كتاب : إقامة الدليل على إبطال التحليل
تأليف : شيخ الإسلام ابن تيمية

بِمَنْزِلَتِهِ وَاللَّفْظُ يَشْمَلُهُ , وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصِدْهُ بِلَفْظِ الْمُحَلِّلِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَأَوْلَى وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يُزَوِّجَهَا رَجُلٌ بِعَبْدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْمَجْنُونِ , بِقَصْدِ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَى عَبْدِهِ وَابْنِهِ الصَّغِيرَيْنِ أَوْ الْمَجْنُونَيْنِ , أَوْ بِنِيَّةِ أَنْ يَخْلَعَهَا مِنْهُ , بِأَنْ يُوَاطِئَهَا أَوْ يُوَاطِئَ غَيْرَهَا عَلَى الْخُلْعِ , فَإِنَّ جَوَازَ الْخُلْعِ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ أَقْوَى مِنْ جَوَازِ الطَّلَاقِ , وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَعْقِدَ وَلِيُّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَهُ عُقُودَ حِيَلٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ قَرْضٍ . فَإِنَّ الْحِيَلَ الَّتِي يَحْتَالُهَا الْوَلِيُّ لِلْيَتِيمِ فِي مَالِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَحْتَالُهُ الْمَرْءُ فِي مَالِ نَفْسِهِ , وَقَرِيبٌ مِنْهُ إذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ فِي مُعَامَلَاتٍ مِنْ الْحِيَلِ , فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُعَامِلَ السَّيِّدُ نَفْسَهُ تِلْكَ الْمُعَامَلَةَ , حَيْثُ حَصَلَ غَرَضُهُ بِفِعْلِ عَبْدِهِ , كَحُصُولِهِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ , وَالِاحْتِمَالُ الَّذِي جُعِلَ فِي مَذْهَبِنَا غَيْرُ مُحْتَمَلٍ أَصْلًا فَإِنَّ قَوْلَهُ الْمُعْتَبَرَ فِي التَّحْلِيلِ بِنِيَّةِ الزَّوْجِ كَلَامٌ غَيْرُ سَدِيدٍ فَمَنْ الَّذِي سَلَّمَ ذَلِكَ , أَوْ مَا الَّذِي دَلَّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ الْمُعْتَبَرُ نِيَّةُ مَنْ يَمْلِكُ فُرْقَةً بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ , فَإِنَّ التَّحْلِيلَ دَائِرٌ مَعَ ذَلِكَ , وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ الَّذِي يَقْصِدُ التَّحْلِيلَ مَلْعُونًا , فَاَلَّذِي يَقْصِدُ أَنْ يُحَلِّلَ بِالزَّوْجِ

وَيَفْسَخَ نِكَاحَهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَلْعُونًا , فَإِنَّهُ يُخَادِعُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَعَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ , وَهُوَ نَظِيرُ الرَّجُلِ يُقَدِّمُ إلَى الْعَطْشَاءِ الْمَاءَ فَإِذَا شَرِبَ مِنْهُ قَطْرَةً انْتَزَعَهُ مِنْ فِيهِ , وَلَوْ أَنَّ السَّيِّدَ أَنْكَحَ عَبْدَهُ نِكَاحًا يَقْصِدُ بِهِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ تَحْلِيلٍ لَكَانَ خَادِعًا لَهُ مَاكِرًا بِهِ مَلْعُونًا , فَكَيْفَ إذَا قَصَدَ مَعَ ذَلِكَ التَّحْلِيلَ . وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْلِيلَ هُنَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِأَنْ يَتَوَاطَأَ السَّيِّدُ الْمُطَلِّقُ أَوْ غَيْرُهُ مَعَ الْمَرْأَةِ عَلَى أَنْ يَمْلِكَهَا الزَّوْجَ , أَوْ يَعْلَمُ أَنَّ حَالَ الْمَرْأَةِ تَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا عَرَضَ عَلَيْهَا مِلْكَ الزَّوْجِ لِيَنْفَسِخَ النِّكَاحُ مَلَكَتْهُ , فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعُرْفَ فِي الشُّرُوطِ كَاللَّفْظِ , فَأَمَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْأَةِ رَغْبَةٌ فِي الْعَوْدِ إلَى الْمُطَلِّقِ , وَلَا هِيَ مِمَّنْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مِلْكُهَا لِلْعَبْدِ إذَا عَرَضَ عَلَيْهَا فَهُنَا نِيَّةُ السَّيِّدِ وَحْدَهُ نِيَّةُ مَنْ لَا فُرْقَةَ بِيَدِهِ . ثُمَّ الْعَبْدُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِمَا تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ , يَكُونُ كَالْمَرْأَةِ إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِنِيَّةِ الزَّوْجِ التَّحْلِيلَ لَا إثْمَ عَلَيْهِ , فَإِنْ عَلِمَ وَوَافَقَ فَهُوَ آثِمٌ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ إذْنَ السَّيِّدِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ , وَالسَّيِّدُ إنَّمَا أَذِنَ فِي نِكَاحِ تَحْلِيلٍ لَا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ , فَيَكُونُ النِّكَاحُ الَّذِي أَجَازَهُ الشَّرْعُ وَقَصَدَهُ الْعَبْدُ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ السَّيِّدُ , وَاَلَّذِي أَذِنَ فِيهِ السَّيِّدُ لَمْ

يُجِزْهُ الشَّرْعُ ثُمَّ إنْ أُخْبِرَ الْعَبْدُ فِيمَا بَعْدُ بِمَا تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْمُقَامُ عَلَى هَذَا النِّكَاحِ لَكِنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ السَّيِّدِ وَحْدَهُ فِي إبْطَالِ نِكَاحِهِ , وَسَائِرِ الْفُرُوعِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي نِيَّةِ الزَّوْجِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ تَجِيءُ فِي نِيَّةِ الزَّوْجَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَصْدَ لَا يَقْدَحُ فِي اقْتِضَاءِ السَّبَبِ حُكْمَهُ ; لِأَنَّهُ وَرَاءَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ , فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَصِيرًا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَمْرًا أَوْ جَارِيَةً وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُكْرِهَهَا عَلَى الْبِغَاءِ أَوْ يَجْعَلَهَا مُغَنِّيَةً قِنْيَةً أَوْ سِلَاحًا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ مَعْصُومًا , فَكُلُّ ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنْ السَّبَبِ , فَلَا يَخْرُجُ الْمُسَبَّبُ عَنْ اقْتِضَاءِ حُكْمِهِ , وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَصْدِ وَبَيْنَ الْإِكْرَاهِ , فَإِنَّ الرِّضَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ , وَالْإِكْرَاهُ يُنَافِي الرِّضَا , وَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشُّرُوطِ الْمُقْتَرِنَةِ . فَإِنَّهَا تَقْدَحُ فِي مَقْصُودِ الْعُقُودِ وَصَاحِبُ هَذَا الْوَجْهِ يَقُولُ هَبْ أَنَّهُ قَصَدَ مُحَرَّمًا لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ . وَكَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا لِيُضَارّهَا أَوْ لِيُضَارّ زَوْجَةً لَهُ أُخْرَى . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تُعْلَمُ فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ . مِثْلُ أَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْت هَذَا فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الِاشْتِرَاءِ لَهُ أَوْ لِمُوَكِّلِهِ , وَإِذَا نَوَى أَحَدَهُمَا صَحَّ . وَاللَّفْظُ هُنَا صَرِيحٌ فِي الْمَقْصُودِ الصَّحِيحِ , وَالنِّيَّةُ الْبَاطِنَةُ لَا أَثَرَ لَهَا فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ النِّيَّةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الشُّرُوطِ أَوْ لَا تَكُونَ . فَإِنْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ لَزِمَ أَنَّهُ إذَا نَوَى أَنْ لَا يَبِيعَ الْمُشْتَرَى وَلَا يَهَبَهُ وَلَا

يُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِهِ , أَوْ نَوَى أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ نَوَى أَنْ لَا يُطَلِّقَ الزَّوْجَةَ أَوْ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَهَا كُلَّ لَيْلَةٍ أَوْ لَا يُسَافِرَ عَنْهَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ . وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فَلَا تَأْثِيرَ لَهَا حِينَئِذٍ وَهَذَا عُمْدَةُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّا إنَّمَا أُمِرْنَا أَنْ نَحْكُمَ بِالظَّاهِرِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ فَهَذِهِ خُلَاصَةُ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَوْلَا أَنَّهُ كَلَامٌ يُخَيَّلُ لِمَنْ لَا فِقْهَ لَهُ حَقِيقَةً لَكَانَ الْإِضْرَابُ عَنْهُ أَوْلَى , فَإِنَّهُ كَلَامٌ مَبْنَاهُ عَلَى دَعَاوًى مَحْضَةٍ لَمْ يُعَضَّدْ بِحُجَّةٍ . فَنَقُولُ فِي الْجَوَابِ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ وَلَا نُسَلِّمُ وُجُودَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ إنْ عَنَى بِهِ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ فَيَجِبُ أَنْ يُقَيَّدَ حُكْمُهُ , وَإِنْ صَدَرَ عَنْ مَعْتُوهٍ أَوْ مُكْرَهٍ أَوْ نَائِمٍ أَوْ أَعْجَمِيٍّ لَا يَفْقَهُهُ , وَإِنْ عَنَى بِهِ اللَّفْظَ الْمَقْصُودَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْمُكْرَهِ ; لِأَنَّهُ قَصَدَ اللَّفْظَ أَيْضًا , ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا بِمُجَرَّدِ تَصَرُّفٍ شَرْعِيٍّ وَلَا إيجَابٍ وَلَا قَبُولٍ , بَلْ اللَّفْظُ الْمُرَادُ بِهِ خِلَافُ مَعْنَاهُ مَكْرٌ وَخِدَاعٌ وَتَدَلُّسٌ وَنِفَاقٌ . فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ فَالتَّكَلُّمُ بِهِ بِدُونِ مَعْنَاهُ اسْتِهْزَاءٌ بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَلَاعُبٌ بِحُدُودِهِ وَمُخَادَعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ , وَإِنْ عَنَى بِالسَّبَبِ

اللَّفْظَ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ مَعْنَاهُ الَّذِي وُضِعَ اللَّفْظُ لَهُ فِي الشَّرْعِ , سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ مُقَرَّرًا أَوْ مُغَيَّرًا , أَوْ عَنَى بِهِ اللَّفْظَ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ مَا يُخَالِفُ مَعْنَاهُ , أَوْ اللَّفْظَ الَّذِي قَصَدَ مَعْنَاهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا , وَذَكَرْنَا هَذَيْنِ لِيَدْخُلَ فِيهِمَا الْهَازِلُ , فَهَذَا صَحِيحٌ لَكِنَّ هَذَا حُجَّةٌ لَنَا ; لِأَنَّ الْمُحَلِّلَ إذَا قَالَ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ وَهُوَ لَا يَقْصِدُ إلَّا أَنْ يُطَلِّقَهَا لِيُحِلَّهَا فَلَمْ يَقْصِدْ بِلَفْظِ التَّزَوُّجِ الْمَعْنَى الَّذِي جُعِلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ ; لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي الْعُرْفِ وَلَا فِي اللُّغَةِ لِمَنْ قَصْدُهُ رَدُّ الْمُطَلَّقَةِ إلَى زَوْجِهَا وَلَيْسَ لَهُ قَصْدٌ فِي النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ النِّكَاحُ , وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ تَوَابِعِهِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا , فَإِنَّ النِّكَاحَ مَقْصُودُهُ الِاسْتِمْتَاعُ وَالصِّلَةُ وَالْعِشْرَةُ وَالصُّحْبَةُ , بَلْ هُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الصُّحْبَةِ , فَمَنْ لَيْسَ قَصْدُهُ أَنْ يَصْحَبَ وَلَا يَسْتَمْتِعَ وَلَا أَنْ يُوَاصِلَ وَيُعَاشِرَ بَلْ أَنْ يُفَارِقَ لِتَعُودَ إلَى غَيْرِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي قَوْلِهِ تَزَوَّجْت بِإِظْهَارِهِ خِلَافَ مَا فِي قَلْبِهِ , وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ وَكَّلْتُك أَوْ شَارَكْتُك أَوْ ضَارَبْتُك أَوْ سَاقَيْتُك , وَهُوَ يَقْصِدُ رَفْعَ هَذَا الْعَقْدِ وَفَسْخَهُ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي شَيْءٍ مِنْ مَقَاصِدِ هَذِهِ الْعُقُودِ , فَإِنَّهُ كَاذِبٌ فِي هَذَا الْقَوْلِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَقَوْلِهِمْ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ

الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ , فَإِنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ إخْبَارَاتٌ عَمَّا فِي النَّفْسِ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْعُقُودِ , وَمَبْدَأُ الْكَلَامِ وَالْحَقِيقَةُ الَّتِي بِهَا يَصِيرُ اللَّفْظُ قَوْلًا , ثُمَّ إنَّهَا إنَّمَا تَتِمُّ قَوْلًا وَكَلَامًا بِاللَّفْظِ الْمُقْتَرِنِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى , فَتَصِيرُ الصِّيَغُ إنْشَاءَاتٍ لِلْعُقُودِ , وَالتَّصَرُّفَاتُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا هِيَ الَّتِي أَثْبَتَتْ الْحُكْمَ وَبِهَا تَمَّ , وَهِيَ إخْبَارَاتٌ مِنْ حَيْثُ دَلَالَتُهَا عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي فِي النَّفْسِ , فَهِيَ تُشْبِهُ فِي اللَّفْظِ أَحْبَبْت وَأَبْغَضْت وَأَرَدْت وَكَرِهْت , وَهِيَ تُشْبِهُ فِي الْمَعْنَى قُمْ وَاقْعُدْ . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ إنَّمَا تُفِيدُ الْأَحْكَامَ إذَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا مَا جُعِلَتْ لَهُ , أَوْ إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَا مَا يُنَاقِضُ مَعْنَاهَا , وَهَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ , وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ , وَإِلَّا لَمَا تَمَّ تَصَرُّفٌ . فَإِذَا قَالَ : بِعْتُ وَتَزَوَّجْتُ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ مَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ , وَجَعَلَهُ الشَّارِعُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاصِدِ إذَا هَزَلَ , وَبِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا يَتِمُّ الْحُكْمُ , وَإِنْ كَانَ الْعِبْرَةُ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَعْنَى اللَّفْظِ حَتَّى يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ بِالْإِشَارَةِ إذَا تَعَذَّرَتْ الْعِبَارَةُ , وَيَنْعَقِدَ بِالْكِتَابَةِ أَيْضًا , وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَقِيقَةَ الْعَقْدِ لَمْ يَخْتَلِفْ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ دَلَالَتُهُ وَصِفَتُهُ , وَهَذَا شَأْنُ عَامَّةِ أَنْوَاعِ

الْكَلَامِ , فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَاهُ الْمَفْهُومُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ , لَا سِيَّمَا الْأَسْمَاءُ الشَّرْعِيَّةُ , أَعْنِي الَّتِي عَلَّقَ الشَّارِعُ بِهَا أَحْكَامًا , فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ تِلْكَ الْمَعَانِيَ الشَّرْعِيَّةَ , وَالْمُسْتَمِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَهَا عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي . فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ الْمُسْتَمِعَ شَيْئًا وَكَانَ مَعْذُورًا فِي حَمْلِهَا عَلَى مَعْنَاهَا الْمَعْرُوفِ , وَكَانَ الْمُتَكَلِّمُ آثِمًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى , إنَّمَا يُبْطِلُ الشَّارِعُ مَعَهُ مَا نَهَاهُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ لَاعِبًا أَبْطَلَ لَعِبَهُ وَجَعَلَهُ جَادًّا وَإِنْ كَانَ مُخَادِعًا أَبْطَلَ خِدَاعَهُ , فَلَمْ يَحْصُل لَهُ مُوجَبُ ذَلِكَ الْقَوْلِ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا شَيْءَ مِنْهُ كَالْمُنَافِقِ الَّذِي قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَقَلْبُهُ لَا يُطَابِقُ لِسَانَهُ . وَتَحْرِيرُ هَذَا الْمَوْضِعِ يَقْطَعُ مَادَّةَ الشَّغَبِ فَإِنَّ لَفْظَ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ مَوْضُوعُهُمَا وَمَفْهُومُهُمَا شَرْعًا وَعُرْفًا نِكَاحٌ وَانْضِمَامٌ وَازْدِوَاجٌ , مُوجَبُهُ التَّأْبِيدُ إلَّا لِمَانِعٍ وَحَقِيقَتُهُ نِكَاحٌ مُؤَبَّدٌ يَقْبَلُ الِانْقِطَاعَ أَوْ الْقَطْعَ , لَيْسَ مَفْهُومُهُمَا وَمَوْضُوعُهُمَا نِكَاحًا يُقْصَدُ بِهِ رَفْعُهُ وَوَصْلًا الْمَطْلُوبُ مِنْهُ قَطْعُهُ , وَفَرْقٌ بَيْنَ اتِّصَالٍ يَقْبَلُ الِانْقِطَاعَ وَاتِّصَالٍ يُقْصَدُ بِهِ الِانْقِطَاعُ وَكَمَا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ مَعْنَى اللَّفْظِ وَمَفْهُومَهُ , فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَصْلًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لَهُ حَقِيقَةً

وَلَا مَجَازًا بِخِلَافِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمُتْعَةِ , فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَجَازًا , وَذَلِكَ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِإِثْبَاتِ الشَّيْءِ وَنَفْيِهِ , عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ , وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ يُحِيلُهُ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ , وَاللَّفْظُ لَا يُوضَعُ لِإِرَادَةِ الْمُحَالِ . وَالنِّكَاحُ هُوَ صِلَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يَتَضَمَّنُ عِشْرَةً وَمَوَدَّةً وَرَحْمَةً وَسَكَنًا وَازْدِوَاجًا , وَهُوَ مِثْلُ الْأُخُوَّةِ وَالصُّحْبَةِ وَالْمُوَالَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الصِّلَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي رَغْبَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَوَاصِلَيْنِ فِي الْآخَرِ , بَلْ هُوَ مِنْ أَوْكَدُ الصِّلَاتِ فَإِنَّ صَلَاحَ الْخَلْقِ وَبَقَاءَهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهَذِهِ الصِّلَةِ , بِخِلَافِ تِلْكَ الصِّلَاتِ فَإِنَّهَا مُكَمِّلَاتٌ لِلْمَصَالِحِ , فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الزَّوْجِ حِينَ عَقَدَهُ فَسْخَهُ وَرَفْعَهُ صَارَ قَوْلُهُ تَزَوَّجْت مَعْنَاهُ قَصَدْت أَنَّ أَصِلَ إلَى قَطْعٍ وَأُوَالِيَ لَا أُعَادِيَ وَأُحِبُّ لَا أُبْغِضُ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ قَصَدَ الْقَطْعَ وَالْمُعَادَاةَ وَالْبُغْضَ لَمْ يَقْصِدْ الْوَصْلَ وَالْمُوَالَاةَ وَالْمَحَبَّةَ , فَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ دَالًّا عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَعْنَاهُ إلَّا عَلَى جِهَةِ التَّهَكُّمِ وَالتَّشَبُّهِ فِي الصُّورَةِ , بِخِلَافِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّ غَرَضَهُ وَصْلٌ إلَى حِينٍ وَهَذَا نَوْعُ وَصْلٍ مَقْصُودٌ فَجَازَ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ , ثُمَّ إنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ مُوجَبَ اللَّفْظِ هُوَ الْوَصْلَ الْمُؤَبَّدُ ,

وَمَنَعَ التَّوْقِيتَ لِمَا أَنَّهُ يَخِلّ بِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ , وَيُشْبِهُ الْإِجَارَةَ وَالسِّفَاحَ فَكَيْفَ بِالتَّحْلِيلِ . فَالْمَنْعُ مِنْ دَلَالَةِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى الْمُتْعَةِ شَرْعِيٌّ , وَلِهَذَا جَازَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِإِبَاحَةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ , وَالْمَنْعُ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى التَّحْلِيلِ عَقْلِيٌّ , وَلِهَذَا لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ بَلْ لَعَنَ فَاعِلَهُ , فَهَذَا يُبَيِّنُ فِقْهَ الْمَسْأَلَةِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ مِثْلِ هَذَا النِّكَاحِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالْمُنَاقَضَةِ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَاللُّغَةِ وَالْعُرْفِ , وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنْ نَظَرٍ وَلَا أَثَرٍ أَصْلًا خِلَافُ مَا ظَنَّهُ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي الدِّينِ مِنْ أَنَّ الْقِيَاسَ جَوَازُهُ , وَكَانَ هَذَا اعْتِقَادُ أَنَّ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ إنَّمَا يَرْتَبِطُ بِمُجَرَّدِ لَفْظٍ يَخْذُلُ بِهِ لِسَانُهُ , وَإِنْ قَصَدَ بِقَلْبِهِ خِلَافَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ بِلِسَانِهِ , وَهَذَا ظَنُّ مَنْ يَرَى النِّفَاقَ نَافِعًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى . وَنَظِيرُ هَذَا مَا يُذْكَرُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ بَلَغَهُ أَنَّهُ مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا تَفَجَّرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ , فَأَخْلَصَ فِي ظَنِّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا لِيَنَالَ الْحِكْمَةَ , فَلَمْ يَنَلْهَا فَشَكَا ذَلِكَ إلَى بَعْضِ حُكَمَاءِ الدِّينِ فَقَالَ إنَّك لَمْ تُخْلِصْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَإِنَّمَا أَخْلَصَتْ لِلْحِكْمَةِ يَعْنِي أَنَّ الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إرَادَةُ وَجْهِهِ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ حَصَلَتْ الْحِكْمَةُ تَبَعًا , فَإِذَا كَانَتْ

الْحِكْمَةُ هِيَ الْمَقْصُودَ ابْتِدَاءً لَمْ يَقَعْ الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ , وَإِنَّمَا وَقَعَ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ إخْلَاصٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ } فَلَوْ تَوَاضَعَ لِيَرْفَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَكُنْ مُتَوَاضِعًا , فَإِنَّهُ يَكُونُ مَقْصُودُهُ الرِّفْعَةَ , وَذَلِكَ يُنَافِي التَّوَاضُعَ , وَهَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا لِيُطَلِّقَهَا كَانَ مَقْصُودُهُ هُوَ الطَّلَاقَ , فَلَمْ يَكُنْ مَا يَقْتَضِيهِ وَهُوَ النِّكَاحُ مَقْصُودًا فَلَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مُطَابِقًا لِلْقَصْدِ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ يَغْلِبُ فِي صِيَغِ الْأَخْبَارِ وَهَذِهِ صِيَغُ إنْشَاءٍ فَإِنَّ الصِّيَغَ الدَّالَّةَ عَلَى الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا طَالِبًا مُرِيدًا كَانَ عَابِثًا مُسْتَهْزِئًا أَوْ مَاكِرًا خَادِعًا , وَأَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ اسْقِنِي مَاءً وَهُوَ لَا يَطْلُبُهُ بِقَلْبِهِ وَلَا يُرِيدُهُ فَأَتَاهُ , فَقَالَ مَا طَلَبْتُ وَلَا أَرَدْتُ , كَانَ مُسْتَهْزِئًا بِهِ كَاذِبًا فِي إظْهَارِهِ خِلَافَ مَا فِي قَلْبِهِ , وَإِنْ قَصَدَ أَنْ يُجِيبَهُ لِيَضْرِبَهُ كَانَ مَاكِرًا خَادِعًا , فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ تَزَوَّجْت وَنَكَحْت وَفِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَيْسَ مُرِيدًا لِلنِّكَاحِ وَلَا رَاغِبًا فِيهِ , وَإِنَّمَا هُوَ مُرِيدٌ لِلْإِعَادَةِ إلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ مُتَصَوِّرٌ بِصُورَةِ الْمُتَزَوِّجِ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ مُتَصَوِّرٌ بِصُورَةِ الْآمِرِ , وَبِصُورَةِ الْمُؤْمِنِ , وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إنَّ السَّبَبَ تَامٌّ , فَإِنَّهَا مُجَرَّدُ دَعْوَى بَاطِلَةٍ , وَقَوْلُهُ لَمْ

يَبْقَ إلَّا الْقَصْدُ الْمُقْتَرِنُ بِالْعَقْدِ قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هُنَا عَقْدًا أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ صُورَةُ عَقْدٍ , أَمَّا إنْ كَانَا مُتَوَاطِئَيْنِ فَلَا عَقْدَ أَصْلًا وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَازِمًا عَلَى التَّحْلِيلِ فَلَيْسَ بِعَاقِدٍ , بَلْ هَذَا الْقَصْدُ يَمْنَعُ الْعَقْدَ أَنْ يَكُونَ عَقْدًا فِي الْحَقِيقَةِ , وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ الْعَقْدِ , وَقَوْلُهُ وَذَلِكَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ , قُلْنَا إنْ عَنَيْت بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ اللَّفْظَ الْمُجَرَّدَ كَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّ الْمَقَاصِدَ وَالنِّيَّاتِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي الْأَلْفَاظِ , وَبُطْلَانُ هَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ فَإِنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي صِفَاتِهِ اللَّفْظُ وَأَحْكَامُهُ , إنَّمَا هُوَ عِنَايَةُ الْمُتَكَلِّمِ وَقَصْدُهُ وَإِلَّا فَاللَّفْظُ وَحْدَهُ لَا يَقْتَضِي شَيْئًا , وَإِنْ عَنَيْت بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ الْأَلْفَاظَ الدَّوَالَّ عَلَى مَعَانٍ فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقَصْدَ يُؤَثِّرُ فِيهَا أَيْضًا ; لِأَنَّهُ إذَا قَصَدَ بِهَا خِلَافَ تِلْكَ الْمَعَانِي كَانَ صَاحِبُهَا مُدَلِّسًا مُلْبِسًا , لَكِنَّ الْحُكْمَ فِي الظَّاهِرِ يَتْبَعُ الظَّاهِرَ وَلَيْسَ الْقَصْدُ إشَاعَةَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ ظَاهِرًا , وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْحِلِّ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ , وَقَوْلُهُ إنَّمَا نَوَى الطَّلَاقَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ بِالْعَقْدِ فَهُوَ كَمَا لَوْ نَوَى إخْرَاجَ الْبَيْعِ عَنْ مِلْكِهِ وَإِحْرَاقَهُ أَوْ إتْلَافَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ . قُلْنَا : هَذَا مَنْشَأُ الْغَلَطِ فَإِنَّ قَصْدَ الطَّلَاقِ لَمْ يُنَافِ النِّكَاحَ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَصَدَ تَصَرُّفَهُ فِي الْمَمْلُوكِ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ الْمِلْكِ

, وَإِنَّمَا نَافَاهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ قَصْدَ النِّكَاحِ وَقَصْدَ الطَّلَاقِ لَا يَجْتَمِعَانِ , فَإِنَّ النِّكَاحَ مَعْنَاهُ الِاجْتِمَاعُ وَالِانْضِمَامُ عَلَى سَبِيلِ انْتِفَاعِ كُلٍّ مِنْ الْمُجْتَمِعَيْنِ بِصَاحِبِهِ وَأُلْفِهِ بِهِ وَسُكُونِهِ إلَيْهِ , وَهَذَا مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ إلَّا قَطْعَ هَذَا الْوَصْلِ وَفَرْقَ هَذَا الْجَمْعِ مَعَ عَدَمِ الرَّغْبَةِ فِي الْمُؤَالَفَةِ . وَانْتِفَاءُ الْغَرَضِ مِنْ الْمُعَاشَرَةِ لَا يَصِحُّ , وَالطَّلَاقُ لَيْسَ هُوَ التَّصَرُّفَ الْمَقْصُودَ بِالْمِلْكِ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ , وَإِنَّمَا هُوَ رَفْعُ سَبَبِ الْمِلْكِ , فَلَا يُقَاسُ بِتِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ وَإِنَّمَا لِيَرَهَا مِنْ النِّكَاحِ , أَنْ يَقْصِدَ بِالنِّكَاحِ بَعْضَ مَقَاصِدِهِ مِنْ النَّفْعِ بِهَا أَوْ نَفْعِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَنَظِيرُ الطَّلَاقِ أَنْ لَا يَعْقِدَ الْبَيْعَ إلَّا لَأَنْ يَفْسَخَهُ بِخِيَارِ شَرْطٍ أَوْ مَجْلِسٍ أَوْ عَيْبٍ أَوْ فَوَاتِ صِفَةٍ أَوْ إقَالَةٍ , فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ بِالْبَيْعِ أَنْ يَفْسَخَ بَعْدَ عَقْدِهِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ ,

الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ : إنْ تَسَبَّبَ إلَى أَنْ يُفَارِقَهَا مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ غَيْرِ الِاخْتِلَاعِ , وَلَا خَدِيعَةٍ تُوجِبُ فِرَاقَهَا مِثْلَ أَنْ تَسْأَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ أَنْ يَخْلَعَهَا , وَتَبْذُلَ لَهُ مَالًا عَلَى الْفُرْقَةِ أَوْ تُظْهِرَ لَهُ مَحَبَّتَهَا لِلْأَوَّلِ أَوْ بُغْضَهَا الْمُقَامَ مَعَهُ حَتَّى يُفَارِقَهَا , فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الِانْتِزَاعِ وَالِاخْتِلَاعِ مِنْ الرَّجُلِ , فَنَقُولُ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَخَافُ أَنْ لَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ جَازَ لَهَا الِاخْتِلَاعُ , وَإِلَّا نُهِيَتْ عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ , فَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَنْوِ هَذَا الْفِعْلَ إلَّا بَعْدَ الْعَقْدِ فَهِيَ كَسَائِرِ الْمُخْتَلِعَاتِ يَصِحُّ الْخُلْعُ وَيُبَاحُ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ , هَذَا إذَا كَانَ مَقْصُودُهَا مُجَرَّدَ فُرْقَتِهِ . وَهُنَا مَقْصُودُهَا التَّزَوُّجُ بِغَيْرِهِ فَتَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَخْتَلِعُ مِنْ زَوْجِهَا لِتَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ وَهَذَا أَغْلَظُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا سَيَأْتِي , وَإِنْ كَانَتْ حِينَ الْعَقْدِ تَنْوِي أَنْ تَتَسَبَّبَ إلَى الْفُرْقَةِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ فَهَذِهِ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الَّتِي حَدَثَ لَهَا إرَادَةُ الِاخْتِلَاعِ لِتَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ , مَعَ اسْتِقَامَةِ الْحَالِ , فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ { الْمُخْتَلِعَاتُ وَالْمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ } . فَاَلَّتِي تَخْتَلِعُ لِتَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ , لَا لِكَرَاهَتِهِ أَشَدُّ وَأَشَدُّ , وَمَنْ كَانَتْ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ تُرِيدُ أَنْ تَخْتَلِعَ وَتَنْتَزِعَ لِتَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ , فَهِيَ أَوْلَى بِالذَّمِّ وَالْعُقُوبَةِ ; لِأَنَّ هَذِهِ غَارَّةٌ

لِلرَّجُلِ مُدَلِّسَةٌ عَلَيْهِ , وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَتَسَبَّبَ فِي فُرْقَتِهِ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا , فَكَيْفَ إذَا عَلِمَ أَنَّ غَرَضَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ , بِخِلَافِ الَّتِي حَدَثَ لَهَا الِانْتِزَاعُ , فَإِنَّهَا لَمْ تَخْدَعُهُ وَلَمْ تَغُرَّهُ , وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْخِلَابَةِ بَلْ هُوَ أَقْبَحُ الْخِلَابَةِ , وَلَا تَحِلُّ الْخِلَابَةُ لِمُسْلِمٍ . وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَا يَجِبُ إدْخَالُهَا فِي كَلَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , فَإِنَّهُ إنَّمَا رَخَّصَ فِي مُطْلَقِ نِيَّةِ الْمَرْأَةِ وَنِيَّةُ الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِأَنْ تَتَزَوَّجَ الْأَوَّلَ , وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَنْوِيَ اخْتِلَاعًا مِنْ الثَّانِي لِتَتَزَوَّجَ الْأَوَّلَ , فَإِنَّ هَذَا نِيَّةُ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ فِي نَفْسِهِ لَوْ حَدَثَ وَغَايَتُهُ أَنْ يُقَالَ هُوَ نِيَّةٌ مَكْرُوهَةٌ تَسْوِيَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاخْتِلَاعِ الْمُطْلَقِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فَأَمَّا إذَا قَارَنَ الْعَقْدَ فَتَحْرِيمُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ رَغْبَتَهَا فِي النِّكَاحِ وَقَصْدَهَا لَهُ , وَالزَّوْجَةُ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ , فَإِذَا قَصَدَتْ بِالْعَقْدِ أَنْ تَسْعَى فِي فَسْخِهِ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ مَقْصُودًا , بِخِلَافِ مَنْ قَصَدَتْ أَنَّ الْعَقْدَ إذَا انْفَسَخَ تَزَوَّجَتْ الْأَوَّلَ , وَتَحْرِيمُ هَذَا أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ نِيَّةِ الرَّجُلِ مِنْ وَجْهٍ , وَذَلِكَ التَّحْرِيمُ أَشَدُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ , فَإِنَّ الْمُحَلِّلَ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ , فَقَدْ نَوَى شَيْئًا يَمْلِكُهُ , وَالْمَرْأَةُ تَعْلَمُ أَنَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ , وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ نَوَتْ الِاخْتِلَاعَ وَالِانْتِزَاعَ لِتَعُودَ إلَى غَيْرِهِ , وَكَرَاهَةُ

الِاخْتِلَاعِ أَشَدُّ مِنْ كَرَاهَةِ طَلَاقِ الرَّجُلِ ابْتِدَاءً , وَالِاخْتِلَاعُ لِتَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ أَشَدُّ مِنْ مُطْلَقِ الِاخْتِلَاعِ , وَإِرَادَةُ الرَّجُلِ الطَّلَاقَ لَا يُوقِعُهُ فِي مُحَرَّمٍ , فَإِنَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ فَيَفْعَلُهُ , وَإِرَادَةُ الْمَرْأَةِ الِاخْتِلَاعَ قَدْ يُوقِعُهَا فِي مُحَرَّمٍ , فَإِنَّهَا إذَا لَمْ تَخْتَلِعْ رُبَّمَا تَعَدَّتْ حُدُودَ اللَّهِ . وَنِيَّةُ التَّحْلِيلِ لَيْسَ فِيهَا مِنْ خَدِيعَةِ الْمَرْأَةِ مَا فِي نِيَّةِ الْمَرْأَةِ مِنْ خَدِيعَةِ الرَّجُلِ , وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ تِلْكَ النِّيَّةُ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ , فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ اسْتِبَاحَةَ الْبُضْعِ إلَّا بِمِلْكٍ بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ , وَالْعَقْدُ الَّذِي يَقْصِدُ رَفْعَهُ لَيْسَ بِعَقْدِ نِكَاحٍ , وَهَذَا حَالُ الْمَرْأَةِ إذَا تَزَوَّجَتْ بِمَنْ تُرِيدُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَحَالِهَا إذَا تَزَوَّجَتْ بِمَنْ بَدَا لَهُ طَلَاقُهَا فِيمَا بَعْدَ , مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ قَطَعَ النِّكَاحَ عَلَيْهَا , وَهَذَا جَائِزٌ لَهُ وَلَيْسَ تَعَلُّقُ حَقِّهَا بِعَيْنِهِ كَتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِعَيْنِهَا , فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا وَلَا حَرَامَ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ مَحَبَّتُهُ لِتِلْكَ وَاسْتِمْتَاعُهُ بِهَا أَكْثَرَ إذَا عَدَلَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ , وَالْمَرْأَةُ إذَا تَزَوَّجَتْ قَاصِدَةً لِلتَّسَبُّبِ فِي الْفُرْقَةِ فَهَذَا التَّحْرِيمُ لِحَقِّ الزَّوْجِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْخِلَابَةِ وَالْخَدِيعَةِ لَهُ , وَإِلَّا فَهُوَ يَمْلِكُهَا بِهَذَا الْعَقْدِ وَيَمْلِكُ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا بِحَالٍ , وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَتْ نِيَّةُ التَّحْلِيلِ أَشَدَّ , فَإِنَّ تِلْكَ النِّيَّةَ تَمْنَعُ كَوْنَ الْعَقْدِ ثَابِتًا

مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَهُنَا الْعَقْدُ ثَابِتٌ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ , بِأَنَّهُ نَكَحَ نِكَاحَ رَغْبَةٍ , وَمِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا لَا تَمْلِكُ الْفُرْقَةَ , فَصَارَ الَّذِي يَمْلِكُ الْفُرْقَةَ لَمْ يَقْصِدْهَا , وَاَلَّذِي قَصَدَهَا لَمْ يَمْلِكْهَا . لَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ نِيَّةِ الْمَرْأَةِ التَّسَبُّبُ إلَى الْفُرْقَةِ , صَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدِ الَّذِي حُرِّمَ عَلَى أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِإِضْرَارِهِ بِالْآخَرِ , مِثْلُ بَيْعِ الْمُصَرَّاةِ وَبَيْعِ الْمُدَلَّسِ مِنْ الْمَعِيبِ وَغَيْرِهِ , وَهَذَا النَّوْعُ صَحِيحٌ لِمَجِيءِ السُّنَّةِ بِتَصْحِيحِ بَيْعِ الْمُصَرَّاةِ , وَلَمْ نَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ إذَا كَانَ مَعِيبًا بِعَيْبٍ مُشْتَرَكٍ كَالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ أَوْ مُخْتَصٍّ كَالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ أَوْ الرَّتْقِ وَالْفَتْقِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْآخَرُ أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ مَعَ أَنَّ تَدْلِيسَ هَذَا الْعَيْبِ عَلَيْهِ حَرَامٌ , وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ هُوَ الْمُدَلِّسَ , حَتَّى قُلْنَا عَلَى الصَّحِيحِ إنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ , فَإِنْ كَانَ الْغُرُورُ مِنْ الزَّوْجَةِ سَقَطَ الْمَهْرُ , مَعَ أَنَّ الْعَقْدَ حَرَامٌ عَلَى الْمُدَلِّسِ بِلَا تَرَدُّدٍ , وَلَكِنَّ التَّدْلِيسَ هُنَاكَ وَقَعَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , وَهُنَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ . وَالْخَلَلُ فِي الْعَقْدِ قَدْ يُؤَثِّرُ فِي فَسَادِهِ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِي بَعْضِ حِلِّهِ , فَأَمَّا الْمُطَلِّقُ الْأَوَّلُ إذَا طَلَب مِنْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ يَخْلَعَهَا أَوْ دَسَّ إلَيْهِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَدَثَ إرَادَةُ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ , فَإِنَّ

الْمُطَلِّقَ لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي . وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ , فَنُقِلَ هَهُنَا عَنْهُ فِي رَجُلٍ قَالَ لِلرَّجُلِ طَلِّقْ امْرَأَتَك حَتَّى أَتَزَوَّجَهَا وَلَك أَلْفُ دِرْهَمٍ , فَأَخَذَ مِنْهُ الْأَلْفَ ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْت طَالِقٌ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ رَجُلٌ يَقُولُ لِرَجُلٍ طَلِّقْ امْرَأَتَك حَتَّى أَتَزَوَّجَهَا لَا يَحِلُّ هَذَا , فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ اخْتَلَعَهَا لِيَتَزَوَّجَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ , وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِعَهَا لِيَتَخَلَّصَ مِنْ النِّكَاحِ , لَكِنْ إذَا سَمَّى فِي عَقْدِ الْخُلْعِ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّزَوُّجَ بِهَا فَهُوَ أَقْبَحُ مِنْ أَنْ يَقْصِدَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ , وَالصُّورَةُ الْأُولَى هِيَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا كَلَامُ أَحْمَدَ , فَالْمَرْأَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ لَأَنْ تَتَزَوَّجَ أَشَدُّ فَإِنَّ الْأَذَى بِطَلَبِ الْمَرْأَةِ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ الْأَذَى بِطَلَبِ الْأَجْنَبِيِّ , فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفِعْلُ حَرَامًا لَوْ حَدَثَ الْقَصْدُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ مَقْصُودًا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ وَفُعِلَ بَعْدَهُ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اخْتِلَاعُهَا رَغْبَةً فِي نِكَاحِ غَيْرِهِ , وَلَا الْعَقْدُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ , وَلَا يَحِلُّ أَمْرُهَا بِذَلِكَ وَلَا تَعْلِيمُهَا إيَّاهُ , وَلَكِنْ لَوْ فَعَلْته لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لِمَا تَقَدَّمَ , فَلَوْ رَجَعَتْ عَنْ هَذِهِ النِّيَّةِ جَازَ لَهَا الْمُقَامُ مَعَهُ , فَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَفَارَقَهَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ . وَأَمَّا الْعَقْدُ الثَّانِي فَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ صَحِيحٌ , وَلِأَصْحَابِنَا فِي صِحَّةِ نِكَاحِ الرَّجُلِ إذَا

خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَبَيْعِهِ إذَا ابْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ قَوْلَانِ , وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ تِلْكَ , فَنَقُولُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ أَوْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ , وَعَنْ أَنْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ , أَوْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ بِطَلَاقِ أُخْتِهَا , فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ { نَهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ أَوْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ , وَلَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا أَوْ إنَائِهَا , فَإِنَّمَا رِزْقُهَا عَلَى اللَّهِ } . وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نَهَى عَنْ التَّلَقِّي , وَعَنْ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ , وَأَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا , وَأَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ , وَنَهَى عَنْ النَّجْشِ وَالتَّصْرِيَةِ } , وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلَا يَسُومُ عَلَى سَوْمِهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ , وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ : { لَا يَبْتَاعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ } وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَتِهِ حَتَّى يَذَرَهُ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ , وَفِي لَفْظٍ : { لَا

يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَهُ } , وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ , وَهَذَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ الْمَنْصُوصِ , وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ ; لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا { لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ } كَمَا تَقَدَّمَ , وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ نَهْيُ تَأْدِيبٍ لَا تَحْرِيمٍ وَهُوَ بَاطِلٌ ; فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ حَرَامٌ فَهَلْ الْعَقْدُ الثَّانِي صَحِيحٌ أَوْ فَاسِدٌ ؟ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَجَمَاعَةٌ مَعَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَحْكِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَاطِلٌ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي الْخِلَافِ وَرَوَاهُ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَسَائِلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ فِي الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ , وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَيْضًا . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ صَحِيحٌ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلَا يَسْتَامُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ , هَذَا لِلْمُسْلِمِينَ . قِيلَ لَهُ فَإِنْ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ فَتَزَوَّجَهَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : لَا . وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي حَفْصٍ , لَكِنْ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ تَأْدِيبٌ , وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا , وَقَدْ خَرَّجَ الْقَاضِي جَوَابَ أَحْمَدَ فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ إلَى مَسْأَلَةِ الْخِطْبَةِ فَجَعَلَهُمَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ كَمَا

تَقَدَّمَ عَنْهُ , وَيَتَوَجَّهُ إقْرَارُ النَّصَّيْنِ مَكَانَهُمَا كَمَا سَنَذْكُرُهُ , وَالْقَوْلُ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ , وَالْقَوْلُ بِفَسَادِهِ مَحْكِيٌّ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ , وَحُكِيَ عَنْهُ الصِّحَّةُ , وَدَلِيلُ هَذَا النَّهْيُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ عَلَى قَاعِدَةِ الْفُقَهَاءِ الْمُقَرَّرَةِ فِي مَوْضِعِهَا كَسَائِرِ عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ وَالْبِيَاعَاتِ أَوْ لِلْأَوَّلِينَ طُرُقٌ : أَحَدُهَا : حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى التَّأْدِيبِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَفْصٍ , وَأَوْمَأَ إلَيْهِ ابْنُ عَقِيلٍ , إذَا كَثُرَ مَا فِيهِ أَنَّ لِلْخَاطِبِ رَغْبَةً فِي الْمَرْأَةِ , وَهَذَا لَا يُحَرِّمُهَا عَلَى غَيْرِهِ كَمَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَغْبَةً وَلَمْ يُتِمَّ وَلَمْ يَخْطُبْ , وَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِنَصِّ الرَّسُولِ . الطَّرِيقُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ لَمْ يُقَارِنْ النِّكَاحَ الثَّانِيَ وَالْبَيْعَ الثَّانِيَ . وَإِنَّمَا هُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِمَا ; لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ إنَّمَا هُوَ مَنْعٌ لِلْأَوَّلِ مِنْ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ . وَهَذَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى بَيْعِ الثَّانِي وَنِكَاحِهِ , وَالتَّحْرِيمُ الْمُقْتَضِي لِلْفَسَادِ , وَهُوَ مَا قَارَنَ الْعَقْدَ كَعُقُودِ الرِّبَا وَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ , أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ لَا أَتَزَوَّجُك حَتَّى أَرَاك مُجَرَّدًا لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ , وَكَذَلِكَ لَوْ ذَهَبَ عَلَى الْجُمُعَةِ عَلَى دَابَّةٍ مَغْصُوبَةٍ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ , وَلِهَذَا فَرَّقُوا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ , قَالُوا وَلَوْ خَطَبَهَا فِي الْعِدَّةِ

وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ صَحَّ ; لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَقْدِ . الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَلَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ كَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ بِخِلَافِ التَّحْرِيمِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَبُيُوعِ الْغَرَرِ وَالرِّبَا , وَالْمَعْنَى لِحَقِّ الْآدَمِيِّ الْمُعَيَّنِ الَّذِي لَوْ رَضِيَ بِالْعَقْدِ لَصَحَّ كَالْخَاطِبِ الْأَوَّلِ هُنَا , فَإِنَّهُ لَوْ أَذِنَ لِلثَّانِي جَازَ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ إذَا كَانَ لِآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ أَمْكَنَ أَنْ يَزُولَ بِرِضَاهُ , وَلَوْ فِيمَا بَعْدُ , فَلَمْ يَكُنْ التَّحْرِيمُ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ , وَلِهَذَا جَوَّزَ فِي مَوَاضِعَ التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ الْغَيْرِ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ كَالْوَصِيَّةِ , وَإِذَا كَانَ بِحَقِّ اللَّهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ , لَا سَبِيلَ إلَى حِلِّهَا بِحَالٍ , فَيَكُونُ التَّحْرِيمُ فِي الْعَقْدِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي الْفَرْقِ بَيْنَ بَيْعِهِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ , وَبَيْنَ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي , وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ أَيْضًا . الطَّرِيقَةُ الرَّابِعَةُ : أَنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا لَيْسَ لِمَعْنًى فِي الْعَاقِدِ , وَلَا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , كَمَا فِي بَيْعِ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ بَيْعِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ , وَبَيْعِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ , وَإِنَّمَا هُوَ لِمَعْنًى خَارِجٍ عَنْهُمَا , وَهُوَ الضَّرَرُ الَّذِي لَحِقَ الْخَاطِبَ وَالْمُسْتَامَ أَوَّلًا , وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ , أَوْ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ فَيُصَحِّحُ الصَّلَاةَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ بِنَاءً عَلَى هَذَا , وَمَنْ يَنْصُرُ

الْأَوَّلَ يَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ مُقَارَنًا لِلْعَقْدِ , فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ , وَعَنْ أَنْ يَبْتَاعَ أَيْضًا } , وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ نَفْسِ الْعَقْدِ , { وَنَهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ } . مُنَبِّهًا بِذَلِكَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ عَقْدِ النِّكَاحِ , فَإِنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ بِالنَّهْيِ , كَمَا أَنَّهُ لَمَّا { نَهَى عَنْ قُرْبَانِ مَالِ الْيَتِيمِ } كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى النَّهْيِ عَنْ أَخْذِهِ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ مُقَدِّمَاتِ الْفِعْلِ أَبْلَغُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ عَيْنِهِ , وَهَذَا بِخِلَافِ النَّهْيِ عَنْ التَّصْرِيحِ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ فَإِنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِ الْعَقْدَ , وَلَا الْخِطْبَةَ , وَكَذَلِكَ فِي رُؤْيَتِهِ مُتَجَرِّدًا قَبْلَ النِّكَاحِ , أَوْ الْمَشْيِ إلَى الْجُمُعَةِ عَلَى حِمَارٍ مَغْصُوبٍ فَإِنَّ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ انْتَقَضَتْ أَسْبَابُهَا , وَهَذَا سَبَبُ التَّحْرِيمِ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ , وَهُوَ مَوْجُودٌ , فَإِنَّ عَوْدَهَا إلَيْهِ مُمْكِنٌ . ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُحَرَّمَ مُتَقَدِّمٌ فَلِمَ قِيلَ إنَّ الْفَرْقَ مُؤَثِّرٌ , فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى كَوْنِ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ فَاسِدَةٌ لَا تُفَرِّقُ , وَالْفِعْلُ الْمُحَرَّمُ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً , فَتَصْحِيحُهُ يَقْتَضِي إيقَاعَ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ , وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ , وَمَعْصِيَةُ اللَّهِ فَسَادٌ لَا صَلَاحَ فِيهَا , فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَنْهَى عَنْ الصَّلَاحِ , وَهَذَا الْعَقْدُ هُنَا

مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ الْمَفْسَدَةِ , وَهُوَ إضْرَارُ الْأَوَّلِ , بِخِلَافِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهَا فِي نَفْسِهَا غَيْرُ مُسْتَلْزِمَةٍ لِرُكُوبٍ وَلَا مَشْيٍ , وَنَقُولُ أَيْضًا لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا حُرِّمَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِحَقِّ عِبَادِهِ , إذْ الْأَدِلَّةُ لَا تُفَرِّقُ وَنَقُولُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ , وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ فَالنَّهْيُ هُنَا لِمَعْنًى فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , وَهُوَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْأَوَّلِ بِالْعَيْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا , فَإِنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ تَقَدُّمَ خُطْبَتِهِ وَبَيْعِهِ حَقًّا لَهُ مَانِعًا مِنْ مُزَاحِمَةِ الثَّانِي لَهُ ; كَمَنْ سَبَقَ إلَى مُبَاحٍ فَجَاءَ آخَرُ يُزَاحِمُهُ ; وَصَارَ هَذَا لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَغَيْرِهِ ; وَإِذَا كَانَ سَبَبُ النَّهْيِ تَعَلُّقَ حَقٍّ لِلْأَوَّلِ بِهَذِهِ الْعَيْنِ فَإِذَا أُزِيلَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ لَمْ يُؤَثِّرْ هَذَا فِي الْحِلِّ الْمُزِيلِ , فَإِنَّهُ كَالْقَاتِلِ لِمَوْرُوثِهِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَزَالَ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمَوْرُوثِ بِالْمَالِ بِفِعْلِهِ الْمُحَرَّمِ , لَمْ يُؤَثِّرْ هَذَا الزَّوَالُ فِي الْحِلِّ لَهُ وَلِهَذَا لَا يُبَارَكُ لِأَحَدٍ فِي شَيْءٍ قَطَعَ حَقَّ غَيْرِهِ عَنْهُ بِفِعْلِ مُحَرَّمٍ , ثُمَّ اقْتَطَعَهُ لِنَفْسِهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَقْسَامِ الْحِيَلِ تَنْبِيهٌ عَلَى هَذَا النَّوْعِ , وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَيَسْتَامَ عَلَى سَوْمِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِهِ أَوْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِهِ , فَإِنَّ الْخَاطِبَ وَالْمُسْتَامَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا حَقٌّ , وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُمَا رَغْبَةٌ وَوَعْدٌ بِخِلَافِ الَّذِي قَدْ

بَاعَ أَوْ ابْتَاعَ فَإِنَّ حَقَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَلَى السِّلْعَةِ أَوْ الثَّمَنِ , فَإِذَا تَسَبَّبَ الثَّانِي فِي فَسْخِ هَذَا الْعَقْدِ كَانَ قَدْ زَالَ حَقَّهُ الَّذِي انْعَقَدَ , وَهَذَا يُؤَثِّرُ مَا لَا يُؤَثِّرُ الْأَوَّلُ فَإِنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ مَتَى اسْتَلْزَمَ إبْطَالَ حَقِّ غَيْرِهِ بَطَلَ كَرُجُوعِ الْأَبِ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ مُرْتَهِنٍ أَوْ مُشْتَرٍ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ رُجُوعُ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ ذِي جِنَايَةٍ أَوْ مُرْتَهِنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ , بِخِلَافِ تَعَلُّقِ رَغْبَةِ الْغُرَمَاءِ بِالسِّلْعَةِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ رُجُوعَ الْبَائِعِ وَفِي رُجُوعِ الْوَاهِبِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ , ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ بَيْعَ الْإِنْسَانِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا أَنَا أَبِيعُك مِثْلَ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِدُونِ هَذَا الثَّمَنِ , وَأَبِيعُك خَيْرًا مِنْهَا بِمِثْلِ هَذَا الثَّمَنِ , فَيَفْسَخَ الْمُشْتَرِي بَيْعَ الْأَوَّلِ وَيَبْتَاعَ مِنْهُ , وَكَذَلِكَ ابْتِيَاعُهُ عَلَى ابْتِيَاعِ أَخِيهِ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ بَاعَ رَجُلًا شَيْئًا أَنَا اشْتَرِيهِ مِنْك بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا الثَّمَنِ , وَقَدْ اشْتَرَطَ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوْ الشَّرْطِ لِيَتَمَكَّنَ الْآخَرُ مِنْ الْفَسْخِ , وَإِلَّا فَبَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ لَا يُؤَثِّرُ هَذَا الْقَوْلُ شَيْئًا , وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْجَامِعِ , وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ . وَأَمَّا قُدَمَاءُ أَصْحَابِنَا فَأَطْلَقُوا الْبَيْعَ

عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِهَذَا الْخِيَارِ , وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ , وَأَبُو الْخَطَّابِ فَسَخَ الْبَيْعَ الثَّانِيَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِهَذَا الْخِيَارِ , وَكَلَامُ أَحْمَدَ أَيْضًا مُطْلَقٌ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ , وَهَذَا أَجْوَدُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ يُمْكِنُهُ الْفَسْخُ بِأَسْبَابٍ غَيْرِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَالشَّرْطِ مِثْلِ خِيَارِ الْعَيْبِ وَالتَّدْلِيسِ وَالْخَلْفِ فِي الصِّفَةِ وَالْغَبْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , ثُمَّ لَا يُرِيدُ الْفَسْخَ فَإِذَا جَاءَ الْبَائِعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَرَغْبَتُهُ فِي أَنْ يَفْسَخَ وَيَعْقِدَ مَعَهُ , كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَأْتِيَهُ فِي زَمَنِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ . الثَّانِي : أَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَحَدَهُمَا فَسْخُهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَجِيءُ إلَيْهِ فَيَقُولُ لَهُ قَايِلْ هَذَا الْبَيْعَ وَأَنَا أَبِيعُك ; فَيَحْمِلُهُ عَلَى اسْتِقَالَةِ الْأَوَّلِ , وَالْإِلْحَاحِ عَلَيْهِ فِي الْمُقَايَلَةِ فَيُجِيبُهُ عَنْ غَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ كَثِيرًا إنْ لَمْ يَخْدَعْهُ خَدِيعَةً تُوجِبُ فَسْخَ الْبَيْعِ , وَهَذَا قَدْ يَكُونُ أَشَدَّ تَحْرِيمًا لِمَا فِيهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْغَنِيِّ مَا لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ , وَمُخَالَفَةِ قَوْلِهِ { دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ } وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَقَدْ يُقَالُ الْمُسْتَقَالُ غَيْرَ رَاضٍ فَلَا يُبَارَكُ لِلْمُسْتَقِيلِ , كَاَلَّذِينَ كَانُوا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْيَاءَ فَيُعْطِيهِمْ إيَّاهَا , فَيَخْرُجُ بِهَا أَحَدُهُمْ يَتَأَبَّطُهَا نَارًا وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ , فَيَكُونُ

الْمُعْطِي مُثَابًا وَالسَّائِلُ مُعَاقَبًا وَهَذَا بَيْعٌ حَقِيقَةً عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ , وَهُوَ وَاقِعٌ فَلَا مَعْنَى لِإِخْرَاجِهِ مِنْ الْحَدِيثِ , وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جُمْلَةِ مَا نَهَى عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ { أَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا , لِتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا } , فَمَسْأَلَةُ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُقِيلَهُ الْبَيْعَ لِيَبِيعَهَا الْبَائِعُ لِغَيْرِهِ كَذَلِكَ , وَقَوْلُ الرَّجُلِ الْبَائِعِ اسْتَقِلْ الْمُشْتَرِي هَذَا الْبَيْعَ لِتَبِيعَهُ لِهَذَا . كَمَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ سَلِي هَذَا الْخَاطِبَ أَنْ يُطَلِّقَ تِلْكَ لِيَتَزَوَّجَك , إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَتَقُولُ إذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَرَّمَ أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَأَنْ يَسْتَامَ عَلَى سَوْمِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُزَاحَمَةِ الْمُخْرِجَةِ لَهُ عَمَّا قَدْ وَعَدَ بِهِ ; فَكَيْفَ بِمَنْ نَكَحَ عَلَى نِكَاحِ أَخِيهِ , بِأَنْ يَقُولَ لِلْمَرْأَةِ طَلِّقِي هَذَا الرَّجُلَ وَأَنَا أَتَزَوَّجُك ; أَوْ أُزَوِّجُك فُلَانًا , إنْ أَمْكَنَهَا أَنْ تَفْسَخَ النِّكَاحَ بِأَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا , أَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِأَمْرٍ يُمْكِنُهَا فِعْلُهُ , فَهَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ , وَإِلَّا فَاخْتِلَاعُهَا مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ اسْتِقَالَةِ الْمُشْتَرِي , وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا قَدْ تُسِيءُ عِشْرَتَهُ إسَاءَةً تَحْمِلُهُ عَلَى طَلَاقِهَا ; بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا تَنْقَضِي بِالتَّقَابُضِ مِنْهُمَا فَكُلُّ مَنْ قَالَ إنَّ ابْتِيَاعَ الْإِنْسَانِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ بَاطِلٌ قَالَ

هُنَا إنَّ نِكَاحَ الثَّانِي بَاطِلٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ; وَمَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ هُنَاكَ فَقَدْ يَقُولُ هُنَا بِالْبُطْلَانِ ; لِأَنَّ الزَّوْجَ خُدِعَ حِينَ الْعَقْدِ وَتُسُبِّبَ فِي إزَالَةِ نِكَاحِهِ , وَزَوَالُ النِّكَاحِ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ الْإِقَالَةِ فِي بَيْعٍ أَوْ فَسْخِهِ , وَلَوْ أَنَّ الرَّجُلَ طَلَبَ مِنْ الرَّجُلِ أَنْ يَبِيعَهُ سِلْعَةً لَجَازَ ; وَلَوْ طَلَب أَنْ يَخْلَعَ امْرَأَتَهُ لِيَتَزَوَّجَهَا لَكَانَ مِنْ الْقَبِيحِ الْمُنْكَرِ , وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ , وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا قِيلَ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ الثَّانِي وَلَا نِكَاحُ الثَّانِي لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ , وَلَكِنْ تَعُودُ السِّلْعَةُ إلَى صَاحِبِهَا , وَالْمَرْأَةُ إلَى يَدِ نَفْسِهَا . وَيُعَاقَبُ الثَّانِي بِأَنْ يَبْطُلَ عَقْدُهُ مُنَاقَضَةً لِقَصْدِهِ , وَهَذَا نَظِيرُ مَنْعِ الْقَاتِلِ الْمِيرَاثَ , وَنَظِيرُ تَوْرِيثِ الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ , فَإِنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ وَالْمَالِ زَالَ حَقِيقَةً عَنْ الْمَيِّتِ وَالْمُطَلِّقِ , وَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي انْتِقَالِ الْمَالِ إلَى الْقَاتِلِ , وَمَنْعِ مِيرَاثِ الْمُطَلِّقَةِ , وَهُوَ نَظِيرُ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي أَثْنَاءِ أَقْسَامِ الْحِيَلِ , مِثْلَ أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلُ رَجُلًا لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ وَبَيَّنَّا وَجْهَ تَحْرِيمِهَا عَلَى هَذَا الْقَاتِلِ مَعَ حِلِّهَا لِغَيْرِهِ , وَكَذَلِكَ ذَبِيحَةُ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ كَذَلِكَ هُنَا يَحْرُمُ شِرَاءُ الْعَيْنِ بَعْدَ الْفَسْخِ عَلَى هَذَا الْمُتَسَبِّبِ فِي ذَلِكَ مَعَ حِلِّهِ لِغَيْرِهِ , وَقَدْ يَضُرُّ هَذَا بِاَلَّذِي فَسَخَ الْبَيْعَ , لَكِنَّ هَذَا جَزَاءُ فِعْلِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ

جَازَ لَهُ الْفَسْخُ ابْتِدَاءً , لَكِنْ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يُعِينَ هَذَا عَلَى مَا طَلَبَهُ فَإِنَّ الْإِعَانَةَ عَلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ , فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِقَالَةُ فَكَيْفَ الْمَرْأَةُ الْمَنْهِيَّةُ عَنْ الِانْتِزَاعِ وَالِاخْتِلَاعِ . وَمِمَّا هُوَ كَالْبَيْعِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى إجَارَتُهُ عَلَى إجَارَةِ أَخِيهِ , مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُسْتَقِلًّا فِي دَارِهِ حَانُوتٌ أَوْ مُزْدَرَعٌ , وَأَهْلُهُ قَدْ رَكَنُوا إلَى أَنْ يُؤَجِّرُوهُ السَّنَةَ الثَّانِيَةَ فَيَجِيءُ الرَّجُلُ فَيَسْتَأْجِرُ عَلَى إجَارَتِهِ , فَإِنَّ ضَرَرَهُ بِذَلِكَ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْبَيْعِ غَالِبًا , وَأَقْبَحُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَلِّيًا وِلَايَةً أَوْ مَنْزِلًا فِي مَكَان يَأْوِي إلَيْهِ أَوْ يَرْتَزِقُ مِنْهُ , فَيَطْلُبُ آخَرُ مَكَانَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ حَنْبَلٌ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُرْوَى أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّ اللَّهَ يُرَى وَأَنَّ اللَّهَ يَضَعُ قَدَمَهُ , وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : نُؤْمِنُ بِهَا وَنُصَدِّقُ بِهَا وَلَا كَيْفَ وَلَا مَعْنَى وَلَا نَرُدُّ مِنْهَا شَيْئًا , وَنَعْلَمُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ حَقٌّ إذَا كَانَتْ بِأَسَانِيدَ صِحَاحٍ , وَلَا نَرُدُّ عَلَى اللَّهِ قَوْلَهُ وَلَا يُوصَفُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِأَكْثَرَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ , بِلَا حَدٍّ وَلَا غَايَةٍ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } . وَقَالَ حَنْبَلٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي ذَاتِهِ كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَقَدْ أَجْمَلَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِالصِّفَةِ لِنَفْسِهِ , فَحَدَّ لِنَفْسِهِ صِفَةً لَيْسَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ فَنَعْبُدُ اللَّهَ بِصِفَاتٍ غَيْرِ مَحْدُودَةٍ وَلَا مَعْلُومَةٍ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ . قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } . قَالَ حَنْبَلٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : وَهُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ , بَصِيرٌ بِلَا حَدٍّ وَلَا تَقْدِيرٍ وَلَا يَبْلُغُهُ الْوَاصِفُونَ وَصِفَاتُهُ مِنْهُ وَلَهُ وَلَا نَتَعَدَّى الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ , فَنَقُولُ كَمَا قَالَ , وَنَصِفُهُ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ , وَلَا نَتَعَدَّى ذَلِكَ وَلَا تَبْلُغُهُ صِفَةَ الْوَاصِفِينَ , نُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ , وَلَا نُزِيلُ عَنْهُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ بِشَنَاعَةٍ شُنِّعَتْ وَوَصْفٍ وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ كَلَامٍ وَنُزُولٍ وَخُلُوِّهِ بِعَبْدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَضْعِهِ كَنَفَهُ عَلَيْهِ . هَذَا

كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُرَى فِي الْآخِرَةِ . وَالتَّحْدِيدُ فِي هَذَا بِدْعَةٌ وَالتَّسْلِيمُ لِلَّهِ بِأَمْرِهِ بِغَيْرِ صِفَةٍ وَلَا حَدٍّ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا غَفُورًا عَالَمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ عَلَّامَ الْغُيُوبِ , فَهَذِهِ صِفَاتٌ وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ لَا تُرَدَّ وَلَا تُدْفَعُ وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ بِلَا حَدٍّ . كَمَا قَالَ تَعَالَى { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } كَيْفَ شَاءَ , الْمَشِيئَةُ إلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالِاسْتِطَاعَةُ لَهُ . { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } , وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ , وَهُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ بِلَا حَدٍّ وَلَا تَقْدِيرٍ . وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ . { لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ } فَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ صِفَاتُهُ مِنْهُ لَا نَتَعَدَّى الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ . وَالْخَبَرُ بِضَحِكِ اللَّهِ , وَلَا نَعْلَمُ كَيْفَ ذَلِكَ إلَّا بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ وَتَبْيِينِ الْقُرْآنِ , لَا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ وَلَا يَحُدُّهُ أَحَدٌ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَهْمِيَّةُ وَالْمُشْتَبِهَةُ قُلْت لَهُ : وَالْمُشَبِّهَةُ مَا يَقُولُونَ ؟ قَالَ : مَنْ قَالَ بَصَرٌ كَبَصَرِي . وَيَدٌ كَيَدِي - وَقَالَ حَنْبَلٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ - وَقَدَمٌ كَقَدَمِي . فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهُ بِخَلْقِهِ وَهَذَا يَحُدُّهُ . وَهَذَا كَلَامٌ سُوءٌ وَهَذَا مَحْدُودُ الْكَلَامِ فِي هَذَا لَا أُحِبُّهُ . قَالَ : عَبْدُ اللَّهِ جَرِّدُوا الْقُرْآنَ . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " يَضَعُ قَدَمَهُ " . نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَحُدُّهُ وَلَا نَرُدُّهُ

عَلَى رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ نُؤْمِنُ بِهِ . قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } فَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْأَخْذِ بِمَا جَاءَ وَالنَّهْيِ عَمَّا نَهَى . وَأَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ , وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الزَّلَلِ وَالِارْتِيَابِ وَالشَّكِّ إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٌ قَدِيرٌ , قَالَ الْخَلَّالُ : وَنَادَانِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْجَبَلِيِّ مِنْ حَنْبَلٍ فِي هَذَا الْكَلَامِ وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } { لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ } هَذِهِ صِفَاتُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَسْمَاؤُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى .

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ إنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ . قَالَ : { فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ } { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } , { وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } { وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } . فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَالَ { أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا } - إلَى قَوْلِهِ - { دَحَاهَا } فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ , ثُمَّ قَالَ : { أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِاَلَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } - إلَى - { طَائِعِينَ } فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ السَّمَاءِ وَقَالَ : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } { عَزِيزًا حَكِيمًا } { سَمِيعًا بَصِيرًا } فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى . فَقَالَ لَا أَنْسَابَ فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى { وَنُفِخَ فِي الصُّوَرِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } فَلَا أَنْسَابَ عِنْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ . فِي النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ , وَأَمَّا قَوْلُهُ : { مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } { وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } . فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ قَالَ الْمُشْرِكُونَ تَعَالَوْا نَقُلْ لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ فَخَتَمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ عَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا وَعِنْدَهُ { يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا . . . } الْآيَةَ , وَخَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ , ثُمَّ اسْتَوَى

إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ وَدَحَاهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالْآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ فَخُلِقَتْ الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَخُلِقَتْ السَّمَاوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ , وَذَلِكَ قَوْلُهُ إنِّي لَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ , فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إلَّا أَصَابَ فِيهِ الَّذِي أَرَادَ فَلَا يَخْتَلِفُ عَلَيْك الْقُرْآنُ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا وَرَوَاهُ الْبَرْقَانِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ الطَّرِيقِ الَّذِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ بِعَيْنِهَا مِنْ طَرِيقِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ بِعَيْنِهِ بِأَلْفَاظِهِ التَّامَّةِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي صَدْرِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَتَكْذِيبٌ ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ : مَا هُوَ بِتَكْذِيبٍ وَلَكِنْ اخْتِلَافٌ قَالَ : فَهَلُمَّ مَا وَقَعَ فِي نَفْسِك فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : اسْمَعْ , اللَّهُ يَقُولُ : { فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ } , وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى : { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } . وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى : { وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } . وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى : { وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْلِ : { أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا , رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا , وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا , وَالْأَرْضَ بَعْدَ

ذَلِكَ دَحَاهَا } فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : " خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ الْأَرْضِ " . وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِاَلَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } وَقَوْلُهُ : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } , وَكَأَنْ كَانَ ثُمَّ انْقَضَى . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هَاتِ مَا فِي نَفْسِك مِنْ هَذَا , فَقَالَ السَّائِلُ : إذَا أَنْبَأْتَنِي بِهَذَا فَحَسْبِي . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ , قَوْلُهُ : { فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ } , فَهَذَا فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى يُنْفَخُ فِي الصُّوَرِ فَيُصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ثُمَّ إذَا كَانَ فِي النَّفْخَةِ الْأُخْرَى قَامُوا فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ . وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } وَقَوْلُهُ : { وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ لَا يَتَعَاظَمُ عَلَيْهِ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ وَلَا يَغْفِرُ شِرْكًا , فَلَمَّا رَأَى الْمُشْرِكُونَ قَالُوا إنَّ رَبَّنَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَلَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ

تَعَالَوْا نَقُولُ إنَّا كُنَّا أَهْلَ ذُنُوبٍ وَلَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ , فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَمَا إذَا كَتَمُوا الشِّرْكَ فَاخْتِمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَيُخْتَمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ , فَعِنْدَ ذَلِكَ عَرَفَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَكْتُمُ حَدِيثًا . فَذَلِكَ قَوْلُهُ { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الْأَرْضَ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا , رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا , وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا , وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } فَإِنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ , ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ يَعْنِي ثُمَّ دَحَى الْأَرْضَ وَدَحْيُهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى وَشَقَّ فِيهَا الْأَنْهَارَ وَجَعَلَ فِيهَا السُّبُلَ وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالرِّمَالَ وَالْآكَامَ وَمَا فِيهَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ , فَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } وَقَوْلُهُ : { أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِاَلَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } وَجُعِلَتْ السَّمَاوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } , { غَفُورًا رَحِيمًا } { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } . فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَلِكَ , وَسَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ وَلَمْ

يَنْحَلْهُ أَحَدٌ غَيْرَهُ وَكَانَ اللَّهُ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ , ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : احْفَظْ عَنِّي مَا حَدَّثْتُك وَاعْلَمْ أَنَّ مَا اخْتَلَفَ عَلَيْك مِنْ الْقُرْآنِ أَشْبَاهُ مَا حَدَّثْتُك , فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ شَيْئًا إلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ وَلَكِنَّ النَّاسَ لَا يَعْلَمُونَ , فَلَا يَخْتَلِفُ عَلَيْك الْقُرْآنُ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ . وَهَكَذَا رَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ كَمَا رَوَاهُ الْبَرْقَانِيُّ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي يَسِيرٍ مِنْ الْأَحْرُفِ , وَمَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مُتَعَيَّنٌ لِمَا جَاءَ فِي الْآثَارِ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ كَامِلًا بِصِفَاتِهِ , لَمْ تَحْدُثُ لَهُ صِفَةٌ وَلَا تَزُولُ عَنْهُ صِفَةٌ , لَيْسَ هُوَ بِمُخَالِفٍ لِقَوْلِهِمْ أَنَّهُ يَنْزِلُ كَمَا يَشَاءُ وَيَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يَشَاءُ وَأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ . وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ , وَأَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ فَإِنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لَيْسَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ صِفَاتِهِ ; وَلَكِنَّ كَوْنَهُ بِحَيْثُ يَفْعَلُ إذَا شَاءَ هُوَ صِفَتُهُ , وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْفِعْلِ ظَاهِرٌ , فَإِنَّ تَجَدُّدَ الصِّفَةِ أَوْ زَوَالَهَا يَقْتَضِي تَغَيُّرَ الْمَوْصُوفِ وَاسْتِحَالَتَهُ , وَيَقْتَضِي تَجَدُّدَ كَمَالٍ لَهُ بَعْدَ نَقْصٍ , أَوْ تَجَدُّدَ نَقْصٍ لَهُ بَعْدَ كَمَالٍ , كَمَا فِي صِفَاتِ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا إذَا حَدَثَ لِلْمَوْصُوفِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ ,

مِثْلُ تَجَدُّدِ الْعِلْمِ بِمَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ , وَالْقُدْرَةُ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ , وَنَحْوُ ذَلِكَ , أَوْ زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْفِعْلِ . وَهَكَذَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُخَالِفِينَ لِلْمُعْتَزِلَةِ , وَاَلَّذِينَ هُمْ أَقْرَبُ إلَى السُّنَّةِ مِنْهُمْ , مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَطَوَائِفَ مِنْ الشِّيعَةِ كَمَا نَقَلُوا عَنْ الْكَرَّامِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ تَحُلُّهُ الْحَوَادِثُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْإِرَادَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَالنَّظَرِ , وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَلَمْ يَزَلْ بِمَشِيئَتِهِ الْقَدِيمَةِ وَلَمْ يَزَلْ سَمِيعًا بَصِيرًا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَوَادِثَ لَا تُوجِبُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَصْفًا وَلَا هِيَ صِفَاتٌ لَهُ سُبْحَانَهُ , وَاَلَّذِينَ يُنَازِعُونَ فِي هَذَا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ , فَيَقُولُونَ لَوْ قَامَ فِعْلٌ حَادِثٌ بِذَاتِ الْقَدِيمِ لَاتَّصَفَ بِهِ وَصَارَ الْحَادِثُ صِفَةً لَهُ إذْ لَا مَعْنَى لِقِيَامِ الْمَعَانِي وَاخْتِصَاصِهَا بِالذَّوَاتِ إلَّا كَوْنُهَا صِفَاتٍ لَهَا , فَلَوْ قَامَتْ الْحَوَادِثُ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْإِرَادَاتِ بِذَاتِ الْقَدِيمِ لَاتَّصَفَ بِهَا كَمَا اتَّصَفَ بِالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْمَشِيئَةِ , وَلَوْ اتَّصَفَ بِهَا لَتَغَيَّرَ بِهَا , وَالتَّغَيُّرُ عَلَيْهِ مُمْتَنِعٌ , وَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ فَإِنَّ تَسْمِيَةَ هَذَا صِفَةً وَتَغَيُّرًا لَا يُوَافِقُهُمْ الْأَوَّلُونَ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ اللُّغَةُ أَيْضًا مُوَافِقَةً عَلَيْهِ , فَإِنَّهَا لَا تُسَمِّي قِيَامَ الْإِنْسَانِ وَقُعُودَهُ

تَغَيُّرًا لَهُ , وَلَا يُطْلَقَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ صِفَةٌ لَهُ وَإِنْ أُطْلِقَ ذَلِكَ فَالنِّزَاعُ اللَّفْظِيُّ لَا يَضُرُّ إلَّا إذَا خُولِفَتْ أَلْفَاظُ الشَّرِيعَةِ , وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ كَثِيرًا مَا يَتَنَازَعُونَ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ الْمُتَشَابِهَةِ وَقَدْ قِيلَ أَكْبَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتَرَاك الْأَسْمَاءِ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي وَصْفِ أَهْلِ الْبِدَعِ فَهُمْ مُخَالِفُونَ الْكِتَابَ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُجْتَمِعُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْحَرَكَةِ فِي الْجِهَاتِ لَيْسَتْ تَغَيُّرًا مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ; فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ; فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } ( ) فَأَمَرَ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ أَوْ اللِّسَانِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ هُوَ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِزَالَةِ صُورَتِهِ وَصِفَتِهِ بِتَحْرِيكِهِ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ , فَتَغْيِيرُ الْخَمْرِ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ نَقْلِهَا مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ , بَلْ بِإِرَاقَتِهَا أَوْ إفْسَادِهَا مِمَّا فِيهِ اسْتِحَالَةُ صُورَتِهَا وَذَلِكَ مَنْ رَأَى مَنْ يَقْتُلُ غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ تَغْيِيرُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ النَّقْلِ الَّذِي لَيْسَ

فِيهِ زَوَالُ صُورَةِ الْقَتْلِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ زَوَالِ صُورَةِ الْقِتَالِ وَكَذَلِكَ الزَّانِيَانِ وَكَذَلِكَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْبِدْعَةِ وَالدَّاعِي لَيْسَ تَغْيِيرُ هَذَا الْمُنْكَرِ بِمُجَرَّدِ التَّحْوِيلِ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ قَدْ أَمَرَ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ قَطُّ بِمُجَرَّدِ النَّقْلِ فِي الْأَحْيَازِ وَالْجِهَاتِ إذْ الْأَحْيَازُ وَالْجِهَاتُ مُتَسَاوِيَةٌ فَهُوَ مُنْكَرٌ هُنَا كَمَا أَنَّهُ مُنْكَرٌ هُنَاكَ عُلِمَ أَنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى التَّغْيِيرِ بَلْ لَا بُدَّ فِي التَّغْيِيرِ مِنْ إزَالَةِ صُورَةٍ مَوْجُودَةٍ وَإِنَّ ذَاكَ قَدْ يَحْصُلُ بِالنَّقْلِ لَكِنَّ الْعَرْضَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْحَرَكَةِ كَحَرَكَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ لَا يُسَمَّى تَغَيُّرًا بِخِلَافِ مَا يَعْرِضُ لِلْجَسَدِ مِنْ الْخَوْفِ وَالْمَرَضِ وَالْجُوعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُغَيِّرُ صِفَتَهُ .

وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ فِي تَجَلِّيهِ سُبْحَانَهُ لِلْجَبَلِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَعْنِي الدَّارِمِيَّ أَنْبَأْنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } قَالَ حَمَّادٌ هَكَذَا وَأَمْسَكَ سُلَيْمَانُ بِطَرَفِ إبْهَامِهِ عَلَى أُنْمُلَةِ أُصْبُعِهِ الْيُمْنَى قَالَ فَسَاخَ الْجَبَلُ وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } . قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ . وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ الْأَسْوَدِ . حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ العنقزي , حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ عَنْ السُّدِّيَّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } قَالَ مَا تَجَلَّى مِنْهُ إلَّا مِثْلُ الْخِنْصَرِ قَالَ فَجَعَلَهُ دَكًّا , قَالَ تُرَابًا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقَا , غُشِيَ عَلَيْهِ , فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَك تُبْت إلَيْك عَنْ أَنْ أَسْأَلَك الرُّؤْيَةَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ . قَالَ : أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِك مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ بْنِ عَاصِمٍ الْحَمَّالُ , حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ , حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَنْقَرِيُّ فَذَكَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } , قَالَ مَا تَجَلَّى مِنْهُ إلَّا مِثْلُ الْخِنْصَرِ فَجَعَلَهُ دَكًّا

قَالَ تُرَابًا . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ لَهُ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ , حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ يَعْنِي الْعَدْفَانِيَّ , حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ طَلْحَةَ فِي التَّفْسِيرِ , حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ عَنْ السُّدِّيَّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , أَنَّهُ قَالَ : تَجَلَّى مِنْهُ مِثْلُ طَرَفِ الْخِنْصَرِ فَجَعَلَهُ دَكًّا . وَالصَّفَّانِيُّ وَمِنْ فَوْقِهِ إلَى عِكْرِمَةَ رَوَى لَهُمْ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ ؟ وَعِكْرِمَةُ رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ . وَرَوَى الثَّوْرِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَبَعْضُهُمْ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فِي قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ دَاوُد : { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } قَالَ يُدْنِيهِ حَتَّى يَمَسَّ بَعْضُهُ , وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْ هَؤُلَاءِ , وَمِمَّنْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى } قَالَ ذَكَرَ الدُّنُوَّ مِنْهُ حَتَّى أَنَّهُ يَمَسُّ بَعْضَهُ , وَقَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ فعنيل عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَك رَبُّك مَقَامًا مَحْمُودًا } قَالَ : يُقْعِدُهُ مَعَهُ عَلَى الْعَرْشِ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ , حَدَّثَنَا فُضَيْلٍ بْنُ سَهْلٍ , حَدَّثَنَا

عَمْرُو بْنُ طَلْحَةَ الْقَنَّادُ , حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } قَالَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَبَّهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } فَقَالَ لَهُ عِكْرِمَةُ أَلَيْسَ تَرَى السَّمَاءَ ؟ قَالَ بَلَى . قَالَ أَفَكُلُّهَا تُرَى ؟ فَفِي هَذِهِ أَنَّ عِكْرِمَةَ أَخْبَرَ قُدَّامَ ابْنِ عَبَّاسٍ , أَنَّ إدْرَاكَ الْبَصَرِ هُوَ رُؤْيَةُ الْمُدْرَكِ كُلِّهِ دُونَ رُؤْيَةِ بَعْضِهِ , فَاَلَّذِي يَرَى السَّمَاءَ وَلَا يَرَاهَا كُلَّهَا وَلَا يَكُونُ مُدْرِكًا لَهَا , وَجَعَلَ هَذَا تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ : { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } وَأَقَرَّهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى ذَلِكَ وَمَعَ هَذَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نُقِلَ عَنْهُمْ هَذَا اللَّفْظُ فَقَدْ نُقِلَ عَنْهُمْ أَيْضًا إنْكَارُ تَبَعُّضِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , وَبَيَّنَ النَّاقِلُونَ مَعْنَى ذَلِكَ . قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْآمِلِيُّ عَنْ مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنِ حَمَّادِ بْنِ زُغْبَةَ . حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ , حَدَّثَنَا نُوحُ ابْنُ مَرْيَمَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : جَاءَ نَجْدَةُ الْحَرُورِيُّ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ يَا أَبَا عَبَّاسٍ , نَبِّئْنَا كَيْفَ مَعْرِفَتُك بِرَبِّك تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَإِنَّ مَنْ قَبْلَنَا اخْتَلَفُوا عَلَيْنَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ نَصَبَ دِينَهُ عَلَى الْقِيَاسِ لَمْ يَزَلْ الدَّهْرَ فِي الْتِبَاسٍ , مَائِلًا عَنْ الْمِنْهَاجِ ,

ظَاعِنًا فِي الِاعْوِجَاجِ , ضَالًّا عَنْ السَّبِيلِ , قَائِلًا غَيْرَ جَمِيلٍ , أَعْرِفُهُ بِمَا عَرَّفَ بِهِ نَفْسَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ . قَالَ نُعَيْمٌ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا وَأَصِفُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ , لَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ , وَلَا يُقَاسُ بِالنَّاسِ , مَعْرُوفٌ بِغَيْرِ شَبِيهٍ , وَمُتَدَانٍ فِي بُعْدِهِ . قَالَ نُعَيْمٌ : يَقُولُ هُوَ عَلَى الْعَرْشِ . وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ . لَا تُتَوَهَّمُ دَيْمُومَتُهُ وَلَا يُمَثَّلُ بِخَلِيقَتِهِ . وَلَا يَجُورُ فِي قَضِيَّةٍ . الْخَلْقُ إلَى مَا عَلِمَ مُنْقَادُونَ . وَعَلَى مَا سَطَّرَ فِي الْمَكْنُونِ مِنْ كِتَابِهِ مَاضُونَ . لَا يَعْلَمُونَ بِخِلَافِ مَا مِنْهُمْ عِلْمٌ وَلَا غَيْرُهُ . يُرِيدُونَ فَهُوَ قَرِيبٌ غَيْرُ مُلْتَزِقٍ يَعْنِي قَرِيبًا بِعِلْمِهِ وَبَعِيدًا غَيْرَ مُنْقَضٍ يُحَقِّقُ وَلَا يُمَثَّلُ وَيُوجَدُ وَلَا يُبَعَّضُ . قَالَ نُعَيْمٌ لَا يُقَالُ بَعْضُهُ عَلَى الْعَرْضِ وَبَعْضُهُ عَلَى الْأَرْضِ يُدْرَكُ بِالْآيَاتِ . وَيَثْبُتُ بِالْعَلَامَاتِ . هُوَ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . قُلْت : هَذَا الْكَلَامُ فِي صِحَّتِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَظَرٌ وَاَلَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَنُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ لَهُ مَفَارِيدُ مِنْ هَذَا النَّمَطِ . وَلَكِنْ لَا رَيْبَ أَنَّ نُعَيْمَ بْنَ حَمَّادٍ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ الَّتِي صَنَّفَهَا فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ . وَهُوَ قَدْ نَفَى تَبْعِيضَهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرَهُ . وَهَذَا مَا لَا يَسْتَرِيبُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ . وَهَذَا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ , اللَّهُ الصَّمَدُ } كَمَا قَدْ

بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِي مَوْضِعِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهَا وَلَا رَيْبَ أَنَّ لَفْظَ الْبَعْضِ وَالْجُزْءِ وَالْغَيْرِ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ فِيهَا إيهَامٌ وَإِبْهَامٌ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ ذَلِكَ عَلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَ بَعْضُهُ بَعْضًا . وَيَنْفَصِلُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ أَوْ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ . كَمَا يُقَالُ : حَدُّ الْغِيَرَيْنِ مَا جَازَ مُفَارَقَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ كَصِفَاتِ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ أَجْزَائِهَا وَأَعْرَاضِهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَتَفَرَّقَ وَتَنْفَصِلَ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مُقَدَّسٌ عَنْ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ , وَقَدْ يُرَادُ بِذَلِكَ مَا يُعْلَمُ مِنْهُ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ فَيَكُونُ الْمَعْلُومُ لَيْسَ هُوَ غَيْرُ الْمَعْلُومِ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ لَا يُفَارِقُهُ وَالتَّغَايُرُ بِهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ فَإِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَعْلَمُ وُجُودَ الْحَقِّ ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَادِرٌ ثُمَّ أَنَّهُ عَالِمٌ ثُمَّ أَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَكَذَلِكَ رُؤْيَتُهُ تَعَالَى كَالْعِلْمِ بِهِ فَمَنْ نَفَى عَنْهُ وَعَنْ صِفَاتِهِ التَّغَايُرَ وَالتَّبْعِيضَ بِهَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مُعَطِّلٌ جَاحِدٌ لِلرَّبِّ فَإِنَّ هَذَا التَّغَايُرَ لَا يَنْتَفِي إلَّا عَنْ الْمَعْدُومِ . وَهَذَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي كِتَابِ بَيَانِ تَلْبِيسِ الْجَهْمِيَّةِ فِي تَأْسِيسِ بِدَعِهِمْ الْكَلَامِيَّةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى سُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بَسْطًا بَيِّنًا وَمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ زَالَتْ عَنْهُ الشُّبُهَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ , فَقَوْلُ السَّلَفِ

وَالْأَئِمَّةِ مَا وَصَفَ اللَّهُ مِنْ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ مِنْهُ , وَعِلْمُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ وَلَهُ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَعْمَلُوا فِيهِ لَفْظَ مِنْ , وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مَعْنَاهَا التَّبْعِيضُ فَهُوَ تَبْعِيضٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَمَا يُقَالُ إنَّهُ تَغَايُرٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ثُمَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَمْتَنِعُ أَوْ يَنْفِي لَفْظَ التَّغَايُرِ وَالتَّبْعِيضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَبَعْضُ النَّاسِ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ لَفْظِ التَّغَايُرِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ لَفْظِ التَّبْعِيضِ , وَبَعْضُهُمْ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ اللَّفْظَيْنِ إذَا فَسَّرَ الْمَعْنَى وَأُزِيلَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ وَالْإِجْمَالُ الَّذِي فِي اللَّفْظِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ تَقُولُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا هُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِيهِ تَنَاقُضًا مَعْلُومًا بِالْبَدِيهَةِ ثُمَّ إنَّ الَّذِينَ يَنْفُونَ أَنْ لَا يَتَّصِفَ إلَّا بِالْمَعْدُومِ فَيَتَنَاقَضُونَ وَيُعَطِّلُونَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ كَوْنَهُ وَاحِدًا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ صِفَةٌ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ , لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْكَثْرَةَ وَالْعَدَدِيَّةَ قَالُوا وَيَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْ ثُبُوتِ عَدَدٍ وَكَثْرَةٍ فِي وَصْفٍ أَوْ قُدْرَةٍ ثُمَّ إنَّهُمْ يَضْطَرُّونَ إلَى أَنْ يَقُولُوا هُوَ قَدِيمٌ حَقٌّ رَبٌّ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يُمْكِنُ عِلْمُنَا بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ وَالْمَعْلُومُ لَيْسَ هُوَ الَّذِي لَيْسَ بِمَعْلُومٍ , وَذَلِكَ يَقْتَضِي مَا فَرُّوا مِنْهُ مِمَّا سَمُّوهُ تَعَدُّدًا وَكَثْرَةً وَتَبْعِيضًا وَتَغَايُرًا , فَهَذَا تَنَاقُضُهُمْ ثُمَّ إنْ سَلَبَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ الْمَعْدُومِ وَأَمَّا الْمَوْجُودُ فَإِمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا مُحْدَثٌ

وَإِمَّا مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا مُمْكِنٌ مُفْتَقِرٌ إلَى غَيْرِهِ وَأَنَّ الْمَوْجُودَ إمَّا قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا قَائِمٌ بِغَيْرِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تُمَيَّزُ بِهَا الْمَوْجُودَاتُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ إذْ لِكُلِّ مَوْجُودٍ حَقِيقَةٌ خَاصَّةٌ يُمَيَّزُ بِهَا يُعْلَمُ مِنْهَا شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ وَذَلِكَ هُوَ التَّبْعِيضُ وَالتَّغَايُرُ الَّذِي يُطْلِقُونَ إنْكَارَهُ وَهَذَا أَصْلُ نُفَاةِ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعَطِّلَةِ وَهُمْ كَمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ لَا يُثْبِتُونَ شَيْئًا فِي الْحَقِيقَةِ . وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الَّذِي أَقُولُ إنَّهُ إذَا نَظَرَ إلَى إسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَسَعْدٍ وَسَعِيدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَائِرِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَجَمِيعِ الْوُفُودِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَعْرِفْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إلَّا بِتَصْدِيقِ النَّبِيِّينَ وَبِإِعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَدَلَائِلِ الرِّسَالَةِ . لَا مِنْ قِبَلِ حَرَكَةٍ وَلَا سُكُونٍ وَلَا مِنْ بَابِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ وَلَا مِنْ بَابِ كَانَ وَيَكُونُ وَلَوْ كَانَ النَّظَرُ فِي الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ عَلَيْهِمْ وَاجِبًا وَفِي الْجِسْمِ وَنَفْيِهِ وَالتَّشْبِيهِ وَنَفْيِهِ لَازِمًا مَا أَضَاعُوهُ , وَلَوْ أَضَاعُوا الْوَاجِبَاتِ لَمَا نَطَقَ الْقُرْآنُ بِتَزْكِيَتِهِمْ وَتَقْدِيمِهِمْ وَلَا أَطْنَبَ فِي مَدْحِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِهِمْ مَشْهُورًا وَمِنْ أَخْلَاقِهِمْ مَعْرُوفًا لَاسْتَفَاضَ عَنْهُمْ وَاشْتَهَرُوا بِهِ كَمَا اشْتَهَرُوا بِالْقُرْآنِ وَالرِّوَايَاتِ وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا } عِنْدَهُمْ مِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { وَجَاءَ رَبُّك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } كُلُّهُمْ يَقُولُ يَنْزِلُ وَيَتَجَلَّى وَيَجِيءُ بِلَا كَيْفٍ , وَلَا يَقُولُونَ كَيْفَ يَجِيءُ وَكَيْفَ يَتَجَلَّى وَكَيْفَ يَنْزِلُ , وَفِي قَوْلِهِ { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتَجَلِّيًا لِلْجَبَلِ , وَفِي مَا يُفَسِّرُ لَك حَدِيثَ التَّنْزِيلِ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقِفَ عَلَى أَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } فَلْيَنْظُرْ فِي تَفْسِيرِ بَقِيٍّ بْنِ مَخْلَدٍ وَتَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ وَلْيَقِفْ عَلَى مَا ذَكَرَا مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ أَبْطَالِ التَّأْوِيلَاتِ لِأَخْبَارِ الصِّفَاتِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ الْخَوْلَانِيُّ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : إنَّ اللَّهَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُخَوِّفَ عِبَادَهُ أَبْدَى عَنْ بَعْضِهِ إلَى الْأَرْضِ فَعِنْدَ ذَلِكَ تُزَلْزَلُ , وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُدَمِّرَ عَلَى قَوْمٍ تَجَلَّى لَهَا قَالَ وَرَوَاهُ ابْنُ فُورَكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إذَا أَرَادَ أَنْ يُخَوِّفَ أَهْلَ الْأَرْضِ أَبْدَى عَنْ بَعْضِهِ , وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُدَمِّرَ عَلَيْهَا تَجَلَّى لَهَا ثُمَّ قَالَ أَمَّا قَوْلُهُ أَبْدَى عَنْ بَعْضِهِ فَهُوَ عَلَى

ظَاهِرِهِ وَأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الذَّاتِ إذْ لَيْسَ فِي حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ مَا يُحِيلُ صِفَاتِهِ وَلَا يُخْرِجُهَا عَمَّا تَسْتَحِقُّ . فَإِنْ قِيلَ بَلْ فِي حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ مَا يُحِيلُ صِفَاتِهِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ وَصْفُهُ بِالْكُلِّ وَالْبَعْضِ وَالْجُزْءِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى إبْدَاءِ بَعْضِ آيَاتِهِ وَعَلَامَاتِهِ تَحْذِيرًا وَإِنْذَارًا قِيلَ لَا يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ هَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُفْضِي إلَى التَّجْزِئَةِ وَالتَّبْعِيضِ , كَمَا أَطْلَقْنَا تَسْمِيَةَ يَدٍ وَوَجْهٍ لَا عَلَى وَجْهِ التَّجْزِئَةِ وَالتَّبْعِيضِ وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْيَدَ فِي الشَّاهِدِ بَعْضُ الْجُمْلَةِ قَالَ : وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ وَإِذَا أَبْدَى عَنْ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضِ آيَاتِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَحْمِلَ قَوْلَهُ أَرَادَ أَنْ يُدَمِّرَ عَلَى قَوْمٍ تَجَلَّى لَهَا عَلَى جَمِيعِ آيَاتِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُدَمِّرْ قَرْيَةً بِجَمِيعِ آيَاتِهِ لِأَنَّهُ قَدْ أَهْلَكَ بِلَادًا كُلُّ بَلَدٍ بِغَيْرِ مَا أَهْلَكَ بِهِ الْآخَرُ وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا أَخْرَجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ جَهْمٍ قَالَ فَتَأَوَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَكَذَبَ بِأَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَعَمَ أَنَّ مَنْ وَصَفَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا مِمَّا يَصِفُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ حَدَّثَ عَنْهُ رَسُولُهُ كَانَ كَافِرًا فَبَيَّنَ أَحْمَدُ فِي كَلَامِهِ أَنَّ مِنْ اللَّهِ مَا يُوصَفُ وَأَنَّهُ يُوصَفُ بِذَلِكَ فَذَلِكَ مَوْصُوفٌ وَالرَّبُّ مَوْصُوفٌ بِهِ وَهَذَا كَلَامٌ سَدِيدٌ , فَإِنَّ اللَّهَ فِي كَلَامِهِ وَصَفَ مَا وَصَفَ مِنْ

عِلْمِهِ وَكَلَامِهِ وَخَلْقِهِ بِيَدَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي وَصَفَهَا وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ صِفَاتٍ فَإِنَّ الصِّفَةَ أَصْلُهَا وَصْفَةٌ مِثْلُ جِهَةٍ أَصْلُهَا وُجْهَةٌ وَعِدَةٌ وَزِنَةٌ أَصْلُهَا وَعْدَةٌ وَوَزْنَةٌ وَهَذَا الْمِثَالُ وَهُوَ فِعْلُهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرًا كَالْعِدَّةِ وَالْوَعْدِ فَكَذَلِكَ الصِّفَةُ وَمُوصِفٌ وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِمْ , حِلْيَةٌ وَوِجْهَةٌ وَشِرْعَةٌ وَبِدْعَةٌ فَإِنَّ فِعْلًا يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ { بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } أَيْ بِمَذْبُوحٍ وَالشِّرْعَةُ الْمَشْرُوعَةُ وَالْبِدْعَةُ وَالْوَجْهُ هِيَ الْجِهَةُ الَّتِي يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا , فَكَذَلِكَ قَدْ يُقَالُ فِي لَفْظِ الصِّفَةِ إنْ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ الْمَصْدَرِ أَنَّهُمَا الْمَوْصُوفَةُ . وَعَلَى هَذَا يَنُبْنِي نِزَاعُ النَّاسِ هَلْ الْوَصْفُ وَالصِّفَةُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ بِمَعْنَى الْأَقْوَالِ ثُمَّ اسْتَعْمَلَا فِي الْمَعَانِي تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ إذْ الْوَصْفُ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ الْمَصْدَرُ وَالصِّفَةُ هِيَ الْمَفْعُولُ الَّذِي يُوصَفُ بِالْقَوْلِ وَأَكْثَرُ الصِّفَاتِيَّةِ عَلَى هَذَا الثَّانِي , وَقَوْلُهُمْ أَيْضًا يَصِحُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ كَمَا كُنَّا نُقْرِرْهُ قَبْلَ ذَلِكَ , إذْ أَهْلُ الْعُرْفِ قَدْ يَخُصُّونَ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ بِالنَّقْلِ دُونَ الْآخَرِ , لَكِنْ تَقْرِيرُ قَوْلِهِمْ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ كَمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا . فَقَوْلُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ : فَمَنْ وَصَفَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا مِمَّا يَصِفُ بِهِ نَفْسَهُ فَالشَّيْءُ الْمَوْصُوفُ هُوَ الصِّفَةُ كَعِلْمِهِ

وَيَدَيْهِ , وَهَذِهِ الصِّفَةُ الْمَوْصُوفَةُ وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ أَيْ أَخْبَرَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَأَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ , كَقَوْلِهِ : { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } وَقَوْلُهُ : { مَا مَنَعَك أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْت بِيَدَيَّ } . ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ : فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَنْ تَعْبُدُونَ ؟ قَالُوا : نَعْبُدُ مَنْ يُدَبِّرُ أَمْرَ هَذَا الْخَلْقِ . فَقُلْنَا : هَذَا الَّذِي يُدَبِّرُ أَمْرَ هَذَا الْخَلْقِ هُوَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ بِصِفَةٍ ؟ قَالُوا : نَعَمْ , فَقُلْنَا : قَدْ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّكُمْ لَا تَأْتَمُّونَ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا تَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ الشُّنْعَةَ بِمَا تُظْهِرُونَ إلَى أَنْ قَالَ لَهُمْ فَقَدْ جَمَعْتُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ لَفْظِهِ بَيْنَ كُفْرٍ وَتَشْبِيهٍ فَتَعَالَى عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ إلَى قَوْلِهِ قَالَ فَقَالُوا : لَا تَكُونُونَ مُوَحِّدِينَ أَبَدًا حَتَّى تَقُولُوا قَدْ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ , فَقُلْنَا نَحْنُ نَقُولُ قَدْ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ , وَلَكِنْ إذَا قُلْنَا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ كُلِّهَا أَلَيْسَ إنَّمَا نَصِفُ إلَهًا وَاحِدًا بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ وَضَرَبْنَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَثَلًا فَقُلْنَا أَخْبِرُونَا عَنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَلَيْسَ لَهَا جِذْعٌ وَكَرَبٌ وَلِيفٌ وَسَعَفٌ وَخُوصٌ وَجُمَّارٌ وَاسْمُهَا اسْمُ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَسُمِّيَتْ نَخْلَةً بِجَمِيعِ صِفَاتِهَا فَكَذَلِكَ اللَّهُ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ إلَهٌ وَاحِدٌ لَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَعْلَمُ حَتَّى خَلَقَ فَعَلِمَ وَاَلَّذِي لَا يَعْلَمُ هُوَ جَاهِلٌ وَلَكِنْ نَقُولُ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا قَادِرًا مَالِكًا

لَا مَتَى وَلَا كَيْفَ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ رَجُلًا كَافِرًا اسْمُهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ فَقَالَ : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْت وَحِيدًا } وَقَدْ كَانَ اللَّهُ سَمَّاهُ وَحِيدًا لَهُ عَيْنَانِ وَأُذُنَانِ وَلِسَانٌ وَشَفَتَانِ وَيَدَانِ وَرِجْلَانِ وَجَوَارِحُ كَثِيرَةٌ , فَقَدْ سَمَّاهُ وَحِيدًا بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ فَكَذَلِكَ اللَّهُ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى هُوَ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ إلَهٌ وَاحِدٌ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَا لَا يُعْرَفُ بِصِفَةٍ فَهُوَ مُعْدَمٌ وَهَذَا حَقٌّ وَبَيِّنٌ أَنَّهُ مُتَعَالٍ عَنْ الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهُ بِهَا الْجَهْمِيَّةُ وَذَكَرَ أَنَّهُ إذَا قُلْنَا لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ كُلِّهَا إنَّمَا نَصِفُ إلَهًا وَاحِدًا وَبَيَّنَ أَنَّ النَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ يُسَمَّى وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ لَهُ صِفَاتٌ هِيَ كَالْجِذْعِ وَالْكَرَبِ مِنْ النَّخْلَةِ , وَكَالْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ الْإِنْسَانِ فَالرَّبُّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ لَهُ صِفَاتٌ , إذْ هُوَ أَحَقُّ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَاسْمُ الْوَاحِدِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي قَدْ تَتَفَرَّقُ صِفَاتُهَا وَتَتَبَعَّضُ وَتَكُونُ مُرَكَّبَةً مِنْهَا , وَالرَّبُّ تَعَالَى " أَحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ " وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ سَمَّى هَذِهِ الْأُمُورَ صِفَاتٍ أَيْضًا . وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّإِ بَعْدَ أَنْ قَالَ : أَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِيمَانِ بِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ , إلَّا أَنَّهُمْ يُكَيِّفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ

وَلَا يَجِدُونَ فِيهِ صِفَةً مَحْصُورَةً . وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ كُلُّهَا وَالْخَوَارِجُ فَكُلُّهُمْ يُنْكِرُهَا وَلَا يَحْمِلُ شَيْئًا مِنْهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ , وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَا مُشَبِّهٌ وَهُمْ عِنْدَ مَنْ أَقَرَّ بِهَا نَافُونَ لِلْمَعْبُودِ بِلَا سَوْفٍ , وَالْحَقُّ فِيمَا قَالَهُ الْقَائِلُونَ بِمَا يَنْطِقُ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَهُمْ أَئِمَّةُ الْجَمَاعَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ . رَوَى حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَهْبٍ يَقُولُ سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ : مَنْ وَصَفَ شَيْئًا مِنْ ذَاتِ اللَّهِ مِثْلَ قَوْلِهِ { وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } فَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى عُنُقِهِ , وَمِثْلُ قَوْلِهِ { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } فَأَشَارَ إلَى عَيْنِهِ وَأُذُنِهِ أَوْ شَيْئًا مِنْ يَدَيْهِ قُطِعَ ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّهُ شَبَّهَ اللَّهَ بِنَفْسِهِ , ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ : أَمَا سَمِعْت قَوْلَ الْبَرَاءِ حِينَ حَدَّثَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُضَحِّي بِأَرْبَعٍ مِنْ الضَّحَايَا وَأَشَارَ الْبَرَاءُ بِيَدِهِ كَمَا أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْبَرَاءُ وَيَدَيَّ أَقْصَرُ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَكَرِهَ الْبَرَاءُ أَنْ يَصِفَ يَدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إجْلَالًا لَهُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ فَكَيْفَ الْخَالِقُ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ انْتَهَى . وَالْمَقْصُودُ قَوْلُهُ مَنْ وَصَفَ شَيْئًا مِنْ ذَاتِ اللَّهِ فَجَعَلَ الْمَوْصُوفَ مِنْ ذَاتِ اللَّهِ وَغَالِبُ كَلَامِ السَّلَفِ عَلَى هَذَا , كَقَوْلِ عَبْدِ

الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ نَظِيرُ مَالِكٍ فِي كَلَامِهِ الْمَشْهُورِ فِي الصِّفَاتِ . وَقَدْ رَوَاهُ بِالْإِسْنَادِ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ وَأَبُو عَمْرٍو الطَّلْمَنْكِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي كُتُبِهِمْ وَغَيْرِهِمْ قَالَ : أَمَّا بَعْدَ فَقَدْ فَهِمْت مَا سُئِلْت فِيمَا تَتَابَعَتْ الْجَهْمِيَّةُ وَمَنْ خَلَفَهَا فِي صِفَةِ الرَّبِّ الْعَظِيمِ الَّذِي فَاقَتْ عَظَمَتُهُ الْوَصْفَ وَالتَّقْدِيرَ وَكَلَّتْ الْأَلْسُنُ عَنْ تَفْسِيرِ صِفَتِهِ وَانْحَسَرَتْ الْعُقُولُ دُونَ مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ رُدَّتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولُ فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغًا فَرَجَعَتْ خَاسِئَةً وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِالنَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِيمَا خَلَقَ بِالتَّقْدِيرِ وَإِنَّمَا يُقَالُ كَيْفَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَرَّةً ثُمَّ كَانَ فَأَمَّا الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ وَلَمْ يَزَلْ وَلَيْسَ لَهُ مَثَلٌ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ إلَّا هُوَ , وَكَيْفَ يَعْرِفُ قَدْرَ مَنْ لَمْ يَبْدَأْ وَمَنْ لَا يَمُوتُ وَلَا يَبْلَى وَكَيْفَ يَكُونُ لِصِفَةِ شَيْءٍ مِنْهُ حَدٌّ أَوْ مُنْتَهًى يَعْرِفُهُ عَارِفٌ أَوْ يَحُدُّ قَدْرَهُ وَاصِفٌ , عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ لَا حَقَّ أَحَقُّ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ أَبَيْنَ مِنْهُ . الدَّلِيلُ عَلَى عَجْزِ الْعُقُولِ عَنْ تَحْقِيقِ صِفَتِهِ عَجْزُهَا عَنْ تَحْقِيقِ صِفَةٍ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ لَا تَكَادُ تَرَاهُ صَغِيرًا يَحُولُ وَيَزُولُ وَلَا يُرَى لَهُ سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ لِمَا يَتَقَلَّبُ بِهِ وَيَحْتَالُ مِنْ عَقْلِهِ أَعْضَلَ بِك وَأَخْفَى عَلَيْك مِمَّا ظَهَرَ مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وَخَالِقُهُمْ وَسَيِّدُ السَّادَةِ وَرَبُّهُمْ لَيْسَ

كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ,
الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ ثُبُوتَ الْكَلَامِ لِلَّهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ أَثْبَتُّمُوهُ بِالْإِجْمَاعِ وَالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَيْتُمْ أَنَّهُ مَعْنَى كَلَامِ اللَّهِ لَمْ يَظْهَرْ فِي الْأُمَّةِ إلَّا مِنْ حِينِ حُدُوثِ ابْنِ كُلَّابٍ ثُمَّ الْأَشْعَرِيِّ بَعْدَهُ إذْ قَبْلَ قَوْلِ ابْنِ كُلَابٍ لَا يُعْرَفُ فِي الْأُمَّةِ أَحَدٌ فَسَّرَ كَلَامَ اللَّهِ بِهَذَا وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي الْقُرْآنِ وَذَكَرَ أَقْوَالًا كَثِيرَةً فَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقَوْلَ إلَّا عَنْ ابْنِ كُلَّابٍ وَجَعَلَ لَهُ تَرْجَمَةً فَقَالَ وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كُلَابٍ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كُلَّابٍ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ صِفَةٌ لَهُ قَائِمَةٌ بِهِ وَإِنَّهُ قَدِيمٌ بِكَلَامِهِ وَإِنَّ كَلَامَهُ قَائِمٌ بِهِ كَمَا إنَّ الْعِلْمَ قَائِمٌ بِهِ وَالْقُدْرَةَ قَائِمَةٌ بِهِ وَهُوَ قَدِيمٌ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ وَلَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَجَزَّأُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَلَا تَتَغَايَرُ وَإِنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّ الرَّسْمَ هُوَ الْحُرُوفُ الْمُتَغَايِرَةُ وَهُوَ قِرَاءَةُ الْقَارِئِ وَإِنَّهُ خَطَأٌ أَنْ يُقَالَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ هُوَ أَوْ بَعْضَهُ أَوْ غَيْرَهُ وَإِنَّ الْعِبَارَاتِ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ تَخْتَلِفُ وَتَتَغَايَرُ وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمُخْتَلِفٍ وَلَا مُتَغَايِرٍ . كَمَا أَنَّ ذِكْرَنَا لِلَّهِ مُخْتَلِفٌ وَمُتَغَايِرٌ

وَالْمَذْكُورُ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَغَايَرُ وَإِنَّمَا سُمِّيَ كَلَامُ اللَّهِ عَرَبِيًّا لِأَنَّ الرَّسْمَ الَّذِي هُوَ الْعِبَارَةُ عَنْهُ وَهُوَ قِرَاءَتُهُ عَرَبِيٌّ فَسُمِّيَ عَرَبِيًّا لِعِلَّةٍ وَكَذَلِكَ سُمِّيَ عِبْرَانِيًّا لِعِلَّةٍ وَكَذَلِكَ سُمِّيَ أَمْرًا لِعِلَّةٍ وَسُمِّيَ نَهْيًا لِعِلَّةٍ وَخَبَرًا لِعِلَّةٍ وَلَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا قَبْلَ أَنْ يُسَمَّى كَلَامُهُ أَمْرًا وَقَبْلَ وُجُودِ الْعِلَّةِ الَّتِي بِهَا سُمِّيَ أَمْرًا وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَسْمِيَتِهِ نَهْيًا وَخَبَرًا وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْبَارِي لَمْ يَزَلْ مُخْبِرًا وَلَمْ يَزَلْ نَاهِيًا ثُمَّ يُقَالُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْهُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعْنًى خَفِيٌّ مُشْكِلٌ مُتَنَازَعٌ فِي وُجُودِهِ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ بِالْأَدِلَّةِ الْخَفِيَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاَلَّذِينَ نَقَلُوا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ وَيَأْمُرُ وَيَنْهَى وَاَلَّذِينَ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى الْخَفِيَّ الْمُشْكِلَ الَّذِي لَيْسَ يُتَصَوَّرُ بِحَالٍ أَوْ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِشِدَّةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ إنَّهُمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى نَقْلِ هَذَا الْمَعْنَى وَالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ إنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى ثُبُوتِ مَعْنًى لَا يَفْهَمُونَهُ وَنَقَلُوا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ وَيَقُولُ وَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَى لَفْظِ الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ فَإِنَّ هَذَا أَيْضًا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ وَإِذَا بَطَلَ الْقِسْمَانِ عَلَى أَنَّ الَّذِي

انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ وَنَقَلَهُ أَهْلُ التَّوَاتُرِ عَنْ الْمُرْسَلِينَ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ كَلَامًا دُونَ هَذَا الْمَعْنَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ وَعَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَبِمِثْلِ هَذَا الْوَجْهِ يَبْطُلُ أَيْضًا مَذْهَبُ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّ كَوْنَ الْكَلَامِ يَكُونُ مُنْفَصِلًا عَنْ الْمُتَكَلِّمِ قَائِمًا بِغَيْرِهِ مِمَّا لَا تَعْرِفُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ أَنَّهُ يَكُونُ كَلَامًا لِلْمُتَكَلِّمِ وَإِنْ أُثْبِتَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِأَدِلَّةٍ خَفِيَّةٍ مُشْكِلَةٍ وَإِذَا كَانَ أَهْلُ التَّوَاتُرِ نَقَلُوا أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَجُزْ إرَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى عُلِمَ أَنَّ التَّوَاتُرَ وَالْإِجْمَاعَ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ حُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ وَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِهِ كَلَامُهُ وَإِنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ .

الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ : إنَّهُمْ قَدْ ذَكَرُوا حُجَّتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَإِذَا تَدَبَّرَهَا الْإِنْسَانُ عَلِمَ فَسَادَهَا وَبِنَاءَهَا عَلَى أَصْلٍ فَاسِدٍ , وَتَنَاقُضَهُمْ فِيهَا , قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ أَمْرُهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ هُوَ نَهْيُهُ عَنْ الْكُفْرِ وَأَمْرُهُ بِالصَّلَاةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ هُوَ نَهْيُهُ عَنْ الصَّلَاةِ إلَيْهِ فِي وَقْتٍ غَيْرِهِ . قَالَ : وَكَذَلِكَ يَقُولُ إنَّ مَدْحَهُ الْمُؤْمِنَ عَلَى إيمَانِهِ بِكَلَامِهِ الَّذِي هُوَ ذَمٌّ لِلْكَافِرِينَ وَلَا يَتَغَيَّرُ الْقَوْلُ بِتَغَايُرِ كَلَامِهِ وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ بَلْ نَقُولُ فِيهِ كَمَا نَقُولُ فِي عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ , فَنَقُولُ إنَّ عِلْمَهُ بِوُجُودِ الْمَوْجُودِ هُوَ عِلْمُهُ بِعَدَمِهِ إذَا عُدِمَ وَقُدْرَتُهُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُوجِدَهُ هِيَ قُدْرَتُهُ عَلَيْهِ فِي حَالِ إيجَادِهِ وَلَا يُقَالُ إنَّهَا قُدْرَةٌ عَلَيْهِ فِي حَالِ بَقَائِهِ وَرُؤْيَتِهِ لِآدَمَ وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ هِيَ رُؤْيَتُهُ لَهُ هُوَ فِي الدُّنْيَا وَسَمْعُهُ لِكَلَامِ زَيْدٍ هُوَ سَمْعُهُ لِكَلَامِ عَمْرٍو مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ وَاخْتِلَافٍ فِي شَيْءٍ مِنْ أَوْصَافِهِ وَنُعُوتِهِ لِذَاتِهِ . وَقَالَ : فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَعْقِلُ كَلَامَ وَاحِدٍ يَجْمَعُ أَوْصَافًا مُخْتَلِفَةً حَتَّى يَكُونَ أَمْرًا نَهْيًا خَبَرًا اسْتِخْبَارًا وَوَعْدًا وَوَعِيدًا قِيلَ يَعْقِلُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِقِدَمِهِ الْمَانِعِ مِنْ كَوْنِهِ مُتَغَايِرًا مُخْتَلِفًا عَلَى خِلَافِ كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ كَمَا يَعْقِلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَلَا أَجْزَاءٍ وَلَا آلَاتٍ

وَاَلَّذِي أَوْجَبَ كَوْنَهُ كَذَلِكَ قِدَمُهُ وَوَجَبَ مُخَالَفَتُهُ لِلْمُتَكَلِّمِينَ الْمُحَدِّثِينَ , وَإِنْ كَانَ لَا يَعْقِلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَجَزَّأُ فِي الْمُحْدَثَاتِ فَيُقَالُ لَهُ هَذَا لَيْسَ جَوَابًا عَنْ السُّؤَالِ فَإِنَّ السَّائِلَ قَالَ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ مُخْتَلِفًا . فَإِنَّ هَذَا مِثْلَ قَوْلِ النَّصَارَى هُوَ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ ثَلَاثَةُ جَوَاهِرَ , وَمَا ذَكَرَهُ إنَّمَا هُوَ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِ مَا ادَّعَاهُ لَيْسَ جَوَابًا عَنْ الْمُعَارَضَةِ وَهَذِهِ عَادَةُ ابْنِ فُورَكٍ وَأَصْحَابِهِ فَإِنَّهُ لَمَّا نُوظِرَ قُدَّامَ مَحْمُودِ بْنِ سبكتكين أَمِيرِ الْمَشْرِقِ فَقِيلَ لَهُ لَوْ وُصِفَ الْمَعْدُومُ لَمْ يُوصَفْ إلَّا بِمَا وَصَفْت بِهِ الرَّبَّ مِنْ كَوْنِهِ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ كَتَبَ إلَى أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي ذَلِكَ , وَلَمْ يَكُنْ جَوَابُهُمَا إلَّا أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَارِجَ الْعَالَمِ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا , فَأَجَابُوا لِمَنْ عَارَضَهُمْ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ بِدَعْوَى الْحُجَّةِ . قُلْت : فَنَظَرُهُ كَذَلِكَ فِي هَذَا الْمُقَامِ , فَإِنَّ كَوْنَ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَعَدُّدَ وَلَا تَغَايُرَ أَصْلًا يَكُونُ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً هُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَذَلِكَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ , فَإِذَا قُبِلَ لِلشَّخْصِ , هَذَا الْكَلَامُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ هَلْ يَكُونُ جَوَابُهُ أَنْ يُقِيمَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ بَلْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ بَدِيهَةَ الْعَقْلِ وَضَرُورَتَهُ وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا

يُمَكَّنُ أَحَدٌ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِحَقٍّ فَإِنَّ الْبَدِيهَاتِ لَا تَكُونُ بَاطِلَةً بَلْ الْقَدْحُ فِيهَا سَفْسَطَةٌ وَهُمْ دَائِمًا يُنْكِرُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ مُخَالَفَتَهُمْ مَا هُوَ دُونَ هَذَا كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِهِ .
وَذَكَرَ طَوَائِفَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ كَابْنِ الزَّاغُونِيِّ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ جَمِيعًا يَقُولُونَ بِالِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ , لَكِنْ الِاتِّحَادُ فِي الْمَسِيحِ وَالْحُلُولُ فِي مَرْيَمَ , فَقَالُوا : اتَّفَقَتْ طَوَائِفُ النَّصَارَى عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَقَانِيمِ جَوْهَرٌ خَاصٌّ يَجْمَعُهَا الْجَوْهَرُ الْعَامُّ وَذَكَرُوا اخْتِلَافًا بَيْنَهُمْ ثُمَّ قَالُوا وَزَعَمُوا أَنَّ الْجَوْهَرَ هُوَ الْأَبُ وَالْأَقَانِيمُ الْحَيَاةُ وَهِيَ رُوحُ الْقُدُسِ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَأَنَّ اللَّهَ اتَّحَدَ بِأَحَدِ الْأَقَانِيمِ الَّذِي هُوَ الِابْنُ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَكَانَ مَسِيحًا عِنْدَ الِاتِّحَادِ لَاهُوتِيًّا وَنَاسُوتِيًّا حُمِلَ وَوُلِدَ وَنَشَأَ وَقُتِلَ وَصُلِبَ وَدُفِنَ . ثُمَّ ذَكَرُوا الْيَعْقُوبِيَّةَ والنسطورية وَالْمَلَكِيَّةَ . قَالَ النَّاقِلُونَ عَنْهُمْ وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَلِمَةِ الْمُلْقَاةِ إلَى مَرْيَمَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنَّ الْكَلِمَةَ حَلَّتْ فِي مَرْيَمَ حُلُولَ الْمُمَازَجَةِ كَمَا يَحِلُّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ فَيُمَازِجُهُ وَيُخَالِطُهُ , وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنَّهَا حَلَّتْ فِي مَرْيَمَ مِنْ غَيْرِ مُمَازَجَةٍ وَزَعَمَتْ طَائِفَةٌ مِنْ النَّصَارَى أَنَّ اللَّاهُوتَ مَعَ النَّاسُوتِ كَمِثْلِ الْخَاتَمِ مَعَ الشَّمْعِ يُؤَثِّرُ فِيهِ بِالنَّقْشِ ثُمَّ لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا أَثَرٌ فِيهِ , ثُمَّ

ذَكَرَ هَؤُلَاءِ عَنْهُمْ فِي الِاتِّحَادِ نَحْوَ مَا حَكَى الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا قَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ فِي الِاتِّحَادِ اتِّحَادًا مُتَبَايِنًا . فَزَعَمَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَنَّ الِاتِّحَادَ هُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ الِابْنُ حَلَّتْ قَبْلَ جَسَدِ الْمَسِيحِ وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ وَزَعَمَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَنَّ الِاتِّحَادَ هُوَ الِاخْتِلَاطُ وَالِامْتِزَاجُ , وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْيَعْقُوبِيَّةِ هُوَ أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ انْقَلَبَتْ لَحْمًا وَدَمًا بِالِاتِّحَادِ , وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْيَعْقُوبِيَّةِ والنسطورية الِاتِّحَادُ هُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ وَالنَّاسُوتَ اخْتَلَطَا فَامْتَزَجَا كَاخْتِلَاطِ الْمَاءِ بِالْخَمْرِ وَالْخَمْرِ بِاللَّبَنِ وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَنَّ الِاتِّحَادَ هُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ وَالنَّاسُوتَ اتَّحَدَا فَصَارَا هَيْكَلًا وَمَحَلًّا . وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ الِاتِّحَادُ مِثْلُ ظُهُورِ صُورَةِ الْإِنْسَانِ فِي الْمِرْآةِ وَالطَّابَعِ فِي الْمَطْبُوعِ مِثْلُ الْخَاتَمِ فِي الشَّمْعِ , وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ الْكَلِمَةُ اتَّحَدَتْ بِجَسَدِ الْمَسِيحِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا حَلَّتْهُ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ وَلَا مُمَازَجَةٍ كَمَا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الْعَرْشِ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ وَلَا مُمَازَجَةٍ . وَقَالَ الْمَلَكِيَّةُ الِاتِّحَادُ هُوَ أَنَّ الِاثْنَيْنِ صَارَا وَاحِدًا وَصَارَتْ الْكَثْرَةُ قِلَّةً فَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّحَدَا حَتَّى صَارَا شَيْئًا وَاحِدًا وَاَلَّذِينَ قَالُوا هُمَا جَوْهَرٌ وَاحِدٌ لَهُ طَبِيعَتَانِ فَيَقُولُونَ هُوَ وَلَدُهُ بِمَنْزِلَةِ الشُّعَاعِ الْمُتَوَلِّدِ عَنْ الشَّمْسِ ,

وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِجَوْهَرَيْنِ وَطَبِيعَتَيْنِ وَأُقْنُومَيْنِ مَعَ الرَّبِّ قَالُوا ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ إنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَ لَهُمْ لَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ مَعَ إخْبَارِهِ أَنَّ النَّصَارَى افْتَرَقُوا وَأُلْقِيَ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ بِقَوْلِهِ : { وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ } . وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ هَذَا إخْبَارٌ بِتَفَرُّقِهِمْ إلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَقِبَ قَوْلِهِ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّ هَؤُلَاءِ اتَّخَذُوهُ وَلَدًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } وَذَكَرَ أَيْضًا مَا يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُمْ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ مِنْ الشِّرْكِ , فَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اُعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاَللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ الشِّرْكِ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فَلَا يَخُصُّونَهُ بِالْمَسِيحِ بَلْ يُثْبِتُونَ

أَنَّ لَهُ وُجُودًا وَهُوَ الْأَبُ لَيْسَ هُوَ الْكَلِمَةَ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ فَإِنَّ عِبَادَتَهُمْ إيَّاهُ مَعَهُ إشْرَاكٌ وَذَلِكَ مَضْمُومٌ إلَى قَوْلِهِ إنَّهُ هُوَ وَقَوْلِهِمْ إنَّهُ وَلَدُهُ وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْ هَذَا وَهَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ , نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ الشَّرِيكِ وَالْوَلَدِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } وَقَالَ تَعَالَى : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مِلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَا تَنْطَبِقُ عَلَى مَا ذُكِرَ فَإِنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُمَا اتَّحَدَا وَصَارَا شَيْئًا وَاحِدًا يَقُولُونَ أَيْضًا إنَّمَا اتَّحَدَ الْكَلِمَةُ الَّتِي هِيَ الِابْنُ . وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ هُمَا جَوْهَرٌ وَاحِدٌ لَهُ طَبِيعَتَانِ يَقُولُونَ إنَّ الْمَسِيحَ إلَهٌ وَإِنَّهُ اللَّهُ وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ حَلَّ فِيهِ يَقُولُونَ حَلَّتْ فِيهِ الْكَلِمَةُ الَّتِي هِيَ الِابْنُ وَهِيَ اللَّهُ أَيْضًا بِوَجْهٍ آخَرَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ اللَّهَ وَاللَّاهُوتَ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ وَجَسَدِ الْمَسِيحِ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ النَّصَارَى لَا يَجْعَلُ لَاهُوتَ الْمَسِيحِ وَنَاسُوتَهُ

إلَهَيْنِ وَيَفْصِلُ النَّاسُوتَ عَنْ اللَّاهُوتِ بَلْ سَوَاءٌ قَالَ بِالِاتِّحَادِ أَوْ بِالْحُلُولِ فَهُوَ تَابِعٌ لِلَّاهُوتِ , وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ عَنْ النَّصَارَى { وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ } { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } . قَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَوْلُ النَّصَارَى بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ إلَهٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلُهُمْ بِالْجَوْهَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَهُ الْأَقَانِيمُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي يَجْعَلُونَهَا ثَلَاثَةَ جَوَاهِرَ وَثَلَاثَةَ أَقَانِيمَ أَيْ ثَلَاثَةَ صِفَاتٍ وَخَوَاصَّ , وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ هُوَ اللَّهُ وَابْنُ اللَّهِ هُوَ الِاتِّحَادُ وَالْحُلُولُ , فَيَكُونُ عَلَى هَذَا تِلْكَ الْآيَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ تَثْلِيثُ الْأَقَانِيمِ , وَهَاتَانِ فِي قَوْلِهِمْ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ , فَالْقُرْآنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ رَدَّ فِي كُلِّ آيَةٍ عَلَى صِنْفٍ مِنْهُمْ , وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ جَعْلُهُمْ لِلْمَسِيحِ إلَهًا , وَلِأُمِّهِ إلَهًا مَعَ اللَّهِ , كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْت لِلنَّاسِ اتَّخَذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَك مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } إلَى قَوْلِهِ : { مَا قُلْت لَهُمْ إلَّا مَا أَمَرْتنِي بِهِ أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } الْآيَةَ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إلَهٍ إلَّا إلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلَا يَتُوبُونَ إلَى اللَّهِ

وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ } فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } عَقِبَ قَوْلِهِ : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّثْلِيثَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ اتِّخَاذُ الْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ وَأُمُّهُ إلَهَيْنِ , وَهَذَا وَاضِحٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ حَكَى مِنْ النَّصَارَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْحُلُولِ فِي مَرْيَمَ وَالِاتِّحَادِ بِالْمَسِيحِ , وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى تَحْقِيقِ مَذْهَبِهِمْ . وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ كُلُّ آيَةٍ مِمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَقْوَالِ تَعُمُّ جَمِيعَ طَوَائِفِهِمْ , وَتَعُمُّ أَيْضًا بِتَثْلِيثِ الْأَقَانِيمِ , وَبِالِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ , فَتَعُمُّ أَصْنَافَهُمْ وَأَصْنَافَ كُفْرِهِمْ , لَيْسَ يَخْتَصُّ كُلَّ آيَةٍ بِصِنْفٍ , كَمَا قَالَ مَنْ يَزْعُمُ ذَلِكَ , وَلَا تَخْتَصُّ آيَةٌ بِتَثْلِيثِ الْأَقَانِيمِ , وَآيَةٌ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ , بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي كُلِّ آيَةٍ كُفْرَهُمْ الْمُشْتَرَكَ , وَلَكِنْ وَصَفَ كُفْرَهُمْ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ وَكُلُّ صِفَةٍ تَسْتَلْزِمُ الْأُخْرَى : أَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْمَسِيحَ هُوَ اللَّهُ , وَيَقُولُونَ هُوَ ابْنُ اللَّهِ , وَيَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ , حَيْثُ اتَّخَذُوا الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ , هَذَا بِالِاتِّحَادِ , وَهَذِهِ بِالْحُلُولِ , وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ إثْبَاتُ ثَلَاثَةِ آلِهَةٍ مُنْفَصِلَةٍ غَيْرِ الْأَقَانِيمِ . وَهَذَا

يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ كُفْرِ النَّصَارَى , وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْإِلَهُ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ لَهُ ثَلَاثُ أَقَانِيمَ , وَهَذِهِ الْأَقَانِيمُ يَجْعَلُونَهَا تَارَةً جَوَاهِرَ وَأَشْخَاصًا , وَتَارَةً صِفَاتٍ وَخَوَاصًّا , فَيَقُولُونَ : الْوُجُودُ الَّذِي هُوَ الْأَبُ , وَالِابْنُ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ , وَرُوحُ الْقُدُسِ الَّتِي هِيَ الْحَيَاةُ عِنْدَ مُتَقَدِّمِيهِمْ , وَالْقُدْرَةُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِيهِمْ . فَيَقُولُونَ مَوْجُودٌ حَيٌّ عَالِمٌ نَاطِقٌ أَوْ مَوْجُودٌ عَالِمٌ قَادِرٌ . لَكِنْ يَقُولُونَ أَيْضًا إنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ الِابْنُ جَوْهَرٌ , وَرُوحُ الْقُدُسِ أَيْضًا جَوْهَرٌ , وَأَنَّ الْمُتَّحِدَ بِالْمَسِيحِ هُوَ جَوْهَرُ الْكَلِمَةِ دُونَ جَوْهَرِ الْأَبِ وَرُوحِ الْقُدُسِ وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ فِيهِ . وَمِنْ هُنَا قَالُوا كُلُّهُمْ الْمَسِيحُ هُوَ اللَّهُ , وَقَالُوا كُلُّهُمْ هُوَ ابْنُ اللَّهِ , لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَبَ وَالِابْنَ وَرُوحَ الْقُدُسِ إلَهٌ وَاحِدٌ وَجَوْهَرٌ وَاحِدٌ وَقَدْ اتَّحَدَ بِالْمَسِيحِ كَانَ الْمَسِيحُ هُوَ اللَّهُ , وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَبَ جَوْهَرٌ وَالِابْنُ جَوْهَرٌ وَرُوحُ الْقُدُسِ جَوْهَرٌ وَاَلَّذِي اتَّحَدَ بِهِ هُوَ جَوْهَرُ الِابْنِ الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ , كَانَ الْمَسِيحُ هُوَ ابْنَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ - وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَضَمِّنًا لِكُفْرِهِمْ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُمَا مُتَنَاقِضَانِ , إذْ كَوْنُهُ هُوَ يُنَاقِضُ كَوْنَهُ ابْنَهُ , لَكِنْ النَّصَارَى يَقُولُونَ هَذَا كُلُّهُمْ , وَيَقُولُونَ هَذَا كُلُّهُمْ , كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ , وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُمْ مَعْلُومَ التَّنَاقُضِ فِي

بَدِيهَةِ الْعُقُولِ , عِنْدَ كُلِّ مَنْ تَصَوَّرَهُ , فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقَانِيمَ إذَا كَانَتْ صِفَاتٍ أَوْ خَوَّاصًا وَقُدِّرَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ لَهُ بِكُلِّ صِفَةٍ اسْمٌ كَمَا مَثَّلُوهُ بِقَوْلِهِمْ " زَيْدٌ الطَّبِيبُ " " وَزَيْدٌ الْحَاسِبُ " " وَزَيْدٌ الْكَاتِبُ " لَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَتَّحِدُ بِشَيْءٍ دُونَ الْجَوْهَرِ , وَلَا أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الصِّفَاتِ يُفَارِقُ بَعْضًا فَلَا يُتَصَوَّرُ مُفَارَقَةُ بَعْضِهَا بَعْضًا وَلَا مُفَارَقَةُ شَيْءٍ مِنْهَا لِلْمَوْصُوفِ حَتَّى يُقَالَ الْمُتَّحِدُ بِالْمَسِيحِ بَعْضُ هَذِهِ الصِّفَاتِ , وَهُمْ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ أَيْضًا بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُتَّحَدَ بِهِ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَوْهَرٌ إلَّا جَوْهَرَ الْأَبِ كَانَ جَوْهَرُ الْأَبِ هُوَ الْمُتَّحِدَ , وَإِنْ كَانَ جَوْهَرُ الِابْنِ غَيْرَهُ فَهُمَا جَوْهَرَانِ مُنْفَصِلَانِ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ . وَالْمَوْصُوفُ أَيْضًا لَا يُفَارِقُ صِفَاتِهِ , كَمَا لَا تُفَارِقُهُ , فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : اتَّحَدَ الْجَوْهَرُ بِالْمَسِيحِ بِأُقْنُومِ الْعِلْمِ دُونَ الْحَيَاةِ , إذْ الْعِلْمُ وَالْحَيَاةُ لَازِمَانِ لِلذَّاتِ , لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تُفَارِقَهُمَا الذَّاتُ وَلَا يُفَارِقَهُمَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا , وَمِنْ هُنَا قِيلَ : النَّصَارَى غَلِطُوا فِي أَوَّلِ مَسْأَلَةٍ مِنْ الْحِسَابِ الَّذِي يَعْلَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ , , وَهُوَ قَوْلُهُمْ الْوَاحِدُ ثَلَاثَةٌ . وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ : أَحَدِيُّ الذَّاتِ , ثُلَاثِيٌّ الصِّفَاتِ , فَهُمْ لَا يَكْتَفُونَ بِذَلِكَ - كَمَا تَقَدَّمَ - بَلْ يَقُولُونَ الثَّلَاثَةُ جَوَاهِرُ وَالْمُتَّحِدُ بِالْمَسِيحِ وَاحِدٌ مِنْهَا دُونَ الْآخَرِ

, وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَهُمْ عَلَى قَوْلٍ يُعْقَلُ فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلَ , كَقَوْلِ الْمُتَكَايِسِينَ مِنْهُمْ هَذَا كَمَا تَقُولُ : زَيْدٌ الطَّبِيبُ , وَزَيْدٌ الْحَاسِبُ , وَزَيْدٌ الْكَاتِبُ فَهُمْ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ بِاعْتِبَارِ الصِّفَاتِ , وَهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ , فَإِنَّهُ يُقَالُ : مَنْ يَقُولُ هَذَا لَا يَقُولُ بِأَنَّ زَيْدًا الطَّبِيبَ فَعَلَ كَذَا أَوْ اتَّحَدَ بِكَذَا أَوْ حَلَّ بِهِ دُونَ زَيْدٍ الْحَاسِبِ وَالْكَاتِبِ , بَلْ أَيُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ أَوْ وُصِفَ بِهِ زَيْدٌ الطَّبِيبُ فِي هَذَا الْمِثَالِ فَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِهِ زَيْدٌ الْكَاتِبُ الْحَاسِبُ . وَالنَّصَارَى يُثْبِتُونَ هَذَا الْمُثَلَّثَ فِي الْأَقَانِيمِ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ الْمُتَّحِدَ هُوَ الْوَاحِدُ فَيَجْعَلُونَ الْمَسِيحَ هُوَ اللَّهَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْمَوْصُوفُ اتَّحَدَ بِهِ , وَيَجْعَلُونَهُ هُوَ ابْنَ اللَّهِ , لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا اتَّحَدَ بِهِ الْجَوْهَرُ الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ , أَوْ إنَّمَا اتَّحَدَ بِهِ الْكَلِمَةُ دُونَ الْأَبِ الَّذِي هُوَ الْمَوْجُودُ , وَدُونَ رُوحِ الْقُدُسِ وَهُمَا أَيْضًا جَوْهَرَانِ , فَقَدْ تَبَيَّنَّ أَنَّ قَوْلَ النَّصَارَى بِهَذَا وَبِهَذَا جَمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ , وَهُوَ أَفْسَدُ شَيْءٍ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ , وَكُلٌّ مِنْهُمَا كُفْرٌ كَمَا كَفَّرَهُمْ اللَّهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ , فَإِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَعْبُدُونَ الْأُمَّ الَّتِي هِيَ وَالِدَةُ الْإِلَهِ عِنْدَهُمْ , وَهَذَا كُفْرٌ آخَرُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ غَيْرُ تَثْلِيثِ الْأَقَانِيمِ وَالِاتِّحَادِ بِالْمَسِيحِ , فَالْقُرْآنُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَصْنَافِ كُفْرِهِمْ فِي

هَذَا الْبَابِ تَنَاوُلًا تَامًّا , وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مُضَاهَاةِ الْجَهْمِيَّةِ لَهُمْ دُونَ تَفْصِيلِ الْكَلَامِ عَلَيْهِمْ . وَالْجَهْمِيَّةُ الْغِلَاظُ يُضَاهُونَهُمْ مُضَاهَاةً عَظِيمَةً , لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا ذِكْرُ مُضَاهَاةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ ; فَيُقَالُ : أَنْتُمْ قُلْتُمْ الْكَلَامَ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَخْتَلِفُ , وَهَذَا الْمَعْنَى الْوَاحِدُ هُوَ بِعَيْنِهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ , فَجَعَلْتُمْ الْوَاحِدَ ثَلَاثَةً , وَجَعَلْتُمْ الْوَاحِدَ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ ثَلَاثَ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً , وَهَذَا مُضَاهَاةٌ قَوِيَّةٌ لِقَوْلِ النَّصَارَى : الرَّبُّ إلَهٌ وَاحِدٌ , وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ جَوَاهِرَ , فَجَعَلُوهُ وَاحِدًا . وَجَعَلُوهُ ثَلَاثَةً , ثُمَّ قُلْتُمْ : هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ وَهُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ , يَنْزِلُ تَارَةً فَيَكُونُ أَمْرًا ; وَتَارَةً فَيَكُونُ خَبَرًا , وَتَارَةً فَيَكُونُ نَهْيًا ; وَإِذَا نَزَلَ فَكَانَ أَمْرًا , لَمْ يَكُنْ خَبَرًا , وَإِنَّمَا نَزَلَ فَكَانَ خَبَرًا لَمْ يَكُنْ أَمْرًا ; فَإِنَّهُ إذَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ فَكَانَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَهِيَ خَبَرٌ لَمْ يَكُنْ آيَةَ الدَّيْنِ الَّتِي هِيَ أَمْرٌ , وَهَذَا لَعَلَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُضَاهَاةِ كَقَوْلِ النَّصَارَى : إنَّ الْجَوْهَرَ الْوَاحِدَ الَّذِي هُوَ ثَلَاثَةُ جَوَاهِرَ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ , وَإِذَا اتَّحَدَ فَإِنَّمَا يَكُونُ كَلِمَةً وَابْنًا لَا يَكُونُ أَبًا وَلَا رُوحَ قُدُسٍ , فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَمَا جَعَلُوا الشَّيْءَ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ يَتَّحِدُ وَلَا يَتَّحِدُ مَا يَتَّحِدُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ كَلِمَةً

, وَلَا يَتَّحِدُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ وُجُودًا , أَجَعَلَ أُولَئِكَ الَّذِي هُوَ كَلَامٌ وَاحِدٌ يَنْزِلُ وَلَا يَنْزِلُ , يَنْزِلُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أَمْرًا , وَلَا يَنْزِلُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ خَبَرًا . وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ ضَاهَوْا النَّصَارَى فِي تَحْرِيفِ مُسَمَّى الْكَلِمَةِ وَالْكَلَامِ . فَإِنَّ الْمَسِيحَ سُمِّيَ كَلِمَةَ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ بِكَلِمَتِهِ : { كُنْ فَيَكُونُ } , كَمَا يُسَمَّى مُتَعَلِّقُ الصِّفَاتِ بِأَسْمَائِهَا فَيُسَمَّى الْمَقْدُورُ قُدْرَةً , وَالْمَعْلُومُ عِلْمًا , وَمَا يُرْحَمُ بِهِ رَحْمَةً , وَالْمَأْمُورُ بِهِ أَمْرًا وَهَذَا كَثِيرٌ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ , لَكِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ نَادِرَةٌ يَجْعَلُونَهَا صِفَةً لِلَّهِ , وَيَقُولُونَ هِيَ الْعِلْمُ , وَتَارَةً يَجْعَلُونَهَا جَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ , وَهِيَ الْمُتَّحِدُ بِالْمَسِيحِ , وَهَؤُلَاءِ حَرَّفُوا مُسَمَّى الْكَلِمَةِ فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ الْمَعْنَى , وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَلَا الْإِرَادَةَ , وَلَا هُوَ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ , وَلَكِنْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ , وَهُوَ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ , لَكِنْ لَيْسَ فِي غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ الْكَلَامُ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ ; إلَّا مَا يُذْكَرُ عَنْ النَّظَّامِ أَنَّهُ قَالَ : الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ الصَّوْتُ جِسْمٌ مِنْ الْأَجْسَامِ . وَأَيْضًا فَهُمْ فِي لَفْظِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ حُرُوفُهُ وَاشْتِمَالُهُ عَلَى الْمَعْنَى لَهُمْ مُضَاهَاةٌ قَوِيَّةٌ بِالنَّصَارَى فِي جَسَدِ الْمَسِيحِ الَّذِي هُوَ مُتَدَرِّعٌ لِلَّاهُوتٍ , فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ بَلْ

هِيَ مَخْلُوقَةٌ , كَمَا أَنَّ النَّصَارَى مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ جَسَدَ الْمَسِيحِ لَمْ يَكُنْ مِنْ اللَّاهُوتِ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ , ثُمَّ يَقُولُونَ : الْمَعْنَى الْقَدِيمُ لَمَّا أُنْزِلَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ الْمَخْلُوقَةِ , فَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الْحُرُوفَ كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً كَمَا يُسَمِّي الْمَعْنَى كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ هِيَ كَلَامُ اللَّهِ مَجَازًا , كَمَا أَنَّ النَّصَارَى مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ جَسَدَ الْمَسِيحِ لَاهُوتًا حَقِيقَةً لِاتِّحَادِهِ بِاللَّاهُوتِ , وَاخْتِلَاطِهِ بِهِ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ مَحَلُّ اللَّاهُوتِ وَوِعَاؤُهُ . ثُمَّ النَّصَارَى تَقُولُ : هَذَا الْجَسَدُ إنَّمَا عُبِدَ لِكَوْنِهِ مَظْهَرَ اللَّاهُوتِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ إيَّاهُ , وَلَكِنْ صَارَ هُوَ إيَّاهُ بِطَرِيقِ الِاتِّحَادِ , وَهُوَ مَحَلُّهُ بِطَرِيقِ الْحُلُولِ , فَعُظِّمَ كَذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : هَذِهِ الْحُرُوفُ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا , وَلَكِنْ خَلَقَهَا وَأَظْهَرَ بِهَا الْمَعْنَى الْقَدِيمَ وَدَلَّ بِهَا عَلَيْهِ , فَاسْتَحَقَّتْ الْإِكْرَامَ وَالتَّحْرِيمَ لِذَلِكَ , حَيْثُ يَدْخُلُ فِي حُكْمِهِ بِحَيْثُ لَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا , أَوْ يُفْصَلُ بِأَنْ يُقَالَ : هَذَا مُظْهَرٌ هَذَا دَلِيلُهُ , وَجَعَلُوا مَا لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ وَلَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ قَطُّ كَلَامًا لِلَّهِ مُعَظَّمًا تَعْظِيمَ كَلَامِ اللَّهِ , كَمَا جَعَلَتْ النَّصَارَى النَّاسُوتَ الَّذِي لَيْسَ هُوَ بِإِلَهٍ قَطُّ , وَلَا هُوَ الْكَلِمَةُ إلَهًا وَكَلِمَةً , وَعَظَّمُوهُ تَعْظِيمَ الْإِلَهِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ عِنْدَهُمْ . وَمِنْهَا : أَنَّ النَّصَارَى

عَلَى مَا حَكَى عَنْهُمْ الْمُتَكَلِّمُونَ كَابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ أَوْ غَيْرِهِ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ وَيَقُولُونَ : إنَّ الْأَقَانِيمَ الَّتِي هِيَ الْوُجُودُ وَالْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ , هِيَ خَوَاصُّ , هِيَ صِفَاتٌ نَفْسِيَّةٌ لِلْجَوْهَرِ , لَيْسَتْ صِفَاتٍ زَائِدَةً عَلَى الذَّاتِ , وَيَقُولُونَ : إنَّ الْكَلِمَةَ هِيَ الْعِلْمُ , لَيْسَتْ هِيَ كَلَامَ اللَّهِ , فَإِنَّ كَلَامَهُ صِفَةُ فِعْلٍ , وَهُوَ مَخْلُوقٌ , فَقَوْلُهُمْ فِي هَذَا كَقَوْلِ نُفَاةِ الصِّفَاتِ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ , الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ , وَهَذَا يَكُونُ قَوْلَ بَعْضِهِمْ مِمَّنْ خَاطَبَهُمْ مُتَكَلِّمُو الْجَهْمِيَّةِ مِنْ النَّسْطُورِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ , وَمِمَّنْ تَفَلْسَفَ مِنْهُمْ عَلَى مَذْهَبِ نُفَاةِ الصِّفَاتِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ , وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ , وَإِلَّا فَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي النَّصَارَى مُثَبِّتَةً لِلصِّفَاتِ , بَلْ غَالِيَةً فِي ذَلِكَ , كَمَا أَنَّ الْيَهُودَ أَيْضًا فِيهِمْ الْمُثْبِتَةُ وَالنَّفَّات . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ تَسْمِيَتَهُمْ لِلْعِلْمِ كَلِمَةً دُونَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ , ثُمَّ ذَلِكَ الْعِلْمُ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا مَعْقُولًا , كَمَا تُعْقَلُ الصِّفَاتُ الْقَائِمَةُ بِالْمَوْصُوفِ , ضَاهَاهُمْ فِي ذَلِكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْكَلَامُ هُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ دُونَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ , ثُمَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ الْمَعْقُولَ مِنْ مَعَانِي الْكَلَامِ , فَحَرَّفُوا اسْمَ الْكَلَامِ وَمَعْنَاهُ , كَمَا حَرَّفَتْ النَّصَارَى اسْمَ الْكَلِمَةِ وَمَعْنَاهَا , وَهَذَا الْكَلَامُ ذَكَرْته مِنْ مُضَاهَاةِ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . [ وَقَدْ ] رَأَيْت بَعْدَ ذَلِكَ

النَّاسَ قَدْ نَبَّهُوا عَلَى ذَلِكَ , قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزَّاغُونِيِّ : فِي مَسْأَلَةِ وَحْدَةِ الْكَلَامِ دَلِيلٌ آخَرُ , يُقَالُ لَهُمْ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَكُمْ فِي قَوْلِكُمْ إنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ اثْنَانِ وَهُمَا وَاحِدٌ , وَالْقَوْلُ بِذَلِكَ قَوْلٌ صَحِيحٌ غَيْرُ مُنَافٍ لِلصِّحَّةِ وَالْإِمْكَانِ , وَبَيْنَ مَنْ قَالَ : إنَّ الْكَلِمَةَ وَالنَّاسُوتَ وَاللَّاهُوتَ ثَلَاثَةٌ وَاحِدٌ , فَإِنَّ هَذَا مِمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى قُبْحِهِ شَرْعًا وَعَقْلًا , مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْكَلِمَةَ غَيْرُ النَّاسُوتِ وَاللَّاهُوتِ , وَكَذَلِكَ الْآخَرَانِ صِفَةٌ وَمَعْنًى , كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ يُخَالِفُ النَّهْيَ صِفَةً وَمَعْنًى ؟ قَالَ : وَهَذَا مِمَّا لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ , وَلَا انْفِصَالَ لَهُمْ مِنْهُ إلَّا بِزَخَارِفَ عَاطِلَةٍ عَنْ صِحَّةٍ لَا يَصْلُحُ مِثْلُهَا أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً تُوقَفُ مَعَهَا . وَقَدْ قَالَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ قَبْلَ ذَلِكَ لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ عَيْنَ الْأَمْرِ هُوَ النَّهْيُ , مَعَ كَوْنِ الْأَمْرِ يُخَالِفُ النَّهْيَ فِي وَصْفِهِ وَمَعْنَاهُ , فَإِنَّ الْأَمْرَ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ , وَالنَّهْيُ اسْتِدْعَاءُ التَّرْكِ , وَمَوْضُوعُ الْأَمْرِ إنَّمَا يُرَادُ مِنْهُ تَحْصِيلُ مَا يُرَادُ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ , وَمَوْضُوعُ النَّهْيِ يُرَادُ مِنْهُ مُجَانَبَةُ مَا يُكْرَهُ إمَّا بِطَرِيقِ التَّحْرِيمِ أَوْ الْكَرَاهَةِ وَالتَّنْزِيهِ ; وَمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ , وَمَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ يَقْتَضِي الْفَسَادَ , إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِدَلِيلٍ يَتَّصِلُ بِهِ أَوْ يَنْفَصِلُ عَنْهُ , وَكَذَلِكَ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَقْتَضِيَ النَّهْيُ الصِّحَّةَ إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ

بِدَلِيلٍ يَتَّصِلُ بِهِ . وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نُهِيَ عَنْهُ لِكَوْنِهِ مَحْبُوبًا عِنْدَ النَّاهِي عَنْهُ , وَالْمَأْمُورُ بِهِ أَمَرَ بِهِ لِكَوْنِهِ مَبْغُوضًا عِنْدَ الْآمِرِ بِهِ , لَكَانَ هَذَا قَوْلًا بَاطِلًا يَشْهَدُ الْعَقْلُ بِفَسَادِهِ , وَيُعْرَفُ جَرْيُ الْعَادَةُ عَلَى خِلَافِهِ , وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ وَعَيْنِهِ غَيْرَ النَّهْيِ بِنَفْسِهِ وَعَيْنِهِ , وَلَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ ذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِهِ غَيْرُ مُسَوَّغٍ حُصُولُهُ لَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا مُمْكِنًا . قُلْت : مَا ذَكَرَهُ مِنْ فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ كَمَا ذَكَرَهُ لَكِنْ يُقَالُ لَهُ وَلِمَنْ وَافَقَهُ : وَأَنْتُمْ أَيْضًا قَدْ قُلْتُمْ فِي مُقَابَلَةِ هَؤُلَاءِ مَا هُوَ فِي الْفَسَادِ ظَاهِرٌ , كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْحُرُوفِ وَالصَّوْتِ , قَالُوا : إذَا قُلْتُمْ إنَّ الْقُرْآنَ صَوْتٌ نُدْرِكُهُ بِأَسْمَاعِنَا , وَاَلَّذِي نُدْرِكُهُ بِأَسْمَاعِنَا عِنْدَ تِلَاوَةِ التَّالِي إنَّمَا هُوَ صَوْتُهُ الَّذِي يَحْدُثُ عَنْهُ , وَهُوَ عَرَضٌ وُجِدَ بَعْدَ عَدَمِهِ وَعُدِمَ بَعْدَ وُجُودِهِ , وَهُوَ مِمَّا يَقُومُ بِهِ وَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ حَرَكَاتِهِ . فَإِنْ قُلْتُمْ : هَذَا هُوَ الْقَدِيمُ , فَنَقُولُ لَكُمْ : هَذَا هُوَ صَوْتُ اللَّهِ , فَإِنْ قُلْتُمْ : نَعَمْ , فَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّا نَعْلَمُهُ وَنَتَحَقَّقُهُ صَوْتُ الْقَارِئِ , وَإِنْ قُلْتُمْ : إنَّهُ صَوْتُ الْقَارِئِ , فَقَدْ أَقْرَرْتُمْ بِأَنَّهُ مُحْدَثٌ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِكُمْ . قَالَ : قُلْنَا : قَوْلُكُمْ إنَّ الصَّوْتَ الَّذِي نُدْرِكُهُ بِأَسْمَاعِنَا عِنْدَ تِلَاوَةِ التَّالِي لِلْقُرْآنِ إنَّمَا هُوَ صَوْتُهُ الَّذِي يَحْدُثُ

عَنْهُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ هُوَ دَعْوَى مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ . بَلْ نَقُولُ : إنَّ هَذَا الَّذِي نُدْرِكُهُ بِأَسْمَاعِنَا عِنْدَ تِلَاوَةِ التَّالِي هُوَ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ , فَلَا نُسَلِّمُ لَكُمْ مَا قُلْتُمْ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الْعَدَمِ وَالْوُجُودِ بَعْدَ الْعَدَمِ , وَالْفِنَاءِ بَعْدَ الْوُجُودِ , لَيْسَ لِأَمْرٍ كَذَلِكَ بَلْ نَقُولُ : إنَّهُ ظَهَرَ عِنْدَ حَرَكَاتِ التَّالِي بِالْآيَةِ فِي مَحَلِّ قُدْرَتِهِ , فَأَمَّا عَدَمُهُ قَبْلُ وَبَعْدُ , فَلَا . وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : إنَّهُ يَتَعَذَّرُ بِحَرَكَاتِهِ فَقَدْ أَسْلَفْنَا الْجَوَابَ عَنْهُ . وَأَمَّا سُؤَالُكُمْ لَنَا : هَلْ هَذَا الَّذِي نَسْمَعُهُ صَوْتُ اللَّهِ تَعَالَى ؟ أَمْ صَوْتُ الْآدَمِيِّ ؟ فَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا جَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا قُلْنَا إنَّهُ ظَهَرَ عِنْدِ حَرَكَاتِ آلَاتِ الْآدَمِيِّ فِي مَحَلِّ قُدْرَتِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ فَإِنَّمَا هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ , وَلَيْسَ هُوَ بِالْعَبْدِ وَلَا مِنْهُ , وَلَا هُوَ مُضَافٌ إلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ التَّوَلُّدِ وَالِانْفِعَالِ وَنَتَائِجِ الْعَقْلِ , وَإِنَّمَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَدْرِ مَا تُوجِبُهُ الْإِضَافَةُ , وَاَلَّذِي تُوجِبُهُ الْإِضَافَةُ أَنْ يَكُونَ قُرْآنًا وَكَلَامًا لِلَّهِ . وَقَدْ اتَّفَقْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ قَدِيمٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ , فَوَجَبَ لِذَلِكَ أَنْ نَقُولَ : إنَّ مَا يَصِلُ إلَى السَّمْعِ هُوَ صَوْتُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ لِلْعَبْدِ فِيهِ , وَهُوَ جَوَابٌ حَسَنٌ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي ثَبَتَ بِالْأَدِلَّةِ الْجَلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ . وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ قَالُوا : لَمَّا جَرَتْ

الْعَادَةُ أَنَّ زِيَادَةَ الْأَصْوَاتِ تَكْثُرُ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاعْتِمَادَاتِ , وَقَدْ يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي الْأَدَاءِ , فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْقُرْآنُ عَلَى وَجْهٍ لَا زِيَادَةَ فِيهِ , بَلْ هُوَ كَافٍ فِي إيصَالِهِ إلَى السَّمْعِ عَلَى وَجْهٍ , فَإِنْ نَقَصَ لَمْ يَصِلْ وَإِنْ زَادَ أَكْثَرَ مِنْهُ وَصَلَ عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ , إمَّا فِي وَاقِعِ رَفْعِ الصَّوْتِ وَإِمَّا فِي الْأَدَاءِ مِنْ الْمَدِّ وَالْهَمْزِ وَالتَّشْدِيدِ , إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حِلْيَةِ التِّلَاوَةِ , وَتَصْفِيَةِ الْأَدَاءِ بِالْقُوَّةِ وَالتَّحْسِينِ , فَمَا لَا غِنَاءَ عَنْهُ فِي تَحْصِيلِ الِاسْتِمَاعِ وَتَكْمِلَةِ الْفَهْمِ فَذَلِكَ هُوَ الْقَدِيمُ , وَمَا قَارَنَهُ مِمَّا اقْتَضَى الزِّيَادَةَ فِي ذَلِكَ مِمَّا لَوْ أُسْقِطَ لَمَا أَثَّرَ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الِاسْتِمَاعِ وَالْفَهْمِ فَذَلِكَ مُضَافٌ إلَى الْعَبْدِ . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ اقْتَرَنَ الْقَدِيمُ بِالْمُحْدَثِ عَلَى وَجْهٍ يَعْسُرُ تَمْيِيزُهُ إلَّا بَعْدَ التَّلَفُّظِ وَالتَّأَنِّي فِي التَّدَبُّرِ لِيَصِلَ بِذَلِكَ إلَى مَقَامِ الْفَهْمِ وَالتَّبْيِينِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ , وَهُوَ عِنْدَ الْوُصُولِ إلَيْهِ يَمْضِي الْعَقْلُ بِتَحْصِيلِ مَطْلُوبِهِ . قُلْت : دَعْوَى أَنَّ هَذَا الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْعَبْدِ , أَوْ بَعْضَهُ , هُوَ صَوْتُ اللَّهِ , أَوْ هُوَ قَدِيمٌ , بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ مُخَالِفَةٌ لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ لَمْ يَقُلْهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ , بَلْ أَنْكَرَهَا أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ , وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ الطَّوَائِفِ . وَهِيَ أَقْبَحُ وَأَنْكَرُ مِنْ قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا :

لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ , فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَقُولُوا صَوْتُنَا وَلَا قَالُوا قَدِيمٌ , وَمَعَ هَذَا فَقَدْ اشْتَدَّ نَكِيرُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَلَيْهِمْ , وَتَبْدِيعُهُ لَهُمْ , وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ صَاحِبُهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا جَمَعَ فِيهِ مَقَالَاتِ عُلَمَاءِ الْوَقْتِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ , مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ , عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ ; وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةُ , وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ عَنْ أَصْحَابِهِ إنَّمَا هُمْ أَتْبَاعُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي ذَلِكَ , فَإِنَّ هَذَا تَصَرُّفُ الْقَاضِي وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ . وَقَدْ كَانَ ابْنُ حَامِدٍ يَقُولُ : إنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ عَلَى مَا ذُكِرَ عَنْهُ , وَالْقَاضِي , أَنْكَرَ هَذَا كَمَا ثَبَتَ إنْكَارُهُ عَنْ أَحْمَدَ , وَذَهَبَ فِي إنْكَارِ ذَلِكَ إلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ وَابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يُقَالَ لَفَظْت بِالْقُرْآنِ , وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُلْفَظُ , قَالُوا : لِأَنَّ الْقَدِيمَ لَا يُلْفَظُ إذْ اللَّفْظُ هُوَ الطَّرْحُ وَالرَّمْيُ , وَلَكِنْ يُتْلَى أَوْ يُقْرَأُ . فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ لَمَّا ذَكَرَ فِي مَقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ مَنَعُوا أَنْ يُقَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ , وَكَانَ هُوَ وَأَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ مُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ خُصُوصًا , وَإِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ عُمُومًا فِي السُّنَّةِ , وَالْإِنْكَارُ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ كَمَا اُشْتُهِرَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ

فِي زَمَانِهِ وَافَقُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَفَسَّرُوهُ بِكَرَاهَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ وَوَافَقَهُمْ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي ذَلِكَ . ثُمَّ إنَّ الْقَاضِيَ وَأَتْبَاعَهُ يَقُولُونَ : أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ; وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ : أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ مَعَ دَعْوَى الطَّائِفَتَيْنِ اتِّبَاعَ أَحْمَدَ . وَقَدْ صَنَّفَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ الْمَشْهُورُ , وَكَانَ فِي عَصْرِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِيّ الْفَقِيهِ وَفِي بَلَدِهِ , مُصَنَّفًا يَتَضَمَّنُ إنْكَارَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْمَسْمُوعَ صَوْتُ اللَّهِ , وَأَبْطَلَ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ , وَكَانَ مَا قَامَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ قِيَامًا لِغَرَضِ رَدِّ هَذِهِ الْبِدْعَةِ وَإِنْكَارِهَا , وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَعُلَمَائِهِمْ , وَمِنْ أَعْلَمْ عُلَمَاءِ وَقْتِهِ بِالْحَدِيثِ وَالْآثَارِ .
242 - 242 - 158 - سُئِلَ : الْمُصَافَحَةُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ : هَلْ هِيَ سُنَّةٌ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . الْمُصَافَحَةُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ لَيْسَتْ مَسْنُونَةً , بَلْ هِيَ بِدْعَةٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

327 - 327 - 15 - مَسْأَلَةٌ : فِي التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَبِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , مِمَّا هُوَ مِنْ أَفْعَالِهِ , وَأَفْعَالِ الْعِبَادِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي حَقِّهِ , فَهُوَ مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَكَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَتَوَسَّلُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ , وَتَوَسَّلُوا بَعْدَ مَوْتِهِ بِالْعَبَّاسِ عَمِّهِ كَمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : اللَّهُمَّ إنِّي أَتَوَسَّلُ إلَيْكَ بِهِ , فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ قَوْلَانِ , كَمَا لَهُمْ فِي الْحَلِفِ بِهِ قَوْلَانِ , وَجُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ : كَمَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسُوغُ الْحَلِفُ بِهِ , كَمَا لَا يَسُوغُ الْحَلِفُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ , وَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ , وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ , وَلِذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْسَكِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِلْمَرْوَزِيِّ صَاحِبِهِ إنَّهُ يَتَوَسَّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ , وَلَكِنْ غَيْرُ أَحْمَدَ قَالَ : إنَّ هَذَا إقْسَامٌ عَلَى اللَّهِ بِهِ , وَلَا يُقْسَمُ عَلَى اللَّهِ بِمَخْلُوقٍ , وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ قَدْ جَوَّزَ الْقَسَمَ بِهِ , فَلِذَلِكَ جَوَّزَ التَّوَسُّلَ بِهِ , وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى عَنْهُ هِيَ قَوْلُ جُمْهُورِ

الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ بِهِ , فَلَا يُقْسَمُ عَلَى اللَّهِ بِهِ كَسَائِرِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ , فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ قَالَ إنَّهُ يُقْسِمُ عَلَى اللَّهِ , كَمَا لَمْ يَقُولُوا إنَّهُ يُقْسَمُ بِهِمْ مُطْلَقًا . وَلِهَذَا أَفْتَى أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ عَلَى اللَّهِ بِأَحَدٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ , لَكِنْ ذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ فِي الْإِقْسَامِ بِهِ , فَقَالَ : إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ كَانَ خَاصًّا بِهِ , وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِقْسَامِ بِهِ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ وَإِلَّا فَلْيَصْمُتْ } " . وَقَالَ : { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } " . وَالدُّعَاءُ عِبَادَةٌ , وَالْعِبَادَةُ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوْقِيفِ وَالِاتِّبَاعِ , لَا عَلَى الْهَوَى وَالِابْتِدَاعِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَتَمَامُ تَزْكِيَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَظْهَرُ بِالْكَلَامِ فِي الْمَقَامِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ كَائِنًا مَنْ كَانَ : " الرِّضَا أَنْ لَا تَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَا تَسْتَعِيذَهُ مِنْ النَّارِ " . وَتَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ مُقَدِّمَةٌ تَبَيَّنَ بِهَا أَصْلُ مَا وَقَعَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالِاضْطِرَابِ . وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ , وَالْمُتَصَوِّفَةِ , وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَغَيْرِهِمْ , ظَنُّوا أَنَّ الْجَنَّةَ التَّنَعُّمَ بِالْمَخْلُوقِ , مِنْ أَكْلٍ , وَشُرْبٍ , وَنِكَاحٍ , وَلِبَاسٍ , وَسَمَاعِ أَصْوَاتٍ طَيِّبَةٍ , وَشْمِ رَوَائِحَ طَيِّبَةٍ , وَلَمْ يُدْخِلُوا فِي مُسَمَّى الْجَنَّةِ نَعِيمًا غَيْرَ ذَلِكَ , ثُمَّ صَارُوا ضَرْبَيْنِ : ضَرْبٌ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ , كَمَا ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرُهُمْ , وَمِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّ بِالرُّؤْيَةِ إمَّا الرُّؤْيَةُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ , وَإِمَّا بِرُؤْيَةٍ فَسَّرُوهَا بِزِيَادَةِ كَشْفٍ أَوْ عِلْمٍ , أَوْ جَعَلَهَا بِحَاسَّةٍ سَادِسَةٍ , وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَهَبَ إلَيْهَا ضِرَارُ بْنُ عَمْرٍو , وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى نَصْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ , وَإِنْ كَانَ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ جِنْسِ مَا تَنْفِيهِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالضَّرَارِيَّةُ . وَالنِّزَاعُ بَيْنَهُمْ لَفْظِيٌّ , وَنِزَاعُهُمْ مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ مَعْنَوِيٌّ . وَلِهَذَا كَانَ بِشْرٌ وَأَمْثَالُهُ

يُفَسِّرُونَ الرُّؤْيَةَ بِنَحْوٍ مِنْ تَفْسِيرِ هَؤُلَاءِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مُثْبِتَةَ الرُّؤْيَةِ مِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ يُنَعَّمُ بِنَفْسِ رُؤْيَتِهِ رَبَّهُ . قَالُوا : لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْمُحْدَثِ وَالْقَدِيمِ , كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ فِي الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ , وَكَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْوَفَا بْنُ عَقِيلٍ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ , وَنَقَلُوا عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ : أَسْأَلُك لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك . فَقَالَ : يَا هَذَا هَبْ أَنَّ لَهُ وَجْهًا . أَلَهُ وَجْهٌ يُتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ , وَذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لَهُمْ نَعِيمًا بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ مُقَارِنًا لِلرُّؤْيَةِ , فَأَمَّا النَّعِيمُ بِنَفْسِ الرُّؤْيَةِ فَأَنْكَرَهُ , وَجَعَلَ هَذَا مِنْ أَسْرَارِ التَّوْحِيدِ . وَأَكْثَرُ مُثْبَتِي الرُّؤْيَةِ يُثْبِتُونَ تَنَعُّمَ الْمُؤْمِنِينَ بِرُؤْيَةِ رَبِّهِمْ , وَهُوَ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَمَشَايِخِ الطَّرِيقِ , كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي النَّسَائِيّ وَغَيْرِهِ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اللَّهُمَّ بِعِلْمِك الْغَيْبَ , وَقُدْرَتِك عَلَى الْخَلْقِ , أَحْيِنِي إذَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي , وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي , اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَشْيَتَك فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ , وَأَسْأَلُك كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا , وَأَسْأَلُك الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى , وَأَسْأَلُك نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ , وَقُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ , وَأَسْأَلُك الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَا , وَبَرْدَ الْعَيْشِ

بَعْدَ الْمَوْتِ , وَأَسْأَلُك لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك , وَأَسْأَلُك الشَّوْقَ إلَى لِقَائِك مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةً , وَلَا فِتْنَةً مُضِلَّةً , اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ , عَنْ صُهَيْبٍ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ . فَيَقُولُونَ : مَا هُوَ ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا , وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا , وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ , وَيُجِرْنَا مِنْ النَّارِ , قَالَ : فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ . فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ } . وَكُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ أَحَبَّ , كَانَتْ اللَّذَّةُ بِنَيْلِهِ أَعْظَمَ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَمَشَايِخِ الطَّرِيقِ . كَمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : " لَوْ عَلِمَ الْعَابِدُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ لَذَابَتْ نُفُوسُهُمْ فِي الدُّنْيَا شَوْقًا إلَيْهِ " . وَكَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَافَقُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ وَالْمَشَايِخَ عَلَى التَّنَعُّمِ بِالنَّظَرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى , تَنَازَعُوا فِي مَسْأَلَةِ الْمَحَبَّةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ ذَلِكَ , فَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ نَفْسَهُ , وَإِنَّمَا الْمَحَبَّةُ مَحَبَّةُ طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ , وَقَالُوا : هُوَ أَيْضًا لَا يُحِبُّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ , وَإِنَّمَا مَحَبَّتُهُ إرَادَتُهُ

لِلْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَوِلَايَتُهُمْ , وَدَخَلَ فِي هَذَا الْقَوْلِ مَنْ انْتَسَبَ إلَى نَصْرِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ , حَتَّى وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ , وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى , وَأَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ , وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ . وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ شُعْبَةٌ مِنْ التَّجَهُّمِ وَالِاعْتِزَالِ , فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَنْكَرَ الْمَحَبَّةَ فِي الْإِسْلَامِ : الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ أُسْتَاذُ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ , فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسَرِيُّ , وَقَالَ : " أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ , فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ " . فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمُ خَلِيلًا , وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا , ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ . وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ , وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَمَشَايِخُ الطَّرِيقِ , أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ وَيُحَبُّ , وَلِهَذَا وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَنْ تَصَوَّفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ , كَأَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ , وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ , وَأَمْثَالِهِمَا , وَنَصَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ فِي الْإِحْيَاءِ وَغَيْرِهِ , وَكَذَلِكَ أَبُو الْقَاسِمِ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الرِّسَالَةِ عَلَى طَرِيقِ الصُّوفِيَّةِ , كَمَا فِي كِتَابِ أَبِي طَالِبٍ الْمُسَمَّى " بِقُوتِ الْقُلُوبِ " . وَأَبُو حَامِدٍ مَعَ كَوْنِهِ تَابَعَ فِي ذَلِكَ الصُّوفِيَّةُ , اسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ لِمَا وَجَدَهُ مِنْ كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ إثْبَاتِ نَحْوِ ذَلِكَ حَيْثُ قَالُوا : يَعْشِقُ وَيُعْشَقُ . وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ

عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْعَظِيمَةِ فِي الْقَوَاعِدِ الْكِبَارِ بِمَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } . وَقَالَ : { أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا , وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ , وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَجَهِّمَةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ , يَلْزَمُهُمْ أَنْ يُنْكِرُوا التَّلَذُّذَ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ , وَلِهَذَا لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ إلَّا التَّنَعُّمُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَمَشَايِخِهَا , فَهَذَا أَحَدُ الْحِزْبَيْنِ الْغَالِطَيْنِ . وَالْحِزْبُ الثَّانِي : طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ , وَالْمُتَفَقِّرَةِ , وَالْمُتَبَتِّلَةِ وَافَقُوا هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ لَيْسَتْ إلَّا هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي يَتَنَعَّمُ فِيهَا الْمَخْلُوقُ , وَلَكِنْ وَافَقُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ عَلَى إثْبَاتِ رُؤْيَةِ اللَّهِ , وَالتَّنَعُّمِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ , وَأَضَافُوا مِنْ ذَلِكَ , وَجَعَلُوا يَطْلُبُونَ هَذَا النَّعِيمَ وَتَسْمُو إلَيْهِ هِمَّتُهُمْ , وَيَخَافُونَ

فَوْتَهُ , وَصَارَ أَحَدُهُمْ يَقُولُ : " مَا عَبَّدْتُك شَوْقًا إلَى جَنَّتِك أَوْ خَوْفًا مِنْ نَارِك , وَلَكِنْ لِأَنْظُرَ إلَيْك وَإِجْلَالًا لَك " . وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ هُوَ أَعْلَى مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ , وَالتَّمَتُّعِ بِالْمَخْلُوقِ , لَكِنْ غَلِطُوا فِي إخْرَاجِ ذَلِكَ مِنْ الْجَنَّةِ . وَقَدْ يَغْلَطُونَ أَيْضًا فِي ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِلَا حَظٍّ وَلَا إرَادَةٍ , وَأَنَّ كُلَّ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ فَهُوَ حَظُّ النَّفْسِ , وَتَوَهَّمُوا أَنَّ الْبَشَرَ يَعْمَلُ بِلَا إرَادَةٍ وَلَا مَطْلُوبٍ وَلَا مَحْبُوبٍ , وَمِنْ سُوءِ مَعْرِفَةٍ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَالْآخِرَةِ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ هِمَّةَ أَحَدِهِمْ الْمُتَعَلِّقَةَ بِمَطْلُوبِهِ وَمَحْبُوبِهِ وَمَعْبُودِهِ تَنْفِيهِ عَنْ نَفْسِهِ , حَتَّى لَا يَشْعُرَ بِنَفْسِهِ وَإِرَادَتِهَا , فَيَظُنُّ أَنَّهُ يَفْعَلُ لِغَيْرِ مُرَادِهِ , وَاَلَّذِي طَلَبَ وَعَلَّقَ بِهِ هِمَّتَهُ غَايَةَ مُرَادِهِ وَمَطْلُوبِهِ وَمَحْبُوبِهِ , وَهَذَا كَحَالِ كَثِيرٍ مِنْ الصَّالِحِينَ وَالصَّادِقِينَ , وَأَرْبَابُ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ , يَكُونُ لِأَحَدِهِمْ وَجْدٌ صَحِيحٌ , وَذَوْقٌ سَلِيمٌ , لَكِنْ لَيْسَ لَهُ عِبَارَةٌ تُبَيِّنُ كَلَامَهُ , فَيَقَعُ فِي كَلَامِهِ غَلَطٌ وَسُوءُ أَدَبٍ , مَعَ صِحَّةِ مَقْصُودِهِ , وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ فِي مُرَادِهِ وَاعْتِقَادِهِ . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ إذَا عَنَوْا بِهِ طَلَبَ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَصَابُوا فِي ذَلِكَ , لَكِنْ أَخْطَئُوا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ خَارِجًا عَنْ الْجَنَّةِ فَأَسْقَطُوا حُرْمَةَ اسْمِ الْجَنَّةِ , وَلَزِمَ مِنْ

ذَلِكَ أُمُورٌ مُنْكَرَةٌ , نَظِيرَ مَا ذَكَرَهُ عَنْ الشِّبْلِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ } , فَصَرَخَ , وَقَالَ : أَيْنَ مُرِيدُ اللَّهِ , فَيُحْمَدُ مِنْهُ كَوْنُهُ أَرَادَ اللَّهَ , وَلَكِنْ غَلِطَ فِي ظَنِّهِ أَنَّ الَّذِينَ أَرَادُوا الْآخِرَةَ مَا أَرَادُوا اللَّهَ , وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ بِأُحُدٍ وَهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ , فَإِنْ لَمْ يُرِيدُوا اللَّهَ , أَفَيُرِيدُ اللَّهُ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ كَالشِّبْلِيِّ وَأَمْثَالِهِ ؟ وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا أَعْرِفُهُ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ سُئِلَ مَرَّةً عَنْ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } . قَالَ : فَإِذَا كَانَ الْأَنْفُسُ وَالْأَمْوَالُ فِي ثَمَنِ الْجَنَّةِ , فَالرُّؤْيَةُ بِمَ تُنَالُ ؟ فَأَجَابَهُ مُجِيبٌ بِمَا يُشْبِهُ هَذَا السُّؤَالَ . وَالْوَاجِبُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلْأَوْلِيَاءِ مِنْ نَعِيمٍ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ , وَمَا سِوَى ذَلِكَ هُوَ فِي الْجَنَّةِ , كَمَا أَنَّ كُلَّ مَا وَعَدَ بِهِ أَعْدَاءَهُ هُوَ فِي النَّارِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَقُولُ اللَّهُ : أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ , وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ , وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ

, بَلْهَ مَا أَطْلَعَتْهُمْ عَلَيْهِ } . وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْجَنَّةِ , فَالنَّاسُ فِي الْجَنَّةِ عَلَى دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ , كَمَا قَالَ : { اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا } . وَكُلُّ مَطْلُوبٍ لِلْعَبْدِ بِعِبَادَةٍ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَطَالِبِ الْآخِرَةِ هُوَ فِي الْجَنَّةِ .

332 - 332 - 2 وَسُئِلَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ , عَنْ رَجُلٍ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ , وَتَحَقَّقَ الرُّؤْيَةَ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَحْدَهُ ؟ أَوْ يَصُومَ وَحْدَهُ ؟ أَوْ مَعَ جُمْهُورِ النَّاسِ ؟ فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . إذَا رَأَى هِلَالَ الصَّوْمَ وَحْدَهُ , أَوْ هِلَالَ الْفِطْرِ وَحْدَهُ , فَهَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ ؟ أَوْ يُفْطِرَ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ ؟ أَمْ لَا يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ النَّاسِ ؟ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ , هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَدَ : أَحَدُهَا : أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ , وَأَنْ يُفْطِرَ سِرًّا , وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ النَّاسِ , وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ , وَمَالِكٍ , وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّالِثُ : يَصُومُ مَعَ النَّاسِ , وَيُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ , وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ : لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ , وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ , وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ } " . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ , وَقَالَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد , وَابْنُ مَاجَهْ , وَذَكَرَ الْفِطْرَ وَالْأَضْحَى فَقَطْ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ , وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ , وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ } " . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ , قَالَ : وَفَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ : إنَّمَا مَعْنَى هَذَا

الصَّوْمُ وَالْفِطْرُ مَعَ الْجَمَاعَةِ , وَعِظَمِ النَّاسِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ آخَرَ : فَقَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ , حَدَّثَنَا حَمَّادٌ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ فَقَالَ : { وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ . وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ . وَكُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ , وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ , وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ , وَكُلُّ جَمْعٍ مَوْقِفٌ } " . وَلِأَنَّهُ لَوْ رَأَى هِلَالَ النَّحْرِ لَمَا اشْتَهَرَ , وَالْهِلَالُ اسْمٌ اُسْتُهِلَّ بِهِ , فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْهِلَالَ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ , وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا اسْتَهَلَّ بِهِ النَّاسُ , وَالشَّهْرُ بَيِّنٌ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هِلَالًا وَلَا شَهْرًا . وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَّقَ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً بِمُسَمَّى الْهِلَالِ , وَالشَّهْرِ : كَالصَّوْمِ وَالْفِطْرِ وَالنَّحْرِ , فَقَالَ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ . قَالَ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } - إلَى قَوْلِهِ - { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ } . أَنَّهُ أَوْجَبَ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ , وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , لَكِنْ الَّذِي تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ أَنَّ الْهِلَالَ هَلْ هُوَ اسْمٌ لِمَا يَظْهَرُ فِي السَّمَاءِ ؟ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ النَّاسُ ؟ وَبِهِ يَدْخُلُ ؟ الشَّهْرُ , أَوْ الْهِلَالُ اسْمٌ لِمَا يَسْتَهِلُّ بِهِ

النَّاسُ , وَالشَّهْرُ لِمَا اُشْتُهِرَ بَيْنَهُمْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ يَقُولُ : مَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ فَقَدْ دَخَلَ مِيقَاتُ الصَّوْمِ , وَدَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِ , وَتِلْكَ اللَّيْلَةُ هِيَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ رَمَضَانَ , وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ غَيْرُهُ . وَيَقُولُ مَنْ لَمْ يَرَهُ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ طَالِعًا قَضَى الصَّوْمَ , وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي شَهْرِ الْفِطْرِ , وَفِي شَهْرِ النَّحْرِ , لَكِنَّ شَهْرَ النَّحْرِ مَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا قَالَ مَنْ رَآهُ يَقِفُ وَحْدَهُ , دُونَ سَائِرِ الْحَاجِّ , وَأَنَّهُ يَنْحَرُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي , وَيَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ , وَيَتَحَلَّلُ دُونَ سَائِرِ الْحَاجِّ . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْفِطْرِ : فَالْأَكْثَرُونَ أَلْحَقُوهُ بِالنَّحْرِ , وَقَالُوا لَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ الْمُسْلِمِينَ ; وَآخَرُونَ قَالُوا بَلْ الْفِطْرُ كَالصَّوْمِ . وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ الْعِبَادَ بِصَوْمِ وَاحِدِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا , وَتَنَاقُضُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ . وَحِينَئِذٍ فَشَرْطُ كَوْنِهِ هِلَالًا وَشَهْرًا شُهْرَتُهُ بَيْنَ النَّاسِ . وَاسْتِهْلَالُ النَّاسِ بِهِ حَتَّى لَوْ رَآهُ عَشَرَةٌ , وَلَمْ يَشْتَهِرْ ذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْبَلَدِ , لِكَوْنِ شَهَادَتِهِمْ مَرْدُودَةً , أَوْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَشْهَدُوا بِهِ , كَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ , فَكَمَا لَا يَقِفُونَ وَلَا يَنْحَرُونَ وَلَا يُصَلُّونَ الْعِيدَ إلَّا مَعَ الْمُسْلِمِينَ , فَكَذَلِكَ لَا يَصُومُونَ إلَّا مَعَ الْمُسْلِمِينَ , وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ : { صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ ,

وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ , وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ } " . وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ : يَصُومُ مَعَ الْإِمَامِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ . قَالَ أَحْمَدُ : يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ . وَعَلَى هَذَا تَفْتَرِقُ أَحْكَامُ الشَّهْرِ : هَلْ هُوَ شَهْرٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَلَدِ كُلِّهِمْ ؟ أَوْ لَيْسَ شَهْرًا فِي حَقِّهِمْ كُلِّهِمْ ؟ يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } . فَإِنَّمَا أَمَرَ بِالصَّوْمِ مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ , وَالشُّهُودُ لَا يَكُونُ إلَّا لِشَهْرٍ اُشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ , حَتَّى يُتَصَوَّرَ شُهُودُهُ , وَالْغَيْبَةُ عَنْهُ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا , وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا , وَصُومُوا مِنْ الْوَضَحِ إلَى الْوَضَحِ } " . وَنَحْوُ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْجَمَاعَةِ , لَكِنْ مَنْ كَانَ فِي مَكَان لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُ , إذَا رَآهُ صَامَهُ , فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ غَيْرُهُ . وَعَلَى هَذَا فَلَوْ أَفْطَرَ ثُمَّ تَبَيَّنَّ أَنَّهُ رُئِيَ فِي مَكَان آخَرَ أَوْ ثَبَتَ نِصْفَ النَّهَارِ , لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ . وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ . فَإِنَّهُ إنَّمَا صَارَ شَهْرًا فِي حَقِّهِمْ مِنْ حِينِ ظَهَرَ , وَاشْتُهِرَ . وَمِنْ حِينَئِذٍ وَجَبَ الْإِمْسَاكُ كَأَهْلِ عَاشُورَاءَ : الَّذِينَ أُمِرُوا بِالصَّوْمِ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ , وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالْقَضَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ , وَحَدِيثُ الْقَضَاءِ ضَعِيفٌ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

552 - 552 - 15 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ اعْتَقَدَ مَسْأَلَةَ الدَّوْرِ الْمُسْنَدَةِ لِابْنِ سُرَيْجٍ , ثُمَّ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى شَيْءٍ لَا يَفْعَلُهُ ثُمَّ فَعَلَهُ , ثُمَّ رَجَعَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَرَاجَعَ زَوْجَتَهُ , ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ , ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْت طَالِقٌ : فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثَ ؟ أَمْ يَسْتَعْمِلُ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى : الْمُشَارَ إلَيْهَا ؟ الْجَوَابُ : الْمَسْأَلَةُ السُّرَيْجِيَّةُ بَاطِلَةٌ فِي الْإِسْلَامِ , مُحْدَثَةٌ , لَمْ يُفْتِ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِيهِمْ ; وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ , وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَهُوَ الصَّوَابُ ; فَإِنَّ مَا قَالَهُ أُولَئِكَ يَظْهَرُ فَسَادُهُ مِنْ وُجُوهٍ . مِنْهَا أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ الطَّلَاقَ كَمَا أَبَاحَ النِّكَاحَ , وَأَنَّ دِينَ الْمُسْلِمِينَ مُخَالِفٌ لِدِينِ النَّصَارَى الَّذِي لَا يُبِيحُونَ الطَّلَاقَ , فَلَوْ كَانَ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَمْتَنِعُ مَعَهُ الطَّلَاقُ لَصَارَ دِينُ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ دِينِ النَّصَارَى . وَشُبْهَةُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ قَالُوا : إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتَ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا , ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقًا مُنَجَّزًا : لَزِمَ أَنْ يَقَعَ الْمُعَلَّقُ , وَلَوْ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ يَقَعُ الْمُنْجَزُ , فَكَانَ وُقُوعُهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُقُوعِهِ : فَلَا يَقَعُ ; وَهَذَا خَطَأٌ ; فَإِنَّ

قَوْلَهُمْ : لَوْ وَقَعَ الْمُنَجَّزُ لَوَقَعَ الْمُعَلَّقُ . إنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا ; فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بَاطِلًا لَا يَلْزَمُ وُقُوعُ التَّعْلِيقِ . وَالتَّعْلِيقُ بَاطِلٌ , لِأَنَّ مَضْمُونَهُ وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ , وَوُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ بَاطِلٌ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَضْمُونُهُ أَيْضًا إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي لَمْ يَقَعْ عَلَيْك طَلَاقِي . وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ ; فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَقَعْ الشَّرْطُ لَمْ يَقَعْ الْجَزَاءُ . وَإِذَا وَقَعَ الشَّرْطُ لَزِمَ الْوُقُوعُ . فَلَوْ قِيلَ : لَا يَقَعُ مَعَ ذَلِكَ . لَزِمَ أَنْ يَقَعَ وَلَا يَقَعُ , وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ . وَأَيْضًا فَالطَّلَاقُ إذَا وَقَعَ لَمْ يَرْتَفِعْ بَعْدَ وُقُوعِهِ , فَلَمَّا كَانَ كَلَامُ الْمُطَلِّقِ يَتَضَمَّنُ مُحَالًا فِي الشَّرِيعَةِ - وَهُوَ وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ - وَمُحَالًا فِي الْعَقْلِ , وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَعَدَمِ وُقُوعِهِ : كَانَ الْقَائِلُ بِالتَّسْرِيجِ مُخَالِفًا لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ ; لَكِنْ إذَا اعْتَقَدَ الْحَالِفُ صِحَّةَ هَذَا الْيَمِينِ بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ , وَطَلَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ : لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ التَّكَلُّمَ بِمَا يَعْتَقِدُهُ طَلَاقًا ; فَصَارَ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ الْعَجَمِيُّ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَهُوَ لَا يَفْهَمُهُ ; بَلْ وَكَذَلِكَ لَوْ خَاطَبَ مَنْ يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً بِالطَّلَاقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ ; فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ . وَلَوْ تَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُ التَّسْرِيجِ بَعْدَ ذَلِكَ

, وَأَنَّهُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ لَمْ يَكُنْ ظُهُورُ الْحَقِّ لَهُ فِيمَا بَعْدُ مُوجِبًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ إنْ احْتَاطَ فَرَاجَعَ امْرَأَتَهُ خَوْفًا أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ وَقَعَ بِهِ , أَوْ مُعْتَقِدًا وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِهِ لَمْ يَقَعْ . وَلَوْ أَقَرَّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُ التَّسْرِيجِ أَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ لَمْ يَقَعْ بِهَذَا الْإِقْرَارِ شَيْءٌ , وَلَوْ اعْتَقَدَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فَرَاجَعَ امْرَأَتَهُ , ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ قَدْ حَنِثَ فِيهِ مَرَّةً فَلَا يَحْنَثُ فِيهِ مَرَّةً ثَانِيَةً : لَمْ يَقَعْ بِهِ : فَهَذَا الْفِعْلُ شَيْءٌ وَالْيَمِينُ الَّتِي حَلَفَ بِهَا أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الشَّيْءَ بَاقِيَةٌ , فَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْيَمِينِ بَاقِيًا فَهِيَ بَاقِيَةٌ , وَإِنْ زَالَ سَبَبُ الْيَمِينِ فَلَهُ فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ; بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ , وَلَمْ يَحْنَثْ . وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْبَيْنُونَةَ حَصَلَتْ وَانْقَطَعَ حُكْمُ الْيَمِينِ الْأَوْلَى لَمْ يَحْنَثْ ; لِاعْتِقَادِهِ زَوَالَ الْيَمِينِ , كَمَا لَا يَحْنَثُ الْجَاهِلُ بِأَنَّ مَا فَعَلَهُ هُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ لِزَوْجَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ : أَنْتِ طَالِقٌ . فَإِنَّهُ تَقَعُ هَذِهِ الطَّلْقَةُ , وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ بِهَذِهِ الطَّلْقَةِ قَدْ كَمُلَتْ ثَلَاثًا , وَأَقَرَّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا , لَمْ يَقَعْ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ شَيْءٌ , وَلَا بِهَذَا الْإِقْرَارِ .

605 - 605 - 68 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ وَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا . وَلَهُ مِنْهَا بِنْتٌ تَرْضَعُ وَقَدْ أَلْزَمُوهُ بِنَفَقَةِ الْعِدَّةِ , فَكَمْ تَكُونُ مُدَّةُ الْعِدَّةِ الَّتِي لَا تَحِيضُ فِيهَا لِأَجْلِ الرَّضَاعَةِ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فَعِنْدَهُمْ لَا نَفَقَةَ لِلْمُعْتَدَّةِ الْبَائِنِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيُوجِبُ لَهَا النَّفَقَةَ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ , وَإِذَا كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ فَلَا تَزَالُ فِي الْعِدَّةِ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ , وَالْمُرْضِعُ يَتَأَخَّرُ حَيْضُهَا فِي الْغَالِبِ . وَأَمَّا أَجْرُ الرَّضَاعِ فَلَهَا ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ إلَّا عَلَى الْمُوسِرِ فَأَمَّا الْمُعْسِرُ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ .

608 - 608 - 71 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ مُدَّةِ ثَلَاثِ سِنِينَ , وَرُزِقَ مِنْهَا وَلَدًا لَهُ مِنْ الْعُمُرِ سَنَتَانِ , وَذَكَرَتْ أَنَّهَا لَمَّا تَزَوَّجَتْ لَمْ تَحِضْ إلَّا حَيْضَتَيْنِ , وَصَدَّقَهَا الزَّوْجُ , وَكَانَ قَدْ طَلَّقَهَا ثَانِيًا عَلَى هَذَا الْعَقْدِ الْمَذْكُورِ : فَهَلْ يَجُوزُ الطَّلَاقُ عَلَى هَذَا الْعَقْدِ الْمَفْسُوخِ ؟ الْجَوَابُ : إنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ فِي كَوْنِهَا تَزَوَّجَتْ قَبْلَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ , وَعَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَهَا . وَعَلَيْهَا أَنْ تُكْمِلَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ , ثُمَّ تَعْتَدَّ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي . فَإِنْ كَانَتْ حَاضَتْ الثَّالِثَةَ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا الثَّانِي فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّةُ الْأَوَّلِ ; ثُمَّ إذَا فَارَقَهَا الثَّانِي اعْتَدَّتْ لَهُ ثَلَاثَ حِيَضٍ , ثُمَّ تُزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ . وَوَلَدُهُ وَلَدُ حَلَالٍ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ ; وَإِنْ كَانَ قَدْ وُلِدَ بِوَطْءٍ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ لَا يَعْلَمُ فَسَادَهُ .
610 - 610 - 73 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَأَلْزَمَهَا بِوَفَاءِ الْعِدَّةِ فِي مَكَانِهَا , فَخَرَجَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ تُوَفِّيَ الْعِدَّةَ وَطَلَبَهَا الزَّوْجُ مَا وَجَدَهَا , فَهَلْ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ ؟ الْجَوَابُ : لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِنَفَقَةِ الْمَاضِي فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعِدَّةِ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

612 - 612 - 75 مَسْأَلَةٌ : فِي امْرَأَةٍ كَانَتْ تَحِيضُ وَهِيَ بِكْرٌ , فَلَمَّا تَزَوَّجَتْ وَلَدَتْ سِتَّةَ أَوْلَادٍ وَلَمْ تَحِضْ بَعْدَ ذَلِكَ , وَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ زَوْجِهَا وَهِيَ مُرْضِعٌ , وَأَقَامَتْ عِنْدَ أَهْلِهَا نِصْفَ سَنَةٍ وَلَمْ تَحِضْ , وَجَاءَ رَجُلٌ يَتَزَوَّجُهَا غَيْرَ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ , فَحَضَرُوا عِنْدَ قَاضٍ مِنْ الْقُضَاةِ , فَسَأَلَهَا عَنْ الْحَيْضِ ؟ فَقَالَتْ : لِي مُدَّةُ سِنِينَ مَا حِضْت فَقَالَ الْقَاضِي : مَا يَحِلُّ لَك عِنْدِي زَوَاجٌ , فَزَوَّجَهَا حَاكِمٌ آخَرُ وَلَمْ يَسْأَلْهَا عَنْ الْحَيْضِ , فَبَلَغَ خَبَرُهَا إلَى قَاضٍ آخَرَ , فَاسْتَحْضَرَ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ , فَضَرَبَ الرَّجُلَ مِائَةَ جَلْدَةٍ , وَقَالَ : زَنَيْت , وَطَلَّقَ عَلَيْهِ , وَلَمْ يَذْكُرْ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ فَهَلْ يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ ؟ الْجَوَابُ : إنْ كَانَ قَدْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا بِمَرَضٍ أَوْ رَضَاعٍ فَإِنَّهَا تَتَرَبَّصُ حَتَّى يَزُولَ الْعَارِضُ وَتَحِيضَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ; وَإِنْ كَانَ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ فَهَذِهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ : تَمْكُثُ سَنَةً , ثُمَّ تُزَوَّجُ , وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِهِ , وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ : وَإِنْ كَانَتْ " فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ " فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ , وَاَلَّذِي فَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَصَابَ فِي ذَلِكَ , وَأَصَابَ فِي تَأْدِيبِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَتْ مِنْ " الْقِسْمِ الثَّانِي " قَدْ زَوَّجَهَا حَاكِمٌ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا , وَلَمْ يَقَعْ بِهَا طَلَاقٌ , فَإِنَّ فِعْلَ الْحَاكِمِ لِمِثْلِ ذَلِكَ يَجُوزُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ .

613 - 613 - 76 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَأَوْفَتْ الْعِدَّةَ عِنْدَهُ وَخَرَجَتْ بَعْدَ وَفَاءِ الْعِدَّةِ تَزَوَّجَتْ وَطَلُقَتْ فِي يَوْمِهَا . وَلَمْ يَعْلَمْ مُطَلِّقُهَا إلَّا ثَانِي يَوْمٍ , فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَّفِقَ مَعَهُمَا إذَا أَوْفَتْ عِدَّتَهَا أَنْ يُرَاجِعَهَا ؟ الْجَوَابُ : لَيْسَ لَهُ فِي زَمَنِ الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَخْطُبَهَا وَلَا يُنْفِقَ عَلَيْهَا لِيَتَزَوَّجَهَا وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّعْرِيضُ أَيْضًا , وَإِنْ كَانَ بَائِنًا فَفِي جَوَازِ التَّعْرِيضِ نِزَاعٌ , هَذَا إذَا كَانَتْ قَدْ تَزَوَّجَتْ بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ . وَأَمَّا إنْ كَانَتْ قَدْ تَزَوَّجَتْ بِنِكَاحِ مُحَلِّلٍ , فَقَدْ { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } .
609 - 609 - 72 مَسْأَلَةٌ : فِي مُرْضِعٍ اسْتَبْطَأَتْ الْحَيْضَ , فَتَدَاوَتْ لِمَجِيءِ الْحَيْضِ , فَحَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ وَكَانَتْ مُطَلَّقَةً : فَهَلْ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا ; أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : نَعَمْ إذَا أَتَى الْحَيْضُ الْمَعْرُوفُ لِذَلِكَ اعْتَدَّتْ بِهِ . كَمَا أَنَّهَا لَوْ شَرِبَتْ دَوَاءً قَطَعَ الْحَيْضَ أَوْ بَاعَدَ بَيْنَهُ : كَانَ ذَلِكَ طُهْرًا . وَكَمَا لَوْ جَاعَتْ أَوْ تَعِبَتْ ; أَوْ أَتَتْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُسَخِّنُ طَبْعَهَا وَتُثِيرُ الدَّمَ فَحَاضَتْ بِذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

615 - 615 - 78 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَمَنَعَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ إلَّا بِمِنْ يَخْتَارُ هُوَ وَتَوَعَّدَهَا عَلَى مُخَالَفَتِهِ , فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ الْجَوَابُ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ , بَلْ هُوَ بِذَلِكَ عَاصٍ آثِمٌ مُعْتَدٍ ظَالِمٌ , وَالْمَرْأَةُ إذَا تَزَوَّجَتْ بِكُفْءٍ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهَا الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ بَلْ يُزَوِّجُهَا بِهِ فَكَيْفَ مُطَلِّقُهَا ؟ وَإِنْ اعْتَدَى عَلَيْهَا بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ مِنْ الْمُعْتَدِينَ عَنْ مِثْلِ هَذَا .

616 - 616 - 79 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ أَوْفَتْ الْعِدَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ ثَانٍ , وَهُوَ الْمُسْتَحِلُّ , فَهَلْ الِاسْتِحْلَالُ يَجُوزُ بِحُكْمِ مَا جَرَى لِرِفَاعَةِ مَعَ زَوْجَتِهِ فِي أَيَّامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا ؟ ثُمَّ إنَّهَا أَتَتْ لِبَيْتِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ طَالِبَةً لِبَعْضِ حَقِّهَا فَغَلَبَهَا عَلَى نَفْسِهَا , ثُمَّ أَنَّهَا قَعَدَتْ أَيَّامًا وَخَافَتْ فَادَّعَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ لِكَيْ يَرُدَّهَا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ , فَرَاجَعَهَا إلَى عِصْمَتِهِ بِعَقْدٍ شَرْعِيٍّ , وَأَقَامَ مَعَهَا أَيَّامًا فَظَهَرَ عَلَيْهَا الْحَمْلُ وَعَلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ كَاذِبَةً فِي الْحَيْضِ , فَاعْتَزَلَهَا إلَى أَنْ تَهْتَدِيَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ؟ الْجَوَابُ : أَمَّا إذَا تَزَوَّجَهَا زَوْجٌ لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ , فَهَذَا الْمُحَلِّلُ , وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } , وَأَمَّا حَدِيثُ رِفَاعَةَ فَذَاكَ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا ثَابِتًا , لَمْ يَكُنْ قَدْ تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا لِلْمُطَلِّقِ , وَإِذَا تَزَوَّجَتْ بِالْمُحَلِّلِ , ثُمَّ طَلَّقَهَا , فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , إذْ غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ مَوْطُوءَةً فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ . فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْهُ . وَمَا كَانَ يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ وَطْؤُهَا وَإِذَا وَطِئَهَا فَهُوَ زَانٍ عَاهِرٌ . وَنِكَاحُهَا بِالْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ ثَلَاثًا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَزِلَهَا فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَ بِالْمُحَلِّلِ . فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي وَطِئَهَا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ .

وَلَا يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِالْوَاطِئِ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ . لِأَنَّ عِدَّتَهُ انْقَضَتْ وَتَزَوَّجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَنْ وَطِئَهَا . وَهَذَا يَقْطَعُ حُكْمَ الْفِرَاشِ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ ; وَلَا يَلْحَقُ بِوَطْئِهِ زِنًا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } , لَكِنْ إنْ عَلِمَ الْمُحَلِّلُ أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ بَلْ مِنْ هَذَا الْعَاهِرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ فَيُلَاعِنَهَا لِعَانًا يَنْقَطِعُ فِيهِ نَسَبُ الْوَلَدِ . وَيَلْحَقُ نَسَبُ الْوَلَدِ بِأُمِّهِ وَلَا يَلْحَقُ بِالْعَاهِرِ بِحَالٍ .

مَسْأَلَةٌ : فِي أَمَةٍ مُتَزَوِّجَةٍ وَسَافَرَ زَوْجُهَا وَبَاعَهَا سَيِّدُهَا . وَشَرَطَ أَنَّ لَهَا زَوْجًا فَقَعَدَتْ عِنْدَ الَّذِي اشْتَرَاهَا أَيَّامًا , فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَعْتَقَهَا , فَتَزَوَّجَتْ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ لَهَا زَوْجًا , فَلَمَّا جَاءَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ مِنْ السَّفَرِ أَعْطَى سَيِّدَهَا الَّذِي بَاعَهَا الْكِتَابَ لِزَوْجِهَا الَّذِي جَاءَ مِنْ السَّفَرِ . الْكِتَابَ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ شَرْعِيٍّ , فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِكِتَابِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي ؟ الْجَوَابُ : إنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا شَرْعِيًّا , إمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْحُرِّ بِالْأَمَةِ , وَإِمَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بِأَنْ يَكُونَ عَادِمًا الطُّولَ خَائِفًا مِنْ الْعَنَتِ نِكَاحُهُ لَا يَبْطُلُ بِعِتْقِهَا , بَلْ هِيَ زَوْجَتُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ , لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ لَهَا الْفَسْخُ , فَلَهَا أَنْ تَفْسَخَ النِّكَاحَ , فَإِذَا قَضَتْ عِدَّتَهُ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ , إنْ شَاءَتْ , وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَا خِيَارَ لَهَا بَلْ هِيَ زَوْجَتُهُ , وَمَتَى تَزَوَّجَتْ قَبْلَ أَنْ يَنْفَسِخَ النِّكَاحُ , فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ , وَأَمَّا إنْ كَانَ نِكَاحُهَا الْأَوَّلُ فَاسِدًا فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا , وَتَتَزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ .

618 - 618 - 81 مَسْأَلَةٌ : فِي امْرَأَةٍ أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا مِنْ جَمِيعِ صَدَاقِهَا , ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَشْهَدَ الزَّوْجُ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْمَذْكُورَةَ عَلَى الْبَرَاءَةِ , وَكَانَتْ الْبَرَاءَةُ تَقَدَّمَتْ عَلَى ذَلِكَ , فَهَلْ يَصِحُّ الطَّلَاقُ ؟ وَإِذَا وَقَعَ يَقَعُ رَجْعِيًّا أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : إنْ كَانَا قَدْ تَوَاطَأَ عَلَى أَنْ تُوهِبَهُ الصَّدَاقَ وَتُبْرِيَهُ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فَأَبْرَأَتْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا كَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا بَائِنًا , وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا : أَبْرِئِينِي وَأَنَا أُطَلِّقُك أَوْ إنْ أَبْرَأْتنِي طَلَّقْتُك وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ عِبَارَاتِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّهُ سَأَلَ الْإِبْرَاءَ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ أَنَّهَا أَبْرَأَتْهُ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا . وَأَمَّا إنْ كَانَتْ بَرَّأَتْهُ بَرَاءَةً لَا تَتَعَلَّقُ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ , فَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ , وَلَكِنْ هَلْ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ فِي الْإِبْرَاءِ إذَا كَانَ يُمْكِنُ لِكَوْنِ مِثْلِ هَذَا الْإِبْرَاءِ لَا يَصْدُرُ فِي الْعَادَةِ إلَّا لَأَنْ يُمْسِكَهَا أَوْ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ , فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ . وَأَمَّا إذَا كَانَتْ قَدْ طَابَتْ نَفْسُهَا بِالْإِبْرَاءِ مُطْلَقًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً مِنْهَا لَا بِسَبَبٍ مِنْهُ وَلَا عِوَضٍ فَهُنَا لَا تَرْجِعُ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ عِنْدَ قَوْمٍ مُدَّةَ سَنَةٍ , ثُمَّ جَرَى بَيْنَهُمْ كَلَامٌ , فَادَّعُوا عَلَيْهِ بِكِسْوَةِ سَنَةٍ , فَأَخَذُوهَا مِنْهُ , ثُمَّ ادَّعُوا عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ , وَقَالُوا : هِيَ تَحْتَ الْحَجْرِ ; وَمَا أَذِنَّا لَك أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهَا : فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . إذَا كَانَ الزَّوْجُ تَسَلَّمَهَا التَّسْلِيمَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ أَوْ أَبُوهُ أَوْ نَحْوُهُمَا يُطْعِمُهَا كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ : لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ وَلَا لَهَا أَنْ تَدَّعِيَ بِالنَّفَقَةِ ; فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْإِنْفَاقُ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ , وَكَذَلِكَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ ; بَلْ مَنْ كَلَّفَ الزَّوْجَ أَنْ يُسَلِّمَ إلَى أَبِيهَا دَرَاهِمَ لِيَشْتَرِيَ لَهَا بِهَا مَا يُطْعِمُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ ; وَإِنْ [ كَانَ ] هَذَا قَدْ قَالَهُ بَعْضُ النَّاسِ . فَكَيْفَ إذَا كَانَ قَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا بِإِقْرَارِ الْأَبِ لَهَا بِذَلِكَ ; وَتَسْلِيمِهَا إلَيْهِمْ ; مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ الْأَكْلِ ; ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَطْلُبَ النَّفَقَةَ ; وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا أَنْفَقُوا عَلَيْهَا ; فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ فِي الشَّرِيعَةِ لَا تَحْتَمِلُهُ أَصْلًا . وَمَنْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا أَنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ لَهَا كَالدَّيْنِ , فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْبِضَهُ الْوَلِيُّ , وَهُوَ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ : كَانَ مُخْطِئًا مِنْ وُجُوهٍ . مِنْهَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ

بِالنَّفَقَةِ إطْعَامُهَا ; لَا حِفْظُ الْمَالِ لَهَا . الثَّانِي : أَنَّ قَبْضَ الْوَلِيِّ لَهَا لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ . الثَّالِثُ : أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِهِ ; فَإِنَّهُ وَاجِبٌ لَهَا بِالشَّرْعِ , وَالشَّارِعُ أَوْجَبَ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا , فَلَوْ نَهَى الْوَلِيُّ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ . الرَّابِعُ : إقْرَارُهُ لَهَا مَعَ حَاجَتِهِ إلَى النَّفَقَةِ إذْنٌ عُرْفِيٌّ وَلَا يُقَالُ . إنَّهُ لَمْ يَأْمَنْ الزَّوْجَ عَلَى النَّفَقَةِ ; لِوَجْهَيْنِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّ الِائْتِمَانَ بِهَا حَصَلَ بِالشَّرْعِ , كَمَا أُوتُمِنَ الزَّوْجُ عَلَى بَدَنِهَا , وَالْقَسْمِ لَهَا , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهَا ; فَإِنَّ الرِّجَالَ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ , وَالنِّسَاءُ عَوَانٌ عِنْدَ الرِّجَالِ , كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . الثَّانِي : أَنَّ الِائْتِمَانَ الْعُرْفِيَّ كَاللَّفْظِيِّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

619 - 619 - 82 مَسْأَلَةٌ : فِيمَنْ قَالَ مَنْ تَبِعَ هَذِهِ الْفُتْيَا وَعَمِلَ بِهَا فَوَلَدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَدُ زِنًا . فَإِنَّهُ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ , وَالْمُشَاقَّةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ , فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ اعْتَقَدَ الزَّوْجُ أَنَّهُ نِكَاحٌ سَائِغٌ إذَا وَطِئَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ فِيهِ وَلَدُهُ وَيَتَوَارَثَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النِّكَاحُ بَاطِلًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , سَوَاءٌ كَانَ النَّاكِحُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا , وَالْيَهُودِيُّ إذَا تَزَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ كَانَ وَلَدُهُ مِنْهَا يَلْحَقُهُ بِنَسَبِهِ وَيَرِثُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النِّكَاحُ بَاطِلًا , بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَمَنْ اسْتَحَلَّهُ كَانَ كَافِرًا تَجِبُ اسْتِتَابَتُهُ . وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الْجَاهِلُ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ فِي عِدَّتِهَا كَمَا يَفْعَلُ جُهَّالُ الْأَعْرَابِ وَوَطِئَهَا يَعْتَقِدُهَا زَوْجَةً كَانَ وَلَدُهُ مِنْهَا يَلْحَقُهُ بِنَسَبِهِ وَيَرِثُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ , فَإِنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ , بَلْ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ , وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } فَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَوَطِئَهَا , يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ إمَّا لِجَهْلِهِ , وَإِمَّا لِمُفْتٍ مُخْطِئٍ قَلَّدَهُ الزَّوْجُ , وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ . فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ النَّسَبُ وَيَتَوَارَثَانِ بِالِاتِّفَاقِ , بَلْ وَلَا تُحْسَبُ الْعِدَّةُ إلَّا

مِنْ حِينِ تَرَكَ وَطْأَهَا , فَإِنَّهُ كَانَ يَطَؤُهَا مُعْتَقِدًا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَهِيَ فِرَاشٌ لَهُ , فَلَا تَعْتَدُّ لَهُ حَتَّى يَزُولَ الْفِرَاشُ . وَمَتَى نَكَحَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا , مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِي فَسَادِهِ لَوْ مَلَكَهَا مِلْكًا فَاسِدًا مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِي فَسَادِهِ , وَوَطِئَهَا يَعْتَقِدُهَا زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ أَوْ أَمَتَهُ الْمَمْلُوكَةَ , فَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْهَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ وَيَتَوَارَثَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَالْوَلَدُ يَكُونُ أَيْضًا حُرًّا وَإِنْ كَانَتْ الْمَوْطُوءَةُ مَمْلُوكَةً لِلْغَيْرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ , وَوُطِئَتْ بِدُونِ إذْنِ سَيِّدِهَا , لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْوَاطِئُ مَغْرُورًا زُوِّجَ بِهَا وَقِيلَ لَهُ هِيَ حُرَّةٌ , أَوْ بِيعَتْ مِنْهُ فَاشْتَرَاهَا يَعْتَقِدُهَا مِلْكًا لِلْبَائِعِ فَإِنَّمَا وَطِئَ مَنْ يَعْتَقِدُهَا زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ أَوْ أَمَتَهُ الْمَمْلُوكَةَ , فَوَلَدُهُ مِنْهَا حُرٌّ لِأَجْلِ اعْتِقَادِهِ , وَإِنْ كَانَ اعْتِقَادُهُ مُخْطِئًا . وَبِهَذَا قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ , وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَطِئُوا أَوْ جَاءَهُمْ أَوْلَادٌ لَوْ كَانُوا قَدْ وَطِئُوا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ مُتَّفَقٍ عَلَى فَسَادِهِ , وَكَانَ الطَّلَاقُ وَقَعَ بِهِمْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَهُمْ وَطِئُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ , لِأَجْلِ فُتْيَا مَنْ أَفْتَاهُمْ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ نَسَبُ الْأَوْلَادِ بِهِمْ لَاحِقًا . وَلَمْ يَكُونُوا أَوْلَادَ زِنًا . بَلْ يَتَوَارَثُونَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . هَذَا فِي الْمُجْمَعِ عَلَى فَسَادِهِ . فَكَيْفَ فِي الْمُخْتَلَفِ فِي

فَسَادِهِ . وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي وَطِئَ بِهِ ضَعِيفًا . كَمَنْ وَطِئَ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ , أَوْ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ . فَإِنَّ هَذَا إذَا وَطِئَ فِيهِ يَعْتَقِدُهُ نِكَاحًا لَحِقَهُ فِيهِ النَّسَبُ ; فَكَيْفَ بِنِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ , وَقَدْ ظَهَرَتْ حُجَّةُ الْقَوْلِ بِصِحَّتِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ . وَظَهَرَ ضَعْفُ الْقَوْلِ الَّذِي يُنَاقِضُهُ . وَعَجَزَ أَهْلُهُ عَنْ نُصْرَتِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ لِانْتِفَاءِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ . فَمَنْ قَالَ إنَّ هَذَا النِّكَاحَ أَوْ مِثْلَهُ يَكُونُ الْوَلَدُ فِيهِ وَلَدَ زِنًا لَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ وَلَا يَتَوَارَثُ هُوَ وَأَبُوهُ الْوَاطِئُ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . مُنْسَلِخٌ مِنْ رِبْقَةِ الدِّينِ , فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا عُرِّفَ وَبُيِّنَ لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاءَهُ الرَّاشِدِينَ وَسَائِرَ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَلْحَقُوا أَوْلَادَ الْجَاهِلِيَّةِ بِآبَائِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً بِالْإِجْمَاعِ , وَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِي لُحُوقِ النَّسَبِ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ جَائِزًا فِي شَرْعِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْفُتْيَا بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ , وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى وُقُوعِهِ وَقَالَ إنَّ الْوَلَدَ وَلَدُ زِنًا , هُوَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ , مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , وَأَنَّ الْمُفْتِيَ بِذَلِكَ أَوْ

الْقَاضِيَ بِهِ فَعَلَ مَا يَسُوغُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَيْسَ لِأَحَدٍ الْمَنْعُ مِنْ الْفُتْيَا بِقَوْلِهِ أَوْ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ , وَلَا الْحُكْمُ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَالْأَحْكَامُ الْمُخَالِفَةُ لِلْإِجْمَاعِ بَاطِلَةٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
622 - 622 - 3 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَدَخَلَ بِهَا وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ [ فِي ] النَّفَقَةِ وَهِيَ نَاشِزٌ . ثُمَّ إنَّ وَلَدَهَا أَخَذَهَا وَسَافَرَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . إذَا سَافَرَ بِهَا بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ . وَتُعَزَّرُ الزَّوْجَةُ إذَا كَانَ التَّخَلُّفُ يُمْكِنُهَا , وَلَا نَفَقَةَ لَهَا مِنْ حِينِ سَافَرَتْ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
621 - 621 - 2 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَدَخَلَ بِهَا , وَهُوَ مُسْتَمِرُّ النَّفَقَةِ , وَهِيَ نَاشِزٌ , ثُمَّ إنَّ وَالِدَهَا أَخَذَهَا وَسَافَرَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ : فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . إذَا سَافَرَ بِهَا بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ , وَتُعَزَّرُ الزَّوْجَةُ إذَا كَانَ التَّخَلُّفُ يُمْكِنُهَا , وَلَا نَفَقَةَ لَهَا مِنْ حِينِ سَافَرَتْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . .

623 - 623 - 4 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ مَاتَتْ زَوْجَتُهُ , وَخَلَّفَتْ لَهُ ثَلَاثَ بَنَاتٍ : فَأَعْطَاهُمْ لِحَمِيهِ وَحَمَاتَهُ وَقَالَ : رُوحُوا بِهِمْ إلَى بَلَدِكُمْ , حَتَّى أَجِيءَ إلَيْهِمْ ; فَغَابَ عَنْهُمْ ثَلَاثَ سِنِينَ فَهَلْ عَلَى وَالِدِهِمْ نَفَقَتُهُمْ وَكِسْوَتُهُمْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ أَمْ لَا ؟ . الْجَوَابُ : مَا أَنْفَقُوهُ عَلَيْهِمْ بِالْمَعْرُوفِ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ بِهِ عَلَى وَالِدِهِمْ فَلَهُمْ الرُّجُوعُ بِهِ عَلَيْهِ , إذَا كَانَ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

686 - 686 - 40 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ رَأَى رَجُلًا قَتَلَ ثَلَاثَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ , وَلَحِسَ السَّيْفَ بِفَمِهِ . وَأَنَّ وَلِيُّ الْأَمْرِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ , وَأَنَّ الَّذِي رَآهُ قَدْ وَجَدَهُ فِي مَكَان لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَسْكِهِ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْقَاتِلَ الْمَذْكُورَ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ وَإِذَا قَتَلَهُ هَلْ يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُطَالَبُ بِدَمِهِ ؟ الْجَوَابُ : إنْ كَانَ قَاطِعُ طَرِيقٍ قَتَلَهُمْ لِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَجَبَ قَتْلُهُ , وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ , وَإِنْ كَانَ قَتَلَهُمْ لِغَرَضٍ خَاصٍّ مِثْلُ خُصُومَةٍ بَيْنَهُمْ , أَوْ عَدَاوَةٍ : فَأَمْرُهُ إلَى وَرَثَةِ الْقَتِيلِ : إنْ أَحَبُّوا قَتْلَهُ قَتَلُوهُ , وَإِنْ أَحَبُّوا عَفَوْا عَنْهُ , وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْوَرَثَةِ الْآخَرِينَ . وَأَمَّا إنْ كَانَ قَاطِعُ طَرِيقٍ : فَقِيلَ : بِإِذْنِ الْإِمَامِ ; فَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْإِمَامَ أَذِنَ فِي قَتْلِهِ بِدَلَائِلِ الْحَالِ جَازَ أَنْ يَقْتُلَهُ عَلَى ذَلِكَ , وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ وُلَاةَ الْأُمُورِ يَطْلُبُونَهُ لِيَقْتُلُوهُ , وَأَنَّ قَتْلَهُ وَاجِبٌ فِي الشَّرْعِ : فَهَذَا يَعْرِفُ أَنَّهُمْ آذِنُونَ فِي قَتْلِهِ ; وَإِذَا وَجَبَ قَتْلُهُ كَانَ قَاتِلُهُ مَأْجُورًا فِي ذَلِكَ .
687 - 687 - 41 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلَيْنِ قَبَضَ أَحَدُهُمَا لِوَاحِدٍ , وَالْآخَرُ ضَرَبَهُ فَشُلَّتْ يَدُهُ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الِاثْنَيْنِ الْقَوَدُ إنْ وَجَبَ , وَإِلَّا فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

مَسْأَلَةٌ : فِي قَوْله تَعَالَى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلَّا وُسْعَهَا } إلَى قَوْلِهِ : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } . مَعَ قَوْلِهِ : { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } إلَى قَوْلِهِ : { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } . فِي ذَلِكَ أَنْوَاعٌ مِنْ الْأَحْكَامِ بَعْضُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ , وَبَعْضُهَا مُتَنَازَعٌ فِيهِ . وَإِذَا تَدَبَّرْت كِتَابَ اللَّهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ يَفْصِلُ النِّزَاعَ بَيْنَ مَنْ يُحْسِنُ الرَّدَّ إلَيْهِ , وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ إلَى ذَلِكَ ; فَهُوَ إمَّا لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ , فَيُعْذَرُ . أَوْ لِتَفْرِيطِهِ فَيُلَامُ . وقَوْله تَعَالَى : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا تَمَامُ الرَّضَاعَةِ , وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غِذَاءٌ مِنْ الْأَغْذِيَةِ . وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ مَنْ يَقُولُ : الرَّضَاعُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ . وَقَوْلُهُ : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ " الْحَوْلَيْنِ " يَقَعُ عَلَى حَوْلٍ وَبَعْضِ آخَرَ . وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِهِمْ , يُقَالُ : لِفُلَانٍ عِشْرُونَ عَامًا إذَا أَكْمَلَ ذَلِكَ . قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا : لَمَّا جَازَ أَنْ يَقُولَ : " حَوْلَيْنِ " وَيُرِيدُ أَقَلَّ مِنْهُمَا , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ

يَتَعَجَّلُ فِي يَوْمٍ وَبَعْضِ آخَرَ ; وَتَقُولُ : لَمْ أَرَ فُلَانًا يَوْمَيْنِ . وَإِنَّمَا تُرِيدُ يَوْمًا وَبَعْضَ آخَرَ . قَالَ : { كَامِلَيْنِ } لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَصَ مِنْهُمَا . وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } , فَإِنَّ لَفْظَ " الْعَشَرَةِ " يَقَعُ عَلَى تِسْعَةٍ وَبَعْضِ الْعَاشِرِ . فَيُقَالُ : أَقَمْت عَشَرَةَ أَيَّامٍ . وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْهَا . فَقَوْلُهُ هُنَاكَ { كَامِلَةٌ } بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ هُنَا { كَامِلَيْنِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ : قَالَ { الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مَوْفُورًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ } . فَالْكَامِلُ الَّذِي لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ ; إذْ الْكَمَالُ ضِدُّ النُّقْصَانِ . وَأَمَّا الْمُوَفَّرُ " فَقَدْ قَالَ : أَجْرُهُمْ مُوَفَّرًا . يُقَالُ : الْمُوَفَّرُ . لِلزَّائِدِ ; وَيُقَالُ : لَمْ يُكْلَمْ . أَيْ يُجْرَحْ , كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " كِتَابِ الزُّهْدِ " { عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى : وَمَا ذَاكَ لِهَوَانِهِمْ عَلَيَّ وَلَكِنْ لِيَسْتَكْمِلُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ كَرَامَتِي سَالِمًا مُوَفَّرًا ; لَمْ تَكَلُّمُهُ الدُّنْيَا وَلَمْ تَكَلُّمُهُ نُطْعَةُ الْهَوَى } . وَكَانَ هَذَا تَغْيِيرَ الصِّفَةِ , وَذَاكَ نُقْصَانَ الْقَدْرِ . وَذَكَرَ " أَبُو الْفَرَجِ " هَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْوَالِدَاتِ ؟ أَوْ يَخْتَصُّ بِالْمُطَلَّقَاتِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْخُصُوصُ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , وَمُجَاهِدٍ , وَالضَّحَّاكِ , وَالسُّدِّيِّ , وَمُقَاتِلٍ , فِي

آخَرِينَ . وَالْعُمُومُ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي آخَرِينَ . قَالَ الْقَاضِي : وَلِهَذَا نَقُولُ : لَهَا أَنْ تُؤَجِّرَ نَفْسَهَا لِرَضَاعِ وَلَدِهَا , سَوَاءٌ كَانَتْ مَعَ الزَّوْجِ , أَوْ مُطَلَّقَةً . قُلْت : الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ; فَإِنَّهَا أَوْجَبَتْ لِلْمُرْضِعَاتِ رِزْقَهُنَّ وَكِسْوَتَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ; لَا زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ , وَهُوَ يَقُولُ : تُؤَجِّرُ نَفْسَهَا بِأُجْرَةٍ غَيْرِ النَّفَقَةِ . وَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا ; بَلْ إذَا كَانَتْ الْآيَةُ عَامَّةً دَلَّتْ عَلَى أَنَّهَا تُرْضِعُ وَلَدَهَا مَعَ إنْفَاقِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا , كَمَا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا فَإِنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا وَتَدْخُلُ نَفَقَةُ الْوَلَدِ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ ; لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتَغَذَّى بِغِذَاءِ أُمِّهِ . وَكَذَلِكَ فِي حَالِ الرَّضَاعِ فَإِنَّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ هِيَ نَفَقَةُ الْمُرْتَضِعِ . وَعَلَى هَذَا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ ; فَاَلَّذِينَ خَصُّوهُ بِالْمُطَلَّقَاتِ أَوْجَبُوا نَفَقَةً جَدِيدَةً بِسَبَبِ الرَّضَاعِ , كَمَا ذَكَرَ فِي " سُورَةِ الطَّلَاقِ " وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْمُطَلَّقَةِ . وقَوْله تَعَالَى : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } قَدْ عُلِمَ أَنَّ مَبْدَأَ الْحَوْلِ مِنْ حِينِ الْوِلَادَةِ وَالْكَمَالُ إلَى نَظِيرِ ذَلِكَ . فَإِذَا كَانَ مِنْ عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ كَانَ الْكَمَالُ فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ فِي مِثْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ ; فَإِنَّ الْحَوْلَ الْمُطْلَقَ هُوَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْ الشَّهْرِ الْهِلَالِيِّ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ } وَهَكَذَا مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعِدَّةِ أَرْبَعَةَ

أَشْهُرٍ وَعَشْرًا , أَوَّلُهَا مِنْ حِينِ الْمَوْتِ وَآخِرُهَا إذَا مَضَتْ عَشْرٌ بَعْدَ نَظِيرِهِ ; فَإِذَا كَانَ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ فَآخِرُهَا خَامِسَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ , وَكَذَلِكَ الْأَجَلُ الْمُسَمَّى فِي الْبُيُوعِ وَسَائِرِ مَا يُؤَجَّلُ بِالشَّرْعِ وَبِالشَّرْطِ . وَلِلْفُقَهَاءِ هُنَا قَوْلَانِ آخَرَانِ ضَعِيفَانِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إذَا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ كَانَ جَمِيعُ الشُّهُورِ بِالْعَدَدِ , فَيَكُونُ الْحَوْلَانِ ثَلَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَزِيدُ الْمُدَّةُ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا , وَهُوَ غَلَطٌ بَيِّنٌ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : مِنْهَا وَاحِدٌ بِالْعَدَدِ , وَسَائِرُهَا بِالْأَهِلَّةِ . وَهَذَا أَقْرَبُ ; لَكِنْ فِيهِ غَلَطٌ ; فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا إذَا كَانَ الْمَبْدَأُ عَاشِرَ الْمُحَرَّمِ وَقَدْ نَقَصَ الْمُحَرَّمُ كَانَ تَمَامُهُ تَاسِعَهُ , فَيَكُونُ التَّكْمِيلُ أَحَدَ عَشَرَ , فَيَكُونُ الْمُنْتَهَى حَادِيَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ , وَهُوَ غَلَطٌ أَيْضًا . وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَى الْأُمِّ إرْضَاعَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ : { يُرْضِعْنَ } خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ , وَهِيَ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ ; وَلِهَذَا تَأَوَّلَهَا مَنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : وَهَذَا الْأَمْرُ انْصَرَفَ إلَى الْآبَاءِ ; لِأَنَّ عَلَيْهِمْ الِاسْتِرْضَاعَ ; لَا عَلَى الْوَالِدَاتِ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } وَقَوْلُهُ : { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فَلَوْ كَانَ مُتَحَتِّمًا عَلَى الْوَالِدَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ . فَيُقَالُ : بَلْ الْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّ لِلِابْنِ عَلَى

الْأُمِّ الْفِعْلَ , وَعَلَى الْأَبِ النَّفَقَةَ وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا تَعَيَّنَ عَلَيْهَا , وَهِيَ تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ , وَالْأَجْنَبِيَّةُ تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا . وقَوْله تَعَالَى : { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ إتْمَامَ الرَّضَاعِ وَيَجُوزُ الْفِطَامُ قَبْلَ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَصْلَحَةٌ , وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } , وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْصَلُ إلَّا بِرِضَى الْأَبَوَيْنِ , فَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا الْإِتْمَامَ وَالْآخَرُ الْفِصَالَ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ لِمَنْ أَرَادَ الْإِتْمَامَ ; لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } . وقَوْله تَعَالَى : { يُرْضِعْنَ } صِيغَةُ خَبَرٍ , وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ , وَالتَّقْدِيرُ وَالْوَالِدَةُ مَأْمُورَةٌ بِإِرْضَاعِهِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ إذَا أُرِيدَ إتْمَامُ الرَّضَاعَةِ ; فَإِذَا أَرَادَتْ الْإِتْمَامَ كَانَتْ مَأْمُورَةً بِذَلِكَ , وَكَانَ عَلَى الْأَبِ رِزْقُهَا وَكِسْوَتُهَا , وَإِنْ أَرَادَ الْأَبُ الْإِتْمَامَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ; فَإِنَّهُ لَمْ يُبَحْ الْفِصَالُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا جَمِيعًا . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } . وَلَفْظَةُ { مَنْ } إمَّا أَنْ يُقَالَ : هُوَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا وَيَدْخُلُ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى , فَمَنْ أَرَادَ الْإِتْمَامَ أَرْضَعْنَ لَهُ .

وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : قَوْله تَعَالَى : { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } إنَّمَا هُوَ الْمَوْلُودُ لَهُ وَهُوَ الْمُرْضَعُ لَهُ . فَالْأُمُّ تَلِدُ لَهُ وَتَرْضِعُ لَهُ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } . وَالْأُمُّ كَالْأَجِيرِ مَعَ الْمُسْتَأْجِرِ . فَإِنْ أَرَادَ الْأَبُ الْإِتْمَامَ أَرْضَعْنَ لَهُ , وَإِنْ أَرَادَ أَنْ لَا يُتِمَّ [ فَلَهُ ذَلِكَ ] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَمَنْطُوقُ الْآيَةِ أَمْرُهُنَّ بِإِرْضَاعِهِ عِنْدَ إرَادَةِ الْأَبِ , وَمَفْهُومُهَا أَيْضًا جَوَازُ الْفَصْلِ بِتَرَاضِيهِمَا . يَبْقَى إذَا أَرَادَتْ الْأُمُّ دُونَ الْأَبِ مَسْكُوتًا عَنْهُ ; لَكِنْ مَفْهُومُ قَوْله تَعَالَى : { عَنْ تَرَاضٍ } أَنَّهُ لَا يَجُوزُ , كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ ; وَلَكِنْ تَنَاوَلَهُ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } , فَإِنَّهَا إذَا أَرْضَعَتْ تَمَامَ الْحَوْلِ فَلَهُ أَرْضَعَتْ , وَكَفَتْهُ بِذَلِكَ مُؤْنَةَ الطِّفْلِ , فَلَوْلَا رَضَاعَهَا لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يُطْعِمَهُ شَيْئًا آخَرَ . فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَّنَ أَنَّ عَلَى الْأُمِّ الْإِتْمَامَ إذَا أَرَادَ الْأَبُ , وَفِي تِلْكَ بَيَّنَ أَنَّ عَلَى الْأَبِ الْأَجْرَ إذَا أَبَتْ الْمَرْأَةُ قَالَ مُجَاهِدٌ : " التَّشَاوُرُ " فِيمَا دُونَ الْحَوْلَيْنِ : إنْ أَرَادَتْ أَنْ تَفْطِمَ وَأَبَى فَلَيْسَ لَهَا , وَإِنْ أَرَادَ هُوَ وَلَمْ تُرِدْ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَقَعَ ذَلِكَ عَلَى تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ , يَقُولُ : غَيْرُ مُسِيئِينَ إلَى أَنْفُسِهِمَا وَلَا رَضِيعِهِمَا . وقَوْله تَعَالَى : { إذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ } . قَالَ إذَا أَسْلَمْتُمْ أَيُّهَا الْآبَاءُ إلَى أُمَّهَاتِ

الْأَوْلَادِ أَجْرَ مَا أَرْضَعْنَ قَبْلَ امْتِنَاعِهِنَّ ; رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَقِيلَ : إذَا أَسْلَمْتُمْ إلَى الظِّئْرِ أَجْرَهَا : بِالْمَعْرُوفِ , رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ : { أَتَيْتُمْ } بِالْقَصْرِ . وقَوْله تَعَالَى : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَلَمْ يَقُلْ : وَعَلَى الْوَالِدِ كَمَا قَالَ وَالْوَالِدَاتُ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الَّتِي تَلِدُهُ , وَأَمَّا الْأَبُ فَلَمْ يَلِدْهُ ; بَلْ هُوَ مَوْلُودٌ لَهُ لَكِنْ إذَا قُرِنَ بَيْنَهُمَا قِيلَ : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } فَأَمَّا مَعَ الْإِفْرَادِ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَتُهُ وَالِدًا , بَلْ أَبًا . وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْوَلَدَ وَلَدٌ لِلْأَبِ ; لَا لِلْأُمِّ ; وَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ حَمْلًا وَأُجْرَةُ رَضَاعِهِ . وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْله تَعَالَى : { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ } , فَجَعَلَهُ مَوْهُوبًا لِلْأَبِ , وَجَعَلَ بَيْتَهُ فِي قَوْلِهِ : { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } وَإِذَا كَانَ الْأَبُ هُوَ الْمُنْفِقُ عَلَيْهِ جَنِينًا وَرَضِيعًا , وَالْمَرْأَةُ وِعَاءٌ : فَالْوَلَدُ زَرْعٌ لِلْأَبِ قَالَ تَعَالَى : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } . فَالْمَرْأَةُ هِيَ الْأَرْضُ الْمَزْرُوعَةُ , وَالزَّرْعُ فِيهَا لِلْأَبِ , وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْقِيَ الرَّجُلُ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ } . يُرِيدُ بِهِ النَّهْيَ عَنْ وَطْءِ الْحَبَالَى , فَإِنَّ مَاءَ الْوَاطِئِ يَزِيدُ فِي الْحَمْلِ كَمَا يَزِيدُ الْمَاءُ فِي الزَّرْعِ , وَفِي

الْحَدِيثِ الْآخَرِ الصَّحِيحِ : { لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنَةً تَدْخُلُ مَعَهُ مِنْ قَبْرِهِ , كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ , وَكَيْفَ يَسْتَعْبِدُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ ؟ } . وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ لِلْأَبِ وَهُوَ زَرْعُهُ كَانَ هَذَا مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك } . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ , وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ } فَقَدْ حَصَلَ الْوَلَدُ مِنْ كَسْبِهِ , كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ ; فَإِنَّ الزَّرْعَ الَّذِي فِي الْأَرْضِ كَسْبُ الْمُزْدَرِعِ لَهُ الَّذِي بَذَرَهُ وَسَقَاهُ وَأَعْطَى أُجْرَةَ الْأَرْضِ , فَإِنَّ الرَّجُلَ أَعْطَى الْمَرْأَةَ مَهْرَهَا , وَهُوَ أَجْرُ الْوَطْءِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } . وَهُوَ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } . وَقَدْ فُسِّرَ { مَا كَسَبَ } بِالْوَلَدِ . فَالْأُمُّ هِيَ الْحَرْثُ وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا زَرَعَ , وَالْأَبُ اسْتَأْجَرَهَا بِالْمَهْرِ كَمَا يَسْتَأْجِرُ الْأَرْضَ , وَأَنْفَقَ عَلَى الزَّرْعِ بِإِنْفَاقِهِ لَمَّا كَانَتْ حَامِلًا , ثُمَّ أَنْفَقَ عَلَى الرَّضِيعِ , كَمَا يُنْفِقُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ إذَا كَانَ مَسْتُورًا وَإِذَا بَرَزَ ; فَالزَّرْعُ هُوَ الْوَلَدُ , وَهُوَ مِنْ كَسْبِهِ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا لَا يَضُرُّ بِهِ ; كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ , وَإِنَّ مَالَهُ لِلْأَبِ مُبَاحٌ , وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِلِابْنِ فَهُوَ مُبَاحٌ

لِلْأَبِ أَنْ يَمْلِكَهُ وَإِلَّا بَقِيَ لِلِابْنِ ; فَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يَتَمَلَّكْهُ وَرِثَ عَنْ الِابْنِ . وَلِلْأَبِ أَيْضًا أَنْ يَسْتَخْدِمَ الْوَلَدَ مَا لَمْ يَضُرَّ بِهِ . وَفِي هَذَا وُجُوبُ طَاعَةِ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ إذَا كَانَ الْعَمَلُ مُبَاحًا لَا يَضُرُّ بِالِابْنِ ; فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَخْدَمَ عَبْدَهُ فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ اعْتَدَى عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ فَالِابْنُ أَوْلَى . وَنَفْعُ الِابْنِ لَهُ إذَا لَمْ يَأْخُذْهُ الْأَبُ ; بِخِلَافِ نَفْعِ الْمَمْلُوكِ فَإِنَّهُ لِمَالِكِهِ , كَمَا أَنَّ مَالَهُ لَوْ مَاتَ لِمَالِكِهِ لَا لِوَارِثِهِ . وَدَلَّ مَا ذَكَرَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَطَأَ حَامِلًا مِنْ غَيْرِهِ , وَأَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا كَانَ كَسَقْيِ الزَّرْعِ يَزِيدُ فِيهِ وَيُنَمِّيهِ وَيَبْقَى لَهُ شِرْكَةٌ فِي الْوَلَدِ , فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِعْبَادُ هَذَا الْوَلَدِ , فَلَوْ مَلَكَ أَمَةً حَامِلًا مِنْ غَيْرِهِ وَوَطِئَهَا حَرُمَ اسْتِعْبَادُ هَذَا الْوَلَدِ ; لِأَنَّهُ سَقَاهُ ; وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كَيْفَ يَسْتَعْبِدُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ } . " وَكَيْفَ يُوَرِّثُهُ " أَيْ يَجْعَلُهُ مَوْرُوثًا مِنْهُ " وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ " . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ : كَيْفَ يَجْعَلُهُ وَارِثًا . فَقَدْ غَلِطَ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ كَانَتْ أَمَةً لِلْوَاطِئِ , وَالْعَبْدُ لَا يُجْعَلُ وَارِثًا , إنَّمَا يُجْعَلُ مَوْرُوثًا . فَأَمَّا إذَا اُسْتُبْرِئَتْ الْمَرْأَةُ عُلِمَ أَنَّهُ لَا زَرْعَ هُنَاكَ . وَلَوْ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ عِنْدَ مَنْ لَا يَطَؤُهَا فَفِيهِ نِزَاعٌ , وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ الْوَطْءِ ; لِأَنَّهُ لَا زَرْعَ هُنَاكَ , وَظُهُورُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ هُنَا أَقْوَى مِنْ

بَرَاءَتِهَا مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ بِحَيْضَةٍ ; فَإِنَّ الْحَامِلَ قَدْ يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ الدَّمِ مِثْلُ دَمِ الْحَيْضِ ; وَإِنْ كَانَ نَادِرًا . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُوَ حَيْضٌ أَوْ لَا ؟ فَالِاسْتِبْرَاءُ لَيْسَ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ ; بَلْ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ . وَالْبَكَارَةُ وَكَوْنُهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِصَبِيٍّ أَوْ امْرَأَةٍ أَدَلُّ عَلَى الْبَرَاءَةِ وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ صَادِقًا وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ , وَاسْتِبْرَاءُ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ وَالْعَجُوزِ وَالْآيِسَةِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ . وَلِهَذَا اضْطَرَبَ الْقَائِلُونَ هَلْ تُسْتَبْرَأُ بِشَهْرٍ ؟ أَوْ شَهْرٍ وَنِصْفٍ ؟ أَوْ شَهْرَيْنِ ؟ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ؟ وَكُلُّهَا أَقْوَالٌ ضَعِيفَةٌ . وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمْ يَكُنْ يَسْتَبْرِئُ الْبِكْرَ , وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ بِالِاسْتِبْرَاءِ إلَّا فِي الْمُسْبَيَاتِ , كَمَا قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ : { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ , وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ } لَمْ يَأْمُرْ كُلَّ مَنْ وَرِثَ أَمَةً أَوْ اشْتَرَاهَا أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ فِي زَمَنِهِ , فَعُلِمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِالْحَالِ ; لِإِمْكَانِ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا . وَكَذَلِكَ مَنْ مُلِكَتْ وَكَانَ سَيِّدُهَا يَطَؤُهَا وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا ; لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ هَذَا ; إذْ لَمْ يَكُنْ الْمُسْلِمُونَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا ; لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَحَدٌ أَنْ

يَبِيعَ أَمَتَهُ الْحَامِلَ مِنْهُ ; بَلْ لَا يَبِيعُهَا إذَا وَطِئَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا , فَلَا يَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي إلَى اسْتِبْرَاءٍ ثَانٍ . وَلِهَذَا لَمْ يَنْهَ عَنْ وَطْءِ الْحَبَالَى مِنْ [ السَّادَاتِ ] إذَا مُلِكَتْ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ ; لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ يَقَعُ ; بَلْ هَذِهِ دَخَلَتْ فِي نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنْ يَسْقِيَ الرَّجُلُ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ } . وقَوْله تَعَالَى : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْآيَةِ : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ هُوَ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُسَمًّى يَرْجِعَانِ إلَيْهِ . " وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ " إنَّمَا تُقَدَّرُ بِالْمُسَمَّى إذَا كَانَ هُنَاكَ مُسَمًّى يَرْجِعَانِ إلَيْهِ , كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لَمَّا كَانَ السِّلْعَةُ هِيَ أَوْ مِثْلُهَا بِثَمَنٍ مُسَمًّى وَجَبَ ثَمَنُ الْمِثْلِ إذَا أُخِذَتْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ , وَكَمَا قَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةُ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ الْعَبْدُ } فَهُنَاكَ أُقِيمَ الْعَبْدُ ; لِأَنَّهُ وَمِثْلَهُ يُبَاعُ فِي السُّوقِ , فَتُعْرَفُ الْقِيمَةُ الَّتِي هِيَ السِّعْرُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ , وَكَذَلِكَ الْأَجِيرُ وَالصَّانِعُ كَمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِعَلِيٍّ : { أَنْ يُعْطِيَ الْجَازِرَ مِنْ الْبُدْنِ شَيْئًا وَقَالَ : نَحْنُ

نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا } . فَإِنَّ الذَّبْحَ وَقِسْمَةَ اللَّحْمِ عَلَى الْمُهْدِي ; فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْجَازِرِ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ , وَهُوَ يَسْتَحِقُّ نَظِيرَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِثْلُهُ إذَا عَمِلَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْجِزَارَةَ مَعْرُوفَةٌ , وَلَهَا عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصِّنَاعَاتِ : كَالْحِيَاكَةِ , وَالْخِيَاطَةِ , وَالْبِنَاءِ . وَقَدْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَخِيطُ بِالْأُجْرَةِ عَلَى عَهْدِهِ فَيَسْتَحِقُّ هَذَا الْخَيَّاطُ مَا يَسْتَحِقُّهُ نُظَرَاؤُهُ , وَكَذَلِكَ أَجِيرُ الْخِدْمَةِ يَسْتَحِقُّ مَا يَسْتَحِقُّهُ نَظِيرُهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ النَّاسِ . وَأَمَّا " الْأُمُّ الْمُرْضِعَةُ " فَهِيَ نَظِيرُ سَائِرِ الْأُمَّهَاتِ الْمُرْضِعَاتِ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَلَيْسَ لَهُنَّ عَادَةٌ مُقَدَّرَةٌ إلَّا اعْتِبَارَ حَالِ الرَّضَاعِ بِمَا ذُكِرَ , وَهِيَ إذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْهُ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ اسْتَحَقَّتْ نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ , وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ نَفَقَةٌ عَلَى الْحَمْلِ . وَهَذَا أَظْهَرُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } . وَلِلْعُلَمَاءِ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ نَفَقَةُ زَوْجَةٍ مُعْتَدَّةٍ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يُوجِبُ النَّفَقَةَ لِلْبَائِنِ كَمَا يُوجِبُهَا لِلرَّجْعِيَّةِ , كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ , وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ ; وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ ; وَلَكِنْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَيْسَ لِكَوْنِهَا حَامِلًا تَأْثِيرٌ ,

فَإِنَّهُمْ يُنْفِقُونَ عَلَيْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ ; سَوَاءٌ كَانَتْ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا . الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا نَفَقَةَ زَوْجَةٍ ; لِأَجْلِ الْحَمْلِ ; كَأَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ , وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ . وَهَذَا قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ ; فَإِنَّهُ إنْ كَانَ نَفَقَةُ زَوْجَةٍ فَقَدْ وَجَبَ لِكَوْنِهَا زَوْجَةً ; لَا لِأَجْلِ الْوَلَدِ . وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ الْوَلَدِ فَنَفَقَةُ الْوَلَدِ تَجِبُ مَعَ غَيْرِ الزَّوْجَةِ , كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى سَرِيَّتِهِ الْحَامِلِ إذَا أَعْتَقَهَا . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : هَلْ وَجَبَتْ النَّفَقَةُ لِلْحَمْلِ ؟ أَوْ لَهَا مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَإِنْ أَرَادُوا لَهَا مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ . أَيْ لِهَذِهِ الْحَامِلِ مِنْ أَجْلِ حَمْلِهَا فَلَا فَرْقَ . وَإِنْ أَرَادُوا - وَهُوَ مُرَادُهُمْ - أَنَّهُ يَجِبُ لَهَا نَفَقَةُ زَوْجَةٍ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ : فَهَذَا تَنَاقُضٌ , فَإِنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَجِبُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَمْلٌ . وَنَفَقَةُ الْحَمْلِ تَجِبُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةٌ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الصَّحِيحُ : أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِلْحَمْلِ ; وَلَهَا مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ ; لِكَوْنِهَا حَامِلًا بِوَلَدِهِ ; فَهِيَ نَفَقَةٌ عَلَيْهِ , لِكَوْنِهِ أَبَاهُ , لَا عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا زَوْجَةً . وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ , وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ ; وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا ; فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } ,

وَقَالَ هُنَا : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } . فَجَعَلَ أَجْرَ الْإِرْضَاعِ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْحَامِلِ ; وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَجْرَ الْإِرْضَاعِ يَجِبُ عَلَى الْأَبِ لِكَوْنِهِ أَبًا , فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْحَامِلِ ; وَلِأَنَّ نَفَقَةَ الْحَامِلِ وَرِزْقَهَا وَكِسْوَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ ; وَقَدْ جُعِلَ أَجْرُ الْمُرْضِعَةِ كَذَلِكَ ; وَلِأَنَّهُ قَالَ : { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } أَيْ وَارِثِ الطِّفْلِ , فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْأَبِ . وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ وَالرَّضَاعِ مِنْ " بَابِ نَفَقَةِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ " ; لَا مِنْ " بَابِ نَفَقَةِ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ " . وَعَلَى هَذَا فَلَوْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةٌ بَلْ كَانَتْ حَامِلًا بِوَطْءِ شُبْهَةٍ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ أَوْ كَانَتْ حَامِلًا مِنْهُ وَقَدْ أَعْتَقَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْحَمْلِ , كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْإِرْضَاعِ ; وَلَوْ كَانَ الْحَمْلُ لِغَيْرِهِ , كَمَنْ وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِنِكَاحٍ أَوْ شُبْهَةٍ أَوْ إرْثٍ فَالْوَلَدُ هُنَا لِسَيِّدِ الْأَمَةِ , فَلَيْسَ عَلَى الْوَاطِئِ شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ زَوْجًا , وَلَوْ تَزَوَّجَ عَبْدٌ حُرَّةً فَحَمَلَتْ مِنْهُ فَالنَّسَبُ هَهُنَا لَاحِقٌ ; لَكِنَّ الْوَلَدَ حُرٌّ ; وَالْوَلَدُ الْحُرُّ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى أَبِيهِ الْعَبْدِ ; وَلَا أُجْرَةُ رَضَاعِهِ ; فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ مَالٌ يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى وَلَدِهِ , وَسَيِّدُهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي وَلَدِهِ ; فَإِنَّ وَلَدَهُ : إمَّا حُرٌّ , وَإِمَّا مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ , نَعَمْ , لَوْ كَانَتْ الْحَامِلُ أَمَةً وَالْوَلَدُ حُرٌّ مِثْلُ الْمَغْرُورِ

الَّذِي اشْتَرَى أَمَةً فَظَهَرَ أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِغَيْرِ الْبَائِعِ , أَوْ تَزَوَّجَ حُرَّةً فَظَهَرَ أَنَّهَا أَمَةً ; فَهُنَا الْوَلَدُ حُرٌّ , وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً مَمْلُوكَةً لِغَيْرِ الْوَاطِئِ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا وَطِئَ مَنْ يَعْتَقِدُهَا مَمْلُوكَةً لَهُ أَوْ زَوْجَةً حُرَّةً , وَبِهَذَا قَضَتْ الصَّحَابَةُ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ بِشِرَاءِ الْوَلَدِ وَهُوَ نَظِيرُهُ فَهُنَا الْآنَ يُنْفِقُ عَلَى الْحَامِلِ كَمَا يُنْفِقُ عَلَى الْمُرْضِعَةِ لَهُ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

فَصْلٌ وَاَلَّذِينَ جَوَّزُوا الْمُزَارَعَةَ , مِنْهُمْ مَنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ , وَقَالُوا : هَذِهِ هِيَ الْمُزَارَعَةُ , فَأَمَّا إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ لَمْ يَجُزْ , وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ , اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ , وَأَصْحَابِ مَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , حَيْثُ يُجَوِّزُونَ الْمُزَارَعَةَ . وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ قِيَاسُهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ , وَبِذَلِكَ احْتَجَّ أَحْمَدُ أَيْضًا , قَالَ الْكَرْمَانِيُّ : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : رَجُلٌ دَفَعَ أَرْضَهُ إلَى الْإِكْرَاءِ عَلَى الثُّلُثِ أَوْ الرُّبْعِ , قَالَ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ , وَالْبَقَرُ وَالْعَمَلُ وَالْحَدِيدُ مِنْ الْأَكَّارِ , فَذَهَبَ فِيهِ مَذْهَبَ الْمُضَارَبَةِ , وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْبَذْرَ هُوَ أَصْلُ الزَّرْعِ , كَمَا أَنَّ الْمَالَ هُوَ أَصْلُ الرِّبْحِ , فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِمَّنْ لَهُ الْأَصْلُ لِيَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمَا الْعَمَلُ وَمِنْ الْآخَرِ الْأَصْلُ . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ , بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ , وَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ جَمَاهِيرُ أَصْحَابِهِ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ نَصًّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُكْرِيَ أَرْضَهُ بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبْعِ ; كَمَا عَامَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ , فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ , كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى : إذَا دَفَعَ أَرْضَهُ لِمَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا بِبَذْرِهِ بِجُزْءٍ مِنْ الزَّرْعِ لِلْمَالِكِ فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ جَازَ , وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُزَارَعَةِ لَمْ يَجُزْ . وَجَعَلُوا

هَذَا التَّفْرِيقَ تَقْرِيرًا لِنُصُوصِهِ ; لِأَنَّهُمْ رَأَوْا عَامَّةَ نُصُوصِهِ صَرَائِحَ كَثِيرَةً جِدًّا فِي جَوَازِ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ مِنْهَا , وَرَأَوْا أَنَّ مَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ عِنْدَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْمُزَارَعَةِ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ , كَالْمُضَارَبَةِ , فَفَرَّقُوا بَيْنَ بَابِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ , وَبَابِ الْإِجَارَةِ وَقَالَ آخَرُونَ , مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ يَجُوزُ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَرَادَ بِهِ الْمُزَارَعَةَ وَالْعَمَلَ مِنْ الْأَكَّارِ , قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَمُتَّبِعُوهُ فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهَا , وَإِنْ كَانَ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْعَامِلِ بِمَا شُرِطَ لَهُ , فَقَالُوا فَعَلَى هَذَا مَا يَأْخُذُهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ يَسْتَحِقُّهُ بِبَذْرِهِ , وَمَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْأُجْرَةِ يَأْخُذُهُ بِالشَّرْطِ . وَمَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنَّ نَصَّهُ عَلَى الْمُكَارَاةِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ هُوَ الْمُزَارَعَةُ عَلَى أَنْ يَبْذُرَ الْأَكَّارُ هُوَ الصَّحِيحُ , وَلَا يَحْتَمِلُ الْفِقْهُ إلَّا هَذَا , أَوْ أَنْ يَكُونَ نَصُّهُ عَلَى جَوَازِ الْمُؤَاجَرَةِ الْمَذْكُورَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَجَوَازُ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ مُطْلَقًا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يَتَوَجَّهُ غَيْرُهُ أَثَرًا وَنَظَرًا وَهُوَ ظَاهِرُ نُصُوصِ أَحْمَدَ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ , وَاخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ : قَوْلُ مَنْ اشْتَرَطَ أَنْ

يَبْذُرَ رَبُّ الْأَرْضِ . أَوْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ إجَارَةً أَوْ مُزَارَعَةً هُوَ فِي الضَّعْفِ نَظِيرُ مَنْ سَوَّى الْإِجَارَةَ الْخَاصَّةَ وَالْمُزَارَعَةَ أَوْ أَضْعَفُ , أَمَّا بَيَانُ نَصِّ أَحْمَدَ فَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا جَوَّزَ الْمُؤَاجَرَةَ بِبَعْضِ الزَّرْعِ , اسْتِدْلَالًا بِقِصَّةِ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ خَيْبَرَ , وَمُعَامَلَتُهُ لَهُمْ إنَّمَا كَانَتْ مُزَارَعَةً , وَلَمْ تَكُنْ بِلَفْظٍ لَمْ يُنْقَلْ وَيَمْنَعْ فِعْلَهُ بِاللَّفْظِ الْمَشْهُورِ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَارَطَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ , وَلَمْ يَدْفَعْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَذْرًا , فَإِذَا كَانَتْ الْمُعَامَلَةُ الَّتِي فَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانُوا يَبْذُرُونَ فِيهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ , فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَا أَحْمَدُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ , ثُمَّ يَقِيسَ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ , ثُمَّ يَمْنَعُ الْأَصْلَ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ مِنْ الْمُزَارَعَةِ الَّتِي بَذَرَ فِيهَا الْعَامِلُ , وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ , لِلْيَهُودِ : { نُقِرُّكُمْ فِيهَا مَا أَقَرَّكُمْ } , لَمْ يَشْتَرِطْ مُدَّةً مَعْلُومَةً حَتَّى قَالَ : كَانَتْ إجَارَةً لَازِمَةً . لَكِنَّ أَحْمَدَ حَيْثُ قَالَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْبَذْرِ مِنْ الْمِلْكِ , فَإِنَّمَا قَالَهُ مُتَابَعَةً لِمَنْ أَوْجَبَهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَإِذَا أَفْتَى الْعَالِمُ بِقَوْلِ الْحُجَّةِ وَلَهَا مُعَارِضٌ

رَاجِحٌ لَمْ يَسْتَحْضِرْهَا حِينَئِذٍ ذَلِكَ الْمُعَارِضُ الرَّاجِحُ , ثُمَّ لَمَّا أَفْتَى بِجَوَازِ الْمُؤَاجَرَةِ بِثُلُثِ الزَّرْعِ اسْتِدْلَالًا بِمُزَارَعَةِ خَيْبَرَ , فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي خَيْبَرَ كَانَ الْبَذْرُ عِنْدَهُ مِنْ الْعَامِلِ , وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال , فَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّ أَحْمَدَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُؤَاجَرَةِ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ وَبَيْنَ الْمُزَارَعَةِ بِبَذْرِ الْعَامِلِ , كَمَا فَرَّقَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ , فَمُسْتَنَدُ هَذَا الْفَرْقِ لَيْسَ مَأْخَذًا شَرْعِيًّا , فَإِنَّ أَحْمَدَ لَا يَرَى اخْتِلَافَ أَحْكَامِ الْعُقُودِ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ , كَمَا يَرَاهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَيَمْنَعُونَهَا بِلَفْظِ الْمُزَارَعَةِ , وَكَذَلِكَ يُجَوِّزُونَ بَيْعَ مَا فِي الذِّمَّةِ بَيْعًا حَلَالًا بِلَفْظِ الْبَيْعِ , وَيَمْنَعُونَهُ بِلَفْظِ السَّلَمِ ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ سَلَمًا حَالًّا . وَنُصُوصُ أَحْمَدَ وَأُصُولُهُ تَأْبَى هَذَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ فِي مَسْأَلَةِ مَبِيعِ الْعُقُودِ , فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ بِالْمَعَانِي لَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَلْفَاظِ , كَمَا يَشْهَدُ بِهِ أَجْوِبَتُهُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالْوَصَايَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ , وَإِنْ كَانَ هُوَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا فَرَّقَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَكُونُ هَذَا التَّفْرِيقُ رِوَايَةً عَنْهُ مَرْجُوحَةً , كَالرِّوَايَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ . أَمَّا الدَّلِيلُ : عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ : فَالسُّنَّةُ , وَالْإِجْمَاعُ , وَالْقِيَاسُ . أَمَّا السُّنَّةُ : فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ

مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ , وَمَا دَفَعَ إلَيْهِمْ بَذْرًا , وَكَمَا عَامَلَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَنْصَارَ عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ عِنْدِهِ , قَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ , حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إبْرَاهِيمَ , عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ , عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ , عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ حَكِيمٍ , أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَعْمَلَ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ فَأَعْطَاهُ الْعِنَبَ وَالنَّخْلَ عَلَى أَنَّ لِعُمَرَ الثُّلُثَانِ وَلَهُمْ الثُّلُثُ , وَأَعْطَاهُ الْبَيَاضَ إنْ كَانَ الْبَقَرُ وَالْبَذْرُ وَالْحَدِيدُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ فَلِعُمَرَ الثُّلُثَانِ وَلَهُمْ الثُّلُثُ , وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فَلِعُمَرَ الشَّطْرُ وَلَهُمْ الشَّطْرُ , فَهَذَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ عَامِلُهُ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَمِلَ خِلَافَهُ بِتَجْوِيزِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ , أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَامِلِ . وَقَالَ حَرْبٌ : حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ , حَدَّثَنَا سُفْيَانُ , عَنْ الْحَارِثِ بْنِ حُضَيْرٍ عَنْ صَخْرِ بْنِ الْوَلِيدِ , عَنْ عُمَرَ بْنِ خَلِيعٍ الْمُحَارِبِيِّ , قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ , فَقَالَ : إنَّ فُلَانًا أَخَذَ أَرْضًا فَعَمِلَ فِيهَا وَفَعَلَ فِيهَا , فَدَعَاهُ عَلِيٌّ , فَقَالَ : مَا هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي أَخَذْت , قَالَ : أَرْضٌ أَخَذْتهَا أُكْرِيَ أَنْهَارَهَا , وَأَعْمُرُهَا , وَأَزْرَعُهَا , فَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ فَلِي النِّصْفُ وَلَهُ النِّصْفُ , فَقَالَ : لَا

بَأْسَ بِهَذَا . فَظَاهِرُهُ أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ , وَيَكْفِي إطْلَاقُ سُؤَالِهِ وَإِطْلَاقُ عَلِيٍّ الْجَوَابَ . وَأَمَّا الْقِيَاسُ : فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ نَوْعٌ مِنْ الشَّرِكَةِ لَيْسَتْ مِنْ الْإِجَارَةِ الْخَاصَّةِ وَإِنْ جُعِلَتْ إجَارَةً ; فَهِيَ مِنْ الْإِجَارَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا الْجَعَالَةُ وَالسَّبْقُ وَالرَّمْيُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ , فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْهُمَا , وَذَلِكَ أَنَّ الْبَذْرَ فِي الْمُزَارَعَةِ لَيْسَ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي يَرْجِعُ إلَى رَبِّهَا كَالثَّمَنِ فِي الْمُضَارَبَةِ , بَلْ الْبَذْرُ يَتْلَفُ كَمَا تَتْلَفُ الْمَنَافِعُ , وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْأَرْضُ أَوْ بَدَنُ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ , فَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِثْلَ رَأْسِ الْمَالِ , لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَرْجِعَ مِثْلُهُ إلَى مَخْرَجِهِ ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ يَشْتَرِكَانِ فِي جَمِيعِ الزَّرْعِ , فَظَهَرَ أَنَّ الْأُصُولَ فِيهَا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ هِيَ الْأَرْضُ بِمَائِهَا وَهَوَائِهِمْ وَبَدَنِ الْعَامِلِ وَالْبَقَرِ , وَأَكْثَرُ الْحَرْثِ وَالْبَذْرِ يَذْهَبُ كَمَا تَذْهَبُ الْمَنَافِعُ وَكَمَا يَذْهَبُ أَجْزَاءٌ مِنْ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ فَيَسْتَحِيلُ زَرْعًا , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ الزَّرْعَ مِنْ نَفْسِ الْحَبِّ وَالتُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ , كَمَا يَخْلُقُ الْحَيَوَانَ مِنْ مَاءِ الْأَبَوَيْنِ , بَلْ مَا يَسْتَحِيلُ فِي الزَّرْعِ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ مِنْ الْحَبِّ , وَالْحَبُّ يَسْتَحِيلُ فَلَا يَبْقَى , بَلْ يَخْلُقُهُ اللَّهُ وَيُحِيلُهُ كَمَا يُحِيلُ أَجْزَاءً مِنْ

الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ , وَكَمَا يُحِيلُ الْمَنِيَّ وَسَائِرَ مَخْلُوقَاتِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْمَعْدِنِ وَالنَّبَاتِ , وَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْ رَأْيِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْحَبَّ وَالنَّوَى فِي الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ هُوَ الْأَصْلُ , وَالْبَاقِي تَبَعٌ حَتَّى قَضَوْا فِي مَوَاضِعَ بِأَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ وَالشَّجَرُ لِرَبِّ النَّوَى وَالْحَبُّ , مَعَ قِلَّةِ قِيمَتِهِ وَلِرَبِّ الْأَرْضِ أُجْرَةُ أَرْضِهِ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَضَى بِضِدِّ هَذَا حَيْثُ قَالَ : { مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ } . فَأَخَذَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ بِهَذَا الْحَدِيثِ , وَبَعْضُ مَنْ أَخَذَ بِهِ يَرَى أَنَّهُ خِلَافُ الْقِيَاسِ وَأَنَّهُ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِحْسَانِ , وَهَذَا لِمَا انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْقِيَاسِ الْمُتَقَدِّمِ , وَهُوَ أَنَّ الزَّرْعَ تَبَعٌ لِلْبَذْرِ وَالشَّجَرَ تَبَعٌ لِلنَّوَى , وَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ , فَإِنَّ إلْقَاءَ الْحَبِّ فِي الْأَرْضِ يُعَادِلُهُ إلْقَاءُ الْمَنِيِّ فِي الرَّحِمِ سَوَاءٌ . وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ النِّسَاءَ حَرْثًا فِي قَوْلِهِ : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } كَمَا سَمَّى الْأَرْضَ الْمَزْرُوعَةَ حَرْثًا , وَالْمُغَلَّبُ فِي مِلْكِ الْحَيَوَانِ إنَّمَا هُوَ جَانِبُ الْأُمِّ , وَلِهَذَا يَتْبَعُ الْوَلَدُ الْآدَمِيُّ أُمَّهُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ دُونَ أَبِيهِ , وَيَكُونُ جَنِينُ الْبَهِيمَةِ لِمَالِكِ الْأُمِّ دُونَ الْعِجْلِ الَّذِي نَهَى عَنْ عَسْبِهِ , وَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي

اسْتَمَدَّهَا مِنْ الْأُمِّ أَضْعَافُ الْأَجْزَاءِ الَّتِي اسْتَمَدَّهَا مِنْ الْأَبِ , وَإِنَّمَا لِلْأَبِ حَقُّ الِابْتِدَاءِ فَقَطْ , وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْهُمَا جَمِيعًا , وَكَذَلِكَ الْحَبُّ وَالنَّوَى , فَإِنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا الشَّجَرُ وَالزَّرْعُ أَكْثَرُهَا مِنْ التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ , وَقَدْ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ فَيَضْعُفُ بِالزَّرْعِ فِيهَا , لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَجْزَاءُ تَسْتَخْلِفُ دَائِمًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَزَالُ يَمُدُّ الْأَرْضَ بِالْمَاءِ وَبِالْهَوَاءِ وَبِالتُّرَابِ , إمَّا مُسْتَحِيلًا مِنْ غَيْرِهِ وَإِمَّا بِالْمَوْجُودِ , وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَرْضِ بَعْضُ الْأَجْزَاءِ التُّرَابِيَّةِ شَيْئًا إمَّا لِلْخَلَفِ بِالِاسْتِحَالَةِ وَإِمَّا لِلْكَثْرَةِ . وَلِهَذَا صَارَ يَظْهَرُ أَنَّ أَجْزَاءَ الْأَرْضِ فِي مَعْنَى الْمَنَافِعِ بِخِلَافِ الْحَبِّ وَالنَّوَى الْمُلْقَى فِيهَا , فَإِنَّهُ عَيْنٌ ذَاهِبَةٌ مُتَخَلِّفَةٌ وَلَا يُعَوَّضُ عَنْهَا , لَكِنْ هَذَا الْقَدْرُ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ هُوَ الْأَصْلُ فَقَطْ , فَإِنَّ الْعَامِلَ هُوَ وَبَقَرُهُ لَا بُدَّ لَهُ مُدَّةَ الْعَمَلِ مِنْ قُوتٍ وَعَلَفٍ يَذْهَبُ أَيْضًا وَرَبُّ الْأَرْضِ لَا يَحْتَاجُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ , وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ لَا يَرْجِعُ إلَى رَبِّهِ كَمَا يَرْجِعُ فِي الْقِرَاضِ , وَلَوْ جَرَى عِنْدَهُمْ مَجْرَى الْأُصُولِ لَرَجَعَ , فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أُصُولٍ بَاقِيَةٍ , وَهِيَ : الْأَرْضُ , وَبَدَنُ الْعَامِلِ , وَالْبَقَرُ , وَالْحَدِيدُ , وَمَنَافِعُ فَانِيَةٌ , وَأَجْزَاءُ فَانِيَةٌ أَيْضًا , وَهِيَ

الْبَذْرُ , وَبَعْضُ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ , وَبَعْضُ أَجْزَاءِ الْعَامِلِ وَبَقَرِهِ . فَهَذِهِ الْأَجْزَاءُ الْفَانِيَةُ كَالْمَنَافِعِ الْفَانِيَةِ سَوَاءٌ , فَتَكُونُ الْخِيرَةُ إلَيْهِمَا فِيمَنْ يُبَدِّلُ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ وَيَشْتَرِكَانِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَ مَا لَمْ يُفِضْ إلَى بَعْضِ مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ أَوْ الرِّبَا وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ , وَلِهَذَا جَوَّزَ أَحْمَدُ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْمُشَارَكَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ , مِثْلُ أَنْ يَدْفَعَ دَابَّتَهُ أَوْ سَفِينَتَهُ أَوْ غَيْرَهُمَا إلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهِمَا وَالْأُجْرَةُ بَيْنَهُمَا . فَصْلٌ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى حِكْمَةِ بَيْعِ الْغَرَرِ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ يَجْمَعُ النَّشْرَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ , فَإِنَّك تَجِدُ كَثِيرًا مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ إمَّا أَنْ يَتَمَسَّكَ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ أَلْفَاظٍ يَظُنُّهَا عَامَّةً أَوْ مُطْلَقَةً أَوْ يَضْرِبُ مِنْ الْقِيَاسِ الْمَعْنَوِيِّ أَوْ الشَّبَهِيِّ , فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَحْمَدَ حَيْثُ يَقُولُ يَنْبَغِي لِلْمُتَكَلِّمِ فِي الْفِقْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْمُجْمَلِ وَالْقِيَاسِ , ثُمَّ هَذَا التَّمَسُّكُ يُفْضِي إلَى مَا يُمْكِنُ اتِّبَاعُهُ أَلْبَتَّةَ , وَهَذَا الْبَابُ بَيْعُ الدُّيُونِ دَيْنِ السِّلْمِ وَغَيْرِهِ وَأَنْوَاعٍ مِنْ الصُّلْحِ وَالْوَكَالَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , لَوْلَا أَنَّ الْغَرَضَ ذِكْرُ قَوَاعِدَ كُلِّيَّةٍ تَجْمَعُ أَبْوَابًا لَذَكَرْنَا أَنْوَاعًا مِنْ هَذَا .

الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فِيهَا فِيمَا يَحِلُّ مِنْهَا وَيَحْرُمُ وَمَا يَصِحُّ مِنْهَا وَيَفْسُدُ وَمَسَائِلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا , وَاَلَّذِي يُمْكِنُ ضَبْطُهُ مِنْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقَالَ الْأَصْلُ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فِيهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ , الْحَظْرُ . إلَّا مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِجَازَتِهِ . فَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ , وَكَثِيرٌ مِنْ أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ تُبْنَى عَلَى هَذَا , وَكَثِيرٌ مِنْ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ , وَأُصُولِ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ , فَإِنَّ أَحْمَدَ قَدْ يُعَلِّلُ أَحْيَانًا بُطْلَانَ الْعَقْدِ بِكَوْنِهِ لَمْ يَرِدْ بِهِ أَثَرٌ , وَلَا قِيَاسَ كَمَا قَالَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ , وَكَذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ قَدْ يُعَلِّلُونَ فَسَادَ الشُّرُوطِ بِأَنَّهَا تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ , وَيَقُولُونَ مَا خَالَفَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَهُوَ بَاطِلٌ , أَمَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ فَلَمْ يُصَحِّحُوا , لَا عَقْدًا , وَلَا شَرْطًا إلَّا مَا ثَبَتَ جَوَازُهُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ , وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ جَوَازُهُ أَبْطَلُوهُ , وَاسْتَصْحَبُوا الْحُكْمَ الَّذِي قَبْلَهُ , وَطَرَدُوا ذَلِكَ طَرْدًا جَارِيًا , لَكِنْ خَرَجُوا فِي كَثِيرٍ مِنْهُ إلَى أَقْوَالٍ يُنْكِرُهَا عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأُصُولُهُ تَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُصَحِّحُ فِي الْعُقُودِ شَرْطًا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهَا الْمُطْلَقَ , وَإِنَّمَا يُصَحِّحُ الشَّرْطَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ الْعَقْدُ مِمَّا يُمْكِنُ فَسْخُهُ , وَلِهَذَا لَهُ أَنْ يَشْرِطَ فِي الْبَيْعِ خِيَارًا وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ تَأْخِيرُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19