كتاب : إقامة الدليل على إبطال التحليل
تأليف : شيخ الإسلام ابن تيمية

تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } وَقَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } إلَى قَوْلِهِ { فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ } , وَلِمُسْلِمٍ { وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا , وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ ; وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ; وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . وَلَكِنْ إنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ ; إذْ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ كَمَا صَحَّتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لَكِنْ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ " فُسَّاقِ أَهْلَ الْقِبْلَةِ " مِنْ أَهْلِ السَّرِقَةِ , وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ , وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَأَكْلِ الرِّبَا وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ ; وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ , فَإِنَّهُمْ إذَا عُذِّبُوا فِيهَا عَذَّبَهُمْ عَلَى قَدْرِ

ذُنُوبِهِمْ , كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ { مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إلَى كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إلَى رُكْبَتَيْهِ , وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إلَى حَقْوَيْهِ } وَمَكَثُوا فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثُوا أُخْرِجُوا بَعْدَ ذَلِكَ كَالْحِمَمِ ; فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ الْحَيَاةُ فَيَنْبُتُونَ فِيهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ , وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مَكْتُوبٌ عَلَى رِقَابِهِمْ , هَؤُلَاءِ الْجَهَنَّمِيُّونَ عُتَقَاءُ اللَّهِ مِنْ النَّارِ " وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

761 - 761 - 115 - سُئِلَ : عَنْ رَجُلٍ حَبَسَ خَصْمًا لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِحُكْمِ الشَّرْعِ , فَحَضَرَ إلَيْهِ رَجُلٌ يَشْفَعُ فِيهِ فَلَمْ يَقْبَلْ شَفَاعَتَهُ , فَتَخَاصَمَا بِسَبَبِ ذَلِكَ , فَشَهِدَ الشَّافِعُ عَلَى الرَّجُلِ لِأَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ كَلَامٌ يَقْتَضِي الْكُفْرَ , خَافَ الرَّجُلُ غَائِلَةً ذَلِكَ , فَأُحْضِرَ إلَى حَاكِمٍ شَافِعِيٍّ , وَادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُ تَلَفَّظَ بِمَا قِيلَ عَنْهُ , وَسَأَلَ حُكْمَ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ . فَقَالَ الْحَاكِمُ لِلْخَصْمِ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَعْتَرِفْ , فَلُقِّنَ أَنْ يَعْتَرِفَ لِيَتِمَّ لَهُ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ إسْلَامِهِ وَحَقْنِ دَمِهِ فَاعْتَرَفَ بِأَنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْهُ جَاهِلًا بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ , ثُمَّ أَسْلَمَ , وَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ , وَتَابَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى , ثُمَّ سَأَلَ الْحَاكِمَ الْمَذْكُورَ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِإِسْلَامِهِ وَحَقْنِ دَمِهِ وَتَوْبَتِهِ وَبَقَاءِ مَالِهِ عَلَيْهِ , فَأَجَابَهُ إلَى سُؤَالِهِ , وَحَكَمَ بِإِسْلَامِهِ , وَحَقْنِ دَمِهِ , وَبَقَاءِ مَالِهِ عَلَيْهِ , وَقَبُولِ تَوْبَتِهِ وَعَزَّرَهُ تَعْزِيرَ مِثْلِهِ وَحَكَمَ بِسُقُوطِ تَعْزِيرٍ ثَانٍ عَنْهُ , وَقَضَى بِمُوجِبِ ذَلِكَ كُلِّهِ . ثُمَّ نَفَّذَ ذَلِكَ حَاكِمٌ آخَرُ حَنَفِيٌّ : فَهَلْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ صَحِيحٌ فِي جَمِيعِ مَا حُكِمَ لَهُ بِهِ , أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَفْتَقِرُ حُكْمُ الشَّافِعِيِّ إلَى حُضُورِ خَصْمٍ مِنْ جِهَةِ بَيْتِ الْمَالِ ; أَمْ لَا ؟ وَهَلْ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ بِمَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ أَخْذِ مَالِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ , أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَحِلُّ لِحَاكِمٍ آخَرَ بَعْدَ الْحُكْمِ وَالتَّنْفِيذِ الْمَذْكُورَيْنِ أَنْ

يَحْكُمَ فِي مَالِهِ بِخِلَافِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ وَتَنْفِيذِهِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ ثِيَابُ وَلِيِّ الْأَمْرِ عَلَى مَنْعِ مَنْ يَتَعَرَّضُ إلَيْهِ بِأَخْذِ مَالِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ بِمَا ذُكِرَ , أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . نَعَمْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ صَحِيحٌ , وَكَذَلِكَ تَنْفِيذُهُ وَلَيْسَ لِبَيْتِ الْمَالِ فِي مَالِ مِثْلِ هَذَا حَقٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ; وَلَا يَفْتَقِرُ الْحُكْمُ بِإِسْلَامِهِ وَعِصْمَةِ مَالِهِ إلَى حُضُورِ خَصْمٍ مِنْ جِهَةِ بَيْتِ الْمَالِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحُكْمِ ; إذْ الْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا أَسْلَمَ عُصِمَ بِإِسْلَامِهِ دَمُهُ وَمَالُهُ وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِذَلِكَ حَاكِمٌ ; وَلَا كَلَامَ لِوَلِيِّ بَيْتِ الْمَالِ فِي مَالِ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ رِدَّتِهِ ; بَلْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ أَيْضًا فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ مَنْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالرِّدَّةِ فَأَنْكَرَ وَتَشَهَّدَ الشَّهَادَتَيْنِ الْمُعْتَبَرَتَيْنِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ , وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يُقِرَّ بِمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ , فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ عَدْلٌ ؟ فَإِنَّهُ مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَفْتَقِرُ الْحُكْمُ بِعِصْمَةِ دَمِهِ وَمَالِهِ إلَى إقْرَارِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ : وَلَا يَحْتَاجُ عِصْمَةَ دَمٍ مِثْلُ هَذَا إلَى أَنْ يُقِرَّ ثُمَّ يُسْلِمَ بَعْدَ إخْرَاجِهِ إلَى ذَلِكَ , فَقَدْ يَكُونُ فِيهِ إلْزَامٌ لَهُ بِالْكَذِبِ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ كَفَرَ ; وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُبْنَى عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِقْرَارِ حُكْمُ الْإِقْرَارِ الصَّحِيحِ ; فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لُقِّنَ الْإِقْرَارَ , وَأَنَّهُ مُكْرَهٌ

عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى فَإِنَّهُ إنَّمَا فَعَلَهُ خَوْفَ الْقَتْلِ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ كُفْرَ الْمُرْتَدِّ كُفْرُ سَبٍّ فَلَيْسَ فِي الْحُكَّامِ بِمَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مَنْ يَحْكُمُ بِأَنَّ مَالَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ بَعْدَ إسْلَامِهِ ; إنَّمَا يَحْكُمُ مَنْ يَحْكُمُ بِقَتْلِهِ لِكَوْنِهِ يُقْتَلُ حَدًّا عِنْدَهُمْ عَلَى الْمَشْهُورِ . وَمَنْ قَالَ : يُقْتَلُ لِزَنْدَقَتِهِ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِمِثْلِ هَذَا الْإِقْرَارِ . وَأَيْضًا فَمَالُ الزِّنْدِيقِ عِنْدَ أَكْثَرِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا إذَا مَاتُوا وَرِثَهُمْ الْمُسْلِمُونَ مَعَ الْجَزْمِ بِنِفَاقِهِمْ ; كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ وَرِثَهُمْ وَرَثَتُهُمْ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ بِنِفَاقِهِمْ , وَلَمْ يَتَوَارَثْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ غَيْرَ مِيرَاثِ مُنَافِقٍ . وَالْمُنَافِقُ هُوَ الزِّنْدِيقُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ . وَأَيْضًا فَحُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا نُفِّذَ فِي دَمِهِ الَّذِي قَدْ يَكُونُ فِيهِ نِزَاعٌ نُفِّذَ فِي مَالِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ; إذْ لَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يَقُولُ : يُؤْخَذُ مَالُهُ وَلَا يُبَاحُ دَمُهُ , فَلَوْ قِيلَ بِهَذَا كَانَ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ ; فَإِذَا لَمْ يَتَوَقَّفْ الْحُكْمُ بِعِصْمَةِ دَمِهِ عَلَى دَعْوَى مِنْ جِهَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ فَمَالُهُ أَوْلَى . وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ بِمَالٍ مِثْلِ هَذَا لِبَيْتِ الْمَالِ غَيْرُ مُمْكِنٍ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ مَا يُبِيحُ دَمَهُ : لَا

بِبَيِّنَةٍ . وَلَا بِإِقْرَارٍ مُتَعَيِّنٍ ; وَلَكِنْ بِإِقْرَارٍ قَصَدَ بِهِ عِصْمَةَ مَالِهِ وَدَمِهِ مِنْ جِنْسِ الدَّعْوَى عَلَى الْخَصْمِ الْمُسَخِّرِ . الثَّانِي : أَنَّ الْحُكْمَ بِعِصْمَةِ دَمِهِ وَمَالِهِ وَاجِبٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ ; بَلْ هُوَ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ . الثَّالِثُ : أَنَّ الْحُكْمَ صَحِيحٌ بِلَا رَيْبٍ . الرَّابِعُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُكْمَ مُجْتَهِدٍ فِيهِ لَزَالَ ذَلِكَ بِتَنْفِيذِ الْمُنَفِّذِ لَهُ . الْخَامِسُ : أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحُكَّامِ مِنْ الْحُكْمِ بِمَالِ هَذَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ ثُمَّ الْإِسْلَامُ ; وَلَوْ كَانَ الْكُفْرُ سَبَبًا ; فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ ؟ , أَمْ كَيْفَ إذَا حُكِمَ بِعِصْمَةِ مَالِهِ ؟ , بَلْ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ الَّذِي يَسْتَنِدُ إلَيْهَا فِي مِثْلِ هَذِهِ مِنْ أَبْعَدِ الْمَذَاهِبِ عَنْ الْحُكْمِ بِمَالِ مِثْلِ هَذَا لِبَيْتِ الْمَالِ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِقْرَارَ عِنْدَهُمْ قَرَارُ تَلْجِئَةٍ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ; وَلِمَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِمَا فِي السَّابِّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

764 - 764 - 118 مَسْأَلَةٌ : فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتُّهَمِ فِي الْمَسْرُوقَاتِ فِي وِلَايَتِهِ ; فَإِنْ تَرَكَ الْفَحْصَ فِي ذَلِكَ ضَاعَتْ الْأَمْوَالُ , وَطَمِعَتْ الْفُسَّاقُ . وَإِنْ وَكَلَهُ إلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ تَحْتَ يَدِهِ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَظْلِمُ فِيهَا , أَوْ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَا يَفِي بِالْمَقْصُودِ فِي ذَلِكَ ؟ وَإِنْ أَقْدَمَ وَسَأَلَ أَوْ أَمْسَكَ الْمَتْهُومِينَ وَعَاقَبَهُمْ خَافَ اللَّهَ تَعَالَى فِي إقْدَامِهِ عَلَى أَمْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ ؟ وَهُوَ يَسْأَلُ ضَابِطًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ , وَفِي أَمْرِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ ؟ الْجَوَابُ : أَمَّا التُّهَمُ فِي السَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَوِّضَهَا إلَى مَنْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَظْلِمُ فِيهَا مَعَ إمْكَانِ أَنْ يُقِيمَ فِيهَا مِنْ الْعُدُولِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ , وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ فِي التُّهَمِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : صِنْفٌ : مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ بِالدِّينِ وَالْوَرَعِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ . فَهَذَا لَا يُحْبَسُ , وَلَا يُضْرَبُ ; بَلْ وَلَا يُسْتَحْلَفُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ; بَلْ يُؤَدَّبُ مَنْ يَتَّهِمُهُ فِيمَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ . وَالثَّانِي : مَنْ يَكُونُ مَجْهُولَ الْحَالِ لَا يُعْرَفُ بِبِرٍّ وَلَا فُجُورٍ . فَهَذَا يُحْبَسُ حَتَّى يَكْشِفَ عَنْ حَالِهِ . وَقَدْ قِيلَ : يُحْبَسُ شَهْرًا . وَقِيلَ : يُحْبَسُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِ وَلِيِّ الْأَمْرِ . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ } وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ , وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ

مُدَّعٍ فَإِنَّهُ يَحْضُرُ مَجْلِسَ وَلِيِّ الْأَمْرِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا , وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَعْوِيقُهُ عَنْ أَشْغَالِهِ , فَكَذَلِكَ تَعْوِيقُ هَذَا إلَى أَنْ يَعْلَمَ أَمْرَهُ , ثُمَّ إذَا سَأَلَ عَنْهُ وَوُجِدَ بَارًّا أُطْلِقَ . وَإِنْ وُجِدَ فَاجِرًا كَانَ مِنْ : الصِّنْفِ الثَّالِثِ : وَهُوَ الْفَاجِرُ الَّذِي قَدْ عُرِفَ مِنْهُ السَّرِقَةُ قَبْلَ ذَلِكَ , أَوْ عُرِفَ بِأَسْبَابِ السَّرِقَةِ : مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالْقِمَارِ . وَالْفَوَاحِشِ الَّتِي لَا تَتَأَتَّى إلَّا بِالْمَالِ , وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ , وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا لَوْثٌ فِي التُّهْمَةِ ; وَلِهَذَا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ مِثْلَ هَذَا يُمْتَحَنُ بِالضَّرْبِ يَضْرِبُهُ الْوَالِي وَالْقَاضِي - كَمَا قَالَ أَشْهَبُ صَاحِبُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ - حَتَّى يُقِرَّ بِالْمَالِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : يَضْرِبُهُ الْوَالِي ; دُونَ الْقَاضِي , كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِيَانِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابَيْهِمَا فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ , وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ , كَمَا ذَكَرَهُ الطَّرَسُوسِيُّ وَغَيْرُهُ . ثُمَّ الْمُتَوَلِّي لَهُ أَنْ يَقْصِدَ بِضَرْبِهِ مَعَ تَقْرِيرِهِ عُقُوبَتَهُ عَلَى فُجُورِهِ الْمَعْرُوفِ , فَيَكُونُ تَعْزِيرًا وَتَقْرِيرًا . وَلَيْسَ عَلَى الْمُتَوَلِّي أَنْ يُرْسِلَ جَمِيعَ الْمَتْهُومِينَ حَتَّى يَأْتِيَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ سَرَقَ ; بَلْ قَدْ أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ فِي قِصَّةٍ كَانَتْ تُهْمَةً فِي سَرِقَةٍ قَوْله تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ

بِمَا أَرَاك اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا , وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا , وَلَا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا , يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا , هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا } إلَى آخِرِ الْآيَاتِ , وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا يُقَالُ لَهُمْ بَنُو أُبَيْرِقٍ سَرَقُوا لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ طَعَامًا وَدِرْعَيْنِ , فَجَاءَ صَاحِبُ الْمَالِ يَشْتَكِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ قَوْمٌ يُزَكُّونَ الْمُتَّهَمِينَ بِالْبَاطِلِ ; فَكَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَنَّ صِدْقَ الْمُزَكِّينَ فَلَامَ صَاحِبَ الْمَالِ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ , وَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِ الْمَالِ : أَقِمْ الْبَيِّنَةَ ; وَلَا حَلَّفَ الْمُتَّهَمِينَ ; لِأَنَّ أُولَئِكَ الْمُتَّهَمِينَ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِالشَّرِّ , وَظَهَرَتْ الرِّيبَةُ عَلَيْهِمْ . وَهَكَذَا حُكْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَسَامَةِ فِي الدِّمَاءِ إذَا كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِينَ ; فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ الْحُدُودِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ ; لَيْسَتْ مِنْ الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ , فَلَوْلَا الْقَسَامَةُ فِي الدِّمَاءِ لَأَفْضَى إلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ

فَيَقْتُلُ الرَّجُلُ عَدُوَّهُ خُفْيَةً , وَلَا يُمَكِّنُ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ ; وَالْيَمِينُ عَلَى الْقَاتِلِ وَالسَّارِقِ وَالْقَاطِعِ سَهْلَةٌ , فَإِنَّ مَنْ يَسْتَحِلُّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا يَكْتَرِثُ الْيَمِينَ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ ; وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } هَذَا فِيمَا لَا يُمْكِنُ مِنْ الْمُدَّعِي حُجَّةٌ غَيْرُ الدَّعْوَى فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى بِهَا شَيْئًا , وَلَكِنْ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ . فَأَمَّا إذَا أَقَامَ شَاهِدًا بِالْمَالِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَكَمَ فِي الْمَالِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ , كَمَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ , وَإِذَا كَانَ فِي دَعْوَى الدَّمِ لَوْثٌ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُدَّعِينَ : { أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ } ؟ . كَذَلِكَ أَمْرُ " قُطَّاعِ الطَّرِيقِ " وَأَمْرُ " اللُّصُوصِ " وَهُوَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ ; فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَأْمَنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي الْمَسَاكِنِ وَالطُّرُقَاتِ إلَّا بِمَا يَزْجُرُهُمْ فِي قَطْعِ هَؤُلَاءِ , وَلَا يَزْجُرُهُمْ أَنْ يَحْلِفَ كُلٌّ مِنْهُمْ ; وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ لِأَخْذِ الْمَالِ يُقْتَلُ حَتْمًا , وَقَتْلُهُ حَدٌّ لِلَّهِ ; وَلَيْسَ قَتْلُهُ مُفَوَّضًا إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ . قَالُوا : لِأَنَّ هَذَا لَمْ

يَقْتُلْهُ لِغَرَضٍ خَاصٍّ مَعَهُ ; إنَّمَا قَتَلَهُ لِأَجْلِ الْمَالِ , فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ هَذَا الْمَقْتُولِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ , فَقَتْلُهُ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ . فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ " السَّارِقُ " لَيْسَ غَرَضُهُ فِي مَالٍ مُعَيَّنٍ , وَإِنَّمَا غَرَضُهُ أَخْذُ مَالِ هَذَا وَمَالِ هَذَا , كَذَلِكَ كَانَ قَطْعُهُ حَقًّا وَاجِبًا لِلَّهِ لَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ ; بَلْ رَبُّ الْمَالِ يَأْخُذُ مَالَهُ , وَتُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ , حَتَّى لَوْ قَالَ صَاحِبُ الْمَالِ : أَنَا أُعْطِيهِ مَالِي لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَطْعُ , كَمَا قَالَ صَفْوَانُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَا أَهَبُهُ رِدَائِي , فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَهَلَّا فَعَلْت قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ } , وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ , وَمَنْ قَالَ فِي مُسْلِمٍ مَا لَيْسَ فِيهِ حُبِسَ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ } وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ { إذَا بَلَغَتْ الْحُدُودُ السُّلْطَانَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفِّعَ } . وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا مَنْ ظَهَرَ عِنْدَهُ مَالٌ يَجِبُ عَلَيْهِ إحْضَارُهُ كَالْمَدِينِ إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ غَيَّبَ مَالَهُ وَأَصَرَّ عَلَى الْحَبْسِ , وَكَمَنْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ وَلَمْ يَرُدَّهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا ظَهَرَ كَذِبُهُ . فَإِنَّهُ لَا يَحْلِفُ ; لَكِنْ يُضْرَبُ حَتَّى يُحْضِرَ الْمَالَ الَّذِي يَجِبُ إحْضَارُهُ , أَوْ يُعْرَفَ مَكَانُهُ ,

كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَامَ خَيْبَرَ فِي عَمِّ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ , وَكَانَ النَّبِيُّ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ; فَقَالَ لِهَذَا الرَّجُلِ : { أَيْنَ كَنْزُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ ؟ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ , أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ , وَالْحُرُوبُ , فَقَالَ : الْمَالُ كَثِيرٌ , وَالْعَهْدُ أَحْدَثُ مِنْ هَذَا ثُمَّ قَالَ : دُونَك هَذَا فَمَسَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَذَابِ , فَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ فِي خَرِبَةٍ هُنَاكَ } فَهَذَا لَمَّا قَالَ أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ وَالْعَادَةُ تُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ بَلْ أَمَرَ بِعُقُوبَتِهِ حَتَّى دَلَّهُمْ عَلَى الْمَالِ ; فَكَذَلِكَ مَنْ أَخَذَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ وَادَّعَى ذَهَابَهَا دَعْوَى تُكَذِّبُهُ فِيهَا الْعَادَةُ كَانَ هَذَا حُكْمُهُ .

768 - 768 - 122 - مَسْأَلَةٌ : فِي تَاجِرٍ نَصَبَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ ; وَأَخَذُوا مَبْلَغًا , فَحَمَلَهُمْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ ; وَعَاقَبَهُمْ حَتَّى أَقَرُّوا بِالْمَالِ , وَهُمْ مَحْبُوسُونَ عَلَى الْمَالِ , وَلَمْ يُعْطُوهُ شَيْئًا , وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَهُ شَيْئًا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ الْمَالُ بِيَدِهِ وَامْتَنَعَ مِنْ إعْطَائِهِ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْمَالَ الَّذِي بِيَدِهِ لِغَيْرِهِ . وَمَنْ كَانَ قَدْ غَيَّبَ الْمَالَ وَجَحَدَ مَوْضِعَهُ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى مَوْضِعِهِ . وَمَنْ كَانَ مُتَّهَمًا لَا يُعْرَفُ هَلْ مَعَهُ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ أَمْ لَا ; فَإِنَّهُ يَجُوزُ ضَرْبُهُ مُعَاقَبَةً لَهُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ . وَيُقَرَّرُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الْمَالِ أَيْنَ هُوَ . وَيُطْلَبُ مِنْهُ إحْضَارُهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

767 - 767 - 121 - مَسْأَلَةٌ : عَنْ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ; الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَ النَّاسِ وَدِمَاءَهُمْ : مِثْلُ السَّارِقِ , وَقَاطِعُ الطَّرِيقِ : هَلْ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ ؟ أَوْ يُقَاتِلَهُمْ ؟ وَهَلْ إذَا قَتَلَ رَجُلٌ أَحَدًا مِنْهُمْ : فَهَلْ يَكُونُ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى النِّفَاقِ ؟ وَهَلْ عَلَيْهِ إثْمٌ فِي قَتْلِ مَنْ طُلِبَ قَتْلُهُ ؟ أَجَابَ : أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ مُقَاتَلَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ , وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } . فَالْقُطَّاعُ : إذَا طَلَبُوا مَالَ الْمَعْصُومِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ بَلْ يَدْفَعَهُمْ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ , فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعُوا إلَّا بِالْقِتَالِ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ , فَإِنْ قُتِلَ كَانَ شَهِيدًا , وَإِنْ قَتَلَ وَاحِدًا مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا ; وَكَذَلِكَ إذَا طَلَبُوا دَمَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُمْ وَلَوْ بِالْقَتْلِ إجْمَاعًا ; لَكِنَّ الدَّفْعَ عَنْ الْمَالِ لَا يَجِبُ , بَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ الْمَالَ وَلَا يُقَاتِلَهُمْ . وَأَمَّا الدَّفْعُ عَنْ النَّفْسِ فَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ , هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ .

769 - 769 - 123 سُئِلَ : عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ اللُّصُوصِ أَخَذَ اثْنَانِ مِنْهُمْ جِمَالًا , وَالثَّالِثُ قَتَلَ الْجَمَّالَ : هَلْ يُقْتَلُ الثَّلَاثَةُ ؟ الْجَوَابُ : إذَا كَانَ الثَّلَاثَةُ حَرَامِيَّةً اجْتَمَعُوا لِيَأْخُذُوا الْمَالَ بِالْمُحَارَبَةِ قُتِلَ الثَّلَاثَةُ ; وَإِنْ كَانَ الَّذِي بَاشَرَ الْقَتْلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
770 - 770 - 124 مَسْأَلَةٌ : فِي عَسْكَرٍ نَزَلُوا مَكَانًا بَاتُوا فِيهِ فَجَاءَ أُنَاسٌ سَرَقُوا لَهُمْ قُمَاشًا فَلَحِقُوا السَّارِقَ فَضَرَبَهُ أَحَدُهُمْ بِالسَّيْفِ , ثُمَّ حُمِلَ إلَى مُقَدَّمِ الْعَسْكَرِ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ الْجَوَابُ : إذَا كَانَ هَذَا هُوَ الطَّرِيقُ فِي اسْتِرْجَاعِ مَا مَعَ السَّارِقِ لَمْ يَلْزَمْ الضَّارِبَ شَيْءٌ , فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ لِصًّا دَخَلَ دَارِهِ فَقَامَ إلَيْهِ بِالسَّيْفِ فَلَوْلَا أَنَّهُمْ رَدُّوهُ عَنْهُ لَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ , وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } .

771 - 771 - 125 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ لَهُ مِلْكٌ , وَهُوَ وَاقِعٌ , فَأَعْلَمُوهُ بِوُقُوعِهِ فَأَبَى أَنْ يَنْقُضَهُ ثُمَّ وَقَعَ عَلَى صَغِيرٍ فَهَشَّمَهُ هَلْ يَضْمَنُ أَوْ لَا ؟ الْجَوَابُ : هَذَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ , لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي عَدَمِ إزَالَةِ هَذَا الضَّرَرِ , وَالضَّمَانُ عَلَى الْمَالِكِ الرَّشِيدِ الْحَاضِرِ أَوْ وَكِيلِهِ إنْ كَانَ غَائِبًا أَوْ وَلِيِّهِ إنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ , وَوُجُوبُ الضَّمَانِ فِي مِثْلِ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ , وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ , وَالْوَاجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ وَالْأَرْشُ فِيمَا لَا تَقْدِيرَ فِيهِ , وَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَةِ هَؤُلَاءِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَعَلَيْهِمْ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .

كِتَابُ الْجِهَادِ 772 - 1 مَسْأَلَةٌ : فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ : { حَرَسُ لَيْلَةٍ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِ رَجُلٍ فِي أَهْلِهِ أَلْفَ سَنَةٍ } وَفِي سُكْنَى مَكَّةَ , وَالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ , وَالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ عَلَى نِيَّةِ الْعِبَادَةِ وَالِانْقِطَاعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى , وَالسُّكْنَى بِدِمْيَاطَ , وَإِسْكَنْدَرِيَّة , وَطَرَابُلُسَ عَلَى نِيَّةِ الرِّبَاطِ أَيُّهُمْ أَفْضَلُ . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , بَلْ الْمُقَامُ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ كَالثُّغُورِ الشَّامِيَّةِ , وَالْمِصْرِيَّةِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ , وَمَا أَعْلَمُ فِي هَذَا نِزَاعًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الرِّبَاطَ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ , وَالْمُجَاوَرَةُ غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ : " { إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ . قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : ثُمَّ جِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ . قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ } . وَقَدْ رُوِيَ : { غَزْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ حَجَّةً } . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ : عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ

شَهْرٍ وَقِيَامِهِ , وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا مَاتَ مُجَاهِدًا وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ عُثْمَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ } " . وَهَذَا قَالَهُ عُثْمَانُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ تَبْلِيغًا لِلسُّنَّةِ . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : لَأَنْ أُرَابِطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ . وَفَضَائِلُ الرِّبَاطِ الْحَرَسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرَةٌ لَا تَسَعُهَا هَذِهِ الْوَرَقَةُ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
774 - 774 - 3 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ جُنْدِيٍّ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَخْدُمَ ؟ الْجَوَابُ : إذَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ مَنْفَعَةٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , بَلْ كَوْنُهُ مُقْدِمًا فِي الْجِهَادِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَفْضَلُ مِنْ التَّطَوُّعِ بِالْعِبَادَةِ كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ , وَالْحَجِّ التَّطَوُّعِ , وَالصِّيَامِ التَّطَوُّعِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

773 - 773 - 2 مَسْأَلَةٌ : فِي بَلَدِ " مَارِدِينَ " هَلْ هِيَ بَلَدُ حَرْبٍ أَمْ بَلَدُ سِلْمٍ ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُقِيمِ بِهَا الْهِجْرَةُ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ وَلَمْ يُهَاجِرْ وَسَاعَدَ أَعْدَاءَ الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ , هَلْ يَأْثَمُ فِي ذَلِكَ , وَهَلْ يَأْثَمُ مَنْ رَمَاهُ بِالنِّفَاقِ وَسَبَّهُ بِهِ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ دِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالُهُمْ مُحَرَّمَةٌ حَيْثُ كَانُوا فِي مَارِدِينَ أَوْ غَيْرِهَا , وَإِعَانَةُ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ مُحَرَّمَةٌ , سَوَاءٌ كَانُوا أَهْلَ مَارِدِينَ أَوْ غَيْرَهُمْ , وَالْمُقِيمُ بِهَا إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إقَامَةِ دِينِهِ وَجَبَتْ الْهِجْرَةُ عَلَيْهِ , وَإِلَّا اُسْتُحِبَّتْ وَلَمْ تَجِبْ وَمُسَاعَدَتُهُمْ لِعَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ , مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ , وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الِامْتِنَاعُ مِنْ ذَلِكَ بِأَيِّ طَرِيقٍ أَمْكَنَهُمْ مِنْ تَغَيُّبٍ , أَوْ تَعْرِيضٍ , أَوْ مُصَانَعَةٍ , فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِالْهِجْرَةِ تَعَيَّنَتْ , وَلَا يَحِلُّ سَبُّهُمْ عُمُومًا وَرَمْيُهُمْ بِالنِّفَاقِ , بَلْ السَّبُّ وَالرَّمْيُ بِالنِّفَاقِ يَقَعُ عَلَى الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , فَيَدْخُلُ فِيهَا بَعْضُ أَهْلِ مَارِدِينَ وَغَيْرُهُمْ . وَأَمَّا كَوْنُهَا دَارَ حَرْبٍ أَوْ سِلْمٍ فَهِيَ مُرَكَّبَةٌ فِيهَا الْمَعْنَيَانِ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ دَارِ السِّلْمِ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ , لِكَوْنِ جُنْدِهَا مُسْلِمِينَ , وَلَا بِمَنْزِلَةِ دَارِ الْحَرْبِ الَّتِي أَهْلُهَا كُفَّارٌ , بَلْ هِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ

يُعَامَلُ الْمُسْلِمُ فِيهَا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ وَيُقَاتَلُ الْخَارِجُ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ .
775 - 775 - 4 - مَسْأَلَةٌ : إذَا دَخَلَ التَّتَارُ الشَّامَ وَنَهَبُوا أَمْوَالَ النَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ ثُمَّ نَهَبَ الْمُسْلِمُونَ التَّتَارَ وَسَلَبُوا الْقَتْلَى مِنْهُمْ فَهَلْ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَسَلْبِهِمْ حَلَالٌ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : كُلُّ مَا أُخِذَ مِنْ التَّتَارِ يُخَمَّسُ وَيُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ .

وَقَدْ اسْتَقَرَّتْ السُّنَّةُ بِأَنَّ عُقُوبَةَ الْمُرْتَدِّ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ : مِنْهَا : أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِكُلِّ حَالٍ , وَلَا يُضْرَبُ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ , وَلَا تُعْقَدُ لَهُ ذِمَّةٌ بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ . وَمِنْهَا : أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْقِتَالِ بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَة , وَمَالِكٍ , وَأَحْمَدَ . وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ . وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ , وَلَا يُنَاكَحُ , وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ , بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ , إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ , وَإِذَا كَانَتْ الرِّدَّةُ عَنْ أَصْلِ الدِّينِ أَعْظَمَ مِنْ الْكُفْرِ بِأَصْلِ الدِّينِ , فَالرِّدَّةُ عَنْ شَرَائِعِهِ أَعْظَمُ مِنْ خُرُوجِ الْخَارِجِ الْأَصْلِيِّ عَنْ شَرَائِعِهِ , وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مُؤْمِنٍ يَعْرِفُ أَحْوَالَ التَّتَارِ وَيَعْلَمُ أَنَّ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ فِيهِمْ مِنْ الْفُرْسِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ شَرٌّ مِنْ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ مِنْ التُّرْكِ وَنَحْوِهِمْ , وَهُمْ بَعْدَ أَنْ تَكَلَّمُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ تَرْكِهِمْ لِكَثِيرٍ مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ خَيْرٌ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ الْفُرْسِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ . وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِمَّنْ كَانَ مُسْلِمَ الْأَصْلِ هُوَ شَرٌّ مِنْ التُّرْكِ الَّذِينَ كَانُوا كُفَّارًا , فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْأَصْلِيَّ إذَا ارْتَدَّ

عَنْ بَعْضِ شَرَائِعِهِ كَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ لَمْ يَدْخُلْ بَعْدُ فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ مِثْلُ : مَانِعِي الزَّكَاةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ قَاتَلَهُمْ الصِّدِّيقُ . وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ عَنْ بَعْضِ الشَّرَائِعِ مُتَفَقِّهًا , أَوْ مُتَصَوِّفًا أَوْ تَاجِرًا , أَوْ كَاتِبًا , أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ التُّرْكِ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ وَأَصَرُّوا عَلَى الْإِسْلَامِ , وَلِهَذَا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ضَرَرِ هَؤُلَاءِ عَلَى الدِّينِ مَا لَا يَجِدُونَهُ مِنْ ضَرَرِ أُولَئِكَ , وَيَنْقَادُونَ لِلْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَعْظَمَ مِنْ انْقِيَادِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنْ بَعْضِ الدِّينِ وَنَافَقُوا فِي بَعْضِهِ , وَإِنْ تَظَاهَرُوا بِالِانْتِسَابِ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ , وَغَايَةُ مَا يُوجَدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَكُونُ مُلْحِدًا نُصَيْرِيًّا , أَوْ إسْمَاعِيلِيًّا , أَوْ رَافِضِيًّا , وَخِيَارُهُمْ يَكُونُ جَهْمِيًّا اتِّحَادِيًّا أَوْ نَحْوَهُ , فَإِنَّهُ لَا يَنْضَمُّ إلَيْهِمْ طَوْعًا مِنْ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ إلَّا مُنَافِقٌ , أَوْ زِنْدِيقٌ , أَوْ فَاسِقٌ فَاجِرٌ , وَمَنْ أَخْرَجُوهُ مَعَهُمْ مُكْرَهًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ عَلَى نِيَّتِهِ , وَنَحْنُ عَلَيْنَا أَنْ نُقَاتِلَ الْعَسْكَرَ جَمِيعَهُ إذْ لَا يَتَمَيَّزُ الْمُكْرَهُ مِنْ غَيْرِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَغْزُو هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ مِنْ النَّاسِ , فَبَيْنَمَا هُمْ بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ إذْ خُسِفَ بِهِمْ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّ فِيهِمْ الْمُكْرَهَ . فَقَالَ : يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ } . وَالْحَدِيثُ

مُسْتَفِيضٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَخْرَجَهُ أَرْبَابُ الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ , وَحَفْصَةَ , وَأُمِّ سَلَمَةَ . فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَعُوذُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ فَيُبْعَثُ إلَيْهِ بَعْثٌ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ , فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا . قَالَ : يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ وَلَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { عَبَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , صَنَعْت شَيْئًا فِي مَنَامِك لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ . فَقَالَ : الْعَجَبُ أَنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَؤُمُّونَ هَذَا الْبَيْتَ بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ , وَقَدْ لَجَأَ إلَى الْبَيْتِ حَتَّى إذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ خُسِفَ بِهِمْ . فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّ الطَّرِيقَ قَدْ يَجْمَعُ النَّاسَ . قَالَ : نَعَمْ , فِيهِمْ الْمُسْتَنْصِرُ وَالْمَجْنُونُ وَابْنُ السَّبِيلِ فَيَهْلِكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا وَيَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى , يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نِيَّاتِهِمْ } وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ : عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةِ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ . قَالَتْ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ , يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ , وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ . قَالَ : يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ

وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : عَنْ حَفْصَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : سَيَعُوذُ بِهَذَا الْبَيْتِ - يَعْنِي الْكَعْبَةَ - قَوْمٌ لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا عَدَدٌ وَلَا عُدَّةٌ , يُبْعَثُ إلَيْهِمْ جَيْشٌ يَوْمَئِذٍ حَتَّى إذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ } . قَالَ يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ : وَأَهْلُ الشَّامِ يَوْمَئِذٍ يَسِيرُونَ إلَى مَكَّةَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ : أَمَا وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِهَذَا الْجَيْشِ فَاَللَّهُ تَعَالَى أَهْلَكَ الْجَيْشَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَنْتَهِكَ حُرُمَاتِهِ الْمُكْرَهَ فِيهِمْ وَغَيْرَ الْمُكْرَهِ . مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمْ مَعَ أَنَّهُ يَبْعَثُهُمْ عَلَى نِيَّاتِهِمْ . فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ أَنْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَغَيْرِهِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ بَلْ لَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ خَرَجَ مُكْرَهًا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ . كَمَا رُوِيَ { أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنِّي , كُنْت مُكْرَهًا . فَقَالَ : أَمَّا ظَاهِرُك فَكَانَ عَلَيْنَا وَأَمَّا سَرِيرَتُك فَإِلَى اللَّهِ } . بَلْ لَوْ كَانَ فِيهِمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ وَلَمْ يُمْكِنْ قِتَالُهُمْ إلَّا بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ لَقُتِلُوا أَيْضًا فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَوْ تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمِينَ وَخِيفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يُقَاتِلُوا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ نَرْمِيَهُمْ وَنَقْصِدَ

الْكُفَّارَ , وَلَوْ لَمْ نَخَفْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَازَ وَهِيَ أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَمَنْ قُتِلَ لِأَجْلِ الْجِهَادِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ هُوَ فِي الْبَاطِنِ مَظْلُومٌ كَانَ شَهِيدًا , وَبُعِثَ عَلَى نِيَّتِهِ , وَلَمْ يَكُنْ قَتْلُهُ أَعْظَمَ فَسَادًا مِنْ قَتْلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ , وَإِذَا كَانَ الْجِهَادُ وَاجِبًا وَإِنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَا شَاءَ اللَّهُ فَقِيلَ مَنْ يُقْتَلُ فِي صَفِّهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِحَاجَةِ الْجِهَادِ لَيْسَ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا , بَلْ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُكْرَهَ فِي قِتَالِ الْفِتْنَةِ بِكَسْرِ سَيْفِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ , وَإِنْ قُتِلَ , كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتَنٌ أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي , وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي , أَلَا فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ إبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ , وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ , وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ , قَالَ : فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَرَأَيْت مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إبِلٌ , وَلَا غَنَمٌ , وَلَا أَرْضٌ قَالَ : يَعْمِدُ إلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ , ثُمَّ لِيَنْجُ إنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاةَ . اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت , اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت . فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَرَأَيْت إنْ أُكْرِهْت حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي إلَى

إحْدَى الصَّفَّيْنِ أَوْ إحْدَى الْفِئَتَيْنِ فَيَضْرِبُنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ أَوْ بِسَهْمِهِ فَيَقْتُلَنِي . قَالَ : يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِك , وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ بَلْ أَمَرَ بِمَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْقِتَالُ مِنْ الِاعْتِزَالِ أَوْ إفْسَادِ السِّلَاحِ الَّذِي يُقَاتِلُ بِهِ . وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْمُكْرَهُ وَغَيْرُهُ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُكْرَهَ إذَا قُتِلَ ظُلْمًا كَانَ الْقَاتِلُ قَدْ بَاءَ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِ الْمَقْتُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ عَنْ الْمَظْلُومِ { إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِك فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا صَالَ صَائِلٌ عَلَى نَفْسِهِ جَازَ لَهُ الدَّفْعُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّفْعُ بِالْقِتَالِ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ : إحْدَاهُمَا : يَجِبُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ لَمْ يَحْضُرْ الصَّفَّ . وَالثَّانِيَةُ : يَجُوزُ لَهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ . وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِالْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ فَلَا يَجُوزُ بِلَا رَيْبٍ , وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ , بَلْ عَلَيْهِ إفْسَادُ سِلَاحِهِ , وَأَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يُقْتَلَ مَظْلُومًا فَكَيْفَ بِالْمُكْرَهِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الطَّائِفَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ : كَمَانِعِي الزَّكَاةِ , وَالْمُرْتَدِّينَ , وَنَحْوِهِمْ , فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْحُضُورِ أَنْ

لَا يُقَاتِلَ وَإِنْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ الْكُفَّارُ عَلَى حُضُورِ صَفِّهِمْ لِيُقَاتِلَ الْمُسْلِمِينَ , وَكَمَا لَوْ أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ مَعْصُومٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَإِنْ أَكْرَهَهُ بِالْقَتْلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ حِفْظُ نَفْسِهِ بِقَتْلِ ذَلِكَ الْمَعْصُومِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ , فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ فَيَقْتُلَهُ , لِئَلَّا يُقْتَلَ هُوَ , بَلْ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهِ جَمِيعًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : كَأَحْمَدَ , وَمَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ , وَفِي الْآخَرِ : يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهِ فَقَطْ كَقَوْلِ : أَبِي حَنِيفَةَ , وَمُحَمَّدٍ , وَقِيلَ : الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ الْمُبَاشِرِ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زُفَرَ , وَأَبُو يُوسُفَ : يُوجِبُ الضَّمَانَ بِالدِّيَةِ بَدَلَ الْقَوَدِ وَلَمْ يُوجِبْهُ . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ وَفِيهَا أَنَّ الْغُلَامَ أَمَرَ بِقَتْلِ نَفْسِهِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ ظُهُورِ الدِّينِ , وَلِهَذَا جَوَّزَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ أَنْ يَنْغَمِسَ الْمُسْلِمُ فِي صَفِّ الْكُفَّارِ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ , فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَفْعَلُ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْجِهَادِ مَعَ أَنَّ قَتْلَهُ نَفْسَهُ أَعْظَمُ مِنْ قَتْلِهِ لِغَيْرِهِ كَانَ مَا يُفْضِي إلَى قَتْلِ غَيْرِهِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ

الدِّينِ الَّتِي لَا تَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ وَدَفْعِ ضَرَرِ الْعَدُوِّ الْمُفْسِدِ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا , الَّذِي لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ أَوْلَى وَإِذَا كَانَتْ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ مُتَّفِقَيْنِ عَلَى أَنَّ الصَّائِلَ الْمُسْلِمَ إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ صَوْلُهُ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ الَّذِي يَأْخُذُهُ قِيرَاطًا مِنْ دِينَارٍ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ , وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ , وَمَنْ قُتِلَ دُونَ حَرَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } . فَكَيْفَ بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الَّذِينَ صَوْلُهُمْ وَبَغْيُهُمْ أَقَلُّ مَا فِيهِمْ , فَإِنَّ قِتَالَ الْمُعْتَدِينَ الصَّائِلِينَ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ , وَهَؤُلَاءِ مُعْتَدُونَ صَائِلُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ , وَأَمْوَالِهِمْ , وَحُرَمِهِمْ , وَدِينِهِمْ , وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ يُبِيحُ قِتَالَ الصَّائِلِ عَلَيْهَا , وَمَنْ قُتِلَ دُونَهَا فَهُوَ شَهِيدٌ , فَكَيْفَ بِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا كُلَّهَا وَهُمْ مِنْ شَرِّ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ الظَّالِمِينَ , لَكِنْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ كَمَا تُقَاتَلُ الْبُغَاةُ الْمُتَأَوِّلُونَ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً قَبِيحًا وَضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا فَإِنَّ أَقَلَّ مَا فِي الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ سَائِغٌ خَرَجُوا بِهِ . وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ الْإِمَامَ يُرَاسَلُهُمْ , فَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً بَيَّنَهَا , وَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلِمَةً أَزَالَهَا , فَأَيُّ شُبْهَةٍ لِهَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ

وَرَسُولِهِ السَّاعِينَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا , وَالْخَارِجِينَ عَنْ شَرَائِعِ الدِّينِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ أَنَّهُمْ أَقْوَمُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَعَمَلًا مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ بَلْ هُوَ مَعَ دَعْوَاهُمْ الْإِسْلَامَ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ أَعْلَمُهُمْ بِإِسْلَامٍ مِنْهُمْ , وَأَتْبَعُ لَهُ مِنْهُمْ , وَكُلُّ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُنْذِرُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ , فَامْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ شُبْهَةٌ بَيِّنَةٌ يَسْتَحِلُّونَ بِهَا قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ وَهُمْ قَدْ سَبَوْا غَالِبَ حَرِيمِ الرَّعِيَّةِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوهُمْ ؟ حَتَّى إنَّ النَّاسَ قَدْ رَأَوْهُمْ يُعَظِّمُونَ الْبُقْعَةَ وَيَأْخُذُونَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَمْوَالِ , وَيُعَظِّمُونَ الرَّجُلَ وَيَتَبَرَّكُونَ بِهِ , وَيَسْلُبُونَهُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الثِّيَابِ , وَيَسْبُونَ حَرِيمَهُ وَيُعَاقِبُونَهُ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي لَا يُعَاقَبُ بِهَا إلَّا أَظْلَمُ النَّاسِ وَأَفْجَرُهُمْ , وَالْمُتَأَوِّلُ تَأْوِيلًا دِينِيًّا لَا يُعَاقِبُ إلَّا مَنْ يَرَاهُ عَاصِيًا لِلدِّينِ , وَهُمْ يُعَظِّمُونَ مَنْ يُعَاقِبُونَهُ فِي الدِّينِ , وَيَقُولُونَ : إنَّهُ أَطْوَعُ لِلَّهِ مِنْهُمْ , فَأَيُّ تَأْوِيلٍ بَقِيَ لَهُمْ , ثُمَّ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ لَمْ يَكُنْ تَأْوِيلُهُمْ سَائِغًا , بَلْ تَأْوِيلُ الْخَوَارِجِ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ أَوْجَهُ مِنْ تَأْوِيلِهِمْ , أَمَّا الْخَوَارِجُ فَإِنَّهُمْ ادَّعَوْا اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ , وَأَنَّ مَا خَالَفَهُ مِنْ السُّنَّةِ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ . وَأَمَّا مَانِعُوا الزَّكَاةِ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ قَالُوا

: إنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً وَهَذَا خِطَابٌ لِنَبِيِّهِ فَقَطْ فَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَدْفَعَهَا لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَكُونُوا يَدْفَعُونَهَا لِأَبِي بَكْرٍ وَلَا يُخْرِجُونَهَا لَهُ , وَالْخَوَارِجُ لَهُمْ عِلْمٌ وَعِبَادَةٌ وَلِلْعُلَمَاءِ مَعَهُمْ مُنَاظَرَاتٌ كَمُنَاظَرَتِهِمْ مَعَ الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ , وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَلَا يُنَاظَرُونَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ , فَلَوْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَأْوِيلٌ يَقُولُهُ ذُو عَقْلٍ , وَقَدْ خَاطَبَنِي بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ : مَلِكُنَا مِلِكٌ ابْنُ مَلِكٍ ابْنُ مَلِكٍ إلَى سَبْعَةِ أَجْدَادٍ , وَمَلِكُكُمْ ابْنُ مَوْلًى فَقُلْت : لَهُ : آبَاءُ ذَلِكَ الْمَلِكِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ , وَلَا فَخْرَ بِالْكَافِرِ , بَلْ الْمَمْلُوكُ الْمُسْلِمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَلِكِ الْكَافِرِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } . فَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا حُجَجُهُمْ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ مُسْلِمًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ الْمُسْلِمَ وَلَوْ كَانَ عَبْدًا وَلَا يُطِيعُ الْكَافِرَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ } . وَدِينُ الْإِسْلَامِ إنَّمَا يُفَضِّلُ الْإِنْسَانَ بِإِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ لَا بِآبَائِهِ , وَلَوْ كَانُوا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ خَلَقَ الْجَنَّةَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا , وَخَلَقَ النَّارَ لِمَنْ عَصَاهُ وَلَوْ

كَانَ شَرِيفًا قُرَشِيًّا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ , وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ , وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ , وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ إلَّا بِالتَّقْوَى , النَّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِقَبِيلَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُ : { إنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي إنَّمَا وَلِيِّي اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } . فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مُوَالَاتَهُ لَيْسَتْ بِالْقَرَابَةِ وَالنَّسَبِ , بَلْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى , فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي قَرَابَةِ الرَّسُولِ فَكَيْفَ بِقَرَابَةِ جِنْكِيزْ خَانْ الْكَافِرِ الْمُشْرِكِ , وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ إيمَانًا وَتَقْوًى كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى , وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَسْوَدَ حَبَشِيًّا وَالثَّانِي عَلَوِيًّا أَوْ عَبَّاسِيًّا .

كِتَابُ الْبُيُوعِ قَوَاعِدُ فِي الْعُقُودِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالنِّكَاحِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَأَمَّا الْعُقُودُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالنِّكَاحِيَّةِ وَغَيْرِهَا , فَنَذْكُرُ فِيهَا قَوَاعِدَ جَامِعَةً عَظِيمَةَ الْمَنْفَعَةِ , فَإِنَّ ذَلِكَ فِيهَا كَالْقَوْلِ فِي الْعِبَادَاتِ , فَمِنْ ذَلِكَ : صِفَةُ الْعُقُودِ فَالْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : إنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بِالصِّيغَةِ , وَهِيَ الْعِبَارَاتُ الَّتِي قَدْ يَخُصُّهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِاسْمِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ , سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ : الْبَيْعُ , وَالْإِجَارَةُ وَالْهِبَةُ , وَالنِّكَاحُ , وَالْعِتْقُ , وَالْوَقْفُ , وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ , وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ , يَكُونُ تَارَةً رِوَايَةً مَنْصُوصَةً فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ كَالْبَيْعِ وَالْوَقْفِ , وَيَكُونُ تَارَةً رِوَايَةً مُخَرَّجَةً كَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ يُقِيمُونَ الْإِشَارَةَ مَقَامَ الْعِبَارَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهَا , كَمَا فِي إشَارَةِ الْأَخْرَسِ , وَيُقِيمُونَ أَيْضًا الْكِتَابَةَ فِي مَقَامِ الْعِبَارَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَقَدْ يَسْتَثْنُونَ مَوَاضِعَ دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى جَوَازِهَا إذَا مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا , كَمَا فِي الْهَدْيِ إذَا عَطِبَ دُونَ مَحِلِّهِ , فَإِنَّهُ يُنْحَرُ ثُمَّ يُضَمَّخُ نَعْلُهُ الْمُعَلَّقُ فِي عُنُقِهِ بِدَمِهِ عَلَامَةً لِلنَّاسِ , وَمَنْ أَخَذَهُ مَلَكَهُ , وَكَذَلِكَ الْهَدِيَّةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ , لَكِنْ الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ هُوَ اللَّفْظُ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ هُوَ التَّرَاضِي الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { إلَّا أَنْ

تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَقَوْلُهُ : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا } . وَالْمَعَانِي الَّتِي فِي النَّفْسِ لَا تَنْضَبِطُ إلَّا بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي قَدْ جُعِلَتْ لِإِبَانَةِ مَا فِي الْقَلْبِ , إذْ الْأَفْعَالُ مِنْ الْمُعَاطَاةِ وَنَحْوِهَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا كَثِيرَةً , وَلِأَنَّ الْعُقُودَ مِنْ جِنْسِ الْأَقْوَالِ فَهِيَ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ . الْقَوْلُ الثَّانِي : إنَّهَا تَصِحُّ بِالْأَفْعَالِ فِيمَا كَثُرَ عَقْدُهُ بِالْأَفْعَالِ , كَالْمَبِيعَاتِ بِالْمُعَاطَاةِ , وَكَالْوَقْفِ فِي مِثْلِ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ , أَوْ سَبَّلَ أَرْضًا لِلدَّفْنِ , أَوْ بَنَى مَطْهَرَةً وَسَبَّلَهَا لِلنَّاسِ , وَكَبَعْضِ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ : كَمَنْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى غَسَّالٍ أَوْ خَيَّاطٍ يَعْمَلُ بِالْأُجْرَةِ , أَوْ رَكِبَ سَفِينَةَ مَلَّاحٍ , وَكَالْهَدِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَوْ لَمْ تَنْعَقِدْ بِالْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا لَفَسَدَتْ أُمُورُ النَّاسِ , وَلِأَنَّ النَّاسَ مِنْ لَدُنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى يَوْمِنَا مَا زَالُوا يَتَعَاقَدُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِلَا لَفْظٍ بَلْ بِالْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى الْمَقْصُودِ , وَهَذَا قَوْلُ الْغَالِبِ عَلَى أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ , وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ , بِخِلَافِ الْمُعَاطَاةِ فِي الْأَمْوَالِ الْجَلِيلَةِ فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَلَمْ يَجْرِ بِهِ الْعُرْفُ . الْقَوْلُ الثَّالِثُ : إنَّهَا تَنْعَقِدُ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ , فَكُلُّ

مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا وَإِجَارَةً فَهُوَ بَيْعٌ وَإِجَارَةٌ , وَإِنْ اخْتَلَفَ اصْطِلَاحُ النَّاسِ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْأَفْعَالِ انْعَقَدَ الْعَقْدُ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ بِمَا يَفْهَمُونَهُ بَيْنَهُمْ مِنْ الصِّيَغِ وَالْأَفْعَالِ , وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مُسْتَمِرٌّ لَا فِي شَرْعٍ وَلَا فِي لُغَةٍ , بَلْ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ اصْطِلَاحِ النَّاسِ , كَمَا تَتَنَوَّعُ لُغَاتُهُمْ , فَإِنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ , لَيْسَ هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي فِي لُغَةِ الْفُرْسِ أَوْ الرُّومِ أَوْ التُّرْكِ أَوْ الْبَرْبَرِ أَوْ الْحَبَشَةِ , بَلْ قَدْ يَخْتَلِفُ أَنْوَاعُ اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ , وَلَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ الْتِزَامُ نَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الِاصْطِلَاحَاتِ فِي الْمُعَامَلَاتِ , وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ التَّعَاقُدُ بِغَيْرِ مَا يَتَعَاقَدُ بِهِ غَيْرُهُمْ , إذَا كَانَ مَا تَعَاقَدُوا بِهِ دَالًّا عَلَى مَقْصُودِهِمْ , وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسْتَحَبُّ بَعْضُ الصِّفَاتِ . وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أُصُولِ مَالِكٍ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ , وَلِهَذَا يَصِحُّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ بَيْعُ الْمُعَاطَاةِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ قَدْ وُجِدَ اللَّفْظُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْفِعْلُ مِنْ الْآخَرِ , بِأَنْ يَقُولَ : خُذْ هَذَا لِلَّهِ فَيَأْخُذَهُ , أَوْ يَقُولَ : أَعْطِنِي خُبْزًا بِدِرْهَمٍ فَيُعْطِيَهُ , أَوْ لَمْ يُوجَدْ لَفْظٌ مِنْ أَحَدِهِمَا بِأَنْ يَضَعَ الثَّمَنَ وَيَقْبِضَ جِرْزَةَ الْبَقْلِ أَوْ الْحَلْوَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا يَتَعَامَلُ بِهِ غَالِبُ النَّاسِ , أَوْ يَضَعُ الْمَتَاعَ لِيُوضَعَ لَهُ بَدَلُهُ , فَإِذَا وُضِعَ الْبَدَلُ الَّذِي يَرْضَى بِهِ أَخَذَهُ , كَمَا يَجْلِبُهُ التُّجَّارُ عَنْ عَادَةِ بَعْضِ أَهْلِ

الْمَشْرِقِ , فَكُلُّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ . وَكَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ مِثْلِ الْهَدِيَّةِ , وَمِثْلِ تَجْهِيزِ الزَّوْجَةِ بِمَالٍ يُحْمَلُ مَعَهَا إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِأَنَّهُ عَطِيَّةٌ لَا عَارِيَّةٌ . وَكَذَلِكَ الْإِجَارَاتُ , مِثْلُ رُكُوبِ سَفِينَةِ الْمَلَّاحِ , وَالْمُكَارِينَ , وَرُكُوبِ دَابَّةِ الْجَمَّالِ إذْ الْحِمَارُ أَوْ الْبِغَالُ الْمُكَارِينَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ أَنَّهُ إجَارَةٌ , وَمِثْلُ الدُّخُولِ إلَى حَمَّامِ الْحَمَّامِيِّ , وَمِثْلُ دَفْعِ الثَّوْبِ إلَى غَسَّالٍ أَوْ خَيَّاطٍ يَعْمَلُ بِالْأَجْرِ , أَوْ دَفْعِ الطَّعَامِ إلَى طَبَّاخٍ أَوْ شَوَّايٍ يَطْبُخُ , أَوْ يَشْوِي لِلْآخَرِ سَوَاءٌ شَوَّايُ اللَّحْمِ مَشْرُوحًا أَوْ غَيْرَ مَشْرُوحٍ . حَتَّى اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ , هَلْ يَقَعُ بِالْمُعَاطَاةِ مِثْلُ أَنْ تَقُولَ : اخْلَعْنِي بِهَذِهِ الْأَلْفِ , أَوْ بِهَذَا الثَّوْبِ , فَيَقْبِضَ الْعِوَضَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ أَنَّهُ رَضِيَ بِالْمُعَاوَضَةِ ؟ فَذَهَبَ الْعُكْبَرِيُّونَ كَأَبِي حَفْصٍ , وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ شِهَابٍ إلَى أَنَّ ذَلِكَ خُلْعٌ صَحِيحٌ وَذَكَرُوا مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ وَمِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَا يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ , وَلَعَلَّهُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى نُصُوصِهِ , بَلْ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ , وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ بِالْكِتَابِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ } . قَالَ : وَإِذَا كَتَبَ فَقَدْ عَمِلَ . وَذَهَبَ

الْبَغْدَادِيُّونَ الَّذِينَ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ , كَابْنِ حَامِدٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ , كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ : أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ إلَّا بِالْكَلَامِ , وَذَكَرُوا مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ مَا اعْتَمَدُوهُ فِي ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ فَسْخُ النِّكَاحِ , وَالنِّكَاحُ يَفْتَقِرُ إلَى لَفْظٍ , فَكَذَلِكَ فَسْخُهُ . وَأَمَّا النِّكَاحُ فَقَالَ هَؤُلَاءِ : ابْنُ حَامِدٍ , وَالْقَاضِي , وَأَصْحَابُهُ مِثْلُ : أَبِي الْخَطَّابِ , وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ : أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ , كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ ; لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ , وَالشَّهَادَةُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ , وَالشَّهَادَةُ عَلَى النِّيَّةِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ , وَمَنَعُوا مِنْ انْعِقَادِهِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالْعَطِيَّةِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ . وَقَالَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ أَيْضًا : إنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ يُحْسِنُهَا , فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْهَا وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَعْلِيمِهَا انْعَقَدَ بِمَعْنَاهَا الْخَاصِّ بِكُلِّ لِسَانٍ , وَإِنْ قَدَرَ عَلَى تَعَلُّمِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ , بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ , وَأَنَّ فِيهِ شَوْبُ التَّعَبُّدِ , وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْصُوصًا عَنْ أَحْمَدَ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِأُصُولِهِ , وَلَمْ يَنُصَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ , وَلَا نَقَلُوا عَنْهُ نَصًّا فِي ذَلِكَ , وَإِنَّمَا نَقَلُوا قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ : إذَا وُهِبَ لِرَجُلٍ فَلَيْسَ بِنِكَاحٍ , فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ : { خَالِصَةً لَك مِنْ

دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } . وَهَذَا إنَّمَا هُوَ نَصٌّ عَلَى مَنْعِ مَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ النِّكَاحُ بِغَيْرِ مَهْرٍ , بَلْ قَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ لِأَمَتِهِ : أَعْتَقْتُك وَجَعَلْت عِتْقَك صَدَاقَك أَوْ صَدَاقَك عِتْقَك , أَوْ بِقَوْلِهِ : جَعَلْت عِتْقَك صَدَاقَك ذَكَرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ جَوَابَاتِهِ , فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ . فَأَمَّا ابْنُ حَامِدٍ فَطَرَدَ قِيَاسَهُ وَقَالَ : لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَقُولَ وَتَزَوَّجْتهَا أَوْ نَكَحْتهَا ; لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ قَطُّ بِالْعَرَبِيَّةِ إلَّا بِهَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ . وَأَمَّا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ فَجَعَلُوا هَذِهِ الصُّورَةَ مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْقِيَاسِ الَّذِي وَافَقُوا عَلَيْهِ ابْنَ حَامِدٍ , وَأَنَّ تِلْكَ مِنْ صُورَةِ الِاسْتِحْسَانِ , وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ قَوْلًا فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِعَيْنِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ لِنَصِّ أَحْمَدَ . هَذَا وَهَذَا أَشْبَهُ بِنُصُوصِ أَحْمَدَ وَأُصُولِهِ , وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ شَبِيهٌ بِمَذْهَبِهِ , فَإِنَّ أَصْحَابَ مَالِكٍ اخْتَلَفُوا : هَلْ يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ عَلَى قَوْلَيْنِ , وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ مَنْعُ مَا اخْتَصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هِبَةِ الْبُضْعِ بِغَيْرِ مَهْرٍ " . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَإِنْ وَهَبَ ابْنَتَهُ وَهُوَ يُرِيدُ إنْكَاحَهَا فَلَا أَحْفَظُهُ عَنْ مَالِكٍ , وَهُوَ عِنْدِي جَائِزٌ , وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا

بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ بَعِيدٌ عَنْ أُصُولِهِمَا . فَإِنَّ الْحُكْمَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إنَّمَا نُسَمِّي ذَلِكَ كِنَايَةً , وَأَنَّ الْكِنَايَةَ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ , وَمَذْهَبُهُمَا الْمَشْهُورَانِ دَلَالَةُ الْحَالِ فِي الْكِنَايَاتِ تَجْعَلُهَا صَرِيحَةً وَيَقُومُ مَقَامَ إظْهَارِ النِّيَّةِ , وَلِهَذَا جَعَلَ الْكِنَايَاتِ فِي الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ وَنَحْوِهِمَا مَعَ دَلَالَةِ الْحَالِ كَالصَّرِيحِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ دَلَالَاتِ الْأَحْوَالِ فِي النِّكَاحِ مِنْ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِذَلِكَ , وَالتَّحَدُّثِ بِمَا اجْتَمَعُوا , فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : مَلَّكْتُكهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ , عَلِمَ الْحَاضِرُونَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِنْكَاحُ , وَقَدْ شَاعَ هَذَا اللَّفْظُ فِي عُرْفِ النَّاسِ حَتَّى سَمَّوْا عَقْدَهُ أَمْلَاكًا وَمُلَّاكًا , وَلِهَذَا رَوَى النَّاسُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَاطِبِ الْوَاهِبَةِ الَّذِي الْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ تَارَةً : { بِأَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ } , وَتَارَةً : " مَلَّكْتُكهَا " , وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَثْبُتُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَلَّكْتُكهَا , بَلْ إمَّا قَالَهُمَا جَمِيعًا أَوْ قَالَ أَحَدَهُمَا . لَكِنْ لَمَّا كَانَ اللَّفْظَانِ عِنْدَهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ سَوَاءً , رَوَوْا الْحَدِيثَ تَارَةً هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا , ثُمَّ تَعَيَّنَ اللَّفْظُ الْعَرَبِيُّ فِي مِثْلِ هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ أُصُولِ أَحْمَدَ وَنُصُوصِهِ وَعَنْ أُصُولِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ , إذْ النِّكَاحُ يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ , وَهُوَ إنْ كَانَ قُرْبَةً

فَإِنَّمَا هُوَ كَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ لَفْظٌ لَا عَرَبِيٌّ وَلَا عَجَمِيٌّ , وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَالْوَقْفُ وَالْهِبَةُ لَا يَتَعَيَّنُ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ بِالْإِجْمَاعِ , ثُمَّ الْعَجَمِيُّ إذَا تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ فِي الْحَالِ قَدْ لَا يَفْهَمُ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ كَمَا يَفْهَمُ مِنْ اللُّغَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا . نَعَمْ لَوْ قِيلَ : يُكْرَهُ الْعُقُودُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كَمَا يُكْرَهُ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ , لَكِنْ مُتَوَجِّهًا كَمَا قَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ اعْتِيَادِ الْمُخَاطَبَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ . وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ , وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدُ كَالْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَالْمُتَأَخِّرِينَ , أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي نِكَاحِ الْكُفَّارِ إلَى عَادَتِهِمْ كَمَا اعْتَقَدُوهُ نِكَاحًا بَيْنَهُمْ , جَازَ إقْرَارُهُمْ عَلَيْهِ إذَا تَسَلَّمُوا أَوْ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا , إذَا لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مُشْتَمِلًا عَلَى مَانِعٍ , وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ لَمْ يَجُزْ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ , حَتَّى قَالُوا : لَوْ قَهَرَ حَرْبِيٌّ حَرْبِيَّةً فَوَطِئَهَا أَوْ طَاوَعَتْهُ وَاعْتَقَدَاهُ نِكَاحًا أُقِرَّا عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَوْنَ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِ الْعَقْدِ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُسْلِمُ دُونَ الْكَافِرِ , إنَّمَا اخْتَصَّ الْمُسْلِمُ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ فِي النِّكَاحِ أَنْ يُمَيِّزَ عَنْ السِّفَاحِ ,

كَمَا قَالَ : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } , فَأَمَرَ بِالْوَالِي وَالشُّهُودِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي تَمَيُّزِهِ عَنْ السِّفَاحِ وَصِيَانَةِ النِّسَاءِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْبَغَايَا , حَتَّى شُرِعَ الصَّوْتُ بِالدُّفِّ وَالْوَلِيمَةِ الْمُوجِبَةِ لِشُهْرَتِهِ , وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : { الْمَرْأَةُ لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا , فَإِنَّ الْبَغِيَّ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا } . وَأَمَرَ فِيهِ بِالْإِشْهَادِ أَوْ بِالْإِعْلَانِ أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ , وَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِشْهَادِ عَلَّلَهُ بِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْإِعْلَانُ الْمُمَيِّزُ لَهُ عَنْ السِّفَاحِ , وَبِأَنَّهُ يَحْفَظُ النَّسَبَ عَنْ التَّجَاحُدِ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ فِي الْكِتَابِ وَالْآثَارِ حُكْمُهَا بَيَّنَهُ , فَأَمَّا الْتِزَامُ لَفْظٍ خَاصٍّ فَلَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ وَلَا تَعَلُّقٌ . وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْجَامِعَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ أَنَّ الْعُقُودَ تَصِحُّ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ , هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا أُصُولُ الشَّرِيعَةِ , وَهِيَ الَّتِي تَعْرِفُهَا الْقُلُوبُ , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } . وَقَالَ : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } , وَقَالَ : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } . وَقَالَ : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ } . وَقَالَ : { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } . وَقَالَ : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } . وَقَالَ : { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ

إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } إلَى قَوْلِهِ : { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } . وَقَالَ : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } . وَقَالَ : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } . وَقَالَ : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } . وَقَالَ : { إنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } , وَقَالَ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } . وَقَالَ : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } إلَى نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الْمَشْرُوعِ فِيهَا الْعُقُودُ , إمَّا أَمْرٌ وَإِمَّا إبَاحَةٌ , وَالْمَنْهِيُّ فِيهَا عَنْ بَعْضِهَا كَالزِّنَا فَإِنَّ الدَّلَالَةَ فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ بِالتَّرَاضِي فِي الْبَيْعِ فِي قَوْلِهِ : { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } . وَبِطِيبِ النَّفْسِ فِي التَّبَرُّعِ فِي قَوْلِهِ : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا } فَتِلْكَ الْآيَةُ فِي جِنْسِ الْمُعَاوَضَاتِ وَهَذِهِ مِنْ جِنْسِ التَّبَرُّعَاتِ , وَلَمْ يَشْتَرِطْ لَفْظًا مُعَيَّنًا , وَلَا فِعْلًا مُعَيَّنًا يَدُلُّ عَلَى التَّرَاضِي وَعَلَى طِيبِ النَّفْسِ , وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ عَادَاتِ النَّاسِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ التَّرَاضِيَ وَطِيبَ النَّفْسِ , وَالْعِلْمُ بِهِ ضَرُورِيٌّ فِي غَالِبِ مَا يُعْتَادُ مِنْ الْعُقُودِ وَظَاهِرٌ فِي بَعْضِهَا , وَإِذَا وُجِدَ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِهِمَا بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ , وَبَعْضُ النَّاسِ قَدْ يَحْمِلُهُ الْكَذِبُ فِي

نُصْرَةِ قَوْلٍ مُعَيَّنٍ , عَلَى أَنْ يَجْحَدَ مَا يَعْلَمُ النَّاسُ مِنْ التَّرَاضِي وَطِيبِ النَّفْسِ , فَلَا عِبْرَةَ بِجَحْدِ مِثْلِ هَذَا , فَإِنَّ جَحْدَ الضَّرُورِيَّاتِ قَدْ يَقَعُ كَثِيرًا عَنْ مُوَطَّأَةٍ وَتَلْقِينٍ فِي الْأَخْبَارِ وَالْمَذَاهِبِ . فَالْعِبْرَةُ بِلَفْظَتِهِ الَّتِي لَمْ يُعَارِضْهَا مَا يُغَيِّرُهَا , وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ الْأَخْبَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ يَحْصُلُ بِهَا الْعِلْمُ بِحَيْثُ لَا يُتَوَاطَأُ عَلَى الْكَذِبِ ; لِأَنَّ الْفِطْرَةَ لَا تَتَّفِقُ . فَأَمَّا مَعَ التَّوَاطُؤِ وَالِاتِّفَاقِ فَقَدْ تَتَّفِقُ جَمَاعَاتٌ عَلَى الْكَذِبِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ جَاءَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مُعَلَّقًا بِهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ , وَكُلُّ اسْمٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَدٍّ , فَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ حَدُّهُ بِاللُّغَةِ , كَالشَّمْسِ , وَالْقَمَرِ , وَالْبَحْرِ , وَالْبَرِّ , وَالسَّمَاءِ , وَالْأَرْضِ . وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِالشَّرْعِ , كَالْمُؤْمِنِ , وَالْكَافِرِ , وَالْمُنَافِقِ , وَكَالصَّلَاةِ , وَالزَّكَاةِ , وَالْحَجِّ . وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ فَالْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ , كَالْقَبْضِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ وَالْهِبَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَحُدَّ الشَّارِعُ لَهُ حَدًّا لَا فِي كِتَابِ اللَّهِ , وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ , بَلْ وَلَا يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُ عُيِّنَ لِلْعُقُودِ صِيغَةٌ مُعَيَّنَةٌ مِنْ الْأَلْفَاظِ أَوْ غَيْرِهَا , أَوْ قَالَ مَا يَدُلُّ

عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِالصِّيَغِ , بَلْ قَدْ قِيلَ إنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِمَّا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ الْقَدِيمَ , وَأَنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ , وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ بِحَيْثُ يُقَالُ إنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يُسَمُّونَ هَذَا بَيْعًا , وَلَا يُسَمُّونَ هَذَا بَيْعًا , حَتَّى يَدْخُلَ أَحَدُهُمَا فِي خِطَابِ اللَّهِ فَلَا يَدْخُلُ الْآخَرُ , بَلْ تَسْمِيَةُ أَهْلِ الْعُرْفِ مِنْ الْعَرَبِ هَذِهِ الْمُعَاقَدَاتِ بَيْعًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا فِي لُغَتِهِمْ تُسَمَّى بَيْعًا . وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اللُّغَةِ وَتَقْدِيرُهَا لَا نَقْلُهَا وَتَغْيِيرُهَا , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ الْمَرْجُوعِ فِيهِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ , فَمَا سَمَّوْهُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ , وَمَا سَمَّوْهُ هِبَةً فَهُوَ هِبَةٌ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْعِبَادِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ نَوْعَانِ : عِبَادَاتٌ يَصْلُحُ بِهَا دِينُهُمْ , وَعَادَاتٌ يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا فِي دُنْيَاهُمْ . فَاسْتِقْرَاءُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ أَوْ أَبَاحَهَا لَا يَثْبُتُ الْأَمْرُ بِهَا إلَّا بِالشَّرْعِ , وَأَمَّا الْعَادَاتُ فَهِيَ مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ فِي دُنْيَاهُمْ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ . وَالْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ الْحَظْرِ , فَلَا يَحْظُرُ مِنْهُ إلَّا مَا حَظَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِمَّا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى , وَالْعِبَادَةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَأْمُورًا بِهَا , فَمَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مَأْمُورٌ كَيْفَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عِبَادَةٌ ؟ وَمَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْ الْعَادَاتِ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ

عَنْهُ كَيْفَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَحْظُورٌ ؟ وَلِهَذَا كَانَ أَصْلُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ : أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ التَّوْقِيفُ , فَلَا يُشْرَعُ مِنْهَا إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِلَّا دَخَلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } . وَالْعَادَاتُ الْأَصْلُ فِيهَا الْعَفْوُ , فَلَا يُحْظَرُ مِنْهَا إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَإِلَّا دَخَلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا } . وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَرَّعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ , وَحَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ قَوْلِهِ : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ , وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } . وَقَالُوا : { هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ } . فَذَكَرَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَمِنْ التَّحْرِيمَاتِ , وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا

أَحْلَلْت لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا } . وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ نَافِعَةٌ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ : الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَالْإِجَارَةُ وَغَيْرُهَا , هِيَ مِنْ الْعَادَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهَا فِي مَعَاشِهِمْ , كَالْأَكْلِ , وَالشُّرْبِ , وَاللِّبَاسِ , فَالشَّرِيعَةُ جَاءَتْ فِي الْعَادَاتِ بِالْآدَابِ الْحَسَنَةِ , فَحَرَّمَتْ مِنْهَا مَا فِيهِ فَسَادٌ وَأَوْجَبَتْ مِنْهَا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ , وَكَرِهَتْ مَا لَا يَنْبَغِي وَاسْتَحَبَّتْ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ فِي أَنْوَاعِ هَذِهِ الْعَادَاتِ وَمَقَادِيرِهَا وَصِفَاتِهَا , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنَّاسُ يَتَبَايَعُونَ وَيُتَاجِرُونَ كَيْفَ شَاءُوا مَا لَمْ تُحَرِّمْهُ الشَّرِيعَةُ , كَمَا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ كَيْفَ شَاءُوا مَا لَمْ تُحَرِّمْهُ الشَّرِيعَةُ , وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ قَدْ يُسْتَحَبُّ أَوْ يَكُونُ مَكْرُوهًا , وَلَمْ تَحُدَّ الشَّرِيعَةُ فِي ذَلِكَ حَدًّا فَيَبْقَوْنَ فِيهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْأَصْلِيِّ . وَأَمَّا السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فَمَنْ تَتَبَّعَ مَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُبَايَعَاتِ وَالْمُؤَاجَرَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ , عَلِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَلْتَزِمُونَ الصِّيغَةَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ , وَالْآثَارُ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهَا , إذْ الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى الْقَوَاعِدِ , وَإِلَّا فَالْكَلَامُ فِي أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا , فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَى مَسْجِدَهُ , وَالْمُسْلِمُونَ بَنَوْا

الْمَسَاجِدَ عَلَى عَهْدِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ , وَلَمْ يُؤْمَرْ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ وَقَفْتُ هَذَا الْمَسْجِدَ وَلَا مَا يُشْبِهُ هَذَا اللَّفْظَ , بَلْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } , فَعُلِّقَ الْحُكْمُ بِنَفْسِ بِنَائِهِ , وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى الْجَمَلَ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ : هُوَ لَك يَا عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ } , وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْ ابْنِ عُمَرَ لَفْظُ قَبُولٍ , وَكَانَ يُهْدِي وَيُهْدَى لَهُ , فَيَكُونُ قَبْضُ الْهَدِيَّةِ قَبُولَهَا , وَلَمَّا نَحَرَ الْبَدَنَاتِ قَالَ : " مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ " , مَعَ إمْكَانِ قِسْمَتِهَا فَكَانَ هَذَا إيجَابًا , وَكَانَ الِاقْتِطَاعُ هُوَ الْقَبُولُ , وَكَانَ يَسْأَلُ فَيُعْطِي , أَوْ يُعْطِي مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ فَيَقْبِضُ الْمُعْطَى , وَيَكُونُ الْإِعْطَاءُ هُوَ الْإِيجَابُ , وَالْأَخْذُ هُوَ الْقَبُولُ فِي قَضَايَا كَثِيرَةٍ جِدًّا , وَلَمْ يَكُنْ يَأْمُرُ الْآخِذِينَ بِلَفْظٍ , وَلَا يَلْتَزِمُ أَنْ يَتَلَفَّظَ لَهُمْ كَمَا فِي إعْطَائِهِ لِلْمُؤَلَّفَةِ وَلِلْعَامِلِينَ وَغَيْرِهِمْ , وَجُعِلَ إظْهَارُ الصِّفَاتِ فِي الْمَبِيعِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِهَا بِاللَّفْظِ فِي مِثْلِ الْمُصَرَّاةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمُدَلَّسَاتِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّصَرُّفَاتِ جِنْسَانِ , عُقُودٌ وَقُبُوضٌ , كَمَا جَمَعَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : { رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا كَانَ سَمْحًا إذَا بَاعَ سَمْحًا إذَا اشْتَرَى سَمْحًا إذَا قَضَى سَمْحًا إذَا اقْتَضَى } , وَتَقُولُ النَّاسُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْأَخْذُ وَالْعَطَاءُ , وَالْمَقْصُودُ

مِنْ الْعُقُودِ إنَّمَا هُوَ الْقَبْضُ وَالِاسْتِيفَاءُ , فَإِنَّ الْمُعَاقَدَاتِ تُفِيدُ وُجُوبَ الْقَبْضِ أَوْ جَوَازَهُ بِمَنْزِلَةِ إيجَابِ الشَّارِعِ , ثُمَّ التَّقَابُضُ وَنَحْوُهُ وَفَاءٌ بِالْعُقُودِ , بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ
وَالْقَبْضُ يَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ كَالْعَقْدِ , وَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقْدِ , فَإِذَا كَانَ الْمَرْجِعُ فِي الْقَبْضِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ حَدٍّ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ , فَكَذَلِكَ الْعُقُودُ وَإِنْ حُرِّرَتْ عِبَارَتُهُ قُلْت أَحَدُ نَوْعَيْ التَّصَرُّفَاتِ , فَكَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى عَادَةِ النَّاسِ كَالنَّوْعِ الْآخَرِ , وَمِمَّا يَلْتَحِقُ بِهَذَا أَنَّ الْإِذْنَ الْعُرْفِيَّ فِي الِاسْتِبَاحَةِ , أَوْ التَّمَلُّكِ أَوْ التَّصَرُّفِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ , كَالْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ , وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَكَالَةِ وَالْإِبَاحَةِ يَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ , وَالْعِلْمُ بِرِضَى الْمُسْتَحِقِّ يَقُومُ مَقَامَ إظْهَارِهِ التَّرَضِّي . وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مُبَايَعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ , وَكَانَ غَائِبًا , وَإِدْخَالُهُ أَهْلَ الْخَنْدَقِ إلَى مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ , وَمَنْزِلِ جَابِرٍ بِدُونِ اسْتِئْذَانِهِمَا , لِعِلْمِهِ أَنَّهُمَا رَاضِيَانِ بِذَلِكَ , وَلَمَّا دَعَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّحَّامُ سَادِسَ سِتَّةٍ تَبِعَهُمْ رَجُلٌ فَلَمْ يُدْخِلْهُ حَتَّى اسْتَأْذَنَ اللَّحَّامَ الدَّاعِيَ . وَكَذَلِكَ مَا يُؤْثَرُ عَنْ الْحَسَنِ

الْبَصْرِيِّ أَنَّ أَصْحَابَهُ لَمَّا دَخَلُوا مَنْزِلَهُ وَأَكَلُوا طَعَامَهُ , قَالَ : " ذَكَّرْتُمُونِي أَخْلَاقَ قَوْمٍ قَدْ مَضَوْا " , وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي جَعْفَرٍ إنَّ الْإِخْوَانَ مَنْ يُدْخِلُ أَحَدُهُمْ يَدَهُ إلَى جَيْبِ صَاحِبِهِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ . وَمِنْ ذَلِكَ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ اسْتَوْهَبَهُ كُبَّةَ شَعْرٍ : أَمَّا مَا كَانَ إعْطَاؤُهُ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَدْ وَهَبْتُهُ لَك } , وَكَذَلِكَ الْمُؤَلَّفَةُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ أَعْطَاهُمْ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ , وَعَلَى هَذَا خَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بَيْعَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ , لَمَّا وَكَّلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاءِ شَاةٍ بِدِينَارٍ فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ وَبَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ , فَإِنَّ التَّصَرُّفَ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ خَاصٌّ تَارَةً بِالْمُعَاوَضَةِ , وَتَارَةً بِالتَّبَرُّعِ , وَتَارَةً بِالِانْتِفَاعِ مَأْخَذُهُ إمَّا إذْنٌ عُرْفِيٌّ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ .

وَأَيْضًا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْجِيلِ الدُّيُونِ إلَى الْحَصَادِ وَالْجَدَادِ , وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ , إحْدَاهُمَا : يَجُوزُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحِ يَدُلُّ عَلَيْهِ , وَأَيْضًا فَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ فِي قَوْله تَعَالَى : { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } , وَالسُّنَّةُ فِي حَدِيثِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ , وَإِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِدُونِ فَرْضِ الصَّدَاقِ , وَتَسْتَحِقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ إذَا دَخَلَ بِهَا بِإِجْمَاعِهِمْ , وَإِذَا مَاتَ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِحَدِيثِ بِرْوَعَ , وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ : وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مُتَقَارِبٌ لَا مَحْدُودٌ , فَلَوْ كَانَ التَّحْدِيدُ مُعْتَبَرًا فِي الْمَهْرِ مَا جَازَ النِّكَاحُ بِدُونِهِ , وَكَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ , عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نَهَى عَنْ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَجْرُهُ , وَعَنْ اللَّمْسِ وَالنَّجْشِ وَإِلْقَاءِ الْحَجَرِ } , فَمَضَتْ الشَّرِيعَةُ بِجَوَازِ النِّكَاحِ قَبْلَ فَرْضِ الْمَهْرِ , وَأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا مَعَ تَبَيُّنِ الْأَجْرِ , فَدَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَسَبَبُهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ وَهُوَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ غَيْرُ مَحْدُودٍ , بَلْ الْمَرْجِعُ فِيهَا إلَى الْعُرْفِ فَكَذَلِكَ عِوَضُهُ الْأَجْرُ . وَلِأَنَّ الْمَهْرَ فِيهِ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ . وَإِنَّمَا هُوَ نَخْلَةٌ تَابِعَةٌ فَأَشْبَهَ الثَّمَرَ

التَّابِعَ لِلشَّجَرِ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ , وَكَذَلِكَ { لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ هَوَازِنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ السَّبْيِ وَبَيْنَ الْمَالِ , فَاخْتَارُوا السَّبْيَ , وَقَالَ لَهُمْ : إنِّي قَائِمٌ فَخَاطِبُ النَّاسِ فَقُولُوا إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , وَنَسْتَشْفِعُ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ , وَقَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ : فَقَالَ : إنِّي قَدْ رَدَدْتُ عَلَى هَؤُلَاءِ سَبْيَهُمْ فَمَنْ شَاءَ طَيَّبَ ذَلِكَ وَمَنْ شَاءَ فَإِنَّا نُعْطِيهِ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ عَشْرَ قَلَائِصَ مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِي اللَّهُ عَلَيْنَا } فَهَذَا مُعَاوَضَةٌ عَنْ الْإِعْتَاقِ , كَعِوَضِ الْكِتَابَةِ بِإِبِلٍ مُطْلَقَةٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ مُتَفَاوِتٍ غَيْرِ مَحْدُودٍ , وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ; فِي حَدِيثِ حُنَيْنٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلَهُمْ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ إلَى قَصْرِهِمْ , وَعَامَلَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ وَالزَّرْعِ وَالنَّخْلِ فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَخْلُوا مِنْهَا , وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ , وَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ وَالْحَلْقَةُ هِيَ السِّلَاحُ , وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا , وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَكْتُمُوا وَلَا يُغَيِّبُوا شَيْئًا , فَإِنْ فَعَلُوا فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ } فَهَذَا مُصَالَحَةٌ عَلَى مَالٍ مُتَمَيِّزٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ . { وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ , النِّصْفُ فِي صَفَرٍ وَالْبَقِيَّةُ فِي رَجَبٍ , يُؤَدُّونَهَا

إلَى الْمُسْلِمِينَ , وَعَارِيَّةً ثَلَاثِينَ دِرْعًا وَثَلَاثِينَ فَرَسًا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا وَثَلَاثِينَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ السِّلَاحِ يَغْزُونَ بِهَا , وَالْمُسْلِمُونَ صَامِتُونَ لَهَا حَتَّى يَرُدُّوهَا عَلَيْهِمْ } , رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . فَهَذَا مُصَالَحَةٌ عَلَى ثِيَابٍ مُطْلَقَةٍ مَعْلُومَةِ الْجِنْسِ غَيْرِ مَوْصُوفَةٍ بِصِفَاتِ السَّلَمِ , وَكَذَلِكَ كُلُّ عَارِيَّةٍ خَيْلٍ وَإِبِلٍ وَأَنْوَاعٍ مِنْ السِّلَاحِ مُطْلَقَةٍ غَيْرِ مَوْصُوفَةٍ عِنْدَ شَرْطٍ , قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ , فَظَهَرَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ الْعِوَضَ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ كَالصَّدَاقِ وَالْكِتَابَةِ وَالْفِدْيَةِ فِي الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ , وَالْجِزْيَةِ وَالصُّلْحِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ , لَيْسَ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ كَمَا يُعْلَمُ الثَّمَنُ وَالْأُجْرَةُ . وَلَا يُقَاسُ عَلَى بَيْعِ الْغَرَرِ كُلُّ عَقْدٍ عَلَى غَرَرٍ ; لِأَنَّ الْأَمْوَالَ إمَّا أَنْ لَا تَجِبَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ , أَوْ لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ فِيهَا , وَمَا لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ إذَا وَقَعَ فِيهِ غَرَرٌ لَمْ يُفْضِ إلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَيْعِ بَلْ يَكُونُ إيجَابُ التَّحْدِيدِ فِي ذَلِكَ فِيهِ مِنْ الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ الْمَنْفِيِّ شَرْعًا مَا يَزِيدُ عَلَى ضَرَرِ تَرْكِ تَحْدِيدِهِ .

فَصْلٌ وَمِمَّا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ , وَمِنْ مَسَائِلِ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ مَا قَدْ عَمَّ بِهِ الْبَلْوَى فِي كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَوْ أَكْثَرِهَا , لَا سِيَّمَا دِمَشْقَ , وَذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ تَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى غِرَاسٍ , وَأَرْضٍ تَصْلُحُ لِلزَّرْعِ , وَرُبَّمَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مَسَاكِنَ فَيُرِيدُ صَاحِبُهَا أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِمَنْ يَسْقِيهَا وَيَزْرَعُهَا أَوْ يَسْكُنُهَا مَعَ ذَلِكَ , فَهَذَا إذَا كَانَ فِيهَا أَرْضٌ وَغِرَاسٌ مِمَّا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَجُوزُ إذًا كَافِي الشَّجَرِ قَلِيلًا فَكَانَ الْبَيَاضُ الثُّلُثَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ , وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَكْرَى دَارًا فِيهَا نَخَلَاتٌ قَلِيلَةٌ , أَوْ شَجَرَاتُ عِنَبٍ , وَنَحْوُ ذَلِكَ , وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَعَنْ أَحْمَدَ كَالْقَوْلَيْنِ فَإِنَّ الْكَرْمَانِيَّ قَالَ لِأَحْمَدَ : الرَّجُلُ يَسْتَأْجِرُ الْأَرْضَ وَفِيهَا نَخَلَاتٌ , قَالَ : أَخَافُ أَنْ يَكُونَ اسْتَأْجَرَ شَجَرًا لَمْ يُثْمِرْ . وَكَأَنَّهُ لَمْ يُعْجِبْهُ أَظُنُّهُ إذَا أَرَادَ الشَّجَرَ , فَلَمْ أَفْهَمْ عَنْهُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهَا إذَا بَاعَ رِبَوِيًّا بِجِنْسِهِ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْثَرَ هُوَ غَيْرُ الْجِنْسِ , كَشَاةٍ ذَاتِ صُوفٍ أَوْ لَبَنٍ بِصُوفٍ أَوْ لَبَنٍ رِوَايَتَانِ وَأَكْثَرُ أُصُولِهِ عَلَى الْجَوَازِ كَقَوْلِ مَالِكٍ , فَإِنَّهُ يَقُولُ : إذَا ابْتَاعَ

عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ وَكَانَ مَقْصُودُهُ الْعَبْدَ جَازَ , وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مَجْهُولًا أَوْ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ , وَلِأَنَّهُ يَقُولُ إذَا ابْتَاعَ أَرْضًا أَوْ شَجَرًا فِيهَا ثَمَرٌ أَوْ زَرْعٌ لَمْ يُدْرِكْ يَجُوزُ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ , وَهَذَا فِي الْبَيْعِ نَظِيرَ مَسْأَلَتِنَا فِي الْإِجَارَةِ , فَإِنَّ ابْتِيَاعَ الْأَرْضِ , وَاشْتِرَاءَ النَّخِيلِ وَدُخُولَ الثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تُؤْمِنْ الْعَاهَةَ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ دُخُولِ تَمْرِ النَّخَلَاتِ وَالْعِنَبِ فِي الْإِجَارَةِ تَبَعًا . وَحُجَّةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَنْعِ مَا ثَبَتَ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ { نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ اللَّبَنِ وَبَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ } , كَمَا خَرَّجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ } , وَفِيهَا , عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تُشَقِّحَ , قِيلَ : وَمَا تُشَقِّحُ ؟ قَالَ : تَحْمَرُّ أَوْ تَصْفَرُّ وَيُؤْكَلُ مِنْهَا } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ كَلَامُ سَعِيدِ بْنِ مِينَاءَ الْمُحَدِّثِ عَنْ جَابِرٍ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ وَالْمُخَابَرَةِ } , وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا { وَعَنْ بَيْعِ السِّنِينَ } بَدَلَ الْمُعَاوَضَةِ . وَفِيهَا أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ , عَنْ عَطَاءٍ ,

عَنْ جَابِرٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ , وَأَنْ يَشْتَرِيَ النَّخْلَ حَتَّى يُشَقِّحَ } , وَالْإِشْقَاحُ أَنْ يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ شَيْءٌ , وَالْمُحَاقَلَةُ أَنْ يَبِيعَ الْحَقْلَ بِكَيْلٍ مِنْ الطَّعَامِ مَعْلُومٍ . وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يُبَاعَ لِلنَّخْلِ بِأَوْسَاقٍ مِنْ الثَّمَرِ , وَالْمُخَابَرَةُ الثُّلُثُ أَوْ الرُّبْعُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ . قَالَ زَيْدٌ : قُلْت : لِعَطَاءٍ أَسَمِعْت جَابِرًا يَذْكُرُهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . وَفِيهَا عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ , فَقَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُؤْكَلَ مِنْهُ أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ , وَحَتَّى يُوزَنَ } , فَقُلْت : مَا يُوزَنُ , فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ : حَتَّى تُحْرَزَ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَتَبَايَعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَلَا تَتَبَايَعُوا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ }

فَأَمَّا الْإِجَارَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِالْمَنْفَعَةِ فَلَا تُشْبِهُ هَذِهِ الْإِجَارَةَ كَمَا تَقَدَّمَ , فَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُهَا بِهَا فَتَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ الْمُبِيحِ , فَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُعْتَقِدَ لِكَوْنِهَا إجَارَةً يَسْتَفْسِرُ عَنْ مُرَادِهِ بِالْإِجَارَةِ , فَإِنْ أَرَادَ الْخَاصَّةَ لَمْ يَصِحَّ , وَإِنْ أَرَادَ الْعَامَّةَ فَأَيْنَ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا إلَّا بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ , فَإِنْ ذَكَرَ قِيَاسًا بَيَّنَ لَهُ الْفَرْقَ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِ فَقِيهٍ فَضْلًا عَنْ الْفَقِيهِ , وَأَنْ يَجِدَ إلَى أَمْرٍ يَشْمَلُ مِثْلَ هَذِهِ الْإِجَارَةِ سَبِيلًا فَإِذَا انْتَفَتْ أَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ ثَبَتَ الْحِلُّ , وَسَلَكَ مِنْ هَذَا فِي طَرِيقَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قِيَاسُ الْعَكْسِ , وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الْفَرْعِ نَقِيضُ حُكْمِ الْأَصْلِ , لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُكْمِ الْأَصْلِ , فَيُقَالُ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِكَوْنِ الْأُجْرَةِ تَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً مُنْتَفٍ فِي بَابِ الْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِهَا ; لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِذَلِكَ أَنَّ الْمَجْهُولَ غَرَرٌ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْغَرَرِ الْمُقْتَضِي أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ , أَوْ مَا يُذْكَرُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ , وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَنْفِيَّةٌ فِي الْفَرْعِ , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّحْرِيمِ مُوجِبٌ إلَّا كَذَا وَهُوَ مُنْتَفٍ فَلَا تَحْرِيمَ . وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ : حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ , وَغَيْرِهِ فَقَدْ جَاءَتْ مُفَسِّرَةً مُبَيِّنَةً لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَمَّا فَعَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي عَهْدِهِ وَبَعْدَهُ , بَلْ الَّذِي

رَخَّصَ فِيهِ غَيْرُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ , فَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ , قَالَ : { كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُزْدَرَعًا , كُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا مُسَمَّى لِسَيِّدِ الْأَرْضِ , قَالَ : فِيمَا يُصَابُ ذَلِكَ وَتَسْلَمُ الْأَرْضُ , وَمِمَّا يُصَابُ الْأَرْضُ وَيَسْلَمُ ذَلِكَ فَنُهِينَا , فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ قَالَ : { كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَقْلًا , وَكَانَ أَحَدُنَا يُكْرِي أَرْضَهُ , فَيَقُولُ : هَذِهِ الْقِطْعَةُ لِي وَهَذِهِ لَك , فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ , فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ , فَنُهِينَا عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ نُنْهَ عَنْ الزَّرْعِ } , وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ رَافِعٍ قَالَ : كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَمْصَارِ حَقْلًا , وَكُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ , عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ وَلَهُمْ هَذِهِ , فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ , وَأَمَّا الْوَرِقُ فَلَمْ يَنْهَنَا , وَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا , عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ : سَأَلْت رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ؟ , قَالَ : فَلَا بَأْسَ بِهِ , إنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَجِّرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَإِقْبَالِ الْجَدَاوِلِ وَأَشْيَاءَ مِنْ الزَّرْعِ , فَيَهْلَكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا , فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إلَّا هَذَا , فَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ , فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلَا بَأْسَ

بِهِ . فَهَذَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الْحَدِيثِ يَذْكُرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِرَاءٌ إلَّا بِزَرْعِ مَكَان مُعَيَّنٍ مِنْ الْحَقْلِ , وَهَذَا النَّوْعُ حَرَامٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً وَحَرَّمُوا نَظِيرَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ , فَلَوْ اشْتَرَطَ رَبُّ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ , وَهَذَا الْغَرَرُ فِي الْمُشَارَكَاتِ نَظِيرُ الْغَرَرِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذِهِ الْمُعَاوَضَاتِ وَالْمُقَابَلَاتِ هُوَ التَّعَادُلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ , فَإِنْ اشْتَمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى غَرَرٍ أَوْ رِبًا دَخَلَهَا الظُّلْمُ فَحَرَّمَهَا الَّذِي حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ , وَجَعَلَهُ مُحَرَّمًا عَلَى عِبَادِهِ , فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا مَلَكَ الثَّمَنَ وَبَقِيَ الْآخَرُ تَحْتَ الْخَطَرِ , وَلِذَلِكَ حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا . فَكَذَلِكَ هَذَا إذَا اشْتَرَطَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مَكَانًا مُعَيَّنًا خَرَجَا عَنْ مُوجِبِ الشَّرِكَةِ , فَإِنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي النَّمَاءِ , فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْمُعَيَّنِ لَمْ يَبْقَ لِلْآخَرِ فِيهِ نَصِيبٌ , وَدَخَلَهُ الْخَطَرُ وَمَعْنَى الْقِمَارِ كَمَا ذَكَرَهُ رَافِعٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ , رُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ فَيَفُوزُ أَحَدُهُمَا وَيَخِيبُ الْآخَرُ , وَهُوَ مَعْنَى الْقِمَارِ , وَأَخْبَرَ رَافِعٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ كِرَاءٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا هَذَا , وَأَنَّهُ إنَّمَا زَجَرَ عَنْهُ لِأَجْلِ مَا فِيهِ

مِنْ الْمُخَاطَرَةِ وَمَعْنَى الْقِمَارِ , وَأَنَّ النَّهْيَ انْصَرَفَ إلَى ذَلِكَ الْكِرَاءِ الْمَعْهُودِ , لَا إلَى مَا تَكُونُ فِيهِ الْأُجْرَةُ مَضْمُونَةً فِي الذِّمَّةِ . وَسَأُشِيرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا , وَرَافِعٌ أَعْلَمُ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ وَقَعَ , وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ , فَإِنَّهُ قَالَ لَمَّا حَدَّثَهُ رَافِعٌ قَدْ عَلِمْت أَنَّا كُنَّا نُكْرِي مَزَارِعَنَا بِمَا عَلَى الْأَرْبِعَاءِ وَشَيْءٍ مِنْ التِّبْنِ , فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ بِزَرْعِ مَكَان مُعَيَّنٍ , وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَهُ النَّهْيُ , يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ , كَانَ يَرْوِي حَدِيثَ مُعَامَلَةِ خَيْبَرَ دَائِمًا وَيُفْتِي بِهِ , وَيُفْتِي بِالْمُزَارَعَةِ عَلَى الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ , وَأَهْلُ بَيْتِهِ أَيْضًا بَعْدَ حَدِيثِ رَافِعٍ . فَرَوَى حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ , حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ , حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ , سَمِعْت كُلَيْبَ بْنَ وَائِلٍ , قَالَ : أَتَيْت ابْنَ عُمَرَ , فَقُلْت : أَتَانِي رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ وَمَاءٌ , وَلَيْسَ لَهُ بَذْرٌ وَلَا بَقَرٌ , فَأَخَذْتهَا بِالنِّصْفِ , فَبَذَرْت فِيهَا بَذْرِي وَعَمِلْت فِيهَا بِبَقَرِي فَنَاصَفْته , قَالَ حَسَنٌ , قَالَ : وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي حَزْمٍ , حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ , حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ سَمِعْت سَالِمَ بْنَ عَبْدِ

اللَّهِ وَأَتَاهُ رَجُلٌ , فَقَالَ الرَّجُلُ : مِنَّا يَنْطَلِقُ إلَى الرَّجُلِ فَيَقُولُ : أَجِيءُ بِبَذْرِي وَبَقَرِي وَأَعْمَلُ أَرْضَك فَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْهُ فَلَكَ مِنْهُ كَذَا وَلِي مِنْهُ كَذَا , قَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ وَنَحْنُ نُضَيِّقُهُ . وَهَكَذَا أَخْبَرَ أَقَارِبُ رَافِعٍ , فَفِي الْبُخَارِيِّ , عَنْ رَافِعٍ قَالَ : حَدَّثَنِي عُمُومَتِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ الْأَرْضَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَنْبُتُ عَلَى الْأَرْبِعَاءِ , وَشَيْءٍ يَسْتَثْنِيهِ صَاحِبُ الْأَرْضِ فَنَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ , فَقِيلَ : لِرَافِعٍ فَكَيْفَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ , فَقَالَ : لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ . وَكَانَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ , وَذَلِكَ مَا لَوْ نَظَرَ فِيهِ ذُو الْفَهْمِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَمْ يُجْزِئْ , لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُخَاطَرَةِ , وَعَنْ أُسَيْدَ بْنِ ظُهَيْرٍ قَالَ : كَانَ أَحَدُنَا إذَا اسْتَغْنَى عَنْ أَرْضِهِ أَعْطَاهَا بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبْعِ أَوْ النِّصْفِ , وَيُشْتَرَطُ ثَلَاثُ جَدَاوِلَ , وَالْقُصَارَةُ , وَمَا سَقَى الرَّبِيعُ , وَكَانَ الْعَيْشُ إذْ ذَاكَ شَدِيدًا وَكَانَ يَعْمَلُ فِيهَا بِالْحَدِيدِ وَمَا شَاءَ اللَّهُ وَيُصِيبُ مِنْهَا مَنْفَعَةً , فَأَتَانَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ , فَقَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَاكُمْ عَنْ الْحَقْلِ , وَيَقُولُ : { مَنْ اسْتَغْنَى عَنْ أَرْضِهِ فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ , أَوْ لِيَدَعْ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ , وَرَوَى أَبُو دَاوُد قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَادَ أَحْمَدُ { وَيَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُزَابَنَةِ } .

وَالْمُزَابَنَةُ : أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ لَهُ الْمَالُ الْعَظِيمُ مِنْ النَّخْلِ فَيَأْتِيهِ الرَّجُلُ فَيَقُولُ أَخَذْته بِكَذَا وَكَذَا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ , وَالْقُصَارَةُ : مَا سَقَطَ مِنْ السُّنْبُلِ , وَهَكَذَا أَخْبَرَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَجَابِرٌ فَأَخْبَرَ سَعْدٌ أَنَّ أَصْحَابَ الْمَزَارِعِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , كَانُوا يُكْرُونَ مَزَارِعَهُمْ بِمَا يَكُونُ عَلَى السَّوَّاقِي مِنْ الزَّرْعِ وَمَا يَتَغَذَّى بِالْمَاءِ مِمَّا حَوْلَ الْبِئْرِ , فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَصَمُوا فِي ذَلِكَ , فَنَهَاهُمْ أَنْ يُكْرُوا بِذَلِكَ , وَقَالَ { اُكْرُوا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ . فَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْإِذْنِ بِالْكِرَاءِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ , وَأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا كَانَ عَنْ اشْتِرَاطِ زَرْعِ مَكَان مُعَيَّنٍ , وَعَنْ جَابِرٍ , قَالَ : كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُصِيبُ مِنْ الْقُصَارَةِ وَمِنْ كَذَا , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ وَإِلَّا فَلْيَدَعْهَا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ رَوَوْا عَنْهُ النَّهْيَ قَدْ أَخْبَرُوا بِالصُّورَةِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا , وَالْعِلَّةَ الَّتِي نَهَى مِنْ أَجْلِهَا , وَإِذَا كَانَ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ , فَإِنَّمَا أَرَادَ الْكِرَاءَ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ كَمَا فَهِمُوهُ مِنْ كَلَامِهِ , وَهُوَ أَعْلَمُ

بِمَقْصُودِهِ , وَكَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا عَنْهُ أَنَّهُ رَخَّصَ غَيْرَ ذَلِكَ الْكِرَاءِ وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ مَا قُرِنَ بِهِ النَّهْيُ مِنْ الْمُزَابَنَةِ وَنَحْوِهَا , وَاللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ فِي الْمُزَابَنَةِ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ إذَا كَانَ خِطَابًا لِمُعَيَّنٍ فِي مِثْلِ الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالٍ أَوْ عَقِبَ حِكَايَةِ حَالٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يَكُونُ مَقِيلًا بِمِثْلِ حَالِ الْمُخَاطَبِ , كَمَا لَوْ قَالَ الْمَرِيضُ لِلطَّبِيبِ : إنَّ بِهِ حَرَارَةً فَقَالَ : لَا تَأْكُلْ الدَّسَمَ , فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ النَّهْيَ مُقَيَّدٌ بِتِلْكَ الْحَالِ , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُطْلَقَ إذَا كَانَ لَهُ مُسَمًّى مَعْهُودٌ أَوْ حَالٌ تَقْتَضِيهِ انْصَرَفَ إلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ يُكْرَهُ كَالْمُتَبَايِعِينَ إذَا قَالَ أَحَدُهُمَا بِعْتُك عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَإِنَّهَا مُطْلَقَةٌ فِي اللَّفْظِ , ثُمَّ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا إلَى الْمَعْهُودِ مِنْ الدَّرَاهِمِ . فَإِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ لَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ لَفْظَ الْكِرَاءِ إلَّا لِذَلِكَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ , ثُمَّ خُوطِبُوا بِهِ لَمْ يَنْصَرِفْ إلَّا إلَى مَا يَعْرِفُونَهُ , وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ الْعُرْفِيِّ , كَلَفْظِ الدَّابَّةِ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ أَنَّهُ الْفَرَسُ أَوْ ذَوَاتُ الْحَافِرِ فَقَالَ : لَا يَأْتِي بِدَابَّةٍ لَمْ يَنْصَرِفْ هَذَا الْمُطْلَقُ إلَّا إلَى ذَلِكَ , وَنَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ كَانَ مُقَيَّدًا بِالْعُرْفِ وَبِالسُّؤَالِ , فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ ظُهَيْرِ بْنِ رَافِعٍ , قَالَ : دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :

{ مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ , قُلْت : نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبْعِ , وَعَلَى الْأَوْسُقِ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ , فَقَالَ : لَا تَفْعَلُوا ازْرَعُوهَا أَوْ امْسِكُوهَا } . فَقَدْ خَرَجَ بِأَنَّ النَّهْيَ وَقَعَ عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ . وَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ الْمَحْضَةُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهَا النَّهْيُ وَلَا ذَكَرَهَا رَافِعٌ وَغَيْرُهُ فِيمَا يَجُوزُ مِنْ الْكِرَاءِ ; لِأَنَّهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عِنْدَهُمْ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الْكِرَاءِ الْمُعْتَادِ , فَإِنَّ الْكِرَاءَ اسْمٌ لِمَا وَجَبَتْ فِيهِ أُجْرَةٌ مَعْلُومَةٌ إمَّا عَيْنٌ وَإِمَّا دَيْنٌ , فَإِنْ كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مَضْمُونًا فَهُوَ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَيْنًا مِنْ غَيْرِ الزَّرْعِ , أَمَّا إنْ كَانَ عَيْنًا مِنْ الزَّرْعِ لَمْ يَجُزْ . فَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ جَمِيعِ الزَّرْعِ فَلَيْسَ هُوَ الْكِرَاءُ الْمُطْلَقُ , بَلْ هُوَ شَرِكَةٌ مَحْضَةٌ إذْ لَيْسَ جَعْلُ الْعَامِلِ مُكْتَرِيًا لْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِنْ الزَّرْعِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ الْمَالِكِ مُكْتَرِيًا لِلْعَامِلِ بِالْجُزْءِ الْآخَرِ , وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي هَذَا كِرَاءً أَيْضًا , فَإِنَّمَا هُوَ كِرَاءٌ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِثَالُهُ . فَأَمَّا الْكِرَاءُ الْخَاصُّ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ رَافِعٌ وَغَيْرُهُ فَلَا , وَلِهَذَا السَّبَبِ بَيَّنَ رَافِعٌ أَحَدَ نَوْعَيْ الْكِرَاءِ الْجَائِزِ وَبَيَّنَ الْكِرَاءَ الْآخَرَ الَّذِي نُهُو عَنْهُ , وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلشَّرِكَةِ ; لِأَنَّهَا جِنْسٌ آخَرُ , بَقِيَ أَنْ يُقَالَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ وَإِلَّا

فَلْيُمْسِكْهَا } أَمَرَ إذَا لَمْ يَفْعَلْ وَاحِدًا مِنْ الزَّرْعِ وَالْمَنِيحَةِ أَنْ يُمْسِكَهَا , وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ وَمِنْ الْمُزَارَعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ , فَيُقَالُ الْأَمْرُ بِهَذَا أَمْرُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ لَا أَمْرُ إيجَابٍ فِي الِابْتِدَاءِ لِيَنْزَجِرُوا عَمَّا اعْتَادُوهُ مِنْ الْكِرَاءِ الْفَاسِدِ , وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَقَالَ أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا وَأَكْثَرُهَا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ سَأَلَهُ عَنْهُمْ أَبُو ثَعْلَبَةَ : { إنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَأَرْخِصُوهَا بِالْمَاءِ } . وَذَلِكَ ; لِأَنَّ النُّفُوسَ إذَا اعْتَادَتْ الْمَعْصِيَةَ فَقَدْ لَا تَنْفَطِمُ عَنْهَا انْفِطَامًا جَيِّدًا إلَّا بِتَرْكِ مَا يُقَارِبُهَا مِنْ الْمُبَاحِ , كَمَا قِيلَ لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ حَاجِزًا مِنْ الْحَلَالِ , كَمَا أَنَّهَا أَحْيَانَا لَا تُتْرَكُ الْمَعْصِيَةُ إلَّا بِتَدْرِيجٍ لَا بِتَرْكِهَا جُمْلَةً , فَهَذَا يَقَعُ تَارَةً وَهَذَا يَقَعُ تَارَةً , وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ خَشِيَ مِنْهُ النَّفْرَةَ عَنْ الطَّاعَةِ الرُّخْصَةُ فِي أَشْيَاءَ يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ الْمُحَرَّمِ , وَلِمَنْ وَثِقَ بِإِيمَانِهِ وَصَبْرِهِ النَّهْيُ عَنْ بَعْضِ مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ تَرْكُهُ مُبَالَغَةً فِي فِعْلِ الْأَفْضَلِ , وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ وَثِقَ بِإِيمَانِهِ وَصَبْرِهِ مِنْ فِعْلِ الْمُسْتَحَبَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ

كَالْخُرُوجِ عَنْ جَمِيعِ مَالِهِ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا لَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ حَالُهُ كَذَلِكَ , كَالرَّجُلِ الَّذِي جَاءَهُ بِبَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَحَدَفَهُ فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ , ثُمَّ قَالَ : " { يَذْهَبُ أَحَدُكُمْ فَيُخْرِجُ مَالَهُ ثُمَّ يَجْلِسُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ } . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الصَّحِيحَةِ , عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ , { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى , عَنْ الْمُزَارَعَةِ , وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ , وَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهَا } . وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ سَعْدٍ أَنَّهُ نَهَاهُمْ أَنْ يُكْرُوا بِزَرْعِ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ , وَقَالَ : اُكْرُوَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَكَذَلِكَ فَهِمَتْهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ , فَإِنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ قَدْ رَوَى ذَلِكَ , وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِكِرَائِهَا بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ , وَكَذَلِكَ فُقَهَاءُ الصَّحَابَةِ كَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ , فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ قُلْت لِطَاوُسٍ لَوْ تَرَكْت الْمُخَابَرَةَ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ , قَالَ ابْنُ عَمْرٍو : إنِّي أُعْطِيهِمْ وَأُعِينُهُمْ وَأَنَا أَعْلَمُهُمْ . أَخْبَرَنِي يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ , وَلَكِنْ قَالَ : إنْ مَنَحَ أَحَدُهُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ خَرْجًا مَعْلُومًا } , وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَرِّمْ الْمُزَارَعَةَ ,

وَلَكِنْ أَمَرَ أَنْ يُرْفِقَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ , رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُجْمَلًا , وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . فَقَدْ أَخْبَرَ طَاوُسٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالرِّفْقِ الَّذِي مِنْهُ وَاجِبٌ وَهُوَ تَرْكُ الرِّبَا وَالْغَرَرِ وَمِنْهُ مُسْتَحَبٌّ كَالْعَارِيَّةِ وَالْقَرْضِ , وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ التَّبَرُّعُ بِالْأَرْضِ بِلَا أُجْرَةٍ مِنْ بَابِ الِاخْتِبَارِ كَانَ الْمُسْلِمُ أَحَقَّ , فَقَالَ : { لَأَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ أَرْضَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا خَرْجًا مَعْلُومًا } , وَقَالَ : { مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ أَوْ لِيُمْسِكْهَا } . فَكَانَ الْأَخُ هُوَ الْمَمْنُوحُ , وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَيْسُوا مِنْ الْإِخْوَانِ عَامَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَمْنَحْهُمْ , لَا سِيَّمَا وَالتَّبَرُّعُ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ فَضْلِ غِنًى . فَمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى مَنْفَعَةِ أَرْضِهِ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهَا الْمَنِيحَةُ , كَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُحْتَاجِينَ إلَى مَنْفَعَةِ أَرْضِ خَيْبَرَ , وَكَمَا كَانَ الْأَنْصَارُ مُحْتَاجِينَ إلَى أَرْضِهِمْ حَيْثُ عَامَلُوا عَلَيْهَا الْمُهَاجِرِينَ , وَقَدْ تُوجِبُ الشَّرِيعَةُ التَّبَرُّعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ , كَمَا نَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ لِأَجْلِ الرَّأْفَةِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ لِيُطْعِمُوا الْجِيَاعَ ; لِأَنَّ إطْعَامَهُمْ وَاجِبٌ , فَلَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُحْتَاجِينَ إلَى مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَأَصْحَابُهَا أَغْنِيَاءُ نَهَاهُمْ عَنْ الْمُعَاوَضَةِ لِيَجُودُوا

بِالتَّبَرُّعِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالتَّبَرُّعِ عَيْنًا كَمَا نَهَاهُمْ عَنْ الِادِّخَارِ , فَإِنَّ مَنْ نَهَى عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ جَادَ بِبَذْلِهِ إذْ لَا يَتْرُكُ كَذَا , وَقَدْ يَنْهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ اللَّهُ عَنْ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمُبَاحِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ , لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَنْفَعَةِ الْمَنْهِيِّ كَمَا نَهَاهُمْ فِي بَعْضِ الْمَغَازِي . وَأَمَّا مَا رَوَاهُ جَابِرٌ , مِنْ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُخَابَرَةِ , فَهَذِهِ هِيَ الْمُخَابَرَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا , وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ وَلَمْ تَكُنْ الْمُخَابَرَةُ عِنْدَهُمْ إلَّا ذَلِكَ , بَيَّنَ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كُنَّا لَا نَرَى بِالْخِبْرَةِ بَأْسًا حَتَّى كَانَ عَامُ أَوَّلٍ , فَزَعَمَ رَافِعٌ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ فَتَرَكْنَاهُ مِنْ أَجَلِهِ . فَأَخْبَرَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَافِعًا رَوَى النَّهْيَ عَنْ الْخِبْرَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى حَدِيثِ رَافِعٍ , قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْخِبْرَةُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالْمُخَابَرَةُ , وَالْمُزَارَعَةُ بِالنِّصْفِ , أَوْ الثُّلُثِ وَالرُّبْعِ , وَأَقَلُّ وَأَكْثَرُ , وَكَانَ أَبُو عُبَيْدٍ يَقُولُ لِهَذَا سُمِّيَ الْأَكَّارُ خَبِيرًا ; لِأَنَّهُ يُخَابِرُ الْأَرْضَ , الْمُخَابَرَةُ هِيَ الْمُؤَاكَرَةُ , وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : أَصْلُ هَذَا مِنْ خَيْبَرَ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَقَرَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى النِّصْفِ , فَقِيلَ خَابَرَهُمْ أَيْ عَامَلَهُمْ فِي خَيْبَرَ , وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ فَإِنَّ مُعَامَلَتَهُ بِخَيْبَرَ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا قَطُّ بَلْ فَعَلَهَا الصَّحَابَةُ فِي حَيَاتِهِ

وَبَعْدَ مَوْتِهِ , وَإِنَّمَا رَوَى حَدِيثَ الْمُخَابَرَةِ رَافِعٌ , وَجَابِرٌ , وَقَدْ فَسَّرَا مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ , وَالْخَبِيرُ هُوَ الْفَلَّاحُ سُمِّيَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يَخْبُرُ الْأَرْضَ . وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُخَابَرَةِ وَالْمُزَارَعَةِ , فَقَالُوا : الْمُخَابَرَةُ هِيَ الْمُعَامَلَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ , وَالْمُزَارَعَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ , قَالُوا : وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ لَا الْمُزَارَعَةِ , وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْمُزَارَعَةِ , كَمَا نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ , وَكَمَا نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ , وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عَامَّةٌ لِمَوْضِعِ نَهْيِهِ وَغَيْرِ مَوْضِعِ نَهْيِهِ , وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ مِمَّا يَفْعَلُونَهُ لِأَجْلِ التَّخْصِيصِ الْعُرْفِيِّ لَفْظًا وَفِعْلًا , وَلِأَجْلِ الْقَرِينَةِ اللَّفْظِيَّةِ وَهِيَ لَامُ الْعَهْدِ , وَسُؤَالِ السَّائِلِ وَإِلَّا فَقَدْ نَقَلَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ الْمُخَابَرَةَ هِيَ الْمُزَارَعَةُ وَالِاشْتِقَاقُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ .

وَيُجَوِّزُ أَحْمَدُ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ مَنْفَعَةِ الْخَارِجِ مِنْ مِلْكِهِ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ , وَاشْتِرَاطِ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى مُقْتَضَاهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَإِذَا كَانَ لَهَا مُقْتَضًى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ جَوَّزَ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ وَالْبَعْضُ مِنْهُ بِالشَّرْطِ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ مُخَالَفَةَ الشَّرْعِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ , فَيَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ بَعْضَ مَنْفَعَةِ الْمَبِيعِ , كَخِدْمَةِ الْعَبْدِ وَسُكْنَى الدَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةُ مِمَّا يَجُوزُ اسْتِبْقَاؤُهَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ , اتِّبَاعًا لِحَدِيثِ جَابِرٍ لَمَّا بَاعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَلَهُ وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ . وَيَجُوزُ أَيْضًا لِلْمُعْتِقِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ خِدْمَةَ الْعَبْدِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ أَوْ حَيَاةِ السَّيِّدِ أَوْ غَيْرِهِمَا اتِّبَاعًا لِحَدِيثِ سَفِينَةَ لَمَّا أَعْتَقَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ , وَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ خِدْمَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عَاشَ , وَجُوِّزَ عَلَى عَامَّةِ أَقْوَالِهِ أَنْ يُعْتِقَ أَمَتَهُ وَيَجْعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا , كَمَا فِي حَدِيثِ صَفِيَّةَ وَكَمَا فَعَلَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ تَرْضَ الْمَرْأَةُ , كَأَنَّهُ أَعْتَقَهَا وَاسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ لَكِنَّهُ اسْتَثْنَاهَا بِالنِّكَاحِ , إذْ اسْتِثْنَاؤُهَا بِلَا نِكَاحٍ غَيْرُ جَائِزٍ بِخِلَافِ مَنْفَعَةِ الْخِدْمَةِ ,

فَمَنْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُعْتِقَ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِغَيْرِهِ , فَهُوَ كَمَنْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُسْتَنْكِحِ أَنَّهُ إذَا أَوْلَدَ كَانَ النَّسَبُ لِغَيْرِهِ , وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } , وَإِذَا كَانَ كِتَابُ اللَّهِ قَدْ دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا الْمَشْرُوطِ بِخُصُوصِهِ وَعُمُومِهِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعُهُودِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَأْمُرُ بِمَا حَرَّمَهُ , فَهَذَا هَذَا مَعَ أَنَّ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الْقَلْبِ أَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يُرِدْ إلَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَهُوَ إبْطَالُ الشُّرُوطِ الَّتِي تُنَافِي كِتَابَ اللَّهِ . وَالتَّحْذِيرُ مِنْ اشْتِرَاطِ شَيْءٍ لَمْ يُبِحْهُ اللَّهُ أَوْ مِنْ اشْتِرَاطِ مَا يُنَافِي كِتَابَ اللَّهِ , بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ } . وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ لِعَدَمِ تَحْرِيمِ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ وَصِحَّتِهَا أَصْلَانِ : الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ , وَالْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي هِيَ الِاسْتِصْحَابُ وَانْتِفَاءُ الْمُحْرِمِ , فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي أَنْوَاعِ الْمَسَائِلِ وَأَعْيَانِهَا إلَّا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ النَّوْعِ أَوْ الْمَسْأَلَةُ هَلْ وَرَدَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ , أَمَّا إذَا كَانَ الْمُدْرِكُ الِاسْتِصْحَابَ وَنَفْيَ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ , وَعُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ , أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ وَيُفْتِيَ بِمُوجِبِ

هَذَا الِاسْتِصْحَابِ وَالنَّفْيِ إلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الْخَاصَّةِ إذَا كَانَ أَهْلَ ذَلِكَ , فَإِنَّ جَمِيعَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَحَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مُغَيِّرًا لِهَذَا الِاسْتِصْحَابِ , فَلَا يُوثَقُ بِهِ إلَّا بَعْدَ النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُدْرِكُ هُوَ مَنْصُوصُ الْعَامَّةِ فَالْعَامُّ الَّذِي كَثُرَتْ تَخْصِيصَاتُهُ الْمُنْتَشِرَةُ أَيْضًا لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ , هَلْ هِيَ مِنْ الْمُسْتَخْرَجِ أَوْ الْمُسْتَبْقَى , وَهَذَا أَيْضًا لَا خِلَافَ فِيهِ , وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْعُمُومِ الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ تَخْصِيصُهُ , أَوْ عُلِمَ تَخْصِيصُ صُوَرٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُ ; هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصَّصِ الْمُعَارِضِ لَهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا , وَذَكَرُوا عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ , وَأَكْثَرُ نُصُوصِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ زَمَانِهِمْ وَنَحْوِهِمْ اسْتِعْمَالُ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَمَّا يُفَسِّرُهَا مِنْ السُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ , وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ , فَإِنَّ الظَّاهِرَ الَّذِي لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ انْتِفَاءُ مَا يُعَارِضُهُ لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مُقْتَضَاهُ , فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ انْتِفَاءُ مُعَارِضِهِ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ مُقْتَضَاهُ , وَهَذِهِ الْغَلَبَةُ لَا تَحْصُلُ لِلْمُتَأَخِّرِينَ فِي أَكْثَرِ الْعُمَومَاتِ

الَّتِي بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُعَارِضِ سَوَاءٌ جَعَلَ عَدَمَ الْمُعَارِضِ جُزْءًا مِنْ الدَّلِيلِ , وَلَا الْعِلَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ , أَوْ جَعَلَ الْمُعَارِضَ الْمَانِعَ مِنْ الدَّلِيلِ فَيَكُونُ الدَّلِيلُ هُوَ الظَّاهِرُ , لَكِنْ الْقَرِينَةُ مَانِعَةٌ لِدَلَالَتِهِ , كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ بِتَخْصِيصِ الدَّلِيلِ وَالْعِلَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ , وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ إنَّمَا يَعُودُ إلَى اعْتِبَارٍ عَقْلِيٍّ , أَوْ إطْلَاقٍ لَفْظِيٍّ , أَوْ اصْطِلَاحٍ حَرِيٍّ لَا يَرْجِعُ لِأَمْرٍ فِقْهِيٍّ أَوْ عِلْمِيٍّ . فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَدِلَّةُ النَّافِيَةُ لِتَحْرِيمِ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ وَالْمُثْبِتَةِ لِحِلِّهَا مَخْصُوصَةٌ بِجَمِيعِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ , فَلَا يُنْتَفَعُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي أَنْوَاعِ الْمَسَائِلِ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ , وَالْحُجَجِ الْخَاصَّةِ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ فَهِيَ بِأُصُولِ الْفِقْهِ الَّتِي هِيَ الْأَدِلَّةُ الْعَامَّةُ أَشْبَهَ مِنْهَا بِقَوَاعِدِ الْفِقْهِ الَّتِي هِيَ الْأَحْكَامُ الْعَامَّةُ , نَعَمْ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ انْتِفَاءُ الْمُعَارِضِ فِي مَسْأَلَةٍ خِلَافِيَّةٍ , أَوْ حَادِثَةٍ انْتَفَعَ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ , فَيُذْكَرُ مِنْ أَنْوَاعِهَا قَوَاعِدُ حُكْمِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ . مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ مَنْ أَخْرَجَ عَيْنًا عَنْ مِلْكِهِ بِمُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ وَالْخُلْعِ , أَوْ تَبَرُّعٍ , كَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ بَعْضَ مَنَافِعِهَا , فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَصِحُّ فِيهِ الْغَرَرُ كَالْبَيْعِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومًا , لِمَا

رَوَى جَابِرٌ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ خِدْمَةَ الْعَبْدِ مَا عَاشَ عَبْدُهُ أَوْ عَاشَ فُلَانٌ , أَوْ يَسْتَثْنِيَ غَلَّةَ الْوَقْفِ مَا عَاشَ الْوَاقِفُ , وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا اشْتَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُعْتِقَ الْعَبْدَ صَحَّ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا , لِحَدِيثِ بَرِيرَةَ وَإِنْ كَانَ عَنْهُمَا قَوْلٌ بِخِلَافِهِ , ثُمَّ هَلْ يَصِيرُ الْعِتْقُ وَاجِبًا عَلَى الْمُشْتَرِي , كَمَا يَجِبُ الْعِتْقُ بِالنَّذْرِ بِحَيْثُ يَفْعَلُهُ الْحَاكِمُ إذَا امْتَنَعَ , أَمْ يَمْلِكُ الْبَائِعُ الْفَسْخَ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْ الْعِتْقِ , كَمَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ بِفَوَاتِ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْمَبِيعِ , عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِهِمَا . ثُمَّ الشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ يَرَوْنَ هَذَا خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ , لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْعِ الْمُشْتَرِي مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ الْعِتْقِ , وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ , فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ الْمِلْكُ الَّذِي يَمْلِكُ صَاحِبُهُ التَّصَرُّفَ مُطْلَقًا . قَالُوا : وَإِنَّمَا جَوَّزَتْهُ السُّنَّةُ ; لِأَنَّ لِلشَّارِعِ إلَى الْعِتْقِ تَشَوُّقًا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ , وَكَذَلِكَ أَوْجَبَ فِيهِ السِّرَايَةَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إخْرَاجِ مِلْكِ الشَّرِيكِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ , وَإِذَا كَانَ مَبْنَاهُ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ وَالنُّفُوذِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ غَيْرُهُ . وَأُصُولُ أَحْمَدَ وَنُصُوصُهُ تَقْتَضِي جَوَازَ شَرْطِ كُلِّ تَصَرُّفٍ فِيهِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ , وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْعٌ مِنْ غَيْرِهِ , قَالَ أَحْمَدُ بْنُ

الْقَاسِمِ , قِيلَ لِأَحْمَدَ الرَّجُلُ يَبِيعُ الْجَارِيَةَ عَلَى أَنْ يُعْتِقَهَا , فَأَجَازَهُ , قِيلَ لَهُ : فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَعْنِي أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُونَ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ , قَالَ : لِمَ لَا يَجُوزُ , قَدْ اشْتَرَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرَ جَابِرٍ وَاشْتَرَطَ ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ , وَاشْتَرَتْ عَائِشَةُ بَرِيرَةَ عَلَى أَنَّهَا تُعْتِقُهَا , فَلِمَ لَا يَجُوزُ هَذَا , قَالَ : وَإِنَّمَا هَذَا شَرْطٌ وَاحِدٌ , وَالنَّهْيُ إنَّمَا هُوَ عَنْ شَرْطَيْنِ , قِيلَ لَهُ : فَإِنْ شَرَطَ شَرْطَيْنِ أَيَجُوزُ , قَالَ : لَا يَجُوزُ , فَقَدْ نَازَعَ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ بِاشْتِرَاطِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَهْرَ بَعِيرِ جَابِرٍ , وَحَدِيثِ بَرِيرَةَ , وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا نَهَى عَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ , مَعَ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِيهِ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ مَنْفَعَةِ الْمَبِيعِ , وَهُوَ يَقْضِي لِمُوجِبِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ . وَاشْتِرَاطُ الْعِتْقِ فِيهِ تَصَرُّفٌ مَقْصُودٌ مُسْتَلْزِمٌ لِنَقْضِ مُوجِبِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ , فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّقْضُ فِي التَّصَرُّفِ أَوْ فِي الْمَمْلُوكِ , وَاسْتِدْلَالُهُ بِحَدِيثِ الشَّرْطَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ هَذَا الْجِنْسِ كُلِّهِ , وَلَوْ كَانَ الْعِتْقُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَمَا قَاسَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا يَشْمَلُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ , وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ حَسَّانَ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَمَّنْ اشْتَرَى مَمْلُوكًا وَاشْتَرَطَ هُوَ حُرِّيَّتَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ , قَالَ

: هَذَا مُدَبَّرٌ , فَجَوَّزَ اشْتِرَاطَ التَّدْبِيرِ كَالْعِتْقِ . وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي شَرْطِ التَّدْبِيرِ خِلَافٌ , صَحَّحَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ , وَلِذَلِكَ جَوَّزَ اشْتِرَاطَ التَّسَرِّي فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ : سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً بِشَرْطِ أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا , وَلَا تَكُونُ لِلْخِدْمَةِ , قَالَ : لَا بَأْسَ , فَلَمَّا كَانَ التَّسَرِّي لِبَائِعِ الْجَارِيَةِ فِيهِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ جَوَّزَهُ , وَكَذَلِكَ جَوَّزَ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يَبِيعُهَا لِغَيْرِ الْبَائِعِ , وَأَنَّ الْبَائِعَ يَأْخُذُهَا إذَا أَرَادَ الْمُشْتَرِي بَيْعَهَا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ , كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ , وَابْنِ مَسْعُودٍ , وَامْرَأَتِهِ زَيْنَبُ . وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَبِيعَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ الْعَقْدِ بِأَجْزَائِهِ وَمَنَافِعِهِ يَمْلِكَانِ اشْتِرَاطَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; { مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ , إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ } . فَجَوَّزَ لِلْمُشْتَرِي اشْتِرَاطَ زِيَادَةٍ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ , وَيَمْلِكَانِ اشْتِرَاطَ النَّقْصِ مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ , كَمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشِّيَاهِ إلَّا أَنْ تُعْلَمَ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهَا إذَا عُلِمَتْ , وَكَمَا اسْتَثْنَى جَابِرٌ ظَهْرَ بَعِيرِهِ إلَى الْمَدِينَةِ , وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا أَعْلَمُهُ عَلَى جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ مِثْلُ أَنْ يَبِيعَهُ الدَّارَ إلَّا رُبْعَهَا أَوْ ثُلُثَهَا , وَاسْتِثْنَاءُ الْجُزْءِ

الْمُعَيَّنِ إذَا أَمْكَنَ فَصْلُهُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ , مِثْلُ أَنْ يَبِيعَهُ ثَمَرَ الْبُسْتَانِ إلَّا نَخَلَاتٍ بِعَيْنِهَا , أَوْ الثِّيَابَ أَوْ الْعَبِيدَ أَوْ الْمَاشِيَةَ الَّتِي قَدَّرَ إيَّاهَا إلَّا شَيْئًا مِنْهَا قَدْ عَيَّنَّاهُ , وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْمَنْفَعَةِ كَسَكْنِ الدَّارِ شَهْرًا أَوْ اسْتِخْدَامِ الْعَبِيدِ شَهْرًا , وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً أَوْ إلَى بَلْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ , مَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُ إذَا اشْتَرَى أَمَةً مُزَوَّجَةً فَإِنَّ مَنْفَعَةَ بُضْعِهَا الَّتِي يَمْلِكُهَا الزَّوْجُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ . كَمَا اشْتَرَتْ عَائِشَةُ بَرِيرَةَ وَكَانَتْ مُزَوَّجَةً , وَلَكِنْ هِيَ اشْتَرَتْهَا بِشَرْطِ الْعِتْقِ فَلَمْ تَمْلِكْ التَّصَرُّفَ فِيهَا إلَّا بِالْعِتْقِ , وَالْعِتْقُ لَا يُنَافِي نِكَاحَهَا , فَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ مِمَّنْ رَوَى حَدِيثَ بَرِيرَةَ يَرَى أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ تَأْوِيلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } . قَالُوا : فَإِذَا ابْتَاعَهَا أَوْ اتَّهَبَهَا أَوْ وَرِثَهَا فَقَدْ مَلَكَتْهَا يَمِينُهُ فَيُبَاحُ لَهُ , وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِزَوَالِ مِلْكِ الزَّوْجِ , وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ , فَلَمْ يَرْضَ أَحْمَدُ هَذِهِ الْحُجَّةَ ; لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَاهُ وَخَالَفَهُ , وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَمْلِكْ بَرِيرَةَ مِلْكًا مُطْلَقًا . ثُمَّ الْفُقَهَاءُ قَاطِبَةً وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ

عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَةَ إذَا انْتَقَلَ الْمِلْكُ فِيهَا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ إرْثٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ , وَكَانَ مَالِكًا مَعْصُومَ الْمِلْكِ لَمْ يَزُلْ عَنْهَا مِلْكُ الزَّوْجِ وَمَلَكَهَا الْمُشْتَرِي وَنَحْوُهُ إلَّا مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ , وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَنَّ الْبَائِعَ نَفْسَهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُزِيلَ مِلْكَ الزَّوْجِ لَمْ يُمْكِنْهُ , فَالْمُشْتَرِي الَّذِي هُوَ دُونَ الْبَائِعِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْهُ , وَلَا يَكُونُ الْمِلْكُ الثَّابِتُ لِلْمُشْتَرِي أَتَمَّ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَالزَّوْجُ مَعْصُومٌ لَا يَجُوزُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى حَقِّهِ , بِخِلَافِ الْمَاشِيَةِ فَإِنَّ فِيهَا خِلَافًا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ , لِكَوْنِ أَهْلِ الْحَرْبِ يُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ , فَكَذَلِكَ مَا مَلَكُوهُ مِنْ الْإِبْضَاعِ .

الْمُقَدَّمَةُ الثَّالِثَةُ : وَفِيهَا يَظْهَرُ شَرُّ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ وَنَحْوِهَا , أَنَّ صِيغَةَ التَّعْلِيقِ الَّتِي تُسَمَّى صِيغَةَ الشَّرْطِ وَصِيغَةُ الْمُجَازَاةِ تَنْقَسِمُ إلَى سِتَّةِ أَنْوَاعٍ ; لِأَنَّ الْحَالِفَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ فَقَطْ أَوْ وُجُودَ الْجَزَاءِ فَقَطْ أَوْ وُجُودَهُمَا , وَإِمَّا أَنْ لَا يُقْصَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بَلْ يَكُونُ مَقْصُودُهُ عَدَمَ الشَّرْطِ فَقَطْ أَوْ الْجَزَاءَ فَقَطْ أَوْ عَدَمَهُمَا . فَالْأَوَّلُ : بِمَنْزِلَةِ كَثِيرٍ مِنْ صُوَرِ الْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ وَنَذْرِ التَّبَرُّرِ وَالْجَعَالَةِ وَنَحْوِهَا , فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ أَعْطَيْتنِي أَلْفًا فَأَنْتَ طَالِقٌ أَوْ فَقَدْ خَالَعْتكِ , أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ أَدَّيْت أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ . أَوْ قَالَ إنْ رَدَدْت عَبْدِي الْآبِقَ فَلَكَ أَلْفٌ , أَوْ قَالَ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ سَلِمَ مَالِي الْغَائِبُ فَعَلَيَّ عِتْقُ كَذَا وَالصَّدَقَةُ بِكَذَا . فَالْمُعَلَّقُ قَدْ لَا يَكُونُ مَقْصُودَهُ إلَّا أَخْذَ الْمَالِ وَرَدَّ الْعَبْدِ وَسَلَامَةَ الْعِتْقِ وَالْمَالِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَ الْجَزَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ كَالْبَائِعِ الَّذِي كَانَ مَقْصُودُهُ أَخْذَ الثَّمَنِ , وَالْتَزَمَ رَدَّ الْمَبِيعِ عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ , فَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ سَبَبُهُ بِالْمُعَاوَضَةِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ , وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ قَدْ جَعَلَ الطَّلَاقَ عُقُوبَةً مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إذَا ضَرَبْت أَمَتِي فَأَنْتَ طَالِقٌ وَإِنْ خَرَجْت مِنْ الدَّارِ فَأَنْتَ طَالِقٌ , فَإِنَّهُ فِي الْخُلْعِ عَوَّضَهَا بِالتَّطْلِيقِ عَنْ الْمَالِ ; لِأَنَّهَا تُزِيلُ الطَّلَاقَ وَهُنَا عَوَّضَهَا عَنْ

مَعْصِيَتِهَا بِالطَّلَاقِ . وَأَمَّا الثَّانِي : قِيلَ : أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ إنَّهُ إذَا ظَهَرْت فَأَنْتَ طَالِقٌ , أَوْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ إذَا مِتّ فَأَنْتَ حُرٌّ . أَوْ إذَا جَاءَ رَأْسُ الْحَوْلِ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ التَّعْلِيقِ الَّذِي هُوَ تَوْقِيتٌ مَحْضٌ , فَهَذَا الضَّرْبُ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَجَّزِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَصَدَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ إلَى الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ , بِمَنْزِلَةِ تَأْجِيلِ الدَّيْنِ , وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يُؤَخِّرُ الطَّلَاقَ مِنْ وَقْتٍ إلَى وَقْتٍ لِغَرَضٍ لَهُ فِي التَّأْخِيرِ لَا لِعِوَضٍ وَلَا لِحَثٍّ عَلَى طَلَبٍ أَوْ خَبَرٍ . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ إذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ بِطَلَاقِك . أَوْ إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِك فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت أَوْ لَمْ تَدْخُلِي وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَعْنَى الْحَضِّ أَوْ الْمَنْعِ فَهُوَ حَالِفٌ وَلَوْ كَانَ تَعْلِيقًا مَحْضًا كَقَوْلِهِ : إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَأَنْتَ طَالِقٌ وَإِنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ , فَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِحَالِفٍ وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَاضِي فِي الْجَامِعِ هُوَ حَالِفٌ . وَأَمَّا الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ وُجُودَهُمَا جَمِيعًا . فَمِثْلُ الَّذِي قَدْ آذَتْهُ امْرَأَتُهُ حَتَّى أَحَبَّ طَلَاقَهَا وَاسْتِرْجَاعَ الْفِدْيَةِ مِنْهَا , فَيَقُولُ إنْ أَبْرَأْتنِي مِنْ صَدَاقِك أَوْ مِنْ نَفَقَتِك فَأَنْتَ طَالِقٌ , وَهُوَ يُرِيدُ كُلًّا مِنْهُمَا . وَأَمَّا الرَّابِعُ : وَهُوَ

أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ عَدَمَ الشَّرْطِ , لَكِنَّهُ إذَا وُجِدَ لَمْ يُكْرَهْ الْجَزَاءُ بَلْ يُحِبُّهُ أَوْ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَكْرَهُهُ , فَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ إنْ زَنَيْت فَأَنْتَ طَالِقٌ , وَإِنْ ضَرَبْت أُمِّي فَأَنْتَ طَالِقٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ فِيهِ عَدَمُ الشَّرْطِ , وَيُقْصَدُ وُجُودُ الْجَزَاءِ عِنْدَ وُجُودِهِ . بِحَيْثُ تَكُونُ إذَا زَنَتْ أَوْ إذَا ضَرَبَتْ أُمَّهُ يَجِبُ فِرَاقُهَا ; لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لَهُ , فَهَذَا فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ وَمَعْنَى التَّوْقِيتِ فَإِنَّهُ مَنَعَهَا مِنْ الْفِعْلِ وَقَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ كَمَا قَصَدَ إيقَاعَهُ عِنْدَ أَخْذِ الْعِوَضِ مِنْهَا أَوْ عِنْدَ طُهْرِهَا أَوْ طُلُوعِ الْهِلَالِ . وَأَمَّا الْخَامِسُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ عَدَمَ الْجَزَاءِ وَتَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ . لِئَلَّا يُوجَدَ . وَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي عَدَمِ الشَّرْطِ فَهَذَا قَلِيلٌ كَمَنْ يَقُولُ إنْ أَصَبْت مِائَةَ رَمْيَةٍ أَعْطَيْتُك كَذَا . وَأَمَّا السَّادِسُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ عَدَمَهُمَا الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ . وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ لِيَمْتَنِعَ وُجُودُهُمَا , فَهُوَ مِثْلُ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ وَمِثْلُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى حَضٍّ أَوْ مَنْعٍ أَوْ تَصْدِيقٍ أَوْ تَكْذِيبٍ , مِثْلُ أَنْ يُقَالَ لَهُ تَصَدَّقْ فَيَقُولَ إنْ أَتَصَدَّقْ فَعَلَيْهِ صِيَامُ كَذَا وَكَذَا . أَوْ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ . أَوْ فَعَبِيدُهُ أَحْرَارٌ , أَوْ يَقُولُ إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَعَلَيَّ نَذَرَ كَذَا أَوْ امْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ عَبْدِي حُرٌّ , أَوْ يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُقْصَدُ مَنْعُهُ

كَعَبْدِهِ وَنَسِيبِهِ وَصَدِيقِهِ مِمَّنْ يَحُضُّهُ عَلَى طَاعَتِهِ . فَيَقُولُ لَهُ : إنْ فَعَلْت أَوْ إنْ لَمْ أَفْعَلْ فَعَلَيَّ كَذَا أَوْ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ وَنَحْوَ ذَلِكَ , فَهَذَا نَذَرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ وَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِخِلَافِهِ فِي الْمَعْنَى نَذْرُ التَّبَرُّرِ وَالتَّقَرُّبِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ , فَإِنَّ الَّذِي يَقُولُ إنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ أَوْ سَلَّمَ مَالِي مِنْ كَذَا أَوْ إنْ أَعْطَانِي اللَّهُ كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ أَوْ أَصُومَ أَوْ أَحُجَّ , قَصْدُهُ حُصُولُ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْغَنِيمَةُ أَوْ السَّلَامَةُ , وَقَصَدَ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا نَذَرَهُ لَهُ وَكَذَلِكَ الْمُخَالَعُ وَالْمُكَاتَبُ قَصْدُهُ حُصُولُ الْعِوَضِ وَبَدَلِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا النَّذْرُ فِي اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ إذَا قِيلَ لَهُ افْعَلْ كَذَا فَامْتَنَعَ مِنْ فِعْلِهِ , ثُمَّ قَالَ إنْ فَعَلْته فَعَلَيَّ الْحَجُّ وَالصِّيَامُ , فَهُنَا مَقْصُودُهُ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّرْطُ ثَمَّ إنَّهُ لِقُوَّةِ امْتِنَاعِهِ أَلْزَمَ نَفْسَهُ إنْ فَعَلَهُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّقِيلَةِ عَلَيْهِ , لِيَكُونَ إلْزَامُهَا لَهُ إذَا فَعَلَ مَانِعًا لَهُ مِنْ الْفِعْلِ , وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إنْ فَعَلْته فَامْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ , إنَّمَا مَقْصُودُهُ الِامْتِنَاعُ وَالْتَزَمَ بِتَقْدِيرِ الْفِعْلِ مَا هُوَ شَدِيدٌ عَلَيْهِ مِنْ فِرَاقِ أَهْلِهِ وَذَهَابِ مَالِهِ , لَيْسَ غَرَضُ هَذَا أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِعِتْقٍ أَوْ صَدَقَةٍ وَلَا أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ . وَلِهَذَا سَمَّى الْعُلَمَاءُ هَذَا

نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ فِيمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ : { لَأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ الْكَفَّارَةَ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ لَهُ } . فَصُورَةُ هَذَا النَّذْرِ صُورَةُ نَذْرِ التَّبَرُّرِ فِي اللَّفْظِ , وَمَعْنَاهُ شَدِيدُ الْمُبَايَنَةِ لِمَعْنَاهُ , وَمِنْ هُنَا نَشَأَتْ الشُّبْهَةُ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا فِي هَذَا الْبَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ , وَيَتَبَيَّنُ فِقْهُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الَّذِينَ نَظَرُوا إلَى مَعَانِي الْأَلْفَاظِ لَا إلَى صُوَرِهَا إذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ الدَّاخِلَةُ فِي قِسْمِ التَّعْلِيقِ , فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ بَعْضَهَا مَعْنَاهُ مَعْنَى الْيَمِينِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَبَعْضَهَا لَيْسَ مَعْنَاهُ ذَلِكَ . فَمَتَى كَانَ الشَّرْطُ الْمَقْصُودُ حَضًّا عَلَى فِعْلٍ أَوْ مَنْعًا مِنْهُ أَوْ تَصْدِيقًا لِخَبَرٍ أَوْ تَكْذِيبًا كَانَ الشَّرْطُ مَقْصُودَ الْعَدَمِ وَجَزَاؤُهُ كَنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ عَلَى وَجْهِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ :

الْقَاعِدَةُ الْأُولَى : إنَّ الْحَلِفَ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } . وَقَالَ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَمُرَةَ , أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ لَهُ : يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ , فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِّلْت إلَيْهَا , وَإِنْ أُعْطِيتهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا , وَإِذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك } , فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ حُكْمَ الْأَمَانَةِ الَّذِي هُوَ الْإِمَارَةُ , وَحُكْمَ الْعَهْدِ الَّذِي هُوَ الْيَمِينُ , وَكَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَا مَخْرَجَ لَهُمْ مِنْ الْيَمِينِ قَبْلَ أَنْ تُشْرَعَ الْكَفَّارَةُ , وَلِهَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ : كَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ , حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ , وَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ عَقْدٌ بِاَللَّهِ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ , كَمَا يَجِبُ بِسَائِرِ الْعُقُودِ وَأَشَدُّ , قَوْلُهُ احْلِفْ بِاَللَّهِ وَاقْسِمْ

بِاَللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ اعْقِدْ بِاَللَّهِ , وَلِهَذَا عُدِّيَ بِحَرْفِ الْإِلْصَاقِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الرَّبْطِ وَالْعَقْدِ , فَيَنْعَقِدُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِاَللَّهِ , كَمَا تَنْعَقِدُ إحْدَى الْيَدَيْنِ بِالْأُخْرَى فِي الْمُعَاقَدَةِ . وَلِهَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ عَقْدًا فِي قَوْلِهِ : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } فَإِذَا كَانَ قَدْ عَقَدَهَا بِاَللَّهِ كَانَ الْحِنْثُ فِيهَا نَقْضًا لِعَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ لَوْلَا مَا فَرَضَهُ اللَّهُ مِنْ التَّحِلَّةِ , وَلِهَذَا سَمَّى حِلَّهَا حِنْثًا وَالْحِنْثُ هُوَ الِاسْمُ فِي الْأَصْلِ , فَالْحِنْثُ فِيهَا سَبَبٌ لِلْإِثْمِ لَوْلَا الْكَفَّارَةُ الْمَاحِيَةُ , فَإِنَّمَا الْكَفَّارَةُ مَنَعَتْهُ أَنْ يُوجِبَ إثْمًا , وَنَظِيرُ الرُّخْصَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَعْدَ عَقْدِهَا الرُّخْصَةَ أَيْضًا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الظِّهَارُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَوَّلَ الْإِسْلَامِ طَلَاقًا , وَكَذَلِكَ الْإِيلَاءُ كَانَ عِنْدَهُمْ طَلَاقًا , فَإِنَّ هَذَا جَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِمُقْتَضَى الْيَمِينِ , فَإِنَّ الْإِيلَاءَ إذَا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَاهُ مِنْ تَرْكِ الْوَطْءِ صَارَ الْوَطْءُ مُحَرَّمًا , وَتَحْرِيمُ الْوَطْءِ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا مُسْتَلْزِمٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ , فَإِنَّ الزَّوْجَةَ لَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ , وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِك وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ , قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } . وَالتَّحِلَّةُ مَصْدَرُ حَلَّلْتُ الشَّيْءَ أُحِلُّهُ تَحْلِيلًا

وَتَحِلَّةً , كَمَا يُقَالُ كَرَّمْته تَكْرِيمًا وَتَكَرُّمًا , وَهَذَا مَصْدَرٌ يُسَمَّى بِهِ الْمُحَلَّلُ نَفْسُهُ الَّذِي هُوَ الْكَفَّارَةُ , فَإِنْ أُرِيدَ الْمَصْدَرُ فَالْمَعْنَى فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحْلِيلَ الْيَمِينِ , وَهُوَ حِلُّهَا الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْعَقْدِ , وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ مَنْ اسْتَدَلَّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ , كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ ; لِأَنَّ التَّحِلَّةَ لَا تَكُونُ بَعْدَ الْحِنْثِ , فَإِنَّهُ بِالْحِنْثِ يَنْحَلُّ الْيَمِينُ , وَإِنَّمَا تَكُونُ التَّحِلَّةُ إذَا أُخْرِجَتْ قَبْلَ الْحِنْثِ , لِيَنْحَلَّ الْيَمِينُ , وَإِنَّمَا هِيَ بَعْدَ الْحِنْثِ كَفَّارَةٌ ; لِأَنَّهَا كَفَّرَتْ مَا فِي الْحِنْثِ مِنْ سَبَبِ الْإِثْمِ لِنَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ , فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مَا اقْتَضَتْ الْيَمِينُ مِنْ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَا رَفَعَهُ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْكَفَّارَةِ الَّتِي جَعَلَهَا بَدَلًا مِنْ الْوَفَاءِ فِي جُمْلَةِ مَا رَفَعَهُ عَنْهَا مِنْ الْآصَارِ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ } . فَالْأَفْعَالُ ثَلَاثَةٌ : إمَّا طَاعَةٌ , وَإِمَّا مَعْصِيَةٌ , وَإِمَّا مُبَاحٌ , فَإِذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ مُبَاحًا أَوْ لَيَتْرُكَنَّهُ فَهُنَا الْكَفَّارَةُ مَشْرُوعَةٌ بِالْإِجْمَاعِ , وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِعْلَ مَكْرُوهٍ أَوْ تَرْكَ مُسْتَحَبٍّ , وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ } . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِعْلَ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكَ مُحَرَّمٍ فَهَا هُنَا لَا يَجُوزُ

الْوَفَاءُ بِالِاتِّفَاقِ , بَلْ يَجِبُ التَّكْفِيرُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَبْلَ أَنْ تُشْرَعَ الْكَفَّارَةُ كَانَ الْحَالِفُ عَلَى مِثْلِ هَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْوَفَاءُ بِيَمِينِهِ , وَلَا كَفَّارَةَ لَهُ تَرْفَعُ عَنْهُ مُقْتَضَى الْحِنْثِ , بَلْ يَكُونُ عَاصِيًا مَعْصِيَةً لَا كَفَّارَةَ فِيهَا سَوَاءٌ وَفَّى أَوْ لَمْ يَفِ , كَمَا لَوْ نَذَرَ مَعْصِيَةً عِنْدَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ فِي نَذْرِهِ كَفَّارَةً , وَكَمَا إنْ كَانَ الْمُحْلَفُ عَلَيْهِ فِعْلَ طَاعَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ .

فَصْلٌ فَأَمَّا الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ الَّذِي هُوَ نَذَرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ : مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ , أَوْ فَعَلَيَّ صِيَامٌ , وَيُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ عَنْ الْفِعْلِ , أَوْ أَنْ يَقُولَ إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ وَنَحْوُهُ , فَمَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ , وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ , وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ عَنْهُ . ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَأَكْثَرُهُمْ قَالُوا هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ , وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ , وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عَيْنًا كَمَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ , وَهُوَ الرَّاوِيَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ , وَقَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ , وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى , وَطَائِفَةُ مَنْ يُحِبُّ الْوَفَاءَ بِهَذَا النَّذْرِ , وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الشَّافِعِيَّ , سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمِصْرَ , فَأَفْتَى بِهَا بِالْكَفَّارَةِ , فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَذَا قَوْلُك . قَالَ : قَوْلُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَذَكَرُوا أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَنَّثَ ابْنَهُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ فَأَفْتَاهُ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ بِقَوْلِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ , وَقَالَ : إنْ عُدْت

حَلَفْت أَفْتَيْتُك بِقَوْلِ مَالِكٍ وَهُوَ الْوَفَاءُ بِهِ . وَلِهَذَا تَفَرَّعَ أَصْحَابُ مَالِكٍ مَسَائِلَ هَذِهِ الْيَمِينِ عَلَى النَّذْرِ لِعُمُومَاتِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ , لِقَوْلِهِ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ } , وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ جَائِزٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ , فَوَجَبَ عِنْدَ ثُبُوتِ شَرْطِهِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ , وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَعَ مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا اعْتَمَدَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ فِي مَسَائِلِهِ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ , قَالَ مَالُهُ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ , قَالَ : كَفَّارَةُ يَمِينٍ , وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَ : وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ يَحْلِفُ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ الصَّدَقَةِ بِالْمِلْكِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَيْمَانِ , فَقَالَ : إذَا حَنِثَ فَكَفَّارَةٌ إلَّا أَنِّي لَا أَحْمِلُهُ عَلَى الْحِنْثِ مَا لَمْ يَحْنَثْ , قِيلَ لَهُ : لَا تَفْعَلْ , قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَإِذَا حَنِثَ كَفَرَ , قَالَ : نَعَمْ , قِيلَ لَهُ : أَلَيْسَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ , قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي حَدِيثِ لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ , حِينَ حَلَفَتْ بِكَذَا وَكَذَا وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ , فَأَفْتَتْ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ , فَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ , وَابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ أَفْتَيَا فِيمَنْ حَلَفَ بِعِتْقِ جَارِيَةٍ وَأَيْمَانٍ فَقَالَ أَمَّا الْجَارِيَةُ فَتُعْتَقُ . وَقَالَ الْأَثْرَمُ : حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ , ثِنَا حَسَنٌ , عَنْ ابْنِ

أَبِي نَجِيحٍ , عَنْ عَطَاءٍ , عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : مَنْ قَالَ مَالِي فِي مِيرَاثِ الْكَعْبَةِ ; وَكُلُّ مَالِي فَهُوَ هَدْيٌ وَكُلُّ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ . وَقَالَ : حَدَّثَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ , حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ , قَالَ : قَالَ أَبِي : حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , أَخْبَرَنِي أَبُو رَافِعٍ , قَالَ : قَالَتْ مَوْلَاتِي لَيْلَى بِنْتُ الْعَجْمَاءِ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ ; وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ ; وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ , وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ إنْ لَمْ تُطَلِّقْ امْرَأَتَك ; أَوْ تُفَرِّقْ بَيْنَك وَبَيْنَ امْرَأَتِك . قَالَ : فَأَتَيْت زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ , وَكَانَتْ إذَا ذُكِرَتْ امْرَأَةٌ بِالْمَدِينَةِ فَقِيهَةٌ ذُكِرَتْ زَيْنَبُ , قَالَ : فَأَتَيْتهَا فَجَاءَتْ مَعِي إلَيْهَا , فَقَالَتْ : فِي الْبَيْتِ هَارُوتُ وَمَارُوتُ . وَقَالَتْ : يَا زَيْنَبُ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَك , إنَّهَا قَالَتْ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ . وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ فَقَالَتْ يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ حِلٌّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ . فَأَتَيْت حَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهَا فَأَتَتْهَا فَقَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ , جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَك إنَّهَا قَالَتْ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ , وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ , وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ , وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ , فَقَالَتْ : يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ حِلٌّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ , قَالَ : فَأَتَيْت عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ فَجَاءَ مَعِي إلَيْهَا فَقَامَ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ أَمِنْ حِجَارَةٍ أَنْتِ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ أَنْتِ أَمْ مِنْ أَيْ

شَيْءٍ أَنْتِ أَفْتَتْك زَيْنَبُ , وَأَفْتَتْك أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ , فَلَمْ تَقْبَلِي فُتْيَاهُمَا , قَالَتْ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك إنَّهَا قَالَتْ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ , وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ فَقَالَ : يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك وَخَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , أَنْبَأَنَا عُمَرُ بْنُ قَتَادَةَ , عَنْ الْحَسَنِ , وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَأَنَا مُحْرِمٌ بِحَجَّةٍ قَالَا لَيْسَ الْإِحْرَامُ إلَّا عَلَى مَنْ نَوَى الْحَجَّ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا . وَقَالَ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا .

فَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِالنَّذْرِ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ بِالتَّعَلُّقِ , وَأَنْ لَا يَبَرَّ وَلَا يَتَّقِيَ وَلَا يُصْلِحَ , فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إنْ وَفَّى بِذَلِكَ فَقَدْ جَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ أَنْ يَبَرَّ وَيَتَّقِيَ وَيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ , وَإِنْ حَنِثَ فِيهَا وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُ الْمَنْذُورِ , فَقَدْ يَكُونُ خُرُوجُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ مِنْهُ أَبْعَدَ عَنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ الْأَمْرِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ , فَإِنْ أَقَامَ عَلَى يَمِينِهِ تَرَكَ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ تَرَكَ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى فَصَارَتْ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ أَنْ يَبَرَّ وَيَتَّقِيَ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ . وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ هَمَّامٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : { لَأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ : { مَنْ اسْتَنْتَجَ فِي أَهْلِهِ بِيَمِينٍ فَهُوَ أَعْظَمُ إثْمًا } فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ أَنَّ اللَّجَاجَ بِالْيَمِينِ فِي أَهْلِ الْحَالِفِ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ التَّكْفِيرِ , وَاللَّجَاجُ التَّمَادِي فِي الْخُصُومَةِ , وَمِنْهُ قِيلَ رَجُلٌ لَجُوجٌ إذَا تَمَادَى فِي الْخُصُومَةِ , وَلِهَذَا سَمَّى الْعُلَمَاءُ هَذَا نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ , فَإِنَّهُ يَلِجُّ حَتَّى يَعْقِدَهُ ثُمَّ يَلِجُّ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ الْحِنْثِ , فَبَيَّنَ النَّبِيُّ أَنَّ اللَّجَاجَ بِالْيَمِينِ

أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ الْكَفَّارَةِ وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَيْمَانِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ . قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ : { إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ , وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ : { فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } . وَفِي رِوَايَةٍ : { فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } . وَهَذَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَيَعُمُّ كُلَّ حَلِفٍ عَلَى يَمِينٍ كَائِنًا مَا كَانَ الْحَلِفُ . فَإِذَا رَأَى غَيْرَ الْيَمِينِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا خَيْرًا مِنْهَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا تَرْكًا لِخَيْرٍ فَيَرَى فِعْلَهُ خَيْرًا مِنْ تَرْكِهِ , أَوْ يَكُونُ فِعْلًا لِشَرٍّ فَيَرَى تَرْكَهُ خَيْرًا مِنْ فِعْلِهِ فَقَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ أَنْ يَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ , وَقَوْلُهُ هُنَا عَلَى يَمِينٍ هُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ , سُمِّيَ الْأَمْرُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَمِينًا كَمَا يُسَمَّى الْمَخْلُوقُ خَلْقًا وَالْمَضْرُوبُ ضَرْبًا وَالْمَبِيعُ بَيْعًا وَنَحْوُ ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي قِصَّتِهِ , وَقِصَّةِ أَصْحَابِهِ بِهِ لَمَّا جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ لِيَسْتَحْمِلُوهُ , فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا أَحْمِلُكُمْ وَمَا

عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ , ثُمَّ قَالَ : إنِّي إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا كَفَّرْت عَنْ يَمِينِي , وَأَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ , عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : { إذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى الْيَمِينِ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْهَا وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا فَلْيُكَفِّرْهَا وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } . وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ , مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْجُشَمِيِّ , فَهَذِهِ نُصُوصُ رَسُولِ اللَّهِ الْمُتَوَاتِرَةُ , أَنَّهُ أَمَرَ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَيَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ , وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ أَنَّ النَّذْرَ وَنَحْوَهُ , وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : { مَا عَلَى الْأَرْضِ يَمِينٌ أَحْلِفُ عَلَيْهَا فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْته } وَهَذَا صَرِيحٌ بِأَنَّهُ قَصَدَ تَعْمِيمَ كُلِّ يَمِينٍ فِي الْأَرْضِ , وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ فَهِمُوا مِنْهُ دُخُولَ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ فِي هَذَا الْكَلَامِ , فَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ , حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ , حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ , عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , أَنَّ أَخَوَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ فَسَأَلَ أَحَدُهُمَا

صَاحِبَهُ الْقِسْمَةَ فَقَالَ : إنْ عُدْت تَسْأَلُنِي الْقِسْمَةَ فَكُلُّ مَالٍ لِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ , فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : إنَّ الْكَعْبَةَ غَنِيَّةٌ عَنْ مَالِك . كَفِّرْ عَنْ يَمِينِك وَكَلِّمْ أَخَاك . سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ : { لَا يَمِينَ عَلَيْك وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَفِيمَا لَا يُمْلَكُ } " . فَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمَرَ هَذَا الَّذِي حَلَفَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَنَذَرَ نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ بِأَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ , وَأَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ الْمَنْذُورَ , وَاحْتَجَّ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَمِينَ عَلَيْك وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ , وَفِيمَا لَا يُمْلَكُ } " , فَفُهِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِيَمِينٍ أَوْ نَذْرٍ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَوْ قَطِيعَةٍ فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ النَّذْرِ , وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَمَا أَفْتَاهُ عُمَرُ , وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا النَّذْرَ كَانَ عِنْدَهُ يَمِينًا لَمْ يَقُلْ لَهُ كَفِّرْ عَنْ يَمِينِك , وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ : " لَا يَمِينَ وَلَا نَذْرَ " لِأَنَّ الْيَمِينَ مَا قُصِدَ بِهَا الْحَضُّ أَوْ الْمَنْعُ , وَالنَّذْرُ مَا قُصِدَ بِهِ التَّقَرُّبُ , وَكِلَاهُمَا لَا يُوَفِّي بِهِ الْمَعْصِيَةَ وَالْقَطِيعَةَ , وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ : { لَا يَمِينَ وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ , وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ } يُعْلِمُ جَمِيعَ مَا يُسَمَّى يَمِينًا أَوْ نَذْرًا , سَوَاءٌ كَانَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ أَوْ كَانَتْ بِوُجُوبِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ مِنْ الصَّدَقَةِ أَوْ

الصِّيَامِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ الْهَدْيِ , أَوْ كَانَتْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ كَالظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ . وَمَقْصُودُ النَّبِيِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَهْيُهُ عَنْ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ وَالْقَطِيعَةِ فَقَطْ . أَوْ يَكُونُ مَقْصُودُهُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مَا فِي الْيَمِينِ وَالنُّذُورِ مِنْ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ , وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ لِاسْتِدْلَالِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِهِ . فَإِنَّهُ لَوْلَا أَنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى هَذَا لَمْ يَصِحَّ اسْتِدْلَالُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا أَجَابَ بِهِ السَّائِلُ مِنْ الْكَفَّارَةِ دُونَ إخْرَاجِ الْمَالِ فِي كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ ; لِأَنَّ لَفْظَ النَّبِيِّ يُعْلِمُ ذَلِكَ كُلَّهُ . وَأَيْضًا كَمَا تَبَيَّنَ دُخُولُ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي الْيَمِينِ وَالْحَلِفِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ رَسُولِهِ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : { مَنْ حَلَفَ يَمِينًا وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ } . رَوَاهُ أَحْمَدُ , وَالنَّسَائِيُّ , وَالتِّرْمِذِيُّ , وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَأَبُو دَاوُد وَلَفْظُهُ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ , ثِنَا سُفْيَانُ , عَنْ أَيُّوبَ , عَنْ نَافِعٍ , عَنْ ابْنِ عُمَرَ , يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ اسْتَثْنَى } . رَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ , عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ { مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ غَيْرَ حِنْثٍ } . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ

اللَّهِ : { مَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ , وَابْنُ مَاجَهْ , وَلَفْظُهُ فَلَهُ ثُنْيَا وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ : فَقَدْ اسْتَثْنَى . ثَمَّ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ أَدْخَلُوا الْحَلِفَ بِالنَّذْرِ وَبِالطَّلَاقِ وَبِالْعَتَاقِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ , وَقَالُوا يَنْفَعُ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ , بَلْ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ يَجْعَلُ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ لَا خِلَافَ فِيهِ فِي مَذْهَبِهِ , وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ , وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَدْخُلُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ هُوَ نَفْسُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ , وَالْفَرْقُ بَيْنَ إيقَاعِهِمَا وَالْحَلِفِ بِهِمَا ظَاهِرٌ , وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ قَاعِدَةَ الِاسْتِثْنَاءِ , فَإِذَا كَانُوا قَدْ أَدْخَلُوا الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي قَوْلِهِ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ } , فَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } , فَإِنَّ كِلَا اللَّفْظَيْنِ سَوَاءٌ وَهَذَا وَاضِحٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ , فَإِنَّ قَوْلَهُ . مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ , لَفْظُ الْعُمُومِ فِيهِ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } , وَإِذَا كَانَ لَفْظُ رَسُولِ اللَّهِ فِي حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ لَفْظُهُ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ , وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا يَنْفَعُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ يَنْفَعُ فِيهِ التَّكْفِيرُ ,

وَكُلُّ مَا يَنْفَعُ فِيهِ التَّكْفِيرُ يَنْفَعُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ , كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ , وَمَنْ قَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَصَدَ بِقَوْلِهِ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا مِنْ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَبِالنَّذْرِ وَبِالطَّلَاقِ وَبِالْعَتَاقِ , وَبِقَوْلِهِ مَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إنَّمَا قَصَدَ بِهِ التَّمَيُّنَ بِاَللَّهِ أَوْ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ وَالنَّذْرَ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ مُوجِبَ حُضُورِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ بِقَلْبِ النَّبِيِّ . مِثْلُ حُضُورِ مُوجِبِ اللَّفْظِ الْآخَرِ , كِلَاهُمَا لَفْظٌ وَاحِدٌ وَالْحُكْمُ فِيهِمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ رَفْعُ الْيَمِينِ إمَّا بِالِاسْتِثْنَاءِ وَإِمَّا بِالتَّكْفِيرِ . وَبَعْدَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ انْقَسَمَتْ فِي دُخُولِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي حَدِيثِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : فَقَوْمٌ قَالُوا : يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ أَنْفُسُهُمَا حَتَّى لَوْ قَالَ : أَنْت طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ , دَخَلَ ذَلِكَ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ , وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا . وَقَوْمٌ قَالُوا : يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَا إيقَاعُهُمَا وَلَا الْحَلِفُ بِهِمَا لَا بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ وَلَا بِصِيغَةِ الْقَسَمِ , وَهَذَا أَشْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : إنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ , بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ

, وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ إنْ كَانَ الْحَلِفُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ دَخَلَ فِي الْحَدِيثِ وَنَفَعَتْهُ الْمَشِيئَةُ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ , وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ . وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ هُوَ الصَّوَابُ الْمَأْثُورُ مَعْنَاهُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ . جُمْهُورُ التَّابِعِينَ , كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , وَالْحَسَنِ لَمْ يَجْعَلُوا فِي الطَّلَاقِ اسْتِثْنَاءً . وَلَمْ يَجْعَلُوهُ مِنْ الْأَيْمَانِ , ثُمَّ ذَكَرْنَاهُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْحَلِفَ بِالصَّدَقَةِ وَالْهَدْيِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَمِينًا مُكَفِّرَةً , وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مِنْ الْأَيْمَانِ . وَقَالَ أَيْضًا : الثُّنْيَا فِي الطَّلَاقِ لَا أَقُولُ بِهِ , وَذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ جَزْمًا وَاقِعَانِ . وَقَالَ أَيْضًا : إنَّمَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ كَفَّارَةٌ , وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَا يُكَفَّرَانِ , وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ظَاهِرٌ , وَذَلِكَ أَنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَيْسَ يَمِينًا أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْإِبْرَاءِ مِنْ الدَّيْنِ , وَلِهَذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ يَمِينًا ثُمَّ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ أَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ أَبْرَأَ غَرِيمَهُ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ , مَا عَلِمْت أَحَدًا خَالَفَ فِي ذَلِكَ , فَمَنْ أَدْخَلَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ بَعْدُ } ,

حَمَّلَ الْعَامُّ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ , كَمَا أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ مِنْ الْعَامِّ قَوْلَهُ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَأَفْعَلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ , أَوْ إنْ فَعَلْته فَامْرَأَتِي طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ , فَقَدْ أَخْرَجَ مِنْ الْقَوْلِ الْعَامِّ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِيهِ , قَالَ هَذَا يَمِينٌ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ . وَهُنَا يَنْبَغِي تَقْلِيدُ أَحْمَدَ بِقَوْلِهِ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَيْسَا مِنْ الْأَيْمَانِ , فَإِنَّ الْحَلِفَ بِهِمَا كَالْحَلِفِ بِالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهِمَا , وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ عَقْلًا وَعُرْفًا وَشَرْعًا . وَلِهَذَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ أَبَدًا ثُمَّ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ حَنِثَ , وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ سَمَّوْهُ يَمِينًا , وَكَذَلِكَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ سَمَّوْهُ يَمِينًا , وَكَذَلِكَ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ سَمَّوْهُ يَمِينًا , وَمَعْنَى الْيَمِينِ مَوْجُودٌ فِيهِ , فَإِنَّهُ إذَا قَالَ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ تَعُودُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ , وَالْمَعْنَى إنِّي حَالِفٌ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِعْلَهُ , فَإِذَا لَمْ يُفْعَلْ لَمْ يَكُنْ قَدْ شَاءَهُ , فَلَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لَهُ , فَلَوْ نَوَى عَوْدَهُ إلَى الْحَلِفِ بِأَنْ يَقْصِدَ أَيْ الْحَالِفُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَكُونَ حَالِفًا كَانَ مَعْنَى هَذَا مُغَايِرٌ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِنْشَاءَاتِ كَالطَّلَاقِ وَعَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ , تَعُودُ

الْمَشِيئَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى الْفِعْلِ , فَالْمَعْنَى لَأَفْعَلَنَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِعْلَهُ , فَمَتَى لَمْ يَفْعَلْهُ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ قَدْ شَاءَهُ فَلَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لِلطَّلَاقِ , بِخِلَافِ مَا لَوْ عَنَى بِالطَّلَاقِ يَلْزَمُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ لُزُومَهُ إيَّاهُ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَقَوْلُ أَحْمَدَ إنَّمَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا فِيهِ حُكْمُ الْكَفَّارَةِ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَا يُكَفَّرَانِ . كَلَامٌ حَسَنٌ بَلِيغٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ , أَخْرَجَ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ وَحُكْمَ الْكَفَّارَةِ مَخْرَجًا وَاحِدًا بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ , وَبِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ , فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا جَمَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يَقَعُ لِمَا عُلِّقَ بِهِ الْفِعْلُ , فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي هِيَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَنَحْوُهُمَا لَا تُعَلَّقُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا , فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ بِوُجُوبِ أَسْبَابِهَا , فَإِذَا انْعَقَدَتْ أَسْبَابُهَا فَقَدْ شَاءَهَا اللَّهُ , وَإِنَّمَا تُعَلَّقُ عَلَى الْحَوَادِثِ الَّتِي قَدْ يَشَاءَهَا اللَّهُ وَقَدْ لَا يَشَاءَهَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَنَحْوِهَا , وَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا شُرِعَتْ لِمَا يَحْصُلُ مِنْ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الَّتِي قَدْ يَحْصُلُ فِيهَا الْمُوَافَقَةُ بِالْبِرِّ تَارَةً وَالْمُخَالَفَةُ بِالْحِنْثِ أُخْرَى , وَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْمُوَافَقَةَ وَالْمُخَالَفَةَ , كَارْتِفَاعِ الْيَمِينِ بِالْمَشِيئَةِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ وَعَدَمَ التَّعْلِيقِ فَكُلُّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ

لَيَفْعَلَنَّهُ فَلَمْ يَفْعَلْهُ فَإِنَّهُ إنْ عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ , وَإِنْ لَمْ يُعَلِّقْهُ بِالْمَشِيئَةِ لَزِمَتْهُ بِالْكَفَّارَةِ . فَالِاسْتِثْنَاءُ وَالتَّكْفِيرُ يَتَعَاقَبَانِ الْيَمِينَ إذَا لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الْمُوَافَقَةُ ; فَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدْفَعُ مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الزِّيَادَةِ أَوْ النَّقْصِ , فَهَذَا عَلَى مَا أَوْجَبَهُ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ , ثُمَّ يُقَالُ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ , الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَا يُكَفَّرَانِ كَقَوْلِ غَيْرِهِ لَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِمَا . وَهَذَا فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَأَمَّا الْحَلِفُ بِهِمَا فَلَيْسَ تَكْفِيرًا لَهُمَا , وَإِنَّمَا هُوَ تَكْفِيرٌ لِلْحَلِفِ بِهِمَا , كَمَا أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَالْهَدْيِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي نَذَرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ فَإِنَّهُ لَمْ يُكَفِّرْ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ وَالْهَدْيَ , وَإِنَّمَا يُكَفِّرُ الْحَلِفَ بِهِمْ , وَإِلَّا فَالصَّلَاةُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا , وَكَمَا أَنَّهُ إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِلَا خِلَافٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ , وَمُوَافَقَةٍ مِنْ الْقَائِلِينَ بِنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ وَلَيْسَ ذَلِكَ تَكْفِيرًا لِلْعِتْقِ , وَإِنَّمَا هُوَ تَكْفِيرٌ لِلْحَلِفِ بِهِ , فَلَازِمُ قَوْلِ أَحْمَدَ هَذَا أَنَّهُ إذَا جَعَلَ الْحَلِفَ بِهِمَا يَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ كَانَ الْحَلِفُ بِهِمَا يَصِحُّ فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَهَذَا مُوجِبُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ .
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْحَلِفَ بِهِمَا يَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَمَذْهَبِ مَالِكٍ فَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ , وَنَحْنُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ , وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى حِدَةٍ , وَإِذَا قَالَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ , لَزِمَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْحَلِفِ بِهِمَا , وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ فَقَالَ يَصِحُّ الْحَلِفُ فِي الْحَلِفِ بِهِمَا الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا تَصِحُّ الْكَفَّارَةُ فَهَذَا لَمْ أَعْلَمْهُ مَنْصُوصًا عَنْ أَحْمَدَ , وَلَكِنَّهُمْ مَعْذُورُونَ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ حَيْثُ لَمْ يَجِدُوهُ نُصَّ فِي تَكْفِيرِ الْحَلِفِ بِهِمَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ , كَمَا نُصَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْحَلِفِ بِهَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ لَكِنْ هَذَا الْقَوْلُ لَازِمٌ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ الَّتِي يَنْصُرُونَهَا , وَمِنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ قَوْلَهُ لَوَازِمُ يَتَفَطَّنُ لِلُزُومِهَا , وَلَوْ تَفَطَّنَ لَكَانَ إمَّا أَنْ يَلْتَزِمَهَا أَوْ لَا يَلْتَزِمَهَا بَلْ يَرْجِعُ عَنْ الْمَلْزُومِ أَوْ لَا يَرْجِعُ عَنْهُ , وَيَعْتَقِدُ أَنَّهَا غَيْرُ لَوَازِمَ . وَالْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ إذَا خَرَّجُوا عَلَى قَوْلِ عَالِمٍ لَوَازِمَ قَوْلِهِ وَقِيَاسِهِ , فَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ اللَّازِمِ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ أَوْ نَصَّ عَلَى نَفْيِهِ , وَإِذَا نَصَّ عَلَى نَفْيِهِ فَإِمَّا أَنْ

يَكُونَ نُصَّ عَلَى نَفْيِ لُزُومِهِ أَوْ لَمْ يَنُصَّ , فَإِنْ كَانَ قَدْ نَصَّ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ اللَّازِمِ وَخَرَّجُوا عَنْهُ خِلَافَ الْمَنْصُوصِ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ , مِثْلُ أَنْ يَنُصَّ فِي مَسْأَلَتَيْنِ مُتَشَابِهَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ , أَوْ يُعَلِّلَ مَسْأَلَةً بِعِلَّةٍ يَنْقُضُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ , كَمَا عَلَّلَ أَحْمَدُ هُنَا عَدَمَ التَّكْفِيرِ بِعَدَمِ الِاسْتِثْنَاءِ وَعَنْهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ رِوَايَتَانِ , فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَخْرِيجِ مَا لَمْ يُتَكَلَّمْ فِيهِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ , هَلْ يُسَمَّى ذَلِكَ مَذْهَبًا أَوْ لَا يُسَمَّى . وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ , فَالْأَثْرَمُ وَالْخِرَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا يَجْعَلُونَهُ مَذْهَبًا لَهُ , وَالْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ وَغَيْرُهُمَا لَا يَجْعَلُونَهُ مَذْهَبًا لَهُمَا , وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا قِيَاسُ قَوْلِهِ وَلَازِمُ قَوْلِهِ فَلَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْمَذْهَبِ الْمَنْصُوصِ عَنْهُ , وَلَا أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَيْسَ بِلَازِمِ قَوْلِهِ بَلْ هُوَ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ , هَذَا حَيْثُ أَمْكَنَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ الطَّلَاقَ مُبِيحًا لَهُ أَوْ آمِرًا بِهِ أَوْ مُلْزِمًا لَهُ إذَا أَوْقَعَهُ صَاحِبُهُ , وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ وَكَذَلِكَ النَّذْرُ وَهَذِهِ الْعُقُودُ مِنْ النَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ يَقْتَضِي وُجُوبَ أَشْيَاءَ عَلَى الْعَبْدِ , أَوْ تَحْرِيمَ أَشْيَاءَ عَلَيْهِ . وَالْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ إنَّمَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ إذَا قَصَدَهُ أَوْ قَصَدَ سَبَبَهُ , فَإِنَّهُ لَوْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ هَذَا الْكَلَامُ لِغَيْرِ قَصْدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِالِاتِّفَاقِ , وَلَوْ تَكَلَّمَ بِهَذِهِ

الْكَلِمَاتِ مُكْرَهًا لَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ ; لِأَنَّ مَقْصُودَهُ إنَّمَا هُوَ دَفْعُ الْمَكْرُوهِ عَنْهُ لَمْ يَقْصِدْ حُكْمَهَا وَلَا قَصَدَ التَّكَلُّمَ بِهَا ابْتِدَاءً , فَكَذَلِكَ الْحَالِفُ إذَا قَالَ إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ الطَّلَاقُ لَيْسَ يَقْصِدُ الْتِزَامَ حَجٍّ وَلَا طَلَاقٍ , وَلَا تَكَلُّمٍ بِمَا يُوجِبُهُ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا قَصْدُهُ الْحَضُّ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ مَنْعُ نَفْسِهِ مِنْهُ , كَمَا أَنَّ قَصْدَ الْمُكْرَهِ دَفْعُ الْمَكْرُوهِ عَنْهُ , ثُمَّ قَالَ , عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْحَضِّ وَالْمَنْعِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَهَذَا لِي لَازِمٌ أَوْ هَذَا عَلَيَّ حَرَامٌ لِشِدَّةِ امْتِنَاعِهِ مِنْ هَذَا اللُّزُومِ وَالتَّحْرِيمِ عُلِّقَ ذَلِكَ بِهِ , فَقَصْدُهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا لَا ثُبُوتُ أَحَدِهِمَا وَلَا ثُبُوتُ سَبَبِهِ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لِلْحُكْمِ وَلَا لِسَبَبِهِ إنَّمَا قَصْدُهُ عَدَمُ الْحُكْمِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَلْزَمَهُ الْحُكْمُ , وَأَيْضًا فَإِنَّ الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّهُ كَانَ يَحْلِفُ بِهَا عَلَى عَهْدِ قُدَمَاءِ الصَّحَابَةِ , وَلَكِنْ قَدْ ذَكَرُوهَا فِي أَيْمَانِ الْبَيْعَةِ الَّتِي رَتَّبَهَا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَصَدَقَةِ الْمَالِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَلَمْ أَقِفْ إلَى السَّاعَةِ عَلَى كَلَامٍ لِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ , وَإِنَّمَا الَّذِي بَلَغَنَا عَنْهُمْ الْجَوَابُ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ كَمَا تَقَدَّمَ , ثُمَّ هَذِهِ الْبِدْعَةُ قَدْ شَاعَتْ فِي الْأُمَّةِ

وَانْتَشَرَتْ انْتِشَارًا عَظِيمًا , ثُمَّ لَمَّا اعْتَقَدَ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِهَا لَا مَحَالَةَ , صَارَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا مِنْ الْأَغْلَالِ عَلَى الْأُمَّةِ مَا هُوَ شَبِيهٌ بِالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ , وَنَشَأَ عَنْ ذَلِكَ خَمْسُ أَنْوَاعٍ مِنْ الْحِيَلِ وَالْمَفَاسِدِ فِي الْأَيْمَانِ , حَتَّى اتَّخَذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ عَلَى تَرْكِ أُمُورٍ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ فِعْلِهَا إمَّا شَرْعًا وَإِمَّا طَبْعًا , وَعَلَى فِعْلِ أُمُورٍ لَا يَصْلُحُ فِعْلُهَا إمَّا شَرْعًا وَإِمَّا طَبْعًا , وَغَالِبُ مَا يَحْلِفُونَ بِذَلِكَ فِي حَالِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ , ثُمَّ فِرَاقُ الْأَهْلِ فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا يَزِيدُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَغْلَالِ الْيَهُودِ ,

وَقَدْ قِيلَ إنَّ اللَّهَ إنَّمَا حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ لِئَلَّا يَتَسَارَعَ النَّاسُ إلَى الطَّلَاقِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ , فَإِذَا حَلَفُوا بِالطَّلَاقِ عَلَى الْأُمُورِ اللَّازِمَةِ أَوْ الْمَمْنُوعَةِ وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى تِلْكَ الْأُمُورِ أَوْ تَرْكِهَا مَعَ عَدَمِ فِرَاقِ الْأَهْلِ قَدَحَتْ الْأَفْكَارُ لَهُمْ أَنْوَاعًا مِنْ الْحِيَلِ أَرْبَعَةً أُخِذَتْ عَنْ الْكُوفِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ . الْحِيلَةُ الْأُولَى فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ : فَيَتَأَوَّلُ لَهُمْ خِلَافٌ قَصَدُوهُ وَخِلَافُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ , وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَصَفَهُ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفِقْهِ وَيُسَمُّونَهُ بَابَ الْمُعَايَاةِ وَبَابَ الْحِيَلِ فِي الْأَيْمَانِ , وَأَكْثَرُهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ الدِّينِ أَنَّهُ لَا يَسُوغُ فِي الدِّينِ , وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ كَلَامِ الْحَالِفِ عَلَيْهِ , وَلِهَذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ يُشَدِّدُونَ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ يَحْتَالُ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ . الْحِيلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا تَعَذَّرَ الِاحْتِيَالُ فِي الْكَلَامِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ احْتَالُوا لِلْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ , بِأَنْ يَأْمُرُوهُ بِمُخَالَفَةِ امْرَأَتِهِ لِيَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ الْبَيْنُونَةِ , وَهَذِهِ الْحِيلَةُ أَحْدَثُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا وَأَظُنُّهَا حَدَثَتْ فِي حُدُودِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ , فَإِنَّ عَامَّةَ الْحِيَلِ إنَّمَا نَشَأَتْ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُوفَةِ , وَحِيلَةُ الْخُلْعِ لَا تَمْشِي عَلَى أَصْلِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ بِهِ

الطَّلَاقُ ; لِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ فُرْقَةٍ بَائِنَةٍ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ عِنْدَهُمْ , فَيَحْتَاجُ الْمُحْتَالُ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ أَنْ يَتَرَبَّصَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ , ثُمَّ يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا , وَهَذَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ طُولِ الْمُدَّةِ , فَصَارَ يُفْتِي بِهَا بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ , وَرُبَّمَا رَكَنُوا مَعَهَا إلَى أَخْذِ قَوْلِهِ الْمُوَافِقِ لِأَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ , مِنْ أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ فَيَصِيرُ الْحَالِفُ كُلَّمَا أَرَادَ الْحِنْثَ خَلَعَ زَوْجَتَهُ , وَفَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا , فَإِمَّا أَنْ يُفْتُوهُ بِنَقْصِ عَدَدِ الطَّلَاقِ أَوْ يُفْتُوهُ بِعَدَمِهِ , وَهَذَا الْخُلْعُ الَّذِي هُوَ خُلْعُ الْأَيْمَانِ شَبِيهٌ بِنِكَاحِ الْمُحَلَّلِ سَوَاءٌ , فَإِنَّ ذَلِكَ عَقْدٌ لَمْ يَقْصِدْهُ وَإِنَّمَا قَصَدَ إزَالَتَهُ وَهَذَا فَسَخَ فَسْخًا لَمْ يَقْصِدْهُ , وَإِنَّمَا قَصَدَ إزَالَتَهُ , وَهَذِهِ حِيلَةٌ مُحْدَثَةٌ بَارِدَةٌ قَدْ صَنَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ جُزْءًا فِي إبْطَالِهَا , وَذَكَرَ عَنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ مَا قَدْ ذَكَرْت بَعْضَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . الْحِيلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا تَعَذَّرَ الِاحْتِيَالُ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ , احْتَالُوا فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ فَيُبْطِلُونَهُ بِالْبَحْثِ عَنْ شُرُوطِهِ , فَصَارَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يَبْحَثُونَ عَنْ صِفَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ , لَعَلَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى أَمْرٍ يَكُونُ بِهِ فَاسِدًا لِيُرَتِّبُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَقَعُ , وَمَذْهَبُ

الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ أَنَّ الْوَلِيَّ الْفَاسِقَ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ , وَالْفُسُوقُ غَالِبٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فَيَقْتَنُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِسَبَبِ الِاحْتِيَالِ لِرَفْعِ الطَّلَاقِ ثُمَّ نَجِدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَحْتَالُونَ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ إنَّمَا يَنْظُرُونَ فِي صِفَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ , وَكَوْنُ فُلَانٍ الْفَاسِقِ لَا يَصِحُّ عِنْدَ إيقَاعِ الطَّلَاقِ الَّذِي قَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَقَعُ الْفَاسِدُ فِي الْجُمْلَةِ , وَأَمَّا عِنْدَ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي أَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَلَا يَنْظُرُونَ فِي ذَلِكَ , وَلَا يَنْظُرُونَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَ الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ , بَلْ عِنْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ خَاصَّةً , وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَمِنْ الْمَكْرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ إنَّمَا أَوْجَبَهُ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالضَّرُورَةِ إلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ . الْحِيلَةُ الرَّابِعَةُ : الشَّرْعِيَّةُ فِي إفْسَادِ الْمَحْلُوفِ بِهِ أَيْضًا لَكِنْ لِوُجُودِ مَانِعٍ , لَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ فَإِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ سُرَيْجٍ وَطَائِفَةً بَعْدَهُ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتَ طَالِقٌ قَبْلُ ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقٌ أَبَدًا ; لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْمُنْجَزُ لَزِمَ وُقُوعُ الْمُعَلَّقِ , وَإِذَا وَقَعَ الْمُعَلَّقُ امْتَنَعَ وُقُوعُ الْمُنْجَزِ , فَيُفْضِي وُقُوعُهُ إلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ فَلَا يَقَعُ , وَأَمَّا عَامَّةُ فُقَهَاءِ

الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ , بَلْ رَأَوْهُ مِنْ الزَّلَّاتِ الَّتِي يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ كَوْنُهَا لَيْسَتْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ , حَيْثُ قَدْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الطَّلَاقَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ نِكَاحٍ , وَأَنَّهُ مَا مِنْ نِكَاحٍ إلَّا وَيُمْكِنُ فِيهِ الطَّلَاقُ , وَسَبَبُ الْغَلَطِ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا صِحَّةَ هَذَا الْكَلَامِ , فَقَالُوا إذَا وَقَعَ الْمُنْجَزُ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ , وَهَذَا الْكَلَامُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ , فَإِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ وُقُوعَ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ , وَوُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ مُمْتَنِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ , فَالْكَلَامُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى ذَلِكَ بَاطِلٌ , وَإِذَا كَانَ بَاطِلًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ وُقُوعِ الْمُنْجَزِ وُقُوعُ الْمُعَلَّقِ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا , ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ يَقَعُ مِنْ الْمُعَلَّقِ تَمَامُ الثَّلَاثِ أَمْ يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ وَلَا يَقَعُ إلَّا الْمُنْجَزُ , عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا . وَمَا أَدْرِي هَلْ اسْتَحْدَثَ ابْنُ سُرَيْجٍ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِلِاحْتِيَالِ عَلَى دَفْعِ الطَّلَاقِ أَمْ قَالَهُ طَرْدًا لِقِيَاسٍ اُعْتُقِدَ صِحَّتُهُ , وَاحْتَالَ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ , لَكِنِّي رَأَيْت مُصَنَّفًا لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ صَنَّفَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , وَمَقْصُودُهُ بِهَا الِاحْتِيَالُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ , وَلِهَذَا صَاغُوهَا بِقَوْلِهِ إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا ; لِأَنَّهُ لَوْ قَالُوا إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ

ثَلَاثًا لَمْ تَنْفَعْهُ هَذِهِ الصِّيغَةُ فِي الْحِيلَةِ وَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا فِي الدَّوْرِ سَوَاءً , وَذَلِكَ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ فَأَنْتَ طَالِقٌ , لَمْ يَحْنَثْ إلَّا بِتَطْلِيقٍ يُنَجِّزُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْيَمِينِ أَوْ يُعَلِّقُهُ بَعْدَهَا عَلَى شَرْطٍ فَيُوجَدُ , فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ التَّنْجِيزِ وَالتَّعْلِيقِ الَّذِي وُجِدَ شَرْطُهُ تَطْلِيقٌ , أَمَّا إذَا كَانَ قَدْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا قَبْلَ هَذِهِ الْيَمِينِ بِشَرْطٍ وَوُجِدَ الشَّرْطُ بَعْدَ هَذِهِ الْيَمِينِ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدُ وُجُودِ الشَّرْطِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ تَطْلِيقًا ; لِأَنَّ التَّطْلِيقَ لَا بُدَّ أَنْ يَصْدُرَ عَنْ الْمُطَلَّقِ , وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بِصِفَةٍ يَفْعَلُهَا غَيْرُهُ لَيْسَ فِعْلًا مِنْهُ . فَأَمَّا إذْ قَالَ إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَهَذَا يَعُمُّ الْمُنْجَزَ وَالْمُعَلَّقَ يُعَدُّ هَذَا شَرْطٌ وَالْوَاقِعُ بَعْدَ هَذَا شَرْطٌ يُقَدَّمُ تَعْلِيقُهُ , فَصَوَّرُوا الْمَسْأَلَةَ بِصُوَرٍ قَوْلُهُ إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي حَتَّى إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِالطَّلَاقِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا , قَالُوا لَهُ بَلْ إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا فَيَقُولُ ذَلِكَ , فَيَقُولُونَ لَهُ افْعَلْ الْآنَ مَا حَلَفْت عَلَيْهِ , فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْك طَلَاقٌ , فَهَذَا التَّسْرِيحُ الْمُنْكَرُ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْمَعْلُومُ يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الشَّرِيعَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا إنَّمَا تَفَقُّهٌ فِي الْغَالِبِ وَأَحْوَجَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ إلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ , وَإِلَّا فَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ أَحَدٌ ; لِأَنَّ

الْعَاقِلَ لَا يَكَادُ يَقْصِدُ انْسِدَادَ بَابِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ إلَّا بِالْبِرِّ . الْحِيلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَمْ يُمْكِنْ الِاحْتِيَالُ لَا فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا , وَلَا فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ إبْطَالًا وَلَا مَنْعًا , احْتَالُوا لِإِعَادَةِ النِّكَاحِ بِنِكَاحِ الْمُحَلَّلِ الَّذِي دَلَّتْ السُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مَعَ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ وَشَوَاهِدِ الْأُصُولِ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَفَسَادِهِ , ثُمَّ قَدْ تَوَالَدَ مِنْ نِكَاحِ الْمُحَلَّلِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ كَمَا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهِ فِي كِتَابِ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ , وَأَغْلَبُ مَا يُحْوِجُ النَّاسَ إلَى نِكَاحِ الْمُحَلَّلِ هُوَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ , وَإِلَّا فَالطَّلَاقُ الثَّلَاثُ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ فِي الْغَالِبِ إلَّا إذَا قَصَدَهُ . وَمَنْ قَصَدَهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مِنْ النَّدَمِ وَالْفَسَادِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَنْ اُضْطُرَّ لِوُقُوعِهِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْحِنْثِ , فَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ الْخَمْسُ الَّتِي هِيَ الِاحْتِيَالُ عَلَى نَقْضِ الْأَيْمَانِ وَإِخْرَاجِهِمَا عَلَى مَفْهُومِهِمَا وَمَقْصُودِهَا بِالِاحْتِيَالِ بِالْخُلْعِ وَإِعَادَةِ النِّكَاحِ , ثُمَّ الِاحْتِيَالُ عَنْ فَسَادِ النِّكَاحِ , ثُمَّ الِاحْتِيَالُ بِمَنْعِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ , ثُمَّ الِاحْتِيَالُ بِنِكَاحِ الْمُحَلَّلِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّعِبِ الَّذِي يُنَفِّرُ الْعُقَلَاءَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ , وَيُوجِبُ ظَفْرَ الْكُفَّارِ فِيهِ كَمَا رَأَيْته فِي بَعْضِ كُتُبِ النَّصَارَى وَغَيْرِهَا , وَتَبَيَّنَ لِكُلِّ

مُؤْمِنٍ صَحِيحِ الْفِطْرَةِ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ بَرِيءٌ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ الْخُزَعْبَلَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ حِيلَ الْيَهُودِ وَمَخَارِيفَ الرُّهْبَانِ , وَأَكْثَرُ مَا أَوْقَعَ النَّاسَ فِيهَا وَأَوْجَبَ كَثْرَةَ إنْكَارِ الْفُقَهَاءِ فِيهَا وَاسْتِخْرَاجَهُمْ لَهَا هُوَ حَلِفُ النَّاسِ بِالطَّلَاقِ . وَاعْتِقَادُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحِنْثِ لَا مَحَالَةَ حَتَّى لَقَدْ فَرَّعَ الْكُوفِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُرُوعِ الْأَيْمَانِ شَيْئًا كَثِيرًا مَبْنَاهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ , وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُرُوعِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي يُفَرِّعُهَا هَؤُلَاءِ وَنَحْوُهُمْ هِيَ كَمَا كَانَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ مِثَالُهَا مِثَالُ رَجُلٍ بَنَى دَارًا حَسَنَةً عَلَى حِجَارَةٍ مَغْصُوبَةٍ , فَإِذَا تَوَزَّعَ فِي اسْتِحْقَاقِ تِلْكَ الْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ الْأَسَاسُ فَاسْتَحَقَّهَا غَيْرُهُ انْهَدَمَ بِنَاؤُهُ , فَإِنَّ الْفُرُوعَ الْحَسَنَةَ إنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى أُصُولٍ مُحْكَمَةٍ , وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْفَعَةٌ , فَإِذَا كَانَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَاعْتِقَادُ لُزُومِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحِنْثِ قَدْ أَوْجَبَ هَذِهِ الْمَفَاسِدَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي قَدْ غَيَّرَتْ بَعْضَ أُمُورِ الْإِسْلَامِ , غَلَّا مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ وَقَالَ فِي هَؤُلَاءِ شَبَهٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ . مَعَ أَنَّ لُزُومَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحَلِفِ بِهِ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ , وَلَا أَفْتَى بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ . بَلْ وَلَا أَحَدٌ مِنْهُمْ مِمَّا أَعْلَمُهُ وَلَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ التَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَالْعُلَمَاءُ بَعْدَهُمْ وَلَا هُوَ مُنَاسِبٌ لِأُصُولِ

الشَّرِيعَةِ وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ قَالَهُ أَكْثَرَ مِنْ عَادَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ أُسْنِدَتْ إلَى قِيَاسٍ مُعْتَضَدٍ بِتَقْلِيدٍ لِقَوْمٍ أَئِمَّةٍ عُلَمَاءَ مَحْمُودِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ , وَهُمْ لِلَّهِ الْحَمْدُ فَوْقَ مَا يُظَنُّ بِهِ , لَكِنْ لَمْ نُؤْمَرْ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ . وَقَدْ خَالَفَهُمْ مَنْ لَيْسَ دُونَهُمْ بَلْ مِثْلُهُمْ أَوْ فَوْقَهُمْ , فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ أَعْيَانٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْمُجْمَعِ عَلَى إمَامَتِهِ وَفِقْهِهِ وَدِينِهِ وَأُخْتِهِ حَفْصَةِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَزَيْنَبُ رَبِيبَةِ رَسُولِ اللَّهِ , وَهِيَ مِنْ أَمْثَلِ فَقِيهَاتِ الصَّحَابَةِ فِي الْإِفْتَاءِ بِالْكَفَّارَةِ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ أَوْلَى مِنْهُ , وَذَكَرْنَا عَنْ طَاوُسٍ وَهُوَ مِنْ أَفَاضِلِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ عِلْمًا وَفِقْهًا وَدِينًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ مُوقِعَةً لَهُ , فَإِذَا كَانَ مِنْ لُزُومِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ بِهِ مُقْتَضِيًا لِهَذِهِ الْمَفَاسِدِ وَحَالُهُ فِي الشَّرِيعَةِ هَذِهِ الْحَالُ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا أَفْضَى إلَى هَذَا الْفَسَادِ لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ , كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي ضَمَانِ الْحَدَائِقِ لِمَنْ يَزْدَرِعُهَا وَيَسْتَثْمِرُهَا , وَبَيْعِ الْخُضَرِ وَنَحْوِهَا وَذَلِكَ أَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ , إذَا حَلَفَ لَيَقْطَعَنَّ رَحِمَهُ , وَلَيَعُقَّنَّ أَبَاهُ , وَلَيَقْتُلَنَّ عَدُوَّهُ الْمُسْلِمَ الْمَعْصُومَ , وَلَيَأْتِيَنَّ الْفَاحِشَةَ وَلَيَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ , وَلَيُفَرِّقَنَّ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ , وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ كَبَائِرِ

الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ . فَهُوَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : إمَّا أَنْ يَفْعَلَ هَذَا الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ , فَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ بَلْ وَالْمُفْتِينَ إذَا رَأَوْهُ قَدْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَخْفِيفِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ وَإِقَامَةِ عُذْرِهِ . وَإِمَّا أَنْ يَحْتَالَ بِبَعْضِ تِلْكَ الْحِيَلِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا اسْتَخْرَجَهُ قَوْمٌ مِنْ الْمُفْتِينَ , فَفِي ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَمُخَادَعَتِهِ وَالْمَكْرِ فِي دِينِهِ وَالْكَيْدِ لَهُ , وَضَعْفِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَالِاعْتِدَاءِ لِحُدُودِهِ وَالِانْتِهَاكِ لِمَحَارِمِهِ وَالْإِلْحَادِ فِي آيَاتِهِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ , وَإِنْ كَانَ فِي إخْوَانِنَا الْفُقَهَاءِ مَنْ قَدْ يَسْتَجِيزُ بَعْضَ ذَلِكَ , فَقَدْ دَخَلَ مِنْ الْغَلَطِ فِي ذَلِكَ , وَإِنْ كَانَ مَغْفُورًا لِصَاحِبِهِ الْمُجْتَهِدِ الْمَنْفِيِّ لِلَّهِ مَا فَسَادُهُ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ حَقِيقَةَ الدِّينِ . وَإِمَّا أَنْ لَا يَحْتَالَ وَلَا يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بَلْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ إذَا اعْتَقَدَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ , فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا لَا يَأْذَنْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ , أَمَّا فَسَادُ الدِّينِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مَعَ اسْتِقَامَةِ حَالِ الزَّوْجِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ { إنَّ الْمُخْتَلِعَاتِ وَالْمُنْتَزِعَاتِ هُنَّ مِنْ الْمُنَافِقَاتِ } . وَقَالَ : { أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ } . وَقَدْ

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ . وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ , وَقَدْ اسْتَحْسَنُوا جَوَابَ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا سُئِلَ عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ , وَلَيَطَأَنَّ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ , فَقَالَ : يُطَلِّقُهَا وَلَا يَطَؤُهَا قَدْ أَبَاحَ اللَّهُ الطَّلَاقَ وَحَرَّمَ وَطْءَ الْحَائِضِ , وَهَذَا الِاسْتِحْسَانُ يَتَوَجَّهُ عَلَى أَصْلَيْنِ إمَّا عَلَى قَوْلِهِ إنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِحَرَامٍ , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهُ دُونَ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ , وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ كِلَاهُمَا حَرَامًا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ حَرَامٍ إلَّا إلَى حَرَامٌ , وَأَمَّا ضَرَرُ الدُّنْيَا فَأَبْيَنُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ , فَإِنَّ لُزُومَ الطَّلَاقِ الْمَحْلُوفِ بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ يُوجِبُ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَمْ تَأْتِ بِهِ الشَّرِيعَةُ فِي مِثْلِ هَذَا قَطُّ . فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الصَّالِحَةَ تَكُونُ فِي صُحْبَةِ زَوْجِهَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ سِنِينَ كَثِيرَةً , وَهِيَ مَتَاعُهُ الَّذِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ : { الدُّنْيَا مَتَاعٌ , وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الْمُؤْمِنَةُ , إنْ نَظَرْت إلَيْهَا أَعْجَبَتْك وَإِنْ أَمَرْتهَا أَطَاعَتْك وَإِنْ غِبْت عَنْهَا حَفِظَتْك فِي نَفْسِهَا وَمَالِك } . وَهِيَ الَّتِي أَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ فِي قَوْلِهِ لَمَّا سَأَلَهُ الْمُهَاجِرُونَ أَيُّ الْمَالِ نَتَّخِذُ فَقَالَ : { لِسَانًا ذَاكِرًا وَقَلْبًا شَاكِرًا أَوْ امْرَأَةً صَالِحَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى إيمَانِهِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ , مِنْ حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ , عَنْ ثَوْبَانَ . وَيَكُونُ مِنْهَا مِنْ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ مَا امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي كِتَابِهِ , فَيَكُونُ أَلَمُ

الْفِرَاقِ أَشَدَّ عَلَيْهَا مِنْ الْمَوْتِ أَحْيَانًا وَأَشَدَّ مِنْ ذَهَابِ الْمَالِ وَأَشَدَّ مِنْ فِرَاقِ الْأَوْطَانِ , خُصُوصًا إنْ كَانَ بِأَحَدِهِمَا عَلَاقَةٌ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَطْفَالٌ يَضِيعُونَ بِالْفِرَاقِ وَيَفْسُدُ حَالُهُمْ , ثُمَّ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى الْقَطِيعَةِ بَيْنَ أَقَارِبِهَا وَوَقَعَ الشَّرُّ لَمَّا زَالَتْ نِعْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي قَوْلِهِ { فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا } , وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ الْحَرَجِ الدَّاخِلِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ : { مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وَمِنْ الْعُسْرِ الْمَنْفِيِّ بِقَوْلِهِ : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ فِعْلَ بِرٍّ وَإِحْسَانٍ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ وَتَعْلِيمِ عِلْمٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا , فَإِنَّهُ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ فِي الطَّلَاقِ أَعْظَمُ لَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بَلْ وَلَا يُؤْمَرُ بِهِ شَرْعًا ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْفَسَادُ النَّاشِئُ مِنْ الطَّلَاقِ أَعْظَمَ مِنْ الصَّلَاحِ الْحَاصِلِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ . وَهَذِهِ الْمَفْسَدَةُ هِيَ الَّتِي أَزَالَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ } . وَقَوْلُهُ : { لَأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ الْكَفَّارَةَ } . فَإِنْ قِيلَ : فَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي أَحَدِ هَذِهِ

الضَّرَائِرِ الثَّلَاثِ , فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْلِفَ . قِيلَ : لَيْسَ فِي شَرِيعَتِنَا ذَنْبٌ إذَا فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَخْرَجٌ مِنْهُ بِالتَّوْبَةِ إلَّا بِضَرَرٍ عَظِيمٍ , فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا , فَهَبْ هَذَا قَدْ أَتَى كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ فِي حَلِفِهِ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ تَابَ مِنْ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ , فَكَيْفَ يُنَاسِبُ أُصُولَ شَرِيعَتِنَا أَنْ تَنْفِيَ ضَرَرَ ذَلِكَ الذَّنْبِ عَلَيْهِ لَا يَجِدُ مِنْهُ مَخْرَجًا , وَهَذَا بِخِلَافِ الَّذِي يُنْشِئُ الطَّلَاقَ لَا بِالْحَلِفِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا هُوَ مُرِيدٌ لِلطَّلَاقِ إمَّا لِكَرَاهَةِ الْمَرْأَةِ أَوْ غَضَبٍ عَلَيْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ , قَدْ جَعَلَ اللَّهُ الطَّلَاقَ ثَلَاثًا , فَإِذَا كَانَ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِالطَّلَاقِ بِاخْتِيَارِهِ , وَلَهُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَانَ وُقُوعُ الضَّرَرِ بِمِثْلِ هَذَا نَادِرًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ , فَإِنَّ مَقْصُودَهُ لَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ , وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ أَوْ لَا يَفْعَلُهُ ثُمَّ قَدْ يَأْمُرُهُ الشَّرْعُ أَوْ يَضْطَرُّهُ الْحَاجَةُ إلَى فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ , فَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ لَا لَهُ وَلَا لِسَبَبِهِ , وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا فِي بَابِ الْأَيْمَانِ تَخْفِيفُهَا بِالْكَفَّارَةِ لَا تَثْقِيلُهَا بِالْإِيجَابِ أَوْ التَّحْرِيمِ , فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَرَوْنَ الظِّهَارَ طَلَاقًا , وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ حَتَّى ظَاهَرَ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ مِنْ امْرَأَتِهِ , وَأَيْضًا فَالِاعْتِبَارُ بِنَذْرِ اللَّجَاجِ

وَالْغَضَبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْفَرْقِ إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ , وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ تَأْثِيرِهِ . وَالْقِيَاسُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ أَصَحُّ مَا يَكُونُ مِنْ الِاعْتِبَارِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ , وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ إذَا أَكَلْت أَوْ شَرِبْت فَعَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدِي , أَوْ فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ فَأَنَا مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ , أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ أَوْ فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ فَإِنَّهُ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ , بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إنْ أَكَلْت هَذَا أَوْ شَرِبْت هَذَا فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ أَوْ فَالطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ أَوْ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ الطَّلَاقُ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ عَلَيَّ الْحَجُّ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ الْحَجُّ لِي لَازِمٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا . وَكِلَاهُمَا يَمِينَانِ مُحْدَثَتَانِ لَيْسَتَا مَأْثُورَتَيْنِ عَنْ الْعَرَبِ , وَلَا مَعْرُوفَتَيْنِ عَنْ الصَّحَابَةِ , وَإِنَّمَا الْمُتَأَخِّرُونَ صَاغُوا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي أَيْمَانًا وَرَبَطُوا إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى كَالْأَيْمَانِ الَّتِي كَانَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ يَحْلِفُونَ بِهَا , وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَحْلِفُ بِهَا لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ : إنْ فَعَلْت فَمَالِي صَدَقَةٌ , يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّدَقَةِ عِنْدَ الْفِعْلِ , وَقَوْلُهُ : فَامْرَأَتِي طَالِقٌ , يَقْتَضِي وُجُودَ الطَّلَاقِ , فَاَلَّذِي يَقْتَضِي وُقُوعَ

الطَّلَاقِ نَفْسُ الشَّرْطِ , وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ بَعْدَ هَذَا طَلَاقًا وَلَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الصَّدَقَةِ حَتَّى تَحْدُثَ صَدَقَةٌ . وَجَوَابُ هَذَا الْفَرْقِ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْفُقَهَاءُ الْمُفَرِّقُونَ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : مَعَ الْوَصْفِ الْفَارِقِ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا , وَفِي بَعْضِ صُوَرِ الْفُرُوعِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا بَيَانُ عَدَمِ التَّأْثِيرِ , أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالِي صَدَقَةٌ , أَوْ فَأَنَا مُحْرِمٌ أَوْ فَبَعِيرِي هَدْيٌ , فَالْمُعَلَّقُ بِالصِّفَةِ وُجُودُ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْرَامِ وَالْهَدْيِ لَا وُجُوبُهُمَا , كَمَا أَنَّ الْمُعَلَّقَ فِي قَوْلِهِ فَعَبْدِي حُرٌّ وَامْرَأَتِي طَالِقٌ وُجُودُ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ لَا وُجُوبُهُمَا , وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِيمَا إذَا قَالَ : هَذَا هَدْيٌ , وَهَذَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ , هَلْ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ لَا يَخْرُجُ . فَمَنْ قَالَ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ فَهُوَ كَخُرُوجِ زَوْجَتِهِ وَعَبْدِهِ عَنْ مِلْكِهِ , أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الصَّدَقَةَ وَالْهَدْيَ يَتَمَلَّكُهُ النَّاسُ بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ وَالْعَبْدِ , وَهَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ , وَكَذَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ الطَّلَاقُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فَهُوَ كَقَوْلِهِ : عَلَيَّ الْحَجُّ لَأَفْعَلَنَّ , فَهَلْ جَعَلَ الْمَحْلُوفَ بِهِ هَاهُنَا وُجُوبَ الطَّلَاقِ لَا وُجُودَهُ , كَأَنَّهُ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ , فَبَعْضُ صُوَرِ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ يَكُونُ الْمَحْلُوفُ بِهِ صِيغَةَ وُجُودٍ . وَأَمَّا الثَّانِي فَيَقُولُ هَبْ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالْفِعْلِ

هُنَا وُجُودُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْمُعَلَّقَ هُنَاكَ وُجُوبُ الصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالْإِهْدَاءِ لَيْسَ مُوجِبُ الشَّرْطِ ثُبُوتَ هَذَا الْوُجُوبِ بَلْ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ , كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ هَذَا الْوُجُوبُ بَلْ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ الْوُجُوبُ , كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ هَذَا الْوُجُودُ , بَلْ كَمَا لَوْ قَالَ : هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ إنْ فَعَلَ كَذَا فَإِنَّ الْمُعَلَّقَ هُنَا وُجُودُ الْكُفْرِ عِنْدَ الشَّرْطِ , ثُمَّ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ لَمْ يُوجَدْ الْكُفْرُ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ يَلْزَمُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ , وَلَوْ قَالَ ابْتِدَاءً : هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ يَلْزَمُهُ الْكُفْرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ ابْتِدَاءً : عَبْدِي حُرٌّ وَامْرَأَتِي طَالِقٌ , وَهَذِهِ الْبَدَنَةُ هَدْيٌ , وَعَلَيَّ صَوْمُ هَدْيٍ , وَعَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ الْخَمِيسِ . وَلَوْ عَلَّقَ الْكُفْرَ بِشَرْطٍ يُقْصَدُ وُجُودُهُ , كَقَوْلِهِ : إذَا هَلَّ الْهِلَالُ فَقَدْ بَرِئْت مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ , لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ , لَكِنْ لَا يُنَاجِزُ الْكُفْرَ ; لِأَنَّ تَوْقِيتَهُ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ عَقِيدَتِهِ , قِيلَ : فَالْحَلِفُ بِالنَّذْرِ إنَّمَا عَلَيْهِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ فَقَطْ , قِيلَ : مُثِّلَ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ وَكَذَلِكَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ , كَمَا لَوْ قَالَ : فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي , وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ إذَا قَالَ : فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ , فَقِيَاسُ قَوْلِهِ الطَّلَاقُ لَا

يَلْزَمُهُ شَيْءٌ , وَلِهَذَا تَوَقَّفَ طَاوُسٌ فِي كَوْنِهِ يَمِينًا وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِهِ وَالتَّكْفِيرِ , فَكَذَلِكَ هُنَا يُخَيَّرُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَبَيْنَ التَّكْفِيرِ فَإِنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ كَانَ اخْتِيَارًا لِلتَّكْفِيرِ , كَمَا أَنَّهُ فِي الظِّهَارِ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ التَّكْفِيرِ وَبَيْنَ تَطْلِيقِهَا ; فَإِنْ وَطِئَهَا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَلَكِنْ فِي الظِّهَارِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْوَطْءُ حَتَّى يُكَفِّرَ ; لِأَنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ حَرَّمَهُ عَلَيْهِ , وَأَمَّا هُنَا فَقَوْلُهُ إنْ فَعَلْت فَهِيَ طَالِقٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَهَا أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأُطَلِّقَنَّهَا إنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا فَلَا شَيْءَ وَإِنْ طَلَّقَهَا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . يَبْقَى أَنْ يُقَالَ هَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْفَوْرِ إذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا حِينَئِذٍ كَمَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأُطَلِّقُهَا السَّاعَةَ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا أَوْ لَا تَجِبُ إلَّا إذَا عَزَمَ عَلَى إمْسَاكِهَا . أَوْ لَا تَجِبُ حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَاءِ بِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ . كَاَلَّذِي يُخَيَّرُ بَيْنَ فِرَاقِهَا وَإِمْسَاكِهَا وَنَحْوِهِ كَالْمُتْعَةِ تَجِبُ ابْتِدَاءً أَوْ لَا تَجِبُ بِحَالٍ حَتَّى يَفُوتَ الطَّلَاقُ , قِيلَ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ فَثُلُثُ مَالِي صَدَقَةٌ أَوْ هَدْيٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ , وَإِلَّا قِيسَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَاءِ بِأَحَدِهِمَا كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْخِيَارِ .

وَالْقَوْلُ بِجَوَازِ الْمُسَابَقَةِ بِلَا مُحَلَّلٍ وَإِنْ أَخْرَجَ الْمُتَسَابِقَانِ .
وَالْقَوْل بِأَنَّ الْبِكْرَ لَا تُسْتَبْرَأُ وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً , كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَاخْتَارَهُ الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ الصَّحِيحِ .
859 - 859 - 18 مَسْأَلَةٌ : فِيمَنْ أَوْقَفَ رِبَاطًا ; وَجَعَلَ فِيهِ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ ; وَجَعَلَ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ مَا يَكْفِيهِمْ ; وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ شُرُوطًا غَيْرَ مَشْرُوعَةٍ : مِنْهَا أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي وَقْتَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ مِنْ النَّهَارِ ; فَيَقْرَءُونَ شَيْئًا مُعَيَّنًا مِنْ الْقُرْآنِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَوْقَفَهُ لَا فِي غَيْرِهِ ; مُجْتَمِعِينَ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مُتَفَرِّقِينَ ; وَشَرَطَ أَنْ يُهْدُوا لَهُ ثَوَابَ التِّلَاوَةِ ; وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا شَرَطَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَوْقَفَهُ لَمْ يَأْخُذْ مَا جُعِلَ لَهُ . فَهَلْ جَمِيعُ الشُّرُوطِ لَازِمَةٌ لِمَنْ أَخَذَ الْمَعْلُومَ ؟ أَمْ بَعْضُهَا ؟ أَمْ لَا أَثَرَ لِجَمِيعِهَا ؟ وَهَلْ إذَا لَزِمَتْ الْقِرَاءَةُ . فَهَلْ يَلْزَمُ جَمِيعُ مَا شَرَطَهُ مِنْهَا ؟ أَمْ يَقْرَءُونَ مَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ قِرَاءَتَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُهْدُوا شَيْئًا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . الْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا شُرِطَ مِنْ الْعَمَلِ مِنْ الْوُقُوفِ الَّتِي تُوقَفُ عَلَى الْأَعْمَالِ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قُرْبَةً ; إمَّا وَاجِبًا ; وَإِمَّا مُسْتَحَبًّا وَأَمَّا اشْتِرَاطُ عَمَلٍ مُحَرَّمٍ فَلَا يَصِحُّ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ; بَلْ وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ ; وَكَذَلِكَ الْمُبَاحُ عَلَى الصَّحِيحِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ شُرُوطَ الْوَاقِفِ تَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ . كَالشُّرُوطِ فِي

سَائِرِ الْعُقُودِ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ شُرُوطَ الْوَاقِفِ نُصُوصٌ كَأَلْفَاظِ الشَّارِعِ , فَمُرَادُهُ أَنَّهَا كَالنُّصُوصِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مُرَادِ الْوَاقِفِ ; لَا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا : أَيْ أَنَّ مُرَادَ الْوَاقِفِ يُسْتَفَادُ مِنْ أَلْفَاظِهِ الْمَشْرُوطَةِ ; كَمَا يُسْتَفَادُ مُرَادُ الشَّارِعِ مِنْ أَلْفَاظِهِ ; فَكَمَا يُعْرَفُ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ وَالْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ وَالتَّشْرِيكُ وَالتَّرْتِيبُ فِي الشَّرْعِ مِنْ أَلْفَاظِ الشَّارِعِ . فَكَذَلِكَ تُعْرَفُ فِي الْوَقْفِ مِنْ أَلْفَاظِ الْوَاقِفِ . مَعَ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذَا أَنَّ لَفْظَ الْوَاقِفِ وَلَفْظَ الْحَالِفِ وَالشَّافِعِ وَالْمُوصِي وَكُلِّ عَاقِدٍ يُحْمَلُ عَلَى عَادَتِهِ فِي خِطَابِهِ وَلُغَتِهِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا ; سَوَاءٌ وَافَقَتْ الْعَرَبِيَّةَ الْعَرْبَاءَ ; أَوْ الْعَرَبِيَّةَ الْمُوَلَّدَةَ ; أَوْ الْعَرَبِيَّةَ الْمَلْحُونَةَ ; أَوْ كَانَتْ غَيْرَ عَرَبِيَّةٍ وَسَوَاءٌ وَافَقَتْ لُغَةَ الشَّارِعِ ; أَوْ لَمْ تُوَافِقْهَا ; فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَلْفَاظِ دَلَالَتُهَا عَلَى مُرَادِ النَّاطِقِينَ بِهَا ; فَنَحْنُ نَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ كَلَامِ الشَّارِعِ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ لُغَتِهِ وَعُرْفِهِ وَعَادَتِهِ تَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ مُرَادِهِ , وَكَذَلِكَ فِي خِطَابِ كُلِّ أُمَّةٍ وَكُلِّ قَوْمٍ ; فَإِذَا تَخَاطَبُوا بَيْنَهُمْ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ أَوْ الْوَقْفِ أَوْ الْوَصِيَّةِ أَوْ النَّذْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بِكَلَامٍ رَجَعَ إلَى مَعْرِفَةِ مُرَادِهِمْ وَإِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِمْ مِنْ عَادَتِهِمْ فِي الْخِطَابِ ; وَمَا يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ . وَأَمَّا أَنْ تَحِلَّ نُصُوصُ الْوَاقِفِ أَوْ

نُصُوصُ غَيْرِهِ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا ; فَهَذَا كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ; إذْ لَا أَحَدَ يُطَاعُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ الْبَشَرِ - بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالشُّرُوطُ إنْ وَافَقَتْ كِتَابَ اللَّهِ كَانَتْ صَحِيحَةً . وَإِنْ خَالَفَتْ كِتَابَ اللَّهِ كَانَتْ بَاطِلَةً . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَبَ عَلَى مِنْبَرِهِ قَالَ : { مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ , مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ . وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ , كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ } . وَهَذَا الْكَلَامُ حُكْمُهُ ثَابِتٌ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْوَقْفِ . وَغَيْرِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . سَوَاءٌ تَنَاوَلَهُ لَفْظُ الشَّارِعِ أَوْ لَا ; إذْ الْأَخْذُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ . أَوْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِغَيْرِ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ عُمُومًا مَعْنَوِيًّا . وَإِذَا كَانَتْ شُرُوطُ الْوَاقِفِ تَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَبَاطِلٍ بِالِاتِّفَاقِ ; فَإِنْ شَرَطَ فِعْلًا مُحَرَّمًا ظَهَرَ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ , وَإِنْ شَرَطَ مُبَاحًا لَا قُرْبَةَ فِيهِ كَانَ أَيْضًا بَاطِلًا ; لِأَنَّهُ شَرَطَ شَرْطًا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ , لَا لَهُ وَلَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ; فَإِنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَا يَنْتَفِعُ إلَّا بِالْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى . وَأَمَّا بَذْلُ الْمَالِ فِي مُبَاحٍ : فَهَذَا إذَا بَذَلَهُ فِي حَيَاتِهِ مِثْلَ

الِابْتِيَاعِ ; وَالِاسْتِئْجَارِ جَازَ ; لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِتَنَاوُلِ الْمُبَاحَاتِ فِي حَيَاتِهِ . وَأَمَّا الْوَاقِفُ وَالْمُوصِي فَإِنَّهُمَا لَا يَنْتَفِعَانِ بِمَا يَفْعَلُ الْمُوصَى لَهُ وَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ فِي الدُّنْيَا , وَلَا يُثَابَانِ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِي ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ , فَلَوْ بَذَلَ الْمَالَ فِي ذَلِكَ عَبَثًا وَسَفَهًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى تَنَاوُلِ الْمَالِ , فَكَيْفَ إذَا أُلْزِمَ بِمُبَاحٍ لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ فَلَا هُوَ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدُّنْيَا , وَلَا فِي الْآخِرَةِ ; بَلْ يَبْقَى هَذَا مُنْفِقًا لِلْمَالِ فِي الْبَاطِلِ مُسَخَّرٌ مُعَذَّبٌ آكِلٌ لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ . وَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ قَدْ قَالَ : { لَا سَبْقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ } , فَلَمْ يُجَوِّزْ بِالْجُعْلِ شَيْئًا لَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْجِهَادِ . وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا , وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ , كَمَا فِي الْمُصَارَعَةِ وَالْمُسَابَقَةِ عَلَى الْأَقْدَامِ , فَكَيْفَ يَبْذُلُ الْعِوَضَ الْمُؤَبَّدَ فِي عَمَلٍ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ , لَا سِيَّمَا وَالْوَقْفُ مَحْبِسٌ مُؤَبَّدٌ فَكَيْفَ يُحْبَسُ الْمَالُ دَائِمًا مُؤَبَّدًا عَلَى عَمَلٍ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ هُوَ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَامِلُ , فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى حَبْسِ الْوَرَثَةِ وَسَائِرِ الْآدَمِيِّينَ بِحَبْسِ الْمَالِ عَلَيْهِمْ بِلَا مَنْفَعَةٍ حَصَلَتْ لِأَحَدٍ , وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْمُنَاوِلِينَ بِاسْتِعْمَالِهِمْ فِي عَمَلٍ هُمْ فِيهِ مُسَخَّرُونَ . يَعُوقُهُمْ عَنْ مَصَالِحِهِمْ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ , فَلَا فَائِدَةَ تَحْصُلُ لَهُ وَلَا لَهُمْ , وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي

غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ مُجْتَمِعِينَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ ; فَإِنَّ هَذِهِ تُسَمَّى " قِرَاءَةَ الْإِرَادَةِ " وَقَدْ كَرِهَهَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : كَمَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , وَغَيْرُهُمْ . وَمَنْ رَخَّصَ فِيهَا - كَبَعْضِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - لَمْ يَقُلْ إنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الِانْفِرَادِ , يَقْرَأُ كُلٌّ مِنْهُمْ جَمِيعَ الْقُرْآنِ . وَأَمَّا هَذِهِ الْقِرَاءَةُ فَلَا يَحْصُلُ لِوَاحِدٍ جَمِيعُ الْقُرْآنِ , بَلْ هَذَا يُتِمُّ مَا قَرَأَهُ هَذَا , وَهَذَا يُتِمُّ مَا قَرَأَهُ هَذَا , وَمَنْ كَانَ لَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ يَتْرُكُ قِرَاءَةَ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ . وَلَيْسَ فِي الْقِرَاءَةِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَضِيلَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ يُقَدَّمُ بِهَا عَلَى الْقِرَاءَةِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ , أَوْ بَعْدَ الْفَجْرِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْقَاتِ , فَلَا قُرْبَةَ فِي تَخْصِيصِ مِثْلِ ذَلِكَ بِالْوَقْتِ . وَلَوْ نَذَرَ صَلَاةً أَوْ صِيَامًا أَوْ قِرَاءَةً أَوْ اعْتِكَافًا فِي مَكَان بِعَيْنِهِ , فَإِنْ كَانَ لِلتَّعْيِينِ مَزِيَّةٌ فِي الشَّرْعِ : كَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ , لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَزِيَّةٌ : كَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ فِي مَسَاجِدِ الْأَمْصَارِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالنَّذْرِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهِ , وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ , وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . فَإِذَا كَانَ النَّذْرُ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لَا يَجِبُ

أَنْ يُوَفَّى بِهِ إلَّا مَا كَانَ طَاعَةً بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ , فَلَا يَجِبُ أَنْ يُوَفَّى مِنْهُ بِمُبَاحٍ , كَمَا لَا يَجِبُ أَنْ يُوَفَّى مِنْهُ بِمُحَرَّمٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فِي الصُّورَتَيْنِ . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ : كَمَذْهَبِ مَالِكٍ , وَأَبِي حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيِّ . فَكَيْفَ بِغَيْرِ النَّذْرِ مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي لَيْسَ فِي لُزُومِهَا مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا فِي النَّذْرِ . وَأَمَّا اشْتِرَاطُ إهْدَاءِ ثَوَابِ التِّلَاوَةِ , فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى إهْدَاءِ ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ : كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْقِرَاءَةِ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةَ يَجُوزُ إهْدَاءُ ثَوَابِهَا بِلَا نِزَاعٍ , وَأَمَّا الْبَدَنِيَّةُ فَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ . فَمَنْ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إهْدَاءُ ثَوَابِهَا : كَأَكْثَرِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ كَانَ هَذَا الشَّرْطُ عِنْدَهُمْ بَاطِلًا , كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يَحْمِلَ عَنْ الْوَاقِفِ دُيُونَهُ فَإِنَّهُ { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } . وَمَنْ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يُجَوِّزُ إهْدَاءَ ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ ; كَأَحْمَدَ وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فَهَذَا يَعْتَبِرُ أَمْرًا آخَرَ . وَهُوَ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا قُصِدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ , فَأَمَّا مَا يَقَعُ مُسْتَحَقًّا بِعَقْدِ إجَارَةٍ أَوْ جَعَالَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ قُرْبَةً فَإِنْ جَازَ أَخْذُ الْأَجْرِ وَالْجُعْلِ عَلَيْهِ , فَإِنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ , نَقُولُ .

868 - 868 - 27 مَسْأَلَةٌ : فِيمَنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ , وَفِيهِمْ مَنْ قَرَّرَ الْوَاقِفُ لِوَظِيفَتِهِ شَيْئًا مَعْلُومًا , وَجَعَلَ لِلنَّاظِرِ عَلَى هَذَا الْوَقْفِ صَرْفَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ , يُخْرِجُ بِغَيْرِ خَرَاجٍ , وَإِخْرَاجَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ , وَالتَّعَوُّضَ عَنْهُ , وَزِيَادَةَ مَنْ أَرَادَ زِيَادَتَهُ وَنُقْصَانَهُ , عَلَى مَا يَرَاهُ وَيَخْتَارُهُ , وَيَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ , فَعَزَلَ أَحَدَ الْمُعَيَّنِينَ وَاسْتَبْدَلَ بِهِ غَيْرَهُ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْقِيَامِ بِهَا بِبَعْضِ ذَلِكَ الْمَعْلُومِ الْمُقَدَّرِ لِلْوَظِيفَةِ , وَوَفَّى بَاقِيَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ . فَهَلْ لِلنَّاظِرِ فِعْلُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا عَزَلَ أَحَدَ الْمُعَيَّنِينَ لِلْمَصْلَحَةِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى تَنَاوُلِ الْمَعْلُومِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْعَزْلِ : يَفْسُقُ بِذَلِكَ , وَيَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا أَخَذَهُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَلْزَمُ النَّاظِرَ بَيَانُ الْمَصْلَحَةِ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , النَّاظِرُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا فِي أَمْرِ الْوَقْفِ إلَّا بِمُقْتَضَى الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ , وَعَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ الْأَصْلَحَ , فَالْأَصْلَحَ . وَإِذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ صَرْفَ مَنْ شَاءَ , وَزِيَادَةَ مَنْ أَرَادَ زِيَادَتَهُ وَنُقْصَانَهُ , فَلَيْسَ لِلَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِهَذَا الشَّرْطِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشْتَهِيه , أَوْ مَا يَكُونُ فِيهِ اتِّبَاعُ الظَّنِّ , وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ; بَلْ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِهَذَا الشَّرْطِ أَنْ يَفْعَلَ مِنْ الْأُمُورِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ مَا يَكُونُ إرْضَاءً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . وَهَذَا فِي كُلِّ مَنْ تَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ

بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ , كَالْإِمَامِ , وَالْحَاكِمِ , وَالْوَاقِفِ , وَنَاظِرِ الْوَقْفِ , وَغَيْرِهِمْ : إذَا قِيلَ : هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ كَذَا وَكَذَا , أَوْ يَفْعَلُ مَا شَاءَ , وَمَا رَأَى , فَإِنَّمَا ذَاكَ تَخْيِيرُ مَصْلَحَةٍ , لَا تَخْيِيرُ شَهْوَةٍ . وَالْمَقْصُودُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِعْلٌ مُعَيَّنٌ , بَلْ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ إلَى مَا هُوَ أَصْلَحُ وَأَرْضَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ , وَقَدْ قَالَ الْوَاقِفُ : عَلَى مَا يَرَاهُ وَيَخْتَارُهُ وَيَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ . وَمُوجَبُ هَذَا كُلِّهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِرَأْيِهِ وَاخْتِيَارِهِ الشَّرْعِيِّ , الَّذِي يَتَّبِعُ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ الشَّرْعِيَّةَ . وَقَدْ يَرَى هُوَ مَصْلَحَةً , وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ يَأْمُرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ , وَلَا يَكُونُ هَذَا مَصْلَحَةً كَمَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً , وَقَدْ يَخْتَارُ مَا يَهْوَاهُ لَا مَا فِيهِ رِضَى اللَّهِ , فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى اخْتِيَارِهِ , حَتَّى لَوْ صَرَّحَ الْوَاقِفُ بِأَنَّ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَهْوَاهُ وَمَا يَرَاهُ مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ هَذَا الشَّرْطُ صَحِيحًا ; بَلْ كَانَ بَاطِلًا , لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ : " وَمَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ , وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ , كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ " . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَ عَزْلُ النَّاظِرِ وَاسْتِبْدَالُهُ , مُوَافِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَعْزُولِ وَلَا غَيْرِهِ رَدُّ ذَلِكَ , وَلَا يَتَنَاوَلُ شَيْئًا مِنْ الْوَقْفِ وَالْحَالُ هَذِهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ مَرْدُودًا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ , فَإِنَّ النَّبِيَّ

قَالَ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } . وَقَالَ : { لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ } . وَإِنْ تَنَازَعُوا هَلْ الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ أَمْ لَا ؟ رُدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ , فَإِنْ كَانَ الَّذِي فَعَلَ النَّاظِرُ أَرْضَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ نَفَذَ , وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَرْضَى أُلْزِمَ النَّاظِرُ بِإِقْرَارِهِ , وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ أَمْرٌ ثَالِثٌ هُوَ الْأَرْضَى لَزِمَ اتِّبَاعُهُ . وَعَلَى النَّاظِرِ بَيَانُ الْمَصْلَحَةِ , فَإِنْ ظَهَرَتْ وَجَبَ اتِّبَاعُهَا . وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهَا مَفْسَدَةٌ رُدَّتْ , وَإِنْ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ وَكَانَ النَّاظِرُ عَالِمًا عَادِلًا سُوِّغَ لَهُ اجْتِهَادُهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ : عَمَّنْ تَرَكَ ابْنَتَيْنِ , وَعَمَّهُ أَخَا أَبِيهِ مِنْ أُمِّهِ : فَمَا الْحُكْمُ ؟ فَأَجَابَ : إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ وَتَرَكَ بِنْتَيْهِ , وَأَخَاهُ مِنْ أُمِّهِ . فَلَا شَيْءَ لِأَخِيهِ لِأُمِّهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ , بَلْ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ . وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ , إنْ كَانَ لَهُ عَصَبَةٌ وَإِلَّا فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى الْبِنْتَيْنِ , أَوْ بَيْتِ الْمَالِ .

993 - 993 - 14 وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَنْ رَجُلٍ مَاتَ , وَخَلَفَ بِنْتًا , وَلَهُ أَوْلَادُ أَخٍ مِنْ أَبِيهِ , وَهُمْ صِغَارٌ , وَلَهُ ابْنُ عَمٍّ رَاجِلٌ , وَلَهُ بِنْتُ عَمٍّ , وَلَهُ أَخٌ مِنْ أُمِّهِ , وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَوْلَادِ أَعْمَامِهِ : فَمَنْ يَأْخُذُ الْمَالَ ؟ وَمَنْ يَكُونُ وَلِيُّ الْبِنْتِ ؟ فَأَجَابَ : أَمَّا الْمِيرَاثُ فَنِصْفُهُ لِلْبِنْتِ , وَنِصْفُهُ لِأَبْنَاءِ الْأَخِ . وَأَمَّا حَضَانَةُ الْجَارِيَةِ فَهِيَ لِبِنْتِ الْعَمِّ ; دُونَ الْعَمِّ مِنْ الْأُمِّ ; وَدُونَ ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِمَحْرَمٍ وَلَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْمَالِ الَّذِي لِلْيَتِيمَةِ لِوَصِيٍّ أَوْ نُوَّابِهِ .
992 - 992 - 13 وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : عَنْ رَجُلٍ مَاتَ , وَتَرَكَ زَوْجَةً , وَأُخْتًا لِأَبَوَيْهِ , وَثَلَاثَ بَنَاتِ أَخٍ لِأَبَوَيْهِ . فَهَلْ لِبَنَاتِ الْأَخِ مَعَهُنَّ شَيْءٌ ؟ وَمَا يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ؟ فَأَجَابَ : لِلزَّوْجَةِ الرُّبْعُ ; وَلِلْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ النِّصْفُ . وَلَا شَيْءَ لِبَنَاتِ الْأَخِ . وَالرُّبْعُ الثَّانِي إنْ كَانَ هُنَاكَ عَصَبَةٌ هُوَ لِلْعَصَبَةِ , وَإِلَّا فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى الْأُخْتِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ , وَعَلَى الْآخَرِ هُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ .
996 - 996 - 17 وَسُئِلَ : عَنْ رَجُلٍ لَهُ خَالَةٌ مَاتَتْ وَخَلَفَتْ مَوْجُودًا ; وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ : فَهَلْ يَرِثُهَا ابْنُ أُخْتِهَا ؟ فَأَجَابَ : هَذَا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ هُوَ الْوَارِثُ ; وَفِي الْآخَرِ بَيْتُ الْمَالِ الشَّرْعِيُّ .

1000 - 1000 - 21 وَسُئِلَ : عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ , وَخَلَفَ ابْنَيْنِ , وَبِنْتَيْنِ ; وَزَوْجَةً , وَابْنَ أَخٍ , فَتُوُفِّيَ الِابْنَانِ , وَأَخَذَتْ الزَّوْجَةُ مَا خَصَّهَا , وَتَزَوَّجَتْ بِأَجْنَبِيٍّ , وَبَقِيَ نَصِيبُ الذَّكَرَيْنِ مَا قَسَمَ , وَأَنَّ الزَّوْجَةَ حَبِلَتْ مِنْ الزَّوْجِ الْجَدِيدِ , فَأَرَادَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ قِسْمَةَ الْمَوْجُودِ , فَمَنَعَ الْبَقِيَّةَ إلَى حَيْثُ تَلِدُ الزَّوْجَةُ . فَهَلْ يَكُونُ لَهَا إذَا وَلَدَتْ مُشَارَكَةٌ فِي الْمَوْجُودِ ؟ فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ لِزَوْجَتِهِ الثُّمْنُ , وَالْبَاقِي لِبَنِيهِ وَبَنَاتِهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ , وَلَا شَيْءَ لِابْنِ الْأَخِ , فَيَكُونُ لِلزَّوْجَةِ ثَلَاثَةُ قَرَارِيطَ , وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةُ قَرَارِيطَ , وَلِلْبِنْتَيْنِ سَبْعَةُ قَرَارِيطَ . ثُمَّ الِابْنُ الْأَوَّلُ لَمَّا مَاتَ خَلَفَ أَخَاهُ وَأُخْتَيْنِ وَأُمَّهُ , وَالْأَخُ الثَّانِي خَلَفَ أُخْتَيْهِ وَأُمَّهُ وَابْنَ عَمِّهِ , وَالْحَمْلُ إنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا وَرِثَا مِنْهُ : لِأَنَّهُ أَخُوهُ مِنْ أُمِّهِ . وَيَنْبَغِي لِزَوْجِ الْمَرْأَةِ أَنْ يَكُفَّ عَنْ وَطْئِهَا مِنْ حِينِ مَوْتِ هَذَا . وَهَذَا كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَطَأْهَا وَوَلَدَتْهُ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَوْتِ . وَإِذَا وَطِئَهَا وَتَأَخَّرَ الْحَمْلُ اشْتَبَهَ ; لَكِنْ مَنْ أَرَادَ مِنْ الْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطَى حَقَّهُ أُعْطِيَ الثُّلُثَيْنِ وَوُقِفَ لِلْحَمْلِ نَصِيبٌ , وَهُوَ الثُّلُثُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

1002 - 1002 - 23 وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِ : مَا بَالُ قَوْمٍ غَدَوْا قَدْ مَاتَ مَيِّتُهُمْ فَأَصْبَحُوا يَقْسِمُونَ الْمَالَ وَالْحُلَلَا فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ غَيْرِ عِتْرَتِهِمْ أَلَّا أُخْبِرُكُمْ أُعْجُوبَةً مَثَلًا فِي الْبَطْنِ مِنْ جَنِينٍ دَامَ يَشْكُرُكُمْ فَأَخِّرُوا الْقَسْمَ حَتَّى تَعْرِفُوا الْحَمْلَا فَإِنْ يَكُنْ ذَكَرًا لَمْ يُعْطَ خَرْدَلَةً وَإِنْ يَكُنْ غَيْرَهُ أُنْثَى فَقَدْ فَضَلَا بِالنِّصْفِ حَقًّا يَقِينًا لَيْسَ يُنْكِرُهُ مَنْ كَانَ يَعْرِفُ فَرْضَ اللَّهِ لَا زَلَلَا إنِّي ذَكَرْت لَكُمْ أَمْرِي بِلَا كَذِبٍ فَلَا أَقُولُ لَكُمْ جَهْلًا وَلَا مَثَلَا فَأَجَابَ : زَوْجٌ , وَأُمٌّ , وَاثْنَانِ مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ , وَحَمْلٌ مِنْ الْأَبِ ; وَالْمَرْأَةُ الْحَامِلُ لَيْسَتْ أُمَّ الْمَيِّتِ ; بَلْ هِيَ زَوْجَةُ أَبِيهَا . فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ , وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِوَلَدِ الْأُمِّ الثُّلُثُ . فَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ ذَكَرًا فَهُوَ أَخٌ مِنْ أَبٍ فَلَا شَيْءَ لَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ أُنْثَى فَهُوَ أُخْتٌ مِنْ أَبٍ , فَيُفْرَضُ لَهَا النِّصْفُ , وَهُوَ فَاضِلٌ عَنْ السِّهَامِ . فَأَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ , وَتَعُولُ إلَى تِسْعَةٍ . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْحَمْلُ مِنْ أُمِّ الْمَيِّتِ : فَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَمَنْ بَعْدَهُمْ , وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ إنْ كَانَ الْحَمْلُ ذَكَرًا يُشَارِكُ وَلَدَ الْأُمِّ , كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ ; وَلَا يَسْقُطُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ .

1003 - 1003 - 24 وَسُئِلَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَنْ امْرَأَةٍ مُزَوَّجَةٍ , وَلِزَوْجِهَا ثَلَاثُ شُهُورٍ , وَهُوَ فِي مَرَضٍ مُزْمِنٍ , فَطَلَبَ مِنْهَا شَرَابًا فَأَبْطَأَتْ عَلَيْهِ , فَنَفَرَ مِنْهَا . وَقَالَ لَهَا : أَنْت طَالِقٌ ثَلَاثَةً , وَهِيَ مُقِيمَةٌ عِنْدَهُ تَخْدُمُهُ , وَبَعْدَ عِشْرِينَ يَوْمًا تُوُفِّيَ الزَّوْجُ : فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ ؟ وَهَلْ إذَا حَلَفَ عَلَى حُكْمِ هَذِهِ الصُّورَةِ يَحْنَثُ ؟ وَهَلْ لِلْوَارِثِ أَنْ يَمْنَعَهَا الْإِرْثَ ؟ فَأَجَابَ : أَمَّا الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ يَقَعُ إنْ كَانَ عَاقِلًا مُخْتَارًا ; لَكِنْ تَرِثُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ , وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ , وَأَحْمَدَ , وَأَبِي حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَوْلِ الْقَدِيمِ , كَمَا قَضَى بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي امْرَأَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ . فَإِنَّهُ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ , فَوَرَّثَهَا مِنْهُ عُثْمَانُ . وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ : مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ , أَوْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ عَقْلُهُ قَدْ زَالَ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ .

وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَنْ رَجُلٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ , وَكَتَبَ الصَّدَاقَ عَلَيْهِ , ثُمَّ إنَّ الزَّوْجَ مَرِضَ بَعْدَ ذَلِكَ , فَحِينَ قَوِيَ عَلَيْهِ الْمَرَضُ فَقَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ طَلَّقَ الزَّوْجَةَ ; لِيَمْنَعَهَا مِنْ الْمِيرَاثِ : فَهَلْ يَقَعُ هَذَا الطَّلَاقُ ؟ وَمَا الَّذِي يَجِبُ لَهَا فِي تَرِكَتِهِ ؟ فَأَجَابَ : هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ إنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً طَلَاقًا رَجْعِيًّا , وَمَاتَ زَوْجُهَا , وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَرِثَتْهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا ; وَرِثَتْهُ أَيْضًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ , وَبِهِ قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا طَلَّقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ زَوْجَتَهُ بِنْتَ الْأَصْبَغِ الْكَلْبِيَّةَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا . فِي مَرَضِ مَوْتِهِ , فَشَاوَرَ عُثْمَانُ الصَّحَابَةَ فَأَشَارُوا عَلَى أَنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ , وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ . وَإِنَّمَا ظَهَرَ الْخِلَافُ فِي خِلَافَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ , فَإِنَّهُ قَالَ : لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أُوَرِّثْهَا , وَابْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ . وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَئِمَّةُ التَّابِعِينَ , وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ : كَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ , وَأَصْحَابِهِ , وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَالِكٍ , وَأَصْحَابِهِ , وَمَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ : كَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ , وَأَمْثَالِهِ , وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ . وَفِي الْجَدِيدِ وَافَقَ ابْنُ الزُّبَيْرِ ; لِأَنَّ الطَّلَاقَ

وَاقِعٌ بِحَيْثُ لَوْ مَاتَتْ هِيَ لَمْ يَرِثْهَا هُوَ بِالِاتِّفَاقِ , فَكَذَلِكَ لَا تَرِثُهُ هِيَ , وَلِأَنَّهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ . فَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا , وَلَا الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا , فَتَكُونُ أَجْنَبِيَّةً , فَلَا تَرِثُ . وَالْجُمْهُورُ قَالُوا : إنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ قَدْ تَعَلَّقَ الْوَرَثَةُ بِمَالِهِ مِنْ حِينِ الْمَرَضِ ; وَصَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ , فَلَا يَتَصَرَّفُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ إلَّا مَا يَتَصَرَّفُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ; فَلَيْسَ لَهُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ أَنْ يَحْرِمَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ مِيرَاثَهُ , وَيَخُصَّ بَعْضَهُمْ بِالْإِرْثِ , كَمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ لِأَجْنَبِيٍّ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ; كَمَا لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَفِي الْحَدِيثِ : { مَنْ قَطَعَ مِيرَاثًا قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنْ الْجَنَّةِ } . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْمَرَضِ أَنْ يَقْطَعَ حَقَّهَا مِنْ الْإِرْثِ ; لَا بِطَلَاقٍ ; وَلَا غَيْرِهِ . وَإِنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِالنِّسْبَةِ لَهُ , إذْ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ نَفْسَهُ مِنْهَا , وَلَا يَقْطَعُ حَقَّهَا مِنْهُ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ نِزَاعٌ . هَلْ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ أَوْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ؟ أَوْ أَطْوَلَهُمَا ؟ عَلَى ثَلَاثِهِ أَقْوَالٍ . أَظْهَرُهَا أَنَّهَا تَعْتَدُّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ وَكَذَلِكَ هَلْ يُكْمِلُ لَهَا الْمَهْرَ ؟ قَوْلَانِ : أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ يُكْمِلُ لَهَا الْمَهْرَ أَيْضًا ; فَإِنَّهُ مِنْ حُقُوقِهَا الَّتِي تَسْتَقِرُّ ; كَمَا تَسْتَحِقُّ الْإِرْثَ .

1014 - 1014 - 2 مَسْأَلَةٌ : فِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي , مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : السَّفَرُ يُكْرَهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ , أَوْ الْخَمِيسِ , أَوْ السَّبْتِ , أَوْ يُكْرَهُ التَّفْصِيلُ أَوْ الْخِيَاطَةُ أَوْ الْغَزْلُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ ; أَوْ يُكْرَهُ الْجِمَاعُ فِي لَيْلَةٍ مِنْ اللَّيَالِي وَيَخَافُ عَلَى الْوَلَدِ . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ , بَلْ الرَّجُلُ إذَا اسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى وَفَعَلَ شَيْئًا مُبَاحًا فَلْيَفْعَلْهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ تَيَسَّرَ . وَلَا يُكْرَهُ التَّفْصِيلُ وَلَا الْخِيَاطَةُ , وَلَا الْغَزْلُ وَلَا نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ فِي يَوْمٍ مِنْ الْأَيَّامِ . وَلَا يُكْرَهُ الْجِمَاعُ فِي لَيْلَةٍ مِنْ اللَّيَالِي , وَلَا يَوْمٍ مِنْ الْأَيَّامِ , وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى عَنْ التَّطَيُّرِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مِنَّا قَوْمًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ , قَالَ : فَلَا تَأْتُوهُمْ قُلْت : مِنَّا قَوْمٌ يَتَطَيَّرُونَ . قَالَ : ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ مِنْ نَفْسِهِ فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ } . فَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ أَنْ يَصُدَّهُ الطِّيَرَةُ عَمَّا عَزَمَ عَلَيْهِ , فَكَيْف بِالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي . وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ يَوْمَ الْخَمِيسِ , وَيَوْمَ السَّبْتِ , وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ نَهْيٍ عَنْ سَائِرِ الْأَيَّامِ إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ تَفُوتُهُ بِالسَّفَرِ , فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا الصِّنَاعَاتُ , وَالْجِمَاعُ فَلَا يُكْرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَيَّامِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

1017 - 1017 - 5 مَسْأَلَةٌ : فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ } مَا الْمُرَادُ بِهَذِهِ السَّبْعَةِ . وَهَلْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ الْمَنْسُوبَةُ إلَى نَافِعٍ وَعَاصِمٍ وَغَيْرِهِمَا هِيَ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهَا . وَمَا السَّبَبُ الَّذِي أَوْجَبَ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِيمَا احْتَمَلَهُ خَطُّ الْمُصْحَفِ . وَهَلْ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ أَمْ لَا . وَإِذَا جَازَتْ الْقِرَاءَةُ بِهَا فَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِهَا أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . هَذِهِ مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهَا أَصْنَافُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْكَلَامِ وَشَرْحِ الْغَرِيبِ , وَغَيْرِهِمْ , حَتَّى صُنِّفَ فِيهَا التَّصْنِيفُ الْمُفْرَدُ , وَمِنْ آخِرِ مَا أُفْرِدَ فِي ذَلِكَ مَا صَنَّفَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الشَّافِعِيُّ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي شَامَةَ صَاحِبُ " شَرْحِ الشَّاطِبِيَّةِ " . فَأَمَّا ذِكْرُ أَقَاوِيلِ النَّاسِ وَأَدِلَّتِهِمْ وَتَقْرِيرُ الْحَقِّ فِيهَا مَبْسُوطًا فَيَحْتَاجُ مِنْ ذِكْرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ , وَذِكْرِ أَلْفَاظِهَا وَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ إلَى مَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَكَانُ , وَلَا يَلِيقُ بِمِثْلِ هَذَا الْجَوَابِ , وَلَا نَذْكُرُ النُّكَتَ الْجَامِعَةَ الَّتِي تُنَبِّهُ عَلَى الْمَقْصُودِ بِالْجَوَابِ , فَنَقُولُ : لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّ الْأَحْرُفَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19