كتاب : خريدة القصر وجريدة العصر
المؤلف : العماد الأصبهاني

ما أقبل الخادم وهو مخدوم الإقبال، بإقبال المولى الفاضل عليه لخلوص موالاته بخصوص موالاة الإفضال! وما أحرى العبد بمباهاة الأحرار وأبره بمضاهاة الأبرار!. لقد أربى بفواضل مولاه على أرباب الفضائل، وربا بفائد جدواه قدر المتضائل، ورفع حظوظه من حضيض الخمول والخمود، إلى يفاع الارتفاع بالسعود والصعود، وأوضع به إذ وضع له ميزان ميزاينةٍ في جدد الجدود. وما أشكره للمجلس العالي الصدري وقد صدره في مجالس العلاء كاتباً، ولمعاطس الأعداء كابتاً! وأقدره بمنائحه، وأعجزه عن مدائحه! فأصبح ناطقاً صامتاً قانطاً قانتاً، قائلاً ساكتاً. إن قال، فلأن حجة الحمد أنطقته، وإن استقال، فلأن لجة الرفد أغرقته وقد خاف الغرق من أمه السيل، وضاف الفرق من ضمه الليل فإن عجز بياناً، فلإعجازه بإيراء ذلك البيان؛ وإن أحرز رهاناًن فلإعزازه بالإجراء في هذا الميدان.
ووصلت الكتب، كأنها الشهب، يهديها شمس نهار الفضل إلى ساري ليل طلبه، ليهديه بنورها في غيهبه، ويقيمه بسناها على سنن مذهبه. وهي تسع مجلدات، بل تسع آياتٍ بينات، آتاه عبده كليم الفصاحة المتوحد باختراع الكلام الحر، وكريم السماحة المتفرد باختراع الإنعام البكر، وطرف الفصاحة المزين عمه بالحلم، وإلف الحماسة المبين عزمه بالحزم. وكيف يوصل بوسائط المركبات الأربع من العناصر إلى البسائط التسع! وهل يقطع إلى النجم الطارق الطريق الشاسع بطراق الشسع ولكنها صحف الفصح الأولين الأولين، وكرام الكتب الكرام الكاتبين، وخرائد فوائد لمحدثين المحدثين وأبكار أفكار المقدمين. بيد أن منزلتها من الألفاظ الفاضلية منزلة الكتب المنزلة من الذكر المبين. وكم بينها وبين الفرقان من فرقان، وما هي وإن جلت وجلت للقرآن بأقران. كذلك ما لغرائب المغربيين، وأحاديث المحدثين طلاوةٌ، ولا حلاوةٌ، ولا إطراءٌ ولا طراوةٌ، ولا رونق ولا رواء، ولا بهجة ولا بهاء، مع فيض شروق صنائعه البديعة، وومض بروق بدائعه الصنيعة. ومن ابن رشيقٍ عند رشق سهامه ومشقه أقلامه ولو امتد عمره إلى مدته، لعمد إلى إخفاء عمدته، وكان خاملاً في حاشيته، حاملاً لغاشيته. وإن أبا الصلت لو رأى راية رويه لأبى صلت صارم صرامته، غاضاً حدقة حديقته، عاضاً على إبهامه لما أبهم عليه من حقه وحقيقته. ودع ودع قياس القيسي يمرثه الطفل، وقلب القول القسي يغرثه الحفل، فقد قلى يد الإحسان، وفقد قلائد العقيان. هل ابن خيران إلا حيران في ميدان هذا البيان ولقد شخب وريد ابن أبي الشخباء ورد إلى خباء الاحتباء. ولو حيي ابن خفاجة لجاء حيياً إلى جهة الاختفاء. فهؤلاء الذين خص المولى عبده بخصائصهم، وأخلصه للاطلاع على علم مطالعهم ومخالصهم. وإن صاغت خواطرهم من إبريز التبريز تيجاناً مرصعةً مرجاناً، وصغت زواهرهم للمغارب بنواصع الدرر ولوامع الغرر شهبانا متجمعةً ووحدانا، وكانوا عيون الناس الأعيان، وأناسي عيون الزمان، متممين بحسن الخواتم حسن الفواتح، محكمين سود الصحائف في بيض الصفائح، فإنهم ناقصون إقصاراً لكماله، شاخصون إبصاراً لجماله، لم يكتحلوا بتراب قدمه، ولم يدخلوا من باب حرمه، وكل الصيد في جوف الفرا، ومن قال غير هذا قيل له أطرق كرا.
فهذه الكتب المهداة، والسحب المنشاة، فروعها المصنفة ستة أصنافٍ وأصلها كتابه الكريم، وأجزاؤها المؤلفة تسعة أصدافٍ وكلها دره اليتيم. تلك عشرةٌ كاملةٌ في المشايعة، أذعنت عونها لفضيلة بكرها كعشيرة الصحابة في المبايعة، أغضيت عيونها لفضل أبي بكرها، فهل كانت عدةً أتمها بعشرٍ لإكمالها، أو حسنةً جزاؤها بعشرة أمثالها

ولما زف المولى هدي هداياه إلى كفؤها الكافي عنده صف إماءها أمامها على مثالها، فيا له غرساً ما تم به إلا للمتحترش الحاسد مأتمٌ، وأنساً ما تم منه إلا للمستوحش الجاحد مأثمٌ. وقد غني بالغانية عن وصف وصائفها ولهاً ولها، وعني بمعانيها الرائقة الرائعة ولم ينظر لنضارها شبهاً شبهاً، وإذ أفردها فضلها على فرائد فضلاء المشرقين والمغربين أبصر وسمع لساني العرب والعجم بتفضيل جميلها على تفصيل جملتها معجمين معربين. وأما المغاربة فعلى مشارع المشارقة مغار حبلها، ومن مشاربها معار خيلها، ومن مغانمها مغارمها، ومن صرائمها صوارمها، وحسبها أن الغزالة الراتعة في رياض الفلك، الكارعة ف حياض الملك، إذا وصلت إلى وردها توردت بالشفق، واصفرت للفراق من الفرق، وأصابت عينها عين العين الحامية، وعانقتها يد العنقاء المغرب العادية، ووقعت في قبضة طفل الطفل كالعصفور، وقضت هنالك نحبها ومعادها من المشرق غداة يوم النشور. إن الله يأتي بالشمس من المشرق حجةً بالغةً ومحجةً واضحةً للمحق المحقق، فإن تعلق المغربيون بأذيال أسمال الأنوار آخراً، فالمشرقيون اجتابوا حللها القشب أولاً، وإن تسلقوا على أسوار أسآرها فالعراقيون فتحوها معقلاً معقلاً، ولا لوم على العراق العراقي إذا استلأم ليحمي بحميته حماه، ويغار حين يغار على علاه. أما مصر فهي الآن عراقية الدولة، عباسية الدعوة، يوسفية العزة، فاضلية الحوزة، ناصرية النصرة، عادلية الحظوة، صلاحية السيرة، سيفية الهزة. فالفضل لها في عصرنا لا قبله، وفخرها فاضلها الذي ما رأى الزمان مثله، وهو معتق عبده، ومسترق حمده، وناعشه من عثار الجد، ورائشه بدثار المجد، فالخادم عراقي المنشأ والمربى، مصري المنحى والملجا، ناصري العلاء فاضلي الولاء. وأما الشام فلا يذكر ولا يشكر، وكيف يعرف ولا ينكر، ومعروف حلبة حلبه ذات المنكر. وقد دل نص الكتاب الكريم الواصل من المولى على أن سيآتها كثيرة، ولكنها لحسنات سلطانها مغفورة:
قد طال دَنِّي لكم فطوِّلْ ... طَوْلاً بجاهي العريضِ كُمِّي
أصبحتُ في مصرَ ذا رجاءٍ ... إلى النَّدَى الجمِّ منك جَمِّ
أصابَ قَصْدي وتمَّ أَسْري ... وبان نُجْحي وفازَ أَمِّي
وإنني قد وجدتُ وَجْدي ... منك كما قد عَدِمْتُ عُدْمِي
نعشتني من عثارِ دهري ... فخِرْتَ حَمْدي وحازَ ذَمِّي
ومنها:
نتيجةُ النجح منك تقضي ... أنَّ المواعيدَ غيرُ عُقْمِ
ومنها:
قضاءُ دَيني ونيلُ سُولي ... وحفظُ جاهي وجريُ رسمي
وضَيْعَةٌ لا يضيع فيها ... عَزْمي كما لا يفوتُ غُنْمي
وحرمةٌ تستنيرُ منها ... سعودُ قدري في أُفْقِ عُظْمِ
يممتُ يَمّاً ولستُ أَرضى ... تيمماً في جَنَابِ يَمِّ
لِمْ أَمَلى لَمْ يُزَنْ بنجح ... لِمْ شَعَثْي لَمْ يُعَنْ بِلَمِّ
رُمْ رَمَّ أَمري وحلِّ حالي ... ما كَرَمٌ في الورى كَرَمِّي
رُثَّ رجائي بكل طرز ... وعُثَّ جاهي بغير سُحْمِ
مضارعُ الفعل حظُّ فضلي ... وعائقُ الصرفِ حرفُ جَزْم
ناهيكَ من مُخْوِلٍ مُعِمّ ... يحنو على المُخول المُعم
كل عدوٍ شَنَاكَ يَلْقَى ... في الناسِ طَمْسَ اسمه كَطَسْمِ
شَمْلُ العِدَا والعروضُ منهم ... ما بين شتٍ وبين شَتْم
ونلتَ عزّاً بغير صَرْفٍ ... ووصلَ مُلْكٍ بغير صَرْمِ
تَمَلَّهَأ فهي بكرُ فكري ... شهيةٌ من نتاجِ شَهْم
حدوت عِيسِي بها فجاءَتْ ... شقشقةً من هديرِ قَرْم
ومنها:
لي خاطرٌ مُجْبِلٌ، لهمِّي، ... فَنَحْتُهُ من صَفاً أَصمِّ
أَقْدَمَ رَغْباً فجابَ رُغْباً ... لقدرِ فخرٍ لديك فَخْم
إليكَ يا كعبةَ المعالي ... حَجَّ حجاهُ بلُطْفِ حَجْم
أَجْرِ على الوهمِ عُظْم شاني ... واجبرْ على الوَهْنِ عظْمَ نَظْمي

بصفحةِ الصفح منكَ يبدو ... جِرْمُ قصوري بغير جُرْم
باسمكَ للشكر باسماتٌ ... مِنِّي مُنىً سُقْتهُنَّ باسمي
أَقبِلْ وأَفضِلْ عليَّ واقبَلْ ... عُرْبَ معانٍ لديك عُجْم
ما دمتَ عوني فليس يَغْدو ... جميلُ وسمي قبيحَ رَسْم

القاضي المؤتمن ابن كاسيبويه الكاتب
من صدور كتاب مصر الذين يثنى عليهم الخنصر، ويقوى باعتدال طبائع خواطرهم من البراعة العنصر. ولم يزل في الدولة المصرية مقدماً مصدراً، وبكر فضله خلف حجاب الصدور مخدراً. ما أحسن أثر يراعته خطاً، وما أمكن خاطره المنير في سماء النظم لفلك المعالي قطباً. ولما زال عن مصر ببشر الدولة العباسية عبوسها، وبدا كل يوم يحل خمارها ويقلع بوسها، حار ابن كاسيبويه، وكاد يخفي ولو أنه في العلم سيبويه، فآواه القاضي الفاضل وغمرته منه الفواضل، وناضل عنه حين دون المنى ضل المناضل، وصيره الملك عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب وزيره، وأسمعه من غناء الغنى بجاه خدمته بمه وزيره. وهو الآن ذو جاهٍ عريض، وروض قشيب أريضٍ، سهل العبارة سلسها، مبتدع الاستعارة مختلسها، كنايته حلوة معسولة، من تكلف الصنعة مغسولة.
وله نظم يناسب نثره سلاسةً ونهجاً، ويلائم وشي رسائله سلامة ونسجاً؛ فمن ذلك أني ملت لحضرة الملك عز الدين فرخشاه في داره بالقاهرة ليلة الثاني من رجب سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، والمؤتمن بن كاسيبويه حاضر، وقد كتب له من شعره في مدحه ورقة قد أودعت من لطائفه، فأخذتها ناظراً في ناضر زهرها، ومنها قوله:
وسَمَتْ محاسنَك الزمانُ فلم تَدَعْ ... وَقْتاً من الأوقات إلا مَوْسِمَا
أَزْرتْ خلالُكَ بالحسام إذا مَضَى ... عند الضَّريبةِ والغمامِ إذا هَمَى
لا غرو أن جَرَّ الجيوش مُقَدَّماً ... من كان مذ شَهِد الوقائع مُقْدِما
قسماً لقد هجر الكرَى جَفْني فلا ... يعتاده حتى يَعُودَ مسلِّما
وله، صدر كتاب:
لا زلت منصور اللواءِ مظفراً ... والسَّعْدُ يرحلُ إن رحلتَ وينزلُ
والنجح مقرونٌ بقصدك دائماً ... والدهر يتبعُ ما تقولُ وتفعل
وإذا قَفَلْتَ فَوَاجَهتْكَ مَيَامِنٌ ... تبدو بشائرها وجَدٌّ مقبل
أنت الذي جاهدتَ عن دين الهدى ... فأَعزَّ نصركَ ناصرٌ لا يُخْذَل
وَأَزَرْتَ أَرْضَ الشركِ أَطرافَ القَنَا ... حتى غَدَتْ من خيفةٍ تتزلزل
وبِأَلْسُنِ الأَغمادِ خاطبتَ العدا ... فأجابها فتحٌ أغرُّ محجَّل
نرْجى الجيادَ إلى الجهاد جحافلاً ... تَغْشَى البلادَ وأنت وحدك جحفل
فَلْيَهْنِكَ الفتح الذي سَبَقَتْ به البُشْرَى ... وأشرقَ بِشْرُهُ المتهللُ
يا من يُجَلِّي كلَّ خطبٍ مُعْضلٍ ... قولٌ له فَصْلٌ وسيف فَيْصَلُ
عَقَدَ الوقارُ عليك تاجَ سكينةٍ ... بالنور لا دُرِّ العقود يُكَلَّلُ
أحرزتَ من فضل الكمال خصائصاً ... عنها أحاديثُ المكارم تُنْقَل
فاسلْم لملْكٍ قد حفظتَ نظامَه ... وسما بعزك مجدُهُ المتأَثِّلُ
يحوي مقاليدَ البلادِ فسابقٌ ... أَعطى القيادَ ولاحقٌ مُتَمَهِّلُ
عدة في الديوان الفاضلي السرير
علم الرؤساء أبو القاسم عبد الرحمن بن هبة الله بن حسن بن رفاعة من أهل
مصر، المعروف ب
كاتب الأمير ناصر الدولة

دخلت على القاضي الأجل مستهل المحرم سنة إحدى وسبعين في المخيم بمرج الصفر أهنيه بجديد العام العام الجدوى، وأستهديه الفوائد التي بها أحيا وأقوى، فوجدت بيده كتاباً لأبي القاسم المذكور إليه، والقاضي الفاضل يقضي بفضله ويثني عليه، فوقفت على رسالته وطالبته بكلمته، فأراني قصيدته، وأقراني فقرته، وقال إنه أفضل من بمصر نظماً ونثيراً. هذا وقد جمع من رسائله عشر مجلدات. فأما الرسالة فهي: قد جعل الله المجلس العالي الفاضلي الأسعدي زاده الله من اصطفائه أبكار المناقب وعونها، وواصل إلى جنابه حمولات المثوبات وظعونها، واستجاب من أوليائه في طول بقائه وهلاك أعدائه صالح الدعوات التي يدعونها خير ما ينادى قريباً ويناجى بعيداً، وأفضل منعمٍ يحقق وعداً ويخلف وعيداً، وعم الخلق جميعاً بنعمته، وشرف القلب بصواب حكمه وصوب حكمته، وألهج أقلامه بتوزيع إفضال المال والجاه، وقسمته، وخصه في إهداء الهدى بهديٍ أقربه على الساعين أبعده، وأثل له مجداً لا يتناهى مصعده، أو يكون فوق النجم مقعده. ولم يزل إقباله على المملوك يريه وجه الإقبال وسيماًن ويعيد عنده سموم اليأس بأرواح النجاح نسيماً، ولا يضيع جريه في ميدان اعتناق تنفيذ مرامه عنقاً ورسيما. وقد كان أكبر مولاه عن مكاتبة تليق بالأكابر، وتنحط أصاغر الخدام عن درجة المحافظ عليها المثابر، وسأل ابن حيون إحساناً إليه بذكر هذه الجملة في كتبه وإجمالاً، وأن يقلده بالإعراب عنه منة لا يسأم لها على مر الزمان احتمالاً. وحين أكدت مطالبه، وأحاطت بجوانبه دواعي الندم وجوالبه، وصار الإجلال وجلا، وعاد الإخلال خجلا، ثاب إليه من علم شرف خلق المولى وكرم طبعه، وتواضعه إقداراً للمعالي بحسن وضعه، ما حمله على نظم قصيد خدم بها مجلسه الكريم، مع تحققه أن لمدحه جادة جدٍ تعجز جلة الشعراء عن سلوكها، وتيقنه أن مناقبه لا تحتاج إلى المدائح إلا كحاجة عقود الجواهر إلى سلوكها، وضراعته في إجرائه في تقبلها على مألوف عادة الإحسان ومعروفها، واغتفار خطلها الذي كفارته ما يواصله هو وعائلته من أدعية صالحة للمولى بعدد حروفها. والمملوك مستمرٌ على عادته في ملازمة الخدمة والمواظبة عليها، وإدامة البكور إليها، مع ما يلحقه من النزلات التي تظلم مطالع محياه وغيرها من أمراض شاهدها اصفراراً محياه. والله تعالى يزيد في علو محل المولى المؤسس على التقى، ويجمل الدنيا بمفاخره الموفية على ناصع الجوهر المنتقى، ولا زال أفواج الرفاق لاقيةً إذا حطت بجنابه أفضل ملتقى.
وأما القصيدة فإنها تنيف على مائة بيت فأثبت منها ما عقدت خنصر الاختيار عليه، ومطلعها:
تالله ما عاشق الدُّمَى عاقلْ ... كلاَّ ولا عاذلٌ له عادِلْ
ذا مُغْرَمٌ مُرْغَمٌ أخو حُرَقٍ ... وذا مطيلٌ ما عنده طائل
لم يخشَ من ناقدٍ وقد جاء بالنُّكْسِ ... إلى ناقِهِ الهوى ناقل
ومنها:
غانيةٌ عن حليِّ غانيةٍ ... بحسنِ عاطٍ من جيدها عاطل
وأسمرٍ غادرتْ لدونَتُهُ ... ماءً لها فيه جارياً جائل
سنانُه طَرْفُهُ ومن عَجَبٍ ... سيفٌ علا لهذماً على ذابل!
أهلَّه ضارباً وأَعملَ للطعن ... سواهُ من نهده عامل
ومنها:
وحالةُ المستهانِ أَنفعُ ما ... عاذَ به المستهامُ مِن عاذل
خبا سناهُ وخابَ مقصده ... أَيَّةُ حالٍ لخامدٍ خامل
ومنها في ذم الدنيا:
وزاد حُبُّ الهوى عليه فما ... ينفكُّ في هُوَّة الهوى نازل
يريد منها خفضاً فيرفعه ... مِن نَصْبِه للعَنَا بها فاعل
أَين من الدَّرِّ كف حالبها ... المكفوف منها بكُفَّةِ الحابل
يُظْهِرُ تكذيبُ سلْمِ باطِنِها ... عنوانَ عدوانِ خاثرٍ خاتل
أنصارُها عصبةُ التتابع في الجهلِ ... وأحزابُ طالبي الباطل
وما يَنِي مُذْكِراً بخطبتها ... حُكْمُ التناسي لحكمها الحائل
يكونُ منها أمرُ الولاءِ وما ... ثَمَّ لها عاضلٌ سوى الفاضِل

عبد الرحيم الذي لرَحمته ... ظلٌّ على الخلق وارفٌ شامل
القابلُ القصدَ والمعيذُ من المنِّ ... أُلوفاً في العامِ والقابل
وجاعل الرسمِ في سماحته ... تحبيسَ مِلْكِ الغِنَى على السائل
ومنها:
وما الغنيُّ المعزُّ للوفْرِ بالْمنعِ ... ولكن مُذِلُّهُ الباذل
بديهةُ البِرِّ منه مُوفِيَةٌ ... أيدٍ عوادي الردى بها زائل
لعروةِ الجهل والقَضيَّةِ إِذْ ... تُعْي ذوي العلمِ فاصمٌ فاصل
إِن يظهرِ المدحُ فيكَ مُنْتَقَصاً ... فمنه في النفسِ كامنٌ كامل
لأَنَّه في فَعَالِ همته ... لغايةِ العجز قائدُ القائل
ومنها:
ومعجزُ السيفِ فضلُ جوهره ... ومائِهِ لا عنايةُ الصاقل
ومنها:
وكم حبا السامعين فائدةً ... إِذا احتبى من نديِّه الحافل
وكم أَقام القسطاسَ حتى رأى ... الإِقساط عادٍ عن عدله عادل
وكم له من وساطةٍ مَنَعَتْ ... صائبَ سهمٍ من حادثٍ صائل
يشبُّ منه الوليدَ أو يُعجز الكهلَ ... احتمالٌ منه على الكاهل
وسادرٍ في الضلال غادرَهُ ... لثوبِ إِيناس رشده سائل
ومنها في وصف كتابته ومنطقه:
يعرب عن حكمة يظلُّ لها ... يُعْرِبُ عن لُكْنَةٍ به باقل
ما حاقَ مذ حَقَّ كُلَّ منطقهِ ... حرامُ سحرٍ يُعْزَى إلى بابل
يرسلُ من نثره لآلئَهُ ... نَبْلاً فأَعْظِمْ بناثرٍ نابل
فيقذف الدرَّ بحرُ حكمته ... الخضمُّ من طِرْسِهِ إلى الساحل
كم ظلَّ أَعلى الكُتَّابِ منزلةً ... لديه عنها في حالة النازل
يعجز عن نقلهِ المثالُ مع الْ ... إعجاز ما دام عنده ماثل
والخاطرُ الأسعديُّ يخطر في ... بلاغةٍ ذيلُ فضلها ذائل
يَحْصُرُ إِنشاؤه غرائبَ أَقوالٍ ... بها ربعُ ذكره آهل
أَوجدهُ الدهرُ عالماً فَضَلَ ... العالِمَ فضلَ العالي على السافل
ومنها:
صنعاً من اللّه للأجلِّ غدا ... بكفِّ عَدْوَى أَعدائِهِ كافِلْ
ما فاءَ يوماً إِلى استشارته ال ... مَلْكُ فألفى من رأيه قائل
لكنْ بَلاَ منه خيرَ ذي قلمٍ ... مُؤَازِراً خيرَ مالكٍ دائل
حتى توافَتْ منائحُ النصر ... للدولةِ تسري في منهجٍ سابل
لهنَّ من عدله ورحمته ... أَمٌّ ولودٌ ووالدٌ ناجل
وضوعفت للجنود قوة إض ... عافِ الأَعادي فبأسُهُمْ باسل
أَقْصَرُ سهمٍ حوت كنانتهم ... مزرٍ بطول المثقَّفِ العاسل
ومنها:
يا سيداً قُيِّدَتْ عقائلُ نُعْمَاهُ ... بشكرٍ منه لها عاقل
إِذا أَخو الحاج ضلَّ عن سَنَنِ ... الحجِّ إِليه ضلالةَ الذاهل
أَرَتْهُ أَنْوَارُهُ الطريقَ له ... كأَنما مِيلهُ لها كَاحِل
ومنها:
ينحلنا شهدَه بلا إبرٍ ... للنحل مِنْ مَنِّ باجلٍ ناحل
والبُسْر لولا لونٌ يباشره ... الليلَ لما كان صِبْغُهُ حائل
يا صادراً نحو صدرِ بغيتنا ... مرآكَ من صوبِ أَيْلَةٍ آيل
وكلهمْ فيكَ لازمٌ شرعةَ ال ... قافي لآثارِ رجعة القافل
مَطَرْتَ جُوداً محلَّ مَحْلِهِمُ ... عهادَ رزقٍ ما عهدُهُ حائل
ومنها:
أَقسمت أنِّي ما لم أُمَجِّدْكَ تَعْلُوني ... من الهمِّ خبلةُ الخابل
فأغتدي في الدَّنِيْ من القولِ أَخ ... تارُ كما اشتار أَرْيَهُ العاسل
مجتنياً تافهاً من المدح جمُّ ... المَنْحِ في وجهِ نقصه تافل

وذكر القاضي الفاضل أن له شعراً حسناً وأنشد منه أبياتاً من قصيدة طويلة في وصف القلم، هي قوله:
لعادة كفٍ إِنْ أَلَمََّتء بجلمدٍ ... عدا مورقاً أو معشباً حلَّهُ الخصبُ
عجبتُ له أَنْ ظلَّ جاراً لسُحْبها ... وما فعلتْ فيه كما تفعل السحب
وأَحْسبهُ حيَّا الطروسَ بنَبْعه ... وأَصبحَ مسلوباً وأَثمرتِ الكُتْب
قال ابن كاسيبويه الكاتب، وكان حاضراً عند القاضي الفاضل: وله أبيات في القطائف المقلوة وهي قوله:
أَهلاً بشهرٍ غدا فيه لنا خَلَفٌ ... أكلُ القطائف عن شربِ ابنةِ العنب
من كل ملفوفةٍ بيضٍ إلى أُخَرٍ ... حُمْرٍ من القَلْي تَشْفِي جِنَّة السَّغَب
كأنهنَّ حُروزٌ ذاتُ أَغشيةٍ ... من فضةٍ وتعاويذٌ من الذهب
وله بيتان أنشدتهما:
الصمتُ سَمْتُ سلامةٍ ... طوبى لندبٍ يقتفيه
عرفَ المُنَكَّر للزما ... نِ فِدامَ فيه فَدَام فيه
وله في القطائف المقلوة:
وافى الصيامُ فوافتنا قطائفُهُ ... كما تَسَنَّمتِ الكُثْبانُ من كَثَبِ
والبيتان الآخران هما المذكوران.
وله في شمعة مذهبة:
كأنها من بناتِ الهند مُثْقَلَةٌ ... بالحَلْي تُجْلَى لكي تُهْدَى إِلى النار
ولما دخلت القاهرة في سنة اثنتين وسبعين اجتمعت به في دار السلطان ثم استنشدته شعره فأنشدني ما سبق ذكره من الأبيات وأنشدني لنفسه من قصيدة:
وذي هَيَفٍ إن راحَ للرَّاح ساقياً ... غدا سائقاً للصبِّ رَكْبَ حِمَامِهِ
يبيحُك إثماً من مُدار مُدامِهِ ... ويمنعُ لثماً من مُدارِ لثامهِ
فما بالُهُ في كفِّهِ عَدْلُ حُكْمِهِ ... وفي طرفه الفتان جورُ احتكامهِ
وكيف أضاءتْ أَنجمٌ من كؤوسهِ ... وقد أشرقتْ ما بينها شمس جامهِ
ومنها في الثغر:
وحقَّ له أنْ كان حُقَّ جواهرٍ ... إذا صِينَ من مسك اللَّمَى بختامه
وله:
وغادةٍ غرَّني بغُرَّتِها ... رُوَاءٌ حسنٍ يدعو لرؤيتها
أَودُّ من وصلها نسيمَ رضاً ... يُبْرِدُ عني هجيرَ هجرتها
شممتُ إذ شِمْتُ برقَ مبسمها ... أَطيبَ طيبٍ أمام ضَمَّتها
فقلتُ هذا دخان عنبرةٍ ... للخالِ تَصْلَآ بنار وجنتها
وله:
نَظَرَتْ بطَرْفِي في شَخْصَها فتشكَّكتْ ... إذ قلتُ إنّكِ في الحشا المتوهِّج
فحكى الذي في العَيْن ما في خاطري ... فأَرَيْتُها إِيَّاهُ في أُنمُوذَج

السعيد أبو القاسم
هبة الله بن الرشيد جعفر بن سناء الملك
كنت عند القاضي الفاضل في خيمته بمرج الدلهمية ثامن عشر ذي القعدة سنة سبعين، فأطلعني على قصيدة له كتبها إليه من مصر، وذكر أن سنه لم تبلغ إلى عشرين سنة، فأعجبت بنظمه. والقصيدة هذه نسختها من خطه:
فراقٌ قضى للهمِّ والقلبِ بالجَمْعِ ... وهَجْرٌ تولَّى صُلْحَ عيني مع الدمع
ووصلٌ سعى في قطْعه من أُحِبُّهُ ... ولا عجباً قد يهلك النجم بالقَطْعِ
ورَبْعٌ لذات الخال خالٍ وربما ... شُغِلْتُ بهمِّي من مُساءَلَةِ الرَّبْعِ
فسبحان ربي قد سَمَت هِمَّةُ النَّوَى ... وطالت إلى أن فَرَّقَت ساكني جمْعِ
وفي الحيِّ مَن صَيَّرْتثها نُصْبَ خاطري ... فما أَذِنَتْ في نازل الشوق بالرفع
من العربيّات المصونات بالذي ... أثارتْهُ خَيْلُ الغائرينَ من النَّقْعِ
وممن يرى أن الملالة مِلَّةٌ ... وتلك لعمرُ اللّه من طَبَع الطَّبْع
تتيه بفَرْعٍ منه أَصْلُ بليَّتي ... ولم أر أصْلاً قطُّ يُعْزَى إلى فَرْعِ
وتبسِم عما يُكْسَفُ الدُّرُّ عنده ... فكيف تَرَى من بعده حالة الظَّلْع
فكم تركَتْ في ذلك الحيّ ميتاً ... وكم حُمِلَت فيها الضلوعُ على ضلْع

وكم ذابَ من حَرِّ التعانق بيننا ... قلائدها حتى افترقنا من اللَّذْعِ
سَقَى اللّه أيامَ الوصال مدامعي ... عليها وإن أَسْرَفْنَ في الهطل والنَّبْع
زماناً تقود اللهوَ فيه يَدُ المُنَى ... ويُدْمِي التراضي صِحَّةَ الصدِّ بالصَّدْعِ
ولا نائلُ الحسناءِ نَزْرٌ ولا النَّوَى ... تجاهرُ فينا دَوْلَةَ الوَصْل بالخَلْع
إذا شئتُ غنَّاني غزالٌ مُغازِلٌ ... نَشِيطُ التثني فاترُ الخُلْفِ والمَنْعِ
يغنِّي فتحمرُّ المدامةُ خَجْلَةً ... ليَقْصُرَها عن سَلْبَةِ العقْل بالخدعِ
فأصرفُ راحي حين يُكْسَفُ بالها ... وأشربُ منه راحةً بفم السَّمْعِ
وأَطربُ حتى لا أُفيق كأنَّما ... أَتانيَ في عبد الرحيم هَنَا الرَّجْعِ
وما ذاك من فعلِ الإله بمنكرٍ ... ولا عَوْدُهُ من قدرة اللّه بالبِدعِ
نأَى فدنا من كل طَرْفٍ سهادُهُ ... وسار فأَبقى كلَّ قلب على فَجْع
إذا نظرت عينٌ سواه تَلَثَّمَت ... حياءً بعنوان الوفاءِ من الدمع
وإِنْ عَزَمَت نفسٌ على قصدِ غيره ... ففي أَيِّ دِرْعٍ تلتقي أَسهمُ الرّدع
أياديه يُشْجي الناسَ تذكيرُها به ... فأَعْجِبْ بضُرٍ جاءَ من جهةِ النفع
وقد ضاق ذَرْعُ الصبر منا لفقده ... فيا حبذا من فقده ضِيقَةُ الذَّرْع
فلولا اصطبارٌ فيه أَعْدَى بلادَهُ ... لسارت إليه واستجارتْ من القطع
لِكُتْبِ الأجلِّ السيدِ الفاضلِ اغتدتْ ... رقابُ الأَعادي ناكساتٍ من الهَطْع
ومن قَلَمٍ في كفه أصبحت به ... حدادُ المواضي عاجزاتٍ عن القطعِ
ومن فكره أضحتْ أَفاعي يراعِهِ ... مع البعد منها قادراتٍ على اللَّسْعِ
متى خطَّ حرفاً أُوهِمَتْ كلُّ قلعةٍ ... ولم تُخْط وهماً أَنها في يدِ القَلْع
فلله كُتْبٌ منه إِن أَبصرَ العِدَى ... لها مطلباً لم يدفعوها عن الدفع
وإِنْ قيل عُقْبَى خَلْعِهَا كلَّ مفسد ... لقد زِدْتِ قالتْ ذا اختصاري وذا قَنْعي
لو ادَّرَعَ المرءُ الجبانُ ببعضها ... لأَصْبَحَ في الجُلَّى غنياً عن الدِّرْع
لئن شوركتْ في فتح حمصٍ بأَسْهم ... مضت من قِسيٍ لَسْنَ يُخْطين في النّزْعِ
فقد أَوْهَمَتْ تلك السهام بأَنها ... مُنَصَّلةٌ مما يحوكُ من السَّجع
فتباً لمن ظنَّ السيوفَ ككتبه ... لقد ظنَّ ظناً فاسدَ الأَصلِ والوَضْع
تُشَبِّعُ هاتيك الطيورَ وهذه ... من الأَمن تملأ أنفسَ الناسِ بالشِّبْع
ومن لفظها الماءُ المَعينُ فلو جرى ... لريَّانَ أَفنى منه ما سال بالجِزْعِ
لتهنِكَ يا عبدَ الرحيم سعادةٌ ... بها شاسعُ الآمال أَدنى من الشِّسْع
ولا خاب من يرجو نداك ولا خبا ... شهابُ ردىً يرمي أَعَاديكَ بالسَّفْعِ
فيا سيدي أَللّهُ يعلمُ أَنَّنَا ... خصوصاً بضُرٍ مؤلمٍ صائبِ الوقع
بُلينا بحسادٍ كثيرٍ أَذاهمُ ... يظنون أَنَّ الشَّرْعَ قد نُصَّ في الشرع
ولا يَجْنِ بل لا يُجْرِ فيَّ اعتقادهم ... من الشرِّ وِتْراً أَوْ يعزَّزَ بالشَّفْع
ولو أننا في نعمةٍ يحسدونها ... لهان ولكن عُذْرُهُمْ كَرَمُ الطبع
فللناس حزنٌ من فراقك واحد ... وأَحزاننا قد أَوْهَنَتْ نَفَرَ الجمع
لقد خاطرتْ من خاطري خَطَراتُهُ ... لشكوايَ حالاً ضاقَ عن كتمها وُسْعِي

فأُقسِمُ أَنَّ الطرسَ قد خافَ منهم ... وهذا دليلٌ أن كاتِبَهُ مَرْعِي
فطوبى لعينٍ أَبصرتكَ وحبذا ... مَقَرُّكَ من ربعٍ وصُقْعُكَ من صُقع
فلو فارقتْ جسمي إِليك حياتُهُ ... لقلتُ أَصابتْ غيرَ مذمومةِ الصُّنْع
ثم وصل إلى الشام في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين في الخدمة الفاضلية فوجدته في الذكاء آية، أحرز في صناعة النثر والنظم غاية، يتلقى عرابة العربية له باليمين راية، قد ألحفه الإقبال الفاضلي في الفضل قبولاً، وجعل طين خاطره على الفطنة مجبولاً، وأنا أرجو أن تترقى في الصناعة رتبته، وتعزر عند تمادي أيامه في العلم نغبته، وتصفو من الصبا منقبته، وتروى بماء الدربة رويته، وستكثر فوائده، وتؤثر قلائده.
ومن جملة ما كتبه لي بخطه، وأملعنيه بنقطه، وأبرزه لي من سمطه، قصيدٌ يمدح بها الأجل الفاضل أبا علي عبد الرحيم بن علي البيساني، ويذكر مسيره صحبته للكتابة بين يديه، ويهنئه بعيد الفطر:
إِن كنتَ ترغبُ أَنْ ترانا فالْقَنا ... يومَ الهياجِ إِذا تشاجرتِ القَنَا
تلقَ الأُلى يُجنيهمُ ثمرَ العلا ... قُضُبٌ يلذُّ بها الجنى ممن جنى
لا يشربون سوى الدماءِ مُدامةً ... إذ ينشقونَ من الأسنة سوسنا
وإِذا الحسامُ بمعركٍ غنَّى لهمْ ... خلعوا نفوسهمُ على ذاك الغِنَا
متورعين فإن بدتْ شمسُ الضحى ... جعلوا العَجَاجَ لها رداءً أَدكنا
يشكو النهارُ خيولَهُمْ من نقعها ... والليلُ يشكو من وجوههمُ السنا
ويكادُ يُعْدِي القِرنَ شدةُ بأسهم ... فيكادُ يومَ الروع أَن لا يَجْبُنَا
وإذا رأى الخطِّيُّ حدةَ عزمِهمْ ... نكرَ القناةَ وكاد أَن لا يطعنا
إني وإن أصبحتُ منهم إِنهمْ ... ليرون لِي خُلُقاً أَرقَّ وألينا
أهوى الغزالةَ والغزالَ وربما ... نهنهتُ نفسِي عفَّةً وتدينا
وأَهُمُّ ثم أخافُ عقبي معشرٍ ... أخنى عليهم سوءُ عاقبةِ الخَنَا
ولقد كففت عنان عيني جاهداً ... حتى إذا أعييت أَطلقتُ العِنَا
فجرتْ ولكن في الحقيقة عبرةً ... أَبقتْ على الخدين وسماً بيّنا
يا جَوْرَ هذا الحبِّ في أحكامه ... خدٌّ يُحَدُّ ولحظُ طَرْفٍ قد زنا
وأظنه قصد الجناسَ لأنه ... طرفٌ زنا لما رأى طَرْفاً رنا
يا قاتلَ اللّه الغواني ما لنا ... عنهم غِنَىً بل كم لنا ِّعنهم غنى
ومليحةٍ بخلت فكانت حُجَّةً ... للباخلاتِ وقلن هذي عُذْرُنا
كالبدر إِلا أنها لا تُجْتَلَى ... والغصنِ إِلا أَنها لا تُجْتَنَى
ضنَّتْ بطرفٍ ظلَّ يُعدى سقْمُهُ ... أَرأَيتمُ من ضنَّ حتى بالضنا
قالتْ تُعَيِّرُ من يكون مُبَخَّلاً ... فعلامَ أسموه البخيل بودِّنا
وإذا تشكَّى القلبُ إِسراعَ النوى ... ظلَّتْ تَشَكَّى منه إِفراط الوَنَى
وإذا بكت عيني تقولُ تبسمتْ ... إِنَّ الدموعَ لها ثغورٌ عندنا
يا عاذلين جهلتُمُ فضلَ الهوى ... فعذلتمُ فيه ولكنِّي أَنا
إني رأيتُ الشمسَ ثم رأيتها ... ماذا عليَّ إِذا عشقتُ الأَحسنا
وسألتُ من أيِّ المعادنِ ثَغْرُهَا ... فَوَجَدْتُ من عبد الرحيم المعدنا
أبصرتُ جوهرَ ثغرها وكلامَهُ ... فعلمتُ حقاً أَنَّ هذا من هنا
ذاك الكلام من الكمالِ بمنزلٍ ... لا يدركُ الساعي إليه سوى العنا
يدنو من الأَفهام إِلا أنها ... تلقاه أبعدَ ما يكون إذا دنا
ويسير وهو لحفظها مستوطِنٌ ... فاعجبْ لذلك سائراً مستوطنا

والجيدُ أَحسنُ ما يكون لمُسْمِعٍ ... أَضحى بجوهره النفيس مُزَيَّنا
وإذا حواه الطرسُ فتَّحَ أعينا ... من زهره تُصْبِي إليه الأَعينا
فالطِّرسُ ساحةُ فضةٍ وسطورُهُ ... مِسْكٌ تُفَرِّعُهُ اليراعةُ أَغصنا
للّه من عبد الرحيم يراعةٌ ... تَذَرُ الحسامَ من الفلولِ مُؤَنَّنَا
فلسانه قد صار لولا شكرُهُ ... لجميل نعمتها لساناً أَلْكَنا
وكتابهُ للمُلْكِ منه كتيبةٌ ... تدع العدوَّ مُحَيَّراً ومُجَبَّنا
هو سورُهُ حيث السطورُ بروجُهُ ... فلذاك صار مُحَصَّناً ومحسَّنا
ولقد علا بأبي عليٍ جدُّ من ... جعل الرجاءَ إليه أَنْفَسَ مُقْتَنَى
يدعوه حين يُخيفُهُ إِقْتَارُهُ ... فإذا دعا كان النوالُ مُؤَمَّنا
إنْ يأْتِهِ يَلْقَ النزيل مُعَزَّزَاً ... ويصادفُ الذهبَ النضارَ مُهَوَّنا
والوجهَ أَبلجَ والفناءَ مُوَسَّعَاً ... والعزَّ أَقعسَ والعلاءَ مُمَكَّنَا
أَغنى وأَقنى قاصديه فكلُّهُمْ ... يُثْني ولا يَثْني عِنَاناً للثَّنَا
تُثْني القلوب على نداه وربما ... ركبَ النفاقُ مع الثناءِ الأَلْسُنَا
كم عاذلٍ في الجود قال له اتَّئِدْ ... لا تَلْحَنَا فيه لئلا تَلْحَنَا
يفديه من تلقاه قاصدَ رِفْدِهِ ... مُتَلَوِّياً في رِفْدِهِ مُتَلَوِّنَا
أصبحتُ في مدح الأجلِّ مُوَحِّداً ... ولكم أتتني من أياديه ثُنَى
وغدوتُ في حبي له متشيعاً ... من ذا أى متشيعاً مُتَسَنِّنَأ
ورأيتُ صحبته نعيماً عاجلاً ... فرأيتُ بذلَ النفسِ فيه هينا
وأَرادني فظننتُ غيري قصدَهُ ... فوجدت دهري مذ عَنَاني مُذْعِنَا
يا ليت قومي يعلمون بأنني ... أدركتُ من كفيكَ نادرةَ المنى
أَوْلَيْتَ حسادي بما أَوليتني ... علموا يقيناً أَنَّ أَيْسَرَهُ الغنى
فملأتُ كفي منك جوداً فائضاً ... وملأتُ سمعي منك قولاً لَيِّنا
أَنْسَيْتَنِي أهلي على كَلَفِي بهم ... وذكرتُ أَني قد نسيتُ الموطنا
وعلمتُ من سفري بأني لم أَزلْ ... متغرباً لما لزمتُ المسكنا
كم والهٍ يبكي عليَّ ويشتكي ... أَلماً من البينِ المُفَرِّقِ بيننا
وإذا رأى أَثَري بَكَى فكأنه ... طَلَلٌ تقادم عهده بالمُنْحَنَى
ويظنُّ دهري قد أَساءَ ولو دَرَآ ... حالي لأَيْقَنَ أَنَّه قد أَحسنا
لا زال رأيك لي يزيدُكَ ضنَّةً ... في صحبتي ويزيد حسادي ضَنَا
وَهَناكَ عيدٌ أنت عيدٌ عنده ... ولذاك أضحى فيك أَوْلَى بالهنا
وبقيتَ ما بقيَ البقاءُ فإن دنا ... منه الفناءُ بقيتَ أو يَفْنَى الفَنَا
وقال يمدحه
أَبَى أنْ يَسُرَّ العاشقين إيابُ ... وأن يردعَ البينَ المشتَّ عتابُ
وما العشقُ إلا موتُ جسمٍ إذا دعا ... فإن نفوسَ العاشقين جواب
ومن صحَّ من داء الصبابة قلبُهُ ... رأَى أَنّ رأْيَ العاشقين صواب
رعى اللّه قوماً رَوَّعُوا بفراقهم ... فؤاداً حماه من حِجاهُ حِجاب
تضاعفَ ضعفي حين شُدَّتْ قِبابُهم ... وقد زاد كربي حين سار ركابُ
عبرنا فكم من عبرةٍ في ديارهم ... تُذَالُ ونفسٍ بالحنين تُذَاب
ومنها:
وغانيةٍ لم تَعْدُ عشرين حجةً ... أقولُ لها قولاً لديه ثوابُ
عليكِ زكاةٌ فاجعليها وصالَنَا ... لأنّكِ في العشرين وهي نِصَاب

وما طلبي إلا قبولٌ وقُبْلَةٌ ... وما أَرَبِي إلا رضىً ورُضاب
ومنها:
تذكرت دهراً ليس ينسيه لَذَّةٌ ... ولم يُسلِ قلبي عن هواه شرابُ
وحجي إلى حانوتِ راحٍ وحانةٍ ... وكعبةُ لهوي أَغْيَدٌ وكعاب
وإفراطُ حبي للعجوز التي غدتْ ... عروساً تَهادَى والعقودُ حَبَابُ
تُعيدُ شبابَ العقل ضعفاً وكبرةً ... ويرجع منها للكبير شبابُ
إذا قتلوها بالمزاج تبسمت ... كشاربها يرتاحُ وهو مُصَابُ
ومن عجبٍ أَنَّا نصيرُ بشربها ... شياطينَ تردي الناس وهي شهاب
ومنها في المدح:
فتى أشرقت منه خصالٌ شريفةٌ ... كما أغرَبَتْ في الفضل منه رِغابُ
وقد صادقَ الإِنجازَ منه مواعدٌ ... كما جَانَبَ الإِخلافَ منه جَنَاب
على مالِهِ منه عذابٌ أَصَارَهُ ... مواردَ جُودٍ كلُّهُنَّ عذاب
أَيادٍ له بيضٌ حسانٌ سختْ بها ... يدٌ لم يَشُبْها في العطاءِ حساب
مواهبُهُ عِتْقُ النفوسِ أَقَلُّهَا ... إذا صَافَحَتْ بيضَ الصفاحِ رقابُ
وآراؤهُ تَثْنِي النصولَ بفيضها ... إذا لم يكن إلاّ الدماءَ خضابُ
ومنها في كتابته وكتبه:
تَجُذُّ معانيها الرقابَ فقد غدا ... يُخَيِّلُ لي أنّ الكتاب قِرَابُ
وقال يمدحه:
لقد عَتِيَتْ أيدي النوى بالنواهد ... وقد عَبَثَتْ كفُّ البِلى بالمعاهد
وقد صادرتنْي في البدور يدُ السُّرى ... فصار سروري صادراً غير وارد
وكم ليلةٍ ق سرني الدهرُ منهمُ ... بأقمار خِدْرٍ لُقِّبَت بالخرائد
بكل فتاةٍ تتركُ العقلَ شارداً ... على أنها بالحسن أصْيَدُ صائد
ومحسودةِ العقد المعانَقِ جيدُهُ ... وإني له واللّه أكبرُ حاسد
تتيهُ بفرعٍ فوق خَدٍ مورَّدٍ ... وتسطو بوردٍ تحت أَجْعَدَ وارد
ومن صونها عن كل راءٍ ولامسٍ ... غدا صَدْرُها يُبْدِي قِلىً للقلائد
وقد أَشْبَهتها الشمسُ حتى خيالُها ... يشابِهُ ما قد طَوَّلَتْ من مواعد
سلِ القلبَ هل مرَّ السلوُّ بباله ... وهل حُزْنُهُ من بعدِكُمْ غيرُ زائد
يَقَرَّ بما قد قَرَّ فيه من الأسى ... ويأتي إليكم من سَقَامي بشاهد
فبَعدكَ ما أبصرتُ دمعيَ راقئاً ... وهذا دليلٌ أنني غير راقد
ولما هجرت الكُحْل قلتُ أَمِنْ غِنىً ... بتكحيلها أَم مِنْ قِلىً للمَراود
ومنها
لأنِّيَ أَحكيها نحولاً وصفرةً ... وقد تُتْرَكُ الأشياءُ من غير واحد
بعينيك لا تستعجل البين والنوى ... فلا بدّ يوماً من فراق الفراقد
ولابد لي أن أترك الهمَّ آخذاً ... لكاسٍ تُلاقي كل همٍ بطارد
وتتركُ منها زاهياً كلَّ زاهدٍ ... ويرجع منها ماجناً كل ماجد
ومنها في صفة الخمر:
ترى أبداً منها الأباريقَ سُجَّداً ... فشُرَّابُها أَضحَوْا بها في مساجد
يطوفُ بها حلوُ المراشفِ أوْطَفٌ ... دَمَت مقلتاه كلَّ قلب بقاصد
ولم يُبْقِ وجهاً وجهُهُ غيرَ ساهمٍ ... ولم يُبْقِ طَرْفاً طرفُهُ غيرَ ساهد
يضن ببَرْدٍ من وصالٍ وقد بدا ... عذاراه في خديه مثل المَبَاردِ
له الحسْنُ عبدٌ لا يخالف أمرَهُ ... وللفاضلِ المحمودِ حُرُّ المحامد
غدا مُسْتَقِلاً بالرياسةِ والعُلاَ ... ومستكثراً من مُتْعِبات الحواسد
ومستحمداً من بذله كلَّ مادح ... ومستمدحاً من فضله كلَّ حامد
ومنها:
وقد فاق من توفيقه كلَّ سائس ... كما ساد من تسديده كل سائد
أَقَلُّ الوَرى مَنّاً على بذل مِنَّةٍ ... وأكثرُ ما تلقاه عند الشدائد

علا ابنُ عليٍ فوق كلِّ مُطاوِلٍ ... بِطيبِ السجايا بعد طيب المحامد
وفضلٍ حباه اللّه منه بمعجزٍ ... ترى أبداً يَرْويه كل معَاند
وجَدٍ بما يهواه خيرِ مساعفٍ ... وسعدٍ لما يبغيه خيرِ مساعد
فيا حاسديه غيظكمْ غيرُ نافذٍ ... ويا حامديه جوده غير نافد
ويا عاذليه في الندى إنّ عذلكم ... كبَهْرَج نَقْدٍ زافَ في عين ناقد
ومنها:
إِذا كَذَبَتْ آراءُ قوم فرأيُهُ ... على مشكلاتِ الغيبِ أصدقُ رائد
وإِن كَتَبَت أقلامُه أَقْصَدَ العدى ... سهام المنايا من سمامِ الأساود
فيحمي سماءَ الملك منها ثواقبٌ ... بكل شهابٍ واردٍ نحو مارد
فيا مشتري وُدَّ القلوبِ وحبَّها ... رويدكَ قد أَسْقَطْتَ نجمَ عُطَارِدِ
كأن العدى عينٌ وكُتْبُكَ عُوذَةٌ ... وقد أَخَذَتْ من صَرْفِهِمْ بالمَراصِدِ
ومنها في توديعه
أَيا راحلاً والدمعُ بي غير واقفٍ ... ويا سائراً والوجدُ بي غيرُ قاعد
يعزّ على ظمآن ملتهبِ الحشا ... فراقُ فراتٍ منك عذبِ المنوارد
تسير فكم باكٍ بأجفان والهٍ ... عليك وكم باكٍ بأجفانِ والد
أُودِّع منك العيشَ عيشَ شبيبتي ... وأقطعُ مني العمرَ عمرَ قصائدي
وأهجرُ إن فارقتني كلَّ لذة ... وأُعربُ من وجدي على كل واجد
فقصَّرَ ربي عُمْرَ ما قد نوى النوى ... ومن لي بتقريبِ النوى المتباعد
وقال يمدحه من قصيدة مضى عنه أولها:
ليالٍ عيونُ الدهرِ عنها نواعسٌ ... تنعَّمْتُ فيها من حسان نواعمِ
وعانقتُ فيها بدرَهَا في معاجرٍ ... على إِثرِ مَن عانقتُهُ في عمائم
وبرَّدْتُ فيها لوعتي من مراشفٍ ... فما زلت أستشفي بلثمِ المباسم
ومنها:
ولما بدا جيدٌ لها ومعاصمٌ ... رأيتُ حبالُ الصبر غيرَ عواصم
وعاوَنَها عينايَ في سفكِ مهجتي ... فمن ذا أُسمِّي عاذلاً غيرَ ظالم
وهدَّ هواها من نُهايَ معاقلاً ... وعهدي بها لا ترتقي بالسلالم
وبعتُ فؤاداً واشتريتُ مَذَلَّةً ... وأُرْبحتُ علمي أنني غيرُ حازم
ومنها في المديح:
من الوارثينَ المجدَ لا عنْ كلالةٍ ... إذا ما ادَّعاهُ أَدعياءُ الأعاجم
ترى ما لَهُ من بذله في مكارهٍ ... وتلقاهُ مسروراً بجمع المكارم
إذا أَوْجَعَت قلبَ امرىءٍ كفُّ حارمٍ ... رأَى من عطايا كفه قلبَ راحم
غرامٌ قديمٌ فيه بالجودِ والندى ... إذا أَثقل الأعناقَ حملُ المغارمِ
ومنها في صفة كتابته:
ويطربُ حُسناً من غدا فيه حتفه ... وقد يُطرب المحزونَ نوحُ الحمائم
ومنها في تهنئته بالصوم:
تَهنَّ بهذا الصومِ يا خيرَ صائرٍ ... إلى كلِّ ما يهوى ويا خيرَ صائم
ومن صام عن كل الفواحشِ عمرَهُ ... فأهونُ شيءٍ هجرُهُ للمطاعم
ومنها:
ولولا نداكَ الغَمرُ لم أَكُ شاعراً ... وقد يشكر الأنهارَ صوتُ العُلاجم
ولا عجباً أنْ صرتُ في خيرِ ناثرٍ ... لدرِّ كلامٍ رائقِ غيرَ ناظم
وقال يمدح أباه ويودعه عند مسيره مع الأجل الفاضل إلى الشام:
أَناخَ بها البارقُ الممطرُ ... ومرَّ النسيمُ بها يخطرُ
وأحيا مسيحُ الحيا نشرَها ... فأصبحَ مَيِّتُها يُنْشَرُ
وأُضْرِمَتِ النارُ من فوقها ... ففاح لها النَّدُ والعنبر
ونبَّهَ فيها صهيلُ الرعودِ ... لواحظ ما خلتُها تسهر
وطاشَ النباتُ فهل راقه ... ليركَبَهُ ذلك الأشقر
وما حملتْ منةً للسحاب ... إلا ومنتُها أكبر
متى جاء من دمعِهِ زائرٌ ... تَلَقَّاه من زهرها مَحْجِرُ

ولو حلَّ في رغده خاطبٌ ... لوافاه من سَرْوِها منبر
فكم مقلةٍ ثَمَّ مغضوضةٍ ... وكم وجنةٍ بالحيا تقطر
وكم من غديرٍ غدا صفْوُهُ ... بأسرارِ حصبائه يُخْبر
وكم قد نهاه هبوبُ الرياح ... فظلَّ بتجعيده يستر
زكم فيه للقطر من خوذةٍ ... تدلُّ على أنه مِغْفَر
فيا روضةَ الحسن إِني شُغِلْتُ ... بروضةِ حسنٍ لمن ينظر
ويا خَضِرَ اللون قد ضاع فيك ... كما ضعتَ شاربك الأخضر
أنا لا أُبينُ لفرطِ السَّقام ... وذاك لكونك لا تظهر
تأَطَّرَ والرمحُ في كفه ... فلم ندر أيهما الأسمر
ومرَّ الغزال على إِثرهِ ... فلم ندر أيهما الجؤذر
وألبس خاتَمَهُ خصرَه ... فقد صحَّ من خَصْرِهِ الخنصر
ولما تعمَّمَ قام الدليلُ ... على نقصِ مَنْ زِيُّها المِعْجَرُ
وحسبك أَنَّ لها معجراً ... وأَسعدُ منه لهُ مئزر
وقد غار منه على أَننِي ... وغيريَ من قبله أَغْيَرُ
فيا معدناً دُرُّهُ سالمٌ ... ويا روضةً وردُهَا أَحمر
ويا من بفيه لنا سُكَّرٌ ... ولكنه سُكَّرٌ يُسْكِرُ
تحلل جَهْراً عقود الرجال ... فمن أجله حُرِّمَ المُسْكِرُ
أَصومُ عن الوصل دهرِي وقد ... رأيتُ الهلال ولا أُفْطِرُ
وأنت الهلالُ وأنت الهلاكُ ... بِقَتْلِيَ تُفْنِي ولا تَفْتُرُ
ومنها:
وأَعجبُ من كلِّ ما قد جرى ... عجوزٌ أَتتنِي بها مُعْصِر
وهذي القضيةُ معكوسةٌ ... أَرَى العقلُ من مثِلهَا يَنْفِرُ
فواصلتها في كؤوس ظَنَنْتُ ... بها أَنَّ حارسنا يُبْصر
وأَحرقتُ منها ظلامَ الدجى ... لِمَا صحَّ من أَنَّه يَكْفُر
وبات نديميَ لا ليلُه ... يطولُ ولا شُرْبُهُ يَقْصُرُ
وقام المؤذِّنُ ينعيَ الظلامَ ... فهذاك يَنْعَى وذا يَنْعَرُ
وحُطَّ لديَّ قناعُ الصباحِ ... وأسفرَ لي وجهُك المُسْفِر
فلا يعجبِ الصبحُ من نوره ... فوجهُ الرشيدِ أبى أنْورُ
واخبارُ سؤدده من سناه ... أبهى ومن حسنه أبهر
هو السيد المشتري للثناءِ ... وقد عجز القومُ أن يشتروا
ومانِحُ من جاء يمتارُهُ ... فهمْ في معاليهِ لن يَمْتَرُوا
ويفتر مُدَّاحُهُ من لهاه ... فهم في المدائح لن يَفْتُرُوا
وراحتهُ قبلةُ الآملينَ ... على أنها ديمةٌ تمطر
فللجود باطنها مَشْرَعٌ ... وَلِلَّثْمِ ظاهرها مَشْعَرُ
فإن شئتَ قل إِنه جنةُ النعيمِ ... وراحتُهُ الكوثر
تُقَصِّرُ إِنْ سابقَتْهُ الرياحُ ... وتوجدُ في إِثره تَعْثُر
ويُنسي الرشيدُ لذكر الرشيد ... ويُحقر من جعفرٍ جعفر
وكيف يُسَمُّونَه جعفراً ... ومن فيض راحته أَبحر
وكيف يلومون حسَّادَه ... وقد حسدت عصرَه الأَعْصُر
من القوم لا رفدُهُمْ للعفا ... ةِ يُحْصَى ولا مَجْدُهُم يُحْصَر
فرفدهمُ منهمُ مُرْبِحٌ ... ووفرهمُ بهمُ مُخْسِرُ
بدورٌ إِذا انتسبوا للأَنامِ ... فزُهْرُ النجومِ لها مَعْشَر
ولا مثلَ هذا الرئيسِ الذي ... له مَفْهَرٌ ما له مفخر
ومنها:
وتوردُ في مَنْهَلِ المكرماتِ ... وتصدْرُ عن أَمل يصدر

فِداهُ من السوءِ حسَّادُه ... جميعاً على أَنَّهم أَحقر
فكم قَدَّرُوا الوضعَ من قدره ... وتأبى المقاديرُ ما قدَّرُوا
وكم آثروا ثلمَ عليائه ... فما ثلموها ولا أَثَّرُوا
يحلِّقُ نحو سماءَ العلا ... وهم قبل تحليقه قصَّرُوا
فلله منه فَتى عزمةٍ ... تجيءُ الليالي بما يَقْدُرُ
ونظَّامُ مجدٍ يُرى نَفْيُهُ ... لأَعْرَاضِه أَنه الجوهر
وعدليُّ فعلٍ يقولُ الزمانُ ... لإِجباره إِنَّهُ مُجْبرُ
وبحرُ علومٍ يُرَى موجُهُ ... يُعَبِّرُ عنه ولا يُعْبَرُ
لك اللّه ماذا عسى أن يقولَ ... لساني وماذا عسى يذكر
فقد صرتُ أَشعر إِن رمتُ نظمَ ... مديحك أَنيَ لا أَشعر
وإِني عزمت على سفرةٍ ... أَرى وجه إِقبالها يسفر
وأحببتُ خدمةَ مَن دهرُنا ... لأَغراضه خادمٌ أَصغر
وآثرتُ صحبة مولى الأنامِ ... لأبلغَ منه الذي أُوثِرُ
ستغبطني فيه شمسُ الضحى ... ويحسدني القمر النيِّر
وأصبحُ لا عيشتي عنده ... تُذَمُّ ولا ذمتي تُخْفَر
وأُبصرُ دهريَ من ذنبه ... يتوبُ إلَيَّ ويستغفر
أودِّعُ منك الحيا والحياةَ ... وأُودِعُ قلبي لظىً يَسْعر
وأَرحلُ عنك ولي خاطرٌ ... بتذكار غيركَ لا يخطر
ومن كان مثلي سعى في البلاد ... فيكسى من العز أو يكسر
وما طلبي غير نيل العلا ... ومثلي على مثلها يعذر
فلا تنسني من مجاب الدعا ... فإني وليدك يا جعفر
وقال وقد اقترح عليه أن يذم الخال:
يا من غدت تختال في خالها ... وخالُها يقضي بتهجينها
كأنما خدُّكِ تفاحةٌ ... وخالُها نقطة تَعْيِبنِهَأ
وقال فيه:
لا تُجْرِ دمعاً على سعادٍ ... فإن هِجْرَانَها سَعَادَهْ
زهتْ على قومها بخالٍ ... أَكسبها منهمُ زَهَادَه
وما درت أَنَّ كلَّ خالٍ ... بغضتُهُ للظريفِ عاده
إني لأختصه بمَقْتِي ... لمّا تَخَيَّلْتثهُ قُرَاده
وقال في قواد:
لي صاحبٌ أَفديه من صاحبٍ ... حلوِ التأنِّي حَسَنِ الإِحتيالْ
لو شاءَ من رقةِ ألفاظِهِ ... ألَّفَ ما بين الهدى والضلالْ
يكفيك منه أنه رُبَّما ... قاد إلى المهجورِ طيفَ الخيال
وقال:
وَغادةٍ عندها وَغادَهْ ... صارت لها سُنَّةً وعادَه
إن هام بها جنوناً ... جعلتُ ساقاتِها قِلاَدَه
وقال يهجو:
وشاعرٍ كاتبٍ أَديبٍ ... منظَّمِ العقدِ والقياس
قلتُ له والفضول داءٌ ... وهو كما قيل كالعُطَاس
لِمْ صِرْتَ تَبْغي وصرتَ تَبْغُو ... قالَ من العشقِ للجناس
وقال:
لا أَصْرِفُ الوَجْهَ عن إِنسانِ غانيةٍ ... ولستُ أصرف عنها وجْهَ إِنساني
ولا أُريدُ لقوَادٍ مُسَاعدةً ... إن الشبيبةَ من أَعْيانِ أَعوانِي
وقال موشحاً يمدح به أباه:
أَخْمَلَ ياقوتَ الشفقْ ... دُرُّ الدراري
وساح في أُفْقِ الغَسَقْ ... نَهْرُ النهارِ
وفتَّ كافورُ الصباحْ ... مسكَ السماءِ
وفاح من نشرِ الأَقاحْ ... نشرُ الكَبَاءِ
وهبَّ من جسم الرياحْ ... مثلُ الهباءِ
ولاح من زَهْرِ البطاحْ ... نَدُّ الهواءِ
وسار في بَدْرِ الأُفُقْ ... سِرُّ السِّرارِ
وقد وقى الشمسَ الغَرَقْ ... منه سماري

فاترك لعيدانِ الطلولْ ... تَنْدُبُ مَيَّا
واشربْ على رغمِ العذولْ ... من الحُمَيَّا
وانثرْ على أُفق الشَّمُولْ ... عِقْدَ الثريا
وقل لساقيك العجولْ ... باللَّهِ هَيَّا
أَما ترى نورَ الفَلَقْ ... شيبَ بنارِ
لعلَّهُ قد استرقْ ... شمسَ العُقَار
لا شمسَ إلا من مدامْ ... ذاتِ وقودِ
تجلو بتمزيقِ الظلامْ ... وجهَ الرشيد
نفسُ العلا معنى الأنامْ ... سرُّ الوجود
وهو إِذا عُدَّ الأنام ... بيتُ القصيدِ
تخلَّفوا وقد سَبَقْ ... إلى الفَخَارِ
فليس فيهم من لَحِقْ ... غيرَ الغبارِ
أغنى وأقنى باللُّهَى ... وما تَعَسَّرْ
وقاده فضلُ النُّهَى ... فما تعثَّر
ورام أعلى ما اشتهى ... فما تَعَذَّر
وحاز مقدارَ السُّهَا ... فما تكَبَّر
فجلَّ ربٌّ قد خَلَقْ ... بالاقتدارِ
هذي المعالي من عَلَقْ ... بلا تَمَارِ
عمري ببقياهُ شبابْ ... والعيشُ صافي
وليس لي فيه شرابْ ... غيرُ السُّلافِ
وكعبتي خودٌ كَعَابْ ... لها طوافي
قالت برغم الاجتنابْ ... والانحرافِ
جِي يا حبيبي واستبِقْ ... واحْلُلْ إِزاري
فإن زوجي ما غَلَقْ ... ذا اليومَ داري
وقال موشحاً يرثي أمه:
يا مَا عَرَا قلبي وما دهاهْ ... مضى نُهَاهْ
لما نهاهُ الوجد مَعْ مَنْ نَهاهْ
ما زال لي مذ دهاني الزمانْ
أُنْسٌ شجاعٌ واصطبارٌ جَبَانٌ
وعَبْرَةُ خالِعَةٌ للعِنَانْ
لا تقبلُ الصونَ وترضى الهوانْ
وناظري قد غاب عنه كراهْ ... تُرى سَرَاه
أَو يُفْسِحُ الدهرُ له في شِرَاهْ
صبراً جميلاً أين صبرٌ جميلْ
ذاك سبيلٌ ما إليه سبيلْ
وقتي قصيرٌ وحديثي طويلْ
حسبكَ مَنْ راحتُهُ في العويلْ
وجُلُّ ما يبغيه لُقْيَا الوفاهْ ... وهي شِفَاهْ
تَبْرِي خطوباً خاطَبَتْهُ شِفَاهْ
حزني على أُمِّيَ حزنٌ شديدْ
تَبْلَى الليالي وهو غَضٌّ جديدْ
فقلْ لنارِ القلب هل مِنْ مَزِيدْ
وقل لصَرْفِ الدهر هل من مَحِيدْ
غلطتُ دعْ دهري وما قد نواهُ ... فهل عساهْ
يأتي إِلا دون ما قد أَتَاهْ
لهفي على من شطَّ منها المزارْ
وأَظلمتْ من بعدها كلُّ دار
وصار للمقدارِ فيها الخيارْ
وقد بكى الليلُ لها والنهارْ
هذا لفقدِ العُرْفِ ما قد شجاه ... وللصلاه
هذا أطالَ الوجدُ فيها بكاه
يا ليتني سابِقُهَا للمماتْ
ولا أَرى نفسي بشر الصِّفاتْ
منتزَعَ الصبرِ عديمَ الثبات
فكم ثكالى قُلْنَ مستعجلاتْ
هذا المسيكينْ ما بَقَى لَهُ حَيَاهْ ... هَدَّ قُواهْ
واهاً عليه ثم واهاً وواهْ
وقال يذكر ليلة وصال:
ظبيٌ بحسماءَ حالي الجيدِ بالعَطَلِ ... لكنه قد جَلاَهُ الحسنُ في حُلَلِ
موشّحاتٌ ولكن من ذوائبهِ ... لما رآه مُحَشَّى الطرف بالكَحَلِ
أتى إِليَّ وأَهدى خدَّهُ لفمي ... فقمتُ أَقْطُفُ منه وردةَ الخجل
والليلُ قد مَدَّ سِتْراً من سحائبه ... لمّا تخيَّلَ أنّ الزَّهْرَ كالمُقَلِ

قمنا ولا خطرٌ إلا إلى خَطَرٍ ... دانٍ ولا خطوةٌ إلا إلى أجل
والعينُ تسحبُ ذيلاً من مدامعها ... والقلبُ يسحبُ أَذْيالاً من الوجل
أُكلِّفُ النفسَ معْ علمي بعزّتها ... وَطْئاً على البيضِ أو حَمْلاً على الأسَل
لكنني بالمواضي غيرُ مكترثٍ ... وبالأَسنَّةِ فيه غيرُ محتفل
وكاد يهلك لولا الصبرُ من فَرَقٍ ... وكدت أهلك لولا الحَزْمُ من جَذَل
حتى أتينا إلى ميعادِ مَأْمنةٍ ... يا صاحبيَّ فلو أبصرتما عملي
أواصلُ اللَّثْمَ من فَرْعٍ إلى قدمٍ ... وأُوصلُ الضمَّ من صَدْرٍ إلى كَفَل
وجَيَّبَ الشوقُ ثوباً من معانقةٍ ... منَّا علينا فلم يَقْصُرْ ولم يطل
وبات يُسْمعني من لفظِ منطقه ... أَرقَّ من كلمي فيه ومن غَزَلي
وددتُ أعضايَ أسماعاً لتسمعَهُ ... ولو تحمَّلْتُ فيه وطْأَةَ العَذَل
ودمعةُ الدَّلِّ يُجريها على جسدي ... فهل رأيت سقوط الطلِّ في الطّلَل
ونلتُ ما نلتُ مما لا أَهُمُّ به ... ولا ترقَّتْ إليه هِمَّةُ الأمل
ومرَّ والليلُ قد غارتْ كواكبه ... لما نوى الصبحُ تطفيلاً على الطّفَلِ
لم أَسْحَبِ الذيلَ كي أَمحو مواطِئَهُ ... لكنني قمتُ أمحو الخَطْوَ بالقُبَلِ
يا ليلةً قد تولَّتْ وهي قائلةٌ ... لا تظلمنِّيَ مع أيَّامِكَ الأُوَلِ
وقال عند خروجه من مصر وتوجهه إلى الشام:
لما دعا في الركب داعي الفراقْ ... لبَّاهُ ماءُ الدمع من كل ماقْ
يا دمعُ لم تَدْعُ سوى مهجتي ... فلِمْ تطفَّلْتَ بهذا السباقْ
إن كنتَ قد خفت لظى زفرتي ... فأنت معذورٌ بهذا الإباق
وإِن تكن أسرعتَ من جِنَّةٍ ... إنّ لها من أَنتي أَلفَ راق
مهلاً فما أنت كدمعٍ جرى ... وراقَ بل أنت دماءٌ تُرَاقْ
فقمتُ والأجفانُ في عَبْرَةٍ ... والدمعُ من مَسْألتي في شقاق
أَسقى بمُزْن الحزن روضَ النَّوى ... يا قُرْبَ ما أَثمرَ لي بالعناق
وأسلفَ التوديع شكري لكي ... يخدعَ قلبي بتلاقي التَّرَاق
وما عناقُ المرء محبوبَهُ ... إِلا بأنْ يلتفَّ ساقٌ بساق
للّه ذاك اليوم كم مقلةٍ ... غَرْقَى وقلبٍ بالجوى ذي احتراق
ومعشرٍ لاقوا وجوه النوى ... وهي صِفاقٌ بوجوهٍ رِقَاق
ووالدٍ بل سيدٍ والهٍ ... سقاه توديعيَ كأساً دهاق
كأنّ ذاك اليومَ كأسٌ له ... الهمُّ شُرْبٌ ويدُ البعد ساق
يقول لي أَتعَبْتَ قلبي فلا ... لقيتَ من بعديَ ما القلبُ راق
أيقنتُ أنْ أَلْبَسَ في بلدة ... أخلاقَ قومٍ ما لهم من خَلاَقْ
هُمْ معشرٌ دقٌّ ومن أجل ذا ... أَضحتْ معاني اللؤم فيهم دقاق
لما سرتْ خيلي بهمْ عنهمُ ... أسميتُ قلبي بِعتاقِ العتاق
وبدرِ تِمٍ قال لي عاتباً ... فَلَلْتَ صبري يا كثيرَ النفاق
خدعَتني حتى إذا حُزْتَني ... سلَّطتَ بالبينِ عليَّ المِحَاق
قلت بدورُ التم أَسْرَى السُّرَى ... فارضَ بأني لك يا بدرُ واق
وابقِ طليقاً ما نأَتْ داره ... وَدَعْ أسيراً سائراً في وثاق
وربما كانَتْ لنا عودةٌ ... فإن تكنْ كان إليك المَسَاق
مذ صُعِقَ القلبُ لتوديعهم ... وخرَّ لم يَتْلُ، فلما أفاق
إن كان وجدي غيرَ فانٍ به ... فإن جسمي بعده غيرُ باق
واللّه ما يَسْوَى وإن كابروا ... يومَ النوى عندي غيرُ التلاق

ومما قال بحماه:
من للغريب هَفَتْ به الفِكَرُ ... لا العينُ تؤنسُهُ ولا الأَثَرُ
لا تلتقي أَجفانُ مقلته ... فكأنما أَهْدَابُهُ إِبَرُ
من طولِ ما يُرْمَى بغُرْبَتِهِ ... يبكي البكاءُ ويسهر السهر
يا طولَ ليلٍ لا صباحَ له ... سَحَروا الظلام فما له سَحَرُ
ولقد تحَّلأَ عن منازله ... طيفٌ لطولِ سُرَاه مُنْبَهِر
يأتي إليَّ لنقع غُلَّته ... فيصدُّهُ مِنْ مَدْمَعي نَهَر
وعهدْتُ قلبي جِسْرَ مَعْبَرةٍ ... لكنَّ ذاك الجسرَ مُنْكسِرُ
مذ نِمتُ لكن في كَرَى وَلَهي ... خُيِّلْتُ أن خيالَهُ القمر
يا دهرُ يا من لا حُنُوَّ له ... أَوَ ما علمتَ بأنني بَشَرُ
لو كنتَ تنطق قلت لِمْ بَطَراً ... فجميع ما بك أَصْلُهُ البَطَرُ
تأتي حماةَ وتشتكِي كدراً ... أو ما علمت بأنها كَدَرُ
وبقيتَ لا أهلٌ ولا ولدٌ ... فيها ولا وطَنٌ ولا وَطَرُ
صه يا زمانُ فإِنني رجلٌ ... لَيْسَتْ تُغَيِّرُ صَبْرَهُ الغِيَرُ
ماءُ البشاشة ملءُ صفحته ... والقلبُ فيه النارُ تَسْتَعِرُ
ولربما هطلتْ مدامعُهُ ... ومُراده أن يَغْرَقَ الحَوَرُ
فالخدُّ ميدانٌ صوالجُهُ ... هُدْبٌ لها من دمعه أُكَرُ
والنبعُ قالوا ما له ثَمَرٌ ... أنا نبعةٌ والدمع لي ثمر
ولأَرْكبنَّ الصعبَ غُرَّتُهُ ... غَرَرٌ وخَطْرَةُ عِطْفِهِ خَطَرُ
إمَّا وإما وهي واحدةٌ ... فيها مُرادُ النفس يَنْتَظِرُ
ريحَ الجنوبِ أَراكِ ناحلةً ... هل شفَّ جسمَكِ مثلِيَ السفر
وأركِ طيِّبَةً مُعَطَّرَةً ... هل أنتِ من أحبابنا خَبَرُ
تلك الأحبة روضُ ودِّهِمُ ... خَضِلٌ وماءُ صَفَائهم خَصِرُ
ومنها:
فارقتهم فتمايلوا أسفاً ... حتى ظننا أَنهمْ سَكِروا
فكأَنهمْ لدموعهم شربوا ... وكأَنهم بأَنينهم نَعَروا
كم فيهمُ مَن غَضَّ ناظرَهُ ... لما خلا من شخصيَ البصر
ويظن ظناً أن مقلته ... لولاي لم يُخْلَقْ لها نظر
يا ويحَ طرفٍ بعد فرقتهمْ ... لم يَجْرِ دمعٌ بل جرى قَدَر
كم كنت أَحذرُ من فراقهمُ ... فإذا دهى قَدَرٌ فلا حَذَرُ
لهفي على عيشٍ بنعمته ... كانت ذنوبُ الدهر تغتفر
ومنازلٍ باللهو آهلةٍ ... تُزْهَى بها الآمالُ والفِكَر
ومنازهٍ من حُسْنِ حيلتها ... يُنْسَى الحبورُ وتُنثَرُ الحِبَرُ
ومنها:
تلك الغصون شعورها وَرَقٌ ... متكلِّلٌ وعقودها زَهَرُ
تحت النهودِ كأنها بِدَرٌ ... سُرَرٌ تُفَرَّغُ فيهمُ صُرَرُ
آهاً لثغرٍ لو ظفرتُ به ... وكذا الثغور بها يُرَى الظَّفَر
من شادنٍ طرفي لفرقته ... زَنْدٌ وحُمْرُ مدامعي شَرَرُ
متحيرٌ في طرفه الحَوَرُ ... متبرِّجٌ في وجهه الخَفَر
لو لم يكنْ في الجفن عَسْكَرُهُ ... ما قيل إنَّ الجفنَ يَنْكسِرُ
حَفَّتْ مواردَهُ قلائِدُهُ ... وَيْلاهُ ذا خَصِمٌ وذا خَصِرُ
لم أُحْصِ كم عانقتُ قامته ... فتكسرت من ضمِّيَ الدُّرَرُ
أَصَبَرْتَ حتى يوم فرقته ... يا قلبُ! والتحقيقُ يا حَجَرُ
وورد إليه الخبر بوفاة الأسعد ولد الشيخ الأجل السديد علم الرؤساء، فقال يرثيه ويعتذر إلى والده من تأخير الرثاء بحكم اشتغاله بأحوال السفر، ونفذ إليه من حلب:
أصبحتُ بعدك في الحياة كفانِ ... وقد اكتفيتُ ولا أقولُ كفانِي
أَبكي فتجري مهجتي في عبرتي ... فكأنَّ ما أجريتُهُ أجراني

وتَحِمُّ أَنفاسي ولمَّا يُنْجِهَا ... دمعٌ هو البحرانُ بل بحرانِ
نسخت وفاتُكَ أدمعي فلكم جرت ... كالدرِّ وهي اليوم كالمرجان
لا بل هي العِقْيَانُ سالَ وإنما ... أَبْكي العزيزَ عليَّ بالعِقيان
قد سِلنَ ألواناً ليعلمَ أنني ... في حمل فرض الحزن غيرُ الواني
وافانيَ الناعي لكي ينعاكَ لي ... ومضى على أَدراجه ينعانِي
وغَزا وجيشُ الرزءِ من أَعوانه ... وبرزتُ والإِعْوَالُ من أعواني
لا أدَّعي أن النعيَّ أصمَّنِي ... فيمنْ أصمَّ وإنما أَصْمَاني
يا ثالثَ القمرين حُسْناً قد بكى ... حُزْناً لأجلِ مُصابك القمران
دينارُ وجهك حين أُهْبِطَ في الثرى ... كادت تفرُّ الشمس للميزان
وسيوفُ برقِ الجوِّ لما أُغمدت ... صفحاتُ ذاك الوجه في الأكفان
وَدَّتْ لو انغمدتْ ولكن تغتدي ... هامُ العدا بدلاً من الأجفان
يا تُرْبُ ما أنصفتَ نضرةَ غصنه ... أكذا صنيعُ الترب بالأغصان
غُصْنٌ فنونُ الطرفِ في أفنانه ... تعلو على الجاني وهنَّ دَوَاني
تستوقفُ الرائي معاني حسنه ... عجباً بها فكأَنهنَّ مغاني
كم مادَ من سكرِ الشباب فهل دَرَى ... أَنَّا نميد بسَكْرَةِ الأشجان
قد كان يرفل في ثيابِ شبيبةٍ ... أردانُها طَهُرَتْ من الأدْرَانِ
جمعت خلائقُهُ له وصفاتُهُ ... حِلْمَ الكهول ويَقْظَةَ الشبّان
ومنها:
أصبحتُ مثلَكَ مُفْرَداً متغرباً ... مُقصىً عن الأحبابِ والأوطان
والفرقُ أنك في الجِنَانِ وأنني ... من أجلِ فقدك صرتُ في النيران
قد كنت أحملُ همَّ بينٍ واحدٍ ... فأَتت وَفَاتُك لي ببينٍ ثان
كيف اصطباري من فراقٍ واحدٍ ... وقد افتضحتُ من الفراقِ الثاني
وتسوءُ فرقةُ من تحبُّ ولا يُرَى ... شيءٌ يسوءُ كفرقة الأقران
صبري وموتُكَ في حشاي كلاهما ... مُرَّانِ مثلُ أسنَّةِ المُرَّان
أوسعتُ فيك الدهر عتباً مؤلماً ... فأجابني بالبَهْتِ والبُهْتَان
قلبي يحاسِبُهُ على إجرامِهِ ... ويَعُدُّها بأَنامل الخفَقَان
غيري هو السالي وإني قائلٌ ... ما أقبحَ السلوان بالإخوان
فلئن سلوْتك ناسياً لا قاصداً ... فالذنب للنسيانِ لا السلوان
ومنها:
يأيها المولى السديدُ ومَنْ غدا ... أَوْلى الورى بالصبرِ والإيمان
صبراً جميلاً يَقْتدي قلبي به ... فهو المُعَنَّى بالهموم العاني
واللّهُ يعلمُ ما حوته جوانحي ... مما دهاك وما أَجَنَّ جناني
ولئن غدا مني الرثاءُ مؤخراً ... من أجلِ شغلِ القلب والأحزان
فلقد رَثَتْ عيني بنظمِ مدامعي ... وأرى الدموعَ مراثيَ الأجفان
لم يرْثه مني لسانٌ واحدٌ ... لكن رَثَتْ بمدامعي عينان
خدي كطرسي والمدامعُ فوقه ... شِعْري وإنساني كمثل لساني
ولقد علمتُ قصورَ ما قد قُلْتُهُ ... فأردت أُودِعُهُ حَشَا كتماني
ولا نذكر البيت الأخير لأن فيه نقص دين وضعف إيمان وقلة توفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال مستوحشاً من صديق جرت عادته بالاجتماع معه في متنزهٍ له:
جلستُ ببستانِ الجليسِ ودارِهِ ... فهيَّجَ لي ممن تناسيتُهُ ذِكْرا
وسُقِّيتُ شمسَ الكاسِ ساعةَ ذكره ... فلم تستطع في ليل همِّيَ من مَسْرَى
فيا ساقيَ الكاسِ التي قد شربتُها ... رويدكَ إنّ القلب من أُمَّةٍ أُخرى

ولو وُصِلَتْ سودُ الليالي بشَعْره ... لما خَشِيَتْ من غير غُرَّتِهِ فجرا
تذكرتُ وَرْداً للمليحِ مُحَجَّباً ... يمدُّ عليه ظلُّ أهدابه سِتْرا
فصرتُ أُجازي القلبَ من أجلِ ذكره ... فيقتلني ذكرى وأقتُلُهُ صبرا
أُقبُّلُ ذاك الظلَّ أحسبه اللَّمَى ... والثم ذاك الزهرَ أحسبه الثغرا
وكم لائمٍ لي في الذي قد فعلته ... وكم قائلٍ دَعْهُ لعلَّ له عذرا
لأجلك يا من أوحش العينَ شخصه ... أَنِسْتُ لسُهْدٍ يمنع العينَ أن تَكْرَى
وقاسيتُ منك الغدرَ والهجرَ والقِلَى ... وأنفقتُ فيك الشِّعر والعمر والدهرا
وأَفلَسَ طرفي حين أَنفَقَ دَمعَهُ ... فأجرى فمي دمعاً يُسَمُّونَه شِعرا
وفارقتُ عِزّاً بالشآم لألتقي ... بمصرَ الذي من أجله فَضَّلوا مصرا
لئن طبتُ في مُسْتَنْزَهٍ لم تكن به ... فلا زلتُ أَلقى عندك الصدَّ والهَجْرا
ولو كنتُ في عَدْنٍ وكنتَ بغيرها ... وحوشيتَ آثرتُ الخروج إِلى بَرَّا
ولو كنتَ في بُصْرى وحبِّكَ لم أَقُلْ ... أيا بَصَري لا تنظرنَّ إلى بُصْرى
وهذا المصرع الأخير هو مبتدأ أبيات كان عملها عند عبوره على بصرى:
أيا بَصَري لا تنظرنّ إِلى بُصْرَى ... فإِني أَرى الأحبابَ في لبدة أَخْرَى
وما بلدةٌ لم يسكنوها ببلدةٍ ... ولو أنها بين السِّماكين والشِّعْرَى
وما القفرُ بالبيداءِ قفرٌ وإنما ... أَرى كلَّ دار لم يكونوا بها قفرا
تذكرتُ أحبابي وإِني لمؤمنٌ ... ولكن أَراني ليس تنفعني الذكرى
لقد ضرَّني البين المُشِتُّ وَمزَّني ... فيا لكَ بيْناً ما أَضرَّ وما أَضْرَى
أأهبطُ من مصرٍ وقدما قد اشتهى ... على اللّه أقوامٌ فقال اهبطوا مِصْرَا
وكم لي بها دينارُ وجهٍ تركتُهُ ... ورائي فعيني بعده تشتكي الفقرا
فواللّه ما أشرى الشآمَ ومُلْكَهُ ... وغوْطَتَهُ الخضرا بشِبْرَيْنِ من شُبْرا
فإن عدتُ والأيامُ عُوجٌ رواجعٌ ... لقد أنشأتْني قبلَها النشأةَ الأخْرى
وقال:
يا عاطلَ الجيد إِلا من محاسِنِهِ ... عَطَّلْتُ فيكَ الحشا إلا مِن الحَزَن
في سلكِ جسميَ دُرُّ الدمع منتظمٌ ... فهل لجيدك في عِقْدٍ بلا ثمن
لا تخشَ مني فإني كالنسيمِ ضَناً ... وما النسيمُ بمخشيٍ على غُصُنِ
وقال:
ظبيٌ بمصْرَ نسيتُ مِنْه ... عناقَ غزلانِ العراقِ
ورشفتُ راحَ رُضَابِهِ ... لكنّه حلوُ المَذَاقِ
فإذا أتانيْ عاطلاً ... حَلَّتْهُ لي دُرَرُ المآقي
وِإذا تأَطَّرَ قَدُّهُ ... فأنا المثقِّفُ بالعناق
يا حسنَ أيامي به ... لو أن أيامي بَوَاقي
باللّه يا قمرَ الورى ... مَن خصَّ خَصْرَكَ بالمحاق
وعلامَ يَغْلُظُ سِلْكُ خُلْقِكَ ... معْ حواشي الرقاق
كم يعذلون على انخلا ... عي في وصالك وانهِرَاقي
ودواءُ ما تصبو إليْهِ ... النفسُ تعجيلُ الطلاق
وقال:
كم لنا من خُلَسٍ في الغَلَسِ ... خُلَسٌ تَمَّتْ برغم الحَرَسِ
نلتُ فيها عَسَلاً من لَعَسٍ ... آه واشوقي لذاك اللعس
قد تنفسْتُ فهل عندكمُ ... أَنَّ نَفْسي خَرَجَتْ من نَفَسي
وقال في بستانه:
يا أيها البستانُ إِنْ حصَّلْتَ لي ... من صرتُ مخموراً بكاس مِكاسه
لأحلِّيَنَّكَ من بهاءِ جبينه ... ولأَخْلَعَنَّ عليك من أَنْفَاسه
وقال في الخمر:
عروسكمُ يا أيها الشَّرْبُ طالقٌ ... وإِن فَتَنَتْ من حسنها كلَّ مجتلِي

دفعتُ لها عقلي وديني مقدماً ... فقالت وجنَّات النعيمِ مُؤَجَّلِي
وقال في جارية في خدها ماسور:
بنفسي فتاةٌ يكتبُ الغصنُ إِن مَشَتْ ... إِلى قَدِّها المياس: من عبد عبدها
ولي جَسَدٌ ما زال مأسورَ صدها ... إلى أن حكى في السقم ماسورَ حدِّها
أُشَبِّهُ ذاك الخدَّ منها بحمرة ... وشابورة الماسور طابَعُ نَدِّها
وقال يمدح الأجل الفاضل ويشكره على عيادته له في مرضه:
رأيتُ طَرْفَكَ يوم البين حين هَمَى ... والدمع ثَغْراً وتكحيلَ الجفون لمَىَ
فاكففْ ملامك عني حين أَلْثمه ... فما تشككتُ أني قد رأيتُ فما
لو كان يعلمُ مَعْ علمي بقسوته ... تألُّمَ القلبِ من وخزِ الملام لَمَا
رنا إِليَّ فقال الحاسدون رنا ... وما أقول رنا لكنْ أَقولُ رمى
رمى فأصمى ولو لم يرمِ متُّ هوى ... أما ترونَ نحولي في هواه أَما
وبات يحمي جفوني من طروقِ كَرَىً ... ولم أَرَ الظبي منسوباً إليه حِمَى
وصاد طائرَ قلبي يومَ ودَّعني ... يا كعبةَ الحسن مُذْ أَحْلَلْتِهِ حَرُمَا
يا كعبةً ظلَّ فيها خالُها حجراً ... كم ذا أَطُوفُ ولا ألقاه مُسْتَلما
مذ شفَّ جسميَ من نار الغرامِ ضَناً ... لاح الشعاعُ على خديه مُضْطَرِمَا
وشفَّ كأسُ فَمٍ منه لرقَّتِهِ ... فلاح فيه حبابُ الثغر منتظما
يا كسرةَ الجفن لِمْ أَسْمَوْكِ كسرته ... وجيشُهُ بك للأرواحِ قد غنما
وكم أَغَرْتِ على الأرواح ناهبةً ... إن كان ذلك عن جُرْمٍ فلا جَرَمَا
مولاكِ فاق ملاحَ الخلق قاطبةً ... فهو الأَميرُ وقد أَضْحَوْا له حَشَما
أقولُ والريحُ قد شالت ذؤابتهُ ... أصبحتَ فيهم أميراً أمْ لهم علما
شكرتُ طيفك في إِغبابِ زورته ... لأَن مثليَ لا يستسمنُ الوَرَما
ولستُ أَطلبُ منه رِفْدَهُ أَبداً ... لأَنَّ ذا الحِلْم لا يسترفد الحُلُمَا
لكنَّ عهداً قديماً منكَ أطلبه ... وربما نُسِيَ العهدُ الذي قَدُمَا
وازداد حبُّك أضعافاً مضاعفةً ... وربما صَغُرَ الشيءُ الذي عظما
ولستُ أُنكرُ لا رَيْباً ولا تُهَماً ... من يعرفِ الحب لا يستنكرِ التُّهَما
ولستُ أُتْبِعُ حبي بالملام كما ... لا يُتبعُ ابنُ عليٍ برَّهُ ندما
ذاك الأجلُّ الذي تلقى منازله ... فوق السماء وتلقى دارَه أَمَمَا
أَغنى وأقنى وأَعطى سُؤْلَ سائله ... وأَوجدَ الجود لما أَعدم العَدَمَا
وقصَّرَ البحرُ عنه فَهْوَ مكتئبٌ ... أما تراه بكفيْ موجِهِ الْتَطَمَا
وولَّتِ السحبُ إِذْ جارتْهُ باكيةً ... أما ترى الدمعَ من أَجفانها انْسَجَمَا
ولو رأى ابنُ أَبي سُلْمى مواهبَهُ ... رأى جَدَا هَرِمٍ مثلَ اسمه هَرِما
ولو أعارَ شماماً من خلائقه ... حِلْماً لأبصرت في عرنينه شمما
ومذ رأيتُ نفاذاً في يراعته ... رأيتُ بالرمح من أَخبارها صمما
إذا امتطى القلمُ العالي أَنامِلَهُ ... حلَّى الطروس وجلَّى الظُلْم والظُّلَمَا
قضى له اللّه مذ أَجرى له قلماً ... بالسَّعْدِ منه وقد أَجرى به القلما
ذات العماد يَمينٌ قد حوت قلماً ... هو العماد لمُلْكٍ قد حوى إِرَمَا
يُريكَ في الطرس زُهْر الأفقِ زاهرةً ... وقد ترى فيه زَهْرَ الروضِ مبتسما
ويرقمُ الوشيَ فيه من كتابتهِ ... وما سمعنا سواه أَرقماً رقما
سطورُهُ ومعانيه وما استترتْ ... هُنَّ الستورُ وهذي خَلْفَهُنَّ دُمَى

تبرَّجَتْ وهي أبكارٌ ومن عجبٍ ... أَن التخفُّرَ من أَمثالها ذُمِمَا
فخراً لدهرٍ غدا عبدُ الرحيم به ... بالأَمرِ والنهي يبدي الحكم والحِكَمَا
أسمى الورى وهو أسناهم يداً وندىً ... وأوسع الناس صدراً كلما سئما
وأَعْرَقُ الخلقِ في استيجاب رتبته ... وأَقدمُ الناس في استحقاقها قدما
كساه ربُّكَ نوراً من جلالته ... يَلقى العدوَّ فيكسو ناظرَيْه عَمَى
يلوحُ في الصدر منه البدرُ حين سما ... والغيثُ حين همى والبحرُ حين طما
يُغضي حياءً ويُغْضَى من مهابته ... فما يُكَلَّمُ إِجلالاً إذا ابتسما
هذا البيت تضمين:
لما عَلِقْتُ بحبلٍ من عنايته ... صالحت دهري ولم أَذْمُمْ له ذِمَمَا
وحين طالع طرفي سعدَ طلعتِهِ ... رأيتُ نجميَ في أُفْقِ العُلاَ نَجَما
وكان قدماً ذوو الأقدارِ لي خَدَماً ... فصرت منه أَرى الأقدارَ لي خدما
يا أيها الفاضلُ الصدِّيقُ منطقُهُ ... إِني عتيقك والمقصودُ قد فُهِمَا
أَعَدْتَ للعبدِ لما جئتَ عائدَهُ ... روحاً وأهلكتَ من حساده أُمَما
تركتهمْ ليَ حُسَّاداً على سَقَمي ... وكم تَمَنَّوْا ليَ الأَدواءَ والسَّقَما
نقلتَ شاني إِليهمْ ثم قلتَ لهمْ ... لا تَسْلَمُوا إن هذا العبدَ قد سلما
تفضُّلٌ منكَ أعلى بينهمْ قِيَمي ... ومنةٌ منك أَعْلَتْنِي لهمْ قمما
هبْ لي مِنَ القولِ ما أُثني عليكَ به ... أَوْ كُفَّ كَفَّكَ عن أَنْ تُشكِيَ الديما
ومنها:
شكري لنعماك دينٌ لي أَدينُ به ... والكفرُ عنديَ أَنْ لا أشكرَ النِّعَمَا
وقال:
إنه مالَ وملاّ ... فأتى الطيفُ وسَلَّى
عاطلاً حتى لقد عا ... دَ من اللثم مُحَلَّى
كنتُ في تقبيليَ الطي ... يفَ كمنْ قبَّلَ ظِلاَّ
وله من قصيدة:
عثرتُ ولكنْ في ذيولِ دموعي ... ونمتُ ولكنْ عن لذيذ هجوعي
وكاد فؤادي أن يطيرَ صبابةً ... لقانِصِه لولا فِخاخُ ضلوعي
وقال يهجو:
عبدٌ لعبد اللّه أَعرفه ... ما زال مسكُ صُنَانِهِ صَائِكْ
يخلو به فيودُّ من كلَفٍ ... لو أنَّهُ استه لائك
ولقد يكونُ بينهما ... واللّه يعلمُ من هو
وقال:
أما وهواك لولا خوف سخطكْ ... لهان على محبك أمر رهطكْ
ملكت الخافقين فتهت عجبا ... وليس هما سوى قلبي وقرطك

الأسعد أبو المكارم
أسعد بن الخطير بن مهذب بن زكريا بن مماتي
أحد الكتاب في الديوان الفاضلي، ذو الفضل الجلي، والشعر العلي، والنظم السوي، والخاطر القوي، والسحر المانوي، والروي الروي، والقافية القافية أثر الحسن، والقريحة المقترحة صورة اليمن، والفكرة المستقيمة على جدد البراعة، والفطنة المستمدة من مدد الصناعة. شابٌ للأدب رابٌّ، وعن الفضل ذابٌّ؛ وهو من شملته العناية الفاضيلة، وحسنت منه البديهة والروية: اجتمعت به في القاهرة وسايرني في العسكر الناصري وأنشدني من نظمه المعنوي، ما ثنيت به خنصر الاستحسان، وأذنت لجواده في الإجراء في هذا الميدان. واثبت منه كل ما جلا وحلا، وأشرق في منار الإحسان وعلا، وراج في سوق القبول وغلا. فمن قوله يصف الخليج يوم فتحه بالقاهرة:
خليجٌ كالحسام له صِقَالٌ ... ولكن فيه للرائي مَسَرَّهْ
رأيت به المِلاحَ تجيدُ عوماً ... كأنهمُ نجومٌ في المجرَّهْ
وقوله في غلام نحوي:
وأهيفٍ أَحدثَ لي نحوُهُ ... تعجباً يُعْرِبُ عن ظَرْفِهِ
علامة التأنيثِ في لفظه ... وأَحْرُفُ العلة في طَرْفِهِ
وقوله في غلام خياط:
وخَيَّاطٍ نظرتُ إلي ... ه مفتوناً بنظرتِه
أسيل الخدِّ أَحمره ... بقلبي ما بوجنته

وقد أمسيتُ ذا سَقَم ... كأني خيط إبراه
وأحسدُ منه ذاك الخي ... طَ فازَ برِيِّ رِيقتهِ
قال: هذا البيت الأخير للسديد أبي القاسم الكاتب. ولابن مماتي هذا في قصيدة عملها هذا السديد لاميةٌ مفيدة أوردتها في شعره:
تبكي قوافي الشعر لاميةً ... بَيَّضْتَهَا من حيث سَوَّدْتَهَا
لما علا وسواسُ ألفاظها ... ظننتَها جُنَّتْ فقيدْتَهَا
وقال:
أراكمُ كحباب الكأسِ منتظماً ... فما أرى جمعكمْ إِلا على قَدَحِ
وقال:
لقد مرَّ لي في مصرَ يومٌ وليلةٌ ... هما في مُحَيَّا الدهرِ كالسِّحْر في الطَرْفِ
وما فيهما واللّه عيبٌ وإنما ... تولاهما عُجْبٌ فذابا من الظَّرْف
وقال:
ما صرت أَجسرُ أن أبكي لفرقتهمْ ... لأنهم زعموا أن البكا فَرَجُ
وقال:
أحبابَنا والذي يقضي بأُلفتِنَا ... بعد الفراقِ ويُخْلِينَا من الفَرَق
ما زلتُ أخبط في عشواءَ مظلمةٍ ... من بعدكمْ وأبيعُ النومَ بالأرق
حتى ثويتُ بنارِ الشوق في حُرَقٍ ... وصرت أُشْرِفُ من دمعي على الغَرَقِ
فمتعوني ولو ليلاً بطيفكمُ ... ما دمتُ أقدرُ من روحي على رَمَقِ
وقال في ذم العذار:
إذا طلع العذارُ فقد فقدنا ... لذاذةَ عيشنا الأَرِجِ البهيج
لأَنَّ الغصنَ لا يخضرُّ حتى ... يصيرَ بأصله مثلُ الوشيج
وقال يصف البق:
تكاد بقرصِ البقِّ تتلفُ مهجتي ... إذا لم أُجِدْ من ثوب جلدي التخلُّصَا
ومن أعجب الأشياءِ في البقِّ أنها ... على الجسم سُمَّاقٌ وتُنبِتُ حِمَّصَا
ونظمتني وإياه سفرة في خدمة الملك الناصر إلى ثغري دمياط والإسكندرية فوصلنا إلى ترعٍ وخلجان ومخاضاتٍ وغدرانٍ فقال بديهاً:
لو أطلق الدمعَ مشتاقٌ ومدَّكِرُ ... لمن يحب لأَشْفَيْنَا على الغرَقِ
لكنما هذه الخلجانُ مُتْأَقَةٌ ... لأنها رَشْحُ ما يَعْصِي من الْحدَقِ
وأنشدني لنفسه أيضاً قوله وقد ألم بذم العذار:
يا عاذلي، جلُّ ناري ... من خدِّه الجلّنَارِي
وريقه كشرابٍ ... معتَّقٍ ذي شرار
ولحظه فيَّ أَمضى ... من الْحِرَابِ الْحِراَر
كالريم ريمَ لصيدٍ ... فصارَ حِلْفَ حِذَارِ
يهوى الدنانير لما ... تشابهتْ بالبهار
وإن رأى قلبَ صبٍّ ... رعاه رعي العَرَار
وليس ربَّ عذارٍ ... يطولُ فيه اعتذاري
إن الغرام صَغَارٌ ... ما لم يكن بالصِّغَار
ومنها في المدح:
له يسارُ يمين ... إزاء يُمْن يسارِ
وقال في وصف مخدة في بيت ابن سناء الملك:
وسادةٍ لَمَحَتْ عيني بدارهمُ ... وِسَادةَ رُقِمَتْ أَمناً من الأَرَقِ
حكمُ السرور بها يقضي السكونَ لها ... كأنها عُوذَةٌ من جِنَّةِ الفلق
أَحْسِنْ بها روضةً ليس النسيم بها ... ولا المياهُ سوى الأنفاسِ والعَرَقِ
يحيا بناظرها إنسانُ ناظرها ... ففي حديقتها مَنٌّ عَلَى الحدق
لو لم تكن سَرَقَتْ من وجه مالكها ... محاسناً ظهرت، لمْ تُدْعَ بالسَّرَق
وقال مما كتبه إلى السديد علم الرؤساء أبي القاسم، وكان قد اقتضى منه ديوان رسائله، فاعتذر إليه بالخوف من نقده:
إن قلبي من شقة البين يخشى ... وفؤادي من شِقْوَة البين يَخْشَعْ
ومقامي يقضي بطولِ سقامي ... إذْ لحاظي من قبلِ تطمحُ تَطْمَعْ
وغُدُوِّي فيما يَسُرُّ عدوّي ... ويُريه من القِلَى ما توقَّعْ
ولقد عِيلَ في الصبابة صبري ... فإلى كم أسيرُ في غير مَهْيَع
أنا صبٌّ بغادةٍ تشبه الطا ... ووس إذ كان حسنها يتنوَّع

ذاتُ لفظ كأنه ثغرها الأشنبُ ... لو أنّ دره يتجمع
لي من عُجْبها رقيبٌ قريبٌ ... فهي في كلِّ حالةٍ تتمنع
مَنَعَتْ طيفها الزيارةَ حتى ... صرتُ من منعها له لستُ أَهجع
واستقلَّتْ دمعي غداةَ استقلّتْ ... بجمالٍ فقلت لو كان ينفع
هو مني دمٌ جرت معه العينُ ... فقالوا دمعٌ لأنيَ أجزع
ثم وَلَّت سُقْماً عليَّ وولَّت ... وفؤادي مما تصدَّى تصدَّع
قلت إلا وقفتِ يا شمسُ للصبِّ ... فقالت هيهاتِ ما أنت يوشَعْ
وغرامي بها كفضلِ أبي القا ... سم في كلِّ ساعة يتفرَّع
كم أرانا الرياضَ في لفظه النثر ... فخلنا دروجه تتوشع
وسقانا مُدامَ معنىً بديعٍ ... في قريضٍ مُصَرَّع بل مرصَّع
فشكرنا لما سكرنا فلم يلو ... علينا لأنه قد تَرَفَّع
ولثمنا التراب بين يديه ... وسألناه حاجةً فتمنَّع
فلحى اللّه واشياً وعذولاً ... وبغيضاً وكاذباً يتصنَّع
وإذا صار بالجفاء مُضيعاً ... من عقودِ الولاء ما صانَ أَجمع
فخطابُ العتاب بالكافِ كافٍ ... لو تدانى أو كان يسمحُ يسمع
أنت يأيها السديد أبا القا ... سم في بَذْلِكَ الندى لست تقنع
فلأيِّ الأمور تبخلُ باللفظِ ... على خادمٍ يناديك يخضع
وهو نورٌ يسعى أمامك كالصبح ... ونارٌ في وجهِ ضِدِّك تَشْفَع
وحسامٌ مُهنَّدٌ مُطْلَق الحدِّ ... جُرازٌ متى تُجَرِّدْهُ يقطع
لم يزل ثابتاً على الود جَلْداً ... وخطيباً بشكر فضلك مِصْقَع
وهو ممن إذا عراه مُلِمٌّ ... ما له غير حسنِ رأيك مَفْزَع
أتوهَّمْتَهُ يُغِيرُ على لف ... ظك معْ أنّ غيرَهُ منه أوسع
وعلى أَنه وحقِّكَ لم ير ... ض بما لم يكن له يَتَشَيَّع
وعصيتَ الودادَ في طاعة العذ ... ل ولم تُلْفِ عنده قط مطمع
فإذا كنتَ قد وصلتَ لهذا ... وهو مما يصيِّرُ القلبَ بَلْقَع
لا تكنْ للعدا نصالَ سهامٍ ... مصمياتٍ فليس في القَوْسِ منزع
وتفضَّلْ بسَتْر ما ساقه الوز ... نُ بهذي القصيدِ يا خيرَ أرْوع
فهْيَ قد قُيِّدَتْ لتثبت في الطر ... سِ لئلا تسيرَ من قبلِ تسمع
ولو انّ العتابَ أُطْلِق فيها ... لغدَتْ أَجْبُلُ القُوَى تتصدع
وعلى كل حالةٍ فأنا العبدُ ... الذي مَلْكُ حسنه فيه يشفع
ونزلنا ببركة الجب لقصد الجهاد، وعرض الأجناد، فكتب الأسعد ابن مماتي إلي أبياتاً في الملك الناصر، وتعرض للشطرنج فإنه كان يشتغل به في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين:
يا كريمَ الخِيم في الخَيِمِ ... أهيفٌ كالرئم ذو شمم
عَجَبي للشمس إذ طلعتْ ... منه في داجٍ من الظُّلَم
كيف لا تُصْمي لواحظه ... ورماةُ الطرف في العجم
لا تصدْ قلبَ المحب لكم ... ما يحلُّ الصيدُ في الحَرَم
يا صلاحَ الدين يا ملكاً ... مذ براهُ اللّه للأُمَم
أضحتِ الكفارُ في نِقِمٍ ... وغدا الإسلامُ في نِعَمِ
إن يكُ الشِّطْرِنْج مشغلةً ... للعليِّ القدْرِ والهمم
فهْيَ في ناديك تذكرةٌ ... لأمورِ الحرب والكرم
فلكم ضاعفتَ عِدَّتَها ... بالعطاءِ الجمِّ لا القلم
ونصبت الحرب نصبتها ... فانثنتْ كفّاك بالقمم
فابقَ للإِسلام ترفَعُهُ ... وَأْمُرِ الأقدارَ كالخدم

وقال في الملك الناصر:
إن كنتَ تنكر ما أقولُ ... فالسهدُ يشهدُ والنحولُ
وهما لديك من العذو ... لِ فكيف يمكنك العدول
يا صعدةً أنفاسيَ الصُّ ... عَداءُ منها والذبولُ
ومهنداً في القلب من ... ه على محبته فلولُ
إن كثَّرَ الواشون في ... ك ففي شمائله الشَّمُول
أو صرت معتزليْ فإنَّ ... الفكرَ يُعجبه الحلولُ
إنَّ الغزالةَ كالغزا ... ل وكالنفورِ هو الأُفول
فإلامَ لا يَشْفي الغلي ... لَ بزورةٍ منك العليل
والصبرُ أَقصر ما يكو ... ن إذا الصدودُ بدا يطول
كم حِيلَ بين تجلُّدي ... والقلب إذ حضر الرحيل
وهَمَتْ جفوني بالنجي ... ع كأنما طرفِي قتيل
فاعجب لدمعٍ كيف يظ ... هرُ والنفوس به تسيل
يا قاضياً بهواه فيَّ ... وذلك الدَّلُّ الدليل
فيك الجمالُ كما ملي ... كُ زمانِنَا فيه الجميل
الناصرُ الملك الرءو ... فُ الأروعُ الوَرِعُ المُنِيلُ
مَلِكٌ إذا عَصَتِ الحصو ... نُ سواه كان له الحصول
حَسْبُ العساكِر والعِدا ... أَن النّصولَ به تَصُولُ
ويمينُه سِلْماً تجو ... دُ كما غدت حَزْماً تجول
طالت فروعُ الحمد فيه ... كما زكَتْ منه الأصول
راياته تحكي الأصيلَ ... فرأيه الرأْيُ الأصيل
حيث الخيولُ على الوعو ... رِ كماتُها فيها الوعول
أَمَّا وقد قصدَ الغَزاةَ ... وهنَّتِ القربَ النصول
وبكت به أمُّ الصليبِ ... وشدوُ صارمه الصليلُ
وبدت له أرض الشآ ... مِ تهون إذ كانت تهول
فلسوف يفتحُ قُفْلَهَا ... من قبلِ أَنْ يقع القُفُول
ويعيد ما فَضَّ العِدَا ... بكراً تزف لها الفحول
يا أيها الملك الجليُّ ... الأَمْرِ والملكُ الجليل
كم مِنَّةٍ لك تستطيرُ ... ومُنة بك تستطيل
ولكم صفحتَ عن الغَرو ... رِ وقد تبطَّنَهُ الغلول
وسرت عطاياك الجسا ... مِ كأنك السيفُ الصقيل
أو لا فإنك جوهرٌ ... في الخلق والعَرَضُ العقول
أنت المُقِيلُ من الخطو ... ب وظلُّ دولتك المَقيل
وأنا الفقيرُ إلى ندا ... ك ومن بوارقه السيول
ولقد أضرَّنِيَ الخمو ... دُ كما أضرَّ بيَ الخمول
وقال على لسان إنسان في حاسد، أعان عليه، ثم توجع له:
لا تُصِخْ للحسود في ندبه النع ... مةَ معْ كَوْنِهِ العجولَ إليها
فهو مثلُ السحابِ إذ يسترُ الشم ... سَ عن العينِ ثم يبكي عليها
ومن نور نثره البديع، ونور فجره الصديع، وغرر درره النصيعة، ودراري غرره الصنيعة، ما تحذى له بهائم التمائم، وتحدى به كرائم المكارم، ويربع الحسن في روضه، وتكرع الحسناء في حوضه، وتغتبط الآداب بدابه، وترتبط الألباب ببابه، من مكاتبة:

فصلت عنه في أخريات النهار، وقد ظهر في أطراف الجدران لفرق فراق الشمس اصفرار، فلما ذهب ذهب الأصيل بنار الشفق، ولبست المشارق السواد لما تم في المغارب على الشمس من الغرق، وأقبلت مواكب الكواكب في طلب الثأر، كدراهم النثار، وتشابهت زواهرها وإن اختلفت في الأشجان بالأزهار في الأشجار، وتكلف القمر الموافقة فظهر على وجهه الكلف، ومرت به طوالع النجوم فلم يستخبرها حسداً فأعرب عن غدر الخلف بالسلف، وظهر الوجوم في وجوه النجوم، وعيل صبر النسرين فواحد طائرٌ يحوم، وآخر واقع لا يقوم، ولم تزل متلاحقةً متسابقةً لتقفو الأثر وتسمع الخبر، إلى أن بدا سوسن الفجر ولاح، وابتسم ثغر الصباح عن الأقاح، وكاد ثعلبه يأكل عنقود الثريا، وبرزت الغزالة من أس الكناس طلقة المحيا، وتراءت الوجوه، وزال ما زال بغيبتها من المكروه، وأخذت النجوم بالحظ من الطرب، بمقدار ما قدمته من الحض في الطلب، وانخرطت في سلوك شعاعها نظاماً، وزاد خوفها منها على رجائها فيها فذابت إكباراً لها وإعظاماً.

ومن صدر مكاتبة:
لم يزل العبد لما عرض من إعراض المجلس لا زالت أوامره نافذه، والآمال بكعبة كرمه لائذة، ويده العالية بزمام الزمان آخذة، وكتبه الكرائم لعزائم كتائب الإسلام شاحذة وحدث من هجره له، وظهر من قلة احتفاله به، وخاض فيه المعارف من تغيره عليه، وتناقله الوشاة من أمر صده عنه، وتقارضه الشامت من سوء رأيه فيه، ذا زفراتٍ سوام تتضرم، وعبرات هوامٍ تتصرم، وعبارات عن بسط عذره تعثر بالكلام عيا فيتذمم بالصمت عن أن يتحرر ويتحرم، وأفكارٍ تتنزه عن إساءة الظن بمودته فما يتكدر حتى يتكرم، فكم تناول القلب جلدهُ فجلده بالقلق لما تجاوز حده وحده، وأجرى من سوابق دموعه عسكراً فجرى فشق خده وخده، وأوجده السبيل إلى أن أبدى صحيفة وجه صبره مسوده، وتمنى لو كان الموت قبل إخلافه وعده وإخلاقه وده ووده، حتى جنى ورد ورود كتابه الكريم من انتظام شوك انتظاره، ورفع ناظره بقدومه عليه على كافة أمثاله وأنظاره، فعلم أن علم المودة قد رفع، وموصول حبل الجفوة قد قطع، وكاد القلب يخرج لمصافحته لو استطاع نفاذاً، واجتمعت فيه أماني النفس فاتخذته دون جميع الملاذ ملاذا، وتناوله بيد الإجلال، وقصه بيد الإِدلال، الذي أَباحَ له الإِخلادَ إِلى الإِحلال، فوجده منظوماً على خطٍ كالكؤوس المرصعة، لما لاح مِدَادُه مُدَاماً ونَقْطُه حَبَباًن وألفاظٍ تبيح للمناظر طلباً، وتتيح للخواطر طرباً، ومعانٍ ما حلت في ميدان البيان حتى جلت فحسب الأفكار بها حسباً، وتعريضات لو كان التصريح فضةً لكانت ذهباً، أو كان شرراً لكانت لهباً، ومنن ما لاحت سحائبها حتى وكفت، وأياد ما استكفت فواضلها حتى عمت وكفت، فرفع إلى السماء يديه وهي قبلة الدعاء، وعفر في الأرض خديه وهو جهد الضعفاء.
وله من فصول جواب مكاتبة إلى صديق له سافر إلى الشام:
إلامَ يصيرُ القلبُ للخطب مِنْبَرَا ... ويصبر للجُلَّى وإن كان مُنْبَرَا
وكيف يُلامُ الصبُّ في صبِّ دمعه ... عقيقاً على مصفرِّ خديه أحمرا
وَقَدْ وَقَدَ البَرْحُ المبرِّحُ في الحشا ... فراع دخانُ الوجد في الوجه منظرا
وزادت دواعي الشوقِ إذ زالت القُوَى ... فأصبح معروفُ التجلُّدِ منكرا
فلو شامَ طَرْفُ الشامِ برقَ تنفسي ... لتذكار مَنْ فيه إذنْ لتَفَطَّرا
على أَنَّ من أَمسى رفيقَ تفرق ... ومن قَصَّدَ الأشعارَ في الشوق قَصَّرا
وبعد فما ضاق الصدر، وضاع الصبر، وضعف الجلد، وتضاعف الكمد، وادلهم ليل الهم بفراق الحضرة السامية حتى طلبع بدر كتابها فاهتدت ضوال الأفكار الشاردة، ولمع شهاب خطابها فاحترقت شياطين الظنون الماردة، ولله الحمد على ما أعرب عنه من سلامة ركابها، والرغبة في تقوية أسباب استتباب نعمتها وتعجيل إيابها، وأن يكون ذلك بحسب ما تورثه وتقرره، بتلك الأعمال من الأعمال الصالحة وتؤثره.
ومنها:

وإن الكتب الكريمة الواردة إلى القاضي الرشيد ما فاحت أزاهيرها حتى لاحت زواهرها، ولا تأرج نورها حتى تبلج نورها، ولا فتنت بها الخاصة، حتى جنت العامة، فكم نثرت من عقود عقولٍ كانت متسقة النظام، وحقرت من منقول مقول كان ملحوظاً بالإعظام، وعلى الجملة فلم يبق أحدٌ من الفقهاء والحكام، وأرباب السيوف والأقلام، حتى استشرف لرؤيتها وتشرف لروايتها.

وأنشدني لنفسه من قصيدة:
كيف واصلتَ قطعَ رشفِ رُضابهْ ... وبدا السخطُ منك بعد الرِّضَى به
وهجرتَ المنام كي يرجعَ الطيفُ ... لئلا ترقَّ عند عتابه
لَتَوَخَّيْتَ أَنْ ترى صورةَ الصبر ... عليه من قبلِ حينِ ذهابه
ولعمري لقد أسأْتَ به الظنَّ ... فَعُذِّبْتَ باجتنابِ عذابه
وقال في رافضيٍّ متهم الخلوة:
اختصرْ واقتصرْ على هُزْئك النا ... سَ ولا تدّعي الحِجَى والكتابهْ
واحتسبْ وانتصبْ لضرب نِعالٍ ... دامغاتٍ من أجل سبِّ الصحابه
واقتصدْ في البغاء يابن فعالٍ ... وتوقَّ انتصابه والتهابه
فهو داءٌ كما تقولُ ولكن ... أنت صَبٌّ برشف تلك الصُّبَابه
وقال في مدح الأجل الفاضل من قصيدة:
لا تلم في اضطرابنا لاحمرارهْ ... جُلُّ نار القلوب من جُلّنَاره
وهو حدٌّ يكاد يُقْبَضُ منه ... كل طَرْف لولا اعتذارُ عِذاره
ما رأى منكراً رُضابَ مدامٍ ... مذ روى طرفه حديثَ خُمَارِه
ليس فيه من راحةٍ لمريدٍ ... قبلة تُطْفِىءُ اضطرام اضطراره
غير أن الحياءَ فيه مُضَاهٍ ... للحَيَا في انهماله وانهماره
أوْجَدَا الفاضلِ الذي أوجد الجو ... د فمن كفِّهِ انفجارُ بحاره
ذلك السيدُ المشَيِّدُ للمجدِ ... إلى أن أَتى على إيثاره
من غدا الدهرُ باسمه باسمَ الزهرِ ... ضحوكاً به بهارُ نهاره
لم يطفنا من بِرِّهِ وردَ وعدٍ ... لم يَشِنْهُ انتظامُ شوكِ انتظاره
والده
الخطير بن مماتي
لقيته بالقاهرة مستولى ديوان الملك الناصر ديوان الجيش فيه أدب. كان هو وجماعته نصارى، فأسلموا في ابتداء الملك الصلاحي، وحصلوا على الجاه والحرمة الوافرة والعيش الرخي.
سايرته في الطريق مرة فأنشدني لنفسه هذا البيت في وصف الخمر إذا صبت من الإبريق:
إذا انبَرَتْ من فم الإبريقِ تحسبها ... شهابَ ليلٍ رمى في الكاس شيطانا
قال: ولأبي طاهر بن مكنسة في المعنى:
إبريقنا عاكفٌ على قدحٍ ... كأنه الأمُّ ترضعُ الولدا
أو عابدٌ من بني المجوس إذا ... توهَّمَ الكاسَ شعلةً سَجَدَا
وأبو المليح في ممدوح ابن مكسة الذي يرثيه بقوله طويت سماء المكرمات جد ابن مماتي.
وأنشدني الخطير لنفسه في كتمان السر:
وأكتمُ السرَّ حتى عن إعادتِهِ ... إلى المسرِّ به عن غير نسيانِ
وذاك أنّ لساني ليس يُعْلِمُه ... سمعي بسرِّ الذي قد كان ناجاني
وأنشدني لنفسه من قصيدة، وكتبه بخطه:
لم يَبْقَ من جسدي لفرطِ صبابتي ... إِلا الأَسى وتردُّدُ الأنفاسِ
وأَغَنّ معسولِ الثنايا أَشنبٍ ... أَلمى المراشفِ كالقضيب الآسِ
ينَادُ من هَيَفِ القوامِ كأنه ... غصنٌ يجاذبه كثيبُ دهاسِ
لولا توقدُ جمرِ نارِ خُدُودِهِ ... في نار وجنته حَسَاهُ حاسي
من خده وعِذاره ورُضابهِ ... وردي وريحاني الجنيُّ وكاسي
وله:
يظلمني العاذلون في رشإٍ ... إنْ قيلَ كالشمس كان مظلوما
مذ حلَّ رسمُ الصليبِ في يده ... حلَّ بقلبي هواهُ مرسوما
وله:
أعاذلتي إن الحديثَ شجونُ ... مكانُ سُلَيْمَى في الفؤادِ مكينُ
أأسمع عَذْلاً في التي تملك الحشا ... وأَتْبَعُهُ إني إِذنْ لخؤُون
ومنها:

هل العيشُ إلا قربُ دارِ أحبةٍ ... هل الموتُ إلا أن يخفَّ قَطِين
وهل لفؤادي منذ شطَّ مزارها ... من الوجدِ إلا زفرةٌ وأَنين
أبيت رقيبَ النجمِ منها كأنما ... عيونيَ لم يُخْلَقْ لهنَّ جفون
ومنها:
كأنّ ظلامَ الليل إذ لاحَ بدرُه ... دَجُوجيُّ شَعْرٍ لاح منه جبينُ
كأنّ الثريا ترقُب البدر غَيْرَةً ... فقد هجرتْ منها المنامَ عيون
كأن سهيلاً في مطالع أُفقه ... فؤادُ مَرُوعٍ خامرتُهُ ظنون
كأن السها تبدو أواناً وتجتلى ... لدى الليل سرّاً في حشاه مصونُ
وقد مالت الجوزاءُ حتى كأنها ... كميٌّ بخطِّيِّ السماكِ طعين
ومنها في المخلص:
كأن صلاحَ الدين للشمس نورها ... ولولاه ما كان الصباحُ يَبِين
وقال:
لو كانت الأمراض محمولةً ... يحملها العبدُ عن المَوْلَى
حملتُ عن جسمك كل الأذى ... وكان جسمي بالضَّنا أولى
وقال:
إلى اللّه أشكو نارَ شوقي كما شكا ... إلى اللّه فقدَ الوالديْنِ يتيمُ
رحلتمْ فسار القلبُ أنَّى رحلتمُ ... ولكنَّ وجدي ثابتٌ ومقيم
ولمّا بكتْ عيني دماءً لفقدكمْ ... تيقنتُ أن القلبَ فيه كلوم
وقال في العذار:
وشادنٍ لما بدا مقبلاً ... سبَّحْتُ ربَّ العرش باريهِ
ومذ رأيتُ النملَ في خدّهِ ... أيقنتُ أنّ الشَّهْدَ في فيه
وقال:
يا ربَّ خَوْدٍ زرتُهَا ... في الليل بعد هُجودِهَا
فاجأتها فتبالهتْ ... فلزمت ضمَّ نهودها
ورشفتُ خمرَ رضابها ... وجنيتُ وردَ خدودها
وأَمنتُ في قِصَرِ الوصا ... لِ حياةَ طولِ صدودها
حتى إذا ولَّى الدجى ... في عدِّها وعديدها
وبدت جيوشُ الصبح في ... أَعلامِها وبنودِها
فارقتُها ومدامعي ... تحكي جُمَانَ عقودِها
وقال من قصيدة في المدح:
مُرْدِي الكتائبِ بذَّالُ الرغائبِ فَضَّاحُ ... السحائبِ بَرُّ القولِ والعَمَلِ
والغافرُ الذنبِ عفواً عند قدرته ... والرائعُ الخطبِ قَسْراً غيرَ محتفل
إذا طَوَتْ خيلُهُ في السير مرحلةً ... طَوَى الردى من عداه مُدَّةَ الأجل
بكل قَرْمٍ يلاقي الموت مبتهجاً ... كأنما الموتُ ما يرجو من الأمل
يلذُّ في السلم تقبيلَ اللمى شغفاً ... لحبِّهِ في القَنَا سُمْر القَنَا الذُّبُل

الشريف النقيب النسابة بمصر
شرف الدين أبو علي محمد بن أسعد بن علي بن معمر أبي الغنائم بن عمر ابن علي ابن أبي هاشم الحسين النسابة بن أحمد النسابة بن علي النسابة ابن إبراهيم بن محمد بن الحسن الجواني الحسيني كان نقيب مصر في الأيام المصرية. والآن فهو ملازم مشتغل بالتصنيف في علم النسب، وهو فيه أوحد، وله فيه تصانيف كثيرة.
قرأت بخطه كتاباً إلى بعض الأشراف بدمشق في سنة إحدى وسبعين، قد صدره بهذه الأبيات:
أَحنُّ إلى ذكراك يابنَ مُحَسَّنٍ ... وأَرجُو من اللّه اللقاءَ على قُرْب
لما لَكَ في قلبي من الموضعِ الذي ... يرى فيه كل الحب مُبْراً من الخِبِّ
وللمفخر السامي الذي قد حويتَهُ ... وسار مسيرَ الشمسِ في الشرق والغرْبِ
فأصبحتَ تاجاً للفخار ومَفْرِقاً ... وقطبَ المعالي بل أَجلَّ من القطب
فلا عَدِمَتْ روحي الحياةَ فإنها ... قرينةُ ما يأتي إلي من الكتب
وقرأت أيضاً بخطه من كتاب كتبه إلى الأمير عز الدين حارن لما قصده بالشام، في أوله هذه القصيدة:
تُرَى هاجكم ما هاجني من جوى البعدِ ... وهل كَرْبُكُمْ كربي وهل وجدكم وجدي
لئن جَلَّ ما أبديه شوقاً إليكم ... فإنَّ الذي أُخفيه أَضعافُ ما أبدي

جَوىً في فؤادي كامنٌ ليس ينطفي ... عليكم كمونَ النار في الْحَجَرِ الصَّلْد
وما الدمعُ ما يجري عليكم وإِنما ... نفوسٌ أَسَلْنَاهَا مع الدمع في الخد
إذا لفَّ بُرْدُ النومِ أَجفانَ راقدٍ ... لففتُ جفوني في رداءٍ من السهد
نهاريَ ليلٌ مدلهِمٌّ لفقدكم ... وليلي نهارٌ من خيالكمُ عندي
ومنها:
ألا يا رياحَ الشوق سيري فبلِّغِي ... سلامَ محبٍ صادقِ الحبِّ في الود
إلى المَلْكِ عزِّ الدين ذي المفخرِ الذي ... مناقبُهُ تعلو الكواكبَ في العَدِّ
ومنها:
مليكٌ إذا أطنبتُ في وصفِ فضله ... علمتُ بأَنِّي لم أَنَلْ غايةَ الجهد
فما العنبرُ الشَّحْرِيُّ في أَنفِ ناشقٍ ... بأَطْيبَ من ذكراه في سَمْعِ مُسْتَجْدِي
ومنها:
أَيا مَنْ إِذا سارتْ وفودٌ لبابه ... ترى عندهمْ وفداً إِلى ذلك الوفد
وقد علم القُصَّادُ قَصْدَ جَنَابِهِ ... فنوَّلَهُمْ قبلَ التفوُّهِ بالقَصْد

والده
الشريف القاضي سناء الملك
أبو البركات أسعد بن علي الحسيني النحوي
موصلي الأصل مصري الدار هاجر إليها واتخذها مسكناً، ورضي بها وطراً ووطناً؛ وكان كبير القدر، نابه الذكر. وجدت له شعراً في الصالح بن رزيك في نوبة قتل عباس: أما والهوى النجدي ما سئمت إلفا.
ومنها:
لئن كنتَ قد نَحَّبْتَ عباسَ من ظُبَا ... فَرَنْجَةَ لما لم يجدْ عنك مُسْتَعْفَى
وأنقذْتَهُ من أَسره وهو ذاهلٌ ... يَرُدُّ عن الأهوال في المأزق الطَّرْفَا
فقد سُقْتَه إذ فَرَّ منك إلى مَدىً ... تمد مُدَاهُ نحو مُقْلَتِهِ الحَتْفَا
وما فرَّ من وَقْعِ الأسنَّةِ صاغراً ... وجدِّكَ إلا حين لم يَرَ مُسْتَخْفَى
وملَّ الطعانَ المرَّ للمَلِكِ الذي ... يراه حَييّاً عندما يَهَبُ الألْفا
وقال في مدحه:
صاحِ إنْ أَهْجُرْ سليمى والرَّبابا ... فلقد بُدِّلْتُ من غيٍ صوابا
ولقد واصلتُ من بعدهما ... مدحَ من أَغْرَآ بجَدْواهُ انتسابا
إِنَّ في كفِّ ابن رزِّيكٍ لمنْ ... يبتغي الرفدَ لآمالاً خِصَابا
وبيمنى فارسِ الإسلام قد ... أُجْرِيَ البحرُ الذي عَبَّ عُبَابا
كم له في الشام من معجزةٍ ... ومقامٍ لم يكن إلا احتسابا
جرَّبَ الإفرنج من أفعاله ... في صناديدهمُ أمراً عُجابا
وله من أخرى:
ومن يهوَ إدراكَ المعالي فإنه ... يَعُدُّ المنايا من ملابسه طِمْرا
قريع الرزايا والقنا يقرع القنا ... خطير العطايا يَسْتَقِلُّ الْجَدَا خَطْرا
يخطِّطُ بالخطيّ في النقعِ موطناً ... يحوز العلا والموتُ يلحظهُ شَزْرا
ومنها:
إذا اهتز بالفساط غرباه لم يَدَعْ ... فؤاداً بأقصى روضةٍ لم يَمُتْ ذُعْرَا
وحيث ذكرت الشرفاء فقد تعين ذكر الشريف أبي جعفر، وهو:
الشريف أبو جعفر
محمد بن محمد بن هبة الله العلوي الحسيني
من طرابلس ومن الواجب إيراده في شعراء الشام. كان في مصر في عهد أفضلها، وحظي من مننه بأجزلها. أهدى إلى ديوان شعره بمصر القاضي الفاضل، في جملة ما أسداه إلي من الفواضل، فأثبت منه ما استجدته مما وجدته، واستطبته مما استعذبته. فمن ذلك من قصيدة أعدها لمدح الأفضل للتهنئة بعيد الفطر سنة خمس عشرة وخمسمائة، فقتل الأفضل عشية سلخ شهر رمضان من السنة، وعاش الشريف، ومدح الوزير بعده، وأولها:
قد تجاوزتَ في العلا الجوزاءَ ... واستمدَّتْ منك البَهَا والبَهَاءَ
ومنها:
لم تَزلْ للعيونِ منذ تراءَتْكَ ... جِلاءً وللقلوب رجاَ
ومنها:
وجيوشاً كأنما قد كساها البرقُ ... فوق الدروع منها رداءَ
في مجالٍ سالتْ ظباه على الأيدي ... كأن الغُمودَ فَجَّرْنَ ماءَ

ومنها في وصف سفن أنفذها إلى مكة، وفيها غلة:
بجوارٍ تنسابُ في البحر كالأعلام ... تجري بها الرياحُ رُخَاء
حملَ الماءُ كلَّ سوداءَ منها ... حَمَّلَتْ وقرَها يَداً بيضاء
وله من قصيدة في ابن عمار بطرابلس:
جعلنا التشاكي موضع العَتْبِ بيننا ... فأَصدُقُ في دعوى الغرامِ وتكذبُ
ذريني أَصِلْ ليلَ الغرام بعزمةٍ ... تكفَّلُ بالإقبال عنها فتَغْرُب
فلا والعوالي إنها قسَم العلا ... أُقيمُ ولي عن ساحةِ الذلِّ مذهب
ومنها:
ومن كان فخرُ الملك مَرْمَى رجائهِ ... أصاب من الحظّ الذي يَتَطَلَّبُ
بعيدُ مناطِ السيف لو طاول القنا ... تساوى لدى الهيجا لواءٌ ومنكب
ومنها يصف داره:
ويوم ابتدرنا الإذنَ نُرْعَدُ هيبةً ... وقد غصَّ بالرفد الرواقُ المحجَّبُ
وصلنا وسلَّمنا على البدرِ جادَهُ ... سماءٌ لها من ذائبِ التِّبْرِ هَيْدَبُ
وقد نَمْنَم الكفُّ الصَّنَاعُ بأُفْقِها ... رياضاً كأنَّ الجوَّ منهنَّ مُعْشِبُ
ومصقولةِ الأرجاءِ ملثومةِ الثرى ... إلى جنة الفردوسِ تُعْزَى وتنسَبُ
نخالُ بأُولى نظرةٍ أنَّ دُرَّها ... يُنَثَّرُ أو عِقْيانها يَتَصَوَّبُ
وقال من قصيدة:
ذَرَفَتْ مقلةُ الحَيَا بالحَبَابِ ... وانتشى الروضُ حاليَ الجلباب
وتمشَّتْ به الصَّبا وإزارُ ... المُزْن فيه مُجَرَّرُ الهُدَّاب
ومنها:
لم أَنَمْ بعدهم سُلُوّاً ولكنْ ... طمعاً أَن يزورَ طيفُ الرَّبَابِ
يا خليليَّ في الذؤابة من فِهْرٍ ... أَميلا معي صدورَ الرِّكَابِ
وَقِفَا العيسَ كي نُجَدِّدَ عهداً ... للهوى في معاهدِ الأَحْبَابِ
أسقمَ البينُ رَسْمَهَا سقْمَ جسمي ... فكلانا خافٍ عن الطُّلاَّبِ
يا لُواةَ الديون من غير عُسْرٍ ... عُذْرُكُمْ لم يكنْ لنا ي حساب
طال رَعْيي روضَ الأَماني لديكمْ ... ورجوعي عنكمْ بغير ثواب
أتقاضاكمُ وماذا عليكمْ ... لو سمحتمْ لسائلٍ بجواب
ما لقلبي أراحني اللّه منه ... كيف يهوى من لا يرقُّ لما بي
مَسَحَتْ صبغةَ الشبابِ يدُ الهمِّ ... وأَبْدَتْ نصولَ ذاك الخضاب
ومنها:
وإذا كان ضائري حكم ذي الشيب ... فواوحشتا لجهلِ الشباب
وقال:
أأحبابنا لو سرتمُ سيرةَ الهوى ... لكنتمْ لقلبي مثلَ ما لكمُ قلبي
عتبتمْ وما ذنبي سوى البعد عنكمُ ... وإني لأهواكم على البُعْدِ والقرب
فلا تجمعوا بين الفراق وعتبكم ... ولا تجعلوا ذنب المقادير من ذنبي
وله من قصيدة في الأفضل أولها:
أُجِلُّ هواكَ عن مِنَنِ العتابِ ... وإن أَبعدْتَنِي بعد اقتراب
ومنها:
أَما وهواكَ لو خُبِّرتَ عني ... لِمَا أَلقاه عزَّ عليك ما بي
ولا تسأَلْ سواك فليس يخفى ... عذابي عن ثناياك العِذاب
ولولا أَنْ تقولي خان عهدي ... قرعتُ على سُلُوِّي كلَّ باب
رضيتُ وصال طيفكِ وهْوَ زُورٌ ... وعند الشيب يُرْضَى بالخضاب
ومنها:
ودون ثنيَّةِ الصَّنَمين ظبيٌ ... وقورُ الحِجْل طيَّاشُ الحِقَابِ
سقيمُ الطرف نشوانُ التثنّي ... صقيلُ الثغِ معسولُ الرضاب
ومنها:
وقفتُ بها سراةَ اليومِ صحبي ... وقوفَ القُلْب في زَنْد الكَعَاب
وقد أخفتْ معالمَها الليالي ... كما درست سطورٌ من كتاب
فدع ذكراك أياماً تقضَّت ... إِذا ذهب الصِّبَا قَبُحَ التصابي
ولي بمديح شاهنشاهَ شُغْلٌ ... يُسَلِّي عن هوى ذاتِ السِّخَاب
يُؤَذِّنُ جودُه فيما حواه ... من الأَموالِ حيَّ على الذهاب
ومنها:

ويوم بعثَتها شُعْثَ النواصي ... تسيلُ بهنَّ أفواه الشعاب
لقيتَ هَجِيره والخيل تردى ... ولا ظلٌّ سوى ظلِّ العُقَابِ
أثرتَ الليل في رَهَجِ المذاكي ... وأطلعتَ النجوم من الحِراب
مواقفُ لم تزلْ فيهن أَمضى ... من الهنديِّ زلَّ عن القِرَابِ
وله من أخرى:
تجاوز العتبُ حدَّ السخط والغَضَبِ ... وأورث القلبَ صدعاً غيرَ مُنْشَعِبِ
إِن كان ذنبٌ فإني منه معتذرٌ ... يكبو الجوادُ وينبو السيفُ ذو الشُّطَبِ
أو كان ذا منك تاديباً على زَلَلٍ ... منِّي فحسبك قد أَسرفتَ في أدبي
هل عهدُ وصلك مردودٌ لعاهده ... يا هاجري شهوةً من غير ما سبب
ومنها:
أو لا وعيشٍ مضت منا بشاشته ... لمحاً وسالفِ عيش غيرِ مُؤْتَشِب
ومبسم كأَقاح الروضِ بانَ به ... فضلُ الرُّضاب على الصهباءِ والضَّرَب
ومستديرِ وشاحٍ جال في هَيَفٍ ... حيث التقى خيرُزَانُ الخصْر بالكُثُب
ما إِنْ أَذِنتُ إلى الواشي كما أَذِنَتْ ... فاعْجبْ له اليومَ لم يظفر ولم يخب
لم يبق عندي اصطبارٌ أَستعينُ به ... على تمادي صدودٍ منك بَرَّحَ بي
بيني وبين صروف الدهر معتبة ... وليس عتبي على الأَيام بالعجب
إن سرَّكُمْ مسٌّ من نوائبه ... إِني إِذنْ لقريرُ العين بالنُّوَب
ومنها:
إن كنتُ أضمرت غدراً في الوفاءِ لكمْ ... فلا وصلتُ بآمالي إلى أربى
وخانني عنك شاهنشاهُ ما وَعَدَتْ ... به صنائِعُهُ من أَشرف الرتب
ومنها:
تجلو عليك التهاني كلُّ شاكرةٍ ... يداً سَبَقْتَ إليها عزمةَ الطلب
كالماءِ رقَّتها والخمرِ نَشْوَتها ... فابنُ الغمامةِ فيها وابنةُ العِنَبِ
وقال فيه:
خاطِرْ بها فالجدُّ مصحوبُ ... واسرِ فظهرِ الغيبِ مركوبُ
واطلبْ عناقَ العِزِّ تحت الظُّبَا ... فالعزُّ محبوبٌ ومطلوب
واصحبْ إلى العلياءِ سُمْرَ القنا ... ما صَحِبَتْهُنَّ أنابيب
ليس يروضُ الصعبَ مَن دِرْعُهُ ... مُحْقَبَةٌ والسيفُ مقروب
ولا يخوضُ الغمراتِ الفتى ... وطِرْفُه في الحيِّ مجنوب
وثِقْ بما تُملي عليكَ المنى ... فالنجح مرجوٌّ ومرقوب
ولا تَقُلْ يا بعدها غاية ... ففي المقادير أعاجيب
لا تبعدُ العلياءُ عن طالبٍ ... له من الأفضلِ تقريب
وقال فيه:
إِذا ما ابتدوا شَدُّوا حُبيَ الحلم للنَّدَى ... وإِن ركبوا سدُّوا القَنا بالمراكبِ
كفيلون في دار الضحى لصريخةٍ ... بوجهِ نهارٍ بالعجاجةِ شاحب
همُ سَطَّروا بالبيضِ والسمر ذكرَهُمْ ... فأَصبحَ عُنوانَ العُلا والمناقب
صدورُ رماحٍ لم تَرِدْ حومةَ الوغى ... فتصدرَ إلا عن صدورِ الكتائب
ومنها:
إذا شَهِدَ الجُلَّى أضاءَتْ برأْيهِ ... دُجُنَّةُ خَطْبٍ مُدْلَهمِّ الجوانب
وقال أيضاً:
بادِرْ بإحسانك الليالي ... فإنَّ من شأنها البتاتا
كم شمْلِ مَلْكٍ عَدَتْ عَليْهِ ... فصيَّرَتْ جمعَهُ شتاتا
وفَرَّكَتْ قبلُ من عظيمٍ ... فطلَّقَتْ غيرها ثلاثا
وقال من قصيدة:
وكم للحُبِّ مثلي من صريعٍ ... بحدِّ البيض والسمر الملاحِ
وأَغيَدَ من ظباءِ الحسن حَيَّا ... بوردٍ أوْ تبسَّمَ عن أَقاحي
شربنا من شمائله شَمُولاً ... لنشوان التثني وهْوَ صاحِ
لقلبي الثأرُ فيه عند عيني ... فبعضُ جوارحي أَدْمَى جراحي

لئن عاصيتُ عذَّالي عليه ... ولم يَقْتَدْ ملامُهُمُ جماحي
فإنَّ نوالَ شاهنشاهَ قبلي ... عَصَى عَذْلَ العواذلِ في السماح
إذا أعطى تبلَّج في العطايا ... كما يفترُّ مبتسَمُ الصباح
ومنها:
ملوكٌ إنْ دجا ليلٌ جَلَوْهُ ... بلألآءِ الترائك والصِّفَاح
كأنّ الخيلَ تحت النقع منها ... شققنَ الأرضَ عن بَيْض الأَدَاحي
نثرنَ عجاجةً في كل فجٍ ... كأنّ الأُكْمَ تنفسها المساحي
مناقبُ سطَّرَتْهُنَّ المواضي ... فما يسمو إليها كفُّ ماحي
وقال:
ما خلتُ والأيامُ ذاتُ عجائبٍ ... أنى أُعَدُّ من المتاعِ الكاسدِ
وأكونُ للدهر الخؤونِ عقيرةً ... وأُعاضُ مِنْهُ شامتاً من حاسد
فأسالمُ الخصم الذي لا يُتَّقَى ... وأثيب عذالي ثواب الحامدِ
وقال:
أُحبُّ من الفتيانِ كلَّ مشيَّع ... ركوبٍ إلى العلياءِ ظهرَ الشدائدِ
يضمُّ على فضل العفاف ذيولَهُ ... ويرغبُ عن ضمِّ الثُّدِي والنواهد
ومنها:
إذا دَحَرَتْ فيه النعامى حسبتَه ... حبيبكَ دروعٍ أَو متونَ قلائدِ
ينمّ بسرِّ القاع حتى تخاله ... استعارَ حصاهُ من عقودِ الخرائد
نزلنا به والشمسُ يُهدى شُعاعُها ... له التبرَ إِلا أنه غير جامد
لدى روضةٍ قد نَشَّر العَصْبَ نبْتُهَا ... ونَثَّر فيها النَّوْرُ دُرَّ القلائد
ومنها:
كأن ذيولَ الأفضل انسحبتْ بها ... يُضَمِّخُها منه أَريجُ المحامد
كريمٌ أَعدَّ المالَ وقفاً على الجَدَا ... فأضحى نداهَ قاصداً كلَّ قاصد
إِذا مدَّ يومَ الفخر باعاً لمفخرٍ ... حَوَى طَرَفَيْهِ من طريفٍ وتالد
ومنها:
جمعتَ سعود المشتري ووقارَهُ ... إِلى بأس بَهْرامٍ وحذقِ عُطَارد
ومنها:
وما نمتَ عن شاني وقد نام دونَهُ ... رجالٌ فلم أنبذ حياةً لراقدِ
ولو كنت ممن يجعل الفحش لفظه ... لنبَّهَهُمْ مني عقابُ القصائد
وعَضَّ لحاظَ القوم في كل مجمع ... قوافٍ كأَطرافِ الرماح الحدائد
أَأُغْضِي على ضيمٍ وعزُّكَ ناصري ... وأُخْفِقُ في مجد ونُجْحُكَ رائدي
وقال من قصيدة في محمد بن قابل وقد أنفذ إليه رافداً:
من منجدي بالشكر أَمْ مَنْ مُسْعِدي ... أَوفَتْ على شكري يدٌ أَغنتْ يدي
نام الورى عني فلم أُوقِظْهُمُ ... أَنَفاً لمجدي من مقام المُجْتَدِي
ورأيت عز الفقر من نيل الغنى ... بالذل أولى بالعُلا والسؤدد
ورددتُ ما يهبُ اللئامُ عليهمُ ... زهداً ولا مجدٌ لمنْ لم يزهد
وكذاك نفسُ الحر تحتملُ الظَّمَا ... إن فاته يوماً كريمُ المَورِدِ
وتداركتني مِنةٌ من مُنْعِمٍ ... يقظانَ عن بذلِ الندى لم يرْقُدِ
ملأَ الزمانُ بها مسامعَ أهلهِ ... من شكر آل محمدٍ لمحمد
يعطيك مسؤولاً فيعجل رِفْدَهُ ... وتعوق هيبتُهُ السؤولَ فيبتدي
ومنها:
أرسلتها فوق الرجاء تبرعاً ... أحلى الندى ما لم يكن عن موعد
لما سالتُ الغيثَ يُسقى بالغنى ... جوداً بَعَثْتَ بديمةٍ من عسجد
ومنها:
ولَتَنْصُرَنَّكَ باللسان ونصرُهُ ... أَبْقَى على الأيام من نصرِ اليد
ومنها:
وإليكمُ أرسلتُها تُرْضِي العُلا ... فيكمْ وتقطعُ في قلوب الحُسَّد
بسهولةٍ عنها المياه ترقرقت ... وجزالةٍ منها متون الجلمد
كالمسكِ من طيب الثناءِ عليكمُ ... فيكادُ يَعْبَقُ عَرْفُها بالمنشد
وقال:
عصيتُ هوايَ حين وَفَى لغرٍ ... إباءٌ صار من خُلُقي وعادي
فبلِّغ حاكمَ العشاق أَني ... عفافاً قد حَجَزْتُ على فؤادي
وقال:

ألا يا خليليَ من وائلٍ ... أَعِنِّي على ليليَ الساهرِ
إلى كم أُسَوَّفُ عطفَ الزمانِ ... وعَزَّ النتاجُ من العاقر
وعزَّ على المجد أني قنعتُ ... بأيسرِ من حَسْوَةِ الطائر
وما ذلَّ في الخطب عونايَ من ... لسانيَ والمِخْذَمِ الباتر
لياليَ لا أنا شاكي الصحابِ ... ولا غدرُهُمْ شاغلٌ خاطري
وإني على شَغَفِي بالقريضِ ... لآنفُ من همةِ الشاعرِ
سرى رَجَبٌ يستحثُّ الشهور ... نزاعاً إلى فضلك الباهر
أَتاكَ يجدِّدُ عهدَ المشوق ... على كاهلِ الفَلَكِ الدائرِ
وله من قصيدة:
وقورٌ متى يستطلق الجهلُ حَبْوةً ... تبيَّن في صَدْر النَّدِيِّ وقارُه
ويطربُه ذكرُ النَّذَى فتخالُهُ ... أَخا نشوةٍ جارتْ عليه عُقَارُهُ
إذا اكتحلتْ بالطعن أَجفانُ خيله ... فإثمدها في كلِّ فج غباره
إذا انبجست كفاه والمزن ممسك ... فما ضرَّنَا إلا بصوبٍ قِطَارُه
وله من أخرى:
يا صاحبي قمْ ترى برقاً كما نُشِرَتْ ... مُلاءَةُ الفجر هاج الوجدَ والذِّكَرَا
وسَلْ نسيمَ صبا نجدٍ لعلَّ به ... عن العذَيْبِ وجيران الغَضَا خَبرا
تضوَّعَتْ من ثرى واديه إذ خَطَرَتْ ... رَيَّا فما زالَ من أَردانها عَطِرا
تجنى وَيعْذُرُها حسنٌ تُدِلُّ به ... فكلُّ ما فعلتْهُ كان مُغْتَفَرَا
وله من أخرى:
خلعنا الصِّبَا ولبسنا الوقارا ... وكان الشبابُ رداءً مُعَارا
ويا ربما ليلةٍ قد خَطَرْتُ ... إلى اللهو يُرْخي مَراحي الإزارا
أَردُّ مشورةَ رأْي النُّهَى ... عليه وأَرْضَي الهوى مستشارا
ليهنِكَ يا عاذلي أَنني ... ملكتُ على صَبَواتي الخيارا
رَقَتْ دمعةُ الشوق من ناظري ... وخلَّفْتُ غيريَ يبكي الديارا
ولم تُنْسِني عِفَّتي غادةٌ ... تَزينُ المعاصمُ منها السِّوَارا
إذا انتقبتْ قلتَ بدرُ التما ... م لاثَ عليه الغمامُ الخِمَارا
ولا أغيدُ الجيدِ أَمسى يديرُ ... من طَرْفِهِ ويديه العُقَارا
إذا هو أَرْعَفَ إِبريقه ... كستْ يدُهُ كأسَه الجُلَّنارَا
تخالُ فَوَاقِعَها لؤلؤاً ... وَهَى سِلْكُهُ ودموعاً غزارا
إذا الماءُ عاتبَ أَخلاقها ... رأيتَ الشقائقَ منها بَهَارا
تضيءُ لنا فَحَماتِ الظلا ... م من قبل أنْ يقبسَ الفجرُ نارا
وبين الوشاحين منه القضيبُ ... وتحت الحقاب نقاً حيثُ دارا
وله من أخرى وهي طويلة:
سل بني نبهان هل زهدوا ... في ثناءٍ من فتى قُرَشِي
صار كالكَمُّونِ بينهمُ ... بالمُنى يُرْوَى من العَطَشِ
وابتلاه الدهر بينهمُ ... بعدوٍ مُرْتَشٍ وَيَشِي
وله من أخرى:
هل أنت باليأسِ المُريح مُخَلِّصِي ... من أَسْر ميعادِ المُنى المُتَخَرِّصِ
وإِليك أَشكو سوءَ حظٍ مُشْرِقي ... أَنَّي شربتُ وإِن أَكَلْتُ مُغَصِّصِي
ماذا على الأيامِ لو هيَ أحسنتْ ... أَوْ سامحتْ بالعيش غيرَ منغَّصِ
وأشدُّ ما لاقيتُ من أَحداثها ... ما قد تجدَّدَ في جفاءِ المُخْلِصِ
وعدُ الزيادة قد تطاولَ عمره ... حتى مللت ترقُّبي وتربُّصِي
ما كنتُ أولَ مستزيدٍ لم يُزَدْ ... وأنا السعيدُ اليوم إن لم أُنْقَصِ
وقال:
أَغرى به الشوقَ اللجوجَ وحَرَّضَا ... برقٌ أَضاءَ له على ذات الأَضَا
متبسِّماً منه الغمامُ كأنَّمَا ... هزَّ القيون به الحسامَ المنتضى

وعصى الفؤادُ سُلُوَّه لما غدا ... طوعَ الوشاةِ فصدَّ عنه وأَعرضا
هيهات إِبراء السقيم من الضَّنَا ... يوماً إِذا كان الطبيب المُمْرِضَا
ما كان لولا حبُّ مَنْ سَكَنَ الغضا ... يُخْشَى حَشاه لذكره جمرَ الغضا
زمنٌ مضى فوق المنى فكأنه ... حكمٌ تقاضى حسرةً ثم انقضى
خالفتُ يومَ البين حكمَ تجلدي ... لما قضى فيه الفراق بما قضى
وبمهجتي رشأٌ أَغَنُّ بطرفِهِ ... مَرَضٌ وصحةُ طَرْفِهِ أَنْ يَمْرَضَا
قد صرَّح الهجران فيه لمدْنف ... خاف الرقيبَ على هواه فعرَّضا
كم يقتضيني الدهرُ حقِّي عنده ... الدَّيْنُ لي وأنا الغريمُ المُقْتَضَى
وله على وزنها من أخرى:
كان الشبابُ وقد خَلَعْتُ رداءَهُ ... طيفاً سَرَى وخضابَ داجيةٍ نَضَا
ومنها في الاعتذار عن مدح غير هذا الممدوح:
شَعْرٌ حَمَلْتُ سوادَه وبياضه ... فوجدت أثقلَ ما حملتُ الأبيضا
ما إِنْ مدحتُ سواك إِلا رِقْبَةً ... مني لصِلِّ حماطة قد نضنضا
فمسحتُ بالأشعارِ عِطف عُرامِهِ ... وحملت عذرَ زمانه حتى انقضى
والآن عُدْت وكنت عُوداً ذاوياً ... نبتاً بصوب نداكمُ قد روَّضا
وحُسِدت ما شَرَّفْتَني بِسَماعِهِ ... حتى تمنَّى مُفْحَمٌ أن يَقْرِضَا
وقال:
كلَّ يومٍ نَلْقَى ببابكَ غَيْظاً ... أملاً خائباً وسَعياً مضاعا
ووجوهاً يُغَضُّ من دونها الطر ... فُ كما قابلَتْ عيونٌ شعاعا
ليتهمْ إِذ حموكَ من كلفة الإذ ... ن لنا أَوصلوا إِليك الرقاعا
وقال:
لعذلِ العواذل أَلاّ أَعي ... وألاّ أُصِيخَ له مسْمَعي
ويا لائمي في غرامي بها ... أَضَعْتَ الملام فخذْ أو دَعِ
أتطمعُ للقلب في سلوةٍ ... وهيهات في ذاك لا تَطْمَعِ
أطعتُ الهوى وعصيتُ النصيحَ ... وقال العذولُ فلم أسمع
وقد أنكَرَتْ أنّ حبي لها ... جسرِّيَ في غير مُسْتَوْدَعِ
فلو جاز حكمي لدعْوَى الهوى ... جعلتُ اليمينَ على المدَّعي
أما عَلِمتْ أنّ لي بعدها ... هموماً تُكاثِرُها أَدْمُعي
أَبى لي تَنَاسِيَ ما قد مضى ... خيالٌ لها لازمٌ مَضْجَعي
ومنها:
وزارَ برغْمِ الكَرَى هاجعين ... نَشاوى بكاسِ الهوى المُتْرَعِ
وأشعثَ أخفاه برحُ السقامِ ... فنمَّتْ به أَنَّةُ المُوجَعِ
فيا منَّةً قد شكرت الرقاد ... لو أني انتبهت وقلبي معي
ومنها:
وقد علم الحرصُ أَنِّي برئْتُ ... إلى راحةِ اليأسِ من مَطْمَعي
وكم لي مع الدهر من وقعةٍ ... تبلَّجْتُ في وجهها الأسفع
وقال:
دعِ المطامعَ لا تحللْ بساحتها ... وارضَ القليلين من ريٍ ومن شِبَعِ
لا تخضعنَّ لأَمرٍ عزَّ مطلبه ... لا خيرَ في العيش ما أَدناك من ضَرَع
وقال:
غريمُ فؤادي في الهوى غيرُ منصف ... وماطلُ وعدي قد أبى الغدْر أن يفي
تكلَّفَ بي يومَ اللقاءِ بشاشةً ... وأقبحُ ما استَحْسَنْتَ بشرُ التكلف
ومنها:
رضيت وإن لم تسمحوا برضاكمُ ... على عزِّ قومي في الهوى ذلَّ موقفي
لِيَهْنِ حَسوُدي أن يُقَدَّمَ ناقصٌ ... فأَصبحَ فضلي علةً لتخلُّفي
ولو أنصفَ الدهرُ الكرامَ لما غدا ... يطيلُ على حظِّ اللئام تلهفي
ليَ اللّهُ من قلبٍ لجوجٍ بصبوةٍ ... إلى العزِّ ما يزداد غير تغطرف
ركوبٍ لأَثباجِ المخاوفِ دونها ... ومَنْ طلبَ العلياء لم يتخوَّف
أَأُرْمَى بعيش الخاملين وقد أَبَى ... ليَ اللّهُ أن يَرْضى فراسي وخندفي
ومنها في القلم:

له القلم الماضي الشَّبَا فكأنما ... تهز به أعرافُهُ صدرَ مُرْهَف
إذا ما سقاه المزنُ صوبَ قطاره ... كسا الطرسَ أثوابَ الربيع المُفَوَّف
وله من أخرى:
حَيِّ من رَيَّا خيالاً طَرَقَا ... عاد جُنحُ الليلِ منه فَلَقَا
سارياً يُذْكِرُنَا عهدَ الحمى ... نقصَ البيد وقصَّ الطُّرُقا
حبذا الطيفُ تَعَلَّلْنَا به ... واصفاً في البين أيام اللقا
قد رضينا من أباطيل الكرى ... ردَّ ما موَّهَهُ واختلقا
المُنَى إن لم يكن إلا المنى ... إنها لَهْيَ النعيم في الشقا
هل مُعاد والأماني ضَلَّةٌ ... موقفٌ بين المصَلَّى فالنَّقَا
يا نسيم الريح إما جِئْتهمْ ... فاشكُ عن قلبي الجوى والْحُرَقَا
وتعرَّضْ لملولٍ منهمُ ... مستجدٍ كلّ يومٍ خُلُقَا
وطموحِ العينِ مذَّاقِ الهوى ... قلَّ ما مازح إلا عشقا
آه والشكوى إليكم خَوَرٌبعد ظنٍ في هواكم أخفقا
يا لهيفاءَ وقلبي كلما ... قلتُ قد أَفْلَتَ منها عَلِقَا
ولخلٍ كالشَّجَي معترضٍ ... ما محضْتُ الودّ إلا مَذَقَا
وله من قصيدة:
أتمنَّاهَا على بُعْد المَنَالِ ... وأسومُ الصبرَ عنها وهو غالي
وأُرجِّي عطفةَ السالي وقد ... تَعْلَق الأطماعُ أسبابَ المُحَالِ
وعلى ما سَرَّني أو سَاءَني ... فَهْوَ محبوبُ التجني والدلالِ
ولقلبي من أحاديث المُنَى ... ما لعيني من سُرَى طَيْفِ الخيالِ
ومنها:
لستُ بالفائت حظِّي منكمُ ... رب عتبٍ كان باباً لملال
مذهبٌ ما ابتَدَعَتْهُ غادةٌ ... يُبْذَلُ العذرُ لربات الحجال
أَنْكَرَتْنِي أَنْ رأتْنِي عاطلاً ... ربَّ جيدٍ عاطلٍ بالحُسْن حالي
من عذيري اليومَ من أيد خطو ... بٍ رعى البادنُ منها في هزالي
هممُ العلياء ضرَّاتُ الغِنَى ... وجيوشُ الفقر إِكثار العيال
فارضَ بالأدنى إذا لم ترقَ في ... درجاتٍ من ذرا المجد عوالي
أو فكن جارَ شهنشاهٍ تَصِفْ ... مُغْرماً بالجود فَيَّاضَ النوال
كَفَل الملك بأطرا القَنَا ... والمعالي في كَفَالات العَوَالي
ومُطاعُ الرمح في يوم الوَغَى ... نافذُ الحكم على الأرواح وَالي
عَلَّقَ الأرزاقَ من أَسْمَرِهِ ... مَعْلَقَ الرمح بأطراف النصال
يَنْفُضُ العِثْيَرَ عن أعطافه ... نفضةَ الأَجْدَلِ أَنداءَ الظلال
وله من أخرى:
لولا الحظوظ التي في بعضها بَلَهٌ ... لما علا الشمسَ بهرامٌ ولا زحلُ
همٌّ لبستُ له ثوبَ الضَّنَا كمداً ... والهمُّ يفعل ما لا تفعلُ العلَلُ
ومنها:
من كلِّ أروعَ في الهيجاءِ يصحبه ... عَزْمٌ فَتِيٌّ ورأيٌ منه مُكْتَمِلُ
الأرقمُ الصِلُّ إِلاَّ أَنه بَطَلٌ ... والأَغلبُ الوَرْدُ إلا أنَّهُ رَجُل
ومنها:
وصاحبٍ مثلِ حُمَّى الرِّبْعِ أرقبها ... مُغْرىً بذمِّيَ منه المنطقُ الخَطِلُ
رَمَى ولو أنني أرضيه قلت له ... خذها إِليك لكفِّ المخطىءِ الشَّلَلُ
وله من أخرى:
يا هل جَنَتْ أعينٌ مراضٌ ... كالخمر تسطو على العقولِ
أصابتِ القلبَ يوم سَلْعٍ ... بنافذاتٍ بلا نصولِ
فقلْ إذا جئتَ آل سهمٍ ... ما فعل السهمُ بالقتيل
ويا نسيمَ الصَّبا تَعَرَّضْ ... لحاضرٍ بالغَضَا حُلُولِ
بلِّغْ فإنّ القبولَ أوْلى ... في طاعةِ الصبِّ بالقَبُول
وصفْ غرامي وأَجْرِ فيهمْ ... ذكرىَ للهاجر المَلُولِ
واحرَّ قلباه من قضيبٍ ... رَيَّانَ لم يدرِ ما غليلي

لو أَنصَفَ الحِبُّ ما طلبت ... الوصالَ من طيفه البخيل
ومنها في المدح:
من أسرة النجم في المعالي ... وإخوةِ الغيث للنزيل
تشابهوا واحداً ونَجْلاً ... ما أشبه الكُثْبَ بالسهول
وقال من أخرى:
رعى اللّه المنازَ من غميم ... وحيا يومنا بلوى الصَّريم
وروَّى أرضَها حَلَبُ الغوادي ... وصافح روضَها وَلَعُ النسيم
وقفتُ بها فيا نثرى لدمعٍ ... أَرَقْتُ على ثَرَى تلك الرسوم
وما خِلْتُ المعالمَ قبلَ يومي ... بها صهباءُ تهفو بالحُلُوم
متى تدنو لمشتاقٍ مُنَاهُ ... ويصحو من معاقرةِ الهموم
ومنها:
ومن ناداكَ من قلبٍ سليمٍ ... كمن دَاجاك بالودِّ السقيم
فلا تغررْك صِحَّةُ صَفْحَتيه ... فتحت ثيابه نغل الأديم
فداؤك كلُّ مغرورِ الأماني ... يُرَجِّي مُنْتَجَ الأملِ العَقيمِ
وقال:
ركبوا قوادمَ رَوْعِهمْ فكأنما ... طارت بهمْ حَذَرَ الحِمَام حَمام
إن لذَّ عندك طيبُ عيشٍ باردٍ ... قلْنا وعزمُكَ في عُلاكَ ضِرَامُ
وله في مريض:
أما لو أنَّ أغراضيَ ... لا يخرجنَ عن حكمي
نقلت الداء من جسمك ... مختاراً إلى جسمي
وله من أخرى:
كالغصن أطلع بدرَ تِمٍ باسماً ... بالأُقحوان ملثَّماً بالعَنْدَمِ
يا عاذلي أَقصرْ فسمعي في الهوى ... سَلْمُ الغرام وحربُ لوْمِ اللوَّمِ
لو كنتُ أَعلَمُ أَنَّ نجداً قصدُهُمْ ... يومَ استقلَّ فريقُهُمْ لم أُتْهِمِ
ووراءَ أقمارِ الهوادج غِلمةٌ ... تحمي المحرَّمَ بالأقبّ الملجم
كتبوا بأيدي الخيل خلف مطيِّهم ... عِين الحواجر بِلْوُها لمتيم
ومنها:
أَفنَتْ شجاعته السِّلاحَ فسيفه ... يبكي الدماءَ لرمحه المتحطِّمِ
ومنها:
لو أَشْهَدتْ رزق الوَرَى شَهِدَتْ به ... نِعَمٌ إلى نَفَحاتِ سيلٍ تنتمي
وله من قصيدة أولها:
أَثِرْهَا فقد طالَ هذا مُقَامَا ... وَرَاخِ لِها إِنْ جَذَبْنَ الزماما
تقصُّ من الغيث آثارَهُ ... فترعى جَمِيماً وتُسْقَى جِمَامَا
ومنها:
أَضاءوا شموساً، وتمُّوا بدوراً ... ولاحوا نجوماً، وجادوا غماما
ومنها:
يا بائعي بالدونِ إِنَّ العُلاَ ... لا ترتضي بيعَكَ أَعْلَى بدونْ
وعْدُك قد أصبحتُ أَتلو له ... هيهات هيهات لما توعدونْ
إن كان حظِّي منك ما قد أَرَى ... فقل لحساديَ ما تحسدون
وله من قصيدة:
وكم ذُدْنا الكرى عنا بليلٍ ... كعَيْنِ الظَّبْيِ أو فَرْعِ الغواني
وقد نثرت كواكبُهُ عقوداً ... نقوداً صُبْحُها لقْطُ الجمان
صحبنا فيه ملءَ القلب رعباً ... بخرق كالملاءَة صحصحان
على مثل الأَهِلَّةِ طامحاتٍ ... إلى قمر المعالي الإِضْحِيان
ومنها:
كأن البيض في رَهَجِ المذاكي ... ضرامٌ تحت أردية الدخان
وله من قصيدة يصف خيمة ونقوشها:
ضَرَبْتَ عين رواقٍ في مقرِّ عُلاً ... أوفى على عَذَبات الطَّوْد ذي القُنَنِ
جَازَتْ مدى الطرفِ حتى خلتُ ذِرْوَتها ... تأْوي من الفَلَكِ الأعلى إلى سَكَنِ
أقطارُها ملئت من منظرٍ عجبٍ ... يُهْدي إليك ذَكَاءَ الصانع الفَطنِ
فمن رياضٍ سقاها الفكرُ صيِّبَهُ ... فما ظمأٌ يوماً إلى المُزُن
وجامحٍ في عنانٍ لا يجاذبُهُ ... وطائرٍ غيرِ صدَّاحٍ على فَنَنِ
وأرقمٍ لا تمجُّ السمَّ ريقتُهُ ... وضيغمٍ ليس بالعادي ولا الوَهنِ
ومائلين صفوفاً في جوانبها ... لو يستطيعون خَرَّ الجمع للذَّقنِ
زِينَتْ بأَرْوَعَ لا تُحْصَى فضائله ... ماضٍ من المجد والعلياءِ في سَنَن

وأطلع الدستُ فيها شمسَ مملكةٍ ... تُرِي التأمُّلَ فضلَ العين للأذن
وعدٌ على السَّعْدِ أَنَّ النصرَ يضربها ... بالصين بعد فتوح الهند واليمن
وله من أخرى:
زالت ببيضك هامٌ عن مناكبها ... فنابت السمرُ فيها عن هواديها
أُعطيتُ ملءَ رجائي من غنىً وعُلاً ... فصرتُ أَسأل نفسي عن أَمانيها
وله من أخرى أولها:
ليت دارَ الحيِّ إذ شَطَّتْ بها ... حمَّلَتْ ريحَ الصَّبَا نشرَ ثراها
لا عداها الريُّ من صَوْب حياً ... ينظمُ الروضَ لأَعناقِ رُبَاها
دارهُمْ بالغورِ إذ همْ جيرةٌ ... والنوى ما صدعتْ شملاً يداها
وسميري في الدياجي غادةٌ ... فخر البدر بها لما حكاها
ومنها:
خَلَواتٌ لم تكن في ريبةٍ ... أكرمُ الصبوةِ ما عفَّ هواها
سلْ عفافي دونَها لو لم يكنْ ... ريقُها من خمرةٍ قبَّلْتُ فاها
آهِ من بينٍ وشوق لم يدعْ ... حسرةً تعتادني إلا اقتضاها
ليت شعري ما الذي غَيْرَهَا ... أو أَراها حَسَناً أَنْ لا أَراها
شَدَّ ما أَجرتْ دموعي فرقة ... لا أَرى عوناً على قتلي سواها
ومنها:
ما عليكمْ أنَّه زاركُم ... فسمعتمْ بعضَ ما يشكو شِفاها
لا تذودوا عينَه عن نظرةٍ ... قد علمتمْ أنها تجلو قَذَاها
وَعِدُوا بالطيفِ إن عادَ كَرى ... مقلةٍ مذ غبتمُ غاب كراها
أو فَمَنُّوه المنى من قربكمْ ... حالَ يأسٌ بين نفسي ومناها
قل لمن دبَّت أفاعي كيدِهِ ... لستُ أَخشاها وكيدي من رُقَاها
لا تجاذبْنِي فإني مُمْسِكٌ ... ذِمَّةً للمجد لم تُفْصَمْ عراها
ما أُبالي سُخْطَ أَيامي إذا ... فاز سهمي برضى شاهنَّشاها
وله من قصيدة:
وغضبانَ أَعدى بالتجني خيالَه ... فمن لي بأن ألقاه في الحلم رَاضِيَا
ومنها:
أحب ثرى الوادي الذي نَزَلَتْ به ... وإن لم يكنْ ما بيننا متدانيا
وأُكْبِرُ أنفاسَ النسيم إذا سرى ... فصادف جرعاءَ الحمى والمحانيا
ومنها:
فيا ليت قومي جَنَّبونيْ عقوقهمْ ... وليتَ صديقي لا عليَّ ولا ليا
أَسَرُّوا حِذارَ الشامتين تأَوهاً ... ومن ذا من الأيام لم يُلْفَ آسيا
وأَظْمَا فأَرْوَى بالنسيم تعللاً ... عن الماء كيلا يعلمَ الماءُ ما بيا
ومنها:
وهاجرةٍ تُذْوِي الوجوهَ ارتديتها ... وقد عمَّمَتْ صُلْعَ الرُّبيِّ القباطيا
ومنها:
وليل كأطمار الثَّكَالى ذَرَعْتُهُ ... بصحبٍ يُضَاهُون النجومَ الدراريا
وخَرْقٍ كراح المُجْتَدِينَ قطعتُه ... بمنأَطِراتٍ كالقِسِيِّ نواجيا
بممقورةٍ مثلِ الهلالِ كأنما ... طَلى السَّيْر منها بالكُحَيْلِ الذواريا
ينازع من أعقابها الجذْبُ بالبُرَى ... أَفاعيَ حِقفٍ لا تجيبُ الرواقيا

الأعز أبو الفتوح المعروف ب
ابن قلاقس
وهو نصر الله بن عبد الله بن علي بن الأزهري ذكر لي نجم الدين بن مصال أنه كان من أهل الإسكندرية وقاد الخاطر، ذا الفضل الوافر، مات بعيذاب عند رجوعه من اليمن ولم يبلغ عمره ثلاثين سنة.
أنشدني له من أبيات يصف أمراضه:
نُكِّسْتُ في الأمراض بع ... دَ إفاقتي نكسَ الهلالِ
والراسُ مثل الكاس لو ... لا علة نالَتْهُ خالي
وأنشدني له من قصيدة:
لا تثنِ خدَّكَ إن الروض قد جِيدَا ... ما عطَّرَ القطرُ من نوَّارهِ جِيدا
ومنها:
وقف أَبُثُّكَ ما لان الحديدُ له ... فإن صدقتَ فقل: هل صرتَ داودا
ومنها:
يا ثعلبَ الصبح لا سرحانَ أَوَّلِهِ ... خذِ الثريَّا فقد صادفْتَ عُنْقُودا
وله:
ما ضر ذاك الريمَ أن لا يَريمْ ... لو كان يرثي لِسَليمٍ سَلِيمْ

ومنها:
تراهُ لما أن غدا روضةً ... أعلَّ جسمي كي أكونَ النسيم
رقيمُ خدٍ نامَ عن ساهرٍ ... ما أَجدرَ النومَ بأَهلِ الرقيم
وله من أخرى:
فهمتُ عن البارق الممطر ... حديثاً ببالكَ لم يَخْطُرِ
يقول سهرتَ فأجرِ الدموعَ ... وإِلا فإنَّكَ لم تسهرِ
ومنها:
فيا عَبْلَةَ الساقِ لا أَشتكي ... إليك سوى وجديَ العَنْتَري
ثم ظفرت بكتاب الزهر الباسم من أوصاف أبي القاسم، وهو بعض القواد بجزية صقلية فاطلعت فيه وأطلعت في فلك الخريدة نجوم معانيه. فأول ما بدأ فيه بوصف الكتاب، كلامٌ أصفى ديمةً من در السحاب، وأوفى قيمةً من در السخاب. فمن ذلك: هذا كتابٌ نظمت فريده في عقد الكرم، وجلوت فرنده في عضب الهمم، واستخلصت بنار الطبع تبره، وشحذت من لسن الذهن نبره، وأنبت في روض الشرف أزاهره؛ وأثبت في سماء العز زواهره، ووسمت عواتق المجد بحمائله، ورقمت دمائث الحمد بخمائله، ناضرة مشرقة اللألاء، بل مشرفة الآلاء. وهذا السيد الأيد وإن عظم سوره، وكبر صوره؛ وشرف نسبه، وظرف نصبه، واجتلى من مجالس الفضل، ومغارس النبل منتدى صدور إيوانها، ومبتدأ سطور ديوانها، فإن مثلي وإياه كراعي سنين عجاف، وداعي مسبتين لا يجاف، طواه إدقاع، وأجراه صفصف قاع، فاحتل بوهد، رهين جهد، ما له بالسحاب وأذيال السحاب من عهد، قد لفته النكباء في شملتها، وأتلفته بتفصيلها وجملتها؛ فلما يبست مراتعه، ويئست مطامعه، أتت أكيلة ليثٍ فسامها، وعنت مخيلة غيثٍ فشامها، وأصاخ ليستمع أين موقعه، وينتجع ما ينفعه، وإذا هو نبتٌن في رمل خبتٍ، قد أرضعته بدرها الأمطار، ورصعته بدرها الأزهار، واندفقت أنهاره، وسجعت أطياره، بما خرق له مخارقٌ جيب الإبداع وانحط به ابن جامعٍ عن درجة الإجماع، فوقع اختياره بما أداه إليه اختباره، على شجرةٍ أصلها في الماء، وفرعها في السماء:
يَصيفُ إلى مُرتقىً مُنْتَقَى ... ويُشْتي إلى مُجْتَلىً مُجْتَنَى
وتأتي على حالتيْ سَوْمها ... لذا بالمَنُونِ وذا بالمُنَى
وهو أيده الله تلك النخلة ذات الظل المديد، والثمر الجديد، من الطلع النضيد، وأنا ذلك الراعي الذي هجر ملأه ووجد كلأه. وسائر الكرام وإن كانوا كنبقة في تلك الحديقة الأنيقة، ففي كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار.
ومنها: والعصر، إن في المصر ملكاً استملك رق المدح، واستهلك المحن بالمنح، نقل الدهر إلى نقش خاتمه، وجعل موطىء كعبه همة كعبه وباهى بنهضة من عمره نهضات عمره، وكن نقى مثار عثيره، ممن يصول كعنتره، وكم استبله في باسه ممن يضحك بإياسه. فما زال مرتع آمالي في ذراه خصيباً، وسهم مطالبي في ثغر النجاح مصيباً، وأماني لا تجد لابن ليلى دونه في بيت نصيب نصيباً.
وإنما لقيت من وعثاء السفر، ولقاء الخطر، وابتغاء الظفر، قبل حلولي بهذه الحضرة النضرة حضرة القائد أبي القاسم الأجل الذي إن ألبس قلمه المداد، عري من الفصاحة قس إياد، وأنطق طرسه الرسائل، أخرس عن الخطابة سحبان وائل. يلزم لديه ابن العميد سمت العبيد، ويغدو عليه عبد الحميد غير حميد، ويقول له الصاحب أنا عبد لا صاحب، ونهاية الصابىء أنه بألفاظه صابىء؛ حتى لو انقلب الديوان ديوان شعر، والقرطي أقراط شذر، لكان هو المقرط المعلى والمقرظ المحلى ما أوجب ذاك الشكو الذي دخل بهذا الشك، وجاء بهذا الشكر. فالحمد لله حمداً تقصر الألفاظ عن حصر معانيه، ويعيي النية منتهاه عن قدر وسعها فتعانيه، وصلى الله على محمد وآله ما خفق آل، وحقق الآمال في هذا الحساب مال ومآل.
ومنها في وصف البحر إني لما تسنمت الأمواج في ذات الألواح، وتنسمت الإزعاج من ذات الأرواح، قلت السلامة إما ميلاد ومعاد، أو يوم معاد، وعجبت من حالي، في حلي وترحالي، فتشوقت الوطن والوطر، وكلفت الخاطر وصف ذلك الخطر، فقال:
لو لم يحرَّم على الأيام إِنجادي ... ما واصلتْ بين إِتهامي وإِنجادي
طوراً أسيرُ مع الحياتن في لجج ... وتارةً في الفيافي بين آساد
إما بطائرةٍ في ذا ورازمةٍ ... أو في قتادٍ على هذا وأَقْتاد
والناس كُثْرٌ ولكنْ لا يقدَّرُ لي ... إلا مرافقةُ الملاَّحِ والحادي

هذا وَلَيْتَ طريقَيْ ما رُميتُ به ... مسلوكتان لرُوَّاد ووُرَّاد
وما أسيرُ إلى رومٍ ولا عربٍ ... لكنْ لريحٍ وإِبراقٍ وإِرعاد
أقلعتُ والبحرُ قد لانت شكائمه ... جداً وأقلعَ عن موجٍ وإزباد
فعَادَ لا عادَ ذا ريحٍ مُدَمِّرةٍ ... كأنها أختُ تلك الريح في عاد
ولا أقولُ أَبى لي أن أفارقكم ... فحيثما سرتُ يلقاني بمرصاد
وقد رأيتُ به الأَشراطَ قائمةً ... لأن أمواجه تجري بأطواد
تعلو فلولا كتابُ اللّه صحَّ لنا ... أن السمواتِ منها ذاتُ أَعماد
ونحن في منزلٍ يَسْري بساكنه ... فاسمعْ حديثَ مقيمٍ بيتُه غادِي
ومنها:
لا يستقرُّ لنا جنبٌ بمضجعه ... كأن حالاتنا حالاتُ عُبَّاد
فكم يُعَفَّر خَدٌّ غر مَنْعَفِرٍ ... وكم يخرُّ جبين غير سَجَّادِ
حتى كأنا وكف النَّوْء تُقْلقنا ... دراهمٌ قَلْبَتْها كفُّ نَقَّاد
وإنما نحنُ في أَحشاءِ جاريةٍ ... كأنما حَمَلت منَّا بأولاد
ومنها:
يا إِخوتي ولنا من ودِّنَا نَسَبٌ ... على تباين آباءٍ وأجداد
نقرا حروفَ التهجِّي عن أَواخرها ... ونحنُ نخبطُ منها في أَبي جاد
ولا تلاوةَ إلا ما نكرره ... من مبتدا النحلِ أَو من منتهى صاد
متى تُنَوِّرُ آفاقُ المنارة لي ... بكوكبٍ في ظلام الليل وقَّاد
وأَلْحَظُ المُشرِفاتِ البيضُ مشرقةً ... كالبيضِ مشرفةً في عامِ أنجاد
وأستجدُّ من الباب القديم هَوىً ... عن الكنيسة فيه جلُّ إِسنادي
بحيث أَنْشُدُ آثاراً وأُنْشِدُهَا ... فيُبْلغ العذْر نشداني وإنشادي
القصرُ فالنخلُ فالجمَّاءُ بينهما ... فالأثلُ فالقصباتُ الخضرُ في الوادي
متى أروحُ وأغدو في معاهدها ... كما عهدتُ سماها الرائحَ الغادي
متى تقرُّ ديارُ الظاعنين بهمْ ... والبينُ يطلبهمْ بالماءِ والزاد
ومن النثر في وصف المركب وأهله: ثم إن البحر تخبطه شيطان الموج من مسر الريح، فلو رأيته وقد شاب في عنفوان شبابه، وشابه فروع الأطواد بأصول هضابه، والحنية تدوي بأهلها، كالخلية بنحلها، ونحن نصلي لمؤنس يونس وعلى لوح نوح، لاسترشدت رأي من آثر الجبل في العصمة وما لحقت بأبيه لولا وحي الله عز وجل ولقلت الصخر، يقي أنى حضر. هل غنى لمجنوبته عليه إلا المنية ولم يزل يدنو كالمجنون، ونداريه من الجنون، حتى كسته الرخاء ثوب وقارها، وأمسكت الزعزع عنه كاس عقارها، فصح وصحا بعد جنونه وسكره، ونطق منا بلسان المجاز بالحقيقة بعد المجاز، فوصلنا طرف الجزيرة بمسين غرة شعبان سنة ثلاث وستين وخمسمائة.
بلدٌ أعارته الحمامةُ طوقها ... وكساهُ حُلَّةَ ريشه الطاووسُ
فكأنما الأنهارُ منه سلافةٌ ... وكأَن ساحاتِ الديارِ كؤوسُ
ومن شعره في الزهر الباسم قصيدة مطلعها:
رافقها مطربُ الأَغاريدِ ... فاسْتَرَقَتْ هِزَّةَ الأماليدِ
ودَبَّ خمرُ السُّرى بأذرعها ... فَهْي على البيدِ في عرابيد
وغادرتْها الصبا بمهلكةٍ ... تفجِّرُ الماءَ في الجلاميد
تحملُ على روضِ عالجٍ خبراً ... تسنده عن ظبائه الغيد
أجرى عليه السحابُ دمع شَجٍ ... ومزَّقَ البرقُ جَيْبَ مَعْمود
فأغرق الريحَ بين أربعها ... موجُ وجيفٍ ببحر توحيد
ومنها:
في ذمة الشوق مهجةٌ ركضتْ ... تتبعُ زُوراً من المواعيد
أَهْدَوْا إليها الخيالَ إِذ كَحَلُوا ... جفونَ أحداقِها بتسهيد
وانعطفوا للأَراكِ وَهْيَ عَلَى ... عهدٍ من البانِ غيرِ معهود
عذرٌ يهزُّ الجفاءُ دوحتَه ... تحت صَدوح الملالِ غِرِّيد

وناصحٍ يمحض المودةَ لي ... وليس في نصحه بمودود
ظنَّ فؤادي مع فأَنبَهَهُ ... وَهْوَ من الوجدِ غيرُ موجود
سار وجيشُ الغرامِ يتبعه ... تحت لواءٍ عليه معقود
ومنها:
عَرَّجَ عنها الصباحُ منطلقاً ... وغادرَ الليلَ رهنَ تقييد
لا يعرف الثعلبُ المقيم بها ... لولا الثريا مكانَ عنقود
من عُلِّقَ البيضَ صارمَتْ يَدَهُ ... حبالُ تلك الغدائر السود
وَعِمَّةُ الشيبِ لا خُدِعْتَ بها ... أَخلقُ شيءٍ أوانَ تجديد
واللهوُ خدنُ الصبا فَمُذْ فُقِدَتْ ... أَيامُهُ لم يكنْ بمحمود
وأَغبنُ الناس من أَلَمَّ به ... فَقْدُ سوادٍ وفوْتُ تسويد
وفى بني الدهر كلُّ مُعْضِلَةٍ ... من الذي فات والمواجيد
إن أَسكروني بخمر لومهمُ ... فقد رَموا عِرْضَهمْ لعربيد
ومُوعِدٍ صاح بي فقلتُ له ... ربَّ وعيدٍ يَطيحُ في البيد
قد أقسم الحمدُ لا يسيرُ إلى ... غيرِ أبي القاسم بن حَمُّودِ
في يده للنوالِ معركةٌ ... أَرَى بها البخلَ صارِمَ الجيد
وعنده للضيوفِ نارُ قِرىً ... تعرفها البُزْلُ كلما يُودي
ومنها:
وتلتقي كُتْبُه الكتائبَ في ... جيشٍ من الخطِّ صائدِ الصيد
بكلِّ لفظٍ كأنه نَفَسٌ ... غيرُ مُمِلٍ بطولِ ترديد
صحَّتْ معانيه فاقتسمنَ إلى ... فضلِ ابتكار وحسن توليد
وربما استضحك الخميسُ به ... عن أَهرت الماضغين صنديد
يهوى قَوامَ القناة ذا هَيف ... ووجنةَ العَضْب ذات توريد
ومنها:
دوحةُ مجدٍ تميدُ ناضرةً ... لمحسناتٍ بحسنِ تجديد
عرضتُ منها لنار تجربتي ... عوداً ففاحت روائحُ العود
ومن قصيدته الموردة الثانية كلمة مطلعها:
نَعَمْ هُوَ البرقُ على الأَنعُمِ ... فاشقَ به إن شئت أَو فانْعِم
لاح بأعلى هضبة خافقاً ... خَفْقَ لواءِ البطل المُعْلَمِ
وزلَّ عن صَهْوَةِ طِرْفِ الدجى ... سقطةَ جُلِّ الفَرَسِ الأَدْهَم
حتى إذا قابلَ وادي الغَضا ... أَغضى على مدمعه المثجم
واستقبلَ السفحَ وكم فوقه ... من مقلةٍ سافحةٍ بالدمِ
فحينما شقَّ كنوز الربى ... عن ذلك الدينار والدرهم
قام نساءُ الحي يَجنِينَهُ ... بين فرادى منه أو توأمِ
فأشكل النُّوران من مَبْسِمٍ ... تَعْبَق رَيَّاه ومن مَنْسِم
واشتبه الروضان في نضرة ... إلى حياءٍ وحَياً ينتمي
ما بين جناتٍ إلى أعينٍ ... وبين خيْرِيٍ إلى حَيْرَم
ومعركٍ بينهما لم يزلْ ... يفتكُ فيه الظُبى بالضيغم
بين حِمىً بات كليبٌ به ... مجرَّداً من شملهِ المحتمي
يمنعُ ضيفَ العين منه القِرَى ... وهو مباحُ ليَدٍ أو فم
يا عاقري النيبِ لضيفانهم ... غلطتمُ في كبدِ المغرم
أتلفتمُ قلبي فماذا الذي ... خفَّفَ عنكمْ ثِقَلَ المَغْرَم
كم من دمٍ باتَ به حيُّكم ... كأنه ملتقط العندم
وكم عيونٍ أصبحت عندكم ... معدودةً من جملة الأسهم
لا طَرَقَتْ ربعَكُمُ غارةٌ ... يَسْأَلُ فيها معشري عن دمي
ولا سرتْ نحوكمُ أُسْرةٌ ... تأْسِرُ بالداهيةِ الصيلم
من كل من تصدُرُ أسيافُهُ ... بضربةٍ مثل دم الأهتم
يقول إِن جرَّ كعوبَ القنا ... تأَبَّطَ الضيغمُ بالأرقم
لو لم تكنْ من فَتَكاتِ الهوى ... شَقَّتْ على الحافرِ والمنْسم

ما هذه أَوَّل ما ردَّني ... عنه بلا أَجرٍ ولا مغنم
فخلِّ عن عتبك لي إِنها ... شِنْشِنَةٌ تُعْرَفُ من أَخْزَم
أقسمتُ باللّه ولولا عُلا ... مجدِ أبي القاسم لم أُقْسم
إن ابنَ حمَّودٍ له راحةٌ ... تستجلب الحمدَ من المِرزَمِ
المجمِلُ المنعمُ إن حُبِّرَتْ ... مدائحٌ في المجمل المنعم
والكعبةُ الغراء لكنها ... تُحِلُّ ما يَحْرُمُ للمحرم
في كل يومٍ لوفود الندى ... ببابه مُجْتَمَعُ الموسم
للمالِ من راحته عندهم ... أضعافُ ما للماء من زمزم
يفيض بحرُ الجود من كفِّهِ ... فَيَزْدَرِي بالزاخر الخِضْرِمِ
سائِلْهُ أَو سَلْهُ تجد عندهُ ... هُدَى جهولٍ وغِنَى مُعْدِم
ومنها:
ولو أَعارَ الليلَ آراءَه ... ما احتاج ساريه إِلى الأَنْجم
فضائلٌ كادتْ لإِفراطِها ... تُنْطِقُ بالشكرِ فمَ الأبكم
ما بدأَ الإحسانَ فاحتاج أَن ... يقول راجيه لهُ تَمِّم
يا من يجاريه إلى غايةٍ ... سالِمْهُ وارْجعْ دونَه تَسْلَم
لا يرتقي للنجم ذو سُلَّمٍ ... فكيف من كانَ بلا سلم
يا سيداً أَفعالُهُ غُرَّةٌ ... فوق جبينِ الزمن الأَدهم
صُمْ وافرَ الأَجْرِ وصِمْ حاسداً ... يشجوه قولي لك صُمْ أو صِم
وابقَ وزدْ واعلُ وسُدْ واصطنعْ ... واردفْ وجُدْ وابدأْ وعِدْ واسْلَمِ
وله من قصيدة:
زَهَرْنَ فاعجب لروضٍ ما له زَهَرُ ... إلا المباسمُ والألحاظُ والطرَرُ
ولا تقلْ لهبُ الوجْناتِ يَحْرِقُهَا ... فللعذارِ على أَرجائها نَهَرُ
أَحْسِنْ غُرَراً قالت محاسنها ... بالنفسِ يُحْمدُ في أَمثاليَ الغَرَرُ
سفرْنَ والليلُ طِرفٌ أدهمٌ فَجَرَتْ ... فيه الحجولُ من الأَنوارِ والغُرَرُ
وقُمْنَ يَحْمِلْنَ في الأَجفانِ مرهفةً ... لو كانت البيضَ قلنا إنها البُتُرُ
وكان من فعلها بالسحرِ أَنْ فعلتْ ... على العِشَاءِ بما يأتي به السَّحَر
فما ارتقبتُ الدراري إذ سهرت لها ... إلا كأصدافِ يَمٍ حشوُهَا دُرَر
ولا اجتليتُ بدورَ الأفق عن كَلَفٍ ... إلا بمن أُتْلِفَتْ في صَوْنِهِ البِدَرُ
وفي الحشا والحشايا صبوةٌ كَبرتْ ... فزادها عنفواناً ذلك الكبر
توري زنادَ اشتياقٍ ما استطارَ به ... لي من مشيبيَ بل من أَدمعي شَرَر
وفي فؤاديَ لا فَوْدِي قتيرُ هوىً ... لم يُخْفِهِ الشَّعْرُ إن لم يبده الشَّعَر
ومنها:
أنا المحبُّ وما بي من يقالُ له ... أَولى لك العذلُ لا أَولى لك العُذُر
إن قلتُ ماسَ فما قصدي به غُصُنٌ ... أو استنارَ فما قصدي به قَمَرُ
المالُ عند ذوي الإِقْتارِ مُحْتَقَبٌ ... والمالُ عند ذوي الأَقْدَارِ محتقر
فإن عدمتُ الذي صاروا به عُدُماً ... فما افتقرتُ وعندي هذه الفِقَرُ
ولم أُقَلْقِلْ ركابي أَنْ نأى وطَنٌ ... ولا أطلتُ اغترابي أن نبا وطر
لكن بنو الْحَجَر استدعت مكارِمُهُمْ ... عَزْمي وقد كاد يُسْتَدعَى بها الْحَجَر
نادى لسانُ الندى منهم فأسمعني ... فقمتُ أعبر بحراً كله عِبَر
ومنها:
ترى المواخرَ تجري في زواخرِهِ ... فترتقي في أَعاليه وتَنْحَدِرُ
من كل سوداءَ مثلِ الخال يحملها ... بوجنةٍ منه فيها للضحى خَفَرُ
لذاك جادوا نَدىً فيه أَجَدْتَ بنا ... فليس يُعْرَفُ لا حَصْرٌ ولا حَصَرُ
ومنها:
والشعرُ منه قصيرٌ عمره زَهَرٌ ... يَذْوي ومنه طويلٌ عمره زُهُرُ

وكالمواعظِ سهلٌ صَوْغُها زُبُرٌ ... وكالحديدِ ثَقيلٌ وزنه زُبَرُ
أو كالعيونِ فهذي حظُّها حَوَلٌ ... يَغُضُّ منها وهذي حظُّها حَوَرُ
ومنها:
للّه درُّ حَياءٍ حزته وحِباً ... كأَنك العَضْبُ منه الأَثْرُ والأَثَر
وفي يمينك يجري كيف تأمره ... ما يحسد الذكر عنه الصارمُ الذَّكَر
ومنها:
أنالني في اغترابي كلَّ مُغْربة ... فما النفيرُ بمعدومٍ ولا النَّفَر
وشد أَزري فما أَحْفَى بنائبةٍ ... تقولُ أبياتها هيهات لا وَزَرُ
من بعد ما قَرَعَتْني كلُّ قارعة ... أَيامها الحمرُ من أَعيانها الحُمُرُ
وبت أضب بالأشعارِ طائفةً ... لو أَنهمْ ضُربوا بالسيف ما شعروا
إذا نحتُّ القوافي من مقاطعها ... قالوا تكلفْ لنا أَنْ يَفْهمَ البَقَرُ
وقال من قصيدة يصف فيها البحر وركوبه وقصده أيام وفوده:
سَفَرَتْ عنكَ أَوجُه الأَسْفَارِ ... وجَرَتْ بالمنى إليك الجواري
فرفعنا لكَ الكواكب يا بد ... رَ الدياجي على الهلالِ الساري
وركبنا على عَذَاب بحارٍ ... أنزلتنا على عِذَابِ بحار
واعتسافُ الأخطار يجْمُلُ ما كا ... ن طريقاً إلى ذوي الأخطار
ما امتطينا أخت السحائب إِلا ... لتوافي بنا أخا الأمطار
كل نونٍ من المراكب فيها ... أَلِفَاتٌ مصفوفة للصواري
تَقْسِمُ الماء والهواءَ لساقٍ ... وجناحٍ من عائمٍ طيار
وهي ضِدَّانِ من جوانح ليلٍ ... قد أُقيمَتْ ومن جناحَيْ نهار
صُوِّرت كالفيولِ لولا قلوعٌ ... أبرزتها في صورةِ الأطيار
عَوَّضَتْنَا الأوطانَ عندك والأو ... طارَ بعد الأَوطانِ والأَوطار
فاستحقَّتْ بأن تُعَوَّضَ عوداً ... بعد عُود وعنبراً من نار
ومنها:
وأياديك إنهنَّ ثمارٌ ... حَمَلَتْهَا معاطفُ الأحرار
ومساعيك إنهنَّ نجومٌ ... مشرقاتٌ على سماء الفخار
أَنْتَ في الفضل في بني الحجر السا ... دةِ مثلُ الياقوتِ في الأحجار
ومنها في القلم:
وبيمناك طَيْرُ يُ نٍ وسَعْدٍ ... أصفرُ الظهر أَسودُ المنقار
قلمٌ دبَّرَ الأقاليم فالكتْ ... بُ به من كتائب المقدار
يا طرازَ الديوان والملكِ أصبح ... تَ طرازَ الديوان في الأشعار
وبنوكَ الذين مهما دجا الخط ... بُ أَرَوْنَا مطالعَ الأقمار
فأبو بكرٍ الذي أحرز المجدَ ... بسعي الرَّواحِ والإبْتِكَار
وتلاه فيما تلاه أخوه ... عُمَرٌ عاش أَطولَ الأعمار
ولعثمانَ حظُّ عثمانَ إلا ... في الذي دار من حديث الدار
ومنها:
وإذا شئت فالمجرَّةُ بَحْرٌ ... ليَ فيه بناتُ نعشٍ سَمارِي
وبكفِّي من النجومِ كثيرٌ ... هُوَ مَا قَدْ وهبتَ من دينار
ومن نثره فيه: ولما أذن لشوالٍ في أن تشال الكؤوس، ويوضع في طاعة الخمر بالرءوس، خلعنا عن سوالف الخلاعة عذار العذل، وركبنا خيل الفتك والمجون على أرض الجذل، وقلبنا لبطن العفة ظهر المجن، وسرنا نبعج تحت عجاج النذر وداج الدن.
وله في وصف بركة:
بركةٌ بوركتْ فنحنُ لديها ... نَسْتَفِيدُ الغِمارَ في ضخضاحِ
قطرتْ من قرارها بعيونٍ ... غادرتْنا بأسرع الإلتماحِ
تسرق اللحظة اختلاساً وتمضي ... نظرةَ الصبِّ خافَ إنكارَ لاحِ
قد صَفَتْ واعتلى الحَبَابُ عليها ... فَهْيَ سيان مَعْ كؤوسِ الراحِ
أيُّ درعٍ مصونةِ النسجِ تمتد ... السواقي فيها بمثل الصفاح
ومنها:
ومغنٍ تناولتْ يدهُ العو ... دَ فعادت بنا إلى الأفراح

جَسَّ أوتارَهُ فأصلح منَّا ... صالحاً صارَ في يدِ الإصلاح
بين ريحٍ من المزامير أَسْرَى ... بين أَجسامنا من الأرواح
وصِبَاحٍ قد عقَدُوا طُرُزَ الليل ... جمالاً على الوجوه الصِّبَاح
يبعثُ الروضُ منهمُ حركاتٍ ... سَرَقَتْ بعضها طوالُ الرماح
هكذا هكذا وإلا فلا لا ... طُرُقُ الجِدِّ غيرُ طُرْقِ المِزاح
وله في وصف مغن:
لا أَشربُ الراحَ إلاَّ ... ما بين شادٍ وشادنْ
وإن فَنِيتُ فعندي ... إلى مَعَادٍ مَعَادنْ
قمْ يا نديمي فأَنْصِتْ ... والليلُ داجٍ لداجن
غنَّى وناح فَنَزَّعْ ... تُ ثوبَ خاشٍ مُخَاشِنْ
طاوِعْ على القصفِ والعزْ ... فِ كلَّ حاسٍ مُحَاسِن
وانهض بطيشك عن سَمْ ... تِ ذي وقارٍ وَقَارِنْ
هاتِ الكميتَ وأهلاً ... منها بصافٍ وصافن
أَثورُ من ذي ومن ذا ... بكل غابٍ بغابن
وإن رمتني الليالي ... يوماً بداهٍ أُدَاهِن
وله في ذم زامر:
تعبتَ وما أَتيتَ لنا بشيءٍ ... فكيف تكون ساعةَ تَسْتَرِيحُ
فلا تُكْثِرْ علينا في مُحَالٍ ... بِزَمْرِكَ، صَحَّ أَن الزمرَ ريح
وله:
ينافرُ إيقاعُهُ صوتَهُ ... فهذا يزيدُ وذا ينقصُ
ويتبعه زامرٌ مثلُهُ ... تبيعٌ له نَفَسٌ أَوْقَص
فإن قامَ ما بيننا راقصاً ... فكلٌّ إِلى بيتهِ يرقص
وله في مغن:
تَثَنَّى فلا مَيْسَ الغصونِ ولينها ... ورجَّعَ أصواتاً فلا تَذْكُرِ الوُرْقَا
وأَعجبُ إذ تحتثُّ يمناهُ طارةً ... فتسمعها رعداً وتبصرها برقَا
له القصيدة السيارة التي مطلعها:
ألْحِقْ بنفسجَ فجري وَرْدَتَيْ شَفَقي ... كافورة الصبح فتَّتْ مسكةَ الغَسَقِ
قد عُطِّلَ الحسنُ من أسمار أَنجمه ... فاعقدْ بخمرك فينا حِلْيَةَ الأُفُقِ
قم هاتِ جامك شمساً عند مصطبح ... وخلِّ كاسكَ نجماً عند مغتبق
واقسمْ لكل زمان ما يليقُ به ... فإن للزَّنْد حلياً ليس للعنق
هبَّ النسيمُ وهبَّ الريمُ فاشتركا ... في نكهةٍ من نسيم الروضة العَبِق
واستَرْقَصَتْنِيَ كاستِرْقاصِ حاملها ... فخضْرَةُ الوُرْقِ في مخضرَّة الوَرَقِ
وبتُّ بالكأس أَغْنَى الناسِ كلِّهِم ... فالخمرُ من عسجدٍ والماءُ من وَرق
كم وَرَّدَت وجنات الصِّرفِ في قَدَحٍ ... فتحْت بالمزج ما تعلوه من حدق
يسعى بها رشأٌ عيناه مذ رمقت ... لم يُبْقِ فيَّ ولا فيها سوى الرمق
حبابُها وأحاديثي ومبسِمُه ... ثلاثةٌ كلها من لؤلؤٍ نَسَق
حتى إذا أخذتْ مني بسَوْرتها ... ما يأخذُ النوم من أجفان ذي أرق
ركبتُ فيه بحاراً من عجائبها ... أَنِّى سلمتُ ولم أشعُر من الغرق
ولم أزل في ارتشافي منه ريقَ فمٍ ... أَطفَأْتُ في بَرْده مَشْبوبةَ الحُرَق
يا ساكنَ القلب عما قد رميت به ... من ساكني الجزع مَعْ ما فيه من قلق
لا تعجبنَّ لكل الجسم كيف مضى ... وإِنما اعجب لبعض الجسم كيف بقي
لم أَسترِق بمنامي وصلَ طيفهمُ ... فما له صار مقطوعاً على السَّرَق
من شعر أبي محمد بن سنان الخفاجي حيث يقول:
إِذا سكنتمْ فقلبي دائمُ القلق ... وإن رقدتمْ فطرفي دائمُ الأَرَق
سرقتُ بالنوم وصلاً من خيالكمُ ... فصار نوْمِيَ مقطوعاً على السَّرَق
ومن قصيدة ابن قلاقس:
في الهندما قيل أسيافُ الحديدِ ولو ... لا هندُ ما قيلَ أسيافٌ من الحَدَقِ

وبتُّ بالجزع في آثارهم جَزِعاً ... إن جُرِّدَ البرقُ إيماضاً على البُرَق
في نارِ وجديَ معنىً من تلهبه ... وفي فؤاديَ ما فيه من الوَلَق
وله من قصيدة في مدح وزير صاحب صقلية:
جرت خيلُ النسيمِ على الغديرِ ... ورُدَّت تحت قسطلة العَبيرِ
وعبَّ الصبحُ في كأس الثريا ... وكان براحةِ القمرِ المنير
وقام على جبين الشمس يهفو ... كما يهفو اللواءُ على أمير
ودارَ بهِ على يده فكانت ... كطَوْق الجام في كفِّ المدير
ومَجَّتْ في زجاج الماء لوناً ... هيَ انتزعته من حَلَب العصير
فقمنا نستقيم إلى قلوبٍ ... تناجَتْ تحت أستار الصدور
نُحَقِّقُ بالمنى عِدَةَ الأماني ... ونملأُ بالرضى حُبُّ السرور
إلى أن غادَرَتنا الكأسُ صرعى ... نفرُّ من الكبير إلى الصغير
ومنها:
وجرَّدنا المدائح فاستقرتْ ... على أوصاف جُرْدَنَّا الوزيرِ
فنظَّمْنا المفاخرَ كاللآلي ... وحلَّينا المعاليَ كالنحور
وقمنا في سماءِ العز نرعى ... جبين الشمس في اليوم المطير
وأعجبُ ما جرى أنَّا أَمِنَّا ... ونحن بجانب الليثِ الهَصُور
وأَرسلنا من الأقداح ريحاً ... نهزُّ بها المعاطفَ من ثَبِير
وقلدناهُ دُرّاً جاء منه ... كذاك الدُّرُّ جاء من البحور
ومنها:
لهيبُ صواعقِ العَزَماتِ منه ... يكادُ يذيبُ أفئدةَ الصخور
وماءُ مكارم الأخلاقِ منه ... يكادُ يردُّ صاعدةَ الزفير
وأغراسُ الأماني في يديهِ ... تهزُّ معاطفَ الدَّوْحِ النضير

الشيخ أبو الحسن علي بن أبي الفتح
بن خلف الأموي
لا شك أنه من ساكني صقلية فإن ابن قلاقس أورده في الزهر الباسم، وقال: هو حدقة العلم الناظرة، وحديقة الأدب الناضرة. وإنما ذكرته أنا في أهل مصر حيث اقتضاه هذا الموضع للمكاتبات التي جرت بينه وبين ابن قلاقس. قال: كتب لي أبو الحسن علي بن خلف الأموي رقعة أنفذها لما أردت الرحيل عن صقلية:
يا ماجداً طَبْعُه أَحلى من الماذِي ... ومن يفوقُ ذكاءً أهلَ بغداذ
وَهِمْتُ في رُقْعَةٍ سيَّرْتُها عجِلاً ... إليك ما بين تلميذٍ وأُستاذ
فابسُطْ ليَ العُذْرَ واعلم أنني قَلِقٌ ... ذو خاطرٍ لنواكم آلِمٌ هاذي
قال: فأجبت، ولو أطعت الخجل لاحتجبت:
هذي المحاسنُ قد أُوتيتَها هذي ... فكلُّ شخصٍ تعاطى شأوَها هاذي
أقسمتُ بالنحل إنَّ النحل قائلةٌ ... ما ذي الحلاوةُ مما يُحْسِنُ الماذي
أنفذتَ شعراً فأنفَدْتَ القوى فجرى ... شكوٌ وشكرٌ لإنفادٍ وإنفاذ
وقمتَ لي من جفاءٍ من صَقَلِّيَةٍ ... بلطفِ مصرَ عليهِ ظَرْفُ بَغداذ
إن كان طبعُك من ماءٍ ورقَّته ... فإن ذاك فِرِنْدٌ بينَ فُولاذِ
وما وهمتُ وفي التلميذ معرفتي ... حقّاً لأنك معروفٌ بأُستاذي
اللّه يعلمُ لولا أنتَ ما جُعِلَتْ ... يدي على كبدٍ للبين أَفلاذِ
قال: وفاض بحر آدابه فيضاًن فكتب إلي أيضاً:
أيا شمسَ الجلالِ على اقتصادِ ... ويا بدر الكمال لدى اتِّقادِ
ويا من بذَّ في الأشعار مَن قد ... أَبادَ الدهرُ مِن أزمانِ عادِ
لقد أصبحتَ لي خلاً صَفِيّاً ... وحبُّك قد تمكَّن في فؤادي
ومنها:
يعزُّ عليّ أن تنأَى وأَبقى ... فريداً مستهاماً للبعاد
وإن حكَمَتْ بفرقتنا الليالي ... وقِدْماً فرَّقضتْ أهلَ الوداد
فودِّي ثابتٌ أبداً مقيمٌ ... على مرّ الليالي في ازدياد
ولولا طِيرَةٌ للبين تُخْشَى ... لبستُ لذاك أثوابَ الحداد
قال: فأجبت، وليتني أنجبت:

هو النادي وأنت به أُنادي ... فيا مُرْوي الحَيَا مُورِي الزناد
لسانُكَ أمْ سنانُك دارَ فيما ... أَراه من الجدالِ أو الجلاد
تُبرِّزُ في اضطلاع واطلاع ... وتَبْرُزُ في انتقادٍ واتِّقاد
وكم لك في الفصاحة من أَيادٍ ... مَلَكْت بها الفخار على الإيادي
ومنها:
مِنَ الشعراء قلبي منك أضحى ... يهيمُ صبابةً في كل واد
تَخِذْتُكَ من صَقَلِّيَةٍ خليلاً ... فكنتَ الوَرْدَ يُقْطَفُ من قَتَاد
وَشِمْتُكَ بين أَهليها صَفِيّاً ... فكنت الجمرَ يُقْبَسُ من زِناد
فإن وَسِعَتْكَ حيزومٌ وإلاّ ... فما ضاقت حيازيمُ البلاد
فديتك كلنا فيها غريبٌ ... وذا نسَبٌ يضاف إلى الوداد
مُرَادي أن أراك ولست أشدو ... عذيرَكَ من خليلِكَ من مُرَاد
ومنها:
وإني عنك بعد غدٍ لغَادٍ ... وقلبي عن فِنائكَ غيرُ غاد
فأبعدُ بعدنا بُعْدُ التداني ... وأقربُ قربنا قربُ البعاد
وذكر غير هذا مما كتبه والجواب عنه.

ابن المنجم
نشو الدولة علي بن مفرج المنجم
سمعت القاضي أبا القاسم حمزة بن عثمان سنة إحدى وسبعين بدمشق، وقد وفد إليها بمهمة، يقول: بمصر شاب مبرز في الشعر مجيد وقد وخطه الشيب، وانتفى عن أدبه العيب، وله بديهة مليحة، وفكرة صحيحة، وذكاء وقريحة، وإنما أفسد حاله أنه ضمن الصابون والملاهي، وارتكب في عسف الناس المناهي، فاستغاثوا منه واستعدوا عليه، وامتدت ألسنتهم فيه، فعذب بالنفي إلى عيذاب، وهذب بها الأهداب، ثم وصل إلى الشام في خدمة الملك المعظم تورانشاه ابن أيوب من اليمن فلقيته، واستنشدته من شعره فأنشدني كثيراً منه، وعرفني أن القصيدة العينية التي كتب بها شمس الدولة من تيماء منصرفه من اليمن إلى أخيه الملك الناصر بدمشق هي له.
وتسايرنا في طريق مصر فأنشدني لنفسه من قصيدتين بيتين في الخضاب، وهما:
وما خضب الناسُ البياض لقبحهِ ... فأقبحُ منه حين يظهر ناصِلُهْ
ولكنما مات الشبابُ فسُخِّمَتْ ... على الرسم من حُزْنٍ عليه مَنازِلُهْ
وأما العينية التي كتبها عن شمس الدولة إلى أخيه فهي:
ولما تمادتْ مُدَّةُ البين بيننا ... ونازعني قلبٌ إلى الشام نازعُ
ركبت اشتياقاً مُوضِعاً حين شاقني ... هوى ساكنيها لم تَسَعْني المواضع
فهل لأخي بل مالكي علم أنني ... إليه وإن طالَ التردُّدُ راجع
وإني بيومٍ واحدٍ من لقائه ... لمُلْكي على عُظم البريَّةِ بائع
ركبتُ إليه الليلَ وهْو غياهبٌ ... وجُبْتُ إليه الأرضَ وهْيَ بلاقع
ولبَّيته لما دعاني مسارعاً ... بنفسي ومالي والمشوقُ مسراع
فيا برقُ طالِعْهُ بأنِّيَ واصلٌ ... إليه ونجمُ القُرْبِ بالوصلِ طالع
ولم يبقَ إلاّ دون عشرين ليلةً ... وتَجْنِي المُنَى أبصارُنا والمسامع
لدى مَلِكٍ تعنو الملوكُ لبأسِهِ ... وتخشعُ إعظاماً له وهْو خاشع
ومنها:
وتضطربُ الدنيا لبثِّ جنوده ... سوى ما حواهُ مُلْكُه فَهْو وَادِعُ
الفقيه البليغ أبو عمران
موسى بن علي السخاوي
من الأعمال الغربية بمصر، وسكنه الإسكندرية. ذكره لي الأمير عز الدين محمد بن مصال في سنة سبعين وأثنى على فضائله وقرظها، وأنشدني من أشعاره التي حفظها، وذكر أنه الآن شاعر تلك المدرة، وبسماع قلائده جلاء الأفهام الصدئة وصفاء القرائح الكدرة.
فمن قصيدة له قوله:
هذي ديارهمُ وتلك نوارُ ... نأت النوى وتدانت الأوطارُ
فأَرِحْ متونَ العيسِ من دَوِّيَّةٍ ... تسري الرياحُ بأرضها فتحار
يتجشَّم المشتاقُ شمَّ ترابها ... ويضلُّ فيها الكوكبُ السَّيار
ومنها:
ولرب موحشةٍ قطعتُ ومؤنسي ... طِرْفٌ أَغَرّ وكوكبٌ غَرَّار
وذكر بعد ذلك ليلة، ووصفها إلى أن قال:

حتى استجاشَ على نَجَاشيِّ الدُّجى ... من قيصريِّ السُّدْفَةِ الإِسْفَارُ
وأتى بزي الترك يَرْفُلُ في قَبَا ... والشهبُ حول جيوبه أَزْرَارُ
ومنها:
هذا هو الخبرُ اليقينُ فإن تُرِدْ ... عِلْماً فعند جُهَيْنَةَ الأَخبارُ
وكان الممدوح قد أوقع بعرب الصعيد ومن جملتهم جهينة.
ولما وصلت إلى القاهرة سنة اثنتين وسبعين دخلت إلى القاضي الفاضل يوماً وعنده للبليغ السخاوي قصيدة قد مدحه بها في جمادى الأولى وهي جامعة للإحسان فتأملتها، وهي:
أَغْضَى وأَذْعَنَ حين عَنَّ الرَّبْرَبُ ... حتى تَصَيَّدَهُ الغزالُ الأَشْنَبُ
فطوى حشاه على جَوَى جَمْرِ الغَضَا ... مما جنى من جمرةٍ تتلهَّبُ
وصَبَا فأشْرَاه الغرامُ وذاده ... عن وِرْدِه وهو الهزبرُ الأَغْلَبُ
وصبتْ إِليه من الصبابة لوعةٌ ... تُغْرِي بكلِّ مُحَرَّبٍ لا يُغْلَبُ
وهي التي ما زال يجنى حُلْوَهَا ... من مُرِّها فعذابُها مُسْتَعْذَبُ
ويمدها من كل أَحْوَى أَحْوَرٍ ... ما منه يرتاع الكميُّ المُحْرَبُ
إِني على أَنِّي الأبيُّ فؤادُهُ ... فالرعبُ مما ليس منه يَقْرُبُ
أدنو وأشجع إذ دَنَتْ أُسْدُ الشرى ... وتعنُّ لي العِينُ الحسان فأَرْهَب
وأَميلُ من خجل إِلى وجلٍ به ... أُضْنَى فذا يكسو وهذا يَسْلُبُ
وأهابُ من أهوى فأستجدِي كما ... اسْتَجْدَى لفضلِ الفاضلِ المُسْتَصْعِبُ
المستبدُّ بكل فضلٍ فضلُهُ ... فجنابه المأمولُ أخضرُ مُخْصِبُ
والمسترقُّ حرائرَ الشِّيَمِ التي ... أبداً تُصَانُ عن الأَنام وتُحْجَبُ
مُتَحَسَّدٌ من لفظهِ وبلاغةٍ ... طَفِقَتْ بأبكار المعاني تَثْعَبُ
كالنارِ إلا أنها لا تنطفي ... والبحر إلا أنه لا يَنْضَبُ
وعليه من نورِ السكينةِ حُلَّةٌ ... وَثِقَ الزمانُ بأَنَّها لا تُسْلَبُ
يَسِمُ اليراعة بالبراعةِ وَسْمَةً ... عند الخطوب وحين يُعْرِرُ يُغْرِبُ
ويقولُ إلا أنه القولُ الذي ... أَعيا وأعجزَ فَهْوَ لا يُتَعَقَّبُ
أَضحى على سحبانَ يسحَبُ ذيلَهُ ... تيهاً وعن إعراب يَعْرُبَ يُعرِبُ
وحسامهُ القلمُ الذي لم يُمْضِهِ ... إلا وذلَّ له الحسام المِقْضَب
عارٍ وليس بمُحْرِمٍ، ومُنَطَّقٌ ... تلقاه وَهْو أصمُّ أبكمُ يَخطُبُ
يَقْرِي بريقته المنايا والمنى ... أبداً ويُرْضِي إذ يُهَزُّ ويُغْضِبُ
كالحية النضناضِ إلا أنه ... يَسْعَى فيُرْجَى حيث كانَ ويُرْهَب
وتراه يصمتُ حين يُرجى راجلاً ... أيداً وينطق راكباً إذ يَشْرَبُ
ويظلُّ ينظرُ من ظلامٍ في ضُحىً ... فكأنما لحظُ النهار الغيْهَبُ
واشٍ بمكنون الضمير وعلمُهُ ... عنه وعن فِطَنِ الأنام مُغَيَّبُ
فإذا وَشَى وشَّى المهارقَ أحرفاً ... هن الرياض أصابهن الصَّيِّب
ومنها:
وإِذا الكرام الكاتبون تصفحُّوا ... صفحاتهِ كُتِبَتْ رَضُوا ما يكْتُبُ
وتشرَّفَ الخطُّ الأَصيلُ بأنَّهُ ... يُعْزَى إِلى عبد الرحيم ويُنْسَبُ
فلذاك سالَمَهُ الزمانُ ولم يكن ... إلا على أحكامه يتقلَّبُ
وتقاصرت هممُ الرجالِ عن الذي ... لم يرضَ مركبَه وعما يَرْكَبُ
وعَنَتْ له الدنيا ودانت وهْيَ إذْ ... مَلأَتْ يَدَيْهِ بعضُ ما يَسْتَوْجِبُ
وذكرها جميعها وهي طويلة.
قال: وسمعت الملك الناصر يثني على بلاغته، وبديهته في براعته، وأنه سمي بليغاً لنثره الذي هو أحسن من شعره. وتوفي فجأة وجد ميتاً في فراشه في منزله في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين.

الصالح أبو الغارات طلائع بن رزيك
سلطان مصر في زمان الفائز وأول زمان العاضد. ملك مصر، واستولى على صاحب القصر، ونفق في زمانه النظم والنثر، واسترق بإحسانه الحمد والشكر وقرب الفضلاء، واتخذهم لنفسه جلساء، ورحل إليه ذوو الرجاء، وأفاض على الداني والقاصي بالعطاء. وله قصائد كثيرة مستحسنة أنفذها إلى الشام، يذكر فيها قيامه بنصر الإسلام. وما يصدق أحدٌ أن ذلك شعره لجودته، وإحكام مباني حكمته، وأقسام معاني بلاغته، فيقال إن المهذب بن الزبير كان ينظم له وإن الجليس بن الحباب كان يعينه؛ وله ديوان كبير، وإحسان كثير. ملك سنة تسع وأربعين، وفتك به في دهليز القصر في سنة ست وخمسين وخمسمائة بالقاهرة؛ وانكسفت شمس الفضائل الزاهرة، ورخص سعر الشعر، وانخفض علم العلم، وضاق فضاء الفضل، واتسع جاه الجهل، وانحل نظام أهل النظم، وانتثر عقد ذوي النثر، واستشعر الفاقة الشعراء، وعدم البلغة البلغاء، وعد الفضل فضولا، والعقل عقولا. وظل الفحل القارح من قريحة الحباب مقروحاً مجنوباً، وطلب المهذب مذهباً في الذهاب محبوباًن ومركباً في النجاة مجنوبا، وأضل الرشيد طريق رشده فاحترق بشرار شر شاور من بعده، وعاد ابن الصياد إلى حرفة أبيه، ونبا المقام بالنبيل النبيه، وعجل ابن رواحة الرواح، حين تأمل دفتر تأميله فلاح أن لا فلاح. وعضل المهذب بالشام أخت الكافية الكافية لما عدم كفؤها الأيد، وحص الحصكفي الكفي عدة قصائد فلم يسقها من قريته لقطر مصر البعد، وطفق فضلاء الحضرة يغيبون لحضور الناقصين، وكرب أدباء تلك المدرة يذوبون لجمود الغامضين الغامصين، وعاد السر شورى، والعيد عاشورا، والسخف منشورا، والعسف مأثورا، والقريض مقروضا، ويد الرفض مقبوضة، وعين الحمد مغضوضة، وعم رزء ابن رزيك، وملك صرف الدهر ذلك المليك، فلم تزل مصر بعده منحوسة الحظ منسوخة الجد، منكوسة الراية، معكوسة الآية، إلى أن ملكها يوسف الثاني، وجعلها مغاني المعاني، وأنشر رميمها، وعطر نسيمها، وأرج رياها، وبلج محياها، وأعلى سناها، وأحلى جناها، وأعاد ماءها، وأباد أعداءها، وافترع عذرتها، وفرع ذروتها، ونفى سودها، وعفى أسودها، وخلص فتوحها، ولخص شروحها، وتسلم قصرها، والتزم خصرها. فليفتح الصالح عينه ليعاين ملك الصلاح، ناهضاً بجناح النجاح، خافقاً في الخافقين بقوادم الإقدام، طائراً من قدام بأسه بخوافي الخوف قلب الباسل الهمام. قال: جرى لي جود الخاطر في جودا البيان، ومضمار هذا الميدان، وأخرجني من شرط الكتاب، إلى بسط هذا الباب، فلنقطع أطناب الإطناب، ولنورد ما نلقطه من الأشعار المنسوبة إليه، فمن جيده القصيدة الطائية التي كتبها إلى الأمير مؤيد الدولة في جواب قصيدة طائية كتبها إليه، ومطلعها في غاية الحسن، وهي قوله:
هي البدرُ لكنَّ الثريا لها قُرْطُ ... ومن أَنجُمِ الجوزاءِ في نَحْرِها سِمْطُ
مشتْ وعليها للغمامِ ظلائلٌ ... تُظِلُّ ومن نَسْجِ الربيع لها بُسْط
تؤم صريعاً في الرجال كأنه ... من السقم، والأيدي تقلِّبُهُ، خَطُّ
فما اخضرَّ ثوبُ الأرض إلا لأنها ... عليه إذا زارت بأقدامها تخطو
ولا طابَ نشرُ الأرض إلا لأنه ... يُجَرُّ عليه من جلابيبها مِرْط
ولا طار ذكر الظَّبْيِ إلا وقد غدا ... يصدُّ كما صَدَّتْ ويَعْطو كما تعطو
من البيضِ مثلُ الصبح ما للظلام في ... محاسنها لولا ذوائبها قِسْط
إلى العَرَبِ الأَمحاض يُعْزَى قبيلها ... وقد ضمها في الحسْنِ مَعْ يوسفٍ سِمْطُ
ولما غدت كالعاج زُيِّنَ صَدْرُها ... بحُقَّيْنِ منها قد أَجادهما الخَرْط
وأُرْسِلَ فوق الخدِّ صُدْغٌ مُكلَّلٌ ... كما أُرْسِلَتْ في الروض حَيَّاتُهُ الرُّقْطُ
ذوائبُ زان الخصرَ منهنَّ فاحمٌ ... تحدَّرَ لا جعدُ النَّباتِ ولا سَبْط
ومنها وهي طويلة:
وظلماءَ للشهب الدراري إذا سَرَتْ ... هناك مع السارين في جُنْحها خَبْطُ
كما أوَّلُ الفجرين سَقْطٌ يُسَلُّ مِن ... حشاها كذاك البرق في جوّها سَقْط

سللنا بها البيضَ السيوفَ فلاح في ... شباب الدجى لما بدا لَمْعُها وَخْطُ
سيوفٌ لها في كل دِرْعٍ وجُنَّةٍ ... إذا ما اعتلت قدٌّ أو اعترضت قَطُّ
ومنها:
وحربٌ لها الأرواح زاهقةٌ لِمَا ... تُعايِنُ والأصوات من دَهَشٍ لَغْطُ
إِذا أرسلت فرعاً من النقع فاحماً ... أثيثاً فأسنانُ الرماح لها مُشْط
كأن القنا فيها أَناملُ حاسب ... أَجدَّ بها في السرعة الجمعُ واللقْط
ومنها في القطع وذكر القصيدة:
على أَنها تشتط إن هي ساجلت ... أحبَّة قلبي إن تدانَوْا وإن شَطوا
يشير إلى مطلع قصيدة مؤيد الدولة.
ومن شعر الصالح في الغزل:
ومهفهفٍ ثملِ القوام سَرَتْ إلى ... أعطافِهِ النَّشَواتُ من عينيهِ
ماضي اللحاظِ كأنما سَلَّتْ يدي ... سيفاً غداةَ الروع من جفنيه
الناسُ طوع يدي وأمري نافذٌ ... فيهمْ وقلبي الآن طوعُ يديه
فاعجبْ لسلطان يَعُمُّ بعدله ... ويجورُ سلطانُ الغرام عليه
قد قلتُ إذ كتَبَ العذارُ بخَدِّهِ ... في وَرْدِهِ أَلِفَيْهِ لا لاميه
ما الشَّعْرُ لاح بعارضيه وإنما ... أصداغه نفَضَت على خدَّيْه
واللّه لولا اسمُ الفرار وأَنّه ... مستقبحٌ لفررتُ منه إليه
وقال في الزهد:
خُضْ بحار الموتِ في النُّقْلةِ ... من دارِ الهوانِ
وحملِ النفسَ من الصبر ... على حدِّ السنانِ
واجتهد أَلاّ يراك الناس ... مبسوطَ البَنَانِ
فعسى الرحمن يُغْني ... عن فلانٍ وفلانِ
ونقلت من دَرْج بخط الصالح بن رزيك قصيدة له أعارنيه ابن أخته مما نظمه سنة خمس وخمسين، أولها:
أبى اللّه إلا أن يكون مؤيّداً ... مدى الدهر منصورَ الديين على العِدَا
وكم جاهلٍ قد زاده الحلمُ عزةً ... على غيره لما فَسَحْتُ له المَدَى
فأوردته من راحتي موردَ الندى ... ولما أَسرَّ الغَدْرَ أوردتْهُ الرَّدَى
وهاجَرَ فاستدرجتُه ودفعتُه ... بحلمي أَناةً وانتظاراً به غَدَا
عسى هو أن يَصْحو من الجهل أَو يُرَى ... عليه الحسامُ المشرفيُّ مُعَرْبِدَا
ومنها في وصف حسام:
فعاجَلَهُ مستحكِمُ الرأيِ قد غَدَا ... لقَهْرِ الأعادي في الحروبِ مُؤَيَّدَا
رميتُ به سهماً مصيباً وإنه ... لدى الحرب ما زال القويمَ مُسَدَّدَا
هو الأَسَدُ الوَرْدُ الذي عاد سَبْقُهُ ... إِلينا من الضربِ الدراك الموردا
فلا يغتررْ بي بعدها ذو جهالة ... فليثُ الشَّرى يُخْشَى وإِن كان مُلْبِدَا
وأعارني درجاً فيه بخط الصالح قصيدة أخرى منها:
توالت علينا في الكتائب والكُتْبِ ... بشائرُ من شرقِ البلاد ومن غَرْبِ
بشائرُ تهدى للمُوَالي مَسَرَّةً ... وتُحْدِثُ للباغين رُعباً على رعب
ففي كبدٍ من حرها النارُ تلتظى ... وفي كبد أحلى من البارد العذب
ومنها:
جعلنا جبالَ القدس فيها وقد جَرَتْ ... عليها عتاقُ الخيل كالنفنفِ السُّهْبِ
فقد أصبحتْ أوعارُها وحُزُونها ... سهولاً تُوَطَّا للفوارس والركب
ولما غدتْ لا ماءَ في جنباتها ... صببنا عليها وابلاً من دمٍ سَكْبِ
وجادت بها سُحْبُ الدروعِ من العِدَا ... نَجِيعاً فأَغْنَتْهَا الغَداةَ عن السُّحْبِ
وأَجْرَتْ بحاراً منه فوق جبالها ... ولكنْ بحارٌ ليس تَعْذُبُ للشرب
فقد عمَّها خِصْبٌ به من رءوسهم ... بها ولكم خصْبٍ أَضَرّ من الجَدْبِ
وقد روَّعَتْها خيلنا قبل هذه ... مراراً وكانت قبلُ آمِنَةَ السِّرْبِ
وأخفى صهيلُ الخيل أَصواتَ أهلها ... فعاقَتْ نواقيسَ الفرنج عن الضَّرْبِ
ومنها:

وأبطالِ حربٍ من كُتَامة دَوَّخُوا ... بلادَ الأعادي بالمسوَّمَةِ القُبِّ
وعادوا إلينا بالرءوس على القنا ... وأغناهمُ كسبُ الثناءِ عن الكسب
ومنها:
وإِنا بنو رزِّيكَ ما زالَ جارُنَا ... يحُلُّ لدينا بالكرامة والخِصْبِ
ونفتِكُ بالأموال في السَّلْمِ دائماً ... كما نحن بالأَعداءِ نفتك بالحرب
وذكر عمارة اليمني قال دخلت عليه السادس عشر من شهر رمضان سنة ست وخمسين قبل موته بثلاثة أيام بعد قيامه من السماط فدخل وخرج وفي يده قرطاس قد كتب فيه بيتين من شعره قد عملهما في تلك الساعة:
نحن في غفلةٍ ونومٍ وللموْ ... تِ عيونٌ يقظانةٌ لا تنامُ
قد رحلنا إلى الحِمَامِ سِنيناً ... ليت شعري متى يكون الحِمَامُ
قال عماة: ومن عجيب الاتفاق أنني أنشدت ولده في تلك الليلة قصيدة منها:
أبوك الذي تسطو الليالي بحده ... وأَنْتَ يَمِينٌ إن سطا وشمالُ
لرتبته العُظْمَى وإِنْ طالَ عمره ... إليكَ مصيرٌ واجبٌ ومآلُ
تخالسك اللحظ المصون ودونها ... حجاب شريفٌ لا انْقَضَى وحِجَالُ
فانتقل الملك إليه بعد ثلاثة أيام ومن شعر الصالح في مملوك له رآه يوم العيد، في السلاح لابس الحديد:
لبس الحديدَ فزاد في إِعجابِهِ ... بدرٌ تَظَلُّ الشمس من حُجَّابهِ
لا مطمعٌ في أَنْ يرقَّ وقلبُهُ ... أَقسى على العُشَّاق من جلبابه
قد كان يُغْنِيهِ سيوفُ لحاظه ... عن حمل صارمهِ ليوم ضِرَابه
لو جاد لي فوق اللثام بقبلةٍ ... تشفي فؤادَ الصبِّ من أَوصابه
رَوَّيْتُ ظامئةَ الرماحِ من العِدَا ... وضَنيِتُ من ظمإٍ لبَرْدِ شَرَابهِ
وقال:
عاذلي عذلُكَ سهمٌ في الحَشَا ... كيف كتماني وسرِّي قد فَشَا
صار ما بي من غرام كامنٍ ... ظاهراً ينقله واشٍ وَشَى
من رأى قبليَ يا رِيمَ الفَلاَ ... أسداً يقْنِصُهُ لحظُ رَشَا
ومنها:
وجهُكَ الرَّوْضة آتَتْ نَرْجِساً ... وجَنيُّ الوَرْدِ فيها فُرِشَا
خفتَ أن يُجْنَى فَوَكَّلْتَ بها ... عَقْرَباً طوراً وطوراً حَنَشَا
وقال:
أَلا إن أَشواقي بقلبي برَّحَتْ ... فأصبحتُ في بحرٍ بعيدٍ من الشاطي
قَلِقْتُ وقد جدَّ الفراق لبُعْدِكُمْ ... كأَني على جمرِ الغَضَا بَعْدَكمْ واطي
ولا غروَ فيكم أن أُقِضَّتْ مضاجعي ... وقد بانَ في حُبِّي لكمْ وجهُ إِفْرَاطي
وقال:
وفاتر الطرف في الخدِّ الأَسيلِ له ... وردٌ جَنِيٌّ حَمتْهُ أَسْهُمُ المُقَلِ
نَهْبْتُهُ بفَمِي لَثماً وقد غَلَلَتْ ... عينُ الرقيب وكلَّتْ أَلْسُنُ العَذَل
وخاف أَنْ يفطنَ الواشي بنا وبه ... فعادَ يُخْلِفُ ما قد مَنَّ بالخجل
إن مال عني فقد مال النعيمُ وإن ... يَمِلْ إليَّ أَجِدْه غايةَ الأمل
هابتْ سطَايَ ليوثُ الغاب غاديةً ... ورحت من لحظاتِ الظَّبْيِ في وَجَلِ
فرَّجْتُ ضَنْكَ الوغى في كلِّ معركةٍ ... بحدِّ سيفي وضاقَتْ في الهوى حِيَلي
وقال:
ظبي يُحَيِّرُ في الملاحةِ كلما ... كرَّرْتُ طرفي في بديعِ فنونهِ
أَشكو إليه صبابتي فيجيبني ... وِرْدٌ يُبَرِّدُ لوعتي بمَعِينهِ
قسماً به وبوردةٍ في خده ... وتمامِ قامته وسحر جفونه
لو أن ركباً في الفلاة تحيروا ... لسَرَوْا بضوءٍ من هلالِ جبينه
وأنشدني زين الدين بن نجا الواعظ الدمشقي له في غلام سابق على حصان أخضر أشقر:
ولما حضرنا للسباق تبادرتْ ... خيولٌ ومن أَهواه أُقْدَمُهَا سَبْقَا
على أشقرٍ شبهِ اللهيبِ توقداً ... ولوناً فقلنا البدرُ قد رَكِبَ البَرْقَا

وأنشدني زين الدولة الحسين بن الوزير أبي الكرام قال: كتب الصالح ابن رزيك إلى والدي بعد عوده من مصر إلى الشام سنة إحدى وخمسين:
أَحبابَ قلبيَ إن شطَّ المزارُ بكمْ ... فأنكم في صميم القلب سكَّانُ
وإِن رجعتمْ إِلى الأوطانِ إنَّ لكمْ ... صدورَنا عِوَضَ الأَوطانِ أَوطانُ
جاورتمُ غيرنا لما نأتْ بكمُ ... دارٌ وأنتم لنا بالودِّ جيران
وكيف ننساكمُ يوماً لبعدكمُ ... عنا وشخصكمُ للعين إنسان
وأنشدني له:
وإذا تشبُّ النارُ بين أَضالعي ... قابلتُها من أَدمعي بسيول
فأنا الغريقُ بل الحريقُ أموت في ... هذا وذا كذبالة القنديل
وكان قد ذكر عنده بيتاً من نظم عوام بغداد من كان وكان وهو:
النارْ بين ضلوعي ... وأنا غريقْ مدامعي
كأني فتيلة قنديلْ ... أَموتْ حريقْ غريق
فأنشد ابن الحباب أبو المعالي الجليس في المعنى:
هل عاذرٌ إن رمتُ خلعَ عذاري ... في شمِّ سالفةٍ وفثم عِذار
تتآلفُ الأضدادُ فيه ولم تزلْ ... في سالفِ الأيام ذاتَ نِفَارِ
فله من الزفرات لفحُ صواعقٍ ... تُرْدي وبالعبرات سحُّ بحار
كذبالة القنديل قُدِّرَ هُلْكُهَا ... ما بين ماءٍ في الزجاج ونار
فقال المهذب بن الزبير في المعنى:
كأَني وقد فاضتْ سيولُ مدامعي ... فَشَبَّتْ حريقاً في الحَشا والترائب
ذبالةُ قنديلٍ تعومُ بمائها ... وتُشْعَل فيها النارُ من كل جانب
وحدثني أبو الذكاء البعلبكي، وكان رسولاً بمصر، قال: لما جلس الصالح بن رزيك في دست الوزارة نظم هذه الأبيات:
انْظُرْ إلى ذي الدار كمْ ... قد حلَّ ساحَتَها وزيرُ
ولكمْ تبخترَ آمناً ... وَسْطَ الصفوفِ بها أَميرُ
ذهبوا فلا واللّه ما ... بقيَ الصغيرُ ولا الكبيرُ
ولمثلِ ما صاروا إليه ... من الفناءِ غداً نصيرُ
قال زين الدين الواعظ: عمل فارس المسلمين أخو الصالح له دعوةً في شعبان من السنة التي قتل فيها فعمل هذه الأبيات وسلمها إلي:
أنست بكمْ دهراً فلما ظَعَنْتُمُ ... استَقَرَّتْ بقلبي وَحْشَةٌ للتفرق
وقال:
وأَعجبُ شيءٍ أَنني يومَ بينكمْ ... بقيتُ وقلبي بين جَنْبَيَّ ما بقي
أَرى البعدَ ما بيني وبين أحبتي ... كبُعْدِ المدى ما بين غربٍ ومَشْرِقِ
أَلا جَدِّدي يا نفسُ وجداً وحسرةً ... فهذا فراقٌ بعْدَهُ ليس نلتقي
قال: فلم يبق بعدها لهم اجتماعٌ في مسرة، وقتل في شهر رمضان. قال: ومما نظمه:
يا دهرُ حَسْبُكَ ما فعلتَ بنا ... أَتُرَاكَ تَطْلُبُ عندنا إِحَنَا
كم نَتَّقِيك بكل سابغةٍ ... وسهامُ كيدك تخرق الجُننا
ما تنفعُ الدرع الحصينةُ مَنْ ... عَمَّا قليل يَلْبَسُ الكفنا
كلا ولا الأيام تَقْبَلُ عن ... أَرواحنا رَشْواً ولا ثمنَا
لو بالثُّرَيَّا حلَّ مُعْتَصِمٌ ... منها لكانَ له الثَّرَى وَطَنا
ولقد يهوِّنُ ما أصابكمُ ... فقدُ الحسينِ الطهرِ والحَسَنَا
وبَينهمُ إذ طوَّحَتْ بهمُ ... أيدي زمانهمُ هُنا وهُنا
وأرى الأئمةَ جار دهرهمُ ... في فعله بهمُ فكيف أنا
لي أسوةٌ بهمُ الغداةَ إِذا ... أصبحتُ في الأَجداثِ مُرْتَهَنا
وقال:
يا راكباً ظَهْرَ المعاصي ... أَوَمَا تخافُ من القصاصِ
أَوَمَا ترى أسباب عمرك ... في انتقاضٍ وانتقاصِ
وقال:
يا نائماً في هذه الدنيا ... أما آن انتباهُكْ
المالُ لا يُغْنيك في ال ... أخرى ولا يُنْجِيكَ جاهُكْ
وقال:
مشيبُكَ قد نَضَا صبغَ الشبابِ ... وحلَّ البازُ في وَكْرِ الغُرَابِ
تنامُ ومقلة الحدثانِ يَقْظَى ... وما نابُ النوائبِ عنك نابِ

وكيف بقاءُ عمرك وهْوَ كنزٌ ... وقد أنفقتَ منه بلا حساب
وقال:
أيا دهرُ أًينَ الملوكُ الذين كانوا ... فأَضْحَوْا كأَنْ لمْ يكونوا
وكانت قصورهمُ لا ترامُ ... فتلك قبورهمُ لا تَبينُ
وقال:
أيها المغرورُ لا تَغْتَرْ ... فمرعاكَ خبيثُ
سائقُ الموت وإن طا ... ل بنا العمرُ حثيثُ
إنَّ من جادت على ... الخلق بجدواه غيوثُ
وأولو المجد القديم ... العهد منهم والحديثُ
أصبحَ اليوم حديثاً ... وغداً نحن حديثُ
الأمير أبو المهند حسام بن مبارك بن فضة العقلي لم يكن في مصر أفخم منه شأناً، وأعظم سلطاناً، أيام سلطنة ابن رزيك وهو ابن أخت الصالح، كان مقدم عسكره، في مورده ومصدره، وحسامه الفاصل. من شعره أبيات عاتب بها خاله:
أُجِلُّكَ أَنْ يُلِمَّ بك العِتَابُ ... وأن يَخْفَى وحاشاكَ الصَّوَابُ
ومنها:
وإنّي في يَمينِكَ حين تَسْطُو ... حُسَامٌ لا يُفَلِّلُهُ الضِّرَابُ
وكمْ أرْسَلْتَني سَهْماً مُصِيباً ... فأَحْرَقَ ضِدَّكم منّي شهابُ

أبو القاسم هبة الله بن عبد الله بن كامل
كان داعي الدعاة بمصر للأدعياء، وقاضي القضاة لأولئك الأشقياء، يلقبونه بفخر الأمناء، وهو عندهم في المحلة العلياء، والمرتبة الشماء، والمنزلة التي في السماء، حتى انكدرت نجومهم، وتغيرت رسومهم، وأقيم قاعدهم، وعضد عاضدهم، وأخليت منهم مصرهم، وأجلي عنهم قصرهم، فحرك ابن كامل ناقص الذب عنهم والشد منهم، فأمال قوماً على البيعة لبعض أولاد العاضد، ليبلغوا به ما تخيلوه من المقاصد، وسولوه من المكايد، فأثمرت بجثثهم الجذوع، وأقفرت من جسومهم الربوع، وأحكمت في لحومهم النسوع. وهذا أول من ضمه حبل الصلب، وأمه فاقرة الصلب، وهذا صنع الله فيمن ألحد، وكفر النعمة وجحد، وذلك غرة رمضان سنة تسع وستين وخمسمائة. سمعت الملك الناصر صلاح الدين يذكره وقد ذكروه عنده بالفضل والأدب ونسبوا إليه هذين البيتين في غلام رفاء وأنشدهما الملك الناصر وذكر أنه كان ينكرهما:
يا رافياً خَرْقَ كلِّ ثَوْبٍ ... ويا رَشاً حُبُّهُ اعتِقَادي
عَسَى بكفِّ الوصال تَرْفُو ... ما مَزَّقَ الهَجْرُ من فؤادي
الوجيه ابن الذروي
أبو الحسن علي بن يحيى
شاب نشأ في هذا الزمان، موصوف بالإجادة والإحسان، له في أحدب:
يا أخي كيف غَيَّرَتْكَ الليالي ... وأحالتْ ما بيننا بالمِحَال
حاشَ للّه أن أُصَافي خليلاً ... فيرانيْ في ودِّه ذا اختلال
زعموا أنني أتيتُ بهجوٍ ... معرب فيك عن شَنيعِ المقال
كذبوا إنما وصَفْتُ الذي فيك ... من النُّبْلِ والسَّنَا والكمالِ
لا تظنَّنَّ حَدْبَةَ الظهر عَيْباً ... فَهْي للحسْنِ من صفات الهلال
وكذاك القسيُّ مُحْدَوْدِبَاتٌ ... وهْيَ أنكى من الظُّبَا والعوالي
ودناني القُضاةِ وهْيَ كما تَعْلَمُ ... كانتْ موسومةً بالجمال
وأَرَى الإِنحناءَ في مَنْسِر الكا ... سر يُلْفَي ومِخْلَبِ الرِّنبالِ
وأبو الغُصْنِ أنت لا شك فيه ... وهْوَ رب القوام والإعتدال
كَوَّنَ اللّه حَدْبَةً فيك إن شئ ... تَ مِنَ الفضل أو من الإفضالِ
فَأَتَتْ ربوة على طود حلمٍ ... منك أو موجة ببحر نوالِ
ما رأتْها النساءُ إلا تمنَّتْ ... لو غَدَتْ حِلْيَةً لكل الرجالِ
وإذا لم يكن من الهجر بُدٌّ ... فعسى أن تزورني في الخيالِ
وهذه الأبيات لم يقل مثلها في أحدب وهي في ابن أبي حصينة الذي أصله من المعرة. وله في المهذب جعفر المعروف بشلعلع:
لا تَصْحَبَنَّ سوى المهذَّب جَعْفَرٍ ... فالشيخُ في كل الأمور مُهَذَّبُ
طَوْرَا يُغَنِّي بالرَّبَاب وتارةً ... تأتي على يده الرَّبَابُ وزينبُ

القاضي الجليس أبو المعالي عبد العزيز بن الحسين
ابن الحباب الأغلبي السعدي النميمي
جليس صاحب مصر، فضله مشهور، وشعره مأثور، وقد كان أوحد عصره في مصره نظماً ونثراً، وترسلاً وشعراً، ومات بها في سنة إحدى وستين، وقد أناف على السبعين. ومن شعره:
لا تعجبي من صَدِّهِ ونفارِه ... لولا المشيبُ لكنت من زُوّارِهِ
لم تترك الستون إذ نزلتْ به ... من عهد صبوتهِ سوى تذكارِه
وله:
حَيَّى بتفاحةٍ مخضَّبةٍ ... من فَفَّني حبُّهُ وتَيَّمَني
فقلتُ ما إن رأيتُ مشبهها ... فاحمرَّ من خجلة فكذَّبني
ومن شعره:
وسما يكفُّ الحافظُ ... الْمنصورُ عنا المَحْلَ كَفَّا
آواهمُ كرماً وصا ... نَ حريمهمْ فعفَا وعَفَّا
وأنشدني له الأمير نجم الدين بن مصال من قصيدة يقول فيها:
ومن عجبٍ أن السيوف لديهمُ ... تحيضٌ دماءً والسيوفُ ذكورُ
وأعجب من ذا أنها في أكفهمْ ... تأجَّجُ ناراً والأكفُّ بحور
وأنشدني له الشريف إدريس الإدريسي قصيدة سيرها إلى الصالح بن رزيك قبل وزارته يحرضه على إدراك ثأر الظافر، وكان عباس وزيرهم قتله وقتل أخويه يوسف وجبريل، يقول فيها:
فأين بنو رزيك عنها ونصرهم ... وما لهمُ من منعة وزياد
فلو عاينتْ عيناك بالقصر يومهمْ ... ومصرعهمْ لم تَكْتَحِلْ برُقَادِ
تداركْ من الإيمان قبلَ دُثُورِه ... حُشَاشَةَ نَفْسٍ آذنت بنَفَاد
فمزِّقْ جموعَ المارقين فإنها ... بَقَايا زُرُوعٍ آذنت بحصَادِ
وله فيه من أخرى في هذه الحادثة:
ولما ترامى البربريُّ بجهلهِ ... إلى فتكةٍ ما رامَها قَطُّ رائمُ
ركبْتَ إليه مَتْنَ عزمتك التي ... بأمثالها تلقَى الخطوبُ العظائم
وقُدْتَ له الجُرْدَ الخِفَافَ كأنما ... قوائمُها عند الطِّرَادِ قَوادِم
وتنصُلُ منها والعَجاجُ خضابُها ... هواد لأركان البلادِ هَوادِمُ
تجافتْ عن الماء القَرَاحِ فريُّها ... دماءُ العِدَا فهي الصواديْ الصوادم
وقمتَ بحقِّ الطالبيِّينَ طالباً ... وغيرُكَ يُغْضِي دونه ويُسالِمُ
أَعدت إليهمْ مُلْكَهُم بعد ما لوى ... به غاصبٌ حقَّ الأمانةِ ظالِمُ
فما غالبٌ إلا بنصرك غالبٌ ... وما هاشمٌ إلا بسيفك هاشم
فأدْرِكْ بثأرِ الدِّين منه ولم تزلْ ... عن الحقِّ بالبيضِ الرِّقاقِ تُخَاصِمُ
وأنشدني الأمير العضد مرهفٌ للجليس يخاطب الرشيد بن الزبير في معنى نكبة خاله الموفق:
تسمَّعْ مقاليَ يا ابن الرشيدِ ... فأنت حقيقٌ بأن تَسْمَعَه
بُلينا بذي نَشَبٍ سائلٍ ... قليلِ الجَدَا في أَوانِ الدعَه
إذا ناله الخيرُ لم نَرْجُه ... وإن صفعوه صُفِعْنا معه
وأنشدني بعض فضلاء مصر لابن الحباب:
سيوفُكَ لا يُفَلُّ لها غِرارُ ... فنومُ المارقين بها غِرارُ
يُجَرِّدُها إذا أُحْرِجْتَ سُخْطٌ ... على قومٍ ويُغْمِدُها اغتفار
طَرِيدُكَ لا يفوتُكَ منه ثارٌ ... وخصمك لا يُقالُ له عِثار
وفيما نلتَه من كلِّ باغٍ ... لمن ناواك لو عَقَلَ اعتبار
فمرْ يا صالحَ الأملاكِ فينا ... بما تختارُه، فلَكَ الخيارُ
فقد شَفَعَتْ إلى ما تَبْتَغيهِ ... لك الأقدارُ والفَلَكُ المُدَار
ولو نوتِ النجومُ له خِلافاً ... هَوَتْ في الجو يذروها انتثارُ
ومنها:
عدلتَ وقد قَسَمْتَ وكم ملوكٍ ... أرادوا العدلَ في قَسْمٍ فجاروا
ففي يدِ جاحدِ الإحسانِ غُلٌّ ... وفي يد حامدِ النعْمى سِوَار
لقد طَمَحَتْ بطرخانٍ أمانٍ ... له ولمثله فيها بوار

وحاول خطةً فيها شماسٌ ... على أمثاله وبها نِفار
هل الحسبُ الفتيُّ بمستقلٍ ... إذا ما عزَّهُ الحسب النضار
أتتك بحائنٍ قدماه سعياً ... كما يَسْعَى إلى الأَسدِ الحمار
وشان قرينَه لما أتاه ... كما قد شان أَسرته قُدَارُ
وأنشدني بمصر ولده القاضي الأشرف أبو البركات عبد القوي لوالده الجليس من قطعةٍ كتبها إلى ابن رزيك في مرضه يشكو طبيباً يقال له ابن السديد على سبيل المداعبة:
وأَصْلُ بليتي من قد غزاني ... من السقم المُلِحِّ بعَسْكَرَيْنِ
طبيب طِبُّهُ كغرابِ بين ... يفرِّقُ بين عافيتي وبيني
أَتى الحمى وقد شاخَتْ وباخَتْ ... فردَّ لها الشباب بنسختين
ودبرَها بتدبيرٍ لطيفٍ ... حكاهُ عن سنانٍ أو حُنين
وكانت نوبةً في كلِّ يومٍ ... فصيَّرها بحِذْقٍ نوبَتين
وأنشدني أيضاً لوالده في مدح طبيب:
يا وارثاً عن أَبٍ وجَدٍ ... فضيلةَ الطبِّ والسدادِ
وكاملاً ردَّ كلَّ نفسٍ ... هَمَّتْ عن الجسم بالبعاد
أُقسمُ أَنْ لو طببتَ دهراً ... لعادَ كوناً بلا فسادِ
ورأيت من كلامه في خطبة ديوان الصالح بن رزيك: هو الوزير الكافي والوزير الكافل، والملك الذي تلقى بذكره الكتائب، وتهزم باسمه الجحافل، ومن جدد رسوم المملكة، وقد كاد يخفيها دثورها، وعاد به إليها ضياؤها ونورها:
وقد خَفِيَتْ من قبله معجزاتُها ... فأَظهرها حتى أَقرَّ كَفُورُهَا
أَعَدْتَ إلى جسمِ الوزارة روحَهُ ... وما كان يُرْجَى بعثُها ونُشُورُها
أقامتْ زماناً عند غيرك طامثاً ... وهذا أوانُ قُرْئها وطَهُورها
من العدلِ أَن يحيا بها مُسْتَحِقُّها ... ويخلعها مردودةً مُسْتَعيرها
إذا خطبَ الحسناءَ من ليس أَهلَهَا ... أشارَ عليه بالطلاق مُشِيرُهَا
فقد نشرت أيامه مطوي الهمم، وأنشرت رفات الجود والكرم، ونفقت بدولته سوق الآداب بعد ما كسدت، وهبت ريح الفضل بعد ما ركدت. إذا لها الملوك بالقيان والمعازف، كان لهوه بالعلوم والمعارف، وإن عمروا أوقاتهم بالخمر والقمر، كانت أوقاته معمورةً بالنهي والأمر:
مليكٌ، إذَا أَلْهَى الملوكَ عن اللُّهَا ... خُمَارٌ، وخمرٌ، هاجَر الدَّلَّ والدَّنّا
ولم تُنْسه الأوتادَ أَوتار قينةٍ ... إِذا ما دعاه السيفُ لم يَثْنِهِ المَثْنَى
ولو جادَ بالدنيا وعادَ بضعفها ... لظنَّ من استصغاره أَنه ضَنَّا
ولا عيبَ في إِنعامه غيرَ أنّهُ ... إذا مَنَّ لم يُتْبِعْ مواهِبَهُ مَنَّا
ولا طعنَ في إقدامه غيرَ أنه ... لَبُوسٌ إلى حاجاته الضربَ والطَّعْنَا
لا شك أن هذه الأبيات لغيره.
ومن أبياته في الغزل:
ربَّ بيضٍ سللن باللحظ بيضاً ... مرهفاتٍ جفونُهُنَّ الجفونُ
وخدودٍ للدمعِ فيها خدودٌ ... وعيونٍ قد فاض منها عيونُ
وله:
تُرَى أَخْلَسَتْ فيه الفَلاَ بعضَ رَيَّاها ... ففاتَ فتيتَ المسكِ نشْرُ خُزَامَاها
أَلَمَّتْ بنا والليلُ يُزْهَى بلمة ... دجوجيَّةٍ لم يكتحلْ بعدُ فَوْدَاها
فأشرقَ ضوءُ الصبحِ وهْو جبينها ... وفاحتْ أزاهيرُ الرُّبا وهْيَ ريَّاها
إذا ما اجتنتْ من وجهها العينُ روضةً ... سَفَحْتُ خلالَ الروض بالدمع أمواها
وإني لأَستسقي السحابَ لربعها ... وإن لم تكن إلا ضلوعيَ مأْوَاها
إذا استعرتْ نارُ الأسى بين أضلعي ... نضحتُ على حرِّ الحشا بردَ ذكراها
وما بيَ أَنْ يَصْلَى الفؤادُ بحرِّهَا ... ويُضْرَمَ لولا أَنَّ في القلب مأواها
وله في غلام تركي:
ظبيٌ من الأَتراكِ أَجفانُهُ ... تسطو على الرامحِ والنابلِ

سيان منه إنْ رَمَى أَو رَنَا ... ليس من السهمين من وائل
يفرُّ منه القِرْنُ خوفاً كما ... يفرُّ ظبيُ القاعِ من حابلِ
يا ويحَ أعدائك ما هالَهُمْ ... من غُصُنٍ فوقَ نقاً هائل
لا تَفْرَقُوا صَوْلَةَ نُشَّابِهِ ... فربَّ سَهْمٍ ليس بالقاتل
وحاذروا أًسْهُمَ أَجفانه ... فسحرُ ذا النابلِ من بابل
وله في النرجس:
وَفَدَ الربيعُ على العيونِ بنرجسٍ ... يحكي العيونَ فقد حباها نَفْسها
علقَتْ على استحسانِه أبصارُنَا ... شغفاً إِذِ الأَشياءُ تعشقُ جنسها
يلهِي ويُؤْنِسُ مَنْ جفاهُ خليلهُ ... كم مِنَّةٍ في أُنْسِهِ لم أَنْسَها
فارضَ الرياض بزورةٍ تلهو بها ... واحْثُثْ على حَدَقِ الحدائقِ عَكْسَها
وله:
زارَ وجنح الليلِ مُحْلَوْلِكٌ ... داجٍ فحيَّاه مُحَيّاهُ
مُلْتَثِماً يُبْدِيه لألآؤُهُ ... والبدرُ لا يكتمُ مَسْرَاهُ
نمَّ عليه طِيبُ أَنْفَاسِهِ ... كما وَشَى بالمِسْكِ رَيَّاهُ
وله:
قد طُرِّزَتْ وَجَنَاتُهُ بعذارِهِ ... فكساه روضُ الْحُزْنِ من أَزْهَارِهِ
وتآَلَّفَتْ أضداده فالماءُ في ... خَدَّيْهِ لا يُطْفِي تَلَهُّبَ نَارِهِ
وحكيتُهُ فمدامعي تَهْمِي على ... نارِ الحَشَا وتزيد في استسعارِهِ
ومنها:
وإِذا بدا فالقلبُ مشغولٌ بهِ ... وإِذا انثنى فالطرفُ في آثاره
متى أُعانُ على هواه بنَصْرَةٍ ... وجوانحي للحَيْنِ من أَنْصَارِه
وله من قصيدة:
وكم طامحِ الآمال همَّ فقصَّرَتْ ... خُطَاهُ به إن العلا صَعْبَةُ المَرْقَى
وظنَّ بأن البُخْلَ أَبقى لوَفْرِهِ ... ولو أَنه يدري لكانَ النَّدَى أَبْقَى
ظهرتَ فكنتَ الشمسَ جلَّى ضياؤُها ... حنادسَ شِرْكٍ كان قد طَبَّقَ الأفْقَا
علوتَ كما تعلو، وأشرقتَ مثلما ... تضيءُ، ونرجو أَنْ ستبقى كما تبقى
وهُنِّئَتِ الأَعيادُ منك بماجدٍ ... تباهتْ به العَلْيا، وهامتْ به عِشْقا
مواسمُ قد جاءَتْ تباعاً كأنما ... ترى الفجرَ في لُقْيَاكَ يا خيرَ من يُلْقَى
توالتْ بدارٍ تعتفيكَ كأَنَّما ... ترومُ لفرط الشوق أن تُحْرِزَ السبقا
وكان لها الأَضحى إماماً أَمَامَها ... فأرهقه النوروزُ يَمْنَعُهُ الرفقا
وكم همَّ أنْ يعدو مراراً فَرُعْتَهُ ... فأَبقى، ولولا فَرْقُ بأَسِكَ ما أبقى
أَبى اللّهُ في عصرٍ تكونُ عميدَهُ ... وسائسَهُ أن يسبق الباطلُ الحقَّا
فجاءَك هذا سابقٌ جالَ بَعْدَهُ ... مُصَلٍ وكانا للذي تبتغي وفْقَا
وأعقبه عيدُ الغديرِ فلم نَخَلْ ... لِقُرْبِ التداني أَنَّ بينهما فَرْقَا
وقوله:
خُذْهَا إِليكَ بماءِ الطبعِ قد شَرِقَتْ ... لو مازجَ البحرَ منها لفظة عَذُبَا
جوَّالةٌ بنواحي الأَرضِ مُمْعِنَةٌ ... في السير لا تشتكي أَيْناً ولا نَصَبَا
ألفاظُها الدُّر تحقيقاً ومن عَجَبٍ ... تُمْلِي على البحرِ درَّ البحر مُجْتَلَبَا
وقوله من قصيدة أولها:
دعِ البينَ تحدونا حثاثُ ركابه ... فغيريَ من يشجوه صوتُ غرابِهِ
سأركبُ ظهرَ العزْمِ أو أَرْجِعَ المنى ... برجعةِ موفورِ الرجاءِ مُثَابِهِ
فإمَّا حياةٌ يسحبُ المرءُ فوقَها ... ذيولَ الغنى والعزِّ بين صحابه
وإِما مماتٌ في العُلا يتركُ الفتى ... يقالُ ألا للّهِ درُّ مُصَابِه
ومنها:
وأروعَ يشكو الجودَ طولَ ثَوَائِهِ ... لديه، ويشكو المالُ طول اغترابِهِ

تَصُدُّ الملوكُ الصيدُ عن قصدِ أَرْضه ... فَيَرْجعُهَأ محروبةً بحرابه
ويَعْطِفُهَا ميلَ الرِّقَابِ مهابةً ... ولم تكتحل أَجفانُهُ بترابهِ
وأَغْزُو بأبكارِ القصائدِ وَفْرَهُ ... فأرجعُ قد فازتْ يَدِي بنِهَابِه
وقوله:
أما وجيادِك الجُرْدِ العَوَادي ... لقد شَقِيَتْ بِعَزْمَتِكَ الأَعادي
رأَوا أَن الصعيدَ لهم ملاذٌ ... فلم يُحْمَ الصعيدُ من الصِّعَادِ
ورامُوا من يَدَيْكَ قِرىً عتيداً ... فأَهْدَيْتَ الحُتوفَ على الهوادي
وقوله وقد جمع ثمان تشبيهات في بيت واحد:
بدا وأَرانا منظراً جامعاً لِمَا ... تفرَّقَ من حُسْنٍ على الخلق مُونِقا
أَقاحاً وراحاً تحت وردٍ ونرجسٍ ... وليلاً وصُبْحاً فوق غصن على نَقَا
وقوله يصف الخمر:
معتقةٌ قد طالَ في الدنِّ حَبْسُهَا ... ولم يَدْعُهَا شُرَّابُها بنتَ عامها
وقد أشبهتْ نارَ الخيلِ لأَنها ... حكتا لنا في بَرْدِها وسَلاَمِها
وذكر ابن الزبير في كتابه أنه كتب إليه مع طيبٍ أهداه:
بعثتُ عِشاءً إلى سيدي ... بما هو مِن خُلْقهِ مُقْتَبَسْ
هديةَ كلِّ صحيحِ الإِخاءِ ... جرى منه وُدُّكَ مجرَى النَّفَس
فَجُدْ بالقَبولِ وأَيقِنْ بأنَّ ... لفَرْطِ الحياء أتَتْ في الغَلَس
وله يصف خيلاً:
جنائبُ: إنْ قِيدَتْ فأُسْدٌ، وإن عَدَتْ ... بأبطالها فَهْيَ الصَّبَا والجَنَائبُ
أثارتْ بأكنافِ المُصَلَّى عجاجةً ... دَجَتْ وَبَدَتْ للبيضِ منها كواكب
وله يهجو:
وكم في زَبيدٍ من فقيه مُصَدَّرٍ ... وفي صَدْرِه بحرٌ من الجهل مُزْبِدُ
إذا ذابَ جسمي من حَرُورِ بلادكم ... عَلِقْتُ على أَشعارِكم أَتَبَرَّدُ
وله يصف معركة:
تكادُ من النقعِ المثارِ كُمَاتُها ... تَنَاكَرُ أحياناً وإِن قَرُبَ النَّحْرُ
عجاجٌ يظلُّ الملتقى منه في دُجىً ... وإن لمعَتْ أسيافُه طَلَعَ الفجر
وخيل يلف النشْرَ بالتربِ عَدْوُهَا ... وقتلَى يعافُ الأكلَ من هامِها النسر
ومن شعره يرثي بعض أهله:
ما كان مِثْلَكَ من تغتالُهُ الغِيَرُ ... لو كان ينفع من ضَرْبِ الرَّدَى الحَذَرُ
ومنها:
قد أَعلن الدهرُ، لكن غالنا صَمَمٌ ... عنه، وأنذرنا، لو أَغْنَتِ النُّذُرُ
يَغُرُّنا أَمَلُ الدنيا ويخدعنا ... إن الغُرور بأَطماعِ المُنَى غَرَرُ
ومنها:
قد كان أنفسَ ما ضنَّتْ يداهُ بهِ ... لو كان يعلمُ ما يأتي وما يَذَرُ
أغالبُ القولَ مجهوداً وأيسرُ ما ... لَقِيتُه مِن أَذاه العِيُّ والحَصَرُ
وقال يرثي أباه، ومات غريقاً في البحر لريح عصفت:
وكنتُ أُهدِي مع الريح السلامَ لهُ ... ما هبت الريحُ في صُبْحٍ وإمساءِ
إحدى ثقاتي عليه كنتُ أَحسبُها ... ولم أَخَلْ أنها من بعضِ أعدائي
ومن شعره في العتاب والاستبطاء والشكوى قوله:
كم من غريبةِ حكمةٍ زارَتْكَ مِن ... فكري فما أَحْسَنْتَ قطُّ ثَوَابَها
جاءَتْكَ ما طَرَقَتْ وفودُ جَمَالِها ال ... أَسماعَ إِلاّ فُتِّحَت أَبوابُها
فَتَنَتْكَ إِعجاباً فحين هَمَمْتَ أَنْ ... تَحْبو سويداءَ الفؤادِ صَوابَها
وافَتْكَ من حَسدٍ وساوسُ حكمةٍ ... جعلت لعينك كالمشيب شبابها
فَثَنَيْتَ طَرْفَكَ خاشياً لا زاهداً ... ورددتها تشكو إِليَّ مآبها
وأَراكَ كالعنِّينِ همَّ بكاعبٍ ... بِكْرٍ وأعجزه النكاحُ فعابَها
وله في الغزل:
أُشَجِّعُ النفسَ على حربكم ... تقاضياً والسلمُ يَزْويِها
أسومها الصبرَ وأَلحاظكم ... قد جَعَلَتْها من مراميها

وكيفَ بالصبرِ على أَسْهُمٍ ... نَصَّلَها بالجمْرِ راميها

القاضي الرشيد
أحمد بن علي بن الزبير
من أهل أسواق الساكن بمصر كان ذا علمٍ غزيرٍ، وفضلٍ كثيرٍ. أنشدني الأمير نجم الدين بن مصال بن سليم بن مصال له، ونحن في المخيم الملكي الناصري بظاهر بعلبك في ثاني رمضان سنة سبعين وخمسمائة، من قصيدة:
إِذا ما نَبَتْ بالحُرِّ دارٌ يَوَدُّها ... ولم يرتحلْ عنها فليس بذي حَزْمِ
وَهَبْهُ بها صَبّاً أَلم يَدْرِ أنها ... سيزعجه منها الحِمَامُ على رغْمِ
ولولا الأجلُّ الكاملُ المَلْكُ أَرْقَلَتْ ... بيَ العيسُ في البيداءِ والسفْنُ في اليَمِّ
ولم تكنِ الدنيا تضيقُ على فتىً ... يرى الموتَ خيراً من مقامٍ على هَضْم
لم يعمل بشعره، ولم يرحل من ضره، وهذا ممدوحه الكامل ولد شاور الذي لم ينج من شره، فغن شاور قتله صبراً في سنة اثنتين وستين ونسب إليه أنه شارك أسد الدين شيركوه في قصده، فكافأه مكافأة التمساح وجعل قتله له مقام رفده.
وله الرسالة التي أودعها من كل علم مشكلة، ومن كل فنٍ أفضله. ذكره لي محمد بن عيسى اليمني ببغداد سنة إحدى وخمسين وقال: وفد اليمن رسولاً وأقام بها سنتين قال: وهو أستاذي في علم الهندسة. وأنشدني لنفسه باليمن:
لئن خاب ظني في رجائك بعد ما ... ظننتُ بأني قد ظفرتُ بمنصفِ
فإنَّكَ قد قلَّدْتني كلَّ مِنَّةٍ ... ملكتَ بها شُكرِي لدى كلِّ موْقِفِ
لأنّكَ قد حَذَّرتني كلَّ صاحبٍ ... وأعلمتني أنْ ليْسَ في الأرض من يفي
وأنشدني الشريف إدريس الإدريسي الحسني بدمشق سنة إحدى وسبعين للقاضي الرشيد بن الزبير في مدح الصالح بن رزيك من قصيدة أولها:
ما للغصون تميدُ سكرا ... هل سُقِّيَتْ بالمُزْنِ خمرا
منها في المدح:
جاري الملوكَ إلى العلا ... لكنهمْ ناموا وأَسْرَى
سائلْ به عَصبَ النفا ... ق غداةَ كان الأَمرُ إمْرا
أيامَ أضحى النكرُ معروفاً ... وأمسى العُرْفُ نكرا
ومنها:
قسماً بمن طافَ الحجيج ... ببيته شُعْثاً وغُبرا
لولا طلائعُ لم نكنْ ... نرجو لمَيْتِ الدينِ نَشْرا
وأنشدني ابن أخته القاضي محمد بن القاضي محمد بن إبراهيم المعروف بابن الداعي من أسوان وقد وفدت إلى دمشق سنة إحدى وسبعين قال: أنشدني خالي الرشيد ابن الزبير لنفسه من قصيدة:
تواصَى على ظلمي الأنامُ بأَسْرِهِمْ ... وأَظْلَمُ من لاقيتُ أَهلي وجيراني
لكل امرىءٍ شيطانُ جِنٍ يَكيدُهُ ... بسوءٍ ولي دون الورى أَلْفُ شَيْطانِ
وقد صنف كتاب جنان الجنان ورياض الأذهان، وذيل به اليتيمة، وطالعت منه جزءاً، ذكر فيه شعراً.
ولده علي بن أحمد بن الزبير
رأيته في الحضرة السلطانية في القاهرة سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة وقد وقف ينشد الملك الناصر قصيدة قد اتخذها لقصده ذريعة وجر بها وفود النجح إلى آماله في تلك الشريعة شريعة، وكشفت بحواره حوار أدبه، وفصمت بسراره سوار أربه، فما أحاطت معرفتي له بمعرفة، ولا حصل لي من قدر قدره مرق رمقٍ في مغرفة. لكنني لكونه ولد ذاك الكبير، أوردت من القصيدة التي أحضرها أبياتاً تناسب عرف العبير.
مطلعها:
شيَّدْتَ بالبيضِ والعسَّالةِ الذُّبُلِ ... مجداً أنافَ على النَّسْرَيْن والحَمَلِ
ومنها:
تَخْضَرُّ أكناف أَرضٍ إن نَزَلْتَ وإن ... نازلْتَ تَحْمَرُّ أَرضُ السهل والجبَلِ
ما زلتُ أفرى دجى ليلِ التمام سُرىً ... ونورُ وجهك يَهْديني إلى السُّبُل
بكل مهمهةٍ يبكي الغمامُ بها ... خوفاً ويخفق قلبُ البرق من وَجَل
تخشى الرياحُ الذواري من مهالكها ... فما تهبُّ بها إلا على مهل
حتى أَنَخْتُ المطايا في ذُرَى مَلِكٍ ... يبشِّرُ النجح في تأميله أَمَلي
ومنها:

خدمتكم ليكونَ الدهرُ من خَدَمِي ... فما أَحَالَهُ عن حالاته الأُوَلِ
إنْ لم تَكُنْ بكمُ حالِي مُبَدَّلَةً ... فما انتفاعي بعلم الحالِ والبَدَلِ

المهذب أبو محمد
الحسن بن علي بن الزبير
هو أخو الرشيد، محكم الشعر كالبناء المشيد، وهو أشعر من أخيه، وأعرف بصناعته وإحكام معانيه. توفي قبل أخيه بسنة، لم يكن في زماتنه أشعر منه أحد وله شعر كثير، ومحلٌ في الفضل أثير. أنشدني له نجم الدين بن مصال ببعلبك في رمضان سنة سبعين من قصيدة في الصالح بن رزيك يعرض بشاعره المعروف بالمفيد:
لقد شكَّ طرفي والركائبُ جُنَّحُ ... أأنت أم الشمسُ المنيرة أمْلَحُ
ومنها في الغزل:
يَظلُّ جَنَى العُنَّابِ في صحنِ خدِّهِ ... عن الوردِ ماءَ النرجِسِ الغضِّ يَمْسَحُ
ومنها:
فيا شاعراً قد أَلفَ قصيدةٍ ... ولكنها من بيته ليس تَبْرَحُ
ليهنِكَ لا هُنِّئْتَ أنّ قصائدي ... مع النجم تسري أو مع الريح تَسْرَحُ
أنشدني زين الحاج أبو القاسم قال: أرسلني نور الدين إلى مصر في زمان الصالح بن رزيك فلقيت المهذب بن الزبير فأنشدني لنفسه:
وشادنٍ ما مثله في الجنانْ ... قد فاق في الحسن جميع الحسانْ
لم أَرَ إلا عينه جعبةً ... للسيف والنصلِ وحَدِّ السِّنانْ
ووجدت في بعض الكتب له من قصيدة في مدح الصالح طلائع بن رزيك بمصر:
وتلقى الدهرَ منه بليث غابٍ ... غَدَتْ سمرُ الرماح له عَرِينا
تخالُ سيوفَه إمَّا انتضاها ... جداولَ والرماحَ لها غصونا
وتحسبُ خيلَهُ عِقْبانَ دَجنٍ ... يَرُحْنَ مع الظلام ويغتدينا
إِذا قَدَحَتْ بجنح الليل أوْرَتْ ... سناً يُعْشي عيونَ الناظرينا
وإن جَنَحَتْ مع الإصباح عَدْواً ... أَثارَتْ للعجاجِ به دُجُونا
كأنّ الشمس حين تُثير نقعاً ... تحاذرُ من سطاهُ أن تبينا
وما كُسِفَتْ بدورُ الأُفْقِ إلاّ ... مخافةَ أن يُحَطِّمَها مُبينا
وما تندقُّ يومَ الرّوْعِ حتى ... يَدُقَّ بها الكواهلَ والمتونا
عجبتُ لها تصافحُ مِنْ يَدَيهِ ... وتوصَفُ بالظَّمَا بحراً مَعِينا
ويورِدُها ولا يُخْطِي برأْيٍ ... نِطافاً من دروعِ الدارعينا
وهل يَشْفَى لها أبداً غليلٌ ... وقد شَرِبَتْ دماءَ الكافرينا
إذا لَقِيَتْ عيونَ الروم زُرْقاً ... حسبْتَ نِصالَها تلك العيونا
وقائعُ في العُداةِ له تُبَارى ... صنائعَ في العُفاة المجتدينا
وإرغامٌ به أبكى عيوناً ... وإنعامٌ أَقَرَّ به عيونا
وله فيه قصيدة:
أَقْصِر فَدَيْتُكَ عن لَوْمي وعن عَذَلي ... أوْ لا فخذ لي أماناً من يد المقلِ
من كلِّ طَرْفٍ مريض الجفنِ تنشدنا ... ألحاظُه رُبَّ رامٍ من بني ثُعَل
إنْ كان فيه لنا وهْو السقيمُ شِفاً ... فربما صحَّتِ الأجسامُ بالعِلَل
إن الذي في جفونِ البيضِ إذ نَظَرَتْ ... نظيرُ ما في جفون البيض والخِلَل
كذاك لم يشتبه في القول لفظهما ... إلا كما اشتبها في الفعل والعمل
وقد وقفتُ على الأطلال أحسبها ... جسمي الذي بعدَ بُعْدِ الظاعنين بُلِي
أَبكي على الرسم في رسم الديار فهلْ ... عجبتَ من طَلَلٍ يبكي على طلل
وكلّ بيضاءَ لو مَسَّت أَناملُها ... قميصَ يوسفَ يوماً قُدَّ من قُبُل
يُغني عن الدُّرِّ والياقوت مَبْسِمُها ... لِحُسْنِها فلها حَلْيٌ من العَطَل
بالخدِّ مِنِّيَ آثارُ الدموع كما ... لها على الخدِّ آثارٌ من القُبَل
كأنّ في سيفِ سيفِ الدين من خَجَلٍ ... من عزمه ما به من حُمْرة الخجل

هو الحسامُ الذي يسمو بحاملهِ ... زهواً فيفتكُ بالأسياف والدول
إذا بدا عارياً من غِمدِهِ خَلَعَتْ ... غِمْدَ الدماءِ عليهِ هامةُ البطل
وإن تقلَّدَ بحراً من أَناملهِ ... رأَيتَ كيف اقترانُ الرزقِ بالأجل
من السيوفِ التي لاحتْ بوارقُها ... في أَنْمُلٍ هي سُحْبُ العارضِ الهَطِل
فجاءنا لبني رُزِّيكَ مُعْجِزُها ... بآيةٍ لم تكن في الأعْصُرِ الأُوَلِ
تبدو شموساً همُ أقمارُها وتَرَى ... شُهْبَ القَنَا في سماءِ النقع لم تَفِل
قد غايَرَت فيهمُ السمرَ الرقاقَ رقا ... قُ البيض خلفَ سُجوف النقع في الكلَل
إن عانقوا هذه في يوم معركةٍ ... لاحتْ لهم بتلظّي تلك كالشُّعَل
وقد لقوا كلَّ من غاروا بمُشْبِهِه ... حتى لقوا النُّجْلَ عند العَرْضِ بالنُّجُلِ
وضارب الرومَ رومٌ من سيوفهمُ ... وطاعَنَ العُرْبَ أَعْرابٌ من الأَسَلِ
وهزَّهم لصهيل الخيل تحت صهيل ... البيضِ ما هزَّ أعطاف القَنَا الخَطِل
فالدمُ خَمْرٌ وأصواتُ الجيادِ لهمْ ... أصوات مَعْبَد في الأَهزاج والرَّمَل
والخيلُ قد أَطرَبَتْها مثلما طربوا ... أفعالُهمْ، فهي تمشي مِشْيَةَ الثَّمِل
من كل أجردَ مختالٍ بفارسِهِ ... إلى الطِّعان جريحِ الصَّدْرِ والكَفَل
وكلِّ سَلْهَبَةٍ للريح نِسْبتُها ... لكنها لو بَغَتْها الريح لم تُنَل
أَفارسَ المسلمين اسمعْ فلا سَمِعَتْ ... عِدَاك غيرَ صليل البيض في القُلَل
مقالَ ناءٍ غريبِ الدار قد عدم ال ... أَنصارَ لولاك لم يَنْطِق ولم يَقُل
يشكو مصائبَ أَيامٍ قد اتسعتْ ... فضاقَ منها عليهِ أوسعُ السُّبُل
يرجوكَ في دفعها بعد الإله وقد ... يُرْجَى الجليلُ لدفع الحادث الجَلَل
وكيفَ أَلقى من الأيام مَرْزِئَةً ... جَلَّتْ ولي من بني رزِّيك كلُّ وَلي
لولاهمُ كنتُ أَفري الحادثات، إذا ... نابت، بنهضة ماضي العزم مُرْتجل
وكيف أخلع ثوبَ الذلِّ حيث كَفِيلُ ... الحرِّ بالعزِّ وَخْدُ الأيْنُقِ الذُّلُلِ
فما تخافُ الردى نفسي وكم رضيَتْ ... بالعجز خوفَ الردى نفسٌ فلم تُبَل
إِني امرؤٌ قد قتلتُ الدهر معرفةً ... فما أَبيتُ على يأْسٍ ولا أَمَل
إِن يُرْوِ ماءُ الصِّبا عودي فقد عَجَمَتْ ... مني طَروقُ الليالي عُودَ مُكْتَهِل
تجاوزتْ بي مَدَى الأشياخِ تجربتي ... قِدْماً وما جاوزتْ بي سنَّ مُقْتَبِل
وأولُ العمر خيرٌ من أواخره ... وأين ضَوْءُ الضحى من ظلمة الأُصُل
دوني الذي ظنَّ أني دونَه فلهُ ... تعاظمٌ لينال المجد بالحِيَلِ
والبدرُ تَعْظم في الأبصار صورتهُ ... ظنّاً ويَصْغُرُ في الأفهام عَنْ زُحَلِ
ما ضرَّ شِعْرِيَ أني ما سَبَقْتُ إلى ... أَجابَ دمعي وما الداعي سوى طلل
فإن مدحي لسيف الدّين تاهَ بهِ ... زَهْواً على مَدْحِ سَيْف الدّولة البَطَل
للشعراء المهذبين المذهبين امذهب، على هذا الوزن المعجز المعجب، قصائد، فرائد، قلائد. وهذا مهذب مذهبهم إذ هو وحيد العصر، مجيد النظم والنثر.
واستعرت من الأمير عز الدين حسام جزءاً فيه قصيدة بخط المهذب بن الزبير مدح بها الصالح بن رزيك سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة ويصف أسطوله ونصرته في البحر على الروم:
أَعَلِمتَ حين تجاورَ الحيانِ ... أَنَّ القلوبَ مواقدُ النيران
وعرفْتَ أَنَّ صدورنا قد أَصبحتْ ... في القومِ وهْيَ مَرابضُ الغزْلان

وعيوننا عِوَضَ العيون أَمَدَّها ... ما غادروا فيها من الغُدْران
ما الوَخْدُ هزَّ قِبَابهم بل هَزَّها ... قلبي عشيةَ سار في الأَظعان
وبمهجتي قمرٌ إذا ما لاح للسّاري ... تضاءَلَ دونه القَمَران
قد بانَ للعشاق أَنَّ قَوامَهُ ... سَرَقَت شمائِلَهُ غصونُ البان
وأراك غصناً في النعيم تميل إِذا ... غُصْنُ الأَراك يميدُ في نَعْمَانِ
للرمح نصلٌ واحد ولقَدِّهِ ... من ناظريه إِذا رَنَا نَصْلانِ
والسيفُ ليس له سوى جَفْنٍ وقد ... أَضحى لصارم طَرْفه جَفْنَأنِ
والسهمُ تكفي القوسُ فيه وقد غدا ... من حاجبيه للحظهِ قوسان
ولربَّ ليلٍ خلتُ خاطفَ بَرْقهِ ... ناراً تَلَفَّعُ للدُّجَى بدخان
كالمائلِ الوسنان من طول السُّرَى ... جَوْزاؤهُ، والراقصِ السكران
ما بانَ فيه من ثُرَيَّاهُ سوى ... إِعجامِها والدَّالُ في الدَّبَران
وترى المجرةَ في النجوم كأَنَّها ... تَسْقِي الرياضَ بجدولٍ ملآن
لو لم يكنْ نهراً لما عامت به ... أبداً نجومُ الحوت والسرطان
نادمتُ فيه الفرقدين كأنني ... دون الورى وجَذيمةً أَخَوَان
وترفعتْ هِمَمِ فما أَرْضَى سوى ... شُهْبِ الدجى عِوَضاً من الخلاَّن
وأَنِفْتُ حين فُجعت بالأَحبابِ أن ... أَلْهُو عن الإخوان بالخَوَّان
واعتضتُ من جود الوزير مواهباً ... أَسْلَتْ عن الأَوطارِ والأَوطان
ومنها يحثه على قصد شام الفرنج:
يا كاسرَ الأصنام قُمْ فانهض بنا ... حتى تصيرَ مُكَسِّرَ الصُّلبان
فالشامُ مُلككَ قد ورثت تُرَاثَهُ ... عن قَوْمِك الماضين من غَسَّان
فإذا شككتَ بأنها أَوطانُهُمْ ... قدماً فسل عن حادثِ الجَوْلانِ
أَوْ رُمْتَ أن تتلو محاسِنَ ذكرهم ... فاسندْ روايتها إلى حَسَّان
منها في وصف الزلزلة:
ما زلزلتْ أرضُ العِدا بل ذاك ما ... بقلوبِ أَهليها من الخَفَقَان
وأَقولُ إنَّ حصونهم سجدتْ لِما ... أُوتيت من مُلْكٍ ومِنْ سلطان
والناسُ أَجدرُ بالسجود إذا غدا ... لعُلاكَ يسجدُ شامخُ البُنْيَان
ولقد بعثتَ إلى الفرنج كتائباً ... كالأُسْدِ حين تصولُ في خَفَّان
لَبسوا الدروع ولم نَخَل مِنْ قَبْلِهِمْ ... أَنَّ البحار تَحُلُّ في غُدْران
وتيمَّموا أرضَ العدو بقَفْرَةٍ ... جرداءَ خاليةٍ من السكان
عشرين يوماً في المُغَار وليلةً ... يَسْرونَ تحت كواكبِ الخِرْصَأن
حتى إِذا قطعوا الجفارَ بجحفل ... هو في العديد ورمٍلُهُ سِيَّانِ
أغريتهمْ بحمى العِدَا فجعلْتَهُ ... بسطَاكَ بعد العزِّ دارَ هوان
عَجَّلْتَ في تلك العجول قِراهُمُ ... وهمُ لك الضيفانُ بالذِّيفَان
لما أَبَوْا ما في الجفان قَرَيْتَهُمْ ... بصوارمٍ سُلَّتْ من الأَجفان
وثللتَ في يوم العريش عًروشَهُمْ ... بشَبَا ضِرابٍ صادقٍ وطعان
أَلجأْتَهُمْ للبحر لما أَنْ جَرَى ... مِنْهُ ومن دمهمْ معاً بَحْرَان
مُدِحَ الورى بالبأسِ إِذْ خضبوا الظُّبَ ... في يومِ حربهمُ من الأَقران
ولأَنتَ تخضب كلَّ بحرٍ زاخرٍ ... ممن تحاربُ بالنَّجِيعِ القاني
حتى ترى دمهمْ وخضرةَ مائه ... كشقائقٍ نُثِرَتْ على الرَّيْحَان
في وصف الأسطول:

وكأنَّ بحرَ الرُّوم خُلِّقَ وَجْهُهُ ... وطَفَتْ عليه منابتُ المَرْجَان
ولقد أتى الأسطولُ حين غزا بما ... لم يأتِ في حينٍ من الأحيان
أَحْبِبْ إليَّ بها شوانِيَ أَصْبَحَتْ ... من فتكها ولها العُدَأةُ شواني
شُبِّهْنَ بالغربانِ في ألوانها ... وفعلن فعل كواسر العْقبان
أوقرْتَها عُدَدَ القتالِ فقد غَدَتْ ... فيها القَنَا عِوضاً من الأَشْطَان
فأتتكَ مُوقَرَةً بسبيٍ بينه ... أَسْرَاهُمُ مغلولةَ الأذقان
حربٌ عَوَانٌ حَكَّمَتْكَ من العدا ... في كلِّ بكرٍ عندهمْ وعَوَان
وأعدتَ رُسْلَ ابنِ القسيم إِليه في ... شعبانَ كي يتلاءَمَ الشعبان
والفالُ يشهد باسمه أَن سوف يغدو ... الشامُ وهو عليكما قِسْمَانِ
منها في مدح نور الدين:
وأَراكَ من بعد الشهيدِ أباً له ... وجعلتَه من أَقربِ الإِخوان
وهو الذي ما زال يفْعَلُ في العدا ... ما لم يكنْ لِيُعَدُّ في الإمكان
ومنها في وصف قتله البرنس ويصف رأسه على الرمح بمعنى بديع:
قَتَلَ البِرِنْسَ ومن عَسَاهُ أَعانه ... لما عَتَا في البغي والعُدْوان
وأرى البريَّةَ حين عادَ برأسه ... مُرَّ الجَنَى يبدو على المُرَّان
وتعجبوا من زقةٍ في طرفه ... وكأنَّ فوق الرمح نصلاً ثاني
فليهنه أَنْ فازَ منك بسيدٍ ... أَوْفَى برتبته على كيوان
قد صاغَ من أَرماحه لمسامع الأ ... ملاك أقراطاً من الخِرْصَانِ
والخيلُ تعلمُ في الكريهةِ أَنَّه ... قد حط هيكلها على الفرسان
عَجَباً لجودِ يديه إِذْ يبني العلا ... والسيلُ يَهْدِمُ ثابتَ الأَرْكَانِ
ومنها يصف شعر الصالح:
وَلَنَارُ فظنته تُرِيكَ لشعره ... عذباً يُرَوِّي غُلَّةَ الظمآن
وعقودَ درٍ لو تجسَّمَ لفظها ... ما رُصِّعَتْ إلا على التيجان
وتنزهتْ عن أن تُرَى أَفْرَادُهَا ... لمواضعِ الأَقراط والآذان
من كل رائقةِ الجمال زَهَتْ بها ... بين القصائدِ عِزَّةُ السلطان
سيارةٌ في الأرض لا يعتاقها ... في سيرها قَيْدٌ من الأَوْزَأن
يا مُنْعِماً ما للثناء ولو غلا ... يوماً بما تُولي يداهُ يَدَان
قَلَّدْتَ أَعناقَ البرية كلَّهَا ... مِنَناً تحمَّلَ ثِقْلَهَا الثَّقَلاَن
حتى تَسَاوَى الناسُ فيكَ أصْبَح ... القاصي بمنزلةِ القريب الدَّاني
ورحِمْتَ أَهْلَ العجز منهمْ مثلما ... أصبحتَ تَغْفِرُ للمسيءِ الجانِي
وأنشدني الشريف إدريس الحسني للمهذب بن الزبير من قصيدة في مدح ابن رزيك أيضاً أولها:
أَمَجْلِسٌ في محلِّ العِزِّ أَمْ فَلَكُ ... هذا وهل مَلِكٌ في الدَّسْتِ أَم مَلَكُ
منها في المدح:
أغنى عيانُ معانيه النواظرَ عن ... قولٍ يُلَفَّقُ في قومٍ ويُؤتَفَكُ
يا واحدَ الدهر لا ردٌّ عليَّ إذا ... ما قلتُ ذلك في قولي ولا دَرَك
ما كان بعدَ أمير المؤمنين فتىً ... فيه الشجاعة إلا أنت النُّسُكُ
فالفعلُ منه ومنك اليوم مُتَّفِقٌ ... والنعتُ منه ومنك اليومَ مُشْتَرَك
يُدْعَى بصالح أهل الدين كلِّهِمُ ... وأنت صالحُ من بالدين يَمْتَسِك
لم ترضَ أَسماءَ قومٍ أصبحوا رِمماً ... كأَنَّ أَلْقَابَهُمْ من بعدهم تُرُكُ
ومنها:
وَافَى فأَرْدَى رجالاً بعد ما نَعِموا ... دَهْراً وأَحيا رجالاً بعد ما هَلَكوا

ليس في هذا البيت مدح ولا ذم، ولا له في الثناء والإطراءِ سهم، فإنه كما أحسن بالإحياء، أَساءَ بالإِرداء، فكفر بهلاك أولئك حياة هؤلاء، ولو قال: أردى لئاماً بعد ما نعموا، وأحيا كراماً بعد ما هلكوا، لوفى الصنعة حق التحقيق، وأهدى ثمرة المعنى على طبق التطبيق.
طلعتَ والبدرَ نصف الشهر في قَرَنٍ ... فأشرقتْ بكما الأرضُونَ والفَلَكُ
وأسفرَ الجوُّ حتى ظَنَّ مبصرُهُ ... بأنَّ لَمْعَ السَّنَا في أُفْقهِ ضَحِكُ
يقودُ كلُّ مُجِنٍ ضِغْنَ ذي تِرَةٍ ... يكادُ من حَرِّه الماذيُّ ينْسَبِكُ
حتى أعادَ بحد السيفِ مُلْك بني الزهراءِ ... واستُرْجِعَ الحقُّ الذي تَركوا
فلو يكونُ لهم أمثالُهُ عَضُداً ... فيما مضى ما غدت مغصوبةً فَدَكُ
لقد أبطل في هذا القول المؤتفك، وغفل عن سر الشريعة في فدك، وفضل ممدوحه على السلف في الشرف، وأدت به المبالغة في الضلال إلى السرف.
وأنشدني الأمير مرهف بن أسامة بن منقذ للمهذب بن الزبير من أبيات:
باللّه يا ريحَ الشما ... ل إذا اشتملتِ الليل بُرْدا
وحملتِ من نَشْرِ الخُزَا ... مَى ما اغتدى للنَّدِ نِدَّا
ونسجت في الأشجار بين ... غصونهنَّ هَوىً ووُدَّا
هُبِّي على بَرَدَى عَساهُ ... يزيدُ من مَسْراك بَرْدَا
أَحبابنا ما بالكُمْ ... فينا من الأَعداءِ أَعْدَى
وحياةِ ودكمُ وتُرْ ... بة وَصْلِكُمْ ما خُنْتُ عهدا
وأنشدني له من قصيدة أولها:
رَيعَ الفؤادُ خلالَ تلك الأَرْبَعِ ... فكأنها أَولى بها من أضلعي
منها في المديح في ابن رزيك الصالح وكان يغري الشعراء بعضهم بالبعض:
يا أيها المَلِكُ الذي أوصافُهُ ... غُرَرٌ تجلَّتْ للزمانِ الأَسْفَعِ
لا تُطْمِعِ الشعراءَ فيَّ فإنَّني ... لو شئتُ لم أجبن ولم أَتَخَشَّع
إنْ لم أكن مِلْءَ العيون فإنني ... في القول يا ابن الصِّيد ملءُ المسمع
فليمسكوا عني فللا أنني ... أُبْقي على عِرْضي إذنْ لم أَجْزَع
وأَهَمُّ من هجوي لهم مَدْحُ الذي ... رفعَ القريضَ إلى المحلِّ الأرفع
ولو انَّه نَاجى ضميريَ في الكَرَى ... طيفُ الخيال بريبةٍ لم أَهْجَع
وإذا بدا لِي الهجرُ لم أَرَ شخصه ... وإذا يقالُ ليَ الخنا لم أسمع
والناسُ قد علموا بأني ليس لي ... مذ كنتُ في أَعراضهم من مَطْمَع
ومنها في صفة الشعر:
فلأكسونّ عُلاكَ كلَّ غريبةٍ ... وَلَجَتْ بلطفٍ سَمْعَ مَنْ لم يَسْمَعِ
خُتمت بما ابتُدِئَتْ به فتقابلتْ ... أطرافها بمُوشَّعٍ ومُرَصَّع
والشعر ما إنْ جاء فيهِ مَطْلَعٌ ... حَسَنٌ أُضيفَ إليه حُسْنُ المَقْطَع
كالوردِ: أوَّلهُ بزهرٍ مُونِقٍ ... يأتي، وآخرهُ بماءٍ مُمْتِع
وأنشدني له القاضي الأشرف أبو القاسم حمزة بن القاضي السعيد بن عثمان، قال أنشدني والدي علي بن عثمان المخزومي، قال أنشدني المهذب بن الزبير لنفسه في ابن شاور المعروف بالكامل:
وخاصمني بدرُ السَّما فخَصَمْتُهُ ... بقوليَ، فاسمعْ ما الذي أنا قائلُ
أتى في انتصاف الشهر يحكيك في البَهَا ... وفي النورِ لكن أين منك الشمائل!
فقلتُ له يا بدرُ إنك ناقصٌ ... سوى ليلةٍ، والكاملُ الدهرَ كاملُ
وأنشدني بعض المصريين له من قصيدة أولها:
أَغارت علينا باللحاظِ عيونُ ... لها الحسنُ من خَلْف النِّقابِ كمينُ
وسَلَّتْ علينا من غُمُودِ جفونِها ... كذلك أسماءُ الغُمودِ جُفُونُ
ومنها:
أَعِرْ نظمَ شعري منك عَيْناً بصيرةً ... ففي طيِّهِ للكِيمياءِ كُمُونُ

فقد شاركَتْنا فيه كَفُّكَ إذ غَدَتْ ... عليه لنا عند العطاءِ تُعِين
تجودُ لنا بالبِرِّ ثم تردُّهُ ... لها وهْوَ دُرٌّ بالمديحِ ثمين
وأنشدني له أيضاً:
لقد جَرَّدَ الإسلامُ منك مهنَّداً ... حديداً شَبَاهُ لا يُداوَى له جُرْحُ
إقامةُ حَدِّ اللّه في الخلقِ حَدُّهُ ... إِذا سَلَّهُ، والصفحُ عنهمْ له صَفْحُ
وله
وذي هَيَفٍ يُدعى بموسى، بطرفِهِ ... بقيةُ سحرٍ تأخذ العين والسمعا
وحيَّاتُهُ أَصداغه، وعِذَارُهُ ... يُخَيِّلُ لي في وجهه أنها تَسْعَى
وله في غلام له خال بين عينيه:
ومهفهفٍ أَسيافُ مقلته ... أبداً تُريق من الجفون دما
عيناهُ في قلبي تنازعتا ... فسوادُهُ قد ظَلَّ بينهما
وله في غلام تغرغرت عيناه عند الوداع:
ومرنَّح الأعطاف تحسبُ أنَّه ... رُمْحٌ ولكنْ قدَّ قلبيَ قَدُّهُ
إن قلتُ إنّ الوَجْهَ منه جَنَّةٌ ... أَضحى يكذِّبني هنالك خَدُّه
ولئن ترقرقَ دمعه يومَ النوى ... في الطَّرْفِ منه وما تناثرَ عِقْدُهُ
فالسيفُ أقطعُ ما يكون إذا غدا ... مُتَحَيِّراً في صفحتيه فِرِنْدُه
وله
هُمْ نصب عيني: أنجدوا أو غاروا ... وَمُنَى فؤادي: أَنصفوا أو جاروا
وهمُ مكانَ السرِّ من قلبي وإن ... بَعُدَتْ نوىً بهمُ وشَطَّ مَزَار
فارقتهم وكأنهم في ناظري ... مما تُمَثِّلُهُمْ ليَ الأفكار
تركوا المنازلَ والديار فما لهم ... إلا القلوب منازلٌ وديار
واستوطنوا البيدَ القفارَ فأصبحتْ ... منهم ديارُ الإِنس وهْيَ قفار
فلئن غَدَتْ مصرٌ فلاةً بعدهم ... فلهمْ بأجواز الفَلاَ أمصار
أو جاوروا نجداً فلي من بعدهمْ ... جاران: فيضُ الدمع والتذكار
أَلِفوا مواصلةَ الفلا والبيدِ مُذْ ... هجرتهمُ الأوطان والأوطار
بقلائصٍ مثل الأهلَّةِ عندما ... تبدو، ولكنْ فوقها أقمار
وكأنما الآفاقُ طراً أَقْسَمَتْ ... أَلاَّ يقر لهم عليه قرار
والدهرُ ليلٌ مذ تناءت دارهمْ ... عنِّي، وهلْ بعد النهار نهار
لي فيهمُ جارٌ يمتُّ بحرمتي ... إن كان يُحْفَظُ للقلوبِ جِوَارُ
لا بل أَسِيرٌ في وَثَاقِ فائه ... لهمُ فقد قتل الوفاءَ إِسار
ومنها:
أمنازلَ الأحباب غيَّرَكِ البلى ... فلنا اعتبارٌ فيك واستعبار
سَقْياً لدهرٍ كان منك تشابهتْ ... أَوقاتُهُ فجميعه أَسحار
قَصُرَتْ ليَ الأعوامُ فيه فمذ نأَوْا ... طالتْ بي الأَيَّامُ وهي قِصَار
يا دهرُ لا يَغْرُرْكَ ضَعْفُ تجلدي ... إِني على غير الهوى صَبَّار
وله
كأنَّ قدودهمُ أَنبتتْ ... على كُثُبِ الرَّمْلِ قُضْبَانَها
حججنا بها كعبةً للسرورِ ... ترانا نُمَسِّحُ أَرْكَانَها
فطوراً أعانقُ أَغصانها ... وطوراً أُنادم غزلانها
على عاتقٍ إن خَبَتْ شَمْسُنَا ... فَضَضْنَا عَنِ الشمس أَدْنَانَها
وإن ظهرَتْ لكَ محجوبةً ... قرأت بأَنْفِكَ عُنْوَانَها
كُمَيْتٌ من الراح لكنما ... جعلنا من الروح فرسانَها
إذا وجدت، حلبةٌ للسرور ... وكان مَدَى السُّكر مَيْدَانها
يطوفُ بها بابليُّ الجفونِ ... تفضحُ خَداهُ ألوانها
إذا ما ادَّعَتْ سَقَماً مُقْلَتَاهُ ... أَقمتُ بجسميَ بُرْهَانها
بكأس إذا ما علاها المزاجُ ... أَحالَ إلى التبر مَرْجَانها

كأنَّ الحَبابَ وقد قُلِّدَتْهُ ... دُرٌّ يُفَصِّلُ عِقْيانها
ومُسْمِعَةٍ مثل شمس الضحى ... أَضافت إلى الحسن إِحسانها
وراقصةٍ رَقْصُها لِلُّحُونِ ... عَرُوضٌ تُقَيِّدُ أوزانها
ولما طَوَى الليلُ ثوب النهار ... وجَرَّتْ دَيَأجيه أَرْدَانَها
جلونا عرائسَ مثل اللُّجَيْنِ ... صنعنا من النار تيجانها
وصاغَتْ مدامعها حِلْيَةً ... عليها تُوَشِّحُ جُثْمَانَها
رماحاً من الشمع تفري الدجى ... إذا صقلَ الليلُ خُرِصانها
بها ما بأفئدةِ العاشقينَ ... فليستْ تفارقُ نيرانها
وقد أشبهتْ رُقَبَاءَ الحبيب ... فما يدخل الغُمْضُ أَجفانَها
وفيها دليلٌ بأَنَّ النفو ... سَ تَبْقَى وتُذْهِبُ أَبْدَانَها
ومن شعره ما أورده أخوه في الجنان وهو قوله:
لم تنلْ بالسيوف في الحرب إِلا ... مثلما نلتَ باللواحظ مِنَّا
وعيونُ الظِّبا ظُباً وبهذا ... سُمِّيَ الجفْنُ للتشابه جَفْنا
وقوله:
وقد أنكروا قتلي بسيف لحاظه ... ولو أنصفوني ما استطاعوا له جحدا
وقالوا دع الدعْوى فما صحَّ شاهدٌ ... عليها ولسنا نقبلُ الكفَّ والخدا
ولو كان حقاً ما تقولُ وتدعي ... على مقلتيه عاد نَرْجسها وردا
وما علموا أن الحسامَ بِسَفْكِهِ ... دمَ القِرْنِ يوماً عُدَّ أَمْضَى الظُّبَا حَدَّا
وقوله:
لقد طال هذا الليل بعد فراقه ... وعهدي به لولا الفراقُ قصيرُ
وكيف أُرَجِّي الصُّبْحَ بعدهُمُ وقَدْ ... تَوَلَّتْ شموسٌ منهمُ وبدور
وقوله:
ليت شعري كيفَ أنْتمْ بَعْدَنا ... أَترى عندكم ما عندنا
بنتمُ والشوق عنَّا لم يَبِنْ ... وظعنتمْ والأَسى ما ظَعَنا
ومنها:
قلْ لمسرورين بالبين وقد ... شفَّنَا من أَجلهمْ ما شفنا
لم يَهُنْ قطُّ علينا بُعْدُكُمْ ... مثلما هانَ عليكم بُعْدُنا
ولقد كُنَّا نعزِّي النفسَ لو ... كنتمُ قبلَ التنائي مثلنا
لم تُبالوا إِذْ رحلتمْ غدوةً ... أيَّ شيءٍ صَنَعَ الدهرُ بنا
سهرتْ أَجْفَانُنَأ بعدكمُ ... فَكَأَنَّا ما عَرَفْنَا الوسنا
لا رَأَتْ عينٌ رأتْ من بَعْدِكُمْ ... غيرَ فيضِ الدمع، شيئاً حسنا
ومنها:
واخدعوا العينَ بطيفٍ مثلما ... تخدعُ القلبَ أَحاديثُ المُنَى
وقوله:
ويا عجباً حتى النسيمُ يخونني ... ويُضرمُ نيرانَ الأسى بهبوبِهِ
تُحَمِّلُهُ سَلْمَى إِلينا سَلاَمَها ... فيكتُمُهُ أَلاَّ يَضُوعَ بطيبه
وقوله من قصيدة:
أَترى بأيِّ وسيلةٍ أَتَوَسَّلُ ... لمْ تُجْمِلوا بي في الهوى فتجمَّلُوا
أشكو وجَوْرُكُمُ يزيدُ وما الذي ... يُغني المُتَيَّمَ أَن يقول وتفعلوا
إنْ أَصْبَحَتْ عيني لدمعي مَنْهَلاً ... فالعينُ في كل اللغات المَنْهَلُ
وقوله في المديح من قصيدة:
عَضَدْت النَّدَى بالبأسِ تُقْضي على العِدَا ... سيوفُكَ، أو تَقْضي عليكَ المكارمُ
سحائبُ جودٍ في يديك تضمَّنَتْ ... صواعقَ ظَنُّوا أَنهنَّ صوارِمُ
إذا ما عَصَتْ أمراً لهنَّ قلوبُهُمْ ... ضَلالاً أَطاعتْ أَمْرَهُنَّ الجماجم
ومنها:
وغُرٍ على غُرٍ جيادٍ كأنما ... قوائمها يوم الطِّرَاد قَوَادِمُ
إذا ابتدروا في مَأْقِطٍ فَرِحَتْ بهم ... صدورُ المذاكي والقنا والصوارم
ومنها في صفة السيوف:
تريك بروقاً في الأكف تدلُّنَا ... على أَنَّ هاتيك الأَكفَّ غمائمُ
ومنها في صفة الرماح:

وسُمْرٍ عوالٍ زَيَّنَتْهَا أَكُفُّهُمْ ... فقد حَسَدَتْ منها الكعوبَ اللهاذمُ
إذا عقلوها خِلْنَهُمْ مُتَوَشِّحِي ... سلوخٍ وفي الأَيْمَانِ منهمْ أَراقم
تلوحُ نجوماً، في النحور غروبها ... إذا جَنَّها ليلٌ مع النقعِ قاتم
ومنها في المدح:
إذا صُلْتَ قال الدينُ والعدلُ: منصفٌ ... فإن جُدْتَ قال الجودُ والمالُ: ظالمُ
وقوله:
مالُهُ من فَتْكِ راحتِهِ ... كأعاديه على وَجَلِ
أبداً تتلو مواهِبُهُ ... خُلِق الإنسان من عَجَلِ
وقوله في الوزير رضوان بن ولخشى:
إذا قابَلَتْهُ ملوكُ البلا ... دِ خَرَّتْ على الأرضِ تيجانُها
وللّه في أرضه جنَّةٌ ... بمصرَ ورضوانُ رضوانها
وقوله من قصيدة في المدح:
وقَبْلَ كَفِّكَ لا زالتْ مُقَبَّلَةً ... ما إنْ رأينا سحاباً قَطْرُهُ بِدَرُ
أَحْيَت وأَرْدَتْ فمن أَنوائها أبداً ... صوبُ الندى والردى في الناسِ مُنهمر
أُعْيَت صفاتُكَ فكري وهي واضحةٌ ... كالشمس يَعْجِزُ عن إدراكها البَصَر
وقوله من قصيدة:
جَمَع الفضائل كلَّها فكأنما ... أَضحى لشخص المَكْرُماتِ مِثالا
ما كان يُبْقي عدلُهُ متظلِّماً ... لو كان يُنْصِفُ جُودُهُ الأموالا
لا يرتضي في الجُودِ سَبْقَ سؤال مَنْ ... يرجوهُ حتى يَسْبِقَ الآمالا
وقوله من المراثي في كبير، عقب موته نزول مطرٍ كثير:
بنفسيَ من أَبكى السمواتِ موتُهُ ... بغيثٍ ظَنَنّاهُ نوالَ يمينهِ
فما اسْتَعْبَرَتْ إلا أَسىً وتأسُّفاً ... وإلا فماذا القطر في غير حينه
وقوله:
فإن تكُ قد غاضَ بجودِ أَكُفِّكمْ ... عيونٌ، وفاضتْ بالدموع عيونُ
وخانتكُمُ والدّهْرُ يُرْجَى ويُتَّقَى ... حوادثُ أَيامٍ تَفِي وتخونُ
فلا تيأسوا إِنَّ الزمان صَروفَهُ ... وأَحداثَهُ مثل الحديثِ شُجون
وقوله من قصيدة:
هو الدهرُ، فانظرْ أَيَّ قِرْنٍ تحاربهْ ... وقد دهمتنا دُهْمُهُ وأَشَاهِبُهْ
ليالٍ وأيامٌ يُغَرُّ بها الوَرَى ... وما هي إلا جُنْدُهُ وكتائبه
ومنها:
وما سُمُّهُ غيرُ الكرام كأنما ... مناقِبُهُمْ عند الفَخَارِ مثالبُهْ
ومنها:
لقد غابَ عن أُفْقِ العلا كلُّ ماجدٍ ... له حاضرُ المجدِ التليدِ وغائبه
إِذا ذكرتْهُ النفسُ بتُّ كأنَّنِي ... أَسِيرُ عِداً سُدَّتْ عليه مذاهبه
وكم ليلةٍ ساهَرْتُ أَنْجُمَ أُفْقِهَا ... إذا غابَ عني كوكبٌ لاح صاحبه
يطولُ عليَّ الليلُ حتى كأنما ... مشارقُهُ للناظرين مغاربه
وقد أسلمَ البدرُ الكواكبَ للدجى ... وفاءً لبدرٍ أَسْلَمَتْهُ كواكبه
يُخَيَّلُ لي أَنَّ الظلامَ عجاجةٌ ... وأَنَّ النجومَ السارياتِ مواكبه
وأَن البُروقَ اللامعاتِ سيوفُهُ ... وأن الغيوثَ الهامعاتِ مواهبه
ومنها:
فقلْ لليالي بعد ما صَنَعتْ بنا ... أَلا هكذا فليَسْلُبِ المجدَ سالبه
وقوله في العتاب والهجاء من قصيدة:
خليليَّ إن ضاقتْ بلادٌ بِرُحْبِها ... ورائي فما ضاق الفضاءُ أماميا
يظنُّ رجالٌ أنني جئتُ سائلاً ... فأسخطني أَنْ خابَ فيهمْ رجائيا
وما أنا ممن يُسْتَفَزُّ بمطمعٍ ... فيُخْلِفُهُ منه الذي كان راجيا
ولكنني أَصْفَيْتُ قوماً مدائحي ... فأصبحَ لي تقصيرُهُمْ بيَ هاجيا
فإن كنتُ لا أُلْفَى على المَنْع ساخطاً ... كذلك لا أُلْفَى على البَذْلِ راضيا
محاسنُ لي فيهمْ كثيرٌ عديدُهَا ... ولكنها كانتْ لديهم مساويا

تُقَلِّدُهُمْ من دُرِّ نحري قلائداً ... ولو شئتُ عادت عن قليلٍ أفاعيا
ومنها:
ولو كنتُ أنصَفْتُ المدائح فيهمُ ... لصيَّرْتُها للأَكرمينَ مراثيا
وقوله:
لا ترجُ ذا نقصٍ ولو أصبحتْ ... من دونه الرتبةِ، الشمسُ
كيوانُ أَعلى كوكبٍ موضعاً ... وهو إذا أَنْصَفْتَهُ نَحْسُ
وقوله في ذم الزمان:
كم كنت أسمع أن الدهرَ ذو غِيَرٍ ... فاليومَ بالخُبْرِ أَستغني عن الخَبَرِ
ومنها:
تشابَهَ الناسُ في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ ... تَشَابُهَ الناسِ والأصنامِ في الصُّوَرِ
ولم أَبِتْ قطُّ من خَلْقٍ على ثِقَةٍ ... إلا وأصبحتُ من عقلي على غَرَر
لا تخدَعَنِّي بمرئيٍ ومُسْتَمعٍ ... فما أُصُدِّقُ لا سمعي ولا بَصَري
وكيف آمَنُ غيري عند نائبةٍ ... يوماً إذا كنتُ مِنْ نفسي على حَذَر
تأبى المكارمُ والمجدُ المؤثَّلُ لي ... من أَنْ أُقيم، وآمالي على سَفَرِ
إني لأَشْهَرُ في أَهلِ الفصاحة مِنْ ... شمسٍ وأَسْيَرُ في الآفاق من قمرِ
وسوف أَرْمي بنفسي كلَّ مهلكةٍ ... تَسْرِي بها الشهبُ إن سَارَتْ على خَطَرِ
إِمَّا العُلاَ، وإليها مُنْتَهَى أَملي ... أَو الرَّدَى، وإِليهِ مُنْتَهَى البَشَرِ
وقوله:
لا تُنْكرَنَّ من الأَنَامِ تَفَاوُتاً ... إذ كان ذا عَبْداً وذلك سَيِّدَا
فالناسُ مثلُ الأرض منها بُقْعَةٌ ... تَلْقَى بها خَبَثاً وأُخْرَى مَسْجِدا
وقوله:
ومن نكد الأيام أَنِّي كما تَرَى ... أُكابدُ عيشاً مثلَ دهريَ أَنْكَدَا
أَمِنْتُ عِداتي ثمَّ خِفْتُ أحبَّتي ... لقد صدقوا، إِنَّ الثقاتِ هُمُ العِدَا
ومن شعره في عدة فنون قوله:
لا تَطْمَعَنْ فيَّ أرضٌ أَنْ أُقيمَ بها ... فليس بيني وبين الأَرضِ من نَسَبِ
حيث اغتربتُ فلي من عفَّتي وَطَنٌ ... آوي إِليه وأهلٌ من ذوي الأدبِ
لولا التنقلُ أَعْيَا أن يَبينَ على ... باقي الكواكب فضلُ السَّبْعَة الشُّهُب
وقوله في شمعة:
ومصفرَّةٍ لا عن هَوىً غير أَنَّها ... تحوزُ صفاتِ المستهام المُعَذَّبِ
شجوناً وسُقْماً واصطباراً وأَدْمُعاً ... وخَفْقاً وتسهيداً وفرطَ تَلَهُّبِ
إذا جَمَّشَتْها الريحُ كانت كمِعْصَمٍ ... يردَّ سلاماً بالبَنانِ المُخَضَّب
وقوله:
لئن زادني قُرْبُ المَزَارِ تَشَوُّقاً ... للقياك، آذى فِعْلَهُ عَدَمُ الحسِّ
فما أنا إلا مثلُ ساهرِ ليلةٍ ... بدا الفجرُ فازداد اشتياقاً إلى الشمس

القاضي أبو الفتح
محمود بن إسماعيل بن حميد الفهري
وأصله من دمياط وذكره أبو الصلت في رسالته وقال: محمود بن إسماعيل الدمياطي كاتب الإنشاء بالحضرة المصرية. قال القاضي الفاضل توفي سنة إحدى وخمسين، وأنشدني له أشعاراً محكمة النسج كالدر في الدرج. علق بحفظي من قصدية هائية هذا البيت:
أَثَرُ المشيبِ بفَوْدِه وفُؤَادِه ... ألجاه أَنْ يَبْغي لديها الجاها
وأنشدني له في ابن الزبير وكان أسود:
يا شبه لقمانَ بلا حكمةٍ ... وخاسراً في العلم لا راسخا
سلخت أَشعارَ الورى كلِّهِمْ ... فصرتَ تُدْعَى الأَسْوَدَ السالخا
وأنشدني الأمير مرهف بن مؤيد الدولة أسامة بن منقذ لأبي الفتح ابن قادوس في رجل كان يكبر كثيراً في الصلاة:
وفاترِ النيَّةِ عِنِّينِهَا ... معْ كَثْرَةِ الرِّعْدَة والهِزَّهْ
مُكَبِّرٌ سبعينَ في مَرَّةٍ ... كَأنَّهُ صلَّى على حَمْزَهْ
وأنشدني قوله أيضاً:
ولائمٍ يلومني ... يريدُ مِنِّي تَوْبتي
يقولُ لي: الموتُ غداً ... فقلت: هذا حُجَّتِي
وأنشدني قوله أيضاً في طبيب:

عليلهُ منه عَلَى ... حالَيْ خسارٍ يَحْصُلُ
تُؤْخَذُ منهُ دِيَةٌ ... وبَعْدَ هَذَا يُقْتَلُ
وأنشدني قوله في الهجو:
قد كنتَ علقاً نفيساً ... سمحاً تجودُ بنفسكْ
إِذْ جاءك الحظُّ فافخرْ ... على أُبَيْنَاءِ جنسك
وإنْ تذكَّرَ قومٌ ... حديثَ أَمْسِكَ أَمْسِكْ
وله من قصيدة:
قمْ قبلَ تأذين النواقيسِ ... واجلُ علينا بنتَ قسِّيسِ
عروسَ دَنٍ لم يَدَعْ عِتْقُهَا ... إلا شُعَاعاً غيرَ ملموس
تُجْلَى علينا باسماً ثغرُهَا ... فلا تقابِلْها بتَعْبِيس
مُذْهَبَةُ اللونِ إذا صُفِّقَتْ ... مُذْهِبَةٌ للهمِّ والبُوس
نارٌ إلى النارِ دعا شُرْبُهَا ... وشَرَّدَتْ بالعقلِ والكيس
لا غروَ ما تأتيه من ريبةٍ ... لأنها عُنْصُرُ إليس
ليس لها عيبٌ سوى أَنها ... حسرةُ أَقوامٍ مفاليسِ
في روضةٍ كانت أزاهيرُهَا ... كأنَّها ريشُ الطواويس
فاغتنمِ اللذاتِ في دولةٍ ... صافيةٍ من كل تَعْكيس
بقيتَ في عمرٍ فيسح المدى ... من كلِّ ما تَحْذَرُ محروسِ
وله من قصيدة:
خلعتُ عذاري والتُّقَى في هواكمُ ... فأصبحتُ فيكم مُعْجَباً بذنوبي
ومامِثْلُ هذا الحبِّ يُحْمَلُ بَعْضُهُ ... ولكنَّ قلبي في الهوى كَقُلُوبِ
وله
لما تَعَلَّقَ ظبيةً ... رُوداً وظبياً أَهْيَفَا
وتآلفا بفؤادِهِ ... صار الفؤاد مُصَحَّفَا
وله
وليلةٍ كاغتماضِ الطَّرْفِ قَصَّرَهَا ... وصلُ الحبيبِ ولم نُقْصِرْ عَنِ الأَملِ
بِتْنَا نجاذبُ أَهْدَابَ الظلامِ بها ... كفَّ الملامِ وذكرَ الصدِّ والملل
وكلما رامَ نُطْقاً في معاتبتي ... سَدَدْتُ فاهُ بطيبِ اللثم والقُبَلِ
وبات بدرُ تمامِ الحُسْنِ مُعْتَنِقي ... والشمسُ في فَلَكِ الكاساتِ لم تَفِلِ
ومنها البيت الذي سار له:
فبتُّ منها أرى النارَ التي سجدتْ ... لها المجوسُ، من الإبريق تسجدُ لي
راحٌ إذا سَفَك النَّدْمَانُ من دمها ... ظَلَّتْ تقهقهُ في الكاساتِ من جَذَل
فقلْ لمنْ لامَ فيها إنني كلِفٌ ... مُغْرىً بها مثلما أُغْرِيتَ بالعَذَلِ
وله
أَأَحْمدُكمْ لك عندي يدٌ ... كما انبعثَ الماء من جَلمَدِ
قَصَرْتُ على شكرها مَنْطِقاً ... رَطيبَ اللسانِ نَدِيَّ النَّدِى
فلا تقطَعَنْها فإني أخافُ ... تَطيُّرَ قومٍ بقطعِ اليد
وأنشدني الأمير مرهف بن أسامة بن منقذ له:
أَكْرِمْ بقلبي للأحبَّةِ منْزِلا ... رَبَعُوا به أَم أَزْمَعُوا مَتَرَحَّلا
جادتْهُ أَنواءُ الدموعِ فما اغْتَدَى ... يوماً لِمنَّاتِ الحَيَا مُتَحَمِّلا
حفظي لعهدِ الغادرين أَضاعَ لي ... قلباً أَقامَ غرامُهُ وتَرَحَّلا
لا يَبْعُدَنْ زمنٌ مضى لو تُشْتَرى ... ساعاتُهُ بالعمر أَجمعَ ما غَلاَ
أَيَّامَ أَغصانُ القدودِ، قطوفُهَا ... تُجنى، وأَقمارُ الملاحة تُجْتَلَى
ومهفهفٍ لولا سهامُ جفونه ... تُصْمِي لأَدْرَكَ عاشقٌ ما أَمَّلا
كالبدرِ وجهاً والغزالِ تلفُّتاً ... والحِقْف ردفاً والقضيب تَمَيُّلا
ويكادُ من طيبِ المُقَبَّلِ يَنْثَني ... عود الأَراك من الثنايا مُبْدلا
إن كان يحكي البدرَ وجهاً إنه ... يحكيه أَيضاً في البروجِ تَنَقُّلاَ
ولقد أُديلُ من الصبابة همتي ... وأَشيمُ من شِيَمِي عليها مُنْصُلا
وأَصونُ عقدَ بلاغةٍ نَظَّمْتُهُ ... عن أَن يُرَى بسِوَى عُلاكَ مُفَصَّلا

يا من تساوتْ في العلا أَقسامُهُ ... وسما بهمته فكانَ الأَفْضَلا
أَرضٌ سعتْ قدماك فيها لا تزلْ ... لذوي الممالك قِبْلةً ومُقَبَّلا
ونداك، كل مؤمِّلٍ ما أَمَّلا ... إلا تَجَهَّمَ للعُفاةِ وأَمَّلا
مَلِكٌ يلاقي الطيفَ وهْوَ مُدَرَّعٌ ... حزماًن ويقتنصُ الفوارس أَعزلا
وأنشدني أيضاً لابن قادوس في الرشيد بن الزبير وكان أسود:
إنْ قلتَ من نارٍ خُلِقْ ... تَ وفُقْتَ كل الناسِ فَهْما
قلنا صدقتَ فما الذي ... أَطفاكَ حتى صِرْتَ فحما
وله
مليكٌ تَذِلُّ الحادثاتُ لعزِّه ... يُعيدُ ويُبدي والليالي رواغمُ
وكم كربةٍ يوم النزالِ تكشَّفَتْ ... بِحَمْلاَتِه وهْيَ الغَوَاشي الغَواشِمُ
تَشِيدُ بناءَ الحمدِ والمجدِ بِيضُهُ ... وهنَّ لآساس الهوادي هوادم
رقاقُ الظُّبَا تجري بآجالِ ذي الوَرَى ... وأرزاقِهِمْ، فَهْي القواسي القواسم
ومن قصيدة في صفة زاهد:
إذا قائمُ السيف انثنى في مُلِمَّةً ... عن الفعل أَغنى وحدَهُ وهْو قائمُ
فما صَدَرَتْ عن موردِ النفس خِلْتَهَا ... بأَغمادها وَهْي العواري العوارم
ومنها مخاطباً للزاهد:
صحائفُ أَعداها الشباب بصبغةٍ ... فهل أنت ماحٍ ما تخطُّ المآثم
ومن محاسن ابن قادوس، في شعره العلق بالنفوس، ما استخرجته من ديوانه قوله في صفة كتاب:
مدادُهُ في الطِّرْسِ لمَّا بدا ... قَبَّلُه الصبُّ ومَنْ يزهدُ
كأنما قد حلَّ فيه اللَّمَى ... أو ذاب فيه الحجرُ الأَسود
وقوله:
مَنْ عاذري مِنْ عاذلٍ ... يلومُ في حُبِّ رَشَا
إذَا نَكِرْتُ حُبَّهُ ... قال كَفَى بالدمع شا
أي شاهد.
وقوله في صبي لم يدرك:
سالمُ الفكر من تَخَالُجِ شَكٍ ... مُصْبِحُ الرأي في الملمِّ البَهيمِ
يُولجُ الليلَ في النهارِ من الخ ... طِّ بلفظٍ كمشرقاتِ النجومِ
وله من قطعة:
لقد كان جاهي عريضاً بكم ... فَلِمْ صار كالخطِّ لا عَرْضَ لهْ
وكم من يدٍ لك مشكورةٍ ... وما ليَ فيها ولا أُنْمُلَهْ
وقوله في ابن العلاني المعري:
هذا ابن علاَّنيكمُ شِعْرُهُ ... ينوب في الصيف عن الْخَيْشِ
إنْ لم يكن مثل امرىء القيس في ... أَشعاره فَهْو امرؤُ الفَيْشِ
وله في أقلفٍ:
وقيتَ قفاك من وقعِ القوافي ... وأَلفاظٍ خفافٍ كالحِقافِ
متى تُرْجى لنفعٍ أو لدفعٍ ... وقلبُكَ مثل في غِلاَفِ
وله
لام العواذلُ مغرماً ... في حبِّ مُلْهِيَةٍ وَقَيْنَهْ
ولو انهنَّ رأين تأْ ... ثيرَ الغرام به وَقَيْنَهْ
وله في مرثية:
يا فجعةً هي في الجنانِ مَسَرَّةٌ ... لقدومهِ تختال في غُرفَاتها
إِنْ كان في الدنيا عليهِ مأتمٌ ... فأراه عُرْس الحورِ في جَنَّاتِها
وله
يا من يكرُّ على جريح ... اللحظ منه مُجْهزُ
ديباج خدَّيه بسنْدُسِ ... عارضَيْهِ مُفَرْوَزُ
وبخدِّهِ خالٌ لدا ... ثِرَةِ الملاحةِ مَرْكَزُ
قل لي ولحظُكَ صَارِمٌ ... في أيِّ دِرْعٍ أبْرُزُ
أَبداً بسلطان الجما ... ل وبالهوى يَتَعزَّزُ
ويقول غِرٌّ بالتجني ... وهْو فيه مُبَرِّزُ
ويَسُومني ما لا يجو ... زُ من الأذى فأُجَوِّزُ
لولا الوزيرُ وعدلُهُ ... لم يُغْن فيه تَحَرُّزُ
عدلٌ يَفِيض وهمةٌ ... تَنْهَى العذولَ وتَحْجِزُ
وله
يا أَمرداً أَرمد العينَ ... من دماءِ الجراحِ
يقول طرفِيَ شاكٍ ... صدقتَ، شاكي السلاح
وله يهجو شاعراً:

لو كان ينصفُ حين ينْشِدُ ... شعرَهُ وَسْطَ المَلاَ
صفعوه عِدَّةَ كلِّ حرْ ... فٍ فيه لكنْ جُمَّلاَ
وله يهجو:
إِذا قال لا يعدو كلامَ ابن فاعلٍ ... على أَنَّ مَحْضَ الجهل حشْوُ دماغهِ
وليس كلاماً ما يقول وإنما ... يجيب الصَّدا من رأسه من فراغه
وله في جارية سوداء:
وعاذلٍ محتفلٍ ... مجتهدٍ في عَذَلي
يلومُني في ظبيةٍ ... مخلوقةٍ من كَحَل
إنّ السَّوَادَ عِلَّةٌ ... من نورِ هذي المُقَل
والحَجَرُ الأسودُ لم ... يُخْلَقَ لغير القُبَلِ
والقارُ مذ كان وعا ... ءُ السلسبيلِ السَّلْسَلِ
وله
فإن عدتُ إلى وصلك ... فالألطاف مَرْجُوَّهْ
وإن لجَّ بك الهجرُ ... فلا حولَ ولا قُوَّه
وله
حوله اليومَ أُناسٌ ... كلُّهُمْ يُزْهى برَائِهْ
وهْو مثلُ الماء فيهمْ ... لونُهُ لونُ إنائِهْ
وله
ابنُ فلانٍ رجلٌ صالحٌ ... فامتحنوه واقبلوا رأئي
ارموهُ في البحرِ لكي تنظروا ... فإنه يمشي على الماءِ
وله في ذم السواد:
أَهْوِنْ بلونِ السواد لوناً ... ما فيه من حُجَّةٍ لناسِبْ
لستَ ترى حُمْرَةً لخدٍ ... فيه ولا خُضْرَةً لشارِبْ
وله في فرس يستعمل في الماء:
أَأَرَدْتَها تَبْقَى وقدْ ... كلَّفْتَها بالماءِ قُوتَا
لكنْ لشدَّةِ ضَعْفِها ... ما كان فيها أن تموتا
وله يهجو:
عِرْسُ هذا الفعيل مذ غرس النا ... كةُ فيها... وهْي مُبَاحَهْ
أثمَرَتْ رأسُه قروناً طوالاً ... إنَّ هذا لمِنْ غريبِ الفِلاَحَهْ
وله
يقظانُ ملتهبُ النَّدَى فكأنّه ... مُغْرىً بإتلافِ النُّضَارِ مُسَلَّطُ
ومن شعره:
ذو عارضٍ كالغُرَابِ لوْناً ... وشاربٍ مثل ريشِ بَبْغَا
وله يهجو أنفاً كبيراً:
أنفُ الشريفِ دونه الآنافُ ... كأنما الدنيا له غِلاَفُ
ومن شعره:
قل لمن قد مَحَضتُهُ خالص الحبِّ ... فلم يَجْزِنِي على قدر حُبِّي
قد قَنِعْنَا بمنظرٍ يُطفْىءُ الوجْدَ ... ولفظٍ يُلْهِي الفؤاد ويُصْبِي
ما أُحِبُّ الوصالَ إلا لهذا ... فبقلبي أحبكم لا.....
وله في رجل كبير الأنف:
عليك لا لك أنفٌ ظلَّ مُشتَرِفا ... حتى غَدَا بنجوم الأُفْقِ مُلتَصِقَا
فلا تقُلْ خلقةُ اللّه ازدريْتَ بها ... فقد يعاذُ به من شرِّ ما خَلَقا
وله في المعنى:
كأنه السدُّ الذي بيْنَنا ... وبيْنَ يأْجوجٍ ومأْجوجِ
وله في المعنى أيضاً:
ورُبَّ أنفٍ لصديقٍ لنا ... تحديدهُ ليس بمعلومِ
ليس على العرشِ له حاجبٌ ... كأنه دعوة مظلوم

الموفق أبو الحجاج يوسف بن محمد المعروف ب
ابن الخلال
هو ناظر ديوان مصر وإنسان ناظره، وجامع مفاخره، وكان إليه الإنشاء، وله قوة على الترسل يكتب كما شاء، عاش كثيراً وعطل في آخر عمره وأضر، ولزم بيته إلى أن تعوض منه القبر، وتوفي بعد تملك الناصر مصر بثلاث أو أربع سنين. وأنشدني مرهف بن أسامة بن منقذ، قال أنشدني الموفق بن الخلال لنفسه من قصيدة:
عَذُبَتْ ليالٍ بالعُذَيب خَوَالي ... وحلَتْ مواقِفُ بالوصالِ حَوَالي
ومضتْ لذا ذاتٌ تَقَضَّى ذكرُها ... تُصْبِي الحليم وتَسْتَهيمُ السالي
وجَلَتْ مورَّدة الخدود فأَوْثَقَتْ ... في الصَّبْوةِ الخالي بحُسْنِ الخالِ
قالوا سراةُ بني هلالٍ أصْلُها ... صَدَقوا كذاك البدرُ فرع هِلال
ونقلت من كتاب جنان الجنان ورياض الأذهان من شعر ابن الخلال قوله:
وأغنَّ سيفُ لحاظِهِ ... يَفْري الحُسامَ بحدِّهِ
فَضَحَ الصوارمَ واللِّدَا ... نَ بقدِّه وبقدِّه

عجبَ الوَرَى لما حييت ... وقد منيت ببعده
وبقاء جسمي ناحلاً ... يصلي بوقدة صدِّه
كبقاء عنبرِ خالِهِ ... في نارِ صَفْحةِ خَدِّه
وقوله في شمعة:
وصحيفةٍ بيضاءَ تَطْلُعُ في الدجى ... صبحاً وتشفي الناظرين بدائها
شابتْ ذوائبها أَوانَ شبابها ... واسودَّ مَفْرِقُها أَوانَ فنائها
كالعين في طبقاتها ودموعِها ... وسوادِها وبياضِها وضيائها
وقوله في الشمعة أيضاً:
وصَعْدَةٍ لدنةٍ كالتبر تَفْتُقُ في ... جنحِ الظلامِ إذا ما أَبْرَزَتْ فَلَقَا
تدنو فيَخْرِقُ بُرْدَ الليل لَهْذَمُها ... فإِنْ نأَتْ رَتَقَ الإظلامُ ما فَتَقَا
وتستهلُّ بماءٍ عند وَقْدَتِها ... كما تأَلَّقَ برقُ الغيثِ فاندَفَقَا
كالصبِّ لوناً ودَمْعاً والتظاً وضناً ... وطاعةً وسهاداً دائماً وشَقَا
والحِبِّ أُنساً وليناً واسْتِواً وشَذاً ... وبهجةً وطُرُوقاً واجْتِلاً وَلِقَا
وقوله:
أما اللسانُ فقد أَخْفَى وقد كتما ... لو أَمكن الجفنُ كفَّ الدمع حين هَمَا
أصبتمُ بسهامِ اللحظِ مُهْجَتَهُ ... فهل يلامُ إذا أجرى الدموع دَمَا
قد صارَ بالسقم من تعذيبكم عَلَماً ... ولم يَبُحْ بالذي من جَوْرِكم عَلِمَا
فما على صامتٍ أَبْدَى لصدِّكُمُ ... في كلِّ جارحة منه السقامُ فما
وقوله في مرثيه بالعظات مثرية:
شِيَمُ الأيَّامِ سدٌّ بعد وُدِّ ... والليالي عهدها أَهْوَنُ عَهْدِ
إن أَعَانَتْ عَدَلَتْ أَوْ خَذَلَتْ ... سَلَبَتْ أَوْ وجدت راعت بفَقْدِ
أُفِّ للدُّنْيا فكم تخدعنا ... من حِبَاهَا بمُعَارٍ مُسْتَرَدِّ
ما وَفَتْ أَعوامُ قُرْبٍ بالذي ... جَنَتِ اللوعةُ من ساعةِ بُعْدِ
يا أَخا الغِرَّةِ حَسْبُ الدهر من ... عِظَةِ المغرور ما أَصبح يُبْدِي
تؤثرُ الدنيا فهل نلتَ بها ... لحظةً تخلصُ من همٍ وكَدِّ

الشيخ أبو الحسن
علي بن الحسن المؤدب
قرأت في مجموع له:
وأهيفٍ كالقضيبِ مُعْتَدِلاً ... باتَ بروضِ الجمال مَغْرُوسَا
أَثمر بالشمسِ والظلامِ وهلْ ... يجتمع الصبحُ والحناديسا
سُمِّيَ باسم المسيح وهْوَ على ... ضدِّ الذي كانَ فاعلاً عيسى
فذاك يُحْيي وذا يميتُ ضَناً ... صبّاً عليلاً لديه لا يُوسَى
تَحَكُّمٌ في النفوسِ يملكها ... مثل سليمانَ عرشَ بلقيسا
يلتقفُ السحرَ سحرُ ناظره ... كأنما لحظهُ عَصَا موسى
وله في ذم العذار:
انْقَعْ غليلَ الأَسَى بدمعٍ ... تُقْرِحُ أَسرابُهُ الجفونا
محا اسمَكَ الشَّعْرُ من خُدودٍ ... أثبتَّ في صحنها شُجُونَا
ما دبَّ في عارِضيك حتى ... بذلتَ من نفسك المصونا
فلا عدمنا اللحى فإنَّا ... بها نروضُ الفتى الحَرُونا
الشريف أبو الحسن علي بن محمد
الأخفش المغربي الشاعر
كنت أسمع التجار من أهل مصر وغيرهم من أهل الشام يصفونه ويطرونه، وعلى من بمصر من الشعراء يقدمونه، فإذا استنشدهم أحدٌ شعره قالوا ما نحفظه؛ لكنا لقبوله بمصر بعين الفضل نلحظه، حتى أنشدني الشريف أحمد ابن حيدرة الزيدي الحسيني شعره، فوجدت موافقاً لخبرهه خبره. أنشدني له من قصيدة في المنبوز بالآمر:
سَقَى دِمَنَ السَّفْحين للقطرِ صيِّبُ ... وحَيَّا رُبَى حَيٍ رَبَا فيه رَبْرَبُ
فهل لي إِلى شَهْدِ اللواعسِ مَشْهَدٌ ... وهل لي إلى شِعْب الأَحِبَّةِ مَشْعَب
وما ليَ عن شرعِ الصبابةِ مَشْرَعٌ ... وما ليَ إلاَّ مذهبَ الحبِّ مَذْهَبُ
وفي الحيِّ رودٌ في عِذابِ وُرودِهَا ... عَذابٌ يُذيب العاشقين ويَعْذُبُ

على نحره يَطْفُو على الماء جوهرٌ ... وفي خَدِّهِ تَسْعَى على النار عَقْرَبُ
إذا غَرَبَتْ في فيه شمسُ مُدَامَةٍ ... فمشرقها من خدِّه حين تغرب
بروضٍ بديعِ الحسن أَمَّا شقيقُهُ ... فخدٌّ وأما الأُقحوانُ فأَشْنَبُ
سَمَاءُ كَلاً للماءِ فيه مَجَرَّةٌ ... وللوردِ شَمْسٌ والشقائقِ كوكبُ
كأَنَّ غصونَ الأيْكِ عادت منابراً ... بها وكأنَّ الطيرَ فيهنَّ تخطبُ
وغنَّتْ على الأوراقِ وُرْقٌ كأنها ... قيانٌ بأوتارِ المعازفِ تضرب
بليلٍ من البدرِ المنير مفضَّصٍ ... يُنَاطُ به شمسٌ من الصُّبْحِ مذهب
تعسَّفْتُهُ لمَّا تَنَصَّلَ بالضحى ... عن الصبح فَوْدٌ بالظلام مُخَضَّبُ
وهجَّرتِ الرمضاءُ والآلُ مائحٌ ... كأَنَّ على أَمْواجها العيسَ مَرْكَبُ
وقد زَجَلَتْ جنُّ الفلاة بمهمهٍ ... إذا جئتَ منها سبسباً عَنَّ سَبْسَبُ
إلى ذروةِ النورِ العَلائِيِّ إِنَّهُ ... إلى ذروة النُّورِ الإِلهِيِّ يُنْسَب
وأنشدني له من قصيدة أولها:
متى يشتفي المشتاقُ من لوعةِ الأسى ... ودائي دوائي، والأَسَى مَعْدِنُ الأَسَا
ومنها:
غزالٌ كحيلُ الطرف أَحوى مُفَلَّجٌ ... تَدَرَّعَ جلبابَ الملاحةِ واكتسى
ويتلو كتابَ السحرِ من لَحَظَاتِهِ ... كأنَّ لدين السحرِ فيها مُدَرِّسَا
ومنها:
ألا فاتَّخِذْ تلك الرياضَ منازهاً ... فإن أميرَ الغيثِ فيهن عَرَّسَا
وكنْ بظباءٍ الإِنس صبّاً متيماً ... بأشنبَ معسلِ الثَّنِيَّاتِ أَلْعَسَا
له اسمٌ متى ما شئت كَشْفَ غيوبه ... كما يكشف الصبحُ المبلَّجُ حِنْدِسَا
مُدامٌ وحُورٌ ثُمَّ مِسْكٌ ودميةٌ ... فهذا اسم ظبيٍ جلَّ أَنْ يتقيَّسا
وأنشدني له في ولد نقيب العلويين بمصر الملقب بأنس الدولة وكان مقدماً على الشعراء لنسبه، وشعره نازل:
سَمَتْ بابن أُنْسِ الدَّولة الرتبُ التي ... تُطَاوِلُ قَرْنَ الشمسِ حتى تَطُولَهُ
يحاولُ قولَ الشعر غايةَ جُهْدِهِ ... وتأبى له أَعراقُهُ أَنْ يَقُولَهُ
وكم قائلٍ لمَّا ذكرتُ انتسابَه ... لآل رسولِ اللّه هاتِ دليلَهُ
فقلت لهم أَقْوَى دليلٍ أقمته ... عليه بأنَّ الشعر لا ينبغي لهُ
وأنشد أيضاً الأمير أسامة بن منقذ هذه الأبيات وقال: كنت في خدمة ابن عمه وهو ينشد هذه الأبيات، وأنشدني له في العذار بيتين أغرب في معناهما على الابتكار:
وكأنَّ العذار في حُمْرَةِ الخدِّ ... على حُسْنِ خَدِّكَ المنعوتِ
صولجانٌ من الزُّمُرُّدِ معطو ... فٌ على أُكْرَةٍ من الياقوت
ما أحسن هذين البتين، لولا أنه ذكر الخد في البيت الأول مرتين. أقول: الشريف الأخفش، بسماع شعره ميت الحس ينعش، وخلي القلب يدهش، فهو كالديباج المنقش، والبستان المعرش، مذهبه في التجنيس مذهب، ونظمه في سماء الفضل كوكب، واستثقالي بتكرير الخد في وصف العذار كما حكي عن ابن العميد أنه استثقل قول أبي تمام:
جوادٌ متى أمدحْهُ أَمْدَحْهُ والوَرَى ... معي ومَتى ما لُمْتُهُ لمته وَحدِي
فقال: تكرار أمدحه ثقل روح، وقابل المدح باللوم وكان يجب أن يقابل بالهجاء وهذا نظر دقيق.
ونقلت من بعض التعاليق، بدمشق من قصيدة للأخفش في عبد المجيد المنبوز بالحافظ بمصر:
ذَكَرَ الدوحَ بِشَاطِي بَرَدَى ... وحَباباً فيه يطفو بَرَدا
والصَّبَا تمرحُ في أرجائه ... فتصوغُ الموجَ منه زَرَدَا
يَتمنَّى القِرْنُ أن يلبسه ... بين أبطالِ الوغى لو جمدا
رَكَدَتْ سارحةُ الريح به ... فجرتْ خيلاً ومرَّتْ سَرَدا
ينثرُ البدرُ عليه فضةً ... وتذيبُ الشمسُ فيه عسجدا
رشأٌ لو لم تكن ريقتُهُ ... قهوةً صافية ما عَرْبَدا

تحجب الكلَّةُ منه قمراً ... ويحوزُ الدرع منه أَسَدا
قمرٌ إن هزَّ رمحاً في الوغى ... هزَّ من عطفيه غصناً أَملدا
ليْتَهُمْ إذ منطقوا أَعطافَهُ ... بالثريا قلَّدُوه الفرقدا
طافَ بالراح التي لم تَدَّرِعْ ... بحسام المزج إلا زَبَدَا
فَعَلاَها دُرُّهُ ياقوتةً ... ذاب سقماً جسمها فاطَّرَدَا
ومنها في المديح، وقد أفضى به الغلو إلى الكفر الصريح:
صِرْفُ جِرْيالٍ يرى تحريمها ... من يرى الحافظَ فَرْداً صَمَدَا
بَشَرٌ في العينِ إِلا أنَّهُ ... من طريقِ العقل نورٌ وهدى
جلَّ أن تدركه أعيننا ... وتعالى أن تراه جَسَدا
فَهْو في التسبيح زُلْفَى راكعٍ ... سَمِعَ اللّه به من حمدا
تدركُ الأفكارُ فيه نبأً ... كادَ من إجلاله أن يُعْبَدا
واقتصرت على هذه أنموذجاً لشركه، وأخرت الباقي من سلكه؛ وأنشدت له مطلع قصيدة:
عوجا بمنعرج السفحين أو رُوحَا ... فقد قضى مَرْبَعٌ كنتم له روحا
وللشريف الأخفش من قصيدة يمدح فيها الشريف القاضي المفضل إمام ابن حيدرة بن علي قاضي بلبيس كان وأولها:
لنجرانَ، فالبرقُ الحجازيُّ أَبْرَقَا ... وعُسْفانَ، فالمُزْنُ اليمانيُّ أودقَا
ومن جملتها:
شريفٌ يدُ الشرعِ انتقتْ منه قاضياً ... فكان لهذا الدين أفضلَ مُنْتَقَى
خلائقُهُ في العدلِ تُرْضَى وتُرتجَى ... وسطوته في الحقِّ تُخْشَى وتُتَّقَى
إذا ما تَعَدَّى ماردٌ لسمائه ... أَعدَّ له نجماً من القَذْفِ مُحْرِقَا
يُثَبتُ مَنْ لَمْ يَرْقَ في ذروة العُلاَ ... ويَدْحَضُ عن عَرْشِ المعالي مَنِ ارْتَقَى
وسبَّاقُ غاياتٍ بإِبطاءِ وَثْبَةٍ ... ولم يُبْطِ بالتثبيت إلا ليسبقا
هو الغيث يَمِّمْهُ إذا كان مُمْطِراً ... وخُذْ حذراً منه إذا كان مُصْعِقا
وما اصفرَّ لونُ التبرِ عند اجتماعه ... بكفيه إلا خيفةً أن يُفَرَّقا
وآخر هذه القصيدة:
فلا طَمَحَتْ بي نحو غيركَ عَزْمَةٌ ... ولا بابٌ منك دونِيَ مُغْلَقَا
ومن شعراء بني رزيك:

الخطيب المفيد أبو القاسم هبة الله بن بدر المعروف ب
ابن الصياد
وجدت له في مجموع ما ألفه الجليس بن الحباب في شعراء ابن رزيك والمداح فيه، من قصيدة أولها:
بسمعي عن التَّعذَالِ فيك تَصامُمُ ... فجهديَ عِصْيَانِي إذا لامَ لائِمُ
منها يصف عدوه:
ولما رأَى الغَدَّارُ قُرْبَ حلولهِ ... تيقَّنَ أن الموتَ ما منه عاصمُ
ولو كان ذا حَزْمٍ لما حَامَ قبل أن ... يرى الخيلَ بل من قبلِ تبدو الصوارم
أمستخبرٌ هَل من قَدَارٍ لريشةً ... على هزِّ بحرٍ مَوْجُهُ متلاطم
وله فيه من قصيدة:
كأنَّ اختطافَ الهامِ عندكَ بِالظبا ... ابتهاجاً به يومَ الوغى ثَمَرٌ يُجْنَى
غداةَ جعلتَ البيضَ أَغمادها الطُّلاَ ... وخَيْلَ العِدَا تُقْنَى وسُمْرَ القَنَا تَقْنَا
وله من قصيدة يذكر فيها قتله أرناط مقدم خيل الفرنج:
عنْ سيفِ دين اللّه سلْ أَرناطا ... حيثُ المنية كاسُها يُتَعَاطى
والمشرفيَّةُ قد حَكَتْ في جيشهِ ... في العَلِّ والنَّهَلِ القَطَا الفُرَّاطا
قد شام طيرُ الكفرِ منه مِنْسَراً ... أَشْغَى وعاينَ مِخْلباً عَطَّاطا
هو مُلْبِسٌ جُثَثَ العِدَا في الحربِ مِنْ ... حُلَلِ النجيعِ مجاسداً ورياطا
فجيادُهُ تشكو مزاحمةَ القَنَا ... وتردُّ خِرْصَان الرماحِ سياطا
هو فارسُ الإسلام يحفظ بالظُّبَا ... من دينه الأَطرافَ والأوساطا
كم قد أنارَ من الأَسِنَّةِ أَنجما ... لما أثار من العَجَاج غُطاطا

فتخالُهُ مَلَكاً رمى بشهابه ... في الرَّوْعِ شيطانَ الحروب فَشَاطا
وله من أخرى:
شرَّدْتَهُمْ حتى لقد قَاسَوْا على ... تلك العِقَابِ أَليمَ كلِّ عِقَابِ
سِيمُوا العذابَ وذكَّرَتْهُمْ حالَهَمْ ... حِفظَاتُ أيامٍ سَلَفْنَ عِذَاب
هابُوكَ فانْذَعَرُوا ومِنْ أَعذارهمْ ... أن السَّوامَ تهابُ ليثَ الغاب
وله من أخرى:
للّه أنت على أَقبَّ مُطَهَّمٍ ... نَهْدٍ بجوزاءِ السماءِ مُشَنَّفِ
ومنها:
أَضْرَمْتَ في أَكبادهمْ من بَعْدِهِ ... بالنصل نارَ تأسُّفٍ وتَلَهُّفِ
ففؤادُ ذي الجأشِ الربيطِ مخافةً ... يحكي جناحَ الطائرِ المُترَفْرِفِ
وله من أخرى:
وشرَّدَها إِشفاقُها منكَ فاغتدتْ ... ترى الأَرْضَ خوفاً وهْيَ من ضِيقها فِتْرُ
فذلُّوا كأنَّ العِزَّ ما كانَ بَيْنَهُمْ ... وصاروا كأنَّ الفقرَ عندهمُ قَبْرُ
وله من أخرى:
أَضْحَتْ لواتَهُ شُرَّداً من بأْسِهِ ... فلديهمُ سعةُ الفضاءِ مَضيقُ
لم يضربوا طُنُباً لخوفهمُ فهمْ ... مثلُ الوعولِ إذا حواها النِّيقُ
إن غابَ فيهم وجهُهُ فخيالُهُ ... ليلاً كما هو في النهار طَرُوق
لو هبَّتِ الريحُ اغتدى لسماعها ... قلبُ الشجيع القلبِ وهْوَ خَفُوق
جعلوا الهزيمةَ عنه بِرّاً إذ لهم ... لسواه في شَقِّ العِصِيِّ عُقُوق
وسمعت أن هذا ابن الصياد كان من شعراء الصالح بن رزيك. وكان سريع الخاطر في النظم لا يقف قلمه، ولا يتضع فيه علمه، ويغريه الصالح بجلسائه يهجوهم وكانوا يتعرضون به وسمعت أن ابن الحباب كان كبير الأنف وكان ابن الصياد مولعاً بأنفه قد هجاه بأكثر من ألف مقطوعةٍ وما كان يصده شيءٌ عنه حتى انتصر له أبو الفتح بن قادوس فقال فيه:
يا من يعيبُ أُنوفَنَا ... الشمَّ التي ليست تعابُ
الأَنْفُ خلقةُ ربنا ... وقرونك الشمُّ اكتساب

ابن قيصر
من أهل الاسكندرية
كان كثير المنظوم، قليل الجيد منه.
قرأت في مجموع: كتب الفقيه الرشيد أبو الحسن علي بن قيصر في جواب كتاب:
وصلَ الكتابُ فلا عَدِمْتُ يَداً ... نَثَرَتْ عليه جَوَاهِرَ الكَلِمِ
وعجبتُ كيف تَرَى لها أَثَراً ... وبنانُها يَنْهَلُّ كالدِّيَمِ
ووجدت له في مجموع شعراء ابن رزيك قصيدة فيه أولها:
الصبرُ عن بانِ الحمى وعقيقهِ ... في حقِّ ساكنِهِ أَجلُّ عُقوقِهِ
ظبيٌ ظُبَا أَلحاظِهِ فتَّاكةٌ ... تُغْنيه يومَ الروعِ عن إبريقهِ
لو قال يوم الأنس:
سيانِ عندي الخمرُ في إبريقه ... أو ما حواه ثغرُه من ريقهِ
أين هذا من قول ابن حيوس:
فعلُ المُدَامِ ولونُها ومَذَاقُها ... في مُقْلَتَيْهِ وَوَجْنَتَيْهِ وَرِيقهِ
تمام قصيدة ابن قيصر:
لا فرقَ بين خيالِهِ وَوِصالِهِ ... في سَرْد ماطِلِه وفي تحقيقهِ
ومنها:
واللّه ما للشمس في إشراقِها ... وضياءِ بهجتها كبعض شروقهِ
كالرِّئْمِ حالَ نفارِهِ، والبدر عند ... كمالِهِ، والغصنِ عند بُسُوقِه
لا تجعلِ الهجران بعضِ عقوبتي ... فتكلِّفَ السُّلوَانَ غيرَ مطيقِه
وارفقْ فمن دينِ المُرُوَّةِ في الهوى ... وعداته رفق الهوى برفيقه
واللّه ما صَدَقَ الملامُ ولا جرى ... ذا العذلُ عند ذوي النُّهَى بطريقه
كلُّ الجوارح في يديه فأَيُّها ... يُصْغي لزورِ العذل أو تنميقه
فَذَرِ الملامَ فحبذاه لذكرِه ... فيه، ملام الصبِّ في مَعْشوقه
يا راكب المَهْرِيِّ أَضحى ظلُّه ... في عُرْضةِ البَيْداء من مَسبوقه
بلِّغ إلى المَلِكِ الهمامِ أَمانةً ... تبليغُها للحرِّ من توفيقه

حتامَ حظِّي في الحضيضِ وإنه ... في الفضل عند الناس في عَيُّوقِهِ
مثلي بمصرَ وأنت مالكُ رِقِّهِ ... مثلُ العُقابِ مُفَرَّداً في نِيقهِ
ومنها:
واللّه حَلْفَةَ صادقٍ بَرٍ بها ... يُضْطَرُّ سامعُها إلى تصديقه
لو كنتُ أَرضَى الشِّعرَ خطَّةَ فاضلٍ ... لجعلتُ عِرْضَكَ روضةً لأنيقهِ
ومنها:
إنّ الحديثَ صلاحُه بصلاحِ مُنْهيه ... كذاك فُسُوقُه بفسوقِه
والصيرفيُّ يبينُ عند محكِّهِ ... كم بين خالصِهِ إلى سَتُّوقِه
ولقد أشاعَ الناس أنك في الورى ... من ليس يَنْفقُ باطلٌ في سوقه
أَبْطِلْ بنورِ العقل سلطانَ الهوى ... واعملْ بكلِّ الجهد في تَطْليقه
فأجابه الصالح بن رزيك بقصيدة منها:
نفق التأدُّبُ عندنا في سُوقِهِ ... وبدا اليقينُ لنا بلَمْعِ بروقهِ
أَهدى ليَ القاضي الفقيهُ عرائساً ... فيها بديعُ الوشي من تنميقه
فأجلْتُ طَرْفِي في بديعِ رياضه ... من ورده وبَهارِهِ وشقيقه
فكأنما اجتمع الأحبّةُ فانبرتْ ... يدُ عاشقٍ تهْوِي إلى معشوقه
أَدَبٌ سعى منه إلى غاياتهِ ... وأَتى فَسَدَّ عليه مَرَّ طريقه
ولقد علمتُ بأن فضلَكَ سابق ... يُعْتَدُّ مَنْ جاراهُ مِنْ مَسْبوقه
فلذا اقتصرتُ ولم أَرَ الإِمعانَ في ... شأوِ امرىءٍ أصبحتُ غيرَ مطيقه
وأَرى الزمان جرى على عاداته ... في جمعه طوراً وفي تفريقه
والشوقُ في قلبي تضرَّمَ وهْجُهُ ... فمتى أراه يكفُّ عن تحريقه
والدمعُ من عيني يَسُحُّ فهل يُرَى ... من بحره يوماً نجاةُ غريقه
نَزَّهْتُ في بستانِ نظمك ناظري ... فَحَظِيتُ من زَهْرِ الرُّبَى بأنيقه
يات من تَدُلُّ فنونُ ما يأتي به ... من حَلْيِ مَنْطِقِه على توفيقه
أنت امرؤٌ مَن قال فيك مقالةَ ... الغالي فكلُّ الخلقِ في تصديقه
وأَنا أَرَى تقديمَ حاجةِ صاحبي ... من دون حاجاتي أَقلَّ حقوقه
وكذا الكريمُ فمهمِلٌ لأموره ... لا مُهمِلٌ أبداً أُمورَ صديقه
هذا النجاحُ، فكل ما قد رُمْتَهُ ... قد تمَّ فانظرْ منه في تحقيقه

محمد بن هانىء
هو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن مفضل الأزدي الأندلسي موضعه مع شعراء الأندلس واتفق إيراده ها هنا وينسب إلى ابن هانىء المغربي الأندلسي.
كان في العصر الأقرب، وهو معروفٌ بالنظم المهذب، وتوفي في آخر أيام الصالح بن رزيك قبل سنة ستين، على ما سمعته من المصريين، وطالعت ديوانه بمصر فنقلت منه ما انتقدته، وعقلت ما عقدته، ونسخت ما نسخ السرح، ونسج الزهر، وانحلت العقود الصحيحة لنسيم شمال أسحاره، وتمثلت العقول الصاحية لتسنيم شمول عقاره. ووجدت له على قافية الهمزة من قصيدة:
سَدَلَتْ غدائرَ شعرِها أَسماءُ ... وَسَرَتْ فما شَعَرَتْ بها الرُّقَبَاءُ
والليلُ تحت سَنَا الصباحِ كأَسودٍ ... وَضَحَتْ عليه عِمَامةٌ بيضاء
زارتْ نُعَاماها وزارَ خيالها ... فتيمَّمَتْ بكليهما تَيْماءُ
ومشتْ تميس يجرُّ فضلَ ذيولها ... دِعْصٌ يميلُ، وبانةٌ غَنَّاء
هُنَّ المها يحوي كناسُ قلوبنا ... منهن ما لا تحتوي السِّيراءُ
يُوحِشْنَ أفئدةً وهنَّ أَوانِسٌ ... ويرُعْنَ آساداً وهنّ ظباء
وتحولُ دون قبابها هنديةٌ ... بيضاءُ، أو يَزَنِيَّةٌ سمراء
ومنها في المخلص:
لأُمَزِّقَنَّ حشا الدُّجُنَّةِ نحوها ... والليلُ قد دَهِمَتْ به الدهْناءُ
في متن زنجيِّ الأَديمِ كأنما ... صَبَغْتهُ مما خاضَها الظلماء

وكأن محمرَّ البروقِ صوارمٌ ... سُفِحَتْ على صفحاتِهِنّ دماء
أَو يَثْنِيَنِّي لا أَزورُ خيامَها ... ولأَسعدَ القاضي الأشمِّ مضاء
ومنها في المديح وتقريظه بالقضاء:
قاضٍ له دِينٌ وصدقُ شهادةٍ ... ذو الجاه فيها والضعيفُ سواءُ
وعدالة حُفِظَتْ بعقلٍ راسخٍ ... لا تستميلُ جنابَهُ الأَهواء
وله من أخرى أولها:
لمن الآنساتُ وهْيَ ظِباءُ ... واليعافيرُ حُجْبُها السِّيَرَاءُ
والشموسُ التي لويْنَ غصوناً ... لَمْ تُرَنِّحْ خصورَها صَهباءُ
فاختفَى في القُدودِ أَرْيٌ ورَاحٌ ... وبدا في الخدود نارٌ وماء
تنثني قامةً وتَجْرَحُ طَرْفاً ... فهْيَ للسَّمْهَرِيَّةِ السَّمْراءُ
طَرَقَتْ والكَبَاءُ والمندلُ الرطبُ ... عليها وحَلْيها رُقَبَاء
ومنها:
ودُوَيْنَ الفتاةِ أبيضُ رقرا ... قُ الحواشي ولأْمَةٌ خَضْرَاء
وفتى لاحَ فوق أدهمَ نهدٍ ... قمراً في عنانه ظلماءُ
وكماةٌ تجلو الأسنَّةَ شُهْباً ... ودُجَاهَا العَجَاجَةُ الشَّهْبَاءُ
تصدُرُ المرهفاتُ عن مورد الها ... مِ كما ضرَّجَ الخدودَ حَيَاءُ
يا لحى اللّهُ ريبَ دهرٍ خؤونٍ ... سادَ فيه كرامَهُ اللؤماء!
وزماناً نحبُّه! فكأنا ... حِين يَسْطُو بنا له أعداء
ومنها في المخلص:
بالعلا يُعْرَفُ الكرام ولكنْ ... عُرِفَتْ بالمُوَفَّقِ العلياءُ
ماجدٌ لو عَرَا اللّيَاليَ داءٌ ... كان في رأيه لهنَّ شفاء
راحةٌ لا تُرَاحُ من هَدْمِ جُودٍ ... ببنانٍ لها المعالي بناء
هدم الجود ليس بتقريظ، وإنما المدح لو قال من هدم المال بالجود.
فهو والدهرُ حِنْدِسيٌّ بهيمٌ ... غُرَّة في جبينه زَهْرَاء
ولو ان الصّبَا لها منه عَزْمٌ ... نَهضَتْ بالجبال وهْيَ رُخَاء
طَوْدُ حِلْمٍ رَسَتْ به الأرضُ لمَّا ... شمخت منه ذِرْوَة شَمَّاءُ
ومنها:
ذكرُكَ الراحُ والمُذَكِّرُ ساقٍ ... وكأنَّ المسامعَ النُّدَمَاءُ
فإذا ما أُديرَ حمدُك صِرْفاً ... هزَّ أَعطافنا عليك الثناء
وله في جارية رقاصة:
ولطيفةٍ في الرقص يُعْطَفُ قَدُّها ... كتعطُّفِ اليَزَنِيَّةِ السمراءِ
تختصُّ بالحركات منها سرعةٌ ... كتخصُّصِ الأرواح بالأعضاء
خَفَّتْ فلو رقصت بأعلى لُجَّةٍ ... ما بلَّ أخْمَصَها حَبَابُ الماءِ
وله
وأَغْيَدَ خدُّه يَنْدَى فيجري ... على وَرْدِيِّهِ الدرُّ المذابُ
صفا ماءُ الشبابِ بِوجْنَتَيْهِ ... فلاحَ عليه من عَرَقٍ حَبَابُ
وله في الأوصاف:
نديمي أَفِقْ فالفجرُ قد لاح ضوءُهُ ... كما سَالَ نَهْرٌ أو كما سُلَّ مِقْضَبُ
وذا فلكٌ ساقٍ يديرُ كؤوسَهُ ... نجوماً إذا وافَتْ فمَ الغَرْبِ تُشْرَبُ
وقد شاخض زنجيُّ الدُّجى والذي بدا ... به من هلالٍ حاجبٌ لاحَ أَشْيَبُ
وله من قصيدة:
أَوْدَعُوا الزُّهْرَ حُدوجاً وقبابا ... وسَرَوا في شَعَرِ الليلِ فشابا
ولوى الطرفُ سناهُمْ فانبرى ... يحسب الجُرْدَ اليعابيبَ الرِّكابا
صيَّرُوا الجنح سَنَا الصبح وما ... سَفَرُوا عن غُرَرِ الغيدِ نِقَابا
إذ توارى الفجرُ بالليلِ كما ... وَلَجَ السيفُ اليمانيُّ القِرَابا
وَحَنى قوسَ هلالٍ رُبَّما ... طَرَدَتْ سهماً رأيناه شهابا
إنَّما ودَّعَ قلبي جَلَدِي ... يوم ودَّعْتُ سُلَيمى والرَّبابا
ومنها:
حُجِبَتْ في نورها وَجْنَتُها ... فرأيتُ الشمسَ للشمس حِجَابا
وَجْنَةٌ حمراءُ تَنْدَى عرقاً ... مثلما رَقْرَقَتِ الراحُ الحَبَابَا

نفختْ ريحُ الصبا جَمْرَتَها ... فانبرتْ تُظْهِر في الماء التهابا
وجرى الصُّدْغُ على أَوَّلِها ... مثلما طرَّزْتَ بالسَّطْرِ الكتابا
وله في العذار:
وأَسمرَ ذَنْبي للعواذلِ حُبُّهُ ... وذلك ذنبٌ لست منه بتائبِ
عُذِلْتُ على حُبِّي له حينَ ذَبَّلَتْ ... له الشفةُ اللمياءُ خُضْرَةَ شارب
وقد كنتُ أَهوى الحاجبين الَّلذَيْ لَهُ ... فكيف وقد صارتْ ثلاثَ حواجب
وله
أَلا كلُّ شيءٍ للأنامِ مُحَبَّبٌ ... إِليَّ بغيضٌ، والحبيبُ حَبيبُ
أما عجباً أن هام فيه رقيبُهُ ... وأَني على ذاك الرقيبِ رقيب
ومما برى جسمِي وأَرَّق ناظري ... وعلَّمَ قلبي فيه كيف يذوب
حبيبٌ اراه سائغاً، كلَّ ساعةٍ ... ينال سوايَ وصلَهُ وأَخيب
فوا أسفا لي إِنني ليثُ غابةٍ ... ويظفَرُ دوني بالفريسةِ ذيبُ
وله من قصيدة في أثنائها:
أَغارُ على ذيلها بالصَّبَا ... إذا شمَّرَتْ منه ما سحَّبَا
وأخشى على جَمْرَتَيْ خَدِّهَا ... بِمَرِّ النواسمِ أن تُلْهَبَا
تَعَالَى النقابُ سنا وجهه ... فخِلْتُ النقاب به نُقِّبَا
وما احمرَّ من صبغةٍ لونُهُ ... ولكن بوجنتها خُضِّبَا
مشى وهْو في خدِّها عقرباً ... فمثَّلَ في وردةٍ عقربا
سقى اللّهُ ليلتنا بالعُذَيْبِ ... غمائمَ من أَمْنِه عُذَّبَا
فكم بتُّ بين مِراحِ الظباءِ ... تجاذِبُني، وصفاحِ الظُّبَا
وقد لاح لي بدرُهَا مَشْرَعاً ... لَمَحْتُ على مائه طُحْلُبَا
إلى أَنْ جَرَى صُبْحُها أَشقراً ... فطاردَ من فجره أشهبا
ولاعبَ فضِّيَّ بَرْدِ الغما ... م برقٌ فصيَّره مُذْهَبا
ومنها:
ويمنعُ شمسَهُمُ أَنْ تلوحَ ... عجاجُ الوغى ودُخان الكَبَا
وله من قصيدة:
زادَ العقيق بخدٍ غيرِ مُنْتَقِبِ ... قاني الغلالَةِ كالهنديِّ مُخْتَضِبِ
بدرٌ تَمَزَّقَ عنه الليلُ حين سرى ... كذلك البدرُ يَسْري غَيْرَ محتجب
ذو غُرَّةٍ قُنِّعَتْ بالحسن من قَمَرٍ ... ولَبَّةٍ قُلِّدِتْ بالحَلْي من شُهُب
خدٌّ أَلَمَّ لريعانِ الشبابِ به ... سحرٌ تدرَّعَ فيه الماءُ باللهب
ومنها في المخلص:
لا تُصْغِرَنِّي لكونِ الجسم مُغْتَرِباً ... فإنَّ في الجسم عقلاً غيرَ مُغْتَرِب
يَغْنَى اللبيبُ بعقلٍ منه عن فِطَنٍ ... حيث استقرَّ وعن أُمٍ له وأب
وهل أَخافُ من الأيام نائبةً ... وللسديد يدٌ تَسْطُو على النُّوَبِ
ومنها في المدح:
لو كنتَ إذْ تُوزَنَ الأعمالُ سائِلَهُ ... ما حازَ من صالح الأَعمالِ لم يُجِبِ
يا مُبْغِضَ الذَّهَبِ المحبوب راحته ... حتى كأَنَّ ذهابَ الحَمْدِ في الذهب
وله في العذار من قطعة:
ولما أَشاعَ الحبُّ في الناس مِلَّةً ... وقادَ قلوباً كيف شاء وأَلْبَابا
جلا الحُسْنُ للعشاق وَجْهَكَ قِبْلَةً ... وصوَّر فيه من عِذَارَيْكَ مِحْرابا
وله من قصيدة:
تلكَ البدورُ العامِريَّاتُ ... لها من الأَنْصُلِ هَامَاتُ
بدورُ أَسدافٍ تَثَنَّى بها ... في السَّيْرِ قُضْبٌ بَشَرِيَّات
تشكو نواهنَّ قلوبٌ وما ... لها سواهُنَّ سماوات
كِدْنَ يَكِدْنَ القُضْبَ لو بُدِّلَتْ ... أَوْراقُهُنَّ الذهبيَّاتُ
كلُّ عقيقيَّةِ خَدٍ لها ... فروعُ فَرْقٍ سَبَجِيَّات
ومنها:
ويُرْعَشُ الرِّدْفُ كأنَّ الذي ... لاعَبَهُ منهنَّ حَيّاتُ
يا شَرَكاً صيدَ بها طائرُ القَلْبِ ... أَما منكنَّ إفلات

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16