كتاب : زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)

قوله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم } قال الزجاج : الأصل في أمّهات : أمّات ، ولكن الهاء زيدت مؤكّدة ، كما زادوها في : أهرقت الماء ، وإِنما أصله : أرقت .
قوله تعالى : { وأمّهاتكم اللاتي أرضعنكم } إنما سُمّين أمهات ، لموضع الحرمة .
واختلفوا هل يعتبر في الرضاع العدد ، أم لا؟ فنقل حنبل ، عن أحمد : أنه يتعلق التحريم بالرضعة الواحدة وهو قول عمر ، وعلي ، وابن عباس ، وابن عمر ، والحسن ، وطاووس ، والشعبي ، والنخعي ، والزهري ، والأوزاعي ، والثوري ، ومالك ، وأبي حنيفة ، وأصحابه . ونقل محمد بن العباس ، عن أحمد : أنه يتعلق التحريم بثلاث رضعات . ونقل أبو الحارث ، عن أحمد : لا يتعلق بأقل من خمس رضعات متفرقات وهو قول الشافعي .
قوله تعالى : { وأمهات نسائكم } أمهات النساء : يحرَّمن بنفس العقد على البنت ، سواء دخل بالبنت ، أو لم يدخل ، وهذا قول عمر ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وعمران بن حصين ، ومسروق ، وعطاء ، وطاووس ، والحسن ، والجمهور . وقال علي رضي الله عنه في رجل طلق امرأته قبل الدخول : له أن يتزوج أمها وهذا قول مجاهد ، وعكرمة .
قوله تعالى : { وربائبكم } الربيبة : بنت امرأة الزوج من غيره . ومعنى الربيبة : مربوبة ، لأن الرجل يربّيها ، وخرج الكلام على الأعم من كون التربية في حجر الرجل ، لا على الشرط . قوله { وحلائل أبنائكم } قال الزجاج : الحلائل : الأزواج . وحليلة : بمعنى مُحلَّة ، وهي مشتقة من الحلال . وقال غيره : سُميت بذلك ، لأنها تحل معه أينما كان . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي ، قال : الحليل : الزوج ، والحليلة : المرأة ، وسُمّيا بذلك ، إِما لأنهما يحلان في موضع واحد ، أو لأن كل واحد منهما يحال صاحبه ، أي : ينازله ، أو لأن كل واحد منهما يحل إِزار صاحبه . قوله { الذين من أصلابكم } قال عطاء : إِنما ذكر الأصلاب ، لأجل الأدعياء . والكلام في قوله { إلا ما قد سلف } على نحو ما تقدم في الآية التي قبلها . وقد زادوا في هذا قولين آخرين . أحدهما : إِلا ما قد سلف من أمر يعقوب عليه السلام ، لأنه جمع بين أم يوسف وأختها ، وهذا مروي عن عطاء ، والسدي ، وفيه ضعف لوجهين .
أحدهما : أن هذا التحريم يتعلق بشريعتنا ، وليس كل الشرائع تتفق ، ولا وجه للعفو عنا فيما فعله غيرنا . والثاني : أنه لو طولب قائل هذا بتصحيح نقله ، لعَسُر عليه .
والقول الثاني : أن تكون فائدة هذا الاستثناء أن العقود المتقدّمة على الأختين لا تنفسخ ، ويكون للانسان أن يختار إِحداهما ، ومنه حديث " فيروز الديلمي قال : أسلمت وعندي أُختان ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : «طلق إِحداهما» " ذكره القاضي أبو يعلى .

وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)

قوله : { والمحصنات من النساء } أما سبب نزولها ، فروى أبو سعيد الخدري قال : أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج ، فكرهنا أن نقع عليهن ، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، فاستحللناهن .
وأما خلاف القُرّاء ، فقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة بفتح الصاد في كل القرآن ، وفتح الكسائي الصاد في هذه وحدها ، وقرأ سائر القرآن بالكسر ، والمحصِنات» و«محصِنات» . قال ابن قتيبة : والإِحصان : أن يحمي الشيء ، ويمنع منه ، فالمحصنات [ من النساء ] : ذوات الأزواج ، لأن الأزواج أحصنوهن ، ومنعوا منهن : [ قال الله تعالى : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } ] والمحصنات : الحرائر وإن لم يكنَّ متزوجات ، لأن الحرّة تُحصَن وتَحصِن ، وليست كالأمة ، قال الله تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات } [ النساء : 25 ] وقال : { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } [ النساء : 25 ] يعني : الحرائر ] والمحصنات : العفائف قال الله تعالى : { والذين يرمون المحصنات } [ النور : 4 ] يعني العفائف . وقال الله تعالى : { ومريمَ ابنةَ عمران التي أحصنت فرجها } [ لتحريم : 12 ] أي : عفت .
وفي المراد بالمحصنات هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : ذوات الأزواج ، وهذا قول ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، وابن جبير ، والنخعي ، وابن زيد ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج .
والثاني : العفائف : فإنهن حرام على الرجال إلا بعقد نكاح ، أو ملك يمين . وهذا قول عمر بن الخطاب ، وأبي العالية ، وعطاء ، وعبيدة ، والسدي .
والثالث : الحرائر ، فالمعنى : أنهن حرام بعد الأربع اللواتي ذُكِرْنَ في أول السورة ، روي عن ابن عباس ، وعبيدة .
فعلى القول الأول في معنى قوله { إلا ما ملكت أيمانكم } قولان .
أحدهما : أن معناه : إِلاَّ ما ملكت أيمانكم من السبايا في الحروب ، وعلى هذا تأوَّلَ الآية عليٌ ، وعبد الرحمن بن عوف ، وابن عمر ، وابن عباس ، و كان هؤلاء لا يرون بيع الأمة طلاقاً .
والثاني : إِلا ما ملكت أيمانكم من الإِماء ذوات الأزواج ، بسبي أو غير سبي ، وعلى هذا تأوَّلَ الآية ابنُ مسعود ، وأُبيُّ بن كعب ، وجابر ، وأنس ، وكان هؤلاء يرون بيع الأمة طلاقاً . وقد ذكر ابن جرير ، عن ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، والحسن : أنهم قالوا بيع الأمة طلاقها ، والأول أصح .
لأن النبي صلى الله عليه وسلم خيّر بريرة إِذ أعتقتها عائشة ، بين المقام مع زوجها الذي زوَّجها منه سادتُها في حال رقّها ، وبين فراقه ، ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم عتق عائشة إِيّاها طلاقاً ، ولو كان طلاقاً لم يكن لتخييره إِياها معنى . ويدل على صحة القول الأول ما ذكرناه من سبب نزول الآية .
وعلى القول الثاني : العفائف حرام إِلا بملك ، والملك يكون عقداً ، ويكون ملك يمين .
وعلى القول الثالث : الحرائِر حرام بعد الأربع إِلا ما ملكت أيمانكم من الإِماء ، فانهن لم يُحصَرن بعدد .

قوله تعالى : { كتابَ الله عليكم } قال الزجاج : هو منصوب على التوكيد ، محمول على المعنى ، لأن معنى «حرمت عليكم أمهاتكم» : كتب الله عليكم هذا كتاباً ، قال : ويجوز أن ينتصبَ على جهة الأمر ، ويكون «عليكم» مفسراً له ، فيكون المعنى : إلزموا كتاب الله . قال : { وأُحِل لكم ما وراء ذلكم } أي : ما بعد هذه الأشياء ، إِلا أن السُّنة ، قد حرَّمت تزويج المرأة على عمتها ، وتزويجها على خالتها وقرأ ابن السميفع ، وأبو عمران : «كتب الله عليكم» بفتح الكاف ، والتاء ، والباء ، من غير ألف ، ورفع الهاء ، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : وأحَلَّ بفتح الحاء ، وقرأ حمزة ، والكسائي : بضم الألف .
فصل
قال شيخنا علي بن عبيد الله : وعامة العلماء ذهبوا إِلى أن قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } تحليل ورد بلفظ العموم ، وأنه عموم دخله التخصيص ، والمخصص له نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها ، أو على خالتها . وليس هذا على سبيل النسخ . وذهب طائفة إلى أن التحليل المذكور في الآية منسوخ بهذا الحديث .
قوله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم } أي : تطلبوا إِمَّا بصداق في نكاح ، أو ثمن في ملك { محصِنين } قال ابن قتيبة : متزوّجين ، وقال الزجاج : عاقدين التزويج ، وقال غيرهما : متعفّفين غير زانين . والسفاح : الزنى ، قال ابن قتيبة : أصله من سفحت القربة : إِذا صببتها ، فسُمّي الزنى سفاحاً ، لأن [ يسافح ] يصب النطفة ، وتصب المرأة النطفة . وقال ابن فارس : السفاح : صب الماء بلا عقد ، ولا نكاح ، فهو كالشيء يسفح ضياعاً .
قوله تعالى : { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } فيه قولان .
أحدهما : أنه الاستمتاع في النكاح بالمهور ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والجمهور .
والثاني : أنه الاستمتاع إلى أجل مُسمىً من غير عقد نكاح . وقد روي عن ابن عباس : أنه كان يفتي بجواز المتعة ، ثم رجع عن ذلك وقد تكلف قوم من مفسّري القُرّاء ، فقالوا : المراد بهذه الآية نكاح المتعة ، ثم نسخت بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن متعة النساء ، وهذا تكلُّف لا يُحتاج إليه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز المتعة ، ثم منع منها فكان قوله منسوخاً بقوله . وأما الآية ، فإنها لم تتضمّن جواز المتعة . لأنه تعالى قال فيها : { أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } فدل ذلك على النكاح الصحيح . قال الزجاج : ومعنى قوله :
{ فما استمتعتم به منهن } فما نكحتموهن على الشريطة التي جرت ، وهو قوله { محصنين غير مسافحين } أي : عاقدين التزويج { فآتوهن أجورهنَّ } أي : مهورهن . ومن ذهب في الآية إلى غير هذا ، فقد أخطأ ، وجهل اللغة .
قوله تعالى : { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } فيه ستة أقوال .
أحدها : أن معناه : لا جناح عليكم فيما تركته المرأة من صداقها ، ووهبته لزوجها ، هذا مروي عن ابن عباس ، وابن زيد .

والثاني : ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من مقام ، أو فرقة بعد أداء الفريضة ، روي عن ابن عباس أيضا .
والثالث : ولا جناح عليكم أيها الأزواج إذا أعسرتم بعد الفرض لنسائكم فيما تراضيتم به من أن ينقصنكم أو يُبرِئنكم ، قاله أبو سليمان التيمي .
والرابع : لا جناح عليكم إذا انقضى أجل المتعة أن يزدنكم في الأجل ، وتزيدونهن في الأجر من غير استبراء ، قاله السدي : وهو يعود إلى قصّة المتعة .
والخامس : لا جناح عليكم أن تهب المرأة للرجل مهرها ، أو يهب هو للتي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب عليه . قاله الزجاج .
والسادس : أنه عام في الزيادة ، والنقصان ، والتأخير ، والإِبراء ، قاله القاضي أبو يعلى .

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

قوله تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولاً } «الطول» : الغنى والسعة في قول الجماعة . و «المحصنات» : الحرائِر ، قال الزجاج : والمعنى : من لم يقدر على مهر الحرّة ، يقال : قد طال فلان طَولاً على فلان ، أي : كان له فضل عليه في القدرة .
والمراد بالفتيات هاهنا : المملوكات ، يقال للأمة : فتاة ، وللعبد : فتى ، وقد سُمّي بهذا الاسم من ليس بمملوك . قرأت على شيخنا الإِمام أبي منصور اللغوي قال : المتفتية : الفتاة والمراهقة ، ويقال للجارية الحدثة : فتاة ، وللغلام : فتى ، قال القتيبي : وليس الفتى بمعنى الشاب والحدث ، إِنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال .
فأما ذكر الايمان ، فشرط في إِباحتهن ، ولا يجوز نكاح الأمة الكتابية ، هذا قول الجمهور ، وقال أبو حنيفة : يجوز .
قوله تعالى : { والله أعلم بايمانكم } قال الزجاج : معناه : اعملوا على ظاهركم في الإِيمان ، فإنكم متعبدون بما ظهر من بعضكم لبعض . قال : وفي قوله : «بعضكم من بعض» وجهان .
أحدهما : أنه أراد النسب ، أي : كلكم ولد آدم . ويجوز أن يكون معناه : دينكم واحد ، لأنه ذكر هاهنا المؤمنات . وإِنما قيل لهم ذلك ، لأن العرب كانت تطعن في الأنساب ، وتفخر بالأحساب ، وتُسمّي ابن الأمة : الهجين ، فأعلم الله عز وجل أن أمر العبيد وغيرهم مستوٍ في باب الإِيمان ، وإِنما كُره التزويج بالأمة ، وَحَرُمَ إذا وجَدَ إلى الحُرّة سبيلاً ، لأن وُلْدَ الأمة من الحُرّ يصيرون رقيقاً ، ولأن الأمة ممتهنة في عشرة الرجال ، وذلك يشق على الزوج .
قال ابن الأنباري : ومعنى الآية : كلكم بنو آدم ، فلا يتداخلْكم شُموخ وأنفة من تزوج الإِماء عند الضرورة .
وقال ابن جرير : في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات [ المؤمنات ] ، فلينكح بعضكم من بعض ، أي : لينكح هذا فتاة هذا .
قوله تعالى : { فانكحوهن } يعني : الإِماء { باذن أهلهن } ، أي : سادتهن . و «الأجور» : المهور .
وفي قوله { بالمعروف } قولان .
أحدهما : أنه مقدم في المعنى ، فتقديره : انكحوهن بإذن أهلهن بالمعروف ، أي : بالنكاح الصحيح { وآتوهن أجورهن } .
والثاني : أن المعنى : وآتوهن أجورهن بالمعروف ، كمهور أمثالهن . قال ابن عباس : «محصنات» : عفائف غير زوانٍ { ولا متخذات أخدان } يعني : أخلاَّء كان الجاهلية يحرّمون ما ظهر من الزنى ، ويستحلّون ما خفي . وقال في رواية أخرى : «المسافحات» المعلنات بالزنى . «والمتخذات أخدَان» : ذات الخليل الواحد . وقال غيره : كانت المرأة تتخذ صديقاً تزني معه ، ولا تزني مع غيره .
قوله تعالى : { فاذا أحصنّ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «أحصن» مضمومة الألف . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، والمفضل عن عاصم : بفتح الألف ، والصاد . قال ابن جرير : من قرأ بالفتح ، أراد : أسلمن ، فصرن ممنوعات الفروج عن الحرام بالاسلام ، ومن قرأ بالضم ، أراد : فاذا تزوّجن فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالأزواج .

فأما«الفاحشة» ، فهي الزنى ، و «المحصنات» : الحرائر ، و «العذاب» : الحد . قال القاضي أبو يعلى : وليس الإسلام والتزويج شرطاً في إِيجاب الحدّ على الأمة ، بل يجب وإِن عُدِما ، وإِنما شرط الإِحصان في الحدّ ، لئلا يتوهم متوهّم أن عليها نصف ما على الحرة إِذا لم تكن محصنة ، وعليها مثل ما على الحرّة إِذا كانت محصنة .
قوله تعالى : { ذلك } الإِشارة إلى إِباحة تزويج الإِماء . وفي «العنت» خمسة أقوال . أحدها : أنه الزنى ، قاله ابن عباس ، والشعبي ، وابن جبير ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن زيد ، ومقاتل ، وابن قتيبة .
والثاني : أنه الهلاك ، ذكره أبو عبيدة ، والزجاج . والثالث : لقاء المشقة في محبة الأمة ، حكاه الزجاج . والرابع : أن العنت هاهنا : الإِثم . والخامس : أنه العقوبة التي تعنته ، وهي الحد ، ذكرهما ابن جرير الطبري .
قال القاضي أبو يعلى : وهذه الآية تدل على إِباحة نكاح الإِماء المؤمنات بشرطين . أحدهما : عدم طَول الحرّة .
والثاني : خوف الزنى ، وهذا قول ابن عباس ، والشعبي ، وابن جبير ، ومسروق ، ومكحول ، وأحمد ، ومالك ، والشافعي . وقد روي عن علي ، والحسن ، وابن المسيّب ، ومجاهد ، والزهري ، قالوا : ينكح الأمة ، وإِن كان موسراً ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه .
قوله تعالى : { وأن تصبروا خير لكم } قال ابن عباس والجماعة : عن نكاح الإِماء ، وإِنما ندب إِلى الصّبر عنه ، لاسترقاق الأولاد .

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)

قوله تعالى : { يريد الله ليبيّن لكم } اللام بمعنى «أن» وهذا مذهب جماعة من أهل العربيّة ، واختاره ابن جرير ، ومثله { وأُمرت لأعدل بينكم } [ الشورى : 15 ] { وأُمرنا لنُسلم } [ الأنعام : 71 ] { يريدون ليطفئوا } [ الصف : 8 ] .
والبيان من الله تعالى بالنص تارةً ، وبدلالة النص أخرى . قال الزجاج : «والسُنن» : الطُرُق ، فالمعنى يدلكم على طاعته ، كما دل الأنبياء وتابعيهم . وقال غيره : معنى الكلام : يريد الله ليُبيّن لكم سنن من قبلكم من أهل الحق والباطل لتجتنبوا الباطل وتجيبوا الحق ، ويهديكم إِلى الحق .

وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)

قوله تعالى : { والله يريد أن يتوب عليكم } قال الزجاج : يريد أن يدلكم على ما يكون سبباً لتوبتكم .
وفي الذين اتبعوا الشهوات أربعة أقوال .
أحدها : أنهم الزناة ، قاله مجاهد ، ومقاتل . والثاني : اليهود والنصارى ، قاله السدي . والثالث : أنهم اليهود خاصّة ، ذكره ابن جرير . والرابع : أهل الباطل ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { أن تميلوا ميلاً عظيماً } أي : عن الحق بالمعصية .

يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)

قوله تعالى : { يريد الله أن يخفف عنكم } التخفيف : تسهيل التكليف ، أو إِزالة بعضه . قال ابن جرير : والمعنى : يريد أن يُيَسِّر لكم بإذنه في نكاح الفتيات المؤمنات لمن لم يستطع طولاً لحرّة . وفي المراد بضعْف الإنسان ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الضعف في أصل الخلقة . قال الحسن : هو أنه خُلق من ماءٍ مهين . والثاني : أنه قلة الصبر عن النساء ، قاله طاووس ، ومقاتل . والثالث : أنه ضعف العزم عن قهر الهوى ، وهذا قول الزجاج ، وابن كيسان .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)

قوله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } الباطل : ما لا يحل في الشرع .
قوله تعالى : { إلا أن تكون تجارة } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابو عمرو ، وابن عامر : «تجارة» بالرفع . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم بالنصب ، وقد بينّا العلة في آخر { البقرة } .
قوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } فيه خمسة أقوال .
أحدها : أنه على ظاهره ، وأن الله حرم على العبد قتل نفسه ، وهذا الظاهر .
والثاني : أن معناه : لا يقتل بعضكم بعضاً ، وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل ، وابن قتيبة .
والثالث : أن المعنى : لا تكلفوا أنفسكم عملاً ربّما أدى إلى قتلها وإِن كان فرضاً ، وعلى هذا تأولها عمرو بن العاص في غزاة ذات السلاسل حيث صلى بأصحابه جُنباً في ليلة باردة ، فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال له : يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقال يا رسول الله إِني احتلمتُ في ليلة باردة وأشفقت إِن اغتسلت أن أهلِك ، فذكرت قوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والرابع : أن المعنى : لا تغفلوا عن حظ أنفسكم ، فمن غفل عن حظها ، فكأنما قتلها ، هذا قول الفضيل بن عياض . والخامس : لا تقتلوها بارتكاب المعاصي .

وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)

قوله تعالى : { ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما } في المشار إليه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه قتل النفس ، قاله ابن عباس ، وعطاء . والثاني : أنه عائد إِلى كل ما نهى الله عنه من أوّل السورة إلى هاهنا ، روي عن ابن عباس أيضا . والثالث : قتل النفس ، وأكل الأموال بالباطل ، قاله مقاتل .

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)

قوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائِر ما تنهون عنه } اجتناب الشيء : تركه جانباً . وفي الكبائر أحد عشر قولاً .
أحدها : أنها سبع ، فروى البخاري ، ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : يا رسول الله وما هن؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إِلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " . وقد روي هذا الحديث من طريق آخر عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الكبائر سبع ، الإِشراك بالله أولهن ، وقتل النفس بغير حقها ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم بداراً أن يكبروا ، والفرار من الزحف ، ورمي المحصنات ، وانقلاب إلى أعرابية بعد هجرة " . وروي عن علي رضي الله عنه قال هي سبع ، فعدّ هذه .
وروي عن عطاء أنه قال : هي سبع ، وعدّ هذه ، إِلا أنه ذكر مكان الإِشراك والتعرّب شهادة الزور وعقوق الوالدين .
والثاني : أنها تسع ، روى عبيد بن عمير ، عن أبيه ، وكان من الصحابة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل ما الكبائر؟ فقال : " تسع ، أعظمهن الإِشراك بالله ، وقتل نفس المؤمن بغير حق ، والفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ، والسحر ، وأكل الرّبا ، وقذف المحصنة ، وعقوق الوالدين المسلمين ، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً " . والثالث : أنها أربع : روى البخاري ، ومسلم في «الصحيحين» من حديث عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الكبائِر : الإِشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس ، واليمين الغموس " . وروى أنس بن مالك قال : " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر ، أو سئل عنها ، فقال : «الشرك بالله ، وقتل النفس ، وعقوق الوالدين» " . وقال : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور ، أو شهادة الزور " . وروي عن ابن مسعود أنه قال : الكبائِر أربع : الإِشراك بالله ، والأمن لمكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، والإِياس من روح الله . وعن عكرمة نحوه .
والرابع : أنها ثلاث ، فروى عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الشرك بالله ، وعقوق الوالدين وكان متكئا فاحتفز قال : والزور " وروى البخاري ، ومسلم في الصحيحين ، من حديث أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا : بلى يا رسول الله ، فقال : الإِشراك بالله ، وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال : وشهادة الزور " فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت .

وأخرجا في «الصحيحين» من حديث " ابن مسعود قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم : أي الذنب أكبر؟ قال : «أن تجعل لله تعالى نداً وهو خلقك» . قلت ثم أي؟ قال : «ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» . قلت : ثم أي؟ قال : «أن تزاني حليلة جارك» " . والخامس : أنها مذكورة من أوّل السورة إِلى هذه الآية ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس .
والسادس : أنها إِحدى عشرة : الإِشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، واليمين الغموس ، وقتل النفس ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والفرار من الزحف ، وقذف المحصنات ، وشهادة الزور ، والسحر ، والخيانة . روي عن ابن مسعود أيضا .
والسابع : أنها كل ذنب يختمه الله بنار ، أو غضب ، أو لعنة ، أو عذاب ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس .
والثامن : أنها كل ما أوجب الله عليه النار في الآخرة ، والحدّ في الدنيا ، روى هذا المعنى أبو صالح ، عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك .
والتاسع : أنها كلُّ ما عُصي الله به ، روي عن ابن عباس ، وعبيدة ، وهو قول ضعيف .
والعاشر : أنها كل ذنب أوعَدَ الله عليه النار ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضحاك في رواية ، والزجاج .
والحادي عشر : أنها ثمان ، الإِشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل المؤمن ، وقذف المحصنة ، والزنا ، وأكل مال اليتيم ، وقول الزور ، واقتطاع الرجل بيمينه ، وعهدِه ثمناً قليلاً . رواه مُحْرزِ ، عن الحسن البصري .
قوله تعالى : { نكفّرْ عنكم سيئاتكم } روى المفضّل ، عن عاصم : «يكفر» «ويدخلكم» بالياء فيهما ، وقرأ الباقون بالنون فيهما ، وقرأ نافع ، وأبان ، عن عاصم ، والكسائي ، عن أبي بكر ، عن عاصم : «مَدخلاً» بفتح الميم هاهنا ، وفي { الحج } وضم الباقون «الميم» ، ولم يختلفوا في ضم «ميم» { مُدخل صدق } [ الإسراء : 80 ] و { مُخرج صدق } [ الإسراء : 80 ] قال أبو علي الفارسي : يجوز أن يكون «المدخل» مصدراً ، ويجوز أن يكون مكاناً ، سواءً فتح ، أو ضمّ . قال السدي : السيئات هاهنا : هي الصغائِر . والمدخل الكريم : الجنّة . قال ابن قتيبة : والكريم : بمعنى : الشريف .

وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)

قوله تعالى : { ولا تتمنّوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أن أم سلمة قالت : يا رسول الله : يغزو الرجال ، ولا نغزو ، وإنما لنا نصف الميراث ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد .
والثاني : أن النساء قلن : وددن أن الله جعل لنا الغزو ، فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال ، فنزلت هذه الآية ، قاله عكرمة .
والثالث : أنه لما نزل { للذَّكر مثل حظ الانثيين } قال الرجال : إِنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا ، كما فضّلنا عليهن في الميراث ، وقال النساء : إِنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال ، كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة ، والسدي .
وفي معنى هذا التمني قولان .
أحدهما : أن يتمنّى الرجل مال غيره ، قاله ابن عباس ، وعطاء . والثاني : أن يتمنى النساء أن يكن رجالاً . وقد روي عن أم سلمة أنها قالت : يا ليتنا كنا رجالاً ، فنزلت هذه الآية .
وللتّمني وجوه .
أحدها : أن يتمنّى الإِنسان أن يحصل له مال غيره ، ويزول عن الغير ، فهذا الحسد .
والثاني : أن يتمنّى مثل ما لغيره ، ولا يحب زواله عن الغير ، فهذا هو الغبطة وربما لم يكن نيل ذلك مصلحة في حق المتمنّي ، قال الحسن : لا تمنَّ مال فلان ، ولا مال فلان ، وما يدريك لعل هلاكه في ذلك المال؟
والثالث : أن تتمنى المرأة أن تكون رجلاً ، ونحو هذا مما لا يقع ، فليعلم العبد أن الله أعلم بالمصالح ، فليرض بقضاء الله ، ولتكن أمانيه الزيادة من عمل الآخرة .
قوله تعالى : { للرّجال نصيبٌ مما اكتسبوا وللنّساء نصيبٌ مما اكتسبن } فيه قولان .
أحدهما : أن المراد بهذا الاكتساب : الميراث ، وهو قول ابن عباس ، وعكرمة .
والثاني : أنه الثواب والعقاب . فالمعنى : أن المرأة تثاب كثواب الرجل ، وتأثم كإثمه ، هذا قول قتادة ، وابن السائب ، ومقاتل . واحتجّ على صحته أبو سليمان الدمشقي بأن الميراث لا يحصل بالاكتساب ، وبأن الآية نزلت لأجل التمني والفضل .
قوله تعالى : { واسألوا الله من فضله } قرأ ابن كثير ، والكسائي ، وأبان ، وخلف في اختياره { وسلوا الله } { فسل الذين }
{ فسل بني إِسرائيل } { وسل من أرسلنا } وما كان مثله من الأمر المواجه به ، وقبله «واو» أو «فاء» فهو غير مهموز عندهم . وكذلك نقل عن أبي جعفر ، وشيبة . وقرأ الباقون بالهمز في ذلك كله ، ولم يختلفوا في قوله : { وليسألوا ما أنفقوا } [ الممتحنة : 10 ] أنه مهموز .
وفي المراد بالفضل قولان .
أحدهما : أن الفضل : الطاعة ، قاله سعيد ابن جبير ، ومجاهد ، والسدي .
والثاني : أنه الرزق ، قاله ابن السائِب ، فيكون المعنى : سلوا الله ما تتمنونه من النعم ، ولا تتمنوا مال غيركم .

وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)

قوله تعالى : { ولكل جعلنا موالي } الموالي : الأولياء ، وهم الورثة من العصبة وغيرهم . ومعنى الآية : لكل إِِنسان موالي يرثون ما ترك . وارتفاع الوالدين والأقربين على معنيين من الإِعراب .
أحدهما : أن يكون الرفع على خبر الابتداء ، والتقدير : وهم الوالدان والأقربون ، ويكون تمام الكلام قوله { مما ترك } .
والثاني : أن يكون رفعا على أنه الفاعل الترك للمال ، فيكون الوالدان ، هم المولى .
قوله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «عاقدت» بالألف وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : «عقدت» بلا ألف . قال أبو علي : من قرأ بالألف ، فالتقدير : والذين عاقَدَتهم أيمانكم ، ومن حذف الألف ، فالمعنى : عقدت حِلْفهم أيمانكم ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إِليه مقامه . وفيهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم أهل الحلف ، كان الرجل يحالف الرجل ، فأيّهما مات ورثه الآخر ، فنسخ ذلك بقوله : { وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وروى عنه عطيّة قال كان الرجل يلحق الرجل في الجاهلية ، فيكون تابعه ، فإذا مات الرجل ، صار لأهله الميراث ، وبقي تابعه بغير شيء ، فأنزل الله { والذين عاقدت أيمانكم } فأعطي من ميراثه ، ثم نزل من بعد ذلك { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } وممن قال هم الحُلفاء : سعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة .
والثاني : أنهم الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم المهاجرون والأنصار ، كان المهاجرون يورّثون الأنصار دون ذوي رحمهم للأخوة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، رواه سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . وبه قال ابن زيد .
والثالث : أنهم الذين كانوا يتبنّون أبناء غيرهم في الجاهلية ، هذا قول سعيد ابن المسيّب . فأمّا أرباب القول الأول ، فقالوا : نسخ حكم الحلفاء الذين كانوا يتعاقدون على النصرة والميراث بآخِرِ { الأنفال } ، وإِليه ذهب ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة ، والثوري ، والأوزاعي ، ومالك ، وأحمد ، والشافعي .
وقال أبو حنيفة وأصحابه : هذا الحكم باقٍ غير أنه جعل ذوي الأرحام أولى من موالي المعاقدة . وذهب قوم إِلى أن المراد : فآتوهم نصيبهم من النصر والنصيحة من غير ميراث ، وهذا مروي عن ابن عباس ، ومجاهد . وذهب قوم آخرون إلى أن المعاقدة : إِنما كانت في الجاهلية على النصرة لا غير ، والإسلام لم يُغيّر ذلك ، وإنما قرّره ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أيّما حلف كان في الجاهلية ، فإن الإِسلام لم يزده إِلاّ شدّة " أراد : النصر والعون . وهذا قول سعيد بن جبير ، وهو يدل على أن الآية محكمة .

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)

قوله تعالى : { الرجال قوّامون على النساء } سبب نزولها : أن رجلاً لطم زوجته لطمةً فاستعدت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس . وذكر المفسّرون أنه سعد بن الربيع الأنصاري . قال ابن عباس : «قوّامون» أي : مسلّطون على تأديب النساء في الحق . وروى هشام ابن محمد ، عن أبيه في قوله : { الرجال قوّامون على النساء } قال : إِذا كانوا رجالاً ، وأنشد :
أكل امرئٍ تحسبين امرءاً ... وناراً توقّدُّ باللَّيل نارا
قوله تعالى : { بما فضل الله بعضهم على بعض } يعني : الرجال على النساء ، وفضل الرجل على المرأة بزيادة العقل ، وتوفير الحظ في الميراث ، والغنيمة ، والجمعة ، والجماعات ، والخلافة ، والإمارة ، والجهاد ، وجعل الطلاق إليه إلى غير ذلك .
قوله تعالى : { وبما أنفقوا من أموالهم } قال ابن عباس يعني : المهر والنفقة عليهن .
وفي «الصالحات» قولان .
أحدهما : المحسنات إِلى أزواجهن ، قاله ابن عباس .
والثاني : العاملات بالخير ، قاله ابن مبارك . قال ابن عباس . و«القانتات» : المطيعات لله في أزواجهن ، والحافظات للغيب ، أي : لغيب أزواجهن . وقال عطاء ، وقتادة : يحفظن ما غاب عنه الأزواج من الأموال ، وما يجب عليهن من صيانة أنفسهن لهم .
قوله تعالى : { بما حفظ الله } قرأ الجمهور برفع اسم «الله» وفي معنى الكلام على قراءتهم ثلاثة أقوال .
أحدها : بحفظ الله إِياهن ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، ومقاتل . وروى ابن المبارك ، عن سفيان ، قال : بحفظ الله إِياها أن جعلها كذلك .
والثاني : بما حفظ الله لهن مهورهن ، وإيجاب نفقتهن ، قاله الزجاج .
والثالث : أن معناه : حافظات للغيب بالشيء الذي يحفظ به أمر الله ، حكاه الزجاج . وقرأ أبو جعفر بنصب اسم الله . والمعنى : بحفظهن الله في طاعته .
قوله تعالى : { واللاتي تخافون نشوزهن } في الخوف قولان .
أحدهما : أنه بمعنى العلم ، قاله ابن عباس .
والثاني : بمعنى الظن لما يبدو من دلائِل النشوز ، قاله الفراء ، وأنشد :
وما خِفْتُ يا سلاَّم أنّك عائِبي ... قال ابن قتيبة : والنشوز : بغض المرأة للزوج ، يقال : نَشَزَت المرأة على زوجها ، ونشصت : إِذا فركته ، ولم تطمئن عنده ، وأصل النشوز : الانزعاج . وقال الزجاج : أصله من النشز ، وهو المكان المرتفع من الأرض .
قوله تعالى : { فعظوهن } قال الخليل : الوعظ : التذكير بالخير فيما يرق له القلب . قال الحسن : يعظها بلسانه ، فان أبت وإِلا هجرها . واختلفوا في المراد بالهجر في المضجع على أربعة أقوال .
أحدها : أنه ترك الجماع ، رواه سعيد بن جبير ، وابن أبي طلحة ، والعوفي ، عن ابن عباس ، وبه قال ابن جبير ، ومقاتل .
والثاني : أنه ترك الكلام ، لا ترك الجماع ، رواه أبو الضحى ، عن ابن عباس ، وخصيف ، عن عكرمة ، وبه قال السدي ، والثوري .
والثالث : أنه قول الهُجْرِ من الكلام في المضاجع ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة .

فيكون المعنى : قولوا لهنَّ في المضاجع هُجْراً من القول .
والرابع : أنه هجر فراشها ، ومضاجعتها . روي عن الحسن ، والشعبي ، ومجاهد ، والنخعي ، ومقسم ، وقتادة . قال ابن عباس : اهجرها في المضجع ، فان أقبلت وإِلاَّ فقد أذن الله لك أن تضرِبَها ضرباً غير مبرّح . وقال جماعة من أهل العلم : الآية على الترتيب ، فالوعظ عند خوف النشوز ، والهجر عند ظهور النشوز ، والضرب عند تكرّره ، واللجاج فيه . ولا يجوز الضرب عند ابتداء النشوز ، قال القاضي أبو يعلى : وعلى هذا مذهب أحمد . وقال الشافعي : يجوز ضربها في ابتداء النشوز .
قوله تعالى : { فان أطعنكم } قال ابن عباس : يعني في المضجع { فلا تبغوا عليهن سبيلاً } أي : فلا تتجنّ عليها العلل . وقال سفيان بن عيينة : لا تكلّفها الحُبَّ ، لأن قلبها ليس في يدها . وقال ابن جرير : المعنى : فلا تلتمسوا سبيلاً إِلى ما لا يحل لكم من أبدانهن وأموالهن بالعلل ، وذلك أن تقول لها وهي مطيعة لك : لست لي مُحبّة ، فتضربها ، أو تؤذيها .
قوله تعالى : { إن الله كان علياً كبيراً } قال أبو سليمان الدمشقي : لا تبغوا على أزواجكم ، فهو ينتصر لهن منكم . وقال الخطابي : الكبير : الموصوف بالجلال ، وكبر الشأن ، يصغر دون جلاله كل كبير . ويقال : هو الذي كبر عن شبه المخلوقين .

وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)

قوله تعالى : { وإِن خفتم شقاق بينهما } في الخوف قولان . أحدهما : أنه الحذر مِن وجود ما لا يتيقّن وُجوده ، قاله الزجاج .
والثاني : أنه العلم ، قاله أبو سليمان الدمشقي . قال الزجاج : والشقاق : العداوة ، واشتقاقه من المتشاقين ، كل صنف منهم في شقّ . و«الحكم» : هو القيّم بما يسند إِليه . وفي المأمور بانفاذ الحكمين قولان .
أحدهما : أنه السلطان إذا ترافعا إليه ، قاله سعيد بن جبير ، والضحاك . والثاني : الزوجان ، قاله السدي .
قوله تعالى : { إن يريدا إِصلاحاً } قال ابن عباس : يعني الحكمين . وفي قوله : { يوفق الله بينهما } قولان .
أحدهما : أنه راجع إلى الحكمين ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، والسدي ، والجمهور .
والثاني : أنه راجع إلى الزوجين ، ذكره بعض المفسّرين .
فصل
والحكمان وكيلان للزوجين ، ويُعتبرُ رضى الزوجين فيما يحكمان به ، هذا قول أحمد ، وأبي حنيفة ، وأصحابه . وقال مالك ، والشافعي : لا يفتقرُ حكمُ الحكمين إلى رضى الزوجين .

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)

قوله تعالى : { واعبدوا الله } قال ابن عباس : وحِّدوه .
قوله تعالى : { وبالوالدين إِحساناً } قال الفرّاء : أغراهم بالإِحسان إِلى الوالدين .
قوله تعالى : { والجارِ ذي القربى } فيه قولان .
أحدهما : أنه الجار الذي بينك وبينه قرابة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة ، وابن زيد ، ومقاتل في آخرين .
والثاني : أنه الجار المسلم ، قاله نوف الشامي . فيكون المعنى : ذي القربى منكم بالإِسلام .
قوله تعالى : { والجار الجنب } روى المفضّل ، عن عاصم : والجار الجنب بفتح الجيم ، وإِسكان النون . قال أبو علي : المعنى : والجار ذي الجنب ، فحذف المضاف . وفي الجار الجنب ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الغريب الذي ليس بينك وبينه قرابة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والضحاك ، وابن زيد ، ومقاتل في آخرين .
والثاني : أنه جارك عن يمينك ، وعن شمالك ، وبين يديك ، وخلفك ، رواه الضحاك ، عن ابن عباس .
والثالث : أنه اليهودي والنصراني ، قاله نوف الشامي .
وفي الصاحب بالجنب ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الزوجة ، قاله علي ، وابن مسعود ، والحسن ، وإبراهيم النخعي ، وابن أبي ليلى .
والثاني : أنه الرفيق في السفر ، قاله ابن عباس في رواية مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، وابن قتيبة . وعن سعيد بن جبير كالقولين .
والثالث : أنه الرفيق ، رواه ابن جريج ، عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة .
قال ابن زيد : هو الذي يلصق بك رجاء خيرك . وقال مقاتل : هو رفيقك حضراً وسفراً . وفي ابن السبيل أقوال قد ذكرناها في { البقرة } .
قوله تعالى : { وما ملكت أيمانكم } يعني : المملوكين . وقال بعضهم : يدخل فيه الحيوان البهيم . قال ابن عباس : والمحتال : البطرُ في مشيته ، والفخور : المفتخر على الناس بكبره . وقال مجاهد : هو الذي يعد ما أعطى ، ولا يشكر الله ، وقال ابن قتيبة : المختال : ذو الخيلاء والكبر . وقال الزجاج : المختال : الصَّلِف التيّاه الجهول . وإِنما ذكر الاختيال هاهنا ، لأن المختال يأنف من ذوي قراباته ، ومن جيرانه إِذا كانوا فقراء .

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)

قوله تعالى : { الذين يبخلون } ذكر المفسرون أنها نزلت في اليهود . فأما سبب نزولها ، فقال ابن عباس : كان كَرْدَم بن زيد ، [ حليف كعب بن الأشرف ] وأسامة بن حبيب ، ونافع بن أبي نافع ، وبحري بن عمرو ، وحيي ابن أخطب ، ورفاعة بن زيد بن التابوت ، يأتون رجالاً من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يخالطونهم ، وينتصحون لهم ، فيقولون لهم : لا تنفقوا أموالكم ، فإنا نخشى عليكم الفقر [ في ذهابها ] ولا تسارعوا في النفقة ، فإنكم لا تدرون ما يكون ، فنزلت هذه الآية . وفي الذي بخلوا به وأمروا الناس بالبخل به قولان . أحدهما : أنه المال ، قاله ابن عباس ، وابن زيد . والثاني : أنه إِظهار صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونبوّته ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والسدي .
قوله تعالى : { ويأمرون الناس بالبخل } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : بالبخْل خفيفاً ، وقرأ حمزة ، والكسائي : بالبَخَل محركاً ، وكذلك في سورة { الحديد } وفي الذين آتاهم الله من فضله قولان .
أحدهما : أنهم اليهود ، أوتوا علم نعت محمد صلى الله عليه وسلم فكتموه ، هذا قول الجمهور .
والثاني : أنهم أرباب الأموال بخلوا بها ، وكتموا الغنى ، ذكره الماوردي في آخرين .
قوله تعالى : { وأعتدنا } قال الزجاج : معناه : جعلنا ذلك عتاداً لهم ، أي : مثبتاً لهم .

وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)

قوله تعالى : { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم اليهود ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، ومقاتل . والثاني : أنهم المنافقون ، قاله السدي ، والزجاج ، وأبو سليمان الدمشقي . والثالث : مشركو مكة أنفقوا على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكره الثعلبي .
والقرين : الصاحب المؤالف ، وهو فعيل من الاقتران بين الشيئين . وفي معنى مقارنة الشيطان قولان . أحدها : مصاحبته في الفعل . والثاني : مصاحبته في النار .

وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)

قوله تعالى : { وماذا عليهم } المعنى : وأي شيء على هؤلاء الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ولا يؤمنون بالله ، لو آمنوا! . وفي الإنفاق المذكور هاهنا قولان .
أحدهما : أنه الصدقة ، قاله ابن عباس .
والثاني : الزكاة ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وفي قوله : { وكان الله بهم عليماً } تهديد لهم على سوء مقاصدهم .

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)

قوله تعالى : { إِن الله لا يظلم مثقال ذرة } قد شرحنا الظلم فيما سَلف ، وهو مستحيل على الله عز وجل ، لأن قوماً قالوا : الظلم : تصرّف فيما لا يملك ، والكل ملكه ، وقال آخرون : هو وضع الشيء في غير موضعه ، وحكمته لا تقتضي فعلاً لا فائدة تحته ، ومثقال الشيء : زنة الشيء . قال ابن قتيبة : يقال هذا على مثقال هذا ، أي : على وزنه . قال الزجاج : وهو مفعال من الثقل .
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : يظن الناس أن المثقال وزن دينار لا غير ، وليس كما يظنون . مثقال كل شيء : وزنه ، وكل وزن يسمى مثقالاً ، وإن كان وزن ألف . قال الله تعالى : { وإِن كان مثقال حبة من خردل } [ الأنبياء : 47 ] قال أبو حاتم : سألت الأصمعي عن صنجة مثقال الميزان ، فقال : فارسي ، ولا أدري كيف أقول ، ولكني أقول : مثقال ، فإذا قلت للرجل : ناولني مثقالاً ، فأعطاك صنجة ألف ، أو صنجة حبّة ، كان ممتثلاً .
وفي المراد بالذرّة خمسة أقوال .
أحدها : أنه رأس نملة حمراء ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثاني : ذرّة يسيرة من التراب ، رواه يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس .
والثالث : أصغر النمل ، قاله ابن قتيبة ، وابن فارس .
والرابع : الخردلة .
والخامس : الواحدة من الهباء الظاهر في ضوء الشمس إذا طلعت من ثقب ، ذكرهما الثعلبي . واعلم أن ذكر الذرّة ضرب مثل بما يعقل ، والمقصود أنه لا يظلم قليلاً ولا كثيراً .
قوله تعالى : { وإِن تك حسنة } قرأ ابن كثير ، ونافع : حسنة بالرفع . وقرأ الباقون بالنصب . قال الزجاج : من رفع ، فالمعنى : وإِن تحدثْ حسنة ، ومن نصب ، فالمعنى : وإن تك فعلته حسنة .
قوله تعالى : { يضاعفها } قرأ ابن عامر ، وابن كثير : يُضعِّفها بالتشديد من غير ألف . وقرأ الباقون : يضاعفها بألف مع كسر العين . قال ابن قتيبة : يضاعفها بالألف : يعطي مثلها مرات ، ويضعفها بغير ألف : يعطي مثلها مرّة .
قوله تعالى : { من لدنه } أي : من قبله . والأجر العظيم : الجنة .

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)

قوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } قال الزجاج : معنى الآية : فكيف يكون حال هؤلاء يوم القيامة ، فحذف الحال ، لأن في الكلام دليلاً عليه . ولفظ «كيف» لفظ الاستفهام ، ومعناها : التوبيخ . والشهيد : نبي الأمة . وبماذا يشهد فيه أربعة أقوال .
أحدها : بأنه قد بلغ أمّته . قاله ابن مسعود ، وابن جريج ، والسدي ، ومقاتل .
والثاني : بإيمانهم ، قاله أبو العالية .
والثالث : بأعمالهم ، قاله مجاهد ، وقتادة . والرابع : يشهد لهم وعليهم ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { وجئنا بك } يعني : نبينا صلى الله عليه وسلم . وفي هؤلاء ثلاثة أقوال . أحدها : أنهم جميع أمته ، ثم فيه قولان . أحدهما : أنه يشهد عليهم . والثاني : يشهد لهم فتكون «على» بمعنى : اللام .
والقول الثاني : أنهم الكفار يشهد عليهم بتبليغ الرسالة ، قاله مقاتل .
والثالث : اليهود والنصارى ، ذكره الماوردي .

يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)

قوله تعالى : { لو تسوى بهم الأرض } قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو : لو تُسْوى ، بضم التاء ، وتخفيف السين . والمعنى : ودُّوا لو جُعِلُوا تراباً ، فكانوا هم والأرض سواء ، هذا قول الفرّاء في آخرين . قال أبو هريرة : إِذا حشر الله الخلائق ، قال للبهائم ، والدّواب ، والطير : كوني تراباً . فعندها يقول الكافر : يا ليتني كنت تراباً .
وقرأ نافع ، وابن عامر : لو تَسَّوّى ، بفتح التاء ، وتشديد السين ، والمعنى : لو تتسوى ، فأدغمت التاء في السين ، لقربها منها . قال أبو علي : وفي هذه القراءة اتّساع ، لأن الفعل مسند إِلى الأرض ، وليس المراد : ودّوا لو صارت الأرض مثلهم ، وإِنمالمعنى : ودّوا لو يتسوّون بها . ثم في المعنى للمفسرين قولان .
أحدهما : أن معناه : ودّوا لو تخرقت بهم الأرض ، فساخوا فيها ، قاله قتادة ، وأبو عبيدة ، ومقاتل .
والثاني : أن معناه : ودّوا أنهم لم يبعثوا ، لأن الأرض كانت مستوية بهم قبل خروجهم منها ، قاله ابن كيسان ، وذكر نحوه الزجاج . وقرأ حمزة ، والكسائي : لو تسوّى ، بفتح التاء ، وتخفيف السين والواو مشدّدة ممالة ، وهي بمعنى : تتسوّى ، فحذف التاء التي أدغمها نافع ، وابن عامر . فأما معنى القراءتين ، فواحد .
قوله تعالى : { ولا يكتمون الله حَديثاً } في «الحديث» قولان . أحدهما : أنه قولهم : ما كنا مشركين هذا قول الجمهور . والثاني : أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته ، قاله عطاء : فعلى الأول يتعلق الكتمان بالآخرة ، وعلى الثاني يتعلق بما كان في الدنيا ، فيكون المعنى : ودوا أنهم لم يكتموا ذلك .
وفي معنى الآية ستة أقوال . أحدها : ودّوا إِذا فضحتهم جوارحهم أنهم لم يكتموا الله شركهم ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس .
والثاني : أنهم لما شهدت عليهم جوارحهم لم يكتموا الله حديثا بعد ذلك ، روي عن ابن عباس أيضا .
والثالث : أنهم في موطن لا يكتمونه حديثا ، وفي موطن يكتمون ، ويقولون : ما كنا مشركين ، قاله الحسن .
والرابع : أن قوله { ولا يكتمون الله حديثاً } كلام مستأنف لا يتعلق بقوله : لو تسوى بهم الأرض ، هذا قول الفرّاء ، والزجاج . ومعنى : لا يكتمون الله حديثاً : لا يقدرون على كتمانه ، لأنه ظاهر عند الله .
والخامس : أن المعنى : ودّوا لو سوّيت بهم الأرض ، وأنهم لم يكتموا الله حديثا .
والسادس : أنهم لم يعتقدوا قولهم : ما كنا مشركين كذباً ، وإِنما اعتقدوا أن عبادة الأصنام طاعة ، ذكر القولين ابن الأنباري .
وقال القاضي أبو يعلى : أخبروا بما توهّموا ، إِذ كانوا يظنون أنهم ليسوا بمشركين ، وذلك لا يخرجهم عن أن يكونوا قد كذبوا .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكارى } روى أبو عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً ، فدعانا ، وسقانا من الخمر ، فأخذت [ الخمر ] منّا ، وحضرت الصلاة فقدّموني ، فقرأت { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ، ونحن نعبد ما تعبدون } فنزلت هذه الآية . وفي رواية أخرى ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي رضي الله عنه أن الذي قدموه ، وخلط في هذه السورة ، عبد الرحمن بن عوف .
وفي معنى قوله : { لا تقربوا الصلاة } قولان .
أحدهما : لا تتعرّضوا بالسكر في أوقات الصلاة . والثاني : لا تدخلوا في الصلاة في حال السكر ، والأول أصح ، لأن السكران لا يعقل ما يخاطب به . وفي معنى : { وأنتم سكارى } قولان .
أحدهما : من الخمر ، قاله الجمهور . والثاني : من النوم ، قاله الضحاك ، وفيه بعد . وهذه الآية اقتضت إِباحة السكر في غير أوقات الصلاة ، ثم نسخت بتحريم الخمر .
قوله تعالى : { ولا جُنباً } قال ابن قتيبة : الجنابة : البعد ، قال الزجاج : يقال : رجل جنب ، ورجلان جُنب ، ورجال جُنب ، كما يقال : رجل رضى ، وقوم رضى . وفي تسمية الجنب بهذا الاسم قولان .
أحدهما : لمجانبة مَائهِ محله . والثاني : لما يلزمه من اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ، ومس المصحف ، ودخول المسجد .
قوله تعالى : { إِلا عابري سبيل } فيه قولان .
أحدهما : أن المعنى : لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إِلا أن تكونوا مسافرين غير واجدين للماء فتتيمموا ، وتُصلُّوا . وهذا المعنى مروي عن علي رضي الله عنه . ومجاهد ، والحكم ، وقتادة ، وابن زيد ، ومقاتل ، والفراء ، والزجاج .
والثاني : لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد وأنتم جنب إِلا مجتازين ، ولا تقعدوا . وهذا المعنى مروي عن ابن مسعود ، وأنس بن مالك ، والحسن ، وسعيد بن المسيّب ، وعكرمة ، وعطاء الخراساني ، والزهري ، وعمرو بن دينار ، وأبي الضحى ، وأحمد ، والشافعي ، وابن قتيبة . وعن ابن عباس ، وسعيد ابن جبير ، كالقولين ، فعلى القول الأول : «عابر السبيل» المسافر ، و«قربان الصلاة» : فعلها ، وعلى الثاني : «عابر السبيل» : المجتاز في المسجد ، و«قربان الصلاة» : دخول المسجد الذي تفعل فيه الصلاة .
قوله تعالى : { وإِن كنتم مرضى } في سبب نزول هذا الكلام قولان .
أحدهما : أن رجلاً من الأنصار كان مريضاً فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ، ولم يكن له خادم ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر له ذلك ، فنزلت هذه الآية { وإن كنتم مرضى أو على سفر } قاله مجاهد .
والثاني : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جراحات ، ففشت فيهم ، وابتلوا بالجنابة ، فشكوا ذلك إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت { وإِن كنتم مرضى } الآية كلها ، قاله إبراهيم النخعي . قال القاضي أبو يعلى : وظاهر الآية يقتضي جواز التيمم مع حصول المرض الذي يستضرّ معه باستعمال المال ، سواء كان يخاف التلف ، أو لا يخاف ، وكذلك السفر يجوز فيه التيمم عند عدم الماء ، سواء كان قصيراً ، أو طويلاً ، وعدم الماء ليس بشرط في جواز التيمم للمريض ، وإنما الشرط : حصول الضرر ، وأما السفر ، فعدم الماء شرط في إِباحة التيمم ، وليس السفر بشرط ، وإنما ذكر السفر ، لأن الماء يُعدم فيه غالباً .

قوله تعالى : { أو جاء أحدٌ منكم من الغائِط } «أو» بمعنى الواو ، لأنها لو لم تكن كذلك ، لكان وجوب الطّهارة على المريض والمسافر غير متعلق بالحدث . والغائِط : المكان المطمئن من الأرض ، فكني عن الحدث بمكانه ، قاله ابن قتيبة . وكذلك قالوا للمزادة : راوية ، وإنما الرَّاوية للبعير الذي يُسقى عليه ، وقالوا للنساء : ظعائن ، وإِنما الظعائن : الهوادج ، وكنَّ يكن فيها ، وسموا الحدث عذرة ، لأنهم كانوا يلقون الحدث بأفنية الدور .
قوله تعالى : { أو لا مستم النساء } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : أو لامستم بألف هاهنا ، وفي ( المائدة ) وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف في اختياره ، والمفضّل عن عاصم ، والوليد بن عتبة ، عن ابن عامر { أو لمستم } بغير ألف هاهنا ، وفي ( المائدة ) وفي المراد بالملامسة قولان .
أحدهما : أنها الجماع ، قاله علي ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة .
والثاني : أنها الملامسة باليد ، قاله ابن مسعود ، وابن عمر ، والشعبي ، وعبيدة ، وعطاء ، وابن سيرين ، والنخعي ، والنهدي ، والحكم ، وحماد .
قال أبو علي : اللّمس يكون باليد ، وقد اتسع فيه ، فأوقع على غيره ، فمن ذلك { وأنا لمسنا السماء } [ الجن : 8 ] أي : عالجنا غيب السماء ، ومنا من يسترقه فيلقيه إلى الكهنة ، ويخبرهم به . فلما كان اللّمس يقع على غير المباشرة باليد ، قال : { فلمسوه بأيديهم } [ الأنعام : 7 ] فخصّ اليد ، لئلا يلتبس بالوجه الآخر ، كما قال : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } [ النساء : 23 ] لأن الابن قد يدعى وليس من الصلب .
قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } سبب نزولها : أن عائشة رضي الله عنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، فانقطع عقد لها ، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم على التماسه ، وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء ، فنزلت هذه الآية ، فقال أسيد ابن حُضير : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر . أخرجه البخاري ، ومسلم ، وفي رواية أخرى أخرجها البخاري ، ومسلم أيضاً : أن عائشة استعارت من أسماء قلادة فهلكت ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً في طلبها ، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء ، فصلوا بغير وضوء ، وشكوا ذلك إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت آية التيمم . والتيمم في اللغة : القصد ، وقد ذكرناه في قوله { ولا تيمموا الخبيث } وأمّا الصعيد : فهو التراب ، قاله علي ، وابن مسعود ، والفراء ، وأبو عبيد ، والزجاج ، وابن قتيبة . وقال الشافعي : لا يقع اسم الصعيد إِلا على تراب .

ذي غبار . وفي الطيّب قولان .
أحدهما : أنه الطاهر .
والثاني : الحلال .
قوله تعالى : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } الوجه الممسوح في التيمم : هو المحدود في الوضوء . وفيما يجب مسحه من الأيدي ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه إلى الكوعين حيث يقطع السارق ، روى عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " التيمم ضربة للوجه والكفين " وبهذا قال سعيد بن المسيّب ، وعطاء ابن أبي رباح ، وعكرمة ، والأوزاعي ، ومكحول ، ومالك ، وأحمد ، وإِسحاق ، وداود .
والثاني : أنه إِلى المرفقين ، روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه تيمم ، فمسح ذراعيه . وبهذا قال ابن عمر ، وابنه سالم ، والحسن ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وعن الشعبي كالقولين .
والثالث : أنه يجب المسح من رؤوس الأنامل إِلى الآباط ، روى عمار بن ياسر قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فنزلت الرخصة في المسح ، فضربنا بأيدينا ضربةً لوجوهنا ، وضربةً لأيدينا . إِلى المناكب والآباط . وهذا قول الزهري .
قوله تعالى : { إِن الله كان عفواً } قال الخطابي : «العفو» : بناء للمبالغة ، «والعفو» : الصفح عن الذنوب ، وترك مجازاة المسيء . وقيل : إِنه مأخوذ من : عفت الريح الأثر : إِذا درسته ، وكأن العافي عن الذنوب يمحوه بصفحه عنه .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)

قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت . والثاني : أنها نزلت في رجلين كانا إِذا تكلم النبي صلى الله عليه وسلم لويا ألسنتهما وعاباه ، روي القولان عن ابن عباس . والثالث : أنها نزلت في اليهود ، قاله قتادة .
وفي النصيب الذي أوتوه قولان . أحدهما : أنه علم نبوة محمد النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني : العلم بما في كتابهم دون العمل .
قوله تعالى : { يشترون الضلالة } قال ابن قتيبة : هذا من الاختصار ، والمعنى : يشترون الضلالة بالهدى ، ومثله { وتركنا عليه في الآخرين } [ الصافات : 78 ] أي : تركنا عليه ثناءً حسناً ، فحذف الثناء لعلم المخاطب .
وفي معنى اشترائِهم الضلالة أربعة أقوال .
أحدها : أنه استبدالهم الضلالة بالايمان ، قاله أبو صالح ، عن ابن عباس .
والثاني : أنه استبدالهم التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ظهوره بإيمانهم به قبل ظهوره ، قاله مقاتل .
والثالث : أنه إِيثارهم التكذيب بالنبي لأخذ الرشوة ، وثبوت الرئاسة لهم ، قاله الزجاج .
والرابع : أنه إِعطاؤهم أحبارهم أموالهم على ما يصنعونه من التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { ويريدون أن تضلوا السبيل } خطاب للمؤمنين . والمراد بالسبيل : طريق الهدى .

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)

قوله تعالى : { والله أعلم بأعدائكم } فهو يعلمكم ما هم عليه ، فلا تستنصحوهم ، وهم اليهود ، { وكفى بالله ولياً } لكم ، فمن كان وليه ، لم يضره عدوه . قال الخطابي : «الولي» : الناصر ، و«الولي» : المتولي للأمر ، والقائم به ، وأصله من الولي ، وهو القرب ، و «النصير» : فعيل بمعنى فاعل .

مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)

قوله تعالى : { من الذين هادوا } قال مقاتل : نزلت في رفاعة بن زيد ، ومالك ابن الضَّيف ، وكعب بن أسيد ، وكلهم يهود . وفي «من» قولان . ذكرهما الزجاج .
أحدهما : أنها من صلة الذين أوتوا الكتاب ، فيكون المعنى : ألم تر إِلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب من الذين هادوا .
والثاني : أنها مستأنفة ، فالمعنى : من الذين هادوا قوم يحرّفون ، فيكون قوله : يحرّفون ، صفة ، ويكون الموصوف محذوفاً ، وأنشد سيبويه :
وما الدَّهر إِلاَّ تَارَتانِ فمنهما ... أموتُ وأُخرى أبتغي العيشَ أكْدَحُ
والمعنى : فمنهما تارة أموت فيها . قال أبو علي الفارسي : والمعنى : وكفى بالله نصيراً من الذين هادوا ، أي : إن الله ينصر عليهم .
فأما«التحريف» ، فهو التغيير . و«الكلم» : جمع كلمة . وقيل : إِن «الكلام» مأخوذ من «الكلْم» ، وهو الجرحُ الذي يشق الجلد واللحم ، فسمي الكلام كلاماً ، لأنه يشق الأسماع بوصوله إِليها ، وقيل : بل لتشقيقه المعاني المطلوبة في أنواع الخطاب .
وفي معنى تحريفهم الكلم قولان .
أحدهما : أنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الشيء ، فإذا خرجوا ، حرفوا كلامه ، قاله ابن عباس . والثاني : أنه تبديلهم التوراة ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { عن مواضعه } ، أي : عن أماكنه ووجوهه .
قوله تعالى : { ويقولون سمعنا وعصينا } قال مجاهد : سمعنا قولك ، وعصينا أمرك .
قوله تعالى : { واسمع غير مسمع } فيه قولان .
أحدهما : أن معناه : اسمع لا سمعت ، قاله ابن عباس ، وابن زيد ، وابن قتيبة .
والثاني : أن معناه : اسمع غير مقبول ما تقول ، قاله الحسن ، ومجاهد . وقد تقدم في ( البقرة ) معنى : وراعنا .
قوله تعالى : { ليّا بألسنتهم } قال قتادة : «اللي» : تحريك ألسنتهم بذلك . وقال ابن قتيبة معنى «لياً بألسنتهم» : أنهم يحرفون «راعنا» عن طريق المراعاة ، والانتظار إِلى السبّ بالرّعونة . قال ابن عباس : { لكان خيراً لهم } مما بدلوا ، و { أقوم } أي : أعدل ، { ولكن لعنهم الله بكفرهم } بمحمد .
قوله تعالى { فلا يؤمنون إِلا قليلاً } فيه قولان : أحدهما : فلا يؤمن منهم إِلا قليل ، وهم عبد الله بن سلام ، ومن تبعه ، قاله ابن عباس .
والثاني : فلا يؤمنون إِلا إيماناً قليلاً ، قاله قتادة ، والزجاج . قال مقاتل : وهو اعتقادهم أن الله خلقهم ورزقهم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)

قوله تعالى : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا } سبب نزولها : أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا قوماً من أحبار اليهود ، منهم عبد الله بن صوريا ، وكعب [ ابن أسد ] إلى الإِسلام ، وقال لهم : إنكم لتعلمون أن الذي جئت به حق ، فقالوا : ما نعرف ذلك ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس .
وفي الذين أوتوا الكتاب قولان .
أحدهما : أنهم اليهود ، قاله الجمهور . والثاني : اليهود والنصارى ، ذكره الماوردي . وعلى الأول يكون الكتاب : التوراة ، وعلى الثاني : التوراة والإنجيل . والمراد بما نزلنا : القرآن ، وقد سبق في ( البقرة ) بيان تصديقه لما معهم .
قوله تعالى : { من قبل أن نطمس وجوهاً } في طمس الوجوه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه إِعماء العيون ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك .
والثاني : أنه طمس ما فيها من عين ، وأنف ، وحاجب ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، واختيار ابن قتيبة .
والثالث : أنه ردّها عن طريق الهدى ، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي . وقال مقاتل : من قبل أن نطمس وجوهاً ، أي : نحوّل الملّة عن الهدى والبصيرة . فعلى هذا القول يكون ذكر الوجه مجازاً . والمراد : البصيرة والقلوب . وعلى القولين قبله يكون المراد بالوجه : العضو المعروف .
قوله تعالى : { فنردها على أدبارها } خمسة أقوال .
أحدها : نُصيِّرُها في الأقفاء ، ونجعل عيونها في الأقفاء ، هذا قول ابن عباس ، وعطيّة .
والثاني : نُصيِّرُها كالأقفاء ، ليس فيها فم ، ولا حاجب ، ولا عين ، وهذا قول قوم ، منهم ابن قتيبة .
والثالث : نجعل الوجه منبتاً للشعر ، كالقرود ، هذا قول الفراء .
والرابع : نَنفيها مدبرة عن ديارها ومواضعها . وإِلى نحوه ذهب ابن زيد . قال ابن جرير : فيكون المعنى : من قبل أن نطمسَ وجوهَهم التي هم فيها . وناحيتهم التي هم بها نزول ، فنردها على أدبارها من حيث جاؤوا بديّاً من الشام .
والخامس : نردها في الضلالة ، وهذا قول الحسن ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل .
قوله تعالى : { أو نلعنهم } يعود إلى أصحاب الوجوه . وفي معنى لعن أصحاب السّبت قولان .
أحدهما : مسخهم قردة ، قاله الحسن ، وقتادة ، ومقاتل . والثاني : طردهم في التيه حتى هلك فيه أكثرهم ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { وكان أمر الله مفعولاً } قال ابن جرير : الأمر هاهنا بمعنى المأمور ، سُمِّي باسم الأمر لحدوثه عنه .

إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)

قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } قال ابن عمر : لما نزلت { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إِن الله يغفر الذنوب جميعاً } [ الزمر : 53 ] قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : والشرك؟ فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، فنزلت هذه . وقد سبق معنى الإِشراك .
والمراد من الآية : لا يغفر لمشرك مات على شركه . وفي قوله { لمن يشاء } نعمة عظيمة من وجهين . أحدهما : أنها تقتضي أن كل ميّت على ذنب دون الشرك لا يقطع عليه بالعذاب ، وإِن مات مصراً .
والثاني : أن تعليقه بالمشيئة فيه نفع للمسلمين ، وهو أن يكونوا على خوف وطمع .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)

قوله تعالى : { ألم تر إِلى الذين يزكون أنفسهم } سبب نزولها : أن مرحب ابن زيد ، وبحري بن عون وهما من اليهود أتيا النبي صلى الله عليه وسلم بأطفالهما ، ومعهما طائفة من اليهود فقالوا : يا محمد هل على هؤلاء من ذنب؟ قال : لا ، قالوا : والله ما نحن إلا كهيئتهم ، ما من ذنب نعمله بالنهار إِلا كُفِّر عنا بالليل ، وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفّر عنا بالنهار ، فنزلت هذه الآية . هذا قول ابن عباس .
وفي قوله : { ألم تر } قولان . أحدهما : ألم تُخبر قاله ابن قتيبة . والثاني : ألم تعلم ، قاله الزجاج . وفي الذين يزكون أنفسهم قولان .
أحدهما : اليهود على ما ذكرنا عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل .
والثاني : أنهم اليهود ، والنصارى ، وبه قال الحسن ، وابن زيد . ومعنى «يزكون أنفسهم» : يزعمون أنهم أزكياء ، يقال : زكى الشيء : إِذا نما في الصلاح .
وفي الذي زكّوا به أنفسهم أربعة أقوال .
أحدها : أنهم برَّؤوا أنفسهم من الذنوب ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس .
والثاني : أن اليهود قالوا : إِن أبناءنا الذين ماتوا يزكوننا عند الله ، ويشفعون لنا ، رواه عطية ، عن ابن عباس .
والثالث : أن اليهود كانوا يقدمون صبيانهم في الصلاة فيؤمونهم ، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم هذا قول عكرمة ، ومجاهد ، وأبي مالك .
والرابع : أن اليهود والنصارى قالوا : { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] وقالوا : { لن يدخل الجنة إِلا من كان هوداً أو نصارى } [ البقرة : 111 ] هذا قول الحسن ، وقتادة .
قوله تعالى : { بل الله يزكّي من يشاء } أي : يجعله زاكياً ، ولا يظلم الله أحداً مقدار فتيل . قال ابن جرير : وأصل «الفتيل» : المفتول ، صُرف عن مفعول إلى فعيل ، كصريع ، ودهين .
وفي الفتيل قولان .
أحدهما : أنه ما يكون في شقّ النواة ، رواه عكرمة ، عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعطاء بن أبي رباح ، والضحاك ، وقتادة ، وعطية ، وابن زيد ، ومقاتل ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزجاج .
والثاني : أنه ما يخرج بين الأصابع من الوسخ إِذا دلكن ، رواه العوفي ، عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، وأبو مالك ، والسدي ، والفرّاء .

انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)

قوله تعالى : { انظر كيف يفترون على الله الكذب } وهو قولهم { نحن أبناء الله وأحباؤه } وقولهم { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } وقولهم : لا ذنب لنا ونحو ذلك مما كذّبوا فيه { وكفى به } أي : وحسبُهم بقيلهم الكذب { إثماً مبيناً } يتبيّن كَذِبهم لسامعيه .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)

قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } في سبب نزولها أربعة أقوال .
أحدُها : أن جماعة من اليهود قدموا على قريش ، فسألوهم : أديننا خيرٌ ، أم دين محمد؟ فقال اليهود : بل دينكم ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس .
والثاني : أن كعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب ، قدما مكة ، فقالت لهما قريش : أنحن خيرٌ ، أم محمدٌ؟ فقالا : أنتم ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول عكرمة في روايةٍ . وقال قتادة : نزلت في كعب ، وحيي ، ورجلين آخرين من بني النضير قالوا لقريش : أنتم أهدى من محمد .
والثالث : أن كعب بن الأشرف وهو الذي قال لكفار قريش : أنتم أهدى من محمد ، فنزلت هذه الآية . وهذا قول مجاهد ، والسدي ، وعكرمة في رواية .
والرابع : أن حيي بن أخطب قال للمشركين : نحن وإِياكم خيرٌ من محمد ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن زيد . والمراد بالمذكورين في هذه الآية اليهود .
وفي «الجبت» سبعة أقوال .
أحدها : أنه السّحر ، قاله عمر بن الخطاب ، ومجاهد ، والشعبي . والثاني : الأصنام ، رواه عطية ، عن ابن عباس . وقال عكرمة : الجبت : صنم . والثالث : حيي بن أخطب ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك ، والفراء . والرابع : كعب بن الأشرف ، رواه الضحاك ، عن ابن عباس ، وليث عن مجاهد . والخامس : الكاهن ، روي عن ابن عباس ، وبه قال ابن سيرين ، ومكحول . والسادس : الشيطان ، قاله سعيد بن جبير في رواية ، وقتادة ، والسدي . والسابع : الساحر ، قاله أبو العالية ، وابن زيد . وروى أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : الجبت : الساحرُ بلسان الحبشة .
وفي المراد بالطاغوت ها هنا ستة أقوال .
أحدها : الشيطان ، قاله عمر بن الخطاب ، ومجاهد في رواية ، والشعبي ، وابن زيد . والثاني : أنه اسم للذين يكونون بين يدي الأصنام يعبّرون عنها ليضلوا الناس ، رواه العوفي ، عن ابن عباس . والثالث : كعب بن الأشرف ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك ، والفراء .
والرابع : الكاهن ، وبه قال سعيد بن جبير ، وأبو العالية ، وقتادة ، والسدي . والخامس : أنه الصنم ، قاله عكرمة . وقال : الجبت والطاغوت صنمان . والسادس : الساحر ، روي عن ابن عباس ، وابن سيرين ، ومكحول ، فهذه الأقوال تدل على أنهما اسمان لمسميين .
وقال اللغويون منهم ابن قتيبة ، والزجاج : كل معبود من دون الله ، من حجر ، أو صورة ، أو شيطان ، فهو جبت وطاغوت .
قوله تعالى : { ويقولون للذين كفروا } يعني لمشركي قريش : أنتم «أهدى» من الذين آمنوا ، يعنون النبي وأصحابه «طريقاً» في الديانة والاعتقاد .

أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)

قوله تعالى : { أم لهم نصيب من الملك } هذا استفهام معناه الإِنكار ، فالتقدير : ليس لهم . وقال الفراء : قوله { فاذا لا يؤتون الناس نقيراً } جوابٌ لجزاء مضمرٍ ، تقديره : ولئن كان لهم نصيب لا يؤتون الناس نقيراً . وفي «النقير» أربعة أقوال .
أحدها : أنه النقطة التي في ظهر النواة ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعطاء بن أبي رباح ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، وابن زيد ، ومقاتل ، والفرّاء ، وابن قتيبة في آخرين .
والثاني : أنه القشر الذي يكون في وسط النواة ، رواه التيمي ، عن ابن عباس . وروي عن مجاهد : أنه الخيط الذي يكون في وسط النواة .
والثالث : أنه نقر الرجل الشيء بطرف إِبهامه ، رواه أبو العالية ، عن ابن عباس .
والرابع : أنه حبّة النواة التي في وسطها ، رواه ابن أبي نجيح ، عن مجاهد . قال الأزهري : و«الفتيل» و«النقير» و«القطمير» : تضرب أمثالاً للشيء التافه الحقير .

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)

قوله تعالى : { أم يحسدون الناس } سبب نزولها : أن أهل الكتاب قالوا : يزعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع ، وله تسع نسوة ، فأيُّ ملك أفضل من هذا ، فنزلت ، رواه العوفي ، عن ابن عباس .
وفي أم قولان . أحدهما : أنها بمعنى ألف الاستفهام ، قاله ابن قتيبة .
والثاني : بمعنى «بل» قاله الزجاج ، وقد سبق ذكر «الحسد» في ( سورة البقرة ) والحاسدون هاهنا : اليهود . وفي المراد بالناس هاهنا أربعة أقوال .
أحدها : النبي صلى الله عليه وسلم ، رواه عطيّة ، عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل .
والثاني : النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، وعمر ، روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
والثالث : العرب ، قاله قتادة . والرابع : النبي ، والصحابة ، ذكره الماوردي . وفي الذي آتاهم الله من فضله ثلاثة أقوال .
أحدها : إِباحة الله تعالى نبيه أن ينكح ما شاء من النساء من غير عدد ، روي عن ابن عباس ، والضحاك ، والسدي . والثاني : أنه النبوّة ، قاله ابن جريج ، والزجاج . والثالث : بعثة نبي منهم على قول من قال : هم العرب .
قوله تعالى : { فقد آتينا آل إِبراهيم الكتاب } يعني : التوراة ، والإِنجيل ، والزبور . كله كان في آل إِبراهيم ، وهذا النبي من أولاد إِبراهيم . وفي الحكمة قولان .
أحدهما : النبوة ، قاله السدي ، ومقاتل . والثاني : الفقه في الدين ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
وفي الملك العظيم خمسة أقوال . أحدها : ملك سليمان ، رواه عطيّة ، عن ابن عباس . والثاني : ملك داود ، وسليمان في النساء ، كان لداود مائة امرأة ، ولسليمان سبعمائة امرأة ، وثلاثمائة سريّة ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، وبه قال السدّي . والثالث : النبوّة قاله مجاهد . والرابع : التأييد بالملائكة ، قاله ابن زيد في آخرين . والخامس : الجمع بين سياسة الدنيا ، وشرع الدين ، ذكره الماوردي .

فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)

قوله تعالى : { فمنهم من آمن به } فيمن تعود عليه الهاء ، والميم قولان .
أحدهما : اليهود الذين أنذرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول مجاهد ، ومقاتل ، والفراء في آخرين . فعلى هذا القول في هاء «به» ثلاثة أقوال .
أحدها : تعود على ما أنزل الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد . قال أبو سليمان : فيكون الكلام مبنيا على قوله { على ما آتاهم الله من فضله } وهو النبوة ، والقرآن .
والثاني : أنها تعود إِلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فتكون متعلقة بقوله { أم يحسدون الناس } يعني بالناس : محمداً صلى الله عليه وسلم ، ويكون المراد بقوله { فمنهم من آمن به } عبد الله بن سلام ، وأصحابه . والثالث : أنها تعود إلى النَّبأِ عن آل إِبراهيم ، قاله الفراء .
والقول الثاني : أن الهاء ، والميم في قوله «فمنهم» تعود إِلى آل إِبراهيم ، فعلى هذا في هاء «به» قولان . أحدهما : أنها عائدة إِلى إِبراهيم ، قاله السدي .
والثاني : إِلى الكتاب ، قاله مقاتل .
قوله تعالى { ومنهم من صدّ عنه } وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن جبير ، وعكرمة ، وابن يعمر ، والجحدري : «من صُدّ عنه» برفع الصاد . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وأبو الجوزاء ، وأبو رجاء والجوني ، بكسر الصاد .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)

قوله تعالى : { فسوف نصليهم ناراً } قال الزجاج : أي نشويهم في نارٍ ، ويروى أن يهوديّة أهدت إِلى النبي صلى الله عليه وسلم شاةً مصليَّةً ، أي : مشوية . وفي قوله { بدلناهم جلوداً غيرها } قولان .
أحدهما : أنها غيرها حقيقة ، ولا يلزم على هذا أن يقال : كيف بُدلت جلود التذت بالمعاصي بجلود ما التذت ، لأن الجلود آلة في إيصال العذاب إِليهم ، كما كانت آلة في إيصال اللذّة ، وهم المعاقبون لا الجلود .
والثاني : أنها هي بعينها تعاد بعد احتراقها ، كما تعاد بعد البلى في القبور . فتكون الغيرية عائدة إِلى الصفة ، لا إِلى الذات ، فالمعنى : بدلناهم جلوداً غير محترقة ، كما تقول : صُغت من خاتمي خاتما آخر . وقال الحسن البصري : في هذه الآية : تأكلهم النارُ كل يوم سبعين ألف مرّة ، كلما أكلتهم قيل لهم : عودوا ، فعادوا .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)

قوله تعالى : { وندخلهم ظلاً ظليلاً } قال الزجاج : هو الذي يُظلُّ من الحرّ والريح ، وليس كلُّ ظلٍّ كذلك ، فأعلم الله تعالى أن ظل الجنة ظليل لا حرّ معه ، ولا برد . فان قيل : أفي الجنة برد أو حر يحتاجون معه إلى ظل؟ فالجواب : أن لا ، وإنما خاطبهم بما يعقلون مثله ، كقوله : { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا } [ مريم : 62 ] وجواب آخر : وهو أنه إِشارة إِلى كمال وصفها ، وتمكين بنائِها ، فلو كان البرد أو الحرّ يتسلط عليها ، لكان في أبنيتها وشجرها ظل ظليل .

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)

قوله تعالى : { إِن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إِلى أهلها } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة ، طلب مفتاح البيت من عثمان بن أبي طلحة ، فذهب ليعطيه إِياه ، فقال العباس : بأبي أنت وأُمّي اجمعه لي مع السقاية ، فكفّ عثمان يده مخافة أن يعطيه للعباس ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « هات المفتاح » فأعاد العباس قوله ، وكفّ عثمان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أرني المفتاح إن كنت تؤمن بالله وباليوم الآخر » فقال : هاكَه يا رسول الله بأمانة الله ، فأخذ المفتاح ، ففتح البيت ، فنزل جبريل بهذه الآية ، فدعا عثمان ، فدفعه إِليه . رواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والزهري ، وابن جريج ، ومقاتل .
والثاني : أنها نزلت في الأمراء . رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال زيد بن أسلم ، وابنه ، ومكحول ، واختاره أبو سليمان الدمشقي . وقال : أُمر الأمراء أن يؤدوا الأمانة في أموال المسلمين .
والثالث : أنها نزلت عامة ، وهو مروي عن أبي بن كعب ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، واختاره القاضي أبو يعلى . واعلم أن نزولها على سبب لا يمنع عموم حكمها ، فإنها عامة في الودائع وغيرها من الأمانات . وقال ابن مسعود : الأمانة في الوضوء ، وفي الصلاة ، وفي الصوم ، وفي الحديث ، وأشد ذلك في الودائِع .
قوله تعالى { نعما يعظكم به } يقول : نعم الشيء يعظكم به ، وقد ذكرناه في ( البقرة )

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } في سبب نزولها قولان . أحدهما : أنها نزلت في عبد الله بن حُذافة بن قيس السّهمي إِذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سريّة ، أخرجه البخاري ، ومسلم ، من حديث ابن عباس .
والثاني : أن عمّار بن ياسر كان مع خالد بن الوليد في سريّة ، فهرب القوم ، ودخل رجلٌ منهم على عمار ، فقال : إِني قد أسلمتُ ، هل ينفعني ، أو أذهب كما ذهب قومي؟ قال عمار : أقم فأنت آمن ، فرجع الرجل ، وأقام فجاء خالد ، فأخذ الرجل ، فقال عمّار : إِني قد أمنته ، وإِنه قد أسلم ، قال : أتجير علي وأنا الأمير؟ فتنازعا ، وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
قوله تعالى : { وأطيعوا الرسول } طاعة الرسول في حياته : امتثال أمره ، واجتناب نهيه ، وبعد مماته ، اتباع سُنّته .
وفي أولي الأمر أربعة أقوال .
أحدها : أنهم الأمراء ، قاله أبو هريرة ، وابن عباس في رواية ، وزيد بن أسلم ، والسدي ، ومقاتل .
والثاني : أنهم العلماء ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وهو قول جابر بن عبد الله ، والحسن ، وأبي العالية ، وعطاء ، والنخعي ، والضحاك ، ورواه خصيف ، عن مجاهد .
والثالث : أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، رواه ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وبه قال بكر بن عبد الله المزني .
والرابع : أنهم أبو بكر ، وعمر ، وهذا قول عكرمة .
قوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء } قال الزجاج : معناه : اختلفتم . وقال كل فريق : القول قولي . واشتقاق المنازعة : أن كل واحد ينتزع الحجة .
قوله تعالى : { فردوه إلى الله والرسول } في كيفيّة هذا الرد قولان .
أحدهما : أن ردّه إلى الله ردّه إلى كتابه ، ورده إِلى النبي رده إلى سنّته ، هذا قول مجاهد ، وقتادة ، والجمهور . قال القاضي أبو يعلى : وهذا الرّد يكون من وجهين . أحدهما : إلى المنصوص عليه باسمه ومعناه . والثاني : الرّد إِليهما من جهة الدلالة عليه ، واعتباره من طريق القياس ، والنظائر .
والقول الثاني : أن ردّه إلى الله ورسوله أن يقول : من لا يعلم الشيء : الله ورسوله أعلم ، ذكره قومٌ ، منهم الزجاج .
وفي المراد بالتأويل أربعة أقوال .
أحدها : أنه الجزاء ، والثواب ، وهو قول مجاهد ، وقتادة .
والثاني : أنه العاقبة ، وهو قول السدي ، وابن زيد ، وابن قتيبة ، والزجاج . والثالث : أنه التصديق ، مثل قوله { هذا تأويل رؤياي } [ يوسف : 100 ] قاله ابن زيد في رواية . والرابع : أن معناه : ردّكم إِياه إلى الله ورسوله أحسن من تأويلكم ، ذكره الزجاج .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)

قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا } في سبب نزولها أربعة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة ، فقال اليهودي : انطلق بنا إِلى محمد ، وقال المنافق : بل إلى كعب بن الأشرف ، فأبى اليهودي ، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقضى لليهودي ، فلمّا خرجا ، قال المنافق : ننطلق إلى عمر بن الخطاب ، فأقبلا إِلَيه ، فقصّا عليه القصّة ، فقال : رويداً حتى أخرج إليكما ، فدخل البيت ، فاشتمل على السيف ، ثم خرج ، فضرب به المنافق ، حتى برد ، وقال : هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله ورسوله ، فنزلت هذه الآية . رواه أبو صالح ، عن ابن عباس .
والثاني : أن أبا بردة الأسلمي كان كاهناً يقضي بين اليهود ، فتنافر إليه ناس من المسلمين ، فنزلت هذه الآية ، رواه عكرمة ، عن ابن عباس .
والثالث : أن يهودياً ومنافقاً كانت بينهما خصومة ، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي ، لأنه لا يأخذ الرشوة ، ودعا المنافق إلى حكامهم ، لأنهم يأخذُون الرشوة ، فلما اختلفا ، اجتمعا أن يحكما كاهناً ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول الشعبي .
والرابع : أن رجلاً من بني النضير قتل رجلاً من بني قريظة ، فاختصموا ، فقال المنافقون منهم : انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن ، فقال المسلمون من الفريقين : بل إِلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأبى المنافقون ، فانطلقوا إِلى الكاهن . فنزلت هذه الآية . هذا قول السدي .
والزَّعم والزُّعم لغتان ، وأكثر ما يستعمل في قول ما لا تتحقق صحته ، وفي { الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبلك } قولان .
أحدهما : أنه المنافق . والثاني : أن الذي زعم أنه آمن بما أنزل إِليه المنافق ، والذي زعم أنه آمن بما أنزل من قبله اليهودي . والطاغوت : كعب بن الأشرف ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والربيع ، ومقاتل .
قوله تعالى : { وقد أمروا أن يكفروا به } قال مقاتل : أن يتبرؤوا من الكهنة و«الضلال البعيد» : الطويل .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)

قوله تعالى : { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله } قال مجاهد : هذه الآية والتي قبلها نزلتا في خصومة اليهودي ، والمنافق ، والهاء والميم في «لهم» إِشارة إِلى الذين يزعمون و«الذي أنزل الله» : أحكام القرآن . و«إلى الرسول»أي : إلى حكمه .

فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)

قوله تعالى : { فكيف إذا أصابتهم مصيبة } أي : كيف يصنعون ويحتالون إذا أصابتهم عقوبة من الله؟ وفي المراد بالمصيبة قولان . أحدهما : أنه تهديد ووعيد . والثاني : أنه قتل المنافق الذي قتله عمر . وفي الذي قدمت أيديهم ثلاثة أقوال . أحدها : نفاقهم واستهزاؤهم . والثاني : ردّهم حكم النبي صلى الله عليه وسلم . والثالث : معاصيهم المتقدّمة .
قوله تعالى : { إِِن أردنا } بمعنى : ما أردنا .
قوله تعالى : { إِلا إِحساناً وتوفيقاً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه لما قتل عمر صاحبهم ، جاؤوا يطلبون بدمه ، ويحلفون ما أردنا بالمطالبة بدمه إِلا إِحساناً إِلينا ، وما يوافق الحق في أمرنا .
والثاني : ما أردنا بالترافع إلى عمر إِلا إِحساناً وتوفيقاً .
والثالث : أنهم جاؤوا يعتذرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم من محاكمتهم إِلى غيره ، ويقولون : ما أردنا في عدولنا عنك إِلا إحساناً بالتقريب في الحكم ، وتوفيقاً بين الخصوم دون الحمل على مُرّ الحق .

أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)

قوله تعالى : { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } أي : من النفاق والزيغ . وقال ابن عباس : إِضمارهم خلاف ما يقولون { فأعرض عنهم } ولا تعاقبهم { وعظهم } بلسانك { وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } أي : تقدّم إِليهم : إِن فعلتم الثانية ، عاقبتكم . وقال الزجاج : يقال : بَلُغ الرجل يبْلُغُ بلاغة فهو بليغ : إِذا كان يبلغ بعبارة لسانه كُنه ما في قلبه .
وقد تكلم العلماء في حدّ «البلاغة» فقال بعضهم : «البلاغة» : إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ ، وقيل : «البلاغة» حسن العبارة مع صحة المعنى وقيل : البلاغة : الإِيجاز مع الإِفهام ، والتصرّف من غير إِضجار . قال خالد بن صفوان : أحسن الكلام ما قلت ألفاظه ، وكثرت معانيه ، وخيرُ الكلام ما شوّق أوّله إِلى سماع آخره ، وقال غيره : إِِنما يستحق الكلام اسم البلاغة إِذا سابق لفظه معناه ، ومعناه لفظه ، ولم يكن لفظه إِلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك .
فصل
وقد ذهب قوم إلى أن «الإِعراض» المذكور في هذه الآية منسوخ بآية السيف .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)

قوله تعالى : { وما أرسلنا من رسولٍ إِلا ليُطاع } قال الزجاج : «من» دخلت للتوكيد . والمعنى وما أرسلنا رسولاً إِلا ليطاع . وفي قوله { باذن الله } قولان .
أحدهما : أنه بمعنى : الأمر ، قاله ابن عباس . والثاني : أنه الاذن نفسه ، قاله مجاهد . وقال الزجاج : المعنى : إِلا ليطاع بأن الله أذن له في ذلك .
وقوله تعالى : { ولو أنهم إِذ ظلموا أنفسهم } يرجع إلى المتحاكمين اللذين سبق ذكرهما . قال ابن عباس : ظلموا أنفسهم بسخطهم قضاء الرسول { جاؤوك فاستغفروا الله } من صنيعهم .

فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)

قوله تعالى : { فلا وربِّك لا يؤمنون } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : " أنها نزلت في خصومة كانت بين الزبير وبين رجل من الأنصار في شِراج الحرّة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير : «اسق ثم أرسل إِلى جارك» فغضب الأنصاري ، قال : يا رسول الله : أن كان ابن عمتك! فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال للزبير : «اسق يا زبير ، ثم احبس الماء حتى يبلغ الجَدْر» قال الزبير : فوالله ما أحسب هذه الآية نزلت إِلاّ في ذلك " أخرجه البخاري ، ومسلم .
والثاني : أنها نزلت في المنافق ، واليهودي اللذين تحاكما إِلى كعب بن الأشرف ، وقد سبقت قصتهما ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { فلا وربّك لا يؤمنون } أي : لا يكونون مؤمنين حتى يحكموك ، وقيل : «لا» ردٌ لزعمهم أنهم مؤمنون ، والمعنى : فلا ، أي : ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا ، وهم يخالفون حكمك . ثم استأنف ، فقال : وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ، أي : فيما اختلفوا فيه .
وفي «الحرج» قولان . أحدهما : أنه الشك ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي في آخرين . والثاني : الضيق ، قاله أبو عبيدة ، والزجاج . وفي قوله { ويسلموا تسليماً } قولان . أحدهما : يسلموا لما أمرتهم به فلا يعارضونك ، هذا قول ابن عباس ، والزجاج ، والجمهور .
والثاني : يسلموا ما تنازعوا فيه لحكمك ، ذكره الماوردي .

وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)

قوله تعالى : { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } سبب نزولها : أن رجلاً من اليهود قال : والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم ، فقتلناها . فقال ثابت بن قيس بن الشماس : والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا ، فنزلت هذه الآية . هذا قول السدي . قال الزجاج : «لو» يمتنع به الشيء لامتناع غيره ، تقول : لو جاءني زيد لجئته . والمعنى : أن مجيئك امتنع لامتناع مجيئه ، و «كتبنا» بمعنى : فرضنا . والمعنى : لو أنا فرضنا على المؤمنين بك أن اقتلوا أنفسكم . قرأ أبو عمرو أن اقتلوا أنفسكم ، بكسر النون ، أو اخرجوا بضم الواو . وقرأ ابن عامر ، وابن كثير ، ونافع ، والكسائي : أن اقتلوا أو اخرجوا بضم النون والواو . وقرأ عاصم ، وحمزة بكسرهما . والمعنى : لو فرضنا عليهم كما فرضنا على قوم موسى ، لم يفعله إلا قليل منهم ، هذه قراءة الجمهور . وقرأ ابن عامر : إِلا قليلاً بالنصب . { ولو أنهم } يعني : المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا ، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت ، ويصدون عنك { فعلوا ما يوعظون به } أي : ما يذكرون به من طاعة الله ، والوقوف مع أمره ، { لكان خيرا لهم } وأثبت لأمورهم . وقال السدي : { وأشدّ تثبيتاً } أي : تصديقاً .

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)

قوله تعالى : { ومن يطع الله والرسول } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد المحبَّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرآهُ رسول الله يوماً فعرف الحزن في وجهه ، فقال : يا ثوبان ما غير وجهك؟ قال : ما بي من وجع غير أني إِذا لم أرك اشتقت إِليك ، فأذكر الآخرة ، فأخاف أن لا أراك هناك ، فنزلت هذه الآية . رواه أبو صالح ، عن ابن عباس .
والثاني : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له : ما ينبغي أن نفارقك في الدنيا ، فانك إِذا فارقتنا رفعت فوقنا ، فنزلت هذه الآية . هذا قول مسروق .
والثالث : أن رجلاً من الأنصار جاء إِلى النبي وهو محزون ، فقال : مالي أراك محزوناً؟ فقال : يا رسول الله غداً ترفع مع الأنبياء ، فلا نصل إِليك . فنزلت هذه الآية . هذا قول سعيد بن جبير . قال ابن عباس : ومن يطع الله في الفرائض ، والرسول في السُنن . قال ابن قتيبة : والصدّيق : الكثير الصدق ، كما يقال : فسيق ، وسكير ، وشرّيب ، وخمّير ، وسكيت ، وفجّير ، وعشّيق ، وضلّيل ، وظلّيم : إِذا كثر منه ذلك . ولا يقال ذلك لمن فعل الشيء مرّة ، أو مرتين حتى يكثر منه ذلك ، أو يكون عادة . فأما الشهداء ، فجمع شهيد وهو القتيل في سبيل الله .
وفي تسميته بالشهيد خمسة أقوال . أحدها : لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنّة ، قاله ثعلب . والثاني : لأن ملائكة الرحمة تشهده . والثالث : لسقوطه بالأرض ، والأرض : هي الشاهدة ، ذكر القولين ابن فارس اللغوي . والرابع : لقيامه بشهادة الحق في أمر الله حتى قتل ، قاله أبو سليمان الدمشقي . والخامس : لأنه يشهد ما أعدّ الله له من الكرامة بالقتل ، قاله شيخنا على بن عبيد الله .
فأما الصالحون ، فهم اسم لكل من صَلُحَتْ سريرتُه وعلانيتُه . والجمهور على أن النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ، عام في جميع من هذه صفته . وقال عكرمة : المراد بالنبيين هاهنا محمد ، والصديقين أبو بكر ، وبالشهداء عمر وعثمان وعلي ، وبالصالحين سائر الصحابة .
قوله تعالى : { وحسن أولئك رفيقاً } قال الزجاج : «رفيقاً» منصوب على التمييز ، وهو ينوب عن رفقاء . قال الشاعر :
بها جيف الحسرى فأمّا عظامُها ... فبيضٌ وأما جلدُها فصليب
وقال آخر :
في حلقكم عظم وقد شجينا ... يريد : في حلوقكم عظام
{ ذلك الفضل } الذي أعطى المذكورين { من الله وكفى بالله عليماً } بالمقاصد والنيات .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)

قوله تعالى : { خذوا حذركم } فيه قولان .
أحدهما : احذروا عدوّكم . والثاني : خذوا سلاحكم .
قوله تعالى : { فانفروا ثبات } قال ابن قتيبة : أي : جماعات ، واحدتها : ثبة ، يريد جماعة بعد جماعة . وقال الزجاج : «الثباتُ» : الجماعات المتفرّقة . قال زهير :
وقد أغْدُوا على ثُبَةٍ كِرامٍ ... نَشَاوى واجدين لما نشاء
قال ابن عباس : فانفروا ثبات ، أي : عصباً ، سرايا متفرِّقين ، أو انفروا [ جميعاً يعنى ] كلكم .
فصل
وقد نقل عن ابن عباس أن هذه الآية وقوله { انفروا خفافاً وثقالاً } [ التوبة : 41 ] . وقوله : { إِلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً } [ التوبة : 39 ] منسوخات بقوله { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } [ التوبة : 122 ] قال أبو سليمان الدمشقي : والأمر في ذلك بحسب ما يراه الإِمام ، وليس في هذا من المنسوخ شيء .

وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)

قوله تعالى : { وإِن منكم لمن ليبطئن } اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما : أنها في المنافقين ، كعبد الله بن أُبيّ ، وأصحابه كانوا يتثاقلون عن الجهاد ، فان لقيت السريّة نكبة ، قال من أبطأ منهم : لقد أنعم الله عليّ ، وإِن لقوا غنيمةً ، قال : يا ليتني كنت معهم . هذا قول ابن عباس ، وابن جريج .
والثاني : أنها نزلت في المسلمين الذين قلّت علومُهم بأحكام الدين ، فتثبطوا لقلة العلم ، لا لضعف الدين ، ذكره الماوردي ، وغيره . فعلى الأول تكون إِضافتهم إِلى المؤمنين بقوله «منكم» لموضع نطقهم بالإِسلام ، وجريان أحكامه عليهم ، وعلى الثاني تكون الإِضافة حقيقة . قال ابن جرير : اللام في «لمن» لام تأكيد . قال الزجاج : واللام في «ليبطئن» لام القسم ، كقولك : إِن منكم لمن أحلف بالله ليبطئن ، يقال : «أبطأ الرجل» و «بطؤ» . فمعنى : «أبطأ» : تأخّر ، ومعنى «بطؤ» : ثقُل . وقرأ أبو جعفر : { ليبطئن } بتخفيف الهمزة . وفي معنى «ليبطئن» قولان . أحدهما : ليبطئن هو بنفسه ، وهو قول ابن عباس . والثاني : ليبطئن غيره ، قاله ابن جريج . قال ابن عباس : و«المصيبة» : النكبة . و«الفضل من الله» : الفتح والغنيمة .
قوله تعالى : { كأن لم يكن بينكم وبينه مودّة } قرأ ابن كثير ، وحفص ، والمفضّل ، عن عاصم : كأن لم تكن بالتاء ، لأن الفاعل المسند إِليه مؤنّث في اللفظ وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، عن عاصم : يكن بالياء ، لأن التأنيث ليس بحقيقي . قال الزجاج : يجوز أن يكون المعنى : ليقولن يا ليتني كنت معهم ، كأن لم يكن بينكم وبينه مودّة ، أي : كأنه لم يعاقدكم على أن يجاهد معكم ، ويجوز أن يكون هذا الكلام معترضا به ، فيكون المعنى : ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم فان أصابتكم مصيبة ، قال : قد أنعم الله علي ، كأن لم يكن بينكم وبينه مودة . فيكون معنى «المودّة» أي : كأنه لم يعاقدكم على الإِيمان .

فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)

قوله تعالى : { الذين يشرون الحياة الدنيا } يشرون هاهنا : بمعنى يبتغون في قول الجماعة . وأنشدوا :
وشرَيْتُ . . . بُرداً ليتني ... من بَعْدِ بُردٍ كُنْتُ هَامه
« وبرد» : غلام له باعه . ومعنى الآية : ليكن قتال المقاتِلينَ على وجه الإِخلاص ، وطلب الآخرة .
قوله تعالى : { فيقتل أو يغلب } خرج مخرج الغالب ، وقد يثاب من لم يَغلِب ولَم يُقتل .

وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)

قوله تعالى : { والمستضعفين من الرجال } قال الفراء : تقديره : وفي المستضعفين . وكذلك روي عن ابن عباس . وقال الزجاجِ : المستضعفون في موضع خفض ، والمعنى في سبيل الله ، وسبيل المستضعفين ، أي : ما لكم لا تسعون في خلاص هؤلاء؟ قال ابن عباس : وهم ناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا . و«القرية» : مكة في قول الجماعة . قال الفراء : وإِنما خفض «الظالم» لأنه نعت للأهل ، فلما عاد الأهل على القرية كان فعل ما أضيف إِليها بمنزلة فعلها ، تقول : مررت بالرجل الواسعة داره .
قوله تعالى : { واجعل لنا من لدنك ولياً } قال أبو سليمان : سألوا الله ولياً من عنده يلي إِخراجهم منها ، ونصيراً يمنعهم من المشركين . قال ابن عباس : فلما فتح رسول الله مكة ، جعل الله عز وجل النبي عليه السلام وليّهم ، واستعمل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد ، فكان نصيراً لهم ، ينصف الضعيف من القوي .

الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)

قوله تعالى : { يقاتلون في سبيل الطاغوت } الطاغوت هاهنا : الشيطان . وقال أبو عبيدة : الطاغوت هاهنا في معنى جماعة ، كقوله { ولحم الخنزير } معناه : ولحم الخنازير .
قوله تعالى : { إِن كيد الشيطان } يعني : مكره وصنيعه { كان ضعيفاً } حيث خذل أصحابه يوم بدر .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)

قوله تعالى : { ألم تر إِلى الذين قيل لهم كُفّوا أيديَكم } اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما : أنها نزلت في نفر من المهاجرين ، كانوا يحبون أن يؤذن لهم في قتال المشركين وهم بمكّة قبل أن يُفرَضَ القتال ، فنُهوا عن ذلك ، فلما أُذِنَ لهم فيه ، كَرِههُ بعضُهُم . روى هذا المعنى أبو صالح . عن ابن عباس ، وهو قول ، قتادة ، والسدي ، ومقاتل .
والثاني : أنها نزلت واصفةً أحوال قومٍ كانوا في الزمان المتقدّم ، فحُذّرت هذه الأمّة من مثلِ حالهم ، روى هذا المعنى عطية ، عن ابن عباس . قال أبو سليمان الدمشقي : كأنه يومىء إِلى قصة الذين قالوا : إِبعث لنا مَلِكاً . وقال مجاهد : هي في اليهود .
فأما كفُّ اليد ، فالمراد به : الامتناع عن القتال ، ذلك كان بمكة . و«كُتب» بمعنى : فُرض ، وذلك بالمدينة ، هذا على القول الأول .
قوله تعالى : { إِذا فريق منهم } في هذا الفريق ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم المنافقون .
والثاني : أنهم كانوا مؤمنين ، فلما فرض القتال ، نافقوا جُبناً وخوفاً .
والثالث : أنهم مؤمنون غير أن طبائعهم غلبتهم ، فنفرت نفوسُهم عن القتال .
قوله { يخشون الناس } في المراد بالناس قولان .
أحدهما : كفار مكة .
والثاني : جميع الكفار .
قوله تعالى : { أو أشد خشية } قيل : إِن «أو» بمعنى الواو و«كتبت» بمعنى : فرضت . و«لولا» بمعنى «هلاّ» . قال الفراء : إِذا لم تر بعدها اسماً ، فهي استفهامٌ ، بمعنى هلاّ ، وإِذا رأيت بعدها اسماً مرفوعاً ، فهي التي جوابها اللام ، تقول : لولا عبد الله لضربتك . وقال ابن قتيبة : إِذا رأيتها بغير جواب ، فهي بمعنى «هلاّ» تقول : لولا فعلت كذا ، ومثلها «لوما» فاذا رأيت ل «لولا» جواباً ، فليست بمعنى «هلاّ» إِنما هي التي تكون لأمر يقعُ بوقوع غيره ، كقوله { فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه } [ الصافات : 143 ] قلت : فأما «لولا» التي لها جوابٌ فكثيرة في الكلام ، وأنشدوا في ذلك :
لولا الحياءُ وأن رأسي قد عثا ... فيه المشيبُ لزُرتُ امَّ القاسم
وأما التي بمعنى «هلاّ» فأنشدوا منها :
تعدّون عقر النبيب أفضَلَ مجدِكُم ... بني ضَوْطَرى لولا الكَميَّ المقنَّعا
أراد فهلاّ تعدون الكمي ، والكمي : الداخل في السّلاح .
وفي الأجل القريب قولان .
أحدهما : أنه الموت ، فكأنهم قالوا : هلاّ تركتنا نموت موتاً ، وعافيتنا من القتل ، هذا قول السدي ، ومقاتل .
والثاني : أنه إِمهال زمان ، فكأنهم قالوا : هلاّ أخرت فرض الجهاد عنّا قليلاً حتى نكثر ونقوى ، قاله أبو سليمان الدمشقي في آخرين .
قوله تعالى : { قل متاع الدنيا قليل } أي : مدّة الحياة فيها قليلة .
قوله تعالى : { ولا تظلمون فتيلاً } قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ولا يظلمون بالياء . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم : بالتاء ، وقد سبق ذكر المتاع والفتيل .

أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)

قوله تعالى : { أينما تكونوا يدرككم الموت } سبب نزولها أن المنافقين قالوا في حقّ شهداء أُحُد : لو كانوا عندنا ما ماتوا ، وما قتلوا ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس ، ومقاتل . والبروج : الحصون ، قاله ابن عباس ، وابن قتيبة . وفي «المشيّدة» خمسة أقوال .
أحدها : أنها الحصينة ، قاله ابن عباس ، وقتادة .
والثاني : المطولة ، قاله أبو مالك ، ومقاتل ، وابن قتيبة .
والثالث : المجصصة ، قاله هلال بن خبّاب ، واليزيدي .
والرابع : أنها المبنيّة بالشيِّد ، وهو الجص ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
والخامس : أنها بروج في السماء ، قاله الربيع بن أنس ، والثوري . وقال السدّي : هي قصور بيض في السماء مبنيّة .
قوله تعالى : { وإِن تصبهم } اختلفوا فيهم على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم المنافقون واليهود ، قاله ابن عباس .
والثاني : المنافقون ، قاله الحسن .
والثالث : اليهود ، قاله ابن السري .
وفي الحسنة والسيئة قولان .
أحدهما : أن الحسنة : الخصب ، والمطر . والسيئة : الجدب ، والغلاء ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس .
والثاني : أن الحسنة : الفتح والغنيمة ، والسيئة : الهزيمة والجراح ، ونحو ذلك ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وفي قوله تعالى : { من عندك } قولان .
أحدهما : بشؤمِك ، قاله ابن عباس .
والثاني : بسوء تدبيرك ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { قل كل من عند الله } قال ابن عباس : الحسنة والسيئة ، أما الحسنة ، فأنعم بها عليك ، وأما السيئة ، فابتلاك بها .
قوله تعالى : { فما لهؤلاء القوم } وقف أبو عمرو ، والكسائي على الألف من «فما» في قوله : { فما لهؤلاء القوم } و { ما لهذا الكتاب } و { ما لهذا الرسول } و { فما للذين كفروا } والباقون وقفوا على اللام . فأما «الحديث» ، فقيل : هو القرآن ، فكأنّه قال : لا يفقهون القرآن ، فيؤمنون به ، ويعلمون أن الكل من عند الله .

مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)

قوله تعالى : { ما أصابك من حسنة فمن الله } في المخاطب بهذا الكلام ثلاثة أقوال . أحدها : أنه عامٌ ، فتقديره : ما أصابك أيها الإِنسان ، قاله قتادة . والثاني : أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد به غيره ، ذكره الماوردي . وقال ابن الأنباري : ما أصابك الله من حسنة ، وما أصابك الله به من سيئة ، فالفعلان يرجعان إلى الله عز وجل . وفي «الحسنة» و«السيئة» ثلاثة أقوال .
أحدها : أن الحسنة ما فُتح عليه يوم بدر ، والسيئة : ما أصابه يوم أُحد ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس .
والثاني : الحسنة : الطاعة ، والسيئة : المعصية ، قاله أبو العالية .
والثالث : الحسنة : النعمة ، والسيئة : البليّة ، قاله ابن قتيبة ، وعن أبي العالية نحوه ، وهو أصح ، لأن الآية عامة . وروى كرداب ، عن يعقوب : { ما أصابك من حسنة فمن الله } بتشديد النون ، ورفعها ، ونصب الميم ، وخفض اسم «الله» { وما أصابك من سيئة فمن نَفسُك } بنصب الميم ، ورفع السين . وقرأ ابن عباس : وما أصابك من سيئة ، فمن نفسك ، وأنا كتبتها عليك . وقرأ ابن مسعود : وأنا عددتها عليك .
قوله تعالى : { فمن نفسك } أي : فبذنبك ، قاله الحسن ، وقتادة ، والجماعة . وذكر فيه ابن الأنباري وجهاً آخر ، فقال : المعنى : أفمن نفسك فأضمرت ألف الاستفهام ، كما أضمرت في قوله { وتلك نعمة } أي : أوَ تلك نعمة .
قوله تعالى : { وأرسلناك للناس رسولاً } قال الزجاج : ذكر الرسول مؤكّد لقوله : { وأرسلناك } والباء في «بالله» مؤكّدة . والمعنى : وكفى بالله شهيداً . «وشهيداً» منصوب على التمييز ، لأنك إذا قلت : كفى بالله ، ولم تبيّن في أي شيء الكفاية كنت مبهماً .
وفي المراد بشهادة الله هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : شهيداً لك بأنك رسوله ، قاله مقاتل .
والثاني : على مقالتهم ، قاله ابن السائب .
والثالث : لك بالبلاغ ، وعليهم بالتكذيب والنفاق ، قاله أبو سليمان الدمشقي . فان قيل : كيف عاب الله هؤلاء حين قالوا : إِن الحسنة من عند الله ، والسيئة من عند النبي عليه السلام ، وردّ عليهم بقوله : { قل كل من عند الله } ثم عاد ، فقال : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } فهل قال القوم إِلا هكذا؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أنهم أضافوا السيئة إِلى النبي صلى الله عليه وسلم تشاؤماً به ، فردّ عليهم ، فقال : كلٌ بتقدير الله . ثم قال : ما أصابك من حسنة ، فمن الله ، أي : من فضله ، وما أصابك من سيئة ، فبذنبك ، وإِن كان الكل من الله تقديراً .
والثاني : أن جماعة من أرباب المعاني قالوا : في الكلام محذوف مقدّر ، تقديره : فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ، يقولون : ما أصابك من حسنة ، فمن الله ، وما أصابك من سيئة ، فمن نفسك . فيكون هذا من قولهم . والمحذوف المقدّر في القرآن كثير ، ومنه قوله :

{ ربنا تقبل منا } [ البقرة : 127 ] أي : يقولان : ربنا . ومثله { أو به أذى من رأسه فَفِديَة } [ البقرة : 196 ] أي : فحلق ، ففدية . ومثله { فأما الذين اسودت وجههم أكفرتم } [ آل عمران : 106 ] أي : فيقال لهم . ومثله { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم } [ الرعد : 23 ، 24 ] أي : يقولون سلام . ومثله { أو كلّم به الموتى بل لله الأمر } [ الرعد : 31 ] أراد : لكان هذا القرآنَ . ومثله { ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم } [ النور : 20 ] أراد : لعذّبكم . ومثله { ربنا أبصرنا وسمعنا } [ السجدة : 12 ] أي : يقولون . وقال النَّمِرُ بنُ تولب :
فإنَّ المنيَّة من يخشَها ... فَسَوْفَ تُصَادِفُه أينما
أراد : أينما ذهب . وقال غيره :
فأقسم لو شيءٌ أتانا رسولُه ... سواكَ ولكن لم نجد لَك مَدْفعا
أراد : لرددناه .

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)

قوله تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } سبب نزولها : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أحبني ، فقد أحب الله " فقال المنافقون : لقد قارب هذا الرجل الشرك ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل . ومعنى الكلام : من قَبِلَ ما أتى به الرسول ، فانما قبل : ما أمر الله به ، ومن تولّى ، أي : أعرض عن طاعته . وفي «الحفيظ» قولان . أحدهما : أنه الرّقيب ، قاله ابن عباس . والثاني : المحاسب ، قاله السدي ، وابن قتيبة .
فصل
قال المفسّرون : وهذا كان قبل الأمر بالقتال ، ثم نُسِخ بآية السيف .

وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)

قوله تعالى : { ويقولون طاعة } نزلت في المنافقين ، كانوا يؤمنون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمنوا ، فاذا خرجوا ، خالفوا ، هذا قول ابن عباس . قال الفرّاء : والرّفع في «طاعة» على معنى : أمرُك طاعة .
قوله تعالى : { بيّت طائفة } قرأ أبو عمرو ، وحمزة : بيت بسكون «التاء» ، وإدغامها في «الطاء» ونصب الباقون «التاء» قال أبو علي : التاء والطاء والدال من حيز واحد ، فحسن الإِدغام ، ومَن بيّن ، فلانفصال الحرفين ، واختلاف المخرجين . قال ابن قتيبة : والمعنى [ فاذا برزوا من عندك ، أي : خرجوا ، بيت طائفة منهم غير الذي تقول ، أي ] قالوا : وقدّروا ليلاً غير ما أعطوك نهاراً . قال الشاعر :
أتوني فلم أرض ما بيَّتوا ... وكانوا أتَوْني بشيء نُكُرْ
والعرب تقول : هذا أمر قد قُدِّر بليل [ وفرغ منه بليل ، ومنه قول الحارث بن حِلِّزة :
أجمعوا أمرهم عشاءً فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء ]
وقال بعضهم : بيّت ، بمعنى : بدّل ، وأنشد :
وبيَّتَ قولِيَ عند المليك ... قاتلك الله عبداً كفوراً
وفي قوله : { غير الذي تقول } قولان .
أحدهما : غير الذي تقول الطائفة عندك ، وهو قول ابن عباس ، وابن قتيبة .
والثاني : غير الذي تقول أنت يا محمد ، وهو قول قتادة ، والسدي .
قوله تعالى : { والله يكتب ما يبيّتون } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : يكتبه في الأعمال التي تثبتها الملائكة ، قاله مقاتل في آخرين .
والثاني : ينزله إِليك في كتابه .
والثالث : يحفظه عليهم ليجازوا به ، ذكر القولين الزجاج ، قال ابن عباس : فأعرض عنهم : فلا تعاقبهم ، وثق بالله عز وجل ، وكفى بالله ثقة لك . قال : ثم نسخ هذا الإِعراض ، وأُمِر بقتالهم .
فإن قيل : ما الحكمة في أنه ابتدأ بذكرهم جملة ، ثم قال : { بيت طائفة } والكل منافقون؟ فالجواب من وجهين ، ذكرهما أهل التفسير .
أحدهما : أنه أخبر عمن سهر ليله ، ودبَّر أمرهُ منهم دون غيره منهم .
والثاني : أنه ذكر من علم أنه يبقى على نفاقه دون من علم أنه يرجع .

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)

قوله تعالى : { أفلا يتدبّرون القرآن } قال الزجاج : «التدبّر» النظر في عاقبة الشيء . و«الدّبْر» النحل ، سُمي دبراً ، لأنه يُعْقِبُ ما يُنتفع به ، و«الدّبْر» : المال الكثير ، سُمي دبراً لكثرته ، لأنه يبقى للأعقاب ، والأدبار .
وقال ابن عباس : أفلا يتدبّرون القرآن . فيتفكّرون فيه ، فيرون تصديق بعضه لبعض ، وأن أحداً من الخلائق لا يقدر عليه . قال ابن قتيبة : والقرآن من قولك : ما قرأت الناقة سلى قط ، أي : ماضمَّت في رحمها ولداً ، وأنشد أبو عبيدة :
هِجانُ اللّون لم تقرأ جنينا ... وإنما سُمي قرآنا ، لأنه جمع السور ، وضمها .
قوله تعالى : { لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه التناقض ، قاله ابن عباس ، وابن زيد ، والجمهور .
والثاني : الكذب ، قاله مقاتل ، والزجاج .
والثالث : أنه اختلاف تفاوت من جهة بليغ من الكلام ، ومرذول ، إِذ لا بدّ للكلام إِذا طال من مرذول ، وليس في القرآن إِلا بليغ ، ذكره الماوردي في جماعة .

وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)

قوله تعالى : { وإِذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتزل نساءه ، دخل عمر المسجد ، فسمع الناس يقولون : طلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، فدخل على النبي عليه السلام فسأله أطّلقت نساءك؟ قال : «لا» . فخرج فنادى : ألا إِن رسول الله لم يطلّق نساءه . فنزلت هذه الآية " فكان هو الذي استنبط الأمر . انفرد بإخراجه مسلم ، من حديث ابن عباس ، عن عمر .
والثاني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إِذا بعث سريّة من السرايا فَغَلَبَتْ أو غُلِبَت ، تحدثوا بذلك ، وأفشوه ، ولم يصبروا حتى يكون النبي هو المتحدِّث به . فنزلت هذه الآية . رواه أبو صالح ، عن ابن عباس .
وفي المشار إِليهم بهذه الآية قولان . أحدهما : أنهم المنافقون . قاله ابن عباس ، والجمهور . والثاني : أهل النفاق ، وضعفة المسلمين ، ذكره الزجاج .
وفي المراد بالأمن أربعة أقوال .
أحدها : فوز السريّة بالظفر والغنيمة ، وهو قول الأكثرين .
والثاني : أنه الخبر يأتي إِلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه ظاهر على قوم ، فيأمن منهم ، قاله الزجاج .
والثالث : أنه ما يعزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموادعة والأمان لقومٍ ، ذكره الماوردي .
والرابع : أنه الأمن يأتي من المأمَن وهو المدينة ، ذكره أبو سليمان الدمشقي مُخرجاً من حديث عمر .
وفي «الخوف» ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه النكبة التي تُصيب السريّة ، ذكره جماعة من المفسّرين .
والثاني : أنه الخبر يأتي أن قوماً يجمعون للنبي صلى الله عليه وسلم ، فيخاف منهم ، قاله الزجاج .
والثالث : ما يعزم عليه النبي من الحرب والقتال ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { أذاعوا به } قال ابن قتيبة : أشاعوه . وقال ابن جرير : والهاء عائدة على الأمر .
قوله تعالى : { ولو ردّوه } يعني : الأمر { إِلى الرسول } حتى يكون هو المخبر به { وإِلى أُولي الأمر منهم } وفيهم أربعة أقوال .
أحدها : أنهم مثل أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنهم أبو بكر ، وعمر ، قاله عكرمة .
والثالث : العلماء ، قاله الحسن ، وقتادة ، وابن جريج .
والرابع : أمراء السرايا ، قاله ابن زيد ، ومقاتل .
وفي «الذين يستنبطونه» قولان .
أحدهما : أنهم الذين يتتبعونه من المذيعين له ، قاله مجاهد .
والثاني : أنهم أُولو الأمر قاله ابن زيد . و«الاستنباط» في اللغة : الاستخراج . قال الزجاج : أصله من النبط ، وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر ، يقال من ذلك : قد أنبط فلان في غضراء ، أي : استنبط الماء من طين حُرّ . والنبط : سُموا نبطاً ، لاستنباطهم ما يخرج من الأرض . قال ابن جرير : ومعنى الآية : وإِذا جاءهم خبر عن سريّة للمسلمين بخير أو بشر أفشوه ، ولو سكتوا حتى يكون الرسول وذو الأمر يتولون الخبر عن ذلك ، فيصححوه إِن كان صحيحاً ، أو يبطلوه إِن كان باطلاً ، لعلم حقيقة ذلك من يبحث عنه من أُولى الأمر .

قوله تعالى : { ولولا فضل الله عليكم } .
في المراد بالفضل أربعة أقوال .
أحدها : أنه رسول الله .
والثاني : الإِسلام .
والثالث : القرآن .
والرابع : أُولو الأمر .
وفي الرحمة أربعة أقوال .
أحدها : أنها الوحي .
والثاني : اللّطف .
والثالث : النعمة .
والرابع : التوفيق .
قوله تعالى : { لا تبعتم الشيطان إِلا قليلاً } في معنى هذا الاستثناء ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه راجع إِلى الإِذاعة ، فتقديره : أذاعوا به إِلا قليلاً . وهذا قول ابن عباس ، وابن زيد ، واختاره الفراء ، وابن جرير .
والثاني : أنه راجع إِلى المستنبطين ، فتقديره : لَعلمه الذين يستنبطونه منهم إِلا قليلاً ، وهذا قول الحسن ، وقتادة ، واختاره ابن قتيبة . فعلى هذين القولين ، في الآية تقديم وتأخير .
والثالث : أنه راجع إلى اتِّباع الشيطان ، فتقديره : لاتبعتم الشيطان إِلا قليلاً منكم ، وهذا قول الضحاك ، واختاره الزجاج . وقال بعض العلماء : المعنى : لولا فضل الله بإرسال النبي إِليكم ، لضللتم إلا قليلاً منكم كانوا يستدركون بعقولهم معرفة الله ، ويعرفون ضلال من يَعبُد غيره ، كقس بن ساعدة .

فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)

قوله تعالى : { فقاتل في سبيل الله } سبب نزولها : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ندب الناس لموعد أبي سفيان ببدر الصُغرى بعد أُحُد ، كره بعضهم ذلك ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس . وفي «فاء» «فقاتل» قولان .
أحدهما : أنه جوابُ قوله { ومَن يُقاتِل في سبيل الله فيقتل أو يغلب } .
والثاني : أنها متصلة بقوله { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله } ذكرهما ابن السريّ . والمرادُ بسبيل الله : الجهاد .
قوله تعالى : { لا تكلف إِلا نفسك } أي : إِلا المجاهدة بنفسك . و«حرّض» بمعنى حضّض . قال الزجاج : ومعنى «عسى» في اللغة : معنى الطمع والإِشفاق . والإِطماع من الله واجب . و«البأس» : الشدّة . وقال ابن عباس : والله أشدّ عذاباً . قال قتادة : و«التنكيل» العقوبة .

مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)

قوله تعالى : { من يشفع شفاعة حسنة } في المراد بالشفاعة أربعة أقوال .
أحدها : أنها شفاعة الإِنسان للانسان ، ليجتلب له نفعاً ، أو يُخلصه من بلاء ، وهذا قول الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن زيد .
والثاني : أنها الإِصلاح بين اثنين ، قاله ابن السائب .
والثالث : أنه الدعاء للمؤمنين والمؤمنات ، ذكره الماوردي .
والرابع : أن المعنى : مَن يَصرْ شفعاً لوِترِ أصحابك يا محمد ، فيشفعهم في جهاد عدوهم وقتالهم في سبيل الله ، قاله ابن جرير ، وأبو سليمان الدمشقي .
وفي الشفاعة السيئة ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها السعي بالنميمة ، قاله ابن السائب ، ومقاتل .
والثاني : أنها الدّعاء على المؤمنين والمؤمنات ، وكانت اليهود تفعله ، ذكره الماوردي .
والثالث : أن المعنى : من يشفع وتر أهل الكفر ، فيقاتل المؤمنين ، قاله ابن جرير ، وأبو سليمان الدمشقي . قال الزجاج : و«الكفل» في اللغة : النصيب ، وأخذ من قولهم : اكتفلت البعير : إِذ أدرت على سنامه ، أو على موضع من ظهره كِساء ، وركبتَ عليه . وإِنما قيل له : كِفل ، لأنه لم يستعمل الظهر كله ، وإِنما استعمل نصيباً منه . وفي «المقيت» سبعة أقوال .
أحدها : أنه المقتدر ، قال أحيحة بن الجلاّح :
وذي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفس عنه ... وكنتُ على مساءته مُقيتاً
وإِلى هذا المعنى ذهب ابن عباس ، وابن جرير ، والسدي ، وابن زيد ، والفراء ، وأبو عبيد ، وابن قتيبة ، والخطّابي .
والثاني : أنه الحفيظ ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والزجاج . وقال : هو بالحفيظ أشبه ، لأنه مشتقّ من القوت ، يقال : قُتُّ الرجل أقوته قوتاً : إِذا حفظت عليه نفسه بما يقوته . والقوت : اسم الشيء الذي يحفظ نفسه [ ولا فضل فيه على قدر الحفظ ] ، فمعنى المقيت : الحافظ الذي يعطي الشيء على قدر الحاجة من الحفظ . قال الشاعر :
أليَ الفَضْلُ أمْ عليّ إِذا حُو ... سبْتُ إِنّي على الحساب مُقيتُ
والثالث : أنه الشهيد ، رواه ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، واختاره أبو سليمان الدمشقي .
والرابع : أنه الحسيب ، رواه خصيف عن مجاهد .
والخامس : الرقيب ، رواه أبو شيبة عن عطاء .
والسادس : الدائم ، رواه ابن جريج عن عبد الله بن كثير .
والسابع : أنه معطي القوت ، قاله مقاتل بن سليمان . وقال الخطّابي : المقيت يكون بمعنى معطي القوت ، قال الفراء : يقال : قاته وأقاته .

وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)

قوله تعالى : { وإِذا حييتم بتحية } في التحيّة قولان .
أحدهما : أنها السلام ، قاله ابن عباس ، والجمهور .
والثاني : الدّعاء ، ذكره ابن جرير ، والماوردي . فأما «أحسن منها» فهو الزيادة عليها ، وردها : قول مثلها . قال الحسن : إِذا قال أخوك المسلم : السلام عليكم ، فردَّ السلام ، وزد : ورحمة الله . أو رُد ما قال ولا تزد . وقال الضحاك : إِذا قال : السلام عليك ، قلت : وعليكم السلام ورحمة الله . وإِذا قال السلام عليكم ورحمة الله ، قلتَ : وعليكم السلام ، ورحمة الله وبركاته ، وهذا منتهى السلام . وقال قتادة : بأحسن منها للمسلم ، أو ردّوها على أهل الكتاب .

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)

قوله تعالى : { الله لا إله إلا هو } قال مقاتل : نزلت في الذين شكّوا في البعث . قال الزجاج : واللام في «لَيجمعنكم» لام القسم ، كقولك : واللهِ ليجمعنّكم ، قال : وجائِز أن تكون سُميت القيامة ، لقيام الناس من قبورهم ، وجائِز أن تكون ، لقيامهم للحساب .
قوله تعالى : { ومن أصدق من الله حديثاً } إِنما وصف نفسه بهذا ، لأن جميع الخلق يجوز عليهم الكذب ، ويستحيل في حقه .

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)

قوله تعالى : { فما لكم في المنافقين فئتين } في سبب نزولها سبعة أقوال .
أحدها : أن قوماً أسلموا ، فأصابهم وَبَاء بالمدينة وحِماها ، فخرجوا فاستقبلهم نفرٌ من المسلمين ، فقالوا : ما لكم خرجتم؟ قالوا : أصابنا وباء بالمدينة ، واجتويناها ، فقالوا : أما لكم في رسول الله أسوةٌ؟ فقال بعضهم : نافقوا ، وقال بعضهم : لم ينافقوا ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه .
والثاني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إِلى أُحد ، رجع ناسٌ ممن خرج معه ، فافترق فيهم أصحاب رسول الله ، ففرقة تقول : نقتلهم ، وفرقة تقول : لا نقتلهم ، فنزلت هذه الآية ، هذا في " الصحيحين " من قول زيد بن ثابت .
والثالث : أن قوماً كانوا بمكة تكلموا بالإِسلام وكانوا يعاونون المشركين ، فخرجوا من مكة لحاجة لهم ، فقال قوم من المسلمين : اخرجوا إِليهم ، فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عدوّكم . وقال قوم : كيف نقتلهم وقد تكلموا بمثل ما تكلمنا به؟ فنزلت هذه الآية ، رواه عطية ، عن ابن عباس .
والرابع : أن قوماً قدموا المدينة فأظهروا الإِسلام ، ثم رجعوا إلى مكة ، فأظهروا الشرك ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول الحسن ، ومجاهد .
والخامس : أن قوماً أعلنوا الإِيمان بمكة وامتنعوا من الهجرة ، فاختلف المؤمنون فيهم ، فنزلت هذه الآية ، وهذا قول الضحاك .
والسادس : أن قوماً من المنافقين أرادوا الخروج من المدينة ، فقالوا للمؤمنين : إِنه قد أصابتنا أوجاع في المدينة ، فلعلنا نخرج فنتماثل ، فإنا كنا أصحاب بادية ، فانطلقوا واختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية . هذا قول السدي .
والسابع : أنها نزلت في شأن ابن أُبيّ حين تكلّم ، في عائشة بما تكلّم ، وهذا قول ابن زيد .
وقوله تعالى : { فما لكم } خطاب للمؤمنين . والمعنى : أي شيء لكم في الاختلاف في أمرهم؟ و«الفئة» الفرقة . وفي معنى «أركسهم» أربعة أقوال .
أحدها : ردّهم ، رواه عطاء ، عن ابن عباس . قال ابن قتيبة : ركست الشيء ، وأركسته : لغتان ، أي : نكسهم وردهم في كفرهم ، وهذا قول الفراء ، والزجاج .
والثاني : أوقعهم ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس .
والثالث : أهلكهم ، قاله قتادة .
والرابع : أضلّهم ، قاله السدّي .
فأما الذي كسبوا ، فهو كفرهم ، وارتدادهم . قال أبو سليمان : إِنما قال : أتريدون أن تهدوا مَن أضل الله ، لأن قوماً من المؤمنين قالوا : إِخواننا ، وتكلموا بكلمتنا .
قوله تعالى : { فلن تجدَ له سبيلاً } فيه قولان .
أحدهما : إِلى الحجة ، قاله الزجاج .
والثاني : إِلى الهدى ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)

قوله تعالى : { ودوا لو تكفرون كما كفروا } أخبر الله عز وجل المؤمنين بما في ضمائِر تلك الطائِفة ، لئلا يحسنوا الظن بهم ، ولايجادلوا عنهم ، وليعتقدوا عداوتهم .
قوله تعالى : { فلا تتخذوا منهم أولياء } أي لا توالوهم فإنهم أعداء لكم { حتى يهاجروا } أي : يرجعوا إِلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عباس : فإن تولوا عن الهجرة والتوحيد ، { فخذوهم } أي : ائسروهم ، واقتلوهم حيث وجدتموهم في الحِل والحرم .
فصل
قال القاضي أبو يعلى : كانت الهجرة فرضاً إِلى أن فتحت مكة . وقال الحسن : فرض الهجرة باق ، واعلم أن الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب :
من تجب عليه ، وهو الذي لا يقدر على إِظهار الإِسلام في دار الحرب ، خوفاً على نفسه ، وهو قادرٌ على الهجرة ، فتجب عليه لقوله { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } .
والثاني : من لا تجب عليه بل تستحب له ، وهو من كان قادراً على إِظهار دينه في دار الحرب .
والثالث : من لا تستحب له وهو الضعيف الذي لا يقدر على إِظهار دينه ، ولا على الحركة كالشيخ الفاني والزّمِن فلم تستحب له للحوق المشقة .

إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)

قوله تعالى : { إِلا الذين يصلون } هذا الاستثناء راجع إِلى القتل ، لا إِلى الموالاة .
وفي «يصلون» قولان .
أحدهما : أنه بمعنى يتّصلون ويلجؤون . قال ابن عباس : كان هلال بن عويمر الأسلمي وادَع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يُعينه ولا يُعين عليه . فكان من وصل إِلى هلال من قومه وغيرهم فلهم من الجوار مثل ما لهلال .
والثاني : أنه بمعنى ينتسبون قاله ابن قتيبة ، وأنشد :
إِذا اتَّصلَتْ قالتْ أبكرَ بنَ وائلٍ ... وبكرٌ سَبَتْها والأنوفُ رواغمُ
يريد : إِذا انتسبت قالت : أبكراً ، أي : يا آل بكر .
وفي القوم المذكورين أربعة أقوال .
أحدها : أنهم بنو بكر بن زيد مناة ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنهم هلال بن عويمر الأسلمي ، وسراقة بن مالك ، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف ، قاله عكرمة .
والثالث : أنهم بنو مدلج ، قاله الحسن .
والرابع : خزاعة وبنو مدلج ، قاله مقاتل . قال ابن عباس : و«الميثاق» : العهد .
قوله تعالى : { أو جاؤوكم } فيه قولان .
أحدهما : أن معناه : أو يصلون إِلى قوم جاؤوكم ، قاله الزجاج في جماعة .
والثاني : أنه يعود إِلى المطلوبين للقتل ، فتقديره : أو رجعوا فدخلوا فيكم ، وهو بمعنى قول السدي .
قوله تعالى : { حصرت صدورُهم } فيه قولان .
أحدهما : أن فيه إِضمار «قد» .
والثاني : أنه خبرٌ بعد خبر ، فقوله { جاؤوكم } : خبرٌ قد تم ، وحصِرت : خبرٌ مستأنف ، حكاهما الزجاج . وقرأ الحسن ، ويعقوب ، والمفضل ، عن عاصم : { حَصِرةً صدورُهم } على الحال . و«حصرت» : ضاقت ، ومعنى الكلام : ضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم وبينهم ، أو يقاتلوا قومَهم ، يعني قريشاً .
قال مجاهد : هلال بن عويمر هو الذي حصِر صَدرُه أن يقاتلكم ، أو يقاتل قومه .
قوله تعالى : { ولو شاء الله لسلّطهم عليكم } قال الزجاج : أخبر أنه إِنما كفّهم بالرعب الذي قذف في قلوبهم . وفي «السلم» قولان .
أحدهما : أنه الإِسلام ، قاله الحسن .
والثاني : الصُلح ، قاله الربيع ، ومقاتل .
فصل
قال جماعة من المفسّرين : معاهدة المشركين وموادعتهم المذكورة في هذه الآية منسوخة بآية السيف . قال القاضي أبو يعلى : لما أعزّ الله الإِسلام أُمروا أن لا يقبلوا من مشركي العرب إِلاَّ الإِسلام أو السيف .

سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)

قوله تعالى : { ستجدون آخرين } اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في أسد وغطفان ، كانوا قد تكلموا بالإِسلام ليأمنوا المؤمنين بكلمتهم ، ويأمنوا قومهم بكفرهم ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس .
والثاني : أنها نزلت في بني عبد الدار ، رواه الضحاك ، عن ابن عباس .
والثالث : أنها نزلت في قوم أرادوا أخذ الأمان من النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا ، قاله قتادة .
والرابع : أنها نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي ، كان يأمن في المسلمين والمشركين ، فينقل الحديث بين النبي عليه السلام وبينهم ، ثم أسلم نُعيم ، هذا قول السدي . ومعنى الآية : ستجدون قوماً يظهرون الموافقة لكم ولقومهم ، ليأمنوا الفريقين ، كلما دعوا إلى الشرك ، عادوا فيه ، فان لم يعتزلوكم في القتال ، ويلقوا إليكم الصلح ، و يكفّوا أيديهم عن قتالكم ، فخذوهم ، أي : ائسروهم ، واقتلوهم حيث أدركتموهم ، وأولائكم جعلنا لكم عليهم حجة بيّنة في قتلهم .
فصل
قال أهل التفسير : والكف عن هؤلاء المذكورين في هذه الآية منسوخ بآية السيف .

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)

قوله تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إِلا خطأ } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن عياش بن أبي ربيعة أسلم بمكة قبل هجرة رسول الله ، ثم خاف أن يظهر إِسلامه لقومه ، فخرج إِلى المدينة فقالت أُمُّه لابنيها أبي جهل ، والحارث ابني هشام ، وهما أخواه لأمّه : والله لا يُظلّني سقف ، ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى تأتياني به . فخرجا في طلبه ، ومعهما الحارث بن زيد ، حتى أتوا عيّاشاً وهو مُتحَصّنٌ في أُطُم ، فقالوا له : انزل فإن أُمّك لم يُؤوها سقفٌ ، ولم تذق طعاماً ، ولا شراباً ، ولك علينا أن لا نحول بينكَ وبين دينك ، فنزل ، فأوثقوه ، وجلده كلُّ واحد منهم مائة جلدة ، فقدموا به على أُمّه ، فقالت : والله لا أحلّك من وثاقك حتى تكفر ، فطُرِحَ موثقاً في الشمس حتى أعطاهم ما أرادوا ، فقال له الحارث بن زيد : يا عياش لئن كان ما كنت عليه هدى لقد تركته ، وإِن كان ضلالاً لقد ركبته . فغضب ، وقال : والله لا ألقاك خالياً إلا قتلتك ، ثم أفلت عياش بعد ذلك ، وهاجر إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، ثم أسلم الحارث بعده ، وهاجر ولم يعلم عياش ، فلقيه يوماً فقتله ، فقيل له : إِنه قد أسلم ، فجاء إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان ، وقال : لم أشعر باسلامه ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس . وهو قول سعيد بن جبير ، والسدّي ، والجمهور .
والثاني : أن أبا الدرداء قتل رجلاً قال لا إِله إِلا الله في بعض السّرايا ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر له ما صنع ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن زيد .
قال الزجاج : معنى الآية : وما كان لمؤمنٍ أن يقتل مؤمناً البتّة . والاستثناء ليس من الأول ، وإِنمالمعنى : إِلا أن يُخطيء المؤمن . وروى أبو عبيدة ، عن يونس : أنه سأل رؤبة عن هذه الآية ، فقال : ليس له أن يقتله عمداً ولا خطأ ، ولكنّه أقام «إِلا» مقام «الواو» قال الشاعر :
وكلُّ أخٍ مُفَارقُه أخوهُ ... لَعَمْرُ أبيكَ إِلاَّ الفَرقَدَانِ
أرَادَ : والفَرْقَدَانِ . وقال بعضُ أهل المعاني : تقديرُ الآية : لكن قد يقتله خطأ ، وليس ذلك فيما جعل الله له ، لأن الخطأ لا تصح فيه الإِباحة ، ولا النهي . وقيل : إِنما وقع الاستثناء على ما تضمنته الآية من استحقاق الإثم ، وإِيجاب القتل .
قوله تعالى : { فتحريرُ رَقَبَةٍ مُؤمِنةٍ } قال سعيدُ بنُ جبير : عتق الرقبة واجبٌ على القاتِل في ماله ، واختلفوا في عتق الغلام الذي لا يصح منه فعل الصلاة والصيام ، فروي عن أحمد جوازه ، وكذلك روى ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وهذا قول عطاء ، ومجاهد . وروي عن أحمد : لا يجزئ إِلا من صام وصلى ، وهو قول ابن عباس .

في رواية ، والحسن ، والشعبي ، وإِبراهيم ، وقتادة .
قوله تعالى : { ودية مسلمة إِلى أهله } قال القاضي أبو يعلى : ليس في هذه الآية بيان من تلزمه هذه الدية ، واتفق الفقهاء على أنها عاقلة القاتل ، تحملها عنه على طريق المواساة ، وتلزم العاقلة في ثلاث سنين . كل سنة ثلثها . والعاقلة : العصبات من ذوي الأنساب ، ولا يلزم الجاني منها شيء ، وقال أبو حنيفة : هو كواحد من العاقلة .
وللنفس ستة أبدال : من الذهب ألف دينار ، ومن الوَرِق اثنا عشر ألف درهم ، ومن الإِبل مائة ، ومن البقر مائتا بقرة ، ومن الغنم ألفا شاة ، وفي الحلل روايتان عن أحمد . إِحداهما : أنها أصل ، فتكون مائتا حلة ، فهذه دية الذكر الحرّ المسلم ، ودية الحُرّة المسلمة على النصف من ذلك .
قوله تعالى : { إِلا أن يصّدقوا } قال سعيد بن جبير : إِلا أن يتصدّق أولياء المقتول بالدية على القاتل .
قوله تعالى : { فإن كان من قوم عدوٍ لكم وهو مؤمن } فيه قولان .
أحدهما : أن معناه : وإِن كان المقتول خطأ من قوم كفار ، ففيه تحرير رقبة من غير دية ، لأن أهل ميراثه كفار .
والثاني : وإِن كان مقيماً بين قومه ، فقتله من لا يعلم بإيمانه ، فعليه تحرير رقبة ولا دية ، لأنه ضيّع نفسه بإقامته مع الكفار ، والقولان مرويان عن ابن عباس ، وبالأول قال النخعي ، وبالثاني سعيد بن جبير ، وعلى الأول تكون «مِن» للتبعيض ، وعلى الثاني تكون بمعنى في .
قوله تعالى : { وإِن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } فيه قولان .
أحدهما : أنه الرجل من أهل الذّمة يُقتل خطأ ، فيجب على قاتله الدية ، والكفارة ، هذا قول ابن عباس ، والشعبي ، وقتادة ، والزهري ، وأبي حنيفة ، والشافعي . ولأصحابنا تفصيل في مقدار ما يجب من الدية .
والثاني : أنه المؤمن يقتل ، وقومه مشركون ، ولهم عقد ، فديته لقومه ، وميراثه للمسلمين ، هذا قول النخعي .
قوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } اختلفوا هل هذا الصيام بدل من الرقبة وحدها إِذا عدِمها أو بدل من الرقبة والدية؟ فقال الجمهور : عن الرقبة وحدها ، وقال مسروق ، ومجاهد ، وابن سيرين : عنهما . واتفق العلماء على أنه إِذا تخلّل صوم الشهرين إِفطار لغير عذر ، فعليه الابتداء ، فأما إِذا تخللها المرض ، أو الحيض ، فعندنا لا ينقطع التتابع ، وبه قال مالك . وقال أبو حنيفة : المرض يقطع ، والحيض لا يقطع ، وفرق بينهما بأنه يمكن في العادة صوم شهرين بلا مرض ، ولا يمكن ذلك في الحيض ، وعندنا أنها معذورة في الموضعين .
قوله تعالى : { توبة من الله } قال الزجاج : معناه فعل الله ذلك توبة منه .
قوله { وكان الله عليماً } أي : لم يزل عليماً بما يُصلح خلقه من التكليف { حكيماً } فيما يقضي بينهم ، ويدبّره في أمورهم .

وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)

قوله تعالى : { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } سبب نزولها : أن مقيس بن صُبابة وجد أخاه هشام بنُ صبابة قتيلاً في بني النّجار ، وكان مسلماً ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فأرسل رسول الله رسولاً من بني فهر ، فقال له : إِيت بني النجّار ، فأقرئهم مني السلام ، وقل لهم : إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إِن علمتم قاتل هشام ، فادفعوه إِلى مقيس بن صُبابة ، وإِن لم تعلموا له قاتلاً ، فادفعوا إِليه ديته ، فأبلغهم الفهري ذلك ، فقالوا : والله ما نعلم له قاتلاً ، ولكنّا نعطي ديته ، فأعطوه مائة من الإِبل ، ثم انصرفا راجعين إِلى المدينة ، فأتى الشيطان مقيس بن صُبابة ، فقال : تقبل دية أخيك ، فيكون عليك سبّة ما بقيت . اقتل الذي معك مكان أخيك ، وافضل بالدية ، فرما الفهري بصخرةٍ فشدخ رأسه ، ثم ركب بعيراً منها ، وساق بقيّتها راجعاً إلى مكة ، وهو يقول :
قتلت به فهراً وحمَّلْتُ عقلهُ ... سُراةَ بني النّجار أرباب فارِع
وأدركت ثأري واضَّطجعْتُ موسداً ... وكنت إِلى الأصنام أول راجع
فنزلت هذه الآية ، ثم أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح ، فقتل ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس . وفي قوله { متعمداً } قولان .
أحدهما : متعمداً لأجل أنه مؤمن . قاله سعيد بن جبير .
والثاني : متعمداً لقتله ، ذكره بعض المفسرين . وفي قوله { فجزاؤه جهنم } قولان .
أحدهما : أنها جزاؤه قطعاً .
والثاني : أنها جزاؤه إِن جازاه . واختلف العلماء هل للمؤمن إِذا قتل مؤمناً متعمداً توبة أم لا؟ فذهب الأكثرون إِلى أن له توبة ، وذهب ابن عباس إِلى أنه لا توبة له .
فصل
اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة؟ فقال قوم : هي محكمة ، واحتجّوا بأنها خبرٌ ، والأخبار لا تحتمل النسخ ، ثم افترق هؤلاء فرقتين ، إِحداهما قالت : هي على ظاهرها ، وقاتل المؤمن مخلد في النار . والفرقة الثانية قالت : هي عامة قد دخلها التخصيص بدليل أنه لو قتله كافر ، ثم أسلم الكافر ، انهدرت عنه العقوبة في الدنيا والآخرة ، فإذا ثبت كونها من العامّ المخصّص ، فأي دليل صلح للتخصيص ، وجب العمل به . ومن أسباب التخصيص أن يكون قَتله مستحلاً ، فيستحق الخلود لاستحلاله . وقال قومٌ : هي مخصوصة في حقّ من لم يَتُب ، واستدلوا بقوله تعالى في الفرقان : { إِلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فاؤلئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيمًا } [ الفرقان : 70 ] . وقال آخرون : هي منسوخة بقوله : { إِن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إِذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا } في سبب نزولها أربعة أقوال .
أحدها : " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سريّة فيها المقداد بن الأسود ، فلما أتوا القوم ، وجدوهم قد تفرقوا ، وبقي رجل له مالٌ كثير لم يبرح ، فقال : أشهد أن لا إِله إِلا الله ، فأهوى إِليه المقداد فقتله . فقال له رجل من أصحابه : أقتلت رجلاً يشهد أن لا إِله إِلا الله؟! لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله إِن رجلاً شهد أن لا إِله إِلا الله ، فقتله المقداد ، فقال : ادعوا لي المقداد فقال : يا مقداد أقتلت رجلاً قال : لا إِله إِلا الله ، فكيف لك ب «لا إِله إِلا الله غداً»! قال : فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا إِذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إِليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمنَّ الله عليكم فتبينوا } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد : كان رجل مؤمن يخفي إِيمانه مع قوم كفار ، فأظهر إِيمانه فقتلته؟ وكذلك كنت تخفي إِيمانك بمكة قبل " رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثاني : أن رجلاً من بني سليم مرَّ على نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه غنم ، فسلم ، فقالوا : ما سلّم عليكم إِلا ليتعوّذ [ منا ] ، فعمدوا إِليه فقتلوه ، وأخذوا غنمه ، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية رواه عكرمة ، عن ابن عباس .
والثالث : أن قوماً من أهل مكة سمعوا بسريّة لرسول الله أنها تُريدُهم فهربوا ، وأقام رجل منهم كان قد أسلم ، يقال له : مرداس ، وكان على السريّة رجل ، يقال له : غالب بن فضالة ، فلما رأى مرداس الخيل ، كبر ، ونزل إِليهم ، فسلم عليهم ، فقتله أسامة بن زيد ، واستاق غنمه ، ورجعوا إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجداً شديداً ، ونزلت هذه الآية . رواه أبو صالح عن ابن عباس . وقال السدي : كان أسامة أمير السريّة .
والرابع : أن رسول الله بعث أبا حدرد الأسلمي ، وأبا قتادة ، ومحلِّم بن جثامة في سريّة إِلى إِضم ، فلقوا عامر بن الأضبط الأشجعي ، فحيّاهم بتحية الإِسلام ، فحمل عليه محلم بن جثامة ، فقتله ، وسلبه بعيراً وسقاء . فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ، أخبروه فقال : أقتلته بعد ما قال آمنت؟! ونزلت هذه الآية . رواه ابن أبي حدرد ، عن أبيه .
فأما التفسير ، فقوله { إِذا ضربتم في سبيل الله } أي : سرتم وغزوتم .

وقوله { فتبيّنوا } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : فتبيّنوا بالنون من التبيين للأمر قبل الإِقدام عليه . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف { فتثبّتوا } بالثاء من الثبات وترك الاستعجال ، وكذلك قرؤوا في ( الحجرات ) .
قوله تعالى : { لمن ألقى إِليكم السلام } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر ، وحفص ، عن عاصم ، والكسائي : «السلام» بالألف مع فتح السين . قال الزجاج : يجوز أن يكون بمعنى التسليم ، ويجوز أن يكون بمعنى الاستسلام . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، وخلف ، وجبَلة عن المفضل عن عاصم : { السلم } بفتح السين واللام من غير ألف ، وهو من الاستسلام . وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم : بكسر السّين وإِسكان اللام من غير ألف . و«السلم» : الصُلح . وقرأ الجمهور : لست مؤمناً ، بكسر الميم ، وقرأ علي ، وابن عباس ، وعكرمة ، وأبو العالية ، ويحيى بن يعمر ، وأبو جعفر : بفتح الميم من الأمان .
قوله تعالى : { تبتغون عرض الحياة الدنيا } و«عرضها» ما فيها من مال ، قلَّ أو كثر . قال المفسّرون : والمراد به : ما غنموه من الرجل الذي قتلوه .
قوله تعالى : { فعند الله مغانمُ كثيرة } فيه قولان .
أحدهما : أنه ثواب الجنة ، قاله مقاتل .
والثاني : أنها أبواب الرّزق في الدنيا ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { كذلك كنتم من قبل } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن معناه : كذلك كنتم تأمنون من قومكم المؤمنين بهذه الكلمة ، فلا تُخيفوا من قالها ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : كذلك كنتم تُخفون إِيمانكم بمكة كما كان هذا يخفي إِيمانه ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثالث : كذلك كنتم من قبل مشركين ، قاله مسروق ، وقتادة ، وابن زيد .
قوله تعالى : { فمن الله عليكم } في الذي مَنّ به أربعة أقوال .
أحدها : الهجرة ، قاله ابن عباس .
والثاني : إِعلان الإِيمان ، قاله سعيد بن جبير .
والثالث : الإِسلام ، قاله قتادة ، ومسروق .
والرابع : التوبة على الذي قتل ذلك الرجل ، قاله السدي .
قوله تعالى : { فتبينوا } تأكيد للأول .

لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)

قوله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } قال أبو سليمان الدمشقي : نزلت هذه الآية من أجل قوم كانوا إِذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود .
وقال زيد بن ثابت : إِني لقاعد إِلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إِذ غشيَته السكينة ، ثم سرِّي عنه ، فقال : «اكتب» { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون } الآية ، فقام ابن أمِّ مكتوم ، فقال : يا رسول الله ، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد؟ فوالله ما قضى كلامَه حتى غشيت رسول الله السكينة ، ثم سرِّي عنه ، فقال : اقرأ فقرأت لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { غيرَ أولي الضرر } فألحقتها .
قوله تعالى : { لا يستوي القاعدون } يعني عن الجهاد ، والمعنى : أن المجاهد أفضل . قال ابن عباس : وأُريد بهذا الجهاد غزوة بدر . وقال مقاتل : غزاة تبوك .
قوله تعالى : { غير أولي الضرر } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة : { غيرُ } برفع الرّاء ، وقرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وخلف ، والمفضل : بنصبها . قال أبو علي : من رفع الراء ، جعل «غير» صفة للقاعدين ، ومن نصبها ، جعلها استثناءً من القاعدين . وفي «الضرر» قولان .
أحدهما : أنه العجز بالزّمانة والمرض ، ونحوهما . قال ابن عباس : هم قوم كانت تحبسهم عن الغزاة أمراض وأوجاع . وقال ابن جبير ، وابن قتيبة : هم أولو الزّمانة . وقال الزجاج : الضرر : أن يكون ضريراً أو أعمى أو زمناً .
والثاني : أنه العذر ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
قوله تعالى : { فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } في هؤلاء القاعدين قولان .
أحدهما : أنهم القاعدون بالضرر ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : القاعدون من غير ضرر ، قاله أبو سليمان الدمشقي . قال ابن جرير : والدرجة : الفضيلة . فأما الحسنى فهي الجنة في قول الجماعة .
قوله تعالى : { وفضل الله المجاهدين على القاعدين } قال ابن عباس : القاعدون هاهنا : غير أولي الضرر ، وقال سعيد بن جبير : هم الذين لا عذر لهم .

دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)

قوله تعالى : { درجات منه } قال الزجاج : درجات في موضع نصب بدلاً من قوله أجراً عظيماً ، وهو مفسر للأجر . وفي المراد بالدرجات قولان .
أحدهما : أنها درجات الجنة ، قال ابن مُحيريز : الدرجات : سبعون درجة ما بين كل درجتين حُضْرُ الفرس الجواد المضَّمرِ سبعين سنة ، وإِلى نحوه ذهب مقاتل .
والثاني : أن معنى الدرجات : الفضائل ، قاله سعيد بن جبير . قال قتادة : كان يقال : الإِسلام درجة ، والهجرة في الإِسلام درجة ، والجهاد في الهجرة درجة ، والقتل في الجهاد درجة .
وقال ابن زيد : الدرجات : هي السبع التي ذكرها الله تعالى في براءة حين قال : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأٌ . . . } [ التوبة : 120 ] إِلى قوله : { ولا يقطعون وادياً إِلا كتب لهم . . . } [ التوبة : 121 ] فان قيل ما الحكمة في أن الله تعالى ذكر في أول الكلام درجة ، وفي آخره درجات؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أن الدرجة الأولى تفضيل المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر منزلة . والدرجات : تفضيل المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر منازل كثيرة ، وهذا معنى قول ابن عباس .
والثاني : أن الدرجة الأولى درجة المدح والتعظيم ، والدرجات : منازل الجنة ، ذكره القاضي أبو يعلى .

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)

قوله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أن أناساً كانوا بمكة قد أقروا بالإِسلام ، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إِلى بدر لم تدع قريش أحداً إِلا أخرجوه معهم ، فقتل أولئك الذين أقروا بالإِسلام ، فنزلت فيهم هذه الآية ، رواه عكرمة عن ابن عباس . وقال قتادة : نزلت في أناس تكلموا بالإِسلام فخرجوا مع أبي جهل ، فقتلوا يوم بدر ، واعتذروا بغير عذر ، فأبى الله أن يقبل منهم .
والثاني : أن قوماً نافقوا يوم بدر ، وارتابوا ، وقالوا : غرّ هؤلاء دينهم وأقاموا مع المشركين حتى قتلوا ، فنزلت فيهم هذه الآية . رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : أنها نزلت في قوم تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يخرجوا معه ، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي ، ضربت الملائكة وجهه ودبره ، رواه العوفي عن ابن عباس . وفي «التوّفي» قولان .
أحدهما : أنه قبض الأرواح بالموت ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : الحشر إِلى النار ، قاله الحسن . قال مقاتل : والمراد بالملائكة ملك الموت وحده .
وقال في موضع آخر : ملك الموت وأعوانه ، وهم ستة ، ثلاثة يَلون أرواح المؤمنين ، وثلاثة يَلون أرواح الكفّار . قال الزجاج : «ظالمي أنفسهم» نصب على الحال ، والمعنى : تتوفّاهم في حال ظلمهم أنفسهم ، والأصل . ظالمين ، لأن النون حذفت استخفافاً . فأما ظلمهم لأنفسهم ، فيحتمل على ما ذكر في قصّتهم أربعة أقوال .
أحدها : أنه ترك الهجرة ،
والثاني : رجوعهم إلى الكفر ،
والثالث : الشك بعد اليقين .
والرابع : إِعانة المشركين .
قوله تعالى : { فيم كنتم } قال الزجاج : هو سؤال توبيخ ، والمعنى : كنتم في المشركين أو في المسلمين .
قوله تعالى : { قالوا كنّا مستضعفين في الأرض } قال مقاتل : كنا مقهورين في أرض مكة ، لا نستطيع أن نذكر الإِيمان ، قالت الملائكة : { ألم تكن أرض الله واسعة } يعني المدينة { فتهاجروا فيها } يعني : إليها . وقول الملائكة لهم يدل على أنهم كانوا يستطيعون الهجرة .

إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)

قوله تعالى : { إِلا المستضعفين } سبب نزولها : أن المسلمين قالوا في حق المستضعفين من المسلمين بمكة : هؤلاء بمنزلة الذين قتلوا ببدر ، فنزلت هذه الآية . قاله مجاهد . قال الزجاج : «المستضعفين» نصب على الاستثناء من قوله : { مأواهم جهنم } قال أبو سليمان : «المستضعفون» ذوو الأسنان ، والنساء ، والصبيان .
قوله تعالى : { لا يستطيعون حيلة } أي : لا يقدرون على حيلة في الخروج من مكة ولا على نفقةٍ ، ولا قوّةٍ .
وفي قوله تعالى : { ولا يهتدون سبيلاً } قولان .
أحدهما : أنهم لا يعرفون الطريق إِلى المدينة ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد .
والثاني : أنهم لا يعرفون طريقاً يتوجّهون إِليه ، فإن خرجوا هلكوا ، قاله ابن زيد . وفي «عسى» قولان . أحدهما : أنها بمعنى الإِيجاب ، قاله الحسن . والثاني : أنها بمعنى الترجّي . فالمعنى : أنهم يرجون العفو ، قاله الزجاج .

وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)

قوله تعالى : { يجد في الأرض مُراغماً كثيراً وسعةً } قال سعيد بنُ جبير ، ومجاهد : متزحزحاً عما يكره . وقال ابن قتيبة : المراغم والمهاجر : واحد ، يقال : راغمت وهاجرت ، وأصله : أن الرجل كان إِذا أسلم ، خرج عن قومه مُراغِماً ، أي : مغاضِباً لهم ، ومهاجِراً ، أي : مقاطِعاً من الهجران ، فقيل للمذهب : مراغم ، وللمصير إلى النبي عليه السلام هجرة ، لأنها كانت بهجرة الرجل قومه . [ قال الجعدي : عزيزُ المراغَم والمذهب ] .
وفي السّعة قولان أحدهما : أنها السّعة في الرّزق ، قاله ابن عباس ، والجمهور .
والثاني : التمكّن من إِظهار الدين ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { ومن يخرج من بيته مهاجراً إِلى الله ورسوله } اتفقوا على أنه نزل في رجل خرج مهاجراً ، فمات في الطريق ، واختلفوا فيه على ستة أقوال .
أحدها : أنه ضمرة بن العيص ، وكان ضريراً موسِراً ، فقال : احملوني فحمل ، وهو مريض ، فمات عند التنعيم ، فنزل فيه هذا الكلام ، رواه سعيد بن جبير .
والثاني : أنه العيص بن ضمرة بن زنباع الخزاعي أمر أهله أن يحملوه على سريره ، فلما بلغ التنعيم ، مات ، فنزلت فيه هذه الآية ، رواه أبو بشر عن سعيد ابن جبير .
والثالث : أنه ابن ضمرة الجندعي مرض ، فقال لبنيه ، أخرجوني من مكة ، فقد قتلني غمّها ، فقالوا : أين؟ فأومأ بيده نحو المدينة ، يريد الهجرة ، فخرجوا به ، فمات في الطريق ، فنزل فيه هذا ، ذكره ابن إِسحاق . وقال مقاتل : هو جُندب بن ضمرة .
والرابع : أن اسمه سبرة ، فلما نزل قوله : { إِن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } إِلى قوله { مراغماً كثيراً } قال لأهله وهو مريض : احملوني ، فإني موسِر ، ولي من المال ما يُبلغني إِلى المدينة ، فلما جاوز الحرم ، مات . فنزل فيه هذا ، قاله قتادة .
والخامس : أنه رجل من بني كنانة هاجر ، فمات في الطريق ، فسخر منه قومُه ، فقالوا : لا هو بلغ ما يريد ، ولا أقام في أهله حتى يدفن ، فنزل فيه هذا ، قاله ابن زيد .
والسادس : أنه خالد بن حزام أخو حكيم بن حزام ، خرج مهاجراً ، فمات في الطريق ، ذكره الزبير بن بكّار ، وقوله : «وقع» معناه : وجب .

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)

قوله تعالى : { وإِذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } روى مجاهد عن أبي عياش الزَّرقي قال : كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسفان ، وعلى المشركين خالد بن الوليد ، [ قال ] : فصلينا الظهر ، فقال المشركون : لقد أصبنا غِرّة ، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة ، فنزلت آية القصر فيما بين الظهر والعصر . والضرب في الأرض : السفر ، والجُناح : الإِثم ، والقصر : النقص ، والفتنة : القتل . وفي القصر قولان .
أحدهما : أنه القصر مِن عدد الركعات .
والثاني : أنه القصرُ من حدودها . وظاهر الآية يدل على أن القصر لا يجوز إِلا عند الخوف ، وليس الأمر كذلك ، وإِنما نزلت الآية على غالب أسفار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو . وقيل : إِن قوله { أن تقصروا من الصلاة } كلام تام . وقوله : { إِن خفتم } كلامٌ مبتدأ ، ومعناه : وإِن خفتم .
واختلف العلماء هل صلاة المسافر ركعتين مقصورة أم لا؟ فقال قوم : ليست مقصورة ، وإِنما فرض المسافر ذلك ، وهو قول ابن عمر ، وجابر بن عبد الله ، وسعيد بن جبير ، والسدي ، وأبي حنيفة ، فعلى هذا القول قصر الصلاة أن تكون ركعة ولا يجوز ذلك إِلا بوجود السفر والخوف ، لأن عند هؤلاء أن الركعتين في السفر إِذا لم يكن فيه خوفٌ تمام غير قصر ، واحتجوا بما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذي قرد ، فصف الناس خلفه صفّين ، صفاً خلفه ، وصفاً موازي العدو ، فصلى بالذين خلفه ركعة ، ثم انصرف هؤلاء ، إِلى مكان هؤلاء ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ، ولم يقضوا . وعن ابن عباس أنه قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة .
والثاني : أنها مقصورةٌ ، وليست بأصل ، وهو قول مجاهد ، وطاووس ، وأحمد ، والشافعي . قال يعلى بن أميّة : قلت لعمر بن الخطاب : عجبت من قصر الناس اليوم ، وقد أمنوا ، وإِنما قال الله تعالى : { إِن خفتم } فقال عمر : عجبتُ مما عجبتَ منه ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : صدقةٌ تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته .
فصل
وإِنما يجوز للمسافر القصر إِذا كان سفرُهُ مُباحاً ، وبهذا قال مالك ، والشافعي ، وقال أبو حنيفة : يجوز له القصر في سفر المعصية . فأما مدة الإِقامة التي إِذا نواها أتم الصلاة ، وإِن نوى أقلَّ منها ، قصر ، فقال أصحابنا : إِقامة اثنين وعشرين صلاة . وقال أبو حنيفة : خمسة عشر يوماً . وقال مالك ، والشافعي : أربعة أيام .

وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)

قوله تعالى : { وإِذا كنتَ فيهم فأقمت لهم الصلاة } سبب نزولها : أن المشركين لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه قد صلّوا الظهر ، ندموا إِذْ لم يكبوا عليهم ، فقال بعضهم لبعض : دعوهم فإن لهم صلاة هي أحبُّ إِليهم من آبائِهم وأبنائِهم ، يعنون العصر ، فإذا قاموا فشدوا عليهم ، فلما قاموا إِلى صلاة العصر ، نزل جبريل بهذه الآية . رواه أبو صالح عن ابن عباس .
قوله تعالى : { وإِذا كنت فيهم } خطابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يدلُ على أن الحكم مقصورٌ عليه ، فهو كقوله { خذْ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] وقال أبو يوسف : لا تجوزُ صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، والهاء والميم مِن «فيهم» تعودُ على الضاربين في الأرض .
قوله تعالى : { فأقمت لهم الصلاة } أي : ابتدأتها ، { فلتقم طائفة منهم معك } أي : لتقف . ومثله { وإِذا أظلم عليهم قاموا } [ البقرة : 20 ] { وليأخذوا أسلحتهم } فيهم قولان .
أحدهما : أنهم الباقون ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنهم المصلون معه ، ذكره ابن جرير . قال : وهذا السّلاح كالسّيف ، يتقلده الإِنسان ، والخنجر يشده إِلى ذراعه .
قوله تعالى : { فإذا سجدوا } يعني المصلين معه { فليكونوا } في المشار إِليهم قولان .
أحدهما : أنهم طائفة التي لم تصل ، أُمرت أن تحرس الطائفة المصلية ، وهذا معنى قول ابن عباس .
والثاني : أنهم المصلون معه أُمروا إِذا سجدوا أن ينصرفوا إِلى الحَرَس .
واختلف العلماء كيف ينصرفون بعد السجود ، فقال قوم : إِذا أتموا مع الإِمام ركعةً أتموا لأنفسهم ركعةً ، ثم سلموا ، وانصرفوا ، وقد تمت صلاتهم .
وقال آخرون : ينصرفون عن ركعةٍ ، واختلف هؤلاء ، فقال بعضهم : إِذا صلوا مع الإِمام ركعة وسلموا ، فهي تجزئهم . وقال آخرون منهم أبو حنيفة : بل ينصرفون عن تلك الركعة إلى الحَرَس وهم على صلاتهم ، فيكونون في وجه العدو مكان الطائفة الأخرى التي لم تصل ، وتأتي تلك الطائفة . واختلفوا في الطائفة الأخرى ، فقال قوم : إِذا صلى بهم الإمام أطال التشهد حتى يقضوا الركعة الفائِتة ، ثم يسلّم بهم وقال آخرون : بل يسلم هو عند فراغه من الصلاة بهم ، فإذا سلم قضوا ما فاتهم ، وقال آخرون : بل يصلي بالطائفة الثانية ركعة ويسلم هو ، ولا تسلم هي ، بل ترجع إلى وجه العدو ، ثم تجيء الأولى ، فتقضي ما بقي من صلاتها وتسلم ، وتمضي وتجيء الأخرى ، فتتم صلاتها ، وهذا مذهب أبي حنيفة .
قوله تعالى : { وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } قال ابن عباس : يريد الذين صلوا أوّلاً . وقال الزجاج : يجوز أن يريد به الذين وجاه العدو ، لأن المصلي غير مقاتل ، ويجوز أن يكون الجماعة أمروا بحمل السلاح ، لأنه أرهب للعدو ، وأحرى أن لا يقدموا عليهم . و«الجناح» : الإِثم ، وهو من : جنحت : إِذا عدلت عن المكان ، وأخذت جانباً عن القصد . والمعنى : أنكم إِذا وضعتم أسلحتكم ، لم تعدلوا عن الحق .
قوله تعالى : { إن كان بكم أذىً من مطرٍ } قال ابن عباس : رخّص لهم في وضع الأسلِحة لثقلها على المريض وفي المطر ، وقال : وخذوا حذركم كي لا يتغفّلوكم .

فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)

قوله تعالى : { فإذا قضيتم الصلاة } يعني صلاة الخوف ، و«قضيتم» بمعنى : فرغتم .
قوله تعالى : { فاذكروا الله } في هذا الذكر قولان .
أحدهما : أنه الذكر لله في غير الصلاة ، وهذا قول ابن عباس ، والجمهور قالوا : وهو التسبيح ، والتكبير ، والدعاء ، والشكر .
والثاني : أنه الصلاة فيكون المعنى : فصلوا قياماً ، فان لم تستطيعوا فقعوداً ، فان لم تستطيعوا فعلى جنوبكم ، هذا قول ابن مسعود . وفي المراد بالطمأنينة قولان .
أحدهما : أنه الرجوع إلى الوطن عن السفر ، وهو قول الحسن ، ومجاهد ، وقتادة .
والثاني : أنه الأمن بعد الخوف ، وهو قول السدي ، والزجاج ، وأبي سليمان الدمشقي .
وفي إِقامة الصلاة قولان .
أحدهما : إِتمامها ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والزجاج ، وابن قتيبة .
والثاني : أنه إِقامة ركوعها وسجودها ، وما يجب فيها مما قد يترك في حالة الخوف ، هذا قول السدي .
قوله تعالى : { كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } أي : فرضاً . وفي «الموقوت» قولان .
أحدهما : أنه بمعنى المفروض ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وابن زيد .
والثاني : أنه الموقت في أوقات معلومة ، وهو قول ابن مسعود ، وقتادة ، وزيد ابن أسلم ، وابن قتيبة .

وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)

قوله تعالى : { ولا تهنوا في ابتغاء القوم } قال أهل التفسير : سبب نزولها : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما انصرفوا من أُحد أن يسيروا في أثر أبي سفيان وأصحابه ، فشكوا ما بِهِم من الجراحات ، فنزلت هذه الآية . قال الزجاج : ومعنى«تهنوا» تضعفوا ، يقال : وَهَنَ يهِنُ : إذا ضَعُفَ ، وكلُّ ضَعْفٍ فهو وَهْنٌ . وابتغى القوم : طلبهم بالحرب . و«القوم» هاهنا : الكفار { إِن تكونوا تألمون } أي : توجَعون ، فانهم يجدون من الوجع بما ينالهم من الجراح والتعب ، كما تجدون ، وأنتم مع ذلك ترجون مالا يرجون ، وفي هذا الرجاء قولان .
أحدهما : أنه الأمل ، قاله مقاتل . قال الزجاج : وهو إِجماع أهل اللغة الموثوق بعلمهم .
والثاني : أنه الخوف ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . قال الفراء : ولم يُوجد الخوف بمعنى الرجاء إِلا ومعه جحد ، [ فإذا كان كذلك كان الخوف على جهة الرجاء والخوف ، وكان الرجاء كذلك ] كقوله { ما لكم لا ترجون لله وقاراً } [ نوح : 13 ] وقوله { لا يرجون أيام الله } [ الجاثية : 14 ] قال الشاعر :
لا ترتجي حين تلاقي الزائدا ... أسبعةً لاقَتْ معاً أم واحداً
وقال الهذلي :
إِذا لَسَعَتْه النَّحل لم يَرْجُ لَسْعَها ... وخالفها في بيت نُوْبٍ عَوامِلِ
ولا يجوز رجوتك وأنت تريد خفتك ، ولا خفتك وأنت تريد رجوتك .
قال الزجاج : وإِنما اشتمل الرجاء على معنى الخوف ، لأنه أمل قد يخاف أن لا يتم ، فعلى القول الأول يكون المعنى : ترجون النصر وإِظهار دينكم والجنة . وعلى الثاني : تخافون من عذاب الله ما لا يخافون .

إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)

قوله تعالى : { إِنا أنزلنا إِليك الكتاب بالحق } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أن طُعمة بن أبيرق سرق درعاً لقتادة بن النعمان ، وكان الدرع في جراب فيه دقيق ، فجعل الدقيق يَنْتَشِرُ من خرق الجراب ، حتى انتهى إِلى الدار ، ثم خبأها عند رجل من اليهود ، فالتمست الدرعَ عند طُعمة ، فلم توجد عنده ، وحلف : مالي بها علم ، فقال أصحابها : بلى والله ، لقد دخل علينا فأخذها ، وطلبنا أثره حتى دخل داره ، فرأينا أثر الدقيق ، فلما حلف تركوه ، واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه ، فقال : دفعَها إِليَّ طعمة ، فقال قومُ طعمة : إِنطلقوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليجادل عن صاحبنا فإنه بريء ، فأتوه فكلموه في ذلك ، فهم أن يفعل ، وأن يعاقب اليهودي ، فنزلت هذه الآيات كلها . رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أن رجلاً من اليهود استودع طُعمة بن أبيرق درعاً ، فخانها ، فلما خاف اطلاعهم عليها ، ألقاها في دار أبي مُليل الأنصاري ، فجادل قوم طعمة عنه ، وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فسألوه أن يبرئه ، ويكذّب اليهودي ، فنزلت الآيات ، هذا قول السدي ، ومقاتل .
والثالث أن مشربة رفاعة بن زيدُ نقبت ، وأخذ طعامه وسلاحه ، فاتهم به بنو أبيرق ، وكانوا ثلاثة بشير ، ومبشّر ، وبشر ، فذهب قتادة بن النعمان إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إِن أهل بيت منّا فيهم جفاء نقبوا مشربة لعمّي رفاعة بن زيد ، وأخذوا سلاحه ، وطعامه ، فقال : أنظرُ في ذلك ، فذهب قوم من قوم بني أبيرق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إِن قتادة بن النعمان ، وعمّه ، عمدوا إِلى أهل بيت منّا يرمونهم بالسرقة وهم أهل بيت إِسلام وصلاح ، فقال النبي لقتادة : رميتهم بالسرقة على غير بيّنة! فنزلت هذه الآيات . قاله قتادة بن النعمان .
والكتاب : القرآن . والحق : الحكم بالعدل . { لتحكم بين الناس } : أي لتقضي بينهم .
وفي قوله { بما أراك الله } قولان .
أحدهما : أنه الذي علّمه ، والذي علّمه أن لا يقبل دعوى أحد على أحد إِلا ببرهان .
والثاني : أنه ما يؤدي إليه اجتهاده ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { ولا تكن للخائنين خصيماً } قال الزجاج : لا تكن مخاصماً ، ولا دافعاً عن خائن . واختلفوا هل خاصم عنه أم لا؟ على قولين .
أحدهما : أنه قام خطيباً فعذره . رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني : أنه همَّ بذلك ، ولم يفعله ، قاله سعيد بن جبير ، وقتادة . قال القاضي أبو يعلى : وهذه الآية تدلّ على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يخاصم عن غيره في إِثبات حق أو نفيه ، وهو غير عالم بحقيقة أمره ، لأن الله تعالى عاتب نبيّه على مثل ذلك .

وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)

قوله تعالى : { واستغفر الله } في الذي أُمر بالاستغفار منه قولان .
أحدهما : أنه القيام بعذره .
والثاني : أنه العزم على ذلك .

وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)

قوله تعالى : { ولا تجادلْ عن الذين يختانون أنفسَهم } أي : يُخوِّنون أنفسهم ، فيجعلونها خائنة بارتكاب الخيانة . قال عكرمة : والمراد بهم : طُعمة بن أُبيرق ، وقومه الذين جادلوا عنه . وفي حديث العوفي عن ابن عباس قال : انطلق نفرٌ من عشيرةِ طُعمة ليلاً إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إِن صاحبنا بريء . و«الاستخفاء» : الاستتار ، والمعنى : يستترون من الناس لئلاَّ يطّلعوا على خيانتهم وكذبهم ، ولا يستترون من الله ، وهو معهم بالعلم . وكلُّ ما فُكِّر فيه ، أو خيض فيه بليل ، فقد بُيّت . وجمهور العلماء على أن المشار إِليه بالاستخفاء ، والتبييت ، قوم طعمة .
والذي بيّتوا : احتيالهم في براءة صاحبهم بالكذب . وقال الزجاج : هو السارق نفسه ، والذي بيّت أنه قال : أرمي اليهودي بأنّه سارق الدرع ، وأحلف أني لم أسرقها ، فتقبل يميني ، ولا تقبل يمين اليهودي .

هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)

قوله تعالى : { ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم } قال الزجاج : «ها» للتنبيه ، وأعيدت في أوله . والمعنى : ها أنتم الذين جادلتم . و«المجادلة ، والجدال» : شدة المخاصمة ، و«الجدل» شدّة الفتل . والكلام يعود إلى مَن احتج عن السارق . فأما قوله : «عنهم» فانه عائِد إلى السارق . و«عليهم» بمعنى «لهم» . والوكيل : القائم بأمر مَن وكله ، فكأنه قال : من الذي يتوكّل لهم منكم في خصومة ربهم؟!

وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)

قوله تعالى : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه } اختلفوا في نزولها على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها نزلت خطاباً للسارق ، وعَرْضاً للتّوبة عليه . رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال ابن زيد ، ومقاتل .
والثاني : أنها للذين جادلوا عنه من قومه ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثالث : أنه عنى بها كل مسيء ومُذنب . ذكره أبو سليمان الدمشقي . وإِطلاقُها لا يمنع أن تكون نزلت على سبب . وفي هذا السوء ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه السرقة .
والثاني : الشّرك .
والثالث : أنه كل ما يأثم به . وفي هذا الظلم قولان .
أحدهما : أنه رمي البريء بالتُّهمة .
والثاني : ما دون الشرك .

وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)

قوله تعالى : { ومن يكسب إِثماً } أي : ومن يعمل ذنباً { فإنما يكسبه على نفسه } يقول : إِنما يعود وباله عليه . قاله مقاتل ، وهذه في طُعمة أيضاً .

وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)

قوله تعالى : { ومن يكسب خطيئةً أو إِثماً } جمهور العلماء على أنها نزلت متعلقة بقصة طُعمة بن أبيرق . وقد روى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله ابن أبيِّ بن سلول إِذ رمى عائشة عليها السلام بالإِفك .
وفي قوله : { خطيئةً أو إِثماً } أربعة أقوال .
أحدها : أن «الخطيئة» يمين السارق الكاذبة ، و«الإِثم» : سرقته الدرع ، ورميه اليهودي ، قاله ابن السائب .
والثاني : أن «الخطيئة» ما يتعلق به من الذنب ، و«الإِثم» : قذفه البريء ، قاله مقاتل .
والثالث : أن «الخطيئة» قد تقع عن عمد ، وقد تقع عن خطأ ، و«الإثم» : يختصّ العمد . قاله ابن جرير ، وأبو سليمان الدمشقي . وذكر الزجاج أن الخطيئة نحو قتل الخطأ الذي يرتفع فيه الإِثم .
والرابع : أنه لمّا سمى الله عز وجل بعض المعاصي خطيئة ، وبعضها إِثماً ، أعلم أن من كسب ما يقع عليه أحد هذين الاسمين ، ثم قذف به بريئاً ، فقد احتمل بهتاناً ، ذكره الزجاج أيضاً فأما قوله :
{ ثم يرم به بريئاً } أي : يقذفُ بما جناه بريئاً منه .
فإن قيل : الخطيئة والإِثم اثنان ، فكيف قال : به ، فعنه أربعة أجوبة .
أحدها : أنه أراد : ثم يرم بهما ، فاكتفى بإعادة الذكر على الإثم من إِعادته على الخطيئة ، كقوله : { انفضّوا إِليها } فخصّ التجارة ، والمعنى للتجارة واللّهو .
والثاني : أن الهاء تعودُ على الكسب ، فلما دلّ ب «يكسب» على الكسب ، كنى عنه . والثالث : أن الهاء راجعة على معنى الخطيئة والإِثم ، كأنه قال : ومَن يكسب ذنباً ، ثم يرم به . ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري .
والرابع : أن الهاء تعود على الإِثم خاصة ، قاله ابن جرير الطبري .
وفي المراد بالبريء الذي قذفه هذا السارق قولان .
أحدهما : أنه كان يهودياً ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وابن سيرين ، وقتادة ، وابن زيد ، وسمّاه عكرمة ، وقتادة : زيد بن السُّمَير .
والثاني : أنه كان مسلماً ، روي عن ابن عباس ، وقتادة بن النعمان ، والسدي ، ومقاتل . واختلفوا في ذلك المسلم ، فقال الضحاك عن ابن عباس : هو عائشة لما قذفها ابن أبيّ ، وقال قتادة بن النعمان : هو لبيد بن سهل ، وقال السدي ، ومقاتل : هو أبو مُليل الأنصاري . فأما البهتان : فهو الكذب الذي يُحيّر من عِظَمه ، يقال : بهت الرجل : إِذا تحيّر . قال ابن السائب : فقد احتمل بهتاناً برميه البريء ، وإِثماً مبيناً بيمينه الكاذبة .

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)

قوله تعالى : { ولولا فضل الله عليك ورحمته } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أنها متعلقة بقصة طُعمة وقومه ، حيث لبَّسُوا على النبي صلى الله عليه وسلم أمر صاحبهم ، هذا قول ابن عباس من طريق ابن السائب .
والثاني : أنَّ وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : جئناك نبايعك على أن لا نُحشرْ ولا نُعشرْ ، وعلى أن تمتّعنا بالعزَّى سنةً ، فلم يجبهم ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس في رواية الضحاك .
وفي المراد بفضل الله ورحمته قولان .
أحدهما : النبوّة والعصمة .
والثاني : الإِسلام والقرآن ، رويا عن ابن عباس .
قال مقاتل : لولا فضل الله عليك حيث بيّن لك أمر طعمة ، وحوّلك بالقرآن عن تصديق الخائِن؛ لهمّت طائفة منهم أن يُضِلُّوك . قال الفرّاء : والمعنى : لقد همّت .
فإن قيل : كيف قال : { ولولا فضل الله عليك ورحمته لهَمَّت طائفة } وقد همت باضلاله؟ فالجواب : أنه لولا فضل الله عليك ورحمته ، لظهر تأثير ما همّوا به . فأما الطائفة ، فعلى رواية ابن السائب عن ابن عباس : قوم طعمة ، وعلى رواية الضحاك : وفد ثقيف .
وفي الإِضلال قولان .
أحدهما : التخطئة في الحكم .
والثاني : الاستزلال عن الحق .
قال الزجاج : وما يضلُّون إِلا أنفسهم ، لأنهم يعملون عمل الضّالين ، فيرجع الضلال إِليهم . فأما «الكتاب» ، فهو القرآن .
وفي «الحكمة» ثلاثة أقوال .
أحدها : القضاء بالوحي ، قالَه ابن عباس .
والثاني : الحلال والحرام ، قاله مقاتل
والثالث : بيانُ ما في الكتاب ، وإِلهام الصواب ، وإِلقاء صحة الجواب في الرّوع ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وفي قوله : { وعلمك ما لم تكن تعلم } ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الشرع ، قاله ابن عباس ومقاتل .
والثاني : أخبار الأولين والآخرين ، قاله أبو سليمان .
والثالث : الكتاب والحكمة ، ذكره الماوردي .
وفي قوله : { وكان فضل الله عليك عظيماً } ثلاثة اقوال .
أحدها : أنه المنة بالإِيمان .
والثاني : المنّة بالنبوّة ، هذان عن ابن عباس .
والثالث : أن عامّ في جميع الفضل الذي خصّه الله به ، قاله أبو سليمان .

لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)

قوله تعالى : { لا خير في كثير من نجواهم } قال ابن عباس : هُم قومُ طعمة ، وقال مقاتل : وكلهم يهود تناجوا في أمر طعمة ، وقال مجاهد : هو عام في نجوى جميع الناس . قال الزجاج : ومعنى النجوى : ما تنفردُ به الجماعة أو الاثنان ، سِرَّاً كان أو ظاهراً . ومعنى «نجوت الشيء» في اللغة : خلّصته وألقيته ، يقال : نجوت الجلد : إِذا ألقيته عن البعير وغيره . قال الشاعر :
فقلتُ انجُوَا عنها نجا الجلد إِنّه ... سيرُضيكما منها سَنَامٌ وغارِبُهُ
وقد نجوت فلاناً : إِذا استنكهته ، قال الشاعر :
نجوتُ مجالداً فوجدتُ منه ... كريحِ الكلب مات قديمَ عهد
وأصله كله من النَّجوة ، وهو ما ارتفع من الأرض ، قال الشاعر يصف سيلاً :
فَمَنْ بنجوَته كَمَن بعَقوَته ... والمُسْتكنُّ كَمَن يمشي بقِرْواح
والمراد بنجواهم : ما يدبِّرونه بينهم من الكلام .
فأما قوله : { إِلا مَن أمَر بصدقةٍ } ، فيجوز أن يكون بمعنى : إِلا في نجوى من أمر بصدقة ، ويجوز أن يكون استثناء ليس من الأول ، فيكون بمعنى : لكن من أمر بصدقةٍ ، ففي نجواهم خير . وأما قوله : { أمر بصدقةٍ } فالمعنى حثّ عليها .
وأما المعروف ، ففيه قولان .
أحدهما : أنه الفرض ، روي عن ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : أنه عام في جميع أفعال البر ، وهو اختيار القاضي أبي يعلى ، وأبي سليمان الدمشقي .

وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)

قوله تعالى : { ومن يشاقق الرسول } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أنه لما نزل القرآن بتكذيب طُعمة ، وبيان ظلمه ، وخاف على نفسه من القطع والفضيحة ، هرب إِلى مكة ، فلحق بأهل الشرك ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، والسدي . وقال مقاتل : لما قدم مكة نزل على الحجاج بن علاط السُلمي فأحسن نزله ، فبلغه أن في بيته ذهباً ، فخرج في الليل فنقب حائِط البيت ، فعلموا به فأحاطوا البيت ، فلما رأوه أرادوا ، أن يرجموه ، فاستحيا الحجاج ، لأنه ضيفه ، فتركوه ، فخرج ، فلحق بحرّة بني سليم يعبُد صنمهم حتى مات على الشرك ، فنزل فيه : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقال غيره : بل خرج مع تجارٍ فسرق منهم شيئاً ، فرموه بالحجارة حتى قتلوه ، وقيل : ركب سفينةً ، فسرق فيها مالاً ، فعُلِمَ به ، فألقي في البحر .
والقول الثاني : أن قوماً قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلموا ، ثم ارتدُّوا ، فنزلت فيهم هذه الآية ، روي عن ابن عباس . ومعنى الآية : ومَن يخالف الرسول في التوحيد ، والحدود ، مِن بعد ما تبيّن له التوحيد والحكم ، ويتبع غير دين المسلمين ، نولِّه ما تولى ، أي : نكله إِلى ما اختار لنفسه ، ونصله جهنم : ندخله إِياها .
قال ابن فارس : تقول صليت اللحم أصليه : إِذا شويته ، فإن أردت أنك أحرقته ، قلت : أصليته . وساءت مصيراً ، أي : مرجعاً يصار إِليه .

إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)

قوله تعالى : { إِن الله لا يغفر أن يشرك به } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أنها نزلت في حق طعمة بن أبيرق لما هرب من مكة ، ومات على الشرك ، وهذا قول الجمهور ، منهم سعيد بن جبير .
والثاني : أن شيخاً من الأعراب جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني مُنهَمك في الذنوب ، إِلا أني لم أشرك بالله منذ عرفته ، وإني لنادمٌ مستغفرٌ ، فما حالي؟ فنزلت هذه الآية ، روي عن ابن عباس . فأما تفسيرها ، فقد تقدم .

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)

قوله تعالى : { إن يدعون من دونه إِلا إِناثاً } «إِنْ» بمعنى : «ما» و«يدعون» بمعنى : يعبدون . والهاء في «دونه» ترجع إلى الله عز وجل . والقراءة المشهورة إِناثاً . وقرأ سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وأبو مجلز ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء : إِلا وَثَناً ، بفتح الواو ، والثاء من غير ألف . وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين : أُنُثاً ، برفع الهمزة والنون من غير ألف . وقرأ أبو العالية ، ومعاذ القارى ، وأبو نُهيك : أناثاً ، برفع الهمزة وبألف بعد الثاء . وقرأ أبو السوار العدوي ، وأبو شيخ الهنَّائي : أوثاناً ، بهمزة مفتوحة بعدها واو وبألف بعد الثاء . وقرأ أبو هريرة ، والحسن ، والجوني : إِلا أنثى ، على وزن «فعلى» . وقرأ أيوب السختياني : إِلا وُثنا ، برفع الواو والثاء من غير ألف . وقرأ مورّق العجلي : أُثُناً ، برفع الهمزة والثاء من غير ألف . قال الزجاج : فمن قال : إِناثاً ، فهو جمع أنثى وإِناث ، ومَن قال أنثاً ، فهو جمع إِناث ، ومن قال : أُثنا ، فهو جمع وثن ، والأصل وُثنٌ ، إِلا أن الواو إِذا انضمّت جاز إِبدالها همزة ، كقوله تعالى : { وإِذا الرسل أقتت } [ المرسلات : 11 ] . الأصل : وقتت . وجائز أن يكون أُثُن أصلها : أُثْن ، فأتبعت الضمّةُ الضمةَ ، وجائِز أن يكون أثن ، مثل أَسَد وأُسْد .
فأما المفسرون ، فلهم في معنى الإِناث أربعة أقوال .
أحدها : أن الإِناث بمعنى الأموات ، قاله ابن عباس ، والحسن ، في رواية ، وقتادة . قال الحسن : كل شيء لا روح فيه ، كالحجر ، والخشبة ، فهو إِناث . قال الزجاج : والموات كلها يخبر عنها ، كما يخبر عن المؤنّث ، تقول من ذلك : الأحجار تعجبني ، والدراهم تنفعني .
والثاني : أن الإِناث : الأوثان ، وهو قول عائشة ، ومجاهد .
والثالث : أن الإِناث اللاّت والعُزّى ومناة ، كلهن مؤنّث ، وهذا قول أبي مالك ، وابن زيد ، والسدي . وروى أبو رجاء عن الحسن قال : لم يكن حيٌ من أحياء العرب إِلاّ ولهم صنم يسمّونه : أُنثى بني فلان ، فنزلت هذه الآية .
قال الزجاج : والمعنى : ما يدعون إِلا ما يُسمّونه باسم الإِناث .
والرابع : أنها الملائكة كانوا يزعمون أنها بناتُ الله ، قاله الضحاك .
وفي المراد بالشيطان ثلاثة أقوال .
أحدها : شيطانٌ يكون في الصنم . قال ابن عباس : في كل صنم شيطان يتراءى للسدنة فيكلمهم . وقال أبيُّ بن كعب : مع كل صنم جنيّة .
والثاني : أنه إِبليس . وعبادته : طاعته فيما سوّل لهم ، هذا قول مقاتل ، والزجاج .
والثالث : أنه أصنامهم التي عبدوا ، ذكره الماوردي . فأما «المريد» ، فقال الزجاج : «المريد» : المارد ، وهو الخارج عن الطاعة ، ومعناه : أنه قد مرد في الشّر ، يقال : مرد الرجل يمرُد مُروداً : إِذا عتا ، وخرج عن الطاعة . وتأويل المرود : أن يبلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف ، وأصله في اللغة : املساس الشيء ، ومنه قيل للانسان : أمرد : إِذا لم يكن في وجهه شعر ، وكذلك يقال : شجرة مرداء : إِذا تناثر ورقها ، وصخرة مرداء : إِذا كانت ملساء .

وفي قوله : { لعنه الله } قولان .
أحدهما : أنه ابتداء دعاء عليه باللعن ، وهو قول من قال : هو الأوثان .
والثاني : أنه إِخبار عن لعن متقدم ، وهو قول من قال : هو إِبليس . قال ابن جرير : المعنى : قد لعنه الله . قاله ابن عباس : معنى الكلام : دحره الله ، وأخرجه من الجنة . وقال يعني إِبليس : لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً . وقال ابن قتيبة : أي : حظاً افترضته لنفسي منهم فأُضلُّهم . وقال مقاتل : النصيب المفروض : أنَّ مِنْ كل ألفٍ إنسانٌ واحد في الجنة ، وسائِرهم في النار قال الزجاج : «الفرض» في اللغة : القطع ، و«الفُرضة» : الثلمة تكون في النهر . و«الفرض» في القوس : الحز الذي يشد فيه الوتر ، والفرض فيما ألزمه الله العباد : جعله حتماً عليهم قاطعاً .

وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)

قوله تعالى : { ولأضلنهم } قال ابن عباس : عن سبيل الهدى ، وقال غيره : ليس له من الضلال سوى الدعاء إِليه . وفي قوله : { ولأُمنينّهم } أربعة أقوال .
أحدها : أنه الكذب الذي يخبرهم به ، قال ابن عباس : يقول لهم : لا جنة ، ولا نار ، ولا بعث .
والثاني : أنه التسويف بالتوبة ، روي عن ابن عباس .
والثالث : أنه إيهامُهم أنهم سينالون من الآخرة حظاً ، قاله الزجاج .
والرابع : أنه تزيين الأماني لهم ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { فليبتكن آذان الأنعام } قال قتادة ، وعكرمة ، والسدي : هو شق أذن البَحيرة . قال الزجاج : ومعنى «يبتكن» : يُشقّقن ، يقال : بتكت الشيء أبتكه بتكاً : إِذا قطعته ، وَبتَكه وبَتَك ، مثل : قطعه وقطع . وهذا في البحيرة كانت الجاهلية إِذا ولدت الناقة خمسة أبطن ، وكان الخامس ذكراً ، شقّوا أذن الناقة ، وامتنعوا من الانتفاع بها ، ولم تُطردْ عن ماءٍ ، ولا مرعى ، وإِذا لقيها المعيي ، لم يركبها . سوّل لهم إِبليس أن هذا قربةٌ إِلى الله تعالى .
وفي المراد بتغيير خلق الله خمسة أقوال .
أحدها : أنه تغيير دين الله ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن في رواية ، وسعيد بن المسيّب ، وابن جبير ، والنخعي ، والضحاك ، والسدي ، وابن زيد ، ومقاتل . وقيل : معنى تغيير الدّين : تحليل الحرام ، وتحريم الحلال .
والثاني : أنه تغيير الخلق بالخصاء ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وهو مرويٌ عن أنس بن مالك . وعن مجاهد ، وقتادة ، وعكرمة ، كالقولين .
والثالث : أنه التغيير بالوشم ، وهو قول ابن مسعود ، والحسن في رواية .
والرابع : أنه تغيير أمر الله ، رواه أبو شيبة عن عطاء .
والخامس : أنه عبادة الشمس والقمر والحجارة ، وتحريم ما حرّموا من الأنعام ، وإِنما خلق ذلك للانتفاع به ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله } في المراد بالولي قولان .
أحدهما : أنه بمعنى الرب ، قاله مقاتل .
والثاني : من الموالاة ، قاله أبو سليمان الدمشقي . فان قال قائل : من أين لإِبليس العلم بالعواقب حتى قال : ولأضلنّهم . وقال في [ الأعراف : 17 ] : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } وقال في [ بني إِسرائيل : 62 ] : { لأحتنكنَّ ذريته إِلا قليلاً } فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها : أنه ظن ذلك ، فتحقّق ظنه ، وذلك قوله تعالى : { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه } [ سبأ : 20 ] قاله الحسن ، وابن زيد .
وفي سبب ذلك الظن قولان .
أحدهما : أنه لما قال الله تعالى له : { لأملأنَّ جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } [ ص : 85 ] علم أنه ينال ما يريد . والثاني : أنه لما استزلَّ آدم ، قال : ذرّية هذا أضعف منه .
والثاني : أن المعنى : لأحرضنّ ولأجتهدنّ في ذلك ، لا انه كان يعلم الغيب ، قاله ابن الأنباري .
والثالث : أن من الجائِز أن يكون علم من جهة الملائكة بخبر من الله تعالى أن أكثر الخلق لا يشكرون ، ذكره الماوردي .

فان قيل : فلم اقتصر على بعضهم فقال : { نصيباً مفروضاً } وقال : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } [ الأعراف : 17 ] وقال : { إلا قليلاً } ؛ فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها : أنه يجوز أن يكون علم مآل الخلق من جهة الملائكة ، كما بينّا .
والثاني : أنه لم ينلْ من آدم كل ما يريد ، طمع في بعض أولاده ، وأيس من بعض .
والثالث : انه لما عاين الجنّة والنار ، علم أنهما خلقتا لمن يسكنهما ، فأشار بالنصيب المفروض إِلى ساكني النار .
قوله تعالى : { يعدهم } يعني : الشيطان يعد أولياءه . وفيما يعدهم به قولان .
أحدهما : أنه لا بعث لهم ، قاله مقاتل . والثاني : النصرة لهم ، ذكره أبو سليمان الدمشقي . وفيما يُمنِّيهم قولان .
أحدهما : الغرور والأماني ، مثل أن يقول : سيطول عمرك ، وتنال من الدنيا مرادك .
والثاني : الظفر بأولياء الله .

يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)

قوله تعالى : { وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } أي : باطلاً يغرُّهم به . فأما المحيص ، فقال الزجاج : هو المعدِل والملجأ ، يقال : حِصتُ عن الرجل أحيص ، ورووا : جضتُ أجيض بالجيم والضاد ، بمعنى : حصت ، ولا يجوز ذلك في القرآن ، وإِن كان المعنى واحداً ، لأن القراءة سنّة ، والذي في القرآن أفصحُ مما يجوز ، ويقال : حُصتُ أحوص حوصاً وحياصة : إِذا خطت ، قال الأصمعي : يقال : حصْ عين صقرك ، أي : خط عينه ، والحوصُ في العين : ضيق مؤخرها ، ويقال : وقع في حيصَ بيصَ . وحاص باص : إِذا وقع فيما لا يقدر على التخلص منه .

لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)

قوله تعالى : { ليس بأمانيكم } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أن أهل الأديان اختصموا ، فقال أهل التوراة : كتابنا خيرُ الكتب ، ونبينا خير الأنبياء ، وقال أهل الإِنجيل مثل ذلك ، وقال المسلمون : كتابنا نسخ كل كتاب ، ونبينا خاتم الأنبياء ، فنزلت هذه الآية ، ثم خيّر بين الأديان بقوله : { ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله } رواه العوفي عن ابن عباس وإِلى هذا المعنى ذهب مسروق ، وأبو صالح ، وقتادة ، والسدي .
والثاني : أن العرب قالت : لا نُبعثُ ، ولا نعذبُ ، ولا نحاسب ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول مجاهد .
والثالث : أن اليهود والنصارى قالوا : لا يدخل الجنة غيرنا ، وقالت قريش : لا نُبعث ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول عكرمة .
قال الزجاج : اسم «ليس» مضمر ، والمعنى : ليس ثواب الله عز وجل بأمانيكم ، وقد جرى ما يدل على الثواب ، وهو قوله : { سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار } وفي المشار إليهم بقوله «أمانيكم» قولان .
أحدهما : أنهم المسلمون على قول الأكثرين .
والثاني : المشركون على قول مجاهد . فأما أماني المسلمين ، فما نقل من قولهم : كتابنا ناسخ للكتب ، ونبينا خاتم الأنبياء ، وأماني المشركين قولهم : لا نبعث ، وأماني أهل الكتاب قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وإِن النار لا تمسُّنا إِلا أياماً معدودة ، وإِنَّ كتابنا خيرُ الكتب ، ونبينا خير الأنبياء ، فأخبر الله عز وجل أن دخول الجنة والجزاء ، بالأعمال لا بالأماني . وفي المراد «بالسوء» قولان .
أحدهما : أنه المعاصي ، ومنه حديث أبي بكر الصديق أنه قال : يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ { ومن يعمل سوءاً يُجز به } فإذا عملنا سوءاً جُزينا به فقال : غفر الله لك يا أبا بكر ، ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ فذلك ما تُجزَون به .
والثاني : أنه الشرك ، قاله ابن عباس ، ويحيى بن أبي كثير . وفي هذا الجزاء قولان .
أحدهما : أنه عام في كل من عمل سوءاً فإنه يجازى به ، وهو معنى قول أُبيِّ بن كعب ، وعائشة ، واختاره ابن جرير ، واستدل عليه بحديث أبي بكر الذي قدمناه .
والثاني : أنه خاص في الكفار يجازَوْن بكل ما فعلوا ، فأما المؤمن فلا يجازى بكل ما جنى ، قاله الحسن البصري . وقال ابن زيد : وعد الله المؤمنين أن يكفِّر عنهم سيآتهم ، ولم يَعِد المشركين .
قوله تعالى : { ولا يجد له من دون الله ولياً } قال أبو سليمان : لا يجد مَن أراد الله أن يجزيه بشيءٍ من عمله ولياً وهو القريب ، ولا ناصراً يمنعه من عذاب الله وجزائِه .

وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)

قوله تعالى : { ومن يعمل من الصالحات من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن } قال مسروق : لما نزلت { ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب } قال أهل الكتاب : نحن وأنتم سواء ، فنزلت { ومن يعمل من الصالحات . . . } الآية ، وهذه تدل على ارتباط الإِيمان بالعمل الصالح ، فلا يقبل أحدهما إِلاّ بوجود الآخر ، وقد سبق ذكر «النقير» .

وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)

قوله تعالى : { ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله } قال ابن عباس : خيّر الله بين الأديان بهذه الآية . و«أسلم» بمعنى : أخلص . وفي «الوجه» قولان .
أحدهما : أنه الدين .
والثاني : العمل . وفي الإحسان قولان .
أحدهما : أنه التوحيد ، قاله ابن عباس .
والثاني : القيام لله بما فرض الله ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
وفي اتِّباع ملة إِبراهيم قولان .
أحدهما : اتباعه على التوحيد والطاعة .
والثاني : اتباع شريعته ، اختاره القاضي أبو يعلى . فأما الخليل ، فقال ابن عباس : الخليل : الصفي ، وقال غيره : المصافي ، وقال الزجاج : هو المُحبُّ الذي ليس في محبّته خلل . قال : وقيل : الخليل : الفقير ، فجائِز أن يكون إبراهيم سُمّي خليل الله بأنه أحبّه محبةً كاملةً ، وجائِز أن يكون لأنه لم يجعل فقرَه وفاقته إِلاّ إِليه ، و «الخُلّة» : الصداقة ، لأن كلَّ واحد يسدُّ خلل صاحبه ، و«الخَلة» بفتح الخاء : الحاجة ، سُميت خَلَّة للاختلال الذي يلحق الانسان فيما يحتاج إِليه ، وسمي الخَلّ الذي يؤكل خلاً ، لأنه اختلّ منه طعم الحلاوة . وقال ابن الأنباري : الخليل : فعيل من الخُلة ، والخلّة : المودّة . وقال بعض أهل اللغة : الخليل : المحب ، والمحب الذي ليس في محبته نقص ولا خلل ، والمعنى : أنه كان يحبُ الله ، ويحبهُ الله محبة لا نقص فيها ، ولا خلل ، ويقال : الخليل : الفقير ، فالمعنى : اتخذه فقيراً إِليه ينزل فقره وفاقته به ، لا بغيره . وفي سبب اتخاذ الله له خليلاً ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه اتخذه خليلاً لإِطعامه الطعام ، روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يا جبريل لم اتخذ الله إِبراهيم خليلا؟ قال لإِطعامه الطعام " . والثاني : أن الناس أصابتهم سنَة فأقبلوا إِلى باب إِبراهيم يطلبون الطعام ، وكانت له مِيرَة من صديق له بمصر في كل سنة ، فبعث غلمانه بالإِبل إِلى صديقه ، فلم يعطهم شيئا فقالوا : لو احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة ، فملؤوا الغرائِر رملاً ، ثم أتوا إِبراهيم عليه السلام ، فأعلموه ، فاهتم إِبراهيم لأجل الخلق . فنامَ وجاءت سارة وهي لا تعلم ما كانا ففتحت الغرائر ، فاذا دقيق حُواري ، فأمرت الخبازين فخبزوا ، وأطعموا الناس ، فاستيقظ إِبراهيم ، فقال : من أين هذا الطعام؟ فقالت : من عند خليلك المصري ، فقال : بل من عند خليلي الله عز وجل ، فيومئذٍ اتخذه الله خليلا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : أنه اتخذه خليلاً لكسره الأصنام ، وجِداله قومه ، قاله مقاتل .

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)

قوله تعالى : { وكان الله بكل شيءٍ محيطاً } أي : أحاط علمه بكل شيء .

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)

قوله تعالى : { ويستفتونك في النساء } في سبب نزولها خمسة أقوال .
أحدها : أنهم كانوا في الجاهلية لا يورِّثون النساء والأطفال ، فلما فرض الله المواريث في هذه السورة ، شق ذلك عليهم ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن زيد .
والثاني : أن ولي اليتيمة كان يتزوّجها إِذا كانت جميلةً وهَوِيَها ، فيأكل مالها ، وإن كانت دميمة منعها الرجال حتى تموت ، فاذا ماتت ورثها ، فنزلت هذه الآية ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثالث : أنهم كانوا لا يؤتون النساء صَدُقَاتِهِنَّ ، ويتملَّك ذلك أولياؤهن ، فلما نزل قوله : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول عائشة رضي الله عنها .
والرابع : " أن رجلاً كانت له امرأة كبيرة ، وله منها أولاد ، فأراد طلاقها ، فقالت : لا تفعل ، واقسم لي في كل شهر إِن شئت أو أكثر ، فقال : لئن كان هذا يصلحُ ، فهو أحبُ إِليّ ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر له ذلك ، فقال : «قد سمع الله ما تقول فإن شاء أجابك» ، فنزلت هذه الآية ، والتي بعدها " ، رواه سالم الأفطس عن سعيد بن جبير .
والخامس : أن ولي اليتيمة كان إِذا رغب في مالها وجمالها لم يبسط لها في صداقها ، فنزلت هذه الآية ، ونهوا أن ينكحوهن ، أو يبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق ، ذكره القاضي أبو يعلى .
وقوله : { ويستفتونك } أي : يطلبون الفتوى ، وهي تبيين المشكل من الأحكام . وقيل : الاستفتاء : الاستخبار . قال المفسّرون : والذي اسْتَفْتَوه فيه . ميراث النساء ، وذلك أنهم قالوا : كيف ترث المرأة والصبي الصغير؟
قوله تعالى : { وما يتلى عليكم في الكتاب } قال الزجاج : موضع «ما» رفع ، المعنى : الله يفتيكم فيهن ، وما يتلى عليكم في الكتاب أيضاً يفتيكم فيهن ، وهو قوله : { وآتوا اليتامى أموالهم . . . } الآية .
والذي تلي عليهم في التزويج قوله تعالى : { وإِن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء } [ النساء : 3 ] .
وفي يتامى النساء قولان .
أحدهما : أنهنّ النساء اليتامى ، فأضيفت الصّفة إِلى الاسم ، كما تقول : يوم الجمعة .
والثاني : أنهن أمهات اليتامى ، فأضيف إِليهن أولادهن اليتامى .
وفي الذي كتب لهن قولان .
أحدهما : أنه الميراث ، قاله ابن عباس ، ومجاهد في آخرين .
والثاني : أنه الصداق . ثم في المخاطب بهذا قولان .
أحدهما : أنهم أولياء المرأة كانوا يحوزون صداقها دونها .
والثاني : ولي اليتيمة ، كان إِذا تزوجها لم يعدل في صداقها . وفي قوله : { وترغبون أن تنكحوهن } قولان .
أحدهما : وترغبون في نكاحهن رغبة في جمالهن ، وأموالهن ، هذا قول عائشة ، وعبَيدة .
والثاني : وترغبون عن نكاحِهن لقبحهنّ ، فتمسكوهن رغبة في أموالهن ، وهذا قول الحسن .
قوله تعالى : { والمستضعفين من الولدان } قال الزجاج : موضع المستضعفين خفض على قوله : { وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء } المعنى : وفي الولدان . قال ابن عباس : يريد أنهم لم يكونوا يورّثون صغيراً من الغلمان والجواري ، فنهاهم الله عن ذلك ، وبين لكل ذي سهم سهمه .
قوله تعالى : { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } قال الزجاج : موضع «أن» خفض ، فالمعنى : في يتامى النساء ، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط . قال ابن عباس : يريد العدل في مهورهن ومواريثهنَّ .

وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)

قوله تعالى : { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أن سَودة خشيت أن يطلقها رسول لله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله لا تطلقني ، وأمسكني ، واجعل يومي لعائشة ، ففعل ، فنزلت هذه الآية ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثاني : أن بنت محمد بن مسلمة كانت تحت رافع بن خديج ، فكره منها أمراً ، إِما كِبَراً ، وإِما غيره ، فأراد طلاقها ، فقالت : لا تطلقني ، واقسم لي ما شئت ، فنزلت هذه الآية ، رواه الزهري عن سعيد بن المسيب . قال مقاتل : واسمها خويلة .
والثالث : قد ذكرناه عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير في نزول الآية التي قبلها . وقالت عائشة : نزلت في المرأة تكون عند الرجل ، فلا يستكثر منها ، ويريد فراقها ، ولعلها تكون له محبة أو يكون لها ولد فتكره فراقه ، فتقول له : لا تطلقني وأمسكني ، وأنت في حل من شأني . رواه البخاري ، ومسلم .
وفي خوف النشوز قولان .
أحدهما : أنه العلم به عند ظهوره .
والثاني : الحذر من وجوده لأماراته . قال الزجاج : والنشوز من بعل المرأة : أن يُسيء عشرتها ، وأن يمنعها نفسه ونفقته . وقال أبو سليمان : نشوزاً ، أي : نبواً عنها إِلى غيرها ، وإِعراضاً عنها ، واشتغالاً بغيرها . { فلا جناح عليهما أن يصّالحا بينهما } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «يصّالحا بينهما» بفتح الياء ، والتشديد . والأصل : «يتصالحا» ، فأدغمت التاء في الصاد . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : «يُصلحا» بضم الياء ، والتخفيف . قال المفسرون : والمعنى : أن يوقعا بينهما أمراً يرضيان به ، وتدوم بينهم الصحبة ، مثل أن تصبر على تفضيله . وروي عن علي ، وابن عباس : أنهما أجازا لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها ، أو بعض أيامها ، بأن يجعله لغيرها . وفي قوله : { والصلح خير } قولان .
أحدهما : خير من الفرقة ، قاله مقاتل ، والزجاج .
والثاني : خيرٌ من النشوز والإِعراض ، ذكره الماوردي . قال قتادة : متى ما رضيت بدون ما كان لها ، واصطلحا عليه ، جاز ، فان أبتْ لم يصلح أن يحبسها على الخسف .
قوله تعالى : { وأُحضرت الأنفسُ الشحَّ } «أحضرت» : بمعنى : ألزمت . «والشح» : الإِفراط في الحرص على الشيء . وقال ابن فارس : «الشح» : البخل مع الحرص ، وتشاح الرجلان على الأمر : لا يريدان أن يفوتهما . وفيمن يعود إِليه هذا الشح من الزوجين قولان .
أحدهما : المرأة ، فتقديره : وأحضرت نفس المرأة الشح بحقها من زوجها ، هذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير .
والثاني : الزوجان جميعاً ، فالمرأة تشح على مكانها من زوجها ، والرجل يشح عليها بنفسه إِذا كان غيرُها أحبَّ إِليه ، هذا قول الزجاج . وقال ابن زيد : لا تطيب نفسه أن يعطيها شيئاً فتحلله ، ولا تطيب نفسها أن تعطيه شيئاً من مالها ، فتعطّفه عليها .
قوله تعالى : { وإِن تحسنوا } فيه قولان .
أحدهما : بالصبر على التي يكرهها .
والثاني : بالإِحسان إِليها في عشرتها .
قوله تعالى : { وتتقوا } يعني الجور عليها { فإن الله كان بما تعملون خبيراً } فيجازيكم عليه .

وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)

قوله تعالى : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء } قال أهل التفسير : لن تطيقوا أن تسوّوا بينهن في المحبة التي هي ميل الطباع ، لأن ذلك ليس من كسبكم { ولو حرصتم } على ذلك { فلا تميلوا } إِلى التي تحبون في النفقة والقسم . وقال مجاهد : لا تتعمّدوا الإِساءة فتذروا الأخرى كالمعلقة قال ابن عباس : المعلقة : التي لا هي أيِّم ، ولا ذات بعل . وقال قتادة : المعلقة : المسجونة .
قوله تعالى : { وإِن تصلحوا } أي : بالعدل في القسمة { وتتقوا } الجور { فان الله كان غفوراً } لميل القلوب .

وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)

قوله تعالى : { وإِن يتفرّقا } يقول : وإِن أبت المرأة أن تسمح لزوجها بإيثار التي يميل إِليها ، واختارت الفرقة ، فإن الله يغني كلَّ واحد من سعته . قال ابن السائِب : يغني المرأة برجل ، والرجل بامرأة . ثم ذكر ما يوجبُ الرغبة إِليه في طلب الخير ، فقال : { ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصّينا الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم } يعني : أهل التوراة ، والإِنجيل ، وسائِر الكتب { وإِياكم } يا أهل القرآن { أن اتقوا الله } قيل : وحّدوه { وإِن تكفروا } بما أوصاكم به { فإن لله ما في السموات وما في الأرض } فلا يضرّه خلافكم . وقيل : له ما في السموات ، وما في الأرض من الملائكة ، فهم أطوع له منكم . وقد ذكرنا في سورة ( البقرة ) معنى «الغني الحميد» ، وفي ( آل عمران ) معنى «الوكيل» .

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)

قوله تعالى : { إِن يشأ يذهبكم أيها الناس } قال ابن عباس : يريد المشركين والمنافقين { ويأت بآخرين } أطوع له منكم . وقال أبو سليمان : هذا تهدّد للكفار ، يقول : إِن يشأ يهلككم كما أهلك مَن قبلكم إِذ كفروا به ، وكذبوا رسله .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)

قوله تعالى : { من كان يريد ثواب الدنيا } قيل : إِن هذه الآية نزلت من أجل المنافقين كانوا لا يصدِّقون بالقيامة ، وإِنما يطلبون عاجل الدنيا ، ذكره أبو سليمان . وقال الزجاج : كان مشركو العرب يتقربون إِلى الله ليعطيهم من خير الدنيا ، ويصرف عنهم شرّها ، ولا يؤمنون بالبعث ، فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن خير الدنيا والآخرة عنده . وذكر الماوردي أن المراد بثواب الدنيا : الغنيمة في الجهاد ، وثواب الآخرة : الجنة . قال : والمراد بالآية : حث المجاهد على قصد ثواب الله .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن فقيراً وغنياً اختصما إِلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان صَغْوُه مع الفقير يرى أن الفقير لا يَظلم الغني ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول السدي .
والثاني : أنها متعلقة بقصّة ابن أُبيرق ، فهي خطاب للذين جادلوا عنه ، ذكره أبو سليمان الدمشقي . و«القوّام» مبالغة مِن قائِم . و«القسط» العدل . قال ابن عباس : كونوا قوّالين بالعدل في الشهادة على من كانت ، ولو على أنفسكم . وقال الزجاج : معنى الكلام : قوموا بالعدل ، واشهدوا لله بالحق ، وإِن كان الحق على الشاهد ، أو على والديه ، أو قريبه ، { إِن يكن } المشهود له { غنياً } فالله أولى به ، وإِن يكن { فقيراً } فالله أولى به . فأما الشهادة على النفس ، فهي إِقرار الإِنسان بما عليه من حق . وقد أمرت الآية بأن لا ينظر إِلى فقر المشهود عليه ، ولا إِلى غناه ، فإن الله تعالى أولى بالنظر إِليهما . قال عطاء : لا تحيفوا على الفقير ، ولا تعظموا الغني ، فتمسكوا عن القول فيه . وممن قال : إِن الآية نزلت في الشهادات ، ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، والزهري ، و قتادة ، والضحاك .
قوله تعالى : { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أن معناه : فلا تتبعوا الهوى ، واتقوا الله أن تعدِلوا عن الحق ، قاله مقاتل .
والثاني : ولا تتبعوا الهوى لتعدلوا ، قاله الزجاج .
والثالث : فلا تتبعوا الهوى كراهية أن تعدلوا عن الحق .
والرابع : فلا تتبعوا الهوى فتعدلوا ، ذكرهما الماوردي .
قوله تعالى : { وإِن تلووا } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، والكسائي : تلووا ، بواوين ، الأولى مضمومة ، واللام ساكنة .
وفي معنى هذه القراءة ثلاثة أقوال .
أحدها : أن يلوي الشاهد لسانه بالشهادة إِلى غير الحق . قال ابن عباس : يلوي لسانه بغير الحق ، ولا يقيم الشهادة على وجهها ، أو يعرض عنها ويتركها . وهذا قول مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد .
والثاني : أن يلوي الحاكم وجهه إِلى بعض الخصوم ، أو يُعرِضَ عن بعضهم ، روي عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : أن يلوي الإِنسان عنقه إِعراضاً عن أمر الله لكبره وعتوِّه .
ويكون : «أو تعرضوا» بمعنى : وتعرضوا ، ذكره الماوردي . وقرأ الأعمش ، وحمزة ، وابن عامر : «تلوا» بواو واحدة ، واللاّم مضمومة . والمعنى : أن تلوا أمور الناس ، أو تتركوا فيكون الخطاب للحكام .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن عبد الله بن سلام ، وأسداً ، وأُسيداً ابني كعب ، وثعلبة بن قيس ، وسلاماً ، وسلمة ، ويامين ، وهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقالوا : يا رسولا الله نؤمن بك ، وبكتابك ، وبموسى ، والتوراة ، وعزير ، ونكفر بما سوى ذلك من الكتب والرسل ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أن مؤمني أهل الكتاب كان بينهم وبين اليهود كلام لما أسلموا ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول مقاتل .
وفي المشار إِليهم بقوله : { يا أيها الذين آمنوا } ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم المسلمون ، قاله الحسن ، فيكون المعنى : يا أيها الذين آمنوا بمحمد والقرآن اثبتوا على إِيمانكم .
والثاني : اليهود والنصارى ، قاله الضحاك ، فيكون المعنى : يا أيها الذين آمنوا بموسى ، والتوراة ، وبعيسى ، والإِنجيل : آمنوا بمحمد والقرآن .
والثالث : المنافقون ، قاله مجاهد ، فيكون المعنى : يا أيها الذين آمنوا في الظاهر بألسنتهم ، آمنوا بقلوبكم .
قوله تعالى : { والكتاب الذي نزَّل على رسوله } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «نزِّل» على رسوله ، والكتاب الذي أُنزل من قبل ، مضمومتين .
وقرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : نَزَلَ على رسوله ، والكتاب الذي أنْزَلَ مفتوحتين والمراد بالكتاب : الذي نزل على رسوله القرآن ، والكتاب الذي أنزل من قبل : كل كتاب أنزل قبل القرآن ، فيكون «الكتاب» هاهنا اسمَ جنس .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)

قوله تعالى : { إن الذين آمنوا ثم كفروا } اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها في اليهود آمنوا بموسى ، ثم كفروا بعد موسى ، ثم آمنوا بعزير ، ثم كفروا بعده بعيسى ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم ، هذا قول ابن عباس . وروي عن قتادة قال : آمنوا بموسى ، ثم كفروا بعبادة العجل ، ثم آمنوا به بعد عوده ، ثم كفروا بعده بعيسى ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد .
والثاني : أنها في اليهود والنصارى ، آمن اليهود بالتوراة ، وكفروا بالإِنجيل ، وآمن النصارى بالإِنجيل ، ثم تركوه فكفروا به ، ثم ازدادوا كفراً بالقرآن وبمحمد ، رواه شيبان عن قتادة . وروي عن الحسن قال : هم قوم من أهل الكتاب ، قصدوا تشكيك المؤمنين ، فكانوا يظهرون بالإِيمان ثم الكفر ، ثم ازدادوا كفراً بثبوتهم على دينهم . وقال مقاتل : آمنوا بالتوراة وموسى ، ثم كفروا من بعد موسى ، ثم آمنوا بعيسى والإِنجيل ، ثم كفروا من بعده ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد والقرآن .
والثالث : أنها في المنافقين آمنوا ، ثم ارتدوا ، ثم ماتوا على كفرهم ، قاله مجاهد . وروى ابن جريج عن مجاهد { ثم ازدادوا كفراً } قال : ثبتوا عليه حتى ماتوا . قال ابن عباس : { لم يكن الله ليغفر لهم } ما أقاموا على ذلك { ولا ليهديهم سبيلاً } أي : لا يجعلهم بكفرهم مهتدين . قال : وإِنما علق امتناع المغفرة بكفر بعد كفر ، لأن المؤمن بعد الكفر يُغفرُ له كفرُه ، فاذا ارتدَّ طُولِبَ بالكفر الأول .

بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)

قوله تعالى : { بشر المنافقين } زعم مقاتل أنه لما نزلت المغفرة في ( سورة الفتح ) للنبي والمؤمنين قال عبد الله بن أُبيّ ونفر معه : فما لنا؟ فنزلت هذه الآية .
وقال غيره : كان المنافقون يتولَّون اليهود ، فأُلحِقوا بهم في التبشير بالعذاب . وقال الزجاج : معنى الآية : اجعل موضع بشارتهم العذاب . والعرب تقول : تحيتك الضَّربُ ، أي : هذا بدلٌ لك من التحيّة . قال الشاعر :
وخيلٍ قد دلفتُ لها بخيل ... تحيَّةُ بينهم ضَرْبٌ وجيعُ

الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)

قوله تعالى : { الذين يتخذون الكافرين أولياء } قال ابن عباس : يتخذون اليهود أولياء في العون والنُّصرة .
قوله تعالى : { أيبتغون عندهم العزَّة } أي : القوة بالظهور على محمد وأصحابه ، والمعنى : أيتقون بهم؟ قال مقاتل : وذلك أن اليهود أعانوا مشركي العرب على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الزجاج : أيبتغي المنافقون عند الكافرين العزة . و«العزَّة» المنعة ، وشدة الغلبة ، وهو مأخوذ من قولهم : أرض عَزاز . قال الأصمعي : «العزاز» : الأرض التي لا تنبت . فتأويل العزة : الغلبة والشدة التي لا يتعلق بها إذلال . قالت الخنساء :
كأن لم يكونوا حمىً يتّقى ... إِذْ الناس إِذ ذاك مَن عَزّ بزّا
أي : من قوي وغَلَبَ سَلبَ . ويقال : قد استُعِزَّ على المريض ، أي : اشتد وجعه . وكذلك قول الناس : يَعزُّ عليّ أن يفعل ، أي يشتد ، وقولهم : قد عزَّ الشيء : إِذا لم يوجد ، معناه : صعب أن يوجد ، والباب واحد .

وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)

قوله تعالى : { وقد نُزِّل عليكم في الكتاب } وقرأ عاصم ، ويعقوب : «نَزَّل» بفتح النون والزاي . قال المفسّرون : الذي نزل عليهم في النهي عن مجالستهم ، قوله في [ الأنعام : 68 ] { وإِذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود ، فيسخرون من القرآن ويكذبون به ، فنهى الله المسلمين عن مجالستهم . وآيات الله : هي القرآن . والمعنى : إِذا سمعتم الكفر بآيات الله ، والاستهزاء بها ، فلا تقعدوا معهم حتى يأخذوا في حديث غير الكفر ، والاستهزاء . { إِنكم } إِن جالستموهم على ما هم عليه من ذلك ، فأنتم { مثلهم } وفي ماذا تقع المماثلة فيه ، قولان .
أحدهما : في العصيان . والثاني : في الرضى بحالهم ، لأن مُجالس الكافر غير كافر . وقد نبّهت الآية على التحذير من مجالسة العصاة ، قال إِبراهيم النخعي : إِن الرجل ليجلس في المجلس فيتكلم بالكلمة ، فيرضي الله بها ، فتصيبُه الرحمة فتعمُّ من حوله ، وإِن الرجل ليجلس في المجلس ، فيتكلم بالكلمة ، فيسخط الله بها ، فيصيبه السخط ، فيعم من حوله .

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)

قوله تعالى : { الذين يَتربّصون بكم } قال أبو سليمان : هذه الآية نزلت في المنافقين خاصة . قال مقاتل : كان المنافقون يتربصون بالمؤمنين الدوائِر ، فإن كان الفتح ، قالوا : ألم نكن معكم؟ فاعطونا من الغنيمة . وإِن كان للكافرين نصيب ، أي : دولةٌ على المؤمنين ، قالوا للكفار : ألم نستحوذ عليكم؟ قال المبرِّد : ومعنى : ألم نستحوذ عليكم : ألم نغلبْكم على رأيكم . وقال الزجاج : ألم نغلب عليكم بالموالاة لكم . «ونستحوذ» في اللغة ، بمعنى : نستولي ، يقال : حُذْت الإِبل ، وحُزْتها : إِذا استوليت عليها وجمعتها . وقال غيره : ألم نستول عليكم بالمعونة والنصرة؟ وقال ابن جريج : ألم نبين لكم أنا على دينكم؟ وفي قوله : { ونمنعكم من المؤمنين } ثلاثة أقوال .
أحدها : نمنعكم منهم بتخذيلهم عنكم . والثاني : بما نعلمكم من أخبارهم .
والثالث : بصرفنا إِياكم عن الدخول في الإِيمان . ومراد الكلام : إِظهار المنّة من المنافقين على الكفار ، أي : فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم .
قوله تعالى : { فالله يحكم بينكم يوم القيامة } يعني المؤمنين والمنافقين . قال ابن عباس : يريد أنه أخّر عقاب المنافقين .
قوله تعالى : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه لا سبيل لهم عليهم يوم القيامة ، روى يُسيْع الحضرمي عن علي بن أبي طالب أن رجلاً جاءه ، فقال : أرأيت قول الله عز وجل : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } وهم يقاتلوننا [ فيظهرون ويقتلون ] ، فقال : ولن يجعل الله للكافرين يوم القيامة على المؤمنين سبيلاً . هذا مروي عن ابن عباس ، وقتادة .
والثاني : أن المراد بالسبيل : الظهور عليهم ، يعني : أن المؤمنين هم الظاهرون ، والعاقبة لهم ، وهذا المعنى في رواية عكرمة ، عن ابن عباس . والثالث : أن السبيل : الحجة . قال السدي : لم يجعل الله عليهم حجة ، يعني فيما فعلوا بهم من القتل والإِخراج من الديار . قال ابن جرير : لما وعد الله المؤمنين أنه لا يدخل المنافقين مدخلهم من الجنة ، ولا المؤمنين مدخل المنافقين ، لم يكن للكافرين على المؤمنين حجة بأن يقولوا لهم : أنتم كنتم أعداءنا ، وكان المنافقون أولياءنا ، وقد اجتمعتم في النار .

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)

قوله تعالى : { إِن المنافقين يخادعون الله } أي : يعملون عمل المخادع . وقيل : يخادعون نبيّه ، وهو خادعهم ، أي : مجازيهم على خداعهم . وقال الزجاج : لما أمر بقبول ما أظهروا ، كان خادعاً لهم بذلك . وقيل : خداعه إِياهم يكون في القيامة بإطفاء نورهم ، وقد شرحنا طرفاً من هذا في ( البقرة ) .
قوله تعالى : { وإِذا قاموا إِلى الصلاة قاموا كسالى } أي : متثاقلين . و«كسالى» : جمع كسلان ، و«الكسل» : التثاقل عن الأمر . وقرأ أبو عمران الجوني : «كسلى» بفتح الكاف ، وقرأ ابن السميفع : «كسلى» ، بفتح الكاف من غير ألف . وإنما كانوا هكذا ، لأنهم يصلّون حذراً على دمائهم لا يرجون بفعلها ثواباً ، ولا يخافون بتركها عقاباً .
قوله تعالى : { يراؤونَ الناس } أي : يصلُّون ليراهم الناس . قال قتادة : والله لولا الناس ما صلى المنافق . وفي تسمية ذكرهم بالقليل ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه سُمّي قليلاً ، لأنه غير مقبول ، قاله علي رضي الله عنه ، وقتادة .
والثاني : لأنه رياء ، ولو كان لله ، لكان كثيراً ، قاله ابن عباس ، والحسن .
والثالث : أنه قليل في نفسه ، لأنهم يقتصرون على ما يظهر ، دون ما يخفى من القراءة والتسبيح ، ذكره الماوردي .

مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)

قوله تعالى : { مذبذبين بين ذلك } المذبذب : المتردّد بين أمرين ، وأصل التذبذب : التحرّك ، والاضطراب ، وهذه صفة المنافق ، لأنه محيّر في دينه لا يرجع إِلى اعتقاد صحيح . قال قتادة : ليسوا بالمشركين المصرّحين بالشرك ، ولا بالمؤمنين المخلصين . قال ابن زيد : ومعنى «بين ذلك» : بين الاسلام والكفر ، لم يظهروا الكفر فيكونوا إِلى الكفار ، ولم يصدّقوا الإِيمان ، فيكونوا إِلى المؤمنين . قال ابن عباس : ومَن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً إِلى الهدى . وقد روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مثل المنافق : مثل الشاة العائِرة بين الغنمين تُعيرُ إِلى هذه مرةً ، وإِلى هذه مرة ، ولا تدري أيُّها تَتَّبع " .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)

قوله تعالى : { لا تتخذوا الكافرين أولياء } في المراد بالكافرين قولان .
أحدهما : اليهود ، قاله ابن عباس .
والثاني : المنافقون ، قال الزجاج : ومعنى الآية : لا تجعلوهم بطانتكم وخاصّتكم .
والسلطان : الحجة الظاهرة ، وإنما قيل للأمير : سلطان ، لأنه حجة الله في أرضه ، واشتقاق السلطان : من السليط . والسَّليط : ما يستضاء به ، ومن هذا قيل للزيت : السَّليط . والعرب تؤنِّث السلطان وتذكِّره ، تقول : قضت عليك السلطان ، وأمرتك السلطان ، والتذكير أكثر ، وبه جاء القرآن ، فمن أنَّث ، ذهب إِلى معنى الحجة ، ومن ذكَّر ، أراد صاحب السلطان . قال ابن الأنباري : تقدير الآية : أتريدون أن تجعلوا لله عليكم بموالاة الكافرين حجة بيِّنة تلزمكم عذابه ، وتكسبكم غضبه؟

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)

قوله تعالى : { إِن المنافقين في الدرك الأسفل } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : بفتح الراء ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف : بتسكين الراء . قال الفراء : وهي لغتان . قال أبو عبيدة : جهنم أدراك ، أي : منازلٌ ، وأطباق . فكل منزل منها : درك . وحكى ابن الأنباري عن بعض العلماء أنه قال : الدركات : مراق ، بعضها تحت بعض . وقال الضحاك : الدرج : إِذا كان بعضها فوق بعضها ، والدرك : إِذا كان بعضها أسفل من بعض . وقال ابن فارس : الجنة درجات ، والنار دركات . وقال ابن مسعود في هذه الآية : هم في توابيت من حديد مبهمة [ عليهم ] . قال ابن الأنباري : المبهمة : التي لا أقفال عليها ، يقال : أمرٌ مبهمٌ : إِذا كان ملتبساً لا يعرف معناه ، ولا بابه .
قوله تعالى : { ولن تجد لهم نصيراً } قال ابن عباس : مانعاً من عذاب الله .

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)

قوله تعالى : { إِلا الذين تابوا } قال مقاتل : سبب نزولها : أن قوماً قالوا عند ذكر مستقر المنافقين : فقد كان فلان وفلان منافقين . فتابوا ، فكيف يُفْعَل بهم؟ فنزلت هذه الآية . ومعنى الآية : إِلا الذين تابوا من النفاق { وأصلحوا } أعمالهم بعد التوبة { واعتصموا بالله } أي : استمسكوا بدينه . { وأخلصوا دينهم } فيه قولان .
أحدهما : أنه الإِسلام ، وإِخلاصه : رفع الشرك عنه ، قاله مقاتل .
والثاني : أنه العمل ، وإِخلاصه : رفع شوائِب النفاق والرياء منه ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { فأولئك مع المؤمنين } في " مع " قولان .
أحدهما : أنها على أصلها ، وهو الاقتران . وفي ماذا اقترنوا بالمؤمنين؟ فيه قولان .
أحدهما : في الولاية ، قاله مقاتل . والثاني : في الدين والثواب ، قاله أبو سليمان .
والثاني : أنها بمعنى «مِن» فتقديره : فأولئك من المؤمنين ، قاله الفراء .

مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)

قوله تعالى : { ما يفعل الله بعذابكم } «ما» حرف استفهام ، ومعناه : التقرير ، أي : إِن الله لا يعذِّب الشاكر المؤمن ، ومعنى الآية : ما يصنع الله بعذابكم إِن شكرتم نعمه ، وآمنتم به وبرسوله . والإيمان مقدّم في المعنى وإِن أخِّر في اللفظ . وروي عن ابن عباس أن المراد بالشكر : التوحيد .
قوله تعالى : { وكان الله شاكراً عليماً } أي : للقليل من أعمالكم ، عليماً بنياتكم ، وقيل : شاكراً ، أي : قابلاً .

لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)

قوله تعالى : { لا يحب لله الجهر بالسوء من القول } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن ضيفاً تضيّف قوماً فأساؤوا قِراهُ فاشتكاهم ، فنزلت هذه الآية رخصةً في أن يشكوا ، قاله مجاهد .
والثاني : " أن رجلاً نال من أبي بكر الصديق والنبيُّ صلى الله عليه وسلم حاضر ، فسكت عنه أبو بكر مراراً ، ثم ردّ عليه ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : يا رسول الله شتمني فلم تقل له شيئاً ، حتى إِذا رددت عليه قمت؟! فقال : «إِن ملكا كان يجيب عنك ، فلما رددت عليه ، ذهب الملك ، وجاء الشيطان» " فنزلت هذه الآية ، هذا قول مقاتل . واختلف القراء في قراءة { إِلا مَن ظُلم } فقرأ الجمهور بضم الظاء ، وكسر اللام . وقرأ عبد الله بن عمرو ، والحسن ، وابن المسيب ، وأبو رجاء ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والضحاك ، وزيد بن أسلم ، بفتحهما .
فعلى قراءة الجمهور ، في معنى الكلام ثلاثة أقوال .
أحدها : إِلا أن يدعو المظلوم على مَن ظلمه ، فإن الله قد أرخص له ، قاله ابن عباس . والثاني : إِلا أن ينتصر المظلومُ من ظالمه ، قاله الحسن ، والسدي .
والثالث : إِلا أن يخبر المظلوم بظلم من ظلمه ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .
وروى ابن جريج عنه قال : إِلا أن يجهر الضيف بذم من لم يضيفه . فأما قراءة مَن فتح الظاء ، فقال ثعلب : هي مردودة على قوله : { ما يفعل الله بعذابكم } إِلا من ظلم . وذكر الزجاج فيها قولين .
أحدهما : أن المعنى : إِلا أن الظالم يجهر بالسوء ظلماً .
والثاني : إِلا أن تجهروا بالسوء للظالم . فعلى هذا تكون «إِلا» في هذا المكان استثناءً منقطعاً ، ومعناها : لكن المظلوم يجوز له أن يجهرَ لظالمه بالسوء . ولكن الظالم قد يجهر بالسوء . واجهروا له بالسوء . وقال ابن زيد : إِلا من ظلم ، أي : أقام على النفاق ، فيجهر له بالسوء حتى يَنْزِع .
قوله تعالى : { وكان الله سميعاً } أي : لما تجهرون به من سوء القول { عليماً } بما تخفون . وقيل : سميعاً لقوم المظلوم ، عليماً بما في قلبه ، فليتق الله ، ولا يقل إِلا الحق . وقال الحسن : من ظُلِم ، فقد رخّص له أن يدعو على ظالمه من غير أن يعتدي ، مثل أن يقول : اللهم أعني عليه ، اللهم استخرج لي حقي ، اللهم حل بينه وبين ما يريد .

إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)

قوله تعالى : { إِن تبدوا خيراً } قال ابن عباس : يريد من أعمال البرِّ كالصيام والصدقة . وقال بعضهم : إِن تبدوا خيراً بدلاً من السوء . وأكثرهم على أن «الهاء» في «تخفوه» تعود إِلى الخير . وقال بعضهم : تعود إِلى السوء .
قوله تعالى : { فإن الله كان عَفواً } قال أبو سليمان : أي : لم يزل ذا عفوٍ مع قدرته ، فاعفوا أنتم مع القدرة .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)

قوله تعالى : { إِن الذين يكفرون بالله ورسلِه } فيهم قولان .
أحدهما : أنهم اليهود كانوا يؤمنون بموسى ، وعزير ، والتوراة ، ويكفرون بعيسى ، والإِنجيل ، ومحمد ، والقرآن ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنهم اليهود والنصارى ، آمَن اليهود بالتوراة وموسى ، وكفروا بالإِنجيل وعيسى ، وآمن النصارى بالإِنجيل وعيسى ، وكفروا بمحمد والقرآن ، قاله قتادة . ومعنى قوله : { ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله } أي : يريدون أن يفرّقوا بين الإِيمان بالله ، والإِيمان برسله ، ولا يصح الإِيمان به والتكذيب برسله أو ببعضهم { ويريدون أن يتخذوا بين ذلك } أي : بين إِيمانهم ببعض الرُسُلِ ، وتكذيبهم ببعض { سبيلاً } أي : مذهباً يذهبون إِليه . وقال ابن جريج : ديناً يدينون به .

أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)

قوله تعالى : { أولئك هم الكافرون حقاً } ذكر «الحق» هاهنا توكيداً لكفرهم إزالةً لتَوَهُّم مَن يتوهم أن إِيمانهم ببعضِ الرسلِ يزيل عنهم اسم الكفر .

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)

قوله تعالى : { يسألك أهلُ الكتاب } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم سألوه أن ينزِّل كتاباً عليهم خاصة ، هذا قول الحسن ، وقتادة .
والثاني : أن اليهود والنصارى أتوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : لا نُبايعك حتى تأتينا بكتابٍ من عند الله إِلى فلان أنك رسول الله ، وإِلى فلان بكتاب أنك رسول الله ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن جريج .
والثالث : أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء مكتوباً كما نزلت التوراة على موسى ، هذا قول القرظي ، والسدي .
وفي المراد بأهل الكتاب قولان . أحدهما : اليهود والنصارى . والثاني : اليهود .
وفي المراد بأهل الكتاب المنزّل من السماء قولان .
أحدهما : كتاب مكتوب غير القرآن .
والثاني : كتاب بتصديقه في رسالته ، وقد بيّنا في ( البقرة ) معنى سؤالهم رؤية الله جهرة ، واتخاذهم العجل . و«البينات» : الآيات التي جاء بها موسى . فإن قيل : كيف قال : ثم اتخذوا العجل ، و «ثم» تقتضي التراخي ، والتأخر ، أفكان اتخاذ العجل بعد قولهم : «أرنا الله جهرة»؟ فعنه أربعة أجوبة ذكرهن ابن الأنباري .
أحدهن : أن تكون «ثم» مردودة على فعلهم القديم ، والمعنى : وإِذْ وَعَدْنا موسى أربعين ليلة ، فخالفوا أيضاً ، ثم اتخذوا العجل .
والثاني : أن تكون مقدمة في المعنى ، مؤخّرة في اللفظ ، والتقدير : فقد اتخذوا العجل ، ثم سألوا موسى أكبر من ذلك . ومثله { فأَلْقِهْ إِليهم ثم تولَّ عنهم فانظر ماذا يرجعون } [ النمل : 28 ] المعنى : فألقه إِليهم ، ثم انظر ماذا يرجعون ، ثم تول عنهم .
والثالث : أن المعنى ، ثم كانوا اتخذوا العجل ، فأضمر الكون .
والرابع : أن «ثم» معناها التأخير في الإِخبار ، والتقديم في الفعل ، كما يقول القائِل : شربت الماء ، ثم أكلت الخبز ، يريد : شربت الماء ثم أخبركم أني أكلت الخبز بعد إِخباري بشرب الماء .
قوله تعالى : { فعفونا عن ذلك } أي : لم نستأصل عبدة العجل . و«السلطان المبين» : الحجّة البيّنة . قال ابن عباس : اليد والعصا . وقال غيره : الآيات التسع .

وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)

قوله تعالى : { ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم } أي : بما أعطوا الله من العهد والميثاق : ليعملُنَّ بما في التوراة .
قوله تعالى : { لا تعدوا في السبت } قرأ نافع : لا تعْدُّوا ، بتسكين العين ، وتشديد الدال ، وروى عنه ورش «تَعَدُّوا» بفتح العين ، وتشديد الدال . وقرأ الباقون «تَعْدوا» خفيفة ، وكلهم ضم الدال . وقد ذكرنا هذا وغيره في ( البقرة ) و«الميثاق الغليظ» : العهد المؤكّد .

فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)

قوله تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم } «ما» صلة مؤكّدة . قال الزجاج : والمعنى : فبنقضهم ميثاقهم ، وهو أن الله أخذ عليهم الميثاق أن يُبيّنوا ما أنزل عليهم مِن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره . والجالب للباء العامل فيها ، وقوله : { حرّمنا عليهم طيبات } أي : بنقضهم ميثاقهم ، والأشياء التي ذكرت بعده حرّمنا عليهم . وقوله : { فبظلم } بدلٌ من قوله : { فبما نقضهم } ، وجعل الله جزاءهم على كفرهم أن طبع على قلوبهم . وقال ابن فارس : الطبع : الختم و [ من ذلك ] طبع الله على قلب الكافر [ كأنه ] ختم [ عليه حتى لا يصل إِليه هدى ولا نور ] فلم يوفّق لخير ، والطابع : الخاتم يختم به .
قوله تعالى : { فلا يؤمنون إِلا قليلاً } فيه قولان .
أحدهما : فلا يؤمن منهم إِلا القليل ، وهم عبد الله بن سلام ، وأصحابه ، قاله ابن عباس .
والثاني : المعنى : إِيمانهم قليل ، وهو قولهم : ربنا الله ، قاله مجاهد .

وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)

قوله تعالى : { وبكفرهم } في إِعادة ذكر الكفر فائِدة . وفيها قولان .
أحدهما : أنه أراد : وبكفرهم بمحمد والقرآن ، قاله ابن عباس .
والثاني : وبكفرهم بالمسيح ، وقد بشروا به ، قاله أبو سليمان الدمشقي . فأما «البهتان» فهو في قول الجماعة : قذفهم مريم بالزنى .

وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)

قوله تعالى : { وقولهم إِنا قتلنا المسيح } قال الزجاج : أي باعترافهم بقتلهم إِيَّاه ، وما قتلوه ، يُعذَّبون عذابَ من قتل ، لأنهم قتلوا الذي قتلوا على أنه نبي وفي قوله : «رسول الله» قولان .
أحدهما : أنه من قول اليهود ، فيكون المعنى : أنه رسول الله على زعمه .
والثاني : أنه من قول الله ، لا على وجه الحكاية عنهم .
قوله تعالى : { ولكن شُبّه لهم } أي : أُلقِي شبهُه على غيره .
وفيمن أُلقي عليه شبهه قولان .
أحدهما : أنه بعض من أراد قتله من اليهود . روى أبو صالح عن ابن عباس : أن اليهود لما اجتمعت على قتل عيسى ، أدخله جبريل خوخة لها رَوزنة ، ودخل وراءه رجل منهم ، فألقى الله عليه شبه عيسى ، فلما خرج على أصحابه ، قتلوه يظنونه عيسى ، ثم صلبوه ، وبهذا قال مقاتل ، وأبو سليمان .
والثاني : أنه رجُلٌ من أصحاب عيسى ، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن عيسى خرج على أصحابه لما أراد الله رفعه ، فقال : أيكم يُلقى عليه شبهي ، فيقتل مكاني ، ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب ، فقال : أنا ، فقال : اجلس ، ثم أعاد القول ، فقام الشاب ، فقال عيسى : اجلس ، ثم أعاد ، فقال الشاب : أنا ، فقال : نعم أنت ذاك ، فألقي عليه شبه عيسى ، ورفع عيسى ، وجاء اليهود ، فأخذوا الرجل ، فقتلوه ، ثم صلبوه . وبهذا القول قال وهب بن منبه ، وقتادة ، والسدي .
قوله تعالى : { وإِن الذين اختلفوا فيه } في المختلفين قولان .
أحدهما : أنهم اليهود ، فعلى هذا في هاء «فيه» قولان .
أحدهما : أنها كناية عن قتله ، فاختلفوا هل قتلوه أم لا؟ .
وفي سبب اختلافهم في ذلك قولان .
أحدهما : أنهم لما قتلوا الشخص المشبّه كان الشبه قد أُلقي على وجهه دون جسده ، فقالوا : الوجه وجه عيسى ، والجسد جسد غيره ، ذكره ابن السائب .
والثاني : أنهم قالوا : إِن كان هذا عيسى ، فأين صاحبنا؟ وإِن كان هذا صاحبنا ، فأين عيسى؟ يعنون الذي دخل في طلبه ، هذا قول السدي .
والثاني : أن «الهاء» كناية عن عيسى ، واختلافهم فيه قول بعضهم : هو ولد زنى ، وقول بعضهم : هو ساحر .
والثاني : أن المختلفين النصارى ، فعلى هذا في هاء «فيه» قولان .
أحدهما : أنها ترجع إِلى قتله ، هل قتل أم لا؟ والثاني : أنها ترجع إِليه ، هل هو إِله أم لا؟ وفي هاء «منه» قولان .
أحدهما : أنها ترجع إِلى قتله .
والثاني : إِلى نفسه هل هو إِلهٌ ، أم لغيرِ رشدة ، أم هو ساحر؟
قوله تعالى : { ما لهم به من علم إِلا اتباع الظن } قال الزجاج : «اتباع» منصوب بالاستثناء ، وهو استثناء ليس من الأول . والمعنى : ما لهم به من علم إِلا أنهم يتبعون الظن ، وإِن رُفع جاز على أن يجعل علمهم اتباع الظن ، كما تقول العرب : تحيّتك الضّرب .

قوله تعالى : { وما قتلوه } في «الهاء» ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها ترجع إِلى الظن فيكون المعنى : وما قتلوا ظنّهم يقيناً ، هذا قول ابن عباس .
والثاني : أنها ترجع إِلى العلم ، أي : ما قتلوا [ العلم به ] يقيناً ، تقول : قتلته يقيناً ، وقتلته علماً [ للرأي والحديث ] هذا قول الفراء ، وابن قتيبة . قال ابن قتيبة : وأصل هذا : أن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء وغلبة ، يقول : فلم يكن علمهم بقتل المسيح علماً أحيط به ، إِنما كان ظناً .
والثالث : أنها ترجع إلى عيسى ، فيكون المعنى : وما قتلوا عيسى حقاً ، هذا قول الحسن . وقال ابن الأنباري : اليقين مؤخر في المعنى ، فالتقدير : وما قتلوه ، بل رفعه الله إِليه يقيناً .

وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)

قوله تعالى : { وإِن من أهل الكتاب إِلا ليؤمنن به } قال الزجاج : المعنى : وما منهم أحد إِلا ليؤمنّن به ، ومثله { وإِن منكم إِلا واردها } [ مريم : 71 ] . وفي أهل الكتاب قولان .
أحدهما : أنهم اليهود ، قاله ابن عباس .
والثاني : اليهود والنصارى ، قاله الحسن ، وعكرمة . وفي هاء «به» قولان .
أحدهما : أنها راجعة إلى عيسى ، قاله ابن عباس ، والجمهور .
والثاني : أنها راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله عكرمة . وفي هاء «موته» قولان .
أحدهما : أنها ترجع إِلى المؤمِن . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ليس يهودي يموتُ أبداً حتى يؤمن بعيسى ، فقيل لابن عباس : إِن خرّ من فوق بيْت؟ قال : يتكلم به في الهُويِّ قال : وهي في قراءة أُبي : «قبل موتهم» .
وهذا قول مجاهد ، وسعيد بن جبير . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : يؤمن اليهودي قبل أن يموت ، ولا تخرج روح النصراني حتى يشهد أن عيسى عبدٌ . وقال عكرمة : لا تخرج روح اليهودي والنصراني حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أنها تعود إِلى عيسى . روى عطاء عن ابن عباس قال : إِذا نزل إِلى الأرض لا يبقى يهودي ولا نصراني ، ولا أحدٌ يعبد غير الله إِلا اتّبعه ، وصدّقه ، وشهد أنه روح الله ، وكلمته ، وعبده ، ونبيّه . وهذا قول قتادة ، وابن زيد ، وابن قتيبة ، واختاره ابن جرير ، وعن الحسن كالقولين . وقال الزجاج : هذا بعيدٌ ، لعموم قوله : { وإِن من أهل الكتاب } ، والذين يبقوْن حينئِذ شرذمة منهم ، إِلا أن يكون المعنى : أنهم كلهم يقولون : إن عيسى الذي ينزل لقتل الدجّال نؤمن به .
قوله تعالى : { ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً } قال قتادة : يكون عليهم شهيداً أنه قد بلَّغ رسالات ربه ، وأقرّ بالعبودية على نفسه .

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)

قوله تعالى : { فبظلم من الذين هادوا } قال مقاتل : حرّم الله على أهل التوراة الربا ، وأن يأكلوا أموال الناس ظلماً ، ففعلوا ، وصدوا عن دين الله ، وعن الإِيمان بمحمد عليه السلام ، فحرّم الله عليهم ما ذكر في قوله : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظُفُرٍ } [ الانعام : 146 ] عقوبة لهم . قال أبو سليمان : وظلمهم : نقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وما ذكر في الآيات قبلها . وقال مجاهد : { وبصدّهم عن سبيل الله } قال : صدّهم أنفسهم وغيرهم عن الحق . قال ابن عباس : صدهم عن سبيل الله ، يعني الإِسلام ، وأكلهم أموال الناس بالباطل ، أي : بالكذب على دين الله ، وأخذ الرُّشى على حكم الله ، وتبديل الكتب التي أنزلها الله ليستديموا المأكل .

وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)

قوله تعالى : { وأعتدنا } أي : أعددنا للكافرين ، يعني اليهود . وقيل : إِنما قال «منهم» ، لأنه علم أن قوماً منهم يؤمنون ، فيأمنون العذاب .

لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)

قوله تعالى : { لكن الراسخون في العلم } قال ابن عباس : هذا استثناء لمؤمني أهل الكتاب ، فأما الراسخون ، فهم الثّابتون في العلم . قال أبو سليمان : وهم عبد الله بن سلام ، ومَن آمَن معه ، والذين آمنوا من أهل الإِنجيل ممّن قَدِمَ مع جعفر من الحبشة ، والمؤمنون ، يعني أصحاب رسول الله . فأما قوله : { والمقيمين الصلاة } فهم القائمون بأدائها كما أُمروا .
وفي نصب «المقيمين» أربعة أقوال .
أحدها : أنه خطأٌ من الكاتب ، وهذا قول عائشة ، وروي عن عثمان بن عفان أنه قال : إِن في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها . وقد قرأ ابن مسعود ، وأُبيّ وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، والجحدري : «والمقيمون الصلاة» بالواو .
وقال الزجاج : قول من قال إِنه خطأ ، بعيدٌ جداً ، لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة ، والقدوة ، فكيف يتركون في كتاب الله شيئاً يُصلِحُه غيرهم؟! فلا ينبغي أن ينسب هذا إِليهم . وقال ابن الأنباري : حديثُ عثمان لا يصح ، لأنه غير متصل ، ومحال أن يؤخر عثمان شيئاً فاسداً ، ليُصلحه من بعده .
والثاني : أنه نسقٌ على «ما» والمعنى : يؤمنون بما أنزل إِليك ، وبالمقيمين الصلاة ، فقيل : هم الملائكة ، وقيل : الأنبياء .
والثالث : أنه نسقٌ على الهاء والميم من قوله { منهم } فالمعنى : لكن الراسخون في العلم منهم ، ومن المقيمين الصلاة يؤمنون بما أنزل إِليك . قال الزجاج : وهذا رديء عند النحويين ، لا ينسق بالظاهر المجرور على المضمر المجرور إِلا في الشّعر .
والرابع : أنه منصوبٌ على المدح ، فالمعنى : اذكر المقيمين الصلاة ، وهم المؤتون الزكاة . وأنشدوا :
لا يَبْعَدَنْ قومي الذين هُمُ ... سُمُّ العُداة وآفةُ الجُزْرِ
النازلين بكلِّ معترَكٍ ... والطيبون مَعاقِدَ الأُزْرِ
وهذا على معنى : اذكر النازلين ، وهم الطيبون ، ومن هذا قولك : مررت بزيد الكريمِ ، إن أردت أن تخلصَه من غيره ، فالخفض هو الكلام ، وإِن أردت المدح والثناء ، فإن شئت نصبت ، فقلت : بزيد الكريمَ ، كأنك قلت : اذكر الكريم ، وإِن شئت رفعت على معنى : هو الكريمُ . وتقول : جاءني قومك المطعمين في المحْل ، والمغيثون في الشدائِد على معنى : اذكر المطعمين ، وهم المغيثون ، وهذا القول اختيار الخليل ، وسيبويه . فهذه الأقوال حكاها الزجاج ، واختار هذا القول .

إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)

قوله تعالى : { إنا أوحينا إِليك } قال ابن عباس : قال عدي بن زيد ، وسُكين : يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشرٍ من شيءٍ بعد موسى ، فنزلت هذه الآية . وقد ذكرنا في «آل عمران» معنى الوحي ، وذكر هنالك .
وإِسحاق : أعجمي ، وإِن وافق لفظ العربي ، يقال : أسحقه الله يسحقه إِسحاقاً ، ويعقوب : أعجمي . فأما اليعقوب ، وهو ذكر الحجل وهي القبج فعربي ، كذلك قرأته على شيخنا أبي منصور اللغوي . وأيوب : أعجمي ، ويونس : اسم أعجمي . قال أبو عبيدة ، يقال : يُونُس ويُونِس بضم النون وكسرها ، وحكى أبو زيد الأنصاري عن العرب همزة مع الكسرة والضمّة والفتحة . وقال الفراء : يونس بضم النون من غير همز لغة أهل الحجاز ، وبعض بني أسد يقول : يؤنس بالهمز ، وبعض بني عُقيل يقول : يونس بفتح النون من غير همز . والمشهور في القراءة يونُس برفع النون من غير همز . وقد قرأ ابن مسعود ، وقتادة ، ويحيى بن يعمر ، وطلحة : يؤنِس بكسر النون مهموزاً . قرأ أبو الجوزاء ، وأبو عمران ، والجحدري : يُونَس بفتح النون من غير همز . وقرأ أبو المتوكل : يؤنس بفتح النون مهموزاً . وقرأ أبو السّماك العدوي : يونِس بكسر النون من غير همز . وقرأ عمرو بن دينار برفع النون مهموزاً . وهارون : اسمٌ أعجمي ، وباقي الأنبياء قد تقدم ذكرهم . فأما الزبور ، فأكثر القرّاء على فتح الزَاي ، وقرأ أبو رزين ، وأبو رجاء ، والأعمش ، وحمزة بضم الزاي . قال الزجاج : فمن فتح الزاي ، أراد : كتاباً ، ومن ضم ، أراد : كتُباً . ومعنى ذكر «داود» أي : لا تنكروا تفضيل محمد بالقرآن ، فقد أعطى الله داود الزبور . وقال أبو علي : كأنَّ حمزة جعل كتاب داود أنحاء ، وجعل كلَّ نحو زبراً ، ثم جمع ، فقال : زُبُوراً . وقال ابن قتيبة : الزَّبُور فَعُول بمعنى مفعول ، كما تقول : حلوب وركوب بمعنى : محلوب ومركوب ، وهو من قولك : زبرت الكتاب أزبره زبراً : إِذا كتبته ، قال : وفيه لغة أخرى الزُبور بضم الزاي ، كأنه جمع .

وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)

قوله تعالى : { وكلّم الله موسى تكليماً } تأكيد كلّم بالمصدر يدل على أنه سمع كلام الله حقيقة . روى أبو سليمان الدمشقي ، قال : سمعت إِسماعيل بن محمد الصفّار يقول : سمعت ثعلبا يقول : لولا أن الله تعالى أكّد الفعل بالمصدر ، لجاز أن يكون كما يقول أحدنا للآخر : قد كلمتُ لك فلاناً بمعنى : كتبت إِليه رقعة ، أو بعثت إِليه رسولاً ، فلما قال : تكليماً لم يكن إِلا كلاماً مسموعاً من الله .

رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)

قوله تعالى : { لئلا يكون للناس على الله حجة } أي : لئلا يحتجوا في ترك التوحيد والطاعة بعدم الرسل ، لأن هذه الأشياء إِنما تجب بالرُسُلِ .

لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)

قوله تعالى : { لكن الله يشهد } في سبب نزلها قولان .
أحدهما : أن النبي عليه السلام دخل على جماعة من اليهود ، فقال : " إِني والله أعلم أنكم لتعلمون أني رسول الله " ، فقالوا : ما نعلم ذلك ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس .
والثاني : أن رؤساء أهل مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : سألنا عنك اليهود ، فزعموا أنهم لا يعرفونك ، فائتنا بمن يشهد لك أن الله بعثك ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن السائب . قال الزجاج : الشاهد : المبيِّن لما يشهد به ، فالله عز وجل بيَّن ذلك ، ويعلم مع إِبانته أنه حق . وفي معنى { أنزله بعلمه } ثلاثة أقوال .
أحدها : أنزله وفيه علمه ، قاله الزجاج .
والثاني : أنزله من علمه ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .
والثالث : أنزله إِليك بعلمٍ منه أنك خيرته من خلقه ، قاله ابن جرير .
قوله تعالى : { والملائكة يشهدون } فيه قولان .
أحدهما : يشهدون أنَّ الله أنزله .
والثاني : يشهدون بصدقك .
قوله تعالى : { وكفى بالله شهيداً } قال الزجاج : «الباء» دخلت مؤكِّدة . والمعنى : اكتفوا بالله في شهادته .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)

قوله تعالى : { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } قال مقاتل وغيرُهُ : هُم اليهود كفروا بمحمد ، وصدُّوا الناس عن الإِسلام . قال أبو سليمان : وكان صدُّهم عن الإِسلام قولهم للمشركين ولأتباعهم : ما نجد صفة محمد في كتابنا .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)

قوله تعالى : { إِن الذين كفروا وظلموا } قال مقاتل وغيره : هم اليهود أيضاً كفروا بمحمد والقرآن . وفي الظلم المذكور هاهنا قولان .
أحدهما : أنه الشرك ، قاله مقاتل .
والثاني : أنه جحدهم صفة محمد النبي صلى الله عليه وسلم في كتابهم .
قوله تعالى : { لم يكن الله ليغفر لهم } يريد من مات منهم على الكفر . وقال أبو سليمان : لم يكن الله ليستر عليهم قَبيح فعالهم ، بل يفضحهم في الدنيا ، ويعاقبهم بالقتل والجلاء والسّبي ، وفي الآخرة بالنار { ولا ليَهديهم طريقاً } ينجون فيه .
وقال مقاتل : طريقاً إِلى الهدى { وكان ذلك على الله يسيراً } يعني كان عذابهم على الله هينا .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)

قوله تعالى : { يا أيها الناس } الكلام عامّ ، وروي عن ابن عباس أنه قال : أراد المشركين . { قد جاءكم الرسول بالحق } أي : بالهدى ، والصدق .
قوله تعالى : { فآمنوا خيراً لكم } قال الزجاج عن الخليل وجميع البصريين : إنه منصوبٌ بالحمل على معناه ، لأنك إِذا قلت : انته خيراً لك ، وأنت تدفعه عن أمرٍ فتدخله في غيره ، كان المعنى : انته وأتِ خيراً لك ، وادخل في ما هو خير لك ، وأنشد الخليل ، وسيبويه قول عمر بن أبي ربيعة :
فواعديه سَرْحَتَيْ مالك ... أَوِ الرُّبا بينهما أسهَلا
كأنه قال : إِيتي مكاناً أسهل .
قوله تعالى : { وإِن تكفروا فان لله ما في السماوات والأرض } أي : هو غني عنكم ، وعن إِيمانكم ، { وكان الله عليماً } بما يكون من إِيمان أو كفر { حكيماً } في تكليفكم مع علمه بما يكون منكم .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)

قوله تعالى : { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } قال مقاتل : نزلت في نصارى نجران ، السّيد والعاقِب ، ومَن معهما . والجمهور على أن المراد بهذه الآية : النصارى . وقال الحسن : نزلت في اليهود والنصارى . والغلو : الإفراط ومجاوزة الحد ، ومنه غلا السّعر ، وقال الزجاج : الغلو : مجاوزة القدر في الظلم . وغلو النصارى في عيسى : قول بعضهم : هو الله ، وقول بعضهم : هو ابن الله ، وقول بعضهم : هو ثالث ثلاثة . وعلى قول الحسن غلو اليهود فيه قولهم : إنه لغير رشدة . وقال بعض العلماء : لا تغلوا في دينكم بالزيادة في التشدّد فيه .
قوله تعالى : { ولا تقولوا على الله إِلا الحق } أي : لا تقولوا إِن الله له شريك أو ابن أو زوجة . وقد ذكرنا معنى «المسيح» و«الكلمة» في { آل عمران } .
وفي معنى { وروح منه } سبعة أقوال .
أحدها : أنه روح ٌمن أرواح الأبدان . قال أبيّ بن كعب : لما أخذ الله الميثاق على بني آدم كان عيسى روحاً من تلك الأرواح ، فأرسله إِلى مريم ، فحملت به .
والثاني : أن الروح النفخ ، فسُمّي روحاً ، لأنه حدث عن نفخة جبريل في درع مريم . ومنه قول ذي الرمّة :
وَقُلتُ لهُ ارْفعهَا إِليك وأحْيِها ... بروحِك واقْتَتْه لها قيتَةً قدْرَا
هذا قول أبي رَوق .
والثالث : أن معنى { وروحٌ منه } إِنسان حيٌ باحياء الله له .
والرابع : أن الروح : الرحمة ، فمعناه : ورحمة منه ، ومثله { وأيدهم بروح منه } [ المجادلة : 22 ] .
والخامس : أن الروح هاهنا جبريل . فالمعنى : ألقاها الله إلى مريم ، والذي ألقاها روحٌ منه . ذكر هذه الأقوال الثلاثة أبو سليمان الدمشقي .
والسادس : أنه سمّاه روحاً ، لأنه يحيا به الناس كما يحيون بالأرواح ، ولهذا المعنى : سمي القرآن روحاً ، ذكره القاضي أبو يعلى .
والسابع : أن الروح : الوحي أوحى الله إلى مريم يبشرها به ، وأوحى إِلى جبريل بالنفخ في درعها ، وأوحى إِلى ذات عيسى أن : كن فكان . ومثله : { ينزل الملائكة بالروح من أمره } [ النحل : 2 ] أي : بالوحي ، ذكره الثعلبي .
فأما قوله : «منه» فانه إِضافة تشريفٍ ، كما تقول : بيت الله ، والمعنى من أمره ، ومما يقاربها قوله : { وسخّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه } [ الجاثية : 13 ] .
قوله تعالى : { ولا تقولوا ثلاثة } قال الزجاج : رفعه بإضمار : لا تقولوا آلهتُنا ثلاثة { إِنما الله إِله واحد } أي : ما هو إِلا إِلهٌ واحد { سبحانه } ومعنى «سبحانه» : تبرئته مِن أن يكون له ولد . قال أبو سليمان : { وكفى بالله وكيلاً } أي : قيّما على خلقه ، مدبراً لهم .

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)

قوله تعالى : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله } سبب نزولها : « أن وفد نجران وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد لَمْ تذكر صاحبنا؟ قال : ومن صاحبكم؟ قالوا عيسى ، قال : وأي شيءٍ أقول له؟ هو عبد الله ، قالوا : بل هو الله ، فقال : إِنه ليس بعار عليه أن يكون عبداً لله ، قالوا : بلى ، فنزلت هذه الآية » ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . قال الزجاج : معنى يستنكف : يأنَف ، واصله في اللغة من نكفت الدمع : إِذا نحيته باصبُعِكَ من خدّك . قال الشاعر :
فبانوا فلولا ما تذكَّرُ منهم ... من الحِلْفِ لم يُنكَفْ لعينيك مَدْمعُ
قوله تعالى : { ولا الملائكة المقربون } قال ابن عباس : هم حملة العرش .

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)

قوله تعالى : { فيوفيهم أجورهم } أي : ثواب أعمالهم { ويزيدهم من فضله } مضاعفة الحسنات . وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { فيوفيهم أجورهم } قال : يدخلون الجنة ، ويزيدهم من فضله : الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إِليهم المعروف في الدنيا .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)

قوله تعالى : { قد جاءكم برهانٌ من ربكم } في البُرهان ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الحجة ، قاله مجاهد ، والسدي .
والثاني : القرآن ، قاله قتادة .
والثالث : أنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله سفيان الثوري . فأما النور المبين ، فهو القرآن ، قاله قتادة ، وإنما سمّاه نوراً ، لأن الأحكام تبين به بيان الأشياء بالنور .

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)

قوله تعالى : { واعتصموا به } أي : استمسكوا . وفي «هاء» به قولان .
أحدهما : أنها تعود إلى النور وهو القرآن ، قاله ابن جريج .
والثاني : تعود إِلى الله تعالى : قاله مقاتل . وفي «الرحمة» قولان .
أحدهما : أنها الجنة ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : أنها نفس الرحمة ، والمعنى : سيرحمهم ، قاله أبو سليمان . وفي «الفضل» قولان .
أحدهما : أنه الرزق في الجنة ، قاله مقاتل .
والثاني : أنه الإِحسان ، قاله أبو سليمان .
قوله تعالى : { ويهديهم إِليه صراطاً مستقيماً } أي : يوفقهم لإِصابة الطريق المستقيم . وقال ابن الحَنفية : الصراط المستقيم : دين الله .

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)

قوله تعالى : { يستفتونك } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أنها نزلت في جابر بن عبد الله . روى أبو الزبير " عن جابر قال : مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني هو وأبو بكر [ وهما ماشيان ] فوجدني قد أُغمي علي ، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم صبَّ علي من وَضوئه ، فأفقت ، وقلت : يا رسول الله كيف أصنع في مالي وكان لي تسع أخوات ، ولم يكن لي ولد؟ فلم يجبني بشيء ، ثم خرج وتركني ، ثم رجع إِليّ وقال : يا جابر لا أراك ميتاً من وجعك هذا ، وإِن الله عز وجل قد أنزل في أخواتك ، وجعل لهن الثلثين ، فقرأ عليَّ هذه الآية : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } " فكان جابر يقول : أنزلت هذه الآية فيَّ .
والثاني : أن الصحابة أهمّهم بيان شأن الكلالة فسألوا عنها نبي الله ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول قتادة . وقال سعيد بن المسيب : " سأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نورث الكلالة؟ فقال : «أوليس قد بيّن الله تعالى ذلك ، ثم قرأ : { وإِن كان رجل يورث كلالة } » فأنزل الله عز وجل { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } " . قوله تعالى : { إِن امرُؤٌ هلك } أي : مات { ليس له ولد } يريد : ولا والِد : فاكتفى بذكر أحدهما ، ويدلُ على المحذوف أنَّ الفتيا في الكلالة ، وهي مَن ليس له ولد ولا والد .
قوله تعالى : { وله أُخت } يريد من أبيه وأُمه { فلها نصف ما ترك } عند انفرادها { وهو يرثها } أي : يستغرق ميراث الأُخت إِذا لم يكن لها ولد ولا والد ، وهذا هو الأخ من الأب والأم ، أو من الأب { فان كانتا اثنتين } يعني : أُختين وسئل الأخفش ما فائدة قوله «اثنتين» و«كانتا» لا يُفسّر إِلا باثنتين؟ فقال : أفادت العدد العاري عن الصفة ، لأنه يجوز في «كانتا» صغيرتين ، أو حرتين ، أو صالحتين ، أو طالحتين ، فلما قال : «اثنتين» فاذا اطلاق العدد على أي وصف كانتا عليه . { فلهما الثلثان } من تركة أخيهما الميت { وإِن كانوا } يعني المخلفين .
قوله تعالى : { يبيّن الله لكم أن تضلوا } قال ابن قتيبة : لئلا تضلوا . وقال الزجاج : فيه قولان .
أحدهما : أن لا تضلوا ، فأضمرت لا . والثاني : كراهية أن تضلوا ، وهو قول البصريين . قال ابن جريج : أن تضلوا في شأن المواريث .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } اختلفوا في المخاطبين بهذا على قولين .
أحدهما : أنهم المؤمنون من أُمتنا ، وهذا قول الجمهور .
والثاني : أنهم أهل الكتاب ، قاله ابن جريج . «والعقود» : العهود ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، والجماعة . وقال الزجاج : «العقود» : أوكد العهود .
واختلفوا في المراد بالعهود هاهنا على خمسة أقوال .
أحدها : أنها عهود الله التي أخذها على عباده فيما أحلّ وحرّم ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد .
والثاني : أنها عهود الدين كلها ، قاله الحسن .
والثالث : أنها عهود الجاهلية ، وهي الحِلْفُ الذي كان بينهم ، قاله قتادة .
والرابع : أنها العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب من الإِيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن جريج ، وقد ذكرنا عنه أن الخطاب للكتابيين .
والخامس : أنها عقود الناس بينهم ، من بيع ، ونكاح ، أو عقد الإِنسان على نفسه من نذر ، أو يمين ، وهذا قول ابن زيد .
قوله تعالى : { أُحلت لكم بهيمة الأنعام } في بهيمة الأنعام ثلاثة أقاويل .
أحدها : أنها أجنّة الأنعام التي توجد ميتة في بطون أُمهاتها إِذا ذبحت الأُمهات ، قاله ابن عمر ، وابن عباس .
والثاني : أنها الإِبل ، والبقر ، والغنم ، قاله الحسن ، وقتادة ، والسدي .
وقال الربيع : هي الأنعام كلها . وقال ابن قتيبة : هي الإِبل ، والبقر ، والغنم ، والوحوش كلها .
والثالث : أنها وحش الأنعام كالظباء ، وبقر الوحش ، روي عن ابن عباس ، وأبي صالح . وقال الفراء : بهيمة الأنعام بقر الوحش ، والظباء ، والحمر الوحشيّة .
قال الزجاج : وإِنما قيل لها بهيمة ، لأنها أبهمت عن أن تميّز ، وكل حي لا يميّز فهو بهيمة .
قوله تعالى : { إِلا ما يتلى عليكم } روي عن ابن عباس أنه قال : هي الميتة وسائِر ما في القرآن تحريمه . وقال ابن الأنباري : المتلو علينا من المحظور الآية التي بعدها ، وهي قوله : { حرمت عليكم الميتة } .
قوله تعالى : { غير محلي الصيد } قال أبو الحسن الأخفش : أوفوا بالعقود غير محلي الصيد ، فانتصب على الحال . وقال غيره : المعنى : أُحلت لكم بهيمة الأنعام غير مستحلي اصطيادها ، وأنتم حرم ، قال الزجاج : الحرم : المحرومون ، وواحد الحرم : حرام ، يقال : رجل حرام ، وقومٌ حرمٌ . قال الشاعر :
فقلت لها فيئي إِليك فإنني ... حرامٌ وإِني بعد ذاك لبيبُ
أي : ملبّ . وقوله : { إِن الله يحكم ما يريد } أي : الخلق له يحل ما يشاء لمن يشاء ، ويحرم ما يريد على مَن يريد .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)

قوله تعالى : { لا تحلوا شعائر الله } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : " أن شريح بن ضبيعة أتى المدينة ، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إِلام تدعو؟ فقال : «إِلى شهادة أن لا إِله إِلا الله وأني رسول الله» ، فقال : إِن لي أُمراء خلفي أرجع إِليهم أشاورهم ، ثم خرج ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر ، وما الرجل بمسلم» فمر شريح بسرح لأهل المدينة ، فاستاقه ، فلما كان عام الحُديبية ، خرج شريح إِلى مكة معتمراً ، ومعه تجارة ، فأراد أهل السّرح أن يغيروا عليه كما أغار عليهم ، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية " ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وقال السدي : اسمه الحُطَمُ ابن هند البكري . قال : ولما ساق السَّرح جعل يرتجز :
قدْ لَفَّها الليل بسوّاقٍ حُطَم ... ليس براعي إِبل ولا غنم
ولا بجزّارٍ على ظَهْرِ وضم ... باتوا نيَاما وابنُ هندٍ لم ينم
بات يُقاسِيهَا غلامٌ كالزَّلَمْ ... خَدلَّجُ الساقين ممسوحُ القدم
والثاني : أن ناساً من المشركين جاؤوا يؤمون البيت يوم الفتح مهلّين بعمرة ، فقال المسلمون : لا ندع هؤلاء بل نغير عليهم ، فنزل قوله { ولا آمّين البيت الحرام } . قال ابن قتيبة : وشعائِر الله : ما جعله الله علماً لطاعته .
وفي المراد بها هاهنا سبعة أقوال .
أحدها : أنها مناسك الحج ، رواه الضحاك عن ابن عباس . وقال الفراء : كانت عامّة العرب لا يرون الصفا والمروة من الشعائر ، ولا يطوفون بينهما ، فقال الله تعالى : لا تستحلوا ترك ذلك .
والثاني : أنها ما حرم الله تعالى في حال الإحرام ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثالث : دين الله كله ، قاله الحسن .
والرابع : حدود الله ، قاله عكرمة ، وعطاء .
والخامس : حَرمُ الله ، قاله السدي .
والسادس : الهدايا المشعرة لبيت الله الحرام ، قاله أبو عبيدة ، والزجاج .
والسابع : أنها أعلام الحرم ، نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إِذا أرادوا دخول مكة ، ذكره الماوردي ، والقاضي أبو يعلى .
قوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } قال ابن عباس : لا تُحِلُّوا القتال فيه .
وفي المراد بالشهر الحرام ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه ذو القَعدة ، قاله عكرمة ، وقتادة .
والثاني : أن المراد به الأشهر الحرم . قال مقاتل : كان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ كلَّ سنة فيقول : ألا إِني قد أحللت كذا ، وحرّمت كذا .
والثالث : أنه رجب ، ذكره ابن جرير الطبري . والهدي : كل ما أهدي إِلى بيت الله تعالى من شيءٍ . وفي القلائد قولان .
أحدهما : أنها المقلَّدات مِن الهدي ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني : أنها ما كان المشركون يقلدون به إِبلهم وأنفسهم في الجاهلية ، ليأمنوا به عدوّهم ، لأن الحرب كانت قائمة بين العرب إِلا في الأشهر الحُرُم ، فمن لقوة مقلِّداً نفسه ، أو بعيره ، أو مشعراً بُدُنَهُ أو سائِقاً هدياً لم يُتعرض له .

قال ابن عباس : كانَ مَن أراد أن يسافر في غير الأشهر الحُرُم ، قلد بعيره من الشعر والوبر ، فيأمَن حيثُ ذهب . وروى مالك بن مِغوَل عن عطاء قال : كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم ، فيأمنون به إِذا خرجوا من الحرم ، فنزلت هذه الآية . وقال قتادة : كان الرجل في الجاهلية إِذا خرج من بيته يريد الحج تقلّد من السَّمُرِ فلم يَعرِض له أحد ، وإِذا رجع تقلَّد قلادة شعر ، فلم يعرض له أحد .
وقال الفراء : كان أهل مكة يُقلّدون بلحاء الشجر ، وسائر العرب يُقلّدون بالوبر والشعر . وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .
أحدها : لا تستحلّوا المقلَّدات من الهدي .
والثاني : لا تستحلوا أصحاب القلائد .
والثالث : أن هذا نهيٌ للمؤمنين أن ينزعوا شيئاً من شجر الحرم ، فيتقلّدوه كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم ، رواه عبد الملك عن عطاء ، وبه قال مطرف ، والربيع بن أنس .
قوله تعالى : { ولا آمّين البيت الحرام } «الآمّ» : القاصد ، و«البيت الحرام» : الكعبة ، والفضل : الربح في التجارة ، والرضوان من الله يطلبونه في حجّهم على زعمهم . ومثله قوله : { وانظر إِلى إِلهك الذي } [ طه : 97 ] وقيل : ابتغاء الفضل عام ، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة .
قوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } لفظُه لفظُ الأمر ، ومعناه الإِباحة نظيره { فاذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } [ الجمعة : 10 ] وهو يدلُ على إِحرامٍ متقدّم .
قوله تعالى : { ولا يجْرمنكم } وروى الوليد عن يعقوب «يجرمنْكم» بسكون النون ، وتخفيفها . قال ابن عباس : لا يحملنكم ، وقال غيره : لا يدخلنكم في الجُرم ، كما تقول : آثمتُه ، أي : أدخلته في الإثم . وقال ابن قتيبة : لا يكسبنكم يقال : فلان جارمُ أهله ، أي : كاسُبهم ، وكذلك جريمتهم . وقال الهُذلي : ووصف عقاباً :
جريمةَ ناهضٍ في رأس نِيْقٍ ... تَرَى لِعظَامِ ما جَمَعَتْ صَليبا
والناهض : فرخها ، يقول : هي تكسب له ، وتأتيه بقوته . و«الشنآن» : البغض ، يقال : شنئته أشنؤه : إِذا أبغضته . وقال ابن الأنباري : «الشنآن» : البغض ، و«الشنآن» بتسكين النون : البغيض . واختلف القراء في نون الشنآن ، فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : بتحريكها ، وأسكنها ابن عامر ، وروى حفص عن عاصم تحريكها ، وأبو بكر عنه تسكينها ، وكذلك اختُلف عن نافع .
قال أبو علي : «الشَّنآن» ، قد جاء وصفاً ، وقد جاء اسماً ، فمن حرّك ، فلأنه مصدر ، والمصدر يكثر على فَعَلان ، نحو النَّزَوان ، ومن سكَّن ، قال : هو مصدر ، وقد جاء المصدر على فَعْلان ، تقول : لويته دينَه لَيَّانًا ، فالمعنى في القراءتين واحد ، وإِن اختلف اللفظان . واختلفوا في قوله : { أن صدوكم } فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بالكسر ، وقرأ الباقون بالفتح ، فمن فتح جعل الصّد ماضياً ، فيكون المعنى من أجل أن صدوكم ، ومن كسرها ، جعلها للشرط ، فيكون الصّد مترقَّباً . قال أبو الحسن الأخفش : وقد يكون الفعل ماضياً مع الكسر ، كقوله :

{ إِن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل } [ يوسف : 77 ] وقد كانت السرقة عندهم قد وقعت ، وأنشد أبو علي الفارسي :
إِذا ما انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْني لئيمةٌ ... وَلَمْ تَجِدي من أن تُقِرِّي بها بُدّا
[ فانتفاء الولادة أمر ماض وقد جعله جزاء ، والجزاء إِنما يكون بالمستقبل ، فيكون المعنى : إِن ننتسب لا تجدني مولود لئيمة ] . قال ابن جرير : وقراءة مَن فتح الألف أبيَن ، لأن هذه السورة نزلت بعد الحديبية ، وقد كان الصدّ تقدّم .
فعلى هذا في معنى الكلام قولان .
أحدهما : ولا يحملنكم بغض أهل مكة أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا فيه ، فتقاتلوهم ، وتأخذوا أموالهم إِذا دخلتموه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : لا يحملنكم بغض أهل مكة ، وصدّهم إِياكم أن تعتدوا بإتيان ما لا يحل لكم من الغارة على المعتمرين من المشركين ، على ما سبق في نزول الآية .
قوله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } قال الفراء : لِيُعِن بعضكم بعضاً . قال ابن عباس : البرّ ما أُمرت به ، و«التقوى» : ترك ما نُهيت عنه . فأمّا«الإثم» : فالمعاصي . والعدوان : التّعدّي في حدود الله ، قاله عطاء .
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين .
أحدهما : أنها محكمة ، روي عن الحسن أنه قال : ما نسخ من المائدة شيء ، وكذلك قال أبو ميسرة في آخرين قالوا : ولا يجوز استحلال الشعائر ، ولا الهدي قبل أوان ذبحه . واختلفوا في «القلائد» فقال قوم : يحرم رفع القلادة عن الهدي حتى ينحر ، وقال آخرون : كانت الجاهلية تقلِّد من شجر الحرم ، فقيل لهم : لا تستحلُّوا أخذ القلائد من الحرم ، ولا تصدوا القاصدين إِلى البيت .
والثاني : أنها منسوخة ، وفي المنسوخ منها أربعة أقوال .
أحدها : أن جميعها منسوخ ، وهو قول الشعبي .
والثاني : أنها وردت في حق المشركين كانوا يقلِّدون هداياهم ، ويظهرون شعائِر الحج من الاحرام والتلبية ، فنُهي المسلمون بهذه الآية عن التعرّض لهم ، ثم نسخ ذلك بقوله : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] وهذا قول الأكثرين .
والثالث : أن الذي نُسخ قوله : { ولا آمّين البيت الحرام } نسخه قوله : { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [ التوبة : 38 ] روي عن ابن عباس ، وقتادة .
والرابع : أن المنسوخ منها : تحريم الشهر الحرام ، وآمّون البيت الحرام : إِذا كانوا مشركين . وهدي المشركين : إِذا لم يكن لهم من المسلمين أمان ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)

قوله تعالى : { حرِّمت عليكم الميتة } مفسّرٌ في ( البقرة ) ، فأما { المنخنقة } فقال ابن عباس : هي التي تختنق فتموت ، وقال الحسن ، وقتادة : هي التي تختنق بحبل الصائد وغيره . قلت : والمنخنقة حرام كيف وقع ذلك . قال ابن قتيبة : و«الموقوذة» : التي تُضرب حتى توقَذ ، أي : تشرف على الموت ، ثم تترك حتى تموت ، وتؤكل بغير ذكاة ، ومنه يقال : فلان وقيذ ، وقد وقذته العبادة .
و«المتردّية» : الواقعة من جبل أو حائط ، أو في بئر ، يقال : تردى : إِذا سقط .
و«النطيحة» : التي تنطحها شاة أخرى ، أو بقرة ، «فعيلة» في معنى «مفعولة» { وما أكل السبع } وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وأبو مجلز ، وابن أبي ليلى : السَّبع : بسكون الباء . والمراد : ما افترسه فأكل بعضه { إِلا ما ذكيتم } أي : إِلا ما لحقتم من هذا كله ، وبه حياة ، فذبحتموه .
فأما الاستثناء ، ففيه قولان .
أحدهما : أنه يرجع إِلى المذكور من عند قوله : { والمنخنقة } .
والثاني : أنه يرجع إِلى ما أكل السبع خاصة ، والعلماء على الأول .
فصل في الذكاة
قال الزجاج : أصل الذكاة في اللغة : تمام الشيء ، فمنه الذكاء في السن . وهو تمام السِّن . قال الخليل : الذكاء : أن تأتي على قروحه سنة ، وذلك تمام استكمال القوة ، ومنه الذكاء في الفهم ، وهو أن يكون فهماً تاماً ، سريع القبول . وذكّيت النار ، أي : أتممت إِشعالها . وقد روي عن عليّ ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة أنهم قالوا : ما أدركت ذكاته بأن توجد له عينٌ تَطْرِف ، أو ذنب يتحرك ، فأكله حلالٌ . قال القاضي أبو يعلى : ومذهب أصحابنا أنه إِن كان يعيش مع ما به ، حل بالذبح ، فان كان لا يعيش مع ما به ، نظرت ، فان لم تكن حياته مستقرّة ، وإِنما حركته حركة المذبوح ، مثل أن شُقَّ جوفه ، وأُبينت حشوته ، فانفصلت عنه ، لم يحل أكله ، وإِن كانت حياته مستقرة يعيش اليوم واليومين ، مثل أن يشق جوفه ، ولم تقطع الأمعاء ، حل أكله . ومن الناس من يقول : إِذا كانت فيه حياة في الجملة أُبيح بالذكاة ، والصحيح ما ذكرنا ، لأنه إِذا لم تكن فيه حياة مستقرة ، فهو في حكم الميت . ألا ترى أن رجلاً لو قطع حُشْوَةَ آدمي ، ثم ضرب عنقه آخر ، فالأول هو القاتل ، لأن الحياة لا تبقى مع الفعل الأول .
وفي ما يجب قطعه في الذكاة روايتان .
إِحداهما : أنه الحلقوم والمريء ، والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء ، فإن نقص من ذلك شيئاً ، لم يؤكل ، هذا ظاهر كلام أحمد في رواية عبد الله .
والثانية : يجزىء قطع الحلقوم والمريء ، وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل ، وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : يجزىء قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين . وقال مالك : يجزئ قطع الأوداج ، وإِن لم يقطع الحلقوم . وقال الزجاج : الحلقوم بعد الفم ، وهو موضع النفَس ، وفيه شعب تتشعب منه في الرئة .

والمريء : مجرى الطعام ، والودجان : عرقان يقطعهما الذابح .
فأما الآلة التي تجوز بها الذكاة ، فهي كل ما أنهر الدم ، وفرى الأوداج سوى السن والظفر سواء كانا منزوعين ، أو غير منزوعين . وأجاز أبو حنيفة الذكاة بالمنزوعين . فأما البعير إِذا توحش ، أو تردى في بئر ، فهو بمنزلة الصيد ذكاته عقره . وقال مالك : ذكاته ذكاة المقدور عليه . فإن رمى صيداً ، فأبان بعضه ، وفيه حياة مستقرة ، فذكّاه ، أو تركه حتى مات جاز أكله ، وفي أكل ما بان منه روايتان .
قوله تعالى : { وما ذبح على النصب } في النصب قولان .
أحدهما : أنها أصنام تنصب ، فتُعبد من دون الله ، قاله ابن عباس ، والفراء ، والزجاج ، فعلى هذا القول يكون المعنى ، وما ذبح على اسم النُّصب ، وقيل لأجلها ، فتكون «على» بمعنى «اللام» وهما يتعاقبان في الكلام ، كقوله : { فسلام لك } [ الواقعة : 91 ] أي : عليك ، وقوله : { وإن أسأتم فلها } [ الاسراء : 7 ] .
والثاني : أنها حجارة كانوا يذبحون عليها ، ويشرِّحون اللحم عليها ، ويعظمونها ، وهو قول ابن جريج . وقرأ الحسن ، وخارجة عن أبي عمرو : على النَّصْب ، بفتح النون ، وسكون الصاد ، قال ابن قتيبة ، يقال : نُصُبٌ ونُصْبُ ونَصْبٌ ، وجمعه أنصاب .
قوله تعالى : { وأن تستقسموا بالأزلام } قال ابن جرير : أي : وأن تطلبوا عِلم ما قُسم لكم ، أو لم يقسم بالأزلام ، وهو استفعلت من القسم [ قسم الرزق والحاجات ] . قال ابن قتيبة : الأزلام : القداح ، واحدها : زَلَم وزُلَم . والاستقسام بها : أن يضرب [ بها ] فيعمل بما يخرج فيها من أمرٍ أو نهي ، فكانوا إِذا أرادوا أن يقتسموا شيئاً بينهم ، فأحبُّوا أن يعرفوا قسم كل امرئٍ تعرفوا ذلك منها ، فأخِذ الاستقسام من القِسم وهو النصيب . قال سعيد بن جبير : الأَزلام : حصى بيض ، كانوا إِذا أرادوا غدواً ، أو رواحاً ، كتبوا في قدحين ، في أحدهما : أمرني ربي ، وفي الآخر : نهاني ربي ، ثم يضربون بهما ، فأيهما خرج ، عملوا به . وقال مجاهد : الأزلام سهام العرب ، وكعاب فارس التي يتقامرون بها . وقال السدي : كانت الأزلام تكون عند الكهنة . وقال مقاتل : في بيت الأصنام . وقال قوم : كانت عند سدنة الكعبة . قال الزجاج : ولا فرق بين ذلك ، وبين قول المنجمين : لا تخرج من أجل نجم كذا ، أو اخرج من أجل نجم كذا .
قوله تعالى : { ذلكم فسقٌ } في المشار إِليه بذلكم قولان .
أحدهما : أنه جميع ما ذكر في الآية ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . وبه قال سعيد بن جبير .
والثاني : أنه الاستقسام بالأزلام ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والفسق : الخروج عن طاعة الله إِلى معصيته .
قوله تعالى : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } في هذا اليوم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه اليوم الذي دخل فيه رسول الله مكة في حجة الوداع ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقال ابن السائب : نزلت ذلك اليوم .

والثاني : أنه يوم عرفة ، قاله مجاهد ، وابن زيد .
والثالث : أنه لم يرد يوماً بعينه ، وإِنما المعنى : الآن يئسوا كما تقول : أنا اليوم قد كبرت ، قاله الزجاج . قال ابن الأنباري : العرب توقع اليوم على الزمان الذي يشتمل على الساعات والليالي ، فيقولون : قد كنت في غفلة ، فاليوم استيقظت ، يريدون : فالآن ، ويقولون : كان فلان يزورنا ، وهو اليوم يجفونا ، ولا يقصدون باليوم قصد يوم واحد . قال الشاعر :
فيومٌ علينا ويوم لنا ... ويومٌ نُساء ويومٌ نُسر
أراد : فزمان لنا ، وزمان علينا ، ولم يقصد ليوم واحد لا ينضم إِليه غيره .
وفي معنى يأسهم قولان .
أحدهما : أنهم يئسوا أن يرجع المؤمنون إلى دين المشركين ، قاله ابن عباس ، والسدي .
والثاني : يئسوا من بطلان الإِسلام ، قاله الزجاج . قال ابن الأنباري : وإِنما يئسوا من إِبطال دينهم لما نقل الله خوف المسلمين إِليهم ، وأمنهم إِلى المسلمين ، فعلموا أنهم لا يقدرون على إِبطال دينهم ، ولا على استئصالهم ، وإِنما قاتلوهم بعد ذلك ظناً منهم أن كفرهم يبقى .
قوله تعالى : { فلا تخشوهم } قال ابن جريج : لا تخشوهم أن يظهروا عليكم ، وقال ابن السائب : لا تخشوهم أن يظهروا على دينكم ، واخشوني في مخالفة أمري .
قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } روى البخاري ، ومسلم في «الصحيحين» من حديث طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إِلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين إِنكم تقرؤون آيةً من كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت ، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ، قال : وأي آية هي؟ قال : قوله { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } فقال عمر : إِني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله ، والساعة التي نزلت فيها ، والمكان الذي نزلت فيه على رسول الله وهو قائم بعرفة في يوم جمعة . وفي لفظ «نزلت عشيّة عرفة» قال سعيد بن جبير : عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أحداً وثمانين يوماً .
فأما قوله : { اليوم } ففيه قولان .
أحدهما : أنه يوم عرفة ، وهو قول الجمهور .
والثاني : أنه ليس بيوم معيّن ، رواه عطيّة عن ابن عباس ، وقد ذكرنا هذا آنفاً . وفي معنى إِكمال الدين خمسة أقوال .
أحدها : أنه إِكمال فرائضه وحدوده ، ولم ينزل بعد هذه الآية تحليل ولا تحريم ، قاله ابن عباس ، والسُدّي ، فعلى هذا يكون المعنى : اليوم أكملت لكم شرائِع دينكم .
والثاني : أنه بنفي المشركين عن البيت ، فلم يحج معهم مشرك عامئذ ، قاله سعيد بن جبير ، وقتادة . وقال الشعبي : كمال الدين هاهنا : عزه وظهوره ، وذلّ الشّرك ودروسه ، لا تكامل الفرائِض والسنن ، لأنّها لن تزل تنزل إِلى أن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعلى هذا يكون المعنى : اليوم أكملت لكم نصر دينكم .
والثالث : أنه رفع النسخ عنه . وأما الفرائض فلم تزل تنزل عليه حتى قُبض ، روي عن ابن جبير أيضاً .

والرابع : أنه زوال الخوف من العدو ، والظهور عليهم ، قاله الزجاج .
والخامس : أنه أمن هذه الشريعة من أن تنسخ بأخرى بعدها ، كما نسخ بها ما تقدمها . وفي إِتمام النعمة ثلاثة أقوال .
أحدها : منع المشركين من الحج معهم ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة .
والثاني : الهداية إِلى الإيمان ، قاله ابن زيد .
والثالث : الإِظهار على العدو ، قاله السدي .
قوله تعالى : { فمن اضطر } أي : دعته الضرورة إِلى أكل ما حرُم عليه . { في مخمصة } أي : مجاعة ، والخمص : الجوع . قال الشاعر يذم رجلاً :
يَرَى الخمْصَ تعذيباً وإِن يلق شَبْعَةً ... يَبِتْ قلبُه من قِلَّة الهمِّ مُبْهما
وهذا الكلامُ يرجع إِلى المحرمات المتقدّمة من الميتة والدم ، وما ذكر معهما .
قوله تعالى : { غير متجانف لإِثم } قال ابن قتيبة : غير مائل إلى ذلك ، و«الجنف» : الميل . وقال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد : غير متعمد لإِثم .
وفي معنى «تجانف الإِثم» قولان .
أحدهما : أن يتناول منه بعد زوال الضرورة ، روي عن ابن عباس في آخرين .
والثاني : أن يتعرّض لمعصية في مقصده ، قاله قتادة . وقال مجاهد : من بغى وخرج في معصية ، حرم عليه أكله . قال القاضي أبو يعلى : وهذا أصح من القول الأول ، لأن الآية تقتضي اجتماع تجانف الاثم مع الاضطرار ، وذلك إِنما يصح في سفرالعاصي ، ولا يصح حمله على تناول الزِّيادة على سد الرّمق ، لأن الاضطرار قد زال . قال أبو سليمان : ومعنى الآية : فمن اضطر فأكله غير متجانف لإِثم ، فإن الله غفور ، أي : متجاوز عنه ، رحيم إِذْ أحل ذلك للمضطر .

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)

قوله تعالى : { يسألونك ماذا أحل لهم } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل الكلاب ، قال الناس : يا رسول الله ماذا أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت هذه الآية ، أخرجه أبو عبد الله الحاكم في «صحيحه» من حديث أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان السبب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها أن جبريل عليه السلام استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن له ، فلم يدخل وقال : " إِنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة " فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو .
والثاني : أن عدي بن حاتم ، وزيد الخيل الذي سمّاه رسول الله : زيد الخير ، قالا : يا رسول الله إِنا قومٌ نصيد بالكلاب والبُزاة ، فمنه ما ندرك ذكاته ، ومنه مالا ندرك ذكاته ، وقد حرّم الله الميتة ، فماذا يحلُّ لنا منها ، فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن جبير . قال الزجاج : ومعنى الكلام : يسألونك أي شيء أُحل لهم؟ قل : أُحلّ لكم الطيبات ، وأُحل لكم صيد ما علّمتم من الجوارح ، والتأويل أنهم سألوا عنه ولكن حذف ذكر صيد ما علمتم ، لأن في الكلام دليلاً عليه .
وفي الطيبات قولان .
أحدهما : أنها المباح من الذبائح .
والثاني : أنها ما استطابه العربُ مما لم يحرّم . فأما «الجوارح» فهي ما صيد به من سباع البهائم والطير ، كالكلب ، والفهد ، والصقر ، والبازي ، ونحو ذلك مما يقبل التعليم . قال ابن عباس : كل شيءٍ صاد فهو جارح .
وفي تسميتها بالجوارح قولان .
أحدهما : لكسب أهلها بها . قال ابن قتيبة : أصل الاجتراح : الاكتساب ، يقال : امرأة لا جارح لها ، أي : لا كاسب .
والثاني : لأنها تجرح ما تصيد في الغالب ، ذكره الماوردي . قال أبو سليمان الدمشقي : وعلامة التعليم أنك إِذا دعوته أجاب ، وإِذا أسَّدته استأسد ، ومضى في طلبه ، وإِذا أمسك أمسك عليك لا على نفسه ، وعلامة إِمساكه عليك : أن لا يأكل منه شيئاً ، هذا في السباع والكلاب ، فأما تعليم جوارح الطير فبخلاف السباع ، لأن الطائر إِنما يُعلّم الصيد بالأكل ، والفهد ، والكلب ، وما أشبههما يعلمون بترك الأكل ، فهذا فرق ما بينهما .
وفي قوله : { مكلبين } ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم أصحاب الكلاب ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهو قول ابن عمر ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والضحاك ، والسدي ، والفراء ، والزجاج ، وابن قتيبة . قال الزجاج : يقال رجل مكلّب وكلاّبي ، أي : صاحب صيد بالكلاب .
والثاني : أن معنى «مكلبين» : مُصرّين على الصيد ، وهذا مروي عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد .
والثالث : ان «مكلبين» بمعنى : معلمين . قال أبو سليمان الدمشقي : وإِنما قيل لهم : مكلبين ، لأن الغالب من صيدهم إِنما يكون بالكلاب .

قال ثعلب : وقرأ الحسن ، وأبو رزين : مُكْلِبين ، بسكون الكاف ، يقال : أكلب الرجل : إِذا كثرت كلابه ، وأمشى : إِذا كثرت ماشيته ، والعرب تدعو الصائد مكلّبا .
قوله تعالى : { تعلمونهن مما علمكم الله } قال سعيد بن جبير : تؤدّبونهن لطلب الصيد . وقال الفراء : تؤدّبونهن أن لا يأكلن صيدهن . واختلفوا هل إِمساك الصائد عن الأكل شرط في صحة التعليم أم لا؟ على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه شرط في كل الجوارح ، فان أكلت ، لم يؤكل ، روي عن ابن عباس ، وعطاء .
والثاني : أنه ليس بشرط في الكل ، ويؤكل وإِن أكلت ، روي عن سعد ابن أبي وقاص ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، وسلمان الفارسي .
والثالث : أنه شرط في جوارح البهائم ، وليس بشرط في جوارح الطير ، وبه قال الشعبي ، والنخعي ، والسدي ، وهو أصح لما بيّنا أن جارح الطير يعلم على الأكل ، فأبيح ما أكل منه ، وسباع البهائم تعلم على ترك الأكل ، فأبيح ما أكلت منه .
فعلى هذا إِذا أكل الكلب والفهد من الصيد ، لم يبحْ أكله . فأما ما أكل منه الصقر والبازي ، فمباح ، وبه قال أبو حنيفة ، وأصحابه ، وقال مالك : يباح أكل ما أكل منه الكلب ، والفهد ، والصقر ، فإن قتل الكلب ، ولم يأكل ، أُبيح .
وقال أبو حنيفة : لا يباح ، فان أدرك الصيد ، وفيه حياة ، فمات قبل أن يذكيه ، فإن كان ذلك قبل القدرة على ذكاته أُبيح ، وإِن أمكنه فلم يذكّه ، لم يبحْ ، وبه قال مالك ، والشافعي . وقال أبو حنيفة : لا يباح في الموضعين .
فأما الصيد بكلب المجوسي ، فروي عن أحمد أنه لا يكره ، وهو قول الأكثرين ، وروي عنه الكراهة ، وهو قول الثوري لقوله تعالى : { وما علمتم من الجوارح } وهذا خطاب للمؤمنين . قال القاضي أبو يعلى : ومنع أصحابنا الصيد بالكلب الأسود ، وإِن كان معلماً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله ، والأمر بالقتل : يمنع ثبوت اليد ، ويبطل حكم الفعل ، فيصير وجوده كالعدم ، فلا يباح صيده .
قوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } قال الأخفش : «من» زائدة ، كقوله : { فيها من برد } [ النور : 43 ] .
قوله تعالى : { واذكروا اسم الله عليه } في هاء الكناية قولان .
أحدهما : أنها ترجع إلى الإِرسال ، قاله ابن عباس ، والسدي ، وعندنا أن التسمية شرط في إِباحة الصيد .
والثاني : ترجع إِلى الأكل فتكون التسمية مستحبّة .
قوله تعالى : { واتقوا الله } قال سعيد بن جبير : لا تستحلوا ما لم يذكر اسم الله عليه .

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)

قوله تعالى : { اليوم أُحل لكم الطيبات } قال القاضي أبو يعلى : يجوز أن يريد باليوم اليوم الذي أنزلت فيه الآية ، ويجوز أن يريد اليوم الذي تقدم ذكره في قوله : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } ، وفي قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } ، وقيل : ليس بيوم معيّن . وقد سبق الكلام في «الطيبات» وإنما كرّر إِحلالها تأكيداً . فأما أهل الكتاب ، فهم اليهود والنصارى . وطعامُهم : ذبائحهم ، هذا قول ابن عباس ، والجماعة . وإِنما أريد بها الذبائح خاصّة ، لأن سائر طعامهم لا يختلف بمن توَّلاه من مجوسي وكتابي ، وإِنما الذكاة تختلف ، فلما خصّ أهل الكتاب بذلك ، دل على أن المراد الذبائح ، فأما ذبائح المجوس ، فأجمعوا على تحريمها . واختلفوا في ذبائح من دان باليهودية والنصرانية من عبدة الأوثان ، فروي عن ابن عباس أنه سُئل عن ذبائح نصارى العرب ، فقال : لا بأس بها ، وتلا قوله : { ومن يتولهم منكم فانه منهم } [ المائدة : 51 ] وهذا قول الحسن ، وعطاء بن أبي رباح ، والشعبي ، وعكرمة ، وقتادة ، والزهري ، والحكم ، وحماد . وقد روي عن علي ، وابن مسعود في آخرين أن ذبائحهم لا تحل . ونقل الخرقي عن أحمد في نصارى بني تغلب روايتين .
إِحداهما : تباح ذبائحهم ، وهو قول أبي حنيفة ، ومالك .
والثانية : لا تباح . وقال الشافعي : من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن ، لم يبح أكل ذبيحته .
قوله تعالى : { وطعامكم حِلٌ لهم } أي : وذبائحكم لهم حلال ، فاذا اشتروا منا شيئاً كان الثمن لنا حلالاً ، واللحم لهم حلالاً . قال الزجاج : والمعنى : أُحل لكم أن تطعموهم .
فصل
وقد زعم قوم أن هذه الآية اقتضت إِباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقاً وإِن ذكروا غير اسم الله عليها ، فكان هذا ناسخاً لقوله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } [ الأنعام : 121 ] والصحيح أنها أطلقت إِباحة ذبائحهم ، لأن الأصل أنهم يذكرون الله ، فيُحمل أمرهم على هذا . فإن تيقنّا أنهم ذكروا غيره ، فلا نأكل ، ولا وجه للنسخ ، وإِلى هذا الذي قلته ذهب علي ، وابن عمر ، وعبادة ، وأبو الدرداء ، والحسن في جماعة .
قوله تعالى : { والمحصنات من المؤمنات } فيهن قولان .
أحدهما : العفائف ، قاله ابن عباس . والثاني : الحرائِر ، قاله مجاهد .
وفي قوله : { والمحصنات من الذين أُوتوا الكتاب } قولان .
أحدهما : الحرائِر أيضاً ، قاله ابن عباس .
والثاني : العفائِف ، قاله الحسن ، والشعبي ، والنخعي ، والضحاك ، والسدي ، فعلى هذا القول يجوز تزويج الحرّة منهن والأمة .
فصل
وهذه الآية أباحت نكاح الكتابية . وقد روي عن عثمان أنه تزوج نائِلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانية . وعن طلحة بن عبيد الله : أنه تزوج يهودية . وقد روي عن عمر ، وابن عمر كراهة ذلك . واختلفوا في نكاح الكتابية الحربية ، فقال ابن عباس : لا تحل ، والجمهور على خلافه ، وإِنما كرهوا ذلك ، لقوله تعالى :

{ لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله } [ المجادلة : 22 ] والنكاح يوجب الود . واختلفوا في نكاح نساء تغلب ، فروي عن علي رضي الله عنه الحظر ، وبه قال جابر بن زيد ، والنخعي ، وروي عن ابن عباس الإباحة . وعن أحمد روايتان . واختلفوا في إماء أهل الكتاب ، فروي عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد : أنه لا يجوز نكاحهن ، وبه قال الأوزاعي ، ومالك ، واللّيث بن سعد ، والشافعي ، وأصحابنا ، وروي عن الشعبي ، وأبي ميسرة جواز ذلك ، وبه قال أبو حنيفة . فأما المجوس ، فالجمهور على أنهم ليسوا بأهل كتاب ، وقد شذّ من قال : إِنهم أهل كتاب ، ويبطل قولهم قولُه عليه السلام : " سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب " فأما «الأجور» ، و«الإِحصان» ، و«السّفاح» ، و«الأخدان» فقد سبق في سورة { النساء } .
قوله تعالى : { ومن يكفر بالإِيمان فقد حبط عمله } سبب نزول هذا الكلام : أن الله تعالى لما رخَّص في نكاح الكتابيات قلن بينهن : لولا أن الله تعالى قد رضي علينا ، لم يبح للمؤمنين تزويجنا ، وقال المسلمون : كيف يتزوّج الرجل منا الكتابية ، وليست على ديننا ، فنزلت : { ومن يكفر بالإِيمان فقد حبط عمله } رواه أبو صالح عن ابن عباس . وقال مقاتل بن حيّان : نزلت فيما أحصن المسلمون من نساء أهل الكتاب ، يقول : ليس إِحصان المسلمين إِياهن بالذي يخرجهن من الكفر . وروى ليث عن مجاهد : ومن يكفر بالإِيمان ، قال : الإِيمان بالله تعالى . قال الزجاج : معنى الآية : من أحل ما حرّم الله ، أو حرّم ما أحلّه الله ، فهو كافر . وقال أبو سليمان : من جحد ما أنزله الله من شرائِع الإِيمان ، وعرفه من الحلال والحرام ، فقد حبط عمله المتقدّم . وسمعت الحسن بن أبي بكر النيسابوري الفقيه يقول : إِنما أباح الله عز وجل الكتابيات ، لأن بعض المسلمين قد يعجبهن حسنهن ، فَحَذَّر ناكحهنَّ من الميل إِلى دينهن بقوله : { ومن يكفر بالإِيمان فقد حبط عمله } .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)

قوله تعالى : { إِذا قمتم إِلى الصلاة } قال الزجاج : المعنى : إِذا أردتم القيام إِلى الصلاة كقوله : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] قال ابن الأنباري : وهذا كما تقول : إذا آخيت فآخ أهل الحسب ، وإِذا اتجرت فاتجر في البزّ . قال : ويجوز أن يكون الكلام مقدّماً ومؤخراً ، تقديره : إِذا غسلتم وجوهكم ، واستوفيتم الطهور ، فقوموا إِلى الصلاة . وللعُلماء في المراد بالآية قولان .
أحدهما : إِذا قمتم إِلى الصلاة محدثين ، فاغسلوا ، فصار الحدث مضمراً في وجوب الوضوء ، وهذا قول سعد بن أبي وقاص ، وأبي موسى الأشعري ، وابن عباس ، والفقهاء .
والثاني : أن الكلام على إِطلاقه من غير إِضمار ، فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة ، محدثاً كان ، أو غير محدث ، وهذا مروي عن علي رضي الله عنه ، وعكرمة ، وابن سيرين . ونقل عنهم أن هذا الحكم غير منسوخ ، ونقل عن جماعة من العلماء أن ذلك كان واجباً ، ثم نسخ بالسنّة ، وهو ما روى بُريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوءٍ واحدٍ ، فقال له عمر : لقد صنعت شيئاً لم تكن تصنعه؟ فقال " عمداً فعلته يا عمر " وقال قوم : في الآية تقديم وتأخير ، ومعناها : إِذا قمتم إِلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء ، فاغسلوا وجوهكم .
قوله تعالى : { وأيديكم إِلى المرافق } «إِلى» حَرْفٌ موضوعٌ للغاية ، وقد تدخل الغاية فيها تارة ، وقد لا تدخل ، فلما كان الحدث يقيناً ، لم يرتفع إِلا بيقين مثله ، وهو غسل المرفقين . فأما الرأس فنقل عن أحمد وجوب مسح جميعه ، وهو قول مالك ، وروي عنه : يجب مسح أكثره ، وروي عن أبي حنيفة روايتان .
إِحداهما : أنه يتقدّر بربع الرأس .
والثانية : بمقدار ثلاث أصابع .
قوله تعالى : { وأرجلكم إِلى الكعبين } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم : بكسر اللام عطفاً على مسح الرأس ، وقرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب : بفتح اللام عطفاً على الغَسل ، فيكون من المقدم والمؤخّر . قال الزجاج : الرِّجل من أصل الفخذ إِلى القدم ، فلما حدّ الكعبين ، عُلمَ أن الغسل ينتهي إِليهما ، ويدل على وجوب الغَسل التحديد بالكعبين ، كما جاء في تحديد اليد «إِلى المرافق» ولم يجئ في شيء من المسح تحديد . ويجوز أن يراد الغسل على قراءة الخفض ، لأن التحديد بالكعبين يدل على الغسل ، فينسق بالغسل على المسح . قال الشاعر :
يا ليتَ بَعْلك قد غدا ... متقلِّداً سيفاً ورُمحاً
والمعنى : وحاملاً رمحاً . وقال الآخر :
علفتها تبناً وماءً بارِداً ... والمعنى : وسقيتها ماءً بارداً . وقال أبو الحسن الأخفش : يجوز الجرّ على الإِتباع ، والمعنى : الغسل ، نحو قولهم : جحر ضبٍ خربٍ ، وقال ابن الأنباري : لما تأخّرت الأرجل بعد الرؤوس ، نسقت عليها للقرب والجوار ، وهي في المعنى نسق على الوجوه ، كقولهم : جحر ضبٍّ خَربٍ ، ويجوز أن تكون منسوقة عليها ، لأن العرب تسمّي الغسل مسحاً ، لأن الغسل لا يكون إِلا بمسح .

وقال أبو علي : مَن جرّ فحُجَّتُه أنه وجد في الكلام عاملين : أحدهما : الغسل ، والآخر : الباء الجارّة ، ووجه العاملين إِذا اجتمعا : أن يحمل الكلام على الأقرب منهما دون الأبعد ، وهو «الباء» هاهنا ، وقد قامت الدلالة على أن المراد بالمسح : الغسل من وجهين .
أحدهما : أن أبا زيد قال : المسح خفيف الغسل ، قالوا : تمسحت للصلاة ، وقال أبو عبيدة : فطفق مسحاً بالسوق ، أي : ضرباً ، فكأن المسح بالآية غسل خفيف . فإن قيل : فالمستحب التكرار ثلاثاً؟ قيل : إِنما جاءت الآية بالمفروض دون المسنون .
والوجه الثاني : أن التحديد والتوقيت إِنما جاء في المغسول دون الممسوح ، فلما وقع التحديد مع المسح ، عُلم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد ، وحجة من نصب أنه حَمل ذلك على الغسل لاجتماع فُقهاء الأمصار على الغسل .
قوله تعالى : { إِلى الكعبين } «إِلى» بمعنى «مع» والكعبان : العظمان الناتئان من جانبي القدم .
قوله تعالى : { وإِن كنتم جنباً فاطّهروا } أي : فتطهروا ، فأدغمت التاء في الطاء ، لأنهما من مكان واحد ، واجتلبت الهمزة توصّلاً إِلى النطق بالساكن ، وقد بين الله عز وجل طهارة الجنب في سورة ( النساء ) بقوله : { حتى تغتسلوا } [ النساء : 43 ] وقد ذكرنا هناك الكلام في تمام الآية إِلى قوله : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } و«الحرج» : الضيق ، فجعل الله الدين واسعاً حين رخّص في التيمم .
قوله تعالى : { ولكن يريد ليطهركم } أي : يريد أن يطهركم . قال مقاتل : من الأحداث والجنابة ، وقال غيره : من الذنوب والخطايا لأن الوضوء يكفر الذنوب .
قوله تعالى : { وليتم نعمته عليكم } في الذي يتمُّ به النعمة أربعة أقوال .
أحدها : بغفران الذنوب . قال محمد بن كعب القرظي : حدثني عبد الله بن دارة ، عن حمران قال : مررت على عثمان بفخّارةٍ من ماءٍ ، فدعا بِها فتوضأ ، فأحسن الوضوء ثم قال : لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة أو مرّتين أو ثلاثاً ما حدثتكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما توضأ عبد فأحسن الوضوء ، ثم قام إِلى الصلاة ، إِلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى " قال محمد بن كعب : وكنت إِذا سمعت الحديث التمسته في القرآن ، فالتمست هذا فوجدته
في قوله تعالى : { إِنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخّر ويتمَّ نعمته عليك } [ الفتح : 1 ، 2 ] فعلمت أن الله لم يتم النعمة عليه حتى غفر له ذنوبه ، ثم قرأت الآية التي في «المائدة» : { إِذا قمتم إِلى الصلاة } إِلى قوله { وليتم نعمته عليكم } فعلمت أنه لم يتم النعمة عليهم حتى غفر لهم .
والثاني : بالهداية إِلى الإِيمان ، وإِكمال الدين ، وهذا قول ابن زيد .
والثالث : بالرخصة في التيمم ، قاله مقاتل ، وأبو سليمان .
والرابع : ببيان الشرائِع ، ذكره بعض المفسّرين .

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)

قوله تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم } يعني النعم كلَّها . وفي هذا حثٌ على الشكر . وفي الميثاق أربعة أقوال .
أحدها : أنه إِقرار كل مؤمن بما آمن به . قال ابن عباس : لما أنزل الله الكتاب ، وبعث الرسول ، فقالوا : آمنا ذكَّرهم ميثاقه الذي أقرُّوا به على أنفسهم ، وأمرهم بالوفاء .
والثاني : أنه الميثاق الذي أخذه من بني آدم حين أخرجهم من ظهره ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وابن زيد .
والثالث : أنه ما وثق على المؤمنين على لسان نبيه عليه السلام من الأمر بالوفاء بما أقرّوا به من الإِيمان . روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
والرابع : أنه الميثاق الذي أخذ من الصّحابة على السمع والطاعة في بيعة العقبة ، وبيعة الرضوان ، ذكره بعض المفسّرين .
قوله تعالى : { واتقوا الله } قال مقاتل : اتقوه في نقض الميثاق { إِن الله عليم بذات الصدور } أي : بما فيها من إِيمان وشك .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها نزلت من أجل كفار قريش أيضاً ، وقد تقدم ذكرهم في قوله : { ولا يجرمنَّكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام } روى نحو هذا أبو صالح ، عن ابن عباس وبه قال مقاتل .
والثاني : أن قريشاً بعثت رجلاً ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأطلع الله نبيه على ذلك ، ونزلت هذه الآية ، والتي بعدها ، هذا قول الحسن .
والثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إِلى يهود بني النضير يستعينهم في ديةٍ ، فهمُّوا بقتله ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد ، وقتادة . ومعنى الآية : كونوا قوامين لله بالحق ولا يحملنَّكم بغض قوم على ترك العدل { اعدلوا } في الولي والعدو { هو أقرب للتقوى } ، أي إِلى التقوى . والمعنى : أقرب إِلى أن تكونوا متقين وقيل : هو أقرب إِلى اتقاء النار .

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)

قوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة } في معناها قولان .
أحدهما : أن المعنى : وعدهم الله أن يغفر لهم ويأجرهم ، فاكتفى بما ذكر عن هذا المعنى .
والثاني : أن المعنى : وعدهم فقال : لهم مغفرة . وقد بيّنا في ( البقرة ) معنى «الجحيم» .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إِذ همّ قومٌ أن يبسطوا إِليكم أيديهم } في سبب نزولها أربعة أقوال .
أحدها : « أن رجلاً من محارب قال لقومه : الا أقتل لكم محمداً؟ فقالوا : وكيف تقتله؟ فقال : أفتك به ، فأقبل إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيفه في حجره ، فأخذه ، وجعل يهزّه ، ويهمّ به ، فيَكْبِتُه الله ، ثم قال : يا محمد ما تخافني؟ قال : لا ، قال : لا تخافني وفي يدي السّيف؟! قال : يمنعني الله منك ، فأغمد السيف ، فنزلت هذه الآية » ، رواه الحسن البصري عن جابر بن عبد الله . وفي بعض الألفاظ : فسقط السّيف من يده . وفي لفظ آخر : فما قال له النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ، ولا عاقبه . واسم هذا الرجل : غورث بن الحارث من محارب خصفة .
والثاني : أن اليهود عزموا على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكفاه الله شرّهم .
قال ابن عباس : صنعوا له طعاماً ، فأوُحِيَ إِليه بشأنهم ، فلم يأت . وقال مجاهد ، وعكرمة : خرج إِليهم يستعينهم في دية ، فقالوا : اجلس حتى نعطيك ، فجلس هو وأصحابه ، فخلا بعضهم ببعض ، وقالوا : لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن ، فمن يظهر على هذا البيت ، فيطرح عليه صخرة؟ فقال عمرو بن جحّاش : أنا ، فجاء إِلى رحى عظيمة ليطرحها عليه ، فأمسك الله يده ، وجاء جبريل ، فأخبره ، وخرج ، ونزلت هذه الآية .
والثالث : أن بني ثعلبة ، وبني مُحارب أرادوا أن يفتكوا بالنبي وأصحابه ، وهم ببطن نخلة في غزاة رسول الله صلى الله عليه وسلم السابعة ، فقالوا : إِِن لهم صلاة هي أحبّ إِليهم من آبائِهم وأمهاتهم ، فإذا سجدوا وقعنا بهم ، فأطلع الله نبيه على ذلك ، وأنزل صلاة الخوف ، ونزلت هذه الآية ، هذا قول قتادة .
والرابع : أنها نزلت في حق اليهود حين ظاهروا المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا قول ابن زيد .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20