كتاب : زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام }
الصيام في اللغة : الإمساك في الجملة ، يقال : صامت الخيل : إذا أمسكت عن السير ، وصامت الريح : إِذا أمسكت عن الهبوب . والصوم في الشرع : عبارة عن الإمساك عن الطعام والشراب والجماع مع انضمام النية إليه . وفي الذين من قبلنا ثلاثة أقوال . أحدها : أنهم أهل الكتاب ، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس ، وهو قول مجاهد . والثاني : أنهم النصارى : قاله الشعبي ، والربيع ، والثالث : أنهم جميع أهل الملل ، ذكره أبو صالح عن ابن عباس .
وفي موضع التشبيه في كاف { كما كتب } قولان . أحدهما : أن التشبيه في حكم الصوم وصفته ، لا في عدده . قال سعيد بن جبير : كتب عليهم إذا نام أحدهم قبل أن يطعم لم يحل له أن يطعم إلى القابلة ، والنساء عليهم حرام ليلة الصيام ، وهو عليهم ثابت . وقد أرخص لكم . فعلى هذا تكون هذه الآية منسوخة بقوله : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث } [ البقرة : 187 ] . فانها فرقت بين صوم أهل الكتاب وبين صوم المسلمين . والثاني : أن التشبيه في عدد الأيام . ثم في ذلك قولان . أحدهما : أنه فرض على هذه الأمة صوم ثلاثة أيام من كل شهر ، وقد كان ذلك فرضاً على من قبلهم . قال عطية عن ابن عباس في قوله تعالى : { كما كتب على الذين من قبلكم } قال : كان ثلاثة أيام من كل شهر ، ثم نسخ برمضان . قال معمر عن قتادة : كان الله قد كتب على الناس قبل رمضان ثلاثة أيام من كل شهر ، فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بقوله تعالى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } والثاني : أنه فرض على من قبلنا صوم رمضان بعينه . قال ابن عباس : فقدم النصارى يوماً ثم يوماً ، وأخَّروا يوماً ، ثم قالوا : نقدم عشراً ونؤخر عشراً . وقال السدي عن أشياخه : اشتد على النصارى صوم رمضان ، فجعل يتقلب عليهم في الشتاء والصيف ، فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجلوا صياماً في الفصل بين الشتاء والصيف ، وقالوا : نزيد عشرين يوماً نكفر بها ما صنعنا . فعلى هذا تكون الآية محكمة غير منسوخة .
قوله تعالى : { لعلكم تتقون } لأن الصيام وصلة إلى التقى ، إذ هو يكف النفس عن كثير مما تتطلع إليه من المعاصي ، وقيل : لعلكم تتقون محظورات الصوم .

أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

قوله تعالى : { أياماً معدودات } قال الزجاج : نصب «أياماً» على الظرف ، كأنه قال : كتب عليكم الصيام في هذه الأيام . والعامل فيه «الصيام» ، كأنَّ المعنى : كتب عليكم أن تصوموا أياماً معدودات . وفي هذه الأيام ثلاثة أقوال . أحدها : أنها ثلاثة أيام من كل شهر . والثاني : أنها ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء . والثالث : أنها شهر رمضان ، وهو الأصح . وتكون الآية محكمة في هذا القول ، وفي القولين قبله تكون منسوخة { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام } فيه إضمار : فأفطر .
فصل
وليس المرض والسفر على الإطلاق ، فان المريض إذا لم يضر به الصوم؛ لم يجز له الإفطار ، وإنما الرحمة موقوفة على زيادة المرض بالصوم . واتفق العلماء أن السفر مقدر ، واختلفوا في تقديره ، فقال أحمد ، ومالك ، والشافعي ، أقله مسيرة ستة عشر فرسخاً؛ يومان ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : أقله مسيرة ثلاثة أيام ، مسيرة أربعة وعشرين فرسخاً . وقال الأوزاعي : أقله مرحلة يوم ، مسيرة ثمانية فراسخ . وقيل : إن السفر مشتق من السفر الذي هو الكشف ، يقال : سفرت المرأة عن وجهها ، وأسفر الصبح : إذا أضاء ، فسمي الخروج إلى المكان البعيد : سفراً ، لأنه يكشف عن أخلاق المسافر .
قوله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين } نقل عن ابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وابن عمر ، وابن عباس ، وسلمة بن الأكوع ، وعلقمة ، والزهري في آخرين في هذه الآية؟ أنهم قالوا : كان من شاء صام ، ومن شاء أفطر وافتدى ، يطعم عن كل يوم مسكيناً حتى نزلت : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } فعلى هذا يكون معنى الكلام : وعلى الذين يطيقونه ولا يصومونه فدية ، ثم نسخت . وروي عن عكرمة أنه قال : نزلت في الحامل والمرضع . وقرا أبو بكر الصديق ، وابن عباس : { وعلى الذين يطوّقونه } بضم الياء وفتح الطاء وتشديد الواو . قال ابن عباس : هو الشيخ والشيخة .
قوله تعالى : { فديةٌ طعامُ مسكين } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي «فديةٌ» منون { طعام المسكين } موحد . وقرأ نافع ، وابن عامر : «فدية» بغير تنوين «طعام» بالخفض «مساكين» بالجمع . قال أبو علي : معنى القراءة الأولى : على كل واحد طعام مسكين . ومثله : { فاجلدوهم ثمانين } [ النور : 4 ] . أي : اجلدوا كل واحد ثمانين . قال أبو زيد : أتينا الأمير فكسانا كلنا حلّة ، وأعطانا كلنا مئة ، أي : فعل ذلك بكل واحد منا . قال : فأما من أضاف الفدية إلى الطعام ، فكإضافة البعض إلى ما هو بعض له ، وذلك أنه سمى الطعام الذي يفدى به : فدية ، ثم أضاف الفدية إلى الطعام الذي يعم الفدية وغيرها ، فهو على هذا من باب : خاتم حديد .
قوله تعالى : { فمن تطوع خيراً } [ فيه ] ثلاثة أقوال . أحدها : أن معناه : من أطعم مسكينين ، قاله ابن عباس ، ومجاهد . والثاني : أن التطوع إطعام مساكين ، قاله طاووس . والثالث : أنه زيادة المسكين على قوته ، وهو مروي عن مجاهد ، وفعله أنس ابن مالك لما كبر { وأن تصوموا خير لكم } عائد إلى من تقدم ذكره من الأصحاء المقيمين المخيّرين بين الصوم والإطعام على ما حكينا في أول الآية عن السلف ، ولم يرجع ذلك إلى المرضى والمسافرين ، والحامل والمرضع ، إذ الفطر في حق هؤلاء أفضل من الصوم ، وقد نهوا عن تعريض أنفسهم للتلف ، وهذا يقوي قول القائلين بنسخ الآية .

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

قوله تعالى : { شهر رمضان }
قال الأخفش : شهر رمضان بالرفع على تفسير الأيام ، كأنه لما قال : { أياماً معدودات } فسرها فقال : هي شهر رمضان . قال أبو عبيد : وقرأ مجاهد : { شهرَ رمضان } بالنصب وأُراه نصبه على معنى الإغراء : عليكم شهر رمضان فصوموه ، كقوله : { ملةَ أبيكم } وقوله { صبغةَ الله } قلت : وممن قرأ بالنصب معاوية ، والحسن ، وزيد بن علي ، وعكرمة ، ويحيى بن يعمر . قال ابن فارس : الرمض : حر الحجارة من شدة حر الشمس ، ويقال : شهر رمضان ، من شدة الحر ، لأنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة ، سموها بالأزمنة التى وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر ، ويجمع على رمضانات ، وأرمضاء ، وأرمضة .
قوله تعالى : { الذي أُنزل فيه القرآن } فيه ثلاثة أقوال . أحدها : أنه أنزل القرآن فيه جملة واحدة ، وذلك في ليلة القدر إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، قاله ابن عباس . والثاني : أن معناه : أنه أُنزل القرآن بفرض صيامه ، روي عن مجاهد ، والضحاك . والثالث : أن معناه : إن القرآن ابتدىء بنزوله فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن إسحاق ، وأبو سليمان الدمشقي . قال مقاتل : والفرقان : المخرج في الدين من الشبهة والضلالة .
قوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } أي : من كان حاضراً غير مسافر . فان قيل : ما الفائدة في إعادة ذكر المرض والسفر في هذه الآية ، وقد تقدم ذلك؟ قيل : لأن في الآية المتقدمة منسوخاً ، فأعاده لئلا يكون مقروناً بالمنسوخ .
قوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر } قال ابن عباس ، ومجاهد وقتادة ، والضحاك ، اليسر : الإِفطار في السفر ، والعسر : الصوم فيه . وقال عمر بن عبد العزيز : أي ذلك كان أيسر عليك فافعل : الصوم في السفر ، أو الفطر .
قوله تعالى : { ولتكملوا العدة } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : { ولتكملوا } باسكان الكاف خفيفة . وقرأ أبو بكر عن عاصم بتشديد الميم ، وذلك مثل : «وصّى» و «أوصى» وقال ابن عباس : ولتكملوا عدة ما أفطرتم . وقال بعضهم : المراد به : لا تزيدوا على ما افترض ، كما فعلت النصارى ، ولا تنقلوه عن زمانه كما نقلته { ولتكبروا الله على ما هداكم } قال ابن عباس : حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال ، أن يكبروا لله حتى يفرغوا من عيدهم . فان قيل : ما وجه دخول الواو في قوله : { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله } وليس هناك ما يعطف عليه؟ فالجواب : أن هذه الواو عطفت اللام التي بعدها على لام محذوفة ، والمعنى : ولا يريد بكم العسر ، ليسعدكم ، ولتكملوا العدة ، فحذفت اللام الأولى لوضوح معناها ، ذكره ابن الأنباري .
فصل
ومن السنة إظهار التكبير ليلة الفطر ، وليلة النحر ، وإذا غدوا إلى المصلَّى . واختلفت الرواية عن أحمد ، رضي الله عنه ، متى يقطع في عيد الفطر ، فنقل عنه حنبل : يقطع بعد فراغ الإمام من الخطبة . ونقل الأثرم : إذا جاء المصلَّى ، قطع . قال القاضي أبو يعلى : يعني : إذا جاء المصلى وخرج الإمام .

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

قوله تعالى : { وإذا سألك عبادي عني }
في سبب نزولها خمسة أقوال .
أحدها : أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت هذه الآية ، رواه الصلت بن حكيم عن أبيه عن جده .
والثاني : أن يهود المدينة قالوا : يا محمد! كيف يسمع ربنا دعاءنا ، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام؟! فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : أنهم قالوا : يا رسول الله! لو نعلم أية ساعة أحب إلى الله أن ندعو فيها دعوانا ، فنزلت هذه الآية ، قاله عطاء .
والرابع : أن أصحاب النبي قالوا له : أين الله؟ فنزلت هذه الآية ، قاله الحسن .
والخامس : أنه لما حرم في الصوم الأول على المسلمين بعد النوم الأكل والجماع؛ أكل رجل منهم بعد أن نام ، ووطئ رجل بعد أن نام ، فسألوا : كيف التوبة مما عملوا؟ فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل . ومعنى الكلام : إذا سألوك عني ، فأعلمهم أني قريب .
وفي معنى «أجيب» قولان . أحدهما : أسمع ، قاله الفراء ، وابن القاسم . والثاني : أنه من الإِجابة { فليستجيبوا لي } أي : فليجيبوني . قال الشاعر :
وداع دعا يا من يجيب إِلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أراد : فلم يجبه . وهذا قول أبي عبيدة ، وابن قتيبة ، والزجاج . { لعلهم يرشدون } قال أبو العالية : يعني : يهتدون .
فصل
إن قال قائل : هذه الآية تدل على أن الله تعالى يجيب أدعية الداعين ، وترى كثيراً من الداعين لا يستجاب لهم!
فالجواب : أن أبا سعيد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " ما من مسلم دعا الله تعالى بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إِثم؛ إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إِما أن يعجل دعوته ، وإِما أن يدخرها له في الآخرة ، وإِما أن يدفع عنه من السوء مثلها " وجواب آخر : وهو أن الدعاء تفتقر إجابته إلى شروط أصلها الطاعة لله ، ومنها أكل الحلال ، فإن أكل الحرام يمنع إجابة الدعاء ، ومنها حضور القلب ، ففي بعض الحديث : " لا يقبل الله دعاءً من قلب غافل لاه " وجواب آخر : وهو أن الداعي قد يعتقد المصلحة في إجابته إلى ما سأل ، وقد لا تكون المصلحة في ذلك ، فيجاب إلى مقصوده الأصلي ، وهو : طلب المصلحة ، وقد تكون المصلحة في التأخير أو في المنع .

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

قوله تعالى : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث }
سبب نزول هذه الآية أن الصحابة كانوا إذا نام الرجل قبل الأكل والجماع ، حرما عليه إلى أن يفطر ، فجاء شيخ من الأنصار وهو صائم إلى أهله ، فقال : عشوني ، فقالوا : حتى نسخن لك طعاماً ، فوضع رأسه فنام ، فجاؤوا بالطعام ، فقال : قد كنت نمت ، فبات يتقلب ظهراً لبطن ، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فأخبره ، فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله! إني أردت أهلي الليلة ، فقالت : إنها قد نامت ، فظننتها تعتل ، فواقعتها ، فأخبرتني أنها قد نامت ، فأنزل الله تعالى في عمر بن الخطاب : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } وأنزل الله في الأنصاري : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } هذا قول جماعة من المفسرين . واختلفوا في اسم هذا الأنصاري على أربعة أقوال . أحدها : قيس بن صرمة ، قاله البراء . والثاني : صرمة بن أنس ، قاله القاسم بن محمد ، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى : صرمة بن مالك . والثالث : ضمرة بن أنس . والرابع : أبو قيس بن عمر . وذكر القولين أبو بكر الخطيب . فأما «الرفث» فقال ابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، والحسن ، وابن جبير في آخرين : هو الجماع .
قوله تعالى : { هنَّ لباس لكم وأنتم لباس لهن } فيه قولان . أحدهما : أن اللباس السكن . ومثله { جعل لكم الليل لباساً } [ الفرقان : 47 ] أي : سكناً . وهذا قول ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة . والثاني : أنهن بمنزلة اللباس ، لإفضاء كل واحد ببشرته إلى بشرة صاحبه ، فكنى عن اجتماعهما متجردين باللباس . قال الزجاج : والعرب تسمي المرأة : لباساً وإزاراً ، قال النابغة الجعدي :
إذا ما الضجيع ثنى جيدها ... تثنت فكانت عليه لباساً
وقال غيره :
ألا أبلغ أبا حفص رسولا ... فدىً لك من أخي ثقة إِزاري
يريد : بالإزار : امرأته .
قوله تعالى : { عَلِمَ الله أنَكم كنتم تختانون أنفُسَكم } قال ابن قتيبة : يريد : تخونونها بارتكاب ما حُرِّمَ عليكم . قال ابن عباس : وعنى بذلك فعل عمر ، فإنه أتى أهله ، فلما اغتسل أخذ يلوم نفسه ويبكي { فالآن باشروهن } : أصل المباشرة : إلصاق البشرة بالبشرة . وقال ابن عباس : المراد بالمباشرة هاهنا : الجماع . { وابتغوا ما كتب الله لكم } فيه أربعة أقوال : أحدها : أنه الولد ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد في آخرين . قال بعض أهل العلم : لما كانت المباشرة قد تقع على ما دون الجماع ، أباحهم الجماع الذي يكون من مثله الولد ، فقال : { وابتغوا ما كتب الله لكم } يريد : الولد . والثاني : أن الذي كتب لهم الرخصة ، وهو قول قتادة . وابن زيد . والثالث : أنه ليلة القدر . رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس . والرابع : أنه القرآن ، فمعنى الكلام : اتبعوا القرآن ، فما أُبيح لكم وأمرتم به فهو المبتغى ، وهذا اختيار الزجاج .

قوله تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض } " قال عدي بن حاتم : لما نزلت هذه الآية ، عمدت إلى عقالين ، أبيض وأسود ، فجعلتهما تحت وسادتي ، فجعلت أقوم في الليل ولا أستبين الأسود من الأبيض ، فلما أصبحت؛ غدوت على رسول الله فأخبرته ، فضحك وقال : «إِن كان وسادك إِذاً لعريض ، إِنما ذاك بياض النهار من سواد الليل» " وقال سهل بن سعد : نزلت هذه الآية : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } ولم ينزل : { من الفجر } فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض ، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له زيهما ، فأنزل الله بعد ذلك { من الفجر } فعلموا أنما يعني بذلك الليل والنهار .
فصل
إذا شك في الفجر ، فهل يدع السحور أم لا؟ فظاهر كلام أحمد يدل على أنه لا يدع السحور ، بل يأكل حتى يستيقن طلوع الفجر . وقال مالك : أكره له أن يأكل إذا شك في طلوع الفجر ، فان أكل فعليه القضاء وقال الشافعي : لا شيء عليه .
قوله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } في هذه المباشرة قولان . أحدهما : أنها المجامعة ، وهو قول الاكثرين والثاني : أنها ما دون الجماع من اللمس والقبلة ، قاله ابن زيد . وقال قتادة : كان الرجل المعتكف إذا خرج من المسجد ، فلقي امرأته باشرها إذا أراد ذلك ، فوعظهم الله في ذلك .
فصل
الاعتكاف في اللغة : اللبث ، يقال : فلان معتكف على كذا ، وعاكف . وهو فعل مندوب إليه ، إلا أن ينذره الإنسان ، فيجب . ولا يجوز إلا في مسجد تقام فيه الجماعات ، ولا يشترط في حق المرأة مسجد تقام فيه الجماعة ، إذ الجماعه لا تجب عليها . وهل يصح بغير صوم؟ فيه عن أحمد روايتان .
قوله تعالى : { تلك حدود الله } قال ابن عباس : يعني : المباشرة { فلا تقربوها } قال الزجاج : الحدود ما منع الله من مخالفتها ، فلا يجوز مجاوزتها . وأصل الحد في اللغة : المنع ، ومنه : حد الدار ، وهو ما يمنع غيرها من الدخول فيها . والحداد في اللغة : الحاجب والبواب ، وكل من منع شيئاً فهو حداد . قال الأعشى :
فقمنا ولما يصحْ ديكنا ... إِلى جونة عند حدادها
أي : عند ربها الذي يمنعها إلا بما يريده . وأحدت المرأة على زوجها ، وحدّت ، فهي حاد ، ومحد : إذا قطعت الزينة ، وامتنعت منها ، وأحددت النظر إلى فلان : إذا منعت نظرك من غيره . وسمي الحديد حديداً ، لأنه يمتنع به الأعداء .
قوله تعالى : { كذلك يبين الله } أي : مثل هذا البيان الذي ذكر .

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل }
سبب نزولها : أن امرؤ القيس بن عابس ، وعبدان الحضرمي ، اختصما في أرض ، وكان عبدان هو الطالب ولا بينة له ، فأراد امرؤ القيس أن يحلف ، فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الذين يشترون بعهد الله وأَيْمانهم ثمناً قليلاً } [ آل عمران : 77 ] . فكره أن يحلف ، ولم يخاصم في الأرض ، فنزلت هذه الآية . هذا قول جماعة ، منهم سعيد بن جبير . ومعنى الآية : لا يأكل بعضكم أموال بعض ، كقوله : { فاقتلوا أنفسكم } قال القاضي أبو يعلى : والباطل على وجهين . أحدهما : أن يأخذه بغير طيب نفس من مالكه ، كالسرقة ، والغصب ، والخيانة ، والثاني : أن يأخذه بطيب نفسه ، كالقمار ، والغناء ، وثمن الخمر . وقال الزجاج : الباطل الظلم . «وتدلوا» أصله في اللغة من : أدليت الدلو : إذا أرسلتها لتملأها ، ودلوتها : إذا أخرجتها . ومعنى أدلى فلان بحجته : أرسلها ، وأتى بها على صحة . فمعنى الكلام : تعملون على ما يوجبه إدلاء الحجة ، وتخونون في الأمانة ، وأنتم تعلمون أن الحجة عليكم في الباطن .
وفي ها «بها» قولان . أحدهما : أنها ترجع إلى الأموال كأنه قال : لا تصانعوا ببعضها جَوَرَة الحكام . والثاني : أنها ترجع إلى الخصومة ، فان قيل : كيف أعاد ذكر الأكل فقال : «ولا تأكلوا» «لتأكلوا» فالجواب : أنه وصل اللفظة الأولى بالباطل ، والثانية بالإثم ، فأعادها للزيادة في المعنى ، ذكره ابن الأنباري .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

قوله تعالى : { يَسْئَلُونَكَ عن الأَهِلَّةِ }
هذه الآية من أولها إلى قوله : «والحج» نزلت على سبب ، وهو أن رجلين من الصحابة قالا : يا رسول الله! ما بال الهلال يبدو دقيقاً ، ثم يزيد ويمتلئ حتى يستدير ويستوي ، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان؟ فنزلت : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } هذا قول ابن عباس .
ومن قوله تعالى : { وليس البِرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها } إلى آخرها ، يدل على سبب آخر ، وهو أنهم كانوا إذا حجوا ، ثم قدموا المدينة ، لم يدخلوا من باب ، ويأتون البيوت من ظهورها ، فنسي رجل ، فدخل من باب ، فنزلت : { وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها } هذا قول البراء بن عازب .
وفيما كانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها لأجله أربعة أقوال . أحدها : أنهم كانوا يفعلون ذلك لأجل الإحرام ، قاله ابن عباس ، وأبو العالية ، والنخعي ، وقتادة ، وقيس النهشلي . والثاني : لأجل دخول الشهر الحرام ، قاله البراء بن عازب . والثالث : أن أهل الجاهلية كانوا إذا همَّ أحدهم بالشيء فاحتبس عنه؛ لم يأت بيته من بابه حتى يأتي الذي كان هم به ، قاله الحسن . والرابع : أن أهل المدينة كانوا إذا رجعوا من عيدهم فعلوا ذلك ، رواه عثمان بن عطاء عن أبيه .
فأما التفسير؛ فانما سألوه عن وجه الحكمة في زيادة الأهلَّة ونقصانها ، فأخبرهم أنها مقادير لما يحتاج الناس إليه في صومهم وحجهم وغير ذلك . والأهلَّة : جمع هلال . وكم يبقى الهلال على هذه التسمية؟ فيه للعرب أربعة أقوال . أحدها : أنه يسمى هلالاً لليلتين من الشهر . والثاني : لثلاث ليال ، ثم يسمى : قمراً . والثالث : إلى أن يحجر ، وتحجيره : أن يسير بخطة دقيقة ، وهو قول الأصمعي . والرابع : إلى أن يبهر ضوؤه سواد الليل . حكى هذه الأقوال ابن السري ، واختار الأول ، قال : واشتقاق الهلال من قولهم : استهل الصبي : إذا بكى حين يولد ، وأهل القوم بالحج : إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية ، فسمي هلالاً ، لأنه حين يُرى يُهل الناس بذكره .
قوله تعالى : { ولكنَّ البرَّ من اتقى } مثل قوله تعالى : { ولكن البرَّ من آمن بالله } وقد سبق بيانه ، واختلف القراء في البيوت وما أشبهها ، فقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، والكسائي ، بكسر باء «البيوت» وعين «العُيون» وغين «الغُيوب» وروي عن نافع أنه ضم باء «البيوت» وعين «العيون» وغين «الغيوب» وجيم «الجيوب» وشين «الشيوخ» وروى عنه قالون أنه كسر باء «البيوت» وقرأ أبو عمر ، وأبو جعفر بضم الأحرف الخمسة ، وكسرهن جميعاً حمزة ، واختلف عن عاصم . قال الزجاج : من ضم «البيوت» فعلى أصل الجمع : بيت وبيوت ، مثل : قلب وقلوب ، وفلس وفلوس ، ومن كسر ، فانما كسر للياء التي بعد الباء ، وذلك عند البصريين رديء ، لأنه ليس في الكلام فعول بكسر الفاء . وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول : إذا كان الجمع على فعول ، وثانيه ياء؛ جاز فيه الضم والكسر ، تقول : بُيوتٌ وبِيوت ، وشُيوخٌ وشِيوخ ، وقُيود وقِيود .

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)

قوله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } .
سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما صُدّ عن البيت ، ونحر هديه بالحديبية ، وصالحه المشركون على أن يرجع من العام المقبل؛ رجع ، فلما تجهز في العام المقبل؛ خاف أصحابه أن لا تفي لهم قريش بذلك ، و أن يصدوهم ويقاتلوهم ، وكره أصحابه القتال في الشهر الحرام؛ فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس .
قوله تعالى : { ولا تعتدوا } أي : ولا تظلموا . وفي المراد بهذا الاعتداء أربعة أقوال . أحدها : أنه قتل النساء والولدان ، قاله ابن عباس ، ومجاهد . والثاني : أن معناه : لا تقاتلوا من لم يقاتلكم ، قاله سعيد بن جبير ، وأبو العالية ، وابن زيد . والثالث : أنه إتيان ما نهوا عنه ، قاله الحسن . والرابع : أنه ابتداؤهم بالقتال في الحرم في الشهر الحرام ، قاله مقاتل .
فصل
اختلف : العلماء هل هذه الآية منسوخة أم لا؟ على قولين .
أحدهما : أنها منسوخة . واختلف أرباب هذا القول في المنسوخ منها على قولين . أحدهما : أنه أولها ، وهو قوله : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } قالوا : وهذا يقتضي أن القتال يباح في حق من قاتل من الكفار ، ولا يباح في حق من لم يقاتل ، وهذا منسوخ بقوله : { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } والثاني : أن المنسوخ منها : { ولا تعتدوا } ولهؤلاء في هذا الاعتداء قولان . أحدهما : أنه قتل من لم يقاتل . والثاني : أنه ابتداء المشركين بالقتال ، وهذا منسوخ بآية السيف .
والقول الثاني : أنها محكمة ، ومعناها عند أرباب هذا القول : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } وهم الذين أعدوا أنفسهم للقتال ، فأما من ليس بمعدٍّ نفسه للقتال ، كالرهبان والشيوخ الفناة ، والزمنى ، والمكافيف ، والمجانين ، فان هؤلاء لا يقاتلون ، وهذا حكمٌ باقٍ غيرُ منسوخ .
فصل
واختلف العلماء في أول آية نزلت في إباحة القتال على قولين . أحدهما : أنها قوله تعالى : { أُذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلموا } [ الحج : 39 ] قاله أبو بكر الصديق ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والزهري . والثاني : أنها هذه الآية : { وقاتلوا في سبيل الله } قاله أبو العالية ، وابن زيد .

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)

قوله تعالى : { واقتلوهم حيث ثقفتموهم }
أي : وجدتموهم . يقال : ثقفته أثقفه : إذا وجدته . قال القاضي أبو يعلى : قوله تعالى : { واقتلوهم حيث تقفثموهم } عام في جميع المشركين ، إلا من كان بمكة ، فانهم أمروا باخراجهم منها ، إلا من قاتلهم ، فإنهم أُمروا بقتالهم ، يدل على ذلك قوله في نسق الآية : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه } وكانوا قد آذوا المسلمين بمكة حتى اضطروهم إلى الخروج ، فكأنهم أخرجوهم . فأما الفتنة ، ففيها قولان . أحدهما : أنها الشرك ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر ، وقتادة في آخرين . والثاني : أنها ارتداد المؤمن إلى عبادة الأوثان . قاله مجاهد . فيكون معنى الكلام على القول الأول : شرك القوم أعظم من قتلكم إياهم في الحرم . وعلى الثاني : ارتداد المؤمن إلى الأوثان أشد عليه من أن يقتل محقاً .
قوله تعالى : { ولا تُقاتلوهم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم : { ولا تُقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فان قاتلوكم فاقتلوهم } وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : { ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فان قتلوكم } بحذف الألف فيهن . وقد اتفق الكل على قوله : { فاقتلوهم } واحتج من قرأ بالألف بقوله : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } واحتج من حذف الألف بقوله : { فاقتلوهم } .
فصل
واختلف العلماء في قوله : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه } : هل هو منسوخ أم لا؟ فذهب مجاهد في جماعة من الفقهاء إلى أنه محكم ، وأنه لا يقاتل فيه إلا من قاتل ، ويدل على ذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه خطب يوم فتح مكة ، فقال : « يا أيها الناس! إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والارض ، ولم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي . وإنما أُحلت لي ساعةً من النهار ، ثم عادت حراماً إلى يوم القيامة » فبين صلى الله عليه وسلم أنه خص في تلك الساعة بالإباحة على سبيل التخصيص ، لا على وجه النسخ ، فثبت بذلك حظر القتال في الحرم ، إلا أن يقاتلوا فيدفعون دفعاً ، وهذا أمر مستمر ، والحكم غير منسوخ ، وقد ذهب قتادة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] فأمر بقتالهم في الحل والحرم وعلى كل حال . وذهب الربيع بن أنس ، وابن زيد . إلى أنه منسوخ بقوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ } وزعم مقاتل أنه منسوخ بقوله تعالى : { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } [ البقرة : 191 ] . والقول الأول أصح .
قوله تعالى : { فان قاتلوكم فاقتلوهم } قال مقاتل : أي : فقاتلوهم .

فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)

قوله تعالى : { فان انتهوا }
فيه ثلاثة أقوال . أحدها : أن معناه : فإن انتهوا عن شركهم وقتالكم . والثاني : عن كفرهم . والثالث : عن قتالكم دون كفرهم . فعلى القولين الأولين تكون الآية محكمة ، ويكون معنى : { فان الله غفور رحيم } غفور لشركهم وجرمهم ، وعلى القول الأخير؛ يكون في معنى قوله : { غفور رحيم } قولان . أحدهما : غفور لكم حيث أسقط عنكم تكليف قتالهم . والثاني : أن معناه : يأمركم بالغفران والرحمة لهم . فعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية السيف .

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

قوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة }
قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة في آخرين : الفتنة هاهنا : الشرك .
قوله تعالى : { ويكون الدين لله } قال ابن عباس : أي : يخلص له التوحيد . والعدوان : الظلم ، وأُريد به هاهنا : الجزاء . فسمي الجزاء عدواناً مقابلة للشيء بمثله ، كقوله : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه } والظالمون هاهنا : المشركون ، قاله عكرمة ، وقتادة في آخرين .
فصل
وقد روي عن جماعة من المفسرين ، منهم قتادة ، أن قوله تعالى : { فان انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } منسوخ بآية السيف ، وإنما يستقيم هذا إذا قلنا : إن معنى الكلام : فإن انتهوا عن قتالكم مع إقامتهم على دينهم ، فأما إذا قلنا : إن معناه : فإن انتهوا عن دينهم؛ فالآية محكمة .

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

قوله تعالى : { الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ }
هذه الآية نزلت على سبب ، واختلفوا فيه على قولين . أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أقبل هو وأصحابه معتمرين في ذي القعدة ومعهم الهدي ، فصدهم المشركون ، فصالحهم نبي الله على أن يرجع عنهم ثم يعود في العام المقبل ، فيكون بمكة ثلاث ليال ، ولا يدخلها بسلاح ، ولا يخرج بأحد من أهل مكة ، فلما كان العام المقبل؛ أقبل هو وأصحابه فدخلوها ، فافتخر المشركون عليه إذ ردوه يوم الحديبية ، فأقصه الله منهم وأدخله مكة في الشهر الذي ردوه فيه ، فقال : { الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ والحُرُماتُ قِصاصٌ } وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وأبو العالية ، وقتادة ، في آخرين . والثاني : أن مشركي العرب قالوا للنبي ، عليه السلام : أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟ قال «نعم» وأرادوا أن يفتروه في الشهر الحرام ، فيقاتلوه فيه ، فنزلت هذه الآية ، يقول : إن استحلّوا منكم شيئاً في الشهر الحرام ، فاستحلوا منهم مثله ، هذا قول الحسن ، واختاره إبراهيم بن السري والزجاج . فأما أرباب القول الأول؛ فيقولون : معنى الآية : الشهر الحرام ، الذي دخلتم فيه الحرم بالشهر الحرام الذي صدوكم فيه عام أول . { والحرمات قصاص } : اقتصصت لكم منهم في ذي القعدة كما صدوكم في ذي القعدة . وقال الزجاج : الشهر الحرام ، أي : قتال الشهر الحرام بالشهر الحرام ، فأعلم الله تعالى أن أمر هذه الحرمات لا تجوز للمسلمين إلا قصاصاً ، ثم نسخ ذلك بآية السيف ، وقيل : إنما جمع الحرمات ، لأنه أراد الشهر الحرام بالبلد الحرام ، وحرمة الإحرام .
قوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه } قال ابن عباس : من قاتلكم في الحرم فقاتلوه . وإنما سمى المقابلة على الاعتداء اعتداءً ، لأن صورة الفعلين واحدة ، وإن كان أحدهما طاعة والآخر معصية . قال الزجاج : والعرب تقول : ظلمني فلان فظلمته ، أي : جازيته بظلمه . وجهل فلان عليَّ ، فجهلت عليه . وقد سبق بيان هذا المعنى في أول السورة .
قوله تعالى : { واتقوا الله } قال سعيد بن جبير : واتقوا الله ، ولا تبدؤوهم بقتال في الحرم .

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

قوله تعالى : { وأنفقوا في سبيل الله }
هذه الآية نزلت على سبب ، وفيه قولان .
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما أمر بالتجهز إلى مكة ، قال ناسٌ من الأعراب : يا رسول الله! بماذا نتجهز؟ فوالله مالنا زاد ولا مال! فنزلت ، قاله ابن عباس .
والثاني : أن الأنصار كانوا ينفقون ويتصدقون ، فأصابتهم سنة ، فأمسكوا؛ فنزلت ، قاله أبو جبيرة بن الضحاك . والسبيل في اللغة : الطريق . وإنما استعملت هذه الكلمة في الجهاد ، لأنه السبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدين . والتهلكة : بمعنى الهلاك ، يقال : هلك الرجل يهلك هلاكاً وهُلكاً وتهلكة . قال المبرد : وأراد بالأيدي : الأنفس ، فعبر بالبعض عن الكل . وفي المراد بالتهلكة هاهنا أربعة أقوال . أحدها : أنها ترك النفقة في سبيل الله ، قاله حذيفة ، وابن عباس ، والحسن ، وابن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك . والثاني : أنها القعود عن الغزو شغلاً بالمال ، قاله أبو أيوب الأنصاري . والثالث : أنها القنوط من رحمة الله ، قاله البراء ، والنعمان بن بشير ، وعبيدة . والرابع : أنها عذاب الله ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
قوله تعالى : { وَأَحسِنوا } فيه ثلاثة أقوال . أحدها : أن معناه : أحسنوا الإنفاق ، وهو قول أصحاب القول الأول . والثاني : أحسنوا الظن بالله ، قاله عكرمة ، وسفيان ، وهو يخرّج على قول من قال : التهلكة : القنوط ، والثالث : أن معناه : أدوا الفرائض ، رواه سفيان عن أبي إسحاق .
قوله تعالى : { وأَتموا الحَجَّ والعُمْرةَ للهِ } قال ابن فارس : الحج في اللغة : القصد ، والاعتمار في الحج أصله : الزيارة . قال ثعلب : الحج بفتح الحاء : المصدر ، وبكسرها : الاسم . قال : وربما قال الفراء : هما لغتان . وذكر ابن الأنباري في العمرة قولين . أحدهما : الزيارة . والثاني : القصد . وفي إتمامها أربعة أقوال . أحدها : أن معنى إتمامها : أن يفصل بينهما ، فيأتي بالعمرة في غير أشهر الحج ، قاله عمر بن الخطاب ، والحسن ، وعطاء . والثاني : أن يحرم الرجل من دويرة أهله ، قاله علي بن أبي طالب ، وطاووس ، وابن جبير ، والثالث : أنه إذا شرع في أحدهما لم يفسخه حتى يتم ، قاله ابن عباس . والرابع : أنه فعل ما أمر الله فيهما ، قاله مجاهد . وجمهور القراء على نصب «العمرة» بايقاع الفعل عليها . وقرأ الأصمعي عن نافع والقزاز عن أبي عمرو ، والكسائي عن أبي جعفر برفعها ، وهي قراءة ابن مسعود ، وأبي رزين ، والحسن ، والشعبي . وقراءة الجمهور تدل على وجوبها . وممن ذهب إلى أن العمرة واجبة ، عليّ ، وابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، وابن سيرين ، وعطاء ، وطاووس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وأحمد ، والشافعي ، وروي عن ابن مسعود ، وجابر ، والشعبي ، وإبراهيم ، وأبي حنيفة ، ومالك ، أنها سنة وتطوع .
قوله تعالى { فإن أُحصرتم } قال ابن قتيبة : يقال : أحصره المرض والعدو : إذا منعه من السفر ، ومنه هذه الآية .

وحصره العدو : إذا ضيق عليه . وقال الزجاج : يقال للرجل إذا حبس : قد حصر ، فهو محصور . وللعلماء في هذا الإحصار قولان . أحدهما : أنه لا يكون إلا بالعدو ، ولا يكون المريض محصراً . وهذا مذهب ابن عمر ، وابن عباس ، وأنس ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد . ويدل عليه قوله : { فاذا أمنتم } . والثاني : أنه يكون بكل حابس من مرض أو عدو أو عذر ، وهو قول عطاء ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبي حنيفة . وفي الكلام اختصار وحذف ، والمعنى : فإن أُحصرتم دون تمام الحج والعمرة فحللتم؛ فعليكم ما استيسر من الهدي . ومثله { أو به أذىً من رأسه ففدية } تقديره : فحلق ، ففدية . والهدي : ما أهدي إلى البيت . وأصله : هديّ مشدد ، فخفف ، قاله ابن قتيبة . وبالتشديد يقرأ الحسن ، ومجاهد . وفي المراد { بما استيسر من الهدي } ثلاثة أقوال . أحدها : أنه شاة ، قاله علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، وابن جبير ، وإبراهيم ، وقتادة ، والضحاك . والثاني : أنه ما تيسر من الإبل والبقر لا غير ، قاله ابن عمر ، وعائشة ، والقاسم . والثالث : أنه على قدر الميسرة ، رواه طاووس عن ابن عباس . وروي عن الحسن ، وقتادة قالا : أعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأخسه شاة . وقال أحمد : الهدي من الأصناف الثلاثة ، من الإبل والبقر ، والغنم ، وهو قول أبي حنيفة ، رحمه الله ، ومالك ، والشافعي ، رحمهما الله .
قوله تعالى : { حتى يبلغ الهدي محله } قال ابن قتيبة : المحل : الموضع الذي يحل به نحره ، وهو من : حل يحل . وفي المحل قولان . أحدهما : أنه الحرم ، قاله ابن مسعود ، والحسن ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، وابن سيرين ، والثوري ، وأبو حنيفة ، والثاني : أنه الموضع الذي أُحصر به فيذبحه ويحل ، قاله مالك ، والشافعي ، وأحمد .
قوله تعالى : { فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففديةٌ } هذا نزل على سبب ، وهو أن كعب بن عجرة كثر قمل رأسه حتى تهافت على وجهه ، فنزلت هذه الآية فيه فكان يقول : فيَّ نزلت خاصة .
فصل
قال شيخنا علي ابن عبيد الله : اقتضى قوله : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } تحريم حلق الشعر ، سواء وجد به الأذى ، أو لم يجد ، حتى نزل : { فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية } فاقتضى هذا إباحة حلق الشعر عند الأذى مع الفدية ، فصار ناسخاً لتحريمه المتقدم .
ومعنى الآية : فمن كان منكم- أي : من المحرمين ، محصراً كان أو غير محصر- مريضاً ، واحتاج إلى لبس أو شيء يحظره الإحرام ، ففعله ، أو به أذىً من رأسه فحلق؛ ففدية من صيام . وفي الصيام قولان . أحدهما : أنه ثلاثة أيام ، روي في حديث كعب ابن عجرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قول الجمهور . والثاني : أنه صيام عشرة أيام ، روي عن الحسن وعكرمة ، ونافع ، وفي الصدقة قولان . أحدهما : أنه إطعام ستة مساكين ، روي في حديث كعب ، وهو قول من قال : الصوم ثلاثة أيام .

والثاني : أنها إطعام عشرة مساكين ، وهو قول من أوجب صوم عشرة أيام . والنسك : ذبح شاة ، يقال : نسكت لله ، أي : ذبحت له ، وفي النسك لغتان : ضم النون والسين ، وبها قرأ الجمهور ، وضم النون مع تسكين السين ، وهي قراءة الحسن .
قوله تعالى : { فاذا أمنتم } ، أي : من العدو . إذ المرض لا تؤمن معاودته وقال علقمة في آخرين : فاذا أمنتم من الخوف والمرض . { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } معناه : من بدأ بالعمرة في أشهر الحج ، وأقام الحج ، من عامه ذلك؛ فعليه ما استيسر من الهدي . وهذا قول ابن عمر ، وابن المسيب ، وعطاء ، والضحاك . وقد سبق الكلام فيما استيسر من الهدي . { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج } قال الحسن : هي قبل التروية بيوم و [ يوم ] التروية ، و [ يوم ] عرفة ، وهذا قول عطاء ، والشعبي ، وأبي العالية ، وابن جبير ، وطاووس ، وإبراهيم ، وقد نقل عن علي رضي الله عنه ، وقد روي عن الحسن ، وعطاء قالا : في أي العشر شاء صامهن . ونقل عن طاووس ، ومجاهد ، وعطاء ، أنهم قالوا : في أي أشهر الحج شاء فليصمهن . ونقل عن ابن عمر أنه قال : من حين يحرم إلى يوم عرفة .
فصل
فإن لم يجد الهدي ، ولم يصم الثلاثة أيام قبل يوم النحر ، فماذا يصنع؟ قال عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وابن جبير ، وطاووس ، وإبراهيم : لا يجزئه إلا الهدي ولا يصوم . وقال ابن عمر وعائشة : يصوم أيام منى . ورواه صالح عن أحمد ، وهو قول مالك . وذهب آخرون إلى أنه لا يصوم أيام التشريق ، بل يصوم بعدهن . روي عن عليّ . ورواه المرّوذي عن أحمد ، وهو قول الشافعي .
فصل
فان وجد الهدي بعد الدخول في صوم الثلاثة أيام ، لم يلزمه الخروج منه ، وهو قول مالك ، والشافعي . وقال أبو حنيفة : يلزمه الخروج ، وعليه الهدي . وقال عطاء : إن صام يومين ثم أيسر؛ فعليه الهدي . وإن صام ثلاثة أيام ثم أيسر؛ فليصم السبعة ، ولا هدي عليه . وفي معنى قوله : { في الحج } قولان . أحدهما : أن معناه : في أشهر الحج والثاني : في زمان الإحرام بالحج . وفي قوله تعالى : { وسبعة إِذا رجعتم } قولان . أحدهما : إذا رجعتم إلى أمصاركم ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وأبو العالية ، والشعبي ، وقتادة . والثاني : إذا رجعتم من حجكم ، وهو قول عطاء ، وسعيد بن جبير ، وأبي حنيفة ، ومالك . قال الأثرم : قلت لأبي عبيد الله ، يعني : أحمد ابن حنبل : فصيام السبعة أيام إذا رجع متى يصومهن؟ أفي الطريق ، أم في أهله؟ قال : كل ذلك قد تأوله الناس . قيل لأبي عبد الله : ففرّق بينهن ، فرخص في ذلك .
قوله تعالى : { تلك عشرة كاملة } فيه خمسة أقوال .
أحدها : أن معناه : كاملة في قيامها مقام الهدي ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس ، والحسن . قال القاضي أبو يعلى : وقد كان يجوز أن يظن ظان أن الثلاثة قد قامت مقام الهدي في باب استكمال الثواب ، فأعلمنا الله تعالى أن العشرة بكمالها هي القائمة مقامه .

والثاني : أن الواو قد تقوم مقام «أو» في مواضع ، منها قوله : { فانحكوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } فأزال الله ، عز وجل احتمال التخيير في هذه الآية ، بقوله : { تلك عشرة كاملة } وإلى هذا المعنى ذهب الزجاج .
والثالث : أن ذلك للتوكيد . وأنشدوا للفرزدق :
ثلاث واثنتان فهن خمس ... وسادسة تميل إلى شمامي
وقال آخر :
هلا سألت جموع كندة يوم ولوا أين أينا ... وقال آخر :
كم نعمة كانت له كم كم وكم ... والقرآن نزل بلغة العرب ، وهي تكرر الشيء لتوكيده .
والرابع : أن معناه : تلك عشرة كاملة في الفصل ، وإن كانت الثلاثة في الحج ، والسبعة بعد ، لئلا يسبق إلى وهم أحد أن السبعة دون الثلاثة ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
والخامس : أنها لفظة خبر ومعناها : الأمر ، فتقديره : تلك عشرة فأكملوها .
قوله تعالى : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } في المشار إليه بذلك قولان . أحدهما : أنه التمتع بالعمرة إلى الحج . والثاني : أنه الجزاء بالنسك والصيام . واللام من «لمن» في هذا القول بمعنى : «على» . فأما حاضروا المسجد الحرام؛ فقال ابن عباس ، وطاووس ، ومجاهد : هم أهل الحرم . وقال عطاء : من كان منزله دون المواقيت . قال ابن الأنباري : ومعنى الآية : إن هذا الفرض لمن كان من الغرباء . وإنما ذكر أهله ، وهو المراد بالحضور ، لأن الغالب على الرجل أن يسكن حيث أهله ساكنون .

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)

قوله تعالى : { الحج أشهر معلومات }
في الحج لغتان . فتح الحاء ، وهي لأهل الحجاز ، وبها قرأ الجمهور . وكسرها ، وهي لتميم ، وقيل : لأهل نجد ، وبها قرأ الحسن . قال سيبويه : يقال : حج حجاً ، كقولهم : ذكر ذكراً . وقالوا : حجة ، يريدون : عمل سنة . قال الفراء : المعنى : وقت الحج هذه الأشهر . وقال الزجاج : معناه : أشهر الحج أشهر معلومات .
وفي أشهر الحج قولان . أحدهما : أنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، قاله ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير ، والحسن ، وابن سيرين ، وعطاء ، والشعبي ، وطاووس ، والنخعي ، وقتادة ، ومكحول ، والضحاك ، والسدي ، وأبو حنيفة ، وأحمد بن حنبل ، والشافعي ، رضي الله عنهم . والثاني : أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة ، وهو مروي عن ابن عمر أيضاً ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، والزهري ، والربيع ، ومالك بن أنس . قال ابن جرير الطبري : إنما أراد هؤلاء أن هذه الأشهر ليست أشهر العمرة ، إنما هي للحج ، وإن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء منى ، وقد كانوا يستحبون أن يفعلوا العمرة في غيرها . قال ابن سيرين : ما أحد من أهل العلم شك في أن عمرةً في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج ، وإنما قال : { الحج أشهر } وهي شهران وبعض الآخر على عادة العرب . قال الفراء : تقول العرب : له اليوم يومان لم أره ، وإنما هو يوم ، وبعض آخر . وتقول : زرتك العام ، وأتيتك اليوم ، وإنما وقع الفعل في ساعة . وذكر ابن الأنباري : في هذا قولين . أحدهما : أن العرب توقع الجمع على التثنية ، كقوله تعالى : { أولئك مبرّؤون مما يقولون } وإنما يريد عائشة وصفوان . وكذلك قوله : { وكنا لحكمهم شاهدين } يريد : داود وسليمان . والثاني : أن العرب توقع الوقت الطويل على الوقت القصير ، فيقولون : قتل ابن الزبير أيام الحج ، وإنما كان القتل في أقصر وقت .
فصل
اختلف العلماء فيمن أحرم بالحج قبل أشهر الحج ، فقال عطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، والشافعي : لا يجزئه ذلك ، وجعلوا فائدة قوله : { الحج أشهر معلومات } أنه لا ينعقد الحج إلا فيهن . وقال أبو حنيفة ، ومالك ، والثوري ، والليث بن سعد ، وأحمد بن حنبل : يصح الإحرام بالحج قبل أشهر ، فعلى هذا يكون قوله : { الحج أشهر معلومات } أي : معظم الحج يقع في هذه الأشهر ، كما قال النبي ، صلى الله عليه وسلم : « الحج عرفة » قوله تعالى : { فمن فرض فيهن الحج } قال ابن مسعود : هو الإهلال بالحج ، والإحرام به . وقال طاووس ، وعطاء : هو أن يلبي . وروي عن علي ، وابن عمر ، ومجاهد ، والشعبي في آخرين : أنه إذا قلّد بدنته فقد أحرم ، وهذا محمول على أنه قلّدها ناوياً للحج . ونص الإمام أحمد بن حنبل ، رضي الله عنه ، في رواية الأثرم : أن الإحرام بالنية . قيل له : يكون محرماً بغير تلبية؟ قال : نعم إذا عزم على الإحرام ، وهذا قول مالك ، والشافعي .

وقال أبو حنيفة : لا يجوز الدخول في الإحرام إلا بالتلبية أو تقليد الهدي وسوقه .
قوله تعالى : { فلا رفث } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر : { فلا رفثٌ ولا فسوقٌ } بالضم والتنوين . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بغير تنوين ، ولم يرفع أحد منهم لام «جدال» إلا أبو جعفر . قال أبو علي : حجة من فتح أنه أشد مطابقة للمعنى المقصود ، لأنه بالفتح قد نفى جميع الرفث والفسوق ، كقوله : { لا ريب فيه } فاذا رفع ونون؛ كان النفي لواحد منه ، وإنما فتحوا لام الجدال ، ليتناول النفي جميع جنسه ، فكذلك ينبغي أن يكون جمع الاسمين قبله . وحجة من رفع أنه قد علم من فحوى الكلام نفي جميع الرفث ، وقد يكون اللفظ واحداً ، والمراد بالمعنى : الجميع .
وفي الرفث ثلاثة أقوال . أحدها : أنه الجماع ، قاله ابن عمر ، والحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة في آخرين . والثاني : أنه الجماع ، وما دونه من التعريض به ، وهو مروي عن ابن عمر أيضاً ، وابن عباس ، وعمرو بن دينار في آخرين . والثالث : أنه اللغو من الكلام ، قاله أبو عبد الرحمن اليزيدي . وفي الفسوق ثلاثة أقوال . أحدها : أنه السباب ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، وإبراهيم في آخرين . والثاني : أنه التنابز بالألقاب ، مثل أن تقول لأخيك : يا فاسق ، ياظالم ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثالث : أنه المعاصي ، قاله الحسن ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، وقتادة في آخرين ، وهو الذي نختاره ، لأن المعاصي تشمل الكل ، ولأن الفاسق : الخارج من الطاعة إلى المعصية .
قوله تعالى : { ولا جدال في الحج } الجدال : المراء . وفي معنى الكلام قولان .
أحدهما : أن معناه : لا يمارينَّ أحد أحداً ، فيخرجه المراء إلى الغضب ، وفعل ما لا يليق بالحج ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عمر ، وابن عباس ، وطاووس ، وعطاء ، وعكرمة ، والنخعي ، وقتادة ، والزهري ، والضحاك في آخرين .
والثاني : أن معناه : لا شك في الحج ولا مراء ، فانه قد استقام أمره وعرف وقته وزال النسيء عنه ، قال مجاهد : كانوا يحجون في ذي الحجة عامين ، وفي المحرم عامين ، ثم حجوا في صفر عامين ، وكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين حتى وافقت حجة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة ، ثم حج النبي من قابل في ذي الحجة ، فذلك حين قال : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " وإلى هذا المعنى ذهب السدي عن أشياخه ، والقاسم بن محمد .
قوله تعالى : { وتزودوا فان خير الزاد التقوى } قال ابن عباس : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون : نحن المتوكلون ، فيسألون الناس ، فأنزل الله تعالى : { وتزودوا فان خير الزاد التقوى } قال الزجاج : أُمروا أن يتزودوا ، وأعلموا أن خير ما تزودوا تقوى الله عز وجل .

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)

قوله تعالى : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم }
قال ابن عباس : كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم ، ويقولون : أيام ذكر؛ فنزلت هذه الآية . والابتغاء : الالتماس ، والفضل هاهنا : التماس الرزق بالتجارة والكسب . قال ابن قتيبة : أفضتم ، بمعنى : دفعتم . وقال الزجاج : معناه : دفعتم بكثرة ، يقال : أفاض القوم في الحديث : إذا اندفعوا فيه ، و أكثروا التصرف .
وفي تسمية «عرفات» قولان .
أحدهما : أن الله تعالى بعث جبريل إلى إبراهيم فحج به ، فلما أتى عرفات قال : قد عرفت ، فسميت «عرفة» قاله علي رضي الله عنه .
والثاني : أنها سميت بذلك لاجتماع آدم وحواء ، وتعارفهما بها ، قاله الضحاك .
قال الزجاج : والمشعر : المعلم ، سمي بذلك ، لأن الصلاة عنده . والمقام والمبيت والدعاء من معالم الحج ، وهو مزدلفة ، وهي جمع يسمى بالاسمين . قال ابن عمر ، ومجاهد : المشعر الحرام : المزدلفة كلها .
قوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } أي : جزاء هدايته لكم ، فان قيل : ما فائدة تكرير الذكر؟ قيل : فيه أربعة أجوبة . أحدها : أنه كرره للمبالغة في الأمر به . والثاني : أنه وصل بالذكر الثاني ما لم يصل بالذكر الأول ، فحسن تكريره . فالمعنى : اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته . والثالث : أنه كرره ليدل على مواصلته ، والمعنى : اذكروه ذكراً بعد ذكر ، ذكر هذه الأقوال محمد بن القاسم النحوي . والرابع : أن الذكر في قوله : { فاذكروا الله عند المشعر الحرام } هو : صلاة المغرب والعشاء اللتان يجمع بينهما بالمزدلفة . والذكر في قوله : { كما هداكم } هو : الذكر المفعول عند الوقوف بمزدلفة غداة جمع ، حكاه القاضي أبو يعلى .
قوله تعالى : { وإن كنتم من قبله } في هاء الكناية ثلاثة أقوال . أحدها : أنها ترجع إلى الإسلام ، قاله ابن عباس . والثاني : أنها ترجع إلى الهدى ، قاله مقاتل ، والزجاج والثالث : أنها ترجع إلى القرآن ، قاله سفيان الثوري .
قوله تعالى : { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } قالت عائشة : كانت قريش ومن يدين بدينها ، وهم الحمس ، يقفون عشية عرفة بالمزدلفة ، يقولون : نحن قطن البيت ، وكان بقية العرب والناس يقفون بعرفات ، فنزلت هذه الآية . قال الزجاج : سموا الحمس لأنهم تحمسوا في دينهم ، أي : تشددوا . والحماسة : الشدة في كل شيء .
وفي المراد بالناس هاهنا أربعة أقوال . أحدها : أنهم جميع العرب غير الخمس ، ويدل عليه حديث عائشة ، وهو قول عروة ، ومجاهد ، وقتادة . والثاني : أن المراد بالناس هاهنا : إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، قاله الضحاك بن مزاحم . والثالث : أن المراد بالناس آدم ، قاله الزهري . وقد قرأ أبو المتوكل ، وأبو نهيك ، ومورَّق العجلي : «الناسي» باثبات الياء . والرابع : أنهم أهل اليمن وربيعة ، فانهم كانوا يفيضون من عرفات ، قاله مقاتل .
وفي المخاطبين بذلك قولان . أحدهما : أنه خطاب لقريش ، وهو قول الجمهور . والثاني أنه خطاب لجميع المسلمين ، وهو يخرج على قول من قال : الناس آدم ، أو إبراهيم .

والإفاضة هاهنا على ما يقتضيه ظاهر اللفظ : هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى صبيحة النحر ، إلا أن جمهور المفسرين على أنها الإفاضة من عرفات ، فظاهر الكلام لا يقتضي ذلك ، كيف يقال : { فاذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله } ثم أفيضوا من عرفات؟ غير أني أقول : وجه الكلام على ما قال أهل التفسير : أن فيه تقديماً وتأخيراً ، تقديره : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، فاذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله .
و«الغفور» : من أسماء الله ، عز وجل ، وهو من قولك : غفرت الشيء : إذا غطيته ، فكأن الغفور هو الساتر لعبده برحمته ، أو الساتر لذنوب عباده . والغفور : هو الذي يكثر المغفرة ، لأن بناء المفعول للمبالغة من الكثرة ، كقولك : صبور ، وضروب ، وأكول .

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

قوله تعالى : { فاذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله }
في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أن أهل الجاهلية كانوا إذا اجتمعوا بالموسم ، ذكروا أفعال آبائهم وأيامهم وأنسابهم في الجاهلية ، فتفاخروا بذلك؛ فنزلت هذه الآية . وهذا المعنى مروي عن الحسن ، وعطاء ، ومجاهد .
والثاني : أن العرب كانوا إذا حدثوا أو تكلموا يقولون : وأبيك إنهم لفعلوا كذا وكذا؛ فنزلت هذه الآية . وهذا مروي عن الحسن أيضاً .
والثالث : أنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم ، قام الرجل بمنى . فقال : اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة ، كثير المال ، فأعطني مثل ذلك ، فلا يذكر الله ، إنما يذكر أباه ، ويسأل أن يعطى في دنياه؛ فنزلت هذه الآية ، هذا قول السدي .
والمناسك : المتعبدات وفي المراد بها هاهنا قولان . أحدهما : أنها جميع أفعال الحج ، قاله الحسن . والثاني : أنها إراقة الدماء ، قاله مجاهد . وفي ذكرهم آبائهم أربعة أقوال . أحدها : أنه إقرارهم بهم . والثاني : أنه حلفهم بهم والثالث : أنه ذكر إحسان آبائهم إليهم ، فانهم كانوا يذكرونهم وينسون إحسان الله إليهم . والرابع : أنه ذكر الأطفال الآباء ، لأنهم أول نطقهم بذكر آبائهم ، روي هذا المعنى عن عطاء ، والضحاك ، وفي «أو» قولان . أحدهما : أنها بمعنى «بل» . والثاني : بمعنى الواو . و «الخلاق» : قد تقدم ذكره .
وفي حسنة الدنيا سبعة أقوال . أحدها : أنها المرأة الصالحة ، قاله علي . والثاني : أنها العبادة ، رواه سفيان بن حسين عن الحسن . والثالث : أنها العلم والعبادة ، رواه هشام عن الحسن . والرابع : المال ، قاله أبو وائل ، والسدي ، وابن زيد . والخامس : العافية ، قاله قتادة . والسادس : الرزق الواسع ، قاله مقاتل . والسابع : النعمة ، قاله ابن قتيبة .
وفي حسنة الآخرة ثلاثة أقوال . أحدها : أنها الحور العين ، قاله علي رضي الله عنه . والثاني : الجنة ، قاله الحسن ، والسدي ، ومقاتل . والثالث : العفو والمعافاة ، روي عن الحسن ، والثوري .
قوله تعالى : { أولئك لهم نصيب مما كسبوا } قال الزجاج : معناه : دعاؤهم مستجاب ، لأن كسبهم هاهنا هو الدعاء ، وهذه الآية متعلقه بما قبلها ، إلا أنه قد روي أنها نزلت على سبب يخالف سبب أخواتها ، فروى الضحاك عن ابن عباس " أن رجلا قال : يا رسول الله : مات أبي ولم يحج ، أفأحج عنه؟ فقال : «لو كان على أبيك دين قضيته ، أما كان ذلك يجزئ عنه» قال : نعم ، قال : فدين الله أحق أن يقضى قال : فهل لي من أجر؟ " فنزلت هذه الآية .
وفي معنى سرعة الحساب خمسة أقوال . أحدها : أنه قِلَّته ، قاله ابن عباس . والثاني : أنه قرب مجيئه ، قال مقاتل . والثالث : أنه لما علم ما للمحاسب وما عليه قبل حسابه ، كان سريع الحساب لذلك . والرابع : أن المعنى : والله سريع المجازاة ، ذكر هذا القول والذي قبله الزجاج . والخامس : أنه لا يحتاج إلى فكر وروية كالعاجزين ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

قوله تعالى : { واذكروا الله في أيام معدودات } في هذا الذكر قولان . أحدهما : أنه التكبير عند الجمرات ، وأدبار الصلوات ، وغير ذلك من أوقات الحج . والثاني : أنه التكبير عقيب الصلوات المفروضات . واختلف أرباب هذا القول في الوقت الذي يبتدئ فيه بالتكبير ويقطع على ستة أقوال . أحدها : أنه يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة ، إلى [ ما ] بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق ، قاله علي ، وأبو يوسف ، ومحمد . والثاني : أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر ، قاله ابن مسعود ، وأبو حنيفة . والثالث : من بعد صلاة الظهر يوم النحر إلى [ ما ] بعد العصر من آخر أيام التشريق ، قاله ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، وعطاء . والرابع : أنه يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى [ ما ] بعد صلاة الظهر من يوم النفر ، وهو الثاني من أيام التشريق ، قاله الحسن . والخامس : أنه يكبر من الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ، قاله مالك بن أنس ، وهو أحد قولي الشافعي . والسادس : أنه يكبر من صلاة المغرب ليلة النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ، وهذا قول للشافعي ، ومذهب إمامنا أحمد أنه إن كان محلاً ، كبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة . أولها الفجر يوم عرفة ، وآخرها العصر من آخر أيام التشريق ، وإن كان محرماً كبر عقيب سبعة عشر صلاة؛ أولها الظهر من يوم النحر ، وآخرها العصر من آخر أيام التشريق .
وهل يختص هذا التكبير عقيب الفرائض بكونها في جماعة ، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان . إحداهما : يختص بمن صلاها في جماعة ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله . والثانية : يختص بالفريضة ، وإن صلاها وحده ، وهو قول الشافعي .
وفي الأيام المعدودات ثلاثة أقوال . أحدها : أنها أيام التشريق ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، ومجاهد ، وقتادة في آخرين . والثاني : أنها يوم النحر ويومان بعده ، روي عن علي ، وابن عمر . والثالث : أنها أيام العشر ، قاله سعيد بن جبير ، والنخعي . قال الزجاج : و «معدودات» يستعمل كثيراً للشيء القليل ، كما يقال : دريهمات وحمامات .
قوله تعالى : { فمن تعجل في يومين } أي : فمن تعجل النفر الأول في اليوم الثاني من أيام منى؛ فلا إثم عليه ، ومن تأخر إلى النفر الثاني ، وهو اليوم الثالث من أيام منى ، فلا إثم عليه فان قيل ، إنما يخاف الإثم المتعجل ، فما بال المتأخر ألحق به ، والذي أتى به أفضل؟! فعنه أربعة أجوبة . أحدها : أن المعنى : لا إثم على المتعجل ، والمتأخر مأجور ، فقال : لا إثم عليه ، لتوافق اللفظة الثانية الأولى ، كقوله : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه } والثاني : أن المعنى : فلا إثم على المتأخر في ترك استعمال الرخصة ، والثالث : أن المعنى : قد زالت آثام المتعجل والمتأخر التي كانت عليها قبل حجهما . والرابع : أن المعنى : طرح المأثم عن المتعجل والمتأخر إنما يكون بشرط التقوى .
وفي معنى : «لمن اتقى» ثلاثة أقوال . أحدها : لمن اتقى قتل الصيد ، قاله ابن عباس . والثاني : لمن اتقى المعاصي في حجه ، قاله قتادة . وقال ابن مسعود : إنما مغفرة الله لمن اتقى الله في حجه . والثالث : لمن اتقى فيما بقي من عمره ، قاله أبو العالية ، وإبراهيم .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)

قوله تعالى : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا }
اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال . أحدها : أنها نزلت في الأخنس بن شريق ، كان لين الكلام ، كافر القلب ، يظهر للنبي الحسن ، ويحلف له أنه يحبه ، ويتبعه على دينه ، وهو يضمر غير ذلك ، هذا قول ابن عباس ، والسدي ومقاتل . والثاني : أنها نزلت فيمن نافق فأظهر بلسانه ما ليس في قلبه . وهذا قول الحسن ، وقتادة ، وابن زيد . والثالث : أنها نزلت في سرية الرجيع ، وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة : إنا قد أسلمنا ، فابعث لنا نفراً من أصحابك يعلمونا ديننا ، فبعث صلى الله عليه وسلم ، خبيب بن عدي ، ومرثداً الغنوي ، وخالد بن بكير ، وعبد الله بن طارق ، وزيد بن الدِثنَة ، وأمرَّ عليهم عاصم بن ثابت ، فساروا نحو مكة ، فنزلوا بين مكة والمدينة ومعهم تمر ، فأكلوا منه ، فمرت عجوز فأبصرت النوى ، فرجعت إلى قومها وقالت : قد سلك هذا الطريق أهل يثرب ، فركب سبعون منهم حتى أحاطوا بهم ، فحاربوهم ، فقتلوا مرثداً ، وخالداً ، وابن طارق ، ونثر عاصم كنانته وفيها سبعة أسهم ، فقتل بكل سهم رجلاً من عظمائهم ، ثم قال : اللهم إني حميت دينك صدر النهار ، فاحم لحمي آخر النهار ، ثم أحاطوا به فقتلوه ، وأرادوا حزّ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد ، وكان قتل بعض أهلها ، فنذرت : لئن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه الخمر ، فأرسل الله تعالى رَجْلاً من الدبر- وهي : الزنابير- فحمته ، فلم يقدروا عليه ، فقال : دعوه حتى يمسي فتذهب عنه ، فنأخذه ، فجاءت ، سحابة فأمطرت كالعزالي ، فبعث الله الوادي ، فاحتمله فذهب به ، وأسروا خبيباً وزيداً ، فابتاع بنو الحارث بن عامر خبيباً ليقتلوه ، لأنه قتل آباءهم ، فلما خرجوا به ليقتلوه قال : دعوني أصلي ركعتين ، فتركوه فصلى ركعتين ، ثم قال : لولا أن تقولوا : جزع خبيب؛ لزدت ، وأنشأ يقول :
ولست أبالي حين أُقتل مسلماً ... على أي شق كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإِله وإِن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزَّع
فصلبوه حياً ، فقال : اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد حولي يبلغ رسولك سلامي ، فجاءه رجل منهم يقال له : أبو سروعة ، ومعه رمح ، فوضعه بين يدي خبيب ، فقال له خبيب : اتق الله ، فما زاده ذلك إلا عتواً . وأما زيد ، فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه ، فجاءه سفيان بن حرب حين قدم ليقتله ، فقال : يا زيد! أنشدك الله ، أتحب أن محمداً مكانك ، وأنك في أهلك؟ فقال : والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي ، ثم قتل . وبلغ النبي الخبر ، فقال : أيكم يحتمل خبيباً عن خشبته وله الجنة؟ فقال الزبير : أنا وصاحبي المقداد ، فخرجا يمشيان بالليل ويمكثان بالنهار ، حتى وافيا المكان ، وإذا حول الخشبة أربعون مشركاً نيام نشاوى ، وإذا هو رطب يتثنى لم يتغير فيه شيء بعد أربعين يوماً ، فحمله الزبير على فرسه ، وسار فلحقه سبعون منهم ، فقذف الزبير خبيباً فابتلعته الأرض ، وقال الزبير : ما جرأكم علينا يا معشر قريش؟! ثم رفع العمامة عن رأسه وقال : أنا الزبير بن العوام ، وأمي صفية بنت عبد المطلب ، وصاحبي المقداد ، أسدان رابضان يدفعان عن شبلهما ، فان شئتم ناضلتكم ، وإن شئتم نازلتكم ، وإن شئتم انصرفتم ، فانصرفوا ، وقدما على رسول صلى الله عليه وسلم وجبريل عنده ، فقال : «يا محمد إِن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك» .

وقال بعض المنافقين في أصحاب خبيب : ويح هؤلاء المقتولين ، لا في بيوتهم قعدوا ، ولا رسالة صاحبهم أدوا ، فأنزل الله تعالى في الزبير والمقداد وخبيب وأصحابه والمنافقين هذه الآية ، وثلاث آيات بعدها . وهذا الحديث بطوله مروي عن ابن عباس .
قوله تعالى : { ويشهد الله على ما في قلبه } فيه قولان . أحدهما : أنه يقول : إن الله يشهد أن ما ينطق به لساني هو الذي في قلبي . والثاني : أنه يقول : اللهم اشهد عليّ بهذا القول . وقرأ ابن مسعود ، «ويستشهد الله» بزيادة سين وتاء . وقرأ الحسن ، وطلحة بن مصرف ، وابن محيصن ، وابن أبي عبلة : «ويشهد» بفتح الياء «الله» بالرفع .
قوله تعالى : { وهو ألد الخصام } . الخصام : جمع خصم ، يقال : خصم وخصام وخصوم . قال الزجاج : والألد : الشديد الخصومة ، واشتقاقه من لديدي العنق ، وهما : صفحتا العنق . ومعناه : أن خصمه في أي وجه أخذ من أبواب الخصومة ، غلبه في ذلك .

وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)

قوله تعالى : { وإِذا تولى } . فيه أربعة أقوال . أحدها : أنه بمعنى : غضب ، روي عن ابن عباس ، وابن جريج . والثاني : أنه الانصراف عن القول الذي قاله ، قاله الحسن . والثالث : أنه من الولاية ، فتقديره : إذا صار والياً ، قاله مجاهد والضحاك . والرابع : أنه الانصراف بالبدن ، قاله مقاتل وابن قتيبة .
وفي معنى : «سعى» قولان . أحدهما : أنه بمعنى : عمل ، قاله ابن عباس ومجاهد ، والثاني : أنه من السعي بالقدم ، قاله أبو سليمان الدمشقي ، وفي الفساد قولان . أحدهما : أنه الكفر ، والثاني : الظلم . والحرث : الزرع . والنسل : نسل كل شيء من الحيوان ، هذا قول ابن عباس وعكرمة في آخرين . وحكى الزجاج عن قوم : أن الحرث : النساء ، والنسل : الأولاد . قال : وليس هذا بمنكر ، لأن المرأة تسمى حرثاً .
وفي معنى إهلاكه للحرث والنسل ثلاثة أقوال . أحدها : أنه إهلاك ذلك بالقتل والإحراق والإفساد ، قاله الأكثرون . والثاني : أنه إذا ظلم كان الظلم سبباً لقطع القطر ، فيهلك الحرث والنسل ، قاله مجاهد . وهو يخرج على قول من قال : إنه من التولي . والثالث : أنه إهلاك ذلك بالضلال الذي يؤول إلى الهلاك ، حكاه بعض المفسرين .
قوله تعالى : { والله لا يحب الفساد } قال ابن عباس : لا يرضى بالمعاصي . وقد احتجت المعتزلة بهذه الآية ، فأجاب أصحابنا بأجوبة . منها : أنه لا يحبه ديناً ، ولا يريده شرعاً ، فأما أنه لم يرده وجوداً؛ فلا . والثاني : أنه لا يحبه للمؤمنين دون الكافرين ، والثالث : أن الإرادة معنى غير المحبة ، فان الإنسان قد يتناول المرَّ ، ويريد بط الجرح ، ولا يحب شيئاً من ذلك . وإذا بان في المعقول الفرق بين الإرادة والمحبة؛ بطل ادعاؤهم التساوي بينهما ، وهذا جواب معتمد . وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : { ولايرضى لعباده الكفر } [ الزمر : 7 ] .

وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)

قوله تعالى : { أخذته العزة } قال ابن عباس : هي الحمية . وأنشدوا :
أخذته عزة من جهله ... فتولى مغضباً فعل الضجر
ومعنى الكلام : حملته الحمية على الفعل بالإثم . وفي «جهنم» قولان ، ذكرهما ابن الأنباري ، أحدهما : أنها أعجميَّة لا تجر للتعريف والعجمة . والثاني : أنها اسمٌ عربي ، ولم يجر للتأنيث والتعريف . قال رؤبة : رُكَيَّة جهنّام : بعيدة القعر .
وقال الأعشى :
دعوت خليلي مِسْحَلاً ودعوا له ... جُهنّام جدعاً للهجين المذمّم
فترك صرفه يدلُ على أنه اسم أعجمي مُعَرب .
وفي المعنى الكلام قولان . أحدها : فحسبه جهنم جزاء عن إثمه . والثاني : فحسبه جهنم ذلاً من عزه . والمهاد : الفراش ، ومهدت لفلان : إذا وطَّأت له ، ومنه : مهد الصبي .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)

قوله تعالى : { ومن الناس من يشري نفسه } اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على خمسة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وهو معنى قول عمر وعلي رضي الله عنهما . والثاني : أنها نزلت في الزبير والمقداد حين ذهبا لإنزال خبيب من خشبته ، وقد شرحنا القصة . وهذا قول ابن عباس ، والضحاك . والثالث : أنها نزلت في صهيب الرومي ، واختلفوا في قصته ، فروي أنه أقبل مهاجراً نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش ، فنزل ، فانتثل كنانته ، وقال : قد علمتم أني من أرماكم بسهمٍ ، وأيم الله لا تصلون إليَّ حتى أرميكم بكل سهم معي ، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ، فان شئتم دللتكم على مالي . قالوا : فدلنا على مالك نخلِّ عنك ، فعاهدهم على ذلك ، فنزلت فيه هذه الآية ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ربح البيعُ أبا يحيى " وقرأ عليه القرآن . هذا قول سعيد بن المسيب ، وذكر نحوه أبو صالح عن ابن عباس ، وقال : إن الذي تلقاه فبشره بما نزل فيه أبو بكر الصديق . وذكر مقاتل أنه قال للمشركين : أنا شيخ كبير لا يضركم إن كنت معكم أو عليكم ، ولي عليكم حق لجواري ، فخذوا مالي غير راحلة ، واتركوني وديني ، فاشترط أن لا يمنع عن صلاة ولا هجرة ، فأقام ما شاء الله ، ثم ركب راحلته ، فأتى المدينة مهاجراً ، فلقيه أبو بكر ، فبشره وقال : نزلت فيك هذه الآية . وقال عكرمة : نزلت في صهيب ، وأبي ذر الغفاري ، فأما صهيب ، فأخذه أهله فافتدى بماله ، وأما أبو ذر ، فأخذه أهله فأفلت منهم حتى قدم مهاجراً . والرابع : أنها نزلت في المجاهدين في سبيل الله ، قاله الحسن وابن زيد في آخرين . والخامس : أنها نزلت في المهاجرين والأنصار حين قاتلوا على دين الله حتى ظهروا ، هذا قول قتادة . و «يشري» كلمة من الأضداد ، يقال : شرى ، بمعنى : باع ، وبمعنى : اشترى . فمعناها على قول من قال : نزلت في صهيب؛ معنى : يشتري . وعلى بقية الأقوال بمعنى : يبيع .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال . أحدها أنها نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب ، كانوا بعد إسلامهم يتقون السبت ولحم الجمل ، وأشياء يتقيها أهل الكتاب . رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : أنها نزلت في أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، أمروا بالدخول في الإسلام ، روي عن ابن عباس أيضاً ، وبه قال الضحاك . والثالث : أنها نزلت في المسلمين ، يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام كلها ، قاله مجاهد وقتادة .
وفي «السلم» ثلاث لغات : كسر السين ، وتسكين اللام . وبها قرأ أبو عمرو ، وابن عامر في «البقرة» وفتحا السين في «الأنفال» وسورة «محمد» وفتح السين مع تسكين اللام . وبها قرأ ابن كثير ، ونافع ، والكسائي ، في المواضع الثلاثة ، وفتح السين واللام . وبها قرأ الأعمش في «البقرة» خاصة .
وفي معنى «السلم» قولان . أحدهما : أنه الإسلام ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، وابن قتيبة ، والزجاج في آخرين . والثاني : أنها الطاعة ، روي عن ابن عباس أيضاً ، وهو قول أبي العالية ، والربيع . وقال الزجاج : و «كافة» بمعنى الجميع ، وهو في اشتقاق اللغة : ما يكف الشيء في آخره ، من ذلك : كُفة القميص ، وكل مستطيل فحرفه كُفَّة : بضم الكاف . ويقال في كل مستدير : كِفه بكسر الكاف ، نحو : كِفّة الميزان . ويقال : إنما سميت كُفّة الثوب ، لأنها تمنعه أن ينتشر ، وأصل الكف : المنع ، وقيل لطرف اليد : كف ، لأنها تكف بها عن سائر البدن ، ورجل مكفوف : قد كف بصره أن ينظر . واختلفوا : هل قوله : «كافة» يرجع إلى السلم ، أو إلى الداخلين فيه؟ على قولين . أحدهما : أنه راجع إلى السلم ، فتقديره : ادخلوا في جميع شرائع الإسلام . وهذا يخرج على القول الأول الذي ذكرناه في نزول الآية . والثاني : أنه يرجع إلى الداخلين فيه ، فتقديره : ادخلوا كلكم في الإسلام ، وبهذا يخرج على القول الثاني . وعلى القول الثالث يحتمل قوله : «كافة» ثلاثة أقوال . أحدها : أن يكون أمراً للمؤمنين بألسنتهم أن يؤمنوا بقلوبهم ، والثاني أن يكون أمراً للمؤمنين بالدخول في جميع شرائِعه . والثالث : أن يكون أمراً لهم بالثبات عليه ، كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا آمِنوا } [ النساء : 136 ] و «خطوات الشيطان» المعاصي . وقد سبق شرحها . و «البينات» الدلالات الواضحات . وقال ابن جريج : هي الإسلام والقرآن . و «ينظرون» بمعنى : ينتظرون .
قوله تعالى : { إلا أن يأتيهم الله } كان جماعة من السلف يمسكون عن الكلام في مثل هذا . وقد ذكر القاضي أبو يعلى عن أحمد أنه قال : المراد به : قدرته وأمره . قال : وقد بينه في قوله تعالى : { أوَ يأتي أمر ربك } [ الانعام : 158 ] .
قوله تعالى : { في ظلل من الغمام } أي : بظلل . والظلل : جمع ظلة . و «الغمام» : السحاب الذي لا ماء فيه .

قال الضحاك : في قطع من السحاب . ومتى يكون مجيء الملائكة؟ فيه قولان . أحدهما : أنه يوم القيامة ، وهو قول الجمهور . والثاني : أنه عند الموت . قاله قتادة . وقرأ الحسن بخفض «الملائكة» و { قضي الأمر } : فُرغ منه . و { إلى الله ترجع الأمور } . أي : تصير . قرأ ابن كثير ، ونافع وأبو عمرو وعاصم ، «تُرجع» بضم التاء . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكَسائي بفتحها . فان قيل : فكأن الأمور كانت إلى غيره ، فعنه أربعة أجوبة . أحدها : أن المراد به إعلام الخلق أنه المجازي على الأعمال بالثواب والعقاب ، قاله الزجاج . والثاني : أنه لما عَبَد قومٌ غيره ، ونسبوا أفعاله إلى سواه ، ثم انكشف الغطاء يوم القيامة؛ ردوا إليه ما أضافوه إلى غيره . والثالث : أن العرب تقول : قد رجع عليَّ من فلان مكروه : إذا صار إليه منه مكروه ، و إن لم يكن سبق ، قال الشاعر :
فإن تكن الأيام أحسن مرَةً ... إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
ذكرهما ابن الأنباري ، ومما يشبه هذا قول لبيد :
وما المرء إِلا كالشهاب وضوئه ... يحور رماداً بعد إِذ هو ساطع
أراد : يصير رماداً ، لا أنه كان رماداً . وقال أمية بن أبي الصلت :
تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ ... شيبا بماء فعادا بعد أَبوالا
أي : صار . والرابع : أنه لما كانت الأمور إليه قبل الخلق ، ثم أوجدهم فملكهم بعضها رجعت إليه بعد هلاكهم ، فإن قيل : قد جرى ذكر اسمه تعالى في قوله : { أن يأتيهم الله } فما الحكمة في أنه لم يقل : وإليه ترجع الأمور؟ فالجواب : أن إعادة اسمه أفخم وأعظم ، والعرب إذا جرى ذكر شيء يفخم أعادوا لفظه ، وأنشدوا :
لا أرى الموت يسبق الموت شيئاً ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فأعادوا ذكر الموت لفخامته في صدورهم ، ذكره الزجاج .

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)

قوله تعالى : { سل بني إِسرائيل } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : له وللمؤمنين . قال الفراء : أهل الحجاز يقولون : «سل» بغير همز ، وبعض تميم يقول : «اسأل» بالهمز ، وبعضهم يقول : «إِسَلْ» بالألف وطرح الهمز ، والأولى أغربهنَّ ، وبها جاء الكتاب وفي المراد بالسؤال قولان . أحدهما : أنه التقرير والإذكار بالنعم . والثاني : التوبيخ على ترك الشكر .
والآية البينة : العلامة الواضحة ، كالعصا ، والغمام ، والمن ، والسلوى ، والبحر . وفي المراد بنعمة الله قولان . أحدهما : أنها الآيات التي ذكرناها ، قاله قتادة . والثاني : أنها حجج الله الدالة على أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله الزجاج .
وفي معنى تبديلها ثلاثة أقوال . أحدها : أنه الكفر بها ، قاله أبو العالية ومجاهد . والثاني : تغيير صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة . قاله أبو سليمان الدمشقي . والثالث : تعطيل حجج الله بالتأويلات الفاسدة .

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)

قوله تعالى : { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } في نزولها ثلاثة أقوال . أحدها : أنها نزلت في أبي جهل وأصحابه ، قاله ابن عباس . والثاني : نزلت في علماء اليهود ، قاله عطاء . والثالث : في عبد الله بن أبيّ وأصحابه من المنافقين . قاله مقاتل . قال الزجاج : وإِنما جاز في «زين» لفظ التذكير ، لأن تأنيث الحياة ليس بحقيقي ، إذ معنى الحياة ومعنى العيش واحد .
وإلى من يضاف هذا التزيين فيه قولان . أحدهما : أنه يضاف إلى الله . وقرأ أبيّ بن كعب ، والحسن ، ومجاهد ، وابن محيصن ، وابن أبي عبلة ، «زَيّن» بفتح الزاي والياء ، على معنى : زيّنها الله لهم . والثاني : أنه يضاف إلى الشيطان ، روي عن الحسن . قال شيخنا علي بن عبيد الله : والتزيين من الله تعالى : هو التركيب الطبيعي ، فإنه وضع في الطبائع محبّة المحبوب ، لصورة فيه تزينت للنفس ، وذلك من صنعه ، وتزيين الشيطان بإذكار ما وقع من إغفاله مما مثله يدعو إلى نفسه لزينته ، فالله تعالى يزيّن بالوضع ، والشيطان يزيّن بالإذكار .
وما السبب في سخرية الكفار من المؤمنين؟ فيه ثلاثة أقوال . أحدها : أنهم سخروا منهم للفقر . والثاني : لتصديقهم بالآخرة . والثالث : لاتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : إنهم كانوا يوهمونهم أنكم على الحق ، سخرية منهم بهم .
وفي معنى كونهم «فوقهم» ثلاثة أقوال . أحدها : أن ذلك على أصله ، لأن المؤمنين في عليّين ، والكفار في سجين . والثاني : أن حجج المؤمنين فوق شبه الكافرين ، فهم المنصورون . والثالث : في أن نعيم المؤمنين في الجنة فوق نعيم الكافرين في الدنيا .
قوله تعالى : { والله يرزقُ من يشاء بغير حساب } فيه قولان . أحدهما : أنه يرزق من يشاء رزقاً واسعاً غير ضيّق . والثاني : يرزق من يشاء بلا محاسبة في الآخرة .

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

قوله تعالى : { كان الناس أمةً واحدةً } في المراد ب «الناس» هاهنا ثلاثة أقوال . أحدها : جميع بني آدم ، وهو قول الجمهور . والثاني : آدم وحده ، قاله مجاهد . قال ابن الأنباري ، وهذا الوجه جائز ، لأن العرب توقع الجمع على الواحد . ومعنى الآية : كان آدم ذا دين واحد ، فاختلف ولده من بعده . والثالث : آدم وأولاده كانوا على الحق ، فاختلفوا حين قتل قابيلُ هابيلَ . ذكره ابن الأنباري . والأمَّة هاهنا : الصنف الواحد على مقصد واحد .
وفي ذلك المقصد الذي كانوا عليه قولان . أحدهما : أنه الإسلام قاله أبيّ بن كعب ، وقتادة ، والسدّي ، ومقاتل . والثاني : أنه الكفر . رواه عطية عن ابن عباس .
ومتى كان ذلك . فيه خمسة أقوال أحدها : أنه حين عرضوا على آدم ، وأقروا بالعبودية . قاله أبيّ بن كعب . والثاني : في عهد إبراهيم كانوا كفاراً . قاله ابن عباس . والثالث : بين آدم ونوح ، وهو قول قتادة . والرابع : حين ركبوا السفينة ، كانوا على الحق . قاله مقاتل . والخامس : في عهد آدم . ذكره ابن الأنباري . { فبعث الله النبيين مبشرين } بالجنة و { منذرين } بالنار . هذا قول الأكثرين . وقال بعض السلف : مبشرين لمن آمن بك يا محمد ، ومنذرين لمن كذبك . { وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس } والكتاب : اسم جنس ، كما تقول : كثر الدرهم في أيدي الناس . وذكر بعضهم أنه في التوراة .
وفي المراد بالحق ههنا قولان . أحدهما : أنه بمعنى الصدق والعدل . والثاني : أنه القضاء فيما اختلفوا فيه { ليحكم بين الناس } في الحاكم هاهنا ثلاثة أقوال . أحدها : أنه الله تعالى . والثاني : أنه النبي الذي أنزل عليه الكتاب ، والثالث : الكتاب ، كقوله تعالى : { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } [ الجاثية : 29 ] . وقرأ أبو جعفر : «ليُحكَم» بضم الياء وفتح الكاف . وقرأ مجاهد «لتحكم» بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { فيما اختلفوا فيه } يعني : الدين .
قوله تعالى : { وما اختلف فيه } في هذه الهاء ثلاثة أقوال . أحدها : أنها تعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم قاله ابن مسعود ، والثاني : إلى الدين ، قاله مقاتل . والثالث : إلى الكتاب ، قاله أبو سليمان الدمشقي . فأما هاء «أوتوه» فعائدة على الكتاب من غير خلاف . وقال الزجاج : ونصب «بغياً» على معنى المفعول له ، فالمعنى : لم يوقعوا الاختلاف إلا للبغي ، لأنهم عالمون بحقيقة الأمر في كتبهم . وقال الفراء : في اختلافهم وجهان . أحدهما : كفر بعضهم بكتاب بعض . والثاني : تبديل ما بدلوا .
قوله تعالى : { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه } أي : لمعرفة ما اختفلوا فيه ، أو تصحيح ما اختلفوا فيه .
وفي الذي اختلفوا فيه ستة أقوال . أحدها : أنه الجمعة ، جعلها اليهود السبت ، والنصارى الأحد ، فروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» ، من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :

« نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له فاليوم لنا ، وغداً لليهود ، وبعد غد للنصارى » والثاني : أنه الصلاة ، فمنهم من يصلي إلى المشرق ، ومنهم من يصلي إلى المغرب . والثالث : أنه إبراهيم . قالت اليهود : كان يهودياً ، وقالت النصارى : كان نصرانياً . والرابع : أنه عيسى ، جعلته اليهود لِفرية ، وجعلته النصارى إلهاً . والخامس : أنه الكتب ، آمنوا ببعضها ، وكفروا ببعضها . والسادس : أنه الدين ، وهو الأصح ، لأن جميع الأقوال داخلة في ذلك .
قوله تعالى : { باذنه } قال الزجاج : إذنه : علمه . وقال غيره : أمره . قال بعضهم : توفيقه .

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

قوله تعالى : { أمْ حسبتم أن تدخلوا الجنة } في سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها : أن الصحابة أصابهم يوم الأحزاب بلاء وحصر ، فنزلت هذا الآية ، ذكره السدي عن أشياخه ، وهو قول قتادة . والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما دخل المدينة هو وأصحابه اشتد بهم الضر ، فنزلت هذه الآية ، قاله عطاء . والثالث : أن المنافقين قالوا للمؤمنين : لو كان محمد نبياً لم يُسلط عليكم القتل ، فأجابوهم : من قتل منا دخل الجنة ، فقالوا : لم تمنّون أنفسكم بالباطل؟ فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل . وزعم أنها نزلت يوم أُحد . قال الفراء : { أم حسبتم } بمعنى : أظننتم ، وقال الزجاج : «أم» بمعنى : بل . وقد شرحنا «أم» فيما تقدم شرحاً كافياً . والمثَل بمعنى : الصفة . و «زلزلوا» خُوفوا وحُرِكوا بما يؤذي ، وأصل الزلزلة في اللغة من : زل الشيء عن مكانه ، فاذا قلت : زلزلته ، فتأويله : كررت زلزلته مِن مكانه ، وكل ما كان فيه ترجيع كرّرت فيه فاء الفعل ، تقول : أقل فلان الشيء : إذا رفعه من مكانه ، فاذا كرر رفعه وردّه ، قيل : قلقله . فالمعنى أنه تكرر عليهم التحريك بالخوف ، قاله ابن عباس . البأساء : الشدة والبؤس ، والضراء : البلاء والمرض . وكل رسول بعث إلى أمته يقول : { متى نصر الله } والنصر : الفتح ، والجمهور على فتح لام «حتى يقولَ» وضمها نافع .
فصل
ومعنى الآية : أن البلاء والجهد بلغ بالأمم المتقدمة إلى أن استبطؤوا النصر لشدة البلاء . وقد دلت على أن طريق الجنة إنما هو الصبر على البلاء . قالت عائشة : ما شبع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ثلاثة أيام تباعاً من خبز بُرٍ حتى مضى لسبيله . وقال حذيفة : أقرّ أيامي لعيني ، يوم أرجع إلى أهلي فيشكون إليَّ الحاجة . قيل : ولم ذلك؟ قال : لأني سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : " إِن الله يتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الوالد ولده [ بالخير ] ، وإِن الله ليحمي المؤمن من الدنيا ، كما يحمي المريض أهله الطعام " أخبرنا أبو بكر الصوفي ، قال : أخبرنا أبو سعيد ابن أبي صادق ، قال : أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي ، قال : سمعت أبا الطيّب ابن الفرخان يقول : سمعت الجنيد يقول : دخلت على سري السقطي وهو يقول :
وما رُمتُ الدُخول عليهِ حتى ... حَلَلتُ محلّةَ العبد الذّليل
وأغضيتُ الجفون على قذاها ... وصُنتُ النفسَ عن قالٍ وقيل

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

قوله تعالى : { يسئلونك ماذا ينفقون } في سبب نزولها قولان . أحدهما : أنها نزلت في عمرو بن الجموح الأنصاري ، وكان له مال كثيرٌ ، فقال : يا رسول الله بماذا نتصدق ، وعلى ، مَن ننفق؟ فنزلت هذه الآية . رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : " أن رجلاً قال : للنبي صلى الله عليه وسلم : إِن لي ديناراً ، فقال : «أنفقه على نفسك» . فقال : إن لي دينارين . فقال : «أنفقها على أهلك» . فقال : إن لي ثلاثة ، فقال : «أنفقها على خادمك» . فقال : إن لي أربعة ، فقال : «أنفقها على والديك» . فقال : إن لي خمسة . فقال : «أنفقها على قرابتك» . فقال : إِن لي ستة فقال : «أنفقها في سبيل الله ، وهو أحسنها» " فنزلت هذه الآية . رواه عطاء عن ابن عباس .
قال الزجاج : «ماذا» في اللغة على ضربين ، أحدهما : أن تكون «ذا» بمعنى الذي ، و «ينفقون» : صلته ، فيكون المعنى : يسألونك : أي شيء الذي ينفقون؟ والثاني : أن تكون «ما» مع «ذا» اسماً واحداً ، فيكون المعنى : يسألونك أي شيءٍ ينفقون ، قال : وكأنهم سألوا : على مَن ينبغي أن يفضلوا ، وما وجه الذي ينفقون؟ لأنهم يعلمون ما المنفق ، وأعلمهم الله أن أولى مَن أُفضِل عليه الوالدان والأقربون . والخير : المال ، قاله ابن عباس في آخرين . وقال ومعنى «فللوالدين» فعلى الوالدين .
فصل
وأكثر علماء التفسير على أن هذه الآية منسوخة ، قال ابن مسعود : نسختها آية الزكاة . وذهب الحسن إلى إحكامها ، وقال ابن زيد : هي في النوافل ، وهذا الظاهر من الآية ، لأن ظاهرها يقتضي الندب ، ولا يصح أن يقال : إنها منسوخة ، إلا أن يقال : إنها اقتضت وجوب النفقة على المذكورين فيها .

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)

قوله تعالى : { كتب عليكم القتال } قال ابن عباس : لما فرض الله على المسلمين الجهاد شق عليهم وكرهوه ، فنزلت هذه الآية ، و «كتب» بمعنى : فرض في قول الجماعة . قال الزجاج : يقال : كرهت الشيء أكرهه كَرَهاً وكُرهاً ، وكراهةً وكراهيةً . وكل ما في كتاب الله من الكره ، فالفتح فيه جائز ، إلا أن أبا عبيد ذكر أن الناس مجتمعون على ضم هذا الحرف الذي فيه هذه الآية . وإنما كرهوه لمشقَّته على النفوس ، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى . وقال الفراء : الكُره والكَره : لغتان . وكأن النحويين يذهبون بالكره إلى ما كان منك مما لم تُكره عليه ، فإذا أُكرهت على الشيء استحبوا «كَرهاً» بالفتح . وقال ابن قتيبة : الكره بالفتح ، معناه : الإكراه والقهر ، وبالضم معناه : المشقة ومن نظائر هذا : الجهد : الطاقة ، والجَهد : المشقة ومنهم مَن يجعلهما واحداً . وعُظْم الشيء : أكبره . وعظمه : نفسه . وعُرض الشيء : إحدى نواحيه . وعَرضه : خلاف طوله . والأكل : مصدر أكلت ، والأُكل : المأكول ، وقال أبو علي : هما لغتان ، كالفقر والفُقر ، والضَّعف والضُّعف ، والدَّف والدُّف ، والشَّهد والشُّهد .
قوله تعالى : { وعسى أن تكرهوا شيئاً } قال ابن عباس ، يعنى الجهاد . { وهو خير لكم } فتح وغنيمة أو شهادة . { وعسى أن تحبوا شيئاً } وهو : القعود عنه . { وهو شر لكم } لا تصيبون فتحاً ولا غنيمة ولا شهادة . { والله يعلم } أن الجهاد خير لكم . { وأنتم لا تعلمون } حين أحببتم القعود عنه .
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها من المحكم الناسخ للعفو عن المشركين . والثاني : أنها منسوخة ، لأنها أوجبت الجهاد على الكل ، فنسخ ذلك بقوله تعالى : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } [ التوبة : 122 ] . والثالث : أنها ناسخة من وجه ، منسوخة من وجه .
وقالوا : إن الحال في القتال كانت على ثلاث مراتب . الأولى : المنع من القتال ، ومنه قوله تعالى : { ألم تر إِلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } [ النساء : 77 ] . والثانية : أمر الكل بالقتال ، ومنه قوله تعالى : { انفروا خفافاً وثقالاً } [ التوبة : 41 ] . ومثلها هذه الآية . والثالثة كون القتال فرضاً على الكفاية ، وهو قوله تعالى : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } [ التوبة : 122 ] . فيكون الناسخ منها إيجاب القتال بعد المنع منه ، والمنسوخ منه وجوب القتال على الكل .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)

قوله تعالى : { يسئلونك عن الشهر الحرامِ قتالٍ فيه } روى جندب بن عبد الله " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعث رهطاً واستعمل عليهم أبا عبيدة ، فلما انطلق ليتوجه بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث مكانه عبد الله بن جحش ، وكتب له كتاباً ، وأمره ألا يقرأه إلا بمكان كذا وكذا ، وقال : «لا تكرهنَّ أحداً من أصحابك على المسير معك» " فلما صار إِلى المكان ، قرأ الكتاب واسترجع ، وقال : سمعاً [ وطاعة لأمر ] الله ولرسوله [ فخبرهم الخبر ، وقرأ عليهم الكتاب ] ، فرجع رجلان من أصحابه ، ومضى بقيتهم ، فأتوا ابن الحضرمي فقتلوه ، فلم يدروا ذلك اليوم ، أمِن رجب ، أو من جمادى الآخرة؟ فقال المشركون [ للمسلمين ] : قتلتم في الشهر الحرام [ فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فحدثوه الحديث ] فنزلت هذه الآية ، فقال بعض المسلمين : لئن كان أصابهم خير فما لهم أجر فنزلت : { إن الذين آمنوا والذين هاجروا } إلى قوله : { رحيم } [ البقرة : 218 ] قال الزهري : اسم ابن الحضرمي : عمرو ، واسم الذي قتله عبد الله بن واقد الليثي . قال ابن عباس : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، يظنون تلك الليلة من جمادى ، وكانت أول رجب .
وقد روى عطيّة عن ابن عباس أنها نزلت في شيئين . أحدهما : هذا . والثاني : دخول النبي ، صلى الله عليه وسلم ، مكة في شهر حرام يوم الفتح ، حين عاب المشركون عليه القتال في شهر حرام .
وفي السائلين النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك قولان . أحدهما : أنهم المسلمون سألوه : هل أخطؤوا أم أصابوا ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ومقاتل . والثاني : أنهم المشركون سألوه على وجه العيب على المسلمين ، قاله الحسن وعروة ، ومجاهد .
والشهر الحرام : شهر رجب ، وكان يدعى الأصم ، لأنه لم يكن يسمع فيه للسلاح قعقعة تعظيماً له { قتال فيه } أي : يسألونك عن قتال فيه . { قل : قتال فيه كبير } قال ابن مسعود وابن عباس : لا يحِل . قال القاضي أبو يعلى : كان أهل الجاهلية يعتقدون تحريم القتال في هذه الأشهر ، فأعلمهم الله تعالى في هذه الآية ببقاء التحريم .
فصل
اختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم : هل هو باق أم نسخ؟ على قولين .
أحدهما : أنه باقٍ . روى ابن جريج أن عطاء كان يحلف بالله : ما يحل للناس الآن أن يغزوا في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم ، إلا أن يقاتلوا فيه أو يغزوا ، وما نسخت .
والثاني : أنه منسوخ ، قال سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار : القتال جائز في الشهر الحرام ، هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] وبقوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } [ التوبة : 19 ] وهذا قول فقهاء الأمصار .
قوله تعالى : { وصدٌ عن سبيل الله } هو مرفوع بالابتداء ، وخبر هذه الأشياء : { أكبرُ عند الله } .

وفي المراد ب «سبيل الله» هاهنا قولان .
أحدهما : أنه الحج ، لأنهم صدوا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، عن مكة . قاله ابن عباس والسدي عن أشياخه .
والثاني : أنه الإسلام ، قاله مقاتل . وفي هاء الكناية في قوله : { وكفرٌ به } قولان أحدهما : أنها ترجع إلى الله تعالى ، قاله السدي عن أشياخه ، وقتادة ، ومقاتل ، وابن قتيبة ، والثاني : أنها تعود إلى السبيل . قاله ابن عباس . قال ابن قتيبة : وخفض «المسجدِ الحرام» نسقاً على قوله : { سبيل الله } كأنه قال : وصد عن سبيل الله ، وعن المسجد الحرام .
قوله تعالى : { وإِخراج أهله منه } لما آذوا رسول الله وأصحابه؛ اضطروهم إلى الخروج فكأنهم أخرجوهم ، فأعلمهم الله أن هذه الأفعال أعظم من قتل كل كافر . «والفتنة» هاهنا بمعنى الشرك . قاله ابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، والجماعة . والفتنة في القرآن على وجوه كثيرة ، قد ذكرتها في كتاب «النظائر» { ولا يزالون } يعني : الكفار { يقاتلونكم } يعني : المسلمين . و { حبطت } بمعنى : بطلت .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هاجروا } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أنه لما نزل القرآن بالرخصة لأصحاب عبد الله بن جحش في قتل ابن الحضرمي ، قال بعض المسلمين : ما لهم أجر ، فنزلت هذه الآية : وقد ذكرنا هذا في سبب نزول قوله تعالى { يسألونك عن الشهر الحرام } عن جندب ابن عبد الله .
والثاني : أنه لما نزلت لهم الرخصة قاموا ، فقالوا : [ يا رسول الله ] أنطمع أن تكون لنا غزاة نعطى فيها أجر المجاهدين ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . وقال : { هاجروا } من مكة إلى المدينة ، { وجاهدوا } في طاعة الله ابن الحضرمي وأصحابه . و { رحمة الله } : مغفرته وجنته . قال ابن الأنباري : الهجرة عند العرب من هجران الوطن والأهل والولد . والمهاجرون معناهم : المهاجرون الأولاد والأهل ، فعرف مكان المفعول فأسقط . قال الشعبي : أول لواء عقد في الإسلام لواء عبد الله ابن جحش ، وأول مغنم قسم في الإسلام : مغنمه .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)

قوله تعالى : { يسئلونك عن الخمر والميسر } في سبب نزولها قولان . أحدهما : أن عمر بن الخطاب ، قال : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت هذه الآية . والثاني أن جماعة من الأنصار جاؤوا إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وفيهم عمر ، ومعاذ ، فقالوا : أفتنا في الخمر ، فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزلت هذه الآية .
وفي تسمية الخمر خمراً ثلاثة أقوال . أحدها : أنها سميت خمراً ، لأنها تخامر العقل ، أي : تخالطه ، والثاني : لأنها تخمِّر العقل ، أي تستره . والثالث : لأنها تخمَّر ، أي : تغطَّى . ذكر هذه الأقوال محمد بن القاسم . وقال الزجاج : الخمر في اللغة : ما ستر على العقل ، يقال : دخل فلان في خمار الناس ، أي : في الكثير الذي يستتر فيهم ، وخمار المرأة : قناعها ، سمي خماراً : لأنه يغطي .
قال : والخمر هاهنا هي المجمع عليها ، وقياس كل ما عمل عملها أن يقال له : خمر ، وأن يكون في التحريم بمنزلتها ، لأن العلماء أجمعوا على أن القمار كله حرام ، وإنما ذكر الميسر من بينه ، وجعل كله قياساً على الميسر ، والميسر إنما يكون قماراً في الجزر خاصة . فأما الميسر؛ فقال ابن عباس ، وابن عمر ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، في آخرين : هو القمار . قال ابن قتيبة : يقال : يسرت : إذا ضربت بالقداح ، ويقال للضارب بالقداح : ياسر وياسرون ، ويُسر وأيْسار .
وكان أصحاب الثروة والأجواد في الشتاء عند شدة الزمان وكلبه ينحرون جزوراً ، ويجزئونها أجزاء ، ثم يضربون عليها بالقداح ، فاذا قمر القامر ، جعل ذلك لذوي الحاجة والمسكنة ، وهو النفع الذي ذكره الله ، وكانوا يتمادحون بأخذ القداح ، ويتسابون بتركها ويعيبون من لا ييسر .
قوله تعالى : { قل فيهما إِثم كبير } قرأ الأكثرون «كبير» بالباء ، وقرأ حمزة والكسائي بالثاء .
وفي إثم الخمر ثلاثة أقوال . أحدها : أن شربها ينقص الدين . قاله ابن عباس . والثاني : أنه إذا شرب سكر وآذى الناس ، رواه السدي عن أشياخه . والثالث : أنه وقوع العداوة والبغضاء وتغطية العقل الذي يقع به التمييز ، قاله الزجاج .
وفي إثم الميسر قولان . أحدهما : أنه يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة ، ويوقع العداوة ، قاله ابن عباس والثاني : أنه يدعوا إلى الظلم ومنع الحق . رواه السدي عن أشياخه وجائز أن يراد جميع ذلك .
وأما منافع الخمر؛ فمن وجهين : أحدهما : الربح في بيعها . والثاني : انتفاع الأبدان مع التذاذ النفوس . وأما منافع الميسر : فاصابة الرجل المال من غير تعب .
وفي قوله تعالى : { وإِثمهما أكبر من نفعهما } قولان . أحدهما : أن معناه : وإثمهما بعد التحريم ، أكبر من نفعهما قبل التحريم ، قاله سعيد بن جبير والضحاك ، ومقاتل . والثاني : وإثمهما قبل التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم ، أيضاً ، لأن الإثم الذي يحدث في أسبابهما أكبر من نفعهما . وهذا منقول عن ابن جبير أيضاً .

واختلفوا بماذا كانت الخمرة مباحة؟ على قولين . أحدهما : بقوله تعالى : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً } [ النحل : 67 ] . قاله ابن جبير . والثاني : بالشريعة الاولى ، وأقر المسلمون على ذلك حتى حرمت .
فصل
اختلف العلماء : هل لهذه الآية تأثير في تحريم الخمر أم لا؟ على قولين . أحدهما : أنها تقتضي ذمها دون تحريمها ، رواه السدي عن أشياخه ، وبه قال سعيد بن جبير ، ومجاهد وقتادة ، ومقاتل . وعلى هذا القول تكون هذه الآية منسوخة .
والقول الثاني : أن لها تأثيراً في التحريم ، وهو أن الله تعالى أخبر أن فيها إثماً كبيراً والإثم كله محرم بقوله : { والإِثم والبغي } [ الأعراف : 33 ] . هذا قول جماعة من العلماء . وحكاه الزجاج ، واختاره القاضي أبو يعلى للعلة التي بيناها ، واحتج لصحته بعض أهل المعاني ، فقال : لما قال الله تعالى :
{ قل فيهما إِثم كبير ومنافع للناس } ؛ وقع التساوي بين الأمرين ، فلما قال :
{ وإِثمهما أكبر من نفعهما } صار الغالب الإثم ، وبقي النفع مستغرقاً في جنب الإثم ، فعاد الحكم للغالب المستغرق ، فغلب جانب الخطر .
فصل
فأما الميسر؛ فالقول فيه مثل القول في الخمر ، إن قلنا : إن هذه الآية دلت على التحريم ، فالميسر حكمها حرام أيضاً ، وإن قلنا : إنها دلت على الكراهة؛ فأقوم الأقوال أن نقول : إن الآية التي في المائدة نصت على تحريم الميسر .
قوله تعالى : { ويسئلونك ماذا ينفقون } قال ابن عباس : إن الذي سأله عن ذلك عمرو بن الجموح : قال ابن قتيبة : والمراد بالنفقة هاهنا : الصدقة والعطاء .
قوله تعالى : { قل العفو } قرأ أبو عمرو برفع واو «العفو» ، وقرأ الباقون بنصبها قال أبو علي : «ماذا» في موضع نصب فجوابه العفو بالنصب ، كما تقول في جواب . ماذا أنفقت؟ درهماً ، أي : أنفقت درهماً . هذا وجه نصب العفو . ومن رفع جعل «ذا» بمنزلة الذي ، ولم يجعل «ماذا» اسماً واحداً ، فاذا قال قائل : ماذا أنزل ربكم؛ فكأنه قال : ما الذي أنزل ربكم؛ فجوابه : قرآن . قال الزجاج : «العفو» في اللغة : الكثرة والفضل ، يقال : قد عفا القوم : إذا كثروا . و «العفو» : ما أتى بغير كلفة . وقال ابن قتيبة : العفو : الميسور . يقال : خذ ما عفاك ، أي : ما أتاك سهلاً بلا إكراه ولا مشقة .
وللمفسرين في المراد بالعفو هاهنا خمسة أقوال .
أحدها : أنه ما يفضل عن حاجة المرء وعياله ، رواه مقسم عن ابن عباس . والثاني : ما تطيب به أنفسهم من قليل وكثير ، رواه عطية عن ابن عباس . والثالث : أنه القصد بين الإسراف والإقتار ، قاله الحسن ، وعطاء ، وسعيد بن جبير والرابع : أنه الصدقة المفروضة ، قاله مجاهد . والخامس : أنه مالا يتبين عليهم مقداره ، من قولهم : عفا الأثر إذا خفي ودرس ، حكاه شيخنا عن طائفة من المفسرين .
فصل
وقد تكلم علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية ، فروى السدي عن أشياخه أنها نسخت بالزكاة ، وأبى نسخها آخرون . وفصل الخطاب في ذلك أنا متى قلنا : إنه فرض عليهم بهذه الآية التصدق بفاضل المال ، أو قلنا : إنه أوجبت عليهم هذه الآية صدقة قبل الزكاة ، فالآية منسوخة بآية الزكاة ، ومتى قلنا : إنها محمولة على الزكاة المفروضة كما قال مجاهد ، أو على الصدقة المندوب إليها ، فهي محكمة .

قوله تعالى : { كذلك يبيّنُ الله } قال الزجاج : إنما قال كذلك ، وهو يخاطب جماعة ، لأن الجماعة معناها : القبيل ، كأنه قال : كذلك يا أيها القبيل . وجائز أن تكون الكاف للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، كأنه قال : كذلك يا أيها النبي ، لأن الخطاب له مشتمل على خطاب أمته . وقال ابن الأنباري : الكاف في «كذلك» إشارة إلى ما بيَّن من الإنفاق ، فكأنه قال : مثل ذلك الذي بينه لكم في الإنفاق يبيّن الآيات . ويجوز أن يكون «كذلك» غير إشارة إلى ما قبله ، فيكون معناه : هكذا ، قاله ابن عباس . { لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة } فتعرفون فضل ما بينهما ، فتعملون للباقي منهما .

فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

قوله تعالى : { ويَسْئَلونك عن اليتامى } في سبب نزولها قولان . أحدهما : أنه لما أنزل الله تعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إِلا بالتي هي أحسن } [ الاسراء : 34 ] . و { إِن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } [ النساء : 9 ] انطلق من كان عنده مال يتيم ، فعزل طعامه من طعامِه ، وشرابه من شرابِه ، فجعل يفضل الشيء من طعامِه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد . فاشتد ذلك عليهم ، فذكروه للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومقاتل . والثاني : أن العرب كانوا يشددون في أمر اليتيم حتى لا يأكلون معه في قصعته ، ولا يستخدمون له خادماً ، فسألوا النبي ، صلى الله عليه وسلم ، عن مخالطتهم ، فنزلت هذه الآية ، ذكره السدي عن أشياخه ، وهو قول الضحاك .
وفي السائلين للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، عن ذلك قولان . أحدهما : أن الذي سأله ثابت بن رفاعة الأنصاري ، قاله مقاتل . والثاني : عبد الله بن رواحة ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { قل إِصلاح لهم خيرٌ } قال ابن قتيبة : معناه : تثمير أموالهم ، والتنزه عن أكلها لمن وليها خير . { وإِن تخالطوهم فاخوانُكم } أي : فهم إخوانكم ، حُكمهم في ذلك حكم إخوانكم . قال ابن عباس : والمخالطة : أن يشرب من لبنك ، وتشرب من لبنه ، ويأكل في قصعتك ، وتأكل في قصعته . { والله يعلم المفسد من المصلح } يريد : المتعمد . أكل مال اليتيم ، من المتحرّج الذي لا يألو إلا الإصلاح . { ولو شاء الله لأعنتكم } قال ابن عباس : أي : لأحرجكم ، ولضيّق عليكم . وقال ابن الأنباري : أصل العنت : التشديد . تقول العرب : فلان يتعنت فلاناً ويعنته ، أي : يشدد عليه ، ويلزمه بما يصعب عليه أداؤه [ قال : ثم نقلت إلى معنى الهلاك ] واشتقاق الحرف ، من قول العرب : أكمة عنوت : إذا كانت شديدة شاقة [ المصعد ] فجعلت هذه اللفظة مستعملة في كل شدة .

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

قوله تعالى : { ولا تَنكِحوا المشركات حتى يؤمنَّ } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن رجلاً يقال له : مرثد بن أبي مرثد بعثه النبي ، صلى الله عليه وسلم ، إلى مكة ليخرج ناسا من المسلمين بها أسرى ، فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها : عناق ، وكانت خليلة له في الجاهلية ، فلما أسلم أعرض عنها ، فأتته فقالت : ويحك يا مرثد : ألا تخلو؟ فقال : إن الإسلام قد حال بيني وبينك ، ولكن إن شئتِ تزوجتكِ ، إذا رجعت إلى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، استأذنته في ذلك ، فقالت له : أبي تتبرَّم؟ واستغاثت عليه ، فضربوه ضرباً شديداً ، ثم خلوا سبيله ، فلما قضى حاجته بمكة رجع إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فسأله : أتحلُّ لي أن أتزوجها؟ فنزلت هذه الآية . هذا قول ابن عباس . وذكر مقاتل بن سليمان أنه أبو مرثد الغنوي .
والثاني : " أن عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء ، وأنه غضب عليها فلطمها ، ثم فزع ، فأتى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فأخبره خبرها؛ [ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «ما هي يا عبد الله»؟ ] فقال : يا رسول الله هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوء ، وتشهد أن لا إِله إِلا الله ، وأنك رسول الله . فقال : «يا عبد الله : هذه مؤمنة» فقال : والذي بعثك بالحق لأعتقنّها ولأتزوجنّها ففعل ، فعابه ناس من المسلمين وقالوا : أنكح أمة ، وكانوا يرغبون في نكاح المشركات رغبة في أحسابهن " ، فنزلت هذه الآية . رواه السدي عن أشياخه . وقد ذكر بعض المفسرين أن قصة عناق وأبا مرثد كانت سبباً لنزول قوله تعالى : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ } وقصة ابن رواحة كانت سبباً لنزول قوله تعالى : { ولأمة مؤمنة خير من مشركة } .
فأما التفسير ، فقال المفضَّل : أصل النكاح : الجماع ، ثم كثر ذلك حتى قيل للعقد : نكاح . وقد حرم الله عز وجل نكاح المشركات عقداً ووطءاً .
وفي «المشركات» هاهنا قولان . أحدهما : أنه يعُم الكتابيات وغيرهن ، وهو قول الأكثرين . والثاني : أنه خاص في الوثنيات ، وهو قول سعيد بن جبير ، والنخعي ، وقتادة .
وفي المراد بالأمة قولان . أحدهما : أنها المملوكة ، وهو قول الأكثرين ، فيكون المعنى : ولَنكاح أمة مؤمنة خير من نكاح حرة مشركة . والثاني : أنها المرأة ، وإن لم تكن مملوكة ، كما يقال : هذه أمة الله ، وهذا قول الضحاك ، والأول أصح .
وفي قوله : { ولو أعجبتكم } قولان . أحدهما : بجمالها وحسنها . والثاني : بحسبها ونسبها .
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية ، فقال القائلون بأن المشركات الوثنيات : هي محكمة ، وزعم بعض من نصر هذا القول أن اليهود والنصارى ليسوا بمشركين بالله ، وإن جحدوا بنبوة نبينا . قال شيخنا : وهو قولٌ فاسد من وجهين . أحدهما : أن حقيقة الشرك ثابتة في حقهم حيث قالوا : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله .

والثاني : أن كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، يوجب أن يقولوا : إن ما جاء به ليس من عند الله ، وإضافة ذلك إلى غير الله شرك . فأما القائلون بأنها عامة في جميع المشركات ، فلهم في ذلك قولان . أحدهما : أن بعض حكمها منسوخ بقوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 6 ] . وبقي الحكم في غير أهل الكتاب محكماً . والثاني : أنها ليست ، منسوخة ، ولا ناسخة ، بل هي عامة في جميع المشركات ، وما أخرج عن عمومها من إباحة كافرة؛ فلدليل خاص ، وهو قوله تعالى : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 6 ] . فهذه خصصت عموم تلك من غير نسخ ، وعلى هذا عامة الفقهاء . وقد روي معناه عن جماعة من الصحابة ، منهم : عثمان ، وطلحة ، وحذيفة ، وجابر ، وابن عباس .
قوله تعالى : { ولا تُنكِحوا المشركين } أي : لا تزوجوهم بمسلمة حتى يؤمنوا؛ والكلام في قوله تعالى : { ولعبد مؤمن } وفي قوله تعالى : { ولو أعجبكم } مثل الكلام في أول الآية .
قوله تعالى : { والله يدعوا إِلى الجنة والمغفرة باذنه } ؛ قرأ الجمهور بخفض «المغفرة» وقرأ الحسن ، والقزاز ، عن أبي عمرو ، برفعها .

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)

قوله تعالى : { ويسألونك عن المحيض } روى ثابت عن أنس قال : كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهن لم يؤاكلوها ، ولم يشاربوها ، ولم يجامعوها في البيوت ، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم ، عن ذلك ، فنزلت هذه الآية ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يؤاكلوهن ويشاربوهن ويكونوا معهن في البيوت ، وأن يفعلوا كل شيء ما عدا النكاح . وقال ابن عباس : جاء رجل يقال له : ابن الدحداحة ، من الأنصار ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟ فنزلت هذه الآية . وفي المحيض قولان . أحدهما : أنه اسم للحيض ، قال الزجاج : يقال : قد حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحاضاً ومحيضاً . وقال ابن قتيبة : المحيض : الحيض . والثاني : أنه اسم لموضع الحيض ، كالمقيل ، فإنه موضع القيلولة ، والمبيت موضع البيتوتة . وذكر القاضي أبو يعلى أن هذا ظاهر كلام أحمد . فأما أرباب القول الأول؛ فأكدوه بأن في اللفظ ما يدل على قولهم ، وهو أنه وصفه بالأذى ، وذلك صفة لتفسير الحيض ، لا لمكانه . وأما أرباب القول الثاني ، فقالوا : لا يمتنع أن يكون المحيض صفة للموضع ، ثم وصفه بما قاربه ، وجاوره ، كالعقيقة ، فإنها اسم لشعر الصبي ، وسميت بها الشاة التي تذبح عند حلق رأسه مجازاً . والراوية : اسم للجمل ، وسميت المزادة راوية مجازاً ، والأذى يحصل للواطىء بالنجاسة ، ونتن الريح ، وقيل : يورث جماع الحائض علة بالغة في الألم : { فاعتزلوا النساء في المحيض } المراد به اعتزال الوطء في الفرج ، لأن المحيض نفس الدم أو نفس الفرج . { ولا تقربوهن } أي : لا تقربوا جماعهن ، وهو تأكيد لقوله : { فاعتزلوا النساء } .
قوله تعالى : { حتى يَطْهُرْنَ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص ، عن عاصم { حتى يطهرن } خفيفة . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، وأبو بكر ، عن عاصم { يطَّهّرن } بتشديد الطاء والهاء وفتحهما . قال ابن قتيبة : يطهرن : ينقطع عنهن الدم ، يقال : طهُرت المرأة وطهَرت : إذا رأت الطهر ، وإن لم تغتسل بالماء . ومن قرأ «يطَّهَّرن» بالتشديد أراد : يغتسلن بالماء . والأصل يتطهرن ، فأدغمت التاء في الطاء . قال ابن عباس ، ومجاهد : حتى يطهرن من الدم ، فاذا تطهرن اغتسلن بالماء .
قوله تعالى : { فأتوهن } إباحة من حظر ، لا على الوجوب .
قوله تعالى : { من حيث أمركم الله } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أن معناه : من قبل الطهر ، لا من قبل الحيض ، قاله ابن عباس ، وأبو رزين ، وقتادة ، والسدي في آخرين .
والثاني : أن معناه : فأتوهن من حيث أمركم الله أن لا تقربوهن فيه ، وهو محل الحيض ، قاله مجاهد . وقال من نصر هذا القول : إنما قال : { أمركم الله } والمعنى نهاكم ، لأن النهي أمر بترك المنهي عنه و «من» بمعنى «في» كقوله تعالى { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة }

[ الجمعة : 9 ] .
والثالث : فأتوهن من قبل التزويج الحلال ، لا من قبل الفجور ، قاله ابن الحنفية .
والرابع : أن معناه : فأتوهن من الجهات التي يحل أن تقرب فيها المرأة ، ولا تقربوهن من حيث لا ينبغي مثل أن كن صائمات أو معتكفات أو محرمات . وهذا قول الزجاج ، وابن كيسان . وفي قوله تعالى : { إِن الله يحب التوابين } قولان . أحدهما : التوابين من الذنوب ، قاله عطاء ، ومجاهد ، في آخرين . والثاني : التوابين من إتيان الحيض ذكره بعض المفسرين .
وفي قوله تعالى : { ويحب المتطهرين } ثلاثة أقوال . أحدها : المتطهرين من الذنوب ، قاله مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو العالية . والثاني : المتطهرين بالماء ، قاله عطاء . والثالث : المتطهرين من إتيان أدبار النساء . روي عن مجاهد .
فصل
أقل الحيض يوم وليلة في إحدى الروايتين عن أحمد . والثانية : يوم . وقال أبو حنيفة : أقله ثلاثة أيام . وقال مالك وداود : ليس لأقله حد . وفي أكثره روايتان عن أحمد : إحداهما : خمسة عشر يوماً ، وهو قول مالك والشافعي . والثانية : سبعة عشر يوماً . وقال أبو حنيفة : أكثره عشرة أيام .
والحيض مانع من عشرة أشياء : فعل الصلاة ، ووجوبها ، وفعل الصوم دون وجوبه ، والجلوس في المسجد ، والاعتكاف ، والطواف ، وقراءة القرآن ، وحمل المصحف ، والاستمتاع فى الفرج ، وحصول نية الطلاق .

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

قوله تعالى : { نساؤكم حرث لكم } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أن اليهود أنكرت جواز إتيان المرأة إلا من بين يديها ، وعابت من يأتيها على غير تلك الصفة ، فنزلت هذه الآية . روي عن جابر ، والحسن ، وقتادة . والثاني : أن حياً من قريش كانوا يتزوجون النساء بمكة ، ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات ، فلما قدموا المدينة ، تزوجوا من الأنصار ، فذهبوا ليفعلوا ذلك ، فأنكرنه ، وانتهى الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية . رواه مجاهد عن ابن عباس . والثالث : أن عمر بن الخطاب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : هلكت ، حولت رحلي الليلة ، فنزلت هذه الآية . رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، والحرث : المزدرع ، وكنى به هاهنا عن الجماع ، . فسماهن حرثاً ، لأنهن مزدرع الأولاد ، كالأرض للزرع ، فان قيل : النساء جمع ، فلم لم يقل : حروث؟ فعنه ثلاثة أجوبة ، ذكرها ابن القاسم الأنباري النحوي . أحدها : أن يكون الحرث مصدراً في موضع الجمع ، فلزمه التوحيد ، كما تقول العرب : إخوتك صوم ، وأولادك فطر ، يريدون : صائمين ومفطرين ، فيؤدي المصدر بتوحيده عن اللفظ المجموع . والثاني : أن يكون أراد : حروث لكم ، فاكتفى بالواحد من الجمع ، كما قال الشاعر :
كلوا في نصف بطنكُم تعيشوا ... أي : في أنصاف بطونكم . والثالث : أنه إنما وحَّد الحرث ، لأن النساء شبهن به ، ولسن من جنسه ، والمعنى : نساؤكم مثل حروث لكم .
قوله تعالى : { أنى شئتم } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه بمعنى : كيف شئتم ، ثم فيه قولان . أحدهما : أن المعنى : كيف شئتم ، مقبلة أو مدبرة ، وعلى كل حال ، إذا كان الإتيان في الفرج . وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وعطية ، والسدي ، وابن قتيبة في آخرين . والثاني : أنها نزلت في العزل . قاله سعيد بن المسيب ، فيكون المعنى : إن شئتم فاعزلوا ، وإن شئتم فلا تعزلوا .
والقول الثاني : أنه بمعنى إن شئتم ، ومتى شئتم ، وهو قول ابن الحنفية والضحاك ، وروي عن ابن عباس أيضاً . والثالث : أنه بمعنى : حيث شئتم ، وهذا محكي عن ابن عمر ومالك بن أنس ، وهو فاسِد من وجوه ، أحدها : أن سالم بن عبد الله لما بلغه أن نافعاً تحدث بذلك عن ابن عمر ، قال : كذب العبد ، إنما قال عبد الله : يؤتون في فروجهن من أدبارهن . وأما أصحاب مالك ، فانهم ينكرون صحته عن مالك ، والثاني : أن أبا هريرة روى عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : « ملعون من أتى النساء في أدبارهن » فدل على أن الآية لا يراد بها هذا .
والثالث : أن الآية نبهت على أنه محل الولد بقوله : { فأتوا حرثكم } وموضع الزرع : هو مكان الولد ، قال ابن الأنباري : لما نصَّ الله على ذكر الحرث ، والحرث به يكون النبات ، والولد مشبَّه بالنبات؛ لم يجز أن يقع الوطء في محل لا يكون منه ولد .
والرابع : أن تحريم إتيان الحائض كان لعلة الأذى ، والأذى ملازم لهذا المحل لا يفارقه .
قوله تعالى : { وقدّموا لأنفسكم } فيه أربعة أقوال . أحدها : أن معناه : وقدموا لأنفسكم من العمل الصالح ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : وقدموا التسمية عند الجماع ، رواه عطاء عن ابن عباس . والثالث : وقدموا لأنفسكم في طلب الولد ، قاله مقاتل . والرابع : وقدّموا طاعة الله واتباع أمره ، قاله الزجاج .

وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)

قوله تعالى : { ولا تجعلوا الله عُرضة لأيْمانكم } في سبب نزولها أربعة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في عبد الله بن رواحة ، كان بينه وبين ختنه شيء ، فحلف عبد الله أن لا يدخل عليه ولا يكلمه ، وجعل يقول : قد حلفت بالله ، فلا يحل لي ، إلا أن تبرّ يميني ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس .
والثاني : أن الرجل كان يحلف بالله أن لا يصل رحمه ، ولا يصلح بين الناس ، فنزلت هذه الآية ، قاله الربيع بن أنس .
والثالث : أنها نزلت في أبي بكر حين حلف ، لا ينفق على مسطح ، قاله ابن جريج . والرابع : نزلت في أبي بكر ، حلف أن لا يصل ابنه عبد الرحمن حتى يسلم ، قاله المقاتلان : ابن حيان ، وابن سليمان .
قال الفراء : والمعنى : ولا تجعلوا الله مُعترضاً لأيمانكم . وقال أبو عبيد : نصباً لأيمانكم ، كأنه يعني : أنكم تعترضونه في كل شيء ، فتحلفون به . وفي معنى الآية ثلاثة أقوال . أحدها : أن معناها : لا تحلفوا بالله أن لا تبرّوا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس ، هذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وابن جبير ، وإبراهيم ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج في آخرين . والثاني : أن معناها : لا تحلفوا بالله كاذبين لتتقوا المخلوقين وتبرّوهم ، وتصلحوا بينهم بالكذب ، روى هذا المعنى عطية عن ابن عباس . والثالث : أن معناها : لا تكثروا الحلف بالله ، وإن كنتم بارّين مصلحين ، فان كثرة الحلف بالله ضرب من الجرأة عليه . هذا قول ابن زيد .

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

قوله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيْمانكم } قال الزجاج : اللغو في كلام العرب : ما أطُّرح ولم يعقد عليه أمر ، ويسمى ما لا يعتد به لغواً . وقال ابن فارس : اشتقاق ذلك من قولهم لما لا يعتد [ به ] من أولاد الإبل في الدية وغيرها لغواً ، يقال منه : لغا يلغو ، وتقول : لغي بالأمر : إذا لهِج به . وقيل : إن اشتقاق اللغة منه [ أي : يلهج صاحبها بها ] . وفي المراد باللغو هاهنا خمسة أقوال . أحدها : أن يحلف على الشيء يظن أنه كما حلف ، ثم يتبين له أنه بخلافه . وإلى هذا المعنى ذهب أبو هريرة ، وابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، والشعبي ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي عن أشياخه ، ومالك ، ومقاتل . والثاني : أنه : لا والله ، وبلى والله ، من غير قصد لعقد اليمين ، وهو قول عائشة ، وطاووس ، وعروة ، والنخعي ، والشافعي واستدل أرباب هذا القول بقوله تعالى { ولكن يؤاخذكم بما كسَبت قلوبكم } وكسب القلب : عقده وقصده ، وهذان القولان منقولان عن الإمام أحمد ، روى عنه ابنه عبد الله أنه قال : اللغو عندي أن يحلف على اليمين ، يرى أنها كذلك ، ولا كفارة . والرجل يحلف ولا يعقد قلبه على شيء ، فلا كفارة . والثالث : أنه يمين الرجل وهو غضبان ، رواه طاووس عن ابن عباس . والرابع : أنه حلف الرجل على معصية ، فليحنث ، وليكفِّر ، ولا إثم عليه . قاله سعيد بن جبير . والخامس : أن يحلف الرجل على شيء ، ثم ينساه . قاله النخعي . وقول عائشة أصح الجميع . قال حنبل : سئل أحمد عن اللغو فقال : الرجل يحلف فيقول : لا والله ، وبلى والله ، لا يريد عقد اليمين ، فاذا عقد على اليمين لزمته الكفارة .
قوله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما كَسَبَتْ قلوبكم والله غفور حليم } قال مجاهد : أي : ما عقدت عليه قلوبكم ، «والحليم» : ذو الصفح الذي لا يستفزه غضب ، فيعجل ، ولا يستخفه جهل جاهل مع قدرته على العقوبة . قال أبو سليمان الخطابي : ولا يستحق اسم الحليم من سامح مع العجز عن المجازاة ، إنما الحليم الصفوح مع القدرة ، المتأني الذي لا يعجل بالعقوبة . وقد أنعم بعض الشعراء أبياتاً في هذا المعنى فقال :
لا يدرك المجدَ أقوامٌ وإِن كرموا ... حتى يذلّوا وإِن عزّوا لأقوام
ويُشْتَموا فترى الألوانَ مسفرةً ... لا صفح ذلٍ ولكن صفحَ أحلام
قال : ويقال : حَلم الرجل يحلمُ حُلُما بضم اللام في الماضي والمستقبل . وحلَم في النوم ، بفتح اللام ، يحلم حُلماً ، اللام في المستقبل والحاء في المصدر مضموتان .
فصل
الأيمان على ضربين ، ماضٍ ومستقبل ، فالماضي على ضربين : يمين محرمة ، وهي : اليمين الكاذبة ، وهي أن يقول : والله ما فعلت ، وقد فعل . أو : لقد فعلت ، وما فعل . ويمين مباحة ، وهي أن يكون صادقاً في قوله : ما فعلت . أو : لقد فعلت . والمستقبلة على خمسة أقسام . أحدها : يمين عقدُها طاعة ، والمقام عليها طاعة ، وحلها معصية ، مثل أن يحلف : لأصلينَّ الخمس ، ولأصومنَّ رمضان ، أو : لاشربت الخمر . والثاني : عقدها معصية ، والمقام عليها معصية ، وحلها طاعة ، وهي عكس الأولى . والثالث : يمين عقدها طاعة ، والمقام عليها طاعة ، وحلها مكروه ، مثل أن يحلف : ليَفعلنّ النوافل من العبادات . والرابع : يمين عقدها مكروه ، والمقام عليها مكروه ، وحلها طاعة ، وهي عكس التي قبلها . والخامس : يمين عقدها مباح ، والمقام عليها مباح ، وحلها مباح . مثل أن يحلف : لادخلت بلداً فيه من يظلم الناس ، ولا سلكت طريقاً مخوفاً ، ونحو ذلك .

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)

قوله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم } قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئاً ، فأبت أن تعطيه؛ حلف أن لا يقربها السنة ، والسنتين ، والثلاث ، فيدعها لا أيّماً ، ولا ذات بعل ، فلما كان الإسلام ، جعل الله ذلك أربعة أشهر ، فأنزل الله هذه الآية . وقال سعيد بن المسيب : كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية ، وكان الرجل لا يريد المرأة ، ولا يحب أن يتزوجها غيره ، فيحلف أن لا يقربها أبداً ، فجعل الله تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر ، وأنزل هذه الآية . قال ابن قتيبة : يؤلون ، أي : يحلفون . يقال : آليت من امرأتي ، أولي إيلاء : إذا حلف لا يجامعها . والاسم : الأليَّة . وقال الزجاج : يقال من الإيلاء : آليت أولي إيلاء ، وأليَّة ، وأُلْوةً وأَلْوَةً وإِلْوَةً ، وهي بالكسر أقل اللغات ، قال كثير :
قيل الألايا حافظٌ ليمينه ... وإِن بدرت منه الأليَّة برَّت
وحكي ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال : «من» بمعنى : «في» أو : «على» والتقدير : يحلفون على وطء نسائهم ، فحذف الوطء ، وأقام النساء مقامه ، كقوله تعالى : { ما وعدتنا على رسلك } [ آل عمران : 194 ] . أي : على ألسنة رسلك . وقيل : في الكلام حذف ، تقديره : يؤلون ، يعتزلون من نسائهم . والتربص : الانتظار . ولا يكون مؤلياً إلا إذا حلف بالله أن لا يصيب زوجته أكثر من أربعة أشهر ، فإن حلف على أربعة أشهر فما دون ذلك ، لم يكم مؤلياً . وهذا قول مالك ، وأحمد ، والشافعي . وفاؤوا : رجعوا ، ومعناه : رجعوا إلى الجماع . قاله عليّ ، وابن عباس ، وابن جبير ، ومسروق ، والشعبي . وإذا كان للمؤلي عذر لا يقدر معه على الجماع ، فإنه يقول : متى قدرت جامعتها ، فيكون ذلك من قوله فيئة؛ فمتى قدر فلم يفعل ، أمر بالطلاق ، فان لم يطلق ، طلق الحاكم عليه .
قوله تعالى : { فإن الله غفور رحيم } قال عليّ ، وابن عباس : غفور لإثم اليمين .

وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

قوله تعالى : { وإن عزموا الطلاق } أي : حققوه . وفي عزم الطلاق قولان .
أحدهما : أنه إذا مضت الأربعة الأشهر استحق عليه أن يفيء ، أو يطلق ، وهو مروي عن عمر ، وعثمان ، وعليّ ، وابن عمر ، وسهل بن سعد ، وعائشة ، وطاووس ، ومجاهد ، والحكم ، وأبي صالح . وحكاه أبو صالح عن اثني عشر رجلاً من الصحابة ، وهو قول مالك ، وأحمد ، والشافعي .
والثاني : أنه لا يفيء حتى يمضي أربعة أشهر ، فتطلق بذلك من غير أن يتكلم بطلاق . واختلف أرباب هذا القول فيما يلحقها من الطلاق على قولين . أحدهما : طلقة بائنة . روي عن عثمان ، وعليّ ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وقبيصة بن ذؤيب . والثاني : طلقة رجعية ، روي عن سعيد بن المسيب ، وأبي بكر بن عبد الرحمن ، وابن شبرمة .
قوله تعالى : { فإن الله سميع عليم } فيه قولان . أحدهما : سميع لطلاقه ، عليم بنيته . والثاني : سميع ليمينه ، عليم بها .

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } سبب نزولها : أن المرأة كانت إذا طلقت وهي راغبة في زوجها ، قالت : أنا حبلى ، وليست حبلى ، لكي يراجعها ، وإن كانت حبلى وهي كارهة ، قالت : لست بحبلى ، لكي لا يقدر على مراجعتها . فلما جاء الإسلام ثبتوا على هذا . فنزل قوله تعالى : { يا أيها النبي إِذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة } [ الطلاق : 1 ] . ثم نزلت : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } . رواه أبو صالح عن ابن عباس .
فأما التفسير؛ فالطلاق : التخلية . قال ابن الأنباري : هي من قول العرب : أطلقت الناقة ، فطلقت : إذا كانت مشدودة ، فأزلت الشد عنها ، وخليتها ، فشبه ما يقع للمرأة بذلك ، لأنها كانت متصلة الأسباب بالرجل ، وكانت الأسباب كالشد لها ، فلما طلقها قطع الأسباب ، ويقال طلقت المرأة ، وطُلّقت وقال غيره : الطلاق : من أطلقت الشيء من يدي ، إلا أنهم لكثرة استعمالهم اللفظتين فرقوا بينهما ، ليكون التطليق مقصوراً في الزوجات . وأما القروء : فيراد بها : الأطهار ، ويراد بها الحيض . يقال : أقرأت المرأة إذا حاضت ، وأقرأت : إذا طهرت . قال النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة : « تقعد أيام أقرائها » يريد أيام حيضها . وقال الأعشى :
وفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها غريم عزائكا
مُورِّثةٍ مالاً ، وفي الحي رفعةً ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
أراد بالقروء : الأطهار ، لأنه لما خرج عن نسائه أضاع أطهارهن . واختلف أهل اللغة في أصل القروء على قولين . أحدهما : أن أصله الوقت ، يقال : رجع فلان لقرئه أي : لوقته الذي كان يرجع فيه ، [ ورجع لقارئه أيضاً ] قال الهذلي :
كرهت العقر عقر بني شليل ... إذا هبت لقارئها الرياح
فالحيض يأتي لوقت ، والطهر يأتي لوقت ، هذا قول ابن قتيبة . والثاني : أن أصله الجمع . وقولهم : قرأت القرآن ، أي : لفظت به مجموعاً . والقرء : اجتماع الدم في البدن ، وذلك إنما يكون في الطهر ، وقد يجوز أن يكون اجتماعه في الرحم ، وكلاهما حسن ، هذا قول الزجاج .
واختلف الفقهاء في الأقراء على قولين . أحدهما : أنها الحيض . روي عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وأبي موسى ، وعبادة بن الصامت ، وأبي الدرداء ، وعكرمة ، والضحاك والسدي ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، والحسن بن صالح ، وأبي حنيفة وأصحابه ، وأحمد بن حنبل رضي الله عنه فانه قال : قد كنت أقول : القروء : الأطهار ، وأنا اليوم أذهب إلى أنها الحيض . والثاني : أنها الأطهار . روي عن زيد بن ثابت ، وابن عمر ، وعائشة ، والزهري ، وأبان بن عثمان ، ومالك بن أنس ، والشافعي ، وأومأ إليه أحمد .
ولفظ قوله تعالى { والمطلقات يتربصن } لفظ الخبر ، ومعناه : الأمر ، كقوله تعالى : { والوالداتُ يُرضعنَ أولادهن حولين كاملين } وقد يأتي لفظ الأمر في معنى الخبر كقوله تعالى : { فليمدد له الرحمن مدا } [ مريم : 75 ] . والمراد بالمطلقات في هذه الآية ، البالغات ، المدخول بهن غير الحوامل .

قوله تعالى : { ولا يحل لهنَّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنَّ } فيه ثلاثة أقوال . أحدها : أنه الحمل ، قاله عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل ، وابن قتيبة ، والزجاج . والثاني : أنه الحيض ، قاله عكرمة ، وعطية ، والنخعي ، والزهري . والثالث : الحمل والحيض ، قاله ابن عمر ، وابن زيد .
قوله تعالى : { إِن كنَّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر } خرِّج مخرج الوعيد لهن والتوكيد ، قال الزجاج : وهو كما تقول للرجل : إن كنت مؤمناً فلا تظلم . وفي سبب وعيدهم بذلك قولان . أحدهما : أنه لأجل ما يستحقه الزوج من الرجعة قاله ابن عباس . والثاني : لأجل إلحاق الولد بغير أبيه ، قاله قتادة . وقيل : كانت المرأة إذا رغبت في زوجها ، قالت : إني حائض ، وقد طهرت . وإذا زهدت فيه ، كتمت حيضها حتى تغتسل ، فتفوته .
والبعولة : الأزواج ، و «ذلك» : إشارة إلى العدة . قاله مجاهد ، والنخعي ، وقتادة في آخرين . وفي الآية دليل على أن خصوص آخر اللفظ لا يمنع عموم أوله ، ولا يوجب تخصيصه ، لأن قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن } . عام في المبتوتات والرجعيات ، وقوله تعالى : { وبعولتهن أحق بردهن } خاص في الرجعيات .
قوله تعالى : { إن أرادوا إصلاحاً } قيل : إن الرجل كان إذا أراد الإضرار بامرأته ، طلقها واحدة وتركها ، فاذا قارب انقضاء عدتها راجعها ، ثم تركها مدّة ، ثم طلقها ، فنهوا عن ذلك . وظاهر الآية يقتضي أنه إنما يملك الرجعة على غير وجه المضارة بتطويل العدة عليها ، غير أنه قد دل قوله تعالى : { ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا } على صحة الرجعة وإن قصد الضرار ، لأن الرجعة لو لم تكن صحيحة إذا وقعت على وجه الضرار؛ لما كان ظالماً بفعلها .
قوله تعالى : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } وهو : المعاشرة الحسنة ، والصحبة الجميلة . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه سئل عن حق المرأة على الزوج ، فقال : «أن يطعمها إذا طعم ، ويكسوها إذا اكتسى ، ولا يضرب الوجه ، ولا يقبح ، ولا يهجر إلا في البيت " وقال ابن عباس إني أحب أن أتزين للمرأة ، كما أحب أن تتزين لي ، لهذه الآية .
قوله تعالى : { وللرجال عليهن درجة } قال ابن عباس : بما ساق إليها من المهر ، وأنفق عليها من المال . وقال مجاهد : بالجهاد والميراث . وقال أبو مالك : يطلقها ، وليس لها من الأمر شيء . وقال الزجاج : تنال منه من اللذة كما ينال منها ، وله الفضل بنفقته . وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لو أمرتُ أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " وقالت ابنة سعيد بن المسيب : ما كنا نكلم أزواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم .
فصل
اختلف العلماء في هذه الآية : هل تدخل في الآيات المنسوخات أم لا؟ على قولين . أحدهما : أنها تدخل في ذلك .

واختلف هؤلاء في المنسوخ منها ، فقال قوم : المنسوخ منها قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } وقالوا : فكان يجب على كل مطلقة أن تعتدّ بثلاثة قروء ، فنسخ حكم الحامل بقوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلُهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] . وحكم المطلقة قبل الدخول بقوله تعالى : { إذا نكحتم المؤمنات ، ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ، فمالكم عليهن من عدة تعتدُّونها } [ الطلاق : 1 ] . وهذا مروي عن ابن عباس ، والضحاك في آخرين . وقال قوم : أولها محكم ، والمنسوخ قوله تعالى : { وبعولتهن أحق بردهن } قالوا : كان الرجل إذا طلق امرأته كان أحق برجعتها ، سواء كان الطلاق ثلاثاً ، أو دون ذلك ، فنسخ بقوله تعالى : { فان طلقها فلا تحل له من بعدُ حتى تنكح زوجاً غيره } والقول الثاني : أن الآية كلها محكمة ، فأولها عام . والآيات الواردة في العدد ، خصت ذلك من العموم ، وليس بنسخ . وأما ما قيل في الارتجاع ، فقد ذكرنا أن معنى قوله تعالى : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } أي : في العدة قبل انقضاء القروء الثلاثة ، وهذا القول هو الصحيح .

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)

قوله تعالى : { الطلاق مرتان } سبب نزولها ، أن الرجل كان يطلق امرأته ، ثم يراجعها ليس لذلك شيء ينتهي إليه ، فقال رجل من الأنصار لامرأته : والله لا أؤيك إليَّ أبداً ولا أدعك تحلِّين مني . فقالت : كيف ذلك؟ قال : أطلقك ، فاذا دنا أجلك ، راجعتك ، فذهبتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، تشكو إليه ذلك ، فنزلت هذه الآية ، فاستقبلها الناس [ جديداً ] من كان طلق ، ومن لم يكن طلق . رواه هشام بن عروة عن أبيه .
فأما التفسير ، ففي قوله تعالى : { الطلاق مرتان } قولان . أحدهما : أنه بيان لسنَّة الطلاق ، وأن يوقع في كل قرءٍ طلقة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد . والثاني : أنه بيان للطلاق الذي يملك معه الرجعة ، قاله عروة ، وقتادة ، وابن قتيبة ، والزجاج في آخرين .
قوله تعالى : { فإمساك بمعروف } معناه : فالواجب عليكم إمساك بمعروف ، وهو ما يعرف من إقامة الحق في إمساك المرأة . وقال عطاء ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي : المراد بقوله تعالى : { فإمساك بمعروف } : الرجعة بعد الثانية . وفي قوله تعالى : { أو تسريح بإحسان } قولان . أحدهما : أن المراد به : الطلقة الثالثة ، قاله عطاء ، ومجاهد ، ومقاتل . والثاني : أنه الإمساك عن رجعتها حتى تنقضي عدتها ، قاله الضحاك ، والسدي . قال : القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء : وهذا هو الصحيح ، أنه قال عقيب الآية : { فان طلقها فلا تحل له من بعدُ حتى تنكح زوجاً غيره } والمراد بهذه الطلقة : الثالثة بلا شك ، فيجب إذن أن يحمل قوله تعالى : { أو تسريح باحسان } على تركها حتى تنقضي عدتها ، لأنه إن حمل على الثالثة ، وجب أن يحمل قوله تعالى : { فان طلقها } على رابعة ، وهذا لا يجوز .
فصل
الطلاق على أربعة أضرب :
واجب ، ومندوب إليه ، ومحظور ، ومكروه . فالواجب : طلاق المؤلي بعد التربص ، إذا لم يفئ ، وطلاق الحكمين في شقاق الزوجين ، إذا رأيا الفرقة . والمندوب : إذا لم يتفقا ، واشتدَّ الشقاق بينهما ، ليتخلصا من الإثم . والمحظور : في الحيض ، إذا كانت مدخولاً بها ، وفي طهر جامعها فيه قبل أن تطهر . والمكروه : إذا كانت حالهما مستقيمة ، وكل واحد منهما قيم بحق صاحبه .
قوله تعالى : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً } " نزلت في ثابت بن قيس بن شمَّاس ، أتت زوجته إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فقالت : والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق ، ولكني [ أكره الكفر في الإسلام ] لا أطيقه بغضاً . فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : «أتردّين عليه حديقته؟» . قالت : نعم . فأمره النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يأخذها ، ولا يزداد " رواه عكرمة عن ابن عباس واختلفوا في اسم زوجته ، فقال ابن عباس : جميلة . ونسبها يحيى ابن أبي كثير ، فقال : جميلة بنت عبد الله بن أبيّ بن سلول ، وكناها مقاتل ، فقال : أم حبيبة بنت عبد الله ابن أبيّ .

وقال آخرون : إنما هي جميلة أخت عبد الله بن أبيّ . وروى يحيى بن سعيد عن عمرة روايتين . إحداهما : أنها حبيبة بنت سهل . والثانية : سهلة بنت حبيب .
وهذا الخلع أول خلع كان في الإسلام . والخوف في الآية بمعنى : العلم : قال أبو عبيد : معنى قوله : { ألاّ يخافا } : يوقنا . والحدود قد سبق بيان معناها .
ومعنى الآية : أن المرأة إذا خافت أن تعصي الله في أمر زوجها لبغضها إياه ، وخاف الزوج أن يعتدي عليها لا متناعها عن طاعته؛ جاز له أن يأخذ منها الفدية ، إذا طلبت ذلك . هذا على قراءة الجمهور في فتح «ياء» { يخافا } وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وأبو جعفر ، وحمزة والأعمش { يُخافا } بضم الياء .
قوله تعالى : { فإن خفتم } قال قتادة : هو خطاب للولاة { فلا جناح عليهما } على المرأة { فيما افتدت به } وعلى الزوج فيما أخذ ، لأنه ثمن حقّه . وقال الفراء : يجوز أن يراد الزوج وحده ، وإن كانا قد ذكرا جميعاً ، كقوله تعالى : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } [ الرحمن : 22 ] . و إنما يخرج من أحدهما . وقوله : { نسيا حوتهما } [ الكهف : 61 ] وإنما نسي أحدهما .
فصل
وهل يجوز له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها؟ فيه قولان . أحدهما : يجوز ، وبه قال عمر بن الخطاب ، وعثمان ، وعلي ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والنخعي ، والضحاك ، ومالك ، والشافعي . والثاني : لا يجوز ، وبه قال سعيد بن المسيب ، وعطاء ، والشعبي ، وطاووس ، وابن جبير ، والزهري ، وأحمد بن حنبل ، وقد نقل عن عليّ ، والحسن أيضاً . وهل يجوز الخلع دون السلطان؟ قال عمر ، وعثمان ، وعليّ ، وابن عمر ، وطاووس ، وشريح ، والزهري : يجوز ، وهو قول جمهور العلماء . وقال الحسن ، وابن سيرين ، وقتادة : لا يجوز إلا عند السلطان .

فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

قوله تعالى : { فان طلقها فلا تحلُّ له من بعدُ حتى تنكح زَوجاً غيرَهُ } ذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت في تميمة بنت وهب بن عتيك النضيري ، وقي زوجها رفاعة بن عبد الرحمن القرظي . وقال غير مقاتل : " إنها عائشة بن عبد الرحمن بن عتيك ، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك وهو ابن عمها ، فطلقها ثلاثاً ، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، ثم طلقها ، فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إني كنت عند رفاعة ، فطلقني ، فأبتَّ طلاقي ، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، وإنه طلقني قبل أن يمسني ، أفأرجع إلى ابن عمي؟ فتبسم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وقال «أتريدين : أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» " قوله تعالى : { فان طلقها } يعني : الزوج المطلق مرتين . قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : هي الطلقة الثالثة . واعلم أن الله تعالى عاد بهذه الآية بعد الكلام في حكم الخلع إلى تمام الكلام في الطلاق .
قوله تعالى : { فان طلقها } يعني : الثاني { فلا جناح عليهما } يعني : المرأة ، والزوج الأول { إن ظنّا أن يقيما حدود الله } قال طاووس : ما فرض الله على كل واحد منهما من حسن العشرة والصحبة .
قوله تعالى : { وتلك حدود الله يبيّنها } قراءة الجمهور { يبينها } بالياء . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، والمفضل عن عاصم بالنون { لقوم يعلمون } قال الزجاج : يعلمون أن أمر الله حق .

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)

قوله تعالى : { وإِذا طلقتم النساء فبلغن أجلَهن } قال ابن عباس : كان الرجل يطلق امرأته ، ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ، ثم يطلقها [ يفعل ذلك ] ، يضارّها ويعضلها بذلك ، فنزلت هذه الآية . والأجل هاهنا : زمان العدة . ومعنى البلوغ هاهنا : مقاربة الأجل دون حقيقة الانتهاء إليه ، يقال : بلغت المدينة : إذا قاربتها ، وبلغتها : إذا دخلتها . وإنما حمل العلماء هذا البلوغ على المقاربة ، لأنه ليس بعد انقضاء العدة رجعة .
قوله تعالى : { فأمسكوهنَّ بمعروف } قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة : المراد به الرجعة قبل انقضاء العدة .
قوله تعالى : { وسرحوهنّ بمعروفٍ } وهو تركها حتى تنقضي عدتها . والمعروف في الإمساك : القيام بما يجب لها من حق . والمعروف في التسريح : أن لا يقصد إضرارها ، بأن يطيل عدتها بالمراجعة ، وهو معنى قوله : { ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا } قاله الحسن ومجاهد ، وقتادة في آخرين . وقال الضحاك : إنما كانوا يضارّون المرأة لتفتدي { ومن يفعل ذلك } الاعتداء ، { فقد ظلم نفسه } بارتكاب الإثم .
قوله تعالى : { ولا تتخذوا آيات الله هزواً } فيه قولان . أحدهما : أنه الرجل يطلق أو يراجع ، أو يعتق ، ويقول : كنت لاعباً . روي عن عمر ، وأبي الدرداء ، والحسن . والثاني : أنه المضار بزوجته في تطويل عدتها بالمراجعة والطلاق . قاله مسروق ، ومقاتل . { واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به } قال ابن عباس : احفظوا منته عليكم بالإسلام . قال : والكتاب : القرآن . والحكمة : الفقه . { واتقوا الله } في الضرار { واعلموا أن الله بكل شيء } به وبغيره { عليم }

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

قوله تعالى : { وإِذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنَّ فلا تعضُلوهن } في سبب نزولها قولان . أحدهما : ما روى الحسن أن معقل بن يسار زوج أخته من رجل من المسلمين ، فكانت عنده ما كانت ، فطلقها تطليقة [ ثم تركها ] ومضت العدة ، فكانت أحق بنفسها ، فخطبها مع الخطاب ، فرضيت أن ترجع إليه ، فخطبها إلى معقل ، فغضب معقل ، وقال : أكرمتك بها ، فطلقتها؟ لا والله! لا ترجع إليك آخر ما عليك . قال الحسن : فعلم الله ، عز وجل ، حاجة الرجل إلى امرأته ، وحاجة المرأة إلى بعلها . فنزلت هذه الآية ، فسمعها معقل ، فقال : سمعاً لربي ، وطاعة ، فدعا زوجها ، فقال : أزوجك ، وأكرمك . ذكر عبد الغني الحافظ عن الكلبي أنه سمى هذه المرأة ، فقال : جميلة بنت يسار . والثاني : أن جابر بن عبد الله الأنصاري كانت له ابنة عم ، فطلقها زوجها تطليقة ، فانقضت عدتها ثم رجع يريد رجعتها ، فأبى جابر ، وقال : طلقت ابنة عمنا ، ثم تريد أن تنكحها الثانية؟! وكانت المرأة تريد زوجها ، قد راضته ، فنزلت هذه الآية ، قال السدي :
فأما بلوغ الأجل في هذه الآية ، فهو انقضاء العدة ، بخلاف التي قبلها ، قال الشافعي رضي الله عنه ، دل اختلاف الكلامين على افتراق البلوغين .
قوله تعالى : { فلا تعضُلوهن } خطاب للأولياء . قال ابن عباس ، وابن جبير ، وابن قتيبة في آخرين . معناه : لا تحبسوهن . والعرب تقول للشدائد : معضلات . وداءٌ عضال : قد أعيا قال أوس بن حجر :
وليس أخوك الدائم العهد بالذي ... يذمّك إن ولّى ويرضيك مقبلا
ولكنه النائي إذا كنت آمناً ... وصاحبك الأدنى إِذا الأمر أعضلا
وقالت ليلى الأخيلية :
إذا نزل الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلامٌ إذا هزَّ القناة سقاها
قال الزجاج : وأصل العضل ، من قولهم : عضلت الدجاجة ، فهي مُعضِل : إذا احتبس بيضها ونشب فلم يخرج ، وعضلت الناقة أيضاً : إذا احتبس ولدها في بطنها .
قوله تعالى : { إِذا تراضوا بينهم بالمعروف } قال السدي ، وابن قتيبة : معناه : إذا تراضى الزوجان بالنكاح الصحيح . قال الشافعي : وهذه الآية أبين آية في أنه ليس للمرأة أن تتزوج إلا بولي .
قوله تعالى : { ذلك يوعظ به } قال مقاتل : الإشارة إلى نهي الولي عن المنع . قال الزجاج : إنما قال «ذلك» ، ولم يقل : «ذلكم» وهو يخاطب جماعة ، لأن لفظ الجماعة لفظ الواحد ، والمعنى : ذلك أيها القبيل .
قوله تعالى : { ذلكم أزكى لكم } يعني ردّ النساء إلى أزواجهن ، أفضل من التفرقة بينهم و { وأطهر } أي : أنقى لقلوبكم من الريبة لئلا يكون هناك نوع محبة ، فيجتمعان على غير وجه صلاح .
قوله تعالى : { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } فيه قولان . أحدهما : أن معناه : يعلم ودّ كل واحد منهما لصاحبه ، قاله ابن عباس ، والضحاك . والثاني : يعلم مصالحكم عاجلاً وآجلاً ، قاله الزجاج في آخرين .

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

قوله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن } لفظه لفظ الخبر ، ومعناه الأمر ، كقوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] وقال القاضي أبو يعلى : وهذا الأمر انصرف إلى الآباء ، لأن عليهم الاسترضاع ، لا إلى الوالدات ، بدليل قوله تعالى : { وعلى المولود له رزقهن } وقوله تعالى : { فآتوهن أجورهن } [ النساء : 24 ] فلو كان متحتماً على الوالدة ، لم تستحق الأجرة ، وهل هذا عام في جميع الوالدات ، فيه قولان . أحدهما : أنه خاص في المطلقات ، قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل في آخرين . والثاني : أنه عام في الزوجات والمطلقات ، ولهذا نقول : لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها ، سواء كانت مع الزوج ، أو مطلقة ، قاله القاضي أبو يعلى ، وأبو سليمان الدمشقي في آخرين . والحول : السنة ، وفي قوله : { كاملين } قولان . أحدهما : أنه دخل للتوكيد ، كقوله تعالى : { تلك عشرة كاملة } [ البقرة : 196 ] . والثاني : أنه لما جاز أن يقول : «حولين» ، ويريد أقل منهما ، كما قال : { فمن تعجَّل في يومين فلا إِثم عليه } [ البقرة : 203 ] . ومعلوم أنه يتعجل في يوم ، وبعض آخر . وتقول العرب : لم أر فلاناً منذ يومين ، وإنما يريدون : يوماً وبعض آخر -قال : كاملين لتبيين أنه لا يجوز أن يُنقص منهما ، وهذا قول الزجاج ، والفراء .
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية ، فقال بعضهم : هو محكم ، والمقصود منه بيان مدة الرضاع ، ويتعلق به أحكام ، منها أنه كمال الرضاع ، ومنها أنه يلزم الأب نفقة الرضاع مدّة الحولين ، ويجبره الحاكم على ذلك ، ومنها أنه يثبت تحريم الرضاع في مدَّة الحولين ، ولا يثبت فيما زاد ، ونقل عن قتادة ، والربيع بن أنس في آخرين أنه منسوخ بقوله تعالى : { فان أَرادا فصالاً عن تراضٍ منهما } قال شيخنا عليّ بن عبيد الله : وهذا قول بعيد ، لأن الله تعالى قال في أولها : { لمن أراد أن يُتمّ الرضاعة } فلما قال في الثاني : { فإن أرادا فصالاً عن تراضٍ منهما } خيّر بين الإرادتين ، وذلك لا يعارض المدة المقدرة في التمام .
قوله تعالى : { لمن أراد أن يتم الرضاعة } أي : هذا التقدير بالحولين لمريدي إتمام الرضاعة . وقرأ مجاهد بتاءين «أن تتم الرضاعةُ» وبالرفع ، وهي رواية الحلبي عن عبد الوارث . وقد نبّه ذكر التمام على نفي حكم الرضاع بعد الحولين ، وأكثر القراء على فتح راء «الرضاعة» ، وقرأ طلحة بن مُصرِّف ، وابن أبي عبلة ، وأبو رجاء ، بكسرها ، قال الزجاج : يقال : الرضاعة بفتح الراء وكسرها ، والفتح أكثر ، ويقال : ما حمله على ذلك إلا اللؤم والرضاعة بالفتح هاهنا لا غير .
قوله تعالى : { وعلى المولود له } يعني : الأب { رزقُهنَّ وكسوتُهنَّ } يعني : { المرضعات } . وفي قوله : { بالمعروف } دلالة على أن الواجب على قدر حال الرجل في إعساره ويساره ، إذ ليس من المعروف إلزام المعسر مالا يطيقه ، ولا الموسر النزر الطفيف .

وفي الآية دليل على تسويغ اجتهاد الرأي في أحكام الحوادث ، إذ لا يتوصل إلى تقدير النفقة بالمعروف إلا من جهة غالب الظن ، إذ هو معتبر بالعادة .
قوله تعالى : { لا تكلَّف نفس إِلا وسعها } أي : إلا ما تطيقه . { لا تُضارَّ والدةٌ بولدها } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبان عن عاصم { لا تضارُّ } برفع الراء ، وقرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي بنصبها ، قال أبو عليّ : من رفع ، فلأجل المرفوع قبله ، وهو «لا تكلفُ» فأتبعه بما قبله ليقع تشابه اللفظ ، ومن نَصب جعله أمراً ، وفتح الراء لتكون حركته موافقة لما قبلها وهو الألف ، قال ابن قتيبة : معناه : لا تضارر ، فأدغمت الراء في الراء . وقال سعيد بن جبير : لا يحملنّ المطلقة مضارة الزوج أن تلقي إليه ولده . وقال مجاهد : لا تأبى أن ترضعه ضراراً بأبيه ، ولا يضارّ الوالد بولده ، فيمنع أمه أن ترضعه ، ليحزنها بذلك . وقال عطاء ، وقتادة ، والزهري ، وسفيان ، والسدي في آخرين . إذا رضيت بما يرضى به غيرها ، فهي أحق به ، وقرأ أبو جعفر «لا تضار» بتخفيفها وإسكانها .
قوله تعالى : { وعلى الوارث } فيه أربعة أقوال . أحدها : أنه وارث المولود ، وهو قول عطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وابن أبي ليلى ، وقتادة ، والسدي ، والحسن بن صالح ، ومقاتل في آخرين . واختلف أرباب هذا القول ، فقال بعضهم : هو وارث المولود من عصبته ، كائناً من كان ، وهذا مروي عن عمر ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وإبراهيم وسفيان . وقال بعضهم : هو وارث المولود على الإطلاق من الرجال والنساء ، روي عن ابن أبي ليلى ، وقتادة ، والحسن بن صالح ، وإسحاق ، وأحمد بن حنبل . وقال آخرون : هو من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود ، روي عن أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد . والقول الثاني : أن المراد بالوارث هاهنا ، وارث الوالد ، روي عن الحسن والسدي . والثالث : أن المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر ، روي عن سفيان . والرابع : أنه أريد بالوارث الصبي نفسه ، والنفقة عليه ، فإن لم يملك شيئاً ، فعلى عصبته ، قاله الضحاك ، وقبيصة بن ذؤيب . قال شيخنا عليّ بن عبيد الله : وهذا القول لا ينافي قول من قال : المراد بالوارث وارث الصبي ، لأن النفقة تجب للموروث على الوارث إذا ثبت إعسار المنفق عليه . وفي قوله تعالى : { مثل ذلك } ثلاثة أقوال . أحدها : أنه الإشارة إلى أجرة الرضاع والنفقة ، روي عن عمر ، وزيد بن ثابت ، والحسن ، وعطاء ، ومجاهد ، وابراهيم ، وقتادة ، وقبيصة بن ذؤيب ، والسدي . واختاره ابن قتيبة . والثاني : أن الإشارة بذلك إلى النهي عن الضرار ، روي عن ابن عباس ، والشعبي ، والزهري . واختاره الزجاج . والثالث : أنه إشارة إلى جميع ذلك ، روي عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، ومقاتل ، وأبي سليمان الدمشقي ، واختاره القاضي أبو يعلى . ويشهد لهذا أنه معطوف على ما قبله ، وقد ثبت أن على المولود له النفقة والكسوة ، وأن لا يضار ، فيجب أن يكون قوله : { مثل ذلك } .

مشيراً إلى جميع ما على المولود له .
قوله تعالى : { فان أرادا فصالاً عن تراضٍ } الفصال : الفطام . قال ابن قتيبة : يقال : فصلت الصبيَّ أمّه : إذا فطمته . ومنه قيل للحوار إذا قُطع عن الرضاع : فصيل ، لأنه فصل عن أمه ، وأصل الفصل : التفريق . قال مجاهد : التشاور فيما دون الحولين إن أرادت أن تفطم وأبى ، فليس لها ، وإن أراد هو ، ولم ترد ، فليس له ذلك حتى يقع ذلك عن تراض منهما وتشاور ، يقول : غير مسيئين إلى أنفسهما وإلى صبيهما .
قوله تعالى : { وإِن أردتم أن تسترضعوا أولادكم } قال الزجاج : أي : لأولادكم . قال مقاتل : إِذا لم ترض الأم بما يرضى به غيرها ، فلا حرج على الأب أن يسترضع لولده .
وفي قوله تعالى : { إِذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف } قولان . أحدهما : إذا سلَّمتم أيها الآباء إِلى أمهات الأولاد أُجور ما أرضعن قبل امتناعهن ، قاله مجاهد ، والسدي . والثاني : إذا سلمتم إلى الظئر أجرها بالمعروف ، قاله سعيد بن جبير ، ومقاتل . وقرأ ابن كثير { ما أتيتم } بالقصر ، قال أبو علي : وجهه أن يقدر فيه : ما أتيتم نقده أو سوقه ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه [ فكأن التقدير : ما آتيتموه ، ثم حذف الضمير من الصلة ] كما تقول : أتيت جميلاً ، أي : فعلته .

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)

قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم } أي : يقبضون بالموت . وقرأ المفضَّل عن عاصم «يَتوفون» بفتح الياء في الموضعين . قال ابن قتيبة : هو من استيفاء العدد ، واستيفاء الشيء : أن نستقصيه كله ، يقال : توفيته واستوفيته ، كما يقاله : تيقّنت الخير واستيقنته ، هذا الأصل ، ثم قيل للموت : وفاة وَتَوَفٍّ { ويتربصن } ينتظرن وقال الفراء : وإنما قال : { وعشراً } ولم يقل : عشرة ، لأن العرب إذا أبهمت العدد من الليالي والأيام ، غلبوا عليه الليالي ، حتى إنهم ليقولون : صمنا عشراً من شهر رمضان ، لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام ، فاذا أظهروا مع العدد تفسيره ، كانت الإناث بغير هاء ، والذكور بالهاء كقوله تعالى : { سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً } [ الحاقة : 7 ] . فان قيل : ما وجه الحكمة في زيادة هذه العشرة؟ فالجواب : أنه يبين صحة الحمل بنفخ الروح فيه ، قاله سعيد بن المسيب ، وأبو العالية ، ويشهد له الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إِن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً [ نطفة ] ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الروح " . فصل
وهذه الآية ناسخة للتي تشابهها ، وهي تأتي بعد آيات ، وهي قوله : { والذين يُتوفَّون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إِلى الحول } [ البقرة : 240 ] لأن تلك كانت تقتضي وجوب العدة سنة ، وسنذكر ما يتعلق بها هنالك ، إن شاء الله . فأما التي نحن في تفسيرها : فقد روي عن ابن عباس أنه قال : نسختها { وأُولات الأحمال أجلُهنَّ أن يضعن حمْلَهن } [ الطلاق : 4 ] والصحيح : أنها عامة دخلها التخصيص ، لأن ظاهرها يقتضي وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً ، سواء كانت حاملاً ، أو غير حامل ، غير أن قوله تعالى : { وأُولات الأحمال أجلُهنَّ أَن يضعن حملهنَّ } خص أُولات الحمل ، وهي خاصة أيضاً في الحرائر ، فإن الأمة عدتها شهران وخمسة أيام ، فبان أنها من العام الذي دخله التخصيص .
قوله تعالى : { فإذا بلغن أجلَهن } يعني : انقضاء العدة .

وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

قوله تعالى : { ولا جناح عليكم } فيه قولان . أحدهما : أن معناه : فلا جناح على الرجال في تزويجهن بعد ذلك . والثاني : فلا جناح على الرجال في ترك الإنكار عليهن إذا تزينَّ وتزوجن ، قال أبو سليمان الدمشقي : وهو خطاب لأوليائهن .
قوله تعالى : { فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف } فيه قولان . أحدهما : أنه التزين والتشوف للنكاح ، قاله الضحاك ، ومقاتل ، والثاني : أنه النكاح ، قاله الزهري ، والسدي ، و «الخبير» من أسماء الله تعالى ، ومعناه : العالِم بكنه الشيء ، المطلع على حقيقته ، و «الخبير» في صفة المخلوقين ، إنما يستعمل في نوع من العلم ، وهو الذي يتوصل إليه بالاجتهاد دون النوع المعلوم ببدائه العقول . وعلم الله تعالى سواء ، فيما غمض ولطف ، وفيما تجلى وظهر .
قوله تعالى : { ولا جُناح عليكم فيما عرَّضتم به من خِطبة النساء } هذا خطاب لمن أراد تزويج معتدة . والتعريض : الإيماء والتلويح من غير كشف ، فهو إشارة بالكلام إلى ما ليس له في الكلام ذكر . والخِطبة بكسر الخاء : طلب النكاح ، والخُطبة بضم الخاء : مثل الرسالة التي لها أول وآخر . قال ابن عباس : التعريض أن يقول : إني أريد أن أتزوج . وقال مجاهد : أن يقول : إنكِ لجميلة ، وإِنك لحسنة ، وإنك لإلى خير .
قوله تعالى : { أو أكننتم في أنفسكم } قال الفراء : فيه لغتان ، كننت الشيء ، وأكننته وقال ثعلب : أكننت الشيء : إذا أخفيته في نفسك ، وكننته : إذا سترته بشيء . وقال ابن قتيبة : أكننت الشيء : إذا سترته ، ومنه هذه الآية ، وكننته : إذا صنته ، ومنه قوله تعالى : { كأنهن بَيْض مكنون } [ الصافات : 49 ] . قال بعضهم : يجعل كننته ، وأكننته ، بمعنى .
قوله تعالى : { علم الله أنكم ستذكرونهن } قال مجاهد : ذكره إياها في نفسه .
قوله تعالى : { ولكن لا تواعدوهن سراً } فيه أربعة أقوال . أحدها : أن المراد بالسر هاهنا : النكاح ، قاله ابن عباس . وأنشد بيت امرئ القيس :
ألا زعمت بسباسةُ اليوم أنني ... كبرتُ وأن لا يشهد السر أمثالي
وفي رواية : يشهد اللهو . قال الفراء : ونرى أنه مما كنى الله عنه ، كقوله تعالى : { أو جاء أحدٌ منكم من الغائط } [ النساء : 43 ] . وذكر الزجاج عن أبي عبيدة أن السر : الإفضاء بالنكاح [ المحرم ] وأنشد :
ويَحْرمُ سِرُّ جارتهم عليهم ... ويأكل جارُهم أنفَ القصاع
قال ابن قتيبة : استعير السرّ للنكاح ، لأن النكاح يكون سراً ، فالمعنى : لا تواعدوهن بالتزويج ، [ وهن في العدة ] تصريحاً { إِلا أن تقولوا قولاً معروفاً } لا تذكرون فيه رفثاً ولا نكاحاً . والثاني : أن المواعدة سراً : أن يقول لها : إني لك محب ، وعاهديني أن لا تتزوجي غيري ، روي عن ابن عباس أيضاً . والثالث : أن المراد بالسر الزنى . قاله الحسن ، وجابر بن زيد ، وأبو مجلز ، وإبراهيم ، وقتادة ، والضحاك . والرابع : أن المعنى : لا تنكحوهن في عدتهن سراً ، فاذا حلَّت أظهرتم ذلك ، قاله ابن زيد .

وفي القول المعروف قولان . أحدهما : أنه التعريض لها ، وهو قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والقاسم بن محمد ، والشعبي ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وقتادة ، والسدي والثاني : أنه إعلام وليها برغبته فيها ، وهو قول عبيدة .
قوله تعالى : { و لا تَعزموا عُقدة النكاح } قال الزجاج : معناه : لا تعزموا على عقدة النكاح ، وحذفت «على» استخفافاً ، كما قالوا : ضرب زيد الظَّهر والبطن ، معناه : على الظهر والبطن { حتى يبلغ الكتاب أجله } أي حتى يبلغ فرض الكتاب أجله . قال : ويجوز أن يكون «الكتاب» بمعنى «الفرض» كقوله تعالى : { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] . فيكون المعنى : حتى يبلغ الفرض أجله . قال ابن عباس ، ومجاهد ، والشعبي ، وقتادة ، والسدي : بلوغ الكتاب أجله : انقضاء العدة .
قوله تعالى : { واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم } قال ابن عباس : من الوفاء ، فاحذروه أن تخالفوه في أمره . والحليم قد سبق بيانه .

لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)

قوله تعالى : { لا جناح عليكم إِن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وأبو عمرو «تمسوهن» بغير الف حيث كان ، وبفتح التاء . وقرأ حمزة والكسائي ، وخلف «تماسُّوهن» بألف وضم التاء في الموضعين هنا وفي الأحزاب ثالث . قال أبو علي : وقد يراد بكل واحد من «فاعل» و«فعل» ما يراد بالآخر ، تقول : طارقت النعل ، وعاقبت اللص . " قال مقاتل بن سليمان : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ، ولم يسم لها مهراً ، فطلقها قبل أن يمسها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم «هل متعتها بشيء؟» قال : لا . قال : «متعها ولو بقلنسوتك " ومعنى الآية : ما لم تمسوهن ، ولم تفرضوا لهن فريضة . وقد تكون «أو» بمعنى الواو . كقوله تعالى : { ولا تطع منهم آثماً أو كفورا } [ الدهر : 24 ] .
والمسُّ : النكاح ، والفريضة : الصداق ، وقد دلت الآية على جواز عقد النكاح بغير تسمة مهر { ومتعوهن } أي : أعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم على قدر أحوالكم في الغنى والفقر . والمتاع : اسم لما ينتفع به ، فذلك معنى قوله تعالى : { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، «قدْره» باسكان الدال في الحرفين ، وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بتحريك الحرفين ، وعن عاصم : كالقراءتين ، وهما لغتان .
فصل
وهل هذه المتعة واجبة ، أم مستحبة؟ فيه قولان . أحدهما : واجبة ، واختلف أرباب هذا القول ، لأي المطلقات تجب . على ثلاثة أقوال . أحدها : أنها واجبة لكل مطلقة ، روي عن علي ، والحسن ، وأبي العالية ، والزهري . والثاني : أنها تجب لكل مطلقة إلا المطلقة التي فرض لها صداقاً ، ولم يمسها ، فإنه يجب لها نصف ما فرض ، روي عن ابن عمر ، والقاسم بن محمد ، وشريح ، وإبراهيم . والثالث : أنها تجب للمطلقة قبل الدخول إذا لم يسم لها مهراً . فان دخل بها ، فلا متعة ، ولها مهر المثل ، روي عن الأوزاعي ، والثوري ، وأبي حنيفة ، وأحمد بن حنبل . والثاني : أن المتعة مستحبة ، ولا تجب على أحد ، سواء سمى للمرأة ، أو لم يسم ، دخل بها ، أو لم يدخل ، وهو قول مالك ، والليث بن سعد ، والحكم ، وابن أبي ليلى . واختلف العلماء في مقدار المتعة ، فنقل عن ابن عباس ، وسعيد بن المسيب : أعلاها خادم ، وأدناها كسوة يجوز لها أن تصلي فيها ، وروي عن حماد وأبي حنيفة : أنه قدر نصف صداق مثلها . وعن الشافعي وأحمد : أنه قدر يساره وإعساره ، فيكون مقدراً باجتهاد الحاكم . ونقل عن أحمد : المتعة بقدر ما تجزئ فيه الصلاة من الكسوة ، وهو درع وخمار .
قوله تعالى : { متاعاً بالمعروف } أي : بقدر الإمكان ، والحق : الواجب . وذكر المحسنين والمنفقين ضرب من التأكيد .

وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

قوله تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } أي : قبل الجماع { وقد فرضتم لهن } أي : أوجبتم لهن شيئاً التزمتم به ، وهو المهر { إلا أن يعفون } يعني : النساء ، وعفو المرأة : ترك حقها من الصداق الوفي : الذي بيده عقدة النكاح ثلاثة أقوال . أحدها : أنه الزوج ، وهو قول عليّ ، وابن عباس ، وجبير ابن مطعم ، وابن المسيب ، وابن جبير ، ومجاهد ، وشريح ، وجابر بن زيد ، والضحاك ، ومحمد بن كعب القرظي ، والربيع بن أنس ، وابن شبرمة ، والشافعي ، وأحمد رضي الله عنهم في آخرين . والثاني : أنه الولي ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، وعلقمة ، وطاووس ، والشعبي ، وابراهيم في آخرين . والثالث : أنه أبو البكر . روي عن ابن عباس ، والزهري ، والسدي في آخرين . فعلى القول الأول عفو الزوج : أن يكمل لها الصداق ، وعلى الثاني : عفو الولي : ترك حقها إذا أبت ، روي عن ابن عباس ، وأبي الشعثاء ، وعلى الثالث يكون قوله : { إلا أن يعفون } يختص بالثيبات . وقوله : { أو يعفوَ } يختص أبا البكر ، قاله الزهري . ، والأول أصح ، لأن عقدة النكاح خرجت من يد الولي ، فصارت بيد الزوج ، والعفو إنما يُطلق على ملك الإِنسان ، وعفو الولي عفو عما لا يملك ، ولأنه قال : { ولا تنسَوا الفضل بينكم } والفضل فيه هبة الإنسان مال نفسه ، لا مال غيره .
قوله تعالى : { وأن تعفوا أقرب للتقوى } فيه قولان . أحدهما : أنه خطاب للزوجين جميعاً ، روي عن ابن عباس ، ومقاتل ، والثاني : أنه خطاب للزوج وحده ، قاله الشعبي ، وكان يقرأ : «وأن يعفو» بالياء .
قوله تعالى : { ولا تنسوا الفضل بينكم } خطاب للزوجين ، قال مجاهد : هو إتمام الرجل الصداق ، وترك المرأة شطرها .

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)

قوله تعالى : { حافظوا على الصلوات } المحافظة : المواظبة والمداومة ، والصلوات بالألف واللام ينصرف إلى المعهود ، والمراد : الصلوات الخمس .
قوله تعالى : { والصلاة الوسطى } قال الزجاج : هذه الواو إذا جاءت مخصصة ، فهي دالة على فضل الذي تخصصه ، كقوله تعالى : { وجبريل وميكال } [ البقرة : 97 ] قال سعيد بن المسيب : كان أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، في الصلاة الوسطى هكذا ، وشبك بين أصابعه . ثم فيها خمسة أقوال . أحدها : أنها العصر ، روى مسلم في «أفراده» من حديث عليّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال يوم الأحزاب : " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً " وروى ابن مسعود ، وسمرة ، وعائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنها صلاة العصر . وروى مسلم في «أفراده» من حديث البراء بن عازب قال : نزلت هذه الآية { حافظوا على الصلوات [ والصلاة الوسطى ] وصلاة العصر } فقرأناها ما شاء الله ، ثم نسخها الله ، فنزلت : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وابن مسعود ، وأبيّ أيوب ، وابن عمر في رواية ، وسمرة بن جندب ، وأبي هريرة ، وابن عباس ، في رواية عطية ، وأبي سعيد الخدري ، وعائشة في رواية ، وحفصة ، والحسن ، وسعيد ابن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وعطاء في رواية ، وطاووس ، والضحاك ، والنخعي ، وعبيد بن عمير ، وزرّ بن حبيش ، وقتادة ، وأبي حنيفة ، ومقاتل في آخرين ، وهو مذهب أصحابنا .
والثاني : أنها الفجر ، روي عن عمر ، وعليّ في رواية ، وأبي موسى ، ومعاذ ، وجابر بن عبد الله ، وأبي أُمامة ، وابن عمر في رواية مجاهد ، وزيد بن أسلم ، وابن عباس في رواية أبي رجاء العطاردي ، وعكرمة ، وجابر بن زيد ، وأنس بن مالك ، وعطاء ، وعكرمة ، وطاووس في رواية ابنه ، وعبد الله بن شداد ، ومجاهد ، ومالك ، والشافعي . وروى أبو العالية قال : صليت مع أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ؛ الغداة فقلت لهم : أيما الصلاة الوسطى؟ فقالوا : التي صليت قبل . والثالث : أنها الظهر ، روي عن ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وأسامة بن زيد ، وأبي سعيد الخدري ، وعائشة في رواية ، وروى ضميرة عن عليّ رضي الله عنه قال : هي صلاة الجمعة ، وهي سائر الأيام الظهر . والرابع : أنها المغرب ، روي عن ابن عباس ، وقبيصة بن ذؤيب . والخامس : أنها العشاء الأخيرة ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري في «تفسيره» . وفي المراد بالوسطى ثلاثة أقوال . أحدها : أنها أوسط الصلوات محلاً . والثاني : أوسطها مقداراً . والثالث : أفضلها . ووسط الشيء : خيره وأعدله ، ومنه قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 142 ] فان قلنا : إن الوسطى بمعنى : الفضلى ، جاز أن يدّعي هذا كل ذي مذهب فيها . وإن قلنا : إنها أوسطها مقداراً ، فهي المغرب ، لأن أقل المفروضات ركعتان ، وأكثرها أربعاً .

وإن قلنا : إنها أوسطها محلاً ، فللقائلين : إنها العصر أن يقولوا : قبلها صلاتان في النهار ، وبعدها صلاتان في الليل ، فهي الوسطى . ومن قال : هي الفجر ، فقال عكرمة : هي وسط بين الليل والنهار ، وكذلك قال ابن الأنباري : هي وسط بين الليل والنهار ، وقال : وسمعت أبا العباس يعني ، ثعلباً يقول : النهار عند العرب أوله : طلوع الشمس . قال ابن الأنباري : فعلى هذا صلاة الصبح من صلاة الليل ، قال : وقال آخرون : بل هي من صلاة النهار ، لأن أول وقتها أول وقت الصوم . قال : والصواب عندنا أن نقول : الليل المحض خاتمته طلوع الفجر ، والنهار المحض أوله : طلوع الشمس ، والذي بين طلوع الفجر ، وطلوع الشمس يجوز أن يسمى نهاراً ، ويجوز أن يسمى ليلاً ، لما يوجد فيه من الظلمة والضوء ، فهذا قول يصح به المذهبان . قال ابن الأنباري : ومن قال : هي الظهر ، قال : هي وسط النهار . فأما من قال : هي المغرب ، فاحتج بأن أول صلاة فرضت ، الظهر ، فصارت المغرب وسطى ، ومن قال : هي العشاء ، فإنه قال : هي بين صلاتين لا تقصران .
قوله تعالى : { وقوموا لله قانتين } المراد بالقيام هاهنا : القيام في الصلاة ، فأما القنوت ، فقد شرحناه فيما تقدم . وفي المراد به هاهنا ثلاثة أقوال . أحدها : أنه الطاعة ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وابن جبير ، والشعبي ، وطاووس ، والضحاك ، وقتادة في آخرين .
والثاني : أنه طول القيام في الصلاة ، روي عن ابن عمر ، والربيع بن أنس . وعن عطاء كالقولين . والثالث : أنه الإمساك عن الكلام في الصلاة . قال زيد بن أرقم : كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت الآية { وقوموا لله قانتين } فأمرنا بالسكوت [ ونهينا عن الكلام ] .

فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)

قوله تعالى : { فان خفتم فرجالا } أي : خفتم عدواً ، فصلوا رجالاً ، وهو جمع راجل ، والركبان جمع راكب ، وهذا يدل على تأكيد أمر الصلاة ، لأنه أمر بفعلها على كل حال . وقيل : إن هذه الآية أنزلت بعد التي في سورة النساء ، لأن الله تعالى وصف لهم صلاة الخوف في قوله : { وإِذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } [ النساء : 102 ] . ثم نزلت هذه الآية : { فإن خفتم } أي : خوفاً أشد من ذلك ، فصلوا عند المسايفة كيف قدرتم . فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية ، وبين ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى يوم الخندق الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء بعد ما غاب الشفق؟ فالجواب : أن أبا سعيد روى أن ذلك كان قبل نزول قوله تعالى : { فان خفتم فرجالاً أو ركباناً } قال أبو بكر الأثرم : فقد بين الله أن ذلك الفعل الذي كان يوم الخندق منسوخ .
قوله تعالى : { فاذا أمنتم فاذكروا الله } في هذا الذكر قولان . أحدهما : أنه الصلاة ، فتقديره : فصلوا كما كنتم تصلون آمنين . والثاني : أنه الثناء على الله ، والحمد له .

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)

قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً } روى ابن حيان أن هذه الآية نزلت في رجل من أهل الطائف ، يقال له : حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة ، ومعه أبواه وامرأته ، وله أولاد ، فمات فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم ، أبويه وأولاده من ميراثه ، ولم يعط امرأته شيئا ، غير أنه أمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً .
قوله تعالى : { وصية لأزواجهم } قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، وابن عامر «وصية» بالنصب ، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، والكسائي ، «وصية» بالرفع . وعن عاصم كالقراءتين . قال أبو عليّ : من نصب حَمَلَهُ على الفعل ، أي : ليوصوا وصية ، ومن رفع ، فمن وجهين .
أحدهما : أن يجعل الوصية مبتدأ ، والخبر لأزواجهم . والثاني : أن يضمر له خبراً ، تقديره : فعليهم وصية . والمراد منه قارب الوفاة ، فليوص ، لأن المتوفى لا يؤمر ولا ينهى .
قوله تعالى : { متاعاً إلى الحول } أي : متعوهن إلى الحول ، ولا تخرجوهن . والمراد بذلك نفقة السنة وكسوتها وسكناها { فان خرجن } أي : من قبل أنفسهن { فلا جناح عليكم } يعني : أولياء الميت { فيما فعلن في أنفسهن من معروف } يعني التشوف إلى النكاح . وفي ماذا رفع الجناح عن الرجال؟ فيه قولان . أحدهما : أنه في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول . والثاني : في ترك منعهن من الخروج ، لأنه لم يكن مقامُها الحولَ واجباً عليها ، بل كانت مخيّرة في ذلك .
فصل
ذكر علماء التفسير أن أهل الجاهلية كانوا إذا مات أحدهم ، مكثت زوجته في بيته حولاً ، ينفق عليها من ميراثه ، فاذا تم الحول ، خرجت إلى باب بيتها ، ومعها بعرة ، فرمت بها كلباً ، وخرجت بذلك من عدتها . وكان معنى رميها بالبعرة أنها تقول : مكثي بعد وفاة زوجي أهون عندي من هذه البعرة . ثم جاء الإسلام ، فأقرهم على ما كانوا عليه من مكث الحول بهذه الآية ، ثم نسخ ذلك بالآية المتقدمة في نظم القرآن على هذه الآية ، وهي قوله تعالى : { والذين يُتوفَّون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } .
ونسخ الأمر بالوصية لها بما فرض لها من ميراثه .

وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)

قوله تعالى : { وللمطلقات متاع بالمعروف } قد سبق الكلام في المتعة بما فيه كفاية .

كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

قوله تعالى : { كذلك يبين الله لكم آياته } أي : كما بيّن الذي تقدم من الأحكام { يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون } أي : يثبت لكم وصف العقلاء باستعمال ما بين لكم ، وثمرة العقل استعمال الأشياء المستقيمة . ألا ترى إلى قوله تعالى : { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة } [ النساء : 17 ] . وإنما سموا جهالاً ، لأنهم آثروا أهواءهم على ما علموا أنه الحق .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)

قوله تعالى : { ألم تر إِلى الذين خرجوا من ديارهم } معناه : ألم تعلم . قال ابن قتيبة : وهذا على جهة التعجب ، كما تقول : ألا ترى إلى ما يصنع فلان؟
قوله تعالى : { وهم ألوف } فيه قولان . أحدهما : أن معناه : وهم مؤتلفون ، قاله ابن زيد . والثاني : أنه من العدد ، وعليه العلماء واختلفوا في عددهم على سبعة أقوال . أحدها : أنهم كانوا أربعة آلاف . والثاني : أربعين ألفاً ، والقولان عن ابن عباس . والثالث : تسعين ألفاً ، قاله عطاء بن أبي رباح ، والرابع : سبعة آلاف ، قاله أبو صالح . والخامس : ثلاثين ألفاً ، قاله أبو مالك . والسادس : بضعة وثلاثين ألفاً ، قاله السدي ، والسابع : ثمانية آلاف ، قاله مقاتل . وفي معنى : حذرهم من الموت ، قولان . أحدهما : أنهم فروا من الطاعون ، وكان قد نزل بهم ، قاله الحسن ، والسدي . والثاني : أنهم أمروا بالجهاد ، ففروا منه ، قاله عكرمة ، والضحاك ، وعن ابن عباس ، كالقولين .
الإشارة الى قصتهم
روى حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف قال : كانت أمَّة من بني إِسرائيل إذا وقع فيهم الوجع ، خرج أغنياؤهم ، وأقام فقراؤهم ، فمات الذين أقاموا ، ونجا الذين خرجوا ، فقال الأشراف : لو أقمنا كما أقام هؤلاء لهلكنا ، وقال الفقراء : لو ظعنا كما ظعن هؤلاء سلمنا ، فأجمع رأيهم في بعض السنين على أن يظعنوا جميعاً ، فظعنوا فماتوا ، وصاروا عظاماً تبرق ، فكنسهم أهل البيوت والطرق عن بيوتهم وطرقهم ، فمر بهم نبي من الأنبياء ، فقال : يا رب لو شئت أحييتهم ، فعبدوك ، وولدوا أولاداً يعبدونك ، ويعمرون بلادك . [ قال : أو أحب إليك أن أفعل؟ قال : نعم ] . فقيل له : تكلم بكذا وكذا ، فتكلم به ، فنظر إلى العظام تخرج من عند العظام التي ليست منها ، إلى التي هي منها ، ثم قيل له : تكلم بكذا وكذا ، فتكلم به ، فنظر إلى العظام تكسى لحماً وعصباً ، ثم قيل له : تكلم بكذا وكذا ، فنظر فاذا هم قعود يسبحون الله ويقدسونه . وأنزل الله فيهم هذه الآية . وهذا الحديث يدل على بعد المدة التي مكثوا فيها أمواتاً . وفي بعض الأحاديث : أنهم بقوا أمواتاً سبعة أيام ، وقيل : ثمانية أيام . وفي النبي الذي دعا لهم قولان . أحدهما : أنه حزقيل . والثاني : أنه شمعون . فإن قيل كيف أُميت هؤلاء مرتين وقد قال الله تعالى : { إِلا الموتة الاولى } [ الدخان : 56 ] . فالجواب أن موتهم بالعقوبة لم يفن أعمارهم ، فكان كقوله تعالى : { والتي لم تمت في منامها } [ الزمر : 42 ] . وقيل كان إحياؤهم آية من آيات نبيهم ، وآيات الأنبياء نوادر لا يقاس عليها ، فيكون تقدير قوله تعالى : { إِلا الموتة الأولى } التي ليست من آيات الأنبياء ، ولا لأمر نادر . وفي هذه القصة احتجاج على اليهود ، إذ أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم ، بأمر لم يشاهدوه ، وهم يعلمون صحته واحتجاج على المنكرين للبعث ، فدلهم عليه بإحياء الموتى في الدنيا ، ذكر ذلك جميعه ابن الأنباري .
قوله تعالى : { إِن الله لذو فضل على الناس } نبه عز وجل بذكر فضله على هؤلاء على فضله على سائر خلقه مع قلة شكرهم .

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)

قوله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله } في المخاطبين بهذا قولان . أحدهما : أنهم الذين أماتهم الله ثم أحياهم ، قاله الضحاك . والثاني : خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فمعناه : لا تهربوا من الموت ، كما هرب هؤلاء ، فما ينفعكم الهرب { واعملوا أن الله سميع } لأقوالكم { عليم } بما تنطوي عليه ضمائركم .

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

قوله تعالى : { من ذا الذي يقرض الله } قال الزجاج : أصل القرض ما يعطيه الرجل أو يفعله ليجازى عليه ، وأصله في اللغة القطع ، ومنه أخذ المقراض . فمعنى أقرضته : قطعت له قطعة يجازيني عليها . فإن قيل : ما وجه تسمية الصدقة قرضاً؟ فالجواب من ثلاثة أوجه . أحدهما : لأن هذا القرض يبدل بالجزاء ، والثاني : لأنه يتأخر قضاؤه إلى يوم القيامة ، والثالث : لتأكيد استحقاق الثواب به ، إذ لا يكون قرض إلا والعوض مستحق به . فأما اليهود فإنهم جهلوا هذا ، فقالوا : أيستقرض الله منا؟ وأما المسلمون فوثقوا بوعد الله ، وبادروا إلى معاملته . قال ابن مسعود : لما نزلت هذه الآية ، قال أبو الدحداح : وإن الله ليريد منا القرض؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : نعم . قال : أرني يدك . قال : إني أقرضت ربي حائطي ، قال : وحائطه فيه ستمائة نخلة ، ثم جاء إلى الحائط ، فقال : يا أم الدحداح اخرجي من الحائط ، فقد أقرضته ربي . وفي بعض الألفاظ : فعمدت إلى صبيانها تخرج ما في أفواههم ، وتنفض ما في أكمامهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح " . وفي معنى القرض الحسن ستة أقوال . أحدها : أنه الخالص لله ، قاله الضحاك ، والثاني : أن يخرج عن طيب نفس ، قاله مقاتل ، والثالث : أن يكون حلالا ، قاله ابن المبارك . والرابع : أن يحتسب عند الله ثوابه ، والخامس : أن لا يتبعه مناً ولا أذى ، والسادس : أن يكون من خيار المال .
قوله تعالى : { فيضاعفَه له } قرأ أبو عمرو فيضاعفه بألف مع رفع الفاء ، كذلك في جميع القرآن ، إلا في سورة الأحزاب { يضعف لها العذاب ضعفين } وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، جميع ذلك بالألف مع رفع الفاء ، وقرأ ابن كثير { فيضعفه } برفع الفاء من غير ألف في جميع القرآن ، وقرأ ابن عامر { فيضعفه } بغير ألف مشددة في جميع القرآن ، ووافقه عاصم على نصب الفاء في «فيضاعفه» إلا أنه أثبت الألف في جميع القرآن . قال أبو علي : للرفع وجهان . أحدهما : أن يعطفه على ما في الصلة ، وهو يقرض ، والثاني : أن يستأنفه ، ومن نصب حمل الكلام على المعنى ، لأن المعنى : أيكون قرض؟ فحمل عليه «فيضاعفه» وقال : ومعنى ضاعف وضعف : واحد ، والمضاعفة : الزيادة على الشيء حتى يصير مثلين أو أكثر . وفي الأضعاف الكثيرة قولان . أحدهما : أنها لا يحصى عددها ، قاله ابن عباس ، والسدي . وروى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة أنه قال : إن الله يكتب للمؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة . وقرأ هذه الآية ، ثم قال : سمعت رسول صلى الله عليه وسلم ، يقول : " إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة " والثاني : أنها معلومة المقدار ، فالدرهم بسبعمائة ، كما ذكر في الآية التي بعدها ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { والله يقبض ويبسط } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، «يبسط» و «بسطة» بالسين ، وقرأهما نافع بالصاد . وفي معنى الكلام قولان . أحدهما : أن معناه : يقتر على من يشاء في الرزق ، ويبسطه على من يشاء ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وابن زيد . والثاني : يقبض يد من يشاء عن الإنفاق في سبيله ، ويبسط يد من يشاء بالإنفاق ، قاله أبو سليمان الدمشقي في آخرين .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

قوله تعالى : { ألم تر إِلى الملأ من بني إِسرائيل } قال الفراء : الملأ : الرجال في كل القرآن لا يكون فيهم امرأة ، وكذلك القوم والنفر والرهط . وقال الزجاج : الملأ : هم الوجوه ، وذوو الرأي ، وإنما سمّوا ملأً ، لأنهم مليؤون بما يحتاج إليه منهم . وفي نبيهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنه شمويل ، قاله ابن عباس ، ووهب . والثاني : أنه يوشع بن نون ، قاله قتادة . والثالث : أنه نبي ، يقال له : سمعون بالسين المهملة ، سمته أمه بذلك ، لأنها دعت الله أن يرزقها غلاماً ، فسُمِع دعاؤها فيه ، فسمته ، هذا قول السدي .
وسبب سؤالهم ملكاً أن عدوهم غلب عليهم .
قوله تعالى : { نقاتلْ } قراءة الجمهور بالنون والجزم ، وقرأ ابن أبي عبلة بالياء والرفع ، كناية عن الملك .
قوله تعالى : { هل عسيتم } قراءة الجمهور بفتح السين ، وقرأ نافع بكسرها هاهنا ، وفي سورة «محمد» وهي لغتان .
قوله تعالى : { إِن كتب عليكم القتال } أي : فرض { ألا تقاتلوا } أي : لعلكم تجبنون .
قوله تعالى : { وقد أُخرجنا من ديارنا } يعنون : أُخرج بعضنا ، وهم الذين سبوا منهم وقهروا ، فظاهره العموم ، ومعناه الخصوص .
قوله تعالى : { تولوا } أي : أعرضوا عن الجهاد . { إِلا قليلاً } وهم الذين عبروا النهر ، وسيأتي ذكرهم .

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)

قوله تعالى : { وقال لهم نبيهم إِن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً } ذكر أهل التفسير أن نبي بني إسرائيل سأل الله أن يبعث لهم ملكاً ، فأتى بعصا وقرن فيه دهن ، وقيل له : إن صاحبكم الذي يكون ملكاً يكون طوله طول هذه العصا ، ومتى دخل عليك رجل ، فنشق الدهن ، فهو الملك ، فادهن به رأسه ، وملكه على بني إسرائيل ، فقاس القوم أنفسهم بالعصا ، فلم يكونوا على مقدارها . قال عكرمة ، والسدي : كان طالوت سقاءً يسقي على حمار له ، فضلَّ حماره ، فخرج يطلبه ، وقال وهب : بل كان دباغاً يعمل الأدم ، فضلت حمرٌ لأبيه ، فأرسل مع غلام له في طلبها ، فمرا ببيت شمويل النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخلا ليسألاه عن ضالتهما ، فنشق الدهن ، فقام شمويل فقاس طالوت بالعصا ، وكان على مقدارها ، فدهنه ، ثم قال له : أنت ملك بني إسرائيل ، فقال طالوت : أما علمت أن وسطي أدنى أسباط بني إسرائيل ، وبيتي أدنى بيوتهم؟ قال : بلى ، قال فبأية آية؟ قال بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره ، فكان كما قال .
قال الزجاج : طالوت ، وجالوت ، وداود ، لا تصرف ، لأنها أسماء أعجمية ، وهي معارف ، فاجتمع فيها التعريف والعجمة .
ومعنى قوله تعالى : { أنى له الملك } من أي جهة يكون له الملك علينا . قال ابن عباس : إنما قالوا ذلك ، لأنه كان في بني إسرائيل سبطان ، في أحدهما النبوة ، وفي الآخر الملك ، فلم يكن هو من أحد السبطين . قال قتادة . كانت النبوة في سبط لاوي ، والملك في سبط يهوذا .
قوله تعالى : { ولم يؤت سعة من المال } أي : لم يؤت ما يتملك به الملك { قال إِن الله اصطفاه عليكم } أي : اختاره ، وهو «افتعل» من الصفوة . والبسطة : السعة ، قاله ابن قتيبة : هو من قولك : بسطت الشيء : إِذا كان مجموعاً ، ففتحته ، ووسعته . قال ابن عباس : كان طالوت أعلم بني إسرائيل بالحرب ، وكان يفوق الناس بمنكبيه وعنقه ورأسه . وهل كانت هذه الزيادة قبل الملك ، أم أحدثت له بعد الملك؟ فيه قولان . أحدهما : قبل الملك ، قاله وهب ، والسدي . والثاني : بعد الملك ، قاله ابن زيد . والمراد بتعظيم الجسم ، فضل القوة ، إذ العادة أن من كان أعظم جسماً ، كان أكثر قوة والواسع : الغني .

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

قوله تعالى : { وقال لهم نبيهم إن آية ملكه } الآية : العلامة ، فمعناه : علامة تمليك الله إياه { أن يأتيكم التابوت } وهذا من مجاز الكلام ، لأن التابوت يؤتى به ، ولا يأتي ، ومثله : { فاذا عزم الأمر } وإنما جاز مثل هذا ، لزوال اللبس فيه ، كما بينا في قوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } [ البقرة : 16 ] . وروي عن ابن مسعود ، وابن عباس : أنهم قالوا لنبيهم : إن كنت صادقاً ، فأتنا بآية تدل على أنه ملك ، فقال لهم ذلك . وقال وهب : خيّرهم ، أي آية يريدون ، فقالوا : أن يردَّ علينا التابوت . قال ابن عباس : كان التابوت من عود الشمشار عليه صفائح الذهب ، وكان يكون مع الأنبياء إذا حضروا قتالاً قدموه بين أيديهم يستنصرون به ، وفيه السكينة . وقال وهب بن منبه : كان نحواً من ثلاث أذرع في ذراعين . قال مقاتل : فلما تفرقت بنو إسرائيل ، وعصوا الأنبياء ، سلط الله عليهم عدوهم ، فغلبوهم عليه ، وفي السكينة سبعة أقوال . أحدها : أنها ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان ، رواه أبو الأحوص عن علي رضي الله عنه . والثاني : أنها دابة بمقدار الهرّ ، لها عينان لها شعاع ، وكانوا إذا التقى الجمعان ، أخرجت يدها ، ونظرت إليهم ، فيهزم الجيش من الرعب . رواه الضحاك عن ابن عباس . وقال مجاهد : السكينة لها رأس كرأس الهرّة ، وجناحان . والثالث : أنها طست من ذهب [ من الجنة ] تغسل فيه قلوب الأنبياء . رواه أبو مالك عن ابن عباس . والرابع : أنها روح من الله تتكلم ، كانوا إذا اختلفوا في شيء كلمتهم وأخبرتهم ببيان ما يريدون ، رواه عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه . والخامس : أن السكينة ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها ، رواه ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح ، وذهب إلى نحوه الزجاج ، فقال : السكينة : من السكون ، فمعناه : فيه ما تسكنون إليه إذا أتاكم . والسادس : أن السكنية معناها هاهنا : الوقار ، رواه معمر عن قتادة . والسابع أن السكينة : الرحمة . قاله الربيع بن أنس .
وفي البقية تسعة أقوال . أحدها أنها رضاض الألواح التي تكسرت حين ألقاها موسى وعصاه ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والسدي . والثاني : أنها رضاض الألواح . قاله عكرمة ، ولم يذكر العصا . وقيل : إنما اتخذ موسى التابوت ليجمع رضاض الألواح فيه . والثالث : أنها عصا موسى ، والسكينة ، قاله وهب . والرابع : عصا موسى ، وعصا هارون ، وثيابهما ، ولوحان من التوراة ، والمنُّ ، قاله أبو صالح . والخامس : أن البقية ، العلم والتوراة ، قاله مجاهد ، وعطاء بن أبي رباح . والسادس : أنها رضاض الألواح ، وقفيز من مَنٍّ في طست من ذهب ، وعصا موسى وعمامته ، قاله مقاتل . والسابع : أنه قفيز من مَنٍّ ورضاض الألواح ، حكاه سفيان الثوري عن بعض العلماء . والثامن : أنها عصا موسى والنعلان . ذكره الثوري أيضاً عن بعض أهل العلم .

والتاسع : أن المراد بالبقية : الجهاد في سبيل الله ، وبذلك أمروا ، قاله الضحاك .
والمراد بآل موسى ، و آل هارون : موسى ، وهارون . وأنشد أبو عبيدة :
ولا تبك ميتاً بعد ميت أحبة ... عليّ وعباس وآل أبي بكر
يريد : أبا بكر نفسه .
قوله تعالى : { تحمله الملائكة } قرأ الجمهور : «تحمله» بالتاء ، وقرأ الحسن ، ومجاهد ، والأعمش بالياء . وفي المكان الذي حملته منه الملائكة إليهم قولان . أحدهما : أنه كان مرفوعاً مع الملائكة بين السماء والأرض ، منذ خرج عن بني إسرائيل ، قاله الحسن . والثاني : أنه كان في الأرض .
وفي أي مكان كان؟ فيه قولان .
أحدهما : أنه كان في أيدي العمالقة قد دفنوه ، قال ابن عباس : أخذ التابوت قوم جالوت ، فدفنوه في متبرز لهم ، فأخذهم الباسور فهلكوا ، ثم أخذه أهل مدينة أخرى ، فأخذهم بلاء ، فهلكوا ، ثم أخذه غيرهم كذلك ، حتى هلكت خمس مدائن ، فأخرجوه على بقرتين ، ووجهوهما إلى بني إسرائيل ، فساقتهما الملائكة .
والثاني : أنه كان في برية التيه ، خلّفه فيها يوشع ، ولم يعلموا بمكانه حتى جاءت به الملائكة ، قاله قتادة .
وفي كيفية مجيء الملائكة به قولان .
أحدهما : أنها جاءت به بأنفسها ، قال وهب : قالوا لنبيهم : اجعل لنا وقتاً يأتينا فيه ، فقال : الصبح ، فلم يناموا ليلتهم ، ووافت به الملائكة مع الفجر ، فسمعوا حفيف الملائكة تحمله بين السماء والأرض .
والثاني : أن الملائكة جاءت به على عجلة وثورين ، ذكر عن وهب أيضاً . فعلى القول الأول : يكون معنى تحمله : تقله . وعلى الثاني : يكون معنى حملها إياه : تسببها في حمله ، قال الزجاج : ويجوز في اللغة أن يقال : حملت الشيء إذا كنت سبباً في حمله .
قوله تعالى : { إِن في ذلك لآية لكم } أي : علامة تدل على تمليك طالوت . قال المفسرون : فلما جاءهم التابوت وأقروا له بالملك ، تأهب للخروج ، فأسرعوا في طاعته ، وخرجوا معه ، فذلك قوله تعالى .

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)

قوله تعالى : { فلما فصل طالوت بالجنود } أي : خرج وشخص . وفي عدد من خرج معه ثلاثة أقوال . أحدها : سبعون ألفاً ، قاله ابن عباس . والثاني : ثمانون ألفاً ، قاله عكرمة والسدي . والثالث : مائة ألف ، قاله مقاتل . قال : وساروا في حر شديد ، فابتلاهم الله بالنهر . والابتلاء : الاختبار . وفي النهر لغتان : إحداهما : تحريك الهاء ، وهي قراءة الجمهور ، والثاني : تسكينها ، وبها قرأ الحسن ومجاهد ، وفي هذا النهر قولان . أحدهما : أنه نهر فلسطين قاله ابن عباس والسدي ، والثاني : نهر بين الأردن وفلسطين ، قاله عكرمة ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، ووجه الحكمة في ابتلائهم به أن يعلم طالوت من له نية في القتال منهم ومن ليس له نية .
قوله تعالى : { ليس مني } أي ليس من أصحابي .
قوله تعالى : { إِلا من اغترف غُرفةً } قرأ ابن كثير ونافع ، وأبو عمرو ، «غَرفة» بفتح الغين ، وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي بضمها ، قال الزجاج : من فتح الغين ، أراد المرة الواحدة باليد ، ومن ضمها ، أراد ملء اليد . وزعم مقاتل أن الغرفة كان يشرب منها الرجل ، ودابته ، وخدمه ويملأ قربته . وقال بعض المفسرين : لم يرد به غرفة الكف ، وإنما أراد المرة الواحدة بقربة أو جرة ، أو ما أشبه ذلك . وفي عدد القليل الذين لم يشربوا إلا غرفة قولان . أحدهما : أنهم أربعة آلاف ، قاله عكرمة والسدي . والثاني : ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، وهو الصحيح ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قاله لأصحابه يوم بدر : " أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقاء جالوت " وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا .
قوله تعالى : { لا طاقة لنا } أي : لا قوة لنا ، قال الزجاج : يقال : أطقت الشيء إطاقة وطاقة ، وطوقاً ، مثل قولك : أطعته إطاعة وطاعة وطوعاً . واختلفوا في القائلين لهذا على ثلاثة أقوال أحدها : أنهم الذين شربوا أكثر من غرفة ، فإنهم انصرفوا ، ولم يشهدوا ، وكانوا أهل شك ونفاق ، قاله ابن عباس ، والسدي . والثاني : أنهم الذين قلت بصائرهم من المؤمنين ، قاله الحسن ، وقتادة ، وابن زيد . والثالث : أنه قول الذين جاوزوا معه ، وإنما قال ذلك بعضهم لبعض ، لما رأوا من قلتهم ، وهذا اختيار الزجاج .
قوله تعالى { قال الذين يظنون } في هذا الظن قولان . أحدهما : أنه بمعنى اليقين ، قاله السدي في آخرين . والثاني : أنه الظن الذي هو التردد ، فان القوم توهموا لقلة عددهم أنهم سيقتلون فيلقون الله ، قاله الزجاج في آخرين . وفي الظانين هذا الظن قولان . أحدهما : أنهم الثلاثمائة والثلاثة عشر ، قالوا للراجعين : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ، قاله السدي . والثاني : أنهم أُولو العزم والفضل من الثلاثمائة والثلاثة عشر . والفئة : الفرقة ، قال الزجاج : وإنما قيل لهم : فئة من قولهم : فأوت رأسه بالعصا ، وفأيته : إذا شققته .
قوله تعالى : { باذن الله } قال الحسن : بنصر الله .
قوله تعالى : { والله مع الصابرين } أي : بالنصر والإعانة .

وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)

قوله تعالى : { ولما برزوا } أي : صاروا بالبراز من الأرض ، وهو ما ظهر واستوى . و { أفرغ } بمعنى اصبب { وثبت أقدامنا } أي : قوِّ قلوبنا لتثبيت أقدامنا ، وإنما تثبت الأقدام عند قوة القلوب ، قال مقاتل : كان جالوت وجنوده يعبدون الأوثان .

فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)

قوله تعالى : { فهزموهم } أي : كسروهم وردوهم ، قال الزجاج : أصل الهزم في اللغة : كسر الشيء ، وثني بعضه على بعض ، يقال : سقاء منهزم [ ومهزم ] إذا كان بعضه قد ثني على بعض مع جفاف ، وقصب منهزم : قد كسر وشقق ، والعرب تقول : هزمت على زيد ، أي : عطفت عليه .
قال الشاعر :
هزمت عليك اليوم يا ابنة مالك ... فجودي علينا بالنوال وأنعمي
ويقال : سمعت هزمة الرعد ، قال الأصمعي : كأنه صوت فيه تشقق .
وداود : هو نبي الله أبو سليمان ، وهو اسم أعجمي ، وقيل : إن إخوة داود كانوا مع طالوت ، فمضى داود لينظر إليهم ، فنادته أحجار : خذني ، فأخذها ، وجاء إلى طالوت ، فقال : مالي إن قتلت جالوت ، فقال : ثلث ملكي ، وأنكحك ابنتي ، فقتل جالوت .
قوله تعالى : { وآتاه الله الملك } يعني آتى داود ملك طالوت . وفي المراد ب «الحكمة» هاهنا قولان . أحدهما : أنها النبوة ، قاله ابن عباس . والثاني : الزبور ، قاله مقاتل . قوله تعالى : { وعلمه مما يشاء } فيه ثلاثة أقوال . أحدها : أنها صنعة الدروع . والثاني : الزبور . والثالث : منطق الطير .
قوله تعالى : { ولولا دفعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعض } قرأ الجمهور { دفعُ الله } بغير ألف هاهنا ، وفي «الحج» وقرأ نافع ، ويعقوب ، وأبان { ولولا دفاع } بألف فيهما . قال أبو علي المعنيان متقاربان ، قال الشاعر :
ولقد حَرصتُ بأن أدافع عنهمُ ... فاذا المنية أقبلت لا تدفع
وفي معنى الكلام قولان . أحدهما : أن معناه : لولا أن الله يدفع بمن أطاعه عمن عصاه ، كما دفع عن المتخلفين عن طالوت بمن أطاعه ، لهلك العُصاة بسرعة العقوبة ، قاله مجاهد . والثاني : أن معناه ، لولا دفع الله المشركين بالمسلمين ، لغلب المشركون على الأرض ، فقتلوا المسلمين ، وخربوا المساجد ، قاله مقاتل : ومعنى : { لفسدت الأرض } لهلك أهلها .

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

قوله تعالى : { تلك آيات الله نتلوها عليك } أي : نقص عليك من أخبار المتقدمين .
{ وإنك لمن المرسلين } حُكمُك حكمهم ، فمن صدقك ، فسبيله سبيل من صدقهم ، ومن عصاك ، فسبيله سبيل من عصاهم .
الجزء الثالث { تلك الرسل فضَّلنا بعضَهم على بعضٍ منهم من كلم اللهُ ورفع بعضَهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القُدُس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكنَّ الله يفعل ما يريد

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)

قوله تعالى : { منهم من كلم اللهُ } يعني : موسى عليه السلام . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو نهيك ، وابن السّميفع : منهم من كالم الله بألف خفيفة اللام ، ونصب اسم «الله» . وفي المراد بقوله : { ورفع بعضهم درجات } قولان . أحدهما : عنى بالمرفوع درجات ، محمداً صلى الله عليه وسلم ، فإنه بعث إلى الناس كافة ، وغيره بعث إلى أمته خاصة ، هذا قول مجاهد . والثاني : أنه عنى تفضيل بعضهم على بعض فيما آتاه الله ، هذا قول مقاتل . قال ابن جرير الطبري : والدرجات : جمع درجة ، وهي المرتبة ، وأصل ذلك : مراقي السلَّم ودَرجه ، ثم يستعمل في ارتفاع المنازل والمراتب . وقد تقدم تفسير «البينات» و «روح القدس» .
قوله تعالى : { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم } أي : من بعد الأنبياء . وقال قتادة : من بعد موسى وعيسى عليهما السلام . قال مقاتل : وكان بينهما ألف نبي .
قوله تعالى : { ولكن اختلفوا } يعني : الأمم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم } هذه الآية تحث على الصدقات ، والإنفاق في وجوه الطاعات . وقال الحسن : أراد الزكاة المفروضة .
قوله تعالى : { من قبل أن يأتيَ يوم } يعني : يوم القيامة { لا بيع فيه } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو { لا بيعَ فيه ولا خلةَ ولا شفاعةَ } بالنصب من غير تنوين ، ومثله في «إبراهيم» { لا بيعَ فيه } وفي الطور { لا لغوَ فيها ولا تأثيمَ } وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي . جميع ذلك بالرفع والتنوين . قال ابن عباس : لا فدية فيه ، وقيل : إنما ذكر لفظ البيع لما فيه من المعاوضة ، وأخذ البدل . والخلة : الصداقة . وقيل : إنما نفى هذه الأشياء ، لأنه عنى عن الكافرين ، وهذه الأشياء لا تنفعهم ، ولهذا قال : { والكافرون هم الظالمون }

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

قوله تعالى : { الله لا إِله إِلا هو الحي القيوم } روى مسلم في «صحيحه» " عن أبيّ بِن كعب ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : «يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله أعظم» قال : قلت : { الله لا إِله إِلا هو الحي القيوم } . قال : فضرب صدري ، وقال «ليهنك العلم يا أبا المنذر» " قال : أبو عبيدة : القيوم : الذي لا يزول ، لاستقامة وصفه بالوجود ، حتى لا يجوز عليه التغيير بوجه من الوجوه . وقال الزجاج : القيوم : القائم : بتدبير أمر الخلق . وقال الخطابي : القيوم : هو القائم الدائم بلا زوال ، وزنه : «فيعول» من القيام ، وهو نعت للمبالغة للقيام على الشيء ، ويقال : هو القائم على كل شيء بالرعاية ، يقال : قمت بالشيء : إذا وليته بالرعاية والمصلحة . وفي «القيوم» ثلاث لغات القيّوم ، وبه قرأ الجمهور ، والقيّام ، وبه قرأ عمر بن الخطاب ، وابن مسعود ، وابن أبي عبلة ، والأعمش ، والقيم ، وبه قرأ أبو رزين ، وعلقمة . وذكر ابن الأنباري أنه كذلك في مصحف ابن مسعود ، قال : وأصل القيوم : القيووم : فلما اجتمعت الياء والواو والسابق ساكن ، جعلتا ياء مشددة . وأصل القيام : القوام ، قال الفراء : وأهل الحجاز يصرفون الفعال [ إلى ] الفيعال ، فيقولون للصواغ : صياغ . فأما «السِنَة» فهي : النعاس من غير نوم ، ومنه : الوسنان . قال ابن الرقاع :
وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم
وسنان أقصده النعاس فرنَّقت ... في عينه سنة وليس بنائم
قوله تعالى : { له ما في السموات وما في الأرض } قال بعض العلماء : إنما لم يقل : والأرضين ، لأنه قد سبق ذكر الجمع في السموات ، فاستغنى بذلك عن إعادته ، ومثله { وجعل الظلمات والنور } ولم يقل : الأنوار .
قوله تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إِلا بإذنه } فيه رد على من قال : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إِلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] .
قوله تعالى : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } ظاهر الكلام يقتضي الإشارة إلى جميع الخلق ، وقال مقاتل : المراد بهم الملائكة . وفي المراد { بما بين أيديهم وما خلفهم } ثلاثة أقوال . أحدهما : أن الذي بين أيديهم أمر الآخرة ، والذي خلفهم أمر الدنيا ، روي عن ابن عباس ، وقتادة . والثاني : أن الذي بين أيديهم الدنيا ، والذي خلفهم الآخرة ، قاله السدي عن أشياخه ، ومجاهد ، وابن جريج ، والحكم بن عتيبة . والثالث : ما بين أيديهم : ما قبل خلقهم ، وما خلفهم : ما بعد خلقهم ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { ولا يحيطون بشيء } قال الليث : يقال لكل من أحرز شيئاً ، أو بلغ علمه أقصاه : قد أحاط به . والمراد بالعلم هاهنا المعلوم { وسع كرسيه } أي : احتمل وأطاق . وفي المراد بالكرسي ثلاثة أقوال . أحدها : أنه كرسي فوق السماء السابعة دون العرش ، قال النبي صلى الله عليه وسلم :

" ما السموات السبع في الكرسي إِلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة " وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء . والثاني : أن المراد بالكرسي علم الله تعالى . رواه ابن جبير عن ابن عباس . والثالث : أن الكرسي هو العرش ، قاله الحسن . قوله تعالى : { ولا يؤوده } أي : لا يثقله ، يقال : آده الشيء يؤوده أوداً وإِياداً . والأود : الثقل ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة ، والجماعة . والعلي : العالي القاهر ، «فعيل» بمعنى «فاعل» . وقال الخطابي : وقد يكون من العلو الذي هو مصدر : علا يعلو ، فهو عال ، كقوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] . ويكون ذلك من علاء المجد والشرف ، يقال منه : علي يعلى علاءً ، ومعنى العظيم : ذو العظمة والجلال ، والعظم في حقه تعالى ، منصرف إلى عظم الشأن ، وجلال القدر ، دون العظم الذي هو من نعوت الأجسام .

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

قوله تعالى : { لا إِكراه في الدين } في سبب نزولها أربعة أقوال . أحدها : أن المرأة من نساء الأنصار كانت في الجاهلية إذا لم يعش لها ولد ، تحلف : لئن عاش لها ولد لتهوّدنّه ، فلما أجليت يهود بني النضير ، كان فيهم ناس من أبناء الأنصار . فقال الأنصار : يا رسول الله أبناؤنا ، فنزلت هذه الآية . هذا قول ابن عباس . وقال الشعبي : قالت الأنصار : والله لنكرهن أولادنا على الإسلام ، فإنا إِنما جعلناهم في دين اليهود إذ لم نعلم ديناً أفضل منه ، فنزلت هذه الآية . والثاني : أن رجلاً من الأنصار تنصّر لهو ولدان قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قدما المدينة ، فلزمهما أبوهما ، وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما ، فأبيا ، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية . هذا قول مسروق . والثالث : أن ناساً كانوا مسترضعين في اليهود ، فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بني النضير ، قالوا : والله لنذهبن معهم ، ولندينن بدينهم ، فمنعهم أهلوهم ، وأرادوا إكراههم على الإسلام ، فنزلت هذه الآية . والرابع : أن رجلاً من الأنصار كان له غلام اسمه صبيح ، كان يكرهه على الإسلام ، فنزلت هذه الآية . والقولان عن مجاهد .
فصل
واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية ، فذهب قوم إلى أنه محكم ، وأنه من العام المخصوص ، فإنه خص منه أهل الكتاب بأنهم لا يكرهون على الإسلام ، بل يخيّرون بينه ، وبين أداء الجزية ، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة . وقال ابن الأنباري : معنى الآية : ليس الدين ما تدين به في الظاهر على جهة الإكراه عليه ، ولم يشهد به القلب ، وتنطوي عليه الضمائر ، إنما الدين هو المنعقد بالقلب . وذهب قوم إلى أنه منسوخ ، وقالوا هذه الآية نزلت قبل الأمر بالقتال ، فعلى قولهم ، يكون منسوخاً بآية السيف ، وهذا مذهب الضحاك ، والسدي ، وابن زيد ، والدين هاهنا : أريد به الإسلام . والرشد : الحق ، والغي : الباطل . وقيل : هو الإيمان والكفر . فاما الطاغوت؛ فهو اسم مأخوذ من الطغيان ، وهو مجاوزة الحد ، قال ابن قتيبة : الطاغوت : واحد ، وجمع ، ومذكر ، ومؤنث . قال الله تعالى : { أولياؤهم الطاغوت } وقال : { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها } [ الزمر : 17 ] . والمراد بالطاغوت هاهنا خمسة أقوال . أحدها : أنه الشيطان ، قاله عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، والشعبي ، والسدي ، ومقاتل في آخرين . والثاني : أنه الكاهن ، قاله سعيد بن جبير ، وأبو العالية . والثالث : أنه الساحر ، قاله محمد بن سيرين . والرابع : أنه الأصنام ، قاله اليزيدي ، والزجاج . والخامس : أنه مردة أهل الكتاب ، ذكره الزجاج أيضاً .
قوله تعالى : { فقد استمسك بالعروة الوثقى } هذا مثلَ للإيمان ، شبَّه التمسك به بالمتمسك بالعروة الوثيقة . وقال الزجاج : معنى الكلام : فقد عقد لنفسه عقداً وثيقاً والانفصام : كسر الشيء من غير إبانة .

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)

قوله تعالى : { الله ولي الذين آمنوا } أي : متولي أمورهم ، يهديهم ، وينصرهم ، ويعينهم . والظلمات : الضلالة ، والنور : الهدى ، والطاغوت : الشياطين ، هنا قول ابن عباس ، وعكرمة في آخرين . وقال مقاتل : الذين كفروا : هم اليهود ، والطاغوت : كعب بن الأشرف . قال الزجاج : والطاغوت هاهنا : واحد في معنى جماعة ، وهذا جائز في اللغة إذا كان في الكلام دليل على الجماعة . قال الشاعر :
بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب
أراد جلودها ، فان قيل : متى كان المؤمنون في ظلمة؟ ومتى كان الكفار في نور؟ فعنه ثلاثة أجوبة . أحدها : أن عصمة الله للمؤمنين عن مواقعة الضلال ، إخراج لهم من ظلام الكفر ، وتزيين قرناء الكفار لهم الباطل الذي يحيدون به عن الهدى ، إخراج لهم من نور الهدى ، و «الإخراج» مستعار هاهنا : وقد يقال للممتنع من الشيء : خرج منه ، وإن لم يكن دخل فيه . قال تعالى : { إِني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله } [ يوسف : 37 ] . وقال : { ومنكم من يردُّ إِلى أرذل العمر } [ النحل : 70 ] . وقد سبقت شواهد هذا في قوله تعالى : { وإِلى الله ترجع الأمور } [ البقرة : 210 ] . والثاني : أن إيمان أهل الكتاب بالنبي قبل أن يظهر نورٌ لهم ، وكفرهم به بعد أن ظهر ، خروج إلى الظلمات . والثالث : أنه لما ظهرت معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان المخالف له خارجاً من نور قد علمه ، والموافق له خارجاً من ظلمات الجهل إلى نور العلم .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

قوله تعالى : { ألم تر إِلى الذي حاج إِبراهيم في ربه } قد سبق معنى : { ألم تر } . وحاجّ : بمعنى خاصم ، وهو نمروذ في قول الجماعة . قال ابن عباس : ملك الأرض شرقها وغربها؛ مؤمنان ، وكافران؛ فالمؤمنان سليمان بن داود ، وذو القرنين . والكافران : نمروذ ، وبختنصر . قال ابن قتيبة : معنى الآية : حاجَّ إبراهيم ، لأن الله آتاه الملك ، فأعجب بنفسه [ وملكه ] .
قوله تعالى : { إِذ قال إبراهيم ربيَ الذي يحيي ويميت } قال بعضهم : هذا جواب سؤال سابق غير مذكور ، تقديره : أنه قال له : من ربك؟ فقال : ربي الذي يحيي ويميت . قال نمروذ : أنا أحيي وأميت . قال ابن عباس : يقول : أترك من شئت ، وأقتل من شئت . فإن قيل : لم انتقل إبراهيم إلى حجة أخرى ، وعدل عن نصرة الأولى ، فالجواب : أن إبراهيم رأى من فساد معارضته أمراً على ضعف فهمه ، فإنه عارض اللفظ بمثله ، ونسي اختلاف الفعلين ، فانتقل إلى حجة أخرى ، قصداً لقطع المحاجّ ، لا عجزاً عن نصرة الأولى .
قوله تعالى : { فبهت الذي كفر } أي : انقطعت حجته ، فتحير ، وقرأ أبو رزين العقيلي ، وابن السميفع ، فبهت ، بفتح الباء والهاء . وقرأ أبو الجوزاء ، ويحيى بن يعمر ، وأبو حيوة : فبهت ، بفتح الباء ، وضم الهاء . قال الكسائي : ومن العرب من يقول : بهت ، وبهت ، بكسر الهاء وضمها { والله لا يهدي القوم الظالمين } يعني : الكافرين . قال مقاتل : لا يهديهم إلى الحجة ، وعنى بذلك نمروذ .

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)

قوله تعالى : { أو كالذي مر على قرية } قال الزجاج : هذا معطوف على معنى الكلام الذي قبله ، معناه : أرأيت كالذي حاج إبراهيم ، أو كالذي مر على قرية؟ . وفي المراد بالقرية قولان . أحدهما : أنها ببيت المقدس لما خربه بختنصر ، قاله وهب ، وقتادة ، والربيع بن أنس . والثاني : أنها التي خرج منها الألوف حذر الموت ، قاله ابن زيد : وفي الذي مر عليها ثلاثة أقوال . أحدها : أنه عزير ، قاله علي بن أبي طالب ، وأبو العالية ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وناجية بن كعب ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل . والثاني : أنه أرمياء ، قاله وهب ، ومجاهد ، وعبد الله بن عبيد بن عمير . والثالث : أنه رجل كافر شك في البعث ، نقل عن مجاهد أيضاً . والخاوية : الخالية ، قاله الزجاج . وقال ابن قتيبة : الخاوية : الخراب ، والعروش : السقوف ، وأصل ذلك أن تسقط السقوف ، ثم تسقط الحيطان عليها { قال أنى يحيي هذه الله } أي : كيف يحييها . فإن قلنا : إن هذا الرجل نبي ، فهو كلام من يؤثر أن يرى كيفية الإعادة ، أو يستهولها ، فيعظم قدرة الله ، وإن قلنا : إنه كان رجلاً كافراً ، فهو كلام شاك ، والأول أصح .
قوله تعالى : { فأماته الله مائة عام ، ثم بعثه } .
الاشارة الى قصته
روى ناجية بن كعب عن علي رضي الله عنه قال : خرج عزير نبي الله من مدينته ، وهو رجل شاب ، فمر على قرية ، وهي خاوية على عروشها ، فقال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها ، فأماته الله مائة عام ، ثم بعثه ، وأول ما خلق الله منه عيناه ، فجعل ينظر إلى عظامه ينظم بعضها إلى بعض ، ثم كسيت لحماً ، ونفخ فيها الروح . قال الحسن : قبضه الله أول النهار ، وبعثه آخر النهار بعد مائة سنة . قال مقاتل : ونودي من السماء : كم لبثت؟ قال قتادة : فقال : لبثت يوماً ، ثم نظر فرأى بقية من الشمس ، فقال : أو بعض يوم . فهذا يدل على أنه عزير ، وقال وهب بن منبه : أقام أرميا بأرض مصر فأوحى الله إليه أن الحق بأرض إيلياء ، فركب حماره ، وأخذ معه سلة من عنب وتين ، ومعه سقاء جديد ، فيه ماء ، فلما بدا له شخص بيت المقدس وما حوله من القرى [ والمساجد ] نظر إلى خراب لا يوصف [ فلما رأى هدم بيت المقدس كالجبل العظيم ] قال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ ثم نزل منها منزلاً ، وربط حماره ، [ وعلق سقاءه ] فألقى الله عليه النوم ، ونزع روحه مئة عام ، فلما مر منها سبعون عاماً ، أرسل الله ملكاً إلى ملك من ملوك فارس ، عظيم ، فقال : إن الله يأمرك أن تنفر بقومك ، فتعمر بيت المقدس وإيلياء وأرضها حتى تعود أعمر ما كانت ، [ فقال الملك : أنظرني ثلاثة أيام حتى أتأهب لهذا العمل ، ولما يصلحه من أداة العمل ، فأنظره ثلاثة أيام ] .

فانتدب ثلاثمئة قهرمان ، ودفع إلى كل قهرمان ألف عامل ، وما يصلحه من أداة العمل [ فسار إليها قهارمته ومعهم ثلاثمئة ألف عامل ] فلما وقعوا في العمل ، رد الله روح الحياة في عيني أرميا ، وآخر جسده ميت ، فنظر إليها تعمر ، فلما تمت بعد ثلاثين سنة؛ رد الله إليه الروح ، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنّه ونظر إلى حماره واقفاً كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب ، ونظر إلى الرمة في عنق الحمار لم تتغير جديدة ، وقد أتى على ذلك ريح مائة عام ، وبرد مائة عام ، وحرّ مائة عام ، لم تتغير ولم تنتقص شيئاً ، وقد نحل جسم أرميا من البلى ، فأنبت الله له لحماً جديداً ، ونشز عظامه وهو ينظر ، فقال له الله : انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ، وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس ، وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً فلما تبين له قال اعلم : أن الله على كل شيء قدير . وزعم مقاتل أن هذه القصة كانت بعد رفع عيسى عليه السلام .
قوله تعالى : { كم لبثت } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم «لبثت» و «لبثتم» في كل القرآن باظهار التاء ، وقرأ أبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بالإدغام لبتَّ ، قال أبو علي الفارسي : من بين «لبثت» ، فلتباين المخرجين ، وذلك أن الظاء والذال والثاء من حيز ، والطاء والتاء والدال من حيز ، فلما تباين المخرجان ، واختلف الحيزان ، لم يدغم . ومن أدغمها أجراها مجرى المثلين ، لاتفاق الحرفين في أنهما من طرف اللسان ، وأصول الثنايا ، واتفاقهما في الهمس ورأى الذي بينهما من الاختلاف يسيراً ، فأجراهما مجرى المثلين . فأما طعامه وشرابه ، فقال وهب : كان معه مكتل فيه عنب وتين ، وقلة فيها ماء . وقال السدي : كان معه تين وعنب ، وشرابه من العصير ، لم يحمض التين والعنب ، ولم يختمر العصير .
قوله تعالى : { لم يتسنه } قرأ ابن كثير ونافع : وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : { يتسنّه } و { اقتده } و { ما أغنى عني ماليه } و { سلطانيه } و { وماهيه } باثبات الهاء في الوصل . وكان حمزة يحذفهن في الوصل ، ووافقه الكسائي في حذف موضعين { يتسنه } و { اقتده } وكلهم يقف على الهاء . ولم يختلفوا في { كتابيه } و { حسابيه } أنها بالهاء وصلاً ووقفاً . فأما معنى : { لم يتسنّه } ، فقال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة في آخرين : لم يتغير . وقال ابن قتيبة : لم يتغير بمر السنين عليه ، واللفظ مأخوذ من السّنه ، يقال : سانهت النخلة : إذا حملت عاماً ، وحالت عاماً .
قوله تعالى : { وانظر إِلى حمارك } قال مقاتل : انظر إليه ، وقد ابيضت عظامه ، وتفرقت أوصاله ، فأعاده الله .
قوله تعالى : { ولنجعلك آية للناس } اللام صلة لفعل مضمر تقديره : فعلنا بك ذلك لنريك قدرتنا ، ولنجعلك آية للناس ، أي : علَماً على قدرتنا ، فأضمر الفعل لبيان معناه .

قال ابن عباس : مات وهو ابن أربعين سنة ، وابنه ابن عشرين سنة ، ثم بعث وهو ابن أربعين ، وابنه ابن عشرين ومائة ، ثم أقبل حتى أتى قومه في بيت المقدس ، فقال لهم : أنا عزير ، فقالوا : حدثنا آباؤنا أن عزيراً مات بأرض بابل ، فقال لهم : أنا هو أرسلني الله إليكم أجدد لكم توراتكم ، وكانت قد ذهبت ، وليس منهم أحد يقرؤها ، فأملاها عليهم .
قوله تعالى : { وانظر إِلى العظام } قيل : أراد عظام نفسه ، وقيل : عظام حماره ، وقيل هما جميعاً .
قوله تعالى : { كيف ننشزها } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو { ننشرها } بضم النون الأولى ، وكسر الشين وراء مضمومة . ومعناه : نحييها ، يقال : أنشر الله الميت ، فنشرهم . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ننشزها ، بضم النون مع الزاي ، وهو من النشز الذي هو الارتفاع . والمعنى : نرفع بعضها إلى بعض للأحياء . وقرأ الأعمش : ننشزها ، بفتح النون ، ورفع الشين مع الزاي وقرأ الحسن ، وأبان عن عاصم : ننشرها ، بفتح النون مع الراء ، كأنه من النشر عن الطي ، فكأن الموت طواها ، والإحياء نشرها .
قوله تعالى : { فلما تبين له } أي : بان له إحياء الموتى { قال أعلم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «أعلم» مقطوعة الألف ، مضمومة الميم . والمعنى : قد علمت ما كنت أعلمه غيباً مشاهدة . وقرأ حمزة والكسائي بوصل الألف ، وسكون الميم على معنى الأمر ، والابتداء ، على قراءتهما بكسر الهمزة ، وظاهر الكلام أنه أمر من الله له . وقال أبو علي : نزل نفسه منزلة غيره ، فأمرها وخاطبها . وقرأ الجعفي عن أبي بكر ، قال : «أعلم» بكسر اللام على معنى الأمر بإعلام الغير .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

قوله تعالى : { وإِذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى } في سبب سؤاله هذا أربعة أقوال . أحدها : أنه رأى ميتة تمزقها الهوام والسباع ، فسأل هذا السؤال ، وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، وابن جريج ، ومقاتل . وما الذي كانت هذه الميتة؟ فيه ثلاثة أقوال . أحدها : كان رجلاً ميتاً ، قاله ابن عباس . والثاني : كان جيفة حمار ، قاله ابن جريج ، ومقاتل . والثالث : كان حوتاً ميتاً ، قاله ابن زيد . والثاني : أنه لما بشر باتخاذ الله له خليلاً ، سأل هذا السؤال ليعلم صحة البشارة ، ذكره السدي عن ابن مسعود ، وابن عباس . وروي عن سعيد بن جبير أنه لما بشر بذلك ، قال : ما علامة ذلك؟ قال : أن يجيب الله دعاءك ، ويحيي الموتى بسؤالك ، فسأل هذا السؤال . والثالث : أنه سأل ذلك ليزيل عوارض الوسواس ، وهو قول عطاء ابن أبي رباح . والرابع : أنه لما نازعه نمرود في إحياء الموتى ، سأل ذلك ليرى ما أخبر به عن الله ، وهذا قول محمد بن إسحاق .
قوله تعالى : { أو لم تؤمن } أي : أولست قد آمنت أني أحيي الموتى؟ وقال ابن جبير : ألم توقن بالخلة؟
قوله تعالى : { بلى ولكن ليطمئن قلبي } «اللام» متعلقة بفعل مضمر ، تقديره : ولكن سألتك ليطمئن ، أو أرني ليطمئن قلبي ، ثم في المعنى أربعة أقوال . أحدها : لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك ، قاله ابن عباس . والثاني : ليزداد قلبي يقيناً ، قاله سعيد بن جبير . وقال الحسن : كان إبراهيم موقناً ، ولكن ليس الخبر كالمعاينة . والثالث : ليطمئن قلبي بالخلة ، روي عن ابن جبير أيضاً . والرابع : أنه كان قلبه متعلقاً برؤية إحياء الموتى ، فأراد : ليطمئن قلبه بالنظر ، قاله ابن قتيبة . وقال غيره : كنت نفسه تائقة إلى رؤية ذلك ، وطالب الشيء قلق إلى أن يظفر بطلبته ، يدل على أنه لم يسأل لشك ، أنه قال : { أرني كيف تحيي الموتى } وما قال : هل تحيي الموتى .
قوله تعالى : { فخذ أربعة من الطير } في الذي أخذ سبعة أقوال . أحدها : أنها الحمامة ، والديك ، والكركي ، والطاووس ، رواه عبد الله بن هبيرة ، عن ابن عباس . والثاني : أنها الطاووس ، والديك ، والدجاجة السندية ، والأوزة ، رواه الضحاك عن ابن عباس . وفي لفظ آخر ، رواه الضحاك مكان الدجاجه السندية الرأل ، وهو فرخ النعام . والثالث : أنها الشعانين ، وكانت قرباهم يومئذ ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والرابع : أنها الطاووس ، والنسر ، والغراب ، والديك ، نقل عن ابن عباس أيضاً . والخامس : أنها الديك ، والطاووس ، والغراب والحمام ، قاله عكرمة ، ومجاهد ، وعطاء وابن جريج ، وابن زيد . والسادس : أنها ديك ، وغراب ، وبط ، وطاووس ، رواه ليث عن مجاهد . والسابع : أنها الديك ، والبطة ، والغراب ، والحمامة ، قاله مقاتل . وقال عطاء الخراساني : أوحى الله إليه أن خذ بطة وغراباً أسود ، وحمامة بيضاء ، وديكاً أحمر .

قوله تعالى : { فصرهن إليك } قرأ الجمهور بضم الصاد ، والمعنى : أملهن إليك ، يقال : صرت الشيء فانصار ، أي : أملته فمال ، وأنشدوا :
الله يعلم أنا في تلفتنا ... يوم الفراق إلى جيراننا صور
فمعنى الكلام : اجمعهن إليك . { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً } فيه إضمار قطعهن . قال ابن قتيبة : أضمر «قطعهن» واكتفى بقوله : { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً } عن قوله «قطعهن» لأنه يدل عليه ، وهذا كما تقول : خذ هذا الثوب ، واجعل على كل رمح عندك منه علماً . يريد : قطعه ، وافعل ذلك ، وقرأ أبو جعفر ، وحمزة ، وخلف ، والمفضل ، عن عاصم { فصرهن إليك } بكسر الصاد . قال اليزيدي : هما واحد ، وقال ابن قتيبة : الكسر والضم لغتان : قال الفراء : أكثر العرب على ضم الصاد ، وحدثني الكسائي أنه سمع بعض بني سليم يقول : صرته ، فأنا أصيره . وروي عن ابن عباس ، ووهب ، وأبي مالك ، وأبي الأسود الدؤلي ، والسدي ، أن معنى المكسورة الصاد : قطعهن . وروي عن أبي عبيدة أنه قال : معناه بالضم : اجمعهن ، وبالكسر : قطعهن .
قوله تعالى : { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً } قال الزجاج : معناه : اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءاً ، وروى عوف عن الحسن قال : اذبحهن ونتفهن ، ثم قطعهن أعضاءاً ، ثم خلط بينهن جميعاً ، ثم جزئها أربعة أجزاء ، وضع على كل جبل جزءاً . ثم تنحى عنهن ، فدعاهن ، فجعل يعدو كل عضو إلى صاحبه حتى استوين كما كن ، ثم أتينه يسعين . وقال قتادة : أمسك رؤوسها بيده ، فجعل العظم يذهب إلى العظم ، والريشة إلى الريشة ، والبضعة إلى البضعة ، وهو يرى ذلك ، ثم دعاهن ، قأقبلن على أرجلهن يلقي لكل طائر رأسه . وفي عدد الجبال التي قسمن عليها قولان . أحدهما : أنه قسمهن على أربعة أجبل ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة . وروي عن ابن عباس قال : جعلهن أربعة أجزاء في أرباع الأرض ، كأنه يعني جهات الإنسان الأربع . والثاني : أنه قسمهن سبعة أجزاء على سبعة أجبل ، قاله ابن جريج ، والسدي .
قوله تعالى : { ثم ادعهن يأتينك سعياً } قال ابن قتيبة : يقال : عدواً ، ويقال : مشياً على أرجلهن ، ولا يقال للطير إذا طار : سعى { واعلم أن الله عزيز } أي : منيع لا يغلب { حكيم } فيما يدبر . ويزعم مقاتل أن هذه القصة جرت لإبراهيم بالشام قبل أن يكون له ولد ، وقبل نزول الصحف عليه ، وهو ابن خمس وسبعين سنة .

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)

قوله تعالى : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } حدثنا عن ثعلب أنه قال : إنما المثل -والله أعلم- للنفقة ، لا للرجال ، ولكن العرب إذا دل المعنى : على ما يريدون ، حذفوا ، مثل قوله تعالى : { وأُشربوا في قلوبهم العجل } فأضمر «الحب» ، لأن المعنى معلوم ، فكذلك هاهنا . أراد : مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم . ونحو هذا قوله تعالى : { ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم } [ آل عمران : 18 ] . يريد : بخل الباخلين : فحذف البخل . وفي المراد ب «سبيل الله» قولان . أحدهما : أنه الجهاد . والثاني : أنه جميع أبواب البر . قال أبو سليمان الدمشقي . والآية مردودة على قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم } وقد أعلم الله عز وجل بضرب هذا المثل ، أن الحسنة في النفقة في سبيله تضاعف بسبعمائة ضعف . وقال الشعبي : نفقة الرجل على نفسه وأهل بيته تضاعف سبعمائة ضعف . قال ابن زيد : { والله يضاعف لمن يشاء } أي : يزيد على السبعمائة .

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)

قوله تعالى : { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } قال ابن السائب ، ومقاتل : نزلت في عثمان بن عفان في نفقته في غزوة تبوك ، وشرائه بئر رومة ، ركية بالمدينة ، تصدق بها على المسلمين . وفي عبد الرحمن بن عوف حين تصدق بأربعة آلاف درهم ، وكانت نصف ماله . وأما المن ففيه قولان . أحدها : أنه المن على الفقير ، ومثل أن يقول : قد أحسنت إليك ونعشتك ، وهو قول الجمهور . والثاني : أنه المن على الله بالصدقة ، روي عن ابن عباس . فإن قيل : كيف مدحهم بترك المن ، ووصف نفسه بالمنان؟ فالجواب : أنه يقال : منّ فلان على فلان : إذا أنعم عليه ، فهذا الممدوح ، قال الشاعر :
فمنِّي علينا بالسلام فإنما ... كلامك ياقوت ودر منظم
أراد بالمن : الإنعام . وأما الوجه المذموم ، فهو أن يقال : منّ فلان على فلان : إذا استعظم ما أعطاه ، وافتخر بذلك ، قال الشاعر في ذلك :
أنلت قليلاً ثم أسرعت منَّة ... فنيلك ممنون كذاك قليل
ذكر ذلك أبو بكر الأنباري . وفي الأذى قولان . أحدهما : أنه مواجهة الفقير بما يؤذيه ، مثل أن يقول له : أنت أبداً فقير ، وقد بليت بك ، وأراحني الله منك . والثاني : أن يخبر بإحسانه إلى الفقير ، من يكره الفقير إطلاعه على ذلك ، وكلا القولين يؤذي الفقير وليس من صفة المخلصين في الصدقة . ولقد حدثنا عن حسان بن أبي سنان أنه كان يشتري أهل بيت الرجل وعياله ، ثم يعتقهم جميعاً ، ولا يتعرف إليهم ولا يخبرهم من هو .

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)

قوله تعالى : { قول معروف } أي : قول جميل للفقير ، مثل أن يقول له : يوسع الله عليك { ومغفرة } أي : يستر على المسلم خلته وفاقته ، وقيل : أراد بالمغفرة التجاوز عن السائل إن استطال على المسؤول وقت رده { خير من صدقة يتبعها أذى } وقد سبق بيانه .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)

قوله تعالى : { لا تبطلوا صدقاتكم } أي : لا تبطلوا ثوابها كما تبطل ثواب صدقة المرائي الذي لا يؤمن بالله وهو المنافق { فمثله } أي : مثل نفقته ، كمثل صفوان ، قال ابن قتيبة : الصفوان : الحجر ، والوابل : أشد المطر ، والصلد : الأملس . وقال الزجاج : الصفوان : الحجر الأملس ، وكذلك الصفا . وقال ثعلب : الصلد : النقي . وروي عن ابن عباس ، وقتادة { فتركه صلداً } قالا : ليس عليه شيء . وهذا مثل ضربه الله تعالى للمرائي بنفقته ، لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء مما أنفق .

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)

قوله تعالى : { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله } أي : طلباً لرضاه . وفي معنى التثبيت قولان . أحدهما : أنه الإنفاق على يقين وتصديق ، وهذا قول الشعبي ، وقتادة ، والسدي ، في آخرين . والثاني : أنه التثبيت لارتياد محل الإنفاق ، فهم ينظرون أين يضعونها ، وهذا قول الحسن ، ومجاهد ، وأبي صالح .
قوله تعالى : { كمثل جنة } الجنة : البستان وقرأ مجاهد ، وعاصم الجحدري «حبة» بالحاء ، والربوة : ما ارتفع ، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، «بربوة» بضم الراء ، وقرأ عاصم ، وابن عامر بفتح الراء ، وقرأ الحسن والأعمش بكسر الراء ، وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين برباوة ، بزيادة ألف ، وفتح الراء ، وقرأ أبيّ بن كعب ، وعاصم الجحدري كذلك ، إلا أنهما ضما الراء ، وكذلك خلافهم في «المؤمنين» . قال الزجاج : يقال رَبوة ورِبوة ورُبوة ورباوة . والموضع : المرتفع من الأرض . إذا كان له ما يرويه من الماء ، فهو أكثر ريعاً من السفل . وقال ابن قتيبة : الربوة الارتفاع ، وكل شيء ارتفع وزاد ، فقد ربا ، ومنه الربا في البيع .
قوله تعالى : { فآتت أُكلها } قرأ ابن كثير ، ونافع : أكلها . والأكل بسكون الكاف حيث وقع ، ووافقهما أبو عمرو ، فيما أضيف إلى مؤنث ، مثل { أكلها دائم } فأما ما أضيف إلى مذكر مثل : أكله؟ أو كان غير مضاف إلى مكنى : مثل { أُكل خمطٍ } فثقله أبو عمرو . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي جميع ذلك مثقلا ، وأكلها ، أي ثمرها { ضعفين } أي : مثلين . فأما «الظل» فقال ابن قتيبة : هو أضعف المطر ، وقال الزجاج : هو المطر الدائم ، الصغار القطر الذي لا تكاد تسيل منه المثاعب . قال ثعلب : وهذا لفظ مستقبل وهو لأمر ماض ، فمعناه : فان لم يكن أصابها وابل فطل . ومعنى هذا المثل : أن صاحب هذه الجنة لا يخيب ، فإنها إن أصابها الطل حسنت ، وإن أصابها الوابل أضعفت ، فكذلك نفقة المؤمن المخلص . والبصير من أسماء الله تعالى ، معناه : المبصر . قال الخطابي : وهو فعيل بمعنى مفعل ، كقولهم : أليم بمعنى مؤلم .

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

قوله تعالى : { أيود أحدكم } هذه الآية متصلة بقوله تعالى : { لا تبطلوا صدقاتكم } ومعنى : «أيود» أيُحب ، وإنما ذكر النخيل والأعناب ، لأنهما من أنفس ما يكون في البساتين ، وخصّ ذلك بالكبير ، لأنه قد يئس من سعي الشباب في اكسابهم .
قوله تعالى : { وله ذرية ضعفاء } أي : ضعاف ، وإذا ضعفت الذرية كان أحنى عليهم ، وأكثر إشفاقاً { فأصابها } يعني : الجنة { إِعصار } وهي ريح شديدة ، تهب بشدة ، فترفع إلى السماء تراباً ، كأنه عمود .
قال الشاعر :
إِن كنت ريحاً فقد لاقيتَ إِعصاراً ... أي : لاقيت أشد منك . فان قيل : كيف جاز في الكلام أن يكون له جنة فأصابها ، ولم يقل : فيصيبُها؟ أفيجوز أن يقال : أتود أن يصيبَ مالاً ، فضاع ، والمراد : فيضيع؟ فالجواب : أن ذلك جائز في «وددت» ، لأن العرب تلقاها مرةً ب «أن» ، ومرةً ب «لو» ، فيقولون : وددت لو ذهبْت عنا ، ووددت أن تذهب عنا ، قاله الفراء ، وثعلب .
فصل
وهذه الآية مثلٌ ضربه الله تعالى في الحَسْرةِ بسلب النعمة عند شدّة الحاجة . وفيمن قَصَدَ به ثلاثة أقوال . أحدها : أنه مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عُمره ، قاله ابن عباس . والثاني : أنه مثل للمفرط في طاعة الله تعالى حتى يموت ، قاله مجاهد . والثالث : أنه مثل للمرائي في النفقة ، ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليه ، قاله السدي .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم } في سبب نزولها قولان . أحدهما : أن الأنصار كانوا إذا جذّوا النخل ، جاء كل رجل بشيء من ذلك فعلقه في المسجد ، فيأكل منه فقراء المهاجرين ، وكان أناسٌ ممن لا يرغب في الخير يجيء أحدهم بالقنو فيه الحشف والشيص ، فيعلقه ، فنزلت هذه الآية . هذا قول البراء بن عازب . والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أمر بزكاة الفطر ، فجاء رجل بتمر رديء ، فنزلت هذه الآية . هذا قول جابر بن عبد الله . وفي المراد بهذه النفقة قولان . أحدهما : أنها الصدقة المفروضة ، قاله عبيدة السلماني في آخرين . والثاني : أنها التطوع . وفي المراد بالطيب هاهنا : قولان . أحدهما : أنه الجيّد الأنفس ، قاله ابن عباس . والثاني : أنه الحلال ، قاله أبو معقل في آخرين .
قوله تعالى : { ولا تيمموا } أي : لا تقصدوا . والتيمم في اللغة : القصد . قال ميمون بن قيس الأعشى :
تَيمَمتُ قيساً وكم دونه ... من الأرض من مَهْمَهٍ ذي شزَن
وفي الخبيث قولان . أحدهما : أنه الرديء ، قاله الأكثرون ، وسبب الآية يدل عليه . والثاني : أنه الحرام ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { ولستم بآخذيه إِلا أن تغمضوا فيه } قال ابن عباس : لو كان بعضكم يطلب من بعض حقاً له ، ثم قضاه ذلك ، ولم يأخذه إِلى أن يرى أنه قد أغمض عن بعض حقه . وقال ابن قتيبة : أصل هذا أن يصرف المرء بصره عن الشيء ، ويغمضه ، فسمي الترخص إغماضاً . ومنه قول الناس للبائع : أغمض ، أي : لا تشخص ، وكن كأنك لا تبصر . وقال غيره : لما كان الرجل إذا رأى ما يكره ، أغمض عينيه ، لئلا يرى جميع ما يكره؛ جعل التجاوز والمساهلة في كل شيء إغماضاً .
قوله تعالى : { واعلموا أن الله غني } قال الزجاج : لم يأمركم بالتصدق عن عوز ، لكنه بلا أخباركم ، فهو حميد على ذلك . يقال : قد غني زيد ، يغنى غنى مقصوراً : إذا استغنى ، وقد غني القوم : إذا نزلوا في مكان يغنيهم ، والمكان الذي ينزلون فيه مغنى . والغواني : النساء ، قيل : إنما سمين بذلك ، لأنهن غنين بجمالهن ، وقيل : بأزواجهن . فأما «الحميد» فقال الخطابي : هو بمعنى المحمود ، فعيل بمعنى مفعول .

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)

قوله تعالى : { الشيطان يعدكم الفقر } قال الزجاج : يقال : وعدته أعده وعداً وعدة وموعداً وموعدة وموعوداً ، ويقال : الفَقر ، والفُقر . ومعنى الكلام : يحملكم على أن تؤدُّوا في الصدقات الرديء ، يخوفكم الفقر بإعطاء الجيد . ومعنى : يعدكم الفقر ، أي : بالفقر ، وحذفت الباء . قال الشاعر :
أمرتُكَ الخيرَ فافعل ما أُمِرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشبِ
وفي الفحشاء قولان . أحدهما : البخل . والثاني : المعاصي . قال ابن عباس : والله يعدكم مغفرة لفحشائكم ، وفضلاً في الرزق .

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)

قوله تعالى : { يؤتي الحكمة من يشاء } في المراد بهذه الحكمة أحد عشر قولاً . أحدها : أنها القرآن ، قاله ابن مسعود ، ومجاهد ، والضحاك ، ومقاتل في آخرين . والثاني : معرفة ناسخ القرآن ، ومنسوخه ، ومحكمه ، ومتشابهه ، ومقدمه ، ومؤخره ، ونحو ذلك ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . والثالث : النبوة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والرابع : الفهم في القرآن ، قاله أبو العالية ، وقتادة ، وإبراهيم . والخامس : العلم والفقه ، رواه ليث عن مجاهد . والسادس : الإصابة في القول ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد . والسابع : الورع في دين الله ، قاله الحسن . والثامن : الخشية لله ، قاله الربيع بن أنس . والتاسع : العقل في الدين ، قاله ابن زيد . والعاشر : الفهم ، قاله شريك . والحادي عشر : العلم والعمل ، لا يسمى الرجل حكيماً إِلا إِذا جمعهما ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى : { ومن يُؤتَ الحكمة } قرأ يعقوب بكسر تاء «يؤت» ، ووقف عليها بهاء . والمعنى : ومن يؤته الله الحكمة . وكذلك هي في قراءة ابن مسعود بهاء بعد التاء .
قوله تعالى : { وما يذكر } قال الزجاج : أي : وما يتفكر فكراً يذكر به ما قص من آيات القرآن إلا ذوو العقول . قال ابن قتيبة : «أولو» بمعنى : ذوو ، وواحد «أولو» «ذو» ، و«أولات» : «ذات» .

وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)

قوله تعالى : { أو نذرتم من نذرٍ } النذر : ما أوجبه الإنسان على نفسه ، وقد يكون مطلقاً ، ويكون معلقاً بشرط { فان الله يعلمه } قال مجاهد : يُحصيه ، وقال الزجاج : يجازى عليه . وفي المراد بالظالمين هاهنا ، قولان . أحدهما : أنهم المشركون ، قاله مقاتل . الثاني : المنفقون بالمنّ والأذى والرياء ، والمنذرون في المعصية ، قاله أبو سليمان الدمشقي . والأنصار : المانعون . فمعناه : مالهم مانع يمنعهم من عذاب الله .

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

قوله تعالى : { إِن تُبدوا الصدقاتِ فنعماهي } قال ابن السائب : لما نزل قوله تعالى : { وما أنفقتم من نفقة } قالوا : يا رسول الله ، صدقة السر أفضل ، أم العلانية؟ فنزلت هذه الآية قال الزجاج ، يقال : بدا الشيء يبدو : إذا ظهر ، وأبديته إبداءاً : إذا أظهرته ، وبدا لي بداء : إذا تغير رأيي عما كان عليه .
قوله تعالى : { فنعما هي } في «نعم» أربع لغات . «نعم» بفتح النون ، وكسر العين ، مثل : عَلِمَ . و «نعم» بكسرها ، و «نعم» بفتح النون ، وتسكين العين ، و«نعم» بكسر النون ، وتسكين العين . وأما قوله { فنعما هي } فقرأ نافع في غير رواية «ورش» ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية أبي بكر ، والمفضل : «فنعما» بكسر النون ، والعين ساكنة . وقرأ ابن كثير ، وعاصم في رواية حفص ، ونافع في رواية «ورش» ويعقوب بكسر النون والعين . وقرأ ابن عامر ، وحمزة والكسائي ، وخلف : «فنعما» بفتح النون ، وكسر العين ، وكلهم شددوا الميم . وكذلك خلافهم في سورة النساء . قال الزجاج : «ما» في تأويل الشيء ، أي : فنعم الشيء هي . وقال أبو علي : نعم الشيء إبداؤها . وقوله تعالى : { فهو خير لكم } يعني الإخفاء . واتفق العلماء على أن إخفاء الصدقة النافلة أفضل من إظهارها ، وفي الفريضة قولان . أحدهما : أن إظهارها أفضل ، قاله ابن عباس في آخرين . واختاره القاضي أبو يعلى . وقال الزجاج : كان إخفاء الزكاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أحسن ، فأما اليوم ، فالناس يسيؤون الظن ، فاظهارها أحسن . والثاني : إخفاؤها أفضل ، قاله الحسن ، وقتادة ، ويزيد بن أبي حبيب . وقد حمل أرباب القول الأول الصدقات في الآية على الفريضة ، وحملوا { وإن تخفوها } على النافلة ، وهذا قول عجيب . وإنما فضلت صدقة السر لمعنيين . أحدهما : يرجع إلى المعطي ، وهو بُعْدُه عن الرياء ، وقربه من الإخلاص ، والإعراض عما تؤثر النفس من العلانية . والثاني : يرجع إلى المعطى ، وهو دفع الذل عنه باخفاء الحال ، لأنه في العلانية ينكسر .
قوله تعالى : { ويكفِّرُ عنكم مِن سيئاتكم } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم { ونكفر عنك } بالنون والرفع ، والمعنى : ونحن نكفر عنكم ، ويجوز أن يكون مستأنفاً . وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي : و«نكفّر» بالنون وجزم الراء . قال أبو علي : وهذا على حمل الكلام على موضع قوله : { فهو خير لكم } لأن قوله : { فهو خير لكم } في موضع جزم ، ألا ترى أنه لو قال : وإِن تخفوها يكون أعظم لأجركم لجزم ، ومثله { لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن } [ المنافقون : 10 ] حمل قوله . و «أكن» ، على موضع «فأصدَّق» . وقرأ ابن عامر : و «يكفر» بالياء والرفع ، وكذلك عن حفص عن عاصم على الكناية عن الله عز وجل ، وقرأ أبان عن عاصم ، و «تكفر» بالتاء المرفوعة ، وفتح الفاء مع تسكين الراء .
قوله تعالى : { من سيئاتكم } في «من» قولان . أحدهما : أنها زائدة . والثاني : أنها داخلة للتبعيض . قال أبو سليمان الدمشقي : ووجه الحكمة في ذلك أن يكون العباد على خوف ووجل .

لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)

قوله تعالى : { ليس عليك هداهم } في سبب نزولها قولان . أحدهما : أن المسلمين كرهوا أن يتصدقوا على أقربائهم من المشركين ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول الجمهور . والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم» فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن جبير . والخير في الآية ، أريد به المال ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . ومعنى : { فلأنفسكم } ، أي : فلكم ثوابه .
قوله تعالى : { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } قال الزجاج : هذا خاص للمؤمنين ، أعلمهم الله أنه قد علم أن مُرادَهم ما عنده ، وإذا أعلمهم بصحة قصدهم ، فقد أعلمهم بالجزاء عليه .
قوله تعالى : { يوفَّ إِليكم } أي : توفون أجره ومعنى الآية : ليس عليك أن يهتدوا ، فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام ، فان تصدقتم عليهم أُثبتم . والآية محمولة على صدقة التطوع ، إذ لا تجوز أن يعطى الكافر من الصدقة المفروضة شيئاً .

لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

قوله تعالى : { للفقراء الذين أُحصروا في سبيل الله } لما حثهم على الصدقات والنفقات ، دلهم على خير من تُصدّق عليه . وقد تقدم تفسير الإحصار عند قوله { فان أُحصرتم } [ البقرة : 11 ] وفي المراد ب { الذين أحصروا } أربعة أقوال . أحدها : أنهم أهل الصفة حبسوا أنفسهم على طاعة الله ، ولم يكن لهم شيء ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . والثاني : أنهم فقراء المهاجرين ، قاله مجاهد . والثالث : أنهم قوم حبسوا أنفسهم على الغزو ، فلا يقدرون على الاكتساب ، قاله قتادة . والرابع : أنهم قوم أصابتهم جراحات مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فصاروا زمنى ، قاله سعيد بن جبير ، واختاره الكسائي ، وقال : أحصروا من المرض ، ولو أراد الحبس ، لقال : حُصروا ، وإنما الإحصار من الخوف ، أو المرض . والحصر : الحبس في غيرهما . وفي سبيل الله قولان . أحدهما : أنه الجهاد ، والثاني : الطاعة . وفي الضرب في الأرض قولان . أحدهما : أنه الجهاد لم يمكنهم لفقرهم ، نقل عن ابن عباس . والثاني : الكسب ، قاله قتادة . وفي الذي منعهم من ذلك ثلاثة أقوال . أحدها : الفقر ، قاله ابن عباس . والثاني : أمراضهم ، قاله ابن جبير ، وابن زيد . والثالث : التزامهم بالجهاد ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { يحسبهم الجاهل } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائي «يحسبهم» و «يَحْسِبَنَّ» بكسر السين في جميع القرآن . وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، وأبو جعفر بفتح السين في الكل . قال أبو علي : فتح السين أقيس ، لأن الماضي إذا كان على «فَعِلَ» ، نحو : حسب ، كان المضارع على «يفعل» ، مثل : فرق يفرق ، وشرب يشرب ، والكسر حسن لموضع السمع . قال ابن قتيبة : لم يرد الجهل الذي هو ضد العقل ، إنما أراد الجهل الذي هو ضد الخُبْر ، فكأنه قال : يحسبهم من لا يخبرُ أمرهم . والتعفف : ترك السؤال ، يقال : عف عن الشيء وتعفّف . والسيما : العلامة التي يعرف بها الشيء ، وأصله من السمة . وفي المراد بسيماهم ثلاثة أقوال . أحدها : تجملهم ، قاله ابن عباس . والثاني : خشوعهم ، قاله مجاهد . والثالث : أثر الفقر عليهم ، قاله السدي والربيع بن أنس ، وهذا يدل على أن للسيما حكماً يتعلق بها . قال إمامنا أحمد في الميت يوجد في دار الحرب ، ولا يعرف أمره : ينظر إلى سيماه ، فإن كان عليه سِيما الكفار من عدم الختان ، حكم له بحكمهم ، فلم يدفن في مقابر المسلمين ، ولم يصل عليه ، وإن كان عليه سيما المسلمين حكم له بحكمهم . وأما الإلحاف ، فهو : الإلحاح ، قال ابن قتيبة : يقال : ألحف في المسأله : إذا ألح ، وقال الزجاج : معنى ألحف : شَمِل بالمسألة ، ومنه اشتقاق اللحاف ، لأنه يشمل الإنسان بالتغطية ، فإن قيل : فهل كانوا يسألون غير ملحفين؟ فالجواب : أن لا ، وإنما معنى الكلام : أنه لم يكن منهم سؤال ، فيكون إلحاف .
قال الأعشى :
لا يغمز الساق من أينٍ ولا وَصَبٍ ... ولا يعضُّ على شرسوفِهِ الصّفر
معناه : ليس بساقه أين ولا وصب ، فيغمزها لذلك . قال الفراء : ومثله أن تقول : قلما رأيت مثل هذا الرجل ، ولعلك لم تر قليلاً ولا كثيراً من أشباهه ، فهم لا يسألون الناس إلحافاً ، ولا غير إلحاف . وإلى نحو هذا ذهب الزجاج ، وابن الأنباري في آخرين .

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

قوله تعالى : { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية } اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال . أحدها : أنها نزلت في الذين يرتبطون الخيل في سبيل الله عز وجل ، رواه حنش الصنعاني عن ابن عباس وهو قول أبي الدرداء ، و أبي أمامه ، ومكحول ، والأوزاعي في آخرين . والثاني : نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فإنه كان معه أربعة دراهم ، فأنفق في الليل درهماً وبالنهار درهماً ، وفي السر درهماً ، وفي العلانية درهماً ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وابن السائب ، ومقاتل . والثالث : أنها نزلت في عليّ ، وعبد الرحمن بن عوف ، فإن علياً بعث بوسق من تمر إلى أهل الصفة ليلاً ، وبعث عبد الرحمن إليهم بدنانير كثيرة نهاراً ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)

قوله تعالى : { الذين يأكلون الربا } الربا : أصله في اللغة : الزيادة ، ومنه الربوة والرابية ، و أربى فلان على فلان : زاد . وهذا الوعيد يشمل الآكل ، والعامل به ، و إنما خص الآكل بالذكر ، لأنه معظم المقصود . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه " قوله تعالى : { لا يقومون } قال ابن قتيبة أي : يوم البعث من القبور . والمس : الجنون ، يقال : رجل ممسوس . فالناس إذا خرجوا من قبورهم أسرعوا كما قال تعالى : { يوم يخرجون من الأجداث سراعاً } [ المعارج : 43 ] إلا أكله الربا ، فانهم يقومون ويسقطون ، لأن الله أربى الربا في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم ، فلا يقدرون على الإسراع . وقال سعيد بن جبير : تلك علامة آكل الربا إذا استحله يوم القيامة .
قوله تعالى : { ذلك } أي : هذا الذي ذكر من عقابهم { بأنهم قالوا : إنما البيع مثل الربا } وقيل : إن ثقيفاً كانوا أكثر العرب رباً ، فلما نهوا عنه؛ قالوا : إِنما هو مثل البيع .
قوله تعالى : { فمن جاءه موعظة من ربه } قال الزجاج : كل تأنيث ليس بحقيقي ، فتذكيره جائز ، ألا ترى أن الوعظ والموعظة معبران عن معنى واحد .
قوله تعالى : { فله ما سلف } أي : ما أكل من الربا .
وفي قوله تعالى : { وأمره إلى الله } قولان . أحدهما : أن «الهاء» ترجع إلى المربي ، فتقديره : إن شاء عصَمَه منه ، وإن شاء لم يفعل ، قاله سعيد بن جبير ، ومقاتل . والثاني : أنها ترجع إلى الربا ، فمعناه : يعفو الله عما شاء منه ، ويعاقب على ما شاء منه ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { ومن عاد } قال ابن جبير : من عاد إلى الربا مستحلاً محتجاً بقوله تعالى : { إِنما البيع مثل الربا }

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)

قوله تعالى : { يمحق الله الربا } فيه قولان . أحدهما : أن معنى محقه : تنقيصه واضمحلاله ، ومنه : محاق الشهر لنقصان الهلال فيه . روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير . والثاني : أنه إبطال ما يكون منه من صدقة ونحوها ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
قوله تعالى : { ويُربي الصدقات } قال ابن جبير : يضاعفها . والكَفَّار : الذي يكثر فعل ما يكفر به ، والأثيم : المتمادي في ارتكاب الإثم المصر عليه .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا } في نزولها ثلاثة أقوال . أحدها : أنها نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف ، وفي بني المغيرة من بني مخزوم ، وكان بنو المغيرة يأخذون الربا من ثقيف ، فلما وضع الله الربا ، طالبت ثقيف بني المغيرة بما لهم عليهم ، فنزلت هذه الآية ، والتي بعدها ، هذا قول ابن عباس . والثاني : أنها نزلت في عثمان بن عفان ، والعباس ، كانا قد أسلفا في التمر ، فلما حضر الجذاذ ، قال صاحب التمر : إن أخذتما مالكما ، لم يبق لي ولعيالي ما يكفي ، فهل لكما أن تأخذا النصف وأضعّف لكما؟ ففعلا ، فلما حل الأجل ، طلبا الزيادة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فنهاهما ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول عطاء وعكرمة . والثالث : أنها نزلت في العباس ، وخالد بن الوليد ، وكانا شريكين في الجاهلية ، وكانا يسلفان في الربا ، فجاء الإسلام ، ولهما أموال عظيمة في الربا ، فنزلت هذه الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم « أَلا إِن كل رباً من ربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربا العباس » هذا قول السدي . قال ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك : إنما قال :
{ ما بقي من الربا } لأن كل رباً كان قد ترك ، فلم يبق إلا ربا ثقيف . وقال قوم : الآية محمولة على من أربى قبل إسلامه ، وقبض بعضه في كفره ، ثم أسلم ، فيجب عليه أن يترك ما بقي ، ويعفى له عما مضى . فأما المراباة بعد الإسلام ، فمردودة فيما قبض ، ويسقط ما بقي .

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)

قوله تعالى : { فان لم تفعلوا فأذنوا } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر { فأذنوا } مقصورة ، مفتوحة الذال . وقرأ حمزة ، وأبو بكر عن عاصم : «فآذنوا» بمد الألف وكسر الذال . قال الزجاج : من قرأ : فأذنوا ، بقصر الألف ، وفتح الذال ، فالمعنى : أيقنوا . ومن قرأ بمد الألف ، وكسر الذال ، فمعناه : أعلموا كل من لم يترك الربا أنه حرب . قال ابن عباس : يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب .
قوله تعالى : { وإِن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون } أي : التي أقرضتموها ، لا تَظلمون ، فتأخذون أكثر منها ، ولا تُظلَمون فتنقصون منها ، والجمهور على فتح «تاء» تظلمون الأولى ، وضم «تاء» تظلمون الثانية . وروى المفضل عن عاصم : ضم الأولى ، وفتح الثانية .

وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)

قوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة } ذكر ابن السائب ، ومقاتل أنه لما نزل قوله تعالى : { وذروا ما بقي من الربا } قال بنو عمرو بن عمير لبني المغيرة : هاتوا رؤوس أموالنا ، وندع لكم الربا ، فشكا بنو المغيرة العسرة ، فنزلت هذا الآية . فأما العسرة ، فهي الفقر ، والضيق . والجمهور على تسكين السين ، وضمها أبو جعفر هاهنا ، وفي { ساعة العسرة } وقرأ الجمهور بفتح سين «الميسرة» ، وضمها نافع ، وتابعه زيد عن يعقوب على ضم السين ، إلا أنه زاد ، فكسر الراء ، وقلب التاء هاء ، ووصلها بباء . قال الزجاج : ومعنى وإن كان : وإن وقع . والنظرة : التأخير ، فأمرهم بتأخير رأس المال بعد إسقاط الربا إذا كان المطالب معسراً ، وأعلمهم أن الصدقة عليه بذلك أفضل بقوله تعالى : { وأن تصدقوا } والأكثرون على تشديد الصاد ، وخففها عاصم مع تشديد الدال . وسكنها ابن أبي عبلة مع ضم الدال فجعله من الصدق .

وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)

قوله تعالى : { واتقوا يوماً ترجعون فيه إِلى الله } قرأ أبو عمرو بفتح تاء «ترجعون» وضمها الباقون . قاله ابن عباس ، وأبو سعيد الخدري ، وسعيد بن جبير ، وعطية ، ومقاتل في آخرين : هذه آخر آية نزلت من القرآن . قال ابن عباس : وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها بأحد وثمانين يوماً ، وقال ابن جريج : توفي بعدها بتسع ليال . وقال مقاتل : بسبع ليال . قوله تعالى :
{ ثم توفى كل نفس ما كسبت } أي : تعطى جزاء ما كسبت .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين } قال الزجاج : يقال : داينت الرجل إذا عاملته ، فأخذت منه بدين ، وأعطيته .
قال الشاعر :
داينت أروى والديون تقضى ... فماطلت بعضاً وأدت بعضاً
والمعنى : إذا كان لبعضكم على بعض دين إلى أجل مسمى ، فاكتبوه ، فأمر الله تعالى بكتابة الدين ، وبالإشهاد ، حفظاً منه للأموال ، وللناس من الظلم ، لأن من كانت عليه البينة ، قل تحديثه لنفسه بالطمع في إذهابه . وقال ابن عباس : نزلت هذه الآية في السلم خاصة . فإن قيل : ما الفائدة في قوله «بدين» و «تداينتم» يكفي عنه؟ فالجواب : إن تداينتم يقع على معنيين . أحدهما : المشاراة والمبايعة والإقراض . والثاني : المجازاة بالأفعال ، فالأول يقال فيه : الدين بفتح الدال ، والثاني : يقال منه : الدين بكسر الدال . قال تعالى : { يسألون أيان يوم الدين } [ الذاريات : 12 ] أي : يوم الجزاء .
وأنشدوا :
. . . . ... . . دناهم كما دانوا
فدل قوله : «بدين» على المراد بقوله «تداينتم» ذكره ابن الأنباري . فأما العدل فهو الحق . قال قتادة : لا تدعن حقاً ، ولا تزيدن باطلا .
قوله تعالى : { ولا يأب كاتب } أي : لا يمتنع أن يكتب كما علمه الله ، وفيه قولان . أحدهما : كما علمه الله الكتابة ، قاله سعيد بن جبير . وقال الشعبي : الكتابة فرض على الكفاية كالجهاد . والثاني : كما أمره الله به من الحق ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { وليملل الذي عليه الحق } قال سعيد بن جبير : يعني المطلوب ، يقول : ليمل ما عليه من حق الطالب على الكاتب ، { ولا يبخس منه شيئاً } أي : لا ينقص عند الإملاء . قال شيخنا أبو منصور اللغوي : يقال : أمللت أمل ، وأمليت أملي لغتان ، فأمليت من الإملاء وأمللت من الملل والملال ، لأن الممل يطيل قوله على الكاتب ويكرره .
قوله تعالى : { فان كان الذي عليه الحق سفيهاً } في المراد بالسفيه هاهنا أربعة أقوال . أحدها : أنه الجاهل بالأموال ، والجاهل بالإملاء . قاله مجاهد ، وابن جبير . والثاني : أنه الصبي والمرأة ، قاله الحسن . والثالث : أنه الصغير ، قاله الضحاك ، والسدي . والرابع : أنه المبذر ، قاله القاضي أبو يعلى . وفي المراد بالضعيف ثلاثة أقوال . أحدها : أنه العاجز والأخرس ، ومن به حمق ، قاله ابن عباس ، وابن جبير . والثاني : أنه الأحمق ، قاله مجاهد ، والسدي . والثالث : أنه الصغير قاله القاضي أبو يعلى .
قوله تعالى : { أو لا يستطيع أن يملَّ هو } قاله ابن عباس : لا يستطيع لعيِّه . وقال ابن جبير : لا يحسن أن يمل ما عليه ، وقال القاضي أبو يعلى : هو المجنون .
قوله تعالى : { فليملل وليه } في هاء الكناية قولان . أحدها : أنها تعود إلى الحق ، فتقديره : فليملل ولي الحق ، هذا قول ابن عباس ، وابن جبير ، والربيع بن أنس ، ومقاتل ، واختاره ابن قتيبة . والثاني : أنها تعود إلى الذي عليه الحق ، وهذا قول الضحاك ، وابن زيد ، واختاره الزجاج ، وعاب قول الأولين ، فقال : كيف يقبل قول المدّعى؟! وما حاجته إلى الكتاب والإشهاد ، والقول قوله؟! وهذا اختيار القاضي أبي يعلى أيضاً .

والعدل : الإنصاف . وفي قوله تعالى : { من رجالكم } قولان . أحدهما : أنه يعني الأحرار ، قاله مجاهد ، والثاني : أهل الإسلام ، وهذا اختيار الزجاج ، والقاضي أبي يعلى ، ويدل عليه أنه خاطب المؤمنين في أول الآية .
قوله تعالى : { فإن لم يكونا رجلين } أراد : فإن لم يكن الشهيدان رجلين { فرجل وامرأتان } ولم يرد به : إن لم يوجد رجلان .
قوله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء } قال ابن عباس : من أهل الفضل والدين . قوله تعالى : { أن تضل إِحداهما فتذكرّ إِحداهما الأخرى } ذكر الزجاج ، أن الخليل ، وسيبويه ، وسائر النحويين الموثوق بعلمهم ، قالوا : معناه : استشهدوا امرأتين ، لأن تذكر إِحداهما الأخرى . ومن أجل أن تذكر إحداهما الأخرى . وقرأ حمزة «إن تضل» بكسر الألف . والضلال هاهنا : النسيان ، قاله ابن عباس والضحاك ، والسدي والربيع ، ومقاتل ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة . وأما قوله : «فتذكر» فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، بالتخفيف مع نصب الراء ، وقرأ حمزة بالرفع مع تشديد الكاف ، وقرأ الباقون بالنصب ، وتشديد الكاف ، فمن شدد أراد الإِدِّكار عند النسيان ، وفي قراءة من خفف قولان . أحدهما : أنها بمعنى المشددة أيضاً ، وهذا قول الجمهور . قال الضحاك ، والربيع بن أنس ، والسدي : ومعنى القراءتين واحد . والثاني : أنها بمعنى : تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر ، وهذا مذهب سفيان بن عيينة ، وحكى الأصمعي عن أبي عمرو نحوه ، واختاره القاضي أبو يعلى ، وقد رده جماعة ، منهم ابن قتيبة . قال أبو علي : ليس مذهب ابن عيينة بالقوي ، لأنهن لو بلغن ما بلغن ، لم تجز شاهدتهن إلا أن يكون معهن رجل ، ولأن الضلال هاهنا : النسيان ، فينبغي أن يقابل بما يعادله ، وهو التذكير .
قوله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } قال قتادة : كان الرجل يطوف في الحِواء العظيم ، [ فيه القوم ، فيدعوهم إلى الشهادة ] فلا يتبعه منهم أحد ، فنزلت هذه الآية . وإلى ماذا يكون هذا الدعاء؟ فيه ثلاثة أقوال . أحدها : إلى تحمل الشهادة ، وإثباتها في الكتاب ، قاله ابن عباس ، وعطية ، وقتادة ، والربيع . والثاني : إلى إقامتها وأدائها عند الحكام بعد أن تقدمت شهادتهم بها ، قاله سعيد بن جبير ، وطاووس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، والشعبي ، وأبو مجلز ، والضحاك ، وابن زيد . ورواه الميموني عن أحمد ابن حنبل . والثالث : إلى تحملها وإلى أدائها ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، واختاره الزجاج ، قال القاضي أبو يعلى : إنما يلزم الشاهد أن لا يأبى إذا دعي لإقامة الشهادة إذا لم يوجد من يشهد غيره ، فأما إن كان قد تحملها جماعة ، لم تتعين عليه ، وكذلك في حال تحملها ، لأنه فرض على الكفاية كالجهاد ، فلا يجوز لجميع الناس الامتناع منه .
قوله تعالى : { ولا تسأموا } أي : لا تملوا وتضجروا أن تكتبوا القليل والكثير الذي قد جرت العادة بتأجيله إلى أجله ، أي : إلى محل أجله { ذلكم أقسط عند الله } أي : أعدل ، { وأقوم للشهادة } لأن الكتاب يذكر الشهود جميع ما شهدوا عليه { وأدنى } أي : أقرب { ألاَّ ترتابوا } أي : لا تشكوا { إلا أن تكون } الأموال { تجارة } أي : إلا أن تقع تجارة .

وقرأ عاصم «تجارة» بالنصب على معنى : إلا أن تكون الأموال تجارة حاضرة ، وهي البيوع التي يستحق كل واحد منهما على صاحبه تسليم ما عقد عليه من جهته بلا تأجيل ، فأباح ترك الكتاب فيها توسعة ، لئلا يضيق عليهم أمر تبايعهم في مأكول أو مشروب .
قوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } الإشهاد مندوب إليه فيما جرت العادة بالإشهاد عليه .
فصل
وهذا الآية تتضمن الأمر باثبات الدين في كتاب ، وإثبات شهادة في البيع والدين . واختلف العلماء ، هل هذا أمر وجوب ، أم على وجه الاستحباب؟ فذهب الجمهور إلى أنه أمر ندب واستحباب فعلى هذا هو محكم ، وذهبت طائفة إلى أن الكتاب والإشهاد واجبان ، روي عن ابن عمر ، وأبي موسى ، ومجاهد ، وابن سيرين ، وعطاء ، والضحاك ، وأبي قلابة ، والحكم ، وابن زيد . ثم اختلف هؤلاء ، هل هذا الحكم باقٍ ، أم منسوخ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه محكم غير منسوخ ، وذهبت طائفة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى : { فان أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي أؤتمن أمانته } .
قوله تعالى : { ولا يضارَّ كاتب ولا شهيد } قرأ أبو جعفر بتخفيف الراء من «يضار» وسكونها . وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال . أحدها : أن معناه : لا يضارَّ بأن يدعى وهو مشغول ، هذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، والربيع بن أنس ، والفراء ، ومقاتل . وقال الربيع : كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول : اكتب لي ، فيقول : إني مشغول ، فيلزمه ، ويقول : إنك قد أُمرت بالكتابة ، فيضاره ، ولا يدعه ، وهو يجد غيره ، وكذلك يفعل الشاهد ، فنزلت { ولا يضارَّ كاتب ولا شهيد } . والثاني : أن معناه : النهي للكاتب أن يضار من يكتب له ، بأن يكتب غير ما يمل عليه ، وللشاهد أن يشهد بما لم يستشهد عليه ، هذا قول الحسن ، وطاووس ، وقتادة ، وابن زيد ، واختاره ابن قتيبة ، والزجاج . واحتج الزجاج على صحته بقوله تعالى : { وإن تفعلوا فانه فسوق بكم } قال : ولا يسمى من دعا كاتباً ليكتب ، وهو مشغول ، أو شاهداً؛ فاسقاً ، إنما يسمى من حرف الكتاب ، أو كذب في الشهادة ، فاسقاً . والثالث : أن معنى المضارّة : امتناع الكاتب أن يكتب ، والشهادة أن يشهد ، وهذا قول عطاء في آخرين .
قوله تعالى : { وإن تفعلوا } يعني : المضارة .

وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

قوله تعالى : { وإن كنتم على سفر } إنما خص السفر ، لأن الأغلب عدم الكاتب ، والشاهد فيه . ومقصود الكلام : إذا عدمتم التوثق بالكتاب ، والإشهاد ، فخذوا الرهن .
قوله تعالى : { فرهان } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعبد الوارث { فرهن } بضم الراء والهاء من غير ألف ، وأسكن الهاء عبد الوارث . ووجهه التخفيف . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي { فرهان } بكسر الراء ، وفتح الهاء ، وإثبات الألف . قال ابن قتيبة : من قرأ { فرهان } أراد : جمع رهن ، ومن قرأ { فرهن } أراد : جمع رهان ، فكأنه جمع الجمع .
قوله تعالى : { مقبوضة } يدل على أن من شرط لزوم الرهن القبض ، وقبض الرهن أخذه من راهنه منقولاً ، فإن كان مما لا ينقل ، كالدور والأرضين ، فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه .
قوله تعالى : { فإن أَمِنَ بعضكم بعضاً } أي : فإن وثق رب الدين بأمانة الغريم ، فدفع ماله بغير كتاب ، ولا شهود ، ولا رهن ، { فليؤد الذي اؤتمن } وهو المدين { أمانته وليتق الله ربه } أن يخون من ائتمنه .
قوله تعالى : { فإنه آثم قلبه } قال السدي عن أشياخه : فانه فاجر قلبه . قال القاضي أبو يعلى : إنما أضاف الإثم إلى القلب ، لأن المآثم تتعلق بعقد القلب ، وكتمان الشهادة إنما هو عقد النية لترك أَدائِها .

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)

قوله تعالى : { وإِن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } أما إبداء ما في النفس ، فانه العمل بما أضمره العبد ، أو النطق ، وهذا مما يحاسب عليه العبد ، ويؤاخذ به ، وأما ما يخفيه في نفسه ، فاختلف العلماء في المراد بالمخفي في هذه الآية على قولين . أحدهما : أنه عام في جميع المخفيات ، وهو قول الأكثرين . واختلفوا : هل هذا الحكم ثابت في المؤاخذة ، أم منسوخ؟ على قولين . أحدهما : أنه منسوخ بقوله تعالى : { لا يكلف الله نفساً إِلا وسعها } [ البقرة : 286 ] هذا قول ابن مسعود ، وأبي هريرة ، وابن عباس في رواية ، والحسن ، والشعبي ، وابن سيرين ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، والسدي ، وابن زيد ، ومقاتل . والثاني : أنه ثابت في المؤاخذة على العموم ، فيؤاخذ به من يشاء ، ويغفره لمن يشاء ، وهذا مروي عن ابن عمر ، والحسن ، واختاره أبو سليمان الدمشقي ، والقاضي أبو يعلى . وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : هذه الآية لم تنسخ ، ولكن الله عز وجل إذا جمع الخلائق ، يقول لهم : إني مخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطَّلع عليه ملائكتي ، فأما المؤمنون فيخبرهم ، ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم ، وهو قوله تعالى : { يحاسبكم به الله } يقول : يخبركم به الله ، وأما أهل الشرك والريب ، فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب ، وهو قوله تعالى : { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } والأكثرون على تسكين راء «فيغفر» وباء «يعذب» منهم ابن كثير ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي . وإنما جزموا لإتباع هذا ما قبله ، وهو «يحاسبْكم» وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر ، وعاصم ويعقوب : برفع الراء ، والباء فيهما . فهؤلاء قطعوا الكلام عن الأول ، قال ابن الأنباري : وقد ذهب قوم إلى أن المحاسبة هاهنا هي إطلاع الله العبد يوم القيامة على ما كان حدث به نفسه في الدنيا ، ليعلم أنه لم يعزب عنه شيء . قال : والذي نختاره أن تكون الآية محكمة ، لأن النسخ إنما يدخل على الأمر والنهي . وقد روي عن عائشة أنها قالت : أما ما أعلنت ، فالله يحاسبك به ، وأما ما أخفيت ، فما عُجلت لك به العقوبة في الدنيا . والقول الثاني : أنه أمر خاص في نوع من المخفيات ، ولأرباب هذا القول فيه قولان . أحدهما : أنه كتمان الشهادة ، قاله ابن عباس في رواية ، وعكرمة ، والشعبي . والثاني : أنه الشك واليقين ، قاله مجاهد . فعلى هذا المذكور تكون الآية محكمة .

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)

قوله تعالى : { آمن الرسول بما أنزل إِليه من ربه } . روى البخاري ومُسلم في «صحيحيهما» من حديث أبي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال " الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه " قال أبو بكر النقاش : معناه : كفتاه عن قيام الليل .
وقيل : إنهما نزلتا على سبب ، وهو ما روى العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال : لما أنزل الله تعالى : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبْكم به الله } اشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم [ فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جثوا على الركب ] فقالوا : قد أُنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها ، فقال : " أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا؟ قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا واليك المصير " فلما قالوها وذلت بها ألسنتهم ، أنزل الله في أثرها { آمن الرسول } . قال الزجاج : لما ذكر ما تشتمل عليه هذه السورة من القصص والأحكام ، ختمها بتصديق نبيه ، والمؤمنين . وقرأ ابن عباس { وكتابه } فقيل له في ذلك ، فقال : كتاب أكثر من كُتُب ، ذهب به إلى اسم الجنس ، كما تقول : كثر الدرهم في أيدي الناس . وقد وافق ابن عباس في قراءته حمزة ، والكسائي ، وخلف ، وكذلك في { التحريم } ، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم في رواية أبي بكر ، وابن عامر { وكتبه } هاهنا بالجمع ، وفي { التحريم } بالتوحيد . وقرأ أبو عمرو بالجمع في الموضعين .
قوله تعالى : { لا نفرق بين أحد من رسله } قرأ أبو عمرو ما أضيف إلى مكنى على حرفين ، مثل «رسلنا» و «رسلكم» باسكان السين ، وثقَّل ما عدا ذلك . وعنه في قوله تعالى : { على رسلك } روايتان ، التخفيف والتثقيل . وقرأ الباقون كل ما في القرآن من هذا الجنس بالتثقيل . ومعنى قوله : { لا نفرق بين أحد من رسله } أي : لا نفعل كما فعل أهل الكتاب ، آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض . وقرأ يعقوب «لا يفرق» بالياء ، وفتح الراء .
قوله تعالى : { غفرانك } أي : نسألك غفرانك . والمصير : المرجع .

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)

قوله تعالى : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } الوسع : الطاقة . قاله ابن عباس ، وقتادة . ومعناه : لا يكلفها ما لا قدرة لها عليه لاستحالته ، كتكليف الزمن السعي ، والأعمى النظر . فأما تكليف ما يستحيل من المكلف ، لا لفقد الآلات ، فيجوز كتكليف الكافر الذي سبق في العلم القديم أنه لا يؤمن الإيمان ، فالآية محمولة على القول الأول . ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى في سياق الآية { ربنا لا تحملنا مالا طاقة لنا به } فلو كان تكليف ما لا يطاق ممتنعاً ، كان السؤال عبثاً ، وقد أمر الله تعالى نبيه بدعاء قوم قال فيهم : { وان تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً } [ الكهف : 57 ] وقال ابن الأنباري : المعنى : لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه ، وان كنا مطيقين له على تجشم ، وتحمل مكروه ، فخاطب العرب على حسب ما تعقل ، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه : ما أطيق النظر إليك ، وهو مطيق لذلك ، لكنه يثقل عليه ، ومثله قوله تعالى : { ما كانوا يستطيعون السمع } .
قوله تعالى : { لها ما كسبت } قال ابن عباس : لها ما كسبت من طاعة { وعليها ما اكتسبت } من معصية . قال أبو بكر النقاش : فقوله : «لها» دليل على الخير ، و «عليها» دليل على الشر . وقد ذهب قوم إلى أن «كسبت» لمرة ومرات ، و «اكتسبت» لا يكون إلا لشيء بعد شيء ، وهما عند آخرين لغتان بمعنى واحد ، كقوله عز وجل : { فمهل الكافرين أمهلهم رويدا } [ الطارق : 17 ] .
قوله تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا } هذا تعليم من الله للخلق أن يقولوا ذلك ، قال ابن الأنباري : والمراد بالنسيان هاهنا : الترك مع العمد ، لأن النسيان الذي هو بمعنى الغفلة قد أمنت الآثام من جهته . والخطأ أيضاً هاهنا من جهة العمد ، لا من جهة السهو ، يقال : أخطأ الرجل : إذا تعمد ، كما يقال : أخطأ إذا غفل . وفي «الإصر» قولان . أحدهما : أنه العهد ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي . والثاني : الثقل أي : لا تثقل علينا من الفروض ما ثقلته على بني اسرائيل ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى : { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } فيه خمسة أقوال . أحدهما : أنه ما يصعُب ويشق من الأعمال ، قاله الضحاك ، والسدي ، وابن زيد ، والجمهور . والثاني : أنه المحبة ، رواه الثوري عن منصور عن إبراهيم . والثالث : الغلمة قاله مكحول . والرابع : حديث النفس ووساوسها . والخامس : عذاب النار .
قوله تعالى : { أنت مولانا } أي : أنت ولينا { فانصرنا } أي : أعنا . وكان معاذ إذا فرغ من هذه السورة قال : آمين .

الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)

قوله تعالى : { نزل عليك الكتاب } يعني : القرآن { بالحق } يعني : العدل .
{ مصدقاً لما بين يديه } من الكتب . وقيل : إنما قال في القرآن : «نزّل» بالتشديد ، وفي التوراة والإنجيل : أنزل ، لأن كل واحد منهما أنزل في مرة واحدة ، وأنزل القرآن في مرات كثيرة . فأما التوراة ، فذكر ابن قتيبة عن الفراء أنه يجعلها من : وري الزند يري : إذا خرجت ناره ، وأوريتُه ، يريد أنها ضياء . قال ابن قتيبة : وفيه لغة أخرى : ورى يري ، ويقال : وريت بك زنادي . والإنجيل ، من نجلت الشيء : إذا أخرجته ، وولد الرجل : نجله ، كأنه هو استخرجه ، يقال : قبح الله ناجليه ، أي : والديه ، وقيل للماء يقطر من البئر : نجل ، يقال : قد استنجل الوادي : [ إذا ظهر نزوزه ] . وإنجيل : إفعيل من ذلك ، كأن الله أظهر به عافياً من الحق دارساً . قال شيخنا أبو منصور اللغوي : والإنجيل : أعجمي معرب ، قال : وقال بعضهم : إن كان عربياً ، فاشتقاقه من النجل ، وهو ظهور الماء على وجه الارض ، واتساعه ، ونجلت الشيء : إذا استخرجته وأظهرته ، فالإنجيل مستخرج به علوم وحكم وقيل : هو إفعيل من النجل وهو الأصل : فالإنجيل أصل لعلوم وحكم وفي الفرقان هاهنا قولان . أحدهما : أنه القرآن ، قاله قتادة ، والجمهور . قال أبو عبيدة : سمي القرآن فرقاناً ، لأنه فرق بين الحق والباطل ، والمؤمن والكافر ، والثاني : أنه الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى حين اختلفوا فيه ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقال السدي : في الآية تقديم وتأخير ، تقديره : وأنزل التوراة ، والإنجيل ، والفرقان ، فيه هدى للناس .

مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)

قوله تعالى : { إن الذين كفروا بآيات الله } قال ابن عباس : يريد وفد نجران النصارى ، كفروا بالقرآن ، وبمحمد . والانتقام : المبالغة في العقوبة .

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)

قوله تعالى : { إِن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } قال أبو سليمان الدمشقي : هذا تعريض بنصارى أهل نجران فيما كانوا ينطوون عليه من كيد النبي صلى الله عليه وسلم وذكر التصوير في الأرحام تنبيه على أمر عيسى .

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)

قوله تعالى : { منه آيات محكمات } المحكم : المتقن المبيّن ، وفي المراد به هاهنا ثمانية أقوال . أحدها : أنه الناسخ ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، والسدي في آخرين . والثاني : أنه الحلال والحرام ، روي عن ابن عباس ، ومجاهد . والثالث : أنه ما علم العلماء تأويله . روي عن جابر بن عبد الله . والرابع : أنه الذي لم ينسخ ، قاله الضحاك . والخامس : أنه مالم تتكرر ألفاظه ، قاله ابن زيد . والسادس : أنه ما استقل بنفسه ، ولم يحتج إلى بيان ، ذكره القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد . وقال الشافعي ، وابن الأنباري : هو ما لم يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً ، والسابع : أنه جميع القرآن غير الحروف المقطعة . والثامن : أنه الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، والحلال والحرام ، ذكر هذا والذي قبله القاضي أبو يعلى . وأم الكتاب أصله . قاله ابن عباس ، وابن جبير ، فكأنه قال : هن أصل الكتاب اللواتي يعمل عليهن في الأحكام ، ومجمع الحلال والحرام . وفي المتشابه سبعة أقوال . أحدها : أنه المنسوخ ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، والسدي في آخرين . والثاني : أنه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل ، كقيام الساعة ، روي عن جابر بن عبد الله . والثالث : أنه الحروف المقطعة كقوله : «ألم» ونحو ذلك ، قاله ابن عباس . والرابع : أنه ما اشتبهت معانيه ، قاله مجاهد . والخامس : أنه ما تكررت ألفاظه ، قاله ابن زيد . والسادس : أنه ما احتمل من التأويل وجوهاً . وقال ابن الأنباري : المحكم ما لا يحتمل التأويلات ، ولا يخفى على مميّز ، والمتشابه : الذي تعتوره تأويلات . والسابع : أنه القصص ، والأمثال ، ذكره القاضي أبو يعلى . فإن قيل : فما فائدة إنزال المتشابه ، والمراد بالقرآن البيان والهدى؟ فعنه أربعة أجوبة . أحدها : أنه لما كان كلام العرب على ضربين . أحدهما : الموجز الذي لا يخفى على سامعه ، ولا يحتمل غير ظاهره . والثاني : المجاز ، والكنايات ، والإشارات ، والتلويحات ، وهذا الضرب الثاني هو المستحلى عند العرب ، والبديع في كلامهم ، أنزل الله تعالى القرآن على هذين الضربين ، ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله ، فكأنه قال : عارضوه بأي الضربين شئتم ، ولو نزل كله محكماً واضحاً ، لقالوا : هلا نزل بالضرب المستحسن عندنا . ومتى وقع في الكلام إشارة أو كناية ، أو تعريض أو تشبيه ، كان أفصح وأغرب .
قال امرؤ القيس :
وما ذرفت عيناك إلا لنضر بي ... بسهميك في أعشار قلب مقتَّل
فجعل النظر بمنزلة السهم على جهة التشبيه ، فحلا هذا عند كل سامع ومنشد ، وزاد في بلاغته . وقال امرؤ القيس أيضاً :
رمتني بسهم أصاب الفؤاد غداة الرحيل فلم أننصر ... وقال أيضاً :
فقلت له لما تمطى بصُلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل
فجعل لليل صلباً وصدراً على جهة التشبيه ، فحسن بذلك شعره . وقال غيره :
من كميت أجادها طابخاها لم تمت كل موتها في القدور ...

أراد بالطابخين : الليل والنهار على جهة التشبيه . وقال آخر :
تبكي هاشماً في كل فجر ... كما تبكي على الفنن الحمام
وقال آخر :
عجبت لها أنى يكون غناؤها ... فصيحاً ولم تفتح بمنطقها فما
فجعل لها غناء وفماً على جهة الاستعارة . والجواب الثاني : أن الله تعالى أنزله مختبراً به عباده ، ليقف المؤمن عنده ، ويرده إلى عالمه ، فيعظم بذلك ثوابه ، ويرتاب به المنافق ، فيداخله الزيغ ، فيستحق بذلك العقوبة ، كما ابتلاهم بنهر طالوت . والثالث : أن الله تعالى أراد أن يشغل أهل العلم بردّهم المتشابه إلى المحكم ، فيطول بذلك فكرهم ، ويتصل بالبحث عنه اهتمامهم ، فيثابون على تعبهم ، كما يثابون على سائر عباداتهم ، ولو جعل القرآن كله محكماً لاستوى فيه العالم والجاهل ، ولم يفضل العالم على غيره ، ولماتت الخواطر ، وإنما تقع الفكرة والحيلة مع الحاجة إلى الفهم . وقد قال الحكماء : عيب الغنى : أنه يورث البلادة ، وفضل الفقر : أنه يبعث على الحيلة ، لأنه إذا احتاج احتال . والرابع : أن أهل كل صناعة يجعلون في علومهم معاني غامضة ، ومسائل دقيقة ليحرجوا بها من يعلَّمون ، ويمرّنوهم على انتزاع الجواب ، لأنهم إذا قدروا على الغامض ، كانوا على الواضح أقدر ، فلما كان ذلك حسناً عند العلماء ، جاز أن يكون ما أنزل الله تعالى من المتشابه على هذا النحو ، وهذه الأجوبة معنى ما ذكره ابن قتيبة ، وابن الأنباري .
قوله تعالى : { فأما الذين في قلبوهم زيغ } في الزيغ قولان . أحدهما : أنه الشك ، قاله مجاهد ، والسدي . والثاني : أنه الميل ، قاله أبو مالك وعن ابن عباس كالقولين . وقيل : هو الميل عن الهدى . وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال . أحدها : أنهم الخوارج ، قاله الحسن . والثاني : المنافقون ، قاله ابن جريج . والثالث : وفد نجران من النصارى ، قاله الربيع . والرابع : اليهود ، طلبوا معرفة بقاء هذه الأمة من حساب الجُمّل ، قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { فيتبعون ما تشابه منه } قال ابن عباس : يُحيلون المحكم على المتشابه ، والمتشابه على المحكم ، ويُلبسون . وقال السدي : يقولون : ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا ، ثم نسخت؟! وفي المراد بالفتنة هاهنا ، ثلاثة أقوال . أحدها : أنها الكفر ، قاله السدي ، والربيع ، ومقاتل ، وابن قتيبة . والثاني : الشبهات ، قاله مجاهد . والثالث : إفساد ذات البين ، قاله الزجاج : وفي التأويل وجهان . أحدهما : أنه التفسير . والثاني : العاقبة المنتظرة . والراسخ : الثابت ، يقال : رسخ يرسخ رسوخاً . وهل يعلم الراسخون تأويله أم لا؟ فيه قولان . أحدهما : أنهم لا يعلمونه ، وأنهم مستأنفون ، وقد روى طاووس عن ابن عباس أنه قرأ { ويقول الراسخون في العلم آمنّا به } وإلى هذا المعنى ذهب ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وابن عباس ، وعروة ، وقتادة ، وعمر بن عبد العزيز ، والفراء ، وأبو عبيدة ، وثعلب ، وابن الأنباري ، والجمهور . قال ابن الأنباري : في قراءة عبد الله { إِن تأويله ، إِلا عند الله والراسخون في العلم } وفي قراءة أُبيّ ، وابن عباس { ويقول الراسخون } وقد أنزل الله تعالى في كتابه أشياء ، استأثر بعلمها ، كقوله تعالى : { قل إنما علمها عند الله } [ الأعراف : 187 ] وقوله تعالى : { وقروناً بين ذلك كثيراً } [ الفرقان : 38 ] فأنزل الله تعالى المجمل ، ليؤمن به المؤمن ، فيسعد ، ويكفر به الكافر ، فيشقى . والثاني : أنهم يعلمون ، فهم داخلون في الاستثناء . وقد روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : أنا ممن يعلم تأويله ، وهذا قول مجاهد ، والربيع ، واختاره ابن قتيبة ، وأبو سليمان الدمشقي . قال ابن الأنباري : الذي روى هذا القول عن مجاهد ابن أبي نجيح ، ولا تصح روايته التفسير عن مجاهد .

رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)

قوله تعالى : { ربنا لا تزغ قلوبنا } أي يقولون : { ربنا لا تُمل قلوبنا عن الهدى بعد إِذ هديتنا } وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وابن يعمر ، والجحدري «لا تزغ» بفتح التاء «قلوبنا» برفع الباء . ولدنك : بمعنى عندك . والوهاب : الذي يجود بالعطاء من غير استثابة ، والمخلوقون لا يملكون أن يهبوا شفاءً لسقيم ، ولا ولداً لعقيم ، والله تعالى قادر على أن يهب جميع الأشياء .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)

قوله تعالى : { لن تغني عنهم أموالهم } أي : لن تدفع ، لأن المال يدفع عن صاحبه في الدنيا ، وكذلك الأولاد ، فأما في الآخرة ، فلا ينفع الكافر ماله ، ولا ولده . وقوله تعالى : { من الله } أي : من عذابه .

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)

قوله تعالى : { كدأب آل فرعون } في الدأب قولان . أحدهما : أنه العادة ، فمعناه : كعادة آل فرعون ، يريد : كفر اليهود ، ككفر من قبلهم ، قاله ابن قتيبة ، وقال ابن الأنباري : و «الكاف» في «كدأب» متعلقة بفعل مضمر ، كأنه قال : كفرت اليهود ، ككفر آل فرعون . والثاني : أنه الاجتهاد ، فمعناه : أن دأب هؤلاء ، وهو اجتهادهم في كفرهم ، وتظاهرهم على النبي صلى الله عليه وسلم كتظاهر آل فرعون على موسى عليه السلام ، قاله الزجاج .

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)

قوله تعالى : { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون } قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر { ستغلبون وتحشرون } بالتاء و { يرونهم } بالياء ، وقرأ نافع ثلاثتهن بالتاء ، وقرأهن حمزة . والكسائي بالياء . وفي سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها : أن يهود المدينة لما رأوا وقعة بدر ، همّوا بالإِسلام ، وقالوا : هذا هو النبي الذي نجده في كتابنا ، لا ترد له راية ، ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا حتى تنظروا له وقعة أخرى ، فلما كانت أُحد ، شكّوا ، وقالوا : ما هو به ، ونقضوا عهداً كان بينهم وبين النبي ، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكباً إلى أهل مكة ، فقالوا : تكون كلمتنا واحدة ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس . والثاني : أنها نزلت في قريش قبل وقعة بدر ، فحقق الله وعده يوم بدر ، روي عن ابن عباس ، والضحاك . والثالث : أن أبا سفيان في جماعة من قومه ، جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد وقعة بدر ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن السائب .

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)

قوله تعالى : { قد كان لكم آية في فئتين التقتا } في المخاطبين بهذا ثلاثة أقوال . أحدها : أنهم المؤمنون ، روي عن ابن مسعود ، والحسن . والثاني : الكفار ، فيكون معطوفاً على الذي قبله ، وهو يتخرج على قول ابن عباس الذي ذكرناه آنفاً . والثالث : أنهم اليهود ، ذكره الفراء ، وابن الأنباري ، وابن جرير . فإن قيل : لم قال { قد كان لكم } ولم يقل : قد كانت لكم؟ فالجواب من وجهين . أحدهما : أَن ما ليس بمؤنث حقيقي ، يجوز تذكيره . والثاني : أنه ردّ المعنى إلى البيان ، فمعناه : قد كان لكم بيان ، فذهب إلى المعنى ، وترك اللفظ ، وأنشدوا :
إِن امرءاً غره منكنَّ واحدةٌ ... بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور
وقد سبق معنى «الآية» و «الفئة» ، وكل مشكل تركت شرحه ، فإنك تجده فيما سبق ، والمراد بالفئتين : النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ومشركو قريش يوم بدر . قاله قتادة والجماعة . وفي قوله تعالى : { يرونهم مثليهم } قولان . أحدهما : يرونهم ثلاثة أمثالهم ، قاله الفراء ، واحتج بأنك إذا قلت : عندي ألف دينار ، وأحتاج إلى مثليه ، فانك تحتاج إلى ثلاثة آلاف . والثاني : أن معناه يرونهم ومثلهم ، قال الزجاج : وهو الصحيح .
قوله تعالى : { رأي العين } أي : في رأي العين . قال ابن جرير : جاء هذا على مصدر رأيته ، يقال : رأيته رأياً ، ورؤية . واختلفوا في الفئة الرائية على ثلاثة أقوال ، هي التي ذكرناها في قوله تعالى : { قد كان لكم آية } فان قلنا : إن الفئة الرائية المسلمون ، فوجهه أن المشركين كانوا يضعفون على عدد المسلمين ، فرأوهم على ما هم عليه ، ثم نصرهم الله ، وكذلك إن قلنا : إنهم اليهود . وإن قلنا : إنهم المشركون ، فتكثير المسلمين في أعينهم من أسباب النصر . وقد قرأ نافع : «ترونهم» بالتاء . قال ابن الأنباري : ذهب إلى أن الخطاب لليهود . قال الفراء : ويجوز لمن قرأ «يرونهم» بالياء أن يجعل الفعل لليهود ، وإن كان قد خاطبهم في قوله تعالى : { قد كان لكم آية } لأن العرب ترجع من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى الخطاب . وقد شرحنا هذا في «الفاتحة» وغيرها . فإن قيل : كيف يقال : إن المشركين استكثروا المسلمين ، وإن المسلمين استكثروا المشركين ، وقد بين قوله تعالى : { وإِذ يريكموهم إِذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم } [ الأنفال : 44 ] أن الفئتين تساوتا في استقلال إحداهما للأخرى؟ فالجواب : أنهم استكثروهم في حال ، واستقلوهم في حال ، فإن قلنا : إن الفئة الرائية المسلمون ، فإنهم رأوا عدد المشركين عند بداية القتال على ماهم عليه ، ثم قلل الله المشركين في أعينهم حتى اجترؤوا عليهم ، فنصرهم الله بذلك السبب . قال ابن مسعود : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم ، فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً . وقال في رواية اخرى : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين؟ قال : أراهم مئة ، فأسرنا منهم رجلاً ، فقلت : كم كنتم؟ قال : ألفاً .

وإن قلنا : إن الفئة الرائية المشركون ، فإنهم استقلوا المسلمين في حال ، فاجترؤوا عليهم ، واستكثروهم في حال ، فكان ذلك سبب خذلانهم ، وقد نقل أن المشركين لما أسروا يومئذ ، قالوا للمسلمين : كم كنتم؟ قالوا : كنا ثلاثمائة وثلاثة عشر . قالوا : ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا .
قوله تعالى : { والله يؤيد } أي : يقوي { إن في ذلك } في الإشارة قولان . أحدهما : أنها ترجع إلى النصر . والثاني : إلى رؤية الجيش مثليهم ، والعبرة : الدلالة الموصلة إلى اليقين ، المؤدية إلى العلم ، وهي من العبور ، كأنه طريق يُعبر به ، ويتوصل به إلى المراد . وقيل : العبرة : الآية التي يعبر منها من منزلة الجهل إلى منزلة العلم . والأبصار : العقول والبصائر .

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

قوله تعالى : { زيِّن للناس حب الشهوات } قرأ أبو رزين العقيلي ، وأبو رجاء العطاردي ، ومجاهد ، وابن محيصن «زين» بفتح الزاي «حب» بنصب الباء ، وقد سبق في «البقرة» بيان التزيين . والقناطير : جمع قنطار ، قال ابن دريد : ليست النون فيه أصلية ، وأحسب أنه معرب . واختلف العلماء : هل هو محدود أم لا؟ فيه قولان . أحدهما : أنه محدود ، ثم فيه أحد عشر قولاً . أحدها : أنه ألف ومئتا أوقية ، رواه أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم وبه قال معاذ بن جبل ، وابن عمر ، وعاصم بن أبي النجود ، والحسن في رواية . والثاني : أنه اثنا عشر ألف أوقية ، رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم . وعن أبي هريرة كالقولين ، وفي رواية عن أبي هريرة أيضاً : اثنا عشر أوقية . والثالث أنه ألف ومئتا دينار ، ذكره الحسن ورواه العوفي عن ابن عباس . والرابع : أنه اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وروي عن الحسن ، والضحاك ، كهذا القول ، والذي قبله . والخامس : أنه سبعون ألف دينار ، روي عن ابن عمر ، ومجاهد . والسادس : ثمانون ألف درهم ، أو مئة رطل من الذهب ، روي عن سعيد بن المسيب ، وقتادة . والسابع : أنه سبعة آلاف دينار ، قاله عطاء . والثامن : ثمانية آلاف مثقال ، قاله السدي . والتاسع : أنه ألف مثقال ذهب أو فضة ، قاله الكلبي . والعاشر : أنه ملء مسك ثور ذهباً ، قاله أبو نضرة ، وأبو عبيدة . والحادي عشر : القنطار : رطل من الذهب ، أو الفضة ، حكاه ابن الأنباري . والقول الثاني : أن القنطار ليس بمحدود . وقال الربيع بن أنس : القنطار : المال الكثير ، بعضه على بعض ، وروي عن أبي عبيدة أنه ذكر عن العرب أن القنطار وزن لا يحد ، وهذا اختيار ابن جرير الطبري . قاله ابن الأنباري : قال بعض اللغويين : القنطار : العقدة الوثيقة المحكمة من المال . وفي معنى المقنطرة ثلاثة أقوال . أحدهما : أنها المضعَّفة ، قال ابن عباس : القناطير ثلاثة ، والمقنطرة تسعة ، وهذا قول الفراء . والثاني : أنها المكملة ، كما تقول : بدرة مبدَّرة . وألف مؤلَّفة ، وهذا قول ابن قتيبة . والثالث : أنها المضروبة حتى صارت دنانير ودراهم ، قاله السدي . وفي المسومة ثلاثة أقوال . أحدها : أنها الراعية ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، ومجاهد في رواية ، والضحاك ، والسدي ، والربيع ، ومقاتل . قال ابن قتيبة : يقال : سامت الخيل ، وهي سائمة : إذا رعت ، وأسمتها وهي مسامة ، وسومتها فهي مسوَّمة : إذا رعيتها والمسومة في غير هذا : المعلمة في الحرب بالسومة وبالسيِّماء ، أي : بالعلامة . والثاني : أنها المعلمة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، واختاره الزجاج ، وعن الحسن كالقولين . وفي معنى المعلمة ثلاثة أقوال . أحدها : أنها معلمة بالشية ، وهو اللون الذي يخالف سائر لونها ، روي عن قتادة . والثاني : بالكي ، روي عن المؤرج . والثالث : أنها البلق ، قاله ابن كيسان . والثالث : أنها الحسان ، قاله ابن عكرمة ، ومجاهد . فأما الأنعام ، فقال ابن قتيبة : هي : الإبل ، والبقر ، والغنم ، واحدها . نعم ، وهو جمع لا واحد له من لفظه . والمآب : المرجع . وهذه الأشياء المذكورة قد تحسن نية العبد بالتلبس بها ، فيثاب عليها ، وإنما يتوجه الذم إلى سوء القصد فيها وبها .

قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)

قوله تعالى : { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } روى عطاء بن السائب عن أبي بكر بن حفص قال : لما نزل قوله تعالى : { زين للناس حب الشهوات } . قال عمر : يارب الآن حين زينتها؟! فنزلت : { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } ووجه الآية أنه خبَّر أن ما عنده خير مما في الدنيا ، وإن كان محبوباً ، ليتركوا ما يحبون لما يرجون . فأما الرضوان ، فقرأ عاصم ، إلا حفصا وأبان بن يزيد عنه ، برفع الراء في جميع القرآن ، واستثنى يحيى والعليمي كسر الراء في المائدة في قوله تعالى : { من اتبع رضوانه } [ المائدة : 16 ] . وقرأ الباقون بكسر الراء ، والكسر لغة قريش . قال الزجاج : يقال رضيت الشيء أرضاه رضىً ومرضاة ورِضواناً ورُضواناً . { والله بصير بالعباد } . يعلم من يؤثر ما عنده ممن يؤثر شهوات الدنيا ، فهو يجازيهم على أعمالهم .

الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)

قوله تعالى : { الصابرين } أي : على طاعة الله عز وجل ، وعن محارمه { والصادقين } في عقائدهم وأقوالهم { والقانتين } بمعنى المطيعين لله { والمنفقين } في طاعته . وقال ابن قتيبة يعني : بالنفقة الصدقة . وفي معنى استغفارهم قولان . أحدهما : أنه الاستغفار المعروف باللسان ، قاله ابن مسعود ، والحسن في آخرين . والثاني : أنه الصلاة . قاله مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل في آخرين . فعلى هذا إنما سميت الصلاة استغفاراً ، لأنهم طلبوا بها المغفرة . فأما السحر فقال إبراهيم بن السري : السحر : الوقت الذي قبل طلوع الفجر ، وهو أول إدبار الليل إلى طلوع الفجر ، فوصفهم الله بهذه الطاعات ثم وصفهم بأنهم لشدة خوفهم يستغفرون .

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

قوله تعالى : { شهد الله أنه لا إِله إِلا هو } سبب نزول هذه الآية أن حبرين من أحبار الشام قدما النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أبصرا المدينة ، قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان ، فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم ، عرفاه بالصفة ، فقالا : أنت محمد؟ قال : «نعم» . قالا : وأحمد؟ قال : «نعم» . قالا : نسألك عن شهادة ، فان أخبرتنا بها ، آمنا بك ، وصدقناك فقال : «سلاني» . فقالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله ، فنزلت هذه الآية ، فأسلما ، قاله ابن السائب ، وقال غيره : هذه الآية رد على نصارى نجران فيما ادعوا في عيسى عليه السلام ، وقد سبق ذكر خبرهم في أول السورة ، وقال سعيد بن جبير ، كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً ، وكان لكل حي من العرب صنم أو صنمان ، فلما نزلت هذا الآية ، خرّت الأصنام سجداً . وفي معنى { شهد الله } قولان . أحدهما : أنه بمعنى قضى وحكم ، قاله مجاهد ، والفراء ، وأبو عبيدة . والثاني : بمعنى بيّن ، قاله ثعلب والزجاج ، قال ابن كيسان : شهد الله بتدبيره العجيب ، وأموره المحكمات عند خلقه ، أنه لا إله إلا هو ، وسئل بعض الأعراب : ما الدليل على وجود الصانع؟ فقال إن البعرة تدل على البعير ، وآثار القدم تدل على المسير ، فهيكل علوي بهذه اللطافة ، ومركز سفلي بهذه الكثافة ، أما يدلان على الصانع الخبير؟! وقرأ ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وابن السميفع ، وعاصم الجحدري ، { شهداء الله } بضم «الشين» ، وفتح «الهاء والدال» وبهمزة مرفوعة بعد المد ، وخفض «الهاء» من اسم الله تعالى { قائماً بالقسط } أي : بالعدل . قال جعفر الصادق : وإنما كرر { لا إِله إِلا هو } لأن الأولى وصف وتوحيد ، والثانية رسم وتعليم ، أي : قولوا : لا إله إلا هو .

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)

قوله تعالى : { إن الدين عند الله الإِسلام } الجمهور على كسر «إِن» إِلا الكسائي ، فإنه فتح «الألف» ، وهي قراءة ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي رزين ، وأبي العالية ، وقتادة . قال أبو سليمان الدمشقي : لما ادعت اليهود أنه لا دين أفضل من اليهودية ، وادعت النصارى أنه لا دين أفضل من النصرانية ، نزلت هذه الآية . قال الزجاج : الدين : اسم لجميع ما تعبد الله به خلقه ، وأمرهم بالإقامة عليه ، وأن يكون عادتهم ، وبه يجزيهم . وقال شيخنا علي بن عبيد الله : الدين : ما التزمه العبد لله عز وجل . قال ابن قتيبة ، والإسلام الدخول في السلم ، أي : في الانقياد والمتابعة ، ومثله الاستسلام ، يقال : سلم فلان لأمرك ، واستسلم ، وأسلم ، كما تقول : أشتى الرجل ، أي : دخل في الشتاء ، وأربع : دخل في الربيع . وفي الذين أوتوا الكتاب ثلاثة أقوال . أحدها : أنهم اليهود ، قاله الربيع . والثاني : أنهم النصارى ، قاله محمد بن جعفر بن الزبير . والثالث : أنهم اليهود ، والنصارى ، قاله ابن السائب . وقيل : الكتاب هاهنا : اسم جنس بمعنى الكتب . وفي الذين اختلفوا فيه أربعة أقوال . أحدها : دينهم . والثاني : أمر عيسى . والثالث : دين الإسلام ، وقد عرفوا صحته . والرابع : نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد عرفوا صفته . قوله تعالى : { إِلا من بعد ما جاءهم العلم } أي : الإيضاح لما اختلفوا فيه { بغياً بينهم } قال الزجاج : معناه : اختلفوا للبغي ، لا لقصد البرهان ، وقد ذكرنا في «البقرة» معنى : سريع الحساب .

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)

قوله تعالى : { فان حاجوك } أي : جادلوك ، وخاصموك . قال مقاتل : يعني اليهود ، وقال ابن جرير : يعني نصارى نجران في أمر عيسى ، وقال غيرهما : اليهود والنصارى . { فقل أسلمت وجهي لله } قال الفراء : معناه : أخلصت عملي ، وقال الزجاج : قصدت بعبادتي إلى الله .
قوله تعالى : { ومن اتبعن } أثبت الياء في الوصل دون الوقف أهل المدينة والبصرة ، وابن شنبوذ عن قنبل ، ووقف ابن شنبوذ ويعقوب بياء . قال الزجاج : والأحب إِلىَّ اتباع المصحف . وما حذف من الياءات في مثل قوله تعالى : { ومن اتبعن } و { لئن أخرتن } و { ربي أكرمن } و { ربي أهانن } . فهو على ضربين . أحدهما : ما كان مع النون ، فإن كان رأس آية ، فأهل اللغة يجيزون حذف الياء ، ويسمون أواخر الآي الفواصل ، كما أجازوا ذلك في الشعر .
قال الأعشى :
ومن شانىءٍ كاسف باله ... إذا ما انتسبت له أنكرن
وهل يمنعني ارتيادي البلا ... د من حذر الموت أن يأتين
فأما إذا لم يكن آخر آية أو قافية ، فالأكثر إثبات الياء ، وحذفها جيد أيضاً ، خاصة مع النونات ، لأن أصل «اتبعني» «اتبعي» ولكن «النون» زيدت لتسلم فتحة العين ، فالكسرة مع النون تنوب عن الياء ، فأما إذا لم تكن النون ، نحو غلامي وصاحبي ، فالأجود إثباتها ، وحذفها عند عدم النون جائز على قلته ، تقول : هذا غلام ، قد جاء غلاميَ ، وغلاميْ بفتح الياء وإسكانها ، فجاز الحذف ، لأن الكسرة تدل عليها .
قوله تعالى : { وقل للذين أوتوا الكتاب } يريد اليهود والنصارى { والأميين } بمعنى مشركي العرب ، وقد سبق في البقرة شرح هذا الاسم .
قوله تعالى : { ءَأسلمتم } قال الفراء : هو استفهام ومعناه الأمر ، كقوله تعالى { فهل أنتم منتهون } [ المائدة 91 ] .
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية ، فذهبت طائفة إلى أنها محكمة ، وأن المراد بها تسكين نفس النبي صلى الله عليه وسلم عند امتناع من لم يجبه ، لأنه كان يحرص على إيمانهم ، ويتألم من تركهم الإجابة . وذهبت طائفة إلى أن المراد بها الاقتصار على التبليغ ، وهذا منسوخ بآيه السيف .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)

قوله تعالى : { إن الذين يكفرون بآيات الله } قال أبو سليمان الدمشقي : عنى بذلك اليهود والنصارى . قال ابن عباس : والمراد بآيات الله محمد والقرآن . وقد تقدم في «البقرة» شرح قتلهم الأنبياء ، والقسط ، والعدل . وقرأ الجمهور { ويقتلون الذين يأمرون بالقسط } وقرأ حمزة «ويقاتلون» بألف . وروى أبو عبيدة بن الجراح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عبَّاد بني اسرائيل ، فأمروا من قتلهم بالمعروف ، ونهوهم عن المنكر ، فقتلوا جميعاً في آخر النهار ، فهم الذين ذكرهم الله في كتابه " وأنزل الآية فيهم . وإنما وبخ بهذا اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم تولوا أولئك ، ورضوا بفعلهم { فبشرهم } بمعنى : أخبرهم ، وقد تقدم شرحه في «البقرة» ومعنى حبطت : بطلت .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)

قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } في سبب نزولها أربعة أقوال . أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيت المدراس على جماعة من اليهود ، فدعاهم إلى الله فقال رجلان منهم : على أي دين أنت؟ فقال على ملة إبراهيم ، قالا : فإنه كان يهودياً . قال : فهلموا إلى التوراة ، فأبيا عليه ، فنزلت هذه الآية . رواه سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . والثاني : أن رجلاً من اليهود ، وامرأة زنيا ، فكرهوا رجمهما لشرفهما ، فرفعوا أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، رجاء أن يكون عنده رخصة ، فحكم عليها بالرجم ، فقالوا : جرْت علينا يا محمد ، ليس علينا الرجم . فقال : بيني وبينكم التوراة ، فجاء ابن صوريا ، فقرأ من التوراة ، فلما أتى على آية الرجم ، وضع كفه عليها ، وقرأ ما بعدها ، فقال ابن سلام : قد جاوزها ، ثم قام ، فقرأها ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، باليهوديِّين ، فرجما ، فغضب اليهود . فنزلت هذه الآية . رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا اليهود إلى الإسلام ، فقال : نعمان بن أبي أوفى : هلم نحاكمك إلى الأحبار . فقال : بل إلى كتاب الله ، فقال : بل إلى الأحبار ، فنزلت هذه الآية ، قاله السدي . والرابع : أنها نزلت في جماعة من اليهود ، دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، فقالوا : نحن أحق بالهدى منك ، وما أرسل الله نبياً إلا من بني اسرائيل . قال : فأخرجوا التوراة ، فإني مكتوب فيها أني نبي ، فأبوا ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل بن سليمان .
فأما التفسير : فالنصيب الذي أوتوه : العلم الذي علموه من التوراة . وفي الكتاب الذي دعوا إليه قولان . أحدهما : أنه التوراة ، رواه عكرمة ، عن ابن عباس ، وهو قول الأكثرين . والثاني : أنه القرآن ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، وهو قول الحسن ، وقتادة . وفي الذي أريد أن يحكم الكتاب بينهم فيه أربعة أقوال . أحدها : ملة إبراهيم . والثاني : حد الزنى . رويا عن ابن عباس . والثالث : صحة دين الإسلام ، قاله السدي . والرابع : صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل . فان قيل : التولي هو الإعراض ، فما فائدة تكريره؟ فالجواب من أربعة أوجه . أحدها : التأكيد . والثاني : أن يكون المعنى : يتولون عن الداعي ، ويعرضون عما دعا إليه . والثالث : يتولون بأبدانهم ، ويعرضون عن الحق بقلوبهم . والرابع : أن يكون الذين تولوا علماءهم ، والذين أعرضوا أتباعهم ، قاله ابن الأنباري .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20