال: زرته بنيسابور فوجدته كفيفاً، مُلئ ظرفاً وفضلا، وعلماً ونبلا، وقلت مرحباً بهذا اللقاء الذي أطلع علينا سعده، وأهلاً بهذا التعريف وما بعده، وحمداً لغَيْمٍ حمدنا بلسان الصدق بَرْقَه ورعده، قال وأنشدني لنفسه:
ألا إنَّ طَرفي بالسُّهادِ بُعَيْدكُمْ ... أَخِلاّيَ مَطْرُوفٌ وجَفنيَ مَقْرُوحُ
وشوقي إليكمْ زائدٌ غَيْرُ ناقصٍ ... ودمعيَ إن نَهْنَهْتُهُ الدَّهرَ مسفوحُ
ولله قلبي ما أَجَنَّ إذا شَدَتْ ... سُحَيْراً على الأغصان وُرْقٌ مَصاديحُ
ألا كيف يصحو مَن غَدا وهو بالأسى ... يدَ الدهر مَغْبُوقٌ وبالوَجْدِ مَصْبُوحُ
قال السمعاني: وأنشدني لنفسه:
جاءَتْ تُسائِلُ عن لَيْلِي فقلتُ لها ... وَسَوْرَةُ الهمّ تمحو سِيرة الجَذَلِ
لَيْلِي بكَفَّيْكِ فاغْنَيْ عن سؤالِكِ لي ... إنْ بِنْتِ طال وإن واصلتِ لم يَطُلِ
الرقّة
القاضي الرَّقيّ
هو أبو الحسن علي بن مُشْرِق بن الحسن الرّقّيّ ذكره وُحيش الشاعر وقال: كان شاعراً مَنْشَؤه ومسكنه بدمشق، ووُلد ب
الرقة
وتوفي بدمشق سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وله قصيدة وازن بها قصيدة ابن الخياط الدمشقي التي يقول فيها:

لو كُنتَ شاهِدَ عبرتي يوم النَّقا ... لَمَنْعتَ قلبكَ بعده أن يَعْشَقا
وأنشدني من قصيدة القاضي الرّقي بيتاً واحداً وهو:
وعلى الأديب بأن يُجيد وما على ... ذي الحرص في حركاته أن يُرْزَقا
وله:
أَسِحْرٌ في جُفونِكِ أم عُقارُ ... وبي وَجْدٌ بلَحْظِكِ أمْ خُمار
متى واصلتِ ثمّ صَدَدْتِ صَبّاً ... فخامَرَهُ سُلُوٌّ أَوْ قرارُ
الفقيه ابن المُتَقَّنة
مدرس الرحبة أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن الحسن تأدّب على الشيخ أبي منصور بن الجواليقي، وله معرفة بالأدب، إلاّ أن اشتهاره بالفقه أكثر. هو فقيه فاضل من أصحاب الشافعي رضي الله عنهم، مدرّس بالرحبة. أنشدني الشيخ الفقيه أبو الفتح نصر بن عبد الرحمن الفَزاري الاسكندري قال: أنشدني الشيخ العالم أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد المدرس الرحبي المعروف بابن المتقّنة برحبة مالك لنفسه:
ما الأَمَةُ الوَكْعاءُ بين الورى ... أَخَسَّ مِن حُرٍّ أخي مَلأَمَهْ
فَمَهْ إذا استُجديتَ عن قَوْلِ لا ... فالحُرُّ لا يَمْلأُ منها فَمَهْ
قال: قال لي: كان سبب عملها أنّ بعض المتأدّبين كان يقرأ علي مقامات الحريري فمرّ بالبيتين اللذين له وهما:
سِمْ سِمَةً يَحْسُنُ آثارها ... واشكُرْ لمن أعطى ولو سِمْسِمَهْ
والمَكْرُ مَهْمَا اسْطَعْتَ لا تَأْتِهِ ... لتَقْتَني السُّؤْدُدَ والمَكْرُمَهْ
وقال ابن الحريري عقِبُهما: وأمِنّا أن يُعَزَّزا بثالث، فعملت هذين البيتين. ولقيتُه بالرحبة عند وصولي إليها في محرّم سنة ست وستين وسمعت من نوادره طرفا.

أبو علي الحسن بن علي الرحبي
ّ
أخذت شعره مما نظمه بالبحرين، وأنشدني ذلك الأديب علي بن الحسن بن إسمعيل العبدي البصري بها في سنة سبع وخمسين وخمسمائة وذكر لي أنه رآه قد عاد إلى البصرة ومات بعد مفارقته إيّاها بعد سنة خمسين وخمسمائة، أنشدني له من قصيدة طويلة يمدح فيها الأمير أبا علي صاحب البحرين قال: أنشدنيها غير واحد من أصحابنا أوّلها:
تذَكَّرَ هنداً بعد أنْ نَزَحَتْ هِنْدُ ... فؤادٌ حليفاه الصَّبابةُ والوَجْدُ
وكيف بها والمَشْرَفِيَّةُ دُونَها ... وسُمْرُ العوالي والمُضَمَّرَةُ الجُرْدُ
وأُسْدُ طِعانٍ لا يُبِلُّ طَعينُهم ... إذا زأروا خَرَّتْ لأذقانها الأُسْد
ومنها:
ألَمَّ بنا بعد الهُجوعِ خَيالُها ... فمَزَّق جُنْحَ الليل، والليلُ مُسْوَدُّ
وطاب ثَرى البيداء حتى كأنّما ... تضوَّعَ من بَوْغَائِها المِسْكُ والنَّدُّ
وقال أُصَيْحابي أَنَحْن بتُبَّتٍ ... فقلتُ لهم لا بل ألَمَّتْ بنا هِندُ
ومن مدحها:
بهم أصبحَتْ عَدْنَانُ للفخر مَعْدِناً ... وحازَتْ مَعَدُّ الفَخْرَ وافتخرَتْ أُدُّ
وأضحى لعبد القيس فضلٌ على الورى ... كأنَّ لفضل القيس كلَّ الورى عَبْدُ
وأنشدني له من قصيدة يهجو فيها بني بشار، وقوماً من أُوال، بلدةٍ من البحرين:
لا تَأْمَنَنَّ على ثيابك غَدْرَةً ... إمّا نزلتَ على بني بَشّارِ
ومنها:
إنْ كان بينكُمُ وبين ربيعةٍ ... نسبٌ حِرُ امِّ ربيعة بن نزارِ
وأنشدني عليّ العبدي بالبصرة قال: أنشدني مُؤمِّل الأحساوي قال: أمره الأمير أبو علي الحسن بن عبد الله بن علي صاحب القَطيف أن يصنع قصيدة على منوال:
يا سلسلة الرمل باللويلب فالحالْ
فصاغ هذه القصدية أنشدنيها علي العبدي وكتبها لي بخطّه قال: أنشدنيها مُؤمّل الأحساوي وكتبها لي بخطه فمنها:
يا مَنْزِلَ سَلْمَى بذي الكَهَنْبَلِ فالضَّالْغاداكَ من المُزْنِ كلُّ أَسْحَمَ هَطَّالْ
يحيى بن النقاش الرحبي
كان أسد الدين شِيرْكوه قد وَلّى الرحبة يوسفَ بن الملاّح الحلبي وآخر معه من بعض الضياع فكتب إليه:
كم لك في الرَّحبةِ من لائمٍ ... يا أسدَ الدينِ ومِن لاحِ
دَمَّرْتَها من حيثُ دبَّرْتَها ... برأْي فَلاّحٍ ومَلاّحِ
وله فيه:

يا أَسَدَ الدين اغتنمْ أَجْرَنا ... وخَلِّصِ الرحبة من يوسُفِ
تَغْزُو إلى الكفر، وتغزو به ال ... إسلامَ ما ذاك بهذا يفي
وله من قصيدةٍ في جمال الدين الوزير بالمَوصل يُغنّى بها:
أما استحى الطائرُ في غصونِهِ ... أنِ ادَّعى شَجْوِيَ مِن شُجونِهِ

باب في ذكر محاسن جزيرة بني ربيعة
وديار بكر وما يجاورها من البلاد
الموصل
الفقيه أحمد بن علي المشكهري الموصلي
من أهل عصرنا ذكره لي القاضي أبو القاسم بحماة قال: كان غزير الفضل وهو مدرس الشافعية بحماة، ولجّ في العود إلى المَوصل فأدركته يوم وصوله إليها الوفاة، وما وَفَتْ له الحياة. ومن شعره السائر:
إذا العشرونَ من شعبانَ ولَّتْ ... فَواصِلْ شُرْبَ ليلك بالنهارِ
ولا تشرب بكاسات صِغارٍ ... فإن الوقت ضاق عن الصّغارِ
النقيب ضياء الدين
أبو طاهر زيد بن محمد بن محمد بن عبد الله الحسيني نقيب السادة العلويين بالمَوصل، وولده الآن نقيبها، هو من الأفاضل والأماثل، العديمي المماثل، والشِّراف الظِّراف، والعلماء الحكماء، والكرماء العظماء، والسادة القادة، والطاهرين الظاهرين، والمُصطفَيْن المُجتبين، المنتسب إلى السلف الكريم، والشرف الصميم، والمَحْتِد المجيد، والعنصر الحميد، والبيت الزاكي العلوي، والنبت الوصي، المنتمي من الدوحة النبوية الممتدة الأفياء المورقة الأفنان، النامية الفروع السامية الأغصان، المترويِّة من الكوثر الأعلى، المتضوِّعة من نسيم طوبى، المتوضحة بأضواء القرى، الضاحكة عن ثمرات المنى، الجامعة محاسن الدين والدنيا، المثمرة بكلمات الله العليا، إلى شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ونجاره من الأسرة العلوية الهاشمية الذين أوجب الله لهم المودّة على العباد، وجعلهم وسائل إلى رحمته يوم المعاد، وهم أطواد الوقار، وأعلام الفخار، وكواكب الظلماء، وموارد الظِّماء، وسفائن النجاة، ومعادن الكرامات، بمنزلة الحديقة الناضرة، والحدقة الناظرة، والعين الباقية الشعاع، واليد الطويلة الباع، قد بزغت من فجر ذكاء الذكاء، وبلغت أضواء مجده عنان السماء، ولم يزل المُصافح بيُمن نقيبته يمين النقابة، والمناصح بقرب ولائه أُولي القرابة، وله مع فضل الشرف شرفُ الفضل، شريف الهمة لنسبه، كبير القدر في حسبه، عديم النظر في أدبه، يقطر ماء الظرف من نظمه ونثره، ويبسِم ثغر اللطف في وجه شعره، ويتحلّى جيدُ الحسن بعقود سحره، نقيب لمعادن المعالي نَقّاب، وللآلئ الكلام ثَقّاب، مقيم ببلدٍ وفضلُه جَوّاب، وهو سيد متأيّد، شعره جيد، وكلامه متين أيّد، محكم الرصف، مُمدَّح الوصف. لقيته في حضرة الوزير الجواد جمال الدين محمد بن علي بن أبي منصور عند إلمامي بها في ذي القعدة سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة وكان يُبجّلني جمال الدين مع صغر سني ويقدمني في موضعي على الأكابر، أتكلم في المسائل الشرعية، وأباحث العلماء بين يديه في الغوامض الفقهية، وكان لحقوق عمي العزيز عليه يكرّمني، ولما يتفرّس فيّ من النجابة يُقدّمني، وقد حملني قرب القرابة على نظم قصيدة فيه، وأنا حينئذٍ أقصد إليه القرب بما أُنشيه، وهممتُ بإنشاده، فمنعني من إيرادها، حتى دخل فاستدعاني، وأكرم مكاني، وقال أنا أُجلُّك عن قصدي بالقصائد، وأُكبِرك لحقوق العم والوالد، وكان النقيب ضياء الدين وحده، حاضراً عنده، فألحّ عليه في سماع شعري، ليعرف قيمتي في الأدب وسِعري، فلما سمعه عَجِبَ و طَرِبَ، وبالغ في الإطراء، وأكثر من الثناء، وما كان نظمي حينئذٍ يستحق ذلك، فملك رِقَّ حمدي هنالك، وحَبَّبَ إليّ النظم، وشجع مني الفهم، وقوّى لي المُنّة، وقلّدني بتحيته إيايّ المِنّة، وكنت سمعت بفضله وأدبه وظرفه، وشرفه ولطفه، ولم ألبث إلا قليلاً بالموصل حبّاً لسرعة عودي إلى بغداذ، وهجري في طلب العلم بها الملاذ، وما صادفت فرصة وقتٍ أظفر من شعره ولو ببيت، فلما عدتُ من الحج لقيت بهمذان ابن عمي ضياء الدين المُفضَّل ابن ضياء الدين محمود بن حامد وقد عاد من الموصل في سنة تسع وأربعين وهو ينشد للسيد النقيب أبياتاً نظمها في ذلك الصدر الكبير وهي:

أبا جعفرٍ إنَّ الأمور إذا الْتوتْ ... وأعْيَتْ بزَيْغ الخُلْف كلَّ مُقَوِّمِ
تداركْتَها بالرأي تَرْأَبُ صَدْعَها ... وأَغْنَيْتَ فيها عن حُسامٍ وَلَهْذَمِ
وكم ذي يَراعٍ راضَ شامسَ فِتنةٍ ... فلانتْ ولم يُصحَبْ بجيشٍ عَرَمْرَمِ
فَدُمْ لابتِناءِ المجد والجودِ والتُّقى ... مدى الدهرِ ما زِينَتْ سماءٌ بأَنجُمِ
فإنك فَذٌّ في الزمان وإن غَدَتْ ... أياديك تَتْرَى بين فَذٍّ وَتَوْأمِ
ودونكَها عن مُخلِص في وَلايةٍ ... إذا كَشَفَ الإخوان عن لَمْسِ أَرْقَمِ
قصيرةَ أعداد البيوت طويلة ... بغُرِّ معان كالجُمانِ المُنَظَّمِ
وسمعت ببغداد أبياتاً يُغنّي بها، نسبها بعض الشآميين إليه. ومنها:
يا بانةَ الوادي التي سَفَكَتْ دَمي ... بلِحاظِها بلْ يا فَتاة الأَجْرَعِ
لي أن أَبُثَّ إليكِ ما أَلْقَاهُ مِن ... ألم الهوى وعليكِ أن لا تسمعي
كَيْفَ السبيلُ إلى تناولِ حاجةٍ ... قَصُرَتْ يَدي عنها كَزَنْدِ الأَقْطَعِ
وأنشدني تاج الدين البلطي النحوي أبياتاً لضياء الدين النقيب:
بين صَدٍّ لا ينقصني ومَلالِ ... يَئِسَ العائدون من إبْلالي
كلَّفَتْني حَمْلَ الهوى ثم نامت ... في لياليّ بالغُوَيْرِ الطِّوالِ
وأنشدني أيضاً لضياء الدين النقيب من قطعة يُغنّى بها:
ما عليكمْ أيها النَّفَرُ ... إن برا أجفانيَ السَّهَرُ
ألكُمْ رُشدي فأتْبَعَهُ ... أم عليكم منه ما أَزِرُ
لا تَلِجُّوا في مَلامِكُمُ ... لمُحِبٍّ ليس يَنْزَجِرُ
أَخَذَتْ خَيْلُ الغرام به ... حيثُ لا يُنْجي الفتى حَذَرُ
وله:
راحوا وفي سِرِّ الفؤاد راحوا ... ذَمّوا فلمّا مَلكوا اسْتَباحوا
فضلي على أهل الهوى لأنَّني ... كتمتُ أسرار الهوى وباحوا

ابن الحاجب الموصلي
هو الحاجب علي بن أبي الجُود حاجب نقيب العلويين بالموصل. كان شيخاً أنقى، توفي سنة خمسين وخمسمائة وأبقى ذكرُ فضله ما أبقى، أنشدني شعرَه المُرتضى وزير عبد المسيح المرتضى، قوله:
تَرَكْتُ البحارَ لرُكّابها ... وَجَوْبَ الفَلاةِ لأَعْرابها
وأعْمَلْتُ نحوك يا عَبد ليّ عِيساً قَرَنّا رَجانا بها
وكنتُ كما قيل فيما مضى ... أَتَيْتُ المُروءةَ مِن بابِها
وله مما يُغنّى بها:
هل لأيامنا الأُولى من مُعيدِ ... بين دَيْرِ الأعْلى و دَيْرِ سَعيدِ
وزمانٍ لهوْتُ فيه فأفْنَيْتُ شبابي ما بين نايٍ وعُودِ
بين باب العراق فالباصلوثا ... ت بأكناف بِيعَةِ الجارودِ
مَنْزِلٌ قد خَلَعْتُ فيه عِذاري
النجم الموصلي
كان فقيهاً بالنظامية ببغداذ، وله نظم حسن، وشعر رائق. أنشدني الشيخ أبو المعالي الكتبي قال أنشدني النجم المَوصلي لنفسه مما يكتب على كمران أَمْرَد:
لمّا اسْتَدرْتُ بخَصرِهِ ... حُزْنُ الكمال بأَسرِهِ
أَضْحَى أَسيري شادِنٌ ... كلُّ الورى في أَسْرِهِ
قال وأنشدني لنفسه:
سَمَّوْه باسم جُنَيْدٍ ... وفعلُه فعلُ جُنْدي
شرف الدولة
أبو المكارم مسلم بن قريش
ابن قرواش بن مسلم بن مسيَّب

ملك الشام، من الطبقة الأولى، وكان لقبه مجد الدين، سلطان الأمراء، سيف أمير المؤمنين، مَلَكَ بلاد الشام صُلحاً وعنوةً، وفرع إذ عَصَمَ عواصمها من العز ذروة، ونال بملكه إياها وملكه لها حُظوة، وأوثق للمتمسكين به من عدله عُروة، وكان منصور الرأي والراية، منتهياً في اكتساب المحامد إلى أقصى الغاية، أبو المكارم ككُنيته، إسعاف الآمل من مُنيتِه، مُسلمٌ كاسمه، زاده الله بَسْطَةً في علمه وجسمه، جسيم الأيادي، رحيب النادي، مدحه ابن حَيّوس في آخر عمره فأقطعه الموصل، ولم يلبث ابن حيوس بعدها إلا ستة أشهر وإلى جوار الله انتقل، سمعت أنه لما قصده بقصيدته قيل لشرف الدولة: كان رسمه على بني صالح ألف دينار عن كل قصيدة فقال: همتي تسمو إلى أن أزيد على عطاياهم فقال له وزيره: شيخ قد بلغ القبر، واستوفى العمر، فالصواب أن تُقطِعه الموصل، ليسيرَ الذكر فيه ويحصل، فلما أُقطع لم يتهنَّ بالإقطاع، ولم يعش إلى أوان الارتفاع. طالعت ديوان ابن حيوس فوجدت له في شرف الدولة قصيدة يمدحه بها حين فتح حلب وعلّقتُ منها حيث استحسنتها:
ما أدرك الطَّلِبات مِثلُ مُصَمِّمٍ ... إنْ أقدمتْ أعداؤه لم يُحْجِمِ
تَرَكَ الهُوَيْنا للضعيفِ مَطِيّةً ... مَن بَطْشُه كقِراه ليس بمُعْتِمِ
إن همَّ لم يُلْمِمْ لعَينَيْه كَرىً ... أو سِيلَ لم يَلْؤُم ولم يَتَلَوَّمِ
أَحْرَزْتَ ما أَعْيَا الملوكَ مُضارِباً ... غِيَرَ الحوادثِ واحتمال المَغْرَمِ
وَلَقْدْ تحَقَّقَتِ العَواصِمُ أنّها ... إنْ لم تَحُزْ أقطارَها لم تُعْصَمِ
ومنها:
إنَّ الرَّعايا في جِوارِك أُومِنَتْ ... كَيْدَ الغَشومِ و فَتْكَةَ المُتَغَشْرِمِ
لا يشكوُنَّ إليك نائبةً سِوى ... تقصيرِهِمْ عن شُكرِ هذي الأنْعُمِ
فالأمنُ للمُرْتاعِ والإنعامِ للباغي النَّدى والعَدلُ للمُتَظَلِّمِ
لا الظَّبْيةُ الغَيْداءُ تخشى القَسْوَرَ الضاري ولا الذِّمِّيُّ حَيْفَ المُسْلِمِ
قُدتَ الجيوشَ بصدقِ بأسك تقتدي ... وبها الفِجاجُ إلى مُرادِك تَرْتَمي
فَتَضَمَّنَتْ أبطالُها إبْطِالَها ... خُدَعَ المُنى وتوَهُّمَ المُتوَهِّمِ
والخيلُ يَحْمِلْنَ المَنايا والمُنى ... مِن كلِّ سَلْهَبةٍ وأجْرَدَ شَيْظَمِ
كم حُجِّلَتْ بدَمِ الطُّغاةِ وأُعجِلَتْ ... عن نهضةٍ في مُسْرِجِ أو مُلْجِمِ
علَّمْتموها الصبرَ فهي كليمةٌ ... تَغْشَى الوَغى وكأنها لم تُكْلَمِ
أَقْدَمتَ أمنعَ مُقْدَمٍ، و غَنِمْتَ أوْ ... في مَغْنَمٍ، و قَدِمْتَ أَسْعَدَ مَقْدَمِ
ومنها:
ولقد جمعتَ فضائلاً ما اسْتَجْمَعَتْ ... يفنى الزمان وذكرُها لم يَهْرَمِ
كرماً يُبيح حِمى الغِنى ومآثراً ... وُضُحاً تُبيحُ بَلاغةً للمُفْحِمِ
في صِدقِ قولِكَ تبتدي وإلى فَعا ... لِكَ تنتهي، وإليك أَجْمَعُ تنتمي
مِثلُ الكلام تفَرَّقَتْ أجزاؤُه ... فِرَقاً وتجمعُه حروفُ المُعجَمِ
ومنها:
وأراكَ تَعْلُو قائِلاً أو صائِلاً ... بقِرا سَريرٍ أو سَراةِ مُطَهَّمِ
وَهِيَ النباهةُ فُرصةُ العَذْبِ الجَنا ... لا فُرصةُ المُتَهوِّرِ المُتهَكِّمِ
وإذا جرى الأمجادُ برَّزَ سابقاً ... خُلُقُ الكرام تخَلُّقُ المُتَكَرِّمِ
كم فِضْتَ إنعاماً وخُضْتَ مَخاوِفاً ... ما هَوْلُها لولاكَ بالمُتَجَشِّمِ
مُسْتَنْقِذاً من كُرْبَةٍ، أو مانِحاً ... في لَزْبَةٍ، أو صافحاً عن مُجرمِ
في يَوْمِ قارٍ رايةٌ لك فهَّمَتْ ... مِن قادةِ الأتراكِ مَن لم يَفْهَمِ
لمّا تقاصَرَتِ الصَّوارمُ والخُطى ... حَذَرَ البَوارِ وَثَبْتَ وِثْبَةَ ضَيْغَمِ
في عُصبةٍ كَعْبِيَّةٍ تركوا القَنا ... مُتَعَوِّضين بكُل عَضْبٍ مِخْذَمِ

يَلْقَوْنَ أعراءٍ بكلِّ كَريهةٍ ... يَجْتَابُ فيها اللَّيْثُ ثوبَ الأَرْقَمِ
ومنها:
ما عايَنَتْها التُّرْكُ تَحْكُمُ في الطُّلى ... إلاّ تولَّتْ طائشاتِ الأَسْهُمِ
مِن نابِذٍ لسِلاحِه فاتَ الرَّدى ... سَبْقَاً ومِن مُسْتَلْئمٍ مُسْتَسْلِمِ
فَخَصَصْتَ بالإذلالِ كلَّ مُقَلْنَسٍ ... وَعَمَمْتَ بالإعْزازِ كلَّ مُعَمَّمِ
ومنها:
أَمِنَتْ قبائلُ عامِرٍ صَرْفَ الرَّدى ... والجَدْبَ في ظِلِّ المُعِزِّ المُنْعِمِ
مُسْتَعْصِمينَ بذِرْوةٍ لا تُرْتَقى ... مُسْتَمْسكينَ بعُرْوَةٍ لم تُفْصَمِ
أَصْفَيْتَ للعُرْبِ المَشاربَ بعدما ... كانت كرمحٍ لا يُعانُ بلَهْذَمِ
لا راعَتِ الأيامُ مَن بفِنائِهِ ... كَنْزُ الفقير وعِصْمةُ المُسْتَعْصِمِ
أنتَ الذي نَفَقَ الثَّناءُ بسُوقِه ... وجرى الندى بعروقه قبلَ الدمِ
وأنالَ والآمالُ غيرُ مُهابَةٍ ... بفِنائه والمالُ غيرُ مُكَرَّمِ
ماضٍ إذا ما الصارم الماضي نبا ... قاضٍ بأحكام الكتابِ المُحْكَمِ
وله، مَخافَةَ أن تَضِلَّ ضُيوفُهُ ... في الليل، نارٌ ما خَلَتْ من مُضْرِمِ
أبداً يُشَبُّ على اليَفاعِ وُقودُها ... ووَقودها قِصَدُ القَنا المُتَحَطِّمِ
ممّا تحَطَّمَ في نُحورِ عَرامِسٍ ... كُومِ الذُّرى أوفى كَمِيٍّ مُعْلَمِ
ومنها:
فالمجدُ شِنْشِنَةٌ لآلِ مُسَيَّبٍ ... ما كلُّ شِنْشِنَةٍ تُناطُ بأَخْزَمِ
بيت بنى قِرْواشُهُ و قُرَيْشُهُ ... شَرَفَاً أطَلَّ على محَلِّ المِرْزَمِ
واستخلفاك فنَوَّهَتْ بك همّةٌ ... أربى الأخيرُ بها على المُتقدِّمِ
فأبو المنيع أبو المعالي في عُلىً ... أضعافها لأبي المكارم مُسلِمِ
فبَقِيتَ ما بَقِيَ البقاءُ مُعظَّماً ... وسقى الغمامُ رميمَ تلك الأَعظُمِ
ومنها:
يُفْضي إلى الشمسِ العَقيمِ كُسوفُها ... ونَراك شمساً أُفْقُها لم يُظْلِمِ
أشرقتَ لمّا أشرقَتْ فَبَهَرْتَها ... وَكَثَرْتَها فَوَلَدْتَ سبعةَ أَنْجُمِ
حَبَسَتْ رِكابي عن ذَراكَ حوادثٌ ... يحيا بها المُثري حياة المُعدِمِ
وتُشَرِّدُ الآباءَ عن أبنائهم ... فتَعيشُ ذاتُ البعلِ عَيْشَ الأَيِّمِ
لولا تواليها لزُرْتُكَ وافِداً ... كوُفودِ حَسّانٍ على ابنِ الأيهَمِ
بغرائِبٍ بَيْنَ الكلامِ وبيْنها ... كالفرْقِ بين مُصرِّحٍ ومُجَمْجِمِ
تَنْأَى عن الفُصَحاءِ إلاّ أنّها ... أَدْنَى إليَّ من اللسانِ إلى الفَمِ
حتى أتاحَ اللهُ لي نَيْلَ المُنى ... بقدومِ مولىً كان يَرْقُبُ مَقْدَمي
وكذا الغَمام تَزورُ مَهْجُورَ الثَّرى ... أمطارهُ وتَؤُمُّ غَيْرَ مُيَمَّمِ
ولَئِنْ حَنَتْ ظهري السُّنون بمَرِّها ... فالرُّمْحُ ينفع وهو غيرُ مُقَوَّمِ
وَلَدَيَّ مدْحٌ لا يُمَلُّ سماعُه ... فَتَمَلَّ باقيَ عُمْريَ المُسْتَغْنَمِ
ولشرف الدين مسلم بن قُرَيْش شِعرٌ يقطر منه ماء الملك، وتفوح منه رائحة المجد، فمن ذلك ما أنشدني بعض الشامييّن:
إذا قَرَعَتْ رحلي الرِّكابُ تزعزعتْ ... خُراسان واهتزَّ الصَّعيدُ إلى مصر
وله:
الدهر يومان، ذا أمنٌ وذا خطَرٌ ... والماء صِنفان، ذا صافٍ وذا كَدِرُ
وكانت بينه وبين بهاء الدولة منصور بن دُبيس المَزيدي الأسدي مكاتبات ومجاوبات، فمنها ما أنشدنيه الرئيس أبو سعد حسين الهمذاني من بَنْدنيجَيْن لشرف الدولة مسلم يستنجد بهاء الدولة منصوراً:
أَمُدَّرِعَ الدُّجى خَبَباً وَوَخْدا ... ومُزْجي العيسِ إرْقالاً وشَدّا

إذا عايَنْتَ من أسدٍ حِلالاً ... بها النَّعْماءُ للوُرَّادِ تُسْدى
فبَلِّغْ ما عَلِمْتَ من اشتياقي ... بهاءَ الدولةِ المَلكَ المُفَدَّى
وقل يا ابن الذينَ سَمَوْا وشادُوا ... مناقِبَ زَيَّنَتْ مُضَراً وأُدَّا
أَأُنْسِيتَ الوفاءَ وكنتَ قِدْماً ... عَقَدْتَ على الوفاء بهنَّ عَقْدَا
وأنتَ فأشْرَفُ الأُمراء بَيْتَاً ... وأعظمُ هِمّةً وأعزُّ مَجْدَا
ترقَّبْتُ السّرِيّةَ منك تأتي ... بفُرسانِ الوغى شِيباً ومُرْدا
عوائِدُ قد عهدناها لعَوفٍ ... فما يُوفي بها المُحْصون عَدّا
فلمّا لم تناجِدْنا السَّرايا ... عَزَمْنا عَزْمَةً سَرَّتْ مَعَدّا
وحالفْنا الصَّوارِمَ والعَوالي ... وخيلاً كالظِّباءِ الحُمرِ جُرْدا
وسِرْنا مُوجِفين إلى نُمَيْرٍ ... ولم نرَ من لِقاءِ القوم بُدّا
وقد حَشَدَتْ بأجمعها كلابٌ ... وكان الصُّبحُ للعَيْنَيْنِ وَعْدَا
فلمّا أن تواجَهْنا توَلَّوْا ... كعِين عايَنَتْ في السِّرْبِ أُسْدا
وغُرِّق في الفُرات بنو نُمَيْرٍ ... وقد كانوا لجَمعِ القوم سَدّا
وأُسْلِمَتِ الظعائِنُ فاستغاثَتْ ... بخير العالمين أباً وجدّا
قُرَيْشيُّ الفَخارِ مُسَيِّبِيّ ... من السُّحُبِ العِذابِ نَداه أَنْدَى
إذا عُدَّ الملوك يكونُ منهمْ ... أجلَّ جَلالةً وأعزَّ مَجْدَا
فكتب بهاء الدولة منصور في جوابها من قصيدة:
أبا مُهدي المديح وأيُّ شيءٍ ... أَجَلُّ من المديح إليَّ يُهدى
بَدَأْتَ تفَضُّلاً والفضلُ حَقّاً ... يدُلُّ على مكارم مَن تبَدّا
ألسنا نحنُ للعجّاج ذُدْنا ... أعاديَكم وأنقذنا معَدّا
وقُدْناها مُسَوَّمةً عِراباً ... عوابسَ قد عَرَفْنَ الحرب، جُرْدا
تَخُبُّ بكلِّ أَرْوَعَ مَزْيَدِيٍّ ... نَخِيٍّ يُوقِدُ الهيجاءَ وَقْدَا
عوائِد من أبي عُوِّدْتُموها ... متى قَدَحَتْ يَدُ الحَدَثانِ زَنْدَا
ألا ترد المِصاع تَجِدْ رجالاً ... لنا لم يَلْحَدوا في الأرض لَحْدَا
وَلَوْ أني جَرَيْتُ على اختياري ... قَدَدْتُ إليكمُ الفَلَواتِ قَدّا
لتعلمَ أنَّ بَيْتَ بني عَلِيٍّ ... لكم وبكم يُعِدُّ إذا اسْتَعدّا
وله مطلع قصيدة في أهل البيت عليهم السلام يوازن بها قصيدة دِعْبِل التي أولها:
مَدارسُ آياتٍ خَلَتْ من تِلاوةِ ... ومنزل وَحْيٍ مُقْفِر العَرَصاتِ
سلامٌ على أهلِ الكساءِ هُداتي ... ومن طاب مَحْيَايَ بهم ومماتي
وقوله:
أُشهِدُ الله بصِدقٍ ... ويقينٍ وثباتِ
أنَّ قتلي في هوى الغُرِّ الميامينِ حياتي
وقوله من أخرى:
غلامٌ أحور العينين صَعْبٌ ... أبى بعد العَريكة أن يَلينا

الأستاذ ناظر الملك
أبو طالب عبد الوهاب بن يَعْمُر
ذكره أبو الفتح نصر الله بن أحمد بن محمد بن الفضل الخازن أنه كتب إلى والده أبي الفضل بن الخازن بباب نَصيبين مُلغِزاً:
أيا أهل البلاغةِ هل وجدتمْ ... خريرَ الماءِ بين زَفيرِ نارِ
وهل عايَنْتُمُ فَلَكَاً عليهِ ... كواكبُ ما تَغيبُ مع النهارِ
به موسى يُكلِّمُ قومَ عيسى ... وأحمد من صغارٍ أو كبارِ
بلا لحنٍ ليُوشَع أو بيانٍ ... لهارون الوَصِيّ على اختيارِ
ويسكن مثلَ يونسَ بطن حوتٍ ... ويسبَحُ معلناً غُبْرَ القِفارِ
يُنَشِّرُ من ذؤابة كلِّ ظبيٍ ... ويمسحُ ما بهم من كل عارِ
إذا جرّدته جرّدتَ منهُ ... لساناً كالحُسامِ بلا عِثارِ

فأجابه والده ابن الخازن:
أيا ناظرَ المُلْكِ الفضائِلُ كلُّها ... إلى بحرك الطامي العُبابِ انْسِيابُها
جَلَوْتَ كؤوساً لَفْظُكَ الجَزْلُ خَمْرُها ... وغُرُّ معانيكَ الحِسانِ حَبابُها
وَصَفْتَ جَحيماً فيه للنفسِ راحةٌ ... وحَجْناءَ مردوداً عليها نِصابُها
بديهة حِبْرٍ لم يَشِمْ نَوْءَ غُمّةٍ ... بفطنته إلاّ استهلَّ سحابُها
ونقلت من خط أبي المعالي الكتبي لأبي طالب بن يَعْمُر:
نُجومُ شيبيَ في ليلِ الشباب بَدَتْ ... فبَصَّرَتْ عَيْنَ قلبي مَنْهَج الدّينِ
فصِرْنَ راجمةً شَيْطَانَ مَعْصِيتي ... إن النجومَ رُجومٌ للشياطينِ

ابن نقيش
ذكر لي أبو المعالي بن سلمان الذهبي ببغداد أنه كان معلِّماً من المَوصل ببغداد في زمان الوزير جلال الدين أبي علي بن صدقة وزير الإمام المسترشد بالله رضي الله عنه. وأنشدني له من قصيدة سمعها منه في الوزير:
مَهاً أُسُودُ الفَلا تحاذِرُ مِنْ ... لِحاظِها مِثلَ ما نُحاذِرُها
مِنْ كلِّ خَوْدٍ خُدورُها أبداً ... بيضُ الظُّبا، والقَنا ستائرها
تَبَرْقَعَتْ بالصَّباحِ غُرَّتُها ... واعْتَجرَتْ بالدُّجى غدائرها
هاجرةٌ لا تزالُ واصلةً ... هِجْرانَها، والوَصالُ هاجرُها
تستنجدُ الوَجْدَ والغرامَ على ... قلبي إذا ما غدا يُظافِرُها
لوَصْلِها في الضُّلوعِ نارُ أسىً ... قد مازَجَتْ أدمعي شرائرُها
تُردي وتُحيي بلَحْظِ مُقْلَتِها ... مُميتُ أرواحِنا وناشِرُها
كأنّما تستعير عزمَ جَلا ... لِ الدين يومَ الوغى مَحاجِرُها
مَلْكٌ، بِحارُ النَّدى أناملُه ... وغُرُّ آلائِه جواهِرُها
يُعطي العطايا العُفاةَ مُبتسماً ... كأنّما عنده ذخائِرُها
ما بين أموالِهِ وراحتِه ... حِقْدٌ طَوَتْهُ له ضمائِرُها
جواحة العين
نصر بن جامع
من أهل المَوصل مولده بمَشهد الكُحيْل، وهو في التصرّف طويل الذيل. خدم مدة بالبوازيج وحظي من سوء حظه بالترويج، ثم عاد إلى الموصل وخدم وتقدّم، وافترّ ثغر إقباله وتبسّم، واتّسم بالكفاية وارتسم، وله الخط المليح، والشعر الفصيح، والكلام المليح، ذكره لي المرتضى بدمشق في جمادى الآخرة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وقال: هو الآن حيّ يتصرف ويدأب، شيخ ولكنه يَخْضِب، وأنشدني من شعره القديم في نصير الدين والي الموصل من قصيدة:
قِفْ بمَغانٍ طُلولُها طُمْسُ ... لم يَطْوِها قبل إنسها إنْسُ
طال عليها هَطْلُ الغمائم أنواءً زَجَتْها العواصِفُ الرُّمْسُ
حتى غدا الغاربُ التليعُ بها ... وَهْدَاً وصار الذُّرى لها الأُسُّ
وِقْفَةَ مَن صارتِ الهُموم على ... فؤاده واستكانتِ النفسُ
نَبْكِ بها علّها تَرِق وَهَيْهات تَرِقّ الصفائح المُلْسُ
ومنها في المديح:
ولست أشكو سوى الزمانِ إلى ... قَيْلٍ أَشَمَّ به العلى ترسو
إلى نصير الدين الذي شَهِدَتْ ... بفضله والشجاعة الفُرْسُ
والرومُ والترك والأعاريب والْ ... إفرَنجُ وهي القبائلُ الخَمْسُ
كلٌّ لبرهانه أقَرَّ وقدْ ... زال صُراحاً عن عَيْنِه اللَّبْسُ
رَبُّ العطايا للمُعْتفين فما ... مِن دونها عائقٌ ولا حَبْسُ
رَبُّ الرزايا للمارقين فَمِنْ ... كلِّ مكانٍ يُحيطُهمْ نَحْسُ
يا أسدَ الدولة المُؤيَّدِ بالنصرِ، حسامَ الملوكِ، يا شَمْسُ
عَبْدُكَ عَبدٌ قِنٌّ أتاك على البُعدِ وقد مَسَّ حالَهُ المَسُّ
فاجْبُر قوىً هاضَها الزمان وأَوْ ... هاها، وعُضواً قد عَضّهُ ضَرْسُ
أَدْخِلْه في زُمرة العبيد ولا ... تَقْسُ فما يستحق أنْ تقسو

جاءتْكَ تسري إليك حاملةً ... هَديّةً أَصْغَرت لها عَبْسُ
الرئيس أبو الحسن علي بن مُسْهِر المَوصلي
عاش إلى زماننا هذا، ولما كنت بالموصل في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة صادفته شيخاً أناف على التسعين وقال علم الشاتاني: توفي ابن مُسهر سنة ست وأربعين. أبو عُذرة النظم وابن بَجْدَتِه، ومُفتَرِع عذارى الكلام وفارس نجدته، وفارع مَراقب البيان وراقي مراقيه، وإنسان طرف الفضل ومقلة مآقيه، ونافث سحر البلاغة وراقيه، أعرق وأشأم، وأنجد وأتْهم، فهو السائر المقيم، كأنما تنسّم رقّته النسيم، وسرق حُسنه السّرَق، وغبط وضوح معانيه الفلق، وكأنما ألفاظه مدامة تُعَلُّ بماء المُزن، ومعانيه سُلافةٌ فيها جلاء الحُسن، أصفى من دَرِّ السحاب، وأجلى من دُرِّ السِّخاب، وأضفى من بُرد الشباب، وأحلى من برد الشراب، فابن مُسهرٍ مُسهرُ المعاصرين حسدا، ومميت القاصرين عن شأوه كمدا، قرأت في مجموع لأبي الفضل بن الخازن، أنشدني ابن مُسهر لنفسه:
رِدُوا ترابك دَمْعِي فهي غُدرانُ ... ونَكِّبوا زَفَرَاتي فهي نيرانُ
وإنْ عَدَتْكُمْ سَواري الحَيِّ فانتجعوا ... ما روَّضَتْ من ثرى الأطلال أجفانُ
بانوا فأرْسلتُ في آثارِهمْ نَفَسَاً ... ترَنَّحَ الأَيْكُ منها وانْثنى البانُ
لم أَدْرِ عَوْجَاءُ مِرْقالٌ بسهم نوىً ... أَصْمَت فؤاديَ أم عَوْجَاء مِرْتانُ
إني لَأَعجبُ من سُمْرٍ مُثَقَّفَةٍ ... جَنَوْا بها شَهْدَ عِزٍّ وهي مُرّانُ
والغِيدُ إنْ تَرْنُ نحوَ السِّرْبِ مائلةً ... قلت اشْرَأَبَّتْ إلى الغِزلانِ
أو تستظِلَّ غصون البان كانِسَةً ... نَقُلْ تفَيَّأَت الأغصانَ أغصانُ
وإن يَنَمْنَ على كُثْبِ النَّقا لعباً ... نَقُلْ توَسَّدَتِ الكُثبانُ كُثْبانُ
يا ذا السياسةِ لو يومَ الرِّهانِ بها ... فَتَكْتَ ما احْتَرَبَتْ عَبْسٌ وذُبْيانُ
والحزمِ لو علمت لِحْيان أَيْسَرَه ... لما نجا ثابِتٌ والموت خَزْيَانُ
والفضلِ لو لعَبيدٍ من بدائعِهِ ... بَدَتْ تلَقّاه بالنَّعْماءِ نُعمانُ
وذا الكتابة لو عبدُ الحميدِ لها ... أودى بمُلك بني العباس مروانُ
على أنّي سمعتُ أن هذه القصيدة مسروقة من غيره. وهي قصيدة طويلة، لها على جمع قصائد فضيلة، قد سارت في الآفاق، وسافرت من خراسان إلى العراق، ولم يقع إليّ منها غير هذه الأبيات، المخصوصة بالإثبات.
وقرأت في مجموع هذين البيتين، إلى ابن مُسهر منسوبين، وهما في عدّة العَين، ونضرةِ اللُّجين، معناهما رقيق، ولفظهما سَلِس بالثناء عليه حَقيق:
أُعاتِبُ فيكِ اليَعْمَلاتِ على السُّرى ... وأسأَلُ عنكِ الريحَ إنْ هيَ هَبَّتِ
وأُمْسك أحناءَ الضلوع على جوىً ... مُقيمٍ وصبرٍ مستحيلٍ مُشَتَّتِ
وقرأت في تاريخ السمعاني: سمعتُ أبا الفتح عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن الأخوّة البغدادي بأصفهان مُذاكرةً يقول: رأيت في المنام كأنّ مُنشِداً يُنشدني هذين البيتين، أحدهما وأعجب من صبري، والآخر وأُطبِق أحناء الضلوع، فلما انتبهت جعلت دأبي البحث عن قائل هذه الأبيات، ومضت عدة سنين، واتفق نزول الرئيس أبي الحسن بن مُسهر الموصلي في ضيافتي، فتجارَينا في بعض الليالي ذكر المنامات وذكرت له حال المنام الذي رأيته وأنشدته البيتين فقال أقسم أنهما لَمِنْ شعري من جملة قطعة، ثم أنشدني لنفسه:
إذا ما لسانُ الدَّمع نَمَّ على الهوى ... فليس بسِرٍّ ما الضلوعُ أجَنَّتِ
فواللهِ ما أدري عَشِيَّةَ وَدَّعتْ ... أناحتْ حَماماتُ اللِّوى أمْ تغنّتِ
وأعجب من صَبري القَلوصَ التي سَرَتْ ... بهَودَجِكِ المَزْمومِ أنّى استَقَلَّتِ
أُعاتِبُ فيكِ اليَعْمَلاتِ على الونى ... وأسألُ عنكِ الريح إن هيَ هبَّتِ

وأُلصِقُ أحناءَ الضلوعِ على جوىً ... جميعٍ وصبرٍ مُستَحيلٍ مُشَتَّتِ
ثم أنشدني علم الدين الشاتاني عنه هذه الأبيات. وأنشدني المعلم الشاتاني لابن مُسهر:
حَسَرَتْ عن يَوْمِنا النُّوَبُ ... واكْتسى نُوّارَهُ العُشُبُ
واستقامت في مجَرَّتِها ... بالأماني السبعَةُ الشُّهُبُ
يا خليلي أين مُصْطَبَحٌ ... فيه للَّذّاتِ مُصْطَحَبُ
وثُغورُ الزهر ضاحكةٌ ... ودُموع القَطْر تَنْسَكِبُ
ولنا في كلِّ جارحةٍ ... من غِنا أطيارِهِ طرَبُ
اسقِنيها بنتَ دَسْكَرةٍ ... وهي أمٌّ حين تَنْتَسِبُ
خَنْدَريسٌ دون مُدَّتِها ... جاءتِ الأزمان والحِقَبُ
طاف يَجْلُوها لنا رَشأٌ ... قَصُرَتْ عن لحظه القُضُبُ
أَوْقَدَتْها نارُ وَجْنَتِه ... فهي في كَفَّيْهِ تلتهبُ
ولها من ذاتها طَرَبُ ... فلهذا يَرْقُصُ الحبَبُ
هذا البيت الأخير كنت أعلم أنه للأبِيوَرْدي من قطعةٍ أولها:
بأبي ظَبْيٌ تبلّج لي ... عن رضا في طَيِّه غَضَبُ
وأراني صُبْحَ وَجْنَتِه ... بظلام الليل يَنْتَقِبُ
ثم ذكر لي كمال الدين أنه كان إذا أعجبه معنىً لشاعر أو بيتٌ له عمل عليه قصيدة وادّعاه لنفسه.
واجتمع هو والأبيوَرْدي وهو لا يعرف ابنَ مُسهِر فجرى حديث ابنِ مسهر وأنه سرق بيت الأبيوردي فقال ابن مسهر بل الأبيوردي سرق شعري.
وأنشدني المهذَّب لابن مُسهر أيضاً:
هَجَرَتْ يدي فضلَ اليرا ... عِ، وذَمَّها السيفُ القَطوعُ
وشَكا مخاطبتي النديمُ وذمَّني الضيفُ القَنوعُ
ونفى همومي عن طِلا ... بِ العِزِّ مَطْلَبُهُ المنيعُ
إن لم أُجَشّمْها الطُّلو ... عَ بحيث أَنْجُمها طُلوعُ
وأنشدني المهذّب علي بن هدّاف العُلَثِيّ ببغداد سنة ستين للمهذّب ابن مُسهر الموصلي من قصيدة طويلة:
هي المواردُ بين السُّمْرِ والحَدَقِ ... فَرِدْ فإنّ المنايا مَوْرِدُ الأَبِقِ
وأطْيَبُ العيش ما تَجنيه من لَغَبٍ ... وأعذبُ الشُّربِ ما يَصفو من الرَّنَقِ
يا دارُ دَرَّتْكِ أخْلاف الغَمام على ... مَرِّ النسيم بجاري الغرب مُنْبَعِقِ
وإن عدَتْكِ أخْلاف الغَمام فانْتجعي ... ما رَوَّضَ الأرضَ من أجفان ذي حُرقِ
ومنها في صفة الفهد أبيات مُستحسنة أنشدنيها غيره، الأبيات التي فيها في وصف الفهد:
من كلِّ أَهْرَتَ بادي السُّخطِ مطَّرِحِ الحياءِ جَهْم المُحَيّا سَيِّئَ الخُلُقِ
والشمسُ مُذْ لقّبوها بالغَزالةِ لم ... تَطْلُع على وجهه إلاّ على فَرَقِ
ونَقِّطَتْهُ حِباءً كي تسالمَها ... على المنون نِعاجُ الرَّمل بالحَدَقِ
قال قاضي القضاة كمال الدين الشهرزوري: هذه الأبيات سرقها من ابن السراج شاعرٌ بصور، ما أبدل إلاّ قوله القافية حيث يقول:
والشمسُ مُذْ لقّبوها بالغَزالةِ لم ... تَطْلُعْ لخَشْيَتِه إلاّ على وَجَلِ
ونَقِّطَتْهُ حِباءً كي تسالمَها ... على المنون نِعاجُ الرَّمل بالمُقَلِ
قال: ومن قصيدة ابن مُسهر في وصف الخيل:
سودٌ حوافرها بيضٌ جحافلُها ... صِبْغٌ توَلَّدَ بين الصُّبْحِ والغَسَقِ
من طولِ ما وطئتْ ظَهر الدُّجى خَبباً ... وطولِ ما كَرَعَتْ من مَنْهَلِ الفَلَقِ
وأنشدني المرتضى لابن مُسهرٍ من قصيدة أولها:
الوجدُ ما قد هيّج الطَّللانِ ... مِنّي وأذكَرني حَمامُ البانِ
أنا والحمائم حيث تَنْدُبُ شَجْوَها ... فوق الأرائكِ سُحْرَةً سِيّانِ
فأنا المُعنّى بالقُدودِ أما لها ... شَرْخُ الشباب وهُنَّ بالأغصانِ
ومنها أنشدنيها التاج البلطي:
فافْخَرْ فإنك من سُلالةِ مَعْشَرٍ ... عقدوا عمائمهم على التيجانِ

كلُّ الأنام بَنُو أبٍ لكنّما ... بالفضل تُعرَفُ قيمةُ الإنسانِ

المهذب ابن أسعد الموصلي
الفقيه المدرّس بحمص أبو الفرج عبد الله بن أسعد بن علي بن عيسى، ابن الدهان الموصلي. ما زلتُ وأنا بالعراق، إلى لقائه بالأشواق، فإنني كنت أقف على قصائده المستحسنة، ومقاصده الحسنة، وقد سارت كافيّتُه بين فضلاء الزمان كافة فشهدت بكفايته، وسجّلت بأن أهل العصر لم يبلغوا إلى غايته، فلما وصلتُ إلى حمص أوّل ما صحبت الملك العادل نور الدين ابن زنكي رحمه الله منتصف صفر سنة ثلاث وستين جمعت بيني وبينه المدرسة، وحصلت لأحدنا بالآخر الأنسة، وشفيتُ بالرِيّ من رؤيته الغُلّة، ونفيت بالصحة العلة، وبسطته فانبسط، وحلَّ السفَط، وفضّ عن الدرِّ الصدف، وجلا عن البدر السُّدَف، وأنشد فأنشر الرِّمم، ونشد الحكم، ونثر الدر المنظوم، وأحضر الرحيق المختوم، وأظهر السر المكتوم، وأبرز الروض المرهوم، ونشر الوشي المرقوم، ورأيت المهذَّب مهذّب الروي، ذا المذهب القوي، في النظم السويّ، وهو ذو رويّة رويةّ بغير بديهة، وقريحة صحيحة بالنار شبيهة، جيد الفكر لا يُبْدَه، أيِّد الحلم لا يُسفه، جودته على الجِدّ مقصورة، وفائدته في الجيد محصورة، ورايته في الشعر منصورة، ومأثُرته في الأدب مأثورة، فأما الفقه فهو إمام محرابه، ومحزّب أحزابه، ومقدام شجاعته، ومُقدَّم جماعته، وسراج ظلامه، وسريجي أحكامه، وذُكاء ذَكائه، وغزالة سمائه، وغزّالي أسمائه، ورضوان جنّته، ودهّان جُنّته، وأما سائر العلوم فهو ابن بجدتها، وأبو عُذرتها وأخو بجدتها، والشعر من فضائله كالبدر في النجوم، والبازل في القروم، وصفناه به لشرط الكتاب، وأدخلناه وإن كان معدوداً من الأئمة المذكورين في هذا الحساب، بحر زاخر، وحبر فاخر، وناقد بصير، وعالم خبير، وجوهريٌّ لفرائد الفوائد مُروّج، وصَيْرَفيّ لنقود المزيفين مُبهرج، سائر الشعر، شاعر العصر، محسن النظم ناظم الحسن، لَسِن القوم وقويم اللسن، فيه تمتمة تسفر عن فصاحة تامة، وعقدة لسان تبين عن فقه في القول وبلاغة من عالم مثله علامة، ارتدى قناع القناعة أَنَفَاً من القُنوع، وانتأى عن جِمام الجماعة رِضاً ببرق حظّه اللموع، وأوى إلى كِسْرِ الانكسار، وانزوى في سِترِ الاستتار، ولبس خَميلةَ الخُمول، على أنه قِبلة القبول، وعُقلة العقول، ومَشْرَع المعقول المشروع، وموضع المحمول والموضوع.
فما أنشدني من شعره بحمص سنة خمس وستين القصيدة الكافية التي سارت له في مدح أبي الغارات طلائع بن رُزِّيك وأنفذها إليه بمصر فنفَّذ له الجائزةَ السنيّة، والعطيّة الهنيّة، وهي:
أما كفاكَ تلافي في تَلافيكا ... ولست تَنْقِمُ إلاّ فَرْطَ حُبِّيكا
يا مُخجِلَ الغُصن ما يَثْنِيك عن مَلَلٍ ... هوىً وكلُّ هواءٍ هبَّ يثنيكا
أصبحتُ للقمر المأسور في صَفْدَيْ ... أَسْرٍ وللرِّشإ المملوك مَمْلُوكا
أَبِيتُ أَغْبِطُ فاهُ طِيبَ ريقتِه ... ليلاً وأَحُسدُ في الصُّبحِ المَساويكا
يا حاملَ الراح في فيه وراحتِه ... دَعْ ما بكفّك رُوح العَيش في فيكا
أليسَ سِرُّكَ مستوراً على كلَفي ... فما يَضُرُّك أن أصبحتُ مهتوكا
وفيم تَغْضَب إن قال الوُشاةُ سَلا ... وأنتَ تعلمُ أني لستُ أَسْلُوكا
لا نِلْتُ وَصْلَك إن كان الذي زعَموا ... ولا سقى ظمأي جودُ ابنِ رُزّيكا
هادي الدعاة أبي الغارات خير فتىً ... أدنى عَطِيّاتِه أقصى أمانيكا
القاتِل الألْف يلقاهُم فيَغلِبُهمْ ... والواهبِ الألف تلقاه فيُغْنيكا
على أنه مأخوذ من قول بعضهم:
القاتل الألف إلاّ أنها أُسُدٌ ... والواهب الألف إلاّ أنها بِدَرُ
قد نظمت أنا في قصيدة طويلة هذا المعنى ووفّيتُ الصنعة حقّها بحيث لا يعوزها في الكمال شيء وهو:
في حالتَيْ جودٍ وبأسٍ لم يزلْ ... للتِّبر والأعداءِ منك تَبارُ
تَهَبُ الألوفَ ولا تهاب أُلوفَهُمْ ... هان العدوُّ لديك والدينارُ
رجعنا إلى القصيدة:

يا كاشفَ الغُمّة الكُبرى وقد نَزَلَتْ ... بشَعْب شَمْلِ العُلا لولا تَلافيكا
بَرَّزْتَ سَبْقَاً فما داناك في أَمَدٍ ... خَلْقٌ قديماً ولا خَلْقٌ يُدانيكا
أَرَتْ مساعيك سُبْلَ المجدِ جاهِلَها ... فَلَوْ سعى كان أيضاً من مَساعيكا
يخافُك المَلْكُ ناءٍ عنك مَنْزِلُه ... ويُقْتِرُ المرءُ عن بُعدٍ فَيَرْجوكا
يَشْكُو إليكَ بنو الآمال فقرَهُمُ ... فينْثَنون وبيتَ المال يَشْكُوكا
وَفَيْلَقٍ يملأُ الأقطار ذي لَجَبٍ ... يُضْحي له ثابتُ الأطْوادِ مَدْكُوكا
من كلِّ أَغْلَب تلقى عِرْضَه حَرَمَاً ... مُوَفَّراً وتُلاقي المالَ مَنْهُوكا
سَنَّ الحديدَ على كالماءِ شَيَّعَهُ ... مثلُ الحديد براه الله فِتّيكا
صُمٌّ عن الذّامِ لا يَأْتُون داعيَهُ ... فإن دعوتَ إلى حربٍ أجابوكا
بَعَثْتَهُم نحو جيش الشِّركِ فانْبعثوا ... يَرَوْنَ أَكْبَرَ غُنْمٍ أنْ أطاعوكا
ساروا إلى الموتِ قُدماً ما كأنَّهمُ ... رَأَوْا طريق فِرارٍ قَطُّ مَسْلُوكا
فأوردوا السُّمْرَ شُرْباً من نحورِهمُ ... وأوطأوا الهامَ بالقاع السَّنابيكا
ضَرْبَاً وَطَعْناً يَقُدُّ البِيضَ مُحْكَمةً ... ويَخرُقُ الزَّرَدَ الماذِيَّ مَحْبُوكا
وباتَ في كلِّ صُقْعٍ من ديارِهُمُ ... نَوْحٌ على بَطلٍ لولاك ماشِيكا
أَمْسَوْا ملوكاً ذوي أَسْرٍ فصَبَّحَهمْ ... أُسْدٌ أَتَوْكَ بهم أسرى مَماليكا
ولم يَفُتْهُمْ سوى من كان مَعْقِلُه ... مُطَهَّماً حَثّهُ ركْضاً وتحريكا
يا كَعْبَةَ الجود إن الفقر أَقْعَدني ... ورِقّةُ الحال عن مفروضِ حَجّيكا
قد جادَ غاديك لي جَوْدَاً وأطمَعني ... سماحةٌ فيك في استسقاء ساريكا
مَن أَرْتَجي يا كريمَ الدهر تَنْعَشُني ... جَدْوَاه إنْ خاب سَعْيِي في رَجائيكا
أأمدحُ التُّرْكَ أبغي الفضلَ عندهمُ ... والشعرُ ما زال عند التُّرْك مَتْرُوكا
أمْ أَمْدَحُ السُّوقَةَ النَّوْكى لرِفْدِهمُ ... وا ضيعتا إن تخَطَّتني أياديكا
لا تتركنّي، وما أمّلتُ في سفري ... سواك، أُقْفِل نحو الأهل صُعْلوكا
أرى السِّباخَ لها رِيٌّ وقد رَضِيَتْ ... منك الرِّياض مُساواةً وتشريكا
ولما وصل الملك الناصر صلاح الدين يوسف من مصر إلى الشام بعد نور الدين في سنة سبعين وخيّم بظاهر حمص وقصده المهذَّب ابن أسعد بقصيدة قال القاضي الفاضل لصلاح الدين هذا الذي يقول:
والشعر ما زال عند الترك متروكا
فعجّل جائزته لتكذيب قوله وتصديق ظنّه فشرّفه وجمع له بين الخِلعة والضيعة.
وكان قد أنشدني أبياتاً من هذه القصيدة قبلُ ولا شك أنه أتمّها في مدحه وهي:
ما نامَ بعد البَيْن يَسْتَحلي الكَرى ... إلاّ ليطرُقَه الخَيالُ إذا سرى
كَلِفُ بقُرْبِكُمُ فلمّا عاقهُ ... بُعْدُ المَدى سلك الطريقَ الأخَصْرا
ومنها:
ومُودَّعٍ أَمَّ التَّفَرُّقُ دمعَهُ ... ونهتْهُ رِقْبَةُ كاشحٍ فتحيَّرا
يبدو هلالٌ من خلال سُجوفِه ... لولا مُحاذَرَةُ العيون لأبدرا
ومنها في المديح:
تُردي الكتائبَ كُتْبُهُ فإذا غدتْ ... لم تَدرِ أَنْفذَ أَسطراً أمْ عَسكرا
لم يَحْسُنِ الإترابُ فوقَ سُطورها ... إلاّ لأنَّ الجيش يَعقُدُ عِثْيَرا
قال: هذا معنى ما سُبِقْتُ إليه. وللأستاذ أبي إسماعيل الطُّغرائي من قصيدة وقد ألَمَّ بالمعنى وأحسَن:
عليها سُطورُ الضَّرْبِ يَعجُمها القَنا ... صحائف يغشاها من النَّقْع تَتريبُ
وأنشدني أيضاً لنفسه:

كم في العِذار إلى العُذَّال لي عُذُرُ ... وكم يُحاورُهمْ عن لومِيَ الحَوَرُ
وكم أرى عندهم من حبِّه خبَراً ... يرويه عن مُقلَتّيَّ الدَّمْعُ والسَّهَرُ
يبغونَ بالعَذْل بُرئي من علاقته ... والقولُ يُصلِحُ من لم يَجرحِ النَّظَرُ
قالوا تركتَ البوادي قلت حُبُّهُمُ ... محرَّمٌُ حظَرَتْه التُّركُ والحضَرُ
ما منزل الحيِّ من قلبي بمنزِلَةٍ ... ولا لآثار ظَعنٍ عنده أثَرُ
ولا أُعلَّقُ مَحبوباً يُساعدُه ... على الصُّدود سُتورَ الخِدرِ والخُمُرُ
أَميلُ عن حُسْنِ وَجه الشَّمس مُستتراً ... إلى مَحاسِنَ يجلوها ليَ القمر
قضيبُ بانٍ على أَعلاه بَدرُ دُجىً ... من أينَ لِلبانِ هذا الزَّهرُ والثَّمَرُ
وأنشدني له من قصيدة في مدح الملك الصالح طلائع بن رُزِّيك:
إذا لاحَ بَرقٌ من جَنابكَ لامِعٌ ... أَضاءَ لِواشٍ ما تُجِنُّ الأضالِعُ
تَتابع لا يحتَثُّ جَفني فإنَّه ... بدا فتَلاهُ دَمعِيَ المُتتابع
فإن يكنِ الخِصْبُ اطَّباكُمْ إلى النَّوى ... فقد أَخصبَتْ من مُقلَتّيَّ المَرابع
مطالع بَدرٍ منذُ عامَين عُطِّلَتْ ... وما فقدَتْ بَدراً لذاكَ المَطالع
وسِرُّ هوى هَمَّتْ بإظهاره النَّوى ... فأمسى وقد نادتْ عليه المَدامِعُ
ولمّا برَزنا للوداع وأَيْقَنَتْ ... نُفوسٌ دهاها البَيْنُ ما اللهُ صانِعُ
وقفنا ورُسْلُ الشَّوقِ بيني وبينها ... حَواجِبُ أَدَّتْ بثَّنا وأصابع
فلا حُزننا غَطَّى عليه تَجَلُّدٌ ... ولا حسنُها غطَّتْ عليه البراقع
أَتنسَينَ ما بيني وبينكِ والدُّجى ... غِطاءٌ علينا والعيونُ هواجع
وهَبْكِ أَضَعْتِ القلبَ حين ملكْتِه ... تَقي في العهود اللهَ فهي ودائع
تمادى بنا في جاهليَّة بُخلِها ... وقد قام بالمعروف في الناس شارع
وتَحسَب ليلَ الشُّحِّ يمتَدُّ بعدَما ... بدا طالعاً شمسُ السَّخاء طلائع
وأنشدني له ما نظمه في صباه وهو في المكتب في مَرثيَة صبيٍّ كان في الكتّاب معه:
أَمسيتَ تحت الأرض تُرغِبُ في الأسى ... مَن كان نحوك في الحوائجِ يَرغَبُ
يَهدي إليك بِعَرْفه طيبُ الثَّرى ... مَن كان يهديه الثَّناءُ الطَّيِّبُ
وأنشدني له قصيدةً عملها في الملك العادل نور الدين محمود بن زَنكي رحمه الله سنة أغارت الإفرنج على مُعسكره ومخيَّمه بالبقيعة تحت حصن الأكراد وكانت نوبة عظيمة على المسلمين وأَفْلَتَ في فَلٍّ من عسكره، وهذا أحسن ما سمعته في مدح مَنْ كُسِرَ وعُذِر، ولقد وافق العذر ما ذكر، واتصف بعد ذلك وانتصر، ونال الظَّفر:
ظُبى المَواضي وأطرافُ القنا الذُّبُلِ ... ضَوامنٌ لكَ ما حازوه من نَفَل
وكافلٌ لكَ كافٍ ما تحاولُهُ ... عِزٌّ وعَزْمٌ وبأْسٌ غير منتَحَل
وما يَعيبُك ما نالوه من سَلَبٍ ... بالخَتْلِ، قد تُوتَرُ الآسادُ بالحِيَل
وإنَّما أَخلَدوا جُبناً إلى خُدَعٍ ... إذا لم يكن لهم بالجيش من قِبَلِ
واستيقظوا وأَرادَ الله غفلتَكُمْ ... ليَنْفُذَ القدر المحتوم في الأزل
حتى أتَوْكُمْ ولا الماذِيُّ من أَمَمٍ ... ولا الظُّبى كثَبٌ من مُرهَقٍ عَجِل
فناً لقىً وقِسِيٌّ غيرُ مُوترَةٍ ... والخيلُ عازبَةٌ تَرعى مع الحَمَل
ما يصنعُ الليثُ لا نابٌ ولا ظُفُرٌ ... بما حواليه من عُفْرٍ ومن وُعُل
هلاّ وقد ركِبَ الأُسْدُ الصُّقورَ وقد ... سَلُّوا الظُّبى تحتَ غاباتٍ من الأَسَل
من كلِّ ضافيةِ السِّربال صافية الْ ... قِذافِ بالنَّبْل فيها الخَذْفُ بالنَّبَل

وأصبحوا فِرَقاً في أرضِهم بَدَداً ... يَجوسُ أَدناهُمُ الأَقصى على مَهَل
وإنَّما هم أضاعوا حزمَهُمْ ثِقةً ... بجَمْعِهِمْ ولَكَمْ من واثِقٍ خَجِل
بني الأَصافِرِ ما نلتُمْ بمَكرِكُمُ ... والمَكْرُ في كلِّ إنسانٍ أَخو الفشل
وما رجعتم بأسرى خابَ سعيُكُمُ ... غير الأراذِل والأتباع والسَّفَل
سلبْتُمُ الجُرْدَ مُعراةً بلا لُجُمٍ ... والسُّمْرَ مَركوزَةً والبيضَ في الخِللِ
هل آخِذُ الخيل قد أَرْدى فوارسَها ... مِثالُ آخذِها في الشَّكْل والطِّوَل
أم سالب الرُّمح مَركوزاً كسالبِه ... والحربُ دائرةٌ، من كَفِّ مُعتقِلِ
جيشٌ أصابتهُمُ عينُ الكمال وما ... يَخلو من العين إلاّ غيرُ مُكتمِل
لهم بيَوم حُنَيْنٍ أُسوَةٌ وهُمُ ... خيرُ الأنام وفيهم خاتَمُ الرُّسل
سيقتضيكم بضَربٍ عندَ أَهوَنِه ... أَلْبِيضُ كالبَيْضِ والأدراع كالحُلَلِ
كان كما ذكَر، فإنَّ الإفرنج بعد ذلك بثلاثة أشهرٍ كُسِروا على حارم وقُتِل في معركة واحدة منهم عشرون ألفاً وأُسِر من نجا وأُخِذَ القَومَس والإبرنس وجميع ملوكهم، وكان فتحاً مبيناً ونصراً عظيماً، وتمام القصيدة:
ملْكٌ بعيدٌ من الأدناس ذو كَلَفٍ ... بالصِّدق في القول والإخلاص في العمل
فالشمس ما أصبحت والشمسُ ما أَفلَتْ ... والسيفُ ما فُلَّ والأطوادُ لم تزُلِ
كم قد تجلَّت بنور الدين من ظُلَمٍ ... للظلم وانجابَ للإضلال من ظُلَل
وبلدةٍ ما ترى فيها سوى بطل ... غزا فأضْحَتْ وما فيها سوى طلَل
قل لِلمُوّلِّينَ كُفُّوا الطَّرْفُ من جُبُنٍ ... عند اللقاء وغُدّوا الطرف من خجل
طلبتُمُ السَّهل تبغونَ النَّجاةَ ولَو ... لُذْتُمْ بمَلْكِكُمُ لُذْتُم إلى جبل
أَسْلَمتموه ووَلَّيْتُم فسلَّمَكُمْ ... بثَبْتَةٍ لو بغاها الطَّوْدُ لم يَنَل
مُسارعينَ ولم تُنْثَلْ كنائنُكُم ... والسُّمرُ لم تبتَذَل، والبيضُ لم تُذَلِ
ولا طرقْتُمْ بوَبْلِ النَّبْل طارقَةً ... ولا تعلَّقتِ الأَسيافُ في القُلَل
فقام فرداً وقد ولَّتْ جحافِلُهُ ... فكان من نفسه في جَحفَلٍ زَجِل
في مَشهدٍ لَو لُيوثُ الغِيل تشهدُه ... خرَّت لأذقانها من شِدَّة الوَهَل
وسْطَ العِدى وحدَه ثَبْتَ الجِنان وقد ... طارت قلوبٌ على بعدٍ من الوجل
يعودُ عنهم رويداً غيرَ مُكترثٍ ... بهم وقد كَرَّ فيهم غيرَ مُحتفل
يزدادُ قُدْماً إليهم مِن تَيَقُّنِه ... أنَّ التَّأَخُّرَ لا يحمي من الأجَل
ما كان أَقربَهُم من أسر أَبعدِكُمْ ... لو أَنَّهم لم يكونوا منه في شُغُل
ثباتُه في صُدور الخَيل أَنقذكُمْ ... لا تَحسِبوا وثَباتِ الضُّمَّرِ الذُّلُلِ
ما كلَّ حينٍ تُصابُ الأُسْدُ غافلَةً ... ولا يصيبُ شديدَ البَطشِ ذو الشَّلَلِ
واللهُ عونُكَ فيما أنتَ مُزمِعُه ... كما أعانكَ في أيّامِكَ الأُوَلِ
كم قد ملكْتَ لهم مُلْكاً بلا عِوَضٍ ... وحُزْتَ من بلدٍ منها بلا بدل
وكم سقيتَ العوالي من طُلى مَلِكٍ ... وكم قريتَ العوافي من قَرا بطَل
وأَسْمَرِ من وريد النَّحر مَوردهُ ... وأَجْدَل أكله من لحمِ مُنجَدِل
حصيدُ سيفكَ قد أَعفيتَه زمناً ... لو لم يَطُلْ عهدُه بالسيف لم يَطُلِ
لانكَّبَتْ سهمَكَ الأقدارُ عن غرَضٍ ... ولا ثُنُتْ يدَكَ الأَيّامُ عن أَمل
ومن شعره في الصالح ابن رُزِّيك قصيدةٌ أَرادَ قصده بها ثم أنفذها إليه، أوّلها:

أَيرْجِعُ عَصرٌ بالجزيرة رائقُ ... تَقَضَّى وأبقى حَسرةً ما تُفارِقُ
لياليَ أبكارُ السُّرور وعَونُهُ ... هدايا وأُمّاتُ الهموم طَوالق
إذا قلتُ يصحو القلبُ من فَرط ذِكرِه ... دعا هاتفٌ في الأَيْكِ أو لاح بارِقُ
ومنها:
تركْنا التَّشاكي ساعةَ البين ضِلَّةً ... ولا غروَ يومَ البينِ إن ضلَّ عاشق
فلا لذَّة الشكوى قضينا ولا الذي ... سترناه أَخْفَتْه الدُّموع السَّوابِقُ
فمن لؤلؤٍ شَقَّ الشَّقيقَ مُبدَّداً ... ووَرْسٍ جرَتْ سَحّاً عليه الشقائق
إذا نحن حاولنا التَّعانُقَ خُلسَةً ... عَلانا الزَّفير والقلوبُ خوافق
ومنها:
وزائرةٍ بعد الهُدُوِّ وبيننا ... مَهامِهُ تُنضي رَكبَها وسَمالِقُ
تعجَّبُ من شَيبٍ رأتْ بمَفارقي ... وهل عجبٌ من أنْ تشيبَ المَفارِقُ
وقالتْ وفَرْطُ الضَّمِّ قد هدَّ مِرْطَها ... ولُزَّتْ ثُدِيٌّ تحتَها ومَخانِق
أَتُسليكَ عنّا كاذباتٌ من المُنى ... وما خِلتُ تُسليكَ الأماني الصَّوادِقُ
متى نلتقي في غيرِ نومٍ ويشتكي ... مَشوقٌ وبُشْكي من جوى البين شائق
ثِقي بإيابي عن قريبٍ فإنَّني ... بجُودِ ابن رُزِّيكٍ على القربِ واثق
هو البحرُ فيه درُّه وعُبابُه ... وصوبُ الحَيا فيه النَّدى والصَّواعِقُ
أخو الحَرب ربُّ المكرمات أبو النَّدى ... حليف العُلى صَبٌّ إلى العُرف تائقُ
يُنال الحَيا من بحره وهو نازحٌ ... ويَدنو الجَنى من فَرعِه وهو باسِق
ومنها في حكاية وزير المصريين عباس وكونه قتل ظافرهم وجماعة من أعمامه بالقصر، وجاء ابن رزِّيك فأخذ بالثّأْر منه:
ولمّا رأى عبّاسُ لِلغدر مَذهباً ... وأظهرَ ما قد كان عنه يُنافِقُ
وأنفق من إنعامِهم في هلاكهم ... جزاءً به عَمري خَليقٌ ولائق
ومدَّ يداً هم طوَّلوها إليهمُ ... وحلَّت بأهل القصر منه البوائق
دعَوْكَ فلبَّيْتَ الدُّعاء مُسارعاً ... وفرَّجْتَ عنهم كَربَهُمْ وهو خانق
وجاوبْتَهُم عن كتْبهم بكتائبٍ ... تَمُرُّ بها مَرَّ السّحاب السَّوابق
وفرَّ رجاءً أنْ يفوتَ شَبا الظُّبى ... فعاجلَه حَيْنٌ إليهنَّ سائق
وقدَّر أنْ قد خلَّفَ الحتفَ خلفَه ... وقدّامَه الحَتْفُ المُوافي الموافِقُ
سقى ربَّه كأسَ المنايا وما انقضى ... له الشَّهر إلاّ وهو للكأس ذائقُ
أبو الفضل بن عطّاف المَوصلي الجَزري
محمد بن محمد بن محمد بن عطاف، ذكره أبو سعد السمعاني في المذيّل قال: أنشدنا لنفسه إملاءً في القلم:
خُرْسٌ تُشافِه بالمَرام كأنَّما ... تُبدي بألسُنِها الفصيحَ الأعجما
وتطول عن قِصَرٍ ويَقصُر دونَها ... طولُ الرِّماح وإنْ أَرَقْتَ بها الدِّما
قال وأنشدني لنفسه في شابٍّ يتمنّى شيبه:
كم قد تمنّى أن يرى ... شَيْباً بمَفرِقِه أَلَمّا
دارت عليه رحى المَنو ... نِ فأسكَنَتْهُ ثَرىً أَصَمّا
ذكر السمعاني في تاريخه أنه توفي ببغداد تاسع عشر شوال سنة أربع وثلاثين وخمسمائة.
عمّه:

أبو طالب جعفر بن محمد بن عطاف
قرأت في تاريخ السمعاني: أنشدني أبو الفضل بن عطاف أنشدني عمي أبو طالب لنفسه بمَيافارقين:
لابدَّ للكامل من زَلَّةْ ... تُخبره أن ليس بالكامل
بينا يُرى يضحك من جاهلٍ ... حتى تراه ضِحكةُ الجاهِل
قال: وسمعته يقول: قرأت على ظهر تقويم سطّره عمّي أبو طالب لنفسه:
أُجَدِّده في كلِّ عامٍ مُجدَّدٍ ... ويخلِقُ منّي جِدَّتي وغرامي
وتَفرحُ نفسي بانتظام شُهورِه ... وفي واحدٍ منها يكون حِمامي
الشيخ أبو الحسن علي بن دبيس المَوْصلي

قرأَ على ابن وَحشي ، وابن وَحشي قرأَ على ابن جِنّيّ، قرأتُ له في مجموعٍ لأبي الفضل بن الخازن من الموصليات للشيخ أبي الحسن علي بن دبيس النَّحوي من أبيات في قوّاد:
يُسهِّلُ كلَّ ممتنعٍ شديدٍ ... ويأْتي بالمُراد على اقتصاد
فلو كلَّفْتَه تحصيل طيفِ الْ ... خَيالِ ضُحىً لزارَ بلا رُقاد
وله من قصيدة أوّلها أنشدني التاج البلَطيّ قال أنشدني أبو القاسم بن المارنك الصائغ المَوصليّ، قال أنشدني ابن دبيس:
ما ساعَفَتْكَ بطيفها هِندُ ... إلاّ لكي يتضاعفَ الوَجْدُ
منها في مدح سعد الدولة أخي شرف الدَّولة مُسلِم بنِ قريش:
والوَجْدُ يَنْمى في الفؤاد كما ... يَنمى بسعد الدَّولة السَّعد
ومنها:
أُنظُرْ إلى الأَب في العشيرة من ... طرَفٍ ومن طرَفٍ مَنِ الجَدُِ
وكانت أُمُّه بنتَ السُّلطان. قيل إنَّه لمّا أنشدَ نصف هذا البيت فقال الأمير وسبقه: ومِنْ طرَفٍ مَنِ الجَدُّ.
الرئيس علي بن الأعرابي المَوصلي
ذكره مجد العرب العامري، وقال: شعَرَ، على كِبَر، وتقع له أَبيات نوادر في الهجو، تخلو من الحشو واللَّغو، وتسقى من الكدر لسلاستها الصفوَ، ويَطلب مَنْ قيل فيه منه العَفوَ، فمنها ما أَنشدني الأمير مجد العرب العامري بأصفهان لابن الأعرابي المَوصلي في الشاعر البغدادي المعروف بحَيْصَ بَيْص، وهو يَنسِبُ نفسه إلى تميم، وعادتُه يتبادى في كلامه وزيِّه. ولا يستحق الأمير أبو الفوارس ابن الصَّيفيّ هذا فإنّني ما رأيت أكمل أدباً منه، ولكن ما زالت الأشراف تُهجى وتمدح:
كمْ تَبادَى وكمْ تُطَوِّلُ طُرطو ... رَكَ، ما فيكَ شعرةٌ من تميم
فكُلِ الضَّبَّ وابْلَعِ الحنظَلَ الأَخْ ... ضَر واشْرَبْ ما شئتَ بَوْلَ الظَّليمِ
ليس ذا وجهَ من يُجير ولا يقْ ... ري ولا يدفع الأَذى عن حَريمِ
قال مجد العرب: وله في بعض الصّدور يهجوه في زمان أتابك زَنكي:
قالوا: أَتؤمن بالنّجوم، فقلتُ: لا ... بأبي المحاسِنِ كُذِّبَتْ في العالَم
اختارَ طالِعَهُ فسوَّدَ وجهَه ... فيه وأفسدَ فيه أمر الصّارمِ
ذكر أن الذي هجاه كان وزيراً للملك في تلك البلاد، والصارم كان مُشرِفاُ للملك.
وأنشدني الأمير أُسامة بن منقذ أنشدني العلَم الشاتاني له في ابن أفلَح الشاعر:
قد بُلِيَ في زمانه بعُلوجٍ ... يعتريه في حُبِّهِمْ كالجُنون
كلَّ يومٍ له طَواشٍ جَديدٌ ... وغلامٌ يجرُّه من أَتون
وله في الشيب:
رُسلُ الحِمام حَمائمٌ بِيضُ بدَتْ ... من بين خافِيَةِ الغُراب الأَسودِ
قال الشاتاني: قرأت عليه الأدب. توفي سنة سبع وأربعين.
الشيخ مَرْزَكَّة
واسمه زيد، من قرية عبيد، من نواحي المَوصل، كذا ذكره غير واحد ممَّن كان في مكتبه، وقيل اسمها: عين سُفتى، قال الشاتاني: قرأت عليه الأدب.
أنشدني له رجل جنديّ يقال له الأمير علي الشاميّ في عَقر الصّعيد من نواحي سامي مَيسان عند ابن الملك ابن قطيرا، وأنا مُصعِدٌ إلى واسط في أوائل ذي الحجة سنة تسع وأربعين وخمسمائة:
يا عَزّ أينَ من الجفون رُقادي ... ولهيبُ نار الشوق حَشْوُ وِسادي
كم يعذلوني في هواكِ، عدِمْتُهمْ ... إنَّ العواذل فيكِ من حُسّادي
لا ضيرَ إنْ ظَفِرْت أُمّيَّةُ مرَّةً ... فالركب يعثُرُ فيه كلُّ جواد
دنيا تكاثرَ غَدرُها حتى لقد ... وثبت ثعالبها على الآساد
ومنها:
إنّي بدون الطَّيفِ منكِ لَقانعٌ ... ولو انُّ طيفك مُخلِفٌ ميعادي
قالت وقد رأت المشيبَ بلِمَّتي ... والليلُ فاجأه صباحٌ بادي
قدِّم لنفسِكَ ما تُسَرُّ به غداً ... فالموتُ يطرقُ رائح أو غاد
فأجبتُها إنّي تمسَّكتُ التُّقى ... حُب الوصيِّ فنعمَ عُقبى الزَّاد
وله ما يبرهن به على غُلوِّه في مذهبه في التشيُّع:
أَيُّ أَجرٍ للدَّمع والأَنفاسِ ... ووقوفي بالأربُع الأدراس

وارتياحي إلى الغزال وقد ما ... رَسَ منه الرَّدى أَشَدَّ مِراس
لَيقومَنَّ للشريعة هادٍ ... قاصمٌ للعدى شديد الباس
قُرَشِيٌّ لا من بني عبد شَمْسٍ ... هاشميٌّ لا من بني العبّاس
فاطِميُّ النِّجار من آل موسى ... قد حوى العلمَ كالجبال الرواسي
ملأ الأرضَ عدلُهُ بعد ما طه ... رها من مظالم الأرجاس
في وَلاكُمْ يا آل بيت رسول ال ... لَّهِ صارمتُ مَعشري وأُناسي
حُبُّكُم غايةُ الثواب وما في ... ثَلْبِ مَنْ سَنَّ بُغضَكُم من باس
وله:
ما آن يا قلب لي أن أتوبُ ... وقد علا رأْسِيَ المَشيبُ
إذا شبابُ الفتى تَقضَّى ... فالموت من بعده قريب
كلُّ سَقامٍ له طبيبٌ ... وما لما حلَّ بي طبيبُ
أُنكِرُ حُبّي لكم وما إنْ ... يُنكَرُ أَنْ يُعْبَدَ الصّليبُ
قد اقتسمنا على سواءٍ ... فلا تقولوا ولا نُجيبُ
خُذوا يزيداً لكم وشَمرا ... فما لنا فيهما نصيب
نصيبُنا كلُّه عليٌّ ... الفاضل السيِّدُ اللَّبيب
وله في مرثِية أهل البيت عليهم السلام:
سقى منزلَ الأحباب حيث أقاموا ... دموعٌ متى ضَنَّ الغَمامُ سِجامُ
فلَهفي لِبَدرٍ ما استتَمَّ وإنَّما ... نصيبُ الكُسوفِ البدرُ وهو تمامُ
فمالوا عليه مَيلةً جاهليَّةً ... أماتوا به الإسلامَ وهو غلام
فلولا بكاءُ المُزن حُزناً لفَقدِه ... لما جادَنا بعد الحسين غَمامُ
ولو لمْ يَشُقَّ جِلبابه أسىً ... لما انفكَّ عنّا مُذْ فُقِدْتَ ظلام
أَلا ما لِلَيلي لا انجِلاءَ لِصُبْحِه ... وما لِجُفوني لا تكادُ تنام
وما لفؤادي صار للهَمِّ مأْلَفاً ... أَسىً، أَعليه للسرور لِثامُ
وله من قصيدة يستطرد بخلافة أبي بكر رضوان الله عليه:
وإذا لزِمْتَ زِمامَها قَلِقَتْ ... قَلَقَ الخلافة في أبي بكر
لقد أبطل في قوله، فإنَّ أبا بكر أزالَ قلقَها، وأنار أُفقها، وطبَّق العدلَ مغربها ومشرقها.
البديهي المَوصليّ
له في الوزير أبي شجاع وقد استُوزِرَ بعد ابن جَهير:
ما اسْتُبدِلَ ابنُ جَهيرَ في ديوانهمْ ... بأبي شُجاعَ لرِفعةٍ وجلال
لكن رأَوْهُ أَشَحَّ أهلِ زمانهمْ ... فاستوزروه لحِفظ بيت المال
نباتة الأعور الأُبري
من الموصل. رجلٌ أُمِّيٌّ بارزِيّ، من بني عم شرف الدَّولة ابن قريش، خبيث الهجو مرهوب الشَّباة. أنشدني له بعض أصدقائي من واسط يهجو علَوِيّاً من حلب:
شريفٌ أصله أصلٌ حميدٌ ... ولكن فِعلُه غير الحميدِ
ولم يخلُقه ربُّ العرش إلاّ ... لتنعطف القلوب على يزيد
وله في ابن خميس:
أقبلْتَ والأيّامُ راجعةٌ ... ووَلِيتَ والبلوى لها سبَبُ
ما صِرْتَ رأْساً يُستقادُ به ... إلاّ وعند المَوصل الذنب
وكان بهاء الدين الشَّهرزوري بفَرْدِ عَيْنٍ، فقال فيه:
وما جمعَتْ بيننا شَهرَزور ... ولكن بالنظر الفاسد
وله وقد عُزِل أحد بني خميس ووُلِّي أخوه:
علَوتُمْ يا بني خميسٍ ... وكنتمُ في الحضيض أَسفلْ
وسُسْتُمُ النّاسَ بعدَ وهْنٍ ... كأَنَّما اللهث قد تحوَّل
إن كان لا بدَّ من خرابٍ ... فالبومُ أولى بها وأجمل
عسى بردّ المعين يأْتي ... زماننا والأمير يفعل
ولنباتة يهجو بعض رؤساء الموصل:
فكم في سُكُفّات الفتى من مُضيَّعٍ ... إذا ما مشى من فوقها صَرَّتِ النَّعلُ
ولو سأل القرنانُ حيطانَ داره ... لجاوبه من كل زاوية نَغْلُ
وذاكَ فُضولٌ كان منّي وِخِفَّةٌ ... أَغارُ على من لا يغار لها بعلُ
ولنباتة يخاطب نقيب العلويين بالموصل:

رُدَّ الميازيبَ يا ابن فاطمة ... فقَلْعُها والمُكبّ في النّار
واغضبْ لها كالإمام حيدرةٍ ... لعمّه بالمهنّد القاري
إلاّ جحَدنا يومَ الغدير وقلْ ... نا إنّما الحق ليلة الغار
ومال مثلي إلى عتيق وأن ... كرتُ عليّاً بكلِّ إنكار

القاضي المرتضى
أبو محمد عبد اله بن القاسم بن المظفر بن علي بن الشهرزوري والد كمال الدين والقضاة الشهرزورية. القاضي من أهل الموصل، أحد الأئمة المشهورين، والفضلاء المذكورين، له شِعرٌ راقٍ ورَقَّ، معناه جَلَّ ودقَّ، مليح الوعظ، فصيح اللفظ، حسنُ السَّجع، لطيف الطَّبع، فاضلٌ عالم، من كلِّ ما يشين سالم، عبارتُه في شِعره عبرَت الشِّعرى العَبور، ورقَّته في نظمه أَصْبَتِ الصَّبا ورمت بالإدْبار الدَّبور، ضاعَ عَرفُه وما ضاع، وشاع فضله وذاع، له الخاطر المُطيع، القادر المُستطيع، قاضٍ قُضِيَ له بالفضل الوافر، وحاكمٌ حُكِمَ له بفطنة الخاطر، مرتضىً كلقبه، ما حواه من أدبه، كان يعظ ويحكم، وينثر وينظم. ووجدت من كلام القاضي المرتضى أبي محمد الشهرزوري رسالة سلك بها مسلك الحقيقة، وسبق أهل الطريقة، مشحونةً بأبياتٍ في رِقَّة السَّلسل والشَّمول، ودِقَّة الشَّمأَل والقَبول، فمنها قوله:
بدا لكَ سِرٌّ طال عنكَ اكتِتامُهُ ... ولاح صباحٌ كان منكَ ظلامهُ
فأنتَ حجاب القلب عن سِرِّ غيبهِ ... ولولاكَ لم يُطبَع عليه خِتامُه
وإن غِبتَ عنه حلَّ فيه وطنَّبَتْ ... على مَنكِب الكشف المَصون خِيامُه
وجاء حديثٌ لا يُمَلُّ سماعُهُ ... شهيٌّ إلينا نثرُه ونظامهُ
وقوله:
أهوى هواه وبعدي عنه بُغيَتُهُ ... فالبعدُ قد صار لي في حبِّه أرَبا
فمن رأَى دَنِفاً صَبّاً أخا شجَنٍ ... ينأَى إذا حِبُّه من أرضه قَرُبا
وقوله:
وجالتْ خيولُ الغَدر في حَلبة الهجرِ ... وفي شُعَبِ النُّعمى كمينٌ من المكرِ
وجاءت على آثار ذاك طلائع ... من الصدّ نحو القلب قاصدةً تجري
فعاودتُ قلبي يسأَل الصبر وقفةً ... عليها، فلا قلبي وجدتُ ولا صبري
وغابت شُموسُ الوصل عني وأظْلَمَتْ ... مسالكُهُ حتّى تحيَّرتُ في أمري
فما كان إلاّ الخطف حتّى رأَيتها ... محَكَّمةً والقلبُ في رِبْقَةِ الأَسْر
وقوله:
وناح غرابُ البين في مأْتَمِ الهَجرِ ... ورقَّقَ حتّى شَقَ أثوابَه صَبري
وبانوا فكم دمعٍ من الأسر أطلقوا ... نَجيعاً وكم قلبٍ أعادوا إلى الأسْر
فلا تُنكِرا خَلعي عِذاري تأَسُّفاً ... عليهم فقد أوضحتُ عندكمُ عُذري
وقوله على لسان الهوى للنفس وأعوانها، وينهاها عن طاعة هداها ويأْمرها باتّباع شيطانها:
كم عابدٍ في صَوْمَعَهْ ... أَخليتُ منها مَوضِعَهْ
وخدَعْتُه من بعدِ أَنْ ... قد ظنَّ أن لن أَخدعه
صارعتُه فأَرَيْتُه ... قبلَ التَّصادُمِ مَصرَعَهْ
وسلبتُهُ أحوالَهُ ... وأَخذتُ أَنْفِسَ ما معه
وتركتُه في حَيرَةٍ ... وحبسْتُ عنه أَدْمُعَه
وأَتى الصُّدودُ فبزَّهُ ... ثوبَ الوِصال وخلَّعَهْ
واجتاحَ حبلَ رجائه ... من بعد ذاكَ وقطَّعه
فتقبَّلوا نُصحي لكم ... واستفرغوا فيه السَّعَهْ
فعدُوُّكم لا يستري ... حُ فجانِبوا معه الدَّعَهْ
وقوله:
يا قلبُ هل يرجع دهرٌ مضى ... يجمعنا يوماً بوادي الغضا
وباجتماع الشَّمل يقضي لنا ... من كان بالبين علينا قضى
فتصبحُ الآمالُ مُخضَرَّةً ... فيهم وقد هبَّ نسيمُ الرِّضا
ويرجع الوصل إلى وَصلنا ... ويصبح الإعراضُ قد أَعرضا
وقوله:
مالوا إلى هجرنا ومَلُّوا ... ومِنْ عُقود العهود حَلُّوا

وكلَّما قلتُ قد تدانَوا ... شَدُّوا على العِيس واستقلّوا
فقال مَن منهمُ جَفانا ... واعتاضَ عنّا؟ فقلتُ: كُلُّ
قد حرَّموا وصلَهم علينا ... واستعذبوا الهجر واستحلُّوا
وقوله جواباً لمن ذكر أنه قال له: متى عهدك بقلبك؟:
فقلتُ عهدٌ بعيدُ ... قدَّرْت وهو جديدُ
والصَّبر يَنقصُ مُذْ با ... نَ والبلاءُ يزيد
وليس في الأمر أَنّي ... أَشْقى وأَنْتَ سعيدُ
وقوله:
حلفتُ بربِّ البيتِ والرُّكن والحِجْرِ ... لئن قدِم الأحبابُ من سفَر الهَجر
وعادوا إلى الإخلاص والصِّدق والصفا ... وحالوا عن الإعراض والصَّدِّ والغدر
وجاء نسيمُ الاختصاص مُبشِّراً ... تلقيتُهُمْ حَبواً على الخَدِّ والنَّحْر
ومرَّغتُ وجهي في التُّراب تذلُّلاً ... وقبَّلْتُ أَخفافاً بهم نحونا تسري
وأنشدتهم بيتاً قديماً نظمْتُهُ ... وأخفيتُهُ خوفَ الأجانب في سرّي
إذا أنا لم أخلعْ عِذارِيَ فَرْحَةً ... بقُرْبِكُمُ أَهل الوفاء فما عُذري
وقوله:
وافى النَّسيمُ بنفحةٍ ... نَشِطَتْ فؤادي من عِقال
مِسْكِيَّة أنفاسها ... تُهدي الذَّكاءَ إلى الغوالي
واستعْجَمَتْ أَخبارُها ... فسألت أصحابي وآلي
عنها فحاروا في الجوا ... بِ وما شَفَوا قَرَمَ السُّؤال
فسأَلتُهُمْ لمّا رأَيْ ... تُ حجابهم عمّا بدا لي
هَمَّ الحبيبُ بأنْ يزو ... رَ فهذه ريحُ الوِصالَ
وقوله على لسان القلب حين نَشِطَ من عِقاله، فقال بلسان حاله:
قد فكَّ عنّي كلَّ أغلالهِ ... وحطَّ عنّي كلَّ أَثقاله
وجادَ بالفضل الذي لم يزل ... يخُصُّ مَن شاءَ بأَفضالهِ
وقابلتْنا بعدَ ما أَعرَضَتْ ... واحتجبَتْ أَوجُهُ إقبالهِ
وانقرضت دولة أعدائهِ ... وعاودَ الملك إلى آلهِ
وصارَ مَن أَوحَشَهُ يأْسُهُ ... مُبتهجاً في أُنْسِ آماله
وقوله:
كبِدَ الحسودُ تقطَّعي ... قد باتَ مَن أهوى معي
عادتْ حِبالُ وِداده ... موصولةً فتقطَّعي
ونثرتُ يومَ وِصالهِ ... مخزونَ ما أبقى معي
ما كان لي من شافعٍ ... إلاّ الغليل وأدمُعي
قابلتُ قِبلة عِزِّه ... بتذَلُّلي وتخضُّعي
فأجابني بتلطُّفٍ ... وتعطُّفٍ يا مُدَّعي
إنَّ المُحِبَّ جوابُهُ ... خَلعُ العِذارِ إذا دُعي
وقوله:
قد رجعنا إلى الوفا ... ومضت مدَّة الجَفا
والذي كدَّر الصّدو ... دُ مِنَ الوصل قد صَفا
سُخطكمْ كان عِلَّتي ... ورضاكمْ هو الشِّفا
أرشدوني بنظرةٍ ... قد سئمنا التَعسُّفا
وقوله:
ومسرِفَةٍ في اللوم قلتُ لها مهلاً ... أفيقي فما عندي للائِمَةٍ أَهلا
جزِعْتُ بأن فارقتُ قوماً أَعِزَّةً ... عليَّ وأوطاناً تأَلَّفتُها طِفلا
ولو علمتْ مَن ذا تبدلت عنهمُ ... لكانت بهذا اللوم لائمتي أولى
تعوَّضْتُ عن فانٍ بباقٍ لأنّني ... رأيتُ رشاداً تركيَ العبد للمولى
وقوله:
صُدودٌ ما لهُ أَمَدُ ... وصَبٌّ ما له جلَدُ
وقلبٌ بالظَّما كَلِفٌ ... يرى ماءً ولا يرِدُ
كئيبٌ مُكمَدٌ دَنِفٌ ... بمن ما مسَّه كَمَدُ
إذا ما رام لي حرباً ... فأعضائي له عُدَدُ
ولا يدنو ولا ينْأَى ... ولا يُجدي ولا يَعِدُ
فيوماً نحن في سِلْمٍ ... ويوماً حربُنا تَقِدُ
ويوماً وصلُنا خُلَسٌ ... ويوماً هجرُنا مددُ

فلا وصلٌ ولا هجر ... ولا قربٌ ولا بعدُ
وقوله:
بقلبي منهمُ عُلَقُ ... ودمعي فيهمُ عَلَق
وعندي منهمُ حُرَقُ ... لها الأحشاءُ تحترق
ونحن ببابهم فِرَقُ ... أذابَ قلوبَنا الفَرَقُ
وما تركوا سوى رمَقٍ ... فليتهمُ له رمَقوا
فلا وصلٌ ولا هجرٌ ... ولا نومٌ ولا أرَقُ
ولا يأْسٌ ولا طمَعٌ ... ولا صبرٌ ولا قلَقُ
فليتهمُ وإن جاروا ... ولم يُبقوا عليَّ بقوا
فأفنى في بقائهمُ ... وريحُ مودَّتي عبِقُ
كمثل الشَّمع يُمْتع مَن ... يُنادمُهُ ويَمَّحِقُ
أنشدني مجد العرب العامري له:
يا قلبي إلامَ لا يفيدُ النُّصْحُ ... دَعْ مَزحَكَ كم هوىً جناه مَزْحُ
ما جارحة منك خلاها جرحُ ... ما تشعر بالخُمار حتّى تصحو
ووجدت مكتوباً في جزء: أنشدنا الشيخ أبو محمد عبد الله بن القاسم بن الشهرزوري من أبيات لنفسه سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة:
قد جاءكم برداء الذُّلِّ مشتملا ... عبدٌ لكمْ مالكم مِن أسرِه فادِ
أَسكنتموه زماناً أرضَ هجركُمُ ... فتاهَ فيها بلا ماءٍ ولا زادِ
وظلَّ من وَحشة الإعراض مُختبِطاً ... في ظلمة الصّدِّ من وادٍ إلى وادِ
قتلتموني وأنتم أولياءُ دمي ... فمن يطالب والفادي هو العادي
ووجدتُ في مجموعٍ له:
وما رحلوا إلاّ وقلبي أمامَهمْ ... وما نزلوا إلاّ وكان لهم أرْضا
يميلوا إليهم حيث مالوا فإنَّه ... يرى طاعةَ المحبوب في حبِّه فرضا
وذكره أبو سعد السمعاني المروزيّ في مصنّفه فقال: أنشدني أبو طالب محمد بن هبة الله الضَّرير المَوصلي قال: أنشدني عبد الله بن القاسم الشّهرزوريّ لنفسه:
مُعلِّلَتي بالوصل طال ترَقُّبي ... أَريحي بيأْسٍ فالرَّجاءُ مُعذِّبي
ولا تخدعيني بالأماني فطالما ... أطلتِ ظَمائي ثمَّ كدَّرتِ مَشرَبي
تريدين قطعي بالوصال، وجفوةٌ ... مع الودِّ أحظى، فاثبتي وتجنّبي
فإنَّ الجفا والهجر ليس بضائرٍ ... إذا هو أبقى موضعاً للتَّعَتُّبِ
قال: وأنشدنا أبو طالب الضرير أنشدني عبد الله بن القاسم لنفسه:
شكوتُ إليها ما بقلبي من الجَوى ... فقالتْ: وهل أبقى الفراق له قلبا
فقلتُ: فلو نفَّسْتِ عنّي كربةً ... بقربِكِ قالت: ذاك يُغري بك الكربا
فقلتُ: انصفي في الحبِّ قالت: تعجباً ... وهل يطلب الإنصافَ من يدَّعي الحُبّا
فقلتُ: عذابي هل له فيكِ آخرٌ ... فقالتْ: إذا ما صار مقترحاً عَذبا
فقلت: فهل لي في وصالكِ مَطمعٌ ... فقالت: إذا ما شمسنا طلعَتْ غَربا
فقلتُ: فهل من زَورةٍ يجتني بها ... ثمارَ المُنى ظمآنُ قد مُنِعَ الشُّرْبا
فقالت: إذا ما غابَ عن كلِّ مَشهدٍ ... وخاضَ حِياضَ الموتِ واستسْهَلَ الصَّعبا
وأصبح فينا حائراً ذا ضلالةٍ ... يواصلُنا بُعداً ونجرُه قربا
فحينئذٍ إن فاز مِنّا برحمةٍ ... وزارَ على عِلاّتِه زارَنا غِبّا
وقال: أنشدنا أبو طالب الضرير الموصلي: أنشدني عبد الله بن القاسم في الشمعة:
ناديتُها ودموعها ... تحكي سوابق عَبرتي
والنارُ من زَفَرَاتها ... تحكي تلهُّبَ زَفْرَتي
ماذا التنحُّبُ والبكا ... ءُ فأعربي عن قصّتي
قالت: فُجعتَ بمن هَوِيتُ فمِحْنتي من مِنْحتي
بالنار فُرّق بيننا ... وبها أُفرّق جملتي
وقال: أنشدنا أبو طالب الضرير: أنشدني عبد الله ابن القاسم لنفسه في الشمعة:
إذا صال البلا وسَطا عليها ... تلقَّتْه بذُلٍّ في التَّواني
إذا خضعت تُقَطُّ بحُسْن مَسٍّ ... فتحيا في المَقام بلا تَوانِ

كأنّي مثلها في كلِّ حالٍ ... أموت بكم وتُحييني الأماني
وقال: أنشدني أبو عبد الله الحسين بن علي السلماني الحاسب الأنصاري: أنشدني عبد الله بن القاسم القاضي:
وا حسرتا إذ رحلوا غُدوَةً ... ولا أُرى في جملة الظاعنينْ
قد قلتُ لمّا رحلوا عِيسَهم ... يا ليتني كنتُ مع الراحلينْ
وا خجلتا إن لم أُطِقْ بَعْدَهمْ ... تَصبُّراً من نظر الشامتين
ما حِيلتي إذ حالتي بَعدَهم ... حالُ شِمالٍ فارقتها اليمين
وقال: أنشدني أبو عبد الله الحسين بن علي بن سلمان الحاسب: أنشدنا القاضي أبو محمد لنفسه:
أسكّانَ نَعمان الأراك تيقَّنوا ... بأنّكمُ في ربع قلبيَ سُكّانُ
ودوموا على حِفظِ الوداد فطالما ... بُلِيتُ بأقوامٍ إذا حُفِظوا خانوا
سلوا الليل عني مُذْ تباعد شخصُكمْ ... هل اكْتحلت بالنوم لي فيه أجفانُ
وهل جردَتْ أسياف برق دياركم ... فكانت لها إلاّ جُفونيَ أجفانُ
وقال: أنشدني أبو عبد الله السلماني الحاسب: أنشدني أبو محمد الشهرزوري لنفسه بالموصل:
يا نديمي قَرِّبِ القَدَحا ... إنَّ سُكْرَ القوم قد طفحا
اسْقِنيها من معادنها ... وَدَعِ العُذّال والنُّصَحا
قهوةً حمرا مُشَعْشَعَةً ... رقصت في كَأْسِها فرحا
لم تُدَنَّسْ بالمزاج ولو ... بُزِلت في الليل عاد ضُحى
والذي كانت تراوده ... نفسُه بالشُّحِّ قد سمحا
كان مَستوراً فحين دنا ... كَأْسُها في كفّه افْتضحا
وبالإسناد، قال: أنشدنا أبو عبد الله: أنشدني أبو محمد لنفسه:
اِشرب فقد رقَّ النَّسيمُ ... وانْعَمْ فقد راق النعيمُ
وانْظُرْ فقد غَفَلَ الرَّقيبُ ونام وانتبه النديمُ
واسْمح بما في راحَتَيْك وجُدْ فقد سَمح الغريمُ
وقال: أنشدنا أبو بكر محمد بن القاسم بن المظفّر الشهرزوري بالموصل: أنشدنا أخي أبو محمد عبد الله لنفسه:
ولائمةٍ لي على ما ترى ... بقلبيَ من غمرات الهمومِ
رويدك إنّ هموم الفتى ... على قدر همَّته لا تلومي
وقال: أنشدني أبو الحسن سعد الله بن محمد بن علي المقري لأبي محمد عبد الله بن القاسم:
هَبَّتْ رِياحُ وِصالهم سَحَرَاً ... بحدائقٍ للشَّوق في قلبي
واهْتَزّ عُودُ الوصلِ من طربٍ ... وتساقطتْ ثمرٌ من الحبّ
ومضتْ خيول الهجر شارِدةً ... مَطرودةً بعساكر القُرب
وبدتْ شموس الوصل خارقةً ... بشعاعها لسُرادقِ الحُجْبِ
وصفا لنا وقتٌ أضاءَ به ... وجهُ الرِّضا عن ظُلمة العَتْبِ
وبقيتُ ما شَيءٌ أُشاهدهُ ... إلاّ ظننتُ بأنّه حِبّي
وله:
جعلتُ الخدَّ قِرطاسي ... ودمعَ العين أنقاسي
وخَطّ الوجدُ بالزَّفرا ... تِ ما تُمليه أنفاسي
إلي كم أنا في الحبّ ... أُقاسي قلبك القاسي
وكم أَحْمِل ما تَجْني ... على العينينِ والراس
وكم أغرِس آمالي ... وما أجني سوى الياسِ
ذكر السمعاني أنه سمع أن القاضي أبا محمد توفي بعد سنة عشرين وخمسمائة.

أخوه:
أبو بكر محمد بن القاسم بن المظفّر بن الشهرزوري المعروف ب
قاضي الخافقين
شيخ مُسنّ محترم، وكبير محتشم، رحل إلى خراسان في أيام شبيبته، وحصّل العلم بيُمن نقيبته، ثم عاد وولي القضاء بعدة بلدان من بلاد الشام والجزيرة، ونشر بها من آدابه الغزيرة، وكان يروي الحديث النبوي، ويسمع الخبر المروي، وتوفي ببغداد في جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، كذا ذكره السمعاني في تاريخه، وقال: أنشدني لنفسه بجامع الموصل:
همّتي دونها السُّهى والزُّبانى ... قد عَلَتْ جُهدها فلا تَتَدَانى
فأنا مُتعَبٌ مُعَنَّىً إلى أن ... تَتَفَانى الأيّام أو أتفانى
قاضي القضاة بالشام
كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله

ابن القاسم الشهرزوري، سبق ذكر واله وشعره، وجلَّ أمر هذا وكبر قدره، وأقام في آخر عمره بدمشق قاضياً وواليا ومتحكماً ومتصرفاً، وهو ذو فضائل كثيرة، وفواضل خطيرة، وله نوادر مطبوعة، ومآثر مجموعة، ومفاخر مأثورة، ومقامات مشكورة مشهورةً، وله نظم قليل على سبيل التَّظرُّف والتَّطرُّف، فما أنشدني لنفسه في العلم الشاتاني وقد وصل إلى دمشق في البرد:
ولما رأيت البردَ أَلقى جِرانَهُ ... وخيَّم في أرضِ الشَّآم وطنَّبا
تبيَّنتُ منه قَفْلَةً عَلَمِيَّةً ... تردُّ شباب الدهر بالبَرْد أشيبا
وقوله:
وجاءوا عِشاءً يُهرَعون وقد بدا ... بجسميَ من داءِ الصبابة ألوان
فقال وكُلٌّ مُعظِمٌ ما رأى: ... أصابتك عينٌ؟ قلت: إنّ وأجفانُ
وقوله وأنشدنيه لنفسه بدمشق في ربيع الآخر سنة إحدى وسبعين وخمسمائة:
قلتُ له إذا رآه حَيّاً ... ولامه واعتدى جِدالا
خَفِيَ نُحولاً عن المنايا ... أَعرض عن حجَّتي وقالا:
الطيف كيف اهتدى إليه ... قلتُ: خَيالٌ أَتى خَيالا
ولي في كمال الدين قصائد، فإنَّني لمّا وصلت إلى دمشق في سنة اثنتين وستين سعى لي بكلِّ نَجْح وفتح عليَّ باب كلِّ منح، وهو يُنشدني كثيراً من منظوماته ومقطوعاته، فما أَثبتُّه من شعره قوله:
قد كنتَ عُدَّتِيَ التي أسطو بها ... يوماً إذا ضاقتْ عليَّ مذاهبي
والآن قد لوَّيْتَ عني مُعرضاً ... هذا الصدود نقيض صدّ العاتب
وأرى الليالي قد عبثْنَ بصَعدَتي ... فحَنَيْنها وأَلَنَّ منّي جانبي
وتركتَ شِلوي لليدين فريسةً ... لا يستطيع يردّ كفّ الكاسب
وقوله:
ولي كتائب أَنفاسٍ أُجهِّزُها ... إلى جنابكَ إلاّ أنَّها كتبُ
ولي أحاديث من نفسي أُسَرُّ بها ... إذا ذكرتك إلاّ أنَّها كِذبُ
ولكمال الدين الشهرزوري أيضاً:
أَنيخا جِمالي بأبوابها ... وحطّا بها بين خُطَّابها
وقُولا لخَمّارها لا تَبِعْ ... سِوايَ فإنِّيَ أَولى بها
وساوِمْ وخذْ فوقَ ما تشتهي ... وبادر إليَّ بأكوابها
فإنّا أُناس تسومُ المُدا ... مَ بأموالها وبألبابها
وقوله:
ولو سلَّمَتْ ليلى غَداةَ لَقِيتُها ... بسفح اللِّوى كادت لها النفس تخشع
ولكنَّ حزمي ما علمتُ ولُوثةُ ال ... بداوَةِ تأبى أن ألين وتمنع
ولست امرءاً يشكو إليك صبابةً ... ولا مقلةً إنسانُها الدَّهرَ يَدمَعُ
ولكنني أطوي الضُّلوعَ على الجَوى ... ولو أَنَّها مِمّا بها تتقطَّع
وقوله: سَنّنّا الجاشِريَّةَ للبرايا ... وعلَّمناهمُ الرِّطْلَ الكبيرا
وأكبَبْنا نَعَبُّ على البواطي ... وعطَّلنا الإدراة والمديرا
وقوله:
رأى الصَّمصام مُنصلتاً فطاشا ... فلمّا أن فرى وَدجيه عاشا
وآنس من جناب الطّور ناراً ... فلابسَها وصار لها فَراشا
وأنشدني كمال الدين لنفسه بدمشق في ثالث ربيع الأول سنة إحدى وسبعين:
ولقد أَتيتكِ والنُّجوم رواصدٌ ... والفجرُ وهمٌ في ضمير المَشرق
وركبت مِ الأَهوالِ كلَّ عظيمةٍ ... شوقاً إليك لعلَّنا أن نلتقي
قوله: والفجر وهمٌ في ضمير المَشرق، في غاية الحسن مما سمح به الخاطر اتِّفاقا، وفاق الكمال إشرافاً وإشراقا، وتذكَّر قول أبي يعلى ابن الهبّاريّة الشريف في معنى الصبح وإبطائه:
كم ليلةٍ بِتُّ مَطوِيّاً على حُرَقٍ ... أشكو إلى النَّجم حتى كاد يشكوني
والصبح قد مطل الشرقُ العيونَ به ... كأَنّه حاجةٌ في كفّ مسكين
يقع لي أنه لو قال: كأنّه حاجةٌ تُقضى لمسكينِ، لكان أحسن فإنَّها تمطل بقضائها. وشبَّهه كمال الدين بالوهم في ضمير المشرق وكلاهما أحسن وأجاد. وله يعرِّض بنقيب العلويين:

يا راكباً يطوي الفلا ... بشِمِلَّةٍ حَرْفٍ وَخودِ
عرِّجْ بمشهَد كرْبَلا ... وأَنِخْ وعَفِّرْ في الصعيد
واقْرَ التَّحيَّةَ وادع يا ... ذا المجد والبيت المشيدِ
أولادُك الأنجابُ في ... أرض الجزيرة كالعبيد
أوقافهم وَقفٌ على ... دَفٍّ ومِزمارٍ وعُودِ
ومُدامةٍ خُضِبَتْ بها ... أيدي السُّقاة إلى الزّنود
ودَعِيُّ بيتكَ لا يُفَكِّ ... رُ في الجحيم ولا الخلود
يَحتَثُّها وَردِيَّةً ... تُصبي النفوسَ إلى الخُدود
هو وابن عَصرونَ الطوي ... ل ويوسف النَّذل اليهودي
إن كان هذا ينتمي ... حقَاً إلى البيت المَشيد
فإلى يزيد إلى يزيدِ ... إلى يزيد إلى يزيدِ

أخوه:
شمس الدين القاسم بن عبد الله الشهرزوري
تولَّى قضاء الموصل، وكان واعظاً له قَبول، وكان له بأْسٌ على المبتدعة صؤول، توفي بعد سنة ثلاثين وخمسمائة. وتنسب إليه هذه الأبيات في معنى حُسْن الشخص ومعه والده قبيح المنظر:
آهِ ما أَقربَه لِلْ ... أُنْسِ لو كان يتيما
فإذا ما أَقبلا، عا ... يَنْتَ قُمْرِيّاً وبوما
ذا يُسلّي الهَمَّ إنْ غَنَّ ... ى وذا يُدني الهُموما
أَقضى القضاة محيي الدين أبو حامد محمد بن محمد بن عبد الله
الشهرزوري
قاضي حلب، هو ابن كمال الدين المحيي، كريم المحيا، قسيم المُحيّا، عديم المِثل، عظيم المحلّ، زاكي الأَصل، نامي الفضل، إنسان عين الشهرزوريّة، وواسطة قِلادتها، ورابطة سعادتها، ولَيْثُ خِيسِها، وأَسد عِرِّيسها، ومُشتري سعدِها، ومشتري حمدها، وعُطارد عطائها، وقمر سمائها، وشمس أوجها، ونجمُ بُرجِها، طَوْد الحِلم، وخِضَمّ العلم، وقُسّ الفصاحة، وقيس الحَصافة، وبحر السّماحة، وعمرو الحماسة، ما رأيت أكرم طبعاً منه، ولا أعدى نفعا، ولا أجدى جَدا، ولا أندى يدا، ولا أنبل قدراً، ولا أنبه ذِكراً، ولا أَورى زَنْداً في الجود، ولا أروى وِرداً للوفود، علمه حالٍ بالعفاف، وفضله كامل الأوصاف، وذكاؤه ذكاء أفق التوفيق، وسَهم فهمه سَديد المَرْمَى صائب التَّفويق، له النَّظم الرّائق، والنَّثر المُوافق، واللفظ السهل، والمعنى البِكر، هو قِرْني، وفي سِنّي، مولده سنة تسع عشرة وخمسمائة سنة مولدي، ومَورده في طلب العلم موردي، اجتمعنا ببغداد في المدرسة النّظاميّة سنة ست وثلاثين شريكين في الفقه موسومين بالإعزاز، عند شيخنا ابن الرزَّاز، ثم فرَّق بيننا الدهر إلى أن وافقته في الحجِّ سنة ثمان وأربعين، فلقيت منه الأخ المعين، ثم لم ألقه إلاّ سنة اثنتين وستّين، عند حصولي بالشام، لعوادي الأيّام، فانتظمت في سلك خدمة نور الدين إلى آخر أيّامه، وهو مقيمٌ على قضائه وإعلاء أَعلامه، وإحكام أَحكامه، لازِمين داره بحاضر حلب شهراً بعد وفاة نور الدين، سنة سبعين، فراقتني خلائقه، وأطربتني شمائله، وهزَّتني فواضله، وأنشدني له شِعراً كثيراً لم أُثبت منه إلاّ ما أَوردتُه، وهو من قصيدة يتشوَّق فيها إلى دمشق:
يا نسيمَ الصَّبا العليل تحمَّل ... حاجةً للمتيَّم المُستهام
عُجْ على النَّيربَيْنِ فالسَّهم فالمِزَّ ... ةِ مسترسلاً بغير احتشام
ثم عرِّجْ من بيت لِهْيا على مَقْ ... رى فَسَطْرا من قبل سَجْع الحَمام
وتعثَّر بكلِّ روضٍ أَنيقٍ ... ضاحكِ الزَّهر من بُكاء الغمام
وتحمَّل رَيّا البنفسج والنَّر ... جِسِ والضَّيمَرانِ والنَّمام
والخُزامَى والأُقحوان وأَنفا ... سَ الغواني معاً ونَشر المُدام
وتتبَّع مساحِبَ المِرْطِ مِنْ لَمْ ... ياءَ واقصد مواقع الأقدام
وتأَرَّجْ بالمَندَل الرَّطب من مَسْ ... قَط تلك الأذيال والأَكمام
ثمَّ قبِّل ثرى دمشق وبلِّغ ... ساكنيها تحيَّتي وسلامي

وتحدَّث عن لوعتي بلسان الْ ... حالِ إن لم يكن لسان الكلام
صِفْ لهم دمعيَ الطليق وقلبي الْ ... مُوثَقِ الأسر من غريم الغرام
وبكائي على الليالي التي نِلْ ... تُ الأَماني فيهنَّ والأَيّام
حيث شَملي بكم جميعاً ودمعي ... نازحٌ عن وساوس اللُّوَّام
وعِناني في قبضة اللَّهو لا يثْ ... نيه لاحٍ عن شوطه وزِمامي
ورمتْنا يدُ الزَّمان بقوسِ الْ ... غَدر من جُعبة النّوى بسهام
فكأنّا بعد التَّفرُّق كنّا ... من عوادي الأيّام في أحلام
وقوله أملاه عليَّ أيضاً:
أَيُّها المغرور بالدُّنْ ... يا تَيَقَّن بالزَّوال
وتأهب لِمَسيرٍ ... عن ذَراها وانتقال
كيف تغترُّ من الآ ... مالِ بالوعد المُحال
والذي تثبتُه الآ ... مالُ تمحوه اللَّيالي
إنَّما حَظُّكَ إنْ فكَّ ... رتَ منها في المآل
مثل حظِّ العاشق المه ... جور من طيف الخيال
وله جيميَّةٌ أوَّلها:
خليليَّ قد غنّى الحَمامُ وهزَّجا ... وأسملَ جِلبابُ الظَّلام وأَنهجا
وله:
ولمّا أن بلِيتُ بناس سوءٍ ... سُرورُ نفوسِهم حُزني وهَمِّي
فمِن خِلٍَّ يُراوِحُني بخَلٍّ ... ومِن عَمٍّ يغاديني بغَمِّ
أَنِسْتُ بوَحدتي ولزمت بيتي ... بقصدي واختياري لا برغمي
ولولا العارُ ما عجَّزْتُ نفسي ... ولا قصَّرت عنهم باع عزمي
ولكنّي إذا كَرُّوا بجهلٍ ... عليَّ إذن لقيتُهمُ بحِلم
وله:
لا تحسبوا أني امتنعتُ من البُكا ... عند الوداع تجلُّداً وتصبُّرا
لكنَّني زوَّدت عيني نظرةً ... والدَّمع يمنع لحظَها أن ينظُرا
إن كان ما فاضتْ فقد أَلْزَمْتُها ... صِلَةَ السُّهاد وسِمتُها هَجر الكرى
وله:
أَحبابنا سِرتم بروحي وهل ... يبقى بغير الرُّوح جثمانُ
أَوحشتُمُ الدُّنيا لعيني فما ... يَحلى بإنسانيَ إنسانُ
أحبابنا ما الدّارُ من بعدكمْ ... دارٌ ولا الأوطان أَوطان
ليس عجيباً جزَعٌ إنَّما الْ ... عجيبُ أن أبقى وقد بانوا
لو فارقوا الجنَّةَ معْ حُسنِها ... ماتَ من الوَحشة رِضوانُ
وله يودِّع بعض إخوانه:
أَيُّها الرّاحلُ الذي ليس يُرجى ... لِهواه عن رَبعِ قلبي رحيلُ
إن تبدَّلت بي سوايَ فإنّي ... ليس لي ما حييتُ عنك بديلُ
ليَ أُذن حتى أُناجيك صمّا ... ءُ وطَرفٌ حتّى أراكَ كليلُ
وله من قطعةٍ:
جاد لي في الرُّقاد وهْناً بوَصلٍ ... أنشطَ القلبَ من عِقال الهُموم
وجفاني لمّا انتبهتُ فما أقْ ... رَبَ ما بين شِقوتي ونعيمي
نُبَذٌ من شِعرِه في التوحيد والسنة. قال:
قامتْ بإثْباتِ الصفات أَدِلَّةٌ ... قصمَتْ ظُهورَ أَئمَّة التَّعطيل
وطلائعُ التَّنزيه لمّا أقبلَتْ ... هزمَتْ ذوي التشبيه والتمثيل
فالحقُّ ما صِرنا إليه جميعُنا ... بأدلَّة الأخبار والتَّنزيل
من لم يكن بالشَّرع مُقتدياً فقد ... ألقاهُ فَرطُ الجهل في التضليلِ
وقال في مدح الصحابة:
لائمي في هوى الصّحا ... بة إِرجِع إلى سَقَرْ
لا بلغتَ المُنى ولا ... نِلْتَ من رِفضِكَ الوَطَرْ
كيف تنهى عن حبِّ قو ... مٍ همُ السمع والبصر
وهم سادةُ الوَرى ... وهم صفوة البشر
فأبو بكرٍ المُقَدَّ ... مُ من بعده عمر
ثمّ عثمان بعده ... وعليٌّ على الأثَرْ
أَيُّها الرَّافِضِيُّ حسْ ... بُكَ فالحقُّ قد ظهر
وقال فيهم:

شُموسٌ إذا جلسوا في الدُّسوتِ ... بدورٌ إذا أظلمَ القسطلُ
غُيوثٌ إذا ضَنَّ قطر السماء ... ليوثٌ إذا زحفَ الجَحفلُ
فكلُّهُمُ سادةٌ للأنامِ ... ولكن أبو بكرٍ الأفضل
وكلّهم صحبوا المصطفى ... ولكن أبو بكرٍ الأَوَّلُ
وله في التنزيه:
أَقسمتُ بالمبعوث من هاشمٍ ... والشافع المقبول يوم الجِدالْ
ما ربُّنا جِسمٌ ولا صورةٌ ... موصوفةٌ بالميل والإعتدال
وهْو على العرش اسْتوى لا كما ... تستوطن الأجسامُ فوق الرّحال
نزوله حَقٌّ ولكنَّه ... مقدَّسٌ عن رحلةٍ وانتقال
وما له قَطُّ انفصال عن الْ ... شيءِ ولا بالشيء منه اتِّصال
هذا هو الحقُّ وما قاله الْ ... مُشْبِهِيُّ الغِرُّ عين المُحال
ومن يقلْ: لله في خلقه ... مثلُ فقد جاوزَ حدَّ الضَّلال
وقال في المعنى:
عَزَّتْ مَحاسنه فجَلَّ بها ... في الوصف عن شِبهٍ وعن مِثلِ
نطقَ الجمالُ بعذر طالبه ... فانكفَّ عاذلُه عن العذل
مَن ظنَّ أنَّ اللهَ يجمعُه ... قُتْرٌ أَحال أَدِلَّةَ العقلِ
أو قال إنَّ الله يشبههُ ... شيءٌ فذلك غاية الجهل
هذا الصراط المستقيم فمن ... يَسلكْ سِواه يَضِلُّ في السُّبْلِ
وتوفي كمال الدين الشهرزوري يوم الخميس سادس المحرَّم سنة اثنتين وسبعين بدمشق عن ثمانين سنة، وولده محيي الدين أبو حامد بحلب قاضيها فعمل في والده مرثية:
أَلِمُّوا بسَفحَيْ قاسيون فسلِّموا ... على جدثٍ بادي السَّنا وترحَّموا
وأدُّوا إليه عن كئيبٍ تحيّةً ... يكلِّفكمْ إهداءَها القلب لا الفمُ
وبالرَّغم منّي أن أُناجيه بالمُنى ... وأسأل مع بعد المدى من يسلِّمُ
ولو أنَّني أَسطيع وافيتُ ماشياً ... على الرّأسِ أَسْتاف التُّراب وأَلْثِمُ
لحا الله دهراً لا تزال صروفه ... على الصِّيد من أبنائه تتغَشْرَمُ
إذا ما رأَينا منه يوماً بشاشةً ... أتانا قُطوبٌ بعدها وتجهُّمُ
وهل يطلب الإنصاف في النّاس حازمٌ ... من الدهر وهو الظالمُ المُتحكِّمُ
ومَن عرفَ الدُّنيا ولؤمَ طِباعِها ... وأصبح مُغترّاً بها فهو ألأمُ
تُرَدِّيكَ وَشياً مُعلَماً وهو صارمٌ ... وتُوطيكَ كفّاً رَخصةً وهي لَهذَمُ
وتُصفيك ودّاً ظاهراً وهي فاركٌ ... وتُسقيك شَهداً رائقاً وهو علقَمُ
فأين ملوكَ الأرضِ كسرى وقيصرٌ ... وأين قضى من قبلُ عادٌ وجُرهُمُ
كأَنَّهم لم يسكنوا الأَرضَ مرَّةً ... ولم يأمروا فيها ولم يتحكَّموا
سلبتَ أباً يا دهر منّي مُمدَّحاً ... وإنِّيَ إنْ لم أَبكِه لَمُذَمَّمُ
وقد كان من أقصى أمانيَّ أنّني ... أُجَرَّعُ كاساتِ الحِمام ويسلَمُ
سأُنسي الورى الخنساءَ حُزناً وحسرةً ... ويخجل مني في البكاء مُتمِّمُ
لقد رجع الشُّمّات عنّي وكلُّهمْ ... بنار أسىً بين الحَشا تتضرَّمُ
وحَسبُكَ من رزءٍ يحِلُّ حُلوله ... بمَنْ كان يهوى أن يراه ويَعظُمُ
فيا ساكناً قلبي ودون لقائه ... مسافةُ بعدٍ حدُّها ليس يُعلَمُ
وقفت عليكَ الحمدَ بعدَك والثَّنا ... يُنثَّرُ ما بين الورى ويُنظَّمُ
لقد عدمت منك البريَّة والداً ... أَحَنَّ من الأُمِّ الرَّؤوم وأرحمُ
وكلُّهُمُ مثلي عليك محرَّقٌ ... وباكٍ ومسلوب العزاء ومُغرَمُ
ولا سيَّما إخوانُ صِدقٍ بجلَّقٍ ... همُ في سماء المجد والجود أنجمُ

وليس عجيباً شُكرُهُمْ لك بعد ما ... فَضِلَتْ عليهم بالنَّدى وهمُ هُمُ
وما زلتَ فيهم مُذْ وَلِيتَ عليهمُ ... تُفِذُّ أياديكَ الجِسام وتُتْئمُ
وكم ليلةٍ فيها سهرتَ لحفظِهمْ ... وهم عنكَ في خَفضٍ من العيش نوَّمُ
نشرتَ لواءَ العدل فوق رؤوسهم ... فما كان منهم مَن يُضامُ ويُظلَمُ
لقد عظُمَتْ بالرّغم فيك مصيبتي ... وإنَّ صوابي لو صبرتُ لأعظمُ
وكيفَ أُرَجّي الصَّبرَ والقلبُ تابع ... لأمر الأسى فيما يقول ويحكم
وما الصبرُ إلاّ طاعةٌ غير أَنَّه ... على مثل رزئي فيك وِزرٌ ومّأْثَمُ
وإنّي أرى رأْيَ ابنَ حمدان في البكا ... أَصاب سواءَ الحقِّ واللهُ أعلمُ
أرَدِّدُ في قلبي مع النّاس نظمَه ... وفي خَلوتي جهراً به أترنَّمُ:
" سأَبكيكَ ما أَبقى ليَ الدَّهرُ مُقلةً ... فإنْ عَزَّني دمعٌ فما عزَّني دَمُ
وحُكمي بكاءُ الدهر فيما ينوبُني ... وحكمُ لبيدٍ فيه حَوْلٌ مُجرَّمُ "
سقاكَ مُلِثٌّ لا يزال أَتِيُّهُ ... كجودكَ يُغني كلَّ فجٍّ ويُفعِمُ
وجادَكَ من نَوء السِّماكَيْن عارِضٌ ... يُرَوِّضُ أَنماطَ الثَّرى
ولي عن سؤال السُّحْبِ تَسقيكَ غُنيَةٌ ... بدمعيَ لولا أَنَّ أكثرَه دَمُ
لقِيتَ من الرَّحمن عَفواً ورحمةً ... كما كنت تعفو ما حييتَ وترحم
عليكم سلامٌ أهل جلّق واصلٌ ... إليكم يُواليه وِدادٌ مخيِّمُ
سلامٌ كنشر الرَّوض تحمله الصَّبا ... سُحَيراً، وثغر الصبح قد كاد يبسمُ
سأشكركُمْ جهدي على القرب والنّوى ... وأُثني عليكم إن حضرتُمْ وغِبتُمُ
وأُوصيكمُ بالجار خيراً فإنَّه ... يَعِزُّ على أهل الوفاء ويكْرُمُ

تاج الدين يحيى بن عبد الله بن القاسم
الشهرزوري
أخو كمال الدين، كان ذا فضلٍ متَفَنِّنٍ، وعلمٍ متمكِّنٍ، وحكمةٍ مُحكمة، وفقْرَةٍ مُغتَنَمة، ونُكتَةٍ بديعةٍ، وكلمةٍ صنيعةٍ، له المقطوعاتُ، المصنوعات المطبوعات، توفي سنة ستٍّ وستّين، ذكره لي علم الدين الشاتاني، قال: فُصِدْتُ يوماً فغلِط الفصّاد وأنفذ في عِرقي مِبضعَه، وقطعه، فكتبت إليه قصيدةً طويلة منها:
اسْمَعْ مَقالةَ شاكٍ ... مِن زَحمة العُوَّادِ
جارَ الطَّبيبُ عليه ... لا زال حِلف السُّهاد
بطعنةٍ قد تعدَّتْ ... إلى صميم الفؤاد
حَشْوُ المَضاجِعِ منها ... باللَّيْلِ شوكُ القَتادِ
قال: فأجابني تاج الدين الشهرزوري بقصيدة طويلة منها:
حُوشِيتَ يا علَمَ الدِّي ... نِ يا فتى الأمجادِ
ممّا يسوءُ مَوالي ... كَ أو يسُرُّ الأعادي
ولِلْعِدى ما جنتْهُ ... شَلَّتْ يَدُ الفَصّادِ
حوَيْتَ وحدَكَ فينا ... فضائلَ الآحاد
تضاعفَتْ فيك حتى ... جلَّتْ عن التَّعداد
فأَلْفَ أَحنفِ قيسٍ ... تُرى وقُسِّ إياد
وأَلف حاتمِ طيٍّ ... والجودُ للقُصّاد
يا مَن أقامَ نِداهُ ... في كلِّ نادٍ يُنادي
إلى جزيل العطايا ... منه وغُرِّ الأيادي
يا مُشبِه ابن هلالٍ ... في خطِّه والسَّداد
يا مُوردَ البيض حُمْراً ... في كلِّ يومِ طِرادِ
أَلِيَّةً بالحوامي ... م بعدَ طه وصادِ
وبالنَّبيِّ الذي جا ... ءَنا بسُبْلِ الرَّشادِ
لأَنْتَ من خالص القلْ ... بِ في صميم الفؤاد
وأنتَ أشهى إلى العَيْ ... نِ من لذيذ الرُّقادِ
وأنشدني ضياء الدين ولده أَبياتاً له على وزن بيت مهيار:

وعَطِّلْ كُؤوسَك إلاّ الكبير ... تجِدْ للصغير أُناساً صِغارا
فقال:
وسَقِّ النديمَ عَقيقِيَّةً ... تضيءُ فتحسب في الكأس نارا
تدور المَسرَّةُ معْ كاسِها ... وتتبعُه حيث ما الكاس دارا
ولا عيبَ فيها سِوى أَنَّها ... متى عَرَّسَتْ بحمى الهمِّ سارا
ستَلقى ليالي الهمومِ الطوالَ ... فبادر ليالي السرور القصارا
ولده ضياء الدين أَبو الفضائل

القاسم بن يحيى بن عبد الله الشهرزوري
مُخمَّر الطِّينة بالكرَم المَحض، مجبول الفطرة بالشَّرف الغَضّ، مقبول الخَلْق، مَعسول الخُلُق، أبو الفضائل وابن بَجدتها، وغيث الفواضل ولَيْث نجدتها، متودِّد بظرافته، متوحِّد في حصافته، شيمته عالية، وقيمته غالية، ودِيمته هامِية، وعزيمته ماضية، كثير الأنس، كبير النفس، يُبدي النَّفاسة، ويهوى الرِّئاسَة، لا يحبّ الدّينار إلاّ مَبذولاً لعافيَة، ولا يريد الثراء إلاّ لإغناء راجيه، قصد الملك الناصر صلاح الدين بمصر فنجح قصدُه، وتوفّر وُجدُه، ووصل إلى الشام معه، فأكبرَ محلَّه ورفعه، فمِمّا أَنشدنيه من شعره في ذي الحجّة سنة سبعين بدمشق:
في كلِّ يومٍ تُرى للبَيْنِ آثارُ ... وما له في التئام الشَّملِ إيثارُ
يسطو علينا بتفريقٍ فواعجبا ... هل كان للبَينِ فيما بيننا ثارُ
يَهُزُّني أَبداً من بعدِ بُعدِهمُ ... إلى لقائهمُ وَجْدٌ وتذكارُ
ما ضرَّهم في الهوى لو واصلوا دَنِفاً ... وما عليهم من الأوزار لو زاروا
يا نازلينَ حِمى قلبي وإن بَعُدوا ... ومُنصفينَ وإن صَدّوا وإن جاروا
ما في فؤادي سواكم فاعطِفوا وصِلوا ... وما لكم فيه إلاّ حبّكم جارُ
الشيخ أبو علي الحسن بن عمّار
الموصلي الواعظ
له:
أَتُراهُمْ عَلِموا ... ما بقلبي منهُمُ
ما هُمُ سكّانُهُ ... كيف يخفى عنهُمُ
بالتَّنائي والقِلى ... قتلوني، سَلِموا
إنَّ عيشي بعدهمْ ... لَمَريرٌ علقَمُ
ما لِعُذَّالي ولي ... شَفَّني عَذْلُهمُ
أسرفوا في عذَلي ... قُلِّدوا بغيَهُمُ
كان دمعي خالصاً ... مثلَ ودّي لهُمُ
قَرحَ الجَفْنُ فقد ... مازجَ الدَّمعَ دَمُ
التَّوى بعدَ النَّوى ... فُرصةٌ تُغتَنَمُ
وإذا المُضْنى قضى ... زال عنه الألمُ
الفقيه الظَّهير
خطيب السَّلاّمِية من أهل المَوصل
شابٌّ فاضل، له فضائل، سمعت بعض أصدقائي بالموصل أنه لما سمع قصيدتي التي أوَّلها:
سل سيفَ ناظرِه لماذا سلَّهُ ... وعلى دمي لِمَ دلَّه قَدٌُّ لهُ
نظم قصيدة على وزنها ورويّها منها:
سَلِّمْ على الرَّشأِ الذي سالمتُهُ ... فأَباحَ قتلي مُخفِراً وأَحلَّه
ونفى الكَرى عن ناظري وهو الذي ... آواهُ بين جوانحي وأَحلَّه
قاسي الفؤاد يمَلُّني تيهاً فما ... أقسى عليَّ فؤادَهُ وأَملَّهُ
وأَحَمَّ بالعَقِداتِ مِنْ رملِ الحِمى ... واصلْتُ سُقمي مُذْ حماني وصلَهُ
مُتملمِلاً يقضي الزّمان تعلُّلاً ... بعسى وسوف ولَيته ولَعلَّه
ما ضرَّه لو علَّ صَباً مُشفِياً ... من ريقه فشفاهُ وهو أعلَّهُ
وله:
أقول له صِلْني فيصرفُ وجهَهُ ... كأَنِّيَ أَدعوه لفِعْلٍ مُحرَّم
فإنْ كان خوفَ الإثم يكره وُصلَتي ... فمن أعظَم الآثام قَتلةُ مُسلِمِ
أبو محمد الأعلَم
ذكره لي الأمير مؤيد الدولة أسامة بن منقذ، قال: لمّا كنت بالموصل كان صديقي، وأنشدني يوماً لنفسه في محبوبٍ ماطلَه الدَّهرُ بوصاله، فلما سمح به أخذ في ارتحاله:
وما زالت الأيّامُ تُوعِدني المُنى ... بوَصلِك حتى أَظْمأَتْني وُعودُها

فلمّا تلاقَينا افترقْنا فلَيتنا ... بَقِينا على الحال التي لا نريدُها
المَنازي من مناز كرد
كان من وزراء المَروانيّة بديار بَكرن من العصر الأبعد، قال علم الدين الشاتاني: قرأ والدي عليه ومات سنة سبع وثمانين، وكان عظيم الشأن وأنشدني له:
وقانا لفحةَ الرَّمضاءِ وادٍ ... وَقاهُ مُضاعَفُ النَّبْتِ العَميمِ
نزلنا دوحَه فحَنا علينا ... حُنُوَّ المرْضِعاتِ على الفَطيمِ
وأَرْشَفَنا على ظمإٍ زُلالاً ... أَلَذَّ من المُدامَة للنَّديم
يصدُّ الشمسَ أنّى عارَضَتْنا ... فيحجُبُها ويأْذَنُ للنّسيم
يَروعُ حَصاهُ حالِيَةَ العَذارى ... فتلمُسُ جانِبَ العِقد النَّظيمِ
الرئيس أبو الحسن عيسى بن الفضل النّصرانيّ
المعروف بابن أبي سالم، كان شيخاً بهيّاً كبيراً، ولما قصدت والدي بالموصل في سنة اثنتين وأربعين كان يزورنا ويعرض علينا مكاتبات العم الصَّدر الشَّهيد عزيز الدين إليه، ولم أُثبت له شيئاً، فسألت الآن الشاتاني عنه فقال: هذا من بيت كبير، أبوه كان وزير بني مروان بميّافارقين، وأمُّه يقال لها الستّ الرحيمة، قال لها نظام الملك: أنت الستّ الرَّحيمة، قالت: بل الأمَة المرحومة. وكان مشهوراً بين أرباب الدّولة، موفور الحُرمَة، وله أشعارٌ غَثَّةٌ وثمينة، واهية ومتينة، وقد وازَنَ الأمير تميمَ بن المُعِزّ المِصري في قوله:
أَسربُ مَهاً عنَّ أمْ سِربُ جِنَّهْ ... حكيتُنَّهُنَّ ولستُنَّ هُنَّهْ
بقصيدة أوّلها:
لقد عذُبَ الماءُ من ريقهِنَّهْ ... وطاب الهواءُ بأنفاسِهِنَّهْ
وله إلى بهاء الدولة صاحبِ شاتان وقد سافر إلى حصن زياد:
تكون بميّافارقين ووَحشتي ... تزيد لِنأْيِي عنكمُ وبِعادي
فكيف احتيالي والمهامِهُ بيننا ... تحولُ وأطوادٌ لحِصن زِيادِ

الفقيه الإمام شرف الدين أبو سعد
عبد الله بن محمد بن أبي عصرون
ومن نعوته حجّة الإسلام، مفتي العراق والشام، وهو شيخ العلم العلاّمة، وبفتياه توطَّدت للشرع الدَّعامة، وله الفخار والفخامة، وليس في عصرنا مَن أتقن مذهب الشافعيّ رضي الله عنه مثلُه، وقد أشرق في الآفاق فضله، وصنَّف في المذهب تصانيف مفيدة، قواعدها في العلم مَهيدة، مَولدُه بالمَوصل، المُحرَّم سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وتولّى قاضي القضاة بدمشق وجميع الممالك الملكية النّاصريّة بالشام سنة اثنتين وسبعين بعد وفاة كمال الدين الشهرزوري، وله ثمانون سنة. وكم مهَّد للشريعة سنّة حسنة، لقيتُه بالمَوصل سنة اثنتين وأربعين وهو مدرِّس المدرسة الأتابكيّة، وبالشام سنة اثنتين وستين بحلب وهو مدرِّس المدرسة النُّوريّة، وكان نور الدين رحمه الله وجئت في صحبته إلى حلب في سنة ثلاث وستين في زمان الشتاء الكالح، والبرد الفادح، والقَرّ النّافح، كتبت إلى الشيخ ابن أبي عصرون أبياتاً منها:
أيا شرف الدّين إنَّ الشتاء ... بكافاته كفّ آفاته
فكتب إليَّ في الجواب والده متّع ببقائه عبد الله: لا زال عماد الدين لكلِّ صالحةٍ عِمادا، وتأمَّلْتُ رقعته الكريمة، بل الدُّرَّة اليتيمة، فملأَتِ العينَ قُرَّةً، والقلبَ مسرَّةً، وسكَّنَتْ نافِرَ شوقي إلى لقائه، واستيحاشي لتأَخّره، وفهمت ما نظمه، وأعربتُ ما أَعجَمَه:
إذا جا الشتاءُ وأمطارُهُ ... عن الخير حابسةٌ مانعَهْ
وكافاته الستّ أَعطيتَها ... وحاشاكَ من كافه الرَّابِعَهْ
وكفّ المهابة والإحتشام ... لِكفيَّ عن بِرِّه مانِعَهْ
وهِمَّة كلِّ كريم النِّجارِ ... بمَيسورِ أحبابه قانِعَهْ
ونفسيَ في بسط عذري لديه ... جعلتُ الفداءَ لهُ، طامِعَهْ
وشوقي إلى قربه زائدٌ ... ومعذرتي إن جفا واسِعَهْ
ولرأْيِه في تأَمُّلِها الرِّفعة إن شاء الله.

وحضرت عنده بعد ذلك وقرأْتُ من مصنّفاته المذهبيّة عليه، واستفدتُ منه، وأخذت عنه، وما اتَّفق لي استِملاءُ شيءٍ من نظمه، لصَرف هِمَّتي إلى استفادة ما سوى ذلك من علمه، فإنَّ زمانه أعزّ، وإحسانه لعِطف الطالب أهزّ، فاستغنيتُ عن التماس شِعره بما أنشدنيه الفقيه الشّهاب محمد بن يوسف الغزنويّ ممّا استملاه منه، فمن جملة ذلك أنه كتب إليه في الفتاوى:
أيا تاجَ الأئمَّة والمُرَجّى ... لكشف المشكلات من الأُمور
إذا ما الدارُ سهمٌ ضاق فيها ... معَ الإفراز من نفعٍ يسير
وباقيها فسهم ليس يخلو ... مع الإفراز من نفعٍ كبيرِ
فإنْ نبِعِ الكثير فهل مكانٌ ... لشُفْعَة ذلك الجزء الحقير
وهل تجري ولا إجبار فيها ... مع الحمّام والبير الصغيرِ
فأجاب ارتجالاً:
وثقتُ بخالقي في كل أمري ... ومالي غير ربّي من ظهير
أرى الشِّقص الذي لا نفعَ فيه ... كبيرٍ أو كَحمّامٍ صغير
وفي الكلِّ الخِلافُ وإنّ رَأْيِي ... لَيَثْبِتُ شُفعةَ السَّهم الحقير
وتُرْهِقُه المَضَرَّةُ حين باعوا ... فما غير التَّشَفُّعِ من مُجير
وسُئل أيضاً:
إذا ما البيعُ كان بغير عَقْدٍ ... وقد سَكَنَ التّراضي في القلوبِ
فهل من مَأْتَمٍ يُخشى إذا ما ... أعاد الخلقَ علاّمُ الغيوبِ
أَجب عمّا سُئِلتَ أُتيتَ أجراً ... من الرحمنِ كشّافِ الكروبِ
فأجاب عنه ارتجالاً:
إذا وُجِدَ التّراضي في القلوبِ ... ولا لفظٌ لداعٍ أو مُجيبِ
فلا بَيْعٌ ولا يُخشى قَصاصٌ ... عليهِ عند عَلاّم الغُيوبِ
فخُذْ هذا الجوابَ عن ارتجالٍ ... تنالُ به مُرادك عن قريبِ
ثوابَ الله أرجو في جوابي ... وحسبي بالمُهَيْمِنِ من مُثيبِ
لعبد الله ناظِمها ذنوبٌ ... وعفوُ اللهِ مَحّاء الذنوبِ
ومن ذلك قوله:
كلُّ جمعٍ إلى الشَّتاتِ يصيرُ ... أيُّ صَفوٍ ما شابَهُ تكديرُ
أنت في اللَّهوِ والأماني مُقيم ... والمنايا في كلِّ وقتٍ تسيرُ
والذي غَرَّهُ بلوغ الأماني ... بسَرابٍ وخُلَّبٍ مَغرورُ
ويكِ يا نفسُ أخلصي إنَّ ربي ... بالذي أخفتِ الصدورُ بصيرُ
وقوله:
أُؤَمِّلُ وَصْلاً من حبيبٍ وإنني ... على كَمَدٍ عمّا قليلٍ أُفارقهْ
تَجارى بنا خيلُ الحِمام كأنّما ... يُسابقُني نحو الرَّدى وأُسابقهْ
فيا ليتنا مُتْنا معاً ثم لم يَذُقْ ... مَرارةَ فَقدي لا ولا أنا ذائقهْ
وقوله:
يا سائلي كيف حالي بعد فُرقتِه ... حاشاكَ ممّا بقلبي من تنائيكا
قد أقسمَ الدَّمْعُ لا يجفو الجفون أسىً ... والنوم لا زارها حتى أُلاقيكا
وقوله:
أَمُسْتخبري عن حنيني إليهِ ... وعن زفراتي وفَرطِ اشتياقي
لكَ الخيرُ إنّ بقلبي إليك ... ظَماً لا يُرَوّيه غيرُ التلاقي
وقوله:
وما الدهرُ إلاّ ما مضى وهو فائتٌ ... وما سوف يَأْتِي وهو غير مُحَصَّلِ
وعيشُكَ فيما أنتَ فيهِ وإنّه ... زمانُ الفتى من مُجْمَلٍ ومُفَصَّلِ
وقوله:
أُؤَمِّلُ أنْ أحيا وفي كل ساعةٍ ... تمرُّ بيَ الموتى تَهُزُّ نُعوشُها
وهل أنا إلاّ مثلُهم غير أنّ لي ... بقايا ليالٍ في الزمان أعيشُها
وقوله:
كنتَ إذ كنتَ عَديما ... لِيَ خِلاًّ ونَديما
ثم أثريتَ وأعرضْ ... تَ ولم تَرْعَ قديما
ردّك الله إلى ودّيَ مَدْيُوناً غريما
الحسن بن شقاقا المَوصلي
قال العلم الشاتاني: كان شاعراً مجيداً بالموصل، وأشعاره سائرة، وأزهاره زاهرة، توفي سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وله في نصير الدين أمير الموصل يُعرِّض برجل تولى اسمه عمر بن شكلة، بعد رجل قزويني ظالم:

يا نصيرَ الدين يا جَقَرُ ... ألف قزويني ولا عُمَرُ
لو رماه الله في سَقرٍ ... لاشتكت من حَرِّه سَقرُ

المكين بن الأقفاصي الأعمى الموصلي
ذكره العلم الشاتاني وأثنى على شعره، وشوّق إلى نظمه ونثره، وقال توفي سنة ثلاث وأربعين، ونسب إليه هذين البيتين الرباعية:
يا صاحِ أما ترى المَطايا تُحْدى ... والبيْن يُصَيِّرُ التَّداني بُعدا
مَن يُسعدني إذا تولَّت سُعْدى ... هَيْهَاتَ نَأَتْ وخلَّفَتْني فردا
وأنشدني له:
دَعا خليليَّ نَواهي المَلامْ ... فاللَّومُ يُغْري العاشقَ المُسْتَهامْ
وخَلِّياني والسُّرى والفَلا ... والخيلَ والليلَ وحدَّ الحسامْ
واقْتحِما بي كلَّ مَجهولةٍ ... قَفْرٍ كأنّ الآلَ فيها غَمامْ
يستوحِشُ الوَحشُ بأرجائها ... ويَعزِفُ الجِنُّ بها والنَّعامْ
ومنها في المدح:
أَسْفَرَ وَجْهُ الحمدِ عن وجهه ... وكان قِدْماً ما يَحُطُّ اللِّثامْ
وأنشدني له مرثيّةً في صدقة سيف الدولة لمّا قُتِلَ:
ديارٌ بأرض الجامِعَيْن وبابلِ ... غَدَتْ من بني عَوفٍ عَوافي المنازلِ
ومنها:
وإذْ زَبْعُها بالقِيلِ من آلِ مَزْيَدٍ ... حليفُ الندى في كلّ غبراءَ ماحِلِ
فتىً كان وجهُ الدهر قبلَ اخْترامِهِ ... وَسيماً فأضحى وهو جَهْمُ المَخايلِ
فتىً تَضْحَكُ الأنباء عن ثغرِ مجده ... إذا ما بكتْ حُزناً عيونُ القبائلِ
تعَثَّرُ أرواحُ الرِّياحِ بشِلْوه ... فتعبَق من ألطاف تِلك الشمائلِ
علم الدين الشاتاني

أبو علي الحسن بن سعيد بن عبد الله، وشاتان من نواحي ديار بكر، مقامه بالمَوصل ومَقرُّ أهله، ومطار فضله، ووَكر فِراخه، ووِرد نُقاخه، ومُناخ أشياخه، ومَرمى مرامه، ومَرعى سَوامِه، ومَرادُ مُراده، ومَربِضُ جَواده، ومَراح مِراحه، ومَعدى فَلاحه، ومَربع اغتباقه واصطِباحه، ومرتع اغتباطه واصطلاحه، ومَبيتُ عمله ، ومَنبت أمله، ومَغنى غِناه، ومَبنى مُناه، وأرض رِضاه، ورَوضُ هَواه، ووطَنُ وَطَرِه، وحَظيرة حَضره، وبُقعة شاته، ورُقعة شاهه، وتَلْعَةُ نَجاته، وقلعةُ جاهه، وهو في مارستانها مُتَوَلٍّ، وعلى حفظ الأوقاف مُستَولٍ، وله شِقْشِقةٌ في الأدب تهدر فصاحة، وحَملَقةٌ في النَّظر للعجب يسمِّيها حُسَّاده حَماقة، قد وفَّر الله حظَّه من النُّطق فما يرى السُّكوت، ويستلذُّ بالاستكثار من الكلام ومواصلته ولو هجَرَ القوت، إذا حضر نادياً لمْ يرضَ إلاّ بأن يتفرَّد بالقول وغيره مستمع، ويترفَّع بالفضل والكلُّ مُتَّضِع، لا جرَمَ ترشقُه سِهامُ الإيذاء، وتطرقه قوارص الظرفاء، لقد كان في أمان من الطَّيش، وضمانٍ من طيب العيش، وفراغٍ ورَفاغة، وبُلغَةٍ من بَلاغة، ورفاهيةٍ بغير كراهية، ونِعمةٍ لِقَدْرِ فضله مُضاهِيَة، وبضائع نافقة، وذرائع مُوافقة، ونقودٍ رائجة، وعُقودٍ مُتناسقة، ذلك والصَّدر الوزير جمال الدين بالموصل في صدر وِزارته مَشرق الجمال، متألِّق الإقبال، فائض السِّجال، مستفيض النَّوال، غامر أُولي الفضل بالإفضال، وهم في ظلِّه يَقيلون، وإلى نَيله يَميلون، وبطَوله يَطولون، وبصَوله يَصولون، وإلى فيضه يوفِضون، وفي روضِه يرتاضون، ولِنَداه يُنادون، ولِجَداه يَجتدون، وبنجمه يهتدون، ولهديه يستهدون، وعلَم العِلم في العلم عنده عال، وسِعْر الشِّعر في سوق الرجاء رائجٌ غال، فلما نُكِبَ الوزير، نضَبَ الغدير، وفاض الجهل، وباضَ الجَور، وغاض الماءُ وقُضِيَ الأمر، وانهدَّ جُودِيُّ الجُود، وذَوى عودُ الوعود، وابتُلِيَت بالحزن النُّهى، وبالخَزْن اللُّهى، وصِينَ العَرَض، وبُذِل العِرْض، وقصُر الطُّولُ وضاق العَرْض، وحال الجَريض دون القريض، وأغنى التَّصريح برَدِّ ذوي الحاجات عن التَّعريض، وانقطع الواصلون إلى الموصل، وتفرَّق الفاضلون عن المَحفِل، وغلب اليأسُ على الرَّجاء، والبخلُ على السَّخاء، وأظلم الجَوّ، وعُدِمَ الضَّوْ، وشتا الشّاتاني بعد وصاف، ففقد الإنصاف، وحُرِمَ الإسعاف، ووقف أمره في الوقف، وعُوِّضَ رِفقُه بالعنف، ونُفِيَ حقُّه ونُسِي، وأُرجِيَ رجاؤه وأُنسي، ورأى المَوصل مَقطعاً، والمَفزَع مُفزِعاً، والمَولى مُوَلِّياً، والسابق مُصلِّياً، والمعرفة نكرة، والمِعْزَفة منكسرة، والمَرَقَة مُراقَة،، والورقة منخرقة، ورِفقة الأدب عن المأدُبة متفرِّقة، فطلب إسفار صبح حاله، وسُفور وَجه جماله، في أسفاره وحلِّه وترحاله، فلمّا سار آنس من نور الدين ناراً بل نورا، وكان أمر الله قدَراً مقدورا، فاتَّخذ دمشق دار هجرته، وغار أسرته، ومبرَكَ مَبَرَّته، ومسرحَ مسرَّته، ومَجثَمَ رُبوضه، وموسم سُننه وفروضه، ومَرْجَ مرحه،، وبرج فرحه، وبيت قصده وبيت قصيدته، فأشرق عند النّور نورُه، وانتظمت بأمره أُموره، ودَرَّت أَنواءُ إدراره، وذَرَّت أَنوار إبراره، فلمّا خبا ذلك النّور، وطُوي المَنشور، وأُطبِقَ الدّستور، وتولّى أبو صالح، مُلكَ الملِك الصالح، بدأَ بتبطيل المصالح، وتعطيل المنايح، ومنع الصِّلات، ورفع الصَّدقات، وقال للشاتاني: غِبْ وخِبْ، وإذا دُعِيتَ فلا تُجِبْ، فما لأريبٍ عندنا أرب، وما لأديب لدينا إلاّ الدَّأَبْ، والفضل فضول، والعلم غُلول، وما علِم العلَم حينئذ كيف العمَل، وفيم الأمل، أيحتمل أم يتحمَّل، أَيُغَرِّبْ أَم يُشَرِّق، أيُنجِدْ أم يُعرِق، حتى تداركَ الله ذَماء الفضل ورَعى ذِمامَ أهله، بإنارة صبح الحقّ واتّضاح سبله، وإعلاء أعلام النَّدى، وإحكام أَحكام الهُدى، ووصول الرَّايات الملكيَّة النّاصريَّة إلى الشام، وقيامه بنصر الإسلام، انتعشَ جَدُّ الكِرام العاثر، وحَيِيَ رَسم الجود الدّاثر، وفرَّ ذلك الشيطان من ظلِّ عمر ، وغُمِرَ ذلك الغَمْر بما أفاضَ من البرّ وغَمَر، وصار الشام بيوسف مِصر مِصراً آخر بإحسانه، وفرّ عَون فِرعون وهامانه، وبسطَ المَكرُمات، وأَدرَّ المبرّات، وردَّ الصِّلات، والصَّدقات، وعادت

حال هذا الفاضل حالية، وقيمته غالية، وديمَةُ حظِّه هامية، وحِظوَةُ فضيلته نامية، ومدحه بقصيدةٍ أوّلها:حال هذا الفاضل حالية، وقيمته غالية، وديمَةُ حظِّه هامية، وحِظوَةُ فضيلته نامية، ومدحه بقصيدةٍ أوّلها:
أرى النَّصرَ مَعقوداً برايتكَ الصَّفرا ... فَسِرْ وافتح الدُّنيا فأنت بها أَحرى
ومنها:
يَمينُكَ فيها اليُمْنُ واليُسْرُ في اليُسرى ... فبُشرى لمن يرجو النَّدى منهما بُشرى
وهذا علم الدين ذو العلم الغزير، والفضل الكثير، وله المحفوظ الوافر من كلِّ فنّ، وهو المحظوظ بكلِّ قَبولٍ ومَنّ، وقد وفدّ في ريعان عمره إلى عمّي العزيز ببغداذ، واتَّخذه المَعاذ، ومدحه، فأجازَه ومنحه، وسلَّمه إلى ابن سلمان فقرأ عليه الفقه، وبلغ من معرفته الكُنه، واكتسب خلُقُه الظَّرف، واكتسى شِعره الرِّقَّة واللطف، حاوي المحاسن، صافي البطن، سليم القلب، قويم اللَّب، حلو الفكاهة، بديع الفِقرة، سريع النَّفرة، عَجِل الأوبة، طويل الفكرة، قليلُ العَثرة، مستجيب العَبرة، مستريب بالكرَّة، إذا أردتَ أن تَغيظه فتعرَّض له أَو اعِترضْ عليه، وتحدَّث بين يديه، وقلوب الفضلاء مَغسولة، وحكمتهم معسولة، وحِدَّتهم مَقبولة، وشِدَّتهم لِين، وغَثُّهم سمين، ومُقاربتُهم فضيلة، ومُجانبتهم رذيلة، وشَرفُهم عتيد، وأنَفهم شديد.
قد توجَّه من الموصل سَفيراً إلى دار الخلافة مِراراً، ووجد ببَرِّها وكرامتها على الأَعيان إِبراراً، وأقبل عليه الوزير الهُبَيري لِشَغَفِه بأمثاله من أهل الفضل، وعاد نجيع السَّعي مَوفور المَحَلّ، أنشدني لنفسه من قصيدة وازن بها قصيدةً لي نظمتها في ابن هبيرةَ الوزير:
أهدى إلى جسدي الضَّنى فأَعلَّه ... وعسى يرِقّ لعَبده ولعلَّهُ
ما كنتُ أحسب أن عَقْدَ تَجَلُّدي ... ينحلُّ بالهِجران حتّى حلَّه
يا ويح قلبي أينَ أطلبُه وقدْ ... نادى به داعي الهوى فأَضَلَّه
إن لم يَجُدْ بالعطف منه على الذي ... قد ذاب من بَرحِ الغرام فمَن له
فأشَدُّ ما يلقاه من ألم الهوى ... قولُ العَواذل إنّه قدْ ملَّه
نظمها على وزن قصيدة لي منها:
سلْ سيفَ ناظرِه لماذا سلَّه ... وعلى دَمي لِمَ دَلَّهُ قَدٌّ لهُ
واستَفْتِ كيفَ أباحَ في شرع الهوى ... دمَ مَن يَهيمُ به وفيمَ أَحلَّه
سلْ عطفَه فعسى لطافةُ عِطْفِهِ ... تُعدي قَساوة قلبه ولعلَّه
كثُرَتْ لقَسوةِ قلبه جَفَواتُه ... يا ما أَرَقُّ وفاءَه وأَقلَّهُ
يا مُنجِداً ناديتُه مُستنجداً ... في خلَّتي والمَرءُ يُنجِد خِلَّهُ
سِرْ حاملاً سِرّي فأنت لِحَمْله ... أَهلٌ وخَفّف عن فؤادي ثِقْلَهُ
وإذا وصلتَ فغُضَّ عن وادي الغَضا ... طَرْفَ المُريبِ وحَيِّ عنّي أَهلَهُ
أَهْدِ السّلام، هُديتَ، للرّشإِ الذي ... أعطاه قلبي رُشدَه فأَضلَّهُ
والقصيدة طويلة.
وأنشدني له في التَّشَوُّق إلى أَولاده بالمَوصل وكتبها إليهم من دمشق:
يا أهلَ سِكَّة بشران تحيةَ مَنْ ... حَشا فِراقُكُمُ أَحشاءَه حُرَقا
يَبكي فتجري بجَيْرونٍ مَدامِعهُ ... فتشتكي أهلُها من فيضها الغَرقا
وأنشدني لنفسه في الربيعيات:
بشَّرَ الطَّيرُ باعتدالِ الزَّمانِ ... وشَدا شَجْوَه على الأغصان
وبكَتْ أعين السّماء بدمعٍ ... أضحكَ الأرضَ، فالرُّبى كالغواني
فاغتنمْ فرصةَ الزَّمان وباكِرْ ... قهوةً طال مُكثُها في الدِّنانِ
عصروها في عصر دارا بن دارا ... ملكِ الفرس من بني ساسانِ
فهي تروي أخباره ثم تحكي ... ما جرى في زمان نُوشروانِ
فاسقِنيها من كفِّ أَهيفَ تَرنو ... مُقلتاه عن أعين الغزلان
في رياضٍ أنيقةٍ ذاتِ حُسنٍ ... تتجلَّى في سائر الألوان

تتناغى الأطيار فيها فتُلهي ... عن سماع النّايات والعِيدان
تتَشاكَى بَرْحَ الغرام هَديلاً ... فتهيجُ الأشجانَ بالألحانِ
يا عَذولي أَقصِرْ فعَذْلُكَ ظُلْمٌ ... نحن مِن طِيب وقتنا في جِنان
لستُ، ما عِشتُ، أترك الرّاح يوماً ... كُفَّ عني وخَلِّ فَضْلَ عِناني
وأنشدني له في الخمريّات:
نَضا عنه الصِّبا ثوبَ الوقار ... فمال إلى مُعاقرَة العُقارِ
فما ينهاه عنها العَذْلُ حتى ... يرى في ليله ضوءَ النَّهار
إذا مُزِجَتْ يكونُ الماء منها ... بمنزلة اللُّجَيْنِ من النُّضار
وأنشدني له:
الرَّوضُ قد وافتْكَ أزهارُه ... والدَّوْحُ قد غنَّتْكَ أطيارُه
فباكِرِ القهوةَ من قبل أن ... يغتالَكَ الدَّهرُ وأقدارُه
صَدَّ بلا جُرْمٍ ولا عِلَّةٍ ... والقلب ما واتَتْه أوطارُه
مُوَرَّدُ الوَجنَةِ لو زارني ... قبَّلْتُ ما ضمَّتْه أزرارُه
ألتَذُّ من طِيب ادِّكاري له ... لله ما هيَّجَ تَذْكارُه
يا مَن يَحارُ الفِكْرُ في وَصفه ... ومَن حوَتْ حُسنَ الوَرى دارُه
أَنوارُه تَكسِفُ شمسَ الضُّحى ... والبدرَ إذْ يُبديه إبدارُه
صِلْ عاشِقاً أَضْناهُ فَرْطُ الجَوى ... ومُغرَماً أَرْدَتْهُ أَفكارُهُ
الصَّبْرُ والسَّلوانُ أعداؤه ... والدَّمعُ والتَّسهيدُ أنصارُه
وأنشدني في أبي صالح ابن العجميّ الحلبيّ:
زَنَتْ بأبي فاسِدٍ أُمُّه ... وغذَّتْه مِنْ فَرجِها بالنُّطَفْ
فلو كان حُرّاً لما حاد عن ... مَوَدَّة أَهل النُّهى وانْحرَفْ
وهذا ابن العجميّ كان عَدل الخِزانة لنور الدين رحمه الله، شتَّتَ شملَ الملك بعده، واستولى بشرِّه، واتَّسع مَكرُ مَكْرِه، مُفسدٌ مُلحِدٌ، شِرِّيرٌ خِمِّير، نَغْلٌ نذلٌ، شُوهَةٌ بُوهَة، ، شيطان لَيْطان، سِفلَة دِفلَة، رِئبالٌ محتال، مُغتابٌ مُغتال، عَبِيٌّ غَوِيّ، عقرب اللَّدغْ، ثعلب الرَّوْغْ، كلب الرِّجْس، ذِئبُ النَّهْس، بومُ الشُّؤم، غراب اللُّوم، عَقْعَق العُقوق، لقلق الفُسوق، عوّاق الحقوق، حِدأَةُ الحِدَّة، رِدء الرِّدَّة، أسد الحسد، جُرَذ الحَرَد، ثَور الجَمع، تَور الشَّمع، تَيس زريبة الجُهّال، قيْس كتيبة الضَّلال

عَنزْ قطيع القطيعة، حِمار طبَع الطبيعة، فأْر الخُبْث، فارٌّ إلى الحِنْث، قِطُّ القَطْع، خِنزير اللَّطْع، سرطان السَّرَط، أَيِّل البلْع، دلَقْ المَلَق، خَلِق الخُلُق، يَربوع الرُّبوع، يَنبوع القُطوع، قِرابُ السَّكاكين، جِراب المساكين، مِحبرة النّاسخ، مَجْمَرة النّافخ، وِجار الضَّبّ، قَرار الصَّبّ، سَفْح السِّفاح، طَوْد الوِقاح، فَراش الوِقاع، فراش الرِّقاع، مكحلة الأَميال، جُعبة النِّبال، هدَفُ السِّهام، دواةُ الأقلام، طُوَيْس الشام ومادِرُ مَدَرَتِه، بسوسُ الإسلام وأَسر أُسرته، مُسيلِمَةُ الإفك، ثُمامةُ الشرك، أَجَمُّ أَقْرن، أَجَنّ أرْعَن، شَبِق القَفا والخَلْف، نهِم الجَفا والخُلف، مأْفون وبالباء عوض الفاء، مَصون ولكن بابتدال وسطه بدخول الحاء، يأْتيه الذِّكْر مفتوح الذال والكاف، ويَضُمُّه الصُّقْعُ مفتوح الرّأْس والفاء بدل القاف، الأسود السّالخ تحت ذيله مُنساب، والأسود القائم في ليله إلى مِحرابه أوّاب، يحبُّ أن يسكن والغلام يُحرِّكُه، ويترك الفعل والفاعِلُ لا يتركُه، أرضِيُّ البَطْنِ، سمائيُّ الظَّهر، تُرابِيُّ المَسجَد، مائيُّ المقعَد، مَرقوع الخَرق على سَعَتِه، رقيع الخُرق على ضِعَتِه، أَطْيَشُ من ريشةٍ خَلقا، وأضيق من عيشة شيخٍ خُلقا، صُوف الكلب لا يُنتَفَعُ به في أمر، وسَمّ الأفعى لا يُدَّخَرُ إلاّ لِشَرّ، يَلقاكَ بالطَّلْبَقَة، نافِرَ الحَدَقة، وافِرَ العَنْفَقَة، هادِر الشقشقة، مظهراً للشفقة، وهو يعوق البِرّ، ويعمِّق البير، ويَري الحِنطةَ ويبيع الشَّعير، إن كان من البروج فهو الدَّلو، أو من المنازل فهو العوّا، وإن كان شِهاباً فهو مَثقوبٌ لا ثاقِب، ورجيمٌ لا راجِم، بل هو إبليس التَّلبيس، والمُتلبِّس بالتَّدنيس، وقارون هذا القَرن، والمعروف في بيته بطول القَرْن، مهندس يحبُّ المَخروطات وحلَّ أشكالها بالبرهانين، منجِّمٌ يقوِّمُ لأيار الزُّبانى في البُطَيْن، بُرهانُه الخَلفيّ أظهر وأقوى، والخط المستوي على استقامته فيه أقومُ وأبقى، فكم أقام عموداً على زاوية له قائمة، وأنام عيوناً لتنبيه فتنةٍ نائمة، وأغرى ذِئباً بسرح ثاغيةٍ سائمة، الخَتْر من دابِهِ، والخَتْلُ من آدابه، يضحكُ في وجهِك ليُبْكِيَك، ويأْسو جرح قلبك لِيَنْكِيَك، ويسلِّم عليك ليُسْلِمَك، ويكلِّمُكَ ليَكْلِمُك، ويخاطبُك ليَلُمَّ بك الخَطْبُ المؤلم، ويُطايبك وهو يَدقُّ لكَ عِطرَ مَنشِمِ، ويحلف بالله وهو أكذب ما كان، ويبهَت لِصَوْغِك وهو يصوغُ البهتان، يصلِّي وهو جنبٌ من السبيلين، ويدلي وهو مدلٍ بالدَّليلين، القاف في نطقه كالهمزة، لُثْغةٌ أرمنيَّة في نِجاره، ولغة يهودية من شِعاره، وكيف لا تَهِنُ قافُه وهو مع الفاء والألف منه في بلاء، وتوالي دِلاء، وتعاقُب خِفاف، وتناوُبُ أَكُفٍّ وأَيْدٍ ثِقالٍ خِفاف، ومن جملة جهله أنَّه قصدَ العلَم الشاتاني في إفساد شانه، وسعى في قطع ديوانه، وذلك عند ارتكابه وِزْرَ الوِزارة، وتخريبه مني الودّ بعد العِمارة، فقال فيه ويستطرد بي:
وِزارةُ التَّيْس أبي فاسِدٍ ... فد عمَّ أهل الأرض منها الفساد
عانَدَ عِلمي جهلُه مثلما ... هدَّ قوى الفضل بقَصْد العِماد
الفضل أقوى عِماداً من أن يهُدَّه ذلك النّاقص، والعلم أرفع قدراً من أن يحطَّه ذلك الغامص.
قد رجعنا إلى ذكر النّاس والنَّمط الحسن القويّ الأساس.
أنشدني علم الدين الشاتاني بدمشق سنة إحدى وسبعين من قصيدةٍ له في جمال الدين وزير الموصل محمد بن علي بن أبي منصور لمّا نُكِب:
ما حَطَّ قدرَكَ من أوج العُلا القدَرُ ... كلاّ ولا غيَّرَتْ أفعالكَ الغِيَرُ
أنتَ الذي عَمَّ أهلَ الأرض نائلُهُ ... ولم ينَلْ شأْوَهُ في سؤددٍ بشرُ
سارتْ صِفاتُكَ في الآفاق واتَّضحَتْ ... وصدَّق السمعُ عنها ما رأى البصرُ
فاصْبر لصَرف زَمانٍ قد مُنِيتَ به ... فآخر الصبر يا طَوْدَ النُّهى الظَّفَرُ
فما ترى أحداً في الخَلْقِ يسلَمُ مِن ... صُروف دَهرٍ له في أهله غِيَرُ
سَعَوا بقصدكَ سِرّاً قاسْتَتَبَّ لهم ... ولو سَعَوا نحوه جَهراً لما قَدِروا

لولا الأماني التي تُحيي النفوسَ بها ... لمُتُّ من لوعةٍ في القلب تستعِرُ
ومنها في عمر المَلاّء:
وأصدقُ النّاس في حفظ العهود إذا ... ميَّزْتَ بالفكر أحوالَ الورى عُمَرُ
الزَّاهد العابد البَرُّ التَّقِيُّ ومَنْ ... يزوره ويُقوِّي أزرَه الخَضِرُ
قال علم الدين الشاتانيّ: قال القاضي نجم الدين الشهرزوري قاضي الموصل: دخل إليَّ شابٌّ من أهل بغداد وأنشدني هذه الأبيات:
في نهر عيسى والهواءُ مُعَنبَرُ ... والماءُ فِضِّيُّ القميص صَقيلُ
والطَّيرُ إمّا هاتفٌ بقرينِه ... أو نادبٌ يشكو الفراقَ ثَكولُ
وعرائسُ السَّرْوِ التَحَفْنَ بسُنْدُسٍ ... ورقصْنَ فارتفعتْ لهُنَّ ذُيولُ
وقال لي: اعملْ على وَزنها ما يناسبها فعملت في الحال:
والغصنُ مَهزوزُ القَوامِ كأنّما ... دارتْ عليه من الشَّمال شَمولُ
والدَّهر كالليل البهيم وأنتمُ ... غُرَرٌ تُنيرُ ظلامَه وحُجولُ
وأنشدني الشاتاني لنفسه:
خليليَّ هل من مُسعِدٍ لي أَبُثُّه ... غراماً له بين الضُّلوع لهيبُ
وزفرَةَ أَشواقٍ تقادمَ عهدُها ... فليس لها حتى الممات طبيبُ
عفا الله عمَّن خان عهدي وإنَّه ... إليَّ، وإن خان العُهودَ، حبيبُ
إلامَ أُمَنّي النفسَ منه بِزَوْرَةٍ ... فيَثنيه عنّي عاذلٌ ورقيبُ
أتوبُ إلى الرّحمن من كلِّ رِيبَةٍ ... ومِن وَصْلِ مَن أهواهُ لستُ أتوبُ
وأنشدني له من أبيات كتبها إلى ابن كمال الدين الشهرزوريّ وقد زار الجوديّ:
جلالَ الدين تَهْنِيكَ الزيارهْ ... ولي بقَبولها منك البِشارَهْ
ومنها:
زَها واستبشرَ الجُوديُّ لمّا ... رأى منك النّزاهة والطَّهارهْ
وصارَ التُّرْبُ من مَمْشَاكَ مِسكاً ... به وَتَجَوْهَرَتْ منه الحِجارَهْ
وأنشدني له في حاسد له وثب عليه الأسد وعاد عنه ولم يفترسه، عملها ارتجالاً عن غير روية، ولا فكرة قوية:
قلتُ للَّيْثِ: لِمْ تأخَّرت عنهُ ... حين غادرْتَه لديك صريعا
قال: قدَّرْتُ أنني حُزْتَ صَيْدَاً ... فتأمَّلْتُه فكان رَجيعا
فأبتْ نفسي الأبيّةُ عنهُ ... أن ترى أكلَه وإن مُتّ جوعا
وأنشدني له في السابق المعري يستعدي عليه عند الشيخ:
مولايَ فخرَ الدين يا ذا النُّهى ... ما قيمةُ الأخرسِ كالناطقِ
كلاّ ولا العبدُ المُطيع الذي ... يرجو رِضا مَوْلاه كالآبِقِ
يا أروعاً تَرْتَاعُ أُسدُ الشَّرى ... في خِيسها من عزمِه الصادق
بهمَّةٍ عاليةٍ ما لها ... عن عَقْوَة العَيُّوقِ من عائقِ
للعبد أبياتٌ زها حُسْنُها ... حَبَّرها من لفظِه الرائقِ
قَطْعُ لسان المُفسِدِ السابِقِ ... أَوْجَبُ من قطعِ يد السارقِ
يَبْتَزُّ أموالَ الورى عَنْوَةً ... ويكفرُ الرِّزْقَ مِن الرازِقِ
غِذاؤُه الغِيبةُ لا غيرها ... شيمةُ نَذْلٍ خائن ماذِقِ
والسَّعي لا في الخير يبغي به ... وُقوعَ أهلِ الدين في مازِقِ
خِبٌّ إذا لاحَتْ له فرصةٌ ... ينقضّ كالبازِيّ والباشِقِ
ما زال يُؤذي الناس حتى رأى ... كساده في سُوقِه النافِقِ
وقُوبِلَتْ أفعاله بالذي ... عاينَه في نَغْلِه المارقِ
فموتُه في السجنِ أَوْلَى به ... وَرَمْيُ مَن رَبّاه مِن حالقِ
وإنْ أَرَحْتَ الناس من شرّه ... أحرزتَ شُكرَ الخَلْقِ والخالقِ
وأجهلُ العالَم عندي امرؤٌ ... يهدّد الضِّرغام بالناهقِ
وأنشدني لنفسه:
خَليليَّ كُفّا عن مَلامي وعَرِّجا ... فأنفاسُ نَجْدٍ نشرُها قد تأرَّجا

وقُولا لمنْ قد ضَلَّ عن قَصْدِ حِبّه ... وَجَدْنا إلى وَصْلِ الأحبّة مَنْهَجا
وحُطّا بأكْنافِ الحِمى فقد انتهى ... مَسيرُ مطايا قد أضرَّ بها الوَجا
فقد لاحَ ضوءُ الصبح بعدَ كُمونِه ... ومزَّقَ ثوباً لفَّقَته يدُ الدُّجى
وحاكَتْ يدُ الأنواءِ للأرضِ حُلَّةً ... تُقَدِّرُها الأبصارُ ثَوْبَاً مُمَرَّجا
وغرَّدَ في الأيْكِ الهَزار تَطَرُّباً ... وهَيَّجَه بَرْحُ الغَرام فهَزَّجا
فحُثّا كؤوساً عَدَّل العَقلَ مزجُها ... بها وَجَدَتْ نفسي من الهَمِّ مَخْرَجا
ولا تَسْقِيا منها لمن لان ودُّهُ ... فتُخْرجَه عن عالم العِلم والحِجى
فيُظْهر أسرار الهوى ويُذيعها ... وَمَنْ كَتَمَ الأسرار في قلبه نجا
وما أدركَ المَطلوبَ إلاّ أخو نُهىً ... له يَقْظَةٌ خافَ البَياتَ فَأَدْلجا
ومدح نور الدين بهذه الأبيات:
ما نال شأْوَكَ في المعالي سِنْجِرُ ... كلاّ ولا كِسرى ولا الإسكندرُ
يا خيرَ مَن ركِبَ الجِيادَ وخاضَ في ... لُجَجِ المنايا والأَسِنَّةُ تَقطُرُ
هل حازَ غيرُكَ ملكَ مصرَ وصار مِن ... أَتباعه مَن جَدُّه المُستنصِرُ
والمستضي بالله مُعتَدُّ به ... وبحَدِّه وبِجَدِّه مُسْتَظهر
أو سَدَّ بالشام الثُّغورَ مُحامياً ... للدين حتى عاد عنها قيصر
يبكي فيروى الأرضَ فيضُ دموعه ... والجَوُّ مِن أنفاسه يَتَسَعَّرُ
أَوَما أبوك بسيفه فتحَ الرُّها ... والأُسْدُ تقتَنِصُ الكماةَ وتزأَرُ
هابت ملوك الأرض بأْسَ كُماتِها ... فتقاعدوا عن قصدِها وتأَخَّروا
ما ضَرَّه طَيُّ المَنِيَّة ذاتَه ... وصِفاته بين البريَّة تُنشَرُ
فلكمْ على كلِّ الملوك مَزِيَّةٌ ... لِوَقائع مشهورةٍ لا تُنكَر
وإذا عدَدْنا للأنام مناقباً ... فعليك قبل الكُلِّ يُثْنَى الخنصرُ
في الرَّأْي قيسٌ في السَّماحة حاتمٌ ... في النُّطْق قُسٌّ في البسالة حيدر
دانتْ لكَ الدُّنيا وأنتَ تعافُها ... وسِواكَ في آماله يتعثَّرُ
من ذا يصونُ الصين عنك وأنت مَنْ ... أُسْدُ الشَّرى منه تخافُ وتَحذَرُ
ذكر أنه نظمها على وزن قصيدة للحويزي أوَّله: الله أكبر ثمَّ سِنجِر أكبرُ، ومنها:
إن كان بين الفاتحين بقدْر ما ... بين الفُتوح فعَبدُك الإسكندَرُ
وعَتِبَ عليَّ ونحن بدمشق مُتجَنِّياً، وضَنَّ بمواصلته مُتَظّنِّياً، فإنَّه كان يستشيط من كلِّ كلمة فيها قاع، حتى يغضب من ذكر الفُقّاع، فعُمِلَتْ أَبياتٌ لا يخلو بيتٌ منها من هذه اللفظة في مَعانٍ حِكَمِيَّةٍ ليس له فيها ذِكْر، وكانت تُنشَد وهو يغضب ويَحرَد، ونسبها مَن أرادَ إغراءَه بي إليّ، فعتَب لأجل ذلك عليَّ، فكتبت إليه:
لا أوحَشَ الله منكَ يا علَم الدّ ... ين نَدِيَّ الكِرام والفُضَلا
أَعَنْ قِلاً ذا الصُّدودُ أَم ملَلٍ ... حاشا العُلا من مَلالَةٍ وقِلا
هل جائزٌ في العُلا لِرَبِّ عُلىً ... أن يغتدي هاجِراً لِربِّ عُلى
كنتَ أخاً إن جَفا الزَّمانُ وَفى ... أوْ قطعَ الوُدَّ أهلُه وَصَلا
إن أظلمتْ خُطَّةٌ أَضاء لنا ... أو ظلمَ الخَطْبُ جائراً عَدَلا
رَفيقُ رِفْقٍ لنا إذا عَنُفَ الدَّ ... هْرُ وخِلاً يُسَدِّدُ الخَللا
صديق صِدقٍ ما زال إن كذَبَ السُّ ... عاةُ للأصدقاء مُحتَمِلا
فما الذي كدَّرَ الصفاءَ مِنَ ال ... ودِّ ولم يُرْوِ وِرْدُه الغُلَلا
فضلُكَ روحُ العُلا وهل بدَنٌ ... مِن روحه الدَّهرَ واجِدٌ بدلا

عَذِّبْ بما شئتَ من مُعاتبةٍ ... أمّا بهذا الهَجر المُمِضِّ فلا
في العُمْر ضِيقٌ فصُنْهُ مُنتهِزاً ... في سَعة الصَّدر فرصة العُقلا
أما كفى نائبُ الزَّمان على ... تفريق شَمْلِ الأُلاّف مُشتمِلا
ما بالنا ما نرى وإنْ كرموا ... إلاّ من الأصدقاء كلَّ بَلا
إذا شَعِفْنا بقُرْبِ ذي شَعَفٍ ... بقربنا قيل قد نأَى وسَلا
زَهِدْتَ فينا وسوف تطلُبُنا ... رُبَّ رخيصٍ بَعدَ الكَساد غَلا
إن كان في طبعِكَ المَلالُ من الشّ ... يء فهلاّ ملَلْتَ ذا المَلَلا
بَعدَ كمال الإخاء تنقصُهُ ... فحاذِرِ النَّقْصَ بعدَ ما كمُلا
كم صاحبٍ قال لي: ألستَ على ... بلاءِ وُدِّي تُقيمُ ، قلت: بلى
كفى لخِلِّي بدَيْن خُلَّتِه ... مَجدي وفَضلي ومَحْتِدي كُفَلا
وكلّ علمٍ لمْ يَكْسُ صاحبَهُ ... حِلماً تراهُ عُطلاً بغير حُلى
لِحِفْظِ قلب الصَّديقِ أَجترع الصّ ... ابَ وأُبقي لكأْسِه العَسلا
إنْ أَنكر الحقَّ كنتُ مُعترفاً ... به أو اعْوَجَّ كنتُ مُعتدلا
أو قال ما قال كنتُ مُسْتَمِعاً ... إليه بالقول منه محتفلا
فضلُكَ في العالمين ليس له ... مِثْلٌ وقد سار في الوَرى مَثَلا
فأوْلِنا الفضلَ يا وَلِيَّ أُولي الفض ... ل ولا تبْغ حَلّ عَقْدِ ولا
يا علَم الدّين أنت علاّمة ال ... عِلْم الجَلِيِّ الأوصاف وابنُ جَلا
عَرِّفْنِيَ العُذْرَ في اجْتراحِك ذنْ ... بَ الصَّدِّ واحْضُرْ مُستَحْيِياً خَجِلا
وافْصِلْ جَميلاً هذي القضِيَّة بال ... عَدْل وخَلِّ التَّفصيلَ والجُمَلا
ولعذُر جَهولاً إذا حسدتَ فما ... صار حسوداً إلاّ لِما جَهِلا
وَجِلْتُ مِن هَجرِكَ المَخوف فَصِلْ ... واجْلُ عن القلب ذلك الوَجَلا
وابْخَلْ بودّي يا سمْحُ فالسُّمحاء الْ ... غُرُّ صيدٌ بودِّهم بُخَلا
إنَّ الكِرامَ الذين أعرفُهُمْ ... قد أوضحوا لي مِن عُرفِهِم سُبُلا
يسامحون الصديقَ إن زَلَّت النَّ ... علُ ويُغضون إن رأَوا زَلاَلا
وهمْ خِفافٌ إلى المكارم لي ... لكنهم عن مكارهي ثٌقَلا
فكن من المُرتَجى غَناؤُهُمُ ... في صدقِ ودّي وحقّق الأَمَلا
فكتب إليَّ مُعتِباً، ووَصلَ مُتقرِّباً:
قُلْ لعِماد الدين الذي رقَمَتْ ... أقلامُه في طروسه الحُللا
تَزيدُ أَبصارَنا إذا نُشِرَتْ ... نوراً فتجلو بحسنها المُقَلا
فابنُ هِلالٍ ونَجْلُ مُقلةَ لو ... راما مَداهُ في الخَطِّ ما وصَلا
فكلُّ تالٍ لها ومستمعٍ ... يَهُزُّ عِطفاً مِن راحها ثَمِلا
يا بحرَ عِلْمٍ عَذباً لواردِه ... كيف أُساوي بفيضه وَشَلا
لكَ اليراع الذي تَفُلُّ به الْ ... بيضَ المَواضي وتَعزل الأَسَلا
أَودعه الله ذو الجلال كما ... أراد رزقَ العِباد والأجلا
عمُّك عمَّ الأنامَ نائلُهُ ... فصيَّرَ النّاسَ كلَّهُمْ خَوَلا
وساد كلَّ الورى بسُودَده ... وشاد مَجداً سامَى به زُحَلا
مَنْ كُنتُ قِدْماً ربيبَ نعمته ... نَشْواً وغصن الشّباب ما ذَبُلا
فلو رأى حاتمٌ مواهبَه ... لصار من جُود كفِّه خَجِلا
أراهُ مَولاه ما أَعَدَّ له ... في الخُلْد فانْقادَ للرَّدى جَذِلا
وارتاح للراحة التي امتزجَتْ ... بالرُّوح فيها وعافَ دارَ بَلا

حَيّا الحَيا قبرَه وأنبتَ ما ... عليه من روضه الأنيق حُلى
تالله ما حُلْتُ عن ولائكُمُ ... يوماً ولا اعْتَضْتُ عنكمُ بدلا
لكن رأيتُ الخُمولَ أرْوَحَ لي ... فما أُعاني الخِصامَ والجَدلا
في دار مَولىً تُقيمُ لي أبداً ... جُموعُه في خُصومتي رُسُلا
يشير إلى قاضي القضاة كمال الدين الشهرزوري، فإنَّ الجماعة كانوا يداعبونه بحضرته، ويُغضبونه بكلمته.
مَنْ كنتُ ليثَ الشَّرى فغادرني ... بحمل أثقال جَوْرِه جَمَلا
أرى نهيق الحِمار يُطرِبُهُمْ ... ويُنكِرونَ الجوادَ إن صَهَلا
يُجحَدُ فضلي وكلُّ ذي أدَبٍ ... يَمتارُ مِمّا أصوغُ مُرتجلا
مَن لي بخِلٍّ تدومُ خُلَّتُه ... ولا أرى في خِلاله خَللا
ترى مِياهاً عيني وبي ظمأٌ ... وما أُرَوِّي بوِردَها الغُللا
وهذه قصَّتي محرَّرةً ... نظمت تفصيلها له جُمَلا
ثم هاجر إلى مصر ووصل إليها في شهر رمضان سنة اثنتين وسبعين وأنا بها، وأنعم عليه الملك الناصر وشرّفه وأكرمَه، وزادَ إدرارَه، وأجادَ إيثارَه.
وأنشدني له في غلامٍ صَيْقَلٍ يُكَنّى أبا الفتوح:
أذابَ الجسمُ حبُّ أبي الفتوحِ ... وملَّكَه الهَوى مالي وروحي
أعارَ السيفَ من عينيه حَدّاً ... يُصال به على البطل المُشيح
وَصقلاً من سَنا خدَّيه يُزري ... بضوءِ البرق للطَّرْفِ الطَّموح
التاج البَلَطيّ النحويّ

أبو الفتح عثمان بن عيسى بن منصور
ذكَرَ أنَّ أصلَ من بلدةٍ يقال لها بلَط، ومولده في بني مايدة بالمَوصل لِثلاثٍ بَقِينَ مِن شهر رمضان سنة أربعٍ وعشرين وخمسمائة. وانتقل إلى الشام وأقام بدمشق برهةً من عمره يتردَّد إلى الزَّبداني للتعليم، وكان مقيماً بها في صَوْنٍ مُقيم، ولمّا فُتحَت مِصر انتقل إليها وحَظِي، وأعتبه دهرُه ورضي، ورتَّب الملك الناصر صلاح الدين له على جامع مصر كلَّ شهر جارياً، ليكون للنحو بها مُقْرِياً، وللعلم قارياً، وكنت لقيته بدمشق فلمّا وصلتُ إلى مصر اجتمعتُ به واستنشدته من شعره فأنشدني من قصيدةٍ له وذلك في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وسبعين:
حكَّمْتُه ظالماً في مُهجَتي فسَطا ... وكان ذلك جهلاً شُبتُه بخَطا
هلاّ تجنَّبْتُهُ، والظُّلمُ شيمتُه ... ولا أُسامُ به خَسْفاً ولا شَطَطا
ومَن أضَلُّ هدىً مِمَّن رأى لهَباً ... فخاض فيه وألقى نفسَه وسَطا
وَيلاهُ من تائهٍ أفعاله صَلَفٌ ... مُلَوَّنٍ كلّما أرضيتُه سَخِطا
أَبثُّه ولَهي صِدقاً، ويكْذِبنيوعْداً وأُقسِطُ عَدلاً كلّما قَسَطا
وأنشدني له من قصيدة:
أبثُكما ما ضِقْتُ عن حَمْله فحْصا ... فقد عمَّ بالجسم السَّقام وقد خصَّا
ومِن دون كِتمان الصبابة مُهجةٌ ... تذوب على من ليس يرحمُني حِرصا
رشاً فاق بدرَ الأُفق حسناً وأَشبه الْ ... قضيبَ قَواماً مُذْ حكى رِدْفُه الدِّعْصا
وذَكر أن للقاضي الفاضل عنده يداً، وقد أسدى إليه عارفةً وندى، وبلغ به في الكرامة إلى غاية ليس لها مدى، قال: فعملت فيه عند عَوده من الشام وقومه قطعةً أوّلها: قدمتَ خيرَ قُدومِ ومنها:
أفديك من قادمٍ لم ... يزل عليَّ كريمِ
به تباعدَ بؤسي ... عنّي ووافى نعيمي
لله عبدٌ رحيمٌ ... يُدعى بعبد الرحيم
على صِراطٍ سَوِيٍّ ... من الهدى مُستقيمِ
يُنمى إلى شرفٍ في ... ذُرى المَعالي صَميم
مُهذَّبٌ حاز ما شئ ... ت من تقىً وعلوم
مُسهَّد الطَّرف يتلو ... آيَ القرآن العظيم
ومن أهاجيه قوله في أمراء الزّبداني بني سرايا:
مَن أحَبَّ الهَوانَ لا يتعدَّى الدّ ... هرَ سُكْناهُ بين آل سرايا
ما أَعَدُّوا لِنازِلٍ بهمُ شي ... ئاً سوى اجَبْهِ بالخَنا والرَّزايا

شيَمٌ بالقبيح مُكتسياتٌ ... ومن الخير والجميل عَرايا
وله من قطعةٍ:
لم أكن عارفاً لِذُلٍّ ولكن ... صِرتُ جاراً لكم فأعْدَيتُموني
ومن أطبع ماله قوله في طبيبٍ هو ابن عمّشه:
ليَ ابن عمٍِّ حوى الجَهالةَ للْ ... حِكْمَةِ أَضْحى يَطِبُّ في البلد
قد اكْتفى مُذْ نَشا به ملك الْ ... مَوْتِ فما إن يُبقي على أحَدِ
تَجُسُّ يدَ المريض منه يدٌ ... أسْلَمُ منها براثِنُ الأَسَدِ
يقول لي النّاسُ: خَلِّه عَضُداً ... فقلت: يا ليتني بلا عَضُدِ
وأنشدني له بالقاهرة وقد زارني:
دَعوهُ على ضعفي يجورُ ويَشْتَطُّ ... فما بيَدي حَلٌّ لِذاكَ ولا رَبْطُ
ولا تعتِبوه فالعتابُ يزيدُه ... مَلالاً وأَنّى لي اصْطِبارٌ إذا يَسْطو
فما الوَعظُ فيه والعتابُ بِنافعٍ ... وإن يَشْرُطِ الإحسانَ لا ينفَعِ الشَّرْطُ
ولمّا تولّى مُعرِضاً بجنابه ... وبانَ لنا منه المَساءة والسُّخْط
بكيْتُ دَماً لو كان ينفعني البُكا ... ومزَّقْتُ ثوب الصَّبر لو نفع العَطُّ
تنازعَتِ الآرامُ والدُّرُّ والمَها ... له شَبَهاً والغصنُ والبدرُ والسِّقْطُ
فللرِّيم منه اللَّحْظُ واللَّونُ والطُّلى ... وللدُرِّ منه الثَّغْرُ واللفظُ والخَطُّ
وللغصن منه القدُّ، والبدرُ وجهُهُ ... وعينُ المَها عينٌ بها أبداً يسطو
وللسِّقْطِ منه رِدْفُهُ فإذا مشى ... بدا خلفَه كالموجِ يعلو وينحَطُّ
وأنشدني أيضاً لنفسه في غلامٍ أعرج:
أنا يا مُشْتكي القَزَلْ ... مِنكَ في قلبيَ الشُّعَلْ
أصبح الجسم ناحِلاً ... بكَ والقلبُ مُشتغِلْ
دُلَّني قد عَدِمْتُ صَبْ ... ري وضاقتْ بيَ الحِيَلْ
آنَ أَنْ تَجفو الجَفا ... ءَ وأنْ تَمْلَلَ المَلَلْ
وأنشدني لنفسه في مدح المولى الأجلّ الفاضل بمصر مُوَشَّحةً مُوَشَّعةً، مُستملحة، مُبدعة، سلك بها طريق المغارب، وأتى بها بالبدائع والغرائب، وهي:
وَيْلاهُ مِن رَوّاغْ بجَوره يقضي ... ظَبيُ بَني يَزداذ منه الجَفا حظِّي
قد زاد وِسواسي ... مُذْ زاد في التِّيه
لمْ يَلْقَ في النّاسِ ... ما أنا لاقيهِ
من قيّمِ قاسي ... بالهجر يُغريه
أَرومُ إيناسي ... بهِ ويَثنيهِ
إذا وِصالٌ ساغْ بقرْبِه يُرْضي ... أَبعده الأُستاذ لا حِيطَ بالحِفْظِ
وكلّ ذا الوَجدِ ... بِطول إيراقِهْ
مُضَرَّجُ الخَدِّ ... من دم عُشَّاقِه
مَصارعُ الأُسْدِ ... في لَحْظِ أحداقِهْ
لو كان ذا وُدِّ ... رَقَّ لمُشتاقهْ
شَيطانُه النَّزَّاغْ علَّمه بُغضي ... واستحوَذَ اسْتِحواذْ بقلبه الفَظِّ
دَعْ ذِكرَه واذْكُرْ ... خُلاصَةَ المَجْدِ
الفاضِلَ الأشهَرْ ... بالعِلم والزُّهدِ
والطَّاهِرَ المِئزَرْ ... والصادِقَ الوَعْدِ
وكيف لا أشْكُرْ ... مولىً له عِندي
نُعمى لها إسْباغْ صائنةٌ عِرضي ... من كفِّ كاسٍ غاذ والدَّهر ذو عَظِّ
مِنَّةُ مُسْتَبْقِ ... ضاقَ بها ذَرعي
قد أفحمَتْ نُطقي ... واستنفدتْ وُسعي

وملَّكَتْ رِقِّي ... لمُكْمِلِ الصُّنْعِ
دافع عن رزقي ... في موطن الدَّفع
لمّا سعى إيتاغْ دهريَ في دَحضي ... أنقذني إنقاذ مَنْ هَمُّه حِفظي
ذو المنطق الصَّائبْ ... في حومةِ الفصْلِ
ذكاؤه الثّاقِبْ ... يَجِلُّ عن مِثْلِ
فهو الفتى الغالبْ ... كلَّ ذَوي النُّبْلِ
مَنْ عَمْرو والصّاحِبْ ... ومَن أبو الفضلِ
لا يستوي الأَفراغْ بواحِد الأرض ... أين من الأزاذ نُفايَةَ المَظِّ
يا أَيُّها الصَّدْرُ ... فُتَّ الورى وَصفا
قد مَسَّني الضُّرُّ ... والحالُ ما تخفى
وعبدُك الدَّهرُ ... يَسُومني خَسفا
وليس لي عُذْرُ ... ما دُمْتَ لي كَهْفا
مِن صَرفِ دَهرٍ طاغْ أَنَّى له أُغْضي ... مَنْ بكَ أَمْسى عاذْ لم يَخْشَ من بَهْظِ
قد كنتُ ذا إنفاق ... أيّامَ مَيسوري
فَعِيلَ لمّا ضاقْ ... رِزقيَ، تدبيري
والعُسْرُ بي قد حاقْ ... عَقيبَ تَبذير
يا قاسِمَ الأَرزاقْ ... فارْثِ لِتَقتيري
لا زِلْتَ كهْفَ الباغْ ودُمْتَ في خَفْضِ ... أمرُكَ للإنْفاذ والسَّعدُ في لَظِّ
قد حافظ على حروف الغين والضاد والذال والظّاء وتكلَّف لها وما قصَّر فيها.

أبو عبد الله محمد بن علي بن البواب
الموصلي النجار
ذكره تاج الدين البلَطيّ النَّحَويّ في مصر سنة اثنتين وسبعين وذكر أنه كان معلِّماً له، وهو الآن ابن ثمانين سنة، وذكر أنه يروي له مُقطَّعات حسنة، فمن ذلك ما أنشدنيه في والده:
لي أَبٌ كلُّ ما به يوصف النّا ... سُ من الخير فهو منه مُبَرّا
فهو كالصِّلِّ من بنات الأفاعي ... كلّما زاد عمره زاد شَرّا
وأنشدني له أيضاً:
أَدِرْها لقد قام السرورُ على رِجْلِ ... وحُكِّمَ جيشُ الجهل في عالم العقل
وله في عميدٍ وُلّي بغير اختيار النّاس:
فرُكِّبَت العِمادةُ فيه عُنفاً ... كتركيب الخِلافة في يزيد
أبو العبّاس أحمد بن عيسى التّموزيّ
ذكره التاج البلَطي النَّحْوي وذكر أنه أَضَرَّ على كِبَر، وهو مع فقره ذو فِقَر، كان في عُنفوان عمره معلِّماً ببلاد الهكّاريّة، وهو اليوم يقرأُ في الجنائز، ويقعد على القبور مع العجائز، وهو فقيه قد قرأَ على أَسعد، وأَتْهَم في طلب العلم وانجد، وله شِعر فيه روح، وصدرٌ لنظم النُّكَتِ الحِسان مَشروح، فمِمّا أنشدنيه من شعره قوله يذمّ حماته وكان قد مضى إلى بلَط وتزوّج بها:
عجِبْتُ من زَلَّتي ومِن غلَطي ... لمّا رأيت الزَّواجَ في بلَطِ
ومِن حَماةٍ تَزيدُ شِرَّتُها ... على كريمٍ، حِلفِ الكِرامِ، وَطِي
سُمِّيتِ زَهراءَ يا ظلامُ ويا ... تارِكَةَ الجارِ غيرَ مُغْتَبِطِ
في وجهها ألفُ عُقدةٍ غَضَباً ... عليَّ حتى كأنَّني نبَطِي
أقولُ والنّفسُ غيرُ طَيِّبَةٍ ... بِلُطْفِ قَولٍ ولفظِ مُنبَسِطِ
لها أعيدي الذي أخذْتُ فما ... خُطَّةُِ أَمثالِكُم على خُطَطي
وذكر أنه أكرى داره من تركيّ اسمه مكحول دافعه بأجرتها، ومانعه عن حُجْرتها، فعمِل في القاضي تاج الدين الشهرزوري قصيدةً منها يذمُّ فاقته ويشكو إضاقته:
لقد أصبح التَّعليقُ عِندي مُعلَّقاً ... عليه لِفأْر البيتِ مَرعىً ومَلْعَبُ
ولو وجدَتْ شيئاً سِواه لما جَنَتْ ... عليه ولكن سَوْرَةُ الجوع تَغلِبُ

وأضحتْ دروسي دارِساتٍ فليتني ... لحِقْتُ بها فالموتُ عندي مُحَبَّبُ
فيا ليتَ شِعري سائرُ الخلق هكذا ... فأحمدَ عيشي أم على الدهر أعتِبُ
ومنها في شكواه من التركي يريد من ممدوحه أن يكون المُعدي عليه والمشكي:
بُلِيتُ بمَكحولٍ جفا الكُحْلُ جَفنَهُ ... وذلك من كُحْلِ العَمى يتَشَعَّبُ
أَناخَ بمَغنايَ الذي ليس غيرُهُ ... من الأرض ما يصفو لديَّ ويَعْذُبُ
يُخاطبني بالقرطبان فأنثني ... أَقول لِمَنْ هذا الطّواشي يُقَرْطِبُ
فيضحك جيراني وأضحك معْهُمُ ... فيزدادُ غيظاً منهمُ ويُزَرْسِبُ
أي يقول: قرطبان زن روسبي.
فهذا الكِرا في كلِّ وقتٍ وربما ... يُسَلِّفني مِن قَبْل آتي وأَطلبُ
فمُنّوا على العبد الضَّعيف تكرُّماً ... بإخراجه فالحقُّ ما منه مَهْربُ
فإنّي ومن طافَ الحجيج ببيته ... وما قد حوَت من خيرة الخَلْقِ يَثرِبُ
أودُّ من الإفلاس لو كنتُ عارفاً ... بحيلة كَسْبِ الفَلْسِ كيف التَّسَبُّبُ
وأهلُ زماني أقصروا عن مبرّتي ... لقولِهمُ: هذا لبيبٌ مُهذّب
فلو كنتُ قِسِّيسَ النَّصارى لعَظَّموا ... مكاني وخرّوا ساجدين وصلّبوا
فما لي أرى بالمسلمين تهاوُناً ... بحاملِ علمٍ للدّيانة يُنسَبُ
أبو الحسن المعلّم المعروف بنُحَيس
قال التاج البلَطي قرأْتُ عليه المتنبي وعمري خمس عشرة سنة، وكان عارفاً بشعره، ومات بعد جمال الدين الوزير، وله فيه بعد عزله:
إنْ يَعزِلوكَ لِمَعروفٍ سمحتَ به ... على ذَوي الأرض ذاتِ العَرض والطُّول
فأنتَ يا واحِدَ الدُّنيا وسيِّدَها ... بذلك الجود فيها غيرُ مَعزول
بركات بن الحَلاوي المَوْصلي
أعور ذكره تاج الدين البلَطي، ووصفه بكثرة التَّهتُّك، ورفض التَّنسُّك، والتَّطرّح في الحانات والدّيارات، والتمسّك بمعاشرة أهل البطالات، يَجبي أوقاف الجامع بالموصل وهو شيخ في الأدب، واضح المنهج، صافي المنهل، وأنشدني له:
صَدَّتْ سُلَيمى بِلا جُرْمٍ ولا سبَب ... بل كان ذنبي إليها قِلَّةُ الذَّهَب
قالتْ وقد أَبصَرَتْ شيخاً أخا مَلَقٍ ... بفرْدِ عين يَرومُ الوَصل عن كثب
لم يكفني أنَّه شيخٌ أخو عَوَرٍ ... حتى يكونَ بلا مالٍ ولا نشَبِ
منصور بن علي الحمّامي
أعور قال التاج البلَطي: رأيته بالموصل، يتردَّد إلى ابن الدّهّان النَّحْوِيّ وغيره من العلماء يستفيد منهم، وهو متفَسِّق مُستهْتَر بالغِلمان، ويسلك مناهج المُجّان، وتارةً يكتسب من الحمّام، وآونةً من النّسخ وآونةً من مدح الكرام، وله يهجو ابن بكوس الطبيب وابن بزوان حمّال الجنائز ومغسّلهم:
قال ابن بزوان لأصحابه ... قولَ امرئٍ في الناس مَطبوع
لولا ابن بكّوس الذي طِبُّهُ ... عن غير منقول ومسموعِ
مُتنا وعَهد الله يا سادتي ... في عامنا هذا من الجوع

الأمير أبو الجيش من الموصل
شيخٌ طويل قد أناف على السبعين، لقيته بالموصل سنة سبعين، واستنشدته من أشعاره، وأجريته في حَلْبَة التَّحاوُر ومِضماره، ومن شعره في جمال الدين الوزير:
سأشكرُ مَنْ أَسْدى إليَّ صنيعةً ... بلا مِنَّةٍ تأْتيه لكن تبرُّعا
جماعة من أهل سِنجار
الخطيب أبو الحسن علي خطيب سِنجار
لقيت أخاه وهو خطي بسنجار لمّا وصلت إليها في سنة خمس وستين وخمسمائة، في خدمة الملك العادل نور الدين رحمه الله، وأُنشدت لهذا الخطيب، وذكروا أنه كان فاضلاً رقيق الشِّعر رائقه، من أبيات:
كيف أخونُ والوَفاءُ مَذهبي ... أمْ كيف أسْلو والوداد ديني
عاهدْتُهُمْ أنْ لا أخونَ في الهوى ... قِدْماً وأعطيتُهُمُ يميني
يا سادتي لا سلمتْ من الرَّدى ... يَمينُ مَنْ يَمينُ في اليمينِ

ثلاث كلمات متجانسة اللفظ، متباينة المعنى ، سمح خاطره بها من غير تعسُّف، والبيت في غاية الرقّة والسّلاسة.
قالوا وقد ودَّعتُهُمْ وأدمُعي ... تجري وقد أبدى الأسى حنيني
في الهجر أجرٌ فاصطبر إن لعبتْ ... أيدي النَّوى بقلبك الحزين
فارتحلوا فبتُّ من أجرٍ على ... شكٍّ ومن هَجرٍ على يقين
سلامة بن الزرّاد السِّنجاريّ
كان بعد الخمسمائة. له يهجو بعض القضاة:
ضاق بحفظ العلوم ذَرْعاً ... ضِيقةَ كفَّيْه بالأيادي
قاضٍ ولكن على المعالي ... والدين والعقل والسَّدادِ
يعدِلُ في حكمه ولكن ... إلى الرُّشا أو عن الرَّشاد

الرئيس مجد الدين
الفضل بن نصر السنجاري
ذكر أنه من أهل الفضل ولكنَّه قليل النظم، أنشدت له:
أَيُّ جُرمٍ منّي توالى إلى الدَّهْ ... رِ فكافى ببُعدِكُم ليت شعري
وبَلاني بنار شَوقٍ إليكم ... زَندُها والوَقودُ قَلبي وصَدري
مات صبري بها ولولا رجائي ... أن يزول البِعادُ كنتُ كصبري
البهاء السِّنجاري
من المتفقِّهة: أسعد بن يحيى بن موسى السنجاري أنشدني لنفسه بدمشق في مدح كمال الدين الشهرزوريّ سنة سبعين:
مَنْ مُنْصِفي مِن ظَلومٍ لَجَّ في الغضبِ ... يَظَلُّ يلعبُ والأشواق تلعب بي
مُستعرِب من بني الأتراكِ ما تركتْ ... أيّامُ جَفوته في العُمر من أرَبِ
تناسبَ الحُسنُ فيه غيرَ مُكتسَبٍ ... والحُسنُ ما كان طبعاً غيرَ مُكتسَبِ
مُنايَ من لذَّةِ الدُّنيا بأجمعها ... تقبيلُ دُرِّيِّ ذاكَ المَبسِم الشَّنِبِ
فدَيْتُه من حبيبٍ قال مُبتسماً ... دَعْني من الهَزْل ما حُبِّي من اللَّعِبِ
للَّه ليلتنا والكأْسُ دائرةٌ ... على النَّدامى وبدرُ التِّمِّ لمْ يغِبِ
طافتْ لِحَيْنِيَ كفُّ الأعجميِّ بها ... فكدْتُ أُسْلَبُ من عقلي ومن أدبي
أدارها فتغشَّتْهُ أَشِعَّتُها ... وخِلْتُه خاضَ في بحرٍ من اللَّهب
فقلتُ: يا قوم هذي النارُ يحملُها ... كفٌّ من الماء، هذا غاية العجبِ
وقام
البهاء السنجاري
وانشد الملك النّاصر قصيدةً في دار العدل بدمشق سنة إحدى وسبعين في شعبان منها:
جرَّدْتِ من فَتكاتِ لحظكِ مُرْهَفا ... وهَزَزْتِ من لينِ القوام مُثقَّفا
وجَلَيْتِ من روض الخُدود شَقائقاً ... وأدرتِ من خمر اللَّواحِظِ قَرْقَفا
فمتى تَعاطَى اللَّحْظُ فضلةَ كأْسِها ... لم يُلْقَ إلاّ مُستهاماً مُدْنِفا
ومنها:
يا ظبيةَ الهَرَمَيْنِ من مصرٍ على الرَّ ... بْعِ السلامُ وإنْ تقوَّض أوْ عفا
أصبو إلى عصرٍ تقادمَ عهدُه ... فأَزيد من وَلَهٍ عليه تلهُّفا
حَدَقُ المَها وقدودُ باناتِ النَّقا ... وتفَيُّؤُ الفَيُّومِ في زمَنِ الوَفا
والخمرُ نارٌ في الكؤوسِ يَزيدها ... وَقْداً حَبابُ الماء يَرْعَد إن طَفا
ومنها:
لِلَّه ليلةَ ودَّعَتْ ودموعها ... كالطَّلِّ فوق الورد آنَ ليُقطَفا
فكأنَّني إذْ بِتُّ ألوي عِطْفها ... ألوي من الرَّيحان غُصناً أَهْيَفا
بيضاءُ يَعطِفُ قدَّها سُكْرُ الصِّبا ... كَحْلاء تكسِرُ منه جَفْناً أوْ طفا
أحبابنا بالقصر لو قصَّرْتُمُ ... في الهجر ما شَمِتَ الحسودُ ولا اشتقى
أشكو إلى الوادي فيَحنو بانُهُ ... من رقة الشَّكوى عليَّ تَعَطُّفا
ومنها:
وجرى بي الأملُ الطَّموحُ فأَمَّ بي ... سلطانَ أرض الله طَرّاً يُوسُفا
الناهب الأرواح في طلب العُلى ... والواهب الآجال في حسْن الوَفا
مَولىً له في كلِّ يومٍ يُجْتَلى ... مُلكٌ يُجَدَّدُ أو مَليكٌ يُصطَفى

فخليفة الله الإمام بفعله ... في أرض مصر على سِواه تشَرَّفا
مَلكٌ ملائكةُ السماء جُنودُه ... والسَّعدُ عند رِكابه إن أَوْجَفا
والله ناصره على أعدائه ... كَتبَ القضاءُ له بذلك أَحرفا

الرئيس إلياس بن علي المعروف ب
الصفّار
كانت الرئاسة بسنجار لم تزل فيهم، معمورةً بمساعيهم، حاليةً بمعانيهم، وسمعتُ أن هذا الياس ذو فضيلةٍ وفضل، ونباهةٍ ونبل، ومعرفةٍ وعُرْفٍ، وفُكاهةٍ وظرفٍ، وله شعر يقطر ماء اللطف من رقَّته، ويَزْهَرُ نور الحُسن من حَدَقَته، أنشدني له البهاء السِّنجاري بدمشق شعراً استجَدْته، وذكر أنه صنَّف كتاباً في سائر المعاني والأوصاف، وأورد أشعار النّاس في كلِّ معنى وضمَّ إليها من شعره. فمِمّا أنشدني له قوله:
يا لَلْهَوى إنَّ قلبي في يدَي رَشَأٍ ... مُزَنَّر الخَصْرِ يَسبي الخَلْقَ بالحَدَقِ
مُستعرِبٍ من بني الأتراكِ ما تركتْ ... لحاظه في الهوى منّي سوى رمَقِ
سأَلْتُهُ قبلةً أَشفي الغليلَ بها ... يوماً وقد زَرْفَن َالأصداغَ في الحَلَق
فصدَّ عنّي بوجهٍ مُعرِضٍ نثَرَتْ ... يد الحياء عليه لؤلؤَ العرَقِ
فصِحْتُ من نارِ وَجدي نحو مَن عذَلوا ... فيه وقلبي حليفُ الفِكر والقلقِ
قُوموا انظروا وَيْحَكُمْ شمسَ النهار فقد ... أَلْقَتْ عليها الليالي أَنْجمَ الأُفقِ
والده الرئيس علي الصفّار
ذكر أن له شعراً ورسائل.
نصيبين
المهذب ابن المقدسي
رأيته في سنة أربع وستين وخمسمائة بدمشق وهو كهل، وله شعر حسن وطبع رائق، وعاد بعد ذلك إلى نَصيبين، وسمعت أنه توفي، ومن شعره من قصيدة في مدح بعض القضاة الشهروزريين:
هَناكِ تَلافُ المُعَنّى هَناكِ ... ويَهْنيه أن كان ذا من رِضاكِ
فحسبي رِضاكِ وَمَنْ لي به ... ولو كان في صَفْحَتيْه هَلاكي
مُوَيْلِكَةَ القلبِ من ذا الذي ... إلى قتل مِثليَ ظُلماً دَعاكِ
وَعَنْ صَدّ صَدِّيَ مَن قد نهاكِ ... وفي وَصْلِ وَصْلِيَ مَن قد لحاكِ
وإنّي لأَهوى هوى النفس فيكِ ... وأشتاقُ شَوْقِي إلى أن أراكِ
ومِن أجل قَدِّكِ أهوى الغصونَ ... وأصبو إلى نَبَعَاتِ الأراكِ
وتحسدُ عيني على القرب من ... كِ سِمْطَ اللآلي وعُود السِّواكِ
فهذا يُصافح منك الوريدَ ... وهذا يُقبِّل بالأمنِ فاكِ
أَسِرْبَ المَها لستُ شوقاً إليكَ أصبو ولكن إلى مَن تُحاكي
فقولا للَمياءَ لا تَحْسَبي ... على البُعدِ والقرب قلبي سَلاكِ
فلي قوّةٌ تحملُ الرّاسياتِ ... وتعجِزُ عن ذَرَّةٍ مِن جَفاكِ
وبي منكِ ما بأبي أحمدٍ ... من الوَجْدِ بالمَجْدِ لا مِن هَواكِ
الجزيرة وفنك
حجة الدين
مروان بن علي بن سلامة بن مروان
من أهل طنزة، مدينة بديار بكر، الفَنَكي وزر لأتابك زنكي في آخر عهده وكذا ذو مروّة، وسخاء وفتوّة، وإباء وحميّة، له البيت الكبير، والفضل الغزير، وكانت بين عمي العزيز قدّس الله روحه وبينه الصداقة الصادقة، والمودة المؤديّة إلى الموافاة الموافقة، جليل القدر، نبيل الذكر، مُلِّي عمراً طويلاً، وأُولي بِرّاً جزيلاً، وتوفي سنة نيف وخمسين وخمسمائة، حسن الأثر، حميد الوِرد والصدر، قال علم الدين الشاتاني أنشدني بيتين له نظمهما في المنام:
وكُنّا نُرَجّي أن نعيش بغِبطةٍ ... وَنَشْفي غَليل القلبِ فانقلبَ القَدَرْ
وحالتْ صُروفُ الدهرِ دونَ مُرادنا ... جميعاً فلا عينٌ هناكَ ولا أَثَرْ
ومن شعره أيضاً ما أنشده سعد الله بن محمد المقرئ إمام المسجد بدرب السلسلة قوله من مرثية:
فلو أنّي مَلَكْتُ قِيادَ أمري ... لكُنّا في الثَّرى نَبْلَى جميعا
كما كُنّا على عهد التَّصابي ... بطيب العَيْش وُرّاداً شُروعا
قال ومن كتابٍ إليه:

كم تقاسي القلوب من ألم الشَّوْ ... ق ومن صَبْرِها عن الأحبابِ
فإذا قَلَّ عن لقائكَ صبري ... فاحْيِيني منكَ سَيِّدي بكتابِ
وقوله في كتاب إلى ولده يأمره بقلّة المخالطة:
أَخْشَى عليك من الزمانِ وصرفِه ... فالقلب من حَذَري عليك مُرَوَّعُ
ما إن يحدثني الضميرُ بصالحٍ ... إنَّ الشَّفيق بسُوءِ ظنٍّ مُولَعُ
ومن مقطوعات حُجّة الدين أبي عبد الله مروان بن سلامة بن مروان الطنزي ما نقلته من مجموع عليه خطّه قوله:
لئِن طال عهدي بالأحبَّةِ وانْثنتْ ... صُروفُ الليالي بيننا تَتَقَلَّبُ
فإنّي وإيّاهم على كل حالةٍ ... سَواءٌ نلومُ الحادثات ونعتبُ
وإن كان لا عتب على الدهر إنّه ... يَمُرُّ زماناً ثم يَحْلُو وَيَعْذُبُ
وقوله:
يا مَن تَجَنّى بلا ذنبٍ ولا سَببٍ ... أنا المُحبُّ وأنتَ الهاجرُ القالي
وكلَّما زِدتُ في وَجْدِي وفي قلقي ... شوقاً إليك فأنتَ المُعرِض السالي
وكلُّ شيءٍ سَيَبْلى بعد جِدَّتِه ... إلاّ غَرامي وَوَجْدي ليس بالبالي
وقوله:
سقى الله أيامَ التَّلاقي فإنّها ... هي العُمْرُ والعيشُ الحميدُ المُوافقُ
وبُعْداً لأيامِ الفِراق فإنّها ... على كلِّ أحوال الفتى تَتضايقُ
فلولا الأماني كنتُ مَيْتاً بِبُعْدِكُم ... ولكنني أحيا لأنّيَ شائقُ
وما ذاق طعمَ البُؤْسِ في الوصلِ مُغْرَمٌ ... ولا فازَ بالعيش الهنيئ مُفارِقُ
سواءٌ هَجَرْتُمْ أو مَنَنْتُمْ بوَصْلِكُم ... فإنّي لكم دون البريّة وامقُ
حُرِمْتُ رِضاكم إن سَلَوْتُ وإنّني ... على ما عَهِدْتم في المَوَدَّةِ صادقُ
وقوله:
لَعَمْرُكَ ما الدنيا وإن زالَ بُؤْسُها ... وَأَوْلَتْ بَنيها في سَعادَتِهم أمرا
بجامِعةٍ شَمْلاً ودافِعةٍ أذىً ... ورافعةٍ بُؤْساً وسامِعةٍ عُذْرا
وإن أَمْتَعتْ يَوْمَاً حَبيباً بنَظرَةٍ ... سَتَمْنَعُهُ عمّا يُحاوله دَهْرَا
وقوله:
إنّ ردّ السلام عن كُتُبِ الإخْوان فرضٌ كفرض رَدِّ السَّلامِ
وعلى كلِّ حالةٍ ليس عندي ... منكَ بُدٌّ في هِجْرتي ومُقامي
وقوله في صديق اشتغل عنه بالولاية:
إنَّ مِن حُرفتي ومن سُوء حَظّي ... حين أرجو من الصديق وِصالَهْ
يَتجافى عنّي إذا نال خيراً ... ويُريني بما أُريدُ جَهالَهْ
قلِحُبّي له وحِفظِ وِدادي ... أكتفي أنني صديق البِطالَهْ
وقوله:
لَعَمْرُكَ ما الإنسانُ في كلِّ حالةٍ ... ينالُ الذي يرجو ويُدرك ما يَبْغِي
ولكنْ قضاءُ الله في الخلق سابِقٌ ... فيُمْضي الذي يُمْضي ويُلْغي الذي يُلْغي
وقد كنتُ أرجو جَمْعَ شَمْلِ أحِبَّتي ... وشملي وأطْغَتْني الأماني التي تُطْغي
فأقعدني المِقْدارُ دون إرادتي ... على أنّها الأيام تَبْغِي كما نَبْغِي
وقوله:
إذا سَلِمَتْ نفسُ الكريم وعِرْضُه ... فلا بأسَ إن مالَ القضاءُ على المالِ
وأنتَ تُضيع المال بالجود دائماً ... فما بالُ هذا المالِ يَخْطُرُ بالبالِ
وقوله:
الرَّدُّ أحسنُ من وعدٍ وإخلافِ ... والمَطْلُ أَقْبَحُ من بُخْلٍ بإسعافِ
فحَقِّقِ الوَعدَ وانْجِز ما وَعَدْتَ به ... واحْبُ الصديق بإحسانٍ وإنصافِ
وقوله:
إن كان قلبُك فارغاً من ذِكْرنا ... فالقلبُ من ذِكراكَ لا يَتَفَرَّغُ
ولَئِنْ بلغت مُناك من هِجْراننا ... فوِصالكمْ أُمْنِيَّةٌ لا تُبْلَغُ
وقوله:
لا تَضِيقَنَّ بالحوادثِ ذَرْعَاً ... وَتَوَقَّعْ من بعد عُسْرِكَ يُسْرا
ليس حُكمُ القضاء فيه سواءً ... قد يكونُ القضاءُ نَفْعَاً وضُرّا
وقوله:

سلامٌ على ريمٍ برامةَ إنّها ... مُنى النفْسِ في الدنيا إذا ما تمَنَّتِ
تضيءُ بها الدنيا إذا هي أقبلت ... وتُظْلم في عيني إذا ما توَلَّتِ
وقوله:
ودّي على طُولِ النَّوى ... غَضٌّ وإخلاصي جديدُ
وهَواك في قَلْبِي يزيدُ مع الفِراق ولا يَبيدُ
وقوله:
لَعَمْري لئِن طال المَدى وتَصرَّمَتْ ... ليالٍ وكان الوَصْلُ فيها يَزينُها
فإنّي راعٍ للوِداد وإن قَسَتْ ... قلوبٌ فإنّي بالوَفا أستلينُها
وإنْ جَمَحَ الإخوانُ عنّي رددتُهمْ ... بأسباب ودٍّ خالصٍ لا أخونُها
وإن أعرضوا أقبلتُ غيرَ مُوَدِّعٍ ... وإن بذلوا وجهَ الإخاءِ أصونُها
فلا تكُ في دِين المَوَدَّةِ خائناً ... وأنتَ لها في كلّ حالٍ أمينُها
وقوله:
هجرتِ فلم انعمْ بعيشٍ ولا انثنى ... إلى القلب رَوْحٌ غيرُ ذِكرِ وِصالكِ
ولا خَطَرَتْ في القلب خطرةُ راحةٍ ... سوى خَطْرَةٍ فيها كريمُ خيالكِ
أُلاقيك بالفِكر الذي هو لازمٌ ... لقلبي فهل يا عَزُّ عُجتُ ببالكِ
وهل لمثالي في فؤادك صورةٌ ... كما في فؤادي صورةٌ لمِثالكِ
عليك سلامُ اللهِ إنّي مُوثَقٌ ... لِقِلَّة صبري والهوى في حِبالكِ
وقوله في الشوق:
بأرض بغداذ لي خِلّ أتيهُ به ... على العِراقَيْنِ وهو الحارثُ بن علي
وبي إليه من الأشواق ما عَجزت ... عن حملِه حاملاتُ السهلِ والجَبلِ
لولا التَّسَلّي بآمال اللِّقاءِ لهُ ... لمِتُّ شَوْقَاً ولكنّي على أملِ
وقوله في الزهد:
وما الدنيا وإن طابت ودامتْ ... باكثر من خيالٍ في منامِ
تزولُ عن الفتى ويزولُ عنها ... كما زال الضياءُ من الظلامِ
وقوله في الحكمة والتكرم على ذوي القربى:
إذا لم يكن جاهي لقوميَ نافعاً ... وماليَ مضنونٌ به عن أقاربي
فلا كان ذاك الجاه والمال إنّه ... برِغميَ مَذْخُورٌ لبعض الأجانبِ
وقوله في احتمال المحبّ جَوْرَ محبوبه:
وإنّي وإنْ أَقصيتَني وقطعتني ... وأعرضتَ عنّي في الهوى غيرُ عاتبِ
لأنك أقصى مُنيتي وأَحبُّ مَن ... إليَّ وأحلى في الفؤاد وصاحبي
وكلّ الذي يأتي إليَّ مُحبَّبٌ ... إذا عَزَّ منك الوَصلُ لَيَّنْتُ جانبي
أُعاوِدُ مَن أهواه حتى أُعيدَهُ ... إلى الحقِّ مُختاراً ببذل الرغائبِ
وقوله من قصيدة يوصي بها ولده:
وَمَنْ تحَلَّى بأخلاقٍ مُوافِقةٍ ... للخَلْقِ أغنتهُ عن مالٍ وعن نسبِ
لا تَكْرَهِ النُّصْحَ ممّن قصدُه حَسنٌ ... وإنْ دُعِيتَ إلى المعروفِ فاسْتجبِ
وقوله:
يا ذا الجلال إذا قضيتَ قضيةً ... فَأَعِنْ عليها إنني لك شاكر
وامْنُنْ بصبرٍ في القضاء فَخَيْرُ مَن ... لَقِيَ القضاءَ مُسَلِّمٌ أو صابرُ
واغْفِر ذنوبي إنّها مكتوبةٌ ... وأنا المُقِرُّ بها وأنتَ الغافِرُ
أحسنْ ليَ التوفيقَ باقي مُدَّتي ... فأنا الضعيفُ وحاليَ المُتقاصرُ
وقوله:
كأنني حين أحبو جَعْفَراً مِدَحي ... أَسقيه ماء أُجاجاً غيرَ مَشْرُوبِ
إنّي تَوَدُّكمُ نفسي وأمنحكُمْ ... نُصحي وكم من مُحِبٍّ غيرُ محبوبِ
وقوله في الوفاء والمحافظة على الولاء:
إن كان قد عُدِمَ اللقاءُ فإنني ... بوِدادِكمْ مُستَهتِرٌ مفتونُ
كَلِفٌ بكم مُتَحَيِّلٌ في قُرْبِكُمْ ... ولقائِكم والوصل كيف يكونُ
كم حاضرٍ في الدار غيرُ مُحافظٍ ... ومُفارقٍ ووِداده مأمونُ
وقوله من أول مكاتبة:
لَئِنْ شَطَّتْ بنا دارٌ فإنّا ... بصِدقِ الودِّ منّا في اقْترابِ
وإن كنّا على نَأْيٍ فإنّا ... نُحبُّكمُ وحَقِّ أبي تُراب

ولستُ بآيسٍ مِن جَمْعِ شَملٍ ... وتعريجٍ على ذاك الجَنابِ
فكم من نازحٍ أمسى عَميداً ... وأصبحَ ذا سُرورٍ بالإيابِ
وقوله:
وَجْدُ قلبي على النَّوى لا يَزولُ ... وعُهودي كحُسنكمْ لا تَحولُ
ظَلَّ صدري لبَيْنِهمْ حَلْبَةَ الوَجْدِ، وجيشُ الغرام فيها يَجولُ
إنْ أَكُن عنكمُ تحَوَّل جسمي ... ففؤادي ما إنْ له تحويلُ
قد كساني هوى العِراقِ إليكمُ ... ثوبَ شَوقٍ يَشِفّ منه النُّحولُ
أنا في فتيةٍ لهم خضع الدَّهرُ ولكنْ بهم عليّ يصولُ
بوجوهٍ كالشمسِ حُسْناً، وأخلا ... قٍ لِطافٍ تُسْبى بهِنَّ العقولُ
وعُقودٍ صحيحةٍ في وِدادٍ ... ففؤادي بها صحيحٌ عَليلُ
وزمانٍ صافٍ ووقتٍ مُطيعٍ ... مُسْعِدٍ لا يعود فيما يُنيلُ
صِبْغُ ذاك الوِدادِ صِبْغَةُ أَصْلٍ ... ما لِلَوْنِ الخِضابِ منه نُصولُ
ابن الصائغ الجزَري
قرأت في مجموع بخط أبي الفضل بن الخازن البغدادي هذين البيتين منسوبين إليه:
قُبْحُ أعمالنا يَدُلُّ عليه ... قُبْحُ أعمالِ من يُوَلَّى علينا
لَوْ توَلّى القَضاءَ قِردٌ بأرض الصين ما دَحْرَجوه إلاّ إلينا

الشيخ أبو نصر الحسن بن أسد الفارقي
الحسن بن أسَد، حسَنُ القَول أسَدُّه، فارسُ النَّظم أسدُه، ذو اللفظ البليغ، والمعنى البديع، والخاطر السّريع، والكلام الصنيع، فلفظُه عَقْدُ عِقْد، ومعناه ليس بمعَقَّد، وجوهر صنعته في سلك الفضل غيرُ مُبَدَّد، فلله دَرُّ ذا الصّانع، ذي الدُّرِّ النّاصع، الذي تُنصِعُ جلود الحُسّاد منه في المناصع، اليومَ عدوُّ ابن أَسَدٍ ساءَ نبأً ودعم وَيلاً، وحَسوده جَرَّ من الخجل ذَيلاً، وفرَّ من الوَجَل ليلاً، حيثُ أَحْيَيْتُ ذِكرَه بإطرائي إيّاه، وكان ركَد وكَدَر ماؤه الصافي في منبع الفضل فأجريناه، وفي مَعين عين هذا الكتاب أنبعناه،، وفي سوق الكَساد ما بِعناه،، أَقدَمُ أهل العصر زَمانا، وأقومُهُم بالشِّعر صنعةً وبيانا، كان في زمان نظام المُلك ومَلِكْشاه، وشملَه منهما الجاه، بعد أن قُبِضَ عليه، وأُسيءَ إليه، فإنَّه كان مُتولِّياً على آمِدَ وأعمالها، مُستبِدّاً باستيفاء أموالها، فخلَّصه الكامل الطبيب، وقضى أربه ذلك الأريب، فنشرع في الإشعار بأشعاره، ونشرح فيها بعضَ شِعاره، ولا ندع هذا المهِمَّ لا مهملاً ولا مُجمَلا، ونُملي من فوائده ما يملأُ المَلا مُفَصَّلا، أُودِعَ فَصَّ الفَصاحة خاتِمُ كَلِمِه، ونشر في معالم علمه خافقُ علَمه، وشَتْ عِبارته بالطِّيب وشْيَ العبير، ووشتْ في الحُسنِ وَشْيَ التَّعبير، وزَعَتْ كلَ كلامه الأَفهام، وهامت في استحسانه الأوهام، وكان يَنظِمُ الشِّعرَ طبعاً ويتكلَّف الصَّنعةَ فيه، ويلتزم ما لا يلزم في رَوِيِّه وقوافيه، وكانت له نفسٌ كلُّ نفسٍ بكرمها مُعتدّ، ونفَسٌ طويلٌ في النَّظم مُمْتَدّ، سائرٌ شِعرُه، شائعٌ ذِكره، يقع في منظومه التَّجنيس الواقع، الرَّائقُ الرَّائع، وكان من فحول الشُّعراء في زمانه، ومن المُغَبِّرين في وُجوه أقرانه، له في الشَّمعة:
ونديمةٍ لي في الظَّلامِ وَحيدة ... مِثلي، مجاهدة كمِثل جِهادي
فاللَّون لوني والدُّموعُ كأَدمُعي ... والقلبُ قلبي والسُّهادُ سُهادي
لا فرقَ فيما بيننا لو لم يكن ... لهبي خَفيّاً وهو منها بادِ
وله:
أَريقاً من رُضابِكِ أم رحيقا ... رشَفْتُ فلستُ من سُكري مُفيقا
وللصَّهباء أَسماءٌ ولكن ... جهِلْتُ بأنَّ في الأسماء رِيقا
حَمَتني عن حُمَيّا الكأْسِ نَفْسٌ ... إلى غير المعالي لن تتوقا
وما تَركي لها شُحّاً ولكن ... طلبتُ فما وجدْتُ بها صديقا
وله:
وإخوانٍ بَواطِنُهُمْ قِباحٌ ... وإنْ أَضْحَتْ ظواهرُهُمْ مِلاحا
حٍبْتُ مِياهَ وُدِّهِمُ عِذاباً ... فلمّا ذُقتُها كانت مِلاحا
وله:
يا بدرَ تِمٍّ ما بدا ... للناس رونقُه ولاحا

إلاّ وخاصم فيه قل ... بي كلَّ عُذّالي ولاحى
لم يُبْقِ لي، لمّا نَأَيْتَ، الدهرُ سُؤْلاً واقْتراحا
عَجَبَاً عَشِيّةَ راح لي ... إذ لم أمُت في وقتِ راحا
وله:
وَوَقْتٍ غَنِمَاه من الدّهر مُسْعِدٍ ... مُعارٍ وأوقاتُ السُّرورِ عَواري
مَعانيه ممّا نبتغيه جميعها ... كَواسٍ وممّا لا نريد عَواري
أدارَ علينا الكأْسَ فيه ابنُ أربعٍ ... وعَشرٍ، له بالكأسِ أيُّ مَدارِ
تناولَها منه بكفٍّ كأنَّما ... أناملُها تحت الزُّجاج مَداري
وله:
صدَّ الحَبيبُ وقال لي ... بي وَيْكَ أكثرتَ المَلاذا
اقْطع فقلتُ أَبْعَدَ ما ... لم يَخْفَ مِن كلِّ المَلا ذا
وله:
تَيَّمَ قلبي شادِنٌ أَغْيَدُ ... مُلِّك فالناسُ له أَعْبُدُ
لو جاز أن يُعبَدَ في حُسنه ... وظَرفه كنتُ له أَعْبُدُ
وله:
إن لم تُنِلْني منكَ وَصلاً، به ... بعد الجَفا أَحْيَا، فميعادا
لو جُدْتَ لم أَعْتِبْكَ مِن بعدِها ... ولا إلى الشكوى فمي عادا
وله:
تبَّاً لدهرٍ أنا في أُمَّةٍ ... منه كثيري الغَدرِ أَوْغَادِ
أزهدُهم في غَيِّه رائحٌ ... حِرْصاً على دُنياه أو غادِ
وله:
أفدي بنفسي من له ذُكْرَةٌ ... عندي به غاديةٌ رائحهْ
يُهدي بنَشْرِ الريح مِن نحوِه ... إليَّ كالمِسك له رائحهْ
ظَبْيٌ جرى في جَسدي حُبُّه ... جَرْيَ دمي جارحة جارحهْ
يَجْرَحُني لحظاً فَمَنْ ذا رأى ... كَطَرْفِهِ جارحةً جارحهْ
وله:
يا صاحِ إنَّ الخمر قَتّالةٌ ... فَأَعْفِ عنها النفسَ يا صاحِ
وانْظُر فكم بين فتىً طافحٍ ... من سُكْرٍ وفتىً صاحِ
فخَلِّها، وانْتَفِ منها، لِمَن ... يَجْتَلب الراحة بالراحِ
فالحقُّ ما أوضحتُ من أمرِها ... والحقّ لا يُدفَع بالراحِ
وله:
هَوِيتُ بديعَ الحُسنِ للغُصنِ قَدُّه ... وللظبي عَيْنَاه وخَدّاه للوَرْدِ
غَزالٌ من الغِزلانِ لكن أخافه ... وإنْ كنتُ مِقداماً على الأسد الوَرْدِ
وله:
كم لك عندي بحَسْب حُبّي ... من سببٍ في الهوى وَكِيدِ
يقولُ للنفس حاولي ما ... شِئتِ سوى سَلْوَةٍ وكِيدي
إن سَرَّني في الزمانِ وَعدٌ ... فيك فكم ساءَ من وَعيدِ
قد ذُبْتُ غَمّاً مُذْ غاب عنّي ... وجهك يا نُزهتي وَعيدي
بَقِيتُ فَرْدَاً وليس يبقى ... شيءٌ على الهمِّ كالفَريدِ
جسمي له كالخِلال سُقْماً ... وَدَمْعُ عَيْنَيّ كالفريدِ
وله:
عاتَبْتُهُ فَغَرَسْتُ في ... وَجَنَاته بالعَتْب وَرْدَا
ظَبْيٌ له طَرْفٌ غدا ... أسداً على العشّاق وَرْدَا
لمّا بدا في تيهه ... فَرْدُ الجمال يَهُزُّ قَدّا
قَدَّ القلوبَ بسيفِ د ... لٍّ يَنْهَبُ المُهجاتِ قَدّا
ما كَلَّ قطُّ ولا فَلَلْنَ له صُروفُ الدهرِ حَدّا
ولقد تجاوز حُبُّه ... عندي جميعَ الناس حَدّا
وله:
أَفْدِيكَ يا مَن طولُ إعراضه ... عنّيَ قد شَيَّبَني أَمْرَدا
لستُ أُبالي أَحِمامٌ إذا ... هجرتَني لافَيْتُه أمْ رَدى
وله:
أسرفتَ في هجرِ مُحِبٍّ كَمِدْ ... أَحْسَن في حُبِّكُمُ واقْتَصدْ
رِفْقاً به كم من حبيبٍ قضى ... على مُحِبٍّ صَدُّه وقتَ صَدّ
لستَ ترى في الحبّ يوماً ولا ... تسمع أشقى منه بَخْتَاً وجَدّ
ما وَجَدَ العُذْرِيُّ في حُبِّه ... عفراءَ إلاّ بعضَ ما قد وَجَدْ
وله:
أَتَيْتُ إلى داره البارِحَهْ ... وفي كلّ ناحيةٍ نائحهْ

وقد عَلِقَتْه أَكُفُّ المَنونِ ... ففي كلِّ جارحةٍ جارحهْ
وله:
ولَرُبَّ دانٍ منك تَكْرَه قُرْبَهُ ... وتراه وهو غِشاء عينك والقذى
فاعْرِف وخَلِّ مُجرِّباً هذا الورى ... واترك لقاءك ذا كَفافاً والْقَ ذا
وله:
أيا ليلةً زار فيها الحبيبُ ... أعيدي لنا منكِ وَصْلاً وعُودي
فإنّي شهدتُكِ مُستمتِعاً ... به بين رَنَّةِ نايٍ وعودِ
وطِيبِ حديثٍ كَزَهْرِ الرِّياضِ ... تَضَوَّع ما بين مِسكٍ وعُودِ
سَقَتْكِ الرَّواعِدُ من ليلةٍ ... بها اخْضرَّ يابِسُ عَيْشِي وعُودي
وفي لي بوَعدٍ ولا تُخْلِفيهِ إخلافَ دَهرٍ به لي وعودِ
وله:
لا تطلُبي في الأنامِ خِلاًّ ... يُصفيكِ ودّاً، وعنه عَدّي
فلو عددتُ الذين خانوا ... فيه عهودي أطلتُ عَدّي
وله:
يا مَن حكى ثغرُه الدُّرَّ النظيم وَمَنْ ... تُخال أصداغُه السودُ العناقيدا
اِعْطِفْ على مُستَهامٍ من أسفٍ ... على هواكَ وفي حَبْلِ العَنا قِيدا
وله:
بِنْتُمْ فما لحظَ الطَّرْفُ الوَلوعُ بكمْ ... شيئاً يُسَرُّ به قلبي ولا لَمَحَا
فلو مَحا فَيْضُ دمعٍ مِن تَكاثُرِه ... إنسانَ عَينٍ إذاً إنسانَه لَمَحَا
وله:
جُدْ لي بوَصْلٍ منك يا مَن ... قد بُليتُ به وساعِدْ
واشْفِ الصَّبابة بالعِنا ... قِ مُوَسِّدي كَفّاً وساعِدْ
وله:
كم ساءَني الدَّهر ثمّ سَرَّ فَلَمْ ... يُدِمْ لنفسي هَمّاً ولا فَرَحَا
أَلْقَاه بالصبرِ ثمّ يَعْرُكني ... تحت رَحىً من صُروفه فَرَحَى
وله:
إلى كم أُعاني الوَجْدَ في كلِّ صاحبٍ ... ولست أراهُ لي كَوَجْديَ واجِدا
إذا كُنتُ ذا عُدْمٍ فَحَرْبٌ مُجانِبٌ ... وَتَلْقاه لي سِلْماً إذا كنتُ واجِدا
أُحاوِل في دَهْرِي خليلاً مُصافِياً ... وَهَيْهاتَ خِلاًّ صافياً لستُ واجِدا
وله:
لا تَغْتَرِرْ بأخي النِّفاقِ فإنّهُ ... كالسَّيفِ يقطع وهو مَرْهُوب الشَّذا
فالخِلُّ مَن نَفَعَ الصديقَ بضَرِّه ... كالعودِ يُحْرَقُ كي يَلَذَّ لك الشَّذا
وله:
شَيَّبَ رَأْسِي وِدادُ خِلٍّ ... سالَمْتُه في الهوى وعادى
مَرِضْتُ من حبّه فما إنْ ... لحُرْمتي زارني وعادا
أَتْلَفتُ عَصْرَ الشباب فيه ... يا حبَّذا لو مضى وعادا
وله:
غَدَوْنا بآمالٍ ورُحْنا بخَيبةٍ ... أماتَتْ لها أفهامَنا والقرائحا
فلا تَلْقَ منّا غادياً نحو حاجةٍ ... لتسأله عن حاله والْقَ رائحا
وله:
بَعُدْتَ فأمّا الطَّرفُ منّي فساهِدٌ ... لشوقي وأمّا الطَّرْفُ منك فراقِدُ
فَسَلْ عن سُهادي أَنْجُمَ الليل إنها ... ستشهدُ لي يوماً بذاك الفَراقِدُ
وله:
قَطَعْتُكَ إذ أنت القريب لشِقْوَتي ... وواصلني قومٌ إليَّ أَباعِدُ
فيا أَهْلَ ودّي إنْ أبى وَعْدَ قُرْبِنا ... زمانٌ فأنتم لي به إنْ أبى عِدُوا
وله:
لا يصرِفُ الهَمَّ إلاّ شَدْوُ مُحْسِنَةٍ ... أو منظرٌ حَسَنٌ تهواه أو قَدَحُ
والراح للهمِّ أنفاها فَخُذْ طَرَفَاً ... منها وَدَعْ أُمّةً في شُربِها قَدَحوا
بِكْرٌ تَخال إذا ما المَزْجُ خالَطها ... سُقاتُها أنَّهم زَنْدَاً بها قدحوا
وله:
بَعُدْتَ فقد أضرمتَ ما بين أَضْلُعي ... ببُعْدِك ناراً شَجْوُ قلبي وَقودُها
وكَلَّفْتَ نفسي قطعَ بَيْدَاءِ لَوْعَةٍ ... تَكِلُّ بها هُوج المَهاري وقُودُها
وله:
أفدي بنفْسي بدرَ تِمٍّ لهُ ... بدرُ الدُّجى في حُسنه ضَرَّهْ
كم لامني في حُبّه لائمٌ ... ما نفع القلبَ بلى ضَرّهْ

حاشا عَفافي في الهوى مِن خَنىً ... يَعُرّه فيه ومن فَجْرَهْ
وكم ظلامٍ بِتُّه ساهراً ... يرقُب طرفي للتُّقى فَجْرَهْ
وله:
تَجَلَّدْ على الدهر واصْبر بما ... عليك الإلهُ من الرِّزْق أَجْرَى
ولا يُسْخِطَنَّك صَرْفُ القَضاء ... فَتَعْدَمَ إذ ذاكَ حَظّاً وأجرا
فما زالَ رزقُ امرئٍ طالب ... بعيداً إليه دُجى الليل يُسْرى
توَقَّعْ إذا ضاق أمرٌ عليك خَيْرَاً فإنَّ مع العُسرِ يُسْرا
وله:
قد كان قلبي صحيحاً بالحِمى زَمناً ... فَمُذْ أبحتُ الهوى منه الحِمى مَرِضا
فكم سخِطتَ على مَن كلُّ شِيمتِه ... وقد أَتَحْتَ له فيك الحِمامَ رِضا
يا مَن إذا فَوَّقَتْ سهماً لواحظُهُ ... أضحى لها كلُّ قلبٍ قُلَّبٍ غَرضا
أنا الذي إنْ يَمُتْ حُبّاً يمُتْ أسفاً ... وما قضى فيك من أغراضه غَرَضَا
أُلْبِسْتُ ثوبَ سَقامٍ فيك صار له ... جِسمي لدِقَّتِه من سُقمِه عَرَضَا
وصِرتُ وقفاً على همٍّ تُجاذِبني ... أيدي الصَّبابة فيه كُلَّما عَرَضَا
ما إنْ قضى اللهُ شيئاً في خليقته ... أشدَّ من زَفَرَاتِ الحُبّ حين قضى
فلا قضى كَلِفٌ نَحْبَاً فَأَوْجعَني ... أن قيل إنَّ المُحبّ المُستهام قضى
وله:
تُراك يا مُتْلِفَ جِسمي ويا ... مُكْثِرَ إعلالي وإمراضي
من بعد ما أَصْبَيْتَني، ساخِطٌ ... عليَّ في حُبِّك أم راضِ
وله:
يا قاتِلي بالصُّدود رِفْقاً ... بمُدْنَفٍ ماله نصيرُ
واخْشَ إله السماءِ إنّا ... كُلاًّ إليه غداً نصيرُ
وله:
قام فيه عند اللوائم عُذْري ... إذ تثَنّى كالغُصن من تحتِ بَدْرِ
رَشَأٌ في جُفونه سَيْفُ لَحظٍ ... مثلُ سَيْفِ الإمام في يومِ بَدْرِ
زارَ ليلاً ففَكَّني من غرامٍ ... طال منه في قَبْضَةِ الحُبِّ أَسْرِي
قلتُ ألاّ زُرتَ المُحِبَّ نهاراً ... قال إنّي كالطَّيْف في الليل أَسْرِي
قَصُرَتْ إذ دنا فلم يكُ في لَمْحَةِ عيني سوى عِشاءٍ وفجرِ
فافْترقنا فيا دموعي على ما ... فات منه حتى يُعاوِدَ فاجْري
وله:
عِشتِ يا نفسُ بالرَّفاهةِ دَهْرَاً ... فاطْلبي الآنَ عِيشَةً بانْتهازِ
واسْتخيري الإله في البَيْن فالعا ... لَمُ منّي إلاّ إذا بِنْتِ هازِ
وصِلي الوَخْدَ بالوَجيف إليه ... بالنَّواجي ذات الخُطا والجوازِ
وافْعلي الخيرَ ما استطعتِ على الخيرِ فَلَنْ تَعْدَمي عليه الجَوازي
وله:
أرى الدهرَ في أفعاله ذا تلَوُّنٍ ... كثيرٍ بأهليه كأنَّ به مَسّا
وما مَسّ مِن شيءٍ بأيدي صُروفِه ... فأبقاه، فالداني من الهُلْكِ ما مسّا
يُصَبِّحُ منه الخلقَ بالشرّ مثلما ... يُمَسِّيهمُ فالويلُ صَبَّحَ أو مَسّى
وفيه حُظوظٌ تجعلُ المِسَّ عَسْجَداً ... وكم جَعَلَتْ من عَسْجَدٍ خالصٍ مِسّا
وله:
كم خاطَبَتْني خطوبٌ ما عَبَأْتُ بها ... ولم أقلْ جَزَعَاً عن حَوْزَتي جُوزي
عِلْماً بأنّي مَجْزِيٌّ بِمُكْتَسَبي ... إنّي امرؤٌ بجَوازي فِعلِه جُوزي
وله:
إنّما دُنياك عارهْ ... وهي بين الناس عارَهْ
فاجْتنِبْ منها فِعالاً ... تُكسِبُ الإنسانَ عارهْ
بَشَّرتْ بالعيش غِرّا ... ظَنَّ في الدُّنيا بِشارهْ
جاهلاً يُخدَع فيها ... برُواءٍ وبَشَارَهْ
وَيْحَ مَن ظنَّكِ يا دا ... رَ الأسى والبُؤسِ دارَهْ
أين كسرى قبلَه دا ... رة بل أين ابْنُ دارهْ
ذهب الكُلُّ فلم يُبْقِ الرَّدى منهم أثارهْ
غيرَ ذِكرٍ سوفُ يُخفيه الذي منهم أثارَهْ

كم لفُرسانِ الليالي ... فيهمُ مِن شَنِّ غارهْ
واغتيالٍ غال ضِرْغا ... ماً وأخْلى منه غارهْ
وله:
لا تَجْمَعوا المالَ للأحْداث إنْ طَرَقَتْ ... إنَّ الحوادث في أموالكم سُوسُ
وليس يَغْفُلُ عن إحرازَ مَنْقَبةٍ ... تُبْقي عليه بمالٍ من له سُوسُ
وله:
رأيتُ أبناءَ ذي الدُّنيا كأنّهمُ ... من التَّغَلْغُلِ في إفسادهم فارُ
كالماءِ هُوناً فإن أَذْلَلْتَهم خَمِدوا ... وإنْ شَرارةَ عِزٍّ أدركوا فاروا

الشيخ العالم محمد بن عبد الملك الفارقي
ّ
بغدادي الدار، إنتقل إليها في صباه، فريد عصره، ووحيد دهره، وأنموذج السلف الصالح، كلماته مُغتنَمة، وألفاظه مُقتبَسة، وغرره مأثورة، وعقود كلامه حلي أهل الفضل، وأقراط أسماع ذوي الأدب، تعقد الخناصر على فصوص فصوله، وتُشرَح الصدور بمنثوره ومقوله، يتكلم على الناس كل يوم جمعة في جامع القصر ببغداد، ويكتب كل ما يورد، وقد دُوِّن من بدائع فكره، وموشيّات خاطره، شيءٌ كثير، وسنورد من كلامه لُمَعاً يُستدلّ به على صفاء روحه، وخلوص رُوعه، أنشدني لنفسه يوم الجمعة ثامن عشر شهر الله الأصم رجب من سنة إحدى وستين في منزله وتوفي بعد ذلك بسُنَيّات.
انْتقدْ جَوْهَريّةَ الإنسانِ ... والذي فيه من فُنون المعاني
خَلِّ عنك الأسماء واطَّرِحِ الألْقابَ وانظر إلى المعاني الحِسانِ
وقال: الألقاب، سرابٌ بقِيعة الإعجاب، ورعونة النفس القانعة بالقِشر عن اللباب. وأنشدني لبعض الأدباء وكتبتها من فوائده، ذكرها في جملة كلام له:
أخي خَلِّ حَيِّزَ ذي باطِلٍ ... وكُن للحقائق في حَيِّزِ
فما نحن إلاّ خطوطٌ وَقَعْنَ ... على نُقطةٍ وَقْعَ مُسْتَوْفِزِ
يُزاحم هذا لهذا على ... أقَلَّ مِن الكَلِم المُوجَزِ
مُحيطُ السَّماوات أَوْلَى بنا ... فماذا التردُّدُ في المَرْكَز
وقال: إن الوردة إذا فتحت عينها ترى الأشواك قد اكتنفتها من سائر حياتها فتقول: سبحان من خلَّص لطافتي من بين هذه الدغائل.
وقال: لا يُعدّ الحكيم حكيماً حتى يرى أن الحياة تسترقُّه، والموت يُعتقه. وقد أوردت له كلمات آسيات كالمات، عظات موقظات، كأنها آيات بيّنات، تُحلّى بها ترائب الأفهام، وهي عقد الخريدة، وعقد الجريدة، وذلك ما حُفظ عنه وهو يتكلم على الناس في مواعظه ومجالسه فمن ذلك قوله: اللهم إنّا نعوذ بجلالك من حركات الهوى وسكنات البلادة والسهو، اللهم أزل عن النفوس وحشة ظلمة الجهالة، بإشراق نور العلم والمعرفة. العطيّة للمؤمن مطيّة، وللمنافق بليّة. النواظر صوارم مشهورة فأغمِدها في غمد الغضّ والحياء من نظر المولى، وإلاّ جرحك بها عدو الهوى. إجعل النعمة سُلّم الوُصْلة، مِرقاة القُربة، مرآة البصيرة، مصفاة السريرة، معراج الهمّة، مفتاح باب الفطنة، أُمرتَ بأن تُحلّل عن قلبك عُقَد المألوفات وأنت تُحكم عَقْدَها، وتبرم شدّها.
وقال في أثناء وعظه وبغداذ في الحصار: عساكر الأقضية والأقدار، محدقة بأسوار الأعمار، تهدمها بمعاول الليل والنهار، فلو أضاء لنا مصباح الاعتبار، لم يبق لنا في جميع أوقاتنا سكون ولا قرار، الوقت كالحلقة كلما جاءت تتضايق، عُمرك كالدائرة، وروحك كالنقطة في وسطها، في كل وقت تتضايق دائرة عمرك إلى أن تنضم على نقطة روحك، فتسدّ مَعين ماء حياتك، فينقطع عن سقي مزارع أعضائك، ويُصَوِّح نبتُ قواك وآلاتك، الخلوة لقومٍ طُور، ولقوم غرور، الخلوة الصافية أن يخلو همُّك، عن غير مُهمّك، تعرف عقول الرجال في تصاريفهم وتصانيفهم.
ومن أدعيته:

اللهمّ أطلِع ثمار الأماني من أغصان آمالنا، ولُمَّ بلطفك شعث أحوالنا، إلهي قَبَضَ عجزي روح نشاطي، وطوى ثوب انبعاثي وانبساطي، أخلقت ملابسُ الشبيبة، وَهَنَ عظم العزيمة، شابت لِمّةُ الهمة، غلب شنجُ العجز على عصب العزم، رَثَّ ثوب الحياة، عجز قدمُ البقاء عن الثبات، اقشعرّت جِلدة الجلَد، حان الانقلاب إلى دار الأبد، قُدِّمت معابر العبر، ليُعبَر بها من دار الغِيَر، إلى دار النعيم الأرغد الأنضر، دار السلام، ومنزل الدوام، العريّة عن عوارض العلل والأسقام، لا تنظروا إلى المجازيات الزائلات، انظروا إلى الحقائق الدائمات، المجازيات مشارع الحسّ يكرع من أُجاجها، ويغرق في أمواجها، والحقائق مراقي القلب يُعرج في معراجها، ويرقى في منهاجها، سبحان من جعل مضارب أطناب مخيّم الوجود، ومرسى قواعد قبة الكون، ومثبت قدم صورة الدنيا، على متون رياح هفّافة تهبّ من مهابّ المهابة بين صُدُفَيْ شِعْب الأبد والأزل، والماضي والمستقبل، تسحب أذيال نسائمها على صحراء صفحات الوجود، فتثير الهوامد الركود، لقبول إفاضة الكرم والجود، وتوقظ وَسْنان الكيمان، لنشر نسل الحَدَثان، ويظهر مستور الغيب إلى العيان، وتُفصَّل جمله في أوراق الأوقات وصحائف الأزمان، تِنّين الفناء قد ابتلع معظم عمرك وهو في اجترار باقيه، وأنت غافل عن تقضّيه وتناهيه، والموت اجتناء ثمر معانيك من أغصان مبانيك، اجتهد أن لا يجيء المُجتنى وثمارك فجّة ما فيها بلوغ المعرفة، المعارف مياه تنبع من غامض معين الغيب، في منافذ الإلهام، إلى مصبّ القلب، وتُطرح في حوض الحفظ، فتخرج من أنبوب اللسان، ومخارج النطق والبيان، الرجل من يتصرّف في الأشياء ولا تتصرف الأشياء فيه، لا تغفل عن سياقة ماء الشكر إلى غروس الإنعام، فإنك إن غفلت صوَّحتْ رياض الإحسان، الجاهل الغرّ أبداً همّته إلى تصفية زجاجة صورته، وشراب روحه فيها كدر مُرّ مَقِرّ، اللهم سلِّم القلوب من سموم الهموم، بدِرياق الثقة بالرزق المقدور المقسوم، اللهم سلّم النفوس من نفثات سواحر الزخارف، برُقى التقى وعُوَذ المعارف، اللهم لا تعذّب أرواحنا، بهموم أشباحنا، العلوم النافعة، ما كانت للهمم رافعة، وللأهواء قامعة، وللشكوك صارفة دافعة، العلوم النافعة والأعمال الصالحة نسلُ الهمم الشريفة، وذريّة الفِطَن اللطيفة، القلوب العُقم ما لها ذرية الحكمة ولا نسل الفضيلة، لعُنَّةِ الهمّة، وفجاجة الفطنة، وخدَر العزيمة، أرضها سبخة، ما تنعقد فيها حبوب الحكم، ولا تطلع فيها زهرات المعارف والفطن، الأنفاس رُشْحُ ماءِ الحياة من إناء العمر، كلّ نفس رشحة وجذبة. قروض الأرواح تُسترجَع تفاريق إلى أن تُستوفى الجملة:
أرواحُنا عندنا قُروضٌ ... والموتُ قد جَدَّ في التَّقاضي
لا بُدَّ من رَدِّ ما اقْترضْنا ... كلُّ لبيبٍ بذاك راضِ

النفس الزكية زينتها نزاهتها، وعافيتها عفّتها، وجمالها جودُها، ورداؤها رِفْدُها، وطيلسانها إحسانها، وطهارتها ورعها، وغناها ثقتها بمولاها، وعلمها بأنه لا ينساها، وأنت يا طفا الهمة، من لم يُشرَّف بالخدمة، سرورك غرورك، فرحك فخُّك، مالك مالكك، غُلُّك بخلك، كَبْلك كِبرُك، شكوكك زبانيتك، همومك هاويتك، سلاسلك وساوسك، زينتك رعونتك، جمالك فتنتك، عافيتك آفتك، حرصك حبسُك، سَجّاتك نفسُك، قيدك إِلْفُك، إذا كان معك فمن تخاف، إذا كان عليك فمن ترجو، أعطيت الطبع للتوليد، والقلب للتوحيد، اللهم أنِر مصابيح أفهامنا بأنوار البيان، المُفضي بنا إلى الكشف والعيان، اللهم اجعلنا ممن جذبته يد العناية من أغوار الغرور، وأخرجته من أسراب الأسباب، وظلم الارتياب، اللهم اصرف ذكر الخلق عن ألسنتنا، وأخرج وساوس الدنيا عن قلوبنا، اللهم اجعل قلوبنا مقبلة بنور التوفيق عليك، منصرفةً عما سواك إليك، اجعل جوارحنا منقادةً بأزمّةِ العلم والتقوى، في كلّ ما تحبّ وترضى، من عرف نعمة المهلة لم يصرفها في غير الخدمة، المهلة إرخاء عنان الأجل، لإصلاح الخلل، وأنت في ظلمة الأمل، المؤمن يأمر وينهى للسياسة فيُصلح، والمنافق يأمر وينهى للرياسة فيفسد، بلغ بهم صفاء النظر إلى أن صارت لذّتهم في مراد الله فيهم، وأنت يثير عليك همومك، فَوات حظوظك. ما أحوجك إلى نار الخشية لتذيب جماديّة فهمك، اللهم نزِّه عِراص القلوب من أدناس الرذائل، أطِف بها حماة التقوى وحُفّاظ الفضائل، اللهم رَوِّح كُرَب الهموم بهبوب نسيم ذِكرك، إلى متى هذا التمسُّك بما يفارقك، اسبِقه إلى المفارقة، أفي عقلك عن تأمُّل أمرك خَبَل، أم في إيمانك بالموعود خلل، اللهم سلّم صحّة أرواح أدياننا، من لَسَعَات هوامِّ أهوائنا، ولسبات عقارب العلائق لقلوبنا، اقطع عنا حُمَة حرصنا، على عاجل حظوظنا، الحرص نار محرقة لشجرة حريتك، صدأٌ يعلو مرآة رأيك، دنسٌ يُغَشّي جِلباب جمالك، يا غافل، بيدر عمرك يُكال بمكاييل أنفاسك المتتابعة المتوالية، وتُرفع إلى خزانة الجنّة حبوب أعمالك الصالحة الطيبة، وتُلقى في أتون الجحيم أدغال أعمالك الخبيثة السيئة، يا أطيار الفتنة أقلعي عن مساقط أغصان الغفلة، كيلا تقتنصك جوارح الجهالة، فتنشبي في مخلب عُقاب العِقاب، يوم المآب، طيور الأرواح الجاهلة لا تزال تسرح في أودية إهمالها وتوانيها، وتُقلَّب في جوّ جهالتها أجنحة آمالها وأمانيها، وصياد المنيّة بين أيديها قد نصب الحبائل لوقوعها، يا طير الهمة اخرُق بجؤجؤ همّتك، حُجُب جهالتك، وحوائل حيرتك، اخرج من حصر شركة شبحك، إلى عالم سرورك وفرحك، ألِفْتَ الشِّباك، فحصلت في الحيرة والارتباك، أما علمت أنّ مِن حبِّ الأشراك، ينشأ شوك الشكّ والإشراك، ويعلوك كلّ دنس ويغشاك، ترقَّ يا طير الفتنة بأجنحة معرفتك، عن أرض مخافتك، ووحشة بلاد غربتك، إلى سماء أمنك، ومأنس وطنك، تعلَّ عن محلّ ذُلّك وفقرك، إلى منزل غِناك وعزّك، احذر أن تخرج من برج بدنك، ومحملة صورتك، وقفص شخصك، وأنت جاهل بطريق بلاد الغيب، اجْلُ قبل الخروج عين فهمك من رمد الريب، المَح بيتك الأصلي، اقصِد وكرك الأوّلي الحقيقي، انصرف عن بيتك المجازي العرَضي، احترِز في طريقك أن تنزل على هرادي الهوى، احذر قَصَبَات دِبْق حبّ الدنيا، قصباتك محبوباتك، دِبقك مألوفاتك، لا تكن كالعصفور المغرور، أراد أن يسلب الفخّ حبّته، فسلبه الفخّ مُهجته، أو السمكة أرادت أن تبلع طُعم الصياد فابتلعها الصياد، يا هدهد الهمة هزّ قوادم العزيمة، حرِّك خوافي البصيرة، ترقَّ في جو الجمعية، اعْلُ عن أرض التفرقة، إلى سماء الحقيقة، ارجع بخبر بلاد الغيب إلى عالم الشهادة، انزل برج قلبك، القِ كتاب خُبْرِك، إلى خبراء إخوانك، ليفهموا ما في بيانك، ويقفوا على سرّ عِرفانك، اللهم ثبّت أقدام أدياننا على سَنَن العفّة والورع، ألبِسنا جلباب الصيانة والنزاهة عن الهوى المتَّبع، زيِّن قلوبنا بزينة اعتقاد الحق، حَلِّ ألسنتنا برونق قول الصدق، اجعل جواهر عقائدنا منظومة في سلك الكتاب والسنة، محفوظة بحُسن متابعة السلف الصالح أعلام الأمة، متى تُفيق العين من تَعاشيها، فتشاهد عِياناً تَلاشيها، فتلوي ناظرَ رغبتها عن سراب آرابها وأمانيها، ترى الزخرف اللمّاع الخدّاع الفتّان، والمناظر الوِضاء الحِسان، وأشباح

الإنس وأرواح الجانّ، سراباً يترقرق في قِيعان الحَدَثان، ويُسمع من جوّ الجَنان، هاجس الإلهام يقول بلسان العِرفان: وأرواح الجانّ، سراباً يترقرق في قِيعان الحَدَثان، ويُسمع من جوّ الجَنان، هاجس الإلهام يقول بلسان العِرفان:
وفي تأمُّلِهمْ معنىً يقومُ بهمْ ... وفي تخَيُّلِهمْ للعين ألوانُ
فإنْ نظرتَ فأشكالٌ مُعَدَّدةٌ ... وإنْ تأمَّلتَ لا إنْسٌ ولا جانُ
يا مَن أُخرج حيُّ وجوده من ميّت عدمه، وجُمعت متفرِّقات ذرّاته في مَجْمَع صورته، لا تغفل عن شكر الصانع، وسرعة استرجاع الودائع، يا ميّتاً نُشِر من قبر العدم، بحُكم الجود والكرم، لا تنس سوالف العهود والذِّمَم، اللهم طهّر جوارحنا من لُوَث الآثام، ولطخات الخطايا والإجرام، سلِّم قلوبنا من الافتتان، بخيال زخارف الألوان، والاغترار بلَموع سراب الأسباب، في صحراء الحدَثان، الذي يبخل بمواساة الفقراء، ولا يدفع ضرر الاحتياج عن الضعفاء، كمن يبخل بالدواء على المرضى، وكالطبيب القاسي القلب على أهل البلوى، كان عمر رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل الخير في خِيارنا، ليعودوا به على ذوي الحاجة منا، توفُّر الدواعي على المساعي الدنياوية، والأمور البدنية، مُضرٌّ بالأحوال القلبية، طُوبى لمن أَنِس بما لا يفارقه، واستوحش مما لا يدوم له، يا من تعاظم في نفسه، وتكبّر على أبناء جنسه، حين ساعده الزمان، وساعفتْه القدرة والإمكان، هل أنت إلا مُضغة في فم ليث الحِدْثان، وغُثاء يجري بك سيلُ الزمان، احذر أن تنكسر بيضة الصورة، وما انعقد فرخُ الفِطرة، ولا درات فيه روح المعرفة، فتخرج إلى عَرْصَة العَرَض عادماً لروح السعادة، فاقداً لحياة الفوز في الدار الآخرة، هذِّبوا القلوب، تحنّ إلى الغيوب، اللهم أطلق أسر الأرواح، من سجون هموم الأشباح، صُنها عن التدنُّس بممازجات الأمور الدنيّة، أعطِها لَهَجَاً بالأمور الشريفة العليّة، صَفِّ الأبصار، عن غبار الأغيار، والنظر إلى أهل الغفلة والاغترار، الغرقى بحُكم البحر، لا البحر بحُكمهم، فأنّى لهم النجاة من سَطَوَاتِ قهره بحَولهم وقوتهم، وجِدّهم وجهدهم، قوة الرغبة في الدنيا علامة ضعفها في الآخرة، من شَرُفت همته شرفتْ رغبته، وعزّت طَلِبَته، البواطن حواضن، لما فيها من المساوي والمحاسن، اللهم شرِّف جوارحنا بخدمتك، اخلع عليها العصمة عن معصيتك، قرِّب أرواحنا من جَناب اجتبائك، صَفِّها بمُصافاة اصطفائك، حلِّها بحِلية أوليائك، أعطها فهماً ثاقباً ونظراً خارقاً لحُجب الغفلة عن جلالك وكبريائك، اللهم ارزقنا يقظةً عقلية، وانتباهةً قلبيّة، نخرج بها من أضغاث أحلام الأماني ومنام الأوهام، وظلام ليل الغفلة والنسيان، إلى ضياء نهار الكشف والعيان، اللذة العقلية هي التي يجدها العقلاء في عواقب صبرهم على المكاره، إلهي، الرجاء لغيرك خيبة، والخوف من غيرك شِرك، والالتفات إلى من سواك غفلة، والأُنس بمن دونك وحشة، إلهي، أضِجُّ إليك مما يقطع عنك، وأسترسِل لفِعلك إذا صدر منك، وأدأب في الطلب خوفاً من فوات المقصود، وأتناهى في الحيرة إذا فكّرتُ في شَرَك خلقك، العالم كالدوحة قشورها الأراذل، وثمارها الأفاضل، ماذا الرَّوَغان يا ثعالب المطامع، عن أسود الآجال القواطع، روغانك عنها ليس بمُنجٍ منها ولا دافع، ولا مُجدٍ ولا مانع، إن أردت دوام السرور والابتهاج، فكن منحرفاً عن منهاج الغضب واللجاج، معرضاً عن طريق الحرص والطمع المؤدي إلى القلق والانزعاج، استعد لجروح الغفلة مراهم الادِّكار، ولخَرْق حُجُب البلادة مُدى الأفكار، الغفلة عن الله ميراث الجهل بالله، أظلمُ الحجُب الحائلة بينك وبين ربّك نفسك، تعصيه في طاعتها، وتُسخطُه في مرضاتها.

فصل في ذم الدنيا

الدنيا منزلٌ رَجّافُ الأرجاء، منهار البناء، مَخُوف الفِناء، محفوفٌ بالفناء، مملوء بالعناء، محشوٌّ بالعِلل والأدواء، موردٌ كثير الشوائب والأقذاء، مع كلِّ مسرّة، مساءةٌ ومضرّة، مع كل أمنية، همٌّ وبليّة، ونزول منيّة، مولاي، يدُ فاقتي تقرع باب فضلك، وحال مسكنتي تستنزل من سماء كرمك مدد إحسانك، ومزيدَ بِرِّك، المِسك يُخبر عن نفسه، خفاء عيب الإنسان عليه، أشد عيوبه لديه، اللهم اكشف عن مصابيح الأفهام، حجُبَ الظنون والأوهام، إلهي أطلِق قلبي من أسر الشواغل، ومحابس الاغترار بالأمر الزائل، إيّاك وما يحرف مزاج الفطرة عن الصحة، وهو الخروج عن حِميَة الوحدة، وسلامة الخلوة، إلى تخليط المخالطة، فإنها تَحْدُث منها للقلب أمزجة رديّة مضرّة بصحة فطرته، مفسدة لنظام سلامة أحواله، أقرب الأسباب إلى نيل المطلوب، جمع الهمِّ في طلبه، واتحاد القلب بذِكره، الكون كلّه فمٌ لسانُه الحكمة، الكون بحر، السماء ضحضاحُه، وارض ساحله، ومرسى مراكب عجائبه، ومجمع سفن بدائعه، والأقضية والأقدار سفّارة، والخليقة سيّارة، تبدو كل حين تنتشر من بلاد صين سرِّ القدَر، في مراكب القُدَر، إلى ساحل عالم الصوَر، وحدود دار البشر وتُظهَر وتُنشَر لو قيل لي: ما تصنع؟ لقلت أُداري عليلي إلى أن يبرأ، وبُرؤه موته، وسُقمه حياته، أعالج عللي وأسقامي، بكواذب ظنوني وأوهامي، فلا العلاج ينجع، ولا السقيم ينتفع، أداوي كلوم أحوالي، بصبري إلى حين انفصالي، أُلاطف أسقام أفهام أشكالي باحتمالي أذاهم، وأُداري علل أخلاقهم ولا أطمع في البُرء من بلواي وبلواهم، لا تفتح باب خزانة قلبك فتعرِّض ما أعددته فيها من ذخائرك لآخرتك لنهّابة الهوى، حصِّنها بحصن الورع والتقوى، اللهم إني أسألك لذّة غير مُدركة بعلاقة حِسٍّ، ولا رجم حَدْس، أسألك غُنيَةً عن المَدارك الحسيّة، والعلائق الوهميّة، الصداقة عداوةٌ إلاّ ما داريْت، والوُصلة قطيعةٌ إلا ما صافيت، والنعمة حسرةٌ إلا ما واسيْت، المحاسن الشخصية معاثر أقدام همم الغافلين، وهي لأرباب البصائر منابر عليها خطباء الصنع، تخاطب ألبابها بألسنة دلالاتها، وعبارات عِبرتها، صلاح حال القلب أن يكون أبداً بين مزعجات وعيده، ومسكِّنات وعده، المكاره والأذايا كالمحاجِم، تُخرج من النفوس فضولَ أدواء الأهواء والمآثم، النفوس الشريفة العارفة تعبر بمراكب معارفها، وجواري سفن أفكارها، وهبوب رياح عزائمها، بحر عالم الدنيا بسفينة الزهد فيها، وصدق اللَّجَأِ إلى ربّها، في السلامة من عطبها، فمن لم يُهيِّئ سفينة نجاته ويُعدَّ فيها زاد آخرته من أعماله الصالحة، وحان وقت العبور من دار الغرور، إلى محلّ الغبطة والسرور، وقلبه متَّحد الهمِّ والفكر، بخيالات زخارف عالم الصوَر، مُنغمِس البصيرة في أكدارها، مُنتكِسُ الهمّة في أغوارها، لا يعرف غيرها، ولا يحِنُّ إلى سواها، زَفَرَت عليه أهوال بحر الموت، وغرق في يمّ الهمّ فصار عذابه لازماً، اللهم ألقِ من إكسير كرمك على مَسِّ مَسْكَنتنا، خلِّص بنار مخافتك غِشّ غفَلاتنا، صَفِّ بنور قدسِك شَوْبَ الشُّبَه من جواهر عقود عقائدنا، اجتهادك في طلب الشيء واهتمامك بصيانته، بقدر معرفتك بشرفه، الإنسان كالفَلَك، وقواه المنوطة بباطنه وظاهره كالكواكب، تدور على مركز همّته، ومدار أفعاله وأقواله، على قُطب عقله، ضاع ماء عمرك في خَرَبَان الخُذلان، وغار في غِيران الشقاء والحرمان، أُرْدُدْه إلى رياض طاعات الرحمن، صُنه عن الذهاب في خراب الدنيا، ردَّه إلى عُمران الآخرة، اللهم ارفع القلوب من مهاوي الهموم، إلى ذروة الثقة بك، يا من حياته معلّقة بسِلك نفسه، وموته بانقطاعه، تفكَّر في سرعة فناء مُدَدِه، ونفاد عُدَده، فإنّ ذهابك بذهابه، وانحلال عَقْدِ بقائك بانحلاله، بضاعة عمرك تسترقُها سُرّاق الساعات

ويختلسها كرور الأنفاس واللحظات، وتنتهبها أيدي الحوادث والآفات، لصوص الفناء لا يمنعها تشييد الفناء، تظنُّك في حصن من طوارق القدر، وهو يجري بك في طرق الحوادث والغِيَر، معاول الساعات تعمل في هدم سور عمرك، كلّ نفسٍ ثُلْمةٌ، وكلّ خَطْرَةٍ فتحة، يدخل منها عدوُّ الردى ولصُّ الفناء، على خزانة جوهر حياتك، وأنت لاهٍ عن ذهاب ذاتك بلذّاتك، الدنيا غابة، أهلها ليوثٌ وثّابة، من صحا عقله من سُكر هواه وجهله، احترق بنار الندم والخجل من مهابة نظر ربه، وتنكَّرتْ صورة حاله في عينه، لا تضع قلم فهمك وتأمُّلك عن يد عقلك، انقُل به إلى لوح روحك أمثلةَ المعارف والفضائل، من ألواح العبر والدلائل، المعرفة تملأ القلب مهابةً ومخافة، والعين عبرة وعَبرة، والوجه حَياءً وخَجلة، والصدرَ خشوعاً وحُرمة، والجوارحَ استكانةً وذلّةً، وطاعةً وخدمة، واللسانَ ذِكراً وحمداً، والسمع إصغاءً وتفهُّماً، والخواطرَ في موقف المناجاة خموداً والوساوس اضمحلالاً، الجهلُ ظُلمةُ ظِلِّ الطبع، الخواصّ يشربون من معين المعاني، والعوامّ من وسخ الأواني، إن قعدتَ على رأس المعدن تنتظر خروج جواهره إليك من غير استخراج، فداءُ جهلك مُعضلٌ ماله من علاج، لا تُنال حلاوة الظفر، إلاّ بعد مرارة الخطر، يا غافل، قعدتَ على الساحل تلتقط من حَصَيَاته، وتلهج بأصداف حيواناته، وتقنع بزبده للسلامة من خطره، السواحل للنِّسوان والأطفال، واللُّجج للرجال والأبطال، السواحل لطُلاّب سلامة المباني، واللُّجج لطُلاّب سلامة المعاني، البحر للصوَر غَرَق، وللمعاني نجاة، غَوْصُ الهمم والبصائر في طلب هذه الجواهر، عروجٌ وصعود، في صورة نزول وهبوط، ما عرفتَ من هذا البحر غير ملوحة مائه، واضطراب أمواجه، ودواعي أهوائه، ولا رأيت منه غير زبدِه وجُفائه، في أطرافه وأرجائه، وكلُّها إنّما هي أستارٌ وحجُبٌ على نفائس جواهره، حُجِبَتْ بها لعزّتها، لكيلا ينالها غيرُ أهلها، لولا غوّاص الفطرة النيِّرة عليها، ما ظهر شرفها، ولا وصل أحدٌ إليها، للغوّاص حذرٌ على صورته، وطمأنينة إلى الظفر بمقصوده، البحر الأُجاج تُستخرَج منه حِلية الأجسام، والعذبُ الفرات تستخرج منه حِلية الأفهام، إذا هاب الغوّاصُ هول بحره، لم يظفر بجوهره ودره، الوردُ يزحم الشوك في طريقه، فإذا ظهر وخرج من زحمته، دعا بلسان حُسنه وجماله، وإشارة خاصيّته وكماله، إلى فصله عنه وإبعاده منه، كدلك وردة الروح العارفة إذا فتحت عين معرفتها، فرأت أشواك المنشأ حولها، وأدغال الطِّباع مُكتنفةً بها، انجذبت بشرف ذاتها عنها، واجتهدت في الخلاص منها، البدن مجموع أعضاءٍ وقوى، والنفس مجموع حظوظ ومُنى، والقلبُ مجموع معارف وتقوى، الصدق رَوْنَق وَجْهِ القصد، وصفاء ماء مُحيّا الهمّة، في الإقبال على الربوبية، سبحان مُوسِّع عَرَصَة الزمان، لانتشار نَسْلِ الحِدْثان، وإظهار مُخْفِيات العيب إلى العِيان، الأقضية والأقدار حوامل، تضع في وعاء الكون حمل الحوادث

ونسل الكوائن، عفّة الأطراف وصيانة الأعطاف، نزاهة الأوصاف من النزاع والخلاف، من شيم الشّراف، وسجايا الكرام الظِّراف، مهابو العبد لمولاه، تصرفه عمّا يكرهه إلى ما يرضاه، المؤمن قوي القلب باليقين والتقوى، لا تُعجزه مقاومة عدوِّ الهوى، معه جرأة الإيمان، ونجدة العرفان، يسطو بها على جنود الشيطان، كما أخبر عنهم الرحمن، إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، أيها الفقير البائس، اشكُر المُتصدق عليك بإجراء نسيم أنفاسك، وبعثِها من خفايا باطنك، ومُستَكَنّات ذرّات ذاتك، عظِّم المُنعِم عليك بتجديد رثائث أثواب حياتك، في سائر ساعاتك، رَبِّ صُنْ وجه حالي، عن البِذلة إلى أشكالي، وفّقني إلى الصواب في أقوالي، والإخلاص في أعمالي، أنِلْني من مزيد فضلك ما لم يخطر ببالي، وما يُوفي على نهاية مجرى أقوالي، وغاية مرمى آمالي، سهِّل سبيلي، فقد أزِف رحيلي، إلى مَقيلي ومآلي، أما تأنس إلى ربّك بآثار صُنعه فيك، أما تخافه لقدرته عليك، أما تشكره لدوام مدد أياديه المتواصلة إليك، اللهم افتح أبواب فهومنا بمفاتيح التوفيق، اهدِنا محجّة التحقيق، وأرشِدنا أقرب الطريق، إلى المنهل الرَّوِيّ والمنزل البهيّ الأنيق، اللهم أجرِ رياح لقاح الأرواح، أظهِر ثمار خصائصها من أشجار الأشباح، حياة أهل الآخرة صافية من شوائب الوسائط الكَدِرة، يُؤثرها ذوو البصائر النيِّرة، والنفوس الخيِّرة، إلهي أسألك أُنساً بلا وحشة وعيشاً بغير كُلفة، وقلباً بلا غفلة، وحضوراً بلا غيبة، وعلماً بلا شُبهة، أسألك قلباً لعزّتك خاشعاً، ولعظمتك خاضعاً، ويقيناً للشكوك صارفاً دافعاً، وخوفاً عن المناهي رادعاً، وللأهواء قامعاً، وصدراً من هموم الدنيا خالياً، وفهماً للفوائد واعياً، اللهم ألهمني تأمُّل مسطور صُنعك في لوح شبحي، وتفهُّم مرقوم قلم حكمتك الجاري بمشيئتك، على صحيفة وجودي وصفحات باطني وظاهري، أُعجوبة فطرتك محجوبةٌ بحجُب عُجْبِك ورعونتك، ارفَع عنها الحجاب، ترَ الأمر العُجاب، الدنيا كالحيّة تجمع في أنيابها، سموم نوائبها، وتُفرِغُها في صميم قلوب أبنائها، الأوقات كالمَبارد، تأخذ منا ما ليس إلينا بعائد، الوقت كالمِبرَد يحلِّل أجزاء الأعمار، والقلوب في سكرة الغفلة والاغترار، اللهم ارفع القلوب من هُويّ الهوى إلى ذرى الهدى، وقُلَلِ التقى، نجِّها من ملاعب أمواج هموم الدنيا، وتيّار بحار الآمال والمُنى، الأمانيُّ عُلالات نفوس المحرومين، وخيالات أحلام غفلة المستيقظين، الحرية في ترك الأمنيّة، الحرية في الغنى عن البريّة، والتنزُّه عن اللذّات البدنيّة، والترفُّع عن أدناس الأمور الدنيّة، وارتقاء الهمّة إلى ذُرى الفضائل العلميّة والعمليّة، نِعَمُ الكرام تبعثهم على الإحسان، ونعم اللئام تحدوهم على الطغيان، وركوب العصيان، صفاء القلوب من أدخنة خيالات أماني النفوس، يحصل بسدّ منافذ أبخرة وساوسها، المتصاعدة من موقد نار شهوتها وغضبها، أبلغ الكلام ما ألان حدائد الأفهام، وأجرى جوامد الأذهان، بماء حياة العرفان، اللهم أغنِنا بالرِّضا بما قسمتَ لنا، اجعل الثقة بكرمك ذُخرنا وعمدتنا، والسكونَ إلى وعدك عدَّتنا، رغِّبنا فيما عندك، زهِّدنا فيما عندنا، لا تقطع نسيم أُنس ذِكرك عن قلوبنا وألسنتنا، شرِّف بخدمتك خَدَمَ جوارحنا، مَن سكن قلبُه إلى السكَنِ والخليل، انزعجَ لفقده الانزعاج الطويل، من قلَّ ابتهاجه في المنزل والمقيل، قلَّ انزعاجه عند الظَّعن والرحيل، رؤية نفسك في بذلِك، أضرُّ عليك من بُخلك، اللهم اكفِنا بالكَفاف آفة الإسراف، الموجب للنزاع والخلاف، وعدم الالتئام والائتلاف

المؤدي إلى الإضرار والإتلاف، أشرف الكلام ما شَرُفت معانيه، ورقَّت حجب عبارته وصحَّت مبانيه، العبادات كالأواني تغرف بها من معين المعاني، ما كلُّ إناء شَفّاف، يحكي ما وراءه من المعاني اللِّطاف، كلامُ الفضلاء، إنما يعذب في مسامع الفقهاء، لا تَشِنْ وَجْهَ مقالتك بكلف التكلّف، ولا تُثَقِّل روح كلامك بهُجنة التعسُّف، كلّما ثَقُل روح الكلام ألغتْه الأسماع ومجَّتْه الأفهام، لا تجعل باب سمعك مدخلاً للغوِ المقال، وفضول القيل والقال، ولا منفذ فهمك مسلكاً لخواطر المحال، ولا صحيفة قلبك معرّضةً لجريان قلم الخيال من غير نظرٍ وتأمّل واستدلال، كلما هبّت رياح الإلهام نفضت أغصان الأذهان، فتساقطت ثمار الفوائد، على أراضي المسامع، ورياض القلوب والأفهام، سبحان من جعل اللسان، تَرْجُمان الجَنان، ومطلعاً لأنوار البيان، لإضاءة نواظر العقول وإنارة مصابيح الأفهام، سبحان من جعل خواصّ عباده تراجمة حكمته، تعبِّر عن أسرارها لخليقته، الألسنة تراجمة القلوب، يبدو منها ما يَرد عليها من واردات الغيوب، القلوب خزائن الحكمة، مفاتيحها الألسنة، لا تدعوا قلوبكم تمضغها أفواه الغفلات، وجوارحكم تمتهنها وتتلاعب بها أيدي الخطايا والزلاّت، فإنها عندكم أمانات ربكم فاحفظوا الأمانات، أما علمت أن الكون كلّه مَمْخَضةٌ أنت زُبدتها، ودوحة أنت ثمرها، وصدقة أنت درّتها، وصورة أنت معناها وحقيقتها، إذا كان ما يفر المرءُ منه نحوه يتقدّم، فسواءٌ عليه أقدم أم أحجم، أوهى عقده أم أبرم، أهمل أمره أم أحكم، نيرانُ الفناء له تُضرم، ولها يُلقى ويُطعم، إذا كان الهارب، في قبضة الطالب، فما الطمع الكاذب والحرص الغالب، لنيل المطالب، ودفع المعاطب، لوالبُ الأقضية بأحوالنا دائرة ومطايا الليالي بنا إلى أجداثنا سائرة، ورُماة الأيام بسِهام المكاره في أهداف قلوبنا راشفة ناشبة، ومُهَجُنا في مضابث ليوث الحوادث واقعة ناشبة، الغفلة سكرة الفكرة، والشرَه آفة العفة، والشهوة مرض الفطرة، والغضب موت العقل، والحِدّة ضغطة قبر الجهل، يا أُولي الفكر والعِبَر، تأمّلوا صقور القدر، كيف تختطف مع لمح البصر، حمائم الأرواح من أقفاص الصور، يا طبيب، رِفقاً بمرضى الهوى، يا مُعافى، عطفاً على المُبتلى، لطفاً بأرباب البلوى، يا حبيب، وَصْلاً فقد دنا الفناء، عِتْقاً من رِقّ الرقيب وطول العناء، يا طبيب، تلطّف بحَسم الداء، فقد استشرى وأعوز الصبر وعزَّ العزاء، شيئان عزيزان، غُربةٌ في الوطن، وخلوة في الزحمة، يا قُطّان دار الحِدثان، وسكّان منازل النوازل والأشجان، ومحلّ الذل والهوان، الرحيلَ الرحيلَ عن هذه الأوطان، فإنها مجامع الفجائع ومنابع الهموم والأحزان، العارفون بجلال المولى غرباء بين الورى، قد جفاهم الأهل والأحبّاء، العقلاء بين الجهّال غرباء كالجواهر بين الحصى، لطائف الملَكوت في عالم الجبروت غرباء، يعرفها الفهماء، وينكرها الأغبياء، يا أنيس الغرباء وجليسَهم في بلاد الأعداء، يسِّر إيابهم، وأحسِن مُنقلَبهم ومآبهم، الرضا سرور القلب بالمقدور، الذِّكر لَهجُ القلب بالمذكور، الفكر إدامة النظر في أسرار الأمور، طوبى لمن أناخ ناقة فاقته بكنَف مولاه، وألقى عن كاهل همّته أثقال همومه بدنياه، وآوى إلى كهف لطفه، وأنام عن رجاء غيره عين أمله، وطرْف رغبته، ما لذي الجناح المُلصَق سراح، ولا لذي القدم المقيَّد براح، القدم المقيَّد، والعضو المُشدَّد

إذا وَرِمَ تضيَّق الشدُّ وتزيَّد الألم، لزيادة القدم، فإذا انهزل العضو استرخى الشدّ، واتسع القيد لنحافة القدم، ومع الانضمار والانهزال، يتيسَّر الانحلال والخلاص والانفصال، أما لك في سَفْرَة جهلك إلى وطن عقلك إياب، أما لغربة قلبك في بلاد طبعك انقلاب، نعوذ بالله من نفسٍ وهي نظام مصالحها، وغشَّى ظلامُ أهوائها وجوه آرائها، في الشيب نزل نذيرُ الفناء بساحتك، وأنت مع راحك وراحتك، خواطر القلوب، بُروق غمائم الغيوب، الأفعال تراجم هِمَم الرجال، تُنبِّئ عن وصف النقص والكمال، إذا صحّت الأبدان، ونَظُفَت من الأدران، زانَتْها الملابس الحِسان، وإذا صحَّت العقول من عِلل الهوى، وأمراض حبّ الدنيا، زانَها العلم والتقوى، رحم الله عبداً خطر بباله، خطرُ مآله، فأصلح خلل أعماله، قبل عرضه وسؤاله، القلوب تنقبِض عن البخيل، لانقباض رغبته في الثواب الجزيل، والثناء الجميل، إلهي أسألك قلباً حُرّاً لا تستعبده الأماني، ولا يشغله عن طلب الباقي طلب الفاني، وعزماً في الخير ماضياً لا تقطعه عوارض الفُتور والتَّواني، من علم أنّ المركّبات في ذواتها ذواتُ نهاية، لم يلق في رُوعه رَوْعَاً من الموت اللهم اكفني غائلة إهمالي، واغتراري بطول إمهالي، قِني آفة الفُتور، والنقص والقُصور، في أقوالي وأعمالي، بحالي ومآلي، أَرِحْني من كلَف احتيالي، لنيل أربي وآمالي، سلِّمْني من غاوي وهمي وخداع خيالي، إلهي رَوِّ روحي من منبع القُدْس، نعِّمْها في رياض الأُنس، ألهِمها وحشةً من الإنس، طوبى لمن لمع في طَرْفِ فِطرته، قبسُ أُنسِه بربّه، فأفرده عما سواه به، فترنّم حادي وقته، وترجم عن صفته:
مَن زَكَتْ نفسُه رأى الزُّهد في الدنيا فيا طِيبَ أَنْفُسِ الزُّهّادِ
أفردتْهُ النَّفسُ النَّفيسةُ في النا ... سِ فيا بُعدَ هِمّة الافرادِ
أَكَلَتْه الفضائل الغُرُّ حتى ... ذابَ ذَوْبَ النُّضار في الإيقادِ
كلّما ازدادتِ الذُّبالة ضَوْءَا ... كان أدنى لها إلى الإخمادِ
اللهم أحيِنا بروح رضاك عنا، من موت سخطك علينا، إذا استغنيتَ عن الكرام فأنت الكريم، وإذا رجوتَ اللئام فأنت اللئيم، من بلغ مقام التعريف، علم أنّ سرّ التكليف، للتهذيب والتشريف، لا للتعذيب والتعنيف، الزمان كجُبّ الصبّاغ، يُبدي كل أوان، مُختلِفات ألوان، من عزٍّ وهوان، وأفراح وأحزان، وخشونة ولِيان:
إنّ الزمان وإن ألا ... نَ لأهله لمُخاشنُ
تجري به المُتحركا ... تُ كأنهن سواكنُ
إذا نزل على القلب الكسير إكسير التقوى، صفا من كدر الهوى، وارتقى في درجات الهدى، ونال منازل الفوز والزُّلفى، إذا استعدّ جوهرُ القلب، لنزول إكسير نظر الربّ، قَلَبَه من الوصف البهيميّ إلى الملَكيّ، ترديد المواعظ على الفهوم، كتجديد المراهم على الكلوم، الفهوم إذا أُهملت دَثَرَتْ، والجروح إذا تُركت نغَّرَت، حار بعض الطالبين في ليل طلبه، والتبس مسلكه المُفضي به إلى ربه، فرصد نجوم فهومه، وطوالع خواطر علومه، وأوقد مصابيح قرائحه، وسُرُج أفكاره وبصائره، فبينا هو في سيره القاصر، وضوئه الضعيف المتقاصر، إذ بدا بدرُ الدِّراية، من أُفق العناية، بمبادئ أنوار الهداية، فهجر النجمَ والمصباح، وانتظر الإصباح، وارتقب السَّنا الوضّاح، فأسفر له صُبح الأزل، من وراء سدفة ليل الحدث، فتلألأت مرآة استعداده، وتشعشعت مِشكاة فؤاده، بأنوار مُراده، فانجاب عنه حجاب الحوادث، وغاب خيال كلّ كائنٍ حادث، فرمق جَناب الأزليّة، وسمق بهمّته العُلْويّة، إلى قُلّة الرَّبوة الملكوتية، دار القرار، لقلوب الأبرار، والمَعين السَّلْسال في مُروج الوجود المُطلق، فوقع في عين اليقين، وشرب مَعين النعيم، فترنّم طرباً بما نال، وتمثّل تعجُّباً وقال:
مَن كانَ في ظلماءِ ليلٍ سارياً ... رَصَدَ النجومَ وأوْقدَ المِصباحا
حتى إذا ما البدرُ أشرق نورُه ... ترك السِّراج وراقبَ الإصباحا
حتى إذا انجابَ الظلامُ جميعُه ... ورأى الضياءَ بأُفْقِه قد لاحا
هجرَ المسارِجَ والكواكب كلَّها ... والبدرَ وارتقبَ السَّنا الوضّاحا

إفهمْ هُديتَ ففي فؤادك عاذِلٌ ... إنْ لاحَ فيه سَنا الحقيقة لاحى
ليصُدّ عنها إنّها غَبَشُ الهوى ... يَغْشَى فِناه فيمنعُ الإيضاحا
والعقلُ من غَبَش الخيال عِقالُهُ ... فإن انجلى انحلَّ العُقال فَساحا
في مَهْمَهٍ للحقِّ مهما سافرت ... فيه العقولُ أعادها أرواحا
في روضِ رِضوانٍ وَنَضْرة نعمةٍ ... نظراً إلى الوجه الكريم مُباحا
وفوائد شيخنا محمد الفارقي رحمه الله أكثر من أن تُحصر أو تُختصَر، ووصفه الشيخ أبو المعالي سعد الحظيري الورّاق في آخر مجلّد جمعه في كلامه وقال فيه: شيخٌ قتل الدنيا خُبراً وعلماً، وقبِل منها ما كان خيراً وغُنماً، فركب غارِب الزهد في الزهيد، وارتقب عازب الوعد والوعيد، وقطع لسان دَعاويه، ومنع سلطان عواديه، وقمع شيطان دواعيه، فظهر مخفيُّ الغيب، لمَنفيِّ العيب، فاستجلى ما استحلى من أبكاره، واستصحب ما أصحب مع نِفاره، وحلاّها بأحلى الحُلى، ومال بها إلى المَلا، وخطب بها في الأحياء، وخطب لها الإحياء، وما رقا بها على منبر، بل رقا بها على مَن برّ، فمن استقبل قِبَلها، وتوجّه قِبَلها، رفعته جواذب بلافِكها، إلى مراتب أرائكها، فرأى من كفر النقصُ أنوارَ بيّنته، وأظهر الفحصُ أسرار نيّته، وهان عليه من الدنيا ما هال، وحان لديه من الأخرى ما حال، ومان العائلة، وأمِن الغائلة، واستوجب مِنّة من اقتدى بأنوار حِكَمِه، واهتدى بآثار كَلِمه، أنْ يلقاه حيّاً بالحُرمة، وأن يغشاه مَيْتَاً بالرّحمة، والتوفيق بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

ديار بكر
أبو نصر أحمد بن يوسف المنازيّ الكاتب
قال أبو المعالي الحَظيري: أنشدتُ له:
ولي غلامٌ طال في دِقّةٍ ... كخَطِّ إقليدِسَ لا عَرْضَ لهْ
وقد تناهى عقلُه خِفّةً ... فصار كالنُّقطة لا جُزءَ لهْ
وله:
غزالٌ قَدُّه قدٌّ رَطيبُ ... يَليق به المدائحُ والنَّسيبُ
جَهِدْتُ فما أصبتُ رِضاه يوماً ... وقالوا: كلُّ مُجتهدٍ مُصيبُ
وله:
ومُبْتَسمٍ بثَغرٍ كالأقاحي ... وقد لَبِسَ الدُّجى فَوْقَ الصَّباحِ
له وجهٌ يُدِلّ به وَعَيْنٌ ... يُمَرِّضُها فيُسْكِرُ كلَّ صاحِ
وَتَثْني عِطفَه خَطَرَاتُ دَلٍّ ... إذا لم تَثْنِه نَشَوَاتُ راح
يميلُ مع الوُشاة وأيُّ غُصنٍ ... رطيبٍ لا يميل مع الرياحِ
أبو نصر بن الدّندان الآمدي
من المتأخرين، سمعت الشيخ الزكيّ البائع يحيى بن نزار البغدادي من كبار الباعة بها يصفه، ويستحسن نظمه ويستطرفه، أنشدني له أبياتاً لطيفةً في الهجاء، غريبةً بليغةً في الطبقة العليا من البلاغة، والمبالغة في المعنى وحسن الصيغة والصِّياغة، وهي:
قالوا أتمدَحُ أقواماً وأُمُّهمُ ... مَن قد عَرَفْتَ، فتُطْغيهم بلا سببِ
فقلتُ: لا تحرُقوني بالمَلام فما ... أَشْفَقتُ من هَجْوِهمْ إلاّ على نسبي
لأن أمَّهمُ ما فاتها أحدٌ ... فخِفتُ من أن يكونوا إخوتي لأبي
قلتُ لَعَمْري قد بالغ وأحسن وما قصّر، لكنه نسب والده إلى الخَنا، وقذفه بالزنا، حيث اعتقد أن أباه أبوهم، فلذلك لا يهجوهم، وإذا كانوا إخوته من الأب فقد شاركهم اللؤم لأجل النسب، والشعراء لا يؤاخذون في الهجاء، بأمثال هذه الأشياء.
ابن الفضل من أهل آمد
من المتأخرين، كنت مع جماعة من أصدقائي الفضلاء، ببغداذ وجرى حديث الشعراء، وأنشد بعضهم منظومات لابن الفضل البغدادي، فقال آخر: كنتُ بآمد ورأيت هناك بعض المتأدّبين يُعرف بابن الفضل، وأنشدني له رباعية وهي في غاية من التجنيس والتطبيق:
طَرْفِي الجاني إليكِ قد أَلْجَاني ... حتى جَلَبَ العَنا لقلبي العاني
يا جَنّةَ مُهْجتي ويا نيراني ... ما أَسْعَدني فيكِ وما أَشْقَاني
الكامل محمد بن جعفر بن بكرون
الآمدي
أنشدني الشيخ العالم محمد الفارقي سنة إحدى وستين قال: أنشدني محمد بن بكرون لنفسه:

يستعْذِبُ القلبُ منه ما يُعذِّبُهُ ... ويستلِذُّ هَواهُ وهو يُعْطِبُهُ
مِثل الفَراشةِ تُدني جسمَها أبداً ... إلى ذُبالةِ مِصباحٍ فتُلْهِبُهُ

أبو العز يحيى بن عبد الله بن مالك
الفارقي
كأنّه حين بَدا مُقْبِلاً ... في خِلَعٍ يَعْجِزُ عن لُبْسها
جاريةٌ رَعْنَاءُ قد قَدَّرَتْ ... ثيابَ مَوْلاها على نفسها
أبو عبد الله محمد الديار بَكْرِي
أنشدني الشيخ العالم محمد بن عبد الملك الفارقي ببغداد سنة إحدى وستين قال: أنشدني
أبو عبد الله محمد الديار بكري
لنفسه:
تَنْهَلُّ عَيْنِي إذا ما نابني فرحٌ ... عَكْسَاً وعند الشَّجا تَفْتَرُّ أسناني
إذا الفتى بلغَ العلياء غايتَها ... فطبعُه وطِباعُ الناس ضِدّانِ
من يَبْغِ في المجدِ ما لم يَبْغِه أحدٌ ... يَصْبِرُ على مضضٍ من أَزْمِ أَزْمَانِ
أبو الفوارس المظفر بن عمر
بن سلمان بن السَّمَحان التاجر
من أهل آمد، فارس في فنّه مُظفّر، مُصلّي ميدانه عاثرٌ مُعفَّر، شاعر صالح، وتاجر رابح، ذكره السمعاني في المُذَيّل وقال: أحد التجار المعروفين المتميزين، وكان يرجع إلى فضل وأدب ومعرفة بالشعر، ورد بغداد وكنت بها، وما اتفق لي أن أكتب عنه شيئاً من شعره، وسمع منه رفيقنا أبو القاسم علي بن الحسن الدمشقي في توجهه من الجبال إلى بغداد. أنشدنا أبو القاسم علي بن الحسن الحافظ الدمشقي بها، قال أنشدنا أبو الفوارس المظفر بن عمر الآمدي لنفسه بقَرْمِيسين:
وَدِدْتُ بأنَّ الدهرَ يَنْظُرُ نَظْرَةً ... بعَينٍ جَلا عنها الغَيابةَ نورُها
إلى هذه الدنيا التي قد تخبَّطَتْ ... وجُنَّتْ فساس الناسَ فيها حميرُها
فيُنكِرَ ما لا يَرْتَضيه مُحَصِّلٌ ... ويأنفَ أن تُعْزى إليه أمورها
فقد أبغضتْ فيها الجسومَ نفوسُها ... مَلالاً وضاقتْ بالقلوب صُدورُها
فلله نفسي ما أشدَّ غَرامها ... بليلى وَلوعاً وهي عَفٌّ ضميرها
طَوَتْ دُونيَ الأسرار حتى نسيتُها ... فليس إلى يومِ النُّشور نُشورُها
وقال السمعاني: وأنشدنا أبو القاسم الدمشقي، أنشدني المظفّر الآمدي بجَلولاء لنفسه:
قُل للذين جَفَوْني إذ لَهِجْتُ بهمْ ... دون الأنام وخيرُ القولِ أَصْدَقُهُ
أُحبّكم وهَلاكي في مَحبّتكم ... كعابدِ النارِ يَهْوَاها وتحرقُهُ
وقال: أنشدنا أبو القاسم الدمشقي، أنشدني المظفر الآمدي لنفسه بخانِقين:
وَذِي نِعمةٍ ليست تَليقُ بمِثلِه ... من النِّعَمِ المَغبوطةِ الحسناتِ
أقولُ له لمّا قَصَدْتُ جَنابَهُ ... وقصدي جِنابُ اللَّوْمِ من عَثراتي
فلم أرَ لي فيه مَقيلاً يُظِلُّني ... ولا مَوْئِلاً يُنْجي من النَّكَباتِ
إذا لم يكن فيكُنَّ ظِلٌّ ولا جَنىً ... فَأَبْعدَكُنَّ اللهُ مِن شَجَرَاتِ
هذا البيت الأخير مُضمَّن.
أبو علي الحسن بن محمد بن أحمد الآمدي
من أهل آمد، انتقل منها إلى قرية تعرف ببرفطا من نهر مَلِك، من أعمال بغداذ ذكره أبو سعد السمعاني في كتابه الموسوم بالمذيّل على تاريخ الخطيب، ووصفه بكونه مسنّاً قد جاوز حد المشيب، وقال: لقيتُه وقد ناطح السبعين، والسمعاني كان ببغداد في حدود سنة أربع أو خمس وثلاثين قال: وطبعُه حينئذٍ يجود بالنظم المليح، والشعر الفصيح، وهو فاضل غزير الأدب والفضل، قيِّمٌ بصنعة الشعر، عارف باللغة قال أنشدنا أبو علي الآمدي لنفسه ببرفطا:
للهِ دَرُّ حَبيبٍ دارَ في خَلَدي ... بعد الشباب الذي ولَّى ولم يَعُدِ
أيّامَ كان لرَيْعان الشباب على ... فَوْدَيَّ نُورٌ، ونارُ الشَّيْبِ لم تَقِدِ
وللغِنى والصِّبا خَيلٌ ركضْتُ بها ... في حَلْبَةِ اللَّهْو بين الغَيِّ والرَّشَدِ
والآمديّةُ في أنيابها شَنَبٌ ... عَذْبٌ بَرَدْتُ به حَرّاً على كَبدي

واللهِ لو لم تكن من أَعْظُمٍ خُلِقَتْ ... ما كنت أَحْسِبها إلاّ حَصى بَرَدِ
ومن فُتورِ الحَيا في لَحْظِها مرَضٌ ... تُشْفى به الأعيُنُ المَرضى من الرمَدِ
شبيهةُ الظبيةِ العَجْماءِ قاتِلتي ... عَمْدَاً، وليس على العَجماءِ من قَوَدِ
متى تُحَيّا بلادٌ بالشآم أَقُلْ ... حُيِّيتِ يا آمِدَ السوداءِ مِن بَلَد
إنْ أَكْبَدَتْني همومٌ أَمْرَضتْ هِمَمي ... فإنما خُلِقَ الإنسانُ في كَبَد
إن كادَني أحدٌ لم أَشْكُ منه، بلى ... أشكو إليه ولا أشكو إلى أحد
قال في تاريخه: وأنشدني أبو علي الآمدي لنفسه ببرفطا:
مَن هاؤلَيّاء الظِباء العِينُ ... حقّاً فلي شَكٌّ بها ويقينُ
وكأنّما تلك الهوادِج فَوْقَها ... صَدَفٌ وهُنّ اللؤلؤُ المَكْنونُ
فالحُسْنُ مِن فَوْقَ الرِّحال مُنَضَّدٌ ... والخيلُ من تحت الرِّجال عَرينُ
كَحْلَى العيونِ وما اكتحَلْنَ بإثْمِدٍ ... يوماً ولا رَمِدَت لهُنَّ جُفونُ
ولقد أغُضُّ الطَّرْفَ يوم يَلوحُ لي ... في الرَّيْطِ من بَرْقِ الجُسومِ غُضونُ
من بَعْدِ ما قد لاحَ لي فوق الطُّلى ... أقمارُ لَيْلٍ تَحْتَهُنَّ غُصونُ
والقلبُ يرمُقُها بعينِ بَصيرةٍ ... ومن البصائر في القلوبِ عُيونُ
ضَنَّت بماعون السلام ولو سَخَتْ ... فكثيرُ ما يَسْخُو به ماعُونُ
في لَحْظِها مِن كلِّ غُنْجٍ فَتْرَةٌ ... وفُتورُ لَحْظِ الغانيات فُتونُ
ودِيارُ بكرٍ كان لي زمناً بها ... أَبْكَارُ لَهْوٍ تَسْتَفيض وعُونُ
لا غَرْوَ أن رُزِقَتْ هَواكِ على الصِّبا ... تلك المَعاقِلُ والقِبابُ الجُونُ
يا حبّذا تلك القلاع وحبّذا ... تلك البِقاع وحبّذا ليسونُ
هل أنتِ يا بغداذ أحسنُ مَنْظَراً ... أم آمدُ السَّوداء أم جَيْرُونُ
عَجَبَاً لطُول الحَيْن كيف يَروقني ... والحَيْن يَجْلِبُه إليّ الحِينُ
يا هل تُبَلِّغُني إليها جَسْرَةٌ ... وَجْنَاءُ صادقةُ الوَجيف أمينُ
كذا رُوِيَ وأنا أظن أن الصواب أمونُ

الكامل أبو المكارم محمد بن الحسين الآمدي
أبا حسَنٍ كَفَفْتُ عن التَّقاضي ... بوَعْدك لاعتصابِك بالمِطالِ
وَمَنْ ذَمَّ السؤال فلي لسانٌ ... فَصيحٌ دَأْبُه حَمْدُ السُّؤال
جزى اللهُ السؤالَ الخيرَ إني ... عَرَفْتُ به مَقاديرَ الرجال
أبو طالب إبراهيم بن هبة الله بن علي بن عبد الله بن أحمد بن الحسن
الدياري
من أهل ديار بكر، كان فقيهاً نبيهاً، محترماً وجيهاً، عفيفاً نظيفاً، ظريفاً لطيفاً، فاضلاً مناظراً، صالحاً، لله ذاكراً، دائم التلاوة للقرآن، كثير الخشية من الرحمن، ذكره السمعاني في كتابه، وأثنى عليه وعلى آدابه، وقال إنه ورد بغداد وأقام بها مدة، وخرج إلى خراسان وأقام ببلخ عند أبي المعالي ابن شهفور، وكان معيد درسه، وتوفي بها في أوائل محرم سنة وثلاثين وخمسمائة، قرأت في تاريخ السمعاني أنشدنا عمر أبي حسن الإمام ببلخ أنشدنا أبو طالب الديار بكري قال:
طلبتُ في الحبّ نَيْلَ الوَصْلِ بالخُلَسِ ... فنال هَجْرُك منّي نَيْلَ مُفتَرِسِ
فلو تسامحتُ بالشَّكوى إلى أحدٍ ... لفاض دمعي وغاض البحرُ من نفسي
وصِرتُ لا أرتضي حُسْناً يُجاوِزُهم ... فأوْرثوني عمىً أَدْهَى من الطَّمَسِ
وقرأت في تاريخه: أنشدنا أبو بكر محمد بن علي بن ياسر الجَيّاني ببلخ أنشدنا أبو طالب الدياري لنفسه:
إنّي لأذكُر حُسّادي فَأَرْحَمُهُمْ ... لِما يُلاقون من هَمٍّ ومن كُرَبِ
أَسْهَرتُهُمْ يذكروني في كآبتهم ... ونِمتُ مِلءَ جُفوني غيرَ مُكتَئِب

هذا بما رقَدوا عمّا شَرُفْتُ به ... لمّا سَهِرْتُ لهم في سالِف الحِقَبِ
أبو العباس الخَضِر بن ثروان

بن أحمد بن عبد الله
الثعلبي التوماثي، ويقال له الفارقي والجزري. توماثا قرية عند بَرْقَعيد. ولد بالجزيرة، ونشأ بميافارقين، ضرير، له قلب بصير، خَضَريّ الفِراسة، وضيء الفكر في العلم والدراسة، قرأ الأدب على ابن الجواليقي، والنحو على الشريف أبي السعادات ابن الشجري، والفقه على أبي الحسن بن الآبنوسي، هكذا ذكره السمعاني في التاريخ، لما كان ببغداد سكن المسجد المُعلّق، حذاء الباب المعروف بباب النوبي، وكان حافظاً لأصول اللغة عالماً بها، يحفظ شعر الهذليين والمُجمل وأخبار الأصمعي وشعر رؤبة وذي الرمة وغيرهما من المخضرمين من أهل الإسلام والجاهلية، قال السمعاني: صادفته بنيسابور سنة أربع وأربعين وخمسمائة وسألته عن مولده فقال: سنة خمس وخمسمائة بجزيرة ابن عمر وأنشدني لنفسه، إملاءً من حفظه:
أنتَ في غَمْرَةِ النعيمِ تعومُ ... لستَ تدري بأنَّ ذا لا يدومُ
كم رأينا من الملوك قديماً ... هَمَدوا فالعِظامُ منهم رَميمُ
ما رأينا الزمانَ أبقى على شَخصٍ شَقاءً فهل يدوم النعيمُ
والغِنى عند أهله مستعارٌ ... فحَميدٌ منهم وبه وذميمُ
قال: وأنشدني لنفسه:
كَتَبْتُ وقد أَوْدَى البُكاء بمُقلتي ... وقد ذابَ من شوقي إليكم سَوادُها
فما وَرَدَتْ لي نَحْوَكمْ من رسالةٍ ... وحقِّكُمُ إلاّ وذاك مِدادُها
قال: وأنشدني الخضر بن ثروان لنفسه:
لا تَعْجَبوا من نزول الشَّيْب في شَعَري ... فإنه لم يُنازِلني من الكِبَرِ
لكنْ رأى مُقلتي قد شابَ ناظِرُها ... فجاءَني ليُعَزّيني على النظرِ
قال: وأنشدني لنفسه:
ألا هل أتاكم بالعِراق رسائلي ... بأني كثيرُ الأصدقاء وحيدُ
ومالي سِوى تَذْكَارِكُم من مُؤانِسٍ ... وإن حال نأيٌ فالقلوب شُهودُ
وإنَّ بعاد الأصفياءِ تَواصُلٌ ... وإنَّ وِصالَ الخائنين صُدودُ
وكلُّ وِدادٍ لم يكن لخِيانةٍ ... فذاك وإن طال الزمان جَديدُ
إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم
الطنْزي
من أهل طنزة من ديار بكر، ذكر لي الفقيه أحمد بن طُغان البصروي أنه لقيه في شهر رمضان سنة ثمان وستين وخمسمائة بباعَيْناثا وكتب لي بخطه هذه الأبيات ونقلتها من خطه فمنها قوله:
وإنّي لمشتاق إلى أرض طَنْزَةٍ ... وإن خانني بعد التفرُّق إخواني
سقى الله أرضاً لو ظَفِرْتُ بتُربها ... كَحَلْتُ بها من شدة الشوق أجفاني
وقوله على وزن قصيدة القيسراني التي يقول فيها:
يا أهلَ بابِلَ أنتم أصلُ بَلْبَالي ... رُدّوا فؤادي على جُثْماني البالي
فقال إبراهيم
الطنزي
:
خاطِرْ بقلبك إمّا صَبْوَةُ الغالي ... فيما تُحِبّ وإمّا سَلْوَةُ القالي
هذا مَكَرُّ الهوى فاعطِف على نظرٍ ... في بابليَّته هِنْديّ بَلْبَالي
من كلِّ ذي هَيَفٍ ترنو لَواحِظُهُ ... إليك من لَهْذَمٍ في صدر عَسّال
وقال:
يا زاجِراً في حَدْوِه الأيانقا ... رِفْقاً بها تَفْدِيك رُوحي سائقا
فقد عَلاها من بُدورِ طَنْزَةٍ ... مَن ضَرَبَ الحُسْنُ له سُرادِقا
ومنها:
قد سَلَبَ القلوبَ في جَماله ... وشدَّها في خَصْرِه مَناطِقا
وحيَّر العقولَ في دَلالِه ... إذْ لَبِسَ التّيجانَ فالقَراطِقا
وا وَحْشَتي مِن بَعْدِه لبُعدِه ... ووا شقائي إذ ظلِلتُ عاشِقا
قال وذكر أنه كتب إلى سليمان المعرّي الزاهد:
أتاني كتابٌ جلا غُمّتي ... وأهدى إليّ جَزيلَ الفوائدْ
فَطَوْراً أُقَبِّلُ منه السُّطور ... وطوراً أُعفِّر للتُّرْب ساجدْ
لأنتَ سليمان في مُلْكه ... وإن كنتَ بالنُّسك والزُّهد عابدْ
الأديب أبو الفضل يحيى بن سلامة بن الحسين

الحصكفي
الخطيب بميافارقين. من المتأخرين بديار بكر من حصن كيفا. وُلِدَ بطنزة وتوفي بحصن كَيفا وأقام بميافارقين. علاّمة الزمان في علمه، ومعريُّ العصر في نثره ونظمه، بل فَضَلَ المعريّ بفضله وفهمه، وبذّ الحريري برقّة طبعه، وقوة سجعه، وجودة شعره، وغزارة أدبه، وانفراده بأسلوبه في الشعر ومذهبه، له الترصيع البديع، والتجنيس النفيس، والتطبيق والتحقيق، واللفظ الجزل الرقيق، والمعنى السهل العميق، والتقسيم المستقيم، والفضل السائر المقيم، والمذهب المُذْهَب، والقول المهذّب، والفهم الشهم، والفكر البكر، والقافية الشافية، كأنها العافية والمعيشة الصافية، والروِيّ الروِيّ، والزند الوري، والخاطر الجريّ، الجامع في الوزن بين درّ الحزن، ودرّ المزن، تود الشِّعرى أنها شِعار شعره، والنثرة أنها نثار نثره، والزُّهرة أنها كوكب سمائه، والمشتري أنه مشتري ثنائه، غَنِيَت الغانيات عن قلائدهن بفرائده، وأحبّت الخصور أن توشَّح عوض مناطقها بدرّ مَنْطِقه، وحسدت عيون الغواني عيون معانيه، وغبطت أحداق الحسان أحداق محاسنه وحدائق قوافيه، ما فارق ميا فارقين، بل كان منزله محطَّ رحال المسترشدين المستفيدين، وكنت أحب لقاءَه، وأحدّث نفسي عند وصولي إلى الموصل في شرخ عمري وأنا شَعِف بالاستفادة، كَلِفٌ بمجالسة الفضلاء للاستزادة، فعاق دون لقائه بُعد الشقّة، وضعفي عن تحمل المشقّة، وكنت مع صغري كبير الهمة كثير الاهتمام، بإثبات أبيات تُنشد، وتطلُّب ضالة فاضل تُنشد، أُوثر سماع ما يُؤثر عنهم رواية، وأختار كتب ما أستحسنه حديثاً ونظماً وحكاية، فأحسن ما أثبتُّه من أشعار المُحدَثين، وأغربُ ما تلفَّقتُه من نظم المحدِّثين، مقطَّعة للحصكفي غريبة، مبتكرة معناها عجيبة، في وصف الخمر، أرق منها وأصفى، وآنَق وأضفى، وما سبقه أحد إلى هذا المعنى وهو: شَرُفت عن مخرج الحَدَث والمقطوعة هي:
وخَليعٍ بِتُّ أَعْذُلُهُ ... ويرى عَذْلِي من العَبَثِ
قلتُ: إنّ الخمرَ مَخْبَثةٌ ... قال: حاشاها من الخبَثِ
قلتُ فالأرفاثُ تَتْبَعها ... قال: طِيبُ العَيش في الرَّفَثِ
قلتُ: منها القيء قال: نعم ... شَرُفَتْ عن مَخْرَج الحَدَثِ
وسأسْلوها، فقلت: متى ... قال عند الكَونِ في الجَدَثِ
سمعتُها من غير واحد من الفضلاء والكبراء ببغداد والموصل وواسط وأصفهان، وقد صَقَلَتها الألسنة بالاستحسان، وسجّلوا لصاحبها بالفضل والبيان، وما فيهم إلاّ من أثنى عليه، ونسبها إليه.
وأنشدني بعض الأفاضل الفضلاء ببغداد ليحيى الحصكفي خمسة أبيات، كالخمسة السيّارات، مستحسناتٍ، مطبوعات، مصنوعات، وهي:
أشكو إلى الله من نارَيْن، واحدة ... في وَجْنَتيْه وأخرى منه في كَبِدي
ومِن سَقامَيْن: سُقْم قد أحلَّ دمي ... من الجُفون وسُقم حَلَّ في جَسدي
ومِن نَمُومَيْن: دمعي حين أذكُره ... يُذيعُ سِرّي، وواشٍ منه بالرَّصَد
ومن ضعيفين: صَبْرِي حين أذكره ... وودّه، ويراه الناسُ طَوْعَ يدي
مُهَفْهفٌ رقّ حتى قلتُ من عَجَبٍ ... أَخْصَرُه خِنْصَري أم جِلْدُه جَلَدي
وأنشدني الفقيه عبد الوهاب الدمشقي الحنفي ببغداد سنة خمسين وخمسمائة قال: أنشدني الخطيب يحيى بن سلامة بميّافارقين لنفسه، من قصيدة شيعية شائعة، رائقة رائعة، أولها:
حَنَّتْ فَأَذْكتْ لَوْعَتي حَنينا ... أشكو من البَيْن وتشكو البَيْنا
ومنها في مدح أهل البيت عليهم السلام:
يا خائفاً عليَّ أسبابَ الرَّدى ... أما عَرَفْتَ حِصنيَ الحَصينا
إنّي جعلتُ في الخطوبِ مَوْئِلي ... محمداً والأنْزَع البَطينا
سُبْل النجاة والمُناجاةِ ومَن ... آوى إلى الفُلك وطورِ سِينا
سِجنُكمُ سِجِّين إنْ لم تحفظوا ... عَلِيَّنا دَليلَ عِلِّيّينا
وله من قصيدة قصد فيها التجنيس الظريف، اللطيف الطريف، الذي لو كان البُسْتيّ في زمانه أقرّ بأنه عبد بيانه، ومُصَلّي ميدانه، وهي:

أَلَبَّ داعي الهوى وَهْنَاً فلَبّاها ... قلبٌ أتاها ولولا ذِكرُها تاها
تَلَتْ علينا ثناياها سُطورَ هوىً ... لم نَنْسَها مُذْ وَعَيْناها وَعَيْناها
وعَرَّفْتنا معانيها التي بَهَرَتْ ... سُبْلَ الغرام فَهِمْنا إذ فَهِمْناها
عِفْتُ الأَثام وما تحت اللِّثامِ لها ... وما اسْتَبَحْتُ حِماها بل حُمَيّاها
يا طالبَ الحُبّ مَهْلاً إنّ مَطْلَبه ... يُنسي بأكثره اللاهي به اللهَ
ولا تَمَنَّ أُموراً غِبُّها عَطَبٌ ... فَرُبَّ نفسٍ مُناها في مَناياها
فَأَنْفَعُ العُدَد التقوى وأرْفَعُها ... لأَنْفُسٍ إن وَضَعْناها أَضَعْناها
وله بيتان كأنهما درّتان أو كوكبان دريّان وهما:
ما لِطَرْفي وما لذا السَّهر الدا ... ئم فيه وما لليلى وَلَيْلي
هَجرتْني وفاز بالوَصْل أقْوا ... مٌ فطُوبى لواصِليها وَوَيْلي
وأنشدني بعض الأصدقاء له من أول كلمة:
هل من سبيلٍ إلى ريق المُريقِ دَمي ... فليس يَشْفِي سِوى ذاك اللّمى ألَمي
والتمست من ولد الأجَلِّ العالم مؤيد الدين سديد الدولة ابن الأنباري كاتب الإنشاء في ديوان الخلافة المعظمة ما جمعه من إنشاء فضلاء الزَّمان في والده لأنقل منه ما يستظرفه العقل، ويستحسن في نَقده النَّقل، فاعتذر بأن المجموع في خَزْن الوالد، وبعث أَدْرُجاً مشتملة على شيء من الرسائل والقصائد، ومن جملتها كتابٌ بخطّ الحَصْكَفِيّ إليه نظماً ونثرا، كأنه الوَشيُ المُدَبَّج، والرَّوض المُبهِج، والدّيباج الخُسروانيّ رونقاً وجمالاً، والعَضْبُ الهُنْدُوانيّ فِرِنْداً وصِقالاً، يجمع دُرَّ النِّظام، ودَرَّ الغمام، ودراريّ الظَّلام، في سِلْك الكلام، وتُعرِبُ عربيَّتُه عن الغريزة، والرَّويَّة الرَّوِيّة، والذكاء الذَّكيّ، والبيان الوائليّ والخاطر الخطير، والفضل الكثير، والحِكَم المُحكَمة، والفصاحة المُفْحِمَة، بحروف للظَّرف ظُروف، ومَعانٍ لِلُّطْف مَغانٍ، وفُصولٍ للحسن فُصوص، وكلماتٍ عِذابٍ جَزْلَةٍ، كلِمّاتِ عَذارى جَثْلَةٍ، وألفاظٍ ساحرة، كألحاظٍ فاترة، فحملني الشَّعَفُ بآدابه، وحَداني الاكتياب بكتابه، على إثباته، قبل فَواته، ونسج فصوله وأبياته، فأوردْتُ جميع الرِّسالة، لما تحويه من المتانة والجزالة، ونسخة كتاب الحصكفيّ:
سلامٌ كأنفاس الرِّياضِ يَشوبُها ... قَسيمةُ عِطرٍ تحتَ قَطرٍ يَصونُها
يجُرُّ النَّسيمُ الرَّطْبُ فيها ذُيولَهُ ... جزاءً بما زُرَّتْ عليه جُيوبُها
ويَخطِرُ في وادي الخُزامَى مُضَمَّناً ... أزاهيرَ منه قد تضاعفَ طِيبُها
فبالعَرْفِ من دارِيْنَ عن نفَحاته ... حديثٌ إذا الأرواحُ نَمَّ هُبوبُها
على المجلس السّامي السَّديديّ إنَّني ... لَرَاوي مَزايا مَجده وخطيبُها
على مَجلسٍ تَهوى النُّفوسُ لِقاءَه ... وتهوي إليه صابِياتٍ قلوبُها
بحيث العُلى تُحْمَى وتُمْنَعُ واللُّهى ... تُذالُ وسوقُ الفضل تُجْلى ضُروبُها
مجلسُ يتبلَّجُ صباحُه، ويَتَّقِدُ مِصباحه، عن خِلالٍ يحكُمُ لها بالخَصْلِ النِّضال، وكمالٍ يشهد به الفضل والإفضال، وعَرْفٍ يفغم ناشق أثره ريّاه، ويروق رامق خيره محياه، إذ للآثار أرجٌ يُنشق، وللأخبار صورٌ تُرمق، ونشرٍ يهدي إشراقه إلى سواء السبيل، ويحكي مذاقه لذة السلسبيل، وبيت رسختْ في مباني الشرق آساسه، وشمخت بمعاني الكرم أغراسه، واستمجدت للإنجاب قرومه، وفات أمره مَن يرومه.
ما زال يَبْنِي خالِفٌ عن سالِفٍ ... منهم ويُعْرِبُ آخِرٌ عن أوّلِ
بَيتٌ يَجُرُّ على المَجَرَّةِ ذَيْلَه ... وندىً به عَزْلُ السِّماكِ الأعزلِ

وفنونِ فضلٍ ترفّ أفنانها، وتؤذن بالفوز الدائم جناتها، مكتسبة من الأشباح القدسيّة علاءً، ومنتسبة إلى الأشخاص الإنسية ولاءً، مترفّعة عن مواطنة الأغفال، ومقارنة أهل السّفال، السائرين في الجيل البهيم، والشاربين شرب الهيم، تحيّة مُربٍّ في الثناء على معاليه، مُكبٍّ على استملاء النُّكت من أماليه. ولرُبّ مُشفق يُتّهم في الإشفاق، ونصيحٍ يرجع بالإخفاق، يستهول في المُفاتَحة مقامي، ويستبعد عندها مرامي، فيقول لشَدّ ما طوّح بك الزَّماع، وطرحتْك الأطماع:
تَحِنّ كأنّك ترجو مَزارا ... وتصبو، متى كنتَ للنجم جارا؟!
فقلتُ نعم في الحَشا غُلَّةٌ ... أُواري بها في فؤادي أُوارا
أُمَثِّلُ بالفِكر دارَ القَرارِ ... فأهجُرُ دون اللِّقاء القَرارا
أَأَوَّلُ عاشٍ بغى جَذْوَةً ... فآنَسَ من جانب الطُّور نارا
ولربّ ملومٍ ليس بالمُليم، وما أغفل السالم عن السليم، ولستُ بدعاً في اكتساب الفخار، وهو من أنفس الادّخار. وهبْني المُوفي على العهود، لمطالعة ذات السُّعود، إذ يصهره ناجر، وتلفحه الهواجر، يروقه السَّنا المقصور، فيثني لِيته ويصور، ويشوقه السناء الممدود، فيبعد النُّجعة ويرود:
إذا حَوَّل الظِّلُّ العَشِيَّ رَأَيْتَه ... حَنيفاً وفي وقتِ الضُّحى يَتَنَصَّرُ
ثم لا يقال له: راعِ جارك، والزم وِجارك، واذكر ظِيرك، وراسل نظيرك، وارجع إلى قيسك، وأبناء جنسك، وإذا لاعك لاعج البين، فلتكن لأم حنين، ما أنت وذات الإشراق، المرتقية عن كلّ راق.
والصُّمُّ في عُنصُرِ الإفساد حاسِدةٌ ... بصِحّةِ السَّمْع خُلْداً ما له بَصرُ
فيقول: ليس التدرُّع في قضاء الأوطار. مقصوراً على ذوي الأخطار، وقد يشترك في نسيم الهواء، وانتشار الأضواء، ضيوف الدار، وضيغم الخدار، ويتساوى في عموم اللطف، بمصابّ الدِّيم الوُطف، ذَبُّ الرِّياد، وخرق الواد، ولما أشرت بمد اليدين، إلى الخلوّ من همّ الدين، قلا من أحسن وأبيه، وأصاب الشاكلة فيه:
كأنَّ حِرْباءها في كلِّ هاجرةٍ ... ذو شَيْبَةٍ من شيوخ الهند مَصلوبُ
ولو وقفت برسمي، وقلبت حروف اسمي، لرأيت إيجابه باقياً، ولوجدته مع الحذف كافياً؛ لا تسمع قول الضلِّيل، عند وقت الغليل:
فقلتُ: يمينَ الله أبرحُ قاعِداً ... ولو قطعوا رَأْسِي لَدَيْكِ وأوْصالي
انظر كيف صرّح عن صدق هواه، واحتقر في جنبه تواه، إشارة تمهّد عذري لديك، وأتقرب بها إليك، وسأنظم بعد هذا الشّذر، وإن كان من الهذر، ثقةً بتلك الأخلاق الطاهرة، والخلائق الباهرة، فاسمع ما أقول، وقد تتباين العقول، فمن خوت من الفضل رباعه، جفت عن الشعر طباعه، والحر إن شاد، سمع الإنشاد، فإن أنخت وأصخت، حَلِيت، وزِنت اللِّيت، وإن أَبَيْت فالزم البيت:
حَتّامَ أَقْطَعُ لَيْلَ التِّمِّ بالأرَقِ ... مُسْتَنْهَضَ الفكر بين الأمنِ والفَرَقِ
أَبْغِي الفَخارَ وأخشى أنْ يُعَنِّفَني ... مَن ليس يعلم ما عندي من القلقِ
وسائلُ الفضلِ لا تُكْدي وسائِلُهُ ... إذا تلَطَّفَ للإشكالِ بالملَقِ
بحرٌ من العلم أستهدي جواهِرَهُ ... وكم شفى حالَ من أَشْفَى على الغرق
له فوائدٌ نَجْنِيهنّ أفئدةٌ ... لدى حدائق نَجْنِيهنَّ بالحدقِ
إنْ لم تكن تُورق الأقلامُ في يده ... فإنها تُسرِعُ الإثمارَ في الورَقِ
يَبوغُ ذو الفضل تَثْقِيفاً فإنْ تُلِيَتْ ... آياته ظلّ كاليَرْبوعِ في النَّفقِ
وإن تسَوَّق بالألفاظ ألحقهُ ... حُكْم الملوك ذَوي البُقْيا على السُّوَقِ
كم طاش سَهْمُ مُراميه وبات له ... طَيْشُ الفَراشة طارَتْ لَيْلَة السَّذَقِ
وكم مُدِلٍّ بحُضْرٍ رامَ غايَتَه ... فراح يَرْسِفُ كالمَقصور في الطَّلَقِ
مثلُ الذُّبالة إذ غُرَّتْ بمادحها ... فاستشرقت لتُباري غُرّةَ الفَلَق

صَدرٌ تقَيَّلَ في أفعالِه سَلَفَاً ... مَن رامَ شَرْكَهمُ في ذاك لم يُطِقِ
مَكارمٌ سنَّها عبدُ الكريم لهُ ... وَمَنْ يَمِقْ غيرَها من سُنّةٍ يَمُقِ
من الأُلى بَهَرَتْ أنوارُ مجدِهمُ ... لَحْظَ العُيونِ فغالَ الشمسَ في الأُفقِ
ما اسْتنَّ أَوّلُهم في شَأْوِه طَلَقَاً ... فعَنَّ آخرُهم في ذلك الطلَقِ
لكلِّ نَوْءِ عُلاً منهم رَقيبُ عُلاً ... كما تَتابَعتِ الأنواءُ في نَسَقِ
تَجْلُو مآثرَهم آثارُهم فمتى ... ألمَّ خَطْبٌ ذَكَرْنا الصَّفْوَ بالرَّنَق
عِزٌّ تِلادٌ وفخرٌ غيرُ مُطَّرَفٍ ... وبُعْدُ صِيتٍ وذكرٌ غير مُخْتَلَق
وَهَيْبةٌ ما تهَدَّدْتُ الزمانَ بها ... في خَشْيَتي الرَّيْبَ إلاّ خَرَّ كالصَّعِق
مناقبٌ لسديدِ الدولةِ اجتمعتْ ... يَزْدَانُ بالفَرْق منها سائرُ الفِرَق
آثرْتُ عند قُصوري عن بلاغته ... خِطابَه فَخَطَبْتُ العَصْب بالخَلَق
ولو سرقْتُ خليعاً من ملابِسه ... لاخْتَلْتُ في حُلَّةٍ أَبْهَى من السَّرَق
أشكو إليه بَني عَصْرٍ شَرِقْتُ بهم ... وهل تُطاوعني الشَّكوى مع الشَّرَق
فَرَرْتُهم وتوَخَّيْتُ الفِرار وَهَلْ ... يُرْجى الإباق لعانٍ شُدَّ بالأَبَقِ
حُمْرُ العيونِ على أهل النُّهى حُمُرٌ ... خَفِيتُ فيهم خَفاء النَّجم في الشَّفَق
فغُرْبَتي غُرْبةُ البَيضاء في حَلَكٍ ... وَوَحْشَتي وَحْشَةُ السَّوداء في يَقَق
شَأَوْتُهمْ وثَناهمْ ظُلَّعاً أمدي ... فالسَّبْقُ لي وهمُ يَحْظَوْنَ بالسَّبَق
وشامخٍ في الورى بالتِّيه مُسْتَفِلٍ ... كأنّه بانحطاطٍ فاتَهُمْ وَرَقي
ولو أفاق من الأهواءِ فاقَهمُ ... فإنه من يُفِقْ من سُكْرِها يَفُق
ولِلعُلى مُرتقىً دَحْضٌ وكم زَلَقَتْ ... عنه الأُيومُ فمن للأَبْلَق الزَّلَق
زافَتْ لَدَيْه نقودُ الفضلِ وانْمحَقتْ ... سوقُ الرَّشاد وجازَتْ صَفْقَةُ الحَمَق
وغرَّه عِزُّه والدِّرْعُ ساخرةٌ ... في ضِحْكها من بُكاءِ الكَلْم بالعَلَق
وفي الوِفاض نِبالٌ حَشْرَةٌ عَجَبٌ ... تَنْفَلّ بين حَرابي الزَّغْف والحَلَق
يُسَرُّ أن رَمَقَتْهُ غُلْبُ صاغيةٍ ... تَذُبّ عنه، وموتُ الشاة في الرَّهَق
والهمّ في حَكَماتِ الضَّعفِ وهو على ... جِماحه الطِّفْلُ، فعلَ المهر في الوَهَق
يَطْغَى ولو رَمَقَ الإغبابَ كان له ... في أوّل البطش ذِكرى آخِر الرَّمَق
لولا الرّجاءُ ولولا الخوف ما شُغِلَتْ ... أَيْدِي الكماة بحَملِ البِيض والدَّرَق
مِن مَعْشَرٍ صُنْتُ عِرْضي عنهمُ كَرَمَاً ... إنّ الكريم لَيَحْمي عِرضَه ويَقي
وكم تراءَتْ ليَ الأطماعُ كافِلَةً ... بما أُحبّ فما ذَلَّتْ لها عُنُقي
لا يَعْطِفُ الحِرصُ أَعْطَافي إليه ولا ... عَيْنِي مُؤَرَّقَةٌ بالعَينِ والوَرِقِ
نزاهةٌ يَفْخَر الصادي بعِزَّتِها ... على أخل الرِّيِّ، والطاوي على السَّنِقِ
وكلما قُلتُ يُفْضي بي إلى حَدَبٍ ... على بني الفضل أفضى بي إلى حَنَق
كم من دَثائث شَحَّتْ عن نوىً دَمِثٍ ... زاكٍ ومن بُوَقٍ سَحَّتْ على بُوَقِ
هذا ولي في عُبوسِ المَحْل بَيْنَهمُ ... تبَسُّمُ الرَّوْض غِبَّ الوابِل الغَدَق
وطال ما زاد إظْلاماً فزادَ به ... قَدْرِي وُضوحاً كذاك البَدرُ في الغَسَق

يَطيبُ في الخَطْب نَشْرُ الحُرّ فهو به ... كالوَرْد في الهَمّ لمّا انْهمَّ بالعَرَق
وفي محمّدٍ المَيمونِ طائرُهُ ... شِفاءُ ما رابني في الخَلْقِ من خُلُق
مُؤيِّد الدين مَن ناجَتْهُ هِمَّتُهُ ... كانت إلى مُبْتغاه أَقْصَدَ الطُّرُق
ثِقْ منه بالشَّيْم بالسُّقْيا وإنْ وَعَدَتْ ... غُرُّ السَّحاب بها يوماً فلا تَثِقِ
سوف يعلم عند كشف الغطاء وصيحة الحق، ما مقدار ما لبسه من المَين وخلّفه من الصدق. قد سلف من برد البائية، والإشارة الحِربائية، ما يشفعه الاعتذار، ويسعه الحلم والاغتفار، من إطالة في تقصير، ودلالةٍ تفتقر إلى تبصير، لكن سرت والزميل ظنُّها الجميل:
فذالَتْ كما ذالَتْ وَليدةُ مَجْلِسٍ ... تُري ربَّها أذيالَ سَحْلٍ مُمَدَّدِ
تهجر في العجل قول عاذلها، وتعثر للخجل في ذلاذلها، وللآراء السامية في ستر خلّتها، وغفر زلّتها، والتشريف بالجواب عنها مزيد السموّ والاقتدار إن شاء الله.
وللحصكفي من خطبة بغير نقطة: ألا مُسدّد أراد وصل الآراد، وداوم مواصلة الأوراد، وأعدّ صلاة الأسحار لحصول صلة المَحار، وحاول دار السلام، ومحلّ الإكرام، دار سُرّ أهلها، ودام أُكلها، لا همّ ولا هرم، ولا علل ولا ألم، لا كدار الأكدار، ومُعار الأعمار، دار وِردها آل، وإطماعها مُحال، وإسماعها مِحال، وإمراعها إمحال، والدهر مداره لأهله دمار، وطواره لعالمه أطوار، إحلاء وإمرار، وإحلال وإمرار، وسُكْر وصحو، وسطر ومحو، كؤوسه سِمام، وسهامه سهام، إمّا وعد مطل، وإما أوعد هطل، رِهاماً درّ، وأحلاماً أمرّ، ما أكرم إلاّ مكر وركم، ولا رحم إلا رمح وحرم، ولا وصل إلا اصطلم وصرم، ولا مهّد إلا أهمد وهدم، ما مدح مسالماً، إلا ودهم كالماً، كم رسم ورمس، ووسم وطمس، ودعم وأعدم، وسالم وأسلم، كم سحر وحسر، وسهّل ووعّر، وأسر لما سرّ، وللعداوة أسرّ، كم سوّر وساور وأحال السوار، وروّع وعاور وألاح العوار، كم أراس وأعار، وأسار العار، مادِر ما درّ إلا للإكداء، ماكرٌ ما كرّ إلا للإرداء، ماحلٌ ما حلّ إلا للإسراء، ماصحٌ ما صحّ إلا للأدواء.
وللحصكفي هذا البيت المقبول المقلوب، الذي تتقلّب نحوه القلوب:
أَليفُ الشَّتات شَتيتُ الأَليف ... بعيدُ القَرين قَرين البِعاد
وله في هلال الفطر، بيتان كصيّب القَطر، وطيّب العطر:
تَباشَروا بهِلال الفِطْر حين بَدا ... وما أقام سِوى أنْ لاحَ ثم غدا
كالحِبِّ واعَدَ وَصْلاً وهو مُحتَجِبٌ ... فحين بانَ تَقاضَوْهُ فقال: غدا
وأنشد الشيخ محمد الفارقي عنه قولاً:
سألتُه اللَّثْمَ يومَ البين فالْتَثما ... وصَدَّه التِّيهُ أنْ يَثْنِي إليَّ فَما
فكيف أطلُب حِفظ الودّ من صَلِفٍ ... سألتُه قُبلَةً يوم الوَداع فما
وأنشد أيضاً عنه:
وليلةٍ أرشفتْني ظَلْمَ من ظَلَمَا ... ونوَّلَتْني من الطَّيْف المُلِمّ لَما
ولو درى أنني في النوم فُزتُ به ... مِنْ بُخلِه ثم حاولتُ الرُّقاد لَما
وهذه من لطائف التجنيس، وطرائف النظم النفيس، كلمٌ في العذوبة كاللمى، وألفاظ كألحاظ الدمى، ومعان في صفاء المعين، وحسن الحور العين.
وقرأت في تاريخ السمعاني كتب لي عسكر بن أسامة النَّصيبي قال: وفيما كتب إليّ الخطيب أبو الفضل يحيى الحصكفي:
فَعَتْبي له عَتْبُ البريء وخِيفَتي ... لحِرصي على عُتْباه خِيفَةُ جانِ
فإنْ يكُ لي ذَنبٌ فأينَ وَسائلي ... وإن لم يكن ذَنبٌ ففيمَ جَفاني
قال: وللحصكفي:
للهِ مَن زادَنا تَذْكَارُهم وَلَهَاً ... وصَيَّروا زادَنا يَوْمَ الرحيل ضَنا
وله قرأته في بعض الكتب:
على ذوي الحُبِّ آياتٌ مُتَرْجمةٌ ... تُبين من أجله عن كلِّ مُشتَبِهِ
عَرْفٌ يَفوح وآثارٌ تَلوحُ وأسْرارٌ تَبوحُ وأحشاءٌ تَنوحُ بهِ
وله في لزوم ما لا يلزم:
أقول وربّما نفعَ المَقالُ ... إليك سُهَيْلُ إذ طَلَعَ الهلالُ القمر

تُكاثرني بآلات المعاني ... وكيف يُكاثر البحرَ الهلالُ الماء في أسفل الحوض
أتطمَعُ أن تنال المجدَ قبلي ... وأنّى تَسْبِقُ النُّجْبَ الهلالُ الصغار من النوق
وَتَبْسِمُ حين تُبصِرُني نِفاقاً ... وَشَخْصي في جَوانِحِكَ الهلالُ الحربة العريضة
وتُبْطنُ شِرَّةً في لِينِ مَسٍّ ... كما لانت مع اللَّمس الهلالُ الحية
وتنتظر الدوائرَ بي ولكن ... عليك تدور بالشرّ الهلالُ الرحا
كأنّ وُجوههم في ذُلّ مَثْوَى ... وفَرطِ صَلابةٍ فيها الهلالُ أثر الحافر في الأرض
وأعراضاً أُذِيلَتْ للأهاجي ... كما يبدو على القِدَم الهلالُ الثوب الرث
وما تُغني الكثائفُ عن صُدوعٍبها أن يَرْأَبَ الصَّدعَ الهلالُ الحديد الذي يشد به القصب
وأعجَب كيف يَلْزَمُكُم كِتابٌ ... وَأَعْقَلُ من لَبيبكمُ الهلالُ أول ما يولد الولد
وله من قصيدة:
جَلّ مَن صوَّر مِن ماءٍ مَهين ... صُوَراً تَسْبِي قلوبَ العالَمينْ
وأرانا قُضُباً في كُثُبٍ ... تُخجِلُ الأغصانَ في قَدٍّ ولين
والقصيدة التي له في مدح أهل البيت عليهم السلام وأوردنا منها أبياتاً، ونسيبها هذا:
حَنَّتْ فَأَذْكتْ لَوْعَتي حَنينا ... أَشْكُو من البَيْن وتشكو البِينا
قد عاثَ في أشخاصِها طُولُ السُّرى ... بقَدرِ ما عاثَ الفِراقُ فِينا
فخَلِّها تَمْشِي الهُوَيْنا طالما ... أَضْحَتْ تُباري الريح في البُرِينا
فكيف لا نَأْوِي لها وهي التي ... بها قَطَعْنا السَّهْل والحُزونا
ها قد وَجَدْنا البَرّ بَحْرَاً زاخِراً ... فهل وجدتُم غيرَها سَفِينا
إنْ كُنّ لا يُفصِحْنَ بالشَّكوى لنا ... فهُنَّ بالإرزامِ يَشْتَكينا
قد أَقْرَحَتْ بما تَئِنُّ كَبِدي ... إنّ الحزين يَرْحَمُ الحزينا
لو عَذُبَتْ لها دموعي لم تَبِتْ ... هِيماً عِطاشاً وترى المَعينا
وقد تياسرتَ بهِنّ جائراً ... عن الحِمى فاعْدِل بها يَمينا
نُحَيِّ أطلالاً عفا آياتِها ... تَعاقُبُ الأيام والسِّنينا
يقولُ صَحْبِي أَتَرَى آثارَهم ... نعم، ولكن لا أرى القَطينا
لو لم تَجِدْ رُبوعُهم كَوَجْدِنا ... للبَيْنِ لم تَبْلَ كما بَلينا
ومن رأى قَبْلَ اللِّحاظِ أَنْصُلاً ... أَرْدَتْ وما فارقَتِ الجُفونا
أكُلَّما لاحَ لعَيْني بارِقٌ ... بَكَتْ فَأَبْدتْ سِرِّيَ المَصونا
لا تأخذوا قلبي بذَنبِ مُقلَتي ... وعاقِبوا الخائنَ لا الأمينا
ما اسْتَتَرتْ بالورَقِ الوَرْقاءُ كي ... تَصْدُقَ لمّا علَتِ الغُصونا
كم وَكَلَتْ بكلّ باكٍ شَجْوَهُ ... يُعينُه إنْ عَدِمَ المُعينا
هذا بُكاها والقَرينُ حاضرٌ ... فكيف مَن قد فارَق القَرينا
أقسمتُ ما الرَّوض إذا ما بَعَثَتْ ... أرجاؤُه الخِيرِيَّ والنِّسْرينا
وعَذُبَتْ أنهارُه وأدركتْ ... ثِمارُه وأبدَتِ المَكْنونا
أَشْهَى ولا أَبْهَى ولا أَوْفَى ولا ... أَحْلَى بعَيْني لينا
مِن قَدِّها ووجهها وثَغرِها ... وشَعرِها فاستمِع اليَقينا
وله:
أَقْوَتْ مَغانيهم فأقوى الجسَدُ ... رَبْعَانِ كلٌّ بعد سُكْنى فَدْفَدُ
أسألُ عن قلبي وعن أحبابِه ... ومنهمُ كلُّ مُقِرٍّ يَجْحَدُ

وهل تُجيبُ أَعْظُمٌ بالِيةٌ ... أو أَرْسُمٌ دارِسةٌ مَن يَنْشُدُ
ليس بها إلاّ بقايا مُهجَتي ... وذاك إلاّ حجَرٌ أو وَتِدُ
كأنني بين الطُّلول واقِفاً ... أَنْدُبُهُنَّ الأشعثُ المُقَلّدُ
كأنّما أنواؤها خَلاخِلٌ ... والمُثَّلُ السُّفْعُ حَمامٌ رُكَّدُ
صاحَ الغُرابُ فكما تحمَّلوا ... مَشى بها كأنه مُقَيَّدُ
يَحْجِلُ في آثارهمْ بَعْدَهُمُ ... بادي السِّمات أَبْقَعٌ وأسْوَدُ
لبِئْسَ ما اعْتاضَتْ وكانتْ قبلَ ذا ... تَرْتَعُ فيها ظَبَيَاتٌ خُرَّدُ
لَيْتَ المطايا للنَّوى ما خُلِقَتْ ... ولا حَدا من الحُداةِ أحَدُ
رُغاؤُها وَحَدْوهم ما اجتمعا ... للصَّبِّ إلاّ وَشَجَاه الكمَدُ
تقاسَموا يومَ الوداع كَبِدي ... فليس لي منذ توَلَّوْا كَبِدُ
عن الجُفونِ رحلوا، وفي الحَشا ... تقَيَّلوا، وماءَ عَيْنِي ورَدوا
فَأَدْمُعي مَسْفُوحةٌ، وكَبِدي ... مَقْرُوحةٌ، وغُلَّتي لا تَبْرُدُ
وَصَبْوَتي دائمة، ومُقلتي ... دامِية، وَنَوْمُها مُشَرَّدُ
أَرْعَى السُّها والفَرْقَدَيْنِ قائِلاً ... ليتَ السُّها عَنَّ عليه الفَرْقَدُ
تلك بدورٌ في خُدورٍ غَرَبَتْ ... لا بل شُموسٌ فالظلام سَرْمَدُ
تيَمَّني منهم غزالٌ أَغْيَدُ ... يا حبّذا ذاك الغزال الأغْيَدُ
حُسامه مُجَرَّدٌ، وَصَرْحُهُ ... مُمَرَّدٌ، وخَدُّه مُوَرَّدُ
وصُدْغه فوق احمرار خَدِّه ... مُعَقْرَب مُبَلْبلٌ مُجَعَّد
كأنّما نَكْهَتُه وَريقُه ... مِسكٌ وخَمرٌ والثنايا بَرَدُ
له قَوامٌ كقَضيبِ بانَةٍ ... يهتزُّ نَضْرَاً ليس فيه أَوَدُ
يُقعِده عند القيام رِدفُه ... وفي الحَشا منه المُقيمُ المُقعِدُ
أَيْقَنْتُ لمّا أنْ حَدا الحادي بهم ... ولم أمُتْ أنَّ فؤادي جَلْمَدُ
كنتُ على القُرْبِ كئيباً مُغْرَماً ... صَبّاً فما ظنُّكَ بي إنْ بَعُدوا
لولا الضَّنا جَحَدْتُ وَجْدِي بهِمُ ... لكنْ نُحولي بالغَرام يَشْهَدُ
همُ توَلَّوْا بالفؤادِ والحَشا ... فأين صَبْرِي بَعْدَهمْ والجلَدُ
همُ الحياة أَعْرَقوا أم أَشْأَموا ... أم أَتْهَموا أم أَيْمَنوا أم أَنْجَدوا
ليَهْنِهِمْ طِيبُ الكَرى فإنّه ... حظُّهمُ وحظُّ عَيْنِي السَّهَدُ
للهِ ما أَجْوَرَ حُكّامَ الهوى ... ليس لمن يُظلَمُ فيهم مُسْعِدُ
ولا على المُتلِفِ غُرْماً بينهم ... ولا على القاتل عَمْدَاً قَوَدُ
وله أيضاً:
واللهِ لو كانت الدنيا بأجْمعها ... تُبْقي علينا ويأتي رِزقُها رَغَدَا
ما كان مِن حقِّ حُرٍّ أن يَذِلَّ لها ... فكيف وهيَ مَتاعٌ يَضْمَحِلُّ غدا
ثم وقع إليّ قطعة كبيرة من شعره ورسائله، وذلك بمصر، فلمحتها فرأيت فيها كل مُلحة، ذكيّة من نشرها بأطيب نفحة، فنسخت منها ما نسخ فخر مُساجليه، ورسخ فضله على مماثليه. فمن ذلك قوله من كلمة كتبها إلى كمال الدين الشهرزوري بالموصل مشتملة على معاني أهل التصوّف:
أداروا الهوى صِرْفاً فغادرهم صَرْعَى ... فلمّا صَحَوْا من سُكرِهم شَرِبوا الدَّمْعا
وما عَلِموا أنّ الهوى لو تكَلَّفوا ... محَبَّةَ أهليه لصارَ لهم طبعا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16