كتاب : إقامة الدليل على إبطال التحليل
تأليف : شيخ الإسلام ابن تيمية

فَالطَّلَاقُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ : الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ : وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا , وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فِي الْعِدَّةِ وَرِثَهُ الْآخَرُ . وَالطَّلَاقُ الْبَائِنُ : وَهُوَ مَا يَبْقَى بِهِ خَاطِبًا مِنْ الْخُطَّابِ , لَا تُبَاحُ لَهُ إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ . وَالطَّلَاقُ الْمُحَرِّمُ لَهَا : لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ , وَهُوَ فِيمَا إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ , كَمَا أَذِنَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَهُوَ : أَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ , أَوْ يَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا , أَوْ يَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ . فَهَذَا الطَّلَاقُ الْمُحَرِّمُ لَهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا طَلَاقٌ بَائِنٌ يُحْسَبُ مِنْ الثَّلَاثِ . وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ , وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ , وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ , وَأَبِي ثَوْرٍ , وَابْنِ الْمُنْذِرِ . وَدَاوُد وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِمْ : أَنَّ " الْخُلْعَ " فَسْخٌ لِلنِّكَاحِ وَفِرْقَةٌ بَائِنَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ , لَا يُحْسَبُ مِنْ الثَّلَاثِ . وَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ : كَابْنِ عَبَّاسٍ . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا : أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ ; وَإِنَّمَا عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ , وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ ;

وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمَا , وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ . وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مَعْرُوفَةٌ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا , وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْخُلْعَ طَلَاقًا ; لَكِنْ ضَعَّفَهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ , كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ; وَابْنِ خُزَيْمَةَ ; وَابْنِ الْمُنْذِرِ , وَالْبَيْهَقِيِّ , وَغَيْرِهِمْ , كَمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْهُمْ . وَالْخُلْعُ : أَنْ تَبْذُلَ الْمَرْأَةُ عِوَضًا لِزَوْجِهَا ; لِيُفَارِقَهَا , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ , فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ

يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ , وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُطَلَّقَاتِ بَعْدَ الدُّخُولِ يَتَرَبَّصْنَ أَيْ يَنْتَظِرْنَ ثَلَاثَ قُرُوءٍ . " وَالْقُرْءُ " عِنْدَ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ : كَعُثْمَانَ , وَعَلِيٍّ , وَابْنِ مَسْعُودٍ , وَأَبِي مُوسَى , وَغَيْرِهِمْ : الْحَيْضُ . فَلَا تَزَالُ فِي الْعِدَّةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَيْضَةُ الثَّالِثَةُ , وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَأَحْمَدَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِطَعْنِهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ , وَهِيَ مَذْهَبُ مَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ .

546 - 546 - 9 - مَسْأَلَةٌ : سُئِلَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّلَاقِ الْحَلَالِ وَالطَّلَاقِ الْحَرَامِ ؟ وَعَنْ الطَّلَاقِ الْحَرَامِ هَلْ هُوَ لَازِمٌ أَوْ لَيْسَ بِلَازِمٍ ؟ وَعَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ ؟ وَعَنْ حُكْمِ الْحَلِفِ بِلَفْظِ الْحَرَامِ , هَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَمْ لَا ؟ وَعَنْ بَسْطِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ ؟ فَأَجَابَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : الطَّلَاقُ مِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ . فَالطَّلَاقُ الْمُبَاحُ - بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ - هُوَ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً ; إذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضَتِهَا , بَعْدَ أَنْ تَغْتَسِلَ وَقَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا ثُمَّ يَدَعَهَا فَلَا يُطَلِّقَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا . وَهَذَا الطَّلَاقُ يُسَمَّى " طَلَاقَ السُّنَّةِ " فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ فَلَهُ ذَلِكَ بِدُونِ رِضَاهَا وَلَا رِضَا وَلِيِّهَا . وَلَا مَهْرٍ جَدِيدٍ . وَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى تَقْضِيَ الْعِدَّةَ , فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَرِّحَهَا بِإِحْسَانٍ فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ . فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ ; لَكِنْ يَكُونُ بِعَقْدٍ ; كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا ابْتِدَاءً أَوْ تَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ ثُمَّ ارْتَجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ , أَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ وَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ; فَإِنَّهُ يُطَلِّقُهَا كَمَا تَقَدَّمَ . ثُمَّ إذَا ارْتَجَعَهَا , أَوْ تَزَوَّجَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً , وَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا , فَإِنَّهُ يُطَلِّقُهَا كَمَا تَقَدَّمَ , فَإِذَا طَلَّقَهَا الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ حَرُمَتْ

عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ , كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ وَرَسُولُهُ , وَحِينَئِذٍ فَلَا تُبَاحُ لَهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ النِّكَاحَ الْمَعْرُوفَ الَّذِي يَفْعَلُهُ النَّاسُ إذَا كَانَ الرَّجُلُ رَاغِبًا فِي نِكَاحِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ يُفَارِقُهَا . فَأَمَّا إنْ تَزَوَّجَهَا بِقَصْدِ أَنْ يُحِلَّهَا لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ , كَمَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ , وَغَيْرِهِمْ , وَكَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ , وَالْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ , كَمَا قَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِمَّا لَا تَحِيضُ لِصِغَرِهَا أَوْ كِبَرِهَا ; فَإِنَّهُ يُطَلِّقُهَا مَتَى شَاءَ , سَوَاءٌ كَانَ وَطِئَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ يَطَؤُهَا ; فَإِنَّ هَذِهِ عِدَّتَهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ . فَفِي أَيِّ وَقْتٍ طَلَّقَهَا لِعِدَّتِهَا ; فَإِنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِقُرُوءٍ , وَلَا بِحَمْلٍ ; لَكِنْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُسَمِّي هَذَا " طَلَاقَ سُنَّةٍ " وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُسَمِّيهِ " طَلَاقَ سُنَّةٍ " وَلَا " بِدْعَةٍ " . وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ , أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ أَنْ وَطِئَهَا وَقَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا : فَهَذَا الطَّلَاقُ مُحَرَّمٌ , وَيُسَمَّى " طَلَاقَ الْبِدْعَةِ " وَهُوَ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا , وَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا : فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا . وَهَلْ يُسَمَّى هَذَا طَلَاقَ سُنَّةٍ ؟ أَوْ لَا يُسَمَّى طَلَاقَ سُنَّةٍ , وَلَا بِدْعَةٍ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ . وَهَذَا الطَّلَاقُ

الْمُحَرَّمُ فِي الْحَيْضِ , وَبَعْدَ الْوَطْءِ وَقَبْلَ تَبَيُّنِ الْحَمْلِ هَلْ يَقَعُ ؟ أَوْ لَا يَقَعُ ؟ سَوَاءٌ كَانَتْ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا , فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ ; مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا . أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ . أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ , ثُمَّ طَالِقٌ , ثُمَّ طَالِقٌ . أَوْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ , ثُمَّ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ , ثُمَّ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ , أَوْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا , أَوْ عَشْرَ طَلْقَاتٍ , أَوْ مِائَةَ طَلْقَةٍ . أَوْ أَلْفَ طَلْقَةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ فَهَذَا لِلْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ , سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا , وَمِنْ السَّلَفِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا . وَفِيهِ قَوْلٌ رَابِعٌ مُحْدَثٌ مُبْتَدَعٌ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ طَلَاقٌ مُبَاحٌ لَازِمٌ , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْقَدِيمَةِ عَنْهُ : اخْتَارَهَا الْخِرَقِيِّ . الثَّانِي : أَنَّهُ طَلَاقٌ مُحَرَّمٌ لَازِمٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ , وَأَبِي حَنِيفَةَ , وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهُ . اخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ , وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْقُولٌ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ , مِنْ الصَّحَابَةِ , وَالتَّابِعِينَ . وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِهِمْ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ , وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ . وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْقُولٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ , وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ , وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ الْقَوْلَانِ ; وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ; مِثْلُ طَاوُسٍ وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو ; وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ; وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ . وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَابْنِهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ , وَلِهَذَا ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ مَنْ ذَهَبَ مِنْ الشِّيعَةِ , وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَمَالِكٍ , وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ . وَأَمَّا الْقَوْلُ الرَّابِعُ : الَّذِي قَالَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ : فَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ , وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ : فَإِنَّ كُلَّ طَلَاقٍ شَرَعَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إنَّمَا هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ ; لَمْ يَشْرَعْ اللَّهُ لِأَحَدٍ أَنْ يُطَلِّقَ الثَّلَاثَ جَمِيعًا , وَلَمْ يُشْرَعْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا طَلَاقًا بَائِنًا , وَلَكِنْ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بَانَتْ مِنْهُ , فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَانَتْ مِنْهُ .

وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } . ثُمَّ قَالَ : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } . أَيْ فِي ذَلِكَ التَّرَبُّصِ . ثُمَّ قَالَ : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } . فَبَيَّنَ أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ أَحَقَّ بِرَدِّهَا : هُوَ ( مَرَّتَانِ ) مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ , كَمَا إذَا قِيلَ لِلرَّجُلِ : سَبِّحْ مَرَّتَيْنِ . أَوْ سَبِّحْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . أَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ . فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ : سُبْحَانَ اللَّهِ . سُبْحَانَ اللَّهِ . حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْعَدَدَ . فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْمُلَ ذَلِكَ فَيَقُولَ : سُبْحَانَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ , أَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ . لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَّحَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ : الطَّلَاقُ طَلْقَتَانِ . بَلْ قَالَ : { مَرَّتَانِ } فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْت طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ , أَوْ ثَلَاثًا , أَوْ عَشْرًا , أَوْ أَلْفًا . لَمْ يَكُنْ قَدْ طَلَّقَهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً , { وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ جُوَيْرِيَةَ : لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ : سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ . سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ . سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَى نَفْسِهِ . سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ } . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ .

فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ التَّسْبِيحَ بِعَدَدِ ذَلِكَ , { كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ , مِلْءَ السَّمَوَاتِ , وَمِلْءَ الْأَرْضِ , وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا . وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ } . لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ سَبَّحَ تَسْبِيحًا بِقَدْرِ ذَلِكَ . فَالْمِقْدَارُ تَارَةً يَكُونُ وَصْفًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ , وَفِعْلُهُ مَحْصُورٌ . وَتَارَةً يَكُونُ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ , فَذَاكَ الَّذِي يُعَظِّمُ قَدْرَهُ ; وَإِلَّا فَلَوْ قَالَ الْمُصَلِّي فِي صَلَاتِهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ . لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَّحَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً . وَلَمَّا شَرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسَبِّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ , وَيَحْمَدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ , وَيُكَبِّرَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ . فَلَوْ قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ , وَاَللَّهُ أَكْبَرُ , عَدَدَ خَلْقِهِ . لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَّحَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً . وَلَا نَعْرِفُ أَنَّ أَحَدًا طَلَّقَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَلْزَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثَّلَاثِ , وَلَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَا حَسَنٌ , وَلَا نَقَلَ أَهْلُ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ شَيْئًا ; بَلْ رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ , بَلْ مَوْضُوعَةٌ ; بَلْ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ , عَنْ طَاوُسٍ , عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : { كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ , وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ : طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةٌ . فَقَالَ عُمَرُ : إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ , فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ , فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ } . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ , عَنْ طَاوُسٍ { أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : أَتَعْلَمُ إنَّمَا كَانَتْ الثَّلَاثُ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَثَلَاثًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَعَمْ } . وَفِي رِوَايَةٍ : { أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : هَاتِ مِنْ هَنَاتِكَ , أَلَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً ؟ قَالَ : قَدْ كَانَ ذَلِكَ , فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ } . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ , حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ , حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ , حَدَّثَنِي دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ , عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ , { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : طَلَّقَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ أَخُو بَنِي الْمُطَّلِبِ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ , فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا ; قَالَ : فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَيْفَ طَلَّقَتْهَا ؟ قَالَ : طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا . قَالَ ; فَقَالَ : فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَإِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ فَأَرْجِعْهَا إنْ شِئْتَ . قَالَ : فَرَجَعَهَا } . فَكَانَ ابْنُ

عَبَّاسٍ يَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ ; وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْمُخْتَارَةِ " الَّذِي هُوَ أَصَحُّ مِنْ " صَحِيحِ الْحَاكِمِ " . وَهَكَذَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثٍ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ " مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِي مَجَالِسَ لَأَمْكَنَ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ قَدْ ارْتَجَعَهَا ; فَإِنَّهَا عِنْدَهُ , وَالطَّلَاقُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ يَقَعُ . وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ فِي جَانِبِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ ; بَلْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ تَفْصِيلٌ , كَقَوْلِهِ : { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } , أَوْ : { لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ } . وَهُوَ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَقَدْ يَحْمِلُ الْخَبَثَ , وَقَدْ لَا يَحْمِلُهُ . وَقَوْلُهُ : { فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ } . وَهِيَ إذَا لَمْ تَكُنْ سَائِمَةً قَدْ يَكُونُ فِيهَا الزَّكَاةُ - زَكَاةُ التِّجَارَةِ - وَقَدْ لَا يَكُونُ فِيهَا , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } , وَمَنْ لَمْ يُقِمْهَا فَقَدْ يُغْفَرُ لَهُ بِسَبَبٍ آخَرَ , وَكَقَوْلِهِ : { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } . وقَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ } . وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَقَدْ يَعْمَلُ عَمَلًا آخَرَ يَرْجُو بِهِ رَحْمَةَ اللَّهِ مَعَ الْإِيمَانِ ,

وَقَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ . فَلَوْ كَانَ فِي مَجَالِسَ فَقَدْ يَكُونُ لَهُ فِيهَا رَجْعَةٌ , وَقَدْ لَا يَكُونُ ; بِخِلَافِ الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ صَاحِبِهِ بِأَنَّهُ لَا يُرَاجِعُهَا فِيهِ ; فَإِنَّ لَهُ فِيهِ الرَّجْعَةَ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { ارْجِعْهَا إنْ شِئْت } , وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا } . فَأَمَرَهُ بِالرَّجْعَةِ , وَالرَّجْعَةُ يَسْتَقِلُّ بِهَا الزَّوْجُ : بِخِلَافِ الْمُرَاجَعَةِ . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ { أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً ؟ فَقَالَ : مَا أَرَدْت بِهَا إلَّا وَاحِدَةً . فَرَدَّهَا إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } . وَأَبُو دَاوُد لَمَّا لَمْ يَرْوِ فِي سُنَنِهِ الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ : حَدِيثُ " أَلْبَتَّةَ " أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ : { أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا } , لِأَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ أَعْلَمُ ; لَكِنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَكَابِرَ الْعَارِفُونَ بِعِلَلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فِيهِ : كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ , وَالْبُخَارِيِّ , وَغَيْرِهِمَا وَأَبِي عُبَيْدٍ , وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ , وَغَيْرِهِ : ضَعَّفُوا حَدِيثَ أَلْبَتَّةَ , وَبَيَّنُوا أَنَّ رُوَاتَهُ قَوْمٌ مَجَاهِيلُ , لَمْ تُعْرَفْ عَدَالَتُهُمْ وَضَبْطُهُمْ , وَأَحْمَدُ أَثْبَتَ حَدِيثَ الثَّلَاثِ , وَبَيَّنَ أَنَّهُ الصَّوَابُ مِثْلُ قَوْلِهِ : حَدِيثُ رُكَانَةَ لَا يَثْبُتُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ .

وَقَالَ أَيْضًا : حَدِيثُ رُكَانَةَ فِي " أَلْبَتَّةَ " لَيْسَ بِشَيْءٍ , لِأَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ يَرْوِيهِ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ , عَنْ عِكْرِمَةَ , عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا } . وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ مَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا طَلَّقَ أَلْبَتَّةَ . وَأَحْمَدُ إنَّمَا عَدَلَ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ الثَّلَاثَ جَائِزَةٌ , مُوَافَقَةً لِلشَّافِعِيِّ . فَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ : حَدِيثُ رُكَانَةَ مَنْسُوخٌ . ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ , وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ طَلَاقٌ مُبَاحٌ إلَّا الرَّجْعِيُّ عَدَلَ : عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ , لِأَنَّهُ أَفْتَى بِخِلَافِهِ , وَهَذَا عِلَّةٌ عِنْدَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ; لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى الَّتِي عَلَيْهَا أَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ , فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُ الْعَمَلَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَعْذَارُ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الَّذِينَ أَلْزَمُوا مَنْ أَوْقَعَ جُمْلَةَ الثَّلَاثِ بِهَا مِثْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ أَكْثَرُوا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ جَمْعِ الثَّلَاثِ , وَلَا يَنْتَهُونَ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِعُقُوبَةٍ : رَأَى عُقُوبَتَهُمْ بِإِلْزَامِهَا : لِئَلَّا يَفْعَلُوهَا , إمَّا مِنْ نَوْعِ التَّعْزِيرِ الْعَارِضِ الَّذِي يُفْعَلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ , كَمَا كَانَ يَضْرِبُ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ , وَيَحْلِقُ الرَّأْسَ . وَيَنْفِي , وَكَمَا { مَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ

تَخَلَّفُوا عَنْ الِاجْتِمَاعِ بِنِسَائِهِمْ } , وَإِمَّا ظَنًّا أَنَّ جَعْلَهَا وَاحِدَةً كَانَ مَشْرُوطًا بِشَرْطٍ وَقَدْ زَالَ , كَمَا ذَهَبَ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي مُتْعَةِ الْحَجِّ : إمَّا مُطْلَقًا , وَإِمَّا مُتْعَةَ الْفَسْخِ . وَالْإِلْزَامُ بِالْفُرْقَةِ لِمَنْ لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبِ : مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ; لَكِنْ تَارَةً يَكُونُ حَقًّا لِلْمَرْأَةِ , كَمَا فِي الْعِنِّينِ , وَالْمَوْلَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ , وَالْعَاجِزِ عَنْ النَّفَقَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ . وَتَارَةً يُقَالُ : إنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ , كَمَا فِي تَفْرِيقِ الْحَكَمَيْنِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ إذَا لَمْ يُجْعَلَا وَكِيلَيْنِ , وَكَمَا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِالْمَوْلَى عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إذَا لَمْ يَفِ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ , كَمَا قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ : إنَّهُمَا إذَا تَطَاوَعَا فِي الْإِتْيَانِ فِي الدُّبُرِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا , وَالْأَبُ الصَّالِحُ إذَا أَمَرَ ابْنَهُ بِالطَّلَاقِ لَمَّا رَآهُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْوَلَدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَهُ . كَمَا قَالَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ , كَمَا { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ أَنْ يُطِيعَ أَبَاهُ لَمَّا أَمَرَهُ أَبُوهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ } . فَالْإِلْزَامُ إمَّا مِنْ الشَّارِعِ : وَإِمَّا مِنْ الْإِمَامِ بِالْفُرْقَةِ إذَا لَمْ يَقُمْ الزَّوْجُ بِالْوَاجِبِ : هُوَ مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ . فَلَمَّا كَانَ النَّاسُ إذَا لَمْ يُلْزَمُوا بِالثَّلَاثِ يَفْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ رَأَى عُمَرُ إلْزَامَهُمْ بِذَلِكَ , لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْزَمُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ

بَقَاءِ النِّكَاحِ ; وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ نَازَعُوا مَنْ قَالَ ذَلِكَ : إمَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا التَّعْزِيرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ . إمَّا لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُعَاقِبْ بِمِثْلِ ذَلِكَ . وَهَذَا فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ , وَأَمَّا مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِجَهْلٍ أَوْ تَأْوِيلٍ فَلَا وَجْهَ لِإِلْزَامِهِ بِالثَّلَاثِ . وَهَذَا شَرْعٌ شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا شَرَعَ نَظَائِرَهُ لَمْ يَخُصَّهُ ; وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : إنَّ مَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ - التَّمَتُّعَ كَمَا أَمَرَ بِهِ أَصْحَابُهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ - هُوَ شَرْعٌ مُطْلَقٌ , كَمَا أَخْبَرَ بِهِ لَمَّا { سُئِلَ أَعُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا ؟ أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ : لَا ; بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ , دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . وَإِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّمَا شُرِعَ لِلشُّيُوخِ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِمْ مِثْلُ بَيَانِ جَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ : قَوْلٌ فَاسِدٌ ; لِوُجُوهٍ مَبْسُوطَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } , فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ تَنَازُعِهِمْ بِرَدِّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ . فَمَا تَنَازَعَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى

الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يُوجِبُ الْإِلْزَامَ بِالثَّلَاثِ بِمَنْ أَوْقَعَهَا جُمْلَةً بِكَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ بِدُونِ رَجْعَةٍ أَوْ عُقْدَةٍ ; بَلْ إنَّمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْإِلْزَامُ بِذَلِكَ مَنْ طَلَّقَ الطَّلَاقَ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ; وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ الْقِيَاسُ وَالِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ أُصُولِ الشَّرْعِ ; فَإِنَّ كُلَّ عَقْدٍ يُبَاحُ تَارَةً وَيَحْرُمُ تَارَةً - كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ - إذَا فُعِلَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا نَافِذًا كَمَا يَلْزَمُ الْحَلَالُ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَمِنْ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَقَعُ بَاطِلًا غَيْرَ لَازِمٍ , وَكَذَلِكَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ بَيْعِ الْمُحَرَّمَاتِ : كَالْخَمْرِ , وَالْخِنْزِيرِ ; وَالْمَيْتَةِ . وَهَذَا بِخِلَافِ مَا كَانَ مُحَرَّمَ الْجِنْسِ كَالظِّهَارِ , وَالْقَذْفِ , وَالْكَذِبِ , وَشَهَادَةِ الزُّورِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَإِنَّ هَذَا يَسْتَحِقُّ مَنْ فَعَلَهُ الْعُقُوبَةَ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَحْكَامِ ; فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ تَارَةً حَلَالًا وَتَارَةً حَرَامًا حَتَّى يَكُونَ تَارَةً صَحِيحًا وَتَارَةً فَاسِدًا . وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مُبَاحًا مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ - كَافْتِدَاءِ الْأَسِيرِ , وَاشْتِرَاءِ الْمَجْحُودِ عِتْقُهُ , وَرِشْوَةِ الظَّالِمِ لِدَفْعِ ظُلْمَةٍ أَوْ لِبَذْلِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ , وَكَاشْتِرَاءِ الْإِنْسَانِ الْمُصَرَّاةَ وَمَا دُلِّسَ عَيْبُهُ , وَإِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لِيَفْعَلَ الْوَاجِبَ أَوْ

لِيَتْرُكَ الْمُحَرَّمَ , وَكَبَيْعِ الْجَالِبِ لِمَنْ تُلْقَى مِنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَإِنَّ - الْمَظْلُومَ يُبَاحُ لَهُ فِعْلُهُ , وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ , وَلَهُ أَنْ يُمْضِيَهُ ; بِخِلَافِ الظَّالِمِ فَإِنَّ مَا فَعَلَهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ . وَالطَّلَاقُ هُوَ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَارَةً , وَحَرَّمَهُ أُخْرَى . فَإِذَا فُعِلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا نَافِذًا كَمَا يَلْزَمُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ , عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } . فَبَيَّنَ أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْمَدْخُولِ بِهَا - وَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ - ( مَرَّتَانِ ) وَبَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ : إمَّا ( إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ) بِأَنْ يُرَاجِعَهَا فَتَبْقَى زَوْجَتُهُ , وَتَبْقَى مَعَهُ عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ . وَإِمَّا ( تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) بِأَنْ يُرْسِلَهَا إذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } . ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا

فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } . وَهَذَا هُوَ الْخُلْعُ سَمَّاهُ " افْتِدَاءً " لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَفْتَدِي نَفْسَهَا مِنْ أَسْرِ زَوْجِهَا , كَمَا يَفْتَدِي الْأَسِيرُ وَالْعَبْدُ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِمَا يَبْذُلُهُ . قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } يَعْنِي الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } . { فَإِنْ طَلَّقَهَا } يَعْنِي هَذَا الزَّوْجُ الثَّانِي { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } يَعْنِي عَلَيْهَا وَعَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ { أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا , فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا , وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } . وَفِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ { عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ . فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ فَتَغَيَّضَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ , ثُمَّ إنْ شَاءَ بَعْدُ أَمْسَكَهَا . وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا . فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ } , ( ) وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا } وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ " قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ : " الطَّلَاقُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : وَجْهَانِ حَلَالٌ . وَوَجْهَانِ حَرَامٌ . فَأَمَّا اللَّذَانِ هُمَا حَلَالٌ : فَأَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ طَاهِرًا فِي غَيْرِ جِمَاعٍ . أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا . وَأَمَّا اللَّذَانِ هُمَا حَرَامٌ : فَأَنْ يُطَلِّقَهَا حَائِضًا . أَوْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الْجِمَاعِ لَا يَدْرِي اشْتَمَلَ الرَّحِمُ عَلَى وَلَدٍ أَمْ لَا . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ . وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إلَّا إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا , وَهَذَا هُوَ الطَّلَاقُ لِلْعِدَّةِ . أَيْ : لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ , فَإِنَّ ذَلِكَ الطُّهْرُ أَوْ الْعِدَّةُ . فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْعِدَّةِ يَكُونُ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ , وَيَكُونُ قَدْ طَوَّلَ عَلَيْهَا التَّرَبُّصَ . وَطَلَّقَهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بِهِ إلَى طَلَاقِهَا , وَالطَّلَاقُ فِي الْأَصْلِ مِمَّا يُبْغِضُهُ . وَهُوَ

أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ . وَإِنَّمَا أَبَاحَ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ كَمَا تُبَاحُ الْمُحَرَّمَاتُ لِلْحَاجَةِ : فَلِهَذَا حَرَّمَهَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ عُقُوبَةً لَهُ , لِيَنْتَهِيَ الْإِنْسَانُ عَنْ إكْثَارِ الطَّلَاقِ . فَإِذَا طَلَّقَهَا لَمْ تَزَلْ فِي الْعِدَّةِ مُتَرَبِّصَةً ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ , وَهُوَ مَالِكٌ لَهَا يَرِثُهَا وَتَرِثُهُ , وَلَيْسَ لَهُ فَائِدَةٌ فِي تَعْجِيلِ الطَّلَاقِ قَبْلَ وَقْتِهِ ; كَمَا لَا فَائِدَةَ فِي مُسَابَقَةِ الْإِمَامِ , وَلِهَذَا لَا يُعْتَدُّ لَهُ بِمَا فَعَلَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ ; بَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إذَا تَعَمَّدَ ذَلِكَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَهُوَ لَا يَزَالُ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يُسَلِّمَ .
551 - 551 - 14 - مَسْأَلَةٌ : فِي ثَيِّبٍ بَالِغٍ لَمْ يَكُنْ وَلِيُّهَا إلَّا الْحَاكِمُ فَزَوَّجَهَا الْحَاكِمُ لِعَدَمِ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ خَالَعَهَا الزَّوْجُ وَأَبْرَأَتْهُ مِنْ الصَّدَاقِ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ , فَهَلْ تَصِحُّ الْمُخَالَعَةُ وَالْإِبْرَاءُ ؟ الْجَوَابُ : إذَا كَانَتْ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ جَازَ خُلْعُهَا , وَإِبْرَاؤُهَا بِدُونِ إذْنِ الْحَاكِمِ .

مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً , فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَ الشُّهُودِ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ : قُلْ طَلَّقْتُهَا عَلَى دِرْهَمٍ , فَقَالَ ذَلِكَ , فَلَمَّا فَعَلَ , قَالُوا لَهُ : قَدْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا فَلَا تَرْجِعُ إلَيْكَ إلَّا بِرِضَاهَا , فَإِذَا وَقَعَ الْمَنْعُ , هَلْ يَسْقُطُ حَقُّهُمَا مَعَ غَرَرِهِ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . إذَا كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً رَجْعِيَّةً ثُمَّ إنَّ الشَّاهِدَ قَدْ لَقَّنَهُ أَنْ يَقُولَ طَلَّقَهَا عَلَى دِرْهَمٍ , فَقَالَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ يُقَرِّرُ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ لَا لِشَيْءٍ طَلَاقًا آخَرَ لَمْ يَقَعْ بِهِ غَيْرُ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ , وَيَكُونُ رَجْعِيًّا لَا بَائِنًا . وَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ الثَّانِي إنْشَاءً لِطَلَاقٍ آخَرَ ثَانٍ , وَقَالَ إنَّمَا قُلْتُهُ إقْرَارًا بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ , وَلَيْسَ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّ الطَّلَاقَ بِالْعِوَضِ يُبِينُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ , لَا سِيَّمَا وَقَرِينَةُ الْحَالِ تُصَدِّقُهُ , فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا ثُمَّ حَضَرَ عِنْدَ الشُّهُودِ فَإِنَّمَا حَضَرَ لِيَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا وَقَعَ مِنْ الطَّلَاقِ .

556 - 556 - 19 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَلِيُّهَا فَاسِقٌ , يَأْكُلُ الْحَرَامَ , وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ , وَالشُّهُودُ أَيْضًا كَذَلِكَ , وَقَدْ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثَ فَهَلْ لَهُ بِذَلِكَ الرُّخْصَةُ فِي رَجْعَتِهَا ؟ الْجَوَابُ : إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ , وَمَنْ أَخَذَ يَنْظُرُ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِي صِفَةِ الْعَقْدِ وَلَمْ يَنْظُرْ فِي صِفَتِهِ قَبْلَ ذَلِكَ , فَهُوَ مِنْ الْمُتَعَدِّينَ لِحُدُودِ اللَّهِ , فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَحِلَّ مَحَارِمَ اللَّهِ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ , وَالطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ , وَالنِّكَاحُ بِوِلَايَةِ الْفَاسِقِ يَصِحُّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
557 - 557 - 20 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا , وَهِيَ بِكْرٌ , فَهَلْ لَهُ سَبِيلٌ فِي مُرَاجَعَتِهَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الطَّلَاقُ ثَلَاثٌ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ الدُّخُولِ سَوَاءٌ فِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِذَلِكَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .
594 - 594 مُكَرَّرٌ 57 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْت عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي , وَأُخْتِي ؟ الْجَوَابُ : إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي وَأُخْتِي فِي الْكَرَامَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ يُشَبِّهُهَا بِأُمِّهِ وَأُخْتِهِ فِي " بَابِ النِّكَاحِ " فَهَذَا ظِهَارٌ , عَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ لِعَانًا , فَإِذَا أَمْسَكَهَا فَلَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ ظِهَارٍ .

بَابُ فُتِيَا 595 - 58 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَهَا عِنْدَهُ أَرْبَعُ سِنِينَ لَمْ تَحِضْ , وَذَكَرَتْ أَنَّ لَهَا أَرْبَعَ سِنِينَ قَبْلَ زَوَاجِهَا لَمْ تَحِضْ , فَحَصَلَ مِنْ زَوْجِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ : فَكَيْفَ يَكُونُ تَزْوِيجُهَا بِالزَّوْجِ الْآخَرِ ؟ وَكَيْفَ تَكُونُ الْعِدَّةُ وَعُمْرُهَا خَمْسُونَ سَنَةً ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَذِهِ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ; فَإِنَّهَا قَدْ عَرَفَتْ أَنَّ حَيْضَهَا قَدْ انْقَطَعَ , وَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّهُ قَدْ انْقَطَعَ انْقِطَاعًا مُسْتَمِرًّا ; بِخِلَافِ الْمُسْتَرِيبَةِ الَّتِي لَا تَدْرِي مَا رَفَعَ حَيْضَهَا : هَلْ هُوَ ارْتِفَاعُ إيَاسٍ ؟ أَوْ ارْتِفَاعٌ لِعَارِضٍ ثُمَّ يَعُودُ : كَالْمَرَضِ , وَالرَّضَاعِ ؟ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ . فَمَا ارْتَفَعَ لِعَارِضٍ : كَالْمَرَضِ , وَالرَّضَاعِ , فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ زَوَالَ الْعَارِضِ بِلَا رَيْبٍ . وَمَتَى ارْتَفَعَ لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ ; فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ , وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ : أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ بَعْدَ أَنْ تَمْكُثَ مُدَّةَ الْحَمْلِ , كَمَا قَضَى بِذَلِكَ عُمَرُ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهَا تَمْكُثُ حَتَّى تَطْعَنَ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ , فَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ . وَفِي هَذَا ضَرَرٌ عَظِيمٌ عَلَيْهَا ; فَإِنَّهَا تَمْكُثُ عِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا تَتَزَوَّجُ . وَمِثْلُ هَذَا الْحَرَجِ مَرْفُوعٌ عَنْ الْأُمَّةِ ; وَإِنَّمَا { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ } فَإِنَّهُنَّ يَعْتَدِدْنَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ ,

وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ . لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ مُخْتَلِفُونَ : هَلْ لِلْإِيَاسِ سِنٌّ لَا يَكُونُ الدَّمُ بَعْدَهُ إلَّا دَمَ إيَاسَ ؟ وَهَلْ ذَلِكَ السِّنُّ خَمْسُونَ , أَوْ سِتُّونَ ؟ أَوْ فِيهِ تَفْصِيلٌ ؟ وَمُتَنَازِعُونَ : هَلْ يُعْلَمُ الْإِيَاسُ بِدُونِ السِّنِّ ؟ وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ قَدْ طَعَنَتْ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ , وَهُوَ الْخَمْسُونَ , وَلَهَا مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ لَمْ تَحِضْ , وَقَدْ ذَكَرَتْ أَنَّهَا شَرِبَتْ مَا يَقْطَعُ الدَّمَ , وَالدَّمُ يَأْتِي بِدَوَاءٍ : فَهَذِهِ لَا تَرْجُو عَوْدَ الدَّمِ إلَيْهَا , فَهِيَ مِنْ الْآيِسَاتِ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
598 - 598 - 61 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ مُرْضِعَةٌ لِوَلَدِهِ , فَلَبِثَتْ مُطَلَّقَةً ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ آخَرَ , فَلَبِثَتْ مَعَهُ دُونَ شَهْرٍ , ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَبِثَتْ مُطَلَّقَةً ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ , وَلَمْ تَحِضْ لَا فِي الثَّمَانِيَةِ الْأُولَى , وَلَا فِي مُدَّةِ عِصْمَتِهَا مَعَ الرَّجُلِ الثَّانِي , وَلَا فِي الثَّلَاثَةِ أَشْهُرٍ الْأَخِيرَةِ , ثُمَّ تَزَوَّجَ بِهَا الْمُطَلِّقُ الْأَوَّلُ أَبُو الْوَلَدِ , فَهَلْ يَصِحُّ هَذَانِ الْعَقْدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ وَلَا الثَّانِي بَلْ عَلَيْهَا أَنْ تُكْمِلَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ ثُمَّ تَقْضِي عِدَّةَ الثَّانِي , ثُمَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّتَيْنِ تَتَزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ مِنْهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

602 - 602 - 65 - مَسْأَلَةٌ : فِي امْرَأَةٍ مُعْتَدَّةٍ عِدَّةَ وَفَاةٍ . وَلَمْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِهَا بَلْ تَخْرُجُ فِي ضَرُورَتِهَا الشَّرْعِيَّةِ , فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا إعَادَةُ الْعِدَّةِ ؟ وَهَلْ تَأْثَمُ بِذَلِكَ ؟ الْجَوَابُ : الْعِدَّةُ انْقَضَتْ بِمَعْنَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ , وَلَا تَقْضِي الْعِدَّةَ , فَإِنْ كَانَتْ خَرَجَتْ لِأَمْرٍ يُحْتَاجُ إلَيْهِ , وَلَمْ تَبِتْ إلَّا فِي مَنْزِلِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا , وَإِنْ كَانَتْ قَدْ خَرَجَتْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَبَاتَتْ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ بَاتَتْ فِي غَيْرِ ضَرُورَةٍ , أَوْ تَرَكَتْ الْإِحْدَادَ فَلْتَسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَتَتُبْ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ , وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهَا .

604 - 604 - 67 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ أَقَرَّ عِنْدَ عُدُولٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مِنْ مُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى الْعِدَّةِ الشَّرْعِيَّةِ , فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ تَزْوِيجُهَا لَهُ الْآنَ ؟ الْجَوَابُ : أَمَّا إنْ كَانَ الْمُقِرُّ فَاسِقًا أَوْ مَجْهُولًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي إسْقَاطِ الْعِدَّةِ الَّتِي فِيهَا حَقُّ اللَّهِ وَلَيْسَ هَذَا إقْرَارًا مَحْضًا عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يُقْبَلَ مِنْ الْفَاسِقِ بَلْ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ إذْ فِي الْعِدَّةِ حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِلزَّوْجِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ عَدْلًا غَيْرَ مُتَّهَمٍ , مِثْلُ أَنْ يَكُونَ غَائِبًا فَلَمَّا حَضَرَ أَخْبَرَهَا أَنَّهُ طَلَّقَ مِنْ مُدَّةِ كَذَا وَكَذَا , فَهَلْ تَعْتَدُّ مِنْ حِينِ بَلَغَهَا الْخَبَرُ إذَا لَمْ تَقُمْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ أَوْ مِنْ حِينِ الطَّلَاقِ كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ هُوَ الثَّانِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
606 - 606 - 69 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ عَقَدَ الْعَقْدَ عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ بَالِغًا , وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يُصِبْهَا , ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا , ثُمَّ عَقَدَ عَلَيْهَا شَخْصٌ آخَرُ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يُصِبْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا , فَهَلْ يَجُوزُ لِلَّذِي طَلَّقَهَا أَوَّلًا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا ؟ الْجَوَابُ : إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَهُوَ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَيَدْخُلَ بِهَا , فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ .

624 - 624 - 5 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ , وَقَالَ : لَأَهْجُرَنك إنْ كُنْت مَا تُصَلِّينَ فَامْتَنَعَتْ مِنْ الصَّلَاةِ وَلَمْ تُصَلِّ , وَهَجَرَ الرَّجُلُ فِرَاشَهَا . فَهَلْ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةٌ أَمْ لَا ؟ وَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهَا إذَا تَرَكَتْ الصَّلَاةَ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . إذَا امْتَنَعَتْ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ . وَهَجْرُ الرَّجُلِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَلَا نَفَقَةَ لَهَا إذَا امْتَنَعَتْ مِنْ تَمْكِينِهِ إلَّا مَعَ تَرْكِ الصَّلَاةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
626 - 626 - 7 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ عَجَزَ عَنْ الْكَسْبِ , وَلَا لَهُ شَيْءٌ , وَلَهُ زَوْجَةٌ وَأَوْلَادٌ : فَهَلْ يَجُوزُ لِوَلَدِهِ الْمُوسِرِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ , وَعَلَى زَوْجَتِهِ , وَإِخْوَتِهِ الصِّغَارِ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَعَمْ عَلَى الْوَلَدِ الْمُوسِرِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبِيهِ وَزَوْجَةِ أَبِيهِ , وَعَلَى إخْوَتِهِ الصِّغَارِ , وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ عَاقًّا لِأَبِيهِ , قَاطِعًا لِرَحِمِهِ مُسْتَحِقًّا لِعُقُوبَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

631 - 631 - 12 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ كَبِيرٌ , فَسَافَرَ مَعَ كَرَائِمِ أَمْوَالِهِ فِي الْبَحْرِ الْمَالِحِ , وَلَهُ آخَرُ مُرَاهِقٌ مِنْ أُمٍّ أُخْرَى مُطَلَّقَةٍ مِنْهُ , وَلَهَا أَبٌ وَأُمٌّ ; وَالْوَلَدُ عِنْدَهُمْ مُقِيمٌ , فَأَرَادَ وَالِدُهُ أَخْذَهُ وَتَسْفِيرَهُ صُحْبَةَ أَخِيهِ بِغَيْرِ رِضَا الْوَالِدَةِ , وَغَيْرِ رِضَا الْوَلَدِ : فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟ الْجَوَابُ : يُخَيَّرُ الْوَلَدُ بَيْنَ أَبَوَيْهِ : فَإِنْ اخْتَارَ الْمُقَامَ عِنْدَ أُمِّهِ وَهِيَ غَيْرُ مُزَوَّجَةٍ كَانَ عِنْدَهَا وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ تَسْفِيرُهُ ; لَكِنْ يَكُونُ عِنْدَ أَبِيهِ نَهَارًا لِيُعَلِّمَهُ وَيُؤَدِّبَهُ وَعِنْدَ أُمِّهِ لَيْلًا . وَإِنْ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْأَبِ كَانَ عِنْدَهُ . وَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْأَبِ وَرَأَى مِنْ الْمَصْلَحَةِ لَهُ تَسْفِيرَهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْوَلَدِ فَلَهُ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
632 - 632 - 13 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ , وَلَهُ مُدَّةُ سَبْعِ سِنِينَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا ; لِأَجْلِ مَرَضِهَا : فَهَلْ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ نَفَقَةً , أَمْ لَا ؟ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَسْتَحِقُّ وَحَكَمَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ : فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إعْطَاؤُهُ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : نَعَمْ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .

633 - 633 - 14 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً حَمَلَتْ مِنْهُ , ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَزَوَّجَ بِهَا : فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْوَلَدِ فِي تَرْبِيَتِهِ , أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْوَلَدُ وَلَدُ زِنًا ; لَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ; وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ ; فَإِنَّهُ يَتِيمٌ مِنْ الْيَتَامَى , وَنَفَقَةُ الْيَتَامَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُؤَكَّدَةٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

678 - 678 - 32 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ عَدْلٍ لَهُ جَارِيَةٌ اعْتَرَفَ بِوَطْئِهَا بِحَضْرَةِ عُدُولٍ , وَأَنَّهَا حَبِلَتْ مِنْهُ , وَأَنَّهُ سَأَلَ بَعْضَ النَّاسِ عَنْ أَشْيَاءَ تُسْقِطُ الْحَمْلَ , وَأَنَّهُ ضَرَبَ الْجَارِيَةَ ضَرْبًا مُبَرِّحًا عَلَى فُؤَادِهَا فَأَسْقَطَتْ عَقِيبَ ذَلِكَ ; وَأَنَّ الْجَارِيَةَ قَالَتْ : إنَّهُ كَانَ يُلَطِّخُ ذَكَرَهُ بِالْقَطِرَانِ وَيَطَؤُهَا حَتَّى يُسْقِطَهَا , وَأَنَّهُ أَسْقَاهَا السُّمَّ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُسْقِطَةِ مُكْرَهَةً . فَمَا يَجِبُ عَلَى مَالِك الْجَارِيَةِ بِمَا ذُكِرَ ؟ وَهَلْ هَذَا مُسْقِطٌ لِعَدَالَتِهِ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ : إسْقَاطُ الْحَمْلِ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ , وَهُوَ مِنْ الْوَأْدِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ , بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } وَقَدْ قَالَ : { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الشَّخْصَ أَسْقَطَ الْحَمْلَ خَطَأً مِثْلُ أَنْ يَضْرِبَ الْمَرْأَةَ خَطَأً فَتُسْقِطُ : فَعَلَيْهِ غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ; بِنَصِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ , وَتَكُونُ قِيمَةُ الْغُرَّةِ بِقَدْرِ عُشْرِ دِيَةِ الْأُمِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ . كَذَلِكَ عَلَيْهِ " كَفَّارَةُ الْقَتْلِ " عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلَّا أَنْ يَصَدَّقُوا } إلَى قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ } وَأَمَّا إذَا

تَعَمَّدَ الْإِسْقَاطَ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ , وَذَلِكَ مِمَّا يَقْدَحُ فِي دِينِهِ وَعَدَالَتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
688 - 688 - 42 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ وَجَدَ عِنْدَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا فَقَتَلَهَا , ثُمَّ تَابَ بَعْدَ مَوْتِهَا , وَكَانَ لَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ , فَلَمَّا كَبِرَ أَحَدُهُمَا أَرَادَ أَدَاءَ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ , وَلَمْ يَجِدْ قُدْرَةً عَلَى الْعِتْقِ , فَأَرَادَ أَنْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ : فَهَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْقَاتِلِ ؟ وَهَلْ يُجْزِي قِيَامُ الْوَلَدِ بِهَا ؟ وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ امْرَأَةً فَحَاضَتْ فِي زَمَنِ الشَّهْرَيْنِ : هَلْ يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ ؟ وَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا أَنَّ الطُّهْرَ يَحْصُلُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ : هَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْإِمْسَاكُ , أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . إنْ كَانَ قَدْ وَجَدَهُمَا يَفْعَلَانِ الْفَاحِشَةَ وَقَتَلَهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ , وَهُوَ أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ ; وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ وَطْئِهَا بِالْكَلَامِ , كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي بَيْتِك فَفَقَأْت عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْك شَيْءٌ } " وَ { نَظَرَ رَجُلٌ مَرَّةً فِي بَيْتِهِ فَجَعَلَ يَتْبَعُ عَيْنَهُ بِمِدْرًى لَوْ أَصَابَتْهُ لَقَلَعْت عَيْنَهُ } " وَقَالَ : { إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ } " . وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالْكَلَامِ . وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِيَدِهِ

سَيْفٌ مُتَلَطِّخٌ بِدَمٍ قَدْ قَتَلَ امْرَأَتَهُ , فَجَاءَ أَهْلُهَا يَشْكُونَ عَلَيْهِ , فَقَالَ الرَّجُلُ : إنِّي قَدْ وَجَدْت لَكَاعًا قَدْ تَفْخَذهَا فَضَرَبْت مَا هُنَالِكَ بِالسَّيْفِ فَأَخَذَ السَّيْفَ فَهَزَّهُ , ثُمَّ أَعَادَهُ إلَيْهِ , فَقَالَ : إنْ عَادَ فَعُدْ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ يَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُ إذَا كَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا , سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ هُوَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ أَوْ غَيْرُهُ , كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ إنَّمَا مَأْخَذُهُ أَنَّهُ جَنَى عَلَى حُرْمَتِهِ فَهُوَ كَفَقْءِ عَيْنِ النَّاظِرِ , وَكَاَلَّذِي انْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِ الْعَاضِّ حَتَّى سَقَطَتْ ثَنَايَاهُ , فَأَهْدَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ , وَقَالَ : { يَدَعُ يَدَهُ فِي فِيك فَتَقْضِمُهَا كَمَا يَقْضِمُ الْفَحْلُ ؟ } " وَهَذَا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ الْقَوْلُ بِهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ , قَالَ : لِأَنَّ دَفْعَ الصَّائِلِ يَكُونُ بِالْأَسْهَلِ . وَالنَّصُّ يُقَدَّمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ , فَقَدْ دَخَلَ اللِّصُّ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , فَأَصْلَتَ لَهُ السَّيْفَ , قَالُوا : فَلَوْلَا أَنَّا نَهَيْنَاهُ عَنْهُ لَضَرَبَهُ , وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ , وَأَخَذَ بِذَلِكَ . وَأَمَّا إنْ كَانَ الرَّجُلُ لَمْ يَفْعَلْ بَعْدُ فَاحِشَةً ; وَلَكِنْ وَصَلَ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ , وَالْأَحْوَطُ لِهَذَا أَنْ يَتُوبَ مِنْ الْقَتْلِ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ

, وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ نِزَاعٌ , فَإِذَا كَفَّرَ فَقَدْ فَعَلَ الْأَحْوَطَ ; فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ . وَأَمَّا قَتْلُ الْعَمْدِ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : كَمَالِكٍ , وَأَبِي حَنِيفَةَ , وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى . وَإِذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَمْ يُكَفِّرْ فَلْيُطْعِمْ عَنْهُ وَلِيُّهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَإِنَّهُ بَدَلُ الصِّيَامِ الَّذِي عَجَزَتْ عَنْهُ قُوَّتُهُ , فَإِذَا أَطْعَمَ عَنْهُ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ فَهَذَا أَوْلَى . وَالْمَرْأَةُ إنْ صَامَتْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَمْ يَقْطَعْ الْحَيْضُ تَتَابُعَهَا , بَلْ تَبْنِي بَعْدَ الطُّهْرِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . .
693 - 693 - 47 - مَسْأَلَةٌ : فِيمَنْ اتَّهَمُوهُ النَّصَارَى فِي قَتْلِ نَصَارَى وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ ; فَأَحْضَرُوهُ إلَى النَّائِبِ بِالْكُرْكِ ; وَأَلْزَمُوهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ , فَعُوقِبَ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ : فَمَا يَلْزَمُ النَّصَارَى الَّذِينَ الْتَزَمُوا بِدَمِهِ ؟ الْجَوَابُ : يَجِبُ عَلَيْهِمْ ضَمَانُ الَّذِي الْتَزَمُوا دَمَهُ إنْ مَاتَ تَحْتَ الْعُقُوبَةِ بَلْ يُعَاقَبُونَ كَمَا عُوقِبَ أَيْضًا ; كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَضَى نَحْوَ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

حَدُّ الزِّنَا 694 - 48 - سُئِلَ : عَمَّنْ زَنَى بِأُخْتِهِ : مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ الْجَوَابُ : وَأَمَّا مَنْ زَنَى بِأُخْتِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَجَبَ قَتْلُهُ , وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ { الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ , قَالَ : مَرَّ بِي خَالِي أَبُو بُرْدَةَ , وَمَعَهُ رَايَةٌ , فَقُلْت : أَيْنَ تَذْهَبُ يَا خَالِي , قَالَ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ ; فَأَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ , وَأُخَمِّسَ مَالَهُ } " وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

695 - 695 - 49 - مَسْأَلَةٌ : فِي امْرَأَةٍ مُزَوَّجَةٍ بِزَوْجٍ كَامِلٍ , وَلَهَا أَوْلَادٌ , فَتَعَلَّقَتْ بِشَخْصٍ مِنْ الْأَطْرَافِ أَقَامَتْ مَعَهُ عَلَى الْفُجُورِ , فَلَمَّا ظَهَرَ أَمْرُهَا سَعَتْ فِي مُفَارَقَةِ الزَّوْجِ : فَهَلْ بَقِيَ لَهَا حَقٌّ عَلَى أَوْلَادِهَا بَعْدَ هَذَا الْفِعْلِ ؟ وَهَلْ عَلَيْهِمْ إثْمٌ فِي قَطْعِهَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهَا قَتْلُهَا سِرًّا ؟ وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُهُ يَأْثَمُ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . الْوَاجِبُ عَلَى أَوْلَادِهَا وَعَصَبَتِهَا أَنْ يَمْنَعُوهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنْ لَمْ تَمْتَنِعْ إلَّا بِالْحَبْسِ حَبَسُوهَا ; وَإِنْ احْتَاجَتْ إلَى الْقَيْدِ قَيَّدُوهَا , وَمَا يَنْبَغِي لِلْوَلَدِ أَنْ يَضْرِبَ أُمَّهُ . وَأَمَّا بِرُّهَا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهَا بِرَّهَا , وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ مُقَاطَعَتُهَا بِحَيْثُ تَتَمَكَّنُ بِذَلِكَ مِنْ السُّوءِ ; بَلْ يَمْنَعُوهَا بِحَسَبِ قُدْرَتِهِمْ . وَإِنْ احْتَاجَتْ إلَى رِزْقٍ وَكِسْوَةٍ رَزَقُوهَا , وَكَسَوْهَا , وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهَا بِقَتْلٍ وَلَا غَيْرِهِ , وَعَلَيْهِمْ الْإِثْمُ فِي ذَلِكَ .

696 - 696 - 50 - مَسْأَلَةٌ : فِي بَلَدٍ فِيهَا جَوَارٍ سَائِبَاتٍ يَزْنُونَ مَعَ النَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ ؟ الْجَوَابُ : عَلَى سَيِّدِ الْأَمَةِ إذًا إنْ زَنَتْ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدَّ , كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا , ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا ; ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا ; ثُمَّ إنْ زَنَتْ فِي الرَّابِعَةِ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِظَفِيرٍ } " وَالظَّفِيرُ الْحَبْلُ . فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . وَكَانَ إصْرَارُهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ قَادِحًا فِي عَدَالَتِهِ . فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ يُرْسِلُهَا لِتَبْغِيَ وَتُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ مَهْرِ الْبِغَاءِ , أَوْ يَأْخُذُ هُوَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ : فَهَذَا مِمَّنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ; وَهُوَ فَاسِقٌ خَبِيثٌ ; آذِنٌ فِي الْكَبِيرَةِ , وَآخِذٌ مَهْرَ الْبَغِيِّ ; وَلَمْ يَنْهَهَا عَنْ الْفَاحِشَةِ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَدَّلًا ; بَلْ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ; بَلْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الْغَلِيظَةَ حَتَّى يَصُونَ إمَاءَهُ . وَأَقَلُّ الْعُقُوبَةِ أَنْ يُهْجَرَ فَلَا يُسَلَّمَ عَلَيْهِ , وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ إذَا أَمْكَنَتْ الصَّلَاةُ خَلْفَ غَيْرِهِ , وَلَا يُسْتَشْهَدَ وَلَا يُوَلَّى وِلَايَةً أَصْلًا . وَمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ ; يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ , وَكَانَ مُرْتَدًّا لَا تَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ . وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ عُرِّفَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ

الْحُجَّةُ , فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا .
سُئِلَ : عَمَّنْ حَلَفَ لِوَلَدِهِ أَنَّهُ إنْ فَعَلَ مُنْكَرًا يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ , فَأَقَرَّ لِوَالِدِهِ فَضَرَبَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ , وَبَقِيَ تَغْرِيبُ عَامٍ : فَهَلْ يَجُوزُ فِي تَغْرِيبِ الْعَامِ كَفَّارَةٌ , أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : أَنَّهُ إذَا غَرَّبَهُ فِي الْحَبْسِ وَلَوْ فِي دَارِ الْأَبِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ , وَإِنْ كَانَ مُطْلِقًا غَيْرَ مُقَيِّدٍ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ ; فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَيْدُ , وَلَا جَعْلُهُ فِي مَكَان مُظْلِمٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

726 - 726 - 80 مَسْأَلَةٌ : فِي الْيَهُودِ بِمِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ كَثُرَتْ مِنْهُمْ بَيْعُ الْخَمْرِ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ لَا يَبِيعُونَهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَمَتَى فَعَلُوا ذَلِكَ حَلَّ مِنْهُمْ مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَمَاذَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ الْعُقُوبَةِ وَهَلْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ الْأَمْوَالَ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , يَسْتَحِقُّونَ عَلَى ذَلِكَ الْعُقُوبَةَ الَّتِي تَرْدَعُهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَيَنْتَقِضُ بِذَلِكَ عَهْدُهُمْ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ , وَإِذَا أُنْقِضَ عَهْدُهُمْ حَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ وَحَلَّ مِنْهُمْ مَا يَحِلُّ مِنْ الْمُحَارِبِينَ الْكُفَّارِ وَلِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ الَّتِي قَبَضُوهَا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا يَرُدَّهَا إلَى مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ الْخَمْرَ فَإِنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَشِرَائِهَا وَبَيْعِهَا فَإِذَا اشْتَرَوْهَا كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَبِيعُ الْخَمْرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ بَاعَ خَمْرًا لَمْ يَمْلِكْ ثَمَنَهُ , فَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ أَخَذَ الْخَمْرَ فَشَرِبَهَا لَمْ يُجْمَعْ لَهُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ بَلْ يُؤْخَذُ هَذَا الْمَالُ فَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قِيلَ فِي مَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ عِوَضٌ عَنْ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ إذَا كَانَ

الْمَاضِي قَدْ اسْتَوْفَى الْعِوَضَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَ ذِمِّيٌّ لِذِمِّيٍّ خَمْرًا سِرًّا فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَإِذَا تَقَابَضَا جَازَ أَنْ يُعَامِلَهُ الْمُسْلِمُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَهُ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , وَلَوْ هَمَّ بِبَيْعِهَا وَأَخَذُوا مِنْهُمْ أَثْمَانَهَا بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُخَرِّبَ الْمَكَانَ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ كَالْحَانُوتِ وَالدَّارِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَيْثُ أَخْرَبَ حَانُوتَ رُوَيْشِدٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ : إنَّمَا أَنْتَ فُوَيْسِقٌ لَسْت بِرُوَيْشِدٍ وَكَمَا أَحْرَقَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَرْيَةً كَانَ يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ .

728 - 728 - 82 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ يُسَفِّهُ عَلَى وَالِدَيْهِ : فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ الْجَوَابُ : إذَا شَتَمَ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَاعْتَدَى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُعَاقَبَ عُقُوبَةً بَلِيغَةً تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ , بَلْ وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { مِنْ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالُوا : وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ , فَيَسُبُّ أَبَاهُ , وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ } " فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَعَلَ مِنْ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ أَبَا غَيْرِهِ لِئَلَّا يَسُبَّ أَبَاهُ فَكَيْفَ إذَا سَبَّ هُوَ أَبَاهُ مُبَاشَرَةً : فَهَذَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي تَمْنَعُهُ عَنْ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ الَّذِي قَرَنَ اللَّهُ حَقَّهُمَا بِحَقِّهِ حَيْثُ قَالَ : { أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَضَى رَبُّك أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَك الْكِبْرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا } فَكَيْفَ بِسَبِّهِمَا ؟ , .

729 - 729 - 83 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ مِنْ أَكَابِرِ مُقَدِّمِي الْعَسْكَرِ مَعْرُوفٍ بِالْخَيْرِ وَالدِّينِ , وَكَذَبَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمَكَّاسِينَ , حَتَّى ضَرَبَهُ , وَعَلَّقَهُ , وَطَافَ بِهِ عَلَى حِمَارٍ ; وَحَبَسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ : هَلْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ ضَرْبُ مَنْ ظَلَمَهُ ؟ الْجَوَابُ : مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ وَظَلَمَهُ حَتَّى فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ تَجِبُ عُقُوبَتُهُ الَّتِي تَزْجُرُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ; بَلْ جُمْهُورُ السَّلَفِ يُثْبِتُونَ الْقِصَاصَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ; فَمَنْ ضَرَبَ غَيْرَهُ وَجَرَحَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ ; كَمَا قَالَ { عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : أَيُّهَا النَّاسُ , إنِّي لَمْ أَبْعَثْ عُمَّالِي إلَيْكُمْ لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ , وَلَا لِيَأْخُذُوا أَمْوَالَكُمْ , وَلَكِنْ لِيُعَلِّمُوكُمْ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّكُمْ , وَيَقْسِمُوا بَيْنَكُمْ فَيْأَكُمْ , فَلَا يَبْلُغُنِي أَنَّ أَحَدًا ضَرَبَهُ عَامِلُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا أَقَدْتُهُ . فَرَاجَعَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي ذَلِكَ , فَقَالَهُ لَهُمْ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَادَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ } . .

730 - 730 - 84 مَسْأَلَةٌ : فِيمَنْ شَتَمَ رَجُلًا وَسَبَّهُ ؟ الْجَوَابُ : إذَا اعْتَدَى عَلَيْهِ بِالشَّتْمِ وَالسَّبِّ فَلَهُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْهِ ; فَيَشْتُمَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرَّمًا لِعَيْنِهِ : كَالْكَذِبِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ مُحَرَّمًا لِعَيْنِهِ كَالْقَذْفِ بِغَيْرِ الزِّنَا فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ تَعْزِيرًا بَلِيغًا يَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ مِنْ السُّفَهَاءِ , وَلَوْ عُزِّرَ عَلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّتْمِ جَازَ ; وَهُوَ الَّذِي يُشْرَعُ إذَا تَكَرَّرَ سَفَهُهُ أَوْ عُدْوَانُهُ عَلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
731 - 731 - 85 - مَسْأَلَةٌ : فِيمَنْ شَتَمَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ : أَنْت مَلْعُونٌ , وَلَدُ زِنًا ؟ الْجَوَابُ : يَجِبُ تَعْزِيرُهُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ , وَيَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ إنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مَا يَقْصِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ قَصْدُهُمْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ الْمَشْتُومَ فِعْلُهُ خَبِيثٌ كَفِعْلِ وَلَدِ الزِّنَا .

مَسْأَلَةٌ : فِي مُسْلِمٍ بَدَتْ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ فِي حَالِ صِبَاهُ تُوجِبُ مُهَاجَرَتَهُ وَمُجَانَبَتَهُ , فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَصْفَحُ عَنْهُ وَيَتَجَاوَزُ عَنْ كُلِّ مَا كَانَ مِنْهُ , وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَا تَجُوزُ أُخُوَّتُهُ وَلَا مُصَاحَبَتُهُ فَأَيُّ الطَّائِفَتَيْنِ أَحَقُّ بِالْحَقِّ ؟ الْجَوَابُ : لَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ تَابَ إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } ( ) أَيْ لِمَنْ تَابَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَتَابَ الرَّجُلُ فَإِنْ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا سَنَةً مِنْ الزَّمَانِ وَلَمْ يَنْقُضْ التَّوْبَةَ , فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ وَيُجَالَسُ وَيُكَلَّمُ , وَأَمَّا إذَا تَابَ وَلَمْ تَمْضِ عَلَيْهِ سَنَةٌ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ فِي الْحَالِ : يُجَالَسُ وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا بُدَّ مِنْ مُضِيِّ سَنَةٍ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِصِبْغِ بْنِ عِسْلٍ وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ , فَمَنْ رَأَى أَنْ تُقْبَلَ تَوْبَةُ هَذَا التَّائِبِ وَيُجَالَسُ فِي الْحَالِ قَبْلَ اخْتِبَارِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِقَوْلٍ سَائِغٍ وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ يُؤَخَّرُ مُدَّةً حَتَّى يَعْمَلَ صَالِحًا وَيَظْهَرَ صِدْقُ تَوْبَتِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِقَوْلٍ سَائِغٍ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ .

739 - 739 - 93 - مَسْأَلَةٌ : هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْكَرْمِ لِمَنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا إذَا اُضْطُرَّ صَاحِبُهُ إلَى ذَلِكَ ؟ الْجَوَابُ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعِنَبِ لِمَنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا , بَلْ قَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَعْصِرُ الْعِنَبَ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا فَكَيْفَ بِالْبَائِعِ لَهُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مُعَاوَنَةً وَلَا ضَرُورَةَ إلَى ذَلِكَ , فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ بَيْعُهُ رُطَبًا وَلَا تَزْبِيبُهُ فَإِنَّهُ يُتَّخَذُ خَلًّا أَوْ دِبْسًا وَنَحْوَ ذَلِكَ .

مَسْأَلَةٌ : فِي الْفِتَنِ الَّتِي تَقَعُ مِنْ أَهْلِ الْبِرِّ وَأَمْثَالِهَا ; فَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَسْتَبِيحُ بَعْضُهُمْ حُرْمَةَ بَعْضٍ : فَمَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَذِهِ الْفِتَنُ وَأَمْثَالُهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ , وَأَكْبَرِ الْمُنْكَرَاتِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا حَتَّى صَارَ عَنْهُمْ مِنْ الْكُفْرِ مَا صَارَ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا , يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ } " فَهَذَا مِنْ الْكُفْرِ ; وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ لَا يَكْفُرُ بِالذَّنْبِ , قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ

اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ بَيْنَ الْمُقْتَتِلِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ : أَخْبَرَ أَنَّهُمْ إخْوَةٌ , وَأَمَرَ أَوَّلًا بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ إنْ اقْتَتَلُوا : { فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى } وَلَمْ يَقْبَلُوا الصَّلَاحَ : { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ } فَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ بَعْدَ أَنْ { تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ } أَيْ تَرْجِعَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ . فَمَنْ رَجَعَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ وَجَبَ أَنْ يُعْدَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ , وَيُقْسَطَ بَيْنَهُمَا . فَقَبْلَ أَنْ نُقَاتِلَ الطَّائِفَةَ الْبَاغِيَةَ وَبَعْدَ اقْتِتَالِهِمَا أُمِرْنَا بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ لَمْ تُقْهَرْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ بِقِتَالٍ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُسْعَى بَيْنَ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ بِالصُّلْحِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ . وَرَسُولُهُ . وَيُقَالُ لِهَذِهِ : مَا تَنْقِمُ مِنْ هَذِهِ ؟ وَلِهَذِهِ : مَا تَنْقِمُ مِنْ هَذِهِ ؟ فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا اعْتَدَتْ عَلَى الْأُخْرَى : بِإِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ الْأَنْفُسِ , وَالْأَمْوَالِ : كَانَ عَلَيْهَا ضَمَانُ مَا أَتْلَفَتْهُ . وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ أَتْلَفُوا لِهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ

أَتْلَفُوا لِهَؤُلَاءِ تَقَاصُّوا بَيْنَهُمْ , كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } وَقَدْ ذَكَرَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فِي طَائِفَتَيْنِ اقْتَتَلَتَا فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ بِالْمُقَاصَّةِ , قَالَ : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } وَالْعَفْوُ الْفَضْلُ فَإِذَا فَضَلَ لِوَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ شَيْءٌ عَلَى الْأُخْرَى { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ يُؤَدِّيهِ بِإِحْسَانٍ , وَإِنْ تَعَذَّرَ أَنْ تَضْمَنَ وَاحِدَةٌ لِلْأُخْرَى , فَيَجُوزُ أَنْ يَتَحَمَّلَ الرَّجُلُ حَمَالَةً يُؤَدِّيهَا لِصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ , وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ زَكَاةِ الْمُسْلِمِينَ , وَيَسْأَلَ النَّاسَ فِي إعَانَتِهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا , { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ : يَا قَبِيصَةُ إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِثَلَاثَةٍ : رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَيَسْأَلُ حَتَّى يَجِدَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ , ثُمَّ يُمْسِكُ . وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ ; فَإِنَّهُ يَقُومُ ثَلَاثَةً مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ ; فَيَقُولُونَ : قَدْ أَصَابَ فُلَانًا فَاقَةٌ , فَيَسْأَلُ حَتَّى يَجِدَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ وَسَدَادًا مِنْ عَيْشٍ ; ثُمَّ يُمْسِكُ . وَرَجُلٌ يَحْمِلُ حَمَالَةً فَيَسْأَلُ حَتَّى يَجِدَ حَمَالَتَهُ , ثُمَّ يُمْسِكُ } " . وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَادِرٍ أَنْ يَسْعَى فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ وَيَأْمُرَهُمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مَهْمَا أَمْكَنَ

. وَمَنْ كَانَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يَظُنُّ أَنَّهُ مَظْلُومٌ مَبْغِيٌّ عَلَيْهِ فَإِذَا صَبَرَ وَمَنْ أَعَزَّهُ اللَّهُ وَنَصَرَهُ ; كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا , وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ ; وَلَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ } " وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ , وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } فَالْبَاغِي الظَّالِمُ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , فَإِنَّ الْبَغْيَ مَصْرَعُهُ , قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : وَلَوْ بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ لَجَعَلَ اللَّهُ الْبَاغِيَ مِنْهُمَا دَكًّا . وَمِنْ حِكْمَةِ الشِّعْرِ : قَضَى اللَّهُ أَنَّ الْبَغْيَ يُصْرَعُ أَهْلُهُ وَأَنَّ عَلَى الْبَاغِي تَدُورُ الدَّوَائِرُ وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } الْآيَةَ , وَفِي الْحَدِيثِ : { مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجَّلَ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْبَغْيِ , وَمَا حَسَنَةٌ أَحْرَى أَنْ يُعَجَّلَ لِصَاحِبِهَا الثَّوَابُ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ } " فَمَنْ كَانَ مِنْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ بَاغِيًا ظَالِمًا فَلِيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَتُبْ , وَمَتَى كَانَ مَظْلُومًا مَبْغِيًّا عَلَيْهِ وَصَبَرَ كَانَ لَهُ الْبُشْرَى مِنْ اللَّهِ , قَالَ تَعَالَى : { وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ } قَالَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ : هُمْ

الَّذِينَ لَا يَظْلِمُونَ إذَا ظُلِمُوا , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فِي حَقِّ عَدُوِّهِمْ : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } وَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا فَعَلَ بِهِ إخْوَتُهُ مَا فَعَلُوا فَصَبَرَ وَاتَّقَى حَتَّى نَصَرَهُ اللَّهُ وَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي عِزِّهِ : { قَالُوا أَإِنَّك لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } فَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ بِصِدْقٍ وَعَدْلٍ , وَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ , وَصَبَرَ عَلَى أَذَى الْآخَرِ وَظُلْمِهِ لَمْ يَضُرَّهُ كَيْدُ الْآخَرِ ; بَلْ يَنْصُرُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَهَذِهِ الْفِتَنُ سَبَبُهَا الذُّنُوبُ وَالْخَطَايَا فَعَلَى كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ وَيَتُوبَ إلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرْفَعُ الْعَذَابَ , وَيُنْزِلُ الرَّحْمَةَ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذَّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَكْثَرَ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا , وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا , وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ , أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ , وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي

فَضْلٍ فَضْلَهُ } .
746 - 746 - 100 - مَسْأَلَةٌ : فِي أَقْوَامٍ لَمْ يُصَلُّوا وَلَمْ يَصُومُوا , وَاَلَّذِي يَصُومُ لَمْ يُصَلِّ , وَمَالُهُمْ حَرَامٌ , وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ , وَيُكْرِمُونَ الْجَارَ وَالضَّعِيفَ , وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مَذْهَبٌ , وَهُمْ مُسْلِمُونَ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا تَحْتَ حُكْمِ وُلَاةِ الْأُمُورِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَأْمُرُوهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ , وَيُعَاقِبُوا عَلَى تَرْكِهَا . وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ , وَإِنْ أَقَرُّوا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ ; وَإِلَّا فَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ , وَإِنْ أَقَرُّوا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَامْتَنَعُوا عَنْ إقَامَتِهَا عُوقِبُوا حَتَّى يُقِيمُوهَا , وَيَجِبُ قَتْلُ كُلِّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ إذَا كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ , كَمَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ . وَكَذَلِكَ تُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحُدُودُ . وَإِنْ كَانُوا طَائِفَةً مُمْتَنِعَةً ذَاتَ شَوْكَةٍ ; فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَلْتَزِمُوا أَدَاءَ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُتَوَاتِرَةِ : كَالصَّلَاةِ , وَالصِّيَامِ , وَالزَّكَاةِ , وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ . كَالزِّنَا , وَالرِّبَا , وَقَطْعِ الطَّرِيقِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَهُوَ كَافِرٌ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ

747 - 747 - 101 - مَسْأَلَةٌ : فِي أَقْوَامٍ مُقِيمُونَ فِي الثُّغُورِ , يُغِيرُوا عَلَى الْأَرْمَنِ وَغَيْرِهِمْ , وَيَكْسِبُونَ الْمَالَ يُنْفِقُونَ عَلَى الْخَمْرِ وَالزِّنَا : هَلْ يَكُونُونَ شُهَدَاءَ إذَا قُتِلُوا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . إنْ كَانُوا إنَّمَا يُغِيرُونَ عَلَى الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ , فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ , وَقَدْ { قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ , الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً , وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً ; وَيُقَاتِلُ رِيَاءً : فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَا يَقْصِدُ إلَّا أَخْذَ الْمَالِ , وَإِنْفَاقَهُ فِي الْمَعَاصِي : فَهَؤُلَاءِ فُسَّاقٌ مُسْتَحِقُّونَ لِلْوَعِيدِ . وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُمْ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ; وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ : فَهَؤُلَاءِ مُجَاهِدُونَ ; لَكِنْ إذَا كَانَتْ لَهُمْ كَبَائِرُ كَانَ لَهُمْ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ . وَأَمَّا إنْ كَانُوا يُغِيرُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُنَاكَ : فَهَؤُلَاءِ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ; مُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ; وَمُسْتَحِقُّونَ لِلْعُقُوبَةِ الْبَلِيغَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَدْ شَهِدَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ اقْتِتَالَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُخْرِجُهُمْ عَنْ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ , إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فَسَمَّاهُمْ " مُؤْمِنِينَ " وَجَعَلَهُمْ " إخْوَةً " مَعَ وُجُودِ الِاقْتِتَالِ وَالْبَغْيِ . وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ { إذَا اقْتَتَلَ خَلِيفَتَانِ فَأَحَدُهُمَا مَلْعُونٌ } " كَذِبٌ مُفْتَرًى لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ , وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ الْمُعْتَمَدَةِ . " وَمُعَاوِيَةُ " لَمْ يَدَّعِ الْخِلَافَةَ ; وَلَمْ يُبَايَعْ لَهُ بِهَا حِينَ قَاتَلَ عَلِيًّا , وَلَمْ يُقَاتِلْ عَلَى أَنَّهُ خَلِيفَةٌ , وَلَا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْخِلَافَةَ , وَيُقِرُّونَ لَهُ بِذَلِكَ , وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ يُقِرُّ بِذَلِكَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْهُ , وَلَا كَانَ مُعَاوِيَةُ وَأَصْحَابُهُ يَرَوْنَ أَنْ يَبْتَدِئُوا عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ بِالْقِتَالِ , وَلَا يَعْلُوا . بَلْ لَمَّا رَأَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ وَمُبَايَعَتُهُ , إذْ لَا يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ إلَّا خَلِيفَةٌ وَاحِدٌ , وَأَنَّهُمْ خَارِجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ يَمْتَنِعُونَ عَنْ هَذَا الْوَاجِبِ , وَهُمْ أَهْلُ شَوْكَةٍ رَأَى أَنْ يُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يُؤَدُّوا هَذَا الْوَاجِبَ , فَتَحْصُلَ الطَّاعَةُ

وَالْجَمَاعَةُ . وَهُمْ قَالُوا : إنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ , وَأَنَّهُمْ إذَا قُوتِلُوا عَلَى ذَلِكَ كَانُوا مَظْلُومِينَ قَالُوا : لِأَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَقَتَلَتُهُ فِي عَسْكَرِ عَلِيٍّ , وَهُمْ غَالِبُونَ لَهُمْ شَوْكَةٌ , فَإِذَا امْتَنَعْنَا ظَلَمُونَا وَاعْتَدَوْا عَلَيْنَا , وَعَلِيٌّ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُمْ , كَمَا لَمْ يُمْكِنْهُ الدَّفْعُ عَنْ عُثْمَانَ ; وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نُبَايِعَ خَلِيفَةً يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْصِفَنَا وَيَبْذُلَ لَنَا الْإِنْصَافَ . وَكَانَ فِي جُهَّالِ الْفَرِيقَيْنِ مَنْ يَظُنُّ بِعَلِيٍّ وَعُثْمَانَ ظُنُونًا كَاذِبَةً , بَرَّأَ اللَّهُ مِنْهَا عَلِيًّا , وَعُثْمَانَ , كَانَ يُظَنَّ بِعَلِيٍّ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ عُثْمَانَ , وَكَانَ عَلِيٌّ يَحْلِفُ وَهُوَ الْبَارُّ الصَّادِقُ بِلَا يَمِينٍ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ , وَلَا رَضِيَ بِقَتْلِهِ , وَلَمْ يُمَالِئْ عَلَى قَتْلِهِ . وَهَذَا مَعْلُومٌ بِلَا رَيْبٍ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . فَكَانَ أُنَاسٌ مِنْ مُحِبِّي عَلِيٍّ وَمِنْ مُبْغِضِيهِ يُشِيعُونَ ذَلِكَ عَنْهُ : فَمُحِبُّوهُ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ الطَّعْنَ عَلَى عُثْمَانَ بِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ , وَأَنَّ عَلِيًّا أَمَرَ بِقَتْلِهِ . وَمُبْغِضُوهُ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ الطَّعْنَ عَلَى عَلِيٍّ , وَأَنَّهُ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ الْخَلِيفَةِ الْمَظْلُومِ الشَّهِيدِ , الَّذِي صَبَرَ نَفْسَهُ وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهَا , وَلَمْ يَسْفِكْ دَمَ مُسْلِمٍ فِي الدَّفْعِ عَنْهُ , فَكَيْفَ فِي طَلَبِ طَاعَتِهِ ؟ , وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَسَبَّبُ بِهَا الزَّائِغُونَ عَلَى الْمُتَشَيِّعِينَ الْعُثْمَانِيَّةِ , وَالْعَلَوِيَّةِ . وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ

الْمُتَشَيِّعِينَ مُقِرَّةٌ مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُعَاوِيَةُ كُفْئًا لِعَلِيٍّ بِالْخِلَافَةِ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةً مَعَ إمْكَانِ اسْتِخْلَافِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; فَإِنَّ فَضْلَ عَلِيٍّ وَسَابِقِيَّتَهُ , وَعِلْمَهُ , وَدِينَهُ , وَشَجَاعَتَهُ , وَسَائِرَ فَضَائِلِهِ : كَانَتْ عِنْدَهُمْ ظَاهِرَةٌ مَعْرُوفَةٌ , كَفَضْلِ إخْوَانِهِ : أَبِي بَكْرٍ , وَعُمَرَ , وَعُثْمَانَ , وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى غَيْرُهُ وَغَيْرُ سَعْدٍ , وَسَعْدٌ كَانَ قَدْ تَرَكَ هَذَا الْأَمْرَ وَكَانَ الْأَمْرُ قَدْ انْحَصَرَ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ ; فَلَمَّا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ لَمْ يَبْقَ لَهَا مُعَيَّنٌ إلَّا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , وَإِنَّمَا وَقَعَ الشَّرُّ بِسَبَبِ قَتْلِ عُثْمَانَ , فَحَصَلَ بِذَلِكَ قُوَّةُ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَضَعْفُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ , حَتَّى حَصَلَ مِنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ مَا صَارَ يُطَاعُ فِيهِ مَنْ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ بِالطَّاعَةِ ; وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْجَمَاعَةِ وَالِائْتِلَافِ , وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ ; وَلِهَذَا قِيلَ : مَا يَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ مِنْ الْفُرْقَةِ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ { أَنَّ عَمَّارًا تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ } " فَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ طَعَنَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ; لَكِنْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَهُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ : قَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاغِيَةِ الطَّالِبَةُ بِدَمِ عُثْمَانَ , كَمَا قَالُوا : نَبْغِي ابْنَ عَفَّانَ بِأَطْرَافِ الْأَسَلِّ . وَلَيْسَ

بِشَيْءٍ ; بَلْ يُقَالُ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَهُوَ حَقٌّ كَمَا قَالَهُ , وَلَيْسَ فِي كَوْنِ عَمَّارًا تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ مَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَاهُ , فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ , إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } فَقَدْ جَعَلَهُمْ مَعَ وُجُودِ الِاقْتِتَالِ وَالْبَغْيِ مُؤْمِنِينَ إخْوَةً ; بَلْ مَعَ أَمْرِهِ بِقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ جَعَلَهُمْ مُؤْمِنِينَ . وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ بَغْيًا وَظُلْمًا أَوْ عُدْوَانًا يُخْرِجُ عُمُومَ النَّاسِ عَنْ الْإِيمَانِ , وَلَا يُوجِبُ لَعْنَتَهُمْ ; فَكَيْفَ يُخْرِجُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ ؟ , وَكُلُّ مَنْ كَانَ بَاغِيًا , أَوْ ظَالِمًا , أَوْ مُعْتَدِيًا , أَوْ مُرْتَكِبًا مَا هُوَ ذَنْبٌ فَهُوَ " قِسْمَانِ " مُتَأَوِّلٌ , وَغَيْرُ مُتَأَوِّلٍ , فَالْمُتَأَوِّلُ الْمُجْتَهِدُ : كَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ , الَّذِينَ اجْتَهَدُوا , وَاعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ حِلَّ أُمُورٍ , وَاعْتَقَدَ الْآخَرُ تَحْرِيمَهَا كَمَا اسْتَحَلَّ بَعْضُهُمْ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْأَشْرِبَةِ , وَبَعْضُهُمْ بَعْضَ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ وَبَعْضُهُمْ بَعْضَ عُقُودِ التَّحْلِيلِ وَالْمُتْعَةِ , وَأَمْثَالُ ذَلِكَ , فَقَدْ جَرَى ذَلِكَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ خِيَارِ السَّلَفِ . فَهَؤُلَاءِ الْمُتَأَوِّلُونَ الْمُجْتَهِدُونَ غَايَتُهُمْ أَنَّهُمْ

مُخْطِئُونَ , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ . وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي الْحَرْثِ , وَخَصَّ أَحَدَهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ , مَعَ ثَنَائِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ . وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ , فَإِذَا فَهِمَ أَحَدُهُمْ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ الْآخَرُ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ مَلُومًا وَلَا مَانِعًا لِمَا عُرِفَ مِنْ عِلْمِهِ وَدِينِهِ , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ يَكُونُ إثْمًا وَظُلْمًا , وَالْإِصْرَارُ عَلَيْهِ فِسْقًا , بَلْ مَتَى عَلِمَ تَحْرِيمَهُ ضَرُورَةً كَانَ تَحْلِيلُهُ كُفْرًا . فَالْبَغْيُ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ . أَمَّا إذَا كَانَ الْبَاغِي مُجْتَهِدًا وَمُتَأَوِّلًا , وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّهُ بَاغٍ , بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي اعْتِقَادِهِ : لَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُ " بَاغِيًا " مُوجِبَةً لِإِثْمِهِ , فَضْلًا عَنْ أَنْ تُوجِبَ فِسْقَهُ . وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِقِتَالِ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ يَقُولُونَ : مَعَ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ قِتَالُنَا لَهُمْ لِدَفْعِ ضَرَرِ بَغْيِهِمْ ; لَا عُقُوبَةً لَهُمْ ; بَلْ لِلْمَنْعِ مِنْ الْعُدْوَانِ . وَيَقُولُونَ : إنَّهُمْ بَاقُونَ عَلَى الْعَدَالَةِ ; لَا يَفْسُقُونَ . وَيَقُولُونَ هُمْ كَغَيْرِ الْمُكَلَّفِ , كَمَا يُمْنَعُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالنَّاسِي وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمُ مِنْ الْعُدْوَانِ أَنْ لَا يَصْدُرَ مِنْهُمْ ; بَلْ تُمْنَعُ الْبَهَائِمُ مِنْ الْعُدْوَانِ .

وَيَجِبُ عَلَى مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً الدِّيَةُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ , وَهَكَذَا مَنْ رُفِعَ إلَى الْإِمَامِ مِنْ أَهْلِ الْحُدُودِ وَتَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَأَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ , وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ , وَالْبَاغِي الْمُتَأَوِّلُ يُجْلَدُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ . ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ " الْبَغْيُ " بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ : يَكُونُ ذَنْبًا , وَالذُّنُوبُ تَزُولُ عُقُوبَتُهَا بِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ : بِالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ , وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . ثُمَّ " إنَّ عَمَّارًا تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ " لَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لِمُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ ; بَلْ يُمْكِنُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ تِلْكَ الْعِصَابَةُ الَّتِي حَمَلَتْ عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلَتْهُ , وَهِيَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعَسْكَرِ , وَمَنْ رَضِيَ بِقَتْلِ عَمَّارٍ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهَا , وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمُعَسْكَرِ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَتْلِ عَمَّارٍ : كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ , وَغَيْرِهِ ; بَلْ كُلُّ النَّاسِ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِقَتْلِ عَمَّارٍ , حَتَّى مُعَاوِيَةَ , وَعَمْرٍو . وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ تَأَوَّلَ أَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ ; دُونَ مُقَاتِلِيهِ : وَأَنَّ عَلِيًّا رَدَّ هَذَا التَّأْوِيلَ بِقَوْلِهِ : فَنَحْنُ إذًا قَتَلْنَا حَمْزَةَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا قَالَهُ عَلِيٌّ هُوَ الصَّوَابُ ; لَكِنْ مَنْ نَظَرَ فِي كَلَامِ الْمُتَنَاظِرِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ وَلَا مُلْكٌ , وَأَنَّ لَهُمْ فِي النُّصُوصِ

مِنْ التَّأْوِيلَاتِ مَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِكَثِيرٍ . وَمَنْ تَأَوَّلَ هَذَا التَّأْوِيلَ لَمْ يَرَ أَنَّهُ قَتَلَ عَمَّارًا , فَلَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ بَاغٍ , وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ بَاغٍ وَهُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَاغٍ : فَهُوَ مُتَأَوِّلٌ مُخْطِئٌ . وَالْفُقَهَاءُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ رَأْيُهُ الْقِتَالُ مَعَ مَنْ قَتَلَ عَمَّارًا ; لَكِنْ لَهُمْ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِمَا أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ : مِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْقِتَالَ مَعَ عَمَّارٍ وَطَائِفَتِهِ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْإِمْسَاكَ عَنْ الْقِتَالِ مُطْلَقًا . وَفِي كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ طَوَائِفُ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ . فَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَمَّارٌ , وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ , وَأَبُو أَيُّوبَ . وَفِي الثَّانِي سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ; وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ ; وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ , وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَنَحْوُهُمْ . وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْأَكَابِرِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا عَلَى هَذَا الرَّأْيِ ; وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَسْكَرَيْنِ بَعْدَ عَلِيٍّ أَفْضَلُ مِنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ , وَكَانَ مِنْ الْقَاعِدِينَ . " وَحَدِيثُ عَمَّارٍ " قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ رَأَى الْقِتَالَ ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَاتِلُوهُ بُغَاةً فَاَللَّهُ يَقُولُ : { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } وَالْمُتَمَسِّكُونَ يَحْتَجُّونَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي { أَنَّ الْقُعُودَ عَنْ الْفِتْنَةِ خَيْرٌ مِنْ الْقِتَالِ فِيهَا } " وَتَقُولُ : إنَّ هَذَا الْقِتَالَ وَنَحْوَهُ هُوَ قِتَالُ الْفِتْنَةِ ; كَمَا جَاءَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ تُبَيِّنُ ذَلِكَ ; وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ بِالْقِتَالِ ; وَلَمْ يَرْضَ لَهُ ; وَإِنَّمَا رَضِيَ بِالصُّلْحِ ; وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِقِتَالِ الْبَاغِي ; وَلَمْ يَأْمُرْ بِقِتَالِهِ ابْتِدَاءً ; بَلْ قَالَ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } قَالُوا : وَالِاقْتِتَالُ الْأَوَّلُ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ ; وَلَا أَمَرَ كُلَّ مَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ بَغَى عَلَيْهِ ; فَإِنَّهُ إذَا قَتَلَ كُلَّ بَاغٍ كَفَرَ ; بَلْ غَالِبُ الْمُؤْمِنِينَ ; بَلْ غَالِبُ النَّاسِ : لَا يَخْلُو مِنْ ظُلْمٍ وَبَغْيٍ ; وَلَكِنْ إذَا اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَالْوَاجِبُ الْإِصْلَاحُ بَيْنَهُمَا ; وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا مَأْمُورَةً بِالْقِتَالِ , فَإِذَا بَغَتْ الْوَاحِدَةُ بَعْدَ ذَلِكَ قُوتِلَتْ ; لِأَنَّهَا لَمْ تَتْرُكْ الْقِتَالَ ; وَلَمْ تُجِبْ إلَى الصُّلْحِ ; فَلَمْ يَنْدَفِعْ شَرُّهَا إلَّا بِالْقِتَالِ فَصَارَ قِتَالُهَا بِمَنْزِلَةِ قِتَالِ الصَّائِلِ الَّذِي لَا يَنْدَفِعُ ظُلْمُهُ عَنْ غَيْرِهِ إلَّا بِالْقِتَالِ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ , وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ , وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ , وَمَنْ قُتِلَ دُونَ حُرْمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } " . قَالُوا : فَبِتَقْدِيرِ أَنَّ جَمِيعَ الْعَسْكَرِ بُغَاةٌ فَلَمْ نُؤْمَرْ بِقِتَالِهِمْ ابْتِدَاءً ; بَلْ أُمِرْنَا بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ . "

وَأَيْضًا , فَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ إذَا كَانَ الَّذِينَ مَعَ عَلِيٍّ نَاكِلِينَ عَنْ الْقِتَالِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرِي الْخِلَافِ عَلَيْهِ ضَعِيفِي الطَّاعَةِ لَهُ . " وَالْمَقْصُودُ " أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يُبِيحُ لَعْنَ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَلَا يُوجِبُ فِسْقَهُ . وَأَمَّا " أَهْلُ الْبَيْتِ " فَلَمْ يَسُبُّوا قَطُّ . وَلِلَّهِ الْحَمْدُ . وَلَمْ يَقْتُلْ الْحَجَّاجُ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ , وَإِنَّمَا قَتَلَ رِجَالًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ , وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَلَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ وَلَا بَنُو هَاشِمٍ وَلَا بَنُو أُمَيَّةَ حَتَّى فَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ; حَيْثُ لَمْ يَرَوْهُ كُفْئًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

745 - 745 - 99 - مَسْأَلَةٌ : طَائِفَتَانِ يَزْعُمَانِ أَنَّهُمَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ تَتَدَاعَيَانِ بِدَعْوَةِ الْجَاهِلِيَّةِ : كَأَسَدٍ وَهِلَالٍ , وَثَعْلَبَةَ , وَحَرَامٍ , وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَبَيْنَهُمْ أَحْقَادٌ وَدِمَاءٌ ; فَإِذَا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ سَعَى الْمُؤْمِنُونَ بَيْنَهُمْ لِقَصْدِ التَّأْلِيفِ , وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ; فَيَقُولُ أُولَئِكَ الْبَاغُونَ : إنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا طَلَبَ الثَّأْرِ بِقَوْلِهِ : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } ثُمَّ إنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُعَرِّفُونَهُمْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَقْضِي إلَى الْكُفْرِ : مَنْ قَتَلَ النُّفُوسَ , وَنَهَبَ الْأَمْوَالَ فَيَقُولُونَ : نَحْنُ لَنَا عَلَيْهِمْ حُقُوقٌ , فَلَا نُفَارِقُ حَتَّى نَأْخُذَ ثَأْرَنَا بِسُيُوفِهِمْ , ثُمَّ يَحْمِلُونَ عَلَيْهِمْ , فَمَنْ انْتَصَرَ مِنْهُمْ بَغَى وَتَعَدَّى وَقَتَلَ النَّفْسَ , وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ . فَهَلْ يَجِبُ قِتَالُ الطَّائِفَةِ الْبَاغِيَةِ وَقَتْلِهَا , بَعْدَ أَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ ؟ أَوْ مَاذَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ بِهَذِهِ الطَّائِفَةِ الْبَاغِيَةِ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ : قِتَالُ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ , حَتَّى قَالَ : { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ . قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ , هَذَا الْقَاتِلُ , فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟ قَالَ : إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ } " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ } " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ , كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا , فِي بَلَدِكُمْ هَذَا , فِي شَهْرِكُمْ هَذَا . أَلَا لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ , فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ } " وَالْوَاجِبُ فِي مِثْلِ هَذَا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ , حَيْثُ قَالَ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ , إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فَيَجِبُ الْإِصْلَاحُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ , كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى . وَالْإِصْلَاحُ لَهُ طُرُقٌ . " مِنْهَا " أَنْ تُجْمَعَ أَمْوَالُ الزَّكَوَاتِ وَغَيْرِهَا حَتَّى يُدْفَعَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْغُرْمَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ , يُبِيحُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الزَّكَاةِ بِقَدْرِ مَا غَرِمَ , كَمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا , كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ : إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِثَلَاثَةٍ : لِرَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَيَسْأَلُ حَتَّى يَجِدَ حَمَالَتَهُ , ثُمَّ يُمْسِكُ . وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ وَسَأَلَ حَتَّى يَجِدَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ , ثُمَّ يُمْسِكُ . وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ , فَيَقُولُونَ : قَدْ

أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ , فَيَسْأَلُ ; حَتَّى يَجِدَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ , وَسَدَادًا مِنْ عَيْشٍ , ثُمَّ يُمْسِكُ , وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ سُحْتًا } " . وَمِنْ طُرُقِ الصُّلْحِ أَنْ تَعْفُوَ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا عَنْ بَعْضِ مَالِهَا عِنْدَ الْأُخْرَى مِنْ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } وَمِنْ طُرُقِ الصُّلْحِ أَنْ يُحَكَّمَ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ , فَيُنْظَرَ مَا أَتْلَفَتْهُ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ الْأُخْرَى مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ , فَيَتَقَاصَّانِ { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } وَإِذَا فَضَلَ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ . فَإِنْ كَانَ يَجْهَلُ عَدَدَ الْقَتْلَى , أَوْ مِقْدَارَ الْمَالِ : جَعَلَ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ . وَإِذَا ادَّعَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى بِزِيَادَةٍ : فَإِمَّا أَنْ تُحَلِّفَهَا عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ , وَإِمَّا أَنْ تُقِيمَ الْبَيِّنَةَ , وَإِمَّا تَمْتَنِعَ عَنْ الْيَمِينِ فَيَقْضِيَ بِرَدِّ الْيَمِينِ أَوْ النُّكُولِ . فَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ تَبْغِي بِأَنْ تَمْتَنِعَ عَنْ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ , وَلَا تُجِيبَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَتُقَاتِلُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ تَطْلُبُ قِتَالَ الْأُخْرَى وَإِتْلَافَ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ , كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِهِ ; فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى كَفِّهَا إلَّا بِالْقَتْلِ قُوتِلَتْ حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ ; وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ تُلْزَمَ بِالْعَدْلِ بِدُونِ الْقِتَالِ مِثْلُ أَنْ يُعَاقِبَ

بَعْضَهُمْ , أَوْ يَحْبِسَ ; أَوْ يَقْتُلَ مَنْ وَجَبَ قَتْلُهُ مِنْهُمْ , وَنَحْوُ ذَلِكَ : عَمِلَ ذَلِكَ , وَلَا حَاجَةَ إلَى الْقِتَالِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْنَا طَلَبَ الثَّأْرِ . فَهُوَ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ; فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى مَنْ لَهُ عِنْدَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ مَظْلِمَةٌ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ ; بَلْ لَمْ يَذْكُرْ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ فِي الْقُرْآنِ إلَّا نَدَبَ فِيهَا إلَى الْعَفْوِ , فَقَالَ تَعَالَى : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } فَهَذَا مَعَ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ , وَإِنْ كَانَ حُكْمُنَا كَحُكْمِهِمْ مِمَّا لَمْ يُنْسَخْ مِنْ الشَّرَائِعِ : فَالْمُرَادُ بِذَلِكَ التَّسْوِيَةُ فِي الدِّمَاءِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ : { الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ , وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ } " . فَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ رَئِيسًا مُطَاعًا مِنْ قَبِيلَةٍ شَرِيفَةٍ وَالْمَقْتُولُ سُوقِيًّا طَارِفًا , وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ كَبِيرًا وَهَذَا صَغِيرًا , أَوْ هَذَا غَنِيًّا وَهَذَا فَقِيرًا وَهَذَا عَرَبِيًّا

وَهَذَا عَجَمِيًّا , أَوْ هَذَا هَاشِمِيًّا وَهَذَا قُرَشِيًّا . وَهَذَا رَدٌّ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ إذَا قُتِلَ كَبِيرٌ مِنْ الْقَبِيلَةِ قَتَلُوا بِهِ عَدَدًا مِنْ الْقَبِيلَةِ الْأُخْرَى غَيْرِ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ , وَإِذَا قُتِلَ ضَعِيفٌ مِنْ قَبِيلَةٍ لَمْ يَقْتُلُوا قَاتِلَهُ إذَا كَانَ رَئِيسًا مُطْلَقًا فَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } فَالْمَكْتُوبُ عَلَيْهِمْ هُوَ الْعَدْلُ , وَهُوَ كَوْنُ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ ; إذْ الظُّلْمُ حَرَامٌ وَأَمَّا اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ فَهُوَ إلَى الْمُسْتَحِقِّ . وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ } أَيْ لَا يَقْتُلُ غَيْرَ قَاتِلِهِ . وَأَمَّا إذَا طَلَبَتْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , فَقَالَتْ الْأُخْرَى : نَحْنُ نَأْخُذُ حَقَّنَا بِأَيْدِينَا فِي هَذَا الْوَقْتِ . فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ الْمُوجِبَةِ عُقُوبَةَ هَذَا الْقَاتِلِ الظَّالِمِ الْفَاجِرِ , وَإِذَا امْتَنَعُوا عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَهُمْ شَوْكَةٌ وَجَبَ عَلَى الْأَمِيرِ قِتَالُهُمْ ; وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَوْكَةٌ : عَرَفَ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَأَلْزَمَ بِالْعَدْلِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : لَنَا عَلَيْهِمْ حُقُوقٌ مِنْ سِنِينَ مُتَقَادِمَةٍ . فَيُقَالُ لَهُمْ نَحْنُ نَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِي الْحُقُوقِ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ , فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَأْتِي عَلَى هَذَا . وَأَمَّا مَنْ قَتَلَ أَحَدًا مِنْ بَعْدِ الِاصْطِلَاحِ , أَوْ بَعْدَ الْمُعَاهَدَةِ وَالْمُعَاقَدَةِ : فَهَذَا يَسْتَحِقُّ

الْقَتْلَ , حَتَّى قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا , وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ . وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ : بَلْ قَتْلُهُ قِصَاصٌ , وَالْخِيَارُ فِيهِ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ . وَإِنْ كَانَ الْبَاغِي طَائِفَةً فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ , وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ كَفُّ صَنِيعِهِمْ إلَّا بِقِتَالِهِمْ قُوتِلُوا , وَإِنْ أَمْكَنَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ عُوقِبُوا بِمَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ وَنَقْضِ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ , قَالَ : { يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ , فَيُقَالُ : هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ , فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : الْمُعْتَدِي هُوَ الْقَاتِلُ بَعْدَ الْعَفْوِ , فَهَذَا يُقْتَلُ حَتْمًا وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ يُعَذَّبُ بِمَا يَمْنَعُهُ مِنْ الِاعْتِدَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

750 - 750 - 104 - مَسْأَلَةٌ : فِي قَوْمٍ ذَوِي شَوْكَةٍ مُقِيمِينَ بِأَرْضٍ , وَهُمْ لَا يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ , وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مَسْجِدٌ وَلَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ , وَإِنْ صَلَّى أَحَدُهُمْ صَلَّى الصَّلَاةَ غَيْرَ الْمَشْرُوعَةِ , وَلَا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ مَعَ كَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ مِنْ الْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ , وَهُمْ يَقْتَتِلُونَ فَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا , وَيَنْهَبُونَ مَالَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا , وَيَقْتُلُونَ الْأَطْفَالَ , وَقَدْ لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ , لَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ , وَلَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ , وَلَا غَيْرِهَا , وَإِذَا أَسَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بَاعُوا أَسْرَاهُمْ لِلْإِفْرِنْجِ , وَيَبِيعُونَ رَقِيقَهُمْ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ لِلْإِفْرِنْجِ عَلَانِيَةً , وَيَسُوقُونَهُمْ كَسَوْقِ الدَّوَابِّ وَيَتَزَوَّجُونَ الْمَرْأَةَ فِي عِدَّتِهَا , وَلَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ , وَلَا يَنْقَادُونَ لِحَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ , وَإِذَا دُعِيَ أَحَدُهُمْ إلَى الشَّرْعِ قَالَ جَاءَنَا الشَّرْعُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهَلْ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ , وَكَيْفَ الطَّرِيقُ إلَى دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ مَعَ مَا ذُكِرَ . الْجَوَابُ : نَعَمْ يَجُوزُ بَلْ يَجِبُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَنْ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ , مِثْلُ الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ عَنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَوْ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ إلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ , وَعَنْ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ الَّذِينَ لَا

يَمْتَنِعُونَ عَنْ سَفْكِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ , أَوْ لَا يَتَحَاكَمُونَ بَيْنَهُمْ بِالشَّرْعِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ , كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ , وَكَمَا قَاتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَوَارِجَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ : { يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ , يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ , أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ( ) وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } ( ) . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ , فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ( ) . وَالرِّبَا آخِرُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ تَحْرِيمًا . وَيُدْعَوْنَ قَبْلَ الْقِتَالِ إلَى الْتِزَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ , فَإِنْ الْتَزَمُوهَا اسْتَوْثَقَ مِنْهُمْ , وَلَمْ يَكْتَفِ مِنْهُمْ بِمُجَرَّدِ الْكَلَامِ كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ بِمَنْ قَاتَلَهُمْ بَعْدَ أَنْ أَذَلَّهُمْ , وَقَالَ اخْتَارُوا إمَّا الْحَرْبَ وَإِمَّا السِّلْمَ الْمُخْزِيَةَ , وَقَالَ أَنَا خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا

هَذِهِ حَرْبُ الْحِيلَةِ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا السِّلْمُ الْمُخْزِيَةُ , قَالَ تَشْهَدُونَ أَنَّ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتَلَاكُمْ فِي النَّارِ وَنَنْزِعُ مِنْكُمْ الْكُرَاعَ يَعْنِي الْخَيْلَ وَالسِّلَاحَ , حَتَّى يَرَى خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ أَمْرًا بَعْدُ , فَهَكَذَا الْوَاجِبُ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ , إذَا أَظْهَرُوا الطَّاعَةَ يُرْسِلُ إلَيْهِمْ مَنْ يُعَلِّمُهُمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ وَيُقِيمُ بِهِمْ الصَّلَوَاتِ , وَمَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ , وَإِمَّا أَنْ يَسْتَخْدِمَ بَعْضَ الْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ فِي جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ , وَيَجْعَلَهُمْ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَّا بِأَنْ يَنْزِعَ مِنْهُمْ السِّلَاحَ الَّذِي يُقَاتِلُونَ بِهِ وَيُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ , وَإِمَّا أَنَّهُمْ يَضَعُونَهُ حَتَّى يَسْتَقِيمُوا , وَإِمَّا أَنْ يَقْبَلَ الْمُمْتَنِعُ مِنْهُمْ الْتِزَامَ الشَّرِيعَةِ , وَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَجَبَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَلْتَزِمُوا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ , وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . .

748 - 748 - 102 - مَسْأَلَةٌ : فِي جُنْدِيٍّ مَعَ أَمِيرٍ , وَطَلَعَ السُّلْطَانُ إلَى الصَّيْدِ , وَرَسَمَ السُّلْطَانُ بِنَهْبِ نَاسٍ مِنْ الْعَرَبِ وَقَتْلِهِمْ , فَطَلَعَ إلَى الْجَبَلِ فَوَجَدَ ثَلَاثِينَ نَفَرًا فَهَرَبُوا , فَقَالَ الْأَمِيرُ : سُوقُوا خَلْفَهُمْ , فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ لِيُحَارِبُوا , فَوَقَعَ مِنْ الْجُنْدِيِّ ضَرْبَةٌ فِي وَاحِدٍ فَمَاتَ : فَهَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . إذَا كَانَ هَذَا الْمَطْلُوبُ مِنْ الطَّائِفَةِ الْمُفْسِدَةِ الظَّلَمَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقُوا الْجَمَاعَةَ وَعَدَوْا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ , وَقَدْ طُلِبُوا لِيُقَامَ فِيهِمْ أَمْرُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ : فَهَذَا الَّذِي عَادَ مِنْهُمْ مُقَاتِلًا يَجُوزُ قِتَالُهُ , وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ ; بَلْ الْمُحَارِبُونَ يَسْتَوِي فِيهِمْ الْمُعَاوِنُ وَالْمُبَاشِرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ , وَمَالِكٍ , وَأَحْمَدَ , فَمَنْ كَانَ مُعَاوِنًا كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهُمْ .

753 - 753 - 107 - مَسْأَلَةٌ : مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي " الْحَلَّاجِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ " هَلْ كَانَ صِدِّيقًا ؟ أَوْ زِنْدِيقًا ؟ وَهَلْ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ مُتَّقِيًا لَهُ ؟ أَمْ كَانَ لَهُ حَالٌ رَحْمَانِيٌّ ؟ أَوْ مِنْ أَهْلِ السِّحْرِ وَالْخُزَعْبَلَاتِ ؟ وَهَلْ قُتِلَ عَلَى الزَّنْدَقَةِ بِمَحْضَرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؟ أَوْ قُتِلَ مَظْلُومًا ؟ أَفْتَوْنَا مَأْجُورِينَ ؟ أَجَابَ : شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . الْحَلَّاجُ قُتِلَ عَلَى الزَّنْدَقَةِ , الَّتِي ثَبَتَتْ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ , وَبِغَيْرِ إقْرَارِهِ ; وَالْأَمْرُ الَّذِي ثَبَتَ عَلَيْهِ لِمَا يُوجِبُ الْقَتْلَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ قُتِلَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ إمَّا مُنَافِقٌ مُلْحِدٌ , وَإِمَّا جَاهِلٌ ضَالٌّ . وَاَلَّذِي قُتِلَ بِهِ مَا اسْتَفَاضَ عَنْهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ , وَبَعْضُهُ يُوجِبُ قَتْلَهُ ; فَضْلًا عَنْ جَمِيعِهِ . وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ; بَلْ كَانَ لَهُ عِبَادَاتٌ وَرِيَاضَاتٌ وَمُجَاهَدَاتٌ : بَعْضُهَا شَيْطَانِيٌّ , وَبَعْضُهَا نَفْسَانِيٌّ , وَبَعْضُهَا مُوَافِقٌ لِلشَّرِيعَةِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ . فَلَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ . وَكَانَ قَدْ ذَهَبَ إلَى بِلَادِ الْهِنْدِ , وَتَعَلَّمَ أَنْوَاعًا مِنْ السِّحْرِ , وَصَنَّفَ كِتَابًا فِي السِّحْرِ مَعْرُوفًا , وَهُوَ مَوْجُودٌ إلَى الْيَوْمِ , وَكَانَ لَهُ أَقْوَالٌ شَيْطَانِيَّةٌ , وَمَخَارِيقُ بُهْتَانِيَّةٌ . وَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ

أَخْبَارَهُ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ أَرَّخُوهَا الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِهِ , وَاَلَّذِينَ نَقَلُوا عَنْهُمْ مِثْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْحُطِّيِّ ذَكَرَهُ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ " وَالْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ ذَكَرَ لَهُ تَرْجَمَةً كَبِيرَةً فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ " وَأَبُو يُوسُفَ الْقَزْوِينِيُّ صَنَّفَ مُجَلَّدًا فِي أَخْبَارِهِ , وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ لَهُ فِيهِ مُصَنَّفٌ سَمَّاهُ " رَفْعُ اللَّجَاجِ فِي أَخْبَارِ الْحَلَّاجِ " . وَبَسَطَ ذِكْرَهُ فِي تَارِيخِهِ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِي " طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ " أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَشَايِخِ ذَمُّوهُ وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ , وَلَمْ يَعُدُّوهُ مِنْ مَشَايِخِ الطَّرِيقِ ; وَأَكْثَرُهُمْ حَطَّ عَلَيْهِ . وَمِمَّنْ ذَمَّهُ وَحَطَّ عَلَيْهِ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ ; وَلَمْ يُقْتَلْ فِي حَيَاةِ الْجُنَيْدِ ; بَلْ قُتِلَ بَعْدَ مَوْتِ الْجُنَيْدِ ; فَإِنَّ الْجُنَيْدَ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِئَتَيْنِ . وَالْحَلَّاجُ قُتِلَ سَنَةَ بِضْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ , وَقَدِمُوا بِهِ إلَى بَغْدَادَ رَاكِبًا عَلَى جَمَلٍ يُنَادَى عَلَيْهِ : هَذَا دَاعِي الْقَرَامِطَةِ , وَأَقَامَ فِي الْحَبْسِ مُدَّةً حَتَّى وُجِدَ مِنْ كَلَامِهِ الْكُفْرُ وَالزَّنْدَقَةُ , وَاعْتَرَفَ بِهِ : مِثْلُ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابٍ لَهُ : مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَإِنَّهُ يَبْنِي فِي دَارِهِ بَيْتًا وَيَطُوفُ بِهِ , كَمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ , وَيَتَصَدَّقُ عَلَى ثَلَاثِينَ يَتِيمًا بِصَدَقَةٍ ذَكَرَهَا , وَقَدْ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ الْحَجِّ . فَقَالُوا لَهُ : أَنْتَ قُلْت هَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَقَالُوا لَهُ : مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا ؟ قَالَ ذَكَرَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي " كِتَابِ الصَّلَاةِ "

فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ : تَكْذِبُ يَا زِنْدِيقُ , أَنَا قَرَأْت هَذَا الْكِتَابَ وَلَيْسَ هَذَا فِيهِ , فَطَلَبَ مِنْهُمْ الْوَزِيرُ أَنْ يَشْهَدُوا بِمَا سَمِعُوهُ , وَيُفْتُوا بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ , فَاتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ قَتْلِهِ . لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ لَهُمْ قَوْلَانِ فِي الزِّنْدِيقِ إذَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ , هَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ فَلَا يُقْتَلُ ؟ أَمْ يُقْتَلُ ; لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ ; فَإِنَّهُ مَا زَالَ يُظْهِرُ ذَلِكَ ؟ فَأَفْتَى طَائِفَةٌ بِأَنَّهُ يُسْتَتَابُ فَلَا يُقْتَلُ , وَأَفْتَى الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي تَوْبَتِهِ نَفَعَهُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ وَقُتِلَ فِي الدُّنْيَا ; وَكَانَ الْحَدُّ تَطْهِيرًا لَهُ , كَمَا لَوْ تَابَ الزَّانِي وَالسَّارِقُ وَنَحْوُهُمَا بَعْدَ أَنْ يُرْفَعُوا إلَى الْإِمَامِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ : فَإِنَّهُمْ إنْ كَانُوا صَادِقِينَ كَانَ قَتْلُهُمْ كَفَّارَةً لَهُمْ , وَمَنْ كَانَ كَاذِبًا فِي التَّوْبَةِ كَانَ قَتْلُهُ عُقُوبَةً لَهُ . فَإِنْ كَانَ الْحَلَّاجُ وَقْتَ قَتْلِهِ تَابَ فِي الْبَاطِنِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْفَعُهُ بِتِلْكَ التَّوْبَةِ , وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَإِنَّهُ قُتِلَ كَافِرًا . وَلَمَّا قُتِلَ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَقْتَ الْقَتْلِ شَيْءٌ مِنْ الْكَرَامَاتِ ; وَكُلُّ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ دَمَهُ كَتَبَ عَلَى الْأَرْضِ , اسْمَ اللَّهِ , وَأَنَّ رِجْلَهُ انْقَطَعَ مَاؤُهَا , أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ كَاذِبٌ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يَحْكِيهَا إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُنَافِقٌ , وَإِنَّمَا وَضَعَهَا الزَّنَادِقَةُ وَأَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ , حَتَّى يَقُولَ قَائِلُهُمْ : إنَّ شَرْعَ مُحَمَّدِ بْنِ

عَبْدِ اللَّهِ يَقْتُلُ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ , حَتَّى يَسْمَعُوا أَمْثَالَ هَذِهِ الْهَذَيَانَاتِ ; وَإِلَّا فَقَدْ قُتِلَ أَنْبِيَاءٌ كَثِيرُونَ , وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ وَأَصْحَابِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّالِحِينَ مَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ , قُتِلُوا بِسُيُوفِ الْفُجَّارِ وَالْكُفَّارِ وَالظَّلَمَةِ وَغَيْرِهِمْ , وَلَمْ يَكْتُبْ دَمُ أَحَدِهِمْ اسْمَ اللَّهِ . وَالدَّمُ أَيْضًا نَجِسٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكْتَبَ بِهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى . فَهَلْ الْحَلَّاجُ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ , وَدَمُهُ أَطْهَرُ مِنْ دِمَائِهِمْ ؟ , , وَقَدْ جَزِعَ وَقْتَ الْقَتْلِ ; وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ وَالسُّنَّةَ فَلَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ . وَلَوْ عَاشَ اُفْتُتِنَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ , لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبُ خُزَعْبَلَاتِ بُهْتَانِيَّةٍ , وَأَحْوَالٍ شَيْطَانِيَّةٍ . وَلِهَذَا إنَّمَا يُعَظِّمُهُ مَنْ يُعَظِّمُ الْأَحْوَالَ الشَّيْطَانِيَّةَ , وَالنَّفْسَانِيَّةَ , والبهتانية . وَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْعَالِمُونَ بِحَالِ الْحَلَّاجِ فَلَيْسَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ يُعَظِّمُهُ ; وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْقُشَيْرِيُّ فِي مَشَايِخِ رِسَالَتِهِ ; وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَ مِنْ كَلَامِهِ كَلِمَاتٍ اسْتَحْسَنَهَا . وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ قَدْ زَوَّجَهُ بِابْنَتِهِ , فَلَمَّا اطَّلَعَ عَلَى زَنْدَقَتِهِ نَزَعَهَا مِنْهُ , وَكَانَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ كَافِرٌ , وَيَقُولُ : كُنْت مَعَهُ فَسَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ , فَقَالَ : أَقْدِرُ أَنْ أُصَنِّفَ مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ . أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ . كَانَ يُظْهِرُ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ

مَا يَسْتَجْلِبُهُمْ بِهِ إلَى تَعْظِيمِهِ ; فَيُظْهِرُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ سُنِّيٌّ , وَعِنْدَ أَهْلِ الشِّيعَةِ أَنَّهُ شِيعِيٌّ , وَيَلْبَسُ لِبَاسَ الزُّهَّادِ تَارَةً , وَلِبَاسَ الْأَجْنَادِ تَارَةً . وَكَانَ مِنْ مَخَارِيقِهِ أَنَّهُ بَعَثَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ إلَى مَكَان فِي الْبَرِّيَّةِ يُخَبِّئُ فِيهِ شَيْئًا مِنْ الْفَاكِهَةِ وَالْحَلْوَى , ثُمَّ يَجِيءُ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا إلَى قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ , فَيَقُولُ لَهُمْ : مَا تَشْتَهُونَ أَنْ آتِيَكُمْ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْبَرِّيَّةِ فَيَشْتَهِي أَحَدُهُمْ فَاكِهَةً , أَوْ حَلَاوَةً , فَيَقُولُ : اُمْكُثُوا ; ثُمَّ يَذْهَبُ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَيَأْتِي بِمَا خَبَّأَ أَوْ بِبَعْضِهِ , فَيَظُنُّ الْحَاضِرُونَ أَنَّ هَذِهِ كَرَامَةٌ لَهُ , , وَكَانَ صَاحِبُ سِيمَا وَشَيَاطِينَ تَخْدُمُهُ أَحْيَانَا , كَانُوا مَعَهُ عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ , فَطَلَبُوا مِنْهُ حَلَاوَةً , فَذَهَبَ إلَى مَكَان قَرِيبٍ مِنْهُمْ وَجَاءَ بِصَحْنِ حَلْوَى , فَكَشَفُوا الْأَمْرَ فَوَجَدُوا ذَلِكَ قَدْ سُرِقَ مِنْ دُكَّانِ حَلَاوِيٍّ بِالْيَمَنِ , حَمَلَهُ شَيْطَانٌ مِنْ تِلْكَ الْبُقْعَةِ . وَمِثْلُ هَذَا يَحْصُلُ كَثِيرًا لِغَيْرِ الْحَلَّاجِ مِمَّنْ لَهُ حَالٌ شَيْطَانِيٌّ , وَنَحْنُ نَعْرِفُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ فِي زَمَانِنَا وَغَيْرِ زَمَانِنَا : مِثْلُ شَخْصٍ هُوَ الْآنَ بِدِمَشْقَ كَانَ الشَّيْطَانُ يَحْمِلُهُ مِنْ جَبَلِ الصَّالِحِيَّةِ إلَى قَرْيَةٍ حَوْلَ دِمَشْقَ , فَيَجِيءُ مِنْ الْهَوَى إلَى طَاعَةِ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ النَّاسُ , فَيَدْخُلُ وَهُمْ يَرَوْنَهُ . وَيَجِيءُ بِاللَّيْلِ إلَى بَابِ الصَّغِيرِ فَيَعْبُرُ مِنْهُ هُوَ وَرُفْقَتُهُ , وَهُوَ مِنْ أَفْجَرِ النَّاسِ .

وَآخَرُ كَانَ بِالشُّوَيْكِ , فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا : " الشَّاهِدَةُ " يَطِيرُ فِي الْهَوَى إلَى رَأْسِ الْجَبَلِ وَالنَّاسُ يَرَوْنَهُ , وَكَانَ شَيْطَانٌ يَحْمِلُهُ , كَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ . وَأَكْثَرُهُمْ شُيُوخُ الشَّرِّ , يُقَالُ لِأَحَدِهِمْ " البوي " أَيْ الْمُخْبَثُ , يَنْصِبُونَ لَهُ حَرَكَاتٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ , وَيَصْنَعُونَ خُبْزًا عَلَى سَبِيلِ الْقُرُبَاتِ , فَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ , وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ مَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ , وَلَا كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ ; ثُمَّ يَصْعَدُ ذَلِكَ البوي فِي الْهَوَى , وَهُمْ يَرَوْنَهُ , وَيَسْمَعُونَ خِطَابَهُ لِلشَّيْطَانِ , وَخِطَابَ الشَّيْطَانِ لَهُ , وَمَنْ ضَحِكَ أَوْ شَرِقَ بِالْخُبْزِ ضَرَبَهُ بِالدُّفِّ . وَلَا يَرَوْنَ مَنْ يَضْرِبُ بِهِ . ثُمَّ إنَّ الشَّيْطَانَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ مَا يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ , وَيَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُقَرِّبُوا لَهُ بَقَرًا وَخَيْلًا وَغَيْرَ ذَلِكَ وَأَنْ يَخْنُقُوهَا خَنْقًا وَلَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا , فَإِذَا فَعَلُوا قَضَى حَاجَتَهُمْ . وَشَيْخٌ آخَرُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ كَانَ يَزْنِي بِالنِّسَاءِ , وَيَلُوطُ بِالصِّبْيَانِ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ " الْحِوَارَاتُ " وَكَانَ يَقُولُ : يَأْتِينِي كَلْبٌ أَسْوَدُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ نُكْتَتَانِ بَيْضَاوَانِ , فَيَقُولُ لِي : فُلَانٌ , إنَّ فُلَانًا نَذَرَ لَك نَذْرًا , وَغَدًا يَأْتِيك بِهِ , وَأَنَا قَضَيْت حَاجَتَهُ لِأَجْلِك , فَيُصْبِحُ ذَلِكَ الشَّخْصُ يَأْتِيهِ بِذَلِكَ النَّذْرِ ; وَيُكَاشِفُهُ هَذَا الشَّيْخُ الْكَافِرُ . قَالَ : وَكُنْت إذَا طَلَبَ مِنِّي تَغْيِيرَ مِثْلِ اللَّاذَنِ أَقُولُ حَتَّى أَغِيبَ عَنْ عَقْلِي ; وَإِذْ بِاللَّاذَنِ فِي يَدَيَّ , أَوْ فِي فَمِي

وَأَنَا لَا أَدْرِي مَنْ وَضَعَهُ , , قَالَ : وَكُنْت أَمْشِي وَبَيْنَ يَدَيَّ عَمُودٌ أَسْوَدُ عَلَيْهِ نُورٌ . فَلَمَّا تَابَ هَذَا الشَّيْخُ , وَصَارَ يُصَلِّي , وَيَصُومُ وَيَجْتَنِبُ الْمَحَارِمَ , ذَهَبَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ وَذَهَبَ التَّغْيِيرُ ; فَلَا يُؤْتَى بِلَاذَنٍ وَلَا غَيْرِهِ . وَشَيْخٌ آخَرُ كَانَ لَهُ شَيَاطِينُ يُرْسِلُهُمْ يَصْرَعُونَ بَعْضَ النَّاسِ , فَيَأْتِي أَهْلُ ذَلِكَ الْمَصْرُوعِ إلَى الشَّيْخِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ إبْرَاءَهُ , فَيُرْسِلُ إلَى أَتْبَاعِهِ فَيُفَارِقُونَ ذَلِكَ الْمَصْرُوعَ , وَيُعْطُونَ ذَلِكَ الشَّيْخَ دَرَاهِمَ كَثِيرَةً . وَكَانَ أَحْيَانًا تَأْتِيهِ الْجِنُّ بِدَرَاهِمَ وَطَعَامٍ تَسْرِقُهُ مِنْ النَّاسِ , حَتَّى إنَّ بَعْضَ النَّاسِ كَانَ لَهُ تِينٌ فِي كِوَارَةٍ , فَيَطْلُبُ الشَّيْخُ مِنْ شَيَاطِينِهِ تِينًا , فَيُحْضِرُونَهُ لَهُ , فَطَلَبَ أَصْحَابُ الْكِوَارَةِ التِّينَ فَوَجَدُوهُ قَدْ ذَهَبَ . وَآخَرُ كَانَ مُشْتَغِلًا بِالْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ , فَجَاءَتْهُ الشَّيَاطِينُ أَغْرَتْهُ , وَقَالُوا لَهُ : نَحْنُ نُسْقِطُ عَنْك الصَّلَاةَ , وَنُحْضِرُ لَك مَا تُرِيدُ . فَكَانُوا يَأْتُونَهُ بِالْحَلْوَى وَالْفَاكِهَةِ , حَتَّى حَضَرَ عِنْدَ بَعْضِ الشُّيُوخِ الْعَارِفِينَ بِالسُّنَّةِ فَاسْتَتَابَهُ وَأَعْطَى أَهْلَ الْحَلَاوَةِ ثَمَنَ حَلَاوَتِهِمْ الَّتِي أَكَلَهَا ذَلِكَ الْمَفْتُونُ بِالشَّيْطَانِ . فَكُلُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَكَانَ لَهُ حَالٌ مِنْ مُكَاشَفَةٍ أَوْ تَأْثِيرٍ , فَإِنَّهُ صَاحِبُ حَالٍ نَفْسَانِيٍّ ; أَوْ شَيْطَانِيٍّ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَالٌ بَلْ هُوَ يَتَشَبَّهُ بِأَصْحَابِ الْأَحْوَالِ فَهُوَ صَاحِبُ حَالٍ بُهْتَانِيٍّ . وَعَامَّةُ أَصْحَابِ الْأَحْوَالِ

الشَّيْطَانِيَّةِ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْحَالِ الشَّيْطَانِيِّ , وَالْحَالِ الْبُهْتَانِيِّ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ , تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } وَالْحَلَّاجُ " كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ هَؤُلَاءِ أَهْلِ الْحَالِ الشَّيْطَانِيِّ , وَالْحَالِ الْبُهْتَانِيِّ وَهَؤُلَاءِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ . فَأَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ هُمْ شُيُوخُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ مِثْلُ الْكُهَّانِ , وَالسَّحَرَةِ الَّذِينَ كَانُوا لِلْعَرَبِ الْمُشْرِكِينَ , وَمِثْلُ الْكُهَّانِ الَّذِينَ هُمْ بِأَرْضِ الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ إذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَجِيءُ بَعْدَ الْمَوْتِ ; فَيُكَلِّمُهُمْ وَيَقْضِي دُيُونَهُ , وَيَرُدُّ وَدَائِعَهُ وَيُوصِيهِمْ بِوَصَايَا . فَإِنَّهُمْ تَأْتِيهِمْ تِلْكَ الصُّورَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ , وَهُوَ شَيْطَانٌ يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِهِ ; فَيَظُنُّونَهُ إيَّاهُ . وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَسْتَغِيثُ بِالْمَشَايِخِ فَيَقُولُ : يَا سَيِّدِي فُلَانٌ , أَوْ يَا شَيْخُ فُلَانٌ , اقْضِ حَاجَتِي . فَيَرَى صُورَةَ ذَلِكَ الشَّيْخِ تُخَاطِبُهُ , وَيَقُولُ : أَنَا أَقْضِي حَاجَتَك وَأُطَيِّبُ قَلْبَك فَيَقْضِي حَاجَتَهُ , أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ عَدُوَّهُ , وَيَكُونُ ذَلِكَ شَيْطَانًا تَمَثَّلَ فِي صُورَتِهِ لَمَّا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَدَعَا غَيْرَهُ . وَأَنَا أَعْرِفُ مِنْ هَذَا وَقَائِعَ مُتَعَدِّدَةً ; حَتَّى إنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِي ذَكَرُوا أَنَّهُمْ اسْتَغَاثُوا بِي فِي شَدَائِدَ أَصَابَتْهُمْ . أَحَدُهُمْ كَانَ خَائِفًا مِنْ الْأَرْمَنِ , وَالْآخَرُ كَانَ خَائِفًا مِنْ التَّتَرِ , فَذَكَرَ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَمَّا

اسْتَغَاثَ بِي رَآنِي فِي الْهَوَى وَقَدْ رَفَعْت عَنْهُ عَدُوَّهُ . فَأَخْبَرْتهمْ أَنِّي لَمْ أَشْعُرْ بِهَذَا , وَلَا دَفَعْت عَنْكُمْ شَيْئًا ; وَإِنَّمَا هَذَا الشَّيْطَانُ تَمَثَّلَ لِأَحَدِهِمْ فَأَغْوَاهُ لَمَّا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ تَعَالَى . وَهَكَذَا جَرَى لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمَشَايِخِ مَعَ أَصْحَابِهِمْ ; يَسْتَغِيثُ أَحَدُهُمْ بِالشَّيْخِ , فَيَرَى الشَّيْخَ قَدْ جَاءَ وَقَضَى حَاجَتَهُ , وَيَقُولُ ذَلِكَ الشَّيْخُ : إنِّي لَمْ أَعْلَمْ بِهَذَا , فَيَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَيْطَانًا . وَقَدْ قُلْت لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا لَمَّا ذَكَرَ لِي أَنَّهُ اسْتَغَاثَ بِهِمَا كَانَ يَعْتَقِدُهُمَا , وَأَنَّهُمَا أَتَيَاهُ فِي الْهَوَى ; وَقَالَا لَهُ طَيِّبْ قَلْبَك , نَحْنُ نَدْفَعُ عَنْك هَؤُلَاءِ , وَنَفْعَلُ , وَنَصْنَعُ . قُلْت لَهُ : فَهَلْ كَانَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ؟ فَقَالَ : لَا فَكَانَ هَذَا مِمَّا دَلَّهُ عَلَى أَنَّهُمَا شَيْطَانَانِ ; فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ وَإِنْ كَانُوا يُخْبِرُونَ الْإِنْسَانَ بِقَضِيَّةٍ أَوْ قِصَّةٍ فِيهَا صِدْقٌ , فَإِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ أَضْعَافَ ذَلِكَ , كَمَا كَانَتْ الْجِنُّ يُخْبِرُونَ الْكُهَّانَ . وَلِهَذَا مَنْ اعْتَمَدَ عَلَى مُكَاشَفَتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَخْبَارِ الْجِنِّ كَانَ كَذِبُهُ أَكْبَرَ مِنْ صِدْقِهِ , كَشَيْخٍ كَانَ يُقَالُ لَهُ : " الشَّيَّاحُ " تَوَّبْنَاهُ , وَجَدَّدْنَا إسْلَامَهُ كَانَ لَهُ قَرِينٌ مِنْ الْجِنِّ يُقَالُ لَهُ : عَنْتَرٌ " يُخْبِرُهُ بِأَشْيَاءَ , فَيَصْدُقُ تَارَةً , وَيَكْذِبُ تَارَةً , فَلَمَّا ذَكَرْت لَهُ أَنَّك تَعْبُدُ شَيْطَانًا مِنْ دُونِ اللَّهِ , اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ : يَا عَنْتَرُ , لَا سُبْحَانَك ; إنَّك إلَهٌ قَذِرٌ , وَتَابَ مِنْ ذَلِكَ , فِي قِصَّةٍ

مَشْهُورَةٍ . وَقَدْ قَتَلَ سَيْفُ الشَّرْعِ مَنْ قَتَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ مِثْلُ الشَّخْصِ الَّذِي قَتَلْنَاهُ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَكَانَ لَهُ قَرِينٌ يَأْتِيهِ وَيُكَاشِفُهُ فَيَصْدُقُ تَارَةً , وَيَكْذِبُ تَارَةً , وَقَدْ انْقَادَ لَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَنْسُوبِينَ إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالرِّئَاسَةِ , فَيُكَاشِفُهُمْ حَتَّى كَشَفَ اللَّهُ لَهُمْ . وَذَلِكَ أَنَّ الْقَرِينَ كَانَ تَارَةً يَقُولُ لَهُ : أَنَا رَسُولُ اللَّهِ . وَيَذْكُرُ أَشْيَاءَ تُنَافِي حَالَ الرَّسُولِ , فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ الرَّسُولَ يَأْتِينِي , وَيَقُولُ لِي كَذَا وَكَذَا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَكْفُرُ مَنْ أَضَافَهَا إلَى الرَّسُولِ ; فَذَكَرْت لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الْكُهَّانِ ; وَأَنَّ الَّذِي يَرَاهُ شَيْطَانًا ; وَلِهَذَا لَا يَأْتِيهِ فِي الصُّورَةِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّبِيِّ . بَلْ يَأْتِيهِ فِي صُورَةٍ مُنْكَرَةٍ , وَيَذْكَرُ عَنْهُ أَنَّهُ يَشْكِي لَهُ ; وَيُبِيحُ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمُسْكِرَ وَأُمُورًا أُخْرَى . وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَظُنُّونَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الرُّؤْيَةِ ; وَلَمْ يَكُنْ كَاذِبًا فِي أَنَّهُ رَأَى تِلْكَ الصُّورَةَ ; لَكِنْ كَانَ كَافِرًا فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَلِهَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ تَنَزُّلَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ بِحَسَبِ مَا فَعَلُوهُ مِنْ مُرَادِ الشَّيْطَانِ ; فَكُلَّمَا بَعُدُوا عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَطَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ قَرُبُوا مِنْ الشَّيْطَانِ , فَيَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ ; وَالشَّيْطَانُ طَارَ بِهِمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَصْرَعُ الْحَاضِرِينَ , وَشَيَاطِينُهُ صَرَعَتْهُمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْضِرُ طَعَامًا وَإِدَامًا

وَمَلَأَ الْإِبْرِيقَ مَاءً مِنْ الْهَوَى , وَالشَّيَاطِينُ فَعَلَتْ ذَلِكَ . فَيَحْسِبُ الْجَاهِلُونَ أَنَّ هَذِهِ كَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ; وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِنْسِ أَحْوَالِ السَّحَرَةِ وَالْكَهَنَةِ وَأَمْثَالِهِمْ . وَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَالنَّفْسَانِيَّةِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ , وَمَنْ لَمْ يُنَوِّرْ اللَّهُ قَلْبَهُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَاتِّبَاعِ الْقُرْآنِ لَمْ يَعْرِفْ طَرِيقَ الْمُحِقِّ مِنْ الْمُبْطِلِ ; وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالْحَالُ , كَمَا الْتَبَسَ عَلَى النَّاسِ حَالُ مُسَيْلِمَةَ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَذَّابِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ أَنْبِيَاءٌ ; وَإِنَّمَا هُمْ كَذَّابُونَ , وَقَدْ قَالَ : { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ فِيكُمْ ثَلَاثُونَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ , كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ } . وَأَعْظَمُ الدَّجَاجِلَةِ فِتْنَةً " الدَّجَّالُ الْكَبِيرُ " الَّذِي يَقْتُلُهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ : فَإِنَّهُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَتِهِ , وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعِيذُوا مِنْ فِتْنَتِهِ فِي صَلَاتِهِمْ , وَقَدْ ثَبَتَ { أَنَّهُ يَقُولُ لِلسَّمَاءِ : أَمْطِرِي : فَتُمْطِرُ ; وَلِلْأَرْضِ أَنْبِتِي , فَتُنْبِتُ } { وَأَنَّهُ يَقْتُلُ رَجُلًا مُؤْمِنًا ; ثُمَّ يَقُولُ لَهُ قُمْ فَيَقُومُ ; فَيَقُولُ أَنَا رَبُّك ; فَيَقُولُ لَهُ كَذَبْت ; بَلْ أَنْتَ الْأَعْوَرُ الْكَذَّابُ الَّذِي أَخْبَرَنَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ , وَاَللَّهِ مَا ازْدَدْت فِيك إلَّا بَصِيرَةً فَيَقْتُلُهُ مَرَّتَيْنِ , فَيُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَهُ فِي الثَّالِثَةِ فَلَا يُسَلِّطُهُ

اللَّهُ عَلَيْهِ } وَهُوَ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ . وَقَدْ بَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ ثَلَاثَ عَلَامَاتٍ تُنَافِي مَا يَدَّعِيهِ : أَحَدُهَا : { أَنَّهُ أَعْوَرُ ; وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ } . وَالثَّانِي : { أَنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ مِنْ قَارِئٍ وَغَيْرِ قَارِئٍ } . وَالثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ } . فَهَذَا هُوَ الدَّجَّالُ الْكَبِيرُ وَدُونَهُ دَجَاجِلَةٌ مِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ ; وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْذِبُ بِغَيْرِ ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ ; كَمَا قَالَ : { يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ , يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ , فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ } . فَالْحَلَّاجُ كَانَ مِنْ الدَّجَاجِلَةِ بِلَا رَيْبٍ ; وَلَكِنْ إذَا قِيلَ : هَلْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ , أَمْ لَا ؟ قَالَ : اللَّهُ أَعْلَمُ ; فَلَا يَقُولُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ ; وَلَكِنْ ظَهَرَ عَنْهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ مَا أَوْجَبَ كُفْرَهُ وَقَتْلَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ .

754 - 754 - 108 مَسْأَلَةٌ : عَنْ " الْمُعِزِّ مَعْدِ بْنِ تَمِيمٍ " الَّذِي بَنَى الْقَاهِرَةَ , وَالْقَصْرَيْنِ : هَلْ كَانَ شَرِيفًا فَاطِمِيًّا ؟ وَهَلْ كَانَ هُوَ وَأَوْلَادُهُ مَعْصُومِينَ ؟ وَأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ , وَإِنْ , كَانُوا لَيْسُوا أَشْرَافًا : فَمَا الْحُجَّةُ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ ؟ وَإِنْ كَانُوا عَلَى خِلَافِ الشَّرِيعَةِ : فَهَلْ هُمْ " بُغَاةٌ " أَمْ لَا ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَمَدِينَ الَّذِينَ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِمْ ؟ وَلْتَبْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ هُوَ أَوْ أَحَدٌ مِنْ أَوْلَادِهِ أَوْ نَحْوِهِمْ كَانُوا مَعْصُومِينَ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَأِ , كَمَا يَدَّعِيهِ الرَّافِضَةُ فِي " الِاثْنَيْ عَشْرَةَ فَهَذَا الْقَوْلُ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الرَّافِضَةِ بِكَثِيرٍ ; فَإِنَّ الرَّافِضَةَ ادَّعَتْ ذَلِكَ فِيمَنْ لَا شَكَّ فِي إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ , بَلْ فِيمَنْ لَا يُشَكُّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ : كَعَلِيٍّ , وَالْحَسَنِ , وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَمَعَ هَذَا فَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ ; وَأَنَّهُ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ ; فَإِنَّ الْعِصْمَةَ فِي ذَلِكَ لَيْسَتْ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ . بَلْ كَانَ مَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ , وَلَا تَجِبُ طَاعَةُ مَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ , وَلَا يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ اتِّبَاعُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُخْبِرُ بِهِ , وَلَا تَكُونُ مُخَالَفَتُهُ فِي

ذَلِكَ كُفْرًا ; بِخِلَافِ الْأَنْبِيَاءِ ; بَلْ إذَا خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ نُظَرَائِهِ وَجَبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ النَّظَرُ فِي قَوْلَيْهِمَا , وَأَيُّهُمَا كَانَ أَشْبَهَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَابَعَهُ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فَأَمَرَ عِنْدَ التَّنَازُعِ بِالرَّدِّ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ ; إذْ الْمَعْصُومُ لَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ قَالَ الْحَقَّ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ , كَمَا لَوْ ذَكَرَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى , أَوْ حَدِيثًا ثَابِتًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ يَقْصِدُ بِهِ قَطْعَ النِّزَاعِ . أَمَّا وُجُوبُ اتِّبَاعِ الْقَائِلِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا يَقُولُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ; بَلْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ " مَرْتَبَةُ الرَّسُولِ , الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لَهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوك فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } وَقَالَ

تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } وَقَالَ : { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ , وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ . عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لِأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } وَأَمْثَالُ هَذِهِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ , بَيَّنَ فِيهِ سَعَادَةَ مَنْ آمَنَ بِالرُّسُلِ وَاتَّبَعَهُمْ وَأَطَاعَهُمْ , وَشَقَاوَةَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمْ وَلَمْ يَتَّبِعْهُمْ ; بَلْ عَصَاهُمْ . فَلَوْ كَانَ غَيْرُ الرَّسُولِ مَعْصُومًا فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُنْهِي عَنْهُ لَكَانَ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمَ الرَّسُولِ . وَالنَّبِيُّ الْمَبْعُوثُ إلَى الْخَلْقِ

رَسُولٌ إلَيْهِمْ ; بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُبْعَثْ إلَيْهِمْ . فَمَنْ كَانَ آمِرًا نَاهِيًا لِلْخَلْقِ : مِنْ إمَامٍ , وَعَالِمٍ , وَشَيْخٍ , وَأُولِي أَمْرٍ غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَوْ غَيْرِهِمْ , وَكَانَ مَعْصُومًا : كَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ فِي ذَلِكَ , وَكَانَ مَنْ أَطَاعَهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ , وَمَنْ عَصَاهُ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ , كَمَا يَقُولُهُ الْقَائِلُونَ بِعِصْمَةِ عَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ ; بَلْ مَنْ أَطَاعَهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا ; وَمَنْ عَصَاهُ يَكُونُ كَافِرًا ; وَكَانَ هَؤُلَاءِ كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ ; فَلَا يَصِحُّ حِينَئِذٍ قَوْلُ النَّبِيِّ : { لَا نَبِيَّ بَعْدِي } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ , إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا إنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ , فَمَنْ أَخَذَهُ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ } . فَغَايَةُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ يَكُونُوا وَرَثَةَ أَنْبِيَاءٍ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَالْإِجْمَاعِ { أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ لِلصِّدِّيقِ فِي تَأْوِيلِ رُؤْيَا عَبَرَهَا : أَصَبْت بَعْضًا , وَأَخْطَأْت بَعْضًا } وَقَالَ الصِّدِّيقُ : أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت اللَّهَ , فَإِذَا عَصَيْت اللَّهَ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ وَغَضِبَ مَرَّةً عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ : دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ , فَقَالَ لَهُ : أَكُنْت فَاعِلًا ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَقَالَ : مَا كَانَتْ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ نَبِيًّا قُتِلَ , وَمَنْ سَبَّ غَيْرَ النَّبِيِّ لَا يُقْتَلُ بِكُلِّ سَبٍّ

سَبَّهُ ; بَلْ يُفَصَّلُ فِي ذَلِكَ ; فَإِنَّ مَنْ قَذَفَ أُمَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قُتِلَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا : لِأَنَّهُ قَدَحَ فِي نَسَبِهِ , وَلَوْ قَذَفَ غَيْرَ أُمِّ النَّبِيِّ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ بَرَاءَتَهَا لَمْ يُقْتَلْ . وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَانَ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَوَاضِعَ بِمِثْلِ هَذِهِ , فَيَرْجِعُ عَنْ أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فِي خِلَافِ مَا قَالَ , وَيَسْأَلُ الصَّحَابَةَ عَنْ بَعْضِ السُّنَّةِ حَتَّى يَسْتَفِيدَهَا مِنْهُمْ , وَيَقُولُ فِي مَوَاضِعَ : وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ الْحَقَّ أَوْ أَخْطَأَهُ . وَيَقُولُ : امْرَأَةً أَصَابَتْ . وَرَجُلٌ أَخْطَأَ . وَمَعَ هَذَا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } وَفِي التِّرْمِذِيِّ : { لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ فِيكُمْ عُمَرُ } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ ضَرَبَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ } فَإِذَا كَانَ الْمُحَدِّثُ الْمُلْهَمُ الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا مَنْزِلَتَهُ ؟ , فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَعْلَمُ مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ , وَأَعْظَمُ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ سَائِرِهِمْ , وَأَوْلَى بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ مِنْهُمْ , وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { خَيْرُ هَذِهِ

الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ , ثُمَّ عُمَرُ } رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ وَجْهًا , وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا أُوتَى بِأَحَدٍ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي , وَالْأَقْوَالُ الْمَأْثُورَةُ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ [ كَثِيرَةٌ ] . بَلْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لَا يُحْفَظُ لَهُ فُتْيَا أَفْتَى فِيهَا بِخِلَافِ نَصِّ النَّبِيِّ . وَقَدْ وُجِدَ لِعَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِمَّا وُجِدَ لِعُمَرَ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُنَاظِرُ بَعْضَ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ , فَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ عَلِيٍّ , فَصَنَّفَ كِتَابَ اخْتِلَافِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ " وَبَيَّنَ فِيهِ مَسَائِلَ كَثِيرَةً تُرِكَتْ مِنْ قَوْلِهِمَا ; لِمَجِيءِ السُّنَّةِ بِخِلَافِهَا , وَصَنَّفَ بَعْدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الثَّوْرِيُّ كِتَابًا أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ , كَمَا تَرَكَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ , وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا . وَاتَّفَقَتْ أَئِمَّةُ الْفُتْيَا عَلَى قَوْلِ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا فِي ذَلِكَ , وَهُوَ أَنَّهَا إذَا وَضَعَتْ حَمَلَهَا حَلَّتْ , لِمَا ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ : أَنَّ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ كَانَتْ قَدْ وَضَعَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ , فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ . فَقَالَ : مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْك أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا , فَسَأَلَتْ

النَّبِيَّ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ . حَلَلْت فَانْكِحِي } فَكَذَّبَ النَّبِيُّ مَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْفُتْيَا . " وَكَذَلِكَ الْمُفَوِّضَةُ الَّتِي تَزَوَّجَهَا زَوْجُهَا وَمَاتَ عَنْهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا مَهْرٌ قَالَ فِيهَا عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ إنَّهَا لَا مَهْرَ لَهَا , وَأَفْتَى فِيهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ , فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ فَقَالَ : نَشْهَدُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ بِمِثْلِ مَا قَضَيْت بِهِ فِي هَذِهِ " . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ وَابْنَاهُ وَغَيْرُهُمْ يُخَالِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا , كَمَا يُخَالِفُ سَائِرٌ أَهْلِ الْعِلْمِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا , وَلَوْ كَانُوا مَعْصُومِينَ لَكَانَتْ مُخَالَفَةُ الْمَعْصُومِ لِلْمَعْصُومِ مُمْتَنِعَةٌ . وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ , فِي أَمْرِ الْقِتَالِ يُخَالِفُ أَبَاهُ وَيَكْرَهُ كَثِيرًا مِمَّا يَفْعَلُهُ , وَيَرْجِعُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ إلَى رَأْيِهِ , وَكَانَ يَقُولُ : لَئِنْ عَجَزْت عَجْزَةً لَا أَعْتَذِرْ سَوْفَ أَكِيسُ بَعْدَهَا وَأَسْتَمِرَّ وَأَجْبُرُ الرَّأْيَ النَّسِيبَ الْمُنْتَشِرَ وَتَبَيَّنَ لَهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ أَنْ لَوْ فَعَلَ غَيْرَ الَّذِي كَانَ فَعَلَهُ لَكَانَ هُوَ الْأَصْوَبُ وَلَهُ فَتَاوَى رَجَعَ بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ , كَقَوْلِهِ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ , فَإِنَّ لَهُ فِيهَا قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِهِنَّ . وَالثَّانِي : إبَاحَةُ ذَلِكَ وَالْمَعْصُومُ لَا يَكُونُ لَهُ قَوْلَانِ مُتَنَاقِضَانِ ; إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ , كَمَا فِي { قَوْلِ النَّبِيِّ السُّنَّةُ

اسْتَقَرَّتْ } فَلَا يَرِدُ عَلَيْهَا بَعْدَهُ نَسْخٌ إذْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . وَقَدْ وَصَّى الْحَسَنُ أَخَاهُ الْحُسَيْنَ بِأَنْ لَا يُطِيعَ أَهْلَ الْعِرَاقِ , وَلَا يَطْلُبَ هَذَا الْأَمْرَ , وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ يَتَوَلَّاهُ وَيُحِبُّهُ وَرَأَوْا أَنَّ مَصْلَحَتَهُ وَمَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَذْهَبَ إلَيْهِمْ , لَا يُجِيبُهُمْ إلَى مَا قَالُوهُ مِنْ الْمَجِيءِ إلَيْهِمْ وَالْقِتَالِ مَعَهُمْ ; وَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمَصْلَحَةُ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ , وَلَكِنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا رَآهُ مَصْلَحَةً , وَالرَّأْيُ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ . وَالْمَعْصُومُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَهُ ; وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِفَ مَعْصُومًا آخَرَ ; إلَّا أَنْ يَكُونَا عَلَى شَرِيعَتَيْنِ , كَالرَّسُولَيْنِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَرِيعَتَهُمَا وَاحِدَةٌ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ ادَّعَى عِصْمَةَ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ , الْمَشْهُورِ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالْجَنَّةِ ; هُوَ فِي غَايَةِ الضَّلَالِ وَالْجَهَالَةِ , وَلَمْ يَقُلْ هَذَا الْقَوْلَ مَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ ; بَلْ وَلَا مَنْ لَهُ عَقْلٌ مَحْمُودٌ . فَكَيْفَ تَكُونُ الْعِصْمَةُ فِي ذُرِّيَّةِ " عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ " مَعَ شُهْرَةِ النِّفَاقِ وَالْكَذِبِ وَالضَّلَالِ ؟ , وَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ : فَلَا رَيْبَ أَنَّ سِيرَتَهُمْ مِنْ سِيرَةِ الْمُلُوكِ , وَأَكْثَرُهَا ظُلْمًا وَانْتِهَاكًا لِلْمُحَرَّمَاتِ , وَأَبْعَدُهَا عَنْ إقَامَةِ الْأُمُورِ وَالْوَاجِبَاتِ , وَأَعْظَمُ إظْهَارًا لِلْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ

وَالسُّنَّةِ , وَإِعَانَةً لِأَهْلِ النِّفَاقِ وَالْبِدْعَةِ . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دَوْلَةَ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي الْعَبَّاسِ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ دَوْلَتِهِمْ , وَأَعْظَمُ عِلْمًا وَإِيمَانًا مِنْ دَوْلَتِهِمْ , وَأَقَلُّ بِدَعًا وَفُجُورًا مِنْ بِدْعَتِهِمْ , وَأَنَّ خَلِيفَةَ الدَّوْلَتَيْنِ أَطْوَعُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ خُلَفَاءِ دَوْلَتِهِمْ ; وَلَمْ يَكُنْ فِي خُلَفَاءِ الدَّوْلَتَيْنِ مَنْ يُجَوِّزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ أَنَّهُ مَعْصُومٌ , فَكَيْفَ يَدَّعِي الْعِصْمَةَ مَنْ ظَهَرَتْ عَنْهُ الْفَوَاحِشُ وَالْمُنْكَرَاتُ , وَالظُّلْمُ وَالْبَغْيُ , وَالْعُدْوَانُ وَالْعَدَاوَةُ لِأَهْلِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ الْأُمَّةِ , وَالِاطْمِئْنَانُ لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ ؟ , فَهُمْ مِنْ أَفْسَقِ النَّاسِ . وَمِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ . وَمَا يَدَّعِي الْعِصْمَةَ فِي النِّفَاقِ وَالْفُسُوقِ إلَّا جَاهِلٌ مَبْسُوطُ الْجَهْلِ , أَوْ زِنْدِيقٌ يَقُولُ بِلَا عِلْمٍ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّ مَنْ شَهِدَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى , أَوْ بِصِحَّةِ النَّسَبِ فَقَدْ شَهِدَ لَهُمْ بِمَا لَا يَعْلَمُ , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَقَالَ عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ : { وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا } وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ يَعْلَمُ صِحَّةَ نَسَبِهِمْ وَلَا ثُبُوتَ إيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ ; فَإِنَّ غَايَةَ مَا يَزْعُمُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَالْتِزَامَ شَرَائِعِهِ ; وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ ; أَنْ

قَدْ عُرِفَ فِي الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنَّك لَرَسُولُهُ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ , وَأَئِمَّتُهَا وَجَمَاهِيرُهَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُنَافِقِينَ زَنَادِقَةً , يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ . فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ صَارَ فِي إيمَانِهِمْ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ , فَالشَّاهِدُ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ شَاهِدٌ لَهُمْ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ ; إذْ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى إيمَانِهِمْ مِثْلُ مَا مَعَ مُنَازِعِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى نِفَاقِهِمْ وَزَنْدَقَتِهِمْ . وَكَذَلِكَ " النَّسَبُ " قَدْ عُلِمَ أَنَّ جُمْهُورَ الْأُمَّةِ تَطْعَنُ فِي نَسَبِهِمْ , وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ الْمَجُوسِ أَوْ الْيَهُودِ هَذَا مَشْهُورٌ مِنْ شَهَادَةِ عُلَمَاءِ الطَّوَائِفِ مِنْ : الْحَنِيفِيَّةِ , وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ , وَأَهْلِ الْحَدِيثِ , وَأَهْلِ الْكَلَامِ , وَعُلَمَاءِ النَّسَبِ , وَالْعَامَّةِ , وَغَيْرِهِمْ . وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ ذَكَرَهُ عَامَّةُ الْمُصَنِّفِينَ لِأَخْبَارِ النَّاسِ وَأَيَّامِهِمْ , حَتَّى بَعْضُ مَنْ قَدْ يَتَوَقَّفُ فِي أَمْرِهِمْ كَابْنِ الْأَثِيرِ الْمَوْصِلِيِّ

فِي تَارِيخِهِ وَنَحْوِهِ , فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَا كَتَبَهُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ بِخُطُوطِهِمْ فِي الْقَدْحِ فِي نَسَبِهِمْ . وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ حَتَّى الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي تَارِيخِهِ , فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا بُطْلَانَ نَسَبِهِمْ , وَكَذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ , وَأَبُو شَامَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ , حَتَّى صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ , كَمَا صَنَّفَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ كِتَابَهُ الْمَشْهُورَ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ , وَذَكَرَ أَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْمَجُوسِ , وَذَكَرَ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ مَا بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ مَذَاهِبَهُمْ شَرٌّ مِنْ مَذَاهِبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ; بَلْ وَمِنْ مَذَاهِبِ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إلَهِيَّةَ عَلِيٍّ أَوْ نُبُوَّتَهُ , فَهُمْ أَكْفَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ ; وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِهِ " الْمُعْتَمَدُ " فَصْلًا طَوِيلًا فِي شَرْحِ زَنْدَقَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ , وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ فَضَائِلَ المستظهرية وَفَضَائِحَ الْبَاطِنِيَّةِ , قَالَ : ظَاهِرُ مَذْهَبِهِمْ الرَّفْضُ , وَبَاطِنُهُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ . وَكَذَلِكَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَدَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْمُتَشَيِّعَةِ الَّذِينَ لَا يُفَضِّلُونَ عَلَى عَلِيٍّ غَيْرَهُ ; بَلْ يُفَسِّقُونَ مَنْ قَاتَلَهُ وَلَمْ يَتُبْ مِنْ قِتَالِهِ : يَجْعَلُونَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَكَابِرِ الْمُنَافِقِينَ الزَّنَادِقَةِ . فَهَذِهِ مَقَالَةُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي حَقِّهِمْ , فَكَيْفَ تَكُونُ مَقَالَةُ

أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ؟ , , وَالرَّافِضَةُ الْإِمَامِيَّةُ - مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ , وَأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ , وَلَا دِينٌ صَحِيحٌ , وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ نَعَمْ - يَعْلَمُونَ أَنَّ مَقَالَةَ هَؤُلَاءِ مَقَالَةُ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ ; وَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَقَالَةَ هَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةِ شَرٌّ مِنْ مَقَالَةِ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ إلَهِيَّةَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَأَمَّا الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِمْ فَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ الطَّوَائِفِ . وَقَدْ تَوَلَّى الْخِلَافَةَ غَيْرُهُمْ طَوَائِفُ , وَكَانَ فِي بَعْضِهِمْ مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْعِلْمِ مَا فِيهِ ; فَلَمْ يَقْدَحْ النَّاسُ فِي نَسَبِ أَحَدٍ مِنْ أُولَئِكَ , كَمَا قَدَحُوا فِي نَسَبِ هَؤُلَاءِ وَلَا نَسَبُوهُمْ إلَى الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ كَمَا نَسَبُوا هَؤُلَاءِ . وَقَدْ قَامَ مِنْ وَلَدِ عَلِيٍّ طَوَائِفُ ; مِنْ وَلَدِ الْحَسَنِ , وَوَلَدِ الْحُسَيْنِ , كَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ , وَأَخِيهِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ , وَأَمْثَالِهِمَا . وَلَمْ يَطْعَنْ أَحَدٌ لَا مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَلَا مِنْ غَيْرِ أَعْدَائِهِمْ لَا فِي نَسَبِهِمْ وَلَا فِي إسْلَامِهِمْ , وَكَذَلِكَ الدَّاعِي الْقَائِمُ بِطَبَرِسْتَانَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعَلَوِيِّينَ , وَكَذَلِكَ بَنُو حَمُّودٍ الَّذِينَ تَغَلَّبُوا بِالْأَنْدَلُسِ مُدَّةً وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ لَمْ يَقْدَحْ أَحَدٌ فِي نَسَبِهِمْ , وَلَا فِي إسْلَامِهِمْ . وَقَدْ قَتَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الطَّالِبِينَ مَنْ عَلَى الْخِلَافَةِ , لَا سِيَّمَا فِي الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ , وَحَبَسَ طَائِفَةٌ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ

وَغَيْرِهِ , وَلَمْ يَقْدَحْ أَعْدَاؤُهُمْ فِي نَسَبِهِمْ , وَلَا دِينِهِمْ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَنْسَابَ الْمَشْهُورَةَ أَمْرُهَا ظَاهِرٌ مُتَدَارَكٌ مِثْلُ الشَّمْسِ لَا يَقْدِرُ الْعَدُوُّ أَنْ يُطْفِئَهُ
; وَكَذَلِكَ إسْلَامُ الرَّجُلِ وَصِحَّةُ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَالرَّسُولِ أَمْرٌ لَا يَخْفَى , وَصَاحِبُ النَّسَبِ وَالدِّينِ لَوْ أَرَادَ عَدُوُّهُ أَنْ يُبْطِلَ نَسَبَهُ وَدِينَهُ وَلَهُ هَذِهِ الشُّهْرَةُ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ , فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَّفِقَ عَلَى ذَلِكَ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ . وَهَؤُلَاءِ " بَنُو عُبَيْدٍ الْقَدَّاحِ " مَا زَالَتْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ الْمَأْمُونُونَ عِلْمًا وَدِينًا يَقْدَحُونَ فِي نَسَبِهِمْ وَدِينِهِمْ ; لَا يَذُمُّونَهُمْ بِالرَّفْضِ وَالتَّشَيُّعِ ; فَإِنَّ لَهُمْ فِي هَذَا شُرَكَاءَ كَثِيرِينَ ; بَلْ يَجْعَلُونَهُمْ " مِنْ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ " الَّذِينَ مِنْهُمْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالنُّصَيْرِيَّةِ , وَمِنْ جِنْسِهِمْ الخرمية المحمرة وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُنَافِقِينَ , الَّذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ ; وَلَا رَيْبَ أَنَّ اتِّبَاعَ هَؤُلَاءِ بَاطِلٌ ; وَقَدْ وَصَفَ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةَ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ الَّذِينَ ابْتَدَعُوهُ وَوَضَعُوهُ ; وَذَكَرُوا مَا بَنَوْا عَلَيْهِ مَذَاهِبَهُمْ ; وَأَنَّهُمْ أَخَذُوا بَعْضَ قَوْلِ الْمَجُوسِ وَبَعْضَ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ ; فَوَضَعُوا لَهُمْ " السَّابِقَ " " وَالتَّالِيَ " " وَالْأَسَاسَ " " وَالْحُجَجَ " " وَالدَّعَاوَى " وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِنْ الْمَرَاتِبِ . وَتَرْتِيبُ الدَّعْوَةِ سَبْعُ دَرَجَاتٍ ; آخِرُهَا " الْبَلَاغُ

الْأَكْبَرُ ; وَالنَّامُوسُ الْأَعْظَمُ " مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ تَفْصِيلِ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ شَهِدَ لَهُمْ بِصِحَّةِ نَسَبٍ أَوْ إيمَانٍ فَأَقَلُّ مَا فِي شَهَادَتِهِ أَنَّهُ شَاهِدٌ بِلَا عِلْمٍ , قَافٍ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ ; وَذَلِكَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ ; بَلْ مَا ظَهَرَ عَنْهُمْ مِنْ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ . وَمُعَادَاةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ : دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ نَسَبِهِمْ الْفَاطِمِيِّ ; فَإِنَّ مَنْ يَكُونُ مِنْ أَقَارِبِ النَّبِيِّ الْقَائِمِينَ بِالْخِلَافَةِ فِي أُمَّتِهِ لَا تَكُونُ مُعَادَاتُهُ لِدِينِهِ كَمُعَادَاةِ هَؤُلَاءِ ; فَلَمْ يُعْرَفْ فِي بَنِي هَاشِمٍ , وَلَا وَلَدِ أَبِي طَالِبٍ , وَلَا بَنِي أُمَيَّةَ : مَنْ كَانَ خَلِيفَةً وَهُوَ مُعَادٍ لِدِينِ الْإِسْلَامِ ; فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعَادِيًا كَمُعَادَاةِ هَؤُلَاءِ ; بَلْ أَوْلَادُ الْمُلُوكِ الَّذِينَ لَا دِينَ لَهُمْ فَيَكُونُ فِيهِمْ نَوْعُ حَمِيَّةٍ لِدِينِ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ , فَمَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ كَيْفَ يُعَادِي دِينَهُ هَذِهِ الْمُعَادَاةَ ; وَلِهَذَا نَجِدُ جَمِيعَ الْمَأْمُونِينَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مُعَادِينَ لِهَؤُلَاءِ , إلَّا مَنْ هُوَ زِنْدِيقٌ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ , أَوْ جَاهِلٌ لَا يَعْرِفُ مَا بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ . وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِمْ . وَكَذِبِهِمْ فِي نَسَبِهِمْ .

سُئِلَ : عَنْ رَجُلٍ يُفَضِّلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى الرَّافِضَةِ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . كُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ مَنْ كَفَرَ بِهِ ; وَإِنْ كَانَ فِي الْمُؤْمِنِ بِذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْبِدْعَةِ , سَوَاءٌ كَانَتْ بِدْعَةُ الْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ أَوْ غَيْرِهِمْ ; فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كُفَّارٌ , كُفْرًا مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . وَالْمُبْتَدِعُ إذَا كَانَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مُخَالِفٌ لَهُ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا بِهِ , وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ يَكْفُرُ فَلَيْسَ كُفْرُهُ مِثْلَ كُفْرِ مَنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَصْلٌ وَأَمَّا سُؤَالُ الْقَائِلِ " إنَّهُمْ أَصْحَابُ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ " فَدَعْوَاهُمْ الَّتِي ادَّعُوهَا مِنْ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ هُوَ أَعْظَمُ حُجَّةٍ وَدَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُمْ زَنَادِقَةٌ مُنَافِقُونَ ; لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ , وَلَا بِرَسُولِهِ , وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ , فَإِنَّ هَذَا الْعِلْمَ الْبَاطِنَ الَّذِي ادَّعُوهُ هُوَ كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ; بَلْ أَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ أَيْضًا ; فَإِنَّ مَضْمُونَهُ أَنَّ لِلْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ بَوَاطِنَ تُخَالِفُ الْمَعْلُومَ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَوَامِرِ , وَالنَّوَاهِي , وَالْأَخْبَارِ . أَمَّا " الْأَوَامِرُ " فَإِنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ مُحَمَّدًا أَمَرَهُمْ بِالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ , وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ , وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ , وَحَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ . وَأَمَّا " النَّوَاهِي " فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأَثِمَ , وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ , وَأَنْ يُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا , وَأَنْ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ , كَمَا حَرَّمَ الْخَمْرَ , وَنِكَاحَ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ , وَالرِّبَا وَالْمَيْسِرَ , وَغَيْرَ ذَلِكَ . فَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا مَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ , وَلَكِنْ لِهَذَا بَاطِنٌ يَعْلَمُهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ الْإِسْمَاعِيلِيَّة , الَّذِينَ انْتَسَبُوا إلَى مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ , الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ , وَأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ , كَقَوْلِهِمْ :

" الصَّلَاةُ " مَعْرِفَةُ أَسْرَارِنَا ; لَا هَذِهِ الصَّلَوَاتُ ذَاتُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ . " وَالصِّيَامُ " كِتْمَانُ أَسْرَارِنَا لَيْسَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ . " وَالْحَجُّ " زِيَارَةُ شُيُوخِنَا الْمُقَدَّسِينَ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ الْمُدَّعُونَ لِلْبَاطِنِ لَا يُوجِبُونَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَلَا يُحَرِّمُونَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ ; بَلْ يَسْتَحِلُّونَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ , وَنِكَاحَ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ , وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى , فَمَنْ يَكُونُ هَكَذَا كَيْفَ يَكُونُ مَعْصُومًا ؟ , , وَأَمَّا " الْأَخْبَارُ " فَإِنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِقِيَامِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ; وَلَا بِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ; بَلْ وَلَا بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ ; بَلْ وَلَا بِمَا ذَكَرَتْهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ , بَلْ أَخْبَارُهُمْ الَّتِي يَتَّبِعُونَهَا اتِّبَاعَ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمَشَّائِينَ التَّابِعِينَ لِأَرِسْطُو , وَيُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرُّسُلُ وَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ , كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ الْعُبَيْدِيِّينَ , ذُرِّيَّةِ " عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ " . فَهَلْ يُنْكِرُ أَحَدٌ مِمَّنْ يَعْرِفُ دِينَ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ الْيَهُودِ , أَوْ النَّصَارَى : أَنَّ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " مُخَالِفٌ لِلْمِلَلِ الثَّلَاثِ وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ

الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ , وَالطَّبِيعِيَّةِ , وَبَعْضِ الْمَنْطِقِيَّةِ , وَالْإِلَهِيَّةِ , وَعُلُومِ الْأَخْلَاقِ , وَالسِّيَاسَةِ , وَالْمَنْزِلِ : مَا لَا يُنْكَرُ ; فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ الرُّسُلِ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ وَأَمَرَتْ بِهِ , وَالتَّكْذِيبِ بِكَثِيرٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ , وَتَبْدِيلِ شَرَائِعِ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ بِمَا لَا يَخْفَى عَلَى عَارِفٍ بِمِلَّةٍ مِنْ الْمِلَلِ . فَهَؤُلَاءِ خَارِجُونَ عَنْ الْمِلَلِ الثَّلَاثِ . وَمِنْ أَكَاذِيبِهِمْ وَزَعْمِهِمْ : أَنَّ هَذِهِ " الرَّسَائِلَ " مِنْ كَلَامِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ الصَّادِقِ . وَالْعُلَمَاءُ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا إنَّمَا وُضِعَتْ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ زَمَانَ بِنَاءِ الْقَاهِرَةِ , وَقَدْ ذَكَرَ وَاضِعُهَا فِيهَا مَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ اسْتِيلَاءِ النَّصَارَى عَلَى سَوَاحِلِ الشَّامِ , وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْحَوَادِثِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ , وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ , قَبْلَ بِنَاءِ الْقَاهِرَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ ; إذْ الْقَاهِرَةُ بُنِيَتْ حَوْلَ السِّتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ , كَمَا فِي تَارِيخِ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ " . وَيُقَالُ : إنَّ ابْتِدَاءَ بِنَائِهَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ , وَأَنَّهُ فِي سَنَةِ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ قَدِمَ " مَعْدُ بْنُ تَمِيمٍ " مِنْ الْمَغْرِبِ وَاسْتَوْطَنَهَا . وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ الَّذِينَ يُعْلَمُ خُرُوجُهُمْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِ مُبَشِّرِ بْنِ فَاتِكٍ أَحَدِ أُمَرَائِهِمْ , وَأَبِي عَلِيٍّ بْنِ الْهَيْثَمِ اللَّذَيْنِ كَانَا فِي دَوْلَةِ الْحَاكِمِ

نَازِلَيْنِ قَرِيبًا مِنْ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ . وَابْنُ سِينَا وَابْنُهُ وَأَخُوهُ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِهِمَا : قَالَ ابْنُ سِينَا : وَقَرَأْت مِنْ الْفَلْسَفَةِ , وَكُنْت أَسْمَعُ أَبِي وَأَخِي يَذْكُرَانِ " الْعَقْلَ " " وَالنَّفْسَ " , وَكَانَ وُجُودُهُ عَلَى عَهْدِ الْحَاكِمِ , وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ مِنْ سِيرَةِ الْحَاكِمِ مَا عَلِمُوهُ , وَمَا فَعَلَهُ هشتكين الدَّرْزِيّ بِأَمْرِهِ مِنْ دَعْوَةِ النَّاسِ إلَى عِبَادَتِهِ , وَمُقَاتَلَتِهِ أَهْلَ مِصْرَ عَلَى ذَلِكَ , ثُمَّ ذَهَابُهُ إلَى الشَّامِ حَتَّى أَضَلَّ وَادِي التَّيْمِ بْنِ ثَعْلَبَةَ . وَالزَّنْدَقَةُ وَالنِّفَاقُ فِيهِمْ إلَى الْيَوْمِ , وَعِنْدَهُمْ كُتُبُ الْحَاكِمِ , وَقَدْ أَخَذْتهَا مِنْهُمْ , وَقَرَأْت مَا فِيهَا مِنْ عِبَادَتِهِمْ الْحَاكِمَ ; وَإِسْقَاطِهِ عَنْهُمْ الصَّلَاةَ , وَالزَّكَاةَ , وَالصِّيَامَ , وَالْحَجَّ , وَتَسْمِيَةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُوجِبِينَ لِهَذِهِ الْوَاجِبَاتِ الْمُحَرِّمِينَ لِمَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالْحَشْوِيَّةِ . إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ النِّفَاقِ الَّتِي لَا تَكَادُ تُحْصَى . وَبِالْجُمْلَةِ " فَعِلْمُ الْبَاطِنِ " الَّذِي يَدَّعُونَ مَضْمُونُهُ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ , وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ; بَلْ هُوَ جَامِعٌ لِكُلِّ كُفْرٍ , لَكِنَّهُمْ فِيهِ عَلَى دَرَجَاتٍ فَلَيْسُوا مُسْتَوِينَ فِي الْكُفْرِ ; إذْ هُوَ عِنْدَهُمْ سَبْعُ طَبَقَاتٍ , كُلُّ طَبَقَةٍ يُخَاطِبُونَ بِهَا طَائِفَةً مِنْ النَّاسِ بِحَسَبِ بُعْدِهِمْ مِنْ الدِّينِ وَقُرْبِهِمْ مِنْهُ . وَلَهُمْ أَلْقَابٌ وَتَرْتِيبَاتٌ رَكَّبُوهَا مِنْ مَذْهَبِ الْمَجُوسِ , وَالْفَلَاسِفَةِ , وَالرَّافِضَةِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ : " السَّابِقُ " " وَالتَّالِي "

جَعَلُوهُمَا بِإِزَاءِ , الْعَقْلِ " " وَالنَّفْسِ " كَاَلَّذِي يَذْكُرُهُ الْفَلَاسِفَةُ , وَبِإِزَاءِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ كَاَلَّذِي يَذْكُرُهُ الْمَجُوسُ . وَهُمْ يَنْتَمُونَ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ , وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ هُوَ السَّابِعُ وَيَتَكَلَّمُونَ فِي الْبَاطِنِ . وَالْأَسَاسِ , وَالْحُجَّةِ , وَالْبَابِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ وَصْفُهُمْ . وَمِنْ وَصَايَاهُمْ فِي " النَّامُوسِ الْأَكْبَرِ , وَالْبَلَاغِ الْأَعْظَمِ " أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ " بَابِ التَّشَيُّعِ " وَذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الشِّيعَةَ مِنْ أَجْهَلِ الطَّوَائِفِ , وَأَضْعَفِهَا عَقْلًا وَعِلْمًا , وَأَبْعَدِهَا عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَعَمَلًا , وَلِهَذَا دَخَلَتْ الزَّنَادِقَةُ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ بَابِ الْمُتَشَيِّعَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا , كَمَا دَخَلَ الْكُفَّارُ الْمُحَارِبُونَ مَدَائِنَ الْإِسْلَامِ بَغْدَادَ بِمُعَاوَنَةِ الشِّيعَةِ , كَمَا جَرَى لَهُمْ فِي دَوْلَةِ التُّرْك الْكُفَّارِ بِبَغْدَاد وَحَلَبَ وَغَيْرِهِمَا ; بَلْ كَمَا جَرَى بِتَغَيُّرِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ , فَهُمْ يُظْهِرُونَ التَّشَيُّعَ لِمَنْ يَدْعُونَهُ , وَإِذَا اسْتَجَابَ لَهُمْ نَقَلُوهُ إلَى الرَّفْضِ وَالْقَدْحِ فِي الصَّحَابَةِ , فَإِنْ رَأَوْهُ قَابِلًا نَقَلُوهُ إلَى الطَّعْنِ فِي عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ ثُمَّ نَقَلُوهُ إلَى الْقَدْحِ فِي نَبِيِّنَا وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ , وَقَالُوا : إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَهُمْ بَوَاطِنُ وَأَسْرَارٌ تُخَالِفُ مَا عَلَيْهِ أُمَّتُهُمْ , وَكَانُوا قَوْمًا أَذْكِيَاءَ فُضَلَاءَ قَالُوا بِأَغْرَاضِهِمْ الدُّنْيَوِيَّةِ بِمَا وَضَعُوهُ مِنْ النَّوَامِيسِ الشَّرْعِيَّةِ , ثُمَّ قَدَحُوا فِي

الْمَسِيحِ وَنَسَبُوهُ إلَى يُوسُفَ النَّجَّارِ , وَجَعَلُوهُ ضَعِيفَ الرَّأْيِ حَيْثُ تَمَكَّنَ عَدُوُّهُ مِنْهُ حَتَّى صَلَبَهُ فَيُوَافِقُونَ الْيَهُودَ فِي الْقَدْحِ مِنْ الْمَسِيحِ ; لَكِنْ هُمْ شَرٌّ مِنْ الْيَهُودِ . فَإِنَّهُمْ يَقْدَحُونَ فِي الْأَنْبِيَاءِ . وَأَمَّا مُوسَى وَمُحَمَّدٌ فَيُعَظِّمُونَ أَمْرَهُمَا , لِتَمَكُّنِهِمَا وَقَهْرِ عَدُوِّهِمَا ; وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمَا أَظْهَرَا مَا أَظْهَرَا مِنْ الْكِتَابِ لِذَبِّ الْعَامَّةِ , وَأَنَّ لِذَلِكَ أَسْرَارًا بَاطِنَةً مَنْ عَرَفَهَا صَارَ مِنْ الْكُمَّلِ الْبَالِغِينَ . وَيَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ أَحَلَّ كُلَّ مَا نَشْتَهِيهِ مِنْ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ , وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِكُلِّ طَرِيقٍ ; وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا شَيْءٌ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْعَامَّةِ : مِنْ صَلَاةٍ , وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ; إذْ الْبَالِغُ عِنْدَهُمْ قَدْ عَرَفَ أَنَّهُ لَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ ; وَلَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ . وَفِي " إثْبَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ " الْمُبْدِعِ لِلْعَالَمِ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَئِمَّتِهِمْ تُنْكِرُهُ وَتَزْعُمُ أَنَّ الْمَشَّائِينَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ فِي نِزَاعٍ إلَّا فِي وَاجِبِ الْوُجُودِ ; وَيَسْتَهِينُونَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَاسْمِهِ حَتَّى يَكْتُبَ أَحَدُهُمْ اسْمَ اللَّهِ وَاسْمَ رَسُولِهِ فِي أَسْفَلِهِ ; وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِهِمْ كَثِيرٌ . وَذَوُو الدَّعْوَةِ الَّتِي كَانَتْ مَشْهُورَةً ; وَالْإِسْمَاعِيلِيَّة الَّذِينَ كَانُوا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ بِقِلَاعِ الْأَلْمُوتِ وَغَيْرِهَا فِي بِلَادِ خُرَاسَانَ ; وَبِأَرْضِ الْيَمَنِ وَجِبَالِ الشَّامِ ; وَغَيْرِ ذَلِكَ : كَانُوا عَلَى مَذْهَبِ الْعُبَيْدِيِّينَ الْمَسْئُولِ عَنْهُمْ ; وَابْنُ الصَّبَّاحِ الَّذِي

كَانَ رَأْسُ الْإِسْمَاعِيلِيَّة ; وَكَانَ الْغَزَالِيُّ يُنَاظِرُ أَصْحَابَهُ لَمَّا كَانَ قَدِمَ إلَى مِصْرَ فِي دَوْلَةِ الْمُسْتَنْصِرِ , وَكَانَ أَطْوَلُهُمْ مُدَّةً ; وَتَلَقَّى عَنْهُ أَسْرَارَهُمْ . وَفِي دَوْلَةِ الْمُسْتَنْصِرِ كَانَتْ فِتْنَةُ الْبَسَاسِرِيِّ فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ سَنَةَ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ لَمَّا جَاهَدَ الْبَسَاسِرِيَّ خَارِجًا عَنْ طَاعَةِ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ الْعَبَّاسِيِّ , وَاتَّفَقَ مَعَ الْمُسْتَنْصِرِ الْعُبَيْدِيِّ وَذَهَبَ يَحْشُرُ إلَى الْعِرَاقِ , وَأَظْهَرُوا فِي بِلَادِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ شِعَارَ الرَّافِضَةِ كَمَا كَانُوا قَدْ أَظْهَرُوهَا بِأَرْضِ مِصْرَ , وَقَتَلُوا طَوَائِفَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَشُيُوخِهِمْ كَمَا كَانَ سَلَفُهُمْ قَتَلُوا قَبْلَ ذَلِكَ بِالْمَغْرِبِ طَوَائِفَ , وَأَذَّنُوا عَلَى الْمَنَابِرِ : " حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ " حَتَّى جَاءَ التُّرْكُ السَّلَاجِقَةُ " الَّذِينَ كَانُوا مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ فَهَزَمُوهُمْ وَطَرَدُوهُمْ إلَى مِصْرَ , وَكَانَ مِنْ أَوَاخِرِهِمْ " الشَّهِيدُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ " الَّذِي فَتَحَ أَكْثَرَ الشَّامِ , وَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ أَيْدِي النَّصَارَى ; ثُمَّ بَعَثَ عَسْكَرَهُ إلَى مِصْرَ لَمَّا اسْتَنْجَدُوهُ عَلَى الْإِفْرِنْجِ , وَتَكَرَّرَ دُخُولُ الْعَسْكَرِ إلَيْهَا مَعَ صَلَاحِ الدِّينِ الَّذِي فَتَحَ مِصْرَ ; فَأَزَالَ عَنْهَا دَعْوَةَ الْعُبَيْدِيِّينَ مِنْ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ , وَأَظْهَرَ فِيهَا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ , حَتَّى سَكَنَهَا مِنْ حِينَئِذٍ مَنْ أَظْهَرَ بِهَا دِينَ الْإِسْلَامِ . وَكَانَ فِي أَثْنَاءِ دَوْلَتِهِمْ يَخَافُ السَّاكِنُ بِمِصْرَ أَنْ يَرْوِيَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ

فَيُقْتَلُ , كَمَا حَكَى ذَلِكَ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ الْحَبَّالُ صَاحِبُ عَبْدِ الْغَنِيّ بْنِ سَعِيدٍ , وَامْتَنَعَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ خَوْفًا أَنْ يَقْتُلُوهُ , وَكَانُوا يُنَادُونَ بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ : مَنْ لَعَنَ وَسَبَّ , فَلَهُ دِينَارٌ وَإِرْدَبٌّ . وَكَانَ بِالْجَامِعِ الْأَزْهَرِ عِدَّةُ مَقَاصِيرَ يُلْعَنُ فِيهَا الصَّحَابَةُ ; بَلْ يُقْطِعُهُمْ فِيهَا بِالْكُفْرِ الصَّرِيحِ , وَكَانَ لَهُمْ مَدْرَسَةٌ بِقُرْبِ " الْمَشْهَدِ " الَّذِي بَنَوْهُ وَنَسَبُوهُ إلَى الْحُسَيْنِ وَلَيْسَ , فِيهِ الْحُسَيْنُ , وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ : بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَانُوا لَا يُدَرِّسُونَ فِي مَدْرَسَتِهِمْ عُلُومَ الْمُسْلِمِينَ ; بَلْ الْمَنْطِقَ , وَالطَّبِيعَةَ , وَالْإِلَهِيَّ , وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَقَالَاتِ الْفَلَاسِفَةِ . وَبَنَوْا أَرْصَادًا عَلَى الْجِبَالِ وَغَيْرِ الْجِبَالِ , يَرْصُدُونَ فِيهَا الْكَوَاكِبَ , يَعْبُدُونَهَا , وَيُسَبِّحُونَهَا , وَيَسْتَنْزِلُونَ رُوحَانِيَّاتِهَا الَّتِي هِيَ شَيَاطِينُ تَتَنَزَّلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْكُفَّارِ , كَشَيَاطِينِ الْأَصْنَامِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ . " وَالْمُعِزُّ بْنُ تَمِيمِ بْنِ مَعْدٍ " أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ الْقَاهِرَةَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ , فَصَنَّفَ كَلَامًا مَعْرُوفًا عِنْدَ أَتْبَاعِهِ ; وَلَيْسَ هَذَا " الْمُعِزُّ بْنُ بَادِيسَ " فَإِنَّ ذَاكَ كَانَ مُسْلِمًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ , وَكَانَ رَجُلًا مِنْ مُلُوكِ الْمَغْرِبِ ; وَهَذَا بَعْدَ ذَاكَ بِمُدَّةٍ . وَلِأَجْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الزَّنْدَقَةِ وَالْبِدْعَةِ بَقِيَتْ الْبِلَادُ الْمِصْرِيَّةُ مُدَّةَ دَوْلَتِهِمْ نَحْوَ مِائَتَيْ سَنَةٍ قَدْ انْطَفَأَ نُورُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ , حَتَّى قَالَتْ فِيهَا الْعُلَمَاءُ : إنَّهَا

كَانَتْ دَارَ رِدَّةٍ وَنِفَاقٍ , كَدَارِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ . وَالْقَرَامِطَةِ " الْخَارِجِينَ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ كَانُوا سَلَفًا لِهَؤُلَاءِ الْقَرَامِطَةِ ذَهَبُوا مِنْ الْعِرَاقِ إلَى الْمَغْرِبِ , ثُمَّ جَاءُوا مِنْ الْمَغْرِبِ إلَى مِصْرَ ; فَإِنَّ كُفْرَ هَؤُلَاءِ وَرِدَّتَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ , وَهُمْ أَعْظَمُ كُفْرًا وَرِدَّةً مِنْ كُفْرِ أَتْبَاعِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَنَحْوُهُ مِنْ الْكَذَّابِينَ ; فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَقُولُوا فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَالشَّرَائِعِ مَا قَالَهُ أَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ . وَلِهَذَا يُمَيَّزُ بَيْنَ قُبُورِهِمْ وَقُبُورِ الْمُسْلِمِينَ , كَمَا يُمَيَّزُ بَيْنَ قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ فَإِنَّ قُبُورَهُمْ مُوَجَّهَةٌ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ . وَإِذَا أَصَابَ الْخَيْلُ أَرْصَدَهُ أَتَوْا بِهَا إلَى قُبُورِهِمْ , كَمَا يَأْتُونَ بِهَا إلَى قُبُورِ الْكُفَّارِ , وَهَذِهِ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ لِلْخَيْلِ إذَا أَصَابَ الْخَيْلَ مَغَلٌ ذَهَبُوا بِهَا إلَى قُبُورِ النَّصَارَى بِدِمَشْقَ , وَإِنْ كَانُوا بِمَسَاكِنِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالنُّصَيْرِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا , ذَهَبُوا بِهَا إلَى قُبُورِهِمْ , وَإِنْ كَانُوا بِمِصْرَ ذَهَبُوا بِهَا إلَى قُبُورِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى , أَوْ لِهَؤُلَاءِ الْعُبَيْدِيِّينَ الَّذِينَ قَدْ يَتَسَمَّوْنَ بِالْأَشْرَافِ , وَلَيْسُوا مِنْ الْأَشْرَافِ , وَلَا يَذْهَبُونَ بِالْخَيْلِ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ ; وَلَا إلَى قُبُورِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا أَمْرٌ مُجَرَّدٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْجُنْدِ وَعُلَمَائِهِمْ . وَقَدْ ذُكِرَ سَبَبُ ذَلِكَ : أَنَّ الْكُفَّارَ يُعَاقَبُونَ فِي قُبُورِهِمْ , فَتَسْمَعُ أَصْوَاتَهُمْ

الْبَهَائِمُ , كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ بِذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ , فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ : { أَنَّهُ كَانَ رَاكِبًا عَلَى بَغْلَتِهِ , فَمَرَّ بِقُبُورٍ فَحَادَتْ بِهِ كَادَتْ تُلْقِيهِ , فَقَالَ : هَذِهِ أَصْوَاتُ يَهُودٍ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا , فَإِنَّ الْبَهَائِمَ إذَا سَمِعَتْ ذَلِكَ الصَّوْتَ الْمُنْكَرَ أَوْجَبَ لَهَا مِنْ الْحَرَارَةِ مَا يُذْهِبُ الْمَغَلَ } , وَكَانَ الْجُهَّالُ يَظُنُّونَ أَنَّ تَمْشِيَةَ الْخَيْلِ عِنْدَ قُبُورِ هَؤُلَاءِ لِدِينِهِمْ وَفَضْلِهِمْ , فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ يُمَشُّونَهَا عِنْدَ قُبُورِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالنُّصَيْرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ دُونَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ , وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُمْ لَا يُمَشُّونَهَا عِنْدَ قَبْرِ مَنْ يُعْرَفُ بِالدِّينِ بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَغَيْرِهَا ; إنَّمَا يُمَشُّونَهَا عِنْدَ قُبُورِ الْفُجَّارِ وَالْكُفَّارِ : تَبَيَّنَ بِذَلِكَ مَا كَانَ مُشْتَبِهًا . وَمَنْ عَلِمَ حَوَادِثَ الْإِسْلَامِ , وَمَا جَرَى فِيهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ : عَلِمَ أَنَّ عَدَاوَةَ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَدِينَ لِلْإِسْلَامِ الَّذِينَ بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ أَعْظَمُ مِنْ عَدَاوَةِ التَّتَارِ , وَأَنَّ عِلْمَ الْبَاطِنِ الَّذِي كَانُوا يَدَّعُونَ حَقِيقَتَهُ هُوَ إبْطَالُ الرِّسَالَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا ; بَلْ إبْطَالُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ ; وَأَنَّهُمْ لَا يُقِرُّوهُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَنْ اللَّهِ , وَلَا مِنْ خَبَرِهِ , وَلَا مِنْ أَمْرِهِ ; وَأَنَّ لَهُمْ قَصْدًا مُؤَكَّدًا فِي إبْطَالِ دَعْوَتِهِ وَإِفْسَادِ مِلَّتِهِ , وَقَتْلِ خَاصَّتِهِ وَاتِّبَاعِ

عَثْرَتِهِ . وَأَنَّهُمْ فِي مُعَادَاةِ الْإِسْلَامِ ; بَلْ وَسَائِرِ الْمِلَلِ : أَعْظَمُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ; فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُقِرُّونَ بِأَصْلِ الْجُمَلِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ : كَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ , وَالرُّسُلِ ; وَالشَّرَائِعِ , وَالْيَوْمِ الْآخِرِ , وَلَكِنْ يُكَذِّبُونَ بَعْضَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ , كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْقَرَامِطَةُ فَإِنَّهُمْ فِي الْبَاطِنِ كَافِرُونَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ , يُخْفُونَ ذَلِكَ وَيَكْتُمُونَهُ عَنْ غَيْرِ مَنْ يَثِقُونَ بِهِ ; لَا يُظْهِرُونَهُ , كَمَا يُظْهِرُ أَهْلُ الْكِتَابِ دِينَهُمْ , لِأَنَّهُمْ لَوْ أَظْهَرُوهُ لَنَفَرَ عَنْهُمْ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ , وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَقَالَتِهِمْ وَمَقَالَةِ الْجُمْهُورِ ; بَلْ الرَّافِضَةُ الَّذِينَ لَيْسُوا زَنَادِقَةً كُفَّارًا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَقَالَتِهَا وَمَقَالَةِ الْجُمْهُورِ , وَيَرَوْنَ كِتْمَانَ مَذْهَبِهِمْ , وَاسْتِعْمَالَ التَّقِيَّةِ , وَقَدْ لَا يَكُونُ مِنْ الرَّافِضَةِ مَنْ لَهُ نَسَبٌ صَحِيحٌ مُسْلِمًا فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَكُونُ زِنْدِيقًا ; لَكِنْ يَكُونُ جَاهِلًا مُبْتَدِعًا . وَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ مَعَ صِحَّةِ نَسَبِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ يَكْتُمُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْهَوَى لَكِنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ

يُخَالِفُونَهُمْ : فَكَيْفَ بِالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُهُمْ أَهْلُ الْمِلَلِ كُلِّهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَإِنَّمَا يَقْرَبُ مِنْهُمْ " الْفَلَاسِفَةُ الْمَشَّاءُونَ أَصْحَابُ أَرِسْطُو " فَإِنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقَرَامِطَةِ مُقَارَبَةً كَبِيرَةً . وَلِهَذَا يُوجَدُ فُضَلَاءُ الْقَرَامِطَةِ فِي الْبَاطِنِ مُتَفَلْسِفَةٌ : كَسِنَانٍ الَّذِي كَانَ بِالشَّامِ , وَالطُّوسِيُّ الَّذِي كَانَ وَزِيرًا لَهُمْ بِالْأَلْمُوتِ , ثُمَّ صَارَ مُنَجِّمًا لِهَؤُلَاءِ وَمَلِكَ الْكُفَّارِ , وَصَنَّفَ " شَرْحَ الْإِشَارَاتِ لِابْنِ سِينَا " وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى مَلِكِ الْكُفَّارِ بِقَتْلِ الْخَلِيفَةِ وَصَارَ عِنْدَ الْكُفَّارِ التُّرْكِ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ " الداسميدية " فَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا يُظْهِرُهُ الْقَرَامِطَةُ مِنْ الدِّينِ وَالْكَرَامَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَنَّهُ بَاطِلٌ ; لَكِنْ يَكُونُ أَحَدُهُمْ مُتَفَلْسِفًا , وَيَدْخُلُ مَعَهُمْ لِمُوَافَقَتِهِمْ لَهُ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالرُّسُلِ وَالشَّرَائِعِ فِي الظَّاهِرِ , وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ بِأُمُورٍ يَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ . فَإِنَّ " الْمُتَفَلْسِفَةَ " مُتَأَوِّلُونَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أُمُورِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بِالنَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ الَّذِي يُوَافِقُ مَذْهَبَهُمْ , وَأَمَّا الشَّرَائِعُ الْعَمَلِيَّةُ فَلَا يَنْفُونَهَا كَمَا يَنْفِيهَا الْقَرَامِطَةُ ; بَلْ يُوجِبُونَهَا عَلَى الْعَامَّةِ ; وَيُوجِبُونَ بَعْضَهَا عَلَى الْخَاصَّةِ , أَوْ لَا يُوجِبُونَ ذَلِكَ . وَيَقُولُونَ : إنَّ الرُّسُلَ

فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ وَأَمَرُوا بِهِ لَمْ يَأْتُوا بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ ; وَلَكِنْ أَتَوْا بِأَمْرٍ فِيهِ صَلَاحُ الْعَامَّةِ , وَإِنْ كَانَ هُوَ كَذِبًا فِي الْحَقِيقَةِ . وَلِهَذَا اخْتَارَ كُلُّ مُبْطِلٍ أَنْ يَأْتِيَ بِمَخَارِيقَ لِقَصْدِ صَلَاحِ الْعَامَّةِ , كَمَا فَعَلَ ابْنُ التُّومَرْتِ الْمُلَقَّبُ بِالْمَهْدِيِّ , وَمَذْهَبُهُ فِي الصِّفَاتِ مَذْهَبُ الْفَلَاسِفَةِ لِأَنَّهُ كَانَ مِثْلَهَا فِي الْجُمْلَةِ , وَلَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا مُكَذِّبًا لِلرُّسُلِ مُعَطِّلًا لِلشَّرَائِعِ , وَلَا يَجْعَلُ لِلشَّرِيعَةِ الْعَمَلِيَّةِ بَاطِنًا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا ; بَلْ كَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ رَأْيِ الْجَهْمِيَّةِ الْمُوَافِقِ لِرَأْيِ الْفَلَاسِفَةِ , وَنَوْعٌ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يَرَوْنَ السَّيْفَ وَيُكَفِّرُونَ بِالذَّنْبِ . فَهَؤُلَاءِ " الْقَرَامِطَةُ " هُمْ فِي الْبَاطِنِ وَالْحَقِيقَةِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَيَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ بَلْ وَإِيصَالَ النَّسَبِ إلَى الْعِتْرَةِ النَّبَوِيَّةِ , وَعِلْمَ الْبَاطِنِ الَّذِي لَا يُوجَدُ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ , وَأَنَّ إمَامَهُمْ مَعْصُومٌ . فَهُمْ فِي الظَّاهِرِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ دَعْوَى بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَفِي الْبَاطِنِ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ بِالرَّحْمَنِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ ادَّعَى النُّبُوَّةَ مِنْ الْكَذَّابِينَ قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَدَّعُونَ هَذَا وَهَذَا فَإِنَّ الَّذِي يُضَاهِي الرَّسُولَ الصَّادِقَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَدَّعِيَ مِثْلَ دَعْوَتِهِ

فَيَقُولُ : إنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي وَأَنْزَلَ عَلَيَّ , وَكَذَبَ عَلَى اللَّهِ أَوْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ وَلَا يُسَمِّيَ مُوحِيَهُ كَمَا يَقُولُ قِيلَ لِي وَنُودِيت وَخُوطِبْت وَنَحْوَ ذَلِكَ وَيَكُونَ كَاذِبًا , فَيَكُونُ هَذَا قَدْ حَذَفَ الْفَاعِلَ أَوْ لَا يَدَّعِي وَاحِدًا مِنْ الْأَمْرَيْنِ لَكِنَّهُ يَدَّعِي أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ وَوَجْهُ الْقِسْمَةِ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ فِي مُضَاهَاةِ الرَّسُولِ إمَّا أَنْ يُضِيفَهُ إلَى اللَّهِ أَوْ إلَى نَفْسِهِ أَوْ لَا يُضِيفَهُ إلَى أَحَدٍ فَهَؤُلَاءِ فِي دَعْوَاهُمْ مِثْلَ الرَّسُولِ هُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَكَيْفَ بِالْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ أَعْظَمَ مِمَّا فَعَلَ مُسَيْلِمَةُ وَأَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ أَعْظَمَ مِمَّا فَعَلَ مُسَيْلِمَةُ وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَعْظَمَ مِمَّا فَعَلَ مُسَيْلِمَةُ , وَبَسْطُ حَالِهِمْ يَطُولُ لَكِنَّ هَذِهِ الْأَوْرَاقَ لَا تَسَعُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته حَالُ أَئِمَّتِهِمْ وَقَادَتِهِمْ الْعَالِمِينَ بِحَقِيقَةِ قَوْلِهِمْ , وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ انْضَمَّ إلَيْهِمْ مِنْ الشِّيعَة وَالرَّافِضَة مَنْ لَا يَكُونُ فِي الْبَاطِنِ عَالَمًا بِحَقِيقَةِ بَاطِنِهِمْ وَلَا مُوَافِقًا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ , فَيَكُونُ مِنْ أَتْبَاعِ الزَّنَادِقَةِ الْمُرْتَدِّينَ الْمَوَالِي لَهُمْ النَّاصِرِ لَهُمْ ; بِمَنْزِلَةِ أَتْبَاعِ الِاتِّحَادِيَّةِ الَّذِينَ يُوَالُونَهُمْ وَيُعَظِّمُونَهُمْ وَيَنْصُرُونَهُمْ , وَلَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ فِي وَحْدَةِ الْوُجُودِ ; وَأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ . فَمَنْ كَانَ مُسْلِمًا فِي الْبَاطِنِ وَهُوَ

جَاهِلٌ مُعَظِّمٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَابْنِ الْفَارِضِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الِاتِّحَادِ فَهُوَ مِنْهُمْ , وَكَذَا مَنْ كَانَ مُعَظِّمًا لِلْقَائِلَيْنِ بِمَذْهَبِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فَإِنَّ نِسْبَةَ هَؤُلَاءِ إلَى الْجَهْمِيَّةِ كَنِسْبَةِ أُولَئِكَ إلَى الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ , وَلَكِنَّ الْقَرَامِطَةَ أَكْفَرُ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ بِكَثِيرٍ ; وَلِهَذَا كَانَ أَحْسَنُ حَالِ عَوَامِّهِمْ أَنْ يَكُونُوا رَافِضَةً جَهْمِيَّةً . وَأَمَّا الِاتِّحَادِيَّةُ فَفِي عَوَامِّهِمْ مَنْ لَيْسَ بِرَافِضِيٍّ وَلَا جَهْمِيٍّ صَرِيحٍ ; وَلَكِنْ لَا يَفْهَمُ كَلَامَهُمْ ; وَيَعْتَقِدُ أَنَّ كَلَامَهُمْ كَلَامُ الْأَوْلِيَاءِ الْمُحَقِّقِينَ . وَبَسْطُ هَذَا الْجَوَابِ لَهُ مَوَاضِعُ غَيْرُ هَذَا , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُئِلَ : عَنْ " الدُّرْزِيَّةِ " " وَالنُّصَيْرِيَّةِ " : مَا حُكْمُهُمْ ؟ أَجَابَ : هَؤُلَاءِ الدُّرْزِيَّةُ وَالنُّصَيْرِيَّةُ كُفَّارٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , لَا يَحِلُّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ , وَلَا نِكَاحُ نِسَائِهِمْ ; بَلْ وَلَا يَقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ ; فَإِنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ , لَيْسُوا مُسْلِمِينَ ; وَلَا يَهُودَ , وَلَا نَصَارَى , لَا يُقِرُّونَ بِوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ , وَلَا وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ , وَلَا وُجُوبِ الْحَجِّ ; وَلَا تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهِمَا . وَإِنْ أَظْهَرُوا الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ هَذِهِ الْعَقَائِدِ فَهُمْ كُفَّارٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . فَأَمَّا " النُّصَيْرِيَّةُ " فَهُمْ أَتْبَاعُ أَبِي شُعَيْبٍ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ , وَكَانَ مِنْ الْغُلَاةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ عَلِيًّا إلَهٌ , وَهُمْ يُنْشِدُونَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا حَيْدَرَةُ الْأَنْزَعُ الْبَطِينُ وَلَا حِجَابَ عَلَيْهِ إلَّا مُحَمَّدٌ الصَّادِقُ الْأَمِينُ وَلَا طَرِيقَ إلَيْهِ إلَّا سَلْمَانُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينِ وَأَمَّا " الدُّرْزِيَّةُ " فَأَتْبَاعُ هشتكين الدَّرْزِيّ ; وَكَانَ مِنْ مَوَالِي الْحَاكِمِ أَرْسَلَهُ إلَى أَهْلِ وَادِي تَيْمِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ , فَدَعَاهُمْ إلَى إِلَهِيَّة الْحَاكِمِ , وَيُسَمُّونَهُ " الْبَارِيَ , الْعَلَّامَ " وَيَحْلِفُونَ بِهِ , وَهُمْ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ نَسَخَ شَرِيعَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , وَهُمْ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ الْغَالِيَّةِ , يَقُولُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ , وَإِنْكَارِ الْمَعَادِ , وَإِنْكَارِ وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ وَمُحَرَّمَاتِهِ

وَهُمْ مِنْ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ , وَغَايَتُهُمْ أَنْ يَكُونُوا " فَلَاسِفَةً " عَلَى مَذْهَبِ أَرِسْطُو وَأَمْثَالِهِ أَوْ " مَجُوسًا " . وَقَوْلُهُمْ مُرَكَّبٌ مِنْ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمَجُوس , وَيُظْهِرُوا التَّشَيُّعَ نِفَاقًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا " أَوَانِيهِمْ وَمَلَابِسِهِمْ " فَكَأَوَانِي الْمَجُوسِ وَمَلَابِسِ الْمَجُوسِ , عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ . وَالصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَوَانِيَهُمْ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا بَعْدَ غَسْلِهَا ; فَإِنَّ ذَبَائِحَهُمْ مَيْتَةٌ , فَلَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَ أَوَانِيَهُمْ الْمُسْتَعْمَلَةَ مَا يَطْبُخُونَهُ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ فَتَنْجَسُ بِذَلِكَ , فَأَمَّا الْآنِيَةُ الَّتِي لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ وُصُولُ النَّجَاسَةِ إلَيْهَا فَتُسْتَعْمَلُ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ كَآنِيَةِ اللَّبَنِ الَّتِي لَا يَضَعُونَ فِيهَا طَبِيخَهُمْ , أَوْ يَغْسِلُونَهَا قَبْلَ وَضْعِ اللَّبَنِ فِيهَا , وَقَدْ تَوَضَّأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ . فَمَا شَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ لَمْ يَحْكُمْ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ . وَلَا يَجُوزُ دَفْنُهُمْ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ ; فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَهَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ : كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ , وَنَحْوِهِ ; وَكَانُوا يَتَظَاهَرُونَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْجِهَادِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ ; وَلَا يُظْهِرُونَ مَقَالَةً تُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ ; لَكِنْ يُسِرُّونَ ذَلِكَ , فَقَالَ اللَّهُ : {

وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا , وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ; إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } فَكَيْفَ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مَعَ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ يُظْهِرُونَ الْكُفْرَ وَالْإِلْحَادَ . وَأَمَّا اسْتِخْدَامُ مِثْلِ هَؤُلَاءِ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ حُصُونِهِمْ أَوْ جُنْدِهِمْ فَإِنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ . وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَسْتَخْدِمُ الذِّئَابَ لِرَعْيِ الْغَنَمِ : فَإِنَّهُمْ مِنْ أَغَشِّ النَّاسِ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِوُلَاةِ أُمُورِهِمْ , وَهُمْ أَحْرَصُ النَّاسِ عَلَى فَسَادِ الْمَمْلَكَةِ وَالدَّوْلَةِ وَهُمْ شَرٌّ مِنْ الْمُخَامِرِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْعَسْكَرِ ; فَإِنَّ الْمُخَامِرَ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ : إمَّا مَعَ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ , وَإِمَّا مَعَ الْعَدُوِّ . وَهَؤُلَاءِ مَعَ الْمِلَّةِ , نَبِيِّهَا وَدِينِهَا , وَمُلُوكِهَا ; وَعُلَمَائِهَا , وَعَامَّتِهَا , وَخَاصَّتِهَا , وَهُمْ أَحْرَصُ النَّاسِ عَلَى تَسْلِيمِ الْحُصُونِ إلَى عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ , وَعَلَى إفْسَادِ الْجُنْدِ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ , وَإِخْرَاجِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِ . وَالْوَاجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ قَطْعُهُمْ مِنْ دَوَاوِينِ الْمُقَاتِلَةِ فَلَا يُتْرَكُونَ فِي ثَغْرٍ , وَلَا فِي غَيْرِ ثَغْرٍ ; فَإِنَّ ضَرَرَهُمْ فِي الثَّغْرِ أَشَدُّ , وَأَنْ يَسْتَخْدِمَ بَدَلَهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِخْدَامِهِ مِنْ الرِّجَالِ الْمَأْمُونِينَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ , وَعَلَى النُّصْحِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ , وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ; بَلْ إذَا كَانَ وَلِيُّ الْأَمْرِ لَا يَسْتَخْدِمُ مَنْ يَغُشُّهُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَكَيْفَ بِمَنْ يَغُشُّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ ؟ , ,

وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُ هَذَا الْوَاجِبِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ; بَلْ أَيُّ وَقْتٍ قَدَرَ عَلَى الِاسْتِبْدَالِ بِهِمْ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا اُسْتُخْدِمُوا وَعَمِلُوا الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِمْ فَلَهُمْ إمَّا الْمُسَمَّى وَإِمَّا أُجْرَةُ الْمِثْلِ , لِأَنَّهُمْ عُوقِدُوا عَلَى ذَلِكَ . فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَجَبَ الْمُسَمَّى وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا وَجَبَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اسْتِخْدَامُهُمْ مِنْ جِنْسِ الْإِجَارَةِ اللَّازِمَةِ فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْجَعَالَةِ الْجَائِزَةِ ; لَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ اسْتِخْدَامُهُمْ , فَالْعَقْدُ عَقْدٌ فَاسِدٌ , فَلَا يَسْتَحِقُّونَ إلَّا قِيمَةَ عَمَلِهِمْ . فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَمِلُوا عَمَلًا لَهُ قِيمَةٌ فَلَا شَيْءَ لَهُمْ ; لَكِنْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ مُبَاحَةٌ . وَإِذَا أَظْهَرُوا التَّوْبَةَ فَفِي قَبُولِهَا مِنْهُمْ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ; فَمَنْ قَبِلَ تَوْبَتَهُمْ إذَا الْتَزَمُوا شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ أَقَرَّ أَمْوَالَهُمْ عَلَيْهِمْ . وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْهَا لَمْ تُنْقَلْ إلَى وَرَثَتِهِمْ مِنْ جِنْسِهِمْ ; فَإِنَّ مَالَهُمْ يَكُونُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ ; لَكِنْ هَؤُلَاءِ إذَا أُخِذُوا فَإِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ التَّوْبَةَ ; لِأَنَّ أَصْلَ مَذْهَبِهِمْ التَّقِيَّةُ وَكِتْمَانُ أَمْرِهِمْ , وَفِيهِمْ مَنْ يُعْرَفُ , وَفِيهِمْ مَنْ قَدْ لَا يُعْرَفُ . فَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُحْتَاطَ فِي أَمْرِهِمْ , فَلَا يُتْرَكُونَ مُجْتَمِعِينَ , وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ حَمْلِ السِّلَاحِ , وَلَا أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُقَاتِلَةِ , وَيُلْزَمُونَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ : مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ , وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ . وَيُتْرَكُ بَيْنَهُمْ

مَنْ يُعَلِّمُهُمْ دِينَ الْإِسْلَامِ , وَيُحَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُعَلِّمِهِمْ . فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَائِرَ الصَّحَابَةِ لَمَّا ظَهَرُوا عَلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ , وَجَاءُوا إلَيْهِ , قَالَ لَهُمْ الصِّدِّيقُ : اخْتَارُوا إمَّا الْحَرْبَ الْمُجْلِيَةَ , وَإِمَّا السِّلْمَ الْمُخْزِيَةَ . قَالُوا : يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ , هَذِهِ الْحَرْبُ الْمُجْلِيَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا السِّلْمُ الْمُخْزِيَةُ ؟ قَالَ : تَدُونَ قَتْلَانَا , وَلَا نَدِي قَتْلَاكُمْ , وَتَشْهَدُونَ أَنَّ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ , وَنَقْسِمُ مَا أَصَبْنَا مِنْ أَمْوَالِكُمْ , وَتَرُدُّونَ مَا أَصَبْتُمْ مِنْ أَمْوَالِنَا , وَتُنْزَعُ مِنْكُمْ الْحَلْقَةُ وَالسِّلَاحُ , وَتُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ . وَتُتْرَكُونَ تَتَّبِعُونَ أَذْنَابَ الْإِبِلِ حَتَّى يُرِيَ اللَّهُ خَلِيفَةَ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَمْرًا بَعْدَ رِدَّتِكُمْ . فَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ ; إلَّا فِي تَضْمِينِ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَهُ : هَؤُلَاءِ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ . يَعْنِي هُمْ شُهَدَاءُ فَلَا دِيَةَ لَهُمْ , فَاتَّفَقُوا عَلَى قَوْلِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ . وَهَذَا الَّذِي اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ هُوَ مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ , وَاَلَّذِي تَنَازَعُوا فِيهِ تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ . فَمَذْهَبُ أَكْثَرِهِمْ أَنَّ مَنْ قَتَلَهُ الْمُرْتَدُّونَ الْمُجْتَمِعُونَ الْمُحَارِبُونَ لَا يُضْمَنُ ; كَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ آخِرًا , وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ

وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ , فَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ بِأُولَئِكَ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ عَوْدِهِمْ إلَى الْإِسْلَامِ يُفْعَلُ بِمَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَالتُّهْمَةُ ظَاهِرَةٌ فِيهِ , فَيُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ وَالدِّرْعِ الَّتِي تَلْبَسُهَا الْمُقَاتِلَةُ , وَلَا يُتْرَكُ فِي الْجُنْدِ مَنْ يَكُونُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَيُلْزَمُونَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَظْهَرَ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ . وَمَنْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ ضَلَالِهِمْ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ أُخْرِجَ عَنْهُمْ , وَسُيِّرَ إلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا ظُهُورٌ . فَإِمَّا أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى , وَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ عَلَى نِفَاقِهِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ لِلْمُسْلِمِينَ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ جِهَادَ هَؤُلَاءِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْظَمِ الطَّاعَاتِ وَأَكْبَرِ الْوَاجِبَاتِ , وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ جِهَادِ مَنْ لَا يُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ ; فَإِنَّ جِهَادَ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ جِهَادِ الْمُرْتَدِّينَ , وَالصِّدِّيقُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ بَدَءُوا بِجِهَادِ الْمُرْتَدِّينَ قَبْلَ جِهَادِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ; فَإِنَّ جِهَادَ هَؤُلَاءِ حِفْظٌ لِمَا فُتِحَ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ , وَأَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ عَنْهُ . وَجِهَادُ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ زِيَادَةِ إظْهَارِ الدِّينِ . وَحِفْظُ رَأْسِ الْمَالِ مُقَدَّمٌ عَلَى الرِّبْحِ . وَأَيْضًا فَضَرَرُ هَؤُلَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ أُولَئِكَ ; بَلْ

ضَرَرُ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ ضَرَرِ مَنْ يُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ , وَضَرَرُهُمْ فِي الدِّينِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْمُحَارِبِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ . وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَقُومَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبِ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْتُمَ مَا يَعْرِفُهُ مِنْ أَخْبَارِهِمْ ; بَلْ يُفْشِيَهَا وَيُظْهِرَهَا لِيَعْرِفَ الْمُسْلِمُونَ حَقِيقَةَ حَالِهِمْ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُعَاوِنَهُمْ عَلَى بَقَائِهِمْ فِي الْجُنْدِ وَالْمُسْتَخْدِمِينَ , وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ السُّكُوتُ عَنْ الْقِيَامِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ . وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْهَى عَنْ الْقِيَامِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ; فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } وَهَؤُلَاءِ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ . وَالْمُعَاوِنُ عَلَى كَفِّ شَرِّهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى : فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ هُوَ هِدَايَتُهُمْ : كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ كُنْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ مِنْ الْقُيُودِ وَالسَّلَاسِلِ حَتَّى تُدْخِلُوهُمْ الْإِسْلَامَ .

فَالْمَقْصُودُ بِالْجِهَادِ , وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ , وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ; هِدَايَةُ الْعِبَادِ لِمَصَالِحِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ , فَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , وَمَنْ لَمْ يَهْتَدِ كَفَّ اللَّهُ ضَرَرَهُ عَنْ غَيْرِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجِهَادَ , وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ . وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ : هُوَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ , كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ , وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ , وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمِائَةَ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ . أَعَدَّهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ } وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا مَاتَ مُجَاهِدًا وَجَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَمِنَ الْفِتْنَةَ . وَالْجِهَادُ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ , الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ , يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ

بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ , خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .
757 - 757 - 111 - مَسْأَلَةٌ : فِي طَائِفَةٍ مِنْ رَعِيَّةِ الْبِلَادِ كَانُوا يَرَوْنَ مَذْهَبَ النُّصَيْرِيَّةِ , ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِيهِ , فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ إلَهٌ , وَمِنْهُمْ مِنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ , وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ , يَعْنُونَ الْمَهْدِيَّ , وَأَمَرُوا مَنْ وَجَدَهُ بِالسُّجُودِ لَهُ , وَأَعْلَنُوا بِالْكُفْرِ بِذَلِكَ , وَسَبِّ الصَّحَابَةِ , وَأَظْهَرُوا الْخُرُوجَ عَنْ الطَّاعَةِ , وَعَزَمُوا عَلَى الْمُحَارَبَةِ , فَهَلْ يَجِبُ قِتَالُهُمْ وَقَتْلُ مُقَاتِلَتِهِمْ , وَهَلْ تُبَاحُ ذَرَارِيُّهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَؤُلَاءِ يَجِبُ قِتَالُهُمْ مَا دَامُوا مُمْتَنِعِينَ حَتَّى يَلْتَزِمُوا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ , فَإِنَّ النُّصَيْرِيَّةَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كُفْرًا بِدُونِ اتِّبَاعِهِمْ لِمِثْلِ هَذَا الدَّجَّالِ , فَكَيْفَ إذَا اتَّبَعُوا مِثْلَ هَذَا الدَّجَّالِ . وَهُمْ مُرْتَدُّونَ مِنْ أَسْوَإِ النَّاسِ رِدَّةً , تُقْتَلُ مُقَاتِلُهُمْ وَتَغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ . وَسَبْيُ الذُّرِّيَّةِ فِيهِ نِزَاعٌ , لَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ تُسْبَى الصِّغَارُ مِنْ أَوْلَادِ الْمُرْتَدِّينَ , وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ سِيرَةُ الصِّدِّيقِ فِي قِتَالِ الْمُرْتَدِّينَ . وَكَذَلِكَ قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي

اسْتِرْقَاقِ الْمُرْتَدِّ , وَطَائِفَةٌ تَقُولُ : إنَّهَا تُسْتَرَقُّ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَطَائِفَةٌ تَقُولُ لَا تُسْتَرَقُّ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , وَالْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ هُوَ الْأَوَّلُ , وَأَنَّهُ تُسْتَرَقُّ مِنْهُنَّ الْمُرْتَدَّاتُ نِسَاءُ الْمُرْتَدِّينَ , فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ الَّتِي تَسَرَّى بِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُمُّ ابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ سَبْيِ بَنِي حَنِيفَةَ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالصَّحَابَةُ لَمَّا بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي قِتَالِهِمْ . وَالنُّصَيْرِيَّةُ لَا يَكْتُمُونَ أَمْرَهُمْ , بَلْ هُمْ مَعْرُوفُونَ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ , لَا يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ , وَلَا يَصُومُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ , وَلَا يَحُجُّونَ الْبَيْتَ , وَلَا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ وَلَا يُقِرُّونَ بِوُجُوبِ ذَلِكَ , وَيَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ وَغَيْرَهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ , وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِلَهَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَيَقُولُونَ : نَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا حَيْدَرَةُ الْأَنْزَعُ الْبَطِينُ وَلَا حِجَابَ عَلَيْهِ إلَّا مُحَمَّدٌ الصَّادِقُ الْأَمِينُ وَلَا طَرِيقَ إلَيْهِ إلَّا سَلْمَانُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ وَأَمَّا إذَا لَمْ يُظْهِرُوا الرَّفْضَ , وَأَنَّ هَذَا الْكَذَّابَ هُوَ الْمَهْدِيُّ الْمُنْتَظَرُ , وَامْتَنَعُوا , فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ أَيْضًا , لَكِنْ يُقَاتَلُونَ كَمَا يُقَاتَلُ الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَمَا يُقَاتَلُ الْمُرْتَدُّونَ

الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , فَهَؤُلَاءِ يُقَاتَلُونَ مَا دَامُوا مُمْتَنِعِينَ , وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ , وَلَا تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ الَّتِي لَمْ يَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى الْقِتَالِ , وَأَمَّا مَا اسْتَعَانُوا بِهِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ خَيْلٍ وَسِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَفِي أَخْذِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ نَهَبَ عَسْكَرُهُ مَا فِي عَسْكَرِ الْخَوَارِجِ , فَإِنْ رَأَى وَلِيُّ الْأَمْرِ أَنْ يَسْتَبِيحَ مَا فِي عَسْكَرِهِمْ مِنْ الْمَالِ كَانَ هَذَا سَائِغًا . هَذَا مَا دَامُوا مُمْتَنِعِينَ , فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُفَرِّقَ شَمْلَهُمْ وَيَحْسِمَ مَادَّةَ شَرِّهِمْ , وَإِلْزَامُهُمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ , وَقَتْلُ مَنْ أَصَرَّ عَلَى الرِّدَّةِ مِنْهُمْ , وَأَمَّا قَتْلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَبْطَنَ كُفْرًا مِنْهُ , وَهُوَ الْمُنَافِقُ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ الزِّنْدِيقَ , فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ تَابَ , كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ , وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَمَنْ كَانَ دَاعِيًا مِنْهُمْ إلَى الضَّلَالِ لَا يَنْكَفُّ شَرُّهُ إلَّا بِقَتْلِهِ , قُتِلَ أَيْضًا , وَإِنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ , وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ كَأَئِمَّةِ الرَّفْضِ الَّذِينَ يُضِلُّونَ النَّاسَ , كَمَا قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ غَيْلَانَ الْقَدَرِيَّ , وَالْجَعْدَ بْنَ دِرْهَمٍ وَأَمْثَالَهُمَا مِنْ الدُّعَاةِ . فَهَذَا الدَّجَّالُ يُقْتَلُ مُطْلَقًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

755 - 755 - 109 مَسْأَلَةٌ : مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ , وَأَعَانَهُمْ عَلَى إظْهَارِ الْحَقِّ الْمُبِينِ , وَإِخْمَادِ شَغَبِ الْمُبْطِلِينَ : فِي " النُّصَيْرِيَّةِ " الْقَائِلِينَ بِاسْتِحْلَالِ الْخَمْرِ , وَتَنَاسُخِ الْأَرْوَاحِ , وَقِدَمِ الْعَالَمِ , وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي غَيْرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا , وَبِأَنَّ " الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ " عِبَارَةٌ عَنْ خَمْسَةِ أَسْمَاءٍ , وَهِيَ : عَلِيٌّ , وَحَسَنٌ , وَحُسَيْنٌ , وَمُحْسِنٍ , وَفَاطِمَةٌ . فَذَكَرَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْخَمْسَةَ عَلَى رَأْيِهِمْ يُجْزِيهِمْ عَنْ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ , وَالْوُضُوءِ وَبَقِيَّةِ شُرُوطِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَةِ وَوَاجِبَاتِهَا . وَبِأَنَّ " الصِّيَامَ " عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ اسْمِ ثَلَاثِينَ رَجُلًا , وَاسْمُ ثَلَاثِينَ امْرَأَةً , يُعِدُّونَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ , وَيَضِيقُ هَذَا الْمَوْضِعُ عَنْ إبْرَازِهِمْ ; وَبِأَنَّ إلَهَهُمْ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَهُوَ عِنْدَهُمْ الْإِلَهُ فِي السَّمَاءِ , وَالْإِمَامُ فِي الْأَرْضِ , فَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ظُهُورِ اللَّاهُوتِ بِهَذَا النَّاسُوتِ عَلَى رَأْيِهِمْ أَنْ يُؤَنِّسَ خَلْقَهُ وَعَبِيدَهُ ; لِيُعَلِّمَهُمْ كَيْفَ يَعْرِفُونَهُ وَيَعْبُدُونَهُ . وَبِأَنَّ النُّصَيْرِيَّ عِنْدَهُمْ لَا يَصِيرُ نُصَيْرِيًّا مُؤْمِنًا يُجَالِسُونَهُ , وَيَشْرَبُونَ مَعَهُ الْخَمْرَ , وَيُطْلِعُونَهُ عَلَى أَسْرَارِهِمْ , وَيُزَوِّجُونَهُ مِنْ نِسَائِهِمْ : حَتَّى يُخَاطِبَهُ مُعَلِّمُهُ . وَحَقِيقَةُ الْخِطَابِ عِنْدَهُمْ أَنْ يُحَلِّفُوهُ عَلَى كِتْمَانِ

دِينِهِ , وَمَعْرِفَةِ مَشَايِخِهِ , وَأَكَابِرِ أَهْلِ مَذْهَبِهِ ; وَعَلَى أَنْ لَا يَنْصَحَ مُسْلِمًا وَلَا غَيْرَهُ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ , وَعَلَى أَنْ يَعْرِفَ رَبَّهُ وَإِمَامَهُ بِظُهُورِهِ فِي أَنْوَارِهِ وَأَدْوَارِهِ , فَيُعَرِّفَهُ انْتِقَالَ الِاسْمِ وَالْمَعْنَى فِي كُلِّ حِينٍ وَزَمَانٍ . فَالِاسْمُ عِنْدَهُمْ فِي أَوَّلِ النَّاسِ آدَمَ وَالْمَعْنَى هُوَ شِيثٌ , وَالِاسْمُ يَعْقُوبُ , وَالْمَعْنَى هُوَ يُوسُفُ . وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَا يَزْعُمُونَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ حِكَايَةً عَنْ يَعْقُوبَ وَيُوسُفَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيَقُولُونَ : أَمَّا يَعْقُوبُ فَإِنَّهُ كَانَ الِاسْمَ , فَمَا قَدَرَ أَنْ يَتَعَدَّى مَنْزِلَتَهُ فَقَالَ : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي } وَأَمَّا يُوسُفُ فَكَانَ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبَ فَقَالَ : { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ } فَلَمْ يُعَلِّقْ الْأَمْرَ بِغَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ الْإِلَهُ الْمُتَصَرِّفُ , وَيَجْعَلُونَ مُوسَى هُوَ الِاسْمُ , وَيُوشَعُ هُوَ الْمَعْنَى وَيَقُولُونَ : يُوشَعُ رُدَّتْ لَهُ الشَّمْسُ لَمَّا أَمَرَهَا فَأَطَاعَتْ أَمْرَهُ ; وَهَلْ تَرُدُّ الشَّمْسُ إلَّا لِرَبِّهَا ؟ , وَيَجْعَلُونَ سُلَيْمَانَ هُوَ الِاسْمُ , وَآصَفُ هُوَ الْمَعْنَى الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ . وَيَقُولُونَ : سُلَيْمَانَ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِ عَرْشِ بِلْقِيسَ , وَقَدَرَ عَلَيْهِ آصَفُ لِأَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ الصُّورَةَ , وَآصَفُ كَانَ الْمَعْنَى الْقَادِرَ الْمُقْتَدِرَ , وَقَدْ قَالَ قَائِلُهُمْ : هَابِيلُ شِيثٌ يُوسُفُ يُوشَعُ آصَفُ شَمْعُونُ الصَّفَا حَيْدَرُ وَيَعُدُّونَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ وَاحِدًا وَاحِدًا عَلَى هَذَا النَّمَطِ

إلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ : مُحَمَّدٌ هُوَ الِاسْمُ , وَعَلِيٌّ هُوَ الْمَعْنَى , وَيُوَصِّلُونَ الْعَدَدَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فِي كُلِّ زَمَانٍ إلَى وَقْتِنَا هَذَا . فَمِنْ حَقِيقَةِ الْخِطَابِ فِي الدِّينِ عِنْدَهُمْ أَنَّ عَلِيًّا هُوَ الرَّبُّ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الْحِجَابُ , وَأَنَّ سَلْمَانَ هُوَ الْبَابُ , وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَكَابِرِ رُؤَسَائِهِمْ وَفُضَلَائِهِمْ لِنَفْسِهِ فِي شُهُورِ السَّنَةِ سَبْعَ مِائَةٍ فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا حَيْدَرَةُ الْأَنْزَعُ الْبَطِينُ وَلَا حِجَابَ عَلَيْهِ إلَّا مُحَمَّدٌ الصَّادِقُ الْأَمِينُ وَلَا طَرِيقَ إلَيْهِ إلَّا سَلْمَانُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ وَيَقُولُونَ : إنَّ ذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ , وَكَذَلِكَ الْخَمْسَةُ الْأَيْتَامُ , وَالِاثْنَا عَشَرَ نَقِيبًا , وَأَسْمَاؤُهُمْ مَشْهُورَةٌ عِنْدَهُمْ , وَمَعْلُومَةٌ مِنْ كُتُبِهِمْ الْخَبِيثَةِ , وَأَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ يَظْهَرُونَ مَعَ الرَّبِّ وَالْحِجَابِ وَالْبَابِ فِي كُلِّ كَوْرٍ وَدَوْرٍ أَبَدًا سَرْمَدًا عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ , وَيَقُولُونَ : إنَّ إبْلِيسَ الْأَبَالِسَةِ هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيَلِيهِ فِي رُتْبَةِ الْإِبْلِيسِيَّةِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; ثُمَّ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَشَرَّفَهُمْ وَأَعْلَى رُتَبَهُمْ عَنْ أَقْوَالِ الْمُلْحِدِينَ وَانْتِحَالِ أَنْوَاعِ الضَّالِّينَ وَالْمُفْسِدِينَ - فَلَا يَزَالُونَ مَوْجُودِينَ فِي كُلِّ وَقْتٍ دَائِمًا حَسْبَمَا ذَكَرَ مِنْ التَّرْتِيبِ . وَلِمَذَاهِبِهِمْ الْفَاسِدَةِ شُعَبٌ وَتَفَاصِيلُ تَرْجِعُ إلَى هَذِهِ الْأُصُولِ

الْمَذْكُورَةِ . وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الْمَلْعُونَةُ اسْتَوْلَتْ عَلَى جَانِبٍ كَبِيرٍ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ [ وَهُمْ ] مَعْرُوفُونَ مَشْهُورُونَ مُتَظَاهِرُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ , وَقَدْ حَقَّقَ أَحْوَالَهُمْ كُلُّ مَنْ خَالَطَهُمْ وَعَرَفَهُمْ مِنْ عُقَلَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ , وَمِنْ عَامَّةِ النَّاسِ أَيْضًا فِي هَذَا الزَّمَانِ ; لِأَنَّ أَحْوَالَهُمْ كَانَتْ مَسْتُورَةً عَنْ أَكْثَرِ النَّاسِ وَقْتَ اسْتِيلَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْمَخْذُولِينَ عَلَى الْبِلَادِ السَّاحِلِيَّةِ ; فَلَمَّا جَاءَتْ أَيَّامُ الْإِسْلَامِ انْكَشَفَ حَالُهُمْ وَظَهَرَ ضَلَالُهُمْ . وَالِابْتِلَاءُ بِهِمْ كَثِيرٌ جِدًّا . فَهَلْ يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُزَوِّجَهُمْ , أَوْ يَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ ؟ وَهَلْ يَحِلُّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ , أَمْ لَا ؟ وَمَا حُكْمُ الْجُبْنِ الْمَعْمُولِ مِنْ إِنْفَحَةِ ذَبِيحَتِهِمْ وَمَا حُكْمُ أَوَانِيهِمْ وَمَلَابِسِهِمْ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ دَفْنُهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , أَمْ لَا وَهَلْ يَجُوزُ اسْتِخْدَامُهُمْ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ وَتَسْلِيمِهَا إلَيْهِمْ ؟ أَمْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ قَطْعُهُمْ وَاسْتِخْدَامُ غَيْرِهِمْ مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ الْكُفَاةِ , وَهَلْ يَأْثَمُ إذَا أَخَّرَ طَرْدَهُمْ ؟ أَمْ يَجُوزُ لَهُ التَّمَهُّلُ مَعَ أَنَّ فِي عَزْمِهِ ذَلِكَ ؟ وَإِذَا اسْتَخْدَمَهُمْ وَأَقْطَعَهُمْ أَوْ لَمْ يُقْطِعْهُمْ هَلْ يَجُوزُ لَهُ صَرْفُ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَيْهِمْ , وَإِذَا صَرَفَهَا وَتَأَخَّرَ لِبَعْضِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ مَعْلُومِهِ الْمُسَمَّى ; فَأَخَّرَهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَنْهُ وَصَرَفَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ الْمُسْتَحِقِّينَ , أَوْ أَرْصَدَهُ لِذَلِكَ . هَلْ

يَجُوزُ لَهُ فِعْلُ هَذِهِ الصُّوَرِ ؟ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ وَهَلْ دِمَاءُ النُّصَيْرِيَّةِ الْمَذْكُورِينَ مُبَاحَةٌ وَأَمْوَالُهُمْ حَلَالٌ , أَمْ لَا ؟ وَإِذَا جَاهَدَهُمْ وَلِيُّ الْأَمْرِ أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِخْمَادِ بَاطِلِهِمْ , وَقَطَعَهُمْ مِنْ حُصُونِ الْمُسْلِمِينَ , وَحَذَّرَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ مُنَاكَحَتِهِمْ , وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ , وَأَلْزَمَهُمْ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ , وَمَنَعَهُمْ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِمْ الْبَاطِلِ وَهُمْ الَّذِينَ يَلُونَهُ مِنْ الْكُفَّارِ ; هَلْ ذَلِكَ أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ أَجْرًا مِنْ التَّصَدِّي وَالتَّرَصُّدِ لِقِتَالِ التَّتَارِ فِي بِلَادِهِمْ وَهَدْمِ بِلَادِ سَيْبَسٍ وَدِيَارِ الْإِفْرِنْجِ عَلَى أَهْلِهَا ؟ أَمْ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ كَوْنِهِ يُجَاهِدُ النُّصَيْرِيَّةَ الْمَذْكُورِينَ مُرَابِطًا , وَيَكُونُ أَجْرُ مَنْ رَابَطَ فِي الثُّغُورِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ خَشْيَةَ قَصْدِ الْفِرِنْجِ أَكْبَرَ , أَمْ هَذَا أَكْبَرُ أَجْرًا ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى مَنْ عَرَفَ الْمَذْكُورِينَ وَمَذَاهِبَهُمْ أَنْ يُشْهِرَ أَمْرَهُمْ وَيُسَاعِدَ عَلَى إبْطَالِ بَاطِلِهِمْ وَإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَهُمْ , فَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَهْدِيَ بَعْضَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ مُسْلِمِينَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ الْعَظِيمِ أَمْ يَجُوزُ التَّغَافُلُ عَنْهُمْ وَالْإِهْمَالُ ؟ وَمَا قَدْرُ الْمُجْتَهِدِ عَلَى ذَلِكَ , وَالْمُجَاهِدِ فِيهِ , وَالْمُرَابِطِ لَهُ وَالْمُلَازِمِ عَلَيْهِ ؟ وَلْتَبْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مُثَابِينَ مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ; وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَأَجَابَ

شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الْمُسَمَّوْنَ بِالنُّصَيْرِيَّةِ هُمْ وَسَائِرُ أَصْنَافِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ; بَلْ وَأَكْفَرُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَضَرَرُهُمْ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ مِثْلُ كُفَّارِ التَّتَارِ وَالْفِرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَتَظَاهَرُونَ عِنْدَ جُهَّالِ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّشَيُّعِ , وَمُوَالَاةِ أَهْلِ الْبَيْتِ , وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ , وَلَا بِرَسُولِهِ وَلَا بِكِتَابِهِ , وَلَا بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ , وَلَا ثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ , وَلَا جَنَّةٍ وَلَا نَارٍ وَلَا بِأَحَدٍ مِنْ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بِمِلَّةٍ مِنْ الْمِلَلِ السَّالِفَةِ بَلْ يَأْخُذُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى أُمُورٍ يَفْتَرُونَهَا ; يَدَّعُونَ أَنَّهَا عِلْمُ الْبَاطِنِ ; مِنْ جِنْسِ مَا ذُكِرَ مِنْ السَّائِلِ , وَمَا غَيْرُ هَذَا الْجِنْسِ , فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ حَدٌّ مَحْدُودٌ فِيمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ , وَتَحْرِيفِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ ; إذْ مَقْصُودُهُمْ إنْكَارُ الْإِيمَانِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِكُلِّ طَرِيقٍ مَعَ التَّظَاهُرِ بِأَنَّ لِهَذِهِ الْأُمُورِ حَقَائِقَ يَعْرِفُونَهَا مِنْ جِنْسِ مَا ذَكَرَ السَّائِلُ , وَمِنْ جِنْسِ قَوْلِهِمْ : أَنَّ " الصَّلَوَاتِ

الْخَمْسَ " مَعْرِفَةُ أَسْرَارِهِمْ , " وَالصِّيَامَ الْمَفْرُوضَ " كِتَابُ أَسْرَارِهِمْ " وَحَجَّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ " زِيَارَةُ شُيُوخِهِمْ , وَأَنَّ { يَدَا أَبِي لَهَبٍ } هُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ , وَأَنَّ الْبِنَاءَ الْعَظِيمَ وَالْإِمَامَ الْمُبِينَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : وَلَهُمْ فِي مُعَادَاةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَقَائِعُ مَشْهُورَةٌ وَكُتُبٌ مُصَنَّفَةٌ , فَإِذَا كَانَتْ لَهُمْ مُكْنَةٌ سَفَكُوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ ; كَمَا قَتَلُوا مَرَّةً الْحُجَّاجَ وَأَلْقَوْهُمْ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ , وَأَخَذُوا مَرَّةً الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَبَقِيَ عِنْدَهُمْ مُدَّةً , وَقَتَلُوا مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَشَايِخِهِمْ مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَصَنَّفُوا كُتُبًا كَثِيرَةً مِمَّا ذَكَرَهُ السَّائِلُ وَغَيْرُهُ , وَصَنَّفَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ كُتُبًا فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ ; وَبَيَّنُوا فِيهَا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ , الَّذِي هُمْ بِهِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى , وَمِنْ بَرَاهِمَةِ الْهِنْدِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ . وَمَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ فِي وَصْفِهِمْ قَلِيلٌ مِنْ الْكَثِيرِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْعُلَمَاءُ فِي وَصْفِهِمْ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ عِنْدَنَا أَنَّ السَّوَاحِلَ الشَّامِيَّةَ إنَّمَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا النَّصَارَى مِنْ جِهَتِهِمْ , وَهُمْ دَائِمًا مَعَ كُلِّ عَدُوٍّ لِلْمُسْلِمِينَ ; فَهُمْ مَعَ النَّصَارَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ عِنْدَهُمْ فَتْحُ الْمُسْلِمِينَ لِلسَّوَاحِلِ , وَانْقِهَارِ النَّصَارَى ; بَلْ وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ عِنْدَهُمْ انْتِصَارُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى

التَّتَارِ . وَمِنْ أَعْظَمِ أَعْيَادِهِمْ إذَا اسْتَوْلَى - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى - النَّصَارَى عَلَى ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنَّ ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ مَا زَالَتْ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ , حَتَّى جَزِيرَةُ قُبْرُصَ يَسَّرَ اللَّهُ فَتْحَهَا عَنْ قَرِيبٍ , وَفَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ " عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , فَتَحَهَا " مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ " إلَى أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ . فَهَؤُلَاءِ الْمُحَادُّونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَثُرُوا حِينَئِذٍ بِالسَّوَاحِلِ وَغَيْرِهَا فَاسْتَوْلَى النَّصَارَى عَلَى السَّاحِلِ ; ثُمَّ بِسَبَبِهِمْ اسْتَوْلَوْا عَلَى الْقُدْسِ الشَّرِيفِ وَغَيْرِهِ ; فَإِنَّ أَحْوَالَهُمْ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي ذَلِكَ ; ثُمَّ لَمَّا أَقَامَ اللَّهُ مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى " كَنُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ , وَصَلَاحِ الدِّينِ " وَأَتْبَاعِهِمَا ; وَفَتَحُوا السَّوَاحِلَ مِنْ النَّصَارَى , وَمِمَّنْ كَانَ بِهَا مِنْهُمْ , وَفَتَحُوا أَيْضًا أَرْضَ مِصْرَ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَوْلِينَ عَلَيْهَا نَحْوَ مِائَتَيْ سَنَةٍ , وَاتَّفَقُوا هُمْ وَالنَّصَارَى , فَجَاهَدَهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى فَتَحُوا الْبِلَادَ , وَمِنْ ذَلِكَ التَّارِيخِ انْتَشَرَتْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ . ثُمَّ إنَّ التَّتَارَ مَا دَخَلُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ وَقَتَلُوا خَلِيفَةَ بَغْدَادَ وَغَيْرَهُ مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ لَا بِمُعَاوَنَتِهِمْ وَمُؤَازَرَتِهِمْ ; فَإِنَّ مُنَجِّمَ هُولَاكُو الَّذِي كَانَ وَزِيرَهُمْ وَهُوَ " النُّصَيْرُ الطُّوسِيُّ " كَانَ وَزِيرًا لَهُمْ

بِالْأَلْمُوتِ , وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ بِقَتْلِ الْخَلِيفَةِ وَبِوِلَايَةِ هَؤُلَاءِ . وَلَهُمْ " أَلْقَابٌ " مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ تَارَةً يُسَمَّوْنَ " الْمَلَاحِدَةَ " وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ " الْقَرَامِطَةَ " وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ " الْبَاطِنِيَّةَ " وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ " الْإِسْمَاعِيلِيَّة " وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ " النُّصَيْرِيَّةَ " وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ " الخرمية " , وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ " الْمُحَرِّمَةَ " وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ مِنْهَا مَا يَعُمُّهُمْ , وَمِنْهَا مَا يَخُصُّ بَعْضَ أَصْنَافِهِمْ , كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ يَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ وَلِبَعْضِهِمْ اسْمٌ يَخُصُّهُ إمَّا لِنَسَبٍ , وَإِمَّا لِمَذْهَبٍ , وَإِمَّا لِبَلَدٍ , وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ . وَشَرْحُ مَقَاصِدِهِمْ يَطُولُ , وَهُمْ كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمْ : ظَاهِرُ مَذْهَبِهِمْ الرَّفْضُ , وَبَاطِنُهُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ . وَحَقِيقَةُ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِنَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ; لَا بِنُوحٍ , وَلَا إبْرَاهِيمَ , وَلَا مُوسَى , وَلَا عِيسَى وَلَا مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ , وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ , لَا التَّوْرَاةِ , وَلَا الْإِنْجِيلِ , وَلَا الْقُرْآنِ . وَلَا يُقِرُّونَ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ خَالِقًا خَلَقَهُ وَلَا بِأَنَّ لَهُ دِينًا أَمَرَ بِهِ , وَلَا أَنَّ لَهُ دَارًا يَجْزِي النَّاسَ فِيهَا عَلَى أَعْمَالِهِمْ عَلَى هَذِهِ الدَّارِ . وَهُمْ تَارَةً يَبْنُونَ قَوْلَهُمْ عَلَى مَذَاهِبِ الْفَلَاسِفَةِ الطَّبِيعِيِّينَ أَوْ الْإِلَهِيِّينَ , وَتَارَةً يَبْنُونَهُ عَلَى قَوْلِ الْمَجُوسِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ النُّورَ , وَيَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ الرَّفْضَ .

وَيَحْتَجُّونَ لِذَلِكَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّاتِ : إمَّا بِقَوْلٍ مَكْذُوبٍ يَنْقُلُونَهُ , كَمَا يَنْقُلُونَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ } وَالْحَدِيثُ . مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ ; وَلَفْظُهُ { إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الْعَقْلَ , فَقَالَ لَهُ : أَقْبِلْ , فَأَقْبَلَ . فَقَالَ لَهُ : أَدْبِرْ , فَأَدْبَرَ } فَيُحَرِّفُونَ لَفْظَهُ فَيَقُولُونَ { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ } , لِيُوَافِقُوا قَوْلَ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَتْبَاعِ أَرِسْطُو فِي أَنَّ أَوَّلَ الصَّادِرَاتِ عَنْ وَاجِبِ الْوُجُودِ هُوَ الْعَقْلُ . وَإِمَّا بِلَفْظٍ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ , كَمَا يَصْنَعُ أَصْحَابُ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَنَحْوُهُمْ , فَإِنَّهُمْ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ . وَقَدْ دَخَلَ كَثِيرٌ مِنْ بَاطِلِهِمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَرَاجَ عَلَيْهِمْ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ طَوَائِفَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ ; وَإِنْ كَانُوا لَا يُوَافِقُونَهُمْ عَلَى أَصْلِ كُفْرِهِمْ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ فِي إظْهَارِ دَعْوَتِهِمْ الْمَلْعُونَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا " الدَّعْوَةَ الْهَادِيَةَ " دَرَجَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ , وَيُسَمُّونَ النِّهَايَةَ " الْبَلَاغَ الْأَكْبَرَ , وَالنَّامُوسَ الْأَعْظَمَ " وَمَضْمُونُ الْبَلَاغِ الْأَكْبَرِ جَحْدُ الْخَالِقِ تَعَالَى ; وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِ , وَبِمَنْ يُقِرُّ بِهِ , حَتَّى قَدْ يَكْتُبُ أَحَدُهُمْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَسْفَلِ رِجْلِهِ , وَفِيهِ أَيْضًا جَحْدُ شَرَائِعِهِ وَدِينِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ , وَدَعْوَى أَنَّهُمْ

كَانُوا مِنْ جِنْسِهِمْ طَالِبِينَ لِلرِّئَاسَةِ , فَمِنْهُمْ مَنْ أَحْسَنَ فِي طَلَبِهَا , وَمِنْهُمْ مَنْ أَسَاءَ فِي طَلَبِهَا حَتَّى قُتِلَ , وَيَجْعَلُونَ مُحَمَّدًا وَمُوسَى مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ , وَيَجْعَلُونَ الْمَسِيحَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي . وَفِيهِ مِنْ الِاسْتِهْزَاءِ بِالصَّلَاةِ , وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ , وَالْحَجِّ وَمِنْ تَحْلِيلِ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ , وَسَائِرِ الْفَوَاحِشِ : مَا يَطُولُ وَصْفُهُ . وَلَهُمْ إشَارَاتٌ وَمُخَاطَبَاتٌ يَعْرِفُ بِهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا . وَهُمْ إذَا كَانُوا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ فَقَدْ يَخْفَوْنَ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُمْ , وَأَمَّا إذَا كَثُرُوا فَإِنَّهُ يَعْرِفُهُمْ عَامَّةُ النَّاسِ فَضْلًا عَنْ خَاصَّتِهِمْ . وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا تَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُمْ ; وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ مَوْلَاتَهُ مِنْهُمْ , وَلَا يَتَزَوَّجُ مِنْهُمْ امْرَأَةً , وَلَا تُبَاحُ ذَبَائِحُهُمْ . وَأَمَّا الْجُبْنُ الْمَعْمُولُ بِإِنْفَحَتِهِمْ " فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ , كَسَائِرِ إِنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ , وَكَإِنْفَحَةِ ذَبِيحَةِ الْمَجُوسِ . وَذَبِيحَةِ الْفِرِنْجِ الَّذِينَ يُقَالُ عَنْهُمْ : إنَّهُمْ لَا يُذَكُّونَ الذَّبَائِحَ . فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ يَحِلُّ هَذَا الْجُبْنُ ; لِأَنَّ إِنْفَحَةَ الْمَيْتَةِ طَاهِرَةٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ; لِأَنَّ الْإِنْفَحَةَ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ الْبَهِيمَةِ , وَمُلَاقَاةُ الْوِعَاءِ النَّجِسِ فِي الْبَاطِنِ لَا يَنْجَسُ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ هَذَا

الْجُبْنَ نَجِسٌ لِأَنَّ الْإِنْفَحَةَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ نَجِسَةٌ ; لِأَنَّ لَبَنَ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتَهَا عِنْدَهُمْ نَجِسٌ . وَمَنْ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ فَذَبِيحَتُهُ كَالْمَيْتَةِ . وَكُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْقَوْلَيْنِ يَحْتَجُّ بِآثَارٍ يَنْقُلُهَا عَنْ الصَّحَابَةِ فَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ نَقَلُوا أَنَّهُمْ أَكَلُوا جُبْنَ الْمَجُوسِ . وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّانِي نَقَلُوا أَنَّهُمْ أَكَلُوا مَا كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ مِنْ جُبْنِ النَّصَارَى . فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ ; لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ يُفْتِي بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .

758 - 758 - 112 - سُئِلَ : عَنْ رَجُلٍ لَعَنَ الْيَهُودَ , وَلَعَنَ دِينَهُ , وَسَبَّ التَّوْرَاةَ : فَهَلْ يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَسُبَّ كِتَابَهُمْ , أَمْ لَا ؟ أَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَلْعَنَ التَّوْرَاةَ ; بَلْ مَنْ أَطْلَقَ لَعْنَ التَّوْرَاةِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ , فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْرِفُ أَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ , وَأَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا : فَهَذَا يُقْتَلُ بِشَتْمِهِ لَهَا ; وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا إنْ لَعَنَ دِينَ الْيَهُودِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَلَا بَأْسَ بِهِ فِي ذَلِكَ . فَإِنَّهُمْ مَلْعُونُونَ هُمْ وَدِينُهُمْ , وَكَذَلِكَ إنْ سَبَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي عِنْدَهُمْ بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّ قَصْدَهُ ذِكْرَ تَحْرِيفِهَا مِثْلُ أَنْ يُقَالَ : نُسَخُ هَذِهِ التَّوْرَاةُ مُبَدَّلَةٌ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِمَا فِيهَا . وَمَنْ عَمِلَ الْيَوْمَ بِشَرَائِعِهَا الْمُبَدَّلَةِ وَالْمَنْسُوخَةِ فَهُوَ كَافِرٌ : فَهَذَا الْكَلَامُ وَنَحْوُهُ حَقٌّ لَا شَيْءَ عَلَى قَائِلِهِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

763 - 763 - 117 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ لَهُ مَمْلُوكٌ ذَكَرَ أَنَّهُ سَرَقَ لَهُ قُمَاشًا ; وَذَكَرَ الْغُلَامُ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ ؟ عِنْدَ سَيِّدِهِ الْقَدِيمِ [ فِي ] مِنْدِيلٍ : فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ؟ وَمَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ . الْجَوَابُ : لَا يُؤْخَذُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْغُلَامِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , سَوَاءٌ كَانَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا وَالِي الْحَرْبِ , أَوْ قَاضِي الْحُكْمِ ; بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمُتَّهَمِ بِسَرِقَةٍ وَنَحْوِهَا أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمُتَّهَمِ : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْحَالِ . فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْبِرِّ لَمْ يَجُزْ مُطَالَبَتُهُ وَلَا عُقُوبَتُهُ . وَهَلْ يَحْلِفُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُعَزَّرُ مَنْ رَمَاهُ بِالتُّهْمَةِ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْحَالِ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَكْشِفَ أَمْرَهُ . قِيلَ : يُحْبَسُ شَهْرًا . وَقِيلَ : اجْتِهَادُ وَلِيِّ الْأَمْرِ , لِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ جَدِّهِ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ } وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ الْمُنَاسِبِ لِلتُّهْمَةِ , فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ : يَضْرِبُهُ الْوَالِي ; دُونَ الْقَاضِي . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ : لَا يُضْرَبُ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَمَرَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ أَنْ يَمَسَّ بَعْضَ

الْمُعَاهِدِينَ بِالْعَذَابِ , لَمَّا كَتَمَ إخْبَارَهُ بِالْمَالِ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ , وَقَالَ لَهُ : أَيْنَ كَنْزُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ ؟ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ , أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ . فَقَالَ : الْمَالُ كَثِيرٌ , وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ : دُونَك هَذَا فَمَسَّهُ الزُّبَيْرُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَذَابِ ; فَدَلَّهُمْ عَلَى الْمَالِ } . وَأَمَّا إذَا ادَّعَى أَنَّهُ اسْتَوْدَعَ الْمَالَ فَهَذَا أَخَفُّ , فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْخَيْرِ لَمْ يَجُزْ إلْزَامُهُ بِالْمَالِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ; بَلْ يُحَلِّفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ , سَوَاءٌ كَانَ الْحَاكِمُ وَالِيًا , أَوْ قَاضِيًا .

حَدُّ السَّرِقَةِ 762 - 116 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ سُرِقَ بَيْتُهُ مِرَارًا , ثُمَّ وَجَدَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ مَمْلُوكًا بَعْدَ أَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَأُخِذَ فَأَقَرَّ أَنَّهُ دَخَلَ الْبَيْتَ مُخْتَلِسًا مِرَارًا عَدِيدَةً , وَلَمْ يُقِرَّ أَنَّهُ أَخَذَ شَيْئًا : فَهَلْ يَلْزَمُهُ مَا عُدِمَ لَهُمْ مِنْ الْبَيْتِ ؟ وَمَا الْحُكْمُ فِيهِ ؟ الْجَوَابُ : هَذَا الْعَبْدُ يُعَاقَبُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ مِنْ دُخُولِ الْبَيْتِ ; وَيُعَاقَبُ أَيْضًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ . فَإِذَا أَقَرَّ بِمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَ الْمَالَ : مِثْلُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَوْضِعِ الْمَالِ , أَوْ عَلَى مَنْ أَعْطَاهُ إيَّاهُ , وَنَحْوَ ذَلِكَ : أُخِذَ الْمَالُ , وَأُعْطِيَ لِصَاحِبِهِ إنْ كَانَ مَوْجُودًا , وَغَرِمَهُ إنْ كَانَ تَالِفًا . وَيَنْبَغِي لِلْمُعَاقِبِ لَهُ أَنْ يَحْتَالَ عَلَيْهِ بِمَا يُقِرُّ بِهِ , كَمَا يَفْعَلُ الْحُذَّاقُ مِنْ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ بِمَنْ يَظْهَرُ لَهُمْ فُجُورُهُ حَتَّى يَعْتَرِفَ , وَأَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ بِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي , فَإِذَا حَلَفَ رَبُّ الْمَالِ حِينَئِذٍ حُكِمَ لِرَبِّ الْمَالِ إذَا حَلَفَ . وَأَمَّا الْحُكْمُ لِرَبِّ الْمَالِ بِيَمِينِهِ بِمَا ظَهَرَ مِنْ اللَّوْثِ , وَالْإِمَارَاتِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِي . فَهَذَا فِيهِ اجْتِهَادُهُ . وَأَمَّا فِي النُّفُوسِ فَالْحُكْمُ بِذَلِكَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

760 - 760 - 114 - سُئِلَ : عَنْ رَجُلٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } وَقَالَ آخَرُ : إذَا سَلَكَ الطَّرِيقَ الْحَمِيدَةَ وَاتَّبَعَ الشَّرْعَ دَخَلَ ضِمْنَ هَذَا الْحَدِيثِ , وَإِذَا فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ وَلَمْ يُبَالِ مَا نَقَصَ مِنْ دِينِهِ وَزَادَ فِي دُنْيَاهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضِمْنِ هَذَا الْحَدِيثِ . قَالَ لَهُ نَاقِلُ الْحَدِيثِ : أَنَا لَوْ فَعَلْت كُلَّ مَا لَا يَلِيقُ ; وَقُلْت لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ : دَخَلْت الْجَنَّةَ وَلَمْ أَدْخُلْ النَّارَ ؟ فَأَجَابَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ تَلَفُّظِ الْإِنْسَانِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ بِحَالٍ فَهُوَ ضَالٌّ , مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ : فَإِنَّهُ قَدْ تَلَفَّظَ بِهَا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ , وَهُمْ كَثِيرُونَ ; بَلْ الْمُنَافِقُونَ قَدْ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ ; وَلَكِنْ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسْقِينَ , وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } وَقَالَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19