كتاب : إقامة الدليل على إبطال التحليل
تأليف : شيخ الإسلام ابن تيمية

كِتَابُ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى إبْطَالِ التَّحْلِيلِ
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ الْأَوْحَدُ , الْقُدْوَةُ الْعَارِفُ , الزَّاهِدُ الْعَابِدُ الْوَرِعُ , تَقِيُّ الدِّينِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُفْتِي الْأَنَامِ , صَدْرُ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ , مَفْخَرُ أَهْلِ الشَّامِ بَقِيَّةُ السَّلَفِ الْكِرَامِ , نَاشِرُ السُّنَّةِ , قَامِعُ الْبِدْعَةِ , أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ , الْعَالِمُ مَجْمُوعُ الْفَضَائِلِ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْمَحَاسِنِ عَبْدُ الْحَلِيمِ بْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ , الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ تَقِيَّةُ الْأَمْصَارِ مَجْدُ الدِّينِ أَبِي الْبَرَكَاتِ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ تَيْمِيَّةِ الْحَرَّانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ آمِينَ :

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يُحْصِي الْخَلْقُ ثَنَاءً عَلَيْهِ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ , لَا يَبْلُغُ الْعَارِفُونَ كُنْهَ مَعْرِفَتِهِ , وَلَا يُقَدِّرُ الْوَاصِفُونَ قَدْرَ صِفَتِهِ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا تُشْكَرُ نِعْمَتُهُ إلَّا بِنِعْمَتِهِ , وَلَا تُنَالُ كَرَامَتُهُ إلَّا بِرَحْمَتِهِ . فَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ , وَالظَّاهِرُ , وَالْبَاطِنُ , وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ , وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ , وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ , يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ , وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ , وَيُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْمَلَ لَنَا دِينَنَا , وَأَتَمَّ عَلَيْنَا نِعْمَتَهُ وَرَضِيَ لَنَا الْإِسْلَامَ دِينًا . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَيَّنَ لَنَا آيَاتِهِ وَنَهَانَا أَنْ نَتَّخِذَهَا هُزُوًا , وَأَمَرَنَا أَنْ نَذْكُرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْنَا مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُنَا بِهِ , وَأَنْ نَتَّقِيَهُ , وَأَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . فَإِنَّهُ مَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْأَوَامِرَ , وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ فِيهَا جِمَاعَ أَمْرِ الدِّينِ كُلِّهِ , وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِهِ وَلَا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَهَا هُزُوًا , وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَنْ أَظْهَرَ خِلَافَ مَا فِي بَاطِنِهِ , فَإِنَّ السَّرَائِرَ لَدَيْهِ بَادِيَةٌ , وَالسِّرَّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ ,

فَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ , وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرِيمِ وَجْهِهِ عَنْ جَلَالِهِ . أَحْمَدُهُ حَمْدًا مُوَافِيًا لِنِعَمِهِ , وَمُكَافِيًا لِمَزِيدِهِ , وَأَسْتَعِينُهُ اسْتِعَانَةَ مُخْلِصٍ فِي تَوَكُّلِهِ صَادِقٍ فِي تَوْحِيدِهِ , وَأَسْتَهْدِيهِ إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ صَفْوَةِ عَبِيدِهِ أَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ مَنْ يَعْلَمُ أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إلَّا إلَيْهِ فِي صُدُورِهِ وَوُرُودِهِ . وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةَ مُقِرٍّ بِأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ , وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدُ الْأَنَامِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الصَّفْوَةِ الْكِرَامِ , وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَامًا بَاقِيًا بِبَقَاءِ دَارِ السَّلَامِ . أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ , وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ , وَهَدَى بِهِ أُمَّتَهُ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ . وَلَمَّا كَانَ الْعَبْدُ فِي كُلِّ حَالٍ مُفْتَقِرًا إلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ فِي جَمِيعِ مَا يَأْتِيهِ وَيَذَرُهُ مِنْ أُمُورٍ قَدْ أَتَاهَا عَلَى غَيْرِ الْهِدَايَةِ , فَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا , وَأُمُورٍ هُدِيَ إلَى أَصْلِهَا دُونَ تَفْصِيلِهَا , أَوْ هُدِيَ إلَيْهَا مِنْ وَجْهٍ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى تَمَامِ الْهِدَايَةِ فِيهَا لِيَزْدَادَ هُدًى , وَأُمُورٍ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مِنْ الْهِدَايَةِ فِيهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِثْلُ مَا حَصَلَ لَهُ فِي الْمَاضِي , وَأُمُورٍ

هُوَ خَالٍ عَنْ اعْتِقَادٍ فِيهَا فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْهِدَايَةِ فِيهَا , وَأُمُورٍ لَمْ يَفْعَلْهَا فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى فِعْلِهَا عَلَى وَجْهِ الْهِدَايَةِ , إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَاجَاتِ , إلَى أَنْوَاعِ الْهِدَايَاتِ , فُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ هَذِهِ الْهِدَايَةَ فِي أَفْضَلِ أَحْوَالِهِ , وَهِيَ الصَّلَاةُ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ , وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ النِّعْمَةِ مُغَايِرُونَ لِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " الْيَهُودِ " وَالضَّالِّينَ " النَّصَارَى " . وَكَانَ الرَّسُولُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَذِّرُ أُمَّتَهُ سُلُوكَ سَبِيلِ أَهْلِ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ , وَيَلْعَنُهُمْ تَحْذِيرًا لِلْأُمَّةِ عَلَى مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُحَالِ . وَيَنْهَى عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِي اسْتِحْلَالِ الْمَحَارِمِ بِالِاحْتِيَالِ لِعِلْمِهِ بِمَا أَوْقَعَ اللَّهُ بِهِمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ . وَلَمَّا انْتَهَى الْكَلَامُ بِنَا فِي مُدَارَسَةِ الْفِقْهِ إلَى مَسَائِلِ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ , وَبَيَّنَ مَا كَانَ مُوَثِّرًا فِي الْعَقْدِ مُلْحِقًا لَهُ بِالسِّفَاحِ , وَجَرَى مِنْ الْكَلَامِ فِي مَسْأَلَتَيْ الْمُتْعَةِ وَالتَّحْلِيلِ مَا تَبَيَّنَ بِهِ حُكْمُهَا بِأَرْشَدِ دَلِيلٍ , وَظَهَرَتْ الْخَاصَّةُ الَّتِي اسْتَحَقَّ بِهَا الْمُحَلِّلُ لَعْنَةَ الرَّسُولِ وَلِمَا سَمَّاهُ مِنْ بَيْنِ الْأَزْوَاجِ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ , وَتَبَيَّنَتْ مَآخِذُ الْأَئِمَّةِ تَأْصِيلًا وَتَفْصِيلًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِبْصَارِ , وَظَهَرَتْ الْمَدَارِكُ وَالْمَسَالِكُ أَثَرًا وَنَظَرًا حَتَّى أَشْرَقَ الْحَقُّ وَأَنَارَ , فَانْتَبَهَ مَنْ كَانَ غَافِلًا مِنْ

رَقْدَتِهِ , وَشَكَا مَا بِالنَّاسِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى ظُهُورِ هَذَا الْحُكْمِ وَمَعْرِفَتِهِ , وَلِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ الشَّنِيعَةِ , وَغَلَبَةِ الْجَهْلِ بِدَلَائِلِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَكْثَرِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى عِلْمِ الشَّرِيعَةِ , سَأَلَ أَنْ أُعَلِّقَ فِي ذَلِكَ مَا يَكُونُ تَبْصِرَةً لِلْمُسْتَرْشِدِ , وَحُجَّةً لِلْمُسْتَنْجِدِ , وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَهَوِّرِ وَالْمُتَلَدِّدِ , لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ , وَيَحْيَى مَنْ حَيِيَ عَنْ بَيِّنَةٍ . فَأَجَبْتُهُ إجَابَةَ الْمُتَحَرِّجِ مِنْ كِتْمَانِ الْعِلْمِ , الْمَسْئُول الْخَائِفِ مِنْ نَقْضِ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ عَلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَخَلَفُوا الرَّسُولَ , وَلَمْ يَكُنْ مِنْ نِيَّتِي أَنْ أَشْفَعَ الْكَلَامَ فِيهَا بِغَيْرِهَا مِنْ الْمَسَائِلِ بَلْ أَقْتَصِرَ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ حَقُّ السَّائِلِ . فَالْتَمَسَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ مُكَرِّرًا لِلِالْتِمَاسِ تَقْرِيرَ الْقَاعِدَةِ الَّتِي هِيَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَسَاسٌ , وَهِيَ : " بَيَانُ حُكْمِ الِاحْتِيَالِ عَلَى سُقُوطِ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ " " وَحِلِّ الْعُقُودِ " " وَحِلِّ الْمُحَرَّمَاتِ " بِإِظْهَارِ صُورَةٍ لَيْسَ لَهَا حَقِيقَةٌ عِنْدَ الْمُحْتَالِ لَكِنْ جِنْسُهَا مَشْرُوعٌ لِمَنْ قَصَدَ بِهِ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ مِنْ غَيْرِ اعْتِلَالٍ , فَاعْتَذَرْتُ بِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُفَصَّلَ فِي هَذَا يَحْتَاجُ إلَى كِتَابٍ طَوِيلٍ . وَلَكِنْ سَأُدْرِجُ فِي ضِمْنِ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الْجُمَلِيِّ مَا يُوصِلُ إلَى مَعْرِفَةِ التَّفْصِيلِ , بِحَيْثُ يَتَبَيَّنُ لِلَّبِيبِ مَوْقِعُ الْحِيَلِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ , وَمَتَى حَدَثَتْ , وَكَيْفَ كَانَ حَالُهَا عِنْدَ السَّلَفِ الْكِرَامِ , وَمَا

بَلَغَنِي مِنْ الْحُجَّةِ لِمَنْ صَارَ إلَيْهَا مِنْ الْمُفْتِينَ , وَذِكْرُ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ فِيهَا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ , وَذَلِكَ بِكَلَامٍ فِيهِ اخْتِصَارٌ ; إذْ الْمَقَامُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِكْثَارَ . وَاَللَّهُ يُوَفِّقُنَا وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْقَوْلِ الْجَمِيلِ , فَإِنَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ , وَيَنْفَعُنَا وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يَسْتَعْمِلُنَا بِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ , وَيَجْعَلُهُ مُوَافِقًا لِشِرْعَتِهِ خَالِصًا لِوَجْهِهِ مُوصِلًا إلَى أَفْضَلِ حَالٍ , وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ , وَإِلَيْهِ أُنِيبُ , وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ . نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ حَرَامٌ بَاطِلٌ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ وَصُورَتُهُ : أَنَّ الرَّجُلَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا , فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ , كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ , وَكَمَا جَاءَتْ بِهِ سُنَّةُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ أُمَّتُهُ , فَإِذَا تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ بِنِيَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِتَحِلَّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ كَانَ هَذَا النِّكَاحُ حَرَامًا بَاطِلًا , سَوَاءٌ عَزَمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إمْسَاكِهَا , أَوْ فَارَقَهَا , وَسَوَاءٌ شُرِطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ , أَوْ شُرِطَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ , أَوْ لَمْ يُشْرَطْ عَلَيْهِ لَفْظًا بَلْ كَانَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْخِطْبَةِ وَحَالِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمَهْرِ نَازِلًا بَيْنَهُمْ مَنْزِلَةَ اللَّفْظِ بِالشُّرُوطِ , أَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ

ذَلِكَ بَلْ أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا , ثُمَّ يُطَلِّقَهَا لِتَحِلَّ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْلَمَ الْمَرْأَةُ وَلَا وَلِيُّهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ , سَوَاءٌ عَلِمَ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا , أَوْ لَمْ يَعْلَمْ , مِثْلُ أَنْ يَظُنَّ الْمُحَلِّلُ أَنَّ هَذَا فِعْلُ خَيْرٍ وَمَعْرُوفٍ مَعَ الْمُطَلِّقِ وَامْرَأَتِهِ بِإِعَادَتِهَا إلَيْهِ لِمَا أَنَّ الطَّلَاقَ أَضَرَّ بِهِمَا وَبِأَوْلَادِهِمَا وَعَشِيرَتِهِمَا وَنَحْوِ ذَلِكَ . بَلْ لَا يَحِلُّ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حَتَّى يَنْكِحَهَا رَجُلٌ مُرْتَغِبًا لِنَفْسِهِ نِكَاحَ رَغْبَةٍ لَا نِكَاحَ دُلْسَةٍ , وَيَدْخُلُ بِهَا بِحَيْثُ تَذُوقُ عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقُ عُسَيْلَتَهَا . ثُمَّ بَعْدَ هَذَا إذَا حَدَثَ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ بِمَوْتٍ , وَطَلَاقٍ أَوْ فَسْخٍ , جَازَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا , وَلَوْ أَرَادَ هَذَا الْمُحَلِّلُ أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ اسْتَأْنَفَ النِّكَاحَ , فَإِنَّ مَا مَضَى عَقْدٌ فَاسِدٌ لَا يُبَاحُ الْمُقَامُ بِهِ مَعَهَا هَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ , وَالسُّنَّةُ , وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَامَّةِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ , وَعَامَّةِ فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ , مِثْلُ : سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ , وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ , وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ , وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ أَرْكَانُ التَّابِعِينَ . وَمِثْلُ : أَبِي الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ , وَالشَّعْبِيِّ , وَقَتَادَةَ , وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ , وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ , وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ , وَالْأَوْزَاعِيِّ ,

وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ , وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ , وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ أَرْكَانُ تَابِعِي التَّابِعِينَ , وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ , مِنْهُمْ : إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ , وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ , وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْهَاشِمِيُّ وَأَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ , وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ , وَأَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ , وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ , وَسَنَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - أَقْوَالَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَدِلَّةِ .
• وَأَمَّا أَقْوَالُ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ :
فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ , وَلَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ , وَلَا الْمَرْأَةُ قَالَ : " إنْ كَانَ إنَّمَا نَكَحَهَا لِيُحِلَّهَا فَلَا يَصْلُحُ ذَلِكَ لَهُمَا , وَلَا تَحِلُّ " .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : " إذَا هَمَّ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ , أَوْ الْمَرْأَةُ , أَوْ الزَّوْجُ الْأَخِيرُ , بِالتَّحْلِيلِ فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ " رَوَاهُمَا حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , قَالَ : " أَمَّا النَّاسُ فَيَقُولُونَ حَتَّى يُجَامِعَهَا , وَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي أَنَا أَقُولُ : إذَا تَزَوَّجَهَا تَزْوِيجًا صَحِيحًا لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إحْلَالًا لَهَا , فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ " رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ .
وَقَالَ أَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ قَالَ : " لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ إذَا كَانَ تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا " .

وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَقَالَ : إنَّ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَنَدِمَ وَنَدِمَتْ , فَأَرَدْتُ أَنْ أَنْطَلِقَ فَأَتَزَوَّجَهَا وَأُصْدِقَهَا صَدَاقًا , ثُمَّ أَدْخُلَ بِهَا كَمَا يَدْخُلُ الرَّجُلُ بِامْرَأَتِهِ , ثُمَّ أُطَلِّقَهَا حَتَّى تَحِلَّ لِزَوْجِهَا قَالَ : فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ : " اتَّقِ اللَّهَ يَا فَتَى وَلَا تَكُونَنَّ مِسْمَارَ نَارٍ لِحُدُودِ اللَّهِ " .
رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ , يُرِيدُ الْحَسَنُ أَنَّ الْمِسْمَارَ هُوَ الَّذِي يُثَبِّتُ الشَّيْءَ الْمَسْمُورَ , فَكَذَلِكَ أَنْتَ تُثَبِّتُ تِلْكَ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا وَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ .
وَعَنْ الْحَسَنِ , وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ , قَالَا : " إذَا هَمَّ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ بِالتَّحْلِيلِ فَقَدْ فَسَدَ الْعَقْدُ " . رَوَاهُمَا سَعِيدٌ .

وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَيَنْطَلِقُ الرَّجُلُ الَّذِي يَتَحَزَّنُ لَهُ فَيَتَزَوَّجُهَا مِنْ غَيْرِ مُؤَامَرَةٍ مِنْهُ فَقَالَ : إنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا لَهُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ , وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا يُرِيدُ إمْسَاكَهَا فَقَدْ أُحِلَّتْ لَهُ " . وَعَنْ الشَّعْبِيِّ : أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً كَانَ زَوْجُهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ ذَلِكَ قِيلَ لَهُ : أَيُطَلِّقُهَا لِتَرْجِعَ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ ؟ فَقَالَ : " لَا حَتَّى يُحَدِّثَ نَفْسَهُ أَنَّهُ يَعْمُرُ مَعَهَا وَتَعْمُرُ مَعَهُ " . رَوَاهُمَا الْجُوزَجَانِيُّ هَكَذَا لَفْظُ هَذَا الْأَثَرِ . وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : " لَا يُحِلُّهَا إلَّا نِكَاحُ رَغْبَةٍ " . فَإِنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ لَمْ تَحِلَّ لَهُ , وَسَوَاءٌ عَلِمَا , أَوْ لَمْ يَعْلَمَا لَا تَحِلُّ . وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ مَنْ قَصَدَ إلَى التَّحْلِيلِ . وَلَا يُقَرُّ عَلَى نِكَاحِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ , وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ فِي ذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِ مَالِكٍ , نَقَلَهُ الطَّحَاوِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا , وَكَذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ فِي أَحَدِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : " إذَا تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُحَلِّلَهَا لِزَوْجِهَا , ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا لَا يُعْجِبُنِي إلَّا أَنْ يُفَارِقَهَا وَيَسْتَأْنِفَ نِكَاحًا جَدِيدًا " قَالَ : " وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ " . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ : قُلْت لِأَحْمَدَ : سُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً , وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُحِلَّهَا

لِزَوْجِهَا , ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا , قَالَ : " لَا يُعْجِبُنِي إلَّا أَنْ يُفَارِقَهَا وَيَسْتَقْبِلَ نِكَاحًا جَدِيدًا " . قَالَ أَحْمَدُ : قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ : كَمَا قَالَ : وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيُّ وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ أَصْحَابِهِ قَالَ : سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ , وَفِي نَفْسِهِ أَنْ يُحَلِّلَهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ وَلَمْ تَعْلَمْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ فَقَالَ : " هُوَ مُحَلِّلٌ , وَإِذَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْإِحْلَالَ فَهُوَ مَلْعُونٌ " . قَالَ : وَبِهِ قَالَ أَبُو أَيُّوبَ يَعْنِي سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد الْهَاشِمِيَّ - وَأَبُو خَيْثَمَةَ يَعْنِي - زُهَيْرَ بْنَ حَرْبٍ - , قَالَ : وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ يَعْنِي أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي شَيْبَةَ - : " لَسْتُ أَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِهَذَا النِّكَاحِ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ " . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الْأَثَرِيِّ وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ : " إذَا تَزَوَّجَهَا يُرِيدُ التَّحْلِيلَ , ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ أَنْ دَخَلَ بِهَا , فَرَجَعَتْ إلَى الْأَوَّلِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لَيْسَ هَذَا نِكَاحًا صَحِيحًا " وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ أَيْضًا فِي الَّذِي يُطَلِّقُ ثَلَاثًا : " لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ نِكَاحًا صَحِيحًا نِكَاحَ رَغْبَةٍ لَيْسَ فِيهِ دُلْسَةٌ " وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ عَلَى أَنْ يُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ : " لَا تَحِلُّ وَلَا يَجُوزُ حَتَّى يَكُونَ نِكَاحًا أَثْبَتَ النِّيَّةَ فِيهِ , فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ , وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ " وَقَالَ

أَيْضًا فِي رِوَايَتِهِ : " إذَا نَكَحَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْحَالِ لِتَرْجِعَ إلَى الْأَوَّلِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا , وَالْمَهْرُ لَا بُدَّ مِنْهُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا " وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِهِ . ثُمَّ أَكْثَرُ مُحَقِّقِيهِمْ قَطَعُوا بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ , وَقَوْلٌ وَاحِدٌ فِي الْمَذْهَبِ . وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْهُمْ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ , وَهُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي كُتُبِهِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِثْلُ الْجَامِعِ وَالْخِلَافِ , وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ مِثْلُ الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ , وَأَبِي الْمَوَاهِبِ الْعُكْبَرِيِّ , وَابْنِ عَقِيلٍ فِي التَّذْكِرَةِ وَغَيْرِهِمْ , وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافًا , وَسَنَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - أَصْلَهُ . وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ : " وَلَوْ تَزَوَّجَهَا فَإِنْ أَعْجَبَتْهُ أَمْسَكَهَا , وَإِلَّا كَانَ قَدْ احْتَسَبَ فِي تَحْلِيلِهَا لِلْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ وَلَا يُحِلُّهَا ذَلِكَ لِمَا خَالَطَ نِكَاحَهُ مِنْ نِيَّةِ التَّحْلِيلِ , وَقِيَاسُ قَوْلِ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّ هَذَا نِكَاحٌ صَحِيحٌ , لِأَنَّهُ إنَّمَا نَوَى فِرَاقَهَا إذَا لَمْ تُعْجِبْهُ وَصَارَ التَّحْلِيلُ ضِمْنًا , وَأَمَّا مَنْ سَوَّى مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالْمُحَلِّلِ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ : إنْ جِئْتنِي بِالْمَهْرِ إلَى وَقْتِ كَذَا , وَإِلَّا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا . فَإِنَّ قَوْلَهُمْ يُوَافِقُ قَوْلَ ابْنِ حَبِيبٍ , فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُسَوُّونَ بَيْنَ أَنْ يَشْرِطَ الْفُرْقَةَ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْمَهْرِ " . وَلِلشَّافِعِيِّ فِي

كِتَابِهِ الْقَدِيمِ الْعِرَاقِيِّ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَهَا تَزْوِيجًا مُطْلَقًا لَمْ يَشْتَرِطْ وَلَا اُشْتُرِطَ عَلَيْهِ التَّحْلِيلُ إلَّا أَنَّهُ نَوَاهُ وَقَصَدَهُ , قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ الْجَدِيدِ الْمِصْرِيِّ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْقَاسِمِ , وَسَالِمٍ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَرَبِيعَةَ , وَأَبِي الزِّنَادِ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُمْ , وَفِي الْقَلْبِ مِنْ حِكَايَتِهِ هَذَا عَنْ هَؤُلَاءِ حَزَازَةٌ , فَإِنَّ مَالِكًا أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَذَاهِبِ الْمَدَنِيِّينَ , وَأَتْبَعُهُمْ لَهَا , وَمَذْهَبُهُ فِي ذَلِكَ شِدَّةُ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ , ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَعْيَانِ الْمَدَنِيِّينَ , وَالْمَعْرُوفُ عَنْ الْمَدَنِيِّينَ التَّغْلِيظُ فِي التَّحْلِيلِ , قَالُوا : هُوَ عَمَلُهُمْ وَعَلَيْهِ اجْتِمَاعُ مَلَئِهِمْ . وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي : هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ , وَدَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيِّ , وَقَدْ خَرَّجَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ : الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ , وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ وَغَيْرُهُمَا , عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْعَقْدُ صَحِيحٌ , كَقَوْلِ هَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ , قَالُوا : لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ : أَكْرَهُهُ , وَالْكَرَاهَةُ الْمُطْلَقَةُ مِنْهُ هَلْ تُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيمِ , أَوْ التَّنْزِيهِ , عَلَى وَجْهَيْنِ , وَجَعَلَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ , وَأَبُو الْخَطَّابِيِّ , وَطَائِفَةٌ مَعَهُمَا الْمَسْأَلَةَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : الْبُطْلَانُ كَمَا نَقَلَهُ حَنْبَلٌ , وَغَيْرُهُ . وَالثَّانِيَةُ : الصِّحَّةُ , لِأَنَّ

حَرْبًا نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَهُ , فَظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ , وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو عَلِيِّ بْنُ الْبَنَّاءِ إلَّا هَذِهِ الرِّوَايَةَ , وَقَطَعَ عَنْ أَحْمَدَ بِالْكَرَاهَةِ مَعَ الصِّحَّةِ . وَهَذَا التَّخْرِيجُ ضَعِيفٌ عَلَى الْمَذْهَبِ فِي وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْكَرَاهَةَ الَّتِي نَقَلَهَا حَرْبٌ أَنَّهُ قَالَ : سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ , وَفِي نَفْسِهِ طَلَاقُهَا فَكَرِهَهُ , وَهَذَا لَيْسَ فِي نِيَّةِ التَّحْلِيلِ , وَإِنَّمَا هُوَ فِي نِيَّةِ الِاسْتِمْتَاعِ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ بَيِّنٌ فَإِنَّ الْمُحَلِّلَ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِي النِّكَاحِ أَصْلًا , وَإِنَّمَا غَرَضُهُ إعَادَتُهَا إلَى الْمُطَلِّقِ , وَالْمُسْتَمْتِعُ لَهُ رَغْبَةٌ فِي النِّكَاحِ إلَى مُدَّةٍ , وَلِهَذَا أُبِيحَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ , ثُمَّ حُرِّمَ وَلَمْ يُبَحْ التَّحْلِيلُ قَطُّ . وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ : أَمَّا إذَا نَوَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ , كَالرَّجُلِ يَقْدَمُ الْبَلْدَةَ فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ السَّفَرِ , فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ , وَاتَّبَعَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مَعَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ نِيَّةَ التَّحْلِيلِ تُبْطِلُ النِّكَاحَ , لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كَرَاهَةُ هَذَا النِّكَاحِ , وَقَالَ : هُوَ مُتْعَةٌ , فَعُلِمَ أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ , وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ . عَامَّةُ أَصْحَابِهِ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : يُشْبِهُ الْمُتْعَةَ . فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّنْزِيهَ دُونَ التَّحْرِيمِ , وَمِمَّنْ حَرَّمَهُ

الْأَوْزَاعِيُّ . وَاخْتَلَفَتْ فِيهِ الْمَالِكِيَّةُ , وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ الْمُسَافِرُ امْرَأَةً لِيَسْتَمْتِعَ بِهَا وَيُفَارِقَهَا إذَا سَافَرَ , فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . فَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ كَانَ فَاسِدًا وَهُوَ نِكَاحُ مُتْعَةٍ , وَاخْتُلِفَ إذَا فَهِمَتْ ذَلِكَ . أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ , فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : النِّكَاحُ بَاطِلٌ , وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ جَوَازَهُ , فَقَالَ : إنَّمَا يُكْرَهَ الَّتِي يَنْكِحُهَا عَلَى أَنْ لَا يُقِيمَ وَعَلَى ذَلِكَ يَأْتِي , وَرَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ أَنَّهُ قَالَ : إذَا أَخْبَرَهَا قَبْلَ أَنْ يَنْكِحَ , ثُمَّ أَرَادَ إمْسَاكَهَا فَلَا يُقِيمُ عَلَيْهَا وَلَا يُمْسِكُهَا وَلْيُفَارِقْهَا , قَالَ مَالِكٌ : إنْ تَزَوَّجَ لِعُزْبَةٍ , أَوْ هَوًى لِقَضَاءِ أَرَبِهِ وَيُفَارِقُ فَلَا بَأْسَ , وَلَا أَحْسِبُ إلَّا أَنَّ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ لَوْ عَلِمَتْ ذَلِكَ لَمَا رَضِيَتْ . الثَّانِي : أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ : إذَا تَزَوَّجَهَا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَكْرَهُهُ هَذِهِ مُتْعَةٌ , وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد : إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَحْمِلَهَا إلَى خُرَاسَانَ وَمِنْ رَأْيِهِ إذَا حَمَلَهَا أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهَا , فَقَالَ : لَا , هَذَا يُشْبِهُ الْمُتْعَةَ حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ مَا حَيِيَتْ , وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ , لِأَنَّهُ جَعَلَ هَذَا مُتْعَةً , وَالْمُتْعَةُ حَرَامٌ عِنْدَهُ , وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي , فِي خِلَافِهِ : ظَاهِرُ هَذَا إبْطَالُ الْعَقْدِ , وَكَذَلِكَ اسْتَدْرَكَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَبِي الْخَطَّابِ يَقُولُ أَحْمَدُ هَذِهِ مُتْعَةٌ .

قَالَ : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ , لَكِنَّ قَوْلَ أَبِي الْخَطَّابِ يَقْوَى فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد , فَإِنَّهُ قَالَ : يُشْبِهُ الْمُتْعَةَ , وَالْمُشَبَّهُ بِالشَّيْءِ قَدْ يَنْقُصُ عَنْهُ , لِأَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ الْمَنْعُ , لِأَنَّهُ قَالَ : حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ مَا حَيِيَتْ فِي الْجُمْلَةِ , أَمَّا إذَا نَوَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا , فَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ لَفْظٌ مُحْتَمِلٌ لِعَدَمِ التَّحْرِيمِ , وَأَمَّا إذَا نَوَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ فَقَدْ نَصَّ عَلَى التَّحْرِيمِ فِي رِوَايَةٍ , وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهَا مِثْلَ تِلْكَ الرِّوَايَةِ , وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ تَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ دُونَ التَّحْرِيمِ , وَعَلَى قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ : لَا بَأْسَ بِهِ . هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْخِلَافِ فِي الْمَذْهَبِ فِيمَا إذَا قَصَدَ التَّحْلِيلَ , وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَلَا مَعَهُ , فَأَمَّا إذَا تَوَاطَآ عَلَى التَّحْلِيلِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَعَقَدَا عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ فَهُوَ كَالْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ , وَهُوَ أَشْبَهُ بِأَصْلِنَا إذَا قُلْنَا : إنَّ النِّيَّةَ الْمُجَرَّدَةَ لَا تُؤَثِّرُ فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْعَقْدِ إذَا لَمْ تُفْسَخْ إلَى حِينِ الْعَقْدِ , فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُقَارِنَةِ , وَهُوَ مَفْهُومُ مَا خَرَّجَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ , فَإِنَّهُ خَصَّ الْخِلَافَ إذَا نَوَى التَّحْلِيلَ وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ

الشَّافِعِيِّ , وَهُوَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ نَقَلَ عَنْهُمْ الرُّخْصَةَ فِي مُجَرَّدِ نِيَّةِ التَّحْلِيلِ , وَاشْتَرَطُوا مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَعْلَمَ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ , فَرَوَى عَنْ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ : لَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الزَّوْجَانِ وَهُوَ مَأْجُورٌ بِذَلِكَ " , حَكَاهُ عَنْهُمَا الطَّحَاوِيَّ , وَكَذَلِكَ قَالَ رَبِيعَةُ , وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ : " هُوَ مَأْجُورٌ " وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ : " وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ مِنْهُمَا فَلَا بَأْسَ بِالنِّكَاحِ وَتَرْجِعُ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ " حَكَاهُنَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ . وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ رُخْصَةٌ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ إذَا عَلِمَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ وَالزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ فَضْلًا عَنْ اشْتِرَاطِهِ , وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ , وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا كَنِيَّةِ التَّحْلِيلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَخَرَّجَ فِيهِمَا وَجْهَيْنِ . وَأَمَّا إذَا شَرَطَ التَّحْلِيلَ فِي الْعَقْدِ فَهُوَ بَاطِلٌ , سَوَاءٌ قَالَ : زَوَّجْتُكَ إلَى أَنْ تُحِلَّهَا , أَوْ : إلَى أَنْ تَطَأَهَا , وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ التَّأْجِيلِ , أَوْ قَالَ : بِشَرْطِ أَنَّكَ إذَا وَطِئْتَهَا , أَوْ إذَا أَحْلَلْتَهَا بَانَتْ , أَوْ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَكُمَا , أَوْ عَلَى أَنْ لَا نِكَاحَ بَيْنَكُمَا إذَا حَلَّلْتَهَا , وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُوجِبُ ارْتِفَاعَ النِّكَاحِ إذَا تَحَلَّلَتْ , أَوْ قَالَ : عَلَى أَنَّكَ تُطَلِّقُهَا إذَا حَلَّلْتَهَا لِلْمُطَلِّقِ أَوْ وَطِئْتَهَا , وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ

: عَلَى أَنْ تُحِلَّهَا فَقَطْ , كَمَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ وَغَيْرُهُ , لِأَنَّ الْإِحْلَالَ إنَّمَا يَتِمُّ بِالْوَطْءِ , وَالطَّلَاقِ . فَإِذَا قِيلَ : عَلَى أَنْ تُحِلَّهَا فَقَطْ , كَانَ الْمُرَادُ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ , وَإِذَا قِيلَ : عَلَى أَنْ تُحِلَّهَا , ثُمَّ تُطَلِّقَهَا , كَانَ الْإِحْلَالُ هُوَ الْوَطْءَ , وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا , لِأَنَّ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ مُخْتَلِفَةٌ فِي هَذَا الشَّرْطِ , مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إذَا شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُحِلَّهَا , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : أَنْ يُحِلَّهَا , ثُمَّ يُطَلِّقَهَا , فَمَنْ قَالَ الْأَوَّلَ عَنَى بِالْإِحْلَالِ الْوَطْءَ وَالطَّلَاقَ جَمِيعًا وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى مَدْلُولِ اللَّفْظِ كَقَوْلِ الْخِرَقِيِّ , وَمَنْ قَالَ الثَّانِيَ كَانَ الْإِحْلَالُ عِنْدَهُ الْوَطْءَ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُفْتَقَرُ فِيهِ إلَى الزَّوْجِ بِكُلِّ حَالٍ , فَإِنَّ الْفُرْقَةَ قَدْ تَحْصُلُ بِمَوْتٍ , أَوْ طَلَاقٍ ; وَلِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْوَطْءُ صَارَتْ الْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الزَّوْجَاتِ , وَارْتَفَعَ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ بِهِ , فَهَذَا جَعَلَ الْوَطْءَ وَحْدَهُ هُوَ الْمُحَلِّلُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ هَؤُلَاءِ , وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ , وَيُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ , ثُمَّ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا قَطَعُوا بِهَذَا مَعَ ذِكْرِ بَعْضِهِمْ لِلْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى , وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِ الشَّرْطِ فِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ : النِّكَاحُ جَائِزٌ , وَالشَّرْطُ فَاسِدٌ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ عِنْدَهُمْ , سَوَاءٌ قَالَ : عَلَى أَنَّهُ إذَا أَحَلَّهَا فَلَا نِكَاحَ , أَوْ

قَالَ : عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا إذَا أَحَلَّهَا , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الثَّوْرِيِّ , وَذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ . وَفِيهِ نَظَرٌ عَنْهُ , وَعَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ أَنَّهُ أَبْطَلَ الشَّرْطَ فِي ذَلِكَ , وَأَجَازَ النِّكَاحَ , وَهَذَا يَقْتَضِي صِحَّةَ النِّكَاحِ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ , وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ . وَقَدْ خَرَّجَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْخِلَافِ , وَأَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً بِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِ الشَّرْطِ , وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ - مِنْ رِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي النِّكَاحِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ , أَوْ أَنَّهُ إنْ جِئْتَنِي بِالْمَهْرِ إلَى وَقْتِ كَذَا , وَإِلَّا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا - أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ , وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ طَرَدَ التَّخْرِيجَ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ عَلَى الْمَذْهَبِ . بَلْ لَا يَجُوزُ نِسْبَةُ مِثْلِ هَذَا إلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتِلْكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ هُنَا شَرَطَ الْفُرْقَةَ الرَّافِعَةَ لِلْعَقْدِ عَيْنًا وَهُنَاكَ إنَّمَا شَرَطَ الْفُرْقَةَ إذَا لَمْ يَجِئْهُ بِالْمَهْرِ , أَوْ إذَا اخْتَارَهَا صَاحِبُ الْخِيَارِ . فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا ؟ وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِاشْتِرَاطِ الْمَجِيءِ بِالْمَهْرِ تَحْصِيلُ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْخِيَارِ يَلْزَمُ الْعَقْدُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ , وَهُنَا الشَّرْطُ مُنَافٍ لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ , وَهُوَ إمَّا مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ عَيْنًا بِحَيْثُ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ ,

كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ , أَوْ مُوجِبٌ لِإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ عَلَى الزَّوْجِ . الثَّالِثُ : أَنَّ تِلْكَ الْأَنْكِحَةَ مَقْصُودَةٌ يُرِيدُ بِهَا النَّاكِحُ مَا يُرَادُ بِالْمَنَاكِحِ , وَهُنَا إنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْلِيلُ الْمُحَرَّمَةِ لِزَوْجِهَا , فَالْمَقْصُودُ زَوَالُ النِّكَاحِ لَا وُجُودُهُ . ثُمَّ عَامَّةُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُبْطِلُونَ الْعَقْدَ يَكْرَهُونَ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ , وَإِنْ لَمْ يُبْطِلُوهُ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ , وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا , وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ خِلَافُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا ظَهَرَ مِنْ الزَّوْجِ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّحْلِيلَ . فَأَمَّا إذَا أَضْمَرَ ذَلِكَ , فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ التَّابِعِينَ إنْ صَحَّتْ الْحِكَايَةُ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ , وَصِحَّتُهَا بَعِيدَةٌ فَإِنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مَعْنٍ قَاضِيَ الْكُوفَةِ قَالَ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ لَقُلْتُ إنَّهُ مَأْجُورٌ , - يَعْنِي الْمُحَلِّلَ - , وَهَذِهِ قَالَهَا الْقَاسِمُ فِي مَعْرِضِ التَّشْنِيعِ عَلَى مَنْ قَالَهَا , فَإِنَّ سِيَاقَ كَلَامِهِ يَقْتَضِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَحْتَمِلُهُ النَّاسُ بِوَجْهٍ لَقِيلَ , فَعُلِمَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ , أَوْ قَرِيبَهُ كَانَ مِنْ أَكْبَرِ الْمُنْكَرَاتِ عِنْدَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ , وَأَنَّهُ قَوْلٌ مُحْدَثٌ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ , فَكَيْفَ يُنْسَبُ إلَى أَحَدٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَهُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ مِثْلِ هَذَا , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ ؟ وَزَعَمَ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ

مُرِيدُ نِكَاحِ الْمُطَلَّقَةِ لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا مَأْجُورًا إذَا لَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ بِاشْتِرَاطِهِ فِي حِينِ الْعَقْدِ , لِأَنَّهُ قَصَدَ إرْفَاقَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ , وَإِدْخَالَ السُّرُورِ عَلَيْهِ , وَمَنْ قَالَ : إنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ صَحِيحٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ , قَالَ : إنَّهُ يُفِيدُ الْحِلَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ , وَاخْتُلِفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ إذَا صَحَّحُوا النِّكَاحَ , فَمَرَّةً قَالُوا : لَا تَحِلُّ لَهُ بِهَذَا النِّكَاحِ , وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا , وَمَرَّةً قَالُوا : تَحِلُّ بِهِ , هَكَذَا حَكَاهُ الطَّحَاوِيَّ وَغَيْرُهُ , وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ قَالَ : لَا تَحِلُّ مَعَ صِحَّةِ النِّكَاحِ , لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ الشَّرْعُ , فَجُوزِيَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ , كَمَا فِي مَنْعِ قَاتِلِ الْمُوَرِّثِ . فَإِذَا ظَهَرَتْ الْمَقَالَاتُ فِي مَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ , وَمَا فِيهَا مِنْ التَّفْصِيلِ , فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَعَامَّةُ السَّلَفِ التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا , وَنَحْنُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - نَذْكُرُ الْأَدِلَّةَ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَبُطْلَانِهِ , سَوَاءٌ قَصَدَهُ فَقَطْ , أَوْ قَصَدَهُ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ , أَوْ شَرَطَ مَعَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ , وَنُبَيِّنُ الدَّلَائِلَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى , فَإِنَّ ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - عَلَى الشَّرْطِ الْخَالِي عَنْ نِيَّةٍ وَقْتَ الْعَقْدِ . وَهُنَا طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : الْإِشَارَةُ إلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ عُمُومًا . وَالثَّانِيَةُ : الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خُصُوصًا .

الْوَجْهُ الثَّانِي قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ , لَمَّا قَالَ الْمُنَافِقُونَ : { إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ . اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { أَبِاَللَّهِ وَآيَتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } الْآيَةَ , وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } . بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الطَّلَاقَ وَالرَّجْعَةَ وَالْخُلْعَ وَالنِّكَاحَ الْمُحَلَّلَ وَالنِّكَاحَ بَعْدَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ , دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِدِينِ اللَّهِ مِنْ الْكَبَائِرِ - وَالِاسْتِهْزَاءُ هُوَ السُّخْرِيَةُ وَهُوَ حَمْلُ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ عَلَى الْهَزْلِ وَاللَّعِبِ لَا عَلَى الْجِدِّ وَالْحَقِيقَةِ - فَاَلَّذِي يَسْخَرُ بِالنَّاسِ هُوَ الَّذِي يَذُمُّ صِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالَهُمْ ذَمًّا يُخْرِجُهَا عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ كَمَا سَخِرُوا بِالْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ , وَاَلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا جُهْدَهُمْ بِأَنْ قَالُوا هَذَا مُرَاءٍ , وَلَقَدْ كَانَ اللَّهُ غَنِيًّا مِنْ صَاعِ فُلَانٍ , فَمَنْ تَكَلَّمَ بِالْأَقْوَالِ الَّتِي جَعَلَ الشَّارِعُ لَهَا حَقَائِقَ وَمَقَاصِدَ مِثْلِ كَلِمَةِ الْإِيمَانِ , وَكَلِمَةِ اللَّهِ الَّتِي تُسْتَحَلُّ بِهَا الْفُرُوجُ , وَالْعُهُودُ , وَالْمَوَاثِيقُ الَّتِي بَيْنَ الْمُتَعَاقِدِينَ . وَهُوَ لَا يُرِيدُ بِهَا حَقَائِقَهَا الْمُقَوَّمَةَ لَهَا , وَلَا مَقَاصِدَهَا الَّتِي جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُحَصِّلَةً لَهَا , بَلْ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَجِعَ الْمَرْأَةَ لِيَضُرَّهَا , وَلَا حَاجَةَ لَهُ فِي نِكَاحِهَا , أَوْ يَنْكِحَهَا لِيُحَلِّلَهَا , أَوْ يَخْلَعَهَا لِيَلْبَسَهَا ,

فَهُوَ مُسْتَهْزِئٌ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ . وَسَيَأْتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي الْأَدِلَّةِ الْخَاصَّةِ , فَإِذَا كَانَ الِاسْتِهْزَاءُ بِهَا حَرَامًا وَجَبَ إبْطَالُهُ , وَإِبْطَالُ التَّصَرُّفَاتِ عَدَمُ تَرَتُّبِ أَثَرِهَا عَلَيْهَا . فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَهْزِئُ بِهَا غَرَضُهُ إنَّمَا يَتِمُّ لِصِحَّتِهَا وَجَبَ إبْطَالُ هَذِهِ الصِّحَّةِ وَالْحُكْمُ بِبُطْلَانِ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ , وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَهْزِئُ غَرَضُهُ اللَّعِبُ بِهَا دُونَ لُزُومِ حُكْمِهَا وَجَبَ إبْطَالُ لَعِبِهِ بِإِلْزَامِهِ أَحْكَامَهُ كَمَا سَيَأْتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ - إيضَاحُهُ .

الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ : بُطْلَانُ الْحِيَلِ , وَأَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ أَنْ نَقُولَ : إنَّ - اللَّهَ سُبْحَانَهُ - حَرَّمَ أَشْيَاءَ , إمَّا تَحْرِيمًا مُطْلَقًا , كَتَحْرِيمِ الرِّبَا , أَوْ تَحْرِيمًا مُقَيَّدًا إلَى أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالٌ مِنْ الْأَحْوَالِ , كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا , وَكَتَحْرِيمِ الْمَحْلُوفِ بِطَلَاقِهَا عِنْدَ الْحِنْثِ , وَأَوْجَبَ أَشْيَاءَ إيجَابًا مُعَلَّقًا بِأَسْبَابٍ : إمَّا حَقًّا لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ - , كَالزَّكَاةِ , وَنَحْوِهَا , أَوْ حَقًّا لِلْعِبَادِ كَالشُّفْعَةِ , ثُمَّ إنَّهُ شَرَعَ أَسْبَابًا تُفْعَلُ لِتَحْصِيلِ مَقَاصِدَ , كَمَا شَرَعَ الْعِبَادَاتِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ لِابْتِغَاءِ فَضْلِهِ وَرِضْوَانِهِ . وَكَمَا شَرَعَ عَقْدَ الْبَيْعِ لِنَقْلِ الْمِلْكِ بِالْعِوَضِ , وَعَقْدَ الْقَرْضِ لِإِرْفَاقِ الْمُقْتَرِضِ , وَعَقْدَ النِّكَاحِ لِلْأَزْوَاجِ , وَالسَّكَنِ , وَالْأُلْفَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ , وَالْخُلْعِ لِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ افْتِدَاءَ الْمَرْأَةِ مِنْ رِقِّ بَعْلِهَا , وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ هَدَى خَلْقَهُ إلَى أَفْعَالٍ تُبَلِّغُهُمْ إلَى مَصَالِحَ لَهُمْ كَمَا شَرَعَ مِثْلَ ذَلِكَ . فَالْحِيلَةُ : أَنْ يَقْصِدَ سُقُوطَ الْوَاجِبِ , أَوْ حِلَّ الْحَرَامِ , بِفِعْلٍ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ مَا جُعِلَ ذَلِكَ الْفِعْلُ لَهُ , أَوْ مَا شُرِعَ , فَهُوَ يُرِيدُ تَغْيِيرَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِأَسْبَابٍ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا مَا جُعِلَتْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ لَهُ , وَهُوَ يَفْعَلُ تِلْكَ الْأَسْبَابَ لِأَجْلِ مَا هُوَ تَابِعٌ لَهَا , لَا لِأَجْلِ مَا هُوَ الْمَتْبُوعُ الْمَقْصُودُ بِهَا , بَلْ يَفْعَلُ السَّبَبَ لِمَا يُنَافِي قَصْدَهُ مِنْ حُكْمِ السَّبَبِ ,

فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَلَبَ ثَمَرَةَ الْفِعْلِ الشَّرْعِيِّ وَنَتِيجَتَهُ وَهُوَ لَمْ يَأْتِ بِقِوَامِهِ وَحَقِيقَتِهِ , فَهَذَا خِدَاعٌ لِلَّهِ , وَاسْتِهْزَاءٌ بِآيَاتِ اللَّهِ , وَتَلَاعُبٌ بِحُدُودِ اللَّهِ , وَقَدْ دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ الْكِتَابُ , وَالسُّنَّةُ , وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ , وَعَامَّةُ دَعَائِمِ الْإِيمَانِ وَمَبَانِي الْإِسْلَامِ . وَدَلَائِلُ ذَلِكَ لَا تَكَادُ تَنْضَبِطُ وَلَكِنْ نُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِهَا . مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ بِإِبْطَالِ مِثْلِ هَذِهِ الْحِيَلِ فِي الْجُمْلَةِ مَأْثُورٌ , عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ , وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَّامٍ , وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ , وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ , وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ . وَمِنْ التَّابِعِينَ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ , وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ , وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَكِّيِّينَ , وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَبِي الشَّعْثَاءِ , وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ وَقَتَادَةَ وَأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ , وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ , وَالشَّعْبِيِّ , وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ , وَهُوَ قَوْلُ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ , وَمَالِكٍ , وَأَصْحَابِهِ , وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ , وَالْقَاسِمِ

بْنِ مَعْنٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَشَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَالْفَضْلِ بْنِ عِيَاضٍ , وَحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ , وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ , وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ , وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ , وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ , وَمَنْ لَا يُحْصَى مِنْ الْعُلَمَاءِ , وَكَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ يَطُولُ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ سَعِيدٍ : " لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ الْحِيَلِ " . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ : " إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ , ثُمَّ احْتَالَ بِحِيلَةٍ فَصَارَ إلَيْهِ فَقَدْ صَارَ إلَى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ " . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : مَا أَخْبَثَهُمْ ; يَعْنِي أَصْحَابَ الْحِيَلِ " . وَقَالَ : بَلَغَنِي عَنْ مَالِكٍ , أَوْ قَالَ : قَالَ مَالِكٌ " مَنْ احْتَالَ بِحِيلَةٍ فَهُوَ حَانِثٌ " أَوْ كَمَا قَالَ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ وَقَدْ سَأَلَهُ عَمَّنْ احْتَالَ فِي إبْطَالِ الشُّفْعَةِ , فَقَالَ : لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ الْحِيَلِ فِي إبْطَالِ حَقِّ مُسْلِمٍ " . وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ : قُلْتُ , لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ احْتَالَ لِإِبْطَالِهَا هَلْ تَجُوزُ تِلْكَ الْحِيلَةُ ؟ قَالَ : " نَحْنُ لَا نَرَى الْحِيلَةَ إلَّا بِمَا يَجُوزُ " قُلْتُ : أَلَيْسَ حِيلَتُنَا فِيهَا أَنْ نَتَّبِعَ مَا قَالُوا , وَإِذَا وَجَدْنَا لَهُمْ قَوْلًا فِي شَيْءٍ اتَّبَعْنَاهُ ؟ قَالَ : " بَلَى , هَكَذَا هُوَ " . قُلْتُ : وَلَيْسَ هَذَا مِنَّا - نَحْنُ - حِيلَةً , قَالَ : " نَعَمْ " قُلْتُ : بَلَغَنِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ - وَهِيَ عَلَى دَرَجَةٍ - : إنْ صَعِدْتِ ,

أَوْ نَزَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ . قَالُوا : تُحْمَلُ حَمْلًا فَلَا تَنْزِلُ . قَالَ : " هَذَا هُوَ الْحِنْثُ بِعَيْنِهِ لَيْسَ هَذِهِ حِيلَةً هَذَا هُوَ الْحِنْثُ " . وَقَالُوا : حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَ بِسَاطًا , قَالُوا : يَجْعَلُ بِسَاطَيْنِ , وَقَالُوا : حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الدَّارَ , قَالُوا : يُحْمَلُ , فَجَعَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَتَعَجَّبُ . فَبَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَنْ اتَّبَعَ مَا شُرِعَ لَهُ وَجَاءَ عَنْ السَّلَفِ فِي مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَّقَ بِهَا الْأَحْكَامَ لَيْسَ بِمُحْتَالٍ الْحِيلَةَ الْمَذْمُومَةَ , وَإِنْ سُمِّيَتْ حِيلَةً , فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهَا . وَغَرَضُهُ بِهَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ سُلُوكِ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي شُرِعَتْ لِحُصُولِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا , كَمَا سَيَأْتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ - بَيَانُهُ , وَسَيَأْتِي تَشْدِيدُهُ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحِيَلِ , وَاحْتِجَاجُهُ عَلَى رَدِّهَا فِي أَثْنَاءِ الْأَدِلَّةِ .

فَنَقُولُ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا , وَإِبْطَالِهَا وُجُوهٌ : الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَالَ فِي صِفَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ مِنْ مُظْهِرِي الْإِسْلَامِ : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } وَقَالَ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ : { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ } الْآيَةَ . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُخَادِعِينَ مَخْدُوعُونَ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ , وَأَنَّ اللَّهَ خَادِعٌ مَنْ يُخَادِعُهُ وَأَنَّ الْمَخْدُوعَ يَكْفِيهِ اللَّهُ شَرَّ مَنْ خَدَعَهُ , وَالْمُخَادَعَةُ هِيَ الِاحْتِيَالُ وَالْمُرَاوَغَةُ بِإِظْهَارِ الْخَيْرِ مَعَ إبْطَالِ خِلَافِهِ لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ . يُقَالُ : طَرِيقٌ خَدِعٌ إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلْقَصْدِ لَا يُفْطَنُ لَهُ , وَيُقَالُ : غُولٌ خَيْدَعٌ , وَيُقَالُ : لِلشَّرَابِ الْخَيْدَاعُ , وَضَبٌّ خَدِعٌ , أَيْ مُرَاوِغٌ . وَفِي الْمَثَلِ أَخْدَعُ مِنْ ضَبٍّ , وَخُلُقٌ خَادِعٌ , وَسُوقٌ خَادِعَةٌ أَيْ مُتَلَوِّنَةٌ . وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ , وَأَصْلُهُ الْإِخْفَاءُ وَالسَّتْرُ . وَمِنْهُ قِيلَ لِلْخِزَانَةِ : مِخْدَعٌ وَمُخْدَعٌ . فَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ : آمَنَّا

بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ إنْشَاءً لِلْإِيمَانِ , أَوْ إخْبَارًا بِهِ وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي هَذَا الْإِنْشَاءِ وَالْإِخْبَارِ - بِحَيْثُ يَكُونُ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِذَلِكَ , وَحُكْمُهُ أَنْ يَعْصِمَ دَمَهُ وَمَالَهُ فِي الدُّنْيَا , وَأَنْ يَكُونَ لَهُ مَا لِلْمُؤْمِنِينَ - كَانَ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ غَيْرَ مُبْطِنٍ لِحَقِيقَتِهَا , بَلْ مُرِيدًا لِحُكْمِهَا وَثَمَرَتِهَا فَقَطْ , مُخَادِعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ , وَكَانَ جَزَاؤُهُ أَنْ يُظْهِرَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - مَا يَظُنُّ أَنَّهُ كَرَامَةٌ وَفِيهِ عَذَابٌ أَلِيمٌ , كَمَا أَظْهَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا ظَنُّوا أَنَّهُ إيمَانٌ وَفِي ضِمْنِهِ الْكُفْرُ . وَهَكَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ : بِعْتُ , وَاشْتَرَيْتُ , وَاقْتَرَضْتُ , وَأَنْكَحْتُ , وَنَكَحْتُ إنْشَاءً لِلْعَقْدِ , أَوْ إخْبَارًا بِهِ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ هَذِهِ الصِّيغَةُ , وَلَا ثُبُوتَ النِّكَاحِ الَّذِي جُعِلَتْ لَهُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ , بَلْ مَقْصُودُهُ بَعْضُ أَحْكَامِهَا الَّتِي قَدْ يَحْصُلُ ضِمْنًا , وَقَدْ لَا يَحْصُلُ . أَوْ قَصَدَ مَا يُنَافِي قَصْدَ الْعَقْدِ , أَوْ قَصْدُهُ بِالْعَقْدِ شَيْءٌ آخَرُ خَارِجٌ عَنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ , وَهُوَ أَنْ تَعُودَ الْمَرْأَةُ إلَى زَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ بَعْدَ الطَّلَاقِ . أَوْ أَنْ تَعُودَ السِّلْعَةُ إلَى الْبَائِعِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ , أَوْ أَنْ تَنْحَلَّ يَمِينٌ قَدْ حَلَفَهَا كَانَ مُخَادِعًا لِمُبَاشَرَتِهِ لِلْكَلِمَاتِ الَّتِي جُعِلَتْ لَهَا حَقَائِقُ وَمَقَاصِدُ , وَهُوَ لَا يُرِيدُ مَقَاصِدَهَا وَحَقَائِقَهَا . وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ النِّفَاقِ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَحُدُودِهِ , كَمَا أَنَّ

الْأَوَّلَ نِفَاقٌ فِي أَصْلِ الدِّينِ , يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مِنْ الْأَثَرِ مَا رُوِيَ , عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : إنَّ عَمِّي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أَيُحِلُّهَا لَهُ رَجُلٌ ؟ فَقَالَ : مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ . رَوَاهُ سَعِيدٌ , وَسَيَجِيءُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَأَنَسٍ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سُئِلَ عَنْ الْعِينَةِ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يُخْدَعُ , هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَمَا رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا , عَنْ عُثْمَانَ , وَابْنِ عُمَرَ , وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ قَالُوا : { لَا نِكَاحَ إلَّا نِكَاحُ رَغْبَةٍ لَا نِكَاحُ دُلْسَةٍ } . وَقَدْ قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ : الْمُدَالَسَةُ الْمُخَادَعَةُ . وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ , وَنَاهِيكَ بِهِ فِي هَؤُلَاءِ الْمُحْتَالِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَأَنَّمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ , فَلَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عِيَانًا كَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ . وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الْحِيَلِ هُوَ كِتَابُ الْمُخَادَعَةِ , وَكَذَلِكَ الْمُعَاهِدُونَ إذَا أَظْهَرُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ سِلْمَهُ وَمَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ الْمَكْرُ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِأَنْ يُظْهِرُوا لَهُ أَمَانًا , وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَمَانٍ فَقَدْ أَبْطَنُوا خِلَافَ مَقْصُودِ الْمُعَاهَدَةِ . كَمَا يُظْهِرُ الْمُحَلِّلُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمَرْأَةِ أَنَّهُ إنَّمَا يُرِيدُ نِكَاحَهَا وَأَنَّهُ رَاغِبٌ فِي ذَلِكَ وَمَقْصُودُهُ طَلَاقُهَا بَعْدَ اسْتِفْرَاشِهَا لَا مَا هُوَ مَقْصُودُ النِّكَاحِ . وَلِهَذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِأَنَّ كُلَّ مَا فَهِمَ الْكَافِرُ أَنَّهُ أَمَانٌ كَانَ أَمَانًا

لِئَلَّا يَكُونَ مَخْدُوعًا , وَإِنْ لَمْ يَقْصِدَ خَدْعَهُ , وَرَوَى سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ : { كَانَ مُعَاوِيَةُ يَسِيرُ بِأَرْضِ الرُّومِ , وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَمَدٌ فَأَرَادَ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُمْ فَإِذَا انْقَضَى الْأَمَدُ غَزَاهُمْ فَإِذَا شَيْخٌ عَلَى دَابَّةٍ يَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحُلَّنَّ عُقْدَةً وَلَا يَشُدَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا أَوْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَرَجَعَ , وَإِذَا الشَّيْخُ : عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ } . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَكُونَ فِيهِ خَدِيعَةٌ بِالْمُعَاهَدِينَ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِمَا اقْتَضَاهُ لَفْظُ الْعَهْدِ فَعُلِمَ أَنَّ مُخَالَفَةَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ لَفْظًا , أَوْ عُرْفًا خَدِيعَةٌ وَأَنَّهُ حَرَامٌ . وَتَلْخِيصُ هَذَا الْوَجْهِ : أَنَّ مُخَادَعَةَ اللَّهِ حَرَامٌ , وَالْحِيَلُ مُخَادَعَةٌ لِلَّهِ . بَيَانُ الْأَوَّلِ : أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْمُنَافِقِينَ بِقَوْلِهِ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } وَبِقَوْلِهِ : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا } وَلَوْلَا أَنَّ الْمُخَادَعَةَ حَرَامٌ لَمْ يَكُنْ الْمُنَافِقُ مَذْمُومًا بِهَذَا الْوَصْفِ وَأَيْضًا أَخْبَرَ أَنَّهُ خَادِعُهُمْ , وَخَدْعُ اللَّهِ الْعَبْدَ عُقُوبَةٌ لَهُ , وَالْعُقُوبَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى فِعْلِ مُحَرَّمٍ , أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ . وَبَيَانُ

الثَّانِي مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَفْتَوْا أَنَّ التَّحْلِيلَ وَنَحْوَهُ مِنْ الْحِيَلِ مُخَادَعَةٌ لِلَّهِ , وَالرُّجُوعُ إلَيْهِمْ فِي مَعَانِي الْأَلْفَاظِ مُتَعَيَّنٌ , سَوَاءٌ كَانَتْ لُغَوِيَّةً , أَوْ شَرْعِيَّةً . الثَّانِي : أَنَّ الْمُخَادَعَةَ إظْهَارُ شَيْءٍ مِنْ الْخَيْرِ , وَإِبْطَانُ خِلَافِهِ , كَمَا تَقَدَّمَ , هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْحِيَلِ . وَدَلِيلُ مَسْأَلَةِ هَذَا مُطَابَقَةُ هَذَا الْمَعْنَى بِمَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ وَشَهَادَةِ الِاشْتِقَاقِ وَالتَّصْرِيفِ لَهُ . الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُنَافِقَ لَمَّا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ , وَمُرَادُهُ غَيْرُ الْإِسْلَامِ سُمِّيَ مُخَادِعًا لِلَّهِ , وَكَذَلِكَ الْمُرَائِي , فَإِنَّ النِّفَاقَ وَالرِّيَاءَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ , فَإِذَا كَانَ هَذَا الَّذِي أَظْهَرَ قَوْلًا غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ . وَهَذَا الَّذِي أَظْهَرَ فِعْلًا غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِمَا شُرِعَ لَهُ مُخَادِعًا , فَالْمُحْتَالُ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ : إمَّا إظْهَارُ فِعْلٍ لِغَيْرِ مَقْصُودِهِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ , أَوْ إظْهَارُ قَوْلٍ لِغَيْرِ مَقْصُودِهِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ . وَإِذَا كَانَ مُشَارِكًا لَهُمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ سُمِّيَا مُخَادِعَيْنِ , وَجَبَ أَنْ يَشْرَكَهُمَا فِي اسْمِ الْخِدَاعِ , وَعُلِمَ أَنَّ الْخِدَاعَ اسْمٌ لِعُمُومِ الْحِيَلِ , لَا لِحُصُولِ هَذَا النِّفَاقِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ بَلَاهُمْ بِمَا بَلَاهُمْ بِهِ فِي سُورَةِ ( نُونٍ ) وَهُمْ قَوْمٌ كَانَ لِلْمَسَاكِينِ حَقٌّ فِي أَمْوَالِهِمْ إذَا جَذُّوا نَهَارًا بِأَنْ يَلْتَقِطَ الْمَسَاكِينُ مَا يَتَسَاقَطُ مِنْ الثَّمَرِ , فَأَرَادُوا أَنْ يَجُذُّوا لَيْلًا لِيَسْقُطَ ذَلِكَ الْحَقُّ , وَلِئَلَّا يَأْتِيَهُمْ مِسْكِينٌ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى جَنَّتِهِمْ طَائِفًا وَهُمْ نَائِمُونَ , فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ عُقُوبَةً عَلَى احْتِيَالِهِمْ لِمَنْعِ الْحَقِّ الَّذِي كَانَ لِلْمَسَاكِينِ فِي أَمْوَالِهِمْ , فَكَانَ فِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ لِكُلِّ مَنْ احْتَالَ لِمَنْعِ حَقٍّ لِلَّهِ , أَوْ لِعِبَادِهِ مِنْ زَكَاةٍ , أَوْ شُفْعَةٍ , وَقَصْدُ هَؤُلَاءِ مَعْرُوفٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ , عَلَى أَنَّ فِي التَّنْزِيلِ مَا يَكْفِي فِي الدَّلَالَةِ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ لَمْ يَكُونُوا أَرَادُوا مَنْعَ وَاجِبٍ لَمْ يُعَاقَبُوا بِمَنْعِ التَّطَوُّعِ , فَإِنَّ الذَّمَّ وَالْعُقُوبَةَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى فِعْلِ مُحَرَّمٍ , أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ , وَهَذِهِ خَاصَّةُ الْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُسْتَحَبِّ وَالْمَكْرُوهِ . ثُمَّ إنْ كَانُوا عُوقِبُوا عَلَى الِاحْتِيَالِ عَلَى تَرْكِ الْمُسْتَحَبِّ , فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْعُقُوبَةِ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعُقُوبَةُ عَلَى تَرْكِ الِاسْتِثْنَاءِ وَحْدَهُ , فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يُعَاقَبُ صَاحِبُهُ بِمَنْعِ الْفِعْلِ , بِأَنْ يُبْتَلَى بِمَا يَشْغَلُهُ عَنْهُ أَمَّا عُقُوبَتُهُ بِإِهْلَاكِ الْمَالِ فَلَا , وَلِأَنَّ اللَّهَ قَالَ : { إنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ } . بَعْدَ أَنْ قَالَ

: { وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ . هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ . مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } . فَعُلِمَ أَنَّهَا عِبْرَةٌ لِمَنْ مَنَعَ الْخَيْرَ , وَلِأَنَّ اللَّهَ قَصَّ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ , وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَإِنَّهُمْ انْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ , فَعُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الْعُقُوبَةِ , فَعُلِمَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ ; لِأَنَّ ذِكْرَ مَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ مَعَ الْمُؤَثِّرِ غَيْرُ جَائِزٍ , كَمَا لَوْ ذَكَرَ مَعَ هَذَا أَنَّهُمْ أَكَلُوا , أَوْ شَرِبُوا . فَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ عُوقِبُوا عَلَى قَصْدِ مَنْعِ الْخَيْرِ الْمُسْتَحَبِّ فَكَيْفَ بِمَنْ قَصَدَ مَنْعَ الْوَاجِبِ , إنْ كَانُوا إنَّمَا قَصَدُوا مَنْعَ وَاجِبٍ وَهُوَ الصَّوَابُ , كَمَا قَرَّرْنَاهُ , فَهُمْ لَمْ يَمْنَعُوهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ , لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ وَجَبَ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ صَرْمِهِ بِاللَّيْلِ وَصَرْمِهِ بِالنَّهَارِ , وَإِنَّمَا قَصَدُوا بِالصَّرْمِ لَيْلًا الْفِرَارَ مِمَّا كَانَ لِلْمَسَاكِينِ فِيهِ مِنْ اللَّقَاطِ , فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ أَنَّ حَقَّ الْمَسَاكِينِ كَانَ فِيمَا يَتَسَاقَطُ , وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا مُوَقَّتًا , وَوُجُوبُ هَذَا مَشْرُوطٌ بِسُقُوطِهِ وَحُضُورِ مَنْ يَأْخُذُهُ مِنْ الْمَسَاكِينِ , كَأَنَّ السَّاقِطَ عَفْوُ الْمَالِ وَفَضْلُهُ , وَحُضُورُ أَهْلِ الْحَاجَةِ بِمَنْزِلَةِ السُّؤَالِ , وَالْفَاقَةِ , وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَالِ يَجِبُ فِيهَا مَا لَا يَجِبُ فِي غَيْرِهَا , كَمَا يَجِبُ قِرَى الضَّيْفِ , وَإِطْعَامُ

الْمُضْطَرِّ , وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ , وَحَمْلُ الْعَقْلِ , وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَيَكُونُ هَذَا فِرَارًا مِنْ حَقٍّ قَدْ انْعَقَدَ بِسَبَبِ وُجُوبِهِ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِهِ , فَهُوَ مِثْلُ الْفِرَارِ مِنْ الزَّكَاةِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ . وَالْفِرَارِ مِنْ الشُّفْعَةِ بَعْدَ إرَادَةِ الْبَيْعِ قَبْلَ تَمَامِهِ , وَالْفِرَارِ مِنْ قِرَى الضَّيْفِ قَبْلَ حُضُورِهِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَلَوْلَا أَنَّ قَصْدَنَا هُنَا الْإِشَارَةُ فَقَطْ لَبَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ .

الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ , وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا , أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ } . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي إبْطَالِ الْحِيَلِ . وَبِهِ احْتَجَّ الْبُخَارِيُّ عَلَى ذَلِكَ . فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعَامِلَ رَجُلًا مُعَامَلَةً يُعْطِيهِ فِيهَا أَلْفًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ إلَى أَجَلٍ , فَأَقْرَضَهُ تِسْعَمِائَةٍ وَبَاعَهُ ثَوْبًا بِسِتِّمِائَةٍ يُسَاوِي مِائَةً , إنَّمَا نَوَى بِاقْتِرَاضِ التِّسْعمِائَةِ تَحْصِيلَ مَا رَبِحَهُ فِي الثَّوْبِ , وَإِنَّمَا نَوَى بِالسِّتِّمِائَةِ الَّتِي أَظْهَرَ أَنَّهَا ثَمَنٌ أَنَّ أَكْثَرَهَا رِبْحُ التِّسْعِمِائَةِ , فَلَا يَكُونُ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ إلَّا مَا نَوَاهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا مَقْصُودٌ فَاسِدٌ غَيْرُ صَالِحٍ , وَلَا جَائِزٍ ; لِأَنَّ إعْطَاءَ الدَّرَاهِمِ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا مُحَرَّمٌ فِعْلُهُ وَقَصْدُهُ , فَإِذَا كَانَ إنَّمَا بَاعَ الثَّوْبَ بِسِتِّمِائَةٍ مَثَلًا , لِأَنَّ الْخَمْسَمِائَةِ رِبْحُ التِّسْعِمِائَةِ الَّتِي أَعْطَاهُ إيَّاهَا بِدَرَاهِمَ فَهَذَا مَقْصُودٌ مُحَرَّمٌ , فَيَكُونُ مُهْدَرًا فِي الشَّرْعِ , وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ الصَّالِحَةِ وَالْقَرْضِ , كَمَا أَنَّ مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ إنَّمَا كَانَ لَهُ أُمُّ قَيْسٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ أَحْكَامِ الْهِجْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ شَيْءٌ . وَكَذَلِكَ الْمُحَلِّلُ إنَّمَا نَوَى أَنْ

يُطَلِّقَ الْمَرْأَةَ لِتَحِلَّ لِلْأَوَّلِ وَلَمْ يَنْوِ أَنْ يَتَّخِذَهَا زَوْجَةً فَلَا تَكُونُ لَهُ زَوْجَةً , فَلَا تَحِلُّ لَهُ , وَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةً فَالتَّحْرِيمُ بَاقٍ , فَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ . وَهَذَا ظَاهِرٌ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ } . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ . فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } . وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَاتٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّهُمْ احْتَالُوا عَلَى الصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ بِحِيلَةٍ

تُخَيَّلُ بِهَا فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُمْ لَمْ يَصِيدُوا فِي السَّبْتِ , حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ - وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ - : لَقَدْ مُسِخَ الْيَهُودُ قِرَدَةً بِدُونِ هَذَا . وَقَالَ قَبْلَهُ الْإِمَامُ أَبُو يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إبْطَالِ الْحِيَلِ : وَهَلْ أَصَابَ الطَّائِفَةَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ الْمَسْخُ إلَّا بِاحْتِيَالِهِمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ , بِأَنْ حَظَرُوا الْحَظَائِرَ عَلَى الْحِيتَانِ فِي يَوْمِ سَبْتِهِمْ , فَمَنَعُوهَا الِانْتِشَارَ يَوْمَهَا إلَى الْأَحَدِ فَأَخَذُوهَا . وَكَذَلِكَ السِّلْسِلَةُ الَّتِي كَانَتْ تَأْخُذُ بِعُنُقِ الظَّالِمِ فَاحْتَالَ لَهَا صَاحِبُ الدِّرَّةِ ; إذْ صَرَّهَا فِي قَصَبَةٍ , ثُمَّ دَفَعَهَا بِالْقَصَبَةِ إلَى خَصْمِهِ , وَتَقَدَّمَ إلَى السِّلْسِلَةِ لِيَأْخُذَهَا فَرُفِعَتْ . وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَزْجَرَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُتَعَاطِينَ الْحِيَلَ عَلَى الْمَنَاهِي الشَّرْعِيَّةِ مِمَّنْ يَتَلَبَّسُ بِعِلْمِ الْفِقْهِ وَلَيْسَ بِفَقِيهٍ ; إذْ الْفَقِيهُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى فِي الرِّبَوِيَّاتِ وَالتَّحْلِيلِ بِاسْتِعَارَةِ الْمُحَلِّلِ لِلْمُطَلَّقَاتِ وَالْخُلْعِ لِحِلِّ مَا لَزِمَ مِنْ الْمُطَلَّقَاتِ الْمُعَلَّقَاتِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَظَائِمَ وَمَصَائِبَ لَوْ اعْتَمَدَ بَعْضَهَا مَخْلُوقٌ فِي حَقِّ مَخْلُوقٍ لَكَانَ فِي نِهَايَةِ الْقُبْحِ فَكَيْفَ فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى . وَقَدْ ذَكَرَ الْقِصَّةَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ مَشَاهِيرِ الْمُفَسِّرِينَ بِمَعْنًى مُتَقَارِبٍ , وَذَكَرَهَا السُّدِّيَّ فِي تَفْسِيرِهِ الَّذِي رَوَاهُ , عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَأَبِي صَالِحٍ , عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَعَنْ

مُرَّةَ , وَغَيْرِ وَاحِدٍ , عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ , وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : كَانَتْ الْحِيتَانُ إذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ لَمْ يَبْقَ حُوتٌ إلَّا خَرَجَ حَتَّى يُخْرِجْنَ خَرَاطِيمَهُنَّ مِنْ الْمَاءِ , فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ لَمْ يُرَ مِنْهُنَّ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ يَوْمُ السَّبْتِ , فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { إذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ } . وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْيَهُودِ أَنْ تَعْمَلَ شَيْئًا يَوْمَ السَّبْتِ , فَاشْتَهَى بَعْضُهُمْ السَّمَكَ , فَجَعَلَ يَحْتَفِرُ الْحَفِيرَةَ , وَيَجْعَلُ لَهَا نَهْرًا إلَى الْبَحْرِ إذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ أَقْبَلَ الْمَوْجُ بِالْحِيتَانِ يَضْرِبُهَا حَتَّى يُلْقِيَهَا فِي الْحَفِيرَةِ , فَيُرِيدُ الْحُوتُ أَنْ يَخْرُجَ فَلَا يُطِيقُ مِنْ أَجْلِ قِلَّةِ مَاءِ النَّهْرِ , فَيَمْكُثُ , فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ جَاءَ فَأَخَذَهُ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَشْوِي السَّمَكَ فَيَجِدُ جَارُهُ رِيحَهُ , فَيُخْبِرُهُ فَيَصْنَعُ مِثْلَ مَا صَنَعَ جَارُهُ . وَقِيلَ : كَانُوا يَنْصِبُونَ الْحَبَائِلَ وَالشُّصُوصَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ , وَيُخْرِجُونَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ . وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فَفَعَلُوا ذَلِكَ زَمَانًا فَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَلَمْ يُنْزِلْ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَتَجَرَّءُوا عَلَى الذَّنْبِ , وَقَالُوا : مَا نَرَى السَّبْتَ إلَّا أُحِلَّ لَنَا , فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ صَارَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ : صِنْفًا أَمْسَكَ وَنَهَى , وَصِنْفًا أَمْسَكَ وَلَمْ يَنْهَ , وَصِنْفًا انْتَهَكَ

الْحُرْمَةَ , وَتَمَامُ الْقِصَّةِ مَشْهُورٌ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ نَحْوٌ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ ذَكَرَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ الْحَسَنِ , فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ } . قَالَ : رَمَوْهَا فِي السَّبْتِ , ثُمَّ أَرْجَئُوهَا فِي الْمَاءِ فَاسْتَخْرَجُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَطَبَخُوهَا فَأَكَلُوهَا فَأَكَلُوا - وَاَللَّهِ - أَوْخَمَ أَكْلَةٍ أُكِلَتْ أَسْرَعَتْ فِي الدُّنْيَا عُقُوبَةً وَأَسْرَعَتْ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ , وَاَللَّهِ مَا كَانَتْ لُحُومُ تِلْكَ الْحِيتَانِ بِأَعْظَمَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ دِمَاءِ قَوْمٍ مُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّهُ عَجَّلَ لِهَؤُلَاءِ وَأَخَّرَ لِهَؤُلَاءِ . فَقَوْلُ الْحَسَنِ : رَمَوْهَا فِي السَّبْتِ , يَعْنِي : احْتَالُوا عَلَى وُقُوعِهَا فِي الْمَاءِ يَوْمَ السَّبْتِ , كَمَا بَيَّنَ غَيْرُهُ أَنَّهُمْ حَفَرُوا لَهَا حِيَاضًا , ثُمَّ فَتَحُوهَا عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ , أَوْ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُمْ رَمَوْا الْحَبَائِلَ يَوْمَ السَّبْتِ , ثُمَّ أَخَّرُوهَا فِي الْمَاءِ إلَى يَوْمِ الْأَحَدِ , فَاسْتَخْرَجُوهَا بِالْحِيتَانِ يَوْمَ الْأَحَدِ , وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ بَاشَرُوا إلْقَاءَهَا يَوْمَ السَّبْتِ , فَإِنَّهُمْ لَوْ اجْتَرَءُوا عَلَى ذَاكَ لَاسْتَخْرَجُوهَا إلَّا أَنْ يَكُونُوا تَأَوَّلُوا أَنَّ إلْقَاءَهَا بِأَيْدِيهِمْ لَيْسَ بِصَيْدٍ , وَالْمُحَرَّمُ إنَّمَا هُوَ الصَّيْدُ . فَقَدْ رُوِيَ مِنْ تَأْوِيلِهِمْ مَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْعَنْقَرِيُّ فِي أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ . قَالَ : أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ وَأَظُنُّهُ الْهُزَلِيَّ , عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : أَتَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ فِي

سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَيَبْكِي , فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى أَخَذْتُ بِلَوْحَيْ الْمُصْحَفِ . فَقُلْتُ : مَا يُبْكِيكَ ؟ قَالَ : يُبْكِينِي هَذِهِ الْوَرَقَاتُ . قَالَ : هَلْ تَعْرِفُ أَيْلَةَ ؟ قُلْت : نَعَمْ . قَالَ : إنَّ اللَّهَ أَسْكَنَهَا حَيًّا مِنْ الْيَهُودِ فَابْتَلَاهُمْ بِحِيتَانٍ حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ وَأَحَلَّهَا لَهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ قَالَ : وَكَانَ إذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ خَرَجَتْ إلَيْهِمْ , فَإِذَا ذَهَبَ السَّبْتُ غَاصَتْ فِي الْبَحْرِ حَتَّى لَا يَعْرِضَ لَهَا الطَّالِبُونَ , وَإِنَّ الْقَوْمَ اجْتَمَعُوا فَاخْتَلَفُوا فِيهَا . فَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ : إنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ يَوْمَ السَّبْتِ أَنْ تَأْكُلُوهَا , فَصِيدُوهَا يَوْمَ السَّبْتِ , وَكُلُوهَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أَنْ تَصِيدُوهَا , أَوْ تُؤْذُوهَا أَوْ تُنَفِّرُوهَا . فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ خَرَجَتْ إلَيْهِمْ شُرَّعًا فَتَفَرَّقَ النَّاسُ . فَقَالَتْ فِرْقَةٌ : لَا نَأْخُذُهَا وَلَا نَقْرَبُهَا . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ نَأْخُذُهَا وَلَا نَأْكُلُهَا يَوْمَ السَّبْتِ , وَكَانُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ : فِرْقَةً عَلَى إيمَانِهِمْ , وَفِرْقَةً عَلَى شَمَائِلِهِمْ , وَفِرْقَةً وَسْطَهُمْ . فَقَامَتْ الْفِرْقَةُ الْيُمْنَى فَجَعَلَتْ تَنْهَاهُمْ وَجَعَلَتْ تَقُولُ : اللَّهَ اللَّهَ نُحَذِّرُكُمْ بَأْسَ اللَّهِ . وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الْيُسْرَى فَكَفَّتْ أَيْدِيَهَا , وَأَمْسَكَتْ أَلْسِنَتَهَا , وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الْوُسْطَى فَوَثَبَتْ عَلَى السَّمَكِ تَأْخُذُهُ , وَذَكَرَ تَمَامَ الْقِصَّةِ فِي مَسْخِ اللَّهِ إيَّاهُمْ قِرَدَةً . فَهَذِهِ الْآثَارُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ إنَّمَا اصْطَادُوا لَهَا مُحْتَالِينَ

مُسْتَحِلِّينَ بِنَوْعٍ مِنْ التَّأْوِيلِ , فَكَانَ أَجْوَدُهُمْ تَأْوِيلًا الَّذِي احْتَالَ عَلَى وُقُوعِهَا فِي الْحِيَاضِ وَالشُّصُوصِ يَوْمَ السَّبْتِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ مِنْهُ ; إذْ ذَاكَ . وَبَعْدَهُ مَنْ بَاشَرَ إلْقَاءَهَا فِي الْمَاءِ , ثُمَّ أَخْرَجَهَا بَعْدَ السَّبْتِ . وَبَعْدَهُ مَنْ أَخْرَجَهَا مِنْ الْمَاءِ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى خَرَجَ يَوْمُ السَّبْتِ تَأْوِيلًا مِنْهُ أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْأَكْلُ . وَكَذَلِكَ صَحَّ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ : { يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ } . قَالَ : حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الْحِيتَانُ يَوْمَ السَّبْتِ , فَكَانَتْ تَأْتِيهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ شُرَّعًا بَلَاءً اُبْتُلُوا بِهِ , وَلَا تَأْتِيهِمْ فِي غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَطْلُبُوهَا بَلَاءً أَيْضًا بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَأَخَذُوهَا يَوْمَ السَّبْتِ اسْتِحْلَالًا وَمَعْصِيَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . فَقَالَ اللَّهُ : { كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } إلَّا طَائِفَةً مِنْهُمْ لَمْ يَعْتَدُوا وَنَهَوْهُمْ . فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ اسْتَحَلُّوهَا وَعَصَوْا اللَّهَ بِذَلِكَ , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِلُّوهَا تَكْذِيبًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكُفْرًا بِالتَّوْرَاةِ , وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْلَالُ تَأْوِيلٍ وَاحْتِيَالٍ ظَاهِرُهُ ظَاهِرُ الِاتِّقَاءِ , وَحَقِيقَتُهُ حَقِيقَةُ الِاعْتِدَاءِ . وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مُسِخُوا قِرَدَةً , لِأَنَّ صُورَةَ الْقِرْدِ فِيهَا شَبَهٌ مِنْ صُورَةِ الْإِنْسَانِ . وَفِي بَعْضِ مَا يُذْكَرُ مِنْ أَوْصَافِهِ شَبَهٌ مِنْهُ وَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ , فَلَمَّا مَسَخَ أُولَئِكَ الْمُعْتَدُونَ دِينَ اللَّهِ بِحَيْثُ لَمْ

يَتَمَسَّكُوا إلَّا بِمَا يُشْبِهُ الدِّينَ فِي بَعْضِ ظَاهِرِهِ دُونَ حَقِيقَتِهِ مَسَخَهُمْ اللَّهُ قِرَدَةً يُشْبِهُونَهُمْ فِي بَعْضِ ظَاهِرِهِمْ دُونَ الْحَقِيقَةِ جَزَاءً وِفَاقًا . يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ أَكَلُوا الرِّبَا وَأَكَلُوا أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَمَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ أَكْلِ الصَّيْدِ الْمُحَرَّمِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ , أَلَا تَرَى أَنَّ ذَاكَ حَرَامٌ فِي شَرِيعَتِنَا أَيْضًا , وَالصَّيْدَ فِي السَّبْتِ لَيْسَ حَرَامًا عَلَيْنَا , ثُمَّ إنَّ أَكَلَةَ الرِّبَا وَأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ لَمْ يُعَاقَبُوا بِالْمَسْخِ , كَمَا عُوقِبَ بِهِ مُسْتَحِلُّو الْحَرَامِ بِالْحِيلَةِ , وَإِنَّمَا عُوقِبُوا بِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِ عُقُوبَاتِ غَيْرِهِمْ فَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ لَمَّا كَانُوا أَعْظَمَ جُرْمًا , فَإِنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ لَا يَعْتَرِفُونَ بِالذَّنْبِ . بَلْ قَدْ فَسَدَتْ عَقِيدَتُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ - كَمَا قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ : لَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ - كَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ أَغْلَظَ مِنْ عُقُوبَةِ غَيْرِهِمْ , فَإِنَّ مَنْ أَكَلَ الرِّبَا وَالصَّيْدَ الْمُحَرَّمَ عَالِمًا بِأَنَّهُ حَرَامٌ , فَقَدْ اقْتَرَنَ بِمَعْصِيَتِهِ اعْتِرَافُهُ بِالتَّحْرِيمِ وَهُوَ إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ . وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَرَجَاءِ مَغْفِرَتِهِ , وَإِمْكَانِ التَّوْبَةِ مَا قَدْ يُفْضِي بِهِ إلَى خَيْرٍ , وَمَنْ أَكَلَهُ مُسْتَحِلًّا بِنَوْعِ احْتِيَالٍ تَأَوَّلَ فِيهِ فَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الْحَرَامِ , وَقَدْ اقْتَرَنَ بِهِ اعْتِقَادُهُ الْفَاسِدُ فِي حِلِّ

الْحَرَامِ . وَذَلِكَ قَدْ يُفْضِي بِهِ إلَى شَرٍّ طَوِيلٍ , وَلِهَذَا حَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ ذَلِكَ , فَقَالَ : { لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ } . ثُمَّ رَأَيْتُ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ , وَذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يُحْشَرُ أَكَلَةُ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةِ الْخَنَازِيرِ وَالْكِلَابِ مِنْ أَجْلِ حِيلَتِهِمْ عَلَى الرِّبَا كَمَا مُسِخَ أَصْحَابُ دَاوُد لِاحْتِيَالِهِمْ عَلَى أَخْذِ الْحِيتَانِ يَوْمَ السَّبْتِ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِ هَذَا الْحَدِيثِ , وَلَوْلَا أَنَّ مَعْنَى الْمَسْخِ لِأَجْلِ الِاسْتِحْلَالِ بِالِاحْتِيَالِ . قَدْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ مَعْرُوفَةٍ لَمْ نَذْكُرْ هَذَا الْحَدِيثَ . وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيِّ . قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ , أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ - وَاَللَّهِ مَا كَذَبَنِي - سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إلَى جَنْبِ عَلَمٍ تَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَةٌ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ رَجُلٌ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ ارْجِعْ إلَيْنَا غَدًا , فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . وَرَوَاهُ الْبَرْقَانِيُّ مُسْنَدًا , وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مُخْتَصَرًا , وَلَفْظُهُ : { لَيَكُونَنَّ مِنْ

أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ } - وَذَكَرَ كَلَامًا - قَالَ : { يَمْسَخُ مِنْهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . إنَّمَا ذَاكَ إذَا اسْتَحَلُّوا هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ . فَإِنَّهُمْ لَوْ اسْتَحَلُّوهَا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ الرَّسُولَ حَرَّمَهَا كَانُوا كُفَّارًا , وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أُمَّتِهِ وَلَوْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّهَا حَرَامٌ لَأَوْشَكَ أَنْ لَا يُعَاقَبُوا بِالْمَسْخِ كَسَائِرِ الَّذِينَ لَمْ يَزَالُوا يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْمَعَاصِيَ , وَلِمَا قِيلَ فِيهِمْ : يَسْتَحِلُّونَ فَإِنَّ الْمُسْتَحِلَّ لِلشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يَأْخُذُهُ مُعْتَقِدًا حِلَّهُ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اسْتِحْلَالُهُمْ الْخَمْرَ يَعْنِي بِهِ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا . كَمَا جَاءَ الْحَدِيثُ , فَيَشْرَبُونَ الْأَنْبِذَةَ الْمُحَرَّمَةَ وَلَا يُسَمُّونَهَا خَمْرًا , وَاسْتِحْلَالُهُمْ الْمَعَازِفَ بِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ آلَاتِ اللَّهْوِ مُجَرَّدُ سَمْعِ صَوْتٍ فِيهِ لَذَّةٌ وَهَذَا لَا يَحْرُمُ كَأَلْحَانِ الطُّيُورِ , وَاسْتِحْلَالُ الْحَرِيرِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِهِ بِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ حَلَالٌ لِلْمُقَاتِلَةِ , وَقَدْ سَمِعُوا أَنَّهُ يُبَاحُ لُبْسُهُ عِنْدَ الْقِتَالِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ , فَقَاسُوا سَائِرَ أَحْوَالِهِمْ عَلَى تِلْكَ , وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ الثَّلَاثَةُ وَاقِعَةٌ فِي الطَّوَائِفِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا ابْنُ الْمُبَارَكِ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إلَّا الْمُلُوكُ وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا تُغْنِي عَنْ أَصْحَابِهَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ بَلَّغَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَّنَ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَيَانًا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَوَاضِعِهِ . ثُمَّ رَأَيْت هَذَا الْمَعْنَى قَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ , عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمْ الْأَرْضَ وَيَجْعَلُ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ } . هَذَا لَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ : وَإِسْنَادُهُمَا وَاحِدٌ , وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ ذِكْرُهُ فِي غَيْرِهِ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِمَّا نَقَلَهُ الْعُلَمَاءُ , وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ كَوْنِ الْمُعْتَدِينَ فِي السَّبْتِ اعْتَدَوْا بِالِاحْتِيَالِ الَّذِي تَأَوَّلُوهُ وَلَا أَعْلَمُ شَيْئًا يُعَارِضُهُ , لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا قَدْ يُنْقَلُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ اصْطَادُوا يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا نُقِلَ مِنْ أَنَّهُمْ اصْطَادُوا مُتَأَوِّلِينَ بِنَوْعٍ مِنْ الْحِيلَةِ وَهَذَا النَّقْلُ الْمُفَسَّرُ يُبَيِّنُ ذَلِكَ النَّقْلَ الْمُجْمَلَ , وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ فَعَلَتْهُ طَائِفَةٌ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْمَنْقُولَاتِ . إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } . قَالُوا : مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَفْعَلُونَ مِثْلَ فِعَالِهِمْ ,

وَقَالُوا : نَكَالًا عُقُوبَةً لِمَا قَبْلَهَا وَعِبْرَةً لِمَا بَعْدَهَا , كَمَا قَالَ فِي السَّارِقِ : { نَكَالًا مِنْ اللَّهِ } . وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالنَّكَالِ الْعِبْرَةَ , لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ : { جَزَاءً بِمَا كَسَبَا } . فَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ نَكَّلَ بِعُقُوبَةِ هَؤُلَاءِ سَائِرَ مَنْ بَعْدَهُمْ وَوَعَظَ بِهَا الْمُتَّقِينَ , فَحَقِيقٌ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْذَرَ اسْتِحْلَالَ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى , وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَشَدِّ أَسْبَابِ الْعُقُوبَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْخَطَايَا وَالْمَعَاصِي , ثُمَّ مِمَّا يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ الَّتِي احْتَالَهَا أَصْحَابُ السَّبْتِ فِي الصَّيْدِ قَدْ اسْتَحَلَّهَا طَوَائِفُ مِنْ الْمُفْتِينَ حَتَّى تَعَدَّى ذَلِكَ إلَى بَعْضِ الْحِيلَةِ , فَقَالُوا : إنَّ الرَّجُلَ إذَا نَصَبَ شَبَكَةً , أَوْ شِصًّا قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ لِيَقَعَ فِيهِ الصَّيْدُ بَعْدَ إحْرَامِهِ , ثُمَّ أَخَذَهُ بَعْدَ حِلِّهِ لَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ , وَهَذِهِ بِعَيْنِهَا حِيلَةُ أَصْحَابِ السَّبْتِ , وَفِي ذَلِكَ تَصْدِيقُ قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - : { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَاَلَّذِي خَاضُوا } . وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ : فَمَنْ ؟ } وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ , وَهَذَا كُلُّهُ إذَا تَأَمَّلَهُ اللَّبِيبُ عَلِمَ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ مِنْ أَعْظَمِ

الْمُحَرَّمَاتِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى .
الْوَجْهُ السَّابِعُ مَا رَوَى عَمْرُ بْنُ شُعَيْبٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْبَيِّعُ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ , حَتَّى يَتَفَرَّقَا إلَّا أَنْ يَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ , وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ } . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد , وَالنَّسَائِيُّ , وَالتِّرْمِذِيُّ , وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَقَالَ : فِيهِ إبْطَالُ الْحِيَلِ ; فَلَمَّا كَانَ الشَّارِعُ قَدْ أَثْبَتَ الْخِيَارَ إلَى حِينِ التَّفَرُّقِ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُتَعَاقِدَانِ بِشُؤْمِ طِبَاعِهِمَا حَرَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْصِدَ الْمُفَارِقُ مَنْعَ الْآخَرِ مِنْ الِاسْتِقَالَةِ , وَهِيَ طَلَبُ الْفَسْخِ سَوَاءٌ كَانَ الْعَقْدُ لَازِمًا أَوْ جَائِزًا ; لِأَنَّهُ قَصَدَ بِالتَّفَرُّقِ غَيْرَ مَا جُعِلَ التَّفَرُّقُ فِي الْعُرْفِ لَهُ مِنْ إسْقَاطِ حَقِّ الْمُسْلِمِ .

الْوَجْهُ الثَّامِنُ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو , عَنْ أَبِي سَلَمَةَ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ } . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ مُسْلِمٍ , حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّيَّاحِ الزَّعْفَرَانِيُّ , حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو هَذَا إسْنَادٌ جَيِّدٌ يُصَحِّحُ مِثْلَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ تَارَةً , وَيُحَسِّنُهُ تَارَةً , وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورُ مَشْهُورٌ ثِقَةٌ ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ كَذَلِكَ وَسَائِرُ رِجَالِ الْإِسْنَادِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ إلَى وَصْفِهِمْ , وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ السَّبْتِ . وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ قِصَّةَ الشُّحُومِ وَهَذَا نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ اسْتِحْلَالِ مَحَارِمِ اللَّهِ بِالِاحْتِيَالِ , وَإِنَّمَا ذَكَرَ النَّبِيُّ أَدْنَى الْحِيَلِ , لِأَنَّ الْمُطَلِّقَ ثَلَاثًا مَثَلًا قَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ , وَمِنْ أَسْهَلِ الْحِيَلِ عَلَيْنَا أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ السُّفَهَاءِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَيَسْتَعِيرَهُ لِيَنْزُوَ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ مِنْ نِكَاحِ رَاغِبٍ , فَإِنَّ ذَاكَ يَصْعُبُ مَعَهُ عَوْدُهَا حَلَالًا ; إذْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ لَا يُطَلِّقَ بَلْ أَنْ يَمُوتَ الْمُطَلِّقُ أَوَّلًا قَبْلَهُ , وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُقْرِضَ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ , فَمِنْ أَدْنَى الْحِيَلِ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ

أَلْفًا إلَّا دِرْهَمًا بِاسْمِ الْقَرْضِ , وَيَبِيعَهُ خِرْقَةً تُسَاوِي دِرْهَمًا بِخَمْسِمِائَةٍ , وَهَكَذَا سَائِرُ أَبْوَابِ الْحِيَلِ . ثُمَّ إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ , وَقَدْ كَانُوا احْتَالُوا فِي الِاصْطِيَادِ يَوْمَ السَّبْتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ , فَإِنَّهُمْ حَفَرُوا خَنَادِقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَقَعُ الْحِيتَانُ فِيهَا يَوْمَ السَّبْتِ , ثُمَّ يَأْخُذُونَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ , وَهَذَا عِنْدَ الْمُحْتَالِينَ جَائِزٌ ; لِأَنَّ فِعْلَ الِاصْطِيَادِ لَمْ يُوجَدْ يَوْمَ السَّبْتِ , لَكِنْ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ حَرَامٌ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْكَفُّ عَمَّا يُنَالُ بِهِ الصَّيْدُ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ , أَوْ الْمُبَاشَرَةِ . وَمِنْ احْتِيَالِهِمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلَ الشُّحُومِ , تَأَوَّلُوا أَنَّ الْمُرَادَ نَفْسُ إدْخَالِهِ الْفَمَ , وَأَنَّ الشَّحْمَ هُوَ الْجَامِدُ دُونَ الْمُذَابِ فَجَمَلُوهُ فَبَاعُوهُ وَأَكَلُوا ثَمَنَهُ , وَقَالُوا : مَا أَكَلْنَا الشَّحْمَ , وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إذَا حَرَّمَ الِانْتِفَاعَ بِشَيْءٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ , أَوْ بِبَدَلِهِ إذْ الْبَدَلُ يَسُدُّ مَسَدَّهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَالِ جُمُودِهِ وَذَوْبِهِ فَلَوْ كَانَ ثَمَنُهُ حَلَالًا لَمْ يَكُنْ فِي التَّحْرِيمِ كَبِيرُ أَمْرٍ وَهَذَا هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ .

الْوَجْهُ السَّادِسُ مَا رَوَى سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ , وَسَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ , عَنْ الزُّهْرِيِّ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ , وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ } . رَوَاهُ أَحْمَدُ , وَأَبُو دَاوُد , وَابْنُ مَاجَهْ . وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ قَدْ خَرَّجَ لَهُ مُسْلِمٌ , وَقَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ : ثِقَةٌ , وَقَالَ مَرَّةً : لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ , وَلَيْسَ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ , وَكَذَلِكَ وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ , وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ : سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ ثِقَةٌ يُخْطِئُ فِي حَدِيثِهِ كَثِيرًا , وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : لَيْسَ هُوَ بِذَاكَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ , وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ : فِي حَدِيثِهِ ضَعْفٌ مَا رَوَى عَنْ الزُّهْرِيِّ , وَهَذَا الْقَدْرُ الَّذِي قَالُوهُ , لِأَنَّهُ قَدْ يَرْوِي أَشْيَاءَ يُخَالِفُ فِيهَا النَّاسَ فِي الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ , وَهَذَا الْقَدْرُ يُوجِبُ التَّوَقُّفَ فِي رِوَايَتِهِ إذَا خَالَفَهُ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ مِنْهُ , فَأَمَّا إذَا رَوَى حَدِيثًا مُسْتَقِلًّا وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ , فَقَدْ زَالَ الْمَحْذُورُ , وَظَهَرَ أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا مَحْفُوظًا بِمُتَابَعَةِ غَيْرِهِ لَهُ . فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ إخْرَاجَ السَّبَقِ مِنْ الْمُتَسَابِقَيْنِ مَعًا , لِأَنَّهُ قِمَارٌ ; إذْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْآخَرِ , أَوْ يُعْطِيَهُ عَلَى السَّبْقِ ,

وَلَمْ يَقْصِدْ الْمُخْرِجُ أَنْ يَجْعَلَ لِلسَّابِقِ جُعْلًا عَلَى سَبْقِهِ , فَيَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْجَعَالَةِ : فَإِذَا أَدْخَلَا ثَالِثًا كَانَ لَهُمَا حَالٌ ثَانِيَةٌ , وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَا جَمِيعًا الثَّالِثَ , فَيَكُونَ الثَّالِثُ لَهُ جُعْلٌ عَلَى سَبْقِهِ , فَيَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْجَعَائِلِ حَتَّى يَكُونَ فَرَسًا يَحْصُلُ مَعَهُ مَقْصُودُ انْتِفَاءِ الْقِمَارِ بِأَنْ يَكُونَ يَخَافُ مِنْهُ أَنْ يَسْبِقَ فَيَأْخُذَ السَّبَقَيْنِ جَمِيعًا . وَمَنْ جَوَّزَ الْحِيَلَ فَإِنَّهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ ; إمَّا أَنْ يُجَوِّزَ هَذَا فَيَكُونَ مُخَالِفًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ وَهُوَ مِنْ الْعَظَائِمِ , أَوْ لَا يُجَوِّزَهُ . فَمَعْلُومٌ أَنَّ قِيَاسَ قَوْلِهِ أَنْ يُحْرِزَ هَذَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى , فَإِنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ قَصْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْعُقُودِ , وَلَا يَعْتَبِرُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعُرْفُ فِي الْعُقُودِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الْحِيَلُ , بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مَا يُسَاوِي مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّمَا ذَلِكَ لِمَا يُقَابِلُ الْمِائَةَ أَلْفٍ مِنْ دَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا أُخِذَتْ بِاسْمِ الْقَرْضِ وَهِيَ رِبًا , وَيَجُوزُ أَنْ يُنْكِحَ الْوَسِيطَةَ فِي قَوْمِهَا مِنْ بَعْضِ الْأَرَاذِلِ بِعِوَضٍ يُبْذَلُ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى ذَلِكَ , وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِعْلَ مَنْ يُرِيدُ النِّكَاحَ .

الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَهُوَ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ : { بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ فُلَانًا بَاعَ خَمْرًا , قَالَ : قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . قَالَ الْخَطَّابِيُّ : جَمَلُوهَا مَعْنَاهُ أَذَابُوهَا حَتَّى تَصِيرَ وَدَكًا , فَيَزُولَ عَنْهَا اسْمُ الشَّحْمِ , يُقَالُ : جَمَلْت الشَّيْءَ وَأَجْمَلْتُهُ , وَقَالَ غَيْرُهُ : يُقَالُ جَمَّلْت الشَّحْمَ أُجَمِّلُهُ بِالضَّمِّ , وَالْجَمِيلُ الشَّحْمُ الْمُذَابُ , وَيُجَمِّلُ إذَا أَكَلَ الْجَمِيلَ . وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ اللَّه حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْأَصْنَامَ , فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ ؟ فَقَالَ : لَا , هُوَ حَرَامٌ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ : قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ , ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ , وَأَبُو دَاوُد , وَالنَّسَائِيُّ , وَابْنُ مَاجَهْ . وَأَصْلُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ , وَأَبِي الْحَارِثِ هَذِهِ الْحِيَلُ الَّتِي وَضَعَهَا هَؤُلَاءِ فُلَانٌ وَأَصْحَابُهُ عَمَدُوا إلَى الشَّيْءِ فَاحْتَالُوا فِي نَقْضِهَا , وَالشَّيْءُ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ : إنَّهُ حَرَامٌ احْتَالُوا عَلَيْهِ حَتَّى أَحَلُّوهُ ,

وَقَالَ : الرَّهْنُ لَا يَحِلُّ أَنْ يُسْتَعْمَلَ , ثُمَّ قَالُوا : نَحْتَالُ لَهُ حَتَّى يُسْتَعْمَلَ , فَكَيْفَ يَحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى , وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَأَذَابُوهَا فَبَاعُوهَا فَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا } . فَإِنَّمَا أَذَابُوهَا حَتَّى أَزَالُوا عَنْهَا اسْمَ الشَّحْمِ , وَقَالَ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } , وَكَذَلِكَ قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ بُطْلَانِ كُلِّ حِيلَةٍ يُحْتَالُ بِهَا لِلتَّوَصُّلِ إلَى الْمُحَرَّمِ وَأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ بِتَغَيُّرِ هَيْئَتِهِ وَتَبْدِيلِ اسْمِهِ . فَوَجَدَ الدَّلَالَةَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الشُّحُومَ أَرَادُوا الِاحْتِيَالَ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُقَالُ فِي الظَّاهِرِ إنَّهُمْ انْتَفَعُوا بِالشَّحْمِ فَجَمَلُوهُ , وَقَصَدُوا بِذَلِكَ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ اسْمُ الشَّحْمِ , ثُمَّ انْتَفَعُوا بِثَمَنِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَحْصُلَ الِانْتِفَاعُ بِعَيْنِ الْمُحَرَّمِ , ثُمَّ مَعَ أَنَّهُمْ احْتَالُوا حِيلَةً خَرَجُوا بِهَا فِي زَعْمِهِمْ مِنْ ظَاهِرِ التَّحْرِيمِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَعَنَهُمْ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الِاسْتِحْلَالِ , نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ , فَإِنَّ مَا حُكْمُهُ التَّحْرِيمُ لَا يَخْتَلِفُ سَوَاءٌ كَانَ جَامِدًا , أَوْ مَائِعًا , وَبَدَلُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ , فَإِذَا حَرَّمَ اللَّهُ الِانْتِفَاعَ

بِشَيْءٍ حَرَّمَ الِاعْتِيَاضَ عَنْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ , وَلِهَذَا مَا أُبِيحَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ كَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا , فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا لِمَنْفَعَةِ الظَّهْرِ الْمُبَاحَةِ لَا لِمَنْفَعَةِ اللَّحْمِ الْمُحَرَّمِ , وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد , عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا } . فَإِنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ الْمُقَابِلَ لِمَنْفَعَةِ الْأَكْلِ , فَأَمَّا إنْ كَانَتْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى وَكَانَ الثَّمَنُ فِي مُقَابِلِهَا لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّحْرِيمُ مُعَلَّقًا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَبِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ دُونَ رِعَايَةٍ لِمَقْصُودِ الشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ , وَمَعْنَاهُ وَحَقِيقَتِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْيَهُودُ اللَّعْنَةَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّحْمَ خَرَجَ بِتَجْمِيلِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَحْمًا وَصَارَ وَدَكًا , كَمَا يَخْرُجُ الرِّبَا بِالِاحْتِيَالِ فِيهِ عَنْ لَفْظِ الرِّبَا إلَى أَنْ يَصِيرَ بَيْعًا عِنْدَ مَنْ يَسْتَحِلُّ ذَلِكَ , فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ إلَى أَجَلٍ فَأَعْطَاهُ حَرِيرَةً بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ , ثُمَّ أَخَذَهَا بِأَلْفٍ حَالَّةٍ , فَإِنَّ مَعْنَاهُ مَعْنَى مَنْ أَعْطَى أَلْفًا بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَقْصُودُ إلَّا مَا بَيْنَ الشَّحْمِ وَالْوَدَكِ . الثَّانِي : أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِعَيْنِ الشَّحْمِ , وَإِنَّمَا انْتَفَعُوا

بِالثَّمَنِ , فَيَلْزَمُ مَنْ رَاعَى مُجَرَّدَ الْأَلْفَاظِ وَالظَّوَاهِرِ دُونَ الْمَقَاصِدِ وَالْحَقَائِقِ أَنْ لَا يُحَرِّمَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - حَرَّمَ الثَّمَنَ تَحْرِيمًا غَيْرَ تَحْرِيمِ الشَّحْمِ , فَلَمَّا لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ عَلَى اسْتِحْلَالِهِمْ الْأَثْمَانَ مَعَ تَحْرِيمِ الْمُثَمَّنِ , وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ لَهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ الثَّمَنِ , عُلِمَ أَنَّ الْوَاجِبَ النَّظَرُ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ تَحْرِيمَ الْعَيْنِ تَحْرِيمٌ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا , وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ لَا يُقْصَدَ الِانْتِفَاعُ بِهَا أَصْلًا , وَفِي أَخْذِ بَدَلِهَا أَكْثَرُ الِانْتِفَاعِ بِهَا , وَإِثْبَاتٌ لِخَاصَّةِ الْمَالِ , وَمَقْصُودِهِ فِيهَا , وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلتَّحْرِيمِ وَصَارَ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لِرَجُلٍ : لَا تَقْرَبْ مَالَ الْيَتِيمِ , فَيَبِيعُ وَيَأْخُذُ ثَمَنَهُ وَيَقُولُ : لَمْ أَقْرَبْ مَالَ الْيَتِيمِ , أَوْ كَرَجُلٍ قِيلَ لَهُ : لَا تَضْرِبْ زَيْدًا وَلَا تَمَسَّهُ بِأَذًى , فَجَعَلَ يَضْرِبُ عَلَى فَرْوَتِهِ الَّتِي قَدْ لَبِسَهَا , وَيَقُولُ : لَمْ أَضْرِبْهُ وَلَمْ أَمَسَّهُ , وَإِنَّمَا ضَرَبْت ثَوْبَهُ . وَلِمَنْ يُجَوِّزُ الْحِيَلَ فِي بَابِ الْأَثْمَانِ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ فُنُونٌ كَثِيرَةٌ يُعَلِّقُونَ الْحُكْمَ فِيهَا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إلَى الْمَقْصُودِ , فَيَقَعُونَ فِي مِثْلِ مَا وَقَعَتْ فِيهِ الْيَهُودُ سَوَاءً , إلَّا أَنَّ الْمَنْعَ هُنَاكَ مِنْ جِهَةِ الْحَالِفِ , وَالْمَنْعَ هُنَا مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ , وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَحِمَ هَذِهِ الْأُمَّةَ - بِأَنَّ نَبِيَّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا لُعِنَتْ بِهِ الْيَهُودُ , وَكَانَ السَّابِقُونَ مِنْهَا فُقَهَاءَ أَتْقِيَاءَ عَلِمُوا مَقْصُودَ الشَّارِعِ , فَاسْتَقَرَّتْ الشَّرِيعَةُ بِتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهَا , وَإِنْ بُدِّلَتْ صُوَرُهَا , وَبِتَحْرِيمِ أَثْمَانِهَا - لَطَرَقَ الشَّيْطَانُ لِأَهْلِ الْحِيَلِ مَا طَرَقَ لَهُمْ فِي الْأَثْمَانِ وَنَحْوِهَا . إذْ الْبَابَانِ بَابٌ وَاحِدٌ عَلَى مَا لَا يَخْفَى , وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَا فَعَلَتْهُ الْيَهُودُ , وَبَيْنَ أَنْ يُرِيدَ رَجُلٌ أَنْ يَهَبَ رَجُلًا شَيْئًا مِنْ مَالِهِ ثَوْبًا , أَوْ عَبْدًا , أَوْ دَارًا , فَيُرِيدَ أَنْ يَقْطَعَ عَنْهُ مِنَّتَهُ , فَيَقُولَ : وَاَللَّهِ لَا آخُذُ هَذَا الثَّوْبَ , فَيُبَاعَ ذَلِكَ الثَّوْبُ , وَيَأْخُذَ ثَمَنَهُ , أَوْ يُفَصِّلَ قَمِيصًا , ثُمَّ يَأْخُذَهُ وَيَقُولَ : مَا أَخَذْت الثَّوْبَ , وَإِنَّمَا أَخَذْت ثَمَنَهُ , أَوْ أَخَذْتُ قَمِيصًا ؟ هَذَا تَأْوِيلُ الْيَهُودِ بِعَيْنِهِ , فَإِنَّ الْحَالِفَ أَرَادَ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ مَنْعًا يُوجِبُ الْحِنْثَ بِتَقْدِيرِ الْفِعْلِ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ مَنْعَ عِبَادِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمُحَرَّمِ مَنْعًا يُوجِبُ الْحِنْثَ بِتَقْدِيرِ الْفِعْلِ , وَمَنْ تَأَمَّلَ أَكْثَرَ الْحِيَلِ وَجَدَهَا عِنْدَ الْحَقِيقَةِ تَعُودُ إلَى مَا يُشْبِهُ هَذَا . وَمِمَّا ذُكِرَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ فِعْلَ أَرْبَابِ الْحِيَلِ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْيَهُودِ الَّذِي لُعِنُوا عَلَيْهِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ .

الْوَجْهُ الْعَاشِرُ وَهُوَ مَا رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ حُرَيْثٍ , عَنْ مَالِكِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ , قَالَ : دَخَلَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ , فَتَذَاكَرْنَا الطَّلَاقَ . فَقَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ , أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمْ الْأَرْضَ وَيَجْعَلُ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ } . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَأَبُو دَاوُد , وَابْنُ مَاجَهْ بِهَذَا الْإِسْنَادِ . لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد مِنْ عِنْدِ : " يُعْزَفُ إلَى آخِرِهِ " . وَإِسْنَادُ ابْنِ مَاجَهْ إلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ صَحِيحٌ , وَسَائِرُ إسْنَادِهِ حَسَنٌ , فَإِنَّ حَاتِمَ بْنَ حُرَيْثٍ شَيْخٌ , وَمَالِكَ بْنَ أَبِي مَرْيَمَ مِنْ قُدَمَاءِ الشَّامِيِّينَ . وَلِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلٌ فِي الصَّحِيحِ , قَالَ الْبُخَارِيُّ : قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ : حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ , عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيِّ , حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ وَأَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ , وَاَللَّهِ مَا كَذَبَنِي سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إلَى جَنْبِ عَلَمٍ تَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَةٌ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ رَجُلٌ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ ارْجِعْ إلَيْنَا غَدًا

فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ , وَعُرْفُهُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُعَلَّقَةِ إذَا قَالَ : قَالَ فُلَانٌ كَذَا , فَهُوَ مِنْ الصَّحِيحِ الْمَشْرُوطِ , وَإِنَّمَا لَمْ يُسْنِدْهُ , لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ بَازِلًا أَوْ لَا يَذْكُرُ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ مَعَ عِلْمِهِ بِاشْتِهَارِ الْحَدِيثِ عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ , أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ . وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي الصَّحِيحِ , وَإِذَا قَالَ : رُوِيَ عَنْ فُلَانٍ أَوْ يَذْكُرُهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِ كِتَابِهِ لَكِنْ يَكُونُ مِنْ الْحَسَنِ وَنَحْوِهِ . وَقَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ , وَالْبَرْقَانِيُّ فِي صَحِيحَيْهِمَا الْمُخَرَّجَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ . لَكِنْ فِي لَفْظٍ لَهُمَا : { تَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَةٌ لَهُمْ وَيَأْتِيهِمْ رَجُلٌ لِحَاجَةٍ } . وَفِي رِوَايَةٍ : { فَيَأْتِيهِمْ طَالِبُ حَاجَةٍ فَيَقُولُونَ } إلَى آخِرِهِ . وَفِي رِوَايَةٍ : حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ , وَلَمْ يَشُكَّ وَهَذَا مَعَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْهُمَا وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا لَفْظٌ , وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد كِلَا الْحَدِيثَيْنِ , لَكِنْ رَوَى الثَّانِيَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ , عَنْ أَبِي مَالِكٍ , أَوْ أَبِي عَامِرٍ , وَلَفْظُهُ : { لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ } . وَذَكَرَ كَلَامًا قَالَ : { يَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } , وَالْخَزُّ - بِالْخَاءِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَتَيْنِ - وَسَوَاءٌ عِنْدَ أَكْثَرِ

أَهْلِ الْعِلْمِ هُنَا نَوْعٌ مِنْ الْحَرِيرِ , وَلَيْسَ هُوَ الْخَزَّ الْمَأْذُونَ فِي لُبْسِهِ الْمَنْسُوجَ مِنْ صُوفٍ وَحَرِيرٍ . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ } يَعْنِي : مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَحِلِّينَ . وَالْمَعْنَى : أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَحِلِّينَ يَنْزِلُ مِنْهُمْ أَقْوَامٌ إلَى جَنْبِ جَبَلٍ , فَيُوَاعِدُهُمْ رَجُلٌ إلَى الْغَدِ فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَيْلًا وَيَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ , كَمَا ذُكِرَ الضَّمِيرُ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد حَيْثُ قَالَ : { يَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ } وَكَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ , حَيْثُ قَالَ : { يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمْ الْأَرْضَ وَيَمْسَخُ مِنْهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ } - وَالْخَسْفُ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - التَّبْيِيتُ الْمَذْكُورُ فِي الْآخِرِ . فَإِنَّ التَّبْيِيتَ هُوَ الْإِتْيَانُ بِالْبَأْسِ فِي اللَّيْلِ كَتَبْيِيتِ الْعَدُوِّ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ } وَهَذَا نَصٌّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا هَذِهِ الْمَحَارِمَ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ فِيهَا , حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ الشَّرَابَ الَّذِي شَرِبُوهُ لَيْسَ هُوَ الْخَمْرَ , وَإِنَّمَا لَهُ اسْمٌ آخَرُ إمَّا النَّبِيذُ أَوْ غَيْرُهُ , وَإِنَّمَا الْخَمْرُ عَصِيرُ الْعِنَبِ النِّيءُ خَاصَّةً , وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ تَأْوِيلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْكُوفِيِّينَ مَعَ فَضْلِ بَعْضِهِمْ وَعِلْمِهِ وَدِينِهِ , حَتَّى قَالَ

قَائِلُهُمْ : دَعْ الْخَمْرَ يَشْرَبْهَا الْغُوَاةُ فَإِنَّنِي رَأَيْتُ أَخَاهَا قَائِمًا فِي مَكَانِهَا فَإِنْ لَا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا وَلَقَدْ صَدَقَ فِيمَا قَالَ , فَإِنَّ النَّبِيذَ إنْ لَمْ يُسَمَّ خَمْرًا فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْخَمْرِ فِي الْمَعْنَى , فَكَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ يُسَمَّى خَمْرًا . وَإِنَّمَا أَتَى هَؤُلَاءِ حَيْثُ اسْتَحَلُّوا الْمُحَرَّمَاتِ بِمَا ظَنُّوهُ مِنْ انْتِفَاءِ الِاسْمِ , وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى وُجُودِ الْمَعْنَى الْمُحَرَّمِ وَثُبُوتِهِ . وَهَذَا بِعَيْنِهِ شُبْهَةُ الْيَهُودِ فِي اسْتِحْلَالِ بَيْعِ الشَّحْمِ بَعْدَ تَجْمِيلِهِ , وَاسْتِحْلَالِ أَخْذِ الْحِيتَانِ يَوْمَ الْأَحَدِ بِمَا أَوْقَعُوهَا بِهِ يَوْمَ السَّبْتِ فِي الشِّبَاكِ وَالْحَفَائِرِ مِنْ فِعْلِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ , حَيْثُ قَالُوا : لَيْسَ هَذَا بِصَيْدٍ وَلَا عَمَلٍ فِي يَوْمِ السَّبْتِ . وَلَيْسَ هَذَا بِاسْتِبَاحَةِ الشَّحْمِ . بَلْ الَّذِي يَسْتَحِلُّ الشَّرَابَ الْمُسْكِرَ زَاعِمًا أَنَّهُ لَيْسَ خَمْرًا , مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْخَمْرِ , وَمَقْصُودَهُ مَقْصُودُ الْخَمْرِ أَفْسَدُ تَأْوِيلًا , مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَمْرَ اسْمٌ لِكُلِّ شَرَابٍ أَسْكَرَ , كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ قِيَاسًا , فَلَأَنْ كَانَ مِنْ الْقِيَاسِ مَا هُوَ حَقٌّ , فَإِنَّ قِيَاسَ الْخَمْرِ الْمَنْبُوذَةِ عَلَى الْخَمْرِ الْمَعْصُورَةِ مِنْ الْقِيَاسِ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ الْمُسَمَّى بِانْتِفَاءِ الْفَارِقِ , وَهُوَ مِنْ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ الَّذِي لَا يُسْتَرَابُ فِي صِحَّتِهِ , فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ مَا يَجُوزُ أَنْ

يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي التَّحْرِيمِ . وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى مِنْهَا مَا رَوَى النَّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ , عَنْ شُعْبَةَ سَمِعْت أَبَا بَكْرِ بْنَ حَفْصٍ , قَالَ : سَمِعْتُ ابْنَ مُحَيْسِنٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَشْرَبُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا } . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ يَحْيَى الْعَبْسِيِّ , عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ , عَنْ ثَابِتِ بْنِ السِّمْطِ , عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَشْرَبُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ بِاسْمٍ يُسَمُّونَهَا إيَّاهُ } . وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَلَفْظُهُ : { لَيَسْتَحِلَّنَّ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ } وَأَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصٍ ثِقَةٌ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ , وَابْنُ مُحَيْرِيزٍ إمَامٌ سَيِّدٌ جَلِيلٌ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ , وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ , عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ الْخَلَّالِ , عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ , عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ , عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ , عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَذْهَبُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ حَتَّى يَشْرَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا } . وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ مُتَّصِلٌ , فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ , إنَّمَا شَرِبُوا الْخَمْرَ اسْتِحْلَالًا لِمَا ظَنُّوا أَنَّ الْمُحَرَّمَ مُجَرَّدُ مَا وَقَعَ

عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَظَنُّوا أَنَّ لَفْظَ الْخَمْرِ لَا يَقَعُ عَلَى غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ النِّيءِ . فَمَعْلُومٌ أَنَّ شُبْهَتَهُمْ فِي اسْتِحْلَالِ الْحَرِيرِ وَالْمَعَازِفِ أَظْهَرُ , فَإِنَّهُ قَدْ أُبِيحَ الْحَرِيرُ لِلنِّسَاءِ مُطْلَقًا وَلِلرِّجَالِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ , وَكَذَلِكَ الْغِنَاءُ وَالدُّفُّ قَدْ أُبِيحَ لِلنِّسَاءِ فِي الْعُرْسِ وَنَحْوِهِ , وَقَدْ أُبِيحَ مِنْهُ الْحِدَاءُ وَغَيْرُهُ , وَلَيْسَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ دَلَائِلِ التَّحْرِيمِ مَا فِي الْخَمْرِ . فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ يُخْسَفُ بِهِمْ وَيُمْسَخُونَ إنَّمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ الَّذِي اسْتَحَلُّوا بِهِ الْمَحَارِمَ بِطَرِيقِ الْحِيلَةِ فَأَعْرَضُوا عَنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَحِكْمَتِهِ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ , وَلِذَلِكَ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ , كَمَا مُسِخَ أَصْحَابُ السَّبْتِ بِمَا تَأَوَّلُوا مِنْ التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ الَّذِي اسْتَحَلُّوا بِهِ الْمَحَارِمَ , وَخُسِفَ بِبَعْضِهِمْ , كَمَا خُسِفَ بِقَارُونَ , لِأَنَّ فِي الْخَمْرِ وَالْحَرِيرِ وَالْمَعَازِفِ مِنْ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ مَا فِي الزِّينَةِ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا قَارُونُ عَلَى قَوْمِهِ . فَلَمَّا مَسَخُوا دِينَ اللَّهِ مَسَخَهُمْ اللَّهُ , وَلَمَّا تَكَبَّرُوا عَنْ الْحَقِّ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ . وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الْمَسْخِ وَالْخَسْفِ عِنْدَ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ مِنْهَا : مَا رَوَى فَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ , عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَمْرٍو الْبَجَلِيِّ , عَنْ أَبِي أُمَامَةَ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَبِيتُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَلَهْوٍ وَلَعِبٍ , ثُمَّ

يُصْبِحُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ , وَيُبْعَثُ عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَائِهِمْ رِيحٌ فَتَنْسِفُهُمْ كَمَا نَسَفَتْ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِاسْتِحْلَالِهِمْ الْخُمُورَ وَضَرْبِهِمْ بِالدُّفُوفِ وَاِتِّخَاذِهِمْ الْقَيْنَاتِ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ . وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَتَى ذَلِكَ ؟ قَالَ : إذَا ظَهَرَتْ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ } . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ غَرِيبٌ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ اسْتِحْلَالِ الرِّبَا بِاسْمِ الْبَيْعِ , كَمَا أَخْبَرَ عَنْ اسْتِحْلَالِ الْخَمْرِ بِاسْمٍ آخَرَ فَجَمَعَ مِنْ الْمَطَاعِمِ مَا حَرُمَ فِي ذَاتِهِ وَمَا حَرُمَ لِلْعَقْدِ الْمُحَرَّمِ , فَرَوَى الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ , عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ } يَعْنِي الْعِينَةَ وَهَذَا الْمُرْسَلُ بَيِّنٌ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تُسَمَّى بَيْعًا فِي الظَّاهِرِ وَحَقِيقَتُهَا وَمَقْصُودُهَا حَقِيقَةُ الرِّبَا - وَالْمُرْسَلُ صَالِحٌ لِلِاعْتِضَادِ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . وَلَهُ مِنْ الْمُسْنَدِ مَا يَشْهَدُ لَهُ وَهِيَ الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْعِينَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَسَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعِينَةَ عِنْدَ

مُسْتَحِلِّهَا إنَّمَا يُسَمِّيهَا بَيْعًا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّهَا رِبًا لَا بَيْعٌ , وَقَدْ رُوِيَ فِي اسْتِحْلَالِ الْفُرُوجِ حَدِيثٌ رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ , بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَكْحُولٍ , عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَوَّلُ دِينِكُمْ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ , ثُمَّ مُلْكٌ وَرَحْمَةٌ , ثُمَّ مُلْكٌ وَجَبْرِيَّةٌ , ثُمَّ مُلْكٌ عَضُوضٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ الْحِرُّ وَالْحَرِيرُ } . يُرِيدُ اسْتِحْلَالَ الْفُرُوجِ مِنْ الْحَرَامِ وَالْحِرُّ - بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ - هُوَ الْفَرْجُ . وَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِذَلِكَ ظُهُورَ اسْتِحْلَالِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَاسْتِحْلَالِ خُلْعِ الْيَمِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ اسْتِحْلَالَ الْفُرُوجِ الْمُحَرَّمَةِ , فَإِنَّ الْأُمَّةَ لَمْ يَسْتَحِلَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ الزِّنَا الصَّرِيحَ , وَلَمْ يُرِدْ بِالِاسْتِحْلَالِ مُجَرَّدَ الْفِعْلِ , فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا فِي النَّاسِ , ثُمَّ لَفْظُ الِاسْتِحْلَالِ , إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَصْلِ فِيمَنْ اعْتَقَدَ الشَّيْءَ , حَلَالًا , وَالْوَاقِعُ كَذَلِكَ , فَإِنَّ هَذَا الْمُلْكَ الْعَضُوضَ الَّذِي كَانَ بَعْدَ الْمُلْكِ وَالْجَبْرِيَّةِ قَدْ كَانَ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ التَّابِعِينَ . وَفِي تِلْكَ الْأَزْمَانِ صَارَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَنْ يُفْتِي بِنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنَحْوِهِ , وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ مَنْ يُفْتِي بِذَلِكَ أَصْلًا . يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَشْهُورِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ

وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ وَالْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } . وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ } . قَالَ : وَقَالَ : { مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا إلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ تَعَالَى } فَلَمَّا لَعَنَ أَهْلَ الرِّبَا وَالتَّحْلِيلَ , وَقَالَ مَا ظَهَرَ الرِّبَا وَالزِّنَا فِي قَوْمٍ إلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ كَانَ هَذَا كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ التَّحْلِيلَ مِنْ الزِّنَا كَمَا أَنَّ الْعِينَةَ مِنْ الرِّبَا وَأَنَّ اسْتِحْلَالَ هَذَيْنِ اسْتِحْلَالٌ لِلرِّبَا وَالزِّنَا . وَأَنَّ ظُهُورَ ذَلِكَ يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ الَّتِي ذُكِرَ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ . وَقَدْ جَاءَ حَدِيثٌ آخَرُ يُوَافِقُ هُنَا , رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ , وَمَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّهُ قَالَ : { يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ : يَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِأَسْمَاءٍ يُسَمُّونَهَا بِهَا وَالسُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ وَالْقَتْلَ بِالرَّهْبَةِ وَالزِّنَا بِالنِّكَاحِ وَالرِّبَا بِالْبَيْعِ } . وَهَذَا الْخَبَرُ صَدَقَ فَإِنَّ الثَّلَاثَةَ الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهَا قَدْ بُيِّنَتْ , وَأَمَّا اسْتِحْلَالُ السُّحْتِ الَّذِي هُوَ الْعَطِيَّةُ لِلْوَالِي وَالْحَاكِمِ وَالشَّافِعِ وَنَحْوِهِمْ بِاسْمِ الْهَدِيَّةِ فَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ , وَأَمَّا اسْتِحْلَالُ الْقَتْلِ بِاسْمِ الْإِرْهَابِ الَّذِي يُسَمِّيهِ وُلَاةُ الظُّلْمِ

سِيَاسَةً وَهَيْبَةً وَأُبَّهَةَ الْمُلْكِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَظَاهِرٌ أَيْضًا , وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَنْ يَسْتَحِلُّ الْخُمُورَ وَالرِّبَا وَالسُّحْتَ وَالزِّنَا وَغَيْرَهَا بِأَسْمَاءٍ أُخْرَى مِنْ النَّبِيذِ وَالْبَيْعِ وَالْهَدِيَّةِ وَالنِّكَاحِ , وَمَنْ يَسْتَحِلُّ الْحَرِيرَ وَالْمَعَازِفَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ فِعْلُ أَصْحَابِ الْحِيَلِ , فَإِنَّهُمْ يَعْمِدُونَ إلَى الْأَحْكَامِ فَيُعَلِّقُونَهَا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ , وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِلُّونَهُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي لَفْظِ الشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ , مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ يَعْلَمُ أَنَّ مَعْنَاهُ مَعْنَى الشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ , وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ , وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ , وَنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَإِنَّهَا تُسْتَحَلُّ بِاسْمِ الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَالنِّكَاحِ وَهِيَ رِبًا , أَوْ سِفَاحٌ فِي الْمَعْنَى , فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِلرَّجُلِ وَلَهُ عَلَيْهِ أَلْفٌ تَجْعَلُهَا إلَى سَنَةٍ بِأَلْفٍ , وَمِائَتَيْنِ فَقَالَ : بِعْنِي هَذِهِ السِّلْعَةَ بِالْأَلْفِ الَّتِي فِي ذِمَّتِك , ثُمَّ ابْتَعْهَا مِنِّي بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ , فَهَذِهِ صُورَةُ الْبَيْعِ وَفِي الْحَقِيقَةِ بَاعَهُ الْأَلْفَ الْحَالَّةَ بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ مُؤَجَّلَةٍ , فَإِنَّ السِّلْعَةَ قَدْ تَوَاطَئُوا عَلَى عَوْدِهَا إلَى رَبِّهَا , وَلَمْ يَأْتِيَا بِبَيْعٍ مَقْصُودٍ بَتَّةً . وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ , وَإِنْ أَتَوْا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَبِالْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ وَالْمَهْرِ فَإِنَّهُمْ قَدْ تَوَاطَئُوا عَلَى أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ لَيْلَةً , أَوْ سَاعَةً ثُمَّ

تُفَارِقَهُ , وَأَنَّهَا لَا تَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا , بَلْ تُعْطِيهِ , وَهَذَا هُوَ سِفَاحُ امْرَأَةٍ تَسْتَأْجِرُ رَجُلًا لِيَفْجُرَ بِهَا لِحَاجَتِهَا إلَيْهَا . فَتَبْدِيلُ النَّاسِ لِلْأَسْمَاءِ لَا يُوجِبُ تَبْدِيلَ الْأَحْكَامِ , فَإِنَّهَا أَسْمَاءٌ سَمَّوْهَا وَآبَاؤُهُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ , كَتَسْمِيَةِ الْأَوْثَانِ آلِهَةً , فَإِنَّ خَصَائِصَ الْإِلَهِيَّةِ لَمَّا كَانَتْ مَعْدُومَةً فِيهَا لَمْ يَكُنْ لِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ حَقِيقَةٌ , وَكَذَلِكَ خَصَائِصُ الْبَيْعِ , وَالنِّكَاحِ , وَهِيَ الصِّفَاتُ وَالنُّعُوتُ الْمَوْجُودَةُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ فِي الْعَادَةِ إذَا كَانَ بَعْضُهَا مُنْتَفِيًا عَنْ هَذَا الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ بَيْعًا وَلَا نِكَاحًا , فَإِذَا كَانَتْ صِفَاتُ الْخَمْرِ , وَالرِّبَا , وَالسِّفَاحِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ مَوْجُودَةً فِي شَيْءٍ كَانَ مُحَرَّمًا , وَإِنْ سَمَّاهُ النَّاسُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الِاسْمِ لِتَغْيِيرٍ أَتَوْا بِهِ فِي ظَاهِرِهِ . وَإِنْ أُفْرِدَ بِاسْمٍ , كَمَا أَنَّ الْمُنَافِقَ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْكَافِرِ فِي الْحَقِيقَةِ . فَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ فِي الظَّاهِرِ قَدْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُؤْمِنِ , وَمَنْ عَلِمَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ كَيْفَ كَانَ لَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ هِيَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ , فَإِنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ نَحْوِهِ , فَإِذَا حَلَّ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ : إمَّا أَنْ تُوفِيَ , وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ , فَإِنْ لَمْ يُوفِهِ , وَإِلَّا زَادَهُ فِي الْمَالِ وَيَزِيدُهُ الْغَرِيمُ فِي الْأَجَلِ , وَلِهَذَا مَنْ عَلِمَ حَقِيقَةَ

الدَّيْنِ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَطَعَ بِالتَّحْرِيمِ فِيمَا كَانَ مَقْصُودُهُ هَذَا , قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - عَنْ الرِّبَا الَّذِي هُوَ الرِّبَا نَفْسُهُ الَّذِي فِيهِ تَغْلِيظٌ قَالَ : أَمَّا الْبَيِّنُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَك دَيْنٌ إلَى أَجَلٍ فَتَزِيدَ عَلَى صَاحِبِهِ تَحْتَالُ فِي ذَلِكَ لَا تُرِيدُ إلَّا الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ وَالشَّيْءُ مِمَّا يُكَالُ , أَوْ يُوزَنُ يَبِيعُهُ بِمِثْلِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبُو سَعِيدٍ : " أَوْ يَتِيمًا فَرْدًا " قَالَ : وَهُوَ فِي النَّسِيئَةِ أَبْيَنُ . وَبِالْجُمْلَةِ مَنْ تَأَمَّلَ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاهِيًا عَنْهُ مِمَّا سَيَكُونُ فِي الْأُمَّةِ مِنْ اسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ , بِأَنْ يَسْلُبُوا عَنْهَا الِاسْمَ الَّذِي حُرِّمَتْ بِهِ , وَمَا فَعَلَتْهُ الْيَهُودُ عَلِمَ أَنَّ هَذَيْنِ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ , وَأَنَّ ذَلِكَ تَصْدِيقُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ } وَعُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ أَكْثَرَ الْحِيَلِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ } وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى الْحَقِّ .

الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ , قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ بَلَاءً فَلَا يُرْفَعُ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ . قَالَ : أَنْبَأَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ , حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ , عَنْ الْأَعْمَشِ , عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ , عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَى حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ الْمِصْرِيِّ , عَنْ إِسْحَاقَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيِّ , أَنَّ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ حَدَّثَهُ , أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ , عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إلَى دِينِكُمْ } وَهَذَانِ إسْنَادَانِ حَسَنَانِ , أَحَدُهُمَا يَشُدُّ الْآخَرَ وَيُقَوِّيهِ - فَأَمَّا رِجَالُ الْأَوَّلِ فَأَئِمَّةٌ مَشَاهِيرُ لَكِنْ نَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَعْمَشُ سَمِعَهُ عَنْ عَطَاءٍ , فَإِنَّ عَطَاءً لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ ابْنِ عُمَرَ . وَالْإِسْنَادُ الثَّانِي يُبَيِّنُ أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا مَحْفُوظًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ , فَإِنَّ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ , وَحَيْوَةَ بْنَ شُرَيْحٍ كَذَلِكَ وَأَفْضَلُ , وَأَمَّا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَشَيْخٌ رَوَى عَنْهُ أَئِمَّةُ الْمِصْرِيِّينَ

مِثْلُ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ , وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ , وَيَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ , وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ رَوَيْنَا مِنْ طَرِيقٍ ثَالِثٍ فِي حَدِيثِ السَّرِيِّ بْنِ سَهْلٍ الْجُنَيْدِ سَابُورِيّ بِإِسْنَادٍ مَشْهُورٍ عَالِيهِ , وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَشِيدٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ , عَنْ لَيْثٍ , عَنْ عَطَاءٍ , عَنْ ابْنِ عُمَرَ , قَالَ : لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَمَا مِنَّا رَجُلٌ يَرَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِدِينَارِهِ وَبِدِرْهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ . وَلَقَدْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ , وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ وَتَرَكُوا الْجِهَادَ وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى يَتُوبُوا وَيُرَاجِعُوا دِينَهُمْ } . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا عَنْ عَطَاءٍ . قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : الْعِينَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ السَّلَفُ , وَالسَّلَفُ يَعُمُّ تَعْجِيلَ الثَّمَنِ وَتَعْجِيلَ الْمُثَمَّنِ , وَهُوَ الْغَالِبُ هُنَا . يُقَالُ : اعْتَانَ الرَّجُلُ وَتَعَيَّنَ إذَا اشْتَرَى الشَّيْءَ بِنَسِيئَةٍ , كَأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعَيْنِ وَهُوَ الْمُعَجَّلُ , وَصِيغَتْ عَلَى فِعْلِهِ , لِأَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ . وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَذْلَ الْعَيْنِ الْمُعَجَّلَةِ لِلرِّبْحِ , وَأَخْذَهَا لِلْحَاجَةِ كَمَا قَالُوا فِي نَحْوِ ذَلِكَ : التَّوَرُّقُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْوَرِقَ . قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ : أَنَا أَظُنُّ أَنَّ الْعِينَةَ إنَّمَا اُشْتُقَّتْ مِنْ حَاجَةِ الرَّجُلِ إلَى الْعَيْنِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فَيَشْتَرِي السِّلْعَةَ

وَيَبِيعُهَا بِالْعَيْنِ الَّذِي احْتَاجَ إلَيْهِ وَلَيْسَتْ بِهِ إلَى السِّلْعَةِ حَاجَةٌ وَتُطْلَقُ الْعِينَةُ عَلَى نَفْسِ السِّلْعَةِ الْمُعْتَانَةِ . وَمِنْهُ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارَ فِي النَّسَبِ , عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ , أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ : اُغْدُ غَدًا إلَى السُّوقِ فَخُذْ لِي عِينَةً , قَالَ : فَغَدَا عَبْدُ اللَّهِ فَتَعَيَّنَ عِينَةً مِنْ السُّوقِ لِأَبِيهِ , ثُمَّ بَاعَهَا فَأَقَامَ أَيَّامًا مَا يَبِيعُ أَحَدٌ فِي السُّوقِ طَعَامًا وَلَا زَيْتًا غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ تِلْكَ الْعِينَةِ , فَلَعَلَّ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ : كِسْرَةٌ وَمِنْحَةٌ لِلْمَكْسُورَةِ وَالْمَمْنُوحَةِ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْعِينَةِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ وَإِلَّا لَمَا أَدْخَلَهَا فِي جُمْلَةِ مَا اسْتَحَقُّوا بِهِ الْعُقُوبَةَ . وَكَذَلِكَ فِي الْأَخْذِ بِأَذْنَابِ الْبَقَرِ , وَهُوَ عَلَى مَا قِيلَ الدُّخُولُ فِي الْأَرْضِ الْخَرَاجِ بَدَلًا عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ , عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ } . يَعْنِي الْعِينَةَ . فَهَذَا شَاهِدٌ عَاضِدٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ . وَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ : { مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا } . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعِينَةِ يَعْنِي بَيْعَ الْحَرِيرَةِ فَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُخْدَعُ هَذَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } . رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيُّ الْحَافِظُ

الْمَعْرُوفُ بِمُطَيْنٍ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ . وَالصَّحَابَةُ إذَا قَالَ حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , أَوْ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , أَوْ أَوْجَبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , أَوْ قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَنَحْوَ هَذَا , فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا لَوْ رَوَى لَفْظَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّالَّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالْأَمْرِ وَالْإِيجَابِ وَالْقَضَاءِ . لَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا خِلَافٌ شَاذٌّ . لِأَنَّ رِوَايَةَ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى جَائِزَةٌ , وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَعْنَى مَا سَمِعَ فَلَا يُقْدِمُ عَلَى أَنْ يَقُولَ أَمَرَ , أَوْ نَهَى , أَوْ حَرَّمَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَثِقَ بِذَلِكَ , وَاحْتِمَالُ الْوَهْمِ مَرْجُوحٌ كَاحْتِمَالِ غَلَطِ السَّمْعِ . وَنِسْيَانِ الْقَلْبِ . وَقَدْ رَوَى مُطَيْنٌ أَيْضًا , عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : اتَّقُوا هَذِهِ الْعِينَةَ , لَا بَيْعَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ وَبَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ , وَفِي رِوَايَةٍ , عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ رَجُلًا بَاعَ مِنْ رَجُلٍ حَرِيرَةً بِمِائَةٍ , ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِخَمْسِينَ , سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ , فَقَالَ : دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ مُتَفَاضِلَةٍ دَخَلَتْ بَيْنَهَا حَرِيرَةٌ . ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ , وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ النَّجَشِيُّ الْحَافِظُ وَغَيْرُهُ , عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعِينَةِ يَعْنِي بَيْعَ الْحَرِيرَةِ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يُخْدَعُ هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . ذَكَرَهُ عَنْهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي خِلَافِهِ . وَالْأَثَرُ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ امْرَأَتِهِ , أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ هِيَ , وَأُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ

أَرْقَمَ وَامْرَأَةٌ أُخْرَى , فَقَالَتْ لَهَا أُمُّ وَلَدِ زَيْدٍ : إنِّي بِعْت مِنْ زَيْدٍ غُلَامًا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً وَاشْتَرَيْته بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا , فَقَالَتْ : أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنْ يَتُوبَ بِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ وَبِئْسَ مَا شَرَيْتِ . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ , ثِنَا شُعْبَةُ , عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ , وَرَوَاهُ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ فِي حَدِيثِ إسْرَائِيلَ , حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ , عَنْ جَدَّتِهِ الْعَالِيَةِ يَعْنِي جَدَّةَ إسْرَائِيلَ , قَالَتْ : دَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ فِي نِسْوَةٍ فَقَالَتْ : حَاجَتُكُنَّ ؟ فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ سَأَلَهَا أُمَّ مَحَبَّةَ فَقَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ تَعْرِفِينَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . قَالَتْ : فَإِنِّي بِعْته جَارِيَةً بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ , وَأَنَّهُ أَرَادَ بَيْعَهَا فَابْتَعْتهَا بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا . فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهَا وَهِيَ غَضْبَى . فَقَالَتْ : بِئْسَ مَا شَرَيْتِ وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ . وَأُفْحِمَتْ صَاحِبَتُنَا فَلَمْ تُكَلِّمْ طَوِيلًا , ثُمَّ أَنَّهُ سَهُلَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْتِ إنْ لَمْ آخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِي ؟ فَتَلَتْ عَلَيْهَا : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } . فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ تُبَيِّنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ هَذَا . حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي فِيهِ تَغْلِيظُ الْعِينَةِ - وَقَدْ

فُسِّرَتْ فِي الْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ بِأَنَّهَا مِنْ الرِّبَا , وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ , وَابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّهَا أَنْ يَبِيعَ حَرِيرَةً مَثَلًا بِمِائَةٍ إلَى أَجَلٍ , ثُمَّ يَبْتَاعَهَا بِدُونِ ذَلِكَ نَقْدًا . وَقَالُوا هُوَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَبَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ . وَحَدِيثُ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا : " هَذَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ " . وَالْحَدِيثُ الْمُرْسَلُ الَّذِي لَهُ مَا يُوَافِقُهُ , أَوْ الَّذِي عَمِلَ بِهِ السَّلَفُ حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ : " أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنْ يَتُوبَ " . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا قَطْعٌ بِالتَّحْرِيمِ وَتَغْلِيظٌ لَهُ , وَلَوْلَا أَنَّ عِنْدَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عِلْمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَسْتَرِيبُ فِيهِ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ لَمْ تَسْتَجْرِئْ أَنْ تَقُولَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ بِالِاجْتِهَادِ , لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ قَصَدَتْ أَنَّ الْعَمَلَ يَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ , وَاسْتِحْلَالَ مِثْلِ هَذَا كُفْرٌ , لِأَنَّهُ مِنْ الرِّبَا وَاسْتِحْلَالُ الرِّبَا كُفْرٌ , لَكِنَّ عُذْرَ زَيْدٍ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ , وَلِهَذَا أَمَرَتْ بِإِبْلَاغِهِ فَمَنْ بَلَغَهُ التَّحْرِيمُ وَتَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ , ثُمَّ أَصَرَّ عَلَيْهِ لَزِمَهُ هَذَا الْحُكْمُ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصَدَتْ هَذَا , فَإِنَّهَا قَصَدَتْ أَنَّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي يُقَاوِمُ إثْمُهَا ثَوَابَ الْجِهَادِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً وَسَيِّئَةً بِقَدْرِهَا فَمَا كَأَنَّهُ عَمِلَ شَيْئًا

وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْثَمًا , فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ صَغِيرَةً , فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْكَبَائِرِ , فَلَمَّا قَطَعَتْ بِأَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ وَأَمَرَتْ بِإِبْلَاغِهِ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّ هَذَا لَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ , وَمَا ذَاكَ إلَّا عَنْ عِلْمٍ , وَإِلَّا فَالِاجْتِهَادُ لَا يُحَرِّمُ الِاجْتِهَادَ , وَأَيْضًا فَكَوْنُ الْعَمَلِ يُبْطِلُ الْجِهَادَ لَا يُعْلَمُ بِالِاجْتِهَادِ . ثُمَّ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ حُجَّةٌ أُخْرَى , وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةَ مِثْلَ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ أَفْتَوْا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَغَلَّظُوا فِيهِ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ . وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ بَلْ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ بَلْ عَامَّةُ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ فَيَكُونُ حُجَّةً بَلْ إجْمَاعًا . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ قَدْ فَعَلَ هَذَا , لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ إنَّ هَذَا حَلَالٌ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ جَرْيًا عَلَى الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ فِيهِ , وَلَا نَظَرٍ وَلَا اعْتِقَادٍ . وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : أَضْعَفُ الْعِلْمِ الرِّوَايَةُ , يَعْنِي أَنْ يَقُولَ : رَأَيْت فُلَانًا يَفْعَلُ كَذَا , وَلَعَلَّهُ قَدْ فَعَلَهُ سَاهِيًا وَقَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ : لَا تَنْظُرْ إلَى عَمَلِ الْفَقِيهِ وَلَكِنْ سَلْهُ يَصْدُقْكَ . وَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرْ عَنْهُ أَنَّهُ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ إنْكَارِ عَائِشَةَ وَكَثِيرًا مَا قَدْ يَفْعَلُ الرَّجُلُ النَّبِيلُ الشَّيْءَ مَعَ ذُهُولِهِ عَمَّا

فِي ضِمْنِهِ مِنْ مَفْسَدَةٍ , فَإِذَا نُبِّهَ انْتَبَهَ , وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ مُحْتَمِلًا لِهَذَا , وَلِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْسَبَ لِأَجْلِهِ اعْتِقَادُ حِلِّ هَذَا إلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا سِيَّمَا وَأُمُّ وَلَدِهِ إنَّمَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ تَسْتَفْتِيهَا وَقَدْ رَجَعَتْ عَنْ هَذَا الْعَقْدِ إلَى رَأْسِ مَالِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَعُلِمَ أَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا . وَقَوْلُ السَّائِلَةِ لِعَائِشَةَ أَرَأَيْتِ إنْ لَمْ آخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِي ثُمَّ تِلَاوَةُ عَائِشَةَ عَلَيْهَا { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } دَلِيلٌ بَيِّنٌ أَنَّ التَّغْلِيظَ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ رِبًا , لَا لِأَجْلِ جَهَالَةِ الْأَجَلِ , فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إنَّمَا هِيَ فِي التَّأْنِيبِ مِنْ الرِّبَا , وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ إذَا قَصَدَ التَّوَسُّلَ بِهِ إلَى الثَّانِي وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا وَغَيْرِهِ . وَمَا يَشْهَدُ لِمَعْنَى الْعِينَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ صَالِحِ بْنِ رُسْتُمَ , عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ , قَالَ : خَطَبَنَا عَلِيٌّ أَوْ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ , وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ , وَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مَبْسُوطًا قَالَ : قَالَ عَلِيٌّ : سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ , وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {

وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْهَدُ الْأَشْرَارُ وَيُسْتَذَلُّ الْأَخْيَارُ وَيُبَايِعُ الْمُضْطَرُّونَ , وَقَدْ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تُطْعَمَ } , وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي رَاوِيهِ جَهَالَةٌ فَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ رَوَاهُ سَعِيدٌ . قَالَ : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ , عَنْ كَوْثَرِ بْنِ حَكِيمٍ , عَنْ مَكْحُولٍ , قَالَ : بَلَغَنِي , عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَدَّثَ , عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّ بَعْدَ زَمَانِكُمْ هَذَا زَمَانًا عَضُوضًا يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ } . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } وَيَنْهَدُ شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ يُبَايِعُونَ كُلَّ مُضْطَرٍّ أَلَا إنَّ بَيْعَ الْمُضْطَرِّ حَرَامٌ . الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ إنْ كَانَ عِنْدَك خَيْرٌ فَعُدْ بِهِ عَلَى أَخِيك وَلَا تَزِدْهُ هَلَاكًا إلَى هَلَاكِهِ . وَهَذَا الْإِسْنَادُ , وَإِنْ لَمْ تَجِبْ بِهِ حُجَّةٌ فَهُوَ يُعَضِّدُ الْأَوَّلَ مَعَ أَنَّهُ خَبَرُ صِدْقٍ بَلْ هُوَ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ عَامَّةَ الْعِينَةِ إنَّمَا تَقَعُ مِنْ رَجُلٍ مُضْطَرٍّ إلَى نَفَقَةٍ يَضَنُّ عَلَيْهِ الْمُوسِرُ بِالْقَرْضِ , لَا أَنْ يَرْبَحُوا فِي الْمِائَةِ مَا أَحَبُّوا فَيَبِيعُونَهُ ثَمَنَ الْمِائَةِ بِضِعْفِهَا , أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَلِهَذَا كَرِهَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ بَيْعِ الرَّجُلِ أَوْ عَامَّتُهُ نَسِيئَةً لِئَلَّا يَدْخُلَ

فِي اسْمِ الْعِينَةِ وَبَيْعِ الْمُضْطَرِّ , فَإِنْ أَعَادَ السِّلْعَةَ إلَى الْبَائِعِ , أَوْ إلَى آخَرَ يُعِيدُهَا إلَى الْبَائِعِ عَنْ احْتِيَالٍ مُهِمٍّ وَتَوَاطُؤٍ لَفْظِيٍّ , أَوْ عُرْفِيٍّ , فَهُوَ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِي تَحْرِيمِهِ . وَأَمَّا إنْ بَاعَهَا لِغَيْرِهِ بَيْعًا ثَابِتًا وَلَمْ تَعُدْ إلَى الْأَوَّلِ بِحَالٍ , فَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي كَرَاهَتِهِ وَيُسَمُّونَهُ التَّوَرُّقَ , لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْوَرِقُ . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَكْرَهُهُ وَقَالَ : التَّوَرُّقُ أَخْبَثُ الرِّبَا , وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ يُرَخِّصُ فِيهِ , وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ وَأَشَارَ فِي رِوَايَةِ الْكَرَاهَةِ إلَى أَنَّهُ مُضْطَرٌّ , وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ أُسَامَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ , إنَّمَا هُوَ إشَارَةٌ إلَى هَذَا أَوْ نَحْوِهِ فَإِنَّ رِبَا النَّسِيئَةِ يَدْخُلُ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ بِخِلَافِ رِبَا الْفَضْلِ فَإِنَّهُ نَادِرٌ لَا يَكَادُ يُفْعَلُ إلَّا عِنْدَ صِفَةِ الْمَالَيْنِ وَهَذَا كَمَا يُقَالُ إنَّمَا الْعَالِمُ زَيْدٌ وَلَا سَيْفَ إلَّا ذُو الْفَقَارِ يَعْنِي أَنَّهُ هُوَ الْكَامِلُ فِي بَابِهِ وَكَذَلِكَ النَّسِيئَةُ هِيَ أَعْظَمُ الرِّبَا وَكُبْرُهُ . يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى مَا صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : إذَا اسْتَقَمْت بِنَقْدٍ فَبِعْت بِنَقْدٍ , فَلَا بَأْسَ , وَإِذَا اسْتَقَمْت بِنَقْدٍ فَبِعْته بِنَسِيئَةٍ فَلَا خَيْرَ فِيهِ تِلْكَ وَرِقٌ بِوَرِقٍ - رَوَاهُ سَعِيدٌ وَغَيْرُهُ - يَعْنِي إذَا قَوَّمْتهَا بِنَقْدٍ ثُمَّ

بِعْتهَا نَسِيئًا كَانَ مَقْصُودُ الْمُشْتَرِي اشْتِرَاءَ دَرَاهِمَ مُعَجَّلَةٍ بِدَرَاهِمَ مُؤَجَّلَةٍ وَهَذَا شَأْنُ الْمُوَرِّقِينَ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَأْتِيهِ فَيَقُولُ أُرِيدُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَيُخْرِجُ لَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَهَذَا هُوَ الِاسْتِقَامَةُ - يَقُولُ أَقَمْت السِّلْعَةَ وَقَوَّمْتهَا وَاسْتَقَمْتهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهِيَ لُغَةٌ مَكِّيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ بِمَعْنَى التَّقْوِيمِ - فَإِذَا قَوَّمْتهَا بِأَلْفٍ قَالَ اشْتَرَيْتهَا بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ , أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ يُوَافِقُ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ بِنَقْدٍ فَلْيُسَاوِمْهُ بِنَقْدٍ , وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَبْتَاعَهُ بِنَسْأٍ فَلْيُسَاوِمْهُ بِنَسْإٍ كَرِهُوا أَنْ يُسَاوِمَهُ بِنَقْدٍ ثُمَّ يَبِيعَهُ بِنَسْإٍ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ دَلِيلٍ عَلَى كَرَاهَتِهِمْ , لِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ مَا قَدْ حُفِظَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ , وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَرِهُوا بَيْعَ " ده بدوازده " ; لِأَنَّ لَفْظَهُ : أَبِيعُك الْعَشَرَةَ بِاثْنَيْ عَشَرَ , فَكَرِهُوا هَذَا الْكَلَامَ لِمُشَابَهَتِهِ الرِّبَا , وَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ ذَلِكَ , مَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ , وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا } فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي تَفْسِيرِ الْبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ تَفْسِيرَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقُولَ هُوَ لَك بِنَقْدٍ بِكَذَا وَبِنَسِيئَةٍ بِكَذَا , كَمَا رَوَاهُ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ , عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ , عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ } قَالَ سِمَاكٌ : الرَّجُلُ يَبِيعُ الْبَيْعَ فَيَقُولُ هُوَ بِنَسْإٍ بِكَذَا وَبِنَقْدٍ بِكَذَا وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ . وَعَلَى هَذَا فَلَهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَبِيعَهُ بِأَحَدِهِمَا مُبْهَمًا وَيَتَفَرَّقَا عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا تَفْسِيرُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلرِّبَا هُنَا وَلَا صَفْقَتَيْنِ هُنَا , وَإِنَّمَا هِيَ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ بِثَمَنٍ مُبْهَمٍ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ هِيَ بِنَقْدٍ بِكَذَا أَبِيعُكَهَا بِنَسِيئَةٍ كَذَا كَالصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ , فَيَكُونُ قَدْ جَمَعَ صَفْقَتَيْ النَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ النَّقْدَ مِعْيَارًا لِلنَّسِيئَةِ وَهَذَا مُطَابِقٌ , لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا } . فَإِنَّ مَقْصُودَهُ حِينَئِذٍ , هُوَ بَيْعُ دَرَاهِمَ عَاجِلَةٍ بِآجِلَةٍ , فَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا رَأْسَ مَالِهِ , وَهُوَ أَوْكَسُ الصَّفْقَتَيْنِ وَهُوَ مِقْدَارُ الْقِيمَةِ الْعَاجِلَةِ فَإِنْ أَخَذَ الزِّيَادَةَ فَهُوَ مُرْبٍ . التَّفْسِيرُ الثَّانِي : أَنْ يَبِيعَهُ الشَّيْءَ بِثَمَنٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ ذَلِكَ الثَّمَنَ , وَأَوْلَى مِنْهُ أَنْ يَبِيعَهُ السِّلْعَةَ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَهَا الْبَائِعُ بَعْدَ ذَلِكَ , وَهَذَا أَوْلَى بِلَفْظِ الْبَيْعَتَيْنِ فِي

بَيْعَةٍ , فَإِنَّهُ بَاعَ السِّلْعَةَ وَابْتَاعَهَا , أَوْ بَاعَ بِالثَّمَنِ وَبَاعَهُ , وَهَذَا صَفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ حَقِيقَةً , وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ الْعِينَةُ الْمُحَرَّمَةُ وَمَا أَشْبَهَهَا , مِثْلُ أَنْ يَبِيعَهُ نَسْئًا , ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِأَقَلَّ مِنْهُ نَقْدًا , أَوْ يَبِيعَهُ نَقْدًا , ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ نَسْئًا , وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَيَعُودُ حَاصِلُ هَاتَيْنِ الصَّفْقَتَيْنِ إلَى أَنْ يُعْطِيَهُ دَرَاهِمَ وَيَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْهَا وَسِلْعَتُهُ عَادَتْ إلَيْهِ , فَلَا يَكُونُ لَهُ إلَّا أَوْكَسُ الصَّفْقَتَيْنِ , وَهُوَ النَّقْدُ , فَإِنْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ قَصَدَ بِالْحَدِيثِ هَذَا , وَنَحْوُهُ أَنَّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ وَعَنْ سَلَفٍ وَبَيْعٍ } - رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - وَكِلَا هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ يُؤَوَّلَانِ إلَى الرِّبَا , وَفِي النَّهْيِ عَنْ هَذَا كُلِّهِ أَوْضَحُ دَلَالَةٍ عَنْ النَّهْيِ عَنْ الْحِيَلِ الَّتِي هِيَ فِي الظَّاهِرِ بَيْعٌ وَفِي الْحَقِيقَةِ رِبًا . وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَقْصُودٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ , أَنَّهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ : { لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ وَالْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } قَالَ : { مَا ظَهَرَ الرِّبَا وَالزِّنَا فِي قَوْمٍ إلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ } . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرِّبَا وَالزِّنَا قَرِينَانِ فِي الِاحْتِيَالِ عَلَيْهِمَا وَفِي أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ . وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى , وَالْمَعْنَى

الْمَذْكُورَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ مَا رَوَى الشَّعْبِيُّ , عَنْ ابْنِ عُمَرَ ; أَنَّ عُمَرَ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ . وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ . ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَهِدَ إلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ : الْجَدُّ وَالْكَلَالَةُ . وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا " . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ . فَإِنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَصَدَ بَيَانَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي فِيهَا إجْمَالٌ وَرَأَى أَنَّ مِنْهَا الْخَمْرَ وَالرِّبَا فَإِنَّ مِنْهُمَا مَا لَا يَسْتَرِيبُ أَحَدٌ فِي تَسْمِيَتِهِ رِبًا وَخَمْرًا وَمِنْهُمَا مَا قَدْ يَقَعُ فِيهِ الشُّبْهَةُ , وَكَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ يَعُمُّ كُلَّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ , وَهِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ , وَأَمَّا الرِّبَا فَلَمْ يَكُنْ يَحْفَظُ فِيهِ لَفْظًا جَامِعًا فَقَالَ فِيمَا لَمْ يَتَبَيَّنْهُ : " وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا " . فَعُلِمَ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّا يَحْسَبُهُ النَّاسُ بَيْعًا هُوَ رِبًا فَإِنَّ آيَةَ الرِّبَا مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا , فَلَمْ يَعْرِفْ جَمِيعَ أَبْوَابِ الرِّبَا كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ , وَلِهَذَا قَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطِيبًا فِي النَّاسِ فَقَالَ : " أَلَا إنَّ آخِرَ الْقُرْآنِ كَانَ تَنْزِيلًا آيَةُ الرِّبَا , ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا - وَفِي لَفْظٍ قَبْلَ أَنْ يُفَسِّرَهَا لَنَا - فَدَعُوا مَا يَرِيبُكُمْ إلَى مَا لَا يَرِيبُكُمْ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ " . وَهَذَا مَشْهُورٌ مَحْفُوظٌ صَحِيحٌ عَنْ عُمَرَ - أَيْ اتَّقُوا : مَا تَعْلَمُونَ أَنَّهُ الرِّبَا وَمَا تَسْتَرِيبُونَ فِيهِ وَهَذَا مِنْ فِقْهِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , فَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا . فَمَا اسْتُيْقِنَ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي حَدِّ الْبَيْعِ فِي الْبَيْعِ دُونَ الرِّبَا , أَوْ الرِّبَا دُونَ الْبَيْعِ فَلَا رَيْبَ فِيهِ , وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَقَدْ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ وَهُوَ الرِّيبَةُ . فَلَيْسَ هُنَا أَصْلٌ مُتَيَقَّنٌ حَتَّى يُرَدَّ إلَيْهِ الْمُشْتَبَهُ لِأَنَّا قَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّ الرِّبَا مُحَرَّمٌ , وَهُوَ اسْمٌ مُجْمَلٌ , وَمِنْهُ مَا هُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ جُمْلَةِ مَا يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ بَيْعًا , وَاسْتِثْنَاءُ الْمَجْهُولِ مِنْ الْمَعْلُومِ يُوجِبُ الْجَهَالَةَ فِي الْمُسْتَثْنَى , إلَّا فِيمَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا رِبَا فِيهِ , وَيَشْهَدُ لِهَذَا حَدِيثٌ - لَا أَحْفَظُ الْآنَ إسْنَادَهُ - " { لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى فِيهِمْ إلَّا مَنْ أَكَلَ الرِّبَا فَمَنْ لَا يَأْكُلُ مِنْهُ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ } . ثُمَّ وَجَدْت إسْنَادَهُ رَوَيْنَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَالَ : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ , عَنْ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حَبْرَةَ , وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ مُنْذُ نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِينَ , أَوْ خَمْسِينَ سَنَةً , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَأْتِي عَلَى

النَّاسِ زَمَانٌ يَأْكُلُونَ فِيهِ الرِّبَا } قَالَ : قِيلَ لَهُ : النَّاسُ كُلُّهُمْ ؟ قَالَ : { مَنْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُمْ نَالَهُ مِنْ غُبَارِهِ } , وَمَا ذَاكَ إلَّا لِظُهُورِ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تُسْتَبَاحُ بِاسْمِ الْبَيْعِ , أَوْ الْهِبَةِ , أَوْ الْقَرْضِ , أَوْ الْإِجَارَةِ , أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَمَعْنَاهَا مَعْنَى الرِّبَا . وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ , عَنْ مَسْرُوقٍ , { عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَاتُ الْأَوَاخِرُ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَاهُنَّ فِي الْمَسْجِدِ وَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ } , فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ عَقِيبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ , لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِمُنَاسَبَتِهِ بَيْنَ الْمُنَزَّلِ وَالْمُحَرَّمِ وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - , لِأَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ قَدْ حُرِّمَتْ قَبْلَ ذَلِكَ , وَقَدْ يَتَأَوَّلُ النَّاسُ فِيهَا أَنَّ الْمُحَرَّمَ عَيْنُهَا لَا ثَمَنُهَا , كَمَا تَأَوَّلَتْ الْيَهُودُ فِي الشُّحُومِ . وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ , فَيَسْتَحِلُّونَ الْمَحَارِمَ بِنَوْعٍ مِنْ التَّأْوِيلِ وَالرِّبَا , كَذَلِكَ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَتَأَوَّلُ فِي اسْتِحْلَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ أَنَّهَا بَيْعٌ لَيْسَتْ رِبًا , مَعَ أَنَّ مَعْنَاهَا مَعْنَى الرِّبَا , فَكَانَ تَحْرِيمُهُ لِلتِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ ; إذْ ذَاكَ حَسْمًا لِمَادَّةِ التَّأْوِيلِ فِي اسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ , وَكَانَ هَذَا الْبَيَانُ عَقِيبَ آيَةِ الرِّبَا مُنَاسِبًا , لِأَنَّ الرِّبَا آخِرُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ , فَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِيبَهُ مَا دَلَّ الْأُمَّةَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي يُسْتَبَاحُ بِهَا الْخَمْرُ , وَالرِّبَا وَالزِّنَا وَغَيْرُهَا , ثُمَّ إنَّهُ أَخْبَرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ هَذِهِ الْمَحَارِمَ يَنْحَلُونَهَا أَسْمَاءً غَيْرَ الْأَسْمَاءِ الْحَقِيقِيَّةِ يُمْسَخُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ , وَكَذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ بِتَرْكِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ , كُلِّهَا وَبِتَرْكِ الرِّيَبِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ أَنَّهَا بَيْعٌ حَلَالٌ , بَلْ يُمْكِنُ أَنَّهَا رِبًا , وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى تَشَابُهِ مَعَانِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَتَوَافُقِهَا أَمْرًا وَإِخْبَارًا . وَهَذِهِ الْآثَارُ كُلُّهَا إذَا تَأَمَّلَهَا الْفَقِيهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مِشْكَاةٌ وَاحِدَةٌ , وَعَلِمَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَقِيقَةِ الْعُقُودِ وَمَقَاصِدِهَا الَّتِي تُؤَوَّلُ إلَيْهَا وَاَلَّتِي قُصِدَتْ بِهَا , وَأَنَّ الِاحْتِيَالَ لَا يُرْفَعُ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ , وَهَذَا بَيِّنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ نَصَبَ الشَّارِعُ إلَى الْأَحْكَامِ أَسْبَابًا يُقْصَدُ بِهَا مَحْصُولُ تِلْكَ الْأَحْكَامِ , فَمَنْ دَلَّ عَلَيْهَا وَأَمَرَ بِهَا مَنْ لَمْ يَتَفَطَّنْ لَهَا مِمَّنْ يَقْصِدُ الْحَلَالَ لِيَقْصِدَ بِهَا الْمَقْصُودَ الَّذِي جُعِلَتْ مِنْ أَجْلِهِ , فَهَذَا مُعَلِّمُ خَيْرٍ , وَكَذَلِكَ مَا شَاكَلَ هَذَا وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ , عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ حِيلَةَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّبِعُوا مَا شُرِعَ لَهُمْ , فَيَسْلُكُوا فِي حُصُولِ الشَّيْءِ الطَّرِيقَ الَّذِي يُشْرَعُ لِتَحْصِيلِهِ دُونَ مَا لَمْ يَقْصِدْ الشَّارِعُ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءَ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَحْكِ أَحَدٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْحِيَلِ وَالْمُنْكِرِينَ لَهَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْإِفْتَاءَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الِاسْتِحْلَالُ بِالطُّرُقِ الْمُدَلَّسَةِ الَّتِي لَا يُقْصَدُ بِهَا الْمَقْصُودُ الشَّرْعِيُّ , وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا , وَسَنُطِيلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ الْكَلَامَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الطُّرُقِ الْمُبَيَّنَةِ وَالطُّرُقِ الْمُدَلَّسَةِ , وَالْفَرْقِ بَيْنَ مُخَادَعَةِ الظَّالِمِ لِلْخَلَاصِ مِنْهُ وَمُخَادَعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي دِينِهِ , لِئَلَّا يُظَنَّ بِمَا يُحْكَى عَنْهُمْ فِي أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ أَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ وَمَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يُفْتُوا بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لَهَا لَوْ كَانَتْ جَائِزَةً فَقَدْ أَفْتَوْا بِتَحْرِيمِهَا وَالْإِنْكَارِ لَهَا فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ وَأَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَأَمْصَارٍ مُتَبَايِنَةٍ يُعْلَمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ إنْكَارَهَا كَانَ

مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ , وَلَمْ يُخَالِفْ هَذَا الْإِنْكَارَ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى إنْكَارِهَا وَتَحْرِيمِهَا وَهَذَا أَبْلَغُ فِي كَوْنِهَا بِدْعَةً مُحْدَثَةً فَإِنَّ أَقْبَحَ الْبِدَعِ مَا خَالَفَتْ كِتَابًا , أَوْ سُنَّةً , أَوْ إجْمَاعًا . الْوَجْهُ الثَّانِي : فِي تَقْرِيرِ أَنَّهَا بِدْعَةٌ , وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَسْتَرِيبُ عَاقِلٌ فِي أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ مَا زَالَ وَاقِعًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ وَمَا زَالَ الْمُطَلِّقُونَ يَنْدَمُونَ , وَيَتَمَنَّوْنَ الْمُرَاجَعَةَ , وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْصَحُ النَّاسِ لِأُمَّتِهِ , وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا , فَلَوْ كَانَ التَّحْلِيلُ يُحَلِّلُهَا لَأَوْشَكَ أَنْ يَدُلُّوا عَلَيْهِ وَلَوْ وَاحِدًا , فَإِنَّ الدَّوَاعِيَ إذَا تَوَافَرَتْ عَلَى طَلَبِ فِعْلٍ وَهُوَ مُبَاحٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ , فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ , بَلْ الزَّجْرُ عَنْهُ , عُلِمَ أَنَّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ . وَهَذِهِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ , وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهَا , وَجَعَلَتْ تَخْتَلِفُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إلَى خَلِيفَتِهِ تَتَمَنَّى مُرَاجَعَةَ رِفَاعَةَ وَهُمْ يَزْجُرُونَهَا عَنْ ذَلِكَ , وَكَأَنَّهَا كَرِهَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ فَلَا يُطَلِّقُهَا , وَكَانَتْ رَاغِبَةً فِي رِفَاعَةَ , فَلَوْ كَانَ

التَّحْلِيلُ مُمْكِنًا لَكَانَ أَنْصَحُ الْأُمَّةِ لَهَا يَأْمُرُهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِمُحَلِّلٍ , فَإِنَّهَا لَنْ تَعْدَمَ أَنْ تُبَيِّتَهُ عِنْدَهَا لَيْلَةً وَتُعْطِيَ شَيْئًا , فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلِمَ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ ذِكْرُ قِصَّتِهَا . وَمَنْ لَمْ تَسَعْهُ السُّنَّةُ حَتَّى تَعَدَّاهَا إلَى الْبِدْعَةِ مَرَقَ مِنْ الدِّينِ وَمَنْ أَطْلَقَ لِلنَّاسِ مَا لَمْ يُطْلِقْهُ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي لِلْإِطْلَاقِ , فَقَدْ جَاءَ بِشَرِيعَةٍ ثَانِيَةٍ وَلَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِلرَّسُولِ , فَلْيَنْظُرْ امْرُؤٌ أَيْنَ يَضَعُ قَدَمَهُ , وَكَذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ الْقَوْمَ كَانَتْ التِّجَارَةُ فِيهِمْ فَاشِيَةً وَالرِّبْحُ مَطْلُوبٌ بِكُلِّ طَرِيقٍ , فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتُ الَّتِي تَقْصِدُ بِهَا مَا يُقْصَدُ مِنْ رِبْحِ دَرَاهِمَ فِي دَرَاهِمَ بِاسْمِ الْبَيْعِ جَائِزٌ , وَلَا شَكَّ أَنْ يُفْتُوا بِهَا , وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَاعُ لِحِلِّ الْيَمِينِ وَبِالْجُمْلَةِ الْأَسْبَابُ الْمُحْوِجَةُ إلَى هَذِهِ الْحِيَلِ مَا زَالَتْ مَوْجُودَةً , فَلَوْ كَانَتْ مَشْرُوعَةً لَنَبَّهَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهَا فَلَمَّا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ إلَّا الْإِنْكَارُ بِحَقِيقَتِهَا مَعَ وُجُودِ الْحَاجَةِ فِي زَعْمِ أَصْحَابِهَا إلَيْهَا , عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الدِّينِ , وَهَذَا قَاطِعٌ لَا خَفَاءَ بِهِ لِمَنْ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ , أَوْ مَا ظَهَرَ الْإِفْتَاءُ بِهَا فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ التَّابِعِينَ أَنْكَرَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ ذَلِكَ الزَّمَانِ , مِثْلُ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ

, وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ , وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ , وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ , وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ , وَمِثْلُ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , وَالْقَاسِمِ بْنِ مَعْنٍ , وَحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قُضَاةِ الْكُوفَةِ . وَتَكَلَّمَ عُلَمَاءُ ذَلِكَ الْعَصْرِ مِثْلُ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ , وَابْنِ عَوْنٍ , وَالْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ , وَالسُّفْيَانَيْنِ , وَالْحَمَّادَيْنِ , وَمَالِكٍ , وَالْأَوْزَاعِيِّ , وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الدِّينِ , وَتَوَسَّعُوا فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ بِكَلَامٍ غَلِيظٍ لَا يُقَالُ مِثْلُهُ إلَّا عِنْدَ ظُهُورِ بِدْعَةٍ لَا تُعْرَفُ دُونَ مَنْ أَفْتَى بِمَا كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ تُفْتِي بِهِ , أَوْ بِحَقٍّ مِنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ , وَأَمْثَالَهُمْ هُمْ سُرُجُ الْإِسْلَامِ , وَمَصَابِيحُ الْهُدَى , وَأَعْلَامُ الدِّينِ , وَهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ أَهْلِ وَقْتِهِمْ , وَأَعْلَمَ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ بِالسُّنَّةِ الْمَاضِيَةِ وَأَفْقَهَ فِي الدِّينِ , وَأَرْوَعَ فِي الْمَنْطِقِ , وَقَدْ كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ , وَيَقُولُونَ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ , وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ سَلَكَ هَذِهِ السَّبِيلَ . فَلَمَّا اشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ عَلَى أَهْلِ الرَّأْيِ الَّذِي اسْتَحَلُّوا بِهِ الْحِيَلَ عُلِمَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ , وَفِي كَلَامِهِمْ دَلَالَاتٌ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ وَصْفِهِمْ مَنْ كَانَ يُفْتِي بِذَلِكَ بِأَنَّهُ يَقْلِبُ الْإِسْلَامَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ , وَيَتْرُكُ الْإِسْلَامَ أَرَقَّ مِنْ الثَّوْبِ السَّابِرِيِّ , وَيَنْقُضُ الْإِسْلَامَ عُرْوَةً

عُرْوَةً إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ , وَكَانَ أَعْظَمُ مَا أَنْكَرُوا عَلَى الْمُتَوَسِّعِ فِي الرَّأْيِ مُخَالَفَةَ الْأَحَادِيثِ وَالْإِفْتَاءِ بِالْحِيَلِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى لَا يُخَالِفُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْدًا , وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ , أَوْ لِنِسْيَانِهِ إيَّاهُ وَذُهُولِهِ عَنْهُ , أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْ وَجْهٍ يَثِقُ بِهِ , أَوْ لِعَدَمِ تَفَطُّنِهِ لِوَجْهِ الدَّلَالَةِ مِنْهُ , أَوْ لِقِلَّةِ اعْتِنَائِهِ بِمَعْرِفَتِهِ , أَوْ لِنَوْعِ تَأْوِيلٍ يَتَأَوَّلُهُ عَلَيْهِ , أَوْ ظَنِّهِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ , وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَمَا مِنْ الْفُقَهَاءِ أَحَدٌ إلَّا وَقَدْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ بَعْضُ السُّنَّةِ , وَإِنَّمَا الْمُنْكِرُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ فِي الْمَاضِينَ الْإِفْتَاءَ بِالْحِيَلِ , وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الرَّأْيِ تَصْرِيحٌ , أَنَّهُ قَالَ : مَا نَقَمُوا عَلَيْنَا مِنْ أَنَّا عَمَدْنَا إلَى أَشْيَاءَ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ فَاحْتَلْنَا فِيهَا حَتَّى صَارَتْ حَلَالًا . وَقَالَ آخَرَانِ : إلَّا احْتَلْنَا لِلنَّاسِ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً احْتَالَ عَلَى هَذَا فِي قَضِيَّةٍ جَرَتْ لَهُ مَعَ رَجُلٍ وَلَمَّا وَضَعَ بَعْضُ النَّاسِ كِتَابًا فِي الْحِيَلِ اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ , لِذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ مَرْوَانَ كَانَتْ امْرَأَةٌ هَاهُنَا تَمُرُّ وَأَرَادَتْ أَنْ تَخْتَلِعَ مِنْ زَوْجِهَا فَأَبَى زَوْجُهَا عَلَيْهَا , فَقِيلَ : لَهَا لَوْ ارْتَدَدْتِ عَلَى الْإِسْلَامِ لَبِنْتِ مِنْ زَوْجِكِ , فَفَعَلَتْ ذَلِكَ , فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ - وَقِيلَ لَهُ : إنَّ

هَذَا كِتَابُ الْحِيَلِ , فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : مَنْ وَضَعَ هَذَا الْكِتَابَ , فَهُوَ كَافِرٌ , وَمَنْ سَمِعَ بِهِ فَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ , وَمَنْ حَمَلَهُ مِنْ كُورَةٍ إلَى كُورَةٍ فَهُوَ كَافِرٌ , وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ . وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ , عَنْ شَفِيقِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ إنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ قَالَ فِي قِصَّةِ بِنْتِ أَبِي رَوْحٍ حَيْثُ أُمِرَتْ بِالِارْتِدَادِ وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ أَبِي غَسَّانَ فَذَكَرَ شَيْئًا , ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَهُوَ مُغْضَبٌ : " أَحْدَثُوا فِي الْإِسْلَامِ , وَمَنْ كَانَ أَمَرَ بِهَذَا فَهُوَ كَافِرٌ , وَمَنْ كَانَ هَذَا الْكِتَابُ عِنْدَهُ , أَوْ فِي بَيْتِهِ لِيَأْمُرَ بِهِ , أَوْ هَوِيَهُ , وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ " . ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : مَا " أَرَى الشَّيْطَانَ كَانَ يُحْسِنُ مِثْلَ هَذَا حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ فَأَفَادَهَا مِنْهُمْ فَأَشَاعَا حِينَئِذٍ , أَوْ كَانَ يُحْسِنُهَا وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُمْضِيهَا حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ " . وَقَالَ إِسْحَاقُ الطَّالَقَانِيُّ قِيلَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنَّ هَذَا وَضَعَهُ إبْلِيسُ يَعْنِي كِتَابَ الْحِيَلِ , فَقَالَ إبْلِيسُ مِنْ الْأَبَالِسَةِ وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ : فِي كِتَابِ الْحِيَلِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ , أَوْ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً كُلُّهَا كُفْرٌ . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ : قَالَ شَرِيكٌ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَاضِيَ الْكُوفَةِ الْإِمَامَ الْمَشْهُورَ - وَذُكِرَ لَهُ كِتَابَ الْحِيَلِ - قَالَ : مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ . وَقَالَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ وَهُوَ كَذَلِكَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ كِتَابُ الْفُجُورِ . وَقَالَ إسْمَاعِيلُ

بْنُ حَمَّادٍ قَالَ : الْقَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَاضِيَ الْكُوفَةِ أَيْضًا - كِتَابُكُمْ هَذَا الَّذِي وَضَعْتُمُوهُ فِي الْحِيَلِ كِتَابُ الْفُجُورِ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ سَابُورٍ : إنَّ الرَّجُلَ لَا يَأْتِي الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِ الْحِيَلِ فَيُعَلِّمُهُ الْفُجُورَ . وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ سَمِعْت أَيُّوبَ يَقُولُ : وَيْلَهُمْ مَنْ يَخْدَعُونَ - يَعْنِي أَصْحَابَ الْحِيَلِ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ سَمِعْت يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ يَقُولُ : لَقَدْ أَفْتَى - يَعْنِي أَصْحَابَ الْحِيَلِ - فِي شَيْءٍ لَوْ أَفْتَى بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى كَانَ قَبِيحًا أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ : إنِّي حَلَفْتُ أَنْ لَا أُطَلِّقَ امْرَأَةً بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِنَّهُمْ قَدْ بَذَلُوا إلَيْهِ مَالًا كَثِيرًا قَالَ فَقَبِّلْ أُمَّهَا , قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ : يَأْمُرُهُ بِأَنْ يُقَبِّلَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً . وَقَالَ جَيْشُ بْنُ سِنْدِي سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الرَّجُلِ يَشْتَرِي جَارِيَةً ثُمَّ يُعْتِقُهَا مِنْ يَوْمِهِ وَيَتَزَوَّجُهَا أَيَطَؤُهَا مِنْ يَوْمِهِ , قَالَ : كَيْفَ يَطَؤُهَا مِنْ يَوْمِهِ هَذَا وَقَدْ وَطِئَهَا ذَلِكَ بِالْأَمْسِ هَذَا مِنْ طَرِيقِ الْحِيلَةِ وَغَضِبَ وَقَالَ هَذَا أَخْبَثُ قَوْلٍ . رَوَاهُنَّ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي الْعِلْمِ , عَنْ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ : مَنْ كَانَ كِتَابُ الْحِيَلِ بِبَيْتِهِ يُفْتِي بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ

السَّدُوسِيُّ فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى . وَقَالَ رَجُلٌ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ : يَا أَبَا عَلِيٍّ اسْتَفْتَيْتُ رَجُلًا فِي يَمِينٍ حَلَفْت بِهَا فَقَالَ لِي : إنْ فَعَلْت ذَلِكَ حَنِثْت وَأَنَا أَحْتَالُ لَك حَتَّى تَفْعَلَ , وَلَا تَحْنَثَ فَقَالَ لَهُ الْفُضَيْلُ : تَعْرِفُ الرَّجُلَ , قَالَ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : ارْجِعْ فَاسْتَثْبِتْهُ فَإِنِّي أَحْسَبُهُ شَيْطَانًا تَشَبَّهَ لَك فِي صُورَةِ إنْسَانٍ رَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بَطَّةَ فِي مَسْأَلَةِ خُلْعِ الْيَمِينِ . وَإِنَّمَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ لِأَنَّ فِيهِ الِاحْتِيَالَ عَلَى تَأْخِيرِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ , وَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ وَحِلِّ الرِّبَا , وَإِسْقَاطِ الْكَفَّارَاتِ فِي الصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ وَالْأَيْمَانِ وَحِلِّ السِّفَاحِ وَفَسْخِ الْعُقُودِ وَفِيهِ الْكَذِبُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ , وَإِبْطَالُ الْحُقُوقِ وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَمِنْ أَقْبَحِ مَا فِيهِ الِاحْتِيَالُ لِمَنْ أَرَادَتْ فِرَاقَ زَوْجِهَا بِأَنْ تَرْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَيَعْرِضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَلَا تُسْلِمَ فَتُحْبَسَ وَيَنْفَسِخَ النِّكَاحُ ثُمَّ تَعُودَ إلَى الْإِسْلَامِ , وَإِلَى أَشْيَاءَ أُخَرَ وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ بَلْ بَعْضُهَا كُفْرٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ الْأَمْرُ بِهَذِهِ الْحِيَلِ الَّتِي هِيَ مُحَرَّمَةٌ بِالِاتِّفَاقِ , أَوْ هِيَ كُفْرٌ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَمَنْ يَنْسُبُ ذَلِكَ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ جَاهِلٌ بِأُصُولِ

الْفُقَهَاءِ , وَإِنْ كَانَتْ الْحِيلَةُ قَدْ تَنْفُذُ عَلَى أَصْلِ بَعْضِهِمْ بِحَيْثُ لَا يُبْطِلُهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْحِيلَةِ شَيْءٌ وَعَدَمَ إبْطَالِهَا بِمَنْ يَفْعَلُهَا شَيْءٌ آخَرُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْفَقِيهِ لَا يُبْطِلُهَا أَنْ يُبِيحَهَا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُقُودِ يُحَرِّمُهَا الْفَقِيهُ , ثُمَّ لَا يُبْطِلُهَا , وَإِنْ كَانَ الْمَرْضِيُّ عِنْدَنَا إبْطَالَ الْحِيلَةِ وَرَدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا حَيْثُ أَمْكَنَ ذَلِكَ .

وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيلَةِ , وَإِبْطَالِهَا . وَإِنَّمَا غَرَضُنَا هُنَا أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ الَّتِي هِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي نَفْسِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى إمَامٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْحٌ فِي إمَامَتِهِ وَذَلِكَ قَدْحٌ فِي الْأُمَّةِ حَيْثُ ائْتَمُّوا بِمَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ وَفِي ذَلِكَ نِسْبَةٌ لِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ إلَى تَكْفِيرٍ , أَوْ تَفْسِيقٍ وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ . وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْأَمْرُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْحِيلَةِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْحِكَايَةُ بَاطِلَةً , أَوْ يَكُونَ الْحَاكِي لَمْ يَضْبِطْ الْأَمْرَ فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ إنْفَاذُهَا بِإِبَاحَتِهَا , وَإِنْ كَانَ أَمَرَ بِبَعْضِهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَابَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَمْ يَمُتْ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَ الْخُرُوجُ عَنْ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالْقَوْلُ بِفِسْقِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَوْ كُفْرِهِ وَكِلَا هَذَيْنِ غَيْرُ جَائِزٍ هَذَا لَعَمْرِي فِي الْحِيَلِ الَّتِي يَكُونُ الْأَمْرُ بِهَا أَمْرًا بِمَعْصِيَةٍ أَوْ كُفْرًا بِالِاتِّفَاقِ , مِثْلُ الْمَرْأَةِ الَّتِي تُرِيدُ أَنْ تُفَارِقَ زَوْجَهَا فَتُؤْمَرَ بِالرِّدَّةِ لِيَنْفَسِخَ النِّكَاحُ وَذَلِكَ أَنَّهَا إنْ ارْتَدَّتْ . فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النِّكَاحَ يَنْفَسِخُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ النِّكَاحَ يَقِفُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنْ عَادَتْ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا تَبَيَّنَّا أَنَّ الْفُرْقَةَ

وَقَعَتْ مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى , ثُمَّ إنَّ الْمُرْتَدَّةَ يَجِبُ قَتْلُهَا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , إذَا لَمْ تَعُدْ إلَى الْإِسْلَامِ , وَعِنْدَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ تُضْرَبُ وَتُحْبَسُ , وَلَا تُقْتَلُ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إذَا ارْتَدَّتْ انْفَسَخَ النِّكَاحُ وَلَا تُقْتَلُ بِمُجَرَّدِ الِامْتِنَاعِ , ثُمَّ إنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَمْرُ وَلَا الْإِذْنُ فِي التَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاضِ , بَلْ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا فَهُوَ كَافِرٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا فَيَتَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ , ثُمَّ إنَّ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَشَدُّ , فَإِنَّ لَهُمْ مِنْ الْكَلِمَاتِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي يَرَوْنَ أَنَّهَا كُفْرٌ مَا هُوَ دُونَ الْأَمْرِ بِالْكُفْرِ , حَتَّى إنَّ الْكَافِرَ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ : إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُسْلِمَ , فَقَالَ : اصْبِرْ سَاعَةً فَقَدْ كَفَّرُوهُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ سَاعَةً , وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ غَيْرُ الْكُفْرِ , فَكَيْفَ بِالْأَمْرِ بِإِنْشَاءِ الرِّدَّةِ الَّتِي هِيَ أَغْلَظُ مِنْ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ . فَعَلِمْت أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ أَفْتَوْا بِنْتَ أَبِي رَوْحٍ بِالِارْتِدَادِ لَمْ يَكُونُوا مُقْتَدِينَ بِمَذْهَبِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ , فَإِنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ لَا تَنْفُذُ إلَّا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لِكَوْنِهَا لَا تُقْتَلُ , وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَنْفُذُ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ أَيْضًا وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ إذَا لَمْ تَظْهَرْ

الْحِيلَةُ , وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَشَدِّ الْمَذَاهِبِ تَغْلِيظًا لِمِثْلِ هَذَا وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ الْمَذَاهِبِ فِي تَكْفِيرِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْكُفْرِ . وَلَكِنْ لَمَّا رَأَى بَعْضُ الْفَسَقَةِ أَنَّهَا إذَا ارْتَدَّتْ حَصَلَ غَرَضُهَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ دَلَّهَا عَلَى ذَلِكَ , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الدَّلَالَةُ مِنْ الْمَذْهَبِ , كَمَا أَنَّ الْفَاجِرَ قَدْ يَأْمُرُ الشَّخْصَ بِيَمِينٍ فَاجِرَةٍ , أَوْ شَهَادَةِ زُورٍ لِيَحْصُلَ بِهَا غَرَضُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ , وَالْحَاكِمُ مَعْذُورٌ بِإِنْفَاذِ ذَلِكَ , وَإِنْ كَانَ الْإِذْنُ فِي ذَلِكَ لَا يَسْتَجِيزُهُ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ . وَهَذَا لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ قَدْ انْتَسَبَ إلَيْهِمْ فِي الْفُرُوعِ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي الْأُصُولِ مَعَ بَرَاءَةِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أُولَئِكَ الْأَتْبَاعِ , وَهَذَا مَشْهُورٌ فَكَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَدْ انْتَسَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ , وَغَيْرِهِمْ إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفُرُوعِ مَعَ أَنَّهُ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا مِنْ أَبْرَإِ النَّاسِ مِنْ مَذَاهِبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ , حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَعَنَ اللَّهُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ هُوَ فَتَحَ عَلَى النَّاسِ الْكَلَامَ فِي هَذَا . وَقَالَ نُوحٌ الْجَامِعُ : سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْأَعْرَاضِ وَالْأَجْسَامِ , فَقَالَ : كَلَامُ الْفَلَاسِفَةِ عَلَيْك بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَدَعْ مَا أُحْدِثَ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ , وَأَرَادَ أَبُو يُوسُفَ

إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ لَمَّا تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْ تَعْطِيلِ الصِّفَاتِ حَتَّى فَرَّ مِنْهُ وَهَرَبَ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ عَلَى الْإِيمَانِ بِصِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهَا رَسُولُهُ وَأَنَّهَا تُمَرُّ كَمَا جَاءَتْ , وَذَكَرَ كَلَامًا فِيهِ طُولٌ لَا يَحْضُرُنِي هَذِهِ السَّاعَةَ يَرُدُّ بِهِ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ . وَمَا زَالَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِهِ يُنَابِذُونَ الْمُعْتَزِلَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ , وَقَدْ كَانَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ رَأْسُ الْجَهْمِيَّةِ , وَأَحْمَدُ بْنُ أَبِي دَاوُد قَاضِي الْقُضَاةِ , وَنُظَرَاؤُهُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرُهُمْ قَبْلَهُمْ وَبَعْدَهُمْ يَنْتَسِبُونَ فِي الْفُرُوعِ إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَهُمْ الَّذِينَ أَوْقَدُوا نَارَ الْحَرْبِ حَتَّى جَرَتْ فِي الْإِسْلَامِ الْمِحْنَةُ الْمَشْهُورَةُ عَلَى تَعْطِيلِ الصِّفَاتِ وَالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ . فَلَعَلَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَمَرُوا بِنْتَ أَبِي رَوْحٍ بِالِارْتِدَادِ عَنْ الْإِسْلَامِ كَانُوا مِنْ هَذَا النَّمَطِ , وَإِنْ كَانَ هَذَا الزَّمَانُ قَبْلَ زَمَانِ الْمِحْنَةِ بِقَلِيلٍ وَمَنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ بِأَحْوَالِ بَعْضِ الْمُتَرَائِسِينَ بِالْعِلْمِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَغَيْرِهِ , عَلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي أَشْيَاءَ لَا يَجُوزُ إضَافَتُهَا إلَى أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ , فَتَكْفِيرُ السَّلَفِ يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إلَى مِثْلِ هَذَا الضَّرْبِ الَّذِينَ أَمَرُوا بِمِثْلِ هَذِهِ الْحِيَلِ , وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّهَا فُجُورٌ وَنَحْوُ هَذَا الْكَلَامِ , فَهَذَا الْكَلَامُ كَانَ فِي

بَعْضِ الْحِيَلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا مَعَ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ أَئِمَّةِ الْكُوفِيِّينَ , مِثْلِ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مَعْنٍ , وَمِثْلِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ , وَهَؤُلَاءِ قُضَاةُ الْكُوفَةِ , وَحَفْصٌ بَعْدَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَصْلَ الْحِيَلِ مُطْلَقًا , وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا بَيَانَ أَعْيَانِ الْحِيَلِ , وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُعْذَرُ فِيهِ الْمُفْتِي فِي الْجُمْلَةِ وَمَا لَا يُعْذَرُ فِيهِ , وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ كُلَّهَا مُحْدَثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ , وَأَنَّ الْإِفْتَاءَ بِهَا إنَّمَا وَقَعَ مُتَأَخِّرًا , وَأَنَّ بَقَايَا السَّلَفِ أَعْظَمُوا الْقَوْلَ فِيمَنْ أَفْتَى بِهَا إعْظَامَهُمْ الْقَوْلَ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ وَلَوْ كَانَ جِنْسُهَا مَأْثُورًا عَمَّنْ سَلَفَ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ أَفْتَى بِاجْتِهَادِ رَأْيِهِ , فَمَا لَهَا مَسَاغٌ فِي الشَّرِيعَةِ . وَلَا يُنْكِرُونَ مَا فَعَلَتْهُ الصَّحَابَةُ , وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى اسْتِكْرَاهٍ شَدِيدٍ مِنَّا لِمَا يُشْبِهُ الْعِينَةَ فَضْلًا عَنْ الْوَقِيعَةِ فِي أَعْرَاضِ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَلَكِنَّ وُجُوبَ النَّصِيحَةِ اضْطَرَّنَا إلَى أَنْ نُنَبِّهَ عَلَى مَا عِيبَ عَلَى بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْحِيَلِ , وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِمَنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ , فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَسْمَعُ كَلِمَاتِ الْعُلَمَاءِ الْغَلِيظَةَ قَدْ لَا يَعْرِفُ مَخْرَجَهَا , وَكَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَرْوُونَهَا رِوَايَةَ مُتَشَفٍّ مُتَعَصِّبٍ , مَعَ أَنَّهُمْ دَائِمًا

يَفْعَلُونَ فِي الْفُتْيَا أَقْبَحَ مِمَّا عِيبَ بِهِ مَنْ عِيبَ مَعَ كَوْنِ أُولَئِكَ كَانُوا أَعْلَمَ وَأَفْقَهَ وَأَتْقَى , وَلَوْ عَلِمَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ وَهَدِيَ رُشْدَهُ لَكَانَ اعْتِبَارُهُ بِمَنْ سَلَفَ يَكْفِهِ عَنْ أَنْ يَقَعَ فِي أَقْبَحَ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ أُولَئِكَ , وَلَكَانَ شُغْلُهُ بِصَلَاحِ نَفْسِهِ اسْتِغْفَارًا وَشُكْرًا شَغَلَهُ عَنْ ذِكْرِ عُيُوبِ النَّاسِ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِفَاءِ وَالِاعْتِصَابِ . وَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يُخَالِفُ الْمَشْرِقِيِّينَ فِي مَذْهَبِهِمْ , وَيَرَى أَنَّهُ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ وَالْأَثَرِ , وَآخَذُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُمْ مَنْ يَتَوَسَّعُ فِي الْحِيَلِ وَيُرِقُّ الدِّينَ وَيَنْقُضُ عُرَى الْإِسْلَامِ , وَيَفْعَلُ فِي ذَلِكَ قَرِيبًا , أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا يُحْكَى عَنْهُمْ حَتَّى دَبَّ هَذَا الدَّاءُ إلَى كَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الطَّوَائِفِ , حَتَّى إنَّ بَعْضَ أَتْبَاعِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ هَذِهِ الْحِيَلِ تَلَطَّخُوا بِهَا , فَأَدْخَلَهَا بَعْضُهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَذَكَرُوا طَائِفَةً مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي هِيَ بِأَعْيَانِهَا مِنْ أَشَدِّ مَا أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى الْمَشْرِقِيِّينَ , وَحَتَّى اعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ جَوَازَ خُلْعِ الْيَمِينِ وَصِحَّةَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ , وَجَوَازَ بَعْضِ الْحِيَلِ الرُّبُوبِيَّةِ , وَحَتَّى إنَّ بَعْضَ الْأَعْيَانِ مِنْ أَصْحَابِهِ سَوَّغَ بَعْضَ الْحِيَلِ فِي الْمُعَامَلَاتِ , مَعَ رَدِّهِ عَلَى أَصْحَابِ الْحِيَلِ , وَذَلِكَ فِي مَسَائِلَ قَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى إبْطَالِ الْحِيلَةِ فِيهَا إلَى أَشْيَاءَ أُخَرَ , وَكَثُرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُ , وَتَوَسَّعَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا تَوَسُّعًا تَدُلُّ أُصُولُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى خِلَافِهِ , وَحَتَّى إنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ تَزَلْزَلَ فِيهَا تَزَلْزُلَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْقِيَاسَ جَوَازُ بَعْضِهَا , وَحَتَّى صَارَ مَنْ يُفْتِي بِهَا كَأَنَّهُ يُعَلِّمُ النَّاسَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ , أَوْ صِفَةَ الصَّلَاةِ لَا يُبَيِّنُ الْمُسْتَفْتِيَ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ بِالِاتِّفَاقِ , وَأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَلْ أَكْثَرِهِمْ , وَعِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ , وَحَتَّى أَلْقَوْا فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ الْعَامَّةِ , أَوْ أَكْثَرِهِمْ أَنَّهَا حَلَالٌ , وَأَنَّهَا مِنْ دِينِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ , فَتَجِدُ الْمُؤْمِنَ الَّذِي شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ يَكْرَهُهَا وَيَنْفِرُ قَلْبُهُ مِنْهَا , وَالْمُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ يَقُولُ لَهُ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا جَائِزٌ , وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ وَهُوَ مُخْطِئٌ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , فَإِنَّ أَقَلَّ دَرَجَاتِ أَكْثَرِهَا الْكَرَاهَةُ . وَقَدْ ذَكَرْنَا اتِّفَاقَهُمْ عَلَى كَرَاهَةِ التَّحْلِيلِ الْمُتَوَاطَإِ عَلَيْهِ . وَاعْلَمْ أَنَّ غَايَةَ مَا يَبْلُغُك مِنْ الْكَلِمَاتِ الشَّدِيدَةِ فِي بَعْضِ الْفُقَهَاءِ , فَإِنَّ أَصْلَ ذَلِكَ قَاعِدَةُ الْحِيَلِ , فَإِنَّ الْقُلُوبَ دَائِمًا تُنْكِرُهَا لَا سِيَّمَا قُلُوبَ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَالْوِلَايَةِ وَالْهِدَايَةِ , وَيَجِدُونَ يَنْبُوعَهَا مِنْ بَعْضِ الْمُفْتِينَ , فَيَتَكَلَّمُونَ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ , وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ مَنْشَأُ هَذِهِ الْحِيَلِ مِنْ الْيَهُودِ صَارَ الْغَاوِي مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ مُتَشَبِّهًا بِهِمْ ,

وَصَارَ أَهْلُ الْحِيَلِ تَعْلُوهُمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ لِمُشَارَكَتِهِمْ الْيَهُودَ فِي بَعْضِ أَخْلَاقِهِمْ , ثُمَّ قَدْ اسْتِطَارَ شَرُّ هَذِهِ الْحِيَلِ حَتَّى دَخَلَتْ فِي أَكْثَرِ أَبْوَابِ الدِّينِ وَصَارَتْ مَعْرُوفَةً , وَرَدُّهَا مُنْكَرًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ أُمُورَ الْإِسْلَامِ وَأُصُولَهُ , وَكُلَّمَا رَقَّ دِينُ بَعْضِ النَّاسِ وَاسْتَخَفَّ بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ الْحُكَّامِ وَالشَّرْطِيِّينَ وَالْمُفْتِي أَحْدَثَ حِيلَةً بَعْدَ حِيلَةٍ وَأَكْثَرُهَا مِمَّا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالرَّأْيِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِهَا , مِثْلُ تَلْقِينِ الشُّرَطِيِّ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُمَلِّكَ ابْنَهُ أَوْ غَيْرَهُ أَنْ يُقِرَّ بِذَلِكَ إقْرَارًا , أَوْ يَجْعَلَهُ بَيْعًا , وَيُشْهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِنَقْضِ الثَّمَنِ . وَهَذَا حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ , فَإِنَّهُ كَذِبٌ يَضُرُّ الْوَرَثَةَ , وَمَقْصُودُهُمْ أَنْ لَا يُمْكِنَ فَسْخُهُمْ بِمَا تُفْسَخُ بِهِ الْهِبَاتُ , حَتَّى آلَ الْأَمْرُ بِهِمْ إلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَكْتُبُ عِنْدَهُ كَتَبَ بَعْضَهَا أَنَّهُ مِلْكٌ لِابْنِهِ , وَبَعْضَهَا أَنَّهُ مِلْكٌ لَهُمْ , وَيُخْرِجُ كُلَّ كِتَابٍ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ , وَحَتَّى إنَّ بَعْضَ مَنْ يَتَوَرَّعُ مِنْ الشُّهُودِ يَحْسَبُ أَنْ لَا مَأْثَمَ عَلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ , وَلَا رَيْبَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى مَا يُعْلَمُ تَحْرِيمُهُ مِنْ عَقْدٍ أَوْ إقْرَارٍ , أَوْ حُكْمٍ حَرَامٌ , فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ } . وَمِثْلُ مَا أَحْدَثَ بَعْضُ الْحُكَّامِ الدَّعْوَى

الْمَرْمُوزَةَ الْمُسَخَّرَةَ . وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهَا بَعْضُ قُضَاةِ الشَّامِ قَبْلَ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ وَبَعْدَ الْخَامِسَةِ , فَصَارُوا يَقُولُونَ حَكَمَ بِكَذَا , وَثَبَتَ عِنْدَهُ كَذَا بِمَحْضَرٍ مِنْ خَصْمَيْنِ مُدَّعٍ , وَمُدَّعًى عَلَيْهِ جَازَ حُضُورُهُمَا , وَاسْتِمَاعُ الدَّعْوَى مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مَعَ الْقَطْعِ وَالْعِلْمِ الْيَقِينِ بِأَنَّ الْحَاضِرَيْنِ لَمْ يَكُونَا خَصْمَيْنِ , فَإِنَّ الْخَصْمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ إذَا سَكَتَ لَمْ يُتْرَكْ , بَلْ يُطْلَبُ مِنْهُ الْحَقُّ وَذَاكَ الْحَاضِرُ لَوْ لَمْ يُجَبْ لَادَّعَى عَلَى آخَرَ , وَآخَرَ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ مُطَالَبَتَهُ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ وَاحِدٌ يَقُولُ بِلِسَانِهِ لَا حَقَّ لَك قِبَلِي , أَوْ لَا أَعْلَمُ صِحَّةَ مَا تَدَّعِيهِ , فَتَكُونُ صُورَتُهُ صُورَةَ الْخَصْمِ الْمَطْلُوبِ . وَكَذَلِكَ الْمُبْتَدِئُ أَوَّلًا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ صُورَتُهُ صُورَةُ الدَّعْوَى وَالطَّلَبِ , وَلَيْسَ هُوَ مُدَّعِيًا عَلَى ذَلِكَ الْآخَرِ بِشَيْءٍ , ثُمَّ قَوْلُهُمْ جَازَ اسْتِمَاعُ الدَّعْوَى مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ أَقْبَحِ الْقَوْلِ فِي دِينِ اللَّهِ , أَتَرَى اللَّهَ أَجَازَ أَنْ أَسْتَمِعَ دَعْوَى وَأَجْعَلَهَا دَعْوَى صَحِيحَةً شَرْعِيَّةً قَدْ عَلِمْت بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ قَائِلَهَا لَا يَدَّعِي شَيْئًا وَلَا يَطْلُبُ مِنْ ذَلِكَ الْخَصْمِ , وَإِنَّمَا أَتَى أَمْرُهُ بِصُورَةِ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ , وَأُعَيِّنَ لَهُ مَنْ يَدَّعِي عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ الْوُكَلَاءِ فِي الْخُصُومَاتِ وَالدَّعَاوَى , وَلَوْ سُلِكَتْ الطَّرِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ لَاسْتُغْنِيَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ , فَإِنَّهُ مَا مِنْ بَابٍ يَحْتَاجُ

النَّاسُ إلَيْهِ , إلَّا وَقَدْ فَتَحَهُ الشَّارِعُ لَهُمْ . وَمِنْ أَقْبَحِ الْأَشْيَاءِ احْتِجَاجُ بَعْضِ أَهْلِ الشُّرَطِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ , بِقَوْلِ أَحَدِ الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ : { إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } - الْآيَةَ وَتِلْكَ لَيْسَتْ خُصُومَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ثُبُوتٌ , أَوْ حُكْمٌ فِي دَمٍ , أَوْ مَالٍ , وَإِنَّمَا هِيَ مِثْلُ ضَرْبٍ لِتَفْهِيمِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ , وَلِلْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ الْخُصُومَاتِ الْمَضْرُوبَةِ أَمْثَالًا مَا شَاءَ . أَمَّا تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا وَذِكْرُ أَنَّ أَصْحَابَهَا خَصْمٌ مُحَقَّقٌ أَجَازَ الشَّارِعُ اسْتِمَاعَ الدَّعْوَى مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ , فَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ الَّذِي لَا يَحِلُّ قَوْلُهُ . وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْكَذِبَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمَ .

وَمِنْ الْحِيَلِ الْجَدِيدَةِ الَّتِي لَا أَعْلَمُ بَيْنَ فُقَهَاءِ الطَّوَائِفِ خِلَافًا فِي تَحْرِيمِهَا أَنْ يُرِيدَ الرَّجُلُ أَنْ يَقِفَ شَيْئًا عَلَى نَفْسِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى جِهَاتٍ مُتَّصِلَةٍ , فَيَقُولُونَ لِلرَّجُلِ : أَقِرَّ أَنَّ هَذَا الْمَكَانَ الَّذِي بِيَدِك وَقْفٌ عَلَيْك مِنْ غَيْرِك , وَيُعَلِّمُونَهُ الشُّرُوطَ الَّتِي يُرِيدُ إنْشَاءَهَا فَيَجْعَلُونَهَا إقْرَارًا . فَيُعَلِّمُونَهُ الْكَذِبَ فِي الْإِقْرَارِ , وَيَشْهَدُونَ عَلَيْهِ بِهِ , وَيَحْكُمُونَ بِصِحَّتِهِ , وَلَا يَسْتَرِيبُ مُسْلِمٌ فِي أَنَّ هَذَا حَرَامٌ , فَإِنَّ الْإِقْرَارَ شَهَادَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ , فَكَيْفَ يُلَقَّنُ شَهَادَةَ زُورٍ , ثُمَّ إنْ كَانَ وَقْفُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بَاطِلًا فِي دِينِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ , فَقَدْ عَلَّمْنَاهُ حَقِيقَةَ الْبَاطِلِ ; لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ وَقْفًا قَبْلَ الْإِقْرَارِ , وَلَا صَارَ وَقْفًا بِالْإِقْرَارِ بِالْكَذِبِ , فَيَصِيرُ الْمَالُ حَرَامًا عَلَى مَنْ يَتَنَاوَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , وَإِنْ كَانَ وَقْفُهُ صَحِيحًا , فَقَدْ أَغْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ تَكَلُّفِ الْكَذِبِ بَلْ لَوْ وَقَفَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَكَانَ لِصِحَّتِهِ مَسَاغٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ , وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِوَقْفِهِ مِنْ غَيْرِ إنْشَاءٍ مُتَقَدِّمٍ , فَلَا يَجْعَلُهُ وَقْفًا بِالِاتِّفَاقِ , إذْ جَعَلَ الْإِقْرَارَ إقْرَارًا حَقِيقِيًّا . وَلَهُمْ حِيلَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يُرِيدُ الْوَقْفَ يُمَلِّكُهُ لِبَعْضِ ثِقَاتِهِ , ثُمَّ يَقِفُهُ ذَلِكَ الْمُمَلَّكُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ اقْتِرَاحِهِ , وَهَذَا لَا شَكَّ فِي قُبْحِهِ وَبُطْلَانِهِ , فَإِنَّ حَدَّ التَّمْلِيكِ :

أَنْ يَرْضَى الْمُمَلِّكُ بِنَقْلِ الْمِلْكِ إلَى الْمُمَلَّكِ بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِمَا يُحِبُّ مِمَّا يَجُوزُ , وَهُنَا قَدْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَخَلْقُهُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ الْمُمَلَّكُ إلَّا بِالْوَقْفِ عَلَيْهِ خَاصَّةً عَلَى شُرُوطِهِ , بَلْ قَدْ مَلَّكَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَتَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِهِ وَقْفًا , وَهَذَا تَمْلِيكٌ فَاسِدٌ . بَلْ لَيْسَ هُوَ هِبَةً وَتَمْلِيكًا أَصْلًا , فَإِنَّ أَقَلَّ دَرَجَاتِ الْهِبَةِ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمَوْهُوبِ وَلَوْ إلَى حِينٍ , وَهُنَا لَمْ يُبِحْ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ قَطُّ وَلَوْ تَصَرَّفَ مِنْهُ بِشَيْءٍ لَعَدَّهُ غَادِرًا مَاكِرًا , وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى الْمَشْرُوطِ فِيهَا الْعَوْدُ إلَى الْمُعْمِرِ , فَإِنَّ هُنَاكَ مَلَّكَهُ فِي الْجُمْلَةِ وَشَرَطَ الْعَوْدَ , وَهُنَا لَمْ يُمَلِّكْهُ شَيْئًا قَطُّ , وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ غَيْرَ قَاصِدٍ مَعْنَاهُ , وَالْمَوْهُوبُ لَهُ يُصَدِّقُهُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا حَقِيقَةَ الْمِلْكِ , بَلْ هُوَ اسْتِهْزَاءٌ بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَلَاعُبٌ بِحُدُودِهِ . وَقَدْ كَانَ لَهُمْ طَرِيقَانِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا الْخِدَاعِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقِفَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَيَسْتَثْنِيَ الْمَنْفَعَةَ لِنَفْسِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ مَنْفَعَةِ الْمَمْلُوكِ مَعَ نَقْلِ الْمِلْكِ فِيهِ فَيُجَوِّزُونَ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ , أَوْ يَهَبَهُ أَوْ يُعْتِقَ الْعَبْدَ وَيَسْتَثْنِيَ بَعْضَ مَنْفَعَتِهِ . وَيُجَوِّزُونَ أَنْ يَقِفَ الشَّيْءَ

وَيَسْتَثْنِيَ مَنْفَعَتَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً , أَوْ إلَى حِينِ مَوْتِهِ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ بَعِيرِ جَابِرٍ . وَبِحَدِيثِ عِتْقِ أُمِّ سَلَمَةَ , سَفِينَةً . وَبِحَدِيثِ عِتْقِ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَبِآثَارٍ عَنْ السَّلَفِ فِي الْوَقْفِ مَعَ قُوَّةِ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْقِيَاسِ . وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ , وَلَكِنَّ أَخْذَ الْإِنْسَانِ بِمِثْلِ هَذَا مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا فِيهِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ وَخِدَاعٌ وَزُورٌ , فَإِنَّ الْأَوَّلَ قَدْ نُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ . وَأَمَّا هَذِهِ الْحِيَلُ فَأَمْرٌ مُحْدَثٌ أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى النَّهْيِ عَنْهَا وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا , وَإِعْظَامِ الْقَوْلِ بِهَا .

فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ الْحِيَلُ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ , فَإِذَا قَلَّدَ الْإِنْسَانُ مَنْ يُفْتِي بِهَا فَلَهُ ذَلِكَ , وَالْإِنْكَارُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ غَيْرُ سَائِغٍ , لَا سِيَّمَا عَلَى مَنْ كَانَ مُتَقَيِّدًا بِمَذْهَبِ مَنْ يُرَخِّصُ فِيهَا - , أَوْ قَدْ تَفَقَّهَ فِيهَا وَرَأَى الدَّلِيلَ يَقْتَضِي جَوَازَهَا , وَقَدْ شَاعَ الْعَمَلُ بِهَا عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ , وَالْقَوْلُ بِهَا مَعْزُوًّا إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا , وَمَا قَالَهُ مِثْلُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ لَا يَنْبَغِي الْإِنْكَارُ الْبَلِيغُ فِيهِ , لَا سِيَّمَا عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْمُجَوِّزِينَ لَهَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ . وَقَدْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ مُتَابَعَةُ مَذْهَبِهِمْ إمَّا عَلَى سَبِيلِ الْأَلْفِ وَالِاعْتِيَادِ , أَوْ عَلَى طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ , وَهَبْ هَذَا الِاعْتِقَادَ بَاطِلًا أَلَسْتُمْ تَعْرِفُونَ فَضْلَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَمَكَانَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالتَّقْوَى وَكَوْنَ بَعْضِهِمْ أَرْجَحَ مِنْ غَيْرِهِ , أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ ؟ فَإِذَا قَلَّدَ الْعَامِّيُّ , أَوْ الْمُتَفَقِّهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ إمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي أَعْيَانِ الْمُفْتِينَ , أَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِهِ إذَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَنَّ مَنْ يُقَلِّلُ فِيهِمَا هُوَ الْأَفْضَلُ , لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ هُوَ الْمَذْهَبَ الَّذِي الْتَزَمَهُ , فَلَا وَجْهَ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ لَا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ . وَهَذَا إنْ قِيلَ كَانَ فِيهِ طَعْنٌ عَلَى

الْأَئِمَّةِ لِمُخَالَفَةِ الْقَوَاطِعِ وَهَذَا قَدْحٌ فِي إمَامَتِهِمْ , وَحَاشَا اللَّهَ أَنْ يَقُولُوا مَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَ هَذَا . ثُمَّ قَدْ يَقْضِي ذَلِكَ إلَى الْمُقَابَلَةِ بِمِثْلِهِ , أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْهُ , لَا سِيَّمَا مِمَّنْ يَحْمِلُهُ هَوَى دِينِهِ , أَوْ دُنْيَاهُ عَلَى مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ , وَفِي ذَلِكَ خُرُوجٌ عَنْ الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ , وَرُكُوبٌ لِلتَّفَرُّقِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ , وَإِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ , وَحِينَئِذٍ فَتَصِيرُ مَسَائِلُ الْفِقْهِ مِنْ بَابِ الْأَهْوَاءِ وَهَذَا غَيْرُ سَائِغٍ . وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي الْمَسَائِلِ الْفَرْعِيَّةِ , مَعَ بَقَاءِ الْأُلْفَةِ وَالْعِصْمَةِ وَصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ . قُلْنَا : نَعُوذُ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ مِمَّا يَقْضِي إلَى الْوَقِيعَةِ فِي أَعْرَاضِ الْأَئِمَّةِ , أَوْ انْتِقَاصٍ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ , أَوْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِمَقَادِيرِهِمْ وَفَضْلِهِمْ , أَوْ مُحَادَّتِهِمْ وَتَرْكِ مَحَبَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ , وَنَرْجُو مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ يُحِبُّهُمْ وَيُوَالِيهِمْ وَيَعْرِفُ مِنْ حُقُوقِهِمْ وَفَضْلِهِمْ مَا لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ الْأَتْبَاعِ , وَأَنْ يَكُونَ نَصِيبُنَا مِنْ ذَلِكَ أَوْفَرَ نَصِيبٍ وَأَعْظَمَ حَظٍّ . وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . لَكِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ إنَّمَا يَتِمُّ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَعْرِفَةُ فَضْلِ الْأَئِمَّةِ وَحُقُوقِهِمْ وَمَقَادِيرِهِمْ , وَتَرْكُ كُلِّ مَا يَجُرُّ إلَى ثَلْمِهِمْ . وَالثَّانِي : النَّصِيحَةُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ , وَإِبَانَةُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ

سُبْحَانَهُ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى . وَلَا مُنَافَاةَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ الْقِسْمَيْنِ لِمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ , وَإِنَّمَا يَضِيقُ عَنْ ذَلِكَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ : رَجُلٌ جَاهِلٌ بِمَقَادِيرِهِمْ وَمَعَاذِيرِهِمْ , أَوْ رَجُلٌ جَاهِلٌ بِالشَّرِيعَةِ وَأُصُولِ الْأَحْكَامِ . وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَتَلَخَّصُ بِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الرَّجُلَ الْجَلِيلَ الَّذِي لَهُ فِي الْإِسْلَامِ قَدَمٌ صَالِحٌ وَآثَارٌ حَسَنَةٌ , وَهُوَ مِنْ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ بِمَكَانَةٍ عُلْيَا قَدْ تَكُونُ مِنْهُ الْهَفْوَةُ وَالزَّلَّةُ هُوَ فِيهَا مَعْذُورٌ , بَلْ مَأْجُورٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّبَعَ فِيهَا مَعَ بَقَاءِ مَكَانَتِهِ وَمَنْزِلَتِهِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ , وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمُنَاظَرَةِ الْإِمَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ : كُنَّا بِالْكُوفَةِ فَنَاظَرُونِي فِي ذَلِكَ يَعْنِي النَّبِيذَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ , فَقُلْت لَهُمْ : تَعَالَوْا فَلْيَحْتَجَّ الْمُحْتَجُّ مِنْكُمْ عَنْ مَنْ يَشَاءُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّخْصَةِ , فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ الرَّدَّ عَلَيْهِ عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِشِدَّةٍ صَحَّتْ عَنْهُ , فَاحْتَجُّوا فَمَا جَاءُوا عَنْ أَحَدٍ بِرُخْصَةٍ إلَّا جِئْنَاهُمْ بِشِدَّةٍ , فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ فِي يَدِ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَلَيْسَ احْتِجَاجُهُمْ عَنْهُ فِي شِدَّةِ النَّبِيذِ بِشَيْءٍ يَصِحُّ عَنْهُ إنَّمَا يَصِحُّ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَنْبِذْ لَهُ فِي الْجَرِّ إلَّا حَذِرًا , قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : فَقُلْت لِلْمُحْتَجِّ عَنْهُ فِي الرُّخْصَةِ : يَا أَحْمَقُ عُدَّ إنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَوْ كَانَ هَاهُنَا جَالِسًا فَقَالَ هُوَ لَك

حَلَالٌ وَمَا وَصَفْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي الشِّدَّةِ كَانَ يَنْبَغِي لَك أَنْ تَحْذَرَ , أَوْ تَجُرَّ , أَوْ تَخْشَى , فَقَالَ قَائِلُهُمْ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَسَمَّى عِدَّةً مَعَهُمَا كَانُوا يَشْرَبُونَ الْحَرَامَ فَقُلْت لَهُمْ : عُدُّوا عِنْدَ الِاحْتِجَاجِ تَسْمِيَةَ الرِّجَالِ قُرْبَ رَجُلٍ فِي الْإِسْلَامِ مَنَاقِبُهُ كَذَا وَكَذَا وَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُ زَلَّةٌ أَفَلِلْأَحَدِ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَا فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَمَا قَوْلُكُمْ فِي عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ , وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , وَعِكْرِمَةَ قَالُوا : كَانُوا خِيَارًا , قُلْت : فَمَا قَوْلُكُمْ فِي الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ فَقَالُوا : حَرَامٌ , فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : إنَّ هَؤُلَاءِ رَأَوْهُ حَلَالًا فَمَاتُوا وَهُمْ يَأْكُلُونَ الْحَرَامَ . ؟ , فَبَقُوا وَانْقَطَعَتْ حُجَّتُهُمْ , قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ : رَآنِي أَبِي وَأَنَا أَنْشُدُ الشِّعْرَ فَقَالَ لَا يَا بُنَيَّ لَا تُنْشِدْ الشِّعْرَ فَقُلْت لَهُ يَا أَبَتِ كَانَ الْحَسَنُ يُنْشِدُ وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يُنْشِدُ فَقَالَ لِي : أَيْ بُنَيَّ إنْ أَخَذْت بِشَرِّ مَا فِي الْحَسَنِ وَبِشَرِّ مَا فِي ابْنِ سِيرِينَ اجْتَمَعَ فِيك الشَّرُّ كُلُّهُ , وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ , فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَّةِ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَّا لَهُمْ أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ خَفِيَ عَلَيْهِمْ فِيهَا السُّنَّةُ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَا يُحْصَى مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا

يَغُضُّ مِنْ أَقْدَارِهِمْ وَلَا يُسَوِّغُ اتِّبَاعَهُمْ فِيهَا , كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } . قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمْ : لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إلَّا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ إنْ أَخَذْت بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيك الشَّرُّ كُلُّهُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا إجْمَاعٌ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا يَنْبَغِي تَأَمُّلُهُ فَرَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , وَابْنُ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ جَدِّهِ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنِّي لَأَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي مِنْ أَعْمَالٍ ثَلَاثَةٍ قَالُوا : وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ , وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ } . وَقَالَ زِيَادُ بْنُ حُدَيْرٍ : قَالَ عُمَرُ : ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ زَلَّةُ الْعَالِمِ وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ . وَقَالَ الْحَسَنُ : قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : إنَّ مِمَّا أَخْشَى عَلَيْكُمْ زَلَّةَ الْعَالِمِ وَجِدَالَ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ , وَالْقُرْآنُ حَقٌّ وَعَلَى الْقُرْآنِ مَنَارٌ كَأَعْلَامِ الطَّرِيقِ , وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ كُلَّ يَوْمٍ - قَلَّ مَا يُخْطِيهِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ - اللَّهُ حَكَمٌ قِسْطٌ هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ , إنَّ وَرَاءَكُمْ

فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ حَتَّى يَقْرَأَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ الْأَسْوَدُ وَالْأَحْمَرُ فَيُوشِكُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَقُولَ قَدْ قَرَأْت الْقُرْآنَ فَمَا أَظُنُّ أَنْ يَتَّبِعُونِي حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ , قَالَ : فَإِيَّاكُمْ وَمَا اُبْتُدِعَ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ , وَإِيَّاكُمْ وَزَيْغَةَ الْحَكِيمِ , فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ بِكَلِمَةِ الضَّلَالَةِ , وَإِنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ فَتَلَقَّوْا الْحَقَّ عَمَّنْ قَدْ جَاءَ بِهِ فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا , قَالُوا : وَكَيْفَ زَيْغَةُ الْحَكِيمِ ؟ قَالَ : هِيَ كَلِمَةٌ تُرَوِّعُكُمْ وَتُنْكِرُونَهَا وَتَقُولُونَ مَا هَذِهِ فَاحْذَرُوا زَيْغَتَهُ وَلَا يَصُدَّنَّكُمْ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَفِيءَ وَأَنْ يُرَاجِعَ الْحَقَّ , وَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ مَكَانُهُمَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَنْ ابْتَغَاهُمَا وَجَدَهُمَا وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ : كَيْفَ أَنْتُمْ عِنْدَ ثَلَاثَةٍ زَلَّةِ الْعَالِمِ وَجِدَالِ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ وَدُنْيَا تُقَطِّعُ أَعْنَاقَكُمْ , فَأَمَّا زَلَّةُ الْعَالِمِ فَإِنْ اهْتَدَى فَلَا تُقَلِّدُوهُ دِينَكُمْ تَقُولُ : نَصْنَعُ مِثْلَ مَا يَصْنَعُ فُلَانٌ وَنَنْهَى عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ فُلَانٌ إنْ أَخْطَأَ فَلَا تَقْطَعُوا إيَاسَكُمْ مِنْهُ فَتُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ . وَأَمَّا مُجَادَلَةُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ لِلْقُرْآنِ مَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَخُذُوهُ وَمَا لَمْ تَعْرِفُوهُ فَكِلُوهُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ . وَأَمَّا دُنْيَا تُقَطِّعُ أَعْنَاقَكُمْ فَانْظُرُوا إلَى مَنْ

هُوَ دُونَكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ , وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : وَيْلٌ لِلْأَتْبَاعِ مِنْ عَثَرَاتِ الْعَالِمِ قِيلَ كَيْفَ ذَاكَ ؟ قَالَ يَقُولُ الْعَالِمُ شَيْئًا بِرَأْيِهِ ثُمَّ يَجِدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتْرُكُ قَوْلَهُ ذَلِكَ , ثُمَّ يَمْضِي الْأَتْبَاعُ . وَهَذِهِ آثَارٌ مَشْهُورَةٌ رَوَاهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ فَإِذَا كُنَّا قَدْ حُذِّرْنَا مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ وَقِيلَ لَنَا : إنَّهَا أَخْوَفُ مَا يُخَافُ عَلَيْنَا وَأُمِرْنَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يُرْجَعَ عَنْهُ فَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ إذَا بَلَغَتْهُ مَقَالَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنْ لَا يَحْكِيَهَا لِمَنْ يَتَقَلَّدُ بِهَا بَلْ يَسْكُتَ عَنْ ذِكْرِهَا إلَى أَنْ يَتَيَقَّنَ صِحَّتَهَا وَإِلَّا تَوَقَّفَ فِي قَبُولِهَا فَمَا أَكْثَرَ مَا يُحْكَى عَنْ الْأَئِمَّةِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ يُخَرِّجُهَا بَعْضُ الْأَتْبَاعِ عَلَى قَاعِدَةٍ مَتْبُوعَةٍ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِمَامَ لَوْ رَأَى أَنَّهَا تَقْضِي إلَى ذَلِكَ لَمَا الْتَزَمَهَا , وَالشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ , وَمَنْ عَلِمَ فِقْهَ الْأَئِمَّةِ وَوَرَعَهُمْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَوْ رَأَوْا هَذِهِ الْحِيَلَ وَمَا أَفَضْت إلَيْهِ مِنْ التَّلَاعُبِ بِالدِّينِ لَقَطَعُوا بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يَقْطَعُوا بِهِ أَوَّلًا . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الَّذِينَ أَفْتَوْا مِنْ الْعُلَمَاءِ بِبَعْضِ مَسَائِلِ الْحِيَلِ , أَوْ أُخِذَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ قَوَاعِدِهِمْ لَوْ بَلَغَهُمْ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ لَرَجَعُوا

عَنْ ذَلِكَ يَقِينًا , فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْإِنْصَافِ , فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَرْجِعُ عَنْ رَأْيِهِ بِدُونِ مَا فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ , وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ , وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ مُجْتَمِعِينَ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ " وَهَذَا قَوْلُ لِسَانِ حَالِ الْجَمَاعَةِ , وَمِنْ أُصُولِهِمْ أَنَّ أَقْوَالَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنْتَشِرَةَ لَا تُتْرَكُ إلَّا بِمِثْلِهَا , وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّحْلِيلِ وَالْعِينَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ مَا يَقْطَعُ مَعَهُ اللَّبِيبُ أَنْ لَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ فِي مُخَالَفَتِهَا وَلَمْ تَشْتَمِلْ كُتُبُ مَنْ خَالَفَهَا مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَيْهَا حَتَّى يُقَالَ : إنَّهُمْ تَأَوَّلُوهَا فَعُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْهُمْ .

الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ وَهُوَ أَنَّ الْحِيلَةَ إنَّمَا تَصْدُرُ مِنْ رَجُلٍ كَرِهَ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ , أَوْ تَرْكَ مَا نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهُ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } , وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } . وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْك نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ , طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ } . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَمَّ اللَّهُ فِيهَا مَنْ كَرِهَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْجِهَادِ وَجَعَلَهُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ . وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُرْبِينَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ , فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } . وَقَالَ : يَجِبُ أَنْ تَتَلَقَّى أَحْكَامَ اللَّهِ بِطِيبِ نَفْسٍ وَانْشِرَاحِ صَدْرٍ , وَأَنْ يَتَيَقَّنَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُ إلَّا بِمَا فِي فِعْلِهِ صَلَاحٌ , وَلَمْ يَنْهَهُ إلَّا عَمَّا فِي فِعْلِهِ فَسَادٌ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ الْعَبْدِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ , أَوْ مِنْ نَفْسِ

الْفِعْلِ , أَوْ مِنْهُمَا جَمِيعًا , وَأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْقُوتِ الَّذِينَ هُوَ قِوَامُ الْعَبْدِ وَالْمَنْهِيَّ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ السُّمُومِ الَّتِي هِيَ هَلَاكُ الْبَدَنِ وَسَقَمُهُ , وَمَنْ يَتَيَقَّنُ هَذَا لَمْ يَطْلُبْ أَنْ يَحْتَالَ عَلَى سُقُوطِ وَاجِبٍ فِي فِعْلِهِ صَلَاحٌ لَهُ وَلَا عَلَى فِعْلِ مُحَرَّمٍ فِي تَرْكِهِ صَلَاحٌ لَهُ أَيْضًا , وَإِمَّا تَنْشَأُ الْحِيَلُ مِنْ ضَعْفِ الْإِيمَانِ , فَلِهَذَا كَانَتْ مِنْ النِّفَاقِ وَصَارَتْ نِفَاقًا فِي الشَّرَائِعِ كَمَا أَنَّ النِّفَاقَ الْأَكْبَرَ نِفَاقٌ فِي الدِّينِ , وَإِذَا كَانَتْ الْحِيلَةُ مُسْتَلْزِمَةً لِكَرَاهَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ , بَلْ نِفَاقٌ فَحُكْمُ الْمُسْتَلْزِمِ كَذَلِكَ فَتَكُونُ الْحِيَلُ مُحَرَّمَةً بَلْ نِفَاقًا , وَلَوْ فُرِضَ أَنْ يَنْشَأَ مِنْ الْحِيَلِ تَجَرُّدٌ فِي بَعْضِ حَقِّ الْأَشْخَاصِ عَنْ هَذَا الْإِلْزَامِ لَكَانَ ذَلِكَ صُوَرًا قَلِيلَةً , فَيَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْغَالِبِ , ثُمَّ أَقَلُّ مَا فِيهَا أَنَّهَا مَظِنَّةٌ لِذَلِكَ وَالْحِكْمَةُ إذَا كَانَتْ خَفِيَّةً , أَوْ مُنْتَشِرَةً عُلِّقَ الْحُكْمُ بِمَظِنَّتِهَا وَكَرَاهَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ تَخْفَى عَنْ صَاحِبِهَا وَلَا تَنْضَبِطُ الْحِيلَةُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ ذَلِكَ مِنْ الَّتِي لَا تَتَضَمَّنُهُ فَيُعَلَّقُ الْحُكْمَ بِمَظِنَّةِ ذَلِكَ وَهُوَ الْحِيلَةُ مُطْلَقًا - , وَإِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا الْوَجْهُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ بِذِكْرِ أَقْسَامِ الْحِيلَةِ وَهُوَ .

الْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقْصِدَ بِالْحِيلَةِ أَخْذَ حَقٍّ , أَوْ دَفْعَ بَاطِلٍ لَكِنْ يَكُونُ الطَّرِيقُ فِي نَفْسِهِ مُحَرَّمًا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ مَجْحُودٌ فَيُقِيمَ شَاهِدَيْنِ لَا يَعْلَمَانِهِ فَيَشْهَدَانِ بِهِ فَهَذَا مُحَرَّمٌ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ , لِأَنَّ ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ شَهِدَا بِالزُّورِ حَيْثُ شَهِدَا بِمَا لَا يَعْلَمَانِهِ وَهُوَ حَمَلَهُمَا عَلَى ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ دَيْنٌ وَلَهُ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ فَجَحَدَ الْوَدِيعَةَ وَحَلَفَ مَا أَوْدَعَنِي شَيْئًا , أَوْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ لَا بَيِّنَةَ بِهِ وَدَيْنٌ آخَرُ بِهِ بَيِّنَةٌ لَكِنْ قَدْ أَقْضَاهُ فَيَدَّعِي هَذَا الدَّيْنَ وَيُقِيمُ بِهِ الْبَيِّنَةَ وَيُنْكِرُ الِاقْتِضَاءَ وَيَتَأَوَّلُ : إنِّي إنَّمَا أَسْتَوْفِي ذَلِكَ الدَّيْنَ الْأَوَّلَ . فَهَذَا حَرَامٌ كُلُّهُ , لِأَنَّهَا إنَّمَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِكَذِبٍ مِنْهُ , أَوْ مِنْ غَيْرِهِ لَا سِيَّمَا إنْ حَلَفَ . وَالْكَذِبُ حَرَامٌ كُلُّهُ . وَهَذَا قَدْ يَدْخُلُ فِيهِ بَعْضُ مَنْ يُفْتِي بِالْحِيلَةِ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ مِنْهُمْ لَا يُحِلُّونَهُ .

الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ حِيلَةً أَوْ يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّاسِ حِيلَةً , أَوْ يُسَمُّونَهُ آلَةً - مِثْلُ الْحِيلَةِ الْمُحَرَّمَةِ - حَرَامًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي تَنْزِيلِهِ : { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا } فَلَوْ احْتَالَ الْمُؤْمِنُ الْمُسْتَضْعَفُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ بَيْنِ الْكُفَّارِ لَكَانَ مَحْمُودًا فِي ذَلِكَ وَلَوْ احْتَالَ مُسْلِمٌ عَلَى هَزِيمَةِ الْكَافِرِ , كَمَا فَعَلَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ , أَوْ عَلَى أَخْذِ مَالِهِ مِنْهُمْ , كَمَا فَعَلَ الْحَجَّاجُ بْنُ علاطة وَعَلَى قَتْلِ عَدُوٍّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ كَمَا فَعَلَ النَّفَرُ الَّذِينَ احْتَالُوا عَلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ الْيَهُودِيِّ وَعَلَى قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَكَانَ مَحْمُودًا أَيْضًا , فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْحَرْبُ خَدْعَةٌ } . وَكَانَ إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا وَلِلنَّاسِ فِي التَّلَطُّفِ وَحُسْنِ التَّحَيُّلِ عَلَى حُصُولِ مَا فِيهِ رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ , أَوْ دَفْعِ مَا يَكِيدُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ سَعْيٌ مَشْكُورٌ . وَالْحِيلَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّحَوُّلِ وَهُوَ النَّوْعُ مِنْ الْحَوْلِ كَالْجِلْسَةِ وَالْقِعْدَةِ مِنْ الْجُلُوسِ وَالْقُعُودِ وَالْأَكْلَةِ وَالشِّرْبَةِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمَعْنَاهَا نَوْعٌ مَخْصُوصٌ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالْعَمَلِ الَّذِي هُوَ التَّحَوُّلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ هَذَا مُقْتَضَاهُ فِي اللُّغَةِ , ثُمَّ غُلِّبَتْ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى مَا يَكُونُ

مِنْ الطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ إلَى حُصُولِ الْغَرَضِ وَبِحَيْثُ لَا يُتَفَطَّنُ لَهُ إلَّا بِنَوْعٍ مِنْ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ أَمْرًا حَسَنًا كَانَتْ حِيلَةً حَسَنَةً , وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا كَانَتْ قَبِيحَةً , وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ } . صَارَتْ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ إذَا أُطْلِقَتْ قُصِدَ بِهَا الْحِيَلُ الَّتِي يُسْتَحَلُّ بِهَا الْمَحَارِمُ كَحِيلِ الْيَهُودِ , وَكُلُّ حِيلَةٍ تَضَمَّنَتْ إسْقَاطَ حَقِّ اللَّهِ , أَوْ الْآدَمِيِّ , فَهِيَ تَنْدَرِجُ فِيمَا يُسْتَحَلُّ بِهَا الْمَحَارِمُ , فَإِنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ مِنْ الْمَحَارِمِ . أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى الْحَرْبَ خَدْعَةً ; , ثُمَّ إنَّ الْخِدَاعَ فِي الدِّينِ مُحَرَّمٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَقَالَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا , أَوْ يَقُولُ خَيْرًا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : " وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ يَعْنِي الْحَرْبَ وَالْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ , وَحَدِيثَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ , وَحَدِيثَ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا , وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ أَنَّهُ كَذِبٌ إلَّا فِي ثَلَاثٍ . وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ سَكَنٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ مَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى أَنْ تَتَابَعُوا فِي الْكَذِبِ كَمَا يَتَتَابَعُ الْفَرَاشُ كُلُّ الْكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ إلَّا ثَلَاثَ خِصَالٍ رَجُلٌ كَذَبَ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا وَرَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ امْرَأَيْنِ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا وَرَجُلٌ كَذَبَ فِي خَدْعَةِ حَرْبٍ } . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِنَحْوِهِ وَلَفْظُهُ : { لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ } وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ , وَيُرْوَى أَيْضًا , عَنْ ثَوْبَانَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا : { الْكَذِبُ كُلُّهُ إثْمٌ إلَّا مَا يُنْفَعُ بِهِ الْمُسْلِمُ أَوْ دُفِعَ بِهِ عَنْ دِينٍ } . فَلَمْ يُرَخِّصْ فِيمَا تُسَمِّيهِ النَّاسُ كَذِبًا , وَإِنْ كَانَ صِدْقًا فِي الْعِنَايَةِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ قَوْلَهُ لِسَارَةَ أُخْتِي . وَقَوْلَهُ : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وَقَوْلَهُ إنِّي سَقِيمٌ } وَالثَّلَاثُ مَعَارِيضُ وَمَلَاحَةٌ . فَإِنَّهُ قَصَدَ بِاللَّفْظِ مَا يُطَابِقُهُ فِي عِنَايَتِهِ لَكِنْ لَمَّا أَفْهَمَ الْمُخَاطَبَ مَا لَا يُطَابِقُهُ سُمِّيَ كَذِبًا , ثُمَّ هَذَا الضَّرْبُ قَدْ ضُيِّقَ فِيهِ كَمَا تَرَى . يُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْسِيرَ مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَكْذِبُ امْرَأَتِي ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ فَقَالَ الرَّجُلُ : أَعِدُهَا وَأَقُولُ لَهَا , فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا جُنَاحَ عَلَيْك } . وَسَيَجِيءُ كَلَامُ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي ذَلِكَ

وَبِالْجُمْلَةِ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُظْهِرَ قَوْلًا وَفِعْلًا مَقْصُودُهُ بِهِ مَقْصُودٌ صَالِحٌ , وَإِنْ ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ غَيْرَ مَا قَصَدَ بِهِ إذَا كَانَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ مِثْلُ دَفْعِ ظُلْمٍ عَنْ نَفْسِهِ , أَوْ عَنْ مُسْلِمٍ , أَوْ دَفْعِ الْكُفَّارِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ الِاحْتِيَالِ عَلَى إبْطَالِ حِيلَةٍ مُحَرَّمَةٍ , أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ حِيلَةٌ جَائِزَةٌ . وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ مِثْلُ أَنْ يَقْصِدَ بِالْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ وَنَحْوِهَا غَيْرَ مَا شُرِعَتْ الْعُقُودُ لَهُ , فَيَصِيرَ مُخَادِعًا لِلَّهِ , كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ خَادَعَ النَّاسَ وَمَقْصُودُهُ حُصُولُ الشَّيْءِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ لَوْلَا تِلْكَ الْحِيلَةُ وَسُقُوطُ الشَّيْءِ الَّذِي يُوجِبُهُ اللَّهُ تَعَالَى لَوْلَا تِلْكَ الْحِيلَةُ , كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ مَقْصُودُهُ إظْهَارُ دِينِ اللَّهِ وَدَفْعُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ , وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَتَأَوَّلَ الْحَالِفُ مِنْ يَمِينِهِ إذَا اسْتَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ , فَإِنَّ يَمِينَك عَلَى مَا يُصَدِّقُك بِهِ صَاحِبُك , وَالنِّيَّةُ لِلْمُسْتَحْلَفِ فِي مِثْلِ هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَنْفَعُهُ التَّأْوِيلُ وِفَاقًا , وَكَذَلِكَ لَوْ تَأَوَّلَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْأَكْثَرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ , بَلْ الِاحْتِيَالُ فِي الْعُقُودِ أَقْبَحُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُخَادَعَ فِيهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى , وَمَنْ خَادَعَ اللَّهَ فَإِنَّمَا خَدَعَ نَفْسَهُ وَمَا يَشْعُرُ , وَلِهَذَا لَا يُبَارَكُ لِأَحَدٍ فِي حِيلَةٍ اسْتَحَلَّ بِهَا شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَتَبَيَّنُ الْحَالُ بِذِكْرِ أَقْسَامِ الْحِيَلِ .

وَمِثَالُ الثَّانِي أَسْبَابُ حِلِّ الْعُقُوبَاتِ مِنْ الْقَتْلِ وَالْجَلْدِ وَالْقَطْعِ فَإِنَّ الدِّمَاءَ وَالْمُبَاشَرَةَ حَرَامٌ حَتَّى تُوجَدَ الْجِنَايَاتُ وَهِيَ مَقْصُودَةُ الْعَدَمِ , لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ عَدَمُهَا . وَمِنْ الثَّانِي تَحْرِيمُ الْخَبَائِثِ حَتَّى تُوجَدَ الضَّرُورَةُ وَتَحْرِيمُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ اقْتِطَاعًا مِنْ حِلِّ الْأَكْلِ وَالْوَطْءِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي هَذِهِ أُمُورٌ تَقْتَضِي عَدَمَهَا إلَّا إذَا عَارَضَهَا مَا هُوَ أَقْوَى فِي اقْتِضَاءِ الْوُجُودِ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَا يَقْصِدُ حِلَّ الْعُقُوبَاتِ وَحِلَّ الْمَيْتَةِ وَوَطْءِ الْأَمَةِ بِالنِّكَاحِ حَتَّى لَوْ قَالَ الْقَائِلُ : أَنَا أُقِيمُ بِمَكَانٍ لَا طَعَامَ فِيهِ لِتُبَاحَ لِي الْمَيْتَةُ , أَوْ أُخْرِجُ مَالِي وَأَتَنَاوَلُ مَا يُثِيرُ شَهْوَتِي لِيَحِلَّ لِي نِكَاحُ الْإِمَاءِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ لَهُ ذَلِكَ وَكَانَ عَاصِيًا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَوْ قَالَ : أَنَا أَتَزَوَّجُ لِيَحِلَّ لِي الْوَطْءُ , أَوْ أَذْبَحُ الشَّاةَ لِيَحِلَّ لِي اللَّحْمُ لَكَانَ قَدْ فَعَلَ مُبَاحًا , وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْقِسْمَيْنِ حَرَامًا إلَّا عِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ السَّبَبِ .

وَمِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي أَنْ يَقُولَ : أُسَافِرُ لِأَقْصُرَ وَأُفْطِرَ , أَوْ أَعْدَمُ الْمَاءَ لِأَتَيَمَّمَ . وَمِنْ الْأَوَّلِ أَنْ يَقُولَ : أُرِيدُ الْإِسْرَاعَ بِالْعُمْرَةِ لِأَتَحَلَّلَ مِنْهَا لِتَحِلَّ لِي مَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ , لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ التَّحَلُّلَ وَسِيلَةً إلَى فِعْلِهِ صَارَ مَقْصُودُهُ الْوُجُودَ إذَا أَرَادَهُ . وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ لَيْسَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُبِيحَ لَيْسَ هُوَ مَنْصُوبًا لِحُصُولِ هَذَا الْحِلِّ أَعْنِي حِلَّهَا لِلْأَوَّلِ بَلْ لِحُصُولِ مَا يُنَافِيهِ بَلْ فِي نِكَاحِ الْأَوَّلِ لَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مَفْسَدَةٌ اقْتَضَتْ الْحُرْمَةَ فَإِذَا نَكَحَهَا زَوْجٌ ثَانٍ زَالَتْ الْمَفْسَدَةُ فَيَعُودُ الْحِلُّ وَالشَّارِعُ لَمْ يَشْرَعْ نِكَاحَ الثَّانِي لِأَجْلِ أَنْ تَزُولَ الْمَفْسَدَةُ فَلَا يَكُونُ قَاصِدًا لِزَوَالِهَا فَلَا يَكُونُ حِلُّهَا لِلْأَوَّلِ مَقْصُودًا لِلشَّارِعِ إذَا أَرَادَهُ الْمُطَلِّقُ وَلَا إذَا لَمْ يُرِدْهُ لَكِنَّ نِكَاحَ الثَّانِي يَقْتَضِي زَوَالَ الْمَفْسَدَةِ . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا : فَإِذَا نَكَحَهَا لِيُحِلَّهَا لَمْ يَقْصِدْ النِّكَاحَ وَإِنَّمَا قَصَدَ أَثَرَ زَوَالِ النِّكَاحِ فَيَكُونُ هَذَا مَقْصُودَهُ وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَمْ يَقْصِدْهُ الشَّارِعُ ابْتِدَاءً إنَّمَا أَثْبَتَهُ عِنْدَ زَوَالِ النِّكَاحِ الثَّانِي كَمَا تَقَرَّرَ فَلَا يَكُونُ النِّكَاحُ مَقْصُودًا لَهُ بَلْ الْحِلُّ لِلْمُطَلِّقِ هُوَ مَقْصُودُهُ وَلَيْسَ هَذَا الْحِلُّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ بَلْ هُوَ تَابِعٌ لِلنِّكَاحِ الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ بِطَلَاقٍ فَلَا تَتَّفِقُ إرَادَةُ الشَّارِعِ وَالْمُحَلِّلِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ . أَوْ نِكَاحُهُ إنَّمَا أَرَادَهُ

لِأَجْلِ الْحِلِّ لِلْمُطَلِّقِ وَالشَّارِعُ إنَّمَا أَرَادَ ثُبُوتَ الْحِلِّ مِنْ أَجْلِ النِّكَاحِ الْمُتَعَقَّبِ بِالطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُرَادًا لَهُمَا فَيَكُونُ عَبَثًا مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ وَالْعَاقِدِ , لِأَنَّ الْإِرَادَةَ الَّتِي لَا تُطَابِقُ مَقْصُودَ الشَّارِعِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ .
وَهَكَذَا الْخُلْعُ لِحِلِّ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْخُلْعَ إنَّمَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ مُوجِبًا لِلْبَيْنُونَةِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُ الْمَرْأَةِ مِنْ الِافْتِدَاءِ مِنْ زَوْجِهَا , وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مَقْصُودَهَا إذَا قَصَدَتْ أَنْ تُفَارِقَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ فَإِذَا حَصَلَ هَذَا , ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَقَعَ وَلَيْسَتْ هِيَ زَوْجَةً فَلَا يَحْنَثُ فَكَانَ هَذَا تَبَعًا لِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ الَّذِي هُوَ تَبَعٌ لِقَصْدِ الْبَيْنُونَةِ فَإِذَا خَالَعَ امْرَأَتَهُ لِيَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمَا الْبَيْنُونَةَ بَلْ حِلَّ الْيَمِينِ , وَحِلُّ الْيَمِينِ إنَّمَا جَاءَ تَبَعًا لِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ لَا مَقْصُودًا بِهِ فَتَصِيرُ الْبَيْنُونَةُ لِأَجْلِ حِلِّ الْيَمِينِ وَحِلُّ الْيَمِينِ لِأَجْلِ الْبَيْنُونَةِ فَلَا يَصِيرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَقْصُودًا فَلَا يُشْرَعُ عَقْدٌ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ وَلَا مَقْصُودًا لِمَا هُوَ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ مِنْ الشَّارِعِ وَالْعَاقِدِ جَمِيعًا , لِأَنَّهُ عَبَثٌ وَتَفَاصِيلُ هَذَا الْكَلَامِ فِيهَا طُولٌ لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ .

الْقِسْمُ الرَّابِعُ : أَنْ يَقْصِدَ حِلَّ مَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ وَقَدْ أَبَاحَهُ عَلَى سَبِيلِ الضِّمْنِ وَالتَّبَعِ إذَا وَجَدَ بَعْضَ الْأَسْبَابِ أَوْ سُقُوطَ مَا أَوْجَبَهُ وَقَدْ أَسْقَطَهُ عَلَى سَبِيلِ الضِّمْنِ وَالتَّبَعِ إذَا وَجَدَ بَعْضَ الْأَسْبَابِ فَيُرِيدُ الْمُحْتَالُ أَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ السَّبَبَ قَاصِدًا بِهِ ذَلِكَ الْحِيلَةَ وَالسُّقُوطَ - وَهَذَا حَرَامٌ مِنْ وَجْهَيْنِ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَقْصُودَهُ حِلُّ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الشَّارِعُ بِقَصْدِ اسْتِحْلَالِهِ , أَوْ سُقُوطُ مَا لَمْ يَأْذَنْ الشَّارِعُ بِقَصْدِ إسْقَاطِهِ . وَالثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ الِاسْتِحْلَالَ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ مَقْصُودًا يُجَامِعُ حَقِيقَتَهُ بَلْ قَصَدَ بِهِ مَقْصُودًا يُنَافِي حَقِيقَتَهُ وَمَقْصُودَهُ الْأَصْلِيَّ , أَوْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ مَقْصُودَهُ الْأَصْلِيَّ بَلْ قَصَدَ بِهِ غَيْرَهُ . فَلَا يَحِلُّ بِحَالٍ . وَلَا يَصِحُّ إنْ كَانَ مِمَّنْ يُمْكِنُ إبْطَالُهُ . وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي كَثُرَ فِيهِ تَصَرُّفُ الْمُحْتَالِينَ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْفَتْوَى وَهُوَ أَكْثَرُ مَا قَصَدْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فَإِنَّهُ قَدْ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ عَلَى الْمُحْتَالِينَ فَقَالُوا : الرَّجُلُ إذَا قَصَدَ التَّحْلِيلَ مَثَلًا لَمْ يَقْصِدْ مُحَرَّمًا فَإِنَّ عَوْدَةَ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا بَعْدَ زَوَاجٍ حَلَالٍ . وَالنِّكَاحُ الَّذِي يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى ذَلِكَ حَلَالٌ بِخِلَافِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ - وَهَذَا جَهْلٌ فَإِنَّ عَوْدَةَ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا إمَّا هُوَ حَلَالٌ إذَا وُجِدَ النِّكَاحُ الَّذِي هُوَ النِّكَاحُ , وَالنِّكَاحُ إنَّمَا هُوَ مُبَاحٌ إذَا قَصَدَ بِهِ مَا يُقْصَدُ بِالنِّكَاحِ

, لِأَنَّ حَقِيقَةَ النِّكَاحِ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا قَصَدَ مَا هُوَ مَقْصُودُهُ , أَوْ قَصَدَ نَفْسَ وُجُودِهِ أَوْ وُجُودِ بَعْضِ لَوَازِمِهِ وَتَوَابِعِهِ وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مَقْصُودُهُ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي الْعُرْفِ الطَّلَاقَ الْمُوجِبَ لِتَحْلِيلِ الْمُحَرَّمَةِ . فَإِنَّ الطَّلَاقَ رَفْعُ النِّكَاحِ , وَإِزَالَتُهُ وَقَصْدُ إيجَادِ الشَّيْءِ لِإِعْدَامِهِ لِغَيْرِ غَرَضٍ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ وُجُودِهِ مُحَالٌ فَالْحِلُّ يَتْبَعُ الطَّلَاقَ , وَالطَّلَاقُ يَتْبَعُ النِّكَاحَ وَالنِّكَاحُ يَتْبَعُ حَقِيقَتَهُ الَّتِي شُرِعَ النِّكَاحُ وَجُعِلَ مِنْ أَجْلِهَا , فَإِذَا وَقَعَ الْأَمْرُ هَكَذَا حَصَلَ الْحِلُّ , أَمَّا إذَا قَصَدَ بِالنِّكَاحِ التَّحْلِيلَ صَارَ النِّكَاحُ تَابِعًا لَهُ وَالشَّارِعُ قَدْ جَعَلَ الْحِلَّ الْمُطْلَقَ تَابِعًا لِلطَّلَاقِ الثَّانِي بَعْدَ النِّكَاحِ فَيَصِيرُ كُلٌّ مِنْهُمَا فَرْعًا لِلْآخَرِ وَتَبَعًا لَهُ فَيَصِيرُ الثَّانِي فَرْعَ نَفْسِهِ وَأَصْلَ أَصْلِهِ بِمَنْزِلَةِ تَعْلِيلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ وَهَذَا مُحَالٌ , لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إذَا كَانَ إنَّمَا يَحْصُلُ تَبَعًا لِلْآخَرِ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا , وَإِذَا كَانَ إنَّمَا يُقْصَدُ لِأَجْلِ الْآخَرِ وَجَبَ أَنْ لَا يُقْصَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا , وَإِذَا لَمْ يُقْصَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَانَ وُجُودُ مَا وُجِدَ مِنْهُمَا عَبَثًا وَالشَّارِعُ لَا يَشْرَعُ الْعَبَثَ , ثُمَّ فِيهِ إرَادَةُ وُجُودِ الشَّيْءِ وَعَدَمِهِ , وَذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ فَلَا يُرَادُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَيَصِيرُ الْعَقْدُ أَيْضًا عَبَثًا وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحْتَالِينَ أَنْ تَصِيرَ الْعُقُودُ الشَّرْعِيَّةُ عَبَثًا وَهَذَا مِنْ

أَسْرَارِ قَاعِدَةِ الْحِيَلِ فَلْيُتَفَطَّنْ لَهُ . فَإِنْ قِيلَ : الْمَقَاصِدُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ هِيَ عِلَلُهَا الَّتِي هِيَ غَايَاتُهَا وَنِهَايَاتُهَا وَهَذِهِ الْعِلَلُ الَّتِي هِيَ الْغَايَاتُ هِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْقَصْدِ مُتَأَخِّرَةٌ فِي الْوُجُودِ وَالْحُصُولِ , وَلِهَذَا يُقَالُ : أَوَّلُ الْفِكْرَةِ آخِرُ الْعَمَلِ وَأَوَّلُ الْبُغْيَةِ آخِرُ الدَّرَكِ وَالْعِلَلُ الَّتِي هِيَ الْغَايَاتُ وَالْعَوَاقِبُ , وَإِنْ كَانَ وُجُودُهَا بِفِعْلِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ وُجُودِهَا وَسَبَبُ كَوْنِهَا فَبِتَصَوُّرِهَا وَقَصْدِهَا صَارَ الْفَاعِلُ فَاعِلًا فَهِيَ الْمُحَقِّقَةُ لِكَوْنِ الْفَاعِلِ فَاعِلًا وَالْمُقَوِّمَةُ لِفِعْلِهِ وَهِيَ عِلَّةٌ لِلْفِعْلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْفِعْلُ عِلَّةٌ لَهَا مِنْ جِهَةِ الْوُجُودِ كَالنِّكَاحِ مَثَلًا فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِحِلِّ الْمُتْعَةِ , وَحِلُّ الْمُتْعَةِ عِلَّةٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ أَنْ يَقْصِدَهَا فَإِنَّمَا حَصَلَ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّكَاحِ , وَإِنَّمَا حَصَلَ النِّكَاحُ بِقَصْدِ النَّاكِحِ حِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ فَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ حَقِيقَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْقَصْدِ أَعْنِي أَنَّهُ بِحَيْثُ يَقْصِدُهُ الْمُسْلِمُ , وَالْقَصْدُ مُوجِبٌ لِلْفِعْلِ وَالْفِعْلُ مُوجِبٌ لِوُجُودِ الْحِلِّ فَصَارَتْ الْعَاقِبَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْلُومَةٌ مَقْصُودَةٌ عِلَّةً وَمِنْ حَيْثُ هِيَ مَوْجُودَةٌ مَعْلُولَةً , وَشَرِكَهَا فِي أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ مَعْلُولٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَفِي الْآخَرِ عِلَّةٌ فِي نَفْسِ الْوُجُودِ . وَمِثَالُ الْأَوَّلِ " لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ " الَّتِي تُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ . وَمِثَالُ الثَّانِي قَعَدَ عَنْ الْحَرْبِ جُبْنًا وَمَنَعَ الْمَالَ

بُخْلًا وَسَائِرُ الْعِلَلِ الْفَاعِلَةِ , فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ حِلُّ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا عِلَّةٌ لِلنِّكَاحِ وَمَعْلُولٌ لَهُ , وَهُوَ تَابِعٌ مِنْ وَجْهٍ وَمَتْبُوعٌ مِنْ آخَرَ فَكَذَلِكَ حِلُّ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا قَدْ يَكُونُ تَابِعًا وَمَتْبُوعًا مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَحِلُّهَا تَابِعٌ لِوُجُودِ الطَّلَاقِ بَعْدَ النِّكَاحِ , وَمَعْلُولٌ لَهُ وُجُودًا وَهُوَ مَتْبُوعٌ , وَعِلَّةٌ لَهُ قَصْدًا , وَإِرَادَةً قَدْ يَفْعَلُ الرَّجُلُ الشَّيْءَ لَا لِمَقَاصِدِهِ الْأَصْلِيَّةِ , بَلْ الْمَقَاصِدُ تَابِعَةٌ لَهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ حَسَنًا كَمَنْ يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ لِمُصَاهَرَةِ أَهْلِهَا كَفِعْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا خَطَبَ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَةَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَوْ لَأَنْ تَخْدُمَهُ فِي مَنْزِلِهِ , أَوْ لِتَقُومَ عَلَى بَنَاتٍ وَأَخَوَاتٍ لَهُ كَفِعْلِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لَمَّا عَدَلَ عَنْ نِكَاحِ الْبِكْرِ إلَى الثَّيِّبِ , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ التَّوَابِعُ مِنْ اللَّوَازِمِ الشَّرْعِيَّةِ بَلْ مِنْ اللَّوَازِمِ الْعُرْفِيَّةِ , ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ حَسَنًا كَانَ الْفِعْلُ حَسَنًا وَحُصُولُ الْفُرْقَةِ الْمُحَرَّمَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَدْ يَكُونُ فِيهَا فَسَادٌ لِحَالَيْهِمَا وَرُبَّمَا تَعَدَّى الْفَسَادُ إلَى أَوْلَادِهِمَا أَوْ أَقَارِبِهِمَا , فَإِنَّ الطَّلَاقَ هَلَاكُ الْمَرْأَةِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مِمَّنْ طَالَتْ صُحْبَتُهَا وَحُمِدَتْ عِشْرَتُهَا , وَقَوِيَتْ مَوَدَّتُهَا وَبَيْنَهُمَا أَطْفَالٌ يَضِيعُونَ بِالطَّلَاقِ , وَبِهَا مِنْ الْوَجْدِ وَالصَّبَابَةِ مِثْلُ مَا بِهِ , فَإِنَّ قَصْدَ تَرَاجُعِهِمَا وَالتَّسَبُّبَ فِي ذَلِكَ عَمَلٌ صَالِحٌ

, فَإِذَا قَصَدَهُ الْمُحَلِّلُ وَلَمْ يُشْعِرْهُمَا لَمْ يَقْصِدْ إلَّا خَيْرًا , وَرُبَّمَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ فَهَذِهِ شُبْهَةُ مَنْ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ . قُلْنَا : لَا نُنْكِرُ أَنَّ عَوَاقِبَ الْأَفْعَالِ تَكُونُ تَابِعَةً مَتْبُوعَةً مِنْ وَجْهَيْنِ , وَلَكِنَّ إدْخَالَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنَحْوِهِ تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ غَلَطٌ مُنْكَرٌ , فَإِنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ نَبَّهْنَا عَلَيْهِمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ إنَّمَا أُرِيدَ لِأَجْلِ الْآخَرِ لَا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُرَادٌ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُرَادًا فِي نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ الْآخَرُ مُرَادًا لِأَجْلِهِ فَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُرَادًا فَيَصِيرُ عَبَثًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ إرَادَةِ وُجُودِ الشَّيْءِ وَعَدَمِهِ , وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ ضِدَّيْنِ فَلَا يَكُونُ إرَادَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْجُودَةً فَيَصِيرُ الْفِعْلُ أَيْضًا عَبَثًا . بَيَانُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ : أَنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا , أَوْ أَمَرَ بِشَيْءٍ لِأَجْلِ شَيْءٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مَقْصُودًا لَهُ بِحَيْثُ يُرِيدُ وُجُودَهُ لِمَصْلَحَةٍ تَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهِ وَلَا يُرِيدُ عَدَمَهُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَوَّلُ طَرِيقًا إلَى حُصُولِهِ أَرَادَهُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حُصُولُهُ إلَّا بِتِلْكَ الطَّرِيقِ جَعَلَهَا مَقْصُودَةً لِأَجْلِهِ فَإِذَا كَانَ قَدْ أَعْدَمَ الشَّيْءَ وَأَزَالَهُ لَمْ يَجْعَلْ إلَى وُجُودِهِ طَرِيقًا مَحْضًا بِحَيْثُ تَكُونُ مُفْضِيَةً إلَيْهِ يُمْكِنُ الْقَاصِدَ لِوُجُودِهِ سُلُوكُهَا بَلْ عَلَّقَ وُجُودَهُ بِوُجُودِ أَمْرٍ آخَرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةٌ وَمَقْصُودُهُ

غَيْرُ وُجُودِ ذَلِكَ الْمُعَلَّقِ بِهِ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لِوُجُودِ الشَّيْءِ الْمُعَلَّقِ فِي نَفْسِهِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ , بَلْ يَكُونُ قَاصِدًا لَهُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي كَمَا كَانَ فِي الْأَوَّلِ قَاصِدًا لِلْوَسِيلَةِ , فَفِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْغَايَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ لِلْأَوَّلِ دُونَ الْوَسِيلَةِ , وَفِي الثَّانِي لَيْسَتْ الْغَايَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةَ , وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ عَدَمُهَا بِالْكُلِّيَّةِ , أَوْ عَدَمُهَا إلَى أَنْ تُوجَدَ الْوَسِيلَةُ ; إذْ لَوْ كَانَتْ مَقْصُودَةً لَنَصَبَ لَهَا طَرِيقًا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَيْهَا تُفْضِي إلَيْهَا غَالِبًا . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَنَقُولُ : الشَّارِعُ لَمَّا حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ , ثُمَّ يُفَارِقَهَا , لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ وُجُودَ الْحِلِّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْصِبْ شَيْئًا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا حَيْثُ عَلَّقَ وُجُودَ الْحِلِّ بِأَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ , ثُمَّ يُفَارِقَهَا ; وَهَذِهِ الْغَايَةُ الَّتِي هِيَ النِّكَاحُ يُوجَدُ الطَّلَاقُ مَعَهَا تَارَةً , وَتَارَاتٍ كَثِيرَةً لَا يُوجَدُ وَهِيَ نَفْسُهَا تُوجَدُ تَارَةً وَتَارَاتٍ لَا تُوجَدُ فَيُعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ نَفَى الْحِلَّ إمَّا عُقُوبَةً عَلَى الطَّلَاقِ , أَوْ امْتِحَانًا لِلْعِبَادِ , أَوْ لِمَا شَاءَ سُبْحَانَهُ , وَلَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ وُجُودَهُ إذَا أَرَادَهُ الْمُكَلَّفُ نَصَبَ لَهُ شَيْئًا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا , كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ وُجُودَ الْمِلْكِ إذَا أَرَادَهُ الْمُكَلَّفُ نَصَبَ لَهُ سَبَبًا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا , كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ وُجُودَ الْمِلْكِ إذَا أَرَادَهُ الْمُكَلَّفُ نَصَبَ لَهُ الْأَسْبَابَ

الْمُفْضِيَةَ إلَيْهِ مِنْ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ حِلَّ الْبُضْعِ لَمَّا أَرَادَهُ الْعَبْدُ بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ الْبَائِنَتَيْنِ , أَوْ بِدُونِ الطَّلَاقِ جَعَلَ لَهُ سَبَبًا يُفْضِي إلَيْهِ وَهُوَ تَنَاكُحُ الزَّوْجَيْنِ فَإِنَّهُمَا إذَا أَرَادَا ذَلِكَ فَعَلَاهُ , وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } , وَبَيْنَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } , { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } . فَإِنَّهُ لَمَّا قَصَدَ وُجُودَ الْحِلِّ لِلْعَبْدِ إذَا أَرَادَهُ عَلَّقَهُ بِالتَّطَهُّرِ الَّذِي يَتَيَسَّرُ غَالِبًا وَجَعَلَ التَّطَهُّرَ طَرِيقًا مُوصِلًا إلَى حُصُولِ الْحِلِّ بِحَيْثُ يُفْعَلُ لِأَجْلِهِ فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَقْصِدُ وُجُودَهُ لَكِنْ بِشَرْطِ وُجُودِ غَيْرِهِ وَبَيْنَ مَا يَقْصِدُ عَدَمَهُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُوجَدَ غَيْرُهُ . فَالْأَوَّلُ كَرَجُلٍ يُرِيدُ أَنْ يُكْرِمَ غَيْرَهُ لَكِنْ لَا تَسْمَحُ نَفْسُهُ إلَّا إذَا ابْتَدَأَهُ بِذَلِكَ . وَالثَّانِي كَرَجُلٍ يُرِيدُ أَنْ لَا يُكْرِمَ رَجُلًا لَكِنْ أَكْرَمَهُ فَاضْطُرَّ إلَى مُكَافَأَتِهِ فَالْأَوَّلُ يَكُونُ مَصْلَحَةً لَكِنَّ وُجُودَهَا إنَّمَا يَتِمُّ بِأَسْبَابٍ مُتَقَدِّمَةٍ , وَالثَّانِي يَكُونُ مَفْسَدَةً لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابٍ تَصِيرُ مَصْلَحَةً فَمِنْ الْأَوَّلِ يُتَلَقَّى فِقْهُ أَسْبَابِ الْحُكْمِ وَشُرُوطِهِ فَإِنَّهَا مُقْتَضِيَةٌ وَمُكَمِّلَةٌ لِمَصْلَحَةِ الْحُكْمِ وَمِنْ الثَّانِي يُتَلَقَّى حُكْمُ الْمَوَانِعِ وَالْمُعَارَضَاتِ الَّتِي

يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا . وَمِثَالُ الْأَوَّلِ أَسْبَابُ حِلِّ الْمَالِ وَالْوَطْءِ وَاللَّحْمِ فَإِنَّ الْمَالَ وَالْبُضْعَ وَاللَّحْمَ حَرَامٌ حَتَّى تُوجَدَ هَذِهِ الْأَسْبَابُ وَهِيَ مَقْصُودَةُ الْوُجُودِ , لِأَنَّهَا مِنْ مَصْلَحَةِ الْخَلْقِ .
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ : الِاحْتِيَالُ عَلَى أَخْذِ بَدَلِ حَقِّهِ , أَوْ عَيْنِ حَقِّهِ بِخِيَانَةٍ مِثْلُ أَنَّ مَالًا قَدْ اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ زَاعِمًا أَنَّهُ بَدَلُ حَقِّهِ أَوْ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ هَذَا الْقَدْرَ مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ , أَوْ إظْهَارِهِ فَهَذَا أَيْضًا يَلْحَقُ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ مَا لَا يَلْحَقُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ كَمَنْ يُسْتَعْمَلُ عَلَى عَمَلٍ بِجُعْلٍ يُفْرَضُ لَهُ وَيَكُونُ جُعْلُ مِثْلِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْجُعْلِ فَيَغُلُّ بَعْضَ مَالِ مُسْتَعْمِلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَأْخُذُ تَمَامَ حَقِّهِ فَإِنَّ هَذَا حَرَامٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعْمِلُ السُّلْطَانَ الْمُسْتَعْمَلَ عَلَى مَالِ الْفَيْءِ وَالْخَرَاجِ وَالصَّدَقَاتِ وَسَائِرِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ , أَوْ الْحَاكِمَ الْمُسْتَعْمَلَ عَلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ وَأَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْأَوْقَافِ أَوْ غَيْرَهُمَا كَالْمُوَكَّلَيْنِ وَالْمُوصَيْنَ فَإِنَّهُ كَاذِبٌ فِي كَوْنِهِ يَسْتَحِقُّ زِيَادَةً عَلَى مَا شَرَطَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ ظَنَّ الْبَائِعُ , أَوْ الْمُكْرِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ زِيَادَةً عَلَى الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْعِوَضُ الْمُسْتَحَقُّ وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا لَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ ثَابِتًا .

وَأَمَّا مَا يَلْحَقُ بِالْقِسْمِ الثَّالِثِ بِأَنْ يَكُونَ الِاسْتِحْقَاقُ ثَابِتًا كَرَجُلٍ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ مَالٌ فَجَحَدَهُ إيَّاهُ وَعَجَزَ عَنْ خَلَاصِ حَقِّهِ , أَوْ ظَلَمَهُ السُّلْطَانُ مَالًا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا مُحْتَالٌ عَلَى أَخْذِ حَقِّهِ لَكِنْ إذَا احْتَالَ بِأَنْ يَغُلَّ بَعْضَ مَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ , لِأَنَّ الْغُلُولَ وَالْخِيَانَةَ حَرَامٌ مُطْلَقًا , وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّوَصُّلَ إلَى حَقِّهِ كَمَا أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ وَالْكَذِبَ حَرَامٌ , وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّوَصُّلَ إلَى حَقِّهِ , وَلِهَذَا { قَالَ بَشِيرُ بْنُ الْخَصَاصِيَةِ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لَنَا جِيرَانًا لَا يَدَعُونَ لَنَا شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إلَّا أَخَذُوهَا فَإِذَا قَدَرْنَا لَهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَنَأْخُذُهُ , فَقَالَ : أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ } بِخِلَافِ مَا لَيْسَ خِيَانَةً لِظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ فِيهِ وَالتَّبَذُّلِ وَالتَّبَسُّطِ فِي مَالِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ كَأَخْذِ الزَّوْجَةِ نَفَقَتَهَا مِنْ مَالِ زَوْجِهَا إذَا مَنَعَهَا فَإِنَّهَا مُتَمَكِّنَةٌ مِنْ إعْلَانِ هَذَا الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ , وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ غُلُولًا وَلَا خِيَانَةً وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّهَا مَحَلُّ وِفَاقٍ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِيفَاءِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا هِيَ أَيْضًا مِنْ الْحِيَلِ الْمَحْضَةِ , بَلْ هِيَ بِمَسَائِلِ الذَّرَائِعِ أَشْبَهُ , لَكِنْ لِأَجْلِ مَا فِيهَا مِنْ التَّحَيُّلِ ذَكَرْنَاهَا لِتَمَامِ أَقْسَامِ الْحِيَلِ , وَالْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ أَنْ يُمَيِّزَ الْفَقِيهُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ لِيَعْرِفَ كُلَّ مَسْأَلَةٍ

مِنْ أَيِّ قِسْمٍ هِيَ فَيُلْحِقَهَا بِنَظِيرِهَا فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي أُمَّهَاتِ الْمَسَائِلِ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ مُسْتَوْفًى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَمْ يُسْتَوْفَ الْكَلَامُ إلَّا فِي مَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الْخَمْسَةَ مُحْدَثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ مُبْتَدَعَةٌ وَنَبَّهْنَا هُنَا عَلَى سَبَبِ التَّحْرِيمِ فِيهَا وَالْمَقْصُودُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَدْ شُبِّهَتْ بِهِ حَتَّى جُعِلَتْ , وَإِيَّاهُ جِنْسًا وَاحِدًا , وَقِيَاسُ مَنْ قَاسَ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَهُوَ الثَّالِثُ وَرُبَّمَا قِيسَ الثَّانِي أَيْضًا عَلَيْهِ كَمَا قِيسَ عَلَيْهِ الثَّانِي مِنْ الْخَامِسِ فَإِنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ الْوَصْفُ الْمُشْتَرَكُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ الْفَرْقِ الْمُؤَثِّرِ هُوَ مِثْلُ قِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } نَظَرًا إلَى أَنَّ الْبَائِعَ يَتَنَاوَلُ بِمَالِهِ لِيَرْبَحَ , وَكَذَلِكَ الْمُرْبِي , وَلَقَدْ سَرَى هَذَا الْمَعْنَى فِي نُفُوسِ طَوَائِفَ حَتَّى بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْمَرْمُوقِينَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : لَا أَدْرِي لِمَ حُرِّمَ الرِّبَا وَيَرَى أَنَّ الْقِيَاسَ تَحْلِيلُهُ , وَإِنَّمَا يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ اتِّبَاعًا فَقَطْ وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَامَ فِي نَفْسِ هَذَا هُوَ الَّذِي قَامَ فِي نُفُوسِ الَّذِينَ قَالُوا { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } فَلْيُعَزِّ مِثْلُ هَذَا نَفْسَهُ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالنَّظَرِ فِي الدِّينِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ هَذِهِ عَزَاءُ الْمُصِيبَةِ , وَلْيَتَأَمَّلْ فِي قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19