كتاب : إقامة الدليل على إبطال التحليل
تأليف : شيخ الإسلام ابن تيمية

السَّبْعَةَ الَّتِي ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَيْهَا لَيْسَتْ هِيَ قِرَاءَاتُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورَةُ , بَلْ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ قِرَاءَاتِ هَؤُلَاءِ هُوَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ , وَكَانَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ بِبَغْدَادَ , فَإِنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَجْمَعَ الْمَشْهُورَ مِنْ قِرَاءَاتِ الْحَرَمَيْنِ , وَالْعِرَاقَيْنِ , وَالشَّامِ , إذْ هَذِهِ الْأَمْصَارُ الْخَمْسَةُ هِيَ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا عِلْمُ النُّبُوَّةِ مِنْ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ وَالْحَدِيثِ , وَالْفِقْهِ فِي الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ , فَلَمَّا أَرَادَ ذَلِكَ جَمَعَ قِرَاءَاتِ سَبْعَةِ مَشَاهِيرَ مِنْ أَئِمَّةِ قُرَّاءِ هَذِهِ الْأَمْصَارِ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِعَدَدِ الْحُرُوفِ الَّتِي أُنْزِلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ , لَا لِاعْتِقَادِهِ , أَوْ اعْتِقَادِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةَ هِيَ الْحُرُوفُ السَّبْعَةُ , أَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ الْمُعَيَّنِينَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِغَيْرِ قِرَاءَتِهِمْ . وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ : لَوْلَا أَنَّ ابْنَ مُجَاهِدٍ سَبَقَنِي إلَى حَمْزَةَ لَجَعَلْت مَكَانَهُ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيَّ إمَامَ جَامِعِ الْبَصْرَةِ , وَإِمَامَ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ فِي زَمَانِهِ فِي رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ . وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْحُرُوفَ السَّبْعَةَ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا لَا تَتَضَمَّنُ تَنَاقُضَ الْمَعْنَى وَتَضَادَّهُ , بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعْنَاهَا مُتَّفَقًا أَوْ مُتَقَارِبًا كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ

مَسْعُودٍ : إنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ أَقْبِلْ , وَهَلُمَّ , وَتَعَالَ . وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَى أَحَدِهَا لَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْآخَرِ , لَكِنَّ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَقٌّ , وَهَذَا اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ وَتَغَايُرٍ لَا اخْتِلَافُ تَضَادٍّ وَتَنَاقُضٌ , وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثُ : { أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ : إنْ قُلْت غَفُورًا رَحِيمًا أَوْ قُلْت عَزِيزًا حَكِيمًا , فَاَللَّهُ كَذَلِكَ مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِآيَةِ عَذَابٍ , أَوْ آيَةَ عَذَابٍ بِآيَةِ رَحْمَةٍ } . وَهَذَا كَمَا فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورُ : إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا . وَإِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا , وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ . وَلَتَزُولُ مِنْهُ الْجِبَالُ , وَبَلْ عَجِبْت , وَبَلْ عَجِبْت , وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَمِنْ الْقِرَاءَاتِ مَا يَكُونُ الْمَعْنَى فِيهَا مُتَّفِقًا مِنْ وَجْهٍ , مُتَبَايِنًا مِنْ وَجْهٍ كَقَوْلِهِ : يَخْدَعُونَ وَيُخَادِعُونَ , وَيَكْذِبُونَ وَيُكَذِّبُونَ , وَلَمَسْتُمْ وَلَامَسْتُمْ , وَحَتَّى يَطْهُرْنَ وَيَطَّهَّرْنَ , وَنَحْوُ ذَلِكَ , وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ الَّتِي يَتَغَايَرُ فِيهَا الْمَعْنَى كُلُّهَا حَقٌّ , وَكُلُّ قِرَاءَةٍ مِنْهَا مَعَ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ مَعَ الْآيَةِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا كُلِّهَا , وَاتِّبَاعُ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْمَعْنَى عِلْمًا وَعَمَلًا , لَا يَجُوزُ تَرْكُ مُوجِبِ إحْدَاهُمَا لِأَجْلِ الْأُخْرَى , ظَنًّا أَنَّ ذَلِكَ تَعَارُضٌ , بَلْ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ كَفَرٍ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ

. وَأَمَّا مَا اتَّحَدَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ , وَإِنَّمَا يَتَنَوَّعُ صِفَةُ النُّطْقِ بِهِ كَالْهَمَزَاتِ وَالْمَدَّاتِ وَالْإِمَالَاتِ وَنَقْلِ الْحَرَكَاتِ وَالْإِظْهَارِ وَالْإِدْغَامِ وَالِاخْتِلَاسِ وَتَرْقِيقِ اللَّامَّاتِ وَالرَّاءَاتِ أَوْ تَغْلِيظِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تُسَمَّى الْقِرَاءَاتِ الْأُصُولَ , فَهَذَا أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ فِي أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَنَاقُضٌ وَلَا تَضَادٌّ , مِمَّا تَنَوَّعَ فِيهِ اللَّفْظُ أَوْ الْمَعْنَى , إذْ هَذِهِ الصِّفَاتُ الْمُتَنَوِّعَةُ فِي أَدَاءِ اللَّفْظِ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا وَاحِدًا , وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ فِيمَا اخْتَلَفَ لَفْظُهُ وَاتَّحَدَ مَعْنَاهُ , أَوْ اخْتَلَفَ مَعْنَاهُ مِنْ الْمُتَرَادِفِ وَنَحْوِهِ , وَلِهَذَا كَانَ دُخُولُ هَذَا فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا , مِمَّا يَتَنَوَّعُ فِيهِ اللَّفْظُ أَوْ الْمَعْنَى وَإِنْ وَافَقَ رَسْمَ الْمُصْحَفِ , وَهُوَ مَا يَخْتَلِفُ فِيهِ النَّقْطُ أَوْ الشَّكْلُ . وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَنَازَعْ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ الْمَتْبُوعِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يُقْرَأَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فِي جَمِيعِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ , بَلْ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ شَيْخِ حَمْزَةَ , أَوْ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيِّ , وَنَحْوِهِمَا , كَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فَلَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ الْمَعْدُودِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ , بَلْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا قِرَاءَةَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ .

وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ , وَبِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ , وَغَيْرُهُمْ يَخْتَارُونَ قِرَاءَةَ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ , وَشَيْبَةَ بْنِ نَصَّاحٍ الْمَدَنِيَّيْنِ , وَقِرَاءَةَ الْبَصْرِيِّينَ كَشُيُوخِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ , وَغَيْرِهِمْ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةُ , وَالْكِسَائِيُّ . وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ , وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ ثَبَتَتْ عِنْدَهُمْ قِرَاءَاتُ الْعَشَرَةِ أَوْ الْأَحَدَ عَشَرَ كَثُبُوتِ هَذِهِ السَّبْعَةِ يَجْمَعُونَ ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ وَيَقْرَءُونَهُ فِي الصَّلَاةِ , وَخَارِجَ الصَّلَاةِ , وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ . وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَمَنْ نَقَلَ مِنْ كَلَامِهِ مِنْ الْإِنْكَارِ عَلَى ابْنِ شَنَبُوذٍ الَّذِي كَانَ يَقْرَأُ بِالشَّوَاذِّ فِي الصَّلَاةِ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ وَجَرَتْ لَهُ قَضِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْمُصْحَفِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ : وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قِرَاءَةَ الْعَشَرَةِ , وَلَكِنْ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا أَوْ لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ كَمَنْ يَكُونُ فِي بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِالْمَغْرِبِ أَوْ غَيْرِهِ , وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ بَعْضُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ إلَّا بِعِلْمِهِ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ سُنَّةٌ يَأْخُذُهَا الْآخِرُ عَنْ الْأَوَّلِ , كَمَا أَنَّ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِفْتَاحَاتِ فِي الصَّلَاةِ , وَمِنْ أَنْوَاعِ صِفَةِ

الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ , وَصِفَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّهُ حَسَنٌ يُشْرَعُ الْعَمَلُ بِهِ لِمَنْ عَلِمَهُ , وَأَمَّا مَنْ عَلِمَ نَوْعًا وَلَمْ يَعْلَمْ غَيْرَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَمَّا عَلِمَهُ إلَى مَا لَمْ يَعْلَمْ , وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى مَنْ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَنْ يُخَالِفَهُ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا } . وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ الْخَارِجَةُ عَنْ رَسْمِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ مِثْلُ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } . كَمَا قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ , وَمِثْلُ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ : فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ . وَكَقِرَاءَتِهِ : { إنْ كَانَتْ الْأَزْقِيَةُ وَاحِدَةً } . وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ إذَا ثَبَتَتْ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ : هُمَا رِوَايَتَانِ مَشْهُورَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَرِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ : إحْدَاهُمَا : يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَقْرَءُونَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ فِي الصَّلَاةِ . وَالثَّانِيَةُ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ , لِأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ لَمْ تَثْبُتْ مُتَوَاتِرَةً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ ثَبَتَ فَإِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْعَرْضَةِ الْآخِرَةِ , فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ عَائِشَةَ

وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ { أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُعَارِضُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً , فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عَارَضَهُ بِهِ مَرَّتَيْنِ } , وَالْعَرْضَةُ الْأَخِيرَةُ هِيَ قِرَاءَةُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِ , وَهِيَ الَّتِي أَمَرَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ : أَبُو بَكْرٍ , وَعُمَرُ , وَعُثْمَانُ , وَعَلِيٌّ بِكِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ , وَكَتَبَهَا أَبُو بَكْرٍ , وَعُمَرُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ فِي صُحُفٍ أَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ بِكِتَابَتِهَا , ثُمَّ أَمَرَ عُثْمَانُ فِي خِلَافَتِهِ بِكِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَإِرْسَالِهَا إلَى الْأَمْصَارِ وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقٍ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ . وَهَذَا النِّزَاعُ لَا بُدَّ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ السَّائِلُ وَهُوَ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةَ هَلْ هِيَ حَرْفٌ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ أَمْ لَا , فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّهَا حَرْفٌ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ , بَلْ يَقُولُونَ إنَّ مُصْحَفَ عُثْمَانَ هُوَ أَحَدُ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ , وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلْعَرْضَةِ الْآخِرَةِ الَّتِي عَرَضَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِبْرِيلَ . وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . وَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ إلَى أَنَّ هَذَا الْمُصْحَفَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ , وَقَرَّرَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ , وَغَيْرِهِ

, بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَمَةِ أَنْ تُهْمِلَ نَقْلَ شَيْءٍ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ , وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى نَقْلِ هَذَا الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ الْعُثْمَانِيِّ وَتَرْكِ مَا سِوَاهُ , حَيْثُ أَمَرَ عُثْمَانُ بِنَقْلِ الْقُرْآنِ مِنْ الصُّحُفِ الَّتِي كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَتَبَا الْقُرْآنَ فِيهَا , ثُمَّ أَرْسَلَ عُثْمَانُ بِمُشَاوَرَةِ الصَّحَابَةِ إلَى كُلِّ مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ . بِمُصْحَفٍ وَأَمَرَ بِتَرْكِ مَا سِوَى ذَلِكَ . قَالَ هَؤُلَاءِ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنْ الْقِرَاءَةِ بِبَعْضِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ . وَمَنْ نَصَرَ قَوْلَ الْأَوَّلِينَ يُجِيبُ تَارَةً بِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى الْأُمَّةِ , وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَهُمْ , مُرَخَّصًا لَهُمْ فِيهِ , وَقَدْ جُعِلَ إلَيْهِمْ الِاخْتِيَارُ فِي أَيِّ حَرْفٍ اخْتَارُوهُ , كَمَا أَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ مَنْصُوصًا بَلْ مُفَوَّضًا إلَى اجْتِهَادِهِمْ , وَلِهَذَا كَانَ تَرْتِيبُ مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبِ مُصْحَفِ زَيْدٍ , وَكَذَلِكَ مُصْحَفُ غَيْرِهِ . وَأَمَّا تَرْتِيبُ آيَاتِ السُّوَرِ فَهُوَ مُنَزَّلٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ , فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُقَدِّمُوا آيَةً عَلَى آيَةٍ فِي الرَّسْمِ , كَمَا قَدَّمُوا سُورَةً عَلَى سُورَةٍ , لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْآيَاتِ مَأْمُورٌ بِهِ نَصًّا , وَأَمَّا تَرْتِيبُ السُّوَرِ فَمُفَوَّضٌ إلَى اجْتِهَادِهِمْ . قَالُوا : فَكَذَلِكَ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ , فَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَةُ أَنَّ الْأُمَّةَ تَفْتَرِقُ وَتَخْتَلِفُ وَتَتَقَاتَلُ إذَا لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى

حَرْفٍ وَاحِدٍ , اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ اجْتِمَاعًا سَائِغًا , وَهُمْ مَعْصُومُونَ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلَالَةٍ , وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَرْكٌ لِوَاجِبٍ وَلَا فِعْلٌ لِمَحْظُورٍ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ التَّرْخِيصَ فِي الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِمَا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا , فَلَمَّا تَذَلَّلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ , وَكَانَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ يَسِيرًا عَلَيْهِمْ وَهُوَ أَوْفَقُ لَهُمْ , أَجْمَعُوا عَلَى الْحَرْفِ الَّذِي كَانَ فِي الْعَرْضَةِ الْآخِرَةِ , وَيَقُولُونَ إنَّهُ نُسِخَ مَا سِوَى ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ يُوَافِقُ قَوْلُهُمْ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إنَّ حُرُوفَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُخَالِفُ رَسْمَ هَذَا الْمُصْحَفِ مَنْسُوخَةٌ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّهُ يَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِالْمَعْنَى فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا قَالَ : قَدْ نَظَرْتُ إلَى الْقُرَّاءِ فَرَأَيْت قِرَاءَتَهُمْ مُتَقَارِبَةً , وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ أَقْبِلْ , وَهَلُمَّ , وَتَعَالَ , فَاقْرَءُوا كَمَا عُلِّمْتُمْ . أَوْ كَمَا قَالَ , فَمَنْ جَوَّزَ الْقِرَاءَةَ بِمَا يَخْرُجُ عَنْ الْمُصْحَفِ مِمَّا ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَةِ قَالَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا , وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُ فَلَهُ ثَلَاثَةُ مَآخِذَ : تَارَةً يَقُولُ لَيْسَ هُوَ مِنْ الْحُرُوفِ الْمَنْسُوخَةِ , وَتَارَةً يَقُولُ هُوَ مِنْ الْحُرُوفِ الْمَنْسُوخَةِ , وَتَارَةً يَقُولُ هُوَ مِمَّا انْعَقَدَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُ , وَتَارَةً

يَقُولُ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا نَقْلًا يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ الْقُرْآنُ . وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ . وَلِهَذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ : قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدِّيّ أَبِي الْبَرَكَاتِ , أَنَّهُ إنْ قَرَأَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فِي الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ وَهِيَ الْفَاتِحَةُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ , لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ مِنْ الْقِرَاءَةِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ , وَإِنْ قَرَأَ بِهَا فِيمَا لَا يَجِبُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ , لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ أَتَى فِي الصَّلَاةِ بِمُبْطِلٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ عَلَيْهَا . وَهَذَا الْقَوْلُ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ , وَهُوَ أَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ فَهَلْ يَجِبُ الْقَطْعُ بِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْهَا , فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ , إذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا أُوجِبَ عَلَيْنَا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ قَطْعِيًّا . وَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ بِنَفْيِهِ , حَتَّى قَطَعَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ بِخَطَأِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ , مِمَّنْ أَثْبَتَ الْبَسْمَلَةَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ سُورَةِ النَّمْلِ . لِزَعْمِهِمْ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِنَفْيِهِ , وَالصَّوَابُ الْقَطْعُ بِخَطَإِ هَؤُلَاءِ , وَأَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ حَيْثُ كَتَبَهَا الصَّحَابَةُ فِي الْمُصْحَفِ , إذْ لَمْ يَكْتُبُوا فِيهِ

إلَّا الْقُرْآنَ , وَجَرَّدُوهُ عَمَّا لَيْسَ مِنْهُ كَالتَّخْمِيسِ وَالتَّعْشِيرِ وَأَسْمَاءِ السُّوَرِ وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ هِيَ مِنْ السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا كَمَا لَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا , بَلْ هِيَ كَمَا كُتِبَتْ آيَةً أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ السُّورَةِ , وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَسَوَاءٌ قِيلَ بِالْقَطْعِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهَا مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَا تَكْفِيرَ وَلَا تَفْسِيقَ فِيهَا لِلنَّافِي وَلَا لِلْمُثْبِتِ , بَلْ قَدْ يُقَالُ مَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ , وَإِنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ , وَهِيَ قِرَاءَةُ الَّذِينَ يَفْصِلُونَ بِهَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ , وَلَيْسَتْ آيَةً فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ , وَهِيَ قِرَاءَةُ الَّذِينَ يَصِلُونَ . لَا يَفْصِلُونَ بِهَا . وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ مَا السَّبَبُ الَّذِي أَوْجَبَ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِيمَا احْتَمَلَهُ خَطُّ الْمُصْحَفِ , فَهَذَا مَرْجِعُهُ إلَى النَّقْلِ وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِتَسْوِيغِ الشَّارِعِ لَهُمْ الْقِرَاءَةَ بِذَلِكَ كُلِّهِ إذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ بِرَأْيِهِ الْمُجَرَّدِ , بَلْ الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ , وَهُمْ إذَا اتَّفَقُوا عَلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ الْمَكْتُوبِ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِيِّ , وَقَدْ قَرَأَ بَعْضُهُمْ بِالْيَاءِ , وَبَعْضُهُمْ بِالتَّاءِ , لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا خَارِجًا عَنْ الْمُصْحَفِ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُتَّفَقُونَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَلَى

يَاءٍ أَوْ تَاءٍ , وَيَتَنَوَّعُونَ فِي بَعْضٍ كَمَا اتَّفَقُوا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } فِي مَوْضِعٍ وَتَنَوَّعُوا فِي مَوْضِعَيْنِ , وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْآيَتَيْنِ فَزِيَادَةُ الْقِرَاءَاتِ لِزِيَادَةِ الْآيَاتِ , لَكِنْ إذَا كَانَ الْخَطُّ وَاحِدًا وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلًا كَانَ ذَلِكَ أَخْصَرَ فِي الرَّسْمِ . وَالِاعْتِمَادُ فِي نَقْلِ الْقُرْآنِ عَلَى حِفْظِ الْقُلُوبِ , لَا عَلَى حِفْظِ الْمَصَاحِفِ , كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ رَبِّي قَالَ لِي قُمْ فِي قُرَيْشٍ فَأَنْذِرْهُمْ , فَقُلْت أَيْ رَبِّ إذًا يَثْلُغُوا رَأْسِي أَيْ يَشْدَخُوا فَقَالَ : إنِّي مُبْتَلِيك وَمُبْتَلٍ بِك وَمُنْزِلٌ عَلَيْك كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَأهُ نَائِمًا وَيَقْظَانًا فَابْعَثْ جُنْدًا أَبْعَثْ مِثْلَيْهِمْ , وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَك مَنْ عَصَاك , وَأَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك } . فَأَخْبَرَ أَنَّ كِتَابَهُ لَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إلَى صَحِيفَةٍ تُغْسَلُ بِالْمَاءِ , بَلْ يَقْرَؤُهُ فِي كُلِّ حَالٍ كَمَا جَاءَ فِي نَعْتِ أُمَّتِهِ : أَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَا يَحْفَظُونَهُ إلَّا فِي الْكُتُبِ وَلَا يَقْرَءُونَهُ إلَّا نَظَرًا لَا عَنْ ظُهْرِ قَلْبٍ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ جَمَعَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ عَلَى عَهْد النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ كَالْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ , وَكَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو . فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمَنْسُوبَةَ إلَى نَافِعٍ وَعَاصِمٍ لَيْسَتْ هِيَ الْأَحْرُفَ

السَّبْعَةَ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا , وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ , وَكَذَلِكَ لَيْسَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعَةُ هِيَ مَجْمُوعَ حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ , بَلْ الْقِرَاءَاتُ الثَّابِتَةُ عَنْ أَئِمَّةِ الْقُرْآنِ كَالْأَعْمَشِ , وَيَعْقُوبَ , وَخَلَفٍ , وَأَبِي جَعْفَرٍ يَزِيدَ بْنِ الْقَعْقَاعِ , وَشَيْبَةَ بْنِ نَصَّاحٍ , وَنَحْوِهِمْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ عَنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ عِنْدَ مَنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ , كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ . وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهِ الْأَئِمَّةُ الْمَتْبُوعُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ , وَإِنَّمَا تَنَازَعَ النَّاسُ مِنْ الْخَلَفِ فِي الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ الْإِمَامِيِّ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُمْ , هَلْ هُوَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ وَتَمَامِ الْعَشَرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , هَلْ هُوَ حَرْفٌ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا , أَوْ هُوَ مَجْمُوعُ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ : وَالْأَوَّلُ : قَوْلُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ . وَالثَّانِي : قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ , وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ لَا يُخَالِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا خِلَافًا يَتَضَادُّ فِي الْمَعْنَى وَيَتَنَاقَضُ , بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَمَا تُصَدِّقُ الْآيَاتُ بَعْضُهَا

بَعْضًا . وَسَبَبُ تَنَوُّعِ الْقِرَاءَاتِ فِيمَا احْتَمَلَهُ خَطُّ الْمُصْحَفِ هُوَ تَجْوِيزُ الشَّارِعِ وَتَسْوِيغُهُ ذَلِكَ لَهُمْ , إذْ مَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ , لَا إلَى الرَّأْيِ وَالِابْتِدَاعِ . أَمَّا إذَا قِيلَ : إنَّ ذَلِكَ هِيَ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ فَظَاهِرٌ , وَكَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى إذَا قِيلَ إنَّ ذَلِكَ حَرْفٌ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ , فَإِنَّهُ إذَا كَانَ قَدْ سُوِّغَ لَهُمْ أَنْ يَقْرَءُوهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ , مَعَ تَنَوُّعِ الْأَحْرُفِ فِي الرَّسْمِ , فَلَأَنْ يُسَوَّغَ ذَلِكَ مَعَ اتِّفَاقِ ذَلِكَ فِي الرَّسْمِ وَتَنَوُّعِهِ فِي اللَّفْظِ أَوْلَى وَأَحْرَى , وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ تَرْكِهِمْ الْمَصَاحِفَ أَوَّلَ مَا كُتِبَتْ غَيْرَ مَشْكُولَةٍ وَلَا مَنْقُوطَةٍ لِتَكُونَ صُورَةُ الرَّسْمِ مُحْتَمِلَةً لِلْأَمْرَيْنِ كَالتَّاءِ وَالْيَاءِ , وَالْفَتْحِ وَالضَّمِّ , وَهُمْ يَضْبِطُونَ بِاللَّفْظِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ , وَيَكُونُ دَلَالَةُ الْخَطِّ الْوَاحِدِ عَلَى كِلَا اللَّفْظَيْنِ الْمَنْقُولَيْنِ الْمَسْمُوعَيْنِ الْمَتْلُوَّيْنِ شَبِيهًا بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ الْمَنْقُولَيْنِ الْمَعْقُولَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ . فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَقَّوْا عَنْهُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِتَبْلِيغِهِ إلَيْهِمْ مِنْ الْقُرْآنِ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ جَمِيعًا كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ , وَهُوَ الَّذِي رَوَى عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ } . كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي

صَحِيحِهِ وَكَانَ يُقْرِئُ الْقُرْآنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً , قَالَ : حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ , وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ , وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ , قَالُوا فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا . وَلِهَذَا دَخَلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ { خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ } تَعْلِيمُ حُرُوفِهِ وَمَعَانِيه جَمِيعًا , بَلْ تَعَلُّمُ مَعَانِيه هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ بِتَعْلِيمِ حُرُوفِهِ , وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَزِيدُ الْإِيمَانَ , كَمَا قَالَ جُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا : تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا , وَإِنَّكُمْ تَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ ثُمَّ تَتَعَلَّمُونَ الْإِيمَانَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : { حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ , رَأَيْت أَحَدَهُمَا , وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ : حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ } , وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ , وَلَا تَتَّسِعُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ لِذِكْرِ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا بَلَّغَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى النَّاسِ . وَتَلَقَّاهُ أَصْحَابُهُ عَنْهُ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ , وَذَلِكَ مِمَّا أَوْحَاهُ اللَّهُ إلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ

أَوْحَيْنَا إلَيْك رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } وَتَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا بِالْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ الْمُوَافِقَةِ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ كَمَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ وَلَيْسَتْ شَاذَّةً حِينَئِذٍ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
1024 - 1024 - 3 مَسْأَلَةٌ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا غِيبَةَ لِفَاسِقٍ } وَمَا حَدُّ الْفِسْقِ ؟ وَرَجُلٌ شَاجَرَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا شَارِبُ خَمْرٍ , أَوْ جَلِيسٌ فِي الشُّرْبِ أَوْ آكِلُ حَرَامٍ , أَوْ حَاضِرُ الرَّقْصِ أَوْ السَّمَاعِ لِلدُّفِّ أَوْ الشَّبَّابَةِ , فَهَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ إثْمٌ ؟ الْجَوَابُ : أَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُ مَأْثُورٌ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ أَتَرْغَبُونَ عَنْ ذَلِكَ الْفَاجِرِ ؟ اُذْكُرُوهُ بِمَا فِيهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ لَهُ } وَهَذَانِ النَّوْعَانِ يَجُوزُ فِيهِمَا الْغِيبَةُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُظْهِرًا لِلْفُجُورِ مِثْلَ : الظُّلْمِ , وَالْفَوَاحِشِ , وَالْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ السُّنَّةَ , فَإِذَا أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ , فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِيع فَبِقَلْبِهِ , وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَفِي الْمُسْنَدِ , وَالسُّنَنِ : عَنْ

أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ , إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَتَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ } وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ وَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ , فَمَنْ أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ , وَأَنْ يُهْجَرَ وَيُذَمَّ عَلَى ذَلِكَ } فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ " مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ لَهُ " , بِخِلَافِ مَنْ كَانَ مُسْتَتِرًا بِذَنْبِهِ مُسْتَخْفِيًا , فَإِنَّ هَذَا يُسْتَرُ عَلَيْهِ لَكِنْ يُنْصَحُ سِرًّا وَيَهْجُرُهُ مَنْ عَرَفَ حَتَّى يَتُوبَ وَيَذْكُرَ . وَأَمْرَهُ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ . النَّوْعُ الثَّانِي : أَنْ يُسْتَشَارَ الرَّجُلُ فِي مُنَاكَحَتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ أَوْ اسْتِشْهَادِهِ وَيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَيَنْصَحُهُ مُسْتَشِيرُهُ بِبَيَانِ حَالِهِ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ أُبَيٍّ : قَدْ خَطَبَنِي أَبُو جَهْمٍ وَمُعَاوِيَةُ , فَقَالَ لَهَا : أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ , وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ } فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ الْخَاطِبَيْنِ لِلْمَرْأَةِ فَهَذَا حُجَّةٌ لِقَوْلِ الْحَسَنِ : " أَتَرْغَبُونَ عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ اُذْكُرُوهُ بِمَا فِيهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ " فَإِنَّ النُّصْحَ فِي الدِّينِ

أَعْظَمُ مِنْ النُّصْحِ فِي الدُّنْيَا , فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَحَ الْمَرْأَةَ فِي دُنْيَاهَا فَالنَّصِيحَةُ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ , وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَتْرُكُ الصَّلَوَاتِ وَيَرْتَكِبُ الْمُنْكَرَاتِ وَقَدْ عَاشَرَهُ مَنْ يَخَافُ أَنْ يَفْسُدَ دِينُهُ بَيَّنَ أَمْرَهُ لَهُ لِتُتَّقَى مُعَاشَرَتُهُ . إذَا كَانَ مُبْتَدِعًا يَدْعُو إلَى عَقَائِدَ تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَوْ يَسْلُكُ طَرِيقًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَيَخَافُ أَنْ يُضِلَّ الرَّجُلُ النَّاسَ بِذَلِكَ بَيَّنَ أَمْرَهُ لِلنَّاسِ لِيَتَّقُوا ضَلَالَهُ وَيَعْلَمُوا , وَهَذَا كُلُّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ النُّصْحِ وَابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِهَوَى الشَّخْصِ مَعَ الْإِنْسَانِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ تَحَاسُدٌ أَوْ تَبَاغُضٌ أَوْ تَنَازُعٌ عَلَى الرِّئَاسَةِ فَيَتَكَلَّمَ بِمَسَاوِئِهِ مُظْهِرًا لِلنُّصْحِ وَقَصْدُهُ فِي الْبَاطِنِ الْبُغْضُ فِي الشَّخْصِ وَاسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ فَهَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ , وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ , وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى , بَلْ يَكُونُ النَّاصِحُ قَصْدُهُ أَنَّ اللَّهَ يُصْلِحُ ذَلِكَ الشَّخْصَ وَأَنْ يَكْفِيَ الْمُسْلِمِينَ ضَرَرَهُ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ , وَيَسْلُكُ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ أَيْسَرَ الطُّرُقِ الَّتِي تُمَكِّنُهُ . وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْضُرَ مَجَالِسَ الْمُنْكَرِ بِاخْتِيَارِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ } . وَرُفِعَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ

قَوْمٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ , فَأَمَرَ بِجَلْدِهِمْ , فَقِيلَ لَهُ : إنَّ فِيهِمْ صَائِمًا فَقَالَ : ابْدَءُوا بِهِ , أَمَا سَمِعْتُمْ اللَّهَ يَقُولُ : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ } . بَيَّنَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ حَاضِرَ الْمُنْكَرِ كَفَاعِلِهِ , وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : إذَا دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ فِيهَا مُنْكَرٌ كَالْخَمْرِ وَالزَّمْرِ لَمْ يَجُزْ حُضُورُهَا , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ , فَمَنْ حَضَرَ الْمُنْكَرَ بِاخْتِيَارِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ , بِتَرْكِ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ بُغْضِ إنْكَارِهِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي يَحْضُرُ مَجَالِسَ الْخَمْرِ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا يُنْكِرُ الْمُنْكَرَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ هُوَ شَرِيكُ الْفُسَّاقِ فِي فِسْقِهِمْ فَيَلْحَقُ بِهِمْ .

1023 - 1023 - 2 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ لَعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ , وَقَالَ : هُوَ خَيْرٌ مِنْ النَّرْدِ , فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ , وَهَلْ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِ عِوَضٍ حَرَامٌ , وَمَا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ حَرَامٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا كَالنَّرْدِ , وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ } . وَقَالَ : { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . وَثَبَتَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ , فَقَالَ : مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ , وَرُوِيَ أَنَّهُ قَلَبَ الرُّقْعَةَ عَلَيْهِمْ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : الشِّطْرَنْجُ مِنْ الْمَيْسِرِ , وَهُوَ كَمَا قَالُوا , فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْسِرَ , وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ حَرَامٌ إذَا كَانَ بِعِوَضٍ , وَهُوَ مِنْ الْقِمَارِ وَالْمَيْسِرِ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ , وَالنَّرْدُ حَرَامٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ سَوَاءٌ كَانَ بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِ عِوَضٍ , وَلَكِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ جَوَّزَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ , لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ الْمَيْسِرِ , وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ , وَأَحْمَدُ , وَأَبُو حَنِيفَةَ , وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ فَيُحَرِّمُونَ ذَلِكَ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ . وَكَذَلِكَ الشِّطْرَنْجُ صَرَّحَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ

بِتَحْرِيمِهَا مَالِكٌ , وَأَبُو حَنِيفَةَ , وَأَحْمَدُ , وَغَيْرُهُمْ , وَتَنَازَعُوا أَيُّهُمَا أَشَدُّ فَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ : الشِّطْرَنْجُ شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ , وَقَالَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ : الشِّطْرَنْجُ أَخَفُّ مِنْ النَّرْدِ . وَلِهَذَا تَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ فِي النَّرْدِ إذَا خَلَا عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ , إذْ سَبَبُ الشُّبْهَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَكْبَرَ مَنْ يَلْعَبُ فِيهَا بِعِوَضٍ بِخِلَافِ الشِّطْرَنْجِ , فَإِنَّهَا تُلْعَبُ بِغَيْرِ عِوَضٍ غَالِبًا , وَأَيْضًا فَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ يُعِينُ عَلَى الْقِتَالِ لِمَا فِيهَا مِنْ صَفِّ الطَّائِفَتَيْنِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ النَّرْدَ وَالشِّطْرَنْجَ إذَا لُعِبَ بِهِمَا بِعِوَضٍ فَالشِّطْرَنْجُ شَرٌّ مِنْهَا ; لِأَنَّ الشِّطْرَنْجَ حِينَئِذٍ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ , وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ بِالْإِجْمَاعِ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى حَرَامٍ مِنْ كَذِبٍ وَيَمِينٍ فَاجِرَةٍ , أَوْ ظُلْمٍ أَوْ جِنَايَةٍ , أَوْ حَدِيثٍ غَيْرِ وَاجِبٍ وَنَحْوِهَا , وَهِيَ حَرَامٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَإِنْ خَلَتْ عَنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ , وَعَنْ الصَّلَاةِ , وَتُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ أَعْظَمَ مِنْ النَّرْدِ إذَا كَانَ بِعِوَضٍ , وَإِذَا كَانَا بِعِوَضٍ فَالشِّطْرَنْجُ شَرٌّ فِي الْحَالَيْنِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْعِوَضُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَفِيهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مَا لَيْسَ فِي الْآخَرِ , وَاَللَّهُ تَعَالَى قَرَنَ الْمَيْسِرَ بِالْخَمْرِ وَالْأَنْصَابِ , وَالْأَزْلَامِ , لِمَا فِيهَا مِنْ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ , وَعَنْ الصَّلَاةِ , وَهُوَ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ , فَإِنَّ الشِّطْرَنْجَ إذَا اُسْتُكْثِرَ

مِنْهَا تَسْتُرُ الْقَلْبَ وَتَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ تَسَتُّرِ الْخَمْرِ , وَقَدْ شَبَّهَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَاعِبِيهَا بِعُبَّادِ الْأَصْنَامِ , حَيْثُ قَالَ : مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ؟ كَمَا شَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَارِبَ الْخَمْرِ بِعَابِدِ الْوَثَنِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ } . وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِنْ اللَّعِبِ بِهَا , فَقَدْ بَيَّنَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ طَلَبَهُ لِلْقَضَاءِ , فَلَعِبَ بِهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ قَادِحًا فِيهِ فَلَا يُوَلَّى الْقَضَاءَ , وَذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى وِلَايَةَ الْحَجَّاجِ أَشَدَّ ضَرَرًا عَلَيْهِ فِي دِينِهِ مِنْ ذَلِكَ , وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَقَدْ يُبَاحُ مَا هُوَ أَعْظَمُ تَحْرِيمًا مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ , وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ , كَمَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا , وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا : أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ عَلَى لَاعِبِ الشِّطْرَنْجِ , لِأَنَّهُ مُظْهِرٌ لِلْمَعْصِيَةِ . وَقَالَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ : يُسَلَّمُ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : أَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُوسَى سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ . وَتَقُولُونَ إنَّ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً , وَتَسْمَعُونَهُ مِنْ وَسَائِطَ بِأَصْوَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ . فَيُقَالُ لَهُ : بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ الْفَرْقِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الْقِدَمِ وَالْفَرْقِ فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يُمَيِّزُ بَيْنَ سَمَاعِ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كَسَمَاعِ الصَّحَابَةِ مِنْهُ , وَبَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ كَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَةً , وَكَذَلِكَ مَنْ سَمِعَ شِعْرَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الشُّعَرَاءِ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ , وَمَنْ سَمِعَهُ مِنْ الرُّوَاةِ عَنْهُ ; يَعْلَمُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا , وَهُوَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ شِعْرُ حَسَّانَ لَا شِعْرُ غَيْرِهِ , وَالْإِنْسَانُ إذَا تَعَلَّمَ شِعْرَ غَيْرِهِ , فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّاعِرَ أَنْشَأَ مَعَانِيَهُ وَنَظَمَ حُرُوفَهُ بِالْأَصْوَاتِ الْمُقَطَّعَةِ يَرْوِيهِ بِحَرَكَةِ نَفْسِهِ وَأَصْوَاتِ نَفْسِهِ , فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفَرْقُ مَعْقُولًا فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ , بَيْنَ سَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ ابْتِدَاءً , وَسَمَاعِهِ بِوَاسِطَةِ الرَّاوِي عَنْهُ أَوْ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ . فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ ذَلِكَ فِي سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَسْمُوعَ مِنْ

الْقُرَّاءِ هُوَ صَوْتُ الرَّبِّ , فَهُوَ إلَى تَأْدِيبِ الْمَجَانِين أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى خِطَابِ الْعُقَلَاءِ , وَكَذَلِكَ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الصَّوْتَ قَدِيمٌ , وَأَنَّ الْمُرَادَ قَدِيمٌ , فَهَذَا لَا يَقُولُهُ ذُو حِسٍّ سَلِيمٍ , بَلْ مَا بُيِّنَ لِوَحْيِ الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ , وَكَلَامُ اللَّهِ ثَابِتٌ فِي مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ , لَا كَلَامُ غَيْرِهِ , فَمَنْ قَالَ إنَّ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ بَلْ كَلَامَ غَيْرِهِ فَهُوَ مُلْحِدٌ مَارِقٌ , وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ فَارَقَ ذَاتَه , وَانْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِ , كَمَا كُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ , وَأَنَّ الْمُرَادَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ , فَهُوَ أَيْضًا مَارِقٌ , بَلْ كَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ يُكْتَبُ فِي الْأَوْرَاقِ وَهُوَ لَمْ يُفَارِقْ ذَوَاتَهمْ . فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ مِثْلُ هَذَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى . وَالشُّبْهَةُ تَنْشَأُ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ مِنْ الْكَلَامِ وَالْمُقَيَّدِ . مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ رَأَيْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْهِلَالَ إذَا رَآهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ , وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ الْمُطْلَقَةُ ; وَقَدْ يَرَاهُ فِي مَاءٍ أَوْ مِرْآةٍ ; فَهَذِهِ رُؤْيَةٌ مُقَيَّدَةٌ ; فَإِذَا أَطْلَقَ قَوْلَهُ رَأَيْته , أَوْ مَا رَأَيْته , حُمِلَ عَلَى مَفْهُومِ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ , وَإِذَا قَالَ لَقَدْ رَأَيْت الشَّمْسَ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ , فَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ مَعَ التَّقْيِيدِ , وَاللَّفْظُ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ , فَإِذَا وَصَلَ بِالْكَلَامِ مَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهُ كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ التَّخْصِيصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ ,

كَقَوْلِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا , كَانَ هَذَا الْمَجْمُوعُ دَالًّا عَلَى تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً بِطُرُقِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ النَّاسِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا مَجَازٌ فَقَدْ غَلِطَ ; فَإِنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ; وَمَا يُقْرَنُ بِاللَّفْظِ مِنْ الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الْمَوْضُوعَةِ هِيَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ . وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ الْكَلَامُ مَعَهَا مَعْنَيَيْنِ . وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ مَفْهُومِهِمَا , بِخِلَافِ اسْتِعْمَالِ نَفْيِ الْأَسَدِ فِي الرَّجُلِ الشُّجَاعِ مَعَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ هَذَا اللَّفْظُ حَقِيقَةٌ . وَهَذَا مَجَازٌ . نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ . وَهُوَ مُسْتَنَدُ مَنْ أَنْكَرَ الْمَجَازَ فِي اللُّغَةِ وَفِي الْقُرْآنِ . وَلَمْ يَنْطِقْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . وَلَمْ يُعْرَفْ لَفْظُ الْمَجَازِ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَّا فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ . فَإِنَّ فِيمَا كَتَبَهُ مِنْ الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ هَذَا مِنْ مَجَازِ الْقُرْآنِ . وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُطْلَقًا أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي مَجَازِ الْقُرْآنِ . ثُمَّ إنَّ هَذَا كَانَ مَعْنَاهُ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ مِمَّا يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ وَيَسُوغُ فَهُوَ مُشْتَقٌّ عِنْدَهُمْ مِنْ الْجَوَازِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ " عَقْدٌ لَازِمٌ " وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ جَعَلَهُ مِنْ الْجَوَازِ الَّذِي هُوَ الْعُبُورُ مِنْ مَعْنَى الْمَجَازِ . ثُمَّ إنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ الْمَجَازَ قَدْ يَشِيعُ وَيَشْتَهِرُ حَتَّى يَصِيرَ الْمَقْصُودَ , فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ : رَأَيْت الشَّمْسَ أَوْ

الْقَمَرَ أَوْ الْهِلَالَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ , فَالْعُقَلَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ , وَبَيْنَ رُؤْيَةِ ذَلِكَ بِلَا وَاسِطَةٍ , وَإِذَا قَالَ قَائِلٌ : مَا رَأَى ذَلِكَ بَلْ رَأَى مِثَالَهُ أَوْ خَيَالَهُ أَوْ الشُّعَاعَ الْمُنْعَكِسَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ , لَمْ يَكُنْ هَذَا مَانِعًا لِمَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ وَيَقُولُونَهُ مِنْ أَنَّهُ رَآهُ فِي الْمَاءِ أَوْ الْمِرْآةِ , وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ فِي الْمَاءِ أَوْ الْمِرْآةِ حَقِيقَةٌ مُقَيَّدَةٌ , وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي حَقًّا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي } . هُوَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ حَقًّا , فَمَنْ قَالَ رَآهُ فِي الْمَنَامِ حَقًّا فَقَدْ أَخْطَأَ , وَمَنْ قَالَ إنَّ رُؤْيَتَهُ فِي الْيَقِظَةِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَالرُّؤْيَةِ الْمُقَيَّدَةِ فِي النَّوْمِ فَقَدْ أَخْطَأَ , وَلِهَذَا يَكُونُ لِهَذِهِ تَأْوِيلٌ وَتَعْبِيرٌ دُونَ تِلْكَ . وَكَذَلِكَ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْمَنَامِ هُوَ سَمَاعٌ مِنْهُ فِي الْمَنَامِ . وَلَيْسَ هَذَا كَالسَّمَاعِ مِنْهُ فِي الْيَقِظَةِ , وَقَدْ يَرَى الرَّائِي الْمَنَامَ أَشْخَاصًا وَيُخَاطِبُونَهُ , وَالْمَرْئِيُّونَ لَا شُعُورَ لَهُمْ بِذَلِكَ , وَإِنَّمَا رَأَى أَمْثَالَهُمْ , وَلَكِنْ يُقَالُ رَآهُمْ فِي الْمَنَامِ حَقِيقَةً , فَيَحْتَرِزُ بِذَلِكَ عَنْ الرُّؤْيَا الَّتِي هِيَ حَدِيثُ النَّفْسِ , فَإِنَّ الرُّؤْيَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : رُؤْيَا بُشْرَى مِنْ اللَّهِ , وَرُؤْيَا تَحْزِينٍ مِنْ الشَّيْطَانِ , وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ فِي الْيَقِظَةِ فَيَرَاهُ

فِي الْمَنَامِ . وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا التَّقْسِيمُ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَتِلْكَ الرُّؤْيَا يَظْهَرُ لِكُلٍّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْيَقِظَةِ مَا لَا يَظْهَرُ فِي غَيْرِهَا , فَكَمَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ مُطْلَقَةً , وَتَكُونُ بِوَاسِطَةِ الْمِرْآةِ وَالْمَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى أَنَّ الْمَرْئِيَّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمِرْآةِ , فَإِذَا كَانَتْ كَبِيرَةً مُسْتَدِيرَةً رَأَى كَذَلِكَ , فَذَلِكَ فِي السَّمَاعِ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ سَمِعَ كَلَامَ غَيْرِهِ مِنْهُ , وَمَنْ سَمِعَهُ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ , فَفِي الْمَوْضِعَيْنِ الْمَقْصُودُ سَمَاعُ كَلَامِهِ , كَمَا أَنَّ هُنَاكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَقْصِدُونَهُ , لَكِنْ إذَا كَانَ بِوَاسِطَةٍ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْوَاسِطَةِ , فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَصْوَاتِ الْمُبَلِّغِينَ كَمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَرَايَا . قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } , فَجَعَلَ التَّكْلِيمَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ الْوَحْيُ الْمُجَرَّدُ , وَالتَّكْلِيمُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كُلِّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ , وَالتَّكْلِيمُ بِوَاسِطَةِ إرْسَالِ الرَّسُولِ , كَمَا كُلِّمَ الرُّسُلُ بِإِرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ , وَكَمَا نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْمُنَافِقِينَ بِإِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ , وَنَهَاهُمْ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ فَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَإِخْبَارُهُ بِوَاسِطَةٍ

الرَّسُولِ , فَهَذَا الْمَعْنَى أَوْجَبَ الشُّبْهَةَ , وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ , وَيُخْبِرُ عَنْ رَبِّهِ , وَيَحْكِي عَنْ رَبِّهِ , فَهَذَا يَذْكُرُ مَا يَذْكُرُهُ عَنْ رَبِّهِ مِنْ كَلَامِهِ الَّذِي قَالَهُ رَاوِيًا حَاكِيًا عَنْهُ .
فَلَوْ قَالَ مَنْ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ حِكَايَةٌ إنَّ مُحَمَّدًا حَكَاهُ عَنْ اللَّهِ كَمَا يُقَالُ بَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ وَأَدَّاهُ عَنْ اللَّهِ لَكَانَ قَدْ قَصَدَ مَعْنًى صَحِيحًا , لَكِنْ يَقْصِدُونَ مَا يَقْصِدُهُ الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ : فُلَانٌ يَحْكِي فُلَانًا أَيْ يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِ , وَهُوَ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِمِثْلِ كَلَامِ اللَّهِ , فَهَذَا بَاطِلٌ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } . وَنُكْتَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَقْصُودَةِ لَا بِالْوَسَائِلِ الْمَطْلُوبَةِ لِغَيْرِهَا , فَلَمَّا كَانَ مَقْصُودُ الرَّائِي أَنْ يَرَى الْوَجْهَ مَثَلًا فَرَآهُ بِالْمِرْآةِ حَصَلَ مَقْصُودُهُ , وَقَالَ رَأَيْت الْوَجْهَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ انْعِكَاسِ الشُّعَاعِ فِي الْمِرْآةِ , وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَسْمَعَ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ غَيْرُهُ أَلَّفَ أَلْفَاظَهُ وَقَصَدَ مَعَانِيَهُ , فَإِذَا سَمِعَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ , وَإِنْ كَانَ سَمَاعُهُ مِنْ غَيْرِهِ هُوَ بِوَاسِطَةِ صَوْتِ ذَلِكَ الْغَيْرِ بِاخْتِلَافِ الصَّائِتَيْنِ وَالْقُلُوبِ , وَإِنَّمَا أُشِيرَ إلَى الْمَقْصُودِ لَا إلَى مَا ظَهَرَ بِهِ الْمَقْصُودُ , كَمَا فِي الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى ,

فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ : جَاءَ زَيْدٌ وَذَهَبَ عَمْرٌو لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ الْإِخْبَارَ بِالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانُ هُوَ لَفْظُ زَيْدٍ وَلَفْظُ عَمْرٍو وَإِلَّا كَانَ مُبْطِلًا , فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْقَائِلُ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ , وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ , فَالْمَقْصُودُ بِوَاسِطَةِ حَرَكَةِ التَّالِي وَصَوْتِهِ , فَمَنْ ظَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ صَوْتُ الْقَارِئِ وَحَرَكَتُهُ كَانَ مُبْطِلًا . وَلِهَذَا لَمَّا قَرَأَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } , وَسَأَلَهُ هَلْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَهَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ ؟ فَأَجَابَهُ : كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ خَطَأً مِنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . فَاسْتَدْعَاهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَقَالَ : أَنَا قُلْت لَك لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؟ قَالَ : لَا , وَلَكِنْ قَرَأْت عَلَيْك { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَقُلْت لَك هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ , فَقُلْت : نَعَمْ . قَالَ : فَلِمَ تَحْكِي عَنِّي مَا لَمْ أَقُلْ ؟ لَا تَقُلْ هَذَا . فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ عَالِمٌ . وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ حَكَاهَا عَبْدُ اللَّهِ , وَصَالِحٌ , وَحَنْبَلٌ , وَالْمَرْوَزِيُّ , وَثَوْبَانُ . وَبَسَطَهَا الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ , وَصَنَّفَ الْمَرْوَزِيِّ فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ مُصَنَّفًا ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَ الْأَئِمَّةِ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَدُ مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ وَأَدَقِّهِ فَإِنَّ الْإِشَارَةَ إذَا أُطْلِقَتْ انْصَرَفَتْ إلَى الْمَقْصُودِ . وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ . لَا مَا وَصَلَ بِهِ إلَيْنَا مِنْ أَفْعَالِ

الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ . فَإِذَا قِيلَ لَفْظِي جَعَلَ نَفْسَ الْوَسَائِطِ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ . وَهَذَا بَاطِلٌ كَمَا أَنْ رَأَى رَاءٍ فِي مِرْآةٍ فَقَالَ أَكْرَمَ اللَّهُ هَذَا الْوَجْهَ وَحَيَّاهُ أَوْ قَبَّحَهُ كَانَ دُعَاؤُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَوْجُودِ فِي الْحَقِيقَةِ الَّذِي رَأَى بِوَاسِطَةِ الْمِرْآةِ لَا عَلَى الشُّعَاعِ الْمُنْعَكِسِ فِيهَا , وَكَذَلِكَ إذَا رَأَى الْقَمَرَ فِي الْمَاءِ فَقَالَ قَدْ أَبْدَرَ , فَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ الْقَمَرُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ لَا خَيَالُهُ وَكَذَلِكَ مَنْ سَمِعَهُ يَذْكُرُ رَجُلًا فَقَالَ هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ أَوْ رَجُلٌ فَاسِقٌ , عُلِمَ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ الشَّخْصُ الْمُسَمَّى بِالِاسْمِ , لَا نَفْسُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ النَّاطِقِ , فَلَوْ قَالَ : هَذَا الصَّوْتُ أَوْ صَوْتُ فُلَانٍ صَالِحٌ أَوْ فَاسِقٌ فَسَدَ الْمَعْنَى . وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ , كَرَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا وَعَلَيْهِ فَرْوَةٌ فَأَوْجَعَهُ بِالضَّرْبِ , فَقَالَ لَهُ : لَا تَضْرِبْنِي , فَقَالَ : أَنَا مَا أَضْرِبُك وَإِنَّمَا أَضْرِبُ الْفَرْوَةَ , فَقَالَ : إنَّمَا الضَّرْبُ يَقَعُ عَلَيَّ , فَقَالَ : هَكَذَا إذَا قُلْت لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ , فَالْخَلْقُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْقُرْآنِ . يَقُولُ : كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالضَّرْبِ بَدَنُك . وَاللِّبَاسَ وَاسِطَةٌ . فَهَكَذَا الْمَقْصُودُ بِالتِّلَاوَةِ كَلَامُ اللَّهِ . وَصَوْتُك وَاسِطَةٌ , فَإِذَا قُلْت " مَخْلُوقٌ " وَقَعَ ذَلِكَ عَلَى الْمَقْصُودِ . كَمَا إذَا سَمِعْت قَائِلًا يَذْكُرُ رَجُلًا فَقُلْت أَنَا أُحِبُّ هَذَا , وَأَنَا أَبْغَضُ هَذَا , انْصَرَفَ الْكَلَامُ إلَى الْمُسَمَّى الْمَقْصُودِ بِالِاسْمِ , لَا إلَى الصَّوْتِ

الذَّاكِرِ , وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . كَيْفَمَا تَصَرَّفَ , خِلَافُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ . فَإِنَّهُ مَنْ نَفَى عَنْهَا الْخَلْقَ كَانَ مُبْتَدِعًا ضَالًّا . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : يَقُولُونَ : إنَّ الْقُرْآنَ صِفَتُهُ . وَإِنَّ صِفَاتِ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ . فَإِنْ قُلْتُمْ إنَّ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ , فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ . وَأَنْتُمْ تُكَفِّرُونَ الْحُلُولِيَّةَ وَالِاتِّحَادِيَّةَ . وَإِنْ قُلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُمْ بِمَقَالَتِنَا . فَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ سَهُلَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ . فَإِنَّ مَنْشَأَ الشُّبْهَةِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ , يَجْعَلُ أَحْكَامَهُ وَاحِدَةً سَوَاءٌ كَانَ كَلَامُهُ مَسْمُوعًا مِنْهُ أَوْ كَلَامُهُ مُبَلَّغًا عَنْهُ , وَمِنْ هُنَا ضَلَّتْ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ . طَائِفَةٌ قَالَتْ : هَذَا كَلَامُ اللَّهِ , وَهَذَا حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مَخْلُوقَةٌ , وَكَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ , وَطَائِفَةٌ قَالَتْ هَذَا مَخْلُوقٌ , وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ , وَهَذَا لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ , وَطَائِفَةٌ قَالَتْ : هَذَا كَلَامُ اللَّهِ , وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ , وَهَذَا أَلْفَاظُنَا وَتِلَاوَتُنَا , فَأَلْفَاظُنَا وَتِلَاوَتُنَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ . وَمَنْشَأُ ضَلَالِ الْجَمِيعِ مِنْ عَدَمِ الْفَرْقِ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي هَذَا , وَأَنْتَ تَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ تَسْمَعُهُ مِنْ قَائِلِهِ فَتَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ صِدْقٌ وَحَقٌّ وَصَوَابٌ وَكَلَامٌ حَكِيمٌ , وَكَذَلِكَ إذَا سَمِعْتَهُ مِنْ نَاقِلِهِ تَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ صِدْقٌ وَحَقٌّ وَصَوَابٌ , وَهُوَ

كَلَامٌ حَكِيمٌ , فَالْمُشَارُ إلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ , وَتَقُولُ أَيْضًا : إنَّ هَذَا صَوْتٌ حَسَنٌ , وَهَذَا كَلَامٌ مِنْ وَسَطِ الْقَلْبِ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ هُنَا لَيْسَ هُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ هُنَاكَ : بَلْ أَشَارَ إلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا مِنْ صَوْتِهِ وَقَلْبِهِ . وَإِذَا كُتِبَ الْكَلَامُ صَفْحَتَيْنِ كَالْمُصْحَفَيْنِ تَقُولُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا هَذَا قُرْآنٌ كَرِيمٌ , وَهَذَا كِتَابٌ مَجِيدٌ , وَهَذَا كَلَامٌ , فَالْمُشَارُ إلَيْهِ وَاحِدٌ , ثُمَّ تَقُولُ : هَذَا خَطٌّ حَسَنٌ , وَهَذَا قَلَمُ النَّسْخِ أَوْ الثُّلُثُ , وَهَذَا الْخَطُّ أَحْمَرُ أَوْ أَصْفَرُ , وَالْمُشَارُ إلَيْهِ هُنَا مَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلٌّ مِنْ الْمُصْحَفَيْنِ عَنْ الْآخَرِ , فَإِذَا مَيَّزَ الْإِنْسَانُ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ بِهَذَا وَهَذَا , تَبَيَّنَ الْمُتَّفِقُ وَالْمُفْتَرِقِ , وَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ , وَأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا بِهِ وَصَلَ إلَيْنَا مِنْ حَرَكَاتِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ . وَمَنْ قَالَ : هَذَا مَخْلُوقٌ , وَأَشَارَ بِهِ إلَى مُجَرَّدِ صَوْتِ الْعَبْدِ وَحَرَكَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي هَذَا حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ الَّذِي تَعَلَّمَ هَذَا الْقَارِئُ مِنْ غَيْرِهِ وَبَلَغَهُ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ مَخْلُوقٌ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ وَضَلَّ . وَيُقَالُ لِهَذَا : هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي أَشَرْت إلَيْهِ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ هَذَا الْقَارِئُ فَهَبْ أَنَّ الْقَارِئَ لَمْ يُخْلَقْ , وَلَا وُجِدَتْ لَا أَفْعَالُهُ وَلَا أَصْوَاتُهُ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ أَنَّ الْكَلَامَ نَفْسَهُ

الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَهُ يَعْدَمُ بِعَدَمِهِ , وَيَحْدُثُ بِحُدُوثِهِ , فَإِشَارَتُهُ بِالْخَلْقِ إنْ كَانَ إلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا الْقَارِئُ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَصْوَاتِهِ , فَالْقُرْآنُ غَنِيٌّ عَنْ هَذَا الْقَارِئِ , وَمَوْجُودٌ قَبْلَهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ هَذَا عَدَمُهُ : وَإِنْ كَانَتْ إلَى الْكَلَامِ الَّذِي يَتَعَلَّمُهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ مِنْ اللَّهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ إلَى مُحَمَّدٍ وَبَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ لِأُمَّتِهِ , وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ , وَذَلِكَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا , فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ كَلَامًا لِمَحَلِّهِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ كَلَامًا لِلَّهِ , وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سُبْحَانَهُ إذَا خَلَقَ كَلَامًا كَانَ كَلَامُهُ كَانَ مَا نَطَقَ بِهِ كُلُّ نَاطِقٍ كَلَامَهُ , مِثْلُ تَسْبِيحِ الْجِبَالِ وَشَهَادَةِ الْجُلُودِ , بَلْ كُلَّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ , وَهَذَا قَوْلُ الْحُلُولِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثُرْهُ وَنِظَامُهُ وَمَنْ قَالَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ , إمَّا أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامَهُ , وَبَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهُ غَيْرَ مُتَكَلِّمٍ بِشَيْءٍ أَصْلًا , فَيَجْعَلُ الْعِبَادَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَكْمَلَ مِنْهُ , وَشَبَّهَهُ بِالْأَصْنَامِ وَالْجَامِدَاتِ وَالْمَوَاتِ , كَالْعِجْلِ الَّذِي لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يُهْدِيهِمْ سَبِيلًا , فَيَكُونُ قَدْ فَرَّ عَنْ إثْبَاتِ صِفَاتٍ وَشَبَّهَهُ بِالْجَامِدِ وَالْمَوَاتِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ : هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ , وَعَيْنُ كَلَامِ

اللَّهِ , وَهَذَا الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ هُوَ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ , وَنَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ , وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ , هَذِهِ مَفْهُومُهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي نَظَرِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ , وَأَنَّهُ لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ , فَإِنَّ مَنْ يَنْقُلُ كَلَامَ غَيْرِهِ وَيَكْتُبُهُ فِي كِتَابٍ قَدْ يَزِيدُ فِيهِ وَيَنْقُصُ , كَمَا جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مُكَاتَبَاتِ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهَا , فَإِذَا جَاءَ كِتَابُ السُّلْطَانِ فَقِيلَ هَذَا الَّذِي فِيهِ كَلَامُ السُّلْطَانِ بِعَيْنِهِ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ , يَعْنِي لَمْ يَزِدْ فِيهِ الْكَاتِبُ وَلَا نَقَصَ , وَكَذَلِكَ مَنْ نَقَلَ كَلَامَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ تَصْنِيفِهِ , قِيلَ هَذَا الْكَلَامُ كَلَامُ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ , يَعْنِي لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نَضَرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ } . فَقَوْلُهُ : فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ , لَمْ يُرِدْ أَنْ يُبَلِّغَهُ بِحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ الَّتِي سَمِعَهُ بِهَا , وَلَكِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَأْتِي بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ , لَا يَزِيدُ فِيهِ وَلَا يَنْقُصُ , فَيَكُونُ قَدْ بَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ , فَالْمُسْتَمِعُ لَهُ مِنْ الْمُبَلِّغِ يَسْمَعُهُ كَمَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكُونُ قَدْ سَمِعَ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَهُ . وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ : " وَهَذَا كَلَامُهُ بِعَيْنِهِ " . وَهَذَا نَفْسُ كَلَامِهِ ; لَا يُرِيدُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ أَصْوَاتُهُ وَحَرَكَاتُهُ , وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ

وَلَا يَخْطِرُ بِبَالِ عَاقِلٍ ابْتِدَاءً , وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ يُلْجِئُ أَصْحَابَهُ إلَى الْقَرْمَطَةِ فِي السَّمْعِيَّاتِ وَالسَّفْسَطِيَّةِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ . وَلَوْ تُرِكَ النَّاسُ عَلَى فِطْرَتِهِمْ لَكَانَتْ صَحِيحَةً سَلِيمَةً , فَإِنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ سُمِعَ مِنْهُ وَنُقِلَ عَنْهُ أَوْ كَتَبَهُ فِي كِتَابٍ , لَا يَقُولُ الْعَاقِلُ إنَّ مَا قَامَ بِالْمُتَكَلِّمِ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي فِي قَلْبِهِ وَالْأَلْفَاظِ الْقَائِمَةِ بِلِسَانِهِ , فَارَقَتْهُ وَانْتَقَلَتْ إلَى الْمُسْتَمِعِ وَالْمُبَلَّغِ عَنْهُ , وَلَا فَارَقَتْهُ وَحَلَّتْ فِي الْوَرَقِ , بَلْ وَلَا يَقُولُ إنَّ نَفْسَ مَا قَامَ مِنْ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ هُوَ نَفْسُ الْمُرَادِ الَّذِي فِي الْوَرَقِ , بَلْ وَلَا يَقُولُ إنَّ نَفْسَ أَلْفَاظِهِ الَّتِي هِيَ أَصْوَاتُهُ هِيَ أَصْوَاتُ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ , فَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا ظَاهِرَةٌ لَا يَقُولُهَا عَاقِلٌ فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِ إذَا سَمِعَ وَبَلَّغَ وَتُكْتَبُ فِي كِتَابٍ , فَكَيْفَ يُقَالُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي سُمِعَ مِنْهُ وَبُلِّغَ عَنْهُ , أَوْ كَتَبَهُ سُبْحَانَهُ كَمَا كُتِبَ فِي التَّوْرَاةِ لِمُوسَى , وَكَمَا كُتِبَ الْقُرْآنُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ , يَكُونُ كَمَا كُتِبَ فِي مَصَاحِفِهِمْ . وَإِذَا كَانَ مَنْ سَمِعَ كَلَامَ مَخْلُوقٍ فَبَلَّغَهُ عَنْهُ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ , بَلْ شِعْرَ مَخْلُوقٍ , كَمَا يُبَلَّغُ شِعْرُ حَسَّانَ وَابْنِ رَوَاحَةَ وَلَبِيدً وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الشُّعَرَاءِ , وَيَقُولُ النَّاسُ : هَذَا شِعْرُ حَسَّانَ بِعَيْنِهِ , وَهَذَا هُوَ شِعْرُ حَسَّانَ . وَهَذَا شِعْرُ لَبِيدٍ بِعَيْنِهِ كَقَوْلِهِ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ

بَاطِلٌ . وَمَعَ هَذَا فَيَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ رُوَاةَ الشِّعْرِ وَمُنْشِدِيهِ لَمْ يَسْلُبُوا الشُّعَرَاءَ نَفْسَ صِفَاتِهِمْ حِينَ حَلَّتْ , بَلْ وَلَا عَيْنَ مَا قَامَ بِأُولَئِكَ مِنْ صِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ كَأَصْوَاتِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ حَلَّتْ بِالرُّوَاةِ وَالْمُنْشِدِينَ , فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ صِفَاتِ الْبَارِي : كَلَامَهُ أَوْ غَيْرَ كَلَامِهِ فَارَقَ ذَاتَه , وَحَلَّ فِي مَخْلُوقَاتِهِ , وَأَنَّ مَا قَامَ بِالْمَخْلُوقِ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ كَحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ هِيَ صِفَاتُ الْبَارِي حَلَّتْ فِيهِ , وَهُمْ لَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَخْلُوقِ . بَلْ يُمَثِّلُونَ الْعِلْمَ بِنُورِ السِّرَاجِ يُقْتَبَسُ مِنْ الْمُتَعَلِّمِ , وَلَا يَنْقُصُ مَا عِنْدَ الْعَالِمِ كَمَا يَقْتَبِسُ الْمُقْتَبِسُ ضَوْءَ السِّرَاجِ . فَيُحْدِثُ اللَّهُ لَهُ ضَوْءًا , كَمَا يَقُولُ إنَّ الْهَوَى يَنْقَلِبُ نَارًا بِمُجَاوَرَةِ الْفَتِيلَةِ لِلْمِصْبَاحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَغَيَّرَ تِلْكَ النَّارُ الَّتِي فِي الْمِصْبَاحِ . وَالْمُقْرِئُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُ الْعِلْمَ وَلَمْ يُنْقِصْ مِمَّا عِنْدَهُ شَيْءٌ . بَلْ يَصِيرُ عِنْدَ الْمُتَعَلِّمِ مِثْلَ مَا عِنْدَهُ . وَلِهَذَا يُقَالُ : فُلَانٌ يَنْقُلُ عِلْمَ فُلَانٍ وَيَنْقُلُ كَلَامَهُ , وَيُقَالُ الْعِلْمُ الَّذِي كَانَ عِنْدَ فُلَانٍ صَارَ إلَى فُلَانٍ , وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . كَمَا يُقَالُ نَقَلْت مَا فِي الْكِتَابِ , وَنَسَخْت مَا فِي الْكِتَابِ , أَوْ نَقَلْت الْكِتَابَ وَنَسَخْته . وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ إلَّا نَفْسَ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ عَدِمَتْ مِنْهُ وَحَلَّتْ فِي الثَّانِي . بَلْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ مِنْ الْكُتُبِ

وَنَقْلِهَا مِنْ جِنْسِ نَقْلِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ , وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَنْ يَجْعَلَ فِي الثَّانِي مِثْلَ مَا فِي الْأَوَّلِ , فَيَبْقَى الْمَقْصُودُ بِالْأَوَّلِ مَنْقُولًا مَنْسُوخًا , وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْأَوَّلُ . بِخِلَافِ نَقْلِ الْأَجْسَامِ وَتَوَابِعِهَا , فَإِنَّ ذَلِكَ إذَا نُقِلَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ زَالَ عَنْ الْأَوَّلِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ لَهَا وُجُودٌ فِي أَنْفُسِهَا , وَهُوَ وُجُودُهَا الْعَيْنِيُّ . أَوَّلُهَا ثُبُوتُهَا فِي الْعِلْمِ ثُمَّ فِي اللَّفْظِ الْمُطَابِقِ لِلْعِلْمِ , ثُمَّ فِي الْخَطِّ . وَهَذَا الَّذِي يُقَالُ وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ . وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ . وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ . وَوُجُودٌ فِي الْبَيَانِ , وَوُجُودٌ عَيْنِيٌّ . وَوُجُودٌ عِلْمِيٌّ . وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ . وَلِهَذَا افْتَتَحَ اللَّهُ كِتَابَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّك الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } , فَذَكَرَ الْخَلْقَ عُمُومًا وَخُصُوصًا . وَذَكَرَ التَّعْلِيمَ عُمُومًا وَخُصُوصًا . فَالْخَطُّ يُطَابِقُ اللَّفْظَ . وَاللَّفْظُ يُطَابِقُ الْعِلْمَ . وَالْعِلْمُ يُطَابِقُ الْمَعْلُومَ . وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ غَلِطَ فَظَنَّ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ كَالْأَعْيَانِ فِي الْوَرَقِ فَظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ : { إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ . فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } , كَقَوْلِهِ { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ } فَجَعَلَ إثْبَاتَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ فِي الْمَصَاحِفِ . كَإِثْبَاتِ الرَّسُولِ فِي الْمَصَاحِفِ وَهَذَا غَلَطٌ

وَكَإِثْبَاتِ اسْمِ الرَّسُولِ , هَذَا كَلَامٌ . وَهَذَا كَلَامٌ . وَأَمَّا إثْبَاتُ اسْمِ الرَّسُولِ فَهَذَا كَإِثْبَاتِ الْأَعْمَالِ أَوْ كَإِثْبَاتِ الْقُرْآنِ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ . قَالَ تَعَالَى : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } . فَثُبُوتُ الْأَعْمَالِ فِي الزُّبُرِ . وَثُبُوتُ الْقُرْآنِ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ . هُوَ مِثْلُ كَوْنِ الرَّسُولِ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ . وَلِهَذَا مَثَّلَ سُبْحَانَهُ بِلَفْظِ الزُّبُرِ , وَالْكُتُبُ زُبُرٌ , يُقَالُ زَبَرْت الْكِتَابَ إذَا كَتَبْته وَالزَّبُورُ بِمَعْنَى الْمَزْبُورِ أَيْ : الْمَكْتُوبِ , فَالْقُرْآنُ نَفْسُهُ لَيْسَ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَكِنْ ذِكْرُهُ , كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ عِنْدَهُمْ , وَلَكِنْ ذِكْرُهُ , فَثُبُوتُ الرَّسُولِ فِي كُتُبِهِمْ كَثُبُوتِ الْقُرْآنِ فِي كُتُبِهِمْ , بِخِلَافِ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَفِي الْمَصَاحِفِ , فَإِنَّ نَفْسَ الْقُرْآنِ أَثْبَتُ فِيهَا , فَمَنْ جَعَلَ هَذَا مِثْلَ هَذَا كَانَ ضَلَالُهُ بَيِّنًا , وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ نَفْسَ الْمَوْجُودَاتِ وَصِفَاتِهَا إذَا انْتَقَلَتْ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ حَلَّتْ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ الثَّانِي , وَأَمَّا الْعِلْمُ بِهَا وَالْخَبَرُ عَنْهَا فَيَأْخُذُهُ الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ , مَعَ بَقَائِهِ فِي الْأَوَّلِ , وَإِنْ كَانَ الَّذِي عِنْدَ الثَّانِي هُوَ نَظِيرُ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ , لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْعِلْمَيْنِ وَاحِدٌ فِي نَفْسِهِ صَارَتْ وِحْدَةُ الْمَقْصُودِ تُوجِبُ وِحْدَةَ التَّابِعِ لَهُ , وَالدَّلِيلَ عَلَيْهِ , وَلَمْ يَكُنْ

لِلنَّاسِ غَرَضٌ فِي تَعَدُّدِ التَّابِعِ كَمَا فِي الِاسْمِ مَعَ الْمُسَمَّى , فَإِنَّ اسْمَ الشَّخْصِ وَإِنْ ذَكَرَهُ أُنَاسٌ مُتَعَدِّدُونَ , وَدَعَا بِهِ أُنَاسٌ مُتَعَدِّدُونَ , فَالنَّاسُ يَقُولُونَ إنَّهُ اسْمٌ وَاحِدٌ لِمُسَمًّى , فَإِذَا قَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , وَقَالَ ذَلِكَ هَذَا الْمُؤَذِّنُ , وَهَذَا الْمُؤَذِّنُ , وَقَالَهُ غَيْرُ الْمُؤَذِّنِ , فَالنَّاسُ يَقُولُونَ إنَّ هَذَا الْمَكْتُوبَ هُوَ اسْمُ اللَّهِ وَاسْمُ رَسُولِهِ , كَمَا أَنَّ الْمُسَمَّى هُوَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَإِذَا قَالَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك } , وَقَالَ : { ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ } وَقَالَ : { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى } . وَقَالَ : ( بِسْمِ اللَّهِ ) فَفِي الْجَمِيعِ الْمَذْكُورُ هُوَ اسْمُ اللَّهِ وَإِنْ تَعَدَّدَ الذِّكْرُ وَالذَّاكِرُ , فَالْخَبَرُ الْوَاحِدُ مِنْ الْمُخْبِرِ الْوَاحِدِ مِنْ مُخْبِرِهِ , وَالْأَمْرُ الْوَاحِدُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْأَمْرِ الْوَاحِدِ , بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْوَاحِدِ لِمُسَمَّاهُ , هَذَا فِي الْمُؤَلَّفِ نَظِيرُ هَذَا فِي الْمُفْرَدِ , وَهَذَا هُوَ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ , وَبِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ وَإِنْ تَعَدَّدَ مَنْ يَذْكُرُ ذَلِكَ الِاسْمَ وَالْخَبَرَ , وَتَعَدَّدَتْ حَرَكَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُهُمْ وَسَائِرُ صِفَاتِهِمْ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنْ قُلْتُمْ إنَّ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ , وَأَنْتُمْ تُكَفِّرُونَ الْحُلُولِيَّةَ وَالِاتِّحَادِيَّةَ . فَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ , مِثَالُ رَجُلٍ ادَّعَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحِلُّ بِذَاتِهِ فِي بَدَنِ الَّذِي يَقْرَأُ

حَدِيثَهُ فَأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ عَلَيْهِ , وَقَالُوا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ فِي بَدَنِ غَيْرِهِ فَقَالَ : أَنْتُمْ تَقُولُونَ إنَّ الْمُحَدِّثَ يَقْرَأُ كَلَامَهُ , وَإِنَّ مَا يَقْرَؤُهُ هُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ , وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ كَلَامَ زَيْدٍ فِي هَذَا الْكَلَامِ , وَهَذَا الَّذِي سَمِعْنَاهُ كَلَامُ زَيْدٍ , وَلَا يَسْتَجِيزُ الْعَاقِلُ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ فِي هَذَا الْمُتَكَلَّمِ أَوْ فِي هَذَا الْوَرَقِ . وَقَدْ نَطَقَتْ النُّصُوصُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ فِي الصُّدُورِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهْوُ أَشَدُّ تَعَلُّقًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ فِي عَقْلِهَا } . وَقَوْلِهِ : { الْجَوْفُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ , وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ عَاقِلٍ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ : اللَّهُ فِي صُدُورِنَا وَأَجْوَافِنَا , وَلِهَذَا لَمَّا ابْتَدَعَ شَخْصٌ يُقَالُ لَهُ الصُّورِيُّ بِأَنْ قَالَ : الْقُرْآنُ فِي صُدُورِنَا , فَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ النَّصَارَى , فَقِيلَ لِأَحْمَدَ : قَدْ جَاءَتْ جَهْمِيَّةٌ رَابِعَةٌ إلَى جَهْمِيَّةِ الْخَلْقِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ وَالْوَاقِفِيَّةِ وَهَذِهِ الْوَاقِفَةُ , اشْتَدَّ نَكِيرُهُ لِذَلِكَ وَقَالَ : هَذَا أَعْظَمُ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ . وَهُوَ كَمَا قَالَ : فَإِنَّ الْجَهْمِيَّةَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُنْكِرُ أَنْ يُقَالَ : الْقُرْآنُ فِي الصُّدُورِ , وَلَا يُشَبِّهُ هَذَا بِقَوْلِ

النَّصَارَى بِالْحُلُولِ إلَّا مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ , فَإِنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ الْأَبُ وَالِابْنُ وَرُوحُ الْقُدُسِ إلَهٌ وَاحِدٌ , وَإِنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ اللَّاهُوتُ تَدَرَّعَتْ النَّاسُوتَ وَهُوَ عِنْدَهُمْ إلَهٌ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ , وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ , وَيَقُولُونَ : الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ , وَلِهَذَا كَانُوا مُتَنَاقِضِينَ , فَإِنَّ الَّذِي تَدَرَّعَ الْمَسِيحَ كَانَ هُوَ الْإِلَهُ الْجَامِعُ لِلْأَقَانِيمِ , فَهُوَ الْأَبُ نَفْسُهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ , فَالصِّفَةُ لَا تَخْلُقُ وَلَا تَرْزُقُ , وَلَيْسَتْ إلَهًا , وَالْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ إلَهٌ . وَلَوْ قَالَ النَّصَارَى : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي صَدْرِ الْمَسِيحِ . كَمَا هُوَ فِي صُدُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِمْ مَا يُنْكَرُ . فَالْحُلُولِيَّةُ الْمَشْهُورُونَ بِهَذَا الِاسْمِ مَنْ يَقُولُ بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ كَمَا قَالَتْ النَّصَارَى وَالْغَالِبَةُ مِنْ الرَّافِضَةِ . وَغُلَاةُ أَتْبَاعِ الْمَشَايِخِ يَقُولُونَ بِحُلُولِهِ فِي شَيْءٍ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّةُ إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَان . وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ . وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ بِاتِّحَادِهِ بِالْمَسِيحِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ قَالَ بِاتِّحَادِهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا . أَوْ قَالَ وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ . فَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي قُلُوبِ أَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ . وَإِنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْ كَلَامَ اللَّهِ وَاَلَّذِي بَلَّغَتْهُ

هُوَ كَلَامُ اللَّهِ . وَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّحِيفَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذَا لَا يُسَمَّى حُلُولًا . وَمَنْ سَمَّاهُ حُلُولًا لَمْ يَكُنْ بِتَسْمِيَتِهِ لِذَلِكَ مُبْطِلًا لِلْحَقِيقَةِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي مُفَارَقَةَ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ لَهُ وَانْتِقَالَهَا إلَى غَيْرِهِ , فَكَيْفَ صِفَةُ الْخَالِقِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهِ شُبْهَةُ الْحُلُولِ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي إثْبَاتِ لَفْظِ الْحُلُولِ وَنَفْيِهِ عَنْهُ . هَلْ يُقَالُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ . أَوْ حَالٌّ فِي الصُّدُورِ . وَهَلْ يُقَالُ كَلَامُ النَّاسِ الْمَكْتُوبُ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ أَوْ حَالٌّ فِي قُلُوبِ حَافِظِيهِ . فَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ نَفَتْ الْحُلُولَ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَمْثَالِهِ وَقَالُوا ظَهَرَ كَلَامُ اللَّهِ فِي هَذَا . وَلَا نَقُولُ حَلَّ . لِأَنَّ حُلُولَ صِفَةِ الْخَالِقِ فِي الْمَخْلُوقِ أَوْ حُلُولَ الْقَدِيمِ فِي الْمُحْدَثِ مُمْتَنِعٌ . وَطَائِفَةٌ أَطْلَقَتْ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ كَأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ الْهَرَوِيِّ الْمُلَقَّبِ بِشَيْخِ الْإِسْلَامِ وَقَالُوا لَيْسَ هَذَا هُوَ الْحُلُولُ الْمَحْذُورُ الَّذِي نَفَيْنَاهُ , بَلْ نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّحِيفَةِ . وَلَا يُقَالُ بِأَنَّ اللَّهَ فِي الصَّحِيفَةِ أَوْ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ , كَذَلِكَ نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَهُ حَالٌّ فِي ذَلِكَ دُونَ حُلُولِ ذَاتِهِ , وَطَائِفَةٌ قَالَتْ كَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ قَالُوا لَا نُطْلِقُ الْحُلُولَ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا . لِأَنَّ إثْبَاتَ ذَلِكَ يُوهِمُ انْتِقَالَ صِفَةِ الرَّبِّ إلَى الْمَخْلُوقَاتِ . وَنَفْيَ

ذَلِكَ يُوهِمُ نَفْيَ نُزُولِ الْقُرْآنِ إلَى الْخَلْقِ . فَنُطْلِقُ مَا أَطْلَقَتْهُ النُّصُوصُ . وَنُمْسِكُ عَمَّا فِي إطْلَاقِهِ مَحْذُورٌ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِجْمَالِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ قُلْتُمْ بِمَقَالَتِنَا . فَجَوَابُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقَالَةَ الْمُنْكَرَةَ هُنَا تَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ فَإِذَا زَالَتْ لَمْ يَبْقَ مُنْكَرًا . أَحَدُهَا : مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ . وَإِنَّمَا أَحْدَثَهُ غَيْرُ اللَّهِ كَجِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ . وَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ . الثَّانِي : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا . هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ , وَإِنَّ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ لَا بِاخْتِلَافِ الْمَعَانِي . فَيُجْعَلُ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاحِدًا . وَكَذَلِكَ مَعْنَى آيَةِ الدِّينِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ . كَمَنْ يَقُولُ إنَّ مَعَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى مَعْنًى وَاحِدٌ فَمَعْنَى الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالرَّحِيمِ وَالْحَلِيمِ مَعْنًى وَاحِدٌ . فَهَذَا اتِّحَادٌ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَآيَاتِهِ . الثَّالِثُ : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ مَا بَلَّغَهُ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ مِنْ الْمَعْنَى وَالْأَلْفَاظِ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ . بَلْ كَلَامُ التَّالِينَ لَا كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ بَاطِلَةٌ بِأَيِّ عِبَارَةٍ عَبَّرَ عَنْهَا . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ . نَقَلَهُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ تَارَةً يُسْمَعُ مِنْ اللَّهِ

. وَتَارَةً مِنْ رُسُلِهِ . وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تَصَرَّفَ وَكَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ يُتَكَلَّمُ . لَمْ يَخْلُقْهُ فِي غَيْرِهِ . وَلَا يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقًا وَلَوْ قَرَأَهُ النَّاسُ وَكَتَبُوهُ وَسَمِعُوهُ , وَمَنْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتَهُمْ وَسَائِرَ صِفَاتِهِمْ مَخْلُوقَةٌ , فَهَذَا لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ , وَإِذَا نَفَى الْحُلُولَ وَأَرَادَ بِهِ أَنَّ صِفَةَ الْمَوْصُوفِ لَا تُفَارِقُهُ وَتَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ فَقَدْ أَصَابَ فِي هَذَا الْمَعْنَى , لَكِنَّ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُؤْمِنَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى , وَلَيْسَ هُوَ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ كَلَامًا لِغَيْرِهِ , وَلَكِنْ بَلَّغَتْهُ عَنْهُ رُسُلُهُ , وَإِذَا كَانَ كَلَامُ الْمَخْلُوقِ يُبَلَّغُ عَنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ كَلَامَهُ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ وَمَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ لَمْ تُفَارِقْ ذَاتَه فَالْعِلْمُ بِمِثْلِ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْلَى وَأَظْهَرُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " وَهِيَ رُبُوبِيَّتُهُ تَعَالَى لِكُلِّ شَيْءٍ , وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ عَلَى مَرَاتِبَ فِي الضَّلَالِ . فَغُلَاتُهُمْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مُطْلَقًا عَامًّا , فَيَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ فِي كُلِّ مَا يُخَالِفُونَ فِيهِ الشَّرِيعَةَ . وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى , وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } وَقَالُوا : { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } . وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ تَنَاقُضًا : بَلْ كُلُّ مَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ فَإِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ , فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقِرَّ كُلَّ آدَمِيٍّ عَلَى مَا فَعَلَ ; فَلَا بُدَّ إذَا ظَلَمَهُ ظَالِمٌ أَوْ ظَلَمَ النَّاسَ ظَالِمٌ وَسَعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَأَخَذَ يَسْفِكُ دِمَاءَ النَّاسِ وَيَسْتَحِلُّ الْفُرُوجَ وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ الَّتِي لَا قِوَامَ لِلنَّاسِ بِهَا أَنْ يَدْفَعَ هَذَا الْقَدَرَ ; وَأَنْ يُعَاقِبَ الظَّالِمَ بِمَا يَكُفُّ عُدْوَانَ أَمْثَالِهِ . فَيُقَالُ لَهُ : إنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً فَدَعْ كُلَّ أَحَدٍ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بِك وَبِغَيْرِك , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً بَطَلَ أَصْلُ قَوْلِك : حُجَّةٌ . وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ [ الَّذِينَ ] يَحْتَجُّونَ بِالْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ لَا يَطْرُدُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَلَا يَلْتَزِمُونَهُ , وَإِنَّمَا هُمْ بِحَسَبِ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ ; كَمَا قَالَ فِيهِمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : أَنْتَ عِنْدَ

الطَّاعَةِ قَدَرِي , وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِي ; أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْتَ بِهِ . وَمِنْهُمْ " صِنْفٌ " يَدَّعُونَ التَّحْقِيقَ وَالْمَعْرِفَةَ , فَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَازِمٌ لِمَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ فِعْلًا وَأَثْبَتَ لَهُ صُنْعًا ; أَمَّا مَنْ شَهِدَ أَنَّ أَفْعَالَهُ مَخْلُوقَةٌ ; أَوْ أَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى ذَلِكَ ; وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ . كَمَا تُحَرَّكُ سَائِرُ الْمُتَحَرِّكَاتِ , فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ . وَقَدْ يَقُولُونَ : مَنْ شَهِدَ " الْإِرَادَةَ " سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ , وَيَزْعُمُ أَحَدُهُمْ أَنَّ الْخَضِرَ سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ لِشُهُودِهِ الْإِرَادَةَ , فَهَؤُلَاءِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ الَّذِينَ شَهِدُوا الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ , فَشَهِدُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ أَفْعَالَ الْعِبَادِ , وَأَنَّهُ يُدَبِّرُ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ , وَقَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ عِلْمًا وَبَيْنَ مَنْ يَرَاهُ شُهُودًا , فَلَا يُسْقِطُونَ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِذَلِكَ وَيَعْلَمُهُ فَقَطْ , وَلَكِنْ عَمَّنْ يَشْهَدُهُ , فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ فِعْلًا أَصْلًا , وَهَؤُلَاءِ لَا يَجْعَلُونَ الْجَبْرَ وَإِثْبَاتَ الْقَدَرِ مَانِعًا مِنْ التَّكْلِيفِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا طَوَائِفُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالتَّوْحِيدِ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ ضَاقَ نِطَاقُهُمْ عَنْ كَوْنِ الْعَبْدِ يُؤْمَرُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ خِلَافُهُ , كَمَا ضَاقَ نِطَاقُ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ , ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةُ أَثْبَتَتْ

الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ الشَّرْعِيَّيْنِ دُونَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ الَّذِي هُوَ إرَادَةُ اللَّهِ الْعَامَّةُ وَخَلْقُهُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ , وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ وَنَفَوْا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي حَقِّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ , إذْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ نَفْيُ ذَلِكَ مُطْلَقًا . وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ ; وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ , وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لِلْمَحْجُوبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ , وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ مَنْ وَصَلَ إلَى شُهُودِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ , وَصَارَ مِنْ الْخَاصَّةِ . وَرُبَّمَا تَأَوَّلُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَاعْبُدْ رَبَّك حَتَّى يَأْتِيَك الْيَقِينُ } وَجَعَلُوا الْيَقِينَ هُوَ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ , وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ كُفْرٌ صَرِيحٌ , وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كُفْرٌ ; فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَازِمٌ لِكُلِّ عَبْدٍ مَا دَامَ عَقْلُهُ حَاضِرًا إلَى أَنْ يَمُوتَ , لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا بِشُهُودِهِ الْقَدَرَ , وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ , فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ عُرِّفَهُ , وَبُيِّنَ لَهُ , فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى اعْتِقَادِ سُقُوطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ , وَقَدْ كَثُرَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ فِي الْمُسْتَأْخِرِينَ . وَأَمَّا الْمُسْتَقْدِمُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ , فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتُ مَعْرُوفَةً فِيهِمْ . وَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ هِيَ مُحَادَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ , وَمُعَادَاةٌ لَهُ ,

وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِهِ , وَمُشَاقَّةٌ لَهُ , وَتَكْذِيبٌ لِرُسُلِهِ ; وَمُضَادَّةٌ لَهُ فِي حُكْمِهِ , وَإِنْ كَانَ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ قَدْ يَجْهَلُ ذَلِكَ , وَيَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ هُوَ طَرِيقُ الرَّسُولِ , وَطَرِيقُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُحَقِّقِينَ ; فَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ ; لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهَا بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ , أَوْ أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ لَهُ لِكَوْنِهِ مِنْ الْخَوَاصِّ الَّذِينَ لَا يَضُرُّهُمْ شُرْبُ الْخَمْرِ ; أَوْ أَنَّ الْفَاحِشَةَ حَلَالٌ لَهُ ; لِأَنَّهُ صَارَ كَالْبَحْرِ لَا تُكَدِّرُهُ الذُّنُوبُ ; وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ يَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ الْبِدْعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرْعِ اللَّهِ ; وَبَيْنَ الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ ; فَهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ فِيهِمْ شَبَهٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ , إمَّا أَنْ يَبْتَدِعُوا , وَإِمَّا أَنْ يَحْتَجُّوا بِالْقَدَرِ , وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُشْرِكِينَ : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاَللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } . وَقَدْ ذَكَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الدِّينِ الَّذِي فِيهِ تَحْلِيلُ الْحَرَامِ , وَالْعِبَادَةُ الَّتِي لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ بِمِثْلٍ

قَوْله تَعَالَى : { وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ . وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ : { يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاَللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } إلَى قَوْلِهِ : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ } إلَى قَوْلِهِ : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يُسَمُّونَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ " حَقِيقَةً " , كَمَا يُسَمُّونَ مَا يَشْهَدُونَ مِنْ الْقَدَرِ " حَقِيقَةً " . وَطَرِيقُ الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ السُّلُوكُ الَّذِي لَا يَتَقَيَّدُ صَاحِبُهُ بِأَمْرِ الشَّارِعِ وَنَهْيِهِ , وَلَكِنْ بِمَا يَرَاهُ وَيَذُوقُهُ وَيَجِدُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ لَا يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ مُطْلَقًا , بَلْ عُمْدَتُهُمْ اتِّبَاعُ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ , وَجَعْلُهُمْ لِمَا يَرَوْنَهُ وَيَهْوُونَهُ حَقِيقَةً , وَأَمْرُهُمْ بِاتِّبَاعِهَا

دُونَ اتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , نَظِيرُ بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ , الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَقَائِقَ عَقْلِيَّةً يَجِبُ اعْتِقَادُهَا . دُونَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السَّمْعِيَّاتُ , ثُمَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إمَّا أَنْ يُحَرِّفُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ , وَإِمَّا أَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ , فَلَا يَتَدَبَّرُونَهُ وَلَا يَعْقِلُونَهُ , بَلْ يَقُولُونَ : نُفَوِّضُ مَعْنَاهُ إلَى اللَّهِ , مَعَ اعْتِقَادِهِمْ نَقِيضَ مَدْلُولِهِ . وَإِذَا حُقِّقَ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَدْتَ جَهْلِيَّاتٍ وَاعْتِقَادَاتٍ فَاسِدَةً . وَكَذَلِكَ أُولَئِكَ إذَا حُقِّقَ عَلَيْهِمْ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ حَقَائِقِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَدْتَ مِنْ الْأَهْوَاءِ الَّتِي يَتَّبِعُهَا أَعْدَاءُ اللَّهِ لَا أَوْلِيَاؤُهُ . وَأَصْلُ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ هُوَ بِتَقْدِيمِ قِيَاسِهِ عَلَى النَّصِّ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ , وَاخْتِيَارِهِ الْهَوَى عَلَى اتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ , فَإِنَّ الذَّوْقَ وَالْوَجْدَ وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ بِحَسَبِ مَا يُحِبُّهُ الْعَبْدُ , فَكُلُّ مُحِبٍّ لَهُ ذَوْقٌ وَوَجْدٌ بِحَسَبِ مَحَبَّتِهِ , فَأَهْلُ الْإِيمَانِ لَهُمْ مِنْ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ مِثْلُ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا , وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ

, وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا , وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا , وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا } . وَأَمَّا أَهْلُ الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ وَالشَّهَوَاتِ فَكُلٌّ بِحَسْبِهِ , قِيلَ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ : مَا بَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لَهُمْ مَحَبَّةٌ شَدِيدَةٌ لِأَهْوَائِهِمْ ؟ , فَقَالَ : أَنَسِيتَ قَوْله تَعَالَى : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ ؟ , فَعُبَّادُ الْأَصْنَامِ يُحِبُّونَ آلِهَتَهُمْ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَقَالَ : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَك فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ } . وَقَالَ : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى } وَلِهَذَا يَمِيلُ هَؤُلَاءِ إلَى سَمَاعِ الشِّعْرِ وَالْأَصْوَاتِ الَّتِي تُهَيِّجُ الْمَحَبَّةَ الْمُطَلَّقَةَ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ , بَلْ يَشْتَرِكُ فِيهَا مُحِبُّ الرَّحْمَنِ , وَمُحِبُّ الْأَوْثَانِ , وَمُحِبُّ الصُّلْبَانِ وَمُحِبُّ الْأَوْطَانِ , وَمُحِبُّ الْإِخْوَانِ , وَمُحِبُّ الْمُرْدَانِ , وَمُحِبُّ النِّسْوَانِ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ أَذْوَاقَهُمْ وَمَوَاجِيدَهُمْ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا

كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ . فَالْمُخَالِفُ لِمَا بُعِثَ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ لَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لِدِينٍ شَرَعَهُ اللَّهُ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ جَعَلْنَاك عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ . إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا } إلَى قَوْلِهِ : { وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } . بَلْ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وَهُمْ فِي ذَلِكَ تَارَةً يَكُونُونَ عَلَى بِدْعَةٍ يُسَمُّونَهَا حَقِيقَةً يُقَدِّمُونَهَا عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ , وَتَارَةً يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ الْكَوْنِيِّ عَلَى الشَّرِيعَةِ , كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَقَدَّمَ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ هُمْ أَعْلَاهُمْ قَدْرًا وَهُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِالدِّينِ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ الْمَشْهُورَةِ , وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَشْهُورَةِ , لَكِنْ يَغْلَطُونَ فِي تَرْكِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ , ظَانِّينَ أَنَّ الْعَارِفَ إذَا شَهِدَ " الْقَدَرَ " أُعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ . مِثْلُ مَنْ يَجْعَلُ التَّوَكُّلَ مِنْهُمْ , أَوْ الدُّعَاءَ , وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ , بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ عَلِمَ أَنَّ مَا قُدِّرَ سَيَكُونُ , فَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ , وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ . فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْأَشْيَاءَ بِأَسْبَابِهَا كَمَا قَدَّرَ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ بِأَسْبَابِهَا . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهَا لَهُمْ وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ , وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ } . وَكَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْمَقَادِيرَ , فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ ؟ فَقَالَ : لَا . اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ , أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ , وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ } . فَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ فَهُوَ عِبَادَةٌ وَالتَّوَكُّلُ مَقْرُونٌ بِالْعِبَادَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَفِي قَوْلِهِ : { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَإِلَيْهِ مَتَابِ } . وَقَوْلِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ { عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ قَدْ تَتْرُكُ الْمُسْتَحَبَّاتِ مِنْ الْأَعْمَالِ دُونَ الْوَاجِبَاتِ , فَتُنْقَصُ بِقَدْرِ ذَلِكَ . وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ يَغْتَرُّونَ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ خَرْقِ عَادَةٍ مِثْلِ مُكَاشَفَةٍ , أَوْ اسْتِجَابَةِ دَعْوَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلْعَادَةِ الْعَامَّةِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَيَشْتَغِلُ أَحَدُهُمْ عَمَّا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالشُّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ وَنَحْوُهَا كَثِيرًا مَا تَعْرِضُ لِأَهْلِ السُّلُوكِ وَالتَّوَجُّهِ ; وَإِنَّمَا يَنْجُو الْعَبْدُ مِنْهَا بِمُلَازَمَةِ أَمْرِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ . كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ :

كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا يَقُولُونَ : الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ . وَذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ - كَمَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثْلُ سَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا , وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ .
فَصْلٌ إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ : فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْبَابَ يَتَفَاضَلُونَ فِيهِ تَفَاضُلًا عَظِيمًا . وَهُوَ تَفَاضُلُهُمْ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ , وَهُمْ يَنْقَسِمُونَ فِيهِ إلَى : عَامٍّ , وَخَاصٍّ , وَلِهَذَا كَانَتْ رُبُوبِيَّةُ الرَّبِّ لَهُمْ فِيهَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ ; وَلِهَذَا كَانَ الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ , تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ , تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ , تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ , تَعِسَ وَانْتَكَسَ , وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ , إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ , وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ } فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الدِّرْهَمِ , وَعَبْدَ الدِّينَارِ , وَعَبْدَ الْقَطِيفَةِ , وَعَبْدَ الْخَمِيصَةِ . وَذِكْرُ مَا فِيهِ دُعَاءٌ وَخَبَرٌ , وَهُوَ قَوْلُهُ : { تَعِسَ وَانْتَكَسَ , وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ } وَالنَّقْشُ : إخْرَاجُ الشَّوْكَةِ مِنْ الرِّجْلِ , وَالْمِنْقَاشُ : مَا يُخْرَجُ بِهِ الشَّوْكَةُ , وَهَذِهِ حَالُ مَنْ إذَا أَصَابَهُ شَرٌّ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ , وَلَمْ يَفْلَحْ لِكَوْنِهِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ . فَلَا نَالَ الْمَطْلُوبَ وَلَا خَلَصَ مِنْ الْمَكْرُوهِ , وَهَذِهِ حَالُ مَنْ عَبَدَ الْمَالَ , وَقَدْ وَصَفَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ { إذَا أُعْطِيَ رَضِيَ , وَإِذَا مُنِعَ سَخِطَ } كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُك فِي

الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } فَرِضَاهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ , وَسُخْطُهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ , وَهَكَذَا حَالُ مَنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِرِئَاسَةٍ أَوْ بِصُورَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَهْوَاءِ نَفْسِهِ إنْ حَصَلَ لَهُ رَضِيَ , وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ سَخِطَ , فَهَذَا عَبْدُ مَا يَهْوَاهُ مِنْ ذَلِكَ , وَهُوَ رَقِيقٌ لَهُ , إذْ الرِّقُّ وَالْعُبُودِيَّةُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ رِقُّ الْقَلْبِ وَعُبُودِيَّتُهُ , فَمَا اسْتَرَقَّ الْقَلْبَ وَاسْتَعْبَدَهُ فَهُوَ عَبْدُهُ . وَلِهَذَا يُقَالُ : الْعَبْدُ حُرٌّ مَا قَنَعَ وَالْحُرُّ عَبْدٌ مَا طَمَعَ وَقَالَ الْقَائِلُ : أَطَعْتُ مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي وَلَوْ أَنِّي قَنَعْت لَكُنْت حُرًّا وَيُقَالُ : الطَّمَعُ غُلٌّ فِي الْعُنُقِ قَيْدٌ فِي الرِّجْلِ , فَإِذَا زَالَ الْغُلُّ مِنْ الْعُنُقِ زَالَ الْقَيْدُ مِنْ الرِّجْلِ . وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الطَّمَعُ فَقْرٌ , وَالْيَأْسُ غِنًى , وَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا يَئِسَ مِنْ شَيْءٍ اسْتَغْنَى عَنْهُ . وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ ; فَإِنَّ الْأَمْرَ الَّذِي يَيْأَسُ مِنْهُ لَا يَطْلُبُهُ وَلَا يَطْمَعُ بِهِ , وَلَا يَبْقَى قَلْبُهُ فَقِيرًا إلَيْهِ , وَلَا إلَى مَنْ يَفْعَلُهُ , وَأَمَّا إذَا طَمِعَ فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ وَرَجَاهُ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهِ , فَصَارَ فَقِيرًا إلَى حُصُولِهِ ; وَإِلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ سَبَبٌ فِي حُصُولِهِ , وَهَذَا فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالصُّوَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ الْخَلِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إلَيْهِ

تُرْجَعُونَ } . فَالْعَبْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِزْقٍ , مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ , فَإِذَا طَلَبَ رِزْقَهُ مِنْ اللَّهِ صَارَ عَبْدًا لِلَّهِ , فَقِيرًا إلَيْهِ , وَإِنْ طَلَبَهُ مِنْ مَخْلُوقٍ صَارَ عَبْدًا لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ فَقِيرًا إلَيْهِ . وَلِهَذَا كَانَتْ " مَسْأَلَةُ الْمَخْلُوقِ " مُحَرَّمَةً فِي الْأَصْلِ , وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ , وَفِي النَّهْيِ عَنْهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصِّحَاحِ , وَالسُّنَنِ , وَالْمَسَانِيدِ : كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ } وَقَوْلِهِ : { مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا أَوْ خُمُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ } وَقَوْلِهِ : { لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ , أَوْ دَمٍ مُوجِعٍ , أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ } هَذَا الْمَعْنَى فِي الصَّحِيحِ , وَفِيهِ أَيْضًا : { لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَذْهَبَ فَيَحْتَطِبَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ } وَقَالَ : { مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ , وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَك } فَكُرِهَ أَخْذُهُ مِنْ سُؤَالِ اللِّسَانِ وَاسْتِشْرَافِ الْقَلْبِ , وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ , وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ; وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ; وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ } وَأَوْصَى خَوَّاصٌ أَصْحَابِهِ أَنْ لَا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا . وَفِي الْمُسْنَدِ : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ

يَسْقُطُ السَّوْطُ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ نَاوِلْنِي إيَّاهُ ; وَيَقُولُ : خَلِيلِي أَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا " . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ , وَغَيْرِهِ : عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ النَّبِيَّ بَايَعَهُ فِي طَائِفَةٍ وَأَسَرَّ إلَيْهِمْ كَلِمَةً خَفِيَّةً : أَنْ لَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا , فَكَانَ بَعْضُ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ السَّوْطُ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمْ , وَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ نَاوِلْنِي إيَّاهُ } وَقَدْ دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَسْأَلَةِ الْخَالِقِ , وَالنَّهْيِ عَنْ مَسْأَلَةِ الْمَخْلُوقِ ; فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّك فَارْغَبْ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : { إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ ; وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ } وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَلِيلِ : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } وَلَمْ يَقُلْ فَابْتَغُوا الرِّزْقَ عِنْدَ اللَّهِ ; لِأَنَّ تَقْدِيمَ الظَّرْفِ يُشْعِرُ بِالِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ ; كَأَنَّهُ قَالَ لَا تَبْتَغُوا الرِّزْقَ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } وَالْإِنْسَانُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حُصُولِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الرِّزْقِ وَنَحْوِهِ ; وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ ; وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ شُرِعَ لَهُ أَنْ يَكُونَ دُعَاؤُهُ لِلَّهِ ; فَلَهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ وَإِلَيْهِ يَشْتَكِي ; كَمَا قَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ } . وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ " الْهَجْرَ الْجَمِيلَ " " وَالصَّفْحَ الْجَمِيلَ " " وَالصَّبْرَ الْجَمِيلَ " وَقَدْ قِيلَ :

إنَّ " الْهَجْرَ الْجَمِيلَ " هُوَ هَجْرٌ بِلَا أَذًى , وَالصَّفْحَ الْجَمِيلَ صَفْحٌ بِلَا مُعَاتَبَةٍ . وَالصَّبْرَ الْجَمِيلَ صَبْرٌ بِغَيْرِ شَكْوَى إلَى الْمَخْلُوقِ ; وَلِهَذَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي مَرَضِهِ أَنَّ طَاوُسًا كَانَ يَكْرَهُ أَنِينَ الْمَرِيضِ وَيَقُولُ : إنَّهُ شَكْوَى فَمَا أَنَّ أَحْمَدُ حَتَّى مَاتَ . وَأَمَّا الشَّكْوَى إلَى الْخَالِقِ فَلَا تَنَافِي الصَّبْرَ الْجَمِيلَ ; فَإِنَّ يَعْقُوبَ قَالَ : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } وَقَالَ : { إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ } . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِسُورَةِ ( يُونُسَ ) , ( وَيُوسُفَ ) , ( وَالنَّحْلِ ) فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي قِرَاءَتِهِ فَبَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ مِنْ آخِرِ الصُّفُوفِ . وَمِنْ دُعَاءِ مُوسَى : " اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ , وَإِلَيْك الْمُشْتَكَى , وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ , وَبِكَ الْمُسْتَغَاثُ , وَعَلَيْك التُّكْلَانُ , وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك " . وَفِي الدُّعَاءِ الَّذِي دَعَا بِهِ النَّبِيُّ لَمَّا فَعَلَ بِهِ أَهْلُ الطَّائِفِ مَا فَعَلُوا : { اللَّهُمَّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي ; وَقِلَّةَ حِيلَتِي ; وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ ; أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي . اللَّهُمَّ إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي , أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْته أَمْرِي ; إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي ; غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَك أَوْسَعُ لِي , أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الَّذِي أَشْرَقَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ ; وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُك ; أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُك ; لَك الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى ;

فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك } - وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ - { وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك } . وَكُلَّمَا قَوِيَ طَمَعُ الْعَبْدِ فِي فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَرَجَائِهِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ وَدَفْعِ ضَرُورَتِهِ قَوِيَتْ عُبُودِيَّتُهُ لَهُ وَحُرِّيَّتُهُ مِمَّا سِوَاهُ ; فَكَمَا أَنَّ طَمَعَهُ فِي الْمَخْلُوقِ يُوجِبُ عُبُودِيَّتَهُ لَهُ فَيَأْسُهُ مِنْهُ يُوجِبُ غِنَى قَلْبِهِ عَنْهُ . كَمَا قِيلَ : اسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْت تَكُنْ نَظِيرَهُ , وَافْضُلْ عَلَى مَنْ شِئْت تَكُنْ أَمِيرَهُ ; وَاحْتَجْ إلَى مَنْ شِئْت تَكُنْ أَسِيرَهُ . فَكَذَلِكَ طَمَعُ الْعَبْدِ فِي رَبِّهِ وَرَجَاؤُهُ لَهُ يُوجِبُ عُبُودِيَّتَهُ لَهُ : وَإِعْرَاضُ قَلْبِهِ عَنْ الطَّلَبِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ وَالرَّجَاءِ لَهُ يُوجِبُ انْصِرَافَ قَلْبِهِ عَنْ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ ; لَا سِيَّمَا مَنْ كَانَ يَرْجُو الْمَخْلُوقَ وَلَا يَرْجُو الْخَالِقَ ; بِحَيْثُ يَكُونُ قَلْبُهُ مُعْتَمِدًا إمَّا عَلَى رِئَاسَتِهِ وَجُنُودِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَمَمَالِيكِهِ ; وَإِمَّا عَلَى أَهْلِهِ وَأَصْدِقَائِهِ ; وَإِمَّا عَلَى أَمْوَالِهِ وَذَخَائِرِهِ ; وَإِمَّا عَلَى سَادَاتِهِ وَكُبَرَائِهِ ; كَمَالِكِهِ وَمِلْكِهِ ; وَشَيْخِهِ وَمَخْدُومِهِ وَغَيْرِهِمْ ; مِمَّنْ هُوَ قَدْ مَاتَ أَوْ يَمُوتُ قَالَ تَعَالَى { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } . وَكُلُّ مَنْ عَلَّقَ قَلْبَهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ أَنْ يَنْصُرُوهُ , أَوْ يَرْزُقُوهُ , أَوْ أَنْ يُهْدُوهُ خَضَعَ قَلْبُهُ لَهُمْ ; وَصَارَ فِيهِ مِنْ الْعُبُودِيَّةِ لَهُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ ; وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ أَمِيرًا لَهُمْ مُدَبِّرًا لَهُمْ مُتَصَرِّفًا بِهِمْ ;

فَالْعَاقِلُ يَنْظُرُ إلَى الْحَقَائِقِ لَا إلَى الظَّوَاهِرِ ; فَالرَّجُلُ إذَا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِامْرَأَةٍ وَلَوْ كَانَتْ مُبَاحَةً لَهُ يَبْقَى قَلْبُهُ أَسِيرًا لَهَا تَحْكُمُ فِيهِ وَتَتَصَرَّفُ بِمَا تُرِيدُ ; وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ سَيِّدُهَا لِأَنَّهُ زَوْجُهَا . وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ أَسِيرُهَا وَمَمْلُوكُهَا لَا سِيَّمَا إذَا دَرَتْ بِفَقْرِهِ إلَيْهَا , وَعِشْقِهِ لَهَا ; وَأَنَّهُ لَا يَعْتَاضُ عَنْهَا بِغَيْرِهَا ; فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَحْكُمُ فِيهِ بِحُكْمِ السَّيِّدِ الْقَاهِرِ الظَّالِمِ فِي عَبْدِهِ الْمَقْهُورِ ; الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْخَلَاصَ مِنْهُ بَلْ أَعْظَمُ . فَإِنَّ أَسْرَ الْقَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ أَسْرِ الْبَدَنِ , وَاسْتِعْبَادَ الْقَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ اسْتِعْبَادِ الْبَدَنِ , فَإِنَّ مَنْ اسْتَعْبَدَ بَدَنَهُ وَاسْتَرَقَّ لَا يُبَالِي إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُسْتَرِيحًا مِنْ ذَلِكَ مُطْمَئِنًّا , بَلْ يُمْكِنُهُ الِاحْتِيَالُ فِي الْخَلَاصِ , وَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَلْبُ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ رَقِيقًا مُسْتَعْبَدًا مُتَيَّمًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَهَذَا هُوَ الذُّلُّ وَالْأَسْرُ الْمَحْضُ , وَالْعُبُودِيَّةُ لِمَا اسْتَعْبَدَ الْقَلْبُ . وَعُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ وَأَسْرُهُ هِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ , فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ أَسَرَهُ كَافِرٌ ; أَوْ اسْتَرَقَّهُ فَاجِرٌ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ قَائِمًا بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ , وَمَنْ اسْتَعْبَدَ بِحَقٍّ إذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ لَهُ أَجْرَانِ , وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِالْكُفْرِ فَتَكَلَّمَ بِهِ وَقَلْبُهُ مُطَمْئِنٌ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ وَأَمَّا مَنْ اسْتَعْبَدَ

قَلْبَهُ فَصَارَ عَبْدًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَهَذَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ , وَلَوْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مَلِكَ النَّاسِ . فَالْحُرِّيَّةُ حُرِّيَّةُ الْقَلْبِ , وَالْعُبُودِيَّةُ عُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ , كَمَا أَنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ , قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ , وَإِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ } . وَهَذَا لَعَمْرِي إذَا كَانَ قَدْ اسْتَعْبَدَ قَلْبَهُ صُورَةٌ مُبَاحَةٌ , فَأَمَّا مَنْ اسْتَعْبَدَ قَلْبَهُ صُورَةٌ مُحَرَّمَةٌ : امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ , فَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي لَا يُدَانُ فِيهِ . وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ عَذَابًا وَأَقَلِّهِمْ ثَوَابًا , فَإِنَّ الْعَاشِقَ لِصُورَةٍ إذَا بَقِيَ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِهَا , مُسْتَعْبَدًا لَهُ اجْتَمَعَ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ مَا لَا يُحْصِهِ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ , وَلَوْ سَلِمَ مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى , فَدَوَامُ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِهَا بِلَا فِعْلِ الْفَاحِشَةِ أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَيْهِ , مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَنْبًا ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ وَيَزُولُ أَثَرُهُ مِنْ قَلْبِهِ , وَهَؤُلَاءِ يُشَبَّهُونَ بِالسُّكَارَى وَالْمَجَانِينِ . كَمَا قِيلَ : سَكْرَانِ : سُكْرُ هَوًى , وَسُكْرُ مُدَامَةٍ وَمَتَى إفَاقَةُ مَنْ بِهِ سَكْرَانِ , وَقِيلَ : قَالُوا جُنِنْت بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْت لَهُمْ الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ هَذَا الْبَلَاءِ إعْرَاضُ الْقَلْبِ عَنْ اللَّهِ , فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا ذَاقَ طَعْمَ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ قَطُّ أَحْلَى

مِنْ ذَلِكَ , وَلَا أَلَذُّ وَلَا أَطْيَبُ , وَالْإِنْسَانُ لَا يَتْرُكُ مَحْبُوبًا إلَّا بِمَحْبُوبٍ آخَرَ يَكُونُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْهُ , أَوْ خَوْفًا مِنْ مَكْرُوهٍ , فَالْحُبُّ الْفَاسِدُ إنَّمَا يَنْصَرِفُ الْقَلْبُ عَنْهُ بِالْحُبِّ الصَّالِحِ ; أَوْ بِالْخَوْفِ مِنْ الضَّرَرِ . قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يُوسُفَ : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } , فَاَللَّهُ يَصْرِفُ عَنْ عَبْدِهِ مَا يَسُوءُهُ مِنْ الْمَيْلِ إلَى الصُّوَرِ وَالتَّعَلُّقِ بِهَا , وَيَصْرِفُ عَنْهُ الْفَحْشَاءَ بِإِخْلَاصِهِ لِلَّهِ . وَلِهَذَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَذُوقَ حَلَاوَةَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصَ لَهُ تَغْلِبُهُ نَفْسُهُ عَلَى اتِّبَاعِ هَوَاهَا , فَإِذَا ذَاقَ طَعْمَ الْإِخْلَاصِ , وَقَوِيَ فِي قَلْبِهِ انْقَهَرَ لَهُ هَوَاهُ بِلَا عِلَاجٍ , قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } . فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا دَفْعٌ لِلْمَكْرُوهِ , وَهُوَ الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ , وَفِيهَا تَحْصِيلُ الْمَحْبُوبِ , وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ , وَحُصُولُ هَذَا الْمَحْبُوبِ أَكْبَرُ مِنْ دَفْعِ الْمَكْرُوهِ , فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ عِبَادَةٌ لِلَّهِ , وَعِبَادَةُ الْقَلْبِ لِلَّهِ مَقْصُودَةٌ لِذَاتِهَا . وَأَمَّا انْدِفَاعُ الشَّرِّ عَنْهُ فَهُوَ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ وَالْقَلْبُ خَلْقٌ يُحِبُّ الْحَقَّ وَيُرِيدُهُ وَيَطْلُبُهُ . فَلَمَّا عَرَضَتْ لَهُ إرَادَةُ الشَّرِّ طَلَبَ دَفْعَ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ يَفْسُدُ الْقَلْبُ كَمَا يَفْسُدُ الزَّرْعُ بِمَا يَنْبُتُ فِيهِ مِنْ الدَّغَلِ , وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا , وَقَدْ

خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } . وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى , وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } . وَقَالَ : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ غَضَّ الْبَصَرِ , وَحِفْظَ الْفَرْجِ هُوَ أَزْكَى لِلنَّفْسِ . وَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَ الْفَوَاحِشِ مِنْ زَكَاةِ النُّفُوسِ , وَزَكَاةُ النُّفُوسِ تَتَضَمَّنُ زَوَالَ جَمِيعِ الشُّرُورِ مِنْ الْفَوَاحِشِ , وَالظُّلْمِ , وَالشِّرْكِ , وَالْكَذِبِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ طَالِبُ الرِّئَاسَةِ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ قَلْبُهُ رَقِيقٌ لِمَنْ يُعِينُهُ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُقَدَّمَهُمْ وَالْمُطَاعَ فِيهِمْ . فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ يَرْجُوهُمْ وَيَخَافُهُمْ , فَيَبْذُلُ لَهُمْ الْأَمْوَالَ وَالْوِلَايَاتِ , وَيَعْفُو عَنْهُمْ لِيُطِيعُوهُ , وَيُعِينُوهُ , فَهُوَ فِي الظَّاهِرِ رَئِيسٌ مُطَاعٌ , وَفِي الْحَقِيقَةِ عَبْدٌ مُطِيعٌ لَهُمْ , وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كِلَيْهِمَا فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِلْآخَرِ , وَكِلَاهُمَا تَارِكٌ لِحَقِيقَةِ عِبَادَةِ اللَّهِ , وَإِذَا كَانَ تَعَاوُنُهُمَا عَلَى الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ كَانَا بِمَنْزِلَةِ الْمُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْفَاحِشَةِ أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ , فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّخْصَيْنِ لِهَوَاهُ الَّذِي اسْتَعْبَدَهُ وَاسْتَرَقَّهُ يَسْتَعْبِدُهُ الْآخَرُ . وَهَكَذَا أَيْضًا طَالِبُ الْمَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَعْبِدُهُ وَيَسْتَرِقُّهُ , وَهَذِهِ الْأُمُورُ نَوْعَانِ : مِنْهَا : مَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ

طَعَامِهِ , وَشَرَابِهِ , وَمَسْكَنِهِ , وَمُنْكَحِهِ , وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَهَذَا يَطْلُبُهُ مِنْ اللَّهِ وَيَرْغَبُ إلَيْهِ فِيهِ , فَيَكُونُ الْمَالُ عِنْدَهُ يَسْتَعْمِلُهُ فِي حَاجَتِهِ بِمَنْزِلَةِ حِمَارِهِ الَّذِي يَرْكَبُهُ , وَبِسَاطِهِ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ ; بَلْ بِمَنْزِلَةِ الْكَنِيفِ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ حَاجَتَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَعْبِدَهُ , فَيَكُونَ هَلُوعًا إنْ مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ; وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا . وَمِنْهَا : مَا لَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ , فَهَذِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَلِّقَ قَلْبَهُ بِهَا ; فَإِذَا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهَا صَارَ مُسْتَعْبَدًا لَهَا ; وَرُبَّمَا صَارَ مُعْتَمِدًا عَلَى غَيْرِ اللَّهِ , فَلَا يَبْقَى مَعَهُ حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ , وَلَا حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ; بَلْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ , وَشُعْبَةٌ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ , وَهَذَا مِنْ أَحَقِّ النَّاسِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ , تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ , تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ , تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ } وَهَذَا هُوَ عَبْدُ هَذِهِ الْأُمُورِ , فَلَوْ طَلَبَهَا مِنْ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ إذَا أَعْطَاهُ إيَّاهَا رَضِيَ ; وَإِذَا مَنَعَهُ إيَّاهَا سَخِطَ , وَإِنَّمَا عَبْدُ اللَّهِ مَنْ يُرْضِيهِ مَا يُرْضِي اللَّهَ ; وَيُسْخِطُهُ مَا يُسْخِطُ اللَّهَ ; وَيُحِبُّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَيَبْغُضُ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ; وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُعَادِي أَعْدَاءَ اللَّهِ تَعَالَى , وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ , وَأَبْغَضَ

لِلَّهِ , وَأَعْطَى لِلَّهِ , وَمَنَعَ لِلَّهِ : فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ } وَقَالَ : { أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ : الْحُبُّ فِي اللَّهِ , وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ } . وَفِي الصَّحِيحِ : عَنْهُ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا , وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ , وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } , فَهَذَا وَافَقَ رَبَّهُ فِيمَا يُحِبُّهُ , وَمَا يَكْرَهُهُ فَكَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا , وَأَحَبُّ الْمَخْلُوقِ لِلَّهِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ , فَكَانَ هَذَا مِنْ تَمَامِ حُبِّهِ لِلَّهِ , فَإِنَّ مَحَبَّةَ مَحْبُوبِ الْمَحْبُوبِ مِنْ تَمَامِ مَحَبَّةِ الْمَحْبُوبِ ; فَإِذَا أَحَبَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَأَوْلِيَاءَ اللَّهِ لِأَجْلِ قِيَامِهِمْ بِمَحْبُوبَاتِ الْحَقِّ لَا لِشَيْءٍ آخَرَ , فَقَدْ أَحَبَّهُمْ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ } . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } فَإِنَّ الرَّسُولَ يَأْمُرُ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ وَيَنْهَى عَمَّا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيَفْعَلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيُخْبِرُ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ التَّصْدِيقَ بِهِ ; فَمَنْ كَانَ مُحِبًّا لِلَّهِ لَزِمَ أَنْ يَتْبَعَ الرَّسُولَ فَيُصَدِّقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَيُطِيعُهُ فِيمَا أَمَرَ وَيَتَأَسَّى بِهِ فِيمَا فَعَلَ , وَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ

فَعَلَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ ; فَيُحِبُّهُ اللَّهُ ; فَجَعَلَ اللَّهُ لِأَهْلِ مَحَبَّتِهِ عَلَامَتَيْنِ : اتِّبَاعَ الرَّسُولِ ; وَالْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِهَادَ حَقِيقَتُهُ الِاجْتِهَادُ فِي حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ; وَمِنْ دَفْعِ مَا يَبْغُضُهُ اللَّهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } فَتَوَعَّدَ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ بِهَذَا الْوَعِيدِ . بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ , وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } . وَفِي الصَّحِيحِ : أَنَّ { عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَاَللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي : فَقَالَ : لَا يَا عُمَرُ , حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْك مِنْ نَفْسِك فَقَالَ : فَوَاَللَّهِ , لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ : الْآنَ يَا عُمَرُ } . فَحَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِمُوَالَاةِ الْمَحْبُوبِ , وَهُوَ مُوَافَقَتُهُ فِي حُبِّ مَا يُحِبُّ , وَبُغْضِ مَا يَبْغُضُ , وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى , وَيَبْغُضُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحُبَّ يُحَرِّكُ إرَادَةَ الْقَلْبِ , فَكُلَّمَا قَوِيَتْ الْمَحَبَّةُ فِي الْقَلْبِ طَلَب الْقَلْبُ فِعْلَ الْمَحْبُوبَاتِ , فَإِذَا كَانَتْ

الْمَحَبَّةُ تَامَّةً اسْتَلْزَمَتْ إرَادَةً جَازِمَةً فِي حُصُولِ الْمَحْبُوبَاتِ , فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَادِرًا عَلَيْهَا حَصَّلَهَا , وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهَا فَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ الْفَاعِلِ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ; وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا } . وَقَالَ : { إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا , وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ . قَالُوا : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ . قَالَ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } .

" وَالْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ " يَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْلَامُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ : آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ , وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ , وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ } وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ , وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا . وَأَمَّا إذَا قَرَنَ لَفْظَ الْإِيمَانِ بِالْعَمَلِ أَوْ بِالْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ , وَكَمَا فِي { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : لَمَّا سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ , فَقَالَ : الْإِسْلَامُ : أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ , وَتَصُومَ رَمَضَانَ , وَتَحُجَّ الْبَيْتَ قَالَ : فَمَا الْإِيمَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ , وَمَلَائِكَتِهِ , وَكُتُبِهِ , وَرُسُلِهِ , وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ , وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ . قَالَ : فَمَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ , فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك } . فَفَرَّقَ فِي هَذَا النَّصِّ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ لَمَّا أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْعَمَلِ " فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الْمَذْكُورَ هُوَ مِنْ الْعَمَلِ

وَالْعَمَلُ الظَّاهِرُ هُوَ مُوجِبُ إيمَانِ الْقَلْبِ وَمُقْتَضَاهُ , فَإِذَا حَصَلَ إيمَانُ الْقَلْبِ حَصَلَ إيمَانُ الْجَوَارِحِ ضَرُورَةً , وَإِيمَانُ الْقَلْبِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَانْقِيَادِهِ , وَإِلَّا فَلَوْ صَدَّقَ قَلْبُهُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ يَبْغُضُهُ وَيَحْسُدُهُ وَيَسْتَكْبِرُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ لَمْ يَكُنْ قَدْ آمَنَ قَلْبُهُ . " وَالْإِيمَانُ " وَإِنْ تَضَمَّنَ التَّصْدِيقَ فَلَيْسَ هُوَ مُرَادِفًا لَهُ ; فَلَا يُقَالُ لِكُلِّ مُصَدِّقٍ بِشَيْءٍ : إنَّهُ مُؤْمِنٌ بِهِ . فَلَوْ قَالَ : أَنَا أُصَدِّقُ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ , وَأَنَّ السَّمَاءَ فَوْقَنَا وَالْأَرْضَ تَحْتَنَا , وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُشَاهِدُهُ النَّاسُ وَيَعْلَمُونَهُ لَمْ يُقَلْ لِهَذَا : إنَّهُ مُؤْمِنٌ بِذَلِكَ ; بَلْ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَنْ أُخْبِرَ بِشَيْءٍ مِنْ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ كَقَوْلِ إخْوَةِ يُوسُفَ : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوهُ بِمَا غَابَ عَنْهُ وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَنْ آمَنَ لَهُ وَآمَنَ بِهِ فَالْأَوَّلُ يُقَالُ لِلْمُخْبِرِ , وَالثَّانِي يُقَالُ لِلْمُخْبَرِ بِهِ كَمَا قَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } فَفَرَّقَ بَيْنَ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَإِيمَانِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ يُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ إذَا أَخْبَرُوهُ وَأَمَّا إيمَانُهُ بِاَللَّهِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِقْرَارِ بِهِ . وَمِنْهُ

قَوْله تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } أَيْ نُقِرُّ لَهُمَا وَنُصَدِّقُهُمَا . وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إنِّي مُهَاجِرٌ إلَى رَبِّي } وَمِنْ الْمَعْنَى الْآخَرِ قَوْله تَعَالَى : { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } وَقَوْلُهُ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } وَقَوْلُهُ : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } أَيْ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ لَفْظَ " الْإِيمَانِ " إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ , وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَمْنِ , كَمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَرَّ , فَالْمُؤْمِنُ صَاحِبُ أَمْنٍ , كَمَا أَنَّ الْمُقِرَّ صَاحِبُ إقْرَارٍ , فَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ بِمُوجِبِ تَصْدِيقِهِ , فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِذَلِكَ حُبُّهُ وَتَعْظِيمُهُ بَلْ كَانَ يَبْغُضُهُ وَيَحْسُدُهُ وَيَسْتَكْبِرُ عَنْ اتِّبَاعِهِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ بِهِ بَلْ كَافِرٌ بِهِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ كُفْرُ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ . فَإِنَّ إبْلِيسَ لَمْ يُكَذِّبْ خَبَرًا وَلَا

مُخْبِرًا بَلْ اسْتَكْبَرَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ . وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } وَقَالَ لَهُ مُوسَى : { لَقَدْ عَلِمْت مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } . فَمُجَرَّدُ عِلْمِ الْقَلْبِ بِالْحَقِّ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عَمَلُ الْقَلْبِ بِمُوجِبِ عِلْمِهِ مِثْلُ مَحَبَّةِ الْقَلْبِ لَهُ وَاتِّبَاعُ الْقَلْبِ لَهُ لَمْ يَنْفَعْ صَاحِبَهُ , بَلْ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ , وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ , وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ , وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ , وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ } . وَلَكِنَّ الْجَهْمِيَّةَ ظَنُّوا أَنَّ مُجَرَّدَ عِلْمِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ هُوَ الْإِيمَانُ , وَأَنَّ مَنْ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ عِلْمِ قَلْبِهِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ شَرْعًا وَعَقْلًا وَحَقِيقَتُهُ تُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ ; وَلِهَذَا أَطْلَقَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ كُفْرَهُمْ بِذَلِكَ , فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ عَالِمًا بِالْحَقِّ وَيَبْغُضُهُ لِغَرَضٍ آخَرَ , فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ مُسْتَكْبِرًا عَنْ الْحَقِّ يَكُونُ غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ , وَحِينَئِذٍ فَالْإِيمَانُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ , وَهَذَا

مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ . ثُمَّ إنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ الْقَلْبُ بِالتَّصْدِيقِ وَالْمَحَبَّةِ التَّامَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْإِرَادَةِ لَزِمَ وُجُودُ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ , فَإِنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ إذْ اقْتَرَنَتْ بِهَا الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ لَزِمَ وُجُودُ الْمُرَادِ قَطْعًا , وَإِنَّمَا يَنْتَفِي وُجُودُ الْفِعْلِ لِعَدَمِ كَمَالِ الْقُدْرَةِ , أَوْ لِعَدَمِ كَمَالِ الْإِرَادَةِ , وَإِلَّا فَمَعَ كَمَالِهَا يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ , فَإِذَا أَقَرَّ الْقَلْبُ إقْرَارًا تَامًّا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَحَبَّهُ مَحَبَّةً تَامَّةً امْتَنَعَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ , لَكِنْ إنْ كَانَ عَاجِزًا لِخَرَسٍ وَنَحْوِهِ أَوْ لِخَوْفٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ بِهِمَا . " وَأَبُو طَالِبٍ " وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ مُحِبٌّ لَهُ فَلَمْ تَكُنْ مَحَبَّتُهُ لَهُ لِمَحَبَّتِهِ لِلَّهِ . بَلْ كَانَ يُحِبُّهُ لِأَنَّهُ ابْنُ أَخِيهِ فَيُحِبُّهُ لِلْقَرَابَةِ , وَإِذَا أَحَبَّ ظُهُورَهُ فَلِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ مِنْ الشَّرَفِ وَالرِّئَاسَةِ , فَأَصْلُ مَحْبُوبِهِ هُوَ الرِّئَاسَةُ ; فَلِهَذَا لَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ الشَّهَادَتَيْنِ عِنْدَ الْمَوْتِ رَأَى أَنَّ بِالْإِقْرَارِ بِهِمَا زَوَالُ دِينِهِ الَّذِي يُحِبُّهُ , فَكَانَ دِينُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ ابْنِ أَخِيهِ فَلَمْ يُقِرَّ بِهِمَا - فَلَوْ كَانَ يُحِبُّهُ لِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا كَانَ يُحِبُّهُ أَبُو بَكْرٍ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى , الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى , وَمَا لِأَحَدٍ

عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى , إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى , وَلَسَوْفَ يَرْضَى } وَكَمَا كَانَ يُحِبُّهُ سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ , كَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ لَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ قَطْعًا - فَكَانَ حُبُّهُ حُبًّا مَعَ اللَّهِ لَا حُبًّا لِلَّهِ , وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ مَا فَعَلَهُ مِنْ نَصْرِ الرَّسُولِ وَمُؤَازَرَتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهُ لِلَّهِ , وَاَللَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ , بِخِلَافِ الَّذِي فَعَلَ مَا فَعَلَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى . وَهَذَا مِمَّا يُحَقِّقُ أَنَّ " الْإِيمَانَ , وَالتَّوْحِيدَ " لَا بُدَّ فِيهِمَا مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ , كَحُبِّ الْقَلْبِ , فَلَا بُدَّ مِنْ إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ , وَالدِّينُ لَا يَكُونُ دِينًا إلَّا بِعَمَلٍ ; فَإِنَّ الدِّينَ يَتَضَمَّنُ الطَّاعَةَ وَالْعِبَادَةَ ; وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . إحْدَاهُمَا فِي تَوْحِيدِ الْقَوْلِ وَالْعِلْمِ . وَالثَّانِيَةُ فِي تَوْحِيدِ الْعَمَلِ وَالْإِرَادَةِ ; فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ , اللَّهُ الصَّمَدُ , لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ , وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا التَّوْحِيدَ وَقَالَ فِي الثَّانِي { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ , لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ , وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ , وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ , لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ مَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ

لِلَّهِ . " وَالْعِبَادَةُ " أَصْلُهَا الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ . وَالْعِبَادَةُ إذَا أُفْرِدَتْ دَخَلَ فِيهَا التَّوَكُّلُ وَنَحْوُهُ , وَإِذَا قُرِنَتْ بِالتَّوَكُّلِ صَارَ التَّوَكُّلُ قَسِيمًا لَهَا , كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي لَفْظِ الْإِيمَانِ , قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ } فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورَاتِ ; وَالتَّوَكُّلُ مِنْ ذَلِكَ , وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَالَ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرًا مَا يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ : تَتَنَوَّعُ دَلَالَةُ اللَّفْظِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ بِحَسَبِ الْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ ; كَلَفْظِ " الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ " فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } وَقَالَ : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } وَقَالَ : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ } فَالْمُنْكَرُ يَدْخُلُ فِيهِ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ ; كَمَا يَدْخُلُ فِي الْمَعْرُوفِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ . وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } فَعَطَفَ الْمُنْكَرَ عَلَى الْفَحْشَاءِ , وَدَخَلَ فِي الْمُنْكَرِ هُنَا الْبَغْيُ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ

وَالْبَغْيِ } فَقَرَنَ بِالْمُنْكَرِ الْفَحْشَاءَ وَالْبَغْيَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ " الْفُقَرَاءِ , وَالْمَسَاكِينِ " إذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا دَخَلَ فِيهِ الْآخَرُ , وَإِذَا قَرَنَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ صَارَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ; لَكِنْ هُنَاكَ أَحَدُ الِاسْمَيْنِ أَعَمُّ مِنْ الْآخَرِ , وَهُنَا بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ , فَمَحَبَّةُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَنَحْوُ هَذَا كُلُّ هَذَا يَدْخُلُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى , قَالَ تَعَالَى فِي الْمَحَبَّةِ : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ } فَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْت فَانْصَبْ , وَإِلَى رَبِّك فَارْغَبْ } فَجَعَلَ التَّحَسُّبَ وَالرَّغْبَةَ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : ( لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ) فِيهِ إفْرَادُ الْإِلَهِيَّةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ التَّصْدِيقَ لِلَّهِ قَوْلًا وَعَمَلًا , فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ; لَكِنْ كَانُوا يَجْعَلُونَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى , فَلَا يَخُصُّونَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ . وَتَخْصِيصُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ يُوجِبُ أَنْ لَا يُعْبَدُ إلَّا إيَّاهُ , وَأَنْ لَا يُسْأَلُ غَيْرُهُ , كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقْصِدُ سُؤَالَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ , لَكِنْ فِي أُمُورٍ لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ ; بَلْ يَكْرَهُهَا وَيَنْهَى عَنْهَا , فَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُخْلِصًا لَهُ فِي سُؤَالِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ , لَكِنْ لَيْسَ هُوَ مُخْلِصًا فِي عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ , وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ التَّوَجُّهَاتِ الْفَاسِدَةِ أَصْحَابِ الْكُشُوفَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , فَإِنَّهُمْ يُعَانُونَ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهَا لَكِنْ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُوَافِقَةً لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَصَلَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ الْعَاجِلَةِ , وَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ عَاقِبَةً سَيِّئَةً , قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } . وَطَائِفَةٌ

أُخْرَى قَدْ يَقْصِدُونَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , لَكِنْ لَا يُحَقِّقُونَ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ . فَهَؤُلَاءِ يُثَابُونَ عَلَى حُسْنِ نِيَّتِهِمْ , وَعَلَى طَاعَتِهِمْ , لَكِنَّهُمْ مَخْذُولُونَ فِيمَا يَقْصِدُونَهُ , إذْ لَمْ يُحَقِّقُوا الِاسْتِعَانَةَ بِاَللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ; وَلِهَذَا يُبْتَلَى الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالضَّعْفِ وَالْجَزَعِ تَارَةً , وَبِالْإِعْجَابِ أُخْرَى , فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُهُ مِنْ الْخَيْرِ كَانَ لِضَعْفِهِ , وَرُبَّمَا حَصَلَ لَهُ جَزَعٌ , فَإِنْ حَصَلَ مُرَادُهُ نَظَرَ إلَى نَفْسِهِ وَقُوَّتِهِ فَحَصَلَ لَهُ إعْجَابٌ , وَقَدْ يَعْجَبُ بِحَالِهِ فَيَظُنُّ حُصُولَ مُرَادِهِ فَيَخْذُلُ . قَالَ تَعَالَى : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ النَّاسَ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ , فَالرِّيَاءُ مِنْ بَابِ الْإِشْرَاكِ بِالْخَلْقِ , وَالْعُجْبُ مِنْ بَابِ الْإِشْرَاكِ بِالنَّفْسِ وَهَذَا حَالُ الْمُسْتَكْبِرِ , فَالْمُرَائِي لَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ } وَالْمُعْجَبُ لَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ } خَرَجَ عَنْ الرِّيَاءِ وَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَسْتَعِينُ } خَرَجَ عَنْ الْإِعْجَابِ , وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ : { ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ : شُحٌّ مُطَاعٌ , وَهَوًى مُتَّبَعٌ , وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ } . وَشَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مَنْ لَا

تَكُونُ عِبَادَتُهُ لِلَّهِ وَلَا اسْتِعَانَتُهُ بِاَللَّهِ بَلْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ وَيَسْتَعِينُ غَيْرَهُ وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَكُونُ شِرْكُهُ بِالشَّيَاطِينِ كَأَصْحَابِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَيَفْعَلُونَ مَا تُحِبُّهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ وَيَدْعُونَهُ بِأَدْعِيَةٍ تُحِبُّهَا الشَّيَاطِينُ وَيَعْزِمُونَ بِالْعَزَائِمِ الَّتِي تُطِيعُهَا الشَّيَاطِينُ مِمَّا فِيهَا إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ . كَمَا قَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْخَوَارِقِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ . وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَحْوَالِ السَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ ; وَلِهَذَا يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : فَهُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ الَّذِينَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَلَمْ يَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَلَمْ يَتَوَكَّلُوا إلَّا عَلَيْهِ . وَقَوْلُ الْمَكْرُوبِ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } قَدْ يَسْتَحْضِرُ فِي ذَلِكَ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَمَنْ أَتَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ النِّعْمَةَ اسْتَحْضَرَ التَّوْحِيدَ فِي النَّوْعَيْنِ . فَإِنَّ الْمَكْرُوبَ هِمَّتُهُ مُنْصَرِفَةٌ إلَى دَفْعِ ضُرِّهِ وَجَلْبِ نَفْعِهِ , فَقَدْ يَقُولُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " مُسْتَشْعِرًا أَنَّهُ لَا يَكْشِفُ الضُّرَّ غَيْرُك , وَلَا يَأْتِي بِالنِّعْمَةِ إلَّا أَنْتَ فَهَذَا مُسْتَحْضِرٌ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ , وَمُسْتَحْضِرٌ تَوْحِيدَ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ , وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ , مُعْرِضٌ عَنْ تَوْحِيدِ

الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَأْمُرُ بِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَعْبُدَ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَعْبُدَهُ إلَّا بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَمَنْ اسْتَشْعَرَ هَذَا فِي قَوْلِهِ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } كَانَ عَابِدًا لِلَّهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ وَكَانَ مُمْتَثِلًا قَوْلَهُ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلَهُ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَقَوْلَهُ : { وَاذْكُرْ اسْمَ رَبّك وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا , رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } . ثُمَّ إنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ مُحَرَّمًا أَثِمَ وَإِنْ قَضَيْت حَاجَتَهُ . وَإِنْ كَانَ طَالِبًا مُبَاحًا لِغَيْرِ قَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ لَمْ يَكُنْ آثِمًا وَلَا مُثَابًا . وَإِنْ كَانَ طَالِبًا مَا يُعِينُهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ لِقَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مُثَابًا مَأْجُورًا . وَهَذَا مِمَّا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْعَبْدِ الرَّسُولِ وَخُلَفَائِهِ , وَبَيْنَ النَّبِيِّ الْمَلَكِ , فَإِنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلَكًا أَوْ عَبْدًا رَسُولًا , فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا ; فَإِنَّ الْعَبْدَ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا أُمِرَ بِهِ , فَفِعْلُهُ كُلُّهُ عِبَادَةٌ لِلَّهِ , فَهُوَ عَبْدٌ مَحْضٌ مُنَفِّذٌ أَمْرَ مُرْسِلِهِ , كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { إنِّي وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت } وَهُوَ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ { لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ }

إفْرَادَ اللَّهِ بِذَلِكَ قَدَرًا وَكَوْنًا , فَإِنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقِينَ يُشَارِكُونَهُ فِي هَذَا فَلَا يُعْطِي أَحَدًا وَلَا يَمْنَعُ إلَّا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ ; وَإِنَّمَا أَرَادَ إفْرَادَ اللَّهِ بِذَلِكَ شَرْعًا وَدِينًا . أَيْ لَا أُعْطِي إلَّا مَنْ أُمِرْتُ بِإِعْطَائِهِ . وَلَا أَمْنَعُ إلَّا مَنْ أُمِرْتُ بِمَنْعِهِ , فَأَنَا مُطِيعٌ لِلَّهِ فِي إعْطَائِي وَمَنْعِي فَهُوَ يَقْسِمُ الصَّدَقَةَ وَالْفَيْءَ وَالْغَنَائِمَ كَمَا يَقْسِمُ الْمَوَارِيثَ بَيْنَ أَهْلِهَا ; لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ . وَلِهَذَا كَانَ الْمَالُ حَيْثُ أُضِيفَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَجِبُ أَنْ يُصْرَفَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مِلْكٌ لِلرَّسُولِ , كَمَا ظَنَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ , وَلَا الْمُرَادُ بِهِ كَوْنَهُ مَمْلُوكًا لِلَّهِ خَلْقًا وَقَدْرًا فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَمْوَالِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } وَقَوْلِهِ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } الْآيَةَ وَقَوْلِهِ : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } إلَى قَوْلِهِ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } . فَذَكَرَ فِي الْفَيْءِ مَا ذَكَرَ فِي الْخُمُسِ . فَظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الرَّسُولِ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَمْلِكُهُ . كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْلَاكَهُمْ . ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ كَانَتْ مِلْكًا لِلرَّسُولِ . وَقَالَ

بَعْضُهُمْ : إنَّ الْفَيْءَ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ كَانَ مِلْكًا لِلرَّسُولِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ الرَّسُولَ إنَّمَا كَانَ يَسْتَحِقُّ مِنْ الْخُمُسِ خُمُسَهُ . وَقَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ : وَكَذَلِكَ كَانَ يَسْتَحِقُّ مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ خُمُسَهُ , وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تُوجَدُ فِي كَلَامِ طَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ , وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ : مِنْهَا : أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ هَذِهِ الْأَمْوَالَ كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ , وَلَا كَمَا يَتَصَرَّفُ الْمُلُوكُ فِي مِلْكِهِمْ , فَإِنَّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أَنْ يَصْرِفُوا أَمْوَالَهُمْ فِي الْمُبَاحَاتِ , فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهُ فَيَصْرِفُهُ فِي أَغْرَاضِهِ الْخَاصَّةِ , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لَهُ فَيَصْرِفُهُ فِي مَصْلَحَةِ مِلْكِهِ , وَهَذِهِ حَالُ النَّبِيِّ الْمَلِكِ كَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ . قَالَ تَعَالَى : { فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أَيْ أَعْطِ مَنْ شِئْت وَاحْرِمْ مَنْ شِئْت لَا حِسَابَ عَلَيْك , وَنَبِيُّنَا كَانَ عَبْدًا رَسُولًا لَا يُعْطِي إلَّا مَنْ أُمِرَ بِإِعْطَائِهِ , وَلَا يَمْنَعُ إلَّا مَنْ أُمِرَ بِمَنْعِهِ , فَلَمْ يَكُنْ يَصْرِفُ الْأَمْوَالَ إلَّا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَةٍ لَهُ . وَمِنْهَا : أَنَّ النَّبِيَّ لَا يُورَثُ وَلَوْ كَانَ مَلِكًا , فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُورَثُونَ فَإِذَا كَانَ مُلُوكُ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُونُوا مُلَّاكًا كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ , فَكَيْفَ يَكُونُ صَفْوَةُ الرُّسُلِ الَّذِي هُوَ عَبْدٌ رَسُولٌ مَالِكًا . وَمِنْهَا : أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ قَدْرَ الْحَاجَةِ , وَيَصْرِفُ

سَائِرَ الْمَالِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَا يَسْتَفْضِلُهُ , وَلَيْسَتْ هَذِهِ حَالُ الْمُلَّاكِ , بَلْ الْمَالُ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِيهِ كُلَّهُ هُوَ مَالُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَصْرِفَ ذَلِكَ الْمَالَ فِي طَاعَتِهِ , فَتَجِبُ طَاعَتُهُ فِي قَسْمِهِ , كَمَا تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي سَائِرِ مَا يَأْمُرُ بِهِ ; فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ , وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُبَلِّغٌ عَنْ اللَّهِ .

وَالْأَمْوَالُ الَّتِي كَانَ يَقْسِمُهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهَيْنِ : مِنْهَا : مَا تَعَيَّنَ مُسْتَحِقُّهُ وَمَصْرِفُهُ كَالْمَوَارِيثِ . وَمِنْهَا : مَا يَحْتَاجُ إلَى اجْتِهَادِهِ وَنَظَرِهِ وَرَأْيِهِ , فَإِنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُ مَا هُوَ مَحْدُودٌ بِالشَّرْعِ : كَالصَّلَوَاتِ , وَطَوَافِ الْأُسْبُوعِ بِالْبَيْتِ , وَمِنْهُ مَا يَرْجِعُ فِي قَدْرِهِ إلَى اجْتِهَادِ الْمَأْمُورِ فَيَزِيدُهُ وَيَنْقُصُهُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ . فَمِنْ هَذَا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ النَّاسُ , وَمِنْهُ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ : كَتَنَازُعِ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَجِبُ لِلزَّوْجَاتِ مِنْ النَّفَقَاتِ : هَلْ هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ ؟ أَمْ يُرْجَعُ فِيهَا إلَى الْعُرْفِ , فَتَخْتَلِفُ فِي قَدْرِهَا وَصِفَتِهَا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ ؟ . وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي , وَهُوَ الصَّوَابُ { لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدٍ : خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } وَقَالَ أَيْضًا : فِي خُطْبَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ { لِلنِّسَاءِ كِسْوَتُهُنَّ وَنَفَقَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } . وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا أَيْضًا فِيمَا يَجِبُ مِنْ الْكَفَّارَاتِ : هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ أَوْ بِالْعُرْفِ ؟ فَمَا أُضِيفَ إلَى اللَّهِ وَالرُّسُلِ مِنْ الْأَمْوَالِ كَانَ الْمَرْجِعُ فِي قِسْمَتِهِ إلَى أَمْرِ النَّبِيِّ . بِخِلَافِ مَا سُمِّيَ مُسْتَحِقُّوهُ كَالْمَوَارِيثِ , وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حُنَيْنٍ { لَيْسَ لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ } أَيْ لَيْسَ لَهُ بِحُكْمِ

الْقِسْمِ الَّذِي يَرْجِعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِهِ وَنَظَرِهِ الْخَاصِّ إلَّا الْخُمُسُ , وَلِهَذَا قَالَ : { وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ } بِخِلَافِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ فَإِنَّهُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ . وَلِهَذَا كَانَتْ الْغَنَائِمُ يَقْسِمُهَا الْأُمَرَاءُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ , وَالْخُمُسُ يُرْفَعُ إلَى الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ الَّذِينَ خَلَفُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمَّتِهِ فَيَقْسِمُونَهَا بِأَمْرِهِمْ , فَأَمَّا أَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ فَإِنَّمَا يَرْجِعُونَ فِيهَا لِيُعْلَمَ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا يَسْتَفْتِي الْمُسْتَفْتِي , وَكَمَا كَانُوا فِي الْحُدُودِ لِمَعْرِفَةِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ , وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ مَا أَعْطَاهُمْ ; فَقِيلَ : إنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ الْخُمُسِ ; وَقِيلَ : إنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ , وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ فَعَلَ ذَلِكَ لِطِيبِ نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ ; وَلِهَذَا أَجَابَ مَنْ عَتَبَ مِنْ الْأَنْصَارِ بِمَا أَزَالَ عَتَبَهُ وَأَرَادَ تَعْوِيضَهُمْ عَنْ ذَلِكَ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ الْغَنِيمَةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَمْلِكْهَا الْغَانِمُونَ ; وَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بَيَانُ حَالِ الْعَبْدِ الْمَحْضِ لِلَّهِ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَيَسْتَعِينُهُ فَيَعْمَلُ لَهُ وَيَسْتَعِينُهُ وَيُحَقِّقُ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ وَتَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ ; وَإِنْ كَانَتْ الْإِلَهِيَّةُ

تَتَضَمَّنُ الرُّبُوبِيَّةَ .
مَا يُذْكَرُ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّات : " أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِدَاوُدَ : أَمَّا الذَّنْبُ فَقَدْ غَفَرْنَاهُ ; وَأَمَّا الْوُدُّ فَلَا يَعُودُ " فَهَذَا لَوْ عُرِفَتْ صِحَّتُهُ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا لَنَا وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَبْنِيَ دِينَنَا عَلَى هَذَا ; فَإِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْبَةِ جَاءَ بِمَا لَمْ يَجِئْ بِهِ شَرْعُ مَنْ قَبْلَهُ ; وَلِهَذَا قَالَ : { أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ; وَأَنَا نَبِيُّ التَّوْبَةِ } وَقَدْ رَفَعَ بِهِ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ مَا كَانَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } وَأَخْبَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ التَّائِبِ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ الْفَاقِدِ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْمَوْكِبِ إذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْيَأْسِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا فَرَحَ الرَّبِّ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ وَتِلْكَ مَحَبَّتَهُ ; كَيْفَ يُقَالُ : إنَّهُ لَا يَعُودُ لِمَوَدَّتِهِ : { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ , ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ , فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } . وَلَكِنَّ وُدَّهُ وَحُبَّهُ بِحَسَبِ مَا يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ الْعَبْدُ بَعْدَ التَّوْبَةِ ; فَإِنْ كَانَ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ مَحْبُوبَاتِ الْحَقِّ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ يَأْتِي بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَتْ مَوَدَّتُهُ لَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَعْظَمَ مِنْ مَوَدَّتِهِ لَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ ; وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَ كَانَ الْأَمْرُ أَنْقَصَ ; فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ ; وَمَا رَبُّك بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْته بِالْحَرْبِ ; وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ , وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ , فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ , وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ , وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا , وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا : فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي ; وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ; وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَفْضَلَ الْأَوْلِيَاءِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ هُمْ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ; وَكَانَتْ مَحَبَّةُ الرَّبِّ لَهُمْ وَمَوَدَّتُهُ لَهُمْ بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ أَعْظَمَ مَحَبَّةً وَمَوَدَّةً , وَكُلَّمَا تَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَحَبَّهُمْ وَوَدَّهُمْ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاَللَّهُ قَدِيرٌ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَادَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِثْلَ أَهْلِ الْأَحْزَابِ " كَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ , وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ , وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ , وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو , وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ . وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ , وَغَيْرِهِمْ , فَإِنَّهُمْ

بَعْدَ مُعَادَاتِهِمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ مَوَدَّةً , وَكَانُوا فِي ذَلِكَ مُتَفَاضِلِينَ وَكَانَ عِكْرِمَةُ وَسُهَيْلٌ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ أَعْظَمَ مَوَدَّةً مِنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَنَحْوِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ هِنْدَ امْرَأَةَ أَبِي سُفْيَانَ أُمَّ مُعَاوِيَةَ قَالَتْ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ , مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُذَلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِك , وَقَدْ أَصْبَحْتُ وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعَزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِك فَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا نَحْوَ ذَلِكَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْمَوَدَّةَ الَّتِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّمَا تَكُونُ تَابِعَةً لِحُبِّهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى , فَإِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ , وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ . فَالْحُبُّ لِلَّهِ مِنْ كَمَالِ التَّوْحِيدِ ; وَالْحُبُّ مَعَ اللَّهِ شِرْكٌ . قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } فَتِلْكَ الْمَوَدَّةُ الَّتِي صَارَتْ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادُوهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إنَّمَا كَانَتْ مَوَدَّةً لِلَّهِ وَمَحَبَّةً لِلَّهِ وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَحَبَّهُ اللَّهُ , وَمَنْ وَدَّ اللَّهَ وَدَّهُ اللَّهُ , فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَحَبَّهُمْ وَوَدَّهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ , كَمَا أَحَبُّوهُ وَوَدُّوهُ , فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ التَّائِبَ إنَّمَا تَحْصُلُ لَهُ الْمَغْفِرَةُ دُونَ الْمَوَدَّةِ

؟ , . وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أُولَئِكَ كَانُوا كُفَّارًا , لَمْ يَعْرِفُوا أَنَّ مَا فَعَلُوهُ مُحَرَّمٌ ; بَلْ كَانُوا جُهَّالًا بِخِلَافِ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ مُحَرَّمٌ وَأَتَاهُ . قِيلَ : الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ , بَلْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْكُفَّارِ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , وَيُعَادُونَهُ حَسَدَا وَكِبْرًا وَأَبُو سُفْيَانَ قَدْ سَمِعَ مِنْ أَخْبَارِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَسْمَعْ غَيْرُهُ , كَمَا سَمِعَ مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ , وَمَا سَمِعَهُ مِنْ هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ , وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُوقِنًا أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَظْهَرُ حَتَّى أُدْخِلَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ , وَهُوَ كَارِهٌ لَهُ , وَقَدْ سُمِعَ مِنْهُ عَامَ الْيَرْمُوكِ وَغَيْرِهِ مَا دَلَّ عَلَى حُسْنِ إسْلَامِهِ وَمَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بَعْدَ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ الْعَظِيمَةِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } فَإِذَا كَانَ اللَّهُ يُبَدِّلُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ فَالْحَسَنَاتُ تُوجِبُ مَوَدَّةَ اللَّهِ لَهُمْ , وَتَبْدِيلُ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِمَنْ كَانَ كَافِرًا , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى

اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : سَأَلْت أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا لِي : كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ , وَكُلٌّ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ . الْوَجْهُ الثَّانِي : إنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ تَائِبٍ وَتَائِبٍ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّائِبَيْنِ فَرْقٌ لَا أَصْلَ لَهُ ; بَلْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ , وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ , سَوَاءٌ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ مَا أَتَوْهُ ذَنْبًا أَوْ لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ مَا أَتَاهُ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَدِّلَ وَصْفَهُ الْمَذْمُومَ بِالْمَحْمُودِ ; فَإِذَا كَانَ يَبْغُضُ الْحَقَّ فَلَا بُدَّ أَنْ يُحِبَّهُ , وَإِذَا كَانَ يُحِبُّ الْبَاطِلَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْغُضَهُ . فَمَا يَأْتِي بِهِ التَّائِبُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَمَحَبَّتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ , وَمِنْ بُغْضِ الْبَاطِلِ وَاجْتِنَابِهِ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَرْضَاهَا , وَمَحَبَّةُ اللَّهِ كَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَأْتِي بِهِ الْعَبْدُ مِنْ مَحَابِّهِ , فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ فِعْلًا لِمَحْبُوبِ الْحَقِّ كَانَ الْحَقُّ أَعْظَمَ مَحَبَّةً لَهُ , وَانْتِقَالُهُ مِنْ مَكْرُوهِ الْحَقِّ إلَى مَحْبُوبِهِ مَعَ قُوَّةِ بُغْضِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَاطِلِ , وَقُوَّةِ حُبِّ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ حُبِّ الْحَقِّ , فَوَجَبَ زِيَادَةُ مَحَبَّةِ الْحَقِّ

لَهُ وَمَوَدَّتُهُ إيَّاهُ ; بَلْ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ لِأَنَّهُ بَدَّلَ صِفَاتِهِ الْمَذْمُومَةَ بِالْمَحْمُودَةِ فَيُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ , فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ . وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ إتْيَانُ التَّائِبِ بِمَا يُحِبُّهُ الْحَقَّ أَعْظَمَ مِنْ إتْيَانِ غَيْرِهِ كَانَتْ مَحَبَّةُ الْحَقِّ لَهُ أَعْظَمَ وَإِذَا كَانَ فِعْلُهُ لِمَا يَوَدُّهُ اللَّهُ مِنْهُ أَعْظَمَ مِنْ فِعْلِهِ لَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ كَانَتْ مَوَدَّةُ اللَّهِ لَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَعْظَمَ مِنْ مَوَدَّتِهِ لَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ , فَكَيْفَ يُقَالُ الْوُدُّ لَا يَعُودُ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ جَوَابُ شُبْهَةِ مَنْ يَقُولُ : " إنَّ اللَّهَ لَا يَبْعَثُ نَبِيًّا إلَّا مَنْ كَانَ مَعْصُومًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ , كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ , وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يَبْعَثُ نَبِيًّا إلَّا مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ , فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تَوَهَّمُوا أَنَّ الذُّنُوبَ تَكُونُ نَقْصًا وَإِنْ تَابَ التَّائِبُ مِنْهَا , وَهَذَا مَنْشَأُ غَلَطِهِمْ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ صَاحِبَ الذُّنُوبِ مَعَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ يَكُونُ نَاقِصًا فَهُوَ غَالِطٌ غَلَطًا عَظِيمًا , فَإِنَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ الَّذِي يَلْحَقُ أَهْلَ الذُّنُوبِ لَا يَلْحَقُ التَّائِبَ مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا ; لَكِنْ إنْ قَدَّمَ التَّوْبَةَ لَمْ يَلْحَقْهُ شَيْءٌ , وَإِنْ أَخَّرَ التَّوْبَةَ فَقَدْ يَلْحَقُهُ مَا بَيْنَ الذُّنُوبِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ مَا يُنَاسِبُ . وَالْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ كَانُوا لَا يُؤَخِّرُونَ التَّوْبَةَ ; بَلْ يُسَارِعُونَ إلَيْهَا , وَيُسَابِقُونَ إلَيْهَا ,

لَا يُؤَخِّرُونَ وَلَا يُصِرُّونَ عَلَى الذَّنْبِ بَلْ هُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ ذَلِكَ , وَمَنْ أَخَّرَ ذَلِكَ زَمَنًا قَلِيلًا كَفَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ بِمَا يَبْتَلِيهِ بِهِ كَمَا فَعَلَ بِذِي النُّونِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ إلْقَاءَهُ كَانَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ; وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ إلْقَاءَهُ كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا . وَالتَّائِبُ مِنْ الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَمْ يَقَعْ فِي الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ ; ` وَإِذَا كَانَ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ . فَالْأَفْضَلُ أَحَقُّ بِالنُّبُوَّةِ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الْفَضِيلَةِ , وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ أُخُوَّةِ يُوسُفَ بِمَا أَخْبَرَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَهُمْ الْأَسْبَاطُ الَّذِينَ نَبَّأَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إنِّي مُهَاجِرٌ إلَى رَبِّي } فَآمَنَ لُوطٌ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى قَوْمِ لُوطٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّة شُعَيْبٍ : { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ

لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ , وَلَنُسْكِنَنَّكُم الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } . وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِكَمَالِ النِّهَايَةِ , وَهَذَا الْكَمَالُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ , وَلَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ التَّوْبَةِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِتَوْبَةِ آدَمَ وَنُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُمَا إلَى خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآخِرُ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ - أَوْ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ - قَوْله تَعَالَى : { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ , وَرَأَيْت النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا , فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي } يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ . وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ

رَحِيمٌ } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُول : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : عَنْ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ } . وَفِي السُّنَنِ : عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : { كُنَّا نَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ يَقُولُ : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ مِائَةَ مَرَّةٍ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ [ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ أَنَّهُ مِنِّي ; اللَّهُمَّ : اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي . اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت , وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت , وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي , أَنْتَ الْمُقَدِّمُ , وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ , وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَاذَا تَقُولُ ؟ قَالَ : أَقُولُ : اللَّهُمَّ : بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ , اللَّهُمَّ , نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا

يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ , اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ : { أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : نَحْوَ هَذَا إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ : { اللَّهُمَّ , أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ , أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُك , ظَلَمْتُ نَفْسِي وَعَمِلْتُ سُوءًا فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ } . فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ : { اللَّهُمَّ , اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ , عَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ , أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ عَلِيٍّ { أَنَّ النَّبِيَّ أُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا وَأَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ : { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } ثُمَّ كَبَّرَهُ وَحَمِدَهُ ثُمَّ قَالَ : سُبْحَانَك ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ , ثُمَّ ضَحِكَ , وَقَالَ إنَّ الرَّبَّ يَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إذَا قَالَ اغْفِرْ لِي . فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ , يَقُولُ عَلِمَ عَبْدِي أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنَا } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك

وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وَقَالَ : { إنَّا فَتَحْنَا لَك فَتْحًا مُبِينًا , لِيَغْفِرَ لَك اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ } وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ { أَنَّ الْمَسِيحَ يَقُولُ : اذْهَبُوا إلَى مُحَمَّدٍ عَبْدٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ } . وَفِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ , فَيُقَالُ لَهُ : تَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ ؟ قَالَ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا } . وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَثِيرَةٌ . لَكِنْ الْمُنَازِعُونَ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ النُّصُوصَ مِنْ جِنْسِ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْبَابِ . وَتَأْوِيلَاتُهُمْ تُبَيِّنُ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا أَنَّهَا فَاسِدَةٌ مِنْ بَابِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ . كَتَأْوِيلِهِمْ قَوْلَهُ { لِيَغْفِرَ لَك اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ } الْمُتَقَدِّمُ ذَنْبُ آدَمَ وَالْمُتَأَخِّرُ ذَنْبُ أُمَّتِهِ وَهَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وُجُوهٌ : أَحَدُهَا : أَنَّ آدَمَ قَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ إلَى الْأَرْضِ فَضْلًا عَنْ عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ هَذِهِ السُّورَةَ قَالَ تَعَالَى : { وَعَصَى آدَم رَبَّهُ فَغَوَى , ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } وَقَالَ : { فَتَلَقَّى آدَم مِنْ رَبِّهِ

كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } ذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } . وَالثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : فَآدَمُ عِنْدَكُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَوَارِدِ النِّزَاعِ وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ ذَنْبُهُ عِنْدَ الْمُنَازِعِ فَإِنَّهُ نَبِيٌّ أَيْضًا , وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبٌ يَقُولُ ذَلِكَ عَنْ آدَمَ وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ اللَّهَ لَا يَجْعَلُ الذَّنْبَ ذَنْبًا لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَإِنَّهُ هُوَ الْقَائِلُ : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } . فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُضَافَ إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَنْبُ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أُمَّتِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إلَّا نَفْسَك } وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ يُضَافَ إلَى مُحَمَّدٍ ذُنُوبُ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ . وَيُقَالُ : إنَّ قَوْلَهُ : { لِيَغْفِرَ لَك اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ } الْمُرَادُ ذُنُوبُ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ قَبْلَك , فَإِنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَشْفَعُ لِلْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ , وَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ , وَقَالَ : { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ وَآدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ . أَنَا خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ إذَا وَفَدُوا , وَإِمَامُهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا } وَحِينَئِذٍ فَلَا يَخْتَصُّ آدَمَ بِإِضَافَةِ ذَنْبِهِ إلَى مُحَمَّدٍ , بَلْ

تُجْعَلُ ذُنُوبُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ ذُنُوبًا لَهُ . فَإِنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَغْفِرْ ذُنُوبَ جَمِيعِ الْأُمَمِ , قِيلَ : وَهُوَ أَيْضًا لَمْ يَغْفِرْ ذُنُوبَ جَمِيعِ أُمَّتِهِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ مَيَّزَ بَيْنَ ذَنْبِهِ وَذُنُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } فَكَيْفَ يَكُونُ ذَنْبُ الْمُؤْمِنِينَ ذَنْبًا لَهُ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ الصَّحَابَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ , هَذَا لَك فَمَا لَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلِمُوا أَنَّ قَوْلَهُ : { لِيَغْفِرَ لَك اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ } مُخْتَصٌّ بِهِ دُونَ أُمَّتِهِ . الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَغْفِرْ ذُنُوبَ جَمِيعِ أُمَّتِهِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ مِنْ أُمَّتِهِ مِنْ يُعَاقَبُ بِذُنُوبِهِ إمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ , وَهَذَا مِمَّا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ وَأَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا , وَشُوهِدَ فِي الدُّنْيَا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } وَالِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ قَدْ يَكُونَانِ مِنْ تَرْكِ الْأَفْضَلِ . فَمَنْ نُقِلَ إلَى حَالٍ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَدْ يَتُوبُ مِنْ الْحَالِ الْأَوَّلِ ; لَكِنَّ

الذَّمَّ وَالْوَعِيدَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى ذَنْبٍ .
1065 - 1065 - 41 مَسْأَلَةٌ : عَنْ الْعُمْرَةِ , هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ ؟ وَإِنْ كَانَ , فَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ ؟ . فَصْلٌ : الْعُمْرَةُ فِي وُجُوبِهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمَا وُجُوبُهَا , وَالْقَوْلُ الْآخَرُ : لَا تَجِبُ , وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَهَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحُ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَوْجَبَ الْحَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } لَمْ يُوجِبْ الْعُمْرَةَ كَمَا أَوْجَبَ إتْمَامَهَا بِقَوْلِهِ : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } إيجَابُ الْإِتْمَامِ وَأَوْجَبَ إتْمَامَهُمَا , وَفِي الِابْتِدَاءِ إنَّمَا أَوْجَبَ الْحَجَّ , وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ لَيْسَ فِيهَا إلَّا إيجَابُ الْحَجِّ ; وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَيْسَ فِيهَا جِنْسُ غَيْرِ مَا فِي الْحَجِّ فَإِنَّهَا إحْرَامٌ وَإِحْلَالٌ وَطَوَافٌ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْحَجِّ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَفْعَالُ الْحَجِّ لَمْ يَفْرِضْ اللَّهُ مِنْهَا شَيْئًا مَرَّتَيْنِ , فَلَمْ يَفْرِضْ وَقُوفَيْنِ وَلَا طَوَافَيْنِ وَلَا سَعْيَيْنِ , وَلَا فَرَضَ الْحَجَّ مَرَّتَيْنِ , فَطَوَافُ الْوَدَاعِ لَيْسَ بِرُكْنٍ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ , وَلَكِنْ كُلُّ مَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَدِّعَ , وَلِهَذَا مَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ لَا يُوَدِّعُ عَلَى الصَّحِيحِ , فَوُجُوبُهُ لِيَكُونَ آخِرَ عَهْدِ الْخَارِجِ بِالْبَيْتِ كَمَا وَجَبَ الدُّخُولُ بِالْإِحْرَامِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لِسَبَبٍ عَارِضٍ , لَا

لِكَوْنِ ذَلِكَ وَاجِبًا بِالْإِسْلَامِ كَوُجُوبِ الْحَجِّ , وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ الْمُقِيمِينَ بِمَكَّةَ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَمِرُونَ بِمَكَّةَ لَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَلَى عَهْدِ خُلَفَائِهِ , بَلْ لَمْ يَعْتَمِرْ أَحَدٌ عُمْرَةً بِمَكَّةَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَائِشَةُ وَحْدَهَا لِسَبَبٍ عَارِضٍ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .

وَتَجِبُ النَّفَقَةُ لِكُلِّ وَارِثٍ وَلَوْ كَانَ مُقَاطِعًا مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَغَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ وَهُوَ عَامٌّ كَعُمُومِ الْمِيرَاثِ فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَالْأَوْجَهُ وُجُوبُهَا مُرَتَّبًا وَإِنْ كَانَ الْمُوسِرُ الْقَرِيبُ مُمْتَنِعًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَالْمُعْسِرِ كَمَا لَوْ كَانَ لِلرَّجُلِ مَالٌ وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ لِغَصْبٍ أَوْ بُعْدٍ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ هُنَا الْقَرْضُ رَجَاءَ الِاسْتِرْجَاعِ وَعَلَى هَذَا فَمَتَى وَجَبَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَرْضُ إذَا كَانَ لَهُ وَفَاءٌ . وَذَكَرَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُمَا فِي أَبٍ وَابْنٍ الْقِيَاسَ أَنَّ عَلَى الْأَبِ السُّدُسَ إلَّا أَنَّ الْأَصْحَابَ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِظَاهِرِ الْآيَةِ , وَالْآيَةُ إنَّمَا هِيَ فِي الرَّضِيعِ وَلَيْسَ لَهُ ابْنٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّ مَنْ لَهُ ابْنٌ يَبْعُدُ أَنْ لَا تَكُونَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ بَلْ تَكُونَ عَلَى الْأَبِ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ وَهَذَا جَيِّدٌ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ حَيْثُ ذَكَرَ فِي التَّذْكِرَةِ أَنَّ الْوَلَدَ يَنْفَرِدُ بِنَفَقَةِ وَالِدَيْهِ .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَرَسُولَهُ سَدَّ الذَّرَائِعَ الْمُفْضِيَةَ إلَى الْمَحَارِمِ بِأَنْ حَرَّمَهَا وَنَهَى عَنْهَا . وَالذَّرِيعَةُ مَا كَانَ وَسِيلَةً وَطَرِيقًا إلَى الشَّيْءِ , لَكِنْ صَارَتْ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةً عَمَّا أَفَضْت إلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ , وَلَوْ تَجَرَّدَتْ عَنْ ذَلِكَ الْإِفْضَاءِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَفْسَدَةٌ , وَلِهَذَا قِيلَ الذَّرِيعَةُ الْفِعْلُ الَّذِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُبَاحٌ وَهُوَ وَسِيلَةٌ إلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمِ , أَمَّا إذَا أَفْضَتْ إلَى فَسَادٍ لَيْسَ هُوَ فِعْلًا كَإِفْضَاءِ شُرْبِ الْخَمْرِ إلَى السُّكْرِ وَإِفْضَاءِ الزِّنَا إلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ أَوْ كَانَ الشَّيْءُ نَفْسُهُ فَسَادًا كَالْقَتْلِ وَالظُّلْمِ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ , فَإِنَّا نَعْلَمُ إنَّمَا حُرِّمَتْ الْأَشْيَاءُ لِكَوْنِهَا فِي نَفْسِهَا فَسَادًا بِحَيْثُ تَكُونُ ضَرَرًا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ . أَوْ لِكَوْنِهَا مُفْضِيَةً إلَى فَسَادٍ بِحَيْثُ تَكُونُ هِيَ فِي نَفْسِهَا فِيهَا مَنْفَعَةٌ وَهِيَ مُفْضِيَةٌ إلَى ضَرَرٍ أَكْثَرَ مِنْهَا فَتَحْرُمُ , فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْفَسَادُ فِعْلَ مَحْظُورٍ سُمِّيَتْ ذَرِيعَةً وَإِلَّا سُمِّيَتْ سَبَبًا وَمُقْتَضِيًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَشْهُورَةِ , ثُمَّ هَذِهِ الذَّرَائِعُ إذَا كَانَتْ تُفْضِي إلَى الْمُحَرَّمِ غَالِبَا فَإِنَّهُ يُحَرِّمُهَا مُطْلَقًا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ قَدْ تُفْضِي وَقَدْ لَا تُفْضِي لَكِنَّ الطَّبْعَ مُتَقَاضٍ لِإِفْضَائِهَا . وَأَمَّا إنْ كَانَتْ إنَّمَا تُفْضِي أَحْيَانًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى هَذَا الْإِفْضَاءِ الْقَلِيلِ , وَإِلَّا حَرَّمَهَا أَيْضًا , ثُمَّ هَذِهِ الذَّرَائِعُ

مِنْهَا مَا يُفْضِي إلَى الْمَكْرُوهِ بِدُونِ قَصْدِ فَاعِلِهَا . وَمِنْهَا مَا تَكُونُ إبَاحَتُهَا مُفْضِيَةً لِلتَّوَسُّلِ بِهَا إلَى الْمَحَارِمِ فَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي يُجَامِعُ الْحِيَلَ بِحَيْثُ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهِ الِاحْتِيَالُ تَارَةً وَقَدْ لَا يَقْتَرِنُ كَمَا أَنَّ الْحِيَلَ قَدْ تَكُونُ بِالذَّرَائِعِ وَقَدْ تَكُونُ بِأَسْبَابٍ مُبَاحَةٍ فِي الْأَصْلِ لَيْسَتْ ذَرَائِعَ . فَصَارَتْ الْأَقْسَامُ ثَلَاثَةً . الْأَوَّلُ : مَا هُوَ ذَرِيعَةٌ وَهُوَ مِمَّا يُحْتَالُ بِهِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ , وَكَاشْتِرَاءِ الْبَائِعِ السِّلْعَةَ مِنْ مُشْتَرِيهَا بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ تَارَةً وَبِأَكْثَرَ أُخْرَى , وَكَالِاعْتِيَاضِ عَنْ ثَمَنِ الرِّبَوِيِّ بِرِبَوِيٍّ لَا يُبَاعُ بِالْأَوَّلِ نَسَئًا , وَكَقَرْضِ بَنِي آدَمَ . الثَّانِي : مَا هُوَ ذَرِيعَةٌ لَا يُحْتَالُ بِهَا كَسَبِّ الْأَوْثَانِ فَإِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ سَبُّ الرَّجُلِ وَالِدَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ يَسُبَّ وَالِدَهُ وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا يَقْصِدُهُمَا مُؤْمِنٌ . الثَّالِثُ : مَا يَحْتَالُ بِهِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ فِي الْأَصْلِ كَبَيْعِ النِّصَابِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ وَكَإِغْلَاءِ الثَّمَنِ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ . وَالْغَرَضُ هُنَا أَنَّ الذَّرَائِعَ حَرَّمَهَا الشَّارِعُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الْمُحَرَّمَ خَشْيَةَ إفْضَائِهَا إلَى الْمُحَرَّمِ , فَإِذَا قَصَدَ بِالشَّيْءِ نَفْسَ الْمُحَرَّمِ كَانَ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ مِنْ الذَّرَائِعِ وَبِهَذَا التَّحْرِيرِ يَظْهَرُ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ فِي مَسَائِلِ الْعِينَةِ وَأَمْثَالِهَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْبَائِعُ الرِّبَا ; لِأَنَّ هَذِهِ

الْمُعَامَلَةَ يَغْلِبُ فِيهَا قَصْدُ الرِّبَا فَيَصِيرُ ذَرِيعَةً فَيَسُدُّ هَذَا الْبَابَ لِئَلَّا يَتَّخِذَهُ النَّاسُ ذَرِيعَةً إلَى الرِّبَا وَيَقُولُ الْقَائِلُ لَمْ أَقْصِدْ بِهِ ذَلِكَ , وَلِئَلَّا يَدْعُو الْإِنْسَانُ فِعْلَهُ مَرَّةً إلَى أَنْ يَقْصِدَ مَرَّةً أُخْرَى , وَلِئَلَّا يَعْتَقِدَ أَنَّ جِنْسَ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ حَلَالٌ وَلَا يُمَيِّزَ بَيْنَ الْقَصْدِ وَعَدَمِهِ , وَلِئَلَّا يَفْعَلَهَا الْإِنْسَانُ مَعَ قَصْدٍ خَفِيٍّ يَخْفَى مِنْ نَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ . وَلِلشَّرِيعَةِ أَسْرَارٌ فِي سَدِّ الْفَسَادِ وَحَسْمِ مَادَّةِ الشَّرِّ لِعِلْمِ الشَّارِعِ مَا جُلِبَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ وَبِمَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ مِنْ خَفِيِّ هُدَاهَا الَّذِي لَا يَزَالُ يَسْرِي فِيهَا حَتَّى يَقُودَهَا إلَى الْهَلَكَةِ , فَمَنْ تَحَذْلَقَ عَلَى الشَّارِعِ وَاعْتَقَدَ فِي بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ أَنَّهُ إنَّمَا حُرِّمَ لِعِلَّةِ كَذَا وَتِلْكَ الْعِلَّةُ مَقْصُودَةٌ فِيهِ فَاسْتَبَاحَهُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ فَهُوَ ظَلُومٌ لِنَفْسِهِ جَهُولٌ بِأَمْرِ رَبِّهِ وَهُوَ إنْ نَجَا مِنْ الْكُفْرِ لَمْ يَنْجُ غَالِبًا مِنْ بِدْعَةٍ أَوْ فِسْقٍ أَوْ قِلَّةِ فِقْهٍ فِي الدِّينِ وَعَدَمِ بَصِيرَةٍ . أَمَّا شَوَاهِدُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ , فَنَذْكُرُ مِنْهَا مَا حَضَرَ . فَالْأَوَّلُ : قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهَ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } حَرَّمَ سَبَّ الْآلِهَةِ مَعَ أَنَّهُ عِبَادَةٌ لِكَوْنِهِ ذَرِيعَةً إلَى سَبِّهِمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ; لِأَنَّ مَصْلَحَةَ تَرْكِهِمْ سَبَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ سَبِّنَا لِآلِهَتِهِمْ . الثَّانِي

: مَا رَوَى حُمَيْدٍ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مِنْ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ , قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ : { إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ } فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلَ سَابًّا لَاعِنًا لِأَبَوَيْهِ إذَا سَبَّ سَبًّا يُجْزِيهِ النَّاسُ عَلَيْهِ بِالسَّبِّ لَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ , وَبَيْنَ هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ فَرْقٌ ; لِأَنَّ سَبَّ أَبَا النَّاسِ هُنَا حَرَامٌ لَكِنْ قَدْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ لِكَوْنِهِ شَتْمًا لِوَالِدَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعُقُوقِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إثْمٌ مِنْ جِهَةِ إيذَاءِ غَيْرِهِ . الثَّالِثُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكُفُّ عَنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ مَعَ كَوْنِهِ مَصْلَحَةً لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى قَوْلِ النَّاسِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ ; لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوجِبُ النُّفُورَ عَنْ الْإِسْلَامِ مِمَّنْ دَخَلَ فِيهِ وَمِمَّنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ وَهَذَا النُّفُورُ حَرَامٌ . الرَّابِعُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الْخَمْرَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ

الْمُتَرَتِّبِ عَلَى زَوَالِ الْعَقْلِ وَهَذَا فِي الْأَصْلِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ , ثُمَّ إنَّهُ حَرَّمَ قَلِيلَ الْخَمْرِ وَحَرَّمَ اقْتِنَاءَهَا لِلتَّخْلِيلِ وَجَعَلَهَا نَجِسَةً لِئَلَّا تُفْضِيَ إبَاحَتُهُ مُقَارَبَتَهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لَا لِإِتْلَافِهَا عَلَى شَارِبِهَا , ثُمَّ إنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْ الْخَلِيطَيْنِ , وَعَنْ شُرْبِ الْعَصِيرِ وَالنَّبِيذِ بَعْدَ ثَلَاثٍ , وَعَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ الَّتِي لَا نَعْلَمُ بِتَخْمِيرِ النَّبِيذِ فِيهَا حَسْمًا لِمَادَّةِ ذَلِكَ , وَإِنْ كَانَ فِي بَقَاءِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ خِلَافٌ - وَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى بَعْضَ ذَلِكَ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً فَقَالَ : { لَوْ رَخَّصْت لَكُمْ فِي هَذِهِ لَأَوْشَكَ أَنْ تَجْعَلُوهَا مِثْلَ هَذِهِ } . يَعْنِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النُّفُوسَ لَا تَقِفُ عِنْدَ الْحَدِّ الْمُبَاحِ فِي مِثْلِ هَذَا . الْخَامِسُ : أَنَّهُ حَرَّمَ الْخَلْوَةَ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالسَّفَرَ بِهَا وَلَوْ فِي مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ حَسْمًا لِمَادَّةِ مَا يُحَاذَرُ مِنْ تَغَيُّرِ الطِّبَاعِ وَشِبْهِ الْغَيْرِ . السَّادِسُ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ بِنَاء الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَلَعَنَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ , وَنَهَى عَنْ تَكْبِيرِ الْقُبُورِ وَتَشْرِيفِهَا وَأَمَرَ بِتَسْوِيَتِهَا , وَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ إلَيْهَا وَعِنْدَهَا , وَعَنْ إيقَادِ الْمَصَابِيحِ عَلَيْهَا لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى اتِّخَاذِهَا أَوْثَانًا , وَحَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ قَصَدَ هَذَا وَمَنْ لَمْ يَقْصِدْهُ بَلْ قَصَدَ خِلَافَهُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ . السَّابِعُ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ

وَغُرُوبِهَا وَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ أَنَّهُمَا وَقْتُ سُجُودِ الْكُفَّارِ لِلشَّمْسِ فَفِي ذَلِكَ تَشْبِيهٌ بِهِمْ وَمُشَابَهَةُ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ يُعْطَى بَعْضُ أَحْكَامِهِ فَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى السُّجُودِ لِلشَّمْسِ أَوْ أَخْذِ بَعْضِ أَحْوَالِ عَابِدِيهَا . الثَّامِنُ : أَنَّهُ نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِثْلُ قَوْلِهِ { إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ } - { إنَّ الْيَهُودَ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ فَخَالِفُوهُمْ } , وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَاشُورَاءَ : { لَئِنْ عِشْتُ إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ } , وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : { لَا تَشَبَّهُوا بِالْأَعَاجِمِ } وَقَالَ فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا } , حَتَّى قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ , وَمَا ذَاكَ إلَّا ; لِأَنَّ الْمُشَابَهَةَ فِي بَعْضِ الْهُدَى الظَّاهِرِ يُوجِبُ الْمُقَارَبَةَ وَنَوْعًا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ يُفْضِي إلَى الْمُشَارَكَةِ فِي خَصَائِصِهِمْ الَّتِي انْفَرَدُوا بِهَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْعَرَبِ ذَلِكَ يَجُرُّ إلَى فَسَادٍ عَرِيضٍ . التَّاسِعُ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا . وَقَالَ : { إنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ } حَتَّى لَوْ رَضِيَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تُنْكَحَ عَلَيْهَا أُخْتُهَا كَمَا رَضِيَتْ بِذَلِكَ { أُمُّ حَبِيبَةَ لَمَّا طَلَبَتْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَ

أُخْتَهَا دُرَّةَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ } , وَإِنْ زَعَمَتَا أَنَّهُمَا لَا يَتَبَاغَضَانِ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الطِّبَاعَ تَتَغَيَّرُ فَيَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمِ مِنْ الْقَطِيعَةِ , وَكَذَلِكَ حَرَّمَ نِكَاحَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى الْجَوْرِ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسَمِ , وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ بِهِ قُوَّةً عَلَى الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ مَعَ الْكَثْرَةِ , وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعِلَّةَ إفْضَاءُ ذَلِكَ إلَى كَثْرَةِ الْمَئُونَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى أَكْلِ الْحَرَامِ مِنْ مَالِ الْيَتَامَى وَغَيْرِهِنَّ , وَقَدْ بَيَّنَ الْعَيْنَ الْأُولَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } وَهَذَا نَصٌّ فِي اعْتِبَارِ الذَّرِيعَةِ . الْعَاشِرُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ خِطْبَةَ الْمُعْتَدَّةِ صَرِيحًا حَتَّى حَرَّمَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ , وَإِنْ كَانَ الْمَرْجِعُ فِي انْقِضَائِهَا لَيْسَ هُوَ إلَى الْمَرْأَةِ فَإِنَّ إبَاحَتَهُ الْخِطْبَةَ قَدْ يَجُرُّ إلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ . الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ عَقْدَ النِّكَاحِ فِي حَالِ الْعِدَّةِ . وَفِي حَالِ الْإِحْرَامِ حَسْمًا لِمَادَّةِ دَوَاعِي النِّكَاحِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ , وَلِهَذَا حَرَّمَ التَّطَيُّبَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ . الثَّانِيَ عَشَرَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اشْتَرَطَ لِلنِّكَاحِ شُرُوطًا زَائِدَةً عَلَى حَقِيقَةِ الْعَقْدِ تَقْطَعُ عَنْهُ شُبْهَةَ بَعْضِ أَنْوَاعِ السِّفَاحِ بِهِ مِثْلَ اشْتِرَاطِ إعْلَانِهِ إمَّا بِالشَّهَادَةِ أَوْ تَرْكِ الْكِتْمَانِ أَوْ بِهِمَا , وَمِثْلُ اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ فِيهِ , وَمَنَعَ الْمَرْأَةَ أَنْ تَلِيَهُ , وَنَدَبَ إلَى

إظْهَارِهِ حَتَّى اُسْتُحِبَّ فِيهِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ وَالْوَلِيمَةُ , وَكَانَ أَصْلُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } وَ { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } وَإِنَّمَا ذَلِكَ ; لِأَنَّ فِي الْإِخْلَالِ بِذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى وُقُوعِ السِّفَاحِ بِصُورَةِ النِّكَاحِ وَزَوَالِ بَعْضِ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ مِنْ حَجْرِ الْفِرَاشِ , ثُمَّ إنَّهُ وَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَ لِلنِّكَاحِ حَرِيمًا مِنْ الْعِدَّةِ يَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ الِاسْتِبْرَاءِ وَأَثْبَتَ لَهُ أَحْكَامًا مِنْ الْمُصَاهَرَةِ وَحُرْمَتِهَا وَمِنْ الْمُوَارَثَةِ زَائِدَةً عَلَى مُجَرَّدِ مَقْصُودِ الِاسْتِمْتَاعِ , فَعَلِمَ أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهُ سَبَبًا وَصِلَةً بَيْنَ النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الرَّحِمِ كَمَا جَعَلَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى : { نَسَبًا وَصِهْرًا } , وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ تَمْنَعُ اشْتِبَاهَهُ بِالسِّفَاحِ وَتُبَيِّنُ أَنَّ نِكَاحَ الْمَحَلِّ بِالسِّفَاحِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ حَيْثُ كَانَتْ هَذِهِ الْخَصَائِصُ غَيْرَ مُتَيَقَّنَةٍ فِيهِ . الثَّالِثَ عَشَرَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ } وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ أَفْرَدَ أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ صَحَّ , وَإِنَّمَا ذَاكَ ; لِأَنَّ اقْتِرَانَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ يُقْرِضَهُ أَلْفًا وَيَبِيعَهُ ثَمَانَمِائَةٍ بِأَلْفٍ أُخْرَى فَيَكُونُ قَدْ أَعْطَاهُ أَلْفًا وَسِلْعَةً بِثَمَانِمِائَةٍ لِيَأْخُذَ مِنْهُ أَلْفَيْنِ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الرِّبَا . وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ بَعْضَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْتَجَّ لِلْبُطْلَانِ فِي مَسْأَلَةِ مُدِّ

عَجْوَةٍ قَالَ إنَّ مَنْ جَوَّزَهَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ أَلْفَ دِينَارٍ وَمِنْدِيلًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِينَارِ تِبْرٍ يَقْصِدُ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا ذَرِيعَةٌ إلَى الرِّبَا وَهَذِهِ عِلَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ , لَكِنَّ الْمُحْتَجَّ بِهَا مِمَّنْ يُجَوِّزُ أَنْ يُقْرِضَهُ أَلْفًا وَيَبِيعَهُ الْمِنْدِيلَ بِخَمْسِمِائَةٍ , وَهِيَ بِعَيْنِهَا الصُّورَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَالْعِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ بِعَيْنِهَا مَوْجُودَةٌ فِيهَا فَكَيْفَ يُنْكِرُ عَلَى غَيْرِهِ مَا هُوَ مُرْتَكِبٌ لَهُ . الرَّابِعَ عَشَرَ : إنَّ الْآثَارَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي الْعِينَةِ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ عَوْدَةِ السِّلْعَةِ إلَى الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَى الرِّبَا وَمَا ذَاكَ إلَّا سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ . الْخَامِسَ عَشَرَ : أَنَّهُ تَقَدَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مَنْعَ الْمُقْرِضِ قَبُولَ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ إلَى أَنْ يَحْسِبَهَا لَهُ أَوْ يَكُونَ قَدْ جَرَى ذَلِكَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْقَرْضِ , وَمَا ذَاكَ إلَّا لِئَلَّا تُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى تَأْخِيرِ الدَّيْنِ لِأَجْلِ الْهَدِيَّةِ فَيَكُونُ رِبًا إذَا اسْتَعَادَ مَالَهُ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ فَضْلًا , وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَ مِنْ مَنْعِ الْوَالِي وَالْقَاضِي قَبُولَ الْهَدِيَّةِ , وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ , فَإِنَّ فَتْحَ هَذَا الْبَابِ ذَرِيعَةٌ إلَى فَسَادٍ عَرِيضٍ فِي الْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ . السَّادِسَ عَشَرَ : أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِقَاتِلٍ مِنْ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ , إمَّا الْقَاتِلُ عَمْدًا كَمَا قَالَ مَالِكٌ , وَالْقَاتِلُ

مُبَاشَرَةً كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمَا , أَوْ الْقَاتِلُ قَتْلًا مَضْمُونًا بِقَوَدٍ أَوْ دِيَةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ , أَوْ الْقَاتِلُ بِغَيْرِ حَقٍّ , أَوْ الْقَاتِلُ مُطْلَقًا فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , وَسَوَاءٌ قَصَدَ الْقَاتِلُ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْمِيرَاثَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ , فَإِنَّ رِعَايَةَ هَذَا الْقَصْدِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْمَنْعِ وِفَاقًا , وَمَا ذَاكَ إلَّا ; لِأَنَّ تَوْرِيثَ الْقَاتِلِ ذَرِيعَةٌ إلَى وُقُوعِ هَذَا الْفِعْلِ فَسَدَتْ الذَّرِيعَةُ بِالْمَنْعِ بِالْكُلِّيَّةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ عِلَلٍ أُخَرَ . السَّابِعَ عَشَرَ : أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَرَّثُوا الْمُطَلَّقَةَ الْمَبْتُوتَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ حَيْثُ يُتَّهَمُ بِقَصْدِ حِرْمَانِهَا الْمِيرَاثَ بِلَا تَرَدُّدٍ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْحِرْمَانَ ; لِأَنَّ الطَّلَاقَ ذَرِيعَةٌ , وَأَمَّا حَيْثُ لَا يُتَّهَمُ فَفِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ مَأْخَذُ الشَّارِعِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُوَرِّثَ أَوْجَبَ تَعَلُّقَ حَقِّهَا بِمَالِهِ فَلَا يُمْكِنُ مِنْ قَطْعِهِ أَوْ سَدِّ الْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ , وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مُتَأَخِّرٌ عَنْ إجْمَاعِ السَّابِقِينَ . الثَّامِنَ عَشَرَ : أَنَّ الصَّحَابَةَ وَعَامَّةَ الْفُقَهَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِ الْجَمْعِ بِالْوَاحِدِ , وَإِنْ كَانَ قِيَاسُ الْقِصَاصِ يَمْنَعُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَكُونَ عَدَمُ الْقِصَاصِ ذَرِيعَةً إلَى التَّعَاوُنِ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ . التَّاسِعَ عَشَرَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ بِدَارِ الْحُرُوبِ } لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى

اللَّحَاقِ بِالْكُفَّارِ . الْعِشْرُونَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ فَلْيَصُمْهُ } { وَنَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ } إمَّا مَعَ كَوْنِ طُلُوعِ الْهِلَالِ مَرْجُوحًا وَهُوَ حَالُ الصَّحْوِ وَإِمَّا سَوَاءٌ كَانَ رَاجِحًا أَوْ مَرْجُوحًا أَوْ مُسَاوِيًا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ , وَمَا ذَاكَ إلَّا لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى أَنْ يَلْحَقَ بِالْفَرْضِ مَا لَيْسَ مِنْهُ , وَكَذَلِكَ حَرَّمَ صَوْمَ الْيَوْمِ الَّذِي يَلِي آخِرَ الصَّوْمِ وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ . وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صَوْمِكُمْ تَمْيِيزًا لِوَقْتِ الْعِبَادَةِ مِنْ غَيْرِهِ لِئَلَّا يُفْضِيَ الصَّوْمُ الْمُتَوَاصِلُ إلَى التَّسَاوِي , وَرَاعَى هَذَا الْمَقْصُودَ فِي اسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْفُطُورِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ وَاسْتِحْبَابِ الْأَكْلِ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ , وَكَذَلِكَ نَدَبَ إلَى تَمْيِيزِ فَرْضِ الصَّلَاةِ عَنْ نَفْلِهَا وَعَنْ غَيْرِهَا فَكَرِهَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَطَوَّعَ فِي مَكَانِهِ وَأَنْ يَسْتَدِيمَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ , وَنَدَبَ الْمَأْمُومَ إلَى هَذَا التَّمْيِيزِ , وَمِنْ جُمْلَةِ فَوَائِدِ ذَلِكَ سَدُّ الْبَابِ الَّذِي قَدْ يُفْضِي إلَى الزِّيَادَةِ فِي الْفَرَائِضِ . الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ الصَّلَاةَ إلَى مَا قَدْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَأَحَبَّ لِمَنْ صَلَّى إلَى عَمُودٍ أَوْ عُودٍ وَنَحْوِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى أَحَدِ حَاجِبَيْهِ وَلَا يَصْمُدَ إلَيْهِ صَمْدًا قَطْعًا لِذَرِيعَةِ التَّشْبِيهِ

بِالسُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ . الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَنَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَقُولُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاعِنَا مَعَ قَصْدِهِمْ الصَّالِحَ ; لِئَلَّا تَتَّخِذَهُ الْيَهُودُ ذَرِيعَةً إلَى سَبِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِئَلَّا يُشْتَبَهَ بِهِمْ , وَلِئَلَّا يُخَاطَبَ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُ مَعْنًى فَاسِدًا . الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّهُ أَوْجَبَ الشُّفْعَةَ لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الشَّرِكَةِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ الْمَعَاصِي الْمُعَلَّقَةِ بِالشَّرِكَةِ وَالْقِسْمَةِ سَدًّا لِهَذِهِ الْمَفْسَدَةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْكُمَ بِالظَّاهِرِ مَعَ إمْكَانِ أَنْ يُوحِيَ إلَيْهِ الْبَاطِنَ , وَأَمَرَهُ أَنْ يُسَوِّيَ الدَّعَاوَى بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ وَأَنْ لَا يَقْبَلَ شَهَادَةَ ظَنِينٍ فِي قَرَابَةٍ وَإِنْ وَثِقَ بِتَقْوَاهُ , حَتَّى لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ لِيَنْضَبِطَ طَرِيقُ الْحُكْمِ , فَإِنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْخُصُومِ وَالشُّهُودِ يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ مَا لَا يَزُولُ إلَّا بِحَسْمِ هَذِهِ الْمَادَّةِ وَإِنْ أَفْضَتْ فِي آحَادِ الصُّوَرِ إلَى الْحُكْمِ لِغَيْرِ الْحَقِّ فَإِنَّ فَسَادَ ذَلِكَ قَلِيلٌ إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ فِي جَنْبِ فَسَادِ الْحُكْمِ بِغَيْرِ طَرِيقٍ مَضْبُوطٍ مِنْ قَرَائِنَ أَوْ فِرَاسَةٍ أَوْ صَلَاحِ خَصْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقَعُ بِهَذَا صَلَاحٌ قَلِيلٌ مَغْمُورٌ بِفَسَادٍ كَثِيرٍ . الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ

اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَنَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ بِمَكَّةَ مِنْ الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ حَيْثُ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَسْمَعُونَهُ فَيَسُبُّونَ الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ . السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ إقَامَةَ الْحُدُودِ سَدًّا لِلتَّذَرُّعِ إلَى الْمَعَاصِي إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا زَاجِرٌ وَإِنْ كَانَتْ الْعُقُوبَاتُ مِنْ جِنْسِ الشَّرِّ , وَلِهَذَا لَمْ تُشْرَعْ الْحُدُودُ إلَّا فِي مَعْصِيَةٍ تَتَقَاضَاهَا الطِّبَاعُ كَالزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ دُونَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالرَّمْيِ بِالْكُفْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ اكْتَفَى فِيهِ بِالتَّعْزِيرِ , ثُمَّ إنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى السُّلْطَانِ إقَامَةَ الْحُدُودِ إذَا رُفِعَتْ إلَيْهِ الْجَرِيمَةُ وَإِنْ تَابَ الْعَاصِي عِنْدَ ذَلِكَ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَيْهَا لِئَلَّا يُفْضِيَ تَرْكُ الْحَدِّ بِهَذَا السَّبَبِ إلَى تَعْطِيلِ الْحُدُودِ , مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ . السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى إمَامٍ وَاحِدٍ فِي الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى وَفِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَفِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِ إمَامَيْنِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ أَقْرَبُ إلَى حُصُولِ الصَّلَاةِ الْأَصْلِيَّةِ لِمَا فِي التَّفْرِيقِ مِنْ خَوْفِ تَفْرِيقِ الْقُلُوبِ وَتَشَتُّتِ الْهِمَمِ , ثُمَّ إنَّ مُحَافَظَةَ الشَّارِعِ عَلَى قَاعِدَةِ الِاعْتِصَامِ بِالْجَمَاعَةِ وَصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَزَجْرِهِ عَمَّا قَدْ يُفْضِي إلَى ضِدِّ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ

التَّصَرُّفَاتِ لَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ , وَكُلُّ ذَلِكَ يُشْرَعُ لِوَسَائِلِ الْأُلْفَةِ وَهِيَ مِنْ الْأَفْعَالِ وَزَجْرٍ عَنْ ذَرَائِعِ الْفُرْقَةِ , وَهِيَ مِنْ الْأَفْعَالِ أَيْضًا . الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ بِكَرَاهَةِ إفْرَادِ رَجَبٍ بِالصَّوْمِ . وَكَرَاهَةِ إفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ , وَجَاءَ عَنْ السَّلَفِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ صَوْمِ أَيَّامِ أَعْيَادِ الْكُفَّارِ وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ نَفْسُهُ عَمَلًا صَالِحًا لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى مُشَابَهَةِ الْكُفَّارِ وَتَعْظِيمُ الشَّيْءِ تَعْظِيمًا غَيْرُ مَشْرُوعٍ . التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ الشُّرُوطَ الْمَضْرُوبَةَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ تَضَمَّنَتْ تَمْيِيزَهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي اللِّبَاسِ وَالشُّعُورِ وَالْمَرَاكِبِ وَغَيْرِهَا لِئَلَّا تُفْضِي مُشَابَهَتُهُمْ إلَى أَنْ يُعَامَلَ الْكَافِرُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِ . الثَّلَاثُونَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الَّذِي أَرْسَلَ مَعَهُ بِهَدِيَّةٍ إذَا عَطِبَ شَيْءٌ مِنْهُ دُونَ الْمَحَلِّ أَنْ يَنْحَرَهُ وَيَصْبُغَ نَعْلَهُ الَّذِي قَلَّدَهُ بِدَمِهِ وَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ وَنَهَاهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ هُوَ أَوْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ , قَالُوا وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يُطْعِمَ أَهْلَ رُفْقَتِهِ قَبْلَ بُلُوغِ الْمَحَلِّ فَرُبَّمَا دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى أَنْ يُقَصِّرَ فِي عَلَفِهَا وَحِفْظِهَا مِمَّا يُؤْذِيهَا لِحُصُولِ غَرَضِهِ بِعَطَبِهَا دُونَ الْمَحَلِّ كَحُصُولِهِ بِبُلُوغِهَا الْمَحَلَّ مِنْ الْأَكْلِ وَالْإِهْدَاءِ , فَإِذَا أَيِسَ مِنْ حُصُولِ غَرَضِهِ فِي عَطَبِهَا كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى إبْلَاغِهَا

الْمَحَلَّ وَأَحْسَمُ لِمَادَّةِ هَذَا الْفَسَادِ , وَهَذَا مِنْ أَلْطَفِ سَدِّ الذَّرَائِعِ . وَالْكَلَامُ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ وَاسِعٌ لَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ , وَلَمْ نَذْكُرْ مِنْ شَوَاهِدِ هَذَا الْأَصْلِ إلَّا مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَوْ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ أَوْ مَأْثُورٌ عَنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ شَائِعٌ عَنْهُمْ , إذْ الْفُرُوعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا يُحْتَجُّ لَهَا بِهَذِهِ الْأُصُولِ لَا يُحْتَجُّ بِهَا , وَلَمْ يَذْكُرْ الْحِيَلَ الَّتِي قَصَدَ بِهَا الْحَرَامَ كَاحْتِيَالِ الْيَهُودِ , وَلَا مَا كَانَ وَسِيلَةً إلَى مَفْسَدَةٍ لَيْسَتْ هِيَ فِعْلًا مُحَرَّمًا وَإِنْ أَفْضَتْ إلَيْهِ كَمَا فَعَلَ مَنْ اسْتَشْهَدَ لِلذَّرَائِعِ فَإِنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ يَدْخُلَ عَامَّةُ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الذَّرَائِعِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مِنْ وَجْهٍ فَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ هُنَا . ثُمَّ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي بَعْضِهَا حِكَمٌ أُخْرَى غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الذَّرَائِعِ وَإِنَّمَا قَصَدْنَا أَنَّ الذَّرَائِعَ مِمَّا اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ إمَّا مُفْرَدَةً أَوْ مَعَ غَيْرِهَا , فَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ إمَّا بِأَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْمُحَرَّمَ أَوْ بِأَنْ لَا يَقْصِدَ بِهِ يُحَرِّمُهُ الشَّارِعُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَا لَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ مَصْلَحَةً تُوجِبُ حِلَّهُ أَوْ وُجُوبَهُ فَنَفْسُ التَّذَرُّعِ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ بِالِاحْتِيَالِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَرَامًا وَأَوْلَى بِإِبْطَالِ مَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ مِنْهُ إذَا عَرَفَ قَصْدَ فَاعِلِهِ وَأَوْلَى بِأَنْ لَا يُعَانَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ , وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ .

وَإِذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ آخَرُ عَنْ رَجُلٍ آخَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ , وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَجْتَهِدَ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَ , وَهَكَذَا قَالَ عُمَرُ وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَ , وَلَوْ كَانَ حَكَمَ بِحُكْمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَخْطَأَ أَمْ أَصَابَ , وَلَكِنْ إنَّمَا كَانَ رَأْيًا مِنْهُ . قَالَ : وَإِذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ رَجُلٌ بِقَوْلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ آخَرُ بِقَوْلِ التَّابِعِينَ كَانَ الْحَقُّ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ التَّابِعِينَ كَانَ تَأْوِيلُهُ خَطَأً . وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ , وَلَوْ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ فِي الْمُفْلِسِ أَنَّهُ أَسْبَقُ الْغُرَمَاءِ إذَا وَجَدَ رَجُلٌ عَيْنَ مَالِهِ , ثُمَّ رُفِعَ إلَى حَاكِمٍ آخَرَ , فَذَهَبَ إلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُدَّ لِحُكْمِ هَذَا الْحَاكِمِ . وَإِنَّمَا يَجُوزُ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا حَكَمَ أَنْ لَا يُرَدَّ إذَا اعْتَدَلَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا لَا يُرَدُّ أَوْ يَخْتَلِفُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ رَجُلٌ بِبَعْضِ قَوْلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَهَذَا لَا يُرَدُّ أَوْ يَخْتَلِفُ عَنْ

التَّابِعِينَ , فَأَخَذَ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ فَهَذَا لَا يُرَدُّ , فَأَمَّا إذَا كَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ بِقَوْلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِقَوْلِ التَّابِعِينَ , فَهَذَا يُرَدُّ حُكْمُهُ ; لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِجَوْرٍ وَتَأَوُّلٍ وَذَكَرَ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَنْ عَمِلَ خِلَافَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ خِلَافَ السُّنَّةِ رُدَّ عَلَيْهِ , وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فُنُونَ الِاخْتِلَافِ وَقَسَّمَهُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ . أَحَدُهَا : أَنْ يَتَعَارَضَ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ . الثَّانِي : أَنْ يُعَارِضَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ . الثَّالِثُ : أَنْ يُعَارِضَ قَوْلَ صَاحِبٍ . الرَّابِعُ : أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ بَلْ اخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ فَأَخَذَ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ . الْخَامِسُ : أَنْ يَأْخُذَ بِالْقَوْلِ الثَّالِثِ أَوْ الثَّانِي الَّذِي أُحْدِثَ بَعْدَ اتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى قَوْلٍ أَوْ قَوْلَيْنِ , وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ خَالَفَ النَّصَّ الصَّحِيحَ لِقَوْلِ صَاحِبٍ أَوْ حَدِيثٍ ضَعِيفٍ أَوْ تَرَكَ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ الَّتِي هِيَ إجْمَاعٌ أَوْ كَالْإِجْمَاعِ إلَى قَوْلِ مَنْ بَعْدَهُمْ فَهُوَ مُخْطِئٌ مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ ; لِأَنَّهُ تَرَكَ الدَّلِيلَ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ إلَى مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ , وَأَمَّا إذَا تَعَارَضَ النَّصَّانِ أَوْ فُقِدَا

وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فَهُنَا يَجْتَهِدُ فِي الرَّاجِحِ وَلَا يَرُدُّ حُكْمَ مَنْ حَكَمَ بِأَحَدِهِمَا ; لِأَنَّ تَرَاجِيحَ الْأَدِلَّةِ أَوْ اسْتِنْبَاطَهَا عِنْدَ خَفَاهَا هُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ , ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ بِخَطَإِ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَحَدِ النَّصَّيْنِ مَعَ قَوْلِهِ إنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ . وَعِنْدَ خَفَاءِ الْأَدِلَّةِ قَالَ لَا أَدْرِي أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَ , وَهَذَا تَحْقِيقٌ عَظِيمٌ وَذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّصَّ دَلِيلٌ قَطْعًا لَكِنْ عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْآخَرِ لَهُ هَلْ سُلِبَتْ دَلَالَتُهُ أَمْ لَمْ تُسْلَبْ , هَذَا مَحَلُّ تَرَدُّدٍ , فَإِنْ اعْتَقَدَ رُجْحَانَهُ اعْتَقَدَ بَقَاءَ دَلَالَتِهِ فَقَدْ تَمَسَّكَ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ لَمْ يُثْبِتْ سَلْبَ دَلَالَتِهِ فَصَارَ إنْ كَانَ الْحَقُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ كَالتَّمَسُّكِ بِالنَّصِّ الَّذِي نُسِخَ وَلَمْ يَعْلَمْ نَسْخَهُ فَلَا يَحْكُمُ عَلَى مُخَالِفِهِ بِالْخَطَإِ . كَمَا لَا يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ , وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ نَصًّا وَقَدْ اجْتَهَدَ فَقَدْ يَكُونُ مَا اعْتَمَدَهُ مِنْ الِاسْتِنْبَاطِ بِالرَّأْيِ تَأْوِيلًا وَقِيَاسًا لَيْسَ بِدَلِيلٍ . فَلَا نَدْرِي أَنَّهُ أَصَابَ كَالْمُتَمَسِّكِ بِدَلِيلٍ أَمْ لَمْ يُصِبْ فَتَحَرَّرْ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ فِي الْبَاطِنِ لَيْسَ الْمُصِيبُ إلَّا وَاحِدًا . وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَلَا نَحْكُمْ بِالْخَطَإِ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ , وَلَا نَحْكُمْ بِالصَّوَابِ لِمَنْ لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ . وَهَذَا التَّفْصِيلُ خَيْرٌ مِنْ إطْلَاقِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ الْخَطَأَ فِي الْحُكْمِ مُطْلَقًا , وَإِطْلَاقِ بَعْضِهِمْ

الْإِصَابَةَ فِي الْحُكْمِ مُطْلَقًا . وَاعْلَمْ أَنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ مُصِيبٌ فِي الْحُكْمِ , بَلْ قَالَ لَا يُقَالُ إنَّهُ مُخْطِئٌ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُخْطِئٌ , وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِي اسْتِدْلَالِهِ .
الْمَقَامُ الثَّالِثُ : أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ هَلْ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ أَوْ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْمُتَكَلِّمُونَ الظَّنَّ وَيُسَمَّى الِاعْتِقَادُ . فَمِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ مَنْ يَقُولُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يُفِيدُ الْيَقِينَ , ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤَثِّمُ مُخَالِفَ ذَلِكَ الدَّلِيلِ , وَرُبَّمَا فَسَّقَهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤَثِّمُهُ وَلَا يُفَسِّقُهُ وَقَدْ يُؤَثَّمُ وَلَا يُفَسَّقُ , وَأَمَّا أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا دَلِيلٌ يُفِيدُ الِاعْتِقَادَ الرَّاجِحَ الَّذِي يُسَمَّى الظَّنَّ الْغَالِبَ , وَقَدْ يُسَمَّى الْعِلْمَ الظَّاهِرَ . وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ السَّلَفِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يَقِينِيٌّ وَتَارَةً لَا يَكُونُ الدَّلِيلُ يَقِينًا وَكَوْنُ الْمَسْأَلَةِ مُخْتَلِفًا فِيهَا لَا يَمْنَعُ أَنَّ دَلِيلَهَا يَكُونُ يَقِينًا , وَيَكُونُ مَنْ خَالَفَهُ لَمْ يَبْلُغْهُ أَوْ لَمْ يَفْهَمْهُ أَوْ ذُهِلَ عَنْهُ , وَقَدْ يَكُونُ يُفِيدُ اعْتِقَادًا قَوِيًّا غَالِبًا يُسَمَّى أَيْضًا يَقِينًا , وَإِنْ كَانَ تَجْوِيزُ نَقِيضِهِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ , وَعَلَى هَذَا يَتَفَرَّعُ نَقْضُ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَجَوَازُ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَنْ يُفْتِي بِالْقَوْلِ الْمُعَيَّنِ , وَالِائْتِمَامِ

بِمَنْ أَخَلَّ بِفَرْضٍ فِي مَذْهَبِ الْمَأْمُورِ وَتَعْيِينِ الْمُخْطِئِ وَالتَّغْلِيظِ عَلَى الْمُخَالِفِ .
الْمَقَامُ الرَّابِعُ : أَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ الْيَقِينِيَّةَ أَوْ الِاعْتِقَادِيَّةَ . لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا بَعْضُ الْأُمَّةِ لِئَلَّا تَكُونَ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةً عَلَى الْخَطَإِ , وَلَا يَحْصُلُ مُقْتَضَاهُ إلَّا لِمَنْ بَلَغَتْهُ وَنَظَرَ فِيهَا , فَمَنْ يَبْلُغُهُ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ وَلَا قُصُورٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَسِّكًا بِمَا هُوَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَوْلَا مُعَارَضَةُ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ كَالْمُتَمَسِّكِ بِالْعَامِّ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ تَخْصِيصُهُ , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَسِّكًا بِحَقٍّ فِي الْبَاطِنِ , لَكِنَّ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ نَسَخَتْهُ , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَسِّكًا بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ , وَهُوَ عَدَمُ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ , فَهَلْ يُقَالُ لِأَحَدِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ مُصِيبٌ أَوْ مُخْطِئٌ . أَوْ مُصِيبٌ مِنْ وَجْهٍ مُخْطِئٌ مِنْ وَجْهٍ , أَوْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ صَوَابٌ وَلَا خَطَأٌ , وَهَلْ يُقَالُ فَعَلَ مَا وَجَبَ أَوْ مَا لَمْ يَجِبْ . أَوْ مَا أُبِيحَ أَوْ مَا لَمْ يُبَحْ هَذَا الْمَقَامُ وَاَلَّذِي بَعْدَهُ أَكْثَرُ شُعَبِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يُطْلِقُ عَلَيْهِ الْخَطَأَ فِي الْبَاطِنِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ , وَهُوَ عِنْدَهُ مَعْذُورٌ بَلْ مَأْجُورٌ . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ النَّسْخَ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ إذَا بَلَغَهُ الرَّسُولُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمُكَلَّفِ بِمَعْنَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ وَالضَّمَانِ إذَا بَلَغَهُ لَا بِمَعْنَى التَّأْثِيمِ , وَيَقُولُ إنَّمَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ صَلَّى إلَى الْقِبْلَةِ

الْمَنْسُوخَةِ قَبْلَ الْعِلْمِ ; لِأَنَّ الْقِبْلَةَ لَا تَجِبُ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ , وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَهَا فِي زَمَانِنَا إذَا كَانَ قَدْ اجْتَهَدَ وَإِنْ سَمَّيْتَهُ مُخْطِئًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُ الْخَطَأَ عَلَى الْمُتَمَسِّكِ بِدَلِيلٍ لَيْسَ فِي الْبَاطِنِ دَلِيلًا وَعَلَى الْمُتَمَسِّكِ بِالنَّفْيِ دُونَ الْمُسْتَصْحِبِ لِلْحُكْمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّهَ مَا حَكَمَ بِمُوجَبِ دَلِيلٍ قَطُّ , وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُطْلِقُ الْخَطَأَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ . وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ عُمُومًا أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِي الْبَاطِنِ وَفِي الْحُكْمِ , هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي لَكِنْ عِنْدَهُ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ الْبَلَاغِ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَيْسَ بِمُخْطِئٍ فِي الْحُكْمِ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ مُصِيبٌ فِي الْحُكْمِ , حَكَى هَذَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ , وَخَرَّجَ الْقَاضِي فِي الْخَطَإِ فِي الْحُكْمِ رِوَايَتَيْنِ , وَخَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ رِوَايَةَ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ , وَالصَّحِيحُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي الْبَاطِنِ حَكَمَ فِي حَقِّهِ أَنْ يُقَالَ هُوَ مُصِيبٌ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ , أَوْ مُصِيبٌ فِي اجْتِهَادِهِ دُونَ اعْتِقَادِهِ , أَوْ مُصِيبٌ إصَابَةً مُقَيَّدَةً لَا مُطْلَقَةً بِمَعْنَى أَنَّ اعْتِقَادَ الْإِيجَابِ وَالتَّحَرِّي لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ , وَإِنْ اعْتَقَدَهُ عَامًّا هَذَا فِي الظَّاهِرِ فَقَطْ , فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ { أَنَّ الْحَاكِمَ الْمُجْتَهِدَ الْمُخْطِئَ لَهُ أَجْرٌ وَالْمُصِيبَ

أَجْرَانِ } , وَلَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَصَابَ حُكْمَ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَكَانَا سَوَاءً , وَلَمْ يُنْقَضْ حُكْمُ الْحَاكِمِ أَوْ الْمُفْتِي إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ النَّصَّ بِخِلَافِهِ , وَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْ غَيْرِ قُصُورٍ وَلَا تَقْصِيرٍ , وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ } . وَلَمَّا قَالَ { لِسَعْدٍ لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ } , إنْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ يَحْكُمُ بِحُكْمِ اللَّهِ وَارْتِفَاعِ اللَّوْمِ بِحَدِيثِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ , وَحَدِيثِ الْحَاكِمِ .

الْمَقَامُ السَّادِسُ : أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ مَاذَا ؟ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَقُولُ الْوَاجِبُ طَلَبُ ذَلِكَ الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ وَإِصَابَتُهُ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْوَاجِبُ طَلَبُهُ لَا إصَابَتُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْوَاجِبُ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ الرَّاجِحِ سَوَاءٌ كَانَ مُطَابِقًا أَوْ لَمْ يَكُنْ , وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ لَحَظَ جَانِبًا , وَجَمْعُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إصَابَةُ ذَلِكَ الْحُكْمِ , وَأَمَّا الْوَاجِبُ فِي الظَّاهِرِ هُوَ اتِّبَاعُ مَا ظَهَرَ مِنْ الدَّلِيلِ وَاتِّبَاعُهُ أَنْ يَكُونَ بِالِاجْتِهَادِ الَّذِي يَعْجِزُ مَعَهُ النَّاظِرُ عَنْ الزِّيَادَةِ فِي الطَّلَبِ , أَوْ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً فَادِحَةً وَمِقْدَارًا غَيْرَ مَضْبُوطٍ , وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ يَخَافُونَ فِي الْفَتْوَى بِالِاجْتِهَادِ كَثِيرًا وَيَخْشَوْنَ اللَّهَ ; لِأَنَّ مِقْدَارَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي يُعْذَرُونَ مَعَهَا وَمِقْدَارَ الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي يُبِيحُ لَهُمْ الْقَوْلَ قَدْ لَا يَنْضَبِطُ فَلَوْ أَصَابَ الْحُكْمَ بِلَا دَلِيلٍ رَاجِحٍ فَقَدْ أَصَابَ الْحُكْمَ وَأَخْطَأَ الْحَقَّ الْمُعَيَّنَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ . وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ ثَمَّ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْحَقِّ هُوَ الرَّاجِحُ , لَكِنْ يَعْجِزُ عَنْ دَرْكِهِ وَإِلَّا لَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ دَلِيلًا , وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالدَّلِيلُ الَّذِي نَصَبَهُ اللَّهُ حَقِيقَةً عَلَى الْحُكْمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْلَفَ كَمَا يَجُوزُ خَطَأُ الشَّاهِدِ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَيَظْهَرَ لَهُ غَيْرُهُ .

الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ : إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ , فَرَوَى قَبِيصَةُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ وَحَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ وَهُوَ مَشْهُورٌ مَحْفُوظٌ عَنْ عُمَرَ . وَعَنْ زَيْدِ بْنِ عِيَاضِ بْنِ جَعْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ نَافِعًا يَقُولُ إنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ الْمُحَلِّلِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ : عَرَفْت ابْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ رَأَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَرَجَمَ فِيهِ . رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ لَكِنَّ زَيْدًا هَذَا يُضَعَّفُ جِدًّا وَحَدِيثُهُ هَذَا مَحْفُوظٌ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ , كَمَا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ رُفِعَ إلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا . وَقَالَ لَا تَرْجِعْ إلَيْهِ إلَّا بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ غَيْرِ دُلْسَةٍ , رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ وَعَنْ أَبِي مَرْزُوقٍ التُّجِيبِيِّ أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُثْمَانَ فَقَالَ إنَّ جَارِيَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي غَضَبِهِ وَلَقِيَ شِدَّةً فَأَرَدْت أَنْ أَحْتَسِبَ نَفْسِي وَمَالِي فَأَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ أَبْنِيَ بِهَا ثُمَّ أُطَلِّقَهَا فَتَرْجِعَ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ , فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ لَا تَنْكِحْهَا إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ ذَكَرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي الْمُهَذَّبِ , رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُرَادِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مَرْوَانَ التُّجِيبِيِّ يَقُولُ : إنَّ رَجُلًا

طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ نَدِمَا وَكَانَ لَهُ جَارٌ فَأَرَادَ أَنْ يُحَلِّلَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ عِلْمِهِمَا , فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ غَيْرَ مُدَالَسَةٍ . وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , فِي الْمُحَلِّلِ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ إلَّا بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ غَيْرِ دُلْسَةٍ وَلَا اسْتِهْزَاءٍ بِكِتَابِ اللَّهِ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ . وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ هَيْثَمٍ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ سُئِلَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ الْأَمَةِ هَلْ يُحِلُّهَا سَيِّدُهَا لِزَوْجِهَا إذَا كَانَ لَا يُرِيدُ التَّحْلِيلَ , يَعْنِي إذَا بَتَّ طَلَاقَهَا , فَقَالَ عُثْمَانُ وَزَيْدٌ نَعَمْ , فَقَامَ عَلِيٌّ غَضْبَانَ وَكَرِهَ قَوْلَهُمَا . وَعَنْ عَلِيٍّ : لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ . وَعَنْ أَشْعَثَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ , وَعَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَالْمُحَلَّلَةَ , وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ نَوْفَلٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنْ تَحْلِيلِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا قَالَ : ذَلِكَ السِّفَاحُ لَوْ أَدْرَكَكُمْ عُمَرُ لَنَكَّلَكُمْ , رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسُئِلَ عَنْ الْمُحَلِّلَ قَالَ لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ وَإِنْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً إذَا عَلِمَ اللَّهُ

سُبْحَانَهُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُحِلَّهَا لَهُ , هَكَذَا رَوَاهُ عَنْهُ حُسَيْنُ بْنُ حَفْصٍ وَرَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ , عَنْ ابْنِ نُمَيْرٍ عَنْهُ لَكِنْ قَالَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ رَجُلٍ سَمَّاهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي الْمُحَلِّلَ إذَا عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُ أَنَّهُ مُحَلِّلٌ , لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ وَلَوْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً . وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ , قَالَ سَمِعْت عُمَرَ يُسْأَلُ عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ نَدِمَ فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ يُحَلِّلُهَا لَهُ , فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ كِلَاهُمَا زَانٍ وَلَوْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً , وَرَوَاهُ الشَّالَنْجِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ الْعَامِرِيِّ قَالَ سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا , فَقَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ , هُمَا زَانِيَانِ , وَقَالَ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ ثِنَا هُشَيْمٌ ثِنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عِمْرَانِ بْنِ الْحَارِثِ السُّلَمِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ إنَّ عَمَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَنَدِمَ فَقَالَ عَمُّك عَصَى اللَّهَ فَأَنْدَمَهُ وَأَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا قَالَ أَرَأَيْت إنْ أَنَا تَزَوَّجْتهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ أَتَرْجِعُ إلَيْهِ قَالَ مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ اللَّهُ , رَوَاهُ عَبْد الرَّزَّاقِ عَنْ الثَّوْرِيِّ وَمَعْمَرٍ كِلَاهُمَا عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ , كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ يُحِلُّهَا لَهُ , فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ

يَخْدَعْهُ , وَهَذِهِ الْآثَارُ مَشْهُورَةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ , وَفِيهَا بَيَانُ أَنَّ الْمُحَلِّلَ عِنْدَهُمْ اسْمٌ لِمَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ سَوَاءٌ يُظْهِرُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُظْهِرْهُ , وَأَنَّ عُمَرَ كَانَ يُنَكِّلُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُحَلِّلِ وَالْمَرْأَةِ وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُ رَغْبَةٌ بَعْدَ الْعَقْدِ , إذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ قَصَدَ التَّحْلِيلَ , وَأَنَّ الْمُطَلِّقَ طَلَّقَ ثَلَاثًا وَإِنْ تَأَذَّى وَنَدِمَ وَلَقِيَ شِدَّةً مِنْ الطَّلَاقِ , فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ التَّحْلِيلُ لَهُ , وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ هُوَ بِذَلِكَ , وَهَذِهِ الْآثَارُ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ تَغْلِيظِ التَّحْلِيلِ فَهِيَ مِنْ أَبْلَغِ الدَّلِيلِ , عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ ذَلِكَ وَاسْتِحْقَاقَ صَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ كَانَ مَشْهُورًا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ , وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ , وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ مَنْ خَالَفَ فِي الْمُتْعَةِ مِثْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ , بَلْ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا التَّحْلِيلِ , وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ , إنَّ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَنَدِمَ وَنَدِمَتْ , فَأَرَدْت أَنْ أَنْطَلِقَ فَأَتَزَوَّجَهَا وَأُصْدِقَهَا صَدَاقًا , ثُمَّ أَدْخُلَ بِهَا كَمَا يَدْخُلُ الرَّجُلُ بِامْرَأَتِهِ ثُمَّ أُطَلِّقَهَا , فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ اتَّقِ اللَّهَ يَا فَتَى وَلَا تَكُونُ مِسْمَارَ نَارٍ لِحُدُودِ اللَّهِ , وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ هُوَ التَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ وَهَذَا يَقْتَضِي شُهْرَةَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ زَمَنَ الصَّحَابَةِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى ابْنُ

سِيرِينَ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا , فَنَدِمَ وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلٌ مِنْ الْأَعْرَابِ عَلَيْهِ رُقْعَتَانِ رُقْعَةٌ يُوَارِي بِهَا عَوْرَتَهُ , وَرُقْعَةٌ يُوَارِي بِهَا سَوْأَتَهُ , فَقَالَ لَهُ هَلْ لَك تَتَزَوَّجُ امْرَأَةً فَتَبِيتُ عِنْدَهَا لَيْلَةً وَتَجْعَلُ لَك جُعْلًا , قَالَ نَعَمْ فَزَوَّجُوهَا مِنْهُ , فَلَمَّا دَخَلَ فَبَاتَ عِنْدَهَا قَالَتْ لَهُ هَلْ عِنْدَك مِنْ خَيْرٍ قَالَ هُوَ حَيْثُ تُحِبِّينَ جَعَلَهُ اللَّهُ فِدَاهَا , فَقَالَتْ لَا تُطَلِّقْنِي فَإِنَّ عُمَرَ لَنْ يُجْبِرَك عَلَى طَلَاقِي , فَلَمَّا أَصْبَحُوا لَمْ يُفْتَحْ لَهُمْ الْبَابُ حَتَّى كَادُوا يَكْسِرُونَ الْبَابَ , فَلَمَّا دَخَلُوا قَالُوا لَهُ طَلِّقْهَا , قَالَ الْأَمْرُ إلَيْهَا فَقَالُوا لَهَا , فَقَالَتْ إنِّي أَكْرَهُ أَنْ لَا يَزَالَ يَدْخُلُ عَلَيَّ الرَّجُلُ بَعْدَ الرَّجُلِ , فَارْتَفَعُوا إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَخْبَرُوهُ الْقِصَّةَ فَرَفَعَ يَدَهُ , وَقَالَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَزَقْت ذَا الرُّقْعَتَيْنِ إذْ بَخِلَ عَلَيْهِ عُمَرُ فَقَالَ لَهُ لَئِنْ طَلَّقَهَا فَأَوْعَدَهُ , رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَحَرْبٌ عَنْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ , وَلَفْظُهُ فِي سُنَنِ سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا , وَنَدِمَ , وَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْهُ مَا شَاءَ اللَّهُ فَقِيلَ لَهُ اُنْظُرْ رَجُلًا يُحَلِّلُهَا لَك وَكَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ لَهُ حَسَبٌ أُقْحِمَ إلَى الْمَدِينَةِ , وَكَانَ مُحْتَاجًا لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ يَتَوَارَى بِهِ إلَّا رُقْعَتَيْنِ , رُقْعَةً يُوَارِي بِهَا فَرْجَهُ وَرُقْعَةً يُوَارِي بِهَا دُبُرَهُ , فَأَرْسَلُوهُ إلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ هَلْ لَك أَنْ نُزَوِّجَك امْرَأَةً فَتَدْخُلَ

عَلَيْهَا فَتَكْشِفَ عَنْهَا خِمَارَهَا ثُمَّ تُطَلِّقَهَا , وَنَجْعَلُ لَك عَلَى ذَلِكَ جُعْلًا , قَالَ نَعَمْ , فَزَوَّجُوهُ فَدَخَلَ عَلَيْهَا وَهُوَ شَابٌّ صَحِيحُ الْحَسَبِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى الْمَرْأَةِ فَأَصَابَهَا فَأَعْجَبَهَا , فَقَالَتْ لَهُ أَعِنْدَك خَيْرٌ قَالَ نَعَمْ هُوَ حَيْثُ تُحِبِّينَ جَعَلَهُ اللَّهُ فِدَاهَا , وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ , قَالَ قَدِمَ رَجُلٌ مَكَّةَ وَمَعَهُ إخْوَةٌ لَهُ صِغَارٌ وَعَلَيْهِ إزَارٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ رُقْعَةٌ وَمِنْ خَلْفِهِ رُقْعَةٌ , فَسَأَلَ عُمَرَ فَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا , فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ , إذْ نَزَعَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا , فَقَالَ لَهَا هَلْ لَك أَنْ تُعْطِينَ ذَا الرُّقْعَتَيْنِ شَيْئًا , وَيُحِلَّك لِي قَالَتْ نَعَمْ إنْ شِئْت , فَأَخْبَرُوهُ ذَلِكَ , قَالَ نَعَمْ , فَتَزَوَّجَهَا فَدَخَلَ بِهَا فَلَمَّا أَصْبَحَتْ أَدْخَلَتْ إخْوَتَهُ الدَّارَ فَجَاءَ الْقُرَشِيُّ يَحُومُ حَوْلَ الدَّارِ وَيَقُولُ يَا وَيْلَهُ غَلَبَ عَلَيَّ امْرَأَتِي , فَأَتَى عُمَرَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ غُلِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي . قَالَ مَنْ غَلَبَك , قَالَ ذُو الرُّقْعَتَيْنِ , قَالَ أَرْسِلُوا إلَيْهِ فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ كَيْفَ مَوْضِعُك مِنْ قَوْمِك , قَالَ لَيْسَ بِمَوْضِعِي بَأْسٌ , قَالَتْ إنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ لَك أَتُطَلِّقُ امْرَأَتَك فَقُلْ وَاَللَّهِ لَا أُطَلِّقُهَا , فَإِنَّهُ لَا يُكْرِهُك , وَأَلْبَسَتْهُ حُلَّةً , فَلَمَّا رَآهُ عُمَرُ مِنْ بَعِيدٍ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي شَرَّفَ ذَا الرُّقْعَتَيْنِ , فَدَخَلَ عَلَيْهِ , فَقَالَ

لَهُ أَتُطَلِّقُ امْرَأَتَك قَالَ لَا وَاَللَّهِ لَا أُطَلِّقُهَا , فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَوْ طَلَّقْتهَا لَأَوْجَعْت رَأْسَك بِالسَّوْطِ . فَهَذَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ شَرَطَ تَقَدُّمَ الْعَقْدِ وَقَدْ حَكَمَ عُمَرُ بِصِحَّتِهِ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَتْ الْمَسْأَلَةُ خِلَافًا فِي الصَّحَابَةِ , وَرُبَّمَا حَمَلْنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ عَلَى الشَّرْطِ الْمَقْرُونِ بِالْعَقْدِ لِتَتَّفِقَ رِوَايَتَاهُ , وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ سِيرِينَ قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَجُلٍ فَزَوَّجَتْهُ نَفْسَهَا لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا , فَأَمَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا وَلَا يُطَلِّقَهَا , وَأَوْعَدَهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ إنْ طَلَّقَهَا . قُلْنَا : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ لَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ فَرَوَى أَبُو حَفْصٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ قَالَ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي الْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ : إنَّهُ يُفْسَخُ نِكَاحُهُ فِي الْحَالِ , قُلْت أَوَ لَيْسَ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ حَدِيثُ ذِي الرُّقْعَتَيْنِ حَيْثُ أَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ لَا يُفَارِقَهَا , قَالَ لَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ , وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ لِابْنِ سِيرِينَ وَإِنْ كَانَ مَأْمُونًا لَمْ يَرَ عُمَرُ وَلَمْ يُدْرِكْهُ , فَأَيْنَ هَذَا مِنْ الَّذِينَ سَمِعُوهُ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا . قُلْت : وَقَدْ رَوَيْنَاهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَحْلِيلِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا فَقَالَ : ذَلِكَ

السِّفَاحُ لَوْ أَدْرَكَكُمْ عُمَرُ لَنَكَّلَكُمْ وَأَحَادِيثُ ابْنِ عُمَرَ كُلُّهَا تُبَيِّنُ أَنَّ نَفْسَ التَّحْلِيلِ الْمَكْتُومِ زِنًا وَسِفَاحٌ , وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ أَبِيهِ بِأَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ ذَلِكَ لَنَكَّلَ عَلَيْهِ . وَسَائِرُ الْآثَارِ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا تُبَيِّنُ أَنَّ التَّحْلِيلَ عِنْدَهُمْ كُلُّ نِكَاحٍ أَرَادَ بِهِ أَنْ يُحِلَّهَا , وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ خَطَبَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا , فَعُلِمَ أَنَّ عُمَرَ أَرَادَ التَّحْلِيلَ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ مَكْتُومًا , فَالْمُنْقَطِعُ إذَا عَارَضَ الْمُسْنَدَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ . فَلَعَلَّهُ لَمْ تَكُنْ الْإِرَادَةُ فِيهِ مِنْ الزَّوْجِ الثَّانِي . وَإِنَّمَا كَانَتْ مِنْ الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ , وَقَدْ أَجَابَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَفْصٍ بِهَذَا الْجَوَابِ أَيْضًا . ثُمَّ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لَعَلَّهُ وَقْتَ الْعَقْدِ لَمْ يَنْوِ التَّحْلِيلَ , وَإِنْ كَانُوا قَدْ شَرَطُوهُ بَلْ قَصَدَ نِكَاحَ الرَّغْبَةِ , وَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا لِلزَّوْجِ سَبَبًا مِنْ ذَلِكَ بَلْ زَوَّجُوهُ بِهَا , وَتَوَاطَئُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُ شَيْئًا لِيُطَلِّقَهَا , وَلَمْ يُشْعِرُوهُ بِذَلِكَ , وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْمَرْوِيِّ فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ شَارَطُوهُ عَلَى الْخُلْعِ قَبْلَ النِّكَاحِ , وَلَمْ يَشْتَرِطُوا عَلَيْهِ الطَّلَاقَ بِمَالٍ , وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَنْفَرِدُ بِهِ , بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ لَهُ , فَهُوَ مُوَاطَأَةٌ عَلَى فُرْقَةٍ مِنْ الزَّوْجِ , وَمِنْ

أَجْنَبِيٍّ , وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُوَاطَأَةِ عَلَى الطَّلَاقِ الْمُجَرَّدِ , كَالْمُوَاطَأَةِ مِنْ الزَّوْجَةِ وَالْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا الزَّوْجُ أَوْ يَهَبَهَا إيَّاهُ , إذَا كَانَ عَبْدَهُ , وَمَعَ هَذَا فَيُمْكِنُ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا لَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَإِنَّ ابْنَ سِيرِينَ لَمْ يَشْهَدْ الْقِصَّةَ , وَإِنَّمَا سَمِعَهَا مِنْ غَيْرِهِ , وَمِثْلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ إذَا حَدَّثَ بِهَا قَدْ لَا يُخْبِرُ الْمُخْبِرُ بِأَعْيَانِ الْأَلْفَاظِ وَتَرْتِيبِهَا . لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا غَيْرَ ذَلِكَ . بَلْ يَذْكُرُ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ . وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْقِدَ النِّكَاحَ عَلَى صَدَاقٍ يَلْتَزِمُهُ الزَّوْجُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ حِكَايَةُ حَالٍ لَمْ يَشْهَدْهَا الْحَاكِي , فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ الْأَقْرَبُ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا جَاءَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا قَالَ غُلِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَلَمْ يَقُلْ غُدِرَ بِي وَلَا مُكِرَ بِي وَلَا خُدِعْت , وَلَوْ كَانَ الْمُتَزَوِّجُ قَدْ وَاطَأَهُ عَلَى أَنْ يَخْلَعَهَا أَوْ يُطَلِّقَهَا لَكَانَتْ شِكَايَتُهُ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَاحْتِجَاجُهُ بِهِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ غُلِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي . فَإِنَّ أَقَلَّ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّ ذَا الرُّقْعَتَيْنِ يَكُونُ قَدْ حَدَّثَهُ فَكَذَبَهُ وَوَعَدَهُ فَأَخْلَفَهُ , وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ضَعِيفٌ . فَإِنَّ عُمَرَ لَمْ يَسْتَفْصِلْهُ هَلْ نَوَيْت التَّحْلِيلَ وَقْتَ الْعَقْدِ أَمْ لَمْ تَنْوِهِ , وَلَوْ كَانَ مَنَاطُ الْحُكْمِ ذَلِكَ لَوَجَبَ الِاسْتِفْصَالُ , وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَمِنْ

الْمَالِكِيَّةِ يَقُولُ إذَا وَطِئَ الزَّوْجُ عَلَى التَّحْلِيلِ وَقَصَدَ هُوَ وَقْتَ الْعَقْدِ الرَّغْبَةَ وَلَمْ يُعْلِمْهُمْ بِذَلِكَ , فَهُوَ نِكَاحٌ صَحِيحٌ لِعَدَمِ النِّيَّةِ وَالشَّرْطِ الْمُقَارِنِ , وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوَاطَأَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْعَقْدِ وَاعْتِقَادِ التَّحْلِيلِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ , وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَقَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ الشُّرُوطَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَارَنَةِ إنْ كَانَتْ صَحِيحَةً , وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهَا , وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلَةً أَثَّرَتْ فِي الْعَقْدِ فِي الْمَذْهَبَيْنِ جَمِيعًا , بَلْ هَذِهِ الصُّورَةُ أَبْلَغُ فِي الْبُطْلَانِ مِنْ الِاعْتِقَادِ الْمُجَرَّدِ , فَلِهَذَا لَمْ يُرَخِّصْ أَحَدٌ مِنْ التَّابِعِينَ فِي الْمُوَاطَأَةِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ الرُّخْصَةُ فِي الِاعْتِقَادِ الْمُجَرَّدِ , فَإِنَّ هَذَا تَلْبِيسٌ مُدَلِّسٌ عَلَى الْقَوْمِ , وَالنِّكَاحُ الَّذِي قَصَدَهُ لَمْ يَرْضَوْا بِهِ وَلَمْ يُعَاقِدُوهُ عَلَيْهِ , وَالنِّكَاحُ الَّذِي رَضَوْا بِهِ لَمْ يَرْضَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ , وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِرِضَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ التَّابِعِ لِرِضَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ , فَإِذَا تَخَلَّفَ أَحَدُهُمَا فَهُوَ بَاطِلٌ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ وَاطَئُوهُ عَلَى أَنْ يُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ , وَلَا أَشْعَرُوهُ أَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ , وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّهُمْ وَاطَئُوهُ عَلَى أَنْ يَبِيتَ عِنْدَهَا لَيْلَةً ثُمَّ يُطَلِّقَهَا , وَهَذَا مِنْ جِنْسِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ , الَّذِي يَكُونُ لِلزَّوْجِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19