كتاب : إقامة الدليل على إبطال التحليل
تأليف : شيخ الإسلام ابن تيمية

النَّقْصُ عَلَى الزَّوْجِ بِالْمَرْأَةِ وَفَوَاتِ صِفَةٍ أَوْ شَرْطٍ صَحِيحٍ أَوْ بَاطِلٍ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ الْمُسَمَّى بِنِسْبَةِ مَا نَقَصَ وَهَذَا النَّقْصُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَوْ لَمْ يُسَلِّمْ لَهَا مَا شَرَطَتْهُ أَوْ كَانَ الزَّوْجُ مَعِيبًا فَيُقَالُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَإِذَا أَسْلَمَ لَهَا ذَلِكَ أَوْ كَانَ الزَّوْجُ سَلِيمًا فَيُقَالُ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَيَكُونُ فَوَاتُ الصِّفَةِ وَالْعَيْبِ قَدْ صَارَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ الْخُمُسُ فَيَنْقُصُهَا مِنْ الْمُسَمَّى بِحَسَبِ ذَلِكَ فَيَكُونُ بِقِيمَتِهِ مَالٌ ذَهَبَ مِنْهُ فَيُزَادُ عَلَيْهِ مِثْلُ رُبْعِهِ فَإِذَا كَانَ أَلْفَيْنِ اسْتَحَقَّ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ وَهَذَا هُوَ الْمَهْرُ الَّذِي رَضِيَتْ بِهِ وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ مَعِيبًا أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ صِفَةً وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ الْمَغْرُورُ بِالصَّدَاقِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ مِنْ الْمَرْأَةِ أَوْ الْوَلِيِّ فِي أَصَحِّ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ .

وَيَتَحَرَّرُ لِأَصْحَابِنَا فِيمَا إذَا زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَزْيَدَ رِوَايَاتٌ . إحْدَاهُنَّ : أَنَّهُ عَلَى الِابْنِ مُطْلَقًا إلَّا أَنْ يَضْمَنُهُ الْأَبُ فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا . الثَّانِيَةُ : أَنْ يَضْمَنَهُ فَيَكُونَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ . الثَّالِثَةُ : أَنَّهُ عَلَى الْأَبِ ضَمَانًا . الرَّابِعَةُ : أَنَّهُ عَلَيْهِ أَصَالَةً . الْخَامِسَةُ : أَنَّهُ إذَا كَانَ الِابْنُ مُقِرًّا فَهُوَ عَلَى الْأَبِ أَصَالَةً . السَّادِسَةُ : الْفَرْقُ بَيْنَ رِضَا الِابْنِ وَعَدَمِ رِضَاهُ وَضَمَانُ الْأَبِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةُ عَلَى الِابْنِ قَدْ يَكُونُ بِلَفْظِ الضَّمَانِ وَقَدْ يَكُونُ بِلَفْظٍ آخَرَ . مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الَّذِي لِي لِابْنِي أَوْ أَنَا وَابْنِي شَيْءٌ وَاحِدٌ , وَهَلْ يَتْرُكُ وَالِدٌ وَلَدَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَغُرُّهُمْ حَتَّى يُزَوِّجُوا ابْنَهُ , وَقَدْ يَكُونُ بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ وَقَدْ يَذْكُرُ الْأَبُ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ مَلَّكَ ابْنَهُ مَالًا أَوْ يُخْبِرَهُمْ بِذَلِكَ فَيُزَوِّجُوهُ عَلَى ذَلِكَ , مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَنَا أَعْطَيْته عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ لَهُ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ , فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ مَالِ الْأَبِ وَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ قَبْلَ بُلُوغِ الزَّوْجِ أَوْ قَبْلَ رِضَاهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كَالْمَهْرِ قَالَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ إذَا مَاتَ الْأَبُ الَّذِي عَلَيْهِ مَهْرُ ابْنِهِ فَأَخَذَ مِنْ تَرِكَتِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الِابْنِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَالْبَرْزَلِيِّ قَالَ الْقَاضِي : يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ أَثْبَتَ لَهُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ

الْأُخْرَى وَأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يَحْصُلْ الْقَبْضُ مِنْهُ وَعَلَى هَذَا حَمَلَهُ أَبُو حَفْصٍ . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : وَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ إلَّا بِالْمَأْخَذَيْنِ جَمِيعًا وَذَلِكَ أَنَّ الْأَبَ قَائِمٌ مَقَامَ ابْنِهِ فَلَوْ ضَمِنَهُ أَجْنَبِيٌّ بِإِذْنِهِ صَحَّ فَإِذَا ضَمِنَهُ هُوَ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ ضَمَانًا لَازِمًا لِلِابْنِ وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُثْبِتَ الْمَالَ فِي ذِمَّتِهِ بِدُونِ ضَمَانِهِ فَضَمَانُهُ وَقَضَاؤُهُ أَوْلَى قَالَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ إذَا ضَمِنَهُ الْأَبُ لَزِمَهُ كَمَا لَوْ ضَمِنَهُ أَجْنَبِيٌّ وَإِذَا أَقَبَضَهَا إيَّاهُ فَهَلْ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى الْأَبِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ أَصْلُهُمَا ضَمَانُ الْأَجْنَبِيِّ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : بَلْ يَرْجِعُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ ابْنِهِ فِي الْإِذْنِ لِنَفْسِهِ كَمَا لَوْ ضَمِنَ أَجْنَبِيٌّ بِإِذْنِ نَفْسِهِ وَإِذَا وَفَّى الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ دَيْنًا مِنْ صَدَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ كَانَ لِلْمُسْتَوْفِي أَخْذُهُ لَهُ وَفَاءٌ عَنْ دَيْنِهِ وَبَدَلًا عَنْهُ وَأَمَّا الْمُوَفَّى عَنْهُ إذَا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ مُتَبَرِّعُ عَلَيْهِ ثُمَّ هَلْ يُقَالُ لَوْ انْفَسَخَ يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ أَوْ بَعْضُهُ كَالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَفَسْخِ الْبُيُوعِ لِلْمُوَفَّى عَنْهُ أَوْ لَمْ يَمْلِكْ فَيَعُودُ إلَى الْمُوَفَّى . الرَّاجِحُ أَنْ لَا يَجِبَ انْتِقَالُهُ وَيَتَقَرَّرُ الْمَهْرُ بِالْخَلْوَةِ وَإِنْ مَنَعَتْهُ الْوَطْءَ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ , وَقِيلَ لَهُ فَإِنْ أَخَذَهَا وَعِنْدَهَا نِسْوَةٌ وَقَبَضَ عَلَيْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُوَ

بِهَا قَالَ : إذَا نَالَ مِنْهَا شَيْئًا لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ , وَإِنْ قُلْنَا لَا مَهْرَ بِالْخَلْوَةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ عَلَى قَوْلِنَا بِوُجُوبِ الْعِدَّةِ فِيهِ وَالْفَسْخُ لِاعْتِبَارِ الزَّوْجِ بِالْمَهْرِ أَوْ النَّفَقَةِ نَظِيرُ الْفَسْخِ لِعُنَّةٍ بِالزَّوْجِ فَيَتَخَرَّجُ مِنْهُ التَّنْصِيفُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَنْصُوصَةِ عَنْهُ فِيهِ فَإِنَّ لَهَا نِصْفَ الْمَهْرِ لِكَوْنِهَا مَعْذُورَةً فِي الْفَسْخِ وَيَتَخَرَّجُ ذَلِكَ وَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ إنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ يَتَقَوَّمُ وَتَجِبُ الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ نَقَلَهَا حَنْبَلٌ وَهُوَ ظَاهِرُ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ . وَاخْتَارَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي " الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ " : أَنَّ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةً إلَّا الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَقَدْ فَرَضَ لَهَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَقَالَهُ عُمَرُ وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْمُتْعَةَ لِلْمَدْخُولِ بِهَا وَكَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا فَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ لَهَا أَيْضًا مَعَ نَفَقَةِ الْعَقْدِ حَيْثُ أَوْجَبْنَاهَا وَتَكُونُ نَفَقَةُ الرَّجْعِيَّةِ مُتَعَيِّنَةً عَنْ مَتَاعٍ آخَرَ بِحَيْثُ لَا تَجِبُ لَهَا كُسْوَتَانِ . وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَصْرِ فِي مَهْرِ الْمِثْلِ فَإِنَّ الزَّمَانَ إنْ كَانَ زَمَانَ رُخْصٍ رُخِّصَ وَإِنْ زَادَتْ الْمُهُورُ , وَإِنْ كَانَ زَمَنَ غَلَاءٍ وَخَوْفِ نَقْصٍ وَقَدْ تُعْتَبَرُ عَادَةُ الْبَلَدِ وَالْقَبِيلَةِ فِي زِيَادَةِ الْمَهْرِ وَنَقْصِهِ وَيَنْبَغِي أَيْضًا اعْتِبَارُ الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْكَفَاءَةِ فَإِذَا كَانَ أَبُوهَا مُوسِرًا ثُمَّ افْتَقَرَ

أَوْ ذَا صَنْعَةٍ جَيِّدَةٍ ثُمَّ تَحَوَّلَ إلَى دُونِهَا أَوْ كَانَتْ لَهُ رِئَاسَةٌ أَوْ مِلْكٌ ثُمَّ زَالَتْ عَنْهُ تِلْكَ الرِّئَاسَةُ وَالْمِلْكُ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ مِثْلِ هَذَا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَهْلُهُمَا لَهُمْ عِزٌّ فِي أَوْطَانِهِمْ وَرِئَاسَةٌ فَانْقَلَبُوا إلَى بَلَدٍ لَيْسَ لَهُمْ عِزٌّ فِيهِ وَلَا رِئَاسَةٌ فَإِنَّ الْمَهْرَ يَخْتَلِفُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهُمْ يُسَمُّونَ مَهْرًا وَلَكِنْ لَا يَسْتَوْفُونَهُ قَطُّ مِثْلُ عَادَةِ أَهْلِ الْجَفَاءِ مِثْلُ الْأَكْرَادِ وَغَيْرِهِمْ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَالشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ كَالْمُقَارِنِ وَالْإِطْرَادُ الْعُرْفِيُّ كَالْمَقْضِيِّ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : وَقَدْ سُئِلْت عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنْ هَذَا وَقِيلَ لِي مَا مَهْرُ مِثْلِ هَذِهِ فَقُلْت مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ الزَّوْجِ فَقَالُوا إنَّمَا يُؤْخَذُ الْمُنْحَلُّ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقُلْت هُوَ مَهْرُ مِثْلِهَا .

وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْكِنَايَةِ إلَّا بِنِيَّةٍ إلَّا مَعَ قَرِينَةِ إرَادَةِ الطَّلَاقِ فَإِذَا قَرَنَ الْكِنَايَاتِ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى أَحْكَامِ الطَّلَاقِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : فَسَخْت النِّكَاحَ وَقَطَعْت الزَّوْجِيَّةَ وَرَفَعْت الْعَلَاقَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجَتِي وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى فِي ضِمْنِ مَسْأَلَةِ الْقِيَاسِ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْكِنَايَةِ حَتَّى يَنْوِيَهُ . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : هَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ عَلَى الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا فَإِنَّهُمْ مَهَّدُوا فِي كِتَابِ الْوَقْفِ أَنَّهُ إذَا قَرَنَ بِالْكِنَايَةِ بَعْضَ أَحْكَامِهِ صَارَتْ كَالصَّرِيحِ وَيَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِ الزَّوْجِ لَسْت لِي بِامْرَأَةٍ وَمَا أَنْت لِي بِامْرَأَةٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ لَيْسَ لِي امْرَأَةٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إذَا قِيلَ لَهُ لَك امْرَأَةٌ فَقَالَ لَا فَإِنَّ الْفَرْقَ ثَابِتٌ بَيْنَهُمَا وَصْفًا وَعَدَدًا إذْ الْأَوَّلُ نَفْيٌ لِنِكَاحِهَا وَنَفْيُ النِّكَاحِ عَنْهَا كَإِثْبَاتِ طَلَاقِهَا وَيَكُونُ إنْشَاءً وَيَكُونُ إخْبَارًا بِخِلَافِ نَفْيِ الْمَنْكُوحَاتِ عُمُومًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَعْمِل إلَّا إخْبَارًا وَفِي الْمُغْنِي وَالْكَافِي وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَوْ بَاعَ زَوْجَتَهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَعِنْدِي أَنَّهُ كِنَايَةٌ . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ إذَا قَصَدَ الْخُلْعَ لَا بَيْعَ الرَّقَبَةِ . قَالَ الْقَاضِي : إنْ قَالَ لَهَا : اخْتَارِي نَفْسَكِ , فَذَكَرَتْ أَنَّهَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا , فَأَنْكَرَ الزَّوْجُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ; لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ مِمَّا يُمْكِنُهَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي اخْتِيَارِهَا . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ :

يُتَوَجَّهُ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهَا كَالْوَكِيلِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّ الْوَكِيلَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ وُكِّلَ فِيهِ وَلَوْ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ رَجَعَ قَبْلَ إيقَاعِ الْوَكِيلِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ إنْ أَبْرَأْتِينِي فَأَنْتَ طَالِقٌ فَقَالَتْ أَبْرَأَك اللَّهُ مِمَّا تَدَّعِي النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ إذَا كَانَتْ رَشِيدَةً .

بَابُ الْوَلِيمَةِ وَتَخْتَصُّ بِطَعَامِ الْعُرْسِ فِي مُقْتَضَى كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ وَقِيلَ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ طَعَامٍ لِسُرُورٍ حَادِثٍ وَقَالَهُ فِي " الْجَامِعِ " : وَقِيلَ : تُطْلَقُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ فِي الْعُرْسِ أَظْهَرُ وَوَقْتُ الْوَلِيمَةِ فِي حَدِيثِ زَيْنَبَ وَصِفَتُهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَقِبَ الدُّخُولِ وَالْأَشْبَهُ جَوَازُ الْإِجَابَةِ لَا وُجُوبُهَا إذَا كَانَ فِي مَجْلِسِ الْوَلِيمَةِ مَنْ يَهْجُرُ وَأَعْدَلُ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ إذَا حَضَرَ الْوَلِيمَةَ وَهُوَ صَائِمٌ إنْ كَانَ يَنْكَسِرُ قَلْبُ الدَّاعِي بِتَرْكِ الْأَكْلِ فَالْأَكْلُ أَفْضَلُ وَإِنْ لَمْ يَنْكَسِرْ قَلْبُهُ فَإِتْمَامُ الصَّوْمِ أَفْضَلُ وَلَا يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الدَّعْوَةِ الْإِلْحَاحُ فِي الطَّعَامِ لَلْمَدْعُوِّ إذَا امْتَنَعَ فَإِنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ جَائِزٌ فَإِذَا أَلْزَمَهُ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ كَانَ مِنْ نَوْعِ الْمَسْأَلَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَلَا يَنْبَغِي لَلْمَدْعُوِّ إذَا رَأَى أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى امْتِنَاعِهِ مَفَاسِدُ أَنْ يَمْتَنِعَ فَإِنَّ فِطْرَهُ جَائِزٌ , فَإِنْ كَانَ تَرْكُ الْجَائِزِ مُسْتَلْزِمًا لِأُمُورٍ مَحْذُورَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ الْجَائِزَ وَرُبَّمَا يَصِيرُ وَاجِبًا وَإِنْ كَانَ فِي إجَابَةِ الدَّاعِي مَصْلَحَةُ الْإِجَابَةِ فَقَطْ وَفِيهَا مَفْسَدَةُ الشُّبْهَةِ فَالْمَنْعُ أَرْجَحُ . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : هَذَا فِيهِ خِلَافٌ فِيمَا أَظُنُّهُ وَالدُّعَاءُ إلَى الْوَلِيمَةِ إذْنٌ فِي الْأَكْلِ وَالدُّخُولِ قَالَهُ فِي الْمُغْنِي وَقَالَ فِي الْمُحَرَّرِ لَا يُبَاحُ الْأَكْلُ إلَّا بِصَرِيحِ إذْنٍ أَوْ عُرْفٍ , وَكَلَامُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ يُوَافِقُهُ وَمَا قَالَاهُ مُخَالِفٌ

قَالَهُ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ : وَالْحُضُورُ مَعَ الْإِنْكَارِ الْمُزِيلِ عَلَى قَوْلِ عَبْدِ الْقَادِرِ هُوَ حَرَامٌ , وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي وَالشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ هُوَ وَاجِبٌ وَإِلَّا قِيسَ بِكَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي التَّخْيِيرِ عِنْدَ الْمُنْكَرِ الْمَعْلُومِ غَيْرِ الْمَحْسُوسِ أَنْ يَتَخَيَّرَهُمَا أَيْضًا وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ أَشْبَهَ بِكَلَامِهِ لِزَوَالِ الْمَفْسَدَةِ بِالْحُضُورِ وَالْإِنْكَارِ لَكِنْ لَا يَجِبُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْلِيفِ الْإِنْكَارِ وَلِأَنَّ الدَّاعِيَ أَسْقَطَ حُرْمَتَهُ بِاِتِّخَاذِهِ الْمُنْكَرَ وَنَظِيرُ هَذَا إذَا مَرَّ بِمُتَلَبِّسٍ بِمَعْصِيَةٍ هَلْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ أَوْ يَتْرُكُ التَّسْلِيمَ وَإِنْ خَافُوا أَنْ يَأْتُوا بِالْمُحَرَّمِ وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِمْ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ فَقَدْ تَعَارَضَ الْمُوجِبُ وَهُوَ الدَّعْوَةُ وَالْمُبِيحُ وَهُوَ خَوْفُ شُهُودِ الْخَطِيئَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَمْ يَسْلَمْ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُسَاوِي وَلَا يَحْرُمُ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ كَذَلِكَ فَيَنْتَفِي الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ وَيَنْبَغِي الْجَوَازُ . وَنُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ اللُّبْثِ فِي الْمَكَانِ الْمُضِرِّ وَقَالَهُ الْقَاضِي وَهُوَ لَازِمٌ لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ حَيْثُ جَزَمَ بِمَنْعِ اللُّبْثِ فِي مَكَان فِيهِ الْخَمْرُ وَآنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلِذَلِكَ مَأْخَذَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ إقْرَارَ ذَلِكَ فِي الْمَنْزِلِ مُنْكَرٌ فَلَا يَدْخُلُ إلَى مَكَان فِيهِ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ الدُّخُولُ إلَى دُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَكَنَائِسِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا صُوَرٌ لِأَنَّهُمْ يَقَرُّونَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا

يُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا يُنْهَوْنَ عَنْ إظْهَارِ الْخَمْرِ وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ جَمِيعِ مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو مُحَمَّدٍ وَيَكُونُ مَنْعُ الْمَلَائِكَةِ سَبَبًا لِمَنْعِ كَوْنِهَا فِي الْمَنْزِلِ وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَ فِي الدَّعْوَةِ كَلْبٌ لَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ لَمْ تَدْخُلْ الْمَلَائِكَةُ أَيْضًا بِخِلَافِ الْجُنُبِ فَإِنَّ الْجُنُبَ لَا يَطُولُ بَقَاؤُهُ جُنُبًا فَلَا تَمْتَنِعُ الْمَلَائِكَةُ عَنْ الدُّخُولِ إذَا كَانَ هُنَاكَ زَمَنًا يَسِيرًا وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ نَفْسُ اللُّبْثِ مُحَرَّمًا أَوْ مَكْرُوهًا وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَوْقَاتُ الْحَاجَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وَتَكُونُ الْعِلَّةُ مَا يَكْتَسِبُهُ الْمَنْزِلُ مِنْ الصُّورَةِ الْمُحَرَّمَةِ حَتَّى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ مَنَازِلَ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَرَجَّحَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَدَمَ الدُّخُولِ إلَى بِيعَةٍ فِيهَا صُوَرٌ وَأَنَّهَا كَالْمَسْجِدِ عَلَى الْقَبْرِ , وَالْكَنَائِسُ لَيْسَتْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ لَيْسَ لَهُمْ مَنْعُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهَا لِأَنَّا لُحْنَاهُمْ عَلَيْهِ وَالْعَابِدُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْغَافِلِينَ أَعْظَمُ أَجْرًا وَيَحْرُمُ شُهُودُ عِيدِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَنَقَلَهُ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ وَبِيعَةٍ لَهُمْ فِيهِ وَيَخْرُجُ مِنْ رِوَايَةٍ مَنْصُوصَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مَنْعِ التِّجَارَةِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ يُلْزِمُوهُ بِفِعْلِ مُحَرَّمٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ وَيُنْكِرُ مَا يُشَاهِدُهُ مِنْ الْمُنْكَرِ بِحَسَبِهِ وَيُحَرِّمُ بَيْعَهُمْ مَا يَعْلَمُونَهُ كَنِيسَةً أَوْ تِمْثَالًا وَنَحْوَهُ وَكُلُّ مَا فِيهِ تَخَصُّصٌ لِعِيدِهِمْ أَوْ مَا هُوَ بِمَنْزِلَتِهِ . قَالَ

أَبُو الْعَبَّاسِ : لَا أَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّهُ مِنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَالتَّشَبُّهُ بِهِمْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إجْمَاعًا وَتَجِبُ عُقُوبَةُ فَاعِلِهِ وَلَا يَنْبَغِي إجَابَةُ هَذِهِ الدَّعْوَةِ . وَلَمَّا صَارَتْ الْعِمَامَةُ الصَّفْرَاءُ أَوْ الزَّرْقَاءُ مِنْ شِعَارِهِمْ حُرِّمَ لُبْسُهَا وَيُحَرَّمُ الْأَكْلُ وَالذَّبْحُ الزَّائِدُ عَلَى الْمُعْتَادِ فِي بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ وَلَوْ الْعَادَةُ فِعْلُهُ أَوْ لِتَفْرِيحِ أَهْلِهِ وَيُعَزَّرُ إنْ عَادَ وَيُكْرَهُ مَوْسِمٌ خَاصٌّ : كَالرَّغَائِبِ , وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ , وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ , وَهُوَ بِدْعَةٌ , وَأَمَّا مَا يُرْوَى فِي الْكُحْلِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ , أَوْ الْخِضَابِ أَوْ الِاغْتِسَالِ , أَوْ الْمُصَافَحَةِ , أَوْ مَسْحِ رَأْسِ الْيَتِيمِ , أَوْ أَكْلِ الْحُبُوبِ , أَوْ الذَّبْحِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَكُلُّ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْلُ ذَلِكَ بِدْعَةٌ لَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ شَيْءٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الدِّينِ , وَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْبِدَعِ فِيهِ مِنْ النِّيَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَالْمَأْتَمِ , وَسَبِّ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هُوَ أَيْضًا مِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ , هَذَا وَهَذَا وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ أَغْلَظُ مِنْ بَعْضٍ وَالْخِلَافُ فِي كُسْوَةِ الْحِيطَانِ إذَا لَمْ تَكُنْ حَرِيرًا أَوْ ذَهَبًا , فَأَمَّا الْحَرِيرُ وَالذَّهَبُ فَيَحْرُمُ كَمَا تَحْرُمُ سُيُورُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ وَالْحِيطَانِ وَالْأَثْوَابِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْمَرْأَةِ فَفِي كَوْنِ سُتُورِهَا وَكُسْوَتِهَا كَفُرُشِهَا نَظَرٌ إذْ لَيْسَ هُوَ مِنْ اللِّبَاسِ وَلَا رَيْبَ فِي

تَحْرِيمِ فُرُشِ الثِّيَابِ تَحْتَ دَابَّةِ الْأَمِيرِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ خَزًّا أَوْ مَغْصُوبَةً وَرَخَّصَ أَبُو مُحَمَّدٍ سَتْرَ الْحِيطَانِ لِحَاجَةٍ مِنْ وِقَايَةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْقَاضِي الْمَنْعُ لِإِطْلَاقِهِ عَلَى مُقْتَضَى كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَيُكْرَهُ تَعْلِيقُ السُّتُورِ عَلَى الْأَبْوَابِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِوُجُودِ أَغْلَاقٍ غَيْرِهَا مِنْ أَبْوَابٍ وَنَحْوِهَا . وَكَذَلِكَ السُّتُورُ فِي الدِّهْلِيزِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَإِنَّ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ فَهُوَ سَرَفٌ وَهَلْ يَرْتَقِي إلَى التَّحْرِيمِ ؟ فِيهِ نَظَرٌ قَالَ الْمَرْوَزِيِّ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْجَوْزِ يُنْثَرُ فَكَرِهَهُ وَقَالَ يُعْطَوْنَ أَوْ يُقْسَمُ عَلَيْهِمْ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ هَانِئٍ لَا يُعْجِبُنِي انْتِهَابُ الْجَوْزِ وَأَنْ يُوكَلَ السَّكَرُ كَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي يُكْرَهُ الْأَكْلُ الْتِقَاطًا مِنْ النِّثَارِ سَوَاءٌ أَخَذَهُ أَوْ أَخَذَهُ مِمَّنْ أَخَذَهُ , وَقَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ هَذِهِ نُهْبَةٌ تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَهُوَ قَوِيٌّ وَأَمَّا الرُّخْصَةُ الْمَحْضَةُ فَتَبْعُدُ جِدًّا وَيُكْرَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ قَائِمًا لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَيُكْرَهُ الْقِرَانُ فِيمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَنَاوُلِهِ إفْرَادًا وَاخْتَلَفَ كَلَامُ أَبِي الْعَبَّاسِ فِي أَكْلِ الْإِنْسَانِ حَتَّى يُتْخَمَ هَلْ يُكْرَهُ أَوْ يُحَرَّمُ . وَجَزَمَ أَبُو الْعَبَّاسِ : فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِتَحْرِيمِ الْإِسْرَافِ وَفُسِّرَ بِمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ وَإِذَا قَالَ عِنْدَ الْأَكْلِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كَانَ حَسَنًا فَإِنَّهُ أَكْمَلُ بِخِلَافِ الذَّبْحِ فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ وَيَلِمُ

الْإِنْسَانُ مِنْ بَيْتِ صَدِيقِهِ وَقَرِيبِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ إذَا لَمْ يَحُزْهُ عَنْهُ .
وَإِرْضَاعُ الطِّفْلِ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمِّ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ مَعَ الزَّوْجِ , وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَلَا تَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ زِيَادَةً عَلَى نَفَقَتِهَا وَكِسْوَتِهَا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ , وَقَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ , بِالْمَعْرُوفِ } فَلَمْ يُوجِبْ لَهُنَّ إلَّا الْكِسْوَةَ وَالنَّفَقَةَ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ الْوَاجِبُ بِالزَّوْجِيَّةِ وَمَا عَسَاهُ يَتَجَرَّدُ مِنْ زِيَادَةٍ خَاصَّةٍ لِلْمُرْتَضِعِ كَمَا قَالَ فِي الْحَامِلِ : { فَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } . فَدَخَلَتْ نَفَقَةُ الْوَلَدِ فِي نَفَقَةِ أُمِّهِ لِأَنَّهُ يَتَغَذَّى بِهَا . وَكَذَلِكَ الْمُرْتَضِعُ وَتَكُونُ النَّفَقَةُ هُنَا وَاجِبَةً بِشَيْئَيْنِ حَتَّى لَوْ سَقَطَ الْوُجُوبُ فَأَحَدُهُمَا ثَبَتَ الْآخَرُ . كَمَا لَوْ نَشَزَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ لِلْإِرْضَاعِ لَا لِلزَّوْجِيَّةِ . فَأَمَّا إذَا كَانَتْ بَائِنًا وَأَرْضَعَتْ لَهُ وَلَدَهُ فَإِنَّهَا تَسْتَحِقُّ أَجْرَهَا بِلَا رَيْبٍ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَهَذَا الْأَجْرُ هُوَ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ وَقَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ . وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ قَلِيلَةَ اللَّبَنِ وَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا فَلَهُ أَنْ يَكْتَرِيَ

مُرْضِعَةً لِوَلَدِهِ وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا فَرْضَ لِلْمَرْأَةِ بِسَبَبِ الْوَلَدِ وَلَهَا حَضَانَتُهُ , وَيَجِبُ عَلَى الْقَرِيبِ افْتِكَاكُ قَرِيبِهِ مِنْ الْأَسْرِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ اسْتِنْقَاذُهُ مِنْ الرِّقِّ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِ الْعَقْلِ .
كِتَابُ الدِّيَاتِ الْمَعْرُوفُ أَنَّ الْحُرَّ يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ لَا بِالْيَدِ إلَّا الصَّغِيرَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ فِي سَرِقَتِهِ فَإِنْ كَانَ الْحُرُّ قَدْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَقُّ قَوَدٍ أَوْ فِي ذِمَّتِهِ مَالٌ أَوْ مَنْفَعَتُهُ أَوْ عِنْدَهُ أَمَانَاتٌ أَوْ غُصُوبٌ تَلِفَتْ بِتَلَفِهِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا عَلَيْهَا وَإِذَا تَلِفَ زَالَ الْحِفْظُ فَيَنْبَغِي أَنَّهُ إنْ أَتْلَفَ فَمَا ذَهَبَ لِإِتْلَافِهِ مِنْ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ مَضْمُونَةٍ ضُمِنَتْ كَالْقَوَدِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ لَكِنْ هَلْ يَنْتَقِلُ الْحَقُّ إلَى الْقَاتِلِ فَيُخَيَّرُ الْأَوْلِيَاءُ بَيْنَ قَتْلِهِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ أَوْ إلَى تَرْكِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ , وَأَمَّا إذَا تَلِفَ تَحْتَ الْيَدِ الْعَادِيَةِ فَالْمُتَوَجَّهُ أَنْ يَضْمَنَ مَا تَلِفَ بِذَلِكَ مِنْ مَالٍ أَوْ بَدَلِ قَوَدٍ بِحَيْثُ يُقَالُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ قَوَدٌ فَحَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْقَوَدِ حَتَّى مَاتَ ضَمِنَ لَهُمْ الدِّيَةَ وَمَنْ جَنَى عَلَى سِنِّهِ اثْنَانِ وَاخْتَلَفُوا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي قَدْرِ مَا أَتْلَفَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا . قَالَهُ أَصْحَابُنَا وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يَقْتَرِعَا عَلَى الْقَدْرِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ كَمَا لَوْ ثَبَتَ الْحَقُّ لِأَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ .

وَإِذَا أَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ مَا لَا جَمَالَ فِيهِ فَهَلْ يَجِبُ الْقِسْطُ أَوْ الْحُكُومَةُ .
كِتَابُ الْحُدُودِ قَوْله تَعَالَى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } قَدْ يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُذْنِبَ إذَا لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ حُكْمُ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ يُمْسَكُ فَيُحْبَسُ حَتَّى يُعْرَفَ فِيهِ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فَيُنَفَّذَ فِيهِ وَإِذَا زَنَى الذِّمِّيُّ بِالْمُسْلِمَةِ قُتِلَ وَلَا يَصْرِفُ عَنْهُ الْقَتْلَ الْإِسْلَامُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْمُسْلِمِ , بَلْ يَكْفِي اسْتِفَاضَتُهُ وَاشْتِهَارُهُ , وَإِنْ حَمَلَتْ امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا وَلَا سَبَبَ حُدَّتْ إنْ لَمْ تَدَّعِ الشُّبْهَةَ . وَكَذَا مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ . وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِمَا وَغِلَظُ الْمَعْصِيَةِ وَعِقَابُهَا بِقَدْرِ فَضِيلَةِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْكَبِيرَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ لَكِنْ قَدْ تُحْبِطُ مَا يُقَابِلُهَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ . وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ مُطَالَبَةُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ بِمَالِهِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ كَإِقْرَارِهِ بِالزِّنَا بِأَمَةِ غَيْرِهِ وَمَنْ سَرَقَ تَمْرًا أَوْ مَاشِيَةً مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ أُضْعِفَتْ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَكَذَا غَيْرُهَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ . وَاللِّصُّ الَّذِي غَرَضُهُ سَرِقَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَلَا غَرَضَ لَهُ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّ قَطْعَ يَدِهِ وَاجِبٌ وَلَوْ عَفَا عَنْهُ رَبُّ الْمَالِ .

لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَلَا بِغَيْرِهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَيَجُوزُ شُرْبُ لَبَنِ الْخَيْلِ إذْ لَمْ يَصِرْ مُسْكِرًا . وَالصَّحِيحُ فِي حَدِّ الْخَمْرِ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ الْمُوَافِقَةُ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ إلَى الثَّمَانِينَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ يَرْجِعُ فِيهَا إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ كَمَا جَوَّزْنَا لَهُ الِاجْتِهَادَ فِي صِفَةِ الضَّرْبِ فِيهِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ فِي بَقِيَّةِ الْحُدُودِ . وَمِنْ التَّعْزِيرِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ : نَفْيُ الْمُخَنَّثِ , وَحَلَقَ عُمَرُ رَأْسَ نَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ وَنَفَاهُ لَمَّا اُفْتُتِنَ بِهِ النِّسَاءُ , فَكَذَا مَنْ اُفْتُتِنَ بِهِ الرِّجَالُ مِنْ الْمُرْدَانِ وَلَا يُقَدَّرُ التَّعْزِيرُ , بَلْ بِمَا يَرْدَعُ الْمُعَزَّرَ , وَقَدْ يَكُونُ بِالْعَمَلِ وَالنَّيْلِ مِنْ عِرْضِهِ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ لَهُ : يَا ظَالِمُ يَا مُعْتَدِي وَبِإِقَامَتِهِ مِنْ الْمَجْلِسِ , وَاَلَّذِينَ قَدَّرُوا التَّعْزِيرَ مِنْ أَصْحَابِنَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا كَانَ تَعْزِيرًا عَلَى مَا مَضَى مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ فَإِنْ كَانَ تَعْزِيرًا لِأَجْلِ تَرْكِ مَا هُوَ فَاعِلٌ لَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَالْحَرْبِيِّ وَقِتَالِ الْبَاغِي وَالْعَادِي وَهَذَا التَّعْزِيرُ لَيْسَ يُقَدَّرُ بَلْ يَنْتَهِي إلَى الْقَتْلِ , كَمَا فِي الصَّائِلِ لِأَخْذِ الْمَالِ يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ الْأَخْذِ وَلَوْ بِالْقَتْلِ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ دَفْعَ الْفَسَادِ وَلَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ . وَحِينَئِذٍ فَمَنْ

تَكَرَّرَ مِنْهُ فِعْلُ الْفَسَادِ وَلَمْ يَرْتَدِعْ بِالْحُدُودِ الْمُقَدَّرَةِ بَلْ اسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ الْفَسَادِ فَهُوَ كَالصَّائِلِ الَّذِي لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِالْقَتْلِ فَيُقْتَلُ قِيلَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُخَرَّجَ شَارِبُ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ عَلَى هَذَا , وَيُقْتَلُ الْجَاسُوسُ الَّذِي يُكَرِّرُ التَّجَسُّسَ وَقَدْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي صَلَاحِ النَّاسِ . وَكَذَلِكَ تَارِكُ الْوَاجِبِ فَلَا يَزَالُ يُعَاقَبُ حَتَّى يَفْعَلَهُ , وَمَنْ قَفَزَ إلَى بِلَادِ الْعَدُوِّ أَوْ لَمْ يَنْدَفِعْ ضَرَرُهُ إلَّا بِقَتْلِهِ قُتِلَ وَالتَّعْزِيرُ بِالْمَالِ سَائِغٌ إتْلَافًا وَأَخْذًا وَهُوَ جَارٍ عَلَى أَصْلِ أَحْمَدَ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُهُ أَنَّ الْعُقُوبَاتِ فِي الْأَمْوَالِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ كُلُّهَا وَقَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيَّ وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ مَالِ الْمُعَزَّرِ فَإِشَارَةٌ مِنْهُ إلَى مَا يَفْعَلُهُ الْوُلَاةُ الظَّلَمَةُ .

وَإِنْ اشْتَرَى الْيَهُودِيُّ نَصْرَانِيًّا فَجَعَلَهُ يَهُودِيًّا عُزِّرَ عَلَى جَعْلِهِ يَهُودِيًّا وَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا وَلَا يَجُوزُ لِلْجَذْمَاءِ مُخَالَطَةُ النَّاسِ عُمُومًا وَلَا مُخَالَطَةُ النَّاسِ لَهُمْ بَلْ يَسْكُنُونَ فِي مَكَان مُفْرَدٍ لَهُمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا جَاءَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ وَخُلَفَائِهِ وَكَمَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ . وَإِذَا امْتَنَعَ وَلِيُّ الْأَمْرِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ الْمَجْذُومُ أَثِمَ بِذَلِكَ وَإِذَا أَصَرَّ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ فَسَقَ وَمَنْ دَعَا عَلَيْهِ ظُلْمًا لَهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى ظَالِمِهِ بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ عَلَيْهِ نَحْوُ أَخْزَاك اللَّهُ أَوْ لَعَنَك أَوْ يَشْتُمَهُ بِغَيْرِ فِرْيَةٍ نَحْوُ يَا كَلْبُ يَا خِنْزِيرُ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْمَخْلُوقِ مِنْ وَكِيلٍ وَوَالٍ وَغَيْرِهِمَا فَاسْتِعَانَتُهُ بِخَالِقِهِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِقَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ يَسْقُطُ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ كَقَوْلِهِمْ هُوَ وَاجِبٌ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ . وَذَكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ : فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ سَاغَ تَعْزِيرُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ .

كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَيُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ فِي الْحُدُودِ وَقَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْقِصَاصِ , وَالْمَحْكُومُ إذَا كَانَ عَيْنًا فِي بَلَدِ الْحَاكِمِ فَإِنَّهُ يُسَلِّمُهُ إلَى الْمُدَّعِي وَلَا حَاجَةَ إلَى كِتَابٍ وَأَمَّا إنْ كَانَ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا فِي بَلَدٍ أُخْرَى فَهُنَا يَقِفُ عَلَى الْكِتَابِ وَهَهُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ مُتَدَاخِلَاتٍ مَسْأَلَةُ إحْضَارِ الْخَصْمِ إذَا كَانَ غَائِبًا وَمَسْأَلَةُ الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ وَمَسْأَلَةُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَلَوْ قِيلَ : إنَّمَا نَحْكُمُ عَلَى الْغَائِبِ إذَا كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ حَاضِرًا لِأَنَّ فِيهِ فَائِدَةً وَهِيَ تَسْلِيمُهُ . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ غَائِبًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُكَاتِبَ الْحَاكِمَ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ شَهَادَةِ الشُّهُودِ حَتَّى يَكُونَ الْحُكْمُ فِي بَلَدِ التَّسْلِيمِ لَكَانَ مُتَوَجِّهًا وَهَلْ يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي بِالثُّبُوتِ أَوْ الْحُكْمِ مِنْ حَاكِمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ أَنَّ حَاكِمًا نَافِذَ الْحُكْمِ حَكَمَ بِكَذَا وَكَذَا . الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُكَاتَبُ مَعْرُوفًا لِأَنَّ مُرَاسَلَةَ الْحَاكِمِ وَمُكَاتَبَتَهُ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ لِلْفُرُوعِ وَهَذَا لَا يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ وَالشَّهَادَاتِ وَإِنْ قُبِلَ فِي الْفَتَاوَى وَالْإِخْبَارَاتِ . وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ " الْمُحَرَّرِ " : مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي مِنْ أَنَّ الْخَصْمَيْنِ إذَا أُقِرَّ بِحُكْمِ حَاكِمٍ عَلَيْهِمَا خُيِّرَ الثَّانِي بَيْنَ

الْإِمْضَاءِ وَالِاسْتِئْنَافِ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْخَصْمِ شَهِدَ عَلَيَّ شَاهِدَانِ ذَوَيْ عَدْلٍ فَهُنَا قَدْ يُقَالُ بِالتَّخْيِيرِ أَيْضًا وَمَنْ عُرِفَ خَطُّهُ بِإِقْرَارِهِ أَوْ إنْشَاءٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ شَهَادَةٍ عُمِلَ بِهِ كَالْمَيِّتِ , فَإِنْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ مَضْمُونَهُ فَكَاعْتِرَافِهِ بِالصَّوْتِ وَإِنْكَارِ مَضْمُونِهِ وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَكْتُبَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا ثَبَتَ بَرَاءَتُهُ مَحْضَرًا بِذَلِكَ إنْ تَضَرَّرَ بِتَرْكِهِ وَلِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ أَنْ يُطَالِبَ الْحَاكِمَ عَلَيْهِ بِتَسْمِيَةِ الْبَيِّنَةِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْقَدْحِ فِيهَا بِاتِّفَاقٍ .

وَمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً مُشْرِكَةً قَدَحَ ذَلِكَ فِي عَدَالَتِهِ وَأُدِّبَ وَالتَّعْزِيرُ يَكُونُ عَلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ فَمِنْ جِنْسِ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ مَنْ كَتَمَ مَا يَجِبُ بَيَانُهُ كَالْبَائِعِ الْمُدَلِّسِ وَالْمُؤَجِّرِ وَالنَّاكِحِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعَامِلِينَ وَكَذَا الشَّاهِدُ وَالْمُخْبِرُ وَالْمُفْتِي وَالْحَاكِمُ وَنَحْوُهُمْ فَإِنَّ كِتْمَانَ الْحَقِّ مُشَبَّهٌ بِالْكَذِبِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلضَّمَانِ كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ فَإِنَّ الْوَاجِبَاتِ عِنْدَنَا فِي الضَّمَانِ كَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ حَتَّى قُلْنَا لَوْ قَدَرَ عَلَى إنْجَاءِ شَخْصٍ بِإِطْعَامٍ أَوْ سَقْيٍ فَلَمْ يَفْعَلْ فَمَاتَ ضَمِنَهُ فَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَتَمَ شَهَادَةً كِتْمَانًا أَبْطَلَ بِهَا حَقَّ مُسْلِمٍ ضَمِنَهُ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَقٌّ بَيْنَهُ وَقَدْ أَدَّاهُ حَقَّهُ وَلَهُ بَيِّنَةٌ بِالْأَدَاءِ فَكَتَمَ الشَّهَادَةَ حَتَّى يَغْرَمَ ذَلِكَ الْحَقَّ . وَكَمَا لَوْ كَانَتْ وَثَائِقُ لِرَجُلٍ فَكَتَمَهَا أَوْ جَحَدَهَا حَتَّى فَاتَ الْحَقُّ وَلَوْ قَالَ أَنَا أَعْلَمُهَا وَلَا أُؤَدِّيهَا فَوُجُوبُ الضَّمَانِ ظَاهِرٌ . وَظَاهِرُ نَقْلِ ابْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ مَنْصُورٍ سَمَاعُ الدَّعْوَى مِنْ الْأَعْدَاءِ وَالتَّحْلِيفُ فِي الشَّهَادَةِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَوْ كَانَ فِي الْقَرْيَةِ أَوْ الْمَحَلَّةِ أَوْ الْبَلْدَةِ رَجُلٌ ظَالِمٌ فَسَأَلَ الْوَالِي أَوْ الْغَرِيمُ عَنْ مَكَانِهِ لِيَأْخُذَ مِنْهُ الْحَقَّ فَإِنَّهُ يَجِبُ دَلَالَتُهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ قَصْدُهُ أَكْثَرَ مِنْ الْحَقِّ فَعَلَى هَذَا إذَا كَتَمُوا ذَلِكَ حَتَّى تَلِفَ الْحَقُّ ضَمِنُوهُ وَيَمْلِكُ السُّلْطَانُ تَعْزِيرَ مَنْ

ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهُ كَتَمَ الْخَبَرَ الْوَاجِبَ كَمَا يَمْلِكُ تَعْزِيرَ الْمُقِرِّ قَرَارًا مَحْمُولًا حَتَّى يُفَسِّرَهُ أَوْ مَنْ كَتَمَ الْإِقْرَارَ وَقَدْ يَكُونُ التَّعْزِيرُ بِتَرْكِهِ الْمُسْتَحَبَّ كَمَا يُعَزَّرُ الْعَاطِسُ الَّذِي لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ بِتَرْكِ تَشْمِيتِهِ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَالتَّعْزِيرُ عَلَى الشَّيْءِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ مِنْ قَتْلِ الدَّاعِيَةِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ كَمَا قُتِلَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ وَالْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَغَيْلَانُ الْقَدَرِيُّ وَقَتْلُ هَؤُلَاءِ لَهُ مَأْخَذَانِ . أَحَدُهُمَا : كَوْنُ ذَلِكَ كُفْرًا كَقَتْلِ الْمُرْتَدِّ أَوْ جُحُودًا أَوْ تَغْلِيظًا وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ الدَّاعِيَ إلَيْهَا وَغَيْرَ الدَّاعِي وَإِذَا كَفَرُوا فَيَكُونُ قَتْلُهُمْ مِنْ بَابِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ . وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي : لِمَا فِي الدُّعَاءِ إلَى الْبِدْعَةِ مِنْ إفْسَادِ دِينِ النَّاسِ وَلِهَذَا كَانَ أَصْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَعُلَمَائِهِمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ وَغَيْرِ الدَّاعِي فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ وَتَرْكِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ وَالصَّلَاةِ خَلْفَهُ وَهَجْرِهِ , وَلِهَذَا تُرِكَ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَمُسْنَدِ أَحْمَدَ الرِّوَايَةُ عَنْ مِثْلِ عُمَرَ وَابْنِ عُبَيْدٍ وَنَحْوِهِ وَلَمْ يُتْرَكْ عَنْ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِدُعَاةٍ وَعَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ فَقَتْلُهُمْ مِنْ بَابِ قَتْلِ الْمُفْسِدِينَ الْمُحَارِبِينَ لِأَنَّ الْمُحَارَبَةَ بِاللِّسَانِ كَالْمُحَارَبَةِ بِالْيَدِ وَيُشْبِهُ قَتْلَ الْمُحَارَبِينَ لِلسُّنَّةِ

بِالرَّأْيِ قَتْلَ الْمُحَارِبِينَ لَهَا بِالرِّوَايَةِ وَهُوَ قَتْلُ مَنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَتَلَ النَّبِيُّ الَّذِي كَذَبَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ , وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ سُنَّتِهِ . وَقَدْ قَرَّرَ أَبُو الْعَبَّاسِ هَذَا مَعَ نَظَائِرَ لَهُ فِي " الصَّارِمِ الْمَسْلُولِ " كَقَتْلِ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لِحُرَمِهِ أَوْ يَسُبُّهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ بِقَتْلِ الْمُفَرِّقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الْجَمَاعَةِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ الَّذِي يُخْبِرُ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْهُ الَّذِي يَكْذِبُ بِلِسَانِهِ أَوْ بِخَطِّهِ أَوْ يَأْمُرُ بِذَلِكَ حَتَّى يَقْتُلَ بِهِ أَعْيَانَ الْأُمَّةِ عُلَمَاءَهَا وَأُمَرَاءَهَا فَتَحْصُلُ أَنْوَاعٌ مِنْ الْفَسَادِ كَثِيرَةٌ فَهَذَا مَتَى لَمْ يَنْدَفِعْ فَسَادُهُ إلَّا بِقَتْلِهِ فَلَا رَيْبَ فِي قَتْلِهِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَنْدَفِعَ وَجَازَ أَنْ لَا يَنْدَفِعَ قُتِلَ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْله تَعَالَى { : مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ } وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا } وَأَمَّا إنْ انْدَفَعَ الْفَسَادُ الْأَكْبَرُ بِقَتْلِهِ لَكِنْ قَدْ بَقِيَ فَسَادٌ دُونَ ذَلِكَ فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : وَأَفْتَيْت أَمِيرًا مُقَدَّمًا عَلَى عَسْكَرٍ كَبِيرٍ فِي الْحَرْبِيَّةِ إذْ نَهَبُوا أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَنْزَجِرُوا إلَّا بِالْقَتْلِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ يَكُفُّونَ بِقَتْلِهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ عَشَرَةٌ إذْ هُوَ مِنْ بَابِ دَفْعِ

الصَّائِلِ قَالَ وَأَمَّرَ أَمِيرًا خَرَجَ لِتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ الثَّائِرَةِ بَيْنَ قَيْسِ يَمَنَ وَقَدْ قُتِلَ بَيْنَهُمْ أَلْفَانِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ يَحْصُلُ بِقَتْلِهِ كَفُّ الْفِتْنَةِ وَلَوْ أَنَّهُمْ مِائَةٌ . قَالَ : وَأَفْتَيْت وُلَاةَ الْأُمُورِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ بِقَتْلِ مَنْ أُمْسِكَ فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ سَكْرَانُ وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ مَعَ بَعْضِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَهُوَ مُجْتَازٌ بِشُقَّةِ لَحْمٍ يَذْهَبُ بِهَا إلَى نُدَمَائِهِ وَكُنْت أَفْتَيْتُهُمْ قَبْلَ هَذَا بِأَنَّهُ يُعَاقَبُ عُقُوبَتَيْنِ : عُقُوبَةً عَلَى الشُّرْبِ وَعُقُوبَةً عَلَى الْفِطْرِ فَقَالُوا مَا مِقْدَارُ التَّعْزِيرِ فَقُلْت هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الذَّنْبِ وَحَالِ الْمُذْنِبِ وَحَالِ النَّاسِ . وَتَوَقَّفْت عَنْ الْقَتْلِ فَكَبُرَ هَذَا عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالنَّاسِ حَتَّى خِفْت أَنَّهُ إنْ لَمْ يُقْتَلْ يَنْحَلُّ نِظَامُ الْإِسْلَامِ عَلَى انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَأَفْتَيْت بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ ثُمَّ ظَهَرَ فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا وَأَنَّهُ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ , وَالْمَطْلُوبُ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : بَرَاءَتُهُ فِي الظَّاهِرِ فَهَلْ يَحْضُرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَذَكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ حَيْثُ ظَهَرَ كَذِبُهُ فِي دَعْوَاهُ بِمَا يُؤْذِي بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عُزِّرَ لِكَذِبِهِ وَلِأَذَاهُ وَأَنَّ طَرِيقَةَ الْقَاضِي رَدُّ هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُمْكِنَةً . وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ فِيمَا إذَا عَلِمَ بِالْعُرْفِ الْمُطَّرِدِ أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِلدَّعْوَى لَا

يُعَذِّبُهُ وَفِيمَا لَمْ يُعْرَفْ وَاحِدٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ يُعَذِّبُهُ . كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَهَذَا التَّفْرِيقُ حَسَنٌ . وَالْحَالُ الثَّانِي : احْتِمَالُ الْأَمْرَيْنِ وَأَنَّهُ يَحْضُرُهُ بِلَا خِلَافٍ . وَالْحَالُ الثَّالِثُ : تُهْمَتُهُ وَهُوَ قِيَاسُ سَبَبٍ يُوهِمُ أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَهُ فَإِنَّ الِاتِّهَامَ افْتِعَالٌ مِنْ الْوَهْمِ وَحَبْسُهُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ حَبْسِهِ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَقَبْلَ التَّعْزِيرِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ حَبْسِهِ بَعْدَ شَهَادَةِ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ فَأَمَّا امْتِحَانُهُ بِالضَّرْبِ كَمَا يَجُوزُ ضَرْبُهُ لِامْتِنَاعِهِ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا فَفِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد لَمَّا قَالَ : { إنْ شِئْتُمْ ضَرَبْته , فَإِنْ ظَهَرَ الْحَقُّ عِنْدَهُ وَإِلَّا ضَرَبْتُكُمْ } . وَقَالَ : هَذَا قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَهَذَا يُشْبِهُ تَحْلِيفَ الْمُدَّعِي إذَا كَانَ مَعَهُ لَوْنٌ فَإِنَّ اقْتِرَانَ اللَّوْنِ بِالدَّعْوَى جَعَلَ جَانِبَهُ مُرَجَّحًا فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكُونَ اقْتِرَانُهُ بِالتُّهْمَةِ يُبِيحُ مِثْلَ ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا اسْتَحَقَّ التَّعْزِيرَ وَكَانَ مُتَّهَمًا بِمَا يُوجِبُ حَقًّا وَاحِدًا مِثْلُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَيْهِ هَتْكُ الْحِرْزِ وَدُخُولُهُ وَلَمْ يُقِرَّ بِأَخْذِ الْمَالِ وَإِخْرَاجِهِ وَيُثْبِتُ عَلَيْهِ الْحِرَابَ خُرُوجُهُ بِالسِّلَاحِ وَشَهْرُهُ لَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ الْقَتْلُ وَالْأَخْذُ فَهَذَا يُعَزَّرُ لِمَا فَعَلَهُ مِنْ الْمَعَاصِي وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ أَيْضًا امْتِحَانًا لَا غَيْرُ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ ؟ . هَذَا قَوِيٌّ فِي حُقُوقِ

الْآدَمِيِّينَ . فَأَمَّا فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى إقَامَتِهَا فَيُحْتَمَلُ وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنْ يُعَاقِبَ الْإِمَامُ مِنْ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ بِقَتْلٍ وَتَوَهَّمَ الْعَامَّةُ أَنَّهُ عَاقَبَهُ عَلَى بَعْضِ الذُّنُوبِ الَّتِي يُرِيدُ الْحَذَرَ عَنْهَا وَهَذَا شَبَهُ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ غَزْوًا وَرَّى بِغَيْرِهَا وَاَلَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا عَلِمَ كِتْمَانَهُ الْحَقَّ عَاقَبَهُ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ كَمَا يُعَاقِبُ كَاتِمَ الْمَالِ الْوَاجِبِ أَدَاؤُهَا فَأَمَّا إذَا اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ كَاتِمًا فَهَذَا كَالْمُتَّهَمِ سَوَاءٌ , وَخَبَرُ مَنْ قَالَ لَهُ جِنِّيٌّ بِأَنَّ فُلَانًا سَرَقَ كَذَا كَخَبَرِ إنْسِيٍّ مَجْهُولٍ فَيُفِيدُ تُهْمَةً , وَإِذَا طَلَبَ الْمُتَّهَمُ بِحَقٍّ فَمَنْ عَرَفَ مَكَانَهُ دَلَّ عَلَيْهِ .

فَأَمَّا طَلَاقُ الْهَازِلِ فَيَقَعُ عِنْدَ الْعَامَّةِ , وَكَذَلِكَ نِكَاحُهُ صَحِيحٌ كَمَا هُوَ فِي مَتْنِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ , وَحَكَاهُ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِهِ , وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ , وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ أَنَّ نِكَاحَ الْهَازِلِ لَا يَصِحُّ بِخِلَافِ طَلَاقِهِ , وَمَذْهَبُ مَالِكٍ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّ هَزْلَ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ لَازِمٌ ; فَلَوْ خَطَبَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَوَلِيُّهَا حَاضِرٌ وَكَانَتْ فَوَّضَتْ ذَلِكَ إلَيْهِ , فَقَالَ : قَدْ فَعَلْت . أَوْ كَانَتْ بِكْرًا وَخُطِبَتْ إلَى أَبِيهَا , فَقَالَ : قَدْ أَنْكَحْت , فَقَالَ : لَا أَرْضَى لَزِمَهُ النِّكَاحُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ فِي السُّلَيْمَانِيَّةِ , عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : نِكَاحُ الْهَازِلِ لَا يَجُوزُ . قَالَ سُلَيْمَانُ : إذَا عُلِمَ الْهَزْلُ , وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فَهُوَ جَائِزٌ . وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ : فَإِنْ قَامَ دَلِيلُ الْهَزْلِ لَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقٌ وَلَا طَلَاقٌ وَلَا نِكَاحٌ , وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّدَاقِ . وَإِنْ قَامَ دَلِيلُ ذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ لَزِمَهُ نِصْفُ الصَّدَاقِ وَلَمْ يُمَكَّنْ مِنْهَا لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا . وَأَمَّا بَيْعُ الْهَازِلِ وَنَحْوُهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ الْمَحْضَةِ , فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ , وَهَذَا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا أَظُنُّ

, وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ , وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ فِي خِلَافِهِ الصَّغِيرِ وَقَالَ فِي خِلَافِهِ الْكَبِيرِ وَهُوَ الِانْتِصَارُ يَصِحُّ بَيْعُهُ كَطَلَاقِهِ , وَكَذَلِكَ خَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى وَجْهَيْنِ , وَمَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ قَاسَ سَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ . وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ الْهَازِلَ أَتَى بِالْقَوْلِ غَيْرَ مُلْتَزِمٍ لِحُكْمِهِ , وَتَرَتُّبُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْبَابِ لِلشَّارِعِ لَا لِلْعَاقِدِ , فَإِذَا أَتَى بِالسَّبَبِ لَزِمَهُ حُكْمُهُ شَاءَ , أَوْ أَبَى ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقِفُ عَلَى اخْتِيَارِهِ , وَذَلِكَ أَنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلْقَوْلِ مُرِيدٌ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِمَعْنَاهُ وَمُوجَبِهِ وَقَصْدُ اللَّفْظِ الْمُتَضَمِّنِ الْمَعْنَى قَصْدٌ لِذَلِكَ الْمَعْنَى لِتَلَازُمِهِمَا إلَّا أَنْ يُعَارِضَهُ قَصْدٌ آخَرُ , كَالْمُكْرَهِ وَالْمُحَلِّلِ , فَإِنَّهُمَا قَصَدَا شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ مَعْنَى الْقَوْلِ , وَمُوجَبِهِ . فَكَذَلِكَ جَاءَ الشَّرْعُ بِإِبْطَالِهِمَا . أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكْرَهَ قَصَدَ دَفْعَ الْعَذَابِ عَنْ نَفْسِهِ , فَلَمْ يَقْصِدْ الْمُسَبَّبَ ابْتِدَاءً , وَالْمُحَلِّلَ قَصْدُهُ إعَادَتُهَا إلَى الْمُطَلِّقِ , وَذَلِكَ يُنَافِي قَصْدَهُ لِمُوجَبِ السَّبَبِ , وَالْهَازِلُ قَصَدَ السَّبَبَ وَلَمْ يَقْصِدْ حُكْمَهُ وَلَا مَا يُنَافِي حُكْمَهُ , وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِلَغْوِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ لَمْ يَقْصِدْ اللَّفْظَ , وَإِنَّمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِكَثْرَةِ اعْتِيَادِ اللِّسَانِ لِلْيَمِينِ , وَأَيْضًا فَإِنَّ الْهَزْلَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ ,

فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْعَاقِدِ الْآخَرِ . وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَبَابِهِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ وَبَابِهِ , قَالَ : الْحَدِيثُ وَالْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْعُقُودِ مَا يَكُونُ جِدُّهُ وَهَزْلُهُ سَوَاءً , وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ , وَإِلَّا لَقِيلَ : إنَّ الْعُقُودَ كُلَّهَا وَالْكَلَامَ كُلَّهُ جِدَّهُ وَهَزْلَهُ سَوَاءٌ , وَفُرِّقَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِأَنَّ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ وَالرَّجْعَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَهَذَا فِي الْعِتْقِ ظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْبُضْعِ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ اسْتِبَاحَتُهُ , وَلِهَذَا تَجِبُ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ فِيهِ , وَإِنْ لَمْ تَطْلُبْهَا الزَّوْجَةُ , وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ حِلَّ مَا كَانَ حَرَامًا عَلَى وَجْهٍ لَوْ أَرَادَ الْعَبْدُ حِلَّهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ لَمْ يُمْكِنْ وَلَوْ رَضِيَ الزَّوْجَانِ بِبَذْلِ الْبُضْعِ لِغَيْرِ الزَّوْجِ لَمْ يَجُزْ وَيُفِيدُ حُرْمَةَ مَا كَانَ حَلَالًا وَهُوَ التَّحْرِيمُ الثَّابِتُ بِالْمُصَاهَرَةِ فَالتَّحْرِيمُ حَقٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَلِهَذَا لَمْ يُسْتَبَحْ إلَّا بِالْمَهْرِ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ مَعَ تَعَاطِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِهَذَا الْحُكْمِ أَنْ يَقْصِدَ عَدَمَ الْحُكْمِ , كَمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي كَلِمَاتِ الْكُفْرِ قَالَ سُبْحَانَهُ : { أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَضَمِّنَ لِمَعْنًى فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يُمْكِنُ قَبُولُهُ مَعَ دَفْعِ ذَلِكَ

الْحَقِّ , فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْزِلَ مَعَ رَبَّهُ وَلَا يَسْتَهْزِئَ بِآيَاتِهِ , وَلَا يَتَلَاعَبَ بِحُدُودِهِ وَلَعَلَّ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِآيَاتِهِ } فِي الْهَازِلِينَ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَهَا لَعِبًا غَيْرَ مُلْتَزِمِينَ لِحُكْمِهَا , وَحُكْمُهَا لَازِمٌ لَهُمْ , بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ , فَإِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَحْضُ حَقِّ الْآدَمِيِّ , وَلِهَذَا يَمْلِكُ بَذْلَهُ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ , وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَلْعَبُ مَعَ الْإِنْسَانِ وَيَتَبَسَّطُ مَعَهُ , فَإِذَا تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُ الْجَادِّ ; لِأَنَّ الْمِزَاحَ مَعَهُ جَائِزٌ . وَحَاصِلُ الْأَمْرَيْنِ اللَّعِبِ وَالْهَزْلِ وَالْمِزَاحِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ غَيْرُ جَائِزٍ فَيَكُونُ جِدُّ الْقَوْلِ فِي حُقُوقِهِ وَهَزْلُهُ سَوَاءً بِخِلَافِ جَانِبِ الْعِبَادِ , أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَعْرَابِيٍّ يُمَازِحُهُ : { مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي الْعَبْدَ ؟ فَقَالَ : تَجِدُنِي رَخِيصًا . فَقَالَ : بَلْ أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ غَالٍ } وَقَصَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَالصِّيغَةُ صِيغَةُ اسْتِفْهَامٍ , فَلَا يَضُرُّ , لِأَنَّهُ يَمْزَحُ وَلَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا , وَلَوْ أَنَّ أَحَدًا قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْمِزَاحِ : مَنْ يَتَزَوَّجُ امْرَأَتِي , وَنَحْوَ ذَلِكَ لَكَانَ مِنْ أَقْبَحِ الْكَلَامِ , بَلْ قَدْ عَابَ اللَّهُ مَنْ جَعَلَ امْرَأَتَهُ كَأُمِّهِ . وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَضْرِبُ مَنْ يَدْعُو

امْرَأَتَهُ أُخْتَهُ . وَجَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ , وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْحَاجَةِ لَا فِي الْمِزَاحِ , فَإِذَا كَانَ الْمِزَاحُ فِي الْبَيْعِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ جَائِزًا , وَفِي النِّكَاحِ وَمِثْلِهِ لَا يَجُوزُ فَظَهَرَ الْفَرْقُ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ : أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يُشْبِهُ الْعِبَادَاتِ فِي نَفْسِهِ بَلْ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّوَافِلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ عَقْدُهُ فِي الْمَسَاجِدِ - وَالْبَيْعُ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ فِي الْمَسْجِدِ - وَلِهَذَا اشْتَرَطَ مَنْ اشْتَرَطَ لَهُ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلْحَاقًا لَهُ بِالْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ مِثْلِ الْأَذَانِ وَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّلْبِيَةِ وَالتَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ الْهَزْلُ فِيهِ , فَإِذَا تَكَلَّمَ الرَّجُلُ فِيهِ رَتَّبَ الشَّارِعُ عَلَى كَلَامِهِ وَحُكْمِهِ . وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ هُوَ الْحُكْمَ بِحُكْمِ وِلَايَةِ الشَّارِعِ عَلَى الْعَبْدِ , فَالْمُكَلَّفُ قَصَدَ الْقَوْلَ وَالشَّارِعُ قَصَدَ الْحُكْمَ لَهُ فَصَارَ الْجَمِيعُ مَقْصُودًا . وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا لَا يَنْقُضُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْقَصْدَ فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرٌ ; لِأَنَّا إنَّمَا قَصَدْنَا بِذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ لَا يُصَحِّحُ بَعْضَ الْأُمُورِ إلَّا مَعَ الْعَقْدِ , وَبَعْضُ الْأُمُورِ يُصَحِّحُهَا إلَى أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا قَصْدٌ يُخَالِفُ مُوجَبَهَا , وَهَذَا صَحِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا قَدْ تَبَيَّنَ , وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ إمَّا بَطَلَ ; لِأَنَّ النَّاكِحَ قَصَدَ مَا يُنَاقِضُ النِّكَاحَ , لِأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُهُ

لَهَا وَسِيلَةً إلَى رَدِّهَا إلَى الْأَوَّلِ , وَالشَّيْءُ إذَا فُعِلَ لِغَيْرِهِ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ ذَلِكَ الْغَيْرَ لَا إيَّاهُ , فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِنِكَاحِهَا أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً لِلْغَيْرِ لَا أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً لَهُ . وَهَذَا الْقَدْرُ يُنَافِي قَصْدَ أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً لَهُ , إذْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَنَافٍ , وَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً لَهُ بِحَالٍ حَتَّى يُقَالَ : قَصَدَ أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً لَهُ فِي وَقْتٍ وَلِغَيْرِهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ , إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ يُشْبِهُ قَصْدَ الْمُتْعَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ , وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَهُ فَقَدْ قِيلَ هُوَ كَقَصْدِ التَّحْلِيلِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا كَمَا تَقَدَّمَ . وَقِيلَ لَيْسَ كَذَلِكَ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ إلْحَاقُهُ بِمَنْ لَمْ يَقْصِدْ مَا يُنَافِي النِّكَاحَ فِي الْحَالِ , وَلَا فِي الْمَآلِ بِوَجْهٍ , مَعَ كَوْنِهِ قَدْ أَتَى بِالْقَوْلِ الْمُتَضَمِّنِ فِي الشَّرْعِ لِقَصْدِ النِّكَاحِ , وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَأَمَّا التَّلْجِئَةُ : فَاَلَّذِي , عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّهُمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَتَبَايَعَا شَيْئًا بِثَمَنٍ ذَكَرَاهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ تَلْجِئَةً لَا حَقِيقَةَ مَعَهَا , ثُمَّ تَعَاقَدَا الْبَيْعَ قَبْلَ أَنْ يُبْطِلَا مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ , فَالْبَيْعُ تَلْجِئَةٌ وَهُوَ بَاطِلٌ , وَإِنْ لَمْ يَقُولَا فِي الْعَقْدِ قَدْ تَبَايَعْنَاهُ تَلْجِئَةً . قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً , وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ يُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ لَمْ يَصِحَّ هَذَا النِّكَاحُ .

وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ عِنَبَهُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْصِرُهُ خَمْرًا , وَقَالَ : وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ - إذَا أَقَرَّ لِامْرَأَةٍ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِهِ , ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَمَاتَ وَهِيَ وَارِثَةٌ فَهَذِهِ قَدْ أَقَرَّ لَهَا وَلَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ تَلْجِئَةً فَيُرَدُّ , وَنَحْوَ هَذَا نَقَلَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَرْوَزِيِّ , وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ , وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَكُونُ تَلْجِئَةً حَتَّى يَقُولَا فِي الْعَقْدِ قَدْ تَبَايَعْنَا هَذَا الْعَقْدَ تَلْجِئَةً . وَمَأْخَذُ مَنْ أَبْطَلَهُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا الْعَقْدَ حَقِيقَةً وَالْقَصْدُ مُعْتَبَرٌ فِي صِحَّتِهِ وَأَنَّهُمَا يُمْكِنُهُمَا أَنْ يَجْعَلَاهُ هَزْلًا بَعْدَ وُقُوعِهِ فَكَذَلِكَ إذَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ . وَمَأْخَذُ مَنْ يُصَحِّحُهُ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَقْدِ وَالْمُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ إنَّمَا هُوَ الشَّرْطُ الْمُقَارِنُ . وَالْأَوَّلُونَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى , وَيَقُولُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّرْطِ الْمُقَارِنِ وَالْمُتَقَدِّمِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّمَا ذَاكَ فِي الشَّرْطِ الزَّائِدِ عَلَى الْعَقْدِ بِخِلَافِ الرَّافِعِ لَهُ , فَإِنَّ التَّشَارُطَ هُنَا يَجْعَلُ الْعَقْدَ غَيْرَ مَقْصُودٍ وَهُنَاكَ هُوَ مَقْصُودٌ , وَقَدْ أَطْلَقَ عَنْ شَرْطٍ مُقَارِنٍ . فَأَمَّا نِكَاحُ التَّلْجِئَةِ فَذَكَرَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَنَّهُ صَحِيحٌ , كَنِكَاحِ الْهَازِلِ , لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْعَقْدِ بَلْ هَازِلٌ لَهُ , وَنِكَاحُ الْهَازِلِ يَصِحُّ .

وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ رَفْعَ مُوجَبِهِ , مِثْلُ : أَنْ يَشْرِطَ أَنْ لَا يَطَأَهَا أَوْ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ , أَوْ أَنَّهُ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ يَصِحُّ الْعَقْدُ دُونَ الشَّرْطِ فَالْإِنْفَاقُ عَلَى التَّلْجِئَةِ حَقِيقَتُهُ أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَعْقِدَا عَقْدًا لَا يَقْتَضِي مُوجَبَهُ وَهَذَا لَا يُبْطِلُهُ بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّهُ قَصَدَ رَفْعَهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَهَذَا أَمْرٌ مُمْكِنٌ فَصَارَ قَصْدُهُ مُؤَثِّرًا فِي رَفْعِ الْعَقْدِ وَهَذَا فَرْقٌ ثَانٍ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَحْقِيقٌ لِلْفَرْقِ الْأَوَّلِ بَيْنَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَالْهَازِلِ . فَإِنَّ الْهَازِلَ قَصَدَ قَطْعَ مُوجَبِ السَّبَبِ عَنْ السَّبَبِ وَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنَّ ذَلِكَ قَصْدٌ لِإِبْطَالِ حُكْمِ الشَّارِعِ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَلَا يَقْدَحُ هَذَا الْقَصْدُ فِي مَقْصُودِ النِّكَاحِ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ . وَالْمُحَلِّلُ قَصَدَ رَفْعَ الْحُكْمِ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَهَذَا مُمْكِنٌ فَيَكُونُ قَصْدًا مُؤَثِّرًا فَيَقْدَحُ فِي مَقْصُودِ النِّكَاحِ فَيَبْطُلُ النِّكَاحُ ; لِأَنَّهُ قَصَدَ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ مُمْكِنٍ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْهَازِلَ يَلْزَمُهُ النِّكَاحُ فَإِنْ أَحَبَّ قَطْعَهُ احْتَاجَ إلَى قَصْدٍ ثَانٍ . وَالْمُحَلِّلُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ قَدْ عَزَمَ عَلَى رَفْعِهِ . وَيُوَضِّحُ هَذَا أَنَّهُمَا لَوْ شَرَطَا فِي الْعَقْدِ رَفْعَ الْعَقْدِ وَهُوَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ , أَوْ الْمُتْعَةِ كَانَ بَاطِلًا . وَلَوْ شَرَطَا فِيهِ رَفْعَ حُكْمِهِ , مِثْلُ عَدَمِ الْحِيَلِ وَنَحْوِهِ لَكَانَ يُصَحِّحُهُ مَنْ لَمْ يُصَحِّحْ الْأَوَّلَ وَمَنْ قَالَ هَذَا فَيَنْبَغِي

أَنْ يَقُولَ : لَوْ قَالَ زَوَّجْتُك هَازِلًا فَقَالَ قَبِلْت أَنْ يَصِحَّ النِّكَاحُ كَمَا لَوْ قَالَ طَلَّقْت هَازِلًا وَيَتَخَرَّجُ فِي نِكَاحِ التَّلْجِئَةِ أَنَّهُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ الْمَوْجُودَ قَبْلَ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ فِي أَظْهَرِ الطَّرِيقَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَلَوْ اشْتَرَطَا فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ نِكَاحُ تَلْجِئَةٍ لَا حَقِيقَةٍ لَكَانَ نِكَاحًا بَاطِلًا , وَإِنْ قِيلَ : إنَّ فِيهِ خِلَافًا فَإِنَّ أَسْوَأَ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ شَرَطَا أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ وَهَذَا الشَّرْطُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ عَلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْهَزْلِ فَإِنَّهُ قَصْدٌ مَحْضٌ لَمْ يَتَشَارَطَا عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا قَصَدَهُ أَحَدُهُمَا وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَهْزِلَ فِيمَا يُخَاطِبُ بِهِ غَيْرَهُ وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةٌ .

الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ . أَنَّ الْمَقَاصِدَ وَالِاعْتِقَادَاتِ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَالْعَادَاتِ , كَمَا هِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّقَرُّبَاتِ وَالْعِبَادَاتِ , فَيَجْعَلُ الشَّيْءَ حَلَالًا , أَوْ حَرَامًا , أَوْ صَحِيحًا , أَوْ فَاسِدًا أَوْ صَحِيحًا مِنْ وَجْهٍ , فَاسِدًا مِنْ وَجْهٍ , كَمَا أَنَّ الْقَصْدَ فِي الْعِبَادَةِ يَجْعَلُهَا وَاجِبَةً , أَوْ مُسْتَحَبَّةً أَوْ مُحَرَّمَةً , أَوْ صَحِيحَةً , أَوْ فَاسِدَةً . وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا , مِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلَاحًا } , وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } فَإِنَّ ذَلِكَ نَصٌّ فِي أَنَّ الرَّجْعَةَ إنَّمَا ثَبَتَتْ لِمَنْ قَصَدَ الصَّلَاحَ دُونَ الضِّرَارِ , وَمِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا } - إلَى قَوْلِهِ : - { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } - إلَى قَوْلِهِ - { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ الْمَأْذُونَ فِيهِ إذَا خِيفَ أَنْ لَا يُقِيمَ الزَّوْجَانِ حُدُودَ اللَّهِ . وَأَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِيَ إنَّمَا يُبَاحُ إذَا ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ . وَمِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ } , فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَدَّمَ عَلَى الْمِيرَاثِ وَصِيَّةَ مَنْ لَمْ يُضَارَّ الْوَرَثَةُ بِهَا , فَإِذَا وَصَّى ضِرَارًا كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا ,

وَكَانَ لِلْوَرَثَةِ إبْطَالُهُ , وَحَرُمَ عَلَى الْمُوصَى لَهُ أَخْذُهُ بِدُونِ رِضَاهُمْ , وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } إلَى قَوْلِهِ : { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا } . وَإِنَّمَا ذَكَرَ الضِّرَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ الَّتِي قَبْلَهَا ; لِأَنَّ الْأُولَى تَضَمَّنَتْ مِيرَاثَ الْعَمُودَيْنِ , وَالثَّانِيَةَ تَضَمَّنَتْ مِيرَاثَ الْأَطْرَافِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ وَالْإِخْوَةِ وَالْعَادَةُ أَنَّ الْمُوصِيَ قَدْ يُضَارُّ زَوْجَتَهُ , وَإِخْوَتَهُ , وَلَا يَكَادُ يُضَارُّ وَلَدَهُ لَكِنَّ الضِّرَارَ نَوْعَانِ حَيْفٌ , وَإِثْمٌ , فَإِنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ مُضَارَّتَهُمْ وَهُوَ الْإِثْمُ وَقَدْ يُضَارُّهُمْ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ , وَهُوَ الْحَيْفُ فَمَتَى أَوْصَى بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ فَهُوَ مُضَارٍّ قَصَدَ , أَوْ لَمْ يَقْصِدْ . فَتُرَدُّ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ . وَإِنْ وَصَّى بِدُونِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ قَصَدَ الضِّرَارَ فَيُمْضِيهَا . فَإِنْ عَلِمَ الْمُوصَى لَهُ إنَّمَا أَوْصَى لَهُ ضِرَارًا لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْأَخْذُ . وَلَوْ اعْتَرَفَ الْمُوصِي : إنِّي إنَّمَا أَوْصَيْتُ ضِرَارًا لَمْ تَجُزْ إعَانَتُهُ عَلَى إمْضَاءِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَوَجَبَ رَدُّهَا فِي مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ جُذَاذَ النَّخْلِ عَمَلٌ مُبَاحٌ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ صَاحِبُهُ , وَلَمَّا قَصَدَ أَصْحَابُهُ بِهِ فِي اللَّيْلِ حِرْمَانَ الْفُقَرَاءِ عَاقَبَهُمْ اللَّهُ بِإِهْلَاكِهِ , وَقَالَ : { وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ } ثُمَّ جَاءَتْ السُّنَّةُ , عَنْ النَّبِيِّ عَاقَبَهُمْ بِكَرَاهَةِ الْجِذَاذِ فِي اللَّيْلِ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةً لِهَذَا الْفَسَادِ

وَذَرِيعَةً إلَيْهِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ , عَنْ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , عَنْ أَبِي طُعْمَةَ مَوْلَاهُمْ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْغَافِقِيِّ أَنَّهُمَا سَمِعَا ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لُعِنَتْ الْخَمْرُ عَلَى عَشَرَةِ وُجُوهٍ : لُعِنَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا , وَشَارِبِهَا , وَسَاقِيهَا , وَبَائِعِهَا , وَمُبْتَاعِهَا , وَعَاصِرِهَا , وَمُعْتَصِرِهَا , وَحَامِلِهَا , وَالْمَحْمُولَةِ إلَيْهِ , وَآكِلِ ثَمَنِهَا } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَابْنُ مَاجَهْ , وَأَبُو دَاوُد , وَلَفْظُهُ : { لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ } - وَلَمْ يَذْكُرْ " وَآكِلَ ثَمَنِهَا " . وَلَمْ يَقُلْ عَشَرَةً . وَقَالَ بَدَلَ أَبِي طُعْمَةَ , أَوْ عَلْقَمَةَ , وَالصَّوَابُ أَبُو طُعْمَةَ . وَأَبُو طُعْمَةَ هَذَا قَالَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيُّ : ثِقَةٌ , وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا طَعَنَ فِيهِ , وَعَبْدُ الْعَزِيزِ وَوَكِيعٌ ثِقَتَانِ نَبِيلَانِ , فَثَبَتَ أَنَّهُ حَدِيثٌ جَيِّدٌ , وَقَدْ رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ , وَمِنْ حَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ يَزِيدَ عُفَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَهَذِهِ طُرُقٌ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا , وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ , وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَفِي الْبَابِ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا . فَوَجْهُ

الدَّلَالَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ عَاصِرَ الْخَمْرِ وَمُعْتَصِرَهَا , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا يَعْصِرُ عِنَبًا فَيَصِيرُ عَصِيرًا , ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ يُخَمَّرُ , وَقَدْ لَا يُخَمَّرُ , وَلَكِنْ لَمَّا قَصَدَ بِالِاعْتِصَارِ تَصْيِيرَهُ خَمْرًا اسْتَحَقَّ اللَّعْنَةَ , وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ , فَثَبَتَ أَنَّ عَصِيرَ الْعِنَبِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا مُحَرَّمٌ , فَتَكُونُ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ بَاطِلَةً وَالْأُجْرَةُ مُحَرَّمَةً . وَإِذَا كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى مَنْفَعَتِهِ الَّتِي يُعِينُ بِهَا غَيْرَهُ فِي شَيْءٍ قَصَدَ بِهِ الْمَعْصِيَةَ إجَارَةً مُحَرَّمَةً بَاطِلَةً , فَبَيْعُ نَفْسِ الْعِنَبِ , أَوْ الْعَصِيرِ لِمَنْ يَتَّخِذْهُ خَمْرًا أَقْرَبُ إلَى التَّحْرِيمِ وَالْبُطْلَانِ ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْخَمْرِ مِنْ عَمَلِ الْعَاصِرِ , وَقَدْ يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { وَبَائِعِهَا وَمُبْتَاعِهَا وَحَامِلِهَا وَالْمَحْمُولَةِ إلَيْهِ وَآكِلِ ثَمَنِهَا } يَدْخُلُ فِي هَذَا عَيْنُ الْخَمْرِ وَعَصِيرُهَا وَعِنَبُهَا , كَمَا دَخَلَ الْعِنَبُ وَالْعَصِيرُ فِي الْعَاصِرِ وَالْمُعْتَصِرِ , لِأَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَلْعُونِينَ مَنْ لَا يَتَصَرَّفُ إلَّا فِي عَيْنِ الْخَمْرِ , كَالسَّاقِي , وَالشَّارِبِ , وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَصَرَّفُ إلَّا فِي الْعِنَبِ وَالْعَصِيرِ كَالْعَاصِرِ وَالْمُعْتَصِرِ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا جَمِيعًا . يُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ , عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعِيدٍ , قَالَ : قِيلَ لِسَعْدٍ يَعْنِي ابْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَحَدَ الْعَشَرَةِ : تَبِيعُ عِنَبًا لَكَ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ عَصِيرًا , فَقَالَ : بِئْسَ الشَّيْخُ

أَنَا إنْ بِعْتُ الْخَمْرَ . وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ : كَانَتْ لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ أَرْضٌ فِيهَا عِنَبٌ فَجَاءَ قَيِّمُهُ عَلَيْهَا , فَقَالَ : إنَّ عِنَبَهَا قَدْ أَدْرَكَ فَمَا نَصْنَعُ بِهِ , قَالَ : بِيعُوهُ , قَالَ : إنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ , قَالَ : اصْنَعُوهُ زَبِيبًا , قَالَ : إنَّهُ لَا يَجِيءُ زَبِيبٌ , قَالَ : فَرَكِبَ سَعْدٌ وَرَكِبَ مَعَهُ نَاسٌ حَتَّى إذَا أَتَوْا الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا الْعِنَبُ أَمَرَ بِعِنَبِهَا فَنُزِعَ مِنْ أُصُولِهِ وَحَرَثَهَا . وَعَنْ عُقَارِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ : أَتَبِيعُ عِنَبًا لِي عَصِيرًا ؟ فَقَالَ : لَا , وَلَكِنْ زَبِّبْهُ , ثُمَّ بِعْهُ , وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الْعَصِيرِ , فَقَالَ : لَا يَصْلُحُ قَالَ : فَقُلْت : فَشُرْبُهُ , قَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ , وَقَالَ أَحْمَدُ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ } . ثُمَّ فِي مَعْنَى هَؤُلَاءِ كُلُّ بَيْعٍ , أَوْ إجَارَةٍ , أَوْ هِبَةٍ , أَوْ إعَارَةٍ تُعِينُ عَلَى مَعْصِيَةٍ إذَا ظَهَرَ الْقَصْدُ , وَإِنْ جَازَ أَنْ يَزُولَ قَصْدُ الْمَعْصِيَةِ , مِثْلُ بَيْعِ السِّلَاحِ لِلْكُفَّارِ , أَوْ لِلْبُغَاةِ , أَوْ لِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ , أَوْ لِأَهْلِ الْفِتْنَةِ , وَبَيْعِ الرَّقِيقِ لِمَنْ يَعْصِي اللَّهَ فِيهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ . فَإِنَّ ذَلِكَ قِيَاسٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى عَاصِرِ الْخَمْرِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا إنَّمَا اسْتَحَقَّ اللَّعْنَةَ وَصَارَتْ إجَارَتُهُ وَبَيْعُهُ بَاطِلًا إذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ , أَوْ الْمُسْتَأْجِرَ يُرِيدُ التَّوَسُّلَ بِمَالِهِ وَنَفْعِهِ إلَى

الْحَرَامِ فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - : { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } . وَمَنْ لَمْ يُرَاعِ الْمَقَاصِدَ فِي الْعُقُودِ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَلْعَنَ الْعَاصِرَ , وَأَنْ يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَعْصِرَ الْعِنَبَ لِكُلِّ أَحَدٍ , وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ قَصْدَهُ التَّخْمِيرُ لِجَوَازِ تَبَدُّلِ الْقَصْدِ , وَلِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْقَصْدِ عِنْدَهُ فِي الْعُقُودِ , وَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ , وَهَذَا مُخَالِفٌ بِنِيَّتِهِ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ , عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ حَبَسَ الْعِنَبَ أَيَّامَ الْقِطَافِ حَتَّى يَبِيعَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ , أَوْ نَصْرَانِيٍّ , أَوْ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا فَقَدْ تَقَحَّمَ النَّارَ عَلَى بَصِيرَةٍ } , وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو , عَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ , عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ , أَوْ يُصَادَ لَكُمْ } رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا أَحْسَنُ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَقْيَسُ , وَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ , فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثُ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ , أَنَّهُ أَهْدَى لَهُ لَحْمَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ فَرَدَّهُ وَقَالَ : { إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ

عَلَيْك إلَّا أَنَّا حُرُمٌ } . وَكَذَلِكَ صَحَّ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ , وَصَحَّ عَنْهُ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ , لَمَّا صَادَ لَحْمَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ , فَأَذِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ الْمُحْرِمِينَ فِي الْأَكْلِ مِنْهُ . وَكَذَلِكَ صَحَّ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ طَلْحَةَ وَغَيْرِهِ وَلَا مَحْمَلَ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَبَاحَهُ لِمُحْرِمٍ لَمْ يُصَدْ لَهُ , وَرَدَّهُ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ صِيدَ لَهُ . وَلِهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ إلَى تَحْرِيمِ لَحْمِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ مُطْلَقًا , وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى إبَاحَتِهِ لِلْمُحْرِمِ مُطْلَقًا , وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ أَقْيَسَ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ الْمَقَاصِدَ ; لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } . فَحَرَّمَ عَلَى الْمُحْرِمِ صَيْدَ الْبَرِّ دُونَ طَعَامِهِ , وَصَيْدُهُ مَا صِيدَ مِنْهُ حَيًّا وَطَعَامُهُ مَا كَانَ قَدْ مَاتَ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ أَكْلَ لَحْمِهِ لَا سِيَّمَا , وَقَدْ قَالَ : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } . وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالصَّيْدِ نَفْسَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ , فَعُلِمَ أَنَّهُ هُوَ الْمُحَرَّمُ وَلَوْ قَصَدَ تَحْرِيمَهُ مُطْلَقًا لَقَالَ : لَحْمُ الصَّيْدِ , كَمَا قَالَ : لَحْمُ الْخِنْزِيرِ , فَلَمَّا بَيَّنَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى كِتَابِ اللَّهِ , وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ إذَا

صَادَهُ الْحَلَالُ لِلْحَرَامِ وَذَبَحَهُ لِأَجْلِهِ , كَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُحْرِمِ , وَلَوْ أَنَّهُ اصْطَادَهُ اصْطِيَادًا مُطْلَقًا , وَذَبَحَهُ لَكَانَ حَلَالًا لَهُ , وَلِلْمُحْرِمِ مَعَ أَنَّ الِاصْطِيَادَ وَالزَّكَاةَ عَمَلٌ حِسِّيٌّ أَثَّرَتْ النِّيَّةُ فِيهِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ . عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَصْدَ مُؤَثِّرٌ فِي تَحْرِيمِ الْعَيْنِ الَّتِي تُبَاحُ بِدُونِ الْقَصْدِ , وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ فَفِي الْأَقْوَالِ وَالْعُقُودِ أَوْلَى , يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا صَادَ الصَّيْدَ , أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ بِدَلَالَتِهِ , أَوْ إعَارَةِ آلَةٍ , أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْهُ فِعْلٌ ظَهَرَ بِهِ تَحْرِيمُ الصَّيْدِ عَلَيْهِ , لِكَوْنِهِ اُسْتُحِلَّ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ , فَصَارَ كَذَكَاتِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ الْحَلْقِ . أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ وَلَمْ يَشْعُرْ , وَإِنَّمَا الْحَلَالُ قَصَدَ أَنْ يَصِيدَهُ لِيَضِيفَهُ بِهِ , أَوْ لِيَهَبَهُ لَهُ أَوْ لِيَبِيعَهُ إيَّاهُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَهُ عَلَيْهِ بِنِيَّةٍ صَدَرَتْ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَشْعُرْ بِهَا , لِئَلَّا يَكُونَ لِلْمُحْرِمِ سَبَبٌ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ , وَلِيُتِمَّ حُرْمَةَ الصَّيْدِ وَصِيَانَتَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُحْرِمِ بِكُلِّ طَرِيقٍ , فَإِذَا ذَبَحَ الصَّيْدَ بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْهُ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَهُ ضِمْنًا وَتَبَعًا لَا أَصْلًا وَقَصْدًا . فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الصَّيْدِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَأَبَاحَهَا لَهُ إذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ , فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَرَّمَ اللَّهُ

سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ الصَّيْدَ وَأَحَلَّهُ لَهُ إذَا ذَبَحَهُ غَيْرُهُ , فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ إنَّمَا قَصَدَ بِالنِّكَاحِ أَنْ تَعُودَ إلَى الْأَوَّلِ , فَهُوَ كَمَا إذَا قَصَدَ ذَلِكَ الْغَيْرُ بِالذَّبْحِ أَنْ يُحِلَّ لِلْمُحْرِمِ , فَإِنَّ الْمَنَاكِحَ وَالذَّبَائِحَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْحَظْرِ حَتَّى يَفْعَلَ السَّبَبَ الْمُبِيحَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ . وَيَتَأَيَّدُ هَذَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الذَّبْحَ لَا يُحَلِّلُ الْبَهِيمَةَ حَتَّى يَقْصِدَ بِهِ أَكْلَهَا فَلَوْ قَصَدَ بِهِ جَعْلَهَا غَرَضًا وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ وَالْبَيْعُ وَغَيْرُهُمَا إنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْمِلْكَ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْعُقُودِ لَمْ يُفِدْ حُكْمَهُ إذَا قَصَدَ الْإِحْلَالَ لِلْغَيْرِ , أَوْ إجَازَةَ قَرْضٍ بِمَنْفَعَةٍ , أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِصَدَاقٍ يَنْوِي أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ إلَيْهَا فَهُوَ زَانٍ وَمَنْ أَدَانَ دَيْنًا يَنْوِي أَنْ لَا يَقْضِيَهُ فَهُوَ سَارِقٌ } . رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ , بِإِسْنَادِهِ , فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْتَرِيَ وَالْمُسْتَنْكِحَ إذَا قَصَدَا أَنْ لَا يُؤَدِّيَا الْعِوَضَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اسْتَحَلَّ الْفَرْجَ وَالْمَالَ بِغَيْرِ عِوَضٍ , فَيَكُونُ كَالزَّانِي وَالسَّارِقِ فِي الْإِثْمِ . وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا

أَدَّاهَا اللَّهُ عَنْهُ , وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ } , فَهَذِهِ النُّصُوصُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقَاصِدَ تُفِيدُ أَحْكَامَ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا . وَالْأَحْكَامُ تَقْتَضِي ذَلِكَ أَيْضًا , فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا اشْتَرَى , أَوْ اسْتَأْجَرَ , أَوْ اقْتَرَضَ وَنَوَى أَنَّ ذَلِكَ لِمُوَكِّلِهِ , أَوْ لِمُوَلِّيهِ كَانَ لَهُ , وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ فِي الْعَقْدِ , وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ لَهُ وَقَعَ الْمِلْكُ لِلْعَاقِدِ . وَكَذَلِكَ لَوْ تَمَلَّكَ الْمُبَاحَاتِ مِنْ الصَّيْدِ وَالْحَشِيشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَنَوَى أَنَّهُ لِمُوَكِّلِهِ وَقَعَ الْمِلْكُ لَهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ , وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَعْدٍ لَمَّا اشْتَرَكَ هُوَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٌ فِي غَنِيمَةِ بَدْرٍ . نَعَمْ لَا بُدَّ فِي النِّكَاحِ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمُوَكِّلِ , لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ السِّلْعَةِ فِي الْبَيْعِ فَافْتَقَرَ الْعَقْدُ إلَى تَعْيِينِهِ لِذَلِكَ , لَا لِأَجْلِ كَوْنِهِ مَعْقُودًا لَهُ . وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ الْوَاحِدُ يُوجِبُ الْمِلْكَ لِمَالِكَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عِنْدَ تَغَيُّرِ النِّيَّةِ ثَبَتَ أَنَّ لِلنِّيَّةِ تَأْثِيرًا فِي التَّصَرُّفَاتِ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَضَى عَنْ غَيْرِهِ دَيْنًا , أَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ نَفَقَةً وَاجِبَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ يَنْوِي التَّبَرُّعَ وَالْهِبَةَ لَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ بِالْبَذْلِ . وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَلَهُ الرُّجُوعُ إنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِإِذْنِهِ وِفَاقًا , وَبِغَيْرِ , إذْنِهِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ . فَصُورَةُ الْفِعْلِ وَاحِدَةٌ , وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ , هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَاتِ , أَوْ مِنْ بَابِ

أَكْثَرِ التَّبَرُّعَاتِ بِالنِّيَّةِ ؟ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ إلَى غَيْرِهِ مَالًا رِبَوِيًّا بِمِثْلِهِ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ إلَّا أَنْ يَتَقَابَضَا , وَجَوَّزَ الدَّفْعَ عَلَى وَجْهِ الْقَرْضِ , وَقَدْ اشْتَرَكَا فِي أَنَّ هَذَا يَقْبِضُ دَرَاهِمَ , ثُمَّ يُعْطِي مِثْلَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ , وَإِنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِلْمَقَاصِدِ , فَإِنَّ مَقْصُودَ الْقَرْضِ إرْفَاقُ الْمُقْتَرِضِ وَنَفْعُهُ لَيْسَ مَقْصُودُهُ الْمُعَاوَضَةَ وَالرِّبْحَ , وَلِهَذَا شُبِّهَ بِالْعَارِيَّةِ حَتَّى سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنِيحَةَ وَرِقٍ , فَكَأَنَّهُ أَعَارَهُ الدَّرَاهِمَ , ثُمَّ اسْتَرْجَعَهَا مِنْهُ لَكِنْ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِرْجَاعُ الْعَيْنِ فَاسْتَرْجَعَ الْمِثْلَ , فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَبَرَّعَ لِغَيْرِهِ بِمَنْفَعَةِ حَالِهِ , ثُمَّ اسْتَعَادَ الْعَيْنَ . وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ كَانَ رِبًا مُحَرَّمًا , وَلَوْ بَاعَهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ وَوَهَبَهُ دِرْهَمًا هِبَةً مُطْلَقَةً لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْبَيْعِ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا . فَلَوْلَا اعْتِبَارُ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ لَأَمْكَنَ كُلَّ مُرْبٍ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لِاخْتِلَافِ النَّقْدِ أَنْ يَقُولَ : بِعْتُك أَلْفًا بِأَلْفٍ , وَوَهَبْتُك خَمْسَمِائَةٍ لَكِنْ بِاعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ , فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْهِبَةَ إنَّمَا كَانَتْ لِأَجْلِ اشْتِرَائِهِ مِنْهُ تِلْكَ الْأَلْفَ فَتَصِيرُ دَاخِلَةً فِي الْمُعَاوَضَةِ , وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاهِبَ لَا يَهَبُ إلَّا لِلْأَجْرِ فَتَكُونُ صَدَقَةً , أَوْ لِكَرَامَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَتَكُونُ

هَدِيَّةً , أَوْ لِمَعْنًى آخَرَ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَمَا لَوْ وَهَبَ لِلْمُقْرِضِ , أَوْ وَهَبَ لِعَامِلِ الزَّكَاةِ شَيْئًا وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَدِيثِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ . وَالْمُقْرِضُ الْمَحْضُ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ إلَّا مِثْلُ مَالِهِ جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا بِخِلَافِ الْبَائِعِ , فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ يُسَاوِيهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ نَسِيئَةً , فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا غَرَضَ لَهُ فِي مِثْلِ هَذَا , وَإِنَّمَا يَبِيعُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ لِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ , مِثْلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَرْفَعَ سِكَّةً , أَوْ مَصُوغًا , أَوْ أَجْوَدَ فِضَّةً إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ , فَإِذَا قَابَلَتْ الصِّفَةُ جِنْسَهَا فِي الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ لَهَا قِيمَةٌ - فِي بَابِ الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ وَالْقَرْضِ - يَعْتَبِرُهَا الشَّارِعُ لِأَنَّ الْعِوَضَ هُنَاكَ ثَبَتَ شَرْعًا لَا شَرْطًا فَصَارَ مَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فِي الْقَرْضِ وَالْإِتْلَافِ لَا يُقْصَدُ فِي الْبَيْعِ وَمَا يُقْصَدُ فِي الْبَيْعِ أَهْدَرَهُ الشَّارِعُ . ثُمَّ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ هَذَا التَّصَرُّفِ وَهَذَا هُوَ الْقَصْدُ وَالنِّيَّةُ , فَلَوْلَا مَقَاصِدُ الْعِبَادِ وَنِيَّاتُهُمْ لَمَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ ثُمَّ الْأَسْمَاءُ تَتْبَعُ الْمَقَاصِدَ , وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْأَحْكَامَ اخْتَلَفَتْ بِمُجَرَّدِ اخْتِلَافِ أَلْفَاظٍ لَمْ تَخْتَلِفْ مَعَانِيهَا وَمَقَاصِدُهَا , بَلْ لَمَّا اخْتَلَفَتْ الْمَقَاصِدُ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا وَأَحْكَامُهَا , وَإِنَّمَا الْمَقَاصِدُ حَقَائِقُ الْأَفْعَالِ وَقِوَامُهَا , وَإِنَّمَا

الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عُقُودِ الْمُكْرَهِ وَأَقْوَالِهِ مِثْلِ : بَيْعِهِ , وَقَرْضِهِ , وَرَهْنِهِ , وَنِكَاحِهِ , وَطَلَاقِهِ , وَرَجْعَتِهِ , وَيَمِينِهِ , وَنَذْرِهِ , وَشَهَادَتِهِ , وَحُكْمِهِ , وَإِقْرَارِهِ , وَرِدَّتِهِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِ , فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا مِنْهُ مُلْغَاةٌ مُهْدَرَةٌ وَأَكْثَرُ ذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ , وَقَدْ دَلَّ عَلَى بَعْضِهِ الْقُرْآنُ مِثْلُ قَوْلِهِ : { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ } وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } . وَالْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ : { عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي غِلَاقٍ } - أَيْ إكْرَاهٍ , إلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ . فَنَقُولُ : مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُكْرَهَ قَدْ أَتَى بِاللَّفْظِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ . وَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ اللَّفْظِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْحُكْمَ , وَإِنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ الْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ فَصَارَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ قَصْدِهِ , وَإِرَادَتِهِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ وَكَوْنِهِ إنَّمَا قَصَدَ بِهِ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ حُكْمِهِ . فَعُلِمَ أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ لَيْسَ مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ اقْتِضَاءَ الْفِعْلِ أَثَرَهُ . فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَ , أَوْ غَصَبَ , أَوْ أَتْلَفَ أَوْ بَخَسَ الْبَائِعَ مُكْرَهًا لَمْ نَقُلْ إنَّ ذَلِكَ الْقَتْلَ أَوْ الْغَصْبَ , أَوْ الْإِتْلَافَ , أَوْ الْبَخْسَ فَاسِدٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ عَقَدَ . فَكَذَلِكَ الْمُحْتَالُ لَمْ يَقْصِدْ الْحُكْمَ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ الَّذِي احْتَالَ بِهِ , وَإِنَّمَا قَصَدَ مَعْنًى

آخَرَ مِثْلَ الْبَيْعِ الَّذِي يَتَوَسَّلُ بِهِ إلَى الرِّبَا وَالتَّحْلِيلِ الَّذِي يَتَوَسَّلُ بِهِ إلَى رَدِّ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا لَكِنَّ الْمُكْرَهَ قَصْدُهُ دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا قَصْدُهُ التَّوَسُّلُ إلَى غَرَضٍ رَدِيءٍ فَالْمُكْرَهُ وَالْمُحْتَالُ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا بِالسَّبَبِ حُكْمَهُ وَلَا بِاللَّفْظِ مَعْنَاهُ , وَإِنَّمَا قَصَدَا التَّوَسُّلَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ وَظَاهِرِ ذَلِكَ السَّبَبِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ غَيْرَ حُكْمِ السَّبَبِ لَكِنَّ أَحَدَهُمَا رَاهِبٌ - قَصْدُهُ دَفْعُ الضَّرَرِ - وَلِهَذَا يُحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ وَالْآخَرَ رَاغِبٌ - قَصْدُهُ إبْطَالُ حَقٍّ , أَوْ إثْبَاتُ بَاطِلٍ وَلِهَذَا يُذَمُّ عَلَى ذَلِكَ . فَالْمُكْرَهُ يَبْطُلُ حُكْمُ السَّبَبِ فِيمَا عَلَيْهِ وَفِيمَا لَهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَاحِدًا مِنْهُمَا . وَأَمَّا الْمُحْتَالُ فَيَبْطُلُ حُكْمُ السَّبَبِ فِيمَا احْتَالَ عَلَيْهِ . وَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَقَدْ تَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَمَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُحْتَالٌ كَمَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُكْرَهٌ وَمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ كَمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ . لَكِنَّ الْمُكْرَهَ لَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ كَرَاهَةً بِخِلَافِ الْمُحْتَالِ , وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ عُقُودُ الْهَزْلِ . وَعُقُودُ التَّلْجِئَةِ . إلَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا وَخِلَافًا يَحْتَاجُ بَعْضُهُ إلَى أَنْ يُحْتَجَّ لَهُ لَا أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ . وَيَحْتَاجُ بَعْضُهُ إلَى أَنْ يُجَابَ عَنْهُ . فَنَقُولُ : الْهَازِلُ هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِالْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِمُوجَبِهِ , وَإِرَادَةٍ لِحَقِيقَةِ مَعْنَاهُ بَلْ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ ,

وَنَقِيضُهُ الْجَادُّ : وَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ - كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ جَدَّ فُلَانٌ إذَا عَظُمَ وَاسْتَغْنَى وَصَارَ ذَا حَظٍّ , وَالْهَزْلُ مِنْ هَزِلَ إذَا ضَعُفَ وَضَؤُلَ . كَأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي لَهُ مَعْنَى بِمَنْزِلَةِ الَّذِي لَهُ قِوَامٌ مِنْ مَالٍ , أَوْ شَرَفٍ وَاَلَّذِي لَا مَعْنَى لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِقِ فَمَا يُقِيمُهُ وَيُمْسِكُهُ - وَالتَّلْجِئَةُ هُوَ : أَنْ يَتَوَاطَأَ اثْنَانِ عَلَى إظْهَارِ الْعَقْدِ , أَوْ صِفَةٍ فِيهِ , أَوْ الْإِقْرَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ صُورَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقِيقَةٌ . مِثْلُ الرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ ظَالِمٌ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ فَيُوَاطِئُ بَعْضَ مَنْ يُخَافُ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهُ صُورَةً لِيَنْدَفِعَ ذَلِكَ الظَّالِمُ وَلِهَذَا سُمِّيَ تَلْجِئَةً - وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ أَلْجَأْتُهُ إلَى هَذَا الْأَمْرِ تَلْجِئَةً - ; لِأَنَّ الرَّجُلَ أُلْجِئَ إلَى هَذَا الْأَمْرِ , ثُمَّ صَارَ كُلُّ عَقْدٍ قُصِدَ بِهِ السُّمْعَةَ دُونَ الْحَقِيقَةِ يُسَمَّى تَلْجِئَةً وَإِنْ قُصِدَ بِهِ دَفْعُ حَقٍّ , أَوْ قُصِدَ بِهِ مُجَرَّدُ السُّمْعَةِ عِنْدَ النَّاسِ , وَأَمَّا الْهَازِلُ فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ } . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ , وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ نَكَحَ لَاعِبًا , أَوْ طَلَّقَ لَاعِبًا , أَوْ أَعْتَقَ لَاعِبًا فَقَدْ جَازَ } . وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : أَرْبَعٌ

جَائِزَاتٌ إذَا تُكُلِّمَ بِهِنَّ : الطَّلَاقُ . وَالْعَتَاقُ . وَالنِّكَاحُ . وَالنَّذْرُ , وَعَنْ عَلِيٍّ : ثَلَاثٌ لَا لَعِبَ فِيهِنَّ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنِّكَاحُ , وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : ثَلَاثٌ اللَّعِبُ فِيهِنَّ كَالْجِدِّ الطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالْعِتْقُ , وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : النِّكَاحُ جِدُّهُ وَلَعِبُهُ سَوَاءٌ . رَوَاهُنَّ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ .

الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا , رَوَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ , وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ , عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : { أَمَّا بَعْدُ فَأَحْسَنُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . وَفِي لَفْظٍ كَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ فَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ , ثُمَّ يَقُولُ { مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ خَيْرُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ } رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَزَادَ : " { فَكُلُّ بِدْعَةٍ فِي النَّارِ } وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْطُبُ بِهَذَا الْخُطْبَةِ , وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { إنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ الْكَلَامُ وَالْهَدْيُ فَأَحْسَنُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَأَحْسَنُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ أَلَا , وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ } وَفِي لَفْظٍ : { غَيْرَ أَنَّكُمْ سَتُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ فَكُلُّ مُحْدَثَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ } . وَهَذَا مَشْهُورٌ , عَنْ ابْنِ

مَسْعُودٍ , وَكَانَ يَخْطُبُ بِهِ كُلَّ خَمِيسٍ , كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ بِهِ فِي الْجُمَعِ . وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ , وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ بِأَسَانِيدَ جَيِّدَةٍ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ , عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ , عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ , { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . وَهَذَا إسْنَادٌ جَيِّدٌ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ - وَعَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ , وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ : { وَلَا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } , الْآيَةَ : قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ أَقْبَلَ عَلَيْنَا , فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ , فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إلَيْنَا , فَقَالَ : { أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ , وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي سَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد , وَابْنُ مَاجَهْ

, وَالتِّرْمِذِيُّ , وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ فِي لَفْظِ : { تَرَكَتْكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ - وَفِيهِ - عَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي } . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَغَيْرُهَا تُبَيِّنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَذَّرَ الْأُمَّةَ الْأُمُورَ الْمُحْدَثَةَ وَبَيَّنَ أَنَّهَا ضَلَالَةٌ وَأَنَّ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِ الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَا تَنْحَصِرُ دَلَائِلُهَا وَكَثْرَةُ وَصَايَا السَّلَفِ بِمَضْمُونِهَا وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ عَلَى لُزُومِ طَرِيقَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ وَمُجَانَبَةِ مَا أُحْدِثَ بَعْدَهُمْ مِمَّا يُخَالِفُ طَرِيقَهُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَالْآثَارُ كَثِيرَةٌ جِدًّا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذِهِ الْحِيَلُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُحْدَثَةِ وَمِنْ الْبِدَعِ الطَّارِئَةِ . أَمَّا الْإِفْتَاءُ بِهَا وَتَعْلِيمُهَا لِلنَّاسِ , وَإِنْفَاذُهَا فِي الْحُكْمِ وَاعْتِقَادُ جَوَازِهَا فَأَوَّلُ مَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ صِغَارِ التَّابِعِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْأُولَى بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ , وَلَيْسَ فِيهَا - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - حِيلَةٌ وَاحِدَةٌ تُؤْثَرُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ الْمُسْتَفِيضُ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سُئِلُوا عَنْ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَعْظَمُوهُ وَزَجَرُوا عَنْهُ , وَفِي هَذَا الْكِتَابِ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ الْعِينَةِ وَالتَّحْلِيلِ وَغَيْرِهِمَا مَا بَيَّنَ قَوْلَهُمْ فِي هَذَا الْجِنْسِ , وَأَمَّا فِعْلُهَا مِنْ بَعْضِ الْجُهَّالِ , فَقَدْ

كَانَ يَصْدُرُ الْقَلِيلُ مِنْهُ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ , لَكِنَّهُ يُنْكِرُهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى مَنْ يَفْعَلُهُ كَمَا كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ الْكَذِبَ وَالرِّبَا وَسَائِرَ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَرَوْنَهَا دَاخِلَةً فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } .
وَأَمَّا إذَا اتَّفَقَا فِي السِّرِّ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفٌ وَأَظْهَرَا فِي الْعَقْدِ أَلْفَيْنِ فَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ الْقَدِيمِ وَالشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَغَيْرُهُمَا الثَّمَنُ مَا أَظْهَرَاهُ عَلَى قِيَاسِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ فِي الْمَهْرِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا أَظْهَرَاهُ وَهُوَ الْأَكْثَرُ , وَفَرَّقُوا بَيْنَ التَّلْجِئَةِ فِي الثَّمَنِ وَالتَّلْجِئَةِ فِي الْبَيْعِ بِأَنَّ التَّلْجِئَةَ فِي الْبَيْعِ تَجْعَلُهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ وَالْقَصْدُ مُعْتَبَرٌ فِي صِحَّتِهِ وَهُنَا الْعَقْدُ مَقْصُودٌ وَمَا تَقَدَّمَهُ شَرْطٌ مُفْسِدٌ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَقْدِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْجَمِيعِ بِمَا أَظْهَرَاهُ , وَفِي الْمَهْرِ عَنْهُ خِلَافٌ مَشْهُورٌ , وَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ الْجَدِيدِ هُوَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ مِثْلُ أَبِي الْخَطَّابِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ وَغَيْرِهِمْ : الثَّمَنُ مَا أَسَرَّاهُ وَالزِّيَادَةُ سُمْعَةٌ وَرِيَاءٌ بِخِلَافٍ الْمَهْرِ إلْحَاقًا لِلْعِوَضِ فِي الْبَيْعِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ , وَإِلْحَاقًا لِلْمَهْرِ بِالنِّكَاحِ , وَجَعَلَا الزِّيَادَةَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَهِيَ لَاحِقَةٌ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

عَكْسَ هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَسْمِيَةَ الْعِوَضِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ دُونَ النِّكَاحِ , وَقَالَ صَاحِبَاهُ : الْعِبْرَةُ فِي الْجَمِيعِ بِمَا أَسَرَّاهُ . وَإِنَّمَا يَتَحَرَّرُ الْكَلَامُ فِي هَذَا بِمَسْأَلَةِ الْمَهْرِ , وَلَهَا فِي الْأَصْلِ صُورَتَانِ ; وَكَلَامُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ فِيهَا عَامٌّ فِيهِمَا , أَوْ مُجْمَلٌ . إحْدَاهُمَا : أَنْ يَعْقِدُوهُ فِي الْعَلَانِيَةِ بِأَلْفَيْنِ وَقَدْ اتَّفَقُوا قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْمَهْرَ أَلْفٌ وَأَنَّ الزِّيَادَةَ سُمْعَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْقِدُوهُ بِالْأَقَلِّ , فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْمَهْرَ هُوَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ , وَإِنْ قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ , أَوْ تَصَادَقُوا عَلَيْهِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْعَلَانِيَةُ مِنْ جِنْسِ السِّرِّ , وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ أَوْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ . وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ , قَالُوا : وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي مَوَاضِعَ , قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْذِرِ فِي الرَّجُلِ يُصْدِقُ صَدَاقًا فِي السِّرِّ وَفِي الْعَلَانِيَةِ شَيْئًا آخَرَ يُؤَاخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ : إذَا تَزَوَّجَهَا فِي الْعَلَانِيَةِ عَلَى شَيْءٍ وَأَسَرَّ غَيْرَ ذَلِكَ أُوخِذَ بِالْعَلَانِيَةِ , وَإِنْ كَانَ قَدْ أَشْهَرَ فِي السِّرِّ بِغَيْرِ ذَلِكَ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ فِي رَجُلٍ أَصْدَقَ صَدَاقًا سِرًّا وَصَدَاقًا عَلَانِيَةً يُؤَاخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ إذَا كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِهِ قِيلَ لَهُ فَقَدْ أَشْهَدَ شُهُودًا فِي السِّرِّ بِغَيْرِهِ قَالَ : وَإِنْ ; أَلَيْسَ قَدْ

أَقَرَّ بِهَذَا أَيْضًا عِنْدَ شُهُودٍ ؟ يُؤَاخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَقَرَّ بِهِ أَيْ رَضِيَ بِهِ وَالْتَزَمَهُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي } . وَهَذَا يَعُمُّ التَّسْمِيَةَ فِي الْعَقْدِ وَالِاعْتِرَافَ بَعْدَهُ وَيُقَالُ أَقَرَّ بِالْجِزْيَةِ وَأَقَرَّ لِلسُّلْطَانِ بِالطَّاعَةِ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فِي الرَّجُلِ يُعْلِنُ مَهْرًا وَيُخْفِي آخَرَ أُوخِذَ بِمَا يُعْلِنُ ; لِأَنَّهُ بِالْعَلَانِيَةِ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ وَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا لَهُ بِمَا كَانَ أَسَرَّهُ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي السِّرِّ وَأَعْلَنُوا مَهْرًا آخَرَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا , وَأَمَّا هُوَ فَيُؤَاخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ . قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ : قَدْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِمَهْرِ الْعَلَانِيَةِ , وَإِنَّمَا قَالَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا بِمَا أَسَرَّ عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ لِئَلَّا يَحْصُلَ مِنْهُمْ غُرُورٌ لَهُ فِي ذَلِكَ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَأَبِي قِلَابَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْمَشْهُورُ عَنْهُ , وَقَدْ نَصَّ فِي مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِمَهْرِ السِّرِّ , فَقِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ . وَقِيلَ : بَلْ ذَاكَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ : إذَا عَلِمَ الْمَشْهُودُ أَنَّ الْمَهْرَ الَّذِي يُظْهِرُهُ سُمْعَةٌ , وَأَنَّ أَصْلَ الْمَهْرِ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ تَزَوَّجَ

وَأَعْلَنَ الَّذِي قَالَ فَالْمَهْرُ هُوَ السِّرُّ وَالسُّمْعَةُ بَاطِلَةٌ , وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ , وَالْحَكَمِ بْنِ عُتْبَةَ , وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ , وَاللَّيْثِ , وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ , وَإِسْحَاقَ . وَعَنْ شُرَيْحٍ وَالْحَسَنِ كَالْقَوْلَيْنِ , وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْمَهْرُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَهُوَ خِلَافُ مَا حَكَاهُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ , وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالسِّرِّ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَلَانِيَةَ تَلْجِئَةٌ , فَقَالَ : إذَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ أَظْهَرَ صَدَاقًا وَأَسَرَّ غَيْرَ ذَلِكَ نُظِرَ فِي الْبَيِّنَاتِ وَالشُّهُودِ وَكَانَ الظَّاهِرُ أَوْكَدَ إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ تَدْفَعُ الْعَلَانِيَةَ . قَالَ الْقَاضِي : وَقَدْ تَأَوَّلَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ هَذَا عَلَى أَنَّ بَيِّنَةَ السِّرِّ عُدُولٌ وَبَيِّنَةَ الْعَلَانِيَةِ , غَيْرُ عُدُولٍ حُكِمَ بِالْعُدُولِ قَالَ الْقَاضِي وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ حَكَمَ بِنِكَاحِ السِّرِّ إذَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ بِنِكَاحِ الْعَلَانِيَةِ , وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ : إذَا تَكَافَأَتْ الْبَيِّنَاتُ وَقَدْ شَرَطُوا فِي السِّرِّ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ فِي الْعَلَانِيَةِ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا لَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ وَلَا يُطَالِبُوهُ بِالظَّاهِرِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } فَإِنَّ الْقَاضِيَ , وَظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ أَبِي حَفْصٍ أَنَّهُ قَدْ جَعَلَ لِلسِّرِّ حُكْمًا قَالَ وَالْمَذْهَبُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ . قُلْت : كَلَامُ أَبِي حَفْصٍ الْأَوَّلُ فِيمَا إذَا قَامَتْ

الْبَيِّنَةُ بِأَنَّ النِّكَاحَ عُقِدَ فِي السِّرِّ بِالْمَهْرِ الْقَلِيلِ وَلَمْ يَثْبُتْ نِكَاحُ الْعَلَانِيَةِ , وَكَلَامُهُ الثَّانِي فِيمَا إذَا ثَبَتَ نِكَاحُ الْعَلَانِيَةِ , وَلَكِنْ تَشَارَطُوا إنَّمَا يُظْهِرُونَ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ , وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو حَفْصٍ أَشْبَهُ بِكَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأُصُولِهِ , فَإِنَّ عَامَّةَ كَلَامِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ , وَلَمْ يَثْبُتْ بَيِّنَةٌ وَلَا اعْتِرَافٌ أَنَّ مَهْرَ الْعَلَانِيَةِ سُمْعَةٌ , بَلْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِالْأَكْثَرِ , وَادُّعِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُؤَاخَذَ بِمَا أَقَرَّ بِهِ إنْشَاءً , أَوْ إخْبَارًا . وَإِذَا أَقَامَ شُهُودًا يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ تَرَاضَوْا بِدُونِ ذَلِكَ حُكِمَ بِالْبَيِّنَةِ لِلْأُولَى ; لِأَنَّ التَّرَاضِيَ بِالْأَقَلِّ فِي وَقْتٍ لَا يَمْنَعُ التَّرَاضِيَ بِمَا زَادَ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : " أُوخِذَ بِالْعَلَانِيَةِ ; لِأَنَّهُ بِالْعَلَانِيَةِ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ وَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا بِمَا كَانَ أَسَرَّهُ " . فَقَوْلُهُ : " لِأَنَّهُ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ فِي الْحُكْمِ فَقَطْ , وَإِلَّا فَمَا يَجِبُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ لَا يُعَلَّلُ بِالْإِشْهَادِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : " يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا لَهُ وَأَمَّا هُوَ فَيُؤَاخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهِ وَأَنَّ أُولَئِكَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْوَفَاءُ . وَقَوْلُهُ " يَنْبَغِي " تُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ أَكْثَرَ

مِمَّا تُسْتَعْمَلُ فِي الْمُسْتَحَبِّ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ أَيْضًا فِي امْرَأَةٍ زُوِّجَتْ فِي الْعَلَانِيَةِ عَلَى أَلْفٍ وَفِي السِّرِّ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ سَوَاءً أَخَذْنَا بِالْعَلَانِيَةِ ; لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَهُوَ خَرَّجَ : يُؤَاخَذُ بِالْأَكْثَرِ وَقُيِّدَتْ الْمَسْأَلَةُ بِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا وَأَنَّ كِلَيْهِمَا قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ . وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ : وَهُوَ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا فِي السِّرِّ بِأَلْفٍ , ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعَلَانِيَةِ بِأَلْفَيْنِ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ , فَهُنَا قَالَ الْقَاضِي , - فِي الْمُجَرَّدِ وَالْجَامِعِ : إنْ تَصَادَقَا عَلَى نِكَاحِ السِّرِّ لَزِمَ نِكَاحُ السِّرِّ بِمَهْرِ السِّرِّ ; لِأَنَّ النِّكَاحَ الْمُتَقَدِّمَ قَدْ صَحَّ وَلُزُومَ النِّكَاحِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ , وَحَمَلَ مُطْلَقَ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ , وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَقَالَ الْخِرَقِيِّ : إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقَيْنِ سِرٍّ وَعَلَانِيَةٍ أَخَذْنَا بِالْعَلَانِيَةِ , وَإِنْ كَانَ السِّرُّ قَدْ انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِهِ , وَهَذَا مَنْصُوصُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي قَوْلِهِ : تَزَوَّجَتْ فِي الْعَلَانِيَةِ عَلَى أَلْفٍ وَفِي السِّرِّ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ , وَعُمُومُ كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ يَشْمَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا , وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ , ثُمَّ طَرِيقُهُ وَطَرِيقَةُ جَمَاعَةٍ فِي ذَلِكَ أَنْ يَجْعَلُوا مَا

أَظْهَرَاهُ زِيَادَةً فِي الْمَهْرِ وَالزِّيَادَةُ فِيهِ بَعْدَ لُزُومِهِ لَازِمَةٌ , وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَ السِّرُّ هُوَ الْأَكْثَرَ , أُوخِذَ بِهِ أَيْضًا , وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ أُوخِذَ بِالْعَلَانِيَةِ يُؤَاخَذُ بِالْأَكْثَرِ . وَلِهَذَا الْقَوْلِ طَرِيقَةٌ ثَانِيَةٌ : وَهُوَ أَنَّ نِكَاحَ السِّرِّ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَكْتُمُوهُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بَلْ أَنَصِّهِمَا . فَإِذَا تَوَاصَوْا بِكِتْمَانِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ كَانَتْ الْعِبْرَةُ إنَّمَا هِيَ بِالثَّانِي فَقَدْ تَحَرَّرَ أَنَّ أَصْحَابَنَا مُخْتَلِفُونَ , هَلْ يُؤَاخَذُ بِصَدَاقِ الْعَلَانِيَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا فَقَطْ فِيمَا إذَا كَانَ السِّرُّ تَوَاطُئًا مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ ؟ وَإِنْ كَانَ السِّرُّ عَقْدًا , فَهَلْ هِيَ كَالَّتِي قَبْلَهَا أَوْ يُؤَاخَذُ هُنَا بِالسِّرِّ فِي الْبَاطِنِ بِلَا تَرَدُّدٍ عَلَى وَجْهَيْنِ : فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ ظَاهِرًا فَقَطْ . وَإِنَّهُمْ فِي الْبَاطِنِ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُؤَاخَذُوا إلَّا بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لَمْ يُرِدْ نَقْضًا , وَهَذَا قَوْلٌ قَوِيٌّ لَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ مِنْ تَوَابِعِ النِّكَاحِ وَصِفَاتِهِ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ سُمْعَةً كَذِكْرِهِ هَزْلًا وَالنِّكَاحُ جِدُّهُ وَهَزْلُهُ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ ذِكْرُ مَا هُوَ فِيهِ . يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ حِلَّ الْبُضْعِ مَشْرُوطٌ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْعَقْدِ وَالشَّهَادَةُ وَقَعَتْ عَلَى مَا أَظْهَرَاهُ فَيَكُونُ وُجُوبُ الْمَشْهُودِ بِهِ شَرْطًا فِي الْحِلِّ . فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ عُقُودِ الْهَزْلِ وَالتَّلْجِئَةِ قَدْ يُعَارَضُ بِمَا يَصِحُّ

مِنْهَا عَلَى قَوْلِنَا : إنَّ الْمَقَاصِدَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ مَعَ عَدَمِ قَصْدِ الْحُكْمِ , وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ تَحْقِيقُ مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ . فَنَقُولُ : الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ السُّنَّةَ وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ فَرَّقَتْ بَيْنَ قَصْدِ التَّحْلِيلِ وَبَيْنَ نِكَاحِ الْهَازِلِ , وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَا السُّنَّةَ وَالْآثَارَ الدَّالَّةَ عَلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الْهَازِلِ , ثُمَّ السُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ نُصُوصٌ فِي أَنَّ قَصْدَ التَّحْلِيلِ مَانِعٌ مِنْ حِلِّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ الْفَرْقُ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعَ السُّنَّةِ , وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ مِنْ أَجْوَدِ الْحِيَلِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا فَإِذَا بَطَلَ فَمَا سِوَاهُ مِنْ الْحِيَلِ أَبْطَلُ , فَعُلِمَ أَنَّ الْهَزْلَ لَا يَقْدَحُ فِي اعْتِبَارِ الْقَصْدِ لِئَلَّا تَتَنَاقَضَ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ . الثَّانِي : إنَّمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَصْدَ مُعْتَبَرٌ فِي , الْعُقُودِ وَمُؤَثِّرٌ فِيهَا , وَلَمْ نَقُلْ إنَّ عَدَمَ الْقَصْدِ مُؤَثِّرٌ فِيهَا , وَالْهَازِلُ وَنَحْوُهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ قَصْدٌ يُخَالِفُ مُوجَبَ الْعَقْدِ , وَلَكِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ الْقَصْدُ إلَى مُوجَبِ الْعَقْدِ . وَفَرْقٌ بَيْنَ عَدَمِ قَصْدِ الْحُكْمِ وَبَيْنَ وُجُودِ قَصْدِ ضِدِّهِ . وَهَذَا ظَاهِرٌ , فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا مِنْ قَصْدِ التَّكَلُّمِ , وَإِرَادَتِهِ . فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْكَلِمَةَ صَدَرَتْ مِنْ نَائِمٍ , أَوْ ذَاهِلٍ , أَوْ قَصَدَ كَلِمَةً فَجَرَى عَلَى

لِسَانِهِ بِأُخْرَى , أَوْ سَبَقَ بِهَا لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَهَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى مِثْلِ هَذَا حُكْمٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَطُّ , وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَالْكَلَامُ يَكُونُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عَمَلِ اللِّسَانِ وَحَرَكَتِهِ , وَإِنْ كَانَ نَفْسُ الْحَرَكَةِ الْمُقْتَضِيَةِ تُسَمَّى كَلَامًا أَيْضًا . فَإِذَا عَمِلَهُ لَمْ يَقْصِدْ مُوجَبَهُ وَمُقْتَضَاهُ كَانَ هَازِلًا لَاعِبًا , فَإِنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ شَيْئًا مِنْ فَوَائِدِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَمْ يَقْصِدْ مَا يُنَافِي فَوَائِدَهُ الشَّرْعِيَّةَ , فَهُنَا أَمْكَنَ تَرَتُّبُ الْفَائِدَةِ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ; لِأَنَّهُ أَتَى بِالْقَوْلِ الْمُقْتَضِي فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ تَرَتُّبًا شَرْعِيًّا لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ , وَإِذَا قَصَدَ الْمُنَافِيَ فَقَدْ عَارَضَ الْمُقْتَضِيَ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا , فَكَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ , وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ هَذَا الْوَجْهِ . الثَّالِثِ : أَنَّ الْهَازِلَ لَوْ وَصَلَ قَوْلَهُ بِلَفْظِ الْهَزْلِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : طَلَّقْتُكِ هَازِلًا , أَوْ طَلَّقْتُكِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ , وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ وُقُوعُ الطَّلَاقِ . وَكَذَلِكَ عَلَى قِيَاسِهِ لَوْ قَالَ : زَوَّجْتُكَ هَازِلًا , أَوْ زَوَّجْتُكَ غَيْرَ قَاصِدٍ لَأَنْ تَمْلِكَ الْمَرْأَةَ . فَأَمَّا لَوْ قَالَ زَوَّجْتُكَ عَلَى أَنْ تُحِلَّهَا بِالطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ , أَوْ عَلَى أَنْ تُطَلِّقَهَا إذَا أَحْلَلْتهَا لَمْ يَصِحَّ , فَإِذَا ثَبَتَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَفْظًا فَثُبُوتُهُ بِالْبَيِّنَةِ مِثْلُهُ سَوَاءً بَلْ أَوْلَى ,

وَسِرُّ هَذَا الْفَرْقِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَبْلَهُ فَإِنَّ الْهَازِلَ مَعَ عَدَمِ قَصْدِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَالْعَدَمِ لَوْ أَظْهَرَهُ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ , وَالْمُحَلِّلُ وَنَحْوُهُ مَعَهُ قَصْدٌ يُنَافِي الْمُقْتَضِيَ وَمَا يُنَافِي الْمُقْتَضِيَ لَوْ أَظْهَرَهُ كَانَ شَرْطًا فَالْهَازِلُ عَقَدَ عَقْدًا نَاقِصًا فَكَمَّلَهُ الشَّارِعُ . وَالْمُحَلِّلُ زَادَ عَلَى الْعَقْدِ الشَّرْعِيِّ مَا أَوْجَبَ عَدَمَهُ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ نِكَاحَ الْهَازِلِ وَنَحْوَهُ حُجَّةٌ لِاعْتِبَارِ الْقَصْدِ , وَذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ مَنَعَ أَنْ تُتَّخَذَ آيَاتُ اللَّهِ هُزُوًا , وَأَنْ يَتَكَلَّمَ الرَّجُلُ بِآيَاتِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ الْعُقُودُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْجِدِّ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ مُوجَبَاتِهَا الشَّرْعِيَّةَ . وَلِهَذَا يُنْهَى عَنْ الْهَزْلِ بِهَا , وَعَنْ التَّلْجِئَةِ , كَمَا يُنْهَى عَنْ التَّحْلِيلِ , وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِآيَاتِهِ طَلَّقْتُكِ رَاجَعْتُكِ طَلَّقْتُكِ رَاجَعْتُكِ } . فَعُلِمَ أَنَّ اللَّعِبَ بِهَا حَرَامٌ , وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ . وَمَعْنَى فَسَادِهِ عَدَمُ تَرَتُّبِ أَثَرِهِ الَّذِي يُرِيدُهُ الْمَنْهِيُّ , مِثْلُ نَهْيِهِ عَنْ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ الْمُحَرَّمِ , فَإِنَّ فَسَادَهُ عَدَمُ حُصُولِ الْمِلْكِ , وَالْهَازِلُ اللَّاعِبُ بِالْكَلَامِ غَرَضُهُ التَّفَكُّهُ وَالتَّلَهِّي وَالتَّمَضْمُضُ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ لُزُومِ حُكْمِهِ لَهُ , فَأَفْسَدَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ هَذَا

الْغَرَضَ بِأَنْ أَلْزَمَهُ الْحُكْمَ مَتَى تَكَلَّمَ بِهَا , فَلَمْ يَتَرَتَّبْ غَرَضُهُ مِنْ التَّلَهِّي بِهَا وَاللَّعِبِ وَالْخَوْضِ , بَلْ لَزِمَهُ النِّكَاحُ وَثَبَتَ فِي حَقِّهِ النِّكَاحُ وَمَتَى ثَبَتَ النِّكَاحُ فِي حَقِّهِ تَبِعَتْهُ أَحْكَامُهُ , وَالْمُحْتَالُ كَالْمُحَلِّلِ مِثْلُ غَرَضِهِ إعَادَةُ الْمَرْأَةِ إلَى الْأَوَّلِ فَيَجِبُ فَسَادُ هَذَا الْغَرَضِ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَحِلَّ عَوْدُهَا , وَإِنَّمَا لَا يَحِلُّ عَوْدُهَا إذَا كَانَ نِكَاحُهُ فَاسِدًا فَيَجِبُ إفْسَادُ نِكَاحِهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ اعْتِبَارَ الشَّارِعِ لِلْمَقَاصِدِ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ صِحَّةَ نِكَاحِ الْهَازِلِ وَفَسَادَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ . وَإِيضَاحُ هَذَا : أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ أَنْ تُتَّخَذَ آيَاتُهُ هُزُوًا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ النِّكَاحَ وَالْخُلْعَ وَالطَّلَاقَ , وَفَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ أَنْ يُلْعَبَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَيُسْتَهْزَأَ بِآيَاتِهِ فَيُقَالُ : طَلَّقْتُكِ , رَاجَعْتُكِ , خَلَعْتُكِ , رَاجَعْتُكِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِالْكَلَامِ الْحَقِّ الْمُعْتَبَرُ أَنْ يُقَالَ لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ , إمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ مَقْصُودٌ غَيْرُ حَقِيقَةٍ كَكَلَامِ الْمُنَافِقِ , أَوْ لَا يُقْصَدَ إلَّا مُجَرَّدُ ذِكْرِهِ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ , كَكَلَامِ السُّفَهَاءِ , وَكَلَامُ الْوَجْهَيْنِ حَرَامٌ وَهُوَ كَذِبٌ وَلَعِبٌ , فَيَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ هَذَا الْفَسَادِ . فَيُمْنَعُ الْأَوَّلُ مِنْ حُصُولِ مَقْصُودِهِ الْمُبَايِنِ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ , وَيَمْنَعُ الثَّانِي مِنْ حُصُولِ مَقْصُودِهِ الَّذِي هُوَ اللَّعِبُ . ثُمَّ إنْ كَانَ مَنْعُهُ مِنْ مَقْصُودِهِ بِإِبْطَالِ الْعَقْدِ مِنْ جَمِيعِ

الْوُجُوهِ , أَوْ مِنْ بَعْضِهَا , أَوْ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ شُرِعَ ذَلِكَ , وَالْمُحَلِّلُ إنَّمَا يُمْنَعُ الْمَقْصُودَ الْبَاطِلَ بِإِبْطَالِ الْعَقْدِ مُطْلَقًا , وَإِلَّا فَتَصْحِيحُ النِّكَاحِ مُسْتَلْزِمٌ لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ , وَلَمَّا لَحَظَ بَعْضُ أَهْلِ الرَّأْيِ هَذَا رَأَى أَنْ يُصَحِّحَ النِّكَاحَ وَيَمْنَعَ حُصُولَ الْحِلِّ , كَمَا يُوقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْمَرَضِ وَيُوجَبُ الْمِيرَاثُ . لَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ هُنَا , لِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُلْعَنَ إلَّا الْمُحَلَّلُ لَهُ فَقَطْ , إذَا كَانَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ صَحِيحًا مُفِيدًا لِلْحِلِّ لِنَفْسِهِ . وَلَكَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى تَيْسًا مُسْتَعَارًا ; لِأَنَّهُ زَوْجٌ مِنْ الْأَزْوَاجِ , غَيْرَ أَنَّ نِكَاحَهُ لَمْ يُفِدْ الْحِلَّ الْمُطْلَقَ كَالنِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ , ثُمَّ إنَّ مَادَّةَ الْفَسَادِ إنَّمَا تَنْحَسِمُ بِتَحْرِيمِ الْعَقْدَيْنِ مَعًا , وَالطَّلَاقُ لَا يَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ . وَلِهَذَا إذَا وَقَعَ مَعَ التَّحْرِيمِ وَقَعَ كَطَلَاقِ الْبِدْعَةِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ , فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ مَعَ التَّحْرِيمِ كَانَ فَاسِدًا كَالنِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ , فَلَمَّا مَنَعَ الشَّارِعُ مَقْصُودَ الْمُحَلِّلِ مَنَعَ أَيْضًا مَقْصُودَ الْهَازِلِ وَهُوَ اللَّعِبُ بِالْعُقُودِ مِنْ غَيْرِ اقْتِضَاءٍ لِأَحْكَامِهَا فَأَوْجَبَ أَحْكَامَهَا مَعَهَا , وَهَذَا كَلَامٌ مَتِينٌ إذَا تَأَمَّلَهُ اللَّبِيبُ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ وَجَدَ الشَّرِيعَةَ مُتَنَاسِبَةً , وَأَنَّ تَصْحِيحَ نِكَاحِ الْهَازِلِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ . وَكَذَلِكَ نِكَاحُ التَّلْجِئَةِ إذَا قِيلَ بِصِحَّتِهِ , فَإِنَّ

التَّلْجِئَةَ نَوْعٌ مِنْ الْحِيَلِ بِإِظْهَارِ صُورَةِ الْعَقْدِ لِسُمْعَةٍ , وَلَا يَلْتَزِمُونَ مُوجَبَهَا بِإِبْطَالِ هَذِهِ الْحِيَلِ , بِأَنْ يَلْتَزِمُوا مُوجَبَهُ حَتَّى لَا يَجْتَرِئَ أَحَدٌ أَنْ يَعْقِدَ الْعَقْدَ إلَّا عَلَى وَجْهٍ لِرَغْبَةٍ فِي مَقْصُودِهَا دُونَ الِاحْتِيَالِ بِهَا إلَى غَيْرِ مَقَاصِدِهَا . وَمِمَّا يُقَارِبُ هَذَا أَنَّ كَلِمَتَيْ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ إذَا قَصَدَ الْإِنْسَانُ بِهِمَا غَيْرَ حَقِيقَتِهِمَا صَحَّ كُفْرُهُ وَلَمْ يَصِحَّ إيمَانُهُ . فَإِنَّ الْمُنَافِقَ قَصَدَ بِالْإِيمَانِ مَصَالِحَ دُنْيَاهُ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ لِمَقْصُودِ الْكَلِمَةِ فَلَمْ يَصِحَّ إيمَانُهُ , وَالرَّجُلُ لَوْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِمَصَالِحِ دُنْيَاهُ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةِ اعْتِقَادٍ صَحَّ كُفْرُهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ مُعْتَقِدًا لِحَقِيقَتِهَا , وَأَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ أَوْ الْكَذِبِ جَادًّا وَلَا هَازِلًا , فَإِذَا تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ أَوْ الْكَذِبِ جَادًّا , أَوْ هَازِلًا كَانَ كَافِرًا , أَوْ كَاذِبًا حَقِيقَةً ; لِأَنَّ الْهَزْلَ بِهَذَا الْكَلِمَاتِ غَيْرُ مُبَاحٍ , فَيَكُونُ وَصْفُ الْهَزْلِ مُهْدَرًا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ ; لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ فَتَبْقَى الْكَلِمَةُ مُوجِبَةً لِمُقْتَضَاهَا . وَنَظِيرُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ قَصْدَ اللَّفْظِ بِالْعُقُودِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ , بِحَيْثُ لَوْ جَرَى اللَّفْظُ فِي حَالِ نَوْمٍ , أَوْ جُنُونٍ , أَوْ سَبْقِ اللِّسَانِ بِغَيْرِ مَا أَرَادَهُ الْقَلْبُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ , ثُمَّ إنَّ أَكْثَرَهُمْ صَحَّحُوا عُقُودَ السَّكْرَانِ مَعَ

عَدَمِ قَصْدِهِ اللَّفْظَ قَالُوا : لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ أَنْ يُزِيلَ عَقْلَهُ كَانَ فِي حُكْمِ مَنْ بَقِيَ عَقْلُهُ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْهَازِلِ وَالْمُخَادِعِ لَمَّا أَخْرَجَا الْعَقْدَ عَنْ حَقِيقَتِهِ . فَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُمَا مِنْهُ مَقْصُودَ الشَّارِعِ عُوقِبَا بِنَقِيضِ قَصْدِهِمَا . وَمَقْصُودُ الْهَازِلِ نَفْيُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ فَيَثْبُتُ . وَمَقْصُودُ الْمُحَلِّلِ ثُبُوتُ الْحِلِّ لِلْمُطَلِّقِ , وَثُبُوتُ الْحِلِّ لَهُ لِيَكُونَ وَسِيلَةً فَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ . وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ بِعَكْسِ السُّنَّةِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَصَحَّحَ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ دُونَ نِكَاحِ الْهَازِلِ , نَظَرًا إلَى أَنَّ الْهَازِلَ لَمْ يَقْصِدْ مُوجَبَ الْعَقْدِ , فَصَارَ كَلَامُهُ لَغْوًا وَالْمُحَلِّلُ قَصَدَ مُوجَبَهُ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إلَى غَرَضٍ آخَرَ . وَهَذَا مُخَيَّلٌ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ , لَكِنْ يَصُدُّ عَنْ اعْتِبَارِهِ مُخَالَفَتُهُ لِلسُّنَّةِ , وَبَعْدَ إمْعَانِ النَّظَرِ يَتَبَيَّنُ فَسَادُهُ نَظَرًا كَمَا تَبَيَّنَ أَثَرًا , فَإِنَّ التَّكَلُّمَ بِالْعَقْدِ مَعَ عَدَمِ قَصْدِهِ مُحَرَّمٌ , فَإِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فَقَدْ أُعِينَ عَلَى التَّحْرِيمِ الْمُحَرَّمِ , فَيَجِبُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ إفْسَادٌ لِهَذَا الْهَزْلِ الْمُحَرَّمِ وَإِبْطَالُ اللَّعِبِ يَجْعَلُ الْهَزْلَ بِآيَاتِ اللَّهِ جِدًّا , كَمَا جُعِلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِاَللَّهِ وَبِآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ , وَقَصْدُ الْمُحَلِّلِ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِقَصْدِ الشَّارِعِ , فَإِنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ الرَّدَّ إلَى الْأَوَّلِ , وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْهُ

الشَّارِعُ , فَقَدْ قَصَدَ مَا لَمْ يَقْصِدْهُ الشَّارِعُ , وَلَمْ يَقْصِدْ مَا قَصَدَهُ , فَيَجِبُ إبْطَالُ قَصْدِهِ بِإِبْطَالِ وَسِيلَتِهِ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الشَّوَاهِدِ أَنَّ الْمَقَاصِدَ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِنْ الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا , فَإِنَّ هَذَا يَجْتَثُّ قَاعِدَةَ الْحِيَلِ ; لِأَنَّ الْمُحْتَالَ هُوَ الَّذِي لَا يَقْصِدُ بِالتَّصَرُّفِ مَقْصُودَهَا الَّذِي جُعِلَ لِأَجْلِهِ , بَلْ يَقْصِدُ بِهِ إمَّا اسْتِحْلَالَ مُحَرَّمٍ , أَوْ إسْقَاطَ وَاجِبٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ , مِثْلُ الْمُحَلِّلِ الَّذِي لَا يَقْصِدُ مَقْصُودَ النِّكَاحِ مِنْ الْأُلْفَةِ وَالسَّكَنِ الَّتِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ , وَإِنَّمَا يَقْصِدُ نَقِيضَ النِّكَاحِ وَهُوَ الطَّلَاقُ لِتَعُودَ إلَى الْأَوَّلِ . وَكَذَلِكَ الْمُعِينُ لَا يَقْصِدُ مَقْصُودَ الْبَيْعِ مِنْ نَقْلِ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي , وَإِنَّمَا يَقْصِدُ أَنْ يُعْطِيَ أَلْفًا حَالَّةً بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ مُؤَجَّلَةً . وَكَذَلِكَ الْمُخَالِعُ خُلْعَ الْيَمِينِ لَا يَقْصِدُ مَقْصُودَ الْخُلْعِ مِنْ الْفُرْقَةِ وَالْبَيْنُونَةِ , وَإِنَّمَا يَقْصِدُ حِلَّ يَمِينِهِ بِدُونِ الْحِنْثِ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا مَقْصُودَ الْخُلْعِ وَهَذَا بَيِّنٌ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ . وَهَذَا يُوجِبُ فَسَادَ الْحِيَلِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِتِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ مُوجَبَاتِهَا الشَّرْعِيَّةَ , بَلْ قَصَدَ خِلَافَهَا وَنَقِيضَهَا . الثَّانِي : أَنَّهُ قَصَدَ بِهَا إسْقَاطَ وَاجِبٍ وَاسْتِحْلَالَ مُحَرَّمٍ دُونَ سَبَبِهِ الشَّرْعِيِّ . لَكِنْ مِنْ التَّصَرُّفِ مَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ كَالْعُقُودِ الَّتِي قَدْ

تَوَاطَأَ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَيْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَمِنْهُ مَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ فَيَبْطُلُ الْحُكْمُ الَّذِي اُحْتِيلَ عَلَيْهِ , مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ النِّصَابَ فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ , أَوْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ فِرَارًا مِنْ الْإِرْثِ , فَإِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي . وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَاقِعٌ لَكِنْ تَجِبُ الزَّكَاةُ وَيَثْبُتُ الْإِرْثُ إبْطَالًا لِلتَّصَرُّفِ فِي هَذَا الْحُكْمِ , وَإِنْ صَحَّ فِي حُكْمٍ آخَرَ . كَمَا أَنَّ صَيْدَ الْحَلَالِ لِلْمُحْرِمِ وَذَبْحَهُ يَجْعَلُ اللَّحْمَ ذَكِيًّا فِي حَقِّ الْحَلَالِ مَيِّتًا فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ , وَكَمَا أَنَّ بَيْعَ الْمَعِيبِ وَالْمُدَلَّسِ إذَا صَدَرَ مِمَّنْ يَعْلَمُ بِذَلِكَ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ كَانَ حَرَامًا فِي حَقِّ الْبَائِعِ حَلَالًا فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي . وَكَذَلِكَ رِشْوَةُ الْعَامِلِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ وَمِنْ هَذَا إعْطَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ فَيُعْطِيهِ الْعَطِيَّةَ يَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَا نَارًا تَأْلِيفًا لِقَلْبِهِ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . وَاعْلَمْ أَنَّا إنَّمَا ذَكَرْنَا هُنَا اعْتِقَادَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْعَزْمُ وَالْإِرَادَةُ . فَأَمَّا اعْتِقَادُ الْحُكْمِ بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْفِعْلَ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ فَتَأْثِيرُ هَذَا فِي الْحُكْمِ فِي الْجُمْلَةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ , فَإِنَّ مَنْ وَطِئَ فَرْجًا يَعْتَقِدُهُ حَلَالًا لَهُ , وَلَيْسَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ حَلَالًا , مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً اشْتَرَاهَا , أَوْ اتَّهَبَهَا , أَوْ وَرِثَهَا , ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا غَصْبٌ

, أَوْ حُرَّةٌ , أَوْ يَتَزَوَّجُهَا تَزَوُّجًا فَاسِدًا لَا يَعْلَمُ فَسَادَهُ , إمَّا بِأَنْ لَا يَعْلَمَ السَّبَبَ الْمُفْسِدَ , مِثْلُ أَنْ تَكُونَ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَمْ يَعْلَمْ , أَوْ عَلِمَ السَّبَبَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُفْسِدٌ لِجَهْلٍ كَمَنْ يَتَزَوَّجُ الْمُعْتَدَّةَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ جَائِزٌ , أَوْ لِتَأْوِيلٍ , كَمَنْ يَتَزَوَّجُ بِلَا وَلِيٍّ , أَوْ وَهُوَ مُحْرِمٌ , فَإِنَّ حُكْمَ هَذَا الْوَطْءِ حُكْمُ الْحَلَالِ فِي دَرْءِ الْحَدِّ وَلُحُوقِ النَّسَبِ وَحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَفِي ثُبُوتِ الْمُصَاهَرَةِ وَالْعِدَّةِ بِالِاتِّفَاقِ , وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ , أَوْ سُرِّيَّتُهُ وَلَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ , وَكَذَلِكَ لِهَذَا الِاعْتِقَادِ تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِ ضَمَانِ الدَّمِ وَالْمَالِ عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ فِيمَا أَتْلَفَهُ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ حَالَ الْقِتَالِ , وَكَذَلِكَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَسُقُوطِ الْعَزْمِ فِيمَا مَلَكَهُ الْكُفَّارُ وَأَتْلَفُوهُ , ثُمَّ أَسْلَمُوا فَإِنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوهُ وِفَاقًا وَلَا يُسْلَبُونَ مَا مَلَكُوهُ عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ فِي دِيَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَغَيْرِهَا , وَلَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْأَقْوَالِ فِيمَا إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَبَانَ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ لَكِنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ لَيْسَ هُوَ الَّذِي قَصَدْنَا الْكَلَامَ فِيهِ هُنَا وَإِنْ كَانَ يُقَوِّي مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْجُمْلَةِ .

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُدُوثِ الْفَتْوَى بِهَذِهِ الْحِيَلِ , وَكَوْنِهَا بِدْعَةً أَمْرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ أَدْنَى مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِآثَارِ السَّلَفِ وَأَيَّامِ الْإِسْلَامِ وَتَرْتِيبِ طَبَقَاتِ الْمُفْتِينَ وَالْحُكَّامِ وَيُسْتَبَانُ ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ . مِنْهَا : أَنَّ الْكُتُبَ الْمُصَنَّفَةَ فِي أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ , وَقَضَايَاهُمْ لَيْسَ فِيهَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانُوا يُفْتُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ غَيْرُهُ , وَاَلَّذِينَ صَنَّفُوا فِي الْحِيَلِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ حَرَصُوا عَلَى أَثَرٍ يَقْتَدُونَ بِهِ فِي ذَلِكَ , فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ التَّعْرِيضِ وَاللَّحْنِ , وَقَوْلُهُمْ إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ , وَالْكَلَامُ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يُكْذَبَ ظَرِيفٌ , وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْحِيَلِ الَّتِي قُلْنَا إنَّهَا مُحْدَثَةٌ وَلَا مِنْ جِنْسِهَا , فَإِنَّ الْمَعَارِيضَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالتَّأْوِيلِ فِي الْكَلَامِ , وَفِي الْحَلِفِ لِلْمَظْلُومِ بِأَنْ يَنْوِيَ بِكَلَامِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ , وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ , كَمَا فَعَلَ الْخَلِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَمَا فَعَلَ الصَّحَابِيُّ الَّذِي حَلَفَ أَنَّهُ أَخُوهُ وَعَنَى أَخُوهُ فِي الدِّينِ , وَكَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رَجُلٌ يَهْدِينِي السَّبِيلَ " . وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْكَافِرِ الَّذِي سَأَلَهُ مِمَّنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ : { نَحْنُ مِنْ مَاءٍ }

إلَى غَيْرِ ذَلِكَ أَمْرٌ جَائِزٌ . وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْأَمْرِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ بِسَبِيلٍ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ كَتَمَ عَنْ الْمُخَاطَبِ مَا أَرَادَ مَعْرِفَتَهُ , أَوْ فَهَّمَهُ خِلَافَ مَا فِي نَفْسِهِ مَعَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا عَنَاهُ وَالْمُخَاطَبُ ظَالِمٌ فِي تَعَرُّفِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِحَيْثُ يَكُونُ جَهْلُهُ بِهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِهِ , وَهَذَا فِعْلُ خَيْرٍ وَمَعْرُوفٍ مَعَ نَفْسِهِ , وَمَعَ الْمُخَاطَبِ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ عَقِيبَ هَذَا الْوَجْهِ وَاَلَّذِي يَلِي هَذَا ذِكْرُ أَقْسَامِ الْحِيَلِ , وَأَنَّ هَذَا الضَّرْبَ الْمَأْثُورَ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الْمَعَارِيضِ جَائِزٌ , وَأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَ الْحِيَلِ الَّتِي تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا الَّتِي مَضْمُونُهَا الِاحْتِيَالُ عَلَى مُحَرَّمٍ , إمَّا بِسَبَبٍ لَا يُبَاحُ بِهِ قَطُّ , أَوْ يُبَاحُ بِهِ إذَا قُصِدَ بِذَلِكَ السَّبَبِ مَقْصُودُهُ الْأَصْلِيُّ وَكَانَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ , أَوْ الِاحْتِيَالُ عَلَى مُبَاحٍ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ أَوْ الِاحْتِيَالُ عَلَى مُحَرَّمٍ بِحَرَامٍ , وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْأُصُولَ , فَهَذِهِ الْحِيَلُ الَّتِي قُلْنَا لَمْ يَكُنْ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يُفْتِي بِهَا , أَوْ يَعْلَمُهَا بَلْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْهَا . وَأَمَّا تَعْرِيفُ الطَّرِيقِ الَّذِي يَنَالُ بِهِ الْحَلَالُ , وَالِاحْتِيَالُ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ الْمَأْثَمِ بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ يَقْصِدُ بِهِ مَا شُرِعَ لَهُ , فَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانُوا يُفْتُونَ بِهِ وَهُوَ مِنْ الدُّعَاءِ إلَى الْخَيْرِ , وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلَالٍ : { بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ

ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا } . وَكَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : " إنَّ أَوْرَاقَنَا تُزَيَّفُ عَلَيْنَا أَفَنَزِيدُ عَلَيْهَا وَنَأْخُذُ مَا هُوَ أَجْوَدُ مِنْهَا قَالَ : لَا , وَلَكِنْ ائْتِ النَّقِيعَ فَاشْتَرِي بِهَا سِلْعَةً , ثُمَّ بِعْهَا بِمَا شِئْت . وَكَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إذَا كَانَ لِأَحَدِكُمْ دَرَاهِمُ لَا تُنْفَقُ فَلْيَبْتَعْ بِهَا ذَهَبًا وَلْيَبْتَعْ بِهِ مَا شَاءَ " رَوَاهُمَا سَعِيدٌ . فَهَذَا يَبِيعُ بَيْعًا بَتَاتًا مَقْصُودًا , وَيَسْتَوْفِي الثَّمَنَ , ثُمَّ يَشْتَرِي بِهِ مَا أَحَبَّ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي , فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُمْ كَرِهُوهُ حَيْثُ يَكُونُ فِي مَظِنَّةِ أَنْ يَبْتَاعَ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ , وَرَخَّصَ فِيهِ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ , قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ : كَانَ يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْ الرَّجُلِ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ , ثُمَّ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِالدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ , وَالْبَيْعُ طَرِيقٌ مَشْرُوعٌ لِحُصُولِ الْمِلْكِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِلْبَائِعِ فِيهِ عَلَاقَةٌ فَإِذَا سَلَكَ وَقَصَدَ بِهِ ذَلِكَ , فَهَذَا جَائِزٌ , وَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ , وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ إيضَاحُ ذَلِكَ .

فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا مَلَّكَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ شَيْئًا لِيَقِفَهُ عَلَيْهِ , ثُمَّ عَلَى جِهَةٍ مُتَّصِلَةٍ مِنْ بَعْدِهِ فَمَا حُكْمُ هَذَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ , وَكَيْفَ حُكِمَ عَلَى مَنْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ هَذَا الْوَقْفِ ؟ قِيلَ : هَذَا التَّمْلِيكُ وَالشَّرْطُ يَضْمَنُ شَيْئَيْنِ . أَحَدُهُمَا : لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَهُوَ انْتِقَالُ الْمِلْكِ إلَى الْمَالِكِ . وَالثَّانِي : الْإِذْنُ لَهُ فِي الْوَقْفِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَمُوَافَقَتُهُ عَلَيْهِ . وَهَذَا فِي الْمَعْنَى تَوْكِيلٌ لَهُ فِي الْوَقْفِ : فَحُكْمُ هَذَا الْمِلْكِ قَبْلَ التَّمْلِيكِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُمَلَّكُ . وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ وَقْفِهِ لَمْ يَحِلَّ لِوَرَثَتِهِ أَخْذُهُ . وَلَوْ أَخَذَهُ وَلَمْ يَقِفْهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَمْ يَرُدَّهُ إلَيْهِ كَانَ ظَالِمًا عَاصِيًا . وَلَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ صَاحِبُهُ بَعْدَ هَذَا التَّمْلِيكِ لَكَانَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ نَافِذًا لِنُفُوذِهِ قَبْلَ التَّمْلِيكِ - وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ , وَكَذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ إنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِمَا تَوَاطَآ عَلَيْهِ , أَوْ اعْتَرَفَ لَهُ الْمُمَلَّكُ بِذَلِكَ , أَوْ كَانَتْ دَلَالَةُ الْحَالِ تَقْتَضِي ذَلِكَ . لَكِنَّ الْمَالِكَ قَدْ أَذِنَ لِهَذَا فِي أَنْ يَقِفَهُ وَهُوَ رَاضٍ بِذَلِكَ , وَهَذَا الْإِذْنُ وَالتَّوْكِيلُ , وَإِنْ كَانَ قَدْ حَصَلَ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَإِنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِفَسَادِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ فَسَدَتْ الشَّرِكَةُ , أَوْ الْمُضَارَبَةُ , فَإِنَّ تَصَرُّفَ الشَّرِيكِ وَالْعَامِلِ صَحِيحٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ مَعَ الْإِذْنِ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ , بَلْ الْإِذْنُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْهِبَةِ الْبَاطِلَةِ أَوْلَى مِنْ

وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا قَدْ اتَّفَقَا قَبْلَ الْعَقْدِ عَلَى أَنْ يَقِفَهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَتَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْهِبَةَ لَيْسَتْ هِبَةً بَتَاتًا بَلْ هِيَ مِثْلُ هَذِهِ التَّلْجِئَةِ فَيَكُونُ الِاتِّفَاقُ لِلْأَوَّلِ إذْنًا صَحِيحًا , وَرَدُّهُ بَعْدَهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ , وَكَانَ مَثَلُ هَذَا مِثْلَ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بَيْعِ تَلْجِئَةٍ , أَوْ هِبَةِ تَلْجِئَةٍ , وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فِي الْمَبِيعِ وَالْمَوْهُوبِ كَذَا وَكَذَا , فَإِنَّ جَمِيعَ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَأْذُونِ فِيهَا تَقَعُ صَحِيحَةً ; لِأَنَّهَا وَكَالَةٌ صَحِيحَةٌ فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَرِدْ بَعْدَهَا مَا يُنَاقِضُهَا فِي الْحَقِيقَةِ . الثَّانِي : أَنَّا إنَّمَا أَبْطَلْنَا هَذَا الْعَقْدَ لِكَوْنِهِ قَدْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُوهَبِ لَهُ أَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ إلَّا بِالْوَقْفِ الَّذِي هُوَ فِي الظَّاهِرِ وَاهِبٌ , وَالتَّصَرُّفُ فِي الْعَيْنِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمِلْكِ , بَلْ يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ وَبِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ , فَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ الْمِلْكِ بُطْلَانُ الْإِذْنِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الشَّرْطُ ; لِأَنَّ الْإِذْنَ مُسْتَنَدُ غَيْرُ الْمِلْكِ وَلَا يُقَالُ : لَمَّا بَطَلَ الْمِلْكُ بَطَلَ التَّصَرُّفُ الَّذِي هُوَ مِنْ تَوَابِعِهِ التَّصَرُّفُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ , وَلَيْسَ هُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ مَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ مِلْكٌ لِلثَّانِي وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ مِلْكًا لِلثَّانِي , بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْأَوَّلِ , وَإِذَا كَانَ مِنْ تَوَابِعِ مَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْأَوَّلِ , وَفِي الظَّاهِرِ مِلْكٌ لِلثَّانِي فَبُطْلَانُ هَذَا

الثَّانِي لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْمِلْكِ الْحَقِيقِيِّ , وَلَا بُطْلَانَ تَوَابِعِهِ . يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الْحِيَلَ الَّتِي اُسْتُحِلَّتْ بِأَسْمَاءٍ بَاطِلَةٍ يَجِبُ أَنْ تُسْلَبَ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ الْمَنْحُولَةَ وَتُعْطَى الْأَسْمَاءَ الْحَقِيقِيَّةَ كَمَا يُسْلَبُ مِنْهَا مَا يُسَمَّى بَيْعًا , أَوْ نِكَاحًا , أَوْ هَدِيَّةً وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ تُسَمَّى رِبًا وَسِفَاحًا وَرِشْوَةً , فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْهِبَةُ تُسْلَبُ اسْمَ الْهِبَةِ وَتُسَمَّى تَوْكِيلًا , وَإِذْنًا , فَإِنَّ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى لَفْظٍ مَخْصُوصٍ بَلْ بِكُلِّ قَوْلٍ دَلَّ عَلَى الْإِذْنِ فِي التَّصَرُّفِ فَهُوَ وَكَالَةٌ . وَهَذِهِ الْمُوَاطَأَةُ عَلَى هَذِهِ الْهِبَةِ لَا رَيْبَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ فِي هَذَا الْوَقْفِ فَتَكُونُ وَكَالَةً , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ اعْتَقَدَ صِحَّةَ وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا بَيَّنَّا مَأْخَذَهُ , وَاعْتَقَدَ صِحَّةَ هَذَا الْوَقْفِ , كَانَ هَذَا الْوَقْفُ لَازِمًا إذَا وَقَفَهُ ذَلِكَ الْمَالِكُ الْمُوَكَّلُ كَلُزُومِهِ لَوْ وَقَفَهُ الْمَالِكُ نَفْسُهُ , أَوْ وَكِيلٌ مَحْضٌ , وَيَنْبَنِي , عَلَى ذَلِكَ سَائِرُ أَحْكَامِ الْوَقْفِ الصَّحِيحِ مِنْ حِلِّ التَّنَاوُلِ مِنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمَنْ اعْتَقَدَ وَقْفَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بَاطِلًا كَانَ هَذَا وَقْفًا مُنْقَطِعَ الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِهِ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَالْوَقْفُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا , ثُمَّ عَلَى غَيْرِهِ وَالْوَقْفُ جَائِزٌ عَلَيْهِ , وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فَقِيلَ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ بِخِلَافِ الْمُنْقَطِعِ الِانْتِهَاءِ ; لِأَنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ تَبَعٌ لِلْأُولَى فَإِذَا

لَمْ تَصِحَّ الْأُولَى فَمَا بَعْدَهَا أَوْلَى , وَلِأَنَّ الْوَاقِفَ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَصِيرَ لِلثَّانِيَةِ إلَّا بَعْدَ الْأُولَى وَمَا رَضِيَ بِهِ لَمْ يَرْضَ بِهِ الشَّارِعُ فَاَلَّذِي رَضِيَهُ الشَّارِعُ لَمْ يَرْضَهُ وَاَلَّذِي رَضِيَهُ لَمْ يَرْضَهُ الشَّارِعُ , وَلَا بُدَّ فِي صِحَّةِ التَّصَرُّفِ مِنْ رِضَى الْمُتَصَرِّفِ وَمُوَافَقَةِ الشَّرْعِ , فَعَلَى هَذَا هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ , فَإِذَا مَاتَ انْبَنَى عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ هَذَا وَقْفٌ بَعْدَ مَوْتِي صَحَّ , أَوْ هُوَ كَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ . فَإِنْ قِيلَ : هُوَ كَالْمُعَلَّقِ بِشَرْطٍ . فَلَا كَلَامَ . وَإِنْ قِيلَ بِصِحَّتِهِ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ بِصِحَّةِ هَذَا الْوَقْفِ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ الثُّلُثِ , وَأَنَّهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى حَرْبِيٍّ , أَوْ مُرْتَدٍّ وَبَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى مَنْ يَصِحُّ لِأَنَّهُ إذَا وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى جِهَةٍ مُتَّصِلَةٍ أَمْكَنَ أَنْ يُلْغَى قَوْلُهُ " عَلَى نَفْسِي " وَيُجْعَلَ كَأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى كَذَا وَهَذَا يُصَحِّحُهُ مَنْ لَا يُصَحِّحُ الْوَقْفَ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ إلْحَاقًا لِلْوَقْفِ بِالْوَصِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعَطَايَا , وَالْعَطِيَّةُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِشَرْطٍ , وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا فِي الْوَصَايَا إلْحَاقًا بِالْمِيرَاثِ , وَقِيلَ إنَّ هَذَا الْوَقْفَ الْمُنْقَطِعَ الِابْتِدَاءٍ صَحِيحٌ , ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي الْحَالِ مَصْرِفَ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ الِابْتِدَاءِ فَإِذَا مَاتَ هَذَا الْوَاقِفُ صُرِفَ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ الْبَاطِلَةِ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي الْحَالِ فَإِذَا مَاتَ الْوَاقِفُ صُرِفَ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ الصَّحِيحَةِ جَعْلًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ - وَكَذَلِكَ جُعِلَ فِي تَعْلِيقِ الْوَاقِفِ بِالشَّرْطِ وَجْهَانِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ شِبْهِ الْعِتْقِ وَالتَّحْرِيرِ وَبَيْنَ شِبْهِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ أَقَرَّ مَنْ فِي يَدِهِ عَقَارٌ أَنَّهُ وَقْفٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ , ثُمَّ عَلَى جِهَةٍ مُتَّصِلَةٍ وَكَانَ قَدْ جَعَلَ هَذَا حِيلَةً لِوَقْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَفَهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَمَا حُكْمُ ذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ وَحُكْمُ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ؟ قِيلَ : هَذَا أَيْضًا إنَّمَا قَصَدَ إنْشَاءَ الْوَقْفِ فَيَكُونُ كَمَنْ أَقَرَّ بِطَلَاقٍ , أَوْ عَتَاقٍ يَنْوِي بِهِ الْإِنْشَاءَ ; لِأَنَّ الْوَقْفَ يَنْعَقِدُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ وَبِاللَّفْظِ الْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ وَيَصِحُّ أَيْضًا بِالْفِعْلِ مَعَ النِّيَّةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ , فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ هُوَ الْوَقْفَ عَلَى نَفْسِهِ وَتَكَلَّمَ بِقَوْلِهِ هَذَا وَقْفٌ عَلَيَّ , ثُمَّ عَلَى كَذَا وَكَذَا وَمَيَّزَهُ بِالْفِعْلِ عَنْ مِلْكِهِ صَارَ كَمَا لَوْ قَالَ وَقَفْته عَلَى نَفْسِي , ثُمَّ عَلَى كَذَا وَكَذَا ; لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِتَابَةً فِي الْإِنْشَاءِ , يَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْإِخْبَارَ فَإِذَا قَصَدَ بِهِ دُيِّنَ . بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ إقْرَارًا مَحْضًا وَهُوَ يَعْلَمُ كَذِبَ نَفْسِهِ فِيهِ كَانَ وُجُودُ هَذَا الْإِقْرَارِ كَعَدَمِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ : فَفُرِّقَ بَيْنَ إقْرَارٍ قَصَدَ بِهِ الْإِخْبَارَ عَمَّا مَضَى . وَإِقْرَارٍ قَصَدَ بِهِ

الْإِنْشَاءَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاضِ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ صِيَغَ الْعُقُودِ قَدْ قِيلَ : هِيَ إنْشَاءَاتٌ . وَقِيلَ : إخْبَارَاتٌ - وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ إخْبَارٌ عَنْ الْمَعَانِي الَّتِي فِي الْقَلْبِ وَتِلْكَ الْمَعَانِي أُنْشِئَتْ فَاللَّفْظُ خَبَرٌ وَالْمَعْنَى إنْشَاءٌ إنَّمَا يَتِمُّ حُكْمُهُ بِاللَّفْظِ , فَإِذَا أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْمَكَانَ وَقْفٌ عَلَيْهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَقِفْهُ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ كَاذِبٌ فِي هَذَا , وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ أَنْ يَصِيرَ هُوَ وَاقِفًا لَهُ فَقَدْ أَجْمَعَ لَفْظَ الْإِخْبَارِ , وَإِرَادَتَهُ الْوَقْفَ . فَلَوْ كَانَ أَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الْإِرَادَةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ رَيْبٌ أَنَّهُ إنْشَاءُ وَقْفٍ , لَكِنْ لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ إخْبَارًا عَنْ غَيْرِ مَا عَنَاهُ وَاَلَّذِي عَنَاهُ لَمْ يَلْفِظْ بِهِ صَارَتْ الْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةً , لَكِنَّ هَذِهِ النِّيَّةَ مَعَ هَذَا اللَّفْظِ وَنَحْوِهِ وَمَعَ الْفِعْلِ الَّذِي لَوْ تَجَرَّدَ عَنْ لَفْظٍ لَكَانَ مَعَ النِّيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْوَقْفِ يُوجِبُ جَعْلَ هَذَا وَقْفًا , وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْبَنِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا - , وَإِذَا كَانَ هَذَا إنْشَاءٌ لِلْوَقْفِ فَحُكْمُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ مَثَلًا بُطْلَانَ وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ , وَبُطْلَانَ اسْتِثْنَاءِ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ . فَالْوَاجِبُ مَعَ هَذَا الِاعْتِقَادِ إمَّا الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا , أَوْ الْوَصِيَّةُ بِالْوَقْفِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِيمَا يَسُوغُ الْوَصِيَّةُ فِيهِ وَالْإِمْسَاكُ عَمَّا زَادَ , أَوْ

تَرْكُ الْوَقْفِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ اعْتَقَدَ اعْتِقَادًا يَرَى أَنَّهُ لَا يَسُوغُ لَهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِمُوجَبِهِ كَالْأُمُورِ الَّتِي لَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهَا مِنْ الرِّبَا وَالسِّفَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِلُّ مَحَارِمَهُ بِأَدْنَى الْحِيَلِ وَلَا يَتَوَهَّمُ الْإِنْسَانُ أَنَّ فِي الْإِمْسَاكِ عَنْ الْمُحَرَّمِ ضِيقًا , أَوْ ضَرَرًا , أَوْ فِي فِعْلِ الْوَاجِبِ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وَلَا بُدَّ أَنْ يُبْتَلَى الْمَرْءُ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ تَارَةً يَتْرُكُ مَا يَهْوَى وَتَارَةً يَفْعَلُ مَا يَكْرَهُ , كَمَا يُبْتَلَى فِي الْحَوَادِثِ الْمُقَدَّرَةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ , وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } . وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ آمَنَّا

بِاَللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } الْآيَاتِ وَمِنْ هُنَا يَنْشَأُ .

أَقْسَامُ الْحِيَلِ فَنَقُولُ هِيَ أَقْسَامٌ : أَحَدُهَا : الطُّرُقُ الْخَفِيَّةُ الَّتِي يَتَوَسَّلُ بِهَا إلَى مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا تَحِلُّ بِمِثْلِ ذَلِكَ السَّبَبِ بِحَالٍ فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا حَرَامًا فِي نَفْسِهِ فَهِيَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَصَاحِبُهَا يُسَمَّى دَاهِيَةً وَمَكَّارًا وَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الْحِيَلِ عَلَى هَلَاكِ النُّفُوسِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَحِيَلِ الشَّيْطَانِ عَلَى إغْوَاءِ بَنِي آدَمَ وَحِيَلِ الْمُخَادِعِينَ بِالْبَاطِلِ عَلَى إدْحَاضِ حَقٍّ , وَإِظْهَارِ بَاطِلٍ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالْخُصُومَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ , وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ فَالتَّوَسُّلُ إلَيْهِ بِالطُّرُقِ الظَّاهِرَةِ مُحَرَّمٌ فَكَيْفَ بِالطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . ثُمَّ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ مَا يُقْصَدُ بِهَا حُصُولُ الْمَقْصُودِ , وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ كَحِيَلِ اللُّصُوصِ وَلَا مَدْخَلَ لِهَذَا فِي الْفِقْهِ . وَمِنْهَا مَا يُقْصَدُ بِهِ مَعَ ذَلِكَ إظْهَارُ الْحِيَلِ فِي الظَّاهِرِ وَهَذِهِ الْحِيَلُ لَا يُظْهِرُ صَاحِبُهَا أَنَّ مَقْصُودَهُ بِهَا شَرٌّ وَقَدْ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَى ذَلِكَ غَالِبًا فَفِي مِثْلِ هَذَا قَدْ تُسَدُّ الذَّرَائِعُ إلَى تِلْكَ الْمَقَاصِدِ الْخَبِيثَةِ وَمِثَالُ هَذَا إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثٍ لَا شَيْءَ لَهُ عِنْدَهُ , فَيَجْعَلُهُ حِيلَةً إلَى الْوَسِيلَةِ لَهُ وَهَذَا مُحَرَّمٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَتَعْلِيمُهُ هَذَا الْإِقْرَارَ حَرَامٌ وَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَذِبِهِ حَرَامٌ وَالْحُكْمُ بِصِحَّتِهِ مَعَ

الْعِلْمِ بِبُطْلَانِهِ حَرَامٌ فَإِنَّ هَذَا كَاذِبٌ غَرَضُهُ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ , فَالْحِيلَةُ نَفْسُهَا مُحَرَّمَةٌ وَالْمَقْصُودُ بِهَا مُحَرَّمٌ , لَكِنْ لَمَّا أَمِنَ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إقْرَارِ الْمَرِيضِ لِوَارِثٍ : هَلْ هُوَ بَاطِلٌ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ وَرَدًّا لِإِقْرَارِ الَّذِي صَادَفَ حَقَّ الْمُوَرَّثِ فِيمَا هُوَ مُتَّهَمٌ فِيهِ , لِأَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُمْ فَتَرِدُ التُّهْمَةُ كَالشَّاهِدِ عَلَى غَيْرِهِ , أَوْ هُوَ مَقْبُولٌ إحْسَانًا لِلظَّنِّ بِالْمُقِرِّ عِنْدَ الْخَاتِمَةِ . ؟ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ احْتِيَالُ الْمَرْأَةِ عَلَى فَسْخِ نِكَاحِ الزَّوْجِ مَعَ إمْسَاكِهِ بِالْمَعْرُوفِ بِإِنْكَارِهَا لِلْإِذْنِ لِلْوَلِيِّ , أَوْ بِإِسَاءَةِ عِشْرَتِهِ بِمَنْعِ بَعْضِ حُقُوقِهِ أَوْ فِعْلِ مَا يُؤْذِيهِ , أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , وَاحْتِيَالُ الْبَائِعِ عَلَى فَسْخِ الْبَيْعِ بِدَعْوَاهُ أَنَّهُ كَانَ مَحْجُوزًا عَلَيْهِ , أَوْ احْتِيَالُ الْمُشْتَرِي بِدَعْوَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَ الْمَبِيعَ , وَاحْتِيَالُ الْمَرْأَةِ عَلَى مُطَالَبَةِ الرَّجُلِ بِمَالٍ بِإِنْكَارِهَا الْإِنْفَاقَ أَوْ إعْطَاءَ الصَّدَاقِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ فَهَذَا لَا يَسْتَرِيبُ أَحَدٌ فِي أَنَّ هَذَا مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَمِنْ أَقْبَحِ الْمُحَرَّمَاتِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ لَحْمِ خِنْزِيرٍ مَيِّتٍ حَرَامٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا مُحَرَّمَةٌ , لِأَنَّهَا كَذِبٌ عَلَى مُسْلِمٍ , أَوْ فِعْلُ مَعْصِيَةٍ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تُرْسِلُ بِهَا إلَى إبْطَالِ حَقٍّ ثَابِتٍ , أَوْ إثْبَاتِ بَاطِلٍ . وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَا هُوَ مِنْ نَفْسِهِ مُبَاحٌ

لَكِنْ بِقَصْدِ الْمُحَرَّمِ صَارَ حَرَامًا كَالسَّفَرِ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ مُشْتَمِلًا عَلَى قِسْمَيْنِ .
وَأَمَّا بَيَانُ الْوَجْهِ الثَّانِي فَإِنَّ الْمُحَلِّلَ إنَّمَا يَقْصِدُ أَنْ يَنْكِحَهَا لِيُطَلِّقَهَا وَكَذَلِكَ الْمُخْتَلِعَةُ إنَّمَا تَخْتَلِعُ , لِأَنَّ تَرَاجُعَ الْعَقْدِ لَا يُقْصَدُ بِهِ ضِدُّهُ وَنَقِيضُهُ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ مِمَّا يُقْصَدُ فِي النِّكَاحِ أَبَدًا كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ لَا يُعْقَدُ لِلْفَسْخِ قَطُّ وَالْهِبَةُ لَا تُعْقَدُ لِلرُّجُوعِ فِيهَا قَطُّ وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّهُ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُحْرِمَ مُنْفَرِدًا , أَوْ قَارِنًا لِقَصْدِ فَسْخِ الْحَجِّ وَالتَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَإِنَّ الْفَسْخَ إعْدَامُ الْعَقْدِ وَرَفْعُهُ فَإِذَا عَقَدَ الْعَقْدَ لَأَنْ يَفْسَخَهُ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ عَدَمَ الْعَقْدِ وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ عَدَمَهُ لَمْ يَقْصِدْ وُجُودَهُ فَلَا يَكُونُ الْعَقْدُ مَقْصُودًا أَصْلًا فَيَكُونُ عَبَثًا إذْ الْعُقُودُ إنَّمَا تُعْقَدُ لِفَوَائِدِهَا وَثَمَرَاتِهَا وَالْفُسُوخُ رَفْعٌ لِلثَّمَرَاتِ وَالْفَوَائِدِ فَلَا يَقْصِدُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا , فَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ التَّكَلُّمَ بِصُورَةِ الْعَقْدِ وَالْفَسْخِ وَلَمْ يَقْصِدْ حُكْمَ الْعَقْدِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ . وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْآثَارِ تَسْمِيَتُهُ مُخَادِعًا وَمُدَلِّسًا . وَلَا يُقَالُ : مَقْصُودُهُ مَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْفَسْخِ مِنْ الْحِلِّ لِلْمُطَلِّقِ لِأَنَّ الْحِلَّ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا ثَبَتَ الْعَقْدُ ثُمَّ انْفَسَخَ وَمَقْصُودُ الْعَقْدِ حُصُولُ مُوجَبِهِ وَمَقْصُودُ الْفَسْخِ زَوَالُ مُوجَبِ الْعَقْدِ فَإِذَا لَمْ

يَقْصِدْ ذَلِكَ فَلَا عَقْدَ فَلَا فَسْخَ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَابِعُهُ وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَلِهَذَا يُسَمَّى مِثْلُ هَذَا مُتَلَاعِبًا مُسْتَهْزِئًا بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ الْمَقَاصِدِ الْفَرْعِيَّةِ فِي النِّكَاحِ مِثْلِ مُصَاهَرَةِ الْأَوَّلِ وَتَرْبِيَةِ الْأَخَوَاتِ فَإِنَّ تِلْكَ الْمَقَاصِدَ لَا تُنَافِي النِّكَاحَ بَلْ تَسْتَدْعِي بَقَاءَهُ وَدَوَامَهُ فَهِيَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِحُصُولِ مُوجَبِ الْعَقْدِ وَهَكَذَا كُلُّ مَا يُذْكَرُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ الشَّيْءَ يُفْعَلُ لِأَغْلَبِ فَوَائِدِهِ وَلَا تُزَالُ فَوَائِدُهُ بِحَيْثُ لَا تَكُونُ تِلْكَ الْمَقَاصِدُ مُبَيِّنَةً لِحَقِيقَتِهِ بَلْ مُجَامِعَةً لَهَا مُسْتَلْزِمَةً إيَّاهَا أَمَّا أَنْ تُفْعَلَ لِرَفْعِ حَقِيقَتِهِ وَتُوجَدَ لِمُجَرَّدِ أَنْ تُعْدَمَ فَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ شِرَاءِ الْعَبْدِ لِيُعْتِقَهُ , أَوْ الطَّعَامِ لِيُتْلِفَهُ فَإِنَّ قَصْدَ الْعِتْقِ وَالْإِتْلَافِ لَا يُنَافِي قَصْدَ الْبَيْعِ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ : إنَّ هَذَا رَفْعٌ لِلْعَقْدِ وَفَسْخٌ لَهُ , وَإِنَّمَا يُنَافِي بَقَاءَ الْمِلْكِ وَدَوَامَهُ وَالْأَمْوَالُ لَا يُقْصَدُ بِمِلْكِهَا بَقَاؤُهَا فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِأَعْيَانِهَا وَمَنَافِعِهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِإِزَالَةِ الْمَالِيَّةِ عَنْ الشَّيْءِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ , فَإِنَّهَا تُقْصَدُ لِلِانْتِفَاعِ بِذَاتِهَا كَالْأَكْلِ , أَوْ بِبَذْلِهَا الدِّينِيِّ أَوْ الدُّنْيَوِيِّ كَالْبَيْعِ وَالْعِتْقِ , أَوْ بِمَنْفَعَتِهَا كَالسَّكَنِ , وَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا تُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ وَالْإِيضَاحَ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ

عَلَيْهَا فَلِهَذَا امْتَنَعَ أَنْ يَقْصِدَ بِمِلْكِهَا الِانْتِفَاعَ بِتَلَفِ عَيْنِهَا , أَوْ بِبَذْلِ الْعَيْنِ , وَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ , وَقَصْدُ الْفَسْخِ فِي الْعَقْدِ مُحَالٌ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ لَمْ يَبْقَ إلَّا قَصْدُ الِانْتِفَاعِ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا لَا يَخْفَى . وَقَوْلُهُمْ : إنَّ قَصْدَ تَرَاجُعِهِمَا قَصْدٌ صَالِحٌ لِمَا فِيهِ الْمَنْفَعَةُ . قُلْنَا : هَذِهِ مُنَاسَبَةٌ شَهِدَ لَهَا الشَّارِعُ بِالْإِلْغَاءِ وَالْإِهْدَارِ وَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ وَالتَّعْلِيلِ هُوَ الَّذِي يُحِلُّ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُ الْحَلَالَ , وَالْمَصَالِحُ وَالْمُنَاسَبَاتُ الَّتِي جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِمَا يُخَالِفُهَا إذَا اُعْتُبِرَتْ فَهِيَ مُرَاغِمَةٌ بَيِّنَةٌ لِلشَّارِعِ مَصْدَرُهَا عَدَمُ مُلَاحَظَةِ حِكْمَةِ التَّحْرِيمِ , وَمَوْرِدُهَا عَدَمُ مُقَابَلَتِهِ بِالرِّضَى وَالتَّسْلِيمِ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَكُونُ مَصَالِحَ , وَإِنْ ظَنَّهَا مَصَالِحَ , وَلَا تَكُونُ مُنَاسِبَةً لِلْحُكْمِ , وَإِنْ اعْتَقَدَهَا مُعْتَقِدٌ مُنَاسِبَةً بَلْ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ خِلَافَ مَا رَآهُ هَذَا الْقَاصِرُ فِي نَظَرِهِ وَلِهَذَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا ظَهَرَ لَهُ حُسْنُهُ وَمَا لَمْ يَظْهَرْ , وَتَحْكِيمُ عِلْمِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ عَلَى عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ فَإِنَّ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَصَلَاحَ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَمَنْ رَأَى أَنَّ الشَّارِعَ الْحَكِيمَ قَدْ حَرَّمَ هَذِهِ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَعَلِمَ أَنَّ النِّكَاحَ الْحَسَنَ الَّذِي لَا

رَيْبَ فِي حِلِّهِ هُوَ نِكَاحُ الرَّغْبَةِ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الشَّارِعَ لَيْسَ مُتَشَوِّقًا إلَى رَدِّ هَذِهِ إلَى زَوْجِهَا إلَّا أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِقَضَاءٍ يُيَسِّرُهُ لَيْسَ لِلْخَلْقِ فِيهِ صُنْعٌ وَقَصْدٌ لِذَلِكَ , وَلَوْ كَانَ هَذَا مَعْنًى مَطْلُوبًا لَسَنَّهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - وَنَدَبَ إلَيْهِ , كَمَا نَدَبَ إلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَكَمَا كَرِهَ الِاخْتِلَاعَ وَالطَّلَاقَ الْمُوجِبَ لِزَوَالِ الْأُلْفَةِ , وَقَدْ قَالَ مَنْ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ وَلَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ يُبَاعِدُكُمْ عَنْ النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ تَرَكَتْكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ } . وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَثْرَةَ وُقُوعِ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ فَهَلَّا نَدَبَ إلَى التَّحْلِيلِ وَحَضَّ عَلَيْهِ كَمَا حَضَّ عَلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ , وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَلَمَا زَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ عَنْ ذَلِكَ وَلَعَنُوا فَاعِلَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ نَوْعٍ وَلَا نَدْبٍ إلَى شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ - , ثُمَّ لَوْ كَانَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ تَيْسِيرَ عَوْدِهَا إلَى الْأَوَّلِ لَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يُحْوِجْهُ إلَى هَذَا الْعَنَاءِ فَإِنَّ الدَّفْعَ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ - وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ فَالْمُطَلِّقُ هُوَ الَّذِي جَلَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ

كَثِيرٍ } . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا سَأَلُوا عَنْ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا فَقَالُوا : لَوْ اتَّقَى اللَّهَ لَجَعَلَ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَمَنْ فَعَلَ فِعْلًا جَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِهِ ضَرَرًا مِثْلَ قَتْلٍ , أَوْ قَذْفٍ , أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ عُقُوبَةً مُطْلَقَةً , أَوْ عُقُوبَةً مَحْدُودَةً لَمْ يُمْكِنْ الِاحْتِيَالُ فِي إسْقَاطِ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ وَلَوْ فَعَلَ مَا عَلَيْهِ فِيهِ كَفَّارَةٌ لَمْ يَكُنْ إلَى رَفْعِهَا سَبِيلٌ , وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ وَبِهِ شَبَقٌ وَهُوَ لَا يَجِدُ رَقَبَةً لَمْ يُمْكِنْ وَطْؤُهَا حَتَّى يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ , فَإِنَّمَا يَسْعَى الْإِنْسَانُ فِي مَصْلَحَةِ أَخِيهِ بِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَأَبَاحَهُ وَأَمَّا مُسَاعَدَتُهُ عَلَى أَغْرَاضِهِ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ فَهُوَ إضْرَارٌ بِهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَمَا هَذِهِ إلَّا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُعِينَ الرَّجُلُ مَنْ يَهْوَى امْرَأَةً مُحَرَّمَةً عَلَى نَيْلِ غَرَضِهِ , وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي لُزُومِ التَّقْوَى وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ السَّبْتِ اسْتَحَلُّوا مَا اسْتَحَلُّوا لَمَّا قَامَتْ فِي نُفُوسِهِمْ هَذِهِ الشَّهَوَاتُ وَالشُّبُهَاتُ وَلَعَلَّ الزَّوْجَيْنِ إذَا اتَّقَيَا اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا أَذِنَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ لِعَامَّةِ الْمُتَّقِينَ . وَهَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ إنَّمَا هُوَ فِي التَّحْلِيلِ الْمَكْتُومِ وَهُوَ الَّذِي حُكِيَ وُقُوعُ الشُّبْهَةِ فِيهِ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ

فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ ذَلِكَ وَتَوَاطَآ عَلَيْهِ فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَبِهَذَا الْكَلَامِ ظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مِنْ الْحِيَلِ مُلْحَقٌ بِالْأَوَّلِ مِنْهَا لَكِنَّ الْأَوَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحْتَالِ بِهِ , وَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ لَوْ فُرِضَ تَجَرُّدُهُ عَنْ الْآخَرِ وَهُنَا إنَّمَا صَارَ الْمُحْتَالُ بِهِ مُحَرَّمًا لِاقْتِرَانِهِ بِالْآخَرِ فَإِنَّهُ لَوْ جَرَّدَ النِّكَاحَ مَثَلًا عَنْ هَذَا الْقَصْدِ لَكَانَ حَلَالًا وَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ لَوْ حَصَلَ السَّبَبُ الْمُبِيحُ لَهُ مُجَرَّدًا عَنْ الِاحْتِيَالِ لَكَانَ مُبَاحًا , ثُمَّ هَذَا الْقِسْمُ فِيهِ أَنْوَاعٌ . أَحَدُهَا : الِاحْتِيَالُ لِحِلِّ مَا هُوَ يَحْرُمُ فِي الْحَالِ كَنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ . الثَّانِي : الِاحْتِيَالُ لِحِلِّ مَا انْعَقَدَ سَبَبُ تَحْرِيمِهِ وَهُوَ مَا يَحْرُمُ إنْ تَجَرَّدَ عَنْ الْحِيلَةِ كَالِاحْتِيَالِ عَلَى حِلِّ الْيَمِينِ فَإِنَّ يَمِينَ الطَّلَاقِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمَرْأَةِ إذَا حَنِثَ فَإِنَّ الْمُحْتَالَ يُرِيدُ إزَالَةَ التَّحْرِيمِ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ وَهُوَ الْفِعْلُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْحِيَلُ الرِّبَوِيَّةُ كُلُّهَا فَإِنَّ الْمُحْتَالَ يُرِيدُ مَثَلًا أَخْذَ مِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ بِبَذْلِ ثَمَانِينَ حَالَّةٍ فَيَحْتَالُ لِيُزِيلَ التَّحْرِيمَ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ وَهُوَ هَذَا الْمَعْنَى .

النَّوْعُ الثَّالِثُ : الِاحْتِيَالُ عَلَى إسْقَاطِ وَاجِبٍ قَدْ وَجَبَ , مِثْلُ أَنْ يُسَافِرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ فِي رَمَضَانَ لِيُفْطِرَ , وَمِثْلُ الِاحْتِيَالِ عَلَى إزَالَةِ مِلْكِ مُسْلِمٍ مِنْ نِكَاحٍ , أَوْ مَالٍ , أَوْ نَحْوِهِمَا . الرَّابِعُ : الِاحْتِيَالُ لِإِسْقَاطِ مَا انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ , مِثْلُ الِاحْتِيَالِ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ , أَوْ الشُّفْعَةِ أَوْ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ وَفِي بَعْضِهَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ خَبِيثٌ , مِثْلُ الِاحْتِيَالِ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ , أَوْ صَوْمِ الشَّهْرِ بِعَيْنِهِ , أَوْ الشُّفْعَةِ لَكِنَّ شُبْهَةَ الْمُرْتَكِبِ أَنَّ هَذَا مَنْعٌ لِلْوُجُوبِ لَا رَفْعٌ لَهُ وَكِلَاهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ وَفِي بَعْضِهَا يَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ الْمُحْتَالَ بِهِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ , مِثْلُ الْإِفْرَادِ لِابْنِهِ أَوْ تَمْلِيكِهِ نَاوِيًا لِلرُّجُوعِ , أَوْ تَوَاطُؤِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَى خِلَافِ مَا أَظْهَرَاهُ كَالتَّوَاطُؤِ عَلَى التَّحْلِيلِ وَفِي بَعْضِهَا يَظْهَرُ كِلَا الْأَمْرَيْنِ وَفِي بَعْضِهَا يَخْفَى كِلَاهُمَا كَالتَّحْلِيلِ وَخُلْعِ الْيَمِينِ .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ : إنَّك إذَا تَأَمَّلْت عَامَّةَ الْحِيَلِ وَجَدْتهَا رَفْعًا لِلتَّحْرِيمِ أَوْ الْوُجُوبِ مَعَ قِيَامِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ فَتَصِيرُ حَرَامًا مِنْ وَجْهَيْنِ . مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهَا فِعْلَ الْمُحَرَّمِ وَتَرْكَ الْوَاجِبِ . وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مَعَ ذَلِكَ تَدْلِيسٌ وَخِدَاعٌ وَخِلَابَةٌ وَمَكْرٌ وَنِفَاقٌ وَاعْتِقَادٌ فَاسِدٌ وَهَذَا الْوَجْهُ أَعْظَمُهَا إثْمًا فَإِنَّ الْأَوَّلَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْعُصَاةِ وَأَمَّا الثَّانِي فَبِمَنْزِلَةِ الْبِدَعِ وَالنِّفَاقِ . وَلِهَذَا كَانَ التَّغْلِيظُ عَلَى مَنْ يَأْمُرُ بِهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهَا مَتْبُوعًا فِي ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ التَّغْلِيظِ عَلَى مَنْ يَعْمَلُ بِهَا مُقَلِّدًا , فَأَمَّا إذَا عَمِلَ بِهَا مُعْتَقِدًا جَوَازَهَا فَهَذَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي الشَّرِّ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَيُّوبَ لَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ وَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهِدُ مَعْذُورًا إذَا اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ فَذَاكَ مِنْ بَابِ الْمَانِعِ لِلُحُوقِ الذَّمِّ وَإِلَّا فَالْمُقْتَضِي لِلذَّمِّ قَائِمٌ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ , إذَا خَفِيَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مَا فِي الْفِعْلِ مِنْ الْقُبْحِ كَانَ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِإِيضَاحِ قُبْحِهِ وَهَذَا الْوَجْهُ مِمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَبُو طَالِبٍ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَهُ رَجُلٌ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ إذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَمَةً فَأَرَادَ أَنْ يَقَعَ بِهَا يُعْتِقُهَا ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : بَلَغَنِي أَنَّ الْمَهْدِيَّ اشْتَرَى جَارِيَةً فَأَعْجَبَتْهُ فَقِيلَ لَهُ

أَعْتِقْهَا وَتَزَوَّجْهَا فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَعْجَبَ هَذَا أَبْطَلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَالسُّنَّةَ جَعَلَ اللَّهُ عَلَى الْحَرَائِرِ الْعِدَّةَ مِنْ جِهَةِ الْحَمْلِ فَلَيْسَ مِنْ امْرَأَةٍ تَطْلُقُ أَوْ يَمُوتُ زَوْجُهَا إلَّا تَعْتَدُّ مِنْ جِهَةِ الْحَمْلِ فَفَرْجٌ يُوطَأُ يَشْتَرِيهِ ثُمَّ يُعْتِقُهُ عَلَى الْمَكَانِ فَيَتَزَوَّجُهَا فَيَطَأُهَا فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا كَيْفَ يَصْنَعُ يَطَؤُهَا رَجُلٌ الْيَوْمَ وَيَطَأُهَا الْآخَرُ غَدًا هَذَا نَقْضٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ حَامِلٍ حَتَّى تَحِيضَ } . وَلَا يُدْرَى حَامِلٌ أَمْ لَا سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَسْمَجَ هَذَا . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَذَكَرَ الْحِيَلَ مِنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ فَقَالَ يَحْتَالُونَ لِنَقْضِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَأَبِي الْحَارِثِ هَذِهِ الْحِيَلُ الَّتِي وَضَعُوهَا عَمَدُوا إلَى السُّنَنِ فَنَقَضُوهَا وَالشَّيْءُ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ إنَّهُ حَرَامٌ احْتَالُوا فِيهِ حَتَّى أَحَلُّوهُ وَسَبَقَ تَمَامُ كَلَامِهِ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِ . وَبَيَانُ ذَلِكَ : أَنَّا نَعْلَمُ بِاضْطِرَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَهَى عَنْ وَطْءِ الْحَبَالَى وَقَالَ : { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَسْتَبْرِئَ بِحَيْضَةٍ } . إنَّ مِنْ أَكْثَرِ الْمَقَاصِدِ بِالِاسْتِبْرَاءِ أَنْ لَا يَخْتَلِطَ الْمَاءَانِ وَلَا يَشْتَبِهَ النَّسَبُ . ثُمَّ إنَّ الشَّارِعَ بَالَغَ فِي هَذِهِ الصِّيَانَةِ حَتَّى جَعَلَ الْعِدَّةَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَأَوْجَبَ

الْعِدَّةَ عَلَى الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَقْصُودٌ آخَرُ غَيْرُ اسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ , فَإِذَا مَلَكَ أَمَةً يَطَؤُهَا سَيِّدُهَا وَأَعْتَقَهَا عَقِبَ مِلْكِهَا وَتَزَوَّجَهَا وَوَطِئَهَا اللَّيْلَةَ صَارَ الْأَوَّلُ قَدْ وَطِئَهَا الْبَارِحَةَ وَهَذَا قَدْ وَطِئَهَا اللَّيْلَةَ وَبِاضْطِرَارٍ نَعْلَمُ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا وَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ قَائِمَةٌ فِي هَذَا الْوَطْءِ , وَمَنْ تَوَقَّفَ فِي هَذَا كَانَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ بِمَنْزِلَةِ التَّوَقُّفِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ , وَكَذَلِكَ نَعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ حَرَّمَ الرِّبَا لِمَا فِيهِ مِنْ أَخْذِ فَضْلٍ عَلَى مَالِهِ مَعَ بَقَاءِ مَالِهِ فِي الْمَعْنَى فَيَكُونُ أَكْلًا لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ كَأَخْذِهِ بِالْقِمَارِ وَهُوَ يَسُدُّ طَرِيقَ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ . فَإِنَّهُ مَتَى جَوَّزَ لِصَاحِبِ الْمَالِ الرِّبَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَفْعَلُ مَعْرُوفًا مِنْ قَرْضٍ وَنَحْوِهِ إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَبْذُلَ لَهُ كَمَا يَبْذُلَ الْقُرُوضَ مَعَ أَخْذِ فَضْلٍ لَهُ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } فَجَعَلَ الرِّبَا نَقِيضَ الصَّدَقَةِ ; لِأَنَّ الْمُرْبِيَ يَأْخُذُ فَضْلًا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ يَزِيدُ بِهِ مَالُهُ وَالْمُتَصَدِّقَ يَنْقُصُ مَالُهُ فِي الظَّاهِرِ لَكِنْ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ , وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ } . فَكَمَا أَنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ

الصَّدَقَةَ الَّتِي فِيهَا الْإِعْطَاءُ لِلْمُحْتَاجِينَ حَرَّمَ الرِّبَا الَّذِي فِيهِ أَخْذُ الْمَالِ مِنْ الْمُحْتَاجِينَ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلِمَ أَنَّ صَلَاحَ الْخَلْقِ فِي أَنَّ الْغَنِيَّ يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا يُعْطَى لِلْفَقِيرِ وَأَنَّ الْفَقِيرَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا يُعْطَى لِلْغَنِيِّ . ثُمَّ رَأَيْت هَذَا الْمَعْنَى مَأْثُورًا عَلَى عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ آبَائِهِ أَنَّهُ سُئِلَ لِمَ حَرَّمَ اللَّهُ الرِّبَا ؟ فَقَالَ : لِئَلَّا يَتَمَانَعَ النَّاسُ الْمَعْرُوفَ , فَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ يُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِ عِلَلِ الرِّبَا , فَحَرَّمَ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ آخَرَ أَلْفًا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ بَعْدَ شَهْرٍ أَلْفًا وَمِائَةً وَعَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كُلَّ شَهْرٍ مِائَةً غَيْرَ الْأَلْفِ , وَرِبَا النَّسَاءِ هُوَ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ غَرَضُ الْمُرْبِي فِي أَكْثَرِ الْأُمُورِ , وَإِنَّمَا حَرَّمَ رِبَا الْفَضْلِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى الرِّبَا وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَلَا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرَّمَاءَ } - وَالرِّمَا هُوَ الرِّبَا - رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ , إنِّي أَخَاف عَلَيْكُمْ الرِّمَا مَحْفُوظَةٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ , وَأَسْقَطَ اعْتِبَارَ الصِّفَاتِ مَعَ إيجَادِ الْجِنْسِ وَإِنْ كَانَتْ مَقْصُودَةً لِئَلَّا يُفْضِيَ اعْتِبَارُهَا إلَى الرِّبَا وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَشُكُّ

الْمُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُعْطِيَ دِرْهَمًا لِيَأْخُذَ دِرْهَمَيْنِ إلَى أَجَلٍ إلَّا لِحِكْمَةٍ فَإِذَا جَازَ أَنْ يَقُولَ بِعْنِي ثَوْبَك بِأَلْفٍ حَالَّةٍ ثُمَّ يَبِيعَهُ إيَّاهُ بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَمُؤَجَّلَةٍ بِالْغَرَضِ الَّذِي كَانَ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي إعْطَاءِ أَلْفٍ بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ هُوَ بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ هَاهُنَا وَمَا أَظْهَرَاهُ مِنْ صُورَةِ الْعَقْدِ لَا غَرَضَ لَهُمَا فِيهِ بِحَالٍ وَلَيْسَ عَقْدًا ثَابِتًا , وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ الرِّبَا وَعَظَّمَهُ زَجْرًا لِلنُّفُوسِ عَمَّا تَطْلُبُهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْحِيلَةُ يَحْصُلُ مَعَهَا غَرَضُ النُّفُوسِ مِنْ الرِّبَا عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ مَفْسَدَةَ الرِّبَا مَوْجُودَةٌ فِيهَا فَتَكُونُ مُحَرَّمَةً . وَكَذَلِكَ السِّفَاحُ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحِكَمٍ كَثِيرَةٍ وَقَطَعَ تَشْبِيهَهُ بِالنِّكَاحِ بِكُلِّ طَرِيقٍ فَأَوْجَبَ فِي النِّكَاحِ الْوَلِيَّ وَالشَّاهِدَيْنِ وَالْعِدَّةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ لِيُقِيمَ مَعَهَا لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ ثُمَّ يُفَارِقَهَا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ سِفَاحًا وَهُوَ الْمُتْعَةُ الْمُحَرَّمَةُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ مَعَهَا أَلَمْ يَكُنْ أَوْلَى بِاسْمِ السِّفَاحِ ؟ وَكَذَلِكَ نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَوْجَبَ الشُّفْعَةَ لَلشَّرِيك لِعِلْمِهِ بِأَنَّ مَصِيرَ هَذَا الشِّقْصِ لِلشَّرِيكِ مَعَ حُصُولِ مَقْصُودِ الْبَائِعِ مِنْ الثَّمَنِ خَيْرٌ مِنْ حُصُولِهِ لِأَجْنَبِيٍّ يَنْشَأُ بِسَبَبِهِ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ وَالْقِسْمَةِ فَأَوْجَبَ هَذَا الْخَيْرَ

الَّذِي لَا شَرَّ فِيهِ , فَإِذَا سَوَّغَ الِاحْتِيَالَ عَلَى إسْقَاطِهَا أَلَمْ يَكُنْ فِيهِ بَقَاءُ فَسَادِ الشَّرِكَةِ وَالْقِسْمَةِ وَعَدَمُ صَلَاحِ الشُّفْعَةِ وَالتَّكْمِيلِ مَعَ وُجُودِ حَقِيقَةِ سَبَبِهَا وَهُوَ الْبَيْعُ . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي جَمِيعِ الشَّرْعِيَّاتِ فَكُلُّ مَوْضِعٍ ظَهَرَتْ لِلْمُكَلَّفِينَ حِكْمَتُهُ أَوْ غَابَتْ عَنْهُمْ لَا يَشُكُّ مُسْتَبْصِرٌ أَنَّ الِاحْتِيَالَ يُبْطِلُ تِلْكَ الْحِكْمَةَ الَّتِي قَصَدَهَا الشَّارِعُ فَيَكُونُ الْمُحْتَالُ مُنَاقِضًا لِلشَّارِعِ مُخَادِعًا فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَكُلَّمَا كَانَ الْمَرْءُ أَفْقَهَ فِي الدِّينِ وَأَبْصَرَ بِمَحَاسِنِهِ كَانَ فِرَارُهُ عَنْ الْحِيَلِ أَشَدَّ , وَاعْتُبِرَ هَذَا بِسِيَاسَةِ الْمُلُوكِ بَلْ بِسِيَاسَةِ الرَّجُلِ أَهْلَ بَيْتِهِ فَإِنَّهُ لَوْ عَارَضَهُ بَعْضُ الْأَذْكِيَاءِ الْمُحْتَالِينَ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ بِإِقَامَةِ صُوَرِهَا دُونَ حَقَائِقِهَا لَعَلِمَ أَنَّهُ سَاعٍ فِي فَسَادِ أَوَامِرِهِ , وَأَظُنُّ كَثِيرًا مِنْ الْحِيَلِ إنَّمَا اسْتَحَلَّهَا مَنْ لَمْ يَفْقَهْ حِكْمَةَ الشَّارِعِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ الْتِزَامِ ظَاهِرِ الْحُكْمِ فَأَقَامَ رَسْمَ الدِّينِ دُونَ حَقِيقَتِهِ وَلَوْ هُدِيَ رُشْدَهُ لَسَلَّمَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَطَاعَ اللَّهَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي كُلِّ أَمْرِهِ وَعَلِمَ أَنَّ الشَّرَائِعَ تَحْتَهَا حِكَمٌ وَإِنْ لَمْ يَهْتَدِ هُوَ لَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ سَبَبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُزِيلٌ لِحِكْمَةِ الشَّارِعِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَةَ مَا أَزَالَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُنَافِقًا يَعْتَقِدُ أَنَّ رَأْيَهُ أَصْلَحُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ خُصُوصًا أَوْ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا عُمُومًا لِمَا

جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ أَوْ صَاحِبُ شَهْوَةٍ قَاهِرَةٍ تَدْعُوهُ إلَى تَحْصِيلِ غَرَضِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنْ ظَاهِرِ رَسْمِ الْإِسْلَامِ , أَوْ يَكُونُ مِمَّنْ يُحِبُّ الرِّيَاسَةَ وَالشَّرَفَ بِالْفُتْيَا الَّتِي يَنْقَادُ لَهُ بِهَا النَّاسُ وَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ عِنْدَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ إلَّا بِهَذِهِ الْحِيَلِ أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الشَّيْءَ لَيْسَ مُحَرَّمًا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْمَخْصُوصَةِ لِمَعْنًى رَآهُ لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إظْهَارُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُوَافِقُونَهُ عَلَيْهِ وَيَخَافُ الشَّنَاعَةَ فَيَحْتَالُ بِحِيلَةٍ يُظْهِرُ بِهَا تَرْكَ الْحَرَامِ وَمَقْصُودُهُ اسْتِحْلَالُهُ فَيُرْضِي النَّاسَ ظَاهِرًا أَوْ يَعْمَلُ بِمَا يَرَاهُ بَاطِنًا وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ } . وَإِنَّمَا الْفِقْهُ فِي الدِّينِ فَهْمُ مَعَانِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِيَسْتَبْصِرَ الْإِنْسَانُ فِي دِينِهِ أَلَا تَرَى قَوْله تَعَالَى : { لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } فَقَرَنَ الْإِنْذَارَ بِالْفِقْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ مَا وَزَعَ عَنْ مُحَرَّمٍ أَوْ دَعَا إلَى وَاجِبٍ وَخَوَّفَ النُّفُوسَ مَوَاقِعَهُ الْمَحْظُورَةَ لَا مَا هَوَّنَ عَلَيْهَا اسْتِحْلَالَ الْمَحَارِمِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ وَمِمَّا يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ أَنَّ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إلَى الْقِيَاسِ وَاسْتِنْبَاطِ مَعَانِي الْأَحْكَامِ وَالْفِقْهِ مِنْ أَهْلِ الْحِيَلِ هُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ رِعَايَةِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَعَنْ مَعْرِفَةِ الْعِلَلِ

وَالْمَعَانِي وَعَنْ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ , فَإِنَّك تَجِدْهُمْ يَقْطَعُونَ عَنْ الْإِلْحَاقِ بِالْأَصْلِ مَا يُعْلَمُ بِالْقَطْعِ أَنَّ مَعْنَى الْأَصْلِ مَوْجُودٌ فِيهِ , وَيُهْدِرُونَ اعْتِبَارَ تِلْكَ الْمَعَانِي , ثُمَّ يَرْبِطُونَ الْأَحْكَامَ بِمَعَانِي لَمْ يُومِئْ إلَيْهَا شَرْعٌ وَلَمْ يَسْتَحْسِنْهَا عَقْلٌ . { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } وَإِنَّمَا سَبَبُ نِسْبَةِ بَعْضِ النَّاسِ لَهُمْ إلَى الْفِقْهِ وَالْقِيَاسِ مَا انْفَرَدُوا بِهِ مِنْ الْفِقْهِ وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ , وَإِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ مَحْضٌ صَدَرَ عَنْ فِطْنَةٍ وَذَكَاءٍ كَفِطْنَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي تَحْصِيلِ أَغْرَاضِهِمْ فَتَسَمَّوْا بِأَشْرَفِ صِفَاتِهِمْ وَهُوَ الْفَهْمُ الَّذِي هُوَ مُشْتَرَكٌ فِي الْأَصْلِ بَيْنَ فَهْمِ طُرُقِ الْخَيْرِ وَفَهْمِ طُرُقِ الشَّرِّ إذْ أَحْسَنُ مَا فِيهِمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَهْمُهُمْ لِطُرُقِ تِلْكَ الْأَغْرَاضِ وَالتَّوَصُّلُ إلَيْهَا بِالرَّأْيِ . فَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَبِأَمْرِهِ فَعِلْمُهُمْ مُتَلَقًّى عَنْ النُّبُوَّةِ إمَّا نَصًّا أَوْ اسْتِنْبَاطًا فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى أَنْ يُضِيفُوهُ إلَى أَنْفُسِهِمْ وَإِنَّمَا لَهُمْ فِيهِ الِاتِّبَاعُ فَمَنْ فَهِمَ حِكْمَةَ الشَّارِعِ مِنْهُمْ كَانَ هُوَ الْفَقِيهُ حَقًّا وَمَنْ اكْتَفَى بِالِاتِّبَاعِ لَمْ يَضُرَّهُ أَنْ لَا يَتَكَلَّفَ عِلْمَ مَا لَا يَلْزَمُهُ إذَا كَانَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ مَعَ أَنَّهُ هُوَ الْفِقْهُ الْحَقِيقِيُّ وَالرَّأْيُ السَّدِيدُ وَالْقِيَاسُ الْمُسْتَقِيمُ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

وَاعْلَمْ أَنَّ تَجْوِيزَ الْحِيَلِ يُنَاقِضُ سَدَّ الذَّرَائِعِ مُنَاقَضَةً ظَاهِرَةً , فَإِنَّ الشَّارِعَ سَدَّ الطَّرِيقَ إلَى ذَلِكَ الْمُحَرَّمِ بِكُلِّ طَرِيقٍ , وَالْمُحْتَالُ يُرِيدُ أَنْ يَتَوَسَّلَ إلَيْهِ , وَلِهَذَا لَمَّا اعْتَبَرَ الشَّارِعُ فِي الْبَيْعِ وَالصَّرْفِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهَا شُرُوطًا سَدَّ بِبَعْضِهَا التَّذَرُّعَ إلَى الزِّنَا وَالرِّبَا وَكَمَّلَ بِهَا مَقْصُودَ الْعُقُودِ لَمْ يُمَكِّنْ الْمُحْتَالَ الْخُرُوجَ عَنْهَا فِي الظَّاهِرِ , فَإِذَا أَرَادَ الِاحْتِيَالَ بِبَعْضِ هَذِهِ الْعُقُودِ عَلَى مَا مَنَعَ الشَّارِعُ مِنْهُ أَتَى بِهَا مَعَ حِيلَةٍ أُخْرَى تُوَصِّلُهُ بِزَعْمِهِ إلَى نَفْسِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي سَدَّ الشَّارِعُ ذَرِيعَتَهُ فَلَا يَبْقَى لِتِلْكَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَأْتِي بِهَا فَائِدَةٌ وَلَا حَقِيقَةٌ . بَلْ يَبْقَى بِمَنْزِلَةِ الْعَبَثِ وَاللَّعِبِ وَتَطْوِيلِ الطَّرِيقِ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ . وَلِهَذَا تَجِدُ الصَّحِيحَ الْفِطْرَةَ لَا يُحَافِظُ عَلَى تِلْكَ الشُّرُوطِ لِرُؤْيَتِهِ أَنَّ مَقْصُودَ الشُّرُوطِ تَحْقِيقُ حُكْمِ مَا شُرِطَتْ لَهُ وَالْمَنْعُ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ إنَّمَا قَصْدُهُ ذَاكَ لَا الْآخَرُ وَلَا مَا شُرِطَتْ لَهُ , وَلِهَذَا تَجِدُ الْمُحْتَالِينَ عَلَى الرِّبَا وَعَلَى حِلِّ الْمُطَلَّقَةِ وَعَلَى حِلِّ الْيَمِينِ لَا يَتَمَسَّكُونَ بِشُرُوطِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ لِعَدَمِ فَائِدَةٍ تَتَعَلَّقُ لَهُمْ بِذَلِكَ وَلِتَعَلُّقِ رَغْبَتِهِمْ بِمَا مُنِعُوا مِنْهُ مِنْ الرِّبَا وَعَوْدِ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا وَإِسْقَاطِ الثَّمَنِ الْمَعْقُودَةِ , وَاعْتُبِرَ هَذَا بِالشُّفْعَةِ فَإِنَّ الشَّارِعَ أَبَاحَ انْتِزَاعَ الشِّقْصِ مِنْ مُشْتَرِيهِ وَهُوَ لَا

يُخْرِجُ الْمِلْكَ عَنْ مَالِكِهِ بِقِيمَةٍ أَوْ بِغَيْرِ قِيمَةٍ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ , وَكَانَتْ الْمَصْلَحَةُ هُنَا تَكْمِيلَ الْعَقَارِ لِلشَّرِيكِ فَإِنَّهُ بِذَلِكَ يَزُولُ ضِرَارُ الشَّرِكَةِ وَالْقِسْمَةِ وَلَيْسَ فِي هَذَا التَّكْمِيلِ ضَرَرٌ عَلَى الشَّرِيكِ الْبَائِعِ ; لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الثَّمَنِ يَحْصُلُ بِأَخْذِهِ مِنْ الْمُشْتَرِي وَالشَّرِيكِ أَوْ الْأَجْنَبِيِّ وَاَلَّذِي يَحْتَالُ لِإِسْقَاطِهَا بِأَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ غَرَضُهُ بَيْعُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ دُونَ الشَّرِيكِ إمَّا ضِرَارًا لِلشَّرِيكِ أَوْ نَفْعًا لِلْأَجْنَبِيِّ لَيْسَ هُوَ مُنَاقِضًا لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ مُضَادًّا لَهُ فِي حُكْمِهِ , فَالشَّارِعُ يَقُولُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكُهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ; وَهَذَا يَقُولُ لَا تَلْتَفِتُ إلَى الشَّرِيكِ وَأَعْطِهِ لِمَنْ شِئْت . ثُمَّ إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَثَلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَعَاقَدَهُ عَلَى أَلْفَيْنِ وَقَبَضَ مِنْهُ تِسْعَمِائَةٍ وَصَارَفَهُ عَنْ الْأَلْفِ وَمِائَةٍ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَتَعَذَّرَ عَلَى الشَّرِيكِ الْأَخْذُ أَلَيْسَ عَيْنُ مَقْصُودِ الشَّارِعِ فَوْتَهُ مَعَ إظْهَارِهِ أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ مَا أَذِنَ الشَّارِعُ فِيهِ وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بَيَانُ تَحْرِيمِ الْحِيَلِ وَأَنَّ صَاحِبَهَا مُتَعَرِّضٌ لِسَخَطِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ , وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَنْقُضَ عَلَى صَاحِبِهَا مَقْصُودَهُ مِنْهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ فِي كُلِّ حِيلَةٍ بِحَسْبِهَا , فَلَا يَخْلُو الِاحْتِيَالُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ . فَإِنْ كَانَ الِاحْتِيَالُ مِنْ

اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ , فَإِنْ كَانَا عَقَدَا بَيْعَيْنِ تَوَاطَآ عَلَيْهِمَا تَحَيَّلَا إلَى الرِّبَا كَمَا فِي الْعِينَةِ حُكِمَ بِفَسَادِ ذَيْنِك الْعَقْدَيْنِ وَيَرُدُّ إلَى الْأَوَّلِ رَأْسَ مَالِهِ كَمَا ذَكَرَتْ عَائِشَةُ لِأُمِّ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ , وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ بِعَقْدِ رِبًا لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ بَلْ يَجِبُ رَدُّهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا وَبَدَلُهُ إنْ كَانَ فَائِتًا . وَكَذَلِكَ إنْ جَمَعَا بَيْنَ بَيْعٍ وَقَرْضٍ , أَوْ إجَارَةٍ وَقَرْضٍ , أَوْ مُضَارَبَةٍ أَوْ شَرِكَةٍ , أَوْ مُسَاقَاةٍ أَوْ مُزَارَعَةٍ مَعَ قَرْضٍ حُكِمَ بِفَسَادِهِمَا فَيَجِبُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بَدَلَ مَالِهِ فِيمَا جَعَلَاهُ قَرْضًا , وَالْعَقْدُ الْآخَرُ فَاسِدٌ لَهُ حُكْمُ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ . وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ نِكَاحًا تَوَاطَآ عَلَيْهِ كَانَ نِكَاحًا فَاسِدًا لَهُ حُكْمُ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ , وَكَذَلِكَ إذَا تَوَاطَآ عَلَى بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ , أَوْ عَلَى هِبَةٍ لِتَصْحِيحِ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَقْفِ فَسَادٍ , مِثْلَ أَنْ تُرِيدَ مُوَاقَعَةَ مَمْلُوكِهَا فَتُوَاطِئَ رَجُلًا عَلَى أَنْ تَهَبَهُ الْعَبْدَ فَيُزَوِّجَهَا بِهِ ثُمَّ يَهَبَهَا إيَّاهُ لِيَنْفَسِخَ النِّكَاحُ فَإِنَّ هَذَا الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ فَاسِدَانِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ . فَإِنْ كَانَ الِاحْتِيَالُ مِنْ وَاحِدٍ فَإِنْ كَانَتْ حِيلَةً يَسْتَقِلُّ بِهَا لَمْ يَحْصُلْ بِهَا غَرَضُهُ , فَإِنْ كَانَتْ عَقْدًا كَانَ عَقْدًا فَاسِدًا مِثْلُ أَنْ يَهَبَ لِابْنِهِ هِبَةً يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا لِئَلَّا تَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَإِنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْهِبَةِ كَعَدَمِهَا لَيْسَتْ هِبَةً فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ , لَكِنْ إنْ ظَهَرَ

الْمَقْصُودُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِلَّا بَقِيَتْ فَاسِدَةً فِي الْبَاطِنِ فَقَطْ , وَإِنْ كَانَتْ حِيلَةً لَا يَسْتَقِلُّ بِهَا مِثْلَ أَنْ يَنْوِيَ التَّحْلِيلَ وَلَا يُظْهِرُ لِلزَّوْجَةِ , أَوْ يَرْتَجِعُ الْمَرْأَةَ ضِرَارًا بِهَا , أَوْ يَهَبُ مَالَهُ ضِرَارًا لِوَرَثَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَإِلَى مَنْ عَلِمَ غَرَضَهُ بَاطِلَةً فَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ الْمَرْأَةِ وَلَا يَرِثُهَا لَوْ مَاتَتْ , وَإِذَا عَلِمَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَوْ الْمُوصَى لَهُ غَرَضَهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْمِلْكُ فِي الْبَاطِنِ فَلَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ بَلْ يَجِبُ رَدُّهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ لَوْلَا الْعَقْدُ الْمُحْتَالُ بِهِ , وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَاقِدِ الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ يُفِيدُ مَقْصُودَ الْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ . وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي الشَّرِيعَةِ كَثِيرَةٌ , وَإِنْ كَانَتْ الْحِيلَةُ لَهُ وَعَلَيْهِ كَطَلَاقِ الْمَرِيضِ صُحِّحَ الطَّلَاقُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ وَلَمْ يُصَحَّحْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْنَعُ الْإِرْثَ . فَإِنَّهُ إنَّمَا مَنَعَ مَنْ قَطَعَ الْإِرْثَ لَا مِنْ إزَالَةِ مِلْكِ الْبُضْعِ . وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْحِيلَةُ فِعْلًا يُفْضِي إلَى غَرَضٍ لَهُ مِثْلُ أَنْ يُسَافِرَ فِي الصَّيْفِ لِيَتَأَخَّرَ عَنْهُ لِلصَّوْمِ إلَى الشِّتَاءِ لَمْ يَحْصُلْ غَرَضُهُ . بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي هَذَا السَّفَرِ , فَإِنْ كَانَ يُفْضِي إلَى سُقُوطِ حَقِّ غَيْرِهِ مِثْلُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ لِيَنْفَسِخَ نِكَاحُهُ , أَوْ مِثْلُ أَنْ يُبَاشِرَ الْمَرْأَةَ ابْنُ زَوْجِهَا أَوْ أَبُوهُ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ مُحَرَّمًا

فَهَذِهِ الْحِيلَةُ بِمَنْزِلَةِ الْإِتْلَافِ لِلْمِلْكِ بِقَتْلٍ أَوْ غَصْبٍ لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهَا ; لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَرْأَةِ بِهَذَا السَّبَبِ حَقٌّ لِلَّهِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فَسْخُ النِّكَاحِ ضِمْنًا . وَالْأَفْعَالُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّحْرِيمِ لَا يُعْتَبَرُ لَهَا الْعَقْلُ فَضْلًا عَنْ الْقَصْدِ , وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَحْتَالَ عَلَى نَجَاسَةِ دُهْنِهِ أَوْ خَلِّهِ أَوْ دِبْسِهِ بِأَنْ يُلْقِيَ فِيهِ نَجَاسَةً , فَإِنَّ نَجَاسَةَ الْمَائِعَاتِ بِالْمُخَالَطَةِ وَتَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ بِالْمُبَاشَرَةِ أَحْكَامٌ تَنْبُتُ بِأُمُورٍ حِسِّيَّةٍ لَا تَرْفَعُ الْأَحْكَامَ مَعَ وُجُوبِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ .

الطَّرِيقُ الثَّانِي : إبْطَالُ التَّحْلِيلِ فِي النِّكَاحِ . فَصْلٌ : وَأَمَّا الطَّرِيقُ الثَّانِي فِي إبْطَالِ التَّحْلِيلِ فِي النِّكَاحِ فَهُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ وَذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسِ , الْوَاجِبُ عِنْدَ تَسَاوِي الدَّلَالَةِ الِابْتِدَاءُ بِالْكِتَابِ , وَلَكِنْ لِكَوْنِ دَلَالَةِ السُّنَّةِ أَبْيَنَ ابْتَدَأْنَا بِهَا , وَفِي هَذَا الطَّرِيقِ مَسَالِكُ . الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ مَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ ابْنِ قَيْسٍ الْأَزْدِيِّ عَنْ هُذَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ الْوَاشِمَةَ وَالْمَوْشُومَةَ وَالْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ وَالْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَآكِلَ الرِّبَا , وَمُوْكِلَهُ } . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْهُ : { لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ , وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ , وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ مِنْ التَّابِعِينَ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْوَاصِلِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } وَعَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { آكِلُ الرِّبَا وَمُوكِلُهُ وَشَاهِدَاهُ وَكَاتِبُهُ إذَا عَلِمُوا بِهِ وَالْوَاصِلَةُ وَالْمُسْتَوْصِلَةُ وَلَاوِي الصَّدَقَةِ وَالْمُتَعَدِّي فِيهَا

وَالْمُرْتَدُّ عَلَى عَقِبَيْهِ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ هِجْرَتِهِ وَالْمُحَلِّلُ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ , وَالنَّسَائِيُّ , وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } . وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ يَثْعُبُ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْجُوزَجَانِيُّ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ , وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَعُثْمَانُ بْنُ الْأَخْنَسِ ثِقَةٌ , وَاَلَّذِي رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْقُرَشِيِّ وَهُوَ ثِقَةٌ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ وَثَّقَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَيَحْيَى وَعَلِيٌّ وَغَيْرُهُمْ , وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُ ذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ , وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالْجُوزَجَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ قَالَ سَمِعْت اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ قَالَ مِشْرَحُ بْنُ هَاعَانَ قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ ؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : هُوَ الْمُحَلِّلُ لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } . وَفِي لَفْظِ الْجُوزَجَانِيِّ : " الْحَالُّ " بَدَلَ " الْمُحَلِّلِ " رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ

عَنْ عُثْمَانَ . وَقَالَ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى عُثْمَانَ هَذَا الْحَدِيثَ إنْكَارًا شَدِيدًا . قُلْت : وَإِنْكَارُ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى عُثْمَانَ غَيْرُ جَيِّدٍ إنَّمَا هُوَ لِتَوَهُّمِ انْفِرَادِهِ بِهِ عَنْ اللَّيْثِ وَظَنِّهِمْ أَنَّهُ لَعَلَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ اللَّيْثِ , كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُ بَعْضُ مَنْ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ أَنَّ الْحَدِيثَ إذَا انْفَرَدَ بِهِ عَنْ الرَّجُلِ مَنْ لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ مِنْ أَصْحَابِهِ كَانَ ذَلِكَ شُذُوذًا فِيهِ وَعِلَّةً قَادِحَةً - وَهَذَا لَا يَتَوَجَّهُ هَاهُنَا لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ عَنْهُ , رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الْقَطِيعِيِّ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ : حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ فُرَيْقٍ : وَحَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ : حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بِهِ فَذَكَرَهُ , وَرَوَاهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ . وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ : حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْهَيْثَمِ : أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ فَذَكَرَ . الثَّانِي : أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ صَالِحٍ هَذَا الْمِصْرِيَّ ثِقَةٌ . رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ . وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ . وَقَالَ الشَّيْخُ صَالِحٌ سَلِيمُ النَّاحِيَةِ قِيلَ لَهُ : كَانَ يُلَقِّنُ قَالَ : لَا . وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَانَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ حُجَّةً , وَإِنَّمَا الشَّاذُّ مَا خَالَفَ بِهِ الثِّقَاتِ لَا مَا انْفَرَدَ بِهِ عَنْهُمْ , فَكَيْفَ إذَا تَابَعَهُ مِثْلُ أَبِي صَالِحٍ وَهُوَ

كَاتِبُ اللَّيْثِ وَأَكْثَرُ النَّاسِ حَدِيثًا عَنْهُ وَهُوَ ثِقَةٌ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ غَلَطٌ . وَمُشْرِحُ بْنُ هَاعَانَ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ . ثِقَةٌ , وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هُوَ مَعْرُوفٌ , فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ جَيِّدٌ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ . وَقَالَ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَشِيطٍ الْبَصْرِيُّ : سَأَلْت بَكْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ قَالَ : { لُعِنَ الْمُحَلِّلُ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ } أُولَئِكَ كَانُوا يُسَمَّوْنَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ , وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ هُوَ التَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ . وَقِيَاسُ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُقَالَ أَوْ مُحِلٌّ كَمَا يَجِيءُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِهَا مِنْ لَفْظِ الْحَالِّ وَوَقَعَ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ فَإِنْ كَانَ لُغَةً لَمْ تَبْلُغْنَا , وَإِلَّا فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى حَالًّا لِأَنَّهُ قَصَدَ حَلَّ عُقْدَةِ التَّحْرِيمِ فَيَكُونُ الِاسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ التَّحْلِيلِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ التَّحْرِيمِ وَهَذَا الِاسْمُ مِنْ الْحِلِّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعَقْدِ , وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُسَمَّى حَالًّا عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ مِنْ الْحِلِّ كَمَا يُقَالُ لَابِنٌ وَتَامِرٌ نِسْبَةً إلَى التَّمْرِ وَاللَّبَنِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ اسْمَ الْفَاعِلِ مِنْ التَّحْلِيلِ . وَيُؤَيِّدُ هَذَا : أَنَّهُ إذَا قِيلَ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ وَلَمْ يَقُلْ الْمَحْلُولُ لَهُ , وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَحْلِيلَهَا لِغَيْرِهِ بِوَاسِطَةِ حِلِّهَا لَهُ وَحِلِّهِ لَهَا فَيَكُونُ اسْمُ الْفَاعِلِ

مِنْ حَلَّ يَحِلُّ فَهُوَ حَالٌّ ضِدُّ حَرُمَ يَحْرُمُ . وَلِأَنَّهُ تَوَسَّطَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا لَهَا إلَى أَنْ تَصِيرَ حَلَالًا لِلْغَيْرِ ثُمَّ وَجَدْنَاهُ لُغَةً مَنْقُولَةً ذَكَرَهَا ابْنُ الْقَطَّاعِ فِي أَفْعَالِهِ وَغَيْرِهِ يُقَالُ حَلَّ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا وَأَحَلَّهَا وَحَلَّهَا لَهُ إذَا تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا . فَهَذِهِ سُنَنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيِّنَةٌ فِي أَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَذَلِكَ مِنْ أَبْيَنِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ التَّحْلِيلَ حَرَامٌ بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ فَعُلِمَ أَنَّ فِعْلَهُ حَرَامٌ ; لِأَنَّ اللَّعْنَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى مَعْصِيَةٍ , بَلْ لَا يَكَادُ يَلْعَنُ إلَّا عَلَى فِعْلِ كَبِيرَةٍ إذْ الصَّغِيرَةُ تَقَعُ مُكَفَّرَةً بِالْحَسَنَاتِ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ . - وَاللَّعْنَةُ هِيَ الْإِقْصَاءُ وَالْإِبْعَادُ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَنْ يَسْتَوْجِبَ ذَلِكَ إلَّا بِكَبِيرَةٍ . وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ ذَنْبٍ خُتِمَ بِغَضَبٍ أَوْ لَعْنَةٍ أَوْ عَذَابٍ أَوْ نَارٍ فَهُوَ كَبِيرَةٌ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ , وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ الْعَقْدِ ; لِأَنَّ النِّكَاحَ الْمُحَرَّمَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ , كَيْفَ وَقَدْ حَمَلُوا نَهْيَهُ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ عَلَى خَالَتِهَا عَلَى التَّحْرِيمِ وَالْفَسَادِ , وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِقْصَاءِ ذَلِكَ . ثُمَّ إنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلَّلَ لَهُ فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ بِذَلِكَ التَّحْلِيلِ إذْ لَوْ حَلَّتْ لَهُ لَكَانَ نِكَاحُهُ مُبَاحًا فَلَمْ يَسْتَحِقَّ اللَّعْنَ عَلَيْهِ , فَعُلِمَ

أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الْمُحَلِّلُ حَرَامٌ بَاطِلٌ , وَأَنَّ تَزَوُّجَ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا لِأَجْلِ هَذَا التَّحْلِيلِ حَرَامٌ بَاطِلٌ . وَمَعَ أَنَّ مُجَرَّدَ تَحْرِيمِ عَقْدِ النِّكَاحِ كَافٍ فِي بُطْلَانِهِ فَفِي خُصُوصِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْعَقْدَيْنِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْمُحَلَّلَ لَهُ , فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَلَّ لِلثَّانِي تَزَوُّجُهَا , وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ حَلَّ , وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَهُ وَلَوْ كَانَتْ قَدْ حَلَّتْ لَهُ لَكَانَ تَزَوُّجُهُ بِهَا جَائِزًا وَلَمْ يَجُزْ لَعْنُهُ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي , وَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَلَالًا لِلثَّانِي فَكُلُّ امْرَأَةٍ يَحْرُمُ التَّزَوُّجُ بِهَا فَالْعَقْدُ عَلَيْهَا بَاطِلٌ . وَهَذَا ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ بَلْ بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ مِنْ الدِّينِ . وَذَلِكَ أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْدِ كَالْمَبِيعِ وَالْمَنْكُوحَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُبَاحًا كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْمُعْتَدَّةِ وَالْمُزَوَّجَةِ كَانَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ بَاطِلًا بِالضَّرُورَةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِلثَّانِي وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ بَاطِلًا ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَحَصَلَ بِهِ الْحِلُّ كَسَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْكَلَامِ الْمَحْفُوظِ لَفْظًا وَمَعْنًى فِي قَوْلِهِ : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَمَنْ قَالَ إنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ وَهِيَ لَا تَحِلُّ بِهِ فَقَدْ أَثْبَتَ حُكْمًا بِلَا أَصْلٍ وَلَا نَظِيرٍ , وَهَذَا لَا يَجُوزُ . وَقَوْلُهُمْ تَعَجَّلَ مَا أَجَّلَ اللَّهُ فَعُوقِبَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ , قُلْنَا إنْ

كَانَ الْمُتَعَجَّلُ بِهِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ كَالْقَتْلِ قَطَعْنَا عَنْهُ حُكْمَهُ , وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ كَالطَّلَاقِ فِي الْمَرَضِ فَإِنَّا نَقْطَعُ عَنْهُ حُكْمَهُ , وَالْمَقْصُودُ رَفْعُهُ وَهُوَ الْإِرْثُ وَنَحْوُهُ , وَأَمَّا النِّكَاحُ فَإِنَّهُ عَقْدٌ قَابِلٌ لِلْإِبْطَالِ فَيَبْطُلُ , ثُمَّ إذَا عَاقَبْنَا الْمُحَلَّلَ لَهُ ; لِأَنَّهُ تَعَجَّلَ الْمُؤَجَّلَ فَكَيْفَ لَا نُعَاقِبُ الْمُحَلِّلَ الَّذِي هُوَ مُعَجِّلُ الْمُؤَجَّلَ , وَهُوَ أَحَقُّ بِالْعُقُوبَةِ لِعَدَمِ الْغَرَضِ لَهُ فِي هَذَا الْفِعْلِ , وَإِذَا انْتَفَى الدَّاعِي إلَى الْمَعْصِيَةِ كَانَتْ أَقْبَحَ كَزِنَا الشَّيْخِ وَزُهُوِّ الْفَقِيرِ وَكَذِبِ الْمَلِكِ . فَإِنْ قِيلَ : إلَّا أَنَّ التَّحْرِيمَ وَإِنْ اقْتَضَى فَسَادَ الْعَقْدِ فَإِنَّمَا ذَاكَ إذَا كَانَ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ , فَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ مِنْ أَحَدِهِمَا لَمْ يُوجِبْ الْفَسَادَ كَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ وَالْمُدَلِّسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَهُنَا التَّحْلِيلُ الْمَكْتُومُ إنَّمَا هُوَ حَرَامٌ عَلَى الزَّوْجِ الْمُحَلِّلِ , فَأَمَّا الْمَرْأَةُ وَوَلِيُّهَا فَلَيْسَ حَرَامًا عَلَيْهِمَا إذَا لَمْ يَعْلَمَا بِقَصْدِ الزَّوْجِ فَلَا يَكُونُ الْعَقْدُ فَاسِدًا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ النَّظَائِرِ , إذْ فِي إفْسَادِهِ إضْرَارُ الْمَغْرُورِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْوَلِيِّ , وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً لِيَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ وَالْبَائِعُ لَا يَعْلَمُ قَصْدَهُ فَإِنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَا يُحْكَمُ بِفَسَادِهِ وَإِنْ حَرُمَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْجِرُ وَنَحْوُهُ , فَالْمُوجِبُ لِلتَّحْرِيمِ كِتْمَانُ أَحَدِهِمَا لِنَقْصِ الْمَعْقُودِ

عَلَيْهِ أَوْ كَذِبِهِ فِي وَصْفِهِ , وَإِذَا كَانَ هَذَا الْعَقْدُ غَيْرَ فَاسِدٍ أَثْبَتَ الْحِلَّ ; لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ . ثُمَّ قَدْ يُقَالُ تَحِلُّ بِهِ لِلْأَوَّلِ عَمَلًا بِالْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ وَطَرْدًا لِلنِّظَامِ الْقِيَاسِيِّ , وَقَدْ يُقَالُ بَلْ لَا تَحِلُّ لَهُ كَمَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَغَيْرُهُ , بِنَاءً عَلَى أَنَّ السَّبَبَ مَعْصِيَةٌ وَالْمَعْصِيَةُ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ , وَالْحِلُّ وَإِنْ حُكِمَ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَوُقُوعِ السَّبَبِ إذَا كَانَ مُمْكِنًا لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ كَالطَّلَاقِ وَالْقَتْلِ لِلْمُوَرِّثِ , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حِلِّهَا لِلزَّوْجِ الْمُحَلِّلِ حِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ ; لِأَنَّ الْحِلَّ الْأَوَّلَ حَصَلَ ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ لِأَجْلِ حَقِّ الْعَاقِدِ الْآخَرِ وَمَتَى صَحَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ فَقَدْ اسْتَحَقَّتْ الصَّدَاقَ وَالنَّفَقَةَ وَاسْتَحَلَّتْ الِاسْتِمْتَاعَ ; وَلَا يَثْبُتُ هَذَا إلَّا مَعَ اسْتِحْقَاقِ الزَّوْجِ مِلْكَ النِّكَاحِ وَاسْتِحْلَالِهِ الِاسْتِمْتَاعَ بِخِلَافِ الْمُطَلِّقِ فَإِنَّهُ لَا ضَرُورَةَ هُنَاكَ تَدْعُو إلَى تَصْحِيحِ عَقْدِهِ . وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ : أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ مِنْهُمْ عُمَرُ وَعَطَاءٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ جَوَازُ إمْسَاكِ الثَّانِي لَهَا إذَا حَدَثَتْ لَهُ الرَّغْبَةُ وَمَنَعُوا عَوْدَهَا لِلْأَوَّلِ . قُلْنَا : إذَا انْفَرَدَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بِعِلْمِهِ بِسَبَبِ التَّحْرِيمِ ; فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ لِأَجْلِ حَقِّ الْعَاقِدِ الْآخَرِ , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِحَقِّ اللَّهِ مَثَلًا , فَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ حَقِّ الْعَاقِدِ الْآخَرِ كَمَا فِي بَيْعِ

الْمُدَلِّسِ وَالْمُصَرَّاةِ وَنِكَاحِ الْمَعِيبَةِ الْمُدَلِّسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا الْعَقْدُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ هَذَا الْمَغْرُورِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِحَيْثُ يَحِلُّ لَهُ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ عَلِمَ فِيمَا بَعْدَ أَنَّهُ كَانَ مَغْرُورًا , وَإِمَّا فِي حَقِّ الْقَارِّ فَهَلْ يَكُونُ بَاطِلًا فِي الْبَاطِنِ بِحَيْثُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ أَوْ لَا يَكُونُ بَاطِلًا أَوْ يُقَالُ مَلَكَهُ مِلْكًا حِسِّيًّا ؟ هَذَا مِمَّا قَدْ يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ , وَمَسْأَلَتُنَا لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ , وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ لِغَيْرِ حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَلْ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ , أَوْ لِحَقِّ غَيْرِهِمَا مِثْلَ أَنْ يَبِيعَهُ مَا لَا يَمْلِكُهُ وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ , أَوْ يَبِيعَهُ لَحْمًا يَقُولُ هُوَ ذَكِيٌّ وَهُوَ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ أَوْ وَثَنِيٍّ , وَمِثْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ ذَلِكَ ; أَوْ يَكُونُ أَحَدُ الْمُبَايِعَيْنِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْحَجْرِ وَالْآخَرُ لَا يَعْلَمُ أَوْ بِالْعَكْسِ , أَوْ لَا يَعْلَم أَنَّ هَذَا الْحَجْرَ يُبْطِلُ التَّصَرُّفَ , أَوْ يَكُونُ الْعَقْدُ مُشْتَمِلًا عَلَى شَرْطٍ أَوْ وَقْتٍ أَوْ وَصْفٍ , أَوْ أَحَدُهُمَا لَا يَعْلَمُ حُكْمَهُ وَالْآخَرُ يَعْلَمُ . إلَى نَحْوِ هَذِهِ الصُّوَرِ الَّتِي يَكُونُ الْعَقْدُ لَيْسَ مَحَلًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . أَوْ الْعَاقِدُ لَيْسَ أَهْلًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَهُنَا الْعَقْدُ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الْعَالِمِ بِالتَّحْرِيمِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ قَدْ اخْتَلَفُوا هَلْ تَسْتَحِقُّ الْمَرْأَةُ فِي مِثْلِ هَذَا مَهْرًا , وَفِيهِ عَنْ

أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ . إحْدَاهُمَا : تَسْتَحِقُّهُ وَأَظُنُّهُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ . وَالْأُخْرَى : لَا تَسْتَحِقُّهُ وَأَظُنُّهُ قَوْلَ مَالِكٍ فَإِنَّمَا ذَاكَ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَهُ لِئَلَّا يَخْلُوَ الْوَطْءُ الْمُلْحِقُ لِلنَّسَبِ عَنْ عِوَضٍ , وَوُجُوبُ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ وَالنَّسَبِ لَيْسَتْ مِنْ خَصَائِصِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ . أَفَلَمْ يَكُنْ فِي إيجَابِ مَنْ أَوْجَبَ الْمَهْرَ مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْعَقْدِ بِوَجْهٍ مَا كَمَا أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْعِدَّةَ فِي مِثْلِ هَذَا وَيُلْحِقُونَ بِهِمْ النَّسَبَ مَعَ بُطْلَانِ الْعَقْدِ . بَلْ كُلُّ نِكَاحٍ فَاسِدٍ يَثْبُتُ فِيهِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى فَسَادِهِ . وَأَمَّا فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ التَّحْرِيمَ كَالزَّوْجِ وَالْمُشْتَرِي الْمَغْرُورَيْنِ فَالْعَقْدُ فِي حَقِّهِمَا بَاطِلٌ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا بُطْلَانَهُ , وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ يَصِفُهُ بِالصِّحَّةِ مِنْ وَجْهٍ مَا , وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى أُصُولِ بَعْضِ الْكَلَامِيِّينَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي إمَّا ظَاهِرًا وَإِمَّا بَاطِنًا . لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ عَلَى أَنَّهُ فَاسِدٌ , فَلَا يَثْبُتُ لَهُ بِهَذَا الْعَقْدِ مِلْكٌ وَلَا إبَاحَةُ شَيْءٍ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ , لَكِنَّهُ لَا يُعَاقَبُ بِالْوَطْءِ وَلَا بَانَ بِالِانْتِفَاعِ بِمَا ابْتَاعَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ التَّحْرِيمَ , وَكَوْنُهُ لَمْ يَعْلَمْ التَّحْرِيمَ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا لَهُ كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَالْخَمْرِ وَتَنَاوَلَهُمَا لَا نَقُولُ إنَّهُ فَعَلَ مُبَاحًا لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَا أَبَاحَ هَذَا لِأَحَدٍ قَطُّ

لَكِنْ نَقُولُ فَعَلَ مَا لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَهُ . وَيَتَحَرَّرُ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا بِنَظَرَيْنِ . أَحَدُهُمَا : فِي الْفِعْلِ فِي الْبَاطِنِ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ لَيْسَ بِحَرَامٍ بَلْ مُبَاحٌ ؟ وَالثَّانِي : فِي الظَّاهِرِ هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ لَيْسَ بِحَرَامٍ بَلْ عَفْوٌ ؟ النَّظَرُ الْأَوَّلُ : هَلْ يُقَالُ الْفِعْلُ حَرَامٌ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْلَمْ التَّحْرِيمَ عُذِرَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ . وَالْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ يَخُوضُ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِمْ يَتَنَازَعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا , فَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَقُولُونَ : هَذَا لَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَصْلًا , وَإِنْ كَانَ حَرَامًا فِي الْأَصْلِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ كَالْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ ; لِأَنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ الْفِعْلِ وَالْمَنْعُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلَّا بِإِعْلَامِ الْمَمْنُوعِ أَوْ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَهَذَا لَمْ يَعْلَمْ التَّحْرِيمَ وَلَا أَمْكَنَهُ عِلْمُهُ فَلَا تَحْرِيمَ فِي حَقِّهِ , قَالُوا وَالتَّحْرِيمُ الثَّابِتُ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ لَا يُعْقَلُ فَإِنَّ حَدَّ الْمُحَرَّمِ مَا ذُمَّ فَاعِلُهُ أَوْ عُوقِبَ أَوْ مَا كَانَ سَبَبًا لِلذَّمِّ أَوْ الْعِقَابِ أَوْ مَا اسْتَحَقَّ بِهِ ذَمًّا أَوْ عِقَابًا , وَهَذَا الْفِعْلُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْخَصَائِصِ . نَعَمْ وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْوَى عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ يُوجِبُ إلَّا مُجَرَّدَ نِسْبَةٍ وَإِضَافَةٍ تَثْبُتُ لِلْفِعْلِ لِتَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِ , وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ

بَاطِنًا وَظَاهِرًا . ثُمَّ إنْ كَانَ قَدْ اسْتَحَلَّهُ بِنَاءً عَلَى إمَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ قَالُوا هُوَ حَلَالٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا حِلًّا شَرْعِيًّا , وَإِنْ اسْتَحَلَّهُ لِعَدَمِ الْمُحَرَّمِ قَالُوا لَيْسَ بِحَرَامٍ بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا . وَلَمْ يَقُولُوا هُوَ حَلَالٌ , وَأَمَّا أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فَيَقُولُونَ إنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ , لَكِنَّ عَدَمَ التَّحْرِيمِ مَنَعَ مِنْ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ لِفَوَاتِ شَرْطِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ , وَتَخَلُّفِ الْمُقْتَضِي عَنْ الْمُقْتَضَى لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ مُقْتَضِيًا . وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى حُكْمِ الْعِلَّةِ إذَا تَخَلَّفَ عَنْهَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ هَلْ يَقْدَحُ فِي كَوْنِهَا عِلَّةً وَيُؤْخَذُ مِنْ الشَّرْطِ وَعَدَمِ الْمَانِعِ قُيُودٌ تُضَمُّ إلَى تِلْكَ الْأَوْصَافِ فَيَجْعَلُ الْجَمِيعَ عِلَّةً وَلَكِنْ يُضَافُ التَّخَلُّفُ إلَى الْمَانِعِ وَفَوَاتِ الشَّرْطِ .

الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ وَبَعْدَ ذِكْرِ الْخُلْعِ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } , وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ وَالْمُتْعَةِ لَيْسَ بِنِكَاحٍ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ , وَلَيْسَ الْمُحَلِّلُ وَالْمُتَمَتِّعُ بِزَوْجٍ , وَذَلِكَ ; لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي اللُّغَةِ الْجَمْعُ وَالضَّمُّ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ , فَإِنْ كَانَ اجْتِمَاعًا بِالْأَبْدَانِ فَهُوَ الْإِيلَاجُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ غَايَةٌ فِي اجْتِمَاعِ الْبَدَنَيْنِ , وَإِنْ كَانَ اجْتِمَاعًا بِالْعُقُودِ فَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ وَاللُّزُومِ , وَلِهَذَا يَقُولُونَ اسْتَنْكَحَهُ الْمَذْيُ إذَا لَازَمَهُ وَدَاوَمَهُ , يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ الْمُتْعَةِ وَكَانَ يُبِيحُهَا أَنِكَاحٌ هِيَ أَمْ سِفَاحٌ فَقَالَ لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ وَلَا سِفَاحٍ وَلَكِنَّهَا مُتْعَةٌ , فَأَخْبَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ لِمَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهَا الدَّوَامَ وَاللُّزُومَ . وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ يَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ النِّكَاحِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْعَقْدِ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَإِنَّمَا كَانَ يَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ الْوَطْءِ وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ نَسَخَ الْمُتْعَةَ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِدَّةُ وَالْمِيرَاثُ فَإِذَا كَانَ الْمُسْتَمْتِعُ الَّذِي لَهُ قَصْدٌ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا إلَى أَجَلٍ لَيْسَ بِنَاكِحٍ حَيْثُ لَمْ يَقْصِدْ دَوَامَ الِاسْتِمْتَاعِ وَلُزُومَهُ , فَالْمُحَلِّلُ الَّذِي لَمْ يَقْصِدْ

شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ , أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ نَاكِحًا وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا نَكَحْت أَوْ تَزَوَّجْت وَهُوَ يَقْصِدُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ سَاعَةٍ أَوْ سَاعَتَيْنِ , وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا غَرَضٌ أَنْ تَدُومَ مَعَهُ وَلَا تَبْقَى , كَذِبٌ مِنْهُ وَخِدَاعٌ , وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْوَلِيِّ لَهُ زَوَّجْتُك أَوْ أَنْكَحْتُك وَقَدْ شَارَطَهُ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا إذَا وَطِئَهَا , وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ سُئِلَ عَنْ تَحْلِيلِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا فَقَالَ , ذَلِكَ السِّفَاحُ لَوْ أَدْرَكَكُمْ عُمَرُ لَنَكَّلَ بِكُمْ , وَقَالَ لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ وَإِنْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً , إذَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمَا أَرَادَا أَنْ يُحِلَّهَا لَهُ , وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ لَوْ أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتهمَا , وَبَيَّنَ هَذَا أَنَّ الزَّوْجَ الْمُطَلِّقَ فِي الْخِطَابِ إنَّمَا يُعْقَلُ مِنْهُ الرَّجُلُ الَّذِي يَقْصِدُ مَقَامَهُ وَدَوَامَهُ مَعَ الْمَرْأَةِ , بِحَيْثُ نَرْضَى مُصَاهَرَتَهُ وَتُعْتَبَرُ كَفَاءَتُهُ وَتُطِيقُ الْمَرْأَةُ وَوَلِيُّهَا أَنْ يَمْلِكَهَا , وَهَذَا الْمُحَلِّلُ الَّذِي جِيءَ بِهِ لِلتَّحْلِيلِ لَيْسَ بِزَوْجٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَيْسٌ اُسْتُعِيرَ لِضِرَابِهِ , وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ عَلِمَ مِنْ الْمَرْأَةِ وَوَلِيِّهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَهُ زَوْجًا فَإِذَا أَظْهَرُوا فِي الْعَقْدِ قَوْلَهُمْ زَوَّجْنَاك وَأَنْكَحْنَاك وَهُمْ غَيْرُ رَاضِينَ بِكَوْنِهِ زَوْجًا . كَانَ هَذَا خِدَاعًا وَاسْتِهْزَاءً بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ . يُؤَيِّدُ هَذَا : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ , وَالنِّكَاحُ

الْمَفْهُومُ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْخِطَابِ إنَّمَا هُوَ نِكَاحُ الرَّغْبَةِ , لَا يَعْقِلُونَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا هَذَا , وَلَوْ أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ لِابْنِهِ اذْهَبْ فَانْكِحْ فَصَارَ مُحَلِّلًا لَعَدَّهُ أَهْلُ الْعُرْفِ غَيْرَ مُمْتَثِلٍ لِأَمْرِ أَبِيهِ , وَإِنَّمَا يُسَمَّى مَا دُونَ هَذَا نِكَاحًا بِالتَّقْيِيدِ , مِثْلَ أَنْ يُقَالَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ كَمَا يُقَالُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَبَيْعُ الْخِنْزِيرِ وَفَرَّقَ بَيْنَ مَا يَقْتَضِيهِ مُطْلَقُ اللَّفْظِ وَمَا يَقْتَضِيهِ مَعَ التَّقْيِيدِ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ قَالَ { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } , وَلَمْ يُرِدْ بِهِ كُلَّ مَا يُسَمَّى نِكَاحًا مَعَ الْإِطْلَاقِ أَوْ التَّقْيِيدِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ , فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ نِكَاحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ , فَلَا بُدَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي عُرْفِ الْمُسْلِمِينَ . يُقَوِّي هَذَا : أَنَّ التَّحْرِيمَ قَبْلَ هَذَا النِّكَاحِ ثَابِتٌ بِلَا رَيْبٍ , وَنِكَاحُ الرَّغْبَةِ رَافِعٌ لِهَذَا التَّحْرِيمِ بِالِاتِّفَاقِ , وَأَمَّا نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ فَلَمْ نَعْلَمْهُ مُرَادًا مِنْ هَذَا الْخِطَابِ وَلَا هُوَ مَفْهُومٌ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ , فَيَبْقَى التَّحْرِيمُ ثَابِتًا حَتَّى يَقُولَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ نِكَاحٌ مُبَاحٌ , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَذْكُرَ نَصًّا يُحِلُّ هَذَا النِّكَاحَ , وَلَمْ يَثْبُتْ دُخُولُهُ فِي اسْمِ النِّكَاحِ الْمُطْلَقِ , وَلَا يُمْكِنُ حِلُّهُ بِالْقِيَاسِ , فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حِلِّ نِكَاحِ الرَّغْبَةِ حِلُّ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ , كَمَا لَا يَخْفَى فَإِنَّ الرَّاغِبَ مُرِيدٌ لِلنِّكَاحِ , فَنَاسَبَ

أَنْ يُبَاحَ لَهُ ذَلِكَ , وَأَمَّا الْمُحَلِّلُ فَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي النِّكَاحِ , وَلَا إرَادَةٌ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُبَاحَ لَهُ مَا لَا رَغْبَةَ لَهُ فِيهِ , إذْ الْإِرَادَةُ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ , فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إبَاحَةِ الشَّيْءِ لِلْمُحْتَاجِ إلَيْهِ , أَوْ لِمَنْ هُوَ فِي مَظِنَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ إبَاحَتُهُ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا إرَادَةَ لَهُ , وَلَا قَصْدَ فِي ذَلِكَ , بَلْ هُوَ رَاغِبٌ عَنْهُ زَاهِدٌ فِيهِ , لَوْلَا تَطْلِيقُ ذَلِكَ الْمُطَلِّقِ الْأَوَّلِ وَإِعَادَتُهَا إلَيْهِ , لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي أَنْ يَنْكِحَ , وَحِلُّ الْمَرْأَةِ لِلْمُطَلِّقِ الْأَوَّلِ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ حَتَّى يَقُولَ هَذِهِ حَاجَةٌ لِلنَّاكِحِ , وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هُنَا لِلْمُطَلِّقِ , وَذَلِكَ قَدْ حُرِّمَ عَلَيْهِ هَذَا , ثُمَّ إنَّ تِلْكَ الْحَاجَةَ لَا تَحْصُلُ بِالنِّكَاحِ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِرَفْعِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ , فَلَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي النِّكَاحِ وَلَا فِيمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ زَائِلٍ , وَإِنَّمَا غَرَضُهُ نِكَاحٌ زَائِلٌ , وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مِمَّا يُقْصَدُ بِعَقْدِهِ الِانْتِفَاعُ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ كَعَقْدِ الْبَيْعِ وَإِنَّمَا مَنْفَعَتُهُ مَنُوطَةٌ بِوُجُودِهِ فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ إلَّا أَنْ يُزِيلَهُ لِمَنْفَعَةِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ عَاقِدًا لِشَيْءٍ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ , فَلَا يَصِحُّ إلْحَاقُهُ بِمَنْ يَعْقِدُ النِّكَاحَ لِمَقَاصِدِهِ أَوْ بَعْضِهَا . يُوَضِّحُ ذَلِكَ : أَنَّ مَا هُوَ مَحْظُورٌ فِي الْأَصْلِ لَا يُبَاحُ مِنْهُ إلَّا مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ , كَذَبْحِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ قَبْلَ الْقَتْلِ مُحَرَّمٌ وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِثْلُهُ لِمَنْفَعَةِ الْأَكْلِ وَنَحْوِهَا ,

فَإِذَا قُتِلَ لَا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ كَانَ ذَلِكَ الْقَتْلُ مُحَرَّمًا , وَكَذَلِكَ الْإِبْضَاعُ حَرَامٌ قَبْلَ الْعَقْدِ , وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ , وَأُبِيحَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا لِلِانْتِفَاعِ بِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ وَالنَّفْعِ بِهَا فَإِذَا عَقَدَ لِغَيْرِ شَيْءٍ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا عَبَثًا , وَإِنْ كَانَ قَدْ قَصَدَ بِهَذَا تَحْلِيلَهَا لِمَنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ , فَإِنَّ التَّحْلِيلَ فَرْعٌ لِزَوَالِ النِّكَاحِ , وَزَوَالَ النِّكَاحِ فَرْعٌ لِحُصُولِ النِّكَاحِ , وَالنِّكَاحَ فَرْعٌ لِإِرَادَةِ مَقَاصِدِهِ , فَإِذَا جَعَلَ مَقْصُودَهُ التَّحْلِيلَ الَّذِي هُوَ فَرْعُ فَرْعِهِ صَارَ فَرْعُ فَرْعِ الْفَرْعِيِّ أَصْلًا , وَصَارَ هَذَا كَرَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْت عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي حَتَّى تُذْبَحَ هَذِهِ الشَّاةُ , أَوْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ حَتَّى تُذْبَحَ هَذِهِ الشَّاةُ , فَقَامَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ فَذَبَحَهَا لِغَيْرِ الْأَكْلِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِهَا التَّذْكِيَةَ الْمُبِيحَةَ لِلَّحْمِ , وَإِنَّمَا قَصَدَ مُجَرَّدَ حَلِّ الْيَمِينِ , فَإِنَّ هَذَا الذَّبْحَ لَا يُبِيحُ اللَّحْمَ ; لِأَنَّ الذَّبْحَ إنَّمَا أَبَاحَهُ الشَّارِعُ لِمَقْصُودِ حِلِّ اللَّحْمِ , ثُمَّ قَدْ يَحْصُلُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ حِلُّ يَمِينٍ وَغَيْرِهَا , فَإِنْ فَاتَ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ لَمْ يَثْبُتْ الْحِلُّ بِحَالٍ وَإِنْ قُصِدَ شَيْءٌ آخَرُ كَذَلِكَ هَذَا النِّكَاحُ لَهُ مَقْصُودٌ فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ كَانَ الْفَرْجُ حَرَامًا وَإِنْ قُصِدَ بِاسْتِحْلَالِ الْفَرْجِ شَيْءٌ آخَرُ , وَقَدْ سَوَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْفُرُوجِ وَالذَّبَائِحِ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ

لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } . وَكَذَلِكَ سَوَّتْ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ الْقَدِيمُ بَيْنَهُمَا فِي تَحْرِيمِهِمَا مِنْ الْمَجُوسِ وَنَحْوِهِمْ , وَفِي الِاحْتِيَاطِ فِيهِمَا إذَا اشْتَبَهَ مُبَاحُ أَحَدِهِمَا بِمَحْظُورِهِ أَوْ اشْتَبَهَ السَّبَبُ الْمُبِيحُ بِغَيْرِهِ , أَوْ اخْتَلَطَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَغَيْرِهِ , بَلْ مَسْأَلَةُ التَّحْلِيلِ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا فَإِنَّ الذَّبَائِحَ هُنَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْصِدَ الذَّبْحَ الْمَشْرُوعَ , وَيَحْصُلُ فِي ضِمْنِهِ حَلُّ الْيَمِينِ , وَحَيْثُ لَمْ تُقْصَدْ التَّذْكِيَةُ الْمُبِيحَةُ فَلَمْ يَقْصِدْ بِالذَّبْحِ أَنْ يُزِيلَ التَّذْكِيَةَ بَعْدَ هَذَا , وَالْمُحَلِّلُ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ , بَلْ قَصَدَ رَفْعَ النِّكَاحِ وَإِزَالَتَهُ . يُقَرِّرُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَطْلَقَ النِّكَاحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفَسَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَيِّنُ مُرَادَهُ بِأَنَّ النِّكَاحَ التَّامَّ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ مَقْصُودُ النِّكَاحِ , وَهُوَ الْجِمَاعُ الْمُتَضَمِّنُ ذَوْقَ الْعُسَيْلَةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِمُجَرَّدِ مَا يُسَمَّى نِكَاحًا مَعَ التَّقْيِيدِ , وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا هُوَ النِّكَاحُ الْمَعْرُوفُ , الَّذِي يُفْهَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ , وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ نِكَاحُ الرَّغْبَةِ الْمُتَضَمِّنِ ذَوْقَ الْعُسَيْلَةِ , وَهَذَا بَيِّنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى , وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنِكَاحٍ ثَبَتَ أَنَّهُ حَرَامٌ ; لِأَنَّ الْفَرْجَ حَرَامٌ إلَّا بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ , وَثَبَتَ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْمُطَلِّقِ

إذْ اللَّهُ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ .
الْمَسْلَكُ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ ذَلِكَ لِاشْتِمَالِ هَذَا التَّحْرِيمِ عَلَى مَصْلَحَةٍ لِعِبَادِهِ , وَحُصُولِ مُفْسِدَةٍ فِي حِلِّهَا لَهُ بِدُونِ الزَّوْجِ الثَّانِي , وَابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا لَهُمْ لِيُمَيِّزَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ , وَقَدْ قِيلَ كَانَ الطَّلَاقُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ كُلَّمَا شَاءَ الرَّجُلُ طَلَّقَ الْمَرْأَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا فَقَصَرَ اللَّهُ الْأَزْوَاجَ عَلَى ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ لِيَكُفَّ النَّاسُ عَنْ الطَّلَاقِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَإِذَا عَلِمَ الرَّجُلُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ كَفَّ عَنْ ذَلِكَ , إلَّا إذَا كَانَ زَاهِدًا فِي الْمَرْأَةِ , فَإِذَا كَانَ هَذَا التَّحْرِيمُ يَزُولُ بِأَنْ يَرْغَبَ إلَى بَعْضِ الْأَرَاذِلِ فِي أَنْ يَطَأَ الْمَرْأَةَ وَيُعْطِيَ شَيْئًا عَلَى ذَلِكَ , كَانَ زَوَالُ هَذَا التَّحْرِيمِ مِنْ أَيْسَرِ الْأَشْيَاءِ , فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَطَأَ وَيَبْذُلَ , فَكَيْفَ إذَا أُعْطِيَ عَلَى ذَلِكَ جُعْلًا . وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ , فَتَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ } , فَإِنَّ أَدْنَى الْحِيلَةِ مِنْ الْحِيَلِ يُمْكِنُ اسْتِحْلَالُ الْمَحَارِمِ بِهَا , وَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ الْمُتَضَمِّنُ لِجَلْبِ مَصَالِحِ خَلْقِهِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ عَنْهُمْ يَزُولُ بِأَدْنَى سَعْيٍ غَيْرَ مَقْصُودٍ , لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَبِيرُ فَائِدَةٍ وَلَا مَصْلَحَةٍ ,

وَكَانَ إلَى اللَّعِبِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْجَدِّ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي الْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ . فَإِذَا قِيلَ : إنَّ هَذَا حَلَالٌ كَانَ حَقِيقَتُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْرُمُ عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهَا فَحْلٌ مِنْ الْفُحُولِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَغْبَةٌ فِي نِكَاحِهَا بَلْ يُعْطَى عَلَى ذَلِكَ جُعْلًا , لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ صُورَةَ الْعَقْدِ وَالْتِزَامَ الْمَهْرِ , وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ فَيَكُونُ قَائِلُ هَذَا قَدْ ادَّعَى أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَتَّى تُوطَأَ وَطْئًا شَبِيهًا بِالزِّنَا بَلْ هُوَ زِنًا , فَإِنَّ هَذَا مَعْنَاهُ مَعْنَى الزِّنَا إذْ الزَّانِي هُوَ مَنْ يُرِيدُ وَطْءَ الْمَرْأَةِ , بِدُونِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ النِّكَاحُ , وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَدْ سُئِلَ عَنْ التَّحْلِيلِ , هُوَ السِّفَاحُ لَوْ أَدْرَكَكُمْ عُمَرُ لَنَكَلَكُمْ , وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ { كُنَّا نَعُدُّهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِفَاحًا } , وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا وَشَبَّهَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ إذْ الْمَقْصُودُ وَطْؤُهُ لَا مِلْكُهُ , كَذَلِكَ هَذَا الْمُحَلِّلُ إنَّمَا يَقْصِدُ مِنْهُ الْوَطْءَ الْمُجَرَّدَ لَا أَحْكَامَ الْعَقْدِ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ , وَلَمَّا رَأَى كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُ إنَّ الْمُطَلَّقَةَ تَحْرُمُ حَتَّى تُوطَأَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ , وَقَدْ رَأَى أَنَّ مَعْنَى هَذَا مَعْنَى الزِّنَا , وَحَسِبَ أَنَّ هَذَا مِنْ الدِّينِ الْمَأْخُوذِ

عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ تَجَاهَلَ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ أَخَذَ يُعَيِّرُ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا وَيَقُولُ , إنَّ دِينَهُمْ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ تَحْرُمُ حَتَّى تَزْنِيَ فَإِذَا زَنَتْ حَلَّتْ . ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ حَتَّى اعْتَمَدَ بَعْضُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّصَارَى فِيمَا يَهْجُو بِهِ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ , وَأَخَذَ يُنَفِّرُ أَهْلَ دِينِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ بِالتَّشْنِيعِ بِهَا , وَلَمْ يَعْلَمْ عَدُوُّ اللَّهِ أَنَّ هَذَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الدِّينِ وَلَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ السَّابِقِينَ , وَلَا عَنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ , بَلْ قَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ وَأَقُولُ إنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي اخْتَارَهُ وَاصْطَفَاهُ وَطَهَّرَهُ , وَهُوَ حَقِيقٌ بِالتَّوْقِيرِ وَالصِّيَانَةِ مِنْ عِلَّةٍ تَشِينُهُ , وَأَنْ يُنَزَّهَ عَمَّا أَصْبَحَ أُمَنَاءُ الْمِلَلِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , يُعَيِّرُونَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِيهِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَبِالْجُمْلَةِ : فَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ وَأَنْصَفَ فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ أَزْكَى وَأَطْهَرَ مِنْ أَنْ يُحَرِّمَ فَرْجًا مِنْ الْفُرُوجِ حَتَّى يُسْتَعَارَ لَهُ مِنْ تَيْسٍ مِنْ التُّيُوسِ , لَا يُرْغَبُ فِي نِكَاحِهِ وَلَا فِي مُصَاهَرَتِهِ وَلَا يُرْغَبُ بَقَاؤُهُ مَعَ الْمَرْأَةِ أَصْلًا فَيَنْزُو عَلَيْهَا وَتَحِلُّ بِذَلِكَ , فَإِنَّ هَذَا بِالسِّفَاحِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ , بَلْ هُوَ سِفَاحٌ وَزِنًا كَمَا سَمَّاهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ يَكُونُ الْحَرَامُ مُحَلَّلًا ؟ أَمْ كَيْفَ يَكُونُ الْخَبِيثُ مُطَيَّبًا ؟ أَوْ كَيْفَ يَكُونُ النَّجَسُ مُطَهَّرًا , ؟ وَغَيْرُ خَافٍ عَلَى مَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَنَوَّرَ قَلْبَهُ بِالْإِيمَانِ أَنَّ هَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ الَّتِي لَا تَأْتِي بِهَا سِيَاسَةُ عَاقِلٍ فَضْلًا عَنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ لَا سِيَّمَا أَفْضَلُ الشَّرَائِعِ وَأَشْرَفُ الْمَنَاهِجِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ مِنْ أَنْ يُشَرِّعَ مِثْلَ هَذَا وَلَمَّا رَأَتْ الْقُلُوبُ السَّلِيمَةُ وَالْفِطْرُ الْمُسْتَقِيمَةُ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا حَقِيقَةُ السِّفَاحِ لَا النِّكَاحِ , لَمْ تُلْقِ لَهُ بَالًا فَصَارَ يَتَوَلَّدُ مِنْ فِعْلِ هَذَا مِنْ الْمَفَاسِدِ أَضْعَافُ مَفَاسِدِ الْمُتْعَةِ .

الْمَسْلَكُ السَّادِسُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } . يَعْنِي فَإِنْ طَلَّقَهَا هَذَا الزَّوْجُ الثَّانِي الَّذِي نَكَحَتْهُ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا , وَعَلَى الْمُطَلِّقِ الْأَوَّلِ أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ , وَحَرْفُ إنْ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِمَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ وَعَدَمُ وُقُوعِهِ , فَأَمَّا مَا يَقَعُ لَازِمًا أَوْ غَالِبًا فَيَقُولُونَ فِيهِ إذَا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ فَائْتِنِي وَلَا يَقُولُونَ إنْ احْمَرَّ الْبُسْرُ ; لِأَنَّ احْمِرَارَهُ وَاقِعٌ فَلَمَّا قَالَ فَإِنْ طَلَّقَهَا عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ النِّكَاحَ الْمُتَقَدِّمَ نِكَاحٌ يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ تَارَةً وَلَا يَقَعُ أُخْرَى , وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ لَازِمًا أَوْ غَالِبًا , وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي مِثْلِهِ فَإِذَا طَلَّقَهَا وَلَا يُقَالُ فَالْآيَةُ عَمَّتْ كُلَّ نِكَاحٍ , فَلِهَذَا قِيلَ فَإِنْ طَلَّقَهَا إذْ مِنْ النَّاكِحِينَ أَنْ يُطَلِّقَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُطَلِّقُ , وَإِنْ كَانَ غَالِبُ الْمُحَلِّلِينَ يُطَلِّقُ ; لِأَنَّا نَقُولُ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ لَقَالَ فَإِنْ فَارَقَهَا ; لِأَنَّهُ قَدْ يَمُوتُ عَنْهَا , وَقَدْ تُفَارِقُهُ بِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ بِحُدُوثِ مَهْرٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ لِعَانٍ أَوْ بِفَسْخِهِ لِعُسْرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَتَحِلُّ , لَكِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ بِيَدِ الزَّوْجِ وَإِنَّمَا بِيَدِهِ الطَّلَاقُ خَاصَّةً , فَهُوَ الَّذِي إذَا قِيلَ فِيهِ إنْ طَلَّقَ حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ , دَلَّ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ

نِكَاحُ رَغْبَةٍ قَدْ يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ وَقَدْ لَا يَقَعُ , لَا نِكَاحُ دُلْسَةٍ يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إلَّا نَادِرًا , وَلَوْ قِيلَ فَإِنْ فَارَقَهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ تَقَعُ فِيهِ الْفُرْقَةُ تَارَةً وَلَا تَقَعُ أُخْرَى , وَمَعْلُومٌ أَنَّ نِكَاحَ الرَّغْبَةِ وَالدُّلْسَةِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ , فَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ إنَّمَا عَدَلَ عَنْ لَفْظِ فَارَقَ إلَى لَفْظِ طَلَّقَ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ نِكَاحٌ قَدْ يَكُونُ فِيهِ الطَّلَاقُ , لَا نِكَاحٌ مَعْقُودٌ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ . يُؤَيِّدُ هَذَا : أَنَّ لَفْظَةَ الْفِرَاقِ أَعَمُّ فَائِدَةً وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ الطَّلَاقِ خَصِيصَةٌ لَكَانَ ذِكْرُهُ أَوْلَى , وَمَا ذَكَرْنَاهُ فَائِدَةٌ مُنَاسَبَةٌ يَتَبَيَّنُ بِمُلَاحَظَتِهَا كَمَالُ مَوْضِعِ الْخِطَابِ . يُبَيِّنُ هَذَا : أَنَّ الْغَايَةَ الْمُؤَقَّتَةَ بِحَرْفِ حَتَّى تَدْخُلُ فِي حُكْمِ الْمَحْدُودِ الْمُغَيَّا لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ خِلَافًا فِيهِ , وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْغَايَةِ الْمُؤَقَّتَةِ بِحَرْفِ إلَى وَلِهَذَا قَالُوا فِي قَوْلِهِمْ أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسِهَا وَقَدِمَ الْحَاجُّ حَتَّى الشَّاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَنَّ الْغَايَاتِ دَاخِلَةٌ فِي حُكْمِ مَا قَبْلَهَا فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } يَقْتَضِي أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تُوجَدَ الْغَايَةُ الَّتِي هِيَ نِكَاحُ زَوْجٍ غَيْرِهِ , وَأَنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ إذَا وُجِدَتْ انْتَهَى ذَلِكَ التَّحْرِيمُ الْمَحْدُودُ

إلَيْهَا , وَانْقَضَى , وَهَذَا الْقَدْرُ وَحْدَهُ كَافٍ فِي بَيَانِ حِلِّهَا لِلْأَوَّلِ إذَا فَارَقَهَا الثَّانِي بِمَوْتٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ طَلَاقٍ ; لِأَنَّهُ إذَا نَكَحَهَا زَوْجٌ غَيْرُهُ فَقَدْ زَالَ التَّحْرِيمُ الَّذِي كَانَ وُجِدَ بِالطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ , وَبَقِيَتْ كَسَائِرِ الْمُحْصَنَاتِ فِيهَا تَحْرِيمٌ آخَرُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الطَّلَاقِ , فَإِذَا زَالَ هَذَا التَّحْرِيمُ بِالْفُرْقَةِ لَمْ يَبْقَ فِيهَا وَاحِدٌ مِنْ التَّحْرِيمَيْنِ , فَتَعُودُ كَمَا كَانَتْ , أَوْ أَنَّهُ أُرِيدَ بِنِكَاحِ زَوْجٍ غَيْرِهِ , مَجْمُوعُ مُدَّةِ النِّكَاحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ ذَلِكَ . كَمَا يُقَالُ لَا أُكَلِّمُك حَتَّى تُصَلِّيَ , فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا كَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ نِكَاحِ زَوْجٍ غَيْرِهِ . وَمَعْنَاهُ كَمَعْنَى الْأَوَّلِ , فَلَمَّا قِيلَ بَعْدَ هَذَا فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ غَيْرُ بَيَانِ تَوَقُّفِ الْحِلِّ عَلَى الطَّلَاقِ , وَهُوَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الزَّوْجَ مَوْصُوفٌ بِجَوَازِ التَّطْلِيقِ , وَعَدَمِ جَوَازِهِ أَعْنِي وُقُوعَهُ تَارَةً وَعَدَمَ وُقُوعِهِ أُخْرَى , وَإِذَا أَرَدْت وُضُوحَ ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ } لَمَّا كَانَ التَّطْهِيرُ فِعْلًا مَقْصُودًا جِيءَ فِيهِ بِحَرْفِ التَّوْقِيتِ ; وَلَمَّا كَانَ الطَّلَاقُ هُنَا غَيْرَ مَقْصُودٍ جِيءَ فِيهِ بِحَرْفِ التَّعْلِيقِ . فَلَوْ كَانَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ مَا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ حَتَّى تَنْكِحَ لَكَانَ هُوَ

الْغَالِبَ عَلَى نِكَاحِ الْمُطَلَّقَاتِ . وَكَانَ الطَّلَاقُ فِيهِ مَقْصُودًا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ تِلْكَ الْآيَةِ . لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي تِلْكَ الْآيَةِ . إلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَوَقَّفَ الْحِلُّ عَلَى شَرْطَيْنِ قَالَ : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } . فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ الثَّابِتَ بِفِعْلِ اللَّهِ زَالَ بِوُجُودِ الطُّهْرِ . ثُمَّ بَقِيَ نَوْعٌ آخَرُ أَخَفُّ مِنْهُ . يُمْكِنُ زَوَالُهُ بِفِعْلِ الْآدَمِيِّ بَيَّنَ حُكْمَهُ بِقَوْلِهِ : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ } . وَهُنَا لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ فَإِنْ طَلَّقَهَا بَيَانُ تَوَقُّفِ الْحِلِّ عَلَى طَلَاقِهَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ قَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ } ; وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ هُوَ الشَّرْطُ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ أَيُّ فُرْقَةٍ حَصَلَتْ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ وَحْدَهُ لَا يَكْفِي فِي الْحِلِّ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْمُطَلِّقِ , وَعِلْمُ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ الْمُتَزَوِّجَةَ لَا تَحِلُّ أَظْهَرُ مِنْ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَا تَحِلُّ , فَلَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ ذِكْرُهُ الْعِدَّةَ أَوْكَدَ , فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَائِدَةٍ فِي ذِكْرِ هَذَا الشَّرْطِ , ثُمَّ فِي تَخْصِيصِ الطَّلَاقِ . ثُمَّ ذِكْرِهِ بِحَرْفِ إنْ وَمَا ذَاكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إلَّا لِبَيَانِ أَنَّ النِّكَاحَ الْمُتَقَدِّمَ الْمَشْرُوطَ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ . فَإِنْ طَلَّقَهَا وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْلَكُ الثَّانِيَ عَشَرَ وَهَذَا هُوَ الْمَسْلَكُ الثَّانِيَ عَشَرَ وَهُوَ أَنَّ جَوَازَ التَّحْلِيلِ قَدْ أَفْضَى إلَى مَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ وَصَارَ مَظِنَّةً لَهَا وَلِمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا , وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ التُّيُوسِ الْمُسْتَعَارَةِ صَارَ يُحَلِّلُ الْأُمَّ وَبِنْتَهَا عَلَى مَا أَخْبَرَنِي بِهِ مَنْ صَدَّقْتُهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِهَذَا السِّفَاحِ , فَلَا يُمَيِّزُ مَنْ الْمَنْكُوحَةُ وَلَا لَهُ غَرَضٌ فِي الْمُصَاهَرَةِ حَتَّى يَجْتَنِبَ مَا حَرَّمَتْهُ . وَمِنْهَا : أَنَّهُ يَجْمَعُ مَاءَهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بَلْ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرٍ وَهُوَ مَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ , كَمَا رَوَاهُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَغَيْرُهُ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إذَا كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا . وَمِنْهَا : أَنَّ كَثِيرًا مَا يَتَوَاطَؤُ هُوَ وَالْمَرْأَةُ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَهَا إذْ لَيْسَ لَهُ رَغْبَةٌ فِي ذَلِكَ , وَالْمَرْأَةُ لَا تَعُدُّهُ زَوْجًا فَتَنْكَشِفُ أَوْ تَسْتَحِي أَوْ تَهَابُ أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا لِاسْتِشْعَارِهَا أَنَّهُ لَمْ يُتَّخَذْ زَوْجًا . وَمِنْهَا : أَنَّهُ غَالِبًا لَا يَكُونُ كُفْئًا لِلْمَرْأَةِ وَنِكَاحُ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ مَكْرُوهٌ أَوْ مَشْرُوطٌ فِيهِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ , أَوْ بَاطِلٌ وَغَالِبًا لَا يُرَاعَى فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ . وَمِنْهَا : أَنَّ الْمُطَلِّقِينَ لِمَا أُلْقِيَ إلَيْهِمْ خِفَّةُ مَئُونَةِ الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ , إذَا كَانَ التَّحْرِيمُ يَزُولُ بِتَيْسٍ يُعْطِي ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ , حَتَّى لَقَدْ بَلَغَنِي مِمَّنْ صَدَّقَتْهُ أَنَّ بَعْضَ التُّيُوسِ طَلَبَ أَكْثَرَ مَا بُذِلَ لَهُ ,

فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ وَأَيَّ شَيْءٍ تُرِيدُ فَعَلْتَ وَأَخَذْتَ سَامَحَ النَّاسَ فِي ذَلِكَ , حَتَّى رُبَّمَا كَتَمَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ وَحَلَّلَهَا بِدُونِ إذْنِ الْوَلِيِّ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يُزَوِّجُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ , وَنِكَاحُ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِدُونِ إذْنِ الْوَلِيِّ مِنْ أَبْطَلْ النِّكَاحِ وَأَعْظَمِهِ مُرَاغَمَةً لِلشَّرِيعَةِ وَمِمَّا آلَ بِهِ اسْتِخْفَافُ شَأْنِ التَّحْلِيلِ أَنَّ الْأَمْرَ أَفْضَى إلَى أَنْ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَحْسِبُ أَنَّ مُجَرَّدَ وَطْءِ الذَّكَرِ مُبِيحٌ حَتَّى اعْتَقَدُوا أَنَّهَا إذَا وَلَدَتْ ذَكَرًا حَلَّتْ , وَاعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا بِقَدَمِهِ حَلَّتْ , وَاعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إذَا صَبَّ دُهْنًا فَوْقَ رَأْسِهَا حَلَّتْ كَأَنَّهُمْ شَبَّهُوهُ بِصَبِّ الْمَنِيِّ . حَدَّثَنِي بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي تُفْضِي النِّسَاءُ إلَيْهِنَّ أَسْرَارَهُنَّ , وَحِلُّهُ بِالْأَوَّلِ مُسْتَقِرٌّ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ الْجُهَّالِ , حَتَّى بَلَغَنِي أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَكِيم النَّهْرَوَانِيُّ صَاحِبَ أَبِي الْخَطَّابِ حَضَرَ حَلْقَةَ شَيْخٍ نَبِيلِ الصُّورَةِ فَأَكْرَمَهُ , وَسَأَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَكِيم عَنْ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا ذَكَرًا هَلْ تَحِلُّ فَقَالَ لَا , فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ أَنَا أُفْتِي أَنَّهَا تَحِلُّ مِنْ الْبَصْرَةِ إلَى هُنَا فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَكِيمٍ مَا زِلْت تُفْتِي بِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ , أَوْ كَمَا قَالَ , فَانْظُرْ إلَى هَذِهِ الْفَضَائِحِ الَّتِي فِيهَا انْهِدَامُ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعَامَّةِ , أَصْلُهَا

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا أُلْقِيَ إلَيْهِمْ ابْتِدَاءً مِنْ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا تَحِلُّ بِنِكَاحٍ خَارِجٍ عَنْ النِّكَاحِ الْمَعْرُوفِ , وَإِلَّا فَلَوْ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ لَا تُنْكَحُ إلَّا كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ ابْتِدَاءً لَمْ يَشْتَبِهْ النِّكَاحُ الَّذِي هُوَ النِّكَاحُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقَبَائِحِ كَاشْتِبَاهِ التَّحْلِيلِ بِهِ , وَمِنْ مَفَاسِدِهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُطَلَّقَةَ إذَا لَمْ تَنْكِحْ التَّيْسَ نِكَاحَ رَغْبَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا غَرَضٌ فِي الْوِلَادَةِ مِنْهُ , وَلَا فِي أَنْ يَبْقَى بَيْنَهُمَا عَلَاقَةٌ , فَرُبَّمَا قَتَلَتْ الْوَلَدَ بَلْ لَعَلَّ هَذَا أُوقِعَ كَثِيرًا وَدَائِمًا وَكَثِيرٌ مِنْهُنَّ يَسْتَطِيلُ الْعِدَّةُ فَإِمَّا أَنْ تَكْذِبَ أَوْ تَكْتُمَ . وَمَا ذَاكَ إلَّا ; لِأَنَّهُ يَتَوَالَى عَلَيْهَا عِدَّتَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ وَهِيَ شَدِيدَةُ الرَّغْبَةِ فِي الْعَوْدَةِ إلَى الْأَوَّلِ , وَلَوْ أَنَّهَا أُلْقِيَ إلَيْهَا الْيَأْسُ مِنْ الْعَوْدِ إلَى الْأَوَّلِ , إلَّا بَعْدَ نِكَاحٍ تَامٍّ كَالنِّكَاحِ الْمُبْتَدَإِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا , وَمِنْ ذَاكَ مَا بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا تَرَكَ مَنْ حَلَّلَ امْرَأَةً فِي بَيْتِهِ فَلَمَّا خَرَجَ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى أَنْ رَاوَدَ الْمَرْأَةَ عَنْ نَفْسِهَا وَقَالَ إنَّ الْحِلَّ لَا يَتِمُّ إلَّا بِرَجُلَيْنِ , وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ رَأَى غَيْرَهُ قَدْ أَتَى بِالسِّفَاحِ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى التَّشَبُّهِ بِهِ إذْ النُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى التَّشَبُّهِ , وَلَوْ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ أَحْصَنَ فَرْجَ الْمَرْأَةِ وَنَكَحَهَا نِكَاحَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُحَدِّثْ هَذَا نَفْسَهُ بِالتَّشَبُّهِ بِهِ فِي تِلْكَ الْمَرْأَةِ .

فَصْلٌ وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْطَانُ لِلتَّحْلِيلِ حِيلَةً أُخْرَى وَهِيَ أَنْ يُزَوِّجَهَا الرَّجُلُ الْمُطَلِّقُ مِنْ عَبْدِهِ بِنِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْهَا أَوْ يَهَبَهُ لَهَا , فَإِذَا وَطِئَهَا الْعَبْدُ بَاعَهَا ذَلِكَ الْعَبْدُ أَوْ بَعْضُهُ أَوْ وَهَبَهَا ذَلِكَ وَالْمَرْأَةُ إذَا مَلَكَتْ زَوْجَهَا أَوْ شِقْصًا مِنْهُ انْفَسَخَ النِّكَاحُ , وَالْمُخَادِعُونَ يُؤْثِرُونَ هَذِهِ الْحِيلَةَ لِشَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْفُرْقَةَ هُنَا تَكُونُ بِيَدِ الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ أَوْ الزَّوْجَةِ , فَلَا يَتَمَكَّنُ الزَّوْجُ مِنْ الِامْتِنَاعِ مِنْ الْفُرْقَةِ , بِخِلَافِ الصُّورَةِ الْأُولَى فَإِنَّهُ قَدْ يَمْتَنِعُ مِنْ الطَّلَاقِ , فَيُمْكِنُهُ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ . الثَّانِي : زَعَمُوا أَنَّهُ أَسْتَرُ لَهُمَا مِنْ إدْخَالِ أَجْنَبِيٍّ عَلَى الْمَرْأَةِ , فَإِنَّ إيطَاءَ عَبْدِهِ لَيْسَ كَإِيطَاءِ مَنْ يُسَامِيهِ فِي الْحُرِّيَّةِ , ثُمَّ ذَهَبَ بَعْدَ الشُّذُوذِ إلَى أَنَّ وَطْءَ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يُجَامِعُ مِثْلَهُ يُحِلُّهَا , فَإِذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُجْبِرُهُ عَلَى النِّكَاحِ صَارَ بِيَدِ الْمُطَلِّقِ الْعَقْدُ وَالْفَسْخُ مِنْ غَيْرِ مَا يُعَارِضُهُ , وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَمِنْهُمْ مَنْ يُجْبِرُهُ عَلَى النِّكَاحِ فَيَصِيرُ بِيَدِ السَّيِّدِ الْعَقْدُ وَالْفَسْخُ أَيْضًا , وَجَعَلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَعْنِي فِيمَا إذَا زَوَّجَهَا مِنْ عَبْدِهِ الْكَبِيرِ احْتِمَالًا ; لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَنْوِ التَّحْلِيلَ وَإِنَّمَا نَوَاهُ غَيْرُهُ , وَالْعِبْرَةُ فِي التَّحْلِيلِ بِنِيَّةِ الزَّوْجِ لَا بِنِيَّةِ غَيْرِهِ . وَهَذِهِ الصُّورَةُ أَبْلَغُ فِي الْمُخَادَعَةِ لِلَّهِ تَبَارَكَ

وَتَعَالَى وَالِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَالتَّلَاعُبِ بِحُدُودِ اللَّهِ , فَإِنَّهُ هُنَاكَ كَانَ الْمُحَلِّلُ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ الْفُرْقَةُ لَا بِيَدِ غَيْرِهِ , وَهُنَا جُعِلَتْ الْفُرْقَةُ بِيَدِ الْمُطَلِّقِ وَالْمَرْأَةِ , لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ تَحْتَ حَجْرِ الزَّوْجِ بِأَنْ يَكُونَ وَصِيًّا لَهَا , فَيَرَى أَنْ يَهَبَهَا الْعَبْدَ وَيَقْبَلَهُ هُوَ أَوْ يَبِيعَهَا إيَّاهُ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَبِيعَ الْوَصِيَّ لِلْيَتِيمِ , فَإِنَّ مَنْ فَتَحَ بَابَ الْمُخَادَعَةِ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ حَدٍّ يَتَعَدَّى مَا أَمْكَنَهُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ , وَيَنْتَهِكُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ , فَإِنَّهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ يَبْقَى الْمُطَلِّقُ مُسْتَقِلًّا بِفَسْخِ النِّكَاحِ , ثُمَّ إنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُهُ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ , فَإِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لَهُ فِي النِّكَاحِ وَمِنْ نِيَّةِ هَذَا السَّيِّدِ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَهُ كَانَ الزَّوْجُ أَيْضًا مَخْدُوعًا مَمْكُورًا بِهِ , حَيْثُ أَذِنَ لَهُ فِي نِكَاحٍ بَاشَرَهُ وَلَيْسَ الْقَصْدُ بِهِ نِكَاحًا , وَإِنَّمَا الْقَصْدُ بِهِ سِفَاحٌ , فَهُنَاكَ إنَّمَا وَقَعَتْ الْمُخَادَعَةُ فِي حَقِّ اللَّهِ فَقَطْ . وَهُنَا وَقَعَتْ الْمُخَادَعَةُ فِي حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ آدَمِيٍّ وَهَذَا هُوَ الزَّوْجُ , وَاللَّعْنَةُ الَّتِي وَجَبَتْ هُنَاكَ عَلَى الْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلِ لَهُ يَصِيرُ كِلْتَاهُمَا هُنَا عَلَى الْمُطَلِّقِ وَهُوَ الْمُحَلَّلُ لَهُ وَعَلَى الزَّوْجَةِ فَيَقْتَسِمَانِ لَعْنَةَ الْمُحَلِّلِ , وَيَنْفَرِدُ الْمُطَلِّقُ بِلَعْنَةِ الْمُحَلَّلِ لَهُ أَوْ تُشْرِكُهُ الْمَرْأَةُ فِيهَا . وَمِنْ أَسْرَارِ

الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَعُمُّ هَذَا لَفْظًا كَمَا يَعُمُّهُ مَعْنًى , فَإِنَّ الْعَطْفَ قَدْ يَكُونُ لِلتَّغَايُرِ فِي الصِّفَات كَمَا يَكُونُ لِلتَّغَايُرِ فِي الذَّوَاتِ , فَيُقَالُ لِهَذَا لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَإِنْ كَانَا وَصْفَيْنِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ , فَلِهَذَا قُلْنَا هَذَا أَغْلَظُ فِي التَّحْرِيمِ , حَيْثُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ لَعْنَتَانِ , فَإِنْ كَانَ هَذَا الْعَبْدُ قَدْ وَاطَأَهُمْ أَخَذَ بِنَصِيبِهِ مِنْ اللَّعْنَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ نَصِيبِ السَّيِّدِ شَيْئًا ; لِأَنَّ عَقْدَ التَّحْلِيلِ إنَّمَا تَمَّ بِرِضَاهُ وَرِضَا السَّيِّدِ , كَمَا لَوْ كَانَ الْمُحَلِّلُ عَبْدًا لِغَيْرِ الْمُطَلِّقِ , فَإِنَّهُ إذَا حَلَّلَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ حَقَّتْ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِمَا , وَيَزِيدُهُ قُبْحًا أَنَّ الزَّوْجَ هُنَا عَبْدٌ لَيْسَ بِكُفْءٍ وَنِكَاحُهُ إمَّا مَنْقُوصٌ أَوْ بَاطِلٌ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ , وَمَنْ يُصَحِّحُهُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ رِضَا جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ . ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ التَّحْلِيلَ بِالْعَبْدِ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ الْمُطَلِّقِ بَلْ مِنْ صَدِيقٍ لَهُ يُزَوِّجُهَا بِعَبْدِهِ , وَيُوَاطِئُهَا عَلَى أَنْ يُمَلِّكَهَا إيَّاهُ , فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ بِذَلِكَ فَهُوَ كَمَا لَوْ اعْتَقَدَ الزَّوْجُ التَّحْلِيلَ هُنَاكَ وَعَلِمَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ دُونَ الْمُطَلِّقِ , وَإِنْ عَلِمَ فَهُوَ كَمَا لَوْ عَلِمَ هُنَاكَ , وَكَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى التَّحْلِيلِ فَهِيَ حَاصِلَةٌ هُنَا , فَإِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ } , وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ إنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ الزَّوْجَ فَالسَّيِّدُ هُنَا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19