كتاب : إقامة الدليل على إبطال التحليل
تأليف : شيخ الإسلام ابن تيمية

الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } . فَلْيَنْظُرْ هَلْ أَصَابَهُمْ هَذَا التَّخَبُّطُ الَّذِي هُوَ كَمَسِّ الشَّيْطَانِ بِمُجَرَّدِ أَكْلِهِمْ السُّحْتَ أَمْ بِقَبُولِهِمْ الْإِثْمَ مَعَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا فَمَنْ كَانَ هَذَا الْقِيَاسُ عِنْدَهُ مُتَوَجَّهًا , وَإِنَّمَا تَرَكَهُ سَمْعًا وَطَوْعًا أَلَمْ يَكُنْ هَذَا دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ رَأْيِهِ وَنَقْصِ عَقْلِهِ وَبُعْدِهِ عَنْ فِقْهِ الدِّينِ . نَعَمْ مَنْ قَالَ هَذَا قَالَ : الْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصْلُحَ الْإِجَارَةُ , لِأَنَّهَا بَيْعُ مَعْدُومٍ وَلَمْ يَهْتَدِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ بَيْعِ الْأَعْيَانِ الَّتِي تُوجَدُ وَبَيْعِ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَا يَتَأَتَّى وُجُودُهَا مُجْتَمِعَةً وَلَا يُمْكِنُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا إلَّا مَعْدُومَةً وَلَوْ عَارَضَهُ مَنْ قَالَ : الْقِيَاسُ صِحَّةُ بَيْعِ الْمَعْدُومِ قِيَاسًا عَلَى الْإِجَارَةِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ كَلَامَيْهِمَا فَرْقٌ . وَكَذَلِكَ يَرَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا تَصْلُحَ الْحَوَالَةُ لِأَنَّهَا بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَأَنْ لَا يَصِحَّ الْقَرْضُ فِي الرِّبَوِيَّاتِ , لِأَنَّهَا مُبَادَلَةُ عَيْنٍ رِبَوِيَّةٍ بِدَيْنٍ مِنْ جِنْسِهَا , ثُمَّ إنْ كَانَ مِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ إذَا عَارَضَهُ نَصٌّ ظَاهِرٌ أَمْكَنَ تَرْكُهُ عِنْدَ مُعْتَقِدِ صِحَّتِهِ لَكِنْ إذَا لَمْ يَرَ نَصًّا يُعَارِضُهُ فَإِنَّهُ يَجُرُّ إلَى أَقْوَالٍ عَجِيبَةٍ تُخَالِفُ سُنَّةً لَمْ تَبْلُغْهُ , أَوْ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِمُخَالَفَتِهَا , مَثَلُ قِيَاسِ مَنْ قَاسَ الْمُعَامَلَةَ بِجُزْءٍ مِنْ النَّمَاءِ عَلَى الْإِجَارَةِ مَعَ الْفُرُوقِ

الْمُؤَثِّرَةِ وَمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ , وَقِيَاسِ مَنْ قَاسَ الْقِسْمَةَ عَلَى الْبَيْعِ وَجَعَلَهَا نَوْعًا مِنْهُ حَتَّى أَثْبَتَ لَهَا خَصَائِصَ الْبَيْعِ لِمَا فِيهَا مِنْ ثُبُوتِ الْمُعَاوَضَةِ وَالْتَزَمَ أَنْ لَا يَقْسِمَ الثِّمَارَ خَرْصًا كَمَا لَا تُبَاعُ خَرْصًا فَخَالَفَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُقَاسَمَةِ أَهْلِ خَيْبَرَ الثِّمَارَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَى النَّخْلِ خَرْصًا , وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْهُ , لَكِنَّهُ أَقْبَحُ وَأَبْيَنُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى فَقِيهٍ , كَمَا خَفِيَ الْأَوَّلُ عَلَى بَعْضِ الْفُقَهَاءِ .

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مِمَّا قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْحِيَلِ الَّتِي بَيَّنَّا تَحْرِيمَهَا وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا قِصَّةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ كَادَ اللَّهُ لَهُ فِي أَخْذِ أَخِيهِ كَمَا نَصَّ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ فَإِنَّ فِيهَا ضُرُوبًا مِنْ الْحِيَلِ . أَحَدُهَا : قَوْلُهُ لِفِتْيَتِهِ : { اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إذَا انْقَلَبُوا إلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فَإِنَّهُ تَسَبَّبَ بِذَلِكَ إلَى رُجُوعِهِمْ وَقَدْ ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ مَعَانِيَ مِنْهَا أَنَّهُ تَخَوَّفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ وَرِقٌ يَرْجِعُونَ بِهَا , وَمِنْهَا أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَضُرَّ أَخْذُ الثَّمَنِ بِهِمْ , وَمِنْهَا أَنَّهُ رَأَى لَوْمًا إذَا أَخَذَ الثَّمَنَ مِنْهُمْ , وَمِنْهَا أَنَّهُ أَرَاهُمْ كَرَمَهُ فِي رَدِّ الْبِضَاعَةِ لِيَكُونَ أَدْعَى لَهُمْ لِلْعَوْدِ , وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ عَلِمَ أَنَّ أَمَانَتَهُمْ تُحْوِجُهُمْ إلَى الرَّجْعَةِ , لِيُؤَدُّوهَا إلَيْهِ , فَهَذَا الْمُحْتَالُ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ . وَالْمَقْصُودُ رُجُوعُهُمْ وَمَجِيءُ أَخِيهِ . وَذَلِكَ أَمْرٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ وَلَهُ وَهُوَ مَقْصُودٌ صَالِحٌ , وَإِنَّمَا لَمْ يُعَرِّفْهُمْ نَفْسَهُ لِأَسْبَابٍ أُخَرَ فِيهَا أَيْضًا مَنْفَعَةٌ لَهُ وَلَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ , وَتَمَامٌ لِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ الْخَيْرِ فِي هَذَا الْبَلَاءِ . الضَّرْبُ الثَّانِي : أَنَّهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجِهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ , وَهَذَا الْقَدْرُ يَتَضَمَّنُ إيهَامَ أَنَّ أَخَاهُ سَارِقٌ , وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ هَذَا كَانَ بِمُوَاطَأَةٍ مِنْ أَخِيهِ وَبِرِضًى مِنْهُ

بِذَلِكَ وَالْحَقُّ لَهُ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ { وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرَّفَ أَخَاهُ نَفْسَهُ , وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ أَنَّهُ يُوسُفُ , وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَا مَكَانُ أَخِيكَ الْمَفْقُودِ , وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ إنَّهُ وَضَعَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ وَالْأَخُ لَا يَشْعُرُ , وَهَذَا خِلَافُ الْمَفْهُومِ مِنْ الْقُرْآنِ , وَخِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَفِيهِ تَرْوِيعٌ لِمَنْ لَمْ يَسْتَوْجِبْ التَّرْوِيعَ , وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ لَمَّا قَالَ لَهُ إنِّي أَنَا أَخُوكَ قَالَ بِنْيَامِينُ فَأَنَا لَا أُفَارِقُكَ قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ عَلِمْتَ اغْتِمَامَ وَالِدِي بِي , وَإِذَا حَبَسْتُك ازْدَادَ غَمُّهُ وَلَا يُمْكِنُنِي هَذَا إلَّا بَعْدَ أَنْ أُشَهِّرَكَ بِأَمْرٍ فَظِيعٍ وَأَنْسُبَكَ إلَى مَا لَا تَحْتَمِلُ قَالَ : لَا أُبَالِي فَافْعَلْ مَا بَدَا لَك فَإِنِّي لَا أُفَارِقُك . قَالَ فَإِنِّي أَدُسُّ صَاعِي هَذَا فِي رَحْلِك , ثُمَّ أُنَادِي عَلَيْكَ بِالسَّرِقَةِ لِيَتَهَيَّأَ لِي رَدُّكَ بَعْدَ تَسْرِيحِكَ . قَالَ : فَافْعَلْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ } الْآيَةَ فَهَذَا التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِمَا فِيهِ أَذًى لَهُ فِي الظَّاهِرِ إنَّمَا كَانَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ . وَمِثْلُ هَذَا النَّوْعِ مَا ذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا هَمَّ قَوْمُهُ بِالرِّدَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّهُمْ عَنْ

ذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ بِالتَّرَبُّضِ , وَكَانَ يَأْمُرُ ابْنَهُ إذَا رَعَى إبِلَ الصَّدَقَةِ أَنْ يَبْعُدَ , فَإِذَا جَاءَ خَاصَمَهُ بَيْنَ يَدَيْ قَوْمِهِ وَهَمَّ يَضْرِبُهُ فَيَقُومُونَ فَيَشْفَعُونَ إلَيْهِ فِيهِ , وَيَأْمُرُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ أَنْ يَزْدَادَ بُعْدًا فَلَمَّا تَكَرَّرَ ذَلِكَ أَمَرَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَنْ يَبْعُدَ بِهَا وَجَعَلَ يَنْتَظِرُهُ بَعْدَ مَا دَخَلَ اللَّيْلُ وَهُوَ يَلُومُ قَوْمَهُ عَلَى شَفَاعَتِهِمْ فِيهِ وَمَنْعِهِمْ إيَّاهُ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَهُمْ يَعْتَذِرُونَ عَنْ ابْنِهِ وَلَا يُنْكِرُونَ إبْطَاءَهُ حَتَّى إذَا انْهَارَ اللَّيْلُ رَكِبَ فِي طَلَبِهِ فَلَحِقَهُ وَاسْتَاقَ الْإِبِلَ حَتَّى قَدِمَ بِهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَتْ صَدَقَاتُ طَيِّئٍ مِمَّا اسْتَعَانَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ , وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عَدِيًّا قَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي بَعْضِ الْأُمَرَاءِ : أَمَا تَعْرِفُنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ : بَلَى أَعْرِفُكَ أَسْلَمْتَ إذَا كَفَرُوا وَوَفَّيْتَ إذَا غَدَرُوا وَأَقْبَلْتَ إذَا أَدْبَرُوا وَعَرَفْتَ إذَا أَنْكَرُوا . وَمِثْلُ هَذَا مَا أَذِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْوَفْدِ الَّذِينَ أَرَادُوا قَتْلَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ أَنْ يَقُولُوا وَأَذِنَ لِلْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ عَامَ خَيْبَرَ أَنْ يَقُولَ وَهَذَا كُلُّهُ الْأَمْرُ الْمُحْتَالُ بِهِ مُبَاحٌ لِكَوْنِ الَّذِي قَدْ أُوذِيَ قَدْ أَذِنَ فِيهِ , وَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ طَاعَةٌ لِلَّهِ , أَوْ أَمْرٌ مُبَاحٌ . الضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ : { أَيَّتُهَا الْعِيرُ إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا

تَفْقِدُونَ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } إلَى قَوْلِهِ : { فَمَا جَزَاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ , فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَسْمِيَتِهِمْ سَارِقِينَ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَعَارِيضِ وَأَنَّ يُوسُفَ نَوَى بِذَلِكَ أَنَّهُمْ سَرَقُوهُ مِنْ أَبِيهِ حَيْثُ غَيَّبُوهُ عَنْهُ بِالْحِيلَةِ الَّتِي احْتَالُوهَا عَلَيْهِ وَخَانُوهُ فِيهِ وَالْخَائِنُ يُسَمَّى سَارِقًا وَهُوَ مِنْ الْكَلَامِ الْمَشْهُورِ حَتَّى أَنَّ الْخَوَنَةَ مِنْ ذَوِي الدِّيوَانِ يُسَمُّونَ لُصُوصًا . الثَّانِي : أَنَّ الْمُنَادِيَ هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ أَمَرَ يُوسُفُ بَعْضَ أَصْحَابِهِ أَنْ يَجْعَلَ الصَّاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ , ثُمَّ قَالَ بَعْضُ الْمُوَكَّلِينَ بِالصِّيعَانِ - وَقَدْ فَقَدُوهُ وَلَمْ يَدْرُوا مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُمْ - أَيَّتُهَا الْعِيرُ إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ عَلَى ظَنٍّ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ يُوسُفُ بِذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ كَذِبًا كَانَ فِي حَقِّهِ وَغَالِبِ ظَنِّهِ مَا هُوَ عِنْدَهُ , وَلَعَلَّ يُوسُفَ قَدْ قَالَ لِلْمُنَادِي هَؤُلَاءِ قَدْ سَرَقُوا , وَعَنَى بِسَرِقَتِهِ مِنْ أَبِيهِ وَالْمُنَادِي فَهِمَ سَرِقَةَ الصُّوَاعِ وَهُوَ صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ

فَإِنَّ يُوسُفَ لَعَلَّهُ لَمْ يُطْلِعْ عَلَى أَنَّ الصُّوَاعَ فِي رِحَالِهِمْ لِيَتِمَّ الْأَمْرُ فَنَادَى إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ بِنَاءً عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ يُوسُفُ , وَكَذَلِكَ لَمْ يَقُلْ سَرَقْتُمْ صَاعَ الْمَلِكِ إنَّمَا قَالَ نَفْقِدُهُ , لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ سَرَقُوهُ , أَوْ أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى مَا صَنَعَهُ يُوسُفُ فَاحْتَرَزَ فِي قَوْلِهِ فَقَالَ إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَفْعُولَ لِيَصِحَّ أَنْ يُضْمِرَ سَرِقَتَهُمْ يُوسُفَ , ثُمَّ قَالَ : نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَهُوَ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ احْتَرَزَ يُوسُفُ فِي قَوْلِهِ : { مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ } وَلَمْ يَقُلْ إلَّا مَنْ سَرَقَ . وَعَلَى التَّقْدِيرِ فَالْكَلَامُ مِنْ أَحْسَنِ الْمَعَارِيضِ وَقَدْ قَالَ نَصْرُ بْنُ حَاجِبٍ سُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الرَّجُلِ يَعْتَذِرُ إلَى أَخِيهِ مِنْ الشَّيْءِ الَّذِي قَدْ فَعَلَهُ وَيُحَرِّفُ الْقَوْلَ فِيهِ لِيُرْضِيَهُ أَيَأْثَمُ فِي ذَلِكَ ؟ قَالَ أَلَمْ تَسْمَعْ إلَى قَوْلِهِ لَيْسَ بِكَاذِبٍ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ النَّاسِ فَكَذَبَ فِيهِ فَإِذَا أَصْلَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَرْضَاةَ اللَّهِ وَكَرَاهَةَ أَذَى الْمُؤْمِنِ وَيَنْدَمُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَيَدْفَعُ شَرَّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يُرِيدُ بِالْكَذِبِ اتِّخَاذَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ وَلَا لِطَمَعِ شَيْءٍ يُصِيبُ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِي ذَلِكَ وَرَخَّصَ لَهُ إذَا كَرِهَ مَوْجِدَتَهُمْ وَخَافَ عَدَاوَتَهُمْ . قَالَ حُذَيْفَةُ إنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ

مَخَافَةَ أَنْ أَتَقَدَّمَ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَكَرِهَ أَيْضًا أَنْ يَتَغَيَّرَ قَلْبُهُ عَلَيْهِ , قَالَ سُفْيَانُ وَقَالَ الْمَلَكَانِ : { خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } أَرَادَ مَعْنَى شَيْءٍ وَلَمْ يَكُونَا خَصْمَيْنِ فَلَمْ يَصِيرَا بِذَلِكَ كَاذِبَيْنِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : { إنِّي سَقِيمٌ } , وَقَالَ : { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } , وَقَالَ يُوسُفُ : { إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } أَرَادَ مَعْنَى أَمْرِهِمْ . فَبَيَّنَ سُفْيَانُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الْمَعَارِيضِ الْمُبَاحَةِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ كَذَا , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ كَذِبًا كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ .

وَاَلَّذِي قِيسَتْ عَلَيْهِ الْحِيَلُ الْمُحَرَّمَةُ وَلَيْسَ مِثْلَهُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : الْمَعَارِيضُ وَهِيَ أَنْ يَتَكَلَّمَ الرَّجُلُ بِكَلَامٍ جَائِزٍ يَقْصِدُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحًا وَيَتَوَهَّمُ غَيْرُهُ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ , وَيَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ التَّوَهُّمِ كَوْنَ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ لُغَوِيَّتَيْنِ أَوْ عُرْفِيَّتَيْنِ , أَوْ شَرْعِيَّتَيْنِ , أَوْ لُغَوِيَّةٍ مَعَ أَحَدِهِمَا , أَوْ عُرْفِيَّةٍ مَعَ شَرْعِيَّةٍ فَيَعْنِي أَحَدَ مَعْنَيَيْهِ وَيَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّهُ إنَّمَا عَنَى الْآخَرَ لِكَوْنِ دَلَالَةِ الْحَالِ تَقْتَضِيهِ , أَوْ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْرِفْ إلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى , أَوْ يَكُونُ سَبَبُ التَّوَهُّمِ كَوْنَ اللَّفْظِ ظَاهِرًا فِيهِ مَعْنًى فَيَعْنِي بِهِ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ بَاطِنًا فِيهِ بِأَنْ يَنْوِيَ مَجَازَ اللَّفْظِ دُونَ حَقِيقَتِهِ , أَوْ يَنْوِيَ بِالْعَامِّ الْخَاصَّ أَوْ بِالْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدَ , أَوْ يَكُونَ سَبَبُ التَّوَهُّمِ كَوْنَ الْمُخَاطَبِ إنَّمَا يَفْهَمُ مِنْ اللَّفْظِ غَيْرَ حَقِيقَتِهِ بِعُرْفٍ خَاصٍّ لَهُ , أَوْ غَفْلَةٍ مِنْهُ , أَوْ جَهْلٍ مِنْهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ مَعَ كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ إنَّمَا قَصَدَ حَقِيقَتَهُ , فَهَذَا - إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ دَفْعَ ضَرَرٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ - جَائِزٌ كَقَوْلِ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هَذِهِ أُخْتِي " , وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نَحْنُ مِنْ مَاءٍ } وَقَوْلِ الصِّدِّيقِ : رَجُلٌ يَهْدِينِي السَّبِيلَ , وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى غَيْرَهَا , وَكَانَ يَقُولُ : { الْحَرْبُ خَدْعَةٌ }

وَكَإِنْشَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ : شَهِدْت بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا لَمَّا اسْتَقْرَأَتْهُ امْرَأَتُهُ الْقُرْآنَ حَيْثُ اتَّهَمَتْهُ بِإِصَابَةِ جَارِيَتِهِ - وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إذَا كَانَ دَفْعُ ذَلِكَ الضَّرَرِ وَاجِبًا وَلَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ مِثْلُ التَّعْرِيضِ عَنْ دَمٍ مَعْصُومٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَتَعْرِيضُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا السَّبِيلِ وَهَذَا الضَّرْبُ نَوْعٌ مِنْ الْحِيَلِ فِي الْخِطَابِ , لَكِنَّهُ يُفَارِقُ الْحِيَلَ الْمُحَرَّمَةَ مِنْ الْوَجْهِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَالْوَجْهِ الْمُحْتَالِ بِهِ : أَمَّا الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ هُنَا فَهُوَ دَفْعُ ضَرَرٍ غَيْرِ ضَرَرٍ مُسْتَحَقٍّ , فَإِنَّ الْجَبَّارَ كَانَ يُرِيدُ أَخْذَ امْرَأَةِ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ عَلِمَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ , وَهَذَا مَعْصِيَةٌ عَظِيمَةٌ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الضَّرَرِ , وَكَذَلِكَ بَقَاءُ الْكُفَّارِ غَالِبِينَ عَلَى الْأَرْضِ , أَوْ غَلَبَتُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ فَلَوْ عَلِمَ أُولَئِكَ الْمُسْتَجِيرُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَرَتَّبَ عَلَى عِلْمِهِمْ شَرٌّ طَوِيلٌ , وَكَذَلِكَ عَامَّةُ الْمَعَارِيضِ الَّتِي يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا فَإِنَّ عَامَّتَهَا إنَّمَا جَاءَتْ حَذَرًا مِنْ تَوَلُّدِ شَرٍّ عَظِيمٍ عَلَى الْأَخْبَارِ - فَأَمَّا إنْ قَصَدَ بِهَا كِتْمَانَ مَا يَجِبُ مِنْ شَهَادَةٍ , أَوْ إقْرَارٍ , أَوْ عِلْمٍ , أَوْ صِفَةِ مَبِيعٍ أَوْ مَنْكُوحَةٍ , أَوْ مُسْتَأْجَرٍ , أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهَا

حَرَامٌ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ التَّنْبِيهُ عَلَى بَعْضِهِ إذَا ذُكِرَتْ الْأَحَادِيثُ الْمُوجِبَةُ لِلنَّصِيحَةِ وَالْبَيَانِ فِي الْبَيْعِ , وَالْمُحَرِّمَةُ لِلْغِشِّ وَالْخِلَابَةِ وَالْكِتْمَانِ , وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ مُثَنَّى الْأَنْبَارِيُّ قَالَ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ كَيْفَ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ فِي الْمَعَارِيضِ فَقَالَ : الْمَعَارِيضُ لَا تَكُونُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ . تَكُونُ فِي الرَّجُلِ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ نَحْوِ هَذَا . وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ بَيَانُهُ فَالتَّعْرِيضُ فِيهِ حَرَامٌ , لِأَنَّهُ كِتْمَانٌ وَتَدْلِيسٌ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْإِقْرَارُ بِالْحَقِّ وَالتَّعْرِيضُ فِي الْحَلِفِ عَلَيْهِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالْعُقُودُ بِأَسْرِهَا وَوَصْفُ الْعُقُودِ عَلَيْهِ وَالْفُتْيَا وَالتَّحْدِيثُ وَالْقَضَاءُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ , كُلُّ مَا حَرُمَ بَيَانُهُ فَالتَّعْرِيضُ فِيهِ جَائِزٌ بَلْ وَاجِبٌ إنْ اُضْطُرَّ إلَى الْخِطَابِ وَأَمْكَنَ التَّعْرِيضُ فِيهِ - كَالتَّعْرِيضِ لِسَائِلٍ عَنْ مَعْصُومٍ يُرِيدُ قَتْلَهُ - , وَإِنْ كَانَ بَيَانُهُ جَائِزًا أَوْ كِتْمَانُهُ جَائِزًا , وَكَانَتْ الْمَصْلَحَةُ الدِّينِيَّةُ فِي كِتْمَانِهِ كَالْوَجْهِ الَّذِي يُرَادُ عَزْوُهُ فَالتَّعْرِيضُ أَيْضًا مُسْتَحَبٌّ هُنَا , وَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ فِي كِتْمَانِهِ , فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي الْإِظْهَارِ - وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ مَظْلُومٌ بِذَلِكَ الضَّرَرِ - , جَازَ لَهُ التَّعْرِيضُ فِي الْيَمِينِ وَغَيْرِهَا , وَإِنْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ مُبَاحٌ فِي الْكِتْمَانِ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي

الْإِظْهَارِ فَقِيلَ لَهُ التَّعْرِيضُ أَيْضًا . وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ . وَقِيلَ لَهُ التَّعْرِيضُ فِي الْكَلَامِ دُونَ الْيَمِينِ , وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي نَصْرِ بْنِ أَبِي عِصْمَةَ أَظُنُّهُ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ فَإِنَّ أَبَا نَصْرٍ هَذَا لَهُ مَسَائِلُ مَعْرُوفَةٌ رَوَاهَا عَنْهُ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَحْمَدَ قَالَ : سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يُعَارِضُ فِي كَلَامِهِ يَسْأَلُنِي عَنْ الشَّيْءِ أَكْرَهُ أَنْ أُخْبِرَهُ بِهِ . قَالَ : إذَا لَمْ يَكُنْ يَمِينٌ فَلَا بَأْسَ , فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ , وَهَذَا إذَا احْتَاجَ إلَى الْخِطَابِ , فَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِذَلِكَ فَهُوَ أَشَدُّ , وَمَنْ رَخَّصَ فِي الْجَوَابِ قَدْ لَا يُرَخِّصُ فِي ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أُمِّ كُلْثُومٍ أَنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِيمَا يَقُولُ النَّاسُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ . وَفِي الْجُمْلَةِ فَالتَّعْرِيضُ مَضْمُونُهُ أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا فَهِمَ مِنْهُ السَّامِعُ خِلَافَ مَا عَنَاهُ الْقَائِلُ إمَّا لِتَقْصِيرِ السَّامِعِ فِي مَعْرِفَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ , أَوْ لِتَبْعِيدِ الْمُتَكَلِّمِ وَجْهَ الْبَيَانِ , وَهَذَا غَايَتُهُ أَنَّهُ سَبَبٌ فِي تَجْهِيلِ الْمُسْتَمِعِ بِاعْتِقَادٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ , وَتَجْهِيلُ الْمُسْتَمِعِ بِالشَّيْءِ إذَا كَانَ مَصْلَحَةً لَهُ كَانَ عَمَلَ خَيْرٍ مَعَهُ , فَإِنَّ مَنْ كَانَ عِلْمُهُ بِالشَّيْءِ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَانَ أَنْ لَا يَعْلَمَهُ خَيْرًا لَهُ , وَلَا يَضُرُّهُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَتَوَهَّمَهُ بِخِلَافِ مَا هُوَ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَمْرًا يُطْلَبُ مَعْرِفَتُهُ , إنْ لَمْ يَكُنْ مَصْلَحَةً لَهُ بَلْ مَصْلَحَةً لِلْقَائِلِ

كَانَ أَيْضًا جَائِزًا , لِأَنَّ عِلْمَ السَّامِعِ إذَا فَوَّتَ مَصْلَحَةً عَلَى الْقَائِلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْعَى فِي عَدَمِ عِلْمِهِ , وَإِنْ أَفْضَى إلَى اعْتِقَادٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ فِي شَيْءٍ سَوَاءٌ عَرَفَهُ , أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ , فَالْمَقْصُودُ بِالْمَعَارِيضِ فِعْلٌ وَاجِبٌ , أَوْ مُسْتَحَبٌّ أَوْ مُبَاحٌ أَبَاحَ الشَّارِعُ السَّعْيَ فِي حُصُولِهِ , وَنَصَبَ سَبَبًا يُفْضِي إلَيْهِ أَصْلًا وَقَصْدًا , فَإِنَّ الضَّرَرَ قَدْ يُشْرَعُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقْصِدَ دَفْعَهُ , وَيَتَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ , وَلَمْ يَتَضَمَّنْ الشَّرْعُ النَّهْيَ عَنْ دَفْعِ الضَّرَرِ , فَلَا يُقَاسُ بِهَذَا إذَا كَانَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ سُقُوطَ مَا نَصَّ الشَّارِعُ وُجُوبَهُ وَتَوَجَّهَ وُجُوبُهُ كَالزَّكَاةِ وَالشُّفْعَةِ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِمَا , أَوْ حِلَّ مَا قَصَدَ الشَّارِعُ تَحْرِيمَهُ وَتَوَجَّهَ تَحْرِيمُهُ مِنْ الزِّنَا وَالْمُطَلَّقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . أَلَا تَرَى أَنَّ مَصْلَحَةَ الْوُجُوبِ هُنَا تَفْوِيتٌ وَمَفْسَدَةُ التَّحْرِيمِ بَاقِيَةٌ وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أَوْجَبَ الشَّارِعُ مَوْجُودٌ مَعَ فَوَاتِ الْوُجُوبِ , وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ حَرَّمَ مَوْجُودٌ مَعَ فَوَاتِ التَّحْرِيمِ إذَا قَصَدَ الِاحْتِيَالَ عَلَى ذَلِكَ , وَهُنَاكَ رَفْعُ الضَّرَرِ مَعْنًى قَصَدَ الشَّارِعُ حُصُولَهُ لِلْعَبْدِ وَفَتَحَ لَهُ بَابَهُ , فَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ , وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمُحْتَالِ بِهِ فَإِنَّ الْمُعْتَرِضَ إنَّمَا تَكَلَّمَ بِحَقٍّ وَنَطَقَ بِصِدْقٍ فِيمَا بَيَّنَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا سِيَّمَا إنْ لَمْ يَنْوِ بِاللَّفْظِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ فِي نَفْسِهِ , وَإِنَّمَا كَانَ الظُّهُورُ مِنْ ضَعْفِ فَهْمِ السَّامِعِ وَقُصُورِهِ فِي

مَعْرِفَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ , وَمَعَارِيضُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِزَاحُهُ عَامَّتُهُ كَانَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِثْلُ قَوْلِهِ : " { نَحْنُ مِنْ مَاءٍ } , وَقَوْلِهِ : { إنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ } { وَزَوْجُك الَّذِي فِي عَيْنِهِ بَيَاضٌ } , { وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ } . وَأَكْثَرُ مَعَارِيضِ السَّلَفِ كَانَتْ مِنْ هَذَا - وَمِنْ هَذَا الْبَابِ التَّدْلِيسُ فِي الْإِسْنَادِ لَكِنَّ هَذَا كَانَ مَكْرُوهًا لِتَعَلُّقِهِ بِأَمْرِ الدِّينِ وَكَوْنِ بَيَانِ الْعِلْمِ وَاجِبًا . بِخِلَافِ مَا قَصَدَ بِهِ دَفْعَ ظَالِمٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ - وَلَمْ يَكُنْ فِي مَعَارِيضِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْوِيَ بِالْعَامِّ الْخَاصَّ وَبِالْحَقِيقَةِ الْمَجَازَ , وَإِنْ كَانَ هَذَا إذَا عَرَّضَ بِهِ الْمُعَرِّضُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حُدُودِ الْكَلَامِ , فَإِنَّ الْكَلَامَ فِيهِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ وَالْمُفْرَدُ وَالْمُشْتَرَكُ وَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ وَالْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ وَغَيْرُ ذَلِكَ , وَتَخْتَلِفُ دَلَالِيَّتُهُ تَارَةً بِحَسَبِ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ , وَتَارَةً بِحَسَبِ التَّأْلِيفِ , وَكَثِيرٌ مِنْ وُجُوهِ اخْتِلَافِهِ قَدْ لَا يَبِينُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ , بَلْ يُرَاجَعُ فِيهِ إلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ , وَقَدْ يَظْهَرُ قَصْدُهُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ , وَقَدْ لَا يَظْهَرُ وَإِذَا كَانَ الْمُعَرِّضُ إنَّمَا يَقْصِدُ بِاللَّفْظِ مَا جُعِلَ اللَّفْظُ دَلَالَةً عَلَيْهِ وَمُبَيِّنًا لَهُ فِي الْجُمْلَةِ لَمْ يَشْتَبِهْ هَذَا إنْ قَصَدَ بِالْعَقْدِ مَا لَمْ يَحْمِلْ الْعَقْدُ مُقْتَضِيًا لَهُ أَصْلًا . فَإِنَّ لَفْظَ أَنْكَحْت وَزَوَّجْت لَمْ يَضَعْهُ الشَّارِعُ بِنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ قَطُّ بِدَلِيلِ

أَنَّهُ لَوْ أَظْهَرَهُ لَمْ يَصِحَّ . وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صَلَاحِ اللَّفْظِ لَهُ إخْبَارُ صَلَاحِهِ لَهُ إنْشَاءً , فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ فِي الْمَعَارِيضِ : تَزَوَّجْت وَعَنَى نِكَاحًا فَاسِدًا , جَازَ كَمَا لَوْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ , وَلَوْ قَالَ فِي الْعَقْدِ : تَزَوَّجْت نِكَاحًا فَاسِدًا لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ إذَا نَوَاهُ . وَكَذَلِكَ فِي الرِّبَا , فَإِنَّ الْقَرْضَ لَمْ يَشْرَعْهُ الشَّارِعُ إلَّا لِمَنْ قَصَدَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِثْلَ قَرْضِهِ فَقَطْ وَلَمْ يُبِحْهُ لِمَنْ أَرَادَ الِاسْتِفْضَالَ قَطُّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ , فَإِذَا أَقْرَضَهُ أَلْفًا لِيَبِيعَهُ مَا يُسَاوِي مِائَةً بِأَلْفٍ أُخْرَى أَوْ لِيُحَابِيَهُ الْمُقْتَرِضُ فِي بَيْعٍ , أَوْ إجَارَةٍ , أَوْ مُسَاقَاةٍ أَوْ لِيُعِيرَهُ , أَوْ يَهَبَهُ , فَقَدْ قَصَدَ بِالْعَقْدِ مَا لَمْ يَجْعَلْ الْعَقْدَ مُقْتَضِيًا لَهُ قَطُّ , وَإِذَا كَانَ الْمُعَرِّضُ قَصَدَ بِالْقَوْلِ مَا يَحْتَمِلُهُ الْقَوْلُ أَوْ يَقْتَضِيهِ وَالْمُحْتَالُ قَصَدَ بِالْقَوْلِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الْقَوْلُ وَلَا يَقْتَضِيهِ فَكَيْفَ يُقَاسُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ; وَإِنَّمَا نَظِيرُ الْمُحْتَالِ الْمُنَافِقُ , فَإِنَّهُ قَصَدَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ - فَالْحِيلَةُ كَذِبٌ فِي الْإِنْشَاءِ كَالْكَذِبِ فِي الْإِخْبَارِ , وَالتَّعْرِيضُ لَيْسَ كَذِبًا مِنْ جِهَةِ الْعِنَايَةِ وَحَسْبُكَ أَنَّ الْمُعَرِّضَ قَصَدَ مَعْنًى حَقًّا بِنِيَّتِهِ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُهُ فِي الْوَضْعِ الَّذِي بِهِ التَّخَاطُبُ , وَالْمُحْتَالُ قَصَدَ مَعْنًى مُحَرَّمًا بِلَفْظٍ لَا يَحْتَمِلُهُ فِي الْوَضْعِ الَّذِي بِهِ التَّعَاقُدُ . فَإِذَا تَبَيَّنَ الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ لِلْعَرْضِ

بِهِ وَالْمَعْنَى الَّذِي كَانَ التَّعْرِيضُ لِأَجْلِهِ لَمْ يَصِحَّ إلْحَاقُ الْحِيَلِ بِهِ . وَهُنَا فَرْقٌ ثَالِثٌ , وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُعَرِّضُ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَبْطَلَ بِالتَّعْرِيضِ حَقًّا لِلَّهِ , أَوْ لِآدَمِيٍّ , فَأَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ , فَلَمْ يُبْطِلْ حَقًّا لَهُ , لِأَنَّهُ إذَا نَاجَى رَبَّهُ سُبْحَانَهُ بِكَلَامٍ وَعَنَى بِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ الْمَعَانِي الْحِسِّيَّةِ لَمْ يَكُنْ مَلُومًا فِي ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَفْهَمُونَ مِنْهُ خِلَافَ ذَلِكَ , لِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِالسَّرَائِرِ وَاللَّفْظُ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا هُوَ مَوْضُوعٌ لَهُ , وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْآدَمِيِّ فَلَا يَجُوزُ التَّعْرِيضُ إلَّا إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ إسْقَاطَ حَقِّ مُسْلِمٍ , فَإِنْ تَضَمَّنَ إسْقَاطَ حَقِّهِ حَرُمَ بِالْإِجْمَاعِ . فَثَبَتَ أَنَّ التَّعْرِيضَ الْمُبَاحَ لَيْسَ مِنْ الْمُخَادَعَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي شَيْءٍ , وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنَّهُ مُخَادَعَةٌ لِمَخْلُوقٍ أَبَاحَ الشَّارِعُ مُخَادَعَتَهُ لِظُلْمِهِ جَزَاءً لَهُ عَلَى ذَلِكَ - وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ مُخَادَعَةِ الظَّالِمِ جَوَازُ مُخَادَعَةِ الْمُحِقِّ , فَمَا كَانَ مِنْ التَّعْرِيضِ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ فِي نَفْسِهِ كَانَ قَبِيحًا إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ , وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ جَائِزًا إلَّا عِنْدَ تَضَمُّنِ مَفْسَدَةٍ , وَاَلَّذِي يَدْخُلُ فِي الْحِيَلِ إنَّمَا هُوَ الْأَوَّلُ , وَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَصَدَ بِاللَّفْظِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ أَيْضًا . وَأَنَّ هَذَا الْقَصْدَ لِدَفْعِ شَرٍّ , وَالْمُحْتَالُ قَصَدَ بِاللَّفْظِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَقَصَدَ بِهِ حُصُولَ شَرٍّ . وَاعْلَمْ أَنَّ

الْمَعَارِيضَ كَمَا تَكُونُ بِالْقَوْلِ فَقَدْ تَكُونُ بِالْفِعْلِ وَقَدْ تَكُونُ بِهِمَا - مِثَالُ ذَلِكَ : أَنْ يُظْهِرَ الْمُحَارِبُ أَنَّهُ يُرِيدُ وَجْهًا مِنْ الْوُجُوهِ وَيُسَافِرَ إلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ لِيَحْسَبَ الْعَدُوُّ أَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ ثُمَّ يَكِرَّ عَلَيْهِ , أَوْ يَسْتَطْرِدَ الْمُبَارِزُ بَيْنَ يَدَيْ خَصْمِهِ لِيَظُنَّ هَزِيمَتَهُ , ثُمَّ يَعْطِفَ عَلَيْهِ , وَهَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ : { الْحَرْبُ خَدْعَةٌ } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا .

وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِقِصَّةِ يُوسُفَ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ التَّوَصُّلُ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ مِنْ الْغَيْرِ بِمَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاءِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ . وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّ يُوسُفَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ حَبْسَ أَخِيهِ عِنْدَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْأَخُ مِمَّنْ ظَلَمَ يُوسُفَ حَتَّى يُقَالَ قَدْ اقْتَصَّ مِنْهُ , وَإِنَّمَا سَائِرُ الْإِخْوَةِ هُمْ الَّذِينَ قَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ , نَعَمْ كَانَ تَخَلُّفُهُ عِنْدَهُ يُؤْذِيهِمْ مِنْ أَجْلِ تَأَذِّي أَبِيهِمْ وَالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ اسْتَثْنَوْا فِي الْمِيثَاقِ إلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ وَقَدْ أُحِيطَ بِهِمْ وَيُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ بِاحْتِبَاسِ أَخِيهِ الِانْتِقَامَ مِنْ إخْوَتِهِ فَإِنَّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ هَذَا وَكَانَ فِي ضِمْنِ هَذَا مِنْ الْإِيذَاءِ لِأَبِيهِ أَعْظَمُ مِمَّا فِيهِ مِنْ إيذَاءِ إخْوَتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ لِيَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ , وَيَتِمَّ الْبَلَاءُ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ يَعْقُوبُ وَيُوسُفُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَمَالَ الْجَزَاءِ وَتَبْلُغُ حِكْمَةُ اللَّهِ الَّتِي قَضَاهَا لَهُمْ نِهَايَتَهَا , وَلَوْ كَانَ يُوسُفُ قَصَدَ الِاقْتِصَاصَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَهُ أَنْ يُعَاقِبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ . وَإِنَّمَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَرِّقَ , أَوْ أَنْ يُخَوِّنَ سَرِقَةً أَوْ خِيَانَةً مِثْلَمَا سَرَّقَهُ إيَّاهُ , أَوْ خَوَّنَهُ إيَّاهُ . وَلَمْ تَكُنْ قِصَّةُ يُوسُفَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ , نَعَمْ لَوْ كَانَ يُوسُفُ

أَخَذَ أَخَاهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَكَانَ لِهَذَا الْمُحْتَجِّ شُبْهَةٌ . مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي شَرْعِنَا بِالِاتِّفَاقِ أَنْ يُحْبَسَ رَجُلٌ بَرِيءٌ وَيُعْتَقَلَ لِلِانْتِقَامِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ جُرْمٌ . وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ هَذَا الْقَوْلِ فِيمَا مَضَى , وَإِنْ كَانَ حَقًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُ بِاعْتِقَالِهِ وَكَانَ هَذَا ابْتِلَاءً مِنْ اللَّهِ لِهَذَا الْمُعْتَقَلِ . كَأَمْرِ إبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ وَتَكُونُ حِكْمَتُهُ فِي حَقِّ الْمُبْتَلَى امْتِحَانَهُ وَابْتِلَاءَهُ لِيَنَالَ دَرَجَةَ الصَّبْرِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ . وَيَكُونُ حَالُهُ فِي هَذَا كَحَالِ أَبِيهِ يَعْقُوبَ فِي احْتِبَاسِ , يُوسُفَ عَنْهُ .

وَمَنْ احْتَالَ بِعَمَلٍ هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَبَاحَهُ الشَّارِعُ فَهَذَا جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ , وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُبَاحُ لَهُ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ مِثْلُ الْخِيَانَةِ وَالْغُلُولِ , أَوْ يُبَاحُ لَهُ فِعْلُ الْمُبَاحِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِثْلُ الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ ؟ يُوَضِّحُ ذَلِكَ : أَنَّ نَفْسَ الْأَحْكَامِ مِثْلُ إبَاحَةِ الْفِعْلِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى كَيْدًا . وَإِنَّمَا الْكَيْدُ فِعْلٌ مِنْ اللَّهِ ابْتِدَاءً , أَوْ فِعْلٌ مِنْ الْعَبْدِ يَكُونُ الْعَبْدُ بِهِ فَاعِلًا , وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْحِيَلِ الشَّرْعِيَّةِ - وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي مَعْنَى الْكَيْدِ إنَّمَا انْضَمَّ إلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْأَفْعَالِ الَّتِي فَعَلَهَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ , وَالْأَفْعَالِ الَّتِي فَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ تَيَقَّنَ اللَّبِيبُ أَنَّ الْكَيْدَ لَمْ يَكُنْ خَارِجًا عَنْ إلْهَامِ فِعْلٍ كَانَ مُبَاحًا , أَوْ فِعْلٍ مِنْ اللَّهِ تَمَّ بِهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ , وَأَنَّ حَاجَةَ يُوسُفَ لَمْ تُبِحْ لَهُ فِعْلَ شَيْءٍ كَانَ حَرَامًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الْجُمْلَةِ قِيلَ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

النَّوْعُ الثَّانِي : مِمَّا ظَنَّ الْمُحْتَالُونَ أَنَّهُ مِنْ الْحِيَلِ سَائِرُ الْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ فَقَالُوا : الْبَيْعُ احْتِيَالٌ عَلَى حُصُولِ الْمِلْكِ , وَالنِّكَاحُ احْتِيَالٌ عَلَى حُصُولِ حِلِّ الْبُضْعِ , وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْخَلْقُ وَهُوَ احْتِيَالٌ عَلَى طَلَبِ مَصَالِحِهِمْ الَّتِي أَبَاحَهَا اللَّهُ لَهُمْ - وَقَالَ قَائِلُهُمْ : الْحِيلَةُ هِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا الْإِنْسَانُ إلَى إسْقَاطِ الْمَآثِمِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَالَ آخَرُ : هِيَ مَا يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ تَرْكٍ , أَوْ فِعْلٍ لَوْلَاهَا كَانَ يَلْزَمُهُ مِنْ غَيْرِ إثْمٍ , ثُمَّ قَالُوا : وَهَذَا شَأْنُ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُبَاحَةِ , وَقَالُوا : قَدْ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَامِلِهِ عَلَى خَيْبَرَ بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ , ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا } , فَلَمَّا كَانَ مَقْصُودُهُ ابْتِيَاعَ الْجَنِيبِ بِجَمْعٍ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ الْجَمْعَ , ثُمَّ يَبْتَاعَ بِثَمَنِهِ جَنِيبًا فَعَقَدَ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ لِيَتَوَسَّلَ بِهِ لِلْعَقْدِ الثَّانِي . قَالُوا : وَهَذِهِ حِيلَةٌ تَضَمَّنَتْ حُصُولَ الْمَقْصُودِ بَعْدَ عَقْدَيْنِ فَهِيَ أَوْكَدُ مِمَّا تَضَمَّنَتْ حُصُولَهُ بَعْدَ عَقْدٍ وَاحِدٍ . وَأَشْبَهَتْ الْعِينَةَ فَإِنَّهُ قَصَدَ أَنْ يُعْطِيَهُ دَرَاهِمَ , فَلَمْ يُمْكِنْ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فَعَقَدَ عَقْدَيْنِ بِأَنْ بَاعَ السِّلْعَةَ ثُمَّ ابْتَاعَهَا , وَالْحِيَلُ الْمَعْرُوفَةُ لَا تَتِمُّ غَالِبًا إلَّا بِأَنْ يَنْضَمَّ إلَى الْعَقْدِ الْآخَرِ شَيْءٌ آخَرُ مِنْ عَقْدٍ آخَرَ . أَوْ فَسْخٍ , أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ . وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا : أَنَّ تَحْصِيلَ الْمَقَاصِدِ بِالطُّرُقِ

الْمَشْرُوعَةِ إلَيْهَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْحِيَلِ سَوَاءٌ سُمِّيَ حِيلَةً , أَوْ لَمْ يُسَمَّ , فَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ , بَلْ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ مِنْ جِهَةِ الْوَسِيلَةِ وَالْمَقْصُودِ اللَّذَيْنِ هُمَا الْمُحْتَالُ بِهِ وَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ مَقْصُودُهُ الَّذِي شُرِعَ الْبَيْعُ لَهُ أَنْ يَحْصُلَ مِلْكُ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ وَيَحْصُلَ مِلْكُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي , فَيَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِلْكًا لِمَنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ , وَذَلِكَ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ إنَّمَا يَكُونُ إذَا قَصَدَ الْمُشْتَرِي نَفْسَ السِّلْعَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهَا , وَإِنْفَاقِهَا , أَوْ التِّجَارَةِ فِيهَا . فَإِنْ قَصَدَ ثَمَنَهَا الَّذِي هُوَ الدَّرَاهِمُ , أَوْ الدَّنَانِيرُ وَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودَهُ إلَّا أَنَّهُ قَدْ احْتَاجَ إلَى دَرَاهِمَ فَابْتَاعَ سِلْعَةً نَسِيئَةً لِيَبِيعَهَا وَيَسْتَنْفِقَ ثَمَنَهَا فَهُوَ التَّوَرُّقُ , وَإِنَّمَا يَكُونُ إذَا قَصَدَ الْبَائِعُ نَفْسَ الثَّمَنِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ بِمَا جُعِلَتْ الْأَثْمَانُ لَهُ مِنْ إنْفَاقٍ وَتِجَارَةٍ وَنَحْوِهِمَا , فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الرَّجُلِ نَفْعَ الْمِلْكِ الْمُبَاحِ بِالْبَيْعِ وَمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِهِ وَحَصَّلَهُ بِالْبَيْعِ فَقَدْ قَصَدَ بِالسَّبَبِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ وَأَتَى بِالسَّبَبِ حَقِيقَةً , وَسَوَاءٌ كَانَ مَقْصُودُهُ يَحْصُلُ بِعَقْدٍ أَوْ عُقُودٍ , مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ سِلْعَةٌ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْتَاعَ سِلْعَةً أُخْرَى لَا تُبَاعُ بِسِلْعَتِهِ لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ , أَوْ عُرْفِيٍّ , أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , فَيَبِيعُ سِلْعَتَهُ لِيَمْلِكَ ثَمَنَهَا , وَالْبَيْعُ لِمِلْكِ الثَّمَنِ

مَقْصُودٌ مَشْرُوعٌ , ثُمَّ يَبْتَاعُ بِالثَّمَنِ سِلْعَةً أُخْرَى , وَابْتِيَاعُ السِّلَعِ بِالْأَثْمَانِ مَقْصُودٌ مَشْرُوعٌ . وَهَذِهِ قِصَّةُ بِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِخَيْبَرَ سَوَاءٌ , فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ فَقَدْ أَرَادَ بِالْبَيْعِ مِلْكَ الثَّمَنِ وَهَذَا مَشْرُوعٌ مَقْصُودٌ , ثُمَّ إذَا ابْتَاعَ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا فَقَدْ أَرَادَ بِالِابْتِيَاعِ مِلْكَ سِلْعَةٍ وَهَذَا مَقْصُودٌ مَشْرُوعٌ , فَلَمَّا كَانَ بَائِعًا قَصَدَ مِلْكَ الثَّمَنِ حَقِيقَةً , وَلَمَّا كَانَ مُبْتَاعًا قَصَدَ مِلْكَ السِّلْعَةِ حَقِيقَةً , فَإِنْ ابْتَاعَ بِالثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ فَهَذَا لَا مَحْذُورَ فِيهِ , إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ مَقْصُودٌ مَشْرُوعٌ . وَلِهَذَا يَسْتَوْفِيَانِ حُكْمَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مِنْ النَّقْدِ وَالْقَبْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَأَمَّا إنْ ابْتَاعَ بِالثَّمَنِ مِمَّنْ ابْتَاعَهُ مِنْ جِنْسِ مَا بَاعَهُ فَيُخَافُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ مَقْصُودًا مِنْهُمَا بَلْ قَصْدُهُمَا بَيْعُ السِّلْعَةِ الْأُولَى بِالثَّانِيَةِ فَيَكُونُ رِبًا , وَيَظْهَرُ هَذَا الْقَصْدُ بِأَنْ يَكُونَ إذَا بَاعَهُ التَّمْرَ مَثَلًا بِدَرَاهِمَ لَمْ يُحَرِّرْ وَزْنَهَا وَلَا نَقْدَهَا وَلَا قَبْضَهَا فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ مِلْكَ الْمُثَمَّنِ بِذَلِكَ التَّمْرِ وَلَا قَصَدَ الْمُشْتَرِي تَمَلُّكَ التَّمْرِ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي هِيَ الثَّمَنُ بَلْ عَقَدَ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ عَلَى أَنْ يُعِيدَ إلَيْهِ الثَّمَنَ وَيَأْخُذَ التَّمْرَ الْآخَرَ وَهَذَا تَوَاطُؤٌ مِنْهُمَا حِينَ عَقْدِهِ عَلَى فَسْخِهِ , وَالْعَقْدُ إذَا قَصَدَ بِهِ فَسْخَهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا , وَإِذَا لَمْ

يَكُنْ الْأَوَّلُ مَقْصُودًا كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ , فَيَكُونَانِ قَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَبْتَاعَا بِالتَّمْرِ تَمْرًا . يُحَقِّقُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْعَقْدُ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا جَاءَ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ , أَوْ حِنْطَةٍ , أَوْ تَمْرٍ , أَوْ زَبِيبٍ لِيَبْتَاعَ بِهِ مِنْ جِنْسِهِ أَكْثَرَ مِنْهُ , أَوْ أَقَلَّ فَإِنَّهُمَا غَالِبًا يَتَشَارَطَانِ وَيَتَرَاضَيَانِ عَلَى سِعْرِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ , ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ : بِعْتُك هَذِهِ الدَّرَاهِمَ بِكَذَا وَكَذَا دِينَارًا , ثُمَّ يَقُولُ : اصْرِفْ لِي بِهَا كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا لِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ أَوَّلًا , وَيَقُولُ : بِعْتُك هَذَا التَّمْرَ بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا . ثُمَّ يَقُولُ : بِعْنِي بِهِ كَذَا وَكَذَا تَمْرًا فَيَكُونَانِ قَدْ اتَّفَقَا عَلَى الثَّمَنِ الْمَذْكُورِ صُورَةً لَا حَقِيقَةً لَيْسَ لِلْبَائِعِ غَرَضٌ فِي أَنْ يَمْلِكَهُ وَلَا لِلْمُشْتَرِي غَرَضٌ أَنْ يَمْلِكَهُ وَقَدْ تَعَاقَدَا عَلَى أَنْ يَمْلِكَهُ الْبَائِعُ , ثُمَّ يُعِيدَهُ إلَى الْمُشْتَرِي , وَالْعَقْدُ لَا يُعْقَدُ لِيُفْسَخَ مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ وُجُودِهِ . فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ , فَأَيْنَ مَنْ يَبِيعُهُ بِثَمَنٍ لِيَشْتَرِيَ بِهِ مِنْهُ إلَى مَنْ يَبِيعُهُ بِثَمَنٍ لِيَأْخُذَ مِنْهُ .

يُوَضِّحُ هَذَا أَشْيَاءُ : مِنْهَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ رَجُلٍ سِلْعَةً بِثَمَنٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا فَإِنَّهُمَا فِي الْعُرْفِ لَا يَحْتَاجَانِ أَنْ يُعَاقِدَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ , بِثَمَنٍ يُمَيِّزَهُ , ثُمَّ يَبْتَاعَا بِهِ , وَإِنَّمَا يُقَوِّمَانِ السِّلْعَتَيْنِ لِيَعْرِفَا مِقْدَارَهُمَا , وَلَوْ قَالَ لَهُ بِعْتهَا بِكَذَا وَكَذَا . أَوْ ابْتَعْت مَثَلًا هَذِهِ بِهَذَا الثَّمَنِ لَعُدَّ هَذَا لَاعِبًا عَابِثًا قَائِلًا مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ , بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الشِّرَاءُ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ بِثَمَنٍ يَمْلِكُهُ حَقِيقَةً , ثُمَّ يَبْتَاعُ بِهِ مِنْ الْآخَرِ فَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْهُ بِالثَّمَنِ مِنْ جِنْسِهَا كَيْفَ يَأْمُرُهُ الشَّارِعُ بِشَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ ؟ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَمْ يَكُنْ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا حِكْمَةٌ إلَّا تَضْيِيعُ الزَّمَانِ , وَإِتْعَابُ النَّفْسِ بِلَا فَائِدَةٍ . فَإِنَّهُ لَا يَشَاءُ أَنْ يَبْتَاعَ رِبَوِيًّا بِأَكْثَرَ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ إلَّا قَالَ بِعْتُك هَذَا بِكَذَا وَابْتَعْت مِنْك هَذَا بِهَذَا الثَّمَنِ . فَلَا يَعْجِزُ أَحَدٌ عَنْ اسْتِحْلَالِ رِبًا حَرَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَطُّ , فَإِنَّ الرِّبَا فِي الْبَيْعِ نَوْعَانِ : رِبَا الْفَضْلِ . وَرِبَا النَّسِيئَةِ , فَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَيُمْكِنُهُ فِي كُلِّ مَالٍ رِبَوِيٍّ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك هَذَا الْمَالَ بِكَذَا وَيُسَمِّيَ مَا شَاءَ , ثُمَّ يَقُولَ ابْتَعْت هَذَا الْمَالَ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِهِ , وَأَمَّا رِبَا النَّسِيئَةِ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك هَذِهِ الْحَرِيرَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ , أَوْ عِشْرِينَ صَاعًا

إلَى سَنَةٍ وَابْتَعْتهَا مِنْك بِتِسْعِمِائَةٍ حَالَّةٍ , أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا , أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ . وَيُمْكِنُهُ رِبَا الْقَرْضِ فَلَا يَشَاءُ مُرْبٍ إلَّا أَقْرَضَهُ , ثُمَّ حَابَاهُ فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ , أَوْ مُسَاقَاةٍ , أَوْ أَهْدَى لَهُ , أَوْ نَفَعَهُ , وَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُمَا مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الْقَرْضِ , فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ أَيَعُودُ الرِّبَا الَّذِي قَدْ عَظَّمَ اللَّهُ شَأْنَهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَوْجَبَ مُحَارَبَةَ مُسْتَحِلِّهِ , وَلَعَنَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِأَخْذِهِ , وَلَعَنَ آكِلَهُ وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ , وَجَاءَ فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ مَا لَمْ يَجِئْ فِي غَيْرِهِ إلَى أَنْ يُسْتَحَلَّ جَمِيعُهُ بِأَدْنَى سَعْيٍ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ أَصْلًا إلَّا بِصُورَةِ عَقْدٍ هِيَ عَبَثٌ وَلَعِبٌ يَضْحَكُ مِنْهَا وَيَسْتَهْزِئُ بِهَا ؟ أَمْ يَسْتَحْسِنُ مُؤْمِنٌ أَنْ يَنْسُبَ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنْ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ . بَلْ أَنْ يَنْسُبَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إلَى أَنْ يُحَرِّمَ هَذِهِ الْمَحَارِمَ الْعَظِيمَةَ , ثُمَّ يُبِيحَهَا بِضَرْبٍ مِنْ الْعَبَثِ وَالْهَزْلِ الَّذِي لَمْ يُقْصَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَيْسَ فِيهِ مَقْصُودُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَطُّ . وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْمُرْبِينَ مِنْ الصَّيَارِفِ قَدْ جَعَلَ عِنْدَهُ خَرَزَةَ ذَهَبٍ فَكُلُّ مَنْ جَاءَ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهُ فِضَّةً بِأَقَلَّ مِنْهَا لِكَوْنِهَا مَكْسُورَةً , أَوْ مِنْ نَقْدٍ غَيْرِ نَافِقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ لَهُ الصَّيْرَفِيُّ : بِعْنِي هَذِهِ الْفِضَّةَ بِهَذِهِ الْخَرَزَةِ , ثُمَّ يَقُولُ ابْتَعْت هَذِهِ الْخَرَزَةَ بِهَذِهِ الْفِضَّةِ . أَفَيَسْتَجِيزُ رَشِيدٌ أَنْ يَقُولَ : إنَّ الَّذِي حَرَّمَ

بَيْعَ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا أَحَلَّ تَحْصِيلَ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ , وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِي مُحَلِّلِ الْقِمَارَ مَا يَقُولُ , وَيَقُولُ فِي مُحَلِّلِ النِّكَاحَ مَا يَقُولُ ؟ وَكَذَلِكَ بَلَغَنِي أَنَّ مِنْ الْبَاعَةِ مَنْ قَدْ أَعَدَّ بَزًّا لِتَحْلِيلِ الرِّبَا , فَإِذَا جَاءَ الرَّجُلُ إلَى مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ ذَهَبَا إلَى ذَلِكَ الْمُحَلِّلِ فَاشْتَرَى ذَلِكَ الْمُعْطِي مِنْهُ ذَلِكَ الْبَزَّ , ثُمَّ يُعِيدُهُ لِلْآخَرِ , ثُمَّ يَبِيعُهُ الْآخِذُ إلَى صَاحِبِهِ , وَقَدْ عُرِفَ الرَّجُلُ بِذَلِكَ بِحَيْثُ إنَّ الْبَزَّ الَّذِي يُحَلَّلُ بِهِ الرِّبَا لَا يَكَادُ يَبِيعُهُ الْبَيْعَ أَلْبَتَّةَ .

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بَيِّنٌ يُعْلَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَمِنْ حَالِ يُوسُفَ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } فَإِنَّ الْكَيْدَ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ نَحْوُ مَنٍّ وَقَدْ نَسَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إلَى يُوسُفَ كَمَا نَسَبَهُ إلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا } وَكَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَاَلَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ الْمَكِيدُونَ } وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِك الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاَللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } , وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي قِصَّةِ صَالِحٍ : { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاَللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ , فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ } : الْآيَةَ . ثُمَّ إنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ إنَّمَا سَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِعْلَهُ بِالْمَاكِرِينَ وَالْكَائِدِينَ وَالْمُسْتَهْزِئِينَ مَكْرًا وَكَيْدًا وَاسْتِهْزَاءً مَعَ أَنَّهُ حَسَنٌ وَفِعْلُهُمْ قَبِيحٌ لِمُشَاكَلَتِهِ لَهُ فِي الصُّورَةِ وَوُقُوعِهِ جَزَاءً لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } سَمَّى الثَّانِيَ سَيِّئَةً وَهُوَ بِحَقٍّ لِمُقَابَلَتِهِ لِلسَّيِّئَةِ , وَقَالَ : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ

بِهِ } سَمَّى الْأَوَّلَ عُقُوبَةً , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ الْأَوَّلِينَ عُقُوبَةٌ لِمُقَابَلَتِهِ لِلْفِعْلِ الثَّانِي وَجَعَلُوا هَذَا نَوْعًا مِنْ الْمَجَازِ - وَقَالَ آخَرُونَ وَهُوَ أَصْوَبُ بَلْ تَسْمِيَتُهُ مَكْرًا وَكَيْدًا وَاسْتِهْزَاءً وَسَيِّئَةً وَعُقُوبَةً عَلَى بَابِهِ فَإِنَّ الْمَكْرَ إيصَالُ الشَّيْءِ إلَى الْغَيْرِ بِطَرِيقٍ خَفِيٍّ وَكَذَلِكَ الْكَيْدُ , فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الشَّرَّ كَانَ مَكْرًا حَسَنًا , وَإِلَّا كَانَ مَكْرًا سَيِّئًا . بَلْ إنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّرُّ الْوَاصِلُ حَقًّا لِمَظْلُومٍ كَانَ ذَلِكَ الْمَكْرُ وَاجِبًا فِي الشَّرْعِ عَلَى الْخَلْقِ وَوَاجِبًا مِنْ اللَّهِ بِحُكْمِ الْوَعْدِ إنْ لَمْ يَعْفُ الْمُسْتَحِقُّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا يَمْكُرُ وَيَسْتَهْزِئُ بِمَنْ يَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ فَيَأْخُذُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الظَّالِمُ بِالْمُؤْمِنِينَ . وَالسَّيِّئَةُ مَا تَسُوءُ صَاحِبَهَا , وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهَا وَالْعُقُوبَةُ مَا عُوقِبَ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ شَرٍّ . وَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ : فَيُوسُفُ الصِّدِّيقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ كِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ . أَوَّلُهَا : أَنَّ إخْوَتَهُ كَادُوا لَهُ كَيْدًا حَيْثُ احْتَالُوا فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَك كَيْدًا } . ثُمَّ إنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ كَادَتْ لَهُ بِأَنْ أَظْهَرَتْ أَنَّهُ رَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا وَكَانَتْ هِيَ الْمُرَاوِدَةَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } . ثُمَّ كَادَ لَهُ النِّسْوَةُ

حَتَّى اسْتَجَارَ بِاَللَّهِ فِي قَوْلِهِ : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ , وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ , فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } حَتَّى إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَمَّا جَاءَهُ رَسُولُ الْمَلِكِ يَسْتَخْرِجُهُ مِنْ السِّجْنِ : { قَالَ ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } . فَكَادَ اللَّهُ لِيُوسُفَ بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ , وَأَخْرَجَهُ مِنْ أَيْدِي إخْوَتِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ كَمَا أَخْرَجُوا يُوسُفَ مِنْ يَدِ أَبِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ . وَكَيْدُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَخْرُجُ عَنْ نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : هُوَ الْأَغْلَبُ أَنْ يَفْعَلَ سُبْحَانَهُ فِعْلًا خَارِجًا عَنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ الَّذِي كَادَ لَهُ فَيَكُونَ الْفِعْلُ قَدَرًا مَحْضًا لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الشَّرْعِ كَمَا كَادَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنْ انْتَقَمَ مِنْهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ . وَكَذَلِكَ كَانَتْ قِصَّةُ يُوسُفَ فَإِنَّ يُوسُفَ أَكْثَرَ مَا قَدَرَ أَنْ يَفْعَلَ أَنْ أَلْقَى الصُّوَاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ بِسَرِقَتِهِمْ فَلَمَّا أَنْكَرُوا { قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ } أَيْ جَزَاءُ السَّارِقِ { قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } أَيْ جَزَاؤُهُ نَفْسُ نَفْسِ السَّارِقِ يَسْتَعْبِدُهُ الْمَسْرُوقَ إمَّا مُطْلَقًا أَوْ إلَى مُدَّةٍ وَهَذِهِ كَانَتْ شَرِيعَةَ آلِ يَعْقُوبَ , وَقَوْلُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا :

أَنَّهُ هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَإِ وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ جَزَاؤُهُ جُمْلَةٌ ثَانِيَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى . وَالتَّقْدِيرُ فِي جَزَاءِ هَذَا الْفِعْلِ نَفْسُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْجَزَاءُ فِي دِينِنَا كَذَلِكَ يَجْزِي الظَّالِمِينَ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ { مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ هِيَ خَبَرُ الْمُبْتَدَإِ وَالتَّقْدِيرُ جَزَاءُ السَّارِقِ هُوَ أَنَّهُ مَنْ وُجِدَ الصَّاعُ فِي رَحْلِهِ كَانَ هُوَ الْجَزَاءَ كَمَا تَقُولُ جَزَاءُ السَّرِقَةِ مِمَّنْ سَرَقَ قَطْعُ يَدِهِ - , وَإِنَّمَا احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ قَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْحُكْمِ بِاسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْعُقُوبَةِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْأَلَمِ الْوَاصِلِ إلَى الْمُعَاقَبِ فَكُلَّمَا تَكَلَّمُوا بِهَذَا الْكَلَامِ كَانَ إلْهَامُ اللَّهِ لَهُمْ هَذَا كَيْدًا لِيُوسُفَ خَارِجًا عَنْ قُدْرَتِهِ , إذْ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا الْإِجْزَاءُ عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَرَقَ فَإِنَّ مُجَرَّدَ وُجُودِهِ فِي رَحْلِهِ لَا يُوجِبُ حُكْمَ السَّارِقِ وَقَدْ كَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَادِلًا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ أَوْ يَقُولُونَ جَزَاؤُهُ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مَا تَفْعَلُونَ بِالسُّرَّاقِ فِي دِينِكُمْ وَقَدْ كَانَ مِنْ دِينِ مَلِكِ مِصْرَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ السَّارِقَ يُضْرَبُ وَيَغْرَمُ قِيمَةَ الْمَسْرُوقِ مَرَّتَيْنِ وَلَوْ قَالُوا ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُلْزِمَهُمْ بِمَا لَا يُلْزِمُهُ غَيْرَهُمْ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي

دِينِ الْمَلِكِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } أَيْ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَخْذُهُ فِي دِينِ مَلِكِ مِصْرَ لِأَنَّ دِينَهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ طَرِيقٌ إلَى أَخْذِهِ - إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ - اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ لَكِنْ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَخَذَهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ , أَوْ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِأَنْ يُهَيِّئَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ سَبَبًا آخَرَ بِطَرِيقٍ يُؤْخَذُ بِهِ فِي دِينِ الْمَلِكِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي كَانَ الرَّجُلُ فِي دِينِ الْمَلِكِ يُعْتَقَلُ بِهَا . فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَيْدِ فِعْلًا مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُيَسِّرَ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ الْمَظْلُومِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ أُمُورًا يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودُهُ بِالِانْتِقَامِ مِنْ الظَّالِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا خَارِجٌ عَنْ الْحِيَلِ الْفِقْهِيَّةِ , فَإِنَّا إنَّمَا تَكَلَّمْنَا فِي حِيَلٍ يَفْعَلُهَا الْعَبْدُ لَا فِيمَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ , بَلْ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَنْ كَادَ كَيْدًا مُحَرَّمًا فَإِنَّ اللَّهَ يَكِيدُهُ وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي مُرْتَكِبِ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ فَإِنَّهُ لَا يُبَارِكُ لَهُ فِي هَذِهِ الْحِيَلِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ , وَفِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُتَوَكِّلَ عَلَى اللَّهِ إذَا كَادَهُ الْخَلْقُ فَإِنَّ اللَّهَ يَكِيدُ لَهُ وَيَنْتَصِرُ لَهُ بِغَيْرِ حَوْلٍ مِنْهُ وَلَا قُوَّةٍ , وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } قَالُوا بِالْعِلْمِ . وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْخَفِيَّ الَّذِي يَتَوَصَّلُ بِهِ الْمَقَاصِدَ الْحَسَنَةَ مِمَّا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ الدَّرَجَاتِ , وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ يُوسُفَ كَانَ مِنْهُ فِعْلٌ فَيَكُونُ بِهَذَا

الْعِلْمِ هُوَ مَا اهْتَدَى بِهِ يُوسُفُ إلَى أَمْرٍ تَوَكَّلَ فِي إتْمَامِهِ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اهْتِدَاءَهُ لِإِلْقَاءِ الصَّاعِ وَاسْتِرْجَاعِهِمْ نَوْعُ فِعْلٍ مِنْهُ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا وَحْدَهُ هُوَ الْحِيلَةَ , وَالْحِيَلُ الْفِقْهِيَّةُ بِهَا وَحْدَهَا يَتِمُّ غَرَضُ الْمُحْتَالِ لَوْ كَانَتْ حَلَالًا . النَّوْعُ الثَّانِي : مِنْ كَيَدِهِ لِعَبْدِهِ هُوَ أَنْ يُلْهِمَهُ سُبْحَانَهُ أَمْرًا مُبَاحًا , أَوْ مُسْتَحَبًّا , أَوْ وَاجِبًا يُوصِلُهُ بِهِ إلَى الْمَقْصُودِ الْحَسَنِ فَيَكُونُ هَذَا عَلَى إلْهَامِهِ لِيُوسُفَ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَ هُوَ مِنْ كَيْدِهِ سُبْحَانَهُ أَيْضًا . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } فَإِنَّ فِيهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الدَّقِيقَ الْمُوصِلَ إلَى الْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ صِفَةُ مَدْحٍ كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يُخْصَمُ بِهِ الْمُبْطِلُ صِفَةُ مَدْحٍ . حَيْثُ قَالَ فِي قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } . وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مِنْ الْكَيْدِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكَيْدُ الَّذِي تُسْتَحَلُّ بِهِ الْمُحَرَّمَاتُ , أَوْ تَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبَاتُ فَإِنَّ هَذَا كَيْدٌ لِلَّهِ , وَاَللَّهُ هُوَ الْمَكِيدُ فِي مِثْلِ هَذَا فَمُحَالٌ أَنْ يَشْرَعَ اللَّهُ أَنْ يُكَادَ دِينُهُ , وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْكَيْدَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِفِعْلٍ يُقْصَدُ بِهِ غَيْرُ مَقْصُودِهِ الشَّرْعِيِّ , وَمُحَالٌ أَنْ يَشْرَعَ اللَّهُ لِعَبْدٍ أَنْ يَقْصِدَ بِفِعْلِهِ مَا لَمْ يَشْرَعْ اللَّهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَهُ , وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمَشْرُوعَ هُوَ عَامٌّ لَا يُخَصُّ

بِهِ شَخْصٌ دُونَ شَخْصٍ فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا كَانَ مُبَاحًا لِشَخْصٍ كَانَ مُبَاحًا لِكُلِّ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ - فَإِذَنْ مَنْ احْتَالَ بِحِيلَةٍ فِقْهِيَّةٍ مُحَرَّمَةٍ أَوْ مُبَاحَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ اخْتِصَاصٌ , بِتِلْكَ الْحِيلَةِ لَا يُفَهِّمُهَا وَلَا يُعَلِّمُهَا , لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ كُلَّهُمْ يَشْرَكُونَهُ فِي فَهْمِهَا وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يُسَاوُونَهُ فِي عَمَلِهَا , وَإِنَّمَا فَضِيلَةُ الْفَقِيهِ إذَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ أَنْ يَتَفَطَّنَ لِانْدِرَاجِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ تَحْتَ الْحُكْمِ الْعَامِّ الَّذِي يَعْلَمُهُ هُوَ وَغَيْرُهُ , أَوْ يُمْكِنُهُمْ مَعْرِفَتُهُ بِأَدِلَّتِهِ الْعَامَّةِ نَصًّا أَيْضًا وَاسْتِنْبَاطًا فَأَمَّا الْحُكْمُ فَمُتَقَرَّرٌ قَبْلَ تِلْكَ الْحَادِثَةِ فَإِذَنْ احْتِيَاجُ النَّاسِ إلَى الْحِيَلِ لَا يُجَدِّدُ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً قَبْلَ ذَلِكَ بَلْ الْأَحْكَامُ مُسْتَقِرَّةٌ وُجِدَتْ تِلْكَ الْحَاجَةُ , أَوْ لَمْ تُوجَدْ , فَإِنْ كَانَ الشَّارِعُ قَدْ جَعَلَ الْحُكْمَ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ تِلْكَ الْحَاجَةِ كَانَ حُكْمًا عَامًّا وُجِدَتْ حَاجَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ , أَوْ لَمْ تُوجَدْ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَعَلَ لِتِلْكَ الْحَاجَةِ تَأْثِيرًا فِي الْحُكْمِ فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ سَوَاءٌ وُجِدَتْ تِلْكَ الْحَاجَةُ مُطْلَقًا , أَوْ لَمْ تُوجَدْ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا كَادَ لِيُوسُفَ كَيْدًا جَزَاءً مِنْهُ عَلَى صَبْرِهِ , وَإِحْسَانِهِ وَذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الْمِنَّةِ عَلَيْهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتِصَاصٌ بِذَلِكَ الْكَيْدِ لَمْ يَكُنْ فِي مُجَرَّدِ عَمَلِ الْإِنْسَانِ أَمْرٌ مُبَاحٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنَّةٌ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا

الْمَقَامِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمِنَّةَ كَانَتْ عَلَيْهِ فِي أَنْ أُلْهِمَ الْعَمَلَ بِمَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ يُلْهِمُ الْعَبْدَ مَا لَا يُلْهِمُهُ غَيْرَهُ , وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى { كِدْنَا } صَنَعْنَا , وَبَعْضُهُمْ قَالَ أَلْهَمْنَا يُوسُفَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ حِيَلِ الرِّبَا أَغْلَظُ فِي بَابِهَا مِنْ التَّحْلِيلِ فِي بَابِهِ , وَلِهَذَا حَرَّمَهَا , أَوْ بَعْضَهَا مَنْ لَمْ يُحَرِّمْ التَّحْلِيلَ , لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي الْبَيْعِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْهَازِلِ . بِخِلَافِ نِكَاحِهِ , وَلِأَنَّ الِاحْتِيَالَ فِي الرِّبَا غَالِبًا إنَّمَا يَتِمُّ فِي الْمُوَاطَأَةِ اللَّفْظِيَّةِ أَوْ الْعُرْفِيَّةِ , وَلَا يَفْتَقِرُ عَقْدُ الرِّبَا إلَى شَهَادَةٍ . وَلَكِنْ يَتَعَاقَدَانِ , ثُمَّ يَشْهَدَانِ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ دِينًا , وَلِهَذَا إنَّمَا لُعِنَ شَاهِدَاهُ إذَا عَلِمَا بِهِ . وَالتَّحْلِيلُ لَا يُمْكِنُ إظْهَارَهُ وَقْتَ الْعَقْدِ لِكَوْنِ الشَّهَادَةِ شَرْطًا فِيهِ , وَالشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ مُؤَثِّرَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ , وَإِنْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا يُؤَثِّرُ . وَجِمَاعُ هَذَا أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى مِنْهُ رِبَوِيًّا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ , فَإِمَّا أَنْ يُوَاطِئَهُ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ لَفْظًا , أَوْ يَكُونَ الْعُرْفُ قَدْ جَرَى بِذَلِكَ , وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ , فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ عَقْدٌ بَاطِلٌ , لِأَنَّ مِلْكَ الثَّمَنِ غَيْرُ مَقْصُودٍ . فَلَا قَوْلُهُ أَوَّلًا بِعْتُك هَذَا بِأَلْفٍ مَثَلًا صَحِيحٌ . وَلَا قَوْلُهُ ثَانِيًا ابْتَعْت هَذَا بِأَلْفٍ ,

فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ أَوَّلًا مِلْكَ الْأَلْفِ . وَلَمْ يَقْصِدْ ثَانِيًا التَّمْلِيكَ بِهَا , وَلَمْ يَقْصِدْ الْآخَرُ تَمْلِيكَ الْأَلْفِ أَوَّلًا وَلَا مِلْكَهَا ثَانِيًا , بَلْ الْقَصْدُ تَمْلِيكُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ مَثَلًا إنْ لَمْ تَجْرِ بَيْنَهُمَا مُوَاطَأَةٌ , لَكِنْ قَدْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الْبَائِعَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ فَهُوَ كَذَلِكَ , لِأَنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ يَمْنَعُ كُلًّا مِنْهُمَا أَنْ يَقْصِدَ الثَّمَنَ فِي الْعَقْدَيْنِ بَلْ عِلْمُهُ بِهِ ضَرْبٌ مِنْ الْمُوَاطَأَةِ الْعُرْفِيَّةِ . وَإِنْ كَانَ قَصَدَ الْبَائِعُ الشِّرَاءَ مِنْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي فَهُنَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَوْ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ دَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالدَّرَاهِمِ مِنْهُ ذَهَبًا إلَّا أَنْ يَمْضِيَ لِيَبْتَاعَ بِالْوَرِقِ مِنْ غَيْرِهِ ذَهَبًا فَلَا يَسْتَقِيمُ فَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الَّذِي ابْتَاعَ مِنْهُ الدَّنَانِيرَ فَيَشْتَرِيَ مِنْهُ ذَهَبًا , وَكَذَلِكَ كُرِهَ مِنْك أَنْ تَصْرِفَ دَرَاهِمَك مِنْ رَجُلٍ بِدَنَانِيرَ , ثُمَّ تَبْتَاعَ مِنْهُ بِتِلْكَ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ غَيْرَ دَرَاهِمِك وَغَيْرَ عُيُونِهَا فِي الْوَقْتِ , أَوْ بَعْدَ يَوْمٍ , أَوْ يَوْمَيْنِ , قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : فَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ وَصَحَّ أَمْرُهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ , فَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ , لِأَنَّهُ مَنْ قَصَدَ الشِّرَاءَ مِنْهُ بِتِلْكَ الدَّنَانِيرِ لَمْ يَقْصِدْ تَمْلِيكَ الثَّمَنِ , وَلِهَذَا لَا يُحْتَاطُ فِي النَّقْدِ وَالْوَزْنِ فَمَتَى بَدَا لَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَالْمُفَارَقَةِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَجِدَ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ خَلَلٌ ,

ثُمَّ إنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَمَلُوا هَذَا الْمَنْعَ عَلَى التَّحْرِيمِ , وَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا : إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ حِيلَةٍ وَمُوَاطَأَةٍ لَمْ يَحْرُمْ , وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْكَرْمَانِيُّ . قَالَ قُلْت لِأَحْمَدَ : رَجُلٌ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ ذَهَبًا ثُمَّ بَاعَهُ مِنْهُ ؟ قَالَ : يَبِيعُهُ مِنْ غَيْرِهِ أَعْجَبُ إلَيَّ , وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَكْرَهْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى , وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْ الرَّجُلِ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ , ثُمَّ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِالدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ , وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ : إنَّ بَعْضَهُمْ لَيَفْعَلُ مَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْ الصَّرْفِ , وَهَذَا إخْبَارٌ عَمَّا كَانَتْ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ فَإِنَّ ابْنَ سِيرِينَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ فَلَا يَنْقُلُ الْكَرَاهَةَ الْمُطْلَقَةَ إلَّا عَنْ الصَّحَابَةِ .

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَكْسُ مَسَائِلِ الْعِينَةِ وَهِيَ فِي رِبَا الْفَضْلِ كَمَسَائِلِ الْعِينَةِ فِي رِبَا النَّسَاءِ , لِأَنَّ هَذَا يَبِيعُ بِالثَّمَنِ , ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَيْهِ وَيَأْخُذُ بِهِ , وَمِثْلُهَا فِي رِبَا النَّسَاءِ أَنْ يَبِيعَ رِبَوِيًّا بِنَسِيئَةٍ , ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ مَا لَا يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً - وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا عَدَّهَا مِنْ الرِّبَا الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِثْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا , وَأَظُنُّهُ مَأْثُورًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ فَفِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ قَدْ عَادَ الثَّمَنُ إلَى الْمُشْتَرِي وَأَفْضَى إلَى رِبَا الْفَضْلِ , أَوْ رِبَا النَّسَاءِ , وَفِي مَسَائِلِ الْعِينَةِ قَدْ عَادَ الْمَبِيعُ إلَى الْبَائِعِ وَأَفْضَى إلَى رِبَا الْفَضْلِ وَالنَّسَاءِ جَمِيعًا . ثُمَّ إنْ كَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يَقْصِدْ الثَّمَنَ وَلَا الْمَبِيعَ , وَإِنَّمَا جَعَلَ وَصْلَةً إلَى الرِّبَا فَهَذَا لَا رَيْبَ فِي تَحْرِيمِهِ , وَالْعَقْدُ الْأَوَّلُ هُنَا بَاطِلٌ فَلَا يُوقَفُ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يُبْطِلُ الْحِيَلَ , وَكَلَامُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ , وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ , وَإِنْ كَانَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ قَدْ جَعَلَ فِي صِحَّتِهِ وَجْهَيْنِ , فَإِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الصَّوَابُ , وَإِنَّمَا تَرَدَّدَ مَنْ تَرَدَّدَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ , لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إنَّمَا يُنْصَبُ الْخِلَافُ فِيهَا فِي الْعَقْدِ الثَّانِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ . وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فَلَيْسَتْ مِنْ

مَسَائِلِ الْحِيَلِ , وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ مَسَائِلِ الذَّرَائِعِ , وَلَهَا مَأْخَذٌ آخَرُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ , وَهُوَ كَوْنُ الثَّمَنِ إذَا لَمْ يُسْتَوْفَ لَمْ يَتِمَّ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ , فَيَصِيرُ الثَّانِي مَبْنِيًّا عَلَيْهِ . وَهَذَا تَعْلِيلٌ خَارِجٌ عَنْ قَاعِدَةِ الْحِيَلِ وَالذَّرَائِعِ أَيْضًا . فَصَارَ لَهَا ثَلَاثَةُ مَآخِذَ , فَلَمَّا لَمْ يُمْتَحَضْ تَحْرِيمُهَا عَلَى قَاعِدَةِ الْحِيَلِ تَوَقَّفَ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مَنْ تَوَقَّفَ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ الْحِيَلِ أُعْطِيت حُكْمَ الْحِيَلِ , وَإِلَّا اُعْتُبِرَ فِيهَا الْمَأْخَذَانِ الْآخَرَانِ , هَذَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ , وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ مَقْصُودًا حَقِيقَةً فَهُوَ صَحِيحٌ , لَكِنْ مَا دَامَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ الْبَيْعَ بِأَقَلَّ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْهُ الثَّمَنَ رِبَوِيًّا , لَا يُبَاعُ بِالْأَوَّلِ نَسْئًا , لِأَنَّ أَحْكَامَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَا تُسْتَوْفَى إلَّا بِالتَّقَابُضِ , فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ التَّقَابُضُ كَانَ ذَرِيعَةً إلَى الرِّبَا , وَإِنْ تَقَابَضَا وَكَانَ الْعَقْدُ مَقْصُودًا فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ كَمَا يَشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ . وَإِذَا كَانَ الطَّرِيقُ إلَى الْحَلَالِ هِيَ الْعُقُودَ الْمَقْصُودَةَ الْمَشْرُوعَةَ الَّتِي لَا خِدَاعَ فِيهَا وَلَا تَحْرِيمَ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُلْحَقَ فِيهَا صُورَةُ عَقْدٍ لَمْ يَقْصِدْ حَقِيقَتَهُ مَنْ مَلَكَ الثَّمَنَ وَالْمُثَمَّنَ , وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ اسْتِحْلَالَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الرِّبَا وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلَالٍ : { بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ , ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا } فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الِاحْتِيَالِ بِالْعُقُودِ الَّتِي لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَتَهُ الْأُولَى , ثُمَّ يَبْتَاعَ بِثَمَنِهَا سِلْعَةً أُخْرَى , وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَقْتَضِي الْبَيْعَ الصَّحِيحَ , وَمَتَى وُجِدَ الْبَيْعَانِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ جَازَ ذَلِكَ بِلَا رَيْبٍ , وَنَحْنُ نَقُولُ كُلُّ بَيْعٍ صَحِيحٌ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ وَلَا يَكُونُ رِبًا , لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي بُيُوعٍ قَدْ دَلَّتْ السُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَهَا , وَإِنْ كَانَ بَيْعًا فَإِنَّهَا رِبًا وَهِيَ بَيْعٌ فَاسِدٌ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ , وَلَوْ اخْتَلَفَ رَجُلَانِ فِي بَيْعٍ هَلْ هُوَ صَحِيحٌ , أَوْ فَاسِدٌ , وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا إدْخَالَهُ فِي هَذَا اللَّفْظِ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ حَتَّى يُثْبِتَ أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ , فَمَتَى أَثْبَتَ أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ , فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى صِحَّةِ صُورَةِ النِّزَاعِ أَلْبَتَّةَ . وَالنُّكْتَةُ أَنْ يُقَالَ : الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ بِالْبَيْعِ إنَّمَا يَقْتَضِي الْبَيْعَ الصَّحِيحَ . وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ الَّتِي تَوَاطَآ فِيهَا عَلَى الِاشْتِرَاءِ بِالثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي شَيْئًا مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ الرِّبَوِيِّ بَيْعٌ صَحِيحٌ , وَإِنَّمَا الْبَيْعُ الصَّحِيحُ الِاشْتِرَاءُ مِنْ غَيْرِهِ , أَوْ الِاشْتِرَاءُ مِنْهُ بَعْدَ بَيْعِهِ

بَيْعًا مَقْصُودًا ثَابِتًا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الشِّرَاءَ مِنْهُ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ عُمُومٌ , لِأَنَّهُ قَالَ : { وَابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا } وَالْأَمْرُ بِالْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقَةِ لَيْسَ أَمْرًا بِشَيْءٍ مِنْ قُيُودِهَا . لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَقَدْرُ الْمُشْتَرَكِ لَيْسَ هُوَ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ عَنْ الْآخَرِ وَلَا هُوَ مُلْتَزَمًا لَهُ فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْمُشْتَرَكِ أَمْرًا بِالْمُمَيَّزِ بِحَالٍ , نَعَمْ مُسْتَلْزِمٌ لِبَعْضِ تِلْكَ الْقُيُودِ لَا بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ عَامًّا لَهَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ , لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ لِلْأَفْرَادِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ , فَقَوْلُهُ مَعَ هَذَا : الثُّبُوتُ لَا يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِبَيْعِهِ مِنْ زَيْدٍ , أَوْ عَمْرٍ وَلَا بِكَذَا , أَوْ كَذَا وَلَا بِهَذَا السُّوقِ , أَوْ هَذِهِ , فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَكِنْ إذَا أَتَى بِالْمُسَمَّى حَصَلَ مُمَثَّلًا مِنْ جِهَةٍ وَجَدَّدَ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ لَا مِنْ جِهَةِ وُجُودِ تِلْكَ الْقُيُودِ , وَهَذَا الْأَمْرُ لَا خِلَافَ فِيهِ , لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّ عَدَمَ الْأَمْرِ بِالْقُيُودِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْإِجْزَاءِ إذَا أَتَى بِهَا إلَّا بِقَرِينَةٍ , وَهَذَا خَطَأٌ . إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ : فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْ الْمُشْتَرِي , وَلَا أَمَرَهُ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْ غَيْرِهِ فَالْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ لَفْظُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ , وَلَا عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ مُطَابَقَةً وَلَا تَضَامُنًا وَلَا الْتِزَامًا , كَمَا لَا

يَدُلُّ عَلَى بَيْعِهِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ , أَوْ تَرْكِ قَبْضِهِ وَبَيْعِهِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ دُونَ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَبِنَقْدِ الْبَلَدِ , أَوْ غَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَبِثَمَنٍ حَالٍّ , أَوْ مُؤَجَّلٍ . فَإِنَّ هَذِهِ الْقُيُودَ خَارِجَةٌ عَنْ مَفْهُومِ اللَّفْظِ , وَلَوْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ اللَّفْظَ يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ كَانَ مُبْطِلًا لَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ إذَا أَتَى بِهَا , وَإِنَّمَا اُسْتُفِيدَ عَدَمُ الِامْتِثَالِ إذَا بِيعَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ , أَوْ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ , وَالْأَمْرُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْ الْعُرْفِ الَّذِي يُثْبِتُ الْبَيْعَ الْمُطْلَقَ , وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ يَبِيعُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ مِنْهُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ , وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةٍ أُخْرَى مُنْفَصِلَةٍ فِيمَا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ جَازَ فِعْلُهُ وَمَا لَا فَلَا . وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَوْ كَانَ الِابْتِيَاعُ مِنْ الْمُشْتَرِي حَرَامًا لَنَهَى عَنْهُ , فَإِنَّ مَقْصُودَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ بَيَانَ الطَّرِيقِ الَّتِي بِهَا يَحْصُلُ شِرَاءُ التَّمْرِ الْجَيِّدِ لِمَنْ عِنْدَهُ رَدِيءٌ , وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ الرَّدِيءَ بِثَمَنٍ , ثُمَّ يَبْتَاعَ بِالثَّمَنِ جَيِّدًا . وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِشُرُوطِ الْبَيْعِ وَمَوَانِعِهِ , لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ الْحُكْمِ عَلَى وَجْهِ الْجُمْلَةِ . أَوْ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ يَفْهَمُ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِجَاجِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى نَفْيِ شَرْطٍ مَخْصُوصٍ كَمَا لَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى نَفْيِ

سَائِرِ الشُّرُوطِ , وَمَا هَذَا إلَّا بِمَثَابَةِ قَوْله تَعَالَى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ } . فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ حِلِّ الْأَكْلِ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَمَنْ احْتَجَّ بِهِ عَلَى حَدِّ نَوْعِ الْمَأْكُولَاتِ , أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْأَكْلِ كَانَ مُبْطِلًا , إذْ لَا عُمُومَ فِي اللَّفْظِ لِذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ سَوَاءً وَلَيْسَ الْغَالِبُ أَنَّ بَائِعَ التَّمْرِ بِدَرَاهِمَ يَبْتَاعُ بِهَا مِنْ الْمُشْتَرِي حَتَّى يُقَالَ : هَذِهِ الصُّورَةُ غَالِبَةٌ فَكَانَ يَنْبَغِي التَّحْذِيرُ مِنْهَا كَمَا حَذَّرَ السَّلَفُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الصَّرْفِ , لِأَنَّ سِعْرَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الْغَالِبِ مَعْرُوفٌ , وَالْغَالِبُ أَنَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ نَقْدًا لِيَشْتَرِيَ نَقْدًا آخَرَ إذَا بَاعَهُ لِلصَّيْرَفِيِّ بِذَهَبٍ ابْتَاعَ بِالذَّهَبِ مِنْهُ النَّقْدَ الْآخَرَ وَلِهَذَا حَذَّرُوا مِنْهُ , وَأَمَّا التَّمْرُ وَالْبُرُّ وَنَحْوُهُمَا مِنْ الْعُرُوضِ فَإِنَّ مَنْ يَقْصِدُ بَيْعَهُ لَا يَقْصِدُ بِهِ مُشْتَرِيًا مَخْصُوصًا . بَلْ يَعْرِضُهُ عَلَى أَهْلِ السُّوقِ عَامَّةً . أَوْ يَضَعُهُ حَيْثُ يَقْصِدُونَهُ , أَوْ يُنَادِي عَلَيْهِ , فَإِذَا بَاعَهُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فَقَدْ تَكُونُ عِنْدَهُ السِّلْعَةُ الَّتِي يُرِيدُهَا وَقَدْ لَا تَكُونُ . وَمِثْلُ هَذَا إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ : بِعْ هَذِهِ الثِّيَابَ الْكَتَّانَ وَاشْتَرِ لَنَا بِالثَّمَنِ ثِيَابَ قُطْنٍ . أَوْ بِعْ هَذِهِ الْحِنْطَةَ الْعَتِيقَةَ وَاشْتَرِ لَنَا بِالثَّمَنِ جَدِيدَةً لَا يَكَادُ يَخْطِرُ بِبَالِهِ الِاشْتِرَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي بَلْ يَشْتَرِي مِنْ حَيْثُ وَجَدَ غَرَضَهُ عِنْدَ

غَيْرِهِ أَغْلَبَ مِنْ وُجُودِهِ عِنْدَهُ , فَالْغَرَضُ فِي بَيْعِ الْعُرُوضِ أَوْ ابْتِيَاعِهَا لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ عِنْدَ وَاحِدٍ بِخِلَافِ الْأَثْمَانِ . وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ صُورَةً قَلِيلَةً لَمْ يَجِبْ التَّحْذِيرُ مِنْهَا إذَا لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مُتَنَاوِلًا لَهَا كَمَا لَوْ يُحَذِّرُ مِنْ سَائِرِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ , وَلِهَذَا إنَّمَا يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْ الْمُشْتَرِي فِي الصَّرْفِ , لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ , بِخِلَافِ الْعُرُوضِ , وَثَبَتَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ لَهُ إشْعَارٌ بِالِابْتِيَاعِ مِنْ الْمُشْتَرِي أَلْبَتَّةَ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ } إنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْبَيْعُ الْمَقْصُودُ الْخَالِي عَنْ شَرْطٍ يَمْنَعُ كَوْنَهُ مَقْصُودًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ الَّذِي لَا يُقْصَدُ , وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : بِعْت هَذَا الثَّوْبَ , أَوْ بِعْ هَذَا الثَّوْبَ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ بَيْعُ الْمُكْرَهِ وَلَا بَيْعُ الْهَازِلِ . وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْبَيْعُ الَّذِي قُصِدَ بِهِ نَقْلُ الْمِلْكِ , فَإِذَا جَاءَ إلَى تَمَّارٍ فَقَالَ : أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَ مِنْك بِالتَّمْرِ الرَّدِيءِ تَمْرًا جَيِّدًا فَيَشْتَرِيَهُ مِنْهُ بِكَذَا دِرْهَمًا وَيَعْنِي بِالدَّرَاهِمِ كَذَا تَمْرًا جَيِّدًا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ مِلْكَ الثَّمَنِ الَّذِي هُوَ الدَّرَاهِمُ أَلْبَتَّةَ , وَإِنَّمَا الْقَصْدُ بَيْعُ تَمْرٍ بِتَمْرٍ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ , وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ قَدْ مَضَى . يُبَيِّنُ هَذَا : أَنَّ مِثْلَ هَذَيْنِ قَدْ يَتَرَاضَيَانِ أَوَّلًا عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ ثُمَّ يَجْعَلَانِ

الدَّرَاهِمَ مُحَلِّلًا , وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي الْبَيْعِ مَأْمُورٌ بِالِانْتِقَادِ وَالِاتِّزَانِ وَالْقَبْضِ مَعَ الْقَرِينَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِ الْعَقْدِ . وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ رَدَّ الثَّمَنِ إلَيْهِ لَمْ يُحَرِّرْ النَّقْدَ وَالْوَزْنَ وَالْقَبْضَ , وَمِثْلُ هَذَا فِي الْإِطْلَاقِ لَا يُسَمَّى بَيْعًا , وَلَوْ قَالَ النَّاسُ : فُلَانٌ بَاعَ دَارِهِ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ إلَّا صُورَةٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فَلَا تَدْخُلُ هَذِهِ الصُّورَةُ فِي لَفْظِ الْبَيْعِ لِانْتِفَاءِ مُسَمَّى الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ , وَمَتَى تَوَاطَأَ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ بِالثَّمَنِ , ثُمَّ يَبْتَاعَ بِهِ مِنْهُ فَهُوَ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْحَدِيثِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا , وَهَذَا يَقْتَضِي بَيْعًا يُنْشِئُهُ وَيَبْتَدِيهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ , وَمَتَى وَاطَأَهُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى أَنْ أَبِيعَك وَأَبْتَاعَ مِنْك فَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى الْعَقْدَيْنِ مَعًا فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي حَدِيثِ الْأَمْرِ بَلْ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ , وَتَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَقْرِيرُ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الْعُقُودِ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُقَارِنِهَا وَمُتَقَدِّمِهَا . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ عُمُومًا لَفْظِيًّا فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِصُوَرٍ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى , فَإِنَّ كُلَّ بَيْعٍ فَاسِدٍ لَا يَدْخُلُهَا فِيهِ فَيُضْعِفُ دَلَالَتَهُ وَيَخُصُّ

مِنْهُ الصُّوَرَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي هِيَ نُصُوصٌ فِي بُطْلَانِ الْحِيَلِ وَهِيَ مِنْ الصُّوَرِ الْمَكْثُورَةِ فَإِخْرَاجُهَا مِنْ الْعُمُومِ مِنْ أَسْهَلِ الْأَشْيَاءِ , وَانْظُرْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } فَإِنَّهُ عَامٌّ عُمُومًا لَفْظِيًّا وَمَعْنَوِيًّا . لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ . وَلَمْ يُعَارِضْهُ نَصٌّ آخَرُ , فَأَيُّمَا أُوِّلَ بِالتَّخْصِيصِ هُوَ أَوْ قَوْلُهُ : { بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ , ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا } , مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى . بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ . وَقَدْ خَرَجَ مِنْهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ فَتَخْرُجُ مِنْهُ هَذِهِ الصُّورَةُ بِنُصُوصٍ وَآثَارٍ وَقِيَاسٍ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ , أَعْنِي صُورَةَ الِابْتِيَاعِ مِنْ الْمُشْتَرَى مِنْهُ . فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ السَّبْعَةُ الَّتِي قَسَّمْنَاهَا مَا تُسَمَّى حِيلَةً إلَيْهَا إذَا تَأَمَّلَهَا اللَّبِيبُ عَلِمَ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَبَيْنَ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ , وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا التَّقْسِيمُ الدَّلَالَةَ عَلَى بُطْلَانِ الْخَمْسَةِ وَالْفَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآخَرَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ : { أَنَّ أَوَّلَ مَا يُفْقَدُ مِنْ الدِّينِ الْأَمَانَةُ , وَآخِرُ مَا يُفْقَدُ مِنْهُ الصَّلَاةُ } , وَحَدَّثَ عَنْ رَفْعِ الْأَمَانَةِ مِنْ الْقُلُوبِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَقَالَ : { خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } فَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ , أَوْ ثَلَاثَةً , ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ بَعْدَهُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ , وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ , وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ , وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ , وَهَذِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ مَشْهُورَةٌ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحِيَلِ يَفْتَحُ بَابَ الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ , فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحِيَلِ لَا يَتِمُّ إلَّا أَنْ يَتَّفِقَ الرَّجُلَانِ عَلَى عَقْدٍ يُظْهِرَانِهِ وَمَقْصُودُهُمَا أَمْرٌ آخَرُ , كَمَا ذَكَرْنَا فِي التَّمْلِيكِ لِلْوَقْفِ , وَكَمَا فِي الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ , وَحِيَلِ الْمَنَاكِحِ , وَذَلِكَ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ إنْ لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا . وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ فَقَدْ جُوِّزَتْ الْخِيَانَةُ وَالْكَذِبُ فِي الْمُعَامَلَاتِ , وَلِهَذَا لَا يَطْمَئِنُّ الْقَلْبُ إلَى مَنْ يَسْتَحِلُّ الْحِيَلَ خَوْفًا مِنْ مَكْرِهِ , وَإِظْهَارِهِ مَا يُبْطِنُ خِلَافَهُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } , وَالْمُحْتَالُ غَيْرُ مَأْمُونٍ , وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ

بْنِ عُمَرَ : كَيْفَ بِكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ إذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنْ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَصَارُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ قَالَ : فَكَيْفَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : تَأْخُذُ مَا تَعْرِفُ وَتَدَعُ مَا تُنْكِرُ وَتُقْبِلُ عَلَى خَاصَّتِكَ وَتَدَعُهُمْ وَعَوَامَّهُمْ } . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَهُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ , وَالْحِيَلُ تُوجِبُ مَرْجَ الْعُهُودِ وَالْأَمَانَاتِ وَهُوَ قَلَقُهَا وَاضْطِرَابُهَا , فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا سَوَّغَ لَهُ مَنْ يُعَاهِدُ عَهْدًا , ثُمَّ لَا يَفِي بِهِ , أَوْ أَنْ يُؤْمَنَ عَلَى شَيْءٍ فَيَأْخُذَ بَعْضَهُ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ ارْتَفَعَتْ الثِّقَةُ بِهِ وَأَمْثَالِهِ , وَلَمْ يُؤْمَنْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ , وَمَنْ تَأَمَّلَ حِيَلَ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ الَّتِي اسْتَحَلُّوا بِهَا الْمَحَارِمَ , وَدَخَلُوا بِهَا فِي الْغُلُولِ وَالْخِيَانَةِ , وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَعَهَا عَهْدٌ وَلَا أَمَانَةٌ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ الِاحْتِيَالَ وَالتَّأْوِيلَاتِ أَوْجَبَ عِظَمَ ذَلِكَ , وَعَلِمَ خُرُوجَ أَهْلِ الْحِيَلِ مِنْ قَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } , وَقَوْلِهِ : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } وَمُخَالَفَتَهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } , وَقَوْلِهِ : { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } , وقَوْله تَعَالَى : { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } , وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ

وَدُخُولَهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَدُخُولَهُمْ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ فَيُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا . وَهَذَا الْوَجْهُ مِمَّا أَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : عَجِبْت مِمَّا يَقُولُونَ فِي الْحِيَلِ وَالْأَيْمَانِ يُبْطِلُونَ الْأَيْمَانَ بِالْحِيَلِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ وَأَمْرُ هَذِهِ الْحِيَلِ , وَاسْتِقْصَاءُ هَذَا يَطُولُ . وَإِنَّمَا الْقَصْدُ التَّنْبِيهُ - وَتَمَامُ هَذَا فِي :

الْوَجْهِ الثَّامِنَ عَشَرَ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ فِي الْمُعَامَلَاتِ خَاصَّةً وَفِي الدِّينِ عَامَّةً النَّصِيحَةَ وَالْبَيَانَ , وَحَرَّمَ الْخِلَابَةَ وَالْغِشَّ وَالْكِتْمَانَ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ : { بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ , فَكَانَ مِنْ نُصْحِهِ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ دَابَّةً , ثُمَّ زَادَهُ أَضْعَافَ ثَمَنِهِ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ يُسَاوِي ذَلِكَ وَأَنَّ صَاحِبَهُ مُسْتَرْسِلٌ } , وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الدِّينُ النَّصِيحَةُ , الدِّينُ النَّصِيحَةُ , الدِّينُ النَّصِيحَةُ . قَالُوا : لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } , رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ , فَإِذَا هُوَ مَبْلُولٌ فَقَالَ : مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ , وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ . فَإِذَا كَانَتْ النَّصِيحَةُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَاجِبَةً وَغِشُّهُ حَرَامًا , فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُحْتَالَ لَيْسَ بِنَاصِحٍ لِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ غَاشٌّ لَهُ , بَلْ الْحِيلَةُ أَكْبَرُ مِنْ تَرْكِ النُّصْحِ وَأَقْبَحُ مِنْ الْغِشِّ , وَهَذَا بَيِّنٌ يَظْهَرُ مِثْلُهُ فِي الْحِيَلِ الَّتِي تُبْطِلُ الْحُقُوقَ الَّتِي ثَبَتَتْ . أَوْ تَمْنَعُ الْحُقُوقَ أَنْ تَثْبُتَ . أَوْ تُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا

لَمْ يَكُنْ لِيَجِبَ , وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَّا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا , وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ , فَالصِّدْقُ يَعُمُّ الصِّدْقَ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ , وَالْبَيَانُ يَعُمُّ بَيَانَ صِفَاتِ الْمَبِيعِ وَمَنَافِعِهِ , وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ وَالْكِتْمَانُ , وَإِذَا كَانَ الصِّدْقُ وَالْبَيَانُ وَاجِبَيْنِ فِي الْمُعَامَلَةِ مُوجِبَيْنِ لِلْبَرَكَةِ . وَالْكَذِبُ وَالْكِتْمَانُ مُحَرَّمَيْنِ مَاحِقَيْنِ لِلْبَرَكَةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحِيَلِ أَوْ أَكْثَرَهَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِوُقُوعِ الْكَذِبِ , أَوْ الْكِتْمَانِ أَوْ تَجْوِيزِهِ , وَأَنَّهَا مَعَ وُجُوبِ الصِّدْقِ , أَوْ وُقُوعِهِ لَا تَتِمُّ . مِثَالُ ذَلِكَ إذَا احْتَالَ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ سِلْعَةً بِأَلْفٍ , ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِأَكْثَرَ نَسِيئَةً , أَوْ يَبِيعَهَا بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ نَسِيئَةً ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا بِأَلْفٍ نَقْدًا , فَإِنْ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَصْدُقَ الْآخَرَ , كَانَ الْوَفَاءُ بِهَذَا وَاجِبًا , فَيَلْزَمُ فَسَادُ الْعَقْدِ بِالِاتِّفَاقِ , لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَازِمٌ فِي الْعَقْدِ أَبْطَلَ الْعَقْدَ بِالْإِجْمَاعِ . وَإِنْ جُوِّزَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْلُفَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ , فَقَدْ جُوِّزَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَكْذِبَ صَاحِبَهُ وَهُوَ رُكُوبٌ لِمَا حَرَّمَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ الْكَذِبِ قَوْله تَعَالَى :

{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } , وَإِنَّمَا كَذَّبَهُمْ إخْلَافُ قَوْلِهِمْ : { لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ } . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي عَزْمِ أَحَدِهِمَا أَنْ لَا يَفِيَ لِلْآخَرِ بِمَا تَوَاطَآ عَلَيْهِ . فَإِنْ جَازَ كَتْمُ هَذَا وَتَرْكُ بَيَانِهِ فَهُوَ مُخَالَفَةٌ لِلْحَدِيثِ . وَإِنْ وَجَبَ إظْهَارُهُ لَمْ تَتِمَّ الْحِيلَةُ فَإِنَّ الْآخَرَ لَمْ يَرْضَ إلَّا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْآخَرَ يَفِي لَهُ . ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّدْلِيسِ وَالْغِشِّ وَكِتْمَانِ الْعُيُوبِ فِي الْبُيُوعِ كَمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شِمَاسَةَ , عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ إلَّا بَيَّنَهُ لَهُ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ إلَى ابْنِ شِمَاسَةَ وَابْنُ شِمَاسَةَ قَدْ وَثَّقُوهُ وَخَرَّجَ لَهُ مُسْلِمٌ . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ : { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً يَعْلَمُ أَنَّ بِهَا دَاءً إلَّا أَخْبَرَهُ } . وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا إلَّا بَيَّنَ مَا فِيهِ وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بَيَّنَهُ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَلِابْنِ مَاجَهْ : { مَنْ بَاعَ عَيْبًا

لَمْ يُبَيِّنْهُ لَمْ يَزَلْ فِي مَقْتٍ مِنْ اللَّهِ وَلَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تَلْعَنُهُ } . وَعَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ : قَالَ لِي الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ أَلَا أُقْرِئُكَ كِتَابًا كَتَبَهُ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ قُلْتُ : بَلَى فَأَخْرَجَ لِي كِتَابًا : { هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا , أَوْ أَمَةً بَيْعَ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ } رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ , وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا بِلَفْظِ : , وَيُذْكَرُ عَنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ وَقَالَ فِي الْحِيَلِ { وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَيْعُ الْمُسْلِمِ لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ } , وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " بَيْعُ الْمُسْلِمِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُوجَبُ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ . وَأَنَّ اشْتِرَاطَهُ بَيَانٌ لِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَتَوْكِيدٌ لَهُ . فَهَذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ مُجَرَّدَ سُكُوتِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَنْ إظْهَارِ مَا لَوْ عَلِمَهُ الْآخَرُ لَمْ يُبَايِعْهُ مِنْ الْعُيُوبِ وَغَيْرِهَا إثْمٌ عَظِيمٌ وَحَرَّمَ هَذَا الْكِتْمَانَ وَجَعَلَهُ مُوجِبًا لِمَقْتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ , وَإِنْ كَانَ السَّاكِتُ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَمْ يَصِفْ وَلَمْ يَشْتَرِطْ , إنَّمَا ذَاكَ , لِأَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ الصِّحَّةُ وَالسَّلَامَةُ فَيَبْنِي الْآخَرُ الْأَمْرَ عَلَى مَا يَظُنُّهُ مِنْ الظَّاهِرِ الَّذِي لَمْ

يَصِفْهُ الْآخَرُ بِلِسَانِهِ وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْغُرُورِ لَهُ وَالتَّدْلِيسِ عَلَيْهِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْغُرُورَ بِالْكَلَامِ وَالْوَصْفِ إثْمٌ فَإِذَا غَرَّهُ بِأَنْ يُظْهِرَ لَهُ أَمْرًا ثُمَّ لَا يَفْعَلُهُ مَعَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ فِي الْغُرُورِ وَالتَّدْلِيسِ . وَأَيْنَ السَّاكِتُ مِنْ النَّاطِقِ . , فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ إثْمًا . وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُرِيدَ الرَّجُلُ أَنْ يُنْشِئَ عَقْدَ بَيْعٍ , أَوْ هِبَةٍ , أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَيُؤْمَرُ بِإِقْرَارٍ وَلَا يُبَيَّنُ لَهُ حُكْمُ الْإِقْرَارِ فَيُقِرُّ إقْرَارًا يُلْزَمُ بِمُوجَبِهِ وَيَكُونُ مُوجَبُهُ مُخَالِفًا لِمَقْصُودِهِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ . أَوْ يَأْمُرُهُ بِتَسْمِيَةٍ كَثِيرَةٍ عَلَى الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ , ثُمَّ يُصَادِقُ عَلَى نِصْفِهِ بِدِينَارٍ وَنَحْوِهِ وَلَا يُبَيِّنُ لَهُ مَا يَلْزَمُهُ بِهَذَا مِنْ وُجُوبِ رَدِّ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ إذَا فُسِخَ الْبَيْعُ بِعَيْبٍ وَنَحْوِهِ فَأَيْنَ هَذَا الْغُرُورُ وَالتَّدْلِيسُ مِنْ مُجَرَّدِ السُّكُوتِ عَنْ بَيَانِ حَالِ السِّلْعَةِ ؟

الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ أَنَّ الْحِيَلَ مَعَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهَا أُحْدِثَتْ بِالرَّأْيِ , وَإِنَّمَا أَحْدَثَهَا مَنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعَ الرَّأْيِ فَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ مِنْ ذَمِّ الرَّأْيِ وَأَهْلِهِ فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْحِيَلَ فَإِنَّهَا رَأْيٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَا لَهُ نَظِيرٌ مِنْ الْحِيَلِ ثَبَتَ بِأَصْلٍ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ . وَالْحُكْمُ إذَا ثَبَتَ بِأَصْلٍ وَلَا نَظِيرَ كَانَ رَأْيًا مَحْضًا بَاطِلًا . يُحَقِّقُ هَذَا : أَنَّهَا إنَّمَا نَشَأَتْ مِمَّنْ كَانَ مِنْ الْمُفْتِينَ قَدْ غَلَّبَ بِفِسْقِ الرَّأْيِ وَتَصْرِيفِهِ وَكَانَ تَلَقِّيهِمْ لِلْأَحْكَامِ مِنْ جِهَةٍ أَغْلَبَ مِنْ تَلَقِّيهَا مِنْ جِهَةِ الْآثَارِ , ثُمَّ هَذَا الرَّأْيُ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ أَكْثَرُ مَا فِيهِ مِنْ فَسَادٍ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْحِيَلِ الَّتِي دَقَّقَتْ الدِّينَ وَجَرَّاهُ عَلَى اعْتِدَاءِ الْحُدُودِ وَاسْتِحْلَالِ الْمَحَارِمِ , وَإِنْ كَانَ فِي هَذَا الرَّأْيِ أَيْضًا تَشْدِيدُ مَا سَهَّلَتْهُ السُّنَّةُ , وَهَذَا مِثْلُ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ وَلَكِنْ يَنْزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا لَكِنَّ اللَّفْظَ الْمَشْهُورَ : { فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ } إلَى أَحَادِيثَ أُخَرَ مِثْلِ حَدِيثٍ : يُرْوَى عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْ

جَرِيرِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَعْظَمُهَا فِئَةُ الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ } - وَهَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ الْمَرْوَزِيِّ وَهُوَ ثِقَةٌ إمَامٌ إلَّا أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ شُبِّهَ فِيهِ عَلَى نُعَيْمٍ وَنُقِلَ هَذَا عَنْ غَيْرِ ابْنِ مَعِينٍ , وَمَعَ هَذَا فَقَدْ نُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ آخَرِينَ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ : سَرَقُوهُ مِنْ نُعَيْمٍ وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَقُولُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ النَّاسِ , وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ عِيسَى أَيْضًا سُوَيْد بْنُ سَعِيدٍ وَكَانَ أَحْمَدُ يُثْنِي عَلَيْهِ وَكَذَا يُثْنِي لِوَالِدَيْهِ عَلَيْهِ وَرَوَاهُ عَنْهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ مَعِينٍ بِتَفَرُّدِهِ بِحَدِيثٍ , ثُمَّ وَجَدُوا لَهُ أَصْلًا عِنْدَ غَيْرِهِ قَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ قَالَ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ وَقَفْت سُوَيْدًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ أَنْ حَدَّثَنِي بِهِ وَدَارَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَهَذَا إنَّمَا يُعْرَفُ بِنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ رَوَاهُ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ فَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ بِجُرْأَةٍ وَرَوَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ يُقَالُ لَهُ الْحَكَمُ بْنُ الْمُبَارَكِ , وَيُقَالُ : إنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ , ثُمَّ سَرَقَهُ مِنْهُ قَوْمٌ ضُعَفَاءُ فَهَذَا الْقَدْرُ الَّذِي ذُكِرَ لَا يُوجِبُ تَرْكَهُ قَدْحًا

فِي الْحَدِيثِ إذَا رَوَاهُ عِدَّةٌ مِنْ الثِّقَاتِ وَرَوَتْهُ طَائِفَةٌ عَنْ نُعَيْمٍ عَنْ عِيسَى وَطَائِفَةٌ عَنْهُ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ عِيسَى وَهَذَا الْقَدْرُ قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ لَا يَرَى الْحَدِيثَ مَحْفُوظًا وَقَدْ يُجِيبُ عَنْهُ مَنْ يَحْتَجُّ لَهُ بِأَنَّ هَذَا مِنْ إتْقَانِ نُعَيْمٍ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ , ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْ عِيسَى فَرَغْبَتُهُ فِي عُلُوِّ الْإِسْنَادِ بِتَحَمُّلِهِ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ عِيسَى وَرَغْبَتُهُ فِي التَّحَمُّلِ بِابْنِ الْمُبَارَكِ تَحْمِلُهُ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْهُ وَفِي الْجُمْلَةِ فَإِسْنَادُهُ فِي الظَّاهِرِ جَيِّدٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ فِيهِ عَلَى عِلَّةٍ خَفِيَّةٍ وَمَعْنَاهُ شَبِيهٌ بِالْوَاقِعِ . فَإِنَّ فَتْوَى مِنْ مُفْتٍ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِرَأْيٍ يُخَالِفُ السُّنَّةَ أَضَرُّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ , وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ , فَإِنَّ مَذَاهِبَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ قَدْ اشْتَهَرَتْ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَرُدُّهَا وَاسْتَفَاضَتْ , وَأَهْلُ الْأَهْوَاءِ مَقْمُوعُونَ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ بِخِلَافِ الْفُتْيَا فَإِنَّ أَدِلَّتَهَا مِنْ السُّنَّةِ قَدْ لَا يَعْرِفُهَا إلَّا الْأَفْرَادُ وَلَا يُمَيِّزُ ضَعِيفَهَا فِي الْغَالِبِ إلَّا الْخَاصَّةُ , وَقَدْ يَنْتَصِبُ لِلْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ مِمَّنْ يُخَالِفُهَا كَثِيرٌ . وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ مَعْنَاهُ مَحْفُوظًا مِنْ حَدِيثِ الْمُجَالِدِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ عَامٌ إلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ لَا أَقُولُ عَامٌ أَمْطَرُ مِنْ عَامٍ وَلَا عَامٌ

أَخْصَبُ مِنْ عَامٍ وَلَا أَمِيرٌ خَيْرٌ مِنْ أَمِيرٍ وَلَكِنَّ ذَهَابَ خِيَارِكُمْ وَعُلَمَائِكُمْ ثُمَّ يَحْدُثُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيَنْهَدِمُ الْإِسْلَامُ وَيَنْثَلِمُ } , وَهَذَا الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ } . وَفِي ذَمِّ الرَّأْيِ آثَارٌ مَشْهُورَةٌ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ , وَكَذَلِكَ عَنْ التَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ بِإِحْسَانٍ , فِيهَا بَيَانُ أَنَّ الْأَخْذَ بِالرَّأْيِ يُحَلِّلُ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُ الْحَلَالَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْآثَارَ الذَّامَّةَ لِلرَّأْيِ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا اجْتِهَادُ الرَّأْيِ عَلَى الْأُصُولِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فِي حَادِثَةٍ لَمْ تُوجَدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ مِمَّنْ يَعْرِفُ الْأَشْبَاهَ وَالنَّظَائِرَ , وَفَقِهَ مَعَانِيَ الْأَحْكَامِ فَيَقِيسُ قِيَاسَ تَشْبِيهٍ وَتَمْثِيلٍ , أَوْ قِيَاسَ تَعْلِيلٍ وَتَأْصِيلٍ قِيَاسًا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ , فَإِنَّ أَدِلَّةَ جَوَازِ هَذَا الْمُفْتِي لِغَيْرِهِ وَالْعَامِلِ لِنَفْسِهِ وَوُجُوبَهُ عَلَى الْحَاكِمِ وَالْإِمَامِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ هُنَا , وَلَيْسَ فِي هَذَا الْقِيَاسِ تَحْلِيلٌ لِمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ . وَلَا تَحْرِيمٌ لِمَا حَلَّلَهُ اللَّهُ . وَإِنَّمَا الْقِيَاسُ وَالرَّأْيُ الَّذِي يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ وَيُحَلِّلُ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُ الْحَلَالَ مَا

عَارَضَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ , أَوْ مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ , أَوْ مَعَانِي ذَلِكَ الْمُعْتَبَرَةُ , ثُمَّ مُخَالَفَتُهُ لِهَذِهِ الْأُصُولِ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُخَالِفَ أَصْلًا مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً بِدُونِ أَصْلٍ آخَرَ . فَهَذَا لَا يَقَعُ مِنْ مُفْتٍ إلَّا إذَا كَانَ الْأَصْلُ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ عِلْمُهُ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَمْ يَبْلُغْهُمْ بَعْضُ السُّنَنِ فَخَالَفُوهَا خَطَأً . وَأَمَّا الْأُصُولُ الْمَشْهُورَةُ فَلَا يُخَالِفُهَا مُسْلِمٌ خِلَافًا ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةٍ بِأَصْلٍ آخَرَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُخَالِفَهَا بَعْضُ الْمَشْهُورِينَ بِالْفُتْيَا . الثَّانِي : أَنْ يُخَالِفَ الْأَصْلَ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ وَهُوَ فِيهِ مُخْطِئٌ . بِأَنْ يَضَعَ الِاسْمَ عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهِ , أَوْ عَلَى بَعْضِ مَوْضِعِهِ . وَيُرَاعِيَ فِيهِ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ دُونَ اعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ لِمَعْنًى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . وَالْحِيَلُ تَنْدَرِجُ فِي هَذَا النَّوْعِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مُرَادٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَشْيَاءُ , مِنْهَا أَنَّ تَحْلِيلَ الشَّيْءِ إذَا كَانَ مَشْهُورًا فَحَرَّمَهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ . أَوْ كَانَ التَّحْرِيمُ مَشْهُورًا فَحَلَّلَهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ كَانَ ذَلِكَ كُفْرًا وَعِنَادًا , وَمِثْلُ هَذَا لَا تَتَّخِذُهُ الْأُمَّةُ رَأْسًا قَطُّ إلَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ كَفَرَتْ , وَالْأُمَّةُ لَا تَكْفُرُ قَطُّ , وَإِذَا بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا تَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ . وَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ , أَوْ التَّحْلِيلُ غَيْرَ مَشْهُورٍ فَخَالَفَهُ مُخَالِفٌ لَمْ

يَبْلُغْهُ فَمِثْلُ هَذَا لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا مِنْ لَدُنْ زَمَنِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ فَلَا تَضِلُّ الْأُمَّةُ وَلَا يَنْهَدِمُ الْإِسْلَامُ , وَلَا يُقَالُ لِمِثْلِ هَذَا : إنَّهُ مُحْدَثٌ عِنْدَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ وَذَهَابِ الْأَخْيَارِ وَالصَّالِحِينَ . فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِحْلَالُ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْحِيَلِ , فَإِنَّ تَحْرِيمَ السِّفَاحِ , وَالرِّبَا , وَالْمُعَلَّقِ طَلَاقُهَا الثَّلَاثَ - بِصِفَةٍ إذَا وُجِدَتْ - , وَتَحْرِيمَ الْخَمْرِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ , هُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى الْأُمَّةِ تَحْرِيمُهَا فِي الْجُمْلَةِ , وَإِنَّمَا يَضِلُّ مَنْ يُفْتِي بِالرَّأْيِ وَيُضِلُّ , وَيُحِلُّ الْحَرَامَ , وَيُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَيَهْدِمُ الْإِسْلَامَ إذَا احْتَالَ عَلَى حِلِّهَا بِحِيَلٍ وَسَمَّاهَا نِكَاحًا وَبَيْعًا وَخُلْعًا وَقَاسَ ذَلِكَ عَلَى النِّكَاحِ الْمَقْصُودِ وَالْبَيْعِ الْمَقْصُودِ وَالْخُلْعِ الْمَقْصُودِ فَيَبْقَى مَعَ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ صُورَةُ الْإِسْلَامِ وَأَسْمَاءُ آيَاتِهِ دُونَ مَعَانِيهِ وَحَقَائِقِهِ وَهَذَا هُوَ الضَّالُّ , لِأَنَّ الضَّالَّ الَّذِي يَحْسَبُ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ وَهُوَ عَلَى بَاطِلٍ كَالنَّصَارَى وَهُوَ هَدْمٌ لِلْإِسْلَامِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ قِيَاسًا وَفِقْهًا أَهْلَ الْكُوفَةِ حَتَّى كَانَ يُقَالُ : فِقْهٌ كُوفِيٌّ وَعِبَادَةٌ بَصْرِيَّةٌ , وَكَانَ عِظَمُ عِلْمِهِمْ مَأْخُوذًا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ , وَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ

اللَّهِ وَأَصْحَابُ عُمَرَ وَأَصْحَابُ عَلِيٍّ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ بِمَكَانِ الَّذِي لَا يَخْفَى , ثُمَّ قَدْ كَانَ أَفْقَهُهُمْ فِي زَمَانِهِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ كَانَ فِيهِمْ بِمَنْزِلَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ , وَكَانَ يَقُولُ : " إنِّي لَأَسْمَعُ الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ فَأَقِيسُ بِهِ مِائَةَ حَدِيثٍ " وَلَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ عَنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ , وَكَانَ الشَّعْبِيُّ أَعْلَمَ بِالْآثَارِ مِنْهُ , وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ مِنْهُمْ . وَقَدْ يُوجَدُ لِقُدَمَاءِ الْكُوفِيِّينَ أَقَاوِيلُ مُتَعَدِّدَةٌ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِسُنَّةٍ لَمْ تَبْلُغْهُمْ , وَلَمْ يَكُونُوا مَعَ ذَلِكَ مَطْعُونًا فِيهِمْ , وَلَا كَانُوا مَذْمُومِينَ بَلْ لَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ مَكَانٌ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ عَلِمَ سِيرَةَ السَّلَفِ , وَذَلِكَ , لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا قَدْ وُجِدَ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْإِحَاطَةَ بِالسُّنَّةِ كَالْمُتَعَذَّرِ عَلَى الْوَاحِدِ , أَوْ النَّفَرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ , وَمَنْ خَالَفَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ فَهُوَ مَعْذُورٌ , وَلَمْ يَكُونُوا مَعَ هَذَا يَقُولُونَ بِالْحِيَلِ وَلَا يُفْتُونَ بِهَا بَلْ الْمَشْهُورُ عَنْهُمْ رَدُّهَا وَالْإِنْكَارُ لَهَا , وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ , فَإِنَّ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ فِي لَعْنِ الْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلِ لَهُ , وَإِنْ كَانَتْ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ الْحَرَمَيْنِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ فَإِنَّ أَشْهَرَ حَدِيثٍ فِيهَا مُخَرِّجُهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِهِ , وَفَقِيهُ الْقَوْمِ إبْرَاهِيمُ قَدْ قَدَّمْنَا عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إذَا نَوَى

أَحَدُ الثَّلَاثَةِ التَّحْلِيلَ فَهُوَ نِكَاحٌ فَاسِدُ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي . وَهَذَا الْقَوْلُ أَشَدُّ مِنْ قَوْلِ الْمَدَنِيِّينَ فَمَنْ يَكُونُ هَذَا قَوْلَهُ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَقِدَ صِحَّةَ الْحِيَلِ وَجَوَازَهَا , وَكَذَلِكَ أَقْوَالُهُمْ فِي الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ رَدِّ الْقَوْمِ لِلْحِيَلِ , فَإِنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ مُخَرِّجُهُ مِنْ عِنْدِهِمْ , وَقَوْلُهُمْ فِيهَا مَعْرُوفٌ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ فِي الرَّجُلِ يُقْرِضُ الرَّجُلَ دَرَاهِمَ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَجْوَدَ مِنْ دَرَاهِمِهِ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ شَرْطٌ , أَوْ نِيَّةٌ , وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ إذَا خُرِّجَ عَطَاؤُهُ دَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ فَقَالَ : اذْهَبْ فَبِعْهُ بِدَنَانِيرَ , ثُمَّ بِعْ الدَّنَانِيرَ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ وَلَا تَبِعْهَا مِنْ الَّذِي اشْتَرَيْت مِنْهُ , وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ إذَا بِعْت الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ غَيْرَ مُخَادَعَةٍ وَلَا مُدَالَسَةٍ فَإِنْ شِئْت اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ . فَهَؤُلَاءِ سُرُجُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَئِمَّتُهُمْ , وَهَذِهِ أَقْوَالُهُمْ , وَلَقَدْ تَتَبَّعْنَا هَذَا الْبَابَ فَلَمْ نَظْفَرْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ بَلْ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ سَائِرِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي مَسَائِلِ الْحِيَلِ إلَّا النَّهْيَ عَنْهَا وَالتَّغْلِيظَ فِيهَا , فَلَمَّا حَدَثَ مِنْ بَعْضِ مُفْتِيهِمْ الْقَوْلُ بِالْحِيَلِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهَا انْطَلَقَتْ الْأَلْسِنَةُ بِالذَّمِّ لِمَنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ وَظَهَرَ تَأْوِيلُ الْآثَارِ فِي هَذَا الضَّرْبِ . وَمِمَّا

يَدُلُّ عَلَى هَذَا : مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ ذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : { كَيْفَ أَنْتُمْ إذَا لَبَسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَجْرِي النَّاسُ عَلَيْهَا فَيَتَّخِذُونَهَا سُنَّةً } قَالَ إِسْحَاقُ قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ وَنُظَرَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : إنَّ هَذِهِ الْفِتْنَةَ لَفِتْنَةٌ يَعْنِي أَهْلَ هَذَا الرَّأْيِ لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ , لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيمَا مَضَى فِتْنَةٌ جَرَى النَّاسُ عَلَيْهَا فَاتَّخَذُوهَا سُنَّةً حَتَّى رَبَا الصَّغِيرُ وَهَرِمَ الْكَبِيرُ إلَّا فِتْنَةَ هَؤُلَاءِ , وَهِيَ عَلَامَتُهُمْ إذَا كَثُرَ الْقُرَّاءُ وَقَلَّ الْعُلَمَاءُ وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ , وَقَوْلُهُ : { أَحَلُّوا الْحَرَامَ وَحَرَّمُوا الْحَلَالَ } مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ , فَإِنَّ الِاحْتِيَالَ عَلَى إسْقَاطِ الْحُقُوقِ مِثْلِ حَقِّ الشَّفِيعِ وَحَقِّ الرَّجُلِ فِي امْرَأَتِهِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ إذَا اُحْتِيلَ عَلَيْهَا حَرَّمَتْ عَلَى الرَّجُلِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ , وَكَثِيرٌ مِنْ الرَّأْيِ ضَيَّقَ مَا وَسَّعَتْهُ السُّنَّةُ فَاحْتَاجَ صَاحِبُهُ إلَى أَنْ يَحْتَالَ لِلتَّوْسِعَةِ , مِثْلُ انْتِفَاعِ الْمُرْتَهِنِ بِالظَّهْرِ وَالدَّارِ إذَا أَنْفَقَ بِقَدْرِ مَا انْتَفَعَ , وَمِثْلُ بَابِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ فَإِنَّ مَنْ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَ هَذَا خَالَفَ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ , وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ , وَمَا عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ نَبِيِّهِمْ إلَى يَوْمِهِمْ اضْطَرَّهُ الْحَالُ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْحِيَلِ يَسْتَحِلُّ بِهَا ذَلِكَ , ثُمَّ إنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِهَا سُنَّةٌ لَكَانَ إلْحَاقُهَا

بِالْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهَا بِهَا أَشْبَهُ وَأَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهَا بِالْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا مِنْهَا أَبْعَدُ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ , أَنَّ الرَّأْيَ كَانَ وَاقِعًا عِنْدَهُمْ عَلَى مَا يَتَضَمَّنُ الْحِيَلَ : أَنَّ بِشْرَ بْنَ السَّرِيِّ وَهُوَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الثِّقَاتِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَدْرَكَ الْعَصْرَ الَّذِي اشْتَهَرَ فِيهِ الرَّأْيُ وَهُوَ مِمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَطَبَقَتُهُ قَالَ : " نَظَرْتُ فِي الْعِلْمِ فَإِذَا هُوَ الْحَدِيثُ وَالرَّأْيُ فَوَجَدْتُ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ , وَذِكْرَ الْمَوْتِ وَذِكْرَ رُبُوبِيَّةِ الرَّبِّ وَجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَذِكْرَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ , وَالْحَثِّ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَجِمَاعِ الْخَيْرِ , وَنَظَرْتُ فِي الرَّأْيِ فَإِذَا فِيهِ الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَالتَّشَاحُّ وَاسْتِقْصَاءُ الْحَقِّ وَالْمُمَاكَسَةُ فِي الدَّيْنِ وَاسْتِعْمَالُ الْحِيَلِ وَالْبَعْثُ عَلَى قَطْعِ الْأَرْحَامِ وَالتَّجَرُّؤُ عَلَى الْحَرَامِ " . وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَسْلَمَ , وَقَالَ أَبُو دَاوُد سَمِعْت أَحْمَدَ وَذَكَرَ الْحِيَلَ مِنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ فَقَالُوا : يَحْتَالُونَ لِنَقْضِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ فَعُلِمَ أَنَّ الرَّأْيَ الْمَذْمُومَ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْحِيَلُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .

الْوَجْهُ التَّاسِعَ عَشَرَ مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ : { اسْتَعْمَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ إلَى أَنْ قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ فَيَأْتِي فَيَقُولُ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي هَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَ هَدِيَّتُهُ إنْ كَانَ صَادِقًا وَاَللَّهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا أَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ - ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إبِطَيْهِ يَقُولُ - اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت } فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ الْهَدِيَّةَ هِيَ عَطِيَّةٌ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ الْمُعْطِي وَكَرَامَتَهُ فَلَمْ يَنْظُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى ظَاهِرِ الْإِعْطَاءِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَلَكِنْ نَظَرَ إلَى قَصْدِ الْمُعْطِينَ وَنِيَّاتِهِمْ الَّتِي تُعْلَمُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ بِحَيْثُ لَوْ نُزِعَ عَنْ تِلْكَ الْوِلَايَةِ أُهْدِيَ لَهُ تِلْكَ الْهَدِيَّةُ لَمْ تَكُنْ الْوِلَايَةُ هِيَ الدَّاعِيَةُ لِلنَّاسِ إلَى عَطِيَّتِهِ وَإِلَّا فَالْمَقْصُودُ بِالْعَطِيَّةِ إنَّمَا هِيَ وِلَايَتُهُ إمَّا لِيُكْرِمَهُمْ

فِيهَا أَوْ لِيُخَفِّفَ عَنْهُمْ أَوْ يُقَدِّمَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْصِدُونَ بِهِ الِانْتِفَاعَ بِوِلَايَتِهِ أَوْ نَفْعِهِ لِأَجْلِ وِلَايَتِهِ . وَالْوِلَايَةُ حَقٌّ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَمَا أَخَذَ مِنْ الْمَالِ بِسَبَبِهَا كَانَ حَقًّا لَهُمْ سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمُعْطِي أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ , كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ أَحَدُهُمْ بِزِيَادَةٍ عَلَى الْوَاجِبِ قَدْرًا أَوْ صِفَةً وَذَلِكَ الْعَمَلُ الَّذِي يَعْمَلُهُ السَّاعِي صَارَ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ إمَّا بِالْجُعْلِ الَّذِي يُجْعَلُ لَهُ أَوْ بِكَوْنِهِ قَدْ تَبَرَّعَ بِهِ لَهُمْ , فَكُلُّ مَا حَصَلَ مِنْ الْمَالِ بِسَبَبِهِ فَهُوَ لَهُمْ . إذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَنَقُولُ : هَذِهِ الْهَدِيَّةُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا أَنْ تَكُونَ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ لَا شَرْطًا مُقْتَرِنًا بِالْعَقْدِ وَلَا مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ . وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا كَانَتْ دَلَالَةُ الْحَالِ تَقْتَضِي أَنَّ الْقَصْدَ بِهَا ذَلِكَ كَانَتْ تِلْكَ هِيَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي اعْتَبَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ هَذَا أَصْلًا فِي اعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ وَدَلَالَاتِ الْحَالِ فِي الْعُقُودِ فَمَنْ أَقْرَضَ رَجُلًا أَلْفًا وَبَاعَهُ ثَوْبًا يُسَاوِي دِرْهَمًا بِخَمْسِمِائَةٍ عُلِمَ أَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَ إنَّمَا أُقْرِضَتْ لِأَجْلِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فِي ثَمَنِ الثَّوْبِ , وَإِلَّا فَكَانَ الثَّوْبُ يُتْرَكُ فِي بَيْتِ صَاحِبِهِ ثُمَّ يَنْظُرُ الْمُقْتَرِضُ أَكَانَ يُقْرِضُ تِلْكَ الْأَلْفَ أَمْ لَا , وَكَذَلِكَ بَايَعَهُ لِيَتْرُكَ الْقَرْضَ ثُمَّ يَنْظُرَ هَلْ يَبْتَاعُ ثَوْبَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ أَمْ لَا , فَإِذَا كَانَ هَذَا إنَّمَا زَادَ فِي الْعِوَضِ لِأَجْلِ الْقَرْضِ صَارَ ذَلِكَ

الْعِوَضُ دَاخِلًا فِي بَدَلِ الْقَرْضِ فَصَارَ قَدْ اقْتَرَضَ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ إلَّا قِيمَةَ الثَّوْبِ هَذَا حَقِيقَةُ الْعَقْدِ وَمَقْصُودُهُ . وَكَذَلِكَ مَنْ اقْتَرَضَ أَلْفًا وَارْتَهَنَ بِهَا عَقَارًا أَذِنَ لَهُ الْمُقْتَرِضُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ أَوْ أَكْرَاهُ إيَّاهُ أَوْ سَاقَاهُ أَوْ زَارَعَهُ عَلَيْهِ بِعُشْرِ عُشْرِ عِوَضِ الْمِثْلِ فَإِنَّمَا تَبَرَّعَ لَهُ وَحَابَاهُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ لِأَجْلِ الْقَرْضِ , كَمَا أَنَّ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ إنَّمَا يُهْدُونَ لِلسَّاعِي لِأَجْلِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ إمَّا لِيُرَاعِيَهُمْ بِبَدَلِ مَالٍ هُوَ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ أَوْ مَنْفَعَةٍ قَدْ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ الَّذِي وَلَّاهُ عَلَى أَنْ تَكُونَ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ , وَمَنْ مَلَكَ الْمُبْدَلَ مِنْهُ مَلَكَ مُبْدَلَهُ , وَالْعِبْرَةُ بِالْمُبَادَلَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لَا الصُّورِيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ , وَإِمَّا لِنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ . وَهَذَا الْكَلَامُ الْحَكِيمُ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلٌ فِي كُلِّ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا أَوْ أَعْطَاهُ تَبَرُّعًا لِشَخْصٍ أَوْ مُعَاوَضَةً لِشَيْءٍ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ فِي الْقَصْدِ وَالْحَقِيقَةِ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ هَلَّا تَرَكَ ذَلِكَ الشَّيْءَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ ثُمَّ نَظَرَ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ الْأَمْرُ إنْ كَانَ صَادِقًا فَيُقَالُ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ الرِّبَوِيَّةِ إذَا كَانَتْ خِدَاعًا مِثْلُ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَهَذَا أَصْلٌ لِكُلِّ مَنْ بَذَلَ لِجِهَةٍ لَوْلَا هِيَ لَمْ يَبْذُلْهُ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ تِلْكَ الْجِهَةَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِذَلِكَ

الْبَذْلِ فَيَكُونُ الْمَالُ لِرَبِّ تِلْكَ الْجِهَةِ إنْ حَلَالًا فَحَلَالٌ وَإِلَّا كَانَتْ حَرَامًا وَسَائِرُ الْحُقُوقِ قِيَاسٌ عَلَى الْمَالِ . يُوَضِّحُ هَذَا : أَنَّ الْمُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ وَالْكِرَاءِ وَنَحْوِهِمَا تَبَرُّعٌ مَحْضٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُحْسَبُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مِنْ الثُّلُثِ وَيَبْطُلُ مَعَ الْوَارِثِ , وَيُمْنَعُ مِنْهُ الْوَكِيلُ وَالْوَصِيُّ وَالْمُكَاتَبُ . وَكُلُّ مَنْ مَنَعَ مِنْ التَّبَرُّعِ , وَأَمَّا الْقَرْضُ وَنَحْوُهُ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ تَبَرُّعٌ فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ قَدْ حَابَى الْآخَرَ فِي عَقْدٍ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ لِأَجْلِ قَرْضٍ أَوْ عَقْدٍ آخَرَ وِلَايَةً كَانَ ذَلِكَ أَوْ تَبَرُّعًا بِذَلِكَ السَّبَبِ كَالسَّلَفِ الَّذِي مَعَ الْبَيْعِ سَوَاءٌ وَكَالْهَدِيَّةِ الَّتِي مَعَ الْعَمَلِ سَوَاءٌ وَنَظِيرُ حَدِيثِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ وَهُوَ .

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ : نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّصْرِيَةِ وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ } رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ وَرَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّصْرِيَةَ مُجَرَّدُ فِعْلٍ يَغْتَرُّ بِهِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ قَدْ حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْجَبَ الْخِيَارَ عِنْدَ ظُهُورِ الْحَالِ فَكَيْفَ بِالْغُرُورِ بِالْأَقْوَالِ ؟ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْحِيَلِ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ الْخِيَارَ هُنَا زَعَمُوا لَيْسَ لِوُجُودِ عَيْبٍ , وَلَا لِفَوَاتِ صِفَةٍ وَهُوَ جَارٍ عَلَى قِيَاسِ الْمُحْتَالِينَ , لَكِنَّ الْحِيَلَ بَاطِلَةٌ ; لِأَنَّ إظْهَارَ الصِّفَاتِ بِالْأَفْعَالِ كَإِظْهَارِهَا بِالْأَقْوَالِ . بَلْ مُجَرَّدُ ظُهُورِهَا كَمُجَرَّدِ ظُهُورِ السَّلَامَةِ مِنْ الْعُيُوبِ , وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُحْتَالِينَ أَنَّهُ كَانَ إذَا اسْتَوْصَفَ السِّلْعَةَ عَرَّضَ فِي كَلَامِهِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لَهُ كَيْفَ الْجَمَلُ يَقُولُ احْمِلْ مَا شِئْت وَيَنْوِي عَلَى الْحِيَلِ وَيُقَالُ لَهُ كَمْ تَحْلُبُ فَيَقُولُ فِي أَيِّ إنَاءٍ شِئْتَ فَيَقُولُ كَيْفَ سَيْرُهُ فَيَقُولُ الرِّيحُ لَا تَلْحَقُ فَإِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ فَلَا يَجِدُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ رَجَعَ إلَيْهِ فَيَقُولُ مَا وَجَدْتُ فِيمَا بِعْتنِي شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ فَيَقُولُ مَا

كَذَبْتُكَ , وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَأَدْخَلَهَا فِي كَلَامِهِ مَنْ احْتَجَّ لِلْحِيَلِ , وَالْأَشْبَهُ أَنَّهَا كَذِبٌ أَوْ كَانَ قَصْدُهُ الْمِزَاحَ مَعَهُ لَا حَقِيقَةَ الْبَيْعِ , وَإِلَّا فَمَنْ عَمِلَ مِثْلَ هَذَا فَقَدْ قُدِحَ فِي دِيَانَتِهِ , فَإِنَّ هَذَا أَعْظَمُ فِي الْغَرَرِ مِنْ التَّصْرِيَةِ . فَإِنَّ الْقَوْلَ الْمُفْهِمَ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ ظُهُورِ حَالٍ لَمْ يَصِفْهَا وَلَا يَلِيقُ مِثْلُ هَذَا بِذِي مُرُوءَةٍ فَضْلًا عَنْ ذِي دِيَانَةٍ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ النَّجْشِ } وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ لِلْمُشْتَرِي وَخَدِيعَتِهِ , { وَنَهَى عَنْ تَلَقِّي السِّلَعِ } وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْرِيرِ الْبَائِعِ أَوْ ضَرَرِ الْمُشْتَرِي , وَنَهَى أَنْ يَسُومَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ , أَوْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ , أَوْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ , أَوْ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا أَوْ نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَقَالَ : { دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ } . وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ مُرَاعَاةِ حَقِّ الْمُسْلِمِ وَتَرْكِ إضْرَارِهِ بِكُلٍّ إلَّا أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ أَذًى , وَعَلَى الْمَنْعِ مِنْ نَيْلِ الْغَرَضِ بِخَدِيعَةِ الْمُسْلِمِ , وَكَثِيرٌ مِنْ الْحِيَلِ يُنَاقِضُ هَذَا , وَلِهَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْحِيَلِ لَا يَمْنَعُونَ بَيْعَ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي , وَلَا تَلَقِّيَ السِّلَعَ . طَرْدًا لِقِيَاسِهِمْ , وَمَنْ أَخَذَ بِالسُّنَّةِ مِنْهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا أَخَذَ بِهَا عَلَى مَضَضٍ ; لِأَنَّهَا عَلَى خِلَافِ

قِيَاسِهِ , وَمُخَالَفَةُ الْقِيَاسِ لِلسُّنَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قِيَاسٌ فَاسِدٌ . وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ مِثْلُ التَّلَقِّي وَالنَّجْشِ وَالتَّصْرِيَةِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْخِلَابَةُ جَمَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ , وَجَاءَ عَنْهُ أَنَّهُ بَيَّنَ تَحْرِيمَ الْخِلَابَةِ مُطْلَقًا فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ : بَيْعُ الْمُحَفَّلَاتِ خِلَابَةٌ وَلَا تَحِلُّ الْخِلَابَةُ لِمُسْلِمٍ } . وَهَذَا نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْخِلَابَةِ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ - وَالْخِلَابَةُ الْخَدِيعَةُ وَيُقَالُ الْخَدِيعَةُ بِاللِّسَانِ وَفِي الْمَثَلِ إذَا لَمْ تَغْلِبْ فَاخْلِبْ أَيْ فَاخْدَعْ وَرَجُلٌ خَلَّابٌ أَيْ خَدَّاعٌ - وَامْرَأَةُ خَلِبَةٌ أَيْ خَدَّاعَةٌ وَالْبَرْقُ الْخَلْبُ وَالسَّحَابُ الْخَلْبُ الَّذِي لَا غَيْثَ مَعَهُ كَأَنَّهُ يَخْدَعُ مَنْ يَرَاهُ - وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { ذَكَرَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ } وَهَذَا الشَّرْطُ مِنْهُ مُوَافِقٌ لِمُوجَبِ الْعَقْدِ , وَإِنَّمَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاشْتِرَاطِهِ الْعَدَاءَ عَلَيْهِ أَنَّ الْبَيْعَ بَيْعُ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ

وَلَا خِبْثَةَ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ : { لَا تَحِلُّ الْخِلَابَةُ لِمُسْلِمٍ } , وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُرِدْ الْخِلَابَةَ الَّتِي هِيَ الْخَدِيعَةُ الْمُحَرَّمَةُ لَمْ يَكُنْ هَذَا الشَّرْطُ مَعْرُوفًا بَلْ يَكُونُ شَرَطَ شَيْئًا لَا حَدَّ لَهُ فِي الشَّرْعِ , وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْدَعُ وَالْخَدِيعَةُ حَرَامٌ , وَلِأَنَّهُ قَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا شَبِيبُ بْنُ غَرْقَدٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِغُلَامَيْنِ شَابَّيْنِ : تَبَايَعَا وَقُولَا لَا خِلَابَةَ } , وَقَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ , عَنْ إبْرَاهِيمَ مَوْلَى صَخْرِ بْنِ رُهْمٍ الْعَدَوِيُّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تَبَايَعُوا وَقُولُوا لَا خِلَابَةَ } فَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَا دَلَائِلَ عَلَى صِدْقِهِ فَثَبَتَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ مَشْرُوعٌ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ يُخَالِفُ مُطْلَقَ النَّقْدِ لَمْ يُؤْمَرْ بِاشْتِرَاطِهِ كُلُّ وَاحِدٍ كَالتَّأْجِيلِ فِي الثَّمَنِ وَاشْتِرَاطِهِ الرَّهْنَ , وَالْكَفِيلَ , وَصِفَاتٍ زَائِدَةٍ فِي الْعُقُودِ عَلَيْهِ . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ : مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { غَبْنُ الْمُسْتَرْسِلِ رِبًا } وَحَدِيثُ التَّلَقِّي يُوَافِقُ هَذَا الْحَدِيثَ . فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ الْخِلَابَةَ وَهِيَ الْخَدِيعَةُ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخِلَابَةِ فِي الْبَيْعِ وَفِي غَيْرِهِ ; لِأَنَّ

الْحَدِيثَ إنْ عَمَّ ذَلِكَ لَفْظًا وَمَعْنًى فَلَا كَلَامَ , إنْ كَانَ إنَّمَا قَصَدَ بِهِ الْخِلَابَةَ فِي الْبَيْعِ فَالْخِلَابَةُ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ وَالْأَقْوَالِ وَفِي الْأَفْعَالِ بِمَنْزِلَةِ الْخِلَابَةِ فِي الْبَيْعِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ فِي اعْتِبَارِ الشَّارِعِ وَهَذَا الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ , بَلْ الْخِلَابَةُ فِي غَيْرِ الْبَيْعِ قَدْ تَكُونُ أَعْظَمَ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ وَقِيَاسِ الْأَوْلَى , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْحِيَلُ خِلَابَةٌ إمَّا مَعَ الْخَلْقِ أَوْ مَعَ الْخَالِقِ , مِثْلَ مَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْحِيَلِ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ أَعْرَابِيٍّ مَاءً بِثَمَنٍ غَالٍ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ الثَّمَنَ وَكَانَ مَعَهُ سَوِيقٌ مَلْتُوتٌ بِزَيْتٍ فَقَالَ لَهُ أَتُرِيدُ أَنْ أُطْعِمَك سَوِيقًا ؟ قَالَ : نَعَمْ فَأَطْعَمَهُ فَعَطِشَ الْأَعْرَابِيُّ عَطَشًا شَدِيدًا وَطَلَبَ أَنْ يَسْقِيَهُ تَبَرُّعًا أَوْ مُعَاوِضًا فَامْتَنَعَ إلَّا بِثَمَنِ جَمِيعِ الْمَاءِ فَأَعْطَاهُ جَمِيعَ الثَّمَنِ بِشَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ إطْعَامَهُ ذَلِكَ السَّوِيقَ مُظْهِرٌ أَنَّهُ مُحْسِنٌ إلَيْهِ وَهُوَ يَقْصِدُ الْإِسَاءَةَ إلَيْهِ مِنْ أَقْبَحِ الْخِلَابَاتِ ثُمَّ امْتِنَاعُهُ مِنْ سَقْيِهِ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ حَرَامٌ , وَلَا يُقَالُ إنَّ الْأَعْرَابِيَّ أَسَاءَ إلَيْهِ بِمَنْعِهِ الْمَاءَ إلَّا بِثَمَنٍ كَثِيرٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ جَائِزًا لَمْ تَجُزْ مُعَاقَبَتُهُ عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مَجَّانًا أَوْ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الثَّانِي أَنْ يَسْقِيَهُ وَلَمْ يَفْعَلْ , وَلَوْ أَنَّهُ اسْتَرْجَعَ الثَّمَنَ وَرَدَّ عَلَيْهِ

سَائِرَ الْمَاءِ أَوْ تَرَكَ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ مِقْدَارَ ثَمَنِ الشَّرْبَةِ الَّتِي شَرِبَهَا هُوَ لَكَانَ , أَمَّا أَنْ يَأْخُذَ مَاءً إلَّا شَرْبَةً وَاحِدَةً وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ كُلَّهُ بِصُورَةٍ يَظْهَرُ لَهُ فِيهَا أَنَّهُ مُحْسِنٌ وَقَصْدُهُ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ الْخِلَابَةُ الْبَيِّنَةُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَبِاضْطِرَارٍ يُعْلَمُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحِيَلِ أَوْ أَكْثَرَهَا أَوْ عَامَّتَهَا مِنْ الْخِلَابَةِ وَهِيَ حَرَامٌ كَمَا تَقَدَّمَ , وَعَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ . وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ إذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ جَامِعَةً فَاجْتَمَعْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلِي نَبِيٌّ إلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِيءُ فِتَنٌ يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا تَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَأْتِ إلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إلَيْهِ وَمَنْ بَايَعَ إمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُعْطِهِ إنْ اسْتَطَاعَ

فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ , فَهَذِهِ الْوَظَائِفُ الثَّلَاثُ الَّتِي جَمَعَهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ , وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : { إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا : أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ } . وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ : { ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ : إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ } وَذَلِكَ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ وَالْإِتْلَافَ اللَّذَيْنِ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْمَعْنَى الَّذِي وَصَّى بِهِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ : { وَلْيَأْتِ إلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إلَيْهِ } وَهَذَا الْقَدْرُ وَاجِبٌ ; لِأَنَّهُ قَرَنَهُ بِالْإِيمَانِ وَبِالطَّاعَةِ لِلْإِمَامِ فِي سِيَاقِ مَا يُنَجِّي مِنْ النَّارِ وَيُوجِبُ الْجَنَّةَ وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ فِي الْوَاجِبَاتِ ; لِأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَقِلُّ بِذَلِكَ , وَلِهَذَا غَايَةُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُسْأَلُ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ وَيُنَجِّي مِنْ النَّارِ إنَّمَا يَذْكُرُ الْوَاجِبَاتِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُحْتَالَ لَمْ يَأْتِ إلَى النَّاسِ مَا يَجِبُ أَنْ يُؤْتَى إلَيْهِ بَلْ لَوْ عَلِمَ أَنَّ أَحَدًا يَحْتَالُ

عَلَيْهِ لَكَرِهَهُ أَوْ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْهُ وَرُبَّمَا اتَّخَذَهُ عَدُوًّا أَعْنِي الْكَرَاهَةَ الطَّبِيعِيَّةَ إنْ كَانَ قَدْ يُحِبُّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ مَا لَهُ فِيهِ مِنْ الْمَثُوبَةِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ لَيْسَتْ الْمَحَبَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ وَإِلَّا لَكَانَ مِنْ أَحَبِّ إيمَانِهِ أَنَّهُ يُؤْذَى فَيَصْبِرَ عَلَى الْأَذَى مَأْمُورًا بِأَنْ يُؤْذِيَ النَّاسَ وَهَذَا ظَاهِرٌ , وَنَحْوٌ مِنْ هَذَا مَا رَوَى أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحِيَلُ تُنَافِي مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ أَمْرُ الدِّينِ مِنْ التَّحَابُبِ وَالتَّنَاصُحِ وَالِائْتِلَافِ وَالْأُخُوَّةِ فِي الدِّينِ , وَيَقْتَضِي التَّبَاغُضَ وَالتَّقَاطُعَ وَالتَّدَابُرَ هَذَا فِي الْحِيَلِ عَلَى الْخَلْقِ , وَالْحِيَلُ عَلَى الْخَالِقِ أَوْلَى فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَ مِنْهُ مِنْ النَّاسِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ .

الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ { يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ الْهُنَائِيِّ قَالَ سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الرَّجُلُ مِنَّا يُقْرِضُ أَخَاهُ الْمَالَ فَيُهْدِي إلَيْهِ فَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فَأَهْدَى إلَيْهِ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فَلَا يَرْكَبْهَا وَلَا يَقْبَلْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ } هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ , مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ , عَنْ عُقْبَةَ بْنِ حُمَيْدٍ الضَّبِّيِّ , عَنْ يَحْيَى . لَكِنْ لَيْسَ هَذَا يَحْيَى بْنَ أَبِي إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيَّ صَاحِبَ الْقِرَاءَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَإِنَّمَا هُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ يَحْيَى بْنُ يَزِيدَ الْهُنَائِيُّ فَلَعَلَّ كُنْيَةَ أَبِيهِ أَبُو إِسْحَاقَ وَكِلَاهُمَا ثِقَةٌ الْأَوَّلُ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ وَالثَّانِي مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ وَعُتْبَةُ بْنُ حُمَيْدٍ مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ الْهُنَائِيِّ قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ هُوَ صَالِحُ الْحَدِيثِ وَأَبُو حَاتِمٍ مِنْ أَشَدِّ الْمُزَكِّينَ شَرْطًا فِي التَّعْدِيلِ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ هُوَ ضَعِيفٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ لَكِنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ يُقْصَدُ بِهَا أَنَّهُ مِمَّنْ لَيْسَ يُصَحَّحُ حَدِيثُهُ بَلْ هُوَ مِمَّنْ يُحَسَّنُ حَدِيثُهُ , وَقَدْ كَانُوا يُسَمُّونَ حَدِيثَ مِثْلِ هَذَا ضَعِيفًا وَيَحْتَجُّونَ بِهِ ; لِأَنَّهُ حَسَنٌ إذْ لَمْ يَكُنْ الْحَدِيثُ إذْ ذَاكَ مَقْسُومًا إلَّا إلَى صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ , وَفِي مِثْلِهِ يَقُولُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ خَيْرٌ مِنْ الْقِيَاسِ يَعْنِي الَّذِي لَمْ يَقْوَ قُوَّةَ الصَّحِيحِ مَعَ أَنَّ مَخْرَجَهُ

حَسَنٌ , إسْمَاعِيلُ بْنِ عَيَّاشٍ حَافِظٌ ثِقَةٌ فِي حَدِيثِهِ عَنْ الشَّامِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا ضَعُفَ حَدِيثُهُ عَنْ الْحِجَازِيِّينَ وَلَيْسَ هَذَا عَنْ الْحِجَازِيِّينَ فَثَبَتَ أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ لَكِنَّ فِي حَدِيثِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ نَظَرًا وَهَذَا الرَّجُلُ بَصْرِيُّ الْأَصْلِ وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ لَكِنْ قَالَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي يَحْيَى الْهُنَائِيِّ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي يَحْيَى الْهُنَائِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَأْخُذْ هَدِيَّةً } وَأَظُنُّ هَذَا هُوَ ذَاكَ انْقَلَبَ اسْمُهُ . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى قَالَ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ فَقَالَ لِي إنَّك بِأَرْضٍ الرِّبَا فِيهَا فَاشٍ فَإِذَا كَانَ لَك عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَأَهْدَى إلَيْك حِمْلَ تِبْنٍ أَوْ حِمْلَ شَعِيرٍ أَوْ حِمْلَ قَتٍّ فَلَا تَأْخُذْهُ فَإِنَّهُ رِبًا . وَرَوَى سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ , وَجَاءَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا , وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ إنِّي أَقْرَضْت رَجُلًا بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ فَأَهْدَى إلَيَّ هَدِيَّةً جَزْلَةً قَالَ رُدَّ إلَيْهِ هَدِيَّتَهُ أَوْ احْبِسْهَا لَهُ , وَعَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ إنِّي أَقْرَضْت رَجُلًا يَبِيعُ السَّمَكَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَأَهْدَى إلَيَّ سَمَكَةً قَوَّمْتهَا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَقَالَ خُذْ مِنْهُ سَبْعَةَ

دَرَاهِمَ رَوَاهُمَا سَعِيدٌ , وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إذَا أَسْلَفْت رَجُلًا سَلَفًا فَلَا تَأْخُذْ مِنْهُ هَدِيَّةً وَلَا عَارِيَّةَ رُكُوبِ دَابَّةٍ رَوَاهُ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ . فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ الْمُقْرِضَ عَنْ قَبُولِ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ قَبْلَ الْوَفَاءِ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْهَدِيَّةِ أَنْ يُؤَخِّرَ الِاقْتِضَاءَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَلْفَ بِهَدِيَّةٍ نَاجِزَةٍ وَأَلْفٍ مُؤَخَّرَةٍ وَهَذَا رِبًا . وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يَزِيدَ عِنْدَ الْوَفَاءِ وَيُهْدِيَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِزَوَالِ مَعْنَى الرِّبَا . وَمَنْ لَمْ يَنْظُرْ إلَى الْمَقَاصِدِ فِي الْعُقُودِ أَجَازَ مِثْلَ ذَلِكَ وَخَالَفَ بِذَلِكَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا أَمْرٌ بَيِّنٌ وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ , وَمَا ذَاكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَّا أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ شَيْئًا وَأَقْرَضَهُ فَإِنَّهُ يَزِيدُ فِي الثَّمَنِ لِأَجْلِ الْقَرْضِ فَيَصِيرُ الْقَرْضُ بِزِيَادَةٍ وَذَلِكَ رِبًا . فَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مُعَامَلَةٍ كَانَ مَقْصُودُ صَاحِبِهَا أَنْ يُقْرِضَ قَرْضًا بِرِبْحٍ وَاحْتَالَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ اشْتَرَى مِنْ الْمُقْتَرِضِ سِلْعَةً بِمِائَةٍ حَالَّةٍ ثُمَّ بَاعَهُ إيَّاهَا بِمِائَةٍ

وَعِشْرِينَ إلَى أَجَلٍ , أَوْ بَاعَهُ سِلْعَةً بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ ابْتَاعَهَا بِمِائَةٍ حَالَّةٍ , أَوْ بَاعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسِينَ , وَأَقْرَضَهُ مَعَ ذَلِكَ خَمْسِينَ , أَوْ وَاطَأَ مُخَادِعًا ثَالِثًا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ سِلْعَةً بِمِائَةٍ ثُمَّ يَبِيعَهَا الْمُشْتَرِي لِلْمُقْتَرِضِ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ ثُمَّ يَعُودَ الْمُشْتَرِي الْمُقْتَرِضُ فَيَبِيعَهَا لِلْأَوَّلِ بِمِائَةٍ إلَّا دِرْهَمَيْنِ وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْعُقُودَ يُقَالُ فِيهَا مَا قَالَهُ النَّبِيُّ : { أَفَلَا أَفْرَدْت أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ عَنْ الْآخَرِ ثُمَّ نَظَرْت } هَلْ كُنْت مُبْتَاعَهَا أَوْ بَايَعَهُ بِهَذَا الثَّمَنِ أَمْ لَا فَإِذَا كُنْت إنَّمَا نَقَصْتَ هَذَا وَزِدْت هَذَا لِأَجْلِ هَذَا كَانَ لَهُ قِسْطٌ مِنْ الْعِوَضِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ رِبًا , وَكَذَلِكَ الْحِيَلُ الْمُبْطِلَةُ لِلشُّفْعَةِ وَالْمُسْقِطَةُ لِلْمِيرَاثِ وَالْمُحَلِّلُ لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَالْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ وَنَحْوُهُمَا . وَفِيمَا يُشْبِهُ هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ طَعَامِ الْمُتَبَارِيَيْنِ } وَهُمَا الرَّجُلَانِ يَقْصِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَارَاةَ الْآخَرِ وَمُبَاهَاتَهُ فِي التَّبَرُّعَاتِ وَالتَّعْوِيضَاتِ كَالرَّجُلَيْنِ يَصْنَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَعْوَةً يَفْتَخِرُ بِهَا عَلَى الْآخَرِ , أَوْ يُرَخِّصُ فِي بَيْعِ السِّلْعَةِ لِيَضُرَّ الْآخَرَ لِيَمْنَعَ النَّاسَ عَنْ الشِّرَاءِ مِنْهُ , وَلِهَذَا كَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الشِّرَاءَ مِنْ الطَّبَّاخَيْنِ وَنَحْوِهِمَا يَتَبَارَيَانِ فِي الْبَيْعِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ

الْإِطْعَامَ وَالْبَيْعَ حَلَالٌ . لَكِنْ لَمَّا قَصَدَ بِهِ إضْرَارَ الْغَيْرِ صَارَ الضَّرَرُ كَالْمَشْرُوطِ فِيهِ الْمُعَارَضِ بِهِ , وَإِذَا لَمْ يُبَدِّلْ الْمَالَ إلَّا لِضَرَرٍ بِالْغَيْرِ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ صَارَ ذَلِكَ الْمَالُ حَرَامًا . وَمَنْ تَأَمَّلَ حَدِيثَ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ وَحَدِيثَ أَنَسٍ وَحَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو , وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ الَّتِي لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهَا عَلِمَ ضَرُورَةً أَنَّ السُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ التَّابِعِينَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّبَرُّعَاتِ مِنْ الْهِبَاتِ وَالْمُحَابَيَاتِ وَنَحْوِهِمَا إذَا كَانَتْ بِسَبَبِ قَرْضٍ أَوْ وِلَايَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا كَانَ الْقَرْضُ بِسَبَبِ الْمُحَابَاةِ فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ مُسَاقَاةٍ أَوْ مُضَارَبَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ عِوَضًا فِي ذَلِكَ الْقَرْضِ , وَالْوِلَايَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ . وَهَذَا يَجْتَثُّ قَاعِدَةَ الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ وَالرَّشَوِيَّةِ , وَيَدُلُّ عَلَى حِيَلِ السِّفَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأُمُورِ , فَإِذَا كَانَ إنَّمَا يَفْعَلُ الشَّيْءَ لِأَجْلِ كَذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْطُوقِ الظَّاهِرِ , فَإِذَا كَانَ حَلَالًا كَانَ حَلَالًا وَإِلَّا فَهُوَ حَرَامٌ , وَهَذَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَبَاحَ تَعَاطِيَ الْأَسْبَابِ لِمَنْ يَقْصِدُ بِهَا الصَّلَاحَ , فَقَالَ فِي الرَّجْعَةِ : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلَاحًا } وَقَالَ فِي الْمُطَلَّقَةِ : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } وَقَالَ : { وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } وَقَالَ فِي

الْوَصِيَّةِ : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ } فَأَبَاحَ الْوَصِيَّةَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا ضِرَارٌ لِلْوَرَثَةِ قَصْدًا أَوْ فِعْلًا كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } وَقَالَ : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ } وَقَالَ : { وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ } وَهُوَ أَنْ تُهْدِيَ لِيُهْدَى إلَيْك أَكْثَرُ مِمَّا أَهْدَيْتَ , فَإِنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صُوَرَ الْعُقُودِ غَيْرُ كَافِيَةٍ فِي حِلِّهَا وَحُصُولِ أَحْكَامِهَا إلَّا إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَا قَصْدًا فَاسِدًا , وَكُلُّ مَا لَوْ شَرَطَهُ فِي الْعَقْدِ كَانَ عِوَضًا فَاسِدًا فَقَصْدُهُ فَاسِدٌ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَالِحًا لَمْ يَحْرُمْ اشْتِرَاطُهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَإِذَا كَانَ الْعِوَضُ الْمَشْرُوطُ بَاطِلًا عَلِمْنَا أَنَّهُ يُحِلُّ حَرَامًا أَوْ يُحَرِّمُ حَلَالًا فَيَكُونُ فَاسِدًا فَتَكُونُ النِّيَّةُ أَيْضًا فَاسِدَةً فَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ . الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الْحِيَلِ وَإِبْطَالِهَا , وَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا بَلْ هِيَ أَوْكَدُ الْحُجَجِ وَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا , وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ تَقْرِيرِ ذَلِكَ , فَإِنَّ هَذَا الْأَصْلَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ , وَلَيْسَ

فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ بَلْ وَلَا بَيْنَ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ خِلَافٌ , وَإِنَّمَا خَالَفَ فِينَا بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُكَفَّرِينَ بِبِدْعَتِهِمْ أَوْ الْمُفَسَّقِينَ بِهَا بَلْ مَنْ كَانَ يَضُمُّ إلَى بِدْعَتِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ مَا بَعْضُهُ يُوجِبُ الْفُسُوقَ , وَمَتَى ثَبَتَ اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَإِبْطَالِهَا فَهُوَ الْغَايَةُ فِي الدَّلَالَةِ . وَبَيَانُ ذَلِكَ : إنَّا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَقَالَ ( لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا ) , وَيُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ نَهَوْا عَنْ التَّحْلِيلِ وَبَيَّنُوا أَنَّهَا لَا تَحِلُّ بِهِ لَا لِلْأَوَّلِ وَلَا لِلثَّانِي , وَأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ كُلَّ مَا قُصِدَ بِهِ التَّحْلِيلُ , وَإِنْ لَمْ يُشْرَطْ فِي الْعَقْدِ وَلَا قَبْلَهُ . وَهَذِهِ أَقْوَالٌ نُقِلَتْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ وَقَضَايَا مُتَفَرِّقَةٍ وَفِيهَا مَا سَمِعَهُ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ مِنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ وَسَايَرَهَا بِحَيْثُ تُوجِبُ الْعَادَةُ انْتِشَارَهُ وَشِيَاعَهُ , أَوْ لَمْ يُنْكِرْ هَذِهِ الْأَقْوَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَعَ تَطَاوُلِ الْأَزْمِنَةِ وَزَوَالِ الْأَسْبَابِ الَّتِي قَدْ يُظَنُّ أَنَّ السُّكُوتَ كَانَ لِأَجْلِهَا , وَأَيْضًا قَدْ تَقَدَّمَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ أَعْيَانِهِمْ مِثْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ

وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ نَهَوْا الْمُقْرِضَ أَنْ يَقْبَلَ هَدِيَّةَ الْمُقْتَرِضِ إلَّا إذَا كَافَأَهُ عَلَيْهَا أَوْ حَسَبَهَا مِنْ دَيْنِهِ وَأَنَّهُمْ جَعَلُوا قَبُولَهَا رِبًا , وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ أَيْضًا وَقَعَتْ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ , فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ , وَالْعَادَةُ تُوجِبُ أَنْ يَشْتَهِرَ بَيْنَهُمْ جِنْسُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ , وَإِنْ لَمْ يُشْهَرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ لَا سِيَّمَا وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ هُمْ أَعْيَانُ الْمُفْتِينَ الَّذِينَ كَانَتْ تُضْبَطُ أَقْوَالُهُمْ وَتُحْكَى إلَى غَيْرِهِمْ وَكَانَتْ نُفُوسُ الْبَاقِينَ مُشْرَئِبَّةً إلَى مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ خَالَفَ هَؤُلَاءِ مَعَ تَبَاعُدِ الْأَوْقَاتِ وَزَوَالِ أَسْبَابِ الصُّمَاتِ . وَأَيْضًا فَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ مَا أَوْجَبَ فِيهَا تَغْلِيطَ التَّحْرِيمِ وَفَسَادَ الْعَقْدِ , وَفِي الْفَتَاوَى وَقَعَتْ فِي أَزْمِنَةٍ وَبُلْدَانٍ وَلَمْ يُقَابِلْهَا أَحَدٌ بِرَدٍّ وَلَا مُخَالَفَةٍ مَعَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَاطِلَةً لَكَانَ السُّكُوتُ عَنْهَا مِنْ الْعَظَائِمِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمُبَالَغَةِ الْعَظِيمَةِ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ , وَبَيَّنَّا أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ لَمْ يُخَالِفْ هَذَا وَأَنَّ عَقْدَهُ لَمْ يَتِمَّ . وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ أَقْوَالُهُمْ فِي الْإِهْدَاءِ إلَى الْمُقْرِضِ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ وَلَا عُرْفٍ فَكَيْفَ بِالْمُوَاطَأَةِ عَلَى الْمُحَابَاةِ فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ مُسَاقَاةٍ ؟ أَوْ بِالْمُوَاطَأَةِ عَلَى هِبَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ

التَّبَرُّعَاتِ ؟ ثُمَّ إذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالْإِهْدَاءِ لِلْمُقْرِضِ وَالْعِينَةِ فَكَيْفَ فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ وَالشُّفْعَةِ وَتَأْخِيرِ الصَّوْمِ عَنْ وَقْتِهِ وَإِخْرَاجِ الْأَبْضَاعِ وَالْأَمْوَالِ عَنْ مِلْكِ أَصْحَابِهَا وَتَصْحِيحِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَأُبَيُّ بْنَ كَعْبٍ وَسَائِرَ الْبَدْرِيِّينَ وَغَيْرَهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَبْتُوتَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ تَرِثُ , قَالَهُ عُمَرُ فِي قِصَّةِ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ لَمَّا طَلَّقَ نِسَاءَهُ وَقَسَمَ مَالَهُ بَيْنَ بَنِيهِ ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَتُرَاجِعَنَّ نِسَاءَك وَلَتُرْجِعَنَّ مَالَك أَوْ لَأُوَرِّثَنَّ نِسَاءَكَ ثُمَّ لَأَمَرْتُ بِقَبْرِك فَلَيُرْجَمَنَّ كَمَا رُجِمَ قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ , وَقَالَ الْبَاقُونَ فِي قِصَّةِ تَمَاضُرَ بِنْتِ الْأَصْبَغِ لَمَّا طَلَّقَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ , وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْهُمْ أَنْكَرَ هَذَا الْوِفَاقَ وَلَا خَالَفَهُ , وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أُوَرِّثْ تَمَاضُرَ بِنْتَ الْأَصْبَغِ لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّهَا هِيَ سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ , وَبِهَذَا اعْتَذَرَ مَنْ اعْتَذَرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي طَلَاقِهَا , وَقِيلَ إنَّ الْعِدَّةَ كَانَتْ قَدْ انْقَضَتْ , وَمِثْلُ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ قَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا الْقَائِلُونَ بِتَوْرِيثِ الْمَبْتُوتَةِ , فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا هَلْ تَرِثُ مَعَ مُطْلَقِ الطَّلَاقِ , أَوْ مَعَ طَلَاقِ يُتَّهَمُ فِيهِ بِأَنَّهُ قَصَدَ الْفِرَارَ مِنْ إرْثِهَا ؟ وَهَلْ تَرِثُ فِي حَالِ الْعِدَّةِ فَقَطْ , أَوْ

إلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ ؟ أَوْ تَرِثُ وَإِنْ تَزَوَّجَتْ ؟ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَلَامُ ابْنِ الزُّبَيْرِ يُجَوِّزُ أَنْ يَكُونَ بَتًّا عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَأْخَذَيْنِ وَكَذَلِكَ كَلَامُ غَيْرِهِ إنْ نُقِلَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ , وَهَذَا لَا يَمْنَعُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى أَصْلِ الْقَاعِدَةِ . ثُمَّ لَوْ فُرِضَ فِي تَوْرِيثِ الْمَبْتُوتَةِ خِلَافٌ مُحَقَّقٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ , فَلَعَلَّ ذَلِكَ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ وَهِيَ الطَّلَاقُ وَاقِعَةٌ ; لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ , وَإِذَا صَحَّ تَبِعَهُ سَائِرُ أَحْكَامِهِ , فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْخِلَافِ فِي مِثْلِ هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالنِّكَاحِ , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إنْفَاذِ هَذِهِ الْحِيلَةِ إحْلَالُهَا وَإِجَازَتُهَا , وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ لَك أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ خِلَافٌ فِي جَوَازِ شَيْءٍ مِنْ الْحِيَلِ , وَلَا فِي صِحَّةِ مَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ إمَّا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ أَوْ فِي بَعْضِهَا . الثَّانِي : أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّ الْمَبْتُوتَةَ فِي الْمَرَضِ لَا تَرِثُ مُطْلَقًا لَمْ يَخْرِقْ هَذَا الْإِجْمَاعَ الْمُتَقَدِّمَ , فَإِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ . وَلَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ مِمَّنْ يُسْتَفْتَى بَلْ قَدْ جَاءَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ أَوْ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ قَدْ صَارَ بَعْدُ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى . وَهُوَ مَعَ هَذَا لَمْ يُخَالِفْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تِلْكَ الْأَعْصَارِ , وَإِنَّمَا ظَهَرَ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ فِي إمَارَتِهِ بَعْدَ إمْرَةِ مُعَاوِيَةَ . وَقَدْ انْقَرَضَ

عَصْرُ أُولَئِكَ السَّابِقِينَ مِثْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَأُبَيُّ وَغَيْرِهِمْ . وَمَتَى انْقَرَضَ عَصْرُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْمُجْمِعِينَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ظَاهِرٍ لَمْ يُعْتَدَّ بِمَا يَظْهَرُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ خِلَافِ غَيْرِهِمْ بِالِاتِّفَاقِ , وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِحَيْثُ لَوْ خَالَفَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ هَلْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ ؟ وَإِذَا قُلْنَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ فَلَوْ صَارَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنْ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مُجْتَهِدًا قَبْلَ انْقِضَاءِ عَصْرِهِمْ فَخَالَفَ هَلْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ ؟ هَذَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ , فَأَمَّا الْمُخَالِفُ مِنْ غَيْرِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ وِفَاقًا . وَكَذَلِكَ لَا يُعْتَدُّ بِمَنْ صَارَ مُجْتَهِدًا بَعْدَ الِاتِّفَاقِ قَبْلَ انْقِرَاضِ عَصْرِهِمْ عَلَى الصَّحِيحِ . وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا وَمَا لَمْ نَذْكُرْهُ مِنْ أَقْوَالِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ مَسَائِلِ الْحِيَلِ وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهَا فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِمْ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ وَذَلِكَ بِمُوجَبِ الْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ هَذِهِ الْحِيَلَ وَيُبْطِلُونَهَا وَمَنْ كَانَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْآثَارِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْفِقْهِ , ثُمَّ أَنْصَفَ لَمْ يَتَمَارَ أَنَّ تَقْرِيرَ هَذَا الْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ وَإِبْطَالِهَا أَقْوَى مِنْ تَقْرِيرِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَالْعَمَلِ بِظَاهِرِ الْخِطَابِ , ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ قَدْ اعْتَقَدَ

صِحَّتَهُ عَامَّةُ الْخَلْقِ الْقَائِلُونَ بِالْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ وَهُمْ الْجُمْهُورُ , وَالْمُنْكِرُونَ لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ لَا يَجُوزُ تَرْكُ إنْكَارِ الْبَاطِلِ مِنْهَا , وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِي الْوَاقِعِ مَعْرِفَةُ الْإِجْمَاعِ وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَالْأَدِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِاتِّبَاعِ الْإِجْمَاعِ إنْ لَمْ تَتَنَاوَلْ مِثْلَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَإِلَّا كَانَتْ بَاطِلَةً وَهَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ بَيِّنٌ , وَإِنَّمَا ذَهِلَ عَنْهُ فِي هَذَا الْأَصْلِ مَنْ ذَهِلَ لِعَدَمِ تَتَبُّعِ مَقَالَتِهِمْ فِي أَفْرَادِ هَذَا الْأَصْلِ . كَمَا قَدْ يَقَعُ مِنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ قَوْلٌ هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُخَالِفٌ لِنُصُوصٍ ثَابِتَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَإِنَّ مَعْذِرَتَهُ فِي تَرْكِ هَذَا الِاجْتِمَاعِ كَمَعْذِرَتِهِ فِي تَرْكِ ذَلِكَ النَّصِّ , فَأَمَّا إذَا جُمِعَتْ وَفُهِمَتْ وَلَمْ يُنْقَلْ مَا يُخَالِفُهَا لَمْ يَسْتَرِبْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ , فَإِذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنَّ عَامَّةَ التَّابِعِينَ مُوَافِقُونَ عَلَى هَذَا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ السَّبْعَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِ مُتَّفِقُونَ عَلَى إبْطَالِ الْحِيَلِ , وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُ أَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ , وَكَذَلِكَ أَبُو الشَّعْثَاءِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ , وَلَوْلَا أَنَّ التَّابِعِينَ كَانُوا مُنْتَشِرِينَ انْتِشَارًا يَصْعُبُ مَعَهُ دَعْوَى الْإِحَاطَةِ بِمَقَالَاتِهِمْ

لَقِيلَ إنَّ التَّابِعِينَ أَيْضًا اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ حِيلَةٍ تَوَاطَأَ عَلَيْهَا الرَّجُلُ مَعَ غَيْرِهِ وَإِبْطَالِهَا أَيْضًا . وَيَكْفِي أَنَّ مَقَالَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْرَفَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ . وَهَذَا الْمَسْلَكُ إذَا تَأَمَّلَهُ اللَّبِيبُ أَوْجَبَ قَطْعَهُ بِتَحْرِيمِ جِنْسِ هَذِهِ الْحِيَلِ وَبِإِبْطَالِهَا أَيْضًا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ فِي طَرِيقِ الْأَحْكَامِ وَأَدِلَّتِهَا دَلِيلًا أَقْوَى مِنْ هَذَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ , فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ كَثْرَةَ فَتَاوِيهِمْ بِالتَّحْرِيمِ فِي أَفْرَادِ هَذَا الْأَصْلِ وَانْتِشَارِهَا أَنَّ عَصْرَهُمْ انْتَشَرَ وَانْصَرَمَ وَرُقْعَةُ الْإِسْلَامِ مُتَّسِعَةٌ وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا , وَقَدْ اتَّسَعَتْ الدُّنْيَا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ اتِّسَاعًا عَظِيمًا وَتَوَسَّعَ فِيهَا مَنْ تَوَسَّعَ حَتَّى كَثُرَ مَنْ كَانَ يَتَعَدَّى الْحُدُودَ وَكَانَ الْمُقْتَضِي لِوُقُوعِ هَذِهِ الْحِيَلِ مَوْجُودًا قَوِيًّا كَثِيرًا ثُمَّ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَفْتَى بِحِلِّهِ مِنْهَا أَوْ أَمَرَ بِهَا أَوْ دَلَّ عَلَيْهَا بَلْ يَزْجَرُ عَنْهَا وَيَنْهَى , وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْحِيَلُ مِمَّا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ لَأَفْتَى بِجَوَازِهَا بَعْضُهُمْ وَلَاخْتَلَفُوا فِيهَا كَمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا لَا يَنْحَصِرُ مِنْ مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ مِثْلُ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهَا . وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَالظَّاهِرِ , وَالْخَبَرِ الْمُنْفَرِدِ , فَإِنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ مَا يُوهِمُ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ

وَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ اخْتِلَافًا , وَكَذَلِكَ فِي آحَادِ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مَا يُوجَدُ فِيهَا مِنْ نَقْلِ الْإِجْمَاعِ هُوَ دُونَ مَا وُجِدَ فِي هَذَا الْأَصْلِ , وَهَذَا الْأَصْلُ لَمْ يَخْتَلِفْ كَلَامُهُمْ فِيهِ بَلْ دَلَّتْ أَقْوَالُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ وَأَحْوَالُهُمْ عَلَى الِاتِّفَاقِ فِيهِ مَعَ كَثْرَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى هَذَا الِاتِّفَاقِ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَوْجَبَ الْوَاجِبَاتِ وَحَرَّمَ الْمُحَرَّمَاتِ لِمَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ لِخَلْقِهِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ عَنْهُمْ , وَلَأَنْ يَبْتَلِيَهُمْ بِأَنْ يُمَيِّزَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ , فَإِذَا احْتَالَ الْمَرْءُ عَلَى حِلِّ الْمُحَرَّمِ أَوْ سُقُوطِ الْوَاجِبِ بِأَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا لَوْ عُمِلَ عَلَى وَجْهِهِ الْمَقْصُودِ بِهِ لَزَالَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ أَوْ سَقَطَ ذَلِكَ الْوَاجِبُ ضِمْنًا وَتَبَعًا لَا أَصْلًا وَقَصْدًا وَيَكُونُ إنَّمَا عَمِلَهُ لِيُغَيِّرَ ذَلِكَ الْحُكْمَ أَصْلًا وَقَصْدًا فَقَدْ سَعَى فِي دِينِ اللَّهِ بِالْفَسَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَمْرَ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ بَطَلَ مَا فِيهِ مِنْ حِكْمَةِ الشَّارِعِ نَقَصَ حُكْمُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَمْرَ الْمُحْتَالَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةً وَلَا كَانَ مَقْصُودًا بِحَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ مُحَصِّلًا لِحِكْمَةِ الشَّارِعِ فِيهِ وَمَقْصُودِهِ فَصَارَ مُفْسِدًا بِسَعْيِهِ فِي حُصُولِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ حَقِيقَةُ الْمُحَرَّمِ وَمَعْنَاهُ مَوْجُودًا فِيهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الصُّورَةِ , وَلَمْ يَكُنْ مُصْلِحًا بِالْأَمْرِ الْمُحْتَالِ بِهِ إذْ لَمْ

يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ عِنْدَهُ وَلَا مَقْصُودَةٌ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ إذَا أُتِيَتْ عَلَى وُجُوهِهَا فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَالَ الْمُسْلِمِ ثُمَّ أَبَاحَهُ لَهُ بِالْبَيْعِ الْمَقْصُودِ فَإِذَا ابْتَاعَهُ بَيْعًا مَقْصُودًا لَمْ يَأْتِ بِصُورَةِ الْمُحَرَّمِ وَلَا بِمَعْنَاهُ وَالسَّبَبُ الَّذِي اسْتَبَاحَهُ بِهِ أَتَى بِهِ صُورَةً وَمَعْنًى كَمَا شَرَعَهُ الشَّارِعُ . وَإِيضَاحُ ذَلِكَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ الرِّبَا وَالزِّنَا وَتَوَابِعَهُمَا مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي تُفْضِي إلَى ذَلِكَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ وَالِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ , وَأَبَاحَ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَرْقٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِلَّا لَكَانَ الْبَيْعُ مِثْلَ الرِّبَا . وَالْفَرْقُ فِي الصُّورَةِ دُونَ الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ ; لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَعَانِي وَالْمَقَاصِدِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ . فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ إذَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَتُهَا وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ كَانَ حُكْمُهَا وَاحِدًا وَلَوْ اتَّفَقَتْ أَلْفَاظُهَا وَاخْتَلَفَتْ مَعَانِيهَا كَانَ حُكْمُهَا مُخْتَلِفًا , وَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ لَوْ اخْتَلَفَتْ صُوَرُهَا وَاتَّفَقَتْ مَقَاصِدُهَا كَانَ حُكْمُهَا وَاحِدًا فِي حُصُولِ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ وَالْأَحْكَامِ فِي الدُّنْيَا , أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَالْقَرْضَ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا الْمِلْكَ الْبَتَاتَ كَانَتْ مُسْتَوِيَةً فِي حُصُولِ هَذَا الْمَقْصُودِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ لَمَّا كَانَتْ مُسْتَوِيَةً فِي

ابْتِغَاءِ فَضْلِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ اسْتَوَتْ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقْصِدِ , وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِ الْعَمَلَيْنِ خَاصَّةً لَيْسَ لِلْآخَرِ وَلَوْ اتَّفَقَتْ صُوَرُهَا وَاخْتَلَفَتْ مَقَاصِدُهَا كَالرَّجُلَيْنِ يَتَكَلَّمَانِ بِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ أَحَدُهُمَا يَبْتَغِي بِهَا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقَ وَطَلَبَ مَا عِنْدَ اللَّهِ وَالْآخَرُ يَبْتَغِي بِهَا حَقْنَ دَمِهِ وَمَالِهِ , وَالرَّجُلَيْنِ يُهَاجِرَانِ إلَى رَسُولِهِ وَالْآخَرُ لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَةً لَكَانَتْ تِلْكَ الْأَعْمَالُ مُفْتَرِقَةً عِنْدَ اللَّهِ وَفِي الْحُكْمِ الَّذِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ وَكَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ إذَا ظَهَرَ لَهُمْ الْمَقْصِدُ . وَمَنْ تَأَمَّلَ الشَّرِيعَةَ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ صِحَّةَ هَذَا فَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ بِهِ صُورَتُهُ صُورَةُ الْحَلَالِ , وَلَكِنْ لَيْسَ حَقِيقَتُهُ وَمَقْصُودُهُ ذَلِكَ , فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ بِمَنْزِلَتِهِ فَلَا يَكُونُ حَلَالًا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْحَلَالِ فَيَقَعُ بَاطِلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ , وَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ حَقِيقَتُهُ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ الْحَرَامِ لَكِنْ لَيْسَتْ صُورَتُهُ صُورَتَهُ فَيَجِبُ أَنْ يُشَارِكَ الْحَرَامَ لِمُوَافَقَتِهِ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الصُّورَةِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَدْ دَخَلَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ احْتِيَالُ الْمَرْأَةِ عَلَى فَسْخِ النِّكَاحِ بِالرِّدَّةِ فَهِيَ لَا تَمْشِي غَالِبًا إلَّا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْفُرْقَةَ تَتَنَجَّزُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ أَوْ يَقُولُ بِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ فَالْوَاجِبُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحِيلَةِ أَنْ لَا يَنْفَسِخَ بِهَا النِّكَاحُ , إذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهَا إنَّمَا ارْتَدَّتْ لِذَلِكَ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَتَكُونُ مُرْتَدَّةً مِنْ حَيْثُ الْعُقُوبَةُ وَالْقَتْلُ غَيْرَ مُرْتَدَّةٍ مِنْ جِهَةِ فَسَادِ النِّكَاحِ , حَتَّى لَوْ فُرِضَ أَنَّهَا تُوُفِّيَتْ أَوْ قُتِلَتْ قَبْلَ الرُّجُوعِ اسْتَحَقَّ الْمِيرَاثَ لَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا فِي حَالِ الرِّدَّةِ , فَإِنَّ الزَّوْجَةَ قَدْ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا بِأَسْبَابٍ مِنْ جِهَتِهَا كَمَا لَوْ مَكَّنَتْ مِنْ وَطِئَهَا أَوْ أَحْرَمَتْ , لَكِنْ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهَا ارْتَدَّتْ ثُمَّ أَقَرَّتْ أَنَّهَا إنَّمَا ارْتَدَّتْ لِفَسْخِ النِّكَاحِ لَمْ يُقْبَلْ هَذَا , لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ قَدْ يَجْعَلُ هَذَا ذَرِيعَةً إلَى عَوْدِ نِكَاحِ كُلِّ مُرْتَدَّةٍ بِأَنْ تُلَقَّنَ إنِّي إنَّمَا ارْتَدَدْت لِلْفَسْخِ ; وَلِأَنَّهَا مُتَّهَمَةٌ فِي ذَلِكَ ; وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهَا مُرْتَدَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ .

نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ إبْطَالِ الْحِيَلِ , وَالْكَلَامُ فِي التَّفَاصِيلِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ وَرُبَّمَا جَاءَ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُبَاحَةِ كَمَا قِيلَ لِشُرَيْحٍ إنَّك قَدْ أَحْدَثْت فِي الْقَضَاءِ . قَالَ : أَحْدَثُوا فَأَحْدَثْنَا , وَهَذَا الْقَدْرُ أُنْمُوذَجٌ مِنْهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ . وَالْكَلَامُ فِي إبْطَالِ الْحِيَلِ بَابٌ وَاسِعٌ يَحْتَمِلُ كِتَابًا كَبِيرًا يُبَيَّنُ فِيهِ أَنْوَاعُهَا وَأَدِلَّةُ كُلِّ نَوْعٍ وَيَسْتَوْفِي مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ , وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُنَا الْأَوَّلُ هُنَا إلَّا التَّنْبِيهَ عَلَى إبْطَالِهَا بِإِشَارَةٍ تُمَهِّدُ الْقَاعِدَةَ لِمَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ } . فَإِنَّ هَذَا النَّهْيَ يَعُمُّ مَا قَبْلَ الْحُلُولِ وَبَعْدَهُ وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّاعُونِ : { وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ } فَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ الْفِرَارِ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إذَا نَزَلَ بِالْعَبْدِ رِضَاءً بِقَضَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَسْلِيمًا لِحُكْمِهِ فَكَيْفَ بِالْفِرَارِ مِنْ أَمْرِهِ وَدِينِهِ إذَا نَزَلَ بِالْعَبْدِ ؟ , وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مَنْعِ فَضْلِ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ . فَعُلِمَ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي هُوَ نَفْسُهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ إذَا قُصِدَ بِهِ أَمْرٌ مُحَرَّمٌ صَارَ مُحَرَّمًا , وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا

اسْتَدَلَّ بِهِ أَحْمَدُ عَلَى إبْطَالِ الْحِيَلِ لَعْنُهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ عُمُومًا , كَمَا أَنَّ إبْطَالَ الْحِيَلِ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَكِنْ لَمْ نَذْكُرْهُ هَاهُنَا فِي أَدِلَّةِ الْحِيَلِ ; لِأَنَّ الْقَصْدَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِبُطْلَانِ الْحِيَلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ بِغَيْرِ أَدِلَّةِ التَّحْلِيلِ الْخَاصَّةِ . فَلَوْ اسْتَدْلَلْنَا هُنَا عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ بِمَا دَلَّ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ . ثُمَّ اسْتَدْلَلْنَا بِبُطْلَانِ الْحِيَلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ لَكَانَ تَطْوِيلًا وَتَكْرِيرًا وَحَشْوًا - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ } فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ يَمِينِهِ بِالضَّرْبِ بِالضِّغْثِ وَقَدْ كَانَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ أَنْ يَضْرِبَ ضَرَبَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْحِيلَةِ فَنَحْنُ نَقِيسُ سَائِرَ الْبَابِ عَلَى هَذَا . قُلْنَا : أَوَّلًا : لَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ فِي مُوجَبِ هَذِهِ الْيَمِينِ فِي شَرْعِنَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى قَوْلَيْنِ . أَحَدِهِمَا : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ مُوجَبُهَا الضَّرْبُ مَجْمُوعًا أَوْ مُفَرَّقًا , ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ مَعَ الْجَمِيعِ الْوُصُولَ إلَى الْمَضْرُوبِ , فَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْفُتْيَا مُوجَبَ هَذَا

اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ , وَلَيْسَ هَذَا بِحِيلَةٍ إنَّمَا الْحِيلَةُ أَنْ يَصْرِفَ اللَّفْظَ عَنْ مُوجَبِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . وَالثَّانِي : أَنَّ مُوجَبَهُ الضَّرْبُ الْمُفَرَّقُ فَإِذَا كَانَ هَذَا مُوجَبُ شَرْعِنَا لَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْنَا بِمَا يُخَالِفُ شَرْعَنَا بِخِلَافِهِ . وَقُلْنَا : ثَانِيًا : مَنْ تَأَمَّلَ الْآيَةَ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْفُتْيَا خَاصَّةُ الْحُكْمِ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَامَّةً فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ لَمْ يُخَفِّفْ عَلَى نَبِيٍّ كَرِيمٍ مُوجَبَ يَمِينِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي اقْتِصَاصِهَا عَلَيْنَا كَبِيرُ عِبْرَةٍ , فَإِنَّمَا يَقُصُّ مَا خَرَجَ عَنْ نَظَائِرِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهِ , أَمَّا مَا كَانَ مُقْتَضَى الْعِبَارَةِ وَالْقِيَاسِ فَلَا يَقُصُّ ; وَلِأَنَّهُ قَدْ قَالَ عَقِيبَ هَذِهِ الْفُتْيَا { إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا } وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ التَّعْلِيلِ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ , فَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَفْتَاهُ بِهَذَا جَزَاءً لَهُ عَلَى صَبْرِهِ تَخْفِيفًا عَنْهُ وَرَحْمَةً بِهِ ; لِأَنَّ هَذَا هُوَ مُوجَبُ هَذِهِ الْيَمِينِ . وَقُلْنَا : ثَالِثًا : مَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَفْتَاهُ بِهَذَا لِئَلَّا يَحْنَثَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ . وَكَمَا قَدْ نَقَلَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ حَلَفَ لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَيَضْرِبَنَّهَا مِائَةَ سَوْطٍ لَمَّا تَمَثَّلَ لَهَا الشَّيْطَانُ وَأَمَرَهَا بِنَوْعٍ مِنْ الشِّرْكِ لَمْ تَفْطِنْ لَهُ لِتَأْمُرَ بِهِ أَيُّوبَ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ بَلْ لَيْسَ فِي الْيَمِينِ إلَّا الْبِرُّ أَوْ الْحِنْثُ كَمَا هُوَ فِي النَّذْرِ

نَذْرِ التَّبَرُّرِ فِي شَرِيعَتِنَا , وَكَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ فَعُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدْ نَذَرَ ضَرْبَهَا . وَهُوَ نَذْرٌ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهَا . وَلَا يَغْبِنُ عَنْهُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ ; لِأَنَّ تَكْفِيرَ النَّذْرِ فَرْعُ تَكْفِيرِ الْيَمِينِ , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مَشْرُوعًا فَذَاكَ أَوْلَى , وَالْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ يُحْتَذَى بِهِ حَذْوَ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ , فَإِذَا كَانَ الضَّرَرُ الْوَاجِبُ بِالشَّرْعِ فِي الْحَدِّ يَجِبُ تَفْرِيقُهُ إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ صَحِيحًا وَيُضْرَبُ بِعُثْكُولِ النَّخْلِ وَنَحْوِهِ إذَا كَانَ مَرِيضًا مَأْيُوسًا مِنْهُ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ . أَوْ مَرِيضًا عَلَى الْإِطْلَاقِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَازَ أَنْ يُقَامَ الْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ مَقَامَ ذَلِكَ . وَقَدْ كَانَتْ امْرَأَةُ أَيُّوبَ امْرَأَةً ضَعِيفَةً وَكَرِيمَةً عَلَى رَبِّهَا فَخَفَّفَ عَنْهَا الْوَاجِبَ بِالنَّذْرِ بِجَمْعِ الضَّرَبَاتِ كَمَا يُخَفِّفُ عَنْ الْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ . أَلَا تَرَى أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ جَاءَتْ فِيمَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ أَنَّهُ يُجْزِيهِ الثُّلُثُ , أَقَامَ فِي النَّذْرِ الثُّلُثَ مَقَامَ الْجَمِيعِ كَمَا أُقِيمَ مَقَامُهُ فِي الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا لِمَا فِي إخْرَاجِ الْجَمِيعِ مِنْ الضَّرَرِ وَجَاءَتْ السُّنَّةُ فِيمَنْ نَذَرَتْ الْحَجَّ مَاشِيَةً أَنْ تَرْكَبَ وَتُهْدِيَ , إقَامَةً لِتَرْكِ

بَعْضِ الْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ مَقَامَ تَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ مِنْ الْمَنَاسِكِ , وَأَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ فِيمَنْ نَذَرَ ذَبْحَ ابْنِهِ بِشَاةٍ , إقَامَةً لِذَبْحِ الشَّاةِ مَقَامَ ذَبْحِ الِابْنِ كَمَا شَرَعَ ذَلِكَ لِلْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَفْتَى أَيْضًا فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَطُوفَ عَلَى أَرْبَعٍ بِأَنْ يَطُوفَ أُسْبُوعَيْنِ إقَامَةً لِأَحَدِ الْأُسْبُوعَيْنِ مَقَامَ طَوَافِ الْيَدَيْنِ , وَهَذَا كَثِيرٌ فَكَانَتْ قِصَّةُ أَيُّوبَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَغَيْرُ مُسْتَكْثَرٍ فِي وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يُخَفِّفَ اللَّهُ الشَّيْءَ عِنْدَ الْمَشَقَّةِ بِفِعْلِ مَا يُشْبِهُهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا فِي الْإِبْدَالِ وَغَيْرِهَا , لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي شَرِيعَتِنَا ; لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ أَمْكَنَهُ أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى تَخْفِيفِ الضَّرْبِ , وَلَوْ نَذَرَ ذَلِكَ فَأَقْصَى مَا عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يَقُولُ بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِي نَذَرَ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُبَاحِ أَوْ يُقَالَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ , وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا فُسِّرَ بِهِ الْمُطْلَقُ مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ خُصُوصًا فِي الْأَيْمَانِ فَإِنَّ الرُّجُوعَ فِيهَا إلَى عُرْفِ الْخِطَابِ شَرْعًا أَوْ عَادَةً أَوْلَى مِنْ الرُّجُوعِ فِيهَا إلَى مُوجَبِ اللَّفْظِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ , ثُمَّ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ

مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } فَهِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الزَّانِيَ وَالْقَاذِفَ إذَا كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَجُزْ ضَرْبُهُ إلَّا مُفَرَّقًا . وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا مَأْيُوسًا مِنْ بُرْئِهِ ضُرِبَ بِعُثْكُولِ النَّخْلِ وَنَحْوِهِ . وَإِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الْبُرْءِ فَهَلْ يُؤَخَّرُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَوْ يُقَامُ . عَلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ . فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ الْحَالِفَ لَيَضْرِبَنَّ يَكُونُ مُوجَبُ يَمِينِهِ الضَّرْبَ الْمَجْمُوعَ مَعَ صِحَّةِ الْمَضْرُوبِ وَجِلْدِهِ ؟ هَذَا خِلَافُ الْقَاعِدَةِ , فَعَلِمَ أَنَّ قِصَّةَ أَيُّوبَ كَانَ فِيهَا مَعْنًى يُوجِبُ جَوَازَ الْجَمْعِ . وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ مُوجَبُ الْإِطْلَاقِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ , وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا الْمُخْتَصَرَ ; لِأَنَّ عُمْدَةَ الْمُحْتَالِينَ مَا تَأَوَّلُوا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَا يَخْفَى فَسَادُ تَأْوِيلِهِمْ لِمَنْ تَأَمَّلَ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ { جَاءَ بِلَالٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرٍ بَرْنِيِّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِنْ أَيْنَ هَذَا ؟ فَقَالَ بِلَالٌ : كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيءٌ فَبِعْت مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِنُطْعِمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ ذَلِكَ - أَوَّهَ عَيْنُ الرِّبَا . لَا تَفْعَلْ وَلَكِنْ إذَا أَرَدْت أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعْ التَّمْرَ بَيْعَ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ , وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ,

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ , وَأَبِي هُرَيْرَةَ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ فَأَتَاهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ لَهُ أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا ؟ قَالَ : إنَّا لَنَأْخُذَ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ . وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ . فَقَالَ : لَا تَفْعَلْ بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا } وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ , وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ : { بِعْهُ بِسِلْعَةٍ ثُمَّ ابْتَعْ بِسِلْعَتِك أَيَّ التَّمْرِ شِئْت } فَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ التَّمْرَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ يَبْتَاعَ بِالدَّرَاهِمِ تَمْرًا أَقَلَّ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ أَطْيَبُ وَإِنْ كَانَ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ مُتَفَاضِلًا لَا يَجُوزُ , وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ الْحِيلَةِ . قُلْنَا : لَيْسَ هَذَا مِنْ الْحِيلَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِي شَيْءٍ , وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْحِيَلِ فِي الْوَجْهِ الْخَامِسَ عَشَرَ الَّذِي فِيهِ أَقْسَامُ الْحِيَلِ , وَبَيَانُ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بِعْ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا } لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَبْتَاعَ بِهَا مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْهُ , وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِبَيْعٍ مُطْلَقٍ وَشِرَاءٍ مُطْلَقٍ , وَالْبَيْعُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْبَيْعُ الْبَتَاتُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مُشَارَطَةٌ وَمُوَاطَأَةٌ عَلَى عَوْدِ السِّلْعَةِ إلَى الْبَائِعِ وَلَا عَلَى إعَادَةِ الثَّمَنِ إلَى الْمُشْتَرِي بِعَقْدٍ آخَرَ . وَهَذَا بَيْعٌ مَقْصُودٌ وَشِرَاءٌ مَقْصُودٌ , وَلَوْ بَاعَ مِنْ الرَّجُلِ بَيْعًا بَتَاتًا لَيْسَ فِيهِ مُوَاطَأَةٌ لَفْظِيَّةٌ وَلَا عُرْفِيَّةٌ

عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ وَلَا قَصْدَ لِذَلِكَ ثُمَّ ابْتَاعَ مِنْهُ لَجَازَ ذَلِكَ , بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْقَصْدُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ ابْتِدَاءً وَقَدْ عَرَفَ ذَلِكَ بِلَفْظٍ أَوْ عُرْفٍ فَهُنَاكَ لَا يَكُونُ الْأَوَّلُ بَيْعًا وَلَا الثَّانِي شِرَاءً مِنْهُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَتَاتٍ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ , وَإِذَا كَانَ قَصْدُهُ الشِّرَاءَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ فَفِيهِ خِلَافٌ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ . وَذَكَرْنَا أَنَّهُمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ ثُمَّ يَبِيعَهُ فَهَذَا بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيُ عَنْهُ , وَذَكَرْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَمَرَهُ بِبَيْعٍ مُطْلَقٍ وَذَلِكَ إنَّمَا يُفِيدُ الْبَيْعَ الشَّرْعِيَّ فَحَيْثُ وَقَعَ فِيهِ مَا يُفْسِدُهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا . وَبَيَّنَّا أَنَّ الْعُقُودَ مَتَى قُصِدَ بِهَا مَا شُرِعَتْ لَهُ لَمْ تَكُنْ حِيلَةً قَالَ الْمَيْمُونِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ احْتَالَ لِإِبْطَالِهَا هَلْ تَجُوزُ تِلْكَ الْحِيلَةُ ؟ قَالَ نَحْنُ لَا نَرَى الْحِيلَةَ إلَّا بِمَا يَجُوزُ قُلْت أَلَيْسَ حِيلَتُنَا فِيهَا أَنْ نَتْبَعَ مَا قَالُوا وَإِذَا وَجَدْنَا لَهُمْ قَوْلًا فِي شَيْءٍ اتَّبَعْنَاهُ ؟ قَالَ : بَلَى هَكَذَا هُوَ قُلْت وَلَيْسَ هَذَا مِنَّا نَحْنُ بِحِيلَةٍ ؟ قَالَ نَعَمْ ; فَبَيَّنَ أَحْمَدُ أَنَّ اتِّبَاعَ الطَّرِيقِ الْجَائِزَةِ الْمَشْرُوعَةِ لَيْسَ هُوَ مِنْ الْحِيلَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَلَا يُسَمَّى حِيلَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِنْ سُمِّيَ فِي اللُّغَةِ حِيلَةً . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَقْسَامِ الْحِيَلِ وَأَحْكَامِهَا فِي

الْوَجْهِ الْخَامِسَ عَشَرَ , وَذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يَقْصِدُ بِهِ الْعَاقِدُ مَقْصُودَهُ الشَّرْعِيَّ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَهُ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِهِ إلَى أَمْرٍ آخَرَ مُبَاحٍ . بِخِلَافِ مَنْ قَصَدَ مَا يُنَافِي الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . فَإِنْ قِيلَ : الِاحْتِيَالُ أَمْرٌ بَاطِنٌ فِي الْقَلْبِ وَنَحْنُ قَدْ أُمِرْنَا أَنْ نَقْبَلَ مِنْ النَّاسِ عَلَانِيَتَهُمْ وَلَمْ نُؤْمَرْ أَنْ نُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَلَا نَشُقَّ بُطُونَهُمْ , فَمَتَى رَأَيْنَا عَقْدَ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ خُلْعٍ أَوْ هِبَةٍ حَكَمْنَا بِصِحَّتِهِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى سَرَائِرَهُمْ . قُلْنَا : الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخَلْقَ أُمِرُوا أَنْ يَقْبَلَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ مَا يُظْهِرُهُ دُونَ الِالْتِفَافِ إلَى بَاطِنٍ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ , وَأَمَّا مُعَامَلَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ فَإِنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ وَالسَّرَائِرِ وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ . فَمَنْ أَظْهَرَ قَوْلًا سَدِيدًا وَلَمْ يَكُنْ قَدْ قَصَدَ بِهِ حَقِيقَتَهُ كَانَ آثِمًا عَاصِيًا لِرَبِّهِ وَإِنْ قَبِلَ النَّاسُ مِنْهُ الظَّاهِرَ . كَالْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْبَلُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُ عَلَانِيَتَهُ وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ . فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُخَادِعُونَ بِعُقُودٍ ظَاهِرُهَا حَسَنٌ وَبَاطِنُهَا قَبِيحٌ هُمْ مُنَافِقُونَ بِذَلِكَ فَهُمْ آثِمُونَ عَاصُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ , وَإِنْ كَانَتْ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ إنَّمَا تَجْرِي عَلَى الظَّاهِرِ وَنَحْنُ قَصَدْنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ الْحِيلَةَ مُحَرَّمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ

وَفِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَإِنْ كَانَ النَّاسُ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ صَاحِبَهَا فَعَلَ مُحَرَّمًا وَهَذَا بَيِّنٌ . الثَّانِي : أَنَّا إنَّمَا نَقْبَلُ مِنْ الرَّجُلِ ظَاهِرَهُ وَعَلَانِيَتَهُ إذَا لَمْ يُظْهِرْ لَنَا أَنَّ بَاطِنَهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِهِ , فَأَمَّا إذَا أَظْهَرَ ذَلِكَ رَتَّبْنَا الْحُكْمَ عَلَى ذَلِكَ فَكُنَّا حَاكِمِينَ أَيْضًا بِالظَّاهِرِ الدَّالِّ عَلَى الْبَاطِنِ لَا بِمُجَرَّدِ بَاطِنٍ , فَإِنَّا إذَا رَأَيْنَا تَيْسًا مِنْ التُّيُوسِ مَعْرُوفًا بِكَثْرَةِ التَّحْلِيلِ وَهُوَ مِنْ سِقَاطِ النَّاسِ دِينًا وَخُلُقًا وَدُنْيَا قَدْ زَوَّجَ فَتَاةَ الْحَيِّ الَّتِي يَنْتَخِبُ لَهَا الْأَكْفَاءَ بِصَدَاقٍ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ بِصَدَاقٍ يَبْلُغُ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً لَا يُصْدَقُ مِثْلُهَا قَرِيبًا مِنْهُ ثُمَّ عَجَّلَ لَهَا بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْخُلْعِ وَرُبَّمَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ اسْتِعْطَافُ قَلْبِهِ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِ عُلِمَ قَطْعًا وُجُودُ التَّحْلِيلِ , وَمَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ فَهُوَ مُصَابٌ فِي عَقْلِهِ , وَكَذَلِكَ مِثْلُ هَذَا فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ , وَأَقَلُّ مَا يَجِبُ عَلَى مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ أَنْ لَا يُعِينَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَعِظَ فَاعِلَهُ وَيَنْهَاهُ عَنْ التَّحْلِيلِ وَيَسْتَفْسِرَهُ عَنْ جَلِيَّةِ الْحَالِ . فَإِنْ قِيلَ : الِاحْتِيَالُ سَعْيٌ فِي اسْتِحْلَالِ الشَّيْءِ بِطَرِيقٍ مُبَاحٍ . وَهَذَا جَائِزٌ . فَإِنَّ الْبَيْعَ احْتِيَالٌ عَلَى حِلِّ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحَ احْتِيَالٌ عَلَى الْبُضْعِ . وَهَكَذَا جَمِيعُ الْأَسْبَابِ فَإِنَّهَا حِيَلٌ عَلَى حِلِّ مَا كَانَ حَرَامًا قَبْلَهَا , وَهَذَا جَائِزٌ . نَعَمْ مَنْ احْتَالَ عَلَى تَنَاوُلِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ سَبَبٍ مُبِيحٍ فَهَذَا

هُوَ الْحَرَامُ بِلَا رَيْبٍ , وَنَحْنُ إنَّمَا نَحْتَالُ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مُبِيحٍ . قِيلَ : قَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مُسْتَوْفًى لَمَّا ذَكَرْنَا أَقْسَامَ الْحِيَلِ فِي الْوَجْهِ الْخَامِسَ عَشَرَ , وَذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا مِثْلُ قِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا , إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ بَعْضَ الْأَسْبَابِ طَرِيقًا إلَى مِلْكِ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . كَمَا جَعَلَ الْبَيْعَ طَرِيقًا إلَى مِلْكِ الْمَالِ , وَالنِّكَاحَ طَرِيقًا إلَى مِلْكِ الْبُضْعِ , وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَبِيحَ الشَّيْءَ بِطَرِيقِهِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَالًا فَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْحِيلَةِ فِي شَيْءٍ , إنَّمَا الْحِيلَةُ أَنْ يُبَاشِرَ السَّبَبَ لَا يَقْصِدَ بِهِ مَا جُعِلَ ذَلِكَ السَّبَبُ لَهُ إنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ اسْتِحْلَالَ أَمْرٍ آخَرَ لَمْ يُشْرَعْ ذَلِكَ السَّبَبُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ لِلسَّبَبِ الْمُبِيحِ لِذَلِكَ الْأَمْرِ الْآخَرِ إمَّا بِأَنْ لَا يَكُونَ إلَى حِلِّ ذَلِكَ الْمُحَرَّمِ طَرِيقٌ أَوْ لَا يَكُونَ الطَّرِيقُ مِمَّا يُمْكِنُهُ قَصْدُهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ . كَمَنْ يُرِيدُ اسْتِحْلَالَ مَعْنَى الرِّبَا بِصُوَرِ الْقَرْضِ وَالْبَيْعِ وَإِعَادَةِ الْمَرْأَةِ إلَى الْمُطَلِّقِ بِالتَّحْلِيلِ , وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ } فَأَيْنَ مَنْ قَصَدَ بِالْعُقُودِ اسْتِحْلَالَ مَا جُعِلَتْ الْعُقُودُ مُوجِبَةً لَهُ إلَى مَنْ لَا يَقْصِدُ مَقْصُودَ الْعُقُودِ وَلَا لَهُ رَغْبَةٌ فِي مُوجَبِهَا وَمُقْتَضَاهَا وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ

بِصُوَرِهَا لِيَسْتَحِلَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ فِي قَصْدِ اسْتِحْلَالِهَا ؟ , وَقَدْ تَقَدَّمَ إيضَاحُ هَذَا فِي ذِكْرِ أَقْسَامِ الْحِيَلِ .
وَحَيْثُ كَانَ الْمَوْجُودُ فِي الْخَارِجِ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنْ مِلْكِ الْمِثْلِ الْمَعْقُولَةِ الْمُطْلَقَةِ , كَمَا يُقَالُ فَعَلْتَ مَا كَانَ فِي نَفْسِي وَحَصَلَ الْأَمْرُ الَّذِي كَانَ فِي ذِهْنِي وَنَحْوِ ذَلِكَ . ثُمَّ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ الَّذِي يُؤَدِّي بِهِ الْوَاجِبَ قَدْ يَقْدِرُ الْمُكَلَّفُ عَلَى غَيْرِهِ . وَقَدْ لَا يَقْدِرُ فَالْأَوَّلُ : مِثْلُ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى عِتْقِ عِدَّةِ رِقَابٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ بَدَلًا عَنْ الْأُخْرَى . وَكَمَا يَقْدِرُ الْمُتَوَضِّئُ عَلَى الصَّلَاةِ بِهَذَا الْوُضُوءِ وَبِوُضُوءٍ آخَرَ . وَيَقْدِرُ الْمَأْمُومُ عَلَى الصَّلَاةِ خَلْفَ هَذَا الْإِمَامِ وَخَلْفَ إمَامٍ آخَرَ . فَيَكُونُ انْتِقَالُهُ مِنْ مُعَيَّنٍ إلَى مُعَيَّنٍ مُفَوَّضًا إلَى اخْتِيَارِهِ . لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُنْهَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الْمُعَيَّنَيْنِ , وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ فِيهِ بَيْنَ أَنْوَاعٍ كَالْكَفَّارَةِ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ إذَا تَعَيَّنَ بِالْأَدَاءِ , فَإِنَّ انْتِقَالَهُ فِي وُجُوبِ التَّخْيِيرِ مِنْ نَوْعٍ إلَى نَوْعٍ هُوَ بِحُكْمِ الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ , فَإِنَّ الْخِطَابَ الشَّرْعِيَّ سَمَّى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ , وَانْتِقَالَهُ فِي كُلِّ وَاجِبٍ مِنْ عَيْنٍ إلَى عَيْنٍ هُوَ بِحُكْمِ الْمَشِيئَةِ الَّتِي لَا نَهْيَ فِيهَا , وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا أُذِنَ فِيهِ وَبَيْنَ مَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ . وَالثَّانِي : مِثْلُ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَ الْمُكَلَّفِ , وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَصِّلَ إلَّا هَذِهِ

الرَّقَبَةَ الْمُعَيَّنَةَ , وَبِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَلَا طَهُورَ إلَّا مَاءٌ فِي مَحَلٍّ , فَهُنَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِعْلُ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ . لَا ; لِأَنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنَ . فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُوجِبْ إلَّا رَقَبَةً مُطْلَقَةً وَمَاءً مُطْلَقًا لَكِنْ ; لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِثَالِ إلَّا بِهَذَا الْمُعَيَّنِ فَصَارَ يَقِينُهُ لِعَجْزِ الْعَبْدِ عَنْ غَيْرِهِ . لَا لِاقْتِضَاءِ الشَّارِعِ لَهُ . فَلَوْ كَانَتْ الرَّقَبَةُ كَافِرَةً , أَوْ الْمَاءُ نَجِسًا وَهُوَ لَمْ يَعْلَمْ , لَمْ يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ ; لِأَنَّ الشَّارِعَ مَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ قَطُّ , وَلَا هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ , وَلَكِنْ مَا أَمَرَهُ بِغَيْرِهِ مِنْ الرِّقَابِ وَالْمِيَاهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِعَجْزِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَلَا أَمَرَهُ بِهِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْمَأْمُورُ بِهِ , وَإِنَّمَا كَانَ مَأْمُورًا فِي الْبَاطِنِ , بِالِانْتِقَالِ إلَى الْبَدَلِ الَّذِي هُوَ التُّرَابُ أَوْ الصِّيَامُ , لَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ . فَإِذَا قَالَ صَاحِبُ هَذَا الِاعْتِقَادِ الْمُعَيَّنِ : بِأَنَّ هَذَا طَهُورٌ أَتَى مِنْ الشَّارِعِ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ بِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ . قُلْنَا : أَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَعَلَيْك أَنْ تَفْعَلَهُ وَأَنْتَ مَأْمُورٌ بِهِ أَيْضًا . بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ , وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ فَقَدْ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ . فَإِنْ قَالَ : أَنَا مُكَلَّفٌ بِالْبَاطِنِ , قُلْنَا : إنْ أَرَدْت بِالتَّكْلِيفِ أَنَّك تُذَمُّ

وَتُعَاقَبُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْبَاطِنِ فَلَسْت بِمُكَلَّفٍ بِهِ . وَإِنْ أَرَدْت أَنَّ مَا فِي الْبَاطِنِ هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْك وَتَرْكُهُ يَقْتَضِي ذَمَّك وَعِقَابَك , وَلَكِنَّ انْتِفَاءَ مُقْتَضَاهُ لِوُجُودِ عُذْرِك وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ , فَنَعَمْ أَنْتَ مُكَلَّفٌ بِهِ , وَعَادَ الْأَمْرُ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ انْتِفَاءِ اللَّوْمِ ; لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ لَا لِعَدَمِ مُقْتَضِيهِ , وَأَنَّ الْخِلَافَ يَعُودُ إلَى اعْتِبَارٍ عَقْلِيٍّ وَإِطْلَاقٍ لَفْظِيٍّ , فَيَجُوزُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ النَّجِسَ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا هُوَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِنَجَاسَتِهِ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ فِي الْبَاطِنِ فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا فِي الْبَاطِنِ . الثَّانِي : أَنَّهُ وَإِنْ تَأَدَّى بِهِ فَوُجُوبُ التَّعَيُّنِ مِنْ بَابِ وُجُوبِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ , وَلَوَازِمُ الْوَاجِبِ وَمُقَدِّمَاتُهُ لَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ وَاجِبَةً وُجُوبًا شَرْعِيًّا مَقْصُودًا لِلْأَمْرِ , فَإِنَّ الْأَمْرَ لَا يَطْلُبُهَا وَلَا يَقْصِدُهَا بِحَالٍ , وَقَدْ لَا يَشْعُرُ بِهَا إذَا كَانَ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ وَالْمَأْمُورُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا , فَإِنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ صَوْمِ النَّهَارِ لَا عَلَى تَرْكِ إمْسَاكِ طَرَفَيْهِ , وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الْحَجِّ , كَمَا يُعَاقَبُ ذُو الْمَسَافَةِ الْقَرِيبَةِ أَوْ أَقَلَّ , وَلَا يُعَاقَبُ أَكْثَرُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَرَكَ قَطْعَ تِلْكَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ . نَعَمْ يُثَابُ

أَكْثَرُ وَقَدْ يُثَابُ ثَوَابَ الْوَاجِبِ , لَكِنْ الْوُجُوبُ الْعَقْلِيُّ الضَّرُورِيُّ , فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ الْأَمْرِيِّ الْقَصْدِيِّ , وَبَيْنَ الْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ الْوُجُودِيِّ الْقَدَرِيِّ .
فَإِنَّ الْمُسَبِّبَاتِ يَجِبُ وُجُودُهَا عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا , بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يُحْدِثُهَا حِينَئِذٍ وَيَشَاءُ وُجُودَهَا لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا شَرْعًا وَدِينًا , وَلَا يُنَازِعُ أَحَدٌ فِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ كَالْقَتْلِ . لَيْسَ أَمْرًا بِمُسَبِّبَاتِهَا الَّذِي هُوَ الْإِزْهَاقُ , وَكَذَلِكَ الْأَسْبَابُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي وُجُودِ الْمُسَبِّبَاتِ , بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُحْدِثُ الْمُسَبِّبَاتِ وَيَشَاؤُهَا إلَّا بِوُجُودِ الْأَسْبَابِ , لَا بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْأَسْبَابِ شَرْعًا وَدِينًا , فَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ مِمَّا هُوَ سَابِقٌ لَهُ أَوْ هُوَ لَازِمٌ لِوُجُودِهِ , إذَا لَمْ يَكُنْ لِلشَّارِعِ فِيهِ طَلَبٌ شَرْعِيٌّ فَإِنَّهُ يَجِبُ وُجُودُهُ وُجُوبًا عَقْلِيًّا إذَا امْتَثَلَ الْعَبْدُ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ . وَهُنَا قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ هَذَا السَّبَبَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ هَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ أَمْرًا شَرْعِيًّا وَمِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ , وَقَدْ يُقَالُ هَذَا وَاجِبٌ بِالْقَصْدِ الثَّانِي لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ , وَأَنْتَ إذَا حَقَّقْت عَلِمْت أَنَّ هَذَا مِنْ نَمَطِ الَّذِي قَبْلَهُ , فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُ الْعَبْدَ عَلَى مَا أَحْدَثَهُ اللَّهُ مِنْ فِعْلِهِ الْوَاجِبِ , كَالدَّاعِي إلَى الْهُدَى فَإِنَّ لَهُ أَجْرَ مَنْ اسْتَجَابَ لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ,

وَكَالْوَلَدِ الصَّالِحِ فَإِنَّ دُعَاءَهُ مُضَافٌ إلَى أَبِيهِ , وَإِنْ كَانَ فِعْلُ أَبِيهِ إنَّمَا هُوَ الْإِيلَاجُ الَّذِي قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا , وَمَعَ هَذَا فَلَوْ تَرَكَ الْوَاجِبَ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَى انْتِفَاءِ الْآثَارِ وَاللَّوَازِمِ , كَذَلِكَ اللَّهُ يُثِيبُهُ عَلَى فِعْلِ أَسْبَابِ الْعَمَلِ الْوَاجِبِ وَمُقَدِّمَاتِهِ , كَالسَّيْرِ إلَى الْمَسْجِدِ وَإِلَى الْبَيْتِ وَالْعَدُوِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَإِذَا تَرَكَهَا لَمْ يُعَاقِبْهُ إلَّا عَلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ , فَافْهَمْ مِثْلَ هَذَا فِي الْوَاجِبِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَدَائِهِ إلَّا بِهَذَا الْمُعَيَّنِ , فَإِنَّ ذَلِكَ التَّعْيِينَ إذَا فَعَلَهُ أَثَابَهُ عَلَيْهِ , وَلَوْ تَرَكَهُ لَمْ يُعَاقِبْهُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ , وَإِنَّمَا يُعَاقِبُهُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ الْمُطْلَقِ , بِحَيْثُ تَكُونُ عُقُوبَتُهُ وَعُقُوبَةُ مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ عِدَّةَ أَعْيَانٍ مِمَّا سِوَاهُ , أَوْ يَكُونُ هَذَا أَقَلَّ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ , وَإِذَا أَرَدْت عِبَارَةً لَا يُنَازِعُك فِيهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ , فَقُلْ هَذَا النَّجَسُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ فِي الْبَاطِنِ , وَهَذَا الْمُعَيَّنُ لَيْسَ عَيْنُهُ مَقْصُودَةَ الْأَمْرِ , وَلَا هَذَا النَّجَسُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَقْصُودِ الْأَمْرِ , فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا الَّذِي لَمْ يَجِدْ إلَّا مَاءً وَكَانَ فِي الْبَاطِنِ نَجَسًا , إذَا قِيلَ : إنَّهُ مَأْمُورٌ بِاسْتِعْمَالِهِ , فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْحَقِيقَةِ بِاسْتِعْمَالِهِ كَالْأَمْرِ بِمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ . فَإِذَا قُلْت : إنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ بِمَجْمُوعِ هَذَيْنِ

الِاعْتِبَارَيْنِ , فَلَا نِزَاعَ مَعَك , وَإِذَا قُلْت لَيْسَ بِمَأْمُورٍ لِانْتِفَاءِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ , فَقَدْ أَصَبْت الْغَرَضَ , وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ مَنْ اعْتَقَدَ الْحَاكِمُ عَدْلَهُ , فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ لِلْمُدَّعِي إذَا جَاءَهُ بِذَوَي عَدْلٍ , ثُمَّ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى تَأْدِيَةِ هَذَا الْوَاجِبِ إلَّا بِاعْتِقَادِهِ فِيهِمَا الْعَدْلَ . فَتَعَيُّنِ هَذَا الِاعْتِقَادِ الْمُخْطِئِ فِي الْبَاطِنِ , كَتَعَيُّنِ ذَلِكَ الْمَاءِ النَّجَسِ فِي الْبَاطِنِ إذْ الِاعْتِقَادُ هُوَ الَّذِي يُمَكِّنُ مِنْ الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ , كَمَا أَنَّ الْمُعَيَّنَ هُوَ الَّذِي يُمَكِّنُ مِنْ وُجُودِ الْمُطْلَقِ , وَقَدْ تَتَعَدَّدُ الِاعْتِقَادَاتُ كَمَا تَتَعَيَّنُ الْأَعْيَانُ , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا اعْتِقَادُ الْعَدْلِ فِيهِمَا فَالشَّارِعُ مَا أَمَرَهُ فِي الْحَقِيقَةِ بِاسْتِعْمَالِ هَذَا الِاعْتِقَادِ الْمُخْطِئِ قَطُّ وَلَا أَمَرَ بِاعْتِقَادِ عَدْلِ هَذَا الشَّخْصِ وَلَا عَدْلِ غَيْرِهِ أَمْرًا مَقْصُودًا قَطُّ , وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مِنْ الْحُكْمِ بِذَوَي عَدْلٍ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِاعْتِقَادٍ , فَصَارَ وُجُوبُ اتِّبَاعِ الِاعْتِقَادِ كَوُجُوبِ إعْتَاقِ مُعَيَّنٍ مَا . ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا اعْتِقَادُ عَدْلِ هَذَا الشَّاهِدِ , كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا هَذَا الْمَاءُ وَهَذِهِ الرَّقَبَةُ ثُمَّ خَطَّأَهُ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي بِهِ يُؤَدِّي الْوَاجِبَ عَيْبٌ فِي هَذَا الْمُعَيَّنِ كَالْعَيْبِ فِي الْمَاءِ وَالرَّقَبَةِ . فَالتَّحْقِيقُ هُوَ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ مَأْمُورًا أَنْ يَحْكُمَ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ فِي الْحَقِيقَةِ الْبَاطِنَةِ وَلَا

هُوَ مَأْمُورٌ بِشَيْءٍ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ الْمُعَيَّنَةِ أَمْرًا مَقْصُودًا . نَعَمْ هُوَ مَأْمُورٌ أَمْرًا لُزُومِيًّا بِاعْتِقَادِ عَدْلِ مَنْ ظَهَرَ عَدْلُهُ , وَمَأْمُورٌ ظَاهِرًا أَمْرًا مَقْصُودًا بِالْحُكْمِ بِمَنْ اعْتَقَدَ عَدْلَهُ , وَهَذَا بِعَيْنِهِ يُقَالُ فِي الْمُعَيَّنِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ الْمُخْطِئِ , وَإِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ , ثُمَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَةِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ إلَّا بِمَا قَدْ نَصَبَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ , فَصَارَ وُجُوبُ اتِّبَاعِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمُنَزَّلِ مِنْ الْأَخْبَارِ , وَلِدَلَالَةِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ ; لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَةِ الْمُنَزَّلِ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمُخْبِرُ مُخْطِئًا أَوْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ مُخَلَّفَةً فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِعَيْنِهَا فِي الْبَاطِنِ قَطُّ , وَإِنَّمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِعَيْنِهَا فِي الظَّاهِرِ أَمْرًا لُزُومِيًّا مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ , وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ , هَلْ يُقَالُ لِلْمُخْطِئِ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِي الْحُكْمِ كَمَا هُوَ مُخْطِئٌ فِي الْبَاطِنِ , أَوْ يُقَالُ هُوَ مُصِيبٌ فِي الْحُكْمِ , وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَّجَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ رِوَايَةً بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَهَذَا ضَعِيفٌ تَخْرِيجًا وَدَلِيلًا . وَمَنْشَأُ تَرَدُّدِهِمْ أَنَّ وُجُوبَ اعْتِقَادِهِ لِمَا اقْتَضَاهُ اجْتِهَادُهُ هُوَ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ اتِّبَاعُ حُكْمِ اللَّهِ , وَلَا

سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا بِاتِّبَاعِ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ الدَّلِيلِ وَاتِّبَاعُ دَلِيلِهِ اعْتِقَادُ مُوجَبِهِ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ مُصِيبٌ فِي الْحُكْمِ , فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا حَكَمَ بِشَهَادَةِ مَنْ يَعْتَقِدُهُ عَدْلًا فَقَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ ظَاهِرًا , وَمَنْ قَالَ : لَيْسَ بِمُصِيبٍ فِي الْحُكْمِ قَالَ ; لِأَنَّ وُجُوبَ اتِّبَاعِ هَذَا الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ هُوَ لِلْوُجُوبِ اللُّزُومِيِّ الْعَقْلِيِّ دُونَ الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ الْمَقْصُودِ , وَإِلَّا فَالْوُجُوبُ الشَّرْعِيُّ هُوَ اتِّبَاعُ حُكْمِ اللَّهِ , وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَتَى مِنْ جِهَةِ عَجْزِهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْخِلَافِ دَلِيلُهُ , فَإِنَّ مَنْ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ أَفْتَى بِهِ تَارَةً يَكُونُ الْمُحَدِّثُ لَهُ عَدْلًا حَافِظًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا , لَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ , أَوْ الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ فَهُنَا لَمْ يُؤْتَ مِنْ جِهَةِ نَظَرِهِ بَلْ دَلِيلُهُ أَخْلَفَ , وَتَارَةً يَعْتَقِدُ هُوَ أَنَّ الْمُحَدِّثَ ثِقَةٌ , وَلَا يَكُونُ ثِقَةً فَهُنَا اعْتِقَادُهُ خَطَأٌ , لِكَوْنِهِ دَلِيلًا غَيْرَ مُطَابِقٍ , وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا فِيهِ لِدَلِيلٍ اقْتَضَى ثِقَتَهُ , فَإِنَّ خَطَأَ هَذَا الدَّلِيلِ كَخَطَإِ الْأَوَّلِ فِي الْحُكْمِ . فَالْأَوَّلُ : حَكَمَ بِدَلِيلٍ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ دَلِيلُ الْمُجْتَهِدِ , لَكِنَّ اللَّهَ سَلَبَ دَلَالَتَهُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ , وَلَمْ يَظْهَرْ هَذَا عَلَى الْعِلْمِ السَّالِبِ , وَهَذَا كَالتَّمَسُّكِ بِشَرِيعَةٍ قَدْ نُسِخَتْ لَمْ يَعْلَمْ بِنَسْخِهَا , وَالثَّانِي حَكَمَ بِمَا اعْتَقَدَ دَلِيلًا وَلَمْ يَكُنْ دَلِيلًا , بَلْ قَامَ عِنْدَهُ مَا ظَنَّ

كَوْنَهُ دَلِيلًا , كَمَا لَوْ كَانَ اللَّفْظُ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ فَاعْتَقَدَهَا لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ فَجَعَلَهُ عَامًّا , وَكَانَتْ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ , أَوْ كَانَ مَعْنَى اللَّفْظِ فِي لُغَتِهِ غَيْرَ مَعْنَاهُ فِي لُغَةِ الرَّسُولِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ لَهُ مَعْنًى إلَّا مَا فِي لُغَتِهِ , فَهَذَا حَكَمَ بِمَا لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا أَصْلًا , لَكِنَّهُ اعْتَقَدَ دَلَالَتَهُ فَالْأَوَّلُ حَكَمَ بِمُقْتَضًى عَارَضَهُ مَانِعٌ لَمْ يَعْلَمْهُ . وَالثَّانِي : بِمَا لَيْسَ بِمُقْتَضًى لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مُقْتَضًى , وَالْأَوَّلُ فِي اتِّبَاعِهِ لِلدَّلِيلِ , كَالْمُسْتَفْتِي فِي اتِّبَاعِهِ قَوْلَ مَنْ هُوَ مُفْتٍ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إذَا كَانَ قَدْ أَخْطَأَ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُسْتَفْتِي بِذَلِكَ , فَهَذَا الثَّانِي أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ وَفِي اعْتِقَادِهِ , وَالْأَوَّلُ أَصَابَ فِي اجْتِهَادِهِ لَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي اعْتِقَادِهِ , وَكِلَاهُمَا مُصِيبٌ فِي اعْتِقَادِهِ . وَإِذَا عَرَفْت هَذِهِ الدَّرَجَاتِ الثَّلَاثِ لِلْمُجْتَهِدِ : أُولَاهَا : اقْتِصَارُهُ بِحُكْمِ اللَّهِ . الثَّانِيَةُ : اجْتِهَادُهُ وَهُوَ اسْتِنْطَاقُ الْأَدِلَّةِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِمَاعِ الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ فَتَارَةً يَعْتَقِدُ الْمَجْرُوحَ عَدْلًا فَيَكُونُ قَدْ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ , وَتَارَةً يَكُونُ الْعَدْلُ قَدْ أَخْطَأَ فَيَكُونُ دَلِيلُهُ قَدْ أَخْطَأَ لَا هُوَ . الثَّالِثَةُ : اعْتِقَادُهُ وَهُوَ اعْتِقَادُ مَا نَطَقَتْ بِهِ الْأَدِلَّةُ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِمَا شَهِدَتْ بِهِ الشُّهُودُ , وَلِهَذَا إذَا تَبَيَّنَ كُفْرَ الشُّهُودِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ , وَلَوْ تَبَيَّنَ غَلَطُهُمْ بِرُجُوعِهِمْ مَثَلًا , كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ , وَإِذَا كَانَ

الدَّلِيلُ صَحِيحًا وَالشَّاهِدُ عَدْلًا كَانَ مَأْمُورًا فِي الظَّاهِرِ أَنْ يَحْكُمَ بِعَيْنِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ , وَأَمَّا إذَا كَانَ الدَّلِيلُ فَاسِدًا وَالشَّاهِدُ فَاسِقًا وَهُوَ يَعْتَقِدُهُ صَحِيحًا عَدْلًا فَلَمْ يُؤْمَرْ بِهِ , وَلَكِنْ لَمَّا اعْتَقَدَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ لَمْ يُؤَاخَذْ كَمَنْ رَأَى مَنْ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْكُفْرِ فَقَتَلَهُ فَكَانَ مُسْلِمًا . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ , وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اخْتَلَفَتْ فَأَخَذَ الرَّجُلُ بِأَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ فَقَالَ إذَا أَخَذَ الرَّجُلُ بِحَدِيثٍ صَحِيحٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ آخَرُ بِحَدِيثٍ ضِدِّهِ صَحِيحٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ , وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَأْخُذَ أَحَدَ الْحَدِيثَيْنِ , وَلَا يَقُولَ لِمَنْ خَالَفَهُ أَنَّهُ مُخْطِئٌ إذَا أَخَذَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَنَّ الْحَقَّ فِيمَا أَخَذْت بِهِ أَنَا وَهَذَا بَاطِلٌ , وَلَكِنْ إذَا كَانَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَحِيحَةً , فَأَخَذَ بِهَا رَجُلٌ وَأَخَذَ آخَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحْتَجَّ بِالشَّيْءِ الضَّعِيفِ , كَانَ الْحَقُّ فِيمَا أَخَذَ بِهِ الَّذِي احْتَجَّ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ , وَقَدْ أَخْطَأَ الْآخَرُ فِي التَّأْوِيلِ , مِثْلُ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ , وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ السَّلْمَانِيِّ , قَالَ فَهَذَا عِنْدِي مُخْطِئٌ وَالْحَقُّ مَعَ مَنْ ذَهَبَ إلَى حَدِيثِ

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ } , وَإِنْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ ثُمَّ رُفِعَ إلَى حَاكِمٍ آخَرَ رُدَّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحِيحِ , وَإِذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ , وَاحْتَجَّ بِهِ رَجُلٌ أَوْ حَاكِمٌ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ أَخْطَأَ التَّأْوِيلَ , وَإِنْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ ثُمَّ رُفِعَ إلَى حَاكِمٍ آخَرَ رُدَّ إلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي الْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ هَلْ يُعْطَى أَجْرًا وَاحِدًا عَلَى اجْتِهَادِهِ وَاسْتِدْلَالِهِ أَوْ عَلَى مُجَرَّدِ قَصْدِهِ الْحُكْمَ . وَأَصْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِدْلَال صَحِيحًا وَلَا يُصِيبُ الْحَقَّ . وَمَا قَدَّمْنَاهُ يُبَيِّنُ لَك أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ مُخْطِئًا فِي اجْتِهَادِهِ وَتَارَةً لَا يَكُونُ مُخْطِئًا فِي اجْتِهَادِهِ : بَلْ دَلِيلُهُ يَكُونُ مُخْطِئًا لَا خِلَافَهُ فَيُثَابُ تَارَةً عَلَى الْأَمْرَيْنِ وَتَارَةً عَلَى أَحَدِهِمَا , كَذَلِكَ يَكُونُ الْحَقُّ سَوَاءً فَيَكُونُ تَحْقِيقُهُ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ : أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إنْ اسْتَدَلَّ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ وَكَانَ مُخَالِفًا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَتَّبِعَهُ ; وَاتِّبَاعُهُ لَهُ صَوَابٌ ; وَاعْتِقَادُ مُوجَبِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَازِمٌ مِنْ اتِّبَاعِهِ ; وَهُوَ لَمْ يُؤْمَرْ بِهَذَا اللَّازِمِ ; لَكِنَّهُ لَازِمٌ مِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ وَيَعُودُ الْأَمْرُ إلَى مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ , هَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ أَمْرًا شَرْعِيًّا أَوْ عَقْلِيًّا ; وَيَعُودُ أَيْضًا إلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِن وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ فِي الْوَاجِبِ إذَا تَعَيَّنَ وَأَمَّا مَا وَجَبَ مُطْلَقًا , وَيُنَادِي بِأَعْيَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَوْ أُبِيحَ فَالْقَوْلُ فِي إبَاحَتِهِ كَالْقَوْلِ فِي إيجَابِ هَذَا سَوَاءٌ وَفِي خِلَافِهِمَا يَدْخُلُ الْعَفْوُ , فَيُقَالُ هَذَا الَّذِي اعْتَقَدَ أَنَّهُ فَعَلَ الْوَاجِبَ أَوْ الْمُبَاحَ كِلَاهُمَا يُعْفَى عَنْهُ , وَلَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَاعِلًا لِوَاجِبٍ وَلَا لِمُبَاحٍ وَإِنَّمَا يَتَلَخَّصُ

هَذَا الْأَصْلُ الَّذِي اضْطَرَبَ فِيهِ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا , وَاضْطِرَابُهُمْ فِيهِ تَارَةً يَعُودُ إلَى إطْلَاقٍ لَفْظِيٍّ وَتَارَةً إلَى مُلَاحَظَةٍ عَقْلِيَّةٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ . وَتَارَةً يَعُودُ إلَى أَمْرٍ حَقِيقِيٍّ وَإِلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِأَنْ نَتَكَلَّمَ عَلَى مَقَامَاتِهِ مَقَامًا مَقَامًا كَلَامًا مُلَخَّصًا .
وَالْمَقَامُ الْأَوَّلُ : هَلْ لِلَّهِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ تَنْزِلُ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِمَنْزِلَةِ مَا لِلَّهِ قِبْلَةٌ مُعَيَّنَةٌ هِيَ الْكَعْبَةُ , وَهِيَ مَطْلُوبُ الْمُجْتَهِدِينَ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ . فَاَلَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ : أَنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ حُكْمًا مُعَيَّنًا إمَّا الْوُجُوبُ أَوْ التَّحْرِيمُ أَوْ الْإِبَاحَةُ مَثَلًا . أَوْ عَدَمُ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ فِيمَا قَدْ سَمَّيْنَاهُ عَفْوًا ; لَكِنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ يُسَمُّونَ هَذَا الْأَشْبَهَ وَلَا يُسَمُّونَهُ حُكْمًا , وَهُمْ يَقُولُونَ : مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ , لَكِنْ لَوْ حَكَمَ لَمَا حَكَمَ إلَّا بِهِ . فَهُوَ عِنْدَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حُكْمٌ بِالْقُوَّةِ , وَحَدَثَ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ زَعَمُوا أَنْ لَيْسَ عِنْدَ اللَّهِ حَقٌّ مُعَيَّنٌ هُوَ مَطْلُوبُ الْمُسْتَدِلِّينَ إلَّا فِيمَا فِيهِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ يَتَمَكَّنُ الْمُجْتَهِدُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ , فَأَمَّا مَا فِيهِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ , لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ أَوْ لَيْسَ فِيهِ إلَّا أَدِلَّةٌ ظَنِّيَّةٌ , فَحُكْمُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا ظَنَّهُ وَتَرَتُّبُ الْحُكْمِ

عَلَى الظَّنِّ كَتَرَتُّبِ اللَّذَّةِ عَلَى الشَّهْوَةِ , فَكَمَا أَنَّ كُلَّ عَبْدٍ يَلْتَذُّ بِدَرْكِ مَا نَشْتَهِيهِ , وَتَخْتَلِفُ اللَّذَّاتُ بِاخْتِلَافِ الشَّهَوَاتِ , كَذَلِكَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ حُكْمُهُ مَا ظَنَّهُ وَتَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِاخْتِلَافِ الظُّنُونِ , وَزَعَمُوا أَنْ لَيْسَ عَلَى الظُّنُونِ أَدِلَّةٌ كَأَدِلَّةِ الْعُلُومِ , وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ أَحْوَالُ النَّاسِ وَعَادَاتُهُمْ وَطِبَاعُهُمْ , وَهَذَا قَوْلٌ خَبِيثٌ يَكَادُ فَسَادُهُ يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ عَقْلًا وَشَرْعًا , وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَلَا تُنْزِلُهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ } , وَقَوْلُهُ لِسَعْدٍ { لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ } , وَقَوْلُ سُلَيْمَانَ اللَّهُمَّ أَسْأَلُك حُكْمًا يُوَافِقُ حُكْمَك كُلَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مَعَ كَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ عَلَى فَسَادِهِ .

الْمَقَامُ الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ نَصَبَ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ دَلِيلًا . فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْعَامَّةُ أَنَّ اللَّهَ نَصَبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ; لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِلُّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ فِي كِتَابِهِ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ , وَأَخْبَرَ أَنَّ الدِّينَ قَدْ كَمُلَ , وَلَا يَكُونُ هَذَا إلَّا بِالْأَدِلَّةِ الْمَنْصُوبَةِ لِبَيَانِ حُكْمِهِ ; وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ لَلَزِمَ أَنَّ الْأُمَّةَ تُجْمِعُ عَلَى الْخَطَإِ إنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ , أَوْ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ تَخْمِينًا وَالْقَائِلُونَ بِالْأَشْبَهِ أَوْ بَعْضُهُمْ يَقُولُونَ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ; لِأَنَّ عِنْدَهُمْ لَيْسَ يَحْكُمُ بِالْفِعْلِ حَتَّى يَجِبَ نَصْبُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ . وَقَدْ حُكِيَ هَذَا عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مُبْهَمًا وَيَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ تَخْمِينًا وَاتِّفَاقًا .

الْمَقَامُ الْخَامِسُ : أَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ هَلْ يُفِيدُ مَدْلُولُهَا لِكُلِّ مَنْ نَظَرَ فِيهَا نَظَرًا صَحِيحًا , مِنْ النَّاسِ مَنْ يُطْلِقُ ذَلِكَ فِيهَا , وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ , وَهَذَا يُوَافِقُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الظَّنِّيَّةَ لَيْسَتْ أَدِلَّةً حَقِيقَةً , وَالصَّوَابُ أَنَّ حُصُولَ الِاعْتِقَادِ بِالنَّظَرِ فِي هَذِهِ الْأَدِلَّةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعُقُولِ مِنْ ذَكَاءٍ وَصَفَاءٍ وَزَكَاةٍ وَعَدَمِ مَوَانِعَ . وَالْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَقِبَيْهَا مُرَتَّبٌ عَلَى شَيْئَيْنِ . عَلَى مَا فِيهَا مِنْ أَدِلَّةٍ , وَعَلَى مَا فِي النَّظَرِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ , وَهَذِهِ الْقُوَّةُ الْمُسْتَدِلَّةُ تَخْتَلِفُ كَمَا تَخْتَلِفُ قُوَى الْأَبْدَانِ , فَرُبَّ دَلِيلٍ إذَا نَظَرَ فِيهِ ذُو الْعَقْلِ الثَّاقِبِ أَفَادَهُ الْيَقِينَ . وَذُو الْعَقْلِ الَّذِي دُونَهُ قَدْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْهَمَهُ , فَضْلًا عَنْ أَنْ يُفِيدَهُ يَقِينًا , وَاعْتُبِرَ هَذَا بِالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ فَإِنَّ قَضَايَاهَا يَقِينِيَّةٌ , وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ فِي بَنِي آدَمَ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ فَهْمَ ذَلِكَ . فَعَدَمُ مَعْرِفَةِ مَدْلُولِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ بِأَنْ يَكُونَ لِعَجْزِ الْعَقْلِ وَقُصُورِهِ فِي نَفْسِ الْخِلْقَةِ وَتَارَةً لِعَدَمِ تَمَرُّنِهِ وَاعْتِيَادِهِ لِلنَّظَرِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَمَا أَنَّ عَجْزَ الْبَدَنِ عَنْ الْحَمْلِ قَدْ يَكُونُ لِضَعْفِ الْخِلْقَةِ , وَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ الْإِدْمَانِ وَالصَّنْعَةِ , وَتَارَةً قَدْ يُمْكِنُهُ الْإِدْرَاكُ بَعْدَ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ يَسْقُطُ مَعَهَا التَّكْلِيفُ , كَمَا يَسْقُطُ الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ عَنْ الْمَرِيضِ , وَتَارَةً يُمْكِنُهُ بَعْدَ

مَشَقَّةٍ لَا يَسْقُطُ مَعَهَا التَّكْلِيفُ , كَمَا لَا يَسْقُطُ الْجِهَادُ بِالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ وَتَارَةً يُمْكِنُ ذَلِكَ بِلَا مَشَقَّةٍ لَكِنْ تَزَاحَمَتْ عَلَى الْقَلْبِ وَاجِبَاتٌ فَلَمْ يَتَفَرَّغْ لِهَذَا أَوْ قَصُرَ زَمَانُهُ عَنْ النَّظَرِ فِي هَذَا , وَتَارَةً يَكُونُ حُصُولُ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ فِي الْقَلْبِ يَمْنَعُ مِنْ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ , وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ نَظِيرًا لَكِنَّهُ غَامِضٌ , وَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا لَكِنْ لَيْسَ بِقَاطِعٍ , وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يَقَعُ التَّفَاوُتُ بِالْفَهْمِ , فَقَدْ يَتَفَطَّنُ أَحَدُ الْمُجْتَهِدِينَ لِدَلَالَةٍ لَوْ لَحَظَهَا الْآخَرُ لَأَفَادَتْهُ الْيَقِينَ , لَكِنَّهَا لَمْ تَخْطِرْ بِبَالِهِ , فَإِذًا عَدَمُ وُصُولِ الْعِلْمِ بِالْحَقِيقَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ تَارَةً يَكُونُ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْبَلَاغِ , وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْفَهْمِ , وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ قَدْ يَكُونُ لِعَجْزٍ وَقَدْ يَكُونُ لِمَشَقَّةٍ . فَيَفُوتُ شَرْطُ الْإِدْرَاكِ , وَقَدْ يَكُونُ لِشَاغِلٍ أَوْ مَانِعٍ فَيُنَافِي الْإِدْرَاكَ , وَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبَيْنِ سَبَبٍ مُنْفَصِلٍ وَهُوَ الدَّلِيلُ وَسَبَبٍ مُتَّصِلٍ وَهُوَ الْعِلْمُ بِالدَّلِيلِ , وَالْقُوَّةُ الَّتِي بِهَا يَفْهَمُ الدَّلِيلَ , وَالنَّظَرُ الْمُوَصِّلُ إلَى الْفَهْمِ , ثُمَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ قَدْ تَحْصُلُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي أَقَلَّ مِنْ لَحْظِ الطَّرْفِ وَقَدْ يَقَعُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ الشَّيْءُ ثُمَّ يَطْلُبُ دَلِيلًا يُوَافِقُ مَا فِي قَلْبِهِ لِيَتَّبِعَهُ , وَمَبَادِئُ هَذِهِ الْعُلُومِ أُمُورٌ إلَهِيَّةٌ خَارِجَةٌ عَنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } , فَفِي هَذَا

الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ الدَّلِيلُ مَنْصُوبًا لَكِنْ لَمْ يَسْتَدْرِكْ بِهِ الْمُكَلَّفُ لِقُصُورٍ أَوْ تَقْصِيرٍ يُعْذَرُ فِيهِ لِعَجْزٍ أَوْ مَشَقَّةٍ أَوْ شُغْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ اتَّفَقَ مَنْ قَالَ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ عَلَى أَنَّ الْبَاقِينَ لَمْ يُصِيبُوا الْحَقَّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ , وَإِطْلَاقُ لَفْظِ أَخْطَأَ هُنَا أَظْهَرُ , وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ مُخْطِئٌ فِي الِاجْتِهَادِ هُنَا أَكْثَرُ . بَلْ غَالِبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِقِلَّةِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ بَعْدَ انْتِشَارِ النُّصُوصِ .

الْمَقَامُ السَّابِعُ : إذَا كَانَتْ الْحُجَّةُ الشَّرْعِيَّةُ لَا مُعَارِضَ لَهَا أَصْلًا لَكِنَّهَا مُخَلَّفَةٌ فَهَلْ يَكُونُ الْحُكْمُ بِهَا خَطَأً فِي الْبَاطِنِ , وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي أَعْيَانِ الْأَحْكَامِ لَا فِي أَنْوَاعِهَا , كَمَا لَوْ حَكَمَ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَكِنْ كَانَا مُخْطِئَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ كَالشَّاهِدَيْنِ اللَّذَيْنِ قَطَعَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السَّارِقَ بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ وَقَالَا أَخْطَأْنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُنَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ , لَا يَكُونُ هَذَا خَطَأً بِحَالٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ سَلَّمَ الْمَالَ إلَى مُسْتَحِقِّهِ فِي الْبَاطِنِ , وَلَمْ يَدْخُلْ هَذَا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ وَإِنَّمَا أُدْخِلَ فِيهِ مَنْ أَخْطَأَ الْحُكْمَ النَّوْعِيَّ . وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ : بَلْ هُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَطَإِ الْمَغْفُورِ , وَهَذَا شَبِيهٌ بِالتَّمَسُّكِ بِالْمَنْسُوخِ قَبْلَ الْبَلَاغِ أَوْ بِالدَّلَالَةِ الْمُعَارَضَةِ قَبْلَ بُلُوغِ الْمُعَارِضِ . وَفِي مِثْلِ هَذَا يَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ الْحَاكِمَ بِقَبُولِ هَذَيْنِ الْمُعَيَّنَيْنِ , وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِقَبُولِ شَهَادَةِ كُلِّ عَدْلٍ فَدَخَلَا فِي الْعُمُومِ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَرُدَّ شَهَادَةً بِاللَّفْظِ الْعَامِّ هَذَا الْمُعَيَّنِ , لَكِنَّهُ يَعْذِرُ الْحَاكِمَ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَلِيلٌ يَعْلَمُ بِهِ عَدَمَ إرَادَةِ هَذَا الْمُعَيَّنِ , فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ كَمَا تَقَدَّمَ , فَمَا مِنْ صُورَةٍ تُفْرَضُ إلَّا وَتَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ , وَهَذَا أَمْرٌ لَا بُدَّ

مِنْ اعْتِبَارِهِ , فَإِنَّ مِنْ الْأُصُولِ الْمُكَرَّرَةِ أَنَّ الْحَاكِمَ لَوْ حَكَمَ بِنَصٍّ عَامٍّ . كَانَ عَاجِزًا عَنْ دَرْكِ مُخَصِّصِهِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُخَصِّصُ بَعْدَ ذَلِكَ نُقِضَ حُكْمُهُ , وَكَذَلِكَ لَوْ فَرَضَ الْإِدْرَاكَ مُبْعَدًا , وَهَذَا { أَبُو السَّنَابِلِ أَفْتَى سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ بِأَنْ تَعْتَدَّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ لَمَّا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا اسْتِعْمَالًا لِآسَى الْمَوْتِ وَالْحَمْلِ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ } , وَلَا يُقَالُ إنَّهُ كَانَ مِمَّا لَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لِظُهُورِهِ ; لِأَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَهُمَا مِمَّنْ لَا يُشَكُّ فِي وُفُورِ فَهْمِهِمَا وَدِينِهِمَا قَدْ أَفْتَيَا بِمِثْلِ ذَلِكَ , وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَبَ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى أَخْطَأَ . فَعُلِمَ إطْلَاقُ الْخَطَإِ عَلَى مَنْ اجْتَهَدَ مُتَمَسِّكًا بِظَاهِرِ خِطَابٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ أَبُو السَّنَابِلِ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ إمَّا لِقُصُورِهِ أَوْ لِتَقْصِيرِهِ . حَيْثُ اجْتَهَدَ مَعَ قُرْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَهَذَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ بِجُمْلَةِ كَوْنِ الْمُجْتَهِدِ مَعْذُورًا إمَّا لِعَجْزِهِ عَنْ سَمَاعِ الْخِطَابِ , أَوْ عَنْ فَهْمِهِ , أَوْ مَشَقَّةِ أَحَدِ هَذَيْنِ أَوْ لِعَدَمِ تَيْسِيرِ اللَّهِ أَسْبَابَ ذَلِكَ . أَوْ لِعَارِضٍ آخَرَ لَا يَمْنَعُ أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْحَقِّ الْبَاطِنِ , وَلَا يُوجِبُ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ الَّذِي فَعَلَهُ أَوْجَبَهُ اللَّهُ بِعَيْنِهِ أَوْ أَبَاحَهُ بِعَيْنِهِ , بَلْ أَوْجَبَ أَمْرًا مُطْلَقًا أَوْ أَبَاحَ أَمْرًا مُطْلَقًا ,

وَالْمُجْتَهِدُ مَعْذُورٌ بِاعْتِقَادِ أَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ . فَإِذًا مَنْشَأُ الْخَطَإِ إدْخَالُ الْمُعَيَّنِ فِي الْمُطْلَقِ وَالْعَامِّ عَلَى وَجْهٍ قَدْ لَا يَكُونُ لِلْمُجْتَهِدِ مَنْدُوحَةٌ عَنْهُ . وَغَايَةُ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ الْإِلْزَامُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مَأْمُورٌ فِي الْبَاطِنِ بِمَا لَا يُطِيقُهُ , وَهَذَا سَهْلٌ هُنَا . فَإِنَّ الَّذِي يَقُولُ إنَّهُ لَا يَأْمُرُ اللَّهُ الْعَبْدَ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ إذَا شَاءَهُ وَأَمَّا أَمْرُهُ بِمَا لَا يَشَاءَهُ , إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ , فَهَذَا حَقٌّ , وَإِذَا كَانَ أَمَرَهُ بِمَا مَشِيئَتُهُ مُعَلَّقَةٌ بِمَشِيئَةِ غَيْرِهِ . فَكَذَلِكَ يَأْمُرُهُ بِمَا مَعْرِفَتُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِسَبَبٍ مِنْ غَيْرِهِ , إذْ الْعِلْمُ وَاقِعٌ فِي الْقَلْبِ قَبْلَ الْإِرَادَةِ , ثُمَّ مِنْ هَذِهِ الْمَعَارِفِ مَا يُعْذَرُ فِيهَا الْمُخْطِئُ , وَمِنْهَا مَا لَا يُعْذَرُ , وَهَذَا فَصْلٌ مُعْتَرِضٌ اقْتَضَاهُ الْكَلَامُ لِتَعَلُّقِ أَبْوَابِ الْخَطَإِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ . إذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأُصُولُ فَهَذَا الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَنْكِحُ مَفْعُولُهُ عَمَّا فَعَلَهُ مِنْ وَطْءٍ وَانْتِفَاعٍ , وَهَذَا الْوَطْءُ وَالِانْتِفَاعُ عَفْوٌ فِي حَقِّهِ , لَا حَلَالٌ حِلًّا شَرْعِيًّا وَلَا حَرَامٌ تَحْرِيمًا شَرْعِيًّا , وَهَكَذَا كُلُّ مُخْطِئٍ , وَلَكِنْ هُوَ فِي عَدَمِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ يَجْرِي مَجْرَى الْمُبَاحِ الشَّرْعِيِّ , وَإِنْ كَانَ يَخْتَلِفُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَيَخْتَلِفَانِ أَيْضًا فِي أَنَّ رَفْعَ أَحَدِهِمَا نَسْخٌ لَهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِمَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسْخُ وَرَفْعُ الْآخَرِ ابْتِدَاءً تَحْرِيمٌ أَوْ إيجَابٌ ثَبَتَ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ الْأَحْكَامُ الْمُبْتَدَأَةُ ,

وَأَنْ يَضْمَنَ رَفْعَ الِاسْتِصْحَابِ الْعَقْلِيِّ , وَهَذَا حَرَّمْنَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ . كَمَا عَهِدَهُ إلَيْنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا نَسْخًا لِقَوْلِهِ : { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا } الْآيَةَ إذْ هَذِهِ نَفَتْ تَحْرِيمَ مَا سِوَى الْمُسْتَثْنَى وَلَمْ تُثْبِتْ حِلَّ مَا سِوَى الْمُسْتَثْنَى , وَبَيْنَ نَفْيِ التَّحْرِيمِ وَإِثْبَاتِ الْحِلِّ مَرْتَبَةُ الْعَفْوِ وَرَفْعُ الْعَفْوِ لَيْسَ بِنَسْخٍ , وَلِهَذَا قَالَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } وَالْمَائِدَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ الْأَنْعَامِ بِسِنِينَ , فَلَوْ كَانَتْ آيَةُ الْأَنْعَامِ تَضَمَّنَتْ مَا سِوَى الْمُسْتَثْنَى مَا قَيَّدَ الْحِلَّ بِقَوْلِهِ { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } . وَمَنْ فَهِمَ هَذَا اسْتَرَاحَ مِنْ اضْطِرَابِ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ , مِثْلُ كَوْنِ آيَةِ الْأَنْعَامِ وَارِدَةً عَلَى سَبَبٍ فَتَكُونُ مُخْتَصَّةً بِهِ أَوْ مُعَرَّضَةً لِلتَّخْصِيصِ , وَمِثْلُ كَوْنِهَا مَنْسُوخَةً نَسْخًا شَرْعِيًّا بِالْأَحَادِيثِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ أَوْ الصَّحِيحِ مُطْلَقًا , وَلَقَدْ نَزَلَ هُنَا مُسْتَدِلًّا وَمُسْتَشْكِلًا , وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا . وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى غَيْرِ مَحَلٍّ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَنْكِحُ بَاطِلًا بَاطِنًا غَيْرَ مُقَيِّدٍ لِلْحِلِّ بَاطِلًا , وَأَنَّ الِانْتِفَاعَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِهِ لَيْسَ هُوَ حَلَالًا فِي الْحَقِيقَةِ , وَإِنَّمَا هُوَ عَفَا اللَّهِ

عَنْهُ , فَمَا دَامَ مُسْتَصْحِبًا لِعَدَمِ الْعِلْمِ , فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْت , فَإِنْ عَلِمَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَحُكْمُهُ مَعْرُوفٌ إنْ كَانَ نِكَاحًا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ , وَالْوَطْءُ فِيهِ مُوجِبٌ لِلْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ وَالنَّسَبِ وَإِدْرَاءِ الْحَدِّ , وَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ إرْثٌ وَلَا جَوَازُ اسْتِدَامَةٍ وَهَلْ تَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ , وَيَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ أَوْ تَجِبُ فِيهِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَيُوجِبُ الْإِحْدَادَ - فِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ . عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ , وَأَمَّا فِي الْبَيْعِ فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ .

إذَا عُرِفَ هَذَا فَمَسْأَلَةُ التَّحْلِيلِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ فَإِنَّ قَصْدَ التَّحْلِيلِ إنَّمَا حُرِّمَ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِحَيْثُ لَوْ عَلِمَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ وَلِيُّهَا بِقَصْدِ التَّحْلِيلِ لَمْ تَجُزْ مُنَاكَحَةٌ بِخِلَافِ الْمُعَيَّنَةِ وَالْمَعِيبِ , فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ ظَهَرَ لَجَازَ الْعَقْدُ مَعَهُ , لَكِنَّ الْخَلَلَ هُنَا لَمْ يَقَعْ فِي أَهْلِيَّةِ الْعَاقِدِ , وَلَا فِي مَحَلِّيَّةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ الَّذِي يَعْلَمُ أَحَدُهُمَا بِإِفْسَادِهِ لِلْعَقْدِ دُونَ الْآخَرِ , نَعَمْ الْجَهْلُ هُنَاكَ هُوَ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ النَّوْعِيِّ , وَالْجَهْلُ هُنَا هُوَ بِوَصْفِ الْعَقْدِ الْمُعَيَّنِ , وَهَذَا الْوَصْفُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ عِلْمِهِ بِصِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , وَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ هُنَا , وَإِنْ كَانَ قَدْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ , كَرِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ لَا تَعْلَمَ الْمُعْتَقَةُ قَدْ أُعْتِقَتْ وَبَيْنَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا قَدْ أُعْتِقَتْ , وَلَا تَعْلَمَ أَنَّ لِلْمُعْتَقَةِ الْخِيَارَ وَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ . فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ كَمَا وَصَفْته لَك , وَالْوَطْءُ وَالِاسْتِمْتَاعُ حَرَامٌ عَلَى الزَّوْجِ فِي مِثْلِ هَذَا وِفَاقًا وَهَلْ هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْبَاطِنِ أَوْ لَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَى قَوْلَيْنِ أَرْجَحُهُمَا الْأَوَّلُ , وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ لَا يَعُودُ إلَى أَمْرٍ عَمَلِيٍّ , وَفَعَلَهَا فِي الظَّاهِرِ هَلْ هُوَ حَلَالٌ أَوْ عَفْوٌ عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا

. أَرْجَحُهُمَا الثَّانِي , فَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُؤَاخَذُ وَأَشْبَهُ شَيْءٍ بِهَذَا الْخَلَلِ الْحَاصِلِ فِي الْعَقْدِ , مَا لَوْ كَانَ الْخَلَلُ حَاصِلًا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ . كَمَا لَوْ أَحْرَمَ الرَّجُلُ وَتَزَوَّجَتْ بِهِ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ إحْرَامَهُ , بِأَنْ يَعْقِدَ الْعَقْدَ وَكِيلُهُ فِي غَيْبَتِهِ , أَوْ تَتَزَوَّجَهُ وَيَكُونُ تَحْتَهُ أَرْبَعٌ أَوْ تَحْتَهُ أُخْتُهَا أَوْ خَالَتُهَا أَوْ عَمَّتُهَا وَهِيَ لَا تَعْلَمُ ; أَوْ تَتَزَوَّجُهُ وَهُوَ مُرْتَدٌّ أَوْ مُنَافِقٌ , لَا تَعْلَمُ دِينَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ , الَّتِي يَكُونُ مُحَرَّمًا عَلَيْهَا بِصِفَةٍ عَارِضَةٍ فِيهِ , لَا تَعْلَمُ بِهَا . ثُمَّ قَدْ تَزُولُ تِلْكَ الصِّفَةُ ; وَقَدْ لَا تَزُولُ , وَأَنْ يُشَارِطُوا لَهَا فِي الْعَقْدِ شَرْطًا مُبْطِلًا لَهُ , وَهِيَ لَا تَعْلَمُ كَتَوْقِيتِ النِّكَاحِ وَنَحْوِهِ , لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ مُجْبَرَةً إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْغُرُورُ مِنْ الزَّوْجِ فَقَطْ أَوْ مِنْهُ وَمِنْ الْوَلِيِّ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْغَرَرُ لَهَا وَحْدَهَا أَوْ لَهَا وَلِلْوَلِيِّ , إذْ الضَّرَرُ الْحَاصِلُ عَلَيْهَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ أَكْثَرُ مِنْ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ عَلَى الْوَلِيِّ . وَإِذَا تَأَمَّلْت حَقِيقَةَ التَّأَمُّلِ وَجَدْت الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِأَنْ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمَغْرُورِ أَلْبَتَّةَ . فَإِنَّهَا لَا تَأْثَمُ بِمَا فَعَلَتْهُ وَيَحِلُّ لَهَا مَا انْتَفَعَتْ بِهِ مِنْ نَفَقَةٍ , وَتَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ لَا سِيَّمَا إذَا أَوْجَبَا الْمُسَمَّى , كَظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ الْمُوَافِقِ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ , وَكَمَا وَرَدَ بِهِ حَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى , عَنْ عُرْوَةَ

عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا : { فَلَهَا مَا أَعْطَاهَا بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا } فِي قِصَّةِ الْمُزَوَّجَةِ بِلَا وَلِيٍّ , وَكَمَا قَضَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا عَدَمُ الْعِلْمِ بِقَصْدِهِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِ الْمَغْرُورَةِ مَا دَامَتْ غَيْرَ عَالِمَةٍ , وَأَيُّ وَقْتٍ عَلِمَتْ كَانَ عِلْمُهَا بِمَنْزِلَةِ تَطْلِيقٍ مُوجِبٍ لِمُفَارَقَتِهِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ فُرْقَتَهُ قَدْ تَحْصُلُ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ , نَعَمْ لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ الَّتِي مَا تَزَوَّجَتْ بَلْ بِمَنْزِلَةِ الَّتِي مَاتَ زَوْجُهَا أَوْ الَّتِي طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ تَخَافَ عَلَيْهِ الْمَوْتَ . فَمَا مِنْ ضَرَرٍ يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا وَمِثْلُهُ ثَابِتٌ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ , وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعَدُّ ضَرَرًا , وَإِنْ عُدَّ فَهُوَ مِمَّا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُ الْحَاكِمِينَ , وَلَيْسَ هُوَ بِمَحْذُورٍ يَخَافُ وُقُوعَهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ , وَإِذَا اسْتَبَانَ هَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إنَّمَا نَحْكُمُ بِفَسَادِ الْعَقْدِ , إذَا كَانَ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَإِنَّهُ يُقَالُ أَتُرِيدُ بِهِ التَّحْرِيمَ , وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ فَقَطْ أَوْ التَّحْرِيمَ الظَّاهِرَ إنْ أَرَدْت بِهِ الْأَوَّلَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا هُوَ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ , بَلْ هُوَ ثَابِتٌ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا , لَكِنْ انْتَفَى حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ لِفَوَاتِ الْمَشْرُوطِ . فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ عَلِمَتْ بِهَذَا الْقَصْدِ لَحَرُمَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا , وَهَذَا هُوَ التَّحْرِيمُ الْبَاطِنُ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ فَسَدَ الْعَقْدُ فِي الْبَاطِنِ لِوُجُودِ التَّحْرِيمِ فِي

الْبَاطِنِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ , وَفَسَدَ فِي الظَّاهِرِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ لِوُجُودِ التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ ظَاهِرًا , فَتَرَتَّبَ عَلَى كُلِّ تَحْرِيمٍ مِنْ الْفَسَادِ مَا يُنَاسِبُهُ فِي مَحَلِّهِ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَإِنْ أَرَدْت بِهِ التَّحْرِيمَ الظَّاهِرَ أَوْ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ , مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا هُوَ الشَّرْطُ فِي الْفَسَادِ , بَلْ قَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يُشْتَرَطُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْفَسَادِ فِي صُوَرِ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا بِالْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ , وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ لَا يَأْثَمُ وَلَوْ سُلِّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ صَحِيحٌ ; فَيُقَالُ لَهُ هَلْ هُوَ صَحِيحٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَوْ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ فَقَطْ . أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَمْنُوعٌ وَكَذَلِكَ إنْ قَاسَهُ عَلَى صُورَةِ الْمُصَرَّاةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ انْتِفَاعَ الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فِي صُورَةِ التَّصْرِيَةِ وَالتَّدْلِيسِ حَلَالٌ , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ مِلْكُ الْبَائِعِ الْعِوَضَ , إذَا كَانَ ظَالِمًا كَمَا نَقُولُهُ نَحْنُ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَيْلُولَةِ , إذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِلْكِهِ فَإِنَّ الْمَظْلُومَ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْبَدَلِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ حَلَالًا , وَالْغَاصِبُ الظَّالِمُ لَا يَمْلِكُ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ , وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا وَنَظَائِرُهَا كَثِيرَةٌ وَإِذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّة الْعَقْدِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ النِّكَاحَ الْمُبِيحَ لِعَوْدِهَا إلَى الْأَوَّلِ هُوَ مَا كَانَ صَحِيحًا مِنْ أَحَدِ

الطَّرَفَيْنِ دُونِ الْآخَر , لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْمَنْعُ أَنَّهُ لَوْ نَكَحَ مَعِيبَةً مُدَلِّسَةً لِلْعَيْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ حَتَّى طَلَّقَهَا , أَوْ نَكَحَ الْمَعِيبُ صَحِيحَةً مُدَلِّسًا لِعَيْبٍ وَلَمْ تَعْلَمْ بِعَيْبِهِ حَتَّى طَلَّقَهَا أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا بِهَذَا النِّكَاحِ , وَفِيهِ نَظَرٌ وَقَدْ يُقَالُ : هَذَا قَوِيٌّ عَلَى أَصْلِنَا . فَإِنَّا نَقُولُ لَوْ وَطِئَهَا وَطْئًا مُحَرَّمًا بِحَيْضٍ أَوْ إحْرَامٍ أَوْ صِيَامٍ لَمْ يُبِحْهَا لِلْأَوَّلِ فِي الْمَنْصُوصِ مِنْ الْمَذْهَبِ , فَإِذَا اعْتَبَرْنَا حِلَّ الْوَطْءِ فَهَذِهِ الْعَادَةُ لَا يَحِلُّ لَهَا الِاسْتِمْتَاعُ لَكِنْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ بِأَنَّ التَّحْرِيمَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَطْءِ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الْعَقْدُ مُحَرَّمًا لِحَقِّ اللَّهِ , وَفِي مَسْأَلَةِ تَدْلِيسِ الْعَيْبِ التَّحْرِيمُ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ , فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَطِئَهَا فِي حَالَةِ مَرَضٍ شَدِيدٍ , وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْجَوَابُ فَيَكْفِي الْجَوَابُ الْأَوَّلُ . وَأَمَّا إذَا بَاعَ سِلْعَةً لِمَنْ نِيَّتُهُ أَنْ يُعْصَى بِهَا , وَالْبَائِعُ لَا يَعْلَمُ النِّيَّةَ فَمَا دَامَ عَدَمُ هَذَا الْعِلْمِ مُسْتَصْحَبًا فَلَا إشْكَالَ , وَإِذَا عَلِمَ الْبَائِعُ بَعْدَ الْعَقْدِ بِقَصْدِ الْمُشْتَرِي فَمَنْ الَّذِي سَلَّمَ أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ اسْتِرْجَاعُ الْمَبِيعِ وَرَدُّ الثَّمَنِ , لَوْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْقَصْدَ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ , وَلَوْ سَلِمَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ أَوْ سَلِمَ أَنَّ نِيَّةَ الْمُشْتَرِي إذَا تَغَيَّرَتْ لَمْ تَحْتَجْ إلَى اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ , فَالْفَرْقُ مَا

سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى , مَعَ أَنَّ هَذَا الْقَصْدَ لَمْ يُنَافِ نَفْسَ الْعَقْدِ .
فَإِنَّ قَصْدَ التَّحْلِيلِ قَصْدٌ لِرَفْعِ الْعَقْدِ وَذَلِكَ مُنَافٍ لَهُ , وَهُنَا الْقَصْدُ قَصْدُ الِانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ , وَهَذَا الْقَصْدُ مُسْتَلْزِمٌ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ لَا لِفَسْخِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِنِيَّةِ يَأْتِيهَا فِي الْمَحَلِّ الْمَكْرُوهِ , لَكِنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَفْعَلَ فِي مِلْكِهِ مُحَرَّمًا , فَالْبَائِعُ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِالْبَيْعِ , أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ فَالْبَائِعُ بَائِعٌ غَيْرَهُ بَيْعًا ثَابِتًا , وَذَلِكَ الْغَيْرُ اشْتَرَى شِرَاءً ثَابِتًا وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُعِينَ غَيْرَهُ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُهُ مَعْصِيَةً , وَقَصْدُهُ لَمْ يُنَافِ الْعَقْدَ وَلَا مُوجَبَهُ , وَإِنَّمَا كَانَ حَرَامًا تَحْرِيمًا لَا يَخْتَصُّ بِالْعَقْدِ , فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ بِمَا قَدْ مَلَكَهُ قَبْلَ ذَلِكَ , لَوَجَبَ مَنْعُهُ عَنْ ذَلِكَ وَحَرُمَتْ إعَانَتُهُ . فَالْبَائِعُ إذَا عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِنِيَّتِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُفَّهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا . وَفِي الْجُمْلَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نَظَرٌ فَيُجَابُ عَنْهَا بِالْجَوَابِ الْمُرَكَّبِ , وَهُوَ إنْ كَانَتْ مِثْلَ مَسْأَلَتِنَا الْتَزَمْنَا التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِثْلَهَا لَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا , وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَوَّغَ الْإِمْسَاكَ بِمِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ , فَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ حَدِيثَ عُمَرَ

وَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ عُمَرُ قَالَ هَذَا , فَلَنْ يَقْتَضِيَ كَوْنَ مُعَقَّدٍ يَصِحُّ إذَا زَالَتْ النِّيَّةُ الْفَاسِدَةُ ; لِأَنَّهُ إنْ كَانَ صَحِيحًا مَعَ وُجُودِهَا كَمَا قَدْ ذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ الْمُلْحَقَ بِالْعَقْدِ إذَا حُذِفَ بَعْدَهُ صَحَّ الْعَقْدُ , وَهَذَا مِمَّا يُسَوَّغُ فِيهِ الْخِلَافُ , وَقَدْ ذَهَبَ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَى مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ .

وَأَمَّا صِحَّةُ عَقْدِ الْمُحَلِّلِ بِكُلِّ حَالٍ فَلَمْ يُنْقَلْ لَا عَنْ عُمَرَ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ سَمَّاهُ مُحَلِّلًا وَالْمُحَلِّلُ هُنَا الَّذِي يَجْعَلُ الشَّيْءَ حَلَالًا كَمَا فِي نَظَائِرِهِ مِثْلُ مُحَسِّنٍ وَمُقَبِّحٍ وَمُعَلِّمٍ وَمُذَكِّرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ , فَيَكُونُ مُحَلِّلًا مَلْعُونًا وَالْآخَرُ مُحَلَّلًا لَهُ مَلْعُونًا . قُلْنَا : هَذَا سُؤَالٌ لَا يَحِلُّ إيرَادُهُ , أَتَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَلْعَنُ مَنْ جَاءَ إلَى شَيْءٍ مُحَرَّمٍ فَصَارَ بِفِعْلِهِ حَلَالًا عِنْدَ اللَّهِ } كَلًّا وَلَمَّا , كَيْفَ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ } , { وَمَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إثْمًا , فَإِنْ كَانَ إثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ } , فَإِنَّ هَذَا بِمَنْ يَحْمَدُهُ وَيَدْعُو لَهُ أَوْلَى مِنْهُ بِمَنْ يَلْعَنُهُ وَيَذُمُّهُ . ثُمَّ هُوَ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بِالْمُحَلِّلِ مَنْ جَعَلَ الشَّيْءَ حَلَالًا فِي الْحَقِيقَةِ لَكَانَ كُلُّ مَنْ نَكَحَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا مُحَلِّلًا وَلَمَا كَانَ مَلْعُونًا وَهَذَا بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ الثَّانِي : أَنَّ فِعْلَهُ إذَا كَانَ مُحَرَّمًا لِأَجْلِ اللَّعْنَةِ عَلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ فَاسِدٌ , وَامْتَنَعَ أَنْ يَصِيرَ الْفَرْجُ الْمُحَرَّمُ حَلَالًا بِالنِّكَاحِ الْمُحَرَّمِ , فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا

عَلَى أَنَّهَا لَا تُبَاحُ إلَّا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ إلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ تُبَاحُ بِنِكَاحٍ يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا فِي الشَّرْعِ , وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا فِي الشَّرْعِ ; لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَطْلَقَ النِّكَاحَ فِي الْقُرْآنِ , وَالنِّكَاحُ الْمُطْلَقُ هُوَ الصَّحِيحُ , وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ , وَأَجْمَعُوا فِيمَا نَعْلَمُ عَلَى أَنَّ الْأَنْكِحَةَ الْمُحَرَّمَةَ فَاسِدَةٌ , وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ عَلِمْنَاهُ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ أَوْ غَيْرَهُ حَرَامٌ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ صَحِيحٌ , وَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُحَرَّمَةِ , هَلْ تَكُونُ صَحِيحَةً , وَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ التَّحْرِيمَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ , وَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْفُرُوجَ مَحْظُورَةٌ قَبْلَ الْعَقْدِ , فَلَا تُبَاحُ إلَّا بِمَا أَبَاحَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ النِّكَاحِ أَوْ الْمِلْكِ , كَمَا أَنَّ اللُّحُومَ قَبْلَ التَّذْكِيَةِ حَرَامٌ فَلَا تُبَاحُ إلَّا بِمَا أَبَاحَهُ اللَّهُ مِنْ التَّذْكِيَةِ , وَهَذَا بَيِّنٌ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ لَعَنَ الْمُحَلَّلَ لَهُ وَهُوَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ فِعْلٌ , فَلَوْ كَانَتْ قَدْ حَلَّتْ لَهُ وَقَدْ نَكَحَ امْرَأَةً حَلَالًا لَهُ لَمْ يَجُزْ لَعْنُهُ عَلَى ذَلِكَ . الرَّابِعُ : إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْلِيلَ حَرَامٌ بَلْ مِنْ الْكَبَائِرِ وَجَعْلُ الْحَرَامِ حَلَالًا إذَا صَارَ حَلَالًا عِنْدَ اللَّهِ لَيْسَ بِحَرَامٍ , وَهُوَ حَسَنٌ مُسْتَحَبٌّ . الْخَامِسُ : أَنَّ الْحَدِيثَ نَصَّ فِي أَنَّ فِعْلَ الْمُحَلِّلَ حَرَامٌ وَعَوْدُهَا

لِلْمُحَلَّلِ لَهُ بِهَذَا السَّبَبِ حَرَامٌ , فَيَجِبُ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ وَالْكَفُّ عَنْهُ , وَيَكُونُ مَنْ أَذِنَ فِيهِ أَوْ فَعَلَهُ عَاصِيًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ , وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي هُنَا , فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ حِلَّهَا بِهَذَا التَّحْلِيلِ لَا يَرَى وَاحِدًا مِنْ الْأَمْرَيْنِ حَرَامًا بَلْ يُبِيحُ نَفْسَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَيَسْتَحِلُّ ذَلِكَ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ وَجَعْلُهُ مُحَلِّلًا , فَلِأَنَّهُ قَصَدَ التَّحْلِيلَ وَنَوَاهُ وَلَمْ يَقْصِدْ حَقِيقَةَ النِّكَاحِ , مَعَ أَنَّ الْحِلَّ لَا يَحْصُلُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ , وَلِأَنَّهُ حَلَّلَ الْحَرَامَ أَيْ جَعَلَهُ يُسْتَحَلُّ كَمَا يُسْتَحَلُّ الْحَلَالُ , وَمَنْ أَبَاحَ الْمُحَرَّمَاتِ وَحَلَّلَهَا بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ يُقَالُ مُحَلِّلٌ لِلْحَرَامِ , وَذَلِكَ ; لِأَنَّ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ إلَى اللَّهِ , وَإِنَّمَا يُضَافُ عَلَى وَجْهِ الْحَمْدِ إلَى مَنْ فَعَلَ سَبَبًا يَجْعَلُ الشَّارِعُ الشَّيْءَ بِهِ حَلَالًا أَوْ مُحَرَّمًا . لَكِنْ لَمَّا كَانَ التَّحْرِيمُ جَعْلَ الشَّيْءِ مُحَرَّمًا أَيْ مَحْظُورًا , وَالتَّحْلِيلُ جَعْلُهُ مُحَلَّلًا أَيْ مُطْلَقًا , كَانَ كُلُّ مَنْ أَطْلَقَ الشَّيْءَ وَأَبَاحَهُ بِحَيْثُ يُطَاعُ فِي ذَلِكَ يُسَمَّى مُحَلِّلًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ } لَمَّا أَطْلَقُوهُ لِمَنْ أَطَاعَهُمْ تَارَةً وَحَظَرُوهُ عَلَيْهِ أُخْرَى كَانُوا مُحِلِّينَ مُجْرِمِينَ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { يَا

أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك } لَمَّا مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ الْأَمَةِ أَوْ الْعَسَلِ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ أَوْ بِالْحَرَامِ صَارَ ذَلِكَ تَحْرِيمًا , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا } وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { وَقَالُوا : مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْ رَبِّهِ : { إنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَهُمْ الشَّيَاطِينُ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } قَالَ : { أَمَا إنَّهُمْ مَا عَبَدُوهُمْ وَلَكِنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ } . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَرْكَبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ } , وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } يُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ وَيَحِلُّونَ حَلَالَهُ } , وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ فَلَمَّا كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَصَدَ أَنْ يُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ , وَقَدْ يَجْعَلُهَا فِي ظَنِّ مَنْ أَطَاعَهُ حَلَالًا وَهِيَ حَرَامٌ يُسَمَّى مُحَلِّلًا ; لِذَلِكَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ لَعْنَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُحَلِّلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحِلَّ إذَا ثَبَتَ لَمْ يُطْلَقْ عَلَى صَاحِبِهِ مُحَلِّلٌ , وَإِلَّا فَيَكُونُ كُلُّ نَاكِحٍ لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19