كتاب : زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي

فان قيل : لم قال : «يا ابن أمَّ» ولم يقل : «يا ابن أب»؟ فالجواب : أن ابن عباس قال : كان أخاه لأبيه وأُمه ، وإنما قال له ذلك ليرفِّقه عليه . قال أبو سليمان الدمشقي : والإِنسان عند ذكر الوالدة أرقُّ منه عند ذكر الوالد . وقيل : كان لأمه دون أبيه ، حكاه الثعلبي .
قوله تعالى : { إن القوم } يعني : عبدة العجل . { استضعفوني } أي : استذلُّوني . { فلا تُشمت بيَ الأعداء } قرأ عبد الله بن عباس ، ومالك بن دينار ، وابن عاصم : «فلا تَشْمَت» بتاء مفتوحة مع فتح الميم ، «الاعداءُ» بالرفع . وقرأ مجاهد ، وأبو العالية ، والضحاك ، وأبو رجاء : «فلا تَشْمِتْ» بفتح التاء وكسر الميم ، «الأعداءَ» بالنصب . وقرأ أبو الجوزاء ، وابن أبي عبلة مثل ذلك ، إلا أنهما رفعا «الأعداء» ويعني بالأعداء : عبدة العجل . { ولا تجعلني } في موجدتك وعقوبتك لي { مع القوم الظالمين } وهم عبدة العجل . فلما تبين له عُذْرُ أخيه { قال رب اغفر لي } .
قوله تعالى : { وذلَّةُ في الحياة الدنيا } فيها قولان .
أحدهما : أنها الجزية ، قاله ابن عباس . والثاني : ما أمروا به من قتل أنفسهم ، قاله الزجاج . فعلى الأول يكون ما أُضيف إليهم من الجزية في حق أولادهم ، لأن أولئك قُتلوا ولم يؤدّوا جزية . قال عطية : وهذه الآية فيما أصاب بني قريظة والنضير من القتل والجلاء لتولِّيهم متخذي العجل ورضاهم به .
قوله تعالى : { وكذلك نجزي المفترين } قال ابن عباس : كذلك أُعاقب من اتخذ إلهاً دوني . وقال مالك بن انس : ما من مبتدع الا وهو يجد فوق رأسه ذلَّة ، وقرأ هذه الاية . وقال سفيان بن عيينة : ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلَّة تغشاه ، قال : وهي في كتاب الله تعالى ، قالوا : وأين هي؟ قال : أوما سمعتم قوله : { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلَّة في الحياة الدنيا } . قالوا : يا أبا محمد ، هذه لأصحاب العجل خاصة ، قال : كلا ، أُتلوا ما بعدها : { وكذلك نجزي المفترين } فهي لكل مفترٍ ومبتدع إلى يوم القيامة .

وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)

قوله تعالى : { والذين عملوا السيئات } فيها قولان .
أحدهما : أنها الشرك . والثاني : الشرك ، وغيره من الذنوب . { ثم تابوا من بعدها } يعني : السيئات . وفي قوله : { وآمنوا } قولان .
أحدهما : آمنوا بالله ، وهو يُخرَّج على قول من قال : هي الشرك .
والثاني : آمنوا بأن الله تعالى يقبل التوبة . { إن ربك من بعدها } يعني : السيئات .

وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

قوله تعالى : { ولما سكت عن موسى الغضب } وقرأ ابن عباس ، وأبو عمران : «سَكّت» بفتح السين وتشديد الكاف وبتاء بعدها ، «الغضبَ» بالنصب . وقرأ سعيد بن جبير ، وابن يعمر ، والجحدري : «سُكِّت» بضم السين وتشديد الكاف مع كسرها . وقرأ ابن مسعود ، وعكرمة ، وطلحة : «سَكَنَ» بنون . قال الزجاج : «سكت» بمعنى : سكن ، يقال : سكت يسكت سَكْتاً : إذا سكن ، وسكت يسكت سكْتاً وسكوتاً : إذا قطع الكلام . قال : وقال بعضهم : المعنى : ولما سكت موسى عن الغضب ، على القلب ، كما قالوا : أدخلت القلنسوة في رأسي . والمعنى : أدخلت رأسي في القلنسوة ، والأولى هو قول أهل العربية .
قوله تعالى : { أخذ الألواح } يعني : التي كان ألقاها . وفي قوله : { وفي نسختها } قولان .
أحدهما : وفيما بقي منها ، قاله ابن عباس . والثاني : وفيما نُسخ فيها ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى : { للذين هم لربهم يرهبون } فيهم قولان .
أحدهما : أنه عام في الذين يخافون الله ، وهو معنى قول ابن عباس .
والثاني : أنهم أُمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ، وهو معنى قول قتادة .

وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)

قوله تعالى : { واختار موسى قومه } المعنى : اختار من قومه فحُذف «من» ، تقول العرب : اخترتك القوم ، أي : اخترتك من القوم ، وأنشدوا :
مِنَّا الذي اخِتيرَ الرِّجَالَ سََمَاحةً ... وجُوداً إذا هبَّ الرِّياح الزَّعازعُ
هذا قول ابن قتيبة ، والفراء ، والزجاج . وفي هذا الميقات أربعة أقوال .
أحدها : أنه الميقات الذي وَقَّتَهُ الله لموسى ليأخذ التوراة ، أُمر أن يأتيَ معه بسبعين ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال نوف البِكَاليُّ .
والثاني : أنه ميقات وَقَّتَهُ الله تعالى لموسى ، وأمره أن يختار من قومه سبعين رجلاً ليدعو ربهم ، فدعَوْا فقالوا : اللهم أعطنا مالم تعط أحداً قبلنا ، ولا تعطيه أحداً بعدنا ، فكره الله ذلك ، وأخذتهم الرجفة؛ رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثالث : أنه ميقات وَقَّتَهُ الله لموسى ، لأن بني إسرائيل قالوا له : إن طائفة تزعم أن الله لا يكلمك ، فخذ معك طائفة منا ليسمعوا كلامه فيؤمنوا فتذهب التهمة ، فأوحى الله اليه ان أختر من خيارهم سبعين ، ثم ارتقِ بهم على الجبل انت وهارون ، واستخلف يوشع بن نون ، ففعل ذلك ، قاله وهب بن منبه .
والرابع : أنه ميقات وَقَّتَهُ الله لموسى ليلقاه في ناس من بني إسرائيل ، فيعتذر إليه من فِعْل عبدة العجل ، قاله السدي . وقال ابن السائب : كان موسى لا يأتي إلا بإذن منه .
فأما الرجفة . فهي : الحركة الشديدة . وفي سبب أخذها إياهم أربعة أقوال .
أحدها : أنه ادعاؤهم على موسى قتل هارون؛ قاله علي بن أبي طالب .
والثاني : اعتداؤهم في الدعاء وقد ذكرناه في رواية ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثالث : أنهم لم ينهَوْا عبدة العجل ولم يرضَوْا؛ نُقل عن ابن عباس . وقال قتادة ، وابن جريج : لم يأمروهم بالمعروف ، ولم ينهَوْهم عن المنكر ، ولم يزايلوهم .
والرابع : أنهم طلبوا استماع الكلام من الله تعالى ، فلما سمعوه قالوا : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] قاله السدي ، وابن إسحاق .
قوله تعالى : { قال رب لو شئت أهلكتَهم من قبلُ وإيَّاي } قال السدي : قام موسى يبكي ويقول : رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتُهم وقد أهلكتَ خيارهم { لو شئتَ أهلكتهم من قبلُ وإياي } قال الزجاج : لو شئت أمتَّهم قبل أن تبتليهم بما أوجب عليهم الرجفة . وقيل : لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا وإياي ، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني .
قوله تعالى : { أتُهْلِكُنا بما فعل السفهاء منا } قال المبرِّد : هذا استفهام استعطاف ، أي : لا تُهلكْنا . وقال ابن الانباري : هذا استفهام على تأويل الجحد ، أراد : لست تفعلُ ذلك . { والسفهاء } هاهنا : عبدة العجل . وقال الفراء : ظن موسى أنهم أُهلكوا باتخاذ أصحابهم العجل . وإنما أُهلكوا بقولهم : { أرنا الله جهرة } .
قوله تعالى : { إن هي إلا فتنتك } فيها قولان .
أحدهما : أنها الابتلاء ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، وأبو العالية .
والثاني : العذاب ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة .
قوله تعالى : { أنت ولِّيُنَا } أي : ناصرنا وحافظنا .

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)

قوله تعالى : { واكتب لنا } أي : حقق لنا وأوجب { في هذه الدنيا حسنة } وهي : الأعمال الصالحة { وفي الآخرة } المغفرة والجنة { إنا هُدْنا إليك } أي : تبنا ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي . وقال ابن قتيبة : ومنه { الذين هادوا } [ البقرة : 62 ] كأنهم رجعوا من شيء إلى شيء . وقرأ أبو وجزة السعدي : «إنا هِدنا» بكسر الهاء . قال ابن الأنباري : المعنى : لا نتغيَّر؛ يقال هاد يهود ويهيد .
قوله تعالى : { قال عذابي أُصيبُ به من أشاء } وقرأ الحسن البصري ، والأعمش وأبو العالية : «من أساء» بسين غير معجمة مع النصب .
قوله تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء } في هذا الكلام أربعة اقوال .
أحدها : أن مخرجه عام ، ومعناه خاص ، وتأويله : ورحمتي وسعت المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، لقوله تعالى : { فسأكتبها للذين يتقون } قاله ابن عباس .
والثاني : أن هذه الرحمة على العموم في الدنيا ، والخصوص في الآخرة ، وتأويلها : ورحمتي وسعت كل شيء في الدنيا ، البرَّ والفاجر ، وفي الآخرة هي للمتقين خاصة ، قاله الحسن ، وقتادة . فعلى هذا ، معنى الرحمة في الدنيا للكافر : أنه يُرزق ويُدفع عنه ، كقوله في حق قارون : { وأحسنْ كما أحسن إليك } [ القصص : 77 ] .
والثالث : أن الرحمة : التوبة ، فهي على العموم ، قاله ابن زيد .
والرابع : أن الرحمة تَسَع كل الخلق ، إلا أن أهل الكفر خارجون منها ، فلو قدِّر دخولهم فيها لوسعتهم ، قاله ابن الانباري . قال الزجاج : وسعت كل شيء في الدنيا . { فسأكتبها للذين يتقون } في الآخرة . قال المفسرون : معنى { فسأكتبها } ؛ فسأوجبها . وفي الذين يتقون قولان .
أحدهما : أنهم المتقون للشرك ، قاله ابن عباس . والثاني : للمعاصي ، قاله قتادة . وفي قوله : { ويؤتون الزكاة } قولان . أحدهما : أنها زكاة الأموال ، قاله الجمهور .
والثاني : أن المراد بها : طاعة الله ورسوله ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ذهبا إلى أنها العمل بما يزكِّي النفس ويطهِّرها . وقال ابن عباس ، وقتادة : لما نزلت { ورحمتي وسعت كل شيء } قال إبليس : أنا من ذلك الشيء ، فنزعها الله من إبليس ، فقال : { فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآيتنا يؤمنون } فقالت اليهود : نحن نتَّقي ، ونؤتي الزكاة ، ونؤمن بآيات ربنا ، فنزعها الله منهم ، وجعلها لهذه الأمة ، فقال : { الذين يتبعون الرسول النبيَّ الأميَّ } وقال نَوفٌ : قال الله تعالى لموسى : أجعل لكم الأرض طهوراً ومسجداً ، وأجعل السكينة معكم في بيوتكم ، وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهور قلوبكم ، يقرؤها الرجل منكم ، والمرأة ، والحر ، والعبد ، والصغير ، والكبير ، فأخبر موسى قومه بذلك ، فقالوا : لا نريد أن نصليَ إلا في الكنائس والبِيَع ، ولا أن تكون السكينة إلا في التابوت ، ولا أن نقرأ التوراة إلا نظراً ، فقال الله تعالى : { فسأكتبها للذين يتقون } إلى قوله : { المفلحون } . وفي هؤلاء المذكورين في قوله : { للذين يتقون ويؤتون الزكاة } إلى قوله : { المفلحون } قولان .

أحدهما : أنهم كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وتبعه ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله السدي ، وقتادة . وفي تسميته بالأمي قولان . أحدهما : لأنه لا يكتب . والثاني : لأنه من أُمَّ القرى .
قوله تعالى : { الذي يجدونه مكتوباً عندهم } أي : يجدون نعته ونبوَّته .
قوله تعالى : { يأمرهم بالمعروف } قال الزجاج : يجوز أن يكون مستأنَفاً ، ويجوز أن يكون «يجدونه مكتوباً عندهم» أنه يأمرهم بالمعروف . قال ابن عباس : المعروف : مكارم الأخلاق ، وصلة الارحام . والمنكر : عبادة الأوثان ، وقطع الأرحام . وقال مقاتل : المعروف : الإيمان ، والمنكر : الشر . وقال غيره : المعروف : الحق ، لأن العقول تعرف صحته ، والمنكر : الباطل ، لأن العقول تنكر صحته .
وفي الطيبات أربعة أقوال .
أحدها : أنها الحلال ، والمعنى : يُحل لهم الحلال .
والثاني : أنها ما كانت العرب تستطيبه .
والثالث : أنها الشحوم المحرَّمة على بني إسرائيل .
والرابع : ما كانت العرب تحرِّمه من البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام .
وفي الخبائث ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها الحرام ، والمعنى : ويحرِّم عليهم الحرام .
والثاني : أنها ما كانت العرب تستخبثه ولا تأكله ، كالحيات ، والحشرات .
والثالث : ما كانوا يستحلُّونه من الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير .
قوله تعالى : { ويضع عنهم إصرهم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : «إِصرهم» . وقرأ ابن عامر : «آصارهم» ممدودة الألف على الجمع . وفي هذا الإِصر قولان .
أحدهما : أنه العهد الذي أخذ الله على بني إسرائيل أن يعملوا بما في التوراة ، قاله ابن عباس .
والثاني : التشديد الذي كان عليهم من تحريم السبت ، وأكل الشحوم والعروق ، وغير ذلك من الأمور الشاقة ، قاله قتادة . وقال مسروق : لقد كان الرجل من بني إسرائيل يذنب الذنب ، فيصبح وقد كُتب على باب بيته : إن كفارته أن تنْزِع عينيك فيْنزِعهُما .
قوله تعالى : { والأغلال التي كانت عليهم } قال الزجاج : ذِكر الأغلال : تمثيل ، ألا ترى أنك تقول : جعلت هذا طوقاً في عنقك ، وليس هناك طوق ، إنما جعلت لزومه كالطوق . والأغلال : أنه كان عليهم أن لا يُقبَل منهم في القتل دية ، وأن لا يعملوا في السبت ، وأن يَقْرِضُوا ما أصاب جلودهم من البول .
قوله تعالى : { فالذين آمنوا به } يعني : بمحمد صلى الله عليه وسلم { وعزَّروهُ } وروى أبان «وعَزَروه» بتخفيف الزاي . وفي المعنى قولان .
أحدهما : نصروه وأعانوه ، قاله مقاتل .
والثاني : عظَّموه ، قاله ابن قتيبة . والنور الذي أنزل معه : القرآن ، سماه نورا ، لأن بيانه في القلوب كبيان النور في العيون . وفي قوله «معه» قولان .
أحدهما : أنها بمعنى «عليه» .
والثاني : بمعنى أُنزل في زمانه ، قال قتادة . أما نصره ، فقد سُبقتم إليه ، ولكن خيركم من آمن به واتبع النور الذي أُنزل معه .
قوله تعالى : { الذي يؤمن بالله وكلماته } في الكلمات قولان .
أحدهما : أنها القرآن ، قاله ابن عباس . وقال قتادة : كلماته : آياته .
والثاني : أنها عيسى بن مريم ، قاله مجاهد ، والسدي .

وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)

قوله تعالى : { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق } فيه قولان .
أحدهما : يدعون إلى الحق . والثاني : يعملون به .
قوله تعالى : { وبه يعدلون } قال الزجاج : وبالحق يحكمون . وفي المشار إليهم بهذا ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم قوم وراء الصين لم تبلغهم دعوة الإسلام ، قاله ابن عباس ، والسدي . والثاني : أنهم مَن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم مثل ابن سلام وأصحابه ، قاله ابن السائب . والثالث : أنهم الذين تمسكوا بالحق في زمن أنبيائهم ، ذكره الماوردي .

وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)

قوله تعالى : { وقطّعناهم } يعني : قوم موسى ، يقول : فرَّقناهم { اثنتي عشرة أسباطاً } يعني : أولاد يعقوب ، وكانوا اثنى عشر ولداً ، فولد كل واحد منهم سبطاً ، قال الفراء : وإنما قال : { اثنتي عشرة } والسبط ذكَر ، لأن بعده «أُمما» فذهب بالتأنيث إلى الأمم ، ولو كان «اثني عشر» لتذكير السبط ، كان جائزاً . وقال الزجاج : المعنى : وقطَّعناهم اثنتي عشرة فرقة ، «أسباطاً» نعت «فرقة» كأنه يقول : جعلناهم أسباطاً ، وفرَّقناهم أسباطاً ، فيكون «أسباطاً» بدلاً من «اثنتي عشرة» و«أُمماً» من نعت أسباط . والأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل ليُفصل بين ولد إسماعيل وبين ولد إسحاق . وقال أبو عبيدة : الأسباط : قبائل بني إسرائيل ، واحدهم : سبط ، ويقال : من أي سبط أنت أي؟ من أي قبيلة وجنس؟
قوله تعالى : { فانبجست منه } قال ابن قتيبة : انفجرت؛ يقال : تبجَّس الماء ، كما يقال : تفجَّر؛ والقصة مذكورة في سورة [ البقرة : 58 - 60 ] .
قوله تعالى : { نغفرْ لكم خطاياكم } قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : «نغفر لكم خطيئاتكم» بالتاء مهموزة على الجمع . وقرأ أبو عمرو : «نغفر لكم خطاياكم» مثل : قضاياكم ، ولا تاء فيها . وقرأ نافع : «تُغفَر» بالتاء مضمومة «خطيئاتُكم» بالهمز وضم التاء ، على الجمع ، وافقه ابن عامر في «تُغفَر» بالتاء المضمومة ، لكنه قرأ : { خطيئتُكم } على التوحيد .

وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)

قوله تعالى : { واسألهم } يعني : أسباط اليهود ، وهذا سؤال تقرير وتوبيخ يقرِّرهم على قديم كفرهم ، ومخالفة أسلافهم الأنبياء ، ويخبرهم بما لا يُعلم إلا بوحي . وفي القرية خمسة أقوال .
أحدها : أنها أيلة ، رواه مُرّة عن ابن مسعود ، وأبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والسدي .
والثاني : أنها مَدْيَن ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثالث : أنها ساحل مدين ، روي عن قتادة .
والرابع : أنها طبرية ، قاله الزهري .
والخامس : أنها قرية يقال لها : مقنا ، بين مدين وعينونا ، قاله ابن زيد . ومعنى : { حاضرة البحر } مجاورة البحر وبقربه وعلى شاطئه . { إذ يَعْدُون } قال الزجاج : أي : يظلمون ، يقال : عدا فلان يعدو عُدْواناً وعَداءً وعَدْواً وعُُدّواً : إذا ظلم وموضع { إذ } نصب ، والمعنى : سلهم عن وقت عَدْوِهم في السبت . { إذ تأتيهم حيتانهم } في موضع نصب أيضاً ب { يَعْدُونَ } والمعنى : سلهم إذ عَدَوْا في وقت الإتيان . { شُرَّعاً } أي : ظاهرة . { كذلك نبلوهم } أي : مثل هذا الاختبار الشديد نختبرهم بفسقهم . ويحتمل على بعد أن يكون المعنى : { ويوم لا يسبتون لا تأتيهم } كذلك ، أي : لا تأتيهم شُرَّعاً؛ ويكون { نبلوهم } مستأنفاً . وقرأ الحسن ، والأعمش ، وأبان ، والمفضل عن عاصم : { يُسبِتون } بضم الياء .

وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)

قوله تعالى : { وإذ قالت أُمَّةٌ منهم } قال المفسرون : افترق أهل القرية ثلاث فرق ، فرقة صادت وأكلت ، وفرقة نهت وزجرت ، وفرقة أمسكت عن الصيد ، وقالت للفرقة الناهية : { لم تعظون قوماً الله مهلكهم } لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنهم غير مقلعين ، فقالت الفرقة الناهية : { معذرةٌ إلى ربكم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «معذرةُ» رفعاً ، أي : موعظتُنا إياهم معذرةٌ ، والمعنى : أن الأمر بالمعروف واجب علينا ، فعلينا موعظة هؤلاء عذراً إلى الله . وقرأ حفص عن عاصم : «معذرةً» نصباً ، وذلك على معنى نعتذر معذرةً . { ولعلهم يتقون } أي : وجائز أن ينتفعوا بالموعظة فيتركوا المعصية .

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)

قوله تعالى : { فلما نسوا ما ذكِّروا به } يعني : تركوا ما وُعظوا به { أنجينا الذين ينهَوْن عن السوء } وهم الناهون عن المنكر . والذين ظلموا هم المعتدون في السبت .
قوله تعالى : { بعذاب بئيس } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : «بئيس» على وزن فعيل ، فالهمزة بين الباء والياء . وقرأ نافع : «بِيسٍ» بكسر الباء من غير همز . وقرأ ابن عامر كذلك إلا أنه همز . وروى خارجة عن نافع : «بَيْسٍ» بفتح الباء من غير همز ، على وزن «فَعْلٍ» . وروى أبو بكر عن عاصم : «بَيْأسٍ» على وزن «فَيْعَلٍ» . وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وأيوب : «بَيْآسٍ» على وزن «فَيْعالٍ» . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، ومعاذ القارىء : «بَئِسٍ» بفتح الباء وكسر الهمزة من غير ياء على وزن «نَعِسٍ» . وقرأ الضحاك ، وعكرمة : «بَيِّسٍ» بتشديد الياء مثل : «قيِّم» . وقرأ أبو العالية ، وأبو مجلز : «بَئِسَ» بفتح الباء والسين وبهمزة مكسورة من غير ياء ولا ألف على وزن «فَعِلَ» . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو رجاء : «بائسٍ» بألف ومَدّة بعد الباء وبهمزة مكسورة بوزن «فاعِلٍ» . قال أبو عبيدة : البئيس : الشديد . وأنشد :
حَنَقاً عَليَّ وما تَرَى ... لي فيِهمُ أثراً بَئيسَا
وقال الزجاج : يقال : بَئس يبأس بأساً ، والعاتي : الشديد الدخول في الفساد ، المتمرد الذي لا يقبل موعظة . وقال ابن جرير : «فلما عتوا» أي : تمردوا فيما نُهوا عنه ، وقد ذكرنا في سورة [ البقرة : 65 ] قصة مسخهم . وكان الحسن البصري يقول : والله ما لحوم هذه الحيتان بأعظم عند الله من دماء قوم مسلمين .
قوله تعالى : { وإذ تأذَّن ربك } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أعلم ، قاله الحسن ، وابن قتيبة . وقال : هو من آذنتك بالأمر .
وقال ابن الانباري : «تأذن» بمعنى آذن؛ كما يقال : تعلَّم أن فلاناً قائم ، أي : اعلم . وقال أبو سليمان الدمشقي : أي : أعلم أنبياء بني إسرائيل . والثاني : حتم ، قاله عطاء . والثالث : وعد ، قاله قطرب . والرابع : تألّى ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { ليبعثن عليهم } أي : على اليهود . وقال مجاهد : على اليهود والنصارى بمعاصيهم . { من يسومهم } أي : يولِّيهم { سوء العذاب } . وفي المبعوث عليهم قولان . أحدهما : أنه محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، قاله ابن عباس . والثاني : العرب ، كانوا يجبونهم الخراج ، قاله سعيد بن جبير قال : ولم يجْبِ الخراجَ نَبيٌ قط إلا موسى ، جباه ثلاث عشرة سنة ، ثم أُمسك إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقال السدي : بعث الله عليهم العرب يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم . وفي سوء العذاب أربعة أقوال .
أحدها : أخذ الجزية . رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . والثاني : المسكنة والجزية ، رواه العوفي عن ابن عباس . والثالث : الخراج ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير . والرابع : أنه القتال حتى يُسلموا أو يُعطوا الجزية .

وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)

قوله تعالى : { وقطَّعناهم في الأرض أُمماً } قال أبو عبيدة : فرَّقناهم فِرقاً . قال ابن عباس : هم اليهود ، ليس من بلد إلا وفيه منهم طائفة . وقال مقاتل : هم بنو إسرائيل . وقيل : معناه : شتات أمرهم وافتراق كلمتهم . { منهم الصالحون } وهم المؤمنون بعيسى ومحمد عليهما السلام . { ومنهم دون ذلك } وهم الكفار . وقال ابن جرير : إنما كانوا على هذه الصفة قبل أن يُبعث عيسى ، وقبل ارتدادهم .
قوله تعالى : { وبلوناهم } أي : اختبرناهم { بالحسنات } وهي : الخير ، والخصب ، والعافية ، { والسيئات } وهي : الجدب ، والشر ، والشدائد؛ فالحسنات والسيئات تحث على الطاعة ، أما النعم فطلب الازدياد منها ، وخوف زوالها ، والنقمُ فلكشفها ، والسلامة منها . { لعلهم يرجعون } أي : لكي يتوبوا .

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)

قوله تعالى : { فخلف من بعدهم } أي : من بعد الذين وصفناهم { خَلْفٌ } وقرأ الجوني ، والجحدري : «خَلَفٌ» بفتح اللام . قال أبو عبيدة : الخَلَفُ والخَلَفُ واحد ، وقوم يجعلون المحرَّك اللام ، للصالح ، والمسكَّن لغير الصالح . وقال ابن قتيبة : الخَلْفُ : الرديء من الناس ومن الكلام ، يقال : هذا خَلْفٌ من القول . وقال ابن الأنباري : أكثر ما تستعمل العرب الخَلْفَ ، باسكان اللام ، في الرديء المذموم . وتفتح اللام في الفاضل الممدوح . وقد يوقع الخَلْفُ على الممدوح ، والخلَفُ على المذموم ، غير أن المختار ما ذكرناه . وفي المراد بهذا الخَلْف ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم اليهود ، قاله ابن عباس ، وابن زيد .
والثاني : النصارى .
والثالث : أن الخَلْفَ من أُمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والقولان عن مجاهد .
فان قيل : الخَلْفُ واحد ، فكيف قال : «يأخذون» وكذلك قال في [ مريم : 59 ] «أضاعوا» فقد ذكر ابن الأنباري عنه جوابين .
أحدهما : أن الخَلْف : جمع خالف ، كما أن الركب : جمع راكب ، والشَّرْب : جمع شارب .
والثاني : أن الخَلْف مصدر يكون للاثنين والجميع ، والمذكر والمؤنث .
قوله تعالى : { ورثوا الكتاب } أي : انتقل إليهم انتقال الميراث من سلف إلى خلف ، فيخرج في الكتاب ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه التوراة . والثاني : الإنجيل . والثالث : القرآن .
قوله تعالى : { يأخذون عرض هذا الأدنى } أي : هذه الدنيا ، وهو ما يعرض لهم منها . وقيل : سماه عرضاً ، لقلة بقائه . قال ابن عباس : يأخذون ما أحبوا من حلال أو حرام . وقيل : هو الرِّشوة في الحكم . وفي وصفه بالأدنى قولان .
أحدهما : أنه من الدُّنُوِّ . والثاني : أنه من الدناءة .
قوله تعالى : { سيُغفَرُ لنا } فيه قولان .
أحدهما : أن المعنى : إنا لا نؤاخَذ ، تمنِّياً على الله الباطلَ .
والثاني : أنه ذنْب يغفره الله لنا ، تأميلاً لرحمة الله تعالى .
وفي قوله : { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } قولان .
أحدهما : أن المعنى : لا يشبعهم شيء ، فهم يأخذون لغير حاجة ، قاله الحسن .
والثاني : أنهم أهل إصرار على الذنوب ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق } قال ابن عباس : وكّد الله عليهم في التوراة أن لا يقولوا على الله إلا الحق ، فقالوا الباطل ، وهو ما أوجبوا على الله من مغفرة ذنوبهم التي لا يتوبون منها ، وليس في التوراة ميعاد المغفرة مع الإصرار .
قوله تعالى : { ودرسوا ما فيه } معطوف على «ورثوا» . ومعنى «درسوا ما فيه» : قرؤوه ، فكأنه قال : خالفوا على علم . { والدار الآخرة } أي : ما فيها من الثواب { خير للذين يتقون أفلا يعقلون } أن الباقي خير من الفاني . قرأ ابن عامر ، ونافع ، وحفص عن عاصم : بالتاء ، والباقون : بالياء .

وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)

قوله تعالى : { والذين يُمسِّكون بالكتاب } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : { يمسِّكون } مشددة ، وقرؤوا : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } مخففة [ الممتحنة : 10 ] وقرأهما أبو عمرو بالتشديد . وروى أبو بكر عن عاصم أنه خففهما . ويقال : مسَّكتُ بالشيء ، وتمسّكت به ، واستمسكت به ، وامتسكت به . وهذه الآية نزلت في مؤمني أهل الكتاب الذين حفظوا حدوده ولم يُحرِّفوه ، منهم [ عبد الله ] بن سلام واصحابه . قال ابن الأنباري : وخبر «الذين» : «إنا» وما بعده ، وله ضمير مقدر بعد «المصلحين» تأويله : والذين يمسّكون بالكتاب إنا لا نضيع أجر المصلحين منهم ، ولهذه العلة وَعَدَهُم حفظَ الأجر بشرطٍ ، إذ كان منهم من لم يصلح . قال : وقال بعض النحويين : المصلحون يرجعون على الذين ، وتلخيص المعنى عنده : والذين يمسِّكون بالكتاب ، وأقاموا الصلاة ، إنا لا نضيع أجرهم ، فأظهرت كنايتهم بالمصلحين ، كما يقال : عليٌّ لقيتُ الكسائي ، وأبو سعيد رويت عن الخدري ، يراد لقيتُهُ ورويت عنه . قال الشاعر :
فيارَبَّ لَيلى أنْتَ في كُلِّ مَوطِنٍ ... وَأنْتَ الذي في رَحْمِةِ الله أطْمَعُ
أراد في رحمته ، فأظهر ضمير الهاء .

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

قوله تعالى : { وإذ نتقنا الجبل فوقهم } أي : واذكر لهم إذ نتقنا الجبل ، أي : رفعناه . قال مجاهد : أُخرج الجبل من الأرض ، ورفع فوقهم كالظُلَّة ، فقيل لهم : لتؤمنُنَّ أو ليقعنَّ عليكم . وقال قتادة : نزلوا في أصل الجبل ، فرُفع فوقهم ، فقال : لتأخُذُنَّ أمري ، أو لأرمينكم به .
قوله تعالى : { وظنوا أنَّه واقع بهم } فيه قولان .
أحدهما : أنه الظن المعروف . والثاني : أنه بمعنى اليقين . وباقي الآية مفسر في سورة [ البقرة : 63 ] .

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)

قوله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم } روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان " ونعمان قريب من عرفة ذكره ابن قتيبة ، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها ، فنثرهم بين يديه كالذَّر ، ثم كلَّمهم قِبَلاً وقال : { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنَّا كُنَّا عن هذا غافلين } ومعنى الآية : وإذا أخذ ربكم من ظهور بني آدم . فقوله : { من ظهورهم } بدل من { بني آدم } . وقيل : إنما قال : { من ظهورهم } ولم يقل من ظهر آدم ، لأنه أخرج بعضهم من ظهور بعض ، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لأنه قد علم أنهم بنوه ، وقد أُخرجوا من ظهره . وقوله تعالى : { ذُرِّيَّاتهم } قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : «ذُرِّيَّتَهُم» على التوحيد . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «ذُرِّيَّاتهِم» على الجمع . قال أبو علي : الذُّرِّية تكون جمعاً ، وتكون واحداً .
وفي قوله : { وأشهدهم على أنفسهم } ثلاثة أقوال .
أحدها : أشهدهم على أنفسهم باقرارهم ، قاله مقاتل .
والثاني : دلَّهم بخلقه على توحيده ، قاله الزجاج .
والثالث : أنه أشهد بعضهم على بعض باقرارهم بذلك ، قاله ابن جرير .
قوله تعالى : { ألست بربكم } والمعنى : وقال لهم : ألست بربكم؟ وهذا سؤال تقرير . قالوا : بلى شهدنا أنك ربنا . قال السدي : قوله : { شهدنا } خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته . أنهم شهدوا على إقرار بني آدم . ويحسن الوقف على قوله «بلى» لأن كلام الذرية قد انقطع . وزعم الكلبي ان الذرية لما قالت «بلى» قال الله للملائكة : { اشهدوا } فقالوا : { شهدنا } . وروى أبو العالية عن أُبَيِّ بن كعب قال : جمعهم جميعاً ، فجعلهم أزواجاً ، ثم صوَّرهم ، ثم استنطقهم ، ثم قال : { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } أنك آلهنا . قال : فاني أُشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع ، وأشهد عليكم أباكم آدم { أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } لم نعلم بهذا . وقال السدي : أجابته طائفة طائعين ، وطائفة كارهين تقيةً .
قوله تعالى : { ان يقولوا } قرأ أبو عمرو «أن يقولوا» ، «أو يقولوا» بالياء فيهما . وقرأ الباقون بالتاء فيهما . قال أبو علي : حجة أبي عمرو قوله : { وإذ أخذ ربك } وقوله : { قالوا بلى } ، وحجة من قرأ بالتاء أنه قد جرى في الكلام خطاب { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } . ومعنى قوله : { يقولوا } لئلا يقولوا ، مثله : { أن تميد بكم } [ لقمان : 10 ] . وفي قوله : { إنا كنا } قولان .
أحدهما : أنه إشارة إلى الميثاق والإقرار .
والثاني : أنه إشارة إلى معرفة أنه الخالق . قال المفسرون : وهذه الآية تذكير من الله تعالى بما أخذ على جميع المكلَّفين من الميثاق ، واحتجاج عليهم لئلا يقول الكفار : إنا كنا على هذا الميثاق غافلين لم نذكره ، ونسيانهم لا يُسقط الاحتجاج بعد أن أخبر الله تعالى بذلك على لسان النبي صلى الله عليه وسلم الصادق . وإذا ثبت هذا بقول الصادق ، قام في النفوس مقام الذِّكر ، فالاحتجاج به قائم .

أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)

قوله تعالى : { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكُنَّا ذُرِّيَّة من بعدهم } فاتبَّعنا منهاجهم على جهلٍ منَّا بآلهيتك { أفتهلكنا بما فعل المبطلون } في دعواهم أن معك إلهاً ، فقطع الله احتجاجهم بمثل هذا ، إذ أذكرهم أخذ الميثاق على كل واحد منهم . وجماعة أهل العلم على ما شرحنا من أنه استنطق الذر ، وركَّب فيهم عقولاً وأفهاماً عرفوا بها ما عرض عليهم . وقد ذكر بعضهم أن معنى أخذ الذرية : إخراجهم إلى الدنيا بعد كونهم نطفاً . ومعنى إشهادهم على أنفسهم : اضطرارهم إلى العلم بأنه خالقهم بما أظهر لهم من الآيات والبراهين . ولما عرفوا ذلك ودعاهم كلُّ ما يرون ويشاهدون إلى التصديق ، كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهِدين على أنفسهم بصحته ، كما قال : { شاهدين على أنفسهم بالكفر } [ التوبة : 17 ] يريدهم : بمنزلة الشاهدين ، وإن لم يقولوا نحن كفرة ، كما يقول الرجل : قد شهدتْ جوارحي بصدقك ، أي : قد عرفْته . ومن هذا الباب قوله : { شهد الله } [ آل عمران : 19 ] أي : بيَّن وأعلم . وقد حكى نحو هذا القول ابن الأنباري ، والأول أصح ، لموافقة الآثار .

وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

قوله تعالى : { وكذلك نُفَصِّل الآيات } أي : كما بينَّا في أخذ الميثاق الآيات ، ليتدبَّرها العباد فيعملوا بموجبها . { ولعلهم يرجعون } أي : ولكي يرجعوا عمَّا هم عليه من الكفر إلى التوحيد .

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)

قوله تعالى : { واتل عليهم } قال الزجاج : هذا نسق على ما قبله ، والمعنى : أتل عليهم إذ أخذ ربك ، { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } وفيه ستة أقوال .
أحدها : أنه رجل من بني إسرائيل ، يقال له : بلعم بن أبر ، قاله ابن مسعود . وقال ابن عباس : بلعم بن باعوراء . وروي عنه : أنه بلعام بن باعور ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، والسدي . وروى العوفي عن ابن عباس أن بلعماً من أهل اليمن . وروى عنه ابن أبي طلحة أنه من مدينة الجبَّارين .
والثاني : أنه أُميَّة بن أبي الصلت ، قاله عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسعيد بن المسيب ، وأبو روق ، وزيد بن أسلم ، وكان أمية قد قرأ الكتب ، وعلم أن الله مرسِل رسولاً ، ورجا أن يكون هو ، فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم ، حسده وكفر .
والثالث : أنه أبو عامر الراهب ، روى الشعبي عن ابن عباس قال الأنصار : تقول هو الراهب الذي بُني له مسجد الشِّقاق ، وروي عن ابن المسيب نحوه .
والرابع : أنه رجل كان في بني اسرائيل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن ، وكانت له امرأة له منها ولد ، وكانت سمجة دميمة ، فقالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل ، فدعا الله لها ، فلما علمت أنه ليس في بني إسرائيل مثلها ، رغبت عن زوجها وأرادت غيره ، فلما رغبت عنه ، دعا الله أن يجعلها كلبة نَبَّاحَةً ، فذهبت منه فيها دعوتان ، فجاء بنوها وقالوا : ليس بنا على هذا صبر أن صارت أمُّنا كلبةً نبَّاحة يعيِّرنا الناس بها ، فادع الله أن يردَّها إلى الحال التي كانت عليها أولاً ، فدعا الله ، فعادت كما كانت ، فذهبت فيها الدعوات الثلاث ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، والذي روي لنا في هذا الحديث «وكانت سَمِجة» بكسر الميم ، وقد روى سيبويه عن العرب أنهم يقولون : رجل سَمْج : بتسكين الميم ، ولم يقولوا : سَمِج؛ بكسرها .
والخامس : أنه المنافق ، قاله الحسن .
والسادس : أنه كل من انسلخ من الحق بعد أن أُعطيَه من اليهود والنصارى والحنفاء ، قاله عكرمة . وفي الآيات خمسة أقوال .
أحدها : أنه اسم الله الأعظم ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال ابن جبير .
والثاني : أنها كتاب من كتب الله عز وجل . روى عكرمة عن ابن عباس قال : هو بلعام ، أوتي كتاباً فانسلخ منه .
والثالث : أنه أوتي النُّبُوَّةَ ، فَرَشاهُ قومه على أن يسكت ، ففعل وتركهم على ما هم عليه ، قاله مجاهد ، وفيه بُعد ، لأن الله تعالى لا يصطفي لرسالته إلا معصوماً عن مثل هذه الحال .
والرابع : أنها حُجج التوحيد ، وفهم أدلّته .
والخامس : أنها العلم بكتب الله عز وجل ، والمشهور في التفسير أنه بلعام ، وكان من أمره على ما ذكره المفسرون أن موسى عليه السلام غزا البلد الذي هو فيه ، وكانوا كفاراً ، وكان هو مجاب الدعوة ، فقال ملكهم : ادع على موسى ، فقال : إنه من أهل ديني ، ولا ينبغي لي أن أدعوَ عليه ، فأمر الملك أن تنحت خشبة لصَلبه ، فلما رأى ذلك ، خرج على أتان له ليدعوَ على موسى ، فلما عاين عسكرهم ، وقفت الأتان فضربها ، فقالت : لم تضربني ، وهذه نار تتوقَّد قد منعتني أن أمشي؟ فارجع ، فرجع إلى الملك فأخبره ، فقال : إما أن تدعو عليهم ، وإما أن أصلبك ، فدعا على موسى باسم الله الأعظم أن لا يدخل المدينة ، فاستجاب الله له ، فوقع موسى وقومه في التيه بدعائه ، فقال موسى : يا ربِّ بأي ذنب وقعنا في التيه؟ فقال : بدعاء بلعم ، فقال : يا رب فكما سمعت دعاءه عليَّ ، فاسمع دعائي عليه ، فدعا اللهَ أن ينزع منه الاسم الأعظم ، فنُزع منه .

وقيل : إن بلعام أمر قومه أن يزيِّنوا النساء ويرسلوهنَّ في العسكر ليَفشو الزنا فيهم ، فيُنصروا عليهم . وقيل : إن موسى قتله بعد ذلك . وروى السدي عن أشياخه أن بلعم أتى إلى قومه متبرِّعاً ، فقال : لا ترهبوا بني إسرائيل ، فانكم إذا خرجتم لقتالهم ، دعوتُ عليهم فهلكوا ، فكان فيما شاء عندهم من الدنيا ، وذلك بعد مضي الأربعين سنة التي تاهوا فيها ، وكان نبيهم يوشع لا موسى .
قوله تعالى : { فانسلخ منها } أي : خرج من العلم بها .
قوله تعالى : { فأَتْبعه الشيطان } قال ابن قتيبة : أدركه . يقال : اتبَّعتُ القوم : إذا لحقتَهم ، وتبعتُهم : سرتُ في أثرهم . وقرأ طلحة بن مصرِّف : «فاتّبعه» بالتشديد . وقال اليزيدي : أتبْعه واتَّبعه : لغتان . وكأن «أتْبعه» خفيفة بمعنى : قفاه ، «واتَّبعه» مشددة : حذا حذوه . ولا يجوز أن تقول : أتبْعناك ، وأنت تريد : اتَّبعناك ، لأن معناها : اقتدينا بك . وقال الزجاج : يقال : تبع الرجل الشيء واتَّبعه بمعنى واحد . قال الله تعالى : { فمن تَبِعَ هُدَايَ } [ البقرة : 38 ] وقال : { فاتبعهم فرعونُ } [ يونس : 90 ] .
قوله تعالى : { فكان من الغاوين } فيه قولان .
أحدهما : من الضالين ، قاله مقاتل .
والثاني : من الهالكين الفاسدين ، قاله الزجاج .

وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)

قوله تعالى : { ولو شئنا لرفعناه بها } في هاء الكناية في «رفعناه» قولان .
أحدهما : أنها تعود إلى الإِنسان المذكور ، وهو قول الجمهور؛ فيكون المعنى : ولو شئنا لرفعنا منزلة هذا الإنسان بما علمناه .
والثاني : أنها تعود إلى الكفر بالآيات ، فيكون المعنى : لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بآياتنا ، وهذا المعنى مروي عن مجاهد . وقال الزجاج : لو شئنا لحُلْنا بينه وبين المعصية .
قوله تعالى : { ولكنه أخلد إِلى الأرض } أي : ركن إلى الدنيا وسكن . قال الزجاج : يقال : أخلد وخلد ، والأول أكثر في اللغة . والأرض هاهنا : عبارة عن الدنيا ، لأن الدنيا هي الأرض بما عليها . وفي معنى الكلام قولان .
أحدهما : أنه رَكَن إلى أهل الدنيا ، ويقال : إنه أرضى امرأته بذلك ، لأنها حملته عليه ، وقيل : أرضى بني عمِّه وقومَه .
والثاني : أنه ركن إلى شهوات الدنيا ، وقد بُيِّن ذلك بقوله : { واتَّبع هواه } والمعنى : أنه انقاد لما دعاه إليه الهوى . قال ابن زيد : كان هواه مع قومه . وهذه الآية من أشد الآيات على أهل العلم إذا مالوا عن العلم إلى الهوى .
قوله تعالى : { فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } معناه : أن هذا الكافر ، إن زجرتَه لم ينزجر ، وإن تركتَه لم يهتد ، فالحالتان عنده سواء كحالتي الكلب ، فانه إن طُرد وحُمل عليه بالطرد كان لاهثاً ، وإن تُرك وربض كان أيضاً لاهثاً ، والتشبيه بالكلب اللاهث خاصة؛ فالمعنى : فمثله كمثل الكلب لاهثاً ، وإنما شبهه بالكلب اللاهث ، لأنه أخسُّ الأمثال على أخس الحالات وأبشعها . وقال ابن قتيبة : كل لاهث إنما يلهث من إعياء أو عطش ، إلا الكلب ، فانه يلهث في حال راحته وحال كلاله ، فضربه الله مثلاً لمن كذَّب بآياته ، فقال : إن وعظته فهو ضال ، وإن لم تعظه فهو ضال ، كالكلب إن طردته وزجرته فسعى لهث ، أو تركته على حاله رابضاً لهث . قال المفسرون : زُجِرَ في منامه عن الدعاء على بني اسرائيل فلم ينزجر ، وخاطبتْه أتانه فلم ينته ، فضُرب له هذا المثل ولسائر الكفار؛ فذلك قوله : { ذلك مثل القوم الذين كذَّبوا بآياتنا } لأن الكافر إن وعظته فهو ضال وإن تركتَه فهو ضال؛ وهو مع إرسال الرسل إليه كمن لم يأته رسول ولا بيِّنة .
قوله تعالى : { فاقصص القصص } قال عطاء : قَصَصَ الذين كفروا وكذَّبوا أنبياءهم .

سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)

قوله تعالى : { ساء مثلاً } يقال : ساء الشيء يسوء : إذا قَبُح ، والمعنى : ساء مثلاً مثل القوم ، فحُذِف المضاف ، فنُصب «مثلاً» على التمييز .
قوله تعالى : { وأنفسَهم كانوا يظلمون } أي : يضُرُّون بالمعصية .

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)

قوله تعالى : { ولقد ذرأنا } أي : خلقنا . قال ابن قتيبة : ومنه ذرية الرجل ، إنما هي الخلق منه ، ولكن همزها يتركه أكثر العرب .
قوله تعالى : { لجهنم } هذه اللام يسميها بعض أهل المعاني لام العاقبة ، كقوله : { ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] ومثله قول الشاعر :
أمْوالُنَا لِذَوِي المِيْرَاثِ نَجْمَعُهَا ... وَدُوْرُنَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيْها
ودخل رجل على عمر بن عبد العزيز يعزِّيه بموت ابنه ، فقال :
تعزَّ أمِيْرَ المؤمنينَ فإنَّه ... لِما قَدْ تَرَى يُغْذَى الصَّغِيْرُ ويُوْلَدُ
وقد أخبر الله عز وجل في هذه الآية بنفاذ عِلمه فيهم أنهم يصيرون إليها بسبب كفرهم .
قوله تعالى : { لهم قلوب لا يفقهون بها } لمّا أعرض القوم عن الحق والتفكر فيه ، كانوا بمنزلة من لم يفقه ولم يُبصر ولم يسمع . وقال محمد بن القاسم النحوي : أراد بهذا كله أمر الآخرة ، فانهم يعقلون أمر الدنيا .
قوله تعالى : { أولئك كالأنعام } شبَّههم بالأنعام لأنها تسمع وتبصر ، ولا تعتبر ، ثم قال : { بل هم أضل } لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها ، فتلزم بعض ما تبصره ، وهؤلاء يعلم أكثرهم أنه معاند ، فيُقدِم على النار ، { أولئك هم الغافلون } عن أمر الآخرة .

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)

قوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى } سبب نزولها : أن رجلاً دعا الله في صلاته ، ودعا الرحمنَ ، فقال أبو جهل : أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً ، فما بال هذا يدعو اثنين؟ فأنزل الله هذه الآية ، قاله مقاتل : فأما الحسنى ، فهي تأنيث الأحسن . ومعنى الآية أن أسماء الله حسنى ، وليس المراد أن فيها ما ليس بحسن . وذكر الماوردي أن المراد بذلك ما مالت إليه النفوس من ذكره بالعفو والرحمة دون السخط والنقمة . وقوله : { فادعوه بها } أي : نادوه بها ، كقولك : يا الله يا رحمن .
قوله تعالى : { وذروا الذين يُلْحِدُون في أسمائه } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : { يُلحِدُون } بضم الياء ، وكذلك في [ النحل : 103 ] و [ السجدة ] [ فصلت : 40 ] . وقرأ حمزة : «يَلحَدون» بفتح الحاء والياء فيهن ، ووافقه الكسائي ، وخلف في [ النحل : 103 ] . قال الاخفش : أَلْحَد ولَحَدَ : لغتان ، فمن قرأ بهما أراد الأخذ باللغتين ، فكأن الإلحاد : العدول عن الاستقامة ، وقال ابن قتيبة : يجورون عن الحق ويعدلون؛ [ فيقولون اللات والعزى ومناة وأشباه ذلك ] ومنه لَحْدُ القبر ، لأنه في جانب . قال الزجاج : ولا ينبغي لأحد أن يدعوه بما لم يسمِّ به نفسه ، فيقول : يا جواد ، ولا يقول : يا سخي ، ويقول : يا قوي ، ولا يقول : يا جلْد ، ويقول : يا رحيم ، ولا يقول : يا رفيق ، لأنه لم يصف نفسه بذلك . قال أبو سليمان الخطابي : ودليل هذه الآية أن الغلط في أسمائه والزيغ عنها إلحادٌ ، ومما يُسمع على ألسنة العامة قولهم : يا سبحانُ ، يا برهانُ ، وهذا مهجور مستهجن لا قدوة فيه ، وربما قال بعضهم : يا رب طه ويس . وقد أنكر ابن عباس على رجل قال : يا رب القرآن . وروي عن ابن عباس أن إلحادهم في أسمائه أنهم سمَّوا بها أوثانهم ، وزادوا فيها ونقصوا منها ، فاشتقوا اللات من الله ، والعزَّى من العزيز ، ومناة من المنَّان .
فصل
والجمهور على أن هذه الآية محكمة ، لأنها خارجة مخرج التهديد ، كقوله : { ذرني ومن خلقت وحيداً } [ المدثر : 11 ] ، وقد ذهب بعضهم إلى أنها منسوخة بآية القتال ، لأن قوله : { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } يقتضي الإِعراض عن الكفار ، وهذا قول ابن زيد .

وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)

قوله تعالى : { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق } أي : يعملون به ، { وبه يعدلون } أي : وبالعمل به يعدلون . وفيمن أُريد بهذه الآية أربعة أقوال .
أحدها : أنهم المهاجرون والأنصار والتابعون باحسان من هذه الأمة ، قاله ابن عباس . وكان ابن جريج : يقول : ذُكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « هذه أُمتي ، بالحق يأخذون ويعطون ويقضون » وقال قتادة : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تلا هذه الآية قال : « هذه لكم وقد أعطي القومُ مثلها » ثم يقرأ : { ومن قوم موسى أُمة يهدون بالحق وبه يعدلون } [ الأعراف : 159 ] .
والثاني : أنهم من جميع الخلق ، قاله ابن السائب .
والثالث : أنهم الأنبياء . والرابع : أنهم العلماء . ذكر القولين الماوردي .

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)

قوله تعالى : { والذين كذَّبوا بآياتنا } قال أبو صالح عن ابن عباس : هم أهل مكة . وقال مقاتل : نزلت في المستهزئين من قريش .
قوله تعالى : { سنستدرجهم } قال الخليل بن أحمد : سنطوي أعمارهم في اغترار منهم . وقال أبو عبيدة : الاستدراج : أن يُتدرج إلى الشيء في خُفية قليلاً قليلاً ولا يُهجم عليه ، وأصله : من الدَّرَجة ، وذلك أن الراقي والنازل يرقى وينزل مَرقاة مرقاة؛ ومنه : دَرَجَ الكتابَ : إذا طواه شيئاً بعد شيء؛ ودرج القوم : إذا ماتوا بعضُهم في إثر بعض . وقال اليزيدي : الاستدراج : أن يأتيه من حيث لا يعلم . وقال ابن قتيبة : هو ان يذيقهم من بأسه قليلاً قليلاً من حيث لا يعلمون ، ولا يباغتهم به ولا يجاهرهم . وقال الأزهري : سنأخذهم قليلاً قليلاً من حيث لا يحتسبون؛ وذلك أن الله تعالى يفتح عليهم من النعم ما يغتبطهم به ويركنون إليه ، ثم يأخذهم على غرَّتهم أغفل ما يكونون . قال الضحاك : كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة .
وفي قوله : { من حيث لا يعلمون } قولان .
أحدهما : من حيث لا يعلمون بالاستدراج . والثاني : بالهلكة .
قوله تعالى : { وأُملي لهم } الإملاء : الإمهال والتأخير .
قوله تعالى : { إن كيدي متين } قال ابن عباس : إن مَكري شديد . وقال ابن فارس : الكيد : المكر؛ فكل شيء عالجته فأنت تَكيدُه . قال المفسرون : مكر الله وكيده : مجازاة أهل المكر والكيد على نحو ما بينا في سورة [ البقرة : 15 ] و [ آل عمران : 54 ] من ذِكر الاستهزاء والخداع والمكر .

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)

قوله تعالى : { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جِنَّة } سبب نزولها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، علا على الصفا ليلة ، ودعا قريشاً فخذاً فخذاً : يا بني فلان ، يا بني فلان ، يا بني فلان ، فحذَّرهم بأس الله وعقابه ، فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون ، بات يصوِّت حتى الصباح ، فنزلت هذه الآية ، قاله الحسن ، وقتادة . ومعنى الآية : أولم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جِنة ، أي : جنون ، فحثَّهم على التفكر في أمره ليعلموا أنه بريء من الجنون . { إن هو } أي : ما هو { إلا نذير } أي : مخوِّف { مبين } يبيِّن طريق الهدى . ثم حثهم على النظر المؤدي إلى العلم فقال : { أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض } ليستدلوا على أن لها صانعاً مدبراً؛ وقد سبق بيان الملكوت في سورة [ الأنعام : 75 ] .
قوله تعالى : { وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } قرأ ابن مسعود ، وأبيٌّ والجحدري : «آجالهم» . ومعنى الآية : أولم ينظروا في الملكوت وفيما خلق الله من الأشياء كلِّها ، وفي أنْ عسى أن تكون آجالهم قد قربت فيهلِكوا على الكفر ، ويصيروا إلى النار { فبأي حديث بعده يؤمنون } يعني القرآن وما فيه من البيان . ثم ذكر سبب إعراضهم عن الإيمان ، فقال : { من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : «ونذرهم» بالنون والرفع . وقرأ أبو عمرو : بالياء والرفع . وقرأ حمزة ، والكسائي : «ويذرْهُم» بالياء مع الجزم خفيفة . فمن قرأ بالرفع ، استأنف ، ومن جزم «ويذرْهم» عطفَ على موضع الفاء . قال سيبويه : وموضعها جزْم؛ فالمعنى : من يضلل الله يَذَرْه؛ وقد سبق في سورة [ البقرة : 15 ] معنى الطغيان والعَمَه .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)

قوله تعالى : { يسألونك عن الساعة } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن قوماً من اليهود قالوا : يا محمد ، أخبرنا متى الساعة؟ فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس .
والثاني : أن قريشاً قالت : يا محمد ، بيننا وبينك قرابة ، فبيِّن لنا متى الساعة؟ فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة . وقال عروة : الذي سأله عن الساعة عتبة بن ربيعة . والمراد بالساعة هاهنا : التي يموت فيها الخلق .
قوله تعالى : { أيان مرساها } قال أبو عبيدة : أي : متى مُرساها؟ أي : منتهاها . ومرسا السفينة : حيث تنتهي . وقال ابن قتيبة : { أيّان } : بمعنى : متى؛ و«متى» بمعنى : أيّ حين ، ونرى أن أصلها أيّ أوانٍ ، فحذفت الهمزة [ والواو ] ، وجعل الحرفان واحداً ، ومعنى الآية : متى ثبوتها؟ يقال : رسا في الأرض ، أي : ثبت ، ومنه قيل للجبال : رواسي . قال الزجاج : ومعنى الكلام : متى وقوعها؟ .
قوله تعالى : { قل إنما علمها عند ربي } أي : قد استأثر بعلمها { لا يُجَلِّيها } أي : لا يظهرها في وقتها { إلا هو } .
قوله تعالى : { ثقلت في السموات والأرض } فيه أربعة أقوال .
أحدها : ثَقُل وقوعها على أهل السموات والأرض ، قاله ابن عباس ، ووجهه أن الكلَّ يخافونها ، محسنهم ومسيئهم .
والثاني : عظُم شأنها في السموات والأرض ، قاله عكرمة ، ومجاهد ، وابن جريج .
والثالث : خفي أمرها ، فلم يُعلم متى كونها ، قاله السدي .
والرابع : أن «في» بمعنى «على» فالمعنى : ثقلت على السموات والأرض ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { لا تأتيكم إلا بغتة } أي : فجأة .
قوله تعالى : { كأنك حَفِيٌّ عنها } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أنه من المقدَّم والمؤخَّر ، فتقديره : يسألونك عنها كأنك حفي ، أي : بَرٌّ بهم ، كقوله : { إنه كان بي حفياً } [ مريم : 47 ] . قال العوفي عن ابن عباس ، وأسباط عن السدي : كأنك صديق لهم .
والثاني : كأنك حفي بسؤالهم ، مجيب لهم . قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : كأنك يعجبك سؤالهم . وقال خصيف عن مجاهد : كأنك تحبُّ أن يسألوك عنها . وقال الزجاج : كأنك فَرِح بسؤالهم .
والثالث : كأنك عالم بها ، قاله الضحاك عن ابن عباس ، وهو قول ابن زيد ، والفراء .
والرابع : كأنك استحفيت السؤال عنها حتى علمتها ، قاله ابن ابي نجيح عن مجاهد . وقال عكرمة : كأنك سؤول عنها . وقال ابن قتيبة : كأنك معنيٌّ بطلب علمها . وقال ابن الانباري : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : يسألونك عنها كأنك حفيٌّ بها ، والحفيُّ في كلام العرب : المعنيُّ .
قوله تعالى : { قل إنما علمها عند الله } أي : لا يعلمها إلا هو { ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون } قال مقاتل في آخرين : المراد بالناس هاهنا : أهل مكة . وفي قوله : { لا يعلمون } قولان . أحدهما : لا يعلمون أنها كائنة ، قاله مقاتل . والثاني : لا يعلمون أن هذا مما استأثر الله بعلمه ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)

قوله تعالى : { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضَراً } سبب نزولها : أن أهل مكة قالوا : يا محمد ، ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو ، فتشتري فتربح ، وبالأرض التي تريد أن تُجدب ، فترتحل عنها إلى ما قد أخصب؟ فنزلت هذه الآية ، روي عن ابن عباس . وفي المراد بالنفع والضر قولان .
أحدهما : أنه عامّ في جميع ما ينفع ويضر ، قاله الجمهور .
والثاني : أن النفع : الهدى ، والضَّر : الضلالة ، قاله ابن جريج .
قوله تعالى : { إلا ما شاء الله } أي : إلا ما أراد أن أملكه بتمليكه إياي؛ ومن هو على هذه الصفة فكيف يعلم علم الساعة؟ .
قوله تعالى : { ولو كنت أعلم الغيب } فيه أربعة أقوال . أحدها : لو كنت أعلم بجدب الأرض وقحط المطر قبل كون ذلك لهيَّأت لسنة الجدب ما يكفيها ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : لو كنت أعلم ما أربح فيه إذا اشتريته لاستكثرت من الخير ، قاله الضحاك عن ابن عباس .
والثالث : لو كنت أعلم متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح ، قاله مجاهد .
والرابع : لو كنت أعلم ما أسأل عنه من الغيب لأَجبت عنه . { وما مسني السوء } أي : لم يلحقني تكذيب ، قاله الزجاج . فأما الغيب : فهو كل ما غاب عنك . ويخرج في المراد بالخير هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه العمل الصالح . والثاني : المال . والثالث : الرزق .
قوله تعالى : { وما مسنيَ السوء } فيه أربعة اقوال .
أحدها : أنه الفقر ، قاله ابن عباس . والثاني : أنه كل ما يسوء ، قاله ابن زيد . والثالث : الجنون ، قاله الحسن . والرابع : التكذيب ، قاله الزجاج . فعلى قول الحسن ، يكون هذا الكلام مبتدأ ، والمعنى : وما بي من جنون إنما أنا نذير ، وعلى باقي الأقوال يكون متعلقاً بما قبله .

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)

قوله تعالى : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } يعني بالنفس : آدم ، وبزوجها : حواء . ومعنى : { ليسكن إليها } ليأنس بها ويأوي إليها . { فلما تغشَّاها } أي : جامعها . قال الزجاج : وهذا أحسن كناية عن الجماع . والحمل ، بفتح الحاء : ما كان في بطن ، أو أخرجتْه شجرة . والحمل ، بكسر الحاء : ما يُحمل . والمراد بالحمل الخفيف : الماء .
قوله تعالى : { فمرَّتْ به } أي : استمرَّت به ، قعدت وقامت ولم يُثقلها . وقرأ سعد بن أبي وقاص ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والضحاك : «فاستمرت به» . وقرأ أُبَيُّ بن كعب ، والجوني : «استمارَّت به» بزيادة ألف . وقرأ عبد الله ابن عمرو ، والجحدري : «فمارَّت به» بألف وتشديد الراء . وقرأ أبو العالية ، وأيوب ، ويحيى بن يعمر : «فَمَرَتْ به» خفيفة الراء ، أي : شكّت وتمارت أحملت ، أم لا؟ { فلما أثقلت } أي : صار حملها ثقيلاً . وقال الأخفش : صارت ذا ثقل . يقال : أثمرنا ، أي : صرنا ذوي ثمر .
قوله تعالى : { دعَوا الله ربهما } يعني آدم وحواء { لئن آتيتنا صالحاً } وفي المراد بالصالح قولان .
أحدهما : أنه الإنسان المشابه لهما ، وخافا أن يكون بهيمة ، هذا قول الأكثرين .
والثاني : أنه الغلام ، قاله الحسن ، وقتادة .
شرح السبب في دعائهما
ذكر أهل التفسير أن إبليس جاء حواء ، فقال : ما يدريك ما في بطنكِ ، لعله كلب أو خنزير أو حمار؛ وما يدريك من أين يخرج ، أيشق بطنك أم يخرج من فيك ، أو من منخريك؟ فأحزنها ذلك ، فدعوا الله حينئذ ، فجاء إبليس : فقال : كيف تجدينك؟ قالت : ما أستطيع القيام إذا قعدت ، قال : أفرأيت إن دعوت الله ، فجعله إنساناً مثلك ، ومثل آدم ، أتسمينه باسمي؟ قالت : نعم . فلما ولدته سويَّاً ، جاءها إبليس فقال : لم لا تُسمِّينه بي كما وعدتني؟ فقالت : وما اسمك؟ قال : الحارث ، وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث ، فسمته : عبد الحارث ، وقيل : عبد شمس برضى آدم ، فذلك قوله : { فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء } قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : «شركاء» بضم الشين والمدّ ، جمع شريك . وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم : «شِركاً» مكسورة الشين على المصدر ، لا على الجمع . قال أبو علي : من قرأ «شِرْكاً» حذف المضاف ، كأنه أراد : جعلا له ذا شِرك ، وذوي شريك؛ فيكون المعنى : جعلا لغيره شِركاً ، لأنه إذا كان التقدير : جَعلا له ذوي شرك ، فالمعنى : جعلا لغيره شركاً ، وهذه القراءة في المعنى كقراءة من قرأ «شركاء» . وقال غيره : معنى «شركاء» شريكاً ، فأوقع الجمع موقع الواحد كقوله : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم } [ آل عمران : 173 ] والمراد بالشريك : إبليس ، لأنهما أطاعاه في الاسم ، فكان الشرك في الطاعة ، لا في العبادة؛ ولم .
يقصدا أن الحارثَ ربُّهما ، لكن قصدا أنه سبب نجاة ولدهما؛ وقد يُطلَق العبد على من ليس بمملوك .

قال الشاعر :
وإني لَعبدُ الضَّيف ما دَامَ ثَاوياً ... وما فيَّ إلا تِلْكَ مَنْ شِيْمَةِ العَبْدِ
وقال مجاهد : كان لا يعيش لآدم ولد ، فقال الشيطان : إذا وُلد لكما ولد فسمياه عبد الحارث ، فأطاعاه في الاسم ، فذلك قوله : { جعلا له شركاء فيما آتاهما } هذا قول الجمهور ، وفيه قول ثان ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ما أشرك آدم ، إن أول الآية لَشكر ، وآخرها مَثَل ضربه الله لمن يعبده في قوله : { جعلا له شركاء فيما آتاهما } . وروى قتادة عن الحسن قال : هم اليهود والنصارى ، رزقهم الله أولاداً فهوَّدوهم ونصَّروهم . وروي عن الحسن ، وقتادة قالا : الضمير في قوله : { جعلا له شركاء } عائد إلى النفس وزوجه من ولد آدم ، لا إلى آدم وحواء . وقيل : الضمير راجع إلى الولد الصالح ، وهو السليم الخلْق ، فالمعنى : جعل له ذلك الولدُ شركاء . وإنما قيل : { جعلا } لأن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأُنثى . قال ابن الأنباري : الذين جعلوا له شركاء اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار الذين هم أولاد آدم وحواء . فتأويل الآية : فلما آتاهما صالحاً جعل أولادُهُما له شركاء ، فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كما قال : { وسأل القرية } [ يوسف : 82 ] . وذهب السدي إلى أن قوله : { فتعالى الله عما يشركون } في مشركي العرب خاصة ، وأنها مفصولة عن قصة آدم وحواء .

أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)

قوله تعالى : { أيشركون ما لا يخلق شيئاً } قال ابن زيد : هذه لآدم وحواء حيث سمّيا ولدهما عبد شمس ، والشمس لا تخلق شيئاً . وقال غيره : هذا راجع إلى الكفار حيث أشركوا بالله الاصنام ، وهي لا تخلق شيئاً وقوله : { وهم يُخلَقون } أي : وهي مخلوقة . قال ابن الأنباري : وإنما قال : { ما } ثم قال : { وهم يُخلَقون } لأن { ما } تقع على الواحد والاثنين والجميع؛ وإنما قال : { وهم } وهو يعني الأصنام ، لأن عابديها أدّعَوا أنها تعقل وتميِّز ، فأجريت مجرى الناس ، فهو كقوله : { رأيتهم لي ساجدين } [ يوسف : 4 ] وقوله { يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } [ النمل : 18 ] وقوله : { وكل في فلك يسبحون } [ يس : 40 ] ، قال الشاعر :
تمزَّزْتُها والدِّيكُ يَدْعُو صَبَاحَهُ ... إذَا مَا بَنُو نَعْشٍ دنَوْا فتصوَّبُوا
وأنشد ثعلب لعبدة بن الطبيب :
إذْ أشْرَفَ الدِّيكُ يَدْعُو بَعْضَ أُسْرَتِه ... لَدَى الصَّبَاحِ وَهُمْ قَوْمٌ مَعَازِيْلُ
لمّا جعله يدعو ، جعل الدِّيَكَة قوماً ، وجعلهم معازيل ، وهم الذين لا سلاح معهم ، وجعلهم أُسرة؛ وأسرة الرجل : رهطه وقومه .

وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)

قوله تعالى : { ولا يستطيعون لهم نصراً } يقول : إن الأصنام لا تستطيع نصر مَنْ عبدها ، ولا تمنع مِن نفسها .

وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)

قوله تعالى : { وإن تدعوهم } فيه قولان .
أحدهما : أنها ترجع إلى الأصنام ، فالمعنى : وإن دعوتم أيها المشركون أصنامكم إلى سبيل رشاد لا يتبعوكم ، لأنهم لا يعقلون .
والثاني : أنها ترجع إلى الكفار ، فالمعنى : وإن تدع يا محمد هؤلاء المشركين إلى الهدى ، لا يتَّبعوكم ، فدعاؤكم إياهم وصمتكم عنهم سواء ، لأنهم لا ينقادون إلى الحق . وقرأ نافع : «لا يَتْبعوكم» بسكون التاء .

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)

قوله تعالى : { إن الذين تدعون من دون الله } يعني الأصنام { عبادٌ أمثالكم } في أنهم مسخَّرون مذلَّلون لأمر الله . وإنما قال «عباد» وقال : { فادعوهم } ، وإن كانت الأصنام جماداً ، لما بيَّنا عند قوله : { وهم يُخلقون } .
قوله تعالى : { فليستجيبوا لكم } أي : فليجيبوكم { إن كنتم صادقين } أنَّ لكم عندهم نفعاً وثواباً . { ألهم أرجل يمشون بها } في المصالح { أم لهم أيد يبطشون بها } في دفع ما يؤذي . وقرأ أبو جعفر «يبطُشون» بضم الطاء هاهنا وفي [ القصص : 19 ] و [ الدخان : 16 ] . { أم لهم أعين يبصرون بها } المنافع من المضار { أم لهم آذان يسمعون بها } تضرعكم ودعاءكم؟ وفي هذا تنبيه على تفضيل العابدين على المعبودين ، وتوبيخ لهم حيث عبدوا مَنْ هم أفضل منه . { قل ادعوا شركاءكم } قال الحسن : كانوا يخوِّفونه بآلهتهم ، فقال الله تعالى : { قل ادعوا شركاءكم } ، { ثم كيدوني } أنتم وهم { فلا تنظرون } أي : لا تؤخِّروا ذلك . وكان ابن كثير ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، يقرؤون : { ثم كيدون } بغير ياء في الوصل والوقف . وقرأ أبو عمرو ، ونافع : في رواية ابن حماد بالياء في الوصل . وروى ورش ، وقالون ، والمسيِّبي : بغير ياء في الوصل ، ولا وقف . فأما { تنظرون } فأثبت فيها الياء يعقوب في الوصل والوقف . { إن وَليِّيَ الله } أي : ناصري { الذي نزَّل الكتاب } وهو القرآن ، أي : كما أيَّدني بانزال الكتاب ينصرني .

وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)

قوله تعالى : { والذين تدعون من دونه } يعني الأصنام { لا يستطيعون نصركم } أي : لا يقدرون على منعكم ممن أرادكم بسوء ، ولا يمنعون أنفسهم من سوء أريد بهم .

وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)

قوله تعالى : { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا } في المراد بهؤلاء قولان .
أحدهما : أنهم الأصنام . ثم في قوله : { وتراهم ينظرون إليك } قولان . أحدهما : يواجهونك ، تقول العرب : داري تنظر إلى دارك ، { وهم لا يبصرون } لأنه ليس فيهم أرواح . والثاني : وتراهم كأنهم ينظرون إليك ، لأن لهم أعيناً مصنوعة ، فأسقط كاف التشبيه ، كقوله : { وترى الناس سكارى } [ الحج : 2 ] أي : كأنهم سكارى ، { وهم لا يبصرون } في الحقيقة . وإنما أخبر عنهم بالهاء والميم ، لأنهم على هيئة بني آدم .
والقول الثاني : أنهم المشركون ، فالمعنى : وتراهم ينظرون إليك بأعينهم ولا يبصرون بقلوبهم .

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)

قوله تعالى : { خذ العفو } العفو : الميسور ، وقد سبق شرحه في سورة [ البقرة : 219 ] . وفي الذي أُمر بأخذ العفو منه ثلاثة أقوال .
أحدها : أخلاق الناس ، قاله ابن الزبير ، والحسن ، ومجاهد فيكون المعنى : إقبل الميسور من أخلاق الناس ، ولا تستقص عليهم فتظهر منهم البغضاء .
والثاني : أنه المال ، وفيه قولان . أحدهما : أن المراد بعفو المال : الزكاة ، قاله مجاهد في رواية الضحاك . والثاني : أنها صدقة كانت تؤخذ قبل فرض الزكاة ، ثم نُسخت بالزكاة ، روي عن ابن عباس .
والثالث : أن المراد به : مساهلة المشركين والعفو عنهم ، ثم نسخ بآية السيف ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { وأمْر بالعرف } أي : بالمعروف .
وفي قوله : { وأعرض عن الجاهلين } قولان .
أحدهما : أنهم المشركون ، أُمر بالإِعراض عنهم ، ثم نُسخ ذلك بآية السيف .
والثاني : أنه عام فيمن جهل ، أُمر بصيانة النفس عن مقابلتهم على سفههم ، وإن وجب عليه الإنكار عليهم . وهذه الآية عند الأكثرين كلها محكمة ، وعند بعضهم أن وسطها محكم ، وطرفيها منسوخان على ما بيَّنا .

وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)

قوله تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } قال ابن زيد : لما نزلت { خذ العفو } قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا رب كيف بالغضب؟ فنزلت هذه الآية . فأما قوله { وإما } فقد سبق بيانه في سورة ( البقرة ) في قوله : { فإِما يأتينكم مني هدى } [ البقرة : 38 ] ، وقال أبو عبيدة : ومجاز الكلام : وإما تستخفَّنَّك منه خفة وغضب وَعَجَلة . وقال السدي : النزغ : الوسوسة وحديث النفس . قال الزجاج : النزغ : أدنى حركة تكون ، تقول : قد نزغته : إذا حركته . وقد سبق معنى الاستعاذة .
قوله تعالى : { إذا مسهم طائف } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي : «طيف» بغير ألف . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة : «طائف» بألف ممدوداً مهموزاً . وقرأ ابن عباس ، وابن جبير ، والجحدري ، والضحاك : «طَيِّفٌ» بتشديد الياء من غير ألف . وهل الطائف والطيف بمعنى واحد ، أم يختلفان ، فيه قولان .
أحدهما : أنهما بمعنى واحد ، وهما ما كان كالخيال والشيء يُلم بك ، حكي عن الفراء . وقال الأخفش : الطيف أكثر في كلام العرب من الطائف ، قال الشاعر :
ألا يالَقَوْمٍ لِطَيْفِ الخَيال ... أرَّقَ مِنْ نَازِحٍ ذي دَلاَلِ
والثاني : أن الطائف : ما يطوف حول الشيء ، والطيف : اللَّمة والوسوسة والخَطْرة ، حكي عن أبي عمرو وروي عن ابن عباس أنه قال : الطائف : اللَّمة من الشيطان ، والطيف : الغضب . وقال ابن الأنباري : الطائف : الفاعل من الطيف؛ والطيف عند أهل اللغة : اللَّمم من الشيطان؛ وزعم مجاهد أنه الغضب .
قوله تعالى : { تذكَّروا } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : تذكَّروا الله إذا همُّوا بالمعاصي فتركوها ، قاله مجاهد .
والثاني : تفكَّروا فيما أوضح الله لهم من الحجة ، قاله الزجاج .
والثالث : تذكَّروا غضب الله ، والمعنى : إذا جرَّأهم الشيطان على مالا يحل ، تذكَّروا غضب الله ، فأمسكوا ، فاذا هم مبصرون لمواضع الخطأ بالتفكر .

وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)

قوله تعالى : { وإخوانهم } في هذه الهاء والميم قولان .
أحدهما : أنها عائدة على المشركين؛ فتكون هذه الآية مقدَّمة على التي قبلها ، والتقدير : وأعرض عن الجاهلين ، وإخوان الجاهلين ، وهم الشياطين . { يمدُّونهم في الغَيِّ } قرأ نافع : «يمدونهم» بضم الياء وكسر الميم . والباقون : بفتح الياء وضم الميم . قال أبو علي : عامة ما جاء في التنزيل فيما يُحمَد ويُستَحب : أمددت ، على أفعلت كقوله : { أتمدونن بمال } [ النمل : 36 ] { أنما نمدهم به من مال } [ المؤمنون : 55 ] { وأمددناهم بفاكهة } [ الطور : 22 ] وما كان على خلافه يجيء على : مددت ، كقوله : { ويمدهم في طغيانهم } [ البقرة : 15 ] ؛ فهذا يدل على أن الوجه فتح الياء؛ إلا أن وجه قراءة نافع بمنزلة { فبشِّرهم بعذاب أليم } [ التوبة : 34 ] قال المفسرون : { يمدونهم في الغي } أي : يزيِّنونه لهم ، ويريدون منهم لزومه ، فيكون معنى الكلام : أن الذين اتَّقَوا إذا جرَّهم الشيطان إلى خطيئة ، تابوا منها ، وإخوان الجاهلين ، وهم الشياطين ، يمدُّونهم في الغي ، هذا قول الأكثرين من العلماء . وقال بعضهم : الهاء والميم ترجع إلى الشياطين ، وقد جرى ذكرهم لقوله : «من الشيطان» فالمعنى : وإخوان الشياطين يَمدُّونهم .
والثاني : أن الهاء والميم ترجع إلى المتقين؛ فالمعنى : وإخوان المتقين من المشركين ، وقيل : من الشياطين يمدونهم في الغي ، أي : يريدون من المسلمين أن يدخلوا معهم في الكفر ، ذكر هذا القول جماعة منهم ابن الأنباري . فان قيل : كيف قال : { وإخوانهم } وليسوا على دينهم؟ فالجواب : أنا إن قلنا : إنهم المشركون ، فجائز أن يكونوا إخوانهم في النسب ، أو في كونهم من بني آدم ، أو لكونهم يظهرون النصح كالإخوان؛ وإن قلنا : إنهم الشياطين ، فجائز أن يكونوا لكونهم مصاحبين لهم ، والقول الأول أصح .
قوله تعالى : { ثم لا يقصرون } وقرأ الزهري ، وابن أبي عبلة : «لا يقصِّرون» بالتشديد . قال الزجاج : يقال : أقصر يُقْصِر ، وقصّر يقصِّر . قال ابن عباس : لا الإنس يقصِّرون عما يعملون من السيئات ، ولا الشياطين تُقصِر عنهم؛ فعلى هذا يكون قوله : «يقصرون» من فعل الفريقين ، وهذا على القول المشهور؛ ويخرّج على القول الثاني أن يكون هذا وصفاً للاخوان فقط .

وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)

قوله تعالى : { وإذا لم تأتهم بآية } يعني به : المشركين . وفي معنى الكلام قولان .
أحدهما : إذا لم تأتهم بآية سألوها تعنتاً ، قاله ابن السائب .
والثاني : إذا لم تأتهم بآية لإبطاء الوحي ، قاله مقاتل .
وفي قوله : { لولا اجتبيتها } قولان .
أحدهما : هلاَّ افتعلتها من تلقاء نفسك ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد ، والفراء ، والزجاج ، وابن قتيبة في آخرين . وحكي عن الفراء أنه قال : العرب تقول : اجتبيت الكلام ، واختلقته ، وارتجلته : إذا افتعلته من قبل نفسك .
والثاني : هلاَّ طلبتها لنا قبل مسألتك ، ذكره الماوردي . والأول أصح .
قوله تعالى : { قل إنما أتَّبع ما يوحى إليَّ من ربي } أي : ليس الأمر لي .
قوله تعالى : { هذا بصائر من ربكم } يعني القرآن . قال أبو عبيدة : البصائر : بمعنى الحجج والبرهان والبيان ، واحدتها : بصيرة . وقال الزجاج : معنى البصائر : ظهور الشيء وبيانه .

وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)

قوله تعالى : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له } اختلفوا في نزولها على خمسة أقوال .
أحدها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة المكتوبة ، فقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس .
والثاني : أن المشركين كانوا يأتون رسول الله إذا صلى ، فيقول : بعضهم لبعض : لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه ، فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن المسيب .
والثالث : أن فتى من الأنصار كان كلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ، قرأ هو ، فنزلت هذه الآية ، قاله الزهري .
والرابع : أنهم كانوا يتكلمون في صلاتهم أول ما فُرضت ، فيجيء الرجل فيقول لصاحبه : كم صليتم؟ فيقول : كذا وكذا ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة .
والخامس : أنها نزلت تأمر بالإنصات للامام في الخطبة يوم الجمعة ، روي عن عائشة ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، ومجاهد ، وعمرو بن دينار ، في آخرين .

وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)

قوله تعالى : { واذكر ربك في نفسك } في هذا الذكر أربعة أقوال .
أحدها : أنه القراءة في الصلاة ، قاله ابن عباس؛ فعلى هذا ، أُمر أن يقرأ في نفسه في صلاة الإسرار .
والثاني : أنه القراءة خلف الإمام سراً في نفسه ، قاله قتادة .
والثالث : أنه ذِكْرُ الله باللسان .
والرابع : أنه ذِكر الله باستدامة الفكر ، لا يغفل عن الله تعالى ، ذكر القولين الماوردي . وفي المخاطب بهذا الذِكر قولان .
أحدهما : أنه المستمع للقرآن ، إما في الصلاة ، وإما من الخطيب ، قاله ابن زيد .
والثاني : أنه خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعناه عام في جميع المكلفين .
قوله تعالى : { تضرعاً وخيفة } التضرع : الخشوع في تواضع ، والخيفة : الحذر من عقابه .
قوله تعالى : { ودون الجهر من القول } الجهر : الإِعلان بالشيء ، ورجل جهير الصوت : إذا كان صوته عالياً . وفي هذا نص على أنه الذِّكر باللسان ويحتمل وجهين .
أحدهما : قراءة القرآن . والثاني : الدعاء . وكلاهما مندوب إلى إخفائه ، إلا أن صلاة الجهر قد بُيِّن أدبها في قوله : { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } [ الاسراء : 110 ] فأما الغدوُّ فهو جمع غُدوة؛ والآصال : جمع أُصُل ، والأُصُل : جمع أصيل؛ فالآصال : جمع الجمع ، والآصال : العشيات . وقال أبو عبيدة : هي ما بين العصر إلى المغرب؛ وأنشد :
لَعَمْري لأَنْتَ البيتُ أُكْرِمُ أهلَه ... وأقْعُدُ في أفيائه بالأصَائِل
وروي عن ابن عباس أنه قال : يعني بالغدوّ : صلاةَ الفجر ، والآصال : صلاة العصر .

إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)

قوله تعالى : { إن الذين عند ربك } يعني : الملائكة { لا يستكبرون } أي : لا يتكبَّرون ويتعظَّمون { عن عبادته } وفي هذه العبادة قولان .
أحدهما : الطاعة . والثاني : الصلاة والخضوع فيها .
وفي قوله : { ويسبحونه } قولان .
أحدهما : ينزِّهونه عن السوء .
والثاني : يقولون سبحان الله .
قوله تعالى : { وله يسجدون } أي : يصلّون . وقيل : سبب نزول هذه الآية أن كفار مكة قالوا : أنسجد لما تأمُرنا؟ فنزلت هذه الآية ، تخبر أن الملائكة ، وهم أكبر شأناً منكم ، لا يتكبَّرون عن عبادة الله . وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد ، اعتزل الشيطان يبكي ويقول : يا ويله ، أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة ، وأُمرتُ بالسجود فعصيت فلي النار » .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)

قوله تعالى : { يسألونك عن الأنفال } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : " من قتل قتيلاً فله كذا وكذا ، ومن اسر أسيراً فله كذا وكذا ، " فأما المشيخة ، فثبتوا تحت الرايات ، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم ، فقال المشيخة للشبان : أشركونا معكم ، فانا كنا لكم ردءاً ، فأبوا ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت سورة ( الأنفال ) رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثاني : أن سعد بن أبي وقاص أصاب سيفاً يوم بدر ، فقال : يا رسول الله ، هبه لي ، فنزلت هذه الآية ، رواه مصعب بن سعد عن أبيه . وفي رواية أخرى " عن سعد قال : قتلت سعيد بن العاص ، وأخذت سيفه ، فأتيت به رسول الله ، فقال : «اذهب فاطرحه في القَبَض» ، فرجعت ، وبي مالا يعلمه إلا الله ، فما جاوزت إلا قريبا حتى نزلت سورة ( الأنفال ) ، فقال : «اذهب فخذ سيفك» " . وقال السدي : اختصم سعد وناس آخرون في ذلك السيف ، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم منهم ، فنزلت هذه الآية .
والثالث : أن الأنفال كانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليس لأحد منها شيء ، فسالوه أن يعطَيهم منها شيئاً ، فنزلت هذه الآية ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وفي المراد بالأنفال ستة أقوال .
أحدها : أنها الغنائم ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والضحاك ، وأبو عبيدة ، والزجاج ، وابن قتيبة في آخرين . وواحد الانفال : نفل ، قال لبيد :
إنَّ تقوى ربِّنا خيرُ نَفَلْ ... وباذنِ اللهِ ريْثي وعَجَلْ
والثاني : أنها ما نفَّله رسول الله صلى الله عليه وسلم القاتلَ من سلَبِ قتيله .
والثالث : أنها ما شذ من المشركين إلى المسلمين من عَبْد أو دابة بغير قتال ، قاله عطاء . وهذا والذي قبله مرويان عن ابن عباس أيضاً .
والرابع : أنه الخُمس الذي أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم ، قاله مجاهد .
والخامس : أنه أنفال السرايا ، قاله علي بن صالح بن حيّ . وحكي عن الحسن قال : هي السرايا التي تتقدم أمام الجيوش .
والسادس : أنها زيادات يُؤْثِرُ بها الإِمام بعضَ الجيش لما يراه من المصلحة ، ذكره الماوردي . وفي «عن» قولان .
أحدهما : أنها زائدة ، والمعنى : يسألونك الأنفال ، وكذلك قرأ سعد بن أبي وقاص ، وابن مسعود ، وأُبيُّ بن كعب ، وأبو العالية : «يسألونك الأنفال» بحذف { عن } .
والثاني : أنها أصل ، والمعنى : يسألونك عن الأنفال لمن هي؟ أو عن حكم الأنفال؛ وقد ذكرنا في سبب نزولها ما يتعلق بالقولين . وذُكر أنهم إنما سألوا عن حكمها لأنها كانت حراماً على الأُمم قبلهم .

فصل
واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية ، فقال بعضهم : إنها ناسخة من وجه ، منسوخة من وجه ، وذلك أن الغنائم كانت حراماً في شرائع الأنبياء المتقدمين ، فنسخ الله ذلك بهذه الآية ، وجعل الأمر في الغنائم إلى ما يراه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم نسخ ذلك بقوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه } [ الأنفال : 41 ] . وقال آخرون : المراد بالأنفال : شيئان .
أحدهما : ما يجعله الرسول صلى الله عليه وسلم لطائفة من شجعان العسكر ومتقدميه ، يستخرج به نصحهم ويحرِّضهم على القتال .
والثاني : ما يفضُل من الغنائم بعد قسمتها كما روي عن ابن عمر قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سريَّة ، فغنمنا إبلاً ، فأصاب كل واحد منا اثنا عشر بعيراً ، ونفلنا بعيراً بعيراً؛ فعلى هذا هي محكمة ، لأن هذا الحكم باقٍ إلى وقتنا هذا .
فصل
ويجوز النَّفَل قبل إحراز الغنيمة ، وهو أن يقول الإمام : من أصاب شيئاً فهو له ، وبه قال الجمهور . فأما بعد إحرازها ففيه عن أحمد روايتان . وهل يستحق القاتل سَلَبَ المقتول إذا لم يشرطه له الإمام؟ فيه قولان .
أحدهما : يستحقه ، وبه قال الأوزاعي ، والليث ، والشافعي .
والثاني : لا يستحقه ، ويكون غنيمة للجيش ، وبه قال أبو حنيفة ، ومالك؛ وعن أحمد روايتان كالقولين .
قوله تعالى : { قل الأنفال لله والرسول } يحكمان فيها ما أرادا ، { فاتقوا الله } بترك مخالفته { وأصلحوا ذات بينكم } قال الزجاج : معنى «ذات بينكم» حقيقة وصلكم . والبين : الوصل؛ كقوله : { لقد تقطع بينكم } [ الأنعام : 94 ] .
ثم في المراد بالكلام قولان . أحدهما : أن يَرُدَّ القويُّ على الضعيف ، قاله عطاء . والثاني : ترك المنازعة تسليماً لله ورسوله .
قوله تعالى : { وأطيعوا الله ورسوله } أي : اقبلوا ما أُمرتم به في الغنائم وغيرها .

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)

قوله تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله } قال الزجاج : إذا ذُكرتْ عظمتُه وقدرتُه وما خوَّف به من عصاه ، فزعت قلوبهم ، قال الشاعر :
لَعَمْرُكَ ما أدْري وإني لأوجَلُ ... على أيِّنا تَعْدو المنيَّة أوَّلُ
يقال : وجِل يَوْجَل وياجَل ويَيْجَل ويِيجَل ، هذه أربع لغات حكاها سيبويه . وأجودها : يَوْجَل . وقال السدي : هو الرجل يهمُّ بالمعصية فيذكر الله فينزِع عنها .
قوله تعالى : { وإذا تليت عليهم آياته } أي : آيات القرآن .
وفي قوله : { زادتهم إيماناً } ثلاثة أقوال .
أحدها : تصديقاً ، قاله ابن عباس . والمعنى : أنهم كلما جاءهم شيء عن الله آمنوا به فيزدادوا إيماناً بزيادة الآيات .
والثاني : يقيناً ، قاله الضحاك .
والثالث : خشية الله ، قاله الربيع بن أنس . وقد ذكرنا معنى التوكل في [ آل عمران : 122 ] .

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)

قوله تعالى : { الذين يقيمون الصلاة } قال ابن عباس : يعني : الصلوات الخمس . { ومما رزقناهم ينفقون } يعني : الزكاة .

أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)

قوله تعالى : { أولئك هم المؤمنون حقاً } قال الزجاج : { حقاً } منصوب بمعنى دلت عليه الجملة ، والجملة : { أولئك هم المؤمنون } فالمعنى : أحَقَّ ذلك حقاً . وقال مقاتل : المعنى : أولئك هم المؤمنون لا شك في إيمانهم كشكِّ المنافقين .
قوله تعالى : { لهم درجات عند ربهم } قال عطاء : درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم ، والرزق الكريم : ما أُعدَّ لهم فيها .

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)

قوله تعالى : { كما أخرجك ربك } في متعلَّق هذه الكاف خمسة أقوال .
أحدها : أنها متعلقة بالأنفال . ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال . أحدها : أن تأويله : امض لأمر الله في الغنائم وإن كرهوا ، كما مضيت في خروجك من بيتك وهم كارهون ، قاله الفراء . والثاني : أن الانفال لله والرسول صلى الله عليه وسلم بالحق الواجب ، كما أخرجك ربك بالحق ، وإن كرهوا ذلك ، قاله الزجاج . والثالث : أن المعنى : يسألوك عن الأنفال مجادلة ، كما جادلوك في خروجك ، حكاه جماعة من المفسرين .
والثاني : أنها متعلقة بقوله : { فاتقوا الله وأصلحوا } ، والمعنى : إن التقوى والاصلاح خير لكم ، كما كان إخراج الله نبيه محمداً خيراً لكم وإن كرهه بعضكم ، هذا قول عكرمة .
والثالث : أنها متعلقة بقوله : { يجادلونك } فالمعنى : مجادلتهم إياك في الغنائم كاخراج الله إياك إلى بدر وهم كارهون ، قاله الكسائي .
والرابع : أنها متعلقة بقوله : { أولئك هم المؤمنون } والمعنى : وهم المؤمنون حقاً كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، ذكره بعض ناقلي التفسير .
والخامس : أن { كما } في موضع قَسَم ، معناها : والذي أخرجك من بيتك ، قاله أبو عبيدة ، واحتج بأن { ما } في موضع «الذي» ومنه قوله : { وما خلقَ الذكرَ والأنثى } [ الليل : 3 ] قال ابن الأنباري : وفي هذا القول بُعْد ، لأن الكاف ليست من حروف الاقسام . وفي هذا الخروج قولان .
أحدهما : أنه خروجه إلى بدر ، وكره ذلك طائفة من أصحابه ، لأنهم علموا أنهم لا يظفرون بالغنيمة إلا بالقتال .
والثاني : أنه خروجه من مكة إلى المدينة للهجرة .
وفي معنى قوله : { بالحق } قولان .
أحدهما : أنك خرجت ومعك الحق .
والثاني : أنك خرجت بالحق الذي وجب عليك .
وفي قوله : { وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون } قولان .
أحدهما : كارهون خروجك .
والثاني : كارهون صرف الغنيمة عنهم ، وهذه كراهة الطبع لمشقة السفر والقتال ، وليست كراهةً لأمر الله تعالى .
قوله تعالى : { يجادلونك في الحق } يعني : في القتال يوم بدر ، لأنهم خرجوا بغير عُدَّة ، فقالوا : هلاَّ أخبرتنا بالقتال لنأخذ العُدَّة ، فجادلوه طلبا للرخصة في ترك القتال . وفي قوله { بعد ما تبين } ثلاثة أقوال .
أحدها : تبيَّن لهم فرضُه . والثاني : تبيَّن لهم صوابه . والثالث : تبيَّن لهم أنك لا تفعل إلا ما أُمِرتَ به ، وفي «المجادلين» قولان .
أحدهما : أنهم طائفة من المسلمين ، قاله ابن عباس ، والجمهور .
والثاني : أنهم المشركون ، قاله ابن زيد . فعلى هذا ، يكون جدالهم في الحق الذي هو التوحيد ، لا في القتال . فعلى الأول ، يكون معنى قوله : { كأنما يساقون إلى الموت } أي : في لقاء العدو { وهم ينظرون } ، لأن أشد حال من يساق إلى الموت أن يكون ناظراً إليه ، وعالماً به . وعلى قول ابن زيد : كأنما يساقون إلى الموت حين يُدعَوْن إلى الإسلام لكراهتهم إياه .

وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)

قوله تعالى : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين } قال أهل التفسير : أقبل أبو سفيان من الشام في عير لقريش ، حتى إذا دنا من بدر ، نزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فخرج في جماعة من أصحابه يريدهم ، فبلغهم ذلك فبعثوا عمرو ابن ضمضم الغفاري إلى مكة مستغيثاً ، فخرجت قريش للمنع عنها ، ولحق أبو سفيان بساحل البحر ، ففات رسولَ الله ، ونزل جبريل بهذه الآية : { وإذ يعدكم الله } والمعنى : اذكروا إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين . والطائفتان : أبو سفيان وما معه من المال ، وأبو جهل ومن معه من قريش؛ فلما سبق أبو سفيان بما معه ، كتب إلى قريش : إن كنتم خرجتم لتُحرِزوا ركائبكم ، فقد أحرزتُها لكم . فقال أبو جهل : والله لا نرجع . وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد القوم ، فكره أصحابه ذلك وودُّوا أن لو نالوا الطائفة التي فيها الغنيمة دون القتال؛ فذلك قوله { وتَوَدُّونَ أن غير ذات الشوكة } أي : ذاتِ السلاح . يقال : فلان شاكي السلاحِ؛ بالتخفيف ، وشاكٌّ في السلاح؛ بالتشديد ، وشائك . قال أبو عبيدة : ومجاز الشوكة : الحد؛ يقال : ما أشد شوكةَ بني فلان ، أي : حَدَّهم . وقال الأخفش : إنما أنَّث { ذات الشوكة } لأنه يعني الطائفة .
قوله تعالى : { ويريد الله أن يحق الحق } في المراد بالحق قولان .
أحدهما : أنه الإسلام ، قاله ابن عباس في آخرين .
والثاني : أنه القرآن ، والمعنى : يُحِق ما أنزل إليك من القرآن .
قوله تعالى : { بكلماته } أي : بِعداتِه التي سبقت من إعزاز الدين ، كقوله : { ليظهره على الدين كله } [ التوبة : 33 ] .
قوله تعالى : { ويقطع دابر الكافرين } أي : يجتث أصلهم؛ وقد بَيَّنَّا ذلك في [ الأنعام : 45 ] .
قوله تعالى : { ليحق الحق } المعنى : ويريد أن يقطع دابر الكافرين كيما يحق الحق . وفي هذا الحق القولان المتقدمان . فأما الباطل ، فهو الشرك؛ والمجرمون هاهنا : المشركون .

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)

قوله تعالى : { إذ تستغيثون ربكم } سبب نزولها ما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر ، نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيِّف ، ونظر إلى المشركين وهم ألف وزيادة ، فاستقبل القبلة ، ثم مدَّ يديه وعليه رداؤه وإزاره ، ثم قال : " اللهم أنجز ما وعدتني ، اللهم أنجز ما وعدتني ، اللهم إنك إن تُهْلِكْ هذه العصابة لا تُعبَدْ في الأرض أبداً " فما زال يستغيث ربه ويدعوه ، حتى سقط رداؤه ، فأتاه أبو بكر الصديق فأخذ رداءه فردّاه به ، ثم التزمه من ورائه ، وقال : يا نبي الله كذاك مناشدتك ربك ، فانه سينجز لك ما وعدك؛ وأنزل الله تعالى هذه الآية .
قوله تعالى : { إذ } قال ابن جرير : هي من صلة «يبطل» . وفي قوله : { تستغيثون } قولان .
أحدهما : تستنصرون . والثاني : تستجيرون . والفرق بينهما أن المستنصر يطلب الظفر ، والمستجير يطلب الخلاص . وفي المستغيثين قولان .
أحدهما : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، قاله الزهري .
والثاني : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله السدي . فأما الإمداد فقد سبق في [ آل عمران : 124 ] . وقوله : { بألف } قرأ الضحاك ، وأبو رجاء : «بآلاف» بهمزة ممدودة وبألف على الجمع . وقرأ أبو العالية ، وأبو المتوكل : «بألوف» برفع الهمزة واللام وبواو بعدها على الجمع . وقرأ ابن حَذْلَم ، والجحدري ، «بأُلُفٍ» بضم الألف واللام من غير واو ولا ألف ، وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو عمران : «بِيَلْفٍ» بياء مفتوحة وسكون اللام من غير واو ولا ألف ، فأما قوله : { مردِفين } فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «مردِفين» بكسر الدال . قال ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد ، والفراء : هم المتتابعون . وقال أبو علي : يحتمل وجهين .
أحدهما : أن يكونوا مردفين مثلهم ، تقول : أردفت زيداً دابتي؛ فيكون المفعول الثاني محذوفاً في الآية .
والثاني : أن يكونوا جاؤوا بعدهم؛ تقول العرب : بنو فلان مردوفونا ، أي : هم يجيؤون بعدنا . قال أبو عبيدة : مردِفين : جاؤوا بعدُ . وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم : «مردَفين» بفتح الدال . قال الفراء : أراد : فُعِلَ ذلك بهم ، أي :
إن الله أردف المسلمين بهم . وقرأ معاذ القارىء ، وأبو المتوكل الناجي ، وأبو مجلز : «مُرَدَّفين» بفتح الراء والدال مع التشديد . وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو عمران «مُردِفين» برفع الراء وكسر الدال . وقال الزجاج : يقال : ردفت الرجلَ : إذا ركبتُ خلفه ، وأردفتُه : إذا أركبتُه خلفي . ويقال : هذه دابة لا تُرادِف . ولا يقال : لا تُردِف . ويقال : أردفتُ الرجلَ : إذا جئتَ بعده . فمعنى «مردفين» يأتون فرقة بعد فرقة . ويجوز في اللغة مُرَدِّفين ومُرُدِّفين ومُرِدِّفين ، فالدال مكسورة مشددة على كل حال ، والراء يجوز فيها الفتح والضم والكسر . قال سيبويه : الأصل مرتدفين ، فأدغمت التاء في الدال فصارت مُرَدِّفين لأنك طرحت حركة التاء على الراء؛ وإن شئت لم تطرح حركة التاء ، وكسرت الراء لالتقاء الساكنين . والذين ضموا الراء ، جعلوها تابعة لضمة الميم . وقد سبق في [ آل عمران ] تفسير قوله : { وما جعله الله إلا بشرى } [ آل عمران : 126 ] وكان مجاهد يقول : ما أمد الله النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من هذه الألف التي ذُكرت في [ الأنفال : 10 ] ، وما ذَكَر الثلاثة والخمسةَ إلا بشرى ، ولم يُمَدُّوا بها؛ والجمهور على خلافه ، وقد ذكرنا اختلافهم في عدد الملائكة في [ آل عمران : 126 ] .

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)

قوله تعالى : { إذ يغشاكم النعاسُ أمنة منه } قال الزجاج : { إذ } موضعها نصب على معنى : وما جعله الله إلا بشرى ، في ذلك الوقت ، ويجوز أن يكون المعنى : اذكروا إذ يغشاكم النعاس . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «إذ يغشاكم» بفتح الياء وجزم الغين وفتح الشين وألف «النعاسُ» بالرفع . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «يُغَشِّيكم» بضم الياء وفتح الغين مشددة الشين مكسورة «النعاسَ» بالنصب . وقرأ نافع : «يُغْشِيكم» بضم الياء وجزم الغين وكسر الشين «النعاسَ» بالنصب . وقال أبو سليمان الدمشقي : الكلام راجع على قوله : { ولتطمئن به قلوبكم } إذ يغشاكم النعاس . قال الزجاج : و«أمنةَ» منصوب : مفعول له ، كقولك : فعلت ذلك حذر الشر . يقال : أمنتُ آمَنُ أمْناً وأماناً وأمَنَةً . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو المتوكل ، وأبو العالية ، وابن يعْمر ، وابن محيصن : { أمْنَةً منه } بسكون الميم .
قوله تعالى : { وينزِّلُ عليكم من السماء ماء } قال ابن عباس : نزل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، وبينه وبين الماء رملة ، وغلبهم المشركون على الماء ، فأصاب المسلمينَ الظمأُ ، وجعلوا يصلّون محدِثين ، وألقى الشيطان في قلوبهم الوسوسة ، يقول : تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء ، وأنتم تصلُّون محدِثين ، فأنزل الله عليهم مطراً ، فشربوا وتطَّهروا ، واشتد الرمل حين أصابه المطر ، وأزال الله رجز الشيطان ، وهو وسواسه ، حيث قال : قد غلبكم المشركون على الماء . وقال ابن زيد : رجز الشيطان : كيده ، حيث أوقع في قلوبهم أنه ليس لكم بهؤلاء القوم طاقة . وقال ابن الأنباري : ساءهم عدم الماء عند فقرهم إليه ، فأرسل الله السماء ، فزالت وسوسة الشيطان التي تُكسب عذابَ الله وغضبه ، إذ الرجز : العذاب .
قوله تعالى : { وليربط على قلوبكم } الربط : الشد . و«على» في قول بعضهم صلة ، فالمعنى : وليربط قلوبكم . وفي الذي ربط به قلوبهم وقوَّاها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الصبر ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنه الإيمان ، قاله مقاتل .
والثالث : أنه المطر الذي أرسله يثبِّت به قلوبهم بعد اضطرابها بالوسوسة التي تقدم ذكرها .
قوله تعالى : { ويثبت به الأقدام } في هاء «به» قولان .
أحدهما : أنها ترجع إلى الماء؛ فان الأرض كانت رَمِلة ، فاشتدت بالمطر ، وثبتت عليها الأقدام ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي في آخرين .
والثاني : انها ترجع إلى الربط ، فالمعنى : ويثبت بالربط الأقدام ، ذكره الزجاج .

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)

قوله تعالى : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة إني معكم } قال الزجاج : { إذ } في موضع نصب ، والمعنى : وليربط إذ يوحي . ويجوز أن يكون المعنى : واذكروا إذ يوحي . قال ابن عباس : وهذا الوحي : إلهام .
قوله تعالى : { إلى الملائكة } وهم الذين أمدَّ بهم المسلمين . { أني معكم } بالعون والنصرة . { فثبِّتوا الذين آمنوا } فيه أربعة أقوال .
أحدها : قاتلوا معهم ، قاله الحسن .
والثاني : بشِّروهم بالنصر ، فكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل ، ويقول : أبشروا فان الله ناصركم ، قاله مقاتل .
والثالث : ثبِّتوهم بأشياء تُلْقُونها في قلوبهم تَقوى بها . ذكره الزجاج .
والرابع : صححوا عزائمهم ونياتهم على الجهاد ، ذكره الثعلبي . فأما الرعب : فهو الخوف . قال السائب بن يسار : كنا إذا سألنا يزيد بن عامر السُّوائيَّ عن الرعب الذي ألقاه الله في قلوب المشركين كيف؟ كان يأخذ الحصى فيرمي به الطَّست فيطِنُّ ، فيقول : كنا نجد في أجوافنا مثل هذا .
قوله تعالى : { فاضربوا فوق الأعناق } في المخاطب بهذا قولان .
أحدهما : أنهم الملائكة ، قال ابن الأنباري : لم تعلم الملائكة أين تقصد بالضرب من الناس ، فعلَّمهم الله تعالى ذلك .
والثاني : أنهم المؤمنون ، ذكره جماعة من المفسرين . وفي معنى الكلام قولان .
أحدهما : فاضربوا الأعناق ، و«فوق» صلة ، وهذا قول عطية ، والضحاك ، والأخفش ، وابن قتيبة . وقال أبو عبيدة : «فوق» بمعنى «على» ، تقول : ضربته فوق الرأس ، وضربته على الرأس .
والثاني : اضربوا الرؤوس لانها فوق الأعناق ، وبه قال عكرمة .
وفي المراد بالبنان ثلاثة أقوال .
أحدها : إنه الأطراف ، قاله ابن عباس ، والضحاك . وقال الفراء : علَّمَهم مواضع الضرب ، فقال : اضربوا الرؤوس والأيدي والأرجل . وقال أبو عبيدة ، وابن قتيبة : البنان أطراف الأصابع . قال ابن الأنباري : واكتفى بهذا من جملة اليد والرِّجل .
والثاني : أنه كل مَفْصِل ، قاله عطية ، والسدي .
والثالث : أنه الأصابع وغيرها من جميع الأعضاء ، والمعنى : أنه أباحهم قتلهم بكل نوع ، هذا قول الزجاج . قال : واشتقاق البنان من قولهم : أبَنَّ بالمكان : إذا أقام به؛ فالبنان به يُعتمل كلُّ ما يكون للاقامة والحياة .
قوله تعالى : { ذلك بأنهم شاقُّوا الله } { ذلك } إشارة إلى الضرب ، { وشاقوا } بمعنى : جانبوا ، فصاروا في شِقٍّ غيرِ شقِّ المؤمنين .
قوله تعالى : { ذلكم فذوقوه } خطاب للمشركين؛ والمعنى : ذوقوا هذا في عاجل الدنيا . وفي فتح «أنَّ» قولان .
أحدهما : باضمار فعل ، تقديره : ذلكم فذوقوه واعلموا أن للكافرين .
والثاني : أن يكون المعنى : ذلك بأن للكافرين عذاب النار . فاذا ألقيت الباء ، نصبت . وإن شئت ، جعلت «أن» في موضع رفع ، يريد : ذلكم فذوقوه ، وذلكم أن للكافرين عذاب النار ، هذا معنى قول الفراء .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)

قوله تعالى : { إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً } الزحف : جماعة يزحفون إلى عدوهم؛ قاله الليث . والتزاحف : التداني والتقارب ، قال الأعشى :
لِمَنِ الظَّعَائِنُ سَيْرُهُنَّ تَزَحُّف ... قال الزجاج : ومعنى الكلام : إذا واقفتموهم للقتال فلا تُدبروا { ومن يولِّهم } يوم حربهم { دبره } إلا أن يتحرف ليقاتل ، أو يتحيز إلى فئة ، ف «متحرِّفاً» و «متحيِّزاً» منصوبان على الحال . ويجوز أن يكون نصبهما على الاستثناء؛ فيكون المعنى : إلا رجلاً متحرفاً أو متحيزاً . وأصل متحيز : مُتْحَيْوِز؛ فأدغمت الياء في الواو .
قوله تعالى : { ومأواه جهنم } أي : مرجعه إليها؛ ولا يدل ذلك على التخليد .
فصل
اختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال قوم : هذه خاصة في أهل بدر ، وهو مروي عن ابن عباس ، وأبي سعيد الخدري ، والحسن ، وابن جبير ، وقتادة ، والضحاك . وقال آخرون : هي على عمومها في كل منهزم؛ وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً . وقال آخرون : هي على عمومها ، غير أنها نسخت بقوله : { فان يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } [ الأنفال : 66 ] فليس للمسلمين أن يفروا من مِثلَيهم ، وبه قال عطاء بن أبي رباح . وروى أبو طالب عن أحمد أنه سئل عن الفراء من الزحف ، فقال : لا يفر رجل من رجلين؛ فان كانوا ثلاثة ، فلا بأس . وقد نُقل نحو هذا عن ابن عباس . وقال محمد بن الحسن : إذا بلغ الجيش اثني عشر ألفاً ، فليس لهم أن يفروا من عدوهم ، وإن كثُر عددهم . ونقل نحو هذا عن مالك؛ ووجهه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما هُزم قوم إذا بلغوا اثني عشر ألفاً من قلة " إذا صبروا وصدقوا .

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)

قوله تعالى : { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } وقرأ ابن عامر ، وأهل الكوفة إلا عاصماً «ولكِنِ اللهُ قتلهم» { ولكنِ اللهُ رمى } بتخفيف النون ورفع اسم الله فيهما . وسبب نزول هذا الكلام أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجعوا عن بدر جعلوا يقولون : قَتَلْنا وقَتَلْنا ، هذا معنى قول مجاهد .
فأما قوله تعالى : { وما رميت إذ رميت } ففي سبب نزوله ثلاثة أقوال .
أحدها : «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي : ناولني كفاً من حصباء ، فناوله فرمى به في وجوه القوم ، فما بقي منهم أحد إلا وقعت في عينه حصاة» ، وقيل : أخذ قبضة من التراب ، فرمى بها ، وقال : «شاهت الوجوه»؛ فما بقي مشرك إلا شُغل بعينه يعالج التراب الذي فيها ، فنزلت : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } وذلك يوم بدر؛ هذا قول الأكثرين . وقال ابن الأنباري : وتأويل شاهت : قبحت ، يقال : شاه وجهه يشوه شَوهاً وشُوهة ، ويقال : رجل أشوه ، وامرأة شوهاء : إذا كانا قبيحين .
والثاني : أن أُبي بن خلف أقبل يوم أُحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريده ، فاعترض له رجال من المؤمنين ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلوا سبيله ، وطعنه النبي صلى الله عليه وسلم بحرتبه ، فسقط أُبيٌّ عن فرسه ، ولم يخرج من طعنته دم ، فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور ، فقالوا : إنما هو خدش ، فقال : والذي نفسي بيده ، لو كان الذي بي بأهل المجاز لماتوا أجمعون ، فمات قبل أن يَقْدَم مكة؛ فنزلت هذه الآية ، رواه سعيد بن المسيب عن أبيه .
والثالث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى يوم خيبر بسهم ، فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحَقيق وهو على فراشه ، فنزلت هذه الآية ، ذكره أبو سليمان الدمشقي في آخرين .
قوله تعالى : { ولكن الله قتلهم } اختلفوا في معنى إضافة قتلهم إليه على أربعة أقوال .
أحدها : أنه قتلهم بالملائكة الذين أرسلهم . والثاني : أنه أضاف القتل إليه لأنه تولَّى نصرهم . والثالث : لأنه ساقهم إلى المؤمنين وأمكنهم منهم . والرابع : لأنه ألقى الرعب في قلوبهم . وفي قوله : { وما رميت إذ رميت } ثلاثة أقوال .
أحدها : أن المعنى : وما ظفرت أنت ولا أصبت ، ولكن الله اظفرك وأيدك ، قاله أبو عبيدة .
والثاني : وما بلغ رميُك كفاً من تراب أو حصى أن تملأ عيون ذلك الجيش الكثير ، إنما الله تولى ذلك ، قاله الزجاج .
والثالث : وما رميت قلوبهم بالرعب إذ رميت وجوههم بالتراب ، ذكره ابن الأنباري .
قوله تعالى : { وليُبليَ المؤمنين منه بلاءً حسناً } أي : لُينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والأجر . { إن الله سميع } لدعائهم { عليم } بنيَّاتهم .
قوله تعالى : { ذلكم } قال الزجاج : موضعه رفع؛ والمعنى : الأمر ذلكم . وقال غيره : «ذلكم» إشارة إلى القتل والرمي والبلاء الحسن . { وأن الله } أي : واعلموا أن الله . والذي ذكرناه في فتح «أنَّ» في قوله : { وأنَّ للكافرين عذاب النار } هو مذكور في فتح «أنّ» هذه .
قوله تعالى : { مُوَهِّنٌ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمر : «مُوَهِّنٌ» بفتح الواو وتشديد الهاء منونة «كيدَ» بالنصب . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «موهنٌ» ساكنة الواو «كيدَ» بالنصب . وروى حفص عن عاصم : «موهنُ كيدِ» مضاف . والموهن : المضْعِف ، والكيد : المكر .

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)

قوله تعالى : { إن تستفتحوا } في سبب نزولها خمسة أقوال .
أحدها : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استنصروا الله وسألوه الفتح ، فنزلت هذه الآية؛ وهذا المعنى مروي عن أبي بن كعب ، وعطاء الخراساني .
والثاني : أن أبا جهل قال : اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : أن المشركين أخذوا بأستار الكعبة قبل خروجهم إلى بدر ، فقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم القبيلتين؛ فنزلت هذه الآية ، قاله السدي .
والرابع : أن المشركين قالوا : اللهم إنا لا نعرف ما جاء به محمد ، فافتح بيننا وبينه بالحق؛ فنزلت هذه الآية ، قاله عكرمة .
والخامس : أنهم قالوا بمكة : { اللهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء . . . } [ الأنفال : 32 ] الآية فعذِّبوا يوم بدر ، قاله ابن زيد . فخرج من هذه الأقوال أن في المخاطَبين بقوله : { إن تستفتحوا } قولان .
أحدهما : أنهم المؤمنون . والثاني : المشركون؛ وهو الأشهر .
وفي الاستفتاح قولان .
أحدهما : انه الاستنصار ، قاله ابن عباس ، والزجاج في آخرين . فان قلنا : إنهم المسلمون ، كان المعنى : إن تستنصروا فقد جاءكم النصر بالملائكة؛ وإن قلنا : إنهم المشركون؛ احتمل وجهين . أحدهما : إن تستنصروا فقد جاء النصر عليكم . والثاني : إن تستنصروا لأحب الفريقين إلى الله ، فقد جاء النصر لأحب الفريقين .
والثاني : أن الاستفتاح : طلب الحكم ، والمعنى : إن تسألوا الحكم بينكم وبين المسلمين ، فقد جاءكم الحكم؛ وإلى هذا المعنى ذهب عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة . فأما قوله : { وإن تنتهوا فهو خير لكم } فهو خطاب للمشركين على قول الجماعة .
وفي معناه قولان .
أحدهما : إن تنتهوا عن قتال محمد صلى الله عليه وسلم والكفر ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : إن تنتهوا عن استفتاحكم ، فهو خير لكم ، لأنه كان عليهم ، لا لهم ، ذكره الماوردي .
وفي قوله : { وإن تعودوا نعد } قولان .
أحدهما : وإن تعودوا إلى القتال ، نَعُدْ إلى هزيمتكم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : وإن تعودوا إلى الاستفتاح ، نَعُدْ إلى الفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله السدي .
قوله تعالى : { ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً } أي : جماعتكم وإن كثرت ، { وأن الله مع المؤمنين } بالعون والنصر . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم : «وإِن الله» بكسر الألف . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «وأَن» بفتح الألف . فمن قرأ بكسر «أن» استأنف . قال الفراء : وهو أحب إليَّ من فتحها . ومن فتحها أراد : ولأن الله مع المؤمنين .
قوله تعالى : { ولا تولَّوا عنه } فيه قولان .
أحدهما : لا تولَّوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والثاني : لا تولَّوا عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم { وأنتم تسمعون } ما نزل من القرآن ، روي القولان عن ابن عباس .

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)

قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا } اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في بني عبد الدار بن قصيّ ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : في اليهود قريظة والنضير ، روي عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : في المنافقين ، قاله ابن إسحاق ، والواقدي ، ومقاتل .
وفي معنى الكلام قولان .
أحدهما : أنهم قالوا : سمعنا ، ولم يتفكَّرُوا فيما سمعوا ، فكانوا كمن لم يسمع ، قاله الزجاج .
والثاني : أنهم قالوا : سمعنا سماع من يقبل ، وليسوا كذلك ، حكي عن مقاتل .
قوله تعالى : { إن شر الدواب عند الله الصم البكم } اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما : أنها نزلت في بني عبد الدار بن قصيّ ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : في المنافقين ، قاله ابن إسحاق ، والواقدي . والدواب : اسم كل حيوان يَدِبُّ وقد بينا في سورة [ البقرة : 18 ] معنى الصم والبكم ، ولم سمَّاهم بذلك .

وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)

قوله تعالى : { ولو علم الله فيهم خيراً } فيه أربعة أقوال .
أحدها : ولو علم فيهم صدقاً وإسلاماً .
والثاني : لو علم فيهم خيراً في سابق القضاء .
والثالث : لو علم أنهم يَصْلُحون .
والرابع : لو علم أنهم يَصْغَوْنَ .
وفي قوله : { لأسمعهم } ثلاثة أقوال .
أحدها : لأسمعهم جواب كلِّ ما يسألون عنه ، قاله الزجاج .
والثاني : لرزقهم الفهم ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
والثالث : لأسمعهم كلام الموتى يَشهدون بنبوَّتك ، حكاه الماوردي . وفي قوله : { وهم معرضون } قولان .
أحدهما : مكذِّبون ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : وهم معرضون عما أسمعهم لمعاندتهم ، قاله الزجاج .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)

قوله تعالى : { استجيبوا } أي : أجيبوا .
قوله تعالى : { إذا دعاكم } يعني : الرسول { لما يحييكم } وفيه ستة أقوال .
أحدها : أن الذي يحييكم كلُّ ما يدعو الرسولُ إليه ، وهو معنى قول أبي صالح عن ابن عباس . وفي أفراد البخاري " من حديث أبي سعيد بن المعلىّ قال : كنت أصلي في المسجد ، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم أجبه ، ثم أتيتُه فقلت : يا رسول الله ، إني كنت أصلي ، فقال : «ألم يقل الله : استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم؟» قلت : بلى ، ولا أعود إن شاء الله " . والثاني : أنه الحق ، رواه شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد .
والثالث : أنه الإيمان ، رواه ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال السدي .
والرابع : أنه اتِّباع القرآن ، قاله قتادة ، وابن زيد .
والخامس : أنه الجهاد ، قاله ابن إسحاق . وقال ابن قتيبة : هو الجهاد الذي يحيي دينَهم ويعليهم .
والسادس : أنه إحياء أمورهم ، قاله الفراء . فيخرَّج في إحيائهم خمسة أقوال .
أحدها : أنه إصلاح أمورهم في الدنيا والآخرة .
والثاني : بقاء الذكر الجميل لهم في الدنيا ، وحياة الأبد في الآخرة .
والثالث : أنه دوام نعيمهم في الآخرة .
والرابع : أنه كونهم مؤمنين ، لأن الكافر كالميِّت .
والخامس : أنه يحييهم بعد موتهم ، وهو على قول من قال هو الجهاد ، لأن الشهداءَ أحياءٌ ، ولأن الجهاد يُعِزُّهم بعد ذُلِّهم ، فكأنَّهم صاروا به أحياءً .
قوله تعالى : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } وفيه عشرة أقوال .
أحدها : يحول بين المؤمن وبين الكفر ، وبين الكافر وبين الإيمان ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير .
والثاني : يحول بين المؤمن وبين معصيته ، وبين الكافر وبين طاعته ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك ، والفراء .
والثالث : يحول بين المرء وقلبه حتى لا يتركه يعقل ، قاله مجاهد . قال ابن الأنباري : المعنى : يحول بين المرء وعقله ، فبادروا الأعمال ، فانكم لا تأمنون زوال العقول ، فتحصُلون على ما قدمتم .
والرابع : أن المعنى : هو قريب من المرء ، لا يخفى عليه شيء من سرِّه ، كقوله : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } [ ق : 16 ] وهذا معنى قول قتادة .
والخامس : يحول بين المرء وقلبه ، فلا يستطيع إيماناً ولا كفراً إلا بإذنه ، قاله السدي .
والسادس : يحول بين المرء وبين هواه ، ذكره ابن قتيبة .
والسابع : يحول بين المرء وبين ما يتمنَّى بقلبه من طول العمر والنَّصر وغيره .
والثامن : يحول بين المرء وقلبه بالموت ، فبادروا الأعمال قبل وقوعه .
والتاسع : يحول بين المرء وقلبه بعلمه ، فلا يضمر العبد شيئاً في نفسه إلا والله عالم به ، لا يقدر على تغييبه عنه .
والعاشر : يحول بين ما يوقعه في قلبه من خوف أو أمن ، فيأمن بعد خوفه ، ويخاف بعد أمنه ، ذكر معنى هذه الأقوال ابن الأنباري .
وحكى الزجاج : أنهم لما فكَّروا في كثرة عدوِّهم وقلة عددهم ، فدخل الخوف قلوبهم ، أعلمهم الله تعالى أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدله بالخوفِ الأمنَ ، ويبدل عدوَّهُ بالقوَّةِ الضعفَ ، وقد أعلمتْ هذه الآية أن الله تعالى هو المقلِّب للقلوب ، المتصرِّف فيها .
قوله تعالى : { وأنه إليه تحشرون } أي : للجزاء على أعمالكم .

وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)

قوله تعالى : { واتقوا فتنةً } اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، قاله ابن عباس ، والضحاك . وقال الزبير بن العوام : لقد قرأناها زماناً ، وما نُرى أنَّا مِن أهلها ، فاذا نحن المَعْنِيُّون بها .
والثاني : أنها نزلت في رجلين من قريش ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، ولم يسمِّهما .
والثالث : أنها عامة ، قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : في هذه الآية ، أمر الله المؤمنين أن لا يُقِرُّوا المنكر بين أظهرهم ، فيعمهم الله بالعذاب . وقال مجاهد : هذه الآية لكم أيضاً .
والرابع : أنها نزلت في علي ، وعمار ، وطلحة ، والزبير ، قاله الحسن . وقال السدي : نزلت في أهل بدر خاصة ، فأصابتهم يوم الجمل .
وفي الفتنة هاهنا سبعة أقوال .
أحدها : القتال . والثاني : الضلالة . والثالث : السكوت عن إنكار المنكر . والرابع : الاختبار . والخامس : الفتنة بالأموال والأولاد . والسادس : البلاء . والسابع : ظهور البدع . فأما قوله : { لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } فقال الفراء : أمرهم ، ثم نهاهم ، وفيه طرف من الجزاء . وإن كان نهياً ، كقوله : { يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنَّكم سليمان } [ النمل : 18 ] أمرهم ، ثم نهاهم؛ وفيه تأويل الجزاء . وقال الأخفش : { لا تصيبن } ليس بجواب ، وإنما هو نهي بعد نهي؛ ولو كان جواباً ما دخلت النون . وذكر ابن الأنباري فيها قولين .
أحدهما : أن الكلام تأويله تأويل الخبر ، إذ كان المعنى : إن لا يتَّقوها ، تُصِبْ الذين ظلموا ، أي : وغيرهم ، أي : لا تقع بالظالمين دون غيرهم ، لكنها تقع بالصالحين والطالحين؛ فلما ظهر الفعل ظهور النهي ، والنهي راجع إلى معنى الأمر ، إذ القائل يقول : لا تقم ، يريد : دع القيام ، ووقع مع هذا جواباً للأمر ، أو كالجواب له ، فأُكِّد له شبه النهي ، فدخلت النون المعروف دخولها في النهي وما يضارعه .
والثاني : أنها نهي محض ، معناه : لا يقصدنَّ الظالمون هذه الفتنة ، فيهلكوا؛ فدخلت النون لتوكيد الاستقبال ، كقوله : { لا يحطمنَّكم } . وللمفسرين في معنى الكلام قولان .
أحدهما : لا تصيبن الفتنةُ الذين ظلموا .
والثاني : لا يصيبن عقاب الفتنة . فان قيل : فما ذنب مَن لم يظلم؟ فالجواب : أنه بموافقته للأشرار ، أو بسكوته عن الإنكار ، أو بتركه للفرار ، استحق العقوبة . وقد قرأ عليٌّ ، وابن مسعود ، وأُبيُّ بن كعب : «لَتصيبنَّ الذين ظلموا» بغير ألف .

وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)

قوله تعالى : { واذكروا إذْ أنتم قليلٌ } قال ابن عباس : نزلت في المهاجرين خاصة ، كانت عِدَّتُهم قليلةً ، وهم مقهورون في أرض مكة ، يخافون أن يستلبهم المشركون . وفي المراد بالناس ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم أهل مكة ، قاله ابن عباس . والثاني : فارس والروم ، قاله وهب بن منبِّه . والثالث : أنهم المشركون الذين حضروا بدراً ، والمسلمون قليلون يومئذ ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { فآواكم } فيه قولان .
أحدهما : فآواكم إلى المدينة بالهجرة ، قاله ابن عباس والأكثرون .
والثاني : جعل لكم مأوى تسكنون فيه آمنين ، ذكره الماوردي .
وفي قوله : { وأيدكم بنصره } قولان .
أحدهما : قوَّاكم بالملائكة يوم بدر ، قاله الجمهور . والثاني : عضدكم بنصره في بدر وغيرها ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وفي قوله : { ورزقكم من الطيبات } قولان .
أحدهما : أنها الغنائم التي أحلَّها لهم ، قاله السدي .
والثاني : أنها الخيرات التي مكنَّهم منها ، ذكره الماوردي .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)

قوله تعالى : { لا تخونوا الله والرسول } اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر ، وذاك " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر قريظة سألوه أن يصالحهم على ما صالح عليه بني النضير ، على أن يسيروا إلى أرض الشام ، فأبى أن يعطيَهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فأبَوا ، وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة ، وكان مناصحاً لهم ، لأن ولده وأهله كانوا عندهم ، فبعثه إليهم ، فقالوا : ما ترى ، أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه : إنه الذبح فلا تفعلوا ، فأطاعوه ، فكانت تلك خيانته؛ قال أبو لبابة : فما زالت قدمايَ حتى عَرفتُ أني قد خنت الله ورسوله ، ونزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس ، والأكثرين . وروي أن أبا لبابة ربط نفسه بعد نزول هذه الآية إلى سارية من سواري المسجد ، وقال : والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموتَ أو يتوب الله عليَّ ، فمكث سبعة أيام كذلك ، ثم تاب الله عليه ، فقال : والله لا أَحُلُّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يَحُلنُّي ، فجاء فحلَّه بيده ، فقال أبو لبابة : إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب ، وأن أنخلع من مالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يجزئك الثلث» " . والثاني : " أن جبريل أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا ، فقال النبي الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : «اخرجوا إليه واكتموا» فكتب إليه رجل من المنافقين : إن محمداً يريدكم ، فخذوا حذركم ، فنزلت هذه الآية " ، قاله جابر بن عبد الله .
والثالث : أنها نزلت في قتل عثمان بن عفان ، قاله المغيرة بن شعبة .
والرابع : أن قوماً كانوا يسمعون الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيفشونه حتى يبلغ المشركين ، فنزلت هذه الآية ، قاله السدي . وفي خيانة اللهِ قولان .
أحدهما : ترك فرائضه . والثاني : معصية رسوله . وفي خيانة الرسول قولان . أحدهما : مخالفته في السرِّ بعد طاعته في الظاهر . والثاني : ترك سنّته .
وفي المراد بالأمانات ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها الفرائض ، قاله ابن عباس . وفي خيانتها قولان . أحدهما : تنقيصها . والثاني : تركها .
والثاني : أنها الدِّين ، قاله ابن زيد . فيكون المعنى : لا تُظهروا الإيمان وتُبطنوا الكفر .
والثالث : أنها عامة في خيانة كلِّ مُؤتَمَنٍ ، ويؤكِّده نزولها في ما جرى لأبي لبابة .

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

قوله تعالى : { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } قال ابن عباس : هذا خطاب لأبي لبابة ، لأنه كانت له أموال وأولاد عند بني قريظة . فأما الفتنة ، فالمراد بها : الابتلاء والامتحان الذي يُظهر ما في النفس من اتِّباع الهوى أو تجنُّبِه { وأن الله عنده أجر عظيم } خير من الأموال والأولاد .
قوله تعالى : { إن تتقوا الله } أي : بترك معصيته ، واجتناب الخيانة لله ورسوله .
قوله تعالى : { يجعل لكم فرقاناً } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أنه المخرج ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن قتيبة . والمعنى : يجعل لكم مخرجاً في الدين من الضلال .
والثاني : أنه النجاة ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والسدي .
والثالث : أنه النصر ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال الفراء .
والرابع : أنه هدى في قلوبهم يفرقون به بين الحق والباطل ، قاله ابن زيد ، وابن إسحاق .

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)

قوله تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } هذه الآية متعلقة بقوله : { وذكروا إذ كنتم قليلاً } [ الأعراف : 86 ] فالمعنى : أَذْكِرِ المؤمنين ما مَنَّ الله به عليهم ، واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا .
الإشارة إلى كيفية مكرهم
قال أهل التفسير : لما بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ، وأمر أصحابه أن يلحقوا بالمدينة ، أشفقت قريش أن يعلوَ أمره ، وقالوا : والله لكأنكم به قد كرَّ عليكم بالرجال ، فاجتمع جماعة من أشرافهم ليدخلوا دار الندوة فيتشاوروا في أمره ، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ كبير ، فقالوا : من أنت؟ قال : أنا شيخ من أهل نجد ، سمعت ما اجتمعتم له ، فأردت أن أحضركم ، ولن تعدموا من رأيي نصحاً ، فقالوا : ادخل ، فدخل معهم ، فقالوا : انظروا في أمر هذا الرجل ، فقال بعضهم : احبسوه في وَثاق ، وتربَّصوا به ريب المنون . فقال إبليس : ما هذا برأي ، يوشك أن يثب أصحابه فيأخذوه من أيديكم . فقال قائل : أخرجوه من بين أظهركم . فقال : ما هذا برأي ، يوشك أن يجمع عليكم ثم يسير إليكم . فقال أبو جهل : نأخذ من كل قبيلة غلاماً ، ثم نعطي كل غلام سيفاً فيضربوه به ضربة رجل واحد ، فيفرَّق دمه في القبائل ، فما أظن هذا الحي من قريش يقوى على ضرب قريش كلِّها ، فيقبلون العَقل ونستريح . فقال إبليس : هذا والله الرأي ، فتفرَّقوا عن ذلك . وأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه ، وأخبره بمكر القوم ، فلم يبت في مضجعه تلك الليلة ، وأمر علياً فبات في مكانه ، وبات المشركون يحرسونه ، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أذن له الله في الخروج إلى المدينة ، وجاء المشركون لَّما أصبحوا ، فرأوا علياً ، فقالوا : أين صاحبك؟ قال : لا أدري ، فاقتصُّوا أثره حتى بلغوا الجبل ، فمروا بالغار ، فرأوا نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخله لم يكن عليه نسج العنكبوت . فأما قوله : { ليثبتوك } فقال ابن قتيبة : معناه : ليحبسوك . يقال فلان مثبت وجعاً : إذا لم يقدر على الحركة . وللمفسرين فيه قولان .
أحدهما : ليثبتوك في الوَثاق ، قاله ابن عباس ، والحسن في آخرين .
والثاني : ليثبتوك في الحبس ، قاله عطاء ، والسدي في آخرين . وكان القومُ أرادوا أن يحبسوه في بيت ويشدوا عليه بابه ويلقوا إليه الطعام والشراب ، وقد سبق بيان المكر في [ آل عمران : 54 ] .

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)

قوله تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا } ذكر أهل التفسير أن هذه الآيه نزلت في النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة ، وأنه لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر قصص القرون الماضية ، قال : لو شئت لقلت مثل هذا . وفي قوله : { قد سمعنا } قولان .
أحدهما : قد سمعنا منك ولا نطيعك .
والثاني : قد سمعنا قبل هذا مثله ، وكان النضر يختلف إلى فارس تاجراً ، فيسمع العبَّاد يقرؤون الإنجيل . وقد بين التحدِّي كذب من قال : { لو نشاء لقلنا مثل هذا } . وقد سبق معنى الأساطير في [ الأنعام : 25 ] .

وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)

قوله تعالى : { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك } اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في النضر أيضاً ، رواه جماعة عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، والسدي .
والثاني : أنها نزلت في أبي جهل ، فهو القائل لهذا؛ قاله أنس بن مالك ، وهو مخرج في «الصحيحين» .
والثالث : أنها نزلت في قريش ، قالوا : هذا ، ثم ندموا فقالوا غفرانك اللهم ، فأنزل الله { وما كان اللهُ معذِّبهم وهم يستغفرون } ، رواه أبو معشر عن يزيد ابن رومان ، ومحمد بن قيس . وفي المشار إليه بقوله : { إن كان هذا } ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه القرآن . والثاني : كل ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر بالتوحيد وغيره . والثالث : أنه إكرام محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة من بين قريش .

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)

قوله تعالى : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } في المشار إليه قولان .
أحدهما : أهل مكة . وفي معنى الكلام قولان . أحدهما : وما كان الله ليعذبهم وأنت مقيم بين أظهرهم . قال ابن عباس : لم تُعذَّب قرية حتى يخرج نبيُّها والمؤمنون معه . والثاني : وما كان الله ليعذِّبهم وأنت حي؛ قاله أبو سليمان .
والثاني : أن المشار إليهم المؤمنون ، والمعنى : وما كان الله ليعذب المؤمنين بضرب من العذاب الذي أهلك به مَن قبلهم وأنت حي؛ ذكره أبو سليمان الدمشقي .
فصل
قال الحسن ، وعكرمة : هذه الآية منسوخة بقوله : { وما لهم ألاَّ يعذبَهم الله } [ الأنفال : 34 ] وفيه بُعد لأن النسخ لا يدخل على الأخبار ، وقال ابن أبزى : كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، فأنزل الله عز وجل { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } فخرج إلى المدينة ، فأنزل الله { وما كان الله مُعذِّبَهم وهم يستغفرون } وكان أولئك البقية من المسلمين بمكة يستغفرون ، فلما خرجوا أنزل الله { وما لهم ألاَّ يعذِّبَهم الله } . وجميع أقوال المفسرين تدل على أن قوله : { وما كان الله معذِّبهم وهم يستغفرون } كلام مبتدأ من إخبار الله عز وجل . وقد روي عن محمد بن إسحاق أنه قال : هذه الآية من قول المشركين ، قالوا : والله إنَّ الله لا يعذبنا ونحن نستغفر ، فردَّ الله عليهم ذلك بقوله : { وما لهم ألاَّ يعذِّبَهم الله } .
قوله تعالى : { وما كان الله معذِّبَهم وهم يستغفرون } وفي معنى هذا الكلام خمسة أقوال .
أحدها : وما كان الله معذِّب المشركين ، وفيهم من قد سبق له أن يؤمن؛ رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، واختاره الزجاج .
والثاني : وما كان الله معذِّبَهم وهم يستغفرون الله ، فانهم كانوا يلّبون ويقولون : غفرانك؛ وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً ، وفيه ضعف ، لأن استغفار المشرك لا أثر له في القبول .
والثالث : وما كان الله معذِّبَهم ، يعني : المشركين ، وهم يعني المؤمنين الذين بينهم يستغفرون؛ روي عن ابن عباس أيضاً ، وبه قال الضحاك ، وأبو مالك : قال ابن الأنباري وُصفوا بصفة بعضهم ، لأن المؤمنين بين أظهرهم ، فأوقع العموم على الخصوص ، كما يقال : قتل أهل المسجد رجلاً ، وأخذ أهل البصرة فلاناً ، ولعله لم يفعل ذلك إلا رجل واحد .
والرابع : وما كان الله معذِّبهم وفي أصلابهم مَن يستغفر الله ، قاله مجاهد . قال ابن الأنباري : فيكون معنى تعذيبهم : إهلاكهم؛ فالمعنى : وما كان الله مهلكهم ، وقد سبق في علمه أنه يكون لهم أولاد يؤمنون به ويستغفرونه؛ فوصفهم بصفة ذراريهم ، وغُلِّبوا عليهم كما غُلِّب بعضهم على كلهم في الجواب الذي قبله .
والخامس : أن المعنى لو استغفروا لما عذَّبهم الله ، ولكنهم لم يستغفروا فاستحقُّوا العذاب ، وهذا كما تقول العرب : ما كنت لأهينَك وأنت تكرمني؛ يريدون : ما كنت لأهينك لو أكرمتني ، فأما إذ لست تكرمني ، فانك مستحقٌّ لإهانتي ، وإلى هذا القول ذهب قتادة والسدي . قال ابن الأنباري : وهو اختيار اللغويين . وذكر المفسرون في معنى هذا الاستغفار ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الاستغفار المعروف ، وقد ذكرناه عن ابن عباس .
والثاني : أنه بمعنى الصلاة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، ومنصور عن مجاهد ، وبه قال الضحاك .
والثالث : أنه بمعنى الإِسلام ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد وبه قال عكرمة .

وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)

قوله تعالى : { وما لهم ألا يعذبهم الله } هذه الآية أجازت تعذيبهم ، والأُولى نفت ذلك ، وهل المراد بهذا : العذابُ الاولُ ، أم لا؟ فيه قولان .
أحدهما : أنه هو الأول ، إلا أن الأول امتنع بشيئين . أحدهما : كون النبي صلى الله عليه وسلم فيهم . والثاني : كون المؤمنين المستغفرين بينهم ، فلما وقع التمييز بالهجرة ، وقع العذاب بالباقين يوم بدر ، وقيل : بل وقع بفتح مكة .
والثاني : أنهما مختلفان ، وفي ذلك قولان . أحدهما : أن العذاب الثاني : قَتْلُ بعضِهم يوم بدر ، والأول : استئصال الكُلِّ ، فلم يقع الأول لِما قد عُلم من إيمان بعضهم ، وإسلام بعضِ ذراريهم ، ووقع الثاني . والثاني : أن العذاب الأول : عذاب الدنيا . والثاني : عذاب الآخرة ، قاله ابن عباس ، فيكون المعنى : وما كان اللهُ معذِّبَ المشركين لاستغفارهم في الدنيا ، وما لهم ألا يعذبهم الله في الآخرة .
قوله تعالى : { وهم يصدون } قال الزجاج : المعنى : وهم يصدون { عن المسجد الحرام } أولياءَه . وفي هاء الكناية في قوله : { وما كانوا أولياءَه } قولان .
أحدهما : أنها ترجع إلى «المسجد» ، وهو قول الجمهور . قال الحسن : إن المشركين قالوا : نحن أولياء المسجد الحرام ، فرد الله عليهم بهذا .
والثاني : أنها تعود إلى الله عز وجل ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { إنْ أولياؤُه } أي : ما أولياؤه { إلاَّ المتقون } للشرك والمعاصي ، ولكنَّ أكثر أهل مكة لا يعلمون من الأولى ببيت الله .

وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)

قوله تعالى : { وما كان صلاتُهم عند البيت } سبب نزولها : أنهم كانوا يطوفون بالبيت ويصفِّقون ويَصْفِرُون ويضعون خدودهم بالأرض ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عمر . فأما المكاء ففيه قولان .
أحدهما : أنه الصَّفير ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، وأبو عبيدة ، والزجاج ، وابن قتيبة . قال ابن فارس : يقال : مكا الطائر [ يمكو ] مُكاءً : إذا صَفَر ، ويقال : مَكِيَتْ يده [ تَمكى ] مَكىً ، مقصور ، أي : غلُظت وخشُنت ، ويقال : تمكّى : إذا توضأ . وأنشدوا :
[ إنَّكَ والجَوْرَ على سبيل ] ... كالمُتَمَكِّي بدمِ القتيلِ
وسئل أبو سلمة بن عبد الرحمن عن المكاء ، فجمع كفَّيِه وجعل يَصْفِر فيهما .
والثاني : أنه إدخال أصابعهم في أفواههم يخلطون به وبالتصدية على محمد صلى الله عليه وسلم صلاتَه ، قاله مجاهد : قال ابن الأنباري : أهل اللغة ينكرون أن يكون المكاء إدخالَ الأصابع في الأفواه ، وقالوا : لا يكون إلا الصفير . وفي التصدية قولان .
أحدهما : أنها التَّصفيق ، قاله [ ابن ] عمر ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والجمهور . قال ابن قتيبة : يقال : صدَّى : إذا صفَّق بيديه . قال الراجز :
ضنَّت بخَدٍّ وجَلَت ْعَن خَدِّ ... وأنا مِنْ غَرْوِ الهوى أُصَدِّي
الغرو : العجب ، يقال : لا غرو من كذا ، أي : لا عجب .
والثاني : أن التصدية : صدُّهم الناس عن البيت الحرام ، قاله سعيد بن جبير . وقال ابن زيد : هو صدُّهم عن سبيل الله ودينه . وزعم مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في المسجد الحرام ، قام رجلان من المشركين من بني عبد الدار عن يمينه فيصفِران ، ورجلان عن يساره فيصفِّقان ، فتختلط على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته وقراءته ، فقتلهم الله ببدر ، فذلك قوله : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } بتوحيد الله .
فان قيل : كيف سمى المكاءَ والتصديةَ صلاةً؟ .
فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري .
أحدهما : أنهم جعلوا ذلك مكان الصلاة ، ومشهور في كلام العرب أن يقول الرجل : زرت عبد الله ، فجعل جفائي صِلَتي ، أي : أقام الجفاء مقام الصلة ، قال الشاعر :
قُلْتُ له اطْعِمِني عَمِيْمُ تَمْرَا ... فَكَانَ تَمْريْ كَهْرَةً وَزَبْرا
أي : أقام الصياح عليَّ مقام التمر .
والثاني : أن من كان المكاءُ والتصديةُ صلاتَه ، فلا صلاة له ، كما تقول العرب : ما لفلان عيب إلا السخاء ، يريدون : مِنَ السخاء عيبه ، فلا عيب له ، قال الشاعر :
فتىً كَمُلَتْ خيراتُهُ غير أنَّه ... جوادٌ فلا يُبقي من المال باقيا

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)

قوله تعالى : { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله } اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في المطعِمين ببدر ، وكانوا اثني عشر رجلاً يطعمون الناس الطعام ، كل رجل يطعم يوماً ، وهم عتبة ، وشيبة ، ومُنبّه ، ونُبَيه ابنا الحجاج ، وأبو البَخْتَري ، والنضر بن الحارث ، وأبو جهل ، وأخوه الحارث ، وحكيم بن حزام ، وأُبَيُّ بن خلف ، وزمعة بن الأسود ، والحارث بن عامر ابن نوفل ، هذا قول أبي صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنها نزلت في أبي سفيان بن حرب ، استأجر يوم أُحُد ألفين من الأحابيش لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سوى من استجاش من العرب ، قاله سعيد بن جبير . وقال مجاهد : نزلت في نفقة أبي سفيان على الكفار يوم أُحُد .
والثالث : أنها نزلت في أهل بدر ، وبه قال الضحاك . فأما سبيل الله ، فهو دين الله .
قوله تعالى : { ثم تكون عليهم حسرة } أي : تكون عاقبة نفقتهم ندامة ، لأنهم لم يظفروا .

لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)

قوله تعالى : { ليميز الله الخبيث من الطيب } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «ليميز» خفيفة . وقرأ حمزة ، والكسائي : «ليميّز» بالتشديد وهما لغتان : مِزْتُه وميَّزتُه . وفي لام «ليميز» قولان .
أحدهما : أنها متعلقة بقوله : «فسيُنفقونها» قاله ابن الأنباري .
والثاني : أنها متعقلة بقوله : { إلى جهنم يحشرون } قاله ابن جرير الطبري . وفي معنى الآية ثلاثة أقوال .
أحدها : ليميز أهل السعادة من أهل الشقاء ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وقال السدي ، ومقاتل : يميز المؤمن من الكافر .
والثاني : ليميِّز العمل الطيب من العمل الخبيث ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : ليميز الإنفاق الطيب في سبيله ، من الانفاق الخبيث في سبيل الشيطان ، قاله ابن زيد ، والزجاج .
قوله تعالى : { ويجعل الخبيث بعضه على بعض } أي : يجمع بعضه فوق بعض ، وهو قوله : { فيركمه } . قال الزجاج : الركم : أن يُجعَل بعضُ الشيء على بعض ، يقال : ركمت الشيء أركُمه رَكماً ، والركام : الاسم؛ فمن قال : المراد بالخبيث : الكفار ، فانهم في النار بعضهم على بعض؛ ومن قال : أموالهم ، فله في ذلك قولان .
أحدهما : أنها أُلقيت في النار ليعذَّب بها أربُابها ، كما قال تعالى : { فتكوى بها جباهُهُم } [ التوبة : 35 ] .
والثاني : أنهم لمَّا عظَّموها في الدنيا ، أراهم هوانها بالقائها في النار كما تُلقى الشمس والقمر في النار ، لَيرى مَن عبدهما ذُلَّهما .

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)

قوله تعالى : { قل للذين كفروا } نزلت في أبي سفيان وأصحابه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وفي معنى الآية قولان .
أحدهما : إن ينتهوا عن المحاربة ، يُغْفَرْ لهم ما قد سلف من حربهم ، فلا يُؤاخَذون به ، وإن يعودوا إلى المحاربة ، فقد مضت سنة الأولين في نصر الله أولياءه ، وقيل : في قتل من قُتِل يوم بدر وأُسر .
والثاني : إن ينتهوا عن الكفر ، يُغْفَر لهم ما قد سلف من الإثم؛ وإن يعودوا إليه ، فقد مضت سُنَّةُ الأولين من الأمم السالفة حين أُخذوا بالعذاب المستأصِل . قال يحيى بن معاذ . في هذه الآية : إنَّ توحيداً لم يعجِزْ عن هدم ما قبله من كفر ، لا يعجِزُ عن هدم ما بعده من ذنب .

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)

قوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } أي : شرك . وقال الزجاج : حتى لا يفتن الناس فتنة كفر؛ ويدل عليه قوله : { ويكون الدين كله لله } .
قوله تعالى : { فان انتهوا } أي : عن الكفر والقتال { فان الله بما يعملون بصير } . وقرأ يعقوب إلا روحاً «بما تعملون» بالتاء .

وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)

قوله تعالى : { وإن تولَّوا } أي : أعرضوا عن الإيمان وعادوا إلى القتال { فاعلموا أن الله مولاكم } أي : وليكم وناصركم . قال ابن قتيبة : { نعم المولى } أي : نعم الولي { ونعم النصير } أي : الناصر ، مثل قدير وقادر ، وسميع وسامع .

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)

قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } اختلفوا ، هل الغنيمة والفيء بمعنى واحد ، أم يختلفان؟ على قولين .
أحدهما : أنهما يختلفان . ثم في ذلك قولان . أحدهما : أن الغنيمة : ما ظُهر عليه من أموال المشركين ، والفيء ، ما ظُهر عليه من الأرضين ، قاله عطاء بن السائب . والثاني : أن الغنيمة : ما أُخذ عنوةً ، والفيء : ما أُخذ عن صلح ، قاله سفيان الثوري . وقيل : بل الفيء : ما لم يوجَفْ عليه بخيل ولا ركاب ، كالعشور ، والجزية ، وأموال المهادنة ، والصلح ، وما هربوا عنه .
والثاني : أنهما واحد ، وهما : كل ما نيل من المشركين ، ذكره الماوردي . وقال الزجاج : الأموال : ثلاثة أصناف؛ فما صار إلى المسلمين من المشركين في حال الحرب ، فقد سماه الله تعالى : أنفالاً وغنائم ، وما صار من المشركين من خراج أو جزية مما لم يؤخذ في الحرب ، فقد سماه : فيئاً؛ وما خرج من أموال المسلمين كالزكاة ، والنذر والقرب سماه : صدقة . وأما قوله : { من شيء } فالمراد به : كل ما وقع عليه اسم شيء . قال مجاهد : المِخْيَط من الشيء .
قوله تعالى : { فَأَنَّ لله خُمُسَهُ } وروى عبد الوارث : «خُمْسَهُ» بسكون الميم . وفي المراد بالكلام قولان .
أحدهما : أن نصيب الله مستَحَقٌ يُصرف إلى بيته . قال أبو العالية : كان يجاء بالغنيمة فيقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم ، فيقسم أربعة بين الناس ، ثم يجعل من السهم الخامس للكعبة؛ وهذا مما انفرد به أبو العالية فيما يقال .
والثاني : أن ذِكر الله هاهنا لأحد وجهين . أحدهما : لأنه المتحكِّم فيه ، والمالك له ، والمعنى : فان للرسول خمسة ولذي القربى ، كقوله : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } [ الأنفال : 1 ] . والثاني : أن يكون المعنى : إن الخمس مصروف في وجوه القُرَب إلى الله تعالى ، وهذ قول الجمهور . فعلى هذا ، تكون الواو زائدة ، كقوله : { فلما أسلما وتلَّه للجبين وناديناه } [ الصافات : 103 ] المعنى : ناديناه ، ومثله كثير .
فصل
أجمع العلماء على أن أربعة أخماس الغنيمة لأهل الحرب خاصة ، فأما الخمس الخامس ، فكيف يقسم؟ فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : يقسم منه لله وللرسول ولمن ذكر في الآية . وقد ذكرنا أن هذا مما انفرد به أبو العالية ، وهو يقتضي أن يقسم على ستة أسهم .
والثاني : أنه مقسوم على خمسة أسهم : سهم للرسول ، وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لأبناء السبيل ، على ظاهر الآية ، وبه قال الجمهور .
والثالث : أنه يقسم على أربعة أسهم . فسهم الله عز وجل وسهم رسوله عائد على ذوي القربى ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يأخذ منه شيئاً ، وهذا المعنى رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
فصل
فأما سهم الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانه كان يصنع فيه ما بيَّنَّا .

وهل سقط بموته ، أم لا؟ فيه قولان .
أحدهما : لم يسقط بموته ، وبه قال أحمد ، والشافعي في آخرين . وفيما يُصنَع به قولان .
أحدهما : أنه للخليفة بعده ، قاله قتادة .
والثاني : أنه يُصْرَفُ في المصالح ، وبه قال أحمد ، والشافعي .
والثاني : أنه يسقط بموته كما يسقط الصفيُّ ، فيرجع إلى جملة الغنيمة ، وبه قال أبو حنيفة . وأما ذوو القربى ، ففيهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم جميع قريش . قال ابن عباس : كنا نقول : نحن هم؛ فأبى علينا قومنا ، وقالوا : قريش كلها ذوو قربى .
والثاني : بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وبه قال أحمد ، والشافعي .
والثالث : أنهم بنو هاشم فقط ، قاله أبو حنفية . وبماذا يستحقون؟ فيه قولان .
أحدهما : بالقرابة ، وإن كانوا أغنياء ، وبه قال أحمد ، والشافعي .
والثاني : بالفقر ، لا بالاسم ، وبه قال أبو حنيفة . وقد سبق في [ البقرة : 177 ] معنى اليتامى والمساكين ، وابن السبيل . وينبغي أن تُعتبر في اليتيم أربعة أوصاف : موت الأب ، وإن كانت الأم باقية ، والصِّغَر لقوله عليه السلام : « لا يُتْمَ بعد حُلُم » والإِسلام ، لأنه مال للمسلمين . والحاجة ، لأنه مُعَدٌّ للمصالح .
قوله تعالى : { وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان } هو يوم بدر ، فُرق فيه بين الحق والباطل بنصر المؤمنين . والذي أُنزل عليه يومئذ قوله : { يسألونك عن الأنفال } [ الأنفال : 1 ] نزلت حين اختلفوا فيها ، فالمعنى : إن كنتم آمنتم بذلك ، فاصدروا عن أمر الرسول في هذا أيضاً .

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)

قوله تعالى : { إذ أنتم بالعِدوة الدنيا } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «بالعِدوة» و«العِدوة» العين فيهما مكسورة . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : بضم العين فيهما . قال الأخفش : لم يُسمع من العرب إلا الكسر . وقال ثعلب : بل الضم أكثر اللغتين . قال ابن السِّكّيت : عُدوة الوادي وعِدوته : جانبه؛ والجمع : عُدىً وعِدىً . والدنيا : تأنيث الأدنى؛ وضدها : القصوى ، وهي تأنيث الأقصى؛ وما كان من النعوت على «فُعلى» من ذوات الواو ، فان العرب تحوِّلُه إلى الياء ، نحو الدنيا ، من : دنوت؛ والعليا ، من علوت؛ لأنهم يستثقلون الواو مع ضم الأول ، وليس في هذا اختلاف ، إلا أن أهل الحجاز قالوا : القُصوى ، فأظهروا الواو ، وهو نادر؛ وغيرهم يقول : القصيا . قال المفسرون : إذ أنتم بشفير الوادي الأدنى من المدينة ، وعدوُّكم بشفيره الأقصى من مكة ، وكان الجمعان قد نزلا وادي بدر على هذه الصفة ، والركب : أبو سفيان وأصحابه . قال الزجاج : من نصب «أسفلَ» اراد : والركب مكاناً أسفلَ منكم ، ويجوز الرفع على المعنى : والركب أشدُ تسفُّلاً منكم . قال قتادة : وكان المسلمون أعلى الوادي ، والمشركون أسفله .
وفي قوله : { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } قولان .
أحدهما : لو تواعدتم ، ثم بلغكم كثرتهم ، لتأخَّرتم عن الميعاد ، قاله ابن اسحاق .
والثاني : لو تواعدتم على الاجتماع في المكان الذي اجتمعتم فيه من عِدوتي وادي بدر لاختلفتم في الميعاد ، قاله أبو سليمان . وقال الماوردي : كانت تقع الزيادة والنقصان ، أو التقدم والتأخر من غير قصد لذلك .
قوله تعالى : { ولكنْ ليقضيَ الله أَمراً كان مفعولاً } وهو إعزاز الإسلام ، وإذلال الشرك .
قوله تعالى : { ليَهلِكَ من هلك عن بينة } وروى خلف عن يحيى : { ليُهلَك } بضم الياء وفتح اللام .
قوله تعالى : { ويحيى من حيَّ عن بينة } قرأ أبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «من حيَّ» بياء واحدة مشددة ، وهذه رواية حفص عن عاصم ، وقنبل عن ابن كثير . وروى شِبْلٌ عن ابن كثير ، وابو بكر عن عاصم : «حيِي» بياءين الأولى مكسورة ، والثانية مفتوحة ، وهي قراءة نافع . فمن قرأ بياءين ، بيَّن ولم يُدغم ، ومن أدغم ياء «حيي» فلاجتماع حرفين من جنس واحد . وفي معنى الكلام قولان .
أحدهما : ليُقتَل من قُتل من المشركين عن حُجة ، ويبقى من بقي منهم عن حُجة .
والثاني : ليكفر من كفر بعد حُجة ، ويؤمن من آمن عن حُجة .

إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)

قوله تعالى : { إذ يريكهم الله في منامك قليلاً } فيه قولان .
أحدهما : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم رأى عسكر المشركين في المنام قبل لقائهم في قلَّة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . قال مجاهد : لما أخبر أصحابه بأنه رآهم في المنام قليلاً ، كان ذلك تثبيتاً لهم . قال أبو سليمان الدمشقي : والكلام متعلق بما قبله ، فالمعنى : وإن الله لسميع لما يقوله أصحابك ، عليم بما يضمرونه ، إذ حدثتَهم بما رأيت في منامك .
والثاني : إذ يريكهم الله بعينك التي تنام بها ، قاله الحسن . قال الزجاج : وكثير من النحويين يذهبون إلى هذا المذهب . ومعناه عندهم : إذ يريكهم الله في موضع منامك ، أي : بعينك؛ ثم حذف الموضع ، واقام المنام مقامه .
قوله تعالى : { لفشلتم } أي : لجبنتم وتأخَّرتم عن حربهم . وقال مجاهد : لفشل أصحابك ، ولرأوا ذلك في وجهك .
قوله تعالى : { ولتنازعتم في الأمر } أي : لاختلفتم في حربهم ، فكان ذلك من دواعي هزيمتكم ، { ولكنَّ الله سلم } من المخالفة والفشل .

وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)

قوله تعالى : { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً } قال مقاتل : صدَّق الله رؤيا رسوله التي أخبر بها المؤمنين عن قلة عدوهم قبل لقائهم ، بأن قلَّلهم وقت اللقاء في أعينهم . وقال ابن مسعود : لقد قلُّوا في أعيننا ، حتى قلت لرجل إلى جانبي : أتُراهم سبعين؟ قال : أُراهم مائة؛ حتى أخذنا رجلاً منهم ، فسألناه ، فقال : كنَّا ألفاً . قال أبو صالح عن ابن عباس : استقلَّ المسلمون المشركين ، والمشركون المسلمين ، فاجترأ بعضهم على بعض .
فان قيل : ما فائدة تكرير الرؤية هاهنا ، وقد ذكرت في قوله : { إذ يريكهم الله } ؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أن الأولى كانت في المنام ، والثانية في اليقظة .
والثاني : أن الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة . والثانية : له ولأصحابه . فان قيل : تكثير المؤمنين في أعين الكافرين أولى ، لمكان إعزازهم فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها : أنهم لو كثروا في أعينهم ، لم يقدموا عليهم ، فلم يكن قتال؛ والقتال سبب النصر ، فقلَّلهم لذلك .
والثاني : أنه قلَّلهم لئلا يتأهَّب المشركون كل التأهُّب ، فاذا تحقق القتال ، وجدهم المسلمون غير مستعدين ، فظفروا بهم .
والثالث : أنه قلَّلهم ليحمل الأعداء عليهم في كثرتهم ، فيغلبهم المسلمون ، فيكون ذلك آية للمشركين ومنبِّهاً على نصرة الحق .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)

قوله تعالى : { إذا لقيتم فئة فاثبتوا } الفئة : الجماعة { واذكروا الله كثيراً } فيه قولان .
أحدهما : أنه الدعاء والنصر . والثاني : ذكر الله على الإِطلاق .
قوله تعالى : { ولا تنازعوا فتفشلوا } قد سبق ذكر التنازع والفشل آنفا .
قوله تعالى : { وتذهب ريحكم } وروى أبان : «ويذهبْ» بالياء والجزم . وفيه أربعة أقوال .
أحدها : تذهب شدَّتكم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقال السدي : حِدَّتكم وجدُّكم . وقال الزجاج : صولتكم وقوتكم .
والثاني : يذهب نصركم ، قاله مجاهد ، وقتادة .
والثالث : تتقطَّع دولتكم ، قاله أبو عبيدة . وقال ابن قتيبة : يقال : هبَّت له ريح النصر إذا كانت له الدولة . ويقال : له الريح اليوم ، أي : الدولة .
والرابع : أنها ريح حقيقة ، ولم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله فتضرب وجوه العدو؛ ومنه قوله عليه السلام " نُصِرتُ بالصَّبا ، وأُهْلِكتْ عادٌ بالدَّبور " وهذا قول ابن زيد ، ومقاتل .

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)

قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً } قال المفسرون : هم أبو جهل ومن خرج معه من مكة ، خرجوا ليدفعوا عن عيرهم التي كانت مع أبي سفيان ، ومعهم القيان والمعازف ، وهم يشربون الخمور . فلما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز ما معه ، كتب إليهم : إني قد أحرزت أموالكم فارجعوا . فقال أبو جهل : والله لا نفعل حتى نَرِدَ بدراً فنقيم ثلاثاً ، وننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونسقي الخمور ، وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابونا . فساروا إلى بدر ، فكانت الوقعة؛ فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان . فأما البطر ، فهو الطغيان في النعم ، وترك شكرها . والرياء : العمل من أجل رؤية الناس ، وسبيل الله هاهنا : دينه .

وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)

قوله تعالى : { وَإذْ زَيَّنَ لهم الشيطانُ أعمالَهم } قال عروة بن الزبير : لما أجمعت قريش المسير إلى بدر ، ذكروا ما بينهم وبين كنانة من الحرب ، فتبدَّى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك المدلجيّ ، وكان من اشراف بني كنانة ، فقال لهم : { لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جارٌ لكم } من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه ، فخرجوا سراعاً . وفي المراد بأعمالهم هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : شركهم . والثاني : مسيرهم إلى بدر . والثالث : قتالهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { فلما تراءت الفئتان } أي : صارتا بحيث رأت إحداهما الأخرى .
وفي المراد بالفئتين قولان .
أحدهما : فئة المسلمين ، وفئة المشركين ، وهو قول الجمهور .
والثاني : فئة المسلمين ، وفئة الملائكة ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { نكص على عقبيه } قال أبو عبيدة : رجع من حيث جاء . وقال ابن قتيبة : رجع القهقري . قال ابن السائب : كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة ، آخذاً بيد الحارث بن هشام ، فرأى الملائكة فنكص على عقبيه ، فقال له الحارث : أفراراً من غير قتال؟ فقال : { إني أرى مالا ترون } ؛ فلما هُزم المشركون ، قالوا : هَزَمَ الناسَ سراقةُ ، فبلغه ذلك ، فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم . قال قتادة : صدق عدو الله في قوله : { إني أرى مالا ترون } ، ذُكر لنا أنه رأى جبريل ومعه الملائكة ، فعلم أنه لا يد له بالملائكة ، وكذب عدو الله في قوله : { إني أخاف الله } ، والله ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوَّة له بهم . وقال عطاء : معناه : إني أخاف الله أن يهلكني . وقال ابن الانباري : لما رأى نزول الملائكة ، خاف أن تكون القيامة ، فيكون انتهاء إنظاره ، فيقع به العذاب . ومعنى { نكص } : رجع هارباً بخزي وذلّ . واختلفوا في قوله : { والله شديد العقاب } هل هو ابتداء كلام ، أو تمام الحكاية عن إبليس ، على قولين .

إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)

قوله تعالى : { إذ يقول المنافقون } قال ابن عباس : هم قوم من أهل المدينة من الأوس والخزرج . فأما الذين في قلوبهم ، مرض ففيهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم قوم كانوا قد تكلَّموا بالإِسلام بمكة ، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر كُرهاً؛ فلما رأوا قلَّة المسلمين وكثرة المشركين ، ارتابوا ونافقوا ، وقالوا : { غرَّ هؤلاءِ دينُهم } ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وإليه ذهب الشعبي في آخرين . وعدَّهم مقاتل ، فقال : كانوا سبعة : قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن زمعة ، وعلي بن أمية بن خلف ، والعاص بن منية بن الحجاج ، والوليد بن الوليد بن المغيرة ، والوليد ابن عتبة ابن ربيعة .
والثاني : أنهم المشركون ، لما رأوا قلة المسلمين ، قالوا : { غرَّ هؤلاءِ دينُهم } رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن .
والثالث : أنهم قوم مرتابون ، لم يظهروا عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكره الماوردي . والمرض هاهنا : الشك ، والإشارة بقوله : { هؤلاء } إلى المسلمين؛ وإنما قالوا هذا ، لأنهم رأوا قلَّة المسلمين ، فلم يشكّوا في أن قريشاً تغلبهم .

وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)

قوله تعالى : { ولو ترى إذْ يتوفى الذين كفروا الملائكةُ } قرأ الجمهور «يتوفى» بالياء . وقرأ ابن عامر : «تتوفى» بتاءين . قال المفسرون : نزلت في الرهط الذين قالوا : { غرَّ هؤلاءِ دينهُم } وفي المراد بالملائكة ثلاثة أقوال .
أحدها : ملك الموت وحده ، قاله مقاتل .
والثاني : ملائكة العذاب ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
والثالث : الملائكة الذين قاتلوا يوم بدر ، ذكره الماوردي .
وفي قوله : { يضربون وجوهَهم وأدبارَهم } أربعة أقوال .
أحدها : يضربون وجوههم ببدر لما قاتلوا ، وأدبارهم لما انهزموا .
والثاني : أنهم جاؤوهم من بين أيديهم ومن خلفهم ، فالذين أمامهم ضربوا وجوههم ، والذين وراءهم ضربوا أدبارهم .
والثالث : يضربون وجوههم يوم القيامة إذا لقوهم ، وأدبارهم إذا ساقوهم إلى النار .
والرابع : أنهم يضربون وجوههم وأدبارهم عند الموت بسياط من نار . وهل المراد نفس الوجوه والأدبار ، أم المراد ما أقبل من أبدانهم وأدبر؟ فيه قولان .
وفي قوله : { وذوقوا عذاب الحريق } قولان .
أحدهما : أنه في الدنيا ، وفيه إضمار «يقولون» ، فالمعنى : يضربون ويقولون ، كقوله : { وإذْ يرفعُ إبراهيمُ القواعدَ من البيتِ وإسماعيلُ ربَّنا } [ البقرة : 127 ] أي : ويقولان . قال النابغة :
كأنكَ من جِمالِ بني أُقَيش ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رجلَيْه بِشَنِّ
والمعنى : كأنك جمل من جمال لبني أقيش ، هذا قول الفراء ، وأبي عبيدة .
والثاني : أن الضرب لهم في الدنيا ، فاذا وردوا يوم القيامة إلى النار ، قال خزنتها : ذوقوا عذاب الحريق ، هذا قول مقاتل .

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)

قوله تعالى : { ذلك بما قدَّمت أيديكم } أي : بما كسبتم من قبائح أعمالكم . { وأنَّ الله ليس بظلام للعبيد } لا يظلم عباده بعقوبتهم على الكفر ، وإن كان كفرهم بقضائه ، لأنه مالكٌ ، فله التصرف في ملكه كما يشاء ، فيستحيل نسبة الظلم إليه .

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)

قوله تعالى : { كدأب آل فرعون } أي : كعادتهم . والمعنى : كذَّب هؤلاء كما كذَّب أولئك ، فنزل بهم العذاب كما نزل بأولئك ، قال ابن عباس : أيقن آل فرعون أن موسى نبيُّ الله فكذَّبوه ، فكذلك هؤلاء في حق محمد صلى الله عليه وسلم .

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)

قوله تعالى : { ذلك بأَنَّ الله } أي : ذلك الأخذ والعقاب بأن الله { لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا } بالكفران وترك الشكر . قال مقاتل : والمراد بالقوم هاهنا أهل مكة ، أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ، ثم بعث فيهم محمداً صلى الله عليه وسلم ، فلم يعرفوا المنعم عليهم ، فغيَّر الله ما بهم . وقال السدي : كذَّبوا بمحمد ، فنقله الله إلى الأنصار . قال أبو سليمان الخطابي : والقوي يكون بمعنى القادر ، فمن قوي على شيء فقد قدر عليه ، وقد يكون معناه : التّامُّ القُوَّة الذي لا يستولي عليه العجز في حال ، والمخلوق وإن وُصف بالقُوَّة ، فقوَّته متناهية ، وعن بعض الأمور قاصرة .

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)

قوله تعالى : { كدأب آل فرعون والذين من قبلهم } أي : كذَّب أهل مكة بمحمد والقرآن ، كما كذب آل فرعون بموسى والتوراة ، وكذَّب مَنْ قبلهم بأنبيائهم . قال مكي بن أبي طالب : الكاف من { كدأب } في موضع نصب ، نعت لمحذوف تقديره : غيَّرنا بهم لما غيروا تغييراً مثل عادتنا في آل فرعون ، ومثلها الآية الأولى ، إلا أن الأولى للعادة في العذاب؛ تقديره : فعلنا بهم ذلك فعلاً مثل عادتنا في آل فرعون .
قوله تعالى : { فأهلكناهم } يعني : الأمم المتقدمة ، بعضهم بالرجفة ، وبعضهم بالريح ، فكذلك أهلكنا كفار مكة ببدر . وقال بعضهم : يعني بقوله { فأهلكناهم } الذين أُهلكوا ببدر .

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)

قوله تعالى : { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } قال أبو صالح عن ابن عباس : نزلت في بني قريظة من اليهود ، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه .

الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)

قوله تعالى : { الذين عاهدت منهم } في «مِنْ» أربعة أقوال .
أحدها : أنها صلة ، والمعنى : الذين عاهدتم .
الثاني : أنها للتبعيض ، فالمعنى : إن شر الدواب الكفار ، وشرُّهم الذين عاهدت ونقضوا .
والثالث : أنها بمعنى «مع» والمعنى : عاهدت معهم .
والرابع : أنها دخلت ، لأن العهد أُخذ منهم .
قوله تعالى : { ثم ينقضون عهدهم في كل مرة } أي : كلما عاهدتهم نقضوا .
وفي قوله : { وهم لا يتقون } قولان .
أحدهما : لا يتَّقون نقض العهد . والثاني : لا يتَّقون الله في نقض العهد .
قال المفسرون : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عاهد يهود قريظة أن لا يحاربوه ولا يعاونوا عليه ، فنقضوا العهد وأعانوا عليه مشركي مكة بالسلاح ، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا؛ ثم عاهدوه الثانية ، فنقضوا ومالؤوا الكفار يوم الخندق ، وكتب كعب ابن الأشرف إلى مكة يوافقهم على مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)

قوله تعالى : { فاما تثقفَنَّهم } قال أبو عبيدة مجازه : فان تثقفنَّهم . فعلى قوله ، تكون { ما } زائدة . وقد سبق بيان { فاما } في [ البقرة : 38 ] . قال ابن قتيبة : فمعنى «تثقفنهم» تظفر بهم { فشرِدّ بهم مَنْ خلفهم } أي : افعل بهم فعلاً من العقوبة والتنكيل يتفرَّق به من وراءهم من أعدائك . قال : ويقال شرد بهم أي : سمِّع بهم ، بلغة قريش . قال الشاعر :
أُطوِّف في الأباطح كُلَّ يوم ... مَخَافَةَ أن يُشرِّد بي حَكيمُ
وقال ابن عباس : نَكِّل بهم تنكيلاً يشرد غيرهم من ناقضي العهد ، لعلهم يذكرون النكال فلا ينقضون العهد .

وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)

قوله تعالى : { وإمَّا تَخَافنَّ من قوم خيانةً } قال المفسرون . الخوف هاهنا بمعنى العلم ، والمعنى : إن علمت من قوم قد عاهدتهم خيانة ، وهي نقض عهد . وقال مجاهد : نزلت في بني قريظة .
وفي قوله : { فانبذ إليهم على سواء } أربعة أقوال .
أحدها : فألقِ إليهم نقضك العهد لتكون وإياهم في العلم بالنقض سواءً ، هذا قول الأكثرين ، واختاره الفراء ، وابن قتيبة ، وأبو عبيدة .
والثاني : فانبذ إليهم جهراً غير سرٍّ ، ذكره الفراء أيضاً في آخرين .
والثالث : فانبذ إليهم على مهل ، قاله الوليد بن مُسلم .
والرابع : فانبذ إليهم على عدل من غير حيف ، وأنشدوا :
فاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدُرِ الأعدَاءِ ... حتَّى يُجيبُوك إلى السَّواءِ
ذكره أبو سليمان الدمشقي .

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)

قوله تعالى : { ولا تحسبنَّ الذين كفروا سبقوا } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «ولا تحسِبن» بالتاء وكسر السين؛ إلا أن عاصماً فتح السين . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وحفص عن عاصم : بالياء وفتح السين . وفي الكافرين هاهنا قولان .
أحدهما : جميع الكفار ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنهم الذين انهزموا يوم بدر ، ذكره محمد بن القاسم النحوي وغيره . و«سبقوا» بمعنى : فاتوا . قال ابن الأنباري : وذلك أنهم أشفقوا من هلكة تنزل بهم في بعض الأوقات؛ فلما سلموا منها ، قيل : لا تحسبنَّ أنهم فاتوا بسلامتهم الآن ، فانهم لا يعجزونا ، أي : لا يفوتونا فيما يستقبلون من الأوقات .
قوله تعالى : { إنهم لا يُعجزون } قرأ الجمهور : بكسر الألف . وقرأ ابن عامر : بفتحها؛ وعلى قراءته اعتراض . لقائل أن يقول : إذا كان قد قرأ «يحسبن» بالياء ، وقرأ «أنهم» بالفتح ، فقد أقرَّهم على أنهم لا يُعجزون؛ ومتى علموا أنهم لا يعجزون ، لم يلاموا . فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال : المعنى : «لا يحسبن الذين كفروا سبقوا» لا يَحسِبُنَّ أنهم يعجزون؛ و«لا» زائدة مؤكدة . وقال أبو علي : المعنى : لا يحسبنَّ الذين كفروا أنفسَهم سبقوا وآباءَهم سبقوا ، لأنهم لا يفوتون ، فهم يُجزَون على كفرهم .

وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)

قوله تعالى : { وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قُوَّةٍ } في المراد بالقوة أربعة اقوال .
أحدها : أنها الرمي ، رواه عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الحكم بن أبان : هي النبل .
والثاني : ذكور الخيل ، قاله عكرمة .
والثالث : السلاح ، قاله السدي ، وابن قتيبة .
والرابع : أنه كل ما يُتقوَّى به على حرب العدو من آلة الجهاد .
قوله تعالى : { ومن رباط الخيل } يعني ربطها واقتناءها للغزو؛ وهو عام في الذكور والإناث في قول الجمهور . وكان عكرمة يقول : المراد بقوله : «ومن رباط الخيل» : إناثها .
قوله تعالى : { ترهبون به } روى رويس ، وعبد الوارث : «تُرَهِّبُون» بفتح الراء وتشديد الهاء ، أي : تخيفون وترعبون به عدو الله وعدوكم ، وهم مشركو مكة وكفار العرب .
قوله تعالى : { وآخرين من دونهم } أي : من دون كفار العرب . واختلفوا فيهم على خمسة أقوال .
أحدها : أنهم الجن ، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " هم الجن ، وإن الشيطان لا يخبِّل أحداً في داره فرس عتيق " والثاني : أنهم بنو قريظة ، قاله مجاهد .
والثالث : أهل فارس ، قاله السدي .
والرابع : المنافقون ، قاله ابن زيد .
والخامس : اليهود ، قاله مقاتل .

وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)

قوله تعالى : { وإن جنحوا للسَّلْم } قرأ أبو بكر عن عاصم : «للسِّلم» بكسر السين . قال الزجاج : السَّلْم : الصلح والمسالمة . يقال : سَلْم وسِلْم وسَلَم في معنى واحد ، أي : إن مالوا إلى الصلح فمِل إليه . قال الفراء : إن شئت جعلت «لها» كناية عن السَّلم لأنها تؤنث ، وإن شئت جعلتها للفَعْلَةِ ، كقوله : { إن ربك من بعدها لغفور رحيم } [ الأعراف : 153 ] .
فان قيل : لم قال «لها» ولم يقل «إليها»؟ .
فالجواب : أن «اللام» و«إلى» تنوب كل واحدة منهما عن الأخرى . وفيمن أريد بهذه الآية قولان .
أحدهما : المشركون ، وأنها نسخت بآية السيف .
والثاني : أهل الكتاب .
فان قيل : إنها نزلت في ترك حربهم إذ بذلوا الجزية وقاموا بشرط الذمة ، فهي محكمة .
وإن قيل : نزلت في موادعتهم على غير جزية ، توجَّه النسخ لها بآية الجزية .

وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)

قوله تعالى : { وإن يريدوا } قال مقاتل : يعني : يهود قريظة { أن يخدعوك } بالصلح لتكف عنهم ، حتى إذا جاء مشركو العرب ، أعانوهم عليك { فان حسبَك الله } . قال الزجاج : فان الذي يتولىَّ كفايتك الله { هو الذي أيَّدك } أي : قوَّاك . وقال مقاتل : قوَّاك بنصره وبالمؤمنين من الأنصار يوم بدر .
قوله تعالى : { وألَّف بين قلوبهم } يعني : الأوس والخزرج ، وهم الأنصار ، كانت بينهم عداوة في الجاهلية ، فألَّف الله بينهم بالإسلام . وهذا من أعجب الآيات ، لأنهم كانوا ذوي أنفة شديدة؛ فلو أن رجلاً لطم رجلاً ، لقاتلت عنه قبيلته حتى تدرك ثأره ، فآل بهم الإِسلام إلى أن يقتل الرجل ابنه وأباه .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)

قوله تعالى : { حسبك الله ومن اتَّبَعَكَ } فيه قولان .
أحدهما : حسبُك اللهُ ، وحسبُ من اتَّبَعَكَ ، هذا قول أبي صالح عن ابن عباس ، وبه قال ابن زيد ، ومقاتل ، والأكثرون .
والثاني : حسبُك اللهُ ومتَّبِعُوكَ ، قاله مجاهد . وعن الشعبي كالقولين .
وأجاز الفراء ، والزجاج الوجهين . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة وثلاثون ، ثم أسلم عمر فصاروا أربعين ، فنزلت هذه الآية . قال أبو سليمان الدمشقي : هذا لا يحفظ ، والسورة مدنية باجماع ، والقول الأول أصح .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)

قوله تعالى : { حرِّض المؤمنين على القتال } قال الزجاج : تأويله : حُثَّهم . وتأويل التحريض في اللغة : أن يحث الإنسان على الشيء حثاً يعلم معه أنه حارض إن تخلف عنه . والحارض : الذي قد قارب الهلاك .
قوله تعالى : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } لفظُ هذا الكلام لفظ الخبر ، ومعناه الأمر ، والمراد : يقاتلوا مائتين ، وكان هذا فرضاً في أول الأمر ، ثم نسخ بقوله : { الآن خفف الله عنكم } ففُرض على الرجل أن يثبت لرجلين ، فان زادوا جاز له الفرار . قال مجاهد : وهذا التشديد كان في يوم بدر . واتفق القراء على قوله { إن يكن منكم } فقرؤوا «يكن» بالياء ، واختلفوا في قوله : { وإن يكن منكم مائةٌ يغلبوا ألفاً } ، وفي قوله : { فان تكن منكم مائةٌ صابرةٌ } فقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : بالتاء فيهما . وقرأهما : عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، بالياء . وقرأ أبو عمرو : «يكن منكم مائة يغلبوا» بالياء ، «فان تكن منكم مائة صابرة» بالتاء . قال الزجاج : من أنَّث ، فللفظ المائة؛ ومن ذكَّر ، فلأن المائة وقعت على عدد مذكر . وقال أبو علي : من قرأ بالياء ، فلأنه أريد منه المذكر ، بدليل قوله : { يغلبوا } ، وكذلك المائة الصابرة هم رجال ، فقرؤوها بالياء ، لموضع التذكير . فأما أبو عمرو ، فانه لما رأى صفة المائة مؤنثة بقوله : { صابرة } أنث الفعل ، ولما رأى { يغلبوا } مذكراً ، ذكّر . ومعنى الكلام : إن يكن منكم عشرون صابرون يثبتون عند اللقاء ، يغلبوا مائتين ، لأن المؤمنين يحتسبون أفعالهم ، وأهل الشرك يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب ، فاذا صَدَقهم المؤمنون القتال لم يثبتوا؛ وذلك معنى قوله : { لا يفقهون } .
قوله تعالى : { وعلم } وروى المفضل «وعُلم» بضم العين { أن فيكم ضُعفاً } بضم الضاد . وقرأ عاصم ، وحمزة : بفتح الضاد . وكذلك خلافهم في [ الروم : 55 ] ، قال الفراء : الضم لغة قريش ، والفتح لغة تميم . قال الزجاج : والمعنى : في القراءتين واحد ، يقال : هو الضَّعف والضُّعف ، والمَكث والمُكث ، والفَقر والفُقر ، وفي اللغة كثير من باب فَعْل وفُعْل ، والمعنى واحد . وقرأ أبو جعفر : «وعلمَ أن فيكم ضُعَفَاءَ» على فُعَلاءَ . فأما قوله : { باذن الله } فهو إعلام بأن الغلبة لا تقع إلا بارادته .

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)

قوله تعالى : { ما كان لنبيٍّ أن تكون له أسرى حتى يُثْخِنَ في الأرض } روى مسلم في أفراده من حديث عمر بن الخطاب قال : " لما هزم الله المشركين يوم بدر ، وقُتل منهم سبعون وأُسِرَ منهم سبعون ، استشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعلياً ، فقال أبو بكر : يا نبي الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والاخوان ، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية ، فيكون ما أخذنا منهم قوَّةً لنا على الكفار ، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً . فقال رسول الله : «ما ترى يا ابن الخطاب»؟ قلت : والله ما أرى ما رأى أبو بكر ، ولكن أرى أن تمكنني من فلان ، قريبٌ لعمر ، فأضرب عنقه ، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من أخيه فلان فيضرِبَ عنقه ، حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين ، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم . فَهِويَ رسول الله ما قال أبو بكر ، ولم يهوَ ما قلت ، فأخذ منهم الفداء . فلما كان من الغد ، غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاذا هو قاعد وأبو بكر الصديق وهما يبكيان . فقلت : يا رسول الله أخبرني ، ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فان وجدت بكاءً بكَيت ، وإن لم أجد بكاءً تباكيت . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أبكي للذي عرض عليَّ أصحابُك من الفداء . لقد عُرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة»لشجرة قريبة ، فأنزل الله { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } إلى قوله { عظيم } .
وروي عن ابن عمر قال : لما أشار عمر بقتلهم ، وفاداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنزل الله تعالى { ما كان لنبي } إلى قوله { حلالاً طيباً } فلقي النبي صلى الله عليه وسلم عمر ، فقال : «كاد يصيبنا في خلافك بلاء» " فأما الأسرى ، فهو جمع أسير ، وقد ذكرناه في [ البقرة : 85 ] . والجمهور قرؤوا «أن يكون» بالياء ، لأن الاسراء مذكَّرون . وقرأ أبو عمرو : «أن تكون» ، قال أبو علي : أنَّثَ على لفظ الأسرى ، لأن الأسرى وإن كان المراد به التذكير والرجال فهو مؤنَّث اللفظ . والأكثرون قرؤوا : «أسرى» وكذلك { لمن في أيديكم من الأسرى } . قرأ أبو جعفر ، والمفضل : «أُسارى» في الموضعين ، ووافقهما أبو عمرو ، وأبان في الثاني . قال الزجاج : والإثخان في كل شيء : قُوَّة الشيء وشِدَّته . يقال : قد أثخنه المرض : إذا اشتدت قُوَّته عليه . والمعنى : حتى يبالغ في قتل أعدائه . ويجوز أن يكون المعنى : حتى يتمكن في الأرض . قال المفسرون : معنى الآية : ما كان لنبي أن يحبس كافراً قدر عليه للفداء أو المن قبل الإثخان في الارض . وكانت غزاة بدر أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن قد أثخن في الأرض بعد .
{ تريدون عرض الدنيا } وهو المال ، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد فادوا يومئذ بأربعة آلاف أربعة آلاف . وفي قوله : { والله يريد الآخرة } قولان .
أحدهما : يريد لكم الجنة ، قاله ابن عباس .
والثاني : يريد العمل بما يوجب ثواب الآخرة ، ذكره الماوردي .
فصل
وقد روي عن ابن عباس ، و مجاهد في آخرين : أن هذه الآية منسوخة بقوله : { فاما منَّاً بعدُ وإِمَّا فداءً } [ محمد : 4 ] ، وليس للنسخ وجه ، لأن غزاة بدر كانت وفي المسلمين قِلَّةٌ ، فلما كثروا واشتدَّ سلطانُهم ، نزلت الآية الأخرى ، ويبيِّن هذا قولُه : { حتى يثخن في الأرض } .

لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)

قوله تعالى : { لولا كتاب من الله سبق } في معناه خمسة أقوال .
أحدها : لولا أن الله كتب في أُم الكتاب أنه سيُحِلُّ لكم الغنائم لمسَّكم فيما تعجَّلتم من المغانم والفداء يوم بدر قبل أن تؤمروا بذلك عذابٌ عظيم ، روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل . وقال أبو هريرة : تعجَّل ناس من المسلمين فأصابوا الغنائم ، فنزلت الآية .
والثاني : لولا كتاب من الله سبق أنَّه لا يعذِّب من أتى ذنباً على جهالةٍ لعوقبتم ، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس ، وابن جريج عن مجاهد . وقال ابن اسحاق : سبق أن لا أعذِّب إلا بعدَ النهي ، ولم يكن نهاهم .
والثالث : لولا ما سبق لأهل بدر أن الله لا يعذِّبهم ، لعُذِّبتم ، قاله الحسن ، وابن جبير ، وابن أبي نجيح عن مجاهد .
والرابع : لولا كتاب من الله سبق من أنه يغفر لمن عمل الخطايا ثم علم ما عليه فتاب ، ذكره الزجاج .
والخامس : لولا القرآن الذي اقتضى غفران الصغائر لعُذِّبتم ، ذكره الماوردي . فيخرج في الكتاب قولان .
أحدهما : أنه كتاب مكتوب حقيقة . ثم فيه قولان . أحدهما : أنه ما كتبه الله في اللوح والمحفوظ . والثاني : أنه القرآن .
والثاني : أنه بمعنى القضاء .

فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)

قوله تعالى : { فكلوا مما غَنِمتم } قال الزجاج : الفاء للجزاء . والمعنى : قد أحللت لكم الفداء فكلوا . والحلال منصوب على الحال . قال مقاتل : إن الله غفور لما أخذتم من الغنيمة قبل حِلِّها ، رحيم بكم إذْ أحَلَّها لكم . " فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ، وخبَّاب بنَ الأرتِّ ، يوم بدر على القَبَض ، وقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وانطلق بالأسارى ، فيهم العباس ، وعقيل ، ونوفل بن الحارث ابن عبد المطلب . وكان مع العباس يومئذ عشرون أوقية من ذهب ، فلم تحسب له من فدائه ، وكلِّف أن يفدي ابني أخيه ، فأدَّى عنهما ثمانين أوقية من ذهب . وقال النبي صلى الله عليه وسلم «أضعفوا على العباس الفداء» فأخذوا منه ثمانين أوقية ، وكان فداء كل أسير أربعين أوقية : فقال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد تركتني ما حييت أسأل قريشاً بكفَّيَّ . فقال له : «أين الذهب الذي تركته عند أم الفضل»؟ فقال : أي الذهب؟ فقال : «إنك قلت لها : إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا ، فان حدث بي حدث ، فهو لك ولولدك» فقال : ابن أخي ، مَن أخبرك؟ فقال : «الله أخبرني» فقال العباس : أشهد أنك صادق ، وما علمت أنك رسول الله قبل اليوم؛ وأمر ابني أخيه فأسلما " وفيهم نزلت : { قل لمن في أيديكم من الأُسارى } الآية . وروى العوفي عن ابن عباس أنها نزلت في جميع من أُسر يوم بدر . وقال ابن زيد : لما بُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجالٌ ، فقالوا : لولا أنَّا نخاف هؤلاء القوم لأسلمنا ، ولكنَّا نشهد أن لا إله إلا الله وأنَّك رسولُ الله . فلما كان يوم بدر ، قال المشركون : لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره واستحللنا ماله ، فخرج أولئك القوم ، فقُتلت طائفة منهم وأُسرت طائفة . فأما الذين قُتلوا ، فهم الذين قال الله فيهم : { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } [ النحل : 28 ] . وأما الذين أُسروا ، فقالوا : يا رسول الله ، أنت تعلم أنا كنا نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وإنما خرجنا مع هؤلاء خوفاً منهم . فذلك قوله { قل لمن في أيديكم من الأسارى } إلى قوله { عليم حكيم } . فأما قوله : { إن يعلم الله في قلوبكم خيراً } فمعناه : إسلاماً وصدقاً { يؤتكم خيراً مما أُخذ منكم } من الفداء وفيه قولان .
أحدهما : أكثر مما أُخذ منكم .
والثاني : أحلُّ وأطيب . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن أبي عبلة : «مما أخَذ منكم» بفتح الخاء ، يشيرون إلى الله تعالى وفي قوله : { ويَغْفِرْ لكم } قولان .
أحدهما : يغفر لكم كفركم وقتالكم رسول الله ، قاله الزجاج .
والثاني : يغفر لكم خروجكم مع المشركين ، قاله ابن زيد في تمام كلامه الأول .

وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)

قوله تعالى : { وإن يريدوا خيانتك } يعني : إن أراد الأُسراء خيانتك بالكفر بعد الإسلام { فقد خانوا الله من قبل } إذ كفروا به قبل أسرهم . وقال ابن زيد : فقد خانوا بخروجهم مع المشركين؛ وقد ذكرنا عنه أنها نزلت في قوم تكلَّموا بالإسلام . وقال مقاتل : المعنى : إن خانوك أمكنتك منهم فقتلتهم وأسرتهم كما أمكنتُك ببدر . قال الزجاج : { والله عليم } بخيانة إن خانوها { حكيم } في تدبيره عليهم ومجازاته إياهم .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)

قوله تعالى : { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } يعني : المهاجرين الذين هجروا ديارهم وأموالهم وقومهم في نصرة الدين .
{ والذين آووا ونصروا } يعني : الأنصار آووا رسولَ الله ، وأسكنوا المهاجرين ديارهم ، ونصروهم على أعدائهم . { أولئك بعضهم أولياء بعض } فيه قولان .
أحدهما : في النصرة . والثاني : في الميراث .
قال المفسرون : كانوا يتوارثون بالهجرة ، وكان المؤمن الذي لم يهاجر لا يرث قريبه المهاجر ، وهو معنى قوله : { مالكم من وَلاَيتهم من شيء } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وابن عامر ، وعاصم ، والكسائي : «وَلايتهم» بفتح الواو . وقرأ حمزة : بكسر الواو . قال الزجاج : المعنى : ليس بينكم وبينهم ميراث حتى يهاجروا . ومن كسر واو الولاية ، فهي بمنزلة الإمارة؛ وإذا فتحت ، فهي من النصرة . وقال يونس النحوي : الوَلاية بالفتح ، لله عز وجل ، والوِلاية بالكسر ، من وُليِّت الأمر . وقال أبو عبيدة : الوَلاية بالفتح ، للخالق؛ والوِلاية ، للمخلوق . قال ابن الأنباري : الوَلاية بالفتح مصدر الوليِّ ، والوِلاية : مصدر الوالي ، يقال : وليّ بين الوَلاية ، ووالٍ بيِّن الولاية؛ فهذا هو الاختيار؛ ثم يصلح في ذا ما يصلح في ذا . وقال ابن فارس : الوَلاية بالفتح : النصرة ، وقد تكسر . والوِلاية ، بالكسر : السلطان .
فصل
وذهب قوم إلى أن المراد بهذه الولاية موالاة النصر والمودَّة . قالوا : ونسخ هذا الحكم بقوله : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } [ التوبة : 71 ] . فأما القائلون بأنها ولاية الميراث ، فقالوا : نسخت بقوله : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } [ الأنفال : 75 ] .
قوله تعالى : { وإن استنصروكم في الدين } أي : إن استنصركم المؤمنون الذين لم يهاجروا فانصروهم ، إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم عهد ، فلا تغدروا بأرباب العهد . وقال بعضهم : لم يكن على المهاجر أن ينصرَ من لم يهاجر إلا أن يستنصره .

وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)

قوله تعالى : { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } فيه قولان .
أحدهما : في الميراث ، قاله ابن عباس .
والثاني : في النصرة ، قاله قتادة .
وفي قوله : { إلا تفعلوه } قولان .
أحدهما : أنه يرجع إلى الميراث ، فالمعنى : إلاَّ تأخذوا في الميراث بما أمرتكم ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه يرجع إلى التناصر ، فالمعنى : إلا تتعانوا وتتناصروا في الدين ، قاله ابن جريج . وبيانه : أنه إذا لم يتولَّ المؤمنُ المؤمنَ تولِّياً حقاً ، ويتبرأ من الكافر جداً ، أدَّى ذلك إلى الضلال والفساد في الدين . فاذا هجر المسلم أقاربه الكفار ، ونصر المسلمين ، كان ذلك أدعى لأقاربه الكفار إلى الإسلام وترك الشرك .
قوله تعالى : { وفساد كبير } قرأ أبو هريرة ، وابن سيرين ، وابن السميفع : «كثير» بالثاء .
قوله تعالى : { أولئك هم المؤمنون حقاً } أي : هم الذين حقَّقوا إيمانهم بما يقتضيه من الهجرة والنصرة ، بخلاف من أقام بدار الشرك . والرزق الكريم : هو الحسن ، وذلك في الجنة .

وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)

قوله تعالى : { والذين آمنوا من بعدُ } أي : من بعد المهاجرين الأولين . قال ابن عباس : هم الذين هاجروا بعد الحديبية .
قوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } أي : في المواريث بالهجرة . قال ابن عباس : آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ، وكانوا يتوارثون بذلك الإخاء حتى نزلت هذه الآية ، فتوارثوا بالنسب .
قوله تعالى : { في كتاب الله } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه اللوح المحفوظ .
والثاني : أنه القرآن وقد بيَّن لهم قسمة الميراث في سورة [ النساء : 11 ، 12 ] .
والثالث : أنه حكم الله ، ذكره الزجاج .

بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)

فصل في نزولها
هي مدنية باجماعهم ، سوى الآيتين في آخرها : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } [ التوبة : 128 ] فانها نزلت بمكة . روى البخاري في «صحيحه» من حديث البراء قال : آخر سورة نزلت ( براءة ) . وقد نُقل عن بعض العرب أنه سمع قارئاً يقرأ هذه السورة ، فقال الأعرابي : إني لأحسب هذه من آخر ما نزل من القرآن . قيل له : ومن أين علمت؟ فقال : إني لأسمع عهوداً تُنْبَذُ ووصايا تُنَفَّذ .
فصل
واختلفوا في أول ما نزل من ( براءة ) على ثلاثة أقوال .
أحدها : أن أول ما نزل منها قوله { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة } [ التوبة : 25 ] قاله مجاهد .
والثاني : { انفروا خفافاً وثقالاً } [ التوبة : 41 ] قاله أبو الضحى ، وأبو مالك .
والثالث : { إلاَّ تنصروه } [ التوبة : 40 ] قاله مقاتل . وهذا الخلاف إنما هو في أول ما نزل منها بالمدينة ، فانهم قد قالوا : نزلت الآيتان اللتان في آخرها بمكة .
فصل
ولها تسعة أسماء .
أحدها : سورة التوبة .
والثاني : براءة؛ وهذان مشهوران بين الناس .
والثالث : سورة العذاب ، قاله حذيفة .
والرابع : المُقَشْقِشَة ، قاله ابن عمر .
والخامس : سورة البَحوث ، لأنها بحثت عن سرائر المنافقين ، قاله المقداد بن الأسود .
والسادس : الفاضحة ، لأنها فضحت المنافقين ، قاله ابن عباس .
والسابع : المبعثِرة ، لأنها بعثرت أخبار الناس ، وكشفت عن سرائرهم ، قاله الحارث بن يزيد ، وابن إسحاق .
والثامن : المثيرة ، لأنها أثارت مخازي المنافقين ومثالبهم ، قاله قتادة .
والتاسع : الحافرة ، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين ، قاله الزجاج .
فصل
وفي سبب امتناعهم من كتابة التسمية في أولها ثلاثة أقوال .
أحدها : رواه ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم على أن عمدتم إلى ( الأنفال ) وهي من المثاني ، وإلى ( براءة ) وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما «بسم الله الرحمن الرحيم»؟ فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُنزل عليه الشيء يدعو بعضَ مَن يكتب ، فيقول : " ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا " ، وكانت ( الأنفال ) من أوائل ما نزل بالمدينة ، و ( براءة ) من آخر القرآن ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، وقُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُبيِّن لنا أنها منها ، فظننا أنها منها ، فمن ثَمَّ قرنتُ بينهما ولم أكتب بينهما : «بسم الله الرحمن الرحيم» . وذُكر نحو هذا المعنى عن أُبَيِّ بن كعب . قال الزجاج : والشبه الذي بينهما : أن في ( الأنفال ) ذكر العهود ، وفي ( براءة ) نقضها . وكان قتادة يقول : هما سورة واحدة .
والثاني : رواه محمد بن الحنفية ، قال : قلت لأبي : لِمَ لم تكتبوا في ( براءة ) «بسم الله الرحمن الرحيم»؟ فقال : يا بنيَّ ، إن ( براءة ) نزلت بالسيف وإن «بسم الله الرحمن الرحيم» أمانٌ . وسئل سفيان بن عيينة عن هذا ، فقال : لأن التسمية رحمة ، والرحمة أمان ، وهذه السورة نزلت في المنافقين .

والثالث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كتب في صلح الحديبية «بسم الله الرحمن الرحيم» لم يقبلوها وردُّوها ، فما ردها الله عليهم ، قاله عبد العزيز بن يحيى المكي .
فصل
فأما سبب نزولها ، فقال المفسرون : أخذت العرب تنقض عهوداً بَنَتْها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمره الله تعالى بالقاء عهودهم إليهم ، فأنزل ( براءة ) في سنة تسع ، " فبعث رسول الله أبا بكر أميراً على الموسم ليقيم للناس الحج في تلك السنة ، وبعث معه صدراً من ( براءة ) ليقرأها على أهل الموسم ، فلما سار ، دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علياً فقال : «اخرج بهذه القصة من صدر ( براءة ) وأذِّن في الناس بذلك» فخرج عليٌّ على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر ، فرجع أبو بكر فقال : يا رسول الله ، أُنزِل في شأني شيء؟ قال : «لا ، ولكن لا يبلغ عني إلا رجل مني ، أما ترضى أنك كنتَ صاحبي في الغار ، وأنك صاحبى على الحوض؟» قال : بلى يا رسول الله ، فسار أبو بكر أميراً على الحج ، وسار علي ليؤذِّن ب ( براءة ) " . فصل
وفي عدد الآيات التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول ( براءة ) خمسة أقوال . أحدها : أربعون آية ، قاله عليٌّ عليه السلام . والثاني : ثلاثون آية ، قاله أبو هريرة . والثالث : عشر آيات ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والرابع : سبع آيات ، رواه ابن جريج عن عطاء . والخامس : تسع آيات ، قاله مقاتل .
فصل
فان توهَّم مُتَوهِّمٌ أن في أخذ ( براءة ) من أبي بكر ، وتسليمها إلى عليٍّ ، تفضيلاً لعليٍّ على أبي بكر ، فقد جهل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجرى العرب في ذلك على عادتهم . قال الزجاج : وقد جرت عادة العرب في عقد عهدها ونقضها ، أن يتولىَّ ذلك على القبيلة رجل منها ، وجائز أن تقول العرب إذا تلا عليها نقضَ العهد مَن ليس من رهط النبي صلى الله عليه وسلم : هذا خلاف ما نعرف فينا في نقض العهود ، فأزاح النبي صلى الله عليه وسلم العلَّة بما فعل . وقال عمرو ابن بحر : ليس هذا بتفضيل لعليٍّ على أبي بكر ، وإنما عاملهم بعادتهم المتعارفة في حَلِّ العقد ، وكان لا يتولىَّ ذلك إلا السَّيِّدُ منهم ، أو رجل من رهطه دَنِيّاً ، كأخ ، أو عم؛ وقد كان أبو بكر في تلك الحَجة الإمام ، وعليٌّ يأتمُّ به ، وأبو بكر الخطيب ، وعليٌّ يسمع . وقال أبو هريرة : بعثني أبو بكر في تلك الحجة مع المؤذِّنين الذين بعثهم يؤذِّنون بمنى : أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، فأذَّن معنا علي ب ( براءة ) وبذلك الكلام . وقال الشعبي : بعث رسولُ الله علياً يؤذن بأربع كلمات : { ألا لا يحج بعد العام مشرك ، ألا ولا يطوف بالبيت عريان ، ألا ولا يدخل الجنة إلا مسلم ، ألا ومن كانت بينه وبين محمد مدَّة فأجله إلى مدته ، والله بريء من المشركين ورسوله } .

فصل
فأما التفسير ، فقوله تعالى : ( براءة ) قال الفراء : هي مرفوعة باضمار «هذه» ، ومثلُهُ : { سورة أنزلناها } [ النور : 2 ] . وقال الزجاج : يقال بَرِئْتُ من الرجل والدَّيْن براءةً ، وبرئتُ من المرض ، وبرأتُ أيضاً أبرأُ بُرءاً ، وقد رووا : برأْتُ ، أبرُؤ بروءاً . ولم نجد في مالامه همزة : فَعَلْتُ أفعل ، إلا هذا الحرف . ويقال : بريت القلم ، وكل شيء نحتَّه : أبريه بَرْياً ، غير مهموز . وقرأ أبو رجاء ، ومورق ، وابن يعمر : ( براءةً ) بالنصب . قال المفسرون : والبراءة هاهنا : قطع الموالاة ، وارتفاع العصمة . وزوال الأمان . والخطاب في قوله : { إلى الذين عاهدتم } لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمرادُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه هو الذي كان يتولَّى المعاهدة ، وأصحابُه راضون؛ فكأنهم بالرضا عاهدوا أيضاً؛ وهذا عام في كل من عاهد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم . وقال مقاتل : هم ثلاثة أحياء من العرب : خزاعة ، وبنو مدلج ، وبنو جذَيمة .

فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)

قوله تعالى : { فسيحوا في الأرض } أي : انطلقوا فيها آمنين لا يقع بكم مِنَّا مكروه .
إن قال قائل : هذه مخاطبة شاهد ، والآية الأولى إخبار عن غائب ، فعنه جوابان .
أحدهما : أنه جائز عند العرب الرجوع من الغيبة إلى الخطاب . قال عنترة :
شَطَّتْ مَزارُ العاشِقينَ فأصبَحتْ ... عَسِراً عليَّ طِلابُكِ ابنةَ مَخْرَمِ
هذا قول أبي عبيدة .
والثاني : أن في الكلام إضماراً ، تقديره : فقل لهم سيحوا في الارض ، أي : اذهبوا فيها ، وأقبلوا ، وأدبروا ، وهذا قول الزجاج .
واختلفوا . فيمن جُعلت له هذه الأربعة الأشهر على أربعة أقوال .
أحدها : أنها أمان لأصحاب العهد ، فمن كان عهده أكثر منها ، حُطَّ إليها ، ومن كان عهده أقل منها ، رفع إليها ، ومن لم يكن له عهد ، فأجله انسلاخ المحرَّم خمسون ليلة ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك .
والثاني : أنها للمشركين كافَّةً ، مَنْ له عهد ، ومَنْ ليس له عهد ، قاله مجاهد ، والزهري ، والقرظي .
والثالث : أنها أجل لمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آمنه أقلَّ من أربعة أشهر ، أو كان أمانه غير محدود؛ فأما من لا أمان له ، فهو حرب ، قاله ابن إِسحاق .
والرابع : أنها أمان لمن لم يكن له أمان ولا عهد؛ فأما أرباب العهود ، فهم على عهودهم إلى حين انقضاء مُددهم ، قاله ابن السائب . ويؤكده ما روي : أن علياً نادى يومئذ : ومَن كان بينه وبين رسول الله عهد ، فعهده إلى مدَّته . وفي بعض الألفاظ : فأجله أربعة أشهر . واختلفوا في مدة هذه الأربعة الأشهر على أربعة أقوال .
أحدها : أنها الأشهر الحرم ، رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، قاله ابن عباس .
والثاني : أن أولها يوم الحج الأكبر ، وهو يوم النحر ، وآخرها العاشر من ربيع الآخر ، قاله مجاهد ، والسدي ، والقرظي .
والثالث : أنها شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، لأن هذه الآية نزلت في شوال ، قاله الزهري . قال أبو سليمان الدمشقي : وهذا أضعف الأقوال ، لأنه لو كان كذلك ، لم يجز تأخير إعلامهم به إلى ذي الحجة ، إذ كان لا يلزمهم الأمر إلا بعد الإعلام .
والرابع : أن أولها العاشر من ذي القعدة ، وآخرها العاشر من ربيع الأول ، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك اليوم ، ثم صار في السنة الثانية في العشر من ذي الحجة ، وفيها حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « إن الزمان قد استدار » ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { واعلموا أنكم غير معجزي الله } أي : وإن أُجِّلْتُمْ هذه الأربعة الأشهر فلن تفوتوا الله .
قوله تعالى : { وأن الله مخزي الكافرين } قال الزجاج : الأجود : فتح { أن } على معنى : اعلموا أن ، ويجوز كسرها على الاستئناف ، وهذا ضمان من الله نصرة المؤمنين على الكافرين .

وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)

قوله تعالى : { وأذان من الله ورسوله } أي : إعلام؛ ومنه أَذان الصلاة . وقرأ الضحاك ، وأبو المتوكل ، وعكرمة ، والجحدري ، وابن يعمر : { وَإِذْنٌ } بكسر الهمزة وقصرها ساكنة الذال من غير ألف .
قوله تعالى : { إلى الناس } أي : للناس . يقال : هذا إعلام لك ، وإليك . والناس هاهنا عامّ في المؤمنين والمشركين . وفي يوم الحج الأكبر ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه يوم عرفة ، قاله عمر بن الخطاب ، وابن الزبير ، وأبو جحيفة ، وطاووس ، وعطاء .
والثاني : يوم النحر ، قاله أبو موسى الأشعري ، والمغيرة ابن شعبة ، وعبد الله ابن أبي أوفى ، وابن المسيب ، وابن جبير ، وعكرمة ، والشعبي ، والنخعي ، والزهري ، وابن زيد ، والسدي في آخرين . وعن علي ، وابن عباس ، كالقولين .
والثالث : أنه أيام الحج كلُّها . فعبَّر عن الأيام باليوم ، قاله سفيان الثوري . قال سفيان : كما يقال : يوم بعاث ، ويوم الجمل ، ويوم صفِّين يراد به : أيام ذلك ، لان كل حرب من هذه الحروب دامت أياماً . وعن مجاهد كالأقوال الثلاثة .
وفي تسميته بيوم الحج الأكبر ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه سمَّاه بذلك لأنه اتفق في سنة حج فيها المسلمون والمشركون ، ووافق ذلك عيدَ اليهود والنصارى ، قاله الحسن .
والثاني : أن الحج الأكبر : هو الحج ، والأصغر : هو العمرة ، قاله عطاء ، والشعبي .
والثالث : أن الحج الأكبر : القِران ، والأصغر : الإفراد ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { إن الله بريء } وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وابن يعمر : «إِن الله» بكسر الهمزة . { من المشركين } أي : من عهد المشركين ، فحذف المضاف . { ورسولُه } رفعٌ على الابتداء ، وخبره مضمر على معنى : ورسولُه أيضا بريء . وقرأ أبو رزين ، وأبو مجلز ، وأبو رجاء ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وزيد عن يعقوب : «ورسولَه» بالنصب . ثم رجع إلى خطاب المشركين بقوله : { فان تبتم } أي : رجعتم عن الشرك ، { وإن تولَّيتم } عن الإيمان .

إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)

قوله تعالى : { إلا الذين عاهدتم من المشركين } قال أبو صالح عن ابن عباس : فلما قرأ علي ( براءة ) ، قالت بنو ضمرة : ونحن مثلهم أيضاً؟ قال : لا ، لأن الله تعالى قد استثناكم؛ ثم قرأ هذه الآية . وقال مجاهد : هم قوم كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ومدة ، فأُمر أن يفي لهم . قال الزجاج : معنى الكلام : وقعت البراءة من المعاهدين الناقضين للعهود ، إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقضوكم ، فليسوا داخلين في البراءة مالم ينقضوا العهد . قال القاضي أبو يعلى : وفصل الخطاب في هذا الباب : أنه قد كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين جميع المشركين عهد عامٌّ ، وهو أن لا يُصدَّ أحدٌ عن البيت ، ولا يُخافَ أحد في الشهر الحرام ، فجعل الله عهدهم أربعة أشهر ، وكان بينه وبين أقوام منهم عهود إلى آجال مسمَّاة ، فأُمر بالوفاء لهم ، وإتمام مدتهم إذا لم يُخش غدرهم .

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

قوله تعالى : { فاذا انسلخ الأشهر الحرم } فيها قولان .
أحدهما : أنها رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، قاله الأكثرون .
والثاني : أنها الأربعة الأشهر التي جُعلت لهم فيها السياحة ، قاله الحسن في آخرين . فعلى هذا ، سميت حُرُماً لأن دماء المشركين حرِّمت فيها .
قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين } أي : مَن لم يكن له عهد { حيث وجدتموهم } قال ابن عباس : في الحلِّ والحرم والأشهر الحرم .
قوله تعالى : { وخذوهم } أي : ائسروهم ، والأخيذ : الأسير { واحصروهم } أي : احبسوهم؛ والحصر : الحبس . قال ابن عباس : إن تحصَّنوا فاحصروهم .
قوله تعالى : { واقعدوا لهم كل مرصد } قال الأخفش : أي على كل مرصد؛ فألقى «على» وأعمل الفعل ، قال الشاعر :
نُغالي اللحمَ للأضيافِ نِيئاً ... ونُرخِصُه إذا نَضِجَ القُدُور
المعنى : نغالي باللحم ، فحذف الباء كما حذف «على» . وقال الزجاج : { كل مرصد } ظرف ، كقولك : ذهبتُ مذهباً ، فلستَ تحتاج أن تقول في هذه الآية إلا ما تقوله في الظروف ، مثل : خلف ، وقُدّام .
قوله تعالى : { فان تابوا } أي : من شركهم .
وفي قوله : { وأقاموا الصلاة وآتَوُا الزكاة } قولان .
أحدهما : اعترفوا بذلك . والثاني : فعلوه .
فصل
واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال .
أحدها : أن حكم الأسارى كان وجوبَ قتلهم ، ثم نسخ بقوله : { فامّا منّاً بَعْدُ وإمّا فداءً } [ محمد : 4 ] قاله الحسن ، وعطاء في آخرين .
والثاني : بالعكس ، وأنه كان الحكم في الأسارى ، أنه لا يجوز قتلهم صبراً ، وإنما يجوز المن أو الفداء بقوله : { فاما مَنَّاً بعدُ وإما فداءً } ثم نُسخ بقوله { فاقتلوا المشركين } قاله مجاهد ، وقتادة .
والثالث : أن الآيتين محكمتان ، والأسير إذا حصل في يد الإمام ، فهو مخيَّر ، إن شاءَ مَنَّ عليه ، وإن شاء فاداه ، وإن شاء قتله صبراً ، أيَّ ذلك رأى فيه المصلحة للمسلمين فعلَ ، هذا قول جابر بن زيد ، وعليه عامة الفقهاء ، وهو قول الإمام أحمد .

وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)

قوله تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك } قال المفسرون : وإن أحد من المشركين الذين أمرتك بقتلهم استأمنك يبتغي أن يسمع القرآن وينظر فيما أُمر به ونُهي عنه ، فأَجِرْه ، ثم أبلغه الموضع الذي يأمن فيه .
وفي قوله : { ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } قولان .
أحدهما : أن المعنى : ذلك الذي أمرناك به من أن يُعرَّفوا ويُجاروا لجهلهم بالعلم .
والثاني : ذلك الذي أمرناك به من ردِّه إلى مأمنه إذا امتنع من الإيمان ، لأنهم قوم جهلة بخطاب الله .

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)

قوله تعالى : { كيف يكون للمشركين عهد } أي : لا يكون لهم ذلك { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام } وفيهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم بنو ضمرة ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنهم قريش ، قاله ابن عباس أيضاً . وقال قتادة : هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية ، فنكثوا وظاهروا المشركين .
والثالث : أنهم خزاعة ، قاله مجاهد . وذكر أهل العلم بالسِّيَر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح سهيل بن عمرو في غزوة الحديبية ، كتب بينه وبينه : «هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو ، اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ، ويكفُّ بعضهم عن بعض ، على أنه لا إسلال ولا إغلال ، وأن بيننا عيبةً مكفوفةً ، وأنَّه من أحب أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل ، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل ، وأنَّه من أتى محمداً منهم بغير إذن وليه ردَّه إليه ، وأنه من أتى قريشاً من أصحاب محمد لم يردُّوه ، وأن محمداً يرجع عنَّا عامه هذا بأصحابه ، ويدخل علينا في قابل في أصحابه ، فيقيم بها ثلاثاً ، لا يدخل علينا بسلاح ، إلا سلاح المسافر ، السيوفَ في القُرب» . فوثبتْ خزاعة . فقالوا : نحن ندخل في عهد محمد وعقده ، ووثبت بنو بكر فقالوا : نحن ندخل في عهد قريش وعقدها ، ثم إن قريشاً أعانت بني بكر على خزاعة بالرجال والسلاح فبيَّتوا خزاعة ليلاً ، فقتلوا منهم عشرين رجلاً . ثم إن قريشاً ندمت على ما صَنَعَتْ ، وعلموا أنَّ هذا نقضٌ للعهد والمدة التي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج قوم من خزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما أصابهم ، فخرج إليهم وكانت غزاة الفتح . قال أبو عبيدة : الإسلال : السرقة ، والإغلال : الخيانة . قال ابن الأعرابي : وقوله : { وأن بيننا عيبة مكفوفة } مَثَل ، أراد : أنَّ صُلْحَنَا مُحْكَم مُسْتَوْثَقٌ منه ، كأنه عيبة مشرجة . وزعم بعض المفسرين أن قوله : { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام } نُسخ بقوله { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] .

كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)

قوله تعالى : { كيف وإن يظهروا عليكم } قال الزجاج : المعنى : كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم ، فحذف ذلك ، لأنه قد سبق ، قال الشاعر :
وخَبَّرُتماني أنَّما الموتُ بالقُرى ... فكيفَ وهذي هضبةٌ وقليبُ
أي : فكيف مات وليس بقرية؟ ومثله قول الحطيئة :
فكيف ولم أَعْلَمْهُمُ خذلوكُمُ ... على مُعظَمٍ ولا أديمَكُمُ قَدُّوا
أي : فكيف تلومونني على مدح قوم؟ واستغنى عن ذكر ذلك ، لأنه قد جرى في القصيدة ما يدل على ما أضمر . وقوله : { يظهروا } يعني : يقدروا ويظفروا .
وفي قوله : { لا يرقبوا } ثلاثة أقوال .
أحدها : لا يحفظوا . والثاني : لا يخافوا ، قاله السدي . والثالث : لا يراعوا ، قاله قطرب .
وفي الإلِّ خمسة أقوال .
أحدها : أنه القرابة ، رواه جماعة عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك ، والسدي ، ومقاتل ، والفراء ، وأنشدوا :
إنَّ الوشاة كثيرٌ إن أطعتهمُ ... لا يرقبون بنا إلاً ولا ذِمَمَا
وقال الآخر :
لعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ مِنْ قُرَيش ... كالِّ السَّقْبِ من رَأْلِ النَّعامِ
والثاني : أنه الجوار ، قاله الحسن .
والثالث : أنه الله تعالى ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال عكرمة .
والرابع : أنه العهد ، رواه خصيف عن مجاهد ، وبه قال ابن زيد ، وأبو عبيدة .
والخامس : أنه الحِلْف ، قاله قتادة . وقرأ عبد الله بن عمرو ، وعكرمة ، وأبو رجاء ، وطلحة بن مصرّف : { إيلاً } بياء بعد الهمزة . وقرأ ابن السميفع ، والجحدري : { ألاً } بفتح الهمزة وتشديد اللام . وفي المراد بالذمة ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها العهد ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والضحاك في آخرين .
والثاني : التذمم ممن لا عهد له ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد :
لاَ يَرْقُبُوْنَ بِنَا إلاً ولا ذِمَمَا ... والثالث : الأمان ، قاله اليزيدي ، واستشهد بقوله : { ويسعى بذمتهم أدناهم } .
قوله تعالى : { يرضونكم بأفواههم } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : يرضونكم بأفواههم في الوفاء ، وتأبى قلوبهم إلا الغدر .
والثاني : يرضونكم بأفواههم في العِدَة بالإيمان ، وتأبى قلوبهم إلا الشرك .
والثالث : يرضونكم بأفواههم في الطاعة ، وتأبى قلوبهم إلا المعصية ، ذكرهنَّ الماوردي .
قوله تعالى : { وأكثرهم فاسقون } قال ابن عباس : خارجون عن الصِّدْق ، ناكثون للعهد .

اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)

قوله تعالى : { اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً } في المشار إليهم قولان .
أحدهما : أنهم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه ، قاله مجاهد .
والثاني : أنهم قوم من اليهود ، قاله أبو صالح . فعلى الأول ، آيات الله : حججه . وعلى الثاني : هي آيات التوراة . والثمن القليل : ما حصَّلوه بدلاً من الآيات . وفي وصفه بالقليل وجهان .
أحدهما : لأنه حرام ، والحرام قليل . والثاني : لأنه من عَرَض الدنيا الذي بقاؤه قليل . وفي قوله : { فصدوا عن سبيله } ثلاثة أقوال .
أحدها : عن بيته ، وذلك حين منعوا النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية دخول مكة . والثاني : عن دينه يمنع الناس منه . والثالث : عن طاعته في الوفاء بالعهد .

وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)

قوله تعالى : { وإن نكثوا أيْمانهم } قال ابن عباس : نزلت في أبي سفيان بن حرب ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وعكرمة ابن أبي جهل ، وسائر رؤساء قريش الذين نقضوا العهد حين أعانوا بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله ، فأُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير إليهم فينصر خزاعة ، وهم الذين همُّوا باخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأما النكث ، فمعناه : النقض . والأَيمان هاهنا : العهود . والطعن في الدِّين : أن يعاب ، وهذا يوجب قتل الذميّ إذا طعن في الإسلام ، لأن المأخوذ عليه أن لا يطعن فيه .
قوله تعالى : { فقاتلوا أئمة الكفر } قرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : { أئمة } بتحقيق الهمزتين . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : بتحقيق الأولى وتليين الثانية . والمراد بأئمة الكفر : رؤوس المشركين وقادتهم . { إنهم لا أَيْمان لهم } أي : لا عهود لهم صادقة؛ هذا على قراءة من فتح الألف ، وهم الأكثرون . وقرأ ابن عامر : «لا إِيمان لهم» بالكسر؛ وفيها وجهان ذكرهما الزجاج .
أحدهما : أنه وصف لهم بالكفر ونفي الإيمان ، والثاني : لا أمان لهم ، تقول : آمنته إيماناً ، والمعنى : فقد بطل أمانكم لهم بنقضهم .
وفي قوله : { لعلهم ينتهون } قولان .
أحدهما : عن الشرك . والثاني : عن نقض العهود .
وفي «لعل» قولان .
احدهما : أنها بمعنى الترجِّي ، المعنى : ليرجى منهم الانتهاء ، قاله الزجاج .
والثاني : أنها بمعنى «كي» ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)

قوله تعالى : { ألا تقاتلون قوماً } قال الزجاج : هذا على وجه التوبيخ ، ومعناه : الحضّ على قتالهم . قال المفسرون : وهذا نزل في نقض قريش عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عاهدهم بالحديبية حيث أعانوا على خزاعة .
وفي قوله : { وهمُّوا باخراج الرسول } قولان .
أحدهما : أنهم أبو سفيان في جماعة من قريش ، كانوا فيمن همَّ باخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة .
والثاني : انهم قوم من اليهود ، غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونقضوا عهده وهمَّوا بمعاونة المنافقين على إخراجه من المدينة .
قوله تعالى : { وهم بدؤوكم أول مرة } فيه قولان .
أحدهما : بدؤوكم باعانتهم على حلفائكم ، قاله ابن عباس .
والثاني : بالقتال يوم بدر ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { أتخشَونهم } قال الزجاج : أتخشون أن ينالكم من قتالهم مكروه؟! فمكروه عذاب الله أحق أن يُخشى إن كنتم مصدِّقين بعذابه وثوابه .
قوله تعالى : { ويشف صدور قوم مؤمنين } قال ابن عباس ، ومجاهد : يعني : خزاعة .
قوله تعالى : { ويُذْهِبْ غيظ قلوبهم } أي : كَربها ، وَوجْدها بمعونة قريشٍ بني بكر عليها .
قوله تعالى : { ويتوبُ الله على من يشاء } قال الزجاج : هو مستأنف ، وليس بجواب { قاتِلوهم } وفيمن عُنِي به قولان .
أحدهما : بنو خزاعة ، والمعنى : ويتوب الله على من يشاء من بني خزاعة ، قاله عكرمة .
والثاني : أنه عام في المشركين كما تاب على أبي سفيان ، وعكرمة ، وسهيل . { والله عليم } بنيَّات المؤمنين ، { حكيم } فيما قضى .

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)

قوله تعالى : { أم حسبتم أن تُترَكوا } في المخاطب بهذا قولان .
أحدهما : أنهم المؤمنون ، خوطبوا بهذا حين شق على بعضهم القتال ، قاله الأكثرون .
والثاني : أنهم قوم من المنافقين كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج معه إلى الجهاد تعذيراً ، قاله ابن عباس . وإنما دخلت الميم في الاستفهام ، لأنه استفهام معترض في وسط الكلام ، فدخلت لتفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ . قال الفراء : ولو أُريد به الابتداء ، لكان إما بالألف ، أو ب «هل» ، ومعنى الكلام : أن تُتركوا بغير امتحان يبَين به الصادق من الكاذب . { ولمّا يعلم الله } أي : ولم تجاهدوا فيعلم الله وجود ذلك منكم؛ وقد كان يعلم ذلك غيباً ، فأراد إظهار ما علم ليجازي على العمل .
فأما الوليجة ، فقال ابن قتيبة : هي البطانة من غير المسلمين ، وهو أن يتخذ الرجل من المسلمين دخيلاً من المشركين وخليطاً ووادّاً ، وأصله من الولوج . قال أبو عبيدة : وكل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة ، والرجل يكون في القوم وليس منهم فهو وليجة فيهم .

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)

قوله تعالى : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «مسجد الله» على التوحيد ، { إنما يعمر مساجدَ الله } على الجمع . وقرأ عاصم ، ونافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : على الجمع فيهما . وسبب نزولها : أن جماعة من رؤساء قريش أُسروا يوم بدر فيهم العباس بن عبد المطلب ، فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيَّروهم بالشِّرك ، وجعل علي بن أبي طالب يوبِّخُ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم ، فقال العباس : مالكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقالوا : وهل لكم من محاسن؟ قالوا : نعم ، لنحن أفضل منكم أجراً؛ إنا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ، ونفك العاني ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل في جماعة .
وفي المراد بالعِمارة قولان .
أحدهما : دخوله والجلوس فيه . والثاني : البناء له وإصلاحه؛ فكلاهما محظور على الكافر . والمراد من قوله : { ما كان للمشركين } أي : يجب على المسلمين منعُهم من ذلك . قال الزجاج : وقوله { شاهدين } حال . المعنى : ما كانت لهم عمارته في حال إقرارهم بالكفر ، { أولئك حبطت أعمالهم } لأن كفرهم أذهب ثوابها .
فان قيل : كيف يشهدون على أنفسهم بالكفر ، وهم يعتقدون أنهم على الصواب؟ فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها : أنه قول اليهودي : أنا يهودي ، وقول النصراني : أنا نصراني ، قاله السدي .
والثاني : أنهم ثبَّتوا على أنفسهم الكفر بعدولهم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو حق لا يخفى على مميِّز ، فكانوا بمنزلة من شهد على نفسه .
والثالث : أنهم آمنوا بأنبياء شهدوا لمحمد صلى الله عليه وسلم بالتصديق ، وحرَّضوا على اتِّباعه ، فلما آمنوا بهم وكذِّبوه ، دلُّوا على كفرهم ، وجرى ذلك مجرى الشهادة على أنفسهم بالكفر ، لأن الشهادة هي تبيين وإظهار ، ذكرهما ابن الأنباري .
فان قيل : ما وجه قوله : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } ولم يذكر الرسول ، والإيمانُ لا يتم إلا به؟ فالجواب : أن فيه دليلاً على الرسول ، لقوله : { واقام الصلاة } أي : الصلاة التي جاء بها الرسول ، قاله الزجاج . فان قيل : { فعسى } ترجّ ، وفاعل هذه الخصال مهتد بلا شك . فالجواب : أن «عسى» من الله واجبة ، قاله ابن عباس . فان قيل : قد يعمر مساجد الله من ليس فيه هذه الصفات . فالجواب : أن المراد أنه من كان على هذه الصفات المذكورة ، كان من أهل عمارتها ، وليس المراد أن من عمرها كان بهذه الصفة .

أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)

قوله تعالى : { أجعلتم سقاية الحاج } في سبب نزولها ستة أقوال .
أحدها : رواه مسلم في «صحيحه» من حديث النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رجل : ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد [ الاسلام إلا ] أن أسقيَ الحاجَّ ، وقال الآخر : ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد [ الاسلام إلا ] أن أعْمُرَ المسجدَ الحرامَ ، وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم ، فزجرهم عمر ، وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يوم الجمعة ، ولكني إذا صليت الجمعة ، دخلت فاستفتيت رسول الله فيما اختلفتم فيه ، فنزلت هذه الآية .
والثاني : أن العباس بن عبد المطلب قال يوم بدر : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد ، لقد كنا نَعمُر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني ، فنزلت هذه الآية ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثالث : أن المشركين قالوا : عمارة بيت الله الحرام ، والقيام على السقاية ، خير ممن آمن وجاهد ، وكانوا يفتخرون بالحرم من أجل أنهم أهله ، فنزلت هذه الآية ، رواه عطية العوفي عن ابن عباس .
والرابع : أن علياً والعباس وطلحة يعني سادن الكعبة افتخروا ، فقال طلحة : أنا صاحب البيت ، بيدي مفتاحه ، ولوأشاء بتُّ فيه . وقال العباس : أنا صاحب السقاية ، والقائم عليها ، ولو أشاء بتُّ في المسجد . وقال علي : ما أدري ما تقولون ، لقد صليت ستة أشهر قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد ، فنزلت هذه الآية ، قاله الحسن ، والشعبي ، والقرظي .
والخامس : أنهم لما أُمروا بالهجرة قال العباس : أنا أسقي الحاج ، وقال طلحة : أنا صاحب الكعبة فلا نهاجر ، فنزلت هذه الآية والتي بعدها ، قاله مجاهد . هكذا ذكر مجاهد ، وإنما الصواب عثمان بن طلحة ، لأن طلحة هذا لم يسلم .
والسادس : أن علياً قال للعباس : ألا تلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ألستُ في أفضلَ من الهجرة ، ألست أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام؟ فنزلت هذه الآية والتي بعدها ، قاله مُرَّة الهَمْداني ، وابن سيرين . قال الزجاج : ومعنى الآية : أجعلتم أهل سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله؟ فحذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه . قال الحسن : كان يُنبذ زبيبٌ ، فيسقُون الحاج في الموسم وقال ابن عباس : عمارة المسجد : تجميره ، وتخليقه ، فأخبر الله أن أفعالهم تلك لا تنفعهم مع الشرك ، وسماهم ظالمين لشركهم .
قوله تعالى : { أعظم درجةً } قال الزجاج : هو منصوب على التمييز . والمعنى : أعظم من غيرهم درجة . والفائز : الذي يظفر بأمنيته من الخير . فأما النعيم ، فهو لين العيش ، والمقيم : الدائم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)

قوله تعالى : { لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء } في سبب نزولها : خمسة أقوال .
أحدها : أنه لما أُمر المسلمون بالهجرة ، جعل الرجل يقول لأهله : إنا قد أُمرنا بالهجرة ، فمنهم من يسرع إلى ذلك ، ومنهم من يتعلق به عياله وزوجته ، فيقولون : نَنْشُدك الله أن تدعنا إلى غير شيء ، فيرقُّ قلبه ، فيجلس معهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنه لما أمر الله المؤمنين بالهجرة ، قال المسلمون : يا نبي الله ، إن نحن اعتزلنا مَنْ خالفنا في الدين ، قطعنا آباءنا وعشائرنا ، وذهبت تجارتنا ، وخربت ديارنا ، فنزلت هذه الآية ، قاله الضحاك عن ابن عباس .
والثالث : أنه لما قال العباس : أنا أسقي الحاج ، وقال طلحة : أنا أحجب الكعبة فلا نهاجر ، نزلت هذه الآية والتي قبلها ، هذا قول قتادة ، وقد ذكرناه عن مجاهد .
والرابع : أن نفراً ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة ، فنهى الله عن ولايتهم ، وأنزل هذه الآية ، قاله مقاتل .
والخامس : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر الناس بالجهاز لنصرة خزاعة على قريش ، قال أبو بكر الصديق : يا رسول الله ، نعاونهم على قومنا؟ فنزلت هذه الآية ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .

قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)

قوله تعالى : { قل إن كان آباؤكم . . . } الآية في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في الذين تخلَّفوا مع عيالهم بمكة ولم يهاجروا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أن علي بن أبي طالب قدم مكة ، فقال لقوم : ألا تهاجرون؟ فقالوا : نقيم مع إخواننا وعشائرنا ومساكننا ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن سيرين .
والثالث : أنه لما نزلت الآية التي قبلها ، قالوا : يا رسول الله ، إن نحن اعتزلنا مَنْ خالفنا في الدين ، قطعنا آباءنا وعشيرتنا ، وذهبت تجارتنا ، وخربت ديارنا ، فنزلت هذه الآية ، ذكره بعض المفسرين في هذه الآية ، وذكره بعضهم في الآية الأولى كما حكيناه عن ابن عباس . فأما العشيرة ، فهم الأقارب الأدنون . وروى أبو بكر عن عاصم : «وعشيراتُكم» على الجمع . قال أبو علي : وجهه أن كل واحد من المخاطَبين له عشيرة ، فاذا جمعت قلت : عشيراتكم؛ وحجة من افرد : أن العشيرة واقعة على الجمع ، فاستغنى بذلك عن جمعها . وقال الأخفش : لا تكاد العرب تجمع عشيرة : عشيرات ، إنما يجمعونها على عشائر . والاقتراف بمعنى الاكتساب . والتربص : الانتظار .
وفي قوله : { حتى يأتيَ الله بأمره } قولان .
أحدهما : أنه فتح مكة ، قاله مجاهد ، والأكثرون . ومعنى الآية : إن كان المُقام في أهاليكم ، وكانت الأموال التي اكتسبتموها { وتجارةٌ تخشون كسادها } لفراقكم بلدكم { ومساكنُ ترضونها أحبَّ إليكم } من الهجرة ، فأقيموا غير مُثابين حتى تُفتح مكة ، فيسقط فرض الهجرة .
والثاني : أنه العقاب ، قاله الحسن .

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)

قوله تعالى : { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة } أي : في أماكن . قال الفراء : وكل جمع كانت فيه ألف قبلها حرفان وبعدها حرفان لم يُجْرَ ، مثل صوامع ، ومساجد . وجُريَ { حنين } لأنه اسم لمذكَّر ، وهو وادٍ بين مكة والطائف ، وإذا سمَّيتَ ماءً أو وادياً أو جبلاً باسم مذكَّر لا علَّة فيه ، أجريته ، من ذلك : حنين ، وبدر ، وحِراء ، وثَبِير ، ودابِق . ومعنى الآية : أن الله عز وجل أعلمهم أنهم إنما يغلبون بنصر الله لا بكثرتهم . وفي عددهم يوم حنين أربعة أقوال .
أحدها : أنهم كانوا ستة عشر ألفاً ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثاني : عشرة آلاف ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : كانوا اثني عشر ألفاً ، قاله قتادة ، وابن زيد ، وابن إسحاق ، والواقدي .
والرابع : أحد عشر ألفا وخمسمائة ، قاله مقاتل . قال ابن عباس : فقال ذلك اليوم سلمة بن سلامة بن وقش ، وقد عجب لكثرة الناس : لن نُغلَب اليوم من قِلَّة ، فساء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كلامُه ، ووُكلِوا إلى كلمة الرجل ، فذلك قوله : { إذ أعجبتكم كثرتكم فلن تغن عنكم شيئاً } وقال سعيد بن المسيب : القائل لذلك : أبو بكر الصديق . وحكى ابن جرير أن القائل لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : بل العباس . وقيل : رجل من بني بكر .
قوله تعالى : { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } أي : برحبها . قال الفراء : والباء هاهنا بمنزلة «في» كما تقول : ضاقت عليكم الأرض في رحبها وبرحبها .
الإشارة إلى القصة
قال أهل العلم بالسيرة ، لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، تآمر عليه أشراف هوازن وثقيف ، فجاؤوا حتى نزلوا أوطاس ، وأجمعوا المسير إليه ، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما التقَوا أعجبتهم كثرتُهم فهُزموا .
وقال البراء بن عازب : لما حملنا عليهم انكشفوا ، فأكببنا على الغنائم ، فأقبلوا بالسهام ، فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبعضهم يقول : ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ جماعة من أصحابه منهم : أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، والعباس ، وأبو سفيان بن الحارث .
وبعضهم يقول : لم يبق معه سوى العباس وأبي سفيان ، " فجعل النبي يقول للعباس : «نادِ : يا معشر الأنصار ، يا أصحاب السمرة ، يا أصحاب سورة البقرة» فنادى ، وكان صيِّتاً ، فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنَّت إلى أولادها ، يقولون : يا لبيك ، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتالهم ، فقال : «الآن حمي الوطيس ، أنا النبي لا كذب ، انا ابن عبد المطلب» ثم قال للعباس : «ناولني حَصَيات» فناوله ، فقال : «شاهت الوجوه» ورمى بها ، وقال : «انهزموا وربِّ الكعبة» فقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا . وقيل : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاً من تراب ، فرماهم به فانهزموا . وكانوا يقولون : ما بقي منا أحد إلا امتلأت عيناه بالتراب " .

ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)

قوله تعالى : { ثم أنزل الله سكينته } أي : بعد الهزيمة . قال أبو عبيدة : هي فَعِليةٌ من السكون ، وأنشد :
لِلّهِ قَبْرٌ غَالَها ماذا يُجِنُّ ... لقد أَجَنَّ سكينةً وَوَقارا
وكذلك قال المفسرون : الأمن والطمأنينة .
قوله تعالى : { وأنزل جنوداً لم تروها } قال ابن عباس : يعني : الملائكة . وفي عددهم يومئذ ثلاثة أقوال .
أحدها : ستة عشر ألفاً ، قاله الحسن . والثاني : خمسة آلاف ، قاله سعيد ابن جبير . والثالث : ثمانية ، قاله مجاهد ، يعني : ثمانية آلاف . وهل قاتلت الملائكة يومئذ ، أم لا؟ فيه قولان .
وفي قوله : { وعذَّب الذين كفروا } أربعة أقوال .
أحدها : بالقتل ، قاله ابن عباس ، والسدي .
والثاني : بالقتل والهزيمة ، قاله ابن أبزى ، ومقاتل .
والثالث : بالخوف والحذر ذكره الماوردي .
والرابع : بالقتل ، والأسر ، وسبي الأولاد ، وأخذ الأموال ، ذكره بعض ناقلي التفسير .
قوله تعالى : { ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء } أي : يوفِّقه للتوبة من الشرك .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)

قوله تعالى : { إنما المشركون نجس } قال أبو عبيدة : معناه : قذر . قال الزجاج : يقال لكل شيء مستقذَر : نجَسٌ . وقال الفراء : لا تكاد العرب تقول : نِجْسٌ ، إلا وقبلها رِجْسٌ ، فاذا أفردوها ، قالوا : نَجَس .
وفي المراد بكونهم نجساً ثلاثة أقوال :
أحدها : أنهم أنجاس الأبدان ، كالكلب والخنزير ، حكاه الماوردي ، عن الحسن ، وعمر بن عبد العزيز . وروى ابن جرير عن الحسن قال : من صافحهم فليتوضأ .
والثاني : أنهم كالأنجاس لتركهم ما يجب عليهم من غسل الجنابة ، وإن لم تكن أبدانهم أنجاساً ، قاله قتادة .
والثالث : أنه لما كان علينا اجتنابهم كما تجتنب الأنجاسُ ، صاروا بحكم الاجتناب كالأنجاس ، وهذا قول الأكثرين ، وهو الصحيح .
قوله تعالى : { فلا يقربوا المسجد الحرام } قال أهل التفسير : يريد : جميع الحرم { بعد عامهم هذا } وهو سنة تسع من الهجرة ، وهي السنة التي حج فيها أبو بكر وقرئت { براءة } . وقد أخذ أحمد رضي الله عنه بظاهر الآية ، وأنه يحرم عليهم دخول الحرم ، وهو قول مالك ، والشافعي . واختلفت الرواية عنه في دخولهم غير المسجد الحرام من المساجد ، فروي عنه المنع أيضاً إلا لحاجة ، كالحرم ، وهو قول مالك . وروي عنه جواز ذلك ، وهو قول الشافعي . وقال أبو حنيفة : يجوز لهم دخول المسجد الحرام ، وسائر المساجد .
قوله تعالى : { وإن خفتم عيلة } وقرأ سعد بن أبي وقاص ، وابن مسعود ، والشعبي ، وابن السميفع : «عايلة» . قال سعيد بن جبير : لما نزلت { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } شقَّ على المسلمين ، وقالوا : مَنْ يأتينا بطعامنا؟ وكانوا يَقْدَمون عليهم بالتجارة ، فنزلت : { وإن خفتم عيلة . . . } الآية . قال الأخفش : العيلة : الفقر . يقال : عال يعيل عَيْلة : إذا افتقر . وأعال إعالة فهو يُعيل : إذا صار صاحب عيال . وقال أبو عبيدة : العَيْلة هاهنا : مصدر عالَ فلانٌ إذا افتقر ، وأنشد :
وما يَدري الفقيرُ متى غِناه ... وما يَدري الغنيُّ متى يَعيل
وللمفسرين في قوله : { وإنْ } قولان .
أحدهما : أنها للشرط ، وهو الأظهر .
والثاني : أنها بمعنى «وإذْ» ، قاله عمرو بن فايد . قالوا : وإنما خاف المسلمون الفقر ، لأن المشركين كانوا يحملون التجارات إليهم ، ويجيئون بالطعام وغيره .
وفي قوله : { فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء } ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه أنزل عليهم المطر عند انقطاع المشركين عنهم ، فكثر خيرهم ، قاله عكرمة .
والثاني : أنه أغناهم بالجزية المأخوذة من أهل الكتاب ، قاله قتادة ، والضحاك .
والثالث : أن أهل نجد ، وجُرَشَ ، وأهل صنعاء أسلموا ، فحملوا الطعام إلى مكة على الظَّهْرِ ، فأغناهم الله به ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { إن الله عليم } قال ابن عباس : { عليم } بما يصلحكم { حكيم } فيما حكم في المشركين .

قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)

قوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } قال المفسرون : نزلت في اليهود والنصارى . قال الزجاج : ومعناها : لا يؤمنون بالله إيمان الموحِّدين ، لأنهم أقرُّوا بأنه خالقُهم ، وأنَّه له ولد ، وكذلك إيمانهم بالبعث لأنهم لا يقرُّون بأنَّ أهل الجنة يأكلون ويشربون . وقال الماوردي : إقرارهم باليوم الآخر يوجب الإقرار بحقوقه ، وهم لا يقرُّون بها ، فكانوا كمن لا يُقِرُّ به .
قوله تعالى : { ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسولُهُ } قال سعيد بن جبير : يعني : الخمر والخنزير .
قوله تعالى : { ولا يدينون دين الحق } في الحق قولان .
أحدهما : أنه اسم الله ، فالمعنى : دين الله ، قاله قتادة .
والثاني : أنه صفة للدين ، والمعنى : ولا يدينون الدِّينَ الحقَّ؛ فاضاف الاسم إلى الصفة . وفي معنى { يدينون } قولان .
أحدهما : أنه بمعنى الطاعة ، والمعنى : لا يطيعون الله طاعةَ حقٍّ ، قاله أبو عبيدة . والثاني : أنه من دان الرجل يدين كذا : إذا التزمه . ثم في جملة الكلام قولان .
أحدهما : أن المعنى : لا يدخلون في دين محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه ناسخ لما قبله .
والثاني : لا يعملون بما في التوراة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية } قال ابن الأنباري : الجزية : الخراج المجعول عليهم ، سميت جزية لانها قضاء لما عليهم؛ أُخذ من قولهم : جَزى يَجْزي : إذا قضى؛ ومنه قوله تعالى : { لا تَجْزِي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً } [ البقرة : 48 ] وقوله : «ولا تَجْزِي عن أحدٍ بعدَك» . وفي قوله : { عن يدٍ } ستة أقوال .
أحدها : عن قهر ، قاله قتادة ، والسدي . وقال الزجاج : عن قهر وذُلٍّ .
والثاني : أنه النقد العاجل ، قاله شريك ، وعثمان بن مقسم .
والثالث : أنه إعطاء المبتدىء بالعطاء ، لا إعطاء المكافىء ، قاله ابن قتيبة .
والرابع : أن المعنى : عن اعتراف للمسلمين بأن أيديهم فوق أيديهم .
والخامس : عن إنعام عليهم بذلك ، لأن قبول الجزية منهم إنعام عليهم ، حكاهما الزجاج .
والسادس : يؤدُّونَها بأيديهم ، ولا ينفذونها مع رسلهم ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { وهم صاغرون } الصاغر : الذليل الحقير .
وفي ما يُكَلَّفونه من الفعل الذي يوجب صغارهم خمسة أقوال .
أحدها : أن يمشوا بها مُلَبَّبين ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : أن لا يُحمدوا على إعطائهم ، قاله سلمان الفارسي . والثالث : أن يكونوا قياماً والآخذ جالساً ، قاله عكرمة . والرابع : أن دفع الجزية هو الصغار . والخامس : أن إجراء أحكام الإسلام عليهم هو الصغار .
فصل
واختُلف في الذين تؤخذ منهم الجزية من الكفار ، فالمشهور عن أحمد : أنها لا تقبل إلا من اليهود والنصارى والمجوس ، وبه قال الشافعي . ونقل الحسن بن ثواب عن أحمد : أنه من سُبي من أهل الأديان من العرب والعجم ، فالعرب إن أسلموا ، وإلا السيف ، وأولئك إن أسلموا ، وإلا الجزية؛ فظاهر هذا أن الجزية تؤخذ من الكل ، إلا من عابدي الأوثان من العرب فقط ، وهو قول أبي حنيفة ، ومالك .

فصل
فأما صفة الذين تؤخذ منهم الجزية ، فهم أهل القتال . فأما الزَّمِنُ ، والأعمى والمفلوج ، والشيخ الفاني ، والنساء ، والصبيان ، والراهب الذي لا يخالط الناس ، فلا تؤخذ منهم .
فصل
فأما مقدارها ، فقال أصحابنا : على الموسر : ثمانية وأربعون درهماً ، وعلى المتوسط : أربعة وعشرون ، وعلى الفقير المعتمل : اثنا عشر ، وهو قول أبي حنيفة . وقال مالك : على أهل الذهب أربعة دنانير ، وعلى أهل الوَرِق أربعون درهماً ، وسواء في ذلك الغني والفقير . وقال الشافعي : على الغني والفقير دينار . وهل تجوز الزيادة والنقصان مما يؤخذ منهم؟ نقل الأثرم عن أحمد : أنها تزاد وتنقَص على قدر طاقتهم ، فظاهر هذا : أنها على اجتهاد الإمام ورأيه . ونقل يعقوب بن بختان : أنه لا يجوز للامام أن ينقص من ذلك ، وله أن يزيد .
فصل
ووقت وجوب الجزية : آخر الحول ، وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : تجب في أول الحول . فأما إذا دخلت سنة في سنة ، فهل تسقط جزية السنة الماضية؟ عندنا لا تسقط . وقال أبو حنيفة : تسقط . فأما إذا أسلم ، فانها تسقط بالإسلام . فأما إن مات؛ فكان ابن حامد يقول : لا تسقط . وقال القاضي أبو يعلى : يَحتمل أن تسقط .

وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)

قوله تعالى : { وقالت اليهود عزير ابن الله } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة : «عزيرُ ابن الله» بغير تنوين . وقرأ عاصم ، والكسائي ، ويعقوب ، وعبد الوارث عن أبي عمرو : منوّناً . قال مكي بن أبي طالب : من نوَّن عزيراً رفعه على الابتداء ، و«ابن» خبره . ولا يحسن حذف التنوين على هذا من «عزير» لالتقاء الساكنين . ولا تحذف ألف «ابن» من الخط ، ويكسر التنوين لالتقاء الساكنين . ومن لم ينون «عزيراً» جعله أيضاً مبتدأ ، و«ابن» صفة له ، فيُحذف التنوينُ على هذا استخفافاً لالتقاء الساكنين ، ولأن الصفة مع الموصوف كالشيء الواحد ، وتحذف ألف «ابن» من الخط ، والخبر مضمر تقديره : عزير بن الله نبيُّنا وصاحبنا . وسبب نزولها : أن سلاَم بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : كيف نتَّبِعُكَ وقد تركت قبلتنا ، وأنت لا تزعم أن عزير ابن الله؟ فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . وقال ابن عمر ، وابن جريج : إن القائل لذلك فنحاص . فأما العزير : فقال شيخنا أبو منصور اللغوي : هو اسم أعجمي معرب ، وإن وافق لفظ العربية ، فهو عِبراني ، كذا قرأته عليه . وقال مكي بن أبي طالب : العزير عند كل النحويين : عربي مشتق من قوله يعزِّروه . وقال ابن عباس : إنما قالوا ذلك ، لأنهم لما عملوا بغير الحق ، أنساهم الله التوراة ، ونسخها من صدورهم ، فدعا عزير اللهَ تعالى ، فعاد إليه الذي نُسخ من صدروهم ، ونزل نور من السماء فدخل جوفه ، فأذَّن في قومه فقال : قد آتاني الله التوراة؛ فقالوا : ما أُوتيها إلا لأنه ابن الله . وفي رواية أخرى عن ابن عباس : أن بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل ، وهدم بيت المقدس ، وقتل من قرأ التوراة ، كان عزير غلاماً ، فتركه . فلما توفي عزير ببابل ، ومكث مائة عام ، ثم بعثه الله تعالى إلى بني اسرائيل ، فقال : أنا عزير ، فكذَّبوه وقالوا : قد حدَّثنا آباؤنا أن عزيراً مات ببابل ، فان كنتَ عزيراً فأملل علينا التوراة ، فكتبها لهم؛ فقالوا هذا ابن الله .
وفي الذين قالوا هذا عن عزير ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم جميع بني اسرائيل ، روي عن ابن عباس .
والثاني : طائفة من سلفهم ، قاله الماوردي .
والثالث : جماعة كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم قولان .
أحدهما : فنحاص وحده ، وقد ذكرناه عن ابن عمر وابن جريج .
والثاني : الذين ذكرناهم في أول الآية عن ابن عباس .
فان قيل : إن كان قولَ بعضهم ، فلِمَ أُضيف إلى جميعهم؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أن إيقاع اسم الجماعة على الواحد معروف في اللغة ، تقول العرب : جئت من البصرة على البغال ، وإن كان لم يركب إلا بغلاً واحداً .

والثاني : أن من لم يقله ، لم ينكره .
قوله تعالى : { وقالت النصارى المسيح ابن الله } في سبب قولهم هذا قولان .
أحدهما : لكونه ولد من غير ذكَر .
والثاني : لأنه أحيى الموتى ، وأبرأ الكُمْةَ والبُرص وقد شرحنا هذا المعنى في [ المائدة : 110 ] .
قوله تعالى : { ذلك قولهم بأفواههم } إن قال قائل : هذا معلوم ، فما فائدته؟ فالجواب : أن المعنى : أنه قول بالفم لا بيانَ فيه ، ولا برهانَ ، ولا تحته معنى صحيح . قاله الزجاج .
قوله تعالى : { يضاهون } قرأ الجمهور : من غير همز . وقرأ عاصم : «يضاهئون» . قال ثعلب : لم يتابع عاصماً أحد على الهمز . قال الفراء : وهي لغة . قال الزجاج : «يضاهون» يشابهون قولَ من تقدَّمَهم من كَفَرتِهم ، فانما قالوه اتباعاً لمتقدِّميهم . وأصل المضاهاة في اللغة : المشابهة ، والأكثر ترك الهمز؛ واشتقاقه من قولهم : امرأة ضهياء ، وهي التي لا ينبت لها ثدي . وقيل : هي التي لا تحيض ، والمعنى : أنها قد أشبهت الرجال . قال ابن الأنباري : يقال : ضاهَيت ، وضاهأت ، إذا شبَّهتَ . وفي { الذين كفروا } هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم عبدة الأوثان ، والمعنى : أن أولئك قالوا : الملائكة بنات الله ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنهم اليهود ، فالمعنى : أن النصارى في قولهم المسيح ابن الله شابهوا اليهود في قولهم عزير ابن الله ، قاله قتادة ، والسدي .
والثالث : أنهم أسلافهم ، تابعوهم في أقوالهم تقليداً ، قاله الزجاج ، وابن قتيبة .
وفي قوله : { قاتلهم الله } ثلاثة أقوال .
أحدها : أن معناه : لعنهم الله ، قاله ابن عباس .
والثاني : قتلهم الله ، قاله أبو عبيدة .
والثالث : عاداهم الله ، ذكره ابن الأنباري .
قوله تعالى : { أنى يؤفكون } أي : من أين يصرفون عن الحق؟ .
قوله تعالى : { اتخذوا أحبارهم } قد سبق في [ المائدة : 44 ] معنى الأحبار والرهبان . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن هذه الآية ، فقال : " أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئاً استحلُّوهْ ، واذا حرموا عليهم شيئاً حرّموه " فعلى هذا المعنى : إنهم جعلوهم كالأرباب وإن لم يقولوا : إنهم أرباب .
قوله تعالى : { والمسيحَ ابن مريم } قال ابن عباس : اتخَذوه رباً .

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)

قوله تعالى : { يريدون أن يطفئوا نور الله } قال ابن عباس : يخمدوا دين الله بتكذيبهم ، يعني : أنهم يكذبون به ويُعرضون عنه يريدون إبطاله بذلك . وقال الحسن وقتادة : نور الله : القرآن والإسلام . فأما تخصيص ذلك بالأفواه ، فلما ذكرنا في الآية قبلها . وقيل : إن الله تعالى لم يذكر قولاً مقروناً بالأفواه والألسن إلا وهو زور .
قوله تعالى : { ويأبى الله إلا أن يُتمَّ نُورَه } قال الفراء : إنما دخلت «إلا» هاهنا ، لأن في الإباء طرفاً من الجحد ، ألا ترى أن «أبيت» كقولك : «لم أفعل» ، «ولا أفعل» فكأنه بمنزلة قولك : ما ذهب إلا زيد ، قال الشاعر :
فَهَلْ لِيَ أُمٌّ غيرُها إن تركتُها ... أبى الله إلا أن أكُون لَها ابنما
وقال الزجاج : المعنى : ويأبى الله كل شيء إلا إتمام نوره . قال مقاتل : «يتم نوره» أي : يظهر دينه .

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)

قوله تعالى : { هو الذي أرسل رسوله } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم { بالهدى } ، وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه التوحيد . والثاني : القرآن . والثالث : تبيان الفرائض . فأما دين الحق ، فهو الإسلام . وفي قوله : { ليظهرَه } قولان .
أحدهما : أن الهاء عائدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالمعنى : ليعلّمه شرائع الدِّين كلَّها ، فلا يخفى عليه منها شيء ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنها راجعة إلى الدين . ثم في معنى الكلام قولان .
أحدهما : ليظهر هذا الدين على سائر الملل . ومتى يكون ذلك؟ فيه قولان : أحدهما : عند نزول عيسى عليه السلام ، فانه يتبعه أهل كل دين ، وتصير المللُ واحدة ، فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام أو أدَّوا الجزية ، قاله أبو هريرة ، والضحاك . والثاني : أنه عند خروج المهدي ، قاله السدي .
والقول الثاني : أن إظهار الدِّين إنما هو بالحجج الواضحة ، وإن لم يدخل الناس فيه .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)

قوله تعالى : { إن كثيراً من الأحبار } الأحبار من اليهود ، والرهبان من النصارى . وفي الباطل أربعة أقوال .
أحدها : أنه الظلم ، قاله ابن عباس . والثاني : الرشا في الحكم ، قاله الحسن . والثالث : الكذب ، قاله أبو سليمان . والرابع : أخذه من الجهة المحظورة ، قاله القاضي أبو يعلى . والمراد : أخذ الأموال ، وإنما ذكر الأكل ، لأنه معظم المقصود من المال . وفي المراد بسبيل الله هاهنا قولان .
أحدهما : الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس ، والسدي .
والثاني : أنه الحق والحكم .
قوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة } اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها نزلت عامّة في أهل الكتاب والمسلمين ، قاله أبو ذر ، والضحاك .
والثاني : أنها خاصَّة في أهل الكتاب ، قاله معاوية بن أبي سفيان .
والثالث : أنها في المسلمين ، قاله ابن عباس ، والسدي .
وفي الكنز المستحقّ عليه هذا الوعيد ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه مالم تؤدَّ زكاته . قال ابن عمر : كل مال أُدِّيتْ زكاتُه وإن كان تحت سبع أرضين فليس بكنز ، وكل مال لا تؤدَّى زكاته فهو كنز وإن كان ظاهراً على وجه الأرض ، وإلى هذا المعنى : ذهب الجمهور . فعلى هذا ، معنى الإنفاق : إخراج الزكاة .
والثاني : أنه ما زاد على أربعة آلاف ، روي عن علي بن أبي طالب أنه : قال أربعة آلاف نفقة ، وما فوقها كنز .
والثالث : ما فضل عن الحاجة ، وكان يجب عليهم إخراج ذلك في أول الإسلام ثم نُسخ بالزكاة .
فان قيل : كيف قال { ينفقونها } وقد ذكر شيئين؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أن المعنى : يرجع إلى الكنوز والأموال .
والثاني : أنه يرجع إلى الفضة ، وحذُف الذهب . لأنه داخل في الفضة ، قال الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأي مختلفُ
يريد : نحن بما عندنا راضون ، وأنت بما عندك راضٍ ، ذكر القولين الزجاج .
وقال الفراء : إن شئت اكتفيت بأحد المذكورين ، كقوله : { ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً } [ النساء : 112 ] وقوله : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضَّوا إليها } [ الجمعة : 11 ] ، وأنشد :
إني ضمنت لمن أتاني ما جَنَى ... وأبى وكان وكنت غير غَدورِ
ولم يقل : غدورين ، وإنما اكتفى بالواحد لاتفاق المعنى . قال أبو عبيدة : والعرب إذا أشركوا بين اثنين قصروا ، فخبَّروا عن أحدهما استغناء بذلك ، وتحقيقاً؛ لمعرفة السامع بأن الآخر قد شاركه ، ودخل معه في ذلك الخبر ، وأنشد :
فمن يك أمسى بالمدينة رحْلُهُ ... فاني وقيَّارٌ بها لغريب
والنصب في : «قيار» أجود ، وقد يكون الرفع . وقال حسان بن ثابت :
إنَّ شرخَ الشبابِ والشَّعَرَ الأس ... ودَ مالم يُعَاصَ كان جُنُونا
ولم يقل : يعاصيا .

يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)

قوله تعالى : { يوم يحمى عليها في نار جهنم } أي : على الأموال . قال ابن مسعود : والله ما من رجل يُكوى بكنز ، فيوضعُ دينار على دينار ولا درهم على درهم ، ولكن يوسَّع جلده ، فيوضع كل دينار ودرهم على حدته . وقال ابن عباس : هي حيَّة تنطوي على جنبيه وجبهته ، فتقول : أنا مالك الذي بخلت به .
قوله تعالى : { هذا ما كنزتم } فيه محذوف تقديره : ويقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم { فذوقوا ما كنتم تكنزون } أي : عذاب ذلك .
فان قيل : لم خصَّ الجباه والجنوب والظهور من بقية البدن؟
فالجواب : أن هذه المواضع مجوَّفة ، فيصل الحر إلى أجوافها ، بخلاف اليد والرجل . وكان أبو ذرٍّ يقول : بشر الكنَّازين بكيّ في الجباه وكيّ في الجنوب وكيٍّ في الظهور ، حتى يلتقي الحرُّ في أجوافهم . وجواب آخر : وهو أن الغنيَّ إذا رأى الفقير ، انقبض؛ وإذا ضمه وإياه مجلس ، ازورّ عنه ووِّلاه ظهره ، قاله أبو بكر الوراق .

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)

قوله تعالى : { إن عدة الشهور عند الله } قال المفسرون : نزلت هذه الآية من أجل النسيء الذي كانت العرب تفعله ، فربما وقع حجهم في رمضان ، وربما وقع في شوال ، إلى غير ذلك؛ وكانوا يستحلُّون المحرَّم عاماً ، ويحرِّمون مكانه صفر ، وتارة يحرِّمون المحرَّم ويستحلُّون صفر . قال الزجاج : أعلم الله عز وجل أن عدد شهور المسلمين التي تُعُبِّدوا بأن يجعلوه لسنتهم : اثنا عشر شهراً على منازل القمر؛ فجعل حجهم وأعيادهم على هذا العدد ، فتارة يكون الحج والصوم في الشتاء ، وتارة في الصيف ، بخلاف ما يعتمده أهل الكتاب ، فانهم يعملون على أن السنة ثلاثمائة يوم وخمسة وستون يوماً وبعض يوم . وجمهور القراء على فتح عين { اثنا عشر } . وقرأ أبو جعفر : اثنا عشر ، وأحد عْشر ، وتسعة عْشر ، بسكون العين فيهن .
قوله تعالى : { في كتاب الله } أي : في اللوح المحفوظ . قال ابن عباس : في الإمام الذي عند الله ، كتبه : { يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم } وفيها قولان .
أحدهما : أنها رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، قاله الأكثرون . وقال القاضي أبو يعلى : إنما سماها حُرُماً : لمعنيين . أحدهما : تحريم القتال فيها ، وقد كان أهل الجاهلية يعتقدون ذلك أيضاً . والثاني : لتعظيم انتهاك المحارم فيها أشدَّ من تعظيمه في غيرها ، وكذلك تعظيم الطاعات فيها .
والثاني : انها الأشهُر التي أُجِّل المشركون فيها للسياحة ، ذكره ابن قتيبة .
قوله تعالى : { ذلك الدِّين القيِّم } فيه قولان .
أحدهما : ذلك القضاء المستقيم ، قاله ابن عباس .
والثاني : ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوي ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى : { فلا تظلموا فيهن أنفسَكم } اختلفوا في كناية «فيهنَّ» على قولين :
أحدهما : أنها تعود على الاثني عشر شهراً ، قاله ابن عباس . فعلى هذا يكون المعنى : لا تجعلوا حرامها حلالاً ، ولا حلالها حراماً ، كفعل أهل النسيء .
والثاني : أنها ترجع إلى الأربعة الحرم ، وهو قول قتادة ، والفراء؛ واحتج بأن العرب تقول لما بين الثلاثة إلى العشرة : لثلاث ليال خَلَوْنَ ، وأيام خلون ، فاذا جُزتَ العشَرة قالوا خلتْ ومضتْ ، ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة : هُنَّ ، وهؤلاء ، فاذا جزتَ العشرة ، قالوا : هي ، وهذه؛ إرادةَ أن تُعرف سمة القليل من الكثير . وقال ابن الأنباري : العرب تعيد الهاء والنون على القليل من العدد ، والهاء والألف على الكثير منه؛ والقلَّة : ما بين الثلاثة إلى العشرة ، والكثرة : ما جاوز العشرة . يقولون : وجهتُ إليك أكبُشاً فاذبحْهُنَّ ، وكباشاً فاذبحها فلهذا قال : { منها أربعة حرم } وقال : { فلا تظلموا فيهن } لأنه يعني : بقوله : { فيهن } الأربعة . ومن قال من المفسرين : إنه يعني بقوله : { فيهن } الاثني عشر ، فانه ممكن؛ لأن العرب ربما جعلت علامة القليل للكثير ، وعلامة الكثير للقليل ، وعلى قول من قال : ترجع { فيهن } إلى الأربعة ، يُخرَّج في معنى الظلم فيهن أربعة أقوال .

أحدها : أنه المعاصي ، فتكون فائدة تخصيص النهي عنه بهذه الأشهر ، أن شأن المعاصي يعظُم فيها أشدَّ من تعظيمه في غيرها ، وذلك لفضلها على ما سواها ، كقوله : { وجبريل وميكال } [ البقرة : 98 ] وإن كانا قد دخلا في جملة الملائكة ، وقوله : { فاكهة ونخل ورمَّان } [ الرحمن : 68 ] وإن كانا قد دخلا في جملة الفاكهة ، وقوله : { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } [ البقرة : 197 ] وإن كان منهياً عنه في غير الحج ، وكما أُمر بالمحافظة على الصلاة الوسطى وإن كان مأموراً بالمحافظة على غيرها ، هذا قول الأكثرين .
والثاني : أن المراد بالظلم فيهنَّ فعل النسيء : وهو تحليل شهر محرَّم ، وتحريم شهر حلال ، قاله ابن اسحاق .
والثالث : أنه البداية بالقتال فيهن ، فيكون المعنى : فلا تظلموا أنفسكم بالقتال فيهن إلا أن تُبدَؤوا بالقتال ، قاله مقاتل .
والرابع : أنه ترك القتال فيهن ، فيكون المعنى : فلا تظلموا فيهن أنفسكم بترك المحاربة لعدوِّكم ، قاله ابن بحر ، وهو عكس قول مقاتل . والسرُّ في أن الله تعالى عظَّم بعض الشهور على بعض ، ليكون الكفُّ عن الهوى فيها ذريعة إلى استدامة الكف في غيرها تدريجاً للنفس إلى فراق مألوفها المكروه شرعاً .

إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)

قوله تعالى : { إنما النسيء زيادة في الكفر } الجمهور على همز النسيء ومَدِّه وكسر سينه . وروى شبل عن ابن كثير : «النِّسْءُ» على وزن النِسْع . وفي رواية أخرى عن شبل : «النَّسِيُّ» مشددة الياء من غير همز ، وهي قراءة أبي جعفر؛ والمراد بالكلمة : التأخير . قال اللغويون : النسيء : تأخير الشيء . وكانت العرب تحرِّم الأشهر الأربعة ، وكان هذا مما تمسَّكت به من ملة إبراهيم ، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرَّم للحرب تكون بينهم ، فيؤخِّرون تحريم المحرَّم إلى صفر ، ثم يحتاجون إلى تأخير صفر أيضاً إلى الشهر الذي بعده ، ثم تتدافع الشهور شهراً بعد شهر حتى يستدير التحريم على السنَّة كلِّها ، فكأنهم يستنسؤون الشهر الحرام ويستقرضونه ، فأعلم الله عز وجل أن ذلك زيادة في كفرهم ، لأنهم أحلُّوا الحرام ، وحرموا الحلال ، { ليواطؤوا } : أي : ليوافقوا { عدة ما حرَّم الله } فلا يخرجون من تحريم أربعة ، ويقولون : هذه بمنزلة الأربعة الحرم ، ولا يبالون بتحليل الحرام ، وتحريم الحلال . وكان القوم لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم ، قال الفراء : كانت العرب في الجاهلية إذا أرادوا الصَّدَرَ عن مِنًى ، قام رجل من بني كنانة يقال له : نُعيم بن ثعلبة ، وكان رئيس الموسم ، فيقول : أنا الذي لا أُعابُ ولا أُجابُ ولا يُرَدُّ لي قضاء ، فيقولون : أنسئنا شهراً ، يريدون : أخِّر عنا حرمة المحرم ، واجعلها في صفر ، فيفعل ذلك . وإنما دعاهم إلى ذلك توالي ثلاثة أشهر حُرُم لا يُغِيرون فيها ، وإنما كان معاشهم من الإغارة فتستدير الشهور كما بيَّنَّا . وقيل : إنما كانوا يستحلُّون المحرَّم عاماً ، فاذا كان من قابل ردُّوه إلى تحريمه . قال أبو عبيد : والتفسير الأول أحب إليَّ ، لأن هذا القول ليس فيه استدارة . وقال مجاهد : كان أولَ من أظهر النسيء جنادةُ بن عوف الكناني ، فوافقت حجَةُ أبي بكر ذا القعدة ، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام القابل في ذي الحجة ، فذلك حين قال : " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " وقال الكلبي : أول من فعل ذلك نُعيم بن ثعلبة .
قوله تعالى : { يُضَل به الذين كفروا } وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «يَضِل» بفتح الياء وكسر الضاد ، والمعنى : أنهم يكتسبون الضلال به . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : «يُضَلُّ» بضم الياء وفتح الضاد ، على مالم يُسم فاعله . وقرأ الحسن البصري ، ويعقوب إلا الوليد : «يُضِل» بضم الياء وكسر الضاد ، وفيه ثلاثة أوجه .
أحدها : يُضِلُّ الله به . والثاني : يُضِلّ الشيطان به ، ذكرهما ابن القاسم . والثالث : يُضِلّ به الذين كفروا الناس ، لأنهم الذين سنُّوه لهم . قال أبو علي : التقدير : يُضل به الذين كفروا تابعيهم . وقال ابن القاسم : الهاء في «به» راجعة إلى النسيء ، وأصل النسيء : المنسوء ، أي : المؤخَّر ، فينصرف عن «مفعول» إلى «فعيل» كما قيل : مطبوخ وطبيخ ، ومقدور وقدير ، قال : وقيل : الهاء راجعة إلى الظلم ، لأن النسيء كَشَفَ تأويل الظلم ، فجرى مجرى المظهَر ، والأول اختيارنا .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)

قوله تعالى : { مالكم إذا قيل لكم انفروا } قال المفسرون : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوة تبوك ، وكان في زمن عسرة وجدب وحرٍّ شديد ، وقد طابت الثمار ، عَظُمَ ذلك على الناس وأحبوا المُقام ، فنزلت هذه الآية . وقوله : «مالكم» استفهام معناه التوبيخ . وقوله : «انفروا» معناه : اخرجوا . وأصل النفر : مفارقة مكان إلى مكان آخر لأمر هاج إلى ذلك . وقوله : { اثَّاقلتم } قال ابن قتيبة : أراد : تثاقلتم ، فأدغم التاء في الثاء ، وأحدثت الألف ليسكن ما بعدها ، وأراد : قعدتم . وفي قراءة ابن مسعود ، والأعمش ، «تثاقلتم» .
وفي معنى { إلى الأرض } ثلاثة أقوال .
أحدها : تثاقلتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمرها ، قاله مجاهد .
والثاني : اطمأننتم إلى الدنيا ، قاله الضحاك .
والثالث : تثاقلتم إلى الإقامة بأرضكم ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { أرضيتم بالحياة الدنيا } أي : بنعيمها من نعيم الآخرة ، فما يُتمتَّع به في الدنيا قليل بالإضافة إلى ما يَتمتَّع به الأولياء في الجنة .

إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)

قوله تعالى : { إلا تنفروا يعذبكم } سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حثَّهم على غزو الروم تثاقلوا ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . وقال قوم : هذه خاصة فيمن استنفره رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفر . قال ابن عباس : استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً من العرب فتثاقلوا عنه ، فأُمسك عنهم المطر فكان عذابهم . وفي قوله : { ويستبدلْ قوماً غيركم } وعيد شديد في التخلُّف عن الجهاد ، وإعلام بأنه يستبدل لنصر نبيه قوماً غير متثاقلين . ثم أعلمهم أنهم إن تركوا نصره لم يضروه ، كما لم يضرُرْه ذلك إذْ كان بمكة . وفي هاء «تضرُّوه» قولان :
أحدهما : أنها ترجع إلى الله ، والمعنى : لا تضروا الله بترك النفير ، قاله الحسن .
والثاني : أنها ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالمعنى : لا تضروه بترك نصره ، قاله الزجاج .
فصل
وقد روي عن ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، قالوا : نُسخ قوله : { إلا تنفروا يعذْبكم عذاباً أليماً } بقوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } [ التوبة : 122 ] ، وقال أبو سليمان الدمشقي : ليس هذا من المنسوخ ، إذ لا تنافي بين الآيتين ، وإنما حكم كل آية قائم في موضعها . وذكر القاضي أبو يعلى عن بعض العلماء أنهم قالوا : ليس هاهنا نسخ ، ومتى لم يقاوم أهل الثغور العدوَّ ، ففرضٌ على الناس النفير إليهم ، ومتى استغنَوا عن إعانة مَن وراءهم ، عُذر القاعدون عنهم . وقال قوم هذا في غزوة تبوك ، ففُرِض على الناس النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)

قوله تعالى : { إلا تنصروه } أي : بالنفير معه { فقد نصره الله } إعانةً على أعدائه ، { إذ أخرجه الذين كفروا } حين قصدوا إهلاكه على ما شرحنا في قوله : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } [ الأنفال : 30 ] فأعلمهم أن نصره ليس بهم .
قوله تعالى : { ثاني اثنين } العرب تقول : هو ثاني اثنين ، أي : أحد الاثنين ، وثالث ثلاثة ، أي : أحد الثلاثة ، قال الزجاج : وقوله : { ثاني اثنين } منصوب على الحال؛ المعنى : فقد نصره الله أحد اثنين ، أي : نصره منفرداً إلا من أبي بكر ، وهذا معنى قول الشعبي : عاتب الله أهل الأرض جميعاً في هذه الآية غير أبي بكر . وقال ابن جرير : المعنى : أخرجوه وهو أحد الاثنين ، وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر . فأما الغار ، فهو ثَقب في الجبل ، وقال ابن فارس : الغار : الكهف ، والغار : نبت طيِّب الرِّيح ، والغار : الجماعة من الناس ، والغاران : البطن والفرج ، وهما الأجوفان ، يقال : إنما هو عبد غارَيْه . قال الشاعر :
ألَم تر أنَّ الدَّهْرَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ... وأنَّ الفَتَى يَسْعَى لِغَارَيْهِ دَائِبَا
قال قتادة : وهذا الغار في جبل بمكة يقال له : ثور . قال مجاهد : مكثا فيه ثلاثاً . وقد ذكرت حديث الهجرة في كتاب «الحدائق» . قال أنس بن مالك :
أمر الله عز وجل شجرة فنبتت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسترته ، وأمر العنكبوت فنسجت في وجهه ، وأمر حمامتين وحشيتين فوقعتا في فم الغار ، فلما دنوا من الغار ، عَجِل بعضهم لينظر ، فرأى حمامتين فرجع فقال : رأيت حمامتين على فم الغار ، فعلمت أنه ليس فيه أحد . وقال مقاتل : جاء القائف فنظر إلى الأقدام فقال : هذه قدم ابن أبي قحافة ، والأخرى لا أعرفها ، إلا أنها تشبه القدم التي في المقام . وصاحبه في هذه الآية أبو بكر ، وكان أبو بكر قد بكى لما مرَّ المشركون على باب الغار ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " ؟
وفي السكينة ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها الرحمة ، قاله ابن عباس . والثاني : الوقار ، قاله قتادة . والثالث : السكون والطمأنينة . قاله ابن قتيبة : وهو أصح .
وفي هاء «عليه» ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها ترجع إلى أبي بكر ، وهو قول علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وحبيب بن أبي ثابت ، واحتجَ من نصر هذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مطمئناً .
والثاني : أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل .
والثالث : أن الهاء هاهنا في معنى تثنية ، والتقدير : فأنزل الله سكينته عليهما ، فاكتفى باعادة الذِّكر على أحدهما من إعادته عليهما ، كقوله : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } [ التوبة : 62 ] ذكره ابن الأنباري .
قوله تعالى : { وأيده } أي : قوَّاه : يعني النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف .

{ بجنود لم تروها } وهم الملائكة . ومتى كان ذلك؟ فيه قولان .
أحدهما : يوم بدر ، ويوم الأحزاب ، ويوم حنين ، قاله ابن عباس .
والثاني : لما كان في الغار ، صَرفت الملائكة وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته ، قاله الزجاج .
فان قيل : إذا وقع الاتفاق أن هاء الكناية في { أيده } ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف تفارقها هاء { عليه } وهما متفقتان في نظم الكلام؟
فالجواب : أن كل حرف يُردُّ إلى الأليق به ، والسكينة إنما يَحتاج إليها المنزعج ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم منزعجاً . فأما التأييد بالملائكة ، فلم يكن إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ونظير هذا قوله : { لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزِّروه وتوقِّروه } [ الفتح : 8 ] يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، { وتسبِّحوه } يعني : الله عز وجل .
قوله تعالى : { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } فيها قولان .
أحدهما : أن كلمة الكافرين الشرك ، جعلها الله السفلى ، لأنها مقهورة ، وكلمة الله وهي التوحيد ، هي العليا ، لأنها ظهرت ، هذا قول الأكثرين .
والثاني : أن كلمة الكافرين ما قدَّروا بينهم في الكيد به ليقتلوه ، وكلمة الله أنه ناصره ، رواه عطاء عن ابن عباس . وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، ويعقوب : «وكلمةَ الله» بالنصب .
قوله تعالى : { والله عزيز } أي : في انتقامه من الكافرين { حكيم } في تدبيره .

انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)

قوله تعالى : { انفروا خفافاً وثقالاً } سبب نزولها أن المقداد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان عظيماً سميناً ، فشكا إليه وسأله أن يأذن له ، فنزلت هذه الآية ، قاله السدي . وفي معنى { خفافاً وثقالاً } أحد عشر قولاً .
أحدها : شيوخاً وشباباً ، رواه أنس عن أبي طلحة ، وبه قال الحسن ، والشعبي ، وعكرمة ، ومجاهد ، وأبو صالح ، وشَمْرُ بن عطية ، وابن زيد في آخرين .
والثاني : رجّالةً وركباناً ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال الأوزاعي .
والثالث : نِشاطاً وغير نِشاط ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، ومقاتل .
والرابع : أغنياء وفقراء ، روي عن ابن عباس . ثم في معنى هذا الوجه قولان . أحدهما : أن الخفاف : ذوو العسرة وقلَّة العيال ، والثقال : ذوو العيال والميسرة ، قاله الفراء . والثاني : أن الخفاف : أهل الميسرة والثقال : أهل العسرة ، حكي عن الزجاج .
والخامس : ذوي عيال ، وغير عيال . قاله زيد بن أسلم .
والسادس : ذوي ضياع ، وغير ذوي ضياع ، قاله ابن زيد .
والسابع : ذوي أشغال ، وغير ذوي أشغال ، قاله الحكم .
والثامن : أصحَّاء ، ومرضى قاله مرة الهمداني ، وجويبر .
والتاسع : عزَّاباً ، ومتأهِّلين ، قاله يمان بن رياب .
والعاشر : خفافاً إلى الطاعة ، وثقالاً عن المخالفة ، ذكره الماوردي .
والحادي عشر : خفافاً من السلاح ، وثقالاً بالاستكثار منه ، ذكره الثعلبي .
فصل
روى عطاء الخراساني عن ابن عباس ان هذه الآية منسوخة بقوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافَّة } [ التوبة : 122 ] وقال السدي : نسخت بقوله : { ليس على الضعفاء ولا على المرضى } [ التوبة : 91 ] .
قوله تعالى : { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم } قال القاضي أبو يعلى : أوجب الجهاد بالمال والنفس جميعاً ، فمن كان له مال وهو مريض أو مقعد أو ضعيف لا يصلح للقتال ، فعليه الجهاد بماله ، بأن يعطيه غيره فيغزو به ، كما يلزمه الجهاد بنفسه إذا كان قوياً . وإن كان له مال وقوَّة ، فعليه الجهاد بالنفس والمال . ومن كان معدماً عاجزاً ، فعليه الجهاد بالنصح لله ورسوله ، لقوله : { ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله } [ التوبة : 91 ] .
قوله تعالى : { ذلكم خير لكم } فيه قولان .
أحدهما : ذلكم خير الجهاد لكم من تركه والتثاقل عنه .
والثاني : ذلكم الجهاد خير حاصل لكم { إن كنتم تعلمون } مالكم من الثواب .

لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)

قوله تعالى : { لو كان عرضاً قريباً } قال المفسرون : نزلت في المنافقين الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك . ومعنى الآية : لو كان ما دُعوا إليه عَرَضاً قريباً . والعرض : كلُّ ما عرض لك من منافع الدنيا ، فالمعنى : لو كانت غنيمةً قريبة ، أو كان سفراً قاصداً ، أي : سهلاً قريباً لاتَّبعوك طمعاً في المال { ولكن بَعُدَتْ عليهم الشُّقَّةُ } قال ابن قتيبة : الشقة : السفر؛ وقال الزجاج الشقة : الغاية التي تقصد؛ وقال ابن فارس : الشقة : مصير إلى أرض بعيدة ، تقول : شق شاقّة .
قوله تعالى : { وسيحلفون بالله } يعني : المنافقين إذا رجعتم إليهم { لو استطعنا } وقرأ زائدة عن الأعمش ، والأصمعي عن نافع : «لوُ استطعنا» بضم الواو وكذا أين وقع ، مثل : { لوُ اطَّلعتَ عليهم } [ الكهف : 18 ] ، كأنه لما احتيج إلى حركة الواو ، حركت بالضم لأنها أخت الواو ، والمعنى : لو قدرنا وكان لنا سَعَةٌ في المال . { يهلكون أنفسهم } بالكذب والنفاق { والله يعلم إنهم لكاذبون } لأنهم كانوا : أغنياء ولم يخرجوا .

عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)

قوله تعالى : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } كان صلى الله عليه وسلم قد أذن لقوم من المنافقين في التخلُّف لمَّا خرج إلى تبوك ، قال ابن عباس : ولم يكن يومئذ يعرف المنافقين . قال عمرو بن ميمون : اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما : إذنه للمنافقين ، وأخذه الفداء من الأسارى؛ فعاتبه الله كما تسمعون . قال مورِّق : عاتبه ربُّه بهذا . وقال سفيان بن عيينة : انظر إلى هذا اللطف ، بدأه بالعفو قبل أن يعيِّره بالذَّنْب . وقال ابن الأنباري : لم يخاطَب بهذا لجرم أجرمه ، لكنَّ الله وقَّره ورفع من شأنه حين افتتح الكلام بقوله : { عفا الله عنك } كما يقول الرجل لمخاطبه إذا كان كريماً عليه : عفا الله عنك ، ما صنعت في حاجتي؟ ورضي الله عنك هلاَّ زرتني .
قوله تعالى : { حتى يتبيَّن لك الذين صدقوا } فيه قولان .
أحدهما : أن معناه : حتى تعرف ذوي العذر في التخلُّف ممن لا عذر له .
والثاني : لو لم تأذن لهم ، لقعدوا وبان لك كذبهم في اعتذارهم . قال قتادة : ثم إن الله تعالى نسخ هذه الآية بقوله : { فائذن لمن شئتَ منهم } [ النور : 62 ] .

لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)

قوله تعالى : { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله } قال ابن عباس : هذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في القعود . قال الزجاج : أعلم الله عز وجل نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنَّ علامة النفاق في ذلك الوقت الاستئذان .
فصل
وروي عن ابن عباس أنه قال : نسخت هذه الآية بقوله : { لم يذهبوا حتى يستأذنوه . . . } إلى آخر الآية [ النور : 62 ] . قال أبو سليمان الدمشقي : وليس للنسخ هاهنا مدخل ، لإمكان العمل بالآيتين ، وذلك أنه إنما عاب على المنافقين أن يستأذنوه في القعود عن الجهاد من غير عذر ، وأجاز للمؤمنين الاستئذان لما يعرض لهم من حاجة ، وكان المنافقون إذا كانوا معه فعرضت لهم حاجة ذهبوا من غير استئذانه .

وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)

قوله تعالى : { ولو أرادوا الخروج } يعني : المستأذنين له في القعود .
وفي المراد بالعُدَّة قولان .
أحدهما : النية ، قاله الضحاك عن ابن عباس .
والثاني : السلاح ، والمركوب ، وما يصلح للخروج ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والانبعاث : الانطلاق . والتثبُّط : ردُّك الإنسان عن الشيء يفعله .
قوله تعالى : { وقيل اقعدوا } في القائل لهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم أُلهموا ذلك خذلاناً لهم ، قاله مقاتل . والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله غضباً عليهم . والثالث : أنه قول بعضهم لبعض ، ذكرهما الماوردي .
وفي المراد بالقاعدين قولان .
أحدهما : أنهم القاعدون بغير عذر ، قاله ابن السائب .
والثاني : أنهم القاعدون بعذر كالنساء والصبيان ، ذكره علي بن عيسى .
وقال الزجاج : ثم أعلم الله عز وجل لم كره خروجهم ، فقال : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبَالاً } والخبال : الفساد وذهاب الشيء . وقال ابن قتيبة : الخبال : الشر .
فان قيل : كأن الصحابة كان فيها خبال حتى قيل : { ما زادوكم إلا خبالاً } ؟ فالجواب : أنه من الاستثناء المنقطع ، والمعنى : ما زادوكم قوَّة ، لكن أوقعوا بينكم خبالاً . وقيل : سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج ، ضرب عسكره على ثنيَّة الوداع ، وخرج عبد الله بن أُبيّ ، فضرب عسكره على أسفل من ذلك؛ فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تخلَّف ابن أُبي فيمن تخلَّف من المنافقين ، فنزلت هذه الآية .
قوله تعالى : { ولأوضعوا خلالكم } قال الفراء : الإيضاع : السير بين القوم . وقال أبو عبيدة : لأسرعوا بينكم ، وأصله من التخلل . قال الزجاج : يقال : أوضعت في السير : أسرعت .
قوله تعالى : { يبغونكم الفتنة } قال الفراء : يبغونها لكم . وفي الفتنة قولان .
أحدهما : الكفر ، قاله الضحاك ، ومقاتل ، وابن قتيبة .
والثاني : تفريق الجماعة ، وشتات الكلمة ، قال الحسن : لأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات بينكم .
قوله تعالى : { وفيكم سمَّاعون لهم } فيه قولان .
أحدهما : عيون ينقلون إليهم أخباركم ، قاله مجاهد ، وابن زيد .
والثاني : مَن يسمع كلامهم ويطيعهم ، قاله قتادة ، وابن إسحاق .

لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)

قوله تعالى : { لقد ابتغوا الفتنة } في الفتنة قولان .
أحدهما : الشر ، قاله ابن عباس . والثاني : الشرك ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { من قبل } أي : من قبل غزوة تبوك .
وفي قوله : { وقلَّبوا لك الأمور } خمسة أقوال .
أحدها : بَغَوْا لك الغوائل ، قاله ابن عباس . وقيل : إن اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا على طريقه ليلاً ليفتكوا به ، فسلَّمه الله منهم .
والثاني : احتالوا في تشتُّت أمرك وإبطال دينك ، قاله أبو سليمان الدمشقي . قال ابن جرير : وذلك كانصراف ابن أُبيّ يوم أُحد بأصحابه .
والثالث : أنه قولهم ما ليس في قلوبهم .
والرابع : أنه ميلهم إليك في الظاهر ، وممالأة المشركين في الباطن .
والخامس : أنه حلفهم بالله { لو استطعنا لخرجنا معكم } ذكر هذه الأقوال الثلاثة الماوردي .
قوله تعالى : { حتى جاء الحق } يعني : النصر { وظهر أمر الله } يعني الإسلام .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)

قوله تعالى : { ومنهم من قول ائذن لي } سبب نزولها : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجَدِّ بن قيس : «يا جَدُّ ، هل لك في جِلاد بني الأصفر ، لعلك أن تغنم بعض بنات الأصفر» ، فقال : يا رسول الله ، ائذن لي فأقيم ، ولا تفتني ببنات الأصفر . فأعرض عنه ، وقال : «قد أذنت لك» " ونزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وهذه الآية وما بعدها إلى قوله { إنما الصدقات } في المنافقين .
قوله تعالى : { ومنهم } يعني : المنافقين { من يقول ائذن لي } أي : في القعود عن الجهاد ، وهو الجد بن قيس . وفي قوله { ولا تفتنّي } أربعة أقوال .
أحدها : لا تفتنّي بالنساء ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد .
والثاني : لا تُكسبني الإثم بأمرك إيَّايَ بالخروج وهو غير متيسِّر لي ، فآثم بالمخالفة ، قاله الحسن ، وقتادة ، والزجاج .
والثالث : لا تكفِّرني بإلزامك إيَّايَ الخروج ، قاله الضحاك .
والرابع : لا تصرفني عن شغلى ، قاله ابن بحر .
قوله تعالى : { ألا في الفتنة سقطوا } في هذه الفتنة أربعة أقوال .
أحدها : أنها الكفر ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : الحرج ، قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . والثالث : الإثم ، قاله قتادة ، والزجاج . والرابع : العذاب في جهنم ، ذكره الماوردي .

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)

قوله تعالى : { إن تصبك حسنة } أي : نصر وغنيمة . والمصيبة : القتل والهزيمة . { يقولوا قد أخذنا أمرنا } أي : عَمِلنا بالحزم فلم نخرج . { ويتوَلَّوْا وهم فرحون } بمصابك وسلامتهم .
قوله تعالى : { إلا ما كتب الله لنا } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : ما قضى علينا ، قاله ابن عباس .
والثاني : ما بيَّن لنا في كتابه من أنَّا نظفر فيكون ذلك حسنى لنا ، أو نقتل فتكون الشهادةُ حسنى لنا أيضاً ، قاله الزجاج .
والثالث : لن يصيبنا في عاقبة أمرنا إلا ما كتب الله لنا من النصر الذي وُعدنا ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { هو مولانا } أي : ناصرنا .

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)

قوله تعالى : { قل هل تربَّصون بنا } أي : تنتظرون . والحسنيان : النصر والشهادة . { ونحن نتربَّص بكم أن يصيبَكم الله بعذاب من عنده } في هذا العذاب قولان .
أحدهما : الصواعق ، قاله ابن عباس . والثاني : الموت ، قاله ابن جُرَيج .
قوله تعالى : { أو بأيدينا } يعني : القتل .

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)

قوله تعالى : { أنفقوا طوعاً أو كرهاً } سبب نزولها : أن الجدّ بن قيس قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما عرض عليه غزو الروم : إذا رأيت النساء افتتنت ، ولكن هذا مالي أعينك به ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . قال الزجاج : وهذا لفظ أمر ، ومعناه : معنى الشرط والجزاء ، المعنى : إن أنفقتم طائعين أو مكرهين لن يُتقبَّل منكم . ومثله في الشعر قول كثيِّر :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً ... لَدينا ولا مَقْلِيَّةً إن تَقَلَّتِ
لم يأمرها بالإساءة ، ولكن أعلمها أنها إن أساءت أو أحسنت فهو على عهدها . قال الفراء ومثله : { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } [ التوبة : 80 ] .

وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)

قوله تعالى : { وما منعهم أن تُقبلَ منهم نفقاتُهم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «تقبل» بالتاء . وقرأ حمزة ، والكسائي : «يقبل» بالياء . قال أبو علي : من أنَّث ، فلأن الفعل مسند إلى مؤنَّث في اللفظ ، ومن قرأ بالياء ، فلأنه ليس بتأنيث حقيقي ، فجاز تذكيره ، كقوله : { فمن جاءه موعظة من ربه } [ البقرة : 275 ] وقرأ الجحدري : «أن يَقبل» بياء مفتوحة ، «نفقاتِهم» بكسر التاء . وقرأ الأعمش : «نفقتهم» بغير ألف مرفوعة التاء . وقرأ أبو مجلز ، وأبو رجاء ، «أن يَقبل» بالياء ، «نفقتهم» بنصب التاء على التوحيد .
قوله تعالى : { إلا أنَّهم كفروا بالله } قال ابن الانباري : «أن» هاهنا مفتوحة ، لأنها بتأويل المصدر مرتفعة ب «منعهم» ، والتقدير : وما منعهم قبول النفقة منهم إلا كفرهم بالله .
قوله تعالى : { إلا وهم كسالى } قد شرحناه في سورة [ النساء : 142 ] .
قوله تعالى : { ولا ينفقون إلا وهم كارهون } لأنهم يعدُّون الإنفاق مغرماً .

فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)

قوله تعالى : { فلا تعجبك أموالهم } أي : لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد . وفي معنى الآية أربعة أقوال .
أحدها : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وابن قتيبة . فعلى هذا ، في الآية تقديم وتأخير ، ويكون تعذيبهم في الآخرة بما صنعوا في كسب الأموال وإنفاقها .
والثاني : أنها على نظمها ، والمعنى : ليُعذبهم بها في الدنيا بالمصائب في الأموال والأولاد ، فهي لهم عذاب ، وللمؤمنين أجر ، قاله ابن زيد .
والثالث : أن المعنى ليعذبهم بأخذ الزكاة من أموالهم والنفقة في سبيل الله ، قاله الحسن . فعلى هذا ، ترجع الكناية إلى الأموال وحدها .
والرابع : ليعذبهم بسبي أولادهم وغنيمة أموالهم ، ذكره الماوردي . فعلى هذا ، تكون في المشركين .
قوله تعالى : { وتزهق أنفسهم } أي : تخرج . يقال : زهق السهم : إذا جاوز الهدف .

وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)

قوله تعالى : { ويحلفون بالله إنهم لمنكم } أي : مؤمنون و { يَفْرَقون } بمعنى : يخافون . فأما الملجأ ، فقال الزجاج : الملجأ واللَّجأ مقصور مهموز ، وهو المكان الذي يُتحصن فيه . والمغارات : جمع مغارة ، وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان ، أي : يستتر فيه . وقرأ سعيد بن جبير ، وابن أبي عبلة : «أو مُغارات» بضم الميم؛ لأنه يقال : أغرت وغُرت : إذا دخلتَ الغور ، وأصل مدَّخَل : مدتخل ، ولكن التاء تبدل بعد الدال دالاً ، لأن التاء مهموسة ، والدال مجهورة ، والتاء والدال من مكان واحد ، فكان الكلام من وجه واحد أخف . وقرأ أُبيٌّ ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء : { أو مُتَدَخَّلاً } برفع الميم ، وبتاء ودال مفتوحتين ، مشددة الخاء . وقرأ ابن مسعود ، وأبو عمران : { مُندخَلاً } بنون بعد الميم المضمومة . وقرأ الحسن ، وابن يعمر ، ويعقوب : «مدخلاً» بفتح الميم وتخفيف الدال وسكونها . قال الزجاج : من قال : «مَدْخلاً» فهو من دخل يدخل مدخلاً؛ ومن قال : «مُدْخلاً» فهو من أدخلته مُدخلاً ، قال الشاعر :
الحمد لله مُمْسَانا ومُصْبَحَنَا ... بالخير صبَّحنا رَبِّي ومسَّانا
ومعنى مُدَّخل ومُدْخل : أنهم لو وجدوا قوماً يدخلون في جملتهم { لولَّوا } إليه ، أي : إلى أحد هذه الأشياء { وهم يجمحون } أي : يسرعون إسراعاً لا يرد فيه وجوهَهم شيء . يقال : جمح وطمح : إذا أسرع ولم يردَّ وجهه شيء ، ومنه قيل : فرس جموح للذي إذا حمل لم يرده اللجام .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)

قوله تعالى : { ومنهم من يلمزك في الصدقات } فيمن نزلت فيه قولان .
أحدهما : أنه ذو الخويصرة التميمي ، قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوماً : اعدل يا رسول الله ، فنزلت هذه الآية . ويقال : أبو الخواصر ، ويقال : ابن ذي الخويصرة .
والثاني : أنه ثعلبة بن حاطب ، كان يقول : إنما يعطي محمد من يشاء ، فنزلت هذه الآية . قال ابن قتيبة : { يلمزك } يعيبك ويطعن عليك . يقال : همزت فلاناً ولمزته : إذا اغتبته وعبته ، والأكثرون على كسر ميم { يلمزك } . وقرأ يعقوب ، ونظيف عن قنبل ، وأبان عن عاصم ، والقزاز عن عبد الوارث { يلمزون } [ التوبة : 79 ] و { يلمزك } و { لا تلمزوا } [ الحجرات : 11 ] بضم الميم فيهنَّ . وقرأ ابن السميفع : «يلامزك» مثل يفاعلك . وقد رواها حماد بن سلمة عن ابن كثير . قال أبو علي الفارسي : وينبغي أن تكون فاعلت في هذا من واحد ، ونحو : طارقت النعل ، وعافاه الله لأن هذا ، لا يكون من النبي صلى الله عليه وسلم . وقرأ الأعمش : «يلمِّزك» بتشديد الميم من غير ألف مثل : يفعّلك قال الزجاج : يقال : لمزت الرجل ألمِزه وألمُزه ، بكسر الميم وضمها : إذا عبته ، وكذلك : همزته أهمزه ، قال الشاعر :
إذا لقيتُك تُبْدِي لي مُكَاشَرَةً ... وإن تَغَيَّبْتُ كنتَ الهامِزَ اللُّمَزَهْ

وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)

قوله تعالى : { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله } أي : قنعوا بما أُعطوا { إنا إلى الله راغبون } في الزيادة ، أي : لكان خيراً لهم ، وهذا جواب { لو } ، وهو محذوف في اللفظ .
ثم بيَّن المستحق للصدقات بقوله : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } اختلفوا في صفة الفقير والمسكين على ستة أقوال .
أحدها : أن الفقير : المتعفف عن السؤال . والمسكين الذي يسأل وبه رَمَق ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وجابر بن زيد ، والزهري ، والحكم ، وابن زيد ، ومقاتل .
والثاني : أن الفقير : المحتاج الذي به زمانة . والمسكين : المحتاج الذي لا زمانة به ، قاله قتادة .
والثالث : الفقير : المهاجر ، والمسكين : الذي لم يهاجر ، قاله الضحاك بن مزاحم ، والنخعي .
والرابع : الفقير : فقير المسلمين ، والمسكين : من أهل الكتاب ، قاله عكرمة .
والخامس : أن الفقير : من له البُلْغَة من الشيء ، والمسكين الذي ليس له شيء ، قاله أبو حنيفة ، ويونس بن حبيب ، ويعقوب بن السكّيت ، وابن قتيبة . واحتجوا بقول الراعي :
أمَّا الفقيرُ الذي كانتْ حَلُوبَتُه ... وفقَ العيال فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ
فسماه فقيراً ، وله حَلوبة تكفيه وعياله . وقال يونس : قلت لأعرابي : أفقير أنت؟ قال لا والله ، بل مسكين؛ يريد أنا أسوأ حالاً من الفقير .
والسادس : أن الفقير أمسُّ حاجةً من المسكين ، وهذا مذهب أحمد ، لأن الفقير مأخوذ من انكسار الفَقار ، والمسكنة مأخوذة من السكون والخشوع ، وذلك أبلغ . قال ابن الأنباري : ويروى عن الأصمعي أنه قال : المسكين أحسن حالاً من الفقير . وقال أحمد بن عبيد : المسكين أحسن حالاً من الفقير ، لأن الفقير أصله في اللغة : المفقور الذي نزعت فَقره من فِقَرِ ظهره ، فكأنه انقطع ظهره من شدة الفقر؛ فصُرف عن مفقور إلى فقير ، كما قيل : مجروح وجريح ، ومطبوخ وطبيخ ، قال الشاعر :
لَمّا رأى لُبَدَ النُّسُورِ تَطَايَرَتْ ... رَفَعَ القَوادِمَ كالفقيرِ الأعْزَلِ
قال : ومن الحجة لهذا القول قوله : { وأما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر } [ الكهف : 79 ] فوصف بالمسكنة من له سفينة تساوي مالاً ، قال : وهو الصحيح عندنا .
قوله تعالى : { والعاملين عليها } وهم السعاة لجباية الصدقة ، يُعْطَوْنَ منها بقدر أُجُور أمثالهم ، وليس ما يأخذونه بزكاة .
قوله تعالى : { والمؤلَّفِة قلوبهم } وهم قوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألَّفهم على الإسلام بما يعطيهم ، وكانوا ذوي شرف ، وهم صنفان : مسلمون ، وكافرون . فأما المسلمون ، فصنفان : صنف كانت نِيَّاتُهم في الإسلام ضعيفة ، فتألَّفهم تقويةً لِنيَّاتهم ، كعُيَيْنة بن حصن ، والأقرع؛ وصنف كانت نياتهم حسنة ، فأُعطوا تألُّفاً لعشائرهم من المشركين ، مثل عدي بن حاتم . وأما المشركون ، فصنفان : صنف يقصدون المسلمين بالأذى ، فتألَّفهم دفعاً لأذاهم ، مثل عامر بن الطفيل؛ وصنف كان لهم ميل إلى الإسلام ، تألَّفهم بالعطية ليؤمنوا ، كصفوان بن أُمية . وقد ذكرت عدد المؤلفة في كتاب «التلقيح» .

وحكمهم باقٍ عند أحمد في رواية ، وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، حكمهم منسوخ . قال الزهري : لا أعلم شيئا نسخَ حكم المؤلَّفة قلوبهم .
قوله تعالى : { وفي الرقاب } قد ذكرناه في سورة [ البقرة : 177 ] .
قوله تعالى : { والغارمين } وهم الذين لزمهم الدَّين ولا يجدون القضاء . قال قتادة : هم ناس عليهم دَيْنٌ من غير فساد ولا إِسراف ولا تبذير ، وإنما قال هذا ، لأنه لا يؤمَن في حق المفسد إذا قُضِيَ دَيْنُه أن يعود إلى الاستدانة لذلك؛ ولا خلاف في جواز قضاء دينه ودفع الزكاة إليه ، ولكن قتادة قاله على وجه الكراهية .
قوله تعالى : { وفي سبيل الله } يعني : الغزاة والمرابطين . ويجوز عندنا أن يعطى الأغنياء منهم والفقراء ، وهو قول الشافعي . وقال أبو حنيفة : لا يعطى إلا الفقير منهم . وهل يجوز أن يصرف من الزكاة إلى الحج ، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان .
قوله تعالى : { وابن السبيل } هو المسافر المنقطع به ، وإن كان له مال في بلده ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وأبو حنيفة ، وأحمد . فأما إذا أراد أن ينشىء سفراً ، فهل يجوز أن يعطى؟ قال الشافعي : يجوز ، وعن أحمد مثله؛ وقد ذكرنا في سورة [ البقرة : 177 ] فيه أقوالاً عن المفسرين .
قوله تعالى : { فريضة من الله } يعني : أن الله افترض هذا .
فصل
وحدُّ الغنى الذي يمنع أخذ الزكاة عند أصحابنا بأحد شيئين : أن يكون مالكاً لخمسين درهماً ، أو عِدلها من الذهب ، سواء كان ذلك يقوم بكفايته ، أو لا يقوم . والثاني : أن يكون له كفاية ، إِما من صناعة ، أو أجرة عقار ، أو عروض للتجارة يقوم ربحها بكفايته . وقال أبو حنيفة : الاعتبار في ذلك أن يكون مالكاً لنصاب تجب عليه فيه الزكاة . فأما ذوو القربى الذين تحرم عليه الصدقة ، فهم بنو هاشم ، وبنو المطلب . وقال أبو حنيفة : تحرم على ولد هاشم ، ولا تحرم على ولد المطلب . ويجوز أن يعمل على الصدقة من بني هاشم وبني المطلب ويأخذ عمالته منها ، خلافاً لأبي حنيفة . فأما موالي بني هاشم وبني المطلب ، فتحرم عليهم الصدقة ، خلافاً لمالك . ولا يجوز أن يعطيَ صدقته مَنْ تلزمه نفقتُه؛ وبه قال مالك ، والثوري . وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا يعطي والداً وإن علا ، ولا ولداً وإن سفل ، ولا زوجه ، ويعطي مَنْ عَداهم . فأما الذميُّ؛ فالأكثرون على أنه لا يجوز إعطاؤه . وقال عبيد الله بن الحسن : إذا لم يجد مسلماً ، أعطي الذمي . ولا يجب استيعاب الأصناف ، ولا اعتبار عدد من كل صنف؛ وهو قول أبي حنيفة ، ومالك؛ وقال الشافعي : يجب الاستيعاب من كل صنف ثلاثة .
فأما إذا أراد نقل الصدقة من بلد المال إلى موضع تُقصر فيه الصلاة ، فلا يجوز له ذلك ، فان نقلها لم يُجزئه؛ وهو قول مالك ، والشافعي . وقال أبو حنيفة : يكره نقلها ، وتجزئه . قال أحمد : ولا يعطي الفقير أكثر من خمسين درهماً . وقال أبو حنيفة : أكره أن يعطي رجل واحد من الزكاة مائتي درهم . وإن أعطيته أجزأك . فأما الشافعي ، فاعتبر ما يدفع الحاجةَ من غير حدّ . فان أعطى من يظنه فقيراً ، فبان أنه غني ، فهل يجزىء؟ فيه عن أحمد روايتان .

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)

قوله تعالى : { ومنهم الذين يؤذون النبي } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أن خِذام بن خالد ، والجُلاس بن سويد ، وعبيد بن هلال في آخرين ، كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم لبعض : لا تفعلوا ، فانا نخاف أن يبلغه فيقع بنا ، فقال الجلاس : بل نقول ما شئنا ، فانما محمد أُذنٌ سامعة ، ثم نأتيه فيصدِّقنا ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أن رجلاً من المنافقين يقال له : نَبْتَل بن الحارث ، كان ينم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين ، فقيل له : لا تفعل ، فقال : إنما محمد أُذن ، مَنْ حدَّثه شيئاً ، صدقه؛ نقول ما شئنا ، ثم نأتيه فنحلف له فيصدقنا ، فنزلت هذه الآية؛ قاله محمد بن إسحاق .
والثالث : أن ناساً من المنافقين منهم جلاس بن سويد ، ووديعة بن ثابت ، اجتمعوا ، فأرادوا أن يقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم ، وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس ، فحقروه ، فتكلموا ، وقالوا : لئن كان ما يقوله محمد حقاً ، لنحن شر من الحمير ، فغضب الغلام ، وقال : والله إِن ما يقوله محمد حق ، وإنكم لشرٌ من الحمير؛ ثم أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فدعاهم فسألهم ، فحلفوا أن عامراً كاذب ، وحلف عامر أنهم كذبُوا ، وقال : اللهم لا تفرِّق بيننا حتى تبيِّنَ صدق الصادق ، وكذب الكاذب؛ فنزلت هذه الآية ، ونزل قوله : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم } قاله السدي . فأما الأذى ، فهو عيبه ونقل حديثه . ومعنى : { أُذُنٌ } يقبل كل ما قيل له . قال ابن قتيبة : الأصل في هذا أن الأُذُنَ هي السامعة ، فقيل لكل من صدَّق بكل خبر يسمعه : أُذُنٌ . وجمهور القراء يقرؤون { هو أُذُنٌ قُّلْ أُذُنُ } بالتثقيل . وقرأ نافع : «هو أُذْنٌ قل أُذْنُ خير» باسكان الذال فيهما . ومعنى { أُذُنُ خيرٍ لكم } أي : أذن خير ، لا أُذُنُ شرّ ، يسمع الخير فيعمل به ، ولا يعمل بالشرَّ إذا سمعه . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة : «أُذُنٌ» بالتنوين «خيرٌ» بالرفع . والمعنى : إن كان كما قلتم ، يسمع منكم ويصدِّقكم ، خيرٌ لكم من أن يكذِّبكم . قال أبو علي : يجوز أن تطلق الأذن على الجملة ، كما قال الخليل : إنما سميت النابُ من الإبل ، لمكان الناب البازل ، فسميت الجملة كلُّها به ، فأجرَوا على الجملة اسم الجارحة لإرادتهم كثرة استعماله لها في الإصغاء بها .
ثم بيَّن ممن يَقبل ، فقال { يؤمِنُ بالله ويؤمِنُ للمؤمنين } قال ابن قتيبة : الباء واللام زائدتان ، والمعنى : يصدِّق اللهَ ويصدِّقُ المؤمنين . وقال الزجاج : يسمع ما ينزِّله الله عليه ، فيصدِّق به ، ويصدِّق المؤمنين فيما يخبرونه به . { ورحمةٌ } أي : وهو رحمة ، لأنه كان سبب إيمان المؤمنين . وقرأ حمزة : «ورحمةٍ» بالخفض . قال أبو علي : المعنى : أُذُنُ خيرٍ ورحمة . والمعنى : مستمعُ خيرٍ ورحمةٍ .

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)

قوله تعالى : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم } قال ابن السائب : نزلت في جماعة من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك ، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم ، أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم ، ويحلفون ويعتلّون . وقال مقاتل : منهم عبد الله بن أُبيّ ، حلف لا يتخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولَيكونَنَّ معه على عدوِّه . وقد ذكرنا في الآية التي قبلها أنهم حلفوا أنهم ما نطقوا بالعيب . وحكى الزجاج عن بعض النحويين أنه قال : اللام في { ليرضوكم } بمعنى القسم ، والمعنى : يحلفون بالله لكم لنرضينَّكم . قال : وهذا خطأٌ ، لأنهم إنما حلفوا أنهم ما قالوا ما حكي عنهم ليُرضُوا باليمين ، ولم يحلفوا أنهم يُرضُون في المستقبل . قلت : وقول مقاتل يؤكد ما أنكره الزجاج ، وقد مال إليه الأخفش .
قوله تعالى : { واللهُ ورسولهُ أَحقُّ أن يُرضُوه } فيه قولان .
أحدهما : بالتوبة والإِنابة . والثاني : بترك الطعن والعيب .
فان قيل : لم قال { يُرضُوه } ولم يقل : يرضوهما؟ فقد شرحنا هذا عند قوله : { ولا ينفقونها في سبيل الله } [ التوبة : 34 ] .

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)

قوله تعالى : { ألم يعلموا } روى أبو زيد عن المفضل { ألم تعلموا } بالتاء . { أنه من يُحادِدِ الله } فيه قولان .
أحدهما : من يخالف الله ، قاله ابن عباس .
والثاني : من يعادي الله ، كقولك : من يُجانِبِ الله ورسوله ، أي : يكون في حدٍّ ، واللهُ ورسولُه في حدٍّ .
قوله تعالى : { فَأَنَّ له نارَ جهنَّم } قرأ الجمهور : { فأن } بفتح الهمزة . وقرأ أبو رزين ، وأبو عمران ، وابن أبي عبلة : بكسرها ، فمن كسر ، فعلى الاستئناف بعد الفاء ، كما تقول : فله نار جهنم . ودخلت «إِنّ» مؤكدة . ومن قال : { فأَنَّ له } فانما أعاد { أنَّ } الأولى توكيداً؛ لأنه لما طال الكلام ، كان إعادتها أوكد .

يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)

قوله تعالى : { يحذر المنافقون } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أن المنافقين كانوا يعيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينهم ، ويقولون : عسى الله أن لا يفشي سرَّنا ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد .
والثاني : أن بعض المنافقين قال : لوددت أني جُلدت مائة جلدة ، ولا ينزل فينا شيء يفضحنا ، فنزلت هذه الآية ، قاله السدي .
والثالث : أن جماعة من المنافقين وقفوا للنبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة عند مرجعه من تبوك ليفتكوا به ، فأخبره جبريل عليه السلام ، ونزلت هذه الآية ، قاله ابن كيسان .
وفي قوله : { يحذر المنافقون } قولان .
أحدهما : أنه إخبار من الله عز وجل عن حالهم ، قاله الحسن ، وقتادة ، واختاره ابن القاسم .
والثاني : أنه أمر من الله عز وجل لهم بالحذر ، فتقديره : ليحذر المنافقون ، قاله الزجاج : قال ابن الأنباري : والعرب ربما أخرجت الأمر على لفظ الخبر ، فيقولون : يرحم الله المؤمن ، ويعذب الكافر؛ يريدون : ليرحم وليعذب ، فيسقطون اللام ، ويُجْرُونَه مجرى الخبر في الرفع ، وهم لا ينوون إلا الدعاء؛ والدعاء مضارع للأمر .
قوله تعالى : { قل استهزؤوا } هذا وعيد خرج مخرج الأمر تهديداً .
وفي قوله : { إن الله مخرج ما تحذرون } وجهان .
أحدهما : مظهر ما تُسِرُّون . والثاني : ناصر مَنْ تخذلون ، ذكرهما الماوردي .

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)

قوله تعالى : { لئن سألتهم } في سبب نزولها ستة أقوال .
أحدها : " أن جَدَّ بنَ قيس ، ووديعة بن خذام ، والجُهَير بن خُمَير ، كانوا يسيرون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك ، فجعل رجلان منهم يستهزآن برسول الله صلى الله عليه وسلم " والثالث يضحك مما يقولان ولا يتكلم بشيء ، فنزل جبريل فأخبره بما يستهزؤون به ويضحكون؛ فقال لعمار بن ياسر : " اذهب فسلهم عما كانوا يضحكون منه ، وقل لهم : أحرقكم الله " فلما سألهم ، وقال : أحرقكم الله؛ علموا أنه قد نزل فيهم قرآن ، فأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال الجُهَير : والله ما تكلَّمت بشيء ، وإنما ضحكت تعجباً من قولهم ، فنزل قوله : { لا تعتذروا } يعني جَدَّ بن قيس ، ووديعة { إن يُعْفَ عن طائفة منكم } يعني : الجهير { نعَذِّبْ طائفة } يعني : الجَدَّ ووديعة ، هذا قول أبي صالح عن ابن عباس .
والثاني : أن رجلاً من المنافقين قال : ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء ، ولا أرغبَ بطوناً ، ولا أكذبَ ، ولا أجبنَ عند اللقاء ، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقال له عوف بن مالك : كذبت ، لكنك منافق ، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب ليخبره ، فوجد القرآن قد سبقه؛ فجاء ذلك الرجل فقال : يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب ، هذا قول ابن عمر ، وزيد بن أسلم ، والقرظي .
والثالث : أن قوماً من المنافقين كانوا يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إن كان ما يقول هذا حقاً ، لنحن شرٌّ من الحمير ، فأعلم الله نبيه ما قالوا ، ونزلت : { ولئن سألتهم } قاله سعيد بن جبير .
والرابع : أن رجلاً من المنافقين قال : يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا ، وما يُدريه ما الغيب؟ فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد .
والخامس : " أن ناساً من المنافقين قالوا : يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها ، هيهات؛ فأطلع الله نبيه على ذلك ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : احبسوا علي الرَّكب فأتاهم ، فقال : «قلتم كذا وكذا» فقالوا : إنما كنا نخوض ونلعب " ؛ فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة .
والسادس : أن عبد الله بن أُبيٍّ ، ورهطاً معه ، كانوا يقولون في رسول الله وأصحابه مالا ينبغي ، فاذا بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : إنما كنا نخوض ونلعب ، فقال الله تعالى : { قل } لهم { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون } ، قاله الضحاك . فقوله : { ولئن سألتهم } أي : عما كانوا فيه من الاستهزاء { ليقولُنّ إنما كنا نخوض ونلعب } أي : نلهو بالحديث . وقوله : { قد كفرتم } أي : قد ظهر كفركم بعد إظهاركم الإيمان؛ وهذا يدل على أن الجِدَّ واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء .

قوله تعالى : { إن يُعْفَ عن طائفة منكم } قرأ الأكثرون «إن يُعْفَ» بالياء ، «تُعَذَّبْ» بالتاء . وقرأ عاصم غير أبان «إن نَعْفُ» «نُعَذِّبْ» بالنون فيهما ونصب «طائفةً» ، والمعنى : إن نعف عن طائفة منكم بالتوفيق للتوبة ، نعذِّب طائفةً بترك التوبة . وقيل : الطائفتان هاهنا ثلاثة ، فاستهزأ اثنان ، وضحك واحد . ثم أنكر عليهم بعض ما سمع . وقد ذكرنا عن ابن عباس أسماء الثلاثة ، وأن الضاحك اسمه الجُهَيْر ، وقال غيره : هو مَخْشِيُّ بن خُمَيْر . وقال ابن عباس ، ومجاهد : الطائفة : الواحد فما فوقه . وقال الزجاج : أصل الطائفة في اللغة : الجماعة؛ ويجوز أن يقال للواحد : طائفة ، يراد به : نفس طائفة . قال ابن الأنباري : إذا أريد بالطائفة الواحد ، كان أصلها طائفاً ، على مثال : قائم وقاعد ، فتدخل الهاء للمبالغة في الوصف ، كما يقال : رواية ، علاّمة ، نسّابة . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما فُرغ من تنزيل ( براءة ) حتى ظننا أن لن يبقى منا أحد إلا سينزل فيه شيء .

الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)

قوله تعالى : { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } قال ابن عباس : بعضهم على دين بعض . وقال مقاتل : بعضهم أولياء بعض ، { يأمرون بالمنكر } وهو الكفر ، { وينهون عن المعروف } وهو الإيمان .
وفي قوله : { ويقبضون أيديَهم } أربعة أقوال .
أحدها : يقبضونها عن الإنفاق في سبيل الله ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد .
والثاني : عن كل خير ، قاله قتادة .
والثالث : عن الجهاد في سبيل الله .
والرابع : عن رفعها في الدعاء إلى الله تعالى ، ذكرهما الماوردي .
قوله تعالى : { نسوا الله فنسيهم } قال الزجاج : تركوا أمره ، فتركهم من رحمته وتوفيقه . قال : وقوله : { هي حسبهم } أي : هي كفاية ذنوبهم ، كما تقول : عذَّبتُك حسبَ فِعلك ، وحسبُ فلان ما نزل به ، أي : ذلك على قدر فعله . وموضع الكاف في قوله : { كالذين من قبلكم } نصب ، أي : وعدكم الله على الكفر به كما وعد الذين من قبلكم . وقال غيره : رجع عن الخبر عنهم إلى مخاطبتهم ، وشبَّههم في العدول عن أمره بمن كان قبلهم من الأمم الماضية .
قوله تعالى : { فاستمتَعوا بخلاقهم } قال ابن عباس : استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا . وقال الزجاج : بحظهم من الدنيا .
قوله تعالى : { وخضتم } أي : في الطعن على الدِّين وتكذيب نبيكم كما خاضوا . { أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا } لأنها لم تُقبل منهم ، وفي الآخرة ، لأنهم لا يثابون عليها ، { وأولئك هم الخاسرون } بفوت الثواب وحصول العقاب .
قوله تعالى : { وقوم إبراهيم } قال ابن عباس : يريد نمرود بن كنعان { وأصحاب مدين } يعني : قوم شعيب { والمؤتفكات } قرى لوط ، قال الزجاج : وهم جمع مؤتفكة ، ائتفكت بهم الأرض ، أي : انقلبت . قال : ويقال : إنَّهم جميع من أُهلك ، [ كما ] يقال للهالك : انقلبت عليه الدنيا .
قوله تعالى : { أتتهم } يعني هذه الأمم { رسلهُم بالبيَِّناتِ } فكذَّبوا بها ، { فما كان الله ليظلمهم } قال ابن عباس : ليُهلكهم حتى يبعث فيهم نبياً ينذرهم ، والمعنى : أنهم أُهلكوا باستحقاقهم .

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)

قوله تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } أي : بعضهم يوالي بعضاً ، فهم يد واحدة ، يأمرون بالإيمان ، وينهون عن الكفر .
قوله تعالى : { في جنات عدن } قال أبو عبيدة : في جنات خُلْد ، يقال : عَدَن فلان بأرض كذا ، أي : أقام؛ ومنه : المْعِدنُ ، وهو في مَعْدِن صدق ، أي : في أصل ثابت . قال الأعشى :
وإن تَستضيفوا إلى حِلْمه ... تُضافوا إلى راجح قد عَدَن
أي : رزين لا يُستخف . قال ابن عباس : جنات عدن ، هي بُطنان الجنة ، وبُطنانها : وسطها ، وهي أعلى درجة في الجنة ، وهي دار الرحمن عز وجل ، وسقفها عرشه ، خلقها بيده ، وفيها عين التسنيم ، والجنان حولها محدقة بها .
قوله تعالى : { ورضوان من الله أكبر } قال ابن عباس : أكبر مما يوصف . وقال الزجاج : أكبر مما هم فيه من النعيم .
فان قيل : لم كان الرضوان أكبر من النعيم؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أن سرور القلب برضى الرب نعيم يختص بالقلب ، وذاك أكبر من نعيم الأكل والشرب . وفي حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يقول الله عز وجل لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، هل رضيتم؟ فيقولون : ربنا ومالنا لا نرضى ، وقد أعطيتنا مالم تعط أحداً من خلقك ، فيقول : أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون : وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال : أُحل عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم أبداً » . والثاني : أن الموجِب للنعيم الرضوان ، والموجَب ثمرة الموجِب ، فهو الأصل .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20