كتاب : إقامة الدليل على إبطال التحليل
تأليف : شيخ الإسلام ابن تيمية

ثُلُثُهُ فَتَعْدِلُ ثُلُثَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ صَرِيحٌ فِي مَعْنَاهُ وَحَيْثُ قَالَ { جُزِّئَ الْقُرْآنُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَجَعَلَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } جُزْءًا مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ } فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ تَجَزَّأَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ وَإِنَّمَا هِيَ جُزْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ , وَهَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُجَرَّدُ الثَّوَابِ دُونَ السُّورَةِ , وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اُحْشُدُوا فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثُمَّ دَخَلَ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ وَإِنِّي لَأَرَى هَذَا خَبَرًا جَاءَهُ مِنْ السَّمَاءِ ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنِّي قُلْت سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ أَلَا وَإِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } . قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ , وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعْدِلُ يَدْخُلُ فِيهِ حُرُوفُهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ { أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ مِنْ السَّحَرِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَكَانَ الرَّجُلُ يَتَقَالُّهَا فَقَالَ النَّبِيُّ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } . وَهَذَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنْ يُقَالَ إمَّا أَنْ تَكُونَ أَقَمْت دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ قَدِيمًا وَاحِدًا لَيْسَ بِمُتَغَايِرٍ وَلَا مُخْتَلِفٍ أَوْ لَمْ تُقِمْ فَإِنْ لَمْ تُقِمْ بَطَلَ ذَلِكَ وَإِنْ أَقَمْت دَلِيلًا فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ نَظَرِيٌّ إذْ لَيْسَ مِنْ الْأُمُورِ الْبَدِيهِيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْعِلْمُ بِأَنَّ الْوَاحِدَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَغَايُرٌ وَلَا اخْتِلَافٌ لَا يَكُونُ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً وَلَا مَوْصُوفًا بِأَوْصَافٍ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ مُتَضَادَّةٍ هُوَ مِنْ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ , وَالضَّرُورِيُّ لَا يُعَارِضُهُ النَّظَرِيُّ لِأَنَّ الضَّرُورِيَّ أَصْلُهُ , فَالْقَدْحُ فِيهِ قَدْحٌ فِي أَصْلِهِ وَبُطْلَانُ أَصْلِهِ يُوجِبُ بُطْلَانَهُ فِي نَفْسِهِ , فَعُلِمَ أَنَّ مُعَارَضَةَ الضَّرُورِيِّ بِالنَّظَرِيِّ يُوجِبُ بُطْلَانَ النَّظَرِيِّ , وَإِذَا بَطَلَ النَّظَرِيُّ الْمُعَارِضُ لِهَذَا الضَّرُورِيِّ لَمْ يَكُنْ أَلْبَتَّةَ دَلِيلًا صَحِيحًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .

الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ : إنَّهُ يُقَالُ هَبْ أَنَّهُ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدًا كَمَا قُلْتُمْ إنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ وَاحِدًا , فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا وَقَدْ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ الرَّازِيّ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ أَنَّهُ إمَّا مُمْتَنِعٌ أَوْ مُتَوَقِّفٌ فِي إمْكَانِهِ فَقَالَ وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَوَّلَ فِيهِ عَلَى الْإِجْمَاعِ لِلْحِكَايَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ نَصًّا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ فَبَقِيَتْ الْمَسْأَلَةُ بِلَا دَلِيلٍ . الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالسَّبْعُونَ : أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ كَثِيرًا مَا يَزْعُمُونَ أَنَّ أَهْلَ الْإِثْبَاتِ يُضَاهُونَ النَّصَارَى , وَهَذَا يَقُولُونَهُ تَارَةً لِإِثْبَاتِهِمْ الصِّفَاتِ وَتَارَةً لِقَوْلِهِمْ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ أَنْزَلَهُ وَهُوَ فِي الْقُلُوبِ وَالْمَصَاحِفِ , وَالْجَهْمِيَّةُ هُمْ الْمُضَاهِئُونَ لِلنَّصَارَى فِيمَا كَفَّرَهُمْ اللَّهُ بِهِ لَا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ الَّذِينَ ثَبَّتَهُمْ اللَّهُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ . فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ الْوَجْهُ الثَّانِي الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْكَلَامِ فَإِنَّهُمْ تَارَةً يَقُولُونَ إذَا قُلْتُمْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ النَّصَارَى أَنَّ الْمَسِيحَ كَلِمَةُ اللَّهِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَتَارَةً

يَقُولُونَ إذَا قُلْتُمْ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي الصُّدُورِ وَالْمَصَاحِفِ فَقَدْ قُلْتُمْ بِقَوْلِ النَّصَارَى الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ الْكَلِمَةَ حَلَّتْ فِي الْمَسِيحِ وَتَدَرَّعَتْهُ وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي يَقُولُهُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى فِي النَّفْسِ وَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ إلَى الْأَرْضِ كَلَامًا لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْغَرَضُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ فَيُقَالُ لَهُمْ : أَمَّا أَنْتُمْ فَضَاهَيْتُمْ النَّصَارَى فِي نَفْسِ مَا هُوَ ضَلَالٌ مِمَّا خَالَفُوهُ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ وَكَفَّرَهُمْ اللَّهُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَذَلِكَ يَتَبَيَّنُ بِمَا ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَذْهَبِ النَّصَارَى فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : { وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ جَعْلُهُمْ وَلَدًا لِلَّهِ وَتَنْزِيهُ اللَّهِ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا ذَكَرَ قِصَّةَ مَرْيَمَ , ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا : { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ . مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . وَقَالَ : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا . لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا . تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا . أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا . وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ

وَلَدًا . إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا . لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا . وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } الْآيَةَ . فَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اُعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاَللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إلَهٍ إلَّا إلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . الْآيَاتِ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاَللَّهِ وَكِيلًا لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } الْآيَةَ . فَقَدْ ذَكَرَ كُفْرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ فِي آيَةٍ

وَنَهَى أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ ذَلِكَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَهَذَانِ مَوْضِعَانِ ذَكَرَ فِيهِمَا التَّثْلِيثَ عَنْهُمْ وَفِي مَوْضِعَيْنِ ذَكَرَ كُفْرَهُمْ بِقَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَأَمَّا ذِكْرُ الْوَلَدِ عَنْهُمْ فَكَثِيرٌ , وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ عَنْ النَّصَارَى هِيَ قَوْلُ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الْيَعْقُوبِيَّةُ وَهُمْ شَرُّهُمْ وَهُمْ السُّودَانُ مِنْ الْحَبَشَةِ , وَالْقِبْطُ ثُمَّ الْمَلْكَانِيَّةُ وَهُمْ أَهْلُ الشَّمَالِ مِنْ الشَّامِ وَالرُّومِ ثُمَّ النَّسْطُورِيَّةُ وَهُمْ نَشَئُوا فِي دَوْلَةِ الْمُسْلِمِينَ , مِنْ زَمَنِ الْمَأْمُونِ وَهُمْ قَلِيلٌ فَإِنَّ الْيَعْقُوبِيَّةَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ اتَّحَدَا وَامْتَزَجَا كَامْتِزَاجِ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالْخَمْرِ فَهُمَا جَوْهَرٌ وَاحِدٌ وَأُقْنُومٌ وَاحِدٌ وَطَبِيعَةٌ وَاحِدَةٌ فَصَارَ عَيْنُ النَّاسُوتِ عَيْنَ اللَّاهُوتِ وَأَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ عَيْنُ اللَّاهُوتِ , والملكانية تَزْعُمُ أَنَّهُمَا صَارَا جَوْهَرًا وَاحِدًا لَهُ أُقْنُومَانِ وَقِيلَ أُقْنُومٌ وَاحِدٌ لَهُ جَوْهَرَانِ والنسطورية يَقُولُونَ هُمَا جَوْهَرَانِ أُقْنُومَانِ وَإِنَّمَا اتَّحِدَا فِي الْمَشِيئَةِ وَهَذَانِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِالِاتِّحَادِ , وَأَمَّا الْقَوْلُ بِالْحُلُولِ فَمِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ كَأَبِي الْمَعَالِي مَنْ يَذْكُرُ الْخِلَافَ فِي فِرَقِهِمْ الثَّلَاثِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالِاتِّحَادِ بِالْمَسِيحِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْحُلُولِ فِيهِ فَيَقُولُ هَؤُلَاءِ مِنْ الطَّوَائِفِ الثَّلَاثَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْحُلُولِ وَأَنَّ اللَّاهُوتَ حَلَّ فِي النَّاسُوتِ

وَقَالُوا هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنْهُمْ فَهُمَا جَوْهَرَانِ وَطَبِيعَتَانِ وَأُقْنُومَانِ كَالْجَسَدِ وَالرُّوحِ وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِظُهُورِ اللَّاهُوتِ فِي النَّاسُوتِ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ يُرَى أَوْ لَا يُرَى أَوْ يَتَكَلَّمُ أَوْ لَا يَتَكَلَّمُ , فَهَذَا عِنْدَهُمْ لَيْسَ فِي الظُّهُورِ بِمَنْزِلَةِ ذَاكَ , فَوَافَقْتُمْ الْجَهْمِيَّةَ الْمُعْتَزِلَةَ وَغَيْرَهُمْ عَلَى مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ مِمَّا خَالَفْتُمُوهُمْ فِيهِ , وَمَعْلُومٌ اتِّفَاقُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا عَلَى تَضْلِيلِ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ , بَلْ قَدْ كَفَّرُوهُمْ وَقَالُوا فِيهِمْ مَا لَمْ يَقُولُوهُ فِي أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ , أَخْرَجُوهُمْ عَنْ الِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَقَالُوا : إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّةِ . فَكُنْتُمْ فِيمَا وَافَقْتُمْ فِيهِ الْجَهْمِيَّةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَمَا خَالَفْتُمُوهُمْ فِيهِ كَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ , وَلَكِنْ هُوَ إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْإِيمَانِ , وَأَوْجَبَ ذَلِكَ فَسَادَيْنِ عَظِيمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَسَلُّطُ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ عَلَيْكُمْ , فَإِنَّكُمْ لَمَّا وَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى هَذَا التَّعْطِيلِ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ إثْبَاتُكُمْ لِلرُّؤْيَةِ وَلِكَوْنِ الْقُرْآنِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ قَوْلًا بَاطِلًا فِي الْعَقْلِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ , وَانْفَرَدْتُمْ مِنْ جَمِيعِ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ بِمَا ابْتَدَعْتُمُوهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَالرُّؤْيَةِ , وَقَوِيَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِذَلِكَ

عَلَيْكُمْ وَعَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ . وَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ رَدَدْتُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ حَتَّى قِيلَ : إنَّ الْأَشْعَرِيَّ حَجَرَهُمْ فِي قِمَعِ السِّمْسِمَةِ فَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ بِمَا أَبْدَاهُ مِنْ تَنَاقُضِ أُصُولِهِمْ , فَإِنَّهُ كَانَ خَبِيرًا بِمَذَاهِبِهِمْ , إذْ كَانَ مِنْ تَلَامِذَةِ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ , وَقَرَأَ عَلَيْهِ أُصُولَ الْمُعْتَزِلَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً , ثُمَّ لَمَّا انْتَقِلْ إلَى طَرِيقَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بْنِ كِلَابٍ وَهِيَ أَقْرَبُ إلَى السُّنَّةِ مِنْ طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوَّ وَمُبَايِنَةَ اللَّهِ لِلْمَخْلُوقَاتِ , وَيَجْعَلُ الْعُلُوَّ يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ , فَكَانَ الْأَشْعَرِيُّ لِخِبْرَتِهِ بِأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ أَظْهَرَ مِنْ تَنَاقُضِهَا وَفَسَادِهَا مَا قَمَعَ بِهِ الْمُعْتَزِلَةَ , وَبِمَا أَظْهَرَهُ مِنْ تَنَاقُضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ , صَارَ لَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ وَالْقَدْرِ مَا صَارَ لَهُ , فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ , وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا . لَكِنَّ الْأَشْعَرِيَّ قَصُرَ عَنْ طَرِيقَةِ ابْنِ كِلَابٍ , وَأَنْتُمْ خَالَفْتُمْ ابْنَ كِلَابٍ وَالْأَشْعَرِيَّ فَنَفَيْتُمْ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ , وَنَفَيْتُمْ الْعُلُوَّ وَخِيَارُكُمْ يَجْعَلُهُ مِنْ الصِّفَاتِ السَّمْعِيَّةِ , مَعَ أَنَّ ابْنَ كِلَابٍ كَانَ مُبْتَدِعًا عِنْدَ السَّلَفِ بِمَا قَالَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ ؟ وَفِي إنْكَارِ الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِ اللَّهِ . ثُمَّ إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَإِنْ انْقَمَعُوا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّهُمْ

طَمِعُوا وَقَوُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِمُوَافَقَتِكُمْ لَهُمْ عَلَى أُصُولِ النَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ , فَصَارَ ذَلِكَ مَعْزِيًّا لِفُضَلَائِهِمْ بِلُزُومِ مَذْهَبِهِمْ , فَإِنَّ كُلَّ مَنْ فَهِمَ مَذْهَبَكُمْ الَّذِي خَالَفْتُمْ فِيهِ الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ قَوْلٌ فَاسِدٌ أَيْضًا , وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ فَاسِدًا وَنَشَأَ الْفَسَادُ . الثَّانِي : وَهُوَ أَنَّ الْفُضَلَاءَ إذَا تَدَبَّرُوا حَقِيقَةَ قَوْلِكُمْ الَّذِي أَظْهَرْتُمْ فِيهِ خِلَافَ الْمُعْتَزِلَةِ وَجَدُوكُمْ قَرِيبِينَ مِنْهُمْ أَوْ مُوَافِقِينَ لَهُمْ فِي الْمَعْنَى كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ فَإِنَّكُمْ تَتَظَاهَرُونَ بِإِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ تُفَسِّرُونَهَا بِمَا لَا يُنَازِعُ الْمُعْتَزِلَةَ فِي بَيَانِهِ , وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُضَلَاءِ فِي الْأَشْعَرِيِّ : إنَّ قَوْلَهُ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ التَّصْرِيحِ إلَى التَّمْوِيهِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُكُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَمَّا اشْتَهَرَ عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ , وَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى الْجَهْمِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ قَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ حَتَّى كَفَّرُوهُمْ , وَصَبَرَ الْأَئِمَّةُ عَلَى امْتِحَانِ الْجَهْمِيَّةِ مُدَّةَ اسْتِيلَائِهِمْ حَتَّى نَصَرَ اللَّهُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَأَطْفَأَ الْفِتْنَةَ فَتَظَاهَرْتُمْ بِالرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ , وَمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ , وَانْتَسَبْتُمْ إلَى أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ . وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ : فَأَنْتُمْ مُوَافِقُونَ

لِلْمُعْتَزِلَةِ مِنْ وَجْهٍ , وَمُخَالِفُوهُمْ مِنْ وَجْهٍ , وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ أَنْتُمْ وَهُمْ , فَأَنْتُمْ أَقْرَبُ إلَى السُّنَّةِ مِنْ وَجْهٍ , وَهُمْ أَقْرَبُ إلَى السُّنَّةِ مِنْ وَجْهٍ , وَقَوْلُهُمْ أَفْسَدُ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ مِنْ وَجْهٍ , وَقَوْلُكُمْ أَفْسَدُ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ مِنْ وَجْهٍ . ذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ قَالُوا : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ , وَالْمُتَكَلِّمُ مَنْ فِعْلِ الْكَلَامَ وَقَالُوا : إنَّ الْكَلَامَ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ , وَالْقُرْآنُ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَقَالُوا : الْكَلَامُ يَنْقَسِمُ إلَى أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَخَبَرٍ وَهَذِهِ أَنْوَاعُ الْكَلَامِ لَا صِفَاتُهُ , وَالْقُرْآنُ غَيْرُ التَّوْرَاةِ , وَالتَّوْرَاةُ غَيْرُ الْإِنْجِيلِ وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِمَا شَاءَ . وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ : إنَّ الْكَلَامَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَدِيمٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَهَذِهِ صِفَاتُ الْكَلَامِ لَا أَنْوَاعُهُ , فَإِنْ عُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً , وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ كَانَ إنْجِيلًا , وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا , وَالْحُرُوفُ الْمُؤَلَّفَةُ لَيْسَتْ مِنْ الْكَلَامِ , وَلَا هِيَ كَلَامٌ , وَالْكَلَامُ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ بَلْ حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ , كَمَا قَالَهُ ابْنُ كِلَابٍ , أَوْ عِبَارَةُ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ كَمَا قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ . وَلَا رَيْبَ أَنَّكُمْ خَيْرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ جَعَلْتُمْ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ

بِهِ الْكَلَامُ لَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْحَيَاةُ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِهِ , وَلَا قَادِرًا بِهَا , وَلَا حَيًّا بِهَا , وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْكَلَامُ مَخْلُوقًا فِي جِسْمٍ مِنْ الْأَجْسَامِ لَكَانَ ذَلِكَ الْجِسْمُ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ , فَكَانَتْ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةَ لِمُوسَى { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } فَهَذَا مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي مَحَلٍّ كَلَامًا لَهُ فَيَكُونُ إنْطَاقُهُ لِلْجُلُودِ كَلَامًا لَهُ بَلْ يَكُونُ إنْطَاقُهُ لِكُلِّ نَاطِقٍ كَلَامًا لَهُ , وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الِاتِّحَادِيَّةُ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ الْحُلُولِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ وُجُودَهُ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ , فَيَقُولُ قَائِلُهُمْ : وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ , سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنَظْمُهُ . لَكِنْ الْمُعْتَزِلَةُ أَجْوَدُ مِنْكُمْ حَيْثُ سَمَّوْا هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ كَلَامَ اللَّهِ , كَمَا يَقُولُهُ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ , وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ كَلَامًا مَجَازًا ; وَمَنْ جَعَلَهُ مِنْكُمْ حَقِيقَةً وَجَعَلَ الْكَلَامَ مُشْتَرَكًا كَأَبِي الْمَعَالِي وَأَتْبَاعِهِ اُنْتُقِضَتْ قَاعِدَتُهُ فِي أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِالْكَلَامِ مَنْ قَامَ بِهِ , وَلَمْ يُمْكِنْكُمْ أَنْ تَقُولُوا بِقَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ ; فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ : الْكَلَامُ كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا ; فَالرَّجُلُ إذَا بَلَّغَ

قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ , وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } كَانَ قَدْ بَلَّغَ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ ; وَكَذَلِكَ إذَا أَنْشَدَ شَعْرَ شَاعِرٍ كَامْرِئِ الْقَيْسِ أَوْ غَيْرِهِ , فَإِذَا قَالَ : قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ كَانَ هَذَا الشَّعْرُ شَعْرَ امْرِئِ الْقَيْسِ , وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ قَالَهُ بِحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ , وَهَذَا أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ النَّاسِ كُلِّهِمْ , يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ مُبْتَدِئًا آمِرًا بِأَمْرِهِ وَمُخْبِرًا بِخَبَرِهِ وَمُؤَلِّفًا حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ , وَغَيْرُهُ إذَا بَلَّغَهُ عَنْهُ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ لِلْمُبَلَّغِ عَنْهُ لَا لِلْمُبَلِّغِ . وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَهُ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَالْمُبَلَّغُ عَنْهُ , وَبَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْ الْأَوَّلِ وَسَمَاعِهِ مِنْ الثَّانِي ; وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْمُسْتَقِرِّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَسْمَعُونَهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْقَارِئَ يَقْرَؤُهُ بِصَوْتِهِ ; كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } ; فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي , وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ , وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْ يَجْعَلُ كَلَامَ الثَّانِي حِكَايَةً لِكَلَامِ الْأَوَّلِ . وَيُنَازِعُ الْمُعْتَزِلَةُ فِي الْحِكَايَةِ : هَلْ هِيَ الْمَحْكِيُّ كَمَا

يَقُولُ الْجُبَّائِيُّ , أَوْ غَيْرُهُ كَمَا يَقُولُ ابْنُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ الْحَاكِيَ لِكَلَامِ غَيْرِهِ لَيْسَ هُوَ الْمُبَلِّغَ لَهُ , فَإِنَّ الْحَاكِيَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَمَثِّلِ بِهِ الَّذِي يَقُولُهُ لِنَفْسِهِ مُوَافِقًا لِقَائِلِهِ الْأَوَّلِ , بِخِلَافِ الْمُبَلِّغِ لَهُ الَّذِي يَقْصِدُ أَنْ يُبَلِّغَ كَلَامَ الْغَيْرِ . وَلِلنِّيَّةِ تَأْثِيرٌ فِي مِثْلِ هَذَا , فَإِنَّ مَنْ قَالَ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } بِقَصْدِ الْقِرَاءَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ مَعَ الْجَنَابَةِ بِخِلَافِ مَنْ قَالَهَا بِقَصْدِ ذِكْرِ اللَّهِ . وَهَذَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّكُمْ لَمْ يُمْكِنْكُمْ أَنْ تَقُولُوا مَا يَقُولُهُ الْمُسْلِمُونَ لِأَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ وَنَظْمَهُ لَيْسَ هُوَ عِنْدَكُمْ كَلَامَ اللَّهِ , بَلْ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ مَخْلُوقٌ : إمَّا فِي الْهَوَاءِ وَإِمَّا فِي نَفْسِ , جِبْرِيلَ وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ ; فَاتَّفَقْتُمْ أَنْتُمْ وَالْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ وَنَظْمَهُ مَخْلُوقٌ , لَكِنْ قَالُوا هُمْ : ذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ , وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ : لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ ; وَمَنْ قَالَ مِنْكُمْ إنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ انْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ , فَصَارَتْ الْمُعْتَزِلَةُ خَيْرًا مِنْكُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ; وَهَذِهِ الْحُرُوفُ وَالنَّظْمُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ النَّاسُ هُوَ حِكَايَةُ تِلْكَ الْحُرُوفِ وَالنَّظْمِ الْمَخْلُوقِ عِنْدَكُمْ كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالذَّاتِ . وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ كِلَابٍ يَقُولُ : إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حِكَايَةٌ عَنْ الْمَعْنَى الْقَدِيمِ ,

فَخَالَفَهُ الْأَشْعَرِيُّ لِأَنَّ الْحِكَايَةَ تُشْبِهُ الْمَحْكِيَّ , وَهَذَا حُرُوفٌ , وَذَلِكَ مَعْنًى . وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ : بَلْ هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ , لِأَنَّ الْعِبَارَةَ لَا تُشْبِهُ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ . فَإِنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي نَقْرَؤُهُ فِيهِ حُرُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ , وَفِيهِ مَعَانٍ ; فَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِالْحُرُوفِ بِأَلْسِنَتِنَا , وَنَعْقِلُ الْمَعَانِي بِقُلُوبِنَا , وَنِسْبَةُ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِقُلُوبِنَا إلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ كَنِسْبَةِ الْحُرُوفِ الَّتِي نَنْطِقُ بِهَا إلَى الْحُرُوفِ الْمَخْلُوقَةِ عِنْدَكُمْ . فَإِنْ قُلْتُمْ : إنَّ هَذَا حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ , لَمْ يَصِحَّ , لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنًى مُجَرَّدٌ عِنْدَكُمْ وَهَذَا فِيهِ حُرُوفٌ وَمَعَانٍ . وَإِنْ قُلْتُمْ : إنَّهُ عِبَارَةٌ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ هِيَ اللَّفْظُ الَّذِي يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمَعْنَى , وَهُنَا حُرُوفٌ وَمَعَانٍ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْمَعْنَى الْقَدِيمِ عِنْدَكُمْ . وَإِنْ قُلْتُمْ : هَذِهِ الْحُرُوفُ وَحْدَهَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْنَى بَقِيَتْ الْمَعَانِي الْقَائِمَةُ بِقُلُوبِنَا , وَبَقِيَتْ الْحُرُوفُ الَّتِي عَبَّرَ بِهَا أَوَّلًا عَنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالذَّاتِ الَّتِي هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ نَظِيرُهَا عِنْدَكُمْ , لَمْ تُدْخِلُوهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ , فَالْمُعْتَزِلَةُ فِي قَوْلِهَا بِالْحِكَايَةِ أَسْعَدُ مِنْكُمْ فِي قَوْلِكُمْ بِالْحِكَايَةِ وَبِالْعِبَارَةِ . وَأَصْلُ هَذَا الْخَطَإِ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ قَالُوا : إنَّ الْقُرْآنَ , بَلْ كُلُّ كَلَامٍ , هُوَ مُجَرَّدُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ ; وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ : بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ

الْمَعَانِي . وَمِنْ الْمَعْلُومِ عِنْدَ الْأُمَمِ أَنَّ الْكَلَامَ اسْمٌ لِلْحُرُوفِ وَلِلْمَعَانِي , وَلِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا ; كَمَا أَنَّ اسْمَ الْإِنْسَانِ اسْمٌ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ , وَإِنْ سُمِّيَ الْمَعْنَى وَحْدَهُ حَدِيثًا أَوْ كَلَامًا , أَوْ الْحُرُوفُ وَحْدَهَا حُرُوفًا أَوْ كَلَامًا فَعِنْدَ التَّقْيِيدِ وَالْقَرِينَةِ . وَهَذَا مِمَّا اسْتَطَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَيْكُمْ بِهِ حَيْثُ أَخْرَجْتُمْ الْحُرُوفَ الْمُؤَلَّفَةَ عَنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْكَلَامِ , فَإِنَّ هَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْكُمْ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ : وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ } قَالَ لَهُ مُعَاذٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ قَالَ : { ثَكِلَتْك أُمُّك يَا مُعَاذُ , وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ } ؟ وَشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيرَةٌ . ثُمَّ إنَّكُمْ جَعَلْتُمْ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ مَعْنًى وَاحِدًا مُفْرَدًا وَهُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ , وَالْخَبَرُ عَنْ كُلِّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ ; وَهَذَا مِمَّا اشْتَدَّ إنْكَارُ الْعُقَلَاءِ عَلَيْكُمْ فِيهِ , وَقَالُوا إنَّ هَذَا مِنْ السَّفْسَطَةِ الْمُخَالِفَةِ لِصَرَائِحِ الْمَعْقُولِ . وَأَنْتُمْ تُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِحُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا قُلْتُمُوهُ أَبْعَدُ عَنْ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ مِنْ هَذَا ; وَإِنْ كَانَ الْعُقَلَاءُ قَدْ أَنْكَرُوا هَذَا أَيْضًا , لَكِنْ قَوْلُكُمْ أَشَدُّ نُكْرَةً ;

بَلْ قَوْلُكُمْ أَبْعَدُ مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى الَّذِينَ يَقُولُونَ بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ إلَهٌ وَاحِدٌ . ثُمَّ أَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ : إنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ هُوَ الْقُرْآنَ , وَبِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ هُوَ التَّوْرَاةَ , وَبِالسِّرْيَانِيَّ ة كَانَ هُوَ الْإِنْجِيلَ ; وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنَّ التَّوْرَاةَ إذَا عُرِّبَتْ لَمْ تَكُنْ مَعَانِيهَا مَعَانِيَ الْقُرْآنِ , وَإِنَّ الْقُرْآنَ إذَا تُرْجِمَ بِالْعِبْرِيَّةِ لَمْ تَكُنْ مَعَانِيهِ مَعَانِي التَّوْرَاةِ . ثُمَّ إنَّ مِنْكُمْ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى يُسْمَعُ ; وَمِنْكُمْ مَنْ قَالَ لَا يُسْمَعُ . وَجَعَلْتُمْ تَكْلِيمَ اللَّهِ لِمُوسَى مِنْ جِنْسِ الْإِلْهَامِ الَّذِي يُلْهِمُ غَيْرَهُ حَيْثُ قُلْتُمْ : خَلَقَ فِي نَفْسِهِ لَطِيفَةً أَدْرَكَ بِهَا الْكَلَامَ الْقَائِمَ بِالذَّاتِ ; وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْك كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْك مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْك وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } فَفَرَّقَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ إيحَائِهِ إلَى غَيْرِ مُوسَى , وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } فَفَرَّقَ بَيْنَ إيحَائِهِ - سُبْحَانَهُ - وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ .

وَالْأَحَادِيثُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْصِيصِ مُوسَى بِتَكْلِيمِ اللَّهِ إيَّاهُ دُونَ إبْرَاهِيمَ وَعِيسَى وَنَحْوِهِمَا ; وَعَلَى قَوْلِكُمْ : لَا فَرْقَ , بَلْ قَدْ زَعَمَ مَنْ زَعَمَ مِنْ أَئِمَّتِكُمْ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ . فَمَنْ حَصَلَ لَهُ إلْهَامٌ فِي قَلْبِهِ جَعَلْتُمُوهُ قَدْ كَلَّمَهُ اللَّهُ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَمْ يَصِلُوا فِي الْإِلْحَادِ إلَى هَذَا الْحَدِّ , بَلْ مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ خَصَّ مُوسَى بِأَنْ خَلَقَ كَلَامًا فِي الْهَوَاءِ سَمِعَهُ , كَانَ أَقَلَّ بِدْعَةً مِمَّنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمْهُ إلَّا بِأَنْ أَفْهَمَهُ مَعْنًى أَرَادَهُ . بَلْ هَذَا قَرِيبٌ إلَى قَوْلِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ إلَّا مَا فِي النُّفُوسِ , وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى مِنْ سَمَاءِ عَقْلِهِ , لَكِنْ يُفَارِقُونَهَا بِإِثْبَاتِ الْمَعْنَى الْقَدِيمِ الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ أَيْضًا . فَجَعَلْتُمْ ثُبُوتَ الْقُرْآنِ فِي الْمَصَاحِفِ مِثْلَ ثُبُوتِ اللَّهِ فِيهَا , وَقُلْتُمْ : قَوْله تَعَالَى : { إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى : { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ } , وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي التَّوْرَاةِ هُوَ اسْمُهُ , وَأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَكْتُبُ فِي الْمُصْحَفِ اسْمَهُ فَأَسْمَاؤُهُ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِهِ , لَا أَنَّ ذَاتَهُ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِهِ . وَالشَّيْءُ لِوُجُودِهِ أَرْبَعَةٌ مَرَاتِبَ : وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ , وَوُجُودٌ فِي

الْأَذْهَانِ , وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ , وَوُجُودٌ فِي الْبَنَانِ , فَالْأَعْيَانُ لَهَا الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى , ثُمَّ يُعْلَمُ بِالْقُلُوبِ , ثُمَّ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللَّفْظِ ثُمَّ يُكْتَبُ اللَّفْظُ ; وَأَمَّا الْكَلَامُ فَلَهُ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ , وَهُوَ الَّذِي يُكْتَبُ فِي الْمُصْحَفِ . فَأَيْنَ قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الْكَلَامَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ إنَّ الْمُتَكَلِّمَ فِي الْكِتَابِ , وَبَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الْقَدَمِ وَالْفَرْقِ ثُمَّ إنَّ مِنْكُمْ مَنْ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } , وَجَعَلَ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْعِبَارَةَ , وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ فَهُوَ أَفْسَدُ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ , فَإِنَّهُ إنْ كَانَ أُضِيفَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ حُرُوفَهُ , فَقَدْ أَضَافَهُ فِي مَوْضِعٍ إلَى رَسُولٍ هُوَ جِبْرِيلُ , وَفِي مَوْضِعٍ إلَى رَسُولٍ هُوَ مُحَمَّدٌ , قَالَ فِي مَوْضِعٍ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : { إنَّهُ لَقَوْلِ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ عِبَارَتَهَا إنْ أَحْدَثَهَا جِبْرِيلُ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ أَحْدَثَهَا , وَإِنْ أَحْدَثَهَا مُحَمَّدٌ لَمْ يَكُنْ جِبْرِيلُ أَحْدَثَهَا ; فَبَطَلَ قَوْلُكُمْ وَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ لِكَوْنِهِ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ لَا لِأَنَّهُ أَحْدَثَهُ وَابْتَدَأَهُ , وَلِهَذَا قَالَ لَقَوْلُ رَسُولٍ , وَلَمْ يَقُلْ لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ , فَذَكَرَ اسْمَ الرَّسُولِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا

قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبِّك } . { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْسِمِ , وَيَقُولُ : أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي , فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَا تَقُولُ إنَّ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ أَحْدَثَهُ لَا جِبْرِيلُ وَلَا مُحَمَّدٌ , وَلَكِنْ يَقُولُونَ إنَّ تِلَاوَتَهُمَا لَهُ كَتِلَاوَتِنَا لَهُ ; وَإِنْ قُلْتُمْ أَضَافَهُ إلَى أَحَدِهِمَا لِكَوْنِهِ تَلَاهُ بِحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ , فَيَجِبُ حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْقُرْآنَ قَوْلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ , وَطَاهِرٍ وَجُنُبٍ , حَتَّى إذَا قَرَأَهُ الْكَافِرُ يَكُونُ الْقُرْآنُ قَوْلًا لَهُ عَلَى قَوْلِكُمْ ; فَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } كَلَامٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ , إذْ هُوَ عَلَى أَصْلِكُمْ قَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَقَوْلُ فَاجِرٍ لَئِيمٍ . وَكَذَلِكَ احْتَجَّ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } وَقَالُوا إنَّ اللَّهَ أَحْدَثَهُ فِي الْهَوَاءِ , فَاحْتَجَّ مَنْ احْتَجَّ مِنْكُمْ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ مُحْدَثٌ , وَلَكِنْ زَادَ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ بِأَنَّ الْمُحْدِثَ لَهُ إمَّا جِبْرِيلُ وَإِمَّا مُحَمَّدٌ . وَإِنْ قُلْتُمْ : إنَّهُ مُحْدَثٌ فِي الْهَوَاءِ صِرْتُمْ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَقَضْتُمْ اسْتِدْلَالَكُمْ بِقَوْلِهِ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } , وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَنْ اسْتَدَلَّ مِنْ أَئِمَّتِكُمْ عَلَى قَوْلِكُمْ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِقَوْلِهِ : {

إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } , وَقَوْلِهِ : { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَحْدَثَهُ بَطَلَ اسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِ : { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } , فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ أَحْدَثَهُ بَطَلَ بِإِضَافَتِهِ إلَى الرَّسُولِ الْآخَرِ , وَكُنْتُمْ شَرًّا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ قَالُوا : أَحْدَثَهُ اللَّهُ , وَإِنْ قُلْتُمْ : أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَلَاهُ فَقَدْ أَحْدَثَهُ فَقَدْ جَعَلْتُمُوهُ قَوْلًا لِكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ النَّاسِ بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ , وَكَانَ مَا يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَسْمَعُونَهُ كَلَامَ النَّاسِ عِنْدَكُمْ لَا كَلَامَ اللَّهِ . ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّك بِالْحَقِّ } , فَأَخْبَرَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَّلَهُ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ هَوَاءٍ وَلَا مِنْ لَوْحٍ , وَقَالَ : { وَاَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّك بِالْحَقِّ } , وَقَالَ : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } , { حم تَنْزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } , وَأَنْتُمْ وَافَقْتُمْ الْمُعْتَزِلَةُ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَكُمْ مُنَزَّلًا مِنْ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ , وَلَوْ كَانَ فَوْقَ الْعَالَمِ لَمْ يَكُنْ الْقُرْآنُ مُنَزَّلًا مِنْهُ بَلْ مِنْ الْهَوَاءِ . وَأَيْضًا فَأَنْتُمْ فِي مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ قَابَلْتُمْ الْمُعْتَزِلَةَ تَقَابُلَ التَّضَادِّ حَتَّى رَدَدْتُمْ

بِدْعَتَهُمْ بِبِدَعٍ تَكَادُ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهَا , بَلْ هِيَ مِنْ وَجْهٍ مِنْهَا وَمِنْ وَجْهٍ دُونَهَا , فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ جَعَلُوا الْإِيمَانَ اسْمًا مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . وَقَالُوا : إنَّ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا وَلَا كَافِرًا , وَقَالُوا : إنَّ الْفُسَّاقَ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِشَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهِ , وَهُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ مُخَالِفُونَ لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ , فَخِلَافُهُمْ فِي الْحُكْمِ لِلسَّلَفِ , وَأَنْتُمْ وَافَقْتُمْ الْجَهْمِيَّةَ فِي الْإِرْجَاءِ وَالْجَبْرِ فَقُلْتُمْ : الْإِيمَانُ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ , وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ , وَهَذَا عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّة شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ . ثُمَّ إنَّكُمْ قُلْتُمْ : إنَّا لَا نَعْلَمُ هَلْ يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ النَّارَ أَوْ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ فَوَقَفْتُمْ وَشَكَكْتُمْ فِي نُفُوذِ الْوَعِيدِ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ جُمْلَةً , وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . فَإِنَّهُمْ لَا يَتَنَازَعُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَهَا مَنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَأُولَئِكَ قَالُوا : لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَهَا كُلُّ فَاسِقٍ , وَأَنْتُمْ قُلْتُمْ : لَا نَعْلَمُ هَلْ يَدْخُلُهَا فَاسِقٌ أَمْ لَا , فَتَقَابَلْتُمْ فِي هَذِهِ الْبِدْعَةِ , وَقَوْلُكُمْ أَعْظَمُ بِدْعَةً مِنْ قَوْلِهِمْ , وَأَعْظَمُ مُخَالَفَةً لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . وَعَلَى قَوْلِكُمْ : لَا نَعْلَمُ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ النَّارِ ,

لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ هَلْ يَدْخُلُهَا أَمْ لَا , وَقَوْلُكُمْ إلَى إفْسَادِ الشَّرِيعَةِ أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ . وَكَذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَالِقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ , أَوْ مُرِيدًا لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ , بَلْ الْإِرَادَةُ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا , وَهُوَ لَا يُحِبُّ وَيَرْضَى إلَّا مَا أَمَرَ بِهِ فَلَا يُرِيدُ إلَّا مَا أَمَرَ بِهِ , وَأَنْتُمْ وَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى أَصْلِهِمْ الْفَاسِدِ , وَقَاسَمْتُمُوهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الضَّلَالَ , فَصِرْتُمْ وَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ , وَقُلْتُمْ : إنَّ الْإِرَادَةَ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا كَمَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ , لَكِنْ قُلْتُمْ وَهُوَ أَرَادَ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ الْعِبَادُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا رَاضِيًا لِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ الْعِبَادُ حَتَّى الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ . وَتَأَوَّلْتُمْ قَوْلَهُ : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ , وَعَلَى قَوْلِكُمْ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْإِيمَانَ يَعْنِي الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ , إذْ عِنْدَكُمْ كُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا فَقَدْ رَضِيَهُ مِنْهُ , وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَا يَرْضَاهُ مِنْهُ فَقَدْ رَضِيَ عِنْدَكُمْ مِنْ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَنَحْوِهِمَا كُفْرَهُمْ وَلَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ الْإِيمَانَ . وَكَذَلِكَ قُلْتُمْ فِي قَوْلِهِ : { لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } أَيْ لَا يُحِبُّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ , وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْكُمْ لَا يُحِبُّهُ دِينًا

أَوْ لَا يَرْضَاهُ دِينًا , فَهَذَا أَقْرَبُ لَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكُمْ لَا يُرِيدُهُ دِينًا وَلَا يَشَاؤُهُ دِينًا فَيَجُوزُ عِنْدَكُمْ أَنْ يُقَالَ يُحِبُّ الْفَسَادَ وَيَرْضَاهُ , أَيْ يُحِبُّهُ فَسَادًا وَيَرْضَاهُ فَسَادًا كَمَا أَرَادَهُ فَسَادًا . وَأَنْكَرْتُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ مَا أَنْكَرَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُمْ : إنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ بِالْكُفَّارِ غَيْرَ مَا فَعَلَ بِهِمْ مِنْ اللُّطْفِ . وَأَنْكَرْتُمْ عَلَى مَنْ قَالَ مِنْهُمْ إنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ غَيْرُ مَقْدُورٍ , ثُمَّ قُلْتُمْ : إنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ مَا عُلِمَ مِنْهُ , وَأَنَّهُ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ إلَّا إذَا كَانَ فَاعِلًا فَقَطْ , فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَإِنَّهُ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ أَصْلًا فَخَالَفْتُمْ قَوْله تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ , وَلَزِمَكُمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْإِيمَانِ , وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ طَاعَةَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا لَهَا فَإِنْ ضَمَّ ضَامٌّ هَذَا إلَى قَوْله تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } , وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } تَرَكَّبَ مِنْ هَذَيْنِ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ وَفَاجِرٍ , فَإِنَّهُ قَدْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ , وَأَنَّهُ قَدْ أَتَى فِيمَا أُمِرَ بِهِ بِمَا اسْتَطَاعَ إذْ لَمْ يَسْتَطِعْ غَيْرَ مَا فَعَلَ , وَأَنْتُمْ لَا تَلْتَزِمُونَ ذَلِكَ فَهُوَ لَازِمُ قَوْلِكُمْ إذَا لَمْ تَجْعَلُوا الِاسْتِطَاعَةَ

نَوْعَيْنِ . وَقَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ اسْتِطَاعَةَ الْعَبْدِ صَالِحَةً لِلنَّوْعَيْنِ وَلَا يُثْبِتُونَ الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَقْرَبُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالشَّرِيعَةِ مِنْ قَوْلِكُمْ أَنَّهُ لَا اسْتِطَاعَةَ إلَّا لِلْفَاعِلِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فِعْلًا , فَلَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ عَلَيْهِ وَكُلُّ مَنْ تَدَبَّرَ الْقَوْلَيْنِ بِغَيْرِ هَوًى عَلِمَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِنْ خِلَافِ السُّنَّةِ مَا فِيهِ , فَقَوْلُكُمْ أَكْثَرُ خِلَافًا لِلسُّنَّةِ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْحَرُورِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْمُرْجِئَةِ , فَعَرِّفُونَا قَوْلَكُمْ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ , وَدِيَانَتَكُمْ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ . قِيلَ لَهُ : قَوْلُنَا الَّذِي بِهِ نَقُولُ , وَدِيَانَتُنَا الَّتِي بِهَا نَدِينُ التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ . وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَنَحْنُ بِذَلِكَ مُعْتَصِمُونَ , وَبِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَرَفَعَ دَرَجَتَهُ وَأَجْزَلَ مَثُوبَتَهُ قَائِلُونَ , وَلِمَنْ خَالَفَ قَوْلَهُ مُجَانِبُونَ , لِأَنَّهُ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ وَالرَّئِيسُ الْكَامِلُ الَّذِي أَبَانَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ عِنْدَ ظُهُورِ الضَّلَالِ وَأَوْضَحَ بِهِ الْمِنْهَاجَ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِّينَ , فَرَحْمَةُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ إمَامٍ مُقَدَّمٍ وَكَبِيرٍ مُفَهِّمٍ , وَعَلَى جَمِيعِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَجُمْلَةُ قَوْلِنَا : أَنَّا نُقِرُّ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ , وَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ لَا نَرُدُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا , وَأَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَرْدٌ صَمَدٌ لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا , وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ , وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ , وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا , وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ , وَأَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَأَنَّ لَهُ

وَجْهًا كَمَا قَالَ : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ كَمَا قَالَ : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } وَقَالَ : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وَأَنَّ لَهُ عَيْنَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ : { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } وَأَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اسْمَ اللَّهِ غَيْرُهُ كَانَ ضَالًّا . وَأَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا كَمَا قَالَ : { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } وَقَالَ : { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إلَّا بِعِلْمِهِ } وَنُثْبِتُ لَهُ قُوَّةً كَمَا قَالَ : { أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } وَنُثْبِتُ لِلَّهِ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَلَا نَنْفِي ذَلِكَ كَمَا نَفَاهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّةُ وَالْخَوَارِجُ . وَنَقُولُ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا إلَّا وَقَدْ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ كَمَا قَالَ : { إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ , وَأَنَّ الْأَشْيَاءَ تَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ , وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ اللَّهُ , وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْ اللَّهِ وَلَا نَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ , وَأَنَّهُ لَا خَالِقَ إلَّا اللَّهُ , وَأَنَّ أَعْمَالَ عِبَادِ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ مَقْدُورَةٌ لَهُ كَمَا قَالَ : { وَاَللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } وَأَنَّ الْعِبَادَ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَخْلُقُوا شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ كَمَا قَالَ : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ } وَكَمَا قَالَ : { لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ

} وَكَمَا قَالَ : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ } وَكَمَا قَالَ : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ } وَهَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ كَثِيرٌ . وَأَنَّ اللَّهَ وَفَّقَ الْمُؤْمِنِينَ لِطَاعَتِهِ وَلَطَفَ بِهِمْ وَنَظَرَ لَهُمْ وَأَصْلَحَهُمْ وَهَدَاهُمْ وَأَضَلَّ الْكَافِرِينَ وَلَمْ يَهْدِهِمْ وَلَمْ يَلْطُفْ بِهِمْ بِالْإِيمَانِ كَمَا زَعَمَ أَهْلُ الزَّيْغِ وَالطُّغْيَانِ , وَلَوْ لَطَفَ بِهِمْ وَأَصْلَحَهُمْ كَانُوا صَالِحِينَ , وَلَوْ هَدَاهُمْ كَانُوا مُهْتَدِينَ كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ } , وَأَنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ أَنْ يُصْلِحَ الْكَافِرِينَ وَيَلْطُفَ بِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ , وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونُوا كَافِرِينَ كَمَا عَلِمَ وَأَنَّهُ خَذَلَهُمْ وَطَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ , وَأَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ , وَأَنَّا نُؤْمِنُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ , خَيْرِهِ وَشَرِّهِ , وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ , وَنَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَنَا لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَنَا وَمَا أَخْطَأَنَا لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَنَا , وَأَنَّا لَا نَمْلِكُ لِأَنْفُسِنَا نَفْعًا وَلَا ضُرًّا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ , وَأَنَّا نُلْجِئُ أُمُورَنَا إلَى اللَّهِ وَنُثْبِتُ الْحَاجَةَ وَالْفَقْرَ فِي كُلِّ وَقْتٍ إلَيْهِ . وَنَقُولُ : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ كَانَ كَافِرًا , وَنَدِينُ أَنَّ اللَّهَ يُرَى بِالْأَبْصَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يُرَى الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ , وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا جَاءَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ . وَنَقُولُ :

إنَّ الْكَافِرِينَ , إذَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ , عَنْهُ مَحْجُوبُونَ , كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { كَلًّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } , وَأَنَّ مُوسَى سَأَلَ اللَّهَ الرُّؤْيَةَ فِي الدُّنْيَا , وَأَنَّ اللَّهَ تَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَجَعَلَهُ دَكًّا فَعَلِمَ بِذَلِكَ مُوسَى أَنَّهُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا . وَنَرَى أَنْ لَا نُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ يَرْتَكِبُهُ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ , وَشُرْبِ الْخَمْرِ , كَمَا دَانَتْ بِذَلِكَ الْخَوَارِجُ , وَزَعَمُوا بِذَلِكَ أَنَّهُمْ كَافِرُونَ , وَنَقُولُ : إنَّ مَنْ عَمِلَ كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ وَمَا أَشْبَهَهَا مُسْتَحِلًّا لَهَا كَانَ كَافِرًا , إذَا كَانَ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِتَحْرِيمِهَا . وَنَقُولُ : إنَّ الْإِسْلَامَ أَوْسَعُ مِنْ الْإِيمَانِ , وَلَيْسَ كُلُّ إسْلَامٍ إيمَانًا وَنَدِينُ بِأَنَّهُ يُقَلِّبُ الْقُلُوبَ , وَأَنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ وَأَنَّهُ يَضَعُ السَّمَوَاتِ عَلَى أُصْبُعٍ وَالْأَرَضِينَ عَلَى أُصْبُعٍ كَمَا جَاءَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ . وَنَدِينُ بِأَنْ لَا نُنْزِلَ أَحَدًا مِنْ الْمُوَحِّدِينَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِالْإِيمَانِ جَنَّةً وَلَا نَارًا إلَّا مَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ بِالْجَنَّةِ , وَنَرْجُو الْجَنَّةَ لِلْمُذْنِبِينَ وَنَخَافُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا بِالنَّارِ مُعَذَّبِينَ , وَنَقُولُ بِأَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْ النَّارِ قَوْمًا بَعْدَ مَا امْتُحِشُوا بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ . وَنُؤْمِنُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ . وَنَقُولُ : إنَّ الْحَوْضَ وَالْمِيزَانَ حَقٌّ , وَالصِّرَاطَ حَقٌّ , وَالْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ حَقٌّ , وَأَنَّ اللَّهَ يُوقِفُ الْعِبَادَ بِالْمَوْقِفِ وَيُحَاسِبُ

الْمُؤْمِنِينَ , وَأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ , وَنُسَلِّمُ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ الَّتِي رَوَاهَا الثِّقَاتُ عَدْلٌ عَنْ عَدْلٍ حَتَّى تَنْتَهِيَ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ , وَنَدِينُ اللَّهَ بِحُبِّ السَّلَفِ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَنُثْنِي عَلَيْهِمْ بِمَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَنَتَوَلَّاهُمْ . وَنَقُولُ : إنَّ الْإِمَامَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ , وَأَنَّ اللَّهَ أَعَزَّ بِهِ الدِّينَ وَأَظْهَرَهُ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ , وَقَدَّمَهُ الْمُسْلِمُونَ لِلْإِمَامَةِ كَمَا قَدَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ لِلصَّلَاةِ ; ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; ثُمَّ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ , قَتَلَهُ قَاتِلُوهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا , ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; فَهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ . وَخِلَافَتُهُمْ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ . وَنَشْهَدُ لِلْعَشَرَةِ بِالْجَنَّةِ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ . وَنَتَوَلَّى أَصْحَابَ النَّبِيِّ . وَنَكُفُّ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ , وَنَدِينُ اللَّهَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ رَاشِدُونَ مَهْدِيُّونَ فَضْلًا لَا يُوَازِنُهُمْ فِي الْفَضْلِ غَيْرُهُمْ . وَنُصَدِّقُ بِجَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي يُثْبِتُهَا أَهْلُ النَّقْلِ مِنْ النُّزُولِ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّ الرَّبَّ يَقُولُ : هَلْ مِنْ سَائِلٍ , هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ , وَسَائِرِ مَا نَقَلُوهُ وَأَثْبَتُوهُ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ أَهْلُ الزَّيْغِ وَالتَّضْلِيلِ , وَنَقُولُ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ

رَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ , وَلَا نَبْتَدِعُ فِي دِينِ اللَّهِ بِدْعَةً لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهَا , وَلَا نَقُولُ عَلَى اللَّهِ مَا لَا نَعْلَمُ . وَنَقُولُ : إنَّ اللَّهَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ : { وَجَاءَ رَبُّك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } وَإِنَّ اللَّهَ يَقْرُبُ مِنْ عِبَادِهِ كَيْفَ شَاءَ كَمَا قَالَ : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } وَكَمَا قَالَ : { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } وَمِنْ دِينِنَا نُصَلِّي الْجُمَعَ وَالْأَعْيَادَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَغَيْرِهِ , وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ الْجَمَاعَاتِ , كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ , وَأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ , خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ , وَنَرَى الدُّعَاءَ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّلَاحِ وَالْإِقْرَارِ بِإِمَامَتِهِمْ , وَتَضْلِيلَ مَنْ رَأَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ إذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ تَرْكُ الِاسْتِقَامَةِ , وَنَدِينُ بِتَرْكِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ وَتَرْكِ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ . وَنُقِرُّ بِخُرُوجِ الدَّجَّالِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ . وَنُؤْمِنُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ وَمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَمُسَاءَلَتِهِمْ الْمَدْفُونِينَ فِي قُبُورِهِمْ , وَنُصَدِّقُ بِحَدِيثِ الْمِعْرَاجِ وَنُصَحِّحُ كَثِيرًا مِنْ الرُّؤْيَا فِي الْمَنَامِ , وَنَقُولُ : إنَّ ذَلِكَ تَفْسِيرٌ , وَنَرَى الصَّدَقَةَ عَنْ مَوْتَى الْمُؤْمِنِينَ وَالدُّعَاءَ لَهُمْ , وَنُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ يَنْفَعُهُمْ بِذَلِكَ , وَنُصَدِّقُ بِأَنَّ فِي الدُّنْيَا سَحَرَةً وَأَنَّ السِّحْرَ مَوْجُودٌ

فِي الدُّنْيَا , وَنَدِينُ بِالصَّلَاةِ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُؤْمِنِهِمْ وَفَاجِرِهِمْ وَمُوَارَثَتَهُمْ , وَنُقِرُّ أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ , وَأَنَّ مَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَبِأَجَلِهِ مَاتَ أَوْ قُتِلَ , وَأَنَّ الْأَرْزَاقَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ يَرْزُقُهَا عِبَادَهُ حَلَالًا وَحَرَامًا , وَأَنَّ الشَّيْطَانَ يُوَسْوِسُ لِلْإِنْسَانِ وَيُشَكِّكُهُ وَيَخْبِطُهُ , خِلَافًا لِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } , وَكَمَا قَالَ : { مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } وَنَقُولُ : إنَّ الصَّالِحِينَ يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّهُمْ اللَّهُ بِآيَاتٍ يُظْهِرُهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ . وَقَوْلُنَا فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ : إنَّ اللَّهَ يُؤَجِّجُ لَهُمْ نَارًا فِي الْآخِرَةِ , ثُمَّ يَقُولُ اقْتَحِمُوهَا كَمَا جَاءَتْ الرِّوَايَةُ بِذَلِكَ ; وَنَدِينُ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا الْعِبَادُ عَامِلُونَ وَإِلَى مَا هُمْ صَائِرُونَ , وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ , وَبِطَاعَةِ الْأَئِمَّةِ وَنَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَنَرَى مُفَارَقَةَ كُلِّ دَاعِيَةٍ وَمُجَانَبَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ , وَسَنَحْتَجُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِنَا وَمَا بَقِيَ مِنْهُ وَمَا لَمْ نَذْكُرْهُ بَابًا بَابًا وَشَيْئًا شَيْئًا . ثُمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَتَأَمَّلُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ هَذَا الِاعْتِقَادَ مَا أَوْضَحَهُ وَأَبَيْنَهُ , وَاعْتَرِفُوا بِفَضْلِ هَذَا الْإِمَامِ

الْعَالِمِ الَّذِي شَرَحَهُ وَبَيَّنَهُ , وَانْظُرُوا سُهُولَةَ لَفْظِهِ فَمَا أَفْصَحَهُ وَأَبَيْنَهُ , وَكُونُوا مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } , وَتَبَيَّنُوا فَضْلَ أَبِي الْحَسَنِ وَاعْرِفُوا إنْصَافَهُ , وَاسْمَعُوا وَصْفَهُ لِأَحْمَدَ بِالْفَضْلِ وَاعْتِرَافَهُ لِتَعْلَمُوا أَنَّهُمَا كَانَا فِي الِاعْتِقَادِ مُتَّفِقَيْنِ , وَفِي أُصُولِ الدِّينِ وَمَذْهَبِ السُّنَّةِ غَيْرُ مُفْتَرِقَيْنِ . وَلَمْ تَزَلْ الْحَنَابِلَةُ بِبَغْدَادَ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ عَلَى مَمَرِّ الْأَوْقَاتِ تَعْتَضِدُ بِالْأَشْعَرِيَّةِ عَلَى أَصْحَابِ الْبِدَعِ لِأَنَّهُمْ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ , فَمَنْ تَكَلَّمَ فِي الرَّدِّ عَلَى مُبْتَدِعٍ فَبِلِسَانِ الْأَشْعَرِيَّةِ يَتَكَلَّمُ , وَمَنْ حَقَّقَ مِنْهُمْ فِي الْأُصُولِ فِي مَسْأَلَةٍ فَمِنْهُمْ يَتَعَلَّمُ , فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى حَدَثَ الِاخْتِلَافُ فِي زَمَنِ أَبِي نَصْرٍ الْقُشَيْرِيِّ وَوَزَارَةِ النَّظَّامِ وَوَقَعَ بَيْنَهُمْ الِانْحِرَافُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ لِانْحِلَالِ النَّظَّامِ . وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَزَلْ فِي الْحَنَابِلَةِ طَائِفَةٌ تَغْلُو فِي السُّنَّةِ وَتَدْخُلُ فِيمَا لَا يَعْنِيهَا حُبًّا لِلْحُقُوقِ فِي الْفِتْنَةِ وَلَا عَارَ عَلَى أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِهِمْ وَلَيْسَ يَتَّفِقُ عَلَى ذَلِكَ رَأْيُ جَمِيعِهِمْ , وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَفْصِ بْنُ شَاهِينَ وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ الدَّارَقُطْنِيِّ مَا قَرَأْته عَلَى عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْحَضَرِ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْكِنَانِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو النَّجِيبِ الْأُرْمَوِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ قَالَ سَمِعْت ابْنَ شَاهِينَ يَقُولُ

: رَجُلَانِ صَالِحَانِ بُلِيَا بِأَصْحَابِ سُوءٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِيمَا رَدَّهُ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيِّ فِيمَا وَصَفَهُ مِنْ مَثَالِبِ الْأَشْعَرِيِّ : وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ تَصْنِيفَ الْإِبَانَةِ . قَالَ الْأَهْوَازِيُّ : وَلِلْأَشْعَرِيِّ كِتَابٌ فِي السُّنَّةِ قَدْ جَعَلَهُ أَصْحَابُهُ وِقَايَةً لَهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَتَوَلَّوْنَ بِهِ الْعَوَامَّ مِنْ أَصْحَابِنَا سَمَّاهُ " كِتَابُ الْإِبَانَةِ " صَنَّفَهُ بِبَغْدَادَ لَمَّا دَخَلَهَا . فَلَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ الْحَنَابِلَةُ وَهَجَرُوهُ . وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحُمْرَانِيَّ يَقُولُ : لَمَّا دَخَلَ الْأَشْعَرِيُّ إلَى بَغْدَادَ جَاءَ إلَى الْبَرْبَهَارِيِّ فَجَعَلَ يَقُولُ رَدَدْت عَلَى الْجُبَّائِيُّ وَعَلَى أَبِي هَاشِمٍ وَنَقَضْتُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعَلَى الْمَجُوسِ , فَقُلْت وَقَالُوا . وَأَكْثَرَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ . فَلَمَّا سَكَتَ قَالَ الْبَرْبَهَارِيُّ : مَا أَدْرِي مِمَّا قُلْتَ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا . مَا نَعْرِفُ إلَّا مَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَصَنَّفَ كِتَابَ الْإِبَانَةِ فَلَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ . وَلَمْ يَظْهَرْ بِبَغْدَادَ إلَى أَنْ خَرَجَ مِنْهَا . قَالَ : وَقَوْلُ الْأَهْوَازِيِّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا أَظْهَرَهُ مِنْ كِتَابِ الْإِبَانَةِ وَهَجَرُوهُ . فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ لَنَقَلُوهُ عَنْ أَشْيَاخِهِمْ وَلَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ صَدِيقًا لِلتَّمِيمِيِّينَ سَلَفِ أَبِي مُحَمَّدٍ رِزْقِ

اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحَارِثِ . وَكَانُوا لَهُ مُكَرِّمِينَ وَقَدْ أَظْهَرَ بَرَكَةَ تِلْكَ الصُّحْبَةِ عَلَى أَعْقَابِهِمْ حَتَّى نُسِبَ إلَى مَذْهَبِهِ أَبُو الْخَطَّابِ الْكَلْوَاذَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِهِمْ وَهَذَا تِلْمِيذُ أَبِي الْخَطَّابِ أَحْمَدَ الْحَرْبِيِّ يُخْبِرُ بِصِحَّةِ مَا ذَكَرْته وَيُنْبِئُ . وَكَذَلِكَ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُجَاهِدٍ وَصَاحِبِ صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ مِنْ الْمُوَاصَلَةِ وَالْمُوَاكَلَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الِاخْتِلَاقِ مِنْ الْأَهْوَازِيِّ وَالتَّكْذِيبِ . قَالَ : وَقَدْ أَخْبَرَنِي الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ أَبِي سَعْدٍ الْبَزَّارُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ رِزْقُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ التَّمِيمِيُّ الْحَنْبَلِيُّ قَالَ : سَأَلْت الشَّرِيفَ أَبَا عَلِيٍّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي مُوسَى الْهَاشِمِيَّ فَقَالَ : حَضَرْت دَارَ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحَارِثِ التَّمِيمِيِّ سَنَةَ سَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ فِي دَعْوَةٍ عَمِلَهَا لِأَصْحَابِهِ حَضَرَهَا أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ شَيْخُ الْمَالِكِيِّينَ وَأَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ شَيْخُ الشَّافِعِيِّينَ وَأَبُو الْحَسَنِ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ شَيْخُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ , وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ سَمْعُونٍ شَيْخُ الْوُعَّاظِ وَالزُّهَّادِ , وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُجَاهِدٍ شَيْخُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي دَارِ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ شَيْخِ الْحَنَابِلَةِ , قَالَ أَبُو عَلِيٍّ : لَوْ سَقَطَ السَّقْفُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَبْقَ بِالْعِرَاقِ مَنْ يُفْتِي فِي

حَادِثَةٍ يُشْبِهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ . قَالَ : وَحِكَايَةُ الْأَهْوَازِيِّ عَنْ الْبَرْبَهَارِيِّ مِمَّا يَقَعُ فِي صِحَّتِهَا التَّمَارِي وَأَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى بُطْلَانِهَا قَوْلُهُ : إنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ بِبَغْدَادَ إلَى أَنْ خَرَجَ مِنْهَا وَهُوَ بَعْدَ أَنْ صَارَ إلَيْهَا لَمْ يُفَارِقْهَا وَلَا رَحَلَ عَنْهَا . قُلْت : لَا رَيْبَ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّةَ إنَّمَا تَعَلَّمُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِنْ أَتْبَاعِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَنَحْوِهِ بِالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ , فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ أَخَذَ السُّنَّةَ بِالْبَصْرَةِ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى السَّاجِيِّ وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْمُتَّبِعِينَ لِأَحْمَدَ وَنَحْوِهِ , ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ أَخَذَ مِمَّنْ كَانَ بِهَا , وَلِهَذَا يُوجَدُ أَكْثَرُ أَلْفَاظِهِ الَّتِي يَذْكُرُهَا عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ إمَّا أَلْفَاظُ زَكَرِيَّا عَنْ أَحْمَدَ فِي رَسَائِلِهِ الْجَامِعَةِ فِي السُّنَّةِ , وَإِلَّا فَالْأَشْعَرِيُّ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ , وَإِنَّمَا يُعَرِّي أَقْوَالَهُمْ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَا يَعْرِفُ تَفَاصِيلَ أَقْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِ أَئِمَّتِهِمْ , وَقَدْ تَصَرَّفَ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ بِاجْتِهَادِهِ فِي مَوَاضِعَ يَعْرِفُهَا الْبَصِيرُ , وَأَمَّا خِبْرَتُهُ بِمَقَالَاتِ أَهْلِ الْكَلَامِ فَكَانَتْ خِبْرَةً تَامَّةً عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ , وَلِهَذَا لَمَّا صَنَّفَ كِتَابَهُ فِي مَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيِّينَ ذَكَرَ مَقَالَاتِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَاخْتِلَافَهُمْ عَلَى التَّفْصِيلِ . وَأَمَّا أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ فَلَمْ يَذْكُرْ عَنْهُمْ إلَّا جُمْلَةَ مَقَالَاتٍ , مَعَ أَنَّ لَهُمْ فِي تَفَاصِيلِ

تِلْكَ مِنْ الْأَقْوَالِ أَكْثَرُ مِمَّا لِأَهْلِ الْكَلَامِ , وَذَكَرَ الْخِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي الدَّقِيقِ فَلَمْ يَذْكُرْ النِّزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي الدَّقِيقِ , وَبَيْنَهُمْ مُنَازَعَاتٌ فِي أُمُورٍ دَقِيقَةٍ لَطِيفَةٍ كَمَسْأَلَةِ اللَّفْظِ وَنُقْصَانِ الْإِيمَانِ وَتَفْضِيلِ عُثْمَانَ , وَبَعْضِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَنَفْيِ لَفْظِ الْجَبْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دَقِيقِ الْقَوْلِ وَلَطِيفِهِ . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا إطْلَاقُ مَدْحِ شَخْصٍ أَوْ طَائِفَةٍ , وَلَا إطْلَاقُ ذَمِّ ذَلِكَ , فَإِنَّ الصَّوَابَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُ قَدْ يَجْتَمِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ وَالطَّائِفَةِ الْوَاحِدَةِ مَا يُحْمَدُ بِهِ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَمَا يُذَمُّ بِهِ مِنْ السَّيِّئَاتِ , وَمَا لَا يُحْمَدُ بِهِ وَلَا يُذَمُّ مِنْ الْمَبَاحِثِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ مِنْ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ عَلَى حَسَنَاتِهِ وَيَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَى سَيِّئَاتِهِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ مَحْمُودًا وَلَا مَذْمُومًا عَلَى الْمُبَاحَاتِ وَالْمَعْفُوَّاتِ , وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي فُسَّاقِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَنَحْوِهِمْ . وَإِنَّمَا يُخَالِفُ هَذَا الْوَعِيدِيَّةُ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ : مَنْ اسْتَحَقَّ الْمَدْحَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الثَّوَابَ , حَتَّى يَقُولُونَ : إنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا بَلْ يُخَلَّدُ فِيهَا , وَيُنْكِرُونَ شَفَاعَةَ مُحَمَّدٍ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ وَيُنْكِرُونَ خُرُوجَ أَحَدٍ مِنْ النَّارِ وَقَدْ تَوَاتَرَتْ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ بِخُرُوجِ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ

حَتَّى يَقُولَ اللَّهُ : { أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } , وَبِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ , وَلِهَذَا يَكْثُرُ فِي الْأُمَّةِ مِنْ أَئِمَّةِ الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ , فَبَعْضُ النَّاسِ يَقْتَصِرُ عَلَى ذِكْرِ مَحَاسِنِهِ وَمَدْحِهِ , غُلُوًّا وَهَوًى , وَبَعْضُهُمْ يَقْتَصِرُ عَلَى ذِكْرِ مَسَاوِيهِ غُلُوًّا وَهَوًى , وَدِينُ اللَّهِ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ , وَخِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا . وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلْأَشْعَرِيِّ فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ كَلَامًا حَسَنًا هُوَ مِنْ الْكَلَامِ الْمَقْبُولِ الَّذِي يُحْمَدُ قَائِلُهُ إذَا أَخْلَصَ فِيهِ النِّيَّةَ , وَلَهُ أَيْضًا كَلَامٌ خَالَفَ بِهِ بَعْضَ السُّنَّةِ هُوَ مِنْ الْكَلَامِ الْمَرْدُودِ الَّذِي يُذَمُّ بِهِ قَائِلُهُ إذَا أَصَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ , وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ الْحَسَنُ لَمْ يُخْلِصْ فِيهِ النِّيَّةَ , وَالْكَلَامُ السَّيِّئُ كَانَ صَاحِبُهُ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ لَمْ يَكُنْ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَدْحٌ وَلَا ذَمٌّ , بَلْ يُحْمَدُ نَفْسُ الْكَلَامِ الْمَقْبُولِ الْمُوَافِقِ لِلسُّنَّةِ وَيُذَمُّ الْكَلَامُ الْمُخَالِفُ لِلسُّنَّةِ , وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْمَرْجُوعَ إلَيْهِمْ فِي الدِّينِ مُخَالِفُونَ لِلْأَشْعَرِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ , وَإِنْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُعَظِّمِينَ لَهُ فِي أُمُورٍ أُخْرَى وَنَاهِينَ عَنْ لَعْنِهِ وَتَكْفِيرِهِ , وَمَادِحِينَ لَهُ بِمَا لَهُ مِنْ الْمَحَاسِنِ . وَبِزِيَادَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هِيَ مَسْأَلَةُ الْكَلَامِ مِنْ الْأَمْرِ

وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ هَلْ لَهُ صِيغَةٌ أَوْ لَيْسَ لَهُ صِيغَةٌ ؟ بَلْ ذَلِكَ مَعْنًى قَائِمٌ بِالنَّفْسِ , فَإِذَا كَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَقَائِلِينَ بِأَنَّ الْكَلَامَ لَهُ الصِّيَغُ الَّتِي هِيَ الْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ الْمُؤَلَّفَةُ قَائِلِينَ خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيِّ مُصَرِّحِينَ بِأَنَّ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ عُلِمَ صِحَّةُ مَا ذَكَرْنَاهُ . وَقَوْلُهُمْ : لِلْأَمْرِ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَهُ فِي اللُّغَةِ تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا وَلِلنَّهْيِ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَهُ فِي اللُّغَةِ تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى كَوْنِهِ نَهْيًا , وَلِلْخَبَرِ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَهُ فِي اللُّغَةِ تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى كَوْنِهِ خَبَرًا , وَلِلْعُمُومِ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَهُ فِي , اللُّغَةِ تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ وَاسْتِيعَابِ الطَّبِيعَةِ أَجْوَدُ مِنْ قَوْلٍ اسْتَدْرَكَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ كَابْنِ عَقِيلٍ [ الَّذِي قَالَ ] : إنَّ الْأَجْوَدَ أَنْ يَقُولَ : الْأَمْرُ صِيغَةٌ , قَالُوا : لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ هُوَ نَفْسُ الصِّيَغِ الَّتِي هِيَ الْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ الْمُؤَلَّفَةُ ; وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ وَأَنْكَرَهُ هَؤُلَاءِ خَطَأٌ وَهُوَ لَوْ صَحَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْكَلَامَ مُجَرَّدُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعْنَى : وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَ الْفُقَهَاءِ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ , وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهِمْ كَمَا قَالَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ , بَلْ مَذْهَبُهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ اسْمٌ لِلْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي جَمِيعًا ,

وَالْأَمْرُ لَيْسَ هُوَ اللَّفْظَ الْمُجَرَّدَ وَلَا الْمَعْنَى الْمُجَرَّدَ , بَلْ لَفْظُ الْأَمْرِ إذَا أُطْلِقَ فَإِنَّهُ يَنْتَظِمُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا , فَلِهَذَا قِيلَ صِيغَةٌ , كَمَا يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ جِسْمٌ أَوْ لِلْإِنْسَانِ رُوحٌ , وَكَمَا يُقَالُ لِلْكَلَامِ مَعْنًى وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الدِّمَشْقِيُّ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ خَالَفَ فِيهَا أَبُو إِسْحَاقَ الْأَشْعَرِيُّ فَيُقَالُ لَهُ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ أَخَصُّ بِمَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ يَكُونُ الرَّجُلُ بِهَا مُخْتَصًّا بِكَوْنِهِ أَشْعَرِيًّا , وَلِهَذَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ الْخِلَافَ فِيهَا مَعَهُ , وَأَمَّا سَائِرُ الْمَسَائِلِ فَتِلْكَ لَا يَخْتَصُّ هُوَ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ بِهَا بَلْ فِي كُلِّ طَرِيقٍ طَوَائِفُ , فَإِذَا خَالَفَهُ فِي خَاصَّةِ مَذْهَبِهِ لَزِمَهُ أَنْ لَا يَكُونَ مُتَّبِعًا لَهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فَإِنَّمَا يَعْنِي الشَّافِعِيَّةَ , وَإِذَا ذَكَرَ الْأَشْعَرِيَّ فَإِنَّهُ يَقُولُ قَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ فَلَا يُدْخِلُهُمْ فِي مُسَمَّى أَصْحَابِهِ , وَلَكِنْ أَبُو الْقَاسِمِ كَانَ لَهُ هُدًى وَلَمْ تَكُنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِحَقَائِقِ الْأُصُولِ الَّتِي يَتَنَازَعُ فِيهَا الْعُلَمَاءُ وَلَكِنْ كَانَ ثِقَةً فِي نَقْلِهِ , عَالِمًا بِفَنِّهِ كَالتَّارِيخِ وَنَحْوِهِ .

13 - 13 - مَسْأَلَةٌ : سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ زِيَارَةِ الْقُدْسِ وَقَبْرِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ؟ وَمَا فِي أَكْلِ الْخُبْزِ وَالْعَدَسِ مِنْ الْبَرَكَةِ وَنَقْلِهِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ لِلْبَرَكَةِ ؟ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ ؟ أَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا السَّفَرُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ وَالِاعْتِكَافِ , أَوْ الْقِرَاءَةِ , أَوْ الذِّكْرِ , أَوْ الدُّعَاءِ فَمَشْرُوعٌ مُسْتَحَبٌّ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ , وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ , وَأَبِي سَعِيدٍ , أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ , الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } . وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامِ وَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُ , وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } . وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى مُجَرَّدِ زِيَارَةِ قَبْرِ الْخَلِيلِ , أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مَقَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ , وَمَشَاهِدِهِمْ , وَآثَارِهِمْ , فَلَمْ يَسْتَحِبَّهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ , لَا الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ , بَلْ لَوْ نَذَرَ ذَلِكَ نَاذِرٌ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَذَا النَّذْرِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . بِخِلَافِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ إذَا نَذَرَ السَّفَرَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ لَزِمَهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ , وَإِذَا

نَذَرَ السَّفَرَ إلَى الْمَسْجِدَيْنِ الْآخَرَيْنِ لَزِمَهُ السَّفَرُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ , كَمَالِكٍ , وَأَحْمَدَ , وَالشَّافِعِيِّ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . وَإِنَّمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِ كُلِّ مَا كَانَ طَاعَةً مِثْلُ مَنْ نَذَرَ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ اعْتِكَافًا أَوْ صَدَقَةً لِلَّهِ أَوْ حَجًّا . وَلِهَذَا لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ السَّفَرُ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَاعَةٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } . فَمُنِعَ مِنْ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدٍ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ , فَغَيْرُ الْمَسَاجِدِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ ; لِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِي الْمَسَاجِدِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ الْبُيُوتِ بِلَا رَيْبٍ ; وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ الْمَسَاجِدُ } مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } , يَتَنَاوَلُ الْمَنْعَ مِنْ السَّفَرِ إلَى كُلِّ بُقْعَةٍ مَقْصُودَةٍ . بِخِلَافِ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ , وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَإِنَّ السَّفَرَ لِطَلَبِ تِلْكَ الْحَاجَةِ حَيْثُ كَانَتْ , وَكَذَلِكَ السَّفَرُ لِزِيَارَةِ الْأَخِ فِي اللَّهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ حَيْثُ كَانَ . وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالسَّفَرِ إلَى الْمَشَاهِدِ وَاحْتَجُّوا

{ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِي قُبَاءَ كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ , وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ; لِأَنَّ قُبَاءَ لَيْسَتْ مَشْهَدًا , بَلْ مَسْجِدٌ , وَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْ السَّفَرِ إلَيْهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسَفَرٍ مَشْرُوعٍ , بَلْ لَوْ سَافَرَ إلَى قُبَاءَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ لَمْ يَجُزْ , وَلَكِنْ لَوْ سَافَرَ إلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ ثُمَّ ذَهَبَ مِنْهُ إلَى قُبَاءَ , فَهَذَا يُسْتَحَبُّ , كَمَا يُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ قُبُورِ أَهْلِ الْبَقِيعِ , وَشُهَدَاءِ أُحُدٍ . وَأَمَّا أَكْلُ الْخُبْزِ وَالْعَدَسِ الْمَصْنُوعِ عِنْدَ قَبْرِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهَذَا لَمْ يَسْتَحِبَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَا الْمُتَأَخِّرِينَ , وَلَا كَانَ هَذَا مَصْنُوعًا لَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ , وَلَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ الْبَعْثَةِ , حَتَّى أَخَذَ النَّصَارَى تِلْكَ الْبِلَادَ , وَلَمْ تَكُنْ الْقُبَّةُ الَّتِي عَلَى قَبْرِهِ مَفْتُوحَةً , بَلْ كَانَتْ مَسْدُودَةً , وَلَا كَانَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُسَافِرُونَ إلَى قَبْرِهِ وَلَا قَبْرِ غَيْرِهِ , لَكِنْ لَمَّا أَخَذَ النَّصَارَى تِلْكَ الْبِلَادَ فَسَوَّوْا حُجْرَتَهُ وَاِتَّخَذُوهَا كَنِيسَةً , فَلَمَّا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ الْبِلَادَ بَعْدَ ذَلِكَ اتَّخَذَ ذَلِكَ مَنْ اتَّخَذَهُ مَسْجِدًا , وَذَلِكَ بِدْعَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ

مَسَاجِدَ } , يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسٍ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . ثُمَّ وَقَفَ بَعْضُ النَّاسِ وَقْفًا لِلْعَدَسِ وَالْخُبْزِ , وَلَيْسَ هَذَا وَقْفًا مِنْ الْخَلِيلِ , وَلَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ , وَلَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِنْ خُلَفَائِهِ . بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَطْلَقَ تِلْكَ الْقَرْيَةَ لِلدَّارِسِينَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يُطْعِمُوا عِنْدَ مَشْهَدِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا خُبْزًا وَلَا عَدَسًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ . فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ وَالْعَدَسِ مُسْتَحَبٌّ شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ , بَلْ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْعَدَسَ مُطْلَقًا فِيهِ فَضِيلَةٌ فَهُوَ جَاهِلٌ , وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى : " كُلُوا الْعَدَسَ فَإِنَّهُ يُرِقُّ الْقَلْبَ وَقَدْ قَدَّسَ فِيهِ سَبْعُونَ نَبِيًّا " , حَدِيثٌ مَكْذُوبٌ مُخْتَلَقٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَلَكِنَّ الْعَدَسَ هُوَ مِمَّا اشْتَهَاهُ الْيَهُودُ , وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ } , وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَقَرَّبُ إلَى الْجِنِّ بِالْعَدَسِ , فَيَطْبُخُونَ عَدَسًا وَيَضَعُونَهُ فِي الْمَرَاحِيضِ , أَوْ يُرْسِلُونَهُ وَيَطْلُبُونَ مِنْ الشَّيَاطِينِ بَعْضَ مَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ , كَمَا يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْحَمَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَهَذَا مِنْ الْإِيمَانِ

بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ . وَجِمَاعُ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيَعْبُدُهُ بِمَا شَرَعَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ , فَمَنْ تَعَبَّدَ بِعِبَادَةٍ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً فَهُوَ ضَالٌّ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
10 - 10 - مَسْأَلَةٌ : فِيمَنْ يَقُولُ إنَّ النُّصُوصَ لَا تَفِي بِعُشْرِ مِعْشَارِ الشَّرِيعَةِ , هَلْ قَوْلُهُ صَوَابٌ ؟ وَهَلْ أَرَادَ النَّصَّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ , أَوْ الْأَلْفَاظَ الْوَارِدَةَ الْمُحْتَمِلَةَ ؟ وَمَنْ نَفَى الْقِيَاسَ وَأَبْطَلَهُ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ , هَلْ قَوْلُهُ صَوَابٌ ؟ , وَمَا حُجَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ ؟ وَمَا عَنَى قَوْلُهُ " النَّصَّ " . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . هَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَغَيْرِهِ , وَهُوَ خَطَأٌ , بَلْ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ النُّصُوصَ وَافِيَةٌ بِجُمْهُورِ أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا وَافِيَةٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مَعَانِيَ النُّصُوصِ الْعَامَّةَ الَّتِي هِيَ أَقْوَالُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَشُمُولَهَا لِأَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ , فَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ الْجَامِعَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ وَقَاعِدَةٌ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً وَتِلْكَ

الْأَنْوَاعُ تَتَنَاوَلُ أَعْيَانًا لَا تُحْصَى , فَبِهَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ النُّصُوصُ مُحِيطَةً بِأَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِثَالُ ذَلِكَ : أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ , فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ لَفْظَ الْخَمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا عَصِيرَ الْعِنَبِ خَاصَّةً , ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ لَمْ يُحَرِّمْ إلَّا ذَلِكَ , أَوْ حَرَّمَ مَعَهُ بَعْضَ الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ , كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ , فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُحَرِّمُ عَصِيرَ الْعِنَبِ الْمُشْتَدِّ الزَّبَدِ , وَهَذَا الْخَمْرُ عِنْدَهُ , وَيُحَرِّمُ الْمَطْبُوخَ مِنْهُ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ , فَإِذَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ لَمْ يُحَرِّمْهُ , وَيُحَرِّمُ النِّيءَ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ , فَإِنْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخٍ حَلَّ عِنْدَهُ , وَهَذِهِ الْمُسْكِرَاتُ الثَّلَاثَةُ لَيْسَتْ خَمْرًا عِنْدَهُ مَعَ أَنَّهَا حَرَامٌ , وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَنْبِذَةِ فَإِنَّمَا يُحَرِّمُ مِنْهُ مَا يُسْكِرُ . وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَوَافَقَ الْجُمْهُورَ فِي تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ , وَبِهِ أَفْتَى الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَرَّمَ كُلَّ مُسْكِرٍ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ إمَّا فِي الِاسْمِ وَإِمَّا فِي الْحُكْمِ , وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ سَلَكَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , يَظُنُّونَ أَنَّ تَحْرِيمَ كُلِّ مُسْكِرٍ إنَّمَا كَانَ بِالْقِيَاسِ فِي الْأَسْمَاءِ أَوْ الْقِيَاسِ فِي الْحُكْمِ . وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْكِبَارُ أَنَّ الْخَمْرَ الْمَذْكُورَةَ فِي

الْقُرْآنِ تَنَاوَلَتْ كُلَّ مُسْكِرٍ , فَصَارَ تَحْرِيمُ كُلِّ مُسْكِرٍ بِالنَّصِّ الْعَامِّ وَالْكَلِمَةِ الْجَامِعَةِ , لَا بِالْقِيَاسِ وَحْدَهُ , وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ دَلِيلًا آخَرَ يُوَافِقُ النَّصَّ , وَثَبَتَ أَيْضًا نُصُوصٌ صَحِيحَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ , فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } , وَفِي الصَّحِيحَيْنِ , عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ , عَنْ أَبِي مُوسَى , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ , فَقِيلَ لَهُ : عِنْدَنَا شَرَابٌ مِنْ الْعَسَلِ يُقَالُ لَهُ الْبِتْعُ , وَشَرَابٌ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ ؟ قَالَ - وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ - فَقَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } إلَى أَحَادِيثَ أُخَرَ يَطُولُ وَصْفُهَا . وَعَلَى هَذَا فَتَحْرِيمُ مَا يُسْكِرُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَطْعِمَةِ , كَالْحَشِيشَةِ الْمُسْكِرَةِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ , وَكَانَ هَذَا النَّصُّ مُتَنَاوِلًا لِشُرْبِ الْأَنْوَاعِ الْمُسْكِرَةِ مِنْ أَيِّ مَادَّةٍ كَانَتْ مِنْ الْحُبُوبِ , أَوْ الثِّمَارِ أَوْ مِنْ لَبَنِ الْخَيْلِ أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ خَمْرَ الْعِنَبِ قَالَ إنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ هَذِهِ الْمُسْكِرَاتِ الَّتِي هِيَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ , بَلْ كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ , وَهَؤُلَاءِ غَلِطُوا فِي فَهْمِ النَّصِّ . وَمِمَّا

يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ أَنَّ الْخَمْرَ لَمَّا حُرِّمَتْ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ شَيْءٌ , فَإِنَّ الْمَدِينَةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَجَرُ الْعِنَبِ , وَإِنَّمَا كَانَ عِنْدَهُمْ النَّخْلُ , فَكَانَ خَمْرُهُمْ مِنْ التَّمْرِ , وَلَمَّا حُرِّمَتْ الْخَمْرُ أَرَاقُوا تِلْكَ الْأَشْرِبَةَ الَّتِي كَانَتْ مِنْ التَّمْرِ , وَعَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ الشَّرَابَ هُوَ خَمْرٌ مُحَرَّمٌ . فَعُلِمَ أَنَّ لَفْظَ الْخَمْرِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مَخْصُوصًا بِعَصِيرِ الْعِنَبِ , وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي لُغَتِهِمْ فَتَنَاوَلَ , أَوْ كَانُوا عَرَفُوا التَّعْمِيمَ بِلُغَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ الْمُبَيِّنُ عَنْ اللَّهِ مُرَادَهُ , فَإِنَّ الشَّارِعَ يَتَصَرَّفُ فِي اللُّغَةِ تَصَرُّفَ أَهْلِ الْعُرْفِ , يَسْتَعْمِلُ اللَّفْظَ تَارَةً فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ , وَتَارَةً فِيمَا هُوَ أَخَصُّ , وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمَيْسِرِ هُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ يَتَنَاوَلُ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ , وَيَتَنَاوَلُ بُيُوعَ الْغَرَرِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ فِيهَا مَعْنَى الْقِمَارِ الَّذِي هُوَ مَيْسِرٌ , إذْ الْقِمَارُ مَعْنَاهُ أَنْ يُؤْخَذَ مَالُ الْإِنْسَانِ وَهُوَ عَلَى مُخَاطَرَةٍ , هَلْ يَحْصُلُ لَهُ عِوَضُهُ أَوْ لَا يَحْصُلُ , كَاَلَّذِي يَشْتَرِي الْعَبْدَ الْآبِقَ , وَالْبَعِيرَ الشَّارِدَ , وَحَبَلَ الْحَبَلَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَحْصُلُ لَهُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ لَهُ . وَعَلَى هَذَا فَلَفْظُ الْمَيْسِرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ , وَمَا ثَبَتَ فِي

صَحِيحِ مُسْلِمٍ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ } يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا فِيهِ مُخَاطَرَةٌ , كَبَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا , وَبَيْعِ الْأَجِنَّةِ فِي الْبُطُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ الرِّبَا , فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ رِبَا النَّسَاءِ وَرِبَا الْفَضْلِ وَالْقَرْضِ الَّذِي يَجُرُّ مَنْفَعَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ , فَالنَّصُّ مُتَنَاوِلٌ لِهَذَا كُلِّهِ , لَكِنْ يُحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ دُخُولِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَعْيَانِ فِي النَّصِّ إلَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ , وَهَذَا الَّذِي يُسَمَّى تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } . وَقَوْلُهُ : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } , وَنَحْوُ ذَلِكَ يَعُمُّ بِلَفْظِهِ كُلَّ مُطَلَّقَةٍ , وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ طَلَاقٍ فَهُوَ رَجْعِيٌّ , وَلِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ , وَقَالُوا : لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَرْأَةَ ثَلَاثًا , وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إلَّا رَجْعِيًّا , وَإِنَّ مَا كَانَ بَائِنًا فَلَيْسَ مِنْ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ فَلَا يَكُونُ الْخُلْعُ مِنْ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ , كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ , وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ , لَكِنْ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ , هَلْ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَخْلُوَ الْخُلْعُ عَنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَنِيَّتِهِ , أَوْ بِالْخُلُوِّ عَنْ لَفْظِهِ فَقَطْ , أَوْ لَا يُشْتَرَطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . وَكَذَلِكَ

قَوْله تَعَالَى : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } , وَذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ هُوَ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ يَمِينٍ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ . فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : كُلُّ يَمِينٍ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهَا كَفَّارَةٌ , كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ , وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَتَنَاوَلُ النَّصُّ إلَّا الْحَلِفَ بِاسْمِ اللَّهِ , وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا تَنْعَقِدُ وَلَا شَيْءَ فِيهَا , وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ هِيَ أَيْمَانٌ يَلْزَمُ الْحَلِفُ بِهَا مَا الْتَزَمَهُ وَلَا تَدْخُلُ فِي النَّصِّ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ , فَمَنْ قَالَ إنَّ النَّصَّ لَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ جَمِيعِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ , كَانَ هَذَا رَأْيًا مِنْهُ , لَمْ يَكُنْ هَذَا مَدْلُولَ النَّصِّ . وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي عَامَّةِ مَسَائِلِ النِّزَاعِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , إذَا طُلِبَ مَا يَفْصِلُ النِّزَاعَ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجِدَ ذَلِكَ , وَتَبَيَّنَ أَنَّ النُّصُوصَ شَامِلَةٌ لِعَامَّةِ أَحْكَامِ الْأَفْعَالِ . وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَقُولُ : إنَّهُ مَا مِنْ مَسْأَلَةٍ يُسْأَلُ عَنْهَا إلَّا وَقَدْ تَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ فِيهَا أَوْ فِي نَظِيرِهَا , وَالصَّحَابَةُ كَانُوا يَحْتَجُّونَ فِي عَامَّةِ مَسَائِلِهِمْ بِالنُّصُوصِ , كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُمْ , وَكَانُوا يَجْتَهِدُونَ رَأْيَهُمْ , وَيَتَكَلَّمُونَ بِالرَّأْيِ , وَيَحْتَجُّونَ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ أَيْضًا . وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا فَارِقَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ إلَّا فَرْقًا غَيْرَ مُوَثِّرٍ فِي الشَّرْعِ , كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ , أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ ؟ فَقَالَ : { أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ } , وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِتِلْكَ الْفَأْرَةِ وَذَلِكَ السَّمْنِ . فَلِهَذَا قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ : إنَّ أَيَّ نَجَاسَةٍ وَقَعَتْ فِي دُهْنٍ مِنْ الْأَدْهَانِ كَالْفَأْرَةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الزَّيْتِ , وَكَالْهِرِّ الَّذِي يَقَعُ فِي السَّمْنِ , فَحُكْمُهَا حُكْمُ تِلْكَ الْفَأْرَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي السَّمْنِ . وَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ : إنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ , فَقَدْ أَخْطَأَ , فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخُصَّ الْحُكْمَ بِتِلْكَ الصُّورَةِ , لَكِنْ لَمَّا اُسْتُفْتِيَ عَنْهَا أَفْتَى فِيهَا , وَالِاسْتِفْتَاءُ إذَا وَقَعَ عَنْ قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ عَنْ نَوْعٍ , فَأَجَابَ الْمُفْتِي عَنْ ذَلِكَ خَصَّهُ لِكَوْنِهِ سُئِلَ عَنْهُ , لَا لِاخْتِصَاصِهِ بِالْحُكْمِ . وَمِثْلُ هَذَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ , وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مُضَمَّخَةٌ بِخَلُوقٍ ؟ فَقَالَ : { انْزِعْ عَنْك الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ عَنْك الْخَلُوقَ وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا كُنْت تَصْنَعُ فِي حَجِّك } . فَأَجَابَهُ عَنْ الْجُبَّةِ , وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ نَحْوُهُ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ . وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْقِيَاسِ : أَنْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمٍ لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَوْجُودًا فِي غَيْرِهِ , فَإِذَا قَامَ دَلِيلٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ

بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ سَوَّى بَيْنَهُمَا , وَكَانَ هَذَا قِيَاسًا صَحِيحًا . فَهَذَانِ النَّوْعَانِ كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ يَسْتَعْمِلُونَهُمَا ا , وَهُمَا مِنْ بَابِ فَهْمِ مُرَادِ الشَّارِعِ , فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِكَلَامِ الشَّارِعِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يُعْرَفُ ثُبُوتُ اللَّفْظِ عَنْهُ , وَعَلَى أَنْ يُعْرَفُ مُرَادُهُ بِاللَّفْظِ , وَإِذَا عَرَفْنَا مُرَادَهُ فَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ حُكْمٌ لِلْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ لَا لِمَعْنًى يَخُصُّ الْأَصْلَ , أَثْبَتْنَا الْحُكْمَ حَيْثُ وُجِدَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ , وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ قَصَدَ تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِمَوْرِدِ النَّصِّ مَنَعْنَا الْقِيَاسَ , كَمَا أَنَّهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْحَجَّ خُصَّ بِهِ الْكَعْبَةُ , وَأَنَّ الصِّيَامَ الْفَرْضَ خُصَّ بِهِ شَهْرُ رَمَضَانَ , وَأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ خُصَّ بِهِ جِهَةُ الْكَعْبَةِ , وَأَنَّ الْمَفْرُوضَ مِنْ الصَّلَوَاتِ خُصَّ بِهِ الْخَمْسُ , وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ هُنَا أَنْ نَقِيسَ عَلَى الْمَنْصُوصِ غَيْرَهُ . وَإِذَا عَيَّنَ الشَّارِعُ مَكَانًا أَوْ زَمَانًا لِلْعِبَادَةِ كَتَعْيِينِ الْكَعْبَةِ وَشَهْرِ رَمَضَانَ , أَوْ عَيَّنَ بَعْضَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ , كَتَعْيِينِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ , بَلْ وَتَعْيِينُ التَّكْبِيرِ وَأُمِّ الْقُرْآنِ , فَإِلْحَاقُ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِهِ يُشْبِهُ حَالَ أَهْلِ الْيَمَنِ الَّذِينَ أَسْقَطُوا تَعَيُّنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ , وَقَالُوا : الْمَقْصُودُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ السَّنَةِ , فَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا

لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } . وَقِيَاسُ الْحَلَالِ بِالنَّصِّ عَلَى الْحَرَامِ بِالنَّصِّ , مِنْ جِنْسِ قِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا : { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } . وَكَذَلِكَ قِيَاسُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَاسُوا الْمَيْتَةَ بِالْمُذَكَّى , وَقَالُوا أَتَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّهُ , قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } . فَهَذِهِ الْأَقْيِسَةُ الْفَاسِدَةُ وَكُلُّ قِيَاسٍ دَلَّ النَّصُّ عَلَى فَسَادِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ , وَكُلُّ مَنْ أَلْحَقَ مَنْصُوصًا بِمَنْصُوصٍ يُخَالِفُ حُكْمَهُ فَقِيَاسُهُ فَاسِدٌ , وَكُلُّ مَنْ سَوَّى بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ فَرَّقَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ بِغَيْرِ الْأَوْصَافِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقِيَاسُهُ فَاسِدٌ , لَكِنْ مِنْ الْقِيَاسِ مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ , وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ , وَمِنْهُ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَمْرُهُ . فَمَنْ أَبْطَلَ الْقِيَاسَ مُطْلَقًا فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ , وَمَنْ اسْتَدَلَّ بِالْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ , وَمَنْ اسْتَدَلَّ بِقِيَاسٍ لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِمَا لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ , بِمَنْزِلَةِ مَنْ اسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ رَجُلٍ مَجْهُولٍ لَا يَعْلَمُ عَدَالَتَهُ . فَالْحُجَجُ الْأَثَرِيَّةُ وَالنَّظَرِيَّةُ تَنْقَسِمُ إلَى مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ , وَإِلَى مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ , وَإِلَى مَا هُوَ مَوْقُوفٌ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَحَدِهِمَا . وَلَفْظُ النَّصِّ يُرَادُ بِهِ تَارَةً أَلْفَاظُ الْكِتَابِ

وَالسُّنَّةِ , سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةٌ أَوْ ظَاهِرَةٌ , وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ : النُّصُوصُ تَتَنَاوَلُ أَحْكَامَ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ , وَيُرَادُ بِالنَّصِّ مَا دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةٌ لَا تَحْتَمِلُ النَّقِيضَ , كَقَوْلِهِ : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانِ } , فَالْكِتَابُ هُوَ النَّصُّ , وَالْمِيزَانُ هُوَ الْعَدْلُ , وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مِنْ بَابِ الْعَدْلِ , فَإِنَّهُ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَتَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ , وَدَلَالَةُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ تُوَافِقُ دَلَالَةَ النَّصِّ , فَكُلُّ قِيَاسٍ خَالَفَ دَلَالَةَ النَّصِّ فَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ , وَلَا يُوجَدُ نَصٌّ يُخَالِفُ قِيَاسًا صَحِيحًا , كَمَا لَا يُوجَدُ مَعْقُولٌ صَرِيحٌ يُخَالِفُ الْمَنْقُولَ الصَّحِيحَ . وَمَنْ كَانَ مُتَبَحِّرًا فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى غَالِبِ الْأَحْكَامِ بِالْمَنْصُوصِ وَبِالْأَقْيِسَةِ , فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ دَلَّ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ , كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَمْثِلَةِ , فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ , كَمَا يَدُلُّ النَّصُّ عَلَى ذَلِكَ , فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ ; لِأَنَّهَا تُوقِعُ بَيْنَنَا الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَتَصُدُّنَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ , كَمَا دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى , وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ , لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ شَرَابٍ وَشَرَابٍ , فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَنْوَاعِ الْمُشْتَرِكَةِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ تَفْرِيقٌ بَيْنَ

الْمُتَمَاثِلَيْنِ , وَخُرُوجٌ عَنْ مُوجِبِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ , كَمَا هُوَ خُرُوجٌ عَنْ مُوجِبِ النُّصُوصِ , وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ خِلَافُ الْقِيَاسِ , لَكِنْ يَقُولُونَ : مَعَنَا آثَارٌ تُوَافِقُ اتَّبَعْنَاهَا , وَيَقُولُونَ : إنَّ اسْمَ الْخَمْرِ لَمْ يَتَنَاوَلْ كُلَّ مُسْكِرٍ , وَغَلِطُوا فِي فَهْمِ النَّصِّ , وَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ مُثَابِينَ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ , وَمَعْرِفَةُ عُمُومِ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي النَّصِّ وَخُصُوصِهَا مِنْ مَعْرِفَةِ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } . وَالْكَلَامُ فِي تَرْجِيحِ نُفَاةِ الْقِيَاسِ وَمُثْبِتِيهِ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ , لَا تَحْتَمِلُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ بَسْطَهُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

12 - 12 - مَسْأَلَةٌ : سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ عَلَى مَنْ أَكَلَ مِنْ ذَبِيحَةِ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ مُطْلَقًا , وَلَا يَدْرِي مَا حَالُهُمْ , هَلْ دَخَلُوا فِي دِينِهِمْ قَبْلَ نَسْخِهِ وَتَحْرِيفِهِ وَقَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ بَعْدَ ذَلِكَ , بَلْ يَتَنَاكَحُونَ , وَتُقَرُّ مُنَاكَحَتُهُمْ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ , وَهُمْ أَهْلُ ذِمَّةٍ يُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ , وَلَا يُعْرَفُ مَنْ وَلَّاهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ , فَهَلْ لِلْمُنْكِرِينَ عَلَيْهِمْ مَنْعُهُمْ مِنْ الذَّبْحِ لِلْمُسْلِمِينَ , أَمْ لَهُمْ الْأَكْلُ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ كَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ؟ أَجَابَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى أَحَدٍ أَكَلَ مِنْ ذَبِيحَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي هَذَا الزَّمَانِ , وَلَا يَحْرُمُ ذَبْحُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ , وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَهُوَ جَاهِلٌ مُخْطِئٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ , وَمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ لَا يُسَوَّغُ فِيهَا الْإِنْكَارُ إلَّا بِبَيَانِ الْحُجَّةِ , وَإِيضَاحِ الْمَحَجَّةِ , لَا الْإِنْكَارُ الْمُجَرَّدُ الْمُسْتَنِدُ إلَى مَحْضِ التَّقْلِيدِ . فَإِنَّ هَذَا فِعْلُ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْأَهْوَاءِ , كَيْفَ وَالْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَقَبْلَهُ قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا مُخَالِفٌ لِمَا عُلِمَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَا عُلِمَ مِنْ حَالِ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ لِهَذَا لَا يَخْرُجُ عَنْ

قَوْلَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُحَرِّمُ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ مُطْلَقًا , كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الرَّافِضَةِ , وَهَؤُلَاءِ يُحَرِّمُونَ نِكَاحَ نِسَائِهِمْ وَأَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ , وَهَذَا لَيْسَ مِنْ أَقْوَالِ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْفُتْيَا , وَلَا مِنْ أَقْوَالِ أَتْبَاعِهِمْ , وَهُوَ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ , فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } . فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ الْآيَةُ مُعَارَضَةٌ بِقَوْلِهِ : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } . قِيلَ : الْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ الشِّرْكَ الْمُطْلَقَ فِي الْقُرْآنِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ , وَإِنَّمَا يَدْخُلُونَ فِي الشِّرْكِ الْمُقَيَّدِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ } . فَجَعَلَ الْمُشْرِكِينَ قِسْمًا غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَاَلَّذِينَ أَشْرَكُوا } . فَجَعَلَهُمْ قِسْمًا غَيْرَهُمْ , فَأَمَّا دُخُولُهُمْ فِي الْمُقَيَّدِ , فَفِي قَوْله تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا

هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . فَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ . وَسَبَبُ هَذَا : أَنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ بِهِ الرُّسُلَ لَيْسَ فِيهِ شِرْكٌ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } . وَقَالَ : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } , وَلَكِنَّهُمْ بَدَّلُوا وَغَيَّرُوا , فَابْتَدَعُوا مِنْ الشِّرْكِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ اللَّهُ سُلْطَانًا , فَصَارَ فِيهِمْ شِرْكٌ بِاعْتِبَارِ مَا ابْتَدَعُوا , لَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الدِّينِ . وقَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } هُوَ تَعْرِيفٌ لِلْكَوَافِرِ الْمَعْرُوفَاتِ اللَّاتِي كُنَّ فِي عِصَمِ الْمُسْلِمِينَ , وَأُولَئِكَ كُنَّ مُشْرِكَاتٍ لَا كِتَابِيَّاتٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَنَحْوِهَا . الْوَجْهُ الثَّانِي : إذَا قُدِّرَ أَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكَاتِ وَالْكَوَافِرِ يَعُمُّ الْكِتَابِيَّاتِ , فَآيَةُ الْمَائِدَةِ خَاصَّةٌ , وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْمُمْتَحِنَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , كَمَا فِي الْحَدِيثِ { الْمَائِدَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا } وَالْخَاصُّ الْمُتَأَخِّرُ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ , لَكِنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ إنَّهُ مُفَسِّرٌ لَهُ , فَتَبَيَّنَ أَنَّ صُورَةَ التَّخْصِيصِ لَمْ تَرِدْ

بِاللَّفْظِ الْعَامِّ , وَطَائِفَةٌ يَقُولُونَ إنَّ ذَلِكَ نُسِخَ بَعْدَ أَنْ شُرِعَ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : إذَا فَرَضْنَا النَّصَّيْنِ خَاصَّيْنِ , فَأَحَدُ النَّصَّيْنِ حَرَّمَ ذَبَائِحَهُمْ وَنِكَاحَهُمْ , وَالْآخَرُ أَحَلَّهُمَا , فَالنَّصُّ الْمُحَلِّلُ لَهُمَا هُنَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ هِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , فَتَكُونُ نَاسِخَةً لِلنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ , وَلَا يُقَالُ إنَّ هَذَا نَسْخٌ لِلْحُكْمِ مَرَّتَيْنِ ; لِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ لَمْ يَكُنْ بِخِطَابٍ شَرْعِيٍّ حَلَّلَ ذَلِكَ , بَلْ كَانَ لِعَدَمِ التَّحْرِيمِ , بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ , وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالتَّحْرِيمُ الْمُبْتَدَأُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِاسْتِصْحَابِ حُكْمِ الْفِعْلِ , وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ , وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ نَاسِخًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } الْآيَةَ ; مِنْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُحَرِّمْ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ إلَّا هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ , فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَفَتْ تَحْرِيمَ مَا سِوَى الثَّلَاثَة إلَى حِينِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ , وَلَمْ يَثْبُتْ تَحْلِيلُ مَا سِوَى ذَلِكَ , بَلْ كَانَ مَا سِوَى ذَلِكَ عَفْوًا لَا تَحْلِيلَ فِيهِ وَلَا تَحْرِيمَ , كَفِعْلِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ , وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ : { الْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ

فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ } . وَهَذَا مَحْفُوظٌ , عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ , أَوْ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } , فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحَلَّهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ , وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ مَدَنِيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ , وَسُورَةُ الْأَنْعَامِ مَكِّيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ , فَعُلِمَ أَنَّ تَحْلِيلَ الطَّيِّبَاتِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ لَا بِمَكَّةَ , وقَوْله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } إلَى قَوْلِهِ : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } , إلَى آخِرِهَا . فَثَبَتَ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ , وَقَبْلَ ذَلِكَ كَانَ إمَّا عَفْوًا عَلَى الصَّحِيحِ , وَإِمَّا مُحَرَّمًا ثُمَّ نُسِخَ , يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ حِلُّ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ , وَالْكَلَامُ فِي نِسَائِهِمْ كَالْكَلَامِ فِي ذَبَائِحِهِمْ , فَإِذَا ثَبَتَ حِلُّ أَحَدِهِمَا , ثَبَتَ حِلُّ الْآخَرِ , وَحِلُّ أَطْعِمَتِهِمْ لَيْسَ لَهُ مُعَارِضٌ أَصْلًا . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً , وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : قَوْله تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } , مَحْمُولٌ عَلَى الْفَوَاكِهِ وَالْحُبُوبِ . قِيلَ : هَذَا خَطَأٌ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذِهِ

مُبَاحَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوس , فَلَيْسَ فِي تَخْصِيصِهَا بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَائِدَةٌ . الثَّانِي : أَنَّ إضَافَةَ الطَّعَامِ إلَيْهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ صَارَ طَعَامًا بِفِعْلِهِمْ , وَهَذَا إنَّمَا يُسْتَحَقُّ فِي الذَّبَائِحِ الَّتِي صَارَتْ لَحْمًا بِذَكَاتِهِمْ , فَأَمَّا الْفَوَاكِهُ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا مَطْعُومَةً لَمْ تَصِرْ طَعَامًا بِفِعْلِ آدَمِيٍّ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَرَنَ حِلَّ الطَّعَامِ بِحِلِّ النِّسَاءِ , وَأَبَاحَ طَعَامَنَا لَهُمْ , كَمَا أَبَاحَ طَعَامَهُمْ لَنَا , وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَ النِّسَاءِ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ , كَمَا أَبَاحَ طَعَامَهُمْ لَنَا , وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَ النِّسَاءِ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ , وَكَذَلِكَ حُكْمُ الطَّعَامِ وَالْفَاكِهَةِ , وَالْحَبِّ لَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ . الرَّابِعُ : أَنَّ لَفْظَ الطَّعَامِ عَامٌّ , وَتَنَاوَلَهُ اللَّحْمَ وَنَحْوَهُ أَقْوَى مِنْ تَنَاوُلِهِ لِلْفَاكِهَةِ , فَيَجِبُ إقْرَارُ اللَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ , لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَرَنَ بِهِ قَوْله تَعَالَى : { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } , وَنَحْنُ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُطْعِمَهُمْ كُلَّ أَنْوَاعِ طَعَامِنَا , فَكَذَلِكَ يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَأْكُلَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ طَعَامِهِمْ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ , بَلْ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَتْ لَهُ الْيَهُودِيَّةُ عَامَ خَيْبَرَ شَاةً مَشْوِيَّةً , فَأَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً , ثُمَّ قَالَ : { إنَّ هَذِهِ تُخْبِرُنِي أَنَّ فِيهَا سُمًّا } , وَلَوْلَا أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ حَلَالٌ لَمَا تَنَاوَلَ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ . وَثَبَتَ

فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ لَمَّا غَزَوْا خَيْبَرَ , أَخَذَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ جِرَابًا فِيهِ شَحْمٌ , قَالَ : قُلْت لَا أُطْعِمُ الْيَوْمَ مِنْ هَذَا أَحَدًا , فَالْتَفَتَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ , وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ طَعَامِ أَهْلِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ . وَأَيْضًا { فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَ دَعْوَةَ يَهُودِيٍّ إلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ } , رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَالْإِهَالَةُ مِنْ الْوَدَكِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ الذَّبِيحَةِ وَمِنْ السَّمْنِ وَنَحْوِهِ , الَّذِي يَكُونُ فِي أَوْعِيَتِهِمْ الَّتِي يَطْبُخُونَ فِيهَا فِي الْعَادَةِ , وَلَوْ كَانَتْ ذَبَائِحُهُمْ مُحَرَّمَةً لَكَانَتْ أَوَانِيهِمْ كَأَوَانِي الْمَجُوسِ وَنَحْوِهِمْ , وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْأَكْلِ فِي أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى رَخَّصَ أَنْ يُغْسَلَ . وَأَيْضًا فَقَدْ اسْتَفَاضَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحُوا الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَمِصْرَ كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ : الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى , وَإِنَّمَا امْتَنَعُوا مِنْ ذَبَائِحِ الْمَجُوسِ , وَوَقَعَ فِي جُبْنِ الْمَجُوسِ مِنْ النِّزَاعِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ الْجُبْنَ يَحْتَاجُ إلَى الْإِنْفَحَةِ , وَفِي إِنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ , فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِطَهَارَتِهَا , وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولَانِ بِنَجَاسَتِهَا , وَعَنْ أَحْمَدَ

رِوَايَتَانِ . فَصْلٌ : الْمَأْخَذُ الثَّانِي : الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ هُوَ كَوْنُ هَؤُلَاءِ الْمَوْجُودِينَ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ , وَهُوَ الْمَأْخَذُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ السَّائِلِ , وَهُوَ الْمَأْخَذُ الَّذِي تَنَازَعَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ , وَهُوَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } . هَلْ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ هُوَ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ مُتَدَيِّنٌ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ ؟ أَوْ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ آبَاؤُهُ قَدْ دَخَلُوا فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ : فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ : هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ , وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ , وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ , بَلْ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ صَرِيحًا . وَالثَّانِي : قَوْلُ الشَّافِعِيِّ , وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ . وَأَصْلُ هَذَا الْقَوْلِ : أَنَّ عَلِيًّا , وَابْنَ عَبَّاسٍ تَنَازَعَا فِي ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ , فَقَالَ عَلِيٌّ : لَا تُبَاحُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا نِسَاؤُهُمْ , فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ , وَرُوِيَ عَنْهُ . تَغُرُّوهُمْ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُومُوا بِالشُّرُوطِ الَّتِي شَرَطَهَا عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ , فَإِنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِمْ

أَنْ لَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ , وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : بَلْ تُبَاحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } . وَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يُحَرِّمُوا ذَبَائِحَهُمْ , وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ عَلِيٍّ وَحْدَهُ , وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ . فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ , وَمَالِكٍ , وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ , وَصَحَّحَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ , بَلْ هِيَ آخِرُ قَوْلَيْهِ , بَلْ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ : مَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَهُ إلَّا عَلِيًّا , وَهَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ , وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَالرَّأْيِ , كَالْحَسَنِ , وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ , وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ , وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَدَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ , وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ : كَانَ آخِرُ قَوْلِ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى بِذَبَائِحِهِمْ بَأْسًا . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ عَلِيٍّ , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ , وَأَحْمَدُ إنَّمَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ فِي بَنِي تَغْلِبَ , وَهُمْ الَّذِينَ تَنَازَعَ فِيهِمْ الصَّحَابَةُ , فَأَمَّا سَائِرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ الْعَرَبِ , مِثْلُ تَنُوخَ وَبَهْرَاءَ , وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْيَهُودِ فَلَا أَعْرِفُ عَنْ أَحْمَدَ

فِي حِلِّ ذَبَائِحِهِمْ نِزَاعًا , وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ , وَلَا عَنْ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ السَّلَفِ , وَإِنَّمَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ فِي بَنِي تَغْلِبَ خَاصَّةً , وَلَكِنْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ مَنْ جَعَلَ فِيهِمْ رِوَايَتَيْنِ كَبَنِي تَغْلِبَ , وَالْحِلُّ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ , وَمَا أَعْلَمُ لِقَوْلِ الْآخَرِ قُدْوَةً مِنْ السَّلَفِ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ [ قَالُوا ] بِأَنَّهُ : مَنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ غَيْرَ كِتَابِيٍّ , بَلْ مَجُوسِيًّا لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ وَمُنَاكَحَةُ نِسَائِهِ , وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَبُ مَجُوسِيًّا , وَأَمَّا الْأُمُّ فَلَهُ فِيهَا قَوْلَانِ , فَإِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ مَجُوسِيَّيْنِ حَرُمَتْ ذَبِيحَتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ , وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ , وَغَالِبُ ظَنِّي أَنَّ هَذَا غَلَطٌ عَلَى مَالِكٍ فَإِنِّي لَمْ أَجِدْهُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ . وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُخَرَّجَةِ عَنْ أَحْمَدَ فِي سَائِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ الْعَرَبِ . وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ , وَهُوَ الرِّوَايَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا هَؤُلَاءِ , فَأَمَّا إذَا جَعَلَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي بَنِي تَغْلِبَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعَرَبِ , أَوْ قِيلَ إنَّ النِّزَاعَ عَامٌّ , وَفَرَّعْنَا عَلَى الْقَوْلِ بِحِلِّ ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ وَنِسَائِهِمْ , كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ , فَإِنَّهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا عِبْرَةَ بِالنَّسَبِ , بَلْ لَوْ كَانَ الْأَبَوَانِ جَمِيعًا مَجُوسِيَّيْنِ أَوْ وَثَنِيَّيْنِ

وَالْوَلَدُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِلَا رَيْبٍ , كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ .
15 - 15 - مَسْأَلَةٌ : وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ , عَمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْ الْكُحْلِ , وَالِاغْتِسَالِ , وَالْحِنَّاءِ وَالْمُصَافَحَةِ , وَطَبْخِ الْحُبُوبِ وَإِظْهَارِ السُّرُورِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ إلَى الشَّارِعِ : فَهَلْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهَلْ يَكُونُ فِعْلُ ذَلِكَ بِدْعَةً أَمْ لَا ؟ وَمَا تَفْعَلُهُ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مِنْ الْمَأْتَمِ وَالْحُزْنِ وَالْعَطَشِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ , وَقِرَاءَةِ الْمَصْرُوعِ , وَشَقِّ الْجُيُوبِ . هَلْ لِذَلِكَ أَصْلٌ ؟ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ , وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ , وَلَا غَيْرِهِمْ . وَلَا رَوَى أَهْلُ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا , لَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الصَّحَابَةِ , وَلَا التَّابِعِينَ , لَا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا , لَا فِي كُتُبِ الصَّحِيحِ , وَلَا فِي السُّنَنِ , وَلَا الْمَسَانِيدِ , وَلَا يُعْرَفُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى عَهْدِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ . وَلَكِنْ رَوَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ مِثْلَ مَا

رَوَوْا أَنَّ مَنْ اكْتَحَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَرْمَدْ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ , وَمَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَمْرَضْ ذَلِكَ الْعَامِ , وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَرَوَوْا فَضَائِلَ فِي صَلَاةِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ , وَرَوَوْا أَنَّ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ تَوْبَةَ آدَمَ , وَاسْتِوَاءَ السَّفِينَةِ عَلَى الْجُودِيِّ , وَرَدَّ يُوسُفَ عَلَى يَعْقُوبَ , وَإِنْجَاءَ إبْرَاهِيمَ مِنْ النَّارِ , وَفِدَاءَ الذَّبِيحِ بِالْكَبْشِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَرَوَوْا فِي حَدِيثٍ مَوْضُوعٍ مَكْذُوبٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّهُ مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ السَّنَةِ } . وَرِوَايَةُ هَذَا كُلِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذِبٌ , وَلَكِنَّهُ مَعْرُوفٌ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ . قَالَ : { بَلَغَنَا أَنَّهُ مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ , وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ سَنَتِهِ } وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ , وَأَهْلُ الْكُوفَةِ كَانَ فِيهِ طَائِفَتَانِ . طَائِفَةٌ رَافِضَةٌ يُظْهِرُونَ مُوَالَاةَ أَهْلِ الْبَيْتِ , وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ إمَّا مَلَاحِدَةٌ زَنَادِقَةٌ , وَإِمَّا جُهَّالٌ , وَأَصْحَابُ هَوًى . وَطَائِفَةٌ نَاضِبَةٌ تَبْغُضُ عَلِيًّا , وَأَصْحَابَهُ , لِمَا جَرَى مِنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ مَا جَرَى . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { سَيَكُونُ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ } . فَكَانَ الْكَذَّابُ هُوَ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيَّ ,

وَكَانَ يُظْهِرُ مُوَالَاةَ أَهْلِ الْبَيْتِ , وَالِانْتِصَارَ لَهُمْ , وَقَتَلَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ أَمِيرَ الْعِرَاقِ الَّذِي جَهَّزَ السَّرِيَّةَ الَّتِي قَتَلَتْ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ثُمَّ إنَّهُ أَظْهَرَ الْكَذِبَ , وَادَّعَى النُّبُوَّةَ , وَأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ , حَتَّى قَالُوا لِابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ . قَالُوا لِأَحَدِهِمَا : إنَّ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ , فَقَالَ صَدَقَ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } . وَقَالُوا لِلْآخَرِ : إنَّ الْمُخْتَارَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ فَقَالَ صَدَقَ : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } . وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَهُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ , وَكَانَ : مُنْحَرِفًا عَنْ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ , فَكَانَ هَذَا مِنْ النَّوَاصِبِ , وَالْأَوَّلُ مِنْ الرَّوَافِضِ , وَهَذَا الرَّافِضِيُّ كَانَ : أَعْظَمَ كَذِبًا وَافْتِرَاءً , وَإِلْحَادًا فِي الدِّينِ , فَإِنَّهُ ادَّعَى النُّبُوَّةَ , وَذَاكَ كَانَ أَعْظَمَ عُقُوبَةً لِمَنْ خَرَجَ عَلَى سُلْطَانِهِ , وَانْتِقَامًا لِمَنْ اتَّهَمَهُ بِمَعْصِيَةِ أَمِيرِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ , وَكَانَ فِي الْكُوفَةِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِتَنٌ وَقِتَالٌ فَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَوْمَ عَاشُورَاءَ قَتَلَتْهُ الطَّائِفَةُ الظَّالِمَةُ الْبَاغِيَةُ , وَأَكْرَمَ اللَّهُ الْحُسَيْنَ بِالشَّهَادَةِ , كَمَا أَكْرَمَ بِهَا مَنْ أَكْرَمَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ . أَكْرَمَ بِهَا حَمْزَةَ

وَجَعْفَرَ , وَأَبَاهُ عَلِيًّا , وَغَيْرَهُمْ , وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ مِمَّا رَفَعَ اللَّهُ بِهَا مَنْزِلَتَهُ , وَأَعْلَى دَرَجَتَهُ , فَإِنَّهُ هُوَ وَأَخُوهُ الْحَسَنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ , وَالْمَنَازِلُ الْعَالِيَةُ لَا تُنَالُ إلَّا بِالْبَلَاءِ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا سُئِلَ : أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً فَقَالَ : الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ , فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ , وَلَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ } . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ . فَكَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ قَدْ سَبَقَ لَهُمَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مَا سَبَقَ , مِنْ الْمَنْزِلَةِ الْعَالِيَةِ , وَلَمْ يَكُنْ قَدْ حَصَلَ لَهُمَا مِنْ الْبَلَاءِ مَا حَصَلَ لِسَلَفِهِمَا الطَّيِّبِ , فَإِنَّهُمَا وُلِدَا فِي عِزِّ الْإِسْلَامِ , وَتَرَبَّيَا فِي عِزٍّ وَكَرَامَةٍ , وَالْمُسْلِمُونَ يُعَظِّمُونَهُمَا وَيُكْرِمُونَهُمَا , وَمَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْتَكْمِلَا مِنْ التَّمْيِيزِ , فَكَانَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا أَنْ ابْتَلَاهُمَا بِمَا يُلْحِقُهُمَا بِأَهْلِ بَيْتِهِمَا , كَمَا اُبْتُلِيَ مَنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُمَا , فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَفْضَلُ مِنْهُمَا , وَقَدْ قُتِلَ شَهِيدًا وَكَانَ مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ مِمَّا ثَارَتْ بِهِ الْفِتَنُ بَيْنَ النَّاسِ . كَمَا كَانَ مَقْتَلُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَوْجَبَتْ الْفِتَنَ

بَيْنَ النَّاسِ , وَبِسَبَبِهِ تَفَرَّقَتْ الْأُمَّةُ إلَيَّ الْيَوْمِ . وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { ثَلَاثٌ مَنْ نَجَا مِنْهُنَّ فَقَدْ نَجَا : مَوْتِي , وَقَتْلُ خَلِيفَةٍ مُصْطَبِرٍ وَالدَّجَّالُ } . فَكَانَ مَوْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي اُفْتُتِنَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ , وَارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ , فَأَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى ثَبَّتَ اللَّهُ بِهِ الْإِيمَانَ , وَأَعَادَ بِهِ الْأَمْرَ إلَى مَا كَانَ , فَأَدْخَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ فِي الْبَابِ الَّذِي مِنْهُ خَرَجُوا , وَأَقَرَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ عَلَى الدِّينِ الَّذِي وَلَجُوا فِيهِ وَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْقُوَّةِ وَالْجِهَادِ وَالشِّدَّةِ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ , وَاللِّينِ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَا اسْتَحَقَّ بِهِ وَبِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ فَقَهَرَ الْكُفَّارَ مِنْ الْمَجُوسِ , وَأَهْلِ الْكِتَابِ , وَأَعَزَّ الْإِسْلَامَ , وَمَصَّرَ الْأَمْصَارَ , وَفَرَضَ الْعَطَاءَ , وَوَضَعَ الدِّيوَانَ , وَنَشَرَ الْعَدْلَ , وَأَقَامَ السُّنَّةَ , وَظَهَرَ الْإِسْلَامَ فِي أَيَّامِهِ ظُهُورًا بَانَ بِهِ تَصْدِيقُ قَوْله تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا } . وقَوْله تَعَالَى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِيَسْتَخْلِفُنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلِيُبَدِّلْنَهُمْ مِنْ بَعْدِ

خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ , وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ . وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . فَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الَّذِي أَنْفَقَ كُنُوزَهُمَا فَعُلِمَ أَنَّهُ أَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَأَنَّهُ كَانَ خَلِيفَةً رَاشِدًا مَهْدِيًّا , ثُمَّ جَعَلَ الْأَمْرَ شُورَى فِي سِتَّةٍ , فَاتَّفَقَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِنْ غَيْرِ رَغْبَةٍ بَذَلَهَا لَهُمْ , وَلَا رَهْبَةٍ أَخَافَهُمْ بِهَا وَبَايَعُوهُ بِأَجْمَعِهِمْ طَائِعِينَ غَيْرَ كَارِهِينَ , وَجَرَى فِي آخِرِ أَيَّامِهِ أَسْبَابٌ ظَهَرَ بِالشَّرِّ فِيهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْعُدْوَانِ , وَمَا زَالُوا يَسْعَوْنَ فِي الْفِتَنِ حَتَّى قُتِلَ الْخَلِيفَةُ مَظْلُومًا شَهِيدًا بِغَيْرِ سَبَبٍ يُبِيحُ قَتْلَهُ , وَهُوَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ , لَمْ يُقَاتِلْ مُسْلِمًا . فَلَمَّا قُتِلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَفَرَّقَتْ الْقُلُوبُ , وَعَظُمَتْ الْكُرُوبُ , وَظَهَرَتْ الْأَشْرَارُ , وَذُلَّ الْأَخْيَارُ , وَسَعَى فِي الْفِتْنَةِ مَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهَا , وَعَجَزَ عَنْ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ مَنْ كَانَ يُحِبُّ إقَامَتَهُ , فَبَايَعُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , وَهُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِالْخِلَافَةِ حِينَئِذٍ , وَأَفْضَلُ مَنْ بَقِيَ , لَكِنْ كَانَتْ الْقُلُوبُ مُتَفَرِّقَةً , وَنَارُ الْفِتْنَةِ مُتَوَقِّدَةً , فَلَمْ تَتَّفِقْ الْكَلِمَةُ , وَلَمْ تَنْتَظِمْ الْجَمَاعَةُ , وَلَمْ يَتَمَكَّنْ

الْخَلِيفَةُ وَخِيَارُ الْأُمَّةِ مِنْ كُلِّ مَا يُرِيدُونَهُ مِنْ الْخَيْرِ , وَدَخَلَ فِي الْفُرْقَةِ وَالْفِتْنَةِ أَقْوَامٌ . وَكَانَ مَا كَانَ , إلَى أَنْ ظَهَرَتْ الْحَرُورِيَّةُ الْمَارِقَةُ , مَعَ كَثْرَةِ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمْ , فَقَاتَلُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا وَمَنْ مَعَهُ , فَقَتَلَهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , طَاعَةً لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ : { يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ , وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ , وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ , يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ , يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ , أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَقَوْلُهُ : { تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . فَكَانَتْ هَذِهِ الْحَرُورِيَّةُ هِيَ الْمَارِقَةُ , وَكَانَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فُرْقَةٌ , وَالْقِتَالُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ الِاقْتِتَالِ

وَبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ , وَأَمَرَ بِإِصْلَاحٍ بَيْنَهُمْ , فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ قُوتِلَتْ الْبَاغِيَةُ , وَلَمْ يَأْمُرْ بِالِاقْتِتَالِ ابْتِدَاءً . وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمَارِقَةَ يَقْتُلُهَا أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ , فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ مَعَهُ هُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوهُمْ . فَدَلَّ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّهُمْ أَدْنَى إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ مَعَهُ مَعَ إيمَانِ الطَّائِفَتَيْنِ . ثُمَّ إنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ مُلْجِمٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَارِقِينَ , قَتَلَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا فَصَارَ إلَى كَرَامَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ شَهِيدًا , وَبَايَعَ الصَّحَابَةُ لِلْحَسَنِ ابْنِهِ , فَظَهَرَتْ فَضِيلَتُهُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَيْثُ قَالَ : { إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } فَنَزَلَ عَنْ الْوِلَايَةِ وَأَصْلَحَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ , وَكَانَ هَذَا مِمَّا مَدَحَهُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ , وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمَا مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَحْمَدُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . ثُمَّ إنَّهُ مَاتَ وَصَارَ إلَى كَرَامَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ , وَقَامَتْ طَوَائِفُ كَاتَبُوا الْحُسَيْنَ وَوَعَدُوهُ بِالنَّصْرِ وَالْمُعَاوَنَةِ إذَا قَامَ بِالْأَمْرِ , وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ , بَلْ لَمَّا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ ابْنَ عَمِّهِ

أَخْلَفُوا وَعْدَهُ , وَنَقَضُوا عَهْدَهُ , وَأَعَانُوا عَلَيْهِ مَنْ وَعَدُوهُ أَنْ يَدْفَعُوهُ عَنْهُ , وَيُقَاتِلُوهُ مَعَهُ . وَكَانَ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالْمَحَبَّةِ لِلْحُسَيْنِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا أَشَارُوا عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَذْهَبَ إلَيْهِمْ , وَلَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ , وَرَأَوْا أَنَّ خُرُوجَهُ إلَيْهِمْ لَيْسَ بِمَصْلَحَةٍ , وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا يَسُرُّ , وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا , وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا . فَلَمَّا خَرَجَ الْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرَأَى أَنَّ الْأُمُورَ قَدْ تَغَيَّرَتْ , طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَدْعُوهُ يَرْجِعُ , أَوْ يَلْحَقَ بِبَعْضِ الثُّغُورِ , أَوْ يَلْحَقَ بِابْنِ عَمِّهِ يَزِيدَ , فَمَنَعُوهُ هَذَا وَهَذَا . حَتَّى يَسْتَأْسِرَ , وَقَاتَلُوهُ فَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ . وَطَائِفَةٌ مِمَّنْ مَعَهُ , مَظْلُومًا شَهِيدًا شَهَادَةً أَكْرَمُهُ اللَّهُ بِهَا وَأَلْحَقَهُ بِأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ . وَأَهَانَ بِهَا مَنْ ظَلَمَهُ وَاعْتَدَى عَلَيْهِ , وَأَوْجَبَ ذَلِكَ شَرًّا بَيْنَ النَّاسِ . فَصَارَتْ طَائِفَةٌ جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ : إمَّا مُلْحِدَةٌ مُنَافِقَةٌ , وَإِمَّا ضَالَّةٌ غَاوِيَةٌ , تُظْهِرُ مُوَالَاتَهُ , وَمُوَالَاةَ أَهْلِ بَيْتِهِ تَتَّخِذُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ مَأْتَمٍ وَحُزْنٍ وَنِيَاحَةٍ , وَتُظْهِرُ فِيهِ شِعَارَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ لَطْمِ الْخُدُودِ , وَشَقِّ الْجُيُوبِ , وَالتَّعَزِّي بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ . وَاَلَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فِي الْمُصِيبَةِ - إذَا كَانَتْ جَدِيدَةً - إنَّمَا هُوَ الصَّبْرُ وَالِاحْتِسَابُ وَالِاسْتِرْجَاعُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إذَا

أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ مِنَّا مِنْ لَطَمَ الْخُدُودَ , وَشَقَّ الْجُيُوبَ , وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } . وَقَالَ : { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ الصَّالِقَةِ , وَالْحَالِقَةِ , وَالشَّاقَّةِ } . وَقَالَ : { النَّائِحَةُ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ } . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ , عَنْ أَبِيهَا الْحُسَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ , فَيَذْكُرُ مُصِيبَتَهُ وَإِنْ قَدِمَتْ , فَيُحْدِثُ لَهَا اسْتِرْجَاعًا إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلَ أَجْرِهِ يَوْمَ أُصِيبَ بِهَا } . وَهَذَا مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ , فَإِنَّ مُصِيبَةَ الْحُسَيْنِ وَغَيْرِهِ إذَا ذُكِرَتْ بَعْدَ طُولِ الْعَهْدِ , فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَسْتَرْجِعَ فِيهَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لِيُعْطَى مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِ الْمُصَابِ يَوْمَ أُصِيبَ بِهَا . وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابِ عِنْدَ حَدَثَانِ الْعَهْدِ بِالْمُصِيبَةِ , فَكَيْفَ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ , فَكَانَ مَا زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ لِأَهْلِ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ مِنْ اتِّخَاذِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَأْتَمًا , وَمَا يَصْنَعُونَ فِيهِ مِنْ النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ , وَإِنْشَادِ قَصَائِدِ الْحُزْنِ , وَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا كَذِبٌ

كَثِيرٌ وَالصِّدْقُ فِيهَا لَيْسَ فِيهِ إلَّا تَجْدِيدُ الْحُزْنِ , وَالتَّعَصُّبُ , وَإِثَارَةُ الشَّحْنَاءِ وَالْحَرْبِ , وَإِلْقَاءُ الْفِتَنِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ , وَالتَّوَسُّلُ بِذَلِكَ إلَى سَبِّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ , وَكَثْرَةُ الْكَذِبِ وَالْفِتَنِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَعْرِفْ طَوَائِفُ الْإِسْلَامِ أَكْثَرَ كَذِبًا وَفِتَنًا وَمُعَاوَنَةً لِلْكُفَّارِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ , مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الضَّالَّةِ الْغَاوِيَةِ , فَإِنَّهُمْ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ . وَأُولَئِكَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ , وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ } . وَهَؤُلَاءِ يُعَاوِنُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا أَعَانُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ التُّرْكِ وَالتَّتَارِ عَلَى مَا فَعَلُوهُ بِبَغْدَادَ , وَغَيْرِهَا , بِأَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ , وَمَعْدِنِ الرِّسَالَةِ وَلَدِ الْعَبَّاسِ , وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْمُؤْمِنِينَ , مِنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَخَرَابِ الدِّيَارِ . وَشَرُّ هَؤُلَاءِ وَضَرَرُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ , لَا يُحْصِيهِ الرَّجُلُ الْفَصِيحُ فِي الْكَلَامِ . فَعَارَضَ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ إمَّا مِنْ النَّوَاصِبِ الْمُتَعَصِّبِينَ عَلَى الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ , وَإِمَّا مِنْ الْجُهَّالِ الَّذِينَ قَابَلُوا الْفَاسِدَ بِالْفَاسِدِ , وَالْكَذِبَ بِالْكَذِبِ , وَالشَّرَّ بِالشَّرِّ , وَالْبِدْعَةَ بِالْبِدْعَةِ , فَوَضَعُوا الْآثَارَ فِي شَعَائِرِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ كَالِاكْتِحَالِ وَالِاخْتِضَابِ , وَتَوْسِيعِ

النَّفَقَاتِ عَلَى الْعِيَالِ , وَطَبْخِ الْأَطْعِمَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْعَادَةِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْأَعْيَادِ وَالْمَوَاسِمِ , فَصَارَ هَؤُلَاءِ يَتَّخِذُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مَوْسِمًا كَمَوَاسِمِ الْأَعْيَادِ وَالْأَفْرَاحِ . وَأُولَئِكَ يَتَّخِذُونَهُ مَأْتَمًا يُقِيمُونَ فِيهِ الْأَحْزَانَ وَالْأَتْرَاحَ وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ مُخْطِئَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ السُّنَّةِ , وَإِنْ كَانَ أُولَئِكَ أَسْوَأَ قَصْدًا وَأَعْظَمَ جَهْلًا , وَأَظْهَرَ ظُلْمًا , لَكِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا , فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي , تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ , وَإِيَّاكُمْ وَمُحَدِّثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . وَلَمْ يَسُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ , لَا شَعَائِرَ الْحُزْنِ وَالتَّرَحِ , وَلَا شَعَائِرَ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ , { وَلَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ , فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا , هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى مِنْ الْغَرَقِ فَنَحْنُ نَصُومُهُ , فَقَالَ : نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ . فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ } وَكَانَتْ قُرَيْشٌ أَيْضًا تُعَظِّمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ . وَالْيَوْمُ الَّذِي أَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ كَانَ يَوْمًا وَاحِدًا , فَإِنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ

الْأَوَّلِ , فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ثُمَّ فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ ذَلِكَ الْعَامِ , فَنَسَخَ صَوْمَ عَاشُورَاءَ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ كَانَ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَاجِبًا ؟ أَوْ مُسْتَحَبًّا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا , ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ يَصُومُهُ مَنْ يَصُومُهُ اسْتِحْبَابًا , وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَامَّةَ بِصِيَامِهِ , بَلْ كَانَ يَقُولُ : { هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ , وَأَنَا صَائِمٌ فِيهِ فَمَنْ شَاءَ صَامَ } . وَقَالَ : { صَوْمُ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً , وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ } . { وَلَمَّا كَانَ آخِرُ عُمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَلَغَهُ أَنَّ الْيَهُودَ يَتَّخِذُونَهُ عِيدًا , قَالَ : لَئِنْ عِشْتُ إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ } . لِيُخَالِفَ الْيَهُودَ , وَلَا يُشَابِهَهُمْ فِي اتِّخَاذِهِ عِيدًا , وَكَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يَصُومُهُ , وَلَا يَسْتَحِبُّ صَوْمَهُ , بَلْ يَكْرَهُ إفْرَادَهُ بِالصَّوْمِ , كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْكُوفِيِّينَ , وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ صَوْمَهُ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَامَهُ أَنْ يَصُومَ مَعَهُ التَّاسِعَ ; لِأَنَّ هَذَا آخِرُ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ : { لَئِنْ عِشْتُ إلَى قَابِلٍ , لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ مَعَ الْعَاشِرِ } كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ , فَهَذَا الَّذِي سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا سَائِرُ الْأُمُورِ : مِثْلُ

اتِّخَاذِ طَعَامٍ خَارِجٍ عَنْ الْعَادَةِ , إمَّا حُبُوبٌ وَإِمَّا غَيْرُ حُبُوبٍ , أَوْ تَجْدِيدُ لِبَاسٍ وَتَوْسِيعُ نَفَقَةٍ , أَوْ اشْتِرَاءُ حَوَائِجِ الْعَامِ ذَلِكَ الْيَوْمِ , أَوْ فِعْلُ عِبَادَةٍ مُخْتَصَّةٍ . كَصَلَاةٍ مُخْتَصَّةٍ بِهِ , أَوْ قَصْدُ الذَّبْحِ , أَوْ ادِّخَارُ لُحُومِ الْأَضَاحِيّ لِيَطْبُخَ بِهَا الْحُبُوبَ , أَوْ الِاكْتِحَالُ وَالِاخْتِضَابُ , أَوْ الِاغْتِسَالُ أَوْ التَّصَافُحُ , أَوْ التَّزَاوُرُ أَوْ زِيَارَةُ الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ , وَنَحْوُ ذَلِكَ , فَهَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ , الَّتِي لَمْ يَسُنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ , وَلَا اسْتَحَبَّهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا مَالِكٌ وَلَا الثَّوْرِيُّ , وَلَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ , وَلَا أَبُو حَنِيفَةَ , وَلَا الْأَوْزَاعِيُّ , وَلَا الشَّافِعِيُّ , وَلَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ , وَلَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ , وَلَا أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ , وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ , مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ قَدْ كَانُوا يَأْمُرُونَ بِبَعْضِ ذَلِكَ . وَيَرْوُونَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ وَآثَارًا , وَيَقُولُونَ : " إنَّ بَعْضَ ذَلِكَ صَحِيحٌ . فَهُمْ مُخْطِئُونَ غَالَطُونِ بِلَا رَيْبٍ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ . وَقَدْ قَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ فِي مَسَائِلِهِ : سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ : { مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ } فَلَمْ يَرَهُ شَيْئًا . وَأَعْلَى مَا عِنْدَهُمْ أَثَرٌ يُرْوَى عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ : بَلَغَنَا {

أَنَّهُ مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ سَنَتِهِ } قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ جَرَّبْنَاهُ مُنْذُ سِتِّينَ عَامًا فَوَجَدْنَاهُ صَحِيحًا . وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ , وَلَمْ يَذْكُرْ مِمَّنْ سَمِعَ هَذَا وَلَا عَمَّنْ بَلَغَهُ , فَلَعَلَّ الَّذِي قَالَ هَذَا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُقَابِلُوا الرَّافِضَةَ بِالْكَذِبِ : مُقَابِلَةَ الْفَاسِدِ بِالْفَاسِدِ وَالْبِدْعَةِ بِالْبِدْعَةِ . وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ . فَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ , فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِرِزْقِهِ , وَلَيْسَ فِي إنْعَامِ اللَّهِ بِذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ كَانَ التَّوْسِيعُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ , وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى مَنْ هُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَلَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ أَنْ يُوَسِّعُوا عَلَى أَهْلَيْهِمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ بِخُصُوصِهِ , وَهَذَا كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يُنْذِرُونَ نَذْرًا لِحَاجَةٍ يَطْلُبُهَا , فَيَقْضِي اللَّهُ حَاجَتَهُ , فَيَظُنُّ أَنَّ النَّذْرَ كَانَ السَّبَبَ , وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ , وَقَالَ : إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ , وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ } . فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ حَاجَتَهُ إنَّمَا قُضِيَتْ بِالنَّذْرِ , فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَالنَّاسُ مَأْمُورُونَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَاتِّبَاعِ دِينِهِ وَسَبِيلِهِ , وَاقْتِفَاءِ هُدَاهُ وَدَلِيلِهِ , وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ

عَلَى مَا عَظُمَتْ بِهِ النِّعْمَةُ , حَيْثُ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ , وَيُزَكِّيهِمْ , وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ , وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ , وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا , وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ , أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ , لَمْ يُتَّبَعْ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَمَنْ رَأَى مِنْ رَجُلٍ مُكَاشَفَةً أَوْ تَأْثِيرًا فَاتَّبَعَهُ فِي خِلَافِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ مِنْ جِنْسِ أَتْبَاعِ الدَّجَّالِ , فَإِنَّ الدَّجَّالَ يَقُولُ لِلسَّمَاءِ : أَمْطِرِي فَتُمْطِرُ , وَيَقُولُ لِلْأَرْضِ , أَنَبْتِي فَتُنْبِتُ , وَيَقُولُ لِلْخَرِبَةِ أَخْرِجِي كُنُوزَك فَتَخْرُجُ مَعَهُ كُنُوزُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ , وَيَقْتُلُ رَجُلًا ثُمَّ يَأْمُرُهُ أَنْ يَقُومَ فَيَقُومَ , وَهُوَ مَعَ هَذَا كَافِرٌ مَلْعُونٌ عَدُوٌّ لِلَّهِ , قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا قَدْ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ : وَأَنَا أُنْذِرُكُمُوهُ إنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ - ك ف ر - يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ قَارِئٍ وَغَيْرِ قَارِئٍ , وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ } . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ , يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي

أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ , وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ , وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ , وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ , كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ كَذَّابُونَ دَجَّالُونَ , يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ } . هَؤُلَاءِ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ وَتُوحِي إلَيْهِمْ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } . وَمِنْ أَوَّلِ مَنْ ظَهَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ . وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ : كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَوَّى بَيْنَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ وَبَيْنَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ , فَإِنَّ مُسَيْلِمَةَ كَانَ لَهُ شَيْطَانٌ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَيُوحِي إلَيْهِ . وَمِنْ عَلَامَاتِ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأَحْوَالَ إذَا تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمْ وَقْتَ سَمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصَدِّيَةِ أَزْبَدُوا وَأَرْعَدُوا - كَالْمَصْرُوعِ - وَتَكَلَّمُوا بِكَلَامٍ لَا يُفْقَهُ مَعْنَاهُ , فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَتَكَلَّمُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ , كَمَا تَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ . وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ : أَنْ يَعْلَمَ الرَّجُلُ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ الَّذِينَ نَعَتَهُمْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ . حَيْثُ قَالَ : { أَلَا

إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ , الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } . فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا كَانَ لِلَّهِ وَلِيًّا . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ , وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ , وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ , فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ , وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ , وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا , وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا . فَبِي يَسْمَعُ , وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ , وَبِي يَمْشِي , وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ , وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ , يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ , وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . وَدِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ , عَلَى أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ , وَأَنْ نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَعَ , لَا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ . قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } . فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَهُوَ الْمَشْرُوعُ الْمَسْنُونُ , وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ فِي دُعَائِهِ , اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا , وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا .

239 - 239 - 155 - سُئِلَ : فِي قِرَاءَةِ الْمُؤْتَمِّ خَلْفَ الْإِمَامِ : جَائِزَةٌ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قَرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ : هَلْ عَلَيْهِ إثْمٌ فِي ذَلِكَ , أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ لَا تَبْطُلُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ ؟ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ : أَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي حَالِ سُكُوتِ الْإِمَامِ : كَصَلَاةِ الظُّهْرِ , وَالْعَصْرِ , وَالْأَخِيرَتَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ , وَكَذَلِكَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ إذَا لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَتَهُ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ لَا يَقْرَأَ خَلْفَهُ بِحَالٍ , وَالسَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقْرَأُ , وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ . وَأَمَّا إذَا سَمِعَ الْمَأْمُومُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَمِعُ وَلَا يَقْرَأُ بِحَالٍ , وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ , وَغَيْرِهِمْ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقْرَأُ حَالَ الْجَهْرِ بِالْفَاتِحَةِ خَاصَّةً , وَمَذْهَبُ طَائِفَةٍ كَالْأَوْزَاعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الشَّامِيِّينَ يَقْرَؤُهَا اسْتِحْبَابًا , وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدِّنَا . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ الْجَهْرِ وَحَالِ الْمُخَافَتَةِ , فَيَقْرَأُ فِي حَالِ السِّرِّ , وَلَا يَقْرَأُ فِي حَالِ الْجَهْرِ , وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى , قَالَ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا

لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ فَلْيَسْتَمِعْ , وَإِذَا سَكَتَ فَلْيَقْرَأْ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ الَّذِي لَا اسْتِمَاعَ مَعَهُ . وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَفُوتُ هَذَا الْأَجْرُ بِلَا فَائِدَةٍ بَلْ يَكُونُ إمَّا مُسْتَمِعًا , وَإِمَّا قَارِئًا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
328 - 328 - 16 - مَسْأَلَةٌ : فِي مَسْجِدٍ يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ وَالتَّلْقِينُ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً , ثُمَّ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ شُهُودٌ يُكْثِرُونَ الْكَلَامَ وَيَقَعُ التَّشْوِيشُ عَلَى الْقُرَّاءِ , فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُؤْذِيَ أَهْلَ الْمَسْجِدِ أَهْلَ الصَّلَاةِ أَوْ الْقِرَاءَةِ أَوْ الذِّكْرِ أَوْ الدُّعَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لَهُ , فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا عَلَى بَابِهِ قَرِيبًا مِنْهُ مَا يُشَوِّشُ عَلَى هَؤُلَاءِ , بَلْ قَدْ { خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَيَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ } " . فَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى الْمُصَلِّيَ أَنْ يَجْهَرَ عَلَى الْمُصَلِّي فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ ؟ وَمَنْ فَعَلَ مَا يُشَوِّشُ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ أَوْ فَعَلَ مَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

329 - 329 - 17 - مَسْأَلَةٌ : عَنْ رَجُلٍ دَعَا دُعَاءً مَلْحُونًا , فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : مَا يَقْبَلُ اللَّهُ دُعَاءً مَلْحُونًا , وَأَمَّا مَنْ دَعَا اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ بِدُعَاءٍ جَائِزٍ سَمِعَهُ اللَّهُ وَأَجَابَ دُعَاهُ , سَوَاءٌ كَانَ مُعْرَبًا أَوْ مَلْحُونًا , وَالْكَلَامُ الْمَذْكُورُ لَا أَصْلَ لَهُ , بَلْ يَنْبَغِي لِلدَّاعِي إذَا لَمْ يَكُنْ عَادَتُهُ الْإِعْرَابُ أَنْ لَا يَتَكَلَّفَ الْإِعْرَابَ , قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إذَا جَاءَ الْإِعْرَابُ ذَهَبَ الْخُشُوعُ , وَهَذَا كَمَا يُكْرَهُ تَكَلُّفُ السَّجْعِ فِي الدُّعَاءِ فَإِذَا وَقَعَ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ , فَإِنَّ أَصْلَ الدُّعَاءِ مِنْ الْقَلْبِ , وَاللِّسَانُ تَابِعٌ لِلْقَلْبِ , وَمَنْ جَعَلَ هِمَّتَهُ فِي الدُّعَاءِ تَقْوِيمَ لِسَانِهِ أَضْعَفَ تَوَجُّهَ قَلْبِهِ . وَلِهَذَا يَدْعُو الْمُضْطَرُّ بِقَلْبِهِ دُعَاءً يُفْتَحُ عَلَيْهِ , لَا يُحَضِّرُهُ قَبْلَ ذَلِكَ , وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ فِي قَلْبِهِ , وَالدُّعَاءُ يَجُوزُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَبِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ قَصْدَ الدَّاعِي وَمُرَادَهُ , وَإِنْ لَمْ يُقَوِّمْ لِسَانَهُ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ عَلَى تَنَوُّعِ الْحَاجَاتِ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ يَنْظُرُ إلَى الْفُقَرَاءِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ : عِنْدَ الْأَكْلِ , وَالْمُنَاصَفَةِ , وَالسَّمَاعِ . فَهَذَا الْقَوْلُ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ قَالَ : إنَّ اللَّهَ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ عِنْدَ الْأَكْلِ فَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ بِإِيثَارٍ , وَعِنْدَ الْمُجَارَاةِ فِي الْعِلْمِ لِأَنَّهُمْ يَقُصُّونَ الْمُنَاصَحَةَ , وَعِنْدَ السَّمَاعِ لِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ لِلَّهِ , أَوْ كَلَامًا يُشْبِهُ هَذَا , وَالْأَصْلُ الْجَامِعُ فِي هَذَا : أَنَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ مَا كَانَ لِلَّهِ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ وَيَنْظُرُ إلَيْهِ فِيهِ نَظَرَ مَحَبَّةٍ , وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الْخَالِصُ الصَّوَابُ , فَالْخَالِصُ مَا كَانَ لِلَّهِ , وَالصَّوَابُ مَا كَانَ بِأَمْرِ اللَّهِ , وَلَا رَيْبَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوَاكَلَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ وَالِاسْتِمَاعِ مِنْهَا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ , وَمِنْهَا مَا يَشْتَمِلُ عَلَى خَيْرٍ , وَشَرٍّ , وَحَقٍّ , وَبَاطِلٍ , وَمَصْلَحَةٍ , وَمَفْسَدَةٍ , وَحُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ بِحَسَبِهِ . فَصْلٌ : وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ تَحَرِّي الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَ مَا يُقَالُ إنَّهُ قَبْرُ نَبِيٍّ , أَوْ قَبْرُ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْقَرَابَةِ , أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ , أَوْ إلْصَاقُ بَدَنِهِ , أَوْ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ بِالْقَبْرِ , أَوْ بِمَا يُجَاوِرُ الْقَبْرَ مِنْ عُودٍ وَغَيْرِهِ , كَمَنْ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ فِي قِبْلِيّ شَرْقِي جَامِعِ دِمَشْقَ عِنْدَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقَالُ أَنَّهُ قَبْرُ هُودٍ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ قَبْرُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي

سُفْيَانَ أَوْ عِنْدَ الْمِثَالِ الْخَشَبِ الَّذِي يُقَالُ تَحْتُهُ رَأْسُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَهُوَ مُخْطِئٌ مُبْتَدِعٌ , مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ , فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ بِهَذِهِ الْأَمْكِنَةِ لَيْسَ لَهُ مَزِيَّةٌ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا , وَلَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ , بَلْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ , كَمَا نَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ وَدَوَاعِيهِ , وَإِنْ لَمْ يَقْصِدُوا دُعَاءَ الْقَبْرِ , وَالدُّعَاءَ بِهِ , فَكَيْفَ إذَا قَصَدُوا ذَلِكَ .

فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ : هَلْ لِلدُّعَاءِ خُصُوصِيَّةُ قَبُولٍ أَوْ سُرْعَةُ إجَابَةٍ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ , أَوْ مَكَان مُعَيَّنٍ عِنْدَ قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ . فَلَا رَيْبَ أَنَّ الدُّعَاءَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ أَجْوَبُ مِنْهُ فِي بَعْضٍ , فَالدُّعَاءُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ أَجْوَبُ الْأَوْقَاتِ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ - وَفِي رِوَايَةٍ : نِصْفُ اللَّيْلِ - فَيَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ , مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ , مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ . حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ } " . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ } " وَالدُّعَاءُ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ , وَعِنْدَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ , وَعِنْدَ الْأَذَانِ , وَالْإِقَامَةِ , وَفِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ , وَفِي حَالِ السُّجُودِ , وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ , وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ , وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ , فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمَعْرُوفَةُ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ . وَالدُّعَاءُ بِالْمَشَاعِرِ : كَعَرَفَةَ , وَمُزْدَلِفَةَ , وَمِنًى , وَالْمُلْتَزَمِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَشَاعِرِ مَكَّةَ , وَالدُّعَاءُ بِالْمَسَاجِدِ مُطْلَقًا , وَكُلَّمَا فُضِّلَ الْمَسْجِدُ كَالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ كَانَتْ الصَّلَاةُ وَالدُّعَاءُ أَفْضَلَ . وَأَمَّا الدُّعَاءُ لِأَجْلِ كَوْنِ الْمَكَانِ فِيهِ قَبْرُ نَبِيٍّ , أَوْ وَلِيٍّ , فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إنَّ

الدُّعَاءَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَكِنْ هَذَا مِمَّا ابْتَدَعَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُضَاهَاةً لِلنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ , فَأَصْلُهُ مِنْ دِينِ الْمُشْرِكِينَ , لَا مِنْ دِينِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ , كَاِتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ , فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَسْتَحِبَّهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا , وَلَكِنْ ابْتَدَعَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُضَاهَاةً لِمَنْ لَعَنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَغِيثَ إلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ بِنَبِيٍّ مُرْسَلٍ , أَوْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ , أَوْ بِكَلَامِهِ تَعَالَى , أَوْ بِالْكَعْبَةِ , أَوْ بِالدُّعَاءِ الْمَشْهُورِ بِاحْتِيَاطِ قَافْ , أَوْ بِدُعَاءِ أُمِّ دَاوُد , أَوْ الْخَضِرِ , وَيَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى اللَّهِ فِي السُّؤَالِ بِحَقِّ فُلَانٍ بِحُرْمَةِ فُلَانٍ بِجَاهِ الْمُقَرَّبِينَ بِأَقْرَبِ الْخَلْقِ , أَوْ يُقْسِمُ بِأَعْمَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ , فَيُقَالُ هَذَا السُّؤَالُ فِيهِ فُصُولٌ مُتَعَدِّدَةٌ . فَأَمَّا الْأَدْعِيَةُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ فَفِيهَا سُؤَالُ اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ , وَصِفَاتِهِ , وَالِاسْتِعَاذَةِ بِكَلَامِهِ كَمَا فِي الْأَدْعِيَةِ الَّتِي فِي السُّنَنِ . مِثْلُ قَوْلِهِ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ أَنْتَ اللَّهُ , بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ , يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ } " . وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ , الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } " .

وَمِثْلُ الدُّعَاءِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك , سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ , أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ , أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ } " . وَأَمَّا الْأَدْعِيَةُ الَّتِي يَدْعُو بِهَا بَعْضُ الْعَامَّةِ وَيَكْتُبُهَا بَاعَةُ الْحُرُوزِ مِنْ الطُّرُقِيَّةِ الَّتِي فِيهَا : أَسْأَلُكَ بِاحْتِيَاطِ قَافٍ , وَهُوَ يُوفِ الْمُخَافِ , وَالطُّورِ , وَالْعَرْشِ , وَالْكُرْسِيِّ , وَزَمْزَمَ , وَالْمَقَامِ , وَالْبَلَدِ الْحَرَامِ , وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ فَلَا يُؤْثَرُ مِنْهَا شَيْءٌ لَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ , وَلَا عَنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقْسِمَ بِهَذِهِ بِحَالٍ , بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } " . وَقَالَ : { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } " فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقْسِمَ بِالْمَخْلُوقَاتِ أَلْبَتَّةَ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ } " . كَمَا قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ : أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ لَا وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ . وَكَمَا قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ : أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ أَيْ رَبِّ إلَّا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا . وَكِلَاهُمَا كَانَ مِمَّنْ يُبِرُّ اللَّهُ قَسَمَهُ , وَالْعَبْدُ يَسْأَلُ رَبَّهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْتَضِي مَطْلُوبَهُ وَهِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ

الَّتِي وَعَدَ الثَّوَابَ عَلَيْهَا , وَدَعَا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وَعَدَ إجَابَتَهُمْ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَتَوَسَّلُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِنَبِيِّهِ ثُمَّ بِعَمِّهِ وَغَيْرِ عَمِّهِ مِنْ صَالِحِيهِمْ يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ , كَمَا فِي الصَّحِيحِ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا , وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيّنَا فَاسْقِنَا , فَيُسْقَوْنَ فَتَوَسَّلُوا بَعْدَ مَوْتِهِ بِالْعَبَّاسِ كَمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ , وَهُوَ تَوَسُّلُهُمْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ , وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ : أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ بَصَرِي . فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَيَقُولَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ , يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي لِيَقْضِيَهَا , اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِي . فَهَذَا طَلَبٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْبَلَ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ لَهُ فِي تَوْجِيهِهِ بِنَبِيِّهِ إلَى اللَّهِ هُوَ كَتَوَسُّلِ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ بِهِ إلَى اللَّهِ , فَإِنَّ هَذَا التَّوَجُّهَ وَالتَّوَسُّلَ هُوَ تَوَجُّهٌ وَتَوَسُّلٌ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ .

333 - 333 - 3 وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ , عَنْ أَهْلِ مَدِينَةٍ رَأَى بَعْضُهُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ , وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ حَاكِمِ الْمَدِينَةٍ : فَهَلْ لَهُمْ أَنْ يَصُومُوا الْيَوْمَ الَّذِي فِي الظَّاهِرِ التَّاسِعُ . وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ الْعَاشِرَ ؟ فَأَجَابَ : نَعَمْ . يَصُومُونَ التَّاسِعَ فِي الظَّاهِرِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ , وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَكُونُ عَاشِرًا , وَلَوْ قُدِّرَ ثُبُوتُ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ . فَإِنَّ فِي السُّنَنِ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ , وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ , وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ } " . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد , وَابْنُ مَاجَهْ , وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ . وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ , وَالْأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ } " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ , وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ . فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ وَقَفُوا بِعَرَفَةَ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ خَطَأً أَجْزَأَهُمْ الْوُقُوفُ بِالِاتِّفَاقِ , وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي حَقِّهِمْ . وَلَوْ وَقَفُوا الثَّامِنَ خَطَأً فَفِي الْإِجْزَاءِ نِزَاعٌ . وَالْأَظْهَرُ صِحَّةُ الْوُقُوفِ أَيْضًا , وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ , وَمَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - " إنَّمَا عَرَفَةُ الْيَوْمُ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ " وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَّقَ

الْحُكْمَ بِالْهِلَالِ وَالشَّهْرِ , فَقَالَ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } وَالْهِلَالُ اسْمٌ لِمَا يُسْتَهَلُّ بِهِ : أَيْ يُعْلَنُ بِهِ , وَيُجْهَرُ بِهِ فَإِذَا طَلَعَ فِي السَّمَاءِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ وَيَسْتَهِلُّوا لَمْ يَكُنْ هِلَالًا . وَكَذَا الشَّهْرُ مَأْخُوذٌ مِنْ الشُّهْرَةِ , فَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بَيْنَ النَّاسِ لَمْ يَكُنْ الشَّهْرُ قَدْ دَخَلَ , وَإِنَّمَا يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؟ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ إذَا طَلَعَ فِي السَّمَاءِ كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ أَوَّلُ الشَّهْرِ . سَوَاءٌ ظَهَرَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ وَاسْتَهَلُّوا بِهِ أَوْ لَا . وَلَيْسَ كَذَلِكَ : بَلْ ظُهُورُهُ لِلنَّاسِ وَاسْتِهْلَالُهُمْ بِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ : وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ , وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ , وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ } " . أَيْ : هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَعْلَمُونَ أَنَّهُ وَقْتُ الصَّوْمِ , وَالْفِطْرِ . وَالْأَضْحَى . فَإِذَا لَمْ تَعْلَمُوهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ . وَصَوْمُ الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ : هَلْ هُوَ تَاسِعُ ذِي الْحِجَّةِ ؟ أَوْ عَاشِرُ ذِي الْحِجَّةِ ؟ جَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعَاشِرِ . كَمَا أَنَّهُمْ لَوْ شَكُّوا لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ ; هَلْ طَلَعَ الْهِلَالُ ؟ أَمْ لَمْ يَطْلُعْ ؟ فَإِنَّهُمْ يَصُومُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَإِنَّمَا يَوْمُ الشَّكِّ الَّذِي رُوِيَتْ فِيهِ الْكَرَاهَةُ الشَّكُّ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ

شَعْبَانَ . وَإِنَّمَا الَّذِي يَشْتَبِهُ فِي هَذَا الْبَابِ مَسْأَلَتَانِ : إحْدَاهُمَا : لَوْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ , أَوْ أَخْبَرَهُ بِهِ جَمَاعَةٌ يَعْلَمُ صِدْقَهُمْ : هَلْ يُفْطِرُ ؟ أَمْ لَا ؟ وَالثَّانِيَةُ : لَوْ رَأَى هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ , أَوْ أَخْبَرَهُ بِهِ جَمَاعَةٌ يَعْلَمُ صِدْقَهُمْ , هَلْ يَكُونُ فِي حَقِّهِ يَوْمَ عَرَفَةَ , وَيَوْمُ النَّحْرِ هُوَ التَّاسِعُ , وَالْعَاشِرُ بِحَسَبِ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ الَّتِي لَمْ تُشْتَهَرْ عِنْدَ النَّاسِ ؟ أَوْ هُوَ التَّاسِعُ وَالْعَاشِرُ الَّذِي اشْتَهَرَ عِنْدَ النَّاسِ ؟ . فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فَالْمُنْفَرِدُ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ , لَا يُفْطِرُ عَلَانِيَةً , بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ يُبِيحُ الْفِطْرَ كَمَرَضٍ وَسَفَرٍ , وَهَلْ يُفْطِرُ سِرًّا عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ أَصَحُّهُمَا لَا يُفْطِرُ سِرًّا , وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ , وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِهِمَا . وَفِيهِمَا قَوْلٌ أَنَّهُ يُفْطِرُ سِرًّا كَالْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيِّ , وَقَدْ رَوَى أَنَّ رَجُلَيْنِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَيَا هِلَالَ شَوَّالٍ , فَأَفْطَرَ أَحَدُهُمَا , وَلَمْ يُفْطِرْ الْآخَرُ . فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ قَالَ : لِلَّذِي أَفْطَرَ لَوْلَا صَاحِبُك لَأَوْجَعْتُك ضَرْبًا . وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِطْرَ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ , وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ , وَاَلَّذِي صَامَهُ الْمُنْفَرِدُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَيْسَ هُوَ يَوْمَ الْعِيدِ الَّذِي نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِهِ , فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ , وَيَوْمِ

النَّحْرِ . وَقَالَ : { أَمَّا أَحَدُهُمَا فَيَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صَوْمِكُمْ , وَأَمَّا الْآخَرُ فَيَوْمٌ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ } " . فَاَلَّذِي نَهَى عَنْ صَوْمِهِ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يُفْطِرُهُ الْمُسْلِمُونَ , وَيَنْسُكُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ . وَهَذَا يَظْهَرُ بِالْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ , فَإِنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ بِرُؤْيَةِ ذِي الْحِجَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقِفَ قَبْلَ النَّاسِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ فِي الظَّاهِرِ الثَّامِنُ , وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ رُؤْيَتِهِ هُوَ التَّاسِعُ , وَهَذَا لِأَنَّ فِي انْفِرَادِ الرَّجُلِ فِي الْوُقُوفِ , وَالذَّبْحِ , مِنْ مُخَالَفَةِ الْجَمَاعَةِ مَا فِي إظْهَارِهِ لِلْفِطْرِ . وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ التَّاسِعِ فِي حَقِّ مَنْ رَأَى الْهِلَالَ , أَوْ أَخْبَرَهُ ثِقَتَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَا الْهِلَالَ , وَهُوَ الْعَاشِرُ بِحَسَبِ ذَلِكَ , وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَامَّةِ , وَهُوَ الْعَاشِرُ بِحَسَبِ الرُّؤْيَةِ الْخَفِيَّةِ , فَهَذَا يُخَرَّجُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ . فَمَنْ أَمَرَهُ بِالصَّوْمِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ الَّذِي هُوَ بِحَسَبِ الرُّؤْيَةِ الْخَفِيَّةِ مِنْ شَوَّالٍ , وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْفِطْرِ سِرًّا , سَوَّغَ لَهُ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ , وَاسْتَحَبَّهُ ; لِأَنَّ هَذَا هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ , كَمَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ رَمَضَانَ , وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ . وَمَنْ أَمَرَهُ بِالْفِطْرِ سِرًّا لِرُؤْيَتِهِ , نَهَاهُ عَنْ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ , كَهِلَالِ شَوَّالٍ الَّذِي انْفَرَدَ بِرُؤْيَتِهِ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ يَكُونُ الْإِمَامُ الَّذِي فُوِّضَ إلَيْهِ إثْبَاتُ الْهِلَالِ مُقَصِّرًا , لِرَدِّهِ شَهَادَةَ الْعُدُولِ ,

إمَّا لِتَقْصِيرِهِ فِي الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ , وَإِمَّا رَدَّ شَهَادَتَهُمْ لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ , أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ , الَّتِي لَيْسَتْ بِشَرْعِيَّةٍ , أَوْ لِاعْتِمَادِهِ عَلَى قَوْلِ الْمُنَجِّمِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُرَى . قِيلَ : مَا يَثْبُتُ مِنْ الْحُكْمِ لَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِ بَيْنَ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ , مُجْتَهِدًا مُصِيبًا كَانَ أَوْ مُخْطِئًا , أَوْ مُفَرِّطًا , فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ الْهِلَالُ وَيُشْتَهَرْ بِحَيْثُ يَتَحَرَّى النَّاسُ فِيهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فِي الْأَئِمَّةِ : يُصَلُّونَ لَكُمْ , فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ , وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ } " . فَخَطَؤُهُ وَتَفْرِيطُهُ عَلَيْهِ , لَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يُفَرِّطُوا , وَلَمْ يُخْطِئُوا . وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى حِسَابِ النُّجُومِ , كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ , وَلَا نَحْسُبُ , صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ , وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ } " . وَالْمُعْتَمِدُ عَلَى الْحِسَابِ فِي الْهِلَالِ , كَمَا أَنَّهُ ضَالٌّ فِي الشَّرِيعَةِ , مُبْتَدِعٌ فِي الدِّينِ , فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي الْعَقْلِ وَعِلْمِ الْحِسَابِ . فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ بِالْهَيْئَةِ يَعْرِفُونَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا تَنْضَبِطُ بِأَمْرٍ حِسَابِيٍّ , وَإِنَّمَا غَايَةُ الْحِسَابِ مِنْهُمْ إذَا عَدَلَ أَنْ يَعْرِفَ كَمْ بَيْنَ الْهِلَالِ وَالشَّمْسِ مِنْ دَرَجَةِ وَقْتِ الْغُرُوبِ مَثَلًا ; لَكِنْ

الرُّؤْيَةُ لَيْسَتْ مَضْبُوطَةً بِدَرَجَاتٍ مَحْدُودَةٍ , فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حِدَةِ النَّظَرِ وَكَلَالِهِ , وَارْتِفَاعِ الْمَكَانِ الَّذِي يَتَرَاءَى فِيهِ الْهِلَالُ , وَانْخِفَاضِهِ , وَبِاخْتِلَافِ صَفَاءِ الْجَوِّ وَكَدَرِهِ . وَقَدْ يَرَاهُ بَعْضُ النَّاسِ لِثَمَانِي دَرَجَاتٍ , وَآخَرُ لَا يَرَاهُ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ دَرَجَةً ; وَلِهَذَا تَنَازَعَ أَهْلُ الْحِسَابِ فِي قَوْسِ الرُّؤْيَةِ تَنَازُعًا مُضْطَرِبًا , وَأَئِمَّتُهُمْ : كَبَطْلَيْمُوسَ , لَمْ يَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ بِحَرْفٍ , لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ حِسَابِيٌّ . وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ , مِثْلُ كوشياز الدَّيْلَمِيِّ , وَأَمْثَالِهِ . لَمَّا رَأَوْا الشَّرِيعَةَ عَلَّقَتْ الْأَحْكَامَ بِالْهِلَالِ , فَرَأَوْا الْحِسَابَ طَرِيقًا تَنْضَبِطُ فِيهِ الرُّؤْيَةُ , وَلَيْسَتْ طَرِيقَةً مُسْتَقِيمَةً , وَلَا مُعْتَدِلَةً , بَلْ خَطَّأَهَا كَثِيرٌ , وَقَدْ جُرِّبَ , وَهُمْ يَخْتَلِفُونَ كَثِيرًا : هَلْ يُرَى ؟ أَمْ لَا يُرَى ؟ وَسَبَبُ ذَلِكَ : أَنَّهُمْ ضَبَطُوا بِالْحِسَابِ مَا لَا يُعْلَمُ بِالْحِسَابِ , فَأَخْطَئُوا طَرِيقَ الصَّوَابِ , وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ , وَبَيَّنْت أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي يُوَافِقُهُ الْعَقْلُ الصَّرِيحُ , كَمَا تَكَلَّمْت عَلَى حَدِّ الْيَوْمِ أَيْضًا , وَبَيَّنْت أَنَّهُ لَا يَنْضَبِطُ بِالْحِسَابِ , لِأَنَّ الْيَوْمَ يَظْهَرُ بِسَبَبِ الْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ , فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّةَ الْعَشَاءَ مِنْ حِصَّةِ الْفَجْرِ , إنَّمَا يَصِحُّ كَلَامُهُ لَوْ كَانَ الْمُوجِبُ لِظُهُورِ النُّورِ وَخَفَائِهِ مُحَاذَاةَ الْأُفُقِ

الَّتِي تُعْلَمُ بِالْحِسَابِ . فَأَمَّا إذَا كَانَ لِلْأَبْخِرَةِ فِي ذَلِكَ تَأْثِيرٌ , وَالْبُخَارُ يَكُونُ فِي الشِّتَاءِ وَالْأَرْضُ الرَّطْبَةُ أَكْثَرُ مِمَّا يَكُونُ فِي الصَّيْفِ وَالْأَرْضِ الْيَابِسَةِ . وَكَانَ ذَلِكَ لَا يَنْضَبِطُ بِالْحِسَابِ , فَسَدَتْ طَرِيقَةُ الْقِيَاسِ الْحِسَابِيِّ . وَلِهَذَا تُوجَدُ حِصَّةُ الْفَجْرِ فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ أَطْوَلَ مِنْهَا فِي زَمَانِ الصَّيْفِ . وَالْآخِذُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ الْحِسَابِيِّ يَشْكُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ , لِأَنَّ حِصَّةَ الْفَجْرِ عِنْدَهُ تَتْبَعُ النَّهَارَ , وَهَذَا أَيْضًا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ .

334 - 334 - 4 - وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى , عَنْ الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ , وَمَنْ يَصُومُ , يُنْكَرُ عَلَيْهِ , وَيُنْسَبُ إلَى الْجَهْلِ . وَيُقَالُ لَهُ الْفِطْرُ أَفْضَلُ , وَمَا هُوَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ : وَهَلْ إذَا أَنْشَأَ السَّفَرَ مِنْ يَوْمِهِ يُفْطِرُ ؟ ؟ وَهَلْ يُفْطِرُ السُّفَّارُ مِنْ الْمُكَارِيَةِ وَالتُّجَّارِ وَالْجَمَّالُ وَالْمَلَّاحُ وَرَاكِبُ الْبَحْرِ ؟ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ سَفَرِ الطَّاعَةِ , وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ ؟ فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ : الْفِطْرُ لِلْمُسَافِرِ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , سَوَاءٌ كَانَ سَفَرَ حَجٍّ , أَوْ جِهَادٍ , أَوْ تِجَارَةٍ , أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْفَارِ الَّتِي لَا يَكْرَهُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَتَنَازَعُوا فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَاَلَّذِي يُسَافِرُ لِيَقْطَعَ الطَّرِيقَ وَنَحْوِ ذَلِكَ , عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ كَمَا تَنَازَعُوا فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ . فَأَمَّا السَّفَرُ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ الْفِطْرُ مَعَ الْقَضَاءِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ , وَيَجُوزُ الْفِطْرُ لِلْمُسَافِرِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ , سَوَاءٌ كَانَ قَادِرًا عَلَى الصِّيَامِ , أَوْ عَاجِزًا , وَسَوَاءٌ شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ , أَوْ لَمْ يَشُقَّ , بِحَيْثُ لَوْ كَانَ مُسَافِرًا فِي الظِّلِّ وَالْمَاءِ وَمَعَهُ مَنْ يَخْدُمُهُ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ وَالْقَصْرُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْفِطْرَ لَا يَجُوزُ إلَّا لِمَنْ عَجَزَ عَنْ الصِّيَامِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ , فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ عَلَى الْمُفْطِرِ , فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ مِنْ ذَلِكَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْمُفْطِرَ عَلَيْهِ إثْمٌ , فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ مِنْ ذَلِكَ , فَإِنَّ

هَذِهِ الْأَحْوَالَ خِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ , وَخِلَافُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِلَافُ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ . وَهَكَذَا السُّنَّةُ لِلْمُسَافِرِ أَنَّهُ يُصَلِّي الرَّبَاعِيَةَ رَكْعَتَيْنِ , وَالْقَصْرُ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ التَّرْبِيعِ , عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ : كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ , فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ . وَلَمْ تَتَنَازَعْ الْأُمَّةُ فِي جَوَازِ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ ; بَلْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الصِّيَامِ لِلْمُسَافِرِ , فَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ الصَّائِمَ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ , وَأَنَّهُ إذَا صَامَ لَمْ يُجْزِهِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ , وَأَبِي هُرَيْرَةَ , وَغَيْرِهِمَا مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ } " . لَكِنْ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَصُومَ , وَأَنْ يُفْطِرَ . كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَمِنَّا الصَّائِمُ , وَمِنَّا الْمُفْطِرُ , فَلَا يَعِيبُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ , وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ } " . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ , يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ

قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ , كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ } " . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنِّي رَجُلٌ أُكْثِرُ الصَّوْمَ , أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ ؟ فَقَالَ : { إنْ أَفْطَرْت فَحَسَنٌ , وَإِنْ صُمْت فَلَا بَأْسَ } " . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { خِيَارُكُمْ الَّذِينَ فِي السَّفَرِ يَقْصُرُونَ وَيُفْطِرُونَ } " . وَأَمَّا مِقْدَارُ السَّفَرِ الَّذِي يُقْصَرُ فِيهِ , وَيُفْطَرُ : فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ قَاصِدَيْنِ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ , وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخَا , كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَعُسْفَانَ , وَمَكَّةَ وَجُدَّةَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ . وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : بَلْ يَقْصُرُ وَيُفْطِرُ فِي أَقَلِّ مِنْ يَوْمَيْنِ . وَهَذَا قَوْلٌ قَوِيٌّ , فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِعَرَفَةَ , وَمُزْدَلِفَةَ , وَمِنًى , يَقْصُرُ الصَّلَاةَ , وَخَلْفَهُ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ } , لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ . وَإِذَا سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ , فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ , هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ . أَظْهَرُهُمَا : أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ . كَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَنِ أَنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ كَانَ يُفْطِرُ إذَا خَرَجَ مِنْ يَوْمِهِ , وَيَذْكُرُ أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {

أَنَّهُ نَوَى الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ , ثُمَّ إنَّهُ دَعَا بِمَاءٍ فَأَفْطَرَ , وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ } . وَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّانِي : فَيُفْطِرُ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ , وَإِنْ كَانَ مِقْدَارُ سَفَرِهِ يَوْمَيْنِ فِي مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَّةِ . وَأَمَّا إذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ , فَفِي وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ عَلَيْهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ; لَكِنْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ سَوَاءٌ أَمْسَكَ أَوْ لَمْ يُمْسِكْ . وَيُفْطِرُ مَنْ عَادَتُهُ السَّفَرُ إذَا كَانَ لَهُ بَلَدٌ يَأْوِي إلَيْهِ . كَالتَّاجِرِ الْجَلَّابِ الَّذِي يَجْلِبُ الطَّعَامَ , وَغَيْرَهُ مِنْ السِّلَعِ , وَكَالْمُكَارِي الَّذِي يُكْرِي دَوَابَّهُ مِنْ الْجُلَّابِ وَغَيْرِهِمْ . وَكَالْبَرِيدِ الَّذِي يُسَافِرُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ , وَنَحْوِهِمْ . وَكَذَلِكَ الْمَلَّاحُ الَّذِي لَهُ مَكَانٌ فِي الْبَرِّ يَسْكُنُهُ . فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ امْرَأَتُهُ , وَجَمِيعُ مَصَالِحِهِ , وَلَا يَزَالُ مُسَافِرًا فَهَذَا لَا يَقْصُرُ , وَلَا يُفْطِرُ . وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ : كَأَعْرَابِ الْعَرَبِ , وَالْأَكْرَادِ , وَالتُّرْكِ , وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ يُشَتُّونَ فِي مَكَان , وَيُصَيِّفُونَ فِي مَكَان , إذَا كَانُوا فِي حَالِ ظَعْنِهِمْ مِنْ الْمَشْتَى إلَى الْمَصِيفِ , وَمِنْ الْمَصِيفِ إلَى الْمَشْتَى : فَإِنَّهُمْ يَقْصُرُونَ . وَأَمَّا إذَا نَزَلُوا بِمَشْتَاهُمْ , وَمَصِيفِهِمْ , لَمْ يُفْطِرُوا , وَلَمْ يَقْصُرُوا . وَإِنْ كَانُوا يَتَتَبَّعُونَ الْمَرَاعِيَ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

336 - 336 - 6 - وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى , عَنْ إمَامِ جَمَاعَةٍ بِمَسْجِدٍ مَذْهَبُهُ حَنَفِيٌّ ذَكَرَ لِجَمَاعَتِهِ أَنَّ عِنْدَهُ كِتَابًا فِيهِ أَنَّ الصِّيَامَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إذَا لَمْ يَنْوِ بِالصِّيَامِ قَبْلَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ , أَوْ بَعْدَهَا أَوْ وَقْتِ السُّحُورِ , وَإِلَّا فَمَا لَهُ فِي صِيَامِهِ أَجْرٌ : فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ ؟ أَمْ لَا ؟ فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ , وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ النِّيَّةُ , فَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ , فَإِنَّ النِّيَّةَ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ , وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ مَا يُرِيدُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَهُ . وَالتَّكَلُّمُ بِالنِّيَّةِ لَيْسَ وَاجِبًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ , فَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا يَصُومُونَ بِالنِّيَّةِ , وَصَوْمُهُمْ صَحِيحٌ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
335 - 335 - 5 - وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّنْ يَكُونُ مُسَافِرًا فِي رَمَضَانَ , وَلَمْ يُصِبْهُ جُوعٌ , وَلَا عَطَشٌ , وَلَا تَعَبٌ : فَمَا الْأَفْضَلُ لَهُ , الصِّيَامُ ؟ أَمْ الْإِفْطَارُ ؟ فَأَجَابَ : أَمَّا الْمُسَافِرُ فَيُفْطِرُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ , وَالْفِطْرُ لَهُ أَفْضَلُ . وَإِنْ صَامَ جَازَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا يُجْزِئُهُ .

كِتَابُ الصِّيَامِ 331 - 1 مَسْأَلَةٌ : سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى , عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْغَيْمِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هُوَ يَوْمُ شَكٍّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَمْ لَا ؟ فَأَجَابَ : وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ الْغَيْمِ إذَا حَالَ دُونِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ غَيْمٌ أَوْ قَتَرٌ , فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ وَهِيَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . أَحَدُهَا : إنَّ صَوْمَهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . ثُمَّ هَلْ هُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ ؟ أَوْ تَنْزِيهٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ , وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ . وَاخْتَارَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : كَأَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ , وَأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مَنْدَهْ الْأَصْفَهَانِيِّ , وَغَيْرِهِمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ صِيَامَهُ وَاجِبٌ كَاخْتِيَارِ الْقَاضِي , وَالْخِرَقِيِّ , وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ , وَهَذَا يُقَالُ إنَّهُ أَشْهُرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ , لَكِنَّ الثَّابِتَ عَنْ أَحْمَدَ لِمَنْ عَرَفَ نُصُوصَهُ , وَأَلْفَاظَهُ , أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِبُّ صِيَامَ يَوْمِ الْغَيْمِ إتْبَاعًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُوجِبُهُ عَلَى النَّاسِ , بَلْ كَانَ يَفْعَلُهُ احْتِيَاطًا , وَكَانَ الصَّحَابَةُ فِيهِمْ مَنْ يَصُومُهُ احْتِيَاطًا , وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ , وَعَلِيٍّ , وَمُعَاوِيَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ , وَابْنِ عُمَرَ , وَعَائِشَةَ , وَأَسْمَاءَ , وَغَيْرِهِمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يَصُومُهُ مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَنْهَى عَنْهُ . كَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ,

وَغَيْرِهِ . فَأَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَصُومُهُ احْتِيَاطًا . وَأَمَّا إيجَابُ صَوْمِهِ فَلَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ , وَلَا كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ : لَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ اعْتَقَدُوا أَنَّ مَذْهَبَهُ إيجَابُ صَوْمِهِ , وَنَصَرُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : إنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهُ , وَيَجُوزُ فِطْرُهُ , وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَغَيْرِهِ , وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْهُ , وَهُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَوْ أَكْثَرِهِمْ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِمْسَاكَ عِنْدَ الْحَائِلِ عَنْ رُؤْيَةِ الْفَجْرِ جَائِزٌ . فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ , وَإِنْ شَاءَ أَكَلَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ طُلُوعَ الْفَجْرِ , وَكَذَلِكَ إذَا شَكَّ هَلْ أَحْدَثَ ؟ أَمْ لَا ؟ إنْ شَاءَ تَوَضَّأَ , وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَتَوَضَّأْ . وَكَذَلِكَ إذَا شَكَّ هَلْ حَالَ حَوْلُ الزَّكَاةِ ؟ أَوْ لَمْ يَحُلْ ؟ وَإِذَا شَكَّ هَلْ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ مِائَةٌ ؟ أَوْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ ؟ فَأَدَّى الزِّيَادَةَ . وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى أَنَّ الِاحْتِيَاطَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ , وَلَا مُحَرَّمٍ , ثُمَّ إذَا صَامَهُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ , أَوْ بِنِيَّةٍ مُعَلَّقَةٍ , بِأَنْ يَنْوِيَ إنْ كَانَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ كَانَ عَنْ رَمَضَانَ , وَإِلَّا فَلَا . فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِيهِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَأَحْمَدَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ , وَهِيَ الَّتِي نَقَلَهَا الْمَرْوَزِيِّ وَغَيْرُهُ . وَهَذَا اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ فِي شَرْحِهِ لِلْمُخْتَصَرِ , وَاخْتِيَارُ أَبِي الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِمَا . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إنَّهُ لَا يُجْزِيهِ إلَّا

بِنِيَّةِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ , كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ , اخْتَارَهَا الْقَاضِي , وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ . وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ لِشَهْرِ رَمَضَانَ : هَلْ هُوَ وَاجِبٌ ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ , إلَّا أَنْ يَنْوِيَ رَمَضَانَ , فَإِنْ صَامَ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ , أَوْ مُعَلَّقَةٍ , أَوْ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَوْ النَّذْرِ , لَمْ يُجْزِئْهُ ذَلِكَ كَالْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ . وَالثَّانِي : يُجْزِئُهُ مُطْلَقًا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ يُجْزِئُهُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ , لَا بِنِيَّةِ تَعْيِينِ , غَيْرِ رَمَضَانَ , وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ أَحْمَدَ , وَهِيَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ , وَأَبِي الْبَرَكَاتِ . وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ النِّيَّةَ تَتْبَعُ الْعِلْمَ , فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ . فَإِنْ نَوَى نَفْلًا أَوْ صَوْمًا مُطْلَقًا لَمْ يُجِزْهُ : لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَقْصِدَ أَدَاءَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ , وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي عَلِمَ وُجُوبَهُ , فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ . وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ غَدًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ , فَهُنَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْيِينُ , وَمَنْ أَوْجَبَ التَّعْيِينَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَقَدْ أَوْجَبَ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ . فَإِذَا قِيلَ إنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهُ وَصَامَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ , أَوْ مُعَلَّقَةٍ أَجْزَأَهُ . وَأَمَّا إذَا قَصَدَ صَوْمَ ذَلِكَ

تَطَوُّعًا , ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ , فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ أَيْضًا , كَمَنْ كَانَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ , وَلَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ , فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّبَرُّعِ , ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَقُّهُ , فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعْطَائِهِ ثَانِيًا , بَلْ ذَلِكَ الَّذِي وَصَلَ إلَيْك هُوَ حَقٌّ كَانَ لَك عِنْدِي , وَاَللَّهُ يَعْلَمُ حَقَائِقَ الْأُمُورِ . وَالرِّوَايَةُ الَّتِي تُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ النَّاسَ فِيهِ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ فِي نِيَّتِهِ , عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ , كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ , وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ , وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ } . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي " الْهِلَالِ " : هَلْ هُوَ اسْمٌ لِمَا يَطْلُعُ فِي السَّمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ؟ أَوْ لَا يُسَمَّى هِلَالًا حَتَّى يَسْتَهِلَّ بِهِ النَّاسُ وَيَعْلَمُوهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي النِّزَاعُ فِيمَا إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُطْبَقَةً بِالْغَيْمِ , أَوْ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ مُطْلَقًا . هَلْ هُوَ يَوْمُ شَكٍّ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَيْسَ بِشَكٍّ , بَلْ الشَّكُّ إذَا أَمْكَنَتْ رُؤْيَتُهُ , وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ , وَغَيْرِهِمْ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ شَكٌّ لِإِمْكَانِ طُلُوعِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ حُكْمًا , فَلَا يَكُونُ يَوْمَ شَكٍّ , وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ

تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُنْفَرِدِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ , هَلْ يَصُومُ وَيُفْطِرُ وَحْدَهُ ؟ أَوْ لَا يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ النَّاسِ ؟ أَوْ يَصُومُ وَحْدَهُ وَيُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ , مَعْرُوفَةٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ .
وَأَمَّا نِكَاحُ التَّحْلِيلِ , فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } , وَلَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى نِكَاحِ التَّحْلِيلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
337 - 337 - 7 - وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ , مَا يَقُولُ سَيِّدُنَا فِي صَائِمِ رَمَضَانَ , هَلْ يَفْتَقِرُ كُلَّ يَوْمٍ إلَى نِيَّةٍ ؟ أَمْ لَا ؟ فَأَجَابَ : كُلُّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ , وَهُوَ يُرِيدُ صَوْمَهُ , فَقَدْ نَوَى صَوْمَهُ , سَوَاءٌ تَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ , أَوْ لَمْ يَتَلَفَّظْ . وَهَذَا فِعْلُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ , كُلُّهُمْ يَنْوِي الصِّيَامَ .
395 - 395 - 35 - سُئِلَ : عَنْ بُكَاءِ الْأُمِّ وَالْإِخْوَةِ عَلَى الْمَيِّتِ : هَلْ فِيهِ بَأْسٌ عَلَى الْمَيِّتِ ؟ أَجَابَ : أَمَّا دَمْعُ الْعَيْنِ , وَحُزْنُ الْقَلْبِ , فَلَا إثْمَ فِيهِ ; لَكِنَّ النَّدْبَ وَالنِّيَاحَةَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ , وَأَيُّ صَدَقَةٍ تُصُدِّقَ بِهَا عَنْ الْمَيِّتِ نَفَعَهُ ذَلِكَ .

468 - 468 - 70 - مَسْأَلَةٌ : عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ إذْنُهَا ؟ قَالَ : أَنْ تَسْكُتَ } . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ : { الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا , وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا } وَفِي رِوَايَةٍ : { الْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا وَصَمْتُهَا إقْرَارُهَا } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجَارِيَةِ يُنْكِحُهَا أَهْلُهَا أَتُسْتَأْمَرُ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَعَمْ تُسْتَأْمَرُ , قَالَتْ عَائِشَةُ : فَقُلْت لَهُ : فَإِنَّهَا تَسْتَحِي , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَذَلِكَ إذْنُهَا إذَا هِيَ سَكَتَتْ } . وَعَنْ خَنْسَاءَ ابْنَةِ خِذَامٍ , أَنَّ { أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتٌ , فَكَرِهَتْ ذَلِكَ , فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ نِكَاحَهُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ؟ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَالْمَرْأَةُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُزَوِّجَهَا , إلَّا بِإِذْنِهَا كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَرِهَتْ ذَلِكَ لَمْ تُجْبَرْ عَلَى النِّكَاحِ , إلَّا الصَّغِيرَةُ الْبِكْرُ , فَإِنَّ أَبَاهَا

يُزَوِّجُهَا وَلَا إذْنَ لَهَا . وَأَمَّا الْبَالِغُ الثَّيِّبُ فَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا لَا لِلْأَبِ وَلَا لِغَيْرِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ الْبِكْرُ الْبَالِغُ لَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ تَزْوِيجُهَا بِدُونِ إذْنِهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . فَأَمَّا الْأَبُ وَالْجَدُّ فَيَنْبَغِي لَهُمَا اسْتِئْذَانُهَا . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِئْذَانِهَا , هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ . وَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْمَرْأَةِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ فِيمَنْ يُزَوِّجُهَا بِهِ , وَيَنْظُرَ فِي الزَّوْجِ هَلْ هُوَ كُفُؤٌ أَوْ غَيْرُ كُفُؤٍ ؟ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُزَوِّجُهَا لِمَصْلَحَتِهَا لَا لِمَصْلَحَتِهِ , وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِزَوْجٍ نَاقِصٍ لِغَرَضٍ لَهُ , مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُوَلِّيَةَ ذَلِكَ الزَّوْجِ بَدَلَهَا , فَيَكُونُ مِنْ جِنْسِ الشِّغَارِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَوْ يُزَوِّجُهَا بِأَقْوَامٍ يُخَالِفُهُمْ عَلَى أَغْرَاضٍ لَهُ فَاسِدَةٍ , أَوْ يُزَوِّجُهَا لِرَجُلٍ لِمَالٍ يَبْذُلُهُ لَهُ , وَقَدْ خَطَبَهَا مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لَهَا مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجِ , فَيُقَدَّمُ الْخَاطِبُ الَّذِي بَرْطَلَهُ عَلَى الْخَاطِبِ الْكُفْءِ الَّذِي لَمْ يُبَرْطِلْهُ . وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَلِيِّ فِي بُضْعِ وَلِيَّتِهِ كَتَصَرُّفِهِ فِي مَالِهَا , فَكَمَا لَا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهَا إلَّا بِمَا هُوَ أَصْلَحُ , كَذَلِكَ لَا يَتَصَرَّفُ فِي بَعْضِهَا إلَّا بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لَهَا , إلَّا أَنَّ الْأَبَ لَهُ مِنْ التَّبَسُّطِ فِي مَالِ وَلَدِهِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {

أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَبِ .
456 - 456 - 58 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ , فَبَانَتْ ثَيِّبًا فَهَلْ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ وَيَرْجِعُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ أَمْ لَا ؟ . الْجَوَابُ : لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ , وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِأَرْشِ الصَّدَاقِ , وَهُوَ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ مَهْرِ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فَيَنْقُصُ بِنِسْبَتِهِ مِنْ الْمُسَمَّى , وَإِذَا فُسِخَ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ عَنْهُ الْمَهْرُ , وَاَللَّهُ أَعْلَم .
465 - 465 - 67 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ لَهُ عَبْدٌ وَقَدْ حَبَسَ نِصْفَهُ , قَصَدَ الزَّوَاجَ , فَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمْ لَا ؟ . الْجَوَابُ : نَعَمْ لَهُ التَّزَوُّجُ عَلَى أَصْلِ مَنْ يُجْبِرُ السَّيِّدَ عَلَى تَزْوِيجِهِ , كَمَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ , فَإِنَّ تَزْوِيجَهُ كَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } . فَأَمَرَ بِتَزْوِيجِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ , كَمَا أَمَرَ بِتَزْوِيجِ الْأَيَامَى , وَتَزْوِيجِ الْأَمَةِ إذَا طَلَبَتْ النِّكَاحَ مِنْ كُفُؤٍ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , وَاَلَّذِي يَأْذَنُ لَهُ فِي النِّكَاحِ مَالِكُ نِصْفِهِ , أَوْ وَكِيلُهُ , وَنَاظِرُ النَّصِيبِ الْمُحْبَسِ .

469 - 469 - 71 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بَالِغَةً مِنْ جَدِّهَا أَبِي أَبِيهَا وَمَا رَشَدَهَا وَلَا مَعَهُ وَصِيَّةٌ مِنْ أَبِيهَا , فَلَمَّا دَنَتْ وَفَاةُ جَدِّهَا أَوْصَى عَلَى الْبِنْتِ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا , فَهَلْ لِلْجَدِّ الْمَذْكُورِ عَلَى الزَّوْجَةِ وِلَايَةٌ بَعْدَ أَنْ أَصَابَهَا الزَّوْجُ ؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يُوصِيَ عَلَيْهَا ؟ الْجَوَابُ : أَمَّا إذَا كَانَتْ رَشِيدَةً فَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهَا لَا لِلْجَدِّ وَلَا غَيْرِهِ , بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ , وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُسْتَحَقُّ الْحَجْرُ عَلَيْهَا فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْجَدَّ لَهُ وِلَايَةٌ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّانِي : لَا وِلَايَةَ لَهُ , وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ , وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْجَارِيَةُ وَمَضَتْ عَلَيْهَا سَنَةٌ , وَأَوْلَدَهَا أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ رَشِيدَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
470 - 470 - 72 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ تَحْتَ حِجْرِ وَالِدِهِ , وَقَدْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدِهِ , وَشَهِدَ الْمَعْرُوفُونَ أَنَّ وَالِدَهُ مَاتَ وَهُوَ حَيٌّ , فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ إذَا تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدِهِ حَقٌّ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : إنْ كَانَ سَفِيهًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ بِدُونِ إذْنِ أَبِيهِ , وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا . وَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ رَشِيدًا صَحَّ نِكَاحُهُ , وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ أَبُوهُ , وَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ هَلْ نَكَحَ وَهُوَ رُشْدٌ أَوْ وَهُوَ سَفِيهٌ ؟ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي صِحَّةِ النِّكَاحِ .

مَسْأَلَةٌ : فِي الرَّافِضِيِّ , وَمَنْ يَقُولُ : لَا تَلْزَمُهُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ , هَلْ يَصِحُّ نِكَاحُهُ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ؟ فَإِنْ تَابَ مِنْ الرَّفْضِ , وَلَزِمَ الصَّلَاةَ حِينًا , ثُمَّ عَادَ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ , هَلْ يُقَرُّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ النِّكَاحِ ؟ الْجَوَابُ : لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْكِحَ مُوَلِّيَتَهُ رَافِضِيًّا , وَلَا يَتْرُكُ الصَّلَاةَ , وَمَتَى زَوَّجُوهُ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى فَصَلَّى الْخَمْسَ , ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ رَافِضِيٌّ لَا يُصَلِّي , أَوْ عَادَ إلَى الرَّفْضِ وَتَرَكَ الصَّلَاةَ , فَإِنَّهُمْ يَفْسَخُونَ النِّكَاحَ .
480 - 480 - 82 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ بِخَالَةٍ إنْسَانٍ , وَلَهُ بِنْتٌ فَتَزَوَّجَ بِهَا , فَجَمَعَ بَيْنَ خَالَتِهِ وَابْنَتِهِ , فَهَلْ يَصِحُّ ؟ الْجَوَابُ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ خَالَةَ رَجُلٍ وَبِنْتَه بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا , فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَهَى أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا , وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا } " . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ , وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَتَنَاوَلُ خَالَةَ الْأَبِ , وَخَالَةَ الْأُمِّ , وَالْجَدَّةِ , وَيَتَنَاوَلُ عَمَّةَ كُلٍّ مِنْ الْأَبَوَيْنِ أَيْضًا , فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَةِ أَبِيهَا , وَلَا خَالَةِ أُمِّهَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .

479 - 479 - 81 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ لِرَجُلٍ , وَأَرَادَ الزَّوْجُ السَّفَرَ إلَى بِلَادِهِ , فَقَالَ لَهُ وَكِيلُ الْأَبِ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ : لَا تُسَافِرْ , إمَّا أَنْ تُعْطِيَ الْحَالَّ مِنْ الصَّدَاقِ , وَتَنْتَقِلَ بِالزَّوْجَةِ , أَوْ تُرْضِيَ الْأَبَ , فَسَافَرَ وَلَمْ يُجِبْ إلَى ذَلِكَ , وَهُوَ غَائِبٌ عَنْ الزَّوْجَةِ الْمَذْكُورَةِ مُدَّةَ سَنَةٍ , وَلَمْ يُصَلِّ مِنْهُ نَفَقَةٌ , فَهَلْ لِوَالِدِ الزَّوْجَةِ أَنْ يَطْلُبَ فَسْخَ النِّكَاحِ ؟ الْجَوَابُ : نَعَمْ إذَا عَرَضَتْ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ , فَبَذَلَ لَهُ تَسْلِيمَهَا وَهِيَ مِمَّنْ يُوطَأُ مِثْلُهَا , وَجَبَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ بِذَلِكَ , فَإِذَا تَعَذَّرَتْ النَّفَقَةُ مِنْ جِهَتِهِ كَانَ لِلزَّوْجَةِ الْمُطَالَبَةُ بِالْفَسْخِ وَإِذَا كَانَتْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ .

483 - 483 - 85 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ أَمْلَكَ عَلَى بِنْتٍ , وَلَهُ مُدَّةُ سِنِينَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا , وَدَفَعَ لَهُمْ وَعَزَمَ عَلَى الدُّخُولِ , فَوَجَدَ وَالِدَهَا قَدْ زَوَّجَهَا غَيْرَهُ ؟ الْجَوَابُ : قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ , لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ , وَلَا يَسْتَامُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ , وَلَا يَبِيعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ } . فَالرَّجُلُ إذَا خَطَبَ امْرَأَةً وَرَكَنَ إلَيْهِ مَنْ إلَيْهِ نِكَاحُهَا , كَالْأَبِ الْمُجْبِرِ , فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ أَنْ يَخْطُبَهَا , فَكَيْفَ إذَا كَانُوا قَدْ رَكَنُوا إلَيْهِ وَأَشْهَدُوا بِالْإِمْلَاكِ الْمُتَقَدِّمِ لِلْعَقْدِ , وَقَبَضُوا مِنْهُ الْهَدَايَا , وَطَالَتْ الْمُدَّةُ , فَإِنَّ هَؤُلَاءِ فَعَلُوا مُحَرَّمًا يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ بِلَا رَيْبٍ . لَكِنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ هَلْ يَقَعُ صَحِيحًا أَوْ بَاطِلًا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . أَحَدُهُمَا : وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ , وَأَحْمَدَ , أَنَّ عَقْدَ الثَّانِي بَاطِلٌ فَيُنْزَعُ مِنْهُ وَيُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ , وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ , فَيُعَاقَبُ مَنْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَ , وَيُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ جَمِيعُ مَا أُخِذَ مِنْهُ , وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .

495 - 495 - 97 - مَسْأَلَةٌ : فِي امْرَأَةٍ اعْتَاضَتْ عَنْ صَدَاقِهَا بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ , فَبَاعَتْ الْعِوَضَ وَقَبَضَتْ الثَّمَنَ , ثُمَّ أَقَرَّتْ أَنَّهَا قَبَضَتْ الصَّدَاقَ مِنْ غَيْرِ ثَمَنِ الْمِلْكِ , فَهَلْ يَبْطُلُ حَقُّ الْمُشْتَرِي أَوْ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِاَلَّذِي اعْتَرَفَتْ أَنَّهَا قَبَضَتْهُ مِنْ غَيْرِ الْمِلْكِ ؟ الْجَوَابُ : لَا يَبْطُلُ حَقٌّ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ , وَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهَا ثَمَنَ الْمِلْكِ الَّذِي اعْتَاضَتْ بِهِ , إذَا أَقَرَّتْ بِأَنَّ قَبْضَ صَدَاقِهَا قَبْلَ ذَلِكَ , وَكَانَ قَدْ أَفْتَى طَائِفَةٌ بِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِاَلَّذِي اعْتَرَفَتْ بِقَبْضِهِ مِنْ التَّرِكَةِ , وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ تَضَمَّنَ أَنَّهَا اسْتَوْفَتْ صَدَاقَهَا , وَأَنَّهَا بَعْدَ هَذَا الِاسْتِيفَاءِ لَهُ أَحْدَثَتْ مِلْكًا آخَرَ , فَإِنَّمَا فَوَّتَتْ عَلَيْهِمْ الْعَقَارَ لَا عَلَى الْمُشْتَرِي .

وَأَمَّا نِكَاحُ السِّرِّ الَّذِي يَتَوَاصَوْنَ بِكِتْمَانِهِ وَلَا يُشْهِدُونَ عَلَيْهِ أَحَدًا , فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ , وَهُوَ مِنْ جِنْسِ السِّفَاحِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } { وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } ( ) . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعِهَا . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ الثَّابِتَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَمَا فِيهَا مِنْ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ ; وَبَيْنَ الْأَقْوَالِ الْمَرْجُوحَةِ , وَأَنَّ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَجْمَعُ مَصَالِحَ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ ; فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ , وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ , وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ فِي شَرِيعَتِهِ مَا فَرَّقَهُ فِي شَرَائِعَ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْكَمَالِ ; إذْ لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ , فَكَمُلَ بِهِ الْأَمْرُ , كَمَا كَمُلَ بِهِ الدِّينُ . فَكِتَابُهُ أَفْضَلُ الْكُتُبِ , وَشَرْعُهُ أَفْضَلُ الشَّرَائِعِ , وَمِنْهَاجُهُ أَفْضَلُ الْمَنَاهِجِ , وَأُمَّتُهُ خَيْرُ الْأُمَمِ , وَقَدْ عَصَمَهَا اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ فَلَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ ; وَلَكِنْ يَكُونُ عِنْدَ بَعْضِهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ بَعْضٍ , وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا

سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } فَهَذَانِ نَبِيَّانِ كَرِيمَانِ حَكَمَا فِي قِصَّةٍ فَخَصَّ اللَّهُ أَحَدَهُمَا بِالْفَهْمِ ; وَلَمْ يَعِبْ الْآخَرَ ; بَلْ أَثْنَى عَلَيْهِمَا جَمِيعًا بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ . وَهَكَذَا حُكْمُ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ , وَخُلَفَاءِ الرُّسُلِ الْعَامِلِينَ بِالْكِتَابِ . وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ الَّتِي قَضَى فِيهَا دَاوُد وَسُلَيْمَانُ لِعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا وَمَا يُشْبِهُهَا أَيْضًا قَوْلَانِ . مِنْهُمْ مَنْ يَقْضِي بِقَضَاءِ دَاوُد . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْضِي بِقَضَاءِ سُلَيْمَانَ , وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ , وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَقُولُ بِهِ ; بَلْ قَدْ لَا يَعْرِفُهُ . وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

وَلِهَذَا جَوَّزَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْخُلْعَ فِي الْحَيْضِ ; لِأَنَّهُ عَلَى قَوْلِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ ; بَلْ فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ , وَهُوَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا , وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَحْمَدَ ; وَلِأَنَّهَا تَمْلِكُ نَفْسَهَا بِالِاخْتِلَاعِ فَلَهُمَا فَائِدَةٌ فِي تَعْجِيلِ الْإِبَانَةِ لِرَفْعِ الشَّرِّ الَّذِي بَيْنَهُمَا ; بِخِلَافِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَعْجِيلِهِ قَبْلَ وَقْتِهِ ; بَلْ ذَلِكَ شَرٌّ بِلَا خَيْرٍ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ طَلَاقٌ فِي وَقْتٍ لَا يُرْغَبُ فِيهَا , وَقَدْ لَا يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ , بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَقْتَ الرَّغْبَةِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ حَاجَةٍ . { وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عُمَرَ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا } مِمَّا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ فِي مُرَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَفَهِمَ مِنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ , أَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ لَزِمَهُ , فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا ; ثُمَّ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ إنْ شَاءَ . وَتَنَازَعَ هَؤُلَاءِ : هَلْ الِارْتِجَاعُ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي ؟ وَفِي حِكْمَةِ هَذَا النَّهْيِ ; أَقْوَالٌ : ذَكَرْنَاهَا وَذَكَرْنَا مَأْخَذَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَفَهِمَ طَائِفَةٌ أُخْرَى : أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ , وَلَكِنَّهُ لَمَّا فَارَقَهَا بِبَدَنِهِ كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ مِنْ الرَّجُلِ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ اعْتَزَلَهَا بِبَدَنِهِ وَاعْتَزَلَتْهُ بِبَدَنِهَا ; { فَقَالَ لِعُمَرَ : مُرْهُ

فَلْيُرَاجِعْهَا } , وَلَمْ يَقُلْ : فَلْيَرْتَجِعْهَا . " وَالْمُرَاجَعَةُ " مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ : أَيْ تَرْجِعُ إلَيْهِ بِبَدَنِهَا فَيَجْتَمِعَانِ كَمَا كَانَا ; لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَلْزَمْهُ , فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي أَبَاحَ اللَّهُ فِيهِ الطَّلَاقَ طَلَّقَهَا حِينَئِذٍ إنْ شَاءَ . قَالَ هَؤُلَاءِ : وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ لَزِمَ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَمْرِ بِالرَّجْعَةِ لِيُطَلِّقَهَا طَلْقَةً ثَانِيَةً فَائِدَةٌ ; بَلْ فِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَيْهِمَا ; فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ , وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِي الطَّلَاقِ مَعَ الْأَوَّلِ تَكْثِيرُ الطَّلَاقِ ; وَتَطْوِيلُ الْعِدَّةِ , وَتَعْذِيبُ الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ ; بَلْ إذَا وَطِئَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا ; أَوْ تَطْهُرَ الطُّهْرَ الثَّانِيَ . وَقَدْ يَكُونُ زَاهِدًا فِيهَا يَكْرَهُ أَنْ يَطَأَهَا فَتَعْلَقُ مِنْهُ ; فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا ؟ , وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبْ الْوَطْءَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ; وَلَكِنْ أَخَّرَ الطَّلَاقَ إلَى الطُّهْرِ الثَّانِي . وَلَوْلَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَوَّلًا لَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ لَوْ أُبِيحَ لَهُ الطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ فِي إمْسَاكِهَا فَائِدَةٌ مَقْصُودَةٌ بِالنِّكَاحِ إذَا كَانَ لَا يُمْسِكُهَا إلَّا لِأَجْلِ الطَّلَاقِ ; فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَحْصُلْ إلَّا زِيَادَةُ

ضَرَرٍ عَلَيْهِمَا , وَالشَّارِعُ لَا يَأْمُرُ بِذَلِكَ , فَإِذَا كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ طَلَاقِهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ لِيَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْوَطْءِ الَّذِي لَا يَعْقُبُهُ طَلَاقٌ : فَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا , أَوْ وَطِئَهَا أَوْ حَاضَتْ بَعْدَ ذَلِكَ : فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ; وَلِأَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ وَطْئِهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الثَّانِي : دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى طَلَاقِهَا ; لِأَنَّهُ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِيهَا إذْ لَوْ كَانَتْ لَهُ فِيهَا رَغْبَةٌ لَجَامَعَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ . قَالُوا : لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ ابْنَ عُمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ وَهُوَ يَرْتَجِعُهَا لَأَمَرَ بِالْإِشْهَادِ ; وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الطَّلَاقَ فِي غَيْرِ آيَةٍ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِالرَّجْعَةِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ ; بَلْ قَالَ : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } , فَخُيِّرَ الزَّوْجُ إذَا قَارَبَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكَهَا بِمَعْرُوفٍ - وَهُوَ الرَّجْعَةُ - وَبَيْنَ أَنْ يُسَيِّبَهَا فَيُخَلِّيَ سَبِيلَهَا إذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ ; وَلَا يَحْبِسَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَمَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً عَلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ قَدْ لَزِمَ لَكَانَ حَصَلَ الْفَسَادُ الَّذِي كَرِهَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَذَلِكَ الْفَسَادُ لَا يَرْتَفِعُ بِرَجْعَةٍ يُبَاحُ لَهُ الطَّلَاقُ بَعْدَهَا , وَالْأَمْرُ

بِرَجْعَةٍ لَا فَائِدَةَ فِيهَا مِمَّا تَنَزَّهَ عَنْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ; فَإِنَّهُ إنْ كَانَ رَاغِبًا فِي الْمَرْأَةِ فَلَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا , وَإِنْ كَانَ رَاغِبًا عَنْهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا , فَلَيْسَ فِي أَمْرِهِ بِرَجْعَتِهَا مَعَ لُزُومِ الطَّلَاقِ لَهُ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ ; بَلْ زِيَادَةُ مَفْسَدَةٍ : وَيَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْأَمْرِ بِمَا يَسْتَلْزِمُ زِيَادَةَ الْفَسَادِ , وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ لِمَنْعِ الْفَسَادِ , فَكَيْفَ يَأْمُرُ بِمَا يَسْتَلْزِمُ زِيَادَةَ الْفَسَادِ ؟ , وَقَوْلُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ أَشْبَهُ بِالْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ , فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُتَنَاقِضٌ ; إذْ الْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ : أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ إذَا فُعِلَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً صَحِيحَةً , وَهَذَا وَإِنْ كَانَ نَازَعَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فَالصَّوَابُ مَعَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ كَانُوا يَسْتَدِلُّونَ عَلَى فَسَادِ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَةِ بِتَحْرِيمِ الشَّارِعِ لَهَا , وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُمْ . وَأَيْضًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِهَا لَمْ يَكُنْ عَنْ الشَّارِعِ مَا يُبَيِّنُ الصَّحِيحَ مِنْ الْفَاسِدِ , فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا : النَّهْيُ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ . قَالُوا : نَعْلَمُ صِحَّةَ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودِ وَفَسَادَهَا بِجَعْلِ الشَّارِعِ هَذَا شَرْطًا أَوْ مَانِعًا وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَقَوْلُهُ هَذَا صَحِيحٌ , وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ , مِنْ خِطَابِ

الْوَضْعِ وَالْإِخْبَارِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ مِثْلُ قَوْلِهِ : الطَّهَارَةُ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ وَالْكُفْرُ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ , وَهَذَا الْعَقْدُ , وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ لَا تَصِحُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ ; بَلْ إنَّمَا فِي كَلَامِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ , وَالتَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ , وَفِي نَفْيِ الْقَبُولِ وَالصَّلَاحِ , كَقَوْلِهِ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ } , وَقَوْلُهُ : " هَذَا لَا يَصْلُحُ " . وَفِي كَلَامِهِ : " إنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ كَذَا " وَفِي كَلَامِهِ : الْوَعْدُ , وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ فَلَمْ نَسْتَفِدْ الصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ , وَهُوَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ بَيَّنَ ذَلِكَ , وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ قَطْعًا . وَأَيْضًا فَالشَّارِعُ يُحَرِّمُ الشَّيْءَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْخَالِصَةِ , أَوْ الرَّاجِحَةِ . وَمَقْصُودُهُ بِالتَّحْرِيمِ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ الْفَسَادِ , وَجَعَلَهُ مَعْدُومًا . فَلَوْ كَانَ مَعَ التَّحْرِيمِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَلَالِ فَيَجْعَلُهُ لَازِمًا نَافِذًا كَالْحَلَالِ لَكَانَ ذَلِكَ إلْزَامًا مِنْهُ بِالْفَسَادِ الَّذِي قَصَدَ عَدَمَهُ . فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَسَادُ قَدْ أَرَادَ عَدَمَهُ مَعَ أَنَّهُ أَلْزَمَ النَّاسَ بِهِ , وَهَذَا تَنَاقُضٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ : إنَّهُ إنَّمَا حَرَّمَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ لِئَلَّا يَنْدَمَ الْمُطَلِّقُ ; دَلَّ عَلَى لُزُومِ النَّدَمِ لَهُ إذَا فَعَلَهُ . وَهَذَا يَقْتَضِي

صِحَّتَهُ . فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا يَتَضَمَّنُ أَنْ كُلَّمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ يَكُونُ صَحِيحًا , كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا ; لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ . فَيُقَالُ : إنْ كَانَ مَا قَالَهُ هَذَا صَحِيحًا هُنَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ ; إذْ لَوْ كَانَ فَاسِدًا لَمْ تَحْصُلْ الْقَطِيعَةُ , وَهَذَا جَهْلٌ ; وَذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ بَيَّنَ حِكْمَتَهُ فِي مَنْعِهِ مِمَّا نَهَى عَنْهُ , وَأَنَّهُ لَوْ أَبَاحَهُ لَلَزِمَ الْفَسَادُ , فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا خَالَتِهَا ; فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ } , وَنَحْوُ ذَلِكَ : يُبَيِّنُ أَنَّ الْفِعْلَ لَوْ أُبِيحَ لَحَصَلَ بِهِ الْفَسَادُ , فَحَرُمَ مَنْعًا مِنْ هَذَا الْفَسَادِ . ثُمَّ الْفَسَادُ يَنْشَأُ مِنْ إبَاحَتِهِ وَمِنْ فِعْلِهِ . وَإِذَا اعْتَقَدَ الْفَاعِلُ أَنَّهُ مُبَاحٌ , أَوْ أَنَّهُ صَحِيحٌ فَإِمَّا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ بَاطِلٌ وَالْتِزَامُ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا تَحْصُلُ الْمَفْسَدَةُ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الْمَفْسَدَةُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَالْمَفَاسِدُ فِيهَا فِتْنَةٌ وَعَذَابٌ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ غَيْرَ لَازِمٍ لَمْ يَحْصُلْ الْفَسَادُ . فَيُقَالُ : هَذَا هُوَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَى عَنْهُ , وَحَكَمَ بِبُطْلَانِهِ , لِيَزُولَ الْفَسَادُ , وَلَوْلَا

ذَلِكَ لَفَعَلَهُ النَّاسُ وَاعْتَقَدُوا صِحَّتَهُ فَيَلْزَمُ الْفَسَادُ . وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ , وَأَنَّهُ شَرْعِيٌّ , وَأَنَّهُ يُسَمَّى بَيْعًا , وَنِكَاحًا , وَصَوْمًا . كَمَا يَقُولُونَ فِي نَهْيِهِ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ , وَلَعْنِهِ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ , وَنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا , وَنَهْيِهِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدَيْنِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَيُقَالُ : أَمَّا تَصَوُّرُهُ حِسًّا فَلَا رَيْبَ فِيهِ . وَهَذَا كَنَهْيِهِ عَنْ نِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ , وَعَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ , كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ . فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَرَأَيْت شُحُومَ الْمَيْتَةِ , فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ , وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ , وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ . فَقَالَ : لَا هُوَ حَرَامٌ ثُمَّ قَالَ : قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا } فَتَسْمِيَتُهُ لِهَذَا نِكَاحًا وَبَيْعًا لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا بَاطِلًا ; بَلْ دَلَّ عَلَى إمْكَانِهِ حِسًّا . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ شَرْعِيٌّ : إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُسَمَّى بِمَا أَسْمَاهُ بِهِ الشَّارِعُ ; فَهَذَا صَحِيحٌ . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِيهِ : فَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ , وَالْإِجْمَاعِ . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ رَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ , وَجَعَلَهُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ ,

وَيَلْزَمُ النَّاسَ حُكْمُهُ ; كَمَا فِي الْمُبَاحِ فَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي أَكْثَرِ الصُّوَرِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ , وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ فِي صُورَةٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا ; فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يَحْتَجُّ بِهِ هَؤُلَاءِ بِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ ; فَلَيْسَ مَعَهُمْ صُورَةٌ قَدْ ثَبَتَ فِيهَا مَقْصُودُهُمْ ; لَا بِنَصٍّ , وَلَا إجْمَاعٍ . وَكَذَلِكَ " الْمُحَلِّلُ " الْمَلْعُونُ , لَعَنَهُ لِأَنَّهُ قَصَدَ التَّحْلِيلَ لِلْأَوَّلِ بِعَقْدِهِ ; لَا لِأَنَّهُ أَحَلَّهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ لَكَانَ قَدْ أَحَلَّهَا بِالْإِجْمَاعِ ; وَهَذَا غَيْرُ مَلْعُونٍ بِالْإِجْمَاعِ فَعُلِمَ أَنَّ اللَّعْنَةَ لِمَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ . وَعُلِمَ أَنَّ الْمَلْعُونَ لَمْ يُحَلِّلْهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَدَلَّتْ اللَّعْنَةُ عَلَى تَحْرِيمِ فِعْلِهِ , وَالْمُنَازِعُ يَقُولُ فِعْلُهُ مُبَاحٌ . فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ مَعَهُمْ : بَلْ الصَّوَابُ مَعَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ , وَمَنْ خَرَجَ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ جَوَابٌ صَحِيحٌ وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضَ , كَمَا تَنَاقَضَ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذِهِ . وَالْأُصُولُ الَّتِي لَا تَنَاقُضَ فِيهَا مَا أُثْبِتَ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ . وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَالتَّنَاقُضُ مَوْجُودٌ فِيهِ , وَلَيْسَ هُوَ حُجَّةٌ عَلَى أَحَدٍ . وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا يَتَنَاقَضُ هُوَ مُوَافِقٌ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ; بَلْ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ النَّصُّ قَدْ دَلَّ

عَلَى الْحُكْمِ ; كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَهَذَا مَعْنَى الْعِصْمَةِ ; فَإِنَّ كَلَامَ الْمَعْصُومِ لَا يَتَنَاقَضُ , وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى , فَهُوَ مَعْصُومٌ فِيمَا شَرَعَهُ لِلْأُمَّةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ الْأُمَّةُ أَيْضًا مَعْصُومَةٌ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ ; بِخِلَافِ مَا سِوَى ذَلِكَ , وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلَائِقِ الْإِيمَانَ بِهِ وَطَاعَتَهُ , وَتَحْلِيلَ مَا حَلَّلَهُ وَتَحْرِيمَ مَا حَرَّمَهُ , وَهُوَ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ , وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ , وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ , وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ , فَالْمُؤْمِنُونَ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ الْهُدَى وَالرَّشَادِ ; هُمْ مُتَّبِعُونَ . وَالْكُفَّارُ أَهْلُ النَّارِ , وَأَهْلُ الْغَيِّ , وَالضَّلَالِ هُمْ الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوهُ . وَمَنْ آمَنَ بِهِ بَاطِنًا , وَظَاهِرًا , وَاجْتَهَدَ فِي مُتَابَعَتِهِ : فَهُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ فِي بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ , فَلَمْ يُبَلِّغْهُ أَوْ لَمْ يَفْهَمْهُ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمُؤْمِنِينَ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَدْ فَعَلْت " . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَنَّهُ قَالَ : { الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ , إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ ; فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ , فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } . فَقَدْ خَصَّ أَحَدَ النَّبِيَّيْنِ الْكَرِيمَيْنِ بِالتَّفَهُّمِ مَعَ ثَنَائِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ أُوتِيَ عِلْمًا وَحُكْمًا . فَهَكَذَا إذَا خَصَّ اللَّهُ أَحَدَ الْعَالَمِينَ بِعِلْمِ أَمْرٍ وَفَهْمِهِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ ذَمَّ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ مِنْ الْعُلَمَاءِ . بَلْ كُلُّ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ; وَإِنْ كَانَ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْ الدِّينِ مَا فَهِمَهُ غَيْرُهُ . وَقَدْ قَالَ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ - وَبَعْضُهُمْ يَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ طَلَبَ عِلْمًا فَأَدْرَكَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ , وَمَنْ طَلَبَ عِلْمًا فَلَمْ يُدْرِكْهُ فَلَهُ أَجْرٌ } . وَهَذَا يُوَافِقُ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ , وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ , وَإِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } ( ) . وَهَذِهِ الْأُصُولُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا ; لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ مِمَّا يَقُولُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ : إنَّهُ لَازِمٌ . وَالسَّلَفُ أَئِمَّةُ

الْفُقَهَاءِ وَالْجُمْهُورُ يُسَلِّمُونَ : أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ . وَلَا يَذْكُرُونَ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ هَذِهِ الصُّورَةِ فَرْقًا صَحِيحًا . وَهَذَا مِمَّا تَسَلَّطَ بِهِ عَلَيْهِمْ مَنْ نَازَعُوهُمْ فِي أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ . وَاحْتَجَّ بِمَا سَلَّمُوهُ لَهُ مِنْ الصُّوَرِ ; وَهَذِهِ حُجَّةٌ جَدَلِيَّةٌ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ قَوْلِهِ ; وَإِنَّمَا تُفِيدُ أَنَّ مُنَازَعِيهِ أَخْطَئُوا : إمَّا فِي صُورَةِ النَّقْضِ وَإِمَّا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ . وَخَطَؤُهُمْ فِي إحْدَاهُمَا لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَطَأُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; بَلْ هَذَا الْأَصْلُ أَصْلٌ عَظِيمٌ عَلَيْهِ مَدَارُ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ , فَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ بِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ مَعَهُمْ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ ; بَلْ الْأُصُولُ وَالنُّصُوصُ لَا تُوَافِقُ ; بَلْ تُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ . وَمَنْ تَدَبَّرَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشْرَعْ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ جُمْلَةً قَطُّ . وَأَمَّا الطَّلَاقُ الْبَائِنُ فَإِنَّهُ شَرَعَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ , وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ . وَطَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ لِمَنْ لَمْ يَجْعَلْ الثَّلَاثَ الْمَجْمُوعَةَ إلَّا وَاحِدَةً : أَنْتُمْ خَالَفْتُمْ عُمَرَ ; وَقَدْ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى الْتِزَامِ ذَلِكَ فِي زَمَنِ عُمَرَ , وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ ذَلِكَ إجْمَاعًا , فَيَقُولُ لَهُمْ : أَنْتُمْ خَالَفْتُمْ عُمَرَ فِي الْأَمْرِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ , بَلْ وَفِي الْأَمْرِ الَّذِي مَعَهُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ , فَإِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُجَوِّزُ التَّحْلِيلَ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ

أَنَّهُ قَالَ : " لَا أُوتِيَ بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتهمَا " . وَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ , مِثْلُ : عُثْمَانَ , وَعَلِيٍّ , وَابْنِ مَسْعُودٍ , وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَابْنِ عُمَرَ , وَغَيْرِهِ ; وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَعَادَ الْمَرْأَةَ إلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ . وَعُمَرَ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ مَعَهُمْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ : { كَلَعْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } وَقَدْ خَالَفَهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ اجْتِهَادًا , وَاَللَّهُ يَرْضَى عَنْ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ , عَنْ عُمَرَ , أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : " إنَّهَا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ " . وَأَكْثَرُهُمْ يُخَالِفُونَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ : إنَّهُ خَيَّرَ الْمَفْقُودَ إذَا رَجَعَ فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ الْمَهْرِ . وَهَذَا أَيْضًا مَعْرُوفٌ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ : كَعُثْمَانَ , وَعَلِيٍّ . وَذَكَرَهُ أَحْمَدُ عَنْ ثَمَانِيَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَقَالَ : إلَى أَيِّ شَيْءٍ يَذْهَبُ الَّذِي يُخَالِفُ هَؤُلَاءِ ؟ , وَمَعَ هَذَا فَأَكْثَرُهُمْ يُخَالِفُونَ عُمَرَ وَسَائِرَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ , وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْقِضُ حُكْمَ مَنْ حَكَمَ بِهِ . وَعُمَرُ وَالصَّحَابَةُ جَعَلُوا الْأَرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً ; كَأَرْضِ الشَّامِ , وَمِصْرَ , وَالْعِرَاقِ , وَخُرَاسَانَ , وَالْمَغْرِبِ , فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ ; وَلَمْ يَقْسِمْ عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ أَرْضًا فَتَحَهَا عَنْوَةً , وَلَمْ يَسْتَطِبْ عُمَرُ أَنْفُسَ

جَمِيعِ الْغَانِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَرَضِينَ ; وَإِنْ ظَنَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ اسْتَطَابُوا أَنْفُسَهُمْ فِي السَّوَادِ , بَلْ طَلَبَ مِنْهُمْ بِلَالٌ وَالزُّبَيْرُ وَغَيْرُهُمَا قِسْمَةَ أَرْضِ الْعَنْوَةِ فَلَمْ يُجِبْهُمْ , وَمَعَ هَذَا فَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ يُخَالِفُ عُمَرَ وَالصَّحَابَةَ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ مِنْ زَمَنِهِمْ ; بَلْ يُنْقَضُ حُكْمُ مَنْ حَكَمَ بِحُكْمِهِمْ أَيْضًا . فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ لَمْ يُخَمِّسُوا قَطُّ مَالَ فَيْءٍ وَلَا خَمَّسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا جَعَلُوا خُمُسَ الْغَنِيمَةِ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ مُتَسَاوِيَةٍ , وَمَعَ هَذَا : فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُخَالِفُ ذَلِكَ . وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ . وَالْأَصْلُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ : إنَّمَا تَنَازَعُوا فِيهِ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } . وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَظُنَّ بِالصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ شَرِيعَتِهِ ; بَلْ هَذَا مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ ; وَلَا يَجُوزُ دَعْوَى نَسْخِ مَا شَرَعَهُ الرَّسُولُ بِإِجْمَاعِ أَحَدٍ بَعْدَهُ , كَمَا يَظُنُّ طَائِفَةٌ مِنْ الْغَالِطِينَ ; بَلْ كُلَّمَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ إلَّا مُوَافِقًا

لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ; لَا مُخَالِفًا لَهُ ; بَلْ كُلُّ نَصٍّ مَنْسُوخٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَمَعَ الْأُمَّةِ النَّصُّ النَّاسِخُ لَهُ ; تَحْفَظُ الْأُمَّةُ النَّصَّ النَّاسِخَ كَمَا تَحْفَظُ النَّصَّ الْمَنْسُوخَ , وَحِفْظُ النَّاسِخِ أَهَمُّ عِنْدَهَا وَأَوْجَبُ عَلَيْهَا مِنْ حِفْظِ الْمَنْسُوخِ , وَيَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ مَعَهُ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ نَصِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَلَكِنْ قَدْ يَجْتَهِدُ الْوَاحِدُ وَيُنَازِعُهُ غَيْرُهُ , وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ . هَذَا مِنْهَا , كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا . وَلِهَذَا لَمَّا رَأَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ الْمَبْتُوتَةَ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ فَظَنَّ أَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَيْهِ نَازَعَهُ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ , فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَهَا السُّكْنَى فَقَطْ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى . وَكَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ , وَهِيَ الَّتِي رَوَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى } . فَلَمَّا احْتَجُّوا عَلَيْهَا بِحُجَّةِ عُمَرَ , وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } . قَالَتْ هِيَ وَغَيْرُهَا مِنْ الصَّحَابَةِ - كَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا : هَذَا فِي الرَّجْعِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ ؟ , وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ

وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ مَعَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا فِي : " الطَّلَاقِ " , لَمَّا قَالَ تَعَالَى : { لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ ; فَإِنَّهُ لَوْ شَرَعَ إيقَاعَ الثَّلَاثِ عَلَيْهِ لَكَانَ الْمُطَلِّقُ يَنْدَمُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ , وَلَا سَبِيلَ إلَى رَجْعَتِهَا : فَيَحْصُلُ لَهُ ضَرَرٌ بِذَلِكَ , وَاَللَّهُ أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا يَنْفَعُهُمْ , وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى أَيْضًا بَعْدَ ذَلِكَ : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } . وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ ; لَا يَكُونُ فِي الثَّلَاثِ , وَلَا فِي الْبَائِنِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } . فَأَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ ; وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهَا مَأْمُورٌ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ , قِيلَ : أَمْرَ إيجَابٍ . وَقِيلَ : أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ . وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ : أَنَّ الْإِشْهَادَ هُوَ الطَّلَاقُ , وَظَنَّ أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي لَا يُشْهَدُ عَلَيْهِ لَا يَقَعُ . وَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ , وَخِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ بِهِ ; فَإِنَّ الطَّلَاقَ أُذِنَ فِيهِ أَوَّلًا , وَلَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِالْإِشْهَادِ , وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ حِينَ قَالَ : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ }

. وَالْمُرَادُ هُنَا بِالْمُفَارَقَةِ : تَخْلِيَةُ سَبِيلِهَا إذَا قَضَتْ الْعِدَّةَ , وَهَذَا لَيْسَ بِطَلَاقٍ وَلَا بِرَجْعَةٍ وَلَا نِكَاحٍ . وَالْإِشْهَادُ فِي هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , فَعُلِمَ أَنَّ الْإِشْهَادَ إنَّمَا هُوَ عَلَى الرَّجْعَةِ . وَمِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ : أَنَّهُ قَدْ يُطَلِّقُهَا وَيَرْتَجِعُهَا , فَيُزَيِّنُ لَهُ الشَّيْطَانُ كِتْمَانَ ذَلِكَ حَتَّى يُطَلِّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقًا مُحَرَّمًا وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ , فَتَكُونُ مَعَهُ حَرَامًا , فَأَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الرَّجْعَةِ لِيَظْهَرَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَتْ بِهِ طَلْقَةٌ , كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ وَجَدَ اللُّقَطَةَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهَا ; لِئَلَّا يُزَيِّنَ الشَّيْطَانُ كِتْمَانَ اللُّقَطَةِ ; وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ , فَإِنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا بَلْ خَلَّى سَبِيلَهَا فَإِنَّهُ يَظْهَرُ لِلنَّاسِ أَنَّهَا لَيْسَتْ امْرَأَتَهُ ; بَلْ هِيَ مُطَلَّقَةٌ ; بِخِلَافِ مَا إذَا بَقِيَتْ زَوْجَةً عِنْدَهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي النَّاسُ أَطَلَّقَهَا أَمْ لَمْ يُطَلِّقْهَا .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19