كتاب : زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي

قوله تعالى : { ويأتيه الموت } أي : همُّ الموت وكربه وألمه { من كل مكان } وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : من كل شعرة في جسده ، رواه عطاء عن ابن عباس . وقال سفيان الثوري : من كل عِرْق . وقال ابن جريج : تتعلق نفسه عند حنجرته ، فلا تخرج من فيه فتموت ، ولا ترجع إِلى مكانها فتجد راحة .
والثاني : من كل جهة ، من فوقه وتحته ، وعن يمينه وشماله ، وخلفه وقُدَّامه ، قاله ابن عباس أيضاً .
والثالث : أنها البلايا التي تصيب الكافر في النار ، سماها موتاً ، قاله الأخفش .
قوله تعالى : { وما هو بميِّت } أي : موتاً تنقطع معه الحياة . { ومن ورائه } أي : من بعد هذا العذاب . قال ابن السائب : من بعد الصديد { عذاب غليظ } . وقال إِبراهيم التيمي : بعد الخلود في النار . والغليظ : الشديد .

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)

قوله تعالى : { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد } قال الفراء : أضاف المَثَل إِليهم ، وإِنما المثل للأعمال ، فالمعنى : مَثَل أعمال الذين كفروا . ومِثلُه : { ويوم القيامة ترى الذين كَذَبوا على الله وجوهُهم مسودَّة } [ الزمر 60 ] ، أي : ترى وجوههم . وجعل العُصُوف تابعاً لليوم في إِعرابه ، وإِنما العُصُوف للريح ، وذلك جائز على جهتين :
إِحداهما : أن العصوف ، وإِن كان للريح ، فإن اليوم يوصف به ، لأن الريح فيه تكون ، فجاز أن تقول : يوم عاصف كما تقول : يوم بارد ، ويوم حار .
والوجه الآخر : أن تريد : في يومٍ عاصفِ الريح ، فتحذف الريح ، لأنها قد ذُكرت في أول الكلام ، كما قال الشاعر :
ويُضْحِكُ عِرفانُ الدُّرُوْعِ جُلودَنا ... إِذا كانَ يَوْمٌ مُظْلِمُ الشَّمْسِ كَاسِفُ
يريد : كاسف الشمس . وروي عن سيبويه أنه قال : في هذه الآية إِضمار ، والمعنى : وممّا نقصُّ عليك مَثَل الذين كفروا ، ثم ابتدأ فقال : «أعمالهم كرماد» . وقرأ النخعي ، وابن يعمر ، والجُحدري : «في يومِ عاصفٍ» بغير تنوين اليوم .
قال المفسرون : ومعنى الآية : أن كل ما يتقرَّب به المشركون يَحْبَط ولا ينتفعون به ، كالرماد الذي سَفَتْه الريح فلا يُقدَر على شيء منه ، فهم لا يقدرون مما كسبوا في الدنيا على شيء في الآخرة ، أي : لايجدون ثوابه ، { ذلك هو الضلال البعيد } من النجاة .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)

قوله تعالى : { ألم تر } فيه قولان :
أحدهما : أن معناه : ألم تُخْبَر ، قاله ابن السائب .
والثاني : ألم تعلم ، قاله مقاتل ، وأبو عبيدة .
قوله تعالى : { خلق السموات والأرض بالحق } قال المفسرون : أي : لم يخلقهن عبثاً ، وإِنما خلقهن لأمر عظيم . { إِن يشأ يُذهبْكم } قال ابن عباس : يريد : يميتكم يا معشر الكفار ويخلق قوماً غيركم خيراً منكم وأطوع ، وهذا خطاب لأهل مكة .
قوله تعالى : { وما ذلك على الله بعزيز } أي : بممتنع متعذِّر .

وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)

قوله تعالى : { وبرزوا لله جميعاً } لفظه لفظ الماضي ، ومعناه المستقبل ، والمعنى : خرجوا من قبورهم يوم البعث ، واجتمع التابع والمتبوع ، { فقال الضعفاء } وهم الأتباع { للذين استكبروا } وهم المتبوعون . { إِنا كُنَّا لكم تَبَعاً } قال الزجاج : هو جمع تابع ، يقال : تابِع وتَبَع ، مِثْل : غائب وغَيَب ، والمعنى : تبعناكم فيما دعوتمونا إِليه .
قوله تعالى : { فهل أنتم مُغْنون عنا } أي : دافعون عنا { من عذاب الله من شيء } . قال القادة : { لو هدانا الله } أي : لو أرشدنا في الدنيا لأرشدناكم ، يريدون : أن الله أضلَّنا فدَعوناكم إِلى الضلال ، { سواء علينا أجَزِعنا أم صَبَرنا } قال ابن زيد : إِن أهل النار قال بعضهم لبعض : تعالَوْا نبكي ونضرع ، فإنما أدرك أهلُ الجنة الجنةَ ببكائهم وتضرُّعهم ، فَبَكَوْا وتضرعوا ، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم ، قالوا : تعالَوْا نصبر ، فانما أدرك أهل الجنة الجنةَ بالصبر ، فصبروا صبراً لم يُرَ مثلُه قط ، فلم ينفعهم ذلك ، فعندها قالوا : «سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص» وروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم قال : جَزِعوا مائة سنة ، وصبروا مائة سنة . وقال مقاتل : جزعوا خمس مائة عام ، وصبروا خمس مائة عام . وقد شرحنا معنى المحيص في سورة [ النساء : 121 ] .

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)

قوله تعالى : { وقال الشيطان } قال المفسرون : يعني به إِبليس ، { لما قُضي الأمر } أي : فُرغ منه ، فدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، فحينئذ يجتمع أهل النار باللَّوم على إِبليس ، فيقوم فيما بينهم خطيباً ويقول : { إِن الله وَعَدَكم وَعْد الحق } أي : وعدكم كَوْن هذا اليوم فَصَدَقكم { ووعدتكم } أنه لا يكون { فأخلفتكم } الوعد { وما كان ليَ عليكم من سلطان } أي : ما أظهرت لكم حُجَّةً على ما ادَّعيت . وقال بعضهم : ما كنت أملككم فأُكرهكم { إِلا أن دعوتكم } وهذا من الاستثناء المنقطع ، والمعنى : لكن دعوتكم { فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم } حيث أجبتموني من غير برهان ، { ما أنا بمصرخكم } أي : بمغيثكم { وما أنتم بمصرخيَّ } أي : بمغيثيَّ . قرأ حمزة «بمُصرِخيِّ» فحرك الياء إِلى الكسر ، وحرَّكها الباقون إِلى الفتح . قال قُطرب : هي لغة في بني يربوع ، يعني : قراءة حمزة . قال اللغويون : يقال : استصرخني فلان فأصرخته ، أي : استغاثني فأغثته . { إِني كفرت } اليوم بإشراككم إِياي في الدنيا مع الله في الطاعة ، { إِن الظالمين } يعني : المشركين .
قوله تعالى : { بإذن ربهم } أي : بأمر ربهم . وقوله : { تحيتهم فيها سلام } قد ذكرناه في [ يونس : 10 ] .

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)

قوله تعالى : { ألم تر كيف ضرب الله مثلاً } قال المفسرون : ألم تر بعين قلبك فتعلم باعلامي إِياك كيف ضرب الله مثلاً ، أي : بيَّن شَبَهاً ، { كلمة طيبة } قال ابن عباس : هي شهادة أن لا إِله إِلا الله . { كشجرة طيبة } أي : طيبة الثمرة ، فترك ذكر الثمرة اكتفاء بدلالة الكلام عليه . وفي هذه الشجرة ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها النخلة ، وهو في «الصحيحين» من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال ابن مسعود ، وأنس بن مالك ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك في آخرين .
والثاني : أنها شجرة في الجنة ، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس .
والثالث : أنها المؤمن ، وأصله الثابت أنه يعمل في الأرض ويبلغ عملُه السماء . وقوله : { تُؤتي أُكُلَهَا كل حين } فالمؤمن يذكر الله كل ساعة من النهار ، رواه عطية عن ابن عباس .
قوله تعالى : { أصلها ثابت } أي : في الأرض ، { وفرعها } أعلاها عالٍ { في السماء } أي : نحو السماء ، وأُكُلُها : ثمرها . وفي الحين هاهنا ستة أقوال :
أحدها : أنه ثمانية أشهر ، قاله علي عليه السلام .
والثاني : ستة أشهر ، رواه سعيد بن جُبير عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وعكرمة ، وقتادة .
والثالث : أنه بُكْرة وعشية ، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس .
والرابع : أنه السنة ، روي عن ابن عباس أيضاً ، وبه قال مجاهد ، وابن زيد .
والخامس : أنه شهران ، قاله سعيد بن المسيب .
والسادس : أنه غُدوة وعشية وكلّ ساعة ، قاله ابن جرير .
فمن قال : ثمانية أشهر ، أشار إِلى مدَّة حملها باطناً وظاهراً ، ومن قال : ستة أشهر ، فهي مدة حملها إِلى حين صِرامها ، ومن قال : بُكرة وعشية ، أشار إِلى الاجتناء منها ، ومن قال : سنة ، أشار إِلى أنها لاتحمل في السنة إِلاَّ مَرَّة ، ومن قال : شهران ، فهو مدة صلاحها . قال ابن المسيب : لا يكون في النخلة أكُلُها إِلا شهرين . ومن قال : كل ساعة ، أشار إِلى أن ثمرتها تؤكل دائماً . قال قتادة : تؤكل ثمرتها في الشتاء والصيف . قال ابن جرير : الطلع في الشتاء من أُكلها ، والبلح والبُسر والرطب والتمر في الصيف .
فأما الحكمة في تمثيل الإِيمان بالنخلة ، فمن أوجه :
أحدها : أنها شديدة الثبوت ، فشبِّه ثبات الإِيمان في قلب المؤمن بثباتها .
والثاني : أنها شديدة الارتفاع ، فشُبِّه ارتفاع عمل المؤمن بارتفاع فروعها .
والثالث : أن ثمرتها تأتي كل حين ، فشُبِّه ما يكسب المؤمن من بركة الإِيمان وثوابه في كل وقت بثمرتها المجتناة في كل حين على اختلاف صنوفها ، فالمؤمن كلما قال : لا إِله إِلا الله ، صَعِدَتْ إِلى السماءِ ، ثم جاءه خيرها ومنفعتها .
والرابع : أنها أشبهُ الشجر بالإِنسان ، فإن كل شجرة يقطع رأسها تتشعب غصونها من جوانبها ، إِلا هي ، إِذا قُطع رأسها يبست ، ولأنها لاتحمل حتى تلقَّح ، ولأنها فضلة تربة آدم عليه السلام فيما يُروى .

وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)

قوله تعالى : { ومثل كلمة خبيثة } قال ابن عباس هي الشِّرك .
وقوله : { كشجرة خبيثة } فيها خمسة أقوال :
أحدها : أنها الحنظلة ، رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبه قال أنس ، ومجاهد .
والثاني : أنها الكافر ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وروى العوفي عنه أنه قال : الكافر لا يُقبل عمله ، ولا يصعد إِلى الله تعالى ، فليس له أصل في الأرض ثابت ، ولا فرع في السماء .
والثالث : أنها الكَشُوثَى رواه الضحاك عن ابن عباس .
والرابع : أنه مَثَل ، وليست بشجرة مخلوقة ، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس .
والخامس : أنها الثوم ، روي عن ابن عباس أيضاً .
قوله تعالى : { اجتثت } قال ابن قتيبة : استُؤصلت وقُطعت . قال الزجاج : ومعنى اجتثثت الشي في اللغة : أخذت جُثته بكمالها .
وفي قوله : { مالها من قرار } قولان :
أحدهما : ما لها من أصل ، لم تَضرِب في الأرض عِرقاً .
والثاني : ما لها من ثبات .
ومعنى تشبيه الكافر بهذه الشجرة أنه لا يصعد للكافر عمل صالح ، ولا قول طيب ، ولا لقوله أصل ثابت .

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)

قوله تعالى : { يثبِّت الله الذين آمنوا } أي : يثبتهم على الحق بالقول الثابت ، وهو شهادة أن لا إِله إِلا الله . قوله تعالى : { في الحياة الدنيا وفي الآخرة } فيه قولان :
أحدهما : أن الحياة الدنيا : زمان الحياة على وجه الأرض ، والآخرةُ : زمان المساءلة في القبر ، وإِلى هذا المعنى ذهب البراء بن عازب ، وفيه أحاديث تعضده .
والثاني : أن الحياة الدنيا : زمن السؤال في القبر ، والآخرةُ : السؤال في القيامة ، وإِلى هذا المعنى ذهب طاووس ، وقتادة . قال المفسرون : هذه الآية وردت في فتنة القبر ، وسؤال الملَكين ، وتلقين الله تعالى للمؤمنين كلمة الحق عند السؤال ، وتثبيته إِياه على الحق . { ويُضلُّ الله الظالمين } يعنى : المشركين ، يضلهم عن هذه الكلمة ، { ويفعل الله ما يشاء } من هداية المؤمن وإِضلال الكافر .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)

قوله تعالى : { ألم تر إِلى الذين بدَّلوا نعمة الله كفراً } في المشار إِليهم سبعة أقوال :
أحدها : أنهم الأفجران من قريش : بنو أمية ، وبنو المغيرة ، روي عن عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب .
والثاني : أنهم منافقو قريش ، رواه أبو الطُّفيل عن علي .
والثالث : بنو أمية ، وبنو المغيرة ، ورؤساء أهل بدر الذين ساقوا أهل بدر إِلى بدر ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والرابع : أهل مكة ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك .
والخامس : المشركون من أهل بدر ، قاله جاهد ، وابن زيد .
والسادس : أنهم الذين قُتلوا ببدر من كفار قريش ، قاله سعيد بن جبير ، وأبو مالك .
والسابع : أنها عامة في جميع المشركين ، قاله الحسن . قال المفسرون : وتبديلهم نعمة الله كفراً ، أن الله أنعم عليهم برسوله ، وأسكنهم حَرَمه ، فكفروا بالله وبرسوله ، ودعَوْا قومهم إِلى الكفر به ، فذلك قوله : { وأحلَّوا قومهم دار البوار } أي : الهلاك . ثم فسر الدار بقوله : { جهنم يصلونها } أي : يقاسون حَرَّها { وبئس القرار } أي : بئس المقرُّ هي .

وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)

قوله تعالى : { وجعلوا لله أنداداً } قد بينَّاه في سورة [ البقرة : 22 ] ، واللام في «ليَضِلُّوا» لام العاقبة ، وقد سبق شرحها [ يونس : 88 ] ، ومن قرأ «لِيُضِلوا» بضم الياء ، أراد : ليُضِلُّوا الناس عن دين الله .
قوله تعالى : { قل تمتعوا } أي : في حياتكم الدنيا ، وهذا وعيد لهم . قال ابن عباس : لو كان الكافر مريضاً لا ينام ، جائعاً لا يأكل ولا يشرب ، لكان هذا نعيماً يتمتع به بالقياس إِلى ما يصير إِليه من العذاب ، ولو كان المؤمن في أنعم عيش ، لكان بؤساً عندما يصير إِليه من نعيم الآخرة .

قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)

قوله تعالى : { قل لعبادي الذين آمنوا } أسكن ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ياء «عبادي» .
قوله تعالى : { يقيموا الصلاة } قاله ابن الأنباري : معناه : قل لعبادي : أقيموا الصلاة وأنفِقوا ، يقيموا وينفقوا ، فحُذف الأمران ، وتُرك الجوابان ، قال الشاعر :
فأيُّ امرىءٍ أَنْتَ أَيُّ امْرِىءٍ ... إِذا قِيْلَ في الحَرْبِ من يُقْدِمُ
أراد : إِذا قيل : من يُقدم تُقْدِمُ . ويجوز أن يكون المعنى : قل لعبادي أقيموا الصلاة ، وأنفقوا ، فصُرف عن لفظ الأمر إِلى لفظ الخبر . ويجوز أن يكون المعنى : قل لهم ليُقيموا الصلاة ، وليُنفقوا ، فحذف لام الأمر ، لدلالة «قل» عليها . قال ابن قتيبة : والخِلال مصدر خالَلْت فلاناً خلالاً ومُخالَّة ، والاسم الخُلَّة ، وهي الصداقة .
قوله تعالى : { وسخَّر لكم الأنهار } أي : ذلَّلها ، تجري حيث تريدون ، وتركبون فيها حيث تشاؤون . { وسخر لكم الشمس والقمر } لتنتفعوا بهما وتستضيئوا بضوئهما { دائبين } في إِصلاح ما يُصلحانه من النبات وغيره ، لا يفتران . ومعنى الدؤوب : مرور الشيء في العمل على عادة جارية فيه . { وسخَّر لكم الليل } لتسكنوا فيه ، راحة لأبدانكم ، { والنهار } لتنتفعوا بمعاشكم ، { وآتاكم من كل ما سألتموه } وفيه خمسة أقوال :
أحدها : أن المعنى : من كل الذي سألتموه ، قاله الحسن ، وعكرمة .
والثاني : من كل ما سألتموه ، لو سألتوه ، قاله الفراء .
والثالث : وآتاكم من كل شيء سألتموه شيئاً ، فأضمر الشيء ، كقوله : { وأوتيتْ من كل شيء } [ النمل 23 ] أي ، من كل شيء في زمانها شيئاً ، قاله الأخفش .
والرابع : من كل ما سألتموه ، وما لم تسألوه ، لأنكم لم تسألوا شمساً ولا قمراً ولا كثيراً من النِّعم التي ابتدأ كم بها ، فاكتُفي بالأول من الثاني ، كقوله : { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل 81 ] ، قاله ابن الأنباري .
والخامس : على قراءة ابن مسعود ، وأبي رزين ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة ، وأبان عن عاصم ، وأبي حاتم عن يعقوب : «من كلٍّ ما» بالتنوين من غير إِضافة ، فالمعنى : آتاكم من كُلٍّ ما لم تسألوه ، قاله قتادة ، والضحاك .
قوله تعالى : { وإِن تعُدُّوا نِعمة الله } أي : إِنعامه { لا تحصوها } لا تُطيقوا الإِتيان على جميعها بالعَدِّ لكثرتها . { إِن الإِنسان } قال ابن عباس : يريد أبا جهل . وقال الزجاج : الإِنسان اسم للجنس يُقصَد به الكافر خاصة .
قوله تعالى : { لظَلوم كَفَّار } الظَّلوم هاهنا : الشاكرُ غيرَ مَن أنعم عليه ، والكَفَّار : الجحود لنِعم الله تعالى . قوله تعالى : { اجعل هذا البلد آمنا } قد سبق تفسيره في سورة [ البقرة : 126 ] .
قوله تعالى : { واجنبني وبَنيَّ } أي : جنِّبني وإِياهم ، والمعنى : ثبِّتني على اجتناب عبادتها . { رب إِنهن أضللن كثيراً من الناس } يعني : الأصنام ، وهي لا توصَف بالإِضلال ولا بالفعل ، ولكنهم لما ضلّوا بسببها ، كانت كأنها أضلَّتهم . { فمن تبعني } أي : على ديني التوحيد { فإنه مِنّي } أي : فهو على مِلَّتي ، { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : ومن عصاني ثم تاب فانك غفور رحيم ، قاله السدي .
والثاني : ومن عصاني فيما دون الشرك ، قاله مقاتل بن حيان .
والثالث : ومن عصاني فكفر فإنك غفور رحيم أن تتوب عليه فتهديه إِلى التوحيد ، قاله مقاتل بن سليمان . وقال ابن الأنباري : يحتمل أن يكون دعا بهذا قبل أن يُعلِمه الله تعالى أنه لا يغفر الشرك كما استغفر لأبيه .

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)

قوله تعالى : { ربنا إِني أسكنت من ذريتي } في «مِنْ» قولان .
أحدهما : أنها للتبعيض ، قاله الأخفش ، والفراء .
والثاني : أنها للتوكيد ، والمعنى : أسكنت ذريتي ، ذكره ابن الأنباري .
قوله تعالى : { بوادٍ غير ذي زرع } يعني : مكة ، ولم يكن فيها حرث ولا ماء . عند { بيتك المحرَّم } إِنما سمي محرَّماً ، لأنه يحرم استحلال حرماته والاستخفاف بحقه .
فإن قيل : ما وجه قوله : { عند بيتك المحرَّم } ولم يكن هناك بيت حينئذ ، إِنما بناه إِبراهيم بعد ذلك بمُدَّة؟ فالجواب من ثلاثة وجوه .
أحدها : أن الله تعالى حرَّم موضع البيت منذ خلق السموات والأرض ، قاله ابن السائب .
والثاني : عند بيتك الذي كان قبل أن يُرفَع أيام الطوفان .
والثالث : عند بيتك الذي قد جرى في سابق علمك أنه يحدث هاهنا ، ذكرهما ابن جرير . وكان أبو سليمان الدمشقي يقول : ظاهر الكلام يدل على أن هذا الدعاء إِنما كان بعد أن بُني البيت وصارت مكة بلداً . والمفسرون على خلاف ما قال . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أن إِبراهيم خرج من الشام ومعه ابنه إِسماعيل وأمّه هاجر ومعه جبريل حتى قدم مكة وبها ناس يقال لهم : العماليق ، خارجاً من مكة ، والبيت يومئذ ربوة حمراء ، فقال إِبراهيم لجبريل : أهاهنا أُمرتُ أن أضعهما؟ قال : نعم؛ فأنزلهما في مكانٍ من الحِجر ، وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشاً ، ثم قال : { ربنا إِني أسكنت من ذريتي . . . } الآية . وفتح أهل الحجاز ، وأبو عمرو ياء «إِنيَ أسكنت» .
قوله تعالى : { ربنا ليُقيموا الصلاة } في متعلَّق هذه اللام قولان :
أحدهما : أنها تتعلق بقوله : { واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام } ، فالمعنى : جنَبهم الأصنام ليُقيموا الصلاة ، هذا قول مقاتل .
والثاني : أنها تتعلق بقوله : { أسكنت } ، فالمعنى : أسكنتُهم عند بيتك ليُقيموا الصلاة ، لأن البيت قِبلة الصلوات ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { فاجعل أفئدة من الناس } أي : قلوب جماعة من الناس . قال ابن الأنباري : وإِنما عبَّر عن القلوب بالأفئدة ، لقُرب القلب من الفؤاد ومجاورته ، قال امرؤ القيس :
رَمَتْني بَسَهْمٍ أَصَابَ الفُؤَادَ ... غَدَاةَ الرَّحِيلِ فَلَمْ أَنْتَصِر
وقال آخر :
كَأَنَّ فُؤادِي كُلمَّا مَرَّ رَاكِبٌ ... جَنَاحُ غُرَابٍ رَامَ نَهْضَاً إِلى وِكْرِ
وقال آخر :
وإِنَّ فُؤَادَاً قَادَني لِصَبَابَةٍ ... إِلَيْكِ عَلَى طُوْلِ الهَوى لَصَبُورُ
يعنون بالفؤاد : القلب .
قوله تعالى : { تهوي إِليهم } قال ابن عباس : تَحِنُّ إِليهم . وقال قتادة : تنزع إِليهم وقال الفراء : تريدهم ، كما تقول : رأيت فلاناً يَهوي نحوك ، أي : يريدك . وقرأ بعضهم : «تهوَى إِليهم» بمعنى : تهواهم ، كقوله : { ردفَ لكم } [ النمل 72 ] أي : ردفكم . «وإِلى» توكيد للكلام . وقال ابن الأنباري : «تَهوي إِليهم» : تنحط إِليهم وتنحدر . وفي معنى هذا المَيل قولان :
أحدهما : أنه المَيل إِلى الحج ، قاله الأكثرون .
والثاني : أنه حُبُّ سُكنى مكة ، رواه عطية عن ابن عباس . وروى سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال : لو كان إِبراهيم قال : فاجعل أفئدة الناس تهوي إِليهم ، لحجَّه اليهود والنصارى ، ولكنه قال : من الناس .

رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)

قوله تعالى : { ربنا إِنك تعلم ما نخفي } قال أبو صالح عن ابن عباس : ما نخفي من الوَجد بمفارقة إِسماعيل ، وما نعلن من الحُبِّ له . قال المفسرون : إِنما قال هذا لمّا نزل إِسماعيل الحرم ، وأراد فراقه .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)

قوله تعالى : { الحمد لله الذي وهب لي على الكِبَر } أي : بعد الكبر { إِسماعيل وإِسحاق } قال ابن عباس : وُلد له إِسماعيلُ وهو ابن تسع وتسعين ، ووُلد له إِسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة .
قوله تعالى : { ربنا وتقبَّل دعائي } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وهبيرة عن حفص عن عاصم : «وتقبَّل دعائي» بياء في الوصل . وقال البزي عن ابن كثير : يصل ويقف بياء . وقال قنبل عن ابن كثير : يُشِمُّ الياء في الوصل ، ولا يثبتها ، ويقف عليها بالألف . الباقون «دعاءِ» بغير ياء في الحالين . قال أبو علي : الوقف والوصل بياء هو القياس ، والإِشمام جائز ، لدلالة الكسرة على الياء .

رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)

قوله تعالى : { ربنا اغفر لي ولوالديَّ } قال ابن الأنباري : استغفرَ لأبويه وهما حيّان ، طمعاً في أن يُهْدَيا إِلى الإِسلام . وقيل : أراد بوالديه : آدم ، وحواء . وقرأ ابن مسعود ، وأُبيّ ، والنخعي ، والزهري : «ولِولَديَّ» يعني : إِسماعيل وإِسحاق ، يدل عليه ذِكرُهما قبل ذلك . وقرأ مجاهد : «ولوالِدِي» على التوحيد . وقرأ عاصم الجُحدري : «ولِوُلْدي» بضم الواو . وقرأ يحيى بن يعمر ، والجَوني : «ولِوَلَدِي» بفتح الواو وكسر الدال على التوحيد . { يوم يقوم الحساب } أي : يَظهر الجزاء على الأعمال . وقيل : معناه : يوم يقوم الناس للحساب ، فاكتُفي بذِكر الحساب من ذِكر الناس إِذ كان المعنى مفهوماً .

وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)

قوله تعالى : { ولا تحسبَنَّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون } قال ابن عباس : هذا وعيد للظالم ، وتعزية للمظلوم .
قوله تعالى : { إِنما يؤخِّرهم } وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمي ، وأبو رزين ، وقتادة : «نؤخِّرهم» بالنون ، أي : يؤخر جزاءهم { ليوم تشخص فيه الأبصار } أي : تشخص أبصار الخلائق لظهور الأحوال فلا تغتمض . قوله تعالى : { مهطعين } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن الإِهطاع : النظر من غير أن يَطْرِف الناظر ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والضحاك ، وأبو الضُّحى .
والثاني : أنه الإِسراع ، قاله الحسن ، وسعيد بن جُبير ، وقتادة ، وأبو عبيدة . وقال ابن قتيبة : يقال : أهطع البعير في سيره ، واستهطع : إِذا أسرع .
وفي ما أسرعوا إِليه قولان . أحدهما : إِلى الداعي ، قاله قتادة . والثاني : إِلى النار ، قاله مقاتل .
والثالث : أن المُهطع : الذي لا يرفع رأسه ، قاله ابن زيد . وفي قوله : { مقنعي رؤوسهم } قولان :
أحدهما : رافعي رؤوسهم ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وأبو عبيدة ، وأنشد أبو عبيدة :
أَنْغَضَ نَحْوِي رَأْسَهُ وأَقْنَعَا ... كَأَنَمَّا أَبْصَرَ شَيْئَاً أَطْمَعَا
وقال ابن قتيبة : المقنع رأسه : الذي رفعه وأقبل بطرْفه على ما بين يديه . وقال الزجاج : رافعي رؤوسهم ، ملتصقة بأعناقهم . «ومهطعين مقنعي رؤوسهم» نصبٌ على الحال ، المعنى : ليوم تشخص فيه أبصارهم مهطعين .
والثاني : ناكسي رؤوسِهم ، حكاه الماوردي عن المؤرِّج .
قوله تعالى : { لا يرتدُّ إِليهم طرفهم } أي : لا ترجع إِليهم أبصارهم من شدة النظر ، فهي شاخصة . قال ابن قتيبة : والمعنى : أن نظرهم إِلى شيء واحد . قال الحسن : وجوه الناس يوم القيامة إِلى السماء ، لا ينظر أحد إِلى أحد .
قوله تعالى : { وأفئدتهم هواءٌ } الأفئدة : مساكن القلوب . وفي معنى الكلام أربعة أقوال :
أحدها : أن القلوب خرجت من مواضعها فصارت في الحناجر ، رواه عطاء عن ابن عباس . وقال قتادة : خرجت من صدورهم فنَشِبَت في حلوقهم ، فأفئدتهم هواءٌ ليس فيها شيء .
والثاني : وأفئدتهم ليس فيها شيء من الخير ، فهي كالخِرْبة ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثالث : وأفئدتهم مُنخرِقة لا تعي شيئاً ، قاله مُرَّة بن شراحيل . وقال الزجاج : متخرِّقة لا تعي شيئاً من الخوف .
والرابع : وأفئدتهم جُوْف لا عقول لها ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد لحسَّان :
أَلاَ أَبْلِغْ أُبَا سُفْيَانَ عَنِّي ... فَأَنْتَ مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هَوَاءُ
فعلى هذا يكون المعنى : أن قلوبهم خلت عن العقول ، لمِا رأوا من الهول . والعرب تسمي كلَّ أجوَفَ خاوٍ : هواءً . قال ابن قتيبة : ويقال : أفئدتهم منخوبة من الخوف والجُبْن .

وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)

قوله تعالى : { وأنذر الناس } أي : خوِّفهم { يوم يأتيهم العذاب } يعني به : يوم القيامة؛ وإِنما خصه بذِكر العذاب ، وإِن كان فيه ثواب ، لأن الكلام خرج مخرج التهديد للعُصاة ، قال ابن عباس : يريد بالناس هاهنا : أهل مكة .
قوله تعالى : { فيقول الذين ظلموا } أي : أشركوا { ربنا أخِّرنا إِلى أجل قريب } أي : أمهلنا مُدَّة يسيرة . وقال مقاتل : سألوا الرجوع إِلى الدنيا ، لأن الخروج من الدنيا قريب . { نُجِبْ دعوتك } يعني : التوحيد ، فيقال لهم : { أولم تكونوا أقسمتم من قبلُ } أي : حلفتم في الدنيا أنكم لا تُبعَثُون ولا تنتقلون من الدنيا إِلى الآخرة .

وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)

قوله تعالى : { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم } أي : نزلتم في أماكنهم وقُراهم ، كالحِجر ومَدين ، والقُرى التي عُذِّب أهلها . ومعنى «ظلموا أنفسهم» أي : ضرُّوها بالكفر والمعصية . { وتَبَيَّن لكم } وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمي ، وأبو المتوكل الناجي «وتُبُيِّن» بضم التاء . { كيف فعلنا بهم } يعني : كيف عذَّبناهم ، يقول : فكان ينبغي لكم أن تنزجروا عن المخالفة اعتباراً بمساكنهم بعدما علمتم فِعلنا بهم ، { وضربنا لكم الأمثال } قال ابن عباس : يريد الأمثال التي في القرآن .

وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)

قوله تعالى : { وقد مكروا مكرهم } في المشار إِليهم أربعة أقوال :
أحدها : أنه نمرود الذي حاجَّ إِبراهيم في ربه ، قال : لا أنتهي حتى أنظر إِلى السماء ، فأمر بفرخَي نسر فرُبِّيا حتى سمنا واستعلجا ، ثم أمر بتابوت فنُحت ، ثم جعل في وسطه خشبة ، وجعل على رأس الخشبة لحماً شديد الحُمرة ، ثم جوَّعهما وربط أرجلهما بأوتار إِلى قوائم التابوت . ودخل هو وصاحب له في التابوت وأغلق بابه ، ثم أرسلهما ، فجعلا يريدان اللحم ، فصَعِدا في السماء ما شاء الله ، ثم قال لصاحبه : افتح وانظر ماذا ترى؟ ففتح ، فقال : أرى الأرض كأنها الدخان ، فقال له : أغلِق ، ثم صَعِد ما شاء الله ، ثم قال : افتح فانظر ، ففتح ، فقال : ما أرى إِلا السماء ، وما نزداد منها إِلا بُعداً ، قال : فصوِّب خشبتك ، فصوَّبَها ، فانقضَّت النسور تريد اللحم ، فسمعت الجبال هدَّتها ، فكادت تزول عن مراتبها . هذا قول علي ابن أبي طالب . وفي رواية عنه : كانت النسور أربعة . وروى السُّدِّي عن أشياخه : أنه مازال يصعد إِلى أن رأى الأرض يحيط بها بحر ، فكأنها فَلْكة في ماءٍ ، ثم صَعِدَ حتى وقع في ظُلمة ، فلم ير ما فوقه ولم ير ما تحته ، ففزع ، فصوب اللحم ، فانقضَّت النسور ، فلما نزل أخذ في بناء الصرح . وروي عن ابن عباس أنه بنى الصرح ، ثم صَعِدَ منه مع النسور ، فلما لم يقدر على السماء ، اتخذه حِصناً ، فأتى الله بنيانَه من القواعد ، وقال عكرمة : كان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنُّشَّاب ، فرمى بسهم فعاد إِليه ملطَّخاً بالدم ، فقال : كُفيتَ إِله السماء ، وذلك من دم سمكة في بحر معلَّق في الهواء ، فلما هاله الارتفاع ، قال لصاحبه : صوِّب الخشبة ، فصوَّبَها ، فانحطت النسور ، فظنت الجبال أنه أمرٌ نزل من السماء فزالت عن مواضعها . وقال غيره : لما رأت الجبال ذلك ، ظنت أنه قيام الساعة ، فكادت تزول ، وإِلى هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير ، وأبو مالك .
والقول الثاني : أنه بختنصر ، وأن هذه القصة له جرت ، وأن النسور لما ارتفعت تطلب اللحم إِلى حيث شاء الله ، نودي : يا أيها الطاغية ، أين تريد؟ ففرِق ، ثم سمع الصوت فوقه ، فنزل ، فلما رأت الجبال ذلك ، ظنت أنه قيام الساعة فكادت تزول ، وهذا قول مجاهد .
والثالث : أن المشار إِليهم الأمم المتقدمة . قال ابن عباس ، وعكرمة : مكرهم : شركهم .
والرابع : أنهم الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم حين همُّوا بقتله وإِخراجه .
وفي قوله : { وعند الله مكرهم } قولان :
أحدهما : أنه محفوظ عنده حتى يجازَيهم به ، قاله الحسن ، وقتادة .
والثاني : وعند الله جزاء مكرهم .
قوله تعالى : { وإِن كان مكرهم } وقرأ أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وأُبيّ ، وابن عباس ، وعكرمة ، وأبو العالية : «وإِن كاد مكرهم» بالدال .

{ لتزول منه الجبال } . وقرأ الأكثرون «لِتزولَ» بكسر اللام الأولى من «لتزول» وفتح الثانية . أراد : وما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، أي : هو أضعف وأوهن ، كذلك فسرها الحسن البصري . وقرأ الكسائي «لَتزولُ» بفتح اللام الأولى وضم الثانية ، أراد : قد كادت الجبال تزول من مكرهم ، كذلك فسرها ابن الأنباري .
وفي المراد بالجبال قولان :
أحدهما : أنها الجبال المعروفة ، قاله الجمهور .
والثاني : أنها ضُربت مثلاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وثبوتُ دينه كثبوت الجبال الراسية والمعنى : لو بلغ كيدهم إِلى إِزالة الجبال ، لَمَا زال أمر الإِسلام ، قاله الزجاج .
قال أبو علي : ويدل على صحة هذا قوُله : { فلا تحسَبَنَّ اللهَ مُخلِفَ وعْدِهِ رسلَه } أي : فقد وعدك الظهورَ عليهم . قال ابن عباس : يريد بوعده : النصر والفتح وإِظهار الدين . { إِن الله عزيز } أي : منيع { ذو انتقام } من الكافرين ، وهو أن يجازَيهم بالعقوبة على كفرهم .

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)

{ يوم تُبدَّل الأرض غير الأرض } وروى أبان «يوم نُبدِّل» بالنون وكسر الدال «الأرضَ» بالنصب ، «والسمواتِ» بخفض التاء ، ولا خلاف في نصب «غير» .
وفي معنى تبديل الأرض قولان :
أحدهما : أنها تلك الأرض ، وإِنما يُزاد فيها ويُنقص منها ، وتذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها ، وتُمد مَدَّ الأديم ، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس . وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " يوم تبدل الأرض غير الأرض ، قال : ببسطها ويمدها مَدَّ الأديم " . والثاني : أنها تبدَّل بغيرها . ثم فيه أربعة أقوال . أحدها : أنها تُبدَّل بأرض غيرها بيضاء كالفضة لم يُعمل عليها خطيئة ، رواه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود ، وعطاء عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد .
والثاني : أنها تُبدَّل ناراً ، قاله أُبيّ بن كعب .
والثالث : أنها تُبدَّل بأرض من فضة ، قاله أنس بن مالك .
والرابع : تُبدَّل بخبزة بيضاء ، فيأكل المؤمن من تحت قدميه ، قاله أبو هريرة ، وسعيد بن جبير ، والقرظي . وقال غيرهم : يأكل منها أهل الإِسلام حتى يُفرغ من حسابهم .
فأما تبديل السموات ، ففيه ستة أقوال :
أحدها : أنها تُجعَل من ذهب ، قاله علي عليه السلام .
والثاني : أنها تصير جِناناً ، قاله أُبيّ بن كعب .
والثالث : أن تبديلها : تكوير شمسها وتناثر نجومها ، قاله ابن عباس .
والرابع : أن تبديلها : اختلاف أحوالها ، فَمرة كالمُهْل ، ومَرَّة تكون كالدِّهان ، قاله ابن الأنباري .
والخامس : أن تبديلها أن تُطوى كَطَيِّ السِّجِلِّ للكتاب .
والسادس : أن تنشقَّ فلا تُظِلُّ ، ذكرهما الماوردي .
قوله تعالى : { وبرزوا لله الواحد القهار } أي : خرجوا من القبور .

وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)

قوله تعالى : { وترى المجرمين } يعني : الكفار { مُقرَّنين } يقال : قرنتُ الشيء إِلى الشيء : إِذا وصلتَه به .
وفي معنى «مُقرَّنين» ثلاثة أقوال :
أحدها : أنهم يُقرَّنون مع الشياطين ، قاله ابن عباس .
والثاني : أن أيديَهم وأرجلَهم قُرنت إِلى رقابهم ، قاله ابن زيد .
والثالث : يُقرَّن بعضهم إِلى بعض ، قاله ابن قتيبة .
وفي الأصفاد ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها الأغلال ، قاله ابن عباس ، وابن زيد ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزجاج ، وابن الأنباري .
والثاني : القيود والأغلال ، قاله قتادة .
والثالث : القيود ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
فأما السرابيل ، فقال أبو عبيدة : هي القُمُص ، واحدها سِربال . وقال الزجاج : السِّربال : كل ما لُبس . وفي القَطِرَانِ ثلاث لغات : فتح القاف وكسر الطاء ، وفتح القاف مع تسكين الطاء ، وكسر القاف مع تسكين الطاء . وفي معناه قولان :
أحدهما : أنه النحاس المذاب ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثاني : أنه قَطِران الإِبل ، قاله الحسن ، وهو شيء يَتَحلَّب من شجر تُهْنَأ به الإِبل . قال الزجاج : وإِنما جُعل لهم القَطِرَان ، لأنه يبالغ في اشتعال النار في الجلود ، ولو أراد الله تعالى المبالغة في إِحراقهم بغير ذلك لقَدَرَ ، ولكنه حذَّرهم ما يعرفون حقيقته . وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وأبو مجلز ، وعِكرمة ، وقتادة ، وابن أبي عبلة ، وأبو حاتم عن يعقوب : «مِنْ قِطْرٍ» بكسر القاف وسكون الطاء والتنوين «آنٍ» بقطع الهمزة وفتحها ومدها . والقِطْر : النحاس ، وآن : قد انتهى حَرُّه .
قوله تعالى : { وتغشى وجوهَهم النار } أي : تعلوها . واللام في { لَيجْزِيَ } متعلقة بقوله : { وبرزوا }

هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)

قوله تعالى : { هذا بلاغ للناس } في المشار إِليه قولان :
أحدهما : أنه القرآن . والثاني : الإِنذار . والبلاغ : الكفاية . قال مقاتل : والمراد بالناس : أهل مكة .
قوله تعالى : { ولينذَروا به } أي : أُنزل ليُنذَروا به ، وليعلموا بما فيه من الحُجج { أنما هو إِله واحد وليذَّكر } أي : وليتعظ { أولو الألباب }

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)

قوله تعالى : { الر تلك آيات الكتاب } قد سبق بيانه [ يونس : 1 ] .
قوله تعالى : { وقرآن مبين } فيه قولان :
أحدهما : أن القرآن هو الكتاب ، جُمع له بين الاسمين .
والثاني : أن الكتاب : هو التوراة والإِنجيل ، والقرآن : كتابُنا . وقد ذكرنا في أول ( يوسف ) معنى المبين .

رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)

قوله تعالى : { ربما } وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة والكسائي «رُبَّما» مشددة . وقرأ نافع ، وعاصم ، وعبد الوارث «رُبَما» بالتخفيف . قال الفراء : أسَد وتميم يقولون : «رُبَّما» بالتشديد ، وأهل الحجاز وكثير من قيس يقولون : «رُبَما» بالتخفيف . وتَيْم الرّباب يقولون : «رَبَّما» بفتح الراء . وقيل : إِنما قرئت بالتخفيف ، لِما فيها من التضعيف والحروف ، المضاعَفة قد تحذف ، نحو «إِنّ» و «لكنّ» فإنهم قد خفَّفوها . قال الزجاج : يقولون : رُبَّ رُجل جاءني ، ورُبَ رُجل جاءني ، وأنشد :
أزهير إِن يَشِبِ القَذالُ فإنني ... رُبَ هَيْضَلٍ مَرْسٍ لفَفْت بِهَيضَلِ
هذا البيت لأبي كبير الهذلي ، وفي ديوانه :
رُبَ هَيْضَلٍ لِجَبٍ لفَفْتُ بِهَيْضَلِ ... والهَيْضَل : جمع هَيْضلة ، وهي الجماعة يُغزى بهم يقول : لففتهم بأعدائهم في القتال . و «رُبَّ» كلمة موضوعة للتقليل ، كما أن «كم» للتكثير ، وإِنما زيدت «ما» مع «رُبَّ» ليليَها الفعل ، تقول : رُبَّ رجل جاءني ، وربما جاءني زيد . وقال الأخفش : أُدخل مع «رُبَّ» ما ، ليُتكلم بالفعل بعدها ، وإِن شئت جعلت «ما» بمنزلة «شيء» ، فكأنك قلت : رُبَّ شيء ، أي : رُبَّ وَدٍّ يَوَدُّه الذين كفروا . وقال أبو سليمان الدمشقي : «ما» هاهنا بمعنى «حين» ، فالمعنى : رُبَّ حين يَوَدُّون فيه . واختلف المفسرون متى يقع هذا من الكفار ، على قولين : أحدهما : أنه في الآخرة . ومتى يكون ذلك؟ فيه أربعة أقوال . أحدها : أنه إِذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم مَنْ شاء الله من أهل القِبلة ، قال الكفار للمسلمين : ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا : بلى ، قالوا : فما أغنى عنكم إِسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا : كانت لنا ذنوب فأُخذنا بها؛ فسمع الله ما قالوا ، فأمر بمن كان في النار من أهل القِبلة فأُخرجوا فلما رأى ذلك الكفار ، قالوا : يا ليتنا كنا مسلمين فنُخرَج كما أُخرجوا ، رواه أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وذهب إِليه ابن عباس في رواية وأنس بن مالك ، ومجاهد ، وعطاء ، وأبو العالية ، وإِبراهيم . والثاني : أنه ما يزال الله يرحم ويشفِّع حتى يقول : من كان من المسلمين فليدخل الجنة ، فذلك حين يَوَدُّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين ، رواه مجاهد عن ابن عباس . والثالث : أن الكفار إِذا عاينوا القيامة ، وَدُّوا لو كانوا مسلمين ، ذكره الزجاج . والرابع : أنه كلما رأى أهل الكفر حالاً من أحوال القيامة يعذَّب فيها الكافر ويَسلم من مكروهها المؤمن ، وَدُّوا ذلك ، ذكره ابن الأنباري . والقول الثاني : أنه في الدنيا إِذا عاينوا وتبين لهم الضلال من الهدى وعلموا مصيرهم ، وَدُّوا ذلك ، قاله الضحاك .
فإن قيل : إِذا قلتم : إِن «رُبَّ» للتقليل ، وهذه الآية خارجة مخرج الوعيد ، فإنما يناسب الوعيدَ تكثيرُ ما يُتواعَد به؟ فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها ابن الأنباري : أحدهن : أن «ربما» تقع على التقليل والتكثير ، كما يقع الناهل على العطشان والريَّان ، والجَوْن على الأسود والأبيض .

والثاني : أن أهوال القيامة وما يقع بهم من الأهوال تكثُر عليهم ، فإذا عادت إِليهم عقولهم ، وَدُّوا ذلك . والثالث : أن هذا الذي خُوِّفوا به ، لو كان مما يُوَدُّ في حال واحدة من أحوال العذاب ، أو كان الإِنسان يخاف الندم إِذا حصل فيه ولا يتيقّنُه ، لوجب عليه اجتنابه .
فإن قيل : كيف جاء بعد «ربما» مستقبَل ، وسبيلها أن يأتي بعدها الماضي ، تقول : ربما لقيت عبد الله؟ فالجواب : أن ما وَعَدَ اللهُ حَقٌّ ، فمستقبَلُه بمنزلة الماضي ، يدل عليه قوله : { وإِذ قال الله ياعيسى ابن مريم } [ المائدة 116 ] وقوله : { ونادى أصحابُ الجنة } [ الأعراف : 44 ] { ولو ترى إِذ فزعوا فلا فوت } [ سبأ 51 ] ، على أن الكسائي والفراء حكيا عن العرب أنهم يقولون : ربما يندم فلان ، قال الشاعر :
رُبَّما تجزَعُ النفوس من الأم ... رِ له فُرجَة كَحَلِّ العِقالِ

ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)

قوله تعالى : { ذرهم يأكلوا } أي : دع الكفار يأخذوا حظوظهم في الدنيا ، { ويلههم الأَمَل } أي : ويشغلهم ما يأملون في الدنيا عن أخذ حظهم من الإِيمان والطاعة { فسوف يعلمون } إِذا وردوا القيامة وبالَ ما صنعوا ، وهذا وعيد وتهديد ، وهذه الآية عند المفسرين منسوخه بآية السيف .

وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)

قوله تعالى : { وما أهلكنا من قرية } أي : ما عذَّبنا من أهل قرية { إِلا ولها كتاب معلوم } أي أجَل مؤقَّت لا يُتقدم ولا يُتأخر عنه . { ما تسبق من أُمَّة أَجلها } «من» صِلة ، والمعنى : ما تتقدم وقتها الذي قدِّر لها بلوغه ، ولا تستأخر عنه . قال الفراء : إِنما قال : «أَجَلها» لأن الأمَّة لفظُها مؤنث ، وإِنما قال : «يستأخرون» إِخراجاً له على معنى الرجال .

وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)

قوله تعالى : { وقالوا يا أيها الذي نُزِّل عليه الذِّكر } قال مقاتل : نزلت في عبد الله بن أبي أمية ، والنضر بن الحارث ، ونوفل بن خويلد ، والوليد بن المغيرة ، قال ابن عباس : والذِّكر : القرآن . وإِنما قالوا هذا استهزاءً ، لو أيقنوا أنه نُزِّل عليه الذِّكْر ، ما قالوا : { إِنك لمجنون } . قال أبو علي الفارسي : وجواب هذه الآية في سورة أخرى في قوله : { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } [ القلم 2 ] .
قوله تعالى : { لو ما تأتينا } قال الفراء : «لوما» و«لولا» لغتان معناهما : هلاّ ، وكذلك قال أبو عبيدة : هما بمعنى واحد ، وأنشد لابن مُقبل :
لَوْمَا الحَيَاءُ وَلوْمَا الدِّيُن عِبْتُكُمَا ... بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إِذْ عِبْتُما عَوَرِي
قال المفسرون : إِنما سألوا الملائكة ليشهدوا له بصدقه ، وأن الله أرسله ، فأجابهم الله تعالى بقوله : { ماتُنزَّلُ الملائكة إِلا بالحق } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر «ما تَنزَّلُ» بالتاء المفتوحة «الملائكةُ» بالرفع . وروى أبو بكر عن عاصم «ما تُنزَّل» بضم التاء على ما لم يُسم فاعله . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخَلَف «ما نُنِّزل» بالنون والزاي المشددة «الملائكةَ» نصباً .
وفي المراد بالحق أربعة أقوال :
أحدها : أنه العذاب إِن لم يؤمنوا ، قاله الحسن .
والثاني : الرساله ، قاله مجاهد .
والثالث : قبض الأرواح عند الموت ، قاله ابن السائب .
والرابع : أنه القرآن ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { وما كانوا } يعني : المشركين { إِذاً مُنظَرين } أي : عند نزول الملائكة إِذا نزلت .

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)

قوله تعالى : { إِنا نحن نزَّلنا الذِّكر } من عادة الملوك إِذا فعلوا شيئاً ، قال أحدهم : نحن فعلنا ، يريد نفسه وأتباعه ، ثم صار هذا عادة للملِك في خطابه ، وإِنِ انفرد بفعل الشيء ، فخوطبت العرب بما تعقل من كلامها . والذِّكْر : القرآن ، في قول جميع المفسرين .
وفي هاء «له» قولان :
أحدهما : أنها ترجع إِلى الذِّكْر ، قاله الأكثرون . قال قتادة : أنزله الله ثم حفظه ، فلا يستطيع إِبليس أن يزيد فيه باطلاً ، ولاينقص منه حقاً .
والثاني : أنها ترجع إِلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فالمعنى : { وإِنا له لحافظون } من الشياطين والأعداء ، لقولهم : «إِنك لمجنون» ، هذا قول ابن السائب ، ومقاتل .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)

قوله تعالى : { ولقد أرسلنا من قبلك } يعني : رسلاً ، فحُذف المفعولُ ، لدلالة الإِرسال عليه . والشِّيَع : الفِرَق ، وحكي عن الفراء أنه قال : الشيعة . الأمَّة المتابعة بعضها بعضاً فيما يجتمعون عليه من أمر .

وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)

قوله تعالى : { وما يأتيهم من رسول إِلا كانوا به يستهزؤن } هذا تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : إِنَّ كل نبيٍّ قبلك كان مبتلىً بقومه كما ابتُليتَ .

كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)

قوله تعالى : { كذلك نسلكه } في المشار إِليه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الشِّرك ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وابن زيد .
والثاني : أنه الاستهزاء ، قاله قتادة .
والثالث : التكذيب ، قاله ابن جريج ، والفراء .
ومعنى الآية : كما سلكنا في قلوب شِيَع الأولين ، نُدخل في قلوب هؤلاء التكذيبَ فلا يؤمنوا . ثم أخبر عن هؤلاء المشركين ، فقال : { لايؤمنون به } . وفي المشار إِليه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الرسول .
والثاني : القرآن .
والثالث : العذاب .
قوله تعالى : { وقد خلت سُنَّة الأولين } فيه قولان :
أحدهما : مضت سُنَّة الله في إِهلاك المكذِّبين .
والثاني : مضت سُنَّتهم بتكذيب الأنبياء .

وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)

قوله تعالى : { ولو فتحنا عليهم باباً من السماء } يعني : كفار مكة { فظلُّوا فيه يعرُجون } أي : يصعدون ، يقال : ظل يفعل كذا : إِذا فعله بالنهار .
وفي المشار إِليهم بهذا الصعود قولان :
أحدهما : أنهم الملائكة ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، فالمعنى : لو كُشف عن أبصار هؤلاء فرأوا باباً مفتوحاً في السماء والملائكة تصعد فيه ، لما آمنوا به .
والثاني : أنهم المشركون ، قاله الحسن ، وقتادة ، فيكون المعنى : لو وصَّلناهم إِلى صعود السماء ، لم يستشعروا إِلا الكفر ، لعنادهم .
قوله تعالى : { لقالوا إِنما سُكرت أبصارنا } قرأ الأكثرون بتشديد الكاف . وقرأ ابن كثير ، وعبد الوارث بتخفيفها . قال الفراء : ومعنى القراءتين متقارب ، والمعنى : حُبستْ ، من قولهم : سَكَرَت الريح ، إِذا سكنت وركدت . وقال أبو عمرو بن العلاء : معنى «سُكِرَتْ» بالتخفيف ، مأخوذ من سُكْر الشراب ، يعني : أن الأبصار حارت ، ووقع بها من فساد النظر مثل مايقع بالرجل السكران من تغيُّر العقل . قال ابن الأنباري : إِذا كان هذا كان معنى التخفيف ، فسُكِّرت ، بالتشديد ، يراد به وقوع هذا الأمر مرة بعد مرة . وقال أبو عبيد : «سُكِّرت» بالتشديد ، من السُّكور التي تمنع الماءَ الجِرْيَةَ ، فكأن هذه الأبصار مُنعت من النظر كما يمنع السِّكرُ الماءَ من الجري . وقال الزجاج : «سُكِّرت» بالتشديد ، فسروها : أُغشيت ، «وسُكِرَتْ» بالتخفيف : تحيَّرتْ وسكنتْ عن أن تنظر ، والعرب تقول : سَكِرَتِ الريحُ تَسْكَرُ : إِذا سكنت . وروى العوفي عن ابن عباس : «إِنما سُكرت أبصارنا» قال : أُخذ بأبصارنا وشبِّه علينا ، وإِنما سُحِرْنا . وقال مجاهد : «سُكِّرت» سُدَّت بالسِّحر ، فيتماثل لأبصارنا غيرُ ما ترى .

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)

قوله تعالى : { ولقد جعلنا في السماء بروجاً } في البروج ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها بروج الشمس والقمر ، أي : منازلهما ، قاله ابن عباس ، وأبوعبيدة في آخرين . قال ابن قتيبة : وأسماؤها : الحَمَل ، والثَّور ، والجَوْزاء ، والسَّرَطان ، والأسد ، والسُّنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجَدْي ، والدلو ، والحوت .
والثاني : أنها قصور ، روي عن ابن عباس أيضاً . وقال عطية : هي قصور في السماء فيها الحرس . وقال ابن قتيبة : أصل البروج : الحصون .
والثالث : أنها الكواكب ، قاله مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل . قال أبو صالح : هي النجوم العِظام . قال قتادة : سُميت بروجاً ، لظهورها .
قوله تعالى : { وزيَّنَّاها } أي : حسَّنّاها بالكواكب .
وفي المراد بالناظرين قولان . أحدهما : أنهم المبصرون . والثاني : المعتبِرون .
قوله تعالى : { وحفِظناها من كل شيطان رجيم } أي : حفِظناها أن يصل إِليها شيطان أو يعلم من أمرها شيئاً إِلا استراقاً ، ثم يتبعه الشهاب . والرجيم مشروح في [ آل عمران : 36 ] .
واختلف العلماء : هل كانت الشياطين تُرمى بالنجوم قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم ، أم لا؟ على قولين :
أحدهما : أنها لم تُرْمَ حتى بُعث صلى الله عليه وسلم ، وهذا المعنى : مذكور في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس . وقد أخرج في «الصحيحين» من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأُرسلت عليهم الشهب» ، وظاهر هذا الحديث أنها لم تكن قبل ذلك . قال الزجاج : ويدل على أنها إِنما كانت بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن شعراء العرب الذين يمثِّلون بالبرق والأشياء المسرعة ، لم يوجد في أشعارها ذِكر الكواكب المنقضَّة ، فلما حدثت بعد مولد نبينا صلى الله عليه وسلم ، استعملت الشعراء ذِكرها ، فقال ذو الرُّمَّة :
كأنَّه كوكبٌ في إِثْرِ عِفْرِيَةٍ ... مُسَوَّم في سوادِ الليل مُنْقَضِبُ
والثاني : أنه قد كان ذلك قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ، فروى مسلم في «صحيحه» من حديث علي بن الحسين عن ابن عباس قال : " بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه ، إِذ رمي بنجم ، فاستنار ، فقال : «ما كنتم تقولون إِذا كان مثل هذا في الجاهلية»؟ قالوا كنا نقول : يموت عظيم ، أو يولد عظيم ، قال : «فإنها لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته ، ولكنْ ربُّنا إِذا قضى أمراً ، سبَّح حملة العرش ، ثم سبَّح أهل السماء الذين يلونهم ، حتى يبلغ التسبيح أهلَ هذه السماء ، ثم يستخبر أهل السماء السابعة حملةَ العرش : ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ، ثم يستخبر أهلُ كل سماءٍ أهلَ سماءٍ ، حتى ينتهي الخبر إِلى هذه السماء ، وتخطف الجن ويُرمَون ، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ، ولكنهم يقرِفون فيه ويزيدون» "

وروي عن ابن عباس أن الشاطين كانت لا تُحجب عن السموات ، فلما وُلد عيسى ، مُنعتْ من ثلاث سموات ، فلما وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مُنعوا من السموات كلِّها . وقال الزهري : قد كان يرمى بالنجوم قبل مبعث رسول الله ، ولكنها غُلِّظت حين بُعث صلى الله عليه وسلم ، وهذا مذهب ابن قتيبة ، قال : وعلى هذا وجدنا الشعر القديم ، قال بشر بن أبي خازم ، وهو جاهلي :
والعَيْرُ يَرْهَقُها الغُبارُ وجَحْشُها ... يَنْقَضُّ خلفهما انقضاضَ الكوكبِ
وقال أوس بن حَجَر ، وهو جاهلي :
فانقض كالدِّرِّيء يتبعه ... نقع يثور تخالهُ طُنُبا
قوله تعالى : { إلا من استرق السمع } أي : اختطف ما سمعه من كلام الملائكة . قال ابن فارس : استرق السمع : إِذا سمع مستخفياً . { فأتبعه } أي : لحقه { شهاب مبين } قال ابن قتيبة : كوكب مضيء . وقيل : «مبين» بمعنى : ظاهر يراه أهل الأرض . وإِنما يسترق الشيطان ما يكون من أخبار الأرض ، فأما وحي الله عز وجل ، فقد صانه عنهم .
واختلفوا ، هل يَقتل الشهاب ، أم لا؟ على قولين :
أحدهما : أنه يُحرق ويخبِّل ولا يقتُل ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : أنه يقتُل ، قاله الحسن . فعلى هذا القول ، هل يُقتَل الشيطان قبل أن يخبِر بما سمع ، فيه قولان :
أحدهما : أنه يُقْتَل قبل ذلك ، فعلى هذا ، لاتصل أخبار السماء إِلى غير الأنبياء . قال ابن عباس : ولذلك انقطعت الكِهانة .
والثاني : أنه يُقتَل بعد إِلقائه ما سمع إِلى غيره من الجن ، ولذلك يعودون إِلى الاستراق ، ولو لم يصِل ، لقطعوا الاستراق .

وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)

قوله تعالى : { والأرضَ مددناها } أي : بسطناها على وجه الماء { وألقينا فيها رواسي } وهي الجبال الثوابت { وأنبتنا فيها } في المشار إِليها قولان :
أحدهما : أنها الأرض ، قاله الأكثرون .
والثاني : الجبال ، قاله الفراء .
وفي قوله : { ومن كل شيء موزون } قولان :
أحدهما : أن الموزون : المعلوم ، رواه العَوفي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد ابن جبير ، والضحاك . وقال مجاهد ، وعكرمة في آخرين : الموزون : المقدور . فعلى هذا يكون المعنى : معلومَ القَدْر كأنه قد وُزِن ، لأن أهل الدنيا لمَّا كانوا يعلمون قدر الشيء بوزنه ، أخبر الله تعالى عن هذا أنه معلوم القَدْر عنده بأنه موزون . وقال الزجاج : المعنى : أنه جرى على وَزْنٍ من قَدَر الله تعالى ، لا يجاوز ما قدَّره الله تعالى عليه ، ولا يستطيع خَلْقٌ زيادةً فيه ولا نُقصاناً .
والثاني : أنه عنى به الشيء الذي يُوزَن كالذهب ، والفضة ، والرصاص ، والحديد ، والكُحل ، ونحو ذلك ، وهذا المعنى مروي عن الحسن ، وعكرمة ، وابن زيد ، وابن السائب ، واختاره الفراء .
قوله تعالى : { وجعلنا لكم فيها معايش } في المشار إِليها قولان :
أحدهما : أنها الأرض .
والثاني : أنها الأشياء التي أَنبتت . والمعايش جمع معيشة . والمعنى : جعلنا لكم فيها أرزاقاً تعيشون بها .
وفي قوله تعالى : { ومن لستم له برازقين } أربعة أقوال :
أحدها : أنه الدواب والأنعام ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .
والثاني : الوحوش ، رواه منصور عن مجاهد . وقال ابن قتيبة : الوحش ، والطير ، والسباع ، وأشباه ذلك مما لا يرزقه ابن آدم .
والثالث : العبيد والإِماء ، قاله الفراء .
والرابع : العبيد ، والأنعام ، والدواب ، قاله الزجاج . قال الفراء : و «مَنْ» في موضع نصب ، فالمعنى : جعلنا لكم فيها المعايش ، والعبيد ، والإِماء . ويقال : إِنها في موضع خفض ، فالمعنى : جعلنا لكم فيها معايش ولمن لستم له برازقين .
وقال الزجاج : المعنى : جعلنا لكم الدواب ، والعبيد ، وكُفيتم مؤونة أرزاقها .
فإن قيل : كيف قلتم : إن «مَنْ» هاهنا للوحوش والدواب ، وإِنما تكون لمن يعقل؟ فالجواب : أنه لما وُصفت الوحوش وغيرها بالمعاش الذي الغالب عليه أن يوصَف به الناسُ ، فيقال : للآدمي معاش ، ولا يقال : للفرس معاش ، جرت مجرى الناس ، كما قال : { يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } [ النمل 18 ] ، وقال : { رأيتهم لي ساجدين } [ يوسف 4 ] ، وقال : { كلٌّ في فلكٍ يسبَحون } [ الأنبياء : 33 ] ، وإِن قلنا : أُريدَ به العبيد ، والوحوش ، فإنه إِذا اجتمع الناس وغيرهم ، غُلِّب الناس على غيرهم ، لفضيلة العقل والتمييز .

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)

قوله تعالى : { وإِن من شيء } أي : وما من شيء { إِلا عندنا خزائنه } وهذا الكلام عامّ في كل شيء . وذهب قوم من المفسرين إِلى أن المراد به المطر خاصة ، فالمعنى عندهم : وما من شيء من المطر إِلا عندنا خزائنه ، أي : في حُكمنا وتدبيرنا ، { وما ننزِّله } كل عام { إِلا بقَدَر معلوم } لايزيد ولا ينقص ، فما من عام أكثرُ مطراً من عام ، غير أن الله تعالى يصرفه إِلى من يشاء ، ويمنعه من يشاء .

وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)

قوله تعالى : { وأرسلنا الرياح لواقح } وقرأ حمزة؛ وخلف : «الريح» . وكان أبو عبيدة يذهب إِلى أن «لواقح» بمعنى مَلاقح ، فسقطت الميم منه ، قال الشاعر :
لِيُبْكَ يَزِيدُ بائسٌ لِضَرَاعَةٍ ... وَأَشْعَثُ مِمَّنْ طَوَّحتْهُ الطَّوَائِحُ
أراد : المَطاوح ، فحذف الميم ، فمعنى الآية عنده : وأرسلنا الرياح مُلقِحة ، فيكون هاهنا فاعلٌ بمعنى مفْعِل ، كما أتى فاعل بمعنى مفعول ، كقوله : { ماءٍ دافقٍ } [ الطارق 6 ] أي : مدفوق ، و { عيشة راضية } [ الحاقة 21 والقارعة 7 ] أي : مَرضيَّة وكقولهم : ليل نائم ، أي : مَنُوم فيه ، ويقولون : أبقل النبت ، فهو باقل ، أي : مُبقِل . قال ابن قتيبة : يريد أبو عبيدة أنها تُلْقِح الشجر ، وتُلْقِح السحاب كأنها تُنتجه . ولست أدري ماضطره إِلى هذا التفسير بهذا الاستكراه وهو يجد العرب تسمي الرياحَ لواقحَ ، والريحَ لاقحاً ، قال الطِّرِمَّاح ، وذكر بُرْداً مَدَّه على أصحابه في الشمس يستظلُّون به :
قَلِقٌ لأفنان الريا ... ح لِلاَقحٍ منها وحائل
فاللاقح : الجنوب ، والحائل : الشمال ، ويسمون الشمال أيضاً : عقيماً ، والعقيم : التي لا تحمل ، كما سمَّوا الجنوب لاقحاً ، قال كثيِّر :
ومرَّ بسفساف التراب عقيمها ... يعني : الشمال . وإِنما جعلوا الريح لاقحاً ، أي : حاملاً ، لأنها تحمل السحاب وتقلِّبه وتصرِّفه ، ثم تحلُّه فينزل ، فهي على هذا حامل ، ويدل على هذا قوله : { حتى إِذا أقلَّت سحاباً } [ الأعراف : 57 ] أي : حملت . قال ابن الأنباري : شبّه ما تحمله الريح من الماء وغيره ، بالولد التي تشتمل عليه الناقة ، وكذلك يقولون : حرب لاقح ، لِما تشتمل عليه من الشر ، فعلى قول أبي عبيدة ، يكون معنى «لواقح» : أنها مُلقحة لغيرها ، وعلى قول ابن قتيبة : أنها لاقحة نفسها ، وأكثر الأحاديث تدل على القول الأول . قال عبد الله ابن مسعود : يبعث الله الرياح لتلقح السحاب ، فتحمل الماء ، فتمجُّه ثم تَمريه ، فيدرُّ كما تدرُّ اللقحة . وقال الضحاك : يبعث الله الرياح على السحاب فتُلقِحه فيمتلىء ماءً . قال النخعي : تُلْقِح السحاب ولا تُلْقِح الشجر . وقال الحسن في آخرين : تُلْقح السحاب والشجر ، يعنون أنها تُلْقح السحاب حتى يُمطر والشجر حتى يُثمر .
قوله تعالى : { فأنزلنا من السماء } يعني السحاب { ماءً } يعني المطر { فأسقيناكموه } أي : جعلناه سُقْيالكم . قال الفراء : العرب مجتمعون على أن يقولوا : سقيت الرجل ، فأنا أسقيه : إِذا سقيته لِشَفَتِه ، فإذا أجرَوا للرجل نهراً قالوا : أسقيته وسقيته ، وكذلك السُّقيا من الغيث ، قالوا فيها : سقيت وأسقيت . وقال أبو عبيدة : كل ما كان من السماء ، ففيه لغتان : أسقاه الله ، وسقاه الله ، قال لبيد :
سَقَى قَوْمي بَنِي مَجْدٍ وَأَسْقَى ... نُمَيْراً والقَبَائِلَ مِنْ هِلاَلِ
فجاء باللغتين . وتقول : سقيت الرجل ماءً وشراباً من لبن وغيره ، وليس فيه إِلا لغة واحدة بغير ألِف ، إِذا كان في الشَّفه؛ وإِذا جعلت له شِرْباً ، فهو : أسقيته ، وأسقيت أرضه ، وإِبله ، ولا يكون غير هذا ، وكذلك إِذا استسقيت له ، كقول ذي الرمة :
وَقَفْتُ عَلَى رَسْمٍ لِمَيَّةَ نَاقَتِي ... فَما زِلْتُ أَبْكِي عِنْدَهُ وأُخَاطِبُهْ
وأُسْقِيه حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ ... تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُهُ وَمَلاَعِبُهْ
فإذا وهبت له إِهاباً ليجعله سقاءً ، فقد أسقيته إِياه .
قوله تعالى : { وما أنتم له } يعني : الماء المُنزَل { بخازنين } وفيه قولان .
أحدهما : بحافظين ، أي : ليست خزائنه بأيديكم ، قاله مقاتل .
والثاني : بمانعين ، قاله سفيان الثوري .
قوله تعالى : { ونحن الوارثون } يعني : أنه الباقي بعد فناء الخلق .

وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)

قوله تعالى : { ولقد علمنا المستقدمين منكم } يقال : استقدم الرجل ، بمعنى : تقدم ، واستأخر ، بمعنى : تأخر .
وفي سبب نزولها قولان :
أحدهما : أن امرأةً حسناءَ كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان بعضهم يستقدم حتى يكون في أول الصفِّ لئلا يراها ، ويتأخر بعضهم حتى يكون في آخر صف ، فإذا ركع نظر من تحت إِبطه ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس .
والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّض على الصف الأول ، فازدحموا عليه ، وقال قوم بيوتهم قاصية عن المدينة : لنبيعنَّ دُورنا ، ولنشترينَّ دوراً قريبة من المسجد حتى ندركَ الصف المتقدم ، فنزلت هذه الأية؛ ومعناها : إِنما تُجْزَون على النيات ، فاطمأَنوا وسكنوا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
وللمفسرين في معنى المستقدمين والمستأخِرين ثمانية أقوال .
أحدها : التقدم في الصف الأول ، والتأخر عنه ، وهذا على القولين المذكورين في سبب نزولها ، فعلى الأول : هو التقدُّم للتقوى ، والتأخُّر للخيانة بالنظر ، وعلى الثاني : هو التقدم لطلب الفضيلة ، والتأخر للعذر .
والثاني : أن المستقدمين : من مات ، والمستأخرين ، من هو حي لم يمت ، رواه العَوفي عن ابن عباس ، وخُصَيف عن مجاهد ، وبه قال عطاء ، والضحاك ، والقرظي .
والثالث : أن المستقدمين : من خرج من الخلق وكان . والمستأخرين : الذين في أصلاب الرجال ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة .
والرابع : أن المستقدمين : من مضى من الأمم ، والمستأخرين : أُمة محمد صلى الله عليه وسلم ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .
والخامس : أن المستقدمين : المتقدِّمون في الخير ، والمستأخرون : المثبِّطون عنه ، قاله الحسن ، وقتادة .
والسادس : أن المستقدمين في صفوف القتال ، والمستأخرين عنها ، قاله الضحاك .
والسابع : أن المستقدمين : من قُتل في الجهاد ، والمستأخرين : من لم يُقتَل ، قاله القرظي .
والثامن : أن المستقدمين : أول الخلق ، والمستأخرين آخر الخلق ، قاله الشعبي .

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)

قوله تعالى : { ولقد خلقنا الإِنسان } يعني آدم { من صلصال } وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الطين اليابس الذي لم تُصِبه النار ، فإذا نقرتَهَ صَلَّ ، فسمعتَ له صلصلة ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة .
والثاني : أنه الطين المنتن ، قاله مجاهد ، والكسائي ، وأبو عبيد . ويقال : صَلَّ اللحمُ : إِذا تغيرت رائحته .
والثالث : أنه طين خُلط برمل ، فصار له صوت عند نقره ، قاله الفراء . فأما الحمأُ ، فقال أبو عبيدة : هو جمع حَمْأة ، وهو الطين المتغير . وقال ابن الأنباري : لا خلاف أن الحمأ : الطين الأسود المتغيِّر الريح . وروى السدي عن أشياخه قال : بُلَّ الترابُ حتى صار طيناً ، ثم تُرك حتى أنتن وتغيَّر .
وفي المسنون أربعة أقوال .
أحدها : المنتن أيضاً ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة في آخرين . قال ابن قتيبة : المسنون : المتغير الرائحة .
والثاني : أنه الطين الرطب ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثالث : أنه المصبوب ، قاله أبو عمرو بن العلاء ، وأبو عبيد .
والرابع : أنه المحكوك ، ذكره ابن الأنباري ، قال : فمن قال : المسنون : المنتن ، قال : هو من قولهم : قد تسنَّى الشيء : إِذا أنتن ، ومنه قوله تعالى : { لم يتسنَّهْ } [ البقرة 259 ] ، وإِنما قيل له : مسنون ، لتقادم السنين عليه . ومن قال : الطين الرطب ، قال : سمي مسنوناً ، لأنه يسيل وينبسط ، فيكون كالماء المسنون المصبوب . ومن قال : المصبوب ، احتج بقول العرب : قد سننت عليَّ الماء : إِذا صببته . ويجوز أن يكون المصبوب على صورة ومثال ، من قوله : رأيت سُنَّة وجهه ، أي : صورة وجهه ، قال الشاعر :
تُرِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ ... مَلْسَاءَ لَيْسَ بِهَا خَالٌ وَلاَ نَدَبُ
ومن قال : المحكوك ، احتج بقول العرب : سننت الحجر على الحجر : إِذا حككته عليه . وسمي المِسَنُّ مسناً ، لأن الحديد يُحَكُّ عليه . قال : وإِنما كُرِّرت «مِنْ» لأن الأولى متعلقة ب «خلقنا» ، والثانية متعلقة بالصلصال ، تقديره : ولقد خلقنا الإِنسان من الصلصال الذي هو من حمأٍ مسنون .
قوله تعالى : { والجانَّ } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه مسيخ الجن ، كما أن القردة والخنازير مسيخ الإِنس ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثاني : أنه أبو الجن ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وروى عنه الضحاك أنه قال : الجانُّ أبو الجن ، وليسوا بشياطين ، والشياطين ولد إِبليس لا يموتون إِلا مع إِبليس ، والجن يموتون ، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر .
والثالث : أنه إِبليس ، قاله الحسن ، وعطاء ، وقتادة ، ومقاتل .
فإن قيل : أليس أبو الجن هو إِبليس؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أنه هو ، فيكون هذا القول هو الذي قبله .
والثاني : أن الجانَّ أبو الجن ، وإِبليس أبو الشياطين ، فبينهما إِذاً فرق على ما ذكرناه عن ابن عباس . قال العلماء : وإِنما سمي جانّاً ، لتواريه عن العيون .
قوله تعالى : { من قبل } يعني : قبل خَلْق آدم { من نار السموم } ، وقال ابن مسعود : من نار الريح الحارَّة ، وهي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم . والسَّموم في اللغة : الريح الحارَّة وفيها نار ، قال ابن السائب : وهي نار لا دخان لها .

فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)

قوله تعالى : { فإذا سوَّيتُه } أي : عدَّلتُ صورته ، وأتممتُ خلقته { ونفختُ فيه من روحي } هذه الروح هي التي يحيا بها الإِنسان ، ولا تُعْلَم ما هيَّتُها ، وإِنما أضافها إِليه ، تشريفاً لآدم ، وهذه إِضافة مِلْك . وإِنما سمي إِجراء الروح فيه نفخاً ، لأنها جرت في بدنه على مثل جري الريح فيه .
قوله تعالى : { فقعوا } أمر من الوقوع . وقوله : { كلُّهم أجمعون } قال فيه سيبويه والخليل : هو توكيد بعد توكيد . وقال المبرد : «أجمعون» يدل على اجتماعهم في السجود ، فالمعنى : سجدوا كلُّهم في حالة واحدة . قال ابن الأنباري : وهذا ، لأن «كلاًّ» تدل على اجتماع القوم في الفعل ، ولا تدل على اجتماعهم في الزمان . قال الزجاج : وقول سيبويه أجود ، لأن «أجمعين» معرفة ، ولا تكون حالاً .
قوله تعالى : { وإِن عليك اللعنة } قال المفسرون : معناه : يلعنك أهل السماء والأرض إِلى يوم الحساب . قال ابن الأنباري : وإِنما قال : { إِلى يوم الدِّين } لأنه يوم له أول وليس له آخر ، فجرى مجرى الأبد الذي لا يفنى ، والمعنى : عليك اللعنة أبداً .
قوله تعالى : { إِلى يوم الوقت المعلوم } يعني : المعلوم بموت الخلائق فيه ، فأراد أن يذيقه ألم الموت قبل أن يذيقه العذاب الدائم في جهنم .
قوله تعالى : { لأزيِّننَّ لهم في الأرض } مفعول التزيين محذوف ، والمعنى : لأزيِّننَّ لهم الباطلَ حتى يقعوا فيه . { ولأُغوينَّهم } أي : ولأُضِلَّنَّهم . والمخلَصون : الذين أخلصوا دينهم لله عن كل شائبة تناقض الإِخلاص ، وما أخللنا به من الكلمات هاهنا ، فقد سبق تفسيرها في [ الأعراف : 16 ] وغيرها .
قوله تعالى : { قال هذا صراط عليَّ مستقيم } اختلفوا في معنى هذا الكلام على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه يعني بقوله هذا : الإِخلاصَ ، فالمعنى : إِن الإِخلاص طريق إِليَّ مستقيم ، و «عليَّ» بمعنى «إِليَّ» .
والثاني : هذا طريق عليَّ جَوازه ، لأني بالمرصاد ، فأجازيهم بأعمالهم؛ وهو خارج مخرج الوعيد ، كما تقول للرجل تخاصمه : طريقك عليَّ ، فهو كقوله : { إِن ربك لبالمرصاد } [ الفجر 14 ] .
والثالث : هذا صراط عليَّ استقامته ، أي : أنا ضامن لاستقامته بالبيان والبرهان . وقرأ قتادة ، ويعقوب : «هذا صراطٌ عَلِيٌّ» بكسر اللام ورفع الياء وتنوينها ، أي : رفيع .

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)

قوله تعالى : { إِن عبادي } فيهم أربعة أقوال :
أحدها : أنهم المؤمنون .
والثاني : المعصومون ، رُوِيا عن قتادة .
والثالث : المخلِصون ، قاله مقاتل .
والرابع : المطيعون ، قاله ابن جرير . فعلى هذه الأقوال ، تكون الآية من العامِّ الذي أريد به الخاصُّ .
وفي المراد بالسلطان قولان :
أحدهما : أنه الحجة ، قاله ابن جرير ، فيكون المعنى : ليس لك حجة في إِغوائهم .
والثاني : أنه القهر والغلبة؛ إِنما له أن يَغُرَّ ويزيِّن ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وسئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية ، فقال : ليس لك عليهم سلطان أن تلقيَهم في ذَنْب يضيق عفوي عنه .
قوله تعالى : { وإِن جهنم لموعدهم أجمعين } يعني : الذين اتَّبعوه .
قوله تعالى : { لها سبعة أبواب } وهي دركاتها بعضها فوق بعض ، قال علي عليه السلام : أبواب جهنم ليست كأبوابكم هذه ، ولكنها هكذا وهكذا وهكذا بعضها فوق بعض ، ووصف الراوي عنه بيده وفتح أصابعه . قال ابن جرير : لها سبعة أبواب ، أولها جهنم ، ثم لَظى ، ثم الحُطَمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية . وقال الضحاك : هي سبعة أدراك بعضها فوق بعض ، فأعلاها فيه أهل التوحيد يعذَّبون على قدر ذنوبهم ثم يُخرَجون ، والثاني فيه النصارى ، والثالث فيه اليهود ، والرابع فيه الصائبون ، والخامس فيه المجوس ، والسادس فيه مشركو العرب ، والسابع فيه المنافقون . قال ابن الأنباري : لما اتصل العذاب بالباب ، وكان الباب مِنْ سببه ، سمي باسمه للمجاورة ، كتسميتهم الحدث غائطاً .
قوله تعالى : { لكل بابٍ منهم } أي : من أتباع إِبليس { جزءٌ مقسوم } والجزء : بعض الشيء .

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)

قوله تعالى : { إِن المتقين في جنات وعيون } قد شرحنا في سورة [ البقرة : 2و 25 ] معنى التقوى والجنات . فأما العيون ، فهي عيون الماء ، والخمر ، والسلسبيل ، والتسنيم ، وغير ذلك مما ذُكر أنه من شراب الجنة .
قوله تعالى : { ادخلوها بسلام } المعنى : يقال لهم : ادخلوها بسلام ، وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : بسلامة من النار . والثاني : بسلامة من كل آفة . والثالث : بتحية من الله .
وفي قوله : { آمنين } أربعة أقوال :
أحدها : آمنين من عذاب الله . والثاني : من الخروج . والثالث : من الموت . والرابع : من الخوف والمرض .
قوله تعالى : { ونزعنا ما في صدورهم من غِلّ } قد ذكرنا تفسيرها في سورة [ الأعراف : 43 ] فإن المفسرين ذكروا ما هناك هاهنا من تفسير وسبب نزول .
قوله تعالى : { إِخواناً } منصوب على الحال ، والمعنى : أنهم متوادّون .
فإن قيل : كيف نصب «إِخواناً» على الحال ، فأوجب ذلك أن التآخي وقع مع نزع الغِلِّ ، وقد كان التآخي بينهم في الدنيا؟
فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، فقال : ما مضى من التآخي قد كان تشوبه ضغائن وشحناء ، وهذا التآخي بينهم الموجودُ عند نزع الغِلِّ هو تآخي المصافاة والإِخلاص ، ويجوز أن ينتصب على المدح ، المعنى : اذكر إِخواناً . فأما السرر ، فجمع سرير ، قال ابن عباس : على سرر من ذهب مكلَّلة بالزبرجد والدُّرِّ والياقوت ، السرير مثل ما بين عدن إِلى أيلة ، { متقابلين } لا يرى بعضهم قفا بعض ، حيثما التفت رأى وجهاً يحبه يقابله .
قوله تعالى : { لايَمسُّهم فيها نَصَب } أي : لا يصيبهم في الجنة إِعياءٌ وتعب .

نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)

قوله تعالى : { نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم } سبب نزولها ما روى ابن المبارك بإسناد له عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " طلع علينا رسول الله من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ، ونحن نضحك ، فقال : «ألا أراكم تضحكون؟» ثم أدبر ، حتى إِذا كان عند الحِجر ، رجع إِلينا القهقرى ، فقال : «إِني لمَّا خرجت ، جاء جبريل عليه السلام ، فقال : يا محمد ، يقول الله تعالى : لم تقنِّط عبادي؟ نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم» " وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو بتحريك ياء «عباديَ» وياء «أنيَ أنا» ، وأسكنها الباقون .
قوله تعالى : { ونبئهم عن ضيف إِبراهيم } قد شرحنا القصة في [ هود : 69 ] وبيَّنَّا هنالك معنى الضيف والسبب في خوفه منهم ، وذكرنا معنى الوَجَل في [ الأنفال : 2 ] .
قوله تعالى : { بغلام عليم } أي : إِنه يبلغ ويعلم .

قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)

قوله تعالى : { قال أبشَّرتموني } أي : بالولد { على أن مسَّني الكِبَرُ } أي : على حالة الكِبَر والهرم { فبم تُبشِّرونَ } قرأ أبو عمر ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «تُبشِّرونَ» بفتح النون . وقرأ نافع بكسر النون ، ووافقه ابن كثير في كسرها ، لكنه شددها . وهذا استفهام تعجب ، كأنه عجب من الولد على كِبَرِه . { قالوا بشَّرناك بالحق } أي : بما قضى الله أنه كائن { فلا تكن من القانطين } يعني : الآيسين . { قال ومن يقنط } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة : «ومن يقنَط» بفتح النون في جميع القرآن . وقرأ أبو عمرو ، والكسائي : «يقنِط» بكسر النون . وكلهم قرؤوا { من بعد ماقَنَطوا } [ الشورى : 28 ] بفتح النون . وروى خارجة عن أبي عمرو «ومن يقنُط» بضم النون . قال الزجاج : يقال : قنِط يقنَط ، وقنَط يقنِط ، والقُنوط بمعنى اليأس ، ولم يكن إِبراهيم قانطاً ، ولكنه استبعد وجود الولد . { قال فما خطبكم } أي : ما أمرُكم؟ { قالوا إِنا أُرسلنا } أي : بالعذاب . وقوله : { إِلا آل لوط } استثناء ليس من الأول . فأما آل لوط ، فهم أتباعه المؤمنون .
قوله تعالى : { إِنا لمنجوهم } قرأ ابن كثير ، ونافع وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «لمنجُّوهم» مشددة الجيم . وقرأ حمزة ، والكسائي «لمُنجوهم» خفيفة .
قوله تعالى : { إِلا امرأته } المعنى : إٍنا لمنجوهم إِلا امرأته { قدَّرنا } وروى أبو بكر عن عاصم «قَدَرْنا» بالتخفيف ، والمعنى واحد ، يقال : قدَّرت وقدّرْت ، والمعنى : قضينا { إِنها لمن الغابرين } يعني : الباقين في العذاب .
قوله تعالى : { إِنكم قوم منكرون } يعني : لا أعرفكم ، { قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون } يعنون : العذاب ، كانوا يشكّون في نزوله . { وأَتيناك بالحق } أي : بالأمر الذي لا شك فيه من عذاب قومك .
قوله تعالى : { واتَّبِعْ أدبارهم } أي : سِرْ خلفهم { وامضوا حيث تؤمرون } أي : حيث يأمركم جبريل .
وفي المكان الذي أُمِروا بالمضي إِليه قولان :
أحدهما : أنه الشام ، قاله ابن عباس . والثاني : قرية من قرى قوم لوط ، قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { وقضينا إِليه ذلك الأمر } أي : أوحينا إِليه ذلك الأمر ، أي : الأمر بهلاك قومه ، قال الزجاج : فسَّر : ما الأمر بباقي الآية ، والمعنى : وقضينا إِليه أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين . فأما الدابر ، فقد سبق تفسيره [ الأنعام : 45 ] ، والمعنى : إِن آخر من يبقى منكم يَهْلِك وقت الصبح .

وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)

قوله تعالى : { وجاء أهلُ المدينة } وهم قوم لوط ، واسمها سَدُوم ، { يستبشرون } بأضياف لوط ، طمعاً في ركوب الفاحشة ، فقال لهم لوط : { إِن هؤلاء ضيفي فلا تفضحونِ } أي : بقصدكم إِياهم بالسوء ، يقال : فضَحَه يفضَحُه : إِذا أبان من أمره ما يلزمه به العار ، وقد أثبت يعقوب ياء «تفضحون» و«لا تُخزون» في الوصل والوقف .
قوله تعالى : { أوَلم ننهك عن العالَمين } أي : عن ضيافة العالَمين .
قوله تعالى : { بناتي إِن كنتم } حرك ياء «بناتيَ» نافع ، وأبو جعفر .

لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)

قوله تعالى : { لعمرك } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أن معناه : وحياتك يا محمد ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس .
والثاني : لَعَيْشُك ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الأخفش ، وهو يرجع إِلى معنى الأول .
والثالث : أن معناه : وحقّك على أمتك ، تقول العرب : لَعَمْرُ الله لا أقوم ، يعنون : وحَق الله ، ذكره ابن الأنباري . قال : وفي العَمْرِ ثلاث لغات . عَمْرٌ وعُمْرٌ و عُمُرٌ ، وهو عند العرب : البقاء . وحكى الزجاج أن الخليل وسيبويه وجميع أهل اللغة قالوا : العَمْرُ والعُمْرُ في معنى واحد ، فإذا استُعمل في القسَم ، فُتح لا غير ، وإِنما آثروا الفتح في القسَم ، لأن الفتح أخف عليهم ، وهم يؤكدون القسَم ب «لعَمري» و «لعَمّرك» ، فلما كثر استعمالهم إِياه ، لزموا الأخف عليهم ، قال : وقال النحويون : ارتفع «لَعمرُكَ» بالابتداء ، والخبر محذوف ، والمعنى : لعَمْرك قَسَمي ، ولعَمْرك ما أُقسِمُ به ، وحُذف الخبر ، لأن في الكلام دليلاً عليه . المعنى : أُقسِم { إِنهم لفي سكرتهم يعمهون } .
وفي المراد بهذه السكرة قولان :
أحدهما : أنها بمعنى الضلالة ، قاله قتادة .
والثاني : بمعنى الغفلة ، قاله الأعمش . وقد شرحنا معنى العَمَه في سورة [ البقرة : 15 ] . وفي المشار إِليهم بهذا قولان . أحدهما : أنهم قوم لوط ، قاله الأكثرون . والثاني : قوم نبينا صلى الله عليه وسلم ، قاله عطاء .
قوله تعالى : { فأخذتهم الصيحة } يعني : صيحة العذاب ، وهي صيحة جبريل عليه السلام . { مُشرقين } قال الزجاج : يقال : أشرقنا ، فنحن مُشرقون : إِذا صادفوا شروق الشمس ، وهو طلوعها ، كما يقال : أصبحنا : إِذا صادفوا الصبح ، يقال : شَرَقت الشمس : إِذا طلعت ، وأشرقت : إِذا أضاءت وصَفَت ، هذا أكثر اللغة . وقد قيل : شَرَقت وأشرقت في معنى واحد ، إِلا أن «مُشرقين» في معنى مصادِفين لطلوع الشمس .
قوله تعالى : { فجعلنا عاليها سافلها } قد فسرنا الآية في سورة [ هود : 82 ] .
وفي المتوسِّمين أربعة أقوال :
أحدها : أنهم المتفرِّسُون ، روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اتقوا فِراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " ثم قرأ { إِن في ذلك لآيات للمتوسِّمين } قال : المتفرِّسين ، وبهذا قال مجاهد ، وابن قتيبة . قال ابن قتيبة : يقال : توسَّمتُ في فلان الخير ، أي : تبيَّنتُه . وقال الزجاج : المتوسمون ، في اللغة : النُّظَّار المتثبِّتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سِمة الشيء ، يقال : توسمت في فلان كذا ، أي : عرفت وسم ذلك فيه . وقال غيره : المتوسم : الناظر في السِّمَة الدالة على الشيء . والثاني : المعتبرون ، قاله قتادة . والثالث : الناظرون ، قاله الضحاك . والرابع : المتفكرون ، قاله ابن زيد ، والفراء .
قوله تعالى : { وإِنها } يعني : قرية قوم لوط { لبسبيل مقيم } فيه قولان :
أحدهما : لَبِطريق واضح ، رواه نهشل عن الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والزجاج . وقال ابن زيد : لبِطَريق متبيَّن .
والثاني : لبهلاك . رواه أبو رَوْق عن الضحاك عن ابن عباس ، والمعنى : إِنها بحال هلاكها لم تُعْمَر حتى الآن ، فالاعتبار بها ممكن ، وهي على طريق قريش إِذا سافروا إِلى الشام .

وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)

قوله تعالى : { وإِن كان أصحاب الأيكة الظالمين } قال الزجاج : معنى «إِنْ» واللام : التوكيدُ ، والأيك : الشجر الملتف ، فالفصل بين واحده وجمعه ، الهاء . فالمعنى : أصحاب الشجرة . قال المفسرون : هم قوم شعيب ، كان مكانُهم ذا شجر ، فكذَّبوا شعيباً فأُهلكوا بالحرِّ كما بيَّنا في سورة [ هود : 87 ] .
قوله تعالى : { وإِنهما } في المكنى عنهما قولان . أحدهما : أنهما الأيكة ومدينة قوم لوط ، قاله الأكثرون . والثاني : لوط وشعيب ، ذكره ابن الأنباري .
وفي قوله : { لبإمام مبين } قولان :
أحدهما : لبطريق ظاهر ، قاله ابن عباس . قال ابن قتيبة : وقيل للطريق : إِمام ، لأن المسافر يأتمُّ به حتى يصير إِلى الموضع الذي يريده .
والثاني : لفي كتاب مستبين ، قاله السدي . قال ابن الأنباري : «وإِنهما» يعني : لوطاً وشعيباً بطريق من الحق يؤتم به .

وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)

قوله تعالى : { ولقد كذَّب أصحاب الحِجر المرسلين } يعني بهم ثمود . قال ابن عباس : كانت منازلهم بالحِجر بين المدينة والشام .
وفي الحِجر قولان : أحدهما : أنه اسم الوادي الذي كانوا به ، قاله قتادة ، والزجاج .
والثاني : اسم مدينتهم ، قاله الزهري ، ومقاتل .
قال المفسرون : والمراد بالمرسَلين : صالح وحده ، لأنه من كذَّب نبياً فقد كذَّب الكُلّ .
والمراد بالآيات : الناقة ، قال ابن عباس : كان في آيات : خروجها من الصخرة ، ودنوّ نتاجها عند خروجها ، وعِظَمُ خَلْقها فلم تشبهها ناقة ، وكثرةُ لبنها حتى كان يكفيهم جميعاً ، { فكانوا عنها معرضين } لم يتفكروا فيها ولم يستدلُّوا بها .

وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)

قوله تعالى : { وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً } قد شرحناه في [ الأعراف 74 ] .
وفي قوله : { آمنين } ثلاثة أقوال :
أحدها : آمنين أن تقع عليهم .
والثاني : آمنين من خرابها .
والثالث : من عذاب الله عز وجل ، وفي قوله تعالى : { ماكانوا يكسبون } قولان :
أحدهما : ما كانوا يعملون من نحت الجبال .
والثاني : ما كانوا يكسبون من الأموال والأنعام .
قوله تعالى : { إِلا بالحق } أي : للحق ولإِظهار الحق ، وهو ثواب المصدِّق وعقاب المكذِّب . { وإِن الساعة لآتية } أي : وإِن القيامة لتأتي ، فيجازى المشركون بأعمالهم ، { فأصفح الصفح الجميل } عنهم ، وهو الإِعراض الخالي من جزع وفُحش . قال المفسرون : وهذا منسوخ بآية السيف . فأما { الخلاَّق } فهو خالق كل شيء . و { العليم } قد سبق شرحة [ البقرة : 29 ] .

وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)

قوله تعالى : { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } سبب نزولها أن سبع قوافل وافت من بصرى وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد ، فيها أنواع من البَزِّ والطيب والجواهر ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوَّينا بها وأنفقناها في سبيل الله ، فأنزل الله هذه الآية ، وقال : أعطيتكم سبع آيات هي خير لكم من هذه السبع القوافل ، ويدل على صحة هذا قوله : { لا تَمُدنَّ عينيك . . . } الآية ، قاله الحسين بن الفضل .
وفي المراد بالسبع المثاني أربعة أقوال :
أحدها : أنها فاتحة الكتاب ، قاله عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وابن مسعود في رواية ، وابن عباس في رواية الأكثرين عنه ، وأبو هريرة ، والحسن ، وسعيد بن جبير في رواية ، ومجاهد في رواية ، وعطاء ، وقتادة في آخرين . فعلى هذا ، إِنما سمِّيت بالسبع ، لأنها سبع آيات .
وفي تسميتها بالمثاني سبعة أقوال :
أحدها : لأن الله استثناها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فلم يعطِها أمةً قبلهم ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثاني : لأنها تُثنَّى في كل ركعة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . قال ابن الأنباري : والمعنى : آتيناك السبع الآيات التي تُثنَّى في كل ركعة ، وإِنما دخلت «مِنْ» للتوكيد ، كقوله : { ولهم فيها من كل الثمرات } [ محمد 15 ] . وقال ابن قتيبة : سمي «الحمد» مثانيَ ، لأنها تُثنَّى في كل صلاة .
والثالث : لأنها ما أُثني به على الله تعالى ، لأن فيها حمد الله وتوحيده وذِكر مملكته ، ذكره الزجاج .
والرابع : لأن فيها «الرحمن الرحيم» مرتين ، ذكره أبو سليمان الدمشقي عن بعض اللغويين ، وهذا على قول من يرى التسمية منها .
والخامس : لأنها مقسومة بين الله تعالى وبين عبده ، ويدل عليه حديث أبي هريرة «قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي» .
والسادس : لأنها نزلت مرتين ، ذكره الحسين بن الفضل .
والسابع : لأن كلماتها مثنّاة ، مثل : الرحمن الرحيم ، إِياك إِياك ، الصراط صراط ، عليهم عليهم ، غير غير ، ذكره بعض المفسرين . ومن أعظم فضائلها أن الله تعالى جعلها في حيِّزٍ ، والقرآن كله في حيِّزٍ ، وامتنَّ عليه بها امتنَّ عليه بالقرآن كله .
والقول الثاني : أنها السبع الطُّوَل ، قاله ابن مسعود في رواية ، وابن عباس في رواية ، وسعيد بن جبير في رواية ، ومجاهد في رواية ، والضحاك . فالسبع الطُّوَل هي : ( البقرة ) ، و ( آل عمران ) ، و ( النساء ) ، و ( المائدة ) ، و ( الأنعام ) ، و ( الأعراف ) ، وفي السابعة ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها ( يونس ) ، قاله سعيد بن جبير .
والثاني : ( براءة ) قاله أبو مالك .
والثالث : ( الأنفال ) و ( براءة ) جميعاً ، رواه سفيان عن مسعر عن بعض أهل العلم . قال ابن قتيبة : وكانوا يرون ( الأنفال ) و ( براءة ) سورة واحدة ، ولذلك لم يفصلوا بينهما . قال شيخنا أبو منصور اللغوي : هي الطُّوَل ، ولا تَقُلها بالكسر ، فعلى هذا ، في تسميتها بالمثاني قولان :
أحدهما : لأن الحدود والفرائض والأمثال ثنِّيت فيها ، قاله ابن عباس .

والثاني : لأنها تجاوز المائة الأولى إِلى المائة الثانية ، ذكره الماوردي .
والقول الثالث : أن السبع المثاني سبع معان أُنزلت في القرآن : أمر ، ونهي ، وبشارة ، وإِنذار ، وضرب الأمثال ، وتعداد النِّعَم ، وأخبار الأُمم ، قاله زياد بن أبي مريم .
والقول الرابع : أن المثاني : القرآن كلُّه ، قاله طاووس ، والضحاك ، وأبو مالك ، فعلى هذا ، في تسمية القرآن بالمثاني أربعة أقوال :
أحدها : لأن بعض الآيات يتلو بعضاً ، فتثنَّى الآخرة على الأولى ، ولها مقاطع تفصل الآية بعد الآية حتى تنقضيَ السورة ، قاله أبو عبيدة .
والثاني : أنه سمي بالمثاني لِما يتردَّد فيه من الثناء على الله عز وجل .
والثالث : لما يتردَّد فيه من ذِكْر الجنة ، والنار ، والثواب ، والعقاب .
والرابع : لأن الأقاصيص ، والأخبار ، والمواعظ ، والآداب ، ثنِّيت فيه ، ذكرهن ابن الأنباري . وقال ابن قتيبة : قد يكون المثاني سور القرآن كله ، قصارها وطوالها ، وإِنما سمي مثاني ، لأن الأنباء والقصص تثنّى فيه ، فعلى هذا القول ، المراد بالسبع : سبعة أسباع القرآن ، ويكون في الكلام إِضمار ، تقديره : وهي القرآن العظيم .
فأما قوله : { من المثاني } ففي «مِن» قولان :
أحدهما : أنها للتبعيض ، فيكون المعنى : آتيناك سبعاً من جملة الآيات التي يُثنى بها على الله تعالى ، وآتيناك القرآن .
والثاني : أنها للصفة ، فيكون السبع هي المثاني ، ومنه قوله : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [ الحج 30 ] لا أن بعضها رجس ، ذكر الوجهين الزجاج ، وقد ذكرنا عن ابن الأنباري قريباً من هذا المعنى .
قوله تعالى : { والقرآنَ العظيمَ } يعني : العظيم القَدْر ، لأنه كلامُ الله تعالى ، ووحيُه .
وفي المراد به هاهنا قولان :
أحدهما : أنه جميع القرآن . قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك .
والثاني : أنه الفاتحة أيضاً ، قاله أبو هريرة ، وقد روينا فيه حديثا في أول تفسير ( الفاتحة ) قال ابن الأنباري : فعلى القول الأول ، يكون قد نُسق الكُلُّ على بعض ، كما يقول العربي : رأيت جدار الدار والدار ، وإِنما يصلح هذا ، لأن الزيادة التي في الثاني من كثرة العدد أشبهَ بها ما يغاير الأولَ ، فجوَّز ذلك عطفَه عليه . وعلى القول الثاني ، نُسِق الشيء على نفسه لمَّا زِيد عليه معنى المدح والثناء ، كما قالوا : روي ذلك عن عمر ، وابن الخطاب . يريدون بابن الخطاب : الفاضلَ العالم الرفيع المنزلة ، فلما دخلته زيادة ، أشبه ما يغاير الأول ، فعُطف عليه .
ولما ذكر الله تعالى مِنَّته عليه بالقرآن ، نهاه عن النظر إِلى الدنيا ليستغنيَ بما آتاه من القرآن عن الدنيا ، فقال : { لا تمدنَّ عينيك إِلى ما متّعنا به أزواجاً منهم } أي : أصنافاً من اليهود والمشركين ، والمعنى : أنه نهاه عن الرغبة في الدنيا .
وفي قوله : { ولا تحزن عليهم } قولان :
أحدهما : لا تحزن عليهم إِن لم يؤمنوا . والثاني : لا تحزن بما أنعمتُ عليهم في الدنيا .
قوله تعالى : { واخفض جناحك للمؤمنين } أي : أَلِن جانبك لهم . وخفضُ الجناح : عبارةٌ عن السكون وترك التصعُّب والإِباء ، قال ابن عباس : ارفق بهم ولا تغلُظ عليهم .
قوله تعالى : { وقل إِني أنا النذير المبين } حرك ياء «إِنيَ» ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع . وذكر بعض المفسرين أن معناها منسوخ بآية السيف .

كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)

قوله تعالى : { كما أنزلنا على المقتسمين } في هذه الكاف قولان :
أحدهما : أنها متعلِّقة بقوله : { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } . ثم في معنى الكلام قولان : أحدهما : أن المعنى : ولقد آتيناك سبعاً من المثاني ، كما أنزلنا الكتب على المقتسمين ، قاله مقاتل . والثاني : أن المعنى : ولقد شرَّفناك وكرَّمناك بالسبع المثاني ، كما شرَّفناك وأكرمناك بالذي أنزلناه على المقتسمين من العذاب ، والكافُ بمعنى «مِثْلٍ» و «ما» بمعنى «الذي» ذكره ابن الأنباري .
والثاني : أنها متعلقة بقوله : { إِني أنا النذير } ، والمعنى : إِني أنا النذير ، أنذرتكم مثلَ الذي أُنزل على المقتسمين من العذاب ، وهذا معنى قول الفراء . فخرج في معنى «أنزلنا» قولان :
أحدهما : أنزلنا الكتب ، على قول مقاتل .
والثاني : العذابَ ، على قول الفراء .
وفي «المقتسمين» ثلاثة أقوال :
أحدها : أنهم اليهود والنصارى ، رواه العَوفي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، ومجاهد . فعلى هذا ، في تسميتهم بالمقتسمين ثلاثة أقوال . أحدها : أنهم آمنوا ببعض القرآن ، وكفروا ببعضه ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . والثاني : أنهم اقتسموا القرآن ، فقال بعضهم : هذه السورة لي ، وقال آخر : هذه السورة لي ، استهزاءً به ، قاله عكرمة . والثالث : أنهم اقتسموا كتبهم ، فآمن بعضهم ببعضها وكفر ببعضها ، وآمن آخرون بما كفر به غيرهم ، قاله مجاهد .
والثاني : أنهم مشركو قريش ، قاله قتادة ، وابن السائب . فعلى هذا ، في تسميتهم بالمقتسمين قولان . أحدهما : أن أقوالهم تقسَّمت في القرآن ، فقال بعضهم : إِنه سحر ، وزعم بعضهم أنه كهانة ، وزعم بعضهم أنه أساطير الأولين ، منهم الأسود بن عبد يغوث ، والوليد بن المغيرة ، وعدي بن قيس السهمي ، والعاص ابن وائل ، قاله قتادة . والثاني : أنهم اقتسموا على عِقاب مكة ، قال ابن السائب : هم رهط من أهل مكة اقتسموا على عِقاب مكة حين حضر الموسم ، قال لهم الوليد ابن المغيرة : انطلقوا فتفرَّقوا على عِقاب مكة حيث يمرُّ بكم أهل الموسم ، فاذا سألوكم عنه ، يعني : رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فليقل بعضكم : كاهن ، وبعضكم : ساحر ، وبعضكم : شاعر ، وبعضكم : غاوٍ ، فإذا انتهَوْا إِلَّي صدَّقتُكم ، ومنهم حنظلة ابن أبي سفيان ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل ، والعاص ابن هشام ، وابو قيس بن الوليد ، وقيس بن الفاكه ، وزهير بن أبي أمية ، وهلال ابن عبد الأسود ، والسائب بن صيفي ، والنضر بن الحارث ، وأبو البَخْتري بن هشام ، وزمعة بن الحجاج ، وأُمية بن خلف ، وأوس بن المغيرة .
والثالث : أنهم قوم صالح الذين تقاسموا بالله : { لنُبيِّتَنَّه وأهلَه } [ النمل 49 ] ، فكفاه الله شرهم ، قاله عبد الرحمن بن زيد . فعلى هذا ، هو من القَسَم ، لا من القِسمة .
قوله تعالى : { الذين جعلوا القرآن عِضين } في المراد بالقرآن قولان :
أحدهما : أنه كتابنا ، وهو الأظهر ، وعليه الجمهور . والثاني : أن المراد به : كتب المتقدمين قبلنا .

وفي «عضين» قولان :
أحدهما : أنه مأخوذ من الأعضاء . قال الكسائي ، وأبو عبيدة : اقتسموا بالقرآن وجعلوه أعضاءً . ثم في ما فعلوا فيه قولان .
أحدهما : أنهم عضَّوه أعضاءً ، فآمنوا ببعضه ، وكفروا ببعضه . والمعضي : المفرِّق . والتعضية : تجزئة الذبيحة أعضاءً . قال علي عليه السلام : لا تَعْضِيَةَ في ميراث ، أراد : تفريق ما يوجب تفريقه ضرراً على الورثة كالسيف ونحوه . وقال رؤبة :
وليسَ دَيْنُ الله بالمُعَضَّى ... وهذا المعنى في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثاني : أنهم عضَّوْا القول فيه ، أي : فرَّقوا ، فقالوا : شعر ، وقالوا : سحر ، وقالوا : كهانة ، وقالوا : أساطير الأولين ، وهذا المعنى في رواية ابن جريج عن مجاهد ، وبه قال قتادة ، وابن زيد .
والثاني : أنه مأخوذ من العَضَهِ ، والعَضَهُ ، بلسان قريش : السِّحر ، ويقولون للساحرة : عاضهة ، وفي الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن العاضهة والمستعضهة ، فيكون المعنى : جعلوه سِحراً ، وهذا المعنى في رواية عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، والفراء .
قوله تعالى : { فوربك لنسألنَّهم أجميعن عما كانوا يعملون } هذا سؤال توبيخ ، يُسأَلون عما عملوا في ما أُمروا به من التوحيد والإِيمان ، فيقال لهم : لم عصيتهم وتركتم الإِيمان؟ فتظهر فضيحتهم عند تعذّر الجواب . قال أبو العالية : يُسأَل العبادُ كلُّهم يوم القيامة عن خَلَّتين : عما كانوا يعبدون ، وعما أجابوا المرسَلين .
فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية ، وبين قوله : { فيومئذ لا يُسأَل عن ذنبه إِنس ولا جانّ } [ الرحمن : 39 ] فعنه جوابان :
أحدهما : أنه لا يسألهم : هل عملتم كذا؟ لأنه أعلم ، وإِنما يقول : لم عملتم كذا؟ رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثاني : أنهم يُسأَلون في بعض مواطن القيامة ، ولا يُسأَلون في بعضها ، رواه عكرمة عن ابن عباس .

فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)

قوله تعالى : { فاصدع بما تؤمر } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : فامض لما تؤمر ، قاله ابن عباس .
والثاني : أَظْهِر أمرك ، رواه ليث عن مجاهد . قال ابن قتيبة : «فاصدع بما تؤمر» أي : أَظْهِر ذلك . وأصله : الفَرْق والفتح ، يريد : اصدع الباطلَ بحقك . وقال الزجاج : اظهَر بما تؤمر به ، أُخذ ذلك من الصديع ، وهو الصبح ، قال الشاعر :
كأنَّ بياضَ غُرَّتِه صَديع ... وقال الفراء : إِنما لم يقل : بما تؤمر به ، لأنه أراد : فاصدع بالأمر . وذكر ابن الأنباري أن «به» مضمرة ، كما تقول : مررت بالذي مررت .
والثالث : أن المراد به ، الجهر بالقرآن في الصلاة ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد . قال موسى بن عبيدة : ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية ، فخرج هو وأصحابه .
وفي قوله : { وأعرض عن المشركين } ثلاثة أقوال :
أحدها : اكفف عن حربهم .
والثاني : لا تبالِ بهم ، ولا تلتفت إِلى لومهم على إِظهار أمرك .
والثالث : أعرضْ عن الاهتمام باستهزائهم . وأكثر المفسرين على أن هذا القدْر من الآية منسوخ بآية السيف .

إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)

قوله تعالى : { إِنا كفيناك المستهزئين } المعنى : فاصدع بأمري كما كفيتك المستهزئين ، وهم قوم كانوا يستهزئون به وبالقرآن . وفي عددهم قولان :
أحدهما : أنهم كانوا خمسة : الوليد بن المغيرة ، وأبو زمعة ، والأسود بن عبد يغوث ، والعاص بن وائل ، والحارث بن قيس ، قاله ابن عباس . واسم أبي زمعة : الأسود بن المطلب . وكذلك ذكرهم سعيد بن جبير ، إِلا أنه قال مكان الحارث بن قيس : الحارث بن غيطلة ، قال الزهري : غيطلة أمه ، وقيس أبوه ، فهو واحد . وإِنما ذكرتُ ذلك ، لئلا يُظَن أنه غيره . وقد ذكرتُ في كتاب «التلقيح» من يُنْسَب إِلى أمه من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وسميت آباءهم ليُعرَفوا إِلى أي الأبوين نُسبوا . وفي رواية عن ابن عباس مكان الحارث ابن قيس : عدي بن قيس .
والثاني : أنهم كانوا سبعة ، قاله الشعبي ، وابن أبي بزة ، وعدَّهم ابن أبي بَزَّة ، فقال : العاص بن وائل ، والوليد بن المغيرة ، والحارث بن عدي ، والأسود ابن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، وأصرم وبعكك ابنا عبد الحارث بن السبّاق .
وكذلك عدَّهم مقاتل ، إِلا أنه قال مكان الحارث بن عدي : الحارث بن قيس السهميّ ، وقال : أصرم وبعكك ابنا الحجاج بن السبَّاق .
ذِكر ما أهلكهم الله به وكفى رسولَه صلى الله عليه وسلم أمرهم
قال المفسرون : أتى جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، والمستهزئون يطوفون بالبيت ، فمر الوليد بن المغيرة ، فقال جبريل : يا محمد ، كيف تجد هذا؟ فقال : «بئس عبد الله» قال : قد كفيت ، وأومأ إِلى ساق الوليد ، فمر الوليد برجُل يَريش نبلاً له ، فتعلقت شظية من نبل بإزاره ، فمنعه الكِبْرُ أن يطامن لينزعها ، وجعلت تضرب ساقه ، فمرض ومات . وقيل : تعلَّق سهم بثوبه فأصاب أكحله فقطعه ، فمات . ومر العاص بن وائل ، فقال جبريل : كيف تجد هذا يا محمد؟ فقال : «بئس عبد الله» فأشار إِلى أخمص رجله ، وقال : قد كُفيتَ ، فدخلت شوكة في أخمصه ، فانتفخت رجله ومات . ومر الأسود بن المطلب ، فقال : كيف تجد هذا؟ قال : «عبد سوء» ، فأشار بيده إِلى عينيه ، فعمي وهلك . وقيل : جعل ينطح برأسه الشجر ويضرب وجهه بالشوك ، فاستغاث بغلامه ، فقال : لا أرى أحداً يصنع بك هذا غير نفسك ، فمات وهو يقول : قتلني ربُّ محمد . ومر الأسود بن عبد يغوث ، فقال جبريل : كيف تجد هذا؟ فقال : «بئس عبد الله» ، فقال : قد كُفيت ، وأشار إِلى بطنه ، فسَقَى بطنُه ، فمات . وقيل : أصاب عينه شوك ، فسالت حدقتاه . وقيل : خرج عن أهله فأصابه السَّموم ، فاسودَّ حتى عاد حبشياً ، فلما أتى أهله لم يعرفوه ، فأغلقوا دونه الأبواب حتى مات . ومر به الحارث بن قيس ، فقال : كيف تجد هذا؟ قال : «عبدَ سوء» فأومأ إِلى رأسه ، وقال : قد كُفيت ، فانتفخ رأسه فمات ، وقيل : أصابه العطش ، فلم يزل يشرب الماء حتى انقدَّ بطنُه .

وأما أصرم وبعكك ، فقال مقاتل : أخذتْ أحدَهما الدُّبَيْلَةُ والآخرَ ذاتُ الجَنْبِ ، فماتا جميعاً . قال عكرمة : هلك المستهزئون قبل بدر . وقال ابن السائب : أُهلكوا جميعاً في يوم وليلة .
قوله تعالى : { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون } فيه قولان :
أحدهما : أنه التكذيب . والثاني : الاستهزاء .
قوله تعالى : { فسبِّح بحمد ربك } فيه قولان .
أحدهما : قل سبحان الله وبحمده ، قاله الضحاك . والثاني : فصلِّ بأمر ربك ، قاله مقاتل .
وفي قوله : { وكن من الساجدين } قولان :
أحدهما : من المصلِّين . والثاني : من المتواضعين ، رويا عن ابن عباس .
قوله تعالى : { حتى يأتيَك اليقين } فيه قولان :
أحدهما : أنه الموت ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والجمهور ، وسمي يقيناً ، لأنه موقَن به . وقال الزجاج : معنى الآية : اعبد ربك أبداً ، ولو قيل : اعبد ربك ، بغير توقيت ، لجاز إِذا عبد الإِنسان مرة أن يكون مطيعاً ، فلما قال : { حتى يأتيَك اليقين } أُمر بالإِقامة على العبادة ما دام حيَّاً . والثاني : أنه الحق الذي لا ريب فيه مِنْ نصرك على أعدائك ، حكاه الماوردي .

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)

قوله تعالى : { أتى أمر الله } قرأ حمزة ، والكسائي بالإِمالة .
سبب نزولها : أنه لما نزل قوله تعالى : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] ، فقال الكفار بعضهم لبعض : إن هذا يزعم أنَّ القيامة قد اقتربت ، فأمْسِكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ، فلما رأوا أنَّه لا ينزل شيء؛ قالوا : ما نرى شيئاً! فأنزل الله تعالى { اقترب للناس حسابهم } [ الأنبياء : 1 ] فأشفقوا ، وانتظروا قرب الساعة ، فلما امتدَّت الأيام قالوا : يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوِّفنا به . فأنزل الله تعالى : { أتى أمر الله } ، فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورفع الناسُ رؤوسهم ، فنزل : { فلا تستعجلوه } فاطمأنوا ، قاله ابن عباس .
وفي قوله : { أتى } ثلاثة أقوال :
أحدها : أتى بمعنى : يأتي ، كما يقال : أتاك الخير فأبشر ، أي : سيأتيك ، قاله ابن قتيبة ، وشاهدُه : { ونادى أصحاب الجنة } [ الأعراف 44 ] ، { وإِذ قال الله يا عيسى } [ المائدة 116 ] ونحو ذلك .
والثاني : أتى بمعنى : قَرُب ، قال الزجاج : أعلم الله تعالى أن ذلك في قربه بمنزلة ما قد أتى .
والثالث : أن «أتى» للماضي ، والمعنى : أتى بعض عذاب الله ، وهو : الجدب الذي نزل بهم ، والجوع . { فلا تستعجلوه } فينزل بكم مستقبلاً كما نزل ماضياً ، قاله ابن الأنباري .
وفي المراد ب «أمر الله» خمسة أقوال :
أحدها : أنها الساعة ، وقد يخرج على قول ابن عباس الذي قدمناه ، وبه قال ابن قتيبة . والثاني : خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، يعني : أن خروجه من أمارات الساعة .
وقال ابن الأنباري : أتى أمر الله من أشراط الساعة ، فلا تستعجلوا قيام الساعة . والثالث : أنه الأحكام والفرائض ، قاله الضحاك . والرابع : عذاب الله ، ذكره ابن الأنباري . والخامس : وعيد المشركين ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { فلا تستعجلوه } أي : لا تطلبوه قبل حينه ، { سبحانه } أي : تنزيه له وبراءة من السوء عما يشركون به من الأصنام .
قوله تعالى : { ينزل الملائكة } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : { يُنْزِل } بإسكان النون وتخفيف الزاي . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : { ينزِّل } بالتشديد ، وروى الكسائي عن أبي بكر عن عاصم : { تُنزَّل } بالتاء مضمومة ، وفتح الزاي مشددة . { الملائكةُ } رفع . قال ابن عباس : يريد بالملائكة جبريل عليه السلام وحده .
وفي المراد بالروح ستة أقوال .
أحدها : الوحي ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثاني : أنه النبوَّة ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثالث : أن المعنى : تنزل الملائكة بأمره ، رواه العوفي عن ابن عباس . فعلى هذا يكون المعنى : أن أمر الله كلَّه روح . قال الزجاج : الروح ما كان فيه من أمر الله حياة النفوس بالإِرشاد .
والرابع : أنه الرحمة . قاله الحسن ، وقتادة .
والخامس : أن أرواح الخلق : لا ينزل ملك إِلا ومعه روح ، قاله مجاهد .
والسادس : أنه القرآن ، قاله ابن زيد . فعلى هذا سماه روحاً ، لأن الدين يحيا به ، كما أن الروح تُحيي البدن . وقال بعضهم : الباء في قوله : { بالروح } بمعنى : مع ، فالتقدير : مع الروح ، { من أمره } أي : بأمره { على من يشاء من عباده } يعني : الأنبياء ، { أن أنذروا } قال الزجاج : والمعنى : أَنذِروا أهل الكفر والمعاصي { أنه لا إِله إِلا أنا } أي : مُروهم بتوحيدي ، وقال غيره : أًنذروا بأنه لا إِله إِلا أنا ، أي : مروهم بالتوحيد مع تخويفهم إِن لم يُقِرُّوا .

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)

قوله تعالى : { خلق الإِنسان من نطفة } قال المفسرون : أخذ أبيُّ بن خلف عظماً رميماً ، فجعل يفتُّه ويقول : يامحمد كيف يبعت الله هذا بعدما رُمّ؟
فنزلت فيه هذه الآية والخصيم : المخاصم ، والمبين : الظاهر الخصومه .
والمعنى : أنه مخلوق من نطفة ، وهو مع ذلك يخاصم وينكر البعث ، أفلا يستدل بأولة على آخرة ، وأن من قدر على إِيجاده أولاً ، يقدر على إِعادتة ثانيا؟! وفية تنبية على إِنعام الله عليه حين نقله من حال ضعف النطفة إِلى القوة التي أمكنة معها الخصام .

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)

قوله تعالى : { والأنعام خلقها لكم } الأنعام : الإِبل ، والبقر ، والغنم .
قوله تعالى : { لكم فيها دفءٌ } فيه قولان :
أحدهما : أنه ما استدفىء به من أوبارها تتخذ ثياباً ، وأخبية ، وغير ذلك . روى العوفي عن ابن عباس أنه قال : يعني بالدفء : اللباس ، وإِلى هذا المعنى ذهب الأكثرون .
والثاني : أنه نسلها . روى عكرمة عن ابن عباس : { فيها دفءٌ } قال : الدفء : نسل كل دابة ، وذكر ابن السائب قال : يقال : الدفءُ أولادها ، ومن لا يحمل من الصغار ، وحكى ابن فارس اللغويّ عن الأمويّ ، قال : الدفء عند العرب : نتاج الإِبل وألبانها .
قوله تعالى : { ومنافع } أي : سوى الدفء من الجلود ، والألبان ، والنسل ، والركوب ، والعمل عليها ، إِلى غير ذلك ، { ومنها تأكلون } يعني : من لحوم الأنعام .
قوله تعالى : { ولكم فيها جَمال } أي : زينة ، { حين تُريحون } أي : حين تردُّونها إِلى مراحها ، وهو المكان الذي تأوي إِليه ، فترجع عِظَامَ الضُّرُوعِ والأَسْنِمَة ، فيقال : هذا مال فلان ، { وحين تسرحون } : ترسلونها بالغداة إِلى مراعيها .
فإن قيل : لم قدَّم الرَّواح وهو مؤخَّر؟
فالجواب : أنها في حال الرواح تكون أجمل؛ لأنها قد رعت ، وامتلأت ضروعها ، وامتدّت أسنمتها .
قوله تعالى : { وتحمل أثقالكم } الإِشارة بهذا إِلى ما يطيق الحمل منها ، والأثقال : جمع ثقل ، وهو متاع المسافر .
وفي قوله تعالى : { إِلى بلد } قولان :
أحدهما : أنه عامّ في كل بلد يقصِدُه المسافر ، وهو قول الأكثرين .
والثاني : أن المراد به : مكة ، قاله عكرمة ، والأول أصح ، والمعنى : أنها تحملكم إِلى كل بلد لو تكلفتم أنتم بلوغه لم تبلغوه إِلا بشِق الأنفس .
وفي معنى «شِق الأنفس» قولان :
أحدهما : أنه المشقة ، قاله الأكثرون . قال ابن قتيبة : يقال : نحن بشِق من العيش ، أي : بجهد؛ وفي حديث أم زرع : «وجدني في أهل غُنَيْمَةٍ بِشِقّ» .
والثاني : أن الشِّق : النِّصف ، فكان الجهد ينقص من قوة الرجل ونفسه كأنه قد ذهب نصفه ، ذكره الفراء .
قوله تعالى : { إِن ربكم لرؤوف رحيم } أي : حين مَنّ عليكم بالنعم التي فيها هذه المرافق .

وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)

قوله تعالى : { والخيل } أي : وخلق الخيل { والبغال والحمير لتركبوها وزينةً } قال الزجاج : المعنى : وخلقها زينة .
فصل
ويجوز أكل لحم الخيل ، وإِنما لم يُذكَر في الآية ، لأنه ليس هو المقصود ، وإِنما معظم المقصود بها : الركوب والزينة ، وبهذا قال الشافعي . وقال أبو حنيفة ، ومالك : لا تؤكل لحوم الخيل .
قوله تعالى : { ويخلق مالا تعلمون } ذكر قوم من المفسرين : أن المراد به عجائب المخلوقات في السموات والأرض التي لم يُطَّلع عليها ، مثل ما يروى : أن لله ملكاً من صفته كذا ، وتحت العرش نهر من صفته كذا . وقال قوم : هو ما أعد الله لأهل الجنة فيها ، ولأهل النار . وقال أبو سليمان الدمشقي : في الناس مَن كره تفسير هذا الحرف . وقال الشعبي : هذا الحرف من أسرار القرآن .

وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)

قوله تعالى : { وعلى الله قصد السبيل } القصد : استقامة الطريق ، يقال : طريق قصد وقاصد : إِذا قصد بك ما تريد . قال الزجاج : المعنى : وعلى الله تبيين الطريق المستقيم ، والدعاء إِليه بالحجج والبرهان .
قوله تعالى : { ومنها جائر } قال أبو عبيدة : السبيل لفظه لفظ الواحد ، وهو في موضع الجميع ، فكأنه قال : ومن السبل سبيل جائر . قال ابن الأنباري : لما ذكر السبيل ، دلّ على السبل . فلذلك قال : { ومنها جائر } كما دل الحَدَثان على الحوادث في قول العبدي :
وَلاَ يَبْقَى عَلَى الحَدَثَانِ حَيّ ... فَهَلْ يَبْقَى عليهِنَّ السِّلامُ
أراد : فهل يبقى على الحوادث ، والسِّلام : الصخور ، قال ويجوز أن يكون إِنما قال : { ومنها } ، لأن السبيل تؤنث وتذكَّر ، فالمعنى : من السبيل جائر . وقال ابن قتيبة : المعنى : ومن الطُّرق جائر لا يهتدون فيه ، والجائر : العادل عن القصد ، قال ابن عباس : ومنها جائر الأهواء المختلفة . وقال ابن المبارك : الأهواء والبدع .
قوله تعالى : { هو الذي أنزل من السماء ماءً } يعني : المطر { لكم منه شراب } وهو ما تشربونه ، { ومنه شجر } ذكر ابن الأنباري في معناه قولين :
أحدهما : ومنه سَقي شجر ، وشرب شجر ، فخلف المضافُ إِليه المضافَ ، كقوله : { وأُشربوا في قلوبهم العجل } [ البقرة 93 ] .
والثاني : أن المعنى : ومن جهة الماء شجر ، ومن سقيه شجر ، ومن ناحيته شجر ، فحُذف الأول ، وخلَفه الثاني ، قال زهير :
لِمَنِ الدِّيارُ بِقُنَّةِ الحِجْرِ ... أَقْوَيْنَ من حِجَجٍ وَمِنْ شَهْرِ
أي : من ممرِّ حجج . قال ابن قتيبة : والمراد بهذه الشجر : المرعى . وقال الزجاج : كل ما نبت على الأرض فهو شجر ، قال الشاعر يصف الخيل :
يَعْلِفُهَا الَّلحْمَ إِذا عَزَّ الشَّجَرْ ... وَالخَيْلُ في إِطعَامها الَّلحْمَ ضَرَرْ
يعني : أنهم يسقون الخيل اللبن إِذا أجدبت الأرض . و { تُسيمون } بمعنى : تَرعَون ، يقال : سامت الإِبل فهي سائمة : إِذا رعت ، وإِنما أخذ ذلك من السُّومة ، وهي : العلامة ، وتأويلها : أنها تؤثر في الأرض برعيها علامات .
قوله تعالى : { يُنبت لكم به الزرع } وروى أبو بكر عن عاصم : «ننبت» بالنون . قال ابن عباس : يريد الحبوب ، وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله تعالى : { والنجومُ مسخراتٌ بأمره } قال الأخفش : المعنى : وجعلَ النجوم مسخراتٍ ، فجاز إِضمار فعل غير الأول ، لأن هذا المضمر ، في المعنى مثل المُظَهر ، وقد تفعل العرب أَشدَّ من هذا ، قال الراجز :
تَسْمَعُ في أجوافِهِنَّ صَرَدَا ... وفي اليَديْنِ جُسْأَةً وَبَدَدَا
المعنى : وترى في اليدين . والجُسأة : اليبس . والبَدَد : السَّعة . وقال غيره : قوله تعالى : { مسخرات } حال مؤكدة ، لأن تسخيرها قد عرف بقوله تعالى : { وسخر } . وقرأ ابن عامر : والشمسُ والقمرُ والنجومُ مسخراتٌ ، رفعاً كله ، وروى حفص عن عاصم : بالنصب ، كالجمهور ، إِلاّ قوله تعالى : { والنجومُ مسخراتٌ } فإنه رفعها .

وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)

قوله تعالى : { وما ذرأ لكم } أي : وسخر ما ذرأ لكم . وذرأ بمعنى : خلق . و «سخر البحر» أي : ذلَّله للركوب والغوص فيه { لتأكلوا منه لحماً طريّاً } يعني : السمك { وتستخرجوا منه حلية تلبسونها } يعني : الدُّر ، واللؤلؤ ، والمرجان ، وفي هذا دلالة على أن حالفاً لو حلف : لا يلبس حُلِيّاً ، فلبس لؤلؤاً ، أنه يحنث ، وقال أبو حنيفة : لا يحنث .
قوله تعالى : { وترى الفلك } يعني : السفن . وفي معنى { مَوَاخِرَ } قولان :
أحدهما : جواري ، قاله ابن عباس . قال اللغويون : يقال : مخرت السفينة مَخْراً : إِذا شقت الماء في جريانها .
والثاني : المواقر ، يعني : المملوءة ، قاله الحسن .
وفي قوله تعالى : { ولتبتغوا من فضله } قولان :
أحدهما : بالركوب فيه للتجارة ابتغاء الربح من فضل الله .
والثاني : بما تستخرجون من حليته ، وتصيدون من حيتانه . قال ابن الأنباري : وفي دخول الواو في قوله تعالى : { ولتبتغوا من فضله } وجهان :
أحدهما : أنها معطوفة على لامٍ محذوفة ، تقديره : وترى الفلك مواخر فيه لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا .
والثاني : أنها دخلت لفعل مضمر ، تقديرهُ : وفعل ذلك لكي تبتغوا .
قوله تعالى : { وألقى في الأرض رواسي } أي : نصب فيها جبالاً ثوابت { أن تميد } أي : لئلاَّ تميد ، وقال الزجاج : كراهة أن تميد ، يقال : ماد الرجل يميد مَيْداً : إِذا أُدير به ، وقال ابن قتيبة : الميد : الحركة والمَيْل ، يقال : فلان يميد في مشيته ، أي : يتكفَّأ .
قوله تعالى : { وأنهاراً } قال الزجاج : المعنى : وجعل فيها سُبُلاً ، لأن معنى «ألقى» : «جعل» ، فأما السبل ، فهي الطرق . { ولعلكم تهتدون } أي : لكي تهتدوا إِلى مقاصدكم .
قوله تعالى : { وعلامات } فيها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها معالم الطرق بالنهار ، وبالنجم هم يهتدون وبالليل ، رواه العوفيّ عن ابن عباس .
والثاني : أنها النجوم أيضاً ، منها ما يكون علامة لا يُهتدى به ، ومنها ما يُهتدى به ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والنخعي .
والثالث : الجبال ، قاله ابن السائب ، ومقاتل .
وفي المراد بالنجم أربعة أقوال :
أحدها : أنه الثريّا ، والفرقدان ، وبنات نعش ، والجدي ، قاله السدي .
والثاني : أنه الجَدْي ، والفرقدان ، قاله ابن السائب .
والثالث : أنه الجدي وحده ، لأنه أثبتُ النجومِ كلِّها في مركزه ، ذكره الماوردي .
والرابع : أنه اسم جنس ، والمراد جميع النجوم ، قاله الزجاج ، وقرأ الحسن ، والضحاك ، وأبو المتوكل ، ويحيى بن وثاب : «وبالنُّجْم» بضم النون وإِسكان الجيم ، وقرأ الجحدري : «وبالنُّجُم» بضم النون والجيم ، وقرأ مجاهد : «وبالنجوم» بواوٍ على الجمع .
وفي المراد بهذا الاهتداء قولان :
أحدهما : الاهتداء إِلى القِبلة . والثاني : إِلى الطريق في السفر .

أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)

قوله تعالى : { أفمن يَخلق كمن لا يخلق } يعني : الأوثان ، وإِنما عبَّر عنها ب «مَن» ، لأنهم نحلوها العقل والتمييز ، { أفلا تَذَكَّرون } يعني : المشركين ، يقول : أفلا تتعظون كما اتعظ المؤمنون؟ قال الفراء : وإِنما جاز أن يقول : { كمن لا يخلق } ، لأنه ذُكر مع الخالق ، كقوله : { فمنهم من يمشي على بطنه ، ومنهم من يمشي على رِجْلَيْن } [ النور 45 ] ، والعرب تقول : اشتبه عليَّ الراكب وجملُه ، فما أدري مَن ذا مِن ذا ، لأنهم لما جمعوا بين الإِنسان وغيره ، صلحت «مَن» فيهما جميعاً .
قوله تعالى : { وإِن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } قد فسرناه في [ إِبراهيم : 34 ] .
قوله تعالى : { إِن الله لَغفور } أي : لِما كان منكم من تقصيركم في شكر نِعَمه { رحيم } بكم إِذ لم يقطعها عنكم بتقصيركم .
قوله تعالى : { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون } روى عبد الوارث ، إِلا القزاز «يسرون» و «يعلنون» بالياء .

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)

قوله تعالى : { والذين تدعون من دون الله } قرأ عاصم : يدعون ، بالياء .
قوله تعالى : { أموات غيرُ أحياءٍ } يعني : الأصنام . قال الفراء : ومعنى الأموات هاهنا : أنها لا روح فيها . قال الأخفش : وقوله : { غير أحياءٍ } توكيد .
قوله تعالى : { وما يشعرون أيان يبعثون } «أيَّانَ» بمعنى : «متى» .
وفي المشار إِليهم قولان :
أحدهما : أنها الأصنام ، عبّر عنها كما يُعبّر عن الآدميين . قال ابن عباس : وذلك أن الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها ، فيتبرَّؤون من عبادتهم ، ثم يُؤمر بالشياطين والذين كانوا يعبدونها إِلى النار .
والثاني : أنهم الكفار ، لا يعلمون متى بعثهم ، قاله مقاتل .

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)

قوله تعالى : { إِلهكم إِله واحد } قد ذكرناه في سورة [ البقرة : 163 ] .
قوله تعالى : { فالذين لايؤمنون بالآخرة } أي : بالبعث والجزاء { قلوبهم منكرة } أي : جاحدة لا تعرف التوحيد { وهم مستكبرون } أي : ممتنعون من قبول الحق .
قوله تعالى : { لاجَرَمَ } قد فسرناه في [ هود : 22 ] ، ومعنى الآية : أنَّه يجازيهم بسرِّهم وَعَلنهم ، لأنه يعلمه . والمستكبرون : المتكبرون عن التوحيد والإِيمان . وقال مقاتل : «ما يُسرون» حين بَعثوا في كل طريق مَنْ يصدُّ الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «وما يعلنون» حين أظهروا العداوة لرسول الله .
قوله تعالى : { وإِذا قيل لهم } يعني : المستكبرين { ماذا أنزل ربكم } على محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال الزجاج : «ماذا» بمعنى «ما الذي» . و { أساطير الأولين } مرفوعة على الجواب ، كأنهم قالوا : الذي أُنزل : أساطيرُ الأولين ، أي : الذي تذكرون أنتم أنه منزَّل : أساطير الأولين . وقد شرحنا معنى الأساطير في [ الأنعام : 25 ] . قال مقاتل : الذين بعثهم الوليد بن المغيرة في طرق مكة يصدُّون الناس عن الإِيمان ، ويقول بعضهم : إِن محمداً ساحر ، ويقول بعضهم : شاعر ، وقد شرحنا هذا المعنى في [ الحجر : 90 ] في ذكر المقتسمين .
قوله تعالى : { ليحملوا أوزارهم } هذه لام العاقبة ، وقد شرحناها في غير موضع ، والأوزار : الآثام ، وإِنما قال : كاملة ، لأنه لم يُكَفَّرْ منها شيء بما يُصيبهم من نكبة ، أو بليَّة ، كما يُكَفَّرُ عن المؤمن ، { ومن أوزار الذين يُضلونهم بغير علم } أي : أنهم أضلُّوهم بغير دليل ، وإِنما حملوا من أوزار الأتباع ، لأنهم كانوا رؤساء يقتدى بهم في الضلالة ، وقد ذكر ابن الأنباري في «مِنْ» وجهين :
أحدهما : أنها للتبعيض ، فهم يحملون ما شَرِكوهم فيه ، فَأَمَّا مَا ركبه أولئك باختيارهم من غير تزيين هؤلاء ، فلا يحملونه ، فيصح معنى التبعيض .
والثاني : أن «مِنْ» مُؤكِّدة ، والمعنى : وأوزار الذين يضلونهم . { ألا ساء ما يزرون } أي : بئس ماحملوا على ظهورهم .
قوله تعالى : { قد مكر الذين من قبلهم } قال المفسرون : يعني به : النمرود ابن كنعان ، وذلك أنه بنى صرحاً طويلاً . واختلفوا في طوله ، فقال ابن عباس : خمسة آلاف ذراع ، وقال مقاتل : كان طوله فرسخين ، قالوا : ورام أن يصعد إِلى السماء ليقاتل أهلها بزعمه . ومعنى «المكر» هاهنا : التدبير الفاسد .
وفي الهاء والميم من «قبلهم» قولان :
أحدهما : أنها للمقتسمين على عقاب مكة ، قاله ابن السائب .
والثاني : لكفار مكة ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { فأتى الله بنيانَهم من القواعد } أي : من الأساس . قال المفسرون : أرسل الله ريحاً فألقت رأس الصرح في البحر ، وخَرَّ عليهم الباقي .
قال السدي : لما سقط الصرح ، تَبَلْبَلَتْ أَلْسُن الناس من الفزع ، فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً ، فلذلك سميت «بابل» ، وإِنما كان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية ، وهذا قول مردود ، لأن التَّبَلْبُلَ يُوجب الاختلاط والتكلمَ بشيء غير مستقيم ، فأما أن يوجب إِحداث لغة مضبوطة الحواشي ، فباطل ، وإِنما اللغات تعليم من الله تعالى .

فإن قيل : إِذا كان الماكر واحداً ، فكيف قال : «الذين» ولم يقل : «الذي»؟ ، فعنه ثلاثة أجوبة :
أحدها : أنه كان الماكر ملكاً له أتباع ، فأدخلوا معه في الوصف .
والثاني : أن العرب توقع الجمع على الواحد ، فيقول قائلهم : خرجت إِلى البصرة على البغال ، وإِنما خرج على بغل واحد .
والثالث : أن «الذين» غير موقع على واحد معين ، لكنه يراد به : قد مكر الجبارون الذين من قبلهم ، فكان عاقبة مكرهم رجوع البلاء عليهم ، ذكر هذه الأجوبة ابن الأنباري : قال : وذكر بعض العلماء : أنه إِنما قال : «من فوقهم» ، لينبه على أنهم كانوا تحته ، إِذ لو لم يقل ذلك ، لاحتمل أنهم لم يكونوا تحته ، لأن العرب تقول : سقط علينا البيت ، وخَرَّ علينا الحانوت ، وتداعت علينا الدار ، وليسوا تحت ذلك .
قوله تعالى : { وأتاهم العذاب من حيثُ لا يشعرون } أي : من حيث ظنوا أنهم آمنون فيه . قال السدي : أُخذوا من مأمنهم . وروى عطية عن ابن عباس قال : خَرَّ عليهم عذاب من السماء . وعامة المفسرين على ما حكيناه من أنه بنيان سقط . وقال ابن قتيبة : هذا مَثَل ، والمعنى : أهلكهم الله ، كما هلك من هُدِم مسكنه من أسفله ، فخر عليه .
قوله تعالى : { ثم يوم القيامة يخزيهم } أي : يذلُّهم بالعذاب . { ويقول أين شركائي } قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، «شركائيَ الذين» بهمزة وفتح الياء ، وقال البزِّيُّ عن ابن كثير : «شركايَ» مثل : هدايَ ، والمعنى : أين شركائي على زعمكم؟ هلاّ دفعوا عنكم! . { الذين كنتم تشاقُّون فيهم } أي : تخالفون المسلمين فتعبدونهم وهم يعبدون الله ، وقرأ نافع : «تشاقُّونِ» بكسر النون ، أراد : تشاقُّونني ، فحذف النون الثانية ، وأبقى الكسرة تدل عليها ، والمعنى : كنتم تنازعونني فيهم ، وتخالفون أمري لأجلهم .
قوله تعالى : { قال الذين أوتوا العلم } فيهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم الملائكة ، قاله ابن عباس .
والثاني : الحفظة من الملائكة ، قاله مقاتل .
والثالث : أَنهم المؤمنون .
فأمَّا «الخِزي» فقد شرحناه في مواضع [ آل عمران 192 ] و «السُّوءُ» هاهنا : العذاب .

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)

قوله تعالى : { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسِهِم } قال عكرمة : هؤلاء قوم كانوا بمكة أقرُّوا بالإِسلام ولم يُهاجروا ، فأخرجهم المشركون كرهاً إِلى بدر ، فقتل بعضهم . وقد شرحنا هذا في سورة [ النساء : 97 ] .
قوله تعالى : { فأَلْقَوُا السَّلَمَ } قال ابن قتيبة : انقادوا واستسلموا ، والسَّلَم : الاستسلام . قال المفسرون : وهذا عندالموت يتبرؤون من الشرك ، وهو قولهم : { ماكُنَّا نعمل من سوءٍ } وهو الشرك ، فتردُّ عليهم الملائكة فتقول : «بلى» . وقيل : هذا ردُّ خزنة جهنم عليهم { بلى إِن الله عليم بما كنتم تعملون } من الشرك والتكذيب . ثم يقال لهم : ادخلوا أبواب جهنم ، وقد سبق تفسير ألفاظ الآية [ النساء 97 ] و [ الحجر 44 ] .

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)

قوله تعالى : { وقيل للذين اتَّقَوا ماذا أنزل ربكم } روى أبو صالح عن ابن عباس أنّ مشركي قريش بعثوا ستة عشر رجلاً إِلى عِقاب مكة أيام الحج على طريق الناس ، ففرَّقوهم على كل عَقَبَةٍ أربعة رجال ، ليصدُّوا الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقالوا لهم : مَنْ أتاكم من الناس يسألُكم عن محمد فلْيقُلْ بعضُكم : شاعِرٌ ، وبَعْضُكم : كاهِنٌ ، وبَعْضُكم : مجنون ، وألاَّ ترَوْه ولا يراكم خَيْرٌ لكم ، فإذا انتَهوا إِلينا ، صدَّقانكم ، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث إِلى كل أربعة منهم أربعةً من المسلمين ، فيهم عبد الله بن مسعود ، فأُمِرُوا أن يكذِّبوهم ، فكان الناس إِذا مرُّوا على المشركين ، فقالوا ما قالوا ، ردّ عليهم المسلمون ، وقالوا : كذبوا ، بل يدعو إِلى الحق ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويدعو إِلى الخير ، فيقولون : وما هذا الخير الذي يدعوا إِليه؟ فيقولون : { للذين أُحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ } .
قوله تعالى : { قالوا خيراً } أي : أنزل خيراً ، ثم فسر ذلك الخير فقال : { للذين أحسنوا في هذه الدنيا } قالوا : لا إِله إِلا الله ، وأحسنوا العمل { حسنةً } أي : كرامة من الله تعالى في الآخرة ، وهي الجنة ، وقيل : «للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة» في الدنيا وهي مارزقهم من خيرها وطاعته فيها ، { ولدار الآخرة } يعني : الجنة { خير } من الدنيا .
وفي قوله تعالى : { ولنعم دار المتقين } قولان :
أحدهما : أنها الجنة ، قاله الجمهور . قال ابن الأنباري : في الكلام محذوف ، تقديره : ولنعم دار المتقين الآخرةُ ، غير أنه لما ذُكرت أولاً ، عرف معناها آخراً ، ويجوز أن يكون المعنى : ولنعم دار المتقين جناتُ عَدْنٍ .
والثاني : أنها الدنيا . قال الحسن : ولنعم دار المتقين الدنيا ، لأنهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة .
قوله تعالى : { جنات عَدْنٍ } قد شرحناه في [ براءة : 72 ] .
قوله تعالى : { الذين تتوفاهم الملائكة } وقرأ حمزة «يتوفاهم» بياء مع الإِمالة . وفي معنى «طَيِّبينَ» خمسة أقوال :
أحدها : مؤمنين . والثاني : طاهرين من الشرك . والثالث : زاكية أفعالهم وأقوالهم . والرابع : طيبةٌ وفاتُهم ، سَهْلٌ خروجُ أرواحهم . والخامسة : طيبة أنفسهم بالموت ، ثقة بالثواب .
قوله تعالى : { يقولون } يعني الملائكة { سلام عليكم } .
وفي أي وقت يكون هذا [ السلام ] ؟ فيه قولان :
أحدهما : عند الموت . قال البراء بن عازب : يسلِّم عليه ملك الموت إِذا دخل عليه . وقال القرظي : ويقول له : الله عز وجل يقرأ عليك السلام ، ويبشره بالجنة .
والثاني : عند دخول الجنة . قال مقاتل : هذا قول خزنة الجنة لهم في الآخرة يقولون : سلام عليكم .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)

قوله تعالى : { هل ينظرون إِلاَّ أن تأتيهم الملائكة } وقرأ حمزة ، والكسائي «يأتيهم» بالياء ، وهذا تهديد للمشركين ، وقد شرحناه في [ البقرة : 210 ] وآخر [ الأنعام : 158 ] .
وفي قوله تعالى : { أو يأتيَ أمر ربك } قولان :
أحدهما : أمر الله فيهم ، قاله ابن عباس . والثاني : العذاب في الدنيا ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { كذلك فعل الذين من قبلهم } يريد : كفار الأمم الماضية ، كذَّبوا كما كذَّب هؤلاء . { وما ظلمهم الله } بإهلاكهم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } ، بالشرك { فأصابهم سيئات ما عملوا } أي : جزاؤها ، قال ابن عباس : جزاء ما عملوا من الشرك ، { وحاق بهم } قد بيناه في [ الأنعام : 10 ] ، والمعنى : أحاط بهم { ما كانوا به يستهزؤن } من العذاب .

وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)

قوله تعالى : { وقال الذين أشركوا } يعني : كفار مكة { لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء } يعني : الأصنام أي لو شاء ما أشركنا ولا حرَّمنا من دونه من شيء من البَحِيرَة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحَامِ ، والحرث ، وذلك أنه لما نزل { وماتشاؤون إِلاّ أن يشاء الله } [ الدهر : 30 ] قالوا هذا ، على سبيل الاستهزاء ، لا على سبيل الاعتقاد ، وقيل : معنى كلامهم : لو لم يأمرنا بهذا ويُرِدْهُ منّا ، لم نأته .
قوله تعالى : { كذلك فعل الذين من قبلهم } أي : من تكذيب الرسل وتحريم ما أحل الله ، { فهل على الرسل إِلاَّ البلاغ المبين } يعني : ليس عليهم إِلاّ التبليغ ، فأما الهداية ، فهي إِلى الله تعالى ، وبيَّن ذلك بقوله : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً } أي : كما بعثناك في هؤلاء { أَنِ اعبدوا الله } أي : وحِّدوه { واجتنبوا الطاغوت } وهو الشيطان { فمنهم مَنْ هدى الله } أي : أرشده { ومنهم مَنْ حقت عليه الضلالة } أي : وجبت في سابق علم الله ، فأعلم الله عز وجلّ أنه إِنما بعث الرسل بالأمر بالعبادة ، وهو من وراء الإِضلال والهداية ، { فسيروا في الأرض } أي : معتبرين بآثار الأمم المكذبة . ثم أكد أن من حقت عليه الضلالة لا يهتدي ، فقال : { إِن تحرص على هداهم } أي : [ إِن ] تطلب هداهم بجهدك { فإن الله لا يهدي من يضل } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وابن عامر ، «لا يُهدَى» برفع الياء وفتح الدال ، والمعنى : من أضله ، فلا هادي له ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : «يَهْدِي» بفتح الياء وكسر الدال ، ولم يختلفوا في { يُضِل } أنها بضم الياء وكسر الضاد ، وهذه القراءة تحتمل معنيين ، ذكرهما ابن الأنباري .
أحدهما : لا يهدي من طَبَعَهُ ضَالاًّ ، وخَلَقَهُ شقيّاً .
والثاني : لا يهدي أي : لا يهتدي من أضله ، أي : مَنْ أضله الله لا يهتدي ، فيكون معنى يهدي : يهتدي ، تقول العرب : قد هُدِيَ فلانٌ الطريق ، يريدون : اهتدى .

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)

قوله تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } سبب نزولها أن رجلا من المسلمين كان له على رجل من المشركين دَين ، فأتاه يتقاضاه ، فكان فيما تكلَّم به : والذي أرجوه بعد الموت ، فقال المشرك : وإِنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت؟! فأقسم بالله { لا يبعث الله من يموت } ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو العالية . و { جهدَ أيمانهم } مفسر في [ المائدة : 53 ] . وقوله : { بلى } رَدٌّ عليهم ، قال الفراء : والمعنى : { بلى } ليبعثنَّهم { وعداً عليه حقاً } .
قوله تعالى : { لِيبيِّن لهم الذي يختلفون فيه } قال الزجاج : يجوز أن يكون متعلقاً بالبعث ، فيكون المعنى : بلى يَبعثهم فيبين لهم ، ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً } ليُبيِّنَ لهم .
وللمفسرين في قوله { ليبين لهم } قولان :
أحدهما : أنهم جميع الناس ، قاله قتادة .
والثاني : أنهم المشركون ، يبين لهم بالبعث ما خالفوا المؤمنين فيه .
قوله تعالى : { أنهم كانوا كاذبين } أي : فيما أقسموا عليه من نفي البعث . ثم أخبر بقدرته على البعث بقوله : { إِنما قولنا لشيء إِذا أردناه أن نقول له كن فيكون } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة «فيكونُ» رفعاً ، وكذلك في كل القرآن . وقرأ ابن عامر ، والكسائي «فيكونَ» نصباً . قال مكي بن إِبراهيم : من رفع ، قطعه عمَّا قبله ، والمعنى : فهو يكون ، ومن نصب ، عطفه على «يقول» ، وهذا مثل قوله : { وإِذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } ، وقد فسرناه في [ البقرة : 117 ] .
فإن قيل : كيف سمي الشيء قبل وجوده شيئاً؟ .
فالجواب : أن الشيء وقع على المعلوم عند الله قبل الخلق ، لأنه بمنزلة ما قد عُوِينَ وشَوهِدَ .
قوله تعالى : { والذين هاجروا في الله } اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها نزلت في ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بلالٍ ، وعمار ، وصهيب ، وخبَّاب بن الأرتِّ ، وعايش وجبر مَولَيان لقريش ، أخذهم أهل مكة فجعلوا يُعذِّبونهم ، ليردُّوهم عن الإِسلام ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنها نزلت في أبي جندل بن سهيل بن عمرو ، قاله داود بن أبي هند .
والثالث : أنهم جميع المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله قتادة . ومعنى «هاجروا في الله» أي : في طلب رضاه وثوابه { من بعد ما ظُلموا } بما نال المشركون منهم ، { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ في الدنيا حسنة } وفيها خمسة أقوال : أحدها : لننزِلنَّهم المدينة ، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والشعبي ، وقتادة ، فيكون المعنى : لَنُبَوِّئنَّهم داراً حسنة وبلدة حسنة . والثاني : لنرزقنَّهم في الدنيا الرزق الحسن ، قاله مجاهد . والثالث : النصر على العدوِّ ، قاله الضحاك . والرابع : أنه ما بقي بعدهم من الثناء الحسن ، وصار لأولادهم من الشرف ، ذكره الماوردي ، وقد روي معناه عن مجاهد ، فروى عنه ابن أبي نجيح أنه قال : { لنبوِّئنهم في الدنيا حسنة } قال : لسان صادق .

والخامس : أن المعنى : لنحسِنَنَّ إِليهم في الدنيا ، قال بعض أهل المعاني : فتكون على هذه الأقوال «لنبوّئنهم» ، على سبيل الاستعارة ، إِلا على القول الأول .
قوله تعالى : { ولأجر الآخرة أكبر } قال ابن عباس : يعني : الجنة ، { لو كانوا يعلمون } يعني : أهل مكة .
ونقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أنه كان إِذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه ، قال : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ذخر لك في الآخرة أفضل ، ثم يتلو هذه الآية .
ثم إِن الله أثنى عليهم ومدحهم بالصبر فقال : { الذين صبروا } أي : على دينهم ، لم يتركوه لأِذَى نالهم ، وهم في ذلك واثقون بربهم .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)

قوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إِلا رجالاً } قال المفسرون : لما أنكر مشركو قريش نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً ، فهلاَّ بعث إِلينا ملَكاً! فنزلت هذه الآية ، والمعنى : أن الرسل كانوا مثلك آدميِّين ، إِلا أنهم يُوحَى إِليهم ، وقرأ حفص عن عاصم : «نوحِي» بالنون وكسر الحاء . { فاسألوا } يامعشر المشركين { أهل الذكر } وفيهم أربعة أقوال :
أحدها : أنهم أهل التوراة والإِنجيل ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : أهل التوراة ، قاله مجاهد . والثالث : أهل القرآن ، قاله ابن زيد . والرابع : العلماء بأخبار من سلف ، ذكره الماوردي .
وفي قوله تعالى : { إِن كنتم لا تعلمون } قولان .
أحدهما : لا تعلمون أن الله تعالى بعث رسولاً من البشر .
والثاني : لا تعلمون أن محمداً رسول الله ، فعلى القول الأول ، جائز أن يسأل مَن آمن برسول الله ومَن كفر ، لأن أهل الكتاب والعلم بالسِّيَر متفقون على أن الأنبياء كلَّهم ، من البشر ، وعلى الثاني إِنما يسأل مَنْ آمَنَ مِنْ أهل الكتاب ، وقد روي عن مجاهد { فاسألوا أهل الذكر } قال : عبد الله بن سلام ، وعن قتادة ، قال : سليمان الفارسي .
قوله تعالى : { بالبينات والزُّبُر } في هذه «الباء» قولان :
أحدهما : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، تقديره : وما أرسلنا من قبلك إِلاّ رجالاً أرسلناهم بالبينات . والزُّبُر : الكتب . وقد شرحنا هذا في [ آل عمران : 184 ] .
قوله تعالى : { وأنزلنا إِليك الذكر } وهو القرآن بإجماع المفسرين { لِتُبَيِّنَ للناس ما نزِّل إِليهم } [ فيه ] من حلال وحرام ، ووعد ووعيد { ولعلهم يتفكرون } في ذلك فيعتبرون .

أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)

قوله تعالى : { أفأمن الذين مكروا السيئات } قال المفسرون : أراد مشركي مكة . ومكرهم السيئات : شركهم وتكذيبهم ، وسمي ذلك مكراً ، لأن المكر في اللغة : السعي بالفساد ، وهذا استفهام إِنكار ، ومعناه : ينبغي أن لا يأمَنوا العقوبة ، وكان مجاهد يقول : عنى بهذا الكلام نمرود بن كنعان .
قوله تعالى : { أو يأخذَهم في تقلُّبهم } فيه أربعة أقوال :
أحدها : في أسفارهم ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال قتادة .
والثاني : في منامهم ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثالث : في ليلهم ونهارهم ، قاله الضحاك ، وابن جريج ، ومقاتل .
والرابع : أنه جميع ما يتقلَّبون فيه ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { أو يأخذَهم على تخوّف } فيه قولان :
أحدهما : على تنقُّص ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك . قال ابن قتيبة : التُّخَوُّف : التقُّص ، ومثله التخوُّن . يقال : تخوفته الدهور وتخونته : إِذا نقصته وأخذت من ماله وجسمه . وقال الهيثم بن عدي : التخوُّف : التنقُّص ، بلغة أزد شنوءة .
ثم في هذا التنقُّص ثلاثة أقوال . أحدها : أنه تنقّصٌ من أعمالهم ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثاني : أخذُ واحد بعد واحد ، روي عن ابن عباس أيضاً . والثالث : تنقُّصُ أموالهم وثمارهم حتى يهلكهم ، قاله الزجاج .
والثاني : أنه التخوف نفسه ، ثم فيه قولان : أحدهما : يأخذهم على خوف أن يعاقب أو يتجاوز ، قاله قتادة . والثاني : أنه يأخذ قرية لتخاف القرية الأخرى ، قاله الضحاك . وقال الزجاج : يأخذهم بعد أن يخيفهم بأن يهلك قرية فتخاف التي تليها ، فعلى هذا ، خوَّفهم قبل هلاكهم ، فلم يتوبوا ، فاستحقوا العذاب .
قوله تعالى : { فإن ربكم لرؤوف رحيم } إِذ لم يعجِّل بالعقوبة ، وأمهل للتوبة .

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)

قوله تعالى : { أَوَلَمْ يروا } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «أولم يروا» بالياء ، وقرأ حمزة ، والكسائي : «تروا» بالتاء ، واختلف عن عاصم .
قوله تعالى : { إِلى ما خلق الله من شيء } أراد من شيء له ظل ، من جبل ، أو شجر ، أو جسم قائم { يتفيَّأُ } قرأ الجماعة بالياء ، وقرأ أبو عمرو ، ويعقوب بالتاء { ظلالُه } وهو جمع ظل ، وإِنما جمع وهو مضاف إِلى واحد ، لأنه واحدٌ يُراد به الكثرة ، كقوله تعالى : { لتستووا على ظهوره } [ الزخرف : 13 ] قال ابن قتيبة : ومعنى يتفيَّأُ ظلاله : يدور ويرجع من جانب ، إِلى جانب ، والفيء : الرجوع ، ومنه قيل للظل بالعشيِّ : فيىءٌ ، لأنه فاء عن المغرب إِلى المشرق . قال المفسرون : إِذا طلعتْ الشمس وأنت متوجه إِلى القبلة ، كان الظل قُدَّامك ، فإذا ارتفعتْ كان عن يمينك ، فإذا كان بعد ذلك كان خلفك ، وإِذا دنتْ للغروب كان على يسارك ، وإِنما وحّد اليمين ، والمراد به : الجمع ، إيجازاً في اللفظ ، كقوله تعالى : { ويولُّون الدُّبُر } [ القمر : 45 ] ، ودلّت «الشمائل» على أن المراد به الجميع ، وقال الفراء : إِنما وحد اليمين ، وجمع الشمائل ، ولم يقل : الشمال ، لأن كل ذلك جائز في اللغة ، وأنشد :
الوَارِدُوْنَ وَتَيْم في ذَرَىَ سَبَأٍ ... قد عضّ أعناقَهُم جِلْدُ الجوامِيْسِ
ولم يقل : جلود ، ومثله :
كُلُوا في نِصْفِ بَطْنِكُم تَعِيْشُوا ... فإنَّ زَمَانَكُم زَمَنٌ خَمِيْصُ
وإِنما جاز التوحيد ، لأن أكثر الكلام يواجَه به الواحد .
وقال غيره : اليمين راجعة إِلى لفظٍ ما ، وهو واحد ، والشمائل راجعة إِلى المعنى .
قوله تعالى : { سُجَّداً لله } قال ابن قتيبة : مستسلمة ، منقادة ، وقد شرحنا هذا المعنى عند قوله تعالى : { وظلالهم بالغدو والآصال } [ الرعد : 15 ] .
وفي قوله تعالى : { وهم داخرون } قولان :
أحدهما : والكفار صاغرون .
والثاني : وهذه الأشياء داخرة مجبولة على الطاعة . قال الأخفش : إِنما ذكر مَن ليس من الإِنس ، لأنه لما وصفهم بالطاعة أشبهوا الإِنس في الفعل .
قوله تعالى : { ولله يسجد مافي السموات . . . } الآية . الساجدون على ضربين :
أحدهما : مَن يعقل ، فسجوده عبادة .
والثاني : مَن لا يعقل ، فسجوده بيان أثر الصَّنعة فيه ، والخضوع الذي يدل على أنه مخلوق ، هذا قول جماعة من العلماء ، واحتجوا في ذلك بقول الشاعر :
بِجَيْشٍ تضِلُّ البُلْق في حَجَراتِهِ ... تَرىَ الأُكْمَ فيه سُجَّداً لِلْحَوافِرِ
قال ابن قتيبة : حَجَرَاتُهُ ، أي : جوانبه ، يريد أن حوافر الخيل قد قلعت الأُكم ووطئتها حتى خشعت وانخفضت . فأما الشمس والقمر والنجوم ، فألحقها جماعة بمن يعقل ، فقال أبو العالية : سجودها حقيقة ، ما منها غارب إِلاَّ خَرَّ ساجداً بين يدي الله عز وجل ، ثم لا ينصرف حتى يُؤذَن له ، ويشهد لقول أبي العالية ، حديث أبي ذر قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد حين وجبت الشمس ، فقال : " يا أبا ذر! تدري أين ذهبت الشمس» قلت الله ورسوله أعلم ، قال : «فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربّها عز وجل ، فتستأذن في الرجوع ، فيؤذَن لها فكأنها قد قيل لها : ارجعي من حيث جِئتِ ، فترجع إِلى مطلعها فذلك مستقرها "

، ثم قرأ : { والشَّمْسُ تَجْري لِمُسْتَقَرٍّ لها } [ يس : 38 ] أخرجه البخاري ومسلم . وأمّا النبات والشجر ، فلا يخلو سجوده من أربعة أشياء .
أحدها : أن يكون سجوداً لا نعلمه ، وهذا إِذا قلنا : إِن الله يُودِعه فهماً . والثاني : أنه تفيُّؤ ظلاله . والثالث : بيان الصنعة فيه . والرابع : الانقياد لما سُخِّر له .
قوله تعالى : { والملائكة } إِنما أخرج الملائكة من الدوابّ ، لخروجهم بالأجنحة عن صفة الدبيب .
وفي قوله : { وهم لا يستكبرون . يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون } قولان :
أحدهما : أنه من صفة الملائكة خاصة ، قاله ابن السائب ، ومقاتل .
والثاني : أنه عامّ في جميع المذكورات ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
وفي قوله : { من فوقهم } قولان ذكرهما ابن الأنباري .
أحدهما : أنه ثناءٌ على الله تعالى ، وتعظيم لشأنه ، وتلخيصه : يخافون ربهم عالياً رفيعاً عظيماً .
والثاني : أنه حال ، وتلخيصه : يخافون ربهم معظِّمين له عالِمين بعظيم سلطانه .

وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)

قوله تعالى : { وقال الله لا تتخذوا إِلهين اثنين } سبب نزولها : أن رجلاً من المسلمين دعا الله في صلاته ، ودعا الرحمن ، فقال رجل من المشركين : أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً ، فما بال هذا يدعو ربين اثنين؟ فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل . قال الزجاج : ذِكْر الاثنين توكيد ، كما قال تعالى : { إِنما هو إِله واحد } .
قوله تعالى : { وله الدِّين واصِباً } في المراد بالدِّين أربعة أقوال :
أحدها : أنه الإِخلاص ، قاله مجاهد . والثاني : العبادة ، قاله سعيد بن جبير .
والثالث : شهادة أن لا إِله إِلاّ الله ، وإِقامة الحدود ، والفرائض ، قاله عكرمة .
والرابع : الطاعة ، قاله ابن قتيبة .
وفي معنى «واصباً» أربعة أقوال :
أحدها : دائماً ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وابن زيد ، والثوري ، واللغويون . قال أبو الأسود الدؤلي :
لا أَبْتَغِي الحمدَ القَليلَ بَقَاؤُه ... يوماً بِذَمِّ الدَّهْرِ أجْمَعَ وَاصِبَا
قال ابن قتيبة : معنى الكلام : أنه ليس من أحدٍ يُدَان له ويُطاع إِلاّ انقطع ذلك عنه بزوالٍ أو هَلَكةٍ ، غيرَ الله عز وجل ، فإن الطاعة تدوم له .
والثاني : واجباً ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثالث : خالصاً ، قاله الربيع بن أنس .
والرابع : وله الدين موصباً ، أي : متعباً ، لأن الحق ثقيل ، وهو كما تقول العرب : همٌّ ناصب ، أي : مُنْصِبٌ ، قال النابغة :
كِلِينِي لِهَمٍّ يا أُمَيْمَةُ ناصِبِ ... وليلٍ أقاسيه بطيىءِ الكواكبِ
ذكره ابن الأنباري . قال الزجاج : ويجوز أن يكون المعنى : له الدين ، والطاعة ، رضي العبد بما يُؤمَر به وسهل عليه ، أو لم يسهل ، فله الدين وإِن كان فيه الوصب ، والوصب ، شدة التعب .

وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)

قوله تعالى : { وما بكم من نعمة } قال الزجاج : المعنى : ما حل بكم من نعمة ، من صحة في جسم ، أو سَعَةٍ في رزق ، أو متاعٍ من مال وولد { فمن الله } وقرأ ابن أبي عبلة : «فَمَنُّ الله» بتشديد النون .
قوله تعالى : { ثم إِذا مسكم الضُّرُّ } قال ابن عباس : يريد الأسقام ، والأمراض ، والحاجة .
قوله تعالى : { فإليه تجأرون } قال الزجاج : «تجأرون» : ترفعون أصواتكم إِليه بالاستغاثة ، يقال : جأر يجأر جُؤاراً ، والأصوات مبْنية على «فُعَالٍ» و «فَعِيل» فأما «فُعَال» فنحو «الصُّرَاخ» و «الخُوَار» ، وأما «الفَعِيل» فنحو «العويل» و«الزَّئير» ، والفُعَال أكثر .
قوله تعالى : { إِذا فريق منكم } قال ابن عباس : يريد أهل النفاق . قال ابن السائب : يعني الكفار .
قوله تعالى : { ليكفروا بما آتيناهم } قال الزجاج : المعنى : ليكفروا بأنّا أنعمنا عليهم ، فجعلوا نِعَمَنا سبباً إِلى الكفر ، وهو كقوله تعالى : { ربنا إِنك آتيت فرعون } إِلى قوله : { ليضلوا عن سبيلك } [ يونس 88 ] ، ويجوز أن يكون «ليكفروا» ، أي : ليجحدوا نعمة الله في ذلك .
قوله تعالى : { فتمتعوا } تهدّد ، { فسوف تعلمون } عاقبة أمركم .

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)

قوله تعالى : { ويجعلون لما لا يعلمون } يعني : الأوثان .
وفي الذين لا يعلمون قولان :
أحدهما : أنهم الجاعلون ، وهم المشركون ، والمعنى : لما لا يعلمون لها ضراً ولا نفعاً؛ فمفعول العلم محذوف ، وتقديره : ما قلنا ، هذا قول مجاهد ، وقتادة .
والثاني : أنها الأصنام التي لا تعلم شيئاً ، وليس لها حس ولا معرفة ، وإِنما قال : يعلمون ، لأنهم لمَّا نحلوها الفهم ، أجراها مجرى مَنْ يعقل على زعمهم ، قاله جماعة من أهل المعاني . قال المفسرون : وهؤلاء مشركو العرب جعلوا لأوثانهم جزءاً من أموالهم ، كالبَحِيرَةِ والسائِبَةِ وغير ذلك مما شرحناه في [ الأنعام : 139 ] .
قوله تعالى : { تالله لتُسأَلُنّ } رجع عن الإِخبار عنهم إِلى الخطاب لهم ، وهذا سؤال توبيخ .
قوله تعالى : { ويجعلون لله البنات } قال المفسرون : يعني : خزاعة وكنانة ، زعموا أن الملائكة بنات الله { سبحانه } أي : تنزه عما زعموا . { ولهم ما يشتهون } يعني : البنين . قال أبوسليمان : المعنى : ويتمنَّون لأنفسهم الذكور .
قوله تعالى : { وإِذا بُشِّر أحدهم بالأُنثى } أي : أُخبر بأنه قد وُلد له بنت { ظل وجهه مُسودّاً } قال الزجاج : أي : متغيِّراً تغيُّر مغتمٍّ ، يقال لكل من لقي مكروهاً : قد اسود وجهه غَمّاً وحَزَناً .
قوله تعالى : { وهو كظيم } أي : يكظم شدة وَجْدِهِ ، فلا يظهره ، وقد شرحناه في سورة [ يوسف : 84 ] .
قوله تعالى : { يتوارى من القوم } قال المفسرون : وهذا صنيع مشركي العرب ، كان أحدُهم إِذا ضرب امرأتَه المخاضُ ، توارى إِلى أن يعلم ما يولد له ، فإن كان ذكراً ، سُرَّ به ، وإِن كانت أنثى ، لم يظهر أياماً يُدَبِّر كيف يصنع في أمرها ، وهو قوله تعالى : { أيُمسِكُهُ على هُونٍ } فالهاء ترجع إِلى ما في قوله : { ما بُشِّر به } ، والهُون في كلام العرب : الهوان . وقرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة ، والجحدري : «على هوان» والدس : إِخفاء الشيء ، في الشيء ، وكانوا يدفنون البنت وهي حية { ألا ساء ما يحكمون } إِذْ جعلوا لله البنات اللاتي محلُّهن منهم هذا ، ونسبوه إِلى الولد ، وجعلوا لأنفسهم البنين .

لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)

قوله تعالى : { للذين لا يؤمنون بالآخرة مَثَلُ السَّوْء } أي : صفة السَّوْء من احتياجهم إِلى الولد ، وكراهتهم للإناث ، خوف الفقر والعار { ولله المثل الأعلى } أي : الصفة العليا من تنزُّهه وبراءته عن الولد .

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)

قوله تعالى : { ولو يؤاخذ الله الناسَ بظلمهم } أي : بشركهم ومعاصيهم ، كلما وُجد شيء منهم أُوخذوا به { ما ترك على ظهرها } يعني : الأرض ، وهذه كناية عن غير مذكور ، غير أنه مفهوم ، لأن الدوابّ إِنما هي على الأرض .
وفي قوله : { من دابة } ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه عنى جميع ما يدبُّ على وجه الأرض ، قاله ابن مسعود . قال قتادة : وقد فعل ذلك في زمن نوح عليه السلام ، وقال السدي : المعنى : لأقحط المطر فلم تبق دابة إِلا هلكت ، وإِلى نحوه ذهب مقاتل .
والثاني : أنه أراد من الناس خاصة ، قاله ابن جريج .
والثالث : من الإِنس والجن ، قاله ابن السائب ، وهو اختيار الزجاج .
قوله تعالى : { ولكن يؤخرهم إِلى أجل مسمى } وهو منتهى آجالهم ، وباقي الآية قد تقدم [ الأعراف : 34 ] .

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)

قوله تعالى : { ويجعلون لله ما يكرهون } المعنى : ويحكمون له بما يكرهونه لأنفسهم ، وهو البنات ، { وتصف ألسنتُهم الكذبَ } أي : تقول الكذب ، وقرأ أبو العالية ، والنخعي ، وابن أبي عبلة : «الكُذُب» بضم الكاف والذال . ثم فسر ذلِك الكذب بقوله : { أن لهم الحسنى } وفيها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها البنون ، قاله مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل .
والثاني : أنها الجزاء الحسن من الله تعالى ، قاله الزجاج .
والثالث : [ أنها ] الجنة ، وذلك أنه لما وعد الله المؤمنين الجنة ، قال المشركون : إِن كان ما تقولونه حقاً ، لندخلَنَّها قبلكم ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { لا جرم } قد شرحناها فيما مضى [ هود : 22 ] . وقال الزجاج : «لا» ردٌ لقولهم ، والمعنى : ليس ذلك كما وصفوا «جرم» أنَّ لهم النار ، المعنى : جرم فعلهم ، أي : كسب فعلهم هذا { أنَّ لهم النار وأنهم مفرَطون } وفيه أربعة أوجه ، قرأ الأكثرون : «مُفْرَطون» بسكون الفاء وتخفيف الراء وفتحها ، وفي معناها قولان :
أحدهما : مُتْرَكون ، قاله ابن عباس . وقال الفراء : منسيُّون في النار .
والثاني : مُعْجَّلون ، قاله ابن عباس أيضاً . وقال ابن قتيبة : مُعْجَّلون إِلى النار . قال الزجاج : معنى «الفرط» في اللغة : المتقدم ، فمعنى «مفرطون» : مقدَّمون إِلى النار ، ومَنْ فسرها «مُتْرَكون» فهو كذلك [ أيضاً ] ، أي : قد جُعلوا مقدَّمين إِلى العذاب أبداً ، متروكين فيه . وقرأ نافع ، ومحبوب . عن أبي عمرو ، وقتيبة عن الكسائي «مُفْرِطون» بسكون الفاء وكسر الراء وتخفيفها ، قال الزجاج : ومعناها : أنهم أفرطوا في معصية الله . وقرأ أبو جعفر وابن أبي عبلة «مُفَرَّطُون» بفتح الفاء وتشديد الراء وكسرها ، قال الزجاج . ومعناها : أنهم فرَّطوا في الدنيا فلم يعملوا فيها للآخرة ، وتصديق هذه القراءة { يا حسرتي على ما فرَّطتُ في جنب الله } [ الزمر : 56 ] . وروى الوليد بن مسلم عن ابن عامر «مُفَرَّطُون» بفتح الفاء والراء وتشديدها ، قال الزجاج : وتفسيرها كتفسير القراءة الأولى ، فالمفرَّط والمفرَط بمعنى واحد .

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)

قوله تعالى : { تالله لقد أرسلنا إِلى أمم من قبلك } قال المفسرون : هذه تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم { فزين لهم الشيطان أعمالهم } الخبيثة حتى عصَوا وكذَّبوا ، { فهو وليُّهم اليوم } فيه قولان :
أحدهما : أنه يوم القيامة ، قاله ابن السائب ، ومقاتل ، كأنهما أرادا : فهو وليهم يوم تكون لهم النار .
والثاني : أنه الدنيا ، فالمعنى : فهو مواليهم في الدنيا { ولهم عذاب أليم } في الآخرة ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { إِلاَّ لِتُبيِّنَ لهم } يعني : الكفار { الذي اختلفوا فيه } أي : ما خالفوا فيه المؤمنين من التوحيد والبعث والجزاء ، فالمعنى : أنزلناه بياناً لما وقع فيه الاختلاف .

وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)

قوله تعالى : { والله أنزل من السماء ماءً } يعني : المطر { فأحيا به الأرض بعد موتها } أي : بعد يُبْسها { إِن في ذلك لآية لقوم يسمعون } أي : يعتبرون .
قوله تعالى : { وإِنَّ لكم في الأنعام لعبرةً نُسقيكم } قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وحمزة ، والكسائي : «نُسقيكم» بضم النون ، ومثله في [ المؤمنين : 21 ] . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبوبكر عن عاصم : «نَسقيكم» بفتح النون فيهما . وقرأ أبو جعفر : «تَسْقِيكم» بتاء مفتوحة ، وكذلك في [ المؤمنين : 21 ] ، وقد سبق بيان الأنعام . وذكرنا معنى «العبرة» في [ آل عمران : 13 ] ، والفرق بين «سقى» و «أسقى» في [ الحجر : 22 ] .
فأما قوله : { مما في بطونه } فقال الفراء : النَّعَم والأنعام شيء واحد ، وهما جمعان ، فرجع التذكير إِلى معنى «النَّعَم» إِذ كان يؤدي عن الأنعام ، أنشدني بعضهم .
وَطَابَ ألْبَانُ اللِّقَاحِ وَبَرَدْ ... فرجع إِلى اللبن ، لأن اللبن والألبان في معنى؛ قال : وقال الكسائي : أراد : نسقيكم مما في البطون ما ذكرنا ، وهو صواب ، أنشدني بعضهم :
مِثْلَ الفِراخِ نُتِفَتْ حَوَاصِلُه ... وقال المبرِّد : هذا فاشٍ في القرآن ، كقوله للشمس : { هذا ربي } [ الأنعام : 78 ] يعني : هذا الشيء الطالع؛ وكذلك { وإِني مرسلة إِليهم بهديَّة } ثم قال : { فلما جاء سليمانَ } [ النمل : 35 ، 36 ] ولم يقل : «جاءت» لأن المعنى : جاء الشيء الذي ذكرنا ، وقال أبو عبيدة : الهاء في «بطونه» للبعض ، والمعنى : نُسقيكم مما في بطون البعض الذي له لبن ، لأنه ليس لكل الأنعام لبن ، وقال ابن قتيبة : ذهب بقوله : { مما في بطونه } إِلى النَّعَم ، والنَّعَم تذكَّر وتؤنَّث ، والفَرْث : ما في الكرش ، والمعنى : أن اللبن كان طعاماً ، فخلص من ذلك الطعام دم ، وبقي منه فرث في الكرش ، وخلص من ذلك الدم { لبناً خالصاً سائغاً للشاربين } أي : سهلاً في الشرب لا يشجى به شاربه ، ولا يَغصّ . وقال بعضهم : سائغاً ، أي : لا تعافه النفس وإِن كان قد خرج من بين فرث ودم . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : إِذا استقر العَلَف في الكَرش ، طحنه ، فصار أسفله فرثاً ، وأعلاه دماً ، وأوسطه لَبَنَاً ، والكبد مسلَّطة على هذه الأصناف الثلاثة ، فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضَّرع ، ويبقى الفرث في الكرش .
قوله تعالى : { ومِن ثمرات النخيل والأعناب } تقدير الكلام : ولكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سَكَرا . والعرب تضمر { ما } كقوله : { وإِذا رأيت ثَمَّ } [ الإنسان : 20 ] أي : ما ثَمَّ . والكناية في «منه» عائدة على «ما» المضمرة . وقال الأخفش : إِنما لم يقل : منهما ، لأنه أضمر الشيء ، كأنه قال : ومنها شيء تتخذون منه سَكَراً .
وفي المراد بالسَّكر ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الخمر ، قاله ابن مسعود ، وابن عمر ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وإبراهيم ابن أبي ليلى ، والزجاج ، وابن قتيبة ، وروى عمرو بن سفيان عن ابن عباس قال : السَّكَرُ : ما حرِّم من ثمرتها ، وقال هؤلاء المفسرون : وهذه الآية نزلت إِذْ كانت الخمرة مباحة ، ثم نسخ [ ذلك ] بقوله : { فاجتنبوه } [ المائدة : 90 ] وممن ذكر أنها منسوخة ، سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والشعبي ، والنخعي .
والثاني : أن السَّكَر : الخَلّ ، بلغة الحبشة ، رواه العَوفي عن ابن عباس . وقال الضحاك : هو الخل ، بلغة اليمن .
والثالث : أن «السَّكَر» الطُّعْم ، يقال : هذا له سَكَر ، أي : طُعْم ، وأنشدوا :
جَعَلْتَ عَيْبَ الأَكْرَمِيْن سَكَرا ... قاله أبو عبيدة : فعلى هذين القولين ، الآية محكمة . فأما الرزق الحسن ، فهو ما أُحِلَّ منهما ، كالتمر ، والعنب ، والزبيب ، والخل ، ونحو ذلك .

وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)

قوله تعالى : { وأوحى ربك إِلى النحل } في هذا الوحي قولان :
أحدهما : أنه إِلهام ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والضحاك ، ومقاتل .
والثاني : أنه أمر ، رواه العوفي عن ابن عباس . وروى ابن مجاهد عن أبيه قال : أَرسل إِليها . والنحل : زنابير العسل ، واحدتها نحلة . و «يَعرِشون» يجعلونه عريشاً . وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم «يَعْرُشُون» بضم الراء ، وهما لغتان ، يقال : «يعرِش» و { يعرُش } مثل { يعكِف } { ويعكُف } . ثم فيه قولان :
أحدهما : ما يعرشون من الكروم ، قاله ابن زيد .
والثاني : أنها سقوف البيوت ، قاله الفراء . وقال ابن قتيبة : كل شيء عُرِش ، من كرم ، أو نبات ، أو سقف ، فهو عَرْش ، ومعروش . وقيل : المراد ب { مما يعرشون } : مما يبنون لهم من الأماكن التي تلقي فيها العسل ، ولولا التسخير ، ما كانت تأوي إِليها .
قوله تعالى : { ثم كلي من كل الثمرات } قال ابن قتيبة : أي : من الثمرات ، و«كلُّ» هاهنا ليست على العموم ، ومثله قوله : { تدمِّر كل شيء } [ الأحقاف : 25 ] . قال الزجاج : فهي تأكل الحامض ، والمرَّ ، ومالا يوصَف طعمه ، فيُحيل الله عز وجل من ذلك عسلاً .
قوله تعالى : { فاسلُكي سُبُل رَبِّكِ } السُّبُل : الطُّرُق ، وهي التي يطلب فيها الرعي . «والذُّلُل» جمع ذَلول . وفي الموصوف بها قولان :
أحدهما : أنها السُّبُل ، فالمعنى : اسلكي السُّبُل مُذَلَّلَةً لكِ ، فلا يتوعَّر عليها مكان سلكته ، وهذا قول مجاهد ، واختيار الزجاج .
والثاني : أنها النحل ، فالمعنى : إِنك مُذَلَّلَةً بالتسخير لبني آدم ، وهذا وقول قتادة ، واختيار ابن قتيبة .
قوله تعالى : { يخرج من بطونها شراب } يعني : العسل { مختلف ألوانه } قال ابن عباس : منه أحمر ، وأبيض ، وأصفر . قال الزجاج : «يخرج» من بطونها ، إِلاَّ أنها تلقيه من أفواهها ، وإِنما قال . من بطونها ، لأن استحالة الأطعمة لا تكون إِلاَّ في البطن ، فيخرج كالريق الدائم الذي يخرج من فم ابن آدم . قوله تعالى : { فيه شفاءٌ للناس } في هاء الكناية ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها ترجع إِلى العسل ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال ابن مسعود . واختلفوا ، هل الشفاء الذي فيه يختص بمرض دون غيره ، أم لا؟ على قولين :
أحدهما : أنه عامّ في كل مرض . قال ابن مسعود : العسل شفاء من كل داء . وقال قتادة : فيه شفاء للناس من الأدواء . وقد روى أبو سعيد الخدري قال : " جاء رجل إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إِن أخي استطلق بطنُه ، فقال : «اسقه عسلاً» فسقاه ، ثم أتى فقال : قد سقيتُه فلم يزده إِلاَّ استطلاقاً ، قال : «اسقه ، عسلاً» ، فذكر الحديث . . إِلى أن قال : فَشُفِيَ ، إِما في الثالثة ، وإِما في الرابعة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صدق الله ، وكذب بطن أخيك» " أخرجه البخاري ، ومسلم . ويعني : بقوله «صدق الله» : هذه الآية . والثاني : فيه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه ، قاله السدي . والصحيح أن ذلك خرج مخرج الغالب . قال ابن الأنباري : الغالب على العسل أنه يعمل في الأدواء ، ويدخل في الأدوية ، فإذا لم يوافق آحادَ المرضى ، فقد وافق الأكثرين ، وهذا كقول العرب : الماء حياة كل شيء ، وقد نرى من يقتله الماء ، وإِنما الكلام على الأغلب .
والثاني : أن الهاء ترجع إِلى الاعتبار . والشفاء : بمعنى الهدى ، قاله الضحاك .
والثالث : أنها ترجع إِلى القرآن ، قاله مجاهد .

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)

قوله تعالى : { والله خلقكم } أي : أوجدكم ولم تكونوا شيئاً { ثم يتوفَّاكم } عند انقضاء آجالكم ، { ومنكم من يُرَدُّ إِلى أرذل العمر } وهو أردؤه ، وأَدْوَنُه ، وهي حالة الهرم . وفي مقداره من السنين ثلاثة أقوال :
أحدها : خمس وسبعون سنة ، قاله عليّ عليه السلام .
والثاني : تسعون سنة ، قاله قتادة .
والثالث : ثمانون سنة ، قاله قطرب .
قوله تعالى : { لكي لا يعلم بعد علم شيئاً } قال الفراء : لكي لا يعقل من بعد عقله الأول شيئاً . وقال ابن قتيبة : أي : حتى لا يعلم بعد علمه بالأمور شيئاً ، لشدة هرمه . وقال الزجاج : المعنى : أن منكم من يَكْبُرُ حتى يذهب عقله خَرَفاً ، فيصير بعد أن كان عالماً جاهلاً ، ليريَكم من قدرته ، كما قَدِر على إِماتته وإِحيائه ، أنه قادر على نقله من العلم إِلى الجهل . وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال : ليس هذا في المسلمين ، المسلم لا يزداد في طول العمر والبقاء إِلاَّ كرامة عند الله ، وعقلاً ، ومعرفة . وقال عكرمة : من قرأ القرآن ، لم يُردّ إِلى أرذل العمر .

وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)

قوله تعالى : { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } يعني : فضل السادة على المماليك { فما الذين فُضِّلوا } يعني : السادة { برادِّي رزقِهم على ماملكت أيمانهم } فعبرت «ما» عن «مَنْ» لأنه موضع إِبهام ، تقول : ما في الدار؟ فيقول المخاطب : رجلان أو ثلاثة ، ومعنى الآية : أن المولى لا يردّ على ماملكت يمينه من مالِه حتى يكون المولى والمملوك في المال سواءً ، وهو مَثَل ضربه الله تعالى للمشركين الذين جعلوا الأصنام شركاء له ، والأصنامَ ملكاً له ، يقول : إِذا لم يكن عبيدُكم معكم في المُلك سواءً ، فكيف تجعلون عبيدي معي سواء ، وترضَون لي ما تأنفون لأنفسكم منه؟! وروى العوفي عن ابن عباس ، قال : لم يكونوا أشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم ، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني؟
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : نزلت في نصارى نجران حين قالوا : عيسى ابن الله تعالى .
قوله تعالى : { أفبنعمة الله يجحدون } قرأ أبو بكر عن عاصم : «تَجحدون» بالتاء وفي هذه النعمة قولان :
أحدهما : حُجته وهدايته . والثاني : فضله ورزقه .

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)

قوله تعالى : { والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } يعني النساء . وفي معنى { من أنفسكم } قولان :
أحدهما : أنه خلَق آدم ، ثم خلَق زوجته منه ، قاله قتادة .
والثاني : «من أنفسكم» ، أي : من جنسكم من بني آدم ، قاله ابن زيد . وفي الحَفَدَة خمسة أقوال :
أحدها : أنهم الأصهار ، أختان الرجل على بناته ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس في رواية ، ومجاهد في رواية ، وسعيد بن جبير ، والنخعي ، وأنشدوا من ذلك :
ولو أنَّ نَفْسِي طاوعتني لأَصْبَحَتْ ... لها حَفَدٌ مِمَّا يُعدُّ كثيرُ
ولكنَّها نَفْسٌ عَلَيَّ أبِيَّةٌ ... عَيُوفٌ لأصهار اللئِام قذورُ
والثاني : أنهم الخدم ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد في رواية الحسن ، وطاووس وعكرمة في رواية الضحاك ، وهذا القول يحتمل وجهين : أحدهما : أنه يراد بالخدم : الأولاد . فيكون المعنى : أن الأولاد يَخدمون . قال ابن قتيبة : الحفدة : الخدم والأعوان ، فالمعنى : هم بنون ، وهم خدم . وأصل الحَفْد : مداركة الخطو والإِسراع في المشي ، وإِنما يفعل الخدم هذا ، فقيل لهم : حَفَدَة . ومنه يقال في دعاء الوتر : «وإِليك نسعى ونَحفِد» . والثاني : أن يراد بالخدم ، المماليك ، فيكون معنى الآية : وجعل لكم من أزواجكم بنين ، وجعل لكم حفدة من غير الأزواج ، ذكره ابن الأنباري .
والثالث : أنهم بنو امرأة الرجل من غيره ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك .
والرابع : أنهم ولد الولد ، رواه مجاهد عن ابن عباس .
والخامس : أنهم كبار الأولاد ، والبنون : صغارهم ، قاله ابن السائب ، ومقاتل . قال مقاتل : وكانوا في الجاهلية تخدمهم أولادهم . قال الزجاج : وحقيقة هذا الكلام أن الله تعالى جعل من الأزواج بنين ، ومن يعاون على ما يُحتاج إِليه بسرعة وطاعة .
قوله تعالى : { ورزقكم من الطيبات } قاله ابن عباس : يريد : من أنواع الثمار والحبوب والحيوان .
قوله تعالى : { أفبالباطل يؤمنون } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الأصنام ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه الشريك والصاحبة والولد ، فالمعنى : يصدِّقون أن لله ذلك؟! قاله عطاء .
والثالث : أنه الشيطان ، أمرهم بتحريم البحيرة والسائبة ، فصدَّقوا . وفي المراد ب «نعمة الله» ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها التوحيد ، قاله ابن عباس . والثاني : القرآن والرسول .
والثالث : الحلال الذي أحلَّه الله لهم .
قوله تعالى : { ويعبُدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً } وفي المشار إِليه قولان :
أحدهما : أنها الأصنام ، قاله قتادة . والثاني : الملائكة ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { من السموات } يعني : المطر ، { و } من { الأرض } النبات ، والثمر .
قوله تعالى : { شيئاً } قال الأخفش : جعل «شيئاً» بدلاً من الرزق ، والمعنى : لا يملكون رزقاً قليلا ولا كثيرا ، { ولا يَستطيعون } أي : لا يقدرون على شيء . قال الفراء : وإِنما قال في أول الكلام : «يملك» وفي آخره : «يستطيعون» ، لأن «ما» في مذهب : جمعٌ لآلهتهم ، فوحَّد «يملك» على لفظ «ما» وتوحيدها ، وجمع في «يستطيعون» على المعنى ، كقوله :

{ ومنهم من يستمعون إِليك } [ يونس : 42 ] .
قوله تعالى : { فلا تضربوا لله الأمثال } أي : لا تشبِّهوه بخَلْقه ، لأنه لا يُشْبِه شيئاً ، ولا يُشبِهه شيء ، فالمعنى : لا تجعلوا له شريكا .
وفي قوله : { إِن الله يعلم وأنتم لا تعلمون } أربعة أقوال :
أحدها : يعلم ضرب المثل ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، قاله ابن السائب .
والثاني : يعلم أنه ليس له شريك ، وأنتم لا تعلمون أنه ليس له شريك ، قاله مقاتل .
والثالث : يعلم خطأ ما تضربون من الأمثال ، وأنتم لا تعلمون صواب ذلك من خطئه .
والرابع : يعلم ما كان ويكون ، وأنتم لا تعلمون قدر عظَمته حين أشركتم به ، ونسبتموه إِلى العجز عن بعث خلقه .

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)

قوله تعالى : { ضرب الله مثلاً } أي : بيَّنَ شَبَهاً فيه بيان المقصود ، وفيه قولان :
أحدهما : انه مَثَلٌ للمؤمن والكافر . فالذي { لا يقدر على شيء } هو الكافر ، لأنه لا خير عنده ، وصاحب الرزق هو المؤمن ، ابن لِما عنده من الخير ، هذا قول عباس ، وقتادة .
والثاني : أنه مَثَل ضربه الله تعالى لنفسه وللأوثان ، لأنه مالكُ كل شيء ، وهي لا تملك شيئاً ، هذا قول مجاهد ، والسدي . وذُكر في التفسير أن هذا المثل ضُرب بِقوم كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيهم قولان :
أحدهما : أن المملوك : أبو الجوار ، وصاحب الرزق الحسن : سيده هشام ابن عمرو ، رواه عكرمة عن ابن عباس . وقال مقاتل : المملوك : أبو الحواجر .
والثاني : أن المملوك : أبو جهل بن هشام ، وصاحب الرزق الحسن : أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، قاله ابن جريج . فأما قوله : { هل يستوون } ولم يقل : يستويان ، لأن المراد : الجنس . وقال ابن الأنباري : لفظ «مَنْ» لفظ توحيد ، ومعناها معنى الجمع ، ولم يقع المَثَل بعبد معيَّن ، ومالك معين ، لكن عُنِيَ بهما جماعةُ عبيد ، وقومٌ مالكون ، فلما فارق من تأويل الجمع ، جمع عائدها لذلك .
وقوله تعالى : { الحمدالله } أي : هو المستحق للحمد ، لأنه المنعم ، ولا نعمة للأصنام ، { بل أكثرهم } يعني المشركين { لا يعلمون } أن الحمد لله . قال العلماء : وصف أكثرهم بذلك ، والمراد : جميعهم .
قوله تعالى : { وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم } قد فسرنا «البَكَم» في [ البقرة : 18 ] . ومعنى «لايقدر على شيء» أي : من الكلام ، لأنه لا يَفْهَم ولا يُفهَم عنه . { وهو كَلٌّ على مولاه } قال ابن قتيبة : أي : ثِقل على وليِّه وقرابته . وفيمن أُريد بهذا المَثَل أربعة أقوال :
أحدها : أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر ، فالكافر هو الأبكم ، والذي يأمر بالعدل [ هو ] المؤمن ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني : أنها نزلت في عثمان بن عفان ، هو الذي يأمر بالعدل ، وفي مولى له كان يكره الإِسلام وينهى عثمان عن النَّفقة في سبيل الله ، وهو الأبكم ، رواه إِبراهيم بن يعلى بن مُنْيَة عن ابن عباس .
والثالث : أنه مثل ضربه الله تعالى لنفسه ، وللوثن . فالوثن : هو الأبكم ، والله تعالى : هو الآمر بالعدل ، وهذا قول مجاهد ، وقتادة ، وابن السائب ، ومقاتل .
والرابع : أن المراد بالأبكم : أُبيُّ بن خلف ، وبالذي يأمر بالعدل : حمزة ، وعثمان ابن عفان ، وعثمان بن مظعون ، قاله عطاء . فيخرج على هذه الأقوال في معنى «مولاه» قولان .
أحدهما : أنه مولىً حقيقة ، إِذا قلنا : إِنه رجل من الناس .
والثاني : أنه بمعنى الولي ، إِذا قلنا : إِنه الصنم ، فالمعنى : وهو ثِقل على وليِّه الذي يخدمه ويزيِّنه . ويخرج في معنى «أينما تُوَجِّه» قولان . إِن قلنا : إِنه رجل ، فالمعنى : أينما يرسله . والتوجيه : الإِرسال في وجه من الطريق .

وإِن قلنا : إِنه الصنم ، ففي معنى الكلام قولان :
أحدهما : أينما يدعوه ، لا يجيبه ، قاله مقاتل .
والثاني : أينما توجَّه تأميله إِيّاه ورجاه له ، لا يأتِه ذلك بخير ، فحذف التأميل ، وخلفه الصنم ، كقوله : { ما وعدتنا على رسلك } [ آل عمران : 194 ] أي : على ألسنة رسلك . وقرأ البزي عن ابن محيصن «أينما تُوَجِهْهُ» بالتاء على الخطاب .
فأما قوله : { لا يأت بخير } فان قلنا : هو رجل ، فانما كان كذلك ، لأنه لا يفهم ما يقال له ، ولاَ يُفْهَمُ عنه ، إِما لكفره وجحوده ، أو لِبَكَمٍ به . وإِن قلنا : إِنه الصنم ، فلكونه جماداً . { هل يستوي هو } أي : هذا الأبكم { ومن يأمر بالعدل } أي : ومن هو قادر على التكلم ، ناطق الحق .

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)

قوله تعالى : { ولله غيب السموات والأرض } قد ذكرناه في آخر [ هود : 123 ] وسبب نزول هذه الآية أن كفار مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ متى الساعة؟ فنزلت هذه ، قاله مقاتل . وقال ابن السائب : المراد بالغيب هاهنا : قيام الساعة .
قوله تعالى : { وما أمر الساعة } يعني : القيامة { إِلاَّ كلمح البصر } واللمح : النظر بسرعة ، والمعنى : إِن القيامة في سرعة قيامها وبعث الخلائق ، كلمح العين ، لأن الله تعالى يقول : { كن فيكون } [ البقرة : 117 ] . { أو هو أقرب } قال مقاتل : بل هو أسرع . وقال الزجاج : ليس المراد أن الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر ، ولكنه يصف سرعة القدرة على الإتيان بها متى شاء .

وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)

قوله تعالى : { والله أخرجكم من بطون أُمَّهاتكم } قرأ حمزة : «إِمِّهاتِكم» بكسر الألف والميم ، وقرأ الكسائي بكسر الإِلف وفتح الميم ، والباقون بضم الألف وفتح الميم ، وكذلك في [ النور : 61 ] و [ الزمر : 6 ] و [ النجم : 32 ] ، ولا خلاف بينهم في الابتداء بضم الهمزة .
قوله تعالى : { وجعل لكم السمع } لفظه لفظ الواحد ، والمراد به الجميع ، وقد بيَّنَّا علة ذلك في أول [ البقرة : 7 ] . والأفئدة : جمع فؤاد . قال الزجاج : مثل : غراب وأغربة ، ولم يجمع «فؤاد» على أكثر العدد ، لم يقل فيه : «فئدان» مثل غُراب وغِربان . وقال أبو عبيدة : وإِنما جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة قبل أن يخرجهم ، غير أن العرب تقدِّم وتؤخِّر ، وأنشد :
ضَخْمٌ تُعَلَّقُ أَشْنَاقُ الدِّيَات بِه ... إِذا المِؤُونَ أُمِرَّتْ فَوْقَهُ حَمَلا
[ الشَّنَق : ما بين الفريضتين ] . والمِؤُون أعظم من الشَّنَق ، فبدأ بالأقل قبل الأعظم .
قال المفسرون : ومقصود الآية : أن الله تعالى أبان نعمه عليهم حيث أخرجهم جهّالاً بالأشياء ، وخلق لهم الآلات التي يتوصلون بها إِلى العلم .

أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)

قوله تعالى : { مسخرات في جو السماء } قال الزجاج : هو الهواء البعيد من الأرض .
قوله تعالى : { ما يُمسِكُهُنَّ إِلاَّ الله } فيه قولان :
أحدهما : ما يمسكهنَّ عند قبض أجنحتهن وبسطِها أن يَقَعْنَ على الأرض إِلا الله ، قاله الأكثرون .
والثاني : ما يُمسكهنَّ أن يرسِلن الحجارة على شرار هذه الأمة ، كما فُعِلَ بغيرهم ، إِلا الله ، قاله ابن السائب .

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)

قوله تعالى : { والله جعل لكم من بيوتكم سَكَناً } أي : موضعاً تسكنون فيه ، وهي المساكن المتَّخَذة من الحجر والمدر تستر العورات والحُرَم ، وذلك أن الله تعالى خلق الخشب والمدر والآلة التي بها يمكن بناء البيت وتسقيفه ، { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا } وهي القباب والخيم المتخذة من الأدم { تستخفُّونها } أي : يخفُّ عليكم حملها { يوم ظعنكم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو «ظَعَنِكُم» بفتح العين . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بتسكين العين ، وهما لغتان ، كالشَّعَر والشَّعْر ، والنَّهَرِ والنَّهْرِ ، والمعنى : إِذا سافرتم ، { ويوم إِقامتكم } أي : لا تثقل عليكم في الحالين . { ومن أصوافها } يعني : الضأن { وأوبارها } يعني : الإِبل { وأشعارها } يعني : المعز { أثاثاً } قال الفراء : الأثاث : المتاع ، لا واحد له ، كما أن المتاع لا واحد له . والعرب تقول : جمع المتاع أمتعه ، ولو جمعت الأثاث ، لقلت : ثلاثة أإِثَّةٍ ، وأُثُث : مثل أعثة وغُثث لا غير . وقال ابن قتيبة : الأثاث : متاع البيت من الفرش والأكسية . قال أبو زيد : واحد الأثاث : أثاثة . وقال الزجاج : يقال : قد أثَّ يَأَث أَثّاً : إِذا صار ذا أثاث . وروي عن الخليل أنه قال : أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إِلى بعض ، ومنه : شَعَر أثيث .
فأما قوله : { ومتاعاً } فقيل : إِنما جمع بينة وبين الأثاث ، لاختلاف اللفظين .
وفي قوله : { إِلى حين } قولان :
أحدهما : أنه الموت ، والمعنى : ينتفعون به إِلى حين الموت ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
والثاني : أنه إِلى حين البلى ، فالمعنى : إِلى أن يَبلى ذلك الشيء ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { والله جعل لكم مما خلق ظِلالا } أي : مايقيكم حر الشمس ، وفيه خمسة أقوال :
أحدها : أنه ظلال الغمام ، قاله ابن عباس .
والثاني : ظلال البيوت ، [ قاله ابن السائب .
والثالث : ظلال الشجر ، قاله قتادة ، والزجاج .
والرابع : ظلال الشجر والجبال ] ، قاله ابن قتيبة .
والخامس : انه كل شيء له ظل من حائط ، وسقف ، وشجر ، وجبل ، وغير ذلك ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { وجعل لكم من الجبال أكناناً } أي : مايَكُنُّكم من الحرِّ والبرد ، وهي الغيران والأسراب . وواحد الأكنان «كِنّ» وكل شيء وقى شيئاً وستره فهو «كِنّ» { وجعل لكم سرابيل } وهي القُمُص { تقيكم الحر } ولم يقل : البرد ، لأن ماوقى من الحر ، وقى من البرد ، وأنشد :
وَمَا أدْرِي إِذَا يمَّمْتُ أَرْضاً ... أُرِيْدُ الخَيْرَ أَيُّهما يَلَيْنِي
وقال الزجاج : إِنما خص الحرَّ ، لأنهم كانوا في مكاناتهم أكثر معاناةً له من البرد ، وهذا مذهب عطاء الخراساني .
قوله تعالى : { وسرابيل تقيكم بأْسكم } يريد الدروع التي يتَّقون بها شدّة الطعن والضرب في الحرب .
قوله تعالى : { كذلك يتم نعمته عليكم } أي : مثلما أنعم الله عليكم بهذه الأشياء ، يتم نعمته عليكم في الدنيا { لعلكم تُسلِمون } والخطاب لأهل مكة ، وكان أكثرهم حينئذٍ كفاراً ، ولو قيل : إِنه خطاب للمسلمين ، فالمعنى : لعلكم تدومون على الإِسلام ، وتقومون بحقه .

وقرأ ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وأبو رجاء : «لعلكم تَسلَمون» بفتح التاء واللام ، على معنى : لعلكم إِذا لبستم الدروع تَسلَمون من الجراح في الحرب .
قوله تعالى : { فإن تَولَّوا } أعرضوا عن الإِيمان { فإنما عليك البلاغ المبين } وهذه عند المفسرين منسوخة بآية السيف .
قوله تعالى : { يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها } وفي هذه النعمة قولان :
أحدهما : أنها [ المساكن ] نعم الله عز وجل عليهم في الدنيا . وفي إِنكارها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنهم يقولون : هذه ورثناها [ عن آبائنا ] . روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : نِعَم الله : المساكن ، والأنعام ، وسرابيل الثياب ، والحديد ، يعرفه كفار قريش ، ثم ينكرونه بأن يقولوا : هذا كان لآبائنا ورثناه عنهم ، وهذا عن مجاهد . والثاني : أنهم يقولون : لولا فلان ، لكان كذا ، فهذا إِنكارهم ، قاله عون بن عبد الله . والثالث : يعرفون أن النعم من الله ، ولكن يقولون : هذه بشفاعة آلهتنا ، قاله ابن السائب ، والفراء وابن قتيبة .
والثاني : أن المراد بالنعمة هاهنا : محمد صلى الله عليه وسلم يعرفون أنه نبيٌّ ثم يكذِّبونه ، وهذا مروي عن مجاهد ، والسدي ، والزجاج .
قوله تعالى : { وأكثرهم الكافرون } قال الحسن : وجميعهم كفار ، فذكر الأكثر ، والمراد به الجميع .

وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)

قوله تعالى : { ويوم نبعث من كل أُمةٍ شهيداً } يعني : يوم القيامة ، وشاهد كلِّ أُمةٍ نبيُّها يشهد عليها بتصديقها وتكذبيها ، { ثم لا يؤذَن للذين كفروا } في الاعتذار { ولا هم يُستعتبون } أي : لا يُطلب منهم أن يرجعوا إِلى ما أمر الله به ، لأن الآخرة ليست بدار تكليف .
قوله تعالى : { وإِذا رأى الذين ظَلموا } أي : أشركوا { العذاب } يعني : النار { فلا يخفف عنهم } العذاب { ولا هم يُنظرون } لا يؤخَّرون ، ولا يمهلون . { وإِذا رأى الذين أشركوا شركاءهم } يعني : الأصنام التي جعلوها شركاء لله في العبادة ، وذلك أن الله يبعث كل معبود من دونه ، فيقول المشركون : { ربَّنا هؤلاء شركاؤنا الذِين كنا ندعو } أي : نعبد من دونك .
فان قيل : فهذا معلوم عند الله تعالى ، فما فائدة قولهم : «هؤلاء شركاؤنا»؟ فعنه جوابان :
أحدهما : أنهم لما كتموا الشرك في قولهم : واللهِ ما كنا مشركين ، عاقبهم الله تعالى باصمات ألسنتهم ، وإِنطاق جوارحهم ، فقالوا عند معاينه آلهتهم : { رنبا هؤلاء شركاؤنا } أي : قد أقررنا بعد الجحد ، وصدَّقنا بعد الكذب ، التماساً للرحمة ، وفراراً من الغضب ، وكأنَّ هذا القول منهم على وجه الاعتراف بالذنْب ، لا على وجه إِعلام من لا يعلم .
والثاني : أنهم لما عاينوا عِظَم غضب الله تعالى قالوا : هؤلاء شركاؤنا ، تقديرَ أن يعود عليهم من هذا القول روح ، وأن تلزم الأصنام إِجرامهم ، أو بعض ذنوبهم إِذْ كانوا يدَّعون لها العقل والتمييز ، فأجابتهم الأصنام بما حسم طمعهم .
قوله تعالى : { فألقَوا إِليهم القول } أي : أجابوهم وقالوا لهم { إِنكم لكاذبون } قال الفراء : ردت عليهم آلهتهم قولهم . وقال أبو عبيدة : «فألقوا» أي : قالوا لهم . يقال : ألقيت إِلى فلان كذا . أي : قلت له . قال العلماء : كذَّبوهم في عبادتهم إِياهم ، وذلك أن الأصنام كانت جماداً لا تعرف عابديها ، فظهرت فضيحتهم يومئذٍ إِذْ عبدوا مَن لم يعلم بعبادتهم ، وذلك كقوله : { سيكفرون بعبادتهم } [ مريم : 83 ] . قوله تعالى : { وأَلقَوا إِلى الله يومئذٍ السَّلَم } المعنى : أنهم استسلموا له . وفي المشار إِليهم قولان : أحدهما : أنهم المشركون ، قاله الأكثرون . ثم في معنى استسلامهم . قولان : أحدهما : أنهم استسلموا [ له ] بالإِقرار بتوحيده وربوبيته . والثاني : أنهم استسلموا لعذابه .
والثاني : أنهم المشركون والأصنام كلُّهم . قال الكلبي : والمعنى : أنهم استسلموا لله منقادين لحُكمه .
قوله تعالى : { وضل عنهم ما كانوا يفترون } فيه قولان :
أحدهما : بَطَل قولهم أنها تشفع لهم . والثاني : ذهب عنهم ما زيَّن لهم الشيطان أن لله شريكاً وولداً .

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

قوله تعالى : { الذين كفروا وصُّدوا عن سبيل الله } قال ابن عباس : منعوا النَّاس من طاعة الله والإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { زدناهم عذاباً فوق العذاب } إِنما نكَّر العذاب [ الأول ] ، لأنه نوع خاص لقوم بأعيانهم ، وعرَّف العذاب الثاني ، لأنه العذاب الذي يعذَّب به أكثر أهل النار ، فكان في شهرته بمنزلة النار في قول القائل : نعوذ بالله من النار ، وقد قيل : إِنما زِيدوا هذا العذاب على ما يستحقونه من عذابهم ، بصدِّهم عن سبيل الله . وفي صفة هذا العذاب الذي زِيدوا أربعة أقوال :
أحدها : أنها عقارب كأمثال النخل الطوال ، رواه مسروق عن ابن مسعود .
والثاني : أنها حيَّات كأمثال الفِيَلَة ، وعقارب كأمثال البغال ، رواه زرٌّ عن ابن مسعود .
والثالث : أنها خمسة أنهار من صُفْر مُذَابٍ تسيل من تحت العرش يعذَّبون بها . ثلاثة على مقدار الليل ، واثنان على مقدار النهار ، قاله ابن عباس .
والرابع : أنه الزمهرير ، ذكره ابن الأنباري .
قال الزجاج : يخرجُون من حرِّ النار إِلى الزمهرير ، فيتبادرون من شدة برده إِلى النار .
قوله تعالى : { وجئنا بك شهيداً على هؤلاء } وفي المشار إِليهم قولان :
أحدهما : أنهم قومه ، قاله ابن عباس .
والثاني : أُمَّته ، قاله مقاتل . وتم الكلام هاهنا . ثم قال : { ونزَّلنا عليك الكتاب تبياناً } قال الزجاج : التبيان : اسم في معنى البيان .
فأما قوله تعالى : { لكل شيء } فقال العلماء بالمعاني : يعني : لكل شيء من أمور الدين ، إِما بالنص عليه ، أو بالإِحالة على ما يوجب العلم ، مثل بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إِجماع المسلمين .

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)

قوله تعالى : { إِن الله يأمر بالعدل } فيه أربعة أقوال :
أحدها : أنه شهادة أن لا إِله إِلا الله ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثاني : أنه الحق ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثالث : أنه استواء السريرة والعلانية في العمل لله تعالى ، قاله سفيان بن عيينة .
والرابع : أنه القضاء بالحق ، ذكره الماوردي . قال أبو سليمان : العدل في كلام العرب : الإِنصاف ، وأعظمُ الإِنصاف : الاعتراف للمنعِم بنعمته .
وفي المراد بالإِحسان خمسة أقوال :
أحدها : أنه أداء الفرائض ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . والثاني : العفو ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثالث : الإِخلاص ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والرابع : أن تعبد الله كأنك تراه ، رواه عطاء عن ابن عباس . والخامس : أن تكون السريرة أحسن من العلانية ، قاله سفيان بن عيينة .
فأما قوله تعالى : { وإِيتاءِ ذي القربي } فالمراد به : صلة الأرحام . وفي الفحشاء قولان :
أحدهما : أنها الزنا ، قاله ابن عباس . والثاني : المعاصي ، قاله مقاتل . وفي { المنكر } أربعة أقوال :
أحدها : أنه الشرك ، قاله مقاتل .
والثاني : أنه ما لا يُعرَف في شريعة ولا سُنَّة .
والثالث : أنه ما وعد الله عليه النار ، ذكرهما ابن السائب .
والرابع : أن تكون علانية ، الإِنسان أحسن من سريرته قاله سفيان بن عيينة .
فأما { البغي } فقال ابن عباس : هو الظلم ، وقد سبق شرحه في مواضع [ البقرة : 173 ، والأعراف : 33 ، ويونس : 23 ، 90 ] .
قوله تعالى : { يعظكم } قال ابن عباس : يؤدِّبكم ، وقد ذكرنا معنى الوعظ في [ سورة النساء : 58 ] و { تذكَّرون } بمعنى : تتَّعظون . قال ابن مسعود : هذه الآية أجمع آية في القرآن لخير أو لشر . وقال الحسن : والله ما ترك العدلُ والاحسانُ شيئاً من طاعة [ الله ] إِلاَّ جمعاه ، ولا تركت الفحشاء والمنكر والبغي شيئاً من معصية الله إِلاّ جمعوه .
قوله تعالى : { وأوفوا بعهد الله } اختلفوا فيمن نزلت على قولين :
أحدهما : أنها نزلت في حلف أهل الجاهلية ، قاله مجاهد ، وقتادة .
والثاني : أنها نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال المفسرون : العهد الذي يجب الوفاء به ، هو الذي يحسن فعله ، فاذا عاهد العبد عليه ، وجب الوفاء به ، والوعد من العهد { ولا تنقضوا الأَيمان بعد توكيدها } أي : بعد تغليظها وتشديدها بالعزم والعقد على اليمين ، بخلاف لغو اليمين ، ووكدت الشيء توكيداً ، لغة أهل الحجاز . فأما أهل نجد ، فيقولون : أكدته تأكيداً . وقال الزجاج : يقال : وكَّدت الأمر ، وأكّدت ، لغتان جيدتان ، والأصل الواو ، والهمزة بدل منها .
قوله تعالى : { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } أي : بالوفاء ، وذلك أن من حلف بالله ، فكأنه أكفل الله بالوفاء بما حلف عليه .
وللمفسرين في معنى «كفيلا» ثلاثة أقوال :
أحدها : شهيداً ، قاله سعيد بن جبير .
والثاني : وكيلا ، قاله مجاهد .

والثالث : حفيظاً مراعياً لعقدكم ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها } قال مجاهد : هذا فعل نساء أهل نجد ، تنقض إِحداهن حبلها ، ثم تنفشه ، ثم تخلطه بالصوف فتغزله ، وقال مقاتل : هي امرأة من قريش تسمى «رَيْطة» بنت عمرو بن كعب ، كانت إِذا غزلت ، نقضته . وقال ابن السائب : اسمها «رَائطة» وقال ابن الأنباري : اسمها «رَيطة» بنت عمرو المرِّيّة ، ولقبها الجعراء ، وهي من أهل مكة ، وكانت معروفة عند المخاطبين ، فعرفوها بوصفها ، ولم يكن لها نظير في فعلها ذلك ، كانت متناهية الحمق ، تغزِلُ الغزل من القطن أو الصوف فتُحكِمُه ، ثم تأمر جاريتها بتقطيعه . وقال بعضهم : كانت تغزل هي وجواريها ، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن ، فضربها الله مثلاً لناقضي العهد «ونقضت» ، بمعنى : تنقض ، كقوله : { ونادى أصحابُ الجنة } [ الأعراف : 43 ] بمعنى : وينادي .
وفي المراد بالغَزْل قولان :
أحدهما : أنه الغَزْل المعروف ، سواء كان من قطن أو صوف أو شعر ، وهو قول الأكثرين .
والثاني : أنه الحَبْل ، قاله مجاهد . وقوله : { من بعد قوة } قال قتادة : من بعد إِبرام ، وقوله : { أنكاثاً } أي : أنقاضاً . قال ابن قتيبة : الأنكاث : ما نُقض من غَزْل الشَّعْر وغيره . وواحدها : نِكْث . يقول : لا تؤكدوا على أنفسكم الأَيمان والعهود ، ثم تنقضوا ذلك وتحنثوا فيه ، فتكونوا كامرأة غزلت ونسجت ، ثم نقضت ذلك النسج ، فجعلته أنكاثاً .
قوله تعالى : { تتخذون أيمانكم دَخَلاً بينكم } أي : دغلاً ، ومكراً ، وخديعة ، وكل شيء دخله عيب ، فهو مدخول ، وفيه دَخَلٌ .
قوله تعالى : { أن تكون أمة } قال ابن قتيبة : لأن تكون أمة ، { هي أربى } أي : هي أغنى { مِنْ أُمَّةٍ } وقال [ الزجاج ] : المعنى : بأن تكون أمة هي أكثر ، يقال : ربا الشيء يربو : إِذا كثر . قال ابن الأنباري : قال اللغويون : «أربى» : أَزْيَد عدداً . قال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعزَّ ، فينقضون حِلف هؤلاء ويحالفون أولئك ، فنُهوا عن ذلك . وقال الفراء : المعنى : لا تغدِروا بقوم لقلَّتِهم وكثرتكم ، أو قِلَّتكم وكثرتهم وقد غرَّرتموهم بالأَيمان .
قوله تعالى : { إِنما يبلوكم الله به } في هذه الآية ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها ترجع إِلى الكثرة ، قاله سعيد بن جبير ، وابن السائب ، ومقاتل ، فيكون المعنى : إِنما يختبركم الله بالكثرة ، فاذا كان بين قومين عهد ، فكثر أحدهما ، فلا ينبغي أن يفسخ الذي بينه وبين الأقلِّ . فان قيل : إِذا كنى عن الكثرة ، فهلاّ قيل بها؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، بأن الكثرة ليس تأنيثها حقيقياً ، فحملت على معنى التذكير ، كما حملت الصيحة على معنى الصياح .
والثاني : أنها ترجع إِلى العهد ، فانَّه لدلالة الأَيمان عليه ، يجرى مجرى المظهر ، ذكره ابن الأنباري .
والثالث : أنها ترجع إِلى الأمر بالوفاء ، ذكره بعض المفسرين .
قوله تعالى : { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } قد فسرناه في آخر [ هود : 118 ] .
قوله تعالى : { ولكن يُضِلُّ من يشاء } صريح في تكذيب القَدَرية ، حيث أضاف الإِضلال والهداية إِليه ، وعلَّقهما بمشيئته .

وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)

قوله تعالى : { ولا تتخذوا أَيْمانكم دَخَلا } هذا استئناف للنهي عن أيمان الخديعة . { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بعد ثبوتها } قال أبو عبيدة : هذا مَثَل يقال لكل مبتَلَىً بعد عافية ، أو ساقط في ورطة بعد سلامة : زلّت به قَدَمه . قال مقاتل : ناقض العهد يَزِلُّ في دينه كما تَزِلُّ قَدم الرَّجُل بعد الاستقامة . قال المفسرون : وهذا نهي للذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإِسلام ونصرة الدين عن نقض العهد ، ويدل عليه قوله يتعالى : { وتذوقوا السوء } يعني : العقوبة { بما صددتم عن سبيل الله } يريد أنهم إِذا نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صدَّوا الناس عن الإِسلام ، فاستحقُّوا العذاب .
وقوله تعالى : { ولكم عذاب عظيم } يعني : في الآخرة . ثم أكد ذلك بقوله : { ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً } قال أبو صالح عن ابن عباس : نزلت في رجُلين اختصما إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض ، يقال لأحدهما «عِيدان بن أشوع» وهو صاحب الأرض ، وللآخر : «امرؤ القيس» وهو المدعى عليه ، فهمّ امرؤ القيس أن يحلف ، فأخَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية . وذكر أبو بكر الخطيب أن اسم صاحب الأرض «ربيعة بن عبْدان» وقيل : «عَيدان» ، بفتح العين وياء معجمه باثنتين . ومعنى الآية : لاتنقضوا عهودكم ، تطلبون بنقضها عَرَضاً يسيراً من الدنيا ، إِن ما عندالله من الثواب على الوفاء هو خير لكم من العاجل .
{ ما عندكم ينفد } أي : يفنى { وما عند الله } في الآخرة { باقٍ } وقف بالياء ابن كثير في رواية عنه ، ولا خلاف في حذفها في الوصل . { ولَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا } قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «ولَيَجْزِيَنَّ» بالياء . وقرأ ابن كثير ، وعاصم : «ولَنَجْزِيَنَّ» بالنون .
ولم يختلفوا في { ولَنَجْزِيَنَّهم أجرهم } أنها بالنون ، ومعنى هذه الآية : وليَجْزِيَنَّ الذين صبروا على أمره أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون في الدنيا ، ويتجاوز عن سيئاتهم .

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)

قوله تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أُنثى وهو مؤمن } في سبب نزولها قولان : أحدهما : أن امرأ القيس المتقدِّم ذكره أقرَّ بالحق الذي هَمَّ أن يحلف عليه ، فنزلت فيه : { من عمل صالحاً } ، وهو إِقراره بالحق ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أن ناساً من أهل التوارة ، وأهل الإِنجيل ، وأهل الأوثان ، جلسوا ، فتفاضلوا ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح .
قوله تعالى : { فلنُحيِيَنَّهُ حياة طيبة } اختلفوا أين تكون هذه الحياة الطيبة على ثلاثة أقوال : أحدها : أنها في الدنيا ، رواه العوفي عن ابن عباس . ثم فيها للمفسرين تسعة أقوال :
أحدها : أنها القناعة ، قاله علي عليه السلام ، وابن عباس في رواية ، والحسن في رواية ، ووهب بن منبه .
والثاني : أنها الرزق الحلال ، رواه أبو مالك عن ابن عباس . وقال الضحاك : يأكل حلالاً ويلبس حلالاً .
والثالث : أنها السعادة ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
والرابع : أنها الطاعة ، قاله عكرمة .
والخامس : أنها رزق يوم بيوم ، قاله قتادة .
والسادس : أنها الرزق الطيِّب ، والعمل الصالح ، قاله إِسماعيل بن أبي خالد .
والسابع : أنها حلاوة الطاعة ، قاله أبو بكر الوراق .
والثامن : العافية والكفاية .
والتاسع : الرضى بالقضاء ، ذكرهما الماوردي .
والثاني : أنها في الآخرة ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن زيد ، وذلك إِنما يكون في الجنة .
والثالث : أنها في القبر ، رواه أبو غسان عن شريك .

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)

قوله تعالى : { فإذا قرأتَ القرآن فاستعذ بالله } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المعنى : فاذا أردتَ القراءة فاستعذ ، ومثله { إِذا قمتم إِلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] وقوله : { وإِذا سألتموهُنَّ متاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ من وراء حجاب } [ الأحزاب 53 ] وقوله : { إِذا ناجيتم الرسول فقدِّموا بين يَدَيْ نجواكم صدقة } [ المجادلة : 12 ] .
ومثله في الكلام : إِذا أكلت فقل : باسم الله ، هذا قول عامة العلماء واللغويين .
والثاني : أنه على ظاهره ، وأن الاستعاذة بعد القراءة . روي عن أبي هريرة ، وداود .
والثالث : أنه من المقدَّم والمؤخَّر ، فالمعنى : فاذا استعذت بالله فاقرأ ، قاله أبو حاتم السجستاني ، والأول أصح .
فصل
والاستعاذة عند القراءة سُنَّةٌ في الصلاة وغيرها .
وفي صفتها عن أحمد روايتان :
إحدهما : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، إِن الله هو السميع العليم ، رواها أبو بكر المروزي .
والثانية : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، إِن الله هو السميع العليم ، رواها حنبل . وقد بيَّنَّا معنى «أعوذ» في أول الكتاب [ ص : 7 ] ، وشرحنا اشتقاق الشيطان في [ البقرة : 14 ] ، والرجيم في [ آل عمران : 36 ] .
قوله تعالى : { إِنه ليس له سلطان على الذين امنوا } في المراد بالسلطان قولان :
أحدهما : أنه التسلُّط .
ثم فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : ليس له عليهم سلطان بحال ، لأن الله صرف سلطانه عنهم بقوله : { إِن عبادي ليس لك عليهم سلطان إِلاَّ من اتَّبعك من الغاوين } [ الحجر 42 ] .
والثاني : ليس له عليهم سلطان ، لاستعاذتهم منه .
والثالث : ليس له قُدْرة على أن يحملهم على ذَنْب لا يُغْفَر .
والثاني : أنه الحُجَّة . فالمعنى : ليس له حُجَّة على ما يدعوهم إِليه من المعاصي ، قاله مجاهد .
فأما قوله : { يَتَولَّوْنه } معناه : يطيعونه .
وفي هاء الكناية في قوله : { والذين هم به مشركون } قولان :
أحدهما : أنها ترجع إِلى الله تعالى ، قاله مجاهد ، والضحاك .
والثاني : أنها ترجع إِلى الشيطان ، فالمعنى : الذين هم من أجله مشركون بالله ، وهذا كما يقال : صار فلان بك عالماً ، أي : من أجلك ، هذا قول ابن قتيبة . وقال ابن الأنباري : المعنى : والذين هم باشراكهم إِبليسَ في العبادة ، مشركون بالله تعالى .
قوله تعالى : { وإِذا بدَّلنا آية مكان آية } سبب نزولها أن الله تعالى كان ينزِّل الآية ، فيُعمَل بها مدة ، ثم ينسخها ، فقال كفار قريش : والله ما محمد إِلاَّ يسخر من أصحابه ، يأمرهم اليوم بأمر ، ويأتيهم غداً بما هو أهون عليهم منه ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والمعنى : إِذا نسخنا آية بآية ، إِما نسخ الحكم والتلاوة ، أو نسخ الحكم مع بقاء التلاوة { والله أعلم بما يُنزِّل } من ناسخٍ ومنسوخ ، وتشديد وتخفيف ، فهو عليم بالمصلحة في ذلك { قالوا إِنما أنت مفترٍ } أي : كاذب { بل أكثرهم لايعلمون } فيه قولان :
أحدهما : لايعلمون أن الله أنزله .
والثاني : لايعلمون فائدة النسخ .
قوله تعالى : { قل نزَّلَه } يعني : القرآن { روح القُدُس } يعني : جبريل . وقد شرحنا هذا الاسم في [ البقرة : 87 ] .
قوله تعالى : { مِن ربك } أي : من كلامه { بالحق } أي : بالأمر الصحيح { ليثبِّت الذين آمنوا } بما فيه من البيِّنات فيزدادوا يقيناً .

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)

قوله تعالى : { ولقد نعلم أنهم يقولون } يعني : قريشاً { إِنما يعلِّمه بشر } أي : آدمي ، وما هو من عند الله .
وفيمن أرادوا بهذا البشر تسعة أقوال :
أحدها : أنه كان لبني المغيرة غلام يقال له «يعيش» يقرأ التوراة ، فقالوا : منه يتعلم محمد ، فنزلت هذه الآية ، رواه عكرمة عن ابن عباس . وقال عكرمة في رواية : كان هذا الغلام لبني عامر بن لؤي ، وكان رومياً .
والثاني : أنه فتى كان بمكة يسمى «بلعام» وكان نصرانياً أعجمياً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعلِّمه ، فلما رأى المشركون دخوله إِليه وخروجه ، قالوا ذلك ، روي عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : أنه نزلت في كاتب كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيملى عليه «سميع عليم» فيكتب هو «عزيز حكيم» أو نحو هذا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أي ذلك كتبت فهو كذلك» ، فافتتن ، وقال : إِن محمداً يَكِل ذلك إِليَّ فأكتب ما شئت ، روي عن سعيد بن المسيب .
والرابع : أنه غلام أعجمي لامرأة من قريش يقال له : «جابر» ، وكان جابر يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتعلم منه ، فقال المشركون : إِنما يتعلم محمد من هذا ، قاله سعيد بن جبير .
والخامس : أنهم عَنوا سلمان الفارسي ، قاله الضحاك؛ وفيه بُعْدٌ من جهة أن سلمان أسلم بالمدينة ، وهذه [ الآية ] مكية .
والسادس : أنهم عَنَوا به رجلاً حدّاداً كان يقال «بحُنّس» النَّصراني ، قاله ابن زيد .
والسابع : أنهم عَنَوا به غلاماً لعامر بن الحضرمي ، وكان يهودياً أعجمياً ، واسمه «يسار» ، ويكنى «أبا فُكَيهة» ، قاله مقاتل . وقد روي عن سعيد بن جبير نحو هذا ، إِلاَّ أنه لم يقل : إِنه كان يهودياً .
والثامن : أنهم عَنَوا غلاماً أعجمياً اسمه «عايش» وكان مملوكاً لحويطب ، وكان قد أسلم ، قاله الفراء ، والزجاج .
والتاسع : أنهما رجلان ، قال عبد الله بن مسلم الحضرمي : كان لنا عبدان من أهل عين التمر ، يقال لأحدهما : «يسار» و للآخر «جبر» وكانا يصنعان السيوف بمكة ، ويقرآن الإِنجيل ، فربما مرَّ بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يقرآن ، فيقف يستمع ، فقال المشركون : إِنما يتعلم منهما . قال ابن الأنباري : فعلى هذا القول ، يكون البشر واقعاً على اثنين ، والبشر من أسماء الأجناس ، يعبّر عن اثنين ، كما يعبر «أحد» عن الاثنين والجميع ، والمذكر والمؤنث .
قوله تعالى : { لسان الذي يُلحِدون إِليه أعجمي } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبوعمرو ، وابن عامر ، وعاصم : «يُلحِدون» بضم الياء وكسر الحاء ، وقرأ حمزة ، والكسائي : «يَلحَدون» بفتح الياء والحاء . فأما القراءة الأولى ، فقال ابن قتيبة : «يُلحدون» أي : يميلون إِليه ، ويزعمون أنه يعلِّمه ، وأصل الإِلحاد المَيْل . وقال الفراء : «يُلحِدون» بضم الياء : يعترضون ، ومنه قول : { ومَنْ يُرِدْ فيه بالحادٍ بظلم } [ الحج : 25 ] أي : باعتراض ، «ويَلحَدون» بفتح الياء : يميلون .

وقال الزجاج : يَلَحدون إِليه ، أي : يُميلون القول فيه أنه أعجمي .
قال ابن قتيبة : لا يكاد عوام الناس يفرِّقون بين العجمي والأعجمي ، والعربيّ والأعرابي ، فالأعجمي : الذي لا يُفصح وإِن كان نازلا بالبادية ، والعجمي : منسوب إِلى العجم وإِن كان فصيحاً؛ والأعرابي : هو البدوي ، والعربي : منسوب إِلى العرب وإِن لم يكن بدوياً .
قوله تعالى : { وهذا لسانٌ } يعني : القرآن ، { عربي } قال الزجاج : أي : أن صاحبه يتكلم بالعربية .
قوله تعالى : { إِنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله } أي : الذين إِذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلاَّ الله ، كذَّبوا بها ، { وأولئك هم الكاذبون } أي : أن الكذب نعت لازم لهم ، وعادة من عاداتهم ، وهذا ردَّ عليهم إِذ قالوا : { إِنما أنت مُفْترٍ } [ النحل : 101 ] . وهذه الآية من أبلغ الزجر عن الكذب ، لأنه خُص به مَن لا يؤمن .

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)

قوله تعالى : { مَنْ كفر بالله من بعد إِيمانه } قال مقاتل : نزلت في عبد الله بن سعد بن أَبي سرح القرشي ، ومِقْيَس بن صُبابة ، وعبد الله بن أنس بن خَطَل ، وطعمة بن أُبيرِق ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وقيس بن الفاكه المخزومي .
فأما قوله تعالى : { إِلاَّ من أُكره } فاختلفوا فيمن نزل على أربعة أقوال .
أحدها : أنه نزل في عمار بن ياسر ، أخذه المشركون فعذَّبوه ، فأعطاهم ما أرادوا بلسانه ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال قتادة .
والثاني : أنه لما نزل قوله : { إِن الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أنفسهم . . . } إِلى آخر الآيتين اللتين في سورة النساء [ 96 ، 97 ] كتب بها المسلمون الذين بالمدينة إِلىَ من كان بمكة ، فخرج ناس ممن أقرَّ بالإِسلام ، فاتَّبعهم المشركون ، فأدركوهم ، فأكرهوهم حتى أعطوا الفتنة ، فنزل { إِلاَّ من أُكره وقلبه مطمئن بالإِيمان } ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد .
والثالث : أنه نزل في عياش بن أبي ربيعة ، كان قد هاجر فحلفت أُمُّه ألاَّ تستظل ولا تشبع من طعام حتى يرجع ، فرجع إِليها ، فأكرهه المشركون حتى أعطاهم بعض ما يريدون ، قاله ابن سيرين .
والرابع : أنه نزل في جبر ، غلام ابن الحضرمي ، كان يهودياً فأسلم ، فضربه سيِّده حتى رجع إِلى اليهودية ، قاله مقاتل . وأما قوله : { ولكنْ مَن شرح بالكفر صدراً } فقال مقاتل : هم النفر المسَمَّوْن في أول الآية .
فأما التفسير ، فاختلف النحاة في قوله : { من كفر } وقوله : { ولكن من شرح } فقال الكوفيون : جوابهما جمعياً في قوله : { فعليهم غضب } ، فقال البصريون : بل قوله : { من كفر } مرفوع بالرد على { الذين لا يؤمنون } . قال ابن الأنباري : ويجوز أن يكون خبرُ { مَن كفر } محذوفاً ، لوضوح معناه ، تقديره : من كفر بالله ، فالله عليه غضبان .
قوله تعالى : { وقلبه مطمئن بالإِيمان } أي : ساكن إِليه راضٍ به . { ولكنْ مَن شرح بالكفر صدراً } قال قتادة : من أتاه بايثار واختيار . وقال ابن قتيبة : من فتح له صدره بالقبول . وقال أبو عبيدة : المعنى : من تابعته نفسه ، وانبسط إِلى ذلك ، يقال : ما ينشرح صدري بذلك ، أي : ما يطيب . وجاء قوله : { فعليهم غضب } على معنى الجميع ، لأن «مَنْ» تقع على الجميع .
فصل
الإِكراه على كلمة الكفر يبيح النطق بها . وفي الإِكراه المبيح لذلك عن أحمد روايتان :
إِحداهما : أنه يخاف على نفسه أو على بعض أعضائه التلف إِن لم يفعل ما أُمر به .
والثانية : أن التخويف لا يكون إِكراها حتى يُنَال بعذاب . وإِذ ثبت جواز «التَّقِيَة» فالأفضل ألاَّ يفعل ، نص عليه أحمد ، في أسير خُيِّر بين القتل وشرب الخمر ، فقال : إِن صبر على القتل فله الشرف ، وإِن لم يصبر ، فله الرخصة ، فظاهر هذا ، الجوازُ . وروى عنه الأثرم أنه سئل عن التَّقيَّة في شرب الخمر فقال : إِنما التقية في القول .

فظاهر هذا أنه لا يجوز له ذلك . فأما إِذا أُكره على الزنا ، لم يجز له الفعل ، ولم يصح إِكراهه ، نص عليه أحمد . فان أُكره على الطلاق ، لم يقع طلاقه ، نص عليه أحمد ، وهو قول مالك ، والشافعي . وقال أبو حنيفة : يقع .
قوله تعالى : { ذلك بأنهم استحبَّوا الحياة الدنيا } في المشار إِليه بذلك قولان :
أحدهما : أنه الغضب والعذاب ، قاله مقاتل . والثاني : أنه شرح الصدر للكفر . و«استحبُّوا» بمعنى : أحبوا الدنيا واختاروها على الآخرة .
قوله تعالى : { وأن الله } أي : وبأن الله لا يريد هدايتهم . وما بعد هذا قد سبق شرحه [ البقرة : 7 ، والنساء : 155 ، والمائدة : 67 ] إِلى قوله : { وأولئك هم الغافلون } ففيه قولان :
أحدهما : الغافلون عما يراد بهم ، قاله ابن عباس . والثاني : عن الآخرة ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { لا جرم } قد شرحناها في [ هود : 22 ] .
قوله تعالى : { ثم إِنَّ ربك للذين هاجروا مِنْ بعد ما فُتنوا } اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال :
أحدها : أنها نزلت فيمن كان يُفْتَن بمكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثاني : أن قوماً من المسلمين خرجوا للهجرة ، فلحقهم المشركون فأعطَوهم الفتنة ، فنزل فيهم { ومِنَ الناس من يقول آمنَّا بالله فإذا أُوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله } [ العنكبوت 10 ] ، فكتب المسلمون إِليهم بذلك ، فخرجوا ، وأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى من نجا ، وقُتِل من قتل ، فنزلت فيهم هذه الآية ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثالث : أنها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، كان الشيطان قد أزلَّه حتى لحق بالكفار ، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقتَل يوم الفتح ، فاستجار له عثمان بن عفان ، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا مروي عن ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وفيه بُعد ، لأن المشار إِليه وإِن كان [ قد ] عاد إِلى الإِسلام ، فان الهجرة انقطعت بالفتح .
والرابع : أنها نزلت في عيَّاش بن أبي ربيعة ، وأبي جندل بن سهيل عمرو ، وعبد الله بن أَسيد الثقفي ، قاله مقاتل .
فأما قوله تعالى : { من بعد ما فُتنوا } فقرأ الأكثرون : «فُتنوا» بضم الفاء وكسر التاء ، على معنى : من بعد ما فتنهم المشركون عن دينهم . قال ابن عباس : فُتنوا بمعنى : عُذِّبوا . وقرأ عبد الله بن عامر : «فَتَنوا» بفتح الفاء والتاء ، على معنى : من بعد ما فتنوا الناس عن دين الله ، يشير إِلى من أسلم من المشركين . وقال أبو علي : من بعد ما فَتنوا أنفسهم باظهار ما أظهروا للتقية ، لأن الرخصة لم تكن نزلت بعدُ .
قوله تعالى : { ثم جاهدوا } أي : قاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم { وصبروا } على الدين والجهاد . { إِن ربك من بعدها } في المكنيِّ عنها أربعة أقوال :
أحدها : الفتنة ، وهو مذهب مقاتل .

والثاني : الفَعلة التي فعلوها ، قاله الزجاج .
والثالث : المجاهدة ، والمهاجرة ، والصبر . والرابع : المهاجرة . ذكرهما واللَّذَين قبلهما ابن الأنباري .
قوله تعالى : { يوم تأتي } قال الزجاج : هو منصوب على أحد شيئين ، إِما على معنى : إِن ربك لغفور يوم تأتي ، وإِما على معنى : اذكر يوم تأتي . ومعنى { تجادل عن نفسها } أي : عنها . والمراد : أن كل إِنسان يجادل عن نفسه . وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لكعب الأحبار : يا كعب خوِّفنا ، فقال إِن لجهنم زفرةً ما يبقى ملَك مقرَّب ولا نبيّ مرسل إِلاَّ وقع جاثياً على ركبتيه ، حتى إِن إِبراهيم خليل الرحمن ليدلي بالخلة فيقول : «يا رب أنا خليلك إِبراهيم ، لا أسألك إِلاَّ نفسي» ، وإِن تصديق ذلك في كتاب الله { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } . وقد شرحنا معنى «الجدال» في [ هود : 32 ] .

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)

قوله تعالى : { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة } في هذه القرية قولان :
أحدهما : أنها مكة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والجمهور ، وهو الصحيح .
والثاني : أنها قرية أوسع الله على أهلها حتى كانوا يستنجون بالخبز ، فبعث الله عليهم الجوع حتى كانوا يأكلون ما يقعدون ، قاله الحسن . فأما ما يروى عن حفصة أنها قالت : هي المدينة ، فذلك على سبيل التمثيل ، لا على وجه التفسير ، وبيانه : ما روى سليم بن عنز ، قال : صدرنا من الحج مع حفصة ، وعثمان محصور بالمدينة ، فرأت راكبَين فسألْنهما عنه ، فقالا : قُتِل ، فقالت : والذي نفسي بيده إِنها للْقرية ، تعني المدنية التي قال الله تعالى في كتابه : { و ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة } ، تعني حفصة : أنها كانت على قانون الاستقامة في أيام النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، { فكفرت بأنعم الله } عند قتل عثمان رضي الله عنه . ومعنى { كانت آمنة } أي : ذات أمْنٍ يأمن فيها أهلها أن يُغَارَ عليهم ، { مطمئنة } أي : ساكنة بأهلها لا يحتاجون إِلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق . وقد شرحنا معنى الرغد في [ البقرة : 35 ، 58 ] .
وقوله : { من كل مكان } أي : يجلَب إِليها من كل بلد ، وذلك كلُّه بدعوة إِبراهيم عليه السلام ، { فكفرت بأنعم الله } بتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي واحد الأنعم قولان :
أحدهما : أن واحدها «نُعْمٌ» قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة .
والثاني : «نِعْمة» قاله الزجاج . قال ابن قتيبة : ليس قول من قال : هو جمع «نعمة» بشيء ، لأن «فِعْلَةَ» لا تجمع على «أفْعُلٍ» ، وإِنما هو جمع «نُعْمٍ» يقال : يوم نُعْمٌ ، ويوم بُؤْسٌ ، ويجمع «أَنْعُماً» ، و«أَبْؤُساً» .
قوله تعالى : { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } وروى عبيد بن عقيل ، وعبد الوارث عن أبي عمرو : «والخوفَ» بنصب الفاء . وأصل الذَّوق إِنما هو بالفم ، وهذا استعارة منه ، وقد شرحنا هذا المعنى في [ آل عمران : 106 ، 185 ] . وإِنما ذكر اللباس هاهنا تجوُّزاً ، لما يظهر عليهم من أثر الجوع والخوف ، فهو كقوله : { ولباس التقوى } [ الأعراف 26 ] وذلك لما يظهر على المتَّقي من أثر التقوى . قال المفسرون : عذَّبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام المحترقة . فأما الخوف ، فهو خوفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سراياه التي كان يبعثها حولهم . والكلام وفي هذه الآية خرج على القرية ، والمراد أهلها ، ولذلك قال : { بما كانوا يصنعون } يعني به : بتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإِخراجهم إِياه وما همُّوا به من قتله .

وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)

قوله تعالى : { ولقد جاءهم } يعني : أهل مكة { رسول منهم } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم ، { فكذبوه فأخذهم العذاب } وفيه قولان :
أحدهما : أنه الجوع ، قاله ابن عباس . والثاني : القتل ببدر ، قاله مجاهد . قال ابن السائب : { وهم ظالمون } أي : كافرون .

فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)

قوله تعالى : { فكلوا مما رزقكم الله } في المخاطَبين بهذا قولان :
أحدهما : أنهم المسلمون ، وهو قول الجمهور .
والثاني : أنهم أهل مكة المشركون ، لما اشتدت مجاعتهم ، كلَّم رؤساؤُهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إِن كنتَ عاديتَ الرجال ، فما بال النساء والصبيان؟! فأَذِن رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس أن يحملوا الطعام إِليهم ، حكاه الثعلبي ، وذكر نحوه الفراء ، وهذه الآية والتي تليها مفسرتان في [ البقرة : 172 173 ] .

وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)

قوله تعالى : { ولا تقولوا لما تَصِفُ ألسنتكم الكذب } قال ابن الأنباري : اللام في «لِما» بمعنى من أجل ، وتلخيص الكلام : ولا تقولوا : هذه الميتة حلال ، وهذه البَحيرة حرام ، من أجل كذبكم ، وإِقدامكم على الوصف ، والتخرُّص لما لا أصل له ، فجرت اللام هاهنا مجراها في قوله : { وإِنه لحب الخير لشديد } [ العاديات : 8 ] أي : وإِنه من أجل حب الخير ، لبخيل و«ما» بمعنى المصدر ، والكذب منصوب ب «تصف» والتلخيص : لا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب . وقرأ ابن أبي عبلة : «الكُذُبَ» ، قال ابن القاسم : هو نعت الألسنة ، وهو جمع كذوب . قال المفسرون : والمعنى : أن تحليلكم وتحريمكم ليس له معنىً إِلاَّ الكذب . والإِشارة بقوله : { هذا حلال وهذا حرام } إِلى ما كانوا يُحلُّون ويحرِّمون ، { لتفتروا على الله الكذب } وذلك أنهم كانوا ينسبون ذلك التحليل والتحريم إِلى الله تعالى ، ويقولون : هو أَمَرنا بهذا .
وقوله : { متاع قليل } أي : متاعهم بهذا الذي فعلوه قليل .

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)

قوله تعالى : { وعلى الذين هادوا حرَّمنا ما قصصنا عليك من قبل } يعني به ما ذكر في [ الأنعام : 126 ] وهو قوله : { وعلى الذين هادوا حرمنا كلَّ ذي ظُفُر } { وما ظلمناهم } بتحريمنا ما حرَّمنا عليهم ، { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بالبغي والمعاصي .
قوله تعالى : { ثم إِن ربك للذين عملوا السوء بجهالة } قد شرحناه في سورة [ النساء 17 ] وشرحنا في [ البقرة : 160 ] التوبة والاصلاح ، وذكرنا معنى قوله : { من بعدها } آنفا .

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)

قوله تعالى : { إِن إبراهيم كان أُمَّة } قال ابن الأنباري : هذا مثل قول العرب : فلان رحمة ، وفلان علاَّمة ، ونسَّابة ، ويقصدون بهذا التأنيث قصد التناهي في المعنى الذي يصفونه ، والعرب قد توقع الأسماء المبهَمة على الجماعة ، وعلى الواحد ، كقوله : { فنادته الملائكة } [ آل عمران : 39 ] ، وإِنما ناداه جبريل وحده . وللمفسرين في المراد بالأُمَّة هاهنا ثلاثة أقوال :
أحدها : أن الأُمَّة : الذي يعلِّم الخير ، قاله ابن مسعود ، والفراء ، وابن قتيبة .
والثاني : أنه المؤمن وحده في زمانه ، روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد .
والثالث : أنه الإِمام الذي يُقتدَى به ، قاله قتادة ، ومقاتل ، وأبو عبيدة ، وهو في معنى القول الأول . فأما القانت فقال ابن مسعود : هو المطيع . وقد شرحنا «القنوت» في [ البقرة : 116 ، 238 ] وكذلك الحنيف [ البقرة 135 ] .
قوله تعالى : { ولم يَكُ } قال الزجاج : أصلها : لم يكن ، وإِنما حذفت النون عند سيبويه ، لكثرة استعمال هذا الحرف ، وذكر الجلَّة من البصرين أنها إِنما احتملت الحذف ، لأنه اجتمع فيها كثرة الاستعمال ، وأنها عبارة عن كل ما يمضي من الأفعال وما يستأنف ، وأنها قد أشبهت حروف اللين ، وأنها تكون علامة كما تكون حروف اللين علامة ، وأنها غُنَّة تخرج من الأنف ، فلذلك احتملت الحذف .
قوله تعالى : { شاكراً لأنعمه } انتصب بدلاً من قوله : { أُمَّةً قانتاً } وقد ذكرنا واحد الأنعم آنفاً ، وشرحنا معنى «الاجتباء» في [ الأنعام : 87 ] قال مقاتل : والمراد بالصراط المستقيم هاهنا : الإِسلام .
قوله تعالى : { وآتيناه في الدنيا حسنة } فيها ستة أقوال :
أحدها : أنه الذِّكْر الحسن ، قاله ابن عباس .
والثاني : النبوَّة ، قاله الحسن .
والثالث : لسان صدق ، قاله مجاهد .
والرابع : اجتماع المِلَل على ولايته ، فكلهم يتولّونه ويرضَونه ، قاله قتادة .
والخامس : أنها الصلاة عليه مقرونة بالصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل بن حيان .
والسادس : الأولاد الأبرار على الكِبَر ، حكاه الثعلبي . وباقي الآية مفسر في [ البقرة : 130 ] .

ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)

قوله تعالى : { ثم أوحينا إِليك أن اتبع ملة إِبراهيم } ملَّتُه : دينُه . وفيما أُمر باتباعه من ذلك قولان :
أحدهما : أنه أُمر باتباعه في جميع ملته ، إِلا ما أُمر بتركه ، وهذا هو الظاهر .
[ والثاني : اتباعه في التبرُّؤ من الأوثان ، والتدين بالإِسلام ، قاله أبو جعفر الطبري ] .
وفي هذه الآية دليل على جواز اتباع المفضول ، لأن رسولنا أفضلُ الرسل ، وإِنما أُمر باتباعه ، لسبقه إِلى القول بالحق .

إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)

قوله تعالى : { إِنما جُعِل السبت } أي : إِنما فرض تعظيمه وتحريمه ، وقرأ الحسن ، وأبو حيوة : «إِنما جَعَل» بفتح الجيم والعين «السبتَ» بنصب التاء { على الذين اختلفوا فيه } والهاء ترجع إِلى السبت .
وفي معنى اختلافهم فيه قولان :
أحدهما : أن موسى قال لهم : تفرَّغوا لله في كل سبعة أيام يوماً ، فاعبدوه في يوم الجمعة ، ولا تعملوا فيه شيئاً من صنيعكم ، فأبَوا أن يقبلوا ذلك ، وقالوا : لا نبتغي إِلاَّ اليوم الذي فرغ فيه من الخلق ، وهو يوم السبت ، فجعل ذلك عليهم ، وشدِّد عليهم فيه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وقال مقاتل : لما أمرهم موسى بيوم الجمعة ، قالوا : نتفرغ يوم السبت ، فان الله لم يخلق فيه شيئاً ، فقال : إِنما أُمرت بيوم الجمعة ، فقال أحبارهم : انتهوا إِلى أمر نبيِّكم ، فأبَوا ، فذلك اختلافهم ، فلما رأى موسى حرصهم على السبت ، أمرهم به ، فاستحلوا فيه المعاصي . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : رأى موسى رجلاً يحمل قصباً يوم السبت ، فضرب عنقه ، وعكفت عليه الطير أربعين صباحاً . وذكر ابن قتيبة في «مختلف الحديث» : أن الله تعالى بعث موسى بالسبت ، ونسخ السبت بالمسيح .
والثاني : أنه بعضهم استحلَّه ، وبعضهم حرَّمه ، قاله قتادة .

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)

قوله تعالى : { ادع إِلى سبيل ربك } قال ابن عباس : نزلت مع الآية التي بعدها ، وسنذكر هناك السبب . فأما السبيل ، فقال مقاتل : هو دين الإِسلام .
وفي المراد { بالحكمة } ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها القرآن ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : الفقه ، قاله الضحاك عن ابن عباس .
والثالث : النبوَّة ، ذكره الزجاج .
وفي { الموعظة الحسنة } قولان :
أحدهما : مواعظ القرآن ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : الأدب الجميل الذي يعرفونه ، قاله الضحاك عن ابن عباس .
قوله تعالى : { وجادلهم } في المشار إِليهم قولان :
أحدهما : أنهم أهل مكة ، قاله أبوصالح .
والثاني : أهل الكتاب ، قاله مقاتل .
وفي قوله : { بالتي هي أحسن } ثلاثة أقوال :
أحدها : جادلهم بالقرآن .
والثاني : ب «لا آله إِلاّ الله» ، روي القولان عن ابن عباس .
والثالث : جادلهم غير فظٍّ ولا غليظ ، وأَلِنْ لهم جانبك ، قاله الزجاج . وقال بعض علماء التفسير : وهذا منسوخ بآية السيف .
قوله تعالى : { إِن ربك هو أعلم } المعنى : هو أعلم بالفريقين ، فهو يأمرك فيهما بما فيه الصلاح .

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

قوله تعالى : { وإِن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } في سبب نزولها قولان :
أحدهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف على حمزة ، فرآه صريعاً ، فلم ير شيئاً كان أوجع لقلبه منه ، فقال : «والله لأمثلن بسبعين منهم» ، فنزل جبريل ، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف ، بقوله : { وإِن عاقبتم . . . } إِلى آخرها ، فصبر رسول الله وكفَّر عن يمينه ، قاله أبو هريرة . وقال ابن عباس : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة قد شُق بطنه ، وجُدِعت أذناه ، فقال : «لولا أن تحزن النساء؛ أو تكون سنَّة بعدي لتركته حتَّى يبعثه الله من بطون السباع والطير ، ولأقتلنَّ مكانه سبعين رجلا منهم» ، فنزل قوله : { ادع إِلى سبيل ربك } إِلى قوله : { وما صبرك إِلا بالله } . وروى الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال يومئذٍ : «لَئِن ظفرتُ بقاتل حمزة لأمثلنَّ به مثلة تتحدث بها العرب» ، وكانت هند وآخرون معها قد مثّلوا به ، فنزلت هذه الآية .
والثاني : أنه أصيب من الأنصار يوم أُحدٍ أربعة وستون ، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة ، ومثَّلوا بقتلاهم ، فقالت الأنصار : لَئِن أصبنا منهم يوماً من الدهر ، لنزيدنَّ على عِدَّتهم مرتين ، فنزلت هذه الآية ، قاله أُبيُّ بن كعب . وروى أبو صالح عن ابن عباس أن المسلمين قالوا : لَئِن أمكننا الله منهم ، لنمثِّلنَّ بالأحياء فضلا عن الأموات ، فنزلت هذه الآية . يقول : إِن كنتم فاعلين ، فمثِّلوا بالأموات ، كما مثَّلوا بأمواتكم . قال ابن الأنباري : وإِنما سمى فعل المشركين معاقبةً وهم ابتدؤوا بالمثلة ، ليزدوج اللفظان ، فيخف على اللسان ، كقوله : { وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها } [ الشورى : 40 ] .
فصل
واختلف العلماء ، هل هذه [ الآية ] منسوخة ، أم لا؟ على قولين :
أحدهما : أنها نزلت قبل { براءة } فأُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل من قاتله ، ولا يبدأ بالقتال ، ثم نُسخ ذلك ، وأُمر بالجهاد ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، فعلى هذا يكون المعنى : { ولئن صبرتم } عن القتال ، ثم نسخ هذا بقوله : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] .
والثاني : أنها محكمة ، وإِنما نزلت فيمن ظُلِم ظُلامة ، فلا يحلُّ له أن ينال من ظالمه أكثر مما ناله الظالم منه ، قاله مجاهد ، والشعبي ، والنخعي ، وابن سيرين ، والثوري ، وعلى هذا يكون المعنى : ولئن صبرتم عن المثلة ، لا عن القتال .
قوله تعالى : { واصبر وما صبرك إِلاَّ بالله } أي : بتوفيقه ومعونته . وهذا أمر بالعزيمة .
وفي قوله : { ولا تحزن عليهم } قولان :
أحدهما على كفار مكة إِن لم يُسلموا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : ولا تحزن على قتلى أُحُد ، فانهم أفضَوا إِلى رحمة الله ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري .
قوله تعالى : { ولا تك في ضَيق } قرأ الأكثرون بنصب الضاد ، وقرأ ابن كثير : «في ضِيق» بكسر الضاد هاهنا وفي [ النمل : 70 ] . قال الفراء : الضَيق بفتح الضاد : ما ضاق عنه صدرك ، والضيّق : ما يكون في الذي يضيق ويتسع ، مثل الدار والثوب وأشباه ذلك . وقال ابن قتيبة : الضَّيْق : تخفيف ضَيِّق ، مثل : هَيْن ولَيْن ، وهو ، إِذا كان على هذا التأويل : صفة ، كأنه قال : لا تك في أمر ضَيِّقٍ من مكرهم . قال : ويقال : مكان ضَيْق وضِيق ، بمعنى واحد ، كما يقال : رَطْلٌ ورِطْلٌ ، وهذا أعجب إِليَّ . فأما مكرهم المذكور هاهنا ، فقال أبوصالح عن ابن عباس : فعلهم وعملهم .
قوله تعالى : { إِن الله مع الذين اتَّقَوا } ما نهاهم عنه ، وأحسنوا فيما أمرهم به ، بالعون والنصر .

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)

قوله تعالى : { سبحان } " روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن تفسير : «سبحان الله» ، فقال : «تنزيه لِله عن كل سوءٍ» " ، وقد ذكرنا هذا المعنى في [ البقرة : 32 ] . قال الزجاج : و«أسرى» : بمعنى : سيَّر عبده ، يقال : أسريت وسريت : إِذا سرت ليلاً . وقد جاءت اللغتان في القرآن . قال الله تعالى : { والليل إِذا يسرِ } [ الفجر : 4 ] .
وفي معنى التسبيح هاهنا قولان .
أحدهما : أن العرب تسبِّح عند الأمر المعجب ، فكأن الله تعالى عجَّب العباد مما أسدى إِلى رسوله من النعمة .
والثاني : أن يكون خرج مخرج الرد عليهم ، لأنه لما حدَّثهم بالاسراء ، كذبوه ، فيكون المعنى : تنزه الله أن يتخذ رسولا كذاباً . ولا خلاف أن المراد بعبده هاهنا : محمد صلى الله عليه وسلم .
وفي قوله : { من المسجد الحرام } قولان .
أحدهما : أنه أُسري به من نفس المسجد ، قاله الحسن ، وقتادة ، ويسنده حديث مالك بن صعصعة ، وهو في «الصحيحين» «بينا أنا في الحطيم» وربما قال بعض الرواة : في «الحِجر» .
والثاني : أنه أُسري به من بيت أم هانىء ، وهو قول أكثر المفسرين ، فعلى هذا يعني بالمسجد الحرام : الحرم . والحرم كلُّه مسجد ، ذكره القاضي أبو يعلى وغيره .
فأما { المسجد الأقصى } فهو بيت المقدس ، وقيل له : الأقصى ، لبُعد المسافة بين المسجدَين . ومعنى { باركنا حوله } : أن الله أجرى حوله الأنهار ، وأنبت الثِّمار . وقيل : لأنه مَقَرُّ الأنبياء ، ومَهْبِطُ الملائكة .
واختلف العلماء ، هل دخل بيتَ المقدس ، أم لا؟ فروى أبو هريرة أنه دخل بيت المقدس ، وصلّى فيه بالأنبياء ، ثم عُرِج به إِلى السماء . وقال حُذيفة بن اليمان : لم يدخل بيت المقدس ولم يصلِّ فيه ، ولا نزل عن البُراق حتى عُرج به .
فان قيل : ما معنى قوله : { إِلى المسجد الأقصى } وأنتم تقولون : صعِد إِلى السماء؟
فالجواب : أن الإِسراء كان إِلى هنالك ، والمعراج كان من هنالك .
وقيل : إِن الحكمة في ذِكْر ذلك ، أنه لو أخبر بصعوده إِلى السماء في بَدْءِ الحديث ، لاشتد إِنكارهم ، فلما أخبر ببيت المقدس ، وبان لهم صدقُه فيما أخبرهم به من العلامات الصادقة ، أخبر بمعراجه .
قوله تعالى : { لنُرِيَه من آياتنا } يعني : ما رأى ، أي : تلك الليلة من العجائب التي أَخبر بها الناس . { إِنه هو السميع } لمقالة قريش ، { البصير } بها . وقد ذكرنا في كتابنا المسمى ب «الحدائق» أَحاديث المعراج ، وكرهنا الإِطالة هاهنا .

وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)

قوله تعالى : { وآتينا موسى الكتاب } لمَّا ذكر في الآية الأولى إِكرام محمد صلى الله عليه وسلم ، ذكر في هذه كرامة موسى . و { الكتاب } : التوراة . { وجعلناه هدىً لبني إِسرائيل } أي : دللناهم به على الهدى . { ألاَّ تتخذوا } قرأ أبو عمرو : «يتخذوا» بالياء ، والمعنى : هديناهم لئلا يتخذوا . وقرأ الباقون بالتاء ، قال أبو علي : وهو على الانصراف إِلى الخطاب بعد الغَيْبَة ، مثل { الحمد لله } ثم [ قال ] { إِياك نعبد } .
قوله تعالى : { وكِيلاً } قال مجاهد : شريكاً . وقال الزجاج : ربّاً . قال ابن الأنباري : وإِنما قيل للربِّ : وكيل ، لكفايته وقيامه بشأن عباده ، من أجل أَن الوكيل عند الناس قد عُلم أَنه يقوم بشؤون أصحابه ، وتفقُّد أمورهم ، فكان الرب وكيلاً من هذه الجهة ، لا على معنى ارتفاع منزلة الموكِّل وانحطاط أمر الوكيل .
قوله تعالى : { ذرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا } قال مجاهد : هو نداء : يا ذرية من حملنا . قال ابن الأنباري : من قرأ : «ألاَّ تتخذوا» بالتاء ، فإنه يقول : بعد الذرية مضمر حُذفَ اعتماداً على دلالة ما سبق ، تلخيصه : يا ذرية من حملنا مع نوح لا تتخذوا وكيلاً ، ويجوز أن يستغني عن الإِضمار بقوله : { إِنه كان عبداً شكوراً } لأنه بمعنى : اشكروني كشكره . ومن قرأ : «لا يتخذوا» بالياء ، جعل النداء متصلاً بالخطاب ، و«الذرية» تنتصب بالنداء ، ويجوز نصبها بالاتخاذ على أَنها مفعول ثانٍ ، تلخيص الكلام : أن لا يتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلاً . قال قتادة : الناس كلُّهم ذرِّيَّة من أنجى الله في تلك السفينة .
قال العلماء : ووجه الإِنعام على الخَلْق بهذا القول ، أنهم كانوا في صلب من نجا .
قوله تعالى : { إِنه كان عبداً شكوراً } قال سلمان الفارسي : كان إِذا أَكل قال : «الحمد لله» وإِذا شرب قال : «الحمد لله» . وقال غيره : كان إِذا لبس ثوباً قال : «الحمد لله» فسمَّاه الله عبداً شكوراً .

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)

قوله تعالى : { وقضينا إِلى بني إِسرائيل } فيه قولان :
أحدهما : أخبرناهم ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثاني : قضينا عليهم ، رواه العوفي عن ابن عباس . وبه قال قتادة ، فعلى الأول : تكون «إِلى» على أصلها ، ويكون الكتاب : التوراة ، وعلى الثاني : تكون «إِلى» بمعنى «على» ، ويكون الكتاب الذِّكر الأول .
قوله تعالى : { لتُفْسِدُنَّ في الأرض } يعني : أرض مصر { مرتين } بالمعاصي ومخالفة التوراة .
وفي مَنْ قتلوه من الأنبياء في الفساد الأول قولان .
أحدهما : زكريا ، قاله السدي عن أشياخه . والثاني : شَعْيَا ، قاله ابن إِسحاق . فأما المقتول من الأنبياء في الفساد الثاني : فهو يحيى بن زكريا . قال مقاتل : كان بين الفسادَين مائتا سنة وعشر سنين . فأما السبب في قتلهم زكريا ، فإنهم اتهموه بمريم ، وقالوا : منه حملت ، فهرب منهم ، فانفتحت له شجرة فدخل فيها وبقي من ردائه هدب ، فجاءهم الشيطان فدلَّهم عليه ، فقطعوا الشجرة بالمنشار وهو فيها . وأما السبب في قتلهم «شعيا» ، فهو أنه قام فيهم برسالةٍ مِنَ الله ينهاهم عن المعاصي . وقيل : هو الذي هرب منهم فدخل في الشجرة حتى قطعوه بالمنشار ، وأن زكريا مات حتف أنفه . وأما السبب في قتلهم يحيى بن زكريا ، ففيه قولان .
أحدهما : أن ملِكهم أراد نكاح امرأة لا تحلُّ له ، فنهاه عنها يحيى . ثم فيها أربعة أقوال .
أحدها : أنها ابنة أخيه ، قاله ابن عباس .
والثاني : ابنته ، قاله عبد الله بن الزبير .
والثالث : أنها امرأة أخيه ، وكان ذلك لا يصلح عندهم ، قاله الحسين بن علي عليهما السلام .
والرابع : ابنة امرأته ، قاله السدي عن أشياخه ، وذكر أن السبب في ذلك : أن ملك بني إِسرائيل هويَ بنت امرأته ، فسأل يحيى عن نكاحها ، فنهاه ، فحنقت أمها على يحيى حين نهاه أن يتزوج ابنتها ، وعمدت إِلى ابنتها فزينتها وأرسلتها إِلى الملك حين جلس على شرابه ، وأمرتْها أن تسقيَه ، وأن تعرض له ، فان أَرادها على نفسها ، أَبت حتى يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طَسْت ، ففعلت ذلك ، فقال : ويحك سليني غير هذا ، فقالت : ما أريد إِلا هذا ، فأمر ، فأُتي برأسه والرأس يتكلم ويقول : لا تحلُّ لك ، لا تحلُّ لك .
والقول الثاني : أن امرأة الملك رأت يحيى عليه السلام وكان قد أُعطيَ حسناً وجمالاً ، فأرادته على نفسه ، فأبى ، فقالت لابنتها : سلي أباك رأس يحيى ، فأعطاها ما سألت ، قاله الربيع بن أنس . قال العلماء بالسِّيَر : ما زال دم يحيى يغلي حتى قتل عليه من بني إِسرائيل سبعون ألفاً ، فسكن ، وقيل : لم يسكن حتى جاء قاتله ، فقال : أنا قتلته ، فقُتِل ، فسكن .
قوله تعالى : { ولتَعْلُنَّ عُلُوّاً كبيراً } أي : لتَعَظَّمُنّ عن الطاعة ولتبغُنَّ .
قوله تعالى : { فإذا جاء وعد أولاهما } أي : عقوبة أُولى المرَّتين { بعثنا } أي : أرسلنا { عليكم عباداً لنا } وفيهم خمسة أقوال .

أحدها : أنهم جالوت وجنوده ، قاله ابن عباس ، وقتادة .
والثاني : «بُخْتَنَصَّر» ، قاله سعيد بن المسيب ، واختاره الفراء ، والزجاج .
والثالث : العمالقة ، وكانوا كفاراً ، قاله الحسن .
والرابع : سنحاريب ، قاله سعيد بن جبير .
والخامس : قوم من أهل فارس ، قاله مجاهد . وقال ابن زيد : سلط [ الله ] عليهم سابور ذا الأكتاف من ملوك فارس .
قوله تعالى : { أُولي بأسٍ شديد } أي : ذوي عدد وقوة في القتال .
وفي قوله : { فجاسوا خلال الديار } ثلاثة أقوال .
أحدها : مشَوا بين منازلهم ، قاله ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وقال مجاهد : يتجسَّسون أخبارهم ، ولم يكن قتال . وقال الزجاج : طافوا خلال الديار ينظرون هل بقي أحد لم يقتلوه؟ و«الجوس» : طلب الشيء باستقصاء .
والثاني : قتلوهم بين بيوتهم ، قاله الفراء ، وأبو عبيدة .
والثالث : عاثوا وأفسدوا ، يقال : جاسوا وحاسوا ، فهم يجوسون ويحوسون إِذا فعلوا ذلك ، قاله ابن قتيبة .
فأما الخلال : فهي جمع خَلَل ، وهو الانفراج بين الشيئين . وقرأ أبو رزين ، والحسن ، وابن جبير ، وأبو المتوكل : «خَلَلَ الديار» بفتح الخاء واللام من غير ألفٍ . { وكان وعْداً مفعولا } أي : لا بد من كونه .
قوله تعالى : { ثم رددنا لكم الكرة عليهم } أي : أظفرناكم بهم . والكَرَّة ، معناها : الرجعة والدُّولة ، وذلك حين قتل داودُ جالوتَ وعاد ملكهم إِليهم . وحكى الفراء أن رجلا دعا على «بختنصر» ، فقتله الله ، وعاد ملكهم إِليهم . وقيل : غزَوا ملك بابل فأخذوا ما كان في يده من المال والأسرى .
قوله تعالى : { وجعلناكم أكثر نفيراً } أي : أكثر عدداً وأنصاراً منهم . قال ابن قتيبة : النَّفير والنافر واحد ، كما يقال : قدير وقادر ، وأصله : مَنْ يَنْفِرُ مع الرجل من عشيرته وأهل بيته .

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)

قوله تعالى : { إِن أحسنتم } أي : وقلنا لكم إِن أحسنتم فأطعتُم الله { أحسنتم لأنفسكم } أي : عاقبةُ الطاعة لكم { وإِن أسأتم } بالفساد والمعاصي { فلها } وفيه قولان .
أحدهما : أنه بمعنى : فاِليها . والثاني : فعليها .
{ فإذا جاء وعد الآخرة } جواب «فاذا» محذوف ، تقديرُه : فاذا جاء وعد عقوبة المرة الآخرة من إِفسادكم ، بعثناهم ليسوؤوا وجوهكم ، وهذا الفساد الثاني ، هو قتلهم يحيى بن زكريا ، وقصدهم قتل «عيسى» فرُفِع ، وسلَّط الله عليهم ملوك فارس والروم فقتلوهم وسبَوْهم ، فذلك قوله : { ليسوؤوا وجوهكم } . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : «ليسوؤوا» بالياء على الجميع والهمز بين الواوين ، والإِشارة إِلى المبعوثين . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم : «ليسوءَ وجوهكم» على التوحيد؛ قال أبو علي : فيه وجهان . أحدهما : ليسوءَ اللهُ عز وجل . والثاني : ليسوء البَعْثُ . وقرأ الكسائي : «لنسوءَ» بالنون ، وذلك راجع إِلى الله تعالى .
وفيمن بَعث عليهم في المرة الثانية قولان .
أحدهما : بختنصر ، قاله مجاهد ، وقتادة . وكثير من الرواة يأبى هذا القول ، ويقولون : كان بين تخريب «بختنصر» بيت المقدس ، وبين مولد يحيى بن زكريا زمان طويل .
والثاني : انطياخوس الرومي ، قاله مقاتل . ومعنى { ليسوؤوا وجوهكم } أي : ليُدخِلوا عليكم الحزن بما يفعلون من قتلكم وسَبْيِكُم؛ وخصت المساءاة بالوجوه ، والمراد : أصحاب الوجوه ، لما يبدو عليها من أثر الحزن والكآبة .
قوله تعالى : { وليدخلوا المسجد } يعني : بيت المقدس { كما دخلوه } في المرة الأولى { وليُتَبِّروا } أي : ليدمِّروا ويخرِّبوا . قال الزجاج : يقال لكل شيء ينكسر من الزجاج والحديد والذهب : تِبر . ومعنى { ما علَوا } أي : ليدمِّروا في حال علوِّهم عليكم .
قوله تعالى : { عسى ربكم أن يرحمكم } هذا مما وُعِدوا به في التوراة . و«عسى» من الله واجبة ، فرحمهم [ الله ] بعد انتقامه منهم ، وعمر بلادهم ، وأعاد نعمهم بعد سبعين سنة . { وإِن عدتم } إِلى معصيتنا { عُدنا } إِلى عقوبتكم . قال المفسرون : ثم إِنهم عادوا إِلى المعصية ، فبعث الله عليهم ملوكاً من ملوك فارس والروم . قال قتادة : ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم محمداً صلى الله عليه وسلم ، فهم في عذاب إِلى يوم القيامة ، فيعطُون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون .
قوله تعالى : { وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً } فيه قولان .
أحدهما : سجناً ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة . وقال مجاهد : يحصرون فيها . وقال أبو عبيدة ، وابن قتيبة : محبساً ، وقال الزجاج : «حصيراً» : حبساً ، أخذ من قولك : حصرت الرجل ، إِذا حبسته ، فهو محصور ، وهذا حصيره ، أي : محبسه ، والحصير : المنسوج ، سمي حصيراً ، لأنه حصرت طاقاته بعضها مع بعض ، ويقال للجَنْب : حصير ، لأن بعض الأضلاع محصور مع بعض . وقال ابن الأنباري : حصيراً : بمعنى : حاصرة ، فصرف من حاصرة إِلى حصير ، كما صرف «مؤلم» إِلى أليم .
والثاني : فراشاً ومهاداً ، قاله الحسن . قال أبو عبيدة : ويجوز أن تكون جهنم لهم مهاداً بمنزلة الحصير ، والحصير : البساط الصغير .

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)

قوله تعالى : { إِن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } قال ابن الأنباري : «التي» وصف للجمع ، والمعنى : يهدي إِلى الخصال التي هي أقوم الخصال . قال المفسرون : وهي توحيد الله والإِيمان به وبرسله والعمل بطاعته ، { ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم } أي : بأن لهم { أجراً } وهو الجنة ، { وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة } أي : ويبشرهم بالعذاب ، لأعدائهم ، وذلك أن المؤمنين كانوا في أذىً من المشركين ، فعجَّل الله لهم البشرى في الدنيا بعقاب الكافرين .

وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)

قوله تعالى : { ويدعو الإِنسان بالشر } وذلك أن الإِنسان يدعو في حال الضجر والغضب على نفسه وأهله بما لا يحب أن يستجاب له كما يدعو لنفسه بالخير . { وكان الإِنسان عجولاً } يعجِّل بالدعاء بالشر عند الغضب والضجر عَجَلَته بالدعاء بالخير .
وفي المراد بالإِنسان هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه اسم جنس يراد به الناس ، قاله الزجاج وغيره .
والثاني : آدم ، فاكتفى بذكره من ذكر ولده ، ذكره ابن الأنباري .
والثالث : أنه النضر بن الحارث حين قال : { فأمطر علينا حجارة من السماء } [ الأنفال : 32 ] ، قاله مقاتل . وقال سلمان الفارسي : أول ما خلق الله من آدم رأسه ، فجعل ينظر إِلى جسده كيف يخلق ، قال : فبقيت رجلاه ، فقال : يا رب عجِّل ، فذلك قوله : { وكان الإِنسان عجولا } .

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)

قوله تعالى : { وجعلنا الليل والنهار آيتين } أي : علامتين يدلان على قدرة خالقهما . { فمحونا آية الليل } فيه قولان .
أحدهما : أن آية الليل : القمر ، ومحوها : ما في بعض القمر من الاسوداد . وإِلى هذا المعنى ذهب علي عليه السلام ، وابن عباس في آخرين .
والثاني : آية الليل محيت بالظلمة التي جعلت ملازمةً لليل؛ فنسب المحو إِلى الظلمة إِذْ كانت تمحو الأنوارَ وتبطلُها ، ذكره ابن الأنباري . ويُروى أن الشمس والقمر كانا في النور والضوء سواءً ، فأرسل الله جبريل فأمرَّ جناحه على وجه القمر وطمس عنه الضوء .
قوله تعالى : { وجعلنا آية النهار } يعني : الشمس { مبصرة } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : منيرة ، قاله قتادة . قال ابن الأنباري : وإِنما صلح وصف الآية بالإِبصار على جهة المجاز ، كما يقال : لعب الدهر ببني فلان .
والثاني : أن معنى «مبصرة» : مبصراً بها ، قاله ابن قتيبة .
والثالث : أن معنى «مبصرة» مُبَصِّرَةً ، فجرى «مُفْعِلْ» مجرى «مُفَعِّل» ، والمعنى : أنها تُبَصِّر الناس ، أي : تُريهم الأشياء ، قاله ابن الأنباري . ومعاني الأقوال تتقارب .
قوله تعالى : { لتبتغوا فضلاً من ربكم } أي : لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم وتطلبون رزقكم بالنهار { ولتعلموا عدد السنين والحساب } بمحو آية الليل ، ولولا ذلك ، لم يعرف الليل من النهار ، ولم يُتبين العدد . { وكلَّ شيء } أي : ما يُحتاج إِليه : { فصَّلناه تفصيلا } بيَّنَّاه تبيناً لا يلتبس معه بغيره .

وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)

قوله تعالى : { وكلَّ إِنسانٍ } وقرأ ابن أبي عبلة «وكلُّ» برفع اللام . وقرأ ابن مسعود ، وأُبَيٌّ ، والحسن { ألزمناه طَيْره } بياء ساكنة من غير ألف .
وفي الطائر أربعة أقوال .
أحدها : شقاوته وسعادته ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . قال مجاهد : ما من مولود يولد إِلاَّ وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي ، أو سعيد .
والثاني : عمله ، قاله الفراء ، وعن الحسن كالقولين .
والثالث : أنه ما يصيبه ، قاله خصيف . وقال أبو عبيدة حظُّه .
قال ابن قتيبة : والمعنى فيما أرى والله أعلم : أن لكل امرئٍ حظاً من الخير والشر قد قضاه الله [ عليه ] ، فهو لازم عنقه ، والعرب تقول : لكل ما لزم الإِنسان : قد لزم عنقه ، وهذا لك عليَّ وفي عنقي حتى أخرج منه ، وإِنما قيل للحظ من الخير والشر : «طائر» ، لقول العرب : جرى له الطائر بكذا من الخير ، وجرى له الطائر بكذا من الشر ، على طريق الفأل والطِيَّرة ، فخاطبهم الله بما يستعملون ، وأعلمهم أن ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطّائر ، هو الذي يُلزمه أعناقهم .
وقال الأزهري : الأصل في هذا أن الله تعالى لما خلق آدم ، علم المطيع من ذريته ، والعاصي ، فكتب ما علمه منهم أجمعين ، وقضى سعادةَ من علمه مطيعاً ، وشقاوة مَن علمه عاصياً ، فصار لكل منهم ما هو صائر إِليه عند خلقه وإِنشائه ، فذلك قوله : { ألزمناه طائره في عنقه } .
والرابع : أنه ما يَتطيَّر من مثله من شيء عمله ، وذِكْرُ العنق عبارة عن اللزوم له ، كلزوم القلادة العنق من بين ما يلبس ، هذا قول الزجاج . وقال ابن الأنباري : الأصل في تسميتهم العمل طائراً ، أنهم كانوا يتطيَّرون من بعض الأعمال .
قوله تعالى : { ونُخرج له } قرأ أبو جعفر : «ويُخْرَج» بياء مضمومة وفتح الراء . وقرأ يعقوب ، وعبد الوارث : بالياء مفتوحة وضم الراء . وقرأ قتادة ، وأبو المتوكل : «ويُخرِج» بياء مرفوعة وكسر الراء . وقرأ أبو الجوزاء ، والأعرج : «وتَخرُجُ» بتاء مفتوحة ورفع الراء ، { يوم القيامة كتاباً } وقرأ ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك : «كتاب» بالرفع ، { يلقاه } وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر : «يُلقَّاه» بضم الياء وتشديد القاف . وأمال حمزة ، والكسائي القاف . قال المفسرون : هذا كتابه الذي فيه ما عمل . وكان أبو السّوّار العَدَوي إِذا قرأ هذه الآية قال : نشرتان وطيَّة ، أمَّا ما حييتَ يا ابن آدم ، فصحيفتُك منشورة ، فأَمْلِ فيها ما شئت ، فاذا مُتَّ ، طُويت ، ثم إذا بُعثت ، نُشرت .
قوله تعالى { إِقرأ كتابك } وقرأ أبو جعفر : «اقرا» بتخفيف الهمزة ، وفيه إِضمار ، تقديره ، فيقال له إِقرأ كتابك . قال الحسن : يقرؤه أُمِّياً كان أو غير أُميٍّ ، ولقد عدل عليك مَن جعلك حسيب نفسك .
وفي معنى { حسيباً } ثلاثة أقوال .
أحدها : محاسِباً . والثاني : شاهداً . والثالث : كافياً ، والمعنى : أن الإِنسان يفوَّض إِليه حسابه ، ليعلم عدل الله بين العباد ، ويرى وجوب حجة الله عليه ، واستحقاقه العقوبة ، ويعلم أنه إِن دخل الجنة ، فبفضل الله ، لا بعمله ، وإِن دخل النار ، فبذنبه . قال ابن الأنباري : وإِنما قال : { حسيباً } ، والنفس مؤنثة ، لأنه يعني بالنفس : الشخص ، أو لأنه لا علامة للتأنيث في لفظ النفس ، فشبِّهت بالسماء والأرض ، قال تعالى : { السماء منفطر به } [ المزمل : 18 ] ، قال الشاعر :
[ فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقها ] ... ولا أرضَ أبقلَ إِبقالَها

مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)

قوله تعالى : { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } أي : له ثواب اهتدائه ، وعليه عقاب ضلاله .
قوله تعالى : { ولا تزرُ وازرةٌ } أي : نفس وازرة { وزر أخرى } قال ابن عباس : إِن الوليد بن المغيرة قال : اتبَّعوني وأنا أحمل أوزاركم ، فقال الله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ، قال أبو عبيدة : والمعنى : ولا تَأثَمْ آثمة إِثم أخرى . قال الزجاج : يقال : وزَر ، يَزِرُ ، فهو وازِر ، وَزراً ، ووِزراً ، ووِزْرةً ، ومعناه : أثِم إِثماً .
وفي تأويل هذه الآية وجهان .
أحدهما : أن الآثم لا يؤخذ بذنب غيره .
والثاني : أنه لا ينبغي أن يعمل الإِنسان بالإِثم ، لأن غيرَه عَمِلَه كما قال الكفار : { إِنّا وجدنا آباءنا على أمة } [ الزخرف : 22 ] . ومعنى { حتى نبعثَ رسولاً } أي : حتى نُبيّنَ ما به نعذِّب ، وما من أجله نُدخلُ الجنة .
فصل
قال القاضي أبو يعلى : في هذا دليل على أن معرفة الله لا تجب عقلا ، وإِنما تجب بالشرع ، وهو بعثة الرسل ، وأنه لو مات الإِنسان قبل ذلك ، لم يقطع عليه بالنار . قال : وقيل معناه : أنه لا يعذِّب في ما طريقه السمع إِلاَّ بقيام حجة السمع من جهة الرسول ، ولهذا قالوا : لو أسلم بعض أهل الحرب في دار الحرب ولم يسمع بالصلاة والزكاة ونحوها ، لم يلزمه قضاء شيء منها ، لأنها لم تلزمه إِلاَّ بعد قيام حجة السمع ، والأصل فيه قصة أهل قُباء حين استداروا إِلى الكعبة ولم يستأنفوا ، ولو أسلم في دار الإِسلام ولم يعلم بفرض الصلاة ، فالواجب عليه القضاء ، لأنه قد رأى الناس يصلُّون في المساجد بأذان وإِقامة ، وذلك دعاء إِليها .

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)

قوله تعالى : { وإِذا أردنا أن نُهلِك قرية } في سبب إِرادته لذلك قولان .
أحدهما : ما سبق لهم في قضائه من الشقاء . والثاني : عنادهم الأنبياء وتكذيبهم إِياهم .
قوله تعالى : { أمرنا مترفيها } قرأ الأكثرون : «أَمرْنَا» مخففة ، على وزن «فَعَلْنا» ، وفيها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه من الأمر ، وفي الكلام إِضمار ، تقديره : أمرنا مترفيها بالطاعة ، ففسقوا ، هذا مذهب سعيد بن جبير . قال الزجاج : ومثله في الكلام : أمرتك فعصيتني ، فقد علم أن المعصية مخالفة الأمر .
والثاني : «كثَّرنا» يقال : أمرت الشيء وآمرته ، أي : كثَّرته ، ومنه قولهم : مُهرَةٌ مأمورةٌ ، أي : كثيرة النِّتاج ، يقال : أَمِر بنو فلان يأمَرون أمراً : إِذا كثروا ، هذا قول أبي عبيدة ، وابن قتيبة .
والثالث : أن معنى «أَمَرْنَا» : أمَّرْنا ، يقال : أَمرت الرجل ، بمعنى : أمَّرته ، والمعنى : سلَّطنا مترفيها بالإِمارة ، ذكره ابن الأنباري . وروى خارجة عن نافع : «آمرنا» ممدودة ، مثل «آمنّا» ، وكذلك روى حماد بن سلمة عن ابن كثير ، وهي قراءة ابن عباس ، وأبي الدرداء ، وأبي رزين ، والحسن ، والضحاك ، ويعقوب . قال ابن قتيبة : وهي اللغة العالية المشهورة ، ومعناه : كثَّرنا ، أيضاً . وروى ابن مجاهد أن أبا عمرو قرأ : «أمَّرْنَا» مشددة الميم ، وهي رواية أبان عن عاصم ، وهي قراءة أبي العالية ، والنخعي والجحدري . قال ابن قتيبة : المعنى : جعلناهم أُمراءَ . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وابن يعمر : «أَمِرْنا» بفتح الهمزة مكسورة الميم مخففة . فأما المترَفون ، فهم المتنعّمون الذين قد أبطرتهم النعمة وسَعة العيش ، والمفسرون يقولون : هم الجبَّارون والمسلَّطون والملوك ، وإِنما خص المترَفين بالذكر ، لأنهم الرؤساء ، ومَن عداهم تبع لهم .
قوله تعالى : { ففسقوا فيها } أي : تمردوا في كفرهم ، لأن الفسق في الكفر : الخروج إِلى أفحشه . وقد شرحنا معنى «الفسق» في [ البقرة : 26 ، 197 ] .
قوله تعالى : { فحق عليها القول } قال مقاتل : وجب عليها العذاب . وقد ذكرنا معنى «التدمير» في [ الأعراف : 137 ] . قوله تعالى : { وكم أهلكنا من القرون } وهو جمع قَرن . وقد ذكرنا اختلاف الناس فيه في [ الأنعام : 6 ] ، وشرحنا معنى «الخبير» و«البصير» في ( البقرة ) . قال مقاتل : وهذه الآية تخويف لأهل مكة .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)

قوله تعالى : { من كان يريد العاجلة } يعني : من كان يريد بعمله الدنيا ، فعبَّر بالنعت عن الاسم ، { عجلنا له فيها ما نشاء } من عَرَض الدنيا ، وقيل : من البسط والتقتير ، { لمن نريد } فيه قولان .
أحدهما : لمن نريد هَلَكته ، قاله أبو إِسحاق الفزاري .
والثاني : لمن نريد أن نعجل له شيئاً ، وفي هذا ذم لمن أراد بعمله الدنيا ، وبيان أنه لا ينال مع ما يقصده منها إِلاَّ ما قُدِّرَ له ، ثم يدخل النار في الآخرة . وقال ابن جرير : هذه الآية لمن لا يوقن بالمعاد . وقد ذكرنا معنى «جنهم» في [ البقرة : 206 ] ، ومعنى «يصلاها» في سورة [ النساء : 10 ] ، ومعنى { مذموماً مدحوراً } في [ الأعراف : 18 ] .
قوله تعالى : { ومَن أراد الآخرة } يعني : الجنة { وسعى لها سعيها } أي : عمل لها العمل الذي يصلح لها ، وإِنما قال : { وهو مؤمن } لأن الإِيمان شرط في صحة الأعمال ، { فأولئك كان سعيهم مشكوراً } أي : مقبولا . وشكر الله عزَّ وجل لهم : ثوابه إياهم ، وثناؤُه عليهم .

كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)

قوله تعالى : { كُلاًّ نمد هؤلاء } قال الزجاج : «كلاٍّ» منصوب ب «نمِدُّ» ، «هؤلاء» بدل من «كل» ، والمعنى : نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك . قال المفسرون : كُلاًّ نعطي من الدنيا ، البَرَّ والفاجرَ ، والعطاء هاهنا : الرزق ، والمحظور : الممنوع ، والمعنى : أن الرزق يعم المؤمن والكافر ، والآخرة للمتقين خاصة . { أنظُر } يا محمد { كيف فضلنا بعضهم على بعض } وفيما فضِّلوا فيه قولان .
أحدهما : الرزق ، منهم مقلٌّ ، ومنهم مُكثر .
والثاني : الرزق والعمل ، فمنهم موفَّق لعمل صالح ، ومنهم ممنوع من ذلك .
قوله تعالى : { لا تجعل مع الله إِلها آخر } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمعنى عام لجميع المكلفين . والمخذول : الذي لا ناصر له ، والخذلان : ترك العون . قال مقاتل : نزلت حين دعَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى ملة آبائه .

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)

قوله تعالى : { وقضى ربك } روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : أمَر ربك . ونقل عنه الضحاك أنه قال : إِنما هي «ووصى ربك» فالتصقت إِحدى الواوين ب «الصاد» ، وكذلك قرأ أُبيُّ بن كعب ، وأبو المتوكل ، وسعيد بن جبير : «ووصى» ، وهذا على خلاف ما انعقد عليه الإِجماع ، فلا يلتفت إِليه . وقرأ أبو عمران ، وعاصم الجحدري ، ومعاذ القارىء : «وقضاءُ ربك» بقاف وضاد بالمد والهمز والرفع وخفض اسم الرب . قال ابن الأنباري : هذا القضاء ليس من باب الحتم والوجوب ، لكنه من باب الأمر والفرض ، وأصل القضاء في اللغة : قطع الشيء باحكام وإِتقان ، قال الشاعر يرثي عمر :
قَضَيْتُ أُمُوْراً ثُمَّ غَادَرْتَ بَعْدَهَا ... بَوائِقَ في أكْمَامِهَا لَمْ تُفَتَّقِ
أراد : قطعتَها محكِماً لها .
قوله تعالى : { وبالوالدين إِحساناً } أي : وأمر بالوالدين إِحسانا ، وهو البِرُّ والإِكرام ، وقد ذكرنا هذا في [ البقرة : 83 ] .
قوله تعالى : { إِما يبلغن } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «يبلغنَّ» على التوحيد . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : «يبلغانِّ» على التثنية . قال الفراء : جعلت «يبلغن» فعلاً لأحدهما وكرَّت عليهما «كلاهما» . ومن قرأ «يبلغانِّ» فإنه ثنَّى ، لأن الوالدين قد ذُكرا قبل هذا ، فصار الفعل على عددهما ، ثم قال : { أحدهما أو كلاهما } على الاستئناف ، كقوله : { فعموا وصموا } [ المائدة : 71 ] ثم استأنف فقال : { كثيرٌ منهم } .
قوله تعالى : { فلا تقل لهما أفٍّ } قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «أُفٍ» بالكسر من غير تنوين . وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، ويعقوب ، والمفضل : «أُفَّ» بالفتح من غير تنوين . وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم : «أُفٍّ» بالكسر والتنوين . وقرأ أبو الجوزاء ، وابن يعمر : «أُفٌّ» بالرفع والتنوين وتشديد الفاء . وقرأ معاذ القارىء ، وعاصم ، الجحدري ، وحميد بن قيس : «أَفّاً» مثل «تعساً» . وقرأ أبو عمران الجوني ، وأبو السماك العدوي : «أُفُّ» بالرفع من غير تنوين مع تشديد الفاء ، وهي رواية الأصمعي عن أبي عمرو . وقرأ عكرمة ، وأبو المتوكل ، وأبو رجاء ، وأبو الجوزاء : «أُفْ» باسكان الفاء وتخفيفها؛ قال الأخفش : وهذا لأن بعض العرب يقول : أفْ لك ، على الحكاية ، والرفع قبيح ، لأنه لم يجيء بعده لام . وقرأ أبو العالية ، وأبو حصين الأسدي : «أُفِّي» بتشديد الفاء وبياء . وروى ابن الأنباري أن بعضهم قرأها : «إِفِ» بكسر الهمزة . وقال الزجاج : فيها سبع لغات ، الكسر بلا تنوين ، وبتنوين ، والضم بلا تنوين ، وبتنوين ، والفتح بلا تنوين ، وبتنوين ، واللغة السابعة لا تجوز في القراءة : «أُفي» بالياء ، هكذا قال الزجاج . وقال ابن الأنباري : في «أُفٍّ» عشرة أوجه . «أُفَّ» لك ، بفتح الفاء ، و«أُفِّ» بكسرها ، «وأُفٍّ» ، و«أُفَّا» لك بالنصب والتنوين على مذهب الدعاء كما تقول : «وَيْلاً» للكافرين ، و«أُفٌّ» لك ، بالرفع والتنوين ، وهو رفع باللام ، كقوله تعالى : { ويل للمطففين } [ المطففون : 1 ] ، و«أفهٍ» لك ، بالخفض والتنوين ، تشبيهاً بالأصوات ، كقولك : «صهٍ» و«مهٍ» ، و«أفهاً» لك ، على مذهب الدعاء أيضاً ، و«أُفّي» لك ، على الإِضافة إِلى النفس ، و«أُفْ» لك ، بسكون الفاء ، تشبيهاً بالأدوات ، مثل : «كم» و«هل» و«بل» ، و«إِفْ» لك ، بكسر الألف .

وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي ، قال : وتقول : «أُفِ» منه ، و«أُفَ» ، و«أُفُ» ، و«أُفٍ» ، و«أُفاً» ، و«أفٌ» ، و«أُفّي» مضاف ، و«أفهاً» ، و«أفاً» بالألف ، ولا تقل : «أُفي» بالياء فانه خطأٌ .
فأما معنى «أف» ففيه خمسة أقوال .
أحدها : أنه وسخ الظفر ، قاله الخليل .
والثاني : وسخ الأذن ، قاله الأصمعي . والثالث : قلامة الظفر ، قاله ثعلب . والرابع : أن «الأف» الاحتقار والاستصغار ، من «الأَفف» ، والأَفف عند العرب : القِلَّة ، ذكره ابن الأنباري . والخامس : أن «الأُفَّ» ما رفعته من الأرض من عود أو قصبة ، حكاه ابن فارس اللغوي . وقرأت على شيخنا أبي منصور قال : معنى «الأف» : النَّتَن ، والتضجر ، وأصلها : نفخك الشيء يسقط عليك من تراب ورماد ، وللمكان تريد إِماطة الأذى عنه ، فقيلت لكل مستثقَل . قال المصنف : وأما قولهم : «تُف» ، فقد جعلها قوم بمعنى «أف» ، فروي عن أبي عبيد أنه قال : أصل «الأُفِّ» و«التُفِّ» : الوسخ على الأصابع إِذا فتلته . وحكى ابن الأنباري فرقاً ، فقال : قال اللغويون : أصل «الأُفِّ» في اللغة : وسخ الأذن ، و«التُّفّ» : وسخ الأظفار ، فاستعملتهما العرب فيما يكره ويستقذرُ ويُضجر منه . وحكى الزجاج فرقاً آخر ، فقال : قد قيل : إِن «أف» : وسخ الأظفار ، و«التف» : الشيء الحقير ، نحو وسخ الأذن ، أو الشظية تؤخذ من الأرض ، ومعنى «أُف» : النَّتْنُ ، ومعنى الآية : لا تقل لهما كلاماً تتبرَّم فيه بهما إِذا كَبِرَا وأسَنَّا ، فينبغي أن تتولَّى من خدمتهما مثل الذي توليا من القيام بشأنك وخدمتك ، { ولا تنهرهما } أي : لا تكلمهما ضَجِراً صائحاً في وجوههما . وقال عطاء بن أبي رباح : لا تنفض يدك عليهما ، يقال : نَهَرْتُهُ أنْهَرهُ نَهْراً ، وانتهَرْتُه انتهاراً ، بمعنى واحد . وقال ابن فارس : نهرتُ الرجُل وانتهرتُه ، مثل : زجرتُه . قال المفسرون : وإِنما نهى عن أذاهما في الكِبَر ، وإِن كان منهياً عنه على كلِّ حالة ، لأن حالة الكِبَر يظهر فيها منهما ما يُضجِر ويؤذي ، وتكثر خدمتهما .
قوله تعالى : { وقل لهما قولاً كريماً } أي : ليِّناً لطيفاً أحسن ما تجد . وقال سعيد بن المسيّب : قولَ العبد المذنِب للسَّيد الفظّ .
قوله تعالى : { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } أي : ألِنْ لهما جانبك متذللاً لهما من رحمتك إِياهما . وخفضُ الجَناح قد شرحناه في [ الحجر : 88 ] . قال عطاء : جناحك : يداك ، فلا ترفعهما على والديك . والجمهور يضمون الذال من «الذُّلّ» . وقرأ أبو رزين ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وعاصم الجحدري ، وابن أبي عبلة : بكسر الذال . قال الفراء : الذِّل : أن تتذلَّلَ لهما ، من الذِّل ، والذُّل : أن تتذلل ولست بذليل في الخدمة ، والُّذل والذلة : مصدر الذليل ، والذِّل ، بالكسر : مصدر الذَّلول ، مثل الدابة والأرض . قال ابن الأنباري : من قرأ «الذّل» ، بكسر الذال ، جعله بمعنى الذُّل ، بضم الذال ، والذي عليه كُبَراء أهل اللغة أن الذُّل من الرجل : الذليل ، والذِّل من الدابة : الذَّلول .

قوله تعالى : { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً } أي : مثل رحمتهما إِياي في صغري حتى ربياني . وقد ذهب قوم إِلى أن هذا الدعاء المطلق نُسخ منه الدعاء لأهل الشرك بقوله تعالى : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } [ التوبة : 113 ] ، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، ومقاتل . قال المصنف : ولا أرى هذا نسخاً عند الفقهاء ، لأنه عامّ دخله التخصيص ، وقد ذَكَرَ قريباً مما قلتُه ابن جرير .
قوله تعالى : { ربكم أعلم بما في نفوسكم } أي : بما تُضمرون من اْلبِرِّ والعقوق ، فمن بدرت منه بادرة وهو لا يُضمِر العقوق ، غفر له ذلك ، وهو قوله : { إِن تكونوا صالحين } أي : طائعين لله ، [ وقيل ] بارِّين ، وقيل : توَّابين ، { فإنه كان للأوابين غفوراً } في الأوّاب عشرة أقوال :
أحدها : أنه المسلِم ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثاني : أنه التواب ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وأبو عبيدة . وقال ابن قتيبة : هو التائبُ مَرَّة بعد مَرَّة . وقال الزجاج : هو التوَّاب المُقْلِع عن جميع ما نهاه الله عنه ، يقال : قد آب يؤوب أَوْباً : إِذا رجع .
والثالث : أنه المسبِّح ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والرابع : أنه المطيع لله تعالى ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
والخامس : أنه الذي يَذْكر ذَنْبه في الخلاء ، فيستغفر اللهَ منه ، قاله عُبيد بن عُمير .
والسادس : أنه المُقْبل إلى الله تعالى بقلبه وعمله ، قاله الحسن .
والسابع : المصلِّي ، قاله قتادة .
والثامن : هو الذي يصلِّي بين المغرب والعشاء ، قاله ابن المنكدِر .
والتاسع : الذي يصلّي صلاة الضُّحى ، قاله عَون العُقيلي .
والعاشر : أنه الذي يُذْنِب سِرّاً ويتوب سِرّاً ، قاله السُّدِّي .

وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)

قوله تعالى : { وآت ذا القربى حقَّه } فيه قولان .
أحدهما : أنه قرابة الرجل من قبَل أبيه وأُمِّه ، قاله ابن عباس ، والحسن ، فعلى هذا في حقهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أن المراد به : بِرُّهم وصِلَتهم .
والثاني : النَّفقة الواجبة لهم وقت الحاجة .
والثالث : الوصيَّة لهم عند الوفاة .
والثاني : أنهم قرابة الرسول ، قاله علي بن الحسين عليهما السلام ، والسدي . فعلى هذا ، يكون حقهم : إِعطاؤهم من الخُمس ، ويكون الخطاب للوُلاة .
قوله تعالى : { والمسكينَ وابنَ السبيل } قال القاضي أبو يعلى : يجوز أن يكون المراد : الصدقات الواجبة ، يعني : الزكاة ، ويجوز أن يكون الحق الذي يَلزمه إِعطاؤه عند الضرور إِليه . وقيل : حق المسكين ، من الصدقة ، وابن السبيل ، من الضيافة .
قوله تعالى : { ولا تبذِّر تبذيراً } في التبذير قولان .
أحدهما : أنه إِنفاق المال في غير حق ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس . وقال مجاهد : لو أنفق الرجل ماله كلَّه في حقٍّ ، ما كان مبذِّراً ، ولو أنفق مُدّاً في غير حق ، كان مبذِّراً . قال الزجاج : التبذير : النفقة في غير طاعة الله ، وكانت الجاهلية تنحر الإِبل وتبذِّر الأموال تطلب بذلك الفخر والسُّمعة ، فأمر الله عز وجل بالنفقة في وجهها فيما يقرِّب منه .
والثاني : أنه الإِسراف المتلفِ للمال ، ذكره الماوردي . وقال أبو عبيدة : المبذِّر : هو المُسرف المُفسد العائث .
قوله تعالى { إِن المبذِّرين كانوا إِخوان الشياطين } لأنهم يوافقونهم فيما يدعونهم إِليه ، ويشاكلونهم في معصية الله ، { وكان الشيطان لربه كفورا } أي : جاحداً لنِعَمه . وهذا يتضمن أن المسرف كفور للنِّعم .
قوله تعالى : { وإِما تعرضَنَّ عنهم } في المشار إِليهم أربعة أقوال .
أحدها : أنهم الذين تقدَّم ذِكْرُهم من الأقارب والمساكين وأبناء السبيل ، قاله الأكثرون ، فعلى هذا في علَّة هذا الإِعراض قولان . أحدهما : الإِعسار ، قاله الجمهور .
والثاني : خوف إِنفاقهم ذلك في معصية الله ، قاله ابن زيد . وعلى هذا في الرحمة قولان .
أحدهما : الرزق ، قاله الأكثرون .
والثاني : أنه الصلاح والتوبة ، هذا على قول ابن زيد .
والثاني : أنهم المشركون ، فالمعنى : وإِما تعرضَنَّ عنهم لتكذيبهم ، قاله سعيد بن جبير . فتحتمل إذاً الرحمة وجهين .
أحدهما : انتظار النصر عليهم .
والثاني : الهداية لهم .
والثالث : " أنهم ناس من مُزينة جاؤوا يستحملون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «لا أجد ما أحملكم عليه» ، فبكَوا " ، فنزلت هذه الآية ، قاله عطاء الخراساني .
والرابع : أنها نزلت في خبَّاب ، وبلال ، وعمَّار ، ومِهجَع ، ونحوهم من الفقراء ، كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجد ما يعطيهم ، فيُعرض عنهم ويسكت ، قاله مقاتل . فعلى هذا القول والذي قبله تكون الرحمة بمعنى الرِّزق .
قوله تعالى : { فقل لهم قولاً ميسوراً } قال أبو عبيدة : ليِّناً هيِّناً ، وهو من اليُسْر . وللمفسرين فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه العِدَة الحسنة ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد .
والثاني : أنه القول الجميل ، مثل أن يقول : رزقنا الله وإِياك ، قاله ابن زيد؛ وهذا على ما تقدّم من قوله .
والثالث : أنه المداراة لهم باللسان ، على قول مَن قال : هم المشركون ، قاله أبو سليمان الدمشقي؛ وعلى هذا القول ، تحتمل الآية النسخ .

وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)

قوله تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إِلى عنقك } سبب نزولها : " أن غلاماً جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ، إِن أُمِّي تسألك كذا وكذا ، قال : «ما عندنا اليوم شيء» ، قال : فتقول لك : اكْسُني قميصك ، قال : فخلع قميصه فدفعه إِليه ، وجلس في البيت حاسراً " ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن مسعود . وروى جابر بن عبد الله نحو هذا ، فزاد فيه ، فأذَّن بلال للصلاة ، وانتظروه فلم يخرج ، فشغل قلوب الصحابة ، فدخل عليه بعضهم ، فرأوه عُرياناً ، فنزلت هذه الآية ، والمعنى : لا تمسك يدك عن البذل كلَّ الإِمساك حتى كأنها مقبوضة إِلى عنقك ، { ولا تبسطها كلَّ البسط } في الإِعطاء والنفقة { فتقعُدَ ملوماً } تلوم نفسك ويلومك الناس ، { محسوراً } قال ابن قتيبة : تَحْسِرُكَ العطيةُ وتقطعك كما يَحْسِرُ السفر البعيرَ فيبقى منقطعاً به . قال الزجّاج : المحسور : الذي قد بلغ الغاية في التعب والإِعياء ، فالمعنى : فتقعدَ وقد بلغتَ في الحَمْل على نفسك وحالك حتى صِرتَ بمنزلة من قد حَسَر . قال القاضي أبو يعلى : وهذا الخطاب أُريدَ به غيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه لم يكن يدَّخِرُ شيئاً لغدٍ ، وكان يجوع حتى يشُدَّ الحجَر على بطنه ، وقد كان كثير من فضلاء الصحابة ينفقون جميع ما يملكون ، فلم ينههم الله ، لصحة يقينهم ، وإِنما نهى من خِيف عليه التحسُّر على ما خرج من يده ، فأما من وثق بوعد الله تعالى ، فهو غير مراد بالآية .
قوله تعالى : { إِن ربَّك يبسُط الرِّزق لمن يشاء ويقدر } أي : يوسع على من يشاء ويضيِّق ، { إِنه كان بعباده خبيراً بصيراً } حيث أجرى أرزاقهم على ما علم فيه صلاحهم .
قوله تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم خَشية إِملاق } قد فسرناه في [ الأنعام : 151 ] .
قوله تعالى : { كان خِطْئاً كبيراً } قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : «خِطْءاً» مكسورة الخاء ساكنة الطاء مهموزة مقصورة . وقرأ ابن كثير ، وعطاء : «خِطاءً» مكسورة الخاء ممدودة مهموزة . وقرأ ابن عامر : «خَطَأً» بنصب الخاء والطاء وبالهمز من غير مدٍّ . وقرأ أبو رزين كذلك ، إِلاَّ أنه مَدَّ وقرأ الحسن ، وقتادة : «خَطْءاً» بفتح الخاء وسكون الطاء مهموز مقصور . وقرأ الزهري ، وحميد بن قيس : «خِطاً» بكسر الخاء وتنوين الطاء من غير همز ولا مَدّ . قال الفراء : الخِطء : الإِثم ، وقد يكون في معنى «خَطَأ» كما قالوا : «قِتْبٌ» و«قَتَبٌ» و«حِذْرٌ» و«حَذَرٌ» و«نِجْسٌ» و«نَجَسٌ» ، والخِطء ، والخِطاء ، والخَطَاء ، ممدود : لغات . وقال أبو عبيدة : خَطِئْتُ وأَخْطَأْتُ ، لغتان . وقال أبو علي : قراءة ابن كثير «خِطاءً» ، يجوز أن تكون مصدرَ «خاطأ» وإِن لم يسمع «خاطأَ» ولكن قد جاء ما يدل عليه ، أنشد أبو عبيدة :
الخِطءُ والخَطء والخَطاء ... وقال الأخفش : خَطِئ يَخْطَأُ بمعنى «أَذْنَبَ» وليس بمعنى «أَخطأَ» ، لأن «أخطأ» : فيما لم يصنعه عمداً ، تقول فيما أتيتَه عمداً : «خَطِئْتُ» ، وفيما لم تتعمده : «أخطأتُ» . وقال ابن الأنباري : «الخِطء» : الإِثم ، يقال : قد خَطِئَ يَخْطَأُ : إذا أثم ، وأَخْطَأ يُخْطِئُ : إِذا فارق الصواب . وقد شرحنا هذا في [ يوسف : 91 ] عند قوله : { وإِن كنا لخاطئين } .

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)

قوله تعالى : { ولا تقربوا الزنا } وقرأ أبو رزين ، وأبو الجوزاء ، والحسن : بالمد . قال أبو عبيدة : وقد يمد «الزنا» في كلام أهل نجد ، قال الفرزدق :
أبا حَاضِرٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِناؤه ... ومَنْ يَشْرَبِ الخُرْطُوْمَ يُصْبِحْ مُسَكَّرا
وقال أيضاً :
أخضبتَ فِعْلَك للزِّنَاءِ ولم تَكُنْ ... يَوْمَ اللِّقَاءِ لتَخْضِبَ الأبْطَالا
وقال آخر :
[ كانت فريضةُ ما تقول ] كَمَا ... كَانَ الزِّنَاءُ فَرِيْضَةَ الرَّجْمِ
قوله تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله } قد ذكرناه في [ الأنعام : 151 ] .
قوله تعالى : { فقد جعلنا } قال الزجاج : الأجود إِدغام الدال مع الجيم ، والإِظهار جيد بالغ ، إِلاَّ أنَّ الجيم من وسط اللسان ، والدال من طرف اللسان ، والإِدغام جائز ، لأن حروف وسط اللسان تقرب من حروف طرف اللسان . ووليُّه : الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه ، فإن لم يكن له وليٌّ ، فالسُّلطان وليُّه .
وللمفسرين في السُّلطان قولان .
أحدهما : أنه الحُجَّة ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه الوالي ، والمعنى : { فقد جعلنا لوليه سلطاناً } ينصره ويُنْصِفه في حَقِّه ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { فلا يُسرف في القتل } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم : «فلا يسرف» بالياء . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : بالتاء .
وفي المشار إِليه في الآية قولان .
أحدهما : أنه وليُّ المقتول . وفي المراد بإسرافه خمسة أقوال . أحدها : أن يَقتُل غير القاتل ، قاله ابن عباس ، والحسن .
والثاني : أن يقتُل اثنين بواحد ، قاله سعيد بن جبير .
والثالث : أن يقتُل أشرف مِن الذي قُتل ، قاله ابن زيد .
والرابع : أن يمثِّل ، قاله قتادة .
والخامس : أن يتولى هو قتل القاتل دون السلطان ، ذكره الزجّاج .
والثاني : أن الإِشارة إِلى القاتل الأول ، والمعنى : فلا يسرف القاتل بالقتل تعدّياً وظلماً ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { إِنه كان منصوراً } أي : مُعاناً عليه .
وفي هاء الكناية أربعة أقوال .
أحدها : أنها ترجع إِلى الولي ، فالمعنى : إِنه كان منصوراً بتمكينه من القَوَد ، قاله قتادة ، والجمهور .
والثاني : أنها ترجع إِلى المقتول ، فالمعنى : إِنه كان منصوراً بقتل قاتله ، قاله مجاهد .
والثالث : أنها ترجع إِلى الدم ، فالمعنى : إِن دم المقتول كان منصوراً ، أي : مطلوباً به .
والرابع : أنها ترجع إِلى القتل ، ذكر القولين الفراء .

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)

قوله تعالى : { ولا تقربوا مال اليتيم } قد شرحناه في [ الأنعام : 152 ] .
قوله تعالى : { وأوفوا بالعهد } وهو عامّ فيما بين العبد وبين ربه ، وفيما بينه وبين الناس . قال الزجاج : كلُّ ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد .
قوله تعالى : { كان مسؤولاً } قال ابن قتيبة : أي : مسؤولاً عنه .
قوله تعالى : { وأوفوا الكيل إِذا كِلْتُم } أي : أَتِمُّوه ولا تَبْخَسوا منه .
قوله تعالى : { وَزِنوا بالقسطاس } فيه خمس لغات . أحدها : «قُسطاس» ، بضم القاف وسينين ، وهذه قراءة ابن كثير ، ونافع ، وأبي عمرو ، وابن عامر ، وأبي بكر عن عاصم هاهنا وفي [ الشعراء : 182 ] . والثانية : كذلك ، إِلاَّ أن القاف مكسورة ، وهذه قراءة حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم . قال الفراء : هما لغتان . والثالثة : «قصطاص» ، بصادين . والرابعة : «قصطاس» ، بصاد قبل الطاء وسين بعدها ، وهاتان مرويتان عن حمزة . والخامسة : «قِسطان» ، بالنون . قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن دريد قال : القسطاس : الميزان ، روميٌّ معرَّب ، ويقال : «قُسطاس» و«قِسطاس» .
قوله تعالى : { ذلك خير } أي : ذلك الوفاء خير عند الله وأقرب إِليه ، { وأحسن تأويلاً } أي : عاقبة في الجزاء .
قوله تعالى : { ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم } قال الفراء : أصل «تَقْفُ» من القيافة ، وهي : تتَبُّع الأثر ، وفيه لغتان : قَفَا يقْفُو ، وقاف يقوف ، وأكثر القراء يجعلونها مِنْ «قفوتُ» ، فيحرك الفاء إِلى الواو ويجزم القاف كما تقول : لا تَدْعُ . وقرأ معاذ القارىء : «لا تقُفْ» ، مثل : تَقُل؛ والعرب تقول : قُفْتُ أَثَره ، وقَفَوت ، ومثله : عاث وعثا ، وقاعَ الجملُ الناقة ، وقعاها : إذا ركبها . قال الزجاج : من قرأ باسكان الفاء وضم القاف مِنْ : قاف يقوف ، فكأنه مقلوب مِنْ قفا يقفو ، والمعنى واحد ، تقول : قفوتُ الشيءَ أقفُوه قفواً : إذا تبعت أثره . وقال ابن قتيبة : «لا تقف» ، أي : لا تُتْبِعه الظنُّون والحَدْسَ ، وهو من القفاء مأخوذ ، كأنك تقفوا الأمور ، أي : تكون في أقفائها وأواخرها تتعقَّبها ، والقائف : الذي يعرف الآثار ويتبعها ، فكأنه مقلوب عن القافي .
وللمفسرين في المراد به أربعة أقوال .
أحدها : لا ترمِ أحداً بما ليس لك به علم ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني : لا تقل : رأيتُ ، ولم تَرَ ، ولا سمعتُ ، ولم تَسمع ، رواه عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس ، وبه قال قتادة .
والثالث : لا تُشرك بالله شيئاً ، رواه عطاء أيضاً عن ابن عباس .
والرابع : لا تشهد بالزور ، قاله محمد بن الحنفية .
قوله تعالى : { إِن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك } قال الزجاج : إِنما قال : { كل } ، ثم قال : { كان } ، لأن كلاًّ في لفظ الواحد ، وإِنما قال : { أولئك } لغير الناس ، لأن كلَّ جمع أشرتَ إِليه من الناس وغيرهم من الموات ، تشير إِليه بلفظ «أولئك» ، قال جرير :
ذُمَّ المَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ... والعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الأيَّامِ
قال المفسرون : الإِشارة إِلى الجوارح المذكورة ، يُسأل العبد يوم القيامة فيما إِذا استعملها ، وفي هذا زجر عن النظر إِلى ما لا يَحِلُّ ، والاستماع إِلى ما يحرم ، والعزم على مالا يجوز .

وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)

قوله تعالى : { ولا تمش في الأرض مرَحاً } وقرأ الضحاك ، وابن يعمر : «مَرِحاً» بكسر الراء ، قال الأخفش : والكسر أجود ، لأن «مَرِحاً» اسم الفاعل؛ قال الزجاج : وكلاهما في الجودة سواء ، غير أن المصدر أوكد في الاستعمال ، تقول : جاء زيد رَكْضاً ، وجاء زيد راكِضاً ، ف «ركضاً» أوكد في الاستعمال ، لأنه يدل على توكيد الفعل ، وتأويل الآية : لا تمش في الأرض مختالاً فخوراً ، والمرح : الأشر والبطر . وقال ابن فارس : المرح : شدة الفرح .
قوله تعالى : { إِنَّك لن تَخْرِقَ الأرض } فيه قولان .
أحدهما : لن تقطعها إِلى آخرها . والثاني : لن تنفذها وتنقُبها . قال ابن عباس : لن تَخرق الأرضَ بِكِبْرِك ، ولن تبلغ الجبال طولاً بعظَمتك . قال ابن قتيبة : والمعنى : لا ينبغي للعاجز أن يَبْذَخَ ويستكبر .
قوله تعالى : { كل ذلك كان سَيِّئه } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «سَيِّئَةً» منوناً غير مضاف ، على معنى : كان خطيئةً ، فعلى هذا يكون قوله : { كلُّ ذلك } إِشارة إِلى المنهيّ عنه من المذكور فقط . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «سَيِّئُهُ» مضافاً مذكَّراً ، فتكون لفظة { كلّ } يُشار بها إِلى سائر ما تقدم ذِكْره . وكان أبو عمرو لا يرى هذه القراءة . قال الزجاج : وهذا غلط من أبي عمرو ، لأن في هذه الأقاصيص سَيِّئاً وحَسَناً ، وذلك أن فيها الأمر بِبِرِّ الوالدين ، وإِيتاء ذي القربى ، والوفاء بالعهد ، ونحو ذلك ، فهذه القراءة أحسن من قراءة مَنْ نصب السَّيِئة ، وكذلك قال أبو عبيدة : تدبرت الآيات من قوله تعالى : { وقضى ربك . . . } فوجدت فيها أموراً حسنة . وقال أبو علي : من قرأ «سَيِّئَةً» رأى أن الكلام انقطع عند قوله : { وأحسن تأويلاً } ، وأن قوله : { ولا تقف } لا حُسْنَ فيه .
قوله تعالى : { ذلك مما أوحى إِليك ربك } يشير إلى ما تقدم من الفرائض والسنن ، { من الحكمة } ، أي : من الأمور المُحْكَمة والأدب الجامع لِكُل خير . وقد سبق معنى «المدحور» [ الأعراف : 18 ] .

أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)

قوله تعالى : { أفأصفاكم ربكم بالبنين } قال مقاتل : نزلت في مشركي العرب الذين قالوا : الملائكة بنات الرحمن . وقال أبو عبيدة : ومعنى { أفأصفاكم } : اختصكم . وقال المفضل : أخلصكم . وقال الزجاج : اختار لكم صفوة الشيء . وهذا توبيخ للكفار ، والمعنى : اختار لكم البنين دونه ، وجعل البنات مشتركة بينكم وبينه ، فاختصكم بالأعلى وجعل لنفسه الأدون؟!

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)

قوله تعالى : { ولقد صَرَّفْنا } معنى التصريف هاهنا : التبيين ، وذلك أنه إِنما يصرِّف القول ليبيِّن . وقال ابن قتيبة : «صرّفنا» بمعنى : وجَّهنا ، وهو من قولك : صرفت إِليك كذا ، أي : عدلت به إِليك ، وشُدِّدَ للتكثير ، كما تقول : فَتَّحْتُ الأبواب .
قوله تعالى : { لِيَذَّكَّرُوا } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «لِيَذَّكَّروا» مشدّد . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : «ليَذْكُرُوا» مخفف ، وكذلك قرؤوا في [ الفرقان : 50 ] . والتذكُّر : الاتعاظ والتدبر . { وما يزيدهم } تصريفنا وتذكيرنا { إِلاَّ نُفوراً } قال ابن عباس : ينفرون من الحق ويتبعون الباطل .

قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)

قوله تعالى : { قل لو كان معه آلهة كما يقولون } قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «تقولون» بالتاء . وقرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم : «يقولون» بالياء .
قوله تعالى : { إِذاً لابتَغَوْا إِلى ذي العرش سبيلاً } فيه قولان .
أحدهما : لابتَغَوا سبيلاً إِلى ممانعته وإِزالة ملكه ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير .
والثاني : لابتَغَوا سبيلاً إِلى رضاه ، لأنهم دونه ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { عَمَّا يقولون } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر ، وحفص عن عاصم : «يقولون» بالياء . وقرأ حمزة ، والكسائي : بالتاء .
قوله تعالى : { تسبِّح له السموات السبع } قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : «تسبِّح» بالتاء . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وأبو بكر [ عن ] عاصم : «يسبِّح» بالياء . قال الفراء : وإِنما حَسُنَت «الياء» هاهنا ، لأنه عدد قليل ، وإِذا قلَّ العدد من المؤنَّث والمذكَّر ، كانت الياء فيه أحسن من التاء ، قال عز وجل في المؤنث القليل : { وقال نسوة } [ يوسف : 30 ] ، وقال في المذكَّر : { فإذا انسلخ الأشهرُ الحُرُم } [ التوبه : 5 ] . قال العلماء : والمراد بهذا التسبيح : الدلالة على أنه الخالق القادر .
قوله تعالى : { وإِن من شيء إِلا يسبِّح بحمده } «إِن» بمعنى «ما» . وهل هذا على إِطلاقه ، أم لا؟ فيه قولان .
أحدهما : أنه على إِطلاقه ، فكلُّ شيء يسبِّحُهُ حتى الثوب والطعام وصرير الباب ، قاله إِبراهيم النخعي .
والثاني : أنه عامّ يراد به الخاصّ . ثم فيه ثلاثة أقوال . أحدها : أنه كل شيء فيه الروح ، قاله الحسن ، وقتادة والضحاك . والثاني : أنه كُلُّ ذي روح ، وكل نامٍ من شجرٍ أو نبات؛ قال عكرمة : الشجرة تسبِّح ، والأسطوانة لا تسبِّح . وجلس الحسن على طعام فقدَّموا اُلخِوان ، فقيل له : أيسبِّح هذا اُلِخوان؟ ، فقال : قد كان يسبِّح مرة . والثالث : أنه كل شيء لم يغيَّر عن حاله ، فإذا تغيَّر انقطع تسبيحه؛ روى خالد بن معدان عن المقدام بن معدي كرب قال : إِنَّ التراب ليسبِّح ما لم يبتلّ ، فاذا ابتلّ ترك التسبيح ، وإِن الورقة تسبِّح ما دامت على الشجرة ، فاذا سقطت تركت التسبيح ، وإِن الثوب ليسبِّحُ ما دام جديداً ، فاذا توسخ ترك التسبيح .
فأما تسبيح الحيوان الناطق ، فمعلوم ، وتسبيح الحيوان غير الناطق ، فجائز أن يكون بصوته ، وجائز أن يكون بدلالته على صانعه .
وفي تسبيح الجمادات ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه تسبيح لا يعلمه إِلاَّ الله . والثاني : أنه خضوعه وخشوعه لله . والثالث : أنه دلالته على صانعه ، فيوجب ذلك تسبيح مُبْصِره . فإن قلنا : إِنه تسبيح حقيقة ، كان قوله : { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } لجميع الخلق؛ وإِن قلنا : إِنه دلالته على صانعه ، كان الخطاب للكفار ، لأنهم لا يستدلُّون ، ولا يعتبرون . وقد شرحنا معنى «الحليم» و«الغفور» في [ البقرة : 225 ] .

وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)

قوله تعالى : { حجاباً مستوراً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن الحجاب : هو الأكنَّة على قلوبهم ، قاله قتادة .
والثاني : أنه حجابٌ يستره فلا ترونه؛ وقيل : إِنها نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا قرأ القرآن؛ قال الكلبي : وهم أبو سفيان ، والنضر بن الحارث ، وأبو جهل ، وأم جميل امرأة أبي لهب ، فحجب الله رسولَه عن أبصارهم عند قراءة القرآن ، فكانوا يأتونه ويمرُّون به ، ولا يرونه .
والثالث : أنه مَنْعُ الله عز وجل إِياهم عن أذاه ، حكاه الزجاج .
وفي معنى { مستوراً } قولان .
أحدهما : أنه بمعنى ساتر؛ قال الزجاج : وهذا قول أهل اللغة . قال الأخفش : وقد يكون الفاعل في لفظ المفعول ، كما تقول : إِنك مشؤوم علينا ، وميمون علينا ، وإِنما هو شائم ويامن ، لأنه مِن «شَأمَهَمُ» و«يَمَنَهُم» .
والثاني : أن المعنى : حجاباً مستوراً عنكم لا ترونه ، ذكره الماوردي . وقال ابن الأنباري : إِذا قيل : الحجاب : هو الطبع على قلوبهم ، فهو مستور عن الأبصار ، فيكون «مستوراً» باقياً على لفظه .
قوله تعالى : { وجعلنا على قلوبهم أكنَّة أن يفقهوه } قد شرحناه في [ الأنعام : 25 ] .
قوله تعالى : { وإِذا ذَكَرْتَ ربَّك في القرآن وحده } يعني : قلتَ : لا إِله إِلا الله ، وأنت تتلو القرآن { ولَّوا على أدبارهم } قال أبو عبيدة : أي : على أعقابهم ، { نُفوراً } وهو : جمع نافر ، بمنزلة قاعد وقُعود ، وجالس وجُلوس . وقال الزجاج : تحتمل مذهبين . أحدهما : المصدر ، فيكون المعنى : ولَّوا نافرين نفوراً . والثاني : أن يكون «نفوراً» جمع نافر .
وفي المشار إِليهم قولان . أحدهما : أنهم الشياطين ، قاله ابن عباس . والثاني : أنهم المشركون ، وهذا مذهب ابن زيد .
قوله تعالى : { نحن أعلم بما يستمعون به } قال المفسرون : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً عليه السلام أن يتخذ طعاماً ويدعو إِليه أشراف قريش من المشركين ، ففعل ذلك ، ودخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم القرآن ، ودعاهم إِلى التوحيد ، وكانوا يستمعون ويقولون فيما بينهم : هو ساحر ، هو مسحور ، فنزلت هذه الآية : { نحن أعلم بما يستمعون به } ، أي : يستمعونه ، والباء زائدة . { إِذ يستمعون إِليك وإِذ هم نجوى } قال أبو عبيدة : هي مصدر مِنْ «ناجَيْتُ» واسم منها ، فوصف القوم بها ، والعرب تفعل ذلك ، كقولهم : إِنما هو عذاب ، وأنتم غَمٌّ ، فجاءت في موضع «متناجين» . وقال الزجاج : والمعنى : وإِذ هم ذوو نجوى ، وكانوا يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقولون بينهم : هو ساحر ، وهو مسحور ، وما أشبه ذلك من القول .
قوله تعالى : { إِذ يقول الظالمون } يعني : أولئك المشركون { إِن تتَّبعون } أي : ما تتَّبعون { إِلا رجلاً مسحوراً } وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الذي سُحر فذُهب بعقله ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : مخدوعاً مغروراً ، قاله مجاهد .

والثالث : له سَحْر ، أي : رئة؛ وكلُّ دابَّة أو طائر أو بَشَر يأكل فهو : مسحور ومسحَّر ، لأن له سَحْراً ، قال لبيد :
فانْ تَسْأَلِينا فِيمَ نَحْنُ فانَّنا ... عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الأنامِ المَسَحَّر
وقال امرؤ القيس :
أُرانا مُرْصَدِيْن لأَمْرِ غَيْبٍ ... ونُسْحَرُ بالطَّعامِ وبالشَّرَابِ
أي : نُغذَّى ، لأن أهل السماء لا يأكلون ، فأراد أن يكون مَلَكاً . فعلى هذا يكون المعنى : إِن تتبعون إِلا رجلاً له سَحْر ، خلقه الله كخلقكم ، وليس بملَكٍ ، وهذا قول أبي عبيدة .
قال ابن قتيبة : والقول قول مجاهد ، [ أي : مخدوعاً ] ، لأن السِّحر حيلة وخديعة ، ومعنى قول لبيد «المسحَّر» : المعلَّل ، وقول امرئ القيس : «ونُسْحَر» أي : نُعلَّل ، وكأنا نُخدَع ، والناس يقولون : سحرتَني بكلامكَ ، أي : خدعتَني ، ويدل عليه قوله : { انظر كيف ضربوا لك الأمثال } ، لأنهم لو أرادوا رجلاً ذا رِئَةٍ ، لم يكن في ذلك مَثَلٌ ضربوه ، فلما أرادوا مخدوعاً كأنه بالخديعة سُحر كان مَثَلاً ضربوه ، وكأنهم ذهبوا إِلى أن قوماً يعلِّمونه ويخدعونه . قال المفسرون : ومعنى { ضربوا لك الأمثال } بيَّنوا لك الأشباه ، حتى شبَّهوك بالساحر والشاعر والمجنون { فَضَلُّوا } عن الحق ، { فلا يستطيعون سبيلاً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : لا يجدون سبيلاً إِلى تصحيح ما يعيبونك به .
والثاني : لا يستطيعون سبيلاً إِلى الهُدى ، لأنا طبعنا على قلوبهم .
والثالث : لا يأتون سبيل الحق ، لثقله عليهم؛ ومثله قولهم : لا أستطيع أن أنظر إِلى فلان ، يعنون : أنا مبغِض له ، فنظري إِليه يثقل ، ذكرهن ابن الأنباري .
قوله تعالى : { أئذا كُنَّا عظاماً } قرأ ابن كثير : { أَيْذا } بهمزة ثم يأتي بياء ساكنة من غير مَدّ ، { أَينا } مثله ، وكذلك في كل القرآن . وكذلك روى قالون عن نافع ، إِلا أن نافعاً كان لا يستفهم في { أَيْنا } ، كان يجعل الثاني خبراً في كل القرآن ، وكذلك مذهب الكسائي ، غير أنه يهمز الأُولى همزتين . وقرأ عاصم ، وحمزة بهمزتين في الحرفين جميعاً وقرأ ابن عامر : «إِذا كُنّا» بغير استفهام بهمزة واحدة «آئنا» بهمزتين يمد بينهما مدة .
قوله تعالى : { ورُفاتاً } فيه قولان .
أحدهما : أنه التراب ، ولا واحد له ، فهو بمنزلة الدُّقاق والحُطام ، قاله الفراء ، وهو مذهب مجاهد .
والثاني : أنه العظام مالم تتحطم ، والرُّفات : الحُطام ، قاله أبو عبيدة . وقال الزجاج : الرُّفات : التراب . والرُّفات : كل شيء حُطِمَ وكُسِرَ ، و { خلقاً جديداً } في معنى مجدداً .
قوله تعالى : { أو خلقاً مما يَكْبُر في صدوركم } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الموت ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، والأكثرون .
والثاني : أنه السماء والأرض والجبال ، قاله مجاهد .
والثالث : [ أنه ] ما يكبر في صدوركم ، من كل ما استعظموه من خلق الله تعالى ، قاله قتادة .
فان قيل : كيف قيل لهم : { كونوا حجارة أو حديداً } وهم لا يقدرون على ذلك؟ فعنه جوابان .
أحدهما : إِن قدرتم على تغيُّر حالاتكم ، فكونوا حجارة أو أشدَّ منها ، فانا نميتكم ، وننفِّذ أحكامنا فيكم ، ومثل هذا قولك للرجل : اصعد إِلى السماء فاني لاحقك .

والثاني : تصوَّروا أنفسكم حجارة أو أصلب منها ، فإنا سنُبيدكم ، قال الأحوص :
إِذَا كُنْتَ عَزْهَاةً عَن اللَّهْوِ وَالصِّبى ... فَكُنْ حَجَرَاً مِنْ يَابِسِ الصَّخْرِ جَلْمَدَاَ
معناه : فتصوَّر نفسك حَجَراً ، وهؤلاء قوم اعترفوا أن الله خالقهم ، وجحدوا البعث ، فأُعلموا أن الذي ابتدأ خلقهم هو الذي يحييهم .
قوله تعالى : { فسيُنْغِضون إِليك رؤوسهم } قال قتادة : يحرِّكونها تكذيباً واستهزاءً . قال الفراء : يقال : أنغض رأسه : إِذا حركه إِلى فوق وإِلى أسفل . وقال ابن قتيبة : المعنى : يحرِّكونها ، كما يحرِّك الآيس من الشيء والمستبعدُ [ له ] رأسَه ، يقال : نَغَصَتْ سِنُّه ، إِذا تحركت .
قوله تعالى : { ويقولون متى هو؟ } يعنون البعث { قل عسى أن يكون قريباً } أي : هو قريب . ثم بيَّن متى يكون فقال : { يوم يدعوكم } يعني : من القبور بالنداء الذي يُسمعكم ، وهو النفخة الأخيرة { فتستجيبون } أي : تجيبون . قال مقاتل : يقوم إِسرافيل على صخرة بيت المقدس يدعو أهل القبور في قرن ، فيقول : أيتها العظام البالية ، وأيتها اللحوم المتمزقة ، وأيتها الشعور المتفرقة ، وأيتها العروق المتقطعة ، اخرجوا إِلى فصل القضاء لتُجزَوا بأعمالكم ، فيسمعون الصوت ، فيسعَون إِليه .
وفي معنى { بحمده } أربعة أقوال .
أحدها : بأمره ، قاله ابن عباس ، وابن جريج ، وابن زيد .
والثاني : يخرجون من القبور وهم يقولون : سبحانك وبحمدك ، قاله سعيد بن جبير . والثالث : أن معنى { بحمده } : بمعرفته ، وطاعته ، قاله قتادة . قال الزجاج : تستجيبون مُقرِّين أنه خالِقكم .
والرابع : تجيبون بحمد الله لا بحمد أنفسكم ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { وتظنون إِن لبثتم إِلا قليلاً } في هذا الظن قولان .
أحدهما : أنه بمعنى اليقين .
والثاني : أنه على أصله . وأين يظنون أنهم لبثوا قليلاً؟ فيه ثلاثة أقوال . أحدها : بين النفختين ، ومقداره أربعون سنة ، ينقطع في ذلك العذاب عنهم ، فيرون لبثهم في زمان الراحة قليلاً ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : في الدنيا ، لعلمهم بطول اللبث في الآخرة ، قاله الحسن . والثالث : في القبور ، قاله مقاتل . فعلى هذا إِنما قصر اللبث في القبور عندهم ، لأنهم خرجوا إِلى ما هو أعظم عذاباً من عذاب القبور . وقد ذهب بعض المفسرين إِلى أن هذه الآية خطاب للمؤمنين ، لأنهم يجيبون المنادي وهم يحمدون الله على إِحسانه إِليهم ، ويستقلُّون مدة اللبث في القبور ، لأنهم كانوا غير معذَّبين .

وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)

قوله تعالى : { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن المشركين كانوا يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، بالقول والفعل ، فشكَوا ذلك إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية . قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أن رجلاً من الكفار شتم عمر بن الخطاب ، فهمَّ به عمر رضي الله عنه ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل؛ والمعنى : وقل لعبادي المؤمنين يقولوا الكلمة التي هي أحسن . واختلفوا فيمن تقال له هذه الكلمة على قولين .
أحدهما : أنهم المشركون ، قال الحسن : تقول له : يَهديك الله ، وما ذكرنا من سبب نزول الآية يؤيد هذا القول . وذهب بعضهم إِلى أنهم أُمروا بهذه الآية بتحسين خطاب المشركين قبل الأمر بقتالهم ، ثم نُسخت هذه الآية بآية السيف .
والثاني : أنهم المسلمون ، قاله ابن جرير . والمعنى : وقل لعبادي يقول بعضهم لبعض التي هي أحسن من المحاورة والمخاطبة . وقد روى مبارك عن الحسن قال : «التي هي أحسن» أن يقول له مثل قوله ، ولكن يقول له : يرحمك الله ، ويغفر الله لك . قال الأخفش : وقوله : { يقولوا } مثل قوله : «يقيموا الصلاة» ، وقد شرحنا ذلك في سورة [ ابراهيم : 31 ] .
قوله تعالى : { إِن الشيطان يَنزَغ بينهم } أي : يُفسد ما بينهم ، والعدوّ المُبَين : الظاهر العداوة .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20