كتاب : إقامة الدليل على إبطال التحليل
تأليف : شيخ الإسلام ابن تيمية

553 - 553 - 16 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ جَرَى مِنْهُ كَلَامٌ فِي زَوْجَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ , فَقَالَ : إنْ جَاءَتْ زَوْجَتِي بِبِنْتٍ فَهِيَ طَالِقٌ , ثُمَّ إنَّهُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ جَرَى بَيْنَهُمْ كَلَامٌ فَنَزَلَ عَنْ طَلْقَةٍ , ثُمَّ أَنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَضَعَتْ بِنْتًا , فَهَلْ يَقَعُ عَلَى الزَّوْجِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : إنْ كَانَ قَدْ أَبَانَهَا بِالطَّلْقَةِ بِأَنْ تَكُونَ الطَّلْقَةُ بِعِوَضٍ , أَوْ وَدَعَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ , وَفِيهَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَحَدُهُمَا يَقَعُ وَهُوَ رِوَايَةٌ مُخَرَّجَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ , وَإِنْ كَانَ لَمْ يُبِنْهَا بَلْ رَاجَعَ فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ فَإِنْ وُجِدَتْ الصِّفَةُ الْمُعَلَّقُ بِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ .
554 - 554 - 17 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ حَلَفَ مِنْ زَوْجَتِهِ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ مَا يَطَؤُهَا لِسِتَّةِ شُهُورٍ , وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ لَهَا غَيْرُ طَلْقَةٍ وَنِيَّتُهُ أَنْ لَا يَطَأَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ , فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ مَاذَا يَفْعَلُ ؟ الْجَوَابُ : إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ فَلَهُ وَطْؤُهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ تُطَالِبْهُ بِالْوَطْءِ عِنْدَ انْقِضَاءِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ; هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ وَهُوَ يُسَمَّى مُوَلِّيًا .

558 - 558 - 21 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ نَوَى أَنْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ إذَا حَاضَتْ وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِطَلَاقٍ ; فَلَمَّا أَنْ حَاضَتْ عَلِمَ أَنَّهَا طَلُقَتْ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَقَالَ لِلشُّهُودِ : آنَ طَلْقَةُ زَوْجَتِي . قَالُوا : مَتَى طَلَّقْتَهَا ؟ قَالَ : أَوَّلَ أَمْسِ ; بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ , فَلَمَّا مَضَى حَيْضَتَانِ غَيْرُ الْحَيْضَةِ الَّتِي ظَنَّ أَنَّهَا طَلُقَتْ فِيهَا زَوَّجَهَا الشُّهُودُ بِرَجُلٍ آخَرَ , ثُمَّ مَكَثَتْ عِنْدَهُ وَطَلَّقَهَا , ثُمَّ وَفَّتْ عِدَّتَهَا , ثُمَّ أَرَادَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ رَدَّهَا : فَهَلْ هِيَ حَلَالٌ لَهُ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ أَمْ يَجِبُ عَقْدٌ جَدِيدٌ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا إذَا نَوَى أَنَّهُ سَيُطَلِّقُهَا إذَا حَاضَتْ فَهَذَا لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ; بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ , فَإِذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ . وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ تِلْكَ النِّيَّةَ طَلَاقٌ فَأَقَرَّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِتِلْكَ النِّيَّةِ لَمْ يَقَعْ بِهَذَا الْإِقْرَارِ فِي الْبَاطِنِ ; وَلَكِنْ يُؤْخَذُ بِهِ فِي الْحُكْمِ . وَإِذَا لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى زَوْجِيَّتِهِ فِي الْبَاطِنِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

560 - 560 - 23 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ , فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ طَلَاقَ الْفَارِّ , وَيُعَامَلُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ , وَتَرِثُهُ الزَّوْجَةُ , وَتَسْتَكْمِلُ جَمِيعَ صَدَاقِهَا عَلَيْهِ , أَمْ لَا تَرِثُ , وَتَأْخُذُ نِصْفَ الصَّدَاقِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْمُطَلِّقِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ , وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ تَوْرِيثُهَا , كَمَا قَضَى بِذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِامْرَأَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفِ تُمَاضَرَ بِنْتِ الْأَصْبَغِ , وَقَدْ كَانَ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ , وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ , ثُمَّ عَلَى هَذَا هَلْ تَرِثُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ . وَالْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى قَوْلَيْنِ الْعُلَمَاءُ , أَصَحُّهُمَا أَنَّهَا تَرِثُ أَيْضًا , وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ , لِأَنَّهُ قَدْ رَوَى أَنَّ عُثْمَانَ وَرَّثَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ , وَلِأَنَّ هَذِهِ إنَّمَا وَرِثَتْ لِتَعَلُّقِ حَقِّهَا بِالتَّرِكَةِ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ , وَصَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي حَقِّهَا وَحَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ , بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ لِوَارِثٍ , وَلَا يَمْلِكُهُ لِغَيْرِ وَارِثٍ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ , كَمَا لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ , فَلَمَّا كَانَ تَصَرُّفُهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَرَثَةِ كَتَصَرُّفِهِ

بَعْدَ الْمَوْتِ , لَا يَمْلِكُ قَطْعَ إرْثِهَا , فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ بَعْدَ مَرَضِهِ . وَهَذَا هُوَ طَلَاقُ الْفَارِّ الْمَشْهُورُ بِهَذَا الِاسْمِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ , وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَفْتَى بِهِ .
559 - 559 - 22 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ طَلَبَتْ مِنْهُ الطَّلَاقَ , وَطَلَّقَهَا وَقَالَ : مَا بَقِيَتْ أَعُودُ إلَيْهَا أَبَدًا فَوَجَدَهُ صَاحِبُهُ , فَقَالَ : مَا أُصَدِّقُ عَلَى هَذَا إلَّا إنْ قُلْتَ كُلَّمَا تَزَوَّجْتُ هَذِهِ كَانَتْ طَالِقًا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ , وَلَمْ يَرَى الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ , فَهَلْ أَنْ يَرُدَّهَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , أَمَّا إنْ قَصَدَ كُلَّمَا تَزَوَّجْتُهَا بِرَجْعَةٍ أَوْ عَقْدٍ جَدِيدٍ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فَمَتَى ارْتَجَعَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ طَلُقَتْ ثَانِيَةً , ثُمَّ إنْ ارْتَجَعَهَا طَلُقَتْ ثَالِثَةً , وَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا بَانَتْ مِنْهُ , فَإِذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَمَنْ قَالَ إنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ قَالَ : إنَّ هَذِهِ إذَا تَزَوَّجَهَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ , وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ فَهَذِهِ لَمَّا عَلَّقَ طَلَاقَهَا كَانَتْ رَجْعِيَّةً , وَالرَّجْعِيَّةُ كَالزَّوْجَةِ فِي مِثْلِ هَذَا لَكِنْ تَخَلَّلَ الْبَيْنُونَةُ , هَلْ يَقَعُ حُكْمُ ؟ الصِّفَةِ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ , وَقَدْ نَصَّ عَلَى الْفَرْقِ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ عَلَى النِّكَاحِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي عِدَّةٍ أَوْ لَا يَكُونَ , فَعَلَى مَذْهَبِهِ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَا إذَا

تَزَوَّجَهَا , وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ , وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ إنَّ الْبَيْنُونَةَ تَقْطَعُ حُكْمَ الصِّفَةِ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ , فَإِنَّ قَوْلَهُ : إذَا تَزَوَّجَهَا , كَقَوْلِهِ : إذَا دَخَلْتِ الدَّارَ , وَإِذَا بَانَتْ أَحَلَّتْ هَذِهِ الْيَمِينَ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ , وَهُوَ الَّذِي يُرَجِّحُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ , فَإِنَّهُ الْتِزَامٌ مِنْهُ لِمَذْهَبٍ بِعَيْنِهِ , وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ بَلْ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ , وَإِنْ كَانَ بَائِنًا بِعِوَضٍ وَالتَّعْلِيقُ بَعْدَ هَذَا فِي الْعِدَّةِ وَغَيْرِهِ تَعْلِيقٌ بِأَجْنَبِيَّةٍ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ إذَا تَزَوَّجَهَا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
561 - 561 - 24 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ , فَحَلَفَ أَبُوهَا أَنَّهُ مَا يُخَلِّيهَا مَعَهُ وَضَرَبَهَا وَقَالَ لَهَا أَبُوهَا : إبْرِيهِ , فَأَبْرَأَتْهُ , وَطَلَّقَهَا طَلْقَةً , ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهَا لَمْ تُبْرِهِ إلَّا خَوْفًا مِنْ أَبِيهَا , فَهَلْ تَقَعُ عَلَى الزَّوْجَةِ الطَّلْقَةُ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ إنْ كَانَتْ أَبْرَأَتْهُ مُكْرَهَةً بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ وَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِهِ , وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَ حِجْرِ الْأَبِ وَقَدْ رَأَى الْأَبُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي مَصْلَحَةٍ لَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ .

563 - 563 - 26 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ حُنِقَ مِنْ زَوْجَتِهِ , فَقَالَ : أَنْت طَالِقٌ ثَلَاثًا . قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ : قُلْ السَّاعَةَ , قَالَ السَّاعَةَ , وَنَوَى الِاسْتِثْنَاءَ الْجَوَابُ : إذَا كَانَ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ , وَمَقْصُودُهُ تَخْوِيفًا بِهَذَا الْكَلَامِ لَا إيقَاعَ الطَّلَاقِ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ , فَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ , فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ لَا يَقَعُ , وَمَذْهَبَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ يَقَعُ , كَمَا رَوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . لَكِنَّ هَذَا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ وَاعْتِقَادُهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ صَارَ الْكَلَامُ عِنْدَهُ كَلَامًا لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ , فَلَمْ يَقْصِدْ التَّكَلُّمَ بِالطَّلَاقِ , وَاذَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ بِكَلَامٍ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مِثْلُ مَا لَوْ تَكَلَّمَ الْعَجَمِيُّ بِلَفْظٍ وَهُوَ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ , وَطَلَاقُ الْهَازِلِ وَقَعَ لِأَنَّ قَصْدَ الْمُتَكَلِّمِ الطَّلَاقَ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ إيقَاعَهُ , وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا , وَهُوَ يُشْبِهُ مَا لَوْ رَأَى امْرَأَةً فَقَالَ أَنْت طَالِقٌ يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً فَبَانَتْ امْرَأَتُهُ , فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ عَلَى الصَّحِيحِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

562 - 562 - 25 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَجَاءَهُ مِنْهَا وَلَدٌ , وَأَوْصَاهُ الشُّهُودُ أَوْ غَيْرُهُمْ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ يَقُولَ لَهَا : إذَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتَ طَالِقٌ قَبْلَ طَلَاقِك ثَلَاثًا , فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ الْعَقْدُ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ النِّكَاحُ صَحِيحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافٍ . وَالتَّسْرِيجُ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ بِهِ لَا يُفْسِدُ النِّكَاحَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , لَكِنَّهُ إنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَكْثَرِهِمْ .
564 - 564 - 27 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ ؟ الْجَوَابُ : إذَا أُكْرِهَ بِغَيْرِ حَقٍّ عَلَى الطَّلَاقِ لَمْ يَقَعْ بِهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكٍ . وَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ , وَغَيْرِهِمْ . وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , وَغَيْرِهِ . وَإِذَا كَانَ حِينَ الطَّلَاقِ قَدْ أَحَاطَ بِهِ أَقْوَامٌ يُعْرَفُونَ بِأَنَّهُمْ يُعَادُونَهُ , أَوْ يَضْرِبُونَهُ , وَلَا يُمْكِنُهُ إذْ ذَاكَ أَنْ يَدْفَعَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ , وَادَّعَى أَنَّهُمْ أَكْرَهُوهُ عَلَى الطَّلَاقِ : قُبِلَ قَوْلُهُ . فَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ بِالطَّلَاقِ يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ , وَادَّعَى الْإِكْرَاهَ : قُبِلَ قَوْلُهُ وَفِي تَحْلِيفِهِ نِزَاعٌ .

565 - 565 - 28 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ زُوِّجَ بِامْرَأَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مُسْلِمَةٌ وَالْأُخْرَى كِتَابِيَّةٌ , ثُمَّ قَالَ : إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ , وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ فَلِمَنْ تَكُونُ التَّرِكَةُ مِنْ بَعْدِهِ ؟ وَأَيُّهُمَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ ؟ الْجَوَابُ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا تَفْصِيلٌ وَنِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يُطَلِّقَ مُعَيَّنَةً وَيَنْسَاهَا أَوْ يَجْهَلَ عَيْنَهَا , وَبَيْنَ أَنْ يُطَلِّقَ مُبْهَمَةً وَيَمُوتَ قَبْلَ تَمْيِيزِهَا بِتَعْيِينِهِ أَوْ يَعْرِفَهُ : ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْجَمِيعِ كَقَوْلِ مَالِكٍ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يَقَعُ إلَّا بِوَاحِدَةٍ , كَقَوْلِ الثَّلَاثَةِ . وَإِذَا قَدَّرَ تَعَيُّنَهَا وَلَمْ تَعَيَّنَ , فَهَلْ تُقَسَّمُ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ وَغَيْرِهَا , كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ , أَوْ يُوقَفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَصْطَلِحَا , كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ , أَوْ يُقْرَعَ بَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ وَغَيْرِهَا , كَمَا يَقُولُهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ , عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ وَالْقُرْعَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ هِيَ قُرْعَةٌ عَلَى الْمَالِ , فَلِهَذَا قَالَ بِهَا مَنْ لَمْ يُرِدْ الْقُرْعَةَ فِي الْمُطَلَّقَاتِ . وَالصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ مُبْهَمَةً أَوْ مَجْهُولَةً أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ , فَإِذَا خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ لَمْ تَرِثْ هِيَ وَلَا الذِّمِّيَّةُ شَيْئًا . أَمَّا هِيَ فَلِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ , وَأَمَّا الذِّمِّيَّةُ فَإِنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ . وَإِنْ خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى الذِّمِّيَّةِ وَرِثَتْ

الْمُسْلِمَةُ مِيرَاثَ زَوْجَةٍ كَامِلَةٍ , هَذَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ طَلَاقًا مُحْرِمًا لِلْمِيرَاثِ مِثْلُ أَنْ يُبِينَهَا فِي صِحَّتِهِ , فَأَمَّا إنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فِي الصِّحَّةِ , وَالْمَرَضِ , وَمَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهَذِهِ زَوْجَتُهُ تَرِثُ وَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ , وَتَنْقَضِي بِذَلِكَ عِدَّتُهَا عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ : أَنَّهَا تَعْتَدُّ أَطْوَلَ الْأَجَلَيْنِ مِنْ مُدَّةِ الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ , وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْبَائِنَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ تَرِثُ , إذَا كَانَ طَلَّقَهَا طَلَاقًا فِيهِ يَقْصِدُ حِرْمَانَهَا الْمِيرَاثَ , هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَهُوَ يَرِثُهَا وَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ , وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ يَرِثُهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ , وَلِلشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ كَذَلِكَ لَكِنَّ قَوْلَهُ الْجَدِيدَ أَنَّهَا لَا تَرِثُ , وَأَمَّا إذَا لَمْ يُتَّهَمْ بِقَصْدِ حِرْمَانِهَا فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرِثُ . فَعَلَى هَذَا لَا تَرِثُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الطَّلَاقِ الَّذِي لَمْ يُعَيِّنْ فِيهِ لَا يَظْهَرُ فِيهِ قَصْدُ الْحِرْمَانِ , وَمَنْ وَرَّثَهَا مُطْلَقًا كَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فَالْحُكْمُ عِنْدَهُ كَذَلِكَ , وَإِذَا وَرِثَتْ الْمَبْتُوتَةُ فَقِيلَ تَعْتَدُّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ , وَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ,

وَقِيلَ : تَعْتَدُّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ فَقَطْ , وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ الْمَشْهُورُ عَنْهُ , وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ , وَأَمَّا صُورَةُ أَنَّهَا لَمْ تَتَبَيَّنْ الْمُطَلَّقَةُ فَإِحْدَاهُمَا , وَجَبَتْ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ , وَالْأُخْرَى عِدَّةُ الطَّلَاقِ , وَكُلٌّ مِنْهُمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ إحْدَى الْعِدَّتَيْنِ اشْتَبَهَ الْوَاجِبُ بِغَيْرِهِ , فَلِهَذَا كَانَ الْأَظْهَرُ هُنَا وُجُوبَ الْعِدَّتَيْنِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا , لِأَنَّ الذِّمَّةَ لَا تَبْرَأُ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ إلَّا بِذَلِكَ .
566 - 566 - 29 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ قَالَ كُلُّ شَيْءٍ أَمْلِكُهُ عَلَيَّ حَرَامٌ , فَهَلْ تَحْرُمُ امْرَأَتُهُ وَأَمَتُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : أَمَّا غَيْرُ الزَّوْجَةِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ , وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا نِزَاعٌ : هَلْ تَطْلُقُ ؟ أَوْ تُوجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ ظِهَارٍ ؟ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ هُوَ طَلَاقٌ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ , وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ , إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ .

567 - 567 - 30 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَخَاصَمَ مَعَ زَوْجَتِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ : هِيَ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً فَسَبَقَ لِسَانُهُ فَقَالَ ثَلَاثَةً , وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نِيَّتَهُ فَمَا الْحُكْمُ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ إذَا سَبَقَ لِسَانُهُ بِالثَّلَّاتِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَإِنَّمَا قَصَدَ وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ بِهِ إلَّا وَاحِدَةً , بَلْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ طَاهِرٌ فَسَبَقَ لِسَانُهُ بِطَالِقٍ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

571 - 571 - 34 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَخَاصَمَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ , وَانْجَرَحَ مِنْهَا ; فَقَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مِنْك ثَلَاثًا : إنْ قُلْت طَلِّقْنِي طَلَّقْتُك . فَسَكَتَتْ , ثُمَّ قَالَتْ لِأُمِّهَا : أَيُّ شَيْءٌ يَقُولُ ؟ قَالَتْ أُمُّهَا : يَقُولُ كَذَا . قَوْلِي لَهُ : طَلِّقْنِي . ثُمَّ قَالَتْ الْمَرْأَةُ : طَلِّقْنِي . فَهَلْ يَقَعُ طَلَاقٌ بِوَاحِدَةٍ ; أَوْ بِثَلَاثٍ ؟ أَوْ لَا يَقَعُ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ : إذَا لَمْ يَنْوِ بِقَوْلِهِ : إذَا قُلْت طَلِّقْنِي طَلَّقْتُك , أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ ; بَلْ يُطَلِّقُهَا عِنْدَ الشُّهُودِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَمْ يَحْنَثْ إذَا افْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ ; لَكِنْ يُطَلِّقُهَا بَعْدَ ذَلِكَ الطَّلَاقِ الَّذِي قَصَدَ بِيَمِينِهِ , وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْصِدْ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا , وَلَا اثْنَتَيْنِ أَجْزَأَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً . هَذَا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ إجَابَةَ سُؤَالِهَا مُطْلَقًا . وَأَمَّا إذَا قَصَدَ إجَابَةَ سُؤَالِهَا إذَا كَانَتْ طَالِبَةً لِلطَّلَاقِ , فَإِذَا رَجَعَتْ , وَقَالَتْ : لَا أُرِيدُ الطَّلَاقَ : لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ إذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

568 - 568 - 31 - مَسْأَلَةٌ : فِيمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا , وَأَفْتَاهُ مُفْتٍ بِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ , فَقَلَّدَهُ الزَّوْجُ وَوَطِئَ زَوْجَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ , وَأَتَتْ مِنْهُ بِوَلَدٍ : فَقِيلَ : إنَّهُ وَلَدُ زِنًا ؟ الْجَوَابُ : مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالَةِ , وَالْمُشَاقَّةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ اعْتَقَدَ الزَّوْجُ أَنَّهُ نِكَاحٌ سَائِغٌ إذَا وَطِئَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ فِيهِ وَلَدُهُ وَيَتَوَارَثَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النِّكَاحُ بَاطِلًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , سَوَاءٌ كَانَ النَّاكِحُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا . وَالْيَهُودِيُّ إذَا تَزَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ كَانَ وَلَدُهُ مِنْهُ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ وَيَرِثُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النِّكَاحُ بَاطِلًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَمَنْ اسْتَحَلَّهُ كَانَ كَافِرًا تَجِبُ اسْتِتَابَتُهُ . وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الْجَاهِلُ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا كَمَا يَفْعَلُ جُهَّالُ الْأَعْرَابِ وَوَطِئَهَا يَعْتَقِدُهَا زَوْجَةً كَانَ وَلَدُهُ مِنْهَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ وَيَرِثُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . فَإِنَّ " ثُبُوتَ النَّسَبِ " لَا يَفْتَقِرُ إلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ; بَلْ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } فَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَوَطِئَهَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ : إمَّا لِجَهْلِهِ . وَإِمَّا لِفَتْوَى مُفْتٍ مُخْطِئٍ قَلَّدَهُ

الزَّوْجُ . وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ النَّسَبُ , وَيَتَوَارَثَانِ بِالِاتِّفَاقِ ; بَلْ وَلَا تُحْسَبُ الْعِدَّةُ إلَّا مِنْ حِينِ تَرَكَ وَطْأَهَا ; فَإِنَّهُ كَانَ يَطَؤُهَا يَعْتَقِدُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ , فَهِيَ فِرَاشٌ لَهُ فَلَا تَعْتَدُّ مِنْهُ حَتَّى تَتْرُكَ الْفِرَاشَ . وَمَنْ نَكَحَ امْرَأَةً " نِكَاحًا فَاسِدًا , مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ , أَوْ مُخْتَلَفًا فِي فَسَادِهِ أَوْ مَلَكَهَا مِلْكًا مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ , أَوْ مُخْتَلَفًا فِي فَسَادِهِ , أَوْ وَطِئَهَا يَعْتَقِدُهَا زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ , أَوْ أَمَتَهُ الْمَمْلُوكَةَ : فَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْهَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ , وَيَتَوَارَثَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَالْوَلَدُ أَيْضًا يَكُونُ حُرًّا ; وَإِنْ كَانَ الْمَوْطُوءَةُ مَمْلُوكَةً لِلْغَيْرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَوُطِئَتْ بِدُونِ إذْنِ سَيِّدِهَا ; لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْوَاطِئُ مَغْرُورًا بِهَا زُوِّجَ بِهَا وَقِيلَ : هِيَ حُرَّةٌ , أَوْ بِيعَتْ فَاشْتَرَاهَا يَعْتَقِدُهَا مِلْكًا لِلْبَائِعِ ; فَإِنَّمَا وَطِئَ مَنْ يَعْتَقِدُهَا زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ , أَوْ أَمَتَهُ الْمَمْلُوكَةَ : فَوَلَدُهُ مِنْهَا حُرٌّ ; لِاعْتِقَادِهِ . وَإِنْ كَانَ اعْتِقَادُهُ مُخْطِئًا , وَبِهَذَا قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ , وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَطِئُوا وَجَاءَهُمْ أَوْلَادٌ لَوْ كَانُوا قَدْ وَطِئُوا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ مُتَّفَقٍ عَلَى فَسَادِهِ , وَكَانَ الطَّلَاقُ وَقَعَ بِهِمْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَهُمْ وَطِئُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ ; لِإِفْتَاءِ مَنْ أَفْتَاهُمْ , أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ : كَانَ نَسَبُ الْأَوْلَادِ بِهِمْ لَاحِقًا , وَلَمْ يَكُونُوا

أَوْلَادَ زِنًا ; بَلْ يَتَوَارَثُونَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . هَذَا فِي الْمُجْمَعِ عَلَى فَسَادِهِ فَكَيْفَ فِي الْمُخْتَلَفِ فِي فَسَادِهِ ؟ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي وَطِئَ بِهِ قَوْلًا ضَعِيفًا : كَمَنْ وَطِئَ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ أَوْ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ ; فَإِنَّ هَذَا إذَا وَطِئَ فِيهِ يَعْتَقِدُهُ نِكَاحًا لَحِقَهُ فِيهِ النَّسَبُ , فَكَيْفَ بِنِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ , وَقَدْ ظَهَرَتْ حُجَّةُ الْقَوْلِ بِصِحَّتِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ , وَظَهَرَ ضَعْفُ الْقَوْلِ الَّذِي يُنَاقِضُهُ , وَعَجَزَ أَهْلُهُ عَنْ نُصْرَتِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ ; لِانْتِفَاءِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ؟ , فَمَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا النِّكَاحَ أَوْ مِثْلَهُ يَكُونُ فِيهِ الْوَلَدُ وَلَدُ زِنًا [ لَا ] يَتَوَارَثَانِ هُوَ وَأَبُوهُ الْوَاطِئُ : مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . مُنْسَلِخٌ مِنْ رُتْبَةِ الدِّينِ , فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا عُرِّفَ وَبُيِّنَ لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاءَهُ الرَّاشِدِينَ وَسَائِرَ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَلْحَقُوا أَوْلَادَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بِآبَائِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً بِالْإِجْمَاعِ , وَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِي لُحُوقِ النَّسَبِ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ جَائِزًا فِي شَرْعِ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ مَنْ أَصَرَّ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ , فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْفُتْيَا بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ دَاعِيَ الْإِجْمَاعِ عَلَى وُقُوعِهِ , أَوْ قَالَ إنَّ

الْوَلَدَ وَلَدُ زِنًا هُوَ الْمُخَالِفُ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ , مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , وَأَنَّ الْمُفْتِيَ بِذَلِكَ أَوْ الْقَاضِيَ بِذَلِكَ لَا يَسُوغُ لَهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ الْمَنْعُ مِنْ الْفُتْيَا بِقَوْلِهِ وَلَا الْقَضَاءِ بِذَلِكَ وَلَا الْحُكْمِ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَالْأَحْكَامُ بَاطِلَةٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ .
569 - 569 - 32 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ مُسِكَ وَضُرِبَ , وَسَحَبُوهُ وَغَصَبُوهُ عَلَى طَلَاقِ زَوْجَتِهِ , فَطَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً , وَرَاحَتْ وَهِيَ حَامِلَةٌ مِنْهُ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَذَا الطَّلَاقُ لَا يَقَعُ . وَأَمَّا نِكَاحُهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَهُوَ نِكَاحٌ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ : وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ , فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ وَقَعَ ؟ , وَيُعَزَّرُ مَنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الطَّلَاقِ , وَمَنْ تَوَلَّى هَذَا النِّكَاحَ الْمُحَرَّمَ الْبَاطِلَ . وَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَقْضِيَ الْعِدَّةَ مِنْ الْأَوَّلِ بِالْوَضْعِ . وَالْعِدَّةَ مِنْ الثَّانِي فِيهَا خِلَافٌ . إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ النِّكَاحَ مُحَرَّمٌ , فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا إنْ كَانَ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ النِّكَاحِ فَلَا بُدَّ أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي .

مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَهُوَ سَاكِنٌ بِهَا فِي مَنْزِلِ سَكَنِهَا : إنْ قَعَدْت عِنْدَكُمْ فَأَنْتَ طَالِقٌ ; وَإِنْ سَكَنْت عِنْدَكُمْ فَأَنْتَ طَالِقٌ ; ثُمَّ قَالَ أَيْضًا : أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ ; ثُمَّ انْتَقَلَ بِنَفْسِهِ وَمَتَاعِهِ دُونَ زَوْجَتِهِ إلَى مَكَان آخَرَ ; وَعَادَتْ زَوْجَتُهُ إلَى مَكَانِهَا الْأَوَّلِ ; فَإِذَا عَادَ وَقَعَدَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ يَقَعُ عَلَيْهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ ؟ أَمْ طَلْقَتَانِ ؟ وَهَلْ السَّكَنُ هُوَ الْقُعُودُ ؟ أَوْ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ ؟ وَإِذَا لَمْ يَنْوِ بِالْحَرَامِ الطَّلَاقَ : هَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ نَوَى ؟ وَهَلْ إذَا كَانَ مَذْهَبٌ تَزُولُ بِهِ هَذِهِ الصُّورَةُ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِهِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا قَوْلُهُ : إنْ قَعَدْت عِنْدَكُمْ وَإِنْ سَكَنْت عِنْدَكُمْ فَإِنْ كَانَ نِيَّةُ الْحَالِفِ بِالْقُعُودِ إذَا انْتَقَضَ سَبَبُ تِلْكَ الْحَالِ ; بِمَنْزِلَةِ مَنْ دُعِيَ إلَى غَدَاءٍ فَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يَتَغَدَّى ; فَإِنَّ سَبَبَ الْيَمِينِ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْغَدَاءَ الْمُعَيَّنَ , وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِغَدَاءٍ غَيْرِ ذَلِكَ : وَهَكَذَا إذَا كَانَ قَدْ زَارَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ قَوْمًا فَرَأَى مِنْ الْأَحْوَالِ مَا كَرِهَ أَنْ تُقِيمَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ عِنْدَهُمْ فَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يُقِيمُ , وَلَا يَسْكُنُ , وَقَصَدَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ , أَوْ كَانَ سَبَبُ الْيَمِينِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا إنْ كَانَ قَدْ نَوَى الْعُمُومَ بِحَيْثُ قَصَدَ أَنَّهُ لَا يَقْعُدُ عِنْدَهُمْ وَلَا يُسَاكِنُهُمْ بِحَالٍ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِالْقُعُودِ . وَإِنْ أَطْلَقَ الْيَمِينَ فَفِيهِ

نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَحَيْثُ يَحْنَثُ بِالْقُعُودِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْقُعُودُ الَّذِي قَصَدَهُ هُوَ السُّكْنَى لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْثَرَ مِنْ طَلْقَةٍ ; إلَّا أَنْ يَقْصِدَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ; كَمَا لَوْ كَرَّرَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ . وَإِنْ كَانَ الْقُعُودُ دَاخِلًا فِي ضِمْنِ السُّكْنَى - كَمَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ - فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُدَاخِلُ الصِّفَاتِ , كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ أَكَلْت تُفَّاحَةً وَاحِدَةً : فَقَدْ قِيلَ : تَقَعُ طَلْقَتَانِ ; لِوُجُودِ الصِّفَتَيْنِ . وَقِيلَ : لَا يَقَعُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةً أَيْضًا . وَهُوَ أَقْوَى , فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّك طَالِقٌ سَوَاءٌ أَكَلْت تُفَّاحَةً كَامِلَةً أَوْ نِصْفَهَا , وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : إنْ قَعَدْت . فَالْقُعُودُ " لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ " يُرَادُ بِهِ السُّكْنَى مُشْتَمِلًا عَلَى الْقُعُودِ , وَيَكُونُ أَوَّلًا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَقْعُدُ , ثُمَّ حَلَفَ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ السُّكْنَى فَإِذَا سَكَنَ كَانَ الْأَوَّلُ بَعْضَ الثَّانِي , فَلَا يَقَعُ أَكْثَرُ مِنْ طَلْقَةٍ إذَا قِيلَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ عَلَى أَقْوَى الْقَوْلَيْنِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " فَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا فَفَعَلَهُ : فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ . وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ ; بَلْ حَرَّمَهَا تَحْرِيمًا : فَهَذَا عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ , وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ فِي الصُّورَتَيْنِ . وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ :

يَقُولُونَ : إنَّ الْحَرَامَ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ إذَا لَمْ يَنْوِهِ , كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ , وَعُمَرَ , وَعُثْمَانَ , وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ , وَغَيْرِهِمْ . وَإِنْ كَانَ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَتْبَاعِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ صَارَ بِحُكْمِ الْعُرْفِ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ : فَهَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ . وَقَدْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يَرَوْنَ لَفْظَ " الظِّهَارِ " صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ قَوْلُهُ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي , حَتَّى تَظَاهَرَ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ مِنْ امْرَأَتِهِ الْمُجَادَلَةِ , الَّتِي ثَبَتَ حُكْمُهَا فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ } . وَأَفْتَاهَا النَّبِيُّ أَوَّلًا بِالطَّلَاقِ , حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ , وَجَعَلَ الظِّهَارَ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ , وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ . وَالْحَرَامُ نَظِيرُ الظِّهَارِ , لِأَنَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ لَهَا بِالْمُحَرَّمَةِ , وَهَذَا نَطَقَ بِالتَّحْرِيمِ , وَكِلَاهُمَا مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ , فَقَدْ دَلَّ كِتَابُ اللَّهِ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ بِقَوْلِهِ : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك } إلَى قَوْلِهِ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } . مَعَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ . وَأَمَّا تَقْلِيدُ الْمُسْتَفْتِي لِلْمُفْتِي فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ وَلَا شُرِعَ لَهُ الْتِزَامُ قَوْلِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فِي كُلِّ مَا

يُوجِبُهُ وَيُحَرِّمُهُ وَيُبِيحُهُ ; إلَّا رَسُولَ اللَّهِ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : عَلَى الْمُسْتَفْتِي أَنْ يُقَلِّدَ الْأَعْلَمَ الْأَرْوَعَ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ اسْتِفْتَاؤُهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْمُفْتِينَ ; [ وَ ] إذَا كَانَ لَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ , فَقَدْ قِيلَ : يَتَّبِعُ أَيَّ الْقَوْلَيْنِ أَرْجَحُ عِنْدَهُ بِحَسَبِ تَمْيِيزِهِ , فَإِنَّ هَذَا أَوْلَى مِنْ التَّخْيِيرِ الْمُطْلَقِ . وَقِيلَ : لَا يَجْتَهِدُ إلَّا إذَا صَارَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ . وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ . فَإِذَا تَرَجَّحَ عِنْدَ الْمُسْتَفْتِي أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ : إمَّا لِرُجْحَانِ دَلِيلِهِ بِحَسَبِ تَمْيِيزِهِ , وَإِمَّا لِكَوْنِ قَائِلِهِ أَعْلَمَ وَأَوْرَعَ ; فَلَهُ ذَلِكَ وَإِنْ خَالَفَ قَوْلُهُ الْمَذْهَبَ .
573 - 573 - 36 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ وَلَهُ أَوْلَادٌ , وَوَالِدَتُهُ تَكْرَهُ الزَّوْجَةَ وَتُشِيرُ عَلَيْهِ بِطَلَاقِهَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ طَلَاقُهَا ؟ الْجَوَابُ : لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِقَوْلِ أُمِّهِ , بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَبَرَّ أُمَّهُ وَلَيْسَ تَطْلِيقُ امْرَأَتِهِ مِنْ بِرِّهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

572 - 572 - 35 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ لِامْرَأَتَيْنِ فَاخْتَارَتْ إحْدَاهُنَّ الطَّلَاقَ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ مِنْ الِاثْنَتَيْنِ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا , وَلَا يُوَكِّلُ عَنْهُ فِي طَلَاقِهَا , ثُمَّ حَدَثَ عُرْسٌ لَهَا فَنُكِحَتْ عَلَيْهِ , فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا تَرُوحِي فَقَالَتْ نَزِّلْنِي طَلْقَةً , فَإِنْ نَزَّلَهَا طَلْقَةً يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . مَتَى طَلَّقَهَا الطَّلَاقَ الَّذِي حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ , وَحَنِثَ أَيْضًا فِي الطَّلَاقِ الَّذِي حَلَفَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
576 - 576 - 39 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَخَاصَمَ مَعَ زَوْجَتِهِ وَهِيَ مَعَهُ بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ , فَقَالَتْ لَهُ : طَلِّقْنِي . فَقَالَ : إنْ أَبْرَأْتِينِي فَأَنْتَ طَالِقٌ , فَقَالَتْ : أَبْرَأَك اللَّهُ مِمَّا يَدَّعِي النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ . فَقَالَ لَهَا : أَنْت طَالِقٌ . وَظَنَّ أَنَّهُ يُبَرَّأُ مِنْ الْحُقُوقِ , وَهُوَ شَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ ؟ الْجَوَابُ : نَعَمْ هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا تَدَّعِي النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ إذَا كَانَتْ رَشِيدَةً .

575 - 575 - 38 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ قَالَ لِصِهْرِهِ : إنْ جِئْت لِي بِكِتَابِي وَأَبْرَأْتَنِي مِنْهُ فَبِنْتُك طَالِقٌ ثَلَاثًا ; فَجَاءَ لَهُ بِكِتَابٍ غَيْرِ كِتَابِهِ ; فَقَطَّعَهُ الزَّوْجُ وَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ هُوَ كِتَابُهُ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ أَبُو الزَّوْجَةِ : اشْهَدُوا عَلَيْهِ أَنَّ بِنْتِي تَحْتَ حِجْرِي , وَاشْهَدُوا عَلَيَّ أَنِّي أَبْرَأْته مِنْ كِتَابِهَا , وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا فِي الْكِتَابِ , ثُمَّ إنَّهُ مَكَثَ سَاعَةً وَجَاءَ أَبُو الزَّوْجَةِ بِحُضُورِ الشُّهُودِ ; وَقَالَ لَهُ : أَيَّ شَيْءٍ قُلْت يَا زَوْجُ ؟ فَقَالَ الزَّوْجُ : اشْهَدُوا عَلَيَّ أَنَّ بِنْتَ هَذَا طَالِقٌ ثَلَاثًا , ثُمَّ إنَّ الزَّوْجَ ادَّعَى أَنَّ هَذَا الطَّلَاقَ الصَّرِيحَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ : فَهَلْ يَقَعُ ؟ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : قَوْلُهُ الْأَوَّلُ مُعَلَّقٌ عَلَى الْإِبْرَاءِ , فَإِنْ لَمْ يُبْرِهِ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ الثَّانِي فَهُوَ إقْرَارٌ مِنْهُ ; بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ وَقَعَ , فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَقَعْ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِالثَّانِي شَيْءٌ .

574 - 574 - 37 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : هَذَا ابْنُ زَوْجِك لَا يَدْخُلُ لِي بَيْتًا ; فَإِنَّهُ ابْنِي رَبَّيْته ; فَلَمَّا اشْتَكَاهُ لِأَبِيهِ قَالَ لِلزَّوْجِ : إنْ أَبْرَأَتْك امْرَأَتُك تُطَلِّقْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَأَتَى بِهَا , فَقَالَ لَهَا الزَّوْجُ : إنْ أَبْرَأْتنِي مِنْ كِتَابِك , وَمِنْ الْحُجَّةِ الَّتِي لَك عَلَيَّ : فَأَنْتَ طَالِقٌ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . وَانْفَصَلَا , وَطَلَعَ الزَّوْجُ إلَى بَيْتِ جِيرَانِهِ , فَقَالَ : هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا , وَنَزَلَ إلَى الشُّهُودِ فَسَأَلُوهُ كَمْ طَلَّقْت ؟ قَالَ : ثَلَاثًا عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ : فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثَ ؟ . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . إذَا كَانَ إبْرَاؤُهَا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ لَيْسَ مُطْلَقًا بَلْ بِشَرْطِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَانَتْ مِنْهُ , وَلَمْ يَقَعْ بِهَا بَعْدَ هَذَا طَلَاقٌ , وَالشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْعَقْدِ كَالشَّرْطِ الْمُقَارِنِ , وَالشَّرْطُ الْعُرْفِيُّ كَاللَّفْظِيِّ . وَقَوْلُ هَذَا الَّذِي مِنْ جِهَتِهَا لَهُ : إنْ جَاءَتْ زَوْجَتُك وَأَبْرَأَتْك تُطَلِّقُهَا ؟ وَقَوْلُهُ اشْتِرَاطٌ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا إذَا أَبْرَأَتْهُ , وَمَجِيئُهُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ , وَقَوْلُهُ : أَنْتِ إنْ أَبْرَأْتِينِي قَالَتْ : نَعَمْ . مُتَنَزِّلٌ عَلَى ذَلِكَ , وَهُوَ أَنَّهُ إذَا أَبْرَأَتْهُ يُطَلِّقُهَا : بِحَيْثُ لَوْ قَالَتْ : أَبْرَأْته وَامْتَنَعَ لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ ; فَإِنَّ هَذَا إيجَابٌ وَقَبُولٌ فِي الْعُرْفِ , لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الشُّرُوطِ وَدَلَالَةِ الْحَالِ ; وَالتَّقْدِيرُ : أَبْرَأْتُك بِشَرْطِ أَنْ تُطَلِّقَنِي .

577 - 577 - 40 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَأَقَامَتْ فِي صُحْبَتِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا , ثُمَّ طَلَّقَهَا الطَّلَاقَ الْبَائِنَ , وَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ بِزَوْجٍ آخَرَ بَعْدَ إخْبَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ الْأَوَّلِ ; ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي بَعْدَ مُدَّةِ سِتِّ سِنِينَ , وَجَاءَتْ بِابْنَةٍ , وَادَّعَتْ أَنَّهَا مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ : فَهَلْ يَصِحُّ دَعْوَاهَا . وَيَلْزَمُ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ , وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْبِنْتَ , وَهَذَا الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ مُقِيمَانِ بِبَلَدٍ وَاحِدٍ , وَلَيْسَ لَهَا مَانِعٌ مِنْ دَعْوَى النِّسَاءٍ , وَلَا طَالَبَتْهُ بِنَفَقَةٍ وَلَا فَرْضٍ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . لَا يَلْحَقُ هَذَا الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ الْبِنْتُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ; بَلْ لَوْ ادَّعَتْ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ فِي حَالٍ يَلْحَقُ بِهِ نَسَبُهُ إذَا وَلَدَتْهُ وَكَانَتْ مُطَلَّقَةً وَأَنْكَرَ هُوَ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْهُ لَمْ تُقْبَلْ فِي دَعْوَى الْوِلَادَةِ بِلَا نِزَاعٍ , حَتَّى تُقِيمَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً . وَيَكْفِي امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ : عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ , وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا بُدَّ مِنْ امْرَأَتَيْنِ . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَيَحْتَاجُ عِنْدَهُ إلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ . وَيَكْفِي يَمِينُهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ . وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً فَفِيهَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ : أَحَدُهُمَا : لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا , كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : يُقْبَلُ , كَمَذْهَبِ مَالِكٍ . وَأَمَّا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا

وَمَضَى لَهَا أَكْثَرُ الْحَمْلِ , ثُمَّ ادَّعَتْ وُجُودَ حَمْلٍ مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ الْمُطَلِّقِ : فَهَذِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا بِلَا نِزَاعٍ , بَلْ لَوْ أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا وَلِدُونِ مُدَّةِ الْحَمْلِ : فَهَلْ يَلْحَقُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ يَلْحَقُ , وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ; لَكِنْ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ . وَهَذَا النِّزَاعُ إذَا لَمْ تَتَزَوَّجْ , فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ إخْبَارِهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا , ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ; فَإِنَّ هَذَا لَا يَلْحَقُ نَسَبُهُ بِالْأَوَّلِ قَوْلًا وَاحِدًا . فَإِذَا عَرَفْتَ مَذْهَبَ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فَكَيْفَ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ بِدَعْوَاهَا بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ . وَلَوْ قَالَتْ وَلَدْته ذَلِكَ الزَّمَنَ قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَنِي لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا أَيْضًا ; بَلْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا عَلَى فِرَاشِهِ . وَلَوْ قَالَتْ هِيَ : وَضَعْت هَذَا الْحَمْلَ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَ بِالثَّانِي , وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ ذَلِكَ : فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا أَنَّهَا لَمْ تَضَعْهَا قَبْلَ تَزَوُّجِهَا بِالثَّانِي ; لَا سِيَّمَا مَعَ تَأَخُّرِ دَعْوَاهَا إلَى أَنْ تَزَوَّجَتْ الثَّانِيَ ; فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهَا فِي دَعْوَاهَا ; لَا سِيَّمَا عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ فِي تَأَخُّرِ الدَّعْوَى الْمُمْكِنَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَحْوِهَا .

578 - 578 - 41 - مَسْأَلَةٌ : فِي امْرَأَةٍ مُبْغِضَةٍ لِزَوْجِهَا طَلَبَتْ الِانْخِلَاعَ مِنْهُ , وَقَالَتْ لَهُ : إنْ لَمْ تُفَارِقْنِي وَإِلَّا قَتَلْت نَفْسِي ; فَأَكْرَهَهُ الْوَلِيُّ عَلَى الْفُرْقَةِ , وَتَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ , وَقَدْ طَلَبَهَا الْأَوَّلُ , وَقَالَ : إنَّهُ فَارَقَهَا مُكْرَهًا , وَهِيَ لَا تُرِيدُ إلَّا الثَّانِيَ ؟ الْجَوَابُ : إنْ كَانَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ أُكْرِهَ عَلَى الْفُرْقَةِ بِحَقٍّ : مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مُقَصِّرًا فِي وَاجِبَاتِهَا , أَوْ مُضِرًّا لَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ كَانَتْ الْفُرْقَةُ صَحِيحَةً , وَالنِّكَاحُ الثَّانِي صَحِيحًا , وَهِيَ زَوْجَةُ الثَّانِي . وَإِنْ كَانَ أُكْرِهَ بِالضَّرْبِ أَوْ الْحَبْسِ وَهُوَ مُحْسِنٌ لِعِشْرَتِهَا حَتَّى فَارَقَهَا لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ ; بَلْ إذَا أَبْغَضَتْهُ وَهُوَ مُحْسِنٌ إلَيْهَا فَإِنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ الْفُرْقَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْزَمَ بِذَلِكَ , فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا أُمِرَتْ الْمَرْأَةُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَا يُبِيحُ الْفَسْخَ .

580 - 580 - 43 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ مُدَّةِ إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً , وَأَحْسَنَتْ الْعِشْرَةَ مَعَهُ , وَفِي هَذَا الزَّمَانِ تَأْبَى الْعِشْرَةَ مَعَهُ , وَتُنَاشِزُهُ : فَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا ؟ الْجَوَابُ : لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْشُزَ عَلَيْهِ وَلَا تَمْنَعَ نَفْسَهَا , فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إلَى فِرَاشِهِ فَتَأْبَى عَلَيْهِ إلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى تُصْبِحَ } . فَإِذَا أَصَرَّتْ عَلَى النُّشُوزِ فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا , وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَقُومُ بِمَا يَجِبُ لِلرَّجُلِ عَلَيْهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَيُعْطِيَهَا الصَّدَاقَ ; بَلْ هِيَ الَّتِي تَفْتَدِي نَفْسَهَا مِنْهُ , فَتَبْذُلَ صَدَاقَهَا لِيُفَارِقَهَا , كَمَا { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَنْ يُعْطِيَ صَدَاقَهَا فَيُفَارِقَهَا } . وَإِذَا كَانَ مُعْسِرًا بِالصَّدَاقِ لَمْ تَجُزْ مُطَالَبَتُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .

581 - 581 - 44 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ خَاصَمَ زَوْجَتَهُ وَضَرَبَهَا , فَقَالَتْ لَهُ : طَلِّقْنِي , فَقَالَ : أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ , فَهَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا مَنَعَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا إذَا طَلَبَهَا ؟ . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . لَا يَحِلُّ لَهَا النُّشُوزُ عَنْهُ وَلَا تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْهُ , بَلْ إذَا امْتَنَعَتْ مِنْهُ وَأَصَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ , وَلَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَةً وَلَا قَسْمًا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ , فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ : قِيلَ : عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ إذَا أَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا , وَقِيلَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ , أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

582 - 582 - 45 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ لَهُ امْرَأَةٌ كَسَاهَا كِسْوَةً مُثَمَّنَةً : مِثْلُ مَصَاغٍ , وَحُلِيٍّ وَقَلَائِدَ , وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ خَارِجًا عَنْ كِسْوَةِ الْقِيمَةِ , وَطَلَبَتْ مِنْهُ الْمُخَالَعَةَ , وَعَلَيْهِ مَالٌ كَثِيرٌ مُسْتَحَقٌّ لَهَا عَلَيْهِ , وَطَلَبَ حُلِيَّهُ مِنْهَا لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى حَقِّهَا أَوْ عَلَى غَيْرِ حَقِّهَا , فَأَنْكَرَتْهُ , وَيَعْلَمُ أَنَّهَا تَحْلِفُ وَتَأْخُذُ الَّذِي ذَكَرَهُ عِنْدَهَا , وَالثَّمَنُ يَلْزَمُهُ ; وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَيْهَا ؟ الْجَوَابُ : إنْ كَانَ قَدْ أَعْطَاهَا ذَلِكَ الزَّائِدَ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ لَهَا فَقَدْ مَلَكَتْهُ , وَلَيْسَ لَهُ إذَا طَلَّقَهَا هُوَ ابْتِدَاءً أَنْ يُطَالِبَهَا بِذَلِكَ ; لَكِنْ إنْ كَانَتْ الْكَارِهَةَ لِصُحْبَتِهِ , وَأَرَادَتْ الِاخْتِلَاعَ مِنْهُ : فَلْتُعْطِهِ مَا أَعْطَاهَا مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ الصَّدَاقِ الَّذِي سَاقَهُ إلَيْهَا , وَالْبَاقِي فِي ذِمَّتِهِ ; لِيَخْلَعَهَا , كَمَا مَضَتْ { سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ , حَيْثُ أَمَرَهَا بِرَدِّ مَا أَعْطَاهَا } . وَإِنْ كَانَ قَدْ أَعْطَاهَا لِتَتَجَمَّلَ بِهِ , كَمَا يُرْكِبُهَا دَابَّتَهُ , وَيُحْذِيهَا غُلَامَهُ , وَنَحْوُ ذَلِكَ ; لَا عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ لِلْعَيْنِ : فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ , فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ مَتَى شَاءَ ; سَوَاءٌ طَلَّقَهَا أَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا . وَإِنْ تَنَازَعَا هَلْ أَعْطَاهَا عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ ؟ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ ؟ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عُرْفٌ يُقْضَى بِهِ : فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهَا ذَلِكَ . وَإِنْ

تَنَازَعَا هَلْ أَعْطَاهَا شَيْئًا أَوْ لَمْ يُعْطِهَا , وَلَمْ يَكُنْ حُجَّةٌ يُقْضَى لَهُ بِهَا ; لَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ , وَلَا إقْرَارٌ , وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ : فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهَا .
579 - 579 - 42 - مَسْأَلَةٌ : مَا هُوَ الْخُلْعُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ؟ الْجَوَابُ : الْخُلْعُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ : أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ كَارِهَةً لِلزَّوْجِ تُرِيدُ فِرَاقَهُ فَتُعْطِيهِ الصَّدَاقَ أَوْ بَعْضَهُ فِدَاءَ نَفْسِهَا , كَمَا يَفْتَدِي الْأَسِيرُ , وَأَمَّا إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُرِيدًا لِصَاحِبِهِ , فَهَذَا الْخُلْعُ مُحْدَثٌ فِي الْإِسْلَامِ .

583 - 583 - 46 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ : طَلِّقْنِي وَأَنَا أَبْرَأْتُك مِنْ جَمِيعِ حُقُوقِي عَلَيْك ; وَآخُذُ الْبِنْتَ بِكِفَايَتِهَا , يَكُونُ لَهَا عَلَيْك مِائَةُ دِرْهَمٍ . كُلَّ يَوْمٍ سُدُسُ دِرْهَمٍ . وَشَهِدَ الْعُدُولُ بِذَلِكَ فَطَلَّقَهَا عَلَى ذَلِكَ بِحُكْمِ الْإِبْرَاءِ أَوْ الْكَفَالَةِ : فَهَلْ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِفَرْضِ الْبِنْتِ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : إذَا خَالَعَهَا عَلَى أَنْ تُبَرِّئَهُ مِنْ حُقُوقِهَا , وَتَأْخُذَ الْوَلَدَ بِكَفَالَتِهِ . وَلَا تُطَالِبُهُ بِنَفَقَةٍ . صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكٍ , وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِمَا ; فَإِنَّهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ يَصِحُّ الْخُلْعُ بِالْمَعْدُومِ الَّذِي يُنْتَظَرُ وُجُودُهُ كَمَا تَحْمِلُ أَمَتَهَا وَشَجَرَهَا . وَأَمَّا نَفَقَةُ حَمْلِهَا وَرَضَاعِ وَلَدِهَا , وَنَفَقَتُهُ . فَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُودِهِ وَجَوَازِهِ ; وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ لَهُ : طَلِّقْنِي وَأَنَا أَبْرَأْتُك مِنْ حُقُوقِي وَأَنَا آخُذُ الْوَلَدَ بِكَفَالَتِهِ . وَأَنَا أَبْرَأْتُك مِنْ نَفَقَتِهِ , وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ . وَإِذَا خَالَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ مَنْ يَرَى صِحَّةَ مِثْلِ هَذَا الْخُلْعِ - كَالْحَاكِمِ الْمَالِكِيِّ - لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَنْقُضَهُ , وَإِنْ رَآهُ فَاسِدًا , وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْرِضَ لَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا نَفَقَةً لِلْوَلَدِ ; فَإِنَّ فِعْلَ الْحَاكِمِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ حُكْمٌ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَالْحَاكِمُ مَتَى عَقَدَ عَقْدًا سَاغَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ; أَوْ فَسَخَ فَسْخًا جَازَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ : لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ

نَقْضُهُ .
مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ , وَهِيَ نَاشِزٌ تَمْنَعُهُ نَفْسَهَا : فَهَلْ تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا وَكِسْوَتُهَا وَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا وَكِسْوَتُهَا إذَا لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ نَفْسِهَا , وَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا إذَا أَصَرَّتْ عَلَى النُّشُوزِ . وَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ إذَا طَالَبَهَا بِهِ ; بَلْ هِيَ عَاصِيَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ , وَفِي الصَّحِيحِ : { إذَا طَلَبَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ إلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ عَلَيْهِ كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى تُصْبِحَ } .
585 - 585 - 48 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ لَهُ امْرَأَةٌ , وَقَدْ نَشَزَتْ عَنْهُ فِي بَيْتِ أَبِيهَا مِنْ مُدَّةِ ثَمَانِيَةِ شُهُورٍ , وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا ؟ الْجَوَابُ : إذَا نَشَزَتْ عَنْهُ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا , وَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا إذَا نَشَزَتْ ; أَوْ آذَتْهُ , أَوْ اعْتَدَتْ عَلَيْهِ .

587 - 587 - 50 - مَسْأَلَةٌ : فِي قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ } . وَفِي قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا } إلَى قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } . يُبَيِّنُ لَنَا شَيْخُنَا هَذَا النُّشُوزَ مِنْ ذَاكَ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . " النُّشُوزُ " فِي قَوْله تَعَالَى : { تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } هُوَ : أَنْ تَنْشِزَ عَنْ زَوْجِهَا فَتَنْفِرَ عَنْهُ بِحَيْثُ لَا تُطِيعُهُ إذَا دَعَاهَا لِلْفِرَاشِ , أَوْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ , وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ امْتِنَاعٌ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ طَاعَتِهِ . وَأَمَّا " النُّشُوزُ " فِي قَوْله تَعَالَى : { إذَا قِيلَ اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا } فَهُوَ النُّهُوضُ وَالْقِيَامُ وَالِارْتِفَاعُ . وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَادَّةِ هُوَ الِارْتِفَاعُ وَالْغِلَظُ , وَمِنْهُ النَّشَزُ مِنْ الْأَرْضِ ; وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ الْغَلِيظُ . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَانْظُرْ إلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا } أَيْ نَرْفَعُ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ . وَمَنْ قَرَأَ نَنْشُرُهَا أَرَادَ نُحْيِيهَا . فَسَمَّى الْمَرْأَةَ الْعَاصِيَةَ نَاشِزًا لِمَا فِيهَا مِنْ الْغِلَظِ وَالِارْتِفَاعِ عَنْ طَاعَةِ زَوْجِهَا , وَسُمِّيَ النُّهُوضُ نُشُوزًا لِأَنَّ الْقَاعِدَ يَرْتَفِعُ مِنْ الْأَرْضِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

586 - 586 - 49 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَكَتَبَ كِتَابَهَا , وَدَفَعَ لَهَا الْحَالَّ بِكَمَالِهِ , وَبَقِيَ الْقِسْطُ مِنْ ذَلِكَ , وَلَمْ تَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ , وَطَلَبَهَا لِلدُّخُولِ فَامْتَنَعَتْ وَلَهَا خَالَةٌ تَمْنَعُهَا , فَهَلْ تُجْبَرُ عَلَى الدُّخُولِ وَيَلْزَمُ خَالَتَهَا الْمَذْكُورَةَ تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ ؟ الْجَوَابُ : لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا , وَالْحَالُ هَذِهِ , بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ , وَلَا لِخَالَتِهَا وَلَا غَيْرِ خَالَتِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا , بَلْ تُعَزَّرُ الْخَالَةُ عَلَى مَنْعِهَا مِنْ فِعْلِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ , وَتُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِلزَّوْجِ .

588 - 588 - 51 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ شَافِعِيِّ الْمَذْهَبِ بَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثَ , ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ وَبَانَتْ مِنْ الزَّوْجِ الثَّانِي , ثُمَّ أَرَادَتْ صُلْحَ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ , لِأَنَّ لَهَا مِنْهُ أَوْلَادًا , فَقَالَ لَهَا : إنَّنِي لَسْت قَادِرًا عَلَى النَّفَقَةِ وَعَاجِزٌ عَنْ الْكِسْوَةِ فَأَبَتْ ذَلِكَ , فَقَالَ لَهَا : كُلَّمَا حَلَلْت لِي حَرُمْت عَلَيَّ , فَهَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ , لَكِنْ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ , إمَّا كَفَّارَةُ ظِهَارٍ فِي قَوْلٍ وَإِمَّا كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي قَوْلٍ آخَرَ , وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا , إنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ , لَكِنْ فِي التَّكْفِيرِ نِزَاعٌ , وَإِنَّمَا يَقُولُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمِثْلِ هَذِهِ مَنْ يُجَوِّزُ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ عَلَى النِّكَاحِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ , بِشَرْطِ أَنْ يَرَى الْحَرَامَ طَلَاقًا . كَقَوْلِ مَالِكٍ , وَإِذَا نَوَاهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فَعِنْدَهُمَا لَوْ قَالَ : كُلَّمَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتَ طَالِقٌ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ , فَكَيْفَ فِي الْحَرَامِ ؟ لَكِنَّ أَحْمَدَ يُجَوِّزُ عَلَيْهِ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ تَصْحِيحَ الظِّهَارِ قَبْلَ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

593 - 593 - 56 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ : أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ مِثْلُ أَبِي وَأُمِّي . وَقَالَ لَهَا : أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ مِثْلُ أُمِّي وَأُخْتِي : فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ ؟ الْجَوَابُ : لَا طَلَاقَ بِذَلِكَ ; وَلَكِنْ إنْ اسْتَمَرَّ عَلَى النِّكَاحِ فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَفَّارَةُ ظِهَارٍ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا , وَهِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ , فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ; فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا .
589 - 589 - 52 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ حُنِقَ مِنْ زَوْجَتِهِ فَقَالَ : إنْ بَقِيت أَنْكِحُك أَنْكِحُ أُمِّي تَحْتَ سُتُورِ الْكَعْبَةِ . هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَهَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , إذَا نَكَحَهَا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ : عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ , فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكَيْنَا , وَلَا يَمَسَّهَا حَتَّى يُكَفِّرَ .

590 - 590 - 53 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلَيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : يَا أَخِي , لَا تَفْعَلْ هَذِهِ الْأُمُورَ بَيْنَ يَدَيْ امْرَأَتِك , قَبِيحٌ عَلَيْك , فَقَالَ : مَا هِيَ إلَّا مِثْلُ أُمِّي . فَقَالَ : لِأَيِّ شَيْءٍ قُلْت ؟ سَمِعْت أَنَّهَا تَحْرُمُ بِهَذَا اللَّفْظِ , ثُمَّ كَرَّرَ عَلَى نَفْسِهِ , وَقَالَ : إي وَاَللَّهِ هِيَ عِنْدِي مِثْلُ أُمِّي : هَلْ تَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ بِهَذَا اللَّفْظِ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : إنَّهَا مِثْلُ أُمِّي أَنَّهَا تَسْتُرُ عَلَيَّ وَلَا تَهْتِكُنِي وَلَا تَلُومُنِي , كَمَا تَفْعَلُ الْأُمُّ مَعَ وَلَدِهَا , فَإِنَّهُ يُؤَدَّبُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ , وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ ; فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ : يَا أُخْتِي , فَأَدَّبَهُ - وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا لَمْ يُؤَدَّبْ عَلَى ذَلِكَ , وَإِنْ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ الْمُنْكَرِ - وَقَالَ أُخْتُك هِيَ ؟ , فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ امْرَأَتَهُ كَأُمِّهِ . وَإِنْ أَرَادَ بِهَا عِنْدِي مِثْلُ أُمِّي . أَيْ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْ وَطْئِهَا , وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا , وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْرُمُ مِنْ الْأُمِّ , فَهِيَ مِثْلُ أُمِّي الَّتِي لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهَا : فَهَذَا مُظَاهِرٌ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُظَاهِرِ , فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ فَيُعْتِقُ رَقَبَةً , فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ , فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا . وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ حَلَّ لَهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ

الْمُسْلِمِينَ ; إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيَّ كَأُمِّي : فَهَذَا يَكُونُ مُظَاهِرًا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ . وَحُكِيَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ نِزَاعٌ فِي ذَلِكَ : هَلْ يَقَعُ بِهِ الثَّلَاثَ ؟ أَمْ لَا ؟ وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ , وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ حَتَّى يُكَفِّرَ بِاتِّفَاقِهِمْ , وَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
592 - 592 - 55 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ قَالَ فِي غَيْظِهِ لِزَوْجَتِهِ : أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ مِثْلُ أُمِّي . الْجَوَابُ : هَذَا مُظَاهِرٌ مِنْ امْرَأَتِهِ , دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتُهُمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ , وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ , فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } . فَهَذَا إذَا أَرَادَ إمْسَاكَ زَوْجَتِهِ وَوَطْأَهَا فَإِنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ .

594 - 594 - 57 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ بَائِنٍ عَنْهُ إنْ رَدَدْتُك تَكُونِي مِثْلَ أُمِّي وَأُخْتِي : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهَا ؟ وَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ الْجَوَابُ : فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ , وَإِذَا رَدَّهَا فِي الْآخَرِ لَا شَيْءَ . وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ .
591 - 591 - 54 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ , وَأَرَادَ الدُّخُولَ اللَّيْلَةَ الْفُلَانِيَّةَ ; وَإِلَّا كَانَتْ عِنْدِي مِثْلَ أُمِّي وَأُخْتِي , وَلَمْ تَتَهَيَّأْ لَهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ الَّذِي طَلَبَهَا فِيهِ : فَهَلْ يَقَعُ طَلَاقٌ ؟ الْجَوَابُ : لَا يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ , لَكِنْ يَكُونُ مُظَاهِرًا فَإِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ قَبْلَ ذَلِكَ الْكَفَّارَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي " سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ " فَيُعْتِقُ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً , فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ; فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا .

596 - 596 - 59 مَسْأَلَةٌ : فِي امْرَأَةٍ فَسَخَ الْحَاكِمُ نِكَاحَهَا عَقِبَ الْوِلَادَةِ , لِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ تَضَرُّرِهَا بِانْقِطَاعِ نَفَقَةِ زَوْجِهَا , وَعَدَمِ تَصَرُّفِهِ الشَّرْعِيِّ عَلَيْهَا الْمُدَّةَ الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا فَسْخُ النِّكَاحِ لِمِثْلِهَا . وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ شُهُورٍ مِنْ فَسْخِ النِّكَاحِ رَغِبَ فِيهَا مَنْ يَتَزَوَّجُهَا : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَعْتَدَّ بِالشُّهُورِ ; إذْ أَكْثَرُ النِّسَاءِ لَا يَحِضْنَ مَعَ الرَّضَاعَةِ أَوْ يَسْتَمِرُّ بِهَا الضَّرَرُ إلَى حَيْثُ يَنْقَضِي الرَّضَاعُ وَيَعُودُ إلَيْهَا حَيْضُهَا , أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . بَلْ تَبْقَى فِي الْعِدَّةِ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ , وَإِنْ تَأَخَّرَ ذَلِكَ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الرَّضَاعِ , وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ , وَبِذَلِكَ قَضَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ , وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ , وَلَمْ يُخَالِفْهُمَا أَحَدٌ . فَإِنْ أَحَبَّتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَسْتَرْضِعَ لِابْنِهَا مَنْ يُرْضِعُهُ لِتَحِيضَ , أَوْ تَشْرَبَ مَا تَحِيضُ بِهِ . فَلَهَا ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

603 - 603 - 66 - مَسْأَلَةٌ : فِي امْرَأَةٍ شَابَتْ لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ الْإِيَاسِ , وَكَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ , فَشَرِبَتْ دَوَاءً , فَانْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ وَاسْتَمَرَّ انْقِطَاعُهُ ; ثُمَّ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَهِيَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ : فَهَلْ تَكُونُ عِدَّتُهَا مِنْ حِينِ الطَّلَاقِ بِالشُّهُورِ , أَوْ تَتَرَبَّصُ حَتَّى تَبْلُغَ سِنَّ الْآيِسَاتِ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . إنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ الدَّمَ يَأْتِي فِيمَا بَعْدُ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ . وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ الدَّمُ وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَعُودَ فَإِنَّهَا تَتَرَبَّصُ بَعْدَ سَنَةٍ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ , كَمَا قَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الْمَرْأَةِ يَرْتَفِعُ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ , فَإِنَّهَا تَتَرَبَّصُ سَنَةً , وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ : كَمَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا تَدْخُلُ فِي سِنِّ الْآيِسَاتِ : فَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا ; مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ الَّذِي لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِمِثْلِهِ , أَوْ تُمْنَعُ مِنْ النِّكَاحِ وَقْتَ حَاجَتِهَا إلَيْهِ وَيُؤْذَنُ لَهَا فِيهِ حِينَ لَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ .

600 - 600 - 63 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ ادَّعَتْ عَلَيْهِ مُطَلَّقَتُهُ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِبِنْتٍ , وَبَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ , فَأَلْزَمَهُ بَعْضُ الْحُكَّامِ بِالْيَمِينِ , فَقَالَ الرَّجُلُ : أَحْلِفُ أَنَّ هَذِهِ مَا هِيَ بِنْتِي ؟ فَقَالَ الْحَاكِمُ : مَا تَحْلِفُ إلَّا أَنَّهَا مَا هِيَ بِنْتُهَا , فَامْتَنَعَ أَنْ يَحْلِفَ , إلَّا أَنَّهَا مَا هِيَ بِنْتِي , وَكَانَ مَعَهُ إنْسَانٌ فَقَالَ لِلْحَاكِمِ : هَذَا مَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهَا مَا هِيَ بِنْتُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ , فَضَرَبَهُ الْحَاكِمُ بِالدِّرَّةِ , وَأَحْرَقَ بِهِ فَخَافَ الرَّجُلُ فَكَتَبَ عَلَيْهِ فَرْضَ الْبِنْتِ , فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْفَرْضُ ؟ . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا فِي الْعِدَّةِ , أَوْ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا فِي بَيْتِهِ , بِحَيْثُ أَمْكَنَ لُحُوقُ النَّسَبِ بِهِ , فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ , وَأَمْكَنَ أَنَّهَا وَلَدَتْهَا مِنْ الثَّانِي , فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا وَإِذَا حَلَفَتْ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا قَبْلَ نِكَاحِ الثَّانِي آخِرًا , وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ .

607 - 607 - 70 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَلَهُمَا وَلَدَانِ وَهِيَ مُقِيمَةٌ عِنْدَ الزَّوْجِ فِي بَيْتِهِ مُدَّةَ سَنَتَيْنِ وَيُبْصِرُهَا وَتُبْصِرُهُ , فَهَلْ يَحِلُّ لَهَا الْأَكْلُ الَّذِي تَأْكُلُ مِنْ عِنْدِهِ أَمْ لَا وَهَلْ لَهُ عَلَيْهَا حُكْمٌ ؟ الْجَوَابُ : الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا هِيَ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ الرَّجُلِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَجْنَبِيَّاتِ , فَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ , وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا إلَى مَا لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا حُكْمٌ أَصْلًا , وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَاطِئَهَا عَلَى أَنْ تُزَوَّجَ غَيْرَهُ ثُمَّ تُطَلِّقَهُ وَتَرْجِعُ إلَيْهِ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مَا تُنْفِقُهُ فِي ذَلِكَ , فَإِنَّهَا لَوْ تَزَوَّجَتْ رَجُلًا غَيْرَهُ بِالنِّكَاحِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ مَاتَ زَوْجُهَا أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَجُزْ لِهَذَا الْأَوَّلِ أَنْ يَخْطُبَهَا فِي الْعِدَّةِ صَرِيحًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } . وَنَهَاهُ أَنْ يَعْزِمَ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ أَيْ حَتَّى تَقْضِيَ الْعِدَّةَ فَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَاهُ عَنْ هَذِهِ الْمُوَاعَدَةِ وَالْعَزْمِ فِي الْعِدَّةِ , فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ فِي عِصْمَةِ زَوْجِهَا , فَكَيْفَ إذَا كَانَ الرَّجُلُ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا بَعْدُ تَوَاعَدُ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَهُ

ثُمَّ تُطَلِّقَهُ وَيَتَزَوَّجَ بِهَا الْمُوَاعِدُ , فَهَذَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّهُ يَصِحُّ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ أَوْ قِيلَ : لَا . فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ التَّصْرِيحَ بِخِطْبَةِ مُعْتَدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ مُتَزَوِّجَةٍ بِغَيْرِهِ أَوْ بِخِطْبَةِ مُطَلَّقَةٍ ثَلَاثًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ . وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .

611 - 611 - 74 مَسْأَلَةٌ : فِي امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ , وَأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ جَاءَهَا مَرَّةً , ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخَرِ مِنْ السَّنَةِ , وَادَّعَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ , وَلَمْ تَكُنْ حَاضَتْ إلَّا مَرَّةً , فَلَمَّا عَلِمَ الزَّوْجُ الثَّانِي طَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً ثَانِيًا فِي الْعَاشِرِ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ السَّنَةِ , ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تُزَوَّجَ بِالْمُطَلِّقِ الثَّانِي , وَادَّعَتْ أَنَّهَا آيِسَةٌ : فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهَا وَهَلْ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا ؟ الْجَوَابُ : الْإِيَاسُ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْمَرْأَةِ ; لَكِنْ هَذِهِ إذَا قَالَتْ إنَّهُ ارْتَفَعَ لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ فَإِنَّهَا تُؤَجَّلُ سَنَةً , فَإِنْ لَمْ تَحِضْ فِيهَا زُوِّجَتْ . وَإِذَا طَعَنَتْ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى تَأْجِيلٍ . وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ حَيْضَهَا ارْتَفَعَ بِمَرَضٍ أَوْ رَضَاعٍ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ حَتَّى يَزُولَ الْعَارِضُ . فَهَذِهِ الْمَرْأَةُ كَانَ عَلَيْهَا " عِدَّتَانِ " : عِدَّةٌ لِلْأَوَّلِ , وَعِدَّةٌ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي . وَنِكَاحُهُ . فَاسِدٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى طَلَاقٍ , فَإِذَا لَمْ تَحِضْ إلَّا مَرَّةً وَاسْتَمَرَّ انْقِطَاعُ الدَّمِ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ الْعِدَّتَيْنِ بِالشُّهُورِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ فِرَاقِ الثَّانِي إذَا كَانَتْ آيِسَةً . وَإِذَا كَانَتْ مُسْتَرِيبَةً كَانَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ . وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْعِدَّتَيْنِ لَا تَتَدَاخَلَانِ : كَمَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَتَدَاخَلُ الْعِدَّتَانِ مِنْ رَجُلَيْنِ ; لَكِنْ

عِنْدَهُ الْإِيَاسُ حُدَّ بِالسِّنِّ , وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ أَحْسَنُ قَوْلَيْ الْفُقَهَاءِ وَأَسْهَلُهُمَا , وَبِهِ قَضَى عُمَرُ وَغَيْرُهُ . وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فَهَذِهِ الْمُسْتَرِيبَةُ تَبْقَى فِي عِدَّةٍ حَتَّى تَطْعَنَ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ , فَتَبْقَى عَلَى قَوْلِهِمْ تَمَامَ خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ سَنَةً لَا تَتَزَوَّجُ . وَلَكِنْ فِي هَذَا عُسْرٌ وَحَرَجٌ فِي الدِّينِ , وَتَضْيِيعُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ .
614 - 614 - 77 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِبِنْتٍ بِكْرٍ . ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَلَمْ يُصِبْهَا فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا , عَقْدًا ثَانِيًا أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : طَلَاقُ الْبِكْرِ ثَلَاثًا كَطَلَاقِ الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ .
634 - 634 - 15 - مَسْأَلَةٌ : فِي مَرِيضٍ طَلَبَ مِنْ رَجُلٍ أَنْ يُطَبِّبَهُ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ فَفَعَلَ , فَهَلْ لِلْمُنْفِقِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَرِيضَ بِالنَّفَقَةِ ؟ الْجَوَابُ : إنْ كَانَ يُنْفِقُ طَالِبًا لِلْعِوَضِ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْعِوَضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَالشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ قَدْ تَبْطُلُ لِكَوْنِهَا قَدْ تُنَافِي مَقْصُودَ الشَّارِعِ مِثْلُ اشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ , فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَا مَقْصُودَهُ , فَإِنَّ مَقْصُودَهُ الْمِلْكُ وَالْعِتْقُ قَدْ يَكُونُ مَقْصُودًا لِلْعَقْدِ فَإِنَّ اشْتِرَاءَ الْعَبْدِ لِعِتْقِهِ يُقْصَدُ كَثِيرًا , فَثُبُوتُ الْوَلَاءِ لَا يُنَافِي مَقْصُودَهُ الْعَقْدُ , وَإِنَّمَا يُنَافِي كِتَابَ اللَّهِ وَشَرْطَهُ , كَمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ } فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ مُنَافِيًا لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ كَانَ الْعَقْدُ لَغْوًا , وَإِذَا كَانَ مُنَافِيًا لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ كَانَ مُخَالِفًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ , فَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَغْوًا وَلَا اشْتَمَلَ عَلَى مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلَا وَجْهَ لِتَحْرِيمِهِ , بَلْ الْوَاجِبُ حِلُّهُ ; لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَقْصُودٌ لِلنَّاسِ يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ , إذْ لَوْلَا حَاجَتُهُمْ إلَيْهِ لَمَا فَعَلُوهُ , فَإِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَلَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُهُ فَيُبَاحُ لِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا يَرْفَعُ الْحَرَجَ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعُقُودَ وَالشُّرُوطَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ يُقَالَ لَا تَحِلُّ وَلَا تَصِحُّ إنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى حِلِّهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ خَاصٌّ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ , أَوْ يُقَالُ لَا يَحِلُّ وَلَا يَصِحُّ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى حِلِّهَا دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ , وَإِنْ كَانَ عَامًّا , أَوْ يُقَالُ

تَصِحُّ , وَلَا تَحْرُمُ إلَّا أَنْ يُحَرِّمَهَا الشَّارِعُ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ , وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ دَلَّا عَلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ وَالْقُبُوضِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي حَالِ الْكُفْرِ , وَأَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ , فَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي آيَةِ الرِّبَا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } . فَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ الرِّبَا فِي الذِّمَمِ , وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ مَا قَبَضُوهُ بِعَقْدِ الرِّبَا , بَلْ مَفْهُومُ الْآيَةِ الَّذِي اتَّفَقَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ يُوجِبُ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ , وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْقَطَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الرِّبَا الَّذِي فِي الذِّمَمِ , وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ الْمَقْبُوضِ , وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَيُّمَا قَسْمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى مَا قُسِمَ , وَأَيُّمَا قَسْمٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ فَهُوَ قَسْمُ الْإِسْلَامِ } . وَأَقَرَّ النَّاسُ عَلَى أَنْكِحَتِهِمْ الَّتِي عَقَدُوهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ , وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ أَحَدًا , هَلْ عَقَدَ بِهِ فِي عِدَّةٍ أَوْ غَيْرِ عِدَّةٍ ؟ بِوَلِيٍّ أَوْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ؟ بِشُهُودٍ أَوْ بِغَيْرِ شُهُودٍ ؟ . وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِتَجْدِيدِ نِكَاحٍ وَلَا بِفِرَاقِ امْرَأَةٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الْمُحَرِّمُ مَوْجُودًا حِينَ الْإِسْلَامِ , كَمَا أَمَرَ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ الَّذِي أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ أَنْ يُمْسِكَ أَرْبَعًا وَيُفَارِقَ

سَائِرَهُنَّ , كَمَا أَمَرَ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيَّ الَّذِي أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ أَنْ يَخْتَارَ إحْدَاهُمَا وَيُفَارِقَ الْأُخْرَى , وَكَمَا أَمَرَ الصَّحَابَةُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْمَجُوسِ أَنْ يُفَارِقُوا ذَاتِ الْمَحَارِمِ , وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ الَّتِي عَقَدَهَا الْكُفَّارُ يُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إذْ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ , وَإِنْ كَانَ الْكُفَّارُ لَمْ يَعْقِدُوهَا بِإِذْنٍ شَرْعِيٍّ , وَلَوْ كَانَتْ الْعُقُودُ عِنْدَهُمْ كَالْعِبَادَاتِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِشَرْعٍ لَحَكَمُوا بِفَسَادِهَا أَوْ بِفَسَادِ مَا لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ مُسْتَمْسِكُونَ فِيهِ بِشَرْعٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ عَلَى أَنَّهَا إذَا عُقِدَتْ عَلَى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ فِي الْإِسْلَامِ , ثُمَّ أَسْلَمُوا بَعْدَ زَوَالِهِ مَضَتْ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِاسْتِئْنَافِهَا ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ , وَلَيْسَ مَا عَقَدُوهُ بِغَيْرِ شَرْعٍ بِدُونِ مَا عَقَدُوهُ مَعَ تَحْرِيمِ الشَّرْعِ , وَكِلَاهُمَا عِنْدَكُمْ سَوَاءٌ . قُلْنَا : لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَا عَقَدُوهُ مَعَ التَّحْرِيمِ إنَّمَا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ , وَأَمَّا إذَا أَسْلَمُوا قَبْلَ التَّقَابُضِ فُسِخَ , بِخِلَافِ مَا عَقَدُوهُ بِغَيْرِ شَرْعٍ فَإِنَّهُ لَا يُفْسَخُ لَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا بَعْدَهُ , وَلَمْ أَرَ الْفُقَهَاءَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ اشْتَرَطُوا فِي النِّكَاحِ الْقَبْضَ , بَلْ سَوَّوْا بَيْنَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ ; لِأَنَّ نَفْسَ عَقْدِ النِّكَاحِ يُوجِبُ أَحْكَامًا بِنَفْسِهِ , وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَبْضُ مِنْ

الْمُصَاهَرَةِ وَنَحْوِهَا . كَمَا أَنَّ نَفْسَ الْوَطْءِ يُوجِبُ أَحْكَامًا وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ نِكَاحٍ , فَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعُقُودِ وَالْوَطْءِ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْآخَرِ أَقَرَّهُمْ الشَّارِعُ عَلَى ذَلِكَ . بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ , فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِعُقُودِهَا هُوَ التَّقَابُضُ , وَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهَا فَأَبْطَلَهَا الشَّارِعُ لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ , فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مَقْصُودَ الْعِبَادِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ لَا يُبْطِلُهُ الشَّارِعُ إلَّا مَعَ التَّحْرِيمِ لَا أَنَّهُ لَا يُصَحِّحُهُ إلَّا بِتَحْلِيلٍ , وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا تَعَاقَدُوا بَيْنَهُمْ عُقُودًا وَلَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ لَا تَحْرِيمَهَا وَلَا تَحْلِيلَهَا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ جَمِيعُهُمْ فِيمَا أَعْلَمُهُ يُصِحُّونَهَا إذَا لَمْ يَعْتَقِدُوا تَحْرِيمَهَا وَإِنْ كَانَ الْعَاقِدُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ يَعْلَمُ تَحْلِيلَهَا , لَا بِاجْتِهَادٍ وَلَا بِتَقْلِيدٍ وَلَا بِقَوْلِ أَحَدٍ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ إلَّا الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ الشَّارِعَ أَحَلَّهُ , فَلَوْ كَانَ إذْنُ الشَّارِعِ الْخَاصُّ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعُقُودِ لَمْ يَصِحَّ عَقْدٌ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ إذْنِهِ , كَمَا لَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ فَإِنَّهُ آثِمٌ , وَإِنْ كَانَ قَدْ صَادَفَ الْحَقَّ . وَأَمَّا إنْ قِيلَ : لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَدُلُّ عَلَى حِلِّهَا سَوَاءٌ كَانَ عَامًّا أَوْ خَاصًّا فَفِيهِ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : الْمَنْعُ كَمَا تَقَدَّمَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ قَدْ دَلَّتْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ عَلَى حِلِّ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ جُمْلَةً إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ .

وَمَا عَارَضُوا بِهِ سَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ , فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ وَأَمَّا قَوْلُهُ : { مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ , كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ } . فَالشَّرْطُ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ تَارَةً وَالْمَفْعُولُ أُخْرَى , وَكَذَلِكَ الْوَعْدُ وَالْخُلْفُ , وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ , وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْمَشْرُوطُ لَا نَفْسُ التَّكَلُّمِ , وَلِهَذَا قَالَ : " وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ " أَيْ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ مَشْرُوطٍ , وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَعْدِيدُ التَّكَلُّمِ بِالشَّرْطِ , وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَعْدِيدُ الْمَشْرُوطِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ } , أَيْ : كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ مِنْهُ , وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا خَالَفَ ذَلِكَ الشَّرْطُ كِتَابَ اللَّهِ وَشَرْطَهُ بِأَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَكَذَلِكَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ , وَأَهْلُ الْحِجَازِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إذَا بَاعَ شَجَرًا قَدْ بَدَا ثَمَرُهُ كَالنَّخْلِ الْمُنَوِّرَةِ فَثَمَرُهُ لِلْبَائِعِ مُسْتَحِقُّ الْإِبْقَاءِ إلَى كَمَالِ صَلَاحِهِ . فَيَكُونُ الْبَائِعُ قَدْ اسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ الشَّجَرِ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ , وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ كَالدَّارِ وَالْعَبْدِ عَامَّتُهُمْ يُجَوِّزُهُ وَيَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي دُونَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي لِلْمُسْتَأْجِرِ . وَكَذَلِكَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ يُجَوِّزُونَ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ مَنْفَعَةِ الْعَقْدِ , كَمَا فِي صُوَرِ الْوِفَاقِ , كَاسْتِثْنَاءِ بَعْضِ أَجْزَائِهِ مُعَيَّنًا وَمَشَاعًا . وَكَذَلِكَ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ مُعَيَّنًا إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِفَصْلِهِ كَبَيْعِ الشَّاةِ . وَاسْتِثْنَاءِ شَيْءٍ مِنْهَا سِوَى قِطَعِهَا مِنْ الرَّأْسِ وَالْجِلْدِ وَالْأَكَارِعِ . وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي نَوْعًا مِنْ الِانْتِفَاعِ فِي الْإِجَارَاتِ الْمُقَدَّرَةِ بِالزَّمَانِ , كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزَّرْعِ أَوْ حَانُوتًا لِلتِّجَارَةِ فِيهِ أَوْ صِنَاعَةً أَوْ أَجِيرَ الْخِيَاطَةِ أَوْ بِنَاءً وَنَحْوَ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ لَوْ زَادَ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ , فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمَهُ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي مِلْكَهُ الِاسْتِمْتَاعَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعُرْفُ حَيْثُ ثَبَتَ , وَمَتَى ثَبَتَ فَيَمْلِكُهُ لَكِنْ حَيْثُ ثَبَتَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ الْمُحَرَّمِ أَوْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ ,

فَإِنَّ الْعُرْفَ لَا يَقْتَضِيهِ وَيَقْتَضِي مِلْكًا لِلْمَهْرِ الَّذِي هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ , وَمَلَّكَهَا الِاسْتِمْتَاعَ فِي الْجُمْلَةِ , فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا ثَبَتَ لَهَا الْفَسْخُ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ الْمَشَاهِيرِ وَلَوْ آلَى مِنْهَا ثَبَتَ لَهَا فِرَاقُهُ إذَا لَمْ يَفِ بِالْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ , وَإِنْ كَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْوَطْءَ وَيُبِرُّ قَسَمَهُ الِابْتِدَائِيَّ , بَلْ يَكْتَفِي بِالْبَعْثِ الطَّبِيعِيِّ , فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ , وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ فَإِنَّ الصَّحِيحَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ , وَالْفَسْخُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَالِاعْتِبَارُ , وَهَلْ يَتَقَدَّرُ الْوَطْءُ الْوَاجِبُ بِمَرَّةٍ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ اعْتِبَارًا بِالْإِيلَاءِ , أَوْ يَجِبُ أَنْ يَطَأَهَا بِالْمَعْرُوفِ كَمَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا بِالْمَعْرُوفِ , فِيهِ خِلَافٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَالصَّحِيحُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ نُصُوصِ أَحْمَدَ , وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّلَفِ أَنَّ مَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ , كَالنَّفَقَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ , وَالْمُثْبَتِ لِلْمَرْأَةِ , وَكَالِاسْتِمْتَاعِ لِلزَّوْجِ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ بَلْ الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ , فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } . فِي مِثْلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدٍ : { خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } . فَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِيهِ فَرَضَ

الْحَاكِمُ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ , كَمَا فَرَضَتْ الصَّحَابَةُ مِقْدَارَ الْوَطْءِ لِلزَّوْجِ بِمَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ , وَمَنْ قَدَّرَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ الْوَطْءَ الْمُسْتَحَقَّ , فَهُوَ كَتَقْدِيرِ الشَّافِعِيِّ النَّفَقَةَ , إذْ كِلَاهُمَا مِمَّا تَحْتَاجُهُ الْمَرْأَةُ وَيُوجِبُهُ الْعَقْدُ , وَتَقْدِيرُ ذَلِكَ ضَعِيفٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ , بَعِيدٌ عَنْ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ , وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا قَدَّرَهُ طَرْدًا لِلْقَاعِدَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُ مِنْ نَفْيِهِ لِلْجَهَالَةِ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ , قِيَاسًا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ , فَجَعَلَ النَّفَقَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ مُقَدَّرَةً طَرْدًا كَذَلِكَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَكَذَلِكَ يُوجِبُ الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ سَلَامَةَ الزَّوْجِ مِنْ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ , وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَلَامَتَهَا مِنْ مَوَانِعِ الْوَطْءِ كَالرَّتْقِ وَسَلَامَتِهَا مِنْ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ , وَكَذَلِكَ سَلَامَتُهَا مِنْ الْعُيُوبِ الَّتِي تَمْنَعُ كَمَالَهُ كَخُرُوجِ النَّجَاسَاتِ مِنْهُ ; وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي إحْدَى الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ دُونَ الْجَمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَمُوجِبُهُ كَفَاءَةُ الرَّجُلِ أَيْضًا دُونَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ . ثُمَّ لَوْ شَرَطَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ صِفَةً مَقْصُودَةً كَالْمَالِ وَالْجَمَالِ وَالْبَكَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ صَحَّ ذَلِكَ . وَمَلَكَ بِالشَّرْطِ الْفَسْخَ عِنْدَ فَوْتِهِ فِي أَصَحِّ رِوَايَتَيْ أَحْمَدَ ; وَأَصَحِّ وَجْهَيْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ; وَظَاهِرِ مَذْهَبِ

مَالِكٍ ; وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ إلَّا فِي شَرْطِ الْحُرِّيَّةِ وَالدِّينِ ; وَفِي شَرْطِ النَّسَبِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَجْهَانِ ; وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِطُ هُوَ الْمَرْأَةُ فِي الرَّجُلِ أَوْ الرَّجُلُ فِي الْمَرْأَةِ , بَلْ اشْتِرَاطُ الْمَرْأَةِ فِي الرَّجُلِ أَوْكَدُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ ; وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَا أَصْلَ لَهُ . وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ بَعْضَ الصِّفَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ الزَّوْجُ أَنَّهُ مَجْبُوبٌ أَوْ عِنِّينٌ ; أَوْ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا رَتْقَاءُ أَوْ مَجْبُوبَةٌ صَحَّ هَذَا الشَّرْطُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ , فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ شَرْطِ النَّقْصِ عَنْ مُوجِبِ الْعَقْدِ , وَاخْتَلَفُوا فِي شَرْطِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ كَمَا ذَكَرْته لَك , فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلرَّجُلِ خِيَارُ عَيْبٍ وَلَا شَرْطٌ فِي النِّكَاحِ . وَأَمَّا الْمَهْرُ فَإِنَّهُ لَوْ زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ نَقَصَ فِيهِ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ ; وَكَذَلِكَ يُجَوِّزُ أَكْثَرُ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَمَالِكٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ , أَنْ تُنْقِصَ مِلْكَ الزَّوْجِ , فَتَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْقُلَهَا مِنْ وَلَدِهَا وَمِنْ دَارِهَا , وَأَنْ يَزِيدَهَا عَلَى مَا تَمْلِكُهُ بِالْمُطْلَقِ , فَيَزِيدُ عَلَيْهَا نَفْسَهُ , فَلَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا , وَلَا يَتَسَرَّى , وَعِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى , لَا يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ لَكِنَّهُ عِنْدَ أَبِي

حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَثَّرَ فِي تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ وَالْقِيَاسُ الْمُسْتَقِيمُ فِي هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي عَلَيْهِ أُصُولُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ , أَنَّ اشْتِرَاطَ زِيَادَةٍ عَلَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ وَاشْتِرَاطَ النَّقْصِ جَائِزٌ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الشَّرْعُ , فَإِذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا وَالنَّقْصُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْته , فَالزِّيَادَةُ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ , وَالنَّقْصُ مِنْهُ كَذَلِكَ , فَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُعْتِقَ الْعَبْدَ , أَوْ يَقِفَ الْعَيْنَ عَلَى الْبَائِعِ , أَوْ غَيْرِهِ , أَوْ يَقْضِي بِالْعَيْنِ دَيْنًا عَلَيْهِ لِمُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ , أَوْ أَنْ يَصِلَ بِهِ رَحِمَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ , هُوَ اشْتِرَاطُ تَصَرُّفٍ مَقْصُودٍ , وَمِثْلُهُ التَّبَرُّعُ وَالْمَفْرُوضُ وَالتَّطَوُّعُ . وَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْعِتْقِ وَغَيْرِهِ بِمَا فِي الْعِتْقِ مِنْ الْفَضْلِ الَّذِي تَشَوَّفَهُ الشَّارِعُ فَضَعِيفٌ , فَإِنَّ بَعْضَ أَنْوَاعِ التَّبَرُّعَاتِ أَفْضَلُ مِنْهُ , فَإِنَّ صِلَةَ ذِي الرَّحِمِ الْمُحْتَاجِ أَفْضَلُ مِنْ الْعِتْقِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ , فَإِنَّ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ أَعْتَقَتْ جَارِيَةً لَهَا , فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ تَرَكْتِيهَا لِأَخْوَالِك لَكَانَ خَيْرًا لَك } . وَلِهَذَا لَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ أَقَارِبُ لَا يَرِثُونَ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ أَوْلَى مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ , وَمَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا وَإِنَّمَا أَعْلَمُ الِاخْتِلَافَ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ : ( إحْدَاهُمَا

) : تَجِبُ , كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . ( وَالثَّانِيَةُ ) : لَا تَجِبُ كَقَوْلِ الْفُقَهَاءِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهِمْ , وَلَوْ وَصَّى لِغَيْرِهِمْ دُونَهُمْ فَهَلْ تُرَدُّ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ عَلَى أَقَارِبِهِ دُونَ الْمُوصَى لَهُ , أَوْ يُعْطَى ثُلُثُهَا لِلْمُوصَى لَهُ وَثُلُثَاهَا لِأَقَارِبِهِ كَمَا يَقْسِمُ التَّرِكَةَ الْوَرَثَةُ وَالْمُوصَى لَهُ . عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ هُوَ الْقَوْلُ بِنُفُوذِ الْوَصِيَّةِ . فَإِذَا كَانَ بَعْضُ التَّبَرُّعَاتِ أَفْضَلَ مِنْ الْعِتْقِ لَمْ يَصِحَّ تَعْلِيلُهُ بِاخْتِصَاصِهِ بِمَزِيدِ الْفَضِيلَةِ , وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ الْمَشْرُوطُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِعْلًا كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِلَّهِ مِنْ زَكَاةٍ , أَوْ كَفَّارَةٍ , أَوْ نَذْرٍ , أَوْ دَيْنٍ لِآدَمِيٍّ , فَاشْتُرِطَ عَلَيْهِ تَأْدِيَتُهُ وَكَانَ بِنِيَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَبِيعِ , أَوْ اشْتِرَاطِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ وِعَاءَ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَهَذَا أَوْكَدُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْعِتْقِ وَأَمَّا السِّرَايَةُ , فَإِنَّمَا كَانَ لِتَعْمِيدِ الْحُرِّيَّةِ , وَقَدْ شُرِّعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ , وَهُوَ حَقُّ الشُّفْعَةِ , فَإِنَّهَا شُرِعَتْ لِتَعْمِيدِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي , لِمَا فِي الشَّرِكَةِ مِنْ الضَّرَرِ لَهُ . وَنَحْنُ نَقُولُ شُرِعَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمُشَارَكَاتِ لِيُمَكَّنَ الشَّرِيكُ مِنْ الْمُقَاسَمَةِ , وَإِنْ أَمْكَنَ قِسْمَةُ الْعَيْنِ وَإِلَّا قَسَمْنَا ثَمَنَهَا إذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا ذَلِكَ , فَيَكْمُلُ الْعِتْقُ نَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ , إذْ الشَّرِكَةُ تَزُولُ بِالْقَسَمِ تَارَةً ,

وَبِالتَّكْمِيلِ أُخْرَى . وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِلْكَ هُوَ الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الرَّقَبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْقُدْرَةِ الْحِسِّيَّةِ , فَيُمْكِنُ أَنْ تَثْبُتَ الْقُدْرَةُ عَلَى تَصَرُّفٍ دُونَ تَصَرُّفٍ شَرْعًا , كَمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ حِسًّا , وَلِهَذَا جَاءَ الْمِلْكُ فِي الشَّرْعِ أَنْوَاعًا , فَالْمِلْكُ التَّامُّ يُمْلَكُ فِيهِ التَّصَرُّفُ فِي الرَّقَبَةِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَيُورَثُ عَنْهُ , وَفِي مَنَافِعِهِ بِالْإِعَارَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالِانْتِفَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , ثُمَّ قَدْ يَمْلِكُ الْأَمَةَ الْمَجُوسِيَّةَ أَوْ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَيْهِ بِالرَّضَاعِ , فَلَا يَمْلِكُ مِنْهُنَّ الِاسْتِمْتَاعَ وَيَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ بِالتَّزْوِيجِ بِأَنْ يُزَوِّجَ الْمَجُوسِيَّةَ بِمَجُوسِيٍّ مَثَلًا , وَقَدْ يَمْلِكُ أُمَّ الْوَلَدِ وَلَا يَمْلِكُ بَيْعَهَا وَلَا هِبَتَهَا وَلَا يُورَثُ عَنْهُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ , وَيَمْلِكُ وَطْأَهَا وَاسْتِخْدَامَهَا بِاتِّفَاقِهِمْ , وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّزْوِيجِ وَالْإِجَارَةِ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ , كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , وَيَمْلِكُ الْمَرْهُونَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ وَلَا يَمْلِكُ مِنْ التَّصَرُّفِ مَا يُزِيلُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ لَا بَيْعًا وَلَا هِبَةً , وَفِي الْعِتْقِ خِلَافُ مَشْهُورِ وَالْعَبْدِ الْمَنْذُورِ عِتْقُهُ وَالْهَوَاءِ وَالْمَالِ الَّذِي قَدْ نُذِرَ لِلصَّدَقَةِ بِعَيْنِهِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا اُسْتُحِقَّ صَرْفُهُ إلَى الْقُرْبَةِ قَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ , هَلْ يُزَالُ مِلْكُهُ عَنْهُ بِذَلِكَ أَمْ لَا , وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَارِجٌ عَنْ قِيَاسِ

الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ . فَمَنْ قَالَ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ كَمَا قَدْ يَقُولُهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا , فَهُوَ مِلْكٌ لَا يُمْلَكُ صَرْفُهُ إلَّا إلَى الْجِهَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ النُّسُكِ أَوْ الصَّدَقَةِ , وَهُوَ نَظِيرُ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى بِشَرْطِ الْعِتْقِ أَوْ الصَّدَقَةِ أَوْ الصِّلَةِ أَوْ الْبَدَنَةِ الْمُشْتَرَاةِ بِشَرْطِ الْإِهْدَاءِ إلَى الْحَرَمِ , وَمَنْ قَالَ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ عِتْقَهُ وَإِهْدَاءَهُ وَالصَّدَقَةَ بِهِ , وَهُوَ أَيْضًا خِلَافُ قِيَاسِ زَوَالِ الْمِلْكِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضُوعِ . كَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي الْوَقْفِ عَلَى مُعَيَّنٍ هَلْ يَصِيرُ وَقْفُهُ مِلْكًا لِلَّهِ أَوَيَنْتَقِلُ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ , أَوْ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ , عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْمِلْكُ الْمَوْصُوفُ نَوْعٌ مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ . وَكَذَلِكَ مِلْكُ الْمَوْهُوبِ لَهُ حَيْثُ يَجُوزُ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ كَالْأَبِ إذَا وَهَبَ لِابْنِهِ عِنْدَ فُقَهَاءَ . كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ نَوْعٌ مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ . حَيْثُ يُسَلِّطُ غَيْرُ الْمَالِكِ عَلَى انْتِزَاعِهِ مِنْهُ وَفَسْخِ عَقْدِهِ وَنَظِيرُهُ سَائِرُ الْأَمْلَاكِ فِي عَقْدٍ يَجُوزُ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ , كَالْمَبِيعِ بِشَرْطٍ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ انْتَقَلَ إلَى الْمُشْتَرِي كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا . وَكَالْبَيْعِ إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ , وَكَالْمَبِيعِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ عَيْبٌ أَوْ فَوَاتُ صِفَةٍ عِنْدَ

جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ , فَهَا هُنَا فِي الْمُعَاوَضَةِ وَالتَّبَرُّعِ يَمْلِكُ الْعَاقِدُ انْتِزَاعَهُ , وَمِلْكُ الْأَبِ لَا يَمْلِكُ انْتِزَاعَهُ وَجِنْسُ الْمِلْكِ يَجْمَعُهُمَا . وَكَذَلِكَ مِلْكُ الِابْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا فِيهِ مَعْنَى الْكِتَابِ وَصَرِيحَ السُّنَّةِ فِي طَوَائِفَ مِنْ السَّلَفِ , وَهُوَ مُبَاحٌ لِلْأَبِ مَمْلُوكٌ لِلِابْنِ بِحَيْثُ يَكُونُ لِلْأَبِ كَالْمُبَاحَاتِ الَّتِي تُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ . وَمِلْكُ الِابْنِ ثَابِتٌ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفًا مُطْلَقًا , فَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ يَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا وَفِيهِ مِنْ الْإِطْلَاقِ , وَالتَّقَيُّدِ مَا وَصَفْته وَمَا لَمْ أَصِفْهُ , لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ ذَلِكَ مُفَوَّضًا إلَى الْإِنْسَانِ يُثْبِتُ مِنْهُ مَا رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً , وَيَمْتَنِعُ مِنْ إثْبَاتِ مَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ , وَالشَّارِعُ لَا يَحْظُرُ عَلَى الْإِنْسَانِ إلَّا مَا فِيهِ فَسَادٌ رَاجِحٌ أَوْ مَحْضٌ , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَسَادٌ أَوْ كَانَ فَسَادُهُ مُغَمَّرًا بِالْمَصْلَحَةِ لَمْ يَخْطِرْهُ أَبَدًا .

الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ الشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْعَقْدِ الشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَارِنِ لَهُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ , وَمَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِ , وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي صَدَاقِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ , وَنَقَلُوهُ إلَى شَرْطِ التَّحْلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ وَغَيْرِهِ , وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ , وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ لَا يُؤَثِّرُ بَلْ يَكُونُ , كَالْوَعْدِ الْمُطْلَقِ عِنْدَهُمْ يَسْتَحِيلُ الْوَفَاءُ بِهِ , وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ قَدْ يَخْتَارُهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ , كَاخْتِيَارِ بَعْضِهِمْ أَنَّ التَّحْلِيلَ الْمَشْرُوطَ قَبْلَ الْعَقْدِ لَا يُؤَثِّرُ إلَّا أَنْ يُفَوِّتُهُ الزَّوْجُ وَقْتَ الْعَقْدِ , وَكَقَوْلِ طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْهُمْ بِمَا نَقَلُوهُ عَنْ أَحْمَدَ مِنْ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى الْعَقْدِ فِي الصَّدَاقِ لَا يُؤَثِّرُ , وَإِنَّمَا تُؤَثِّرُ التَّسْمِيَةُ فِي الْعَقْدِ , وَمِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ طَائِفَةٌ , كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى , يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ الرَّافِعِ لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ أَوْ الْمُغَيِّرِ لَهُ , فَإِنْ كَانَ رَافِعًا , كَالْمُوَاطَأَةِ عَلَى كَوْنِ الْعَقْدِ تَلْجِئَتَهُ , أَوْ تَحْلِيلًا أَبْطَلَهُ , وَإِنْ كَانَ مُغَيِّرًا كَاشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَهْرِ أَقَلَّ مِنْ الْمُسَمَّى لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ . لَكِنْ الْمَشْهُورُ فِي نُصُوصِ أَحْمَدَ وَأُصُولِهِ , وَمَا عَلَيْهِ قُدَمَاءُ أَصْحَابِهِ , كَقَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ كَالشَّرْطِ

الْمُقَارِنِ , فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى شَيْءٍ وَعُقِدَ الْعَقْدُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مَصْرُوفٌ إلَى الْمَعْرُوفِ بَيْنَهُمَا مِمَّا اتَّفَقَا عَلَيْهِ , كَمَا تَنْصَرِفُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فِي الْعُقُودِ إلَى الْمَعْرُوفِ بَيْنَهُمَا , وَكَمَا أَنَّ جَمِيعَ الْعُقُودِ إنَّمَا تَنْصَرِفُ إلَى مَا يَتَعَارَفُهُ الْمُتَعَاقِدَانِ .
الْمُقَدَّمَةُ الثَّانِيَةُ : إنَّ هَذِهِ الْأَيْمَانَ يُحْلَفُ بِهَا تَارَةً بِصِيغَةِ الْقَسَمِ , وَتَارَةً بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَخْرُجَ الْيَمِينُ عَنْ هَاتَيْنِ الصِّيغَتَيْنِ , فَالْأَوَّلُ : كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا , أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي أَنْ أَفْعَلَ كَذَا , أَوْ عَلَيَّ الْحَرَامُ لَا أَفْعَلُ كَذَا , أَوْ عَلَيَّ الْحَجُّ لَا أَفْعَلُ . وَالثَّانِي : كَقَوْلِهِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ , أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ , أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ , أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي حَرَامٌ أَوْ فَهِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي , أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ , وَلِهَذَا عَقَدَ الْفُقَهَاءُ لِمَسَائِلِ الْأَيْمَانِ بَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِأَنْ يُعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِالشَّرْطِ فَيَذْكُرُونَ فِيهِ الْحَلِفَ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ كَانَ وَمَتَى وَإِذَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ , وَإِنْ دَخَلَ فِيهِ صِيغَةُ الْقَسَمِ ضِمْنًا وَتَبَعًا . وَالْبَابُ الثَّانِي بَابُ جَامِعِ الْأَيْمَانِ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ , فَيَذْكُرُونَ فِيهِ الْحَلِفَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَإِنْ دَخَلَتْ صِيغَةُ الْجَزَاءِ ضِمْنًا , وَمَسَائِلُ أَحَدِ الْبَابَيْنِ

مُخْتَلِطَةٌ بِمَسَائِلِ الْبَابِ الْآخَرِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى كَثِيرًا وَغَالِبًا , وَكَذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ لَمَّا ذَكَرُوا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ " بَابَ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشُّرُوطِ أَرْدَفُوهُ بِبَابِ جَامِعِ الْأَيْمَانِ , وَطَائِفَةٌ أُخْرَى كَالْخِرَقِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى , وَغَيْرِهِمَا إنَّمَا ذَكَرُوا بَابَ جَامِعِ الْأَيْمَانِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ ; لِأَنَّهُ أَمَسُّ , وَنَظِيرُ هَذَا بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ مِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُهُ عِنْدَ بَابِ اللِّعَانِ لِاتِّصَالِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ , وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤَخِّرُهُ إلَى كِتَابِ الْحُدُودِ ; لِأَنَّهُ بِهِ أَخَصُّ .
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مَنْ أَكَلَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَيْلٌ فَبَانَ نَهَارًا لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ , كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ التَّابِعِينَ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ .

قَاعِدَةٌ فِي الْوَقْفِ الَّذِي يُشْتَرَى بِعِوَضِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَذَلِكَ مِثْلُ الْوَقْفِ الَّذِي أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ عِوَضُهُ يُشْتَرَى بِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ , فَإِنَّ الْوَقْفَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , وَمَضْمُونٌ بِالْيَدِ , فَلَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ تَلِفَ تَحْتَ يَدِهِ الْعَادِيَةِ , فَإِنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , لَكِنْ قَدْ تَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ هَلْ تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ كَالْعَقَارِ , وَفِي بَعْضِهَا هَلْ يَصِحُّ وَقْفُهُ كَالْمَنْقُولِ , وَلَكِنْ لَمْ يَتَنَازَعُوا أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ بِالْيَدِ كَالْأَمْوَالِ بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْإِتْلَافِ . فَقَدْ تَنَازَعُوا هَلْ تُضْمَنُ بِالْيَدِ أَوْ لَا , فَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ هِيَ مَضْمُونَةٌ بِالْيَدِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَقُولُ لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ , وَضَمَانُ الْيَدِ هُوَ ضَمَانُ الْعَقْدِ لِضَمَانِ الْبَائِعِ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ وَسَلَامَتَهُ مِنْ الْعَيْبِ , وَأَنَّهُ بَيْعٌ بِحَقٍّ وَضَمَانُ دَرْكِهِ عَلَيْهِ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ بِلَفْظِهِ . مِنْ أُصُولِ الِاشْتِرَاءِ بِبَدَلِ الْوَقْفِ إذَا تَعَطَّلَ نَفْعُ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ , وَهَلْ يَجُوزُ مَعَ كَوْنِهِ فِعْلًا أَنْ يُبَدَّلَ بِخَيْرٍ مِنْهُ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِهِ , وَالْجَوَازُ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِ , وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ حَيْثُ جَازَ الْبَدَلُ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّرْبِ أَوْ

الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْوَقْفُ الْأَوَّلُ أَمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَصْلَحَ لِأَهْلِ الْوَقْفِ , مِثْلَ أَنْ يَكُونُوا مُقِيمِينَ بِبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِ الْوَقْفِ وَإِذَا اشْتَرَى فِيهِ الْبَدَلَ كَانَ أَنْفَعَ لَهُمْ لِكَثْرَةِ الرُّبُعِ وَيُسْرِ التَّنَاوُلِ , فَيَقُولُ : مَا عَلِمْت أَحَدًا اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ فِي بَلَدِ الْوَقْفِ الْأَوَّلِ , بَلْ النُّصُوصُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأُصُولِهِ وَعُمُومُ كَلَامِهِ وَكَلَامِ أَصْحَابِهِ وَإِطْلَاقُهُ يَقْتَضِي أَنْ يُفْعَلَ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ مَصْلَحَةُ أَهْلِ الْوَقْفِ . فَإِنَّ أَصْلَهُ فِي هَذَا الْبَابِ مُرَاعَاةُ مَصْلَحَةِ الْوَقْفِ , بَلْ أَصْلُهُ فِي عَامَّةِ الْعُقُودِ اعْتِبَارُ مَصْلَحَةِ النَّاسِ , فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالصَّلَاحِ وَنَهَى عَنْ الْفَسَادِ وَبَعَثَ رُسُلَهُ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا . وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ : { اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } . وَقَالَ شُعَيْبٌ : { إنْ أُرِيدُ إلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْت } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ , أَلَا إنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ } . وَقَدْ جَوَّزَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إبْدَالَ مَسْجِدٍ بِمَسْجِدٍ آخَرَ لِلْمَصْلَحَةِ , كَمَا جَوَّزَ تَغْيِيرَهُ لِلْمَصْلَحَةِ , وَاحْتَجَّ بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَبْدَلَ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ الْقَدِيمَ بِمَسْجِدٍ آخَرَ , وَصَارَ الْمَسْجِدُ الْأَوَّلُ سُوقًا لِلْمَارِّينَ ,

وَجَوَّزَ أَحْمَدُ إذَا خَرِبَ الْمَكَانُ أَنْ يُنْقَلَ الْمَسْجِدُ إلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى , بَلْ وَيَجُوزُ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنْ يُبَاعَ ذَلِكَ الْمَسْجِدُ وَيُعَمَّرَ بِثَمَنِهِ مَسْجِدٌ آخَرُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى إذَا لَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ فِي الْقَرْيَةِ الْأُولَى , فَاعْتَبَرَ الْمَصْلَحَةَ بِجِنْسِ الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ غَيْرِ الْقَرْيَةِ الْأُولَى إذَا كَانَ جِنْسُ الْمَسَاجِدِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْمٍ بِعَيْنِهِمْ أَحَقُّ بِجَوَازِ نَقْلِهِ إلَى مَدِينَتِهِمْ مِنْ الْمَسْجِدِ . فَإِنَّ الْوَقْفَ عَلَى مُعَيَّنِينَ حَقٌّ لَهُمْ لَا يَشْرُكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ , وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ انْقِضَائِهِمْ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَيَكُونُ كَالْمَسْجِدِ , فَإِذَا كَانَ الْوَقْفُ بِبَلَدِهِمْ أَصْلَحَ لَهُمْ كَانَ اشْتِرَاءُ الْبَدَلِ بِبَلَدِهِمْ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي فِعْلُهُ لِمُتَوَلِّي ذَلِكَ وَصَارَ هَذَا كَالْفَرَسِ الْحَبِيسِ الَّذِي يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِقِيمَتِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ إذَا كَانَ مَحْبُوسًا عَلَى نَاسٍ بِبَعْضِ الثُّغُورِ ثُمَّ انْتَقَلُوا إلَى ثَغْرٍ آخَرَ , فَشِرَاءُ الْبَدَلِ بِالثَّغْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مَضْمُونٌ أَوْلَى مِنْ شِرَائِهِ بِثَغْرٍ آخَرَ , وَإِنْ كَانَ الْفَرَسُ حَبِيسًا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْمَسَاجِدِ , وَالْوَقْفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ , وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْوَقْفَ لَوْ كَانَ مَنْقُولًا كَالنُّورِ وَالسِّلَاحِ وَكُتُبِ الْعِلْمِ , وَهُوَ وَقْفٌ عَلَى ذُرِّيَّةِ رَجُلٍ يُعَيِّنُهُمْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَقَرُّ الْوَقْفِ حَيْثُ كَانُوا , بَلْ

كَانَ هَذَا هُوَ الْمُتَعَيَّنُ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْقَفَ عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ بِعَيْنِهِ , لَكِنْ إذَا صَارَ لَهُ عِوَضٌ هَلْ يُشْتَرَى بِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ كَانَ الْعِوَضُ مَنْقُولًا , وَكَانَ أَنْ يُشْتَرَى بِهَذَا الْعِوَضِ فِي بَلَدِ مَقَامِهِمْ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُشْتَرَى بِهِ فِي مَكَانِ الْعَقَارِ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَصْلَحَ لَهُمْ , إذْ لَيْسَ فِي تَخْصِيصِ مَكَانِ الْعَقَارِ الْأَوَّلِ مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ وَلَا مَصْلَحَةٌ لِأَهْلِ الْوَقْفِ وَمَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّارِعُ , وَلَا مَصْلَحَةٌ فِيهِ لِلْإِنْسَانِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ , فَعُلِمَ أَنَّ تَعْيِينَ الْمَكَانِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ لِمَنْ يَشْتَرِي بِالْعِوَضِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ , بَلْ الْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ جَائِزٌ , وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إذَا تَعَيَّنَتْ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَكْفِيهِ سَعْيٌ وَاحِدٌ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ , كَمَا فِي حَقِّ الْقَارِنِ وَالْمُفْرِدِ , وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَرِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَوَاهَا عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ , وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لَا يَعْرِفُونَهَا .
وَالْقَوْلُ بِجَوَازِ عَقْدِ الرِّدَاءِ فِي الْإِحْرَامِ . وَجَوَازُ طَوَافِ الْحَائِضِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا إذَا لَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تَطُوفَ طَاهِرًا .

862 - 862 - 21 مَسْأَلَةٌ : عَنْ قَنَاةِ سَبِيلٍ , لَهَا فَائِضٌ , يَنْزِلُ عَلَى قَنَاةِ الْوَسَخِ , وَقَرِيبٌ مِنْهَا قَنَاةٌ طَاهِرَةٌ قَلِيلَةُ الْمَاءِ : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسَاقَ ذَلِكَ الْفَائِضُ إلَى الْمُطَهِّرَةِ . وَهَلْ يُثَابُ فَاعِلُ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ مَنْعُهُ ؟ الْجَوَابُ : نَعَمْ . يَجُوزُ ذَلِكَ بِإِذْنِ وَلِيِّ الْأَمْرِ , وَلَا يَجُوزُ مَنْعُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ , وَيُثَابُ السَّاعِي فِي ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
866 - 866 - 25 مَسْأَلَةٌ : فِي نَاظِرَيْنِ , هَلْ لَهُمَا أَنْ يَقْتَسِمَا الْمَنْظُورَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَنْظُرُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي نِصْفِهِ فَقَطْ ؟ . الْجَوَابُ : لَا يَتَصَرَّفَانِ إلَّا جَمِيعًا فِي جَمِيع الْمَنْظُورِ فِيهِ , فَإِنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ انْفَرَدَ بِالتَّصَرُّفِ لَمْ يَجُزْ , فَكَيْف إذَا وُزِّعَ الْمُفْرَدُ , فَإِنَّ الشَّرْعَ شَرَعَ جَمْعَ الْمُتَفَرِّقِ بِالْقِسْمَةِ , وَالشُّفْعَةِ فَكَيْفَ يُفَرَّقُ الْمُجْتَمِعُ ؟ , .

870 - 870 - 29 مَسْأَلَةٌ : فِي مَسَاجِدَ وَجَوَامِعَ لَهُمْ أَوْقَافٌ , وَفِيهَا قَوَّامٌ وَأَئِمَّةٌ , وَمُؤَذِّنُونَ , فَهَلْ لِقَاضِي الْمَكَانِ أَنْ يَصْرِفَ مِنْهُ إلَى نَفْسِهِ ؟ الْجَوَابُ : بَلْ الْوَاجِبُ صَرْفُ هَذِهِ الْأَمْوَالِ فِي مَصَارِفِهَا الشَّرْعِيَّةِ , فَيُصْرَفُ مِنْ الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ إلَى الْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْقَوَّامِ مَا يَسْتَحِقُّهُ أَمْثَالُهُمْ . وَكَذَلِكَ يُصْرَفُ فِي فُرُشِ الْمَسَاجِدِ وَتَنْوِيرِهَا كِفَايَتُهَا بِالْمَعْرُوفِ , وَمَا فَضَلَ عَنْ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يُصْرَفَ فِي مَصَالِحِ مَسَاجِدَ أُخَرَ , وَيُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ , كَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا صَرْفُهَا لِلْقُضَاةِ وَمَنْعُ مَصَالِحِ الْمَسَاجِدِ فَلَا يَجُوزُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
908 - 908 - 67 مَسْأَلَةٌ : فِي وَقْفٍ لِمَصَالِحِ الْحَرَمِ وَعِمَارَتِهِ , ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُصْرَفُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ وَالصَّدَقَاتِ , وَعَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ الْمُقِيمِينَ بِالْحَرَمِ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْقُوَّامِ وَالْفَرَّاشِينَ الْقَائِمِينَ بِالْوَظَائِفِ ؟ الْجَوَابُ : نَعَمْ الْقَائِمُونَ بِالْوَظَائِفِ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمَسْجِدُ : مِنْ تَنْظِيفٍ , وَحِفْظٍ , وَفُرُشٍ , وَتَنْوِيرُهُ , وَفَتْحُ الْأَبْوَابِ ; وَإِغْلَاقُهَا , وَنَحْوُ ذَلِكَ : هُمْ مِنْ مَصَالِحِهِ : يَسْتَحِقُّونَ مِنْ الْوَقْفِ عَلَى مَصَالِحِهِ .

907 - 907 - 66 مَسْأَلَةٌ : فِي وَقْفٍ عَلَى جَمَاعَةٍ , وَأَنَّ بَعْضَ الشَّرِكَةِ قَدْ دَفَعَ فِي الْفَاكِهَةِ مَبْلَغًا , وَأَنَّ بَعْضَ الشَّرِكَةِ امْتَنَعَ مِنْ التَّضْمِينِ وَالضَّمَانِ , وَطَلَبَ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّنْ يَشْتَرِيهِ قَدْرَ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَرَةِ . فَهَلْ يَحْكُمُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ بِالْبَيْعِ مَعَ الشَّرِكَةِ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : إذَا لَمْ تُمْكِنْ قِسْمَةُ ذَلِكَ قَبْلَ الْبَيْعِ بِلَا ضَرَرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ مَعَ شُرَكَائِهِ وَيُقَاسِمَهُمْ الثَّمَنَ .

900 - 900 - 59 مَسْأَلَةٌ : فِي وَاقِفٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى وَلَدَيْهِ : عُمَرَ , وَعَبْدِ اللَّهِ , بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ نِصْفَيْنِ : أَيَّامَ حَيَاتِهِمَا , أَبَدًا مَا عَاشَا , دَائِمًا مَا بَقِيَا , ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا , وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمَا , وَنَسْلِهِمَا , وَعَقِبِهِمَا , أَبَدًا , مَا تَنَاسَلُوا , بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ . فَتُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ وَخَلَّفَ أَوْلَادًا فَرَفَعَ عُمَرُ وَلَدَ عَبْدِ اللَّهِ إلَى حَاكِمٍ يَرَى الْحُكْمَ بِالتَّرْتِيبِ , وَسَأَلَهُ رَفْعَ يَدِ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْوَقْفِ , وَتَسْلِيمَهُ إلَيْهِ , فَرَفَعَ يَدَ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ , وَسَلَّمَهُ إلَى عُمَرَ بِحُكْمِ أَنَّهُ مِنْ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ الْحُكْمُ جَارِيًا فِي جَمِيعِ الْبُطُونِ أَمْ لَا ؟ ثُمَّ إنَّ عُمَرَ تُوُفِّيَ وَخَلَّفَ أَوْلَادًا , فَوَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْوَقْفِ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ , فَطَلَبَ وَلَدُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ حَاكِمٍ يَرَى الْحُكْمَ بِالتَّشْرِيكِ بَيْنَهُمْ فِي الْوَقْفِ تَشْرِيكَهُمْ ; لِأَنَّ الْوَاقِفَ جَمَعَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالنَّسْلِ وَالْعَقِبِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بَعْدَ عَبْدِ اللَّهِ وَعُمَرَ بِالْوَاوِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ ; دُونَ التَّرْتِيبِ . وَأَنَّ قَوْلَهُ : بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فَهَلْ الْحُكْمُ لَهُمْ بِالْمُشَارَكَةِ صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ حُكْمُ الْأَوَّلِ لِعُمَرَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ مُنَاقِضًا لِلْحُكْمِ بِالتَّشْرِيكِ بَيْنَ أَوْلَادِ عُمَرَ وَأَوْلَادِ عَبْدِ اللَّهِ ؟ وَهَلْ لِحَاكِمٍ ثَالِثٍ أَنْ يُبْطِلَ هَذَا الْحُكْمَ وَالتَّنْفِيذَ ؟ الْجَوَابُ : مُجَرَّدُ الْحُكْمِ

لِأَحَدِ الْأَخَوَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِجَمِيعِ الْوَقْفِ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ الْمُتَوَفَّى لَا يَكُونُ جَارِيًا فِي جَمِيعِ الْبُطُونِ , وَلَا يَكُونُ حُكْمًا لِأَوْلَادِهِ بِمَا حَكَمَ لَهُ بِهِ , فَإِنَّ قَوْلَهُ : ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمَا . هَلْ هُوَ لِتَرْتِيبِ الْمَجْمُوعِ عَلَى الْمَجْمُوعِ , أَوْ لِتَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ , بِحَيْثُ يَنْتَقِلُ نَصِيبُ كُلِّ مَيِّتٍ إلَى وَلَدِهِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : وَأَوْلَادُهُمَا مِنْ بَعْدِهِمَا بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ . هَلْ هُوَ لِلتَّرْتِيبِ أَوْ لِلتَّشْرِيكِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . فَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِاسْتِحْقَاقِ عُمَرَ الْجَمِيعَ بَعْدَ مَوْتِ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ هَذَا لِاعْتِقَادِهِ لِتَرْتِيبِ الْمَجْمُوعِ إلَى الْمَجْمُوعِ . فَإِذَا مَاتَ عُمَرُ فَقَدْ يَرَى ذَلِكَ الْحَاكِمُ التَّرْتِيبَ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى , فَقَطْ كَمَا قَدْ يُشْعِرُ بِهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ . وَقَدْ يَكُونُ يَرَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي جَمِيعِ الْبُطُونِ ; لَكِنَّ تَرْتِيبَ الْجَمِيعِ عَلَى الْجَمِيعِ , وَيَشْتَرِكُ كُلُّ طَبَقَةٍ مِنْ الطَّبَقَتَيْنِ فِي الْوَقْفِ دُونَ مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهَا . وَقَدْ يَرَى غَيْرَهُ وَأَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِتَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ ; فَإِذَا حَكَمَ حَاكِمٌ ثَانٍ فِيمَا لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ الْأَوَّلُ بِمَا لَا يُنَاقِضُ حُكْمَهُ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا لِحُكْمِهِ , فَلَا يَنْقُضُ هَذَا الثَّانِيَ إلَّا بِمُخَالَفَةِ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

916 - 916 - 75 مَسْأَلَةٌ : فِيمَنْ عَمَّنْ وَقَفَ وَقْفًا مُسْتَغَلًّا , ثُمَّ مَاتَ , فَظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ : فَهَلْ يُبَاعُ الْوَقْفُ فِي دَيْنِهِ . الْجَوَابُ : إذَا أَمْكَنَ وَفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ , وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَفَاءُ الدَّيْنِ إلَّا بِبَيْعِ شَيْءٍ مِنْ الْوَقْفِ - وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ - بِيعَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ فِي الصِّحَّةِ : فَهَلْ يُبَاعُ لِوَفَاءِ الدَّيْنِ ؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ , وَغَيْرِهِ . وَمَنْعُهُ قَوْلٌ قَوِيٌّ .
917 - 917 - 76 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ قَالَ فِي مَرَضِهِ : إذَا مِتّ فَدَارِي وَقْفٌ عَلَى الْمَسْجِدِ الْفُلَانِيِّ , فَتَعَافَى , ثُمَّ حَدَثَ عَلَيْهِ دُيُونٌ : فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْوَقْفُ وَيَلْزَمُ . أَمْ لَا ؟ . يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهَا فِي الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ ; وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَلَيْسَ هَذَا بِأَبْلَغَ مِنْ التَّدْبِيرِ , وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ بَاعَ الْمُدَبَّرَ فِي الدَّيْنِ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

899 - 899 - 58 مَسْأَلَةٌ : فِي وَقْفٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ : عَمْرٍو , وَيَاقُوتَةَ , وَجَهْمَةَ , وَعَائِشَةَ : يَجْرِي عَلَيْهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ . فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ , أَوْ وَلَدِ وَلَدٍ , أَوْ عَنْ نَسْلٍ وَعَقِبٍ , وَإِنْ سَفَلَ : عَادَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَلَدِهِ , ثُمَّ عَلَى وَلَدِ وَلَدِهِ , ثُمَّ عَلَى نَسْلِهِ وَعَقِبِهِ , ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُ وَإِنْ سَفَلَ , بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ . وَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ عَادَ نَصِيبُهُ وَقْفًا عَلَى إخْوَتِهِ الْبَاقِينَ , ثُمَّ عَلَى أَنْسَالِهِمْ وَأَعْقَابِهِمْ , بَيْنَهُمْ , لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ , عَلَى الشَّرْطِ وَالتَّرْتِيبِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُمَا . فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لِهَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ نَسْلٌ وَلَا عَقِبٌ , أَوْ تُوُفُّوا بِأَجْمَعِهِمْ وَلَمْ يُعْقِبُوا وَلَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَادَ ذَلِكَ وَقْفًا عَلَى الْأَسَارَى , ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ . ثُمَّ تُوُفِّيَ عُمَرُ عَنْ فَاطِمَةَ , وَتُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ عَنْ عَيْنَاشَى ابْنَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي يَعْلَى , ثُمَّ تُوُفِّيَتْ عَيْنَاشَى عَنْ غَيْرِ نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ , وَلَمْ يَبْقَ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا بِنْتَ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي يَعْلَى , وَكِلَاهُمَا مِنْ ذُرِّيَّةِ جَهْمَةَ . فَهَاتَانِ الْجِهَتَانِ اللَّتَانِ تَلِيهِمَا عَيْنَاشَى بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهَا هَلْ يَنْتَقِلُ إلَى أُخْتِهَا رُقَيَّةَ ؟ أَوْ إلَيْهَا , أَوْ إلَى ابْنَةِ عَمِّهَا صَفِيَّةَ ؟ . الْجَوَابُ : هَذَا النَّصِيبُ الَّذِي كَانَ لِعَيْنَاشَى مِنْ

أُمِّهَا يَنْتَقِلُ إلَى ابْنَتَيْ الْعَمِّ الْمَذْكُورَتَيْنِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَخُصَّ بِهِ أُخْتَهَا لِأَبِيهَا ; لِأَنَّ الْوَاقِفَ ذَكَرَ : أَنَّ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ عَادَ نَصِيبُهُ وَقْفًا عَلَى إخْوَتِهِ , ثُمَّ عَلَى أَنْسَالِهِمْ وَأَعْقَابِهِمْ , عَلَى الشَّرْطِ وَالتَّرْتِيبِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُمَا . وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تَعُمُّ مَنْ انْقَطَعَ نَسْلُهُ أَوَّلًا وَآخِرًا . فَكُلُّ مَنْ انْقَطَعَ نَسْلُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ كَانَ نَصِيبُهُ لِإِخْوَتِهِ , ثُمَّ لِأَوْلَادِهِمْ ; لِأَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ لَمْ يُرِدْ هَذَا لَكَانَ قَدْ سَكَتَ عَنْ بَيَانِ حُكْمِ مَنْ أَعْقَبَ أَوَّلًا ثُمَّ انْقَطَعَ عَقِبُهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَصْرِفَ نَصِيبِهِ . وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا نُقِلَ الْوَقْفُ إلَى الْأَسْرَى وَالْفُقَرَاءِ إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ وَلَا لِمَوْقُوفٍ عَلَيْهِمْ نَسْلٌ وَلَا عَقِبٌ . فَمَتَى أَعْقَبُوا - وَلَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ - لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْأَسْرَى شَيْءٌ , وَلَا إلَى الْفُقَرَاءِ . وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَنْتَقِلَ نَصِيبُ مَنْ انْقَطَعَ نَسْلُهُ مِنْهُمْ إلَى الْإِخْوَةِ الْبَاقِينَ , وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَسَمَ حَالَ الْمُتَوَفَّى مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ إلَى حَالَيْنِ ; إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ , أَوْ نَسْلٌ , وَعَقِبٌ , أَوْ لَا يَكُونُ . فَإِنْ كَانَ لَهُ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى الْوَلَدِ , ثُمَّ إلَى وَلَدِ الْوَلَدِ , ثُمَّ إلَى النَّسْلِ وَالْعَقِبِ ; وَإِنْ لَمْ يَكُنْ انْتَقَلَ إلَى الْإِخْوَةِ , ثُمَّ إلَى أَوْلَادِهِمْ . فَيَنْبَغِي أَنْ يَعُمَّ

هَذَا الْقِسْمُ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لِيَعُمَّ الْبَيَانُ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ ; وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَزِمَ الْإِهْمَالُ وَالْإِلْغَاءُ وَإِبْطَالُ الْوَقْفِ عَلَى قَوْلٍ . وَدَلَالَةُ الْحَالِ تَنْفِي هَذَا الِاحْتِمَالَ . وَإِذَا عَمَّ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ دَخَلَ فِيهِ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَمَنْ لَا وَلَدَ لِوَلَدِهِ وَمَنْ لَا عَقِبَ لَهُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَيُّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَقِبٌ كَانَ نَصِيبُهُ لِإِخْوَتِهِ ثُمَّ لِعَقِبِهِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوَاقِفَ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ عَقِبٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى إخْوَتِهِ , ثُمَّ إلَى أَوْلَادِهِمْ . وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ أَنْ لَا يَخْلُفَ وَلَدًا أَوْ يَخْلُفَ وَلَدًا ثُمَّ يَخْلُفَ وَلَدُهُ وَلَدًا ; فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يَقْصِدُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ ; لِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ قَدْ عُلِمَ بِمُطَّرَدِ الْعَادَةِ أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَقْصِدُهُ , فَيَجِبُ أَنْ لَا يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَيْهِ ; بَلْ يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلَالَةَ الْحَالِ وَالْعُرْفِ الْمُطَّرَدِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ . وَإِذَا كَانَ انْقِطَاعُ النَّسْلِ أَوَّلًا وَآخِرًا سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الِانْتِقَالِ إلَى الْإِخْوَةِ وَجَبَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ . وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْوَاقِفَ إنَّمَا قَصَدَ هَذَا بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَاللَّفْظُ سَائِغٌ لَهُ , وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ وَجْهٌ مُمْكِنٌ هُوَ أَوْلَى

مِنْهُ . فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ قَطْعًا . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوَقْفَ يُرَادُ لِلتَّأْيِيدِ , فَيَجِبُ بَيَانُ حَالِ الْمُتَوَفَّى فِي جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ , فَيَكُونُ قَوْلُهُ : وَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ , وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ . فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ : وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَيِّتًا وَلَا عَقِبَ لَهُ ; لِأَنَّ عَدَمَ نَسْلِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهِمْ مَعْدُومِينَ حَالَ مَوْتِهِ , فَلَا فَرْقَ فِي قَوْلِهِ هَذَا وَقَوْلِهِ : وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَلَا وَلَدَ لَهُ . وَقَوْلِهِ : وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ . وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ وَإِنْ كَانَ قَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهَا إلَّا عَدَمُ الذُّرِّيَّةِ حِينَ الْمَوْتِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ; لَكِنَّ اللَّفْظَ سَائِغٌ ; لِعَدَمِ الذُّرِّيَّةِ مُطْلَقًا ; بِحَيْثُ لَوْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ قَالَ : قَدْ أَرَدْت هَذَا لَمْ يَكُنْ خَارِجًا عَنْ حَدِّ الْإِفْهَامِ . وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ سَائِغًا لَهُ , وَلَمْ يَتَنَاوَلْ صُورَةَ الْحَادِثَةِ إلَّا هَذَا اللَّفْظُ : وَجَبَ إدْرَاجُهَا تَحْتَهُ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ إذَا دَارَ بَيْنَ صُورَةٍ يُحْكَمُ فِيهَا بِمَا يَصْلُحُ لَهُ لَفْظُ الْوَاقِفِ وَدَلَالَةُ حَالِهِ وَعُرْفُ النَّاسِ كَانَ الْأَوَّلُ هُوَ الْوَاجِبَ بِلَا تَرَدُّدٍ . إذَا تَقَرَّرَ هَذَا : فَعَمُّ جَدِّ عَيْنَاشَى هُوَ الْآنَ مُتَوَفًّى عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ فَيَكُونُ نَصِيبُهُ لِإِخْوَتِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنْسَالِهِمْ وَأَعْقَابِهِمْ . وَالْحَالُ الَّتِي انْقَطَعَ فِيهَا نَسْلُهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إلَّا هَاتَانِ الْمَرْأَتَانِ , فَيَجِبُ أَنْ تَسْتَوِيَا فِي نَصِيبِ عَيْنَاشَى .

وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ انْقَطَعَ نَسْلُهُ ; فَإِنَّ نَصِيبَهُ يَنْتَقِلُ إلَى ذُرِّيَّةِ إخْوَتِهِ إلَّا أَنْ يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ أَبِيهِمْ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ الْوَقْفُ مِنْهُ , أَوْ مِنْ ذُرِّيَّةِ أُمِّهِ الَّتِي انْتَقَلَ إلَيْهِ الْوَقْفُ مِنْهَا : فَيَكُونُ بَاقِي الذُّرِّيَّةِ هُمْ الْمُسْتَحِقِّينَ لِنَصِيبِ أُمِّهِمْ أَوْ أَبِيهِمْ ; لِدُخُولِهِمْ فِي قَوْلِهِ : فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ أَوْ وَلَدِ وَلَدٍ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ إنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى هَذَا كَانَ نَصِيبُ هَذَا وَقْفًا مُنْقَطِعَ الِانْتِهَاءِ ; لِأَنَّهُ قَالَ : فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ , ثُمَّ لِوَلَدِ وَلَدِهِ , ثُمَّ لِنَسْلِهِ وَعَقِبِهِ . وَلَمْ يُبَيِّنْ بَعْدَ انْقِرَاضِ النَّسْلِ إلَى مَنْ يَصِيرُ ; لَكِنْ بَيَّنَ فِي آخِرِ الشَّرْطِ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ إلَى الْأَسْرَى وَالْفُقَرَاءِ حَتَّى تَنْقَرِضَ ذُرِّيَّةُ الْأَرْبَعَةِ , فَيَكُونُ مَفْهُومُ هَذَا الْكَلَامِ صَرْفَهُ إلَى الذُّرِّيَّةِ . وَهَاتَانِ مِنْ الذُّرِّيَّةِ , وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الدَّرَجَةِ , وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُهُمَا : فَيَجِبُ أَنْ يَشْتَرِكَا فِيهِ وَلَيْسَ بَعْد هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : وَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَائِدًا إلَى الْأَرْبَعَةِ وَذُرِّيَّتِهِمْ . فَيُقَالُ حِينَئِذٍ : عَيْنَاشَى قَدْ تُوُفِّيَتْ عَنْ أُخْتٍ مِنْ أَبِيهَا , وَابْنَةِ عَمٍّ . فَيَكُونُ نَصِيبُهَا لِأُخْتِهَا . وَهَذَا الْحَمْلُ بَاطِلٌ قَطْعًا , لَا يَنْفُذُ حُكْمُ حَاكِمٍ إنْ حَكَمَ بِمُوجَبِهِ ; لِأَنَّ الضَّمِيرَ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ : فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ . عَائِدٌ إلَى الْأَرْبَعَةِ . فَالضَّمِيرُ فِي

قَوْلِهِ : وَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَائِدٌ ثَانِيًا إلَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ : هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ مَنْ فَعَلَ مِنْهُمْ كَذَا فَافْعَلْ بِهِ كَذَا وَكَذَا , وَمَنْ فَعَلَ مِنْهُمْ كَذَا فَافْعَلْ لِوَلَدِهِ كَذَا . عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الضَّمِيرَ الثَّانِيَ هُوَ الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ . وَلِأَنَّهُ قَالَ : وَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ عَادَ نَصِيبُهُ إلَى إخْوَتِهِ الْبَاقِينَ . وَهَذَا لَا يُقَالُ إلَّا فِيمَنْ لَهُ إخْوَةٌ تَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِ , وَإِنَّا نَعْلَمُ هَذَا فِي هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ ; ; لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ إخْوَةٌ بَاقُونَ فَلَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَقِيلَ : عَلَى إخْوَتِهِ إنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ . أَوْ قِيلَ : وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ إخْوَةٍ . كَمَا قِيلَ فِي الْوَلَدِ : وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ . وَأَيْضًا فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ عَنْ إخْوَةٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِإِخْوَتِهِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْإِخْوَةِ الَّذِينَ شَرِكُوهُ فِي نَصِيبِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ ; لَا فِي الْإِخْوَةِ الَّذِينَ هُمْ أَجَانِبُ عَنْ النَّصِيبِ الَّذِي خَلَّفَهُ - عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ - وَهَذَا النَّصِيبُ إنَّمَا تَلَقَّتْهُ عَيْنَاشَى مِنْ أُمِّهَا . وَأُخْتُهَا رُقَيَّةُ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ أُمِّهَا ; لِأَنَّهَا أُخْتُهَا مِنْ أَبِيهَا فَقَطْ . فَنِسْبَةُ أُخْتِهَا لِأَبِيهَا وَابْنَةِ عَمِّهَا إلَى نَصِيبِ الْأُمِّ سَوَاءٌ . وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

1006 - 1006 - 27 وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ , وَلَهُ وَلَدٌ فَزَنَى بِالْجَارِيَةِ . وَهِيَ تَزْنِي مَعَ غَيْرِهِ , فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ وَنَسَبَتْهُ إلَى وَلَدِهِ , فَاسْتَلْحَقَهُ , وَرَضِيَ السَّيِّدُ . فَهَلْ يَرِثُ إذَا مَاتَ مُسْتَلْحِقُهُ ؟ أَمْ لَا ؟ فَأَجَابَ : إنْ كَانَ الْوَلَدُ اسْتَلْحَقَهُ فِي حَيَاتِهِ , وَقَالَ : هَذَا ابْنِي , لَحِقَهُ النَّسَبُ , وَكَانَ مِنْ أَوْلَادِهِ , إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ يُعْرَفُ غَيْرَهُ . وَكَذَلِكَ إنْ عَلِمَ أَنَّ الْجَارِيَةَ كَانَتْ مِلْكًا لِلِابْنِ , فَإِنَّ { الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ ; وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } .
1005 - 1005 - 26 وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ , وَخَلَفَ مُسْتَوْلَدَةً لَهُ , ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تُوُفِّيَتْ الْمُسْتَوْلَدَةُ , وَخَلَفَتْ وَلَدًا ذَكَرًا , وَبِنْتَيْنِ , فَهَلْ لِلْبَنَاتِ وَلَاءٌ مَعَ الذَّكَرِ ؟ وَهَلْ يَرِثْنَ مِنْهُ شَيْئًا ؟ فَأَجَابَ : هَذَا فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ : إحْدَاهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَمَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ : أَنَّ الْوَلَاءَ يَخْتَصُّ بِالذُّكُورِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ الْوَلَاءَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْبَنِينَ , وَالْبَنَاتِ , لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

995 - 995 - 16 وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَخَلَفَ أَخًا لَهُ ; وَأُخْتَيْنِ شَقِيقَيْنِ ; وَبِنْتَيْنِ , وَزَوْجَةً وَخَلَفَ مَوْجُودًا . وَكَانَ الْأَخُ الْمَذْكُورُ غَائِبًا , فَمَا تَكُونُ الْقِسْمَةُ ؟ فَأَجَابَ : لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ ; وَلِلْإِخْوَةِ خَمْسَةُ قَرَارِيطَ بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ أَثْلَاثًا . فَتَحَصَّلَ لِلزَّوْجَةِ ثَلَاثَةُ قَرَارِيطَ , وَلِكُلِّ بِنْتٍ ثَمَانِيَةُ قَرَارِيطَ ; وَلِلْأَخِ ثَلَاثَةُ قَرَارِيطَ وَثُلُثٌ , وَلِلْأُخْتِ قِيرَاطٌ وَثُلُثَا قِيرَاطٍ .

1019 - 1019 - 8 مَسْأَلَةٌ : عَنْ قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ فِي آخِرِ عَقِيدَتِهِ : وَأَنَّ خَيْرَ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنُوا بِهِ . ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ . وَأَفْضَلُ الصَّحَابَةِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ , وَعُثْمَانُ , وَعَلِيٌّ . فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى تَفْضِيلِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عُمَرَ , وَتَفْضِيلِ عُمَرَ عَلَى عُثْمَانَ , وَعُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ . فَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَهَلْ تَجِبُ عُقُوبَةُ مَنْ يُفَضِّلُ الْمَفْضُولَ عَلَى الْفَاضِلِ أَمْ لَا . بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ بَيَانًا مَبْسُوطًا مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَأَمَّا تَفْضِيلُ أَبِي بَكْرٍ , ثُمَّ عُمَرَ عَلَى عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ فَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْإِمَامَةِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ , وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ , وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ , وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ , وَأَهْلِ مِصْرَ , وَالْأَوْزَاعِيِّ , وَأَهْلِ الشَّامِ , وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ , وَأَبِي حَنِيفَةَ , وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ , وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ , وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ لَهُمْ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ . وَحَكَى مَالِكٌ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ : مَا أَدْرَكْتُ أَحَدًا مِمَّنْ اُقْتُدِيَ بِهِ يَشُكُّ فِي

تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : يَا أَبَتِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : يَا بُنَيَّ أَوَمَا تَعْرِفُ ؟ قُلْت : لَا قَالَ : أَبُو بَكْرٍ , قُلْت : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ عُمَرُ . وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ وَجْهًا , وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ , بَلْ قَالَ : لَا أُوتَى بِأَحَدٍ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْتُهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي . فَمَنْ فَضَّلَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ جُلِدَ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَمَانِينَ سَوْطًا . وَكَانَ سُفْيَانُ يَقُولُ مَنْ فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ , وَمَا أَرَى أَنَّهُ يَصْعَدُ لَهُ إلَى اللَّهِ عَمَلٌ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى ذَلِكَ . وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ رُوِيَ هَذَا التَّفْضِيلُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ قَالَ : { يَا عَلِيُّ هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ إلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ } . وَقَدْ اسْتَفَاضَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ , وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَجُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ , وَغَيْرِهِمْ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ

أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا , وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ يَعْنِي بِنَفْسِهِ } . وَفِي الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ : إنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو بَكْرٍ , وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا , وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ أَلَا لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا سُدَّتْ إلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ } . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْمُخَالَّةَ لَوْ كَانَتْ مُمْكِنَةً مِنْ الْمَخْلُوقِينَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ , فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَلَا أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْهُ , وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَيْك ؟ قَالَ عَائِشَةُ قَالَ : فَمِنْ الرِّجَالِ ؟ قَالَ : أَبُوهَا } . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّهُ قَالَ { لِعَائِشَةَ اُدْعِي لِي أَبَاك وَأَخَاك حَتَّى أَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي ثُمَّ قَالَ يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ { أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ جِئْتُ فَلَمْ أَجِدْك , كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ , قَالَ فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ : { أَنَّهُ قَالَ اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ { أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ فَقَالَ إنْ يُطِعْ الْقَوْمُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا } . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ : قَالَ { رَأَيْت كَأَنِّي وُضِعْت فِي كِفَّةٍ وَالْأُمَّةُ فِي كِفَّةٍ فَرَجَحْتُ

بِالْأُمَّةِ ثُمَّ وُضِعَ أَبُو بَكْرٍ فِي كِفَّةٍ وَالْأُمَّةُ فِي كِفَّةٍ فَرَجَحَ أَبُو بَكْرٍ , ثُمَّ وُضِعَ عُمَرُ فِي كِفَّةٍ وَالْأُمَّةُ فِي كِفَّةٍ فَرَجَحَ عُمَرُ } . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ : { كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَلَامٌ , فَطَلَبَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ عُمَرَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ , فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ اجْلِسْ يَا أَبَا بَكْرٍ يَغْفِرُ اللَّهُ لَك وَنَدِمَ عُمَرُ فَجَاءَ إلَى مَنْزِلِ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَجِدْهُ , فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي جِئْت إلَيْكُمْ فَقُلْت إنِّي رَسُولُ اللَّهِ , فَقُلْتُمْ كَذَبْت , وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ , فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي } فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا . فَقَدْ تَوَاتَرَ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَرِضَ قَالَ : مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى قَالَ : إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ , مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ } . فَهَذَا التَّخْصِيصُ وَالتَّكْرِيرُ وَالتَّوْكِيدُ فِي تَقْدِيمِهِ فِي الْإِمَامَةِ عَلَى سَائِرِ الصَّحَابَةِ مَعَ حُضُورِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا بَيَّنَ لِلْأُمَّةِ تَقَدُّمَهُ عِنْدَهُ عَلَى غَيْرِهِ . وَفِي الصَّحِيحِ : أَنَّ جِنَازَةَ عُمَرَ لَمَّا وُضِعَتْ جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَتَخَلَّلُ الصُّفُوفَ ثُمَّ قَالَ : لَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَك اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْك

فَإِنِّي كَثِيرًا مَا كُنْت أَسْمَعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " دَخَلْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ , وَخَرَجْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ , وَذَهَبْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ " - : فَهَذَا يُبَيِّنُ مُلَازَمَتَهُمَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ وَذَهَابِهِ . وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ لِلرَّشِيدِ لَمَّا قَالَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ مَنْزِلَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْزِلَتُهُمَا مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ كَمَنْزِلَتِهِمَا مِنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ , فَقَالَ شَفَيْتنِي يَا مَالِكُ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ لَهُمَا مِنْ اخْتِصَاصِهِمَا بِصُحْبَتِهِ وَمُؤَازَرَتِهِمَا لَهُ عَلَى أَمْرِهِ وَمُبَاطَنَتِهِمَا مِمَّا يَعْلَمُهُ بِالِاضْطِرَارِ كُلُّ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِأَحْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَسِيرَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ , وَلِهَذَا لَمْ يَتَنَازَعْ فِي هَذَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسِيرَتِهِ وَسُنَّتِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَإِنَّمَا يَنْفِي هَذَا أَوْ يَقِفُ فِيهِ مَنْ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ أُمُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ كَلَامٍ أَوْ فِقْهٍ أَوْ حِسَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , أَوْ مَنْ يَكُونُ قَدْ سَمِعَ أَحَادِيثَ مَكْذُوبَةً تُنَاقِضُ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَعْلُومَةَ بِالِاضْطِرَارِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ , فَتَوَقَّفَ فِي الْأَمْرِ أَوْ رَجَّحَ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ . وَهَذَا كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْمَعْلُومَةِ بِالِاضْطِرَارِ عِنْدَ أَهْلِ

الْعِلْمِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ يَشُكُّ فِيهَا أَوْ يَنْفِيهَا كَالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ عِنْدَهُمْ فِي شَفَاعَتِهِ وَحَوْضِهِ , وَخُرُوجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ , وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ عِنْدَهُمْ فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْعُلُوِّ وَالرُّؤْيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِسُنَّتِهِ لَمَّا تَوَاتَرَتْ عِنْدَهُمْ عَنْهُ , وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ , كَمَا تَوَاتَرَتْ عِنْدَ الْخَاصَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْهُ الْحُكْمُ بِالشُّفْعَةِ وَتَحْلِيفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَرَجْمُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ , وَاعْتِبَارُ النِّصَابِ فِي السَّرِقَةِ , وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُنَازِعُهُمْ فِيهَا بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مُتَّفِقِينَ عَلَى تَبْدِيعِ مَنْ خَالَفَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُصُولِ بِخِلَافِ مَنْ نَازَعَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ هَذَا الْمَبْلَغَ فِي تَوَاتُرِ السُّنَنِ عَنْهُ , كَالتَّنَازُعِ بَيْنَهُمْ فِي الْحُكْمِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ , وَفِي الْقَسَامَةِ وَالْقُرْعَةِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ هَذَا الْمَبْلَغَ . وَأَمَّا عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ , فَهَذِهِ دُونَ تِلْكَ , فَإِنَّ هَذِهِ كَانَ قَدْ حَصَلَ فِيهَا نِزَاعٌ , فَإِنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَطَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ رَجَّحُوا عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ , ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ سُفْيَانُ وَغَيْرُهُ , وَبَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَوَقَّفَ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ , وَهِيَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ , لَكِنَّ الرِّوَايَةَ

الْأُخْرَى عَنْهُ تَقْدِيمُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ سَائِرِ الْأَئِمَّةِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ , وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ حَتَّى إنَّ هَؤُلَاءِ تَنَازَعُوا فِيمَنْ يُقَدِّمُ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ هَلْ يُعَدُّ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ , عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ , وَقَدْ قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ , وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ , وَالدَّارَقُطْنِيّ : مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . وَأَيُّوبُ هَذَا إمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ , وَإِمَامُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ , رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ , وَكَانَ لَا يَرْوِي عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ , وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فَقَالَ مَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ أَحَدٍ إلَّا وَأَيُّوبُ أَفْضَلُ مِنْهُ , وَذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ : لَقَدْ رَأَيْته مُقْعَدًا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ذَكَرْته إلَّا اقْشَعَرَّ جِسْمِي . وَالْحُجَّةُ لِهَذَا مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا : عَنْ { ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا نُفَاضِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّا نَقُولُ أَبُو بَكْرٍ , ثُمَّ عُمَرُ , ثُمَّ عُثْمَانُ } وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ : يَبْلُغُ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُنْكِرُهُ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ , وَغَيْرِ الْبُخَارِيِّ , أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا جَعَلَ الْخِلَافَةَ شُورَى فِي سِتَّةِ أَنْفُسٍ : عُثْمَانَ

, وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ , وَالزُّبَيْرِ , وَسَعْدٍ , وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ , وَلَمْ يُدْخِلْ مَعَهُمْ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ , وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ , وَكَانَ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ قَبِيلَةِ عُمَرَ , وَقَالَ عَنْ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ : يَحْضُرُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ وَلَيْسَ لَهُ فِي الْأَمْرِ شَيْءٌ , وَوَصَّى أَنْ يُصَلِّيَ صُهَيْبٌ بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى يَتَّفِقُوا عَلَى وَاحِدٍ , فَلَمَّا تُوُفِّيَ عُمَرُ وَاجْتَمَعُوا عِنْدَ الْمِنْبَرِ قَالَ طَلْحَةُ : وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَهُوَ لِعُثْمَانَ وَقَالَ الزُّبَيْرُ : مَا كَانَ لِي مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَهُوَ لِعَلِيٍّ , وَقَالَ سَعْدٌ : مَا كَانَ لِي مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَهُوَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ , فَخَرَجَ ثَلَاثَةٌ وَبَقِيَ ثَلَاثَةٌ , فَاجْتَمَعُوا فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : أَنَا أَخْرُجُ . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : عَلَيْهِ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ أَنْ يُوَلِّيَ أَفْضَلَهُمَا ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا يُشَاوِرُ الْمُهَاجِرِينَ , وَالْأَنْصَارَ , وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ , وَيُشَاوِرُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ , وَيُشَاوِرُ أُمَرَاءَ الْأَمْصَارِ , فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ حَجُّوا مَعَ عُمَرَ , وَشَهِدُوا مَوْتَهُ , حَتَّى قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : إنَّ لِي ثَلَاثًا مَا اغْتَمَضْت بِنَوْمٍ , فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ لِعُثْمَانَ : عَلَيْك عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ إنْ وَلَّيْتُكَ لَتَعْدِلَنَّ , وَلَئِنْ وَلَّيْت عَلِيًّا لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ , قَالَ : نَعَمْ . وَقَالَ لِعَلِيٍّ : عَلَيْك عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ إنْ وَلَّيْتُك لَتَعْدِلَنَّ

وَلَئِنْ وَلَّيْت عُثْمَانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ , قَالَ : نَعَمْ , فَقَالَ : إنِّي رَأَيْت النَّاسَ لَا يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ . فَبَايَعَهُ عَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَسَائِرُ الْمُسْلِمِينَ بَيْعَةَ رِضًى وَاخْتِيَارٍ مِنْ غَيْرِ رَغْبَةٍ أَعْطَاهُمْ إيَّاهَا وَلَا رَهْبَةٍ خَوَّفَهُمْ بِهَا . وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ , فَلِهَذَا قَالَ أَيُّوبُ , وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ , وَالدَّارَقُطْنِيّ : مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ , فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ وَقَدْ قَدَّمُوهُ كَانُوا جَاهِلِينَ بِفَضْلِهِ , وَإِمَّا ظَالِمِينَ بِتَقْدِيمِ الْمَفْضُولِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ دِينِيٍّ , وَمَنْ نَسَبَهُمْ إلَى الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ فَقَدْ أَزْرَى بِهِمْ . وَلَوْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّهُمْ قَدَّمُوا عُثْمَانَ لِضِغْنٍ كَانَ فِي نَفْسِ بَعْضِهِمْ عَلَى عَلِيٍّ وَأَنَّ أَهْلَ الضِّغْنِ كَانُوا ذَوِي شَوْكَةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُهُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ , فَقَدْ نَسَبَهُمْ إلَى الْعَجْزِ عَنْ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ , وَظُهُورُ أَهْلِ الْبَاطِلِ مِنْهُمْ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ هَذَا وَهْمٌ فِي أَعَزِّ مَا كَانُوا وَأَقْوَى مَا كَانُوا , فَإِنَّهُ حِينَ مَاتَ عُمَرُ كَانَ الْإِسْلَامُ مِنْ الْقُوَّةِ وَالْعِزِّ وَالظُّهُورِ وَالِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِلَافِ فِيمَا لَمْ يَصِيرُوا فِي مِثْلِهِ قَطُّ . وَكَانَ عُمَرُ أَعَزَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَأَذَلَّ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ إلَى حَدٍّ بَلَغَ فِي الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ مَبْلَغًا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِالْأُمُورِ . فَمَنْ جَعَلَهُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ جَاهِلِينَ

أَوْ ظَالِمِينَ أَوْ عَاجِزِينَ عَنْ الْحَقِّ فَقَدْ أَزْرَى بِهِمْ وَجَعَلَ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ عَلَى خِلَافِ مَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ لَهُمْ . وَهَذَا هُوَ أَصْلُ مَذْهَبِ الرَّافِضَةِ , فَإِنَّ الَّذِي ابْتَدَعَ الرَّفْضَ كَانَ يَهُودِيًّا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ نِفَاقًا وَدَسَّ إلَى الْجِهَادِ دَسَائِسَ يَقْدَحُ بِهَا فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ , وَلِهَذَا كَانَ الرَّفْضُ أَعْظَمَ أَبْوَابِ النِّفَاقِ وَالزَّنْدَقَةِ . فَإِنَّهُ يَكُونُ الرَّجُلُ وَاقِفًا ثُمَّ يَصِيرُ مُفَضِّلًا ثُمَّ يَصِيرُ سَبَّابًا ثُمَّ يَصِيرُ غَالِيًا ثُمَّ يَصِيرُ جَاحِدًا مُعَطِّلًا , وَلِهَذَا انْضَمَّتْ إلَى الرَّافِضَةِ أَئِمَّةُ الزَّنَادِقَةِ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة , وَالنُّصَيْرِيَّةِ , وَأَنْوَاعِهِمْ مِنْ الْقَرَامِطَةِ , وَالْبَاطِنِيَّةِ , وَالدُّرْزِيَّةِ , وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ طَوَائِفِ الزَّنْدَقَةِ , وَالنِّفَاقِ , فَإِنَّ الْقَدْحَ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ الَّذِينَ صَحِبُوا الرَّسُولَ قَدْحٌ فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ : هَؤُلَاءِ طَعَنُوا فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا طَعَنُوا فِي أَصْحَابِهِ لِيَقُولَ الْقَائِلُ رَجُلُ سُوءٍ كَانَ لَهُ أَصْحَابُ سُوءٍ , وَلَوْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا لَكَانَ أَصْحَابُهُ صَالِحِينَ . وَأَيْضًا فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَقَلُوا الْقُرْآنَ وَالْإِسْلَامَ وَشَرَائِعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ الَّذِينَ نَقَلُوا فَضَائِلَ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ . فَالْقَدْحُ فِيهِمْ يُوجِبُ أَنْ لَا يُوثَقَ بِمَا نَقَلُوهُ مِنْ الدِّينِ , وَحِينَئِذٍ فَلَا تَثْبُتُ فَضِيلَةٌ لَا لِعَلِيٍّ وَلَا لِغَيْرِهِ ,

وَالرَّافِضَةُ جُهَّالٌ لَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ وَلَا دِينٌ وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ , فَإِنَّهُ لَوْ طَلَبَ مِنْهُمْ النَّاصِبِيُّ الَّذِي يُبْغِضُ عَلِيًّا وَيَعْتَقِدُ فِسْقَهُ أَوْ كُفْرَهُ كَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يُثْبِتُوا إيمَانَ عَلِيٍّ وَفَضْلَهُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ , بَلْ تَغْلِبُهُمْ الْخَوَارِجُ فَإِنَّ فَضَائِلَ عَلِيٍّ إنَّمَا نَقَلَهَا الصَّحَابَةُ الَّذِينَ تَقْدَحُ فِيهِمْ الرَّافِضَةُ , فَلَا يَتَيَقَّنُ لَهُ فَضِيلَةٌ مَعْلُومَةٌ عَلَى أَصْلِهِمْ , فَإِذَا طَعَنُوا فِي بَعْضِ الْخُلَفَاءِ بِمَا يَفْتَرُونَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ طَلَبُوا الرِّيَاسَةَ وَقَاتَلُوا عَلَى ذَلِكَ , كَانَ طَعْنُ الْخَوَارِجِ فِي عَلِيٍّ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَأَضْعَافِهِ أَقْرَبَ مِنْ دَعْوَى ذَلِكَ عَلَى مَنْ أُطِيعَ بِلَا قِتَالٍ , وَلَكِنَّ الرَّافِضَةَ جُهَّالٌ مُتَّبِعُونَ الزَّنَادِقَةَ . الْقُرْآنُ قَدْ أَثْنَى عَلَى الصَّحَابَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } . وقَوْله تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } . وَقَالَ تَعَالَى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ

شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَك تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي , فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ : أَنَّهُ قَالَ : { خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُسْتَفِيضَةٌ بَلْ مُتَوَاتِرَةٌ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَتَفْضِيلِ قَرْنِهِمْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ , فَالْقَدْحُ فِيهِمْ قَدْحٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ , وَلِهَذَا تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي تَكْفِيرِ الرَّافِضَةِ بِمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

1032 - 1032 - 8 مَسْأَلَةٌ : فِي قِصَّةِ إبْلِيسَ وَإِخْبَارِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ , وَسُؤَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ عَنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَى صُورَتِهِ عِيَانًا , وَيَسْمَعُونَ كَلَامَهُ جَهْرًا , فَهَلْ ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَمْ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ ؟ وَهَلْ جَاءَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ الصِّحَاحِ , وَالْمَسَانِيدِ , وَالسُّنَنِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْوِيَ ذَلِكَ ؟ وَمَاذَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يَرَى ذَلِكَ وَيُحَدِّثُهُ لِلنَّاسِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ صَحِيحٌ شَرْعِيٌّ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , بَلْ هَذَا حَدِيثٌ مَكْذُوبٌ مُخْتَلَقٌ , لَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الْمُعْتَمَدَةِ , لَا الصِّحَاحِ وَلَا السُّنَنِ وَلَا الْمَسَانِيدِ , وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ , وَمَنْ قَالَ إنَّهُ صَحِيحٌ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِحَالِهِ , فَإِنْ أَصَرَّ عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ . وَلَكِنْ فِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ قَدْ جَمَعَ أَحَادِيثَ نَبَوِيَّةً , فَاَلَّذِي كَذَبَهُ وَاخْتَلَقَهُ جَمَعَهُ مِنْ أَحَادِيثَ بَعْضُهَا كَذِبٌ , وَبَعْضُهَا صِدْقٌ , فَلِهَذَا يُوجَدُ فِيهِ كَلِمَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ صَحِيحَةٌ , وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْحَدِيثِ , وَهُوَ مَجِيءُ إبْلِيسَ عِيَانًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَضْرَةِ أَصْحَابِهِ وَسُؤَالُهُ لَهُ كَذِبًا مُخْتَلَقًا , لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

1033 - 1033 - 9 مَسْأَلَةٌ : فِيمَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ : لَوْ كُنْتَ فَعَلْتَ كَذَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْك شَيْءٌ مِنْ هَذَا , فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ آخَرُ سَمِعَهُ : هَذِهِ الْكَلِمَةُ قَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا , وَهِيَ كَلِمَةٌ تُؤَدِّي قَائِلَهَا إلَى الْكُفْرِ , فَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ : { يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى وَدِدْنَا لَوْ كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا } وَاسْتَدَلَّ الْآخَرُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ إلَى أَنْ قَالَ فَإِنَّ كَلِمَةَ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ } فَهَلْ هَذَا نَاسِخٌ لِهَذَا أَمْ لَا ؟ . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , جَمِيعُ مَا قَالَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَقٌّ , " وَلَوْ " تُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى وَجْهِ الْحُزْنِ عَلَى الْمَاضِي وَالْجَزَعِ مِنْ الْمَقْدُورِ , فَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } . وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ : لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ - اللَّوْ - تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ } أَيْ تَفْتَحُ عَلَيْك الْحُزْنَ

وَالْجَزَعَ , وَذَلِكَ يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ بَلْ اعْلَمْ أَنَّ مَا أَصَابَك لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَك , وَمَا أَخْطَأَك لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَك , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } , قَالُوا : هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ " لَوْ " لِبَيَانِ عِلْمٍ نَافِعٍ , كَقَوْلِهِ : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } . وَلِبَيَانِ مَحَبَّةِ الْخَيْرِ وَإِرَادَتِهِ , كَقَوْلِهِ : " لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانٍ لَعَمِلْت مِثْلَ مَا يَعْمَلُ " وَنَحْوُهُ جَائِزٌ . وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَدِدْت لَوْ أَنَّ مُوسَى صَبَرَ لِيَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا } هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ , كَقَوْلِهِ : { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } فَإِنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ أَنْ يَقُصَّ اللَّهُ خَبَرَهُمَا , فَذَكَرَهَا لِبَيَانِ مَحَبَّتِهِ لِلصَّبْرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ , فَعَرَّفَهُ مَا يَكُونُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ , وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ جَزَعٌ وَلَا حُزْنٌ وَلَا تَرْكٌ لِمَا يَجِبُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ . وَقَوْلِهِ : { وَدِدْت لَوْ أَنَّ مُوسَى صَبَرَ } قَالَ النُّحَاةُ : تَقْدِيرُهُ وَدِدْت أَنَّ مُوسَى صَبَرَ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } تَقْدِيرُهُ وَدُّوا أَنْ تُدْهِنَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ هِيَ لَوْ شَرْطِيَّةٌ وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ , وَالْمَعْنَى عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ مَعْلُومٌ وَهِيَ مَحَبَّةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ

وَإِرَادَتُهُ , وَمَحَبَّةُ الْخَيْرِ وَإِرَادَتُهُ مَحْمُودٌ , وَالْحُزْنُ وَالْجَزَعُ وَتَرْكُ الصَّبْرِ مَذْمُومٌ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرْطُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ , فَلِهَذَا رِجَالٌ يَرْوِي عَنْهُمْ يَخْتَصُّ بِهِمْ , وَلِهَذَا رِجَالٌ يَرْوِي عَنْهُمْ يَخْتَصُّ بِهِمْ , وَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي رِجَالٍ آخَرِينَ , وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّفَقَا عَلَيْهِمْ مَدَارُ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ . وَقَدْ يَرْوِي أَحَدُهُمْ عَنْ رَجُلٍ فِي الْمُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ دُونَ الْأَصْلِ , وَقَدْ يَرْوِي عَنْهُ مَا عُرِفَ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهِ وَلَا يَرْوِي مَا انْفَرَدَ بِهِ , وَقَدْ يَتْرُكُ مِنْ حَدِيثِ الثِّقَةِ مَا عَلِمَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ , فَيَظُنُّ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ أَنَّ كُلَّ مَا رَوَاهُ ذَلِكَ الشَّخْصُ يَحْتَجُّ بِهِ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ , وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ , فَإِنَّ مَعْرِفَةَ عِلَلِ الْحَدِيثِ عِلْمٌ شَرِيفٌ يَعْرِفُهُ أَئِمَّةُ الْفَنِّ , كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ , وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ , وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ , وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ , وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرِهِمْ , وَهَذِهِ عُلُومٌ يَعْرِفُهَا أَصْحَابُهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

" وَالْخُلَّةُ " هِيَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ مِنْ الْعَبْدِ كَمَالَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ , وَمِنْ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ كَمَالَ الرُّبُوبِيَّةِ لِعِبَادِهِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ , وَلَفْظُ الْعُبُودِيَّةِ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الذُّلِّ , وَكَمَالَ الْحُبِّ , فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : قَلْبٌ مُتَيَّمٌ إذَا كَانَ مُتَعَبِّدًا لِلْمَحْبُوبِ , وَالْمُتَيَّمُ الْمُتَعَبِّدُ , وَتَيَّمَ اللَّهُ عَبَدَهُ , وَهَذَا عَلَى الْكَمَالِ حَصَلَ لِإِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلٌ ; إذْ الْخُلَّةُ لَا تَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ فَإِنَّهُ كَمَا قِيلَ فِي الْمَعْنَى . قَدْ تَخَلَّلَتْ مَسْلَكُ الرُّوحِ مِنِّي وَبِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا بِخِلَافِ أَصْلِ الْحُبِّ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { فِي الْحَسَنِ وَأُسَامَةَ : اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا } { وَسَأَلَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَيْك ؟ قَالَ : عَائِشَةُ قَالَ : فَمِنْ الرِّجَالِ ؟ قَالَ : أَبُوهَا وَقَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ , وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ . وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ , وَيُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ , وَيُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ , وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ , وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ , وَيُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ , وَقَالَ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } فَقَدْ

أَخْبَرَ بِمَحَبَّتِهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ , وَمَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ , حَتَّى قَالَ : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } , وَأَمَّا الْخُلَّةُ فَخَاصَّةٌ . وَقَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ : إنَّ مُحَمَّدًا حَبِيبُ اللَّهِ . وَإِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ , وَظَنُّهُ أَنَّ الْمَحَبَّةَ فَوْقَ الْخُلَّةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ , فَإِنَّ مُحَمَّدًا أَيْضًا خَلِيلُ اللَّهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ . وَمَا يُرْوَى " أَنَّ الْعَبَّاسَ يُحْشَرُ بَيْنَ حَبِيبٍ وَخَلِيلٍ " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ , فَأَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ لَا تَصْلُحُ أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهَا . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى مَحَبَّةَ مَا أَحَبَّ , كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ , وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ وُجُودَ الْحَلَاوَةِ بِالشَّيْءِ يَتْبَعُ الْمَحَبَّةَ لَهُ , فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَوْ اشْتَهَاهُ إذَا حَصَلَ لَهُ مُرَادُهُ , فَإِنَّهُ يَجِدُ الْحَلَاوَةَ وَاللَّذَّةَ وَالسُّرُورَ بِذَلِكَ , وَاللَّذَّةُ أَمْرٌ يَحْصُلُ عَقِيبَ إدْرَاكِ الْمُلَائِمِ الَّذِي هُوَ الْمَحْبُوبُ أَوْ الْمُشْتَهِي . وَمَنْ قَالَ إنَّ اللَّذَّةَ إدْرَاكُ الْمُلَائِمِ كَمَا

يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْأَطِبَّاءِ , فَقَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ غَلَطًا مُبِينًا ; فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ يَتَوَسَّطُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَاللَّذَّةِ , فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَثَلًا يَشْتَهِي الطَّعَامَ فَإِذَا أَكَلَهُ حَصَلَ لَهُ عَقِيبَ ذَلِكَ اللَّذَّةُ , فَاللَّذَّةُ تَتْبَعُ النَّظَرَ إلَى الشَّيْءِ , فَإِذَا نَظَرَ إلَيْهِ الْتَذَّ , فَاللَّذَّةُ تَتْبَعُ النَّظَرَ لَيْسَ نَفْسَ النَّظَرِ , وَلَيْسَتْ هِيَ رُؤْيَةَ الشَّيْءِ ; بَلْ تَحْصُلُ عَقِيبَ رُؤْيَتِهِ , وَقَالَ تَعَالَى : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } وَهَكَذَا جَمِيعُ مَا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِنْ اللَّذَّاتِ , وَالْآلَامِ مِنْ فَرَحٍ وَحُزْنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِالشُّعُورِ بِالْمَحْبُوبِ , أَوْ الشُّعُورِ بِالْمَكْرُوهِ , وَلَيْسَ نَفْسُ الشُّعُورِ هُوَ الْفَرَحُ وَلَا الْحُزْنُ . فَحَلَاوَةُ الْإِيمَانِ الْمُتَضَمَّنَةِ مِنْ اللَّذَّةِ بِهِ وَالْفَرَحِ مَا يَجِدُهُ الْمُؤْمِنُ الْوَاجِدُ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ تَتْبَعُ كَمَالَ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِلَّهِ , وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ تَكْمِيلُ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ , وَتَفْرِيعُهَا , وَدَفْعُ ضِدِّهَا . " فَتَكْمِيلُهَا " أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا , فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُكْتَفَى فِيهَا بِأَصْلِ الْحُبِّ , بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ . " وَتَفْرِيعُهَا " أَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ . " وَدَفْعُ ضِدِّهَا " أَنْ يَكْرَهَ ضِدَّ الْإِيمَانِ أَعْظَمَ مِنْ كَرَاهَتِهِ الْإِلْقَاءَ فِي النَّارِ , فَإِذَا كَانَتْ مَحَبَّةُ الرَّسُولِ

وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ , وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُحِبُّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ ; لِأَنَّهُ أَكْمَلُ النَّاسِ مَحَبَّةً لِلَّهِ , وَأَحَقُّهُمْ بِأَنْ يُحِبَّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ , وَيَبْغُضَ مَا يَبْغُضُهُ اللَّهُ , " وَالْخُلَّةُ " لَيْسَ لِغَيْرِ اللَّهِ فِيهَا نَصِيبٌ , بَلْ قَالَ : { لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا } عُلِمَ مَزِيدُ مَرْتَبَةِ الْخُلَّةِ عَلَى مُطْلَقِ الْمَحَبَّةِ . وَالْمَقْصُودُ هُوَ أَنَّ " الْخُلَّةَ " " وَالْمَحَبَّةَ لِلَّهِ " تَحْقِيقُ عُبُودِيَّتِهِ ; وَإِنَّمَا يَغْلَطُ مَنْ يَغْلَطُ فِي هَذِهِ مِنْ حَيْثُ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ مُجَرَّدُ ذُلٍّ وَخُضُوعٍ فَقَطْ , لَا مَحَبَّةَ مَعَهُ , أَوْ أَنَّ الْمَحَبَّةَ فِيهَا انْبِسَاطٌ فِي الْأَهْوَاءِ , أَوْ إذْلَالٌ لَا تَحْتَمِلُهُ الرُّبُوبِيَّةُ ; وَلِهَذَا يُذْكَرُ عَنْ " ذِي النُّونِ " أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا عِنْدَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَحَبَّةِ , فَقَالَ : أَمْسِكُوا عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا تَسْمَعُهَا النُّفُوسُ فَتَدَّعِيهَا . وَكَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ مُجَالَسَةَ أَقْوَامٍ يُكْثِرُونَ الْكَلَامَ فِي الْمَحَبَّةِ بِلَا خَشْيَةٍ ; وَقَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ وَحْدَهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ , وَمَنْ عَبَدَهُ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ فَهُوَ مُرْجِئٌ , وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ فَهُوَ حَرُورِيٌّ , وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ . وَلِهَذَا وُجِدَ فِي الْمُسْتَأْخِرِينَ مَنْ انْبَسَطَ فِي دَعْوَى الْمَحَبَّةِ حَتَّى أَخْرَجَهُ ذَلِكَ إلَى نَوْعٍ مِنْ الرُّعُونَةِ ,

وَالدَّعْوَى الَّتِي تُنَافِي الْعُبُودِيَّةَ وَتُدْخِلُ الْعَبْدَ فِي نَوْعٍ مِنْ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ ; وَيَدَّعِي أَحَدُهُمْ دَعَاوَى تَتَجَاوَزُ حُدُودَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ , أَوْ يَطْلُبُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لَا يَصْلُحُ - بِكُلِّ وَجْهٍ - إلَّا لِلَّهِ لَا يَصْلُحُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ . وَهَذَا بَابٌ وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الشُّيُوخِ وَسَبَبُهُ ضَعْفُ تَحْقِيقِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَتْهَا الرُّسُلُ وَحَرَّرَهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الَّذِي جَاءُوا بِهِ , بَلْ ضَعْفُ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ يَعْرِفُ الْعَبْدُ حَقِيقَتَهُ ; وَإِذَا ضَعُفَ الْعَقْلُ وَقَلَّ الْعِلْمُ بِالدِّينِ وَفِي النَّفْسِ مَحَبَّةٌ انْبَسَطَتْ النَّفْسُ بِحُمْقِهَا فِي ذَلِكَ , كَمَا يَنْبَسِطُ الْإِنْسَانُ فِي مَحَبَّةِ الْإِنْسَانِ مَعَ حُمْقِهِ وَجَهْلِهِ , وَيَقُولُ : أَنَا مُحِبٌّ فَلَا أُؤَاخَذُ بِمَا أَفْعَلُهُ مِنْ أَنْوَاعٍ يَكُونُ فِيهَا عُذْرٌ أَوْ جَهْلٌ . فَهَذَا عَيْنُ الضَّلَالِ , وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } فَإِنَّ تَعْذِيبَهُ لَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَيْرُ مَحْبُوبِينَ وَلَا مَنْسُوبِينَ إلَيْهِ بِنِسْبَةِ الْبُنُوَّةِ , بَلْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مَرْبُوبُونَ مَخْلُوقُونَ . فَمَنْ كَانَ اللَّهُ يُحِبُّهُ اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ مَحْبُوبُهُ , لَا يَفْعَلُ مَا يَبْغُضُهُ الْحَقُّ , وَيَسْخَطُهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ , وَمَنْ فَعَلَ الْكَبَائِرَ , وَأَصَرَّ

عَلَيْهَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا , فَإِنَّ اللَّهَ يَبْغُضُ مِنْهُ ذَلِكَ ; كَمَا يُحِبُّ مِنْهُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْخَيْرِ ; إذْ حُبُّهُ لِلْعَبْدِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ , وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الذُّنُوبَ لَا تَضُرُّهُ لِكَوْنِ اللَّهِ يُحِبُّهُ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَيْهَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَنَاوُلَ السُّمِّ لَا يَضُرُّهُ مَعَ مُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهِ , وَعَدَمِ تَدَاوِيهِ مِنْهُ بِصِحَّةِ مِزَاجِهِ . وَلَوْ تَدَبَّرَ الْأَحْمَقُ مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَصَصِ أَنْبِيَائِهِ ; وَمَا جَرَى لَهُمْ مِنْ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ ; وَمَا أُصِيبُوا بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ الَّذِي فِيهِ تَمْحِيصٌ لَهُمْ وَتَطْهِيرٌ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ ; عَلِمَ بَعْضَ ضَرَرِ الذُّنُوبِ بِأَصْحَابِهَا وَلَوْ كَانَ أَرْفَعَ النَّاسِ مَقَامًا , فَإِنَّ الْمُحِبَّ لِلْمَخْلُوقِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِمَصْلَحَتِهِ وَلَا مُرِيدًا لَهَا ; بَلْ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَى الْحُبِّ - وَإِنْ كَانَ جَهْلًا وَظُلْمًا - أَنَّ ذَلِكَ سَبَبًا لِبُغْضِ الْمَحْبُوبِ لَهُ وَنُفُورِهِ عَنْهُ ; بَلْ لِعُقُوبَتِهِ .

وَكَثِيرٌ مِنْ السَّالِكِينَ سَلَكُوا فِي دَعْوَى حُبِّ اللَّهِ أَنْوَاعًا مِنْ أُمُورِ الْجَهْلِ بِالدِّينِ ; إمَّا مِنْ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ ; وَإِمَّا مِنْ تَضْيِيعِ حُقُوقِ اللَّهِ , وَإِمَّا مِنْ ادِّعَاءِ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا , كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : أَيُّ مُرِيدٍ لِي تَرَكَ فِي النَّارِ أَحَدًا فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ ; فَقَالَ الْآخَرُ : أَيُّ مُرِيدٍ لِي تَرَكَ أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُ النَّارَ فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ . فَالْأَوَّلُ جَعَلَ مُرِيدَهُ يُخْرِجُ كُلَّ مَنْ فِي النَّارِ ; وَالثَّانِي جَعَلَ مُرِيدَهُ يَمْنَعُ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنْ دُخُولِ النَّارِ . وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ : إذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَصَبْت خَيْمَتِي عَلَى جَهَنَّمَ حَتَّى لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُؤْثَرُ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الْمَشْهُورِينَ ; وَهِيَ إمَّا كَذِبٌ عَلَيْهِمْ , وَإِمَّا غَلَطٌ مِنْهُمْ ; وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَصْدُرُ فِي حَالِ سُكْرٍ وَغَلَبَةٍ وَفَنَاءٍ يَسْقُطُ فِيهَا تَمْيِيزُ الْإِنْسَانِ ; أَوْ يَضْعُفُ حَتَّى لَا يَدْرِي مَا قَالَ , " وَالسُّكْرُ " هُوَ لَذَّةٌ مَعَ عَدَمِ تَمْيِيزٍ وَلِهَذَا كَانَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ مَنْ إذَا صَحَا اسْتَغْفَرَ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ . وَاَلَّذِينَ تَوَسَّعُوا مِنْ الشُّيُوخِ فِي سَمَاعِ الْقَصَائِدِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْحُبِّ , وَالشَّوْقِ , وَاللَّوْمِ , وَالْعَذْلِ , وَالْغَرَامِ كَانَ هَذَا أَصْلَ مَقْصِدِهِمْ ; وَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ لِلْمَحَبَّةِ مِحْنَةً يَمْتَحِنُ بِهَا الْمُحِبَّ فَقَالَ : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } فَلَا يَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ إلَّا مَنْ يَتَّبِعُ

رَسُولَهُ , وَطَاعَةُ الرَّسُولِ وَمُتَابَعَتُهُ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ . وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي الْمَحَبَّةَ يَخْرُجُ عَنْ شَرِيعَتِهِ وَسُنَّتِهِ , وَيَدَّعِي مِنْ الْخَيَالَاتِ مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ , حَتَّى قَدْ يَظُنُّ أَحَدُهُمْ سُقُوطَ الْأَمْرِ وَتَحْلِيلَ الْحَرَامِ لَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مُخَالَفَةُ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ وَسُنَّتِهِ , وَطَاعَتِهِ , بَلْ قَدْ جَعَلَ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَمَحَبَّةَ رَسُولِهِ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ . " وَالْجِهَادُ " يَتَضَمَّنُ كَمَالَ مَحَبَّةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ , وَكَمَالَ بُغْضِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ , وَلِهَذَا قَالَ فِي صِفَةِ مَنْ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ : { أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَلِهَذَا كَانَتْ مَحَبَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِلَّهِ أَكْمَلَ مِنْ مَحَبَّةِ مَنْ قَبْلَهَا , وَعُبُودِيَّتُهُمْ لِلَّهِ أَكْمَلَ مِنْ عُبُودِيَّةِ مَنْ قَبْلَهُمْ . وَأَكْمَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ كَانَ بِهِمْ أَشْبَهَ كَانَ ذَلِكَ فِيهِ أَكْمَلَ , فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَدَّعُونَ الْمَحَبَّةَ ؟ , . [ وَفِي ] كَلَامِ بَعْضِ الشُّيُوخِ : الْمَحَبَّةُ نَارٌ تُحَرِّقُ فِي الْقَلْبِ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ . وَأَرَادُوا أَنَّ الْكَوْنَ كُلَّهُ قَدْ أَرَادَ اللَّهُ وُجُودَهُ , فَظَنُّوا أَنَّ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ أَنْ يُحِبَّ الْعَبْدُ كُلَّ شَيْءٍ , حَتَّى الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ , وَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُحِبَّ كُلَّ مَوْجُودٍ بَلْ يُحِبُّ مَا يُلَائِمُهُ وَيَنْفَعُهُ وَيَبْغُضُ مَا يُنَافِيهِ وَيَضُرُّهُ , وَلَكِنْ

اسْتَفَادُوا بِهَذَا الضَّلَالِ اتِّبَاعَ أَهْوَائِهِمْ , فَهُمْ يُحِبُّونَ مَا يَهْوَوْنَهُ كَالصُّوَرِ وَالرِّئَاسَةِ وَفُضُولِ الْمَالِ , وَالْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ , زَاعِمِينَ أَنَّ هَذَا مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ , وَمِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ بُغْضُ مَا يَبْغُضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَجِهَادُ أَهْلِهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ . وَأَصْلُ ضَلَالِهِمْ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ الَّذِي قَالَ : " إنَّ الْمَحَبَّةَ نَارٌ تُحَرِّقُ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ " قَصَدَ بِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى الْإِرَادَةَ الدِّينِيَّةَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ , فَكَأَنَّهُ قَالَ : تُحَرِّقُ مِنْ الْقَلْبِ مَا سِوَى الْمَحْبُوبِ لِلَّهِ , وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ . فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ الْحُبِّ أَنْ لَا يُحِبَّ إلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ , فَإِذَا أَحْبَبْت مَا لَا يُحِبُّ كَانَتْ الْمَحَبَّةُ نَاقِصَةً , وَأَمَّا قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ فَهُوَ يَبْغُضُهُ , وَيَكْرَهُهُ , وَيَسْخَطُهُ , وَيَنْهَى عَنْهُ , فَإِنْ لَمْ أُوَافِقْهُ فِي بُغْضِهِ وَكَرَاهَتِهِ وَسُخْطِهِ لَمْ أَكُنْ مُحِبًّا لَهُ , بَلْ مُحِبًّا لِمَا يَبْغُضُهُ . فَاتِّبَاعُ الشَّرِيعَةِ , وَالْقِيَامُ بِالْجِهَادِ مِنْ أَعْظَمِ الْفُرُوقِ بَيْنَ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ , وَبَيْنَ مَنْ يَدَّعِي مَحَبَّةَ اللَّهِ نَاظِرًا إلَى عُمُومِ رُبُوبِيَّتِهِ , أَوْ مُتَّبِعًا لِبَعْضِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرِيعَتِهِ , فَإِنَّ دَعْوَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ مِنْ جِنْسِ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْمَحَبَّةَ لِلَّهِ , بَلْ قَدْ تَكُونُ دَعْوَى هَؤُلَاءِ شَرًّا مِنْ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِمَا فِيهِمْ مِنْ النِّفَاقِ الَّذِينَ هُمْ

بِهِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ , كَمَا قَدْ تَكُونُ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى شَرٌّ مِنْ دَعْوَاهُمْ إذَا لَمْ يَصِلُوا إلَى مِثْلِ كُفْرِهِمْ , وَفِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ مَا هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهِ , حَتَّى إنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَعْظَمُ وَصَايَا النَّامُوسِ . فَفِي الْإِنْجِيلِ أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ : " أَعْظَمُ وَصَايَا الْمَسِيحِ أَنْ تُحِبَّ اللَّهَ بِكُلِّ قَلْبِك وَعَقْلِك وَنَفْسِك " , وَالنَّصَارَى يَدَّعُونَ قِيَامَهُمْ بِهَذِهِ الْمَحَبَّةِ , وَأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ هُوَ مِنْ ذَلِكَ , وَهُمْ بَرَاءٌ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ إذْ لَمْ يَتَّبِعُوا مَا أَحَبَّهُ , بَلْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ , وَاَللَّهُ يَبْغُضُ الْكَافِرِينَ وَيَمْقُتُهُمْ , وَيَلْعَنُهُمْ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهُ , لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُحِبًّا لِلَّهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُحِبٍّ لَهُ , بَلْ بِقَدْرِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ يَكُونُ حُبُّ اللَّهِ لَهُ ; وَإِنْ كَانَ جَزَاءُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ أَعْظَمَ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعَا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً } . وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ , وَالْمُحْسِنِينَ وَالصَّابِرِينَ , وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ , وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ , بَلْ هُوَ يُحِبُّ مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ , كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا

يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ , فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ , وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ } الْحَدِيثَ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُخْطِئِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَشْيَاخًا فِي " الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ " وَقَعُوا فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ فِيهِ النَّصَارَى : مِنْ دَعْوَى الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ مَعَ مُخَالَفَةِ شَرِيعَتِهِ , وَتَرْكِ الْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَيَتَمَسَّكُونَ فِي الدِّينِ الَّذِي يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إلَى اللَّهِ بِنَحْوِ مَا تَمَسَّكَ بِهِ النَّصَارَى مِنْ الْكَلَامِ الْمُتَشَابِهِ , وَالْحِكَايَاتِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ صِدْقُ قَائِلِهَا , وَلَوْ صَدَقَ لَمْ يَكُنْ قَائِلُهَا مَعْصُومًا , فَيَجْعَلُونَ مَتْبُوعِيهِمْ شَارِعِينَ لَهُمْ دِينًا , كَمَا جَعَلَ النَّصَارَى قِسِّيسِيهِمْ وَرُهْبَانَهُمْ شَارِعِينَ لَهُمْ دِينًا , ثُمَّ إنَّهُمْ يَنْتَقِصُونَ الْعُبُودِيَّةَ وَيَدَّعُونَ أَنَّ الْخَاصَّةَ يَتَعَدَّوْنَهَا كَمَا يَدَّعِي النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ , وَيُثْبِتُونَ لِلْخَاصَّةِ مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي اللَّهِ مِنْ جِنْسِ مَا تُثْبِتُهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ يَطُولُ شَرْحُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِنَّمَا دِينُ الْحَقِّ هُوَ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ بِكُلِّ وَجْهٍ , وَهُوَ تَحْقِيقُ مَحَبَّةِ اللَّهِ بِكُلِّ دَرَجَةٍ وَبِقَدْرِ تَكْمِيلِ الْعُبُودِيَّةِ تَكْمُلُ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ , وَتَكْمُلُ مَحَبَّةُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ , وَبِقَدْرِ نَقْصِ هَذَا يَكُونُ نَقْصُ هَذَا ; وَكُلَّمَا كَانَ فِي الْقَلْبِ حُبٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ كَانَتْ فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ , وَكُلَّمَا كَانَ فِيهِ

عُبُودِيَّةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ كَانَ فِيهِ حُبٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ , وَكُلُّ مَحَبَّةٍ لَا تَكُونُ لِلَّهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ , وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ . فَالدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ , وَلَا يَكُونُ لِلَّهِ إلَّا مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَهُوَ الْمَشْرُوعُ . فَكُلُّ عَمَلٍ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ , وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ , بَلْ لَا يَكُونُ لِلَّهِ إلَّا مَا جَمَعَ الْوَصْفَيْنِ : أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ , وَأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ . كَمَا قَالَ : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } . فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ , وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ , وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ; فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ } . وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ ,

وَبِحَسَبِ تَحْقِيقِهِ يَكُونُ تَحْقِيقُ الدِّينِ وَبِهِ أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ , وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ , وَإِلَيْهِ دَعَا الرَّسُولُ , وَعَلَيْهِ جَاهَدَ ; وَبِهِ أَمَرَ , وَفِيهِ رَغِبَ ; وَهُوَ قُطْبُ الدِّينِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَاهُ . وَالشِّرْكُ غَالِبٌ عَلَى النُّفُوسِ , وَهُوَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ . { وَهُوَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ . كَيْفَ نَنْجُو مِنْهُ , وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ : أَلَا أُعَلِّمُك كَلِمَةً إذَا قُلْتَهَا نَجَوْتَ مِنْ دِقِّهِ وَجِلِّهِ ؟ قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أُشْرِكَ بِك وَأَنَا أَعْلَمُ , وَأَسْتَغْفِرُك لِمَا لَا أَعْلَمُ } . وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا , وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا , وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا . وَكَثِيرًا مَا يُخَالِطُ النُّفُوسَ مِنْ الشَّهَوَاتِ الْخَفِيَّةِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهَا تَحْقِيقَ مَحَبَّتِهَا لِلَّهِ وَعُبُودِيَّتَهَا لَهُ , وَإِخْلَاصَ دِينِهَا لَهُ . كَمَا قَالَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ : يَا بَقَايَا الْعَرَبِ إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّيَاءُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ . قِيلَ لِأَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ : وَمَا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ ؟ قَالَ : حُبُّ الرِّئَاسَةِ , وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي زَرِيبَةِ غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ

حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْحِرْصَ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي فَسَادِ الدِّينِ لَا يَنْقُصُ عَنْ فَسَادِ الذِّئْبَيْنِ الْجَائِعَيْنِ لِزَرِيبَةِ الْغَنَمِ , وَذَلِكَ بَيِّنٌ ; فَإِنَّ الدِّينَ السَّلِيمَ لَا يَكُونُ فِيهِ هَذَا الْحِرْصُ , وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا ذَاقَ حَلَاوَةَ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُقَدِّمَهُ عَلَيْهِ , وَبِذَلِكَ يُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ السُّوءُ وَالْفَحْشَاءُ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } . فَإِنَّ الْمُخْلِصَ لِلَّهِ ذَاقَ مِنْ حَلَاوَةِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ لِغَيْرِهِ , وَمِنْ حَلَاوَةِ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ مَا يَمْنَعُهُ عَنْ مَحَبَّةِ غَيْرِهِ , إذْ لَيْسَ عِنْدَ الْقَلْبِ لَا أَحْلَى وَلَا أَلَذُّ وَلَا أَطْيَبُ وَلَا أَلْيَنُ وَلَا أَنْعَمُ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ الْمُتَضَمِّنِ عُبُودِيَّتَهُ لِلَّهِ , وَمَحَبَّتَهُ لَهُ , وَإِخْلَاصَهُ الدِّينَ لَهُ , وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْجِذَابَ الْقَلْبِ إلَى اللَّهِ فَيَصِيرُ الْقَلْبُ مُنِيبًا إلَى اللَّهِ خَائِفًا مِنْهُ رَاغِبًا رَاهِبًا , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } . إذْ الْمُحِبُّ يَخَافُ مِنْ زَوَالِ مَطْلُوبِهِ وَحُصُولِ مَرْغُوبِهِ , فَلَا يَكُونُ عَبْدًا لِلَّهِ وَمُحِبَّهُ إلَّا بَيْنَ خَوْفٍ وَرَجَاءٍ ; قَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ

عَذَابَ رَبِّك كَانَ مَحْذُورًا } . وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُخْلِصًا لَهُ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَيُحْيِي قَلْبَهُ , وَاجْتَذَبَهُ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ , وَيَخَافُ مِنْ حُصُولِ ضِدِّ ذَلِكَ ; بِخِلَافِ الْقَلْبِ الَّذِي لَمْ يُخْلِصْ لِلَّهِ , فَإِنَّهُ فِي طَلَبٍ وَإِرَادَةٍ وَحُبٍّ مُطْلَقٍ , فَيَهْوَى مَا يَسْنَحُ لَهُ وَيَتَشَبَّثُ بِمَا يَهْوَاهُ , كَالْغُصْنِ أَيُّ نَسِيمٍ مَرَّ بِعِطْفِهِ أَمَالَهُ فَتَارَةً تَجْتَذِبُهُ الصُّوَرُ الْمُحَرَّمَةُ وَغَيْرُ الْمُحَرَّمَةِ ; فَيَبْقَى أَسِيرًا عَبْدًا لِمَنْ لَوْ اتَّخَذَهُ هُوَ عَبْدًا لَهُ لَكَانَ ذَلِكَ عَيْبًا وَنَقْصًا وَذَمًّا . وَتَارَةً يَجْتَذِبُهُ الشَّرَفُ وَالرِّئَاسَةُ , فَتُرْضِيهِ الْكَلِمَةُ وَتُغْضِبُهُ الْكَلِمَةُ وَيَسْتَعْبِدُهُ مَنْ يُثْنِي عَلَيْهِ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ , وَيُعَادِي مَنْ يَذُمُّهُ وَلَوْ بِالْحَقِّ . وَتَارَةً يَسْتَعْبِدُهُمْ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ , وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَسْتَعْبِدُ الْقُلُوبَ , وَالْقُلُوبُ تَهْوَاهَا فَيَتَّخِذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَيَتَّبِعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ . وَمَنْ لَمْ يَكُنْ خَالِصًا لِلَّهِ عَبْدًا لَهُ قَدْ صَارَ قَلْبُهُ مُعْبِدًا لِرَبِّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , بِحَيْثُ يَكُونُ اللَّهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ , وَيَكُونُ ذَلِيلًا لَهُ خَاضِعًا وَإِلَّا اسْتَعْبَدَتْهُ الْكَائِنَاتُ , وَاسْتَوْلَتْ عَلَى قَلْبِهِ الشَّيَاطِينُ , وَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ , وَصَارَ فِيهِ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ , وَهَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا حِيلَةَ فِيهِ ; فَالْقَلْبُ إنْ لَمْ يَكُنْ حَنِيفًا

مُقْبِلًا عَلَى اللَّهِ مُعْرِضًا عَمَّا سِوَاهُ وَإِلَّا كَانَ مُشْرِكًا . قَالَ تَعَالَى : { فَأَقِمْ وَجْهَك لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إبْرَاهِيمَ وَآلَ إبْرَاهِيمَ أَئِمَّةً لِهَؤُلَاءِ الْحُنَفَاءِ الْمُخْلَصِينَ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ ; كَمَا جَعَلَ فِرْعَوْنَ وَآلَ فِرْعَوْنَ أَئِمَّةَ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَّبِعِينَ أَهْوَاءَهُمْ . قَالَ تَعَالَى فِي إبْرَاهِيمَ : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ } . وَقَالَ فِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ } . وَلِهَذَا يَصِيرُ أَتْبَاعُ فِرْعَوْنَ أَوَّلًا إلَى أَنْ لَا يُمَيِّزُوا بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ . وَبَيْنَ مَا قَدَّرَ اللَّهُ وَقَضَاهُ ; بَلْ يَنْظُرُونَ إلَى الْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ الشَّامِلَةِ . ثُمَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ , بَلْ يَجْعَلُونَ وُجُودَ هَذَا وُجُودَ هَذَا , وَيَقُولُ مُحَقِّقُوهُمْ الشَّرِيعَةُ فِيهَا طَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ . وَالْحَقِيقَةُ فِيهَا مَعْصِيَةٌ بِلَا طَاعَةٍ ;

وَالتَّحْقِيقُ لَيْسَ فِيهِ طَاعَةٌ وَلَا مَعْصِيَةٌ , وَهَذَا تَحْقِيقُ مَذْهَبِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْخَالِقَ وَأَنْكَرُوا تَكْلِيمَهُ لِعَبْدِهِ مُوسَى وَمَا أَرْسَلَهُ بِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ وَآلُ إبْرَاهِيمَ الْحُنَفَاءُ وَالْأَنْبِيَاءُ فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ , وَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ . وَأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا ازْدَادَ تَحْقِيقًا ازْدَادَتْ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ وَعُبُودِيَّتُهُ لَهُ وَطَاعَتُهُ لَهُ وَإِعْرَاضُهُ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَمَحَبَّةِ غَيْرِهِ وَطَاعَةِ غَيْرِهِ , وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الضَّالُّونَ يُسَوُّونَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ . وَالْخَلِيلُ يَقُولُ : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } وَيَتَمَسَّكُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ كَلَامِ الْمَشَايِخِ كَمَا فَعَلَتْ النَّصَارَى . مِثَالُ ذَلِكَ اسْمُ " الْفَنَاءِ " فَإِنَّ " الْفَنَاءَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " : نَوْعٌ لِلْكَامِلِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ ; وَنَوْعٌ لِلْقَاصِدِينَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ ; وَنَوْعٌ لِلْمُنَافِقِينَ الْمُلْحِدِينَ الْمُشَبِّهِينَ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَهُوَ " الْفَنَاءُ عَنْ إرَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ " بِحَيْثُ لَا يُحِبُّ إلَّا اللَّهَ . وَلَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ , وَلَا يَطْلُبُ غَيْرَهُ ; وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقْصَدَ بِقَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي يَزِيدَ حَيْثُ قَالَ : أُرِيدُ أَنْ لَا أُرِيدَ إلَّا مَا يُرِيدُ . أَيْ الْمُرَادُ

الْمَحْبُوبُ الْمَرْضِيُّ ; وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ وَكَمَالُ الْعَبْدِ أَنْ لَا يُرِيدَ وَلَا يُحِبَّ وَلَا يَرْضَى إلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَرَضِيَهُ وَأَحَبَّهُ , وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ ; وَلَا يُحِبُّ إلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي قَوْلِهِ : { إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } , قَالُوا : هُوَ السَّلِيمُ مِمَّا سِوَى اللَّهِ , أَوْ مِمَّا سِوَى عِبَادَةِ اللَّهِ , أَوْ مِمَّا سِوَى إرَادَةِ اللَّهِ , أَوْ مِمَّا سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ , فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهَذَا الْمَعْنَى إنْ سُمِّيَ فَنَاءً أَوْ لَمْ يُسَمَّ هُوَ أَوَّلُ الْإِسْلَامِ وَآخِرُهُ . وَبَاطِنُ الدِّينِ وَظَاهِرُهُ . وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي : فَهُوَ " الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى " . وَهَذَا يَحْصُلُ لِكَثِيرٍ مِنْ السَّالِكِينَ , فَإِنَّهُمْ لِفَرْطِ انْجِذَابِ قُلُوبِهِمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَضَعْفِ قُلُوبِهِمْ عَنْ أَنْ تَشْهَدَ غَيْرَ مَا تَعْبُدُ وَتَرَى غَيْرَ مَا تَقْصِدُ ; لَا يَخْطِرُ بِقُلُوبِهِمْ غَيْرُ اللَّهِ ; بَلْ وَلَا يَشْعُرُونَ ; كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } قَالُوا : فَارِغًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى . وَهَذَا كَثِيرٌ يَعْرِضُ لِمَنْ فَقَمَهُ أَمْرٌ مِنْ الْأُمُورِ إمَّا حُبٌّ وَإِمَّا خَوْفٌ . وَإِمَّا رَجَاءٌ يَبْقَى قَلْبُهُ مُنْصَرِفًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا عَمَّا قَدْ أَحَبَّهُ أَوْ خَافَهُ أَوْ طَلَبَهُ ; بِحَيْثُ يَكُونُ عِنْدَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي ذَلِكَ لَا

يَشْعُرُ بِغَيْرِهِ . فَإِذَا قَوِيَ عَلَى صَاحِبِ الْفَنَاءِ هَذَا فَإِنَّهُ يَغِيبُ بِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ , وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ , وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ , وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ , حَتَّى يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمُعْبَدَةُ مِمَّنْ سِوَاهُ , وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزُلْ وَهُوَ الرَّبُّ تَعَالَى . وَالْمُرَادُ فَنَاؤُهَا فِي شُهُودِ الْعَبْدِ وَذِكْرِهِ , وَفَنَاؤُهُ عَنْ أَنْ يُدْرِكَهَا أَوْ يَشْهَدَهَا . وَإِذَا قَوِيَ هَذَا ضَعُفَ الْمُحِبُّ حَتَّى اضْطَرَبَ فِي تَمْيِيزِهِ فَقَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ مَحْبُوبُهُ , كَمَا يُذْكَرُ : أَنَّ رَجُلًا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْيَمِّ فَأَلْقَى مُحِبُّهُ نَفْسَهُ خَلْفَهُ , فَقَالَ : أَنَا وَقَعْتُ فَمَا أَوْقَعَكَ خَلْفِي قَالَ : غِبْتُ بِكَ عَنِّي , فَظَنَنْتَ أَنَّكَ أَنِّي . " وَهَذَا الْمَوْضِعُ " يَزِلُّ فِيهِ أَقْوَامٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ اتِّحَادٌ , وَأَنَّ الْمُحِبَّ يَتَّحِدُ بِالْمَحْبُوبِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فِي نَفْسِ وُجُودِهِمَا , وَهَذَا غَلَطٌ ; فَإِنَّ الْخَالِقَ لَا يَتَّحِدُ بِهِ شَيْءٌ أَصْلًا , بَلْ لَا يَتَّحِدُ شَيْءٌ بِشَيْءٍ إلَّا إذَا اسْتَحَالَا وَفَسَدَا وَحَصَلَ مِنْ اتِّحَادِهِمَا أَمْرٌ ثَالِثٌ لَا هُوَ هَذَا وَلَا هَذَا , كَمَا إذَا اتَّحَدَ الْمَاءُ وَاللَّبَنُ , وَالْمَاءُ وَالْخَمْرُ , وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَلَكِنْ يَتَّحِدُ الْمُرَادُ وَالْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ وَيَتَّفِقَانِ فِي نَوْعِ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ , فَيُحِبُّ هَذَا مَا يُحِبُّ هَذَا . وَيَبْغُضُ هَذَا مَا يَبْغُضُ هَذَا , وَيَرْضَى مَا يَرْضَى وَيَسْخَطُ مَا يَسْخَطُ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُ , وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِي وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِي وَهَذَا

الْفَنَاءُ كُلُّهُ فِيهِ نَقْصٌ . وَأَكَابِرُ الْأَوْلِيَاءِ كَأَبِي بَكْرٍ , وَعُمَرَ , وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ : لَمْ يَقَعُوا فِي هَذَا الْفَنَاءِ , فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا بَعْدَ الصَّحَابَةِ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ مِمَّا فِيهِ غَيْبَةُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزُ لِمَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ أَحْوَالِ الْإِيمَانِ ; فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا أَكْمَلَ وَأَقْوَى وَأَثْبَتَ فِي الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ مِنْ أَنْ تَغِيبَ عُقُولُهُمْ . أَوْ يَحْصُلَ لَهُمْ غَشْيٌ أَوْ صَعْقٌ أَوْ سُكْرٌ أَوْ فَنَاءٌ أَوْ وَلَهٌ أَوْ جُنُونٌ . وَإِنَّمَا كَانَ مَبَادِئُ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي التَّابِعِينَ مِنْ عُبَّادِ الْبَصْرَةِ , فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُغْشَى عَلَيْهِ إذَا سَمِعَ الْقُرْآنَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ : كَأَبِي جَهِيرٍ الضَّرِيرِ وَزُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَاضِي الْبَصْرَةِ . وَكَذَلِكَ صَارَ فِي شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ مَنْ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ الْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ مَا يَضْعُفُ مَعَهُ تَمْيِيزُهُ , حَتَّى يَقُولَ فِي تِلْكَ الْحَالِ مِنْ الْأَقْوَالِ مَا إذَا صَحَا عَرَفَ أَنَّهُ غَالِطٌ فِيهِ , كَمَا يُحْكَى نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مِثْلِ أَبِي يَزِيدَ , وَأَبِي الْحَسَنِ الثَّوْرِيِّ , وَأَبِي بَكْرٍ الشِّبْلِيِّ , وَأَمْثَالِهِمْ . بِخِلَافِ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ , وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ , وَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ بَلْ وَبِخِلَافِ الْجُنَيْدِ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ كَانَتْ عُقُولُهُمْ وَتَمْيِيزُهُمْ يَصْحَبُهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ فَلَا يَقَعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ

وَنَحْوِهِ , بَلْ الْكُمَّلُ تَكُونُ قُلُوبُهُمْ لَيْسَ فِيهَا سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِبَادَتِهِ , وَعِنْدَهُمْ مِنْ سَعَةِ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ مَا يَشْهَدُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ , بَلْ يَشْهَدُونَ الْمَخْلُوقَاتِ قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ مُدَبَّرَةً بِمَشِيئَتِهِ بَلْ مُسْتَجِيبَةً لَهُ قَانِتَةً لَهُ , فَيَكُونُ لَهُمْ فِيهَا تَبْصِرَةٌ وَذِكْرَى , وَيَكُونُ مَا يَشْهَدُونَهُ مِنْ ذَلِكَ مُؤَيِّدًا وَمُمِدًّا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ إخْلَاصِ الدِّينِ , وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ لَهُ , وَالْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَهَذِهِ " الْحَقِيقَةُ " الَّتِي دَعَا إلَيْهَا الْقُرْآنُ , وَقَامَ بِهَا أَهْلُ تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ , وَالْكُمَّلُ مِنْ أَهْلِ الْعِرْفَانِ . وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَامُ هَؤُلَاءِ وَأَكْمَلُهُمْ ; وَلِهَذَا لَمَّا عُرِجَ بِهِ إلَى السَّمَوَاتِ وَعَايَنَ مَا هُنَالِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَأَوْحَى إلَيْهِ مَا أَوْحَى مِنْ أَنْوَاعِ الْمُنَاجَاةِ أَصْبَحَ فِيهِمْ وَهُوَ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ , وَلَا ظَهَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ , بِخِلَافِ مَا كَانَ يَظْهَرُ عَلَى مُوسَى مِنْ التَّغَشِّي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ .

وَخَاتِمَةُ الْمَجْلِسِ : " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك " إنْ كَانَ مَجْلِسَ رَحْمَةٍ كَانَتْ كَالطَّابَعِ عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ مَجْلِسَ لَغْوٍ كَانَتْ كَفَّارَةً لَهُ , وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا أَنَّهَا تُقَالُ فِي آخِرِ الْوُضُوءِ بَعْدَ أَنْ يُقَالَ : { أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ , اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ الْمُتَطَهِّرِينَ } . وَهَذَا الذِّكْرُ يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ وَالِاسْتِغْفَارَ ; فَإِنَّ صَدْرَهُ الشَّهَادَتَانِ اللَّتَانِ هُمَا أَصْلَا الدِّينِ وَجِمَاعُهُ ; فَإِنَّ جَمِيعَ الدِّينِ دَاخِلٌ فِي " الشَّهَادَتَيْنِ " إذْ مَضْمُونُهُمَا أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ , وَأَنْ نُطِيعَ رَسُولَهُ , " وَالدِّينُ " كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي هَذَا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ , وَكُلُّ مَا يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ دَاخِلٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ يَقُولُ : { سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ , أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك } وَهَذَا كَفَّارَةُ الْمَجْلِسِ , فَقَدْ شُرِعَ فِي آخِرِ الْمَجْلِسِ وَفِي آخِرِ الْوُضُوءِ , وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ { كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي , أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ , لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } وَهُنَا قَدَّمَ الدُّعَاءَ

وَخَتَمَهُ بِالتَّوْحِيدِ ; لِأَنَّ الدُّعَاءَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ , وَخَتَمَ بِالتَّوْحِيدِ لِيَخْتِمَ الصَّلَاةَ بِأَفْضَلَ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ , بِخِلَافِ مَا لَمْ يَقْصِدْ فِيهِ هَذَا فَإِنَّ تَقْدِيمَ التَّوْحِيدِ أَفْضَلُ . فَإِنَّ جِنْسَ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ ثَنَاءٌ وَعِبَادَةٌ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ سُؤَالٌ وَطَلَبٌ , وَإِنْ كَانَ الْمَفْضُولُ قَدْ يَفْضُلُ عَلَى الْفَاضِلِ فِي مَوْضِعِهِ الْخَاصِّ , بِسَبَبٍ وَبِأَشْيَاءَ أُخَرَ , كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ , وَالْقِرَاءَةَ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ ثَنَاءٌ , وَالذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ سُؤَالٌ , وَمَعَ هَذَا فَالْمَفْضُولُ لَهُ أَمْكِنَةٌ وَأَزْمِنَةٌ وَأَحْوَالٌ يَكُونُ فِيهَا أَفْضَلَ مِنْ الْفَاضِلِ , لَكِنَّ أَوَّلَ الدِّينِ وَآخِرَهُ وَظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ هُوَ التَّوْحِيدُ , وَإِخْلَاصُ الدِّينِ كُلِّهِ لِلَّهِ هُوَ تَحْقِيقُ قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي الْإِقْرَارِ بِهَا , فَهُمْ مُتَفَاضِلُونَ فِي تَحْقِيقِهَا تَفَاضُلًا لَا نَقْدِرُ أَنْ نَضْبِطَهُ , حَتَّى أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ التَّوْحِيدَ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ , وَبَيْنَ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي دَعَاهُمْ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَجْمَعُونَ بَيْنَ التَّوْحِيدِ الْقَوْلِيِّ وَالْعَمَلِيِّ . فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ : إنَّ

الْعَالَمَ خَلَقَهُ اثْنَانِ , وَلَا إنَّ مَعَ اللَّهِ رَبًّا يَنْفَرِدُ دُونَهُ بِخَلْقِ شَيْءٍ ; بَلْ كَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ : { وَلَئِنْ سَأَلْتهمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاَللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } . وَكَانُوا مَعَ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ وَحْدَهُ يَجْعَلُونَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى . يَجْعَلُونَهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ إلَيْهِ . وَيَقُولُونَ : { مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى } . وَيُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ . وَالْإِشْرَاكُ فِي الْحُبِّ وَالْعِبَادَةِ وَالدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ غَيْرُ الْإِشْرَاكِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْإِقْرَارِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ , وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } فَمَنْ أَحَبَّ مَخْلُوقًا كَمَا يُحِبُّ الْخَالِقَ فَهُوَ مُشْرِكٌ بِهِ , قَدْ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ . وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ . وَلِهَذَا فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَ مَنْ أَحَبَّ مَخْلُوقًا لِلَّهِ , وَبَيْنَ مَنْ أَحَبَّ مَخْلُوقًا مَعَ اللَّهِ , فَالْأَوَّلُ

يَكُونُ اللَّهُ هُوَ مَحْبُوبُهُ وَمَعْبُودُهُ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى حُبِّهِ وَعِبَادَتِهِ لَا يُحِبُّ مَعَهُ غَيْرَهُ ; لَكِنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْبِيَاءَهُ وَعِبَادَهُ الصَّالِحِينَ أَحَبَّهُمْ لِأَجْلِهِ , وَكَذَلِكَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ أَحَبَّ ذَلِكَ , فَكَانَ حُبُّهُ لِمَا يُحِبُّهُ تَابِعًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَفَرْعًا عَلَيْهِ وَدَاخِلًا فِيهِ . بِخِلَافِ مَنْ أَحَبَّ مَعَ اللَّهِ فَجَعَلَهُ نِدًّا لِلَّهِ يَرْجُوهُ وَيَخَافُهُ , أَوْ يُطِيعُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ , وَيَتَّخِذُهُ شَفِيعًا لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ يَأْذَنُ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ قَالَ تَعَالَى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . وَقَدْ { قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ لِلنَّبِيِّ : مَا عَبَدُوهُمْ , قَالَ : أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ فَأَطَاعُوهُمْ , وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ فَأَطَاعُوهُمْ , فَكَانَتْ تِلْكَ عِبَادَتُهُمْ إيَّاهُمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْت مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ

الذِّكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا } . فَالرَّسُولُ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ ; لِأَنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ , فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ , وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ , وَالدِّينُ مَا شَرَّعَهُ , وَمَنْ سِوَى الرَّسُولِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ إنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ إذَا كَانَتْ طَاعَتُهُمْ طَاعَةً لِلَّهِ , وَهُمْ إذَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِطَاعَتِهِمْ فَطَاعَتُهُمْ دَاخِلَةٌ فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ , قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } . فَلَمْ يَقُلْ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأَطِيعُوا أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ; بَلْ جَعَلَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ دَاخِلَةً فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ ; وَطَاعَةَ الرَّسُولِ طَاعَةً لِلَّهِ , وَأَعَادَ الْفِعْلَ فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ دُونَ طَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ ; فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ; فَلَيْسَ لِأَحَدٍ إذَا أَمَرَهُ الرَّسُولُ بِأَمْرٍ أَنْ يَنْظُرَ هَلْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْ لَا , بِخِلَافِ أُولِي الْأَمْرِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَأْمُرُونَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ , فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَطَاعَهُمْ مُطِيعًا لِلَّهِ , بَلْ لَا بُدَّ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْصِيَةً لِلَّهِ , وَيَنْظُرُ هَلْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْ لَا , سَوَاءٌ كَانَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْأُمَرَاءِ , وَيَدْخُلُ فِي هَذَا تَقْلِيدُ الْعُلَمَاءِ وَطَاعَةُ أُمَرَاءِ السَّرَايَا وَغَيْرُ ذَلِكَ , وَبِهَذَا يَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ قَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ

وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَمَّا قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً , وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً , وَيُقَاتِلُ رِيَاءً . فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يُحِبُّ خَلِيفَةً أَوْ عَالِمًا أَوْ شَيْخًا أَوْ أَمِيرًا فَيَجْعَلُهُ نِدًّا لِلَّهِ , وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقُولُ : إنَّهُ يُحِبُّهُ لِلَّهِ . فَمَنْ جَعَلَ غَيْرَ الرَّسُولِ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ , وَإِنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَدْ جَعَلَهُ نِدًّا , وَرُبَّمَا صَنَعَ بِهِ كَمَا تَصْنَعُ النَّصَارَى بِالْمَسِيحِ , وَيَدْعُوهُ وَيَسْتَغِيثُ بِهِ , وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَهُ , وَيُعَادِي أَعْدَاءَهُ مَعَ إيجَابِهِ طَاعَتَهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ وَيُحَلِّلُهُ وَيُحَرِّمُهُ , وَيُقِيمُهُ مَقَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهَذَا مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي يَدْخُلُ أَصْحَابُهُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } . فَالتَّوْحِيدُ وَالْإِشْرَاكُ يَكُونُ فِي أَقْوَالِ الْقَلْبِ , وَيَكُونُ فِي أَعْمَالِ الْقَلْبِ ; وَلِهَذَا قَالَ الْجُنَيْدُ : التَّوْحِيدُ قَوْلُ الْقَلْبِ , وَالتَّوَكُّلُ عَمَلُ الْقَلْبِ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّوْحِيدَ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ , فَإِنَّهُ لَمَّا قَرَنَهُ بِالتَّوَكُّلِ جَعَلَهُ أَصْلَهُ , وَإِذَا أَفْرَدَ لَفْظَ التَّوْحِيدِ فَهُوَ يَتَضَمَّنُ قَوْلَ الْقَلْبِ وَعَمَلَهُ ,

وَالتَّوَكُّلُ مِنْ تَمَامِ التَّوْحِيدِ . وَهَذَا كَلَفْظِ " الْإِيمَانِ " فَإِنَّهُ إذَا أُفْرِدَ دَخَلَتْ فِيهِ الْأَعْمَالُ الْبَاطِنَةُ وَالظَّاهِرَةُ , وَقِيلَ الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ , أَيْ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ , وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً , أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ , وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ } . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . أُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } .

فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : هَلْ الِاعْتِرَافُ بِالْخَطِيئَةِ بِمُجَرَّدِهِ مَعَ التَّوْحِيدِ مُوجِبٌ لِغُفْرَانِهَا وَكَشْفِ الْكُرْبَةِ الصَّادِرَةِ عَنْهَا ; أَمْ يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ ؟ فَجَوَابُهُ : أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْغُفْرَانِ مَعَ التَّوْحِيدِ هُوَ التَّوْبَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا ; فَإِنَّ الشِّرْكَ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ إلَّا بِتَوْبَةٍ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ الْقُرْآنِ وَمَا دُونَ الشِّرْكِ فَهُوَ مَعَ التَّوْبَةِ مَغْفُورٌ ; وَبِدُونِ التَّوْبَةِ مُعَلَّقٌ بِالْمَشِيئَةِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّبُوبَ جَمِيعًا } فَهَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِينَ , وَلِهَذَا عَمَّمَ وَأَطْلَقَ , وَخَتَمَ أَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا , وَقَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فَخَصَّ مَا دُونَ الشِّرْكِ وَعَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَإِذَا كَانَ الشِّرْكُ لَا يُغْفَرُ إلَّا بِتَوْبَةٍ ; وَأَمَّا مَا دُونَهُ فَيَغْفِرُهُ اللَّهُ لِلتَّائِبِ ; وَقَدْ يَغْفِرُهُ بِدُونِ التَّوْبَةِ لِمَنْ يَشَاءُ . فَالِاعْتِرَافُ بِالْخَطِيئَةِ مَعَ التَّوْحِيدِ إنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِلتَّوْبَةِ أَوْجَبَ الْمَغْفِرَةَ ; وَإِذَا غُفِرَ الذَّنْبُ زَالَتْ عُقُوبَتُهُ ; فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ هِيَ وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ الْغَفْرُ السِّتْرُ , وَيَقُولُ : إنَّمَا سُمِّيَ الْمَغْفِرَةَ وَالْغَفَّارَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى السِّتْرِ , وَتَفْسِيرُ اسْمِ اللَّهِ الْغَفَّارِ بِأَنَّهُ

السَّتَّارُ وَهَذَا تَقْصِيرٌ فِي مَعْنَى الْغَفْرِ ; فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ مَعْنَاهَا وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ بِحَيْثُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى الذَّنْبِ فَمَنْ غُفِرَ ذَنْبُهُ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ . وَأَمَّا مُجَرَّدُ سِتْرِهِ فَقَدْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ , وَمَنْ عُوقِبَ عَلَى الذَّنْبِ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ , وَإِنَّمَا يَكُونُ غُفْرَانُ الذَّنْبِ إذَا لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِالذَّنْبِ . وَأَمَّا إذَا اُبْتُلِيَ مَعَ ذَلِكَ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا فِي حَقِّهِ لِزِيَادَةِ أَجْرِهِ فَهَذَا لَا يُنَافِي الْمَغْفِرَةَ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ أَنْ يَأْتِيَ بِحَسَنَاتِ يَفْعَلُهَا فَإِنَّ مَنْ يُشْتَرَطُ فِي التَّوْبَةِ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ ; وَقَدْ يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ تَائِبٌ وَلَا يَكُونُ تَائِبًا بَلْ يَكُونُ تَارِكًا , وَالتَّارِكُ غَيْرُ التَّائِبِ . فَإِنَّهُ قَدْ يُعْرِضُ عَنْ الذَّنْبِ لِعَدَمِ خُطُورِهِ بِبَالِهِ أَوْ الْمُقْتَضَى لِعَجْزِهِ عَنْهُ , أَوْ تَنْتَفِي إرَادَتُهُ لَهُ بِسَبَبٍ غَيْرِ دِينِيِّ , وَهَذَا لَيْسَ بِتَوْبَةٍ , بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ سَيِّئَةٌ وَيَكْرَهُ فِعْلَهُ لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْهُ وَيَدَعُهُ لِلَّهِ تَعَالَى : لَا لِرَغْبَةِ مَخْلُوقٍ وَلَا لِرَهْبَةِ مَخْلُوقٍ ; فَإِنَّ التَّوْبَةَ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ ; وَالْحَسَنَاتُ كُلُّهَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ وَمُوَافَقَةُ أَمْرِهِ , كَمَا قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ , فِي قَوْلِهِ : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخَلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ , قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ؟ قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ

خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ . وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ ; حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا . وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ , وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا , وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا , وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا . وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِي التَّوْبَةِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَأَمَّا الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ عَلَى وَجْهِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ مِنْ غَيْرِ إقْلَاعٍ عَنْهُ فَهَذَا فِي نَفْسِ الِاسْتِغْفَارِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَا تَوْبَةَ مَعَهُ . وَهُوَ كَاَلَّذِي يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُ الذَّنْبَ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ , وَهَذَا يَأْسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ , وَلَا يَقْطَعُ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُ فَإِنَّهُ دَاعٍ دَعْوَةً مُجَرَّدَةً . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ , إلَّا كَانَ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثٍ : إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ , وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْجَزَاءِ مِثْلَهَا ; وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الشَّرِّ مِثْلَهَا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إذًا نَكْثُرُ قَالَ : اللَّهُ أَكْثَرُ } فَمِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ قَدْ تَحْصُلُ مَعَهُ الْمَغْفِرَةُ وَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ , فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ صَرْفُ شَرٍّ آخَرَ أَوْ حُصُولُ خَيْرٍ آخَرَ , فَهُوَ نَافِعٌ كَمَا يَنْفَعُ كُلَّ دُعَاءٍ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ : الِاسْتِغْفَارُ مَعَ

الْإِصْرَارِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ , فَهَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَغْفِرُ يَقُولُهُ عَلَى وَجْهِ التَّوْبَةِ أَوْ يَدَّعِي أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ تَوْبَةٌ , وَأَنَّهُ تَائِبٌ بِهَذَا الِاسْتِغْفَارِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعَ الْإِصْرَارِ لَا يَكُونُ تَائِبًا , فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَالْإِصْرَارَ ضِدَّانِ : الْإِصْرَارُ يُضَادُّ التَّوْبَةَ , لَكِنْ لَا يُضَادُّ الِاسْتِغْفَارُ بِدُونِ التَّوْبَةِ .
وَقَوْلُ الْقَائِلِ : هَلْ الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ الْمُعَيَّنِ يُوجِبُ دَفْعَ مَا حَصَلَ بِذُنُوبٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْضَارِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ ؟ فَجَوَابُ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ التَّوْبَةَ تَصِحُّ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَنْبٍ آخَرَ إذَا كَانَ الْمُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا أَقْوَى مِنْ الْمُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ مِنْ الْآخَرِ , أَوْ كَانَ الْمَانِعُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَشَدَّ , وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ . وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَأَبِي هَاشِمٍ إلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ قَبِيحٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْآخَرِ , قَالُوا : لِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى التَّوْبَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ تَوْبَةً صَحِيحَةً . وَالْخَشْيَةُ مَانِعَةٌ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ لَا مِنْ بَعْضِهَا , وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى , وَابْنُ عَقِيلٍ هَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ; لِأَنَّ الْمَرُّوذِيَّ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ تَابَ مِنْ الْفَاحِشَةِ وَقَالَ : لَوْ مَرِضْت لَمْ أَعُدْ لَكِنْ لَا يَدَعُ النَّظَرَ , فَقَالَ أَحْمَدُ : أَيُّ تَوْبَةٍ هَذِهِ ؟ , قَالَ { جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ : اصْرِفْ بَصَرَك } . وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَحْمَدَ وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ هُوَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ التَّوْبَةِ , وَأَحْمَدُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ تَوْبَةً عَامَّةً يَحْصُلُ بِسَبَبِهَا مِنْ التَّائِبِينَ تَوْبَةٌ مُطْلَقًا , لَمْ يَرِدْ أَنَّ ذَنْبَ هَذَا كَذَنْبِ الْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ , فَإِنَّ نُصُوصَهُ الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْهُ وَأَقْوَالَهُ الثَّابِتَةَ تُنَافِي ذَلِكَ , وَحَمْلُ كَلَامِ الْإِمَامِ عَلَى مَا يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّنَاقُضِ , لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الْآخَرُ مُبْتَدَعًا لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ . وَأَحْمَدُ يَقُولُ : إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ . وَكَانَ فِي الْمِحْنَةِ يَقُولُ : كَيْفَ أَقُولُ مَا لَمْ يُقَلْ . وَاتِّبَاعُ أَحْمَدَ لِلسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَقُوَّةُ رَغْبَتِهِ فِي ذَلِكَ وَكَرَاهَتُهُ لِخِلَافِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ يَعْرِفُهَا مَنْ يَعْرِفُ مِنْ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الْخَشْيَةَ تُوجِبُ الْعُمُومَ . فَجَوَابُهُ : أَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ قُبْحَ أَحَدِ الذَّنْبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ , وَإِنَّمَا يَتُوبُ مِمَّا يَعْلَمُ قُبْحَهُ . وَأَيْضًا : فَقَدْ يَعْلَمُ قُبْحَهَا وَلَكِنَّ هَوَاهُ يَغْلِبُهُ فِي إحْدَاهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَيَتُوبُ مِنْ هَذَا دُونَ ذَاكَ , كَمَنْ أَدَّى بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ دُونَ بَعْضٍ ; فَإِنَّ ذَلِكَ يُقْبَلُ مِنْهُ . وَلَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَهُمْ أَصْلٌ فَاسِدٌ وَافَقُوا فِيهِ الْخَوَارِجَ فِي الْحُكْمِ وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي الِاسْمِ , فَقَالُوا : إنَّ

أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِشَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهَا , وَعِنْدَهُمْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِمَّنْ يُعَاقِبُهُ اللَّهُ ثُمَّ يُثِيبُهُ ; وَلِهَذَا يَقُولُونَ : بِحُبُوطِ جَمِيعِ الْحَسَنَاتِ بِالْكَبِيرَةِ . وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَعَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ وَيَشْفَعُ فِيهِمْ . وَأَنَّ الْكَبِيرَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ وَلَكِنْ قَدْ يُحْبَطُ مَا يُقَابِلُهَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ , وَلَا يُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ إلَّا الْكُفْرُ . كَمَا لَا يُحْبِطُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةُ . فَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ إذَا أَتَى بِحَسَنَاتٍ يَبْتَغِي بِهَا رِضَا اللَّهِ أَثَابَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ , وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعُقُوبَةِ عَلَى كَبِيرَتِهِ . وَكِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُفَرِّقُ بَيْنَ حُكْمِ السَّارِقِ وَالزَّانِي وَقِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا , وَبَيْنَ حُكْمِ الْكُفَّارِ فِي " الْأَسْمَاءِ , وَالْأَحْكَامِ " . وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ , كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَعَلَى هَذَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِ : { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } . فَعَلَى قَوْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ لَا تُقْبَلُ حَسَنَةٌ إلَّا مِمَّنْ اتَّقَاهُ مُطْلَقًا فَلَمْ يَأْتِ كَبِيرَةً , وَعِنْدَ الْمُرْجِئَةِ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ مِمَّنْ اتَّقَى الشِّرْكَ , فَجَعَلُوا أَهْلَ الْكَبَائِرِ دَاخِلِينَ فِي اسْمِ " الْمُتَّقِينَ " وَعِنْدَ

أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُتَقَبَّلُ الْعَمَلُ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ فِيهِ فَعَمِلَهُ خَالِصًا لِلَّهِ مُوَافِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ , فَمَنْ اتَّقَاهُ فِي عَمَلٍ تَقَبَّلَهُ مِنْهُ , وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا فِي غَيْرِهِ . وَمَنْ لَمْ يَتَّقِهِ فِيهِ لَمْ يَتَقَبَّلْهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مُطِيعًا فِي غَيْرِهِ . وَالتَّوْبَةُ مِنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ دُونَ بَعْضٍ كَفِعْلِ بَعْضِ الْحَسَنَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا دُونَ بَعْضٍ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَتْرُوكُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْمَفْعُولِ كَالْإِيمَانِ الْمَشْرُوطِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } . وَقَالَ تَعَالَى { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } . وَقَالَ : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } . الْأَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ مَنْ لَهُ ذُنُوبٌ فَتَابَ مِنْ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ فَإِنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا تَقْتَضِي مَغْفِرَةَ مَا تَابَ مِنْهُ أَمَّا مَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَهُوَ بَاقٍ فِيهِ عَلَى حُكْمِ مَنْ لَمْ يَتُبْ , لَا عَلَى حُكْمِ مَنْ تَابَ , وَمَا عَلِمْت فِي هَذَا نِزَاعًا إلَّا فِي الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ , فَإِنَّ إسْلَامَهُ يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ مِنْ الْكُفْرِ فَيُغْفَرُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ الْكُفْرُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ , وَهَلْ تُغْفَرُ لَهُ الذُّنُوبُ الَّتِي فَعَلَهَا فِي حَالِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فِي الْإِسْلَامِ ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ

مَعْرُوفَانِ . أَحَدُهُمَا : يُغْفَرُ لَهُ الْجَمِيعُ , لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . . مَعَ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ إلَّا مَا تَابَ مِنْهُ ; فَإِذَا أَسْلَمَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى كَبَائِرَ دُونَ الْكُفْرِ فَحُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ , وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ وَالنُّصُوصُ , فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ : أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ لَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ فَقَالَ : مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ , وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ } فَقَدْ دَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا تُرْفَعُ الْمُؤَاخَذَةُ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي فُعِلَتْ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ عَمَّنْ أَحْسَنَ لَا عَمَّنْ لَا يُحْسِنُ ; وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ , وَمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَلَمْ يُحْسِنْ . وقَوْله تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَهِيَ عَنْ شَيْءٍ يُغْفَرُ لَهُ مَا قَدْ سَلَفَ مِنْهُ , لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَهِيَ عَنْ شَيْءٍ يُغْفَرُ لَهُ مَا سَلَفَ مِنْ غَيْرِهِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ : إنْ انْتَهَيْت غَفَرْت لَك مَا تَقَدَّمَ , وَنَحْوَ ذَلِكَ

يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَنَّكَ إنْ انْتَهَيْت عَنْ هَذَا الْأَمْرِ غُفِرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ , وَإِذَا انْتَهَيْت عَنْ شَيْءٍ غُفِرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ , كَمَا يُفْهَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : " إنْ تُبْت " , لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّك بِالِانْتِهَاءِ عَنْ ذَنْبٍ يُغْفَرُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ غَيْرِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ } وَفِي رِوَايَةٍ { يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ } فَهَذَا قَالَهُ لَمَّا أَسْلَمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَطَلَبَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ فَقَالَ لَهُ : { يَا عَمْرُو , أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ , وَأَنَّ التَّوْبَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا , وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا } وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا تُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا تَابَ مِنْهُ , لَا تُوجِبُ التَّوْبَةُ غُفْرَانَ جَمِيعَ الذُّنُوبِ . الْأَصْلُ الثَّالِثُ : إنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْتَحْضِرُ ذُنُوبًا فَيَتُوبُ مِنْهَا وَقَدْ يَتُوبُ تَوْبَةً مُطْلَقَةً لَا يَسْتَحْضِرُ مَعَهَا ذُنُوبَهُ , لَكِنْ إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ التَّوْبَةَ الْعَامَّةَ فَهِيَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَرَاهُ ذَنْبًا ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ الْعَامَّةَ تَتَضَمَّنُ عَزْمًا عَامًّا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ , وَكَذَلِكَ تَتَضَمَّنُ نَدَمًا عَامًّا عَلَى كُلِّ مَحْظُورٍ . " وَالنَّدَمُ " سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّهُ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ , أَوْ مِنْ بَابِ الْإِرَادَاتِ , أَوْ قِيلَ : إنَّهُ مِنْ بَابِ الْآلَامِ الَّتِي تَلْحَقُ النَّفْسَ بِسَبَبِ فِعْلِ مَا يَضُرُّهَا ; فَإِذَا اسْتَشْعَرَ الْقَلْبُ أَنَّهُ فَعَلَ

مَا يَضُرُّهُ , حَصَلَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ كَانَ مِنْ السَّيِّئَاتِ , وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ , وَكَرَاهِيَةٌ لِمَا كَانَ فَعَلَهُ , وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَاتِ ; وَحَصَلَ لَهُ أَذًى وَغَمٌّ لِمَا كَانَ فَعَلَهُ ; وَهَذَا مِنْ بَابِ الْآلَامِ , كَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ , كَمَا أَنَّ الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ هُوَ مِنْ بَابِ اللَّذَّاتِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْإِرَادَاتِ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ : إنَّ اللَّذَّةَ هِيَ إدْرَاكُ الْمُلَائِمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُلَائِمٌ , وَإِنَّ الْأَلَمَ هُوَ إدْرَاكُ الْمُنَافِرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُنَافِرٌ فَقَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ . فَإِنَّ اللَّذَّةَ وَالْأَلَمَ حَالَانِ يَتَعَقَّبَانِ إدْرَاكَ الْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِرِ فَإِنَّ الْحُبَّ لِمَا يُلَائِمُهُ , كَالطَّعَامِ الْمُشْتَهَى مَثَلًا لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ . أَحَدُهَا : الْحُبُّ , كَالشَّهْوَةِ لِلطَّعَامِ . وَالثَّانِي : إدْرَاكُ الْمَحْبُوبِ , كَأَكْلِ الطَّعَامِ . وَالثَّالِثُ : اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ بِذَلِكَ , وَاللَّذَّةُ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِلشَّهْوَةِ وَلِذَوْقِ الْمُشْتَهِي , بَلْ هِيَ حَاصِلَةٌ لِذَوْقِ الْمُشْتَهِي ; لَيْسَتْ نَفْسَ ذَوْقِ الْمُشْتَهَى . وَكَذَلِكَ " الْمَكْرُوهُ " كَالضَّرْبِ مَثَلًا . فَإِنَّ كَرَاهَتَهُ شَيْءٌ , وَحُصُولَهُ شَيْءٌ آخَرُ , وَالْأَلَمُ الْحَاصِلُ بِهِ ثَالِثٌ . وَكَذَلِكَ مَا لِلْعَارِفِينَ أَهْلَ مَحَبَّةِ اللَّهِ مِنْ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ بِذَلِكَ ; فَإِنَّ حُبَّهُمْ لِلَّهِ شَيْءٌ , ثُمَّ مَا يَحْصُلُ مِنْ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ شَيْءٌ , ثُمَّ اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ بِذَلِكَ أَمْرٌ ثَالِثٌ , وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحُبَّ مَشْرُوطٌ بِشُعُورِ

الْمَحْبُوبِ , كَمَا أَنَّ الشَّهْوَةَ مَشْرُوطَةٌ بِشُعُورِ الْمُشْتَهِي ; لَكِنَّ الشُّعُورَ الْمَشْرُوطَ فِي اللَّذَّةِ غَيْرُ الشُّعُورِ الْمَشْرُوطِ فِي الْمَحَبَّةِ , فَهَذَا الثَّانِي يُسَمَّى إدْرَاكًا وَذَوْقًا وَنَيْلًا وَوَجْدًا وَوِصَالًا , وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ إدْرَاكِ الْمَحْبُوبِ , سَوَاءً كَانَ بِالْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ , ثُمَّ هَذَا الذَّوْقُ يَسْتَلْزِمُ اللَّذَّةَ , وَاللَّذَّةُ أَمْرٌ يُحِسُّهُ الْحَيُّ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا , وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا , وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ سِوَاهُمَا , وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ , وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } . فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ لِمَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا , وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا , وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا , وَإِنْ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ حَاصِلٌ لِمَنْ كَانَ حُبُّهُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَشَدَّ مِنْ حُبِّهِ لِغَيْرِهِمَا , وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ شَخْصًا لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ , وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ ضِدَّ الْإِيمَانِ , كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ ; فَهَذَا الْحُبُّ لِلْإِيمَانِ . وَالْكَرَاهِيَةُ لِلْكُفْرِ اسْتَلْزَمَ

حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ , كَمَا اسْتَلْزَمَ الرِّضَى الْمُتَقَدِّمُ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ , وَهَذَا هُوَ اللَّذَّةُ ; وَلَيْسَ هُوَ نَفْسُ التَّصْدِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقَلْبِ , وَلَا نَفْسُ الْحُبِّ الْحَاصِلِ فِي الْقَلْبِ ; بَلْ هَذَا نَتِيجَةُ ذَاكَ وَثَمَرَتُهُ وَلَازِمٌ لَهُ , وَهِيَ أُمُورٌ مُتَلَازِمَةٌ , فَلَا تُوجَدُ اللَّذَّةُ إلَّا بِحُبٍّ وَذَوْقٍ , وَإِلَّا فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا وَلَمْ يَذُقْ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَجِدْ لَذَّةً , كَاَلَّذِي يَشْتَهِي الطَّعَامَ وَلَمْ يُذَقْ مِنْهُ شَيْئًا , وَلَوْ ذَاقَ مَا لَا يُحِبُّهُ لَمْ يَجِدْ لَذَّةً , كَمَنْ ذَاقَ مَا لَا يُرِيدُهُ , فَإِذَا اجْتَمَعَ حُبُّ الشَّيْءِ وَذَوْقُهُ حَصَلَتْ اللَّذَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ . وَإِنْ حَصَلَ بُغْضُهُ : وَبِذَوْقِ الْبَغِيضِ حَصَلَ الْأَلَمُ , فَاَلَّذِي يَبْغُضُ الذَّنْبَ وَلَا يَفْعَلُهُ لَا يَنْدَمُ , وَاَلَّذِي لَا يَبْغُضُهُ لَا يَنْدَمُ عَلَى فِعْلِهِ , فَإِذَا فَعَلَهُ وَعَرَفَ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَبْغُضُهُ وَيَضُرُّهُ نَدِمَ عَلَى فِعْلِهِ إيَّاهُ . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { النَّدَمُ تَوْبَةٌ } . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا , فَمَنْ تَابَ تَوْبَةً عَامَّةً كَانَتْ هَذِهِ التَّوْبَةُ مُقْتَضِيَةً لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ كُلِّهَا , وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْ أَعْيَانَ الذُّنُوبِ إلَّا أَنْ يُعَارِضَ هَذَا الْعَامَّ مُعَارِضٌ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ , مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الذُّنُوبِ لَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ ; لِقُوَّةِ إرَادَتِهِ إيَّاهُ أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ حَسَنٌ لَيْسَ بِقَبِيحٍ , فَمَا كَانَ لَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي التَّوْبَةِ ,

وَأَمَّا مَا كَانَ لَوْ حَضَرَ بِعَيْنِهِ لَكَانَ مِمَّا يَتُوبُ مِنْهُ فَإِنَّ التَّوْبَةَ الْعَامَّةَ شَامِلَتُهُ . وَأَمَّا " التَّوْبَةُ الْمُطْلَقَةُ " : وَهِيَ أَنْ يَتُوبَ تَوْبَةً مُجْمَلَةً , وَلَا تَسْتَلْزِمُ التَّوْبَةَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ , فَهَذِهِ لَا تُوجِبُ دُخُولَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الذُّنُوبِ فِيهَا وَلَا تَمْنَعُ دُخُولَهُ كَاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ ; لَكِنَّ هَذِهِ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الْمُعَيَّنِ . كَمَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الْجَمِيعِ ; بِخِلَافِ الْعَامَّةِ فَإِنَّهَا مُقْتَضِيَةٌ لِلْغُفْرَانِ الْعَامِّ , كَمَا تَنَاوَلَتْ الذُّنُوبَ تَنَاوُلًا عَامًّا . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَسْتَحْضِرُ عِنْدَ التَّوْبَةِ إلَّا بَعْضَ الْمُتَّصِفَاتِ بِالْفَاحِشَةِ أَوْ مُقَدَّمَاتِهَا أَوْ بَعْضَ الظُّلْمِ بِاللِّسَانِ أَوْ الْيَدِ , وَقَدْ يَكُونُ مَا تَرَكَهُ مِنْ الْمَأْمُورِ الَّذِي يَجِبُ لِلَّهِ عَلَيْهِ فِي بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَحَقَائِقِهِ أَعْظَمَ ضَرَرًا عَلَيْهِ مِمَّا فَعَلَهُ مِنْ بَعْضِ الْفَوَاحِشِ , فَإِنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي بِهَا يَصِيرُ الْعَبْدُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا أَعْظَمُ نَفْعًا مِنْ نَفْعِ تَرْكِ بَعْضِ الذُّنُوبِ الظَّاهِرَةِ , كَحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ; فَإِنَّ هَذَا أَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ الْفِعْلِيَّةِ حَتَّى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ يُدْعَى حِمَارًا , وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ , وَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَدَهُ الْحَدَّ , فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ أُتِيَ بِهِ مَرَّةً

فَأَمَرَ بِجِلْدِهِ فَلَعَنَهُ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . فَنَهَى عَنْ لَعْنِهِ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الشُّرْبِ لِكَوْنِهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ , مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً : { لَعَنَ الْخَمْرَ , وَعَاصِرَهَا , وَمُعْتَصِرَهَا , وَشَارِبَهَا , وَسَاقِيَهَا , وَحَامِلَهَا , وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ , وَبَائِعَهَا , وَمُبْتَاعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا } . وَلَكِنْ لَعْنُ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ لَعْنَ الْمُعَيَّنِ الَّذِي قَامَ بِهِ مَا يَمْنَعُ لُحُوقَ اللَّعْنَةِ لَهُ . وَكَذَلِكَ " التَّكْفِيرُ الْمُطْلَقُ " " وَالْوَعِيدُ الْمُطْلَقُ " . وَلِهَذَا كَانَ الْوَعِيدُ الْمُطْلَقُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَشْرُوطًا بِثُبُوتِ شُرُوطٍ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ . فَلَا يَلْحَقُ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا يَلْحَقُ مَنْ لَهُ حَسَنَاتٌ تَمْحُو سَيِّئَاتِهِ , وَلَا يَلْحَقُ الْمَشْفُوعَ لَهُ , وَالْمَغْفُورَ لَهُ ; فَإِنَّ الذُّنُوبَ تَزُولُ عُقُوبَتُهَا الَّتِي هِيَ جَهَنَّمُ بِأَسْبَابِ التَّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ - لَكِنَّهَا مِنْ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا - وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ فِي الْبَرْزَخِ مِنْ الشِّدَّةِ , وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ , وَتَزُولُ أَيْضًا بِدُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ : كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَشَفَاعَةِ الشَّفِيعِ الْمُطَاعِ , كَمَنْ يَشْفَعُ فِيهِ سَيِّدُ الشُّفَعَاءِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ ذَنْبٍ تَابَ مِنْهُ ارْتَفَعَ مُوجِبُهُ , وَمَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَلَهُ

حُكْمُ الذُّنُوبِ الَّتِي لَمْ يَتُبْ مِنْهَا , فَالشِّدَّةُ إذَا حَصَلَتْ بِذُنُوبٍ وَتَابَ مِنْ بَعْضِهَا خَفَّفَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا تَابَ مِنْهُ , بِخِلَافِ مَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ ; بِخِلَافِ صَاحِبِ التَّوْبَةِ الْعَامَّةِ . وَالنَّاسُ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ لَا يَتُوبُونَ تَوْبَةً عَامَّةً مَعَ حَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ فِي كُلِّ حَالٍ ; لِأَنَّهُ دَائِمًا يَظْهَرُ لَهُ مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ مَا اعْتَدَى فِيهِ مِنْ فِعْلِ مَحْظُورٍ , فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ دَائِمًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ فِي الْعُيُوبِ الْمُثْبَتَةِ لِلْفَسْخِ وَالِاسْتِحَاضَةُ عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ فَسْخُ النِّكَاحِ فِي أَظْهَرْ الْوَجْهَيْنِ وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا أَوْ بِهِ جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ فَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي فِي الرَّضَاعِ تَقْتَضِي أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ فِي الْحَالِ وَلَا يَنْتَظِرُ وَقْتَ إمْكَانِ الْوَطْءِ وَعَلَى قِيَاسِهِ الزَّوْجَةُ إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ عَقْلَاءَ أَوْ قَرْنَاءَ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ لَا فَسْخَ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ إمْكَانِ الْوَطْءِ فِي الْحَالِ وَإِذَا لَمْ يُقِرَّ بِالْعُنَّةِ وَلَمْ يُنْكِرْ أَوْ قَالَ لَسْت أَدْرِي أَعِنِّينٌ أَنَا أَمْ لَا . فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ أَنْكَرَ الْعُنَّةَ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَإِنَّ النُّكُولَ عَنْ الْجَوَابِ كَالنُّكُولِ عَنْ الْيَمِينِ فَإِنْ قُلْنَا يُحْبَسُ النَّاكِلُ عَنْ الْجَوَابِ فَالتَّأْجِيلُ أَيْسَرُ مِنْ الْحَبْسِ وَلَوْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِيمَا إذَا ادَّعَى الْوَطْءَ قَبْلَ التَّأْجِيلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَجَّلَ هُنَا كَمَا لَوْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِي الْعُنَّةِ , وَالسُّنَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي التَّأْجِيلِ هِيَ الْهِلَالِيَّةُ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ لَكِنَّ تَعْلِيلَهُمْ بِالْفُصُولِ يُوهِمُ خِلَافَ ذَلِكَ لَكِنْ مَا بَيْنَهُمَا مُتَقَارِبٌ وَيُتَخَرَّجُ إذَا عَلِمَتْ بِعُنَّتِهِ أَوْ اخْتَارَتْ الْمَقَامَ مَعَهُ عَلَى عُسْرَتِهِ هَلْ لَهَا الْفَسْخُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَلَوْ خَرَجَ هَذَا فِي جَمِيعِ الْعُيُوبِ لَتَوَجَّهَ وَتُرَدُّ الْمَرْأَةُ بِكُلِّ عَيْبٍ يُنَفِّرُ عَنْ كَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ وَلَوْ بَانَ الزَّوْجُ عَقِيمًا فَقِيَاسُ قَوْلِنَا بِثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمَرْأَةِ أَنَّ لَهَا حَقًّا فِي

الْوَلَدِ وَلِهَذَا قُلْنَا لَا يُعْزَلُ عَنْ الْحُرَّةِ إلَّا بِإِذْنِهَا وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِيه . وَرُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا وَتَعْلِيلُ أَصْحَابِنَا تَوَقُّفُ الْفَسْخِ عَلَى الْحَاكِمِ بِاخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ كُلُّ خِيَارٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ قَوْمُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحَاكِمِ فَخِيَارُ الْمُعْتَقَةِ يَجِبُ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَخِيَارُهَا بَعْدَ الثَّلَاثِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُمَا لَا يَتَوَقَّفَانِ عَلَى الْحَاكِمِ ثُمَّ خِيَارُ امْرَأَةِ الْمَجْبُوبِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْعُيُوبِ الَّتِي قَالَ : لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْحَاكِمِ وَلَا لِمَا يَعْنِي الِاعْتِذَارَ فَإِنَّ أَصْلَ خِيَارِ الْعَنَتِ الشَّرْطُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بِخِلَافِ أَصْلِ خِيَارِ الْمُعْتَقَةِ لِأَنَّ أَصْلَ خِيَارِ الْعَيْبِ ثُمَّ خِيَارَاتُ الْبَيْعِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْحَاكِمِ مَعَ الِاخْتِلَافِ وَالْوَاجِبُ أَوَّلًا التَّفْرِيقُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ ثُمَّ لَوْ عَلَّلَ بِخَفَاءِ الْفَسْخِ وَظُهُورِهِ فَإِنَّ الْعُيُوبَ وَفَوَاتَ الشَّرْطِ قَدْ تَخْفَى وَقَدْ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا بِخِلَافِ إعْتَاقِ السَّيِّدِ لَكَانَ أَوْلَى مِنْ تَعْلِيلِهِ بِالِاخْتِلَافِ . وَلَوْ قِيلَ بِأَنَّ الْفَسْخَ يَثْبُتُ بِتَرَاضِيهِمَا تَارَةً وَبِحُكْمِ الْحَاكِمِ أُخْرَى أَوْ بِمُجَرَّدِ فَسْخِ الْمُسْتَحِقِّ ثُمَّ الْآخَرُ إنْ أَمْضَاهُ وَإِلَّا أَمْضَاهُ الْحَاكِمُ لَتَوَجَّهَ وَهُوَ الْأَقْوَى وَمَتَى أَذِنَ الْحَاكِمُ أَوْ حَكَمَ لِأَحَدٍ بِاسْتِحْقَاقِ عَقْدٍ أَوْ فَسْخٍ مَأْذُونٍ لَمْ يَحْتَجْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى حُكْمٍ بِصِحَّتِهِ بِلَا نِزَاعٍ لَكِنْ لَوْ عَقَدَ

الْحَاكِمُ أَوْ فَسَخَ فَهُوَ فِعْلُهُ وَإِلَّا صَحَّ أَنَّهُ حَكَمَ وَإِذَا اُعْتُبِرَ تَفْرِيقُ الْحَاكِمِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْضِعِ حَاكِمٌ , فَالْأَشْبَهُ أَنَّ لَهَا الِامْتِنَاعَ , وَكَذَلِكَ تَمْلِكُ الِانْتِقَالَ مِنْ مَنْزِلِهِ , فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ الْفَسْخَ مَلَكَ الِامْتِنَاعَ مِنْ التَّسْلِيمِ وَيَنْبَغِي أَنْ تَمْلِكَ النَّفَقَةَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْهُ وَإِذَا أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ تَحْتَ عَبْدٍ ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ اتِّفَاقًا وَكَذَلِكَ تَحْتَ حُرٍّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا لِمِلْكِهَا رِفْقَهَا وَبُضْعَهَا وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهَا سَيِّدُهَا دَوَامَ النِّكَاحِ تَحْتَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ فَرَضِيَتْ لَزِمَهَا ذَلِكَ وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَقْتَضِيه فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْعِتْقُ بِشَرْطٍ . ذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ إذَا أَسْلَمَتْ الْأَمَةُ أَوْ ارْتَدَّتْ أَوْ أَرْضَعَتْ مَنْ يَفْسَخُ نِكَاحَهَا إرْضَاعُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ الْمَهْرُ وَجَعَلَهُ أَصْلًا قَائِمًا عَلَيْهِ مَا إذَا أَعْتَقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَاخْتَارَتْ الْفِرَاقَ مَعَهُ أَنَّ الْمَهْرَ يَسْقُطُ عَلَى رِوَايَةٍ لَنَا . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : وَالتَّنْصِيفُ فِي مَسْأَلَةِ الْإِسْلَامِ وَنَظَائِرِهَا أَوْلَى فَإِنَّهَا إنَّمَا فُسِخَتْ لِإِعْتَاقِهِ لَهَا فَالْإِعْتَاقُ سَبَبٌ لِلْفَسْخِ وَمَنْ أَتْلَفَ حَقَّهُ مُتَسَبِّبًا سَقَطَ وَإِنْ كَانَ الْمُبَاشِرُ غَيْرَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ السَّبَبُ وَالْمُبَاشَرَةُ مِنْ الْغَيْرِ فَإِذَا قِيلَ فِي مَسْأَلَةِ الْعِتْقِ بِالتَّنْصِيفِ فَالرِّدَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالرَّضَاعُ أَوْلَى بِلَا شَكٍّ وَإِذَا دَخَلَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19