كتاب : زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)

قوله تعالى : { جاهد الكفار والمنافقين } أما جهاد الكفار ، فبالسيف وفي جهاد المنافقين قولان .
أحدهما : أنه باللسان ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والضحاك ، والربيع بن أنس .
والثاني : جهادهم باقامة الحدود عليهم ، روي عن الحسن ، وقتادة . فان قيل : إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بجهادهم وهو يعلم أعيانهم ، فكيف تركهم بين أظهر أصحابه فلم يقتلهم؟ .
فالجواب : أنه إنما أُمر بقتال من أظهر كلمة الكفر وأقام عليها ، فأما من إذا أُطلع على كفره ، أنكر وحلف وقال : إني مسلم ، فانه أُمر أن يأخذه بظاهر أمره ، ولا يبحث عن سِرِّه .
قوله تعالى : { واغلظ عليهم } قال ابن عباس : يريد : شدة الانتهار لهم ، والنظر بالبغضة والمقت . وفي الهاء والميم من «عليهم» قولان .
أحدهما : أنه يرجع إلى الفريقين ، قاله ابن عباس .
والثاني : إلى المنافقين ، قاله مقاتل .

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)

قوله تعالى : { يحلفون بالله ما قالوا } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر المنافقين فعابهم؛ فقال الجُلاس بن سويد : إن كان ما يقول على إخواننا حقاً ، لنحن شرٌّ من الحمير ، فقال عامر بن قيس : والله إنه لصادق ، ولأنتم شرٌّ من الحمير؛ وأخبر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فأتى الجلاسُ فقال : ما قلت شيئاً ، فحلفا عند المنبر ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وذهب إلى نحوه الحسن ، ومجاهد ، وابن سيرين .
والثاني : أن عبد الله بن أُبيٍّ قال : والله لئن رجعنا إلى المدينة ، ليُخرجن الأعزُّ منها الأذل ، فسمعه رجل من المسلمين ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليه ، فجعل يحلف بالله ما قال ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة .
والثالث : أن المنافقين كانوا إذا خَلَوْا ، سبُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وطعنوا في الدين؛ فنقل حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ذلك ، فحلفوا ما قالوا شيئاً ، فنزلت هذه الآية ، قاله الضحاك . فأما كلمة الكفر ، فهي سبُّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطعنهم في الدين . وفي سبب قوله : { وهموا بمالم ينالوا } أربعة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في ابن أُبيّ حين قال : لئن رجعنا إلى المدينة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال قتادة .
والثاني : أنها نزلت فيهم حين همُّوا بقتل رسول الله ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، قال : والذي همَّ رجل يقال له : الأسود . وقال مقاتل : هم خمسة عشر رجلاً ، هَمُّوا بقتله ليلة العقبة .
والثالث : أنه لما قال بعض المنافقين : إن كان ما يقول محمد حقاً ، فنحن شرٌّ من الحمير؛ وقال له رجل من المؤمنين : لأنتم شرٌّ من الحمير ، همَّ المنافق بقتله؛ فذلك قوله : { وهموا بمالم ينالوا } هذا قول مجاهد .
والرابع : أنهم قالوا في غزوة تبوك : إذا قدمنا المدينة ، عقدنا على رأس عبد الله بن أُبيّ تاجاً نباهي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلم ينالوا ما همُّوا به .
قوله تعالى : { وما نقموا إلا أن أغناهم الله } قال ابن قتيبة : أي : ليس ينقمون شيئاً ، ولا يتعرفون من الله إلا الصنع ، ومثله قول الشاعر :
مَا نَقَمَ النَّاسُ مِنْ أُمَيَّة إلاَّ ... أَنَّهُمْ يَحْلُمونَ إِنْ غَضِبُوا
وأنَّهم سَادَةُ المُلُوْكِ وَلاَ ... تَصْلُحُ إلاّ عَلَيْهِمُ العَرَبُ
وهذا ليس مما يُنقم ، وإنما أراد أن الناس لا ينقمون عليهم شيئاً ، وكقول النابغة :
ولا عَيْبَ فِيْهِم غَيْرَ أَنَّ سُيوفَهم ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ
أي : ليس فيهم عيب . قال ابن عباس : كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ضَنْك من معاشهم ، فلما قدم عليهم ، غنموا ، وصارت لهم الأموال . فعلى هذا ، يكون الكلام عامّاً . وقال قتادة : هذا في عبد الله بن أُبيّ . وقال عروة : هو الجلاس بن سويد ، قُتل له مولى ، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته ، فاستغنى؛ فلما نزلت : { فان يتوبوا يك خيراً لهم } قال الجلاس : أنا أتوب إلى الله .
قوله تعالى : { وإن يتولَّوا } أي : يعرضوا عن الإيمان . قال ابن عباس : كما تولَّى عبد الله بن أُبّي ، { يعذبْهم الله عذاباً أليماً في الدنيا } بالقتل ، وفي الآخرة بالنار .

وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)

قوله تعالى : { ومنهم من عاهد الله } في سبب نزولها أربعة أقوال .
أحدها : « أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالاً ، فقال : ويحك يا ثعلبة ، قليلٌ تؤدي شكرَهُ ، خير من كثير لا تطيقه قال : ثم قال مرة أخرى ، فقال : أما ترضى أن تكون مثل نبي الله؟ فوالذي نفسي بيده لو شئتُ أن تسير معي الجبال ذهباً وفضة ، لسارت فقال : والذي بعثك بالحق ، لئن دعوتَ الله أن يرزقني مالاً ، لأُوتينَّ كل ذي حق حقه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم ارزق ثعلبة مالاً فاتخذ غنماً ، فنمت ، فضاقت عليه المدينة ، فتنحَّى عنها ، ونزل وادياً من أوديتها ، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ، ويترك ما سواهما . ثم نَمت ، حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، ثم نمت ، فترك الجمعة . فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأُخبر خبره ، فقال : يا ويح ثعلبة ، يا ويح ثعلبة ، يا ويح ثعلبة وأنزل الله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 9 ] وأنزل فرائض الصدقة؛ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة ، وكتب لهما كتاباً يأخذان الصدقة ، وقال : مُرّا بثعلبة ، وبفلان رجل من بني سُليم ، فخرجا حتى أتيا ثعلبة ، فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذا إلا جزية ، ما هذه إلا أُخت الجزية ، ما أدري ما هذا ، انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا إليَّ ، فانطلقا . فأُخبر السُلَميّ ، فاستقبلهما بخيار ماله ، فقالا : لا يجب هذا عليك؛ فقال : خذاه ، فان نفسي بذلك طيبة؛ فأخذا منه . فلما فرغا من صدقتهما ، مرّا بثعلبة ، فقال : أروني كتابكما ، فقال : ما هذه إلا أُخت الجزية ، انطلقا حتى أرى رأيي ، فانطلَقا ، فأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان ، فنزلت هذه الآية إلى قوله : { بما كانوا يكذبون } ، وكان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة ، فخرج إلى ثعلبة ، فأخبره ، فأتى رسولَ الله ، وسأله أن يقبل منه صدقته ، فقال : إن الله قد منعني أن أقبل منك صدقتك؛ فجعل يحثو التراب على رأسه . فقال : هذا عملك ، قد أمرتك فلم تطعني . فرجع إلى منزله ، وقُبض رسول الله ، ولم يقبل منه شيئاً » ، فلما ولي أبو بكر ، سأله أن يقبل منه ، فأبى ، فلما ولي عمر ، سأله أن يقبل منه ، فأبى ، فلما ولي عثمان ، سأله أن يقبلها؛ فقال : لم يقبلها رسول الله ، ولا أبو بكر ، ولا عمر ، فلم يقبلها .
وهلك ثعلبة في خلافة عثمان رضي الله عنه . روى هذا الحديث القاسم عن أبي أمامة الباهلي .

وقال ابن عباس : مرّ ثعلبة على مجلس ، فأشهدهم على نفسه : لئن آتاني الله من فضله ، آتيت كل ذي حق حقه ، وفعلت كذا وكذا . فآتاه الله من فضله ، فأخلف ما وعد؛ فقص الله علينا شأنه .
والثاني : أن رجلاً من بني عمرو بن عوف ، كان له مال بالشام ، فأبطأ عنه ، فجُهد له جُهداً شديداً ، فحلف بالله لئن آتانا من فضله ، أي : من ذلك المال ، لأصَّدقَّن منه ، ولأصِلَنَّ ، فأتاه ذلك المال ، فلم يفعل ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس . قال ابن السائب : والرجل حاطب بن أبي بلتعة .
والثالث : أن ثعلبة ، ومُعتِّب بن قُشير ، خرجا على ملأٍ ، فقالا : والله لئن رزقنا الله لنصَّدَّقنَّ . فلما رزقهما ، بخلا به ، فنزلت هذه الآية ، قاله الحسن ، ومجاهد .
والرابع : أن نبتل بن الحارث ، وجَدّ بن قيس ، وثعلبة بن حاطب ، ومعتِّب ابن قشير ، قالوا : لئن آتانا الله من فضله لنصدقن . فلما آتاهم من فضله بخلوا به ، فنزلت هذه الآية ، قاله الضحاك .
فأما التفسير : فقوله : { ومنهم } يعني : المنافقين { من عاهد الله } أي : قال عليَّ عهدُ الله { لنصّدَّقنَّ } الأصل : لنتصدقن ، فأدغمت التاء في الصاد لقربها منها .
{ ولنكوننَّ من الصالحين } أي : لنعملنَّ ما يعمل أهل الصلاح في أموالهم من صلة الرحم والإِنفاق في الخير . وقد روى كَهْمَس عن معبد بن ثابت أنه قال : إنما هو شيء نوَوْه في أنفسهم ، ولم يتكلموا به ، ألم تسمع إلى قوله : { ألم يعلموا أن الله يعلم سرَّهم ونجواهم } ؟

فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)

قوله تعالى : { فلما آتاهم من فضله } أي : ما طلبوا من المال { بخلوا به } ولم يفوا بما عاهدوا { وتولَّوا وهم معرضون } عن عهدهم .

فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)

قوله تعالى : { فأعقبهم } أي : صيَّر عاقبة أمرهم النفاق .
وفي الضمير في «أعقبهم» قولان .
أحدهما : أنها ترجع إلى الله ، فالمعنى : جازاهم الله بالنفاق ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد .
والثاني : أنها ترجع إلى البخل ، فالمعنى : أعقبهم بخلُهم بما نذروا نفاقاً ، قاله الحسن .
قوله تعالى : { ألم يعلموا } يعني المنافقين { أن الله يعلم سرَّهم } وهو ما في نفوسهم { ونجواهم } حديثهم بينهم .

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)

قوله تعالى : { الذين يلمزون المطوِّعين } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أنه لما نزلت آية الصدقة ، جاء رجل فتصدق بصاع ، فقالوا : إن الله لَغَنِيٌّ عن صاع هذا ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو مسعود .
والثاني : أن عبد الرحمن بن عوف جاء بأربعين أوقية من ذهب ، وجاء رجل من الأنصار بصاع من طعام؛ فقال بعض المنافقين : والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياءً ، وإنْ كان اللهُ ورسولهُ لَغنيَّين عن هذا الصاع ، قاله ابن عباس .
وفي هذا الأنصاري قولان .
أحدهما : أنه أبو خيثمة ، قاله كعب بن مالك . والثاني : أنه أبو عقيل .
وفي اسم أبي عقيل ثلاثة أقوال .
أحدها : عبد الرحمن بن بِيْجَان ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . ويقال : ابن بِيْحان . ويقال : سِيْحَان . وقال مقاتل : هو أبو عقيل بنُ قيس .
والثاني : أن اسمه الحَبْحَاب ، قاله قتادة .
والثالث : الحُبَاب . قال قتادة : جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف ، وجاء عاصم ابن عدي بن العَجلان بمائة وَسق من تمر . و { يلمزون } بمعنى : يعيبون و { المطوِّعين } أي : المتطوعين ، قال الفراء : أدغمت التاء في الطاء ، فصارت طاءً مشددة . والجُهد : لغة أهل الحجاز ، ولغة غيرهم الجَهد . قال أبو عبيدة : الجهد ، بالفتح والضم سواء ، ومجازه : طاقتهم . وقال ابن قتيبة : الجُهد : الطاقة؛ والجَهد : المشقة . قال المفسرون : عُني بالمطوِّعين عبدُ الرحمن ، وعاصم ، وبالذين لا يجدون إلا جهدهم : أبو عقيل . وقوله : { سخر الله منهم } أي : جازاهم على فعلهم . وقد سبق هذا المعنى .

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)

قوله تعالى : { استغفرْ لهم أو لا تستغفرْ لهم } سبب نزولها : " أنه لما نزل وعيد اللامزين قالوا : يا رسول الله استغفر لنا ، فنزلت هذه الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سوف أستغفر لهم أكثر من سبعين ، لعل الله يغفر لهم فنزل قوله : { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم } [ المنافقون : 6 ] " ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وظاهر قوله : «استغفر لهم» الأمر ، وليس كذلك؛ إنما المعنى : إن استغفرت ، وإن لم تستغفر ، لا يُغفَر لهم ، فهو كقوله : { أنفقوا طوعاً أو كرها } [ التوبة : 53 ] ، وقد سبق شرح هذا المعنى هناك ، هذا قول المحققين . وذهب قوم إلى أن ظاهر اللفظ يعطي أنه إن زاد على السبعين ، رجي لهم الغفران . ثم نسخت بقوله : { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم } .
فان قيل : كيف جاز أن يستغفر لهم ، وقد أُخبر بأنهم كفروا؟
فالجواب : أنه إنما استغفر لقوم منهم على ظاهر إِسلامهم من غير أن يتحقق خروجهم عن الإسلام ، ولا يجوز أن يقال : علم كفرهم ثم استغفر .
فان قيل : ما معنى حصر العدد بسبعين؟
فالجواب : أن العرب تستكثر في الآحاد من سبعة ، وفي العشرات من سبعين .

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)

قوله تعالى : { فرح المخلفون بمقعدهم } يعني : المنافقين الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك . والمخلَّف : المتروك خلفَ من مضى . { بمقعدهم } أي : بقعودهم . وفي قوله : { خلافَ رسول الله } قولان .
أحدهما : أن معناه : بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو عبيدة .
والثاني : أن معناه : مخالَفَةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منصوب ، لأنه مفعول له ، فالمعنى : بأن قعدوا لمخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله الزجاج . وقرأ ابن مسعود ، وابن يعمر ، والأعمش ، وابن أبي عبلة : «خَلْفَ رسول اللهِ» ومعناها : أنهم تأخَّروا عن الجهاد .
وفي قوله : { لا تنفروا في الحرِّ } قولان .
أحدهما : أنه قول بعضهم لبعض ، قاله ابن اسحاق ، ومقاتل .
والثاني : أنهم قالوه للمؤمنين ، ذكره الماوردي . وإنما قالوا هذا ، لأن الزمان كان حينئذ شديد الحر . { قل نار جهنم أشد حراً } لمن خالف أمر الله .
وقوله : { يفقهون } معناه : يعلمون . قال ابن فارس : الفقه : العلم بالشيء . تقول : فَقِهْتُ الحديث أَفْقَهُهُ؛ وكل علم بشيء : فقه ، ثم اختص به علم الشريعة ، فقيل لكل عالم بها : فقيه . قال المصنف : وقال شيخنا علي بن عبيد الله : الفقه في إطلاق اللغة : الفهم ، وفي عرف الشريعة : عبارة عن معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال المكلَّفين ، بنحو : التحليل ، والتحريم ، والإيجاب ، والإجزاء ، والصحة ، والفساد ، والغرم ، والضمان ، وغير ذلك . وبعضهم يختار أن يقال : الفِقْه : فَهْمُ الشيء . وبعضهم يختار أن يقال : عِلْمُ الشيء .

فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)

قوله تعالى : { فليضحكوا قليلاً } لفظه لفظ الأمر ، ومعناه التهديد .
وفي قلَّة ضحكهم وجهان .
أحدهما : أن الضحك في الدنيا ، لكثرة حزنها وهمومها ، قليل ، وضحكهم فيها أقل ، لِما يتوجه إليهم من الوعيد .
والثاني : أنهم إنما يضحكون في الدنيا ، وبقاؤها قليل . { وليبكوا كثيراً } في الآخرة . قال أبو موسى الأشعري : إن أهل النار ليبكون الدموع في النار ، حتى لو أُجريت السفن في دموعهم لجرت ، ثم إنهم ليبكون الدم بعد الدموع ، فلمثل ما هم فيه فليُبكي .
قوله تعالى : { جزاءً بما كانوا يكسبون } أي : من النفاق والمعاصي .

فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)

قوله تعالى : { فان رجعك الله } أي : ردك من غزوة تبوك إلى المدينة ، { إلى طائفة } من المنافقين الذين تخلَّفوا بغير عذر . وإنما قال : { إلى طائفة } لأنه ليس كل من تخلَّف عن تبوك كان منافقاً . { فاستأذنوك للخروج } معك إلى الغزو ، { فقل لن تخرجوا معيَ أبداً } إلى غَزاة ، { إنكم رضيتم بالقعود } عني { أول مرة } حين لم تخرجوا إلى تبوك . وذكر الماوردي في قوله : { أول مرة } قولين .
أحدهما : أول مرة دُعيتم . والثاني : قبل استئذانكم .
فأما الخالفون ، فقال أبو عبيدة : الخالف : الذي خلف بعد شاخص ، فقعد في رحله ، وهو الذي يتخلَّف عن القوم .
وفي المراد بالخالفين قولان .
أحدهما : أنهم الرجال الذين تخلَّفوا لأعذار ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنهم النساء والصبيان ، قاله الحسن ، وقتادة .

وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)

قوله تعالى : { ولا تصلِّ على أحد منهم } سبب نزولها : أنه « لما توفي عبد الله ابن أُبيّ ، جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أعطني قميصك حتى أكفنه فيه ، وصلِّ عليه ، واستغفر له . فأعطاه قميصه؛ فقال : آذِنِّي أصلي عليه ، فآذنه ، فلما أراد أن يصلي عليه ، جذبه عمر بن الخطاب ، وقال : أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال : أنا بين خيرتين : { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } [ التوبة : 81 ] فصلى عليه ، فنزلت هذه الآية ، رواه نافع عن ابن عمر . قال قتادة : ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : ما يُغْني عنه قميصي من عذاب الله تعالى ، والله إني لأرجو أن يُسْلِمَ به ألف من قومه » قال الزجاج : فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لمَّا رأوه يطلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأراد الصلاة عليه . فأما قوله : { منهم } فانه يعني المنافقين . وقوله { ولا تقم على قبره } قال المفسرون : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا دُفن الميت ، وقف على قبره ودعا له؛ فنهي عن ذلك في حق المنافقين . وقال ابن جرير : معناه : لا تتولَّ دفنه؛ وهو من قولك : قام فلان بأمر فلان ، وقد تقدم تفسيره .

وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)

قوله تعالى : { ولا تعجبك أموالهم } سبق تفسيره [ التوبة : 55 ] .
قوله تعالى : { وإذا أنزلت سورة } هذا عامّ في كل سورة . وقال مقاتل : المراد بها : سورة ( براءة ) .
قوله تعالى : { أن آمنوا } أي : بأن آمنوا . وفيه ثلاثة أوجه .
أحدها : استديموا الإيمان . والثاني : افعلوا فعل من آمن . والثالث : آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم . فعلى هذا يكون الخطاب للمنافقين .
قوله تعالى : { استأذنك } أي : في التخلف { أولو الطَّول } يعني : الغنى ، وهم الذين لا عذر لهم في التخلُّف ، وفي «الخوالف» قولان .
أحدهما : أنهم النساء ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وشمر بن عطية ، وابن زيد ، والفراء . وقال أبو عبيدة : يجوز أن تكون الخوالف هاهنا النساء ، ولا يكادون يجمعون الرجال على تقدير فواعل ، غير أنهم قد قالوا : فارس ، والجميع : فوارس ، وهالك [ في قوم ] هوالك . قال ابن الأنباري : الخوالف لا يقع إلا على النساء ، إذ العرب تجمع فاعلة : فواعل ، فيقولون : ضاربة ، وضوارب ، وشاتمة ، وشواتم؛ ولا يجمعون فاعلاً : فواعل ، إلا في حرفين : فوارس ، وهوالك؛ فيجوز أن يكون مع الخوالف : المتخلفات في المنازل . ويجوز أن يكون : مع المخالفات العاصيات . ويجوز أن يكون : مع النساء العجزة اللاتي لا مدافعة عندهن .
والقول الثاني : أن الخوالف خساس الناس وأدنياؤهم ، يقال : فلان خالفة أهله : إذا كان دونهم ، ذكره ابن قتيبة؛ فأما «طَبَع» فقال أبو عبيدة : معناه : ختم . و { الخيرات } جمع خَيْرة . وللمفسرين في المراد بالخيرات ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها الفاضلات من كل شيء ، قاله أبو عبيدة . والثاني : الجواري الفاضلات ، قاله المبرِّد . والثالث : غنائم الدنيا ، ومنافع الجهاد ، ذكره الماوردي .

وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)

قوله تعالى : { وجاء المعذِّرون } وقرأ ابن مسعود : «المعتذرون» . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن يعمر ، ويعقوب : «المُعْذِرون» بسكون العين وتخفيف الذال . وقرأ ابن السميفع : «المعاذرون» بألف . قال أبو عبيدة : المعذِّرون من يعذِّر ، وليس بجادّ ، وإنما يعرِّض بما لا يفعله ، أو يُظهر غير ما في نفسه . وقال ابن قتيبة : يقال : عذَّرتُ في الأمر : إذا قصَّرتَ ، وأعذرتُ : جَدَدْتَ . وقال الزجاج : من قرأ «المعذِّرون» بتشديد الذال ، فتأويله : المعتذرون الذين يعتذرون ، كان لهم عذر ، أو لم يكن ، وهو هاهنا أشبه بأن يكون لهم عذر ، وأنشدوا :
إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَليْكُما ... ومن يَبْكِ حوْلاً كاملاً فَقَدِ اعْتَذَرْ
أي : فقد جاء بعذر . ويجوز أن يكون { المعذِّرون } الذين يعذِّرون ، يوهمون أن لهم عذراً ، ولا عذر لهم . ويجوز في النحو : المعِذِّرون ، بكسر العين ، والمعُذِّرون ، بضم العين ، غير أنه لم يُقرأ بهما ، لأن اللفظ بهما يثقل . ومن قرأ «المعْذرون» : بتسكين العين ، فتأويله : الذين أُعذروا وجاؤوا بعذر . وقال ابن الأنباري : المعذِّرون هاهنا : المعتذرون بالعذر الصحيح . وأصل الكلمة عند أهل النحو : المعتذرون ، فحوِّلت فتحة التاء إلى العين ، وأبدلت الذال من التاء ، وأدغمت في الذال التي بعدها ، فصارتا ذالاً مشددة . ويقال في كلام العرب : اعتذر : إذا جاء بعذر صحيح ، وإذا لم يأت بعذر . قال الله تعالى : { قل لا تعتذروا } فدل على فساد العذر ، وقال لبيد :
وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَاملاً فَقَد اعْتَذَر ... أي : فقد جاء بعذر صحيح . وكان ابن عباس يقرأ : { المعذِّرون } ويقول : لعن الله المعذِّرين . يريد : لعن الله المقصِّرين من المنافقين وغيرهم . والمعْذرون : الذين يأتون بالعذر الصحيح ، فبان من هذا الكلام أن لهم عذراً على قراءة من خفف . وهل يثبت لهم عذر على قراءة من شدد؟ فيه قولان .
قال المفسرون : جاء هؤلاء ليؤذَن لهم في التخلُّف عن تبوك ، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علَّة ، جرأةً على الله تعالى .

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)

قوله تعالى : { ليس على الضعفاء } اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما : أنها نزلت في عائذ بن عمرو وغيره من أهل العذر ، قاله قتادة .
والثاني : في ابن مكتوم ، قاله الضحاك .
وفي المراد بالضعفاء ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم الزمنى والمشايخ الكبار ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : أنهم الصغار .
والثالث : المجانين؛ سموا ضعافاً لضعف عقولهم ، ذكر القولين الماوردي . والصحيح انهم الذين يضعفون لزَمانةٍ ، أو عَمىً ، أو سِنٍّ ، أو ضَعف في الجسم . والمرضى : الذين بهم أعلال مانعة من الخروج للقتال ، و { الذين لا يجدون } هم المُقِلُّون ، والحرج : الضيق في القعود عن الغزو بشرط النصح لله ولرسوله ، وفيه وجهان .
أحدهما : أن المعنى : إذا برئوا من النفاق .
والثاني : إذا قاموا بحفظ الذراري والمنازل .
فان قيل : بالوجه الأول ، فهو يعم جميع المذكورين . وإن قيل بالثاني ، فهو يخص المقلِّين . وإنما شُرط النصح ، لأن من تخلف بقصد السعي بالفساد ، فهو مذموم؛ ومن النصح لله : حث المسلمين على الجهاد ، والسعي في إصلاح ذات بينهم ، وسائر ما يعود باستقامة الدين .
قوله تعالى : { ما على المحسنين من سبيل } أي : من طريق بالعقوبة ، لأن المحسن قد سد باحسانه باب العقاب .
قوله تعالى : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } نزلت في البكَّائين ، واختُلف في عددهم وأسمائهم ، فروى أبو صالح عن ابن عباس قال : هم ستة : عبد الله بن مغفَّل ، وصخر بن سلمان ، وعبد الله بن كعب الأنصاري ، وعُلَيَّة بن زيد الانصاري ، وسالم بن عُمير ، وثعلبة بن عنمة ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملهم ، فقال : « لا أجد ما أحملكم عليه » فانصرفوا باكين . وقد ذكر محمد بن سعد كاتب الواقدي مكان صخر بن سلمان : سلمة بن صخر ، ومكان ثعلبة بن عنمة : عمرو بن عنمة . قال : وقيل : منهم معقل بن يسار . وروى أبو إسحاق عن أشياخ له : أن البكَّائين سبعة من الأنصار : سالم بن عُمير ، وعُلَية بن زيد ، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب ، وعمرو بن الحُمام بن الجموح ، وعبد الله بن مغفَّل ، وبعض الناس يقول : بل ، عبد الله بن عمرو المزني ، وعِرباض بن سارية ، وهرميّ ابن عبد الله أخو بني واقف . وقال مجاهد : نزلت في بني مقرّن ، وهم سبعة؛ وقد ذكرهم محمد بن سعد فقال : النعمان بن عمرو بن مقرن ، وقال أبو خيثمة : هو النعمان بن مقرن ، وسويد بن مقرن ، ومعقل بن مقرّن ، وسنان بن مقرّن ، وعقيل بن مقرّن ، وعبد الرحمن بن مقرن ، وعبد الرحمن بن عقيل بن مقرن ، وقال الحسن البصري : نزلت في أبي موسى وأصحابه .
وفي الذي طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملهم عليه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الدواب ، قاله ابن عباس . والثاني : الزاد ، قاله أنس بن مالك . والثالث : النعال قاله الحسن .

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)

قوله تعالى : { يعتذرون إليكم } قال ابن عباس : نزلت في المنافقين ، يعتذرون إليكم إذا رجعتم من غزوة تبوك ، فلا تعذروهم فليس لهم عذر . فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوه يعتذرون ، فقال الله تعالى : { قل لا تعتذروا } لن نصدقكم ، قد أخبرنا الله أنه ليس لكم عذر { وسيرى الله عملكم ورسوله } إن عملتم خيراً وتبتم من تخلُّفكم { ثم تُردُّون } بعد الموت { إلى عالم الغيب والشهادة } فيخبركم بما كنتم تعملون في السر والعلانية .

سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)

قوله تعالى : { سيحلفون بالله لكم } قال مقاتل : حلف منهم بضعة وثمانون رجلاً ، منهم جَدّ بن قيس ، ومُعتِّب بن قشير .
قوله تعالى : { لتعرضوا عنهم } فيه قولان .
أحدهما : لتصفحوا عن ذنبهم .
والثاني : لأجل إعراضكم وقد شرحنا في [ المائدة : 90 ] معنى الرجس .

يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)

قوله تعالى : { يحلفون لكم لتَرْضَوْا عنهم } قال مقاتل : حلف عبد الله بن أُبيّ للنبي صلى الله عليه وسلم : لا أتخلف عنك ، ولأكونَنَّ معك على عدوِّك ، وطلب منه أن يرضى عنه ، وحلف عبد الله بن سعد بن أبي سرح لعمر بن الخطاب ، وجعلوا يترضَّون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما قدم المدينة : « لا تجالسوهم ولا تكلِّموهم » .

الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)

قوله تعالى : { الأعراب أشد كفراً } قال ابن عباس : نزلت في أعاريب أسد وغطفان وأعراب من حول المدينة ، أخبر الله أن كفرهم ونفاقهم أشد من كفر أهل المدينة ، لأنهم أقسى وأجفى من أهل الحضر .
قوله تعالى : { وأجدر ألا يعلموا } قال الزجاج : «أن» في موضع نصب ، لأن الباء محذوفة من «أن» المعنى : أجدر بترك العلم . تقول : جدير أن تفعل ، وجدير بأن تفعل ، كما تقول : أنت خليق بأن تفعل ، أي : هذا الفعل ميسَّر فيك ، فاذا حذفت الباء لم يصلح إلا ب «أن» ، وإن أتيت بالباء صلح ب «أن» وغيرها ، فنقول : أنت جدير بأن تقوم ، وجدير بالقيام . فاذا قلت : أنت جديرٌ القيامَ ، كان خطأً ، وإنما صلح مع «أن» لأن «أن» تدل على الاستقبال ، فكأنها عوض من المحذوف . فأما قوله : { حدودَ ما أنزل الله } فيعني به : الحلال والحرام والفرائض . وقيل : المراد بالآية : أن الأعم في العرب هذا .

وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)

قوله تعالى : { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق } إذا خرج في الغزو ، وقيل : ما يدفعه من الصدقة { مَغْرماً } لأنه لا يرجو له ثواباً . قال ابن قتيبة : المغرم : هو الغُرم والخُسر . وقال ابن فارس : الغُرم : ما يلزم أداؤه ، والغرام : اللازم ، وسمي الغريم لإلحاحه . وقال غيره : الغرم : التزام مالا يلزم .
قوله تعالى : { ويتربَّص } أي : وينتظر { بكم الدوائر } أي : دوائر الزمان بالمكروه ، بالموت ، أو القتل ، أو الهزيمة . وقيل : ينتظر موت الرسول صلى الله عليه وسلم ، وظهور المشركين .
قوله تعالى : { عليهم دائرة السوء } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بضم السين .
وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «السَّوء» بفتح السين؛ وكذلك قرؤوا في [ سورة الفتح : 6 ] ، والمعنى : عليهم يعود ما ينتظرونه لك من البلاء . قال الفراء : وفتح السين من السَّوء هو وجه الكلام . فمن فتح ، أراد المصدر : من سُؤْتُه سَوْءاً ومَساءَةً . ومن رفع السين ، جعله اسماً : كقولك عليهم دائرة البلاء والعذاب . ولا يجوز ضم السين في قوله : { ما كان أبوكِ امرأ سوءٍ } [ مريم : 28 ] ولا في قوله { وظننتم ظن السَّوء } [ الفتح : 12 ] لأنه ضدٌّ لقولك : رجُلُ صِدْق . وليس للسوء هاهنا معنى في عذاب ولا بلاء ، فيضم .

وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)

قوله تعالى : { ومن الأعراب من يؤمن بالله } قال ابن عباس : وهم من أسلم من الأعراب ، مثل جُهينة ، وأسلم ، وغِفار .
وفي قوله : { ويتخذ ما ينفق } قولان .
أحدهما : في الجهاد . والثاني : في الصدقة . فأما القربات ، فجمع قُربة ، وهي : ما يقرِّب العبدَ من رضى الله ومحبته . قال الزجاج : وفي القربات ثلاثة أوجه : ضم الراء ، وفتحها ، وإسكانها . وفي المراد بصلوات الرسول قولان .
أحدهما : استغفاره ، قاله ابن عباس .
والثاني : دعاؤه ، قاله قتادة ، وابن قتيبة ، والزجاج . وأنشد الزجاج :
عليكِ مثلُ الذي صَلَّيتِ فاغْتَمِضِي ... نَوْماً ، فانَّ لِجَنْبِ المَرْءِ مضطَجَعا
قال : إن شئتَ قلتَ : مثلَ الذي ، ومثلُ الذي؛ فالأول أَمْرٌ لها بالدعاء ، كأنه قال : ادعي لي مثل الذي دعوتِ . والثاني : بمعنى : عليكِ مثلُ هذا الدعاء .
قوله تعالى : { ألا إنها قُرْبَةٌ لهم } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «قربةٌ لهم» خفيفة . وروى ورش ، وإسماعيل ابن جعفر عن نافع ، وأبان ، والمفضل عن عاصم «قُرُبةٌ» لهم بضم الراء . وفي المشار إليها وجهان .
أحدهما : أن الهاء ترجع إلى نفقتهم وإيمانهم . والثاني : إلى صلوات الرسول .
قوله تعالى : { سيدخلهم الله في رحمته } قال ابن عباس : في جنته .

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)

قوله تعالى : { والسابقون الأوَّلون } فيهم ستة أقوال .
أحدها : أنهم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو موسى الأشعري ، وسعيد بن المسيب ، وابن سيرين ، وقتادة .
والثاني : أنهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان ، وهي الحديبية ، قاله الشعبي .
والثالث : أنهم أهل بدر ، قاله عطاء بن أبي رباح .
والرابع : أنهم جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حصل لهم السبق بصحبته .
قال محمد بن كعب القرظي : إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأوجب لهم الجنة محسنِهم ومسيئهم في قوله : { والسابقون الأولون } .
والخامس : أنهم السابقون بالموت والشهادة ، سبقوا إلى ثواب الله تعالى ، وذكره الماوردي .
والسادس : أنهم الذين أسلموا قبل الهجرة ، ذكره القاضي أبو يعلى .
قوله تعالى : { من المهاجرين والأنصار } قرأ يعقوب «والأنصارُ» برفع الراء .
قوله تعالى : { والذين اتَّبعوهم باحسان } من قال : إن السابقين جميع الصحابة ، جعل هؤلاء تابعي الصحابة ، وهم الذين لم يصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد روي عن ابن عباس أنه قال : والذين اتَّبعوهم باحسان إلى أن تقوم الساعة . ومن قال : هم المتقدمون من الصحابة ، قال : هؤلاء تبعوهم في طريقهم ، واقتدَوْا بهم في أفعالهم ، ففضِّل أولئك بالسبق ، وإن كانت الصحبة حاصلة للكل . وقال عطاء : اتباعهم إياهم باحسان : أنهم يذكرون محاسنهم ويترحَّمون عليهم .
قوله تعالى : { تجري تحتَها الأنهار } قرأ ابن كثير : «من تحتها» فزاد «من» وكسر التاء الثانية .
قوله تعالى : { رضي الله عنهم } يعم الكل . قال الزجاج : رضي الله أفعالهم ، ورضوا ما جازاهم به .

وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)

قوله تعالى : { وممن حولكم من الأعراب منافقون } قال ابن عباس : مُزَينة ، وجُهيَنة ، وأسلَم ، وغِفار ، وأشجع ، كان فيهم بعد إسلامهم منافقون . قال مقاتل : وكانت منازلهم حول المدينة .
قوله تعالى : { ومن أهل المدينة مَرَدُوا على النفاق } قال ابن عباس : مرنوا عليه وثبتوا ، منهم عبد الله بن أُبَيّ ، وجَدّ بن قيس ، والجلاس ، ومعتِّب ، ووَحْوَح ، وأبو عامر الراهب . وقال أبو عبيدة : عَتَوْا ومَرَنُوا عليه ، وهو من قولهم : تمرَّد فلان ، ومنه : شيطان مريد .
فان قيل : كيف قال { ومن أهل المدينة مردوا } ، وليس يجوز في الكلام : مِن القوم قعدوا؟ فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدهن : أن تكون { من } الثانية مردودة على الأولى؛ والتقدير : وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون ، ثم استأنف { مردوا } .
والثاني : أن يكون في الكلام «مَنْ» مضمر تقديره : ومن أهل المدينة مَنْ مردوا؛ فأُضمرت «مَنْ» لدلالة { مِنْ } عليها كقوله : { وما منَّا إلا له مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] يريد : إلا مَنْ له مقام معلوم؛ وعلى هذا ينقطع الكلام عند قوله : { منافقون } .
والثالث : أن { مَرَدُوا } متعلق بمنافقين تقديره : ومِنْ أهل المدينة منافقون مَرَدُوا ، ذكر هذه الأجوبة ابن الأنباري .
قوله تعالى : { لا تعلمهم } فيه وجهان .
أحدهما : لا تعلمهم أنت حتى نُعْلِمَكَ بهم . والثاني : لا تعلم عواقبهم .
قوله تعالى : { سنعذِّبهم مرتين } فيه عشرة أقوال .
أحدها : أن العذاب الأول في الدنيا ، وهو فضيحتهم بالنفاق ، والعذاب الثاني : عذاب القبر ، قاله ابن عباس . قال : " وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة خطيباً ، فقال : يا فلان اخرج فانك منافق ، ويا فلان اخرج " ففضحهم .
والثاني : أن العذاب الأول : إقامة الحدود عليهم . والثاني : عذاب القبر ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : أن أحد العذابين : الزكاة التي تؤخذ منهم ، والآخر : الجهاد الذي يُّؤْمَرون به ، قاله الحسن .
والرابع : الجوع ، وعذاب القبر ، رواه شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال أبو مالك .
والخامس : الجوع والقتل ، رواه سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد .
والسادس : القتل والسبي ، رواه معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد . وقال ابن قتيبة : القتل والأسر .
والسابع : أنهم عُذِّبِوا بالجوع مرتين ، رواه خُصَيف عن مجاهد .
والثامن : أن عذابهم في الدنيا بالمصائب في الأموال والأولاد ، وفي الآخرة بالنار ، قاله ابن زيد .
والتاسع : أن الأول : عند الموت تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم ، والثاني : في القبر بمنكر ونكير ، قاله مقاتل بن سليمان .
والعاشر : أن الأول : بالسيف ، والثاني : عند الموت ، قاله مقاتل بن حيان .
قوله تعالى : { ثم يُردُّون إلى عذاب عظيم } يعني : عذاب جهنم .

وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)

قوله تعالى : { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما : " أنهم عشرة رهط تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فلما دنا رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أوثق سبعةٌ منهم أنفسَهم بسواري المسجد . فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من هؤلاء؟ قالوا : هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلَّفوا عنك ، فأقسموا بالله لا يطلقون أنفسهم حتى تطلقهم أنت وتعذرهم ، فقال : وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقهم ، رغبوا عني وتخلَّفوا عن الغزو مع المسلمين فنزلت هذه الآية ، فأرسل إليهم فأطلقهم وعذرهم " ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . وروى العوفي عن ابن عباس : أن الذين تخلفوا كانوا ستة ، فأوثق أبو لبابة نفسه ورجلان معه ، وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم فلما نزلت هذه الآية ، أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذرهم . وروى أبو صالح عن ابن عباس : أنهم كانوا ثلاثة : أبو لبابة بن عبد المنذر ، وأوس ابن ثعلبة ، ووديعة بن خِذام الأنصاري . وقال سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وزيد ابن أسلم : كانوا ثمانية . وقال قتادة : ذُكر لنا أنهم كانوا سبعة .
والثاني : أنها نزلت في أبي لبابة وحده . واختلفوا في ذنبه على قولين .
أحدهما : أنه خان الله ورسوله باشارته إلى بني قريظة حين شاوروه في النزول على حكم سعد أنه الذبح ، وهذا قول مجاهد ، وقد شرحناه في [ الأنفال : 27 ] .
والثاني : أنه تخلُّفه عن تبوك ، قاله الزهري . فأما الاعتراف ، فهو الاقرار بالشيء عن معرفة . والاعتراف بالذنب أدعى إلى صدق التوبة والقبول .
قوله تعالى : { خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً } قال ابن جرير : وُضع الواوُ مكان الباء ، والمعنى : بآخر سيء ، كما تقول : خلطت الماءَ واللبن .
وفي ذلك العمل قولان .
أحدهما : أن العمل الصالح : ما سبق من جهادهم ، والسيء : التأخر عن الجهاد ، قاله السدي .
والثاني : أن العمل الصالح : توبتهم ، والسيء : تخلُّفهم ، ذكره الفراء . وفي قوله «عسى» قولان .
أحدهما : أنه واجب من الله تعالى ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه ترديد لهم بين الطمع والإشفاق ، وذلك يصد عن اللهو والإهمال .

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)

قوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } قال المفسرون : " لما تاب الله عز وجل على أبي لبابة وأصحابه قالوا : يا رسول الله ، هذه أموالنا فتصدق بها عنا ، فقال : «ما أُمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً» " فنزلت هذه الآية .
وفي هذه الصدقة قولان .
أحدهما : أنها الصدقة التي بذلوها تطوعاً ، قاله ابن زيد ، والجمهور . والثاني : الزكاة ، قاله عكرمة .
قوله تعالى : { تطهرهم } وقرأ الحسن «تطهرْهم بها» بجزم الراء . قال الزجاج : يصلح أن يكون قوله : { تطهرهم } نعتاً للصدقة ، كأنه قال : خذ من أموالهم صدقة مطهِّرة . والأجود أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم ، المعنى : فانك تطهرهم بها . ف «تطهرْهم» بالجزم ، على جواب الأمر ، المعنى : إن تأخذ من أموالهم ، تطهرْهم . ولا يجوز في : { تُزكِّيهم } إلا إثبات الياء ، اتّباعاً للمصحف . قال ابن عباس : { تطهرهم } من الذنوب ، { وتزكيهم } : تصلحهم . وفي قوله { وصلّ عليهم } قولان .
أحدهما : استغفر لهم ، قاله ابن عباس . والثاني : ادع لهم ، قاله السدي .
قوله تعالى : { إن صلواتِك } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «إن صلواتك» على الجمع . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، «إن صلاتك» على التوحيد . وفي قوله : { سكنٌ لهم } خمسة أقوال .
أحدها : طمأنينة لهم أن الله قد قَبِلَ منهم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقال أبو عبيدة : تثبيت وسكون . والثاني : رحمة لهم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . والثالث : قُرْبَةٌ لهم ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والرابع : وَقَارٌ لهم ، قاله قتادة . والخامس : تزكية لهم . حكاه الثعلبي . قال الحسن ، وقتادة : وهؤلاء سوى الثلاثة الذين خُلِّفوا .

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

قوله تعالى : { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة } قرأ الجمهور «يعلموا» بالياء . وروى عبد الوارث : { تعلموا } بالتاء . وقوله : { يقبل التوبة عن عباده } قال أبو عبيدة : أي : من عَبيده . تقول : أخذته منك ، وأخذته عنك .
قوله تعالى : { ويأخذ الصدقات } قال ابن قتيبة : أي : يقبلها . ومثله : { خذ العفو } [ الأعراف : 199 ] أي اقبله .
قوله تعالى : { وقل اعملوا } قال ابن زيد : هذا خطاب للذين تابوا .

وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)

قوله تعالى : { وآخرون مرجَؤُن } وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي : «مرجَوْن» بغير همز . والآية نزلت في كعب بن مالك ، ومُرارةَ بن الربيع ، وهلال بن أمية ، وكانوا فيمن تخلف عن تبوك من غير عذر ، ثم لم يبالغوا في الاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه ، ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري؛ فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم ، ونهى الناس عن كلامهم ومخالطتهم حتى نزل قوله : { وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا } [ التوبة : 118 ] قال الزجاج : { وآخرون } عطف على قوله : «ومن أهل المدينة» فالمعنى : منهم منافقون ، ومنهم { آخرون مرجَوْن } أي : مؤخَّرون؛ و { إما } لوقوع أحد الشيئين ، والله تعالى عالم بما يصير إليه أمرهم ، لكنه خاطب العباد بما يعلمون ، فالمعنى : ليكن أمرهم عندكم على الخوف والرجاء .
قوله تعالى : { والله عليم حكيم } أي : عليم بما يؤول إليه حالهم ، حكيم بما يفعله بهم .

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)

قوله تعالى : { والذين اتخذوا مسجداً } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : «والذين» بواو . وكذلك هي في مصاحفهم . وقرأ نافع ، وابن عامر : «الذين» بغير واو ، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام . قال أبو علي : من قرأ بالواو ، فهو معطوف على ما قبله نحو قوله : { ومنهم من عاهد الله } [ التوبة : 75 ] { ومنهم من يلمزك } [ التوبة : 58 ] { ومنهم الذين يؤذون النبي } [ التوبة : 61 ] والمعنى : ومنهم الذين اتخذوا مسجداً . ومن حذف الواو فعلى وجهين .
أحدهما : أن يضمر ومنهم الذين اتخذوا كقوله : أكفرتم ، المعنى : فيقال لهم : أكفرتم .
والثاني : أن يضمر الخبر بعدُ ، كما أُضمر في قوله : { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام } [ الحج : 25 ] ، المعنى : يُنتقم منهم ويعذَّبون . قال أهل التفسير : لما اتخذ بنو عمرو بن عوف مسجد قُباء ، وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم ، فصلى فيه ، حسدهم إخوتهم بنو غَنْم بن عَوف ، وكانوا من منافقي الأنصار ، فقالوا : نبني مسجداً ، ونرسل إلى رسول الله فيصلي فيه ، ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام؛ وكان أبو عامر قد ترهَّب في الجاهلية وتنصَّر ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، عاداه ، فخرج إلى الشام ، وأرسل إلى المنافقين أن أعدُّوا من استطعتم من قوة وسلاح ، وابنوا لي مسجداً ، فاني ذاهب إلى قيصر فآتي بجند الروم فأُخرج محمداً وأصحابه ، فبنوا هذا المسجد ، إلى جنب مسجد قباء ، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلاً : خِذام بن خالد ومِن داره أُخرج المسجد ، ونَبْتَل بن الحارث ، وبِجِاد بن عثمان ، وثعلبة بن حاطب ، ومُعتِّب بن قُشير ، وعبَّاد بن حُنَيف ، ووديعة بن ثابت ، وأبو حبيبة بن الأزعر ، وجارية بن عامر ، وابناه يزيد ومُجمِّع ، وكان مُجمِّع إمامهم فيه ، ثم صلحت حاله ، وبحزج جد عبد الله بن حنيف ، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أردتَ بما أرى " ؟ فقال : والله ما أردت إلا الحسنى ، وهو كاذب . وقال مقاتل : الذي حلف مُجمِّع . وقيل : كانوا سبعة عشر ، فلما فرغوا منه ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا قد ابتنينا مسجداً لذي العلَّة والحاجة والليلة المطيرة ، وإنا نحب أن تأتينا فتصليَ فيه ، فدعى بقميصه ليلبسه ، فنزل عليه القرآن وأخبره الله خبرهم ، فدعا معن بن عدي ، ومالك بن الدُّخشُم في آخرين ، وقال : " انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدموه وأحرِقوه ، " وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتُخذ كُناسة تُلقى فيها الجيف . ومات أبو عامر بالشام وحيداً غريباً .
فأما التفسير : فقال الزجاج : { الذين } في موضع رفع ، المعنى : ومنهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً . و { ضراراً } انتصب مفعولاً له ، المعنى : اتخذوه للضرار والكفر والتفريق والإرصاد . فلما حذفت اللام ، أفضى الفعل ، فنَصب . قال المفسرون : والضرار : بمعنى المُضارّة لمسجد قباء ، { وكفراً } بالله ورسوله { وتفريقاً بين المؤمنين } لأنهم كانوا يصلُّون في مسجد قباء جميعاً ، فأرادوا تفريق جماعتهم ، والإرصاد : الانتظار ، فانتظروا به مجيء أبي عامر ، وهو الذي حارب الله ورسوله من قبل بناء مسجد الضرار . { وليحلفُنَّ إن أردنا } أي : ما أردنا { إلا الحسنى } أي : ما أردنا بابتنائه إلا الحسنى؛ وفيها ثلاثة أوجه .
أحدها : طاعة الله . والثاني : الجنة . والثالث : فعل التي هي أحسن من إقامة الدين والاجتماع للصلاة . وقد ذكرنا اسم الحالف .

لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)

قوله تعالى : { لا تقم فيه } أي : لا تصلِّ فيه أبداً . { لمسجد أُسِّس على التقوى } أي بني على الطاعة ، وبناه المتقون { من أول يوم } أي : منذ أول يوم . قال الزجاج : { مِنْ } في الزمان ، والأصل : منذ ومذ ، وهو الأكثر في الاستعمال . وجائز دخول { من } لأنها الأصل في ابتداء الغاية والتبعيض ، ومثله قول زهير :
لِمَنِ الديارُ بِقُنَّةِ الحِجْرِ ... أَقْوَيْنَ مِنْ حِجَجٍ وَمِنْ شَهْرِ
وقيل : معناه مِن مَرِّ حِجج ومِن مَرِّ شهر . وفي هذا المسجد ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الذي فيه منبره وقبره . روى سهل بن سعد : أن رجلين اختلفا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال أحدهما : هو مسجد الرسول ، وقال الآخر : هو مسجد قباء ، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : « هو مسجدي هذا » وبه قال ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وأبو سعيد الخدري ، وسعيد بن المسيب .
والثاني : أنه مسجد قباء ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، وقتادة ، وعروة ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، والضحاك ، ومقاتل .
والثالث : أنه كل مسجد بني في المدينة ، قاله محمد بن كعب .
قوله تعالى : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } سبب نزولها أن رجالاً من أهل قباء كانوا يستنجون بالماء ، فنزلت هذه الآية ، قاله الشعبي قال ابن عباس : « لما نزلت هذه الآية ، أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالما الذي أثنى الله به عليكمفقالوا : إنا نستنجي بالماء » فعلى هذا ، المراد به الطهارة بالماء . وقال أبو العالية : أن يتطهروا من الذنوب .

أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)

قوله تعالى : { أفمن أسس بنيانه } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي «أَسس» بفتح الألف في الحرفين جميعاً وفتح النون فيهما . وقرأ نافع ، وابن عامر «أُسس» بضم الألف «بنيانُه» برفع النون . والبنيان مصدر يراد به المبني . والتأسيس : إحكام أس البناء ، وهو أصله ، والمعنى : المؤسِّس بنيانه متقياً يخاف الله ويرجو رضوانه خير ، أم المؤسس بنيانه غير متق؟ قال الزجاج : وشفا الشيء : حرفُه وحدُّه . والشفا مقصور ، يكتب بالألف ، ويثنى شفوان .
قوله تعالى : { جرف } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائي «جُرُف» مثقَّلاً . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم : «جُرْف» ساكنة الراء . قال أبو علي : فالضم الأصل ، والإسكان تخفيف ، ومثله : الشُّغُل والشُّغْل . قال ابن قتيبة : المعنى : على حرف جرف هائر . والجرف : ما يتجرف بالسيول من الأودية . والهائر : الساقط . ومنه : تهوَّر البناء وانهار : إذا سقط . وقرأ ابن كثير ، وحمزة «هار» بفتح الهاء . وأمال الهاء نافع ، وأبو عمرو . وعن عاصم كالقراءتين .
قوله تعالى : { فانهار به } أي : بالباني { في نار جهنم } قال الزجاج : وهذا مثل ، والمعنى : أن بناء هذا المسجد كبناء على جرف جهنم يتهوَّر بأهله فيها . وقال قتادة : ذُكر لنا أنهم حفروا فيه حفرة ، فرؤي فيها الدخان . قال جابر : رأيت المسجد الذي بني ضراراً يخرج منه الدخان .

لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)

قوله تعالى : { لا يزال بنيانهم } يعني مسجد الضرار { الذي بَنَوْا ريبة في قلوبهم } وفيها ثلاثة أقوال :
أحدها : شكّاً ونفاقاً ، لأنهم كانوا يحسبون أنهم محسنون في بنائه ، قاله ابن عباس ، وابن زيد .
والثاني : حسرة وندامة ، لأنهم ندموا على بنائه ، قاله ابن السائب ومقاتل .
والثالث : أن المعنى : لا يزال هدم بنيانهم حزازة وغيظاً في قلوبهم ، قاله السدي ، والمبرِّد .
قوله تعالى : { إلا أن تقطَّع قلوبهم } قرأ الأكثرون : «إلا» وهو حرف استثناء . وقرأ يعقوب «إلى أن» فجعله حرف جر . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «تُقَطَّع» بضم التاء . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وحفص عن عاصم : «تَقَطَّع» بفتح التاء . ثم في المعنى . قولان :
أحدهما : إلا أن يموتوا ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة في آخرين .
والثاني : إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم ، ذكره الزجاج .

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)

قوله تعالى : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم } سبب نزولها " أن الأنصار لما بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وكانوا سبعين رجلاً ، قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ، ما شئت ، فقال : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ، قالوا فاذا فعلنا ذلك ، فما لنا؟ قال : «الجنة» قالوا : ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل ، فنزلت { إن الله اشترى . . . } الآية " ، قاله محمد بن كعب القرظي فأما اشتراء النفس ، فبالجهاد .
وفي اشتراء الأموال وجهان . أحدهما : بالإِنفاق في الجهاد . والثاني : بالصدقات . وذِكْرُ الشراء هاهنا مجاز ، لأن المشتري حقيقة هو الذي لا يملك المشترى ، فهو كقوله : { من ذا الذي يُقرض الله } [ البقرة : 245 ] والمراد من الكلام أن الله أمرهم بالجهاد بأنفسهم وأموالهم ليجازيهم عن ذلك بالجنة ، فعبَّر عنه بالشراء لِما تضمن من عوض ومعوض . وكان الحسن يقول : لا والله ، إنْ في الدنيا مؤمن إلا وقد أُخذت بيعته . وقال قتادة : ثامَنَهم والله فأغلى لهم .
قوله تعالى : { فيَقتُلون ويُقتَلون } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم «فيَقتلون ويُقتَلون» فاعل ومفعول . وقرأ حمزة ، والكسائي «فيُقتلون ويَقتُلون» مفعول وفاعل . قال أبو علي : القراءة الأولى بمعنى أنهم يَقتُلون أولاً ويُقتلون ، والأخرى يجوز أن تكون في المعنى كالأولى ، لأن المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التقديم؛ فان لم يقدَّر فيه التقديم ، فالمعنى : يقتُل من بقي منهم بعد قتل من قُتل ، كما أن قوله : { فما وهنوا لما أصابهم } [ آل عمران : 146 ] ما وهن من بقي بِقَتْلِ من قُتل . ومعنى الكلام : إن الجنة عوض عن جهادهم ، قَتَلوا أو قُتلوا . { وعداً عليه } قال الزجاج : نصب «وعداً» بالمعنى ، لأن معنى قوله { بأن لهم الجنة } : { وعداً عليه حقاً } ، قال : وقوله : { في التوراة والإِنجيل } يدل على أن أهل كل ملة أُمروا بالقتال ووُعدوا عليه الجنة .
قوله تعالى : { ومن أوفى } أي : لا أحد أوفى بما وعد { من الله } { فاستبشروا } أي : فافرحوا بهذا البيع .

التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)

قوله تعالى : { التائبون } سبب نزولها . أنه لما نزلت التي قبلها ، قال رجل : يا رسول الله ، وإن سرق وإن زنى وإن شرب الخمر؟ فنزلت هذه الآية؟ قاله ابن عباس . قال الزجاج : يصلح الرفع هاهنا على وجوه . أحدها : المدح ، كأنه قال : هؤلاء التائبون ، أو هم التائبون . ويجوز أن يكون على البدل ، والمعنى : يقاتل التائبون؛ فهذا مذهب أهل اللغة ، والذي عندي أنه رفعٌ بالابتداء ، وخبره مضمر ، المعنى : التائبون ومن ذُكر معهم لهم الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا إذا لم يقصدوا ترك الجهاد ولا العناد ، لأن بعض المسلمين يجزئ عن بعض في الجهاد .
وللمفسرين في قوله : «التائبون» قولان . أحدهما : الراجعون عن الشرك والنفاق والمعاصي . والثاني : الراجعون إلى الله في فعل ما أمر واجتناب ما حظر .
وفي قوله : { العابدون } ثلاثة أقوال . أحدها : المطيعون لله بالعبادة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : المقيمون الصلاة ، قاله الضحاك عن ابن عباس .
والثالث : الموحِّدون ، قاله سعيد بن جبير .
قوله تعالى : { الحامدون } قال قتادة : يحمدون الله على كل حال .
وفي السائحين أربعة أقوال .
أحدها : الصائمون ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة في آخرين . قال الفراء : ويرى أهل النظر أن الصائم إنما سمي سائحاً تشبيهاً بالسائح ، لأن السائح لا زاد معه؛ والعرب تقول للفرس إذا كان قائماً لا علف بين يديه : صائم ، وذلك أن له قُوتين ، غدوة وعشية ، فشُبه به صيام الآدمي لتسحُّره وإفطاره . والثاني : أنهم الغزاة ، قاله عطاء . والثالث : طلاب العلم ، قاله عكرمة . والرابع : المهاجرون ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { الراكعون الساجدون } يعني في الصلاة . { الآمرون بالمعروف } وهو طاعة الله . { والناهون عن المنكر } وهو معصية الله .
فان قيل : ما وجه دخول الواو في قوله : «والناهون»؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أن الواو إنما دخلت هاهنا لأنها الصفة الثامنة ، والعرب تعطف بالواو على السبعة ، كقوله : { وثامنهم كلبهم } [ الكهف : 22 ] وقوِله في صفة الجنة : { وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] ذكره جماعة من المفسرين .
والثاني : أن الواو إنما دخلت على الناهين لأن الآمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر في حال أمره ، فكان دخول الواو دلالة على أن الأمر بالمعروف لا ينفرد دون النهي عن المنكر كما ينفرد الحامدون بالحمد دون السائحين ، والسائحون بالسياحة دون الحامدين في بعض الأحوال والأوقات .
قوله تعالى : { والحافظون لحدود الله } قال الحسن : القائمون بأمر الله .

مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)

قوله تعالى : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } في سبب نزولها أربعة أقوال .
أحدها : " أن أبا طالب لما حضرته الوفاة ، دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعنده أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية ، فقالأي عم ، قل معي : لا إله إلا الله ، أحاجُّ لك بها عند الله فقال أبو جهل وابن أبي أمية : يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فلم يزالا يكلِّمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به : أنا على ملَّة عبد المطلب . فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لأستغفرن لك مالم أُنه عنك» فنزلت { ما كان للنبي والذين آمنوا . . . } الآية ، ونزلت { إنك لا تهدي من أحببت } [ القصص : 56 ] " أخرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث سعيد بن المسيب . عن أبيه وقيل : إنه لما مات أبو طالب ، جعل النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر له ، فقال المسلمون : ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قراباتنا ، وقد استغفر ابراهيم لأبيه ، وهذا محمد يستغفر لعمه؟ فاستغفروا للمشركين ، فنزلت هذه الآية . قال أبو الحسين بن المنادي : هذا لا يصح ، إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، لعمه " لأستغفرن لك مالم أُنه عنك " قبل أن يموت ، وهو في السياق فأما أن يكون استغفر له بعد الموت ، فلا ، فانقلب ذلك على الرواة ، وبقي على انقلابه .
والثاني : " أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبر أمه آمنة ، فتوضأ وصلى ركعتين ، ثم بكى ، فبكى الناس لبكائه ، ثم انصرف إليهم ، فقالوا : ما الذي أبكاك؟ فقال«مررت بقبر أمي فصليت ركعتين ، ثم استأذنت ربي أن أستغفر لها ، فنُهيت ، فبكيت ، ثم عدت فصليت ركعتين ، فاستأذنت ربي أن أستغفر لها ، فزُجرت زجراً ، فأبكاني ، »ثم دعا براحلته فركبها؛ فما سار إلا هُنَيأة ، حتى قامت الناقة لثقل الوحي؛ فنزلت { ما كان للنبي والذين آمنوا } والأية التي بعدها " ، رواه بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والثالث : أن رجلاً استغفر لأبويه ، وكانا مشركين ، فقال له علي بن أبي طالب : أتستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال : أولم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكر ذلك عليّ للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية والتي بعدها ، رواه أبو الخليل عن علي عليه السلام .
والرابع : " أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا نبي الله ، إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ، ويصل الرحم ، ويفك العاني ، ويوفي بالذمم ، أفلا نستغفر لهم؟ فقال : «بلى ، والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» " فنزلت هذه الآية ، وبيَّن عذر إبراهيم ، قاله قتادة . ومعنى قوله : { من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } أي : من بعد ما بان أنهم ماتوا كفاراً .

قوله تعالى : { إلا عن موعدة وعدها إياه } فيه قولان .
أحدهما : أن إبراهيم وعد أباه الاستغفار ، وذلك قوله : { سأستغفر لك ربي } [ مريم : 47 ] وما كان يعلم أن الاستغفار للمشركين محظور حتى أخبره الله بذلك .
والثاني : أن أباه وعده أنه إن استغفر له آمن؛ فلما تبيَّن لإبراهيم عداوة أبيه لله تعالى بموته على الكفر ، ترك الدعاء له . فعلى الأول ، تكون هاء الكناية في «إيَّاه» عائدة على آزر ، وعلى الثاني ، تعود على إبراهيم . وقرأ ابن السميفع ، ومعاذ القارىء ، وأبو نهيك : «وعدها أباه» بالباء .
وفي الأوَّاه ثمانية أقوال .
أحدها : أنه الخاشع الدَّعَّاء المتضرع ، رواه عبد الله بن شداد بن الهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أنه الدَّعَّاء ، رواه زِرٌّ عن عبد الله ، وبه قال عبيد بن عمير .
والثالث : الرحيم ، رواه أبو العبيد بن العامري عن ابن مسعود ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، وأبو ميسرة .
والرابع : أنه الموقن ، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والضحاك .
والخامس : أنه المؤمن ، رواه العوفي ، ومجاهد ، وابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والسادس : أنه المسبِّح ، رواه أبو إسحاق عن أبي ميسرة ، وبه قال سعيد ابن المسيب ، وابن جبير .
والسابع : أنه المتأوِّه لذِكر عذاب الله ، قاله الشعبي . قال أبو عبيدة : مجاز أواه مجاز فَعّال من التأوّه ، ومعناه : متضرِّع شَفَقَاً وفَرَقاً ولزوماً لطاعة ربه ، قال المُثَقَّب :
إذا ما قمتُ أرْحَلُها بليل ... تأَوَّهُ آهةَ الرجل الحزينِ
والثامن : أنه الفقيه ، رواه ابن جريج عن مجاهد . فأما الحليم ، فهو الصفوح عن الذنوب .

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)

قوله تعالى : { وما كان الله ليضل قوماً . . . } الآية ، سبب نزولها : أنه لما نزلت آية الفرائض ، وجاء النسخ ، وقد غاب قوم وهم يعلمون بالأمر الأول مثل أمر القبلة والخمر ، ومات أقوام على ذلك ، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقال قوم : المعنى أنه بيَّن أنه لم يكن ليأخذهم بالاستغفار للمشركين قبل تحريمه ، فاذا حرَّمه ولم يمتنعوا عنه ، فقد ضلوا . وقال ابن الأنباري : في الآية حذف واختصار ، والتأويل : حتى يتبين لهم ما يتقون ، فلا يتقونه ، فعند ذلك يستحقون الضلال؛ فحذف ما حذف البيان معناه ، كما تقول العرب : أمرتك بالتجارة فكسبتَ الأموال؛ يريدون : فتجرت فكسبت .

لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)

قوله تعالى : { لقد تاب الله على النبي } قال المفسرون : تاب عليه من إذنه للمنافقين في التخلُّف . وقال أهل المعاني : هو مفتاح كلام ، وذلك أنه لما كان سببَ توبة التائبين ، ذُكر معهم ، كقوله : { فإنَّ لله خُمُسَهُ وللرسول } [ الأنفال : 41 ] .
قوله تعالى : { الذين اتبعوه في ساعة العسرة } قال الزجاج : هم الذين اتبعوه في غزوة تبوك ، والمراد بساعة العسرة : وقت العسرة ، لأن الساعة تقع على كل الزمان ، وكان في ذلك الوقت حرٌّ شديدٌ ، والقوم في ضيقة شديدة ، كان الجمل بين جماعة يعتقبون عليه ، وكانوا في فقر ، فربما اقتسم التمرة اثنان ، وربما مص التمرة الجماعة ليشربوا عليها الماء ، وربما نحروا الإبل فشربوا من ماء كروشها من الحر . " وقيل لعمر بن الخطاب : حدثنا عن ساعة العسرة ، فقال : خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد ، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستتقطع ، حتى إن الرجل ليذهب يلتمس الماء ، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ، ويجعل ما بقي على كبده . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إن الله قد عوَّدك في الدعاء خيراً ، فادع لنا ، قال : «تحب ذلك»؟ قال : نعم . فرفع يديه ، فلم يرجعهما حتى قالت السماء ، فملؤوا ما معهم ، ثم ذهبنا ننظر ، فلم نجدها جاوزت العسكر " . قوله تعالى : { من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم } قرأ حمزة ، وحفص عن عاصم : «كاد يزيغ» بالياء . وقرأ الباقون بالتاء . وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .
أحدها : تميل إلى التخلف عنه ، وهم ناس من المسلمين هَمُّوا بذلك ، ثم لحقوه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أن القلوب مالت إلى الرجوع للشدة التي لقوها ، ولم تَزِغ عن الإيمان ، قاله الزجاج .
والثالث : أن القلوب كادت تزيغ تلفاً بالجهد والشدة ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { ثم تاب عليهم } كرر ذكر التوبة ، لأنه ليس في ابتداء الآية ذكر ذنبهم ، فقدم ذِكر التوبة فضلاً منه ، ثم ذكر ذنبه ، ثم أعاد ذِكر التوبة .

وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)

قوله تعالى : { وعلى الثلاثة الذين خُلِّفُوا } وقرأ أبو رزين ، وأبو مجلز ، والشعبي ، وابن يعمر : «خالفوا» بألف . وقرأ معاذ القارىء ، وعكرمة ، وحميد : «خَلَفُوا» بفتح الخاء واللام المخففة . وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو العالية : «خَلَّفوا» بفتح الخاء واللام مع تشديدها . وهؤلاء هم المرادون بقوله : { وآخرون مُرجَوْنَ } وقد تقدَّمت أسماؤهم [ التوبة : 106 ] وفي معنى «خُلّفوا» قولان .
أحدهما : خُلِّفوا عن التوبة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، فيكون المعنى : خُلِّفوا عن توبة الله على أبي لبابة وأصحابه إذ لم يخضعوا كما خضع أولئك .
والثاني : خُلِّفوا عن غزوة تبوك ، قاله قتادة . وحديثهم مندرج في توبة كعب بن مالك ، وقد رويتها في كتاب «الحدائق» .
قوله تعالى : { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحُبت } أي : ضاقت مع سَعَتها ، وذلك أن المسلمين مُنعوا من معاملتهم وكلامهم ، وأُمروا باعتزال أزواجهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مُعرِضاً عنهم . { وضاقت عليهم أنفسهم } بالهمِّ والغمِ . { وظنوا } أي : أيقنوا { أن لا ملجأ } أي : لا معتصَم من الله ومن عذابه إلا هو . { ثم تاب عليهم } أعاد التوبة تأكيداً ، { ليتوبوا } قال ابن عباس : ليستقيموا وقال غيره : وفَّقهم للتوبة ليدوموا عليها ولا يرجعوا إلى ما يبطلها . وسئل بعضهم عن التوبة النصوح ، فقال : أن تضيق على التائب الارضُ ، وتضيق عليه نفسه ، كتوبة كعب وصاحبيه .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتَّقوا الله وكونوا مع الصَّادقين } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أنها نزلت في قصة الثلاثة المتخلِّفين .
والثاني : أنها في أهل الكتاب . والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم وكونوا مع الصادقين .
وفي المراد بالصادقين خمسة أقوال .
أحدها : أنه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قاله ابن عمر .
والثاني : أبو بكر وعمر ، قاله سعيد بن جبير ، والضحاك . وقد قرأ ابن السميفع . وأبو المتوكل ، ومعاذ القارىء : «مع الصَّادِقَيْنِ» بفتح القاف وكسر النون على التثنية .
والثالث : أنهم الثلاثة الذين خُلِّفوا ، صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم عن تأخُّرهم ، قاله السدي .
والرابع : أنهم المهاجرون ، لأنهم لم يتخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد ، قاله ابن جريج . قال أبو سليمان الدمشقي : وقيل : إن أبا بكر الصديق احتج بهذه الآية يوم السقيفة ، فقال : يا معشر الأنصار ، إن الله يقول في كتابه : { للفقراء المهاجرين الذين أُخِرجوا } إلى قوله : { أولئك هم الصادقون } [ الحشر : 8 ] من هم؟ قالت الأنصار : أنتم هم . قال : فان الله تعالى يقول : { اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } فأمركم أن تكونوا معنا ، ولم يأمرنا أن نكون معكم ، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء .
والخامس : أنه عامّ ، قاله قتادة و«مع» بمعنى «مِنْ» ، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود : «وكونوا من الصادقين» .

مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)

قوله تعالى : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب } قال ابن عباس : يعني : مزينة ، وجهينة ، وأشجع ، وأسلم ، وغفار ، { أن يتخلَّفوا عن رسول الله } في غزوة غزاها ، { ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } لا يرضَوا لأنفسهم بالخفض والدَّعَة ورسول الله في الحرِّ والمشقة . يقال : رغبت بنفسي عن الشيء : إذا ترفعت عنه .
قوله تعالى : { ذلك } أي : ذلك النهي عن التخلُّف { بأنهم لا يصيبهم ظمأٌ } وهو العطش { ولا نصب } وهو التعب { ولا مخمصة } وهو المجاعة { ولا ينالون من عدو نيلاً } أسراً أو قتلا أو هزيمة ، فأعلمهم الله أن يجازيهم على جميع ذلك .
قوله تعالى : { ولا ينفقون نفقة صغيرة } قال ابن عباس : تمرة فما فوقها . { ولا يقطعون وادياً } مقبلين أو مدبرين { إلا كُتب لهم } أي : أُثبت لهم أجر ذلك . { ليجزيَهم الله أحسن } أي : بأحسن { ما كانوا يعملون } .
فصل
قال شيخنا علي بن عبيد الله : اختلف المفسرون في هذه الآية ، فقالت طائفة : كان في أول الأمر لا يجوز التخلُّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان الجهاد يلزم الكل؛ ثم نسخ ذلك بقوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافةً } [ التوبة : 22 ] ؛ وقالت طائفة : فرض الله تعالى على جميع المؤمنين في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ممن لا عذر له الخروج معه لشيئين .
أحدهما : أنه من الواجب عليهم أن يَقُوه بأنفسهم .
والثاني : أنه إذا خرج الرسول فقد خرج الدِّين كلُّه ، فأُمروا بالتظاهر لئلا يقلَّ العدد ، وهذا الحكم باقٍ إلى وقتنا؛ فلو خرج أمير المؤمنين إلى الجهاد ، وجب على عامة المسلمين متابعته لما ذكرنا . فعلى هذا ، الآية محكمة . قال أبو سليمان : لكل آية وجهها . وليس للنسخ على إحدى الآيتين طريق .

وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)

قوله تعالى : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } في سبب نزولها أربعة أقوال .
أحدها : أنه لما أنزل الله عز وجل عيوب المنافقين في غزوة تبوك ، قال المؤمنون : والله . لا نتخلَّف عن غزوة يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سريَّة أبداً . فلما أرسل السرايا بعد تبوك ، نفر المسلمون جميعاً ، وتركوا رسول الله وحده ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على مضر ، أجدبت بلادهم؛ فكانت القبيلة منهم تُقْبِلُ بأسرها إلى المدينة من الجُهد ، ويظهرون الإسلام وهم كاذبون؛ فضيَّقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثالث : أن ناساً أسلموا ، وخرجوا إلى البوادي يعلِّمون قومهم ، فنزلت : { إلا تنفروا يعذبكم } [ التوبة : 39 ] فقال ناس من المنافقين : هلك من لم ينفر من أهل البوادي ، فنزلت هذه الآية ، قاله عكرمة .
والرابع : أن ناساً خرجوا إلى البوادي يعلِّمون الناس ويَهدونهم ، ويصيبون من الحطب ما ينتفعون به؛ فقال لهم الناس ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا؛ فأقبلوا من البادية كلهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد . قال الزجاج : ولفظ الآية لفظ الخبر ، ومعناها الأمر ، كقوله : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } [ التوبة : 113 ] ، والمعنى : ينبغي أن ينفر بعضهم ، ويبقى البعض . قال الفراء : ينفِر وينفُر ، بكسر الفاء وضمها ، لغتان . واختلف المفسرون في المراد بهذا النفير على قولين .
أحدهما : أنه النفير إلى العدو ، فالمعنى : ما كان لهم أن ينفروا بأجمعهم ، بل تنفر طائفة ، وتبقى مع النبي صلى الله عليه وسلم طائفة . { ليتفقَّهوا في الدين } يعني الفرقةَ القاعدين . فاذا رجعت السرايا ، وقد نزل بعدهم قرآن أو تجدَّد أمر ، أعلموهم به وأنذروهم به إذا رجعوا إليهم ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس .
والثاني : أنه النفير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل تنفر منهم طائفة ليتفقه هؤلاء الذين ينفرون ، ولينذروا قومهم المتخلِّفين ، هذا قول الحسن ، وهو أشبه بظاهر الآية . فعلى القول الأول ، يكون نفير هذه الطائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن خرج إلى غزاة أو مع سراياه . وعلى القول الثاني ، يكون نفير الطائفة إلى رسول الله لاقتباس العلم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)

قوله تعالى : { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } قد أُمر بقتال الكفار على العموم ، وإنما يُبتدَأ بالأقرب فالأقرب . وفي المراد بمن يليهم خمسة أقوال .
أحدها : أنهم الروم ، قاله ابن عمر . والثاني : قريظة ، والنضير ، وخيبر ، وفدك ، قاله ابن عباس . والثالث : الديلم ، قاله الحسن . والرابع : العرب ، قاله ابن زيد . والخامس : أنه عام في قتال الأقرب فالأقرب ، قاله قتادة . وقال الزجاج : في هذه الآية دليل على أنه ينبغي أن يقاتل أهل كل ثغر الذين يلونهم . قال : وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما تخطَّى في حربه الذين يلونه من الأعداء ليكون ذلك أهْيَبَ له ، فأُمر بقتال من يليه ليُستَنَّ بذلك . وفي الغلظة ثلاث لغات : غِلظة ، بكسر الغين؛ وبها قرأ الأكثرون . وغَلظة ، بفتح الغين ، رواها جبلة عن عاصم . وغُلظة بضم الغين ، رواها المفضل عن عاصم . ومثلها : جِذوة وجَذوة وجُذوة ، ووِجنة ووَجنة ووُجنة ، ورِغوة ورَغوة ورُغوة ، ورِبوة ورَبوة ورُبوة ، وقِسوة وقَسوة وقُسوة ، وإِلوة وأَلوة وأُلوة ، في اليمين . وشاة لِجْبة ولَجْبة ولُجْبة : قد ولىَّ لبنها . قال ابن عباس في قوله «غلظة» . شجاعة وقال مجاهد : شدة .
قوله تعالى : { فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إِيماناً } هذا قول المنافقين بعضهم لبعض استهزاءً بقول الله تعالى . { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً } لأنهم إذا صدَّقوا بها وعملوا بما فيها . زادتهم إيماناً . { وهم يستبشرون } أي : يفرحون بنزولها . { وأما الذين في قلوبهم مرض } أي : شك ونفاق .
وفي المراد بالرجس ثلاثة أقوال .
أحدها : الشك ، قاله ابن عباس .
والثاني : الإثم ، قاله مقاتل .
والثالث : الكفر ، لأنهم كلما كفروا بسورة زاد كفرهم ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { أولا يرون } يعني المنافقين . وقرأ حمزة : «أولا ترون» بالتاء على الخطاب للمؤمنين . وفي معنى { يُفتَنُون } ثمانية أقوال .
أحدها : يكذبون كذبة أو كذبتين يُضلِّون بها ، قاله حذيفة بن اليمان .
والثاني : ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : يُبْتَلَوْنَ بالغزو في سبيل الله ، قاله الحسن ، وقتادة .
والرابع : يُفْتَنون بالسَّنَة والجوع ، قاله مجاهد .
والخامس : بالأوجاع والأمراض ، قاله عطية .
والسادس : يَنقضُون عهدهم مرة أو مرتين ، قاله يمان .
والسابع : يكفرون ، وذلك أنهم كانوا إذا أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بما تكلَّموا به إذ خَلَوْا ، علموا أنه نبي ، ثم يأتيهم الشيطان فيقول : إنما بلغه هذا عنكم ، فيشركون ، قاله مقاتل بن سليمان .
والثامن : يُفضَحون باظهار نفاقهم ، قاله مقاتل بن حيان .
قوله تعالى : { ثم لا يتوبون } أي : من نفاقهم . { ولا هُمْ يذَّكَّرونَ } أي : يعتبرون ويتَّعظون .

وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)

قوله تعالى : { وإذا ما أُنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض } قال ابن عباس : كانت إذا أُنزلت سورة فيها عيب المنافقين ، وخطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرَّض بهم في خطبته ، شق ذلك عليهم ، ونظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب ، يقولون : { هل يراكم من أحد } من المؤمنين إن قمتم؟ فان لم يرهم أحد ، خرجوا من المسجد . قال الزجاج : كأنهم يقولون ذلك إيماءً لئلا يعلم بهم أحد ، { ثم انصرفوا } عن المكان ، وجائز عن العمل بما يسمعون . وقال الحسن : ثم انصرفوا على عزم التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به .
قوله تعالى : { صرف الله قلوبهم } قال ابن عباس : عن الإيمان . وقال الزجاج : أضَلَّهم مجازاة على فعلهم .

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)

قوله تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } قرأ الجمهور بضم الفاء . وقرأ ابن عباس ، وأبو العالية ، والضحاك ، وابن محيصن ، ومحبوب عن أبي عمرو : بفتحها وفي المضمونة أربعة أقوال .
أحدها : من جميع العرب ، قاله ابن عباس؛ وقال : ليس في العرب قبيلة إلا وقد وَلدت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم .
والثاني : ممن تعرفون ، قاله قتادة .
والثالث : من نكاحٍ لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية ، قاله جعفر الصادق .
الرابع : بشر مثلكم ، فهو آكد للحجة ، لأنكم تفقهون عمَّن هو مثلكم ، قاله الزجاج . وفي المفتوحة ثلاثة أقوال .
أحدها : أفضلكم خُلُقاً . والثاني : أشرفكم نسباً . والثالث : أكثركم طاعة لله عز وجل .
قوله تعالى : { عزيز عليه ما عنِتُّم } فيه قولان .
أحدهما : شديد عليه ما شقَّ عليكم ، رواه الضحاك عن ابن عباس . قال الزجاج : شديد عليه عنتكم . والعنت : لقاء الشدة .
والثاني : شديد عليه ما آثمكم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
قوله تعالى : { حريص عليكم } قال الحسن : حريص عليكم أن تؤمنوا .
قوله تعالى : { بالمؤمنين رؤوف رحيم } قال ابن عباس : سماه باسمين من أسمائه . وقال أبو عبيدة : «رؤوف» فعول ، من الرأفة ، وهي أرق من الرحمة؛ ويقال : «رؤف» وأنشد :
ترى للمؤمنين عليك حقاً ... كفعل الوالد الرؤف الرحيم
وقيل : رؤوف بالمطيعين ، رحيم بالمذنبين .

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)

قوله تعالى : { فان تولَّوا } أي : أعرضوا عن الإيمان { فقل حسبيَ الله } أي : يكفيني { رب العرش العظيم } . وقرأ ابن محيصن «العظيمُ» برفع الميم . وإنما خص العرش بالذِّكر ، لأنه الأعظم ، فيدخل فيه الأصغر . قال أُبيّ بن كعب : آخر آية أُنزلت : { لقد جاءكم رسول . . . } إلى آخر السُّورة .

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)

فأما قوله : { الر } قرأ ابن كثير : «الر» بفتح الراء . وقرأ أبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «الر» على الهجاء مكسورة . وقد ذكرنا في أول سورة ( البقرة ) ما يشتمل على بيان هذا الجنس . وقد خُصَّت هذه الكلمة بستة أقوال . أحدها : أن معناها : أنا الله أرى ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثاني : أنا الله الرحمن ، رواه عطاء عن ابن عباس . والثالث : أنه بعض اسم من أسماء الله . روى عكرمة عن ابن عباس قال : «الار» و«حما » و«نا» حروف الرحمن . والرابع : أنه قَسَمٌ أقسم الله به ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . والخامس : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله مجاهد ، وقتادة . والسادس : أنه اسم للسورة ، قاله ابن زيد . وفي قوله : { تلك } قولان : أحدهما : أنه بمعنى «هذه» ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، واختاره أبو عبيدة . والثاني : أنه على أصله . ثم فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أن الإِشارة إِلى الكتب المتقدمة من التوراة والإِنجيل ، قاله مجاهد ، وقتادة؛ فيكون المعنى : هذه الأقاصيص التي تسمعونها ، تلك الآيات التي وصفت في التوراة والإِنجيل . والثاني : أن الإِشارة إِلى الآيات التي جرى ذكرها ، من القرآن ، قاله الزجاج . والثالث : أن «تلك» إِشارة إِلى «الر» وأخواتها من حروف المعجم ، أي : تلك الحروف المفتتحة بها السُّوَر هي { آيات الكتاب } لأن الكتاب بها يتلى ، وألفاظه إِليها ترجع ، ذكره ابن الأنباري . قال أبو عبيدة : { الحكيم } بمعنى المحكَم المبيَّن الموضَّح؛ والعرب قد تضع فعيلاً في معنى مُفْعَل؛ قال الله تعالى : { ما لديَّ عتيد } [ ق : 23 ] أي : مُعَدٌّ .

أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)

قوله تعالى : { أكان للناس عجباً } سبب نزولها : أن الله تعالى لما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم أنكرت الكفار ذلك ، وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمد ، فنزلت هذه الآية . والمراد بالناس هاهنا : أهل مكة ، والمراد بالرجُل : محمد صلى الله عليه وسلم . ومعنى { منهم } : يعرفون نسبه ، قاله ابن عباس ، فأما الألِف فهي للتوبيخ والإِنكار . قال ابن الأنباري : والاحتجاج عليهم في كونهم عجبوا من إِرسال محمد ، محذوف هاهنا ، وهو مبيَّن في قوله : { نحن قسمنا بينهم معيشتهم } [ الزخرف 32 ] ، أي : فكما وضح لكم هذا التفاضل بالمشاهدة ، فلا تنكروا تفضيل الله مَنْ شاء بالنبوة؛ وإنما حذفه هاهنا اعتماداً على ما بيَّنه في موضع آخر . قال : وقيل : إِنما عجبوا من ذكر البعث والنشور ، لأن الإِنذار والتبشير يتصلان بهما ، فكان جوابهم في مواضع كثيرة تدل على كون ذلك ، مثل قوله : { وهو أهون عليه } [ الروم : 27 ] ، وقوله : { يحييها الذي أنشأها أول مرة } [ يس : 79 ] .
وفي المراد بقوله : { قَدَم صدق } سبعة أقوال :
أحدها : أنه الثواب الحسن بما قدَّموا من أعمالهم ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وروى عنه أبو صالح قال : عمل صالح يَقْدمون عليه .
والثاني : أنه ما سبق لهم من السعادة في الذِّكر الأول ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . قال أبو عبيدة : سابقة صدق .
والثالث : شفيع صدق ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم يوم القيامة ، قاله الحسن .
والرابع : سَلَفُ صدق تقدّموهم بالإِيمان ، قاله مجاهد ، وقتادة .
والخامس : مقام صدق لا زوال عنه ، قاله عطاء .
والسادس : أن قدم الصِّدق : المنزلة الرفيعة ، قاله الزجاج .
والسابع : أن القدم هاهنا : مصيبة المسلمين بنبيِّهم صلى الله عليه وسلم وما يلحقهم من ثواب الله عند أسفهم على فقده ومحبتهم لمشاهدته ، ذكره ابن الأنباري .
فإن قيل : لِم آثر القَدَم هاهنا على اليد ، والعرب تستعمل اليد في موضع الإِحسان؟
فالجواب : أن القدم ذكرت هاهنا للتقدم ، لأن العادة جارية بتقدُّم الساعي على قدميه ، والعرب تجعلها كناية عن العمل الذي يُتقدَّم فيه ولا يقع فيه تأخُّر ، قال ذو الرمة :
لكم قَدَمٌ لا يُنْكِرُ النَّاسُ أَنَّها ... مع الحَسَب العادِيّ طَمَّتْ على البحر
فإن قيل : ما وجه إِضافة القدم إِلى الصدق؟
فالجواب : أن ذلك مدح للقدم ، وكل شيء أضفته إِلى الصدق ، فقد مدحته؛ ومثله : { أدخلني مُدْخَل صدق وأخرجْني مخرج صدق } [ الاسراء : 80 ] ، وقوله : { في مقعد صدق } [ القمر : 55 ] . وفي الكلام محذوف ، تقديره : أوحينا إِلى رجل منهم ، فلما أتاهم الوحي { قال الكافرون إِن هذا لسحر مبين } قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : «لَساحر» بألف . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «لَسحر» بغير ألف . قال أبو علي : قد تقدم قوله : { أن أوحينا إِلى رجل منهم } فمن قال : ساحر ، أراد الرجل؛ ومن قال : سحر ، أراد الذي أُوحي ، سحر ، أي : الذي تقولون أنتم فيه : إِنه وحي ، سحر .

قال الزجاج : لما أنذرهم بالبعث والنشور ، فقالوا : هذا سحر ، أخبرهم أن الذي خلق السموات والأرض قادر على بعثهم بقوله : { إن ربكم الله } وقد سبق تفسيره في [ الأعراف : 54 ] .
قوله تعالى : { يدبِّر الأمر } قال مجاهد : يقضيه . وقال غيره : يأمر به ويمضيه .
قوله تعالى : { مامن شفيع إِلا من بعد إِذنه } فيه قولان :
أحدهما : لا يشفع أحد إِلا أن يأذن له ، قاله ابن عباس . قال الزجاج : لم يَجْرِ للشفيع ذِكر قبل هذا ، ولكنَّ الذين خوطبوا كانوا يقولون : الأصنام شفعاؤنا .
والثاني : أن المعنى : لا ثانيَ معه ، مأخوذ من الشَّفْع ، لأنه لم يكن معه أحد ، ثم خلق الأشياء . فقوله : { إِلا من بعد إِذنه } أي : من بعد أمره أن يكون الخلق فكان ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { فاعبدوه } قال مقاتل : وحِّدوه . وقال الزجاج : المعنى : فاعبدوه وحده . وقوله : { تذكَّرون } معناه : تتَّعظون .

إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)

قوله تعالى : { إليه مرجعكم جميعاً } أي : مصيركم يوم القيامة { وعْدَ الله حقاً } قال الزجاج : «وَعْدَ الله» منصوب على معنى : وعدكم الله وعداً ، لأن قوله : { إِليه مرجعكم } معناه : الوعد بالرجوع ، و «حقاً» منصوب على : أحق ذلك حقاً .
قوله تعالى : { إِنه يبدأ الخلق } قرأه الأكثرون بكسر الألف . وقرأت عائشة ، وأبو رزين ، وعكرمة ، وأبو العالية ، والأعمش : بفتحها . قال الزجاج : من كسر ، فعلى الاستئناف ، ومن فتح ، فالمعنى : إِليه مرجعكم ، لأنه يبدأ الخلق . قال مقاتل : يبدأ الخلق ولم يكن شيئاً ، ثم يعيده بعد الموت . وأما القسط ، فهو العدل .
فإن قيل : كيف خصَّ جزاء المؤمنين بالعدل ، وهو في جزاء الكافرين عادل أيضاً؟
فالجواب : أنه لو جمع الفريقين في القسط ، لم يتبيَّن في حال اجتماعهما ما يقع بالكافرين من العذاب الأليم والشرب من الحميم ، ففصلهم من المؤمنين ليبيِّن ما يجزيهم به مما هو عدل أيضاً ، ذكره ابن الأنباري . فأما الحميم ، فهو الماء الحارُّ . وقال أبو عبيدة : كل حار فهو حميم .

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)

قوله تعالى : { هو الذي جعل الشمس ضياءً } قرأ الأكثرون : «ضياءً» بهمزة واحدة . وقرأ ابن كثير : «ضئاءً» بهمزتين في كل القرآن ، أي : ذات ضياء . { والقمر نوراً } أي : ذات نور . { وقدَّره منازلَ } أي : قدَّر له ، فحذف الجار ، والمعنى : هيَّأ ويسَّر له منازل . قال الزجاج : الهاء ترجع إِلى «القمر» لأنه المقدّر لعلم السنين والحساب . وقد يجوز أن يعود إِلى الشمس والقمر ، فحذف أحدهما اختصاراً . وقال الفراء : إن شئتَ جعلت تقدير المنازل للقمر خاصة ، لأن به تُعلمَ الشهور . وإن شئت جعلت التقدير لهما ، فاكتفي بذكر أحدهما من صاحبه ، كقوله : { واللهُ ورسولُه أحقُّ أن يُرْضُوه } [ التوبة 62 ] . قال ابن قتيبة : منازل القمر ثمانية وعشرون منزلاً من أول الشهر إلى ثماني وعشرين ليلة ، ثم يستسرُّ . وهذه المنازل ، هي النجوم التي كانت العرب تنسب إِليها الأنواء ، وأسماؤها عندهم : الشِّرََطان ، والبُطَيْن ، والثُّرَيَّا ، والدَّبَرَان ، والهَقْعة ، والهَنْعة ، والذِّراع ، والنَّثْرة ، والطَّرْفُ ، والجبهة ، والزُّبْرة ، والصَّرْفة ، والعَوَّاء ، والسِّماك ، والغَفْر ، والزُّبَانَى ، والإِكليل ، والقلب ، والشَّوْلَة ، والنعائم ، والبلدة ، وسعد الذَّابح ، وسعد بُلَعْ ، وسعد السُّعود ، وسعد الأخبية ، وفَرْغ الدَّلو المقدَّم ، وفرغ الدلو المؤخَّر ، والرِّشاء وهو الحوت .
قوله تعالى : { ما خلق الله ذلك إِلا بالحق } أي : للحق ، من إِظهار صنعه وقدرته والدليل على وحدانيته . { يفصِّل الآيات } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : «يفصِّل» بالياء . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «نفصِّل الآيات» بالنون ، والمعنى : نُبَيِّنُها . { لقوم يعلمون } يستدلُّون بالأمارات على قدرته .
قوله تعالى : { لآيات لقوم يتقون } فيه قولان : أحدهما : يتقون الشرك . والثاني : عقوبةَ الله . فيكون المعنى : إِن الآيات لمن لم يحمله هواه على خلاف ما وضح له من الحق .
قوله تعالى : { لا يرجون لقاءَنا } قال ابن عباس : لا يخافون البعث . { ورضُوا بالحياة الدنيا } اختاروا ما فيها على الآخرة . { واطمأنُّوا بها } آثروها . وقال غيره : ركنوا إِليها ، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة . { والذين هم عن آياتنا غافلون } فيها قولان :
أحدهما : أنها آيات القرآن ومحمد ، قاله ابن عباس .
والثاني : ما ذكره في أول السورة من صنعه ، قاله مقاتل . فأما قوله : { غافلون } فقال ابن عباس : مكذِّبون . وقال غيره : مُعْرِضون . قال ابن زيد : وهؤلاء هم الكفار .
قوله تعالى : { بما كانوا يكسبون } قال مقاتل : من الكفر والتكذيب .
قوله تعالى : { يهديهم ربهم بأيمانهم } فيه أربعة أقوال : أحدها : يهديهم إِلى الجنة ثواباً بإيمانهم . والثاني : يجعل لهم نوراً يمشون به بإيمانهم . والثالث : يزيدهم هدى بإيمانهم . والرابع : يثيبهم بإيمانهم . فأما الهداية ، فقد سبقت لهم .
قوله تعالى : { تجري من تحتهم الأنهار } أي : تجري بين أيديهم وهم يرونها من علو .
قوله تعالى : { دعواهم فيها } أي : دعاؤهم . وقد شرحنا ذلك في أول [ الأعراف : 5 ] .
وفي المراد بهذا الدعاء قولان :
أحدهما : أنه استدعاؤهم ما يشتهون .

قال ابن عباس : كلما اشتهى أهل الجنة شيئاً ، قالوا : { سبحانك اللهم } فيأتيهم ما يشتهون؛ فاذا طعموا ، قالوا : { الحمد لله رب العالمين } فذلك آخر دعواهم . وقال ابن جريج : إِذا مرَّ بهم الطير يشتهونه ، قالوا : { سبحانك اللهم } فيأتيهم المَلَكُ بما اشتَهَوْا ، فيسلِّم عليهم ، فيردُّون عليه : فذلك قوله : { وتحيتهم فيها سلام } . فإذا أكلوا ، حمِدوا ربهم؛ فذلك قوله : { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } .
والثاني : أنهم إِذا أرادوا الرغبة إِلى الله تعالى في دعاءٍ يدعونه به ، قالوا : { سبحانك اللهم } ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { وتحيتهم فيها سلام } فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنها تحية بعضهم لبعض ، وتحيَّة الملائكة لهم ، قاله ابن عباس . والثاني : أن الله تعالى يُحَيِّيهم بالسلام . والثالث : أن التحية : المُلْك ، فالمعنى : مُلكهم فيها سالم ، ذكرهما الماوردي .
قوله تعالى : { وآخر دعواهم } أي : دعاؤهم وقولهم : { أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين } قرأ أبو مجلز ، وعكرمة ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وقتادة ، ويعقوب : «أنَّ الحمدَ لله» بتشديد النون ونصب الدال . قال الزجاج : أعلم الله أنهم يبتدؤون بتعظيم الله وتنزيهه ، ويختمون بشكره والثناء عليه . وقال ابن كيسان : يفتتحون كلامهم بالتوحيد ، ويختمونه بالتوحيد .

وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)

قوله تعالى : { ولو يعجِّلُ اللهُ للنَّاسِ الشرَّ } ذكر بعضهم أنها نزلت في النضر بن الحارث حيث قال : { اللهم إِن كان هذا هو الحق من عندك } [ الأنفال : 8 ] . والتعجيل : تقديم الشيء قبل وقته . وفي المراد بالآية قولان :
أحدهما : ولو يعجِّل الله للنَّاسِ الشرَّ إذا دَعَواْ على أنفسهم عند الغضب وعلى أهليهم ، واستعجلوا به ، كما يعجِّل لهم الخير ، لهلكوا ، هذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .
والثاني : ولو يعجل الله للكافرين العذاب على كفرهم كما عجَّل لهم خير الدنيا من المال والولد ، لعُجِّل لهم قضاء آجالهم ليتعجَّلوا عذاب الآخرة ، حكاه الماوردي . ويقوِّي هذا تمامُ الآية وسببُ نزولها . وقد قرأ الجمهور : «لقُضيَ إِليهم» بضم القاف «أجلُهم» بضم اللام . وقرأ ابن عامر : «لقَضَى» بفتح القاف «أجلَهم» بنصب اللام . وقد ذكرنا في أول [ سورة البقرة : 15 ] معنى الطغيان والعمه .

وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)

قوله تعالى : { وإِذا مسَّ الإِنسان الضرُّ } اختلفوا فيمن نزلت على قولين : أحدهما : أنها نزلت في أبي حذيفة ، واسمه هاشم بن المغيرة بن عبد الله المخزومي ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . والثاني : أنها نزلت في عتبة بن ربيعة ، والوليد بن المغيرة ، قاله عطاء . و «الضر» الجهد والشّدة . واللام في قوله : { لجنبه } بمعنى «على» . وفي معنى الآية قولان : أحدهما : إِذا مسه الضر دعا على جنبه ، أو دعا قاعداً ، أو دعا قائماً ، قاله ابن عباس . والثاني : إِذا مسه الضر في هذه الأحوال ، دعا ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { فلما كشفنا عنه ضُرَّه مَرَّ } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أعرض عن الدعاء ، قاله مقاتل . والثاني : مَرَّ في العافية على ما كان عليه قبل أن يُبتلى ، ولم يتَّعظ بما يناله ، قاله الزجاج . والثالث : مَرَّ طاغياً على ترك الشكر .
قوله تعالى : { كأن لم يَدْعُنَا } قال الزجاج : «كأن» هذه مخففة من الثقيلة ، المعنى : كأنه لم يدعنا ، قالت الخنساء :
كَأَنْ لم يكونوا حِمىً يُتَّقَى ... إِذ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ مَنْ عَزَّ بَزَّا
قوله تعالى : { كذلك زُيِّنَ للمسرفين } المعنى : كما زُيّن لهذا الكافر الدعاء عند البلاء ، والإِعراض عند الرَّخاء ، كذلك زُيّن للمسرفين ، وهم المجاوزون الحدَّ في الكفر والمعصية ، عملُهم .

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)

قوله تعالى : { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم } قال مقاتل : هذا تخويف لكفار مكة . والظلم هاهنا بمعنى الشرك . وفي قوله : { وما كانوا ليؤمنوا } قولان : أحدهما : أنه عائد على أهل مكة ، قاله مقاتل . والثاني : على القرون المتقدمة ، قاله أبو سليمان . قال ابن الأنباري : ألزمهم الله ترك الإِيمان لمعاندتهم الحق وإِيثارهم الباطل . وقال الزجاج : جائز أن يكون جعل جزاءهم الطبع على قلوبهم ، وجائز أن يكون أعلم ما قد علم منهم .
قوله تعالى : { كذلك نجزي } أي : نعاقب ونهلك { القوم المجرمين } يعني المشركين من قومك .

ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)

قوله تعالى : { ثم جعلناكم خلائف } قال ابن عباس : جعلناكم يا أُمة محمد خلائف ، أي : استخلفناكم في الأرض . وقال قتادة : ما جَعَلَنا اللهُ خلائفَ إِلا لينظر إِلى أعمالنا ، فأرُوا الله من أعمالكم خيراً بالليل والنهار .

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)

قوله تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا } اختلفوا فيمن نزلت على قولين : أحدهما : أنها نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : أنها نزلت في مشركي مكة ، قاله مجاهد ، وقتادة . والمراد بالآيات : القرآن . و «يرجون» بمعنى : يخافون . وفي علَّة طلبهم سوى هذا القرآن أو تبديله قولان : أحدهما : أنهم أرادوا تغيير آية العذاب بالرحمة ، وآية الرحمة بالعذاب ، قاله ابن عباس . والثاني : أنهم كرهوا منه ذكر البعث والنشور ، لأنهم لا يؤمنون به ، وكرهوا عيب آلهتهم ، فطلبوا ما يخلوا من ذلك ، قاله الزجاج . والفرق بين تبديله والإِتيان بغيره ، أن تبديله لا يجوز أن يكون معه ، والإِتيانُ بغيره قد يجوز أن يكون معه .
قوله تعالى : { ما يكون لي } حرَّك هذه الياء ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وأسكنها الباقون . { من تلقاءِ نفسي } حرَّكها نافع ، وأبو عمرو؛ وأسكنها الباقون ، والمعنى : من عند نفسي ، فالمعنى : أن الذي أتيتُ به ، من عند الله ، لا من عندي فأبدِّله . { إِني أخاف } فتح هذه الياء ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو . { إِن عَصَيْتُ ربي } أي : في تبديله أو تغييره { عذاب يوم عظيم } يعني في القيامة .
فصل
وقد تكلم علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ما بيَّنَّا في نظيرتها في [ الأنعام : 15 ] . ومقصود الآيتين تهديد المخالفين؛ وأُضيف ذلك إِلى الرسول ليصعب الأمر فيه .

قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)

قوله تعالى : { قل لو شاء الله ما تلوته عليكم } يعني القرآن؛ وذلك أنه كان لا يُنزله عليّ ، فيأمرني بتلاوته عليكم . { ولا أدراكم به } أي : ولا أعلمكم الله به . قرأ ابن كثير : «وَلأَدْرَاكم» بلام التوكيد من غير ألف بعدها ، يجعلها لاماً دخلت على «أدراكم» . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «أدريكم» بالإِمالة . وقرأ الحسن ، وابن أبي عبلة ، وشيبة بن نِصاح : «ولا أدرأتُكم» بتاء بين الألف والكاف . { فقد لبثْتُ فيكم عُمُراً } وقرأ الحسن ، والأعمش : «عُمْراً» بسكون الميم . قال أبو عبيدة : وفي العمر ثلاث لغات : عُمْر ، وعُمُر ، وعَمْر . قال ابن عباس : أقمت فيكم أربعين سنة لا أحدثِّكم بشيء من القرآن { أفلا تعقلون } أنه ليس من قِبَلي . { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً } يريد : إِني لم أفْتَرِ على الله ولم أكذب عليه ، وأنتم فعلتم ذلك حيث زعمتم أن معه شريكاً . والمجرمون هاهنا : المشركون .

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)

قوله تعالى : { ويعبدون من دون الله مالا يضرهم } أي : لا يضرهم إِن لم يعبدوه ، ولا ينفعهم إِن عبدوه ، قاله مقاتل ، والزجاج .
قوله تعالى : { ويقولون } يعني المشركين . { هؤلاء } يعنون الأصنام . قال أبو عبيدة : خرجت كنايتها على لفظ كناية الآدميين . وقد ذكرنا هذا المعنى في [ الأعراف : 191 ] عند قوله : { وهم يُخْلَقُون } . وفي قوله : { شفعاؤنا عند الله } قولان : أحدهما : شفعاؤنا في الآخرة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، ومقاتل . والثاني : شفعاؤنا في إٍِصلاح معايشنا في الدنيا ، لأنهم لا يُقِرُّون بالبعث ، قاله الحسن .
قوله تعالى : { قل أتنبئون الله بمالا يعلم } قال الضحاك : أتخبرون الله أنَّ له شريكاً ، ولا يعلم الله لنفسه شريكاً في السموات ولا في الأرض .

وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)

قوله تعالى : { وما كان الناس إِلا أُمةً واحدةً فاختلفوا } قد شرحنا هذا في سورة [ البقرة : 213 ] وأحسن الأقوال أنهم كانوا على دين واحد موحِّدين ، فاختلفوا وعبدوا الأصنام ، فكان أول من بعث إِليهم نوح عليه السلام .
قوله تعالى : { ولولا كلمة سبقت من ربك } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : ولولا كلمة سبقت بتأخير هذه الأمة أنه لا يهلكهم بالعذاب كما أهلك الذين من قبلهم ، لقُضي بينهم بنزول العذاب ، فكان ذلك فصلاً بينهم فيما فيه يختلفون من الدِّين .
والثاني : أن الكلمة : أن لكل أُمة أجلاً ، وللدنيا مدة لا يتقدم ذلك على وقته .
والثالث : أن الكلمة : أنه لا يأخذ أحداً إلا بعد إِقامة الحجة عليه .
وفي قوله : { لقضي بينهم } قولان : أحدهما : لقضي بينهم بإقامة الساعة . والثاني : بنزول العذاب على المكذبين .

وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)

قوله تعالى : { ويقولون } يعني المشركين { لولا } أي : هلاَّ { أنزل عليه آية من ربه } مثل العصا واليد وآيات الأنبياء . { فقل إِنما الغيب لله } فيه قولان . أحدهما : أن سؤالكم : لِمَ لم تنزل الآية؟ غيب ، ولا يعلم علَّة امتناعها إِلا الله .
والثاني : أن نزول الآية متى يكون؟ غيب ، ولا يعلمه إِلا الله .
قوله تعالى : { فانتظروا } فيه قولان : أحدهما : انتظروا نزول الآية . والثاني : قضاء الله بيننا بإظهار المحقّ على المبطل .

وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)

قوله تعالى : { وإِذا أذقنا الناس رحمة } سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا على أهل مكة بالجدب فقحطوا سبع سنين ، أتاه أبو سفيان ، فقال : ادع لنا بالخصب ، فإن أخصبنا صدَّقناك ، فدعا لهم ، فسُقوا ولم يؤمنوا ، ذكره الماوردي . قال المفسرون : المراد بالناس هاهنا : الكفار . وفي المراد بالرحمة والضراء ثلاثة أقوال :
أحدها : أن الرحمة : العافية والسرور ، والضراء : الفقر والبلاء ، قاله ابن عباس .
والثاني : الرحمة : الإِسلام ، والضراء : الكفر ، وهذا في حق المنافقين ، قاله الحسن .
والثالث : الرحمة : الخصب ، والضراء : الجدب ، قاله الضحاك .
وفي المراد بالمكر هاهنا أربعة أقوال :
أحدها : أنه الاستهزاء والتكذيب ، قاله مجاهد ، ومقاتل .
والثاني : أنه الجحود والرد ، قاله أبو عبيدة .
والثالث : أنه إِضافة النعم إِلى غير الله ، فيقولون : سُقينا بنوء كذا ، قاله مقاتل بن حيان .
والرابع : أن المكر : النفاق ، لأنه إِظهار الإِيمان وإِبطان الكفر ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { قل الله أسرع مكراً } أي : جزاءً على المكر . { إنَّ رسلنا } يعني الحفظة { يكتبون ما تمكرون } أي : يحفظون ذلك لمجازاتكم عليه . وقرأ يعقوب إِلا رويساً وأبا حاتم ، وأبان عن عاصم : «يمكرون» بالياء .

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)

قوله تعالى : { هو الذي يسيِّركم } أي : الله الذي هو أسرع مكراً ، هو الذي يسيِّركم { في البرِّ } على الدواب ، وفي البحر على السفن ، فلو شاء انتقم منكم في البر أو في البحر . وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر : «ينشركم» بالنون والشين من النشر ، وهو في المعنى مثل قوله : { وبثَّ منهما رجالاً كثيراً } [ النساء : 2 ] . والفلك : السفن . قال الفراء : الفلك تذكّر وتؤنث ، وتكون واحدة وتكون جمعاً ، قال تعالى هاهنا : { جاءتها } فأنَّثَ ، وقال في [ يس : 41 ] { في الفلك المشحون } فذكّر .
قوله تعالى : { وجرين بهم } عاد بعد المخاطبة لهم إِلى الإِخبار عنهم . قال الزجاج : كل من أقام الغائب مقام مَن يخاطبه جاز أن يردَّه إِلى الغائب ، قال الشاعر :
شَطَّتْ مَزارُ العاشقين فأصبحتْ ... عَسِراً علي طلابُكِ ابنةَ مَخْرَمِ
قوله تعالى : { بريح طيبة } أي : ليِّنةٍ . { وفرحوا بها } للينها . { جاءتها } يعني الفلك . قال الفراء : وإِن شئتَ جعلتَها للريح ، كأنك قلت : جاءت الريحَ الطيبةَ ريحٌ عاصف ، والعرب تقول : عاصف وعاصفة ، وقد عصفت الريح وأعصفت ، والألف لغة لبني أسد . قال ابن عباس : الريح العاصف : الشديدة . قال الزجاج : يقال : عصفت الريح ، فهي عاصف وعاصفة ، وأعصفت ، فهي معصف ومعصفة . { وجاءهم الموج من كل مكان } أي : من كل أمكنة الموج .
قوله تعالى : { وظنوا } فيه قولان : أحدهما : أنه بمعنى اليقين . والثاني : أنه التوهُّم . وفي قوله : { أحيط بهم } قولان :
أحدهما : دَنوا من الهلكة . قال ابن قتيبة : وأصل هذا أن العدوَّ إِذا أحاط ببلد ، فقد دنا أهله من الهلكة . وقال الزجاج : يقال لكل من وقع في بلاء : قد أحيط بفلان ، أي : أحاط به البلاء .
والثاني : أحاطت بهم الملائكة ، ذكره الزجاج .
قوله تعالى : { دَعَوُا اللهَ مخلصين له الدِّين } دون أوثانهم . قال ابن عباس : تركوا الشرك ، وأخلصوا لله الربوبية ، وقالوا : { لئن أنجيتنا من هذه } الريح العاصف { لنكونن من الشاكرين } أي : الموحِّدين .
قوله تعالى : { يبغون في الأرض } البغي : الترامي في الفساد . قال الأصمعي : يقال : بغى الجرح : إِذا ترامى إِلى فساد . قال ابن عباس : يبغون في الأرض بالدعاء إِلى عبادة غير الله والعمل بالمعاصي والفساد .
{ يا أيها الناس } يعني أهل مكة . { إِنما بغيكم على أنفسكم } أي : جناية مظالمكم بينكم على أنفسكم . وقال الزجاج : عملكم بالظلم عليكم يرجع .
قوله تعالى : { متاع الحياة الدنيا } قرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، وحفص ، وأبان عن عاصم : «متاعَ الحياة الدنيا» بنصب المتاع . قال الزجاج : مَن رفع المتاع ، فالمعنى أن ما تنالونه بهذا البغي إِنما تنتفعون به في الدنيا ، ومن نصب المتاع ، فعلى المصدر . فالمعنى : تمتَّعون متاع الحياة الدنيا . وقرأ أبو المتوكل ، واليزيدي في اختياره ، وهارون العتكي عن عاصم : «متاعِ الحياة» بكسر العين . قال ابن عباس : { متاع الحياة الدنيا } أي : منفعة في الدنيا .

إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)

قوله تعالى : { إِنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء } هذا مثل ضربه الله للدنيا الفانية ، فشببها بمطر نزل من السماء { فاختلط به نبات الأرض } يعني التفّ النبات بالمطر ، وكثر { مما يأكل الناس } من الحبوب وغيرها { والأنعام } من المرعى . { حتى إِذا أخذت الأرض زخرفها } قال ابن قتيبة : زينتها بالنبات . وأصل الزخرف : الذهب ، ثم يقال للنقش والنَّوْر والزَّهر وكل شيء زُيِّن : زخرف . وقال الزجاج : الزخرف : كمال حسن الشيء .
قوله تعالى : { وازَّيَّنَتْ } قرأه الجمهور «وازينت» بالتشديد . وقرأ سعد ابن أبي وقاص ، وأبو عبد الرحمن ، والحسن ، وابن يعمر : بفتح الهمزة وقطعها ساكنة الزاي ، على وزن : وَأَفْعَلَتْ . قال الزجاج : من قرأ «وازَّيَّنَتْ» بالتشديد ، فالمعنى : وتزينت ، فأدغمت التاء في الزاي ، وأسكنت الزاي فاجتلبت لها ألف الوصل؛ ومن قرأ «وأزْينت» بالتخفيف على أفعلت ، فالمعنى : جاءت بالزينة . وقرأ أُبَيٌّ ، وابن مسعود : «وتزيَّنَتْ»
قوله تعالى : { وظن أهلها } أي : أيقن أهل الأرض { أنهم قادرون عليها } أي : على ما أنبتته ، فأخبر عن الأرض ، والمراد النبات ، لأن المعنى مفهوم . { أتاها أمرنا } أي : قضاؤنا بإهلاكها { فجعلناها حصيداً } أي : محصوداً لا شيء فيها . والحصيد : المقطوع المستأصَل . { كأن لم تَغْنَ بالأمس } قال الزجاج : لم تعمر . والمغاني : المنازل التي يعمُرها الناس بالنزول فيها . يقال : غَنينا بالمكان : إِذا نزلوا به . وقرأ الحسن : «كأن لم يَغْنَ» بالياء ، يعني الحصيد . قال بعض المفسرين : تأويل الآية : أن الحياة في الدنيا سبب لاجتماع المال وما يروق من زهرة الدنيا ويعجب ، حتى إِذا استتم ذلك عند صاحبه ، وظن أنه ممتَّع بذلك ، سلب عنه بموته ، أو بحادثة تهلكه ، كما أن الماء سبب لالتفاف النبات وكثرته ، فإذا تزيَّنت به الأرض ، وظن الناس أنهم مستمتعون بذلك ، أهلكه الله ، فعاد ما كان فيها كأن لم يكن .

وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)

قوله تعالى : { والله يدعو إِلى دار السلام } يعني الجنة . وقد ذكرنا معنى تسميتها بذلك عند قوله : { لهم دار السلام عند ربهم } [ الأنعام : 127 ] . واعلم أن الله عمَّ بالدعوة ، وخصَّ بالهداية من شاء ، لأن الحكم له في خلقه .
وفي المراد بالصراط المستقيم أربعة أقوال :
أحدها : كتاب الله ، رواه عليٌّ عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والثاني : الإِسلام ، رواه النَّوَّاس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والثالث : الحق ، قاله مجاهد ، وقتادة .
والرابع : المُخرِج من الضلالات والشُّبَه ، قاله أبو العالية .
قوله تعالى : { للذين أحسنوا } قال ابن عباس : قالوا : لا إِله إِلا الله . قال ابن الأنباري : الحسنى : كلمة مستغنى عن وصفها ونعتها ، لأن العرب توقعها على الخَلَّة المحبوبة المرغوب فيها المفروح بها ، فكان الذي تعلمه العرب من أمرها يغني عن نعتها ، فكذلك المزيد عليها محمول على معناها ومتعرَّف من جهتها ، يدل على هذا قول امرىء القيس :
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت ... هَصَرْتُ بغصنٍ ذي شماريخَ مَيَّالِ
فَصِرْنَا إِلى الحُسْنَى وَرَقَّ كَلامُنَا ... ورُضْتُ فذلَّت صَعْبَةً أيَّ إِذلالِ
أي : إِلى الأمر المحبوب . وهصرتُ بمعنى مددت . والغصن كناية عن المرأة . والباء مؤكدة للكلام ، كما تقول العرب : ألقى بيده إِلى الهلاك ، يريدون : ألقى يده . والشماريخ كناية عن الذوائب . ورضت ، معناه : أذللت . ومن أجل هذا قال : أي إِذلال ، ولم يقل : أي رياضة .
وللمفسرين في المراد بالحسنى خمسة أقوال :
أحدها : أنها الجنة ، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبه قال الأكثرون .
والثاني : أنها الواحدة من الحسنات بواحدة ، قاله ابن عباس .
والثالث : النصرة ، قاله عبد الرحمن بن سابط .
والرابع : الجزاء في الآخرة ، قاله ابن زيد . والخامس : الأمنية ، ذكره ابن الأنباري . وفي الزيادة ستة أقوال :
أحدها : أنها النظر إِلى الله عز وجل . روى مسلم في «صحيحه» من حديث صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الزيادة : النظر إلى وجه الله عز وجل " وبهذا القول قال أبو بكر الصديق ، وأبو موسى الأشعري ، وحذيفة ، وابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، والسدي ، ومقاتل .
والثاني : أن الزيادة : غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب ، رواه الحكم عن عليّ ، ولا يصح .
والثالث : أن الزيادة : مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها ، قاله ابن عباس ، والحسن .
والرابع : أن الزيادة : مغفرة ورضوان ، قاله مجاهد .
والخامس : أن الزيادة : أن ما أعطاهم في الدنيا لا يحاسبهم به في القيامة ، قاله ابن زيد .
والسادس : أن الزيادة : ما يشتهونه ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { ولا يرهق } أي : لا يغشى { وجوهَهُم قَتَرٌ } وقرأ الحسن ، وقتادة ، والأعمش : «قَتْر» باسكان التاء ، وفيه أربعة أقوال .
أحدها : أنه السواد . قال ابن عباس : سواد الوجوه من الكآبة . وقال الزجاج : القتر : الغبرة التي معها سواد .
والثاني : أنه دخان جهنم ، قاله عطاء .
والثالث : الخزي ، قاله مجاهد .
والرابع : الغبار ، قاله أبو عبيدة .
وفي الذلة قولان :
أحدهما : الكآبة ، قاله ابن عباس .
والثاني : الهوان ، قاله أبو سليمان .

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)

قوله تعالى : { والذين كسبوا السيئات } قال ابن عباس : عملوا الشرك . { جزاءُ سيِّئةٍ بمثلها } في الآية محذوف ، وفي تقديره قولان :
أحدهما : أن فيها إضمار «لهم» ، المعنى : لهم جزاءُ سيئة بمثلها ، وأنشد ثعلب :
فإنْ سَأَل الوَاشُونَ عَنْه فَقُلْ لَهُم ... وَذَاكَ عَطَاءُ لِلوشَاةِ جَزِيْلُ
مُلِمٌّ بِلَيْلَى لمَّةً ثُمَّ إِنَّه ... لَهَاجِرُ لَيْلَى بَعْدَهَا فَمُطِيْلُ
أراد : هو مُلَمٌّ ، وهذا قول الفراء .
والثاني : أن فيها إِضمار «منهم» المعنى : جزاء سيئة منهم بمثلها ، تقول العرب : رأيت القوم صائم وقائم ، أي : منهم صائم وقائم ، أنشد الفراء :
حتَّى إِذَا مَا أَضَاءَ الصُّبْحُ في غَلَسٍ ... وَغُودِرَ البَقْل مَلْوِيٌ وَمَحْصُودُ
أي : منه ملوي ، وهذا قول ابن الأنباري . وقال بعضهم : الباء زائدة هاهنا ، و «من» في قوله : { من عاصم } صلة ، والعاصم : المانع . { كأنما أغشيت وجوههم } أي : أُلبست { قطعاً } قرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وحمزة : «قِطَعَاً» مفتوحة الطاء ، وهي جمع قطعة . وقرأ ابن كثير ، والكسائي ، ويعقوب : «قِطْعاً» بتسكين الطاء ، قال ابن قتيبة : وهو اسم ما قُطع . قال ابن جرير : وإِنما قال : «مُظلماً» ولم يقل : «مُظلمة» لأن المعنى : قطعاً من الليل المظلم ، ثم حذفت الألف واللام من «المظلم» ، فلما صار نكرة ، وهو من نعت الليل ، نُصب على القَطْعِ؛ وقوم يسمُّون ما كان كذلك حالاً ، وقوم قطعاً .

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)

قوله تعالى : { ويوم نحشرهم جميعاً } قال ابن عباس : يُجمع الكفار وآلهتهم . { ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم } أي : آلهتكم . قال الزجاج : «مكانكم» منصوب على الأمر ، كأنهم قيل لهم : انتظروا مكانكم حتى نفصل بينكم ، والعرب تتوعَّد فتقول : مكانك ، أي : انتظر مكانك ، فهي كلمة جرت على الوعيد .
قوله تعالى : { فزيَّلنا بينهم } وقرأ ابن أبي عبلة : «فزايلنا» بألف ، قال ابن عباس : فرَّقنا بينهم وبين آلهتهم . وقال ابن قتيبة : هو من زال يزول وأزلته . وقال ابن جرير : إِنما قال «فزيلنا» ولم يقل : «فزلنا» لإرادة تكرير الفعل وتكثيره .
فإن قيل : «كيف تقع الفرقة بينهم وهم معهم في النار ، لقوله : { إِنكم وما تعبدون من دون الله حَصَب جهنم } [ الأنبياء : 98 ] ؟
فالجواب : أن الفرقة وقعت بتبّري كل معبود ممن عبده ، وهو قوله : { وقال شركاؤهم } ، قال ابن عباس : آلهتهم ، يُنْطِق الله الأوثان ، فتقول : { ماكنتم إِيانا تعبدون } أي : لا نعلم بعبادتكم لنا ، لأنه ما كان فينا روح ، فيقول العابدون : بلى قد عبدناكم ، فتقول الآلهة : { فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إِن كنا عن عبادتكم لغافلين } لا نعلم بها . قال الزجاج : { إِن كنا } معناه : ما كنا إِلا غافلين .
فإن قيل : ما وجه دخول الباء في قوله : { فكفى بالله شهيداً } ؟
فعنه جوابان .
أحدهما : أنها دخلت للمبالغة في المدح كما قالوا : أَظْرِفْ بعبد الله ، وأنبل بعبد الرحمن ، وناهيك بأخينا ، وحسبك بصديقنا ، هذا قول الفراء وأصحابه .
والثاني : أنها دخلت توكيداً للكلام ، إِذ سقوطها ممكن ، كما يقال : خذ بالخطام ، وخذ الخطام ، قاله ابن الأنباري .

هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)

قوله تعالى : { هنالك تبلو } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «تبلو» بالباء . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، وزيد عن يعقوب : «تتلو» بالتاء . قال الزجاج : «هنالك» ظرف ، والمعنى : في ذلك الوقت تبلو ، وهو منصوب بتبلو ، إِلا أنه غير متمكِّن ، واللام زائدة ، والأصل : هناك ، وكسرت اللام لسكونها وسكون الألف ، والكاف للمخاطبة . و«تبلو» تختبر ، أي : تعلم . ومن قرأ «تتلو» بتاءين ، فقد فسرها الأخفش وغيره : تتلو من التلاوة ، أي : تقرأ . وفسروه أيضاً : تتبع كل نفس ما أسلفت . ومثله قول الشاعر :
قد جعلتْ دلويَ تَسْتَتْلِيني ... ولا أُريدُ تَبَعَ القريْنِ
أي : تستتبعني ، أي : من ثقلها تستدعي اتباعي إِياها .
قوله تعالى : { ورُدّوا } أي : في الآخرة { إلى الله مولاهم الحق } الذي يملك أمرهم حقاً ، لا مَن جعلوا معه من الشركاء . { وضل عنهم } أي : زال وبطل { ما كانوا يفترون } من الآلهة .

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)

قوله تعالى : { قل مَنْ يرزقكم من السماء } المطر ، ومن الأرض النبات ، { أم من يملك السمع } أي : خَلْق السمع والأبصار . وقد سبق معنى إِخراج الحي من الميت ، والميت من الحي [ آل عمران : 27 ] .
قوله تعالى : { ومن يدبِّر الأمرَ } أي : أمر الدنيا والآخرة { فسيقولون الله } لأنهم خوطبوا بما لا يقدر عليه إِلا الله ، فكان في ذلك دليل توحيده .
وفي قوله : { أفلا تتقون } قولان :
أحدهما : أفلا تتَّعظون ، قاله ابن عباس .
والثاني : تتقون الشرك ، قاله مقاتل .

فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)

قوله تعالى : { فذلكم الله ربكم الحق } قال الخطابي : الحق هو المتحقق وجوده ، وكل شيء صح وجوده وكونه ، فهو حق .
قوله تعالى : { فأنَّى تُصْرَفون } قال ابن عباس : كيف تصرف عقولكم إِلى عبادة من لا يرزق ولا يحيى ولا يميت؟

كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)

قوله تعالى : { كذلك حَقَّتْ كلمة ربك } قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : «كلمةُ ربك» ، وفي آخر السورة كذلك . وقرأ نافع ، وابن عامر الحرفين «كلماتُ» على الجمع .
قال الزجاج : الكاف في موضع نصب ، أي : مِثْل أفعالهم جازاهم ربك ، والمعنى : حق عليهم أنهم لا يؤمنون ، وقوله : { أنهم لا يؤمنون } بدل من { كلمة ربك } . وجائز أن تكون الكلمة حقت عليهم لأنهم لا يؤمنون ، وتكون الكلمة ما وُعدوا به من العقاب .
وذكر ابن الأنباري في { كذلك } قولين :
أحدهما : أنها إشارة إلى مصدر «تُصرفون» ، والمعنى : مثل ذلك الصرف حقت كلمة ربك .
والثاني : أنه بمعنى هكذا .
وفي معنى «حقت» قولان :
أحدهما : وجبت .
والثاني : سبقت .
وفي كلمته قولان :
أحدهما : أنها بمعنى وعده .
والثاني : بمعنى قضائه . ومن قرأ «كلماتُ» جعل كل واحدة من الكلم التي توعِّدْوا بها كلمة . وقد شرحنا معنى الكلمة في [ الأعراف : 137 و 158 ] .
قوله تعالى : { قل الله يهدي للحق } أي : إِلى الحق .
قوله تعالى : { أم من لا يَهِدِّي } قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وورش عن نافع : «يَهَدِّي» بفتح الياء والهاء وتشديد الدال . قال الزجاج : الأصل يهتدي ، فأدغمت التاء في الدال ، فطرحت فتحتها على الهاء . وقرأ نافع إِلا ورشاً ، وأبو عمرو : «يَهْدِّي» بفتح الياء وإِسكان الهاء وتشديد الدال ، غير أن أبا عمرو كان يُشِم الهاء شيئاً من الفتح . وقرأ حمزة ، والكسائي : «يَهْدي» بفتح الياء وسكون الهاء وتخفيف الدال . قال أبو علي : والمعنى : لا يهدي غيرَه إِلا أن يُهدَى هو ، ولو هُدي الصُّمُّ لم يهتد ، ولكن لما جعلوها كمن يعقل ، أجريت مجراه . وروى يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم : «يِهِدِّي» بكسر الياء والهاء وتشديد الدال ، وكذلك روى أبان وجبلة عن المفضل وعبد الوارث ، قال الزجاج : أتبعوا الكسرة الكسرة ، وهي رديئة لثقل الكسرة في الياء . وروى حفص عن عاصم ، والكسائي عن أبي بكر عنه : «يَهِدِّي» بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال ، قال الزجاج : وهذه في الجودة كالمفتوحة الهاء ، إِلا أن الهاء كُسرت لالتقاء الساكنين . وقرأ ابن السميفع : «يهتدي» بزيادة تاء . والمراد بقوله : { أم من لا يهدِّي } الصم { إِلا أن يُهدى } . وظاهر الكلام يدل على أن الأصنام إِن هديت اهتدت ، وليست كذلك ، لأنها حجارة لا تهتدي ، إِلا أنهم لما اتخذوها آلهة ، عبِّر عنها كما يعبَّر عمن يعقل ، ووصفت صفةَ مَن يعقل وإِن لم تكن في الحقيقة كذلك؛ ولهذا المعنى قال في صفتها : { أمَّن } لأنهم جعلوها كمن يعقل . ولما أعطاها حقها في أصل وضعها ، قال : { يا أبتِ لم تعبدُ مالا يسمع } [ مريم : 42 ] . وقال الفراء : { أمّن لا يهدي } أي : أتعبدون مالا يقدر أن ينتقل من مكانه إِلا أن يحوَّل؟ وقد صرف بعضهم الكلام إِلى الرؤساء والمضلِّين ، والأول أصح .
قوله تعالى : { فما لكم } قال الزجاج : هو كلام تام ، كأنه قيل لهم : أيُّ شيء لكم في عبادة الأوثان؟ ثم قيل لهم : { كيف تحكمون } أي : على أي حال تحكمون؟ وقال ابن عباس : كيف تقضون لأنفسكم؟ وقال مقاتل : كيف تقضون بالجَوْر؟

وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)

قوله تعالى : { وما يتَّبع أكثرهم } أي : كلهم { إِلا ظناً } أي : ما يستيقنون أَنها آلهة ، بل يظنون شيئاً فيتَّبعونه . { إِن الظن لا يغني من الحق شيئاً } أي : ليس هو كاليقين ، ولا يقوم مقام الحق وقال مقاتل : ظنهم بأنها آلهة لا يدفع عنهم من العذاب شيئاً ، وقال غيره : ظنهم أنها تشفع لهم لا يغني عنهم .

وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)

قوله تعالى : { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله } قال الزجاج : هذا جواب قولهم : { ائت بقرآنٍ غيرِ هذا أو بدِّلْهُ } [ يونس : 15 ] وجواب قولهم :
{ افتراه } [ الفرقان : 4 ] . قال الفراء : ومعنى الآية : ما ينبغي لمثل هذا القرآن أن يفترى من دون الله ، فجاءت «أن» على معنى ينبغي . وقال ابن الأنباري : يجوز أن تكون «أن» مع «يفترى» مصدراً ، وتقديره : وما كان هذا القرآن افتراءً . ويجوز أن تكون «كان» تامة ، فيكون المعنى : ما نزل هذا القرآن ، وما ظهر هذا القرآن لأن يفترى ، وبأن يفترى ، فتُنْصَب «أن» بفقد الخافض في قول الفراء ، وتخفض بإضمار الخافض في قول الكسائي . وقال ابن قتيبة : معنى { أن يفترى } أي : يضاف إِلى غير الله ، أو يُختَلق .
قوله تعالى : { ولكن تصديقَ الذي بين يديه } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه تصديق الكتب المتقدمة ، قاله ابن عباس . فعلى هذا ، إِنما قال : { الذي } لأنه يريد الوحي .
والثاني : ما بين يديه من البعث والنشور ، ذكره الزجاج .
والثالث : تصديق النبي صلى الله عليه وسلم الذي بين يدي القرآن ، لأنهم شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وعرفوه قبل سماعهم القرآن ، ذكره ابن الأنباري :
قوله تعالى : { وتفصيل الكتاب } أي : وبيان الكتاب الذي كتبه الله على أُمة محمد صلى الله عليه وسلم الفرائض التي فرضها عليهم .

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)

قوله تعالى : { أم يقولون افتراه } في «أم» قولان : أحدهما : أنها بمعنى الواو ، قاله أبو عبيدة .
والثاني : بمعنى بل ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { فأتوا بسورةٍ مثلِهِ } قال الزجاج : المعنى : فأتوا بسورة مثلِ سورة منه ، فذكر المِثْلَ لأنه إِنما التمس شبه الجنس ، { وَادْعُوا مَنِ اسْتطعتم } ممن هو في التكذيب مثلكم { إِن كنتم صادقين } أنه اختلقه .

بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)

قوله تعالى : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه } فيه قولان :
أحدهما : أن المعنى : بما لم يحيطوا بعلم ما فيه ذِكْر الجنة والنار والبعث والجزاء .
والثاني : بما لم يحيطوا بعلم التكذيب به ، لأنهم شاكّون فيه .
وفي قوله : { ولمَّا يأتهم تأويله } قولان :
أحدهما : تصديق ما وُعدوا به من الوعيد . والتأويل : ما يؤول إِليه الأمر .
والثاني : ولم يكن معهم عِلم تأويله ، قاله الزجاج .
قيل لسفيان بن عيينة : يقول الناس : كل إِنسان عدوُّ ما جهل ، فقال : هذا في كتاب الله . قيل : أين؟ فقال : { بل كذَّبوا بما لم يحيطوا بعلمه } .
وقيل للحسين بن الفضل : هل تجد في القرآن : من جهل شيئاً عاداه؟ فقال : نعم ، في موضعين . قوله : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه } وقوله : { إِذْ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إِفك قديم } [ الأحقاف : 11 ] .

وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)

قوله تعالى : { ومنهم من يؤمن به } في المشار إِليهم قولان :
أحدهما . أنهم اليهود ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : قريش ، قاله مقاتل بن سليمان .
وفي هاء «به» قولان :
أحدهما : أنها ترجع إِلى محمد صلى الله عليه وسلم ودينه ، قاله مقاتل .
والثاني : إِلى القرآن ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
وهذه الآية تضمنت الإِخبار عما سبق في علم الله ، فالمعنى : ومنهم مَنْ سيؤمن به . وقال الزجاج : منهم من يعلم أنه حق فيصدِّق به ويعاند فيظهر الكفر . { ومنهم من لا يؤمن به } أي : يشكُّ ولا يصدِّق .
قوله تعالى : { وربك أعلم بالمفسدين } قال عطاء : يريد المكذبين ، وهذا تهديد لهم .

وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)

قوله تعالى : { وإِن كذبوك فقل لي عملي . . . } الآية . قال أبو صالح عن ابن عباس : نسختها آية السيف؛ وليس هذا بصحيح ، لأنه لا تنافي بين الآيتين .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)

قوله تعالى : { ومنهم من يستمعون إِليك } اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :
أحدها : في يهود المدينة ، كانوا يأتون رسول الله ويستمعون القرآن فيعجبون ويشتهونه ويغلب عليهم الشقاء ، فنزلت هذه الآية .
والثاني : أنها نزلت في المستهزئين ، كانوا يستمعون إِلى النبي صلى الله عليه وسلم للاستهزاء والتكذيب ، فلم ينتفعوا ، فنزلت فيهم هذه الآية ، والقولان مرويَّان عن ابن عباس .
والثالث : أنها نزلت في مشركي قريش؛ قاله مقاتل . قال الزجاج : ظاهرهم ظاهر من يستمع ، وهم لشدة عداوتهم بمنزلة الصم . { ولو كانوا لا يعقلون } أي : ولو كانوا مع ذلك جهالاً . وقال ابن عباس : يريد أنهم شرٌّ من الصم ، لأن الصم لهم عقول وقلوب ، وهؤلاء قد أصم الله قلوبهم .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)

قوله تعالى : { ومنهم من ينظر إليك } قال ابن عباس؛ يريد : متعجبين منك . { أفأنت تهدي العمي } يريد أن الله أعمى قلوبهم فلا يبصرون . وقال الزجاج : ومنهم من يُقبل عليك بالنظر ، وهو من بغضه لك وكراهته لما يرى من آياتك كالأعمى . وقال ابن جرير : ومنهم من يستمع قولك وينظر إلى حججك على نُبُوَّتك ، ولكن الله قد سلبه التوفيق . وقال مقاتل : و«لو» في الآيتين بمعنى «إذا» .

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)

قوله تعالى : { إِن الله لا يظلم الناس شيئاً } لما ذكر الذين سبق القضاء عليهم بالشقاوة ، أخبر أن تقدير ذلك عليهم ليس بظلم ، لأنه يتصرف في ملكه كيف شاء ، وهم إِذا كسبوا المعاصي فقد ظلموا أنفسهم بذلك ، لأن الفعل منسوب إِليهم ، وإِن كان بقضاء الله .
قوله تعالى : { ولكنَّ الناس } قرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : «ولكنِ الناسُ» بتخفيف النون وكسرها ، ورفع الاسم بعدها .

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)

قوله تعالى : { ويوم نحشرهم } وقرأ حمزة : «يحشرهم» بالياء . قال أبو سليمان الدمشقي : هم المشركون .
قوله تعالى : { كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار } فيه قولان :
أحدهما : كأن لم يلبثوا في قبورهم ، قاله ابن عباس .
والثاني : في الدنيا ، قاله مقاتل . قال الضحاك : قصر عندهم مقدار الوقت الذي بين موتهم وبعثهم ، فصار كالساعة من النهار ، لهول ما استقبلوا من القيامة .
قوله تعالى : { يتعارفون بينهم } قال ابن عباس : إِذا بعثوا من القبور تعارفوا ، ثم تنقطع المعرفة . قال الزجاج : وفي معرفة بعضهم بعضاً ، وعِلم بعضهم بإضلال بعض ، التوبيخُ لهم ، وإِثباتُ الحجة عليهم . وقيل : إِذا تعارفوا وبَّخ بعضهم بعضاً ، فيقول هذا لهذا : أنت أضللتني ، وكسَّبتني دخول النار .
قوله تعالى : { قد خسر الذين كذَّبوا } هو من قول الله تعالى ، لا مِن قولهم ، والمعنى : خسروا ثواب الجنة إِذْ كذَّبوا بالبعث { وما كانوا مهتدين } من الضلالة .

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)

قوله تعالى : { وإِمّا نرينَّك بعض الذي نَعِدُهُمْ } قال المفسرون : كانت وقعة بدر مما أراه الله في حياته من عذابهم . { أو نتوفينَّك } قبل أن نريَك { فإلينا مرجعهم } بعد الموت ، والمعنى : إِن لم ننتقم منهم عاجلاً ، انتقمنا آجلاً .
قوله تعالى : { ثم الله شهيد على ما يفعلون } من الكفر والتكذيب . قال الفراء : «ثم» هاهنا عطف ، ولو قيل : معناها : هناك الله شهيد ، كان جائزاً . وقال غيره : «ثم» هاهنا بمعنى الواو . وقرأ ابن أبي عبلة : «ثَمَّ الله شهيد» بفتح الثاء ، يراد به : هنالك الله شهيد .
قوله تعالى : { فإذا جاء رسولهم قضي بينهم } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : إِذا جاء في الدنيا بعد الإِذن له في دعائهم ، قضي بينهم بتعجيل الانتقام منهم ، قاله الحسن . وقال غيره : إِذا جاءهم في الدنيا ، حُكم عليهم عند اتباعه وخلافه بالطاعة والمعصية .
والثاني : إِذا جاء يوم القيامة ، قاله مجاهد . وقال غيره : إِذا جاء شاهداً عليهم .
والثالث : إِذا جاء في القيامة وقد كذَّبوه في الدنيا ، قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { قضي بينهم بالقسط } فيه قولان :
أحدهما : بين الأمَّة ، فأثيب المحسن وعوقب المسيء .
والثاني : بينهم وبين نبيهم .

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)

قوله تعالى : { ويقولون متى هذا الوعد } في القائلين هذا قولان :
أحدهما : الأمم المتقدمة ، أخبر عنهم باستعجال العذاب لأنبيائهم ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنهم المشركون الذين أنذرهم نبينا صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو سليمان .
وفي المراد بالوعد قولان :
أحدهما : العذاب ، قاله ابن عباس .
والثاني : قيام الساعة . { إِن كنتم صادقين } أنت وأتباعك .

قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)

قوله تعالى : { قل لا أملك لنفسي ضراً . . . } الآية ، قد ذكرت تفسيرها في آيتين من ( الأعراف 34 و 188 ) .
قوله تعالى : { إن أتاكم عذابه بياتاً } قال الزجاج : البيات : كل ما كان بليل . وقوله : { ماذا } في موضع رفع من جهتين . إِحداهما : أن يكون «ذا» بمعنى الذي ، المعنى : ما الذي يستعجل منه المجرمون؟ ويجوز أن يكون «ماذا» اسماً واحداً ، فيكون المعنى : أي شيء يستعجل منه المجرمون؟ والهاء في «منه» تعود على العذاب . وجائز أن تعود على ذكر الله تعالى ، فيكون المعنى : أي شيء يستعجل المجرمون من الله تعالى؟ وعودها على العذاب أجود ، لقوله : { أثم إِذا ما وقع آمنتم به } . وذكر بعض المفسرين أن المراد بالمجرمين : المشركون ، وكانوا يقولون : نكذب بالعذاب ونستعجله ، ثم إِذا وقع العذاب آمنا به؛ فقال الله تعالى موبِّخاً لهم : { أثمَّ إِذا ما وقع آمنتم به } أي : هنالك تؤمنون فلا يُقبل منكم الإِيمان ، ويقال لكم : الآن تؤمنون؟ فأضمر : تؤمنون به مع { آلآن وقد كنتم به تستعجلون } مستهزئين ، وهو قوله : { ثم قيل للذين ظلموا } أي : كفروا ، عند نزول العذاب { ذوقوا عذاب الخلد } ، لأنه إِذا نزل بهم العذاب ، أفضوا منه إِلى عذاب الآخرة الدائم .

وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)

قوله تعالى : { ويستنبؤنك } أي : ويستخبرونك . { أحق هو } يعنون البعث والعذاب . { قل إِي } المعنى : نعم { وربي } ، وفتح هذه الياء نافع ، وأبو عمرو . وإِنما أقسم مع إِخباره تأكيداً . وقال ابن قتيبة : «إِي» بمعنى «بل» ولا تأتي إِلا قبل اليمين صلة لها .
قوله تعالى : { وما أنتم بمعجزين } قال ابن عباس : بسابقين . وقال الزجاج : لستم ممن يُعجز أن يجازى على كفره .

وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)

قوله تعالى : { ولو أن لكل نفس ظلمت } قال ابن عباس : أشركَتْ . { ما في الأرض لافتدت به } عند نزول العذاب . { وأسرُّوا النَّدَامةَ } يعني : الرؤساء أخفوها من الأتباع . { وقُضِيَ بينهم } أي : بين الفريقين . وقال آخرون منهم أبو عبيدة والمفضل : «أسرُّوا الندامة» بمعنى أظهروا ، لأنه ليس بيوم تَصَنُّعٍ ولا تصبُّرٍ ، والإِسرار من الأضداد؛ يقال : أسررت الشيء ، بمعنى : أخفيته . وأسررته : أظهرته ، قال الفرزدق :
ولما رأى الحجَّاجَ جرَّد سيفَه ... أسرَّ الحروريُّ الذي كان أضمرا
يعني : أظهر . فعلى هذا القول : أظهروا الندامة عند إِحراق النار لهم ، لأن النار ألهتهم عن التصنع والكتمان . وعلى الأول : كتموها قبل إِحراق النار إِياهم .
قوله تعالى : { ألا إِن وعد الله حق } قال ابن عباس : ما وعد أولياءه من الثواب ، وأعداءه من العقاب . { ولكن أكثرهم } يعني المشركين { لا يعلمون }

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)

قوله تعالى : { يا أيها الناس } قال ابن عباس : يعني قريشاً . { قد جاءتكم موعظةٌ } يعني القرآن . { وشفاءٌ لما في الصدور } أي : دواء لداء الجهل . { وهدىً } أي : بيان من الضلالة .

قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)

قوله تعالى : { قل بفضل الله وبرحمته } فيه ثمانية أقوال :
أحدها : أن فضل الله : الإِسلام ، ورحمته : القرآن ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، وهلال بن يساف . وروي عن الحسن ، ومجاهد في بعض الرواية عنهما ، وهو اختيار ابن قتيبة .
والثاني : أن فضل الله : القرآن ، ورحمته : أن جعلهم من أهل القرآن ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال أبو سعيد الخدري ، والحسن في رواية .
والثالث : أن فضل الله : العلم ، ورحمته : محمد صلى الله عليه وسلم ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والرابع : أن فضل الله : الإِسلام ، ورحمته : تزيينه في القلوب ، قاله ابن عمر .
والخامس : أن فضل الله : القرآن ، ورحمته : الإِسلام ، قاله الضحاك ، وزيد بن أسلم ، وابنه ، ومقاتل .
والسادس : أن فضل الله ورحمته : القرآن ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ، واختاره الزجاج .
والسابع : أن فضل الله : القرآن ، ورحمته : السُّنَّة ، قاله خالد بن معدان .
والثامن : فضل الله ، التوفيق ، ورحمته : العصمة ، قاله ابن عيينة .
قوله تعالى : { فبذلك فليفرحوا } وقرأ أُبَيُّ بن كعب ، وأبو مجلز ، وقتادة ، وأبو العالية ، ورويس عن يعقوب : «فلتفرحوا» بالتاء . وقرأ الحسن ، ومعاذ القارىء ، وأبو المتوكل مثل ذلك ، إِلا أنهم كسروا اللام . وقرأ ابن مسعود ، وأبو عمران : «فبذلك فافرحوا» . قال ابن عباس : بذلك الفضل والرحمة . { هو خير مما يجمعون } أي : مما يجمع الكفار من الأموال . وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر ، ورويس : «تجمعون» بالتاء . وحكى ابن الأنباري أن الباء في قوله : { بفضل الله } خبر لاسم مضمر ، تأويله : هذا الشفاء وهذه الموعظة بفضل الله ورحمته ، فبذلك التطوّل من الله فليفرحوا .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)

قوله تعالى : { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق } قال المفسرون : هذا خطاب لكفار قريش ، كانوا يحرِّمون ما شاؤوا ، ويُحلُّون ما شاؤوا . و { أنزل } بمعنى خلق . وقد شرحنا بعض مذاهبهم فيما كانوا يفعلون من البحيرة والسائبة وغير ذلك في [ المائدة : 103 ] و [ الأنعام : 139 ] .
قوله تعالى : { قل آلله أذن لكم } أي : في هذا التحليل والتحريم .

وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)

قوله تعالى : { وما ظن الذين يفترون على الله الكذب } في الكلام محذوف ، تقديره : ما ظنهم أن الله فاعل بهم يوم القيامة بكذبهم ، { إن الله لذو فضل على الناس } حين لم يعجِّل عليهم بالعقوبة { ولكن أكثرهم لا يشكرون } تأخير العذاب عنهم .

وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)

قوله تعالى : { وما تكون في شأن } أي : في عمل من الأعمال ، وجمعه : شؤون . { وما تتلو منه } في هاء الكناية قولان :
أحدهما : أنها تعود إِلى الشأن . قال الزجاج : معنى الآية : أي وقت تكون في شأن من عبادة الله ، وما تلوت من الشأن من قرآن .
والثاني : أنها تعود إِلى الله تعالى ، فالمعنى : وما تلوت مِنَ الله ، أي : من نازل منه من قرآن ، ذكره جماعة من العلماء . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأمته داخلون فيه ، بدليل قوله : { ولا تعملون من عمل } قال ابن الأنباري : جمع في هذا ، ليدل على أنهم داخلون في الفعلين الأوَّلين .
قوله تعالى : { إِذ تُفيضون فيه } الهاء عائدة على العمل . قال ابن قتيبة : تفيضون بمعنى تأخذون فيه . وقال الزجاج : تنتشرون فيه ، يقال : أفاض القوم في الحديث : إِذا انتشروا فيه وخاضوا . { وما يعزب } معناه : وما يبعد . وقال ابن قتيبة : ما يبعد ولا يغيب . وقرأ الكسائي «يعزِب» بكسر الزاي هاهنا وفي [ سبأ : 3 ] . وقد بيّنا «مثقال ذرة» في سورة [ النساء : 40 ] .
قوله تعالى : { ولا أصغر من ذلك ولا أكبر } قرأ الجمهور بفتح الراء فيهما . وقرأ حمزة ، وخلف ، ويعقوب ، برفع الراء فيهما . قال الزجاج : مَنْ قرأ بالفتح ، فالمعنى : وما يعزب عن ربك من مثقال ذرَّةٍ ، ولا مثقالَ أصغرَ من ذلك ولا أكبر ، والموضع موضع خفض ، إِلا أنه فُتح لأنه لا ينصرف . ومن رفع ، فالمعنى : وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ولا أصغر ولا أكبر . ويجوز رفعه على الابتداء ، فيكون المعنى : ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، { إِلا في كتاب مبين } قال ابن عباس : هو اللوح المحفوظ .

أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)

قوله تعالى : { ألا إِن أولياء الله } روى ابن عباس " أن رجلاً قال : يا رسول الله ، مَن أولياء الله؟ قال «الذين إِذا رُؤوا ذُكر الله» " وروى عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم أنه قال : " «إِنَّ من عباد الله لأناساً ماهم بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله عز وجل» قالوا : يا رسول الله ، مَنْ هم ، وما أعمالهم لعلنا نحبُّهم؟ قال «هم قوم تحابّوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطَونها ، فوالله إِن وجوههم لنور ، وإِنهم لعلى منابر من نور ، لا يخافون إِذا خاف الناس» ، ثم قرأ { ألا إِن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } " . قوله تعالى : { لهم البشرى في الحياة الدنيا } فيها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح ، أو تُرى له ، رواه عبادة ابن الصامت ، وأبو الدرداء ، وجابر بن عبد الله ، وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أنها بشارة الملائكة لهم عند الموت ، قاله الضحاك ، وقتادة ، والزهري .
والثالث : أنها ما بشر الله به في كتابه من جنته وثوابه ، كقوله : { وبشر الذين آمنوا } [ البقرة 25 ] ، { وأبشروا بالجنة } [ فصلت 30 ] ، { يبشِّرهم ربُّهم } [ التوبة 21 ] ، وهذا قول الحسن ، واختاره الفراء ، والزجاج ، واستدلا بقوله : { لا تبديل لكلمات الله } . قال ابن عباس : لا خُلف لمواعيده ، وذلك أن مواعيده بكلماته ، فإذا لم تبدَّل الكلمات ، لم تبدَّل المواعيد .
فأما بشراهم في الآخرة ، ففيها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها الجنة ، رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، واختارة ابن قتيبة .
والثاني : أنه عند خروج الروح تبشَّر برضوان الله ، قاله ابن عباس .
والثالث : أنها عند الخروج من قبورهم ، قاله مقاتل .

وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)

قوله تعالى : { ولا يحزنك قولهم } قال ابن عباس : تكذيبهم . وقال غيره : تظاهرهم عليك بالعداوة وإِنكارهم وأذاهم . وتم الكلام هاهنا . ثم ابتدأ فقال : { إِنَّ العزَّة لله جميعاً } أي : الغلبة له ، فهو ناصرك وناصر دينك ، { هو السميع } لقولهم { العليم } بإضمارهم ، فيجازيهم على ذلك .

أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)

قوله تعالى : { ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض } قال الزجاج : «ألا» افتتاح كلام وتنبيه ، أي : فالذي هم له ، يفعل فيهم وبهم ما يشاء .
قوله تعالى : { وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء } أي : ما يتبعون شركاء على الحقيقة ، لأنهم يعدُّونها شركاء لله شفعاء لهم ، وليست على ما يظنون . { إِن يتبعون إِلا الظن } في ذلك { وإِن هم إِلا يخرصون } قال ابن عباس : يكذبون . وقال ابن قتيبة : يحدسون ويحزرون .

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)

قوله تعالى : { هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه } المعنى : إِن ربكم الذي يجب أن تعتقدوا ربوبيته ، هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ، فيزول تعب النهار وكلاله بالسكون في الليل ، وجعل النهار مبصراً ، أي : مضيئاً تبصرون فيه . وإِنما أضاف الإِبصار إِليه ، لأنه قد فهم السامع المقصود ، إِذ النهار لا يبصر ، وإِنما هو ظرف يفعل فيه غيره ، كقوله : { عيشة راضية } [ الحاقة : 21 ] ، إِنما هي مرضية ، وهذا كما يقال : ليل نائم ، قال جرير :
لقد لُمْتِنا يا أمَّ غَيلانَ في السُّرى ... ونمتِ وما ليلُ المطيِّ بنائم
قوله تعالى : { إِن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } سماع اعتبار ، فيعلمون أنه لا يقدر على ذلك إِلا الإِله القادر .

قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)

قوله تعالى : { قالوا اتخذ الله ولداً } قال ابن عباس : يعني أهل مكة ، جعلوا الملائكة بنات الله .
قوله تعالى : { سبحانه } تنزيه له عما قالوا . { هو الغني } عن الزوجة والولد . { إِن عندكم } أي : ما عندكم { من سلطان } أي : حجة بما تقولون .
قوله تعالى : { لا يفلحون } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : لا يبقون في الدنيا .
والثاني : لا يسعدون في العاقبة .
والثالث : لا يفوزون . قال الزجاج : وهذا وقف التمام ، وقوله { متاع في الدنيا } مرفوع على معنى : ذلك متاع في الدنيا .

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)

قوله تعالى : { واتل عليهم نبأ نوح } فيه دليل على نبوَّته ، حيث أخبر عن قصص الأنبياء ولم يكن يقرأ الكتب ، وتحريضٌ على الصبر ، وموعظة لِقومه بذكر قوم نوح وما حلَّ بهم من العقوبة بالتكذيب .
قوله تعالى : { إِن كان كَبُرَ } أي : عَظُم وشَقَّ { عليكم مقامي } أي : طول مكثي . وقرأ أبو مجلز ، وأبو رجاء ، وأبو الجوزاء «مُقامي» برفع الميم . { وتذكيري } وعظي . { فعلى الله توكلت } في نصرتي ودفع شركم عني . { فأجمعوا أمركم } قرأ الجمهور : «فأجمعوا» بالهمز وكسر الميم ، من «أجمعتُ» . وروى الأصمعي عن نافع : «فاجمعوا» بفتح الميم ، مِن «جمعت» . ومعنى «أجمعوا أمركم» : أحكِموا أمركم واعزموا عليه . قال المؤرِّج : «أجمعت الأمر» أفصح من «أجمعت عليه» ، وأنشد :
يا ليتَ شِعري والمنى لا تنفَعُ ... هل أَغْدُوَنْ يوماً وأَمري مُجْمَعُ
فأما رواية الأصمعي ، فقال أبو علي : يجوز أن يكون معناها : اجمعوا ذوي الأمر منكم ، أي : رؤساءكم . ويجوز أن يكون جعل الأمر ما كانوا يجمعونه من كيدهم الذي يكيدون به ، فيكون كقوله : { فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفاً } [ طه : 64 ] .
قوله تعالى : { وشركاءكم } قال الفراء وابن قتيبة : المعنى : وادعوا شركاءكم . وقال الزجاج : الواو هاهنا بمعنى «مع» ، فالمعنى : مع شركائكم . تقول : لو تُركت الناقة وفصيلها لرضعها ، أي : مع فصيلها وقرأ يعقوب «وشركاؤكم» بالرفع .
قوله تعالى : { ثم لا يكن أمركم عليكم غُمّة } فيه قولان :
أحدهما : لا يكن أمركم مكتوماً ، قاله ابن عباس .
والثاني : غماً عليكم ، كما تقول : كرب وكربة ، قاله ابن قتيبة . وذكر الزجاج القولين . وفي قوله : { ثم اقضوا إِليَّ } قولان :
أحدهما : ثم أقضوا إِليَّ ما في أنفسكم ، قاله مجاهد .
والثاني : افعلوا ما تريدون ، قاله الزجاج ، وابن قتيبة . وقال ابن الأنباري : معناه : اقضوا إِليَّ بمكروهكم وما توعدونني به ، كما تقول العرب : قد قضى فلان ، يريدون : مات ومضى .

فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)

قوله تعالى : { فإن تولَّيتم } أي : أعرضتم عن الإِيمان . { فما سألتكم من أجر } أي : لم يكن دعائي إِياكم طمعاً في أموالكم . قوله تعالى : { إِن أجريَ } حرَّك هذه الياء ابن عامر ، وأبو عمرو ، ونافع ، وحفص عن عاصم ، وأسكنها الباقون .
قوله تعالى : { وجعلناهم خلائف } أي : جعلنا الذين نَجَواْ مع نوح خَلَفاً ممن هلك .

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)

قوله تعالى : { ثم بعثنا من بعده } أي : من بعد نوح { رسلاً إِلى قومهم } قال ابن عباس : يريد إِبراهيم وهوداً وصالحاً ولوطاً وشعيباً . { فجاؤوهم بالبينات } أي : بان لهم أنهم رسل الله . { فما كانوا } أي : أولئك الأقوام { ليؤمنوا بما كذَّبوا } يعني الذين قبلهم . والمراد : أن المتأخرين مَضَواْ على سَنَن المتقدِّمين في التكذيب . وقال مقاتل : فما كانوا ليؤمنوا بما كذَّبوا به من العذاب من قبل نزوله .
قوله تعالى : { كذلك نطبع } أي : كما طبعنا على قلوب أولئك ، { كذلك نطبع على قلوب المعتدين } يعني المتجاوزين ما أُمروا به .

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)

قوله تعالى : { ثم بعثنا من بعدهم } يعني الرسل الذين أُرسلوا بعد نوح .

فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)

قوله تعالى : { فلما جاءهم الحق من عندنا } وهو ما جاء به موسى من الآيات .
قوله تعالى : { أسحر هذا } قال الزجاج : المعنى : أتقولون للحق لما جاءَكم هذا اللفظ ، وهو قولهم : { إِنَّ هذا لسحرٌ مبين } . ثم قررهم فقال : { أسحر هذا } ؟ . قال ابن الأنباري : إِنما أدخلوا الألف على جهة تفظيع الأمر ، كما يقول الرجل إِذا نظر إِلى الكسوة الفاخرة : أكسوة هذه؟ يريد بالاستفهام تعظيمها ، وتأتي الرجلَ جائزةٌ ، فيقول : أحقٌّ ما أرى؟ معظِّماً لما ورد عليه . وقال غيره : تقدير الكلام : أتقولون للحق لما جاءكم : هو سحر؟ أسحر هذا؟ فحذف السحر الأولُ اكتفاءً بدلالة الكلام عليه ، كقوله : { فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم } [ الإسراء : 8 ] المعنى : بعثناهم ليسوؤوا وجوهَكم .
قوله تعالى : { أجئتنا لتلفتنا } قال ابن قتيبة : لتصرفنا . يقال : لفتُّ فلاناً عن كذا : إِذا صرفته . ومنه الالتفات ، وهو الانصراف عما كنت مقبلاً عليه . قوله تعالى : { وتكونَ لكما الكبرياء في الأرض } وروى أبان ، وزيد عن يعقوب { ويكون لكما } بالياء . وفي المراد بالكبرياء ثلاثة أقوال : أحدها : الملك والشرف ، قاله ابن عباس .
والثاني : الطاعة ، قاله الضحاك .
والثالث : العلوّ ، قاله ابن زيد . قال ابن عباس : والأرض هاهنا ، أرض مصر .
قوله تعالى : { بكل ساحر } قرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف «بكل سحَّار» بتشديد الحاء وتأخير الألف .
قوله تعالى : { ما جئتم به السحرُ } قرأ الأكثرون «السحرُ» بغير مدّ ، على لفظ الخبر ، والمعنى : الذي جئتم به من الحبال والعصيّ ، هو السحر ، وهذا ردٌّّ لقولهم للحق : هذا سحر ، فتقديره : الذي جئتم به السحر ، فدخلت الألف واللام ، لأن النكرة إِذا عادت ، عادت معرفة ، كما تقول : رأيت رجلاً ، فقال ليَ الرجل . وقرأ مجاهد ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، وأبان عن عاصم ، وأبو حاتم عن يعقوب «آلسحر» بمدِّ الألف ، استفهاماً . قال الزجاج : والمعنى : أي شيء جئتم به؟ أسحر هو؟ على جهة التوبيخ لهم . وقال ابن الأنباري : هذا الاستفهام معناه التعظيم للسحر ، لا على سبيل الاستفهام عن الشيء الذي يُجهل ، وذلك مثل قول الإِنسان في الخطأ الذي يستعظمه من إِنسان : أَخَطَأٌ هذا؟ أي : هو عظيم الشأن في الخطأ . والعرب تستفهم عما هو معلوم عندها ، قال امرؤ القيس :
أغرَّكِ مِنّي أنّ حُبَّكِ قاتلي ... وأنَّك مهما تأمري القلبَ يَفْعَلِ
وقال قيس بن ذريح :
أراجعةٌ يالُبنَ أيامُنا الأُلى ... بذي الطَّلح أم لا ما لَهُنَّ رجوعُ
فاستفهم وهو يعلم أنهن لا يرجعن .
قوله تعالى : { إِن الله سيبطله } أي : يهلكه ، ويُظهر فضيحتكم ، { إِن الله لا يصلح عمل المفسدين } لا يجعل عملهم نافعاً لهم . { ويُحقُّ الله الحقَّ } أي : يظهره ويمكنِّه ، { بكلماته } بما سبق من وعده بذلك .

فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)

قوله تعالى : { فما آمن لموسى إِلا ذرية } في المراد بالذرّية هاهنا ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المراد بالذرّية : القليل ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنهم أولاد الذين أُرسل إِليهم موسى ، مات آباؤهم لطول الزمان ، وآمنوا هم ، قاله مجاهد . وقال ابن زيد : هم الذين نشؤوا مع موسى حين كفَّ فرعون عن ذبح الغلمان . قال ابن الأنباري : وإِنما قيل لهؤلاء : «ذرية» لأنهم أولاد الذين بُعث إِليهم موسى ، وإِن كانوا بالغين .
والثالث : أنهم قوم ، أُمهاتهم من بني إِسرائيل ، وآباؤهم من القبط ، قاله مقاتل ، واختاره الفراء . قال : وإِنما سُمُّوا ذريةً كما قيل لأولاد فارس : الأبناء ، لأن أُمهاتهم من غير جنس آبائهم . وفي هاء «قومه» قولان :
أحدهما : أنها تعود إِلى موسى ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثاني : إِلى فرعون ، رواه أبو صالح عن ابن عباس فعلى القول الأول يكون قوله : { على خوفٍ من فرعونَ وملئهم } أي : وملأ فرعون . قال الفراء : وإِنما قال : «وملئهم» بالجمع ، وفرعون واحد ، لأن الملك إذا ذُكر ذهب الوهم إِليه وإِلى من معه ، تقول : قدم الخليفة فكثر الناس ، تريد : بمن معه . وقد يجوز أن يريد بفرعون : آل فرعون ، كقوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] . وعلى القول الثاني : يرجع ذِكر الملأ إِلى الذرية . قال ابن جرير : وهذا أصح ، لأنه كان في الذرِّيةَ من أبوه قبطي وأُمُّه إِسرائيلية ، فهو مع فرعون على موسى .
قوله تعالى : { أن يفتِنهم } يعني فرعون ، ولم يقل : يفتنوهم ، لأن قومه كانوا على مَن كان عليه . وفي هذه الفتنة قولان :
أحدهما : أنها القتل ، قاله ابن عباس .
والثاني : التعذيب ، قاله ابن جرير .
قوله تعالى : { وإِن فرعون لعالٍ في الأرض } قال ابن عباس : متطاول في أرض مصر { وإِنَّه لمن المسرفين } حين كان عبداً فادّعى الربوبيَّة .
قوله تعالى : { إِن كنتم آمنتم بالله فعليه توكَّلوا } لما شكا بنوا إِسرائيل إِلى موسى ما يهددّهم به فرعون من ذبح أولادهم ، واستحياء نسائهم ، قال لهم هذا .
وفي قوله : { لا تجعلنا فتنة } ثلاثة أقوال :
أحدها : لا تهلكنا بعذاب على أيدي قوم فرعون ، ولا بعذاب من قِبَلك ، فيقول قوم فرعون : لو كانوا على حق ما عُذّبِوا ولا سُلِّطْنا عليهم .
والثاني : لا تسلِّطهم علينا فيفتنونا ، والقولان مرويان عن مجاهد .
والثالث : لا تسلِّطهم علينا فيفتتنون بنا ، لظنهم أنهم على حق ، قاله أبو الضحى ، وأبو مجلز .
قوله تعالى : { أن تبوَّآ لقومكما بمصر بيوتاً } قال المفسرون : لما أُرسل موسى ، أَمر فرعونُ بمساجد بني إِسرائيل فخُرِّبت كلُّها ، ومُنعوا من الصلاة ، وكانوا لا يصلُّون إِلا في الكنائس؛ فأُمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلُّون فيها خوفاً من فرعون . و «تبوَّآ» معناه : اتخِذا ، وقد شرحناه في [ الأعراف : 74 ] . وفي المراد بمصر قولان :
أحدهما : أنه البلد المعروف بمصر ، قاله الضحاك .

والثاني : أنه الاسكندرية ، قاله مجاهد . وفي البيوت قولان :
أحدهما : أنها المساجد ، قاله الضحاك ،
والثاني : القصور ، قاله مجاهد . وفي قوله : { واجعلوا بيوتكم قبلة } أربعة أقوال :
أحدها : اجعلوها مساجد ، رواه مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك عن ابن عباس ، وبه قال النخعي ، وابن زيد . وقد ذكرنا أن فرعون أمر بهدم مساجدهم ، فقيل لهم : اجعلوا بيوتكم قبلة بدلا من المساجد .
والثاني : اجعلوها قِبَل القبلة ، رواه العوفي عن ابن عباس . وروى الضحاك عن ابن عباس ، قال : قِبَل مكة . وقال مجاهد : أُمروا أن يجعلوها مستقبلة الكعبة ، وبه قال مقاتل ، وقتادة ، والفراء .
والثالث : اجعلوها يقابل بعضها بعضاً ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً ، وبه قال سعيد بن جبير .
والرابع : واجعلوا بيوتكم التي بالشام قبلةً لكم في الصلاة ، فهي قبلة اليهود إِلى اليوم ، قاله ابن بحر .
فإن قيل : البيوت جمع ، فكيف قال «قبلة» على التوحيد؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، فقال : من قال : المراد بالقبلة الكعبة ، قال : وحِّدت القبلة لتوحيد الكعبة . قال : ويجوز أن يكون أراد : اجعلوا بيوتكم قِبَلاً ، فاكتفى بالواحد عن الجمع ، كما قال العباس بن مرداس :
فقلنا أسْلِمُوا إِنّا أخوكم ... فقد برئت من الإِحن الصُّدورُ
يريد : إِنا إِخوتكم . ويجوز أن يكون وحّد «قبلة» لانه أجراها مجرى المصدر ، فيكون المعنى : واجعلوا بيوتكم إِقبالاً على الله ، وقصداً لما كنتم تستعملونه في المساجد . ويجوز أن يكون وحَّدها ، والمعنى : واجعلوا بيوتكم شيئاً قبلة ، ومكاناً قبلة ، ومحلة قبلة .
قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة } قال ابن عباس : أتموا الصلاة { وبشر المؤمنين } أنت يا محمد . قال سعيد بن جبير : بشِّرهم بالنصر في الدنيا ، وبالجنة في الآخرة .
قوله تعالى : { ربنا إِنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً } قال ابن عباس : كان لهم من لدن فسطاط مصر إِلى أرض الحبشة جبال فيها معادن ذهب وفضة وزبرجد وياقوت .
قوله تعالى : { ليَضلُّوا عن سبيلك } وفي لام «ليَضِلُّوا» أربعة أقوال :
أحدها : أنها لام «كي» والمعنى : آتيتهم ذلك كي يضلوا ، وهذا قول الفراء .
والثاني : أنها لام العاقبة ، والمعنى إِنك آتيتهم ذلك فأصارهم إِلى الضلال ، ومثله قوله : { ليكون لهم عدوَّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] أي : آل أمرهم إِلى أن صار لهم عدواً ، لا أنهم قصدوا ذلك ، وهذا كما تقول للذي كسب مالاً فأدَّاه إِلى الهلاك : إِنما كسب فلان لحتفه ، وهو لم يكسب المال طلباً للحتف ، وأنشدوا :
وللمنايا تُربِّي كلُّ مُرْضِعَةٍ ... وللخراب يُجِدُّ الناسُ عمرانا
وقال آخر :
وللموتِ تغذُو الوالداتُ سِخالَها ... كما لخراب الدُّور تُبنى المساكِنُ
وقال آخر :
فإن يكُنِ الموتُ أفناهم ... فللموت ما تَلِدُ الوالده
أراد : عاقبة الأمر ومصيره إِلى ذلك ، هذا قول الزجاج .
والثالث : أنها لام الدعاء ، والمعنى : ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك ، ذكره ابن الأنباري .
والرابع : أنها لام أجْل ، فالمعنى : آتيتهم لأجل ضلالتهم عقوبةً منك لهم ، ومثله قوله : { سيحلفون بالله لكم إِذا انقلبتم إِليهم لتُعرضوا عنهم }

[ التوبة : 95 ] أي : لأجل إِعراضكم ، حكاه بعض المفسرين . وقرأ أهل الكوفة إِلا المفضل ، وزيد ، وأبو حاتم عن يعقوب «ليُضِلُّوا» بضم الياء ، أي ليُضلُّوا غيرهم .
قوله تعالى : { ربنا اطمس } روى الحلبي عن عبد الوارث : «اطمُس» بضم الميم ، { على أموالهم } وفيه قولان :
أحدهما : أنها جُعلت حجارة ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والضحاك ، وأبو صالح ، والفراء . وقال القرظي : جُعِل سُكَّرهُم حجارة . وقال ابن زيد : صار ذهبهم ودراهمهم وعدسهم وكل شيء لهم حجارة . وقال مجاهد : مسخ الله النخل والثمار والأطعمة حجارة ، فكانت إِحدى الآيات التسع . وقال الزجاج : تطميس الشيء : إِذهابه عن صورته والانتفاعِ به على الحال الأولى التي كان عليها .
والثاني : أنها هلكت ، فالمعنى : أهلكْ أموالهم ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، ومنه يقال : طُمست عينه ، أي : ذهبتْ ، وطُمس الطريق : إِذا عفا ودرس .
وفي قوله : { واشدد على قلوبهم } أربعة أقوال :
أحدها : اطبع عليها ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل ، والفراء ، والزجاج .
والثاني : أهلكهم كفاراً ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك .
والثالث : اشدد عليها بالضلالة ، قاله مجاهد .
والرابع : أن معناه قسِّ قلوبهم ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى : { فلا يؤمنوا } فيه قولان :
أحدهما : أنه دُعَاءٌ عليهم أيضاً ، كأنه قال : اللهم فلا يؤمنوا ، قاله الفراء ، وأبو عبيدة ، والزجاج . وقال ابن الأنباري : معناه : فلا آمنوا ، قال الأعشى :
فلا ينْبَسِطْ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْكَ ما انْزَوى ... ولا تَلْقني إِلاّ وأنفُكَ راغِمُ
معناه : لا أنبسط ، ولا لقيتني .
والثاني : أنه عطف على قوله : { ليَضلُّوا عن سبيلك } ، فالمعنى : أنك آتيتهم ليَضلُّوا فلا يؤمنوا ، حكاه الزجاج عن المبرِّد .
قوله تعالى : { حتى يروا العذاب الأليم } قال ابن عباس : هو الغرق ، وكان موسى يدعو ، وهارون يؤمِّن ، فقال الله تعالى : { قد أُجيبتْ دعوتُكما } ، وكان بين الدعاء والإِجابة أربعون سنة .
فان قيل : كيف قال : { دعوتكما } وهما دعوتان؟ فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها : أن الدعوة تقع على دعوتين وعلى دَعَواتٍ وكلامٍ يطول كما بيَّنَّا في [ الأعراف : 158 ] أن الكلمة تقع على كلمات ، قال الشاعر :
وكان دعا دعوةً قومَه ... هلمَّ إِلى أمركم قد صُرِم
فأوقع «دعوة» على ألفاظ بيَّنها آخر بيته .
والثاني : أن يكون المعنى : قد أُجيبت دعواتكما ، فاكتفى بالواحد من ذِكر الجميع ، ذكر الجوابين ابن الأنباري . وقد روى حماد بن سلمة عن عاصم أنه قرأ «دَعَواتُكما» بالألف وفتح العين .
والثالث : أن موسى هو الذي دعا ، فالدعوة له ، غير أنه لما أمَّن هارون ، أُشرك بينهما في الدعوة ، لأن التأمين على الدعوة منها .
وفي قوله : { فاستقيما } أَربعة أقوال :
أحدها : فاستقيما على الرسالة وما أمرتكما به ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : فاستقيما على دعاء فرعون وقومه إِلى طاعة الله ، قاله ابن جرير .
والثالث : فاستقيما في دعائكما على فرعون وقومه .

والرابع : فاستقيما على ديني ، ذكرهما أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { ولا تتبعانِّ } قرأ الأكثرون بتشديد تاء «تتَّبعانِّ» . وقرأ ابن عامر بتخفيفها مع الاتفاق على تشديد نون «تَتَّبعانّ» ، إِلا أن النون الشديدة دخلت للنهي مؤكِّدة ، وكُسرت لسكونها وسكون النون التي قبلها ، واختير لها الكسر لأنها بعد الألف ، فشُبهت بنون الاثنين . قال أبو علي : ومن خفض النون أمكن أن يكون خفف النون الثقيلة ، فإن شئت كان على لفظ الخبر ، والمعنى الأمر ، كقوله : { يتربَّصْنَ بأنفسهن } [ البقرة : 228 و 234 ] و { لاتضارَّ والدة } [ البقرة : 233 ] أي : لا ينبغي ذلك ، وإِن شئت جعلته حالاً من قوله : { فاستقيما } تقديره : استقيما غير متَّبِعَين . وفي المراد بسبيل الذين لا يعلمون قولان :
أحدهما : أنهم فرعون وقومه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : الذين يستعجلون القضاء قبل مجيئه ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .
فإن قيل : كيف جاز أن يدعوَ موسى على قومه؟
فالجواب : أن بعضهم يقول : كان ذلك بوحي ، وهو قول صحيح ، لأنه لا يُظن بنبيّ أن يُقدِم على مثل ذلك إِلا عن إِذن من الله عز وجل ، لأن دعاءه سبب للانتقام .
قوله تعالى : { فأتبعهم فرعون وجنوده } قال أبو عبيدة : أتبعهم وتبعهم سواء . وقال ابن قتيبة : أتبعهم : لحقهم . { بغياً وعَدْواً } أي : ظلماً . وقرأ الحسن { فاتَّبعهم } بالتشديد ، وكذلك شددوا { وعُدُوّاً } مع ضم العين .
قوله تعالى : { حتى إِذا أدركه الغرق قال آمنت أنه } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر «أنه» بفتح الألف ، والمعنى : آمنت بأنه ، فلما حُذف حرف الجر ، وصل الفعلُ إِلى «أنَّ» فنُصب . وقرأ حمزة والكسائي «إِنه» بكسر الألف ، فحملوه على القول المضمر ، كأنه قال : آمنت ، فقلت : إِنه . قال ابن عباس : لم يقبل الله إِيمانه عند رؤية العذاب . قال ابن الأنباري : جنح فرعون إِلى التوبة حين أُغلق بابها لحضور الموت ومعاينة الملائكة ، فقيل له : { آلآن } أي : الآن تتوب وقد أضعت التوبة في وقتها ، وكنت من المفسدين بالدعاء إِلى عبادة غير الله عز وجل؟ والمخاطِب له بهذا كان جبريل . وجاء في الحديث أن جبريل جعل يدسُّ الطين في فم فرعون خشية أن يُغفرَ له . قال الضحاك ابن قيس : اذكروا الله في الرَّخاء يذكرْكم في الشدة ، إِن يونس عليه السلام كان عبداً صالحاً ، وكان يذكر الله ، فلما وقع في بطن الحوت سأل الله ، فقال الله : { فلولا أنَّه كان من المسبِّحين للبث في بطنه إِلى يوم يبعثون } [ الصافات : 143 ] ، وإِن فرعون كان عبداً طاغياً ناسياً لذِكر الله تعالى ، فلما أدركه الغرق قال : آمنت ، فقال الله : { آلآن وقد عصيت قبلُ } .
قوله تعالى : { فاليوم ننجِّيك } وقرأ يعقوب «نُنْجيك» مخففة . قال اللغويون ، منهم يونس وأبو عبيدة ، نُلقيك على نجوة من الأرض ، أي ارتفاع ، ليصير عَلَماً أنه قد غرق . وقرأ ابن السميفع «ننحِّيك» بحاء . وفي سبب إِخراجه من البحر بعد غرقه ثلاثة أقوال :
أحدها : أن موسى وأصحابه لما خرجوا ، قال من بقي من المدائن من قوم فرعون : ما أُغرق فرعون ، ولكنه هو وأصحابه يتصيدون في جزائر البحر ، فأوحى الله إِلى البحر أن الفظ فرعون عرياناً ، فكانت نجاةَ عِبرةٍ ، وأوحى الله تعالى إِلى البحر : أن الفظ ما فيك ، فلفظهم البحر بالساحل ، ولم يكن يلفظ غريقاً ، فصار لا يقبل غريقاً إِلى يوم القيامة ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

والثاني : أن أصحاب موسى قالوا : إِنا نخاف أن يكون فرعون ما غرق ، ولا نؤمن بهلاكه ، فدعا موسى ربه ، فأخرجه حتى أيقنوا بهلاكه ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وإِلى نحوه ذهب قيس بن عُبَاد ، وعبد الله بن شداد ، والسدي ، ومقاتل . وقال السدي : لما قال بنو إِسرائيل : لم يغرق فرعون ، دعا موسى ، فخرج فرعون في ستمائة ألف وعشرين ألفاً عليهم الحديد ، فأخذته بنو إِسرائيل يمثِّلون به . وذكر غيره أنه إِنما أخرج من البحر وحده دون أصحابه . وقال ابن جريج : كذَّب بعض بني إِسرائيل بغرقه ، فرمى به البحر على ساحل البحر حتى رآه بنو إِسرائيل قُصَيِّراً أحمر كأنه ثور . وقال أبو سليمان : عرفه بنو إِسرائيل بدرع كان له من لؤلؤ لم يكن لأحد مثلها . فأما وجهه فقد غيَّره سخط الله تعالى .
والثالث : أنه كان يدَّعي أنه ربٌّ ، وكان يعبده قوم ، فبيَّن الله تعالى أمره ، فأغرقه وأصحابه ، ثم أخرجه من بينهم ، قاله الزجاج . وفي قوله : { ببدنك } أربعة أقوال :
أحدها : بجسدك من غير روح ، قاله مجاهد . وذِكر البدن دليل على عدم الروح .
والثاني : بدرعك ، قاله أبو صخر . وقد ذكرنا أنه كانت له درع من لؤلؤ ، وقيل : من ذهب ، فعُرِف بدرعه .
والثالث : نلقيك عرياناً ، قاله الزجاج .
والرابع : ننجِّيك وحدك ، قاله ابن قتيبة .
وفي قوله : { لتكون لمن خلفك آية } ثلاثة أقوال :
أحدها : لتكون لمن بعدك في النكال آية لئلا يقولوا مثل مقالتك ، فإنك لو كنت إِلهاً ما غرقت ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . قال أبو عبيدة : «خلفك» بمعنى بعدك ، والآية : العلامة .
والثاني : لتكون لبني إِسرائيل آية ، قاله السدي .
والثالث : لمن تخلّف من قومه ، لأنهم أنكروا غرقه على ما ذكرنا في أول الآية ، فخرج في معنى الآية قولان :
أحدهما : عبرة للناس .
والثاني : علامة تدل على غرقه . وقال الزجاج : الآية أنه كان يدَّعي أنه ربٌّ ، فبان أمره ، وأخرج من بين أصحابه لما غرقوا . وقرأ ابن السميفع ، وابو المتوكل ، وأبو الجوزاء { لمن خلقك } بالقاف .

وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)

قوله تعالى : { ولقد بوَّأنا بني إِسرائيل } أي : أنزلناهم منزل صدق ، أي منزلاً كريما . وفي المراد ببني إِسرائيل قولان :
أحدهما : أصحاب موسى .
والثاني : قريظة والنضير . وفي المراد بالمنزل الذي أُنزلوه خمسة أقوال .
أحدها : أنه الأردن ، وفلسطين ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : الشام ، وبيت المقدس ، قاله الضحاك وقتادة .
والثالث : مصر ، روي عن الضحاك أيضاً .
والرابع : بيت المقدس ، قاله مقاتل .
والخامس : ما بين المدينة والشام من أرض يثرب ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري . والمراد بالطيبات : ما أُحل لهم من الخيرات الطيبة . { فما اختلفوا } يعني بني إسرائيل . قال ابن عباس : ما اختلفوا في محمد ، لم يزالوا به مصدِّقين ، { حتى جاءهم العلم } يعني : القرآن ، وروي عنه : حتى جاءهم العلم ، يعني محمداً . فعلى هذا يكون العلم هاهنا : عبارة عن المعلوم . وبيان هذا أنه لما جاءهم ، اختلفوا في تصديقه ، وكفر به أكثرهم بغياً وحسداً بعد أن كانوا مجتمعين على تصديقه قبل ظهوره .
قوله تعالى : { فإن كنتَ في شك } في تأويل هذه الآية ثلاثة أقوال :
أحدها : أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره من الشاكّين ، بدليل قوله في آخر السورة : { إِن كنتم في شكٍّ من ديني } [ يونس 105 ] ، ومثله قوله { يا أيها النَّبيُّ اتَّق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليماً حكيماً } [ الأحزاب 2 ] ثم قال : { بما تعملون خبيراً } [ الأحزاب 3 ] ولم يقل : بما تعمل ، وهذا قول الأكثرين .
والثاني : أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو المراد به . ثم في المعنى قولان :
أحدهما : أنه خوطب بذلك وإن لم يكن في شك ، لأنه من المستفيض في لغة العرب أن يقول الرجل لولده : إن كنت ابني فبِرَّني ، ولعبده : إِن كنت عبدي فأطعني ، وهذا اختيار الفراء . وقال ابن عباس : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شك ، ولا سأل .
والثاني : أن تكون «إِن» بمعنى «ما» فالمعنى : ما كنت في شك { فاسأل } ، المعنى : لسنا نريد أن نأمرك أن تسأل لأنك شاكّ ، ولكن لتزداد بصيرة ، ذكره الزجاج .
والثالث : أن الخطاب للشاكّين ، فالمعنى : إِن كنت أيها الإِنسان في شك مما أُنزل إليك على لسان محمد ، فَسَلْ ، روي عن ابن قتيبة .
وفي الذي أنزل إِليه قولان .
أحدهما : أنه أُنزل إِليه أنه رسول الله .
والثاني : أنه مكتوب عندهم في التوراة والإِنجيل .
قوله تعالى : { فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك } وهم اليهود والنصارى . وفي الذين أُمر بسؤالهم منهم قولان :
أحدهما : من آمن ، كعبد الله بن سلام ، قاله ابن عباس ، ومجاهد في آخرين .
والثاني : أهل الصدق منهم ، قاله الضحاك ، وهو يرجع إِلى الأول ، لأنه لا يَصْدق إلا من آمن .
قوله تعالى : { لقد جاءك الحق من ربك } هذا كلام مستأنف .
قوله تعالى : { إِن الذين حقت } أي : وجبت { عليهم كلمةُ ربِّك } أي : قوله . وبماذا حقت الكلمة عليهم ، فيه أربعة أقوال :
أحدها : باللعنة .
والثاني : بنزول العذاب .
والثالث : بالسَّخط .
والرابع : بالنقمة .
قوله تعالى : { ولو جاءتهم كل آية } قال الأخفش : إِنما أنَّث فعل «كل» لأنه أضافه إلى «آية» وهي مؤنثة .

فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)

قوله تعالى : { فلولا كانت قرية آمنت } أي : أهل قرية . وفي «لولا» قولان :
أحدهما : أنه بمعنى : لم تكن قرية آمنت { فنفعها إِيمانها } أي : قُبِلَ منها { إلا قوم يونس } ، قاله ابن عباس . وقال قتادة : لم يكن هذا لأمة آمنت عند نزول العذاب ، إِلا لقوم يونس .
والثاني : أنها بمعنى : فهلاّ ، قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزجاج . قال الزجاج : والمعنى : فهلاّ كانت قرية آمنت في وقت نفعها إِيمانها ، إِلا قوم يونس؟ و «إِلا» هاهنا استثناء ليس من الأول ، كأنه قال : لكن قومُ يونس . قال الفراء : نُصب القوم على الانقطاع مما قبله ، ألا ترى أن «ما» بعد «إِلا» في الجحد يتبع ما قبلها؟ تقول : ما قام أحد إِلا أخوك ، فإذا قلت : ما فيها أحد إِلا كلباً أو حماراً ، نصبتَ ، لانقطاعهم من الجنس ، كذلك كان قوم يونس منقطعين من غيرهم من أمم الأنبياء ، ولو كان الاستثناء وقع على طائفة منهم لكان رفعاً . وذكر ابن الأنباري في قوله : «إِلا» قولين آخرين :
أحدهما : أنها بمعنى الواو ، والمعنى : وقوم يونس لما آمنوا فعلنا بهم كذا وكذا ، وهذا مروي عن أبي عبيدة ، والفراء ينكره .
والثاني : أن الاستثناء من الآية التي قبل هذه ، تقديره : حتى يروا العذاب الأليم إِلا قوم يونس ، فالاستثناء على هذا متصل غير منقطع .
قوله تعالى : { كشفنا عنهم } أي صرفنا عنهم { عذاب الخزي } أي : عذاب الهوان والذل { ومتعناهم إلى حين } أي : إِلى حين آجالهم .
الإِشارة إِلى شرح قصتهم .
ذكر أهل العلم بالسِّيَر والتفسير أن قوم يونس كانوا ب «نينوى» من أرض الموصل ، فأرسل الله عز وجل إليهم يونس يدعوهم إلى الله ويأمرهم بترك الأصنام ، فأبوا ، فأخبرهم أن العذاب مصبِّحهم بعد ثلاث ، فلما تغشَّاهم العذاب ، قال ابن عباس ، وأنس : لم يبق بين العذاب وبينهم إِلا قدر ثلثي ميل ، وقال مقاتل : قدر ميل ، وقال أبو صالح عن ابن عباس : وجدوا حرَّ العذاب على أكتافهم ، وقال سعيد بن جبير : غشيهم العذاب كما يغشى الثوبُ القبرَ ، وقال بعضهم : غامت السماء غيماً أسود يُظهر دخانا شديداً ، فغشي مدينتهم ، واسودَّت سطوحهم ، فلما أيقنوا بالهلاك لبسوا المسوح ، وحَثَوْا على رؤوسهم الرماد ، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام ، وعجُّوا إِلى الله بالتوبة الصادقة ، وقالوا آمنا : بما جاء به يونس ، فاستجاب الله منهم . قال ابن مسعود : بلغ من توبتهم أن ترادَّوا المظالم بينهم ، حتى ان كان الرجل ليأتي إلى الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقلعه ، فيرده . وقال أبو الجلْد : لما غشيهم العذاب ، مشَوا إِلى شيخ من بقية علمائهم ، فقالوا : ما ترى؟ قال : قولوا : يا حيُّ حين لا حيَّ ، يا حيُّ مُحيي الموتى ، يا حيُّ لا إِله إِلا أنت ، فقالوها : فكُشف العذاب عنهم .

قال مقاتل : عجّوا إِلى الله أربعين ليلة ، فكُشف العذاب عنهم . وكانت التوبة عليهم في يوم عاشوراء يوم الجمعة . قال : وكان يونس قد خرج من بين أظهرهم ، فقيل له : ارجع إِليهم ، فقال : كيف أرجع إِليهم فيجدوني كاذبا؟ وكان مَن يكذب بينهم ولا بيِّنة له يُقتَل ، فانصرف مغاضباً ، فالتقمه الحوت . وقال أبو صالح عن ابن عباس : أوحى الله إِلى نبي من أنبياء بني إِسرائيل يقال له : شَعيا ، فقيل له : ائت فلاناً الملِك ، فقل له يبعث إِلى بني إِسرائيل نبياً قوياً أميناً ، وكان في مملكته خمسة من الأنبياء ، فقال الملك ليونس : اذهب إِليهم ، فقال : ابعث غيري ، فعزم عليه أن يذهب ، فأتى بحر الروم ، فركب سفينة ، فالتقمه الحوت ، فلما خرج من بطنها أُمر أن ينطلق إلى قومه ، فانطلق نذيراً لهم ، فأبَوْا عليه ، فوعدهم بالعذاب ، وخرج ، فلما تابوا رُفع عنهم . والقول الأول أثبت عند العلماء ، وأنه إِنما التقمه الحوت بعد إِنذاره لهم وتوبتهم . وسيأتي شرح قصته في التقام الحوت إِياه في مكانه إِن شاء الله تعالى [ الصافات : 143 ] .
فإن قيل : كيف كُشف العذاب عن قوم يونس بعد إِتيانه إِليهم ، ولم يُكشَف عن فرعون حين آمن؟
فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها : أن ذلك كان خاصاً لهم كما ذكرنا في أول الآية .
والثاني : أن فرعون باشره العذاب ، وهؤلاء دنا منهم ولم يباشرهم ، فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية ، فأما الذي يعاين ، فلا توبة ، له ذكره الزجاج .
والثالث : أن الله تعالى علم منهم صدق النيات ، بخلاف مَن تقدَّمهم من الهالكين ، ذكره ابن الأنباري .

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)

قوله تعالى : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض } قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على إِيمان جميع الناس ، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إِلا من سبقت له السعادة . قال الأخفش : جاء بقوله : «جميعا» مع «كل» تأكيداً كقوله : { وقال الله لا تتخذوا إِلهين اثنين } [ النحل : 51 ]
قوله تعالى : { أفأنت تُكره الناس } قال المفسرون ، منهم مقاتل : هذا منسوخ بآية السيف ، والصحيح أنه ليس هاهنا نسخ ، لأن الإِكراه على الإِيمان لا يصح ، لأنه عمل القلب .

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)

قوله تعالى : { وما كان لنفس أن تؤمن إِلا بإذن الله } فيه ستة أقوال .
أحدها : بقضاء الله وقدره .
والثاني : بأمر الله ، رُويا عن ابن عباس .
والثالث : بمشيئة الله ، قاله عطاء .
والرابع : إِلا أن يأذن الله في ذلك ، قاله مقاتل .
والخامس : بعلم الله .
والسادس : بتوفيق الله ، ذكرهما الزجاج ، وابن الأنباري .
قوله تعالى : { ويجعلُ الرجس } أي : ويجعل الله الرجسَ . وروى أبو بكر عن عاصم «ونجعل الرجس» بالنون . وفيه خمسة أقوال :
أحدها : أنه السخط ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثاني : الإِثم والعدوان ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : أنه مالا خير فيه ، قاله مجاهد .
والرابع : العذاب ، قاله الحسن ، وأبو عبيدة ، والزجاج .
والخامس : العذاب والغضب ، قاله الفراء .
قوله تعالى : { على الذين لا يعقلون } أي : لا يعقلون عن الله أمره ونهيه . وقيل : لا يعقلون حججه ودلائل توحيده .

قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)

قوله تعالى : { قل انظروا ماذا في السموات والأرض } قال المفسرون : قل للمشركين الذي يسألونك الآيات على توحيد الله انظروا بالتفكر والاعتبار ماذا في السموات والأرض من الآيات والعبر التي تدل على وحدانيته ونفاذ قدرته كالشمس ، والقمر ، والنجوم ، والجبال ، والشجر ، وكلُّ هذا يقتضي خالقاً مدبراً . { وما تُغني الآيات والنُّذر عن قوم لا يؤمنون } في علم الله .

فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)

قوله تعالى : { فهل ينتظرون } قال ابن عباس : يعني كفار قريش . { إِلا مثل ايام الذين خَلَوْا من قبلهم } قال ابن الأنباري : أي : مثل وقائع الله بمن سلف قبلهم ، والعرب تكني بالأيام عن الشرور والحروب ، وقد تقصد بها أيامَ السرور والأفراح إِذا قام دليل بذلك .
قوله تعالى : { قل فانتظروا } هلاكي { إِني معكم من المنتظرين } لنزول العذاب بكم . { ثم نُنَجِّي رُسُلَنا والذين آمنوا } من العذاب إِذا نزل ، فلم يَهلك قوم قط إِلا نجا نبيهم والذين آمنوا معه .
قوله تعالى : { كذلك حقاً علينا نُنْجي المؤمنين } وقرأ يعقوب ، وحفص ، والكسائي في قراءته وروايته عن أبي بكر : «ننجِ المؤمنين» بالتخفيف . ثم في هذا الإِنجاء قولان :
أحدهما : ننجيهم من العذاب إِذا نزل بالمكذِّبين ، قاله الربيع بن أنس .
والثاني : ننجيهم في الآخرة من النار ، قاله مقاتل .

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)

قوله تعالى : { قل يا أيها الناس } قال ابن عباس : يعني أهل مكة { إِن كنتم في شك من ديني } الإِسلام { فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله } وهي الأصنام { ولكن أعبد الله الذي } يقدر أن يميتكم . وقال ابن جرير : معنى الآية : لا ينبغي لكم أن تشكُّوا في ديني ، لأني أعبد الله الذي يميت وينفع ويضر ، ولا تُستَنكرُ عبادة مَنْ يفعل هذا ، وإِنما ينبغي لكم أن تشكُّوا وتُنكروا ما أنتم عليه من عبادة الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفَعُ .
فإن قيل : لم قال : { الذي يتوفَّاكم } ولم يقل : «الذي خلقكم»؟
فالجواب : أن هذا يتضمن تهديدهم ، لأن ميعاد عذابهم الوفاة .
قوله تعالى : { وأن أقم وجهك } المعنى : وأُمرت أن أقم وجهك ، وفيه قولان .
أحدهما : أخلص عملك .
والثاني : استقم باقبالك على ما أُمرت به بوجهك .
وفي المراد بالحنيف ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه المتَّبِع ، قاله مجاهد .
والثاني : المُخلِص ، قاله عطاء .
والثالث : المستقيم ، قاله القرظي .
قوله تعالى : { ولا تدع من دون الله مالا ينفعك } إِن دعوته { ولا يضرك } إِن تركتَ عبادته . و«الظالم» الذي يضع الشيء في غير موضعه .

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)

قوله تعالى : { وإن يمسسك الله بضر } أي : بشدة وبلاءٍ { فلا كاشف } لذلك { إِلاّ هو } دون ما يعبده المشركون من الأصنام . وإِن يصبك بخير ، أي : برخاء ونعمة وعافية ، فلا يقدر أحد أن يمنعك إِياه . { يصيب به } أي : بكل واحد من الضُّر والخير .
قوله تعالى : { قد جاءكم الحق من ربكم } فيه قولان :
أحدهما : أنه القرآن .
والثاني : محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { ومن ضلَّ فإنما يَضِلَّ عليها } أي : فإنما يكون وبال ضلاله على نفسه .
قوله تعالى : { وما أنا عليكم بوكيل } أي : في منعكم من اعتقاد الباطل ، والمعنى : لست بحفيظ عليكم من الهلاك كما يحفظ الوكيل المتاع من الهلاك . قال ابن عباس : وهذه منسوخة بآية القتال ، والتي بعدها أيضاً ، وهي قوله : { واصبر حتى يحكم الله } لأن الله تعالى حكم بقتل المشركين ، والجزيةِ على أهل الكتاب ، والصحيح : أنه ليس هاهنا نسخ . أما الآية الأولى ، فقد ذكرنا الكلام عليها في نظيرتها في [ الأنعام : 107 ] . وأما الثانية ، فقد ذكرنا نظيرتها في سورة [ البقرة : 109 ] قوله : { فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره . }

الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)

فأما { آلر } فقد ذكرنا تفسيرها في سورة ( يونس )
قال الفراء : و { كتاب } مرفوع بالهجاء الذي قبله ، كأنك قلت : حروف الهجاء هذا القرآن ، وإِن شئت رفعته باضمار «هذا كتاب» ، والكتاب : القرآن .
وفي قوله : { أحكمت آياته } أربعة أقوال :
أحدها : أُحكمت فما تُنسخُ بكتاب كما نُسخت الكتب والشرائع ، قاله ابن عباس ، واختاره ابن قتيبة .
والثاني : أُحكمت بالأمر والنهي ، قاله الحسن ، وأبو العالية .
والثالث : أُحكمت عن الباطل ، أي : مُنعت ، قاله قتادة ، ومقاتل .
والرابع : أُحكمت بمعنى جُمعت ، قاله ابن زيد .
فإن قيل : كيف عمَّ الآيات هاهنا بالإِحكام ، وخص بعضها في قوله : { منه آيات محكمات } [ آل عمران : 8 ] ؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أن الإِحكام الذي عمَّ به هاهنا ، غير الذي خَصَّ به هناك .
وفي معنى الإِحكام العامّ خمسة أقوال ، قد أسلفنا منها أربعة في قوله : { أُحكمت آياته } .
والخامس : أنه إِعجاز النظم والبلاغة وتضمين الحِكَم المعجزة .
ومعنى الإِحكام الخاص : زوال اللَّبْس ، واستواء السامعين في معرفة معنى الآية .
والجواب الثاني : أن الإِحكام في الموضعين بمعنى واحد . والمراد بقوله : { أُحكمت آياته } : أُحكم بعضها بالبيان الواضح ومنع الالتباس ، فأُوقعَ العمومُ على معنى الخصوص ، كما تقول العرب : قد أكلتُ طعام زيد ، يعنون : بعضَ طعامه ، ويقولون : قُتلنا وربِّ الكعبة ، يعنون : قُتل بعضنا ، ذكر ذلك ابن الأنباري .
وفي قوله : { ثم فصِّلت } ستة أقوال :
أحدها : فصِّلت بالحلال والحرام ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : فصِّلت بالثواب والعقاب ، رواه جسر بن فرقد عن الحسن .
والثالث : فصِّلت بالوعد والوعيد ، رواه أبو بكر الهذلي عن الحسن أيضاً .
والرابع : فصِّلت بمعنى فسِّرت ، قاله مجاهد .
والخامس : أُنزلت شيئاً بعد شيء ، ولم تنزل جملة ، ذكره ابن قتيبة .
والسادس : فصِّلت بجميع ما يُحتاج إِليه من الدلالة على التوحيد ، وتثبيت نبوَّة الأنبياء ، وإِقامة الشرائع ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { من لدن حكيم } أي : من عنده .

أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)

قوله تعالى : { ألاّ تعبُدوا إِلا الله } قال الفراء . المعنى : فصِّلت آياته بأن لا تعبدوا إِلا الله { وأن استغفروا } . و«أن» في موضع النصب بالقائك الخافض .
وقال الزجاج : المعنى : آمركم أن لا تعبدوا [ إِلا الله ] وأن استغفروا .
قال مقاتل : والمراد بهذه العبادة : التوحيد . والخطاب لكفار مكة .
قوله تعالى : { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إِليه } فيه قولان :
أحدهما : أن الاستغفار والتوبة هاهنا من الشرك ، قاله مقاتل .
والثاني : استغفروه من الذنوب السالفة ، ثم توبوا إِليه من المستأنفة متى وقعت . وذُكر عن الفراء أنه قال : «ثم» هاهنا بمعنى الواو .
قوله تعالى : { يمتعكم متاعاً حسناً } قال ابن عباس : يتفضل عليكم بالرزق والسَّعَة . وقال ابن قتيبة : يُعمِّركْم . وأصل الإِمتاع : الإِطالة ، يقال : أمتع الله بك ، ومتَّع الله بك ، إِمتاعاً ومتاعاً ، والشيء الطويل : ماتع ، يقال : جبل ماتع ، وقد متع النهار : إِذا تطاول .
وفي المراد بالأجل المسمى قولان .
أحدهما : أنه الموت ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة .
والثاني : أنه يوم القيامة ، قاله سعيد بن جبير .
قوله تعالى : { ويؤت كل ذي فضل فضله } في هاء الكناية قولان :
أحدهما : أنها ترجع إلى الله تعالى . ثم في معنى الكلام قولان .
أحدهما : ويؤت كل ذي فضل من حسنةٍ وخيرٍ فضله ، وهو الجنة .
والثاني : يؤتيه فضله من الهداية إِلى العمل الصالح .
والثاني : أنها ترجع إِلى العبد ، فيكون المعنى : ويؤت كل من زاد في إِحسانه وطاعاته ثواب ذلك الفضل الذي زاده ، فيفضِّله في الدنيا بالمنزلة الرفيعة ، وفي الآخرة بالثواب الجزيل .
قوله تعالى : { وإِن تولَّوا } أي : تُعرضوا عما أُمرتم به . وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمي ، وأبو مجلز ، وأبو رجاء : «وإِن تُوَلُّوا» بضم التاء . { فإني أخاف عليكم } فيه إِضمار «فقل» . واليوم الكبير : يوم القيامة .

أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)

قوله تعالى : { ألا إِنهم يثنون صدورهم } في سبب نزولها خمسة أقوال :
أحدها : أنها نزلت في الأخنس بن شريق ، وكان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحلف إِنه ليحبّه ، ويضمر خلاف ما يُظهر له ، فنزلت فيه هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنها نزلت في ناس كانوا يستحيون أن يُفضوا إِلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء ، فنزلت فيهم هذه الآية رواه محمد بن عباد عن ابن عباس .
والثالث : أنها نزلت في بعض المنافقين ، كان إِذا مرَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه لئلا يراه رسول الله ، قاله عبد الله بن شداد .
والرابع : أن طائفة من المشركين قالوا : إِذا أغلقنا أبوابنا وأرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ، كيف يعلم بنا؟ فأخبر الله عما كتموا ، ذكر زجاج .
والخامس : أنها نزلت في قوم كانوا لشدة عداوتهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إِذا سمعوا منه القرآن حنَوا صدورهم ، ونكسوا رؤوسهم ، وتغشوا ثيابهم ليبعد عنهم صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدخل أسماعهم شيء من القرآن ، ذكره ابن الأنباري .
قوله تعالى : { يثنون صدورهم } يقال : ثنيت الشيء : إِذا عطفته وطويته . وفي معنى الكلام خمسة أقوال :
أحدها : يكتمون ما فيها من العداوة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : يثنون صدورهم على الكفر ، قاله مجاهد .
والثالث : يحنونها لئلا يسمعوا كتاب الله ، قاله قتادة .
والرابع : يثنونها إِذا ناجى بعضهم بعضاً في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن زيد .
والخامس : يثنونها حياءً من الله تعالى ، وهو يخرَّج على ما حكينا عن ابن عباس . قال ابن الأنباري : وكان ابن عباس يقرؤها «ألا إِنهم تَثْنَوْني صدورُهم» وفسرها أن ناساً كانوا يستحيون أن يُفضوا إِلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء . فَتَثْنَوْنِي : تفْعَوْعِلُ ، وهو فعل للصدور ، معناه : المبالغة في تثنّي الصدور ، كما تقول العرب : احلولى الشيء ، يحلَولي : إِذا بالغوا في وصفه بالحلاوة ، قال عنترة :
ألا قَاتَلَ اللهُ الطُّلُولَ البَوَالِيَا ... وقَاتَلَ ذِكْرَاكَ السنينَ الخَوَالِيَا
وقَوْلَكَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لاَ تَنَالُهُ ... إِذا ما هُوَ احْلَوْلَى ألا لَيْتَ ذا ليا
فعلى هذا القول ، هو في حق المؤمنين ، وعلى بقية الأقوال ، هو في حق المنافقين . وقد خُرِّج من هذه الأقوال في معنى { يثنون صدورهم } قولان :
أحدهما : أنه حقيقة في الصدور .
والثاني : أنه كتمان ما فيها .
قوله تعالى : { ليستخفوا منه } في هاء «منه» قولان :
أحدهما : أنها ترجع إِلى الله تعالى .
والثاني : إِلى رسوله صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { ألا حين يستغشون ثيابهم } قال أبو عبيدة : العرب تدخل «ألا» توكيداً وإِيجاباً وتنبيهاً . قال ابن قتيبة : «يستغشون ثيابهم» أي : يتغشَّونها ويستترون بها . قال قتادة : أخفى ما يكون ابن آدم ، إِذا حنى ظهره ، واستغشى ثيابه ، وأضمر همَّه في نفسه . قال ابن الأنباري : أعلم الله أنه يعلم سرائرهم كما يعلم مظهراتهم .
قوله تعالى : { إِنه عليم بذات الصدور } وقد شرحناه في [ آل عمران : 119 ] .

وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

قوله تعالى : { وما من دابة في الأرض } قال أبو عبيدة : «مِنْ» من حروف الزوائد ، والمعنى : وما دابة ، والدابة : اسم لكل حيوان يدب . وقوله : { إِلا على الله رزقها } قال العلماء : فضلاً منه ، لا وجوباً عليه . و«على» هاهنا بمعنى «مِنْ» وقد ذكرنا المستقر والمستودع في سورة [ الأنعام : 67 ] .
قوله تعالى : { كل في كتاب } أي : ذلك عند الله في اللوح المحفوظ ، هذا قول المفسرين . وقال الزجاج : المعنى : ذلك ثابت في عِلم الله عز وجل .
قوله تعالى : { وكان عرشه على الماء } قال ابن عباس : عرشه : سريره ، وكان الماء إِذْ كان العرش عليه على الريح . قال قتادة : ذلك قبل أن يخلق السمواتِ والأرض .
قوله تعالى : { ليبلوَكم } أي : ليختبركم الاختبار الذي يجازي عليه ، فيثيت المعتبر بما يرى من آيات السموات والأرض ، ويعاقب أهل العناد .
قوله تعالى : { أيكم أحسن عملاً } فيه أربعة أقوال :
أحدها : أيكم أحسن عقلاً ، وأورع من محارم الله عز وجل ، وأسرع في طاعة الله ، رواه ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أيكم أعمل بطاعة الله ، قاله ابن عباس .
والثالث : أيكم أتم عقلاً ، قاله قتادة .
والرابع : أيكم أزهد في الدنيا ، قاله الحسن وسفيان .
قوله تعالى : { إن هذا إِلا سحر مبين } قال الزجاج : السحر باطل عندهم ، فكأنهم قالوا : إِن هذا إِلا باطل بيِّن ، فأعلمهم الله تعالى أن القدرة على خلق السموات والأرض تدل على بعث الموتى .

وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)

قوله تعالى : { ولئن أخَّرنا عنهم العذاب } قال المفسرون : هؤلاء كفار مكة ، والمراد بالأمَّة المعدودة : الأجل المعلوم ، والمعنى : إلى مجيء أمة وانقراض أخرى قبلها . { ليقولن ما يحبسه } وإِنما قالوا ذلك تكذيبا واستهزاءً .
قوله تعالى : { ألا يوم يأتيهم } وقال : { ليس مصروفاً عنهم } . وقال بعضهم : لا يُصرف عنهم العذاب إِذا أتاهم . وقال آخرون : إِذا أخذتهم سيوف رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تُغمد عنهم حتى يباد أهل الكفر وتعلوَ كلمة الإِخلاص .
قوله تعالى : { وحاق بهم } قال أبو عبيدة : نزل بهم وأصابهم .
وفي قوله : { ما كانوا به يستهزؤن } قولان .
أحدهما : أنه الرسول والكتاب ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، فيكون المعنى : حاق بهم جزاء استهزائهم .
والثاني : أنه العذاب ، كانوا يستهزئون بقولهم : { ما يحسبه } ، وهذا قول مقاتل .

وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)

قوله تعالى : { ولئن أذقنا الإِنسان منا رحمة } اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في الوليد بن المغيرة ، قاله ابن عباس .
والثاني : في عبد الله بن أبي أمية المخزومي ، ذكره الواحدي .
والثالث : أن الإِنسان هاهنا اسم جنس ، والمعنى : ولئن أذقنا الناس ، قاله الزجاج . والمراد بالرحمة : النعمة ، من العافية ، والمال ، والولد . واليؤوس : القنوط ، قال أبو عبيدة : هو فعول من يئستُ . قال مقاتل : إِنه ليؤوس عند الشدة من الخير ، كفور لله في نعمه في الرخاء .

وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)

قوله تعالى : { ولئن أذقناه نَعماء } قال ابن عباس : صحة وسَعة في الرزق . { بعد ضراء مَسَّتْهُ } بعد مرض وفقر . { ليقولَنَّ ذهب السيئات عني } يريد الضر والفقر . { إِنه لَفَرِحٌ } أي : بَطِرٌ . { فخور } قال ابن عباس : يفاخر أوليائي بما أوسعت عليه .
فان قيل : ماوجه عيب الإِنسان في قوله : { ذهب السيئات عني } ، وما وجه ذمه على الفرح ، وقد وصف الله الشهداء فقال : { فرحين } ؟
فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، فقال : إِنما عابه بقوله : { ذهب السيئات عني } لأنه لم يعترف بنعمة الله ، ولم يحمَده على ما صُرف عنه . وإِنما ذمه بهذا الفرح ، لأنه يرجع إِلى معنى المرح والتكبُّر عن طاعة الله ، قال الشاعر :
ولا يُنْسينيَ الحَدَثَانُ عِرْضِي ... ولا أُلقِي من الفَرَحِ الإِزارا
يعني من المرح . وفرح الشهداءِ فرحٌ لا كِبْر فيه ولا خُيلاء ، بل هو مقرون بالشكر فهو مستحسن .

إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)

قوله تعالى : { إلا الذين صبروا } قال الفراء : هذا الاستثناء من الانسان ، لأنه في معنى الناس ، كقوله : { إِن الإِنسان لفي خسر إِلا الذين آمنوا } [ العصر : 2 ، 3 ] . وقال الزجاج : هذا استثناء ليس من الأول ، والمعنى : لكنِ الذين صبروا . قال ابن عباس : الوصف الأول للكافر ، والذين صبروا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)

قوله تعالى : { فلعلك تارك بعض ما يوحى إِليك } سبب نزولها أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : { أئت بقرآنٍ غيرِ هذا أو بدِّله } [ يونس : 15 ] ، فهمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يُسمعهم عيب آلهتهم رجاء أن يتَّبعوه ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل . وفي معنى الآية قولان :
أحدهما : فلعلك تارك تبليغ بعض ما يوحى إِليك من أمر الآلهة ، وضائق بما كُلّفتَه من ذلك صدرُك ، خشية أن يقولوا . لولا أُنزل عليه كنز .
والثاني : فلعلك لِعظيم ما يرد على قلبك من تخليطهم تتوهَّمُ أنهم يُزيلونك عن بعض ما أنت عليه من أمر ربك . فأما الضائق ، فهو بمعنى الضيِّق . قال الزجاج : ومعنى { أن يقولوا } : كراهية أن يقولوا . وإِنما عليك أن تنذرهم بما يُوحى إِليك ، وليس عليك أن تأتيهم باقتراحهم من الآيات .
قوله تعالى : { والله على كل شيء وكيل } فيه قولان :
أحدهما : أنه الحافظ .
والثاني : الشهيد ، وقد ذكرناه في [ آل عمران : 173 ] .

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)

قوله تعالى : { أم يقولون افتراه } «أم» بمعنى «بل» ، و«افتراه» أتى به من قِبَل نفسه . { قل فأتوا } أنتم في معارضتي { بعشر سُوَر مثله } في البلاغة { مفتريات } بزعمكم ودعواكم { وادعوا من استطعتم من دون الله } إِلى المعاونة على المعارضة { إِن كنتم صادقين } في قولكم : «افتراه» .
{ فإن لم يستجيبوا لكم } أي : يجيبوكم إِلى المعارضة . فقد قامت الحجة عليهم لكم .
فإن قيل : كيف وحَّد القول في قوله : «قل فأتوا» ثم جمع في قوله «فإن لم يستجيبوا لكم»؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده في الموضعين ، فيكون الخطاب له بقوله «لكم» تعظيماً ، لأن خطاب الواحد بلفظ الجميع تعظيم ، هذا قول المفسرين .
والثاني : أنه وحَّد في الأول لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم . وجمع في الثاني لمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قاله ابن الأنباري .
قوله تعالى : { فاعلموا أنما أُنزل بعلم الله } فيه قولان :
أحدهما : أنزله وهو عالم بانزاله ، وعالم بأنه حق من عنده .
والثاني : أنزله بما أخبر فيه من الغيب ، ودلَّ على ما سيكون وما سلف ، ذكرهما الزجاج .
قوله تعالى : { وأن لا إِله إِلا هو } أي : واعلموا ذلك . { فهل أنتم مسلمون } استفهام بمعنى الأمر . وفيمن خوطب به قولان :
أحدهما : أهل مكة ، ومعنى إِسلامهم : إِخلاصهم لله العبادة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)

قوله تعالى : { مَنْ كان يريد الحياة الدنيا وزينتها } اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال :
أحدها : أنها عامة في جميع الخلق ، وهو قول الأكثرين .
والثاني : أنها في أهل القبلة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : أنها في اليهود والنصارى ، قاله أنس .
والرابع ، أنها في أهل الرياء ، قاله مجاهد .
وروى عطاء عن ابن عباس : من كان يريد عاجل الدنيا ولا يؤمن بالبعث والجزاء . وقال غيره : إِنما هي في الكافر ، لأن المؤمن يريد الدنيا والآخرة .
قوله : { نوفّ إِليهم أعمالهم } أي : أجور أعمالهم { فيها } . قال سعيد بن جبير : أُعطوا ثواب ما عملوا من خير في الدنيا . وقال مجاهد : مَنْ عمل عملاً من صِلة ، أو صدقة ، لا يريد به وجه الله ، أعطاه الله ثواب ذلك في الدنيا ، ويدرأ به عنه في الدنيا .
قوله تعالى : { وهم فيها } قال ابن عباس : أي في الدنيا . { لا يُبخسون } أي : لا يُنقصون من أعمالهم في الدنيا شيئاً . { أولئك الذين } عملوا لغير الله { ليس لهم في الآخرة إِلا النار وحبط ما صنعوا } أي : ما عملوا في الدنيا من حسنة { وباطل ما كانوا } لغير الله { يعملون } .
فصل
وذكر قوم من المفسرين ، منهم مقاتل ، أن هذه الآية اقتضت أن من أراد الدنيا بعمله ، أعطي فيها ثواب عمله من الرزق والخير ، ثم نُسخ ذلك بقوله : { عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } [ الاسراء : 18 ] ، وهذا لا يصح ، لأنه لا يوفّي إِلا لمن يريد .
. قوله تعالى : { أفمن كان على بيِّنة من ربه } في المراد بالبينة أربعة أقوال :
أحدها : أنها الدين ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله الضحاك .
والثالث : القرآن ، قاله ابن زيد .
والرابع : البيان ، قاله مقاتل . وفي المشار إليه ب «مَنْ» قولان :
أحدهما : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس والجمهور .
والثاني : أنهم المسلمون ، وهو يخرَّج على قول الضحاك . وفي قوله : { ويتلوه } قولان :
أحدهما : يتبعه .
والثاني : يقرؤه . وفي هاء «يتلوه» قولان :
أحدهما : أنها ترجع إِلى النبي صلى الله عليه وسلم .
والثاني : إِلى القرآن ، وقد سبق ذكره في قوله : { فأْتوا بعشرِ سُوَرٍ مثلِهِ مفتريات } [ هود 13 ] .
وفي المراد بالشاهد ثمانية أقوال :
أحدها : أنه جبريل ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، وإِبراهيم في آخرين .
والثاني : أنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يتلو القرآن ، قاله علي بن أبي طالب ، والحسن ، وقتادة في آخرين .
والثالث : أنه علي بن أبي طالب . و «يتلوه» بمعنى يتبعه ، رواه جماعة عن علي بن أبي طالب ، وبه قال محمد بن علي ، وزيد بن علي .
والرابع : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو شاهد من الله تعالى ، قاله الحسين بن علي عليه السلام .

والخامس : أنه ملَك يحفظه ويسدده ، قاله مجاهد .
والسادس : أنه الإِنجيل يتلو القرآن بالتصديق ، وإِن كان قد أُنزل قبله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشَّرت به التوراة ، قاله الفراء .
والسابع : أنه القرآن ونظمه وإِعجازه ، قاله الحسين بن الفضل .
والثامن : أنه صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه ومخايله ، لأن كل عاقل نظر إِليه علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي هاء «منه» ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها ترجع إِلى الله تعالى .
والثاني : إِلى النبي صلى الله عليه وسلم .
والثالث : إِلى البيِّنة .
قوله تعالى : { ومِنْ قبله } في هذه الهاء ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها ترجع إِلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد .
والثاني : إِلى القرآن ، قاله ابن زيد .
والثالث : إِلى الإِنجيل ، أي : ومن قبل الإِنجيل { كتاب موسى } يتبع محمداً بالتصديق له ، ذكره ابن الأنباري . قال الزجاج : والمعنى : وكان من قبل هذا كتاب موسى دليلاً على أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فيكون «كتاب موسى» عطفا على قوله : { ويتلوه شاهد منه } أي : ويتلوه كتاب موسى ، لأن موسى وعيسى بشَّرا بالنبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإِنجيل . ونصب «إِماما» على الحال .
فإن قيل : كيف تتلوه التوراة ، وهي قبله؟
قيل : لما بشَّرت به ، كانت كأنها تالية له ، لأنها تبعته بالتصديق له .
وقال ابن الأنباري : { كتاب موسى } ، مفعول في المعنى ، لأن جبريل تلاه على موسى ، فارتفع الكتاب ، وهو مفعول بمضمر بعده ، تأويله : ومن قبله كتاب موسى كذاك ، أي : تلاه جبريل أيضاً ، كما تقول العرب : أكرمت أخاك وأبوك ، فيرفعون الأب ، وهو مكرَم على الاستئناف ، بمعنى : وأبوك مكرَم أيضاً . قال : وذهب قوم إِلى أن كتاب موسى فاعل ، لأنه تلا محمداً بالتصديق كما تلاه الإِنجيل .
فصل
فتلخيص الآية : أفمن كان على بيِّنة من ربه كمن لم يكن؟ قال الزجاج : ترك المضادَّ له ، لأن في ما بعده دليلاً عليه ، وهو قوله : { مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم } [ هود 24 ] . وقال ابن قتيبة : لما ذكر قبل هذه الآية قوما ركنوا إِلى الدنيا ، جاء بهذه الآية ، وتقدير الكلام : أفمن كانت هذه حاله كمن يريد الدنيا؟ فاكتفى من الجواب بما تقدم ، إِذ كان فيه دليل عليه . وقال ابن الأنباري : إِنما حُذف لانكشاف المعنى ، والمحذوف المقدَّر كثير في القرآن والشعر ، قال الشاعر :
فأُقْسِمُ لَوْ شيءٌ أتانا رَسُولُه ... سِواكِ ، وَلكِن لم نَجِدْ لكِ مَدْفعا
فإن قلنا : إِن المراد بمن كان على بيِّنة من ربه ، رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمعنى الآية : ويتبع هذا النبيَّ شاهد ، وهو جبريل عليه السلام . «منه» أي : من الله . وقيل : «شاهد» هو علي بن أبي طالب ، «منه» أي : من النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : «يتلوه» يعني القرآن ، يتلوه جبريل ، وهو شاهد لمحمد صلى الله عليه وسلم أن الذي يتلوه جاء من عند الله تعالى .

وقيل . ويتلو رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وهو شاهد من الله . وقيل ويتلو لسانُ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآنَ ، فلسانه شاهد منه . وقيل : ويتبع محمداً شاهد له بالتصديق ، وهو الإِنجيل من الله تعالى . وقيل ويتبع هذا النبي شاهد من نفسه ، وهو سَمْتُه وهديه الدالُّ على صدقه . وإِن قلنا : إِن المراد بمن كان على بيِّنة من ربه المسلمون ، فالمعنى : أنهم يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو البيِّنة ، ويتبع هذا النبي شاهد له بصدقه .
قوله تعالى : { إِماماً ورحمة } إِنما سماه إِماماً ، لأنه كان يهتدى به ، «ورحمة» أي : وذا رحمة ، وأراد بذلك التوراة ، لأنها كانت إِماما وسبباً لرحمة من آمن بها .
قوله تعالى : { أولئك } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه إِشارة إِلى أصحاب موسى .
والثاني : إِلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
والثالث : إِلى أهل الحق من أُمة موسى وعيسى ومحمد .
وفي هاء «به» ثلاثة أقوال . أحدها : أنها ترجع إِلى التوراة . والثاني إِلى القرآن . والثالث : إِلى محمد صلى الله عليه وسلم .
وفي المراد بالأحزاب هاهنا أربعة أقوال .
أحدها : جميع الملل ، قاله سعيد بن جبير .
والثاني : اليهود والنصارى ، قاله قتادة .
والثالث : قريش ، قاله السدي .
والرابع : بنو أُمية ، وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي ، وآل أبي طلحة بن عبد العُزّى ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { فالنار موعده } أي : إِليها مصيره ، قال حسان بن ثابت :
أَوْرَدْتُمُوها حِيَاضَ المَوْتِ ضَاحِيَةً ... فالنَّار مَوْعِدُها والمَوْتُ لاَ قيِهَا
قوله تعالى : { فلا تك في مرية منه } قرأ الحسن ، وقتادة : «مُرية» بضم الميم أين وقع . وفي المكني عنه قولان :
أحدهما : أنه الإِخبار بمصير الكافر به ، فالمعنى : فلا تك في شك أن موعد المكذِّب به النار ، وهذا قول ابن عباس .
والثاني : أنه القرآن ، فالمعنى : فلا تك في شك من أن القرآن من الله تعالى ، قاله مقاتل . قال ابن عباس : والمراد بالناس هاهنا : أهل مكة .
قوله تعالى : { أولئك يُعْرَضُونَ على ربهم } قال الزجاج : ذكر عرضهم توكيداً لحالهم في الانتقام منهم ، وإِن كان غيرهم يعرض أيضاً .
فأما «الأشهاد» ففيهم خمسة أقوال :
أحدها : أنهم الرسل ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : الملائكة ، قاله مجاهد ، وقتادة .
والثالث : الخلائق ، روي عن قتادة أيضاً . وقال مقاتل : «الأشهاد» الناس ، كما يقال : على رؤوس الأشهاد ، أي : على رؤوس الناس .
والرابع : الملائكة والنبيون وأُمة محمد صلى الله عليه وسلم يشهدون على الناس ، والجوارح تشهد على ابن آدم ، قاله ابن زيد .
والخامس : الأنبياء والمؤمنون ، قاله الزجاج . قال ابن الأنباري : وفائدة إِخبار الأشهاد بما يعلمه الله : تعظيم بالأمر المشهود عليه ، ودفع المجاحدة فيه .

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)

قوله تعالى : { الذين يصدون عن سبيل الله } قد تقدم تفسيرها في [ الأعراف : 45 ] .
قوله تعالى : { وهم بالآخرة هم كافرون } قال الزجاج : ذُكرت «هم» ثانية على جهة التوكيد لشأنهم في الكفر .

أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21)

قوله تعالى : { أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض } قال ابن عباس : لم يُعجزوني أن آمر الأرض فتُخسف بهم . { وما كان لهم من دون الله من أولياء } أي : لا وليِّ لهم ممن يعبدون يمنعهم مني . وقال ابن الأنباري : لما كانت عادة العرب جارية بقولهم : لا وزَرَ لك مني ولا نَفَق ، يعنون بالوزر : الجبل ، والنفق : السرَبَ ، وكلاهما يلجأ إِليه الخائف ، أعلم الله تعالى أن هؤلاء الكافرين لا يسبقونه هرباً ، ولا يجدون ما يحجز بينهم وبين عذابه من جميع ما يستر من الأرض ويُلجأ إِليه . قال : وقوله : «من أولياءَ» يقتضي محذوفاً ، تلخيصه : من أولياءَ يمنعونهم من عذاب الله ، فحذف هذا لشهرته .
قوله تعالى : { يضاعَف لهم العذاب } يعني الرؤساء الصادِّين عن سبيل الله ، وذلك لإِضلالهم أتباعهم واقتداءِ غيرهم بهم . وقال الزجاج : «لم يكونوا معجزين في الأرض» أي : في دار الدنيا ، ولا لهم ولي يمنع من انتقام الله ، ثم استأنف { يضاعف لهم العذاب } لعظم كفرهم بنبيه وبالبعث والنشور .
قوله تعالى : { ما كانوا يستطيعون السمع } فيمن عني بهذا قولان :
أحدهما : أنهم الكفار . ثم في معناه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنهم لم يقدروا على استماع الخير ، وإِبصار الحق ، وفعل الطاعة ، لأن الله تعالى حال بينهم وبين ذلك ، هذا معنى قول ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : أن المعنى : يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع ولا يسمعونه ، وبما كانوا يبصرون حُجج الله ولا يعتبرون بها ، فحذف الباء ، كما تقول العرب : لأجزينَّك ما عملت ، وبما عملت ، ذكره الفراء ، وأنشد ابن الأنباري في الاحتجاج له :
نُغالي اللحمَ للأضياف نيِئا ... ونبذُله إِذا نضِجَ القُدورُ
أراد : نغالي باللحم .
والثالث : أنهم من شدة كفرهم وعداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ما كانوا يستطيعون أن يتفهموا ما يقول ، قاله الزجاج .
والقول الثاني : أنهم الأصنام ، فالمعنى : ما كان للآلهة سمع ولا بصر ، فلم تستطع لذلك السمع ، ولم تكن تبصر . فعلى هذا ، يرجع قوله : «ما كانوا» إِلى أوليائهم ، وهي الأصنام ، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس أيضاً .

لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)

قوله تعالى : { لا جرم } قال ابن عباس : يريد : حقاً إِنهم الأخسرون . وقال الفراء : «لا جرم» كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة ، فجرت على ذلك ، وكثر استعمالهم إِياها حتى صارت بمنزلة «حقا» ، ألا ترى أن العرب تقول : لا جرم لآتينَّك ، لا جرم لقد أحسنت ، وأصلها من جرمتُ ، أي : كسبت الذنب . قال الزجاج : ومعنى «لا جرم» : «لا» نفي لما ظنوا أنه ينفعهم ، كأن المعنى : لا ينفعهم ذلك جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ، أي : كسب لهم ذلك الفعلُ الخسرانَ . وذكر ابن الأنباري أن «لا» رد على أهل الكفر فيما قدَّروه من اندفاع الشر عنهم في الآخرة ، والمعنى : لا يندفع عنهم عذابي ، ولا يجدون ولياً يصرف عنهم نقمتي ، ثم ابتدأ مستأنفاً «جرم» ، قال : وفيها قولان :
أحدهما : أنها بمعنى : كسب كفرهم وما قدَّروا من الباطل وقوعَ العذاب بهم . ف «جرم» فعل ماض ، معناه : كسب ، وفاعله مُضمر فيه من ذكر الكفر وتقرير الباطل .
والثاني : أن معنى جرم : أحقَّ وصحَّحَ ، وهو فعل ماض ، وفاعله مضمر فيه ، والمعنى : أحقَّ كفرُهم وقوعَ العذاب والخسران بهم ، قال الشاعر :
ولقد طَعَنْتَ أبا عُيَيْنَةَ طعنةً ... جرمت فزارة بعدها أن يَغْضَبُوا
أراد : حقت الطعنةُ فزارة بالغضب . ومن العرب من يغيِّرُ لفظ «جرم» مع «لا» خاصة ، فيقول بعضهم : «لا جُرْم» ، ويقول آخرون : «لا جَرْ» باسقاط الميم ، ويقال : «لاذا جرم» و «لاذا جر» بغير ميم ، و لا إِن ذا جرم } و «لا عن ذا جرم» ، ومعنى اللغات كلها : حقاً .
قوله تعالى : { وأخبتوا إِلى ربهم } فيه سبعة أقوال :
أحدها : خافوا ربهم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثاني : أنابوا إلى ربهم ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثالث : ثابوا إِلى ربهم ، قاله قتادة .
والرابع : اطمأنوا ، قاله مجاهد .
والخامس : أخلصوا ، قاله مقاتل .
والسادس : تخشَّعوا لربهم ، قاله الفراء .
والسابع : تواضعوا لربهم ، قاله ابن قتيبة .
فإن قيل : لم أوثرت «إِلى» على اللام في قوله «وأخبتوا إِلى ربهم» ، والعادة جارية بأن يقال : أخبتوا لربهم؟
فالجواب : أن المعنى : وَجَّهوا خوفَهم وخشوعهم وإِخلاصهم إِلى ربهم ، واطمأنوا إِلى ربهم . قال الفراء : وربما جعلت العرب «إِلى» في موضع اللام ، كقوله : { بأن ربك أوحى لها } [ الزلزال : 5 ] ، وقوله : { الذي هدانا لهذا } [ الأعراف : 43 ] . وقد يجوز في العربية : فلان يخبت إِلى الله ، يريد : يفعل ذلك موجهَه إِلى الله . قال بعض المفسرين : هذه الآية نازلة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما قبلها نازل في المشركين . ثم ضرب للفريقين مثلاً ، فقال : { مثل الفريقين كالأعمى والأصم } قال مجاهد : الفريقان : المؤمن والكافر . فأما الأعمى والأصم فهو الكافر ، وأما البصير والسميع فهو المؤمن . قال قتادة : الكافر عَمِيَ عن الحق وصُمَّ عنه ، والمؤمن أبصرَ الحق وسمعَه ثم انتفع به .

وقال أبو عبيدة : في الكلام ضمير ، تقديره : مثل الفريقين كمثل الأعمى . وقال الزجاج : مثل الفريقين المسلِمَين كالبصير والسميع ، ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصم ، لأنهم في عداوتهم وتركهم للفهم بمنزلة من لايسمع ولا يبصر .
قوله تعالى : { هل يستويان مثلاً } أي : هل يستويان في المشابهة؟
والمعنى : كما لا يستويان عندكم ، كذلك لا يستوي المؤمن والكافر عند الله . وقال أبو عبيدة : «هل» هاهنا بمعنى الإِيجاب ، لا بمعنى الاستفهام ، والمعنى : لا يستويان . قال الفراء : وإِنما لم يقل : «يستوون» لأن الأعمى والأصم من صفةِ واحدٍ ، والسميع والبصير من صفةِ واحدٍ ، كقول القائل : مررت بالعاقل واللبيب ، وهو يعني واحداً ، قال الشاعر :
وما أدْرِي إِذا يمَّمْتُ أرضًا ... أريدُ الخيْرَ أيّهما يليني
فقال : أيهما . وإِنما ذكر الخير وحده ، لأن المعنى يُعرف ، إِذ المبتغي للخير متَّقٍ للشر . وقال ابن الأنباري : الأعمى والأصم صفتان لكافر ، والسميع والبصير صفتان لمؤمن ، فرُدَّ الفعلُ إِلى الموصوفين بالأوصاف الأربعة ، كما تقول : العاقل والعالم ، والظالم والجاهل ، حضرا مجلسي ، فتثنِّي الخبر بعد ذكرك أربعة ، لأن الموصوف بالعلم هو الموصوف بالعقل ، وكذلك المنعوت بالجهل هو المنعوت بالظلم ، فلما كان المنعوتان اثنين ، رجع الخبر إِليهما ، ولم يُلتفت إِلى تفريق الأوصاف ، ألا ترى أنه يسوغ أن تقول : الأديب واللبيب والكريم والجميل قصدني ، فتوحِّد الفعل بعد أوصاف لعلة أن الموصوف بهن واحد ، ولا يمتنع عطف النعوت على النعوت بحروف العطف ، والموصوفُ واحد ، فقد قال تعالى : { التائبون العابدون } [ التوبة : 112 ] ثم قال : { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } فلم يقتض دخولُ الواو وقوعَ خلاف بين الآمرين والناهين ، وقد قيل : الآمر بالمعروف ، ناهٍ عن المنكر في حال أمره ، وكان دخول الواو دلالة على الآمر بالمعروف ، لأن الأمر بالمعروف لا ينفرد دون النهي عن المنكر ، كما ينفرد الحامدون بالحمد دون السائحين ، والسائحون بالسياحة دون الحامدين ، ويدل أيضاً على أن العرب تنسق النعت على النعت والمنعوت واحد ، كقول الشاعر يخاطب سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان :
يَظُنُّ سعيدٌ وابنُ عمروٍ بأننَّي ... إِذا سامَني ذلاً أكونُ به أرْضَى
فنسق ابن عمرو على سعيد ، وهو سعيد .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)

قوله تعالى : { ولقد ارسلنا نوحاً إِلى قومه أني } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي «أني» بفتح الألف ، والتقدير : أرسلناه بأني ، وكأن الوجه بأنه لهم نذير ، ولكنه على الرجوع من الإِخبار عن الغائب إِلى خطاب نوح قومه . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة «إِني» بكسر الألف ، فحملوه على القول المضمر ، والتقدير : فقال لهم : إِني لكم نذير .
قوله تعالى : { ما نراك إِلا بشراً مثلنا } أي : إِنساناً مثلنا ، لا فضل لك علينا . فأما الأراذل ، فقال ابن عباس : هم السَّفَلة . وقال ابن قتيبة : هم جمع «أرذل» ، يقال : رجل رَذْل ، وقد رَذُل رذالة ورُذُولة . ومعنى الأراذل : الشرار .
قوله تعالى : { بادي الرأي } قرأ الأكثرون «بادِيَ» بغير همز . وقرأ أبو عمرو بالهمز بعد الدال . وكلهم همز «الرأي» غير أبي عمرو . وللعلماء في معنى «بادي» إذا لم يُهمز ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المعنى : ما نرى أتباعك إِلا سفلتنا وأرذالنا في بادي الرأي لكل ناظر ، يعنون أن ما وصفناهم به من النقص لا يخفى على أحد فيخالفنا ، هذا مذهب مقاتل في آخرين .
والثاني : أن المعنى أن هؤلاء القوم اتَّبعوك في ظاهر ما يُرى منهم ، وطويَّتُهم على خلافك .
والثالث : أن المعنى : اتبعوك في ظاهر رأيهم ، ولم يتدبروا ما قلتَ ، ولو رجعوا إِلى التفكر لم يتبعوك ، ذكر هذين القولين الزجاج . قال ابن الأنباري : وهذه الثلاثة الأقوال على قراءة من لم يهمز ، لأنه مِن بدا ، يبدو : إِذا ظهر . فأما من همز «بادىء» فمعناه : ابتداء الرأي ، أي : اتَّبعوك أول ما ابتدؤوا ينظرون ، ولو فكروا لم يعدلوا عن موافقتنا في تكذيبك .
قوله تعالى : { وما نرى لكم علينا من فضل } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : من فضل في الخلق ، قاله ابن عباس .
والثاني : في الملك والمال ونحو ذلك ، قاله مقاتل .
والثالث : ما فُضِّلتم باتِّباعكم نوحاً ، ومخالفتكم لنا بفضيلة نتبعكم طلبا لها ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { بل نظنكم كاذبين } فيه قولان :
أحدهما : نتيقنكم ، قاله الكلبي .
والثاني : نحسبكم ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { أرأيتم إِن كنت على بينة من ربي } أي : على يقين وبصيرة . قال ابن الأنباري : وقوله : «إِن كنت» شرط لا يوجب شكّاً يلحقه ، لكن الشك يلحق المخاطَبين من أهل الزيغ ، فتقديره : إِن كنتُ على بينة من ربي عندكم . { وآتاني رحمة من عنده } فيها قولان .
أحدهما : أنها النبوَّة ، قاله ابن عباس .
والثاني : الهداية ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { فعُمِّيت عليكم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «فَعَمِيَتْ» بتخفيف الميم وفتح العين . قال ابن قتيبة : والمعنى : عميتم عنها ، يقال : عمي عليَّ هذا الأمر : إِذا لم أفهمه ، وعميت عنه بمعنى . قال الفراء : وهذا مما حوَّلت العرب الفعل إِليه ، وهو في الأصل لغيره ، كقولهم : دخل الخاتم في يدي ، والخف في رجلي ، وإِنما الإِصبع تدخل في الخاتم ، والرجل في الخف ، واستجازوا ذلك إِذ كان المعنى معروفاً .

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : «فعُمِّيَتْ» بضم العين وتشديد الميم . قال ابن الأنباري : ومعنى ذلك : فعمّاها الله عليكم إِذ كنتم ممن حُكم عليه بالشقاء . وكذلك قرأ أُبَيّ بن كعب ، والأعمش : «فعمّاها عليكم»
وفي المشار إليها قولان :
أحدهما : البيِّنة .
والثاني : الرحمة .
قوله تعالى : { أنلزمكموها } أي : أنُلزمكم قبولها؟ وهذا استفهام معناه الإِنكار ، يقول : لانقدر أن نُلزمكم من ذات أنفسنا . قال قتادة : والله لو استطاع نبي الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه ، ولكن لم يملك ذلك . وقيل : كان مراد نوح عليه السلام ردَّ قولهم : { وما نرى لكم علينا من فضل } فبيَّن فضله وفضل مَن آمن به بأنه على بيِّنة من ربه ، وقد آتاه رحمةً من عنده ، وسُلب المكذِّبون ذلك .
قوله تعالى : { لا أسألكم عليه } أي : على نصحي ودعائي إياكم { مالاً } فتتهموني . وقال ابن الأنباري : لما كانت الرحمة بمعنى الهدى والإِيمان ، جاز تذكيرها .
قوله تعالى : { وما أنا بطارد الذين آمنوا } قال ابن جريج : سألوه طردهم أنفة منهم ، فقال : لا يجوز لي طردهم ، إِذ كانوا يلقون الله فيجزيهم بايمانهم ، ويأخذ لهم ممن ظلمهم وصغَّر شؤونهم .
وفي قوله : { ولكني أراكم قوما تجهلون } قولان :
أحدهما : تجهلون أن هذا الأمر من الله تعالى ، قاله ابن عباس .
والثاني : تجهلون لأمركم إِياي بطرد المؤمنين ، قاله أبو سليمان .

وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)

قوله تعالى : { ويا قوم من ينصرني } أي : من يمنعني من عذاب الله إِن طردتهم .
قوله تعالى : { ولا أقول لكم عندي خزائن الله } قال ابن الأنباري : أراد بالخزائن : عِلمَ الغيب المطوي عن الخلق ، لأنهم قالوا له : إنما اتَّبعك هؤلاء في الظاهر وليسوا معك ، فقال لهم : ليس عندي خزائن غيوب الله فأعلم ما تنطوي عليه الضمائر . وإِنما قيل للغيوب : خزائن ، لغموضها عن الناس واستتارها عنهم . قال سفيان بن عيينة : إِنما آيات القرآن خزائن ، فإذا دخلتَ خزانةً فاجتهد أن لا تخرج منها حتى تعرف ما فيها .
قوله تعالى : { ولا أعلم الغيب } قيل : إِنما قال لهم هذا ، لأن أرضهم أجدبت ، فسألوه : متى يجيء المطر؟ وقيل : بل سألوه : متى يجيء العذاب؟ فقال : ولا أعلم الغيب . وقوله : { ولا أقول إِني ملَك } جواب لقولهم : { ما نراك إِلا بشراً مثلَنا } [ هود : 27 ] . { ولا أقول للذين تزدري أعينكم } أي : تحتقر وتستصغر المؤمنين . قال الزجاج : «تزدري» تستقل وتستخِس ، يقال : زريت على الرجل : إِذا عبت عليه وخسست فعله ، وأزريت به : إِذا قصرت به . وأصل تزدري : تزتري ، إِلا أن هذه التاء تبدل بعد الزاي دالاً ، لأن التاء من حروف الهمس ، وحروف الهمس خفية ، فالتاء بعد الزاي تخفى ، فأبدلت منها الدال لجهرها .
قوله تعالى : { لن يؤتيهم الله خيراً } قال ابن عباس : إِيمانا . ومعنى الكلام : ليس لي أن أطَّلِع على ما في نفوسهم فأقطع عليهم بشيء ، وليس لاحتقاركم إِياهم يبطل أجرهم . { إِني إِذاً لمن الظالمين } إِن قلت هذا الذي تقدم ذكره ، وقيل إِن طردتهم .
قوله تعالى : { قد جادلتنا } قال الزجاج : الجدال : هو المبالغة في الخصومة والمناظرة ، وهو مأخوذ من الجَدْل ، وهو شدة الفتل ، ويقال للصقر : أجدل ، لأنه من أشد الطير . ويُقرأ { فأكثرت جَدْلنا } .
قوله تعالى : { فائتنا بما تعدنا } قال ابن عباس : يعنون العذاب . { إِن كنت من الصادقين } أنه يأتينا .
قوله تعالى : { إِن أردت أن أنصح لكم } أي : أنصحكم . وفي هذه الآية شرطان ، فجواب الأول النصح ، وجواب الثاني النفع .
قوله تعالى : { إِن كان الله يريد أن يُغويكم } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : يُضلكم ، قاله ابن عباس .
والثاني : يُهلككم ، حكاه ابن الأنباري : وقال : هو قول مرغوب عنه .
والثالث : يضلكم ويهلككم ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { هو ربكم } أي : هو أولى بكم ، يتصرف في ملكه كما يشاء { وإِليه تُرجعون } بعد الموت .

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)

قوله تعالى : { أم يقولون } قال الزجاج : المعنى : أيقولون : { افتراه } ؟ قال ابن قتيبة : الافتراء : الاختلاق . { فعليَّ إِجرامي } أي : جرم ذلك الاختلاق إِن كنتُ فعلت . { وأنا بريء مما تُجرمون } في التكذيب . وقرأ أبو المتوكل ، وابن السميفع : «فعليَّ أجرامي» بفتح الهمزة .

وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

قوله تعالى : { وأوحي إِلى نوح أَنه لن يؤمن من قومك إِلا من قد آمن } قال المفسرون : لما أوحي إِليه هذا ، استجاز الدعاء عليهم ، فقال : { لا تذرْ على الأرض من الكافرين دياراً } [ نوح 26 ] .
قوله تعالى : { فلا تبتئس } قال ابن عباس ، ومجاهد ، لا تحزن . وقال الفراء ، والزجاج : لا تستكن ولا تحزن . قال أبو صالح عن ابن عباس : فلا تحزن إِذا نزل بهم الغرق { بما كانوا يفعلون } .

وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)

قوله تعالى : { واصنع الفلك } أي : واعمل السفينة .
وفي قوله : { بأعيننا } ثلاثة أقوال :
أحدها : بمرأىً منا ، قاله ابن عباس .
والثاني : بحفظنا ، قاله الربيع .
والثالث : بعلمنا ، قاله مقاتل . قال ابن الأنباري : إِنما جمع على مذهب العرب في إِيقاعها الجمع على الواحد ، تقول : خرجنا إِلى البصرة في السفن ، وإِنما جمع ، لأن من عادة الملك أن يقول : أمرنا ونهينا .
وفي قوله : { ووحينا } قولان .
أحدهما : وأمرنا لك أن تصنعها .
والثاني : وبتعليمنا إِياك كيف تصنعها .
قوله تعالى : { ولاتخاطبني في الذين ظلموا } فيه قولان :
أحدهما : لاتسألني الصفح عنهم .
والثاني : لاتخاطبني في إِمهالهم .
وإِنما نهي عن الخطاب في ذلك صيانة له عن سؤال لايجاب فيه .
الإِشارة إِلى كيفية عمل السفينة
روى الضحاك عن ابن عباس : قال كان نوح يُضرب ثم يُلفُّ في لِبْدٍ فيُلقى في بيته ، يُرَوْن أنه قد مات ، ثم يخرج فيدعوهم . حتى إِذا يئس من إِيمان قومه ، جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصاً ، فقال : يا بني ، انظر هذا الشيخ لايغررك ، قال : ياأبت أمكني من العصا ، فأخذها فضربه ضربةً شجه مُوْضِحَةً ، وسالت الدماء على وجهه ، فقال رب قد ترى مايفعل بي عبادك ، فان يكن لك فيهم حاجة فاهدهم ، وإِلا فصبِّرني إِلى أن تحكم ، فأوحى الله إِليه { أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } إِلى قوله : { واصنع الفلك } ، قال : يارب ، وما الفلك؟ قال : بيت من خشب يجري على وجه الماء أُنجّي فيه أهل طاعتي ، وأُغْرِق أهل معصيتي ، قال : يارب ، وأين الماء؟ قال : إِني على ما أشاء قدير ، قال : يارب ، وأين الخشب؟ قال : اغرس الشجر ، فغرس الساج عشرين سنة ، وكفّ عن دعائهم ، وكفُّوا عنه ، إِلا أنهم يستهزئون به ، فلما أدرك الشجر ، أمره ربه ، فقطعه وجفَّفَه ولفَّقَه ، فقال : يارب ، كيف أتخذ هذا البيت؟ قال : أجعله على ثلاث صور ، رأسه كرأس الطاووس ، وجؤجؤه كجؤجؤ الطائر ، وذنبه كذنب الديك ، واجعلها مطبقة ، وبعث الله إِليه جبريل يعلمه ، وأوحى الله إِليه أن عجِّل عمل السفينة فقد اشتد غضبي على مَنْ عصاني ، فاستأجر نجارين يعملون معه ، وسام ، وحام ، ويافث ، معه ينحتون السفينة ، فجعل طولها ستمائة ذراع ، وعرضها ثلاثمائة وثلاثين ذراعاً ، وعلوها ثلاثاً وثلاثين ، وفجَّرَ الله له عين القار تغلي غلياناً حتى طلاها .
وعن ابن عباس قال : جعل لها ثلاث بطون ، فحمل في البطن الأول الوحوش والسباع والهوام ، وفي الأوسط الدواب والأنعام ، وركب هو ومن معه البطن الأعلى .
وروي عن الحسن أنه قال : كانت سفينة نوح طولها ألف ذراع ، ومائتا ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع .
وقال قتادة : كانت فيما ذُكر لنا طولها ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسمائة ذراع ، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً .
وقال ابن جريج : كان طولها ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسين ومائة ذراع ، وطولها في السماء ثلاثون ذراع ، وكان في أعلاها الطير ، وفي وسطها الناس ، وفي أسفلها السباع .

وزعم مقاتل أنه عمل السفينة في أربعمائة سنة .
قوله تعالى : { وكلمَّا مر عليه ملأ من قومه سخروا منه } فيه قولان :
أحدهما : أنهم رأوه يبني السفينة وما رأوا سفينة قط ، فكانوا يسخرون ويقولون : صرت بعد النبوَّة نجاراً؟ وهذا قول ابن إِسحاق .
والثاني : أنهم قالوا له : ما تصنع؟ فقال : أبني بيتا يمشي على الماء ، فسخروا من قوله ، وهذا قول مقاتل .
وفي قوله : { إِن تسخروا منا فانا نسخر منكم } خمسة أقوال .
أحدها : إِن تسخروا من قولنا فانا نسخر من غفلتكم .
والثاني : إِن تسخروا من فعلنا عند بناء السفينة ، فانا نسخر منكم عند الغرق ، ذكره المفسرون .
والثالث : إِن تسخروا منا في الدنيا ، فانا نسخر منكم في الآخرة ، قاله ابن جرير .
والرابع : إِن تستجهلونا ، فانا نستجهلكم ، قاله الزجاج .
والخامس : إِن تسخروا منا ، فانا نستنصر الله عليكم ، فسمى هذا سخرية ، ليتفق اللفظان كما بينا في قوله : { الله يستهزىء بهم } [ البقرة : 15 ] ، هذا قول ابن الأنباري .
قال ابن عباس : لم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر و لا بحر ، فلذلك سخروا منه ، وإِنما مياه البحار بقية الطوفان .

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)

قوله تعالى : { فسوف تعلمون } هذا وعيد ، ومعناه : فسوف تعلمون من هو أحق بالسخرية ، ومن هو أحمد عاقبة .
قوله تعالى : { من يأتيه عذاب يخزيه } أي : يُذلُّه ، وهو الغرق . { ويحل عليه } أي : ويجب عليه { عذاب مقيم } في الآخرة .

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)

قوله تعالى : { حتى إِذا جاء أمرنا } فيه قولان :
أحدهما : جاء أمرنا بعذابهم وإِهلاكهم .
والثاني : جاء عذابنا و هو الماء ، ابتدأ بجنبات الأرض فدار حولها كالإِكليل ، وجعل المطر ينزل من السماء كأفواه القرب ، فجعلت الوحوش يطلبن وسط الأرض هربا من الماء حتى اجتمعن عند السفينة ، فحينئذ حمل فيها من كل زوجين اثنين . قوله تعالى : { وفار التَنُّورُ } الفور : الغليان؛ والفوَّارة : ما يفور من القِدْر ، قاله ابن فارس .
قال المصنف : وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن دريد قال : التنور اسم فارسي معرَّب لا تعرف له العرب اسماً غير هذا ، فلذلك جاء في التنزيل ، لأنهم خوطبوا بما عرفوا .
وروي عن ابن عباس أنه قال : التنور ، بكل لسان عربي وعجمي .
وفي المراد بهذا التنور ستة أقوال :
أحدها : أنه اسم لوجه الأرض ، رواه عكرمة عن علي عليه السلام . وروى الضحاك عن ابن عباس : التنور : وجه الأرض ، قال : قيل له : إِذا رأيت الماءَ قد علا وجهَ الأرض ، فاركب أنت وأصحابك ، وهذا قول عكرمة ، والزهري .
والثاني : أنه تنوير الصبح ، رواه أبو جحيفة عن علي رضي الله عنه . وقال ابن قتيبه : التنوير عند الصلاة .
والثالث : أنه طلوع الفجر ، روي عن علي أيضا ، قال : «وفار التنور» طلع الفجر .
والرابع : أنه طلوع الشمس ، وهو منقول عن علي أيضا .
والخامس : أنه تنُّور أهله ، روى العوفي عن ابن عباس قال : إِذا رأيت تنُّور أهلك يخرج منه الماء ، فانه هلاك قومك . وروى أبو صالح عن ابن عباس : أنه تنُّور آدم عليه السلام ، وهبه الله لنوح ، وقيل له : إِذا فار الماء منه ، فاحمل ماأُمرتَ به . وقال الحسن : كان تنوراً من حجارة ، وهذا قول مجاهد ، والفراء ، ومقاتل .
والسادس : أنه أعلى الأرض وأشرفها .
قال ابن الأنباري : شُبهت أعالي الأرض وأماكنها المرتفعة لعلوها ، بالتنانير . واختلفوا في المكان الذي فار منه التنور على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه فار من مسجد الكوفة ، رواه حبة العربي عن علي عليه السلام . وقال زِرُّ بن حُبَيش : فار التنور من زاوية مسجد الكوفة اليمنى . وقال مجاهد : نبع الماء من التنور ، فعلمت به امرأته فأخبرته ، وكان ذلك بناحية الكوفة . وكان الشعبي يحلف بالله ما كان التنور إِلا بناحية الكوفة .
والثاني : أنه فار بالهند ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثالث : أنه كان في أقصى دار نوح ، وكانت بالشام في مكان يقال له : عين وردة ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { قلنا احمل فيها } أي : في السفينة { من كل زوجين اثنين } .
وروى حفص عن عاصم : «من كُلٍّ» بالتنوين . قال أبو علي : والمعنى : من كل شيء ، ومن كل زوج زوجين ، فحذف المضاف . وانتصاب «اثنين» على أنهما صفة لزوجين ، وقد علم أن الزوجين اثنان ، ولكنه توكيد .

قال مجاهد : من كل صنف ، ذكراً وأنثى . وقال ابن قتيبة : الزوج يكون واحداً ، ويكون اثنين ، وهو هاهنا واحد ، ومعنى الآية : احمل من كل ذكر وأنثى اثنين . وقال الزجاج : المعنى : احمل زوجين اثنين من كل شىء ، والزوج في كلام العرب يجوز أن يكون معه واحد ، والاثنان يقال لهما : زوجان ، يقال : عندي زوجان من الطير ، إِنما يريد ذكراً وأنثى فقط . وقال ابن الأنباري : إِنما قال «اثنين» فثنَّى الزوج ، لأنه قصد قصْد الذكر والأنثى من الحيوان ، وتقديره : من كل ذكر وأنثى .
قوله تعالى : { وأهلك } أي : وأحمل أهلك . قال المفسرون : أراد بأهله : عياله وولده .
{ إلا من سبق عليه القول } أي : سبق عليه القول من الله بالإِهلاك . قال الضحاك : وهم امرأته وابنه كنعان .
قوله تعالى : { ومن آمن } معناه : واحمل من آمن .
{ وما آمن معه إِلا قليل } وفي عددهم ثمانية أقوال :
أحدها : أنهم كانوا ثمانين رجلاً معهم أهلوهم ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثاني : أن نوحاً حمل معه ثمانين إِنساناً ، وبنيه الثلاثة ، وثلاث نسوة لبنيه ، وامرأة نوح ، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس .
والثالث : كانوا ثمانين إِنساناً ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقال مقاتل كانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة .
والرابع : كانوا أربعين ، ذكره ابن جريج عن ابن عباس .
والخامس : كانوا ثلاثين رجلاً ، رواه أبو نهيك عن ابن عباس .
والسادس : كانوا ثمانية ، قال الحكم بن عتيبة : كان نوح وثلاثة بنيه وأربع كنائنه . قال قتادة : ذُكر لنا أنه لم ينج في السفينة إِلا نوح وامرأته وثلاثة بنين له ، ونساؤهم ، فجماعتهم ثمانية ، وهذا قول القرظي ، وابن جريج .
والسابع : كانوا سبعة ، نوح ، وثلاث كنائن له وثلاثة بنين ، قاله الأعمش .
والثامن : كانوا عشرة سوى نسائهم ، قاله ابن إِسحاق . وروي عنه أنه قال : الذين نَجَوْا مع نوح بنوه الثلاثة ، ونساؤهم ثلاث ، وستة ممن آمن به .

وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)

قوله تعالى : { وقال } يعني نوحاً للذين أمر بحملهم { اركبوا } السفينة .
قال ابن عباس : ركبوا فيها لعشر مضين من رجب ، وخرجوا منها يوم عاشوراء .
وقال ابن جريج : رفعت من عين وردة يوم الجمعة لعشر مضين من رجب ، فأتت موضع البيت فطافت به أسبوعاً ، وكان البيت قد رُفع في ذلك الوقت ، ورست ببا قِرْدى على الجودي يوم عاشوراء . قال ابن عباس : قرض الفأر حبال السفينة ، فشكا نوح ذلك ، فأوحى الله تعالى إِليه ، فمسح ذنب الأسد ، فخرج سنَّوْرانِ ، وكان في السفينة عَذِرة ، فشكا ذلك إِلى ربه ، فأوحى الله تعالى إِليه ، فمسح ذنب الفيل ، فخرج خنزيران فأكلا ذلك .
قوله تعالى : { بسم الله مجراها ومرساها } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبوبكر عن عاصم : «مُجراها» بضم الميم . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : «مَجراها» بفتح الميم ، وكسر الراء . وكلهم قرؤوا بضم الميم من «مرساها» ، إِلا أن ابن كثير ، وأبا عمرو ، وابن عامر ، وحفصاً عن عاصم ، كانوا يفتحون السين . ونافع ، وأبو بكر عن عاصم ، كانا يقرآنها بين الكسر والتفخيم . وكان حمزة ، والكسائي ، وخلف ، يميلونها . وليس في هؤلاء أحد جعلها نعتاً لله ، وإِنما جعل الوصفين نعتاً لله تعالى ، الحسن ، وقتادة ، وحُميد الأعرج ، وإِسماعيل بن مجالد عن عاصم ، فقرؤوا «مُجرِيها و مُرسِيها» بضم الميم ، وبياءين صحيحتين ، مثل مبديها ومنشيها . وقرأ ابن مسعود : «مجراها» بفتح الميم ، وإِمالة الراء بعدها ألف ، «ومرساها» برفع الميم ، وإِمالة السين بعدها ألف . وقرأ أبو رزين ، وأبوالمتوكل : «مجراها» بفتح الميم والراء ، وبألف بعدها ، ومرساها ، برفع الميم وفتح السين ، وبألف بعدها . وقرأ أبو الجوزاء ، وابن يعمر : «مَجراها ومَرساها» بفتح الميم فيهما جميعاً ، وفتح الراء والسين ، وبألف بعدهما .
وقرأ يحيى بن وثاب بفتح الميمين ، إِلا أنه أمال الراء والسين فيهما ، وقرأ أبو عمران الجوني ، وابن جبير ، برفع الميم فيهما ، وفتح الراء والسين ، وبألف بعدهما جميعاً . فمن قرأ بضم الميمين ، جعله من أجرى وأرسى . ومن فتحهما ، جعله مصدراً من جرى الشيء يجري مَجرى ، ورسى يرسي مَرسى . قال الزجاج : قوله : { بسم الله } أي : بالله ، والمعنى : أنه أمرهم أن يسمُّوا في وقت جريها ووقت استقرارها .
ومن قرأ بضم الميمين ، فالمعنى : بالله إِجراؤها ، وبالله إِرساها . ومن فتحهما ، فالمعنى : بالله يكون جريها ، وبالله يقع إِرساؤها ، أي : إِقرارها . وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول : من ضم الميم في «مُجراها» أراد : أجراها اللهُ مجرىً ، ومن فتحها ، أراد : جرت مَجرى . وقال الضحاك : كان إِذا أراد أن تجري ، قال : بسم الله ، فجرت . وإذا أراد أن ترسي ، قال : بسم الله ، فرست .

وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)

قوله تعالى : { وهي تجري بهم في موج كالجبال } شبهه بالجبال في عِظَمه وارتفاعه ، ويقال : إِن الماء أرتفع على أطول جبل في الأرض أربعين ذراعاً ، ويروي خمس عشرة ذراعاً . وذكر بعض المفسرين أنه ارتفع نحو السماء سبعين فرسخاً من الأرض .
قوله تعالى : { ونادى نوح ابنه } لا يختلفون أنه كان كافراً . وفي اسمه قولان :
أحدهما : كنعان ، وهو قول الأكثرين .
والثاني : اسمه يام ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال عبيد بن عمير ، وابن إِسحاق .
قوله تعالى : { وكان في مَعْزِلٍ } المعزل : المكان المنقطع . ومعنى العزل : التنحية . وفي معنى الكلام وجهان ذكرهما الزجاج .
أحدهما : في معزل من السفينة .
والثاني : في معزل من دين أبيه .
قوله تعالى : { يابني اركب معنا } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبوعمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي «يابني اركب» مضافة ، بكسر الياء . وروى أبوبكر عن عاصم «يابنيَ» مفتوحة الياء ها هنا ، وباقي القرآن مكسورة .
وروى حفص عنه بالفتح في كل القرآن «يابنيَّ» إِذا كان واحداً . قال النحويون : الأصل في «بُنيّ» ثلاث ياءات ، ياء التصغير ، وياء بعدها هي لام الفعل ، وياء بعد لام الفعل هي ياء الإِضافة . فمن قرأ «يابُني» أراد : يابنيي ، فحذف ياء الاضافة ، وترك الكسرة تدل عليها ، كما يقال : يا غلام أقبل . ومن فتح الياء ، أبدل من كسرة لام الفعل فتحة ، استثقالاً لاجتماع الياءات مع الكسرة ، فانقلبت ياء الإِضافة ألفاً ، ثم حذفت الألف كما تحذف الياء ، فبقيت الفتحة على حالها . وقيل : إِن المعنى : يا بني آمن واركب معنا .
قوله تعالى : { سآوي } أي : سأصير وأرجع { إِلى جبل يعصمني } أي : يمنعني { من الماء } أي : من تغريق الماء .
{ قال لاعاصم اليوم } فيه قولان :
أحدهما : لا مانع اليوم من أمر الله ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : لا معصوم ، ومثله : ماء دافق ، أي مدفوق ، وسرٌّ كاتم ، وليلٌ نائم ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى : { إِلا من رحم } قال الزجاج : هذا استثناء ليس من الأول ، والمعنى : لكن من رحم الله فانه معصوم . قال مقاتل : إِلا من رحم فركب السفينة .
قوله تعالى : { وحال بينهما الموج } في المكني عنها قولان .
أحدهما : أنهما ابن نوح والجبل الذي زعم أنه يعصمه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد .
والثاني : نوح وابنه ، قاله مقاتل .

وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)

قوله تعالى : { وقيل يا أرض ابلعي ماءك } وقف قوم على ظاهر الآية ، وقالوا : إِنما ابتلعت مانبع منها ، ولم تبتلع ماء السماء ، فصار ذلك بحاراً وأنهاراً ، وهو معنى قول ابن عباس . وذهب آخرون إِلى أن المراد : ابلعي ماءك الذي عليك ، وهو ما نبع من الأرض ونزل من السماء ، وذلك بعد أن غرق ما على وجه الأرض .
قوله تعالى : { وياسماء أقلعي } أي : أمسكي عن إِنزال الماء . قال ابن الأنباري : لما تقدم ذكر الماء ، عُلم أن المعنى : أقلعي عن إِنزال الماء .
قوله تعالى : { وغيض الماء } أي : نقص . قال الزجاج : يقال : غاض الماء يغيض : إِذا غاب في الأرض . ويجوز إِشمام الضم في الغين .
قوله تعالى : { وقضي الأمر } قال ابن عباس : غرق مَنْ غرق ، ونجا مَنْ نجا . وقال مجاهد : قضي الأمر : هلاك قوم نوح . وقال ابن قتيبة : «وقضي الأمر» أي : فرغ منه . قال ابن الأنباري : والمعنى : أُحكمتْ هلكة قوم نوح ، فلما دلت القصة على ما يبيِّن هلكتهم ، أغنى عن نعت الأمر .
قوله تعالى : { واستوت } يعني السفينة { على الجوديّ } وهو اسم جبل . وقرأ الأعمش ، وابن أبي عبلة : «على الجودي» بسكون الياء . قال ابن الأنباري : وتشديد الياء في «الجوديّ» لأنها ياء النسبة ، فهي كالياء في علوي ، وهاشمي . وقد خففها بعض القراء . ومن العرب من يخفف ياء النسبة ، فيسكنها في الرفع ، والخفض ، ويفتحها في النصب ، فيقول : قام زيد العلوي ، ورأيت زيداً العلوي .
قال ابن عباس : درات السفينة بالبيت أربعين يوماً ، ثم وجهها الله إِلى الجودي فاستقرت عليه . واختلفوا أين هذا الجبل على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه بالموصل ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك .
والثاني : بالجزيرة ، قاله مجاهد ، وقتادة . وقال مقاتل : هو بالجزيرة قريب من الموصل .
والثالث : أنه بناحية آمِد ، قاله الزجاج .
وفي علة استوائها عليه قولان :
أحدهما : أنه لم يغرق ، لأن الجبال تشامخت يومئذ وتطاولت ، وتواضع هو فلم يغرق ، فأرست عليه ، قاله مجاهد .
والثاني : أنه لما قلَّ الماء أَرْسَتْ عليه ، فكان استواؤها عليه دلالة على قلة الماء .
قوله تعالى : { وقيل بُعْدَاً للقوم الظالمين } قال ابن عباس : بُعداً من رحمة الله للقوم الكافرين .
فان قيل : ما ذنب من أُغرق من البهائم والأطفال؟ فالجواب : أنَّ آجالهم حضرت ، فأُميتوا بالغرق ، قاله الضحاك ، وابن جريج .
قوله تعالى : { رب إِنَّ ابني من أهلي } إِنما قال نوح هذا ، لأن الله تعالى وعده نجاة أهله ، فقال : { وإِن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين } قال ابن عباس : أعدل العادلين . وقال ابن زيد : فأنت أحكم الحاكمين بالحق . واختلفوا في هذا الذي سأل فيه نوح على قولين .
أحدهما : أنه ابن نوح لصلبه ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضحاك ، والجمهور .

والثاني : أنه ولد على فراشه لغير رِشدة ولم يكن ابنه . روى ابن الأنباري باسناده عن الحسن أنه قال : لم يكن ابنَه ، إِن امرأته فجرت . وعن الشعبي قال : لم يكن ابنه ، إِن امرأته خانته ، وعن مجاهد نحو ذلك . وقال ابن جريج : ناداه نوح وهو يحسب أنه ابنه ، وكان وُلد على فراشه . فعلى القول الأول ، يكون في معنى قوله : { إِنه ليس من أهلك } قولان :
أحدهما : ليس من أهل دينك .
والثاني : ليس من أهلك الذين وعدتك نجاتهم . قال ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط ، وإِنما المعنى : ليس من أهلك الذين وعدتك نجاتهم . وعلى القول الآخر : الكلام على ظاهره ، والأول أصح ، لموافقته ظاهر القرآن ، ولاجتماع الأكثرين عليه ، وهو أولى من رمي زوجة نبي بفاحشة .
قوله تعالى : { إِنه عملٌ غيرُ صالح } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة : «إِنه عملٌ» رفع منون «غيرُ صالح» برفع الراء ، وفيه قولان :
أحدهما : أنه يرجع إِلى السؤال فيه ، فالمعنى : سؤلك إِياي فيه عمل غير صالح ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، وهذا ظاهر ، لأنه قد تقدم السؤال فيه في قوله : «رب إِن ابني من أهلي» فرجعت الكناية إِليه .
والثاني : أنه يرجع إِلى المسؤول فيه .
وفي هذا المعنى قولان .
أحدهما : أنه لغير رِشدة ، قاله الحسن .
والثاني : أن المعنى : إِنه ذو عمل غير صالح ، قاله الزجاج . قال ابن الأنباري : من قال : هو لغير رِشدة ، قال : المعنى : إِن أصل أبنك الذي تظن أنه أبنك عملٌ غير صالح . ومن قال : إِنه ذو عمل غير صالح ، قال : حذف المضاف ، وأقام العمل مقامه ، كما تقول العرب : عبد الله إِقبال وإِدبار ، أي : صاحب إِقبال وإِدبار . وقرأ الكسائي : «عَمِلَ» بكسر الميم وفتح اللام «غيرَ صالح» بفتح الراء ، يشير إِلى أنه مشرك .
قوله تعالى : { فلا تسألنِ ما ليس لك به علم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : «فلا تسألنَّ» بفتح اللام ، وتشديد النون ، غير أن نافعاً ، وابن عامر ، كسرا النون ، وفتحها ابن كثير ، وحذفوا الياء في الوصل والوقف . وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، بسكون اللام وتخفيف النون ، غير أن أبا عمرو ، وأبا جعفر ، أثبتا الياء في الوصل ، وحذفاها في الوقف ، ووقف عليها يعقوب بالياء ، والباقون يحذفونها في الحالين . قال أبو علي : من كسر النون ، فقد عدَّى السؤال إِلى مفعولين ،
أحدهما : اسم المتكلم ، والآخر : الاسم الموصول ، وحذفت النون المتصلة بياء المتكلم لاجتماع النونات . وأما إِثبات الياء في الوصل فهو الأصل ، وحذفها أخف ، والكسرة تدل عليها ، وتُعلِمُ أن المفعول مراد في المعنى . ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه نسبته إِليه ، وليس منه .
والثاني : في إِدخاله إِياه في جملة أهله الذين وعده نجاتهم .
والثالث : سؤاله في إِنجاء كافر من العذاب .
قوله تعالى : { إِني أعظك أن تكون من الجاهلين } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن تكون من الجاهلين في سؤالك مَنْ ليس مِنْ حزبك .
والثاني : من الجاهلين بوعدي ، لأني وعدت بانجاء المؤمنين .
والثالث : من الجاهلين بنسبك ، لأنه ليس من أهلك .

قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)

قوله تعالى : { يانوح اهبط } قال ابن عباس : يريد : من السفينة إِلى الأرض . { بسلام منا } أي : بسلامه .
قوله تعالى : { وبركات عليك } قال المفسرون : البركات عليه : أنه صار أباً للبشر جميعاً ، لأن جميع الخلق من نسله . { وعلى أُمم ممن معك } قال ابن عباس : يريد : من ولدك . قال ابن الأنباري : المعنى : من ذراري من معك ، والمراد : المؤمنون من ذريته . ثم ذكر الكفار ، فقال : { وأُممٌ } أي : من الذرية أيضاً ، والمعنى : وفيمن نَصِفُ لك أُمم ، وفيمن نقصُّ عليك أمره أُمم . { سنمتِّعهم } أي : في الدنيا { ثم يمسهم منا عذاب أليم } في الآخرة . قال محمد بن كعب القرظي : لم يبق مؤمن ولا مؤمنة في أصلاب الرجال وأرحام النساء يومئذ إِلى أن تقوم الساعة إِلا وقد دخل في ذلك السلام والبركات ، ولم يبق كافر إِلا دخل في ذلك المتاع والعذاب .

تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)

قوله تعالى : { تلك من أنباء الغيب } في المشار إليه ب «تلك» قولان :
أحدهما : قصة نوح .
والثاني : آيات القرآن ، والمعنى : تلك من أخبار ما غاب عنك وعن قومك .
فان قيل : كيف قال هاهنا : «تلك» وفي مكان آخر «ذلك»؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، فقال : «تلك» إِشارة إِلى آيات القرآن ، و«ذلك» إِشارة إِلى الخبر والحديث ، وكلاهما معروف في اللغة الفصيحة ، يقول الرجل : قد قدم فلان ، فيقول سامعٌ قولَه : قد فرحت به ، وقد سررت بها ، فاذا ذكّر ، عنى القدوم ، وإِذا أنَّث ، ذهب إِلى القَدْمَة .
قوله تعالى : { من قبل هذا } يعني : القرآن . { فاصبر } كما صبر نوح على أذى قومه { إِن العاقبة } أي : آخر الأمر بالظفر والتمكين { للمتقين } أي : لك ولقومك كما كان لمؤمني قوم نوح .
قوله تعالى : { إِن أنتم إِلا مفترون } أي : ما أنتم إِلا كاذبون في إِشراككم مع الله الأوثان . وما بعد هذا قد سبق تفسيره [ يونس : 72 ] إِلى قوله : { يرسل السماء عليكم مدراراً } وهذا أيضاً قد سبق تفسيره في [ سورة الأنعام 61 ] . والسبب في قوله لهم ذلك ، أن الله تعالى حبس المطر عنهم ثلاث سنين ، وأعقم أرحام نسائهم ، فوعدهم إِحياء بلادهم وبسط الرزق لهم إِن آمنوا .
قوله تعالى : { ويزدكم قُوَّةً إِلى قُوَّتِكم } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الولد وولد الولد ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : يزدكم شدة إِلى شدتكم ، قاله مجاهد ، وابن زيد .
والثالث : خِصباً إِلى خصبكم ، قاله الضحاك .
قوله تعالى : { ولا تتولَّوا مجرمين } قال مقاتل : لا تُعرضوا عن التوحيد مشركين .
قوله تعالى : { ما جئتنا ببينة } أي : بحجة واضحة . { وما نحن بتاركي آلهتنا } يعنون الأصنام . { عن قولك } أي : بقولك ، و«الباء» و«عن» يتعاقبان .

إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)

قوله تعالى : { إِن نقول } أي : ما نقول في سبب مخالفتك إِيانا إِلا أن بعض آلهتنا أصابك بجنون لسبِّك إياها ، فالذي تُظهر من عيبها لِما لحق عقلك من التغيير . قال ابن قتيبة : يقال : عراني كذا ، واعتراني : إِذا ألمَّ بي . ومنه قيل لمن أتاك يطلب نائلك : عارٍ ، ومنه قول النابغة :
أَتَيْتُكَ عَارِيَاً خَلَقاً ثيابي ... على خَوْفٍ تُظَنُّ بِيَ الظُّنُونُ
قوله تعالى : { إِني أشهد الله . . . } إِلى آخر الآية . حرك ياء «إِنيَ» نافع . ومعنى الآية : إِن كنتم تقولون : إِن الآلهة عاقبتني لطعني عليها ، فاني على يقين من عيبها والبراءةِ منها ، وها أنا ذا أزيد في الطعن عليها ، { فكيدوني جميعاً } أي : احتالوا أنتم وأوثانكم في ضرِّي ، ثم لاتمهلون . قال الزجاج : وهذا من أعظم آيات الرسل ، أن يكون الرسول وحدهَ وأُمتُه متعاونة عليه ، فيقول لهم : كيدوني ، فلا يستطيع أحد منهم ضرَّه ، وكذلك قال نوح لقومه : { فأجمعوا أمركم وشركاءكم } [ يونس : 71 ] . وقال محمد صلى الله عليه وسلم . { فإِن كان لكم كيد فكيدونِ } [ المرسلات : 39 ] .
قوله تعالى : { إِلا هو آخذٌ بناصيتها } قال أبو عبيدة : المعنى : أنها في قبضته ومِلكه وسلطانه .
فان قيل : لم خص الناصية؟ فالجواب : أن الناصية هي شعر مقدَّم الرأس ، فاذا أخذت بها من شخص ، فقد ملكت سائر بدنه ، وذلَّ لك .
قوله تعالى : { إِن ربي على صراط مستقيم } قال مجاهد : على الحق . وقال غيره : في الكلام إِضمار ، تقديره : إِن ربي يدل على صراط مستقيم . فان قيل : ما وجه المناسبة بين قوله : { إِلا هو آخذ بناصيتها } وبين كونه على صراط مستقيم؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أنه لما أخبر أنه آخذ بنواصي الخلق ، كان معناه : أنهم لا يخرجون عن قبضته ، فأخبر أنه على طريق لا يعدل عنه هارب ، ولا يخفي عليه مستتر .
والثاني : أن المعنى : أنه وإِن كان قادراً عليهم ، فهو لايظلمهم ، ولايريد إِلا العدل ، ذكرهما ابن الأنباري .

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)

قوله تعالى : { فإِن تولَّوا } فيه قولان :
أحدهما : أنه فعل ماضي ، معناه : فان أعرضوا . فعلى هذا ، في الآية إِضمار ، تلخيصه : فان أعرضوا فقل لهم : قد أبلغتكم ، هذا مذهب مقاتل في آخرين .
والثاني : أنه خطاب للحاضرين ، وتقديره : فان تتولَّوا ، فاستثقلوا الجمع بين تاءين متحركتين ، فاقتُصر على إِحداهما ، وأسقطت الأخرى ، كما قال النابغة :
المرءُ يَهْوى أَنْ يَعْي ... شَ وطُوْلُ عَيْشٍ قدَ يَضُرُّهْ
تَفْنَى بَشَاَشُتُه ويَبْ ... قَى بَعْد حُلْوِ العَيْشِ مُرُّهْ
وتَصَرَّفُ الأيّامُ حت ... ى ما يَرَى شيئاً يَسُرُّهْ
أراد : وتتصرف الأيام ، فأسقط إِحدى التاءين ، ذكره ابن الأنباري .
قوله تعالى : { ويستخلفُ ربي قوماً غيركم } فيه وعيد لهم بالهلاك . { إِن ربي على كل شيء حفيظ } فيه قولان :
أحدهما : حفيظ على أعمال العباد حتى يجازيَهم بها .
والثاني : أن «على» بمعنى اللام ، فالمعنى : لكل شيء حافظ ، فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء .

وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)

قوله تعالى : { ولما جاء أمرنا } فيه قولان :
أحدهما : جاء عذابنا ، قاله ابن عباس .
والثاني : جاء أمرنا بهلاكهم .
قوله تعالى : { نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمةٍ منَّا } فيه قولان :
أحدهما : نجيناهم من العذاب بنعمتنا .
والثاني : نجيناهم بأن هديناهم إِلى الإِيمان ، وعصمناهم من الكفر ، روي القولان عن ابن عباس .
قوله تعالى : { ونجيناهم من عذاب غليظ } أي : شديد ، وهو ما استحقه قوم هود من عذاب الدنيا والآخرة .

وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)

قوله تعالى : { وتلك عاد } يعني القبيلة . { وعصوا رسله } لقائل أن يقول : إِنما أُرسل إِليهم هود وحده ، فكيف ذُكر بلفظ الجمع؟ فالجواب من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه قد يذكر لفظ الجمع ويراد به الواحد ، كقوله : { أم يحسدون الناس } [ النساء : 54 ] والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم وحده .
والثاني : أن من كذَّب رسولاً واحداً فقد كذَّب الكلَّ .
والثالث : أن كل مرة ينذرهم فيها هي رسالة مجدَّدة وهو بها رسول .
قوله تعالى : { واتَّبعوا } أي : واتبع الأتباع أمر الرؤساء .
والجبار : الذي طال وفات اليد . وللعلماء في الجبار أربعة أقوال :
أحدها : أنه الذي يقتل على الغضب ويعاقب على الغضب ، قاله الكلبي .
والثاني : أنه الذي يجبر الناس على ما يريد ، قاله الزجاج .
والثالث : أنه المسلَّط .
والرابع : أنه العظيم في نفسه ، المتكبّر على العباد ، ذكرهما ابن الأنباري . والذي ذكرناه يجمع هذه الأقوال ، وقد زدنا هذا شرحاً في [ المائدة : 22 ] .
وأما العنيد : فهو الذي لا يقبل الحق . قال ابن قتيبة : العَنود ، والعنيد ، والعاند : المعارض لك بالخلاف عليك .

وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)

قوله تعالى : { وأُتبعوا في هذه الدنيا لعنةً } أي : أُلحقوا لعنة تنصرف معهم . { ويوم القيامة } أي : وفي يوم القيامة لُعنوا أيضاً . { ألا إِن عاداً كفروا ربهم } أي : بربهم ، فحذف الباء ، وأنشدوا :
أَمَرتُكَ الخيرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ... فقد تَركْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبِ
قال الزجاج : قوله : «ألا» ابتداء وتنبيه ، و«بُعدا» منصوب على معنى : أبعدهم الله فبعدوا بعداً ، والمعنى : أبعدهم من رحمته .
قوله تعالى : { هو أنشأكم من الأرض } فيه قولان :
أحدهما : خلقكم من آدم ، وآدم خُلق من الأرض .
والثاني : أنشأكم في الأرض .
وفي قوله : { واستعمركم فيها } ثلاثة أقوال :
أحدها : أعمركم فيها ، أي : جعلكم ساكنيها مدة أعماركم ، ومنه العمرى ، وهذا قول مجاهد .
والثاني : أطال أعماركم ، وكانت أعمارهم من ألف سنة إِلى ثلاثمائة ، قاله الضحاك .
والثالث : جعلكم عُمَّارها ، قاله أبو عبيدة .
قوله تعالى : { قد كنتَ فينا مرجُوّاً قبل هذا } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنهم كانوا يرجونه للمملكة بعد ملكهم ، لأنه كان ذا حسب وثروة ، قاله كعب .
والثاني : أنه كان يبغض أصنامهم ويعدل عن دينهم ، وكانوا يرجون رجوعه إِلى دينهم ، فلما أظهر إِنذارهم ، انقطع رجاؤهم ، منه وإِلى نحو هذا ذهب مقاتل .
والثالث : أنهم كانوا يرجون خيره ، فلما أنذرهم ، زعموا أن رجاءهم لخيره قد انقطع ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { وإِننا لفي شك } إِن قال قائل : لم قال هاهنا : «وإِننا» وقال في ( إِبراهيم ) : «وإِنا»؟
فالجواب : أنهما لغتان من لغات قريش السبع التي نزل القرآن عليها . قال الفراء : من قال : «إِننا» أخرج الحرف على أصله ، لأن كناية المتكلمين «نا» فاجتمعت ثلاث نونات ، نونا «إِن» والنون المضمومة إِلى الألف ، ومن قال : «إِنا» استثقل الجمع بين ثلاث نونات ، وأسقط الثالثة ، وأبقى الأولتين؛ وكذلك يقال : إِني وإٍنني ، ولعلّي ولعلني ، وليتي وليتني ، قال الله في اللغة العليا : { لعلّي أبلغ الأسباب } [ غافر : 36 ] ، وقال الشاعر في اللغة الأخرى :
أريني جواداً مات هَزْلاً لعلَّني ... أرى ما تَرَيْنَ أو بخيلاً مخلَّدا
وقال الله تعالى : { يا ليتني كنتُ معهم } [ النساء : 73 ] ، وقال الشاعر :
كمُنيةِ جابرٍ إِذ قال ليتي ... أصادفُه وأُتلفُ بعضَ مالي
فأما المريب ، فهو الموقع للريبة والتهمة . والرحمة يراد بها هاهنا : النبوَّة .
قوله تعالى : { فما تزيدونني غير تخسير } التخسير : النقصان .
وفي معني الكلام قولان :
أحدهما : فما تزيدونني غيرَ بَصَارَةٍ في خسارتكم ، قاله ابن عباس . وقال الفراء : المعنى : فما تزيدونني غير تخسيرٍ لكم ، أي : كلما اعتذرتم عندي بعذر فهو يزيدكم تخسيراً . وقال ابن الأعرابي : غير تخسير لكم ، لا لي . وقال بعضهم : المعنى : فما تزيدونني بما قلتم إِلا نسبتي لكم إِلى الخسارة .
والقول الثاني : فما تزيدونني غير الخسران إِن رجعتُ إِلى دينكم ، وهذا معنى قول مقاتل .
فان قيل : فظاهر هذا أنه كان خاسراً ، فزادوه خساراً ، فقد أسلفنا الجواب في قوله :

{ لو خرجوا فيكم مازادوكم إِلا خبالاً } [ التوبة : 47 ] .
قوله تعالى : { هذه ناقةُ الله لكم آيةً } قد شرحناها في سورة [ الأعراف : 73 ] قوله تعالى : { تمتعوا في داركم } أي : استمتعوا بحياتكم ، وعبَّر عن الحياة بالتمتع ، لأن الحيَّ يكون متمتِّعاً بالحواسِّ .
قوله تعالى : { ثلاثةَ أيام } قال المفسرون : لمَّا عُقرت الناقة صَعِدَ فصيلُها إِلى الجبل ، ورغا ثلاث مرات ، فقال صالح : لكل رغوة أجل يوم ، ألا إِن اليوم الأول تصبح وجوهُكم مُصْفَرَّةً ، واليوم الثاني مُحْمَرَّةً ، واليوم الثالث مُسْوَدَّةً؛ فلما أصبحوا في اليوم الأول ، إِذا وجوههم مصفرة ، فصاحوا وضجوا ، وبَكَوْا ، وعَرَفوا أنَّه العذاب ، فلما أصبحوا في اليوم الثاني ، إِذا وجوههم محمرة ، فضجوا ، وبكَوا ، فلما أصبحوا في اليوم الثالث ، إِذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار ، فصاحوا جميعاً : ألا قد حضركم العذاب؛ فتكفَّنوا وألقَوْا أنفسهم بالأرض ، لا يدرون من أين يأتيهم العذاب ، فلما أصبحوا في اليوم الرابع ، أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كلِّ صاعقة ، فتقطَّعتْ قلوبُهم في صدورهم . وقال مقاتل : حفروا لأنفسهم قبوراً ، فلما ارتفعت الشمس من اليوم الرابع ، ولم يأتهم العذاب ، ظنوا أن الله قد رحمهم ، فخرجوا من قبورهم يدعو بعضهم بعضاً ، إِذ نزل جبريل ، فقام فوق المدينة فسدّ ضوءَ الشمس ، فلما عاينوه ، دخلوا قبورهم ، فصاح بهم صيحة : موتوا ، عليكم لعنة الله ، فخرجت أرواحهم ، وتزلزلت بيوتهم فوقعت على قبورهم . قوله تعالى : { ذلك وعدٌ } أي : العذاب { غير مكذوب } أي : غير كذب .
قوله تعالى : { ومن خِزْيِ يومِئِذٍ } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر «يومِئِذٍ» بكسر الميم . وقرأ الكسائي بفتحها مع الإِضافة . قال مكي : من كسر الميم ، أعرب وخفض ، لإِضافة الخزي إِلى اليوم ، ولم يَبْنِهِ؛ ومن فتح ، بنى اليوم على الفتح ، لإِضافته إِلى غير متمكّن ، وهو «إِذ» وقرأ ابن مسعود «ومن خزيٍ» بالتنوين ، «يومَئذ» بفتح الميم . قال ابن الأنباري : هذه الواو في قوله : «ومن خزي» معطوفة على محذوف ، تقديره : نجيناهم من العذاب ومن خزي يومئذ . قال : ويجوز أن تكون دخلت لفعل مضمر ، تأويله : نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا ، ونجيناهم من خِزْي يومئذ . قال : وإِنما قال : «وأخذَ» لأن الصيحة محمولة على الصياح .
قوله تعالى : { ألا بعداً لثمود } اختلفوا في صرف «ثمود» وترك إِجرائه في خمسة مواضع : في [ هود : 69 ] { ألا إِن ثموداً كفروا ربهم ألا بعداً لثمود } وفي [ الفرقان : 38 ] { وعاداً وثموداً وأصحابَ الرسِّ } وفي [ العنكبوت : 38 ] { وعاداً وثموداً وقد تبين لكم } وفي [ النجم : 51 ] { وثمودَ فما أبقي } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وابن عامر بالتنوين في أربعة مواضع منها ، وتركوا { ألا بعداً لثمود } فلم يصرفوه . وقرأ حمزة بترك صرف هذه الخمسة الأحرف ، وصرفهنَّ الكسائي . واختلف عن عاصم ، فروى حسين الجعفي عن أبي بكر عنه أنه أجرى الأربعة الأحرف مثل أبي عمرو؛ وروى يحيى بن آدم أنه أجرى ثلاثة ، في [ هود : 69 ]

{ ألا إِن ثموداً } وفي [ الفرقان : 38 ] و [ العنكبوت : 38 ] . وروى حفص عنه أنه لم يجر شيئاً منها مثل حمزة .
واعلم أن ثموداً يراد به القبيلة تارة ، ويراد به الحي تارة . فإذا أريد به القبيلة ، لم يصرف ، وإِذا أريد به الحي ، صرف . وما أخللنا به ، فقد سبق تفسيره [ الأعراف : 73 ، والتوبة : 70 ] إِلى قوله : { ولقد جاءت رسلنا إِبراهيم } والرسل هاهنا : الملائكة . وفي عددهم ستة أقوال :
أحدها : أنهم كانوا ثلاثة ، جبريل ، وميكائيل ، وإِسرافيل ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير . وقال مقاتل : جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت .
والثاني : أنهم كانوا اثني عشر ، روي عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : ثمانية ، قاله محمد بن كعب .
والرابع : تسعة ، قاله الضحاك .
والخامس : أحد عشر ، قاله السدي .
والسادس : أربعة ، حكاه الماوردي .
وفي هذه البشرى أربعة أقوال :
أحدها : أنها البشرى بالولد ، قاله الحسن ، ومقاتل . والثاني : بهلاك قوم لوط ، قاله قتادة . والثالث : بنبوَّته ، قاله عكرمة . والرابع : بأن محمداً يخرج من صلبه ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { قالوا سلاماً } قال ابن الأنباري : انتصب بالقول ، لأنه حرف مقول ، والسلام الثاني مرفوع باضمار «عليكم» . وقال الفراء : فيه وجهان .
أحدهما : أنه أضمر «عليكم» كما قال الشاعر :
فَقُلْنَا السَّلاَمُ فَاتَّقَتْ مِنْ أَمِيرِهَا ... فما كان إِلاَّ ومْؤُهَا بِالْحَواجِبِ
والعرب تقول : التقينا فقلنا : سلام سلام .
والثاني : أن القوم سلَّموا ، فقال حين أنكرهم هو : سلام ، فمن أنتم؟ لإِنكاره إِياهم . وقرأ حمزة ، والكسائي : «قال سِلْم» ، وهو بمعنى سلام ، كما قالوا : حِلّ وحلال ، وحِرم وحرام؛ فعلى هذا يكون ، معنى «سلِم» : سلام عليكم . قال أبو علي : فيكون معنى القراءتين واحداً وإِن اختلف اللفظان . وقال الزجاج : من قرأ «سِلْم» فالمعنى : أمْرُنا سِلْم ، أي : لا بأس علينا .
قوله تعالى : { فما لبث } أي : ما أقام حتى جاء بعجل حنيذ ، لأنه ظنهم أضيافاً ، وكانت الملائكة قد جاءته في صورة الغلمان الوِضَاء . وفي الحنيذ ستة أقوال :
أحدها : أنه النضيج ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .
والثاني : أنه الذي يَقْطُر ماؤُه وَدَسمُه وقد شوي ، قاله شمر بن عطية .
والثالث : أنه ما حفرتَ الأرضَ ثم غممتَه ، وهو من فعل أهل البادية ، معروف ، وأصله : محنوذ ، فقيل : حنيذ كما قيل : طبيخ للمطبوخ ، وقتيل للمقتول . هذا قول الفراء .
والرابع : أنه المشوي ، قاله أبو عبيدة .
والخامس : المشوي بالحجارة المحماة ، قاله مقاتل ، وابن قتيبة .
والسادس : السميط ، ذكره الزجاج ، وقال : يقال : إنه المشوي فقط ، ويقال : المشوي الذي يقطر ، ويقال : المشوي بالحجارة .

فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)

قوله تعالى : { فلما رأى أيديهم } يعنى الملائكة { لاَتَصِلُ إِليه } يعني العجل { نَكِرَهُمْ } أي : أنكرهم . قال أبو عبيدة : نَكِرهم وأنكرهم واستنكرهم ، سواء ، قال الأعشى :
فَأَنْكَرَتْنِي وَمَا كان الَّذي نَكِرَتْ ... مِنَ الحَوَادِثِ إِلاَّ الشَّيْبَ والصَّلَعَا
قوله تعالى : { وأوجس منهم خيفةً } أي : أضمر في نفسه خوفاً . قال الفراء : وكانت سُنَّةً في زمانهم إِذا ورد عليهم القوم فأتوهم بالطعام فلم يمسُّوه ، ظنوا أنهم عدوٌّ أو لُصُوصٌ ، فهنالك أوجس في نفسه خيفة ، فرأوا ذلك في وجهه ، فقالوا : { لا تخف } .
قوله تعالى : { إِنا أُرسلنا إِلى قوم لوط } قال الزجاج : أي : أُرسلنا بالعذاب إِليهم . قال ابن الأنباري : وإِنما أُضمر ذلك هاهنا ، لقيام الدليل عليه بذكر الله تعالى له في سورة أخرى .

وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)

قوله تعالى : { وامرأته قائمة } واسمها سارة . واختلفوا أين كانت قائمة على ثلاثة أقوال :
أحدها : وراء الستر تسمع كلامهم ، قاله وهب .
والثاني : كانت قائمة تخدمهم ، قاله مجاهد ، والسدي .
والثالث : كانت قائمة تصلي ، قاله محمد بن إِسحاق .
وفي قوله : { فضحكت } ثلاثة أقوال :
أحدها : أن الضحك ها هنا بمعنى التعجب ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أن معنى «ضحكت» : حاضت ، قاله مجاهد ، وعكرمة . قال ابن قتيبة : وهذا من قولهم : ضحكت الأرنب : إِذا حاضت . فعلى هذا ، يكون حيضها حينئذ تأكيد للبشارة بالولد ، لأنَ من لا تحيض لاتحمل . وقال الفراء : لم نسمع من ثقة أن معنى «ضحكت» حاضت . قال ابن الأنباري : أنكر الفراء ، وأبو عبيدة ، وأبو عبيد أن يكون «ضحكت» بمعنى حاضت ، وعرفه غيرهم . قال الشاعر :
تَضْحَكُ الضَّبْعُ لقَتْلى هُذَيْلٍ ... وَتَرَى الذِّئْبَ لها يَسْتَهِلُّ
قال بعض أهل اللغة : معناه : تحيض .
والثالث : أنه الضحك المعروف ، وهو قول الأكثرين .
وفي سبب ضحكها ستة أقوال :
أحدها : أنها ضحكت من شدة خوف إِبراهيم من أضيافه ، وقالت : من ماذا يخاف إِبراهيم ، وإِنما هم ثلاثة ، وهو في أهله وغلمانه؟! رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل .
والثاني : أنها ضحكت من بشارة الملائكة لإِبراهيم بالولد ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً ، ووهب بن منبه؛ فعلى هذا إِنما ضحكت سروراً بالبشارة ، ويكون في الآية تقديم وتأخير ، المعنى : وامرأته قائمة فبشرناها فضحكت ، وهو اختيار ابن قتيبة .
والثالث : ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم ، قاله قتادة .
والرابع : ضكحت من إِمساك الأضياف عن الأكل ، وقالت : عجباً لأضيافنا ، نخدمهم بأنفسنا ، وهم لايأكلون طعامنا! قاله السدي .
والخامس : ضحكت سروراً بالأمن ، لأنها خافت كخوف إِبراهيم ، قاله الفراء .
والسادس : أنها كانت قالت لإِبراهيم : اضمم إِليك ابن أخيك لوطاً ، فانه سينزل العذاب بقومه ، فلما جاءت الملائكة بعذابهم ، ضحكت سروراً بموافقتها للصواب ، ذكره ابن الأنباري .
قال المفسرون : قال جبريل لسارة : أَبْشِري أيتها الضاحكة بولد اسمه إِسحاق ، ومن وراء إِسحاق يعقوب ، فبشروها أنها تلد إِسحاق ، وأنها تعيش إِلى أن ترى ولد الولد .
وفي معنى الوراء قولان :
أحدهما : أنه بمعنى «بعد» ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، واختاره مقاتل ، وابن قتيبة .
والثاني : أن الوراء : ولد الولد ، روي عن ابن عباس أيضاً ، وبه قال الشعبي ، واختاره أبو عبيدة .
فان قيل : كيف يكون يعقوب وراء إِسحاق وهو ولده لصلبه ، وإِنما الوراء : ولد الولد؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، فقال : المعنى : ومن وراء المنسوب إِلى إِسحاق يعقوب ، لأنه قد كان الوراء لإِبراهيم من جهة إِسحاق ، فلو قال : ومن الوراء يعقوب ، لم يُعلم أهذا الوراء منسوب إِلى إِسحاق ، أم إِلى إِسماعيل؟ فأضيف إِلى إِسحاق لينكشف المعنى ويزول اللبس .

قال : ويجوز أن ينسب ولد إِبراهيم من غير إِسحاق إلى سارة على جهة المجاز ، فكان تأويل الآية : من الوراء المنسوب إِلى سارة ، وإلى إِبراهيم من جهة إِسحاق ، يعقوب . ومن حمل الوراء على «بعد» لزم ظاهر العربية .
واختلف القراء في «يعقوب» ، فقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «يعقوبُ» بالرفع . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وحفص عن عاصم : «يعقوبَ» بالنصب .
قال الزجاج : وفي رفع «يعقوب» وجهان .
أحدهما : على الابتداء المؤخَّر ، معناه التقديم؛ والمعنى : ويعقوبُ يَحْدُثُ لها من وراء إِسحاق .
والثاني : وثبت لها من وراء إِسحاق يعقوبُ . ومن نصبه ، حمله على المعنى ، والمعنى : وهبنا لها إِسحاقَ ، ووهبنا لها يعقوبَ .
قوله تعالى : { يا ويلتي أألد وأنا عجوز } هذه الكلمة تقال عند الإِيذان بورود الأمر العظيم . ولم تُرِد بها الدعاء على نفسها ، وإِنما هي كلمة تخفُّ على ألسنة النساء عند الأمر العجيب . وقولها : { أألد } استفهام تعجب . قال الزجاج : و { شيخاً } منصوب على الحال . قال ابن الأنباري : إِنما أشارت بقولها هذا لتنبِّه على شيخوخيَّته واختلفوا في سن إِبراهيم وسارة يومئذ على أربعة أقوال .
أحدها : أنه كان إِبراهيم ابن تسع وتسعين سنة . وسارة بنت ثمان وتسعين سنة . قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنه كان إِبراهيم ابن مائة سنة ، وسارة بنت تسع وتسعين ، قاله مجاهد .
والثالث : كان إِبراهيم ابن تسعين ، وسارة مثله ، قاله قتادة .
والرابع : كان إِبراهيم ابن مائة وعشرين سنة ، وسارة بنت تسعين ، قاله عبيد بن عمير ، وابن إِسحاق .

قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)

قوله تعالى : { قالوا أتعجبين من أمر الله } أي : من قضائه وقدرته ، وهو إِيجاد ولد من بين كبيرين . قال السدي : قالت سارة لجبرئيل : ما آية ذلك؟ فأخذ بيده عوداً يابساً فلواه بين أصابعه فاهتزَّ أخضر ، فقالت : هو إِذن لله ذبيحٌ .
قوله تعالى : { رحمة الله وبركاته عليكم أهلَ البيت } فيه وجهان .
أحدهما : أنه من دعاء الملائكة لهم .
والثاني : أنه إِخبار عن ثبوت ذلك لهم .
ومن تلك البركات وجود أكثر الأنبياء والأسباط من إِبراهيم وسارة .
والحميد بمعنى المحمود . فأما المجيد ، فقال ابن قتيبة : بمعنى الماجد ، وهو الشريف . وقال أبو سليمان الخطابي : هو الواسع الكرم . وأصل المجد في كلامهم : السَّعَة ، يقال : رجل ماجد : إِذا كان سخياً واسع العطاء . وفي بعض الأمثال : في كل شجر نار ، واستمجدَ المرْخُ والعَفَارُ ، أي : استكثرا منها .

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)

قوله تعالى : { فلما ذهب عن إِبراهيم الرَّوْعُ } يعني الفَزَع الذي أصابه حين امتنعوا من الأكل . { يجادلنا } فيه إِضمار أخذ وأقبل يجادلنا ، والمراد : يجادل رسلنا .
قال المفسرون : لما قالوا له : { إِنا مهلكوا أهل هذه القرية } [ العنكبوت 31 ] ، قال : أتهلكون قرية فيها مائة مؤمن؟ قالوا : لا . قال : أتهلكون قرية فيها خمسون مؤمناً؟ قالوا : لا . قال : أربعون؟ قالوا : لا . فما زال ينقص حتى قال : فواحد؟ قالوا : لا . فقال حينئذ : { إِن فيها لوطا ، قالوا نحن أعلم بمن فيها } [ العنكبوت 31 ] ، هذا قول ابن إِسحاق . وقال غيره : قيل له : إِن كان فيهم خمسة لم نعذِّبْهم ، فما كان فيهم سوى لوط وابنتيه . وقال سعيد بن جبير : قال لهم : أتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمناً؟ قالوا : لا؛ وكان إِبراهيم يَعُدُّهم أربعة عشر مع امرأة لوط ، فسكتَ واطمأنَّتْ نفسه؛ وإِنما كانوا ثلاثة عشر فأُهلكوا .
قوله تعالى : { إِن إِبراهيم لحليم أَوَّاهٌ } قد فسرناه في [ براءة 114 ] . فعند ذلك قالت الرسل لإِبراهيم : { يا إِبراهيم أعرض عن هذا } يعنون الجدال . { إِنه قد جاء أمر ربك } بعذابهم . وقيل : قد جاء عذاب ربك ، فليس بمردود ، لأن الله قد قضى به .

وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)

قوله تعالى : { ولما جاءت رسلنا لوطاً } قال المفسرون : خرجت الملائكة من عند إِبراهيم نحو قرية لوط ، فأَتَوْهَا عشاءً . وقال السدي عن أشياخه : أَتَوْهَا نصف النهار ، فلما بلغوا نهر سدوم ، لقوا بنت لوط تستقي الماء لأهلها ، فقالوا : لها : ياجارية ، هل من منزل؟ قالت : نعم ، مكانَكم لا تدخلوا حتى آتيكم فَرَقاً عليهم من قومها؛ فأتت أباها ، فقالت : يا أبتاه ، أدرك فتياناً على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم هي أحسن منهم ، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم؛ وقد كان قومه نَهَوْهُ أن يضيف رجلاً؛ فجاء بهم ، ولم يعلم بهم أحد إِلا أهل بيت لوط؛ فخرجت امرأته فأخبرت قومها ، فجاؤوا يُهْرَعُونَ إِليه .
قوله تعالى : { سيء بهم } فيه قولان .
أحدهما : ساء ظنه بقومه ، قاله ابن عباس .
والثاني : ساءه مجيء الرسل ، لأنه لم يعرفهم ، وأشفق عليهم ، من قومه قاله ابن جرير . قال الزجاج : وأصل { سيء بهم } سُوِىء بهم ، من السوء ، إِلا أن الواو أسكنت ونقلت كسرتها إِلى السين .
قوله تعالى : { وضاق بهم ذرعاً } قال ابن عباس : ضاق ذرعاً بأضيافه . قال الفراء : الأصل فيه : وضاق ذرعه بهم ، فنُقل الفعل عن الذرع إِلى ضمير لوط ، ونُصب الذرع بتحول الفعل عنه ، كما قال : { واشتعل الرأس شيباً } [ مريم 4 ] ومعناه : اشتعل شيب الرأس .
قال الزجاج : يقال : ضاق فلان بأمره ذرعاً : إذا لم يجد من المكروه في ذلك الأمر مخلصاً . وذكر ابن الأنباري فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن معناه : وقع به مكروه عظيم لايصل إِلى دفعه عن نفسه ، فالذرع كناية عن هذا المعنى .
والثاني : أن معناه : ضاق صبره وعظم المكروه عليه؛ وأصله من ذرع فلاناً القيءُ : إِذا غلبه وسبقه .
والثالث : أن المعنى : ضاق بهم وُسْعُه ، فناب الذرع والذراع عن الوسع ، لأن الذراع من اليد ، والعرب تقول : ليس هذا في يدي ، يعنون : ليس هذا في وُسْعِي؛ ويدل على صحة هذا أنهم يجعلون الذراع في موضع الذرع ، فيقولون : ضقت بهذا الأمر ذراعاً ، قال الشاعر :
إِلَيْكَ إِلَيْكَ ضَاقَ بِهِم ذِرَاعَا ... فأما العصيب ، فقال أبو عبيدة : العصيب : الشديد الذي يعصب الناس بالشر ، وأنشد :
يَوْمٌ عَصِيبُ يَعْصِبُ الأَ بْطَالاَ ... عَصْبَ القويِّ السَّلَمَ الطِّوالا
وقال أبو عبيد : يقال : يوم عصيب ، ويوم عصبصب : إِذا كان شديداً .
قوله تعالى : { يهرعون إِليه } قال ابن عباس ، ومجاهد : «يهرعون» يسرعون . وقال الفراء ، والكسائي : لا يكون الإِهراع إِلا إِسراعاً مع رِعدة . قال ابن قتيبة : الإِهراع شبيه بالرِعدة ، يقال : أُهرع الرجل : إِذا أسرع ، على لفظ ما لم يسم فاعله ، كما يقال : أُرعد . قال ابن الأنباري : الإِهراع فعل واقع بالقوم وهو لَهم في المعنى ، كما قالت العرب : قد أُولع الرجل بالأمر ، فجعلوه مفعولاً ، وهو صاحب الفعل ، ومثله : أُرعد زيد ، وسُهي عمرو من السهو ، كل واحد من هذه الأفاعيل خرج الاسم معه مقدراً تقدير المفعول ، وهو صاحب الفعل لا يُعرف له فاعل غيره .

قال : وقال بعض النحويين : لا يجوز للفعل أن يُجعل فاعله مفعولاً ، وهذه الأفعال المذكورة فاعلوها محذوفون ، وتأويل «أولع زيد» : أولعه طبعه وجِبلَّته ، «وأُرعد الرجل» : أرعده غضبه ، «وسهي عمرو» جعله ساهياً مالُه أو جهله ، و «أُهرع» معناه : أهرعه خوفه ورعبه؛ فلهذه العلة خرِّج هؤلاء الأسماء مخرج المفعول به . قال : وقال بعض اللغويين : لا يكون الإِهراع إِلا إِسراع المذعور الخائف؛ لا يقال لكل مسرع : مهرع حتى ينضم إِلى إِسراعه جزع وذعر . قال المفسرون : سبب إِهراعهم ، أن امرأة لوط أخبرتهم بالأضياف . { ومن قبل } أي : ومن قبل مجيئهم إِلى لوط { كانوا يعملون السيئات } يعني فعلهم المنكر .
وفي قوله : { هؤلاء بناتي } قولان :
أحدهما : أنهن بناته لصلبه ، قاله ابن عباس .
فإن قيل : كيف جمع ، وقد كن اثنتين؟ فالجواب : أنه قد يقع الجمع على اثنين ، كقوله : { وكنا لحكمهم شاهدين } [ الأنبياء 78 ] .
والثاني : أنه عنى نساء أمته ، لأن كل نبي أبو أمته ، والمعنى : أنه عرض عليهم التزويج ، أو أمرهم أن يكتفوا بنسائهم ، وهذا مذهب مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن جريج .
فإن قيل : كيف عرض تزويج المؤمنات على الكافرين؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أنه قد كان يجوز ذلك في شريعته ، وكان جائزاً في صدر الإِسلام حتى نسخ ، قاله الحسن .
والثاني : أنه عرض ذلك عليهم بشرط إِسلامهم ، قاله الزجاج ، ويؤكده أن عرضهن عليهم موقوف على عقد النكاح ، فجاز أن يقف على شرط آخر .
قوله تعالى : { هن أطهر لكم } قال مقاتل : هن أحل من إِتيان الرجال .
قوله تعالى : { فاتقوا الله } فيه قولان :
أحدهما : اتقوا عقوبته . والثاني : اتقوا معصيته .
قوله تعالى : { ولا تُخزونِ في ضيفي } حرك ياء «ضيفي» أبو عمرو ، ونافع . وفي معنى هذا الخزي ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الفضيحة ، قاله ابن عباس . والثاني : الاستحياء ، والمعنى : لا تفعلوا بأضيافي فعلاً يلزمني الاستحياء منه ، لأن المضيف يلزمه الاستحياء من كل فعل يصل إِلى ضيفه . والعرب تقول : قد خزي الرجل يخزى خِزاية : إِذا استحيى ، قال الشاعر :
مِنَ البِيْضِ لاَ تَخْزَي إِذا الرِّيْحُ أَلْصَقَتْ ... بها مِرْطَهَا أَوْ زَايَلَ الحَلْيُ جِيْدَهَا
والثالث : أنه بمعنى الهلاك ، لأن المعرة التي تقع بالمضيف في هذه الحال تُلزمه هلكة ، ذكرهما ابن الأنباري .
قال ابن قتيبة : والضيف هاهنا : بمعنى الأضياف ، والواحد يدل على الجميع ، كما تقول : هؤلاء رسولي ووكيلي .
قوله تعالى : { أليس منكم رجل رشيد } في المراد بالرشيد قولان :
أحدهما : المؤمن . والثاني : الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، رويا عن ابن عباس .
قال ابن الأنباري : يجوز أن يكون الرشيد بمعنى المرشِد ، فيكون المعنى : أليس منكم مرشِد يعظكم ويعرفكم قبيح ماتأتون؟ فيكون الرشيد من صفة الفاعل ، كالعليم ، والشهيد . ويجوز أن يكون الرشيد بمعنى المرشَد ، فيكون المعنى : أليس منكم رجل قد أسعده الله بما منحه من الرشاد يصرفكم عن إِتيان هذه المعرَّة؟ فيجري رشيد مجرى مفعول ، كالكتاب الحكيم بمعنى المحكم .

قوله تعالى : { مالنا في بناتك من حق } فيه قولان :
أحدهما : مالنا فيهن حاجة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : لسن لنا بأزواج فنستحقهن ، قاله ابن إِسحاق ، وابن قتيبة .
قوله تعالى : { وإِنك لتعلم ما نريد } قال عطاء : وإِنك لتعلم أنا نريد الرجال ، لا النساء .
قوله تعالى : { لو أن لي بكم قوة } أي : جماعة أقوى بهم عليكم . وقيل : أراد بالقوة البطش . { أو آوي إِلى ركن شديد } أي : أنضم إِلى عشيرة وشيعة تمنعني . وجواب «لو» محذوف على تقدير : لحُلْتُ بينكم وبين المعصية . قال أبو عبيدة : قوله : «آوي» من قولهم . أويت إِليك ، فأنا آوي أُويّاً ، والمعنى : صرت إِليك وانضممت . ومجاز الركن هاهنا : العشيرة العزيزة الكثيرة المنيعة ، وأنشد :
يأوى إِلى رُكْنٍ مِنَ الأَرْكَانِ ... في عدَدٍ طَيْسٍ ومجدٍ باني
والطَّيْس : الكثير ، يقال : أتانا لبن طيس ، وشراب طيس ، أي : كثير . واختلفوا أي وقت قال هذا لوط؛ فروي عن ابن عباس أن لوطاً كان قد أغلق بابه والملائكة معه في الدار ، وهو يناظرهم ويناشدهم وراء الباب ، وهم يعالجون الباب ويرومون تسوّر الجدار؛ فلما رأت الملائكة ما يلقى من الكرب ، قالوا : يالوط إِنا رسل ربك ، فافتح الباب ودعنا وإِياهم؛ ففتح الباب ، فدخلوا ، واستأذن جبريل ربه في عقوبتهم ، فأذن له ، فضرب بجناحه وجوههم فأعماهم ، فانصرفوا يقولون : النجاءَ النجاءَ ، فان في بيت لوط أسحر قوم في الأرض؛ وجعلوا يقولون : يالوط ، كما أنت حتى تصبح ، يوعدونه؛ فقال لهم لوط : متى موعد هلاكهم؟ قالوا : الصبح ، قال لو أهلكتموهم الآن ، فقالوا : أليس الصبح بقريب؟ وقال أبو صالح عن ابن عباس : إِنهم لما تواعدوه ، قال في نفسه : ينطلق هؤلاء القوم غداً من عندي ، وأبقى مع هؤلاء فيهلكوني ، فقال : لو أن لي بكم قوة .
قلت : وإِنما يتوجه هذا إِذا قلنا : إِنه كان قبل علمه أنهم ملائكة . وقال قوم : إِنه إِنما قال هذا لما كسروا بابه وهجموا عليه . وقال آخرون : لما نهاهم عن أضيافه فأبَوْا قال هذا .
وفي الجملة ، ما أراد بالركن نصر الله وعونه ، لأنه لم يخل من ذلك ، وإِنما ذهب إِلى العشيرة والأسرة .
وروى أبو هريرة عن رسول الله أنه قال : " رحم الله لوطاً ، لقد كان يأوي إِلى ركن شديد ، وما بعث الله نبياً بعده إِلا في ثروة من قومه " . قوله تعالى : { لن يصلوا إِليك } قال مقاتل : فيه إِضمار ، تقديره : لن يصلوا إِليك بسوء ، وذلك أنهم قالوا للوط : إِنا نرى معك رجالاً سحروا أبصارنا ، فستعلم غداً ما تَلْقى أنت وأهلُك؛ فقال له جبريل : { إِنا رسل ربك لن يصلوا إِليك } .
قوله تعالى : { فأسر بأهلك } قرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي «فأسر» باثبات الهمز في اللفظ من أسريت .

وقر أ ابن كثير ، ونافع «فاسر بأهلك» بغير همز من سريت ، وهما لغتان . قال الزجاج : يقال : سريت ، وأسريت : إِذا سرت ليلاً ، قال الشاعر :
سريت بهم حتى تكلَّ مَطيُّهم ... وحتى الجيادُ ما يُقَدْنَ بأرسان
وقال النابغة :
أَسْرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْجَوْزَاءِ سَارِيَةٌ ... تُزجِي الشَّمَالُ عَلَيْهِ جَامِدَ الْبَرَدِ
وقد رووه : سرت . فأما أهله ، فقال مقاتل : هم امرأته وابنتاه . واسم ابنتيه : رُبْثا وزُعَرثا . وقال السدي : اسم الكبرى : ريَّة ، واسم الصغرى : عروبة .
والمراد بأهله : ابنتاه . فأما القِطْع ، فهو بمعنى القطعة؛ يقال : مضى قِطْع من الليل ، أي : قطعة . قال ابن عباس : يريد به : آخر الليل . وقال ابن قتيبة : «بقِطْع» أي : ببقية تبقى من آخره . وقال ابن الأنباري : ذكر القِطَع بمعنى القطعة مختص بالليل ، ولا يقال : عندي قِطْع من الثوب ، بمعنى : عندي قطعة . قوله تعالى : { ولا يلتفت منكم أحد } فيه قولان :
أحدهما : أنه بمعنى : لا يتخلَّفْ منكم أحد ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنه الالتفات المعروف ، قاله مجاهد ، ومقاتل .
قوله تعالى : { إِلا امرأتك } قرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بنصب التاء . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن جمّاز عن أبي جعفر برفع التاء . قال الزجاج : من قرأ بالنصب ، فالمعنى : فأسر بأهلك إِلا امرأتكَ . ومن قرأ بالرفع ، حمله على «ولا يلتفتْ منكم أحد إِلا امرأتك» . وإِنما أُمروا بترك الالتفات لئلا يَرَوْا عظيم ما ينزل بهم من العذاب . قال ابن الأنباري : وعلى قراءة الرفع ، يكون الاستثناء منقطعاً ، معناه : لكن امرأتك ، فإنها تلتفت فيصيبها ما أصابهم؛ فإذا كان استثناءً منقطعاً ، كان التفاتُها معصيةً لربها ، لأنه ندب إِلى ترك الالتفات . قال قتادة : ذُكر لنا أنها كانت مع لوط حين خرج من القرية ، فلما سمعت هَدّة العذاب ، التفتت فقالت : واقوماه ، فأصابها حجر فأهلكها ، وهو قوله : { إِنه مصيبُها ما أصابهم إِن موعدهم } للعذاب ( الصبح ) . قوله تعالى : { أليس الصبح بقريب } قال المفسرون : قالت الملائكة : «إِن موعدهم الصبح» فقال : أريد أعجل من ذلك ، فقالوا له : «أليس الصبح بقريب»؟

فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

قوله تعالى : { فلما جاء أمرنا } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أمرُ الله الملائكةَ بعذابهم .
والثاني : أن الأمر بمعنى العذاب .
والثالث : أنه بمعنى القضاء بعذابهم .
قوله تعالى : { جعلنا عاليها سافلها } الكناية تعود إِلى المؤتفكات ، وهي قرى قوم لوط ، وقد ذكرناها في [ براءة : 70 ] ، ونحن نشير إِلى قصة هلاكهم هاهنا . قال ابن عباس : أمر جبريل لوطاً بالخروج ، وقال : اخرج وأخرج غنمك وبقرك ، فقال : كيف لي بذلك وقد أُغلقت أبواب المدينة؟ فبسط جناحه ، فحمله وبنتيه ومالهم من شيء ، فأخرجهم من المدينة ، وسأل جبريل ربَّه ، فقال : يا رب ولِّني هلاك هؤلاء القوم ، فأوحى الله إِليه أن تولّ هلاكهم؛ فلما أن بدا الصبح ، غدا عليهم جبريل فاحتملها على جناحه ، ثم صَعِدَ بها حتى خرج الطير في الهواء لا يدري أين يذهب ، ثم كَفَأهَا عليهم ، وسمعوا وَجْبَةً شديدة ، فالتفتت امرأة لوط ، فرماها جبريل بحجر فقتلها ، ثم صَعِدَ حتى أشرف على الأرض ، فجعل يُتْبِعُهمْ مُسافِرَهم وَرعَاتهم ومَنْ تحوَّل عن القرية ، فرماهم بالحجارة حتى قتلهم . وقال السدي : اقتلع جبريل الأرض من سبع أرضين ، فاحتملها حتى بلغ بها إِلى أهل السماء الدنيا ، حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ، ثم قلبها . وقال غيره : كانت خمس قرى ، أعظمها سَدوم ، وكان القوم أربعة آلاف ألف . وقيل : كان في كل قرية مائة ألف مقاتل ، فلما رفعها إِلى السماء ، لم ينكسر لهم إِناء ولم يسقط حتى قلبها عليهم . وقيل : نجا من الخمس واحدة لم تكن تعمل مثل عملهم . وانفرد سعيد بن جبير ، فقال : إِن جبريل وميكائيل تولَّيا قلبها .
قوله تعالى : { وأمطرنا عليها } في هاء الكناية قولان :
أحدهما : أنها ترجع إِلى القرى .
والثاني : إِلى الأمة .
وفي السِّجِل سبعة أقوال :
أحدها : أنها بالفارسية سَنْك وكِلْ ، السنك : الحجر ، والكل : الطين ، هذا قول ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير . وقال مجاهد : أولها حجر ، وآخرها طين . وقال الضحاك : يعني الآجرّ . قال ابن قتيبة : من ذهب إِلى هذا القول ، اعتبره بقوله : { حجارة من طين } [ الذاريات 33 ] يعنى الآجر . وحكى الفراء أنه طين قد طبخ حتى صار بمنزلة الأرحاء .
والثاني : أنه بحر معلَّق في الهواء بين السماء والأرض ، ومنه نزلت الحجارة ، قاله عكرمة .
والثالث : أن السجيل : اسم السماء الدنيا ، فالمعنى : حجارة من السماء الدنيا ، قاله ابن زيد .
والرابع : أنه الشديد من الحجارة الصلب ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد لابن مقبل :
وَرَجْلَةً يَضْرِبُونَ البَيْضَ عَنْ عُرُضٍ ... ضرباً تواصَتْ به الأبطالُ سِجِّينَا
وردّ هذا القول ابن قتيبة ، فقال : هذا بالنون ، وذاك باللام ، وإِنما هو في هذا البيت فعيل من سجنت ، أي : حبست ، كأنه يثبت صاحبه .
والخامس : أن قوله : «من سجيل» كقولك : من سِجلّ ، أي : مما كُتب لهم أن يعذَّبوا به ، وهذا اختيار الزجاج .

والسادس : أنه من أسجلته ، أي : أرسلته ، فكأنها مرسلة عليهم .
والسابع : أنه من أسجلت : إِذا أعطيت ، حكى القولين الزجاج .
وفي قوله : { منضود } ثلاثة أقوال :
أحدها : يتبع بعضه بعضاً ، قاله ابن عباس .
والثاني : مصفوف ، قاله عكرمة ، وقتادة .
والثالث : نضد بعضه على بعض ، لأنه طين جُمع فجُعل حجارة ، قاله الربيع بن أنس .
قوله تعالى : { مسوَّمةً } قال الزجاج : أي معلَّمة ، أُخذ من السُّومة ، وهي العلامة .
وفي علامتها ستة أقوال :
أحدها : بياض في حمرة ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال الحسن .
والثاني : أنها كانت مختومة ، فالحجر أبيض وفيه نقطة سوداء ، أو أسود وفيه نقطة بيضاء ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثالث : أنها المخططة بالسواد والحمرة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والرابع : عليها نضح من حمرة فيها خطوط حمر على هيأة الجِزع ، قاله عكرمة ، وقتادة .
والخامس : أنها كانت معلَّمة بعلامة يُعرف بها أنها ليست من حجارة الدنيا ، قاله ابن جريج .
والسادس : أنه كان على كل حجر منها اسم صاحبه ، قاله الربيع . وحكي عن بعض من رأى تلك الحجارة أنه قال : كانت مثل رأس الإبل ، ومثل مبارك الإِبل ، ومثل قبضة الرجل .
وفي قوله تعالى : { عند ربك } أربعة أقوال :
أحدها : أن المعنى : جاءت من عند ربك ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : عند ربك معدَّة ، قاله أبو بكر الهزلي .
والثالث : أن المعنى : هذا التسويم لزم هذه الحجارة عند الله إِيذاناً بنفاذ قدرته وشدة عذابه ، قاله ابن الأنباري .
والرابع : أن معنى قوله : «عند ربك» في خزائنه التي لا يُتصرَّف في شيء منها إِلا بإذنه .
قوله تعالى : { وما هي من الظالمين ببعيد } في المراد بالظالمين هاهنا ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المراد بالظالمين هاهنا : كفار قريش ، خوَّفهم الله بها ، قاله الأكثرون .
والثاني : أنه عام في كل ظالم؛ قال قتادة : والله ما أجار الله منها ظالماً بعد قوم لوط ، فاتقوا الله وكونوا منه على حذر .
والثالث : أنهم قوم لوط ، فالمعنى : وما هي من الظالمين ، أي : من قوم لوط ببعيد ، والمعنى : لم تكن لتُخطئهم ، قاله الفراء .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20