كتاب : إقامة الدليل على إبطال التحليل
تأليف : شيخ الإسلام ابن تيمية

قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فِي السِّرِّ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } . وَقَالَ : { وَاذْكُرْ رَبَّك فِي نَفْسِك تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ } . وَهَذَا أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ , فَإِنَّهُ مَا خُوطِبَ بِهِ خُوطِبَتْ بِهِ الْأُمَّةُ مَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِالتَّخْصِيصِ . كَقَوْلِهِ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } . وَقَوْلِهِ : { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ } . وَقَوْلِهِ : { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } . وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَذَا أَمْرٌ يَتَنَاوَلُ الْإِمَامَ وَالْمَأْمُومَ وَالْمُنْفَرِدَ بِأَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ , وَهُوَ يَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ , فَيَكُونُ الْمَأْمُومُ مَأْمُورًا بِذِكْرِ رَبِّهِ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ إذَا كَانَ مُسْتَمِعًا كَانَ مَأْمُورًا بِالِاسْتِمَاعِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَمِعًا كَانَ مَأْمُورًا بِذِكْرِ رَبِّهِ فِي نَفْسِهِ . وَالْقُرْآنُ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَدْ آتَيْنَاك مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيمَةِ أَعْمَى } . وَقَالَ : { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } . وَأَيْضًا : فَالسُّكُوتُ بِلَا قِرَاءَةٍ وَلَا ذِكْرٍ وَلَا

دُعَاءٍ لَيْسَ عِبَادَةً , وَلَا مَأْمُورًا بِهِ , بَلْ يَفْتَحُ بَابَ الْوَسْوَسَةِ , فَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ السُّكُوتِ , وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مِنْ أَفْضَلِ الْخَيْرِ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالذِّكْرُ بِالْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ , كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ - وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ - سُبْحَانَ اللَّهِ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ , وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي مِنْهُ , فَقَالَ : قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ , وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَاَللَّهُ أَكْبَرُ , وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , هَذَا لِلَّهِ فَمَا لِي , قَالَ : قُلْ : اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي , وَارْزُقْنِي , وَعَافِنِي , وَاهْدِنِي فَلَمَّا قَامَ قَالَ : هَكَذَا بِيَدَيْهِ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا هَذَا فَقَدْ مَلَأَ يَدَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ , وَأَبُو دَاوُد , وَالنَّسَائِيُّ . وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوا الْقِرَاءَةَ فِي الْجَهْرِ : احْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ عُبَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا كُنْتُمْ وَرَائِي فَلَا تَقْرَءُوا إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ , فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا } وَهَذَا

الْحَدِيثُ مُعَلَّلٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ , ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى ضَعْفِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ , وَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عُبَادَةَ وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَغَلِطَ فِيهِ بَعْضُ الشَّامِيِّينَ وَأَصْلُهُ أَنَّ عُبَادَةَ كَانَ يَؤُمُّ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ , فَقَالَ هَذَا فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ الْمَرْفُوعُ بِالْمَوْقُوفِ عَلَى عُبَادَةَ . وَأَيْضًا : فَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , وَبَسَطُوا الْقَوْلَ فِيهَا , وَفِي غَيْرِهَا , مِنْ الْمَسَائِلِ . وَتَارَةً أَفْرَدُوا الْقَوْلَ فِيهَا فِي مُصَنَّفَاتٍ مُفْرَدَةٍ , وَانْتَصَرَ طَائِفَةٌ لِلْإِثْبَاتِ فِي مُصَنَّفَاتٍ مُفْرَدَةٍ : كَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ . وَطَائِفَةٌ لِلنَّفْيِ : كَأَبِي مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ , وَكَرَّامٍ , وَغَيْرِهِمَا . وَمَنْ تَأَمَّلَ مُصَنَّفَاتِ الطَّوَائِفِ تَبَيَّنَ لَهُ الْقَوْلُ الْوَسَطُ . فَإِنَّ عَامَّةَ الْمُصَنَّفَاتِ الْمُفْرَدَةِ تَتَضَمَّنُ صُوَرَ كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ , قَوْلِ مَنْ يَنْهَى عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ , حَتَّى فِي صَلَاةِ السِّرِّ . وَقَوْلِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْقِرَاءَةِ خَلْفَهُ مَعَ سَمَاعِ جَهْرِ الْإِمَامِ , وَالْبُخَارِيُّ مِمَّنْ بَالَغَ فِي الِانْتِصَارِ لِلْإِثْبَاتِ بِالْقِرَاءَةِ حَتَّى مَعَ جَهْرِ الْإِمَامِ ; بَلْ يُوجِبُ ذَلِكَ , كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ ,

وَابْنُ حَزْمٍ , وَمَعَ هَذَا فَحُجَجُهُ وَمُصَنَّفُهُ إنَّمَا تَتَضَمَّنُ تَضْعِيفَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَوَابِعِهَا , مِثْلَ كَوْنِهِ .
245 - 245 - 161 - سُئِلَ : الصَّلَاةُ خَلْفَ الْمَرَازِقَةِ , وَعَنْ بِدْعَتِهِمْ . أَجَابَ : يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَالْجُمُعَةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ خَلْفَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْهُ بِدْعَةً , وَلَا فِسْقًا , بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الِائْتِمَامِ أَنْ يَعْلَمَ الْمَأْمُومُ اعْتِقَادَ إمَامِهِ , وَلَا أَنْ يَمْتَحِنَهُ , فَيَقُولُ : مَاذَا تَعْتَقِدُ ؟ بَلْ يُصَلِّي خَلْفَ مَسْتُورِ الْحَالِ .
296 - 296 - 212 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ , وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ : فَهَلْ يَجْرِي إلَى أَنْ يَأْتِيَ الصَّلَاةَ , أَوْ يَأْتِيَ هَوْنًا وَلَوْ فَاتَتْهُ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . إذَا خَشِيَ فَوْتَ الْجُمُعَةِ , فَإِنَّهُ يُسْرِعُ حَتَّى يُدْرِكَ مِنْهَا رَكْعَةً فَأَكْثَرَ , وَأَمَّا إذَا كَانَ يُدْرِكُهَا مَعَ الْمَشْيِ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ فَهَذَا أَفْضَلُ , بَلْ هُوَ السُّنَّةُ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

297 - 297 - 213 - مَسْأَلَةٌ : فِي الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالسَّجْدَةِ : هَلْ تَجِبُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . لَيْسَتْ قِرَاءَةُ { الم تَنْزِيلُ } الَّتِي فِيهَا السَّجْدَةُ وَلَا غَيْرُهَا مِنْ ذَوَاتِ السُّجُودِ وَاجِبَةً فِي فَجْرِ الْجُمُعَةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ , وَمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ وَاجِبًا أَوْ ذَمَّ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَالٌّ مُخْطِئٌ , يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ مِنْ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ وَكَرَاهِيَتِهِ . فَعِنْدَ مَالِكٍ يُكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِالسَّجْدَةِ فِي الْجَهْرِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ , كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ , لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { سَجَدَ فِي الْعِشَاءِ بِ { إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ { الم تَنْزِيلُ } وَ { هَلْ أَتَى } } . وَعِنْدَ مَالِكٍ يُكْرَهُ أَنْ يَقْصِدَ سُورَةً بِعَيْنِهَا . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فَيَسْتَحِبُّونَ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ , مِثْلَ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ , فِي الْجُمُعَةِ . وَالذَّارِيَاتِ وَاقْتَرَبَتْ فِي الْعِيدِ , والم تَنْزِيلُ وَهَلْ أَتَى فِي فَجْرِ الْجُمُعَةِ . لَكِنْ هُنَا مَسْأَلَتَانِ نَافِعَتَانِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ بِسُورَةٍ فِيهَا سَجْدَةٌ أُخْرَى بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ , فَلَيْسَ الِاسْتِحْبَابُ لِأَجْلِ السَّجْدَةِ , بَلْ لِلسُّورَتَيْنِ , وَالسَّجْدَةُ جَاءَتْ اتِّفَاقًا , فَإِنَّ هَاتَيْنِ

السُّورَتَيْنِ فِيهِمَا ذِكْرُ مَا يَكُونُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ الْخَلْقِ وَالْبَعْثِ . الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا , بِحَيْثُ يَتَوَهَّمُ الْجُهَّالُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ , وَأَنَّ تَارِكَهَا مُسِيءٌ , بَلْ يَنْبَغِي تَرْكُهَا أَحْيَانًا لِعَدَمِ وُجُوبِهَا , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
298 - 298 - 214 - سُئِلَ : عَمَّنْ قَرَأَ " سُورَةَ السَّجْدَةِ " يَوْمَ الْجُمُعَةِ : هَلْ الْمَطْلُوبُ السَّجْدَةُ فَيُجْزِئُ بَعْضُ السُّورَةِ , وَالسَّجْدَةُ فِي غَيْرِهَا ؟ أَمْ الْمَطْلُوبُ السُّورَةُ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . بَلْ الْمَقْصُودُ قِرَاءَةُ السُّورَتَيْنِ : { الم تَنْزِيلُ } وَ : { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ } لِمَا فِيهِمَا مِنْ ذِكْرِ خَلْقِ آدَمَ , وَقِيَامِ السَّاعَةِ , وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ , وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ السَّجْدَةَ , فَلَوْ قَصَدَ الرَّجُلُ قِرَاءَةَ سُورَةِ سَجْدَةٍ أُخْرَى كُرِهَ ذَلِكَ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ السُّورَتَيْنِ كِلْتَاهُمَا , فَالسُّنَّةُ قِرَاءَتُهُمَا بِكَمَالِهِمَا . وَلَا يَنْبَغِي الْمُدَاوَمَةُ عَلَى ذَلِكَ , لِئَلَّا يَظُنَّ الْجَاهِلُ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ , بَلْ يَقْرَأُ أَحْيَانًا غَيْرَهُمَا مِنْ الْقُرْآنِ . وَالشَّافِعِيُّ , وَأَحْمَدَ اللَّذَانِ يَسْتَحِبَّانِ قِرَاءَتَهُمَا . وَأَمَّا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَعِنْدَهُمَا يُكْرَهُ قَصْدُ قِرَاءَتِهِمَا .

299 - 299 - 215 - مَسْأَلَةٌ : فِيمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ , ثُمَّ قَامَ لِيَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ . فَهَلْ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : بَلْ يُخَافِتُ بِالْقِرَاءَةِ , وَلَا يَجْهَرُ ; لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ إذَا قَامَ يَقْضِي فَإِنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يَقْضِيهِ , حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُنْفَرِدِ , وَهُوَ فِيمَا يُدْرِكُهُ فِي حُكْمِ الْمُؤْتَمِّ ; وَلِهَذَا يَسْجُدُ الْمَسْبُوقُ إذَا سَهَا فِيمَا يَقْضِيهِ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَسْبُوقُ إنَّمَا يَجْهَرُ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ الْمُنْفَرِدُ , فَمَنْ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَذْهَبُهُ أَنْ يَجْهَرَ الْمُنْفَرِدُ فِي الْعِشَاءَيْنِ وَالْفَجْرِ , فَإِنَّهُ يَجْهَرُ إذَا قَضَى الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ , وَمَنْ كَانَ مَذْهَبُهُ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ لَا يَجْهَرُ فَإِنَّهُ لَا يَجْهَرُ الْمَسْبُوقُ عِنْدَهُ . وَالْجُمُعَةُ لَا يُصَلِّيهَا أَحَدٌ مُنْفَرِدًا , فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَجْهَرَ فِيهَا الْمُنْفَرِدُ . وَالْمَسْبُوقُ كَالْمُنْفَرِدِ فَلَا يَجْهَرُ , لَكِنَّهُ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ ضِمْنًا وَتَبَعًا , وَلَا يُشْتَرَطُ فِي التَّابِعِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَتْبُوعِ , وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ لِمَا يَقْضِيهِ الْمَسْبُوقُ الْعَدَدُ , وَنَحْوُ ذَلِكَ . لَكِنْ مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ فَهُوَ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ , كَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ , فَإِنَّهُ مُدْرِكٌ , وَإِنْ كَانَتْ بَقِيَّةُ الصَّلَاةِ فُعِلَتْ خَارِجَ الْوَقْتِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

300 - 300 - 216 - مَسْأَلَةٌ : فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي جَامِعِ الْقَلْعَةِ : هَلْ هِيَ جَائِزَةٌ , مَعَ أَنَّ فِي الْبَلَدِ خُطْبَةً أُخْرَى , مَعَ وُجُودِ سُوَرِهَا , وَغَلْقِ أَبْوَابِهَا - أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : نَعَمْ , يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا جُمُعَةً لِأَنَّهَا مَدِينَةٌ أُخْرَى . كَمِصْرِ وَالْقَاهِرَةِ , وَلَوْ لَمْ تَكُنْ كَمَدِينَةٍ أُخْرَى فَإِقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي الْمَدِينَةِ الْكَبِيرَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ لِلْحَاجَةِ يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ; وَلِهَذَا لَمَّا بُنِيَتْ بَغْدَادُ وَلَهَا جَانِبَانِ أَقَامُوا فِيهَا جُمُعَةً فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ , وَجُمُعَةً فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ . وَجَوَّزَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ , وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَدِينَتِهِ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَخْرُجُ بِالْمُسْلِمِينَ فَيُصَلِّي الْعِيدَ بِالصَّحْرَاءِ , وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ . فَلَمَّا تَوَلَّى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَصَارَ بِالْكُوفَةِ , وَكَانَ الْخَلْقُ بِهَا كَثِيرًا , قَالُوا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , إنَّ بِالْمَدِينَةِ شُيُوخًا وَضُعَفَاءَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ الْخُرُوجُ إلَى الصَّحْرَاءِ فَاسْتَخْلَفَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِيدَ فِي الْمَسْجِدِ , وَهُوَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ خَارِجَ الصَّحْرَاءِ , وَلَمْ يَكُنْ هَذَا يُفْعَلُ قَبْلَ ذَلِكَ , وَعَلِيٍّ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي } . فَمَنْ تَمَسَّكَ بِسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَقَدْ أَطَاعَ

اللَّهَ وَرَسُولَهُ , وَالْحَاجَةُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ وَفِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ تَدْعُو إلَى أَكْثَرَ مِنْ جُمُعَةٍ , إذْ لَيْسَ لِلنَّاسِ جَامِعٌ وَاحِدٌ يَسَعُهُمْ , وَلَا يُمْكِنُهُمْ جُمُعَةٌ وَاحِدَةٌ إلَّا بِمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ . وَهُنَا وَجْهٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْقَلْعَةَ كَأَنَّهَا قَرْيَةٌ خَارِجَ الْمَدِينَةِ . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ الْجُمُعَةَ تُقَامُ فِي الْقُرَى ; لِأَنَّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : { أَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ جُمُعَةِ الْمَدِينَةِ جُمُعَةٌ بِجُوَاثَى قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ } . وَكَذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى الْمُسْلِمِينَ يَأْمُرُهُمْ بِالْجُمُعَةِ حَيْثُ كَانُوا . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِالْمِيَاهِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَهُمْ يُقِيمُونَ الْجُمُعَةَ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ . وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ . فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُخَالِفٌ لَجَازَ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّ كُلَّ قَرْيَةٍ مِصْرٌ جَامِعٌ كَمَا أَنَّ الْمِصْرَ الْجَامِعَ يُسَمَّى قَرْيَةً . وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ مَكَّةَ قَرْيَةً , بَلْ سَمَّاهَا أُمَّ الْقُرَى " بَلْ وَمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ مَكَّةَ , كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِك الَّتِي أَخْرَجَتْك أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ } وَسَمَّى مِصْرَ الْقَدِيمَةَ قَرْيَةً بِقَوْلِهِ : { وَاسْأَلْ

الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } . وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
301 - 301 - 217 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الصَّلَاةِ فِي جَامِعِ بَنِي أُمَيَّةَ , هَلْ هِيَ بِتِسْعِينَ صَلَاةٍ كَمَا زَعَمُوا أَمْ لَا ؟ ذَكَرُوا أَنَّ فِيهِ ثَلَاثَمِائَةِ نَبِيٍّ مَدْفُونِينَ , فَهَلْ ذَلِكَ صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ النَّائِمَ بِالشَّامِ كَالْقَائِمِ بِاللَّيْلِ بِالْعِرَاقِ , وَذَكَرُوا أَنَّ الصَّائِمَ الْمُتَطَوِّعَ بِالْعِرَاقِ كَالْمُفْطِرِ بِالشَّامِ , وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْبَرَكَةَ أَحَدَ وَسَبْعِينَ جُزْءًا مِنْهَا جُزْءٌ وَاحِدٌ بِالْعِرَاقِ وَسَبْعُونَ بِالشَّامِ , فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , لَمْ يَرِدْ فِي جَامِعِ دِمَشْقَ فِي حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَضْعِيفِ الصَّلَاةِ فِيهِ , وَلَكِنْ هُوَ مِنْ أَكْثَرِ الْمَسَاجِدِ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى , وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ عَدَدَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ . وَأَمَّا الْقَائِمُ بِالشَّامِ أَوْ غَيْرِهِ فَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ , فَإِنَّ الْمُقِيمَ فِيهِ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ . وَكُلُّ مَكَان يَكُونُ فِيهِ الْعَبْدُ أَطْوَعَ لِلَّهِ فَمُقَامُهُ فِيهِ أَفْضَلُ . وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْلِ الشَّامِ وَأَهْلِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ . وَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ الْبَرَكَةَ فِي أَرْبَعِ مَوَاضِعَ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ ظُهُورَ الْإِسْلَامِ وَأَعْوَانِهِ فِيهِ بِالْقَلْبِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ أَقْوَى مِنْهُ فِي غَيْرِهِ . وَفِيهِنَّ ظُهُورُ الْإِيمَانِ وَقَمْعُ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ

. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ الْفِطْرِ وَالصِّيَامِ وَأَنَّ الْبَرَكَةَ أَحَدٌ وَسَبْعُونَ جُزْءًا بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ عَلَى مَا ذُكِرَ فَهَذَا لَمْ نَسْمَعْهُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ وَأَمَّا السُّنَّةُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ } . كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْفَجْرِ رَكْعَتَيْنِ : وَبَعْدَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ , وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ , وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ } . وَأَمَّا الظُّهْرُ فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَهَا رَكْعَتَيْنِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ : { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } . وَجَاءَ مُفَسَّرًا فِي السُّنَنِ : { أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ , وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا , وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ , وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ , وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ } . فَهَذِهِ هِيَ السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ . مَدَارُهَا عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ : حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ , وَعَائِشَةَ , وَأُمِّ حَبِيبَةَ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ بِاللَّيْلِ : إمَّا إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً

, وَإِمَّا ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً , فَكَانَ مَجْمُوعُ صَلَاتِهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَرْضُهُ وَنَفْلُهُ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً . وَالنَّاسُ فِي هَذِهِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : مِنْهُمْ مَنْ لَا يُوَقِّتُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا . كَقَوْلِ مَالِكٍ , فَإِنَّهُ لَا يَرَى سُنَّةً إلَّا الْوِتْرَ , وَرَكْعَتِي الْفَجْرِ . وَكَانَ يَقُولُ إنَّمَا يُوَقِّتُ أَهْلُ الْعِرَاقِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّرُ فِي ذَلِكَ أَشْيَاءَ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ , بَلْ بَاطِلَةٍ , كَمَا يُوجَدُ فِي مَذَاهِبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ , وَبَعْضِ مَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُوجَدُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْمُقَدَّرَةِ وَالْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ مَا يَعْلَمُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالسُّنَّةِ أَنَّهُ مَكْذُوبٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَنْ رَوَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا } " أَوْ أَنَّهُ قَضَى سُنَّةَ الْعَصْرِ " أَوْ " أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ سِتًّا " أَوْ " بَعْدَهَا أَرْبَعًا " أَوْ " أَنَّهُ كَانَ يُحَافِظُ عَلَى الضُّحَى " . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي الرَّقَائِقِ وَالْفَضَائِلِ " فِي الصَّلَوَاتِ الْأُسْبُوعِيَّةِ , وَالْحَوْلِيَّةِ : كَصَلَاةِ يَوْمِ الْأَحَدِ , وَالِاثْنَيْنِ , وَالثُّلَاثَاءِ , وَالْأَرْبِعَاءِ , وَالْخَمِيسِ , وَالْجُمُعَةِ , وَالسَّبْتِ , الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِ أَبِي طَالِبٍ , وَأَبِي حَامِدٍ , وَعَبْدِ الْقَادِرِ , وَغَيْرِهِمْ . وَكَصَلَاةِ "

الْأَلْفِيَّةِ " الَّتِي فِي أَوَّلِ رَجَبٍ , وَنِصْفِ شَعْبَانَ , وَالصَّلَاةِ " الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ " الَّتِي فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ , وَالصَّلَاةِ الَّتِي فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ , وَصَلَوَاتٍ أُخَرَ تُذْكَرُ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ , وَصَلَاةِ لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ وَصَلَاةِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ , وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِحَدِيثِهِ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَيْهِ , وَلَكِنْ بَلَغَ ذَلِكَ أَقْوَامًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ , فَظَنُّوهُ صَحِيحًا , فَعَمِلُوا بِهِ , وَهُمْ مَأْجُورُونَ عَلَى حُسْنِ قَصْدِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ , لَا عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ . وَأَمَّا مَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ السُّنَّةُ فَظَنَّ أَنَّ غَيْرَهَا خَيْرٌ مِنْهَا فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ . بَلْ كَافِرٌ . وَالْقَوْلُ الْوَسَطُ الْعَدْلُ هُوَ مَا وَافَقَ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ الثَّابِتَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ , وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعًا } . وَقَدْ رَوَى السَّبْتُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ جَمْعًا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا . وَالسُّنَّةُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ فِي الْجُمُعَةِ , وَغَيْرِهَا . كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُوصَلَ صَلَاةٌ بِصَلَاةٍ , حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَهُمَا بِقِيَامٍ أَوْ كَلَامٍ } فَلَا يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ

. يَصِلُ السَّلَامَ بِرَكْعَتِي السُّنَّةِ , فَإِنَّ هَذَا رُكُوبٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي هَذَا مِنْ الْحِكْمَةِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَغَيْرِ الْفَرْضِ , كَمَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَغَيْرِ الْعِبَادَةِ . وَلِهَذَا اُسْتُحِبَّ تَعْجِيلُ الْفُطُورِ , وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ , وَالْأَكْلُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ , وَنُهِيَ عَنْ اسْتِقْبَالِ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ , فَهَذَا كُلُّهُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الصِّيَامِ , وَغَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ , وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا . وَهَكَذَا تَتَمَيَّزُ الْجُمُعَةُ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ مِنْ غَيْرِهَا . وَأَيْضًا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ كَالرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ لَا يَنْوُونَ الْجُمُعَةَ بَلْ يَنْوُونَ الظُّهْرَ , وَيُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ سَلَّمُوا , وَمَا سَلَّمُوا , فَيُصَلُّونَ ظُهْرًا وَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ السُّنَّةَ , فَإِذَا حَصَلَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ كَانَ فِي هَذَا مَنْعٌ لِهَذِهِ الْبِدْعَةِ , وَهَذَا لَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
305 - 305 - 221 - مَسْأَلَةٌ : هَلْ قِرَاءَةُ الْكَهْفِ بَعْدَ عَصْرِ الْجُمُعَةِ , جَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . قِرَاءَةُ سُورَةِ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهَا آثَارٌ , ذَكَرَهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ , لَكِنْ هِيَ مُطْلَقَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ , مَا سَمِعْت أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بَعْدَ الْعَصْرِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

309 - 309 - 225 - مَسْأَلَةٌ : هَلْ يَتَعَيَّنُ قِرَاءَةٌ بِعَيْنِهَا فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ ؟ وَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ مَهْمَا قَرَأَ بِهِ جَازَ . كَمَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي نَحْوِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ . لَكِنْ إذَا قَرَأَ بِقَافٍ , وَاقْتَرَبَتْ , أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ فِي الْأَثَرِ , كَانَ حَسَنًا . وَأَمَّا بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ : فَإِنَّهُ يَحْمَدُ اللَّهَ , وَيُثْنِي عَلَيْهِ , وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ . هَكَذَا رَوَى نَحْوَ هَذَا الْعُلَمَاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ . وَإِنْ قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ , وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَاَللَّهُ أَكْبَرُ , اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ , وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي , وَارْحَمْنِي , كَانَ حَسَنًا . وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا , وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا . وَنَحْوَ ذَلِكَ , وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مُؤَقَّتٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

320 - 320 - 8 - مَسْأَلَةٌ : فِيمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ , هَلْ يَقْرَأُ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ مَرَّةً أَوْ ثَلَاثًا ؟ وَمَا السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ ؟ الْجَوَابُ : إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَهَا كَمَا فِي الْمُصْحَفِ مَرَّةً وَاحِدَةً , هَكَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ , لِئَلَّا يُزَادَ عَلَى مَا فِي الْمُصْحَفِ . وَأَمَّا إذَا قَرَأَهَا وَحْدَهَا , أَوْ مَعَ بَعْضِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ إذَا قَرَأَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَدَلَتْ الْقُرْآنَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

311 - 311 - 227 - مَسْأَلَةٌ : هَلْ التَّكْبِيرُ يَجِبُ فِي عِيدِ الْفِطْرِ أَكْثَرُ مِنْ عِيدِ الْأَضْحَى ؟ بَيِّنُوا لَنَا مَأْجُورِينَ الْجَوَابُ : أَمَّا التَّكْبِيرُ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي عِيدِ الْأَضْحَى بِالِاتِّفَاقِ . وَكَذَلِكَ هُوَ مَشْرُوعٌ فِي عِيدِ الْفِطْرِ : عِنْدَ مَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ . وَذَكَرَ ذَلِكَ الطَّحْطَاوِيُّ مَذْهَبًا لِأَبِي حَنِيفَةَ , وَأَصْحَابِهِ . وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمْ خِلَافُهُ , لَكِنَّ التَّكْبِيرَ فِيهِ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ , وَالتَّكْبِيرُ فِيهِ أَوْكَدُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ بِقَوْلِهِ : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . وَالتَّكْبِيرُ فِيهِ : أَوَّلُهُ مِنْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ , وَآخِرُهُ انْقِضَاءُ الْعِيدِ , وَهُوَ فَرَاغُ الْإِمَامِ مِنْ الْخُطْبَةِ عَلَى الصَّحِيحِ . وَأَمَّا التَّكْبِيرُ فِي النَّحْرِ فَهُوَ أَوْكَدُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُشْرَعُ أَدْبَارَ الصَّلَوَاتِ وَأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ , وَأَنَّ عِيدَ النَّحْرِ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَكَانُ وَالزَّمَانُ , وَعِيدُ النَّحْرِ أَفْضَلُ مِنْ عِيدِ الْفِطْرِ , وَلِهَذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ فِيهِ النَّحْرُ مَعَ الصَّلَاةِ . وَالْعِبَادَةُ فِي ذَاكَ الصَّدَقَةُ مَعَ الصَّلَاةِ . وَالنَّحْرُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ , لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْعِبَادَتَانِ الْبَدَنِيَّةُ وَالْمَالِيَّةُ , فَالذَّبْحُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ , وَالصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ فِي الْفِطْرِ تَابِعَةٌ لِلصَّوْمِ , لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَهَا طُهْرَةً لِلصَّائِمِ

مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ , وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ وَلِهَذَا سُنَّ أَنْ تَخْرُجَ قَبْلَ الصَّلَاةِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى , وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } . وَأَمَّا النُّسُكُ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الْيَوْمِ نَفْسِهِ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ , وَلِهَذَا يُشْرَعُ بَعْدَ الصَّلَاةِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ , إنَّ شَانِئَك هُوَ الْأَبْتَرُ } . فَصَلَاةُ النَّاسِ فِي الْأَمْصَارِ بِمَنْزِلَةِ رَمْيِ الْحُجَّاجِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ , وَذَبْحُهُمْ فِي الْأَمْصَارِ بِمَنْزِلَةِ ذَبْحِ الْحُجَّاجِ هَدْيَهُمْ . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ : { أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ , ثُمَّ يَوْمُ الْقَسْرِ } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِي السُّنَنِ وَقَدْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ { يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ مِنًى عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ , وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ } وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَهْلَ الْأَمْصَارِ يُكَبِّرُونَ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ , لِهَذَا الْحَدِيثِ , وَلِحَدِيثٍ آخَرَ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلِأَنَّهُ إجْمَاعٌ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

310 - 310 - 226 - سُئِلَ : عَنْ صِفَةِ التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ . وَمَتَى وَقْتُهُ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي التَّكْبِيرِ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ : أَنْ يُكَبِّرَ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ , إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ , عَقِبَ كُلِّ صَلَاةٍ , وَيُشْرَعُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ الْخُرُوجِ إلَى الْعِيدِ . وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَصِفَةُ التَّكْبِيرِ الْمَنْقُولِ عِنْدَ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ : قَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اللَّهُ أَكْبَرُ , اللَّهُ أَكْبَرُ , لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ , وَلِلَّهِ الْحَمْدُ } . وَإِنْ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا جَازَ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا فَقَطْ , وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ , وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَأَمَّا التَّكْبِيرُ فِي الصَّلَاةِ فَيُكَبِّرُ الْمَأْمُومُ تَبَعًا لِلْإِمَامِ , وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْأَئِمَّةِ يُكَبِّرُونَ سَبْعًا فِي الْأُولَى , وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ . وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَقُولَ بَيْنَ التَّكْبِيرَتَيْنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ , وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَاَللَّهُ أَكْبَرُ . اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي , وَارْحَمْنِي . كَانَ حَسَنًا , كَمَا جَاءَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

321 - 321 - 9 - مَسْأَلَةٌ : فِيمَنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ : أَيُّهُمَا أَفْضَلُ لَهُ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّ النِّسْيَانَ أَوْ التَّسْبِيحُ وَمَا عَدَاهُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ وَالْأَذْكَارِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ , مَعَ عِلْمِهِ بِمَا وَرَدَ فِي الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ , وَالتَّهْلِيلِ , وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ , وَسَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ , وَسُبْحَانَ اللَّهِ , وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَحْوِهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ : فَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ : أَنَّ جِنْسَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْأَذْكَارِ , كَمَا أَنَّ جِنْسَ الذِّكْرِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ , كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ , وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } . وَفِي التِّرْمِذِيِّ , عَنْ أَبِي سَعِيدٍ , عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ } وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ , فِي الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ , فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فِي صَلَاتِي , قَالَ : قُلْ : سُبْحَانَ اللَّهِ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ , وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } . وَلِهَذَا كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبَةً ,

فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ لَا تَعْدِلُ عَنْهَا إلَى الذِّكْرِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ , وَالْبَدَلُ دُونَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ . وَأَيْضًا فَالْقِرَاءَةُ تُشْتَرَطُ لَهَا الطَّهَارَةُ الْكُبْرَى دُونَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ . وَمَا لَمْ يُشْرَعْ إلَّا عَلَى الْحَالِ الْأَكْمَلِ فَهُوَ أَفْضَلُ , كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا اُشْتُرِطَ لَهَا الطَّهَارَتَانِ كَانَتْ أَفْضَلَ مِنْ مُجَرَّدِ الْقِرَاءَةِ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا , اعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ } وَلِهَذَا نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ تَطَوُّعِ الْبَدَنِ الصَّلَاةُ . وَأَيْضًا : فَمَا يُكْتَبُ فِيهِ الْقُرْآنُ لَا يَمَسُّهُ إلَّا طَاهِرٌ , وَقَدْ حَكَى إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ أَفْضَلُ , لَكِنْ طَائِفَةٌ مِنْ الشُّيُوخِ رَجَّحُوا الذِّكْرَ , وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَرْجَحُ فِي حَقِّ الْمُنْتَهِي الْمُجْتَهِدِ , كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ فِي كُتُبِهِ , وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ أَرْجَحُ فِي حَقِّ الْمُبْتَدِئِ السَّالِكِ , وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ . وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ يُذْكَرُ فِي الْأَصْلِ الثَّانِي , وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ الْمَفْضُولَ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهِ مَا يُصَيِّرُهُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ , وَهُوَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا مَا هُوَ مَشْرُوعٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ . وَالثَّانِي : مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ . أَمَّا الْأَوَّلُ : فَمِثْلُ أَنْ يَقْتَرِنَ إمَّا بِزَمَانٍ , أَوْ بِمَكَانٍ , أَوْ عَمَلٍ يَكُونُ أَفْضَلَ , مِثْلَ مَا بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَوْقَاتِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ , فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ

أَفْضَلُ فِي هَذَا الزَّمَانِ , وَكَذَلِكَ الْأَمْكِنَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا كَالْحَمَّامِ , وَأَعْطَانِ الْإِبِلِ , وَالْمَقْبَرَةِ , فَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ فِيهَا أَفْضَلُ , وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ الذِّكْرُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ , فَإِذَا كُرِهَ الْأَفْضَلُ فِي حَالِ حُصُولِ مَفْسَدَةٍ كَانَ الْمَفْضُولُ هُنَاكَ أَفْضَلَ بَلْ هُوَ الْمَشْرُوعُ . وَكَذَلِكَ حَالَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ , فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا , أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ , وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ } . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ , وَتَنَازَعُوا فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ , هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , وَذَلِكَ تَشْرِيفًا لِلْقُرْآنِ , وَتَعْظِيمًا لَهُ أَنْ لَا يُقْرَأَ فِي حَالِ الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ , كَمَا كُرِهَ أَنْ يُقْرَأَ مَعَ الْجِنَازَةِ , وَكَمَا كَرِهَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ قِرَاءَتَهُ فِي الْحَمَّامِ . وَمَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ , هُوَ حَالُ الدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرِهِ . وَالدُّعَاءُ فِيهِ هُوَ أَفْضَلُ بَلْ هُوَ الْمَشْرُوعُ دُونَ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ , وَكَذَلِكَ بِالطَّوَافِ , وَبِعَرَفَةَ , وَمُزْدَلِفَةَ , وَعِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ . وَالْمَشْرُوعُ هُنَاكَ هُوَ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الطَّوَافِ : هَلْ تُكْرَهُ أَمْ لَا تُكْرَهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ

مَشْهُورَيْنِ . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَاجِزًا عَنْ الْعَمَلِ الْأَفْضَلِ , إمَّا عَاجِزًا عَنْ أَصْلِهِ , كَمَنْ لَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَلَا يَسْتَطِيعُ حِفْظَهُ , كَالْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَاجِزًا عَنْ فِعْلِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَفْضُولِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ . وَمِنْ هُنَا قَالَ مَنْ قَالَ : إنَّ الذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنْ الْقُرْآنِ , فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يُخْبِرُ عَنْ حَالِهِ , وَأَكْثَرُ السَّالِكِينَ , بَلْ الْعَارِفِينَ مِنْهُمْ إنَّمَا يُخْبِرُ أَحَدُهُمْ عَمَّا ذَاقَهُ وَوَجَدَهُ , لَا يَذْكُرُ أَمْرًا عَامًا لِلْخَلْقِ , إذْ الْمَعْرِفَةُ تَقْتَضِي أُمُورًا مُعَيَّنَةً جُزْئِيَّةً . وَالْعِلْمُ يَتَنَاوَلُ أَمْرًا عَامًّا كُلِّيًّا , فَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَجِدُ فِي الذِّكْرِ مِنْ اجْتِمَاعِ قَلْبِهِ , وَقُوَّةِ إيمَانِهِ , وَانْدِفَاعِ الْوَسْوَاسِ عَنْهُ , وَمَزِيدِ السَّكِينَةِ , وَالنُّورِ وَالْهُدَى , مَا لَا يَجِدُهُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ , بَلْ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يَفْهَمُهُ , أَوْ لَا يَحْضُرُ قَلْبُهُ وَفَهْمُهُ , وَيَلْعَبُ عَلَيْهِ الْوَسْوَاسُ وَالْفِكْرُ , كَمَا أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْتَمِعُ قَلْبُهُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَفَهْمِهِ وَتَدَبُّرِهِ مَا لَا يَجْتَمِعُ فِي الصَّلَاةِ , بَلْ يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ أَفْضَلَ يُشْرَعُ لِكُلِّ أَحَدٍ , بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يُشْرَعُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا هُوَ أَفْضَلُ لَهُ . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ الصَّدَقَةُ أَفْضَلَ لَهُ مِنْ الصِّيَامِ وَبِالْعَكْسِ , وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الصَّدَقَةِ أَفْضَلَ ,

وَمِنْ النَّاسِ مِنْ يَكُونُ الْحَجُّ أَفْضَلَ لَهُ مِنْ الْجِهَادِ , كَالنِّسَاءِ , وَكَمَنْ يَعْجِزُ عَنْ الْجِهَادِ , وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الْجِهَادِ أَفْضَلَ , قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ } وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ . إذَا عُرِفَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ عُرِفَ بِهِمَا جَوَابُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ . إذَا عُرِفَ هَذَا , فَيُقَالُ الْأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ فِي أَوْقَاتٍ مُتَعَيِّنَةٍ مِثْلَ : مَا يُقَالُ عِنْدَ جَوَابِ الْمُؤَذِّنِ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي تِلْكَ الْحَالِ , وَكَذَلِكَ مَا سَنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُقَالُ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ , وَإِتْيَانِ الْمُضْطَجَعِ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ . وَأَمَّا إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ فَالْقِرَاءَةُ لَهُ أَفْضَلُ إذَا أَطَاقَهَا , وَإِلَّا فَلْيَعْمَلْ مَا يُطِيقُ , وَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْهُمَا , وَلِهَذَا نَقَلَهُمْ عِنْدَ نَسْخِ وُجُوبِ قِيَامِ اللَّيْلِ إلَى الْقِرَاءَةِ فَقَالَ : { إنَّ رَبَّك يَعْلَمُ أَنَّك تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيْ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَك وَاَللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } الْآيَةُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ يَتْلُو الْقُرْآنَ مَخَافَةَ النِّسْيَانِ , وَرَجَاءَ الثَّوَابِ , فَهَلْ يُؤْجَرُ عَلَى قِرَاءَتِهِ لِلدِّرَاسَةِ وَمَخَافَةِ النِّسْيَانِ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ ذَكَرَ رَجُلٌ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ أَنَّ الْقَارِئَ إذَا قَرَأَ لِلدِّرَاسَةِ مَخَافَةَ النِّسْيَانِ أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ , فَهَلْ قَوْلُهُ صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : بَلْ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ حَالٍ , وَلَوْ قَصَدَ بِقِرَاءَتِهِ أَنَّهُ يَقْرَؤُهُ لِئَلَّا يَنْسَاهُ , فَإِنَّ نِسْيَانَ الْقُرْآنِ مِنْ الذُّنُوبِ , فَإِذَا قَصَدَ بِالْقِرَاءَةِ أَدَاءَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ مِنْ دَوَامِ حِفْظِهِ لِلْقُرْآنِ , وَاجْتِنَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ إهْمَالِهِ حَتَّى يَنْسَاهُ , فَقَدْ قَصَدَ طَاعَةَ اللَّهِ , فَكَيْفَ لَا يُثَابُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ مِنْ عُقُلِهَا } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عُرِضَتْ عَلَيَّ سَيِّئَاتُ أُمَّتِي فَرَأَيْتُ مِنْ مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا الرَّجُلُ يُؤْتِيهِ اللَّهُ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ فَيَنَامُ عَنْهَا حَتَّى يَنْسَاهَا } " . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ إلَّا غَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ , وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ , وَحَفَّتْ بِهِمْ الْمَلَائِكَةُ , وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ , وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ } .

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
322 - 322 - 10 - مَسْأَلَةٌ : فِيمَا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْقُشَيْرِيُّ فِي بَابِ الرِّضَا , عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ : الرِّضَا أَنْ لَا يَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ , وَلَا يَسْتَعِيذَ مِنْ النَّارِ , فَهَلْ هَذَا الْكَلَامُ صَحِيحٌ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ جِهَةِ ثُبُوتِهِ عَنْ الشَّيْخِ . وَالثَّانِي : مِنْ جِهَةِ صِحَّتِهِ فِي نَفْسِهِ وَفَسَادِهِ . أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأُسْتَاذَ أَبَا الْقَاسِمِ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ بِإِسْنَادٍ , وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مُرْسَلًا عَنْهُ , وَمَا يَذْكُرُهُ أَبُو الْقَاسِمِ فِي رِسَالَتِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ تَارَةً يَذْكُرُهُ بِإِسْنَادٍ , وَتَارَةً يُذْكَرُ مُرْسَلًا . وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ : وَقِيلَ كَذَا . ثُمَّ الَّذِي يَذْكُرُهُ بِالْإِسْنَادِ تَارَةً يَكُونُ إسْنَادُهُ صَحِيحًا , وَتَارَةً يَكُونُ ضَعِيفًا , بَلْ مَوْضُوعًا , وَمَا يَذْكُرُهُ مُرْسَلًا وَمَحْذُوفَ الْقَائِلِ أَوْلَى , وَهَذَا كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي مُصَنَّفَاتِ الْفُقَهَاءِ , فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ مَا هُوَ صَحِيحٌ , وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيفٌ , وَمِنْهَا مَا هُوَ مَوْضُوعٌ , فَالْمَوْجُودُ فِي كُتُبِ الرَّقَائِقِ وَالتَّصَوُّفِ مِنْ الْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ فِيهَا الصَّحِيحُ وَفِيهَا الضَّعِيفُ وَفِيهَا الْمَوْضُوعُ . وَهَذَا الْأَمْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ , لَا يَتَنَازَعُونَ أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ فِيهَا

هَذَا , وَفِيهَا هَذَا . بَلْ نَفْسُ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي التَّفْسِيرِ فِيهَا هَذَا , وَهَذَا , مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ أَقْرَبُ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَنْقُولَاتِ , وَفِي كُتُبِهِمْ هَذَا وَهَذَا , فَكَيْفَ غَيْرُهُمْ . وَالْمُصَنَّفُونَ قَدْ يَكُونُونَ أَئِمَّةً فِي الْفِقْهِ , أَوْ التَّصَوُّفِ , أَوْ الْحَدِيثِ , وَيَرْوُونَ هَذَا تَارَةً لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كَذِبٌ , وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الدِّينِ , فَإِنَّهُمْ لَا يَحْتَجُّونَ بِمَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَذِبٌ , وَتَارَةً يَذْكُرُونَهُ , وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّهُ كَذِبٌ إذْ قَصْدُهُمْ رِوَايَةُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ , وَرِوَايَةُ الْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ مَعَ بَيَانِ كَوْنِهَا كَذِبًا جَائِزٌ . وَأَمَّا رِوَايَتُهَا مَعَ الْإِمْسَاكِ عَنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ عَمَلٍ , فَإِنَّهُ حَرَامٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ , كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَدَّثَ عَنِّي حَدِيثًا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ } . وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ , مُتَأَوِّلِينَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْذِبُوا , وَإِنَّمَا نَقَلُوا مَا رَوَاهُ غَيْرُهُمْ , وَهَذَا يَسْهُلُ إذَا رَوَوْهُ لِتَعْرِيفِ أَنَّهُ رُوِيَ , لَا لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ وَلَا الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَا يُوجَدُ فِي الرِّسَالَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ كُتُبِ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ , فِيهِ الصَّحِيحُ وَالضَّعِيفُ وَالْمَوْضُوعُ . فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِدْقِهِ .

وَالْمَوْضُوعُ الَّذِي قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى كَذِبِهِ . وَالضَّعِيفُ الَّذِي رَوَاهُ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ صِدْقُهُ : إمَّا لِسُوءِ حِفْظِهِ , وَإِمَّا لِاتِّهَامِهِ , وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِيهِ , فَإِنَّ الْفَاسِقَ قَدْ يَصْدُقُ وَالْغَالِطُ قَدْ يَحْفَظُ . وَغَالِبُ أَبْوَابِ الرِّسَالَةِ فِيهَا الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ , وَمِنْ ذَلِكَ بَابُ الرِّضَا , فَإِنَّهُ ذَكَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا , وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا } . وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ , وَإِنْ كَانَ الْأُسْتَاذُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ مُسْلِمًا رَوَاهُ , لَكِنَّهُ رَوَاهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَذَكَرَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ حَدِيثًا ضَعِيفًا بَلْ مَوْضُوعًا , وَهُوَ حَدِيثُ جَابِرٍ الطَّوِيلُ , الَّذِي رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى الرَّقَاشِيِّ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ , عَنْ جَابِرٍ , فَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَوَّلَ حَدِيثٍ ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ , فَإِنَّ حَدِيثَ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى مِنْ أَوْهَى الْأَحَادِيثِ وَأَسْقَطَهَا . وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا , وَلَا يُحْتَجُّ بِهَا , فَإِنَّ الضَّعْفَ ظَاهِرٌ عَلَيْهَا , وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَعْتَمِدُ الْكَذِبَ , فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِمْ لِسُوءِ الْحِفْظِ لَا لِاعْتِمَادِ الْكَذِبِ , وَهَذَا الرَّقَاشِيُّ اتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِهِ , كَمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَئِمَّةُ هَذَا الشَّأْنِ , حَتَّى قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ : " لَوْ وُلِدَ أَخْرَسُ لَكَانَ خَيْرًا

لَهُ " , وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ : " لَا شَيْءَ " , وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ : " هُوَ ضَعِيفٌ " , وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : " رَجُلُ سُوءٍ " , وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ : " مُنْكَرُ الْحَدِيثِ " . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْآثَارِ فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ آثَارًا حَسَنَةً , بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ , مِثْلَ مَا رَوَاهُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا سَلَا الْعَبْدُ عَنْ الشَّهَوَاتِ فَهُوَ رَاضٍ } , فَإِنَّ هَذَا رَوَاهُ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ بِإِسْنَادِهِ , وَالشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَتْ لَهُ عِنَايَةٌ بِجَمْعِ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ وَحِكَايَاتِهِمْ , وَصَنَّفَ فِي الْأَسْمَاءِ كِتَابَ " طَبَقَاتُ الصُّوفِيَّةِ " . وَكِتَابِ زُهَّادِ السَّلَفِ " , وَغَيْرُ ذَلِكَ , وَصَنَّفَ فِي الْأَبْوَابِ كِتَابَ " مَقَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ " , وَغَيْرَ ذَلِكَ , وَمُصَنَّفَاتُهُ تَشْتَمِلُ عَلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ . وَذَكَرَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْت النَّصْرَ آبَادِي يَقُولُ : " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْلُغَ مَحَلَّ الرِّضَا فَلْيَلْزَمْ مَا جَعَلَ اللَّهُ رِضَاهُ فِيهِ " , فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ , فَإِنَّهُ مَنْ لَزِمَ مَا يُرْضِي اللَّهَ مِنْ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ , وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ لَا سِيَّمَا إذَا قَامَ بِوَاجِبِهَا وَمُسْتَحَبِّهَا , فَإِنَّ اللَّهَ يَرْضَى عَنْهُ , كَمَا أَنَّ مَنْ لَزِمَ مَحْبُوبَاتِ الْحَقِّ أَحَبَّهُ اللَّهُ , كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ { مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ , وَمَا

تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدٌ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ , وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته } الْحَدِيثَ .
وَطَلَبُ الْجَنَّةِ , وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنْ النَّارِ , طَرِيقُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ , وَجَمِيعُ أَوْلِيَائِهِ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ , وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ , كَمَا فِي السُّنَنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ كَيْفَ تَقُولُ فِي دُعَائِك , قَالَ : أَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْجَنَّةَ , وَأَعُوذُ بِك مِنْ النَّارِ , أَمَا إنِّي لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَك وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ فَقَالَ : حَوْلَهُمَا نُدَنْدِنُ } . فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعَاذٌ , وَهُوَ أَفْضَلُ الْأَئِمَّةِ الرَّاتِبِينَ بِالْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يُدَنْدِنُونَ حَوْلَ الْجَنَّةِ , أَفَيَكُونُ قَوْلُ أَحَدٍ فَوْقَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعَاذٍ , وَمَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُمَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ , وَلَوْ طَلَبَ هَذَا الْعَبْدُ مَا طَلَبَ كَانَ فِي الْجَنَّةِ . وَأَهْلُ الْجَنَّةِ نَوْعَانِ : سَابِقُونَ مُقَرَّبُونَ , وَأَبْرَارٌ أَصْحَابُ يَمِينٍ , قَالَ تَعَالَى : { { كَلًّا إنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاك مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِنْ

تَسْنِيمٍ , عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " تُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزْجًا , وَيَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صَرْفًا " . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ , ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ , فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا , ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ , فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ , وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدُ . فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْوَسِيلَةَ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِعَبْدٍ وَاحِدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ , وَرَجَا أَنْ يَكُونَ هُوَ ذَلِكَ الْعَبْدُ , هِيَ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ , فَهَلْ بَقِيَ بَعْدَ الْوَسِيلَةِ شَيْءٌ أَعْلَى مِنْهَا يَكُونُ خَارِجًا عَنْ الْجَنَّةِ يَصْلُحُ لِلْمَخْلُوقِينَ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا فِي حَدِيثِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَلْتَمِسُونَ النَّاسَ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ قَالَ : { فَيَقُولُونَ لِلرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَجَدْنَاهُمْ يُسَبِّحُونَك وَيَحْمَدُونَك وَيُكَبِّرُونَك . قَالَ : فَيَقُولُ : وَمَا يَطْلُبُونَ ؟ قَالُوا : يَطْلُبُونَ الْجَنَّةَ . قَالَ : فَيَقُولُ : وَهَلْ رَأَوْهَا ؟ . قَالَ : فَيَقُولُونَ : لَا . قَالَ : فَيَقُولُ : فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا ؟ . قَالَ : فَيَقُولُونَ : لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا أَشَدَّ لَهَا طَلَبًا . قَالَ : وَمِمَّا يَسْتَعِيذُونَ . قَالُوا : يَسْتَعِيذُونَ مِنْ النَّارِ . قَالَ : فَيَقُولُ : وَهَلْ رَأَوْهَا ؟ . قَالَ :

فَيَقُولُونَ : لَا . قَالَ : فَيَقُولُ : فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا ؟ . قَالُوا : لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا اسْتِعَاذَةً . قَالَ : فَيَقُولُ : أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَعْطَيْتُهُمْ مَا يَطْلُبُونَ , وَأَعَذْتُهُمْ مِمَّا يَسْتَعِيذُونَ أَوْ كَمَا قَالَ . قَالَ : فَيَقُولُونَ : فِيهِمْ فُلَانٌ الْخَطَّاءُ , جَاءَ لِحَاجَةٍ فَجَلَسَ مَعَهُمْ . قَالَ : فَيَقُولُ : هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ } . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَفْضَلِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَانَ مَطْلُوبُهُمْ الْجَنَّةَ , وَمَهْرَبُهُمْ مِنْ النَّارِ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَايَعَ الْأَنْصَارَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ , وَكَانَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ مِنْ أَفْضَلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ كُلِّهِمْ . قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اشْتَرِطْ لِرَبِّك وَلِنَفْسِك وَلِأَصْحَابِك . قَالَ : { أَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَنْصُرُونِي مِمَّا تَنْصُرُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ . وَأَشْتَرِطُ لِأَصْحَابِي أَنْ تُوَاسُوهُمْ . قَالُوا : فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا ؟ . قَالَ : لَكُمْ الْجَنَّةُ . قَالُوا : مُدَّ يَدَك , فَوَاَللَّهِ لَا نُقِيلُك وَلَا نَسْتَقِيلُك . وَقَدْ قَالُوا لَهُ فِي أَثْنَاءِ الْبَيْعَةِ : إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ حِبَالًا وَعُهُودًا وَإِنَّا نَاقِضُوهَا } . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْظَمِ خَلْقِ اللَّهِ مَحَبَّةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ , وَبَذْلًا لِنُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْحَقُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَقَدْ كَانَ غَايَةُ مَا طَلَبُوهُ بِذَلِكَ

الْجَنَّةَ , فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مَطْلُوبٌ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ لَطَلَبُوهُ , وَلَكِنْ عَلِمُوا أَنَّ فِي الْجَنَّةِ كُلَّ مَحْبُوبٍ وَمَطْلُوبٍ , بَلْ وَفِي الْحَقِيقَةِ مَا لَا تَشْعُرُ بِهِ النُّفُوسُ لِتَطْلُبَهُ , فَإِنَّ الطَّلَبَ وَالْحُبَّ وَالْإِرَادَةَ فَرْعٌ عَنْ الشُّعُورِ وَالْإِحْسَاسِ وَالتَّصَوُّرِ , فَمَا لَا يَتَصَوَّرُهُ الْإِنْسَانُ وَلَا يُحِسُّهُ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَطْلُبَهُ وَيُحِبَّهُ وَيُرِيدَهُ . فَالْجَنَّةُ فِيهَا هَذَا وَهَذَا , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } . وَقَالَ : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } . فَفِيهَا مَا يَشْتَهُونَ وَفِيهَا مَزِيدٌ عَلَى ذَلِكَ , وَهُوَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ عِلْمُهُمْ لِيَشْتَهُوهُ , كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ , وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ , وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ } . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . فَإِذَا عَرَفْت هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ , فَقَوْلُ الْقَائِلِ : الرِّضَا أَنْ لَا تَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَا تَسْتَعِيذَهُ مِنْ النَّارِ , إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ لَا تَسْأَلَ اللَّهَ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْجَنَّةِ الشَّرْعِيَّةِ , فَلَا تَسْأَلْهُ النَّظَرَ إلَيْهِ , وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَطْلُوبُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ , وَإِنَّك لَا تَسْتَعِيذُ بِهِ مِنْ احْتِجَابِهِ عَنْك , وَلَا مِنْ تَعْذِيبِك فِي النَّارِ , فَهَذَا الْكَلَامُ مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ , فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ , فَاسِدٌ فِي صَرِيحِ الْعُقُولِ , وَذَلِكَ أَنَّ الرِّضَا الَّذِي لَا يُسْأَلُ ,

إنَّمَا لَا يَسْأَلُهُ لِرِضَاهُ عَنْ اللَّهِ , وَرِضَاهُ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ . وَإِذَا لَمْ يَبْقَ مَعَهُ رِضًا عَنْ اللَّهِ وَلَا مَحَبَّةٌ لِلَّهِ , فَكَأَنَّهُ قَالَ : يَرْضَى أَنْ لَا يَرْضَى , وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا يَقُولُ وَلَا عَقْلُهُ . يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّاضِيَ إنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى احْتِمَالِ الْمَكَارِهِ وَالْآلَامِ مَا يَجِدُهُ مِنْ لَذَّةِ الرِّضَا وَحَلَاوَتِهِ , فَإِذَا فَقَدْ تِلْكَ الْحَلَاوَةَ وَاللَّذَّةَ امْتَنَعَ أَنْ يَحْتَمِلَ أَلَمًا وَمَرَارَةً , فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا , وَلَيْسَ مَعَهُ مِنْ حَلَاوَةِ الرِّضَا مَا يَحْمِلُ بِهِ مَرَارَةَ الْمَكَارِهِ . وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ جِنْسِ كَلَامِ السَّكْرَانِ , وَالْفَانِي الَّذِي وَجَدَ فِي نَفْسِهِ حَلَاوَةَ الرِّضَا , فَظَنَّ أَنَّ هَذَا يَبْقَى مَعَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ , وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ مِنْهُ كَغَلَطِ سَمْنُونٍ كَمَا تَقَدَّمَ . وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ لَا يَسْأَلَ التَّمَتُّعَ بِالْمَخْلُوقِ , بَلْ يَسْأَلَ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ , فَقَدْ غَلِطَ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْجَنَّةِ , وَهُوَ أَعْلَى نَعِيمِ الْجَنَّةِ . وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَيْضًا أَثْبَتَ أَنَّهُ طَالِبٌ مَعَ كَوْنِهِ رَاضِيًا . فَإِذَا كَانَ الرِّضَا لَا يُنَافِي هَذَا الطَّلَبَ فَلَا يُنَافِي طَلَبًا آخَرَ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى مَطْلُوبِهِ , وَمَعْلُومٌ أَنْ تَمَتُّعَهُ بِالنَّظَرِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِسَلَامَتِهِ مِنْ النَّارِ , وَبِتَنَعُّمِهِ مِنْ الْجَنَّةِ بِمَا هُوَ دُونَ النَّظَرِ . وَمَا لَا يَتِمُّ

الْمَطْلُوبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ , فَيَكُونُ طَلَبُهُ لِلنَّظَرِ طَلَبًا لِلَوَازِمِهِ الَّتِي مِنْهَا النَّجَاةُ مِنْ النَّارِ , فَيَكُونُ رِضَاهُ لَا يُنَافِي طَلَبَ حُصُولِ الْمَنْفَعَةِ , وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ عَنْهُ , وَلَا طَلَبَ حُصُولِ الْجَنَّةِ وَدَفْعَ النَّارِ , وَلَا غَيْرَهُمَا مِمَّا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ النَّظَرِ , فَتَبَيَّنَ تَنَاقُضُ قَوْلِهِ . وَأَيْضًا فَإِذَا لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَمْ يَسْتَعِذْ بِهِ مِنْ النَّارِ , فَإِمَّا أَنْ يَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ طَلَبِ مَنْفَعَةٍ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ , وَإِمَّا أَنْ لَا يَطْلُبَهُ , فَإِنْ طَلَبَ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَاسْتَعَاذَ مِمَّا هُوَ دُونَ ذَلِكَ , فَطَلَبُهُ لِلْجَنَّةِ أَوْلَى , وَاسْتِعَاذَتُهُ مِنْ النَّارِ أَوْلَى , وَإِنْ كَانَ الرِّضَا أَنْ لَا يَطْلُبَ شَيْئًا قَطُّ وَلَوْ كَانَ مُضْطَرًّا إلَيْهِ , وَلَا يَسْتَعِيذُ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ , وَإِنْ كَانَ مُضِرًّا . فَلَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يَكُونَ مُلْتَفِتًا بِقَلْبِهِ إلَى اللَّهِ فِي أَنْ يَفْعَلَ بِهِ ذَلِكَ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْرِضًا عَنْ ذَلِكَ . فَإِنْ الْتَفَتَ بِقَلْبِهِ إلَى اللَّهِ فَهُوَ طَالِبٌ مُسْتَعِيذٌ بِحَالِهِ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الطَّلَبِ بِالْحَالِ وَالْقَالِ , وَهُوَ بِهِمَا أَكْمَلُ وَأَتَمُّ , فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ . وَإِنْ كَانَ مُعْرِضًا عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ , فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَحْيَا وَيَبْقَى , إلَّا بِمَا يُقِيمُ حَيَاتَهُ وَيَدْفَعُ مَضَارَّهُ بِذَلِكَ . وَاَلَّذِي بِهِ يَحْيَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ إمَّا أَنْ يُحِبَّهُ وَيَطْلُبَهُ وَيُرِيدَهُ مِنْ أَحَدٍ , أَوْ لَا يُحِبَّهُ وَلَا يَطْلُبَهُ وَلَا يُرِيدَهُ

, فَإِنْ أَحَبَّهُ وَطَلَبَهُ وَأَرَادَهُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ كَانَ مُشْرِكًا مَذْمُومًا , فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا , وَإِنْ قَالَ : لَا أُحِبُّهُ وَأَطْلُبُهُ وَأُرِيدُهُ لَا مِنْ اللَّهِ وَلَا مِنْ خَلْقِهِ , قِيلَ : هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي الْحَيِّ , فَإِنَّ الْحَيَّ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُحِبَّ مَا بِهِ يَبْقَى , وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ , وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ امْتَنَعَ أَنْ يُوصَفَ بِالرِّضَا , فَإِنَّ الرَّاضِي مَوْصُوفٌ بِحُبٍّ وَإِرَادَةٍ خَاصَّةٍ , إذْ الرِّضَا مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ , فَكَيْفَ يُسْلَبُ عَنْهُ ذَلِكَ كُلُّهُ . فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ فَسَادَ هَذَا الْكَلَامِ . وَأَمَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَطَرِيقِهِ وَدِينِهِ فَمِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ : الرَّاضِي لَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ , وَإِلَّا فَكَيْفَ يَكُونُ رَاضِيًا عَنْ اللَّهِ مَنْ لَا يَفْعَلُ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ ؟ وَكَيْفَ يَسُوغُ رِضَا مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيَسْخَطُهُ وَيَذُمُّهُ وَيَنْهَى عَنْهُ ؟ . وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الرِّضَا الْمَحْمُودَ إمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ , وَإِمَّا أَنْ لَا يُحِبَّهُ وَيَرْضَاهُ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ , لَمْ يَكُنْ هَذَا الرِّضَا مَأْمُورًا بِهِ لَا أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ , فَإِنَّ مِنْ الرِّضَا مَا هُوَ كُفْرٌ , كَرِضَا الْكُفَّارِ بِالشِّرْكِ , وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَتَكْذِيبِهِمْ , وَرِضَاهُمْ بِمَا يَسْخَطُهُ اللَّهُ وَيَكْرَهُهُ . قَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } . فَمَنْ اتَّبَعَ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ بِرِضَاهُ

وَعَمَلِهِ فَقَدْ أَسْخَطَ اللَّهَ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْخَطِيئَةَ إذَا عُمِلَتْ فِي الْأَرْضِ كَانَ مَنْ غَابَ عَنْهَا وَرَضِيَهَا كَمَنْ حَضَرَهَا , وَمَنْ شَهِدَهَا وَسَخِطَهَا كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَأَنْكَرَهَا } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ , فَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ بَرِئَ , وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ , وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ هَلَكَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } . فَرِضَانَا عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ لَيْسَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ , وَهُوَ لَا يَرْضَى عَنْهُمْ , وَقَالَ تَعَالَى : { أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا قَلِيلٌ } . فَهَذَا رِضًى قَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا } فَهَذَا أَيْضًا رِضًا مَذْمُومٌ , وَسِوَى هَذَا وَهَذَا كَثِيرٌ . فَمَنْ رَضِيَ بِكُفْرِهِ وَكُفْرِ غَيْرِهِ , وَفِسْقِهِ وَفِسْقِ غَيْرِهِ , وَمَعَاصِيهِ وَمَعَاصِي غَيْرِهِ , فَلَيْسَ هُوَ مُتَّبِعًا لِرِضَا اللَّهِ , وَلَا هُوَ مُؤْمِنٌ بِاَللَّهِ , بَلْ هُوَ مُسْخِطٌ لِرَبِّهِ , وَرَبُّهُ غَضْبَانٌ عَلَيْهِ لَاعِنٌ لَهُ , ذَامٌّ لَهُ مُتَوَعِّدٌ لَهُ بِالْعِقَابِ . وَطَرِيقُ اللَّهِ الَّتِي يَأْمُرُ بِهَا الْمَشَايِخُ الْمُهْتَدُونَ , إنَّمَا هِيَ الْأَمْرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ , وَالنَّهْيُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ . فَمَنْ أَمَرَ , أَوْ اسْتَحَبَّ , أَوْ مَدَحَ

الرِّضَا الَّذِي يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيَذُمُّهُ , وَيَنْهَى عَنْهُ , وَيُعَاقِبُ أَصْحَابَهُ , فَهُوَ عَدُوٌّ لِلَّهِ , لَا وَلِيٌّ لِلَّهِ , وَهُوَ يَصُدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ , وَطَرِيقُهُ لَيْسَ بِسَالِكٍ لِطَرِيقِهِ وَسَبِيلِهِ .
وَذَلِكَ أَنَّ الرِّضَا نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : الرِّضَا بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ , وَيَتَنَاوَلُ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ إلَى الْمَحْظُورِ كَمَا قَالَ : { وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } . وَهَذَا الرِّضَا وَاجِبٌ , وَلِهَذَا ذُمَّ مَنْ تَرَكَهُ بِقَوْلِهِ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُك فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } } . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : الرِّضَا بِالْمَصَائِبِ , كَالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَالذُّلِّ , فَهَذَا الرِّضَا مُسْتَحَبٌّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ , وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ , وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ وَاجِبٌ , وَالصَّحِيحُ : أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الصَّبْرُ , كَمَا قَالَ الْحَسَنُ : " الرِّضَا غَرِيزَةٌ , وَلَكِنَّ الصَّبْرَ مِعْوَلُ الْمُؤْمِنِ " , وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَعْمَلَ بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِينِ , فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا

تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا } . وَأَمَّا الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ , فَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الدِّينِ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ , فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَاهُ كَمَا قَالَ : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } . وَقَالَ : { وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } , وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } . وَقَالَ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } . فَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَرْضَى لَهُمْ مَا عَمِلُوهُ , بَلْ يَسْخَطُهُ ذَلِكَ وَهُوَ يَسْخَطُ عَلَيْهِمْ وَيَغْضَبُ عَلَيْهِمْ , فَكَيْفَ يُشْرَعُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَرْضَى ذَلِكَ وَأَنْ لَا يَسْخَطَ وَيَغْضَبَ لِمَا يُسْخِطُ اللَّهَ وَيُغْضِبُهُ . وَإِنَّمَا ضَلَّ هُنَا فَرِيقَانِ مِنْ النَّاسِ : قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ فِي مُنَاظَرَةِ الْقَدَرِيَّةِ , ظَنُّوا أَنَّ مَحَبَّةَ الْحَقِّ وَرِضَاهُ وَغَضَبَهُ وَسَخَطَهُ يَرْجِعُ إلَى إرَادَتِهِ , وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ مُرِيدٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ . وَقَالُوا : " هُوَ أَيْضًا

مُحِبٌّ لَهَا , مُرِيدٌ لَهَا " , ثُمَّ أَخَذُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ , فَقَالُوا : " لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ " , بِمَعْنَى لَا يُرِيدُ الْفَسَادَ , أَيْ لَا يُرِيدُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ " وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ " , أَيْ لَا يُرِيدُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ . وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ , فَإِنَّ هَذَا عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ : لَا يُحِبُّ الْإِيمَانَ , وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْإِيمَانَ أَيْ لَا يُرِيدُهُ لِلْكَافِرِينَ وَلَا يَرْضَاهُ لِلْكَافِرِينَ . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا يُحِبُّهُ . ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ وَاجِبًا , وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ , سَوَاءٌ فَعَلَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ , وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي : مِنْ غَالِطِي الْمُتَصَوِّفَةِ , شَرِبُوا مِنْ هَذِهِ الْعَيْنِ , فَشَهِدُوا أَنَّ اللَّهَ رَبُّ الْكَائِنَاتِ جَمِيعًا , وَعَلِمُوا أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَشَاءَهُ , وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا يَكُونُوا رَاضِينَ حَتَّى يَرْضَوْا بِكُلِّ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَقْضِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ , حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : " الْمَحَبَّةُ نَارٌ تُحْرِقُ مِنْ الْقَلْبِ كُلَّ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ " . قَالُوا : " وَالْكَوْنُ كُلُّهُ مُرَادُ الْمَحْبُوبِ " . وَضَلَّ هَؤُلَاءِ ضَلَالًا عَظِيمًا , حَيْثُ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ , وَالْإِذْنِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ , وَالْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ , وَالْبَعْثِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ , وَالْإِرْسَالِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ ,

كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَهَؤُلَاءِ يَئُولُ الْأَمْرُ بِهِمْ إلَى أَنْ لَا يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ . وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ , وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُتَّقِينَ , وَيَجْعَلُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ , وَيَجْعَلُونَ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ وَيَجْعَلُونَ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ , وَيُعَطِّلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ , وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَالشَّرَائِعَ , وَرُبَّمَا سَمَّوْا هَذِهِ حَقِيقَةً , وَلَعَمْرِي أَنَّهُ حَقِيقَةٌ كَوْنِيَّةٌ , لَكِنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ قَدْ عَرَفَهَا عُبَّادُ الْأَصْنَامِ , كَمَا قَالَ : { وَلَئِنْ سَأَلْتهمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ , سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } . الْآيَاتُ . فَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ , فَمَنْ كَانَ هَذَا مُنْتَهَى تَحْقِيقِهِ كَانَ أَقْرَبَ أَنْ يَكُونَ كَعُبَّادِ الْأَصْنَامِ . وَالْمُؤْمِنُ إنَّمَا فَارَقَ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ , وَبِتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا أَخْبَرُوا وَطَاعَتُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا , وَاتِّبَاعُ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَيُحِبُّهُ , دُونَ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَقْضِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ , وَلَكِنْ يَرْضَى بِمَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَصَائِبِ , لَا بِمَا فَعَلَهُ مِنْ الْمَعَائِبِ . فَهُوَ مِنْ الذُّنُوبِ يَسْتَغْفِرُ , وَعَلَى الْمَصَائِبِ يَصْبِرُ , فَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { {

فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك } . فَيَجْمَعُ بَيْنَ طَاعَةِ الْأَمْرِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } . وَقَالَ يُوسُفُ : { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ عَنْ النَّصْرِ آبَادِي مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ , حَيْثُ قَالَ : " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْلُغَ مَحَلَّ الرِّضَا فَلْيَلْزَمْ مَا جَعَلَ اللَّهُ رِضَاهُ فِيهِ " , وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ : " إذَا سَلَا الْعَبْدُ عَنْ الشَّهَوَاتِ فَهُوَ رَاضٍ " , وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يَمْنَعُهُ مِنْ الرِّضَا وَالْقَنَاعَةِ طَلَبُ نَفْسِهِ لِفُضُولِ شَهَوَاتِهَا , فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ سَخَطَ , فَإِذَا سَلَا عَنْ شَهَوَاتِ نَفْسِهِ رَضِيَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ , عَنْ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أَنَّهُ قَالَ , لِبِشْرٍ الْحَافِي : " الرِّضَا أَفْضَلُ مِنْ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ الرَّاضِيَ لَا يَتَمَنَّى فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ " , كَلَامٌ حَسَنٌ , لَكِنْ أَشُكُّ فِي سَمَاعِ بِشْرٍ الْحَافِي مِنْ الْفُضَيْلِ . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مُعَلَّقًا قَالَ : " قَالَ الشِّبْلِيُّ بَيْنَ يَدَيْ الْجُنَيْدِ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ , فَقَالَ : الْجُنَيْدُ : قَوْلُك ذَا ضَيِّقُ الصَّدْرِ , وَضِيقُ الصَّدْرِ لِتَرْكِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ , " فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ . وَكَانَ الْجُنَيْدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَيِّدَ

الطَّائِفَةِ وَمِنْ أَحْسَنِهِمْ تَعْلِيمًا وَتَأْدِيبًا وَتَقْوِيمًا . وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَلِمَةُ اسْتِعَانَةٍ لَا كَلِمَةُ اسْتِرْجَاعٍ , وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُهَا عِنْدَ الْمَصَائِبِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِرْجَاعِ , وَيَقُولُهَا جَزَعًا لَا صَبْرًا , فَالْجُنَيْدُ أَنْكَرَ عَلَى الشِّبْلِيِّ فِي سَبَبِ قَوْلِهِ لَهَا , إذْ كَانَتْ حَالًا يُنَافِي الرِّضَا , وَلَوْ قَالَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ . وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ آثَارٌ ضَعِيفَةٌ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ مُعَلَّقًا قَالَ : " وَقِيلَ : قَالَ مُوسَى : إلَهِي دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إذَا عَمِلْته رَضِيت عَنِّي , فَقَالَ : إنَّك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ , فَخَرَّ مُوسَى سَاجِدًا مُتَضَرِّعًا , فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ : يَا بْنَ عِمْرَانَ رِضَائِي فِي رِضَاك عَنِّي " . فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ الْإِسْرَائِيلِيَّة فِيهَا نَظَرٌ , فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ : لَا يَصْلُحُ أَنْ يُحْكَى مِثْلُهَا عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْإِسْرَائِيلِيَّات لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ , وَلَا يَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ إلَّا إذَا كَانَتْ مَنْقُولَةً لَنَا نَقْلًا صَحِيحًا , مِثْلَ مَا ثَبَتَ عَنْ نَبِيِّنَا أَنَّهُ حَدَّثَنَا بِهِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ , وَلَكِنْ مِنْهُ مَا يُعْلَمُ كَذِبُهُ مِثْلَ هَذِهِ , فَإِنَّ مُوسَى مِنْ أَعْظَمِ أُولِي الْعَزْمِ وَأَكَابِرِ الْمُسْلِمِينَ , فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّهُ لَا يُطِيقُ أَنْ يَعْمَلَ مَا يَرْضَى اللَّهُ بِهِ عَنْهُ , وَاَللَّهُ تَعَالَى رَاضٍ عَنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ , أَفَلَا يَرْضَى عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ . كَلِيمِ الرَّحْمَنِ . وَقَالَ

تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَفْضَلِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ , ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ مُوسَى بِمَزِيَّةٍ فَوْقَ الرِّضَا حَيْثُ قَالَ : { وَأَلْقَيْت عَلَيْك مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } . ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ فِي الْخِطَابِ : ( يَا ابْنَ عُمْرَانِ ) مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْ خِطَابِهِ فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ قَالَ : { يَا مُوسَى } . وَذَلِكَ الْخِطَابُ فِيهِ نَوْعُ غَضٍّ مِنْهُ كَمَا يَظْهَرُ . وَمِثْلُ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ قِيلَ : كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ : أَمَّا بَعْدُ , فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الرِّضَا , فَإِنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَرْضَى وَإِلَّا فَاصْبِرْ , فَهَذَا الْكَلَامُ كَلَامٌ حَسَنٌ , وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ إسْنَادُهُ . وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ فِيمَا ذَكَرَهُ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا وَمُعَلَّقًا مَا هُوَ صَحِيحٌ وَغَيْرُهُ , فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ إلَّا مُرْسَلَةً . وَبِمِثْلِ ذَلِكَ لَا تَثْبُتُ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ , فَإِنَّهُ وَإِنْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ , فَهَذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْمُرْسَلَ هُوَ مِثْلُ الضَّعِيفِ وَغَيْرُ الضَّعِيفِ , فَأَمَّا إذَا عَرَفَ ذَلِكَ فَلَا يَبْقَى حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , كَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَارَةً يَحْفَظُ الْإِسْنَادَ , وَتَارَةً

يَغْلَطُ فِيهِ . وَالْكُتُبُ الْمُسْنَدَةُ فِي أَخْبَارِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ وَكَلَامِهِمْ , مِثْلُ كِتَابِ " حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ " لِأَبِي نُعَيْمٍ , " وَطَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ " لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ , " وَصِفَةِ الصَّفْوَةِ " لِابْنِ الْجَوْزِيِّ , وَأَمْثَالُ ذَلِكَ لَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ , أَلَا تَرَى الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ مُسْنَدًا حَيْثُ قَالَ : " قَالَ لِأَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ : يَا أَحْمَدُ , لَقَدْ أُوتِيت مِنْ الرِّضَا نَصِيبًا لَوْ أَلْقَانِي فِي النَّارِ لَكُنْت بِذَلِكَ رَاضِيًا , فَهَذَا الْكَلَامُ مَأْثُورٌ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ بِالْإِسْنَادِ , وَلِهَذَا أَسْنَدَهُ عَنْهُ الْقُشَيْرِيُّ مِنْ طَرِيقِ شَيْخِهِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ , بِخِلَافِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُسْنَدْ عَنْهُ , فَلَا أَصْلَ لَهَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ " . ثُمَّ إنَّ الْقُشَيْرِيَّ قَرَنَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الثَّانِيَةَ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ بِكَلِمَةٍ أَحْسَنَ مِنْهَا , فَإِنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَرْوِيَهَا قَالَ : " وَسُئِلَ أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَسْأَلُك الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَا } فَقَالَ : لِأَنَّ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَا هُوَ الرِّضَا " , فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو عُثْمَانَ كَلَامٌ حَسَنٌ سَدِيدٌ . ثُمَّ أَسْنَدَ بَعْدَ هَذَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ : " أَرْجُو أَنْ أَكُونَ قَدْ عَرَفْت طُرُقًا مِنْ الرِّضَا , لَوْ أَنَّهُ أَدْخَلَنِي النَّارَ لَكُنْت بِذَلِكَ رَاضِيًا " . فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ لَيْسَ هُوَ رِضًا , وَإِنَّمَا

هُوَ عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا , وَإِنَّمَا الرِّضَا مَا يَكُونُ بَعْدَ الْقَضَا . وَإِنْ كَانَ هَذَا عَزْمًا , فَالْعَزْمُ قَدْ يَدُومُ , وَقَدْ يَنْفَسِخُ , وَمَا أَكْثَرَ انْفِسَاخِ الْعَزَائِمِ , خُصُوصًا عَزَائِمُ الصُّوفِيَّةِ , وَلِهَذَا قِيلَ لِبَعْضِهِمْ : " بِمَاذَا عَرَفْت رَبَّك , قَالَ : بِفَسْخِ الْعَزَائِمِ فِي بَعْضِ الْهِمَمِ " . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } . وَفِي التِّرْمِذِيِّ : أَنَّ { بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْعَمَلِ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } } الْآيَةَ . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى الْجِهَادِ وَأَحَبُّوهُ , فَلَمَّا اُبْتُلُوا بِهِ كَرِهُوهُ , وَفَرُّوا مِنْهُ , وَأَيْنَ أَلَمُ الْجِهَادِ مِنْ أَلَمِ النَّارِ وَعَذَابِ اللَّهِ الَّذِي لَا طَاقَةَ لِأَحَدٍ

بِهِ . وَمِثْلُ هَذَا مَا يَذْكُرُونَهُ عَنْ سَمْنُونٍ الْمُحِبِّ , أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : وَلَيْسَ لِي فِي سِوَاك حَظٌّ فَكَيْفَمَا شِئْت فَاخْتَبِرْنِي فَأَخَذَ الْأَسْرُ مِنْ سَاعَتِهِ , أَيْ حُصِرَ بَوْلُهُ , فَكَانَ يَدُورُ عَلَى الْمَكَاتِبِ , وَيُفَرِّقُ الْجَوْزَ عَلَى الصِّبْيَانِ , وَيَقُولُ : اُدْعُوَا لِعَمِّكُمْ الْكَذَّابِ . وَحَكَى أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ , عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ , أَنَّهُ قَالَ سَمْنُونٌ : يَا رَبِّ قَدْ رَضِيت بِكُلِّ مَا تَقْضِيهِ عَلَيَّ , فَاحْتَبَسَ بَوْلُهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا , فَكَانَ يَتَلَوَّى كَمَا تَتَلَوَّى الْحَيَّةُ , يَتَلَوَّى يَمِينًا وَشِمَالًا , فَلَمَّا أُطْلِقَ بَوْلُهُ قَالَ : رَبِّ قَدْ تُبْت إلَيْك . قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ : فَهَذَا الرِّضَا الَّذِي ادَّعَى سَمْنُونٌ , ظَهَرَ غَلَطُهُ فِيهِ بِأَدْنَى بَلْوَى , مَعَ أَنَّ سَمْنُونًا هَذَا كَانَ يُضْرَبُ بِهِ الْمِثْلُ , وَلَهُ فِي الْمَحَبَّةِ مَقَامٌ مَشْهُورٌ . حَتَّى رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ فَاتِكٍ أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْت سَمْنُونًا يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ , فَجَاءَ طَائِرٌ صَغِيرٌ فَلَمْ يَزَلْ يَدْنُو مِنْهُ حَتَّى جَلَسَ عَلَى يَدِهِ , ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَضْرِبُ بِمِنْقَارِهِ الْأَرْضَ حَتَّى سَقَطَ مِنْهُ دَمٌ , وَمَاتَ الطَّائِرُ . قَالَ : رَأَيْته يَوْمًا يَتَكَلَّمُ فِي الْمَحَبَّةِ , فَاصْطَفَقَتْ قَنَادِيلُ الْمَسْجِدِ وَكَسَرَ بَعْضُهَا بَعْضًا . وَقَدْ ذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ فِي بَابِ الرِّضَا عَنْ رُوَيْمٍ الْمُقْرِي رَفِيقِ سَمْنُونٍ حِكَايَةً تُنَاسِبُ هَذَا حَيْثُ قَالَ : قَالَ رُوَيْمٌ : إنَّ الرِّضَا لَوْ جَعَلَ جَهَنَّمَ عَنْ يَمِينِهِ مَا سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُحَوِّلَهَا عَنْ يَسَارِهِ ,

فَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ سَمْنُونٍ : " فَكَيْفَ مَا شِئْت فَامْتَحِنِّي " . وَإِذَا لَمْ يُطِقْ الصَّبْرَ عَلَى عُسْرِ الْبَوْلِ فَيُطِيقُ أَنْ تَكُونَ النَّارُ عَنْ يَمِينِهِ . وَالْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ كَانَ أَعْلَى طَبَقَةً مِنْ هَؤُلَاءِ , وَابْتُلِيَ بِعُسْرِ الْبَوْلِ فَغَلَبَهُ الْأَلَمُ حَتَّى قَالَ : بِحُبِّي لَك أَلَا فَرَّجْت عَنِّي , فَفُرِّجَ عَنْهُ . وَرُوَيْمٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ رُفَقَاءِ الْجُنَيْدِ , فَلَيْسَ هُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ , بَلْ الصُّوفِيَّةُ يَقُولُونَ إنَّهُ رَجَعَ إلَى الدُّنْيَا , وَتَرَكَ التَّصَوُّفَ , حَتَّى رُوِيَ عَنْ جَعْفَرٍ الْخُلْدِيِّ صَاحِبِ الْجُنَيْدِ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَكَتَّمَ سِرًّا فَلْيَفْعَلْ كَمَا فَعَلَ رُوَيْمٌ , كَتَمَ حُبَّ الدُّنْيَا أَرْبَعِينَ سَنَةً , فَقِيلَ : وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : وَلِيَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي قَضَاءَ بَغْدَادَ , وَكَانَ بَيْنَهُمَا مَوَدَّةٌ أَكِيدَةٌ فَجَذَبَهُ إلَيْهِ , وَجَعَلَهُ وَكِيلًا عَلَى بَابِهِ , فَتَرَكَ لُبْسَ التَّصَوُّفِ , وَلَبِسَ الْخَزَّ وَالْقَصَبَ وَالدَّيْبَقَى , وَأَكَلَ الطَّيِّبَاتِ وَبَنَى الدُّورَ , وَإِذَا هُوَ كَانَ يَكْتُمُ حُبَّ الدُّنْيَا مَا لَمْ يَجِدْهَا , فَلَمَّا وَجَدَهَا ظَهَرَ مَا كَانَ يَكْتُمُ مِنْ حُبِّهَا . هَذَا مَعَ أَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ لَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ , وَكَانَ عَلَى مَذْهَبِ دَاوُد . وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْ صَاحِبِ حَالٍ , لَمْ يُفَكِّرْ فِي لَوَازِمِ أَقْوَالِهِ وَعَوَاقِبِهَا , لَا تَجْعَلُ طَرِيقَةً وَلَا تَتَّخِذُ سَبِيلًا , وَلَكِنْ قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَا لِصَاحِبِهَا مِنْ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ,

وَمَا مَعَهُ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي مَعْرِفَةِ حُقُوقِ الطَّرِيقِ , وَمَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ مِنْ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ , وَالرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَعْلَمُ بِطَرِيقِ سَبِيلِ اللَّهِ , وَأَهْدَى وَأَنْصَحُ , فَمَنْ خَرَجَ عَنْ سُنَّتِهِمْ وَسَبِيلِهِمْ كَانَ مَنْقُوصًا مُخْطِئًا مَحْرُومًا , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ كَافِرًا . وَيُشْبِهُ هَذَا { الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَرِيضٌ كَالْفَرْخِ , فَقَالَ : هَلْ كُنْت تَدْعُو اللَّهَ بِشَيْءٍ ؟ قَالَ : كُنْت أَقُولُ : اللَّهُمَّ مَا كُنْت مُعَذِّبُنِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَاجْعَلْهُ فِي الدُّنْيَا , فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ لَا تَسْتَطِيعُهُ وَلَا تُطِيقُهُ , هَلَّا قُلْت : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } } . فَهَذَا أَيْضًا حَمَلَهُ خَوْفُهُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ , وَمَحَبَّتُهُ لِسَلَامَةِ عَاقِبَتِهِ , عَلَى أَنْ يَطْلُبَ تَعْجِيلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا , وَكَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ غَالِطًا . وَالْخَطَأُ وَالْغَلَطُ مَعَ حُسْنِ الْقَصْدِ وَسَلَامَتِهِ , وَصَلَاحِ الرَّجُلِ وَفَضْلِهِ , وَدِينِهِ وَزُهْدِهِ , وَوَرَعِهِ وَكَرَامَاتِهِ , كَثِيرٌ جِدًّا , فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ وَلِيِّ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا مِنْ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ , بَلْ وَلَا مِنْ الذُّنُوبِ , وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ بَعْدَ الرُّسُلِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ لَمَّا عَبَّرَ الرُّؤْيَا : { أَصَبْت بَعْضًا وَأَخْطَأْت بَعْضًا } . وَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ , أَنَّ أَبَا

سُلَيْمَانَ لَمَّا قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ : لَوْ أَلْقَانِي فِي النَّارِ لَكُنْت بِذَلِكَ رَاضِيًا , أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النَّاسِ حَكَاهُ بِمَا فَهِمَهُ مِنْ الْمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ : الرِّضَا أَنْ لَا تَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَا تَسْتَعِيذَهُ مِنْ النَّارِ . وَتِلْكَ الْكَلِمَةُ الَّتِي قَالَهَا أَبُو سُلَيْمَانَ , مَعَ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِذَلِكَ , وَلَكِنْ تَدُلُّ عَلَى عَزْمِهِ بِالرِّضَا بِذَلِكَ , فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَزْمَ لَا يَسْتَمِرُّ , بَلْ يَنْفَسِخُ , وَأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَانَ تَرْكُهَا أَحْسَنَ مِنْ قَوْلِهَا , وَأَنَّهَا مُسْتَدْرَكَةٌ , كَمَا اسْتَدْرَكَتْ دَعْوَى سَمْنُونٍ , وَرُوَيْمٍ , وَغَيْرُ ذَلِكَ , فَإِنَّ بَيْنَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَتِلْكَ فَرْقًا عَظِيمًا , فَإِنَّ تِلْكَ الْكَلِمَةَ مَضْمُونُهَا أَنَّ مَنْ سَأَلَ الْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ مِنْ النَّارِ لَا يَكُونُ رَاضِيًا . وَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ : أَنَا إذْ أَفْعَلُ كَذَا كُنْت رَاضِيًا , وَبَيْنَ مَنْ يَقُولُ : لَا يَكُونُ رَاضِيًا إلَّا مَنْ لَا يَطْلُبُ خَيْرًا , وَلَا يَهْرُبُ مِنْ شَرٍّ . وَبِهَذَا وَغَيْرِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا سُلَيْمَانَ كَانَ أَجَلَّ مِنْ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ , فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا سُلَيْمَانَ مِنْ أَجِلَّاءِ الْمَشَايِخِ وَسَادَاتِهِمْ , وَمِنْ أَتْبَعِهِمْ لِلشَّرِيعَةِ , حَتَّى إنَّهُ قَالَ : " إنَّهُ لَيَمُرُّ بِقَلْبِيِّ النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ " , فَمَنْ لَا يَقْبَلُ نُكَتَ قَلْبِهِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ ؟ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَيْضًا : لَيْسَ لِمَنْ أُلْهِمَ شَيْئًا

مِنْ الْخَيْرِ أَنْ يَفْعَلَهُ حَتَّى يَسْمَعَ فِيهِ بِأَثَرٍ , فَإِذَا سَمِعَ فِيهِ بِأَثَرٍ كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ , بَلْ صَاحِبُهُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيُّ كَانَ مِنْ أَتْبَعْ الْمَشَايِخِ لِلسُّنَّةِ , فَكَيْفَ أَبُو سُلَيْمَانَ .
324 - 324 - 12 - مَسْأَلَةٌ : فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ } . هَلْ هُوَ بِالْخَفْضِ أَوْ بِالضَّمِّ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , أَمَّا الْأُولَى فَبِالْخَفْضِ , وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَبِالضَّمِّ , وَالْمَعْنَى : أَنَّ صَاحِبَ الْجَدِّ لَا يَنْفَعُهُ مِنْكَ جَدُّهُ , أَيْ لَا يُنْجِيهِ وَيُخَلِّصُهُ مِنْكَ جَدُّهُ , وَإِنَّمَا يُنْجِيهِ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ , وَالْجَدُّ هُوَ الْغِنَى وَهُوَ الْعَظَمَةُ وَهُوَ الْمَالُ . بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَنْ كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا رِيَاسَةٌ وَمَالٌ , لَمْ يُنْجِهِ ذَلِكَ وَلَمْ يُخَلِّصْهُ مِنْ اللَّهِ , وَإِنَّمَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِهِ إيمَانُهُ وَتَقْوَاهُ , فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ . وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ . وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ } . فَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ , وَهُوَ أَنْ لَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ اللَّهُ , وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَاهُ , وَلَا يُتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يُسْأَلُ إلَّا هُوَ . وَالثَّانِي : تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ , وَهُوَ بَيَانُ مَا يَنْفَعُ وَمَا لَا يَنْفَعُ , وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أُعْطِيَ مَالًا أَوْ دُنْيَا أَوْ رِيَاسَةً كَانَ ذَلِكَ

نَافِعًا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ , مُنْجِيًا لَهُ مِنْ عَذَابِهِ , فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ . وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إلَّا مَنْ يُحِبُّ . قَالَ تَعَالَى : { فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلًّا } . يَقُولُ : مَا كُلُّ مَنْ وَسَّعْتُ عَلَيْهِ أَكْرَمْتُهُ , وَلَا كُلُّ مَنْ قَدَرْت عَلَيْهِ أَكُونُ قَدْ أَهَنْته , بَلْ هَذَا ابْتِلَاءٌ لِيَشْكُرَ الْعَبْدُ عَلَى السَّرَّاءِ , وَيَصْبِرَ عَلَى الضَّرَّاءِ , فَمَنْ رُزِقَ الشُّكْرَ وَالصَّبْرَ كَانَ كُلُّ قَضَاءٍ يَقْضِيهِ اللَّهُ خَيْرًا لَهُ , كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ قَضَاءٍ إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ . وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ : إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ . وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ } . وَتَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا فَيُطِيعَهُ وَيُطِيعَ رُسُلَهُ , وَيَفْعَلَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ , وَأَمَّا تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ فَيَدْخُلُ مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّا أَمَرَ بِهِ وَأَوْجَبَهُ وَأَرْضَاهُ . وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَيَفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ , وَهُوَ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ . وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ تَوْحِيدٌ لَهُ , فَيَقُولُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : أَسْأَلُكَ أَوْ أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِحَقِّ مَلَائِكَتِكَ , أَوْ بِحَقِّ أَنْبِيَائِكَ , أَوْ بِنَبِيِّكَ فُلَانٍ , أَوْ بِرَسُولِكَ فُلَانٍ , أَوْ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ , أَوْ بِزَمْزَمَ وَالْمَقَامِ , أَوْ بِالطُّورِ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الدُّعَاءِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَصْحَابِهِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ , بَلْ قَدْ نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ كَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ , لَا يَجُوزُ مِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ بِمَخْلُوقٍ وَلَا يَصِحُّ الْقَسَمُ بِغَيْرِ اللَّهِ , وَإِنْ سَأَلَهُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ وَوَسِيلَةٌ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ , أَمَّا إذَا سَأَلَ اللَّهَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَبِدُعَاءِ نَبِيِّهِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ , فَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ سَبَبٌ لِلْإِثَابَةِ وَالدُّعَاءُ سَبَبٌ لِلْإِجَابَةِ , فَسُؤَالُهُ بِذَلِكَ سُؤَالٌ بِمَا هُوَ سَبَبٌ لِنَيْلِ الْمَطْلُوبِ , وَهَذَا مَعْنَى مَا يُرْوَى فِي دُعَاءِ الْخُرُوجِ إلَى الصَّلَاةِ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا . وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْغَارِ الَّذِينَ دَعَوْا اللَّهَ بِأَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ , فَالتَّوَسُّلُ إلَى اللَّهِ بِالنَّبِيِّينَ هُوَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِمْ وَبِطَاعَتِهِمْ كَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ أَوْ بِدُعَائِهِمْ وَشَفَاعَتِهِمْ , وَأَمَّا نَفْسُ ذَوَاتِهِمْ فَلَيْسَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي حُصُولَ مَطْلُوبِ الْعَبْدِ ,

وَإِنْ كَانَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ الْجَاهُ الْعَظِيمُ وَالْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ بِسَبَبِ إكْرَامِ اللَّهِ لَهُمْ وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِمْ , وَفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ , وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي إجَابَةَ دُعَاءِ غَيْرِهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ مِنْهُ إلَيْهِمْ كَالْإِيمَانِ بِهِمْ , وَالطَّاعَةِ لَهُمْ أَوْ بِسَبَبٍ مِنْهُمْ إلَيْهِ كَدُعَائِهِمْ لَهُ وَشَفَاعَتِهِمْ فِيهِ , فَهَذَانِ الشَّيْئَانِ يُتَوَسَّلُ بِهِمَا , وَأَمَّا الْإِقْسَامُ بِالْمَخْلُوقِ فَلَا , وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ مِنْ قَوْلِهِ : { إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِجَاهِي , فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } " حَدِيثٌ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا الْأَشْجَارُ , وَالْأَحْجَارُ , وَالْعُيُونُ , وَنَحْوُهَا مِمَّا يَنْذِرُ لَهَا بَعْضُ الْعَامَّةِ أَوْ يُعَلِّقُونَ بِهَا خِرَقًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ , أَوْ يَأْخُذُونَ وَرَقَهَا يَتَبَرَّكُونَ بِهِ , أَوْ يُصَلُّونَ عِنْدَهَا , أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ وَهُوَ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى , { وَقَدْ كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ شَجَرَةٌ يُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُسَمُّونَهَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ , كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ . فَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ , قُلْتُمْ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ , إنَّهَا السُّنَنُ , لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ , وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي الطَّرِيقِ لَفَعَلْتُمُوهُ } " . وَقَدْ بَلَغَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ قَوْمًا يَقْصِدُونَ الصَّلَاةَ عِنْدَ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَهَا بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ الَّتِي بَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَهَا , فَأَمَرَ بِتِلْكَ الشَّجَرَةِ فَقُطِعَتْ , وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الدِّينِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ عِبَادَةً فِي بُقْعَةٍ مِنْ هَذِهِ الْبِقَاعِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَذْرًا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ , وَلَا مَزِيَّةَ لِلْعِبَادَةِ فِيهَا . فَصْلٌ : وَأَصْلُ هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بُقْعَةٌ تُقْصَدُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ فِيهَا بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ

وَالْقِرَاءَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , إلَّا مَسَاجِدَ الْمُسْلِمِينَ , وَمَشَاعِرَ الْحَجِّ , وَأَمَّا الْمَشَاهِدُ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ سَوَاءٌ جُعِلَتْ مَسَاجِدَ , أَوْ لَمْ تُجْعَلْ أَوْ الْمَقَامَاتُ الَّتِي تُضَافُ إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ , أَوْ الصَّالِحِينَ , أَوْ الْمَغَارَاتُ وَالْكُهُوفُ , أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِثْلُ الطُّورِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى , وَمِثْلُ غَارِ حِرَاءَ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَنَّثُ فِيهِ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ , وَالْغَارُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ } . وَالْغَارُ الَّذِي بِجَبَلِ قَاسِيُونَ بِدِمَشْقَ " الَّذِي يُقَالُ لَهُ " مَغَارَةُ الذَّمِّ " وَالْمَقَامَانِ اللَّذَانِ بِجَانِبَيْهِ الشَّرْقِيِّ وَالْغَرْبِيِّ , يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا مَقَامُ إبْرَاهِيمَ " وَيُقَالُ لِلْآخَرِ " مَقَامُ عِيسَى " وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْبِقَاعَ وَالْمَشَاهِدَ فِي شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا . فَهَذِهِ لَا يُشْرَعُ السَّفَرُ إلَيْهَا لِزِيَارَتِهَا , وَلَوْ نَذَرَ نَاذِرٌ السَّفَرَ إلَيْهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ , بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ , وَأَبِي سَعِيدٍ , وَهُوَ يُرْوَى عَنْ غَيْرِهِمَا : أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } " . وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحُوا هَذِهِ الْبِلَادَ : بِلَادَ الشَّامِ , وَالْعِرَاقِ , وَمِصْرَ ,

وَخُرَاسَانَ , وَالْمَغْرِبِ , وَغَيْرَهَا : لَا يَقْصِدُونَ هَذِهِ الْبِقَاعَ وَلَا يَزُورُونَهَا وَلَا يَقْصِدُونَ الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ فِيهَا , بَلْ كَانُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّهِمْ يُعَمِّرُونَ الْمَسَاجِدَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } . وَقَالَ { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأُقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } . وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَسُوقِهِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ لَا يُنْهِزُهُ إلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ كَانَتْ خُطْوَتَاهُ إحْدَاهُمَا تَرْفَعُ دَرَجَةً وَالْأُخْرَى تَحُطُّ خَطِيئَةً فَإِذَا جَلَسَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ كَانَ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَإِذَا قَضَى الصَّلَاةَ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِهِمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ . تَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ } " . وَقَدْ تَنَازَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيمَنْ سَافَرَ لِزِيَارَةِ قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَشَاهِدِ وَالْمُحَقِّقُونَ , مِنْهُمْ قَالُوا : إنَّ هَذَا سَفَرُ مَعْصِيَةٍ وَلَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِيهِ

كَمَنْ لَا يَقْصُرُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ : أَنَّ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ فِي الْإِسْلَامِ بَلْ نَفْسُ قَصْدِ هَذِهِ الْبِقَاعِ لِلصَّلَاةِ فِيهَا وَالدُّعَاءِ , لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي شَرِيعَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ هَذِهِ الْبِقَاعَ لِلدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ , بَلْ لَا يَقْصِدُونَ إلَّا مَسَاجِدَ اللَّهِ , بَلْ الْمَسَاجِدُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ لَا يَقْصِدُونَهَا أَيْضًا كَمَسْجِدِ الضِّرَارِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَاَلَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلَّا الْحُسْنَى وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ , لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } . بَلْ الْمَسَاجِدُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا وَبِنَاؤُهَا مُحَرَّمٌ , كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ , لِمَا اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّحَاحِ , وَالسُّنَنِ , وَالْمَسَانِيدِ , أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } "

. وَقَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : { لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } " يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا . قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ , وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا , وَكَانَتْ حُجْرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجَةً عَنْ مَسْجِدِهِ , فَلَمَّا كَانَ فِي إمْرَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَامِلِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ أَنْ يَزِيدَ فِي الْمَسْجِدِ فَاشْتَرَى حُجَرَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ شَرْقِيَّ الْمَسْجِدِ , وَقِبْلَتَهُ فَزَادَهَا فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَتْ الْحُجْرَةُ إذْ ذَاكَ فِي الْمَسْجِدِ وَبَنَوْهَا مُسَنَّمَةً عَنْ سَمْتِ الْقِبْلَةِ لِئَلَّا يَصِلَ أَحَدٌ إلَيْهَا . وَكَذَلِكَ قَبْرُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ لَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْبِلَادَ كَانَ عَلَيْهِ السُّورُ السُّلَيْمَانِيُّ , وَلَا يَدْخُلُ إلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عِنْدَهُ , بَلْ كَانَ يُصَلِّي الْمُسْلِمُونَ بِقَرْيَةِ الْخَلِيلِ بِمَسْجِدٍ هُنَاكَ , وَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ , إلَى أَنْ نُقِبَ ذَلِكَ السُّوَرُ , ثُمَّ جُعِلَ فِيهِ بَابٌ , وَيُقَالُ إنَّ النَّصَارَى هُمْ نَقَبُوهُ وَجَعَلُوهُ كَنِيسَةً , ثُمَّ لَمَّا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ الْبِلَادَ جُعِلَ ذَلِكَ مَسْجِدًا . وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ الصَّالِحُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يُصَلُّونَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ , هَذَا إذَا كَانَ الْقَبْرُ صَحِيحًا , فَكَيْفَ وَعَامَّةُ الْقُبُورِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى الْأَنْبِيَاءِ كَذِبٌ , مِثْلُ :

الْقَبْرِ الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ قَبْرُ نُوحٍ , فَإِنَّهُ كَذِبٌ لَا رَيْبَ فِيهِ , وَإِنَّمَا أَظْهَرَهُ الْجُهَّالُ مِنْ مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ وَكَذَلِكَ قَبْرُ غَيْرِهِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا عَسْقَلَانُ فَإِنَّهَا كَانَتْ ثَغْرًا مِنْ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ صَالِحُو الْمُسْلِمِينَ يُقِيمُونَ بِهَا لِأَجْلِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَهَكَذَا سَائِرُ الْبِقَاعِ الَّتِي مِثْلُ هَذَا الْجِنْسِ , مِثْلُ : جَبَلِ لُبْنَانَ , وَالْإِسْكَنْدَرِيَّة , وَمِثْلُ عَبَّادَانِ , وَنَحْوِهَا بِأَرْضِ الْعِرَاقِ , وَمِثْلُ قَزْوِينَ , وَنَحْوِهَا مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي كَانَتْ ثُغُورًا , فَهَذِهِ كَانَ الصَّالِحُونَ يَقْصِدُونَهَا لِأَجْلِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا مَاتَ مُجَاهِدًا وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ } " . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ : عَنْ عُثْمَانَ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ } " . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : لَأَنْ أُرَابِطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ . وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّ الرِّبَاطَ بِالثُّغُورِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوِرَةِ بِالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ , لِأَنَّ الْمُرَابَطَةَ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ ,

وَالْمُجَاوَرَةُ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ وَجِنْسُ الْجِهَادِ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } . فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي تَعْظِيمِ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ ثُمَّ مِنْ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ مَا سَكَنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْكُفَّارُ وَأَهْلُ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ , وَمِنْهَا مَا خَرِبَ وَصَارَ ثَغْرًا غَيْرُ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ وَالْبِقَاعِ تَتَغَيَّرُ أَحْكَامُهَا بِتَغَيُّرِ أَحْوَالِ أَهْلِهَا , فَقَدْ تَكُونُ الْبُقْعَةُ دَارَ كُفْرٍ إذَا كَانَ أَهْلُهَا كُفَّارًا , ثُمَّ تَصِيرُ دَارَ إسْلَامٍ إذَا أَسْلَمَ أَهْلُهَا كَمَا كَانَتْ مَكَّةُ شَرَّفَهَا اللَّهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ دَارَ كُفْرٍ وَحَرْبٍ , وَقَالَ اللَّهُ فِيهَا : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } . ثُمَّ لَمَّا فَتَحَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ , وَهِيَ فِي نَفْسِهَا أُمُّ الْقُرَى وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إلَى اللَّهِ , وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ كَانَ فِيهَا الْجَبَّارُونَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى , كَمَا قَالَ تَعَالَى

: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ اُدْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } الْآيَاتِ . وَقَالَ تَعَالَى لَمَّا أَنْجَى مُوسَى وَقَوْمَهُ مِنْ الْغَرَقِ : { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } . وَكَانَتْ تِلْكَ الدِّيَارُ دِيَارَ الْفَاسِقِينَ لَمَّا كَانَ يَسْكُنُهَا إذْ ذَاكَ الْفَاسِقُونَ . ثُمَّ لَمَّا سَكَنَهَا الصَّالِحُونَ صَارَتْ دَارَ الصَّالِحِينَ , وَهَذَا أَصْلٌ يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ , فَإِنَّ الْبَلَدَ قَدْ تُحْمَدُ أَوْ تَذُمُّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِحَالِ أَهْلِهِ , ثُمَّ يَتَغَيَّرُ حَالُ أَهْلِهِ فَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ فِيهِمْ إذْ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَوْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ , وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ , وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ , وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ إلَّا

بِالتَّقْوَى , النَّاسُ بَنُو آدَمَ , وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ } " . وَكَتَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إلَى سُلَيْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ آخَى بَيْنَهُمَا لَمَّا آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ , وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ بِالشَّامِ وَسَلْمَانَ بِالْعِرَاقِ نَائِبًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : أَنْ هَلُمَّ إلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَكَتَبَ إلَيْهِ سَلْمَانُ إنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الرَّجُلُ عَمَلَهُ . فَصْلٌ : وَقَدْ تَبَيَّنَّ الْجَوَابُ فِي سَائِرِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّ قَصْدَ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَمَا يُقَالُ إنَّهُ قَدَمُ نَبِيٍّ , أَوْ أَثَرُ نَبِيٍّ , أَوْ قَبْرُ نَبِيٍّ , أَوْ قَبْرُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ , أَوْ بَعْضِ الشُّيُوخِ , أَوْ بَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ , أَوْ الْأَبْرَاجِ , أَوْ الْغَيْرِ إنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ الْمُنْكَرَةِ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَشْرَعْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا كَانَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ يَفْعَلُونَهُ , وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ وَذَرَائِعِ الْإِفْكِ , وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إذَا عَثَرَ : يَا جَاهَ مُحَمَّدٍ , يَا لَلسِّتِّ نَفِيسَةَ , أَوْ يَا سَيِّدِي الشَّيْخُ فُلَانٌ , أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ اسْتِعَانَتُهُ وَسُؤَالُهُ فَهُوَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الشِّرْكِ , فَإِنَّ الْمَيِّتَ سَوَاءٌ كَانَ نَبِيًّا أَوْ غَيْرَ نَبِيٍّ لَا يُدْعَى , وَلَا يُسْأَلُ , وَلَا

يُسْتَغَاثُ بِهِ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ , وَلَا مَعَ الْبُعْدِ مِنْ قَبْرِهِ , بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ دِينِ النَّصَارَى الَّذِينَ { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } , وَمِنْ جِنْسِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ { قُلْ اُدْعُوَا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّك كَانَ مَحْذُورًا } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ , وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَصْلٌ : وَكَذَلِكَ النَّذْرُ لِلْقُبُورِ أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ كَالنَّذْرِ لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ أَوْ لِلشَّيْخِ فُلَانٍ , أَوْ فُلَانٍ , أَوْ فُلَانٍ , أَوْ لِبَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ , أَوْ غَيْرِهِمْ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ بَلْ وَلَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ , فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ

فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } " . فَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَبْنِي عَلَى الْقُبُورِ الْمَسَاجِدَ وَيُسْرِجُ فِيهَا السُّرُجَ : كَالْقَنَادِيلِ , وَالشَّمْعِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ هَذَا مَلْعُونًا فَاَلَّذِي يَضَعُ فِيهَا قَنَادِيلَ الذَّهَبِ , وَالْفِضَّةِ , وَشَمْعِدَانَ الذَّهَبِ , وَالْفِضَّةِ , وَيَضَعُهَا عِنْدَ الْقُبُورِ أَوْلَى بِاللَّعْنَةِ , فَمَنْ نَذَرَ زَيْتًا أَوْ شَمْعًا , أَوْ ذَهَبًا , أَوْ فِضَّةً , أَوْ سِتْرًا , أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لِيُجْعَلَ عِنْدَ قَبْرِ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ , أَوْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ , أَوْ الْقَرَابَةِ , أَوْ الْمَشَايِخِ , فَهُوَ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ , وَهَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ , وَإِنْ تَصَدَّقَ بِمَا نَذَرَهُ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ الصَّالِحِينَ , كَانَ خَيْرًا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَنْفَعَ لَهُ , فَإِنَّ هَذَا عَمَلٌ صَالِحٌ يُثِيبُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ , فَإِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ , وَلَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . وَالْمُتَصَدِّقُ يَتَصَدَّقُ لِوَجْهِ اللَّهِ وَلَا يَطْلُبُ أَجْرَهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ , بَلْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى , الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى , وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى , إلَّا ابْتِغَاءَ

وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى , وَلَسَوْفَ يَرْضَى } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ } الْآيَةَ . وَقَالَ عَنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ : { إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شَكُورًا } . وَلِهَذَا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ بِغَيْرِ اللَّهِ , مِثْلُ الَّذِي يَقُولُ كَرَامَةً لِأَبِي بَكْرٍ , وَلِعَلِيٍّ , أَوْ لِلشَّيْخِ فُلَانٍ , أَوْ الشَّيْخِ فُلَانٍ بَلْ لَا يُعْطِي إلَّا مَنْ سَأَلَ لِلَّهِ , وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّ إخْلَاصَ الَّذِي لِلَّهِ وَاجِبٌ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ : كَالصَّلَاةِ , وَالصَّدَقَةِ , وَالصِّيَامِ , وَالْحَجِّ , فَلَا يَصْلُحُ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ وَلَا الصِّيَامُ إلَّا لِلَّهِ , وَلَا الْحَجُّ إلَّا إلَى بَيْتِ اللَّهِ , وَلَا الدُّعَاءُ إلَّا لِلَّهِ , قَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدَّيْنُ كُلُّهُ لِلَّهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ , إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } . وَهَذَا هُوَ أَصْلُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نَعْبُدَهُ إلَّا بِمَا شَرَعَ , لَا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ

بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } . قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ . قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ . قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ . هَذَا كُلُّهُ لِأَنَّ الدِّينَ دِينُ اللَّهِ بَلَّغَهُ عَنْهُ رَسُولُهُ فَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ , وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ , وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَمَّ الْمُشْرِكِينَ , لِأَنَّهُمْ شَرَعُوا فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ , فَحَرَّمُوا أَشْيَاءَ لَمْ يُحَرِّمْهَا اللَّهُ كَالْبَحِيرَةِ , وَالسَّائِبَةِ , وَالْوَصِيلَةِ , وَالْحَامِي وَشَرَعُوا دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ وَعِبَادَتِهِ وَالرَّهْبَانِيَّةِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا النَّصَارَى . وَالْإِسْلَامُ دِينُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ كُلُّهُمْ بُعِثُوا بِالْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { يَا قَوْمِ إنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ

اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاَللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَوْحَيْت إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ } " فَدِينُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ دِينٌ وَاحِدٌ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ , وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَشَرَعَهُ , كَمَا قَالَ : { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ } . وَإِنَّمَا يَتَنَوَّعُ فِي هَذَا الدِّينِ الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ , كَمَا قَالَ : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } . كَمَا يَتَنَوَّعُ شَرِيعَةُ الرَّسُولِ الْوَاحِدِ . فَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ , ثُمَّ أَمَرَهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ , وَهَذَا فِي وَقْتِهِ

كَانَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ , وَكَذَلِكَ شَرِيعَةُ التَّوْرَاةِ فِي وَقْتِهَا كَانَتْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ , وَشَرِيعَةُ الْإِنْجِيلِ فِي وَقْتِهِ كَانَتْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ , وَمَنْ آمَنَ بِالتَّوْرَاةِ ثُمَّ كَذَّبَ بِالْإِنْجِيلِ خَرَجَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ , وَكَانَ كَافِرًا , وَكَذَلِكَ مَنْ آمَنَ بِالْكِتَابَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ , وَكَذَّبَ بِالْقُرْآنِ كَانَ كَافِرًا خَارِجًا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَجَمِيعِ الرُّسُلِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } الْآيَةَ .
344 - 344 - 14 - وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى , عَنْ رَجُلٍ أَفْطَرَ نَهَارَ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا , ثُمَّ جَامَعَ : فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ؟ أَمْ الْقَضَاءُ بِلَا كَفَّارَةٍ ؟ فَأَجَابَ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ . وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتَجِبُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ , وَأَحْمَدَ , وَأَبِي حَنِيفَةَ , وَلَا تَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ .

345 - 345 - 15 - وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى , عَنْ رَجُلٍ وَطِئَ امْرَأَتَهُ وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مُعْتَقِدًا بَقَاءَ اللَّيْلِ , ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ , فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِأَهْلِ الْعِلْمِ : أَحَدُهَا : أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ , وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ . وَالثَّانِي : أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ , وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ , وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيِّ , وَمَالِكٍ . وَالثَّالِثُ : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ , وَلَا كَفَّارَةَ . وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ السَّلَفِ : كَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , وَمُجَاهِدٍ , وَالْحَسَنِ , وَإِسْحَاقَ , وَدَاوُد , وَأَصْحَابِهِ وَالْخَلَفِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : مَنْ أَكَلَ مُعْتَقِدًا طُلُوعَ الْفَجْرِ , ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَطْلُعْ . فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ , وَأَشْبَهَهَا بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ , وَدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَهُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ , فَإِنَّ اللَّهَ رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ النَّاسِي , وَالْمُخْطِئِ . وَهَذَا مُخْطِئٌ , وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ الْأَكْلَ وَالْوَطْءَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ , وَاسْتُحِبَّ تَأْخِيرُ السَّحُورِ , وَمَنْ فَعَلَ مَا نُدِبَ إلَيْهِ , وَأُبِيحَ لَهُ , لَمْ يُفَرِّطْ فَهَذَا أَوْلَى بِالْعُذْرِ مِنْ النَّاسِي , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

346 - 346 - 16 - وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى , عَمَّا إذَا قَبَّلَ زَوْجَتَهُ , أَوْ ضَمَّهَا , فَأَمْذَى . هَلْ يُفْسِدُ ذَلِكَ صَوْمَهُ ؟ أَمْ لَا ؟ . فَأَجَابَ : يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِذَلِكَ , عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ .
وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَرِهَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ : زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَالِكٌ قَدْ أَدْرَكَ النَّاسَ مِنْ التَّابِعِينَ , وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ عِنْدَهُمْ أَلْفَاظُ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَقِفَ مُسْتَقْبِلَ الْقَبْرِ يَدْعُو : بَلْ وَكَرِهَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنْ يَقُومَ لِلدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ هُنَاكَ , وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ , وَأَنَّهُ لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا . وَقَدْ ذَكَرُوا فِي أَسْبَابِ كَرَاهَتِهِ , أَنْ يَقُولَ : زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ , لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُرِيدُ بِهِ الزِّيَارَةَ الْبِدْعِيَّةَ , وَهِيَ قَصْدُ الْمَيِّتِ لِسُؤَالِهِ , وَدُعَائِهِ , وَالرَّغْبَةُ إلَيْهِ فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ , وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ , فَهُمْ يَعْنُونَ بِلَفْظِ الزِّيَارَةِ مِثْلَ هَذَا , وَهَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ , فَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فَاسِدٍ , بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالسَّلَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ . أَمَّا لَفْظُ

الزِّيَارَةِ فِي عُمُومِ الْقُبُورِ فَقَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُمَا مِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ : { فَزُورُوا الْقُبُورَ . فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } مَعَ زِيَارَتِهِ لِقَبْرِ أُمِّهِ , فَإِنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ زِيَارَةَ قُبُورِ الْكُفَّارِ , فَلَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ زِيَارَةُ الْمَيِّتِ لِدُعَائِهِ وَسُؤَالِهِ , وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ ; بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَزُورُ مُعَظَّمًا فِي الدِّينِ : كَالْأَنْبِيَاءِ , وَالصَّالِحِينَ . فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَعْنِي بِزِيَارَةِ قُبُورِهِمْ هَذِهِ الزِّيَارَةَ الْبِدْعِيَّةَ وَالشِّرْكِيَّةَ , فَلِهَذَا كَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذَا . وَإِنْ لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَيْسَ فِيهِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ . فَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَرْوِيَ بِإِسْنَادٍ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ شَيْئًا فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ الثَّابِتُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ يُنَاقِضُ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ الَّذِي تَرْوِيهِ الْجُهَّالُ بِهَذَا اللَّفْظِ . كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا , وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُمَا كُنْتُمْ } . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ , وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {

إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ , أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ , فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } . وَأَشْبَاهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِي الصِّحَاحِ , وَالسُّنَنِ , وَالْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ . فَكَيْفَ يَعْدِلُ مَنْ لَهُ عِلْمٌ وَإِيمَانٌ عَنْ مُوجِبِ هَذِهِ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ , إلَى مَا يُنَاقِضُ مَعْنَاهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَمْ يُثْبِتْ مِنْهَا شَيْئًا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ .

392 - 392 - 32 - سُئِلَ : عَنْ زِيَارَةِ النِّسَاءِ الْقُبُورَ : هَلْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ , وَابْنُ مَاجَهْ , وَالتِّرْمِذِيُّ , وَصَحَّحَهُ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ , وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ : أَبُو دَاوُد , وَالنَّسَائِيُّ , وَالتِّرْمِذِيُّ , وَابْنُ مَاجَهْ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ , وَأَخْرَجَهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ . وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ نَهَى زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ عَنْ ذَلِكَ , فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا , فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } . فَإِنْ قِيلَ : فَالنَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ , كَمَا قَالَ ذَلِكَ أَهْلُ الْقَوْلِ الْآخَرِ . قِيلَ : هَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ : { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا } هَذَا خِطَابٌ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ , فَإِنَّ اللَّفْظَ لَفْظٌ مُذَكَّرٌ , وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالذُّكُورِ , أَوْ مُتَنَاوِلٌ لِغَيْرِهِمْ بِطَرِيقِ التَّبَعِ . فَإِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِهِمْ فَلَا ذِكْرَ لِلنِّسَاءِ , وَإِنْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِغَيْرِهِمْ كَانَ هَذَا

اللَّفْظُ عَامًّا , وَقَوْلُهُ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ } خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ , أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } فَاَلَّذِي يَتَّخِذُونَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ , سَوَاءٌ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا , وَأَمَّا الَّذِينَ يَزُورُونَ فَإِنَّمَا لَعَنَ النِّسَاءَ الزَّوَّارَاتِ دُونَ الرِّجَالِ , وَإِذَا كَانَ هَذَا خَاصًّا وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الرُّخْصَةِ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعَامِّ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ , كَذَلِكَ لَوْ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَهَا . وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ , وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ } فَهَذَا عَامٌّ وَالنِّسَاءُ لَمْ يَدْخُلْنَ فِي ذَلِكَ , لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ نَهَى النِّسَاءَ عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ . عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : { سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي نُشَيِّعُ مَيِّتًا , فَلَمَّا فَرَغْنَا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْصَرَفْنَا مَعَهُ , فَلَمَّا تَوَسَّطْنَا الطَّرِيقَ إذَا نَحْنُ بِامْرَأَةٍ مُقْبِلَةٍ , فَلَمَّا دَنَتْ إذَا هِيَ فَاطِمَةُ , فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَخْرَجَك يَا فَاطِمَةُ مِنْ بَيْتِك ؟ , قَالَتْ : أَتَيْت يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ فَعَزَّيْنَاهُمْ بِمَيِّتِهِمْ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَعَلَّك بَلَغْت مَعَهُمْ

الْكُدَى , أَمَا إنَّك لَوْ بَلَغْت مَعَهُمْ الْكُدَى مَا رَأَيْت الْجَنَّةَ , حَتَّى يَرَاهَا جَدُّ أَبِيك } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ , وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ , وَقَدْ فَسَّرَ " الْكُدَى " بِالْقُبُورِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
393 - 393 - 33 - سُئِلَ : هَلْ الْمَيِّتُ يَسْمَعُ كَلَامَ زَائِرِهِ , وَيَرَى شَخْصَهُ ؟ وَهَلْ تُعَادُ رُوحُهُ إلَى جَسَدِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ , أَمْ تَكُونُ تُرَفْرِفُ عَلَى قَبْرِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَغَيْرِهِ ؟ وَهَلْ تَصِلُ إلَيْهِ الْقِرَاءَةُ وَالصَّدَقَةُ مِنْ نَاحِلِيهِ وَغَيْرِهِمْ , سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْمَالِ الْمَوْرُوثِ عَنْهُ وَغَيْرِهِ ؟ وَهَلْ تُجْمَعُ رُوحُهُ مَعَ أَرْوَاحِ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَهُ , سَوَاءٌ كَانَ مَدْفُونًا قَرِيبًا مِنْهُمْ أَوْ بَعِيدًا ؟ وَهَلْ تُنْقَلُ رُوحُهُ إلَى جَسَدِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ , أَوْ يَكُونُ بَدَنُهُ إذَا مَاتَ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ ؟ وَدُفِنَ بِهَا يُنْقَلُ إلَى الْأَرْضِ الَّتِي وُلِدَ بِهَا , وَهَلْ يَتَأَذَّى بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ ؟ وَالْمَسْئُولُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْفُصُولِ - فَصْلًا , فَصْلًا - جَوَابًا وَاضِحًا , مُسْتَوْعِبًا لِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَمَا نُقِلَ فِيهِ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ , وَشَرْحِ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ : أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ , وَاخْتِلَافِهِمْ , وَمَا الرَّاجِحُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ . مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَعَمْ يَسْمَعُ الْمَيِّتُ فِي الْجُمْلَةِ , كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَنَّهُ قَالَ : { يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ } . وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّهُ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا , ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَالَ : يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ , يَا أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ , يَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ , يَا شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ , هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ فَإِنِّي وَجَدْت مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا فَسَمِعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , كَيْفَ يَسْمَعُونَ , وَأَنَّى يُجِيبُونَ , وَقَدْ جُيِّفُوا ؟ , فَقَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ , مَا أَنْتَ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ , وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ } , وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ فَقَالَ : هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ وَقَالَ : إنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الْآنَ مَا أَقُولُ } . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالسَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ . وَيَقُولُ : { قُولُوا السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ , وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ , وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ , نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ , اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ , وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ , وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ } فَهَذَا خِطَابٌ لَهُمْ , وَإِنَّمَا يُخَاطَبُ مَنْ يَسْمَعُ . وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ رَجُلٍ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { أَكْثِرُوا مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ , وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ , فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ , فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْك ؟ وَقَدْ أَرِمْت - يَعْنِي صِرْتُ رَمِيمًا - فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ } . وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِقَبْرِي مَلَائِكَةً يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ } . فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَأَمْثَالُهَا تُبَيِّنُ أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ فِي الْجُمْلَةِ كَلَامَ الْحَيِّ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ لَهُ دَائِمًا , بَلْ قَدْ يَسْمَعُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ كَمَا قَدْ يُعْرَضُ لِلْحَيِّ فَإِنَّهُ قَدْ يَسْمَعُ أَحْيَانًا خِطَابَ مَنْ يُخَاطِبُهُ , وَقَدْ لَا يَسْمَعُ لِعَارِضٍ يَعْرِضُ لَهُ , وَهَذَا السَّمْعُ سَمْعُ إدْرَاكٍ , لَيْسَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَزَاءٌ , وَلَا هُوَ السَّمْعُ الْمَنْفِيُّ بِقَوْلِهِ : { إنَّك لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } فَإِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ سَمْعُ الْقُبُورِ وَالِامْتِثَالِ . فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْكَافِرَ كَالْمَيِّتِ الَّذِي لَا يَسْتَجِيبُ لِمَنْ دَعَاهُ , وَكَالْبَهَائِمِ الَّتِي تَسْمَعُ الصَّوْتَ , وَلَا تَفْقَهُ الْمَعْنَى . فَالْمَيِّتُ وَإِنْ سَمِعَ الْكَلَامَ وَفَقِهَ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إجَابَةُ الدَّاعِي , وَلَا امْتِثَالَ مَا أُمِرَ بِهِ , وَنُهِيَ عَنْهُ

, فَلَا يَنْتَفِعُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ , وَإِنْ سَمِعَ الْخِطَابَ , وَفَهِمَ الْمَعْنَى . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ } وَأَمَّا رُؤْيَةُ الْمَيِّتِ : فَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا .
396 - 396 - 36 - سُئِلَ : عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالتَّعْزِيَةِ ؟ الْجَوَابُ : التَّعْزِيَةُ مُسْتَحَبَّةٌ , فَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ } أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : مَا نَقَصَ مِنْ عُمْرِهِ زَادَ فِي عُمْرِك , فَغَيْرُ مُسْتَحَبٍّ , بَلْ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْعَى لَهُ بِمَا يَنْفَعُ , مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : أَعْظَمُ اللَّهُ أَجْرَك وَأَحْسَنَ عَزَاك , وَغَفَرَ لِمَيِّتِك .
مَسْأَلَةٌ : فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ , فَلَمَّا دَخَلَ رَأَتْ بِجِسْمِهِ بَرَصًا فَهَلْ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ عَلَيْهِ النِّكَاحَ ؟ . الْجَوَابُ : إذَا ظَهَرَتْ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ فَلِلْآخِرِ فَسْخُ النِّكَاحِ , لَكِنْ إذَا رَضِيَ بَعْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ فَلَا فَسْخَ لَهُ , وَإِذَا فَسَخَتْ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ جِهَازِهَا , وَإِنْ فَسَخَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ مَهْرُهَا , وَإِنْ فَسَخَتْ بَعْدَهُ لَمْ يَسْقُطْ .

461 - 461 - 63 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ أَسْلَمَ هَلْ تَبْقَى لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى أَوْلَادِهِ الْكِتَابِيِّينَ ؟ . الْجَوَابُ : لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ فِي النِّكَاحِ , كَمَا لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمِيرَاثِ , فَلَا يُزَوِّجُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ , سَوَاءٌ كَانَتْ بِنْتَه أَوْ غَيْرَهَا , وَلَا يَرِثُ كَافِرٌ مُسْلِمًا , وَلَا مُسْلِمٌ كَافِرًا , وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَصْحَابِهِمْ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ , لَكِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا كَانَ مَالِكًا لِلْأَمَةِ زَوَّجَهَا بِحُكْمِ الْمِلْكِ , وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ وَلِيُّ أَمْرِ زَوْجِهَا بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ , وَإِمَّا بِالْقَرَابَةِ وَالْعَتَاقَةِ فَلَا يُزَوِّجُهَا , إذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا خِلَافٌ شَاذٌّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي النَّصْرَانِيِّ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ , كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يَرِثُهَا , وَهُمَا قَوْلَانِ شَاذَّانِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ , وَلَا يَتَزَوَّجُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَةَ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ قَطَعَ الْوِلَايَةَ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ , وَأَوْجَبَ الْبَرَاءَةَ بَيْنَهُمْ مِنْ الطَّرَفَيْنِ , وَأَثْبَتَ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ , فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآء مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَحْدَهُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ

الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا } إلَى قَوْلِهِ : { فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ } . وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَثْبَتَ الْوِلَايَةَ بَيْنَ أُولِي الْأَرْحَامِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } .

بَابُ الْوَلَاءِ مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ خَلَّفَ وَلَدًا ذَكَرًا , وَابْنَتَيْنِ غَيْرَ مُرْشِدَيْنِ , وَأَنَّ الْبِنْتَ الْوَاحِدَةَ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ وَوَكَّلَتْ زَوْجَهَا فِي قَبْضِ مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ إرْثِ وَالِدِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ , فَهَلْ لِلْأَخِ الْمَذْكُورِ الْوَلَاءُ عَلَيْهَا ؟ وَهَلْ يُطْلَبُ الزَّوْجُ بِمَا قَبَضَهُ , وَمَا صَرَفَهُ لِمَصْلَحَةِ الْيَتِيمَةِ ؟ . الْجَوَابُ : لِلْأَخِ الْوِلَايَةُ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ , فَإِذَا فَعَلْت فِي مَا لَا يَحِلُّ لَهَا نَهَاهَا عَنْ ذَلِكَ , وَمَنَعَهَا , وَأَمَّا الْحَجْرُ عَلَيْهَا إنْ كَانَتْ سَفِيهَةً فَلِوَصِيِّهَا إنْ كَانَ لَهَا وَصِيٌّ الْحَجْرُ عَلَيْهَا , وَإِلَّا فَالْحَاكِمُ يَحْجُرُ عَلَيْهَا , وَلِأَخِيهَا أَنْ يَرْفَعَ أَمْرَهَا إلَى الْحَاكِمِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
462 - 462 - 64 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَخَلَّفَ مُسْتَوْلَدَةً لَهُ , ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تُوُفِّيَتْ الْمُسْتَوْلَدَةُ وَخَلَّفَتْ وَلَدًا ذَكَرًا وَبِنْتَيْنِ , فَهَلْ لِلْبَنَاتِ وَلَاءٌ مَعَ الذَّكَرِ ؟ وَهَلْ يَرِثْنَ مَعَهُ شَيْئًا ؟ الْجَوَابُ : هَذَا فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ , أَحَدُهُمَا ; وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ : أَنَّ الْوَلَاءَ يَخْتَصُّ بِالذُّكُورِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ الْوَلَاءَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ , لِلذَّكَرِ كَمِثْلِ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

458 - 458 - 60 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَمَعَهَا بِنْتٌ , وَتُوُفِّيَتْ الزَّوْجَةُ , وَبَقِيَتْ الْبِنْتُ عِنْدَهُ رَبَّاهَا , وَقَدْ تَعَرَّضَ بَعْضُ الْجُنْدِ لِأَخْذِهَا , فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ . الْجَوَابُ : لَيْسَ لِلْجُنْدِ عَلَيْهَا وِلَايَةٌ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ بِالنَّسَبِ فَمَنْ كَانَ أَصْلَحَ لَهَا حَضَنَهَا , وَزَوْجُ أُمِّهَا مَحْرَمٌ لَهَا , وَأَمَّا الْجُنْدُ فَلَيْسَ مَحْرَمًا لَهَا , فَإِذَا كَانَ يَحْضُنُهَا حَضَانَةً تَصْلُحُهَا لَمْ تُنْقَلْ مِنْ عِنْدِهِ إلَى أَجْنَبِيٍّ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا وَالْخَلْوَةُ بِهَا .

464 - 464 - 66 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِوِلَايَةِ أَجْنَبِيٍّ , وَوَلِيُّهَا فِي مَسَافَةٍ دُونَ الْقَصْرِ , مُعْتَقِدًا أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ حَاكِمٌ , وَدَخَلَ بِهَا وَاسْتَوْلَدَهَا , ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا , ثُمَّ أَرَادَ رَدَّهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ , فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ لِبُطْلَانِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ إسْقَاطِ الْحَدِّ ؟ وَوُجُوبُ الْمَهْرِ , وَيُلْحَقُ النَّسَبُ وَيَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ ؟ . الْجَوَابُ : لَا يَجِبُ فِي هَذَا النِّكَاحِ حَدٌّ إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ , بَلْ يُلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ وَيَجِبُ فِيهِ الْمَهْرُ , وَلَا يَحْصُلُ الْإِحْصَانُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ , وَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ , إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ , وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُزَوِّجَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ بِحَالٍ , فَفَارَقَهَا الزَّوْجُ حِينَ عَلِمَ , فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ , وَالْحَالُ هَذِهِ , وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ .
472 - 472 - 74 - مَسْأَلَةٌ : فِيمَنْ بَرْطَلَ وَلِيَّ امْرَأَةٍ لِيُزَوِّجَهَا إيَّاهُ فَزَوَّجَهَا , ثُمَّ صَالَحَ صَاحِبَ الْمَالِ عَنْهُ , فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ ذَلِكَ دَرْكٌ ؟ الْجَوَابُ : آثِمٌ فِيمَا فَعَلَ , وَأَمَّا النِّكَاحُ فَصَحِيحٌ , وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ ذَلِكَ .

471 - 471 - 73 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ طَلَبَ مِنْهُ رَجُلٌ بِنْتَه لِنَفْسِهِ , قَالَ : مَا أُزَوِّجُك بِنْتِي حَتَّى تُزَوِّجَ بِنْتَك لِأَخِي , فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا التَّزْوِيجُ ؟ الْجَوَابُ : لَيْسَ لِلْوَلِيِّ ذَلِكَ , قِيلَ : إذَا طَلَبَ الْكُفْءُ بِنْتَه , وَجَبَ عَلَيْهِ تَزْوِيجُهَا , وَلَا يَحِلُّ مَنْعُهَا لِحَظِّ نَفْسِهِ , وَعَلَيْهِ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِمَّنْ يَكُونُ أَصْلَحَ لَهَا , وَيَنْظُرُ فِي مَصْلَحَتِهَا لَا فِي مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ , كَمَا يَنْظُرُ وَلِيُّ الْيَتِيمِ فِي مَالِهِ , وَإِذَا تَشَارَطَا أَنَّهُ لَا يُزَوِّجُهُ ابْنَتَهُ حَتَّى يُزَوِّجَهُ أُخْتَهُ , كَانَ هَذَا نِكَاحًا فَاسِدًا , وَلَوْ سُمِّيَ مَعَ ذَلِكَ صَدَاقٌ آخَرُ , هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

473 - 473 - 75 - مَسْأَلَةٌ : مَا قَوْلُكُمْ فِي الْعَمَلِ بِالسُّرَيْجِيَّةِ , وَهِيَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ : إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا , وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى مَسْأَلَةَ ابْنِ سُرَيْجٍ ؟ . الْجَوَابُ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ السُّرَيْجِيَّةُ لَمْ يُفْتِ بِهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّتِهَا لَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ , وَلَا أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعِينَ , كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , وَلَا أَصْحَابِهِمْ الَّذِينَ أَدْرَكُوهُمْ , كَأَبِي يُوسُفَ , وَمُحَمَّدٍ , وَالْمُزَنِيِّ , وَالْبُوَيْطِيِّ , وَابْنِ الْقَاسِمِ , وَابْنِ وَهْبٍ , وَإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ , وَأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ , وَأَبِي دَاوُد , وَغَيْرِهِمْ . لَمْ يُفْتِ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , وَإِنَّمَا أَفْتَى بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بَعْدَ هَؤُلَاءِ , وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ , كَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَمَالِكٍ , وَأَحْمَدَ , وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَكَانَ الْغَزَالِيُّ يَقُولُ بِهَا , ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا , وَبَيَّنَ فَسَادَهَا . وَقَدْ عُلِمَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ نِكَاحَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُ كَنِكَاحِ النَّصَارَى , وَالدُّورُ الَّذِي تَوَهَّمُوهُ فِيهَا بَاطِلٌ , فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ , وَهُوَ إنَّمَا يَقَعُ لَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا , وَالتَّعْلِيقُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى مُحَالٍ فِي الشَّرِيعَةِ , وَهُوَ وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ , فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ فِي الشَّرِيعَةِ , وَالتَّسْرِيجُ يَتَضَمَّنُ لِهَذَا

الْمُحَالِ فِي الشَّرِيعَةِ , فَيَكُونُ بَاطِلًا . وَإِذَا كَانَ قَدْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ , ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَلْيُمْسِكْ امْرَأَتَهُ , وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى , وَيَتُوبُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ . وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتَ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا , فَطَلَّقَهَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ عَلَى الرَّاجِحِ , وَلَا يَقَعُ مَعَهُ الْمُعَلَّقُ ; لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ وَهُوَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ لَمْ يَقَعْ الْمُنَجَّزُ لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى عَدَدِ الطَّلَاقِ , وَإِذَا لَمْ يَقَعْ الْمُنَجَّزُ لَمْ يَقَعْ الْمُعَلَّقُ . وَقِيلَ : لَا يَقَعُ شَيْءٌ ; لِأَنَّ وُقُوعَ الْمُنَجَّزِ يَقْتَضِي وُقُوعَ الْمُعَلَّقِ , وَوُقُوعُ الْمُعَلَّقِ يَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِ الْمُنَجَّزِ , وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ , وَابْنُ سُرَيْجٍ بَرِيءٌ مِمَّا نُسِبَ إلَيْهِ فِيمَا قَالَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ .

474 - 474 - 76 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ عَتِيقَةَ بَعْضِ بَنَاتِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يَشْتَرُوا الرَّقِيقَ مِنْ مَالِهِمْ وَمَالِ الْمُسْلِمِينَ , بِغَيْرِ إذْنِ مُعْتِقِهَا , فَهَلْ يَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : أَمَّا إذَا أَعْتَقَتْهَا مِنْ مَالِهَا عِتْقًا شَرْعِيًّا , فَالْوِلَايَةُ لَهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , وَهِيَ الَّتِي تَرِثُهَا , ثُمَّ أَقْرَبُ عَصَبَاتِهَا مِنْ بَعْدِهَا . وَأَمَّا تَزْوِيجُ هَذِهِ الْعَتِيقَةِ بِدُونِ إذْنِ الْمُعْتِقَةِ , فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ , فَإِنَّ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ إذْنَ الْوَلِيِّ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَقُولُ : بِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ يَصِحُّ عِنْدَهُ , لَكِنْ مَنْ يَشْتَرِطُ إذْنَ الْوَلِيِّ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ لَهُمْ قَوْلَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , وَهِيَ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ . إحْدَاهُمَا : أَنَّهَا لَا تُزَوَّجُ إلَّا بِإِذْنِ الْمُعْتِقَةِ , فَإِنَّهَا عَصَبَتُهَا , وَعَلَى هَذَا فَهَلْ لِلْمَرْأَةِ نَفْسِهَا أَنْ تُزَوِّجَهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ . وَالثَّانِي : أَنَّ تَزْوِيجَهَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ الْمُعْتِقَةِ , لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ وَلِيَّةً لِنَفْسِهَا , فَلَا تَكُونُ وَلِيَّةً لِغَيْرِهَا , وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا عِنْدَهُمْ , فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِهَا , فَعَلَى هَذَا يُزَوِّجُ هَذِهِ الْمُعْتَقَةَ مَنْ يُزَوِّجُ مُعْتِقَهَا بِإِذْنِ الْعَتِيقَةِ , مِثْلُ أَخِ الْمُعْتَقَةِ وَنَحْوِهِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ وِلَايَةِ النِّكَاحِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا وَزَوَّجَهَا الْحَاكِمُ جَازَ , وَإِلَّا فَلَا , وَإِنْ كَانَ أَهْلًا عِنْدَ أَبِي

حَنِيفَةَ فَالْوَلَاءُ لَهُمْ , وَالْحَاكِمُ يُزَوِّجُهَا .
475 - 475 - 77 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ خَطَبَ امْرَأَةً , فَاتَّفَقُوا عَلَى النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ , وَأَعْطَى أَبَاهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ شَيْئًا , فَمَاتَتْ قَبْلَ الْعَقْدِ , هَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَعْطَى ؟ . الْجَوَابُ : إذَا كَانُوا قَدْ وَفَّوْا لَهُ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَمْنَعُوهُ مِنْ نِكَاحِهَا حَتَّى مَاتَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ , وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مَا أَعْطَاهُمْ , كَمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَهَا اسْتَحَقَّتْ جَمِيعَ الصَّدَاقِ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا بَذَلَ لَهُمْ ذَلِكَ لِيُمَكِّنُوهُ مِنْ نِكَاحِهَا , وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ , وَهَذَا غَايَةُ الْمُمْكِنِ .

476 - 476 - 78 , مَسْأَلَةٌ : فِي هَذَا التَّحْلِيلِ الَّذِي يَفْعَلُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ , إذَا وَقَعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْإِشْهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْحِيَلِ الْمَعْرُوفَةِ , هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قَلَّدَ مَنْ قَالَ بِهِ , هَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَ اعْتِقَادٍ وَاعْتِقَادٍ ؟ وَهَلْ الْأَوْلَى إمْسَاكُ الْمَرْأَةِ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : التَّحْلِيلُ الَّذِي يَتَوَاطَئُونَ فِيهِ مَعَ الزَّوْجِ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا , عَلَى أَنْ يُطَلِّقَ الْمَرْأَةَ أَوْ يَنْوِيَ الزَّوْجُ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ , لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعِلَهُ فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ , وَسَمَّاهُ التَّيْسَ الْمُسْتَعَارَ , وَقَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } " . وَكَذَلِكَ مِثْلُ عُمَرَ , وَعُثْمَانَ , وَعَلِيٍّ , وَابْنِ عُمَرَ , وَغَيْرِهِمْ , لَهُمْ بِذَلِكَ آثَارٌ مَشْهُورَةٌ يُصَرِّحُونَ فِيهَا بِأَنَّ مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُحَلِّلٌ , وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ فِي الْعَقْدِ , وَسَمَّوْهُ سِفَاحًا , وَلَا تَحِلُّ لِمُطَلِّقِهَا الْأَوَّلِ بِمِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ , وَلَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْمُحِلِّ إمْسَاكُهَا بِهَذَا التَّحْلِيلِ , بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِرَاقُهَا . لَكِنْ إذَا كَانَ قَدْ تَبَيَّنَ بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ جَوَازُ ذَلِكَ , فَتَحَلَّلَتْ وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ , ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ تَحْرِيمُ ذَلِكَ , فَالْأَقْوَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِرَاقُهَا , بَلْ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ , وَقَدْ عَفَا اللَّهُ فِي الْمَاضِي عَمَّا سَلَفَ .

477 - 477 - 79 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ خَطَبَ ابْنَةَ رَجُلٍ مِنْ الْعُدُولِ , وَاتَّفَقَ مَعَهُ عَلَى الْمَهْرِ , مِنْهُ عَاجِلٌ وَمِنْهُ آجِلٌ , وَأَوْصَلَ إلَى وَالِدِهَا الْمُعَجَّلَ مِنْ مُدَّةِ أَرْبَعِ سِنِينَ , وَهُوَ يُوَاصِلُهُمْ بِالنَّفَقَةِ , وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ مُكَاتَبَةٌ , ثُمَّ بَعْدَ هَذَا جَاءَ رَجُلٌ فَخَطَبَهَا وَزَادَ عَلَيْهِ فِي الْمَهْرِ , وَمَنَعَ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ ؟ الْجَوَابُ : لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إذَا أُجِيبَ إلَى النِّكَاحِ وَرَكَنُوا إلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ , كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ } " وَتَجِبُ عُقُوبَةُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ , وَأَعَانَ عَلَيْهِ , عُقُوبَةً تَمْنَعُهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ عَلَى ذَلِكَ . وَهَلْ يَكُونُ نِكَاحُ الثَّانِي صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا .
481 - 481 - 83 - مَسْأَلَةٌ : فِي امْرَأَةٍ لَهَا أَخَوَانِ أَطْفَالٌ دُونَ الْبُلُوغِ , وَلَهَا خَالٍ , فَجَاءَ رَجُلٌ يَتَزَوَّجُ بِهَا , فَادَّعَى خَالُهَا أَنَّهُ أَخُوهَا , وَوُكِّلَ فِي عَقْدِهَا عَلَى الزَّوْجِ , فَهَلْ يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا أَوْ صَحِيحًا ؟ . الْجَوَابُ : الْخَالُ لَا يَكُونُ شَقِيقًا , فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ الْأُخُوَّةِ , لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهُ , بَلْ يُزَوِّجُهَا وَلِيُّهَا , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ مِنْ النَّسَبِ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ .

482 - 482 - 84 - مَسْأَلَةٌ : فِي بِنْتٍ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِمَكْرُوهٍ , وَلَمْ يُعْقَدْ عَلَيْهَا عَقْدٌ قَطُّ , وَطَلَبَهَا مَنْ يَتَزَوَّجُهَا فَذُكِرَ لَهُ ذَلِكَ فَرَضِيَ , فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِمَا ذُكِرَ إذَا شَهِدَتْ الْمَعْرُوفُونَ أَنَّهَا بِنْتٌ لِتَسْهِيلِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ ؟ الْجَوَابُ : إذَا شَهِدُوا أَنَّهَا مَا زُوِّجَتْ كَانُوا صَادِقِينَ , وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَلْبِيسٌ عَلَى الزَّوْجِ لِعِلْمِهِ بِالْحَالِ , وَيَنْبَغِي اسْتِنْطَاقُهَا بِالْأَدَبِ , فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَنَازِعُونَ هَلْ إذْنُهَا إذَا زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِالزِّنَا الصَّمْتُ أَوْ النُّطْقُ , وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ كَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ , وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ , وَمَالِكٍ إذْنُهَا الصُّمَاتُ , كَاَلَّتِي لَمْ تَزُلْ عُذْرَتُهَا .

485 - 485 - 87 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ , وَكُلَّمَا دَعَاهَا الرَّجُلُ إلَى فِرَاشِهِ تَأْبَى عَلَيْهِ , وَتُقَدِّمُ صَلَاةَ اللَّيْلِ , وَصِيَامَ النَّهَارِ عَلَى طَاعَةِ الزَّوْجِ , فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ . الْجَوَابُ : لَا يَحِلُّ لَهَا ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , بَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَهُ إذَا طَلَبَهَا إلَى الْفِرَاشِ وَذَلِكَ فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلَيْهَا , وَأَمَّا قِيَامُ اللَّيْلِ وَصِيَامُ النَّهَارِ فَتَطَوُّعٌ , فَكَيْفَ تُقَدِّمُ مُؤْمِنَةٌ النَّافِلَةَ عَلَى الْفَرِيضَةِ ؟ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ } " . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ , وَغَيْرُهُمَا , وَلَفْظُهُمْ : { لَا تَصُومُ امْرَأَةٌ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إلَّا يَوْمًا مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ إلَّا بِإِذْنِهِ } . فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ تَطَوُّعًا إذَا كَانَ زَوْجُهَا شَاهِدًا إلَّا بِإِذْنِهِ فَتَمْنَعُ بِالصَّوْمِ بَعْضَ مَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهَا , فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهَا إذَا طَلَبَهَا فَامْتَنَعَتْ ؟ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا دَعَا الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ إلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ } " وَفِي لَفْظٍ : { إلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى

تُصْبِحَ } " . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ } . فَالْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ هِيَ الَّتِي تَكُونُ قَانِتَةً , أَيْ مُدَاوِمَةً عَلَى طَاعَةِ زَوْجِهَا , فَمَتَى امْتَنَعَتْ عَنْ إجَابَتِهِ إلَى الْفِرَاشِ كَانَتْ عَاصِيَةً نَاشِزَةً , وَكَانَ ذَلِكَ يُبِيحُ لَهُ ضَرْبَهَا , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا } . وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ بَعْدَ حَقِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْجَبَ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ , حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ كُنْت آمِرًا لِأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا لِعِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا } " . وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لَهُ إنَّ الرِّجَالَ يُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَيَفْعَلُونَ وَنَحْنُ لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ , فَقَالَ : حَسُنَ فِعْلُ إحْدَاكُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ } " أَيْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَحْسَنَتْ مُعَاشَرَةَ بَعْلِهَا كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِرِضَاءِ اللَّهِ وَإِكْرَامِهِ لَهَا , مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْمَلَ مَا يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

484 - 484 - 86 - مَسْأَلَةٌ : فِي بِنْتٍ يَتِيمَةٍ , وَلَهَا مِنْ الْعُمْرِ عَشْرُ سِنِينَ , وَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَحَدٌ وَهِيَ مُضْطَرَّةٌ إلَى مَنْ يَكْفُلُهَا , فَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِإِذْنِهَا أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : هَذِهِ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا بِكُفْءٍ لَهَا عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ , وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِمَا . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَسْتَفْتُونَك فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ } الْآيَةَ . وَقَدْ أَخْرَجَا تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ , عَنْ عَائِشَةَ , وَهُوَ دَلِيلٌ فِي الْيَتِيمَةِ وَزَوْجُهَا مَنْ يَعْدِلُ عَلَيْهَا فِي الْمَهْرِ . لَكِنْ تَنَازَعَ هَؤُلَاءِ , هَلْ تُزَوَّجُ بِإِذْنِهَا , أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهَا تُزَوَّجُ بِغَيْرِ إذْنِهَا , وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ , وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ , أَنَّهَا تُزَوَّجُ بِغَيْرِ إذْنِهَا إذَا بَلَغَتْ تِسْعَ سِنِينَ , وَلَا خِيَارَ لَهَا إذَا بَلَغَتْ , لِمَا فِي السُّنَنِ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْيَتِيمَةُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا , فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ , وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا } " , وَفِي لَفْظٍ : { لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ , فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا } " .

486 - 486 - 88 - مَسْأَلَةٌ : فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ وَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ وَالِدَيْهَا , فَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ : بِرُّهَا لِوَالِدَيْهَا ؟ أَمْ مُطَاوَعَةُ زَوْجِهَا ؟ . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , الْمَرْأَةُ إذَا تَزَوَّجَتْ كَانَ زَوْجُهَا أَمْلَكَ بِهَا مِنْ أَبَوَيْهَا , وَطَاعَةُ زَوْجِهَا عَلَيْهَا أَوْجَبُ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ } . وَفِي الْحَدِيثِ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ , إذَا نَظَرْت إلَيْهَا سَرَّتْك , وَإِذَا أَمَرْتهَا أَطَاعَتْك , وَإِذَا غِبْت عَنْهَا حَفِظَتْك فِي نَفْسِهَا وَمَالِكَ } " . وَفِي صَحِيحِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا , وَصَامَتْ شَهْرَهَا , وَحَصَّنَتْ فَرْجَهَا , وَأَطَاعَتْ بَعْلَهَا دَخَلَتْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَتْ } " . وَفِي التِّرْمِذِيِّ , عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَزَوْجُهَا رَاضٍ عَنْهَا دَخَلَتْ الْجَنَّةَ } . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَوْ كُنْت آمِرًا لِأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا } " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ , وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ , وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد , وَلَفْظُهُ : { لَأَمَرْت النِّسَاءَ أَنْ يَسْجُدْنَ لِأَزْوَاجِهِنَّ لِمَا جَعَلَ

اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ الْحُقُوقِ } " . وَفِي الْمُسْنَدِ , عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ , وَلَوْ صَلُحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا , وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مَنْ قَدَمِهِ إلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةٌ تَجْرِي بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ فَلَحَسَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ } " , وَفِي الْمُسْنَدِ , وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ , عَنْ عَائِشَةَ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَوْ أَمَرْت أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَنْقُلَ مِنْ جَبَلٍ أَحْمَرَ إلَى جَبَلٍ أَسْوَدَ وَمِنْ جَبَلٍ أَسْوَدَ إلَى جَبَلٍ أَحْمَرَ لَكَانَ لَهَا أَنْ تَفْعَلَ } " , أَيْ : لَكَانَ حَقُّهَا أَنْ تَفْعَلَ . وَكَذَلِكَ فِي الْمُسْنَدِ , وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ , وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ : { لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ مِنْ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا هَذَا يَا مُعَاذُ ؟ قَالَ : أَتَيْت مِنْ الشَّامِ فَوَجَدْتهمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَبِطَارِقَتِهِمْ , فَوَدِدْت فِي نَفْسِي أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ بِك يَا رَسُولَ اللَّهِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ , فَإِنِّي لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا , وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ

حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا , وَلَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ لَمْ تَمْنَعْهُ } " . وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَيُّمَا رَجُلٍ دَعَا زَوْجَتَهُ لِحَاجَتِهِ فَلْتَأْتِهِ وَلَوْ كَانَتْ عَلَى التَّنُّورِ } " . رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ , وَالتِّرْمِذِيُّ , وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ , فَبَاتَ غَضْبَانًا عَلَيْهَا , لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ } ` " . وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : الزَّوْجُ سَيِّدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ , وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ } . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : النِّكَاحُ رِقٌّ , فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ مَنْ يُرِقُّ كَرِيمَتَهُ . وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ } . فَالْمَرْأَةُ عِنْدَ زَوْجِهَا تُشْبِهُ الرَّقِيقَ وَالْأَسِيرَ , فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ سَوَاءٌ أَمَرَهَا أَبُوهَا أَوْ أُمُّهَا أَوْ غَيْرُ أَبَوَيْهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَنْتَقِلَ بِهَا إلَى مَكَان آخَرَ , مَعَ قِيَامِهِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ , وَحِفْظُ حُدُودَ اللَّهِ فِيهَا , وَنَهَاهَا أَبُوهَا عَنْ طَاعَتِهِ فِي ذَلِكَ فَعَلَيْهَا أَنْ

تُطِيعَ زَوْجَهَا دُونَ أَبَوَيْهَا , فَإِنَّ الْأَبَوَيْنِ هُمَا ظَالِمَانِ , لَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَنْهَيَاهَا عَنْ طَاعَةِ مِثْلِ هَذَا الزَّوْجِ , وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطِيعَ أُمَّهَا فِيمَا تَأْمُرُهَا بِهِ مِنْ الِاخْتِلَاعِ مِنْهُ أَوْ مُضَاجَرَتِهِ حَتَّى يُطَلِّقَهَا , مِثْلُ أَنْ تُطَالِبَهُ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالصَّدَاقِ بِمَا تَطْلُبُهُ لِيُطَلِّقَهَا , فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ وَاحِدًا مِنْ أَبَوَيْهَا فِي طَلَاقِهِ إذَا كَانَ مُتَّقِيًا لِلَّهِ فِيهَا . فَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ , وَصَحِيحِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ , عَنْ ثَوْبَانَ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ غَيْرَ مَا بَأْسٍ , فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ } " . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { الْمُخْتَلِعَاتُ وَالْمُتَبَرِّعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ } " . وَأَمَّا إذَا أَمَرَهَا أَبَوَاهَا أَوْ أَحَدُهُمَا بِمَا فِيهِ طَاعَةٌ لِلَّهِ , مِثْلُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ , وَصِدْقِ الْحَدِيثِ , وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ , وَنَهَوْهَا عَنْ تَبْذِيرِ مَالِهَا , وَإِضَاعَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ نَهَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ , فَعَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَهُمَا فِي ذَلِكَ , وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مِنْ غَيْرِ أَبَوَيْهَا , فَكَيْفَ إذَا كَانَ مِنْ أَبَوَيْهَا ؟

487 - 487 - 89 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ بِامْرَأَتَيْنِ , وَإِحْدَاهُمَا يُحِبُّهَا وَيَكْسُوهَا وَيُعْطِيهَا وَيَجْتَمِعُ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ صَاحِبَتِهَا ؟ . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ } . فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ فِي الْقَسْمِ , فَإِذَا بَاتَ عِنْدَهَا لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا بَاتَ عِنْدَ الْأُخْرَى بِقَدْرِ ذَلِكَ , وَلَا يُفَضِّلُ إحْدَاهُمَا فِي الْقَسْمِ , لَكِنْ إنْ كَانَ يُحِبُّهَا أَكْثَرَ وَيَطَؤُهَا أَكْثَرَ فَهَذَا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ , وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } أَيْ : فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ . وَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ , عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ , فَيَقُولُ : هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ } " . يَعْنِي : الْقَلْبَ . وَأَمَّا الْعَدْلُ فِي النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ فَهُوَ السُّنَّةُ أَيْضًا اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ يَعْدِلُ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فِي النَّفَقَةِ , كَمَا كَانَ يَعْدِلُ فِي الْقِسْمَةِ مَعَ تَنَازُعِ النَّاسِ فِي الْقَسْمِ , هَلْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ أَوْ مُسْتَحَبًّا لَهُ ؟ وَتَنَازَعُوا فِي الْعَدْلِ فِي النَّفَقَةِ هَلْ هُوَ

وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ وَوُجُوبُهُ أَقْوَى وَأَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَهَذَا الْعَدْلُ مَأْمُورٌ بِهِ مَا دَامَتْ زَوْجَةً , فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ إحْدَاهُمَا فَلَهُ ذَلِكَ , فَإِنْ اصْطَلَحَ هُوَ وَاَلَّتِي يُرِيدُ طَلَاقَهَا عَلَى أَنْ تُقِيمَ عِنْدَهُ بِلَا قَسْمٍ وَهِيَ رَاضِيَةٌ ذَلِكَ جَازَ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمَرْأَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ فَتَطُولُ صُحْبَتُهَا فَيُرِيدُ طَلَاقَهَا , فَتَقُولُ : لَا تُطَلِّقْنِي وَأَمْسِكْنِي وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ يَوْمِي , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ . وَقَدْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ سَوْدَةَ , فَوَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ فَأَمْسَكَهَا بِلَا قِسْمَةٍ } , وَكَذَلِكَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ جَرَى لَهُ نَحْوُ ذَلِكَ , وَيُقَالُ إنَّ الْآيَةَ أُنْزِلَتْ فِيهِ

488 - 488 - 90 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِنْتًا عُمْرُهَا عَشْرُ سِنِينَ , وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا أَنْ يَسْكُنَ عِنْدَهُمْ , وَلَا يَنْقُلَهَا عَنْهُمْ , وَلَا يَدْخُلَ عَلَيْهَا إلَّا بَعْدَ سَنَةٍ , فَأَخَذَهَا إلَيْهِ وَأَخْلَفَ ذَلِكَ وَدَخَلَ عَلَيْهَا , وَذَكَرَ الدَّايَاتُ أَنَّهُ نَقَلَهَا , ثُمَّ سَكَنَ بِهَا فِي مَكَان يَضْرِبُهَا فِيهِ الضَّرْبَ الْمُبَرِّحَ , ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ سَافَرَ بِهَا , ثُمَّ حَضَرَ بِهَا وَمَنَعَ أَنْ يَدْخُلَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا مَعَ مُدَاوَمَتِهِ عَلَى ضَرْبِهَا , فَهَلْ يَحِلُّ أَنْ تَدُومَ مَعَهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ ؟ . الْجَوَابُ : إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ فَلَا يَحِلُّ إقْرَارُهَا مَعَهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ , بَلْ إذَا تَعَذَّرَ أَنْ يُعَاشِرَهَا بِالْمَعْرُوفِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا , وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَطْئًا يَضُرُّ بِهَا , بَلْ إذَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ الْعُدْوَانِ عَلَيْهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَإِذَا نَهَاهَا الزَّوْجُ عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ , أَوْ أَمَرَهَا بِمَا نَهَى اللَّه عَنْهُ , لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُطِيعَهُ فِي ذَلِكَ , فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إنَّهُ { لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ } " بَلْ الْمَالِكُ لَوْ أَمَرَ مَمْلُوكَهُ بِمَا فِيهِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُطِيعَهُ فِي مَعْصِيَتِهِ , فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تُطِيعَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا , أَوْ أَحَدُ أَبَوَيْهَا فِي مَعْصِيَةٍ , فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَالشَّرُّ كُلُّهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ .

489 - 489 - 91 - مَسْأَلَةٌ : فِي حَدِيثٍ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ كَفَّ لَامِسٍ } . فَهَلْ هُوَ مَا تَرُدُّ نَفْسَهَا عَنْ أَحَدٍ ؟ أَوْ مَا تَرُدُّ يَدَهَا فِي الْعَطَاءِ عَنْ أَحَدٍ ؟ وَهَلْ هُوَ الصَّحِيحُ أَمْ لَا ؟ . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ , وَقَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرُدُّ طَالِبَ مَالٍ , لَكِنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَسِيَاقَهُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ اعْتَقَدَ ثُبُوتَهُ , وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا مَعَ كَوْنِهَا لَا تَمْنَعُ الرِّجَالَ , وَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ , فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ , { أَنَّ رَجُلًا كَانَ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَرِيبَةٌ مِنْ الْبَغَايَا يُقَالُ لَهَا عَنَاقٌ , وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَزَوُّجِهَا , فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ } . وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ

مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } . فَإِنَّمَا أَبَاحَ اللَّهُ نِكَاحَ الْإِمَاءِ فِي حَالِ كَوْنِهِنَّ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ , وَالْمُسَافِحَةُ الَّتِي تُسَافِحُ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ , وَالْمُتَّخِذَاتُ الْخِدْنِ الَّتِي يَكُونُ لَهَا صَدِيقٌ وَاحِدٌ , فَإِذَا كَانَ مَنْ هَذِهِ حَالُهَا لَا تُنْكَحُ , فَكَيْفَ بِمَنْ لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ ؟ بَلْ تُسَافِحُ مَعَ مَنْ اتَّفَقَ , , وَإِذَا كَانَ مَنْ هَذِهِ حَالُهَا فِي الْإِمَاءِ , فَكَيْفَ بِالْحَرَائِرِ ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } , فَاشْتَرَطَ هَذِهِ الشُّرُوطَ فِي الرِّجَالِ هُنَا كَمَا اشْتَرَطَهُ فِي النِّسَاءِ هُنَاكَ . وَهَذَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } لِأَنَّهُ مَنْ تَزَوَّجَ زَانِيَةً بِزَانٍ مَعَ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مَاؤُهُ مَصُونًا مَحْفُوظًا , فَكَانَ مَاؤُهُ مُخْتَلِطًا بِمَاءِ غَيْرِهِ , وَالْفَرْجُ الَّذِي يَطَؤُهُ مُشْتَرَكًا , وَهَذَا هُوَ الزِّنَا , وَالْمَرْأَةُ إذَا كَانَ زَوْجُهَا يَزْنِي بِغَيْرِهَا لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ , كَانَ وَطْؤُهُ لَهَا مِنْ جِنْسِ وَطْءِ الزَّانِي لِلْمَرْأَةِ الَّتِي يَزْنِي بِهَا , وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا غَيْرُهُ . وَإِنَّ مِنْ صُوَرِ الزِّنَى اتِّخَاذُ الْأَخْدَانِ , وَالْعُلَمَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ

نِكَاحِ الزَّانِيَةِ قَبْلَ تَوْبَتِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ , لَكِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالِاعْتِبَارَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ , وَمَنْ تَأَوَّلَ آيَةَ النُّورِ بِالْعَقْدِ , وَجَعَلَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا فَبُطْلَانُ قَوْلِهِ ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ . ثُمَّ الْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَمِّ الدِّيَاثَةِ , وَمَنْ تَزَوَّجَ بَغِيًّا كَانَ دَيُّوثًا بِالِاتِّفَاقِ , وَفِي الْحَدِيثِ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَخِيلٌ , وَلَا كَذَّابٌ وَلَا دَيُّوثٌ } " . قَالَ تَعَالَى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ } أَيْ الرِّجَالُ الطَّيِّبُونَ لِلنِّسَاءِ الطَّيِّبَاتِ , وَالرِّجَالُ الْخَبِيثُونَ لِلنِّسَاءِ الْخَبِيثَاتِ . وَكَذَلِكَ فِي النِّسَاءِ , فَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ خَبِيثَةً كَانَ قَرِينُهَا خَبِيثًا , وَإِذَا كَانَ قَرِينُهَا خَبِيثًا كَانَتْ خَبِيثَةً , وَبِهَذَا عَظُمَ الْقَوْلُ فِيمَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ وَنَحْوَهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ , وَلَوْلَا مَا عَلَى الزَّوْجِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعَيْبِ مَا حَصَلَ هَذَا التَّغْلِيظُ , وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ , وَلَوْ كَانَ تَزَوُّجُ الْبَغِيِّ جَائِزًا لَوَجَبَ تَنْزِيهُ الْأَنْبِيَاءِ عَمَّا يُبَاحُ , كَيْفَ وَفِي نِسَاءِ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ هِيَ كَافِرَةٌ , كَمَا فِي أَزْوَاجِ الْمُؤْمِنَاتِ مَنْ هُوَ كَافِرٌ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ اُدْخُلَا النَّارَ

مَعَ الدَّاخِلِينَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَك بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } . وَأَمَّا الْبَغَايَا فَلَيْسَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَلَا الصَّالِحِينَ مَنْ تَزَوَّجَ بَغِيًّا , لِأَنَّ الْبِغَاءَ يُفْسِدُ فِرَاشَهُ , وَلِهَذَا أُبِيحَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكِتَابِيَّةَ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ , إذَا كَانَ مُحْصَنًا غَيْرَ مُسَافِحٍ وَلَا مُتَّخِذِ خِدْنٍ , فَعُلِمَ أَنَّ تَزَوُّجَ الْكَافِرَةِ قَدْ يَجُوزُ , وَتَزَوُّجَ الْبَغِيِّ لَا يَجُوزُ , لِأَنَّ ضَرَرَ دِينِهَا لَا يَتَعَدَّى إلَيْهِ , وَأَمَّا ضَرَرُ بَغَاهَا فَيَتَعَدَّى إلَيْهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

490 - 490 - 92 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ , أَسْكَنَهَا بَيْنَ نَاسٍ مَنَاجِيسَ , وَهُوَ يَخْرُجُ بِهَا إلَى الْفُرُجِ وَإِلَى أَمَاكِنِ الْفَسَادِ , وَيُعَاشِرُ مُفْسِدِينَ , فَإِذَا قِيلَ لَهُ : انْتَقِلْ مِنْ هَذَا الْمَسْكَنِ السُّوءِ , فَيَقُولُ : أَنَا زَوْجُهَا وَلِي الْحُكْمُ فِي امْرَأَتِي وَلِي السُّكْنَى , فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟ . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا حَيْثُ شَاءَ , وَلَا يُخْرِجَهَا إلَى حَيْثُ شَاءَ , بَلْ يَسْكُنُ بِهَا فِي مَسْكَنٍ يَصْلُحُ لِمِثْلِهَا , وَلَا يَخْرُجُ بِهَا عِنْدَ أَهْلِ الْفُجُورِ , بَلْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَاشِرَ الْفُجَّارَ عَلَى فُجُورِهِمْ , وَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُعَاقَبَ عُقُوبَتَيْنِ : عُقُوبَةً عَلَى فُجُورِهِ بِحَسَبِ مَا فَعَلَ , وَعُقُوبَةً عَلَى تَرْكِ صِيَانَةِ زَوْجَتِهِ , وَإِخْرَاجِهَا إلَى أَمَاكِنِ الْفُجُورِ , فَيُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
496 - 496 - 98 - مَسْأَلَةٌ : فِي مُعْسِرٍ هَلْ يُقَسَّطُ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ ؟ الْجَوَابُ : إذَا كَانَ مُعْسِرًا قُسِّطَ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ , وَلَمْ يَجُزْ حَبْسُهُ , لَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ يَقْبَلُونَ قَوْلَهُ فِي الْإِعْسَارِ مَعَ يَمِينِهِ , وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْبَلُ الْبَيِّنَةَ إلَّا بَعْدَ الْحَبْسِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ , فَإِذَا كَانَتْ الْحُكُومَةُ عِنْدَ مَنْ يَحْكُمُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ لَمْ يُحْبَسْ .

498 - 498 - 100 - مَسْأَلَةٌ : فِي امْرَأَةٍ عَزَمَتْ عَلَى الْحَجِّ هِيَ وَزَوْجُهَا , فَمَاتَ زَوْجُهَا فِي شَعْبَانَ , فَهَلْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَحُجَّ ؟ الْجَوَابُ : لَيْسَ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ فِي الْعِدَّةِ عَنْ الْوَفَاةِ إلَى الْحَجِّ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .
491 - 491 - 93 - مَسْأَلَةٌ : فِي امْرَأَةٍ مُتَزَوِّجَةٍ بِرَجُلٍ , وَلَهَا أَقَارِبُ كُلَّمَا أَرَادَتْ تَزُورُهُمْ أَخَذَتْ الْفِرَاشَ وَتَقْعُدُ عِنْدَهُمْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ وَأَكْثَرَ , وَقَدْ قَرُبَتْ وِلَادَتُهَا وَمَتَى وَلَدَتْ عِنْدَهُمْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَجِيءَ إلَى بَيْتِهَا إلَّا بَعْدَ أَيَّامٍ , وَيَبْقَى الزَّوْجُ بَرْدَانَ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوهَا تَلِدَ عِنْدَهُمْ ؟ . الْجَوَابُ : لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إلَّا بِإِذْنِهِ , وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهَا إلَيْهِ وَيَحْبِسَهَا عَنْ زَوْجِهَا , سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا مُرْضِعًا أَوْ لِكَوْنِهَا قَابِلَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الصِّنَاعَاتِ , وَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَتْ نَاشِزَةً عَاصِيَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مُسْتَحِقَّةَ الْعُقُوبَةِ .

499 - 499 - 101 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَقَعَدَتْ زَوْجَتُهُ فِي عِدَّتِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا , فَمَا قَدَرَتْ تُخَالِفُ مَرْسُومَ السُّلْطَانِ , ثُمَّ سَافَرَتْ وَحَضَرَتْ إلَى الْقَاهِرَةِ وَلَمْ تَتَزَيَّنْ لَا بِطِيبٍ وَلَا غَيْرِهِ , فَهَلْ يَجُوزُ خِطْبَتُهَا أَوْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْعِدَّةُ تَنْقَضِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرَةِ أَيَّامٍ , فَإِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ هَذِهِ شَيْءٌ فَلْتُتِمَّهُ فِي بَيْتِهَا وَلَا تَخْرُجْ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا إلَّا لِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ , وَتَجْتَنِبُ الزِّينَةَ وَالطِّيبَ فِي بَنِيهَا وَبَنَاتِهَا , وَلْتَأْكُلْ مَا شَاءَتْ مِنْ حَلَالٍ , وَتَشُمَّ الْفَاكِهَةَ , وَتَجْتَمِعَ بِمَنْ يَجُوزُ لَهَا الِاجْتِمَاعُ بِهِ فِي غَيْرِ الْعِدَّةِ , لَكِنْ إنْ خَطَبَهَا إنْسَانٌ لَا تُجِيبُهُ صَرِيحًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
500 - 500 - 102 - مَسْأَلَةٌ : فِي مُطَلَّقَةٍ ادَّعَتْ وَحَلَفَتْ أَنَّهَا قَضَتْ عِدَّتَهَا , فَتَزَوَّجَهَا زَوْجٌ ثَانٍ , ثُمَّ حَضَرَتْ امْرَأَةٌ أُخْرَى , وَزَعَمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ وَصَدَّقَهَا الزَّوْجُ عَلَى ذَلِكَ ؟ الْجَوَابُ : إذَا لَمْ تَحِضْ إلَّا حَيْضَتَيْنِ فَالنِّكَاحُ الثَّانِي بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ , وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُصَدِّقًا لَهَا وَجَبَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَتَكْمُلَ عِدَّةُ الْأَوَّلِ بِحَيْضَةٍ , ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي عِدَّةً كَامِلَةً , ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ الثَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا تَزَوَّجَهَا .

501 - 501 - 103 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ مُصَافِحَةً , وَقَعَدَتْ مَعَهُ أَيَّامًا فَطَلَعَ لَهَا زَوْجٌ آخَرُ , فَحَمْلُ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ , وَزَوْجُهَا الْأَوَّلُ إلَى الْقَاضِي فَقَالَ لَهَا : تُرِيدِينَ الْأَوَّلَ أَوْ الثَّانِيَ , فَقَالَتْ : مَا أُرِيدُ إلَّا الزَّوْجَ الثَّانِيَ , فَطَلَّقَهَا الْأَوَّلُ , وَرَسَمَ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُوفِيَ عِدَّتَهُ , وَتَمَّ مَعَهَا الزَّوْجُ , فَهَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ لَهَا أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : إذَا تَزَوَّجَتْ بِالثَّانِي قَبْلَ أَنْ تُوفِيَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ , وَقَدْ فَارَقَهَا الْأَوَّلُ إمَّا لِفَسَادِ نِكَاحِهِ , وَإِمَّا لِتَطَلُّبِهِ لَهَا , وَإِمَّا لِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا , فَنِكَاحُهَا فَاسِدٌ وَتَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ هِيَ وَهُوَ وَمَنْ زَوَّجَهَا , بَلْ عَلَيْهَا أَنْ تُتِمَّ عِدَّةَ الْأَوَّلِ , ثُمَّ إنْ كَانَ الثَّانِي قَدْ وَطِئَهَا اعْتَدَّتْ لَهُ عِدَّةً أُخْرَى , فَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّتَانِ تَزَوَّجَتْ حِينَئِذٍ بِمَنْ شَاءَتْ بِالْأَوَّلِ أَوْ بِالثَّانِي أَوْ غَيْرِهِمَا .

531 - 531 - 133 - سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ امْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ , وَلَهَا عَلَيْهِ صَدَاقٌ , فَلَمَّا حَضَرَتْهَا الْوَفَاةُ أَحْضَرَتْ شَاهِدَ عَدْلٍ وَجَمَاعَةَ نِسْوَةٍ , وَأَشْهَدَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَنَّهَا أَبْرَأَتْهُ مِنْ الصَّدَاقِ , فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْإِبْرَاءُ أَمْ لَا ؟ وَعَنْ رَجُلٍ وُصِفَ لَهُ شَحْمُ الْخِنْزِيرِ لِمَرَضٍ بِهِ , هَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَعَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِيَتِيمَةٍ صَغِيرَةٍ وَعَقَدَ عَقْدَهَا شَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ وَلَمْ تُدْرِكْ إلَّا بَعْدَ شَهْرَيْنِ , فَهَلْ هَذَا الْعَقْدُ جَائِزٌ أَمْ لَا ؟ . أَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , إنْ كَانَ الصَّدَاقُ ثَابِتًا عَلَيْهِ إلَى أَنْ مَرِضَتْ مَرَضَ الْمَوْتِ , لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ الْبَاقِينَ , وَأَمَّا إنْ كَانَتْ أَبْرَأَتْهُ فِي الصِّحَّةِ جَازَ ذَلِكَ , وَثَبَتَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , وَثَبَتَ أَيْضًا بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ وَيَمِينٍ عِنْدَ مَالِكٍ , وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ , وَإِنْ أَقَرَّتْ فِي مَرَضِهَا أَنَّهَا أَبْرَأَتْهُ فِي الصِّحَّةِ لَمْ يُقْبَلْ هَذَا الْإِقْرَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا . وَيُقْبَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ , فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ , وَلَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَخُصَّ الْوَارِثَ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ } " .

سُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا عَمَّنْ يَقُولُ : إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ تُبَاحُ بِدُونِ نِكَاحٍ ثَانٍ لِلَّذِي طَلَّقَهَا ثَلَاثًا : فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ وَمَنْ اسْتَحَلَّهَا بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِدُونِ نِكَاحٍ ثَانٍ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ وَمَا صِفَةُ النِّكَاحِ الثَّانِي الَّذِي يُبِيحُهَا لِلْأَوَّلِ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ مُثَابِينَ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ . فَأَجَابَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . إذَا وَقَعَ بِالْمَرْأَةِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ , وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ : إنَّهَا تُبَاحُ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِدُونِ زَوْجٍ ثَانٍ , وَمَنْ نَقَلَ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَقَدْ كَذَبَ . وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ أَوْ اسْتَحَلَّ وَطْأَهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِدُونِ نِكَاحِ زَوْجٍ ثَانٍ , فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ - مِثْلُ أَنْ يَكُونَ نَشَأَ بِمَكَانِ قَوْمٍ لَا يَعْرِفُونَ فِيهِ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ , أَوْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ , أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ يُعَرَّفُ دِينَ الْإِسْلَامِ ; فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا تُبَاحُ بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِدُونِ نِكَاحٍ ثَانٍ أَوْ عَلَى اسْتِحْلَالِ هَذَا الْفِعْلِ : فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ , فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ , كَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ وُجُوبَ الْوَاجِبَاتِ , وَتَحْرِيمَ الْمُحَرَّمَاتِ ,

وَحِلَّ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي عُلِمَ أَنَّهَا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ , وَثَبَتَ ذَلِكَ بِنَقْلِ الْأُمَّةِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ نَبِيِّهَا عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ . وَظَهَرَ ذَلِكَ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ , كَمَنْ يَجْحَدُ وُجُوبَ " مَبَانِي الْإِسْلَامِ " مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ , وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ , وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ , أَوْ جَحَدَ " تَحْرِيمَ الظُّلْمِ , وَأَنْوَاعِهِ " كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ , أَوْ تَحْرِيمَ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ , وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ تَحْرِيمِ " نِكَاحِ الْأَقَارِبِ " سِوَى بَنَاتِ الْعُمُومَةِ وَالْخُؤُولَةِ , وَتَحْرِيمَ " الْمُحَرَّمَاتِ بِالْمُصَاهَرَةِ " وَهُنَّ أُمَّهَاتُ النِّسَاءِ وَبَنَاتُهُنَّ وَحَلَائِلُ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ , أَوْ حِلَّ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ , وَالنِّكَاحِ وَاللِّبَاسِ ; وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عُلِمَتْ إبَاحَتُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ : فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مِمَّا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ , لَا سُنِّيُّهُمْ وَلَا بِدْعِيُّهُمْ . وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ " مَسَائِلِ الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ ; كَتَنَازُعِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ فِي " الْحَرَامِ " هَلْ هُوَ طَلَاقٌ , أَوْ يَمِينٌ , أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؟ وَكَتَنَازُعِهِمْ فِي " الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ " كَالْخَلِيَّةِ , وَالْبَرِيَّةِ , وَالْبَتَّةِ : هَلْ يَقَعُ بِهَا وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ , أَوْ بَائِنٌ , أَوْ ثَلَاثٌ ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ ؟ وَكَتَنَازُعِهِمْ فِي " الْمُولِي " : هَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ

عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إذَا لَمْ يَفِ فِيهَا ؟ أَمْ يُوقَفُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ ؟ وَكَتَنَازُعِ الْعُلَمَاءِ فِي طَلَاقِ السَّكْرَانِ , وَالْمُكْرَهِ , وَفِي الطَّلَاقِ بِالْخَطِّ , وَطَلَاقِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ , وَطَلَاقِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ . وَطَلَاقِ الْحَكَمِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجِ بِدُونِ تَوْكِيلِهِ . كَمَا تَنَازَعُوا فِي بَذْلِ أَجْرِ الْعِوَضِ بِدُونِ تَوْكِيلِهَا . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَعْرِفُهَا الْعُلَمَاءُ . وَتَنَازَعُوا أَيْضًا فِي مَسَائِلِ " تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ " وَمَسَائِلِ " الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ , وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ , وَالْحَرَامِ , وَالنَّذْرِ " كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ الصَّدَقَةُ بِأَلْفٍ . وَتَنَازَعُوا أَيْضًا فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ " الْأَيْمَانِ " مُطْلَقًا فِي مُوجِبِ الْيَمِينِ . وَهَذَا كَتَنَازُعِهِمْ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ : هَلْ يَقَعُ أَوْ لَا يَقَعُ ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ؟ أَوْ بَيْنَ مَا يَكُونُ فِيهِ مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ وَبَيْنَ أَنْ يَقَعَ فِي نَوْعِ مِلْكٍ أَوْ غَيْرِ مِلْكٍ ؟ وَتَنَازَعُوا فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ بَعْدَ النِّكَاحِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . فَقِيلَ : يَقَعُ مُطْلَقًا . وَقِيلَ : لَا يَقَعُ وَقِيلَ : يُفَرَّقُ بَيْنَ الشَّرْطِ الَّذِي يُقْصَدُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ كَوْنِهِ , وَبَيْنَ الشَّرْطِ الَّذِي يُقْصَدُ عَدَمُهُ . وَعَدَمُ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ . " فَالْأَوَّلُ " كَقَوْلِهِ : إنْ أَعْطَيْتنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ . " وَالثَّانِي " كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ , وَنِسَائِي

طَوَالِقُ , وَعَلَيَّ الْحَجُّ . وَأَمَّا النَّذْرُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ , فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ : إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي , أَوْ سَلَّمَ مَالِي الْغَائِبَ فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ , أَوْ الصَّدَقَةُ بِمِائَةٍ : أَنَّهُ يَلْزَمُهُ . وَتَنَازَعُوا فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ ; بَلْ مَقْصُودُهُ عَدَمُ الشَّرْطِ , وَهُوَ حَالِفٌ بِالنَّذْرِ , كَمَا إذَا قَالَ : لَا أُسَافِرُ , وَإِنْ سَافَرْت فَعَلَيَّ الصَّوْمُ , أَوْ الْحَجُّ , أَوْ الصَّدَقَةُ , أَوْ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ , وَنَحْوُ ذَلِكَ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فَالصَّحَابَةُ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ , وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , وَهُوَ آخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ , وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : كَابْنِ وَهْبٍ , وَابْنِ أَبِي الْغُمْرِ , وَغَيْرِهِمَا . وَهَلْ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ , أَمْ يُجْزِيهِ الْوَفَاءُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ . وَقِيلَ : عَلَيْهِ الْوَفَاءُ , كَقَوْلِ مَالِكٍ , وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ , وَحَكَاهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ ; وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِهِ . وَقِيلَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِحَالٍ , كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ , وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد , وَابْنِ حَزْمٍ . وَهَكَذَا تَنَازَعُوا عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِيمَنْ حَلَفَ بِالْعَتَاقِ أَوْ الطَّلَاقِ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ , أَوْ امْرَأَتِي طَالِقٌ . هَلْ يَقَعُ ذَلِكَ إذَا حَنِثَ , أَوْ يُجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ,

أَوْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ; بَلْ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَكُنْ قُرْبَةٌ ; وَلَكِنْ هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . " أَحَدُهُمَا " يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ , وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ , وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْخَطَّابِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمْ , وَهُوَ الَّذِي وَصَلَ إلَيْنَا فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ , وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ . وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ , " وَالثَّانِي " لَا شَيْءَ عَلَيْهِ , وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .

541 - 541 - 4 - مَسْأَلَةٌ : قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ يَمِينًا مِنْ الْأَيْمَانِ , فَالْأَيْمَانُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا لَيْسَ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ , وَهُوَ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ , كَالْكَعْبَةِ , وَالْمَلَائِكَةِ , وَالْمَشَايِخِ , وَالْمُلُوكِ وَالْآبَاءِ ; وَتُرْبَتِهِمْ , وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَهَذِهِ يَمِينٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ , وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ; بَلْ هِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنَّهْيُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِمْ . فَفِي الصَّحِيحِ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } , وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ } , وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } . وَالثَّانِي : الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى , كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ . فَهَذِهِ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ فِيهَا الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْحَلِفِ بِاَللَّهِ مَقْصُودُ الْحَالِفِ بِهَا تَعْظِيمَ الْخَالِقِ - لَا الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ - كَالْحَلِفِ بِالنَّذْرِ , وَالطَّلَاقِ , وَالْعَتَاقِ , كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ أَوْ الْحَجُّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ . أَوْ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا . أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَكُلُّ مَا أَمْلِكُهُ حَرَامٌ . أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا . أَوْ لَا أَفْعَلُهُ . أَوْ إنْ فَعَلْته فَنِسَائِي طَوَالِقُ , وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ ,

وَكُلُّ مَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ . وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . قِيلَ إذَا حَنِثَ لَزِمَهُ مَا عَلَّقَهُ وَحَلَفَ بِهِ . وَقِيلَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ . وَقِيلَ : يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ يُجْزِيهِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ , وَالْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ يَلْزَمُهُ مَا حَلَفَ بِهِ . وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ , وَهُوَ الْقَوْلُ الْمُوَافِقُ لِلْأَقْوَالِ الثَّابِتَةِ عَنْ الصَّحَابَةِ , وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ : أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي جَمِيعِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ , كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا , فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ , وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } . فَإِذَا قَالَ : الْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا , أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا , أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ , أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ : أَجْزَأَهُ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ , فَإِنْ كَفَّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ فَهُوَ أَحْسَنُ . وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ يُخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ الْعِتْقِ , أَوْ إطْعَامِ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ , أَوْ كِسْوَتِهِمْ . وَإِذَا أَطْعَمَهُمْ أَطْعَمَ كُلَّ وَاحِدٍ جِرَايَةً مِنْ الْجِرَايَاتِ الْمَعْرُوفَةِ فِي بَلَدِهِ , مِثْلُ : أَنْ يُطْعِمَ ثَمَانِ أَوَاقٍ , أَوْ تِسْعَ أَوَاقٍ بِالشَّامِيِّ , وَيُطْعِمَ مَعَ

ذَلِكَ إدَامَهَا ; كَمَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ الشَّامِ فِي إعْطَاءِ الْجِرَايَاتِ خُبْزًا وَإِدَامًا . وَإِذَا كَفَّرَ يَمِينَهُ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ . وَأَمَّا إذَا قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ , مِثْلُ أَنْ يُنَجِّزَ الطَّلَاقَ فَيُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ , فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , وَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِصِفَةٍ يَقْصِدُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَهَا , مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِلطَّلَاقِ إذَا فَعَلْت أَمْرًا مِنْ الْأُمُورِ , فَيَقُولُ لَهَا : إنْ فَعَلْته فَأَنْتِ طَالِقٌ . قَصْدُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إذَا فَعَلَتْهُ , فَهَذَا مُطْلَقٌ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ السَّلَفِ وَجَمَاهِيرِ الْخَلَفِ ; بِخِلَافِ مَنْ قَصْدُهُ أَنْ يَنْهَاهَا وَيَزْجُرَهَا بِالْيَمِينِ ; وَلَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ الَّذِي يَكْرَهُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَلِّقَهَا ; بَلْ هُوَ مُرِيدٌ لَهَا وَإِنْ فَعَلَتْهُ ; لَكِنَّهُ قَصَدَ الْيَمِينَ لِمَنْعِهَا عَنْ الْفِعْلِ ; لَا مُرِيدًا أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ وَإِنْ فَعَلَتْهُ , فَهَذَا حَالِفٌ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ , بَلْ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ , كَمَا تَقَدَّمَ .

فَصْلٌ وَأَمَّا إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْته فَعَلَيَّ إذًا عِتْقُ عَبْدِي . فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ ; لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِتْقُ , وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ , وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ , وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ , وَقَوْلُ دَاوُد , وَابْنِ حَزْمٍ . وَقِيلَ : عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ , وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ , وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ التَّكْفِيرِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا . وَقِيلَ : يَجِبُ التَّكْفِيرُ عَيْنًا ; وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ فِيمَا بَلَغَنَا بَعْدَ كَثْرَةِ الْبَحْثِ , وَتَتَبُّعِ كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ ; بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ إمَّا ضَعِيفٌ ; بَلْ كَذِبٌ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ , وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ ; فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ عَلَى عَهْدِهِمْ ; وَلَكِنْ نُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ أَنْ يُجْزِيَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ , كَمَا إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ هَؤُلَاءِ نَقِيضُ هَذَا الْقَوْلِ . وَأَنَّهُ يُعْتَقُ . وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى أَسَانِيدِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ : إنَّهُ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى , كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ مِنْ التَّابِعِينَ . وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ ظَنَّ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا نِزَاعَ فِيهِ

فَاضْطَرَّهُ ذَلِكَ إلَى أَنْ عَكَسَ مُوجَبَ الدَّلِيلِ فَقَالَ : يَقَعُ الطَّلَاقُ ; دُونَ الْعَتَاقِ , وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ , وَبَيَّنَ مَا فِيهَا مِنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ , وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ , وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ , وَحُجَّةَ كُلِّ قَوْمٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ الظِّهَارِ أَوْ الْحَرَامِ أَوْ النَّذْرِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ , أَوْ جَاهِلًا بِأَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ : فَهَلْ يَحْنَثُ , كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ , وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ ؟ أَوْ لَا يَحْنَثُ بِحَالٍ , كَقَوْلِ الْمَكِّيِّينَ , وَالْقَوْلِ الْآخَرِ لِلشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ أَحْمَدَ ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِمَا , كَالرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ عَنْ أَحْمَدَ , وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَالْخِرَقِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ , وَالْقَفَّالِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ امْرَأَتَهُ بَانَتْ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ , ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا لَمْ تَبِنْ ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ . وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ ؟ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ كَمَا ذُكِرَ , وَلَوْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَشُكُّ فِيهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ صِدْقُهُ ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ . عِنْدَ مَالِكٍ يَقَعُ , وَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لَا يَقَعُ , وَهُوَ

الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ . وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ التَّوَقُّفُ فِي الْمَسْأَلَةِ , فَيُخَرَّجُ عَلَى وَجْهَيْنِ , كَمَا إذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ الْيَوْمَ كَذَا وَمَضَى الْيَوْمُ , أَوْ شَكَّ فِي فِعْلِهِ هَلْ يَحْنَثُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي الْيَمِينِ إلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ إذَا احْتَمَلَهَا لَفْظُهُ , وَلَمْ يُخَالِفْ الظَّاهِرَ , أَوْ خَالَفَهُ وَكَانَ مَظْلُومًا . وَتَنَازَعُوا هَلْ يُرْجَعُ إلَى سَبَبِ الْيَمِينِ وَسِيَاقِهَا وَمَا هَيَّجَهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمَذْهَبُ الْمَدَنِيِّينَ كَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يُرْجَعُ إلَى ذَلِكَ , وَالْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُرْجَعُ : لَكِنْ فِي مَسَائِلِهِمَا مَا يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ أَعَمَّ مِنْ الْيَمِينِ عُمِلَ بِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى السَّبَبَ . وَإِنْ كَانَ خَاصًّا : فَهَلْ يَقْصُرُ الْيَمِينَ عَلَيْهِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ يَعْتَقِدُهُ عَلَى صِفَةٍ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهَا ؟ فَفِيهِ أَيْضًا قَوْلَانِ . وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بِصِفَةٍ ; ثُمَّ تَبَيَّنَ بِخِلَافِهَا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : أَنْت طَالِقٌ أَنْ دَخَلْت الدَّارَ - بِالْفَتْحِ - أَيْ لِأَجْلِ دُخُولِك الدَّارَ ; وَلَمْ تَكُنْ دَخَلَتْ . فَهَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : أَنْت طَالِقٌ لِأَنَّك فَعَلْت كَذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ , وَلَمْ تَكُنْ فَعَلَتْهُ ؟ وَلَوْ قِيلَ لَهُ : امْرَأَتُك فَعَلَتْ كَذَا ; فَقَالَ : هِيَ طَالِقٌ . ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ كَذَبُوا

عَلَيْهَا ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ وَتَنَازَعُوا فِي الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ : كَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ ; وَكَجَمْعِ الثَّلَاثِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّهُ حَرَامٌ ; وَلَكِنَّ الْأَرْبَعَةَ وَجُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : كَوْنُهُ حَرَامًا لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ , كَمَا أَنَّ الظِّهَارَ مُحَرَّمٌ وَإِذَا ظَاهَرَ ثَبَتَ حُكْمُ الظِّهَارِ ; وَكَذَلِكَ " النَّذْرُ " قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ " وَمَعَ هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : لَا يَقَعُ , اعْتَقَدُوا أَنَّ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَقَعُ فَاسِدًا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ , وَالْجُمْهُورُ فَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ يَعُمُّهُ لَا يُنَاسِبُ فِعْلَ الْمُحَرَّمِ : كَحِلِّ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَإِجْزَاءِ الْعِبَادَاتِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً تُنَاسِبُ فِعْلَ الْمُحَرَّمِ كَالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ ; فَإِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْ شَيْءٍ إذَا فَعَلَهُ قَدْ تَلْزَمُهُ بِفِعْلِهِ كَفَّارَةٌ أَوْ حَدٌّ , أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ : فَكَذَلِكَ قَدْ يُنْهَى عَنْ فِعْلِ شَيْءٍ فَإِذَا فَعَلَهُ لَزِمَهُ بِهِ وَاجِبَاتٌ وَمُحَرَّمَاتٌ ; وَلَكِنْ لَا يُنْهَى عَنْ شَيْءٍ إذَا فَعَلَهُ أُحِلَّتْ لَهُ بِسَبَبِ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ الطَّيِّبَاتُ ; فَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ ; فَإِنَّ هَذَا مِنْ " بَابِ الْإِكْرَامِ وَالْإِحْسَانِ " وَالْمُحَرَّمَاتُ لَا تَكُونُ سَبَبًا مَحْضًا لِلْإِكْرَامِ وَالْإِحْسَانِ ; بَلْ هِيَ سَبَبٌ لِلْعُقُوبَاتِ إذَا لَمْ يَتَّقُوا اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : {

فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } إلَى قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ } وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَتَوَقُّفِهِمْ عَنْ امْتِثَالِ أَمْرِهِ كَانَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْإِيجَابِ , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } وَحَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ } { وَلَمَّا سَأَلُوهُ عَنْ الْحَجِّ : أَفِي كُلِّ عَامٍ ؟ قَالَ : لَا . وَلَوْ قُلْت : نَعَمْ لَوَجَبَ ; وَلَوْ وَجَبَ لَمْ تُطِيقُوهُ ; ذَرُونِي مَا تَرَكْتُمْ ; فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ; فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ . وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . وَمِنْ هُنَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ حُرِّمَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ عُقُوبَةً لِلرَّجُلِ حَتَّى لَا يُطَلِّقَ ; فَإِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الطَّلَاقَ ; وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَالسَّحَرَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السِّحْرِ : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الشَّيْطَانَ يَنْصِبُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ ; وَيَبْعَثُ جُنُودَهُ فَأَقْرَبُهُمْ

إلَيْهِ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً ; فَيَأْتِي أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ : مَا زِلْتُ بِهِ حَتَّى شَرِبَ الْخَمْرَ . فَيَقُولُ السَّاعَةَ يَتُوبُ . وَيَأْتِي الْآخَرُ فَيَقُولُ : مَا زِلْتُ بِهِ حَتَّى فَرَّقْت بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ . فَيُقَبِّلُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ . وَيَقُولُ : أَنْتَ , أَنْتَ , } . وَقَدْ رَوَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ : أَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يُطَلِّقُونَ بِغَيْرِ عَدَدٍ : يُطَلِّقُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ , ثُمَّ يَدَعُهَا حَتَّى إذَا شَارَفَتْ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ضِرَارًا , فَقَصَرَهُمْ اللَّهُ عَلَى الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ ; لِأَنَّ الثَّلَاثَ أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ , وَآخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ . وَلَوْلَا أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى الطَّلَاقِ لَكَانَ الدَّلِيلُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ , كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ وَالْأُصُولُ ; وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَهُ رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ أَحْيَانًا . وَحَرَّمَهُ فِي مَوَاضِعَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . كَمَا إذَا طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ وَلَمْ تَكُنْ سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ ; فَإِنَّ هَذَا الطَّلَاقَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَفْضَلِ الشَّرَائِعِ وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ , كَمَا قَالَ : { أَحَبُّ الدِّينِ إلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ } فَأَبَاحَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْوَطْءَ بِالنِّكَاحِ . وَالْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ . وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَا يَطَئُونَ إلَّا بِالنِّكَاحِ ; لَا يَطَئُونَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ . " وَأَصْلُ ابْتِدَاءِ الرِّقِّ " إنَّمَا يَقَعُ مِنْ

السَّبْيِ . وَالْغَنَائِمُ لَمْ تَحِلَّ إلَّا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { فُضِّلْنَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِخَمْسٍ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا , وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلَنَا , وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً , وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ } فَأَبَاحَ سُبْحَانَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْكِحُوا وَأَنْ يُطَلِّقُوا , وَأَنْ يَتَزَوَّجُوا الْمَرْأَةَ الْمُطَلَّقَةَ بَعْدَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ زَوْجِهَا . " وَالنَّصَارَى " يُحَرِّمُونَ النِّكَاحَ عَلَى بَعْضِهِمْ , وَمَنْ أَبَاحُوا لَهُ النِّكَاحَ لَمْ يُبِيحُوا لَهُ الطَّلَاقَ . " وَالْيَهُودُ " يُبِيحُونَ الطَّلَاقَ ; لَكِنْ إذَا تَزَوَّجَتْ الْمُطَلَّقَةُ بِغَيْرِ زَوْجِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ . وَالنَّصَارَى لَا طَلَاقَ عِنْدَهُمْ . وَالْيَهُودُ لَا مُرَاجَعَةَ بَعْدَ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ عِنْدَهُمْ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ هَذَا وَهَذَا . وَلَوْ أُبِيحَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ عَدَدٍ - كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ - لَكَانَ النَّاسُ يُطَلِّقُونَ دَائِمًا : إذَا لَمْ يَكُنْ أَمْرٌ يَزْجُرُهُمْ عَنْ الطَّلَاقِ ; وَفِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ وَالْفَسَادِ مَا أَوْجَبَ حُرْمَةَ ذَلِكَ , وَلَمْ يَكُنْ فَسَادُ الطَّلَاقِ لِمُجَرَّدِ حَقِّ الْمَرْأَةِ فَقَطْ : كَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ حَتَّى يُبَاحَ دَائِمًا بِسُؤَالِهَا ; بَلْ نَفْسُ الطَّلَاقِ إذَا لَمْ تَدْعُ إلَيْهِ حَاجَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ : إمَّا نَهْيُ تَحْرِيمٍ , أَوْ

نَهْيُ تَنْزِيهٍ , وَمَا كَانَ مُبَاحًا لِلْحَاجَةِ قُدِّرَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ . وَالثَّلَاثُ هِيَ مِقْدَارُ مَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا , وَيُعْرِضُ هَذَا , وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ } وَكَمَا قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ ; إلَّا عَلَى زَوْجٍ فَإِنَّهَا تَحُدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وَكَمَا رُخِّصَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحِ . وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ لَا يَرَى وُقُوعَ الطَّلَاقِ إلَّا مِنْ الْقَصْدِ ; وَلَا يَرَى وُقُوعَ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ ; كَمَا لَا يَكْفُرُ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ مُكْرَهًا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ; وَلَوْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ مُسْتَهْزِئًا بِآيَاتِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ كَفَرَ ; كَذَلِكَ مَنْ تَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ هَازِلًا وَقَعَ بِهِ . وَلَوْ حَلَفَ بِالْكُفْرِ فَقَالَ : إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ; أَوْ فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ . لَمْ يَكْفُرْ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ; وَإِنْ كَانَ هَذَا حُكْمًا مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ فِي اللَّفْظِ ; لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْحَلِفُ بِهِ بُغْضًا لَهُ وَنُفُورًا عَنْهُ ; لَا إرَادَةً لَهُ ; بِخِلَافِ مَنْ قَالَ : إنْ أَعْطَيْتُمُونِي أَلْفًا كَفَرْتُ فَإِنَّ هَذَا يَكْفُرُ . وَهَكَذَا يَقُولُ مَنْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَتَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ لَا يُقْصَدُ كَوْنُهُ ,

وَبَيْنَ الطَّلَاقِ الْمَقْصُودِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ . وَلِهَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ لِلنِّكَاحِ ; وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ , كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَالشَّافِعِيِّ وَ أَحْمَدَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ افْتَدَتْ نَفْسَهَا مِنْ الزَّوْجِ كَافْتِدَاءِ الْأَسِيرِ ; وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الطَّلَاقِ الْمَكْرُوهِ فِي الْأَصْلِ , وَلِهَذَا يُبَاحُ فِي الْحَيْضِ ; بِخِلَافِ الطَّلَاقِ . وَأَمَّا إذَا عَدَلَ هُوَ عَنْ الْخُلْعِ وَطَلَّقَهَا إحْدَى الثَّلَاثِ بِعِوَضٍ فَالتَّفْرِيطُ مِنْهُ . وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : كَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَغَيْرِهِ ; وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا . وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ جَعَلُوهُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ فَسْخًا . كَالْإِقَالَةِ . وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ كَمَا هُوَ مَعَ الْمَرْأَةِ ; فَإِنَّهُ إذَا كَانَ افْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ كَمَا يُفْدَى الْأَسِيرُ فَقَدْ يَفْتَدِي الْأَسِيرُ بِمَالٍ مِنْهُ وَمَالٍ مِنْ غَيْرِهِ ; وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يَعْتِقُ بِمَالٍ يَبْذُلُهُ هُوَ وَمَا يَبْذُلُهُ الْأَجْنَبِيُّ , وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ يَصِحُّ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَمَعَ أَجْنَبِيٍّ فَإِنَّ هَذَا جَمِيعَهُ مِنْ بَابِ الْإِسْقَاطِ وَالْإِزَالَةِ . وَإِذْ كَانَ الْخُلْعُ رَفْعًا لِلنِّكَاحِ ; وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ : فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَبْذُولُ مِنْ الْمَرْأَةِ , أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ . وَتَشْبِيهُ فَسْخِ النِّكَاحِ بِفَسْخِ الْبَيْعِ : فِيهِ نَظَرٌ ; فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَزُولُ إلَّا بِرِضَى الْمُتَبَايِعَيْنِ ; لَا يَسْتَقِلُّ

أَحَدُهُمَا بِإِزَالَتِهِ ; بِخِلَافِ النِّكَاحِ ; فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ إلَيْهَا إزَالَتُهُ ; بَلْ الزَّوْجُ يَسْتَقِلُّ بِذَلِكَ ; لَكِنْ افْتِدَاؤُهَا نَفْسَهَا مِنْهُ كَافْتِدَاءِ الْأَجْنَبِيِّ لَهَا . وَمَسَائِلُ الطَّلَاقِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْإِجْمَاعِ وَالنِّزَاعِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضُوعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا إذَا وَقَعَ بِهِ الثَّلَاثُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ , كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ , وَلَا يُبَاحُ إلَّا بِنِكَاحِ ثَانٍ , وَبِوَطْئِهِ لَهَا عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ; فَإِنَّ النِّكَاحَ الْمَأْمُورَ بِهِ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالْعَقْدِ وَبِالْوَطْءِ , بِخِلَافِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ; فَإِنَّهُ يُنْهَى فِيهِ عَنْ كُلٍّ مِنْ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ ; وَلِهَذَا كَانَ النِّكَاحُ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالْوَطْءِ مِنْ الْعَقْدِ " وَالنِّكَاحُ الْمُحَرَّمُ " يَحْرُمُ فِيهِ مُجَرَّدُ الْعَقْدِ , وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِامْرَأَةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ . لَمَّا أَرَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ إلَى رِفَاعَةَ بِدُونِ الْوَطْءِ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ , وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ } وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ إلَّا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , فَإِنَّهُ - مَعَ أَنَّهُ أَعْلَمُ التَّابِعِينَ - لَمْ تَبْلُغْهُ السُّنَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . " وَالنِّكَاحُ الْمُبِيحُ " هُوَ النِّكَاحُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ , وَهُوَ النِّكَاحُ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ; وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ : { حَتَّى تَذُوقِي

عُسَيْلَتَهُ , وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك } فَأَمَّا " نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ " فَإِنَّهُ لَا يُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ , وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَمُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا . وَكَذَلِكَ قَالَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ : إنَّهُ لَا يُبِيحُهَا إلَّا بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ ; لَا نِكَاحِ مُحَلِّلٍ . وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي نِكَاحِ التَّحْلِيلِ . وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي " نِكَاحِ الْمُتْعَةِ " فَإِنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ خَيْرٌ مِنْ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . " أَحَدُهَا " أَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ; بِخِلَافِ التَّحْلِيلِ . " الثَّانِي " أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَطَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ ; بِخِلَافِ التَّحْلِيلِ فَإِنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ . " الثَّالِثُ " أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الْمَرْأَةِ وَلِلْمَرْأَةِ رَغْبَةٌ فِيهِ إلَى أَجَلٍ ; بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ لَهَا رَغْبَةٌ فِيهِ بِحَالٍ , وَهُوَ لَيْسَ لَهُ رَغْبَةٌ فِيهَا ; بَلْ فِي أَخْذِ مَا يُعْطَاهُ , وَإِنْ كَانَ لَهُ رَغْبَةٌ فَهِيَ مِنْ رَغْبَتِهِ فِي الْوَطْءِ ; لَا فِي اتِّخَاذِهَا زَوْجَةً , مِنْ جِنْسِ رَغْبَةِ الزَّانِي ; وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ , وَإِنْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً . إذْ اللَّهُ عَلِمَ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُحِلَّهَا لَهُ . وَلِهَذَا تُعْدَمُ فِيهِ خَصَائِصُ

النِّكَاحِ ; فَإِنَّ النِّكَاحَ الْمَعْرُوفَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } وَالتَّحْلِيلُ فِيهِ الْبِغْضَةُ وَالنُّفْرَةُ ; وَلِهَذَا لَا يُظْهِرُهُ أَصْحَابُهُ ; بَلْ يَكْتُمُونَهُ كَمَا يُكْتَمُ السِّفَاحُ . وَمِنْ شَعَائِرِ النِّكَاحِ إعْلَانُهُ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَعْلِنُوا النِّكَاحَ , وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ } . وَلِهَذَا يَكْفِي فِي إعْلَانِهِ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ , وَطَائِفَةٌ أُخْرَى تُوجِبُ الْإِشْهَادَ وَالْإِعْلَانَ ; فَإِذَا تَوَاصَوْا بِكِتْمَانِهِ بَطَلَ . وَمِنْ ذَلِكَ الْوَلِيمَةُ عَلَيْهِ , وَالنِّثَارُ , وَالطِّيبُ , وَالشَّرَابُ , وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَاتُ النَّاسِ فِي النِّكَاحِ . وَأَمَّا " التَّحْلِيلُ " فَإِنَّهُ لَا يُفْعَلُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا ; لِأَنَّ أَهْلَهُ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَكُونَ الْمُحَلِّلُ زَوْجَ الْمَرْأَةِ , وَلَا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ امْرَأَتَهُ ; وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ اسْتِعَارَتُهُ لِيَنْزُوَ عَلَيْهَا , كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ تَسْمِيَتُهُ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ ; وَلِهَذَا شُبِّهَ بِحِمَارِ الْعُشْرِيِّينَ الَّذِي يُكْتَرَى لِلتَّقْفِيزِ عَلَى الْإِنَاثِ ; وَلِهَذَا لَا تَبْقَى الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا بَعْدَ التَّحْلِيلِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَهُ ; بَلْ يَحْصُلُ بَيْنَهُمَا نَوْعٌ مِنْ النُّفْرَةِ . وَلِهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي التَّحْلِيلِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ يَأْمُرُ بِهِ الشَّارِعُ : صَارَ الشَّيْطَانُ يُشَبِّهُ بِهِ أَشْيَاءَ مُخَالِفَةً لِلْإِجْمَاعِ , فَصَارَ

طَائِفَةٌ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ يَظُنُّونَ أَنَّ وِلَادَتَهَا لِذَكَرٍ يُحِلُّهَا , أَوْ إنْ وَطِئَهَا بِالرِّجْلِ عَلَى قَدَمِهَا أَوْ رَأْسِهَا أَوْ فَوْقَ سَقْفٍ أَوْ سُلَّمٍ هِيَ تَحْتَهُ يُحِلُّهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُمَا إذَا الْتَقَيَا بِعَرَفَاتٍ , كَمَا الْتَقَى آدَم وَامْرَأَتُهُ أَحَلَّهَا ذَلِكَ . وَمِنْهُنَّ مَنْ إذَا تَزَوَّجَتْ بِالْمُحَلَّلِ بِهِ لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ نَفْسِهَا ; بَلْ تُمَكِّنُهُ مِنْ أَمَةٍ لَهَا . وَمِنْهُنَّ مَنْ تُعْطِيهِ شَيْئًا , وَتُوصِيهِ بِأَنْ يُقِرَّ بِوَطْئِهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَلِّلُ الْأُمَّ وَبِنْتَهَا . إلَى أُمُورٍ أُخَرَ قَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ , بَيَّنَّاهَا فِي " كِتَابِ بَيَانِ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ " . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَنْسُوخَ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَمَا تَنَازَعَ فِيهِ السَّلَفُ خَيْرٌ مِنْ مِثْلِ هَذَا , فَإِنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ تَأْتِي بِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا عَدَدَ لَهُ لَكَانَ هَذَا مُمْكِنًا وَإِنْ كَانَ هَذَا مَنْسُوخًا . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَسْتَكْرِيَ مَنْ يَطَؤُهَا فَهَذَا لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّحْلِيلِ يَفْعَلُونَ أَشْيَاءَ مُحَرَّمَةً بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الْمُعْتَدَّةَ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ زَوْجِهَا أَنْ يُصَرِّحَ بِخُطْبَتِهَا , سَوَاءٌ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ عِدَّةِ طَلَاقٍ أَوْ عِدَّةِ وَفَاةٍ , قَالَ تَعَالَى : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إلَّا أَنْ

تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمُوَاعَدَةِ سِرًّا , وَعَنْ عَزْمَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ , حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ . وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي عِدَّةِ الْمَوْتِ فَهُوَ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ أَشَدُّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَدْ تَرْجِعُ إلَى زَوْجِهَا ; بِخِلَافِ مَنْ مَاتَ عَنْهَا . وَأَمَّا " التَّعْرِيضُ " فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا , وَلَا يَجُوزُ فِي عِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ وَفِيمَا سِوَاهُمَا . فَهَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُوَاعِدَهَا سِرًّا , وَلَا يَعْزِمُ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَإِذَا تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ ثَانٍ وَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَحِلَّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُوَاعِدَهَا سِرًّا , وَلَا يَعْزِمَ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَذَلِكَ أَشَدُّ وَأَشَدُّ وَإِذَا كَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْطُبَهَا , لَا تَصْرِيحًا , وَلَا تَعْرِيضًا ; بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . فَإِذَا كَانَتْ لَمْ تَتَزَوَّجْ بَعْدُ لَمْ يَحِلَّ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا أَنْ يَخْطِبَهَا ; لَا تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا . بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَخِطْبَتُهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ أَعْظَمُ مِنْ خِطْبَتِهَا بَعْدَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالثَّانِي . وَهَؤُلَاءِ " أَهْلُ التَّحْلِيلِ " قَدْ يُوَاعِدُ أَحَدُهُمْ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا , وَيَعْزِمَانِ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَقَبْلَ نِكَاحِ الثَّانِي عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ بَعْدَ النِّكَاحِ الثَّانِي

نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ , وَيُعْطِيهَا مَا تُنْفِقُهُ عَلَى شُهُودِ عَقْدِ التَّحْلِيلِ , وَلِلْمُحَلِّلِ , وَمَا يُنْفِقُهُ عَلَيْهَا فِي عِدَّةِ التَّحْلِيلِ , وَالزَّوْجُ الْمُحَلِّلُ لَا يُعْطِيهَا مَهْرًا , وَلَا نَفَقَةَ عِدَّةٍ , وَلَا نَفَقَةَ طَلَاقٍ , فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي هَذِهِ وَقْتَ نِكَاحِهَا بِالثَّانِي أَنْ يَخْطِبَهَا الْأَوَّلُ - لَا تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا - فَكَيْفَ إذَا خَطَبَهَا قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالثَّانِي ؟ أَوْ إذَا كَانَ بَعْدَ أَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّانِي لَا يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُوَاعِدَهَا سِرًّا , وَلَا يَعْزِمَ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ : فَكَيْفَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُطَلِّقَ ؟ , بَلْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ , بَلْ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ , فَهَذَا كُلُّهُ يَحْرُمُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّحْلِيلِ يَفْعَلُهُ , وَلَيْسَ فِي التَّحْلِيلِ صُورَةٌ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى حِلِّهَا وَلَا صُورَةٌ أَبَاحَهَا النَّصُّ ; بَلْ مِنْ صُوَرِ التَّحْلِيلِ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِهِ , وَمِنْهَا مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ . وَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } مِنْهُمْ ; وَهَذَا وَغَيْرُهُ يُبَيِّنُ أَنَّ مِنْ التَّحْلِيلِ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْكِحَةِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا السَّلَفُ ; وَبِكُلِّ حَالٍ فَالصَّحَابَةُ أَفْضَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَبَعْدَهُمْ التَّابِعُونَ , كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } فَنِكَاحٌ تَنَازَعَ السَّلَفُ فِي جَوَازِهِ أَقْرَبُ مِنْ نِكَاحٍ أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى تَحْرِيمِهِ . وَإِذَا تَنَازَعَ فِيهِ الْخَلَفُ فَإِنَّ أُولَئِكَ أَعْظَمُ عِلْمًا وَدِينًا ; وَمَا أَجْمَعُوا عَلَى تَعْظِيمِ تَحْرِيمِهِ كَانَ أَمْرُهُ أَحَقَّ مِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَإِنْ اشْتَبَهَ تَحْرِيمُهُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

فَصْلٌ وَالطَّلَاقُ الَّذِي يَقَعُ بِلَا رَيْبٍ هُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ وَأَبَاحَهُ , وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا , أَوْ بَعْدَ مَا يَبِينُ حَمْلُهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً . فَأَمَّا الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ : مِثْلُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْحَيْضِ , أَوْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ أَنْ يَطَأَهَا وَقَبْلَ أَنْ يَبِينَ حَمْلُهَا . فَهَذَا الطَّلَاقُ مُحَرَّمٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ , فَهُوَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَتَنَازَعُوا فِيمَا يَقَعُ بِهَا , فَقِيلَ : يَقَعُ بِهَا الثَّلَاثُ , وَقِيلَ : لَا يَقَعُ بِهَا إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ , وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ , كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ فِي الْحَيْضِ وَبَعْدَ الْوَطْءِ , هَلْ يَلْزَمُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ , وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ , كَمَا لَا يَلْزَمُ النِّكَاحُ الْمُحَرَّمُ , وَالْبَيْعُ الْمُحَرَّمُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةٌ } . وَثَبَتَ أَيْضًا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ { أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ , فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هِيَ وَاحِدَةٌ } . وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ خِلَافُ هَذِهِ السُّنَّةِ , بَلْ مَا يُخَالِفُهَا إمَّا أَنَّهُ ضَعِيفٌ ; بَلْ مَرْجُوحٌ . وَإِمَّا إنَّهُ صَحِيحٌ لَا

يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ , كَمَا قَدْ بُسِطَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ الطَّلَاقُ مِنْهُ طَلَاقُ سُنَّةٍ أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى , وَطَلَاقُ بِدْعَةٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ . فَطَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا , أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا قَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا . فَإِنْ طَلَّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ , أَوْ وَطِئَهَا وَطَلَّقَهَا بَعْدَ الْوَطْءِ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا فَهَذَا طَلَاقٌ مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ يَلْزَمُ ؟ أَوْ لَا يَلْزَمُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ . وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ , أَوْ بِكَلِمَاتٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ قَبْلَ أَنْ يُرَاجِعَهَا , مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا , أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْفَ طَلْقَةٍ , أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ , أَنْتِ طَالِقٌ , أَنْتِ طَالِقٌ . وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ , فَهَذَا حَرَامٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ , وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ . وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا , فَهُوَ أَيْضًا حَرَامٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ , وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ . وَأَمَّا السُّنَّةُ : إذَا طَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً لَمْ يُطَلِّقْهَا الثَّانِيَةَ حَتَّى يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ , أَوْ يَتَزَوَّجَهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ بَعْدَ الْعِدَّةِ , فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّانِيَةَ وَكَذَلِكَ الثَّالِثَةُ , فَإِذَا طَلَّقَهَا الثَّالِثَةَ كَمَا أَمَرَ

اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ . وَأَمَّا لَوْ طَلَّقَهَا الثَّلَاثَ طَلَاقًا مُحَرَّمًا , مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةً جُمْلَةً وَاحِدَةً , فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ . وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ , وَلَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ , وَيَنْكِحَهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ بَعْدَ الْعِدَّةِ . وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ , وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ; وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ ; لِدَلَائِلَ كَثِيرَةٍ : مِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ وَاحِدَةً } . وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ , وَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ وَرَدَّهَا عَلَيْهِ } وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ثَبَّتَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ . وَضَعَّفَ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمْ , مَا رُوِيَ { أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ وَقَدْ اسْتَحْلَفَهُ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً ؟ } فَإِنَّ رُوَاةَ هَذَا مَجَاهِيلُ لَا يُعْرَفُ حِفْظُهُمْ وَعَدْلُهُمْ ; وَرُوَاةُ الْأَوَّلِ مَعْرُوفُونَ بِذَلِكَ . وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادٍ مَقْبُولٍ أَنَّ

أَحَدًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَلْزَمَهُ الثَّلَاثَ ; بَلْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كُلُّهَا كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ ; وَلَكِنْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ : " أَنَّ فُلَانًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا " . أَيْ ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَةً وَجَاءَ : { إنَّ الْمُلَاعِنَ طَلَّقَ ثَلَاثًا } وَتِلْكَ امْرَأَةٌ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى رَجْعَتِهَا ; بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ سَوَاءٌ طَلَّقَهَا أَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا , كَمَا لَوْ طَلَّقَ الْمُسْلِمُ امْرَأَتَهُ إذَا ارْتَدَّتْ ثَلَاثًا . وَكَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ امْرَأَةُ الْيَهُودِيِّ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا ; أَوْ أَسْلَمَ زَوْجُ الْمُشْرِكَةِ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا . وَإِنَّمَا الطَّلَاقُ الشَّرْعِيُّ أَنْ يُطَلِّقَ مَنْ يَمْلِكُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا أَوْ يَتَزَوَّجَهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19