كتاب : زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي

قوله تعالى : { ما أصحابُ المَيْمَنة } قال الفراء : عجَّب نبيَّه صلى الله عليه وسلم منهم؛ والمعنى : أيُّ شيء هُمْ؟! قال الزجاج : وهذا اللفظ في العربية مجراه مجرى التعجب ، ومجراه من الله عز وجل في مخاطبة العباد ما يعظم به الشأن عندهم ، ومثلُه : { ما الحاقّة } [ الحاقة : 2 ] { ما القارعة } [ القارعة : 2 ] ؛ قال ابن قتيبة : ومثلُه أن يقول : زَيدٌ ما زَيدٌ! أي : أيُّ رجُل هو! { وأصحابُ المشأمة ما أصحابُ المشأمة } [ أي : أصحاب ] الشمال ، والعرب تسمِّي اليدَ اليسرى : الشُّؤمَى ، والجانبَ الأيسر : الأشأم ، ومنه قيل : اليُمْن والشُّؤم ، فاليُمْن : كأنه [ ما ] جاء عن اليمين ، والشؤم [ ما جاء ] عن الشمال ، ومنه سمِّيت «اليَمَن» و«الشّأم» لأنها عن يمين الكعبة وشمالها . قال المفسرون : أصحاب الميمنة : هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين ، ويعطَون كتبهم بأيمانهم؛ وتفسير أصحاب المشأمة على ضد تفسير أصحاب الميمنة سواء؛ والمعنى : أيُّ قوم هم؟! ماذا أُعِدَّ لهم من العذاب؟! .
قوله تعالى : { والسابقون السابقون } فيهم خمسة أقوال .
أحدها : أنهم السابقون إلى الإيمان من كل أُمَّة ، قاله الحسن ، وقتادة .
والثاني : أنهم الذين صلّوا [ إلى ] القِبلتين ، قاله ابن سيرين .
والثالث : أهل القرآن ، قاله كعب .
والرابع : الأنبياء ، قاله محمد بن كعب .
والخامس : السابقون إلى المساجد وإلى الخروج في سبيل الله ، قاله عثمان بن أبي سودة .
وفي إِعادة ذِكْرهم قولان .
أحدهما : أن ذلك للتوكيد .
والثاني : أن المعنى : السابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله ذكرهما الزجاج .
قوله تعالى : { أولئك المقرَّبون } قال أبو سليمان الدمشقي : يعني عند الله في ظل عرشه وجواره .

ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)

قوله تعالى : { ثُلَّة من الأوَّلين } الثُلَّة : الجماعة غير محصورة العدد .
وفي الأوَّلين والآخِرين هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : أن الأوَّلين : الذين كانوا من زمن آدم إلى زمن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ، والآخِرون : هذه الأمة .
والثاني : [ أن الأولين ] : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والآخرين : التابعون .
والثالث : أن الأولين [ والآخِرين : من ] أصحاب نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم .
فعلى الأول يكون المعنى : إن الأولين السابقين جماعة من الأُمم المتقدِّمة الذين سبقوا بالتصديق لأنبيائهم مَنْ جاء بعدهم مؤمناً ، وقليلٌ من أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن الذين عاينوا الأنبياء أجمعين وصدَّقوا بهم أكثر ممّن عاين نبيِّنا وصدَّق به . وعلى الثاني : أن السابقين : جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم الأوَّلون من المهاجرين والأنصار ، وقليل من التابعين وهم الذين اتَّبعوهم باحسان .
وعلى الثالث : أن السابقين : الأوَّلون من المهاجرين والأنصار ، وقليل ممَّن جاء بعدهم لعجز المتأخِّرين أن يلحقوا الأوَّلين ، فقليل منهم من يقاربهم في السَّبق .
وأمّا «الموضونة» ، فقال ابن قتيبة : هي المنسوجة ، كأن بعضها أُدخِلَ في بعض ، أو نُضِّد بعضُها على بعض ، ومنه قيل للدِّرع : مَوْضونة ، ومنه قيل : وَضِينُ النّاقة ، وهو بِطان ٌمن سُيور يُدْخَل بعضُه في بعض . قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : الآجُرُّ موضونٌ بعضُه على بعض ، اي : مُشْرَج .
وللمفسرين في معنى «مَوْضُونةٍ» قولان .
أحدهما : مرمولة بالذهب ، رواه مجاهد عن ابن عباس . وقال عكرمة : مشبَّكة بالدُّرِّ والياقوت ، وهذا مَعنى ما ذكرناه عن ابن قتيبة ، وبه قال الأكثرون .
والثاني : مصفوفة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
وما بعد هذا قد تقدم بيانه [ الكهف : 30 ] إلى قوله : { وِلْدانٌ مخلَّدونَ } الوِلْدان : الغِلْمان . وقال الحسن البصري : هؤلاء أطفال لم يكن لهم حسنات فيُجْزَون بها ، ولا سيِّئات فيعاقبون عليها ، فوضُعوا بهذا الموضع .
وفي المخلَّدين قولان .
أحدهما : أنه من الخُلد؛ والمعنى : أنهم مخلوقون للبقاء لا يتغيَّرون ، وهم على سنٍّ واحد . قال الفراء : والعرب تقول للإنسان إِذا كَبِر ولم يَشْمَط : أو لم تذهب أسنانه عن الكِبَر : إنه لمخلَّد ، هذا قول الجمهور .
والثاني : أنهم المُقَرَّطُون ، ويقال : المُسَوَّرون ، ذكره الفراء ، وابن قتيبة ، وانشدوا في ذلك :
ومُخْلَّداتٌ باللُّجَيْنِ كأنَّما ... أعجازُهُنَّ أَقاوِزُ الكُثْبانِ
قوله تعالى : { بأكوابٍ وأباريقَ } الكوب : إناء لا عروة له ولا خُرطوم ، وقد ذكرناه في [ الزخرف : 72 ] ؛ والأباريق : آنية لها عُرىً وخراطيم؛ وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : الإبريق : فارسيّ معرَّب ، وترجمتُه من الفارسية أحدُ شيئين ، إمّا أن يكون : طريقَ الماء ، أو : صبَّ الماءِ على هينة ، وقد تكلمتْ به العربُ قديماً ، قال عديُّ بن زيد :
ودَعَا بالصَّبُوحِ يوماً فجاءتْ ... قَيْنَةٌ في يمينها إبريقُ
وباقي الآيات في [ الصافات : 46 ] .

قوله تعالى : { لا يُصَدَّعُونَ عنها ولا يُنْزِفُونَ } فيه قولان .
أحدهما : لا يَلْحَقُهم الصُّداع الذي يلحق شاربي خمر الدنيا . و«عنها» كناية عن الكأس المذكور ، والمراد بها : الخمر ، وهذا قول الجمهور .
والثاني : لا يتفرَّقون عنها ، من قولك : صدَّعْتُه فانْصَدَع ، حكاه ابن قتيبة . ولا «يُنْزِفُونَ» مفسر في [ الصافات : 47 ] .
قوله تعالى : { ممّا يتخيَّرون } أي : يختارون ، تقول : تخيَّرتُ الشيءَ : إذا أخذتَ خيره .
قوله تعالى : { ولحمِ طيرٍ } قال ابن عباس : يخطُر على قلبه الطير ، فيصير ممثَّلاً بين يديه على ما اشتهى . وقال مغيث بن سمي : تقع على أغصان شجرة طوبى طير كأمثال البُخْت ، فإذا اشتهى الرجل طيراً دعاه ، فيجيء حتى يقع على خوانه ، فيأكل من أحد جانبيه قديداً والآخرِ شِواءً ، ثم يعود طيراً فيطير فيذهب .
قوله تعالى : { وحُورٌ عِينٌ } قرأ ابن كثير ، وعاصم ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «وُحورٌ عِينٌ» بالرفع فيهما . وقرأ أبو جعفر ، وحمزة ، والكسائي ، والمفضل عن عاصم : بالخفض فيهما . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وعائشة ، وأبو العالية ، وعاصم الجحدري : «وحُوراً عِيناً» بالنصب فيهما . قال الزجاج : والذين رفعوا كرهوا الخفض ، لأنه معطوف على قوله : { يطوف عليهم } ، قالوا : والحُور ليس ممّا يطاف به ، ولكنه مخفوض على غير ما ذهب إليه هؤلاء ، لأن المعنى : يطوف عليهم ولدانٌ مخلَّدون بأكوابٍ ينعمون بها ، وكذلك ينعمون بلحم طير ، فكذلك ينعمون بحُورٍ عِينٍ ، والرفع أحسن ، والمعنى : ولهم حُورٌ عِينٌ؛ ومن قرأ «وحُوراً عِيناً» حمله على المعنى ، لأن المعنى : يُعطَون هذه الأشياء ويُعطَون حُوراً عِيناً ، إلاّ أنها تُخالِف المصحف فتُكْرَه . ومعنى { كأمثال اللُّؤلؤ } أي : صفاؤهُنَّ وتلألؤهُنّ كصفاء اللُّؤلؤ وتلألئه . والمكنون : الذي لم يغيِّره الزمان واختلاف أحوال الاستعمال ، فهُنَّ كاللؤلؤ حين يخرج من صدفه .
{ جزاءً } منصوب مفعول له؛ والمعنى : يُفعل بهم ذلك جزاءً بأعمالهم ، ويجوز أن يكون منصوباً على أنه مصدر ، لأن معنى «يطوف عليهم ولِدانٌ مخلَّدون» : يُجازَون جزاءً بأعمالهم؛ وأكثر النحويِّين على هذا الوجه .
قوله تعالى : { لا يَسْمَعون فيها لَغْواً } قد فسرنا معنى اللَّغو والسلام في سورة [ مريم : 62 ] ومعنى التأثيم في [ الطور : 23 ] ومعنى «ما أصحابُ اليمين» في أول هذه السورة [ الواقعة : 9 ] .
فإن قيل : التأثيم لا يُسمع فكيف ذكره مع المسموع؟
فالجواب : أن العرب يُتْبِعون آخرَ الكلام أوَّلَه ، وإن لم يحسُن في أحدهما ما يحسُن في الآخر ، فيقولون : أكلتُ خبزاً ولبَناً ، واللَّبَن لا يؤكل ، إنما حَسُن هذا لأنه كان مع ما يؤكل ، قال الفراء : أنشدني بعض العرب :
إذا ما الغانِياتُ بَرَزْنَ يَوْماً ... وَزَجَّجْنَ الْحَواجِبَ والعُيُونا
قال : والعَيْنُ لا تُزَجَّج إنما تُكَحَّل ، فردَّها على الحاجب لأن المعنى يُعْرَف ، وأنشدني آخر :
ولَقِيتُ زَوْجَكِ في الوغى ... متقلَّداً سَيْفاً ورُمْحاً
وأنشدني آخر :
عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... والماء لا يُعْلَف وإِنما يُشْرَب ، فجعله تابعاً للتِّبن؛ قال الفراء : وهذا هو وجه قراءة من قرأ ، «وحُورٍ عِينٍ» بالخفض ، لإتباع آخر الكلام أوَّله ، وهو وجه العربيَّة .

وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)

وقد شرحنا معنى قوله : { وأصحابُ اليمين } في قوله : { فأصحاب الميمنة } [ الواقعة : 9 ] وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : أصحاب اليمين : أطفال المؤمنين .
قوله تعالى : { في سِدْرٍ مخضود } سبب نزولها أن المسلمين نظروا إلى وَجٍّ ، وهو وادٍ بالطائف مخصبٌ . فأعجبهم سِدْرُه ، فقالوا : يا ليت لنا مثل هذا؟ فنزلت هذه الآية ، قاله أبو العالية ، والضحاك .
وفي المخضود ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الذي لا شَوْكَ فيه ، رواه أبو طلحة عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، وقسامة بن زهير . قال ابن قتيبة : كأنه خُضِدَ شوكُه ، أي : قلع ، ومنه " قول النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة : «لا يُخْضَدُ شوكُها» " . والثاني : أنه المُوقَر حملاً ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والضحاك .
والثالث : أنه المُوقَر الذي لا شوك فيه ، ذكره قتادة .
وفي الطَّلْح قولان .
أحدهما : أنه الموز ، قاله عليّ ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، وأبو سعيد الخدري ، والحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة .
والثاني : أنه شجر عظام كبار الشوك ، قال أبو عبيدة : هذا هو الطَّلْح عند العرب ، قال الحادي :
بَشَّرَها دليلُها وقالا ... غَداً تَرَيْنَ الطَّلْحَ والجِبالا
فإن قيل : ما الفائدة في الطَّلْح؟
فالجواب أن له نَوْراً وريحاً طيِّبة ، فقد وعدهم ما يعرفون ويميلون إليه ، وإن لم يقع التساوي بينه وبين ما في الدنيا . وقال مجاهد : كانوا يُعْجَبون ب «وَجٍّ» وظِلاله من طلحه وسدره . فأمّا المنضود ، فقال ابن قتيبة : هو الذي قد نُضِدَ بالحَمْل أو بالورق والحَمْل من أوَّله إلى آخره ، فليس له ساق بارزة ، وقال مسروق : شجر الجنة نضيد من أسفلها إلى أعلاها .
قوله تعالى : { وظلٍّ ممدودٍ } أي : دائم لا تنسخه الشمس .
{ وماءٍ مسكوبٍ } أي : جارٍ غير منقطع .
قوله تعالى : { لا مقطوعةٍ ولا ممنوعةٍ } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : لا مقطوعة في حين دون حين ، ولا ممنوعة بالحيطان والنواطير ، إنما هي مُطْلَقة لمن أرادها ، هذا قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة . ولخصه بعضهم فقال : لا مقطوعة بالأزمان ، ولا ممنوعة بالأثمان .
والثاني : لا تنقطع إذا جُنِيَتْ ، ولا تُمْنع من أحد إِذا أريدت ، روي عن ابن عباس .
والثالث : لا مقطوعة بالفَناء ، ولا ممنوعة بالفساد ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { وفُرُشٍ مرفوعةٍ } فيها قولان .
أحدهما : أنها الحشايا المفروشة للجلوس والنوم . وفي رفعها قولان .
أحدهما : أنها مرفوعة فوق السُّرر .
والثاني : أن رفعها : زيادة حشوها ليطيب الاستمتاع بها .
والثاني : أن المراد بالفِراش : النساء؛ والعرب تسمِّي المرأة : فِراشاً وإزاراً ولباساً؛ وفي معنى رفعهن ثلاثة أقوال . أحدها : أنهن رُفِعْن بالجمال على نساء أهل الدنيا ، والثاني : رُفِعْن عن الأدناس . والثالث : في القلوب لشِدَّة الميل إليهن .
قوله تعالى : { إنَّا أنشأناهُنَّ إنشاءً } يعني النساء . قال ابن قتيبة : اكتفى بذِكْر الفُرُش لأنها محل النساء عن ذكرهن .

وفي المشار إِليهن قولان .
أحدهما : أنهن نساء أهل الدنيا المؤمنات؛ ثم في إنشائهن ، قولان .
أحدهما : أنه إنشاؤهن من القبور ، قاله ابن عباس .
والثاني : إعادتهن بعد الشَّمَط والكِبَر أبكاراً صغاراً ، قاله الضحاك .
والثاني : أنهن الحُور العين ، وإنشاؤهن : إيجادهن عن غير ولادة ، قاله الزجاج . والصواب أن يقال : إن الإنشاء عمَّهُنَّ كُلَّهن ، فالحُور أُنشئن ابتداءً ، والمؤمنات أُنشئن بالإعادة وتغيير الصفات؛ وقد روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِنَّ من المنشَآت اللاّتي كُنَّ في الدنيا عجائزَ عُمْشاً رُمْصاً " . قوله تعالى : { فَجَعَلْناهُنَّ أبْكاراً } أي : عذارى . وقال ابن عباس : لا يأتيها زوجها إِلاّ وجدها بِكْراً .
قوله تعالى : { عُرُباً } قرأ الجمهور : بضم الراء . وقرأ حمزة ، وخلف : بإسكان الراء؛ قال ابن جرير : هي لغة تميم وبكر .
وللمفسرين في معنى «عُرُباً» خمسة أقوال .
أحدها : أنهن المتحبِّبات إلى أزواجهن ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، وابن قتيبة ، والزجاج .
والثاني : أنهن العواشق ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، ومقاتل ، والمبرّد؛ وعن مجاهد كالقولين .
والثالث : الحسنة التبعُّل ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال أبو عبيدة .
والرابع : الغَنِجات ، قاله عكرمة .
والخامسة : الحسنة الكلام ، قاله ابن زيد .
فأمّا الأتراب فقد ذكرناهن في [ ص : 52 ] .
قوله تعالى : { ثُلَّةٌ من الأوَّلين ، وثُلَّةٌ من الآخِرِينَ } هذا من نعت أصحاب اليمين . وفي الأولين والآخرين خلاف ، وقد سبق شرحه [ الواقعة : 13 ] وقد زعم مقاتل أنه لمّا نزلت الآية الأولى ، وهي قوله : «وقليلٌ من الآخِرِين» وجد المؤمنون من ذلك وَجْداً شديداً حتى أُنزلت «وثُلَّةٌ من الآخِرِين» فنسختهْا . وروي عن عروة بن رُويم نحو هذا المعنى .
قلت : وادِّعاء النَّسخ هاهنا لا وجه له لثلاثة أوجه .
أحدها : أن علماء الناسخ والمنسوخ لم يوافقوا على هذا .
والثاني : أن الكلام في الآيتين خبر ، والخبر لا يدخله النسخ ، [ فهو هاهنا لا وجه له ] .
والثالث : أن الثُّلَّة بمعنى الفِرْقة والفئة؛ قال الزجاج : اشتقاقهما من القِطعة ، والثَّلُّ : الكسر والقطع . فعلى هذا قد يجوز أن تكون الثُّلَّة في معنى القليل .

وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)

قوله تعالى : { ما أصحابُ الشِّمال } قد بيَّنّا أنه بمعنى التعجُّب من حالهم؛ والمعنى : ما لهم ، وما أُعدَّ لهم من الشَّرِّ؟! ثم بيَّن لهم سوء مُنْقَلَبهم فقال : { في سَموم } قال ابن قتيبة : هو حَرُّ النّار .
قوله تعالى : { وظِلٍّ من يَحْمومٍ } قال ابن عباس : ظِلّ من دخان . قال الفراء : اليَحْموم : الدُّخان الأسود ، { لا باردٍ ولا كريمٍ } فوجه الكلام الخفض تبعاً لما قبله ، ومثله { زَيْتونةٍ لا شرقيةٍ ولا غربيَّةٍ } [ النور : 35 ] ، وكذلك قوله : { وفاكهةٍ كثيرةٍ ، لا مقطوعةٍ ولا ممنوعةٍ } ، ولو رفعتَ ما بعد «لا» كان صواباً ، والعرب تجعل الكريم تابعاً لكل شيء نفت عنه فعلاً يُنوي [ به ] الذم ، فتقول : ما هذه الدار بواسعة ولا كريمة ، وما هذا بسمين ولا كريم . قال ابن عباس : لا بارد المدخل ولا كريم المنظر .
قوله تعالى : { إِنهم كانوا قَبْلَ ذلك } أي : في الدنيا { مُتْرَفِينَ } أي : متنعِّمين في ترك أمر الله ، فشغلهم تَرفُهم عن الاعتبار والتعبُّد .
{ وكانوا يُصِرُّونَ } أي : يُقيمون { على الحِنْث } وفيه أربعة أقوال .
أحدها : أنه الشِّرك ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والضحاك ، وابن زيد .
والثاني : الذَّنْب العظيم الذي لا يتوبون منه ، قاله مجاهد . وعن قتادة كالقولين .
والثالث : أنه اليمين الغموس ، قاله الشعبي .
والرابع : الشِّرك والكفر بالبعث ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { أَوَ آباؤنا الأوَّلون } قال أبو عبيدة : الواو متحركة لأنها ليست بواو «أو» ، إنما هي «وآباؤنا» ، فدخلت عليها ألف الاستفهام فتُركتْ مفتوحة . وقرأ أهل المدينة ، وابن عامر : «أَوْ آباؤنا» بإسكان الواو .
وقد سبق بيان ما لم يُذْكَر هاهنا [ هود : 103 ، الصافات : 62 ، الأنعام : 70 ] إلى قوله : { فشاربونَ شُربَ الهِيمِ } قرأ أهل المدينة ، وعاصم ، وحمزة : «شُرْبَ» بضم الشين؛ والباقون بفتحها . قال الفراء : والعرب تقول : شَرِبْتُه شُرْباً ، وأكثر أهل نجد يقولون : شَرْباً بالفتح ، أنشدني عامَّتهم :
تَكْفيهِ حَزَّةُ فِلْذٍ إِنْ أَلمَّ بها ... من الشِّواءِ ويَكْفِي شَرْبَهُ الغُمَرُ
وزعم الكسائي أن قوماً من بني سعد بن تميم يقولون : «شِرْبَ الهِيم» بالكسر . وقال الزجاج : «الشَّرْب» المصدر ، و«الشُّرْب» بالضم : الاسم ، قال : وقد قيل : إنه مصدر أيضاً .
وفي «الهِيم» قولان .
أحدهما : الإبل العِطاش ، رواه ابن أبي طلحة والعوفيُّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، والضحاك ، وقتادة . قال ابن قتيبة : هي الإبل يُصيبها داءٌ فلا تَرْوَى من الماء ، يقال : بعيرٌ أَهْيَمُ ، وناقةٌ هَيْماءُ .
والثاني : أنها الأرض الرَّملة التي لا تَرْوَى من الماء ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً . قال أبو عبيدة : الهِيم : ما لا يَرْوَى من رَمْل أو بعير .
قوله تعالى : { هذا نُزُلُهم } أي : رزقهم . ورواه عباس عن أبي عمرو : «نُزْلُهم» بسكون الزاي ، أي : رزقهم وطعامهم . وفى «الدِّين» قولان قد ذكرناهما فى «الفاتحة» .

نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)

قوله تعالى : { نحن خَلَقْناكم } أي : أوجدناكم ولم تكونوا شيئاً ، وأنتم تُقِرُّونَ بهذا { فلولا } أي : فهلاّ { تصدِّقونَ } بالبعث؟!
ثم احتجَّ على بعثهم بالقدرة على ابتدائهم فقال : { أفرأيتم ما تُمْنونَ } قال الزجاج : أي : ما يكون منكم من المَنِيِّ ، يقال : أمنى الرجل يُمْني ، ومَنى يَمني ، فيجوز على هذا «تَمْنونَ» بفتح التاء إن ثبتت به رواية .
قوله تعالى : { أأنتم تَخْلُقونه أَمْ نحن الخالقون } أي : تخلُقون ما تُمنون بَشَراً؟! وفيه تنبيه على شيئين .
أحدهما : الامتنان ، إذا خلق من الماء المَهين بَشَراً سوياً .
والثاني : أن من قَدَر على خَلْق ما شاهدتموه من أصل وجودكم كان أقدَرَ على خَلْق ما غاب عنكم من إعادتكم .
قوله تعالى : { نحن قَدّرْنا بينَكم المَوْتَ } وقرأ ابن كثير : «قَدَرْنا» بتخفيف الدال . وفي معنى الكلام قولان .
أحدهما : قضينا عليكم بالموت .
والثاني : سوّينا بينكم في الموت { وما نحن بمسبوقين ، على أن نبدِّل أمثالكم } قال الزجاج : المعنى : إن أردنا أن نخلُق خَلْقاً غيركم لم يسبقنا سابق ، ولا يفوتنا ذلك . وقال ابن قتيبة : لسنا مغلوبين على أن نَستبدل بكم أمثالكم .
قوله تعالى : { ونُنْشِئكم في ما لا تعلمون } وفيه أربعة أقوال .
أحدها : نبدِّل صفاتكم ونجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بمن كان قبلكم ، قاله الحسن .
والثاني : ننشئكم في حواصل طير سود تكون ب «برهوت» كأنها الخطاطيف ، قاله سعيد بن المسيب .
والثالث : نخلقكم في أيّ خَلْق شئنا ، قاله مجاهد .
والرابع : نخلقكم في سوى خلقكم ، قاله السدي . قال مقاتل : نخلقكم سوى خلقكم في مالا تعلمون من الصور .
قوله تعالى : { ولقد عَلِمْتم النَّشْأة الأُولى } وهي ابتداء خَلقكم من نُطفة وعَلَقة { فلولا تَذَكَّرونَ } أي : فهلاّ تَعتبِرون فتعلموا قُدرة الله فتُقِرُّوا بالبعث .

أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)

{ أفرأيتم ما تحرُثونَ } أي : ما تعملون في الأرض من إثارتها ، وإلقاء البذور فيها ، { أأنتم تزرعونه } أي : تُنبِتونه؟! وقد نبَّه هذا الكلام على أشياء منها إحياء الموتى ، ومنها الامتنان بإخراج القُوت ، ومنها القدرة العظيمة الدالة على التوحيد .
قوله تعالى : { لجَعَلْناه } يعني الزرع { حُطاماً } قال عطاء : تبناً لا قمح فيه . وقال الزجاج : أبطلْناه حتى يكون محتطماً لا حنطة فيه ، ولا شيء .
قوله تعالى : { فظَلْتُم } وقرأ الشعبي ، وابو العالية ، وابن أبي عبلة : «فظِلْتُم» بكسر الظاء؛ وقد بيناه في قوله : { ظَلْتَ عليه عاكفاً } [ طه : 97 ] .
قوله تعالى : { تَفَكَّهونَ } وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وابن السميفع ، والقاسم بن محمد ، وعروة : «تَفَكَّنونَ» بالنون . وفي المعنى أربعة أقوال .
أحدها : تَعَحَّبون ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، ومقاتل . قال الفراء : تتعجَّبون ممّا نَزَل بكم في زرعكم .
والثاني : تَنَدَّمون ، قاله الحسن ، والزجاج . وعن قتادة كالقولين . قال ابن قتيبة : يقال : «تفكَّهون» تَنَدَّمون ، ومثلها : تَفَكَّنونَ ، وهي لغة لعُكْلٍ .
والثالث : تتلاومون ، قاله عكرمة .
والرابع : تتفجَّعون ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { إنّا لَمُغْرَمونَ } قال الزجاج : أي : تقولون : قد غَرِمْنا وذهب زرعنا . وقال ابن قتيبة : «لَمُغْرَمونَ» أي : لَمُعَذَّبون .
قوله تعالى : { بل نحن محرومون } أي : حُرِمْنا ما كنّا نطلبه من الرّيع في الزرع . وقد نبَّه بهذا على أمرين .
أحدهما : إنعامه عليهم إذ لم يجعل زرعهم حُطاماً .
والثاني : قدرته على إهلاكهم كما قدر على إهلاك الزرع . فأمّا المُزْن ، فهي السَّحاب ، واحدتها : مُزْنة .
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : { تُورُونَ } قال أبو عبيدة : تستخرجون ، من أَوْرَيت ، وأكثر ما يقال : وَرَيت . وقال ابن قتيبة : التي تَستخرجون من الزُّنود . قال الزجاج : «تورون» أي : تقدحون ، تقول : أَوريتُ النّار : إذا قدحتَها .
قوله تعالى : { أأنتم أنشأتم شَجَرَتَها } في المراد بشجَرَتها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها الحديد ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنها الشجرة التي تُتَّخذ منها الزُّنود ، وهو خشب يُحَكُّ بعضُه ببعض فتخرج منه النار ، هذا قول ابن قتيبة ، والزجاج .
والثالث : أن شجرتها : أصلُها ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { نحن جَعَلْناها تَذْكِرَةً } قال المفسرون : إذا رآها الرائي ذكر نار جهنم ، وما يخاف من عذابها ، فاستجار بالله منها { ومتاعاً } أي : منفعة { للمقوين } وفيهم أربعة أقوال .
أحدها : أنهم المسافرون ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك . قال ابن قتيبة : سموا بذلك لنزلهم القَوَى ، وهو القفر . وقال بعض العلماء : المسافرون أكثر حاجة إِليها من المقيمين ، لأنهم إِذا أوقدوها هربت منهم السباع واهتدى به الضال .
والثاني : أنهم المسافرون والحاضرون ، قاله مجاهد .
والثالث : أنهم الجائعون ، قال ابن زيد : المقوي : الجائع في كلام العرب .
والرابع : أنهم الذين لا زاد معهم ولا مردَّ لهم ، قاله أبو عبيدة .
قوله تعالى : { فسبح باسم ربك العظيم } قال الزجاج : لما ذكر ما يدل على توحيده ، وقدرته ، وإنعامه ، قال : «فسبح» أي : برِّء الله ونزّهه عما يقولون في وصفه . وقال الضحاك : معناه : فصل باسم ربك ، أي : استفتح الصلاة بالتكبير . وقال ابن جرير : سبح بذكر ربك وتسميته . وقيل : الباء زائدة . والاسم يكون بمعنى الذات ، والمعنى : فسبح ربك .

فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)

قوله تعالى : { فلا أقسم } في «لا» قولان .
أحدهما : أنها دخلت توكيداً . والمعنى : فأقسم ، ومثله { لئلا يعلم أهل الكتاب } [ الحشر : 29 ] قال الزجاج : وهو مذهب سعيد بن جبير .
والثاني : أنها على أصلها . ثم في معناها قولان .
أحدهما : أنها ترجع إلى ما تقدم ، ومعناها : النهي ، تقدير الكلام : فلا تكذبوا ، ولا تجحدوا ما ذكرته من النعم والحجج ، قاله الماوردي .
والثاني : أنَّ «لا» ردّ لما يقوله الكفار في القرآن : إنه سحر ، وشعر ، وكهانة . ثم استأنف القسم على أنه قرآن كريم ، قاله علي بن أحمد النيسابوري . وقرأ الحسن : فلأقسم بغير ألف بين اللام والهمزة .
قوله تعالى : { بمواقع } وقرأ حمزة ، والكسائي : «بموقع» على التوحيد . قال أبو علي : مواقعها : مساقطها . ومَنْ أَفْرَدَ ، فلأنه اسم جنس . ومَنْ جَمَعَ ، فلاختلاف ذلك . وفي «النجوم» قولان .
أحدهما : نجوم السماء ، قاله الأكثرون . فعلى هذا في مواقعها ثلاثة أقوال .
أحدها : انكدارها وانتثارها يوم القيامة ، قاله الحسن .
والثاني : منازلها ، قاله عطاء ، وقتادة .
والثالث : مغيبها في المغرب ، قاله أبو عبيدة .
والثاني : أنها نجوم القرآن ، رواه ابن جبير عن ابن عباس . فعلى هذا سميت نجوماً لنزولها متفرقة ، ومواقعها : نزولها { وإنه لَقَسَمٌ } الهاء كناية عن القسم . وفي الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : وإنه لقسم عظيم لو تعلمون عِظَمَهُ . ثم ذكر المقسم عليه فقال تعالى : { إِنه لقرآن كريم } والكريم : اسم جامع لما يحمد ، وذلك أن فيه البيان ، والهدى ، والحكمة ، وهو مُعَظَّم عند الله عز وجل .
قوله تعالى : { في كتاب } فيه قولان .
أحدهما : أنه اللوح المحفوظ ، قاله ابن عباس . والثاني : أنه المصحف الذي بأيدينا ، قاله مجاهد ، وقتادة .
وفي «المكنون» قولان .
أحدهما : مستور عن الخلق ، قاله مقاتل ، وهذا على القول الأول .
والثاني : مصون ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { لا يمسه إلا المطهرون } من قال : إنَّه اللوح المحفوظ . فالمطهرون عنده : الملائكة ، وهذا قول ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير . فعلى هذا يكون الكلام خبراً . ومن قال : هو المصحف ، ففي المطهرين أربعة أقوال .
أحدها : أنهم المطهرون من الأحداث ، قاله الجمهور . فيكون ظاهر الكلام النفي ، ومعناه النهي .
والثاني : المطهرون من الشرك ، قاله ابن السائب .
والثالث : المطهرون من الذنوب والخطايا ، قاله الربيع بن أنس .
والرابع : أن معنى الكلام : لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به ، حكاه الفراء .
قوله تعالى : { تنزيل } أي : هو تنزيل . والمعنى : هو منزل ، فسمي المنزل تنزيلاً في اتساع اللغة ، كما تقول للمقدور : قدر ، وللمخلوق : خلق .
قوله تعالى : { أفبهذا الحديث } يعني : القرآن { أنتم مدهنون } فيه قولان .
أحدهما : مكذّبون ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، والفراء .
والثاني : ممالئون الكفار على الكفر به ، قاله مجاهد . قال أبو عبيدة : المدهن ، المداهن ، وكذلك قال ابن قتيبة : «مدهنون» أي : مداهنون . يقال : أدهن في دينه ، وداهن { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } روى مسلم في «صحيحه» من حديث ابن عباس قال : مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :

" أصبح من الناس شاكر ، ومنهم كافر " قالوا : هذه رحمة وضعها الله حيث شاء . وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا ، وكذا ، فنزلت هذه الآية «فلا أقسم بمواقع النجوم» حتى بلغ «أنكم تكذبون» . وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث زيد بن خالد الجهني ، قال " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بالحديبية على إثْرِ سماءٍ كانت من الليل . فلما انصرف أقبل على الناس ، فقال : «هل تدرون ماذا قال ربكم»؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : «قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر . فأما المؤمن فقال : مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي ، كافر بالكواكب . وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب» " . وللمفسرين في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال .
أحدها : أن الرزق هاهنا بمعنى الشكر . روت عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { وتجعلون رزقكم } قال : «شكركم» ، وهذا قول علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وكان علي يقرأ «وتجعلون شكركم» .
والثاني : أن المعنى : وتجعلون شكر رزقكم تكذيبكم ، قاله الأكثرون . وذلك أنهم كانوا يمطرون ، فيقولون : مطرنا بنوء كذا .
والثالث : أن الرزق بمعنى الحظ ، فالمعنى : وتجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون ، ذكره الثعلبي . وقرأ أبي بن كعب ، والمفضل عن عاصم «تَكْذِبون» بفتح التاء ، وإسكان الكاف ، مخفَّفة الذال .

فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

قوله تعالى : { فلولا } أي : فهلاَّ { إذا بلغت الحلقوم } يعني : النَّفْس ، فترك ذِكرها لدلالة الكلام ، وأنشدوا من ذلك :
إِذا حَشْرَجَتْ يَوْمَاً وضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ ... قوله تعالى : { وأنتم } يعني أهل الميت { تنظرون } إلى سلطان الله وأمره . والثاني : تنظرون إلى الإنسان في تلك الحالة ، ولا تملكون له شيئاً { ونحن أقرب إليه منكم } فيه قولان .
أحدهما : ملك الموت أدنى إليه من أهله { ولكن لا تبصرون } الملائكة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : ونحن أقرب إليه منكم بالعلم والقدرة والرؤية { ولكن لا تبصرون } أي : لا تعلمون ، والخطاب للكفار ، ذكره الواحدي .
قوله تعالى : { غير مدينين } فيه خمسة أقوال .
أحدها : محاسبين ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وابن جبير ، وعطاء ، وعكرمة .
والثاني : موقنين ، قاله مجاهد .
والثالث : مبعوثين ، قاله قتادة .
والرابع : مجزيين . ومنه يقال : دنِته ، وكما تدين تدان ، قاله أبو عبيدة .
والخامس : مملوكين أذَّلاء من قولك : دِنت له بالطاعة ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى : { ترجعونها } أي : تردُّون النَّفْس . والمعنى : إن جحدتم الإله الذي يحاسبكم ويجازيكم ، فهلاَّ تردُّون هذه النَّفْس؟! فإذا لم يمكنكم ذلك ، فاعلموا أن الأمر لغيركم .
قال الفراء : وقوله تعالى : { ترجعونها } هو جواب لقوله تعالى : { فلولا إِذا بلغت الحلقوم } ولقوله تعالى : { فلولا إن كنتم غير مدينين } فإنهما أجيبتا بجواب واحد . ومثله قوله تعالى : { فإما يأتينّكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم } [ البقرة : 38 ] ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت فقال تعالى : { فأما إِن كان } يعني : الذي بلغت نَفْسه الحلقوم { من المقربين } عند الله . قال أبو العالية : هم السابقون { فَرَوْحٌ } أي : فَلَهُ رَوْحٌ . والجمهور يفتحون الراء . وفي معناها ستة أقوال .
أحدها : الفرح ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثاني : الراحة ، رواه أبو طلحة عن ابن عباس .
والثالث : المغفرة والرحمة ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والرابع : الجنة ، قاله مجاهد .
والخامس : رَوْحٌ من الغَمّ الذي كانوا فيه ، قاله محمد بن كعب .
والسادس : رَوْح في القبر ، أي : طيب نسيم ، قاله ابن قتيبة . وقرأ أبو بكر الصديق ، وأبو رزين ، والحسن ، وعكرمة ، وابن يعمر ، وقتادة ، ورويس عن يعقوب ، وابن أبي سُريج عن الكسائي : «فَرُوْحٌ» برفع الراء . وفي معنى هذه القراءة قولان .
أحدهما : أن معناها : فرحمة ، قاله قتادة .
والثاني : فحياة وبقاءٌ ، قاله ابن قتيبة . وقال الزجاج : معناه : فحياة دائمة لا موت معها . وفي «الريحان» أربعة أقوال .
أحدها : أنه الرزق ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثاني : أنه المستراح ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثالث : أنه الجنة ، قاله مجاهد ، وقتادة .
والرابع : أنه الريحان المشموم . وقال أبو العالية : لا يخرج أحد من المقربين من الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة ، فيشمه ، ثم تقبض فيه روحه ، وإلى نحو هذا ذهب الحسن .

وقال أبو عمران الجوني : بلغنا أن المؤمن إذا قبض روحه تلقى بضبائر الريحان من الجنة ، فتجعل روحه فيه .
قوله تعالى : { فسلام لك من أصحاب اليمين } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : فسلامة لك من العذاب ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : تسلِّم عليه الملائكة ، وتخبره أنه من أصحاب اليمين ، قاله عطاء .
والثالث : أن المعنى : أنك ترى فيهم ما تحب من السلامة . وقد علمت ما أُعدَّ لهم من الجزاء ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { وأما إن كان من المكذّبين } أي : بالبعث { الضّالّينَ } عن الهدى { فنُزل } وقد بيَّناه في هذه السورة [ الواقعة : 56 ] .
قوله تعالى : { إن هذا } يعني : ما ذكر في هذه السورة { لهو حق اليقين } أي : هو اليقين حقاً ، فأضافه إلى نفسه ، كقولك : صلاة الأولى ، وصلاة العصر ، ومثله : { ولَدَار الآخرة } [ يوسف : 109 ] وقد سبق هذا المعنى وقال قوم : معناه : وإنه للمتقين حقاً . وقيل للحق : اليقين .
قوله تعالى : { فسبح باسم ربك } قد ذكرناه في هذه السورة [ الواقعة : 74 ] .

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)

قوله تعالى : { سَبَّحَ لله ما في السموات والأرض } أمّا تسبيح ما يعقل ، فمعلوم ، وتسبيح ما لا يعقل ، قد ذكرنا معناه في قوله تعالى : { وَإنْ مِنْ شيء إلا يُسَبِّحُ بحمده } [ الإسراء : 44 ] .
قوله تعالى : { هو الأول } قال أبو سليمان الخطابي : هو السابق للأشياء { والآخِر } الباقي بعد فناء الخلق { والظاهر } بحججه الباهرة ، وبراهينه النَّيِّرة ، وشواهده الدَّالة على صِحَّة وحدانيته . ويكون : الظاهر فوق كل شيء بقدرته . وقد يكون الظهور بمعنى العلوِّ ، ويكون بمعنى الغلبة . والباطن : هو المحتجب عن أبصار الخلق الذي لا يستولي عليه توهُّم الكيفية . وقد يكون معنى الظهور والبطون : احتجابه عن أبصار الناظرين ، وتجلِّيه لبصائر المتفكِّرين . ويكون معناه : العالم بما ظهر من الأمور ، والمطَّلع على ما بطن من الغيوب { هو الذي خلق السموات والأرض } مفسر في [ الأعراف : 54 ] إلى قوله تعالى : { يعلم ما يلج في الأرض } وهو مفسر في [ سبأ : 2 ] إلى قوله تعالى : { وهو معكم أينما كنتم } أي : بعلمه وقدرته . وما بعده ظاهر إلى قوله تعالى : { آمنوا بالله ورسوله } قال المفسرون : هذا الخطاب لكفار قريش { وأنفِقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } يعني : المال الذي كان بأيدي غيرهم ، فأهلكهم الله ، وأعطى قريشاً ذلك المال ، فكانوا فيه خلفاء من مضى .

آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)

قوله تعالى : { وما لكم لا تؤمنون بالله } هذا استفهام إِنكار ، والمعنى : أيُّ شيء لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا بالله { وقد أخذ ميثاقكم؟ } قرأ أبو عمرو «أُخذ» بالرفع . وقرأ الباقون «أخذ» بفتح الخاء { ميثاقَكم } بالفتح . والمراد به : حين أُخرجتم من ظهر آدم { إن كنتم مؤمنين } بالحجج والدلائل .
قوله تعالى : { هو الذي ينزِّل على عبده } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم { آياتٍ بيناتٍ } يعني : القرآن { ليخرجكم من الظلمات } يعني الشرك { إلى } نور الإيمان { وإن الله بكم لرؤوف رحيم } حين بعث الرسول ونصب الأدلة . ثم حثهم على الإنفاق فقال : { وما لكم ألاَّ تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض } أي : أي شيءٍ لكم في ترك الإنفاق مما يقرب إلى الله عز وجل وأنتم ميتون تاركون أموالكم؟! ثم بين فضل من سبق بالإنفاق فقال : { لا يستوي منكم من أنفق من قبلِ الفتح } وفيه قولان .
أحدهما : أنه فتح مكة ، قاله ابن عباس ، والجمهور .
والثاني : أنه فتح الحديبية ، قاله الشعبي . والمعنى : لا يستوي من أنفق قبل ذلك { وقاتل } ومن فعل ذلك بعد الفتح . قال المفسرون : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق . { أولئك أعظم درجةً } قال ابن عباس : أعظم منزلةً عند الله . قال عطاء : درجات الجنة تتفاضل ، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها . قال الزجاج : لأن المتقدمين كانت بصائرهم أنفذ ، ونالهم من المشقة أكثر { وكلاً وعد الله الحسنى } أي : وكلا الفريقين وعده الله الجنة . وقرأ ابن عامر «وكُلٌّ» بالرفع .
قوله تعالى : { من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفَه له } قرأ ابن كثير ، وابن عامر «فيضعِّفَه» مشددة بغير ألف ، إِلا أن ابن كثير يضم الفاء ، وابن عامر يفتحها . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي «فيضاعفُه» بالألف وضم الفاء ، وافقهم عاصم ، إلا أنه فتح الفاء . قال أبو علي : يضاعِف ويضعِّف بمعنى واحد ، إلا أن الرفع في «يضاعف» هو الوجه ، لأنه محمول على «يُقرض» . أو على الانقطاع من الأول ، كأنه [ قال : ] فهو يضاعف . ويحمل قول الذي نصب على المعنى ، لأنه إذا قال : من ذا الذي يُقرض اللهَ ، معناه : أيقرض اللهَ أحدٌ قرضاً فيضاعفه . والآية مفسرة في [ البقرة : 245 ] والأجر الكريم : الجنة .

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

قوله تعالى : { يسعى نورهم } قال المفسرون : يضيء لهم نور عملهم على الصراط على قدر أعمالهم . قال ابن مسعود : منهم مَن نوره مثل الجبل ، وأدناهم نوراً نوره على إبهامه يطفىء مرة ، ويتَّقد أخرى . وفي قوله تعالى : { وبأيمانهم } قولان .
أحدهما : أنه كتبهم يعطَونها بأيمانهم ، قاله الضحاك .
والثاني : أنه نورهم يسعى ، أي : يمضي بين أيديهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم . والباء بمعنى : «في» . و«في» بمعنى «عن» هذا قول الفراء .
قوله تعالى : { بشراكم اليوم } هذا قول الملائكة لهم .
قوله تعالى : { انظرونا نقتبس } وقرأ حمزة : «أنظِرونا» بقطع الهمزة ، وفتحها ، وكسر الظاء . قال المفسرون : يغشى الناس يوم القيامة ظلمة شديدة ، فيعطَى المؤمنون النور ، فيمشي المنافقون في نور المؤمنين ، فإذا سبقهم المؤمنون قالوا : انظرونا نقتبس من نوركم { قيل : ارجعوا وراءكم } في القائل قولان .
أحدهما : أنهم المؤمنون ، قاله ابن عباس .
والثاني : الملائكة ، قاله مقاتل . وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .
أحدها : ارجعوا إلى المكان الذي قبستم فيه النور ، فيرجعون ، فلا يرون شيئاً .
والثاني : ارجعوا فاعملوا عملاً يجعله الله لكم نوراً .
والثالث : أن المعنى : لا نور لكم عندنا { فضرب بينهم بسُور } قال ابن عباس : هو الأعراف ، وهو سُورٌ بين الجنة والنار { باطنه فيه الرحمة } وهي : الجنة { وظاهره } يعني : من وراء السور { من قِبله العذاب } وهو جهنم . وقد ذهب قوم إلى أن هذا السور يكون ببيت المقدس في مكان السور الشرقي بين الوادي الذي يسمى : وادي جهنم ، وبين الباب الذي يسمى : باب الرحمة ، وإلى نحو هذا ذهب عبادة بن الصامت ، وعبد الله بن عمرو ، وكعب .
قوله تعالى : { ينادونهم } أي : ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور : { ألم نكن معكم } أي : على دينكم نصلي بصلاتكم ، ونغزو معكم؟! فيقول لهم المؤمنون : { بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم } قال الزجاج : استعملتموها في الفتنة . وقال غيره : آثمتموها بالنفاق { وتربَّصتم } فيه قولان .
أحدهما : تربَّصتم بالتوبة .
والثاني : تربَّصتم بمحمد الموتَ ، وقلتم : يوشك أن يموت فنستريح { وارتبتم } شككتم في الحق { وغرَّتكم الأمانيُّ } يعني : ما كانوا يتمنَّون من نزول الدوائر بالمؤمنين { حتى جاء أمر الله } وفيه قولان .
أحدهما : أنه الموت .
والثاني : إلقاؤهم في النار { وغركم بالله الغَرور } أي : غركم الشطيان بحكم الله وإمهاله { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية } وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر ، ويعقوب «لا تؤخذ» بالتاء ، أي : بدل وعوض عن عذابكم . وهذا خطاب للمنافقين ، ولهذا قال تعالى : { ولا من الذين كفروا } .
قوله تعالى : { هي مولاكم } قال أبو عبيدة : أي : أولى بكم .

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)

قوله تعالى : { ألم يأن للذين آمنوا } اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما : أنها نزلت في المؤمنين . قال ابن مسعود : ما كان بين إسلامنا ، وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين ، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضاً .
والثاني : أنها نزلت في المنافقين ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . قال مقاتل : سأل المنافقون سلمان الفارسي فقالوا : حدِّثنا عن التوراة ، فإن فيها العجائب ، فنزلت هذه الآية . وقال الزجاج : نزلت هذه الآية في طائفة من المؤمنين حَثُّوا على الرِّقَّة والخشوع . فأما من كان وصفه الله عز وجل بالخشوع ، والرِّقَّة ، فطبقة من المؤمنين فوق هؤلاء . فعلى الأول : يكون الإيمان حقيقة . وعلى الثاني : يكون المعنى : «ألم يأن للذين آمنوا» بألسنتهم . قال ابن قتيبة : المعنى : ألم يحن ، تقول : أنى الشيء : إذا حان .
قوله تعالى : { أن تخشع قلوبهم } أي : تَرِقَّ وتلين لذكر الله . المعنى : أنه يجب أن يورثهم الذِّكْر خشوعاً { وما نزل من الحق } قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي «وما نزَّل» بفتح النون ، والزاي ، مع تشديد الزاي . وقرأ نافع ، وحفص ، والمفضل عن عاصم «نزل» بفتح النون ، وتخفيف الزاي . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو العالية ، وابن يعمر ، ويونس بن حبيب عن أبي عمرو ، وأبان عن عاصم «نُزِّل» برفع النون ، وكسر الزاي ، مع تشديدها . وقرأ ابن مسعود ، وأبو رجاء «وما أَنزل» بهمزة مفتوحة ، وفتح الزاي . وقرأ أبو مجلز ، وعمرو بن دينار مثله ، إلا أنه بضم الهمزة ، وكسر الزاي . و«الحق» القرآن { ولا يكونوا } قرأ رويس عن يعقوب «لا تكونوا» بالتاء { كالذين أوتوا الكتاب } يعني : اليهود ، والنصارى { فطال عليهم الأمد } وهو : الزمان . وقال ابن قتيبة : الأمد : الغاية . والمعنى : أنه بَعُد عهدهم بالأنبياء والصالحين { فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون } وهم الذين لم يؤمنوا بعيسى ومحمد عليهما السلام { إعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها } أي : يخرج منها النبات بعد يبسها ، فكذلك يقدر على إحياء الأموات { قد بينا لكم الآيات } الدالة على وحدانيته وقدرته { لعلكم تعقلون } أي : لكي تتأملوا .

إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)

قوله تعالى : { إن المصَّدِّقين والمصَّدِّقات } قرأ ابن كثير ، وعاصم إلا حفصاً بتخفيف الصاد فيهما على معنى التصديق وقرأ الباقون ، بالتشديد على معنى الصدقة .
قوله تعالى : { أولئك هم الصِّدِّيقون والشهداء عند ربهم } اختلفوا في نظم الآية على قولين .
أحدهما : أن تمام الكلام عند قوله تعالى : { أولئك هم الصِّدِّيقون } ثم ابتدأ فقال تعالى : { والشهداء عند ربهم } هذا قول ابن عباس ، ومسروق ، والفراء في آخرين .
والثاني : أنها على نظمها . والواو في «والشهداء» واو النسق . ثم في معناها قولان .
أحدهما : أن كل مؤمن صِدِّيق شهيد ، قاله ابن مسعود ، ومجاهد .
والثاني : أنها نزلت في قوم مخصوصين ، وهم ثمانية نفر سبقوا إِلى الإسلام : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وحمزة بن عبد المطلب ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وزيد ، قاله الضحاك . وفي الشهداء قولان .
أحدهما : أنه جمع شاهد . ثم فيهم قولان . أحدهما : أنهم الأنبياء خاصة ، قاله ابن عباس . والثاني : أنهم الشاهدون عند ربهم على أنفسهم بالإيمان لله ، قاله مجاهد .
والقول الثاني : أنه جمع شهيد ، قاله الضحاك ، ومقاتل .

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)

قوله تعالى : { إِعلموا أنما الحياة الدنيا } يعني : الحياة في هذه الدار { لعب ولهو } أي : غرور ينقضي عن قليل . وذهب بعض المفسرين إلى أن المشار بهذا إلى حال الكافر في دنياه ، لأن حياته تنقضي على لهو ولعب وتزين الدنيا ، ويفاخر قرناءه وجيرانه ، ويكاثرهم بالأموال والأولاد ، فيجمع من غير حلّه ، ويتطاول على أولياء الله بماله ، وخدمه ، وولده ، فيفنى عمره في هذه الأشياء ، ولا يلتفت إلى العمل للآخرة . ثم بين لهذه الحياة شبهاً ، فقال : { كمثل غيث } يعني : مطراً { أعجب الكفار } وهم الزُّرَّاع ، وسموا كفاراً ، لأن الزارع إذا ألقى البذر في الأرض كفره ، أي : غطاه { نباتُه } أي : ما نبت من ذلك الغيث { ثم يهيج } أي : ييبس { فتراه مصفراً } بعد خضرته وَرِيَّه { ثم يكون حطاماً } أي : ينحطم ، وينكسر بعد يبسه . وشرح هذا المثل قد تقدم في «يونس» عند قوله تعالى : { إنما مثل الحياة الدنيا } [ آية : 24 ] وفي «الكهف» عند قوله تعالى : { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا } [ آية : 45 ] .
قوله تعالى : { وفي الآخرة عذاب شديد } أي : لأعداء الله { ومغفرة من الله ورضوان } لأوليائه وأهل طاعته . وما بعد هذا مذكور في [ آل عمران : 185 ] إلى قوله : { ذلك فضل الله } فبين أنه لا يدخل الجنة أحد إلا بفضل الله .

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)

قوله تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض } يعني : قحط المطر ، وقلة النبات ، ونقص الثمار { ولا في أنفسكم } من الأمراض ، وفقد الأولاد { إلا في كتاب } وهو اللوح المحفوظ { من قبل أن نبرأها } أن نخلقها ، يعني : الأنفس { إن ذلك على الله يسير } أي : إثبات ذلك على كثرته هيِّن على الله عز وجل { لكيلا تأسَوا } أي : تحزنوا { على ما فاتكم } من الدنيا { ولا تفرحوا بما آتاكم } وقرأ أبو عمرو الا اختيار اليزيدي بالقصر على معنى : جاءكم من الدنيا . وقرأ الباقون بالمدّ على معنى : أعطاكم الله منها . وأعلم أنه من علم أن ما قضي لا بدَّ أن يصيبه قلَّ حُزنه وفرحه . وقد روى قتيبة بن سعيد قال : دخلت بعض أحياء العرب ، فإذا بفضاء من الأرض فيه من الإبل ما لا يحصى عدده كلُّها قد مات ، فسألت عجوزاً : لمن كانت هذه الإبل؟ فأشارت إلى شيخ على تلٍّ يغزل الصوف فقلت له : يا شيخ ألك كانت هذه الإبل؟ قال : كانت باسمي ، قلت : فما أصابها؟ قال : ارتجعها الذي أعطاها ، قلت : فهل قلت في ذلك شيئاً؟ قال نعم ، قلت :
لا والَّذي أَنَا عَبْدٌ في عِبَادَتِهِ ... والمَرْءُ في الدَّهْر نصْبَ الرُّزْءِ والحَزَنَ
ما سَرَّني أَنَّ إبْلي في مَبَارِكِها ... وما جرى في قَضَا رَبِّ الوَرَى يَكُنِ
وما بعد هذا قد ذكرناه في سورة [ النساء : 37 ] والذي قيل في البخل هناك هو الذي قيل هاهنا إلى قوله : { ومن يتول } أي : عن الإيمان { فإن الله هو الغني } عن عباده { الحميد } إلى أوليائه . وقد سبق معنى الاسمين في [ البقرة : 267 ] وقرأ نافع وابن عامر : «فإن الله الغني الحميد» ليس فيها «هو» وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة ، والشام .

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)

قوله تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } أي : بالآيات والحجج { وأنزلنا معهم الكتاب } ببيان الشرائع ، والأحكام . وفي «الميزان» قولان .
أحدهما : أنه العدل ، قاله ابن عباس ، وقتادة .
والثاني : أنه الذي يوزن به ، قاله ابن زيد ومقاتل . فعلى القول الأول : يكون المعنى : وأمرنا بالعدل . وعلى الثاني : ووضعنا الميزان ، أي : أمرنا به { ليقوم الناس بالقسط } أي : لكي يقوموا بالعدل .
قوله تعالى : { وأنزلنا الحديد } فيه قولان .
أحدهما : أن الله تعالى أنزل مع آدم السندان ، والكلبتين ، والمطرقة ، قاله ابن عباس .
والثاني : أن معنى «أنزلنا» : أنشأنا وخلقنا ، كقوله تعالى : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [ الزمر : 6 ] .
قوله تعالى : { فيه بأس شديد } قال الزجاج : وذلك أنه يُمتَنع به ، ويُحارَب به { ومنافع للناس } في أدواتهم : وما ينتفعون به من آنية وغيرها .
قوله تعالى : { وليعلمَ الله } هذا معطوف على قوله تعالى : { ليقومَ الناس } ، والمعنى : ليتعامل الناس بالعدل وليعلم الله { من ينصره بالقتال في سبيله ، ونصرة دينه ، وذلك أنه أمر في الكتاب الذي أنزل بذلك . وقد سبق معنى قوله تعالى : { وليعلم الله } في مواضع . وقوله تعالى : { بالغيب } أي : ولم ير الله ، ولا أحكام الآخرة ، وإنما يجهد ويثاب من أطاع بالغيب .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)

قوله تعالى : { وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب } يعني : الكتب { فمنهم } يعني : من الذرية { مهتدٍ وكثير منهم فاسقون } فيه قولان .
أحدهما : كافرون ، قاله ابن عباس .
والثاني : عاصون ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { ثم قَفَّينا على آثارهم } أي : أَتْبَعْنا على آثار نوح ، وإبراهيم ، وذريتهما { بعيسى } وكان آخر أنبياء بني إِسرائيل ، { وجعلنا في قلوب الذين اتَّبعوه } يعني : الحواريين وغيرهم من أتباعه على دينه { رأفةً } وقد سبق بيانها [ النور : 2 ] متوادّين ، كما وصف الله تعالى أصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام ، فقال تعالى : { رحماء بينهم } [ الفتح : 29 ] .
قوله تعالى : { ورهبانية ابتدعوها } ليس هذا معطوفاً على ما قبله ، وإنما انتصب بفعل مضمر ، يدل عليه ما بعده ، تقديره : وابتدعوا رهبانيةً ابتدعوها ، أي : جاؤوا بها من قِبل أنفسهم ، وهي غلوُّهم في العبادة ، وحمل المشاق على أنفسهم في الامتناعِ عن المطعم والمشرب والملبس والنكاح والتعبُّد في الجبال { ما كتبناها عليهم } أي : ما فرضناها عليهم . وفي قوله تعالى : { إلا ابتغاء رضوان الله } قولان .
أحدهما : أنه يرجع إلى قوله تعالى : «ابتدعوها» ، وتقديره : ما كتبناها عليهم إلا أنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ، ذكره علي بن عيسى ، والرماني عن قتادة ، وزيد بن أسلم .
والثاني : أنه راجع إلى قوله تعالى : «ما كتبناها» ثم في معنى الكلام قولان . أحدهما : ما كتبناها عليهم بعد دخولهم فيها تطوعاً إلا ابتغاء رضوان الله . قال الحسن : تطوَّعوا بابتداعها ثم كتبها الله عليهم . وقال الزجاج : لما ألزموا أنفسهم ذلك التطوع لزمهم إِتمامه ، كما أن الإنسان إِذا جعل على نفسه صوماً لم يفترض عليه ، لزمه أن يتمَّه . قال القاضي أبو يعلى : والابتداع قد يكون بالقول ، وهو ما ينذره ويوجبه على نفسه ، وقد يكون بالفعل بالدخول فيه . وعموم الآية تتضمن الأمرين ، فاقتضى ذلك أن كل من ابتدع قربة ، قولاً ، أو فعلاً ، فعليه رعايتها وإِتمامها .
والثاني : أن المعنى : ما أمرناهم منها إِلا بما يرضي الله عز وجل ، لا غير ذلك ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى : { فما رَعَوْها حق رعايتها } في المشار إليهم قولان .
أحدهما : أنهم الذين ابتدعوا الرهبانية ، قاله الجمهور . ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال :
أحدها : أنهم ما رَعَوْها لتبديل دينهم وتغييرهم له ، قاله عطية العوفي .
والثاني : لتقصيرهم فيما ألزموه أنفسهم .
والثالث : لكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم لما بُعث ، ذكر القولين الزجاج .
والثاني : أنهم الذين اتبعوا مبتدعي الرهبانية في رهبانيتهم ، ما رَعوها بسلوك طريق أوليهم ، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس .
قوله تعالى : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } فيهم ثلاثة أقوال .
أحدها : الذين آمنوا بمحمد { وكثير منهم فاسقون } وهم الذين لم يؤمنوا به .
والثاني : أن الذين آمنوا : المؤمنون بعيسى ، والفاسقون : المشركون .
والثالث : أن الذين آمنوا : مبتدعو الرهبانية ، والفاسقون : متبعوهم على غير القانون الصحيح .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله } عامة المفسرين على أن هذا الخطاب لليهود والنصارى . والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله ، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم { يؤتكم كفلين } أي : نصيبين ، وحظَّين { من رحمته } قال الزجاج : الكفل : كساء يمنع الراكب أن يسقط ، فالمعنى : يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي . وقد بينا «معنى» «الكفل» في سورة [ النساء : 85 ] وفي المراد بالكفلين هاهنا قولان .
أحدهما : لإيمانهم بمن تقدَّم من الأنبياء ، والآخر : لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس .
والثاني : أن أحدهما : أجر الدنيا ، والثاني : أجر الآخرة ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { ويجعل لكم نوراً } فيه أربعة أقوال :
أحدها : القرآن ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثاني : نوراً تمشون به على الصراط ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : الهدى ، قاله مجاهد .
والرابع : الإيمان ، قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { لئلا يعلم } «لا» زائدة . قاله الفراء : والعرب تجعل «لا» صلة في كل كلام دخل في آخره أو أوله جحد ، فهذا مما جُعل في آخره جحد . والمعنى : ليعلم { أهل الكتاب } الذين لم يؤمنوا بمحمد { ألاَّ يقدرون } أي : أنهم لا يقدرون { على شيءٍ من فضل الله } والمعنى : أنه جعل الأجرين لمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ليعلم من لم يؤمن به أنه لا أجر لهم ولا نصيب في فضل الله { وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء } فآتاه المؤمنين . هذا تلخيص قول الجمهور في هاتين الآيتين . وقد ذهب قوم إلى أنه لما نزل في مُسلمة أهل الكتاب { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } إلى قوله تعالى : { أولئك يؤتَون أجرهم مرتين } [ القصص : 54 ، 52 ] افتخروا على المسلمين بزيادة الأجر ، فشق ذلك على المسلمين ، فنزلت هاتان الآيتان ، وهذا المعنى في رواية أبي صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل . فعلى هذا يكون الخطاب للمسلمين ، ويكون المعنى : يؤتكم أجرين ليعلم مؤمنو أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله الذي خصَّكم ، فإنه فضَّلكم على جميع الخلائق . وقال قتادة : لما نزل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله . . . } الآية ، حسد أهل الكتاب المسلمين عليها ، فأنزل الله تعالى : { لئلا يعلم أهل الكتاب . . . } الآية .

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)

قوله تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } أما سبب نزولها ، فروي عن عائشة أنها قالت : تبارك الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة فكلَّمتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا في جانب البيت أسمع كلامها ، ويخفى عليَّ بعضه ، وهي تشتكي زوجها وتقول : يا رسول الله : أبلى شبابي ، ونثرتُ له بطني ، حتى إذا كبر سني ، وانقطع ولدي ، ظاهر مني ، اللهم إني أشكو إليك ، قالت : فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات .
فأما تفسيرها ، فقوله تعالى : { قد سمع الله } قال الزجاج : إدغام الدال في السين حسن لقرب المخرجين ، لأنهما من حروف طرف اللسان ، وإظهار الدال جائز ، لأنه وإِن قرب من مخرج السين ، فله حيّز على حدة ، ومن موضع الدال الطاء والتاء ، فهذه الأحرف الثلاثة موضعها واحد ، والسين والزاي والصاد من موضع واحد ، وهي تسمى : حروف الصفير . وفي اسم هذه المجادلة ونسبتها أربعة أقوال :
أحدها : خولة بنت ثعلبة ، رواه مجاهد ، عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، وقتادة ، والقرظي .
والثاني : خولة بنت خويلد ، رواه عكرمة . عن ابن عباس .
والثالث : خولة بنت الصامت ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والرابع : خولة بنت الدليج ، قاله أبو العالية . واسم زوجها : أوس بن الصامت ، وكانا من الأنصار .
قال ابن عباس : كان الرجل إِذا قال لامرأته في الجاهلية : أنتِ عليَّ كظهر أمي ، حرُمَتْ عليه ، فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس ، ثم ندم ، وقال لامرأته : انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسليه ، فأتته ، فنزلت هذه الآيات . فأما مجادلتها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان كلمَّا قال لها : قد حرمتِ عليه تقول : والله ما ذكر طلاقاً ، فقال : ما أُوحي إليَّ في هذا شيء ، فجعلت تشتكي إلى الله . وتشتكي بمعنى : تشكو . يقال : اشتكيت ما بي ، وشكوته . وقالت : إن لي صبية صغاراً ، إِن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا . فأما التحاور ، فهو مراجعة الكلام . قال عنترة في فرسه :
لو كان يدْري ما المُحاورَةُ اشْتكى ... ولكانَ لو عَلِم الكلامَ مُكلِّمي

الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)

قوله تعالى : { الذين يظاهرون منكم من نسائهم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو «يظَّهَّرون» بفتح الياء ، وتشديد الظاء والهاء وفتحهما من غير ألف . وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بفتح الياء ، وتشديد الظاء ، وبألف ، وتخفيف الهاء . وقرأ عاصم «يُظاهِرون» بضم الياء ، وتخفيف الظاء والهاء ، وكسر الهاء في الموضعين مع إِثبات الألف . وقرأ ابن مسعود «يتظاهرون» بياءٍ ، وتاءٍ ، وألف . وقرأ أبي بن كعب «يتظَهَّرون» بياءٍ ، وتاءٍ ، وتخفيف الياء ، وتشديد الهاء من غير ألف . وقرأ الحسن ، وقتادة ، والضحاك «يظهرون» بفتح الياء ، وفتح الظاء ، مخففة ، مكسورة الهاء مشددة . والمعنى : تقولون لهن : أنتن كظهور أمهاتنا { ما هنَّ أمهاتِهم } قرأ الأكثرون بكسر التاء . وروى المفضل عن عاصم رفعها . والمعنى : ما اللواتي تجعلن كالأمهات بأمهات لهم { إن أمهاتهم } أي ما أمهاتهم { إلا اللائي وَلَدْنَهُم } قال الفراء : وانتصاب ، «الأمهات» هاهنا بإلقاء الباء ، وهي قراءة عبد الله «ما هُنَّ بأمهاتهم» ومثله : { ما هذا بشراً } [ يوسف : 31 ] ، المعنى : ما هذا ببشرٍ ، فلما أُلقيت الباء أُبقي أثرها ، وهو : النصب ، وعلى هذا كلام أهلِ الحجاز . فأما أهل نجد ، فإنهم إذا ألقوا الباء رفعوا ، وقالوا : «ما هن أمهاتُهم» و«ما هذا بشرٌ» أنشدني بعض العرب :
رِكابُ حُسَيْلٍ آخِرَ الصَّيْفِ بُدَّنٌ ... وَنَاقَةُ عَمْروٍ مَا يُحَلُّ لَها رَحْلُ
وَيَزْعُمُ حَسْلٌ أَنَّهُ فَرْعُ قَوْمِهِ ... وَمَا أَنْتَ فَرْعٌ يا حُسَيْلُ وَلاَ أَصْلُ
قوله تعالى : { وإنهم } يعني : المظاهرين { ليقولون منكراً من القول } لتشبيههم الزوجات بالأمهات ، والأمهات محرمات على التأبيد ، بخلاف الزوجات . { وزوراً } أي : كذباً { وإن الله لَعَفُوٌ غَفُورٌ } إِذ شرع الكفارة لذلك .
قوله تعالى : { ثم يعودون لما قالوا } اللام في «لما» بمعنى «إلى» والمعنى : ثم يعودون إلى تحليل ما حرَّموا على أنفسهم من وطء الزوجة بالعزم على الوطء . قال الفراء : معنى الآية : يرجعون عما قالوا ، وفي نقض ما قالوا . وقال سعيد بن جبير : المعنى : يريدون أن يعودوا إلى الجماع الذي قد حرَّموه على أنفسهم . وقال الحسن ، وطاووس ، والزهري : العَود : هو الوطء . وهذا يرجع إلى ما قلناه . وقال الشافعي : هو أن يمسكها بعد الظهار مدة يمكنه طلاقها فيه فلا يطلقها . فإذا وجد هذا ، استقرت عليه الكفارة ، لأنه قصد بالظهار تحريمها ، فإن وصل ذلك بالطلاق فقد جرى على ما ابتدأه ، وان سكت عن الطلاق ، فقد ندم على ما ابتدأ به ، فهو عود إلى ما كان عليه ، فحينئذ تجب الكفارة . وقال داود : هو إِعادة اللفظ ثانياً ، لأن ظاهر قوله تعالى : { يعودون } يدل على تكرير اللفظ . قال الزجاج : وهذا قول من لا يدري اللغة . وقال أبو علي الفارسي : ليس في هذا كما ادَّعَوا ، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن الإنسان عليه قبلُ ، وسميت الآخرةُ معاداً ، ولم يكن فيها أحد ثم عاد إليها .

قال الهذلي :
وعَادَ الفَتَى كالكَهْلِ لَيْسَ بِقَائِلٍ ... سِوى الحَقِّ شيئاً واسْتَرَاحَ العَواذِلُ
وقد شرحنا هذا في قوله تعالى : { وإِلى الله ترجع الأمور } [ البقرة : 210 ] قال ابن قتيبة : من توَّهم أن الظهار لا يقع حتى يلفظ به ثانية ، فليس بشيء ، لأن الناس قد أجمعوا أن الظهار يقع بلفظ واحد . وإنما تأويل الآية : أن أهل الجاهلية كانوا يطلِّقون بالظهار ، فجعل الله حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية ، وأنزل قوله تعالى : «والذين يظاهرون من نسائهم» يريد في الجاهلية «ثم يعودون لما قالوا» في الإسلام ، أي : يعودون لما كانوا يقولونه من هذا الكلام ، { فتحرير رقبة } قال المفسرون : المعنى : فعليهم ، أو فكفارتهم تحرير رقبة ، أي : عتقها . وهل يشترط أن تكون مؤمنة؟ فيه عن أحمد روايتان .
قوله تعالى : { من قبل أن يتماسا } وهو : كناية عن الجماع على أن العلماء قد اختلفوا : هل يباح للمظاهر الاستمتاع باللمس والقبلة؟ وعن أحمد روايتان . وقال أبو الحسن الأخفش : تقدير الآية «والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة» لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم .
فصل
إذا وطىء المظَاهِرُ قبل أن يكفِّر أَثِمَ ، واستقرَّت الكفارة . وقال أبو حنيفة : يسقط الظهار والكفارة . واختلف العلماء فيما يجب عليه إِذا فعل ذلك ، فقال الحسن ، وسعيد بن المسيب ، وطاووس ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وابن سيرين : عليه كفارة واحدة . وقال الزهري ، وقتادة ، في آخرين : عليه كفارتان . فإن قال : أنت عليَّ كظهر أمي اليوم ، بطل الظهار بمضيِّ اليوم ، هذا قول أصحابنا ، وأبي حنيفة ، والثوري ، والشافعي . وقال ابن أبي ليلى ، ومالك ، والحسن بن صالح : هو مظاهر أبداً .
واختلفوا في الظهار من الأمة ، فقال ابن عباس : ليس من أمة ظهار ، وبه قال سعيد بن المسيب ، والشعبي ، والنخعي ، وأبو حنيفة ، والشافعي . وقال سعيد بن جبير ، وطاووس ، وعطاء ، والأوزاعي ، والثوري ، ومالك : هو ظهار . ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال : لا يكون مظاهراً من أمته ، ولكن تلزمه كفارة الظهار ، كما قال في المرأة إِذا ظاهرت من زوجها لم تكن مظاهرة ، وتلزمها كفارة الظهار .
واختلفوا فيمن ظاهر مراراً ، فقال أبو حنيفة ، والشافعي : إن كان في مجالس ، فكفارات ، وإن كان في مجلس واحد ، فكفارة : قال القاضي أبو يعلى : وعلى قول أصحابنا : يلزمه كفارة واحدة ، سواء كان في مجلس ، أو في مجالس ، ما لم يكفِّر ، وهذا قول مالك .
قوله تعالى : { ذلكم توعَظون به } قال الزجاج : ذلكم التغليظ توعظون به . والمعنى : أن غِلَظَ الكفارة وَعْظٌ لكم حتى تتركوا الظهار .
قوله تعالى : { فمن لم يجد } يعني : الرقبة { فصيام شهرين } أي : فعليه صيام شهرين { متتابعين فمن لم يستطع } الصيام { ف } كفَّارته { إطعام ستين مسكيناً ذلك } أي : الفرض ذلك الذي وصفنا { لتؤمنوا بالله ورسوله } أي : تصدِّقوا بأنَّ الله أمر بذلك ، وتصدِّقوا بما أتى به الرسولُ { وتلك حدود الله } يعني : ما وصفه الله من الكفَّارات في الظِّهار { وللكافرين عذاب أليم } قال ابن عباس : لمن جحد هذا وكذَّب به .

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)

قوله تعالى : { إن الذين يحادُّون اللهَ ورسولَه } قد ذكرنا معنى المحادَّة في [ التوبة : 63 ] ومعنى «كُبتوا» في [ آل عمران ] عند قوله تعالى { أو يكبتهم } [ آية : 127 ] وقال ابن عباس : أُخزوا يوم الخندق بالهزيمة كما أخزي الذين من قبلهم ممن قاتل الرسل .
قوله تعالى : { يوم يبعثهم الله جميعاً } أي : من قبورهم { فينبّئهم بما عملوا } من معاصيه ، وتضييع فرائضه { أحصاه الله } أي : حفظه الله عليهم { ونسوه والله على كل شيء } من أعمالهم في السِّر والعلانية { شهيد } . { ألم تر } أي : ألم تعلم .
قوله تعالى : { ما يكون من نجوى ثلاثة } وقرأ أبو جعفر «ما تكون» بالتاء . قال ابن قتيبة : النجوى : السرار . وقال الزجاج : ما يكون من خلوة ثلاثة يسرِّون شيئاً ويتناجَوْن به { إلا هو رابعهم } أي : عالم به . «ونجوى» مشتق من النجوة ، وهو ما ارتفع . وقرأ يعقوب «ولا أكثرُ» بالرفع . وقال الضحاك «إلا هو معهم» أي : علمه معهم .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)

قوله تعالى : { ألم ترى إلى الذين نُهُوا عن النجوى } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : نزلت في اليهود والمنافقين ، وذلك أنهم كانوا يتناجَوْن فيما بينهم دون المؤمنين ، وينظرون إلى المؤمنين ، ويتغامزون بأعينهم ، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا : ما نراهم إلا قد بلغهم عن أقربائنا وإِخواننا الذين خرجوا في السرايا ، قتل أو موت ، أو مصيبة ، فيقع ذلك في قلوبهم ، ويحزنهم ، فلا يزالون كذلك حتى تقدَّم أصحابهم . فلما طال ذلك وكثر ، شكا المؤمنون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن لا يتناجَوْا دون المسلمين ، فلم ينتهوا عن ذلك ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس .
والثاني : نزلت في اليهود ، قاله مجاهد . قال مقاتل : وكان بين اليهود وبين رسول الله موادعة ، فإذا رأوا رجلاً من المسلمين وحده تناجَوْا بينهم ، فيظن المسلم أنهم يتناجَوْن بقتله ، أو بما يكره ، فيترك الطريق من المخافة ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهاهم عن النجوى ، فلم ينتهوا ، وعادوا إليها ، فنزلت هذه الآية . وقال ابن السائب : نزلت في المنافقين . والنجوى : بمعنى : المناجاة { ثم يعودون } إلى المناجاة التي نهوا عنها { ويتناجَوْن } قرأ حمزة ، ويعقوب ، إلا زيداً ، ورَوحاً «ويتنجَّون» وقرأ الباقون «ويتناجون» بألف . وفي معنى تناجيهم { بالإثم والعدوان } وجهان .
أحدهما : يتناجون بما يسوء المسلمين ، فذلك الإثم والعدوان ، ويوصي بعضهم بعضاً بمعصية الرسول .
والثاني : يتناجَوْن بعد نهي الرسول ، ذلك هو الإثم والعدوان ومعصية الرسول .
قوله تعالى : { وإِذا جاؤوك حَيَّوْكَ بما لم يحيِّكَ به الله } اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما : نزلت في اليهود . قالت عائشة رضي الله عنها : " جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم ، فقلت : السام عليكم ، وفعل الله بكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه يا عائشة ، فإن الله لا يحب الفحش ، ولا التفحش ، فقلت : يا رسول الله : ترى ما يقولون؟ فقال : ألست تريني أردُّ عليهم ما يقولون ، وأقول : وعليكم " ، قالت : فنزلت هذه الآية في ذلك . قال الزجاج : والسام : الموت .
والثاني : أنها نزلت في المنافقين ، رواه عطية عن ابن عباس .
قال المفسرون : ومعنى «حيَّوك» سَلَّموا عليك بغير سلام الله عليك ، وكانوا يقولون : سام عليك . فإذا خرجوا يقولون في أنفسهم ، أو يقول بعضهم لبعض ، لو كان نبياً عذّبنا بقولنا له ما نقول .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم } فيها قولان .
أحدهما : نزلت في المنافقين ، فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا بزعمهم ، وهذا قول عطاء ومقاتل .
والثاني : أنها في المؤمنين ، والمعنى : أنه نهاهم عن فعل المنافقين واليهود ، وهذا مذهب جماعة ، منهم الزجاج .
قوله تعالى : { تتناجَوا } هكذا قرأ الجماعة بألف . وقرأ يعقوب وحده «فلا تتنجَّوا» . فأما «البِرُّ» فقال مقاتل : هو الطاعة ، و«التقوى» ترك المعصية . وقال أبو سليمان الدمشقي : «البِرُّ» الصدق ، و«التقوى» ترك الكذب . ثم ذكر أن ما يفعله اليهود والمنافقون ، من الشيطان ، فقال تعالى { إنما النجوى من الشيطان } أي : من تزيينه ، والمعنى : إنما يزيِّن لهم ذلك { ليحزن الذين آمنوا } وقد بيَّنا اتِّقاء ما كان يحزن المؤمنين من هذه النجوى { وليس بضارّهم شيئاً } أي : وليس الشيطان بضارِّ المؤمنين شيئاً { إلا بإِذن الله } أي : بإرادته { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } أي : فليكلوا أُمورهم إليه .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)

قوله تعالى : { إذا قيل لكم تفسَّحوا في المجلس } وقرأ عاصم في «المجالس» على الجمع ، وذلك لأن كل جالس له مجلس ، فالمعنى : ليفسح كل رجل منكم في مجلسه . قال المفسرون : نزلت في نفر من المؤمنين كانوا يسابقون إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا أقبل المهاجرون وأهل السابقة ، لم يجدوا موضعاً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يليه أولو الفضل ليحفظوا عنه ، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة جالس في صُفَّةٍ ضيِّقةٍ في المسجد ، جاء نفر من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس ابن شماس ، فسلَّموا وانتظروا أن يوسّعوا لهم ، فأوسعوا لبعضهم ، وبقي بعضهم ، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قم يا فلان ، قم يا فلان ، حتى أقام من المجلس على عدة من هو قائم من أهل السابقة ، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه من أقامهم الكراهة ، وتكلَّم المنافقون في ذلك وقالوا : والله ما عدل ، فنزلت هذه الآية . وقال قتادة : كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا أقبل مقبل ضَنّوا بمجلسهم ، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض . قال المفسرون : ومعنى «تفسَّحوا» توسَّعوا وذلك أنهم كانوا يجلسون متضايقين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجد غيرهم مجلساً عنده ، فأمرهم أن يوسِّعوا لغيرهم ليتساوى الناس في الحظِّ منه ، ويظهر فضيلة المقرَّبين إليه من أهل بدر وغيرهم .
وفي المراد «بالمجلس» هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه مجلس الحرب ، ومقاعد القتال ، كان الرجل يأتي القوم في الصفِّ ، فيقول لهم : توسَّعوا ، فيأبَوْن عليه لحرصهم على القتال ، وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، وأبي العالية ، والقرظي .
والثاني : أنه مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد . وقال قتادة : كان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم ومن حوله خاصة .
والثالث : مجالس الذكر كلِّها ، روي عن قتادة أيضاً . وقرأ علي ابن أبي طالب ، وأبو رزين ، وأبو عبد الرحمن ، ومجاهد ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة ، وابن أبي عبلة ، والأعمش : «تفسحوا في المجالس» بألف على الجمع .
قوله تعالى : { يفسح الله لكم } أي : يوسّع الله لكم الجنة ، والمجالس فيها . { وإذا قيل انشزوا } قرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم «انشُزوا فانشُزوا» برفع الشين . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : بكسر الشين فيهما . ومعنى «انشزوا» قوموا . قال الفراء : وهما لغتان . وفي المراد بهذا القيام خمسة أقوال :
أحدها : أنه القيام إلى الصلاة ، وكان رجال يتثاقلون عنها ، فقيل لهم : إِذا نودي للصلاة فانهضوا ، هذا قول عكرمة والضحاك .
والثاني : أنه القيام إلى قتال العدو ، قاله الحسن .
والثالث : أنه القيام إلى كل خير من قتال ، أو أمر بمعروف ، ونحو ذلك ، قاله مجاهد .

والرابع : أنه الخروج من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنهم كانوا إذا جلسوا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطالوا ليكون كل واحد منهم آخرهم عهداً به ، فأُمروا أن ينشُزوا إذا قيل لهم : انشزوا ، قاله ابن زيد .
والخامس : أن المعنى : قوموا وتحرَّكوا وتوسَّعوا لإخوانكم ، قاله الثعلبي .
قوله تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم } أي : يرفعهم بإيمانهم على مَن ليس بمنزلتهم من الإيمان { و } يرفع { الذين أوتوا العلم } على مَن ليس بعالم . وهل هذا الرفع في الدنيا ، أم في الآخرة؟ فيه وجهان .
أحدهما : أنه إخبار عن ارتفاع درجاتهم في الجنة .
والثاني : أنه ارتفاع مجالسهم في الدنيا ، فيكون ترتيبهم فيها بحسب فضائلهم في الدِّين والعلم . وكان ابن مسعود يقول : أيها الناس : افهموا هذه الآية ولْتُرغِّبْكم في العلم ، فإن الله يرفع المؤمن العالم فوق مَن لا يعلم درجات .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)

قوله تعالى : { إذا ناجيتم الرسول } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقُّوا عليه ، فأراد الله أن يخفف عن نبيه ، فأنزل هذه الآية ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنها نزلت في الأغنياء ، وذلك أنهم كانوا يكثرون مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويغلبون الفقراء على المجالس ، حتى كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، فنزلت هذه الآية ، فأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئاً ، وأما أهل الميسرة فبخلوا ، واشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الرخصة ، قاله مقاتل بن حيَّان ، وإلى نحوه ذهب مقاتل بن سليمان ، إلا أنه قال : فقدر الفقراء حينئذ على مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يقدِّمْ أحدٌ من أهل الميسرة صدقة غيرَ علي بن أبي طالب .
وروى مجاهد عن علي رضي الله عنه قال : آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ، ولن يعمل بها أحد بعدي ، آية النجوى . كان لي دينار ، فبعته بعشرة دراهم ، فكلما أردت أن أناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم قدَّمت درهماً ، فنسختها الآية الأخرى { أأشفقتم أن تقدِّموا . . . } الآية .
قوله تعالى : { ذلك خير لكم وأطهر } أي : تقديم الصدقة على المناجاة خير لكم ، لما فيه من طاعة الله ، وأطهر لذنوبكم { فإن لم تجدوا } يعني : الفقراء { فإن الله غفور رحيم } إذ عفا عمن لا يجد .
قوله تعالى : { أأشفقتم } أي : خِفتم بالصدقة الفاقةَ { وتاب الله عليكم } أي : فتجاوز عنكم ، وخَفَّف بنسخ إيجاب الصدقة . قال مقاتل بن حيان : إنما كان ذلك عشر ليال . قال قتادة : ما كان إلا ساعة من نهار .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)

قوله تعالى : { ألم ترى إلى الذين تولَّوا قوماً غضب الله عليهم } نزلت في المنافقين الذين تولَّوا اليهود ، ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين . وقال السدي ، ومقاتل : نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق ، وذلك أنه كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويرفع حديثه إلى اليهود ، فدخل عليه يوماً ، وكان أزرق ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «فعلت» فانطلق فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما سبّوه ، فأنزل الله هذه الآيات . وروى الحاكم أبو عبد الله في «صحيحه» من حديث ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في ظل حُجرة من حجره ، وعنده نفر من المسلمين ، فقال : إنه سيأتيكم إِنسان ينظر إِليكم بعيني شيطان ، فإذا أتاكم فلا تُكلِّموه ، فجاء رجل أزرق ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : علام تشتمني أنت وفلان وفلان؟ فانطلق الرجل فدعاهم ، فحلفوا بالله واعتذروا إليه ، فأنزل الله تعالى : { يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون . . . } الآية .
فأما التفسير ، فالذين تولَّوا : هم المنافقون ، والمغضوب عليهم : هم اليهود { ما هم منكم } يعني : المنافقين ليسوا من المسلمين ، ولا من اليهود { ويحلفون على الكذب } وهو ما ذكرنا في سبب نزولها وقال بعضهم حلفوا أنهم ما سبُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تولَّوْا اليهود { وهم يعلمون } أنهم كَذَبة { اتخذوا أَيْمانهم جُنَّةً } أي : سترة يَتَّقُون بها القتل . قال ابن قتيبة : المعنى : استتروا بالحلف فكلما ظهر لهم شيء يوجب معاقبتهم حلفوا كاذبين ، { فصدُّوا عن سبيل الله } فيه قولان .
أحدهما : صَدُّوا النَّاس عن دين الإسلام قاله السدي .
والثاني : صَدُّوا عن جهادهم بالقتل وأخذ مالهم .
قوله تعالى : { فيحلفون له } قال مقاتل ، وقتادة : يحلفون لله في الآخرة أنهم كانوا مؤمنين ، كما حلفوا لأوليائه في الدنيا { ويحسبون أنهم على شيءٍ } من أَيمانهم الكاذبة { ألا إنهم هم الكاذبون } في قولهم وأَيمانهم .
قوله تعالى : { استحوذ عليهم الشيطان } قال أبو عبيدة : غلب عليهم ، وحاذهم ، وقد بينا هذا في سورة [ النساء ] عند قوله تعالى : { نستحوذ عليكم } [ آية : 141 ] وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى : { أولئك في الأَذَلِّين } أي : في المغلوبين ، فلهم في الدنيا ذُلُّ ، وفي الآخرة خِزْيٌ .

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

قوله تعالى : { كتب الله } أي : قضى الله { لأغلبن أنا ورسلي } وفتح الياء نافع ، وابن عامر .
قال المفسرون : من بُعث من الرسل بالحرب ، فعاقبة الأمر له ، ومن لم يبعث بالحرب ، فهو غالب بالحجة { إن الله قويٌّ عزيزٌ } أي : مانع حزبه من أن يذل .
قوله تعالى : { لا تجد قوماً . . . } الآية . اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال .
أحدها : نزلت في أبي عبيدة بن الجراح ، قتل أباه يوم أُحد ، وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، فقال : يا رسول الله دعني أكون في الرَّعلة الأولى ، فقال : متِّعنا بنفسك يا أبا بكر ، وفي مصعب بن عمير ، قتل أخاه عبيد بن حمنة يوم أُحد ، وفي عمرو قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر ، وفي علي وحمزة قتلا عتبة وشيبة يوم بدر ، قاله ابن مسعود .
والثاني : أنها نزلت في أبي بكر الصِّدِّيق ، وذلك أن أبا قحافة سَبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فصكَّه أبو بكر الصديق صَكَّةً شديدةً سقط منها ، ثم ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أو فَعلته " ؟ قال : نعم . قال : فلا تعُد إِليه ، فقال أبو بكر : والله لو كان السيف قريباً مني لقتلته ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن جريج .
والثالث : نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ ، وذلك أنه كان جالساً إلى جنب رسول الله ، فشرب رسول الله ماءً ، فقال عبد الله : يا رسول الله أبق فضلة من شرابك ، قال : وما تصنع بها؟ قال : أسقيها أبي ، لعل الله سبحانه يطهر قلبه ، ففعل فأتى بها أباه ، فقال : ما هذا؟ قال : فضلة من شراب رسول الله جئتك بها لتشربها ، لعل الله يطهر قلبك ، فقال : هلا جئتني ببول أُمِّكَ! فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : ائذن لي في قتل أبي ، قال : فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ارفق به ، وأحسن إليه " ، فنزلت هذه الآية قاله السدي .
والرابع : أنها نزلت في حاطب بن أبي بَلْتَعَةَ حين كتب إلى أهل مكة يخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزم على قصدهم ، قاله مقاتل ، واختاره الفراء ، والزجاج .
وهذه الآية قد بَيَّنتْ أن مودَّة الكفار تقدح في صحة الإيمان ، وأن من كان مؤمناً لم يوالِ كافراً وإِن كان أباه أو ابنه أو أحداً من عشيرته .
قوله تعالى : { أولئك } الذين ، يعني : الذين لا يوادُّون من حادَّ الله ورسوله { كَتب في قلوبهم الإيمان } وقرأ المفضل عن عاصم «كُتِبَ» برفع الكاف والنون من «الإيمان» . وفي معنى «كتب» خمسة أقوال .

أحدها : أثبت في قلوبهم الإيمان ، قاله الربيع بن أنس .
والثاني : جعل ، قاله مقاتل .
والثالث : كتب في اللوح المحفوظ أن في قلوبهم الإيمان حكاه الماوردي .
والرابع : حكم لهم بالإيمان . وإنما ذكر القلوب ، لأنها موضع الإيمان ، ذكره الثعلبي .
والخامس : جمع في قلوبهم الإيمان حتى استكملوه ، قاله الواحدي .
قوله تعالى : { وأيَّدهم } أي : قوَّاهم { بروحٍ منه } وفي المراد «بالروح» هاهنا خمسة أقوال :
أحدها : أنه النصر ، قاله ابن عباس ، والحسن . فعلى هذا سمي النصر روحاً ، لأن أمرهم يحيا به .
والثاني : الإيمان ، قاله السدي .
والثالث : القرآن ، قاله الربيع .
والرابع : الرحمة ، قاله مقاتل .
والخامس : جبريل عليه السلام أيَّدهم به يوم بدر ، ذكره الماوردي . فأما { حِزْب الله } فقال الزجاج : هم الداخلون في الجمع الذين اصطفاهم وارتضاهم ، و«ألا» كلمة تنبيه وتوكيد للقصة .

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)

قوله تعالى : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني : يهود بني النضير { من ديارهم } أي : من منازلهم { لأول الحشر } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أنهم أول من حُشر وأُخرج من داره ، قاله ابن عباس . وقال ابن السائب : هم أول من نفي من أهل الكتاب .
والثاني : أن هذا كان أول حشرهم ، والحشر الثاني : إلى أرض المحشر يوم القيامة ، قاله الحسن . قال عكرمة : من شك أن المحشر إلى الشام فليقرأ هذه الآية ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم يومئذ : اخرجوا ، فقالوا : إلى أين؟ قال إلى أرض المحشر .
والثالث : أن هذا كان أول حشرهم . والحشر الثاني : نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب قاله قتادة .
والرابع : أن هذا كان أول حشرهم من المدينة ، والحشر الثاني : من خيبر ، وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات ، وأريحا من أرض الشام في أيام عمر بن الخطاب ، قاله مرة الهمْداني .
قوله تعالى : { ما ظننتم } يخاطب المؤمنين { أن يخرجوا } من ديارهم لعزِّهم ، ومَنَعَتِهم ، وحُصُونهم { وظَنُّوا } يعني : بني النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } وذلك أَنَّه أمر نبيَّه بقتالهم وإِجلائهم ، ولم يكونوا يظنون أن ذلك يكون ، ولا يحسبونه { وقذف في قلوبهم الرعب } لخوفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : لقتل سيدهم كعب بن الأشرف { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } قرأ أبو عمرو «يُخَرِّبون» بالتشديد . وقرأ الباقون «يَخْرِبُون» . وهل بينهما فرق ، أم لا؟ فيه قولان .
أحدهما : أن المشددة معناها : النقض والهدم . والمخففة معناها : يخرجون منها ويتركونها خراباً معطَّلة ، حكاه ابن جرير ، روي عن أبي عمرو أنه قال : إنما اخترت التشديد ، لأن بني النضير نقضوا منازلهم ، ولم يرتحلوا عنها وهي معمورة .
والثاني : أن القراءتين بمعنى واحد . والتخريب والإخراب لغتان بمعنى ، حكاه ابن جرير عن أهل اللغة . وللمفسرين فيما فعلوا بمنازلهم أربعة أقوال .
أحدها : أنه كان المسلمون كلما ظهروا على دارٍ من دُورهم هدموها ليتسع لهم مكان القتال ، وكانوا هم ينقبون دورهم ، فيخرجون إِلى ما يليها ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه كان المسلمون كلما هدموا شيئاً من حصونهم نقضوا ما يبنون به الذي خربه المسلمون ، قاله الضحاك .
والثالث : أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم ، أو العمود ، أو الباب ، فيستحسنونه ، فيهدمون البيوت ، وينزعون ذلك منها ، ويحملونه معهم ، ويخرب المؤمنون باقيها ، قاله الزهري .
والرابع : أنهم كانوا يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون ، حسداً منهم ، وبغياً ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } الاعتبار : النظر في الأمور ، ليعرف بها شيء آخر من جنسها ، و«الأبصار» العقول . والمعنى : تدبَّروا ما نزل بهم { ولولا أن كتب الله } أي : قضى { عليهم الجلاء } وهو خروجهم من أوطانهم .

وذكر الماوردي بين الإخراج والجلاء فرقين .
أحدهما : أن الجلاء : ما كان مع الأهل والولد ، والإخراج : قد يكون مع بقاء الأهل والولد .
والثاني : أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة . والإخراج : قد يكون لواحد ولجماعة . والمعنى : لولا أن الله قضى عليهم بالخروج { لعذَّبهم في الدنيا } بالقتل والسبي ، كما فعل بقريظة { ولهم في الآخرة } مع ما حلَّ بهم في الدنيا { عذابُ النَّار ، ذلك } الذي أصابهم { بأنهم شاقُّوا الله } وقد سبق بيان الآية [ الأنفال 13 ] و [ محمد 32 ] . قال القاضي أبو يعلى : فقد دلت هذه الآية على جواز مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير سبي ولا استرقاق ، ولا جزية ، ولا دخول في ذمة ، وهذا حكم منسوخ إِذا كان في المسلمين قوة على قتالهم ، لأن الله تعالى أمر بقتال الكفار حتى يسلموا ، أو يُؤدُّوا الجزية . وإِنما يجوز هذا الحكم إذا عجز المسلمون عن مقاومتهم فلم يقدروا على إدخالهم في الإسلام أو الذمة ، فيجوز لهم حينئذ مصالحتهم على الجلاء من بلادهم . وفي هذه القصة دلالة على جواز مصالحتهم على مجهول من المال ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على أرضهم ، وعلى الحلقة ، وترك لهم ما أقلَّت الإبل ، وذلك مجهول .
قوله تعالى : { ما قطعتم من لينة } سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير ، وقطع ، فنزلت هذه الآية ، أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر . وذكر المفسرون أنه لما نزلت ببني النضير تحصَّنوا في حصونهم ، فأمر بقطع نخيلهم ، وإحراقها ، فجزعوا ، وقالوا : يا محمد زعمتَ أنك تريد الصلاح ، أفمن الصلاح عقر الشجر ، وقطع النخل؟ وهل وجدت فيما أُنزل عليك الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم . واختلف المسلمون ، فقال بعضهم : لا تقطعوا ، فإنه مما أفاء الله علينا . وقال بعضهم : بل نغيظهم بقطعها ، فنزلت هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه ، وتحليل من قطعه من الإثم ، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله تعالى .
وفي المراد «باللينة» ستة أقوال .
أحدها : أنه النخل كلُّه ما خلا العجوة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وبه قال عكرمة ، وقتادة ، والفراء .
والثاني : أنه النخل والشجر ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثالث : أنها ألوان النخل كلّها إلا العجوة ، والبرنية ، قاله الزهري ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة . وقال الزجاج : أهل المدينة يسمون جميع النخيل : الألوان ، ما خلا البرني ، والعجوة . وأصل «لينة» لِوْنة ، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها .
والرابع : أنها النخل كلُّه ، قاله مجاهد ، وعطية ، وابن زيد . قال ابن جرير . معنى الآية : ما قطعتم من ألوان النخيل .
والخامس : أنها كرام النخل ، قاله سفيان .
والسادس : أنها ضرب من النخل يقال لتمرها : اللون ، وهي شديدة الصُّفْرة ، ترى نواه من خارج ، وكان أعجب ثمرهم إليهم ، قاله مقاتل . وفي عدد ما قطع المسلمون ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم قطعوا وأحرقوا ست نخلات ، قاله الضحاك .
والثاني : أحرقوا نخلة ، وقطعوا نخلة ، قاله ابن إسحاق .
والثالث : قطعوا أربع نخلات ، قاله مقاتل .
قوله تعالى { فبإذن الله } قال يزيد بن رومان ومقاتل : بأمر الله .
قوله تعالى : { وليخزي الفاسقين } يعني اليهود . وخزيهم : أن يُريَهم أموالهم يتحكَّم فيها المؤمنون كيف أحبُّوا . والمعنى : وليخزي الفاسقين ، أذن في ذلك ، ودل على المحذوف قوله : { فبإذن الله } .

وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)

قوله تعالى { وما أفاء الله على رسوله } أي ما ردَّ عليهم { منهم } يعني : من بني النضير { فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } قال أبو عبيدة : الإيجاف : الإيضاع ، والركاب : الإبل . قال ابن قتيبة : يقال وجف الفرس والبعير ، وأوجفته ومثله : الإيضاع ، وهو الإسراع في السير . وقال الزجاج : معنى الآية : أنه لا شيء لكم في هذا ، إنما هو لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة .
قال المفسرون : طلب المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخمِّسَ أموال بني النضير لما أُجْلُوا ، فنزلت هذه الآية تبين أنها فيىء لم تحصل لهم بمحاربتهم ، وإنما هو بتسليط رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو له خاصة ، يفعل فيه ما يشاء ، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين ، ولم يعط الأنصار منه شيئاً ، إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة ، وهم : أبو دُجَانة ، وسهل بن حُنيف ، والحارث بن الصِّمَّة . ثم ذكر حكم الفيىء فقال تعالى : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } أي : من أموال كفار أهل القرى { فلله } أي : يأمركم فيه بما أحب ، { ولرسوله } بتحليل الله إياه . وقد ذكرنا «ذوي القربى واليتامى» في [ الأنفال : 41 ] وذكرنا هناك الفرق بين الفيىء والغنيمة .
فصل
واختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فذهب قوم : أن المراد بالفيىء هاهنا : الغنيمة التي يأخذها المسلمون من أموال الكافرين عنوة ، وكانت في بدوِّ الإسلام للذين سمَّاهم الله هاهنا دون الغالبين الموجفين عليها ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في [ الأنفال : 41 ] { واعلموا أنما غنمتم من شيء . . . } الآية ، هذا قول قتادة ، ويزيد بن رومان . وذهب قوم إلى أن هذا الفيىء : ما أخذ من أموال المشركين ما لم يوجف بخيل ولا ركاب ، كالصلح ، والجزية ، والعشور ، ومال من مات منهم في دار الإسلام ولا وارث له ، فهذا كان يقسم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أخماس ، فأربعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل بها ما يشاء ، والخمس الباقي للمذكورين في هذه الآية .
واختلف العلماء فيما يصنع بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته على ما بيَّنَّا في [ الأنفال : 41 ] فعلى هذا تكون هذه الآية مثبتة لحكم الفيىء والتي في [ الأنفال : 41 ] مثبتة لحكم الغنيمة ، فلا يتوجه النسخ .
قوله تعالى : { كي لا يكون } يعني : الفيىء { دُولة } وهو اسم للشيء يتداوله القوم . والمعنى لئلا يتداوله الأغنياء بينهم فيغلبوا الفقراء عليه . قال الزجاج : الدُّولة : اسم الشيء يتداول . والدَّولة ، بالفتح : الفعل والانتقال من حال إلى حال { وما آتاكم الرسول } من الفيىء { فخذوه وما نهاكم } عن أخذه { فانتهوا } وهذا نزل في أمر الفيىء ، وهو عام في كل ما أمر به ، ونهى عنه .

قال الزجاج ثم بين مَن المساكين الذي لهم الحق ، فقال تعالى : { للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم } قال المفسرون : يعني بهم المهاجرين { يبتغون فضلاً من الله } أي : رزقاً يأتيهم { ورضواناً } رضى ربهم حين خرجوا إلى دار الهجرة { أولئك هم الصادقون } في إِيمانهم . ثم مدح الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيىء ، فقال تعالى : { والذين تبوَّؤُا الدار } يعني : دار الهجرة ، وهي المدينة { والإيمان من قبلهم } فيها تقديم وتأخير ، تقديره : والذين تبوَّؤوُا الدار من قبلهم ، أي : من قبل المهاجرين ، والإيمان عطف على «الدار» في الظاهر ، لا في المعنى ، لأن «الإيمان» ليس بمكان يُتَبَوَّأُ ، وإنما تقديره : وآثروا الإيمان ، وإِسلام المهاجرين قبل الأنصار ، وسكنى الأنصار المدينة قبل المهاجرين . وقيل : الكلام على ظاهره ، والمعنى : تبوَّؤوا الدار والإيمان قبل الهجرة { يحبُّون من هاجر إليهم } وذلك أنهم شاركوهم في منازلهم ، وأموالهم { ولا يجدون في صدورهم حاجة } أي : حسداً وغيظاً مما أوتي المهاجرون .
وفيما أوتوه قولان :
أحدهما : مال الفيء ، قاله الحسن . وقد ذكرنا آنفاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر .
والثاني : الفضل والتقدُّم ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { ويؤثرون على أنفسهم } بأموالهم ومنازلهم { ولو كان بهم خصاصة } أي فقر وحاجة ، فبين الله عز وجل أن إيثارهم لم يكن عن غنى . وفي سبب نزول هذا الكلام قولان :
أحدهما : " أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أصابه الجهد ، فقال : يا رسول الله : إِني جائع فأطعمني ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه : هل عندكنَّ شيء؟ فكلُّهن قلن : والذي بعثك بالحق ما عندنا إِلا الماء ، فقال : ما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يطعمكَ هذه الليلة . ثم قال : «من يضيف هذا هذه الليلة يرحمه الله؟» فقام رجل فقال : أنا يا رسول الله ، فأتى به منزله ، فقال لأهله : هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأكرميه ولا تدَّخري عنه شيئاً ، فقالت : ما عندنا إلا قوت الصبية ، فقال : قومي فعلِّليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعموا شيئاً ، ثم أصبحي سراجِك ، فإذا أخذ الضيف ليأكل ، فقومي كأنك تصلحين السراج ، فأطفئيه ، وتعالَيْ نمضغ ألسنتنا لأجل ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يشبع ، ففعلت ذلك ، وظن الضيف أنهما يأكلان معه ، فشبع هو ، وباتا طاويَين ، فلما أصبحا غَدَوَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما نظر اليهما تبسَّم ، ثم قال : ضحك الله الليلة ، أو عجب من فَعالكما " ، فأنزل الله تعالى : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . . . } الآية . أخرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة وفي بعض الألفاظ عن أبي هريرة : أن الضيف كان من أهل الصُّفَّة ، والمضيف كان من الأنصار ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

" لقد عجب من فعالكما أهلُ السماء " . والثاني : أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أُهْدِيَ له رأسُ شاةٍ ، فقال : إِن أخي فلاناً وعياله أحوج إِلى هذا منا ، فبعث به إِليه ، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد حتى تداولها سبعة أهل أبيات ، حتى رجعت إلى أولئك ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عمر . وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال : أُهدي لبعض الصحابة رأسُ شاةٍ مشويّ ، وكان مجهوداً ، فوجَّه به إلى جارٍ له فتناوله تسعةُ أنفس ، ثم عاد إلى الأول ، فنزلت هذه الآية .
قوله تعالى : { ومن يوق شح نفسه } وقرأ ابن السميفع ، وأبو رجاء ، «ومن يُوَقَّ» بتشديد القاف . قال المفسرون : هو أن لا يأخذ شيئاً مما نهاه الله عنه ، ولا يمنع شيئاً أمره الله بأدائه . والمعنى : أن الأنصار ممن وُقِيَ شُحَّ نفسه حين طابت أنفسهم بترك الفيىء للمهاجرين .
فصل
وقد اختلف العلماء في الشح والبخل ، هل بينهما ، فرق ، أم لا؟ فقال ابن جرير : الشُّحُّ في كلام العرب : هو منع الفضل من المال . وقال أبو سليمان الخطابي : الشح أبلغ في المنع من البخل ، وإنما الشُّحُّ بمنزلة الجنس ، والبخل بمنزلة النوع ، وأكثر ما يقال في البخل : إنما هو في أفراد الأمور وخواص الأشياء ، والشح عام ، فهو كالوصف اللازم للإنسان من قِبَل الطَّبع والجِبِلَّة . وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال : البخل : أن يَضِنَّ بماله ، والشح : أن يبخل بماله ومعروفه . وقد روى أبو الشعثاء أن رجلا أتى ابن مسعود فقال : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، قال : وما ذاك؟ قال : أسمع الله يقول : «ومن يوق شح نفسه» وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يديَّ شيء ، فقال : ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله في القرآن ، الشُّحُّ : أن تأكل مال أخيك ظلماً ، إِنما ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " برىء من الشُّحِّ من أدَّى الزكاة ، وَقَرَى الضيف ، وأعطى في النائبة " . قوله تعالى : { والذين جاؤوا من بعدهم } يعني التابعين إلى يوم القيامة . قال الزجاج : والمعنى : ما أفاء الله على رسوله فلله وللرسول ولهؤلاء المسلمين ، وللذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ما أقاموا على محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودليل هذا قوله تعالى : { والذين جاؤوا من بعدهم } أي : الذين جاؤوا في حال قولهم : { ربنا اغفر لنا ولإخواننا } فمن ترحَّم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن في قلبه غِلٌّ لهم ، فله حَظٌّ من فيىء المسلمين ، ومن شتمهم ولم يترحَّم عليهم ، وكان في قلبه غِلٌّ لهم ، فما جعل الله له حقاً في شيء من فيىء المسلمين بنص الكتاب . وكذلك روي عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه قال : من تنقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو كان في قلبه عليهم غِلٌّ ، فليس له حق في فيىء المسلمين ، ثم تلا هذه الآيات .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)

قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين نافقوا } يعني : عبد الله بن أُبيٍّ وأصحابه { يقولون لإخوانهم } في الدِّين ، لأنهم كفَّار مثلهم ، وهم اليهود { لئن أُخرجتم } من المدينة { لنخرجنَّ معكم ولا نطيع فيكم } أي : في خذلانكم { أحداً أبداً } فكذَّبهم الله تعالى في ذلك بقوله : { والله يشهد إِنهم لكاذبون } ثم ذكر أنهم يُخلفونهم ما وعدوهم من الخروج والنصر بالآية التي تلي هذه ، فكان الأمر على ما ذكره الله تعالى ، لأنهم أُخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون ، وقُوتلوا فلم ينصروهم ، ومعنى { ولئن نصروهم } لئن قُدِّر وجودُ نصرهم ، لأن الله نفى نصرهم ، فلا يجوز وجوده . وقوله تعالى : { ثم لا ينصرون } يعني : بني النضير .
قوله تعالى : { لأنتم أشد } يعني : المؤمنين أشد { رهبة في صدورهم } وفيهم قولان .
أحدهما : أنهم المنافقون ، قاله مقاتل .
والثاني بنو النضير ، قاله الفراء .
قوله تعالى : { لا يقاتلونكم جميعاً } فيهم قولان .
أحدهما : أنهم اليهود ، قاله الأكثرون .
والثاني : اليهود والمنافقون ، قاله ابو سليمان الدمشقي . والمعنى : أنهم لا يبرزون لحربكم ، إنما يقاتلون مُتَحَصِّنين { في قرىً محصنة أو من وراء جُدُر ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبان «جدار» بألف . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، «جُدُر» بضم الجيم والدَّال . وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق ، وابن أبي عبلة ، «جَدَر» بفتح الجيم والدال جميعاً ، وقرأ عمر بن الخطاب ، ومعاوية ، وعاصم الجحدري ، «جَدْر» بفتح الجيم وسكون الدال . وقرأ علي بن أبي طالب ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وعكرمة ، والحسن ، وابن سيرين ، وابن يعمر ، «جُدْر» بضم الجيم وإِسكان الدال { بأسُهم بينهم شديدٌ } فيما وراء الحصون شديد ، وإذا خرجوا إِليكم فهم أجبن خلق الله .
قوله تعالى : { تحسبهم جميعاً } فيهم قولان .
أحدهما : أنهم اليهود والمنافقون ، قاله مقاتل .
والثاني : بنو النضير ، قاله الفراء .
قوله تعالى : { وقلوبهم شتى } قال الزجاج : أي : هم مختلفون لا تستوي قلوبهم ، ولا يتعاونون بنيِّات مجتمعة ، لأن الله تعالى ناصر حزبه ، وخاذل أعدائه .
قوله تعالى : { ذلك } يعني : ذلك الاختلاف { بأنهم قوم لا يعقلون } ما فيه الحظُّ لهم . ثم ضرب لليهود مثلاً ، فقال تعالى : { كمثل الذين من قبلهم قريباً } وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : بنو قينقاع ، وكانوا وادعوا رسول الله ، ثم غدروا ، فحصروهم ، ثم نزلوا ، على حكمه ، أن له أموالهم ، ولهم النساء والذُّرِّية . فالمعنى : مثل بني النضير فيما فعل بهم كبني قينقاع فيما فعل بهم .
والثاني : أنهم كفار قريش يوم بدر ، قاله مجاهد . والمعنى : مَثَلُ هؤلاء اليهود كمثلِ المشركين الذين كانوا من قبلهم قريباً ، وذلك لقرب غزاة بني النضير من غزاة بدر .
والثالث : أنهم بنو قريظة ، فالمعنى : مَثَلُ بني النضير كبني قريظة { ذاقوا وبال أمرهم } بأن قُتلت مقاتلتهم ، وسُبِيَتْ ذراريهم ، وهؤلاء أُجلوا عن ديارهم ، فذاقوا وبال أمرهم { ولهم عذاب أليم } في الآخرة .

ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلاً فقال تعالى : { كمثل الشيطان } . والمعنى : مثل المنافقين في غرورهم بني النضير ، وقولهم لئن أُخرجتم لنخرجنَّ معكم ، ولئن قوتلتم لننصرنكم ، كمثل الشيطان { إذ قال للإنسان اكفر } وفيه قولان .
أحدهما : أنه مَثَلٌ ضربه الله تعالى للكافر في طاعة الشيطان ، وهو عام في جميع الناس ، قاله مجاهد .
والثاني : أنه مَثَلٌ ضربه الله لشخص معين ، وعلى هذا جمهور المفسرين ، وهذا شرح قصته .
ذكر أهل التفسير أن عابداً من بني إسرائيل كان يقال له برصيصا تعبَّد في صومعةٍ له أربعين سنة لا يقدر عليه الشيطان ، فجمع إبليس يوماً مردة الشياطين ، فقال : ألا أحدٌ منكم يكفيني برصيصا؟ فقال الأبيض : وهو صاحب الأنبياء : أنا أكفيكه ، فانطلق على صفة الرهبان ، وأتى صومعته ، فناداه فلم يجبه وكان لا ينفتل عن صلاته ، إلا في كل عشرة أيام ، ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام ، فلما رأى أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته ، فلما انفتل برصيصا ، اطَّلع فرآه منتصباً يصلي على هيئة حسنة ، فناداه ما حاجتك؟ فقال : إِني أحببت أن أكون معك ، أقتبس من عملك ، وأتأدَّب بأدبك ، ونجتمع على العبادة ، فقال برصيصا : إني لفي شغل عنك ، ثم أقبل على صلاته ، وأقبل الأبيض يصلي ، فلم يُقْبِلْ إليه برصيصا أربعين يوماً ، ثم انفتل ، فرآه يصلي ، فلما رأى شدة اجتهاده ، قال : ما حاجتك؟ فأعاد عليه القول ، فأذن له ، فصعِد إليه ، فأقام معه حولاً لا يفطر إِلا كل أربعين يوماً ، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوماً ، وربما زاد على ذلك ، فلما رأى برصيصا اجتهاده ، أعجبه شأنه وتقاصرت إِليه نفسه ، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا : إني منطلق عنك ، فإن لي صاحباً غيرك ظننت أنك أشد اجتهاداً مما أرى ، وكان يبلغنا عنك غير الذي أرى ، فاشتد ذلك على برصيصا ، وكره مفارقته ، فلما ودَّعه قال له الأبيض : إِن عندي دَعَوَاتٍ أعلمكها ، يشفي الله بها السقيم ، ويعافي بها المبتلي ، فقال برصيصا : إِني أكره هذه المنزلة ، لأن لي في نفسي شغلاً ، فأخاف أن يعلم الناس بهذا ، فيشغلوني عن العبادة ، فلم يزل به حتى علمه إياها ، ثم انطلق إلى إِبليس فقال : قد والله أهلكتُ الرجل فانطلق الأبيض ، فتعرَّض لرجل فخنقه ، ثم جاءه في صورة رجل متطبِّب ، فقال لأهله : إن بصاحبكم جنوناً فأعالجه؟ قالوا : نعم فقال لهم : إِني لا أقوى على جنِّيِّه ، ولكن سأرشدكم إِلى من يدعو له فيعافى ، فقالوا له : دُلنَّا ، قال : انطلقوا إِلى برصيصا العابد ، فإن عنده اسم الله الأعظم ، فانطلقوا إليه ، فدعا بتلك الكلمات ، فذهب عنهم الشيطان ، وكان الأبيض يفعل بالناس ذلك ، ثم يرشدهم إلى برصيصا ، فيُعافَوْن ، فلما طال ذلك عليه انطلق إلى جارية من بنات ملوك بني إسرائيل ، لها ثلاثة إخوة ، فخنقها ، ثم جاء إليهم في صورة متطبِّب ، فقال أعالجها؟ قالوا : نعم .

فقال إِن الذي عرض لها مارد لا يطاق ، ولكن سأرشدكم إلى رجل تَدَعونها عنده ، فإذا جاء شيطانها دعا لها ، قالوا ، ومن هو؟ قال برصيصا ، قالوا : فكيف لنا أن يقبلها منَّا ، وهو أعظم شأناً من ذلك؟! قال : إن قبلها ، وإلا فضعوها في صومعته ، وقولوا له : هي أمانة عندك ، فانطلقوا اليه ، فأبى عليهم ، فوضعوها عنده . وفي بعض الروايات أنه قال : ضعوها في ذلك الغار ، وهو غار إلى جنب صومعته ، فوضعوها ، فجاء الشيطان فقال له : انزل إِليها فامسحها بيدك تعافى ، وتنصرف إلى أهلها ، فنزل ، فلما دنا إلى باب الغار دخل الشيطان فيها ، فإذا هي تركض ، فسقطت عنها ثيابها ، فنظر العابد إلى شيء لم ير مثله حسناً وجمالاً ، فلم يتمالك أن وقع عليها ، وضرب على أذنه ، فجعل يختلف اليها إلى أن حملت ، فقال له الشيطان : ويحك يا برصيصا قد افتُضحت ، فهل لك أن تقتل هذه وتتوب؟! فأن سألوك عنها فقل : جاء شيطانها ، فذهب بها ، فلم يزل بها حتى قتلها ، ودفنها ، ثم رجع إلى صومعته ، فأقبل على صلاته إِذ جاء إخوتها يسألون عنها ، فقالوا : يا برصيصا! ما فعلت أختنا؟ قال : جاء شيطانها فذهب بها ، ولم أطقه ، فصدَّقوه ، وانصرفوا . وفي بعض الروايات أنه قال : دعوت لها ، فعافاها الله ، ورجعتْ اليكم ، فتفرَّقوا ينظرون لها أثراً ، فلما أمسَوْا جاء الشيطان إلى كبيرهم في منامه ، فقال : ويحك : إِن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا . وإنه دفنها في موضع كذا من جبل كذا ، فقال : هذا حلم ، وبرصيصا خير من ذلك ، فتتابع عليه ثلاث ليال ، ولا يكترث ، فانطلق إِلى الأوسط كذلك ، ثم إلى الأصغر مثل ذلك ، فقال الأصغر لإخوته : لقد رأيت كذا وكذا ، فقال الأوسط : وأنا والله ، فقال الأكبر : وأنا والله ، فأتوا برصيصا ، فسألوه عنها . فقال : قد أعلمتكم بحالها ، فكأنكم اتَّهمتموني ، قالوا : لا والله ، واستحيَوْا ، وانصرفوا ، فجاءهم الشيطان فقال : ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا ، وإن إِزارها لخارج من التراب ، فانطلقوا ، فحفروا عنها ، فرأوها ، فقالوا : يا عدوَّ الله لم قتلتها؟ اهبط . فهدموا صومعته ، ثم أوثقوه ، وجعلوا في عنقه حبلاً ، ثم قادوه إلى الملك فأقرَّ على نفسه ، وذلك أن الشطيان عرض له ، فقال : تقتلها ثم تكابر ، فاعترف ، فأمر الملك بِقَتْلِهِ وصَلْبِهِ ، فعرض له الأبيض ، فقال : أتعرفني؟ قال : لا ، قال : أنا صاحبك الذي علَّمتك الدعوات ، ويحك ما اتَّقيت الله في أمانة خنت أهلها ، أما استحيَيْتَ من الله؟! ألم يكفك ذلك حتى أقررت ففضحت نفسك وأشباهك بين الناس؟! فإن مِتَّ على هذه الحالة لم تفلح ، ولا أحدٌ من نظرائك ، قال : فكيف أصنع؟ قال : تطيعني في خصلة حتى أُنجيك ، وآخذ بأعينهم ، وأُخرجك من مكانك ، قال : ما هي؟ قال : تسجد لي ، فسجد له ، فقال : هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك أن كفرت { إني بريء منك } ثم قتل . فضرب الله هذا المثل لليهود حين غَرَّهم المنافقون ، ثم أسلموهم .
قوله تعالى : { إني أخاف الله } ونصب ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ياء «إِنيَ» وأسكنها الباقون . وقد بيَّنا المعنى في [ الأنفال : 48 ] { فكان عاقبتهما } يعني : الشيطان وذلك الكافر .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)

قوله تعالى : { ولتنظر نفس ما قدمت لغد } أي : لينظر أحدكم أيّ شيء قَدَّم؟ أعملاً صالحاً يُنجيه؟ أم سيئاً يُوبِقُه؟ { ولا تكونوا كالذين نسوا الله } أي : تركوا أمره { فأنساهم أنفسهم } أي : أنساهم حظوظ أنفسهم ، فلم يعملوا بالطاعة ، ولم يقدِّموا خيراً . قال ابن عباس : يريد قريظة ، والنضير ، وبني قينقاع .

لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

قوله تعالى : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل } أخبر الله بهذا عن تعظيم شأن القرآن ، وأنه لو جعل في جبل - على قساوته وصلابته - تمييزاً ، كما جعل في بني آدم ، ثم أنزل عليه القرآن لتشقَّق من خشية الله ، وخوفاً أن لا يؤدِّيَ حق الله في تعظيم القرآن . و«الخاشع» : المتطأطىء الخاضع ، و«المتصدِّع» : المتشقِّق . وهذا توبيخ لمن لا يحترم القرآن ، ولا يؤثِّر في قلبه مع الفهم والعقل ، وَيَدُلُّك على هذا المثل قوله تعالى : { وتلك الأمثال نضربها للناس } ثم أخبر بعظمته وربوبيته ، فقال تعالى : { هو الله الذي لا إله إلا هو } قال الزجاج : قوله تعالى : { هو الله } ردٌّ على قوله تعالى : في أول السورة : { سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم } .
فأما هذه الأسماء ، فقد سبق ذكر «الله» ، و«الرحمن» ، و«الرحيم» في ( الفاتحة ) وذكرنا معنى «عالم الغيب والشهادة» في [ الأنعام : 73 ] . و«الملك» في سورة [ المؤمنين : 116 ] .
فأما «القدوس» فقرأ أبو الأشهب ، وأبو نهيك ، ومعاذ القارىء بفتح القاف . قال أبو سليمان الخطابي : «القدوس» : الطاهر من العيوب ، المنزَّه عن الأنداد والأولاد . «والقدس» : الطهارة . ومنه سمي : بيت المقدس ، ومعناه : المكان الذي يُتَطَهَّرُ فيه من الذنوب ، وقيل للجنة : حظيرة القدس ، لطهارتها من آفات الدنيا . والقدس : السطل الذي يتطهر فيه ، ولم يأت من الأسماء على فُعُّول بضم الفاء الا «قُدُّوس» ، و«سُبُّوح» وقد يقال أيضاً : قَدُّوس ، وسَبُّوح ، بالفتح فيهما ، وهو القياس في الأسماء ، كقولهم سَفَّود ، وكَلُّوب .
فأما «السلام» فقال ابن قتيبة : سمى نفسه سلاماً ، لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء . وقال الخطابي : معناه : ذو السلام . والسلام في صفة الله سبحانه : هو الذي سَلِمَ من كل عيب ، وبرىء من كل آفة ونقص يلحق المخلوقين . قال : وقد قيل : هو الذي سَلِمَ الخلقُ من ظلمه .
فأما «المؤمن» ، ففيه ستة أقوال .
أحدها : أنه الذي أَمِنَ الناسُ ظلمَهُ ، وأَمِنَ مَنْ آمَنَ به عذابَهُ ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : أنه المجير ، قاله القرظي .
والثالث : الذي يصدِّق المؤمنين إذا وحَّدوه ، قاله ابن زيد .
والرابع : أنه الذي وَحَّد نفسه ، لقوله تعالى : { شهد الله أنه لا إِله إلا هو } [ آل عمران : 18 ] ذكره الزجاج .
والخامس : أنه الذي يُصدِّق عباده وعده ، قاله ابن قتيبة .
والسادس : أنه يصدِّق ظنون عباده المؤمنين ، ولا يُخيِّب آمالَهم ، كقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما يحكيه عن ربه عز وجل : { أنا عند ظن عبدي بي } حكاه الخطابي .
فأما «المهيمن» ففيه أربعة أقوال .
أحدها : أنه الشهيد ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والكسائي . قال الخطابي : ومنه قوله تعالى { ومهيمناً عليه } [ المائدة : 48 ] ، فالله الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل .
والثاني : أنه الأمين ، قاله الضحاك ، قال الخطابي : وأصله : مؤيمن ، فقلبت الهمزة هاءً ، لأن الهاء أخَفُّ عليهم من الهمزة .

ولم يأت مُفَيْعِلٌ في غير التصغير ، إلا في ثلاثة أحرف «مسيطر» و«مُبيطر» و«مهيمن» وقد ذكرنا في سورة [ الطور : 37 ] عن أبي عبيدة ، أنها خمسة أحرف :
والثالث : المصدِّق فيما أخبر ، قاله ابن زيد .
والرابع : أنه الرقيب على الشيء ، والحافظ له ، قاله الخليل . قال الخطابي : وقال بعض أهل اللغة . الهيمنة : القيام على الشيء ، والرعاية له ، وأنشد :
أَلاَ إنَّ خَيْرَ الْنَّاس بَعْدَ نَبِيِّهِ ... مُهَيْمِنهُ الْتاليه في الْعُرْفِ والْنُّكْرِ
يريد القائم على الناس بعده بالرِّعاية لهم . وقد زدنا هذا شرحاً في [ المائدة : 48 ] وبيَّنَّا معنى : «العزيز» في [ البقرة : 129 ] .
فأما «الجبار» ، ففيه أربعة أقوال :
أحدها : أنه العظيم ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما يريد ، قاله القرظي والسدي . وقال قتادة : جبر خلقه على ما شاء . وحكى الخطابي : أنه الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره ونهيه . يقال : جبره السلطان ، وأجبره .
والثالث : أنه الذي جبر مفاقر الخلق ، وكفاهم أسباب المعاش والرزق .
والرابع : أنه العالي فوق خلقه ، من قولهم : تجبر النبات : إِذا طال وعلا ، ذكر القولين الخطابي .
فأما «المتكبر» ففيه خمسة أقوال :
أحدها : أنه الذي تكبَّر عن كل سوءٍ ، قاله قتادة .
والثاني : أنه الذي تكبَّر عن ظلم عباده ، قاله الزجاج .
والثالث : أنه ذو الكبرياء ، وهو الملك ، قاله ابن الأنباري .
والرابع : أنه المتعالي عن صفات الخلق .
والخامس : أنه الذي يتكبَّر على عتاة خلقه ، إذا نازعوه العظمة ، فقصمهم ، ذكرهما الخطابي . قال : والتاء في «المتكبر» { تاء } التفرُّد والتخصُّص ، لأن التعاطي ، والتكلّف ، والكبر لا يليق بأحد من المخلوقين ، وإنما سمة العبد الخضوع والتذلل . وقيل : إن المتكبر من الكبرياء الذي هو عظمة الله ، لا من الكبر الذي هو مذموم في الخلق .
وأما «الخالق» ، فقال الخطابي : هو المتبدىء للخلق المخترع لهم على غير مثال سبق ، فأما في نعوت الآدميين ، فمعنى الخلق : كقول زهير :
وَلأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وبَعْ ... ضُ الْقَوْم يَخْلُقُ ثم لاَ يَفْرِي
يقول : إذا قدرت شيئاً قطعته ، وغيرك يقدر ما لا يقطعه ، أي : يتمنَّى ما لا يبلغه ، و { البارىء } الخالق . يقال : بَرَأَ الله الخلق ، يَبْرَؤُهُمْ . «والمصوِّر» : الذي أنشأ خلقه على صُوَرٍ مختلفةٍ ليتعارفوا بها . ومعنى التصوير : التخطيط ، والتشكيل . وقرأ الحسن ، وأبو الجوزاء ، وأبو عمران ، وابن السميفع ، «البارىء المصور» بفتح الواو والراء جميعاً ، يعني : آدم عليه السلام . وما بعد هذا قد تقدم بيانه [ الأعراف : 180 ، والإسراء : 110 ] إلى آخر السورة .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } ذكر أهل التفسير أنها : " نزلت في حاطب بن أبي بَلْتَعَة ، وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صَيْفيّ بن هاشم أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من مكة إلى المدينة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهَّزُ لفتح مكة ، فقال لها : «أمسلمةً جئتِ؟» قالتْ : لا ، قال : «فما جاء بكِ؟» قالت : أنتم الأهل ، والعشيرة ، والموالي ، وقد احتجت حاجةً شديدة ، فقدِمت إليكم لتعطوني . قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فأين أنتِ من شباب أهل مكة؟» وكانت مغنية ، فقالت : ما طُلِبَ مني شيءٌ بعد وقعة بدر ، فحثَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب ، فَكَسَوْها ، وحملوها ، وأعطَوها ، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة ، فكتب معها كتاباً إلى أهل مكة ، وأعطاها عشرة دنانير على أن توصل الكتاب إِلى أهل مكة ، [ وكتب في الكتاب : مِن حاطب إلى أهل مكة ] إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم ، فخذوا حذركم . فخرجت به سارة ، ونزل جبريل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل حاطب . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ، وعماراً ، والزبير ، وطلحة ، والمقداد ، وأبا مَرْثَدٍ ، وقال : «انطلقوا حتى تأتوا «روضة خاخ» ، فإن فيها ظعينةً معها كتاب من حاطب إلى المشركين ، فخذوه منها ، وخَلُّوا سبيلها ، فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها» فخرجوا حتى أدركوها ، فقالوا لها : أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب ، ففتشوا متاعها فلم يجدوا شيئاً فهمُّوا بالرجوع . فقال عليٌّ : والله ما كَذَبْنَا ولا كُذِّبْنَا ، وسلَّ سيفه ، وقل أخرجي الكِتابَ ، وإلا ضربت عنقكِ ، فلما رأت الجِدِّ أخرجته من ذؤابتها ، فخلَّوا سبيلها ، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى حاطب ، فأتاه ، فقال له : «هل تعرف الكتاب؟» قال : نعم . قال : «فما حملك على ما صنعت؟» فقال : يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلاَّ وَلَه بمكة من يمنع عشيرته ، وكنت [ غريباً ] فيهم ، وكان أهلي بين ظهرانَيْهم ، فخشيتُ على أهلي ، فأردت أن أَتَّخِذَ عندهم يداً ، وقد علمتُ أن الله ينزل بهم بأسه ، وكتابي لا يغني عنهم شيئاً ، فصدَّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وَعذَرَهُ ، ونزلت هذه السورة تنهى حاطباً عما فعل ، وتنهى المؤمنين أن يفعلوا كفعله ، فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله : دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وما يدريك يا عمر لعل الله اطَّلع على أهل بدر ، فقالوا : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» "

وقد أخرج هذا الحديث في «الصحيحين» مختصراً ، وفيه ذكر علي ، وابن الزبير ، وأبي مَرْثَدٍ فقط .
قوله تعالى : { تلقون إليهم بالمودة } وفيه قولان .
أحدهما : أن الباء زائدة ، والمعنى : تلقون إليهم المودَّة ، ومثله { ومن يُرِدْ فيه بإلحادٍ بظلم } [ الحج : 25 ] ، هذا قول الفراء ، وأبي عبيدة ، وابن قتيبة ، والجمهور .
والثاني : تلقون إليهم أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وسِرَّه بالمودة التي بينكم وبينه ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { وقد كفروا } الواو للحال ، وحالهم أنهم كفروا بما جاءكم من الحق ، وهو القرآن { يخرجون الرسول وإِيَّاكم } من مكة { أن تؤمنوا بالله } { إن كنتم خرجتم } هذا شرط ، جوابه ، متقدّم ، وفي الكلام تقديم وتأخير . قال الزجاج : معنى الآية : إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء .
قوله تعالى : { تُسِرُّون إليهم بالمودَّة } الباء في «المودّة» حكمها حكم الأولى . قال المفسرون : والمعنى : تُسِرُّون إليهم النصيحة { وأنا أعلم بما أخفيتم } من المودَّة للكفار { وما أعلنتم } أي : أظهرتم بألسنتكم . وقال ابن قتيبة : المعنى : كيف تستسرُّون بمودتكم لهم مني وأنا أعلم بما تضمرون وما تظهرون؟!
قوله تعالى : { ومن يفعلْه منكم } يعني : الإسرار والإلقاء إليهم { فقد ضلَّ سواء السبيل } أي : أخطأ طريق الهدى . ثم أخبر بعداوة الكفار فقال تعالى : { إن يثقفوكم } أي : يظفروا بكم { يكونوا لكم أعداءً } لا موالين { ويبسطوا إليكم أَيديهم } بالضرب والقتل { وألسنتَهم بالسوء } وهو : الشتم { وودُّوا لو تكفرون } فترجعون إلى دينهم . والمعنى : أنه لا ينفعكم التقرُّب إليهم ، بنقل أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { لن تنفعَكم أرحامُكم } أي : قراباتكم . والمعنى : ذوو أرحامكم ، أراد ، لن ينفعَكم الذين عصيتم الله لأجلهم ، { يوم القيامة يفصل بينكم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «يُفصَل» برفع الياء وتسكين الفاء ، ونصب الصاد . وقرأ ابن عامر «يُفصَّل بينكم» برفع الياء ، والتشديد ، وفتح الصاد ، وافقه حمزة ، والكسائي ، وخلف إلا أنهم كسروا الصاد . وقرأ عاصم ، غير المفضل ، ويعقوب بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد ، وتخفيفها . وقرأ أبي بن كعب ، وابن عباس ، وأبو العالية : «نُفصِّل» بنون مرفوعة ، وفتح الفاء ، مكسورة الصاد مشددة . وقرأ أبو رزين ، وعكرمة ، والضحاك : «نَفصِل» بنون مفتوحة ، ساكنة الفاء ، مكسورة الصاد خفيفة ، أي : نفصل بين المؤمن والكافر وإن كان ولده . قال القاضي أبو يعلى : في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إِظهار الكفر ، كما يبيح في الخوف على النفس ، ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة ، ولم يعذرهم في التخلُّف لأجل أموالهم وأولادهم . وإنما ظن حاطب أن ذلك يجوز له ليدفع به عن ولده ، كما يجوز له أن يدفع عن نفسه بمثل ذلك عند التقيَّة ، وإِنما قال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق لأنه ظن أنه فعل ذلك عن غير تأويل .

قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)

قوله تعالى : { قد كانت لكم إِسوة حسنة في إبراهيم } وقرأ عاصم : «أُسوة» بضم الألف ، وهما لغتان ، أي : اقتداءٌ حَسَن به وبمن معه ، وفيهم قولان .
أحدهما : أنهم الأنبياء .
والثاني : المؤمنون { إذ قالوا لقومهم إنا بُرَءاءُ منكم } قال الفراء : يقول : أفلا تَأَسَّيْتَ يا حاطب بإبراهيم وقومه فتبرَّأت من أهلك كما تبرؤوا من قومهم؟!
قوله تعالى : { إلا قولَ إبراهيم لأبيه } قال المفسرون : والمعنى : تأسّوا بإبراهيم إلا في استغفار إبراهيم لأبيه فلا تأسَّوا به في ذلك ، فإنه كان عن موعدة وعدها إياه ، { وما أملك لك من الله من شيء } أي : ما أدفع عنك عذاب الله إِن أشركت به ، وكان من دعاء إبراهيم وأصحابه { ربنا عليك توكلنا } إلى قوله تعالى : { العزيز الحكيم } قال الفراء : قولوا أنتم : ربنا عليك توكلنا . وقد بينا معنى قوله تعالى : { لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } في «يونس» [ آية : 85 ] . ثم أعاد الكلام في ذكر الأُسوة فقال تعالى : { لقد كان لكم فيهم } أي : في إبراهيم ومن معه ، وذلك أنهم كانوا يبغضون من خالف الله . وقوله تعالى { لمن كان يرجوا الله } بدل من قوله تعالى : { لكم } وبيان أن هذه الأسوة ، لمن يخاف الله ، ويخشى عقاب الآخرة .
قوله تعالى : { ومن يتولَّ } أي : يعرض عن الإيمان ويوال الكفار ، { فإن الله هو الغني } عن خلقه { الحميد } إلى أوليائه . فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادَوْا أقرباءهم ، فأنزل الله تعالى { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم } أي : من كفار مكة { مودة } ففعل ذلك ، بأن أسلم كثير منهم يوم الفتح ، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فانكسر أبو سفيان عن كثير مما كان عليه حتى هداه الله للإسلام ، { والله قدير } على جعل المودة { والله غفور } لهم { رحيم } بهم بعدما أسلموا .
قوله تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدِّين } اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال .
أحدها : أنها في أسماء بنت أبي بكر ، وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العُزىَّ ، قَدِمَت عليها المدينة بهدايا ، فلم تقبل هداياها ، ولم تدخلها منزلها ، فسألت لها عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها ، وتقبل هديتها ، وتكرمها ، وتحسن إليها ، قاله عبد الله بن الزبير .
والثاني : أنها نزلت في خزاعة وبني مدلج ، وكانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ، ولا يعينوا عليه أحداً ، قاله ابن عباس . وروي عن الحسن البصري أنها نزلت في خزاعة ، وبني الحارث بن عبد مناف ، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فداموا على الوفاء به .

والثالث : نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس ، قاله عطية العوفي ومرة .
والرابع : أنها عامة في جميع الكفار ، وهي منسوخة بقوله تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } { التوبة : 5 } قاله قتادة .
والخامس : نزلت في النساء والصبيان ، حكاه الزجاج .
قال المفسرون : وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين وجواز بِرِّهم ، وإن كانت الموالاة منقطعة منهم .
قوله تعالى : { ولم يخرجوكم من دياركم } أي : من مكة { أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم } أي : تعاملوهم بالعدل فيما بينكم وبينهم .
قوله تعالى : { وظاهروا على إخراجكم } أي : عاونوا على ذلك { أن تولَّوهم } والمعنى : إنما ينهاكم عن أن تَولّوا هؤلاء ، لأن مكاتبتهم بإظهار ما أسرَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم موالاة . وذكر بعض المفسرين أن معنى الآية والتي قبلها منسوخ بآية السيف . قال ابن جرير : لا وجه لادِّعاء النسخ ، لأن بِرَّ المؤمنين للمحاربين سواء كانوا قرابة أو غير قرابة ، غير محرم إذا لم يكن في ذلك تقوية لهم على الحرب بكراع أو سلاح ، أو دلالة لهم على عورة أهل الإسلام . ويدل على ذلك حديث أسماء وأُمِّها الذي سبق .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهنَّ } قال ابن عباس : إن مشركي مكة صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحُديبية على أنَّ من أتاه من أهل مكة ردَّه إليهم . ومن أتى أهل مكة من أصحابه ، فهو لهم ، وكتبوا بذلك الكتاب ، وختموه ، فجاءت سُبَيْعَة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب والنبي بالحُديبية ، فأقبل زوجها وكان كافراً ، فقال : يا محمد : اردد عليَّ امرأتي ، فإِنك قد شرطت لنا أن تردَّ علينا من أتاك منا ، وهذه طينة الكتاب لم تَجِفَّ بعدُ فنزلت هذه الآية . وذكر جماعة من العلماء منهم محمد ابن سعد كاتب الواقدي أن هذه الآية نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وهي أول من هاجر من النساء الى المدينة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَقَدِمَتْ المدينة في هدنة الحديبية ، فخرج في أثرها أخواها الوليد وُعمارة ابنا عقبة ، فقالا : يا محمد ، أوف لنا بشرطنا ، وقالت أم كلثوم : يا رسول الله ، أنا امرأة ، وحال النساء إلى الضعف ما قد علمت ، فتردّني إلى الكفار يفتنوني عن ديني ، ولا صبر لي؟! فنقض الله عزَّ وجل العهد في النِّساء ، وأنزل فيهن المحنة ، وحكم فيهنَّ بحكم رضوه كلّهم ، ونزل في أم كلثوم { فامتحنوهنَّ } فامتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وامتحن النساء بعدها ، يقول : والله ما أخرجكنَّ الا حبُّ الله ورسولهِ ، وما خرجتنَّ لزوج ولا مال؟ فإذا قلن ذلك تركن ، فلم يرددن إلى أهليهن .
وقد اختلف العلماء في المرأة التي كانت سبباً لنزول هذه الآية على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها سبيعة ، وقد ذكرناه عن ابن عباس .
والثاني : أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط ، وقد ذكرناه عن جماعة من أهل العلم ، وهو المشهور .
والثالث : أُميمة بنت بشر من بني عمرو بن عوف ، ذكره أبو نعيم الأصبهاني . قال الماوردي : وقد اختلف أهل العلم هل دخل ردُّ النساء في عقد الهدنة لفظاً أو عموماً؟ فقالت طائفة : قد كان شرط ردِّهن في لفظ الهدنة لفظاً صريحاً؛ فنسخ الله تعالى ردَّهن من العقد ، ومنع منه ، وأبقاه في الرجال على ما كان . وقالت طائفة : لم يشرط ردُّهن في العقد صريحاً ، وإنما أطلق العقد ، وكان ظاهر العموم اشتماله مع الرجال ، فبين الله عز وجل خروجهنَّ عن عمومه ، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين .
أحدهما : أنهن ذوات فروج تحرمن عليهم .
والثاني : أنهن أرقُّ قلوباً ، وأسرع تقلُّباً منهم . فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم . وقال القاضي أبو يعلى : وإنما لم يردَّ النساء عليهم ، لأن النسخ جائز بعد التمكين من الفعل ، وإِن لم يقع الفعل .
قال المفسرون : والمراد بقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا } رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه هو الذي تولَّى امتحانهن ، ويراد به سائر المؤمنين عند غيبته صلى الله عليه وسلم .

قال ابن زيد : وإنما أمرنا بامتحانهن ، لأن المرأة كانت إذا غضبت على زوجها بمكة ، قالت : لألحقنَّ بمحمد . وفيما كان يمتحنهن به ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه كان يمتحنهن ب «شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله» ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني : أنه كان يستحلف المرأة بالله : ما خرجتِ من بغض زوج ، ولا رغبةً عن أرض إِلى أرض ، ولا التماس دنيا ، وما خرجتِ إلا حباً لله ولرسوله ، روي عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : أنه كان يمتحنهن بقوله تعالى : { إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } فمن أقرت بهذا الشرط قالت : قد بايعتك ، هذا قول عائشة .
قوله تعالى : { الله أعلم بإيمانهن } أي : إن هذا الامتحان لكم ، والله أعلم بهن ، { فإن علمتموهن مؤمنات } وذلك يُعلم بإقرارهن ، فحينئذ لا يحل ردُّهن { إِلى الكفار } [ لأن الله تعالى لم يبح مؤمنة لمشرك { وآتوهم } يعني أزواجهن الكفار ] { ما أنفقوا } يعني : المهر . قال مقاتل : هذا إذا تزوجها مسلم . فإن لم يتزوجها أحد ، فليس لزوجها الكافر شيء { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهنَّ } وهي المهور .
فصل
عندنا إذا هاجرت الحرة بعد دخول زوجها بها ، وقعت الفرقة على انقضاء عدتها . فإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدتها فهي امرأته ، وهذا قول الأوزاعي ، والليث ، ومالك ، والشافعي . وقال أبو حنيفة : تقع الفرقة باختلاف الدارين .
قوله تعالى { ولا تُمسِكوا بعصم الكوافر } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، «تُمسِكوا» بضم التاء ، والتخفيف . وقرأ أبو عمرو ، ويعقوب «تُمسِّكوا» بضم التاء ، وبالتشديد . وقرأ ابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ، وابن يعمر ، وأبو حيوة «تَمسَّكوا» بفتح التاء ، والميم ، والسين مشددة . و«الكوافر» جمع كافرة ، والمعنى : إن الله تعالى نهى المؤمنين عن المقام على نكاح الكوافر ، وأمرهم بفراقهن . وقال الزجاج : المعنى : أنها إذا كفرت ، فقد زالت العصمة بينها وبين المؤمن ، أي : قد انبت عَقْدُ النكاح ، وأصل العصمة : الحبل ، وكلُّ ما أمسك شيئاً فقد عصمه .
قوله تعالى { واسألوا ما أنفقتم } أي : إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدَّة ، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا لم يدفعوها إليكم { وليسألوا ما أنفقوا } يعني : المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن منكم ، فليسأل أزواجهن الكفار من تزوجهن «ما أنفقوا» وهو المهر . والمعنى : عليكم أن تغرموا لهم الصداق كما يغرمون لكم .
قال أهل السِّيَر : وكانت أم كلثوم حين هاجرت عاتقاً لم يكن لها زوج فيبعث إليه قدر مهرها ، فلما هاجرت تزوجت زيد بن حارثة .
قوله تعالى : { ذلكم حكم الله } يعني ما ذكر في هذه الآية .
فصل
وذكر بعضهم في قوله تعالى «ولا تمسكوا بعصم الكوافر» أنه نسخ ذلك في حرائر أهل الكتاب بقوله تعالى :

{ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } [ المائدة : 5 ] ، وهذا تخصيص لا نسخ .
قوله تعالى : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم } قال الزجاج : أي : أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم . وقرأ ابن مسعود ، والأزهري ، والنخعي : «فعَقَبتم» بغير ألف ، وبفتح العين والقاف ، وبتخفيفها ، وقرأ ابن عباس ، وعائشة ، وحميد ، والأعمش مثل ذلك ، إلا أن القاف مشددة . قال الزجاج : المعنى : في التشديد والتخفيف واحد ، فكانت العقبى لكم بأن غلبتم . وقرأ أُبي بن كعب وعكرمة ، ومجاهد : «فأعقبتم» بهمزة ساكنة العين ، مفتوحة القاف خفيفة . وقرأ معاذ القارىء ، وأبو عمران الجوني : «فعَقِبتم» بفتح العين ، وكسر القاف وتخفيفها من غير ألف { فآتُوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } أي : أعطُوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا من المهر .
وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في عياض بن غنم ، كانت زوجته مسلمة ، وهي أم الحكم بنت أبي سفيان ، فارتدَّتْ ، فلحقت بمكة ، فأمر الله المسلمين أن يعطُوا زوجها من الغنيمة بقدر ما ساق إِليها من المهر ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { براءة من الله ورسوله } [ التوبة : 1 ] إِلى رأس الخمس .
فصل
قال القاضي أبو يعلى : وهذه الأحكام في أداء المهر ، وأخذه من الكفار ، وتعويض الزوج من الغنيمة ، أومن صداق قد وجب ردُّه على أهل الحرب ، منسوخة عند جماعة من أهل العلم . وقد نص أحمد على هذا . قلت : وكذا قال مقاتل : كل هؤلاء الآيات نسختها آية السيف .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)

قوله تعالى : { إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } قال المفسرون : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جاءته النساء يبايعنه ، فنزلت هذه الآية ، وشرط في مبايعتهن الشرائط المذكورة في الآية فبايَعهن ، وهو على الصفا ، فلما قال : ولا يزنين ، قالت هند : أوَتزني الحرة؟ فقال : ولا يقتلن أولادهن ، فقالت : ربَّيناهم صغاراً فقتلتموهم كباراً ، فأنتم وهم أعلم . وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح في البيعة امرأة ، وإنما بايعهن بالكلام . وقد سمَّينا من أحصينا من المبايِعات في كتاب «التلقيح» على حروف المعجم ، وهن أربعمائة وسبع وخمسون امرأة ، والله الموفق .
قوله تعالى : { ولا يقتلن أولادهن } قال المفسرون : هو الوأد الذي كانت الجاهلية تفعله .
قوله تعالى : { ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم ، قاله ابن عباس ، والجمهور ، وذلك أن المرأة كانت تلتقط المولود ، فتقول لزوجها : هذا ولدي منك ، فذلك البهتان المفترى . وإِنما قال : «بين أيديهن وأرجلهن» لأن الولد إِذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها . وقيل : معنى «يفترينه بين أيديهن» : يأخذنه لقيطا «وأرجلهن» ما ولدنه من زنى .
والثاني : السحر .
والثالث : المشي بالنميمة ، والسعي في الفساد ، ذكرهما الماوردي .
قوله تعالى : { ولا يعصينك في معروف } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه النَّوح ، قاله ابن عباس ، وروي مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أنه لا يَدْعين ويلاً ، ولا يَخْدِشْنَ وجهاً ، ولا يَنْشُرنَ شعراً ، ولا يَشْقُقْنَ ثوباً ، قاله زيد بن أسلم .
والثالث : جميع ما يأمرهن به رسول الله صلى الله عليه وسلم من شرائع الإسلام وآدابه ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وفي هذه الآية دليل على أن طاعة الولاة إِنما تلزم في المباح دون المحظور .
قوله تعالى : { فبايعهن } المعنى : إذا بايعنك على هذه الشرائط فبايعهن .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتولَّوا قوماً غضب الله عليهم } وهم اليهود ، وذلك أن ناساً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين ، يتقرَّبون إليهم بذلك ليصيبوا من ثمارهم وطعامهم ، فنزلت هذه الآية .
قوله تعالى : { قد يئسوا من الآخرة } وذلك أن اليهود بتكذيبهم محمداً ، وهم يعرفون صدقه ، قد يئسوا من أن يكون لهم في الآخرة خير ، والمعنى : قد يئسوا من ثواب الآخرة ، هذا قول الجمهور ، وهو الصحيح . وقال قتادة : قد يئسوا أن يبعثوا ، { كما يئس الكفار } فيه قولان .
أحدهما : كما يئس الكفار مِن بعث مَن في القبور ، قاله ابن عباس .
والثاني : كما يئس الكفار الذين ماتوا من ثواب الآخرة ، لأنهم أيقنوا بالعذاب ، قاله مجاهد .

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)

قوله تعالى : { لم تقولون ما لا تفعلون } في سبب نزولها خمسة أقوال :
أحدها : ما روى أبو سلمة عن عبد الله بن سلام ، قال : قعدنا نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل عملناه ، فأنزل الله { سبح لله ما في السموات } إلى آخر السورة .
والثاني : أن الرجل كان يجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول : فعلتُ كذا وكذا ، وما فعل ، فنزلت «لم تقولون ما لا تفعلون» رواه عكرمة عن ابن عباس ، وكذلك قال الضحاك : كان الرجل يقول : قاتلتُ ، ولم يقاتل ، وطعنت ، ولم يطعن ، وصبرت ، ولم يصبر ، فنزلت هذه الآية .
والثالث : أن ناساً من المسلمين كانوا يقولون قبل أن يفرض الجهاد : لوددنا أن الله تعالى دلنا على أحب الأعمال إِليه ، فلما نزل الجهاد ، كرهه ناس من المؤمنين ، فنزلت هذه الآية ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والرابع : أن صهيباً قتل رجلاً يوم بدر ، فجاء رجل فادعى أنه قتله وأخذ سلبه ، فقال صهيب : أنا قتلته يا رسول الله ، فأمره أن يدفع سلبه إلى صهيب ، ونزلت هذه الآية ، رواه سعيد بن المسيب عن صهيب .
والخامس : أن المنافقين كانوا يقولون للنبي وأصحابه : لو قد خرجتم خرجنا معكم ، ونصرناكم . فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم نكصوا عنه ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { كبُر مقتاً عند الله } قال الزجاج : «مقتاً» منصوب على التمييز ، والمعنى : كَبُرَ قولُكم ما لا تفعلون مقتاً عند الله . ثم أعلم عز وجل ما الذي يحبه ، فقال تعالى : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص } أي : بنيان لاصق بعضه ببعض ، فأعلم أنه يحب من يثبت في الجهاد ، ويلزم مكانه كثبوت البنيان المرصوص . ويجوز أن يكون عنى أن يستوي ثباتهم في حرب عدوِّهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص ، وللمفسرين في المراد ب «المرصوص» قولان .
أحدهما : أنه الملتصق بعضه ببعض ، فلا يرى فيه خلل لإحكامه ، قاله الأكثرون .
والثاني : أنه المبنيُّ بالرصاص ، وإلى نحو هذا ذهب الفراء ، وكان أبو بحرية يقول : كانوا يكرهون القتال على الخيل ، ويستحبُّون القتال على الأرض لهذه الآية اسم أبي بحرية : عبد الله بن قيس التَّراغِمي ، يروي عن معاذ ، وكأنه أشار بذلك إلى أن الفرسان لا يصطفُّون في الغالب إنما يَصْطَفُّ الرَّجَّالة .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)

قوله تعالى : { وإذ قال موسى } المعنى : اذكر لمن يؤذيك من المنافقين ما صنعتُ بالذين آذَوْا موسى . وقد ذكرنا ما آذَوْا به موسى في [ الأحزاب : 69 ] .
قوله تعالى : { فلما زاغوا } أي : مالوا عن الحق { أزاغ الله قلوبهم } أي : أمالها عن الحق جزاءً لما ارتكبوه ، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى { يأتي من بعدي } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم «من بعديَ اسْمُه» بفتح الياء . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم «من بعديْ اسمه» بإسكان الياء { ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب } وفيهم قولان .
أحدهما : أنهم اليهود ، قاله مقاتل .
والثاني : النصارى حين قالوا : عيسى ابن الله ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقرأ ابن مسعود . وعاصم الجحدري ، وطلحة بن مصرف «يَدَّعِي إِلى الإسلام» بفتح الياء ، والدال ، وتشديدها ، وبكسر العين ، وما بعد هذا في [ براءة : 32 ] إلى قوله تعالى : { مُتِمُّ نُورِهِ } قرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم وخلف «مُتِمُّ نُورِه» مضاف . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم «مُتِمٌّ» رفع منون .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)

قوله تعالى : { هل أدلكم على تجارة } قال المفسرون : نزلت : هذه الآية حين قالوا : لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به أبداً ، فدلَّهم الله على ذلك ، وجعله بمنزلة التجارة لمكان ربحهم فيه .
قوله تعالى : { تنجيكم } قرأ ابن عامر «تنجيِّكم» بالتشديد . وقرأ الباقون بالتخفيف . ثم بَيَّن التجارة ، فقال تعالى : { تؤمنون بالله } إلى قوله تعالى : { يغفر لكم } قال الزجاج : وقوله : «يغفر لكم» جواب قولِه : «وتجاهدون» ، لأن معناه معنى الأمر . والمعنى : آمنوا بالله وجاهدوا ، يغفر لكم ، أي : إن فعلتم ذلك ، يغفر لكم . وقد غلط بعض النحويين ، فقال : هذا جواب «هل» وهذا غلط بَيِّنٌ ، لأنه ليس إذا دلَّهم على ما ينفعهم غفر لهم ، إِنما يغفر لهم إذا عملوا بذلك . ومن قرأ «يغفر لهم» بإدغام الراء في اللام ، فغير جائز عند سيبويه ، والخليل ، لأنه لا تدغم الراء في اللام في قولهم . وقد رُوِيَتْ عن أبي عمرو بن العلاء ، وهو إمام عظيم ، ولا أحسبه قرأها إِلا وقد سمعها من العرب . وقد زعم سيبويه والخليل وجميع البصريين ، ما خلا أبا عمرو ، أن اللام تدغم في الراء ، وأن الراء لا تدغم في اللام ، وحُجَّتهم أن الراء حرف مكرر قوي ، فإذا أدغمت في اللام ذهب التكرير منها . وما بعد هذا قد سبق إلى قوله تعالى : { وأخرى تحبُّونها } قال الفراء : والمعنى : ولكم في العاجل مع ثواب الآخرة أخرى تحبُّونها ، ثم فسرها فقال تعالى : { نَصْرٌ من الله وفتح قريب } وفيه قولان .
أحدهما : أنه فتح مكة ، قاله ابن عباس .
والثاني : فتح فارس والروم ، قاله عطاء .
قوله تعالى : { وبشر المؤمنين } أي : بالنصر في الدنيا ، والجنة في الآخرة ، ثم حضَّهم على نصر دينه بقوله تعالى { كونوا أنصار الله } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، «كونوا أنصاراً لله» منوَّنة . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي «أنصارَ الله» ومعنى الآية : دُوموا على ما أنتم عليه ، وانصروا دين الله ، مثل نُصْرَة الحواريين لمَّا قال لهم عيسى : { مَن أنصاري إلى الله } وحرَّك نافع ياء «مَن أنصاريَ إِلى الله» وقد سبق تفسير هذا الكلام [ آل عمران : 52 ] { فآمنت طائفة من بني إسرائيل } بعيسى { وكفرت طائفة } { فأيَّدنا الذين آمنوا } بعيسى { على عدوِّهم } وهم مخالفو عيسى ، كذلك قال ابن عباس ، ومجاهد ، والجمهور ، وقال مقاتل : تم الكلام عند قوله تعالى : { وكفرت طائفة } ، { فأيدنا الذين آمنوا } بمحمد { على عدوهم فأصبحوا ظاهرين } ، بمحمد على الأديان . وقال إبراهيم النخعي : أصبح من آمن بعيسى ظاهرين بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم ، أن عيسى كلمة الله وروحه بتعليم الحجة . قال ابن قتيبة : { فأصبحوا ظاهرين } أي : غالبين عليهم بمحمد . من قولك : ظهرت على فلان : إِذا علوتَه ، وظهرت على السطح : إذا صرتَ فوقه .

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)

قوله تعالى : { هو الذي بعث في الأميين } يعني : العرب ، وكانوا لا يكتبون وقد شرحنا هذا المعنى في [ البقرة : 78 ] { رسولاً } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم { منهم } أي : من جنسهم ونسبهم .
فإن قيل : فما وجه الامتنان في أنه بعث نبياً أمياً؟
فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها : لموافقة ما تقدَّمت البشارة [ به في كتب ] الأنبياء .
والثاني : لمشاكلة حاله لأحوالهم ، فيكون أقرب لموافقتهم .
والثالث : لئلا يظن به أنه يعلم كتب من قبله . وما بعد هذا في سورة [ البقرة : 129 ] . إلى قوله تعالى : { وإن كانوا من قَبْلُ } ، أي : وما كانوا قبل بعثته إلا في { ضلال مبين } بَيِّن ، وهو الشرك .
قوله تعالى : { وآخرين منهم } فيه قولان :
أحدهما : وبعث محمداً في آخرين منهم ، أي : من الأميين .
والثاني : ويعلم آخرين منهم ، ويزكِّيهم . وفي المراد بالآخرين أربعة أقوال :
أحدها : أنهم العجم ، قاله ابن عمر ، وسعيد بن جبير ، وهي رواية ليث عن مجاهد . فعلى هذا إِنما قال : «منهم» ، لأنهم إِذا أسلموا صاروا منهم ، إذ المسلمون يد واحدة ، وملَّةٌ واحدة .
والثاني : أنهم التابعون ، قاله عكرمة ، ومقاتل .
والثالث : جميع من دخل في الإسلام إِلى يوم القيامة ، قاله ابن زيد ، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد .
والرابع : أنهم الأطفال ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { لما يلحقوا بهم } أي : لم يلحقوا بهم .
قوله تعالى : { ذلك فضل الله } يعني : الإسلام والهدى { والله ذو الفضل العظيم } بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم .

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

ثم ضرب لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلاً ، فقال تعالى : { مثل الذين حُمِّلوا التوراة } أي : كُلِّفوا العمل بما فيها { ثم لم يحملوها } أي : لم يعملوا بموجبها ، ولم يؤدُّوا حقها { كمثل الحمار يحمل أسفاراً } ، وهي جمع سفر . والسِّفْر : الكتاب ، فشبَّههم بالحمار لا يعقل ما يحمل ، إذ لم ينتفعوا بما في التوارة ، وهي دالَّة على الإيمان بمحمدٍ [ وهذا المثل يلحق من لم يعمل بالقرآن ولم يفهم معانيه { بئس مثل القوم } ذم مثلهم ، والمراد ذمُّهم ، واليهود كذبوا بالقرآن وبالتوراة حين لم يؤمنوا بمحمد ] { والله لا يهدي القوم الظالمين } أنفسهم بتكذيب الأنبياء .
قوله تعالى : { إِن زعمتم أنكم أولياءُ لله } وذلك أن اليهود ، قالوا : نحن ولد إسرائيل الله ، ابن ذبيح الله ، ابن خليل الله ، ونحن أولى بالله عز وجل من سائر الناس ، وإِنما تكون النبوة فينا . فقال الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام { قل } لهم إن كنتم { أولياء لله فتمنَّوا الموت } لأن الموت خير لأولياء الله من الدنيا . وقد بيَّنا هذا وما بعده في [ البقرة : 94 ] إلى قوله تعالى : { قل إِن الموت الذي تفرُّون منه } وذلك أن اليهود علموا أنهم أفسدوا على أنفسهم أمر الآخرة بتكذيبهم محمداً ، وكانوا يكرهون الموت ، فقيل لهم : لا بد من نزوله [ بكم ] بقوله تعالى : { فإنه ملاقيكم } قال الفراء : العرب تدخل الفاء في كل خبر كان اسمه مما يوصل ، مثل : «من» و «الذي» فمن أدخل الفاء هاهنا ذهب «بالذي» إِلى تأويل الجزاء . وفي قراءة عبد الله «إِن الموت الذي تفرُّون منه ملاقيكم» وهذا على القياس ، لأنك تقول : إن أخاك قائم ، ولا تقول : فقائم ، ولو قلت : إن ضاربك فظالم ، لجاز ، لأن تأويله : إن من يضربك فظالم . وقال الزجاج : إنما جاز دخول الفاء ، لأن في الكلام معنى الشرط والجزاء . ويجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله تعالى : «تفرُّون منه» كأنه قيل : إن فررتم من أي موت كان من قتل أو غيره «فإنه ملاقيكم» وتكون «فإنه» استئنافاً بعد الخبر الأول .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)

قوله تعالى : { إذا نودي للصلاة } وهذا هو النداء الذي ينادى به إذا جلس الإمام على المنبر ، ولم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه ، كان إِذا جلس على المنبر أذَّن بلال على باب المسجد ، وكذلك كان على عهد أبي بكر ، وعمر ، فلما كثر الناس على عهد عثمان أمر بالتأذين على دارٍ له بالسُّوق ، يقال لها «الزوراء» وكان إذا جلس أذَّن أيضاً .
قوله تعالى : { للصلاة } أي : لوقت الصلاة . وفي «الجمعة» ثلاث لغات . ضم الجيم والميم ، وهي قراءة الجمهور . وضم الجيم مع إسكان الميم ، وبها قرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو رجاء ، وعكرمة ، والزهري ، وابن أبي ليلى ، وابن أبي عبلة ، والأعمش . وبضم الجيم مع فتح الميم ، وبها قرأ أبو مجلز ، وأبو العالية ، والنخعي ، وعدي بن الفضل عن أبي عمرو . قال الزجاج : من قرأ بتسكين الميم ، فهو تخفيف الجمعة لثقل الضمتين . وأما فتح الميم ، فمعناها : الذي يجمع الناس ، كما تقول : رجل لُعَنَة : يكثر لعنة الناس ، وضُحَكَة : يكثر الضحك .
وفي تسمية هذا اليوم بيوم الجمعة ثلاثة أقوال .
أحدها : لأن فيه جُمع آدم . " روى سلمان قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتدري ما الجمعة؟» قلت : لا . قال : «فيه جُمع أبوك» " ، يعني : تمام خلقه في يوم .
والثاني : لاجتماع الناس فيه للصلاة .
والثالث : لاجتماع المخلوقات فيه ، لأنه اليوم الذي منه فرغ من خلق الأشياء .
وفي أول من سماها بالجمعة قولان .
أحدهما : أنه كعب بن لؤي سماها بذلك ، وكان يقال ليوم الجمعة : العَروبة ، قاله أبو سلمة . وقيل : إِنما سماها بذلك لاجتماع قريش فيه .
والثاني : أول من سماها بذلك الأنصار ، قاله ابن سيرين .
قوله تعالى : { فاسعَوا إلى ذكر الله } وفي هذا السعي ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه المشي ، قاله ابن عباس . وكان ابن مسعود يقرؤها «فامضوا» ويقول : لو قرأتها «فاسعَوْا» لسعَيت حتى يسقط ردائي . وقال عطاء : هو الذهاب والمشي إلى الصلاة .
والثاني : أن المراد بالسعي : العمل ، قاله عكرمة ، والقرظي ، والضحاك ، فيكون المعنى : فاعملوا على المضي إلى ذكر الله بالتفرغ له ، والاشتغال بالطهارة ونحوها .
والثالث : أنه النية بالقلب ، قاله الحسن . وقال ابن قبيبة : هو المبادرة بالنية والجدّ .
وفي المراد «بذكر الله» قولان .
أحدهما : أنه الصلاة ، قاله الأكثرون .
والثاني : موعظة الإمام ، قاله سعيد بن المسيب .
قوله تعالى : { وذروا البيع } أي : دعوا التجارة في ذلك الوقت . وعندنا : أنه لا يجوز البيع في وقت النداء ، ويقع البيع باطلاً في حق من يلزمه فرض الجمعة ، وبه قال مالك خلافاً للأكثرين .
فصل
تجب الجمعة على من سمع النداء من المصر ، إذا كان المؤذن صَيِّتاً ، والريح ساكنة . وقد حدَّه مالك بفرسخ ، ولم يحدّه الشافعي .

وعن أحمد في التحديد نحوهما . وتجب الجمعة على أهل القرى . وقال أبو حنيفة : لا تجب إلا على أهل الأمصار . ويجوز لأهل المصر أن يقيموا الجمعة في الصحراء القريبة من المصر خلافاً للشافعي . ولا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين . وعن أحمد : أقله خمسون . وعنه : أقله ثلاثة . وقال أبو حنيفة : تنعقد بثلاثة والإمام ، والعدد شرط في الجمعة وقال أبو حنيفة في إِحدى الروايتين : يصح أن يخطب منفرداً . وهل تجب الجمعة على العبيد؟ فيه عن أحمد روايتان . وعندنا : تجب على الأعمى إذا وجد قائداً ، خلافاً لأبي حنيفة . ولا تنعقد الجمعة بالعبيد والمسافرين ، خلافاً لأبي حنيفة . وهل تجب الجمعة والعيدان من غير إِذن سلطان؟ فيه عن أحمد روايتان . وتجوز الجمعة في موضعين في البلد مع الحاجة . وقال مالك ، والشافعي ، وأبو يوسف : لا تجوز إلا في موضع واحد . وتجوز إقامة الجمعة قبل الزوال خلافاً لأكثرهم ، وإذا وقع العيد يوم الجمعة أجزأ حضوره عن يوم الجمعة ، وبه قال الشعبي ، والنخعي ، خلافاً للأكثرين . والمستحب لأهل الأعذار أن يصلوا الظهر في جماعة . وقال أبو حنيفة : يكره . ولا يجوز السفر يوم الجمعة بعد الزوال . وقال أبو حنيفة : يجوز . وهل يجوز السفر بعد طلوع الفجر؟ فيه عن أحمد روايتان . ونقل عن أحمد : أنه لا يجوز الخروج في الجمعة إلا للجهاد . وقال أبو حنيفة : يجوز لكل سفر . وقال الشافعي : لا يجوز أصلاً .
والخطبة شرط في الجمعة . وقال داود : هي مستحبة . والطهارة لا تشترط في الخطبة ، خلافاً للشافعي في أحد قوليه . والقيام ليس بشرط في الخطبة ، خلافاً للشافعي . ولا تجب القعدة بين الخطبتين ، خلافاً له أيضاً .
ومن شرط الخطبة : التحميد ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقراءة آية ، والموعظة . وقال أبو حنيفة : يجوز أن يخطب بتسبيحة .
والخطبتان واجبتان . وأما القراءة في الخطبة الثانية ، فهي شرط ، خلافاً للشافعي .
والسُّنَّة للإمام إذا صعِد المنبر ، واستقبل الناس : أن يسلِّم ، خلافاً لأبي حنيفة ، ومالك . وهل يحرم الكلام في حال سماع الخطبة؟ فيه عن أحمد روايتان . ويحرم على المستمع دون الخاطب ، خلافاً للأكثرين . ولا يكره الكلام قبل الابتداء بالخطبة ، وبعد الفراغ منها ، خلافاً لأبي حنيفة .
ويستحب له أن يصليَ تحية المسجد والإمام يخطب ، خلافاً لأبي حنيفة ، ومالك .
وهل يجوز أن يخطب واحد ، ويصلي آخر ، فيه عن أحمد روايتان .
قوله تعالى : { ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } أي : إِن كان لكم علم بالأصلح { فإذا قضيت الصلاة } أي : فرغتم منها { فانتشروا في الأرض } هذا أمر إباحة { وابتغوا من فضل الله } إباحة لطلب الرزق بالتجارة بعد المنع منها بقوله تعالى : «وذروا البيع» وقال الحسن ، وابن جبير : هو طلب العلم .

وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

قوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة } سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة ، إذ أقبلت عير قد قَدِمَتْ ، فخرجوا إليها حتى لم يبق معه إلا إثنا عشر رجلاً ، فنزلت هذه الآية ، أخرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث جابر بن عبد الله ، قاله الحسن : وذلك أنهم أصابهم جوع . وغلاء سعر ، فلما سمعوا بها خرجوا إليها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو اتبع آخرُهم أوَّلَهم التهب عليهم الوادي ناراً " قال المفسرون : كان الذي قدم بالتجارة دحية بن خليفة الكلبي ، قال مقاتل : وذلك قبل أن يسلم . قالوا : قَدِمَ بها من الشام ، وضرب لها طبل يُؤذن الناس بقدومها . وهذه كانت عادتهم إذا قدمت عير . قال جابر بن عبد الله : كانت التجارة طعاماً . وقال أبو مالك : كانت زيتاً . والمراد باللهو : ضرب الطبل . و { انفضوا } بمعنى : تفرَّقوا عنك ، فذهبوا إليها . والضمير للتجارة . وإنما خصت برد الضمير إِليها ، لأنها كانت أهم إليهم ، هذا قول الفراء ، والمبرد . وقال الزجاج : المعنى : وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها ، أو لهواً انفضوا إليه ، فحذف خبر أحدهما ، لأن الخبر الثاني يدل على الخبر المحذوف . وقرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة «انفضوا إليهما» . على التثنية . وعن ابن مسعود ، وابن أبي عبلة «انفضوا إليه» على ضمير مذكر { وتركوك قائماً } وهذا القيام كان في الخطبة { قل ما عند الله } من ثواب الصلاة والثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم { خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين } لأنه يرزق من يؤمن به ويعبده ، ومن يكفر به ويجحده ، فهو يعطي من سأل ، ويبتدىء من لا يسأل ، وغيره إنما يرزق من يرجو منفعته ، ويُقبل على خدمته .

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)

قوله تعالى : { إذا جاءك المنافقون } يعني : عبد الله بن أُبَيّ وأصحابه { قالوا نشهد إنك لرسول الله } وهاهنا تم الخبر عنهم . ثم ابتدأ فقال تعالى : { والله يعلم إِنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } وإنما جعلهم كاذبين ، لأنهم أضمروا غير ما أظهروا . قال الفراء : إنما كذب ضميرهم . { اتخذوا أَيْمانهم جُنَّةً فَصَدُّوا عن سبيل الله } قد ذكرناه في [ المجادلة : 16 ] قال القاضي أبو يعلى : وهذه الآية تدل على أن قول القائل : «أشهد» يمين ، لأنهم قالوا : «نشهد» فجعله يميناً بقوله تعالى : { اتخذوا أَيْمانهم جُنَّة } وقد قال أحمد ، والأوزاعي ، والثوري ، وأبو حنيفة : أَشْهَدُ ، وأُقْسِمُ ، وأَعْزِمُ ، وأَحْلِفُ ، كُلُّها أَيْمان . وقال الشافعي : «أُقسم» ليس بيمين . وإنما قوله : «أقسم بالله» يمين إذا أراد اليمين .
قوله تعالى : { ذلك } أي : ذلك الكذب { بأنهم آمنوا } باللسان { ثم كفروا } في السِّرِّ { فطُبِع على قلوبهم فهم لا يفقهون } الإِيمان والقرآن { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم } يعني : أن لهم أجساماً ومناظر . قال ابن عباس : كان عبد الله بن أُبَيّ جسيماً فصيحاً ، ذَلْقَ اللسان ، فإذا قال ، سمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم قوله . وقال غيره : المعنى : تصغي إلى قولهم ، فتَحْسِب أنه حق { كأنهم خشب } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة : «خُشُبٌ» بضم الخاء ، والشين جميعاً ، وهو جمع خَشبة . مثل ثَمَرَةٍ ، وثُمُرٍ . وقرأ الكسائي : بضم الخاء ، وتسكين الشين ، مثل : بَدَنَةٍ ، وبُدْنٍ ، وأَكَمَةٍ ، وأُكْمِ . وعن ابن كثير ، وأبي عمرو ، مثله . وقرأ أبو بكر الصديق ، وعروة ، وابن سيرين : «خَشَبٌ» بفتح الخاء ، والشين جميعاً . وقرأ أبو نهيك ، وأبو المتوكل ، وأبو عمران بفتح الخاء ، وتسكين الشين ، فوصفهم الله بحسن الصورة ، وإبانة المنطق ، ثم أعلم أنهم في ترك التفهُّم والاستبصار بمنزلة الخُشُب . والمُسَنَّدة : الممالة إلى الجدار . والمراد : أنها ليست بأشجار تثمر وتنمي ، بل خُشُبٌ مُسَنَّدةٌ إلى حائط . ثم عابهم بالجبن فقال تعالى : { يحسبون كل صيحة عليهم } أي : لا يسمعون صوتاً إلا ظنوا أنهم قد أُتوا لما في قلوبهم من الرعب أن يكشف الله أسرارهم ، وهذه مبالغة في الجبن . وأنشدوا في هذا المعنى :
وَلَوْ أَنَّها عُصْفُورَةٌ لحَسِبْتَها ... مُسَوَّمةً تدعو عُبيْداً وَأَزْنَما
أي : لو طارت عصفورة لحسبتها من جبنك خيلاً تدعو هاتين القبيلتين .
قوله تعالى : { هم العَدُوُّ فاحذرهم } أي : لا تأمنهم على سِرِّك ، لأنهم عيون لأعدائك من الكفار { قَاتَلَهم الله أَنَّى يُؤفكون } مفسر في [ براءة : 30 ] .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)

قوله تعالى : { وإذا قيل لهم تعالَوْا يستغفر لكم رسول الله } قد بيَّنَّا سببه في نزول السورة { لوَّوْا رؤوسهم } وقرأ نافع ، والمفضل عن عاصم ، ويعقوب : «لَوَوْا» بالتخفيف . واختار أبو عبيدة التشديد . وقال : لأنهم فعلوا ذلك مرَّة بعد مرَّة . قال مجاهد : لما قيل لعبد الله بن أُبَيٍّ : تعال يستغفر لك رسول الله لوّى رأسه ، قال : ماذا قلتَ؟ وقال مقاتل : عطفوا رؤوسهم رغبة عن الاستغفار . وقال الفراء : حَرَّكوها استهزاءً بالنبي وبدعائه .
قوله تعالى : { ورأيتهم يَصُدُّون } أي : يعرضون عن الاستغفار . { وهم مستكبرون } أي : متكبِّرون عن ذلك . ثم ذكر أن استغفاره لهم لا ينفعهم . بقوله تعالى : { سواءٌ عليهم أستغفرتَ لهم } وقرأ أبو جعفر : { آستغفرت } بالمدِّ .
قوله تعالى : { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله } قد بيَّنَّا أنه قول ابن أُبَيٍّ . { ويَنْفَضُّوا } بمعنى : يتفرَّقوا { ولله خزائن السموات والأرض } قال المفسرون : خزائن السموات : المطر ، وخزائن الأرض : النبات . والمعنى : أنه هو الرَّزَّاق لهؤلاء المهاجرين ، لا أولئك ، { ولكن المنافقين لا يفقهون } أي : لا يعلمون أن الله رازقهم في حال إنفاق هؤلاء عليهم { يقولون لئن رجعنا } من هذه الغزوة . وقد تقدم ذكرها وهذا قول ابن أُبَيّ { لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ } يعني : نفسه ، وعنى ب { الأذلِّ } رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقرأ الحسن : «لنُخرِجنَّ» بالنون مضمومة وكسر الراء «الأعزَّ» بنصب الزاي [ والأذل منصوب ] على الحال [ بناءً على جواز تعريف الحال ، أو زيادة «أل» فيه ، أو بتقدير «مثل» ] . المعنى : لنخرجنَّه ذليلاً على أيِّ حال ذلّ . والكل نصبوا «الأذل» فرد الله عز وجل عليه فقال : { ولله العزَّة } وهي : المَنَعة والقوّة { ولرسوله وللمؤمنين } بإعزاز الله ونصره إياهم { ولكن المنافقين لا يعلمون } ذلك .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)

قوله تعالى : { لا تلهكم } أي : لا تشغَلكم . وفي المراد بذكر الله هاهنا أربعة أقوال :
أحدها : طاعة الله في الجهاد ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : الصلاة المكتوبة ، قاله عطاء ، ومقاتل .
والثالث : الفرائض من الصلاة ، وغيرها ، قاله الضحاك .
والرابع : أنه على إطلاقه . قال الزجاج : حضَّهم بهذا على إدامة الذكر .
قوله تعالى : { وأنفِقوا مما رزقناكم } في هذه النفقة ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه زكاة الأموال ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنها النفقة في الحقوق الواجبة بالمال ، كالزكاة والحج ، ونحو ذلك ، وهذا المعنى مروي عن الضحاك .
والثالث : أنه صدقة التطوّع ، ذكره الماوردي . فعلى هذا يكون الأمر ندباً ، وعلى ما قبله يكون أمر وجوب .
قوله تعالى : { من قبل أن يأتيَ أحدَكم الموتُ } قال الزجاج : أي : من قبل أن يعاين ما يعلم منه أنه ميت .
قوله تعالى : { لولا أخرتني } أي : هلاَّ أخرتني { إلى أجل قريب } يعني بذلك الاستزادة في أجله ليتصدَّق ويزكّي ، وهو قوله تعالى : { فأَصَّدَّق } قال أبو عبيدة : «فأصدق» نصب ، لأن كل جواب بالفاء للاستفهام منصوب . تقول : مَنْ عندك فآتيَك . هلاَّ فعلت كذا فأفعَل كذا ، ثم تبعتْها { وأكنْ من الصالحين } بغير واو . وقال أبو عمرو : إنما هي ، وأكون ، فذهبت الواو من الخط . كما يكتب أبو جاد أبجد هجاءً ، وهكذا يقرؤها أبو عمرو «وأكونَ» بالواو ، ونصب النون . والباقون يقرؤون «وأكن» بغير واو . قال الزجاج : من قرأ «وأكونَ» فهو على لفظ فأصَّدَّقَ . ومن جزم «أكنْ» فهو على موضع «فأصدق» لأن المعنى : إن أخرتني أصدق وأكن . وروى أبو صالح عن ابن عباس «فأصَّدَّق» أي : أُزكي مالي «وأكنْ من الصالحين» أي : أَحُجّ مع المؤمنين ، وقال في قوله تعالى : { والله خبير بما تعملون } والمعنى : بما تعملون من التكذيب بالصدقة . قال مقاتل : يعني : المنافقين . وروى الضحاك عن ابن عباس ، ما من أحد يموت ، وقد كان له مال لم يزكّه ، وأطاق الحج فلم يحج ، إلا سأل الله الرجعة عند الموت ، فقالوا له : إنما يسأل الرجعة الكفار ، فقال : أنا أتلو عليكم به قرآنا ، ثم قرأ هذه الآية .

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)

وقد سبق تفسير فاتحتها إلى قوله تعالى : { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } وفيه قولان .
أحدهما : أن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً ، رواه الوالبي عن ابن عباس . والأحاديث تعضد هذ القول ، كقوله عليه الصلاة والسلام : " خلق فرعون في بطن أمه كافراً ، وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً " ، وقوله : " فيؤمر الملك بأربع كلمات : بكتبِ رزقِهِ ، وأجلِهِ ، وعملِهِ ، وشقيٌ أم سعيدٌ "
والثاني : أن تمام الكلام عند قوله تعالى : { خلقكم } ثم وصفهم ، فقال تعالى : { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } ، واختلف أرباب هذا القول فيه على أربعة أقوال .
أحدها : فمنكم كافر يؤمن ، ومنكم مؤمن يكفر ، قاله أبو الجوزاء عن ابن عباس .
والثاني : فمنكم كافر في حياته مؤمن في العاقبة ، ومنكم مؤمن في حياته كافر ، في العاقبة ، قاله أبو سعيد الخدري .
والثالث : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب ، قاله عطاء بن أبي رباح ، وعنى بذلك شأن الأنواء .
والرابع : فمنكم كافر بالله خلقه ، ومؤمن بالله خلقه ، حكاه الزجاج . والكفر بالخلق مذهب الدهرية ، وأهل الطبائع . وما بعد هذا قد سبق إلى قوله تعالى : { وصوَّركم فأحسن صوركم } قال الزجاج : أي : خلقكم أحسن الحيوان كلِّه . وقرأ الأعمش «صوركم» بكسر الصاد . ويقال في جمع صورة : صُور ، وصِور ، كما يقال في جمع لحية : لِحىّ ، ولُحىّ . وذكر ابن السائب أن معنى «فأحسن صُوَركم» أحكمها . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى : { ويعلم ما تسرون } روى المفضل عن عاصم «يسرُّون» و«يعلنون» بالياء فيهما { ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل } هذا خطاب لأهل مكة خوفهم ما نزل بالكفار قبلهم ، فذلك قوله تعالى : { فذاقوا وبال أمرهم } أي : جزاء أعمالهم ، وهو ما أصابهم من العذاب في الدنيا { ولهم عذاب أليم } في الآخرة { ذلك } الذي أصابهم { بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات } فينكرون ذلك ، ويقولون : { أبشر } أي : ناس مثلنا ، { يهدوننا؟! } والبشر اسم جنس معناه الجمع ، وإن كان لفظه واحداً { فكفروا وتولَّوا } أي : أعرضوا عن الإيمان { واستغنى الله } عن إيمانهم وعبادتهم .

زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

قوله تعالى : { زعم الذين كفروا } كان ابن عمر يقول : «زعموا» كناية الكذب . وكان مجاهد يكره أن يقول الرجل : زعم فلان .
قوله تعالى : { وذلك على الله يسير } يعني : البعث { والنّور } هو القرآن ، وفيه بيان أمر البعث والحساب والجزاء .
قوله تعالى : { يوم يجمعكم } هو منصوب بقوله تعالى : «لتبعثنَّ ثم لتنبؤنَّ بما عملتم» { يوم يجمعكم ليوم الجمع } وهو يوم القيامة . وسمي بذلك لأن الله تعالى يجمع فيه الجن والإنس ، وأهل السموات ، وأهل الأرض { ذلك يوم التغابن } تفاعل من الغبن ، وهو فوت الحظ . والمراد في تسميته يوم القيامة بيوم التغابن فيه أربعة أقوال .
أحدها : أنه ليس من كافر إلا وله منزل وأهل في الجنة ، فيرث ذلك المؤمن ، فيغبن حينئذ الكافر ، ذكر هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : غبن أهل الجنة أهل النار ، قاله مجاهد ، والقرظي .
والثالث : أنه يوم غبن المظلوم الظالم ، لأن المظلوم كان في الدنيا مغبوناً ، فصار في الآخرة غابناً ، ذكره الماوردي .
والرابع : أنه يوم يظهر فيه غبن الكافر بتركه للإيمان ، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان ، ذكره الثعلبي . قال الزجاج : وإنما ذكر ذلك مثلاً للبيع والشراء ، كقوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } [ البقرة : 16 ] ، وقوله تعالى : { هل أدلكم على تجارة } [ الصف : 10 ] وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى : { يكفر عنه سيئآته } قرأ نافع ، وابن عامر ، والمفضل عن عاصم «نكفر» «وندخله» بالنون فيهما . والباقون : بالياء { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله } قال ابن عباس : بعلمه وقضائه { ومن يؤمن بالله يهد قلبَه } فيه ستة أقوال .
أحدها : يهد قلبه لليقين ، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . وقال علقمة : هو الرجل تصيبه المصيبة ، فيعلم أنها من قبل الله تعالى ، فيسلم ، ويرضى .
والثاني : يهد قلبه للاسترجاع ، وهو أن يقول : إنا لله ، وإنا إليه راجعون قاله مقاتل .
والثالث : أنه إذا ابتلي صبر ، وإذا أنعم عليه شكر ، وإذا ظلم غفر ، قاله ابن السائب ، وابن قتيبة .
والرابع ، يهد قلبه ، أي : يجعله مهتدياً ، قاله الزجاج .
والخامس : يهد وليَّه بالصبر والرضى ، قاله أبو بكر الورَّاق .
والسادس : يهد قلبه لاتباع السنة إِذا صح إيمانه ، قاله أبو عثمان الحيري . وقرأ أبو بكر الصديق ، وعاصم الجحدري ، وأبو نهيك : «يَهْدَ» بياءٍ مفتوحة . ونصب الدال «قَلْبُهُ» بالرفع . قال الزجاج : هذا من هدأ يهدأ : إذا سكن . فالمعنى : إذا سلَّم لأمر الله سَكَنَ قلبُه . وقرأ عثمان بن عفان ، والضحاك ، وطلحة بن مصرف ، والأزرق عن حمزة : «نَهْد» بالنون . وقرأ علي بن أبي طالب ، وأبو عبد الرحمن : «يُهْدَ» بضم الياء ، وفتح الدال «قَلْبُهُ» بالرفع . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى : { إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم } سبب نزولها أن الرجل كان يسلم .

فإِذا أراد الهجرة منعه أهله ، وولده ، وقالوا : نَنْشُدُك الله أن تذهب وتَدَعَ أهلك وعشيرتك وتصير إِلى المدينة بلا أهل ولا مال . فمنهم من يَرِقُّ لهم ، ويقيم فلا يهاجر ، فنزلت هذه الآية . فلما هاجر أولئك ، ورأَوا الناس قد فَقُهوا في الدِّين همُّوا أن يعاقبوا أَهلهم الذين منعوهم ، فأنزل الله تعالى : { وإِن تعفوا وتصفحوا } إلى آخر الآية ، هذا قول ابن عباس . وقال الزجاج : لما أرادوا الهجرة قال لهم أزواجهم ، وأولادهم : قد صبرنا لكم على مفارقة الدِّين ولا نصبر لكم على مفارقتكم ، ومفارقة الأموال ، والمساكن ، فأعلم الله عز وجل أن من كان بهذه الصورة ، فهو عدوٌّ ، وإِن كان ولداً ، أو كانت زوجة . وقال مجاهد : كان حب الرجل ولده وزوجته يحمله على قطيعة رحمه ومعصية ربه . وقال قتادة : كان من أزواجهم ، وأولادهم من ينهاهم عن الإسلام ، ويثبِّطهم عنه ، فخرج في قوله تعالى : { عدواً لكم } ثلاثة أقوال .
أحدها : بمنعه من الهجرة ، وهذا على قول ابن عباس .
والثاني : بكونهم سبباً للمعاصي ، وعلى هذا قول مجاهد .
والثالث : بنهيهم عن الإسلام ، وهذا على قول قتادة .
قوله تعالى : { فاحذروهم } قال الفراء : لا تطيعوهم في التخلُّف .
قوله تعالى : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } أي : بلاء وشغل عن الآخرة . فالمال والأولاد يوقعان في العظائم إلا من عصمه الله . وقال ابن قتيبة : أي : إغرام . يقال : فتن فلان بالمرأة ، وشغف بها ، أي : أغرم بها . وقال الفراء : قال أهل المعاني : إنما دخل «من» في قوله تعالى : «إن من أزواجكم» لأنه ليس كل الأزواج ، والأولاد أعداءً . ولم يذكر «من» في قوله تعالى : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } لأنها لا تخلو من الفتنة ، واشتغال القلب بها . وقد روى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب ، فجاء الحسن ، والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ، ويعثران ، فنزل من المنبر ، فحملهما ، فوضعهما بين يديه ثم قال : «صدق الله عز وجل : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } نظرت إِلى هذين الصبيين يمشيان ، ويعثران ، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ، ورفعتهما .
قوله تعالى : { والله عنده أجر عظيم } أي : ثواب جزيل ، وهو الجنة . والمعنى : لا تعصوه بسبب الأولاد ، ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم { فاتقوا الله ما استطعتم } أي : ما أطقتم { واسمعوا } ما تُؤمَرُون به { وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم } وفي هذه النفقة ثلاثة أقوال .
أحدها : الصَّدقة ، قاله ابن عباس .
والثاني : نفقة المؤمن على نفسه ، قاله الحسن .
والثالث : النفقة في الجهاد ، قاله الضحاك { ومن يُوقَ شُحَّ نفسه } حتى يعطيَ حق الله في ماله . وقد تقدم بيان هذا في [ الحشر : 9 ] وما بعده قد سبق بيانه إِلى آخر السورة [ البقرة : 245 ، والحديد : 11 ، 18 ، والحشر : 23 ، 24 ] .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)

قوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } قال الزجاج : هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم . والمؤمنون داخلون معه فيه . ومعناه : إذا أردتم طلاق النساء ، كقوله تعالى : { إذا قمتم إِلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] وفي سبب نزول هذه الآية قولان .
أحدهما : أنها نزلت حين طلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم حَفْصَةَ ، وقيل له : راجعها ، فإنها صَوَّامةٌ قَوَّامةٌ ، وهي من إحدى زوجاتك في الجنة ، قاله أنس بن مالك .
والثاني : أنها نزلت في عبد الله بن عمر ، وذلك أنه طلق امرأته حائضاً ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، قاله السدي .
قوله تعالى : { لِعِدَّتِهنَّ } أي : لزمان عِدَّتهن ، وهو الطهر . وهذا للمدخول بها ، لأن غير المدخول بها لا عدَّة عليها .
والطلاق : على ضربين : سُنِّيٌّ ، وبِدْعيٌّ .
فالسُّنِّيُّ : أن يطلِّقها في طهر لم يجامعها فيه ، وذلك هو الطلاق لِلْعِدَّة ، لأنها تعتدُّ بذلك الطهر من عدَّة ، وتقع في العدة عقيب الطلاق ، فلا يطول عليها زمان العدة .
والطلاق البدعي : أن يقع في حال الحيض ، أو في طهر قد جامعها فيه ، فهو واقع ، وصاحبه آثم ، وإِن جمع الطلاق الثلاث في طهرٍ واحد ، فالمنصور من مذهبنا أنه بدعة .
قوله تعالى : { وأحصوا العدة } أي : زمان العدة . وفي إحصائها فوائد . منها : مراعاة زمان الرجعة ، وأوان النفقة ، والسكنى ، وتوزيع الطلاق على الإقرار إذا أراد أن يطلِّق ثلاثاً ، ولِيَعْلَمَ أنها قد بانت ، فيتزوّج بأختها ، وأربع سواها .
قوله تعالى : { واتقوا الله ربَّكم } أي : فلا تعصوه فيما أمركم به . { ولا تخرجوهن من بيوتهن } فيه دليل على وجوب السكنى . ونسب البيوت إليهن ، لسكناهن قبل الطلاق فيهن ، ولا يجوز لها أن تخرج في عدتها إلا لضرورة ظاهرة . فإن خرجت أثِمتْ { إلا أن يأتين بفاحشة } وفيها أربعة أقوال :
أحدها : المعنى : إلا أن يخرجن قبل انقضاء المدة ، فخروجهن هو الفاحشة المبّينة ، وهذا قول عبد الله بن عمر ، والسدي ، وابن السائب .
والثاني : أن الفاحشة : الزنا ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والشعبي ، وعكرمة ، والضحاك . فعلى هذا يكون المعنى : إلا أن يزنين فَيُخْرَجْنَ لإقامة الحدِّ عليهنَّ .
والثالث : الفاحشة : أن تبذُؤَ على أهلها ، فيحلُّ لهم إخراجها ، رواه محمد بن إبراهيم عن ابن عباس .
والرابع : أنها إصابة حدٍّ ، فتخرج لإقامة الحدِّ عليها ، قاله سعيد ابن المسيب .
قوله تعالى : { وتلك حدود الله } يعني : ما ذكر من الأحكام { ومن يتعدَّ حدود الله } التي بيَّنها . وأمر بها { فقد ظلم نفسه } أي : أثم فيما بينه وبين الله تعالى { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } أي : يُوقع في قلب الزوج المحبَّة لرجعتها بعد الطَّلْقة والطلقتين . وهذا يدل على أن المستحب في الطلاق تفريقه ، وأن لا يجمع الثلاث .

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)

قوله تعالى : { فإذا بلغن أجلهن } أي : قاربن انقضاء العدة { فأمسكوهن بمعروف } وهذا مبيَّن في [ البقرة : 231 ] { وأشهدوا ذَوَيْ عَدْلٍ منكم } قال المفسرون : أشهدوا على الطلاق ، أو المراجعة . واختلف العلماء : هل الإشهاد على المراجعة واجب ، أم مستحب؟ وفيه عن أحمد روايتان ، وعن الشافعي قولان ثم قال للشهداء : { وأقيموا الشهادة لله } أي : اشهدوا بالحق ، وأدُّوها على الصحة ، طلباً لمرضاة الله ، وقياماً بوصيَّته . وما بعده قد سبق بيانه [ البقرة : 232 ] إلى قوله تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } فذكر أكثر المفسرين أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، أسر العدوُّ ابناً له ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، وشكا إليه الفاقة ، فقال : اتق الله ، واصبر ، وأكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ففعل الرجل ذلك ، فغفل العدوُّ عن ابنه ، فساق غنمهم ، وجاء بها إلى أبيه ، وهي أربعة آلاف شاة ، فنزلت هذه الآية . وفي معناها للمفسرين خمسة أقوال .
أحدها : ومن يتق الله يُنجِه من كل كرب في الدنيا والآخرة ، قاله ابن عباس .
والثاني : بأن مَخْرَجَه : علمُه بأن ما أصابه من عطَاءٍ أو مَنْع ، من قِبَل الله ، وهو معنى قول ابن مسعود .
والثالث : ومن يتق الله ، فيطلق للسُّنَّةِ ، ويراجع للسُّنَّةِ ، يَجْعَلْ له مخرجاً ، قاله السدي .
والرابع : ومن يتَّق الله بالصبر عند المصيبة ، يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة ، قاله ابن السائب .
والخامس : يجعل له مخرجاً من الحرام إلى الحلال ، قاله الزجاج . والصحيح أن هذا عام ، فإن الله تعالى يجعل للتقي مخرجاً من كل ما يضيق عليه . ومن لا يتقي ، يقع في كل شدة . قال الربيع بن خُثَيْم : يجعل له مخرجاً من كل ما يضيق على الناس { ويرزقْه من حيث لا يحتسب } أي : من حيث لا يأمل ، ولا يرجو . قال الزجاج : ويجوز أن يكون : إذا اتقى الله في طلاقه ، وجرى في ذلك على السُّنَّة ، رزقه الله أهلاً بدل أهله { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } أي : مَنْ وَثِقَ به فيما نابه ، كفاه الله ما أهمّه { إن الله بالغٌ أمرَه } وروى حفص ، والمفضل عن عاصم «بالغُ أمرِه» مضاف . والمعنى : يقضي ما يريد { قد جعل الله لكل شيء قدراً } أي : أجلاً ومنتهىً ينتهي إليه ، قدَّر الله ذلك كلَّه ، فلا يقدَّم ولا يؤخر . قال مقاتل : قد جعل الله لكل شيء من الشدة والرخاء قدراً ، فقدَّر متى يكون هذا الغني فقيراً ، وهذا الفقير غنياً .

وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)

قوله تعالى : { واللائي يئسن من المحيض } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أنها لما نزلت عِدَّة المطلَّقة ، والمتوفَّى عنها زوجُها في [ البقرة 227 : 232 ] قال أُبَيُّ بن كعب : يا رسول الله إن نساء من أهل المدينة يقلن : قد بقي من النساء ما لم يذكر فيه شيء . قال : «وما هو؟» قال : الصغار والكبار ، وذوات الحمل ، فنزلت هذه الآية ، قاله عمرو بن سالم .
والثاني : أنه لما نزل قوله تعالى : { والمطلقات يتربَّصن بأنفسهن . . . } [ الآية البقرة : 228 ] قال خلاَّد بن النعمان الأنصاري : يا رسول الله ، فما عِدَّة التي لا تحيض ، وعدَّة التي لم تحض ، وعدة الحُبلى؟ فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل . ومعنى الآية : { إن ارتبتم } ، أي : شككتم فلم تَدْرُوا ما عِدتَّهن { فَعِدَّتُهنَّ ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } كذلك .
فصل
قال القاضي أبو يعلى : والمراد بالارتياب هاهنا : ارتياب المخاطبين في مقدار عدة الآيسة والصغيرة كما هو؟ وليس المراد به ارتياب المعتدات في اليأس من المحيض ، أو اليأس من الحمل للسبب الذي ذكر في نزول الآية . ولأنه لو أريد بذلك النساء لتوجَّه الخطاب إليهن ، فقيل : إن ارتبتنُّ ، أو ارتبْنَ ، لأن الحيض إنما يعلم من جهتهنَّ .
وقد اختلف في المرأة إذا تأخر حيضها لا لعارض كم تجلس؟ فمذهب أصحابنا أنها تجلس غالب مدة الحمل ، وهو تسعة أشهر ، ثم ثلاثة . والعدة : هي الثلاثة التي بعد التسعة . فإن حاضت قبل السنة بيوم ، استأنفت ثلاث حيض ، وإن تَمَّتْ السَّنَةُ من غير حيض ، حَلَّت ، وبه قال مالك . وقال أبو حنيفة ، والشافعي في الجديد : تمكث أبداً حتى يعلم براءة رحمها قطعاً ، وهي أن تصير في حدّ لا يحيض مثلها ، فتعتدُّ بعد ذلك ثلاثة أشهر .
قوله تعالى : { واللائي لم يحضن } يعني : عدتهن ثلاثة أشهر أيضاً ، لأنه كلام لا يستقلُّ بنفسه ، فلا بدَّ له من ضمير ، وضميره تقدَّم ذكره مظهراً ، وهو العدَّة بالشهور . وهذا على قول أصحابنا محمول على من لم يأت عليها زمان الحيض : أنها تعتد ثلاثة أشهر . فأما من أتى عليها زمان الحيض ، ولم تحض ، فإنها تعتدُّ سنة .
قوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } عامٌّ في المطلقات ، والمتوفَّى عنهن أزواجهن ، وهذا قول عمر ، وابن عمر ، وابن مسعود ، وأبي مسعود البدري ، وأبي هريرة ، وفقهاء الأمصار . وقد روي عن ابن عباس أنه قال : تعتدُّ آخر الأجلين . ويدل على قولنا عموم الآية . وقول ابن مسعود : من شاء لاعنته ، ما نزلت «وأولات الأحمال» إِلا بعد آية المتوفَّى عنها زوجها ، وقولِ أم سلمة : إن سُبَيعة وضعت بعد وفاة زوجها بأيام ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتزوج .
قوله تعالى : { ومن يتق الله } أي : فيما أُمِرَ به { يَجْعَلْ له من أمره يسراً } يُسَهِّلْ عليه أمر الدنيا والآخرة ، وهذا قول الأكثرين . وقال الضحاك : ومن يتق الله في طلاق السُّنَّة ، يجعل الله له من أمره يسراً في الرَّجعة { ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله } بطاعته { يُكفِّرْ عنه سيآتهِ } أي : يمح عنه خطاياه { ويُعظِم له أجراً } في الآخرة .

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)

{ أسكنوهنَّ من حيثُ سكنتم } و«من» صلة قوله : { من وُجدكم } قرأ الجمهور بضم الواو . وقرأ أبو هريرة ، وأبو عبد الرحمن ، وأبو رزين ، وقتادة ، ورَوْح عن يعقوب بكسر الواو . وقرأ ابن يعمر ، وابن أبي عبلة ، وأبو حيوة : بفتح الواو . قال ابن قتيبة : أي : بِقَدْر وُسْعِكم . والوُجد : المقدرة ، والغنى ، يقال : افتقر فلان بعد وُجْدٍ . قال الفراء : يقول : على ما يجد ، فإن كان مُوَسَّعاً عليه ، وسَّعَ عليها في المسكن والنَّفَقة ، وإن كان مقتَّراً عليه ، فعلى قَدْرِ ذلك .
قوله تعالى : { ولا تُضَارُّوهنَّ } بالتضييق عليهنّ في المسكن ، والنفقة ، وأنتم تجدون سَعَة . قال القاضي أبو يعلى : المراد بهذا : المطلقة الرجعية دون المبتوتة ، بدليل قوله تعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } [ الطلاق : 1 ] وقولِه : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهنَّ بمعروف أو فارقوهن بمعروف } [ الطلاق : 2 ] فدل ذلك على أنه أراد الرجعية .
وقد اختلف الفقهاء في المبتوتة : هل لها سكنى ، ونفقة في مدة العدة ، أم لا؟ فالمشهور عند أصحابنا : أنه لا سكنى لها ولا نفقة ، وهو قول ابن أبي ليلى . وقال أبو حنيفة لها السكنى ، والنفقة . وقال مالك والشافعي : لها السكنى ، دون النفقة . وقد رواه الكوسج عن أحمد . ويدل على الأول حديث فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : إنما النفقة للمرأة على زوجها ما كانت له عليها الرجعة ، فإذا لم يكن له عليها ، فلا نفقة ولا سكنى . ومن حيث المعنى : إِن النفقة إنما تجب لأجل التمكين من الاستمتاع ، بدليل أن الناشز لا نفقة لها .
واختلفوا في الحامل ، والمتوفَّى عنها زوجها ، فقال ابن مسعود ، وابن عمر ، وأبو العالية ، والشعبي ، وشريح ، وإبراهيم : نفقتها من جميع المال ، وبه قال مالك ، وابن أبي ليلى ، والثوري . وقال ابن عباس ، وابن الزبير ، والحسن ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء : نفقتها في مال نفسها ، وبه قال أبو حنيفة ، وأصحابه . وعن أحمد كالقولين .
قوله تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } يعني : أجرة الرضاع . وفي هذا دلالة على أن الأم إذا رضيت أن ترضعه بأجرة مثله ، لم يكن للأب أن يسترضع غيرها { وَأْتمروا بينكم بمعروف } أي : لا تشتطُّ المرأة على الزوج فيما تطلبه من أجرة الرضاع ، ولا يقصِّر الزَّوج عن المقدار المستحق { وإِن تعاسرتم } في الأجرة ، ولم يتراضَ الوالدان على شيء { فسترضع له أخرى } لفظه لفظ الخبر ، ومعناه : الأمر ، أي : فليسترضع الوالد غير والدة الصبي .
{ لينفق ذو سَعَةٍ من سَعَتِهِ } أمر أهل التَّوسِعَة أن يوسِّعوا على نسائهم المرضعات أولادهن على قدر سَعَتِهم . وقرأ ابن السميفع «لينفق» بفتح القاف { ومن قُدِرَ عليه رِزْقُه } أي : ضُيِّق عليه من المطلّقين . وقرأ أبي بن كعب ، وحميد «قُدّر» بضم القاف ، وتشديد الدال . وقرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة «قَدّر» بفتح القاف وتشديد الدال «رزقَه» بنصب القاف { فلينفِقْ مما آتاه الله } على قدر ما أعطاه { لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها } أي : على قدر ما أعطاها من المال { سيجعل الله بعد عسر يسراً } أي : بعد ضيق وشدة ، غنىً وسَعَةً ، وكان الغالب عليهم حينئذ الفقر ، فأعلمهم أنه سيفتح عليهم بعد ذلك .

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)

قوله تعالى : { وكأين } أي : وكم { من قرية عتت عن أمر ربها ورسله } أي : عن أمر رسله . والمعنى : عتا أهلها . قال ابن زيد : عتت ، أي : كفرت ، وتركت أمر ربها ، فلم تقبله . وفي باقي الآية قولان .
أحدهما : أن فيها تقديماً ، وتأخيراً . والمعنى : عذَّبناها عذاباً نكراً في الدنيا بالجوع ، والسيف ، والبلايا ، وحاسبناها حساباً شديداً في الآخرة ، قاله ابن عباس ، والفراء في آخرين .
والثاني : أنها على نظمها ، والمعنى : حاسبناها بعملها في الدنيا ، فجازيناها بالعذاب على مقدار عملها؛ فذلك قوله تعالى : «وعذَّبناها» فجعل المجازاة بالعذاب محاسبة . والحساب الشديد : الذي لا عفو فيه ، والنكر : المنكر { فذاقت وبال أمرها } أي : جزاء ذنبها { وكان عاقبة أمرها خسراً } في الدنيا ، والآخرة ، وقال ابن قتيبة : الخسر : الهلكة .
قوله تعالى : { قد أنزل الله إليكم ذكراً } أي : قرآنا { رسولاً } أي : وبعثه رسولاً ، قاله مقاتل . وإِلى نحوه ذهب السدي . وقال ابن السائب : الرسول هاهنا : جبرائيل ، فعلى هذا : يكون الذِّكر والرسول جميعاً منزَّلين . وقال ثعلب : الرسول : هو الذِّكر . وقال غيره : معنى الذكر هاهنا : الشرف . وما بعده قد تقدَّم [ البقرة : 257 ، والأحزاب : 43 ، والتغابن : 9 ] إِلى قوله تعالى : { قد أحسن الله له رزقاً } يعني : الجنة التي لا ينقطع نعيمها .

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)

قوله : { ومن الأرض مثلهن } أي : وخلق الأرض بعددهن . وجاء في الحديث : كثافة كل سماءٍ مسيرة خمسمائة عام ، وما بينها وبين الأخرى كذلك ، وكثافة كل أرض خمسمائة عام ، وما بينها وبين الأرض الأخرى كذلك . وقد روى أبو الضحى عن ابن عباس قال : في كل أرض آدم مثل آدمكم ، ونوح مثل نوحكم ، وإبراهيم مثل إبراهيمكم ، وعيسى كعيسى ، فهذا الحديث تارة يرفع إلى ابن عباس ، وتارة يوقف على أبي الضحى ، وليس له معنى إلا ما حكى أبو سليمان الدمشقي ، قال سمعت أن معناه : إن في كل أرض خلقاً من خلق الله لهم سادة ، يقوم كبيرهم ومتقدِّمهم في الخلق مقام آدم فينا ، وتقوم ذُرِّيَّتُه في السِّنِّ والقِدَم كمقام نوح . وعلى هذا المثال سائرهم . وقال كعب : ساكن الأرض الثانية : البحر العقيم ، وفي الثالثة : حجارة جهنم ، والرابعة : كبريت جهنم ، والخامسة : حيات جهنم ، والسادسة : عقارب جهنم ، والسابعة : فيها إبليس .
قوله تعالى : { يتنزَّل الأمر بينهن } ، في الأمر قولان .
أحدهما : قضاء الله وقدره ، قاله الأكثرون . قال قتادة : في كل أرضٍ من أرضهِ وسماءٍ من سمائه خَلْقٌ من خَلْقِهِ ، وأمْرٌ من أمْرِهِ ، وقَضَاءٌ من قَضَائِهِ .
والثاني : أنه الوحي ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً } أعلمكم بهذا لتعلموا قدرته على كل شيء وعلمه بكل شيء .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)

قوله تعالى : { لم تحرِّم ما أحل الله لك } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : " أن حفصة ذهبتْ إلى أبيها تَتَحَدَّثُ عنده ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جاريته ، فظلت معه في بيت حفصة ، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة ، فرجعت حفصة ، فوجدتها في بيتها ، فجعلت تنتظر خروجها ، وغارت غَيْرةً شديدةً . فلما دخلت حفصة قالت : قد رأيت من كان عندك . والله لقد سُؤْتَني ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «والله لأُرْضِيَنَّك ، وَإني مُسِرٌّ إليك سراً فاحفظيه» ، قالت : وما هو؟ قال : «إِني أشهدكِ أن سِرِّيَّتي هذه عليَّ حرام رضىً لَكِ» ، وكانت عائشة وحفصة متظاهرتين على نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، فانطلقت حفصة إلى عائشة ، فقالت لها : أبشري ، إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرَّم عليه فتاته " ، فنزلت هذه الآية رواه العوفي عن ابن عباس . وقد روي عن عمر نحو هذا المعنى ، وقال فيه : " فقالت حفصة : كيف تحرمها عليك ، وهي جاريتك؟! فحلف لها أن لا يقربها ، فقال لها : «لا تذكريه لأحد» ، فذكرته لعائشة ، فآلى أن لا يدخل على نسائه شهراً " ، فنزلت هذه الآية وقال الضحاك : قال لها : " لا تذكري لعائشة ما رأيت " ، فذكرته ، فغضبت عائشة ، ولم تزل بنبي الله حتى حلف أن لا يقربها ، فنزلت هذه الآية ، وإلى هذا المعنى : ذهب سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، والشعبي ، ومسروق ، ومقاتل ، والأكثرون .
والثاني : ما روى عروة عن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحَلْواء والعسل ، وكان إِذا انصرف من صلاة العصر دخل على نسائه ، فدخل على حَفصَة بنت عمر ، واحتبس عندها ، فسألت عن ذلك ، فقيل : أهدت لها امرأة من قومها عُكَّةً من عسل ، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : أما والله لنحتالَنَّ له ، فقلت لسودة : إنه سيدنو منكِ إذا دخل عليك ، فقولي له : يا رسول الله أكلت مغافير ، فإنه سيقول لك : سقتني حفصة شربة عسل ، فقولي : جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ وسأقول ذلك ، وقولي أنت يا صفية ذلك ، فلما دار إلى حفصة قالت له : يا رسول الله أسقيك منه؟ قال : لا حاجة لي فيه ، قالت : تقول : سودة سبحان الله ، والله لقد حَرَمْنَاه قلت لها : اسكتي " ، أخرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» . وفي رواية ابن أبي ملكية عن ابن عباس : أن التي شرب عندها العسل سودة ، فقالت له عائشة : إِني لأجد منك ريحاً ، ثم دخل على حفصة ، فقالت : إني أجد منك ريحاً ، فقال : إني أراه من شراب شربته عند سودة ، والله لا أشربه ، فنزلت هذه الآية . وفي حديث عبيد بن عمير عن عائشة أن التي شرب عندها العسل زينب بنت جحش ، فتواطأت حفصة وعائشة أن تقولا له ذلك القول .

قال أبو عبيد : المغافير : شيء شبيه بالصمغ فيه حلاوة . وخرج الناس يتمغفرون : إذا خرجوا يجتنونه . ويقال : المغاثير بالثاء ، مثل جدث ، وجدف . وقال الزجاج : المغافير : صمغ متغير الرائحة . فخرج في المراد بالذي أحلَّ الله له قولان .
أحدهما : أنه جاريته .
والثاني : العسل .
قوله تعالى : { تبتغي مرضات أزواجك } أي : تطلب رضاهن بتحريم ذلك . { والله غفور رحيم } غفر الله لك التحريم { قد فرض الله لكم } قال مقاتل : قد بيَّن الله لكم { تَحِلَّة أَيْمانِكم } أي : كفارة أيمانكم ، وذلك البيان في [ المائدة : 89 ] قال المفسرون : وأصل «تَحِلَّة» تَحْلِلَه على وزن تَفْعِلَة ، فأدغمت ، والمعنى : قد بين الله لكم تحليل أيمانكم بالكفَّارة ، فأمره الله أن يكفِّر يمينه ، فأعتق رقبة .
واختلفوا هل حرّم مارية على نفسه بيمين ، أم لا؟ على قولين .
أحدهما : حرَّمها من غير ذكر يمين ، فكان التحريم موجباً لكفارة اليمين ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه حلف يميناً حرَّمها بها ، قاله الحسن . والشعبي ، وقتادة ، { والله مولاكم } أي : وليُّكم وناصركم .
قوله تعالى : { وإذ أسرَّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً } يعني : حفصة من غير خلاف علمناه .
وفي هذا السِّرِّ ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه قال لها : إني مُسِرٌّ إِليك سِرَّاً فاحفظيه ، سرّيتي هذه عليَّ حرام ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال عطاء ، والشعبي ، والضحاك ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، وابنه ، والسدي .
والثاني : أنه قال لها : أبوك ، وأبو عائشة ، والِيا الناس من بعدي ، فإياك أن تخبري أحداً ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثالث : أنه أسر إليها أن أبا بكر خليفتي من بعدي ، قاله ميمون بن مهران .
قوله تعالى : { فلما نَبَّأَتْ به } أي : أخبرت به عائشة { وأظهره الله عليه } أي : أطلع الله نبيه على قول حفصة لعائشة ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً ، لأنه استكتم حفصة ذلك ، ثم دعاها ، فأخبرها ببعض ما قالت ، فذلك قوله تعالى : { عرَّف بعضَه وأعرض عن بعض } وفي الذي عرَّفها إياه قولان .
أحدهما : أنه حدَّثها ما حدثتها عائشة من شأن أبي بكر وعمر ، وسكت عما أخبرتْ عائشة من تحريم مارية ، لأنه لم يبال ما أظهرت من ذلك ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أن الذي عرَّف : تحريم مارّية ، والذي أعرض عنه : ذِكر الخلافة لئلا ينتشر ، قاله الضحاك ، وهذا اختيار الزجاج . قال : ومعنى «عرَّف بعضه» عرَّف حفصة بعضه . وقرأ الكسائي ، «عَرَفَ» بالتخفيف . قال الزجاج : على هذه القراءة قد عرف كل ما أسرَّه ، غير أن المعنى جارٍ على بعضه ، كقوله تعالى : { وما تَفْعلوا من خَير يعلمْه الله } [ البقرة : 179 ] أي : يعلمه ويجازِ عليه ، وكذلك : { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره } [ الزلزلة : 7 ] أي : ير جزاءه . فقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة ، فكان ذلك جزاءها عنده ، فأمره الله أن يراجعها .

وقال مقاتل بن حيَّان : لم يطلقها ، وإنما همَّ بطلاقها ، فقال له جبريل : لا تطلقها ، فإنها صوَّامة قوَّامة . وقال الحسن : ما استقصى كريم قط ، ثم قرأ «عرَّف بعضه وأعرض عن بعض» وقرأ ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وابن السميفع «عُرَّاف» برفع العين ، وتشديد الراء وبألف «بعضِه» بالخفض .
قوله تعالى : { فلما نَبَّأها به } أي : أخبر حفصة بإفشائها السرَّ { قالت من أنبأك هذا؟ } أي : من أخبرك بأني أفشيت سرك؟ { قال نبأني العليم الخبير } ثم خاطب عائشة وحفصة ، فقال : { إِن تتوبا إلى الله } أي : من التعاون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيذاء { فقد صغت قلوبكما } قال ابن عباس : زاغت ، وأثمت . قال الزجاج : عدلت ، وزاغت عن الحق . قال مجاهد : كنا نرى قوله تعالى : «فقد صغت قلوبكما» شيئاً هيِّناً حتى وجدناه في قراءة ابن مسعود : فقد زاغت قلوبكما . وإنما جعل القلبين جماعة لأن كل اثنين فما فوقهما جماعة . وقد أشرنا إِلى هذا في قوله تعالى : { فإن كان له إخوة } [ النساء : 11 ] وقولِه تعالى : { إِذ تسوَّروا المحراب } [ ص : 11 ] . قال المفسرون : وذلك أنهما أحبَّا ما كَرِهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته ، { وإن تظاهرا } وقرأ ابن مسعود ، وأبو عبد الرحمن ومجاهد ، والأعمش «تظاهرا» بتخفيف الظاء ، أي : تعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بالإيذاء { فإن الله هو مولاه } أي : وَليُّه في العون ، والنصرة { وجبريل } وليُّه { وصالح المؤمنين } وفي المراد بصالح المؤمنين ستة أقوال .
أحدها : أنهم أبو بكر وعمر ، قاله ابن مسعود ، وعكرمة ، والضحاك .
والثاني : أبو بكر ، رواه مكحول عن أبي أُمامة .
والثالث : عمر ، قاله ابن جبير ، ومجاهد .
والرابع : خيار المؤمنين ، قاله الربيع بن أنس .
والخامس : أنهم الأنبياء ، قاله قتادة ، والعلاء بن زياد العدوي ، وسفيان .
والسادس : أنه علي رضي الله عنه ، حكاه الماوردي . قاله الفراء : «وصالح المؤمنين» موحّد في مذهب جميع ، كما تقول : لا يأتيني إلا سائس الحرب ، فمن كان ذا ساسة للحرب ، فقد أمر بالمجيء ، ومثله قوله تعالى : { والسارق والسارقة } [ المائدة : 38 ] ، وقوله تعالى : { واللَّذان يأتيانها منكم } [ النساء : 16 ] ، وقوله تعالى : { إن الإنسان خلق هلوعاً } [ المعارج : 19 ] في كثير من القرآن يؤدي معنى الواحد عن الجميع .
قوله تعالى : { والملائكة بعد ذلك ظهير } أي : ظهراً ، وهذا مما لفظه لفظ الواحد ، ومعناه الجميع ، ومثله { يخرجكم طفلاً } [ غافر : 67 ] ، وقد شرحناه هناك . ثم خوَّف نساءه ، فقال تعالى : { عسى ربُّه إن طلقكنَّ } وسبب نزولها ما روى أنس عن عمر بن الخطاب قال : بلغني بعض ما آذى به رسولَ الله نساؤه ، فدخلتُ عليهنَّ ، فجعلت أَستقرئهن واحدةً واحدةً ، فقلت : والله لتنتهِنَّ ، أو ليبدلنَّه الله أزواجاً خيراً منكن ، فنزلت هذه الآية . والمعنى : واجبٌ من الله { إن طلقكنَّ } رسوله { أن يبدلَه أزواجاً خيراً منكنَّ مسلماتٍ } أي : خاضعات لله بالطاعة { مؤمناتٍ } مصدِّقات بتوحيد الله { قانتاتٍ } أي : طائعات { سائحات } فيه قولان .
أحدهما : صائمات ، قاله ابن عباس ، والجمهور . وقد شرحنا هذا المعنى عند قوله تعالى : { السائحون } [ التوبة : 112 ] .
والثاني : مهاجرات ، قاله زيد بن أسلم ، وابنه . { والثيّبات } جمع ثَيِّب ، وهي المرأة التي قد تزوَّجت ، ثم ثابت إلى بيت أبويها ، فعادت كما كانت غير ذات زوج . «والأبكار» : العذارى .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)

قوله تعالى : { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } وقاية النفس : بامتثال الأوامر ، واجتناب النواهي ، ووقاية الأهل : بأن يُؤْمَروا بالطاعة ، ويُنْهَوا عن المعصية . وقال علي رضي الله عنه : علِّموهم وأدِّبوهم { وقودها الناس والحجارة } وقد ذكرناه في [ البقرة : 24 ] { عليها ملائكةٌ غِلاظٌ } على أهل النار { شِدادٌ } عليهم . وقيل : غلاظ القلوب شِدَاد الأبدان . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : خَزَنَةُ النَّار تسعةَ عشر ، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة ، وقُوَّته : أن يضرب بالمقمعة ، فيدفع بتلك الضربة سبعين ألفاً . فيهوُون في قعر جهنَّم { لا يعصون الله ما أمرهم } أي : لا يخافون فيما يأمر { ويفعلون ما يؤمرون } فيه قولان .
أحدهما : لا يتجاوزون ما يؤمرون .
والثاني : يفعلونه في وقته لا يؤخِّرونه ، ولا يقدِّمونه . ويقال لأهل النار : { يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم } .
قوله تعالى : { توبوا إلى الله توبة نصوحاً } قرأ أبو بكر عن عاصم ، وخارجة عن نافع «نصوحاً» بضم النون . والباقون بفتحها . قال الزجاج : فمن فتح فعلى صفة التوبة ، ومعناه : توبةً بالغةً في النصح ، و«فَعُول» من أسماء الفاعلين التي تستعمل للمبالغة في الوصف . تقول : رجل صبور ، وشكور . ومن قرأ بالضم ، فمعناه : ينصحون فيها نصوحاً ، يقال : نصحت له نصحاً ، ونصاحة ، ونصوحاً . وقال غيره : من ضم أراد : توبة نُصْحٍ لأنفسكم . وقال عمر بن الخطاب : التوبة النصوح : أن يتوب العبد من الذنب وهو يحدِّث نفسه أنَّه لا يعود . وسئل الحسن البصري عن التوبة النصوح ، فقال : ندم بالقلب ، واستغفار باللسان ، وترك بالجوارح ، وإضمار أن لا يعود . وقال ابن مسعود : التوبة النصوح تكفر كل سيئة ، ثم قرأ هذه الآية .
قوله تعالى : { يوم لا يخزي الله النبي } قد بيَّنا معنى «الخزي» في [ آل عمران : 192 ] وبيَّنا معنى قوله تعالى : { نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم } في [ الحديد : 12 ] { يقولون ربنا أتمم لنا نورنا } وذلك إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يُطفأ سألوا الله تعالى أن يتمم لهم نورهم ، ويبلِّغهم به الجنة . قال ابن عباس : ليس أحد من المسلمين إِلا يعطى نوراً يوم القيامة . فأما المنافق فيُطفَأ نورُه ، والمؤمن مُشْفِق مما رأى من إطفاء نور المنافق ، فهم يقولون : «ربنا أتمم لنا نورنا» .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)

قوله تعالى : { جاهد الكفار والمنافقين } قد شرحناه في [ براءة : 73 ] .
قوله تعالى : { ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح } قال المفسرون منهم مقاتل : هذا المثل يتضمن تخويف عائشة وحفصة أنهما إن عَصيا ربَّهما لم يُغْنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما شيئاً . قال مقاتل : اسم امرأة نوح «والهة» وامرأة لوط «والغة» .
قوله تعالى : { كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين } يعني : نوحاً ولوطاً عليهما السلام { فخانتاهما } قال ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط ، إنما كانت خيانتهما في الدِّين ، كانت امرأة نوح تخبر الناس أنه مجنون ، وكانت امرأة لوط تدل على الأضياف ، فإذا نزل بلوط ضيفٌ بالليل أوقدت النار ، وإذا نزل بالنهار دخنت ليعلم قومه أنه قد نزل به ضيف . وقال السدي : كانت خيانتهما : كفرهما . وقال الضحاك : نميمتهما . وقال ابن السائب : نفاقهما .
قوله تعالى : { فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً } أي : فلم يدفعا عنهما من عذاب الله شيئاً . وهذه الآية تقطع طمع مَن ركب المعصية ورجا أن ينفعه صلاح غيره . ثم أخبر أن معصية الغير لا تضر المطيع . بقوله تعالى : { وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون } وهي آسية بنت مزاحم رضي الله عنها . وقال يحيى بن سلام : ضرب الله المثل الأول يحذِّر به عائشة وحفصة رضي الله عنهما . ثم ضرب لهما هذا المثل يرغبهما في التمسك بالطاعة . وكانت آسية قد آمنت بموسى . قال أبو هريرة : ضرب فرعون لامرأته أوتاداً في يديها ورجليها ، وكانوا إذا تفرَّقوا عنها أظلتها الملائكة ، فقالت : { رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة } فكشف الله لها عن بيتها في الجنة حتى رأته قبل موتها { ونجني من فرعون وعمله } فيه قولان .
أحدهما : أن عمله : جِمَاعُهُ .
والثاني : أنه دينه رويا عن ابن عباس { ونجني من القوم الظالمين } يعني : أهل دين المشركين .
قوله تعالى : { والتي أحصنت فرجها } قد ذكرنا فيه قولين في سورة [ الأنبياء : 92 ] فمن قال : هو فرج ثوبها ، قال «الهاء» في قوله تعالى : { فنفخنا فيه } يرجع إليه ، وذلك أن جبريل مَدَّ جيب درعها ، فدخل فيه . ومن قال : هو مخرج الولد ، قال : «الهاء» كناية عن غير مذكور ، لأنه إنما نفخ في درعها لا في فرجها .
قوله تعالى : { وصدَّقت بكلمات ربها } وفيه قولان .
أحدهما : أنها قول جبريل { إِنما أنا رسول ربكِ } [ مريم : 19 ] .
والثاني : أن الكلمات هي التي تضمنَّتها كتب الله المنزلة . وقرأ أُبيُّ ابن كعب ، وأبو مجلز ، وعاصم الجحدري ، «بكلمةِ ربها» على التوحيد «وكُتُبه» قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وابو بكر عن عاصم «وكتابِهِ» على التوحيد ، وقرأ أبو عمرو ، وحفص عن عاصم ، وخارجة عن نافع «وكُتُبه» جماعة ، وهي التي أنزلت على الأنبياء ، ومن قرأ «وكتابه» فهو اسم جنس على ما بيَّنَّا في خاتمة [ البقرة : 285 ] وقد بيَّنَّا فيها القنوت مشروحاً [ البقرة : 116 ] . ومعنى الآية : وكانت من القانتين ، ولذلك لم يقل : من القانتات .

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)

قوله تعالى : { تبارك } قد شرحناه في [ الأعراف : 54 ] .
قوله تعالى : { الذي بيده الملك } قال ابن عباس : يعني : السلطان يُعِزُّ ويُذِلُّ .
قوله تعالى : { الذي خلق الموت والحياة } قال الحسن : خلق الموت المزيل للحياة ، والحياة التي هي ضد الموت { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } قد شرحناه في [ هود : 7 ] قال الزجاج : والمعلَّق ب { أيكم } مضمر تقديره : ليبلوكم ، فيعلم أيُّكم أحسن عملاً ، وهذا علم وقوع . وارتفعت «أي» بالابتداء ، ولا يعمل فيها ما قبلها ، لأنها على أصل الاستفهام ، ومثله { أيُّ الحزبين أحصى } [ الكهف : 12 ] . والمعنى : خلق الحياة ليختبركم فيها ، وخلق الموت ليبعثَكم ويجازيَكم . وقال غيره : اللام في «ليبلوَكم» متعلق بخلق الحياة دون خلق الموت ، لأن الابتلاء بالحياة ، { الذي خلق سبع سموات طباقاً } أي : خلقهنَّ مطابقات ، أي : بعضها فوق بعض { ما ترى } يا ابن آدم { في خلق الرحمن من تفاوت } قرأ حمزة والكسائي : «من تفوُّت» بتشديد الواو من غير ألف . وقرأ الباقون بألف . قال الفراء : وهما بمنزلة واحدة ، كما تقول : تعاهدت الشيء ، وتعهَّدته . والتفاوت : الاختلاف . وقال ابن قتيبة : التفاوت : الاضطراب والاختلاف ، وأصله من الفوت ، وهو أن يفوت شيء شيئاً ، فيقع الخلل ، ولكنه متصل بعضه ببعض .
قوله تعالى : { فارجع البصر } أي : كرِّر البصر { هل ترى من فطور } وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، «هل ترى» بإدغام اللام في التاء ، أي : هل ترى فيها فروجاً وصُدوعاً .
قوله تعالى : { ثم ارجع البصر كرَّتين } أي : مرَّةً بعد مرَّة { ينقلبْ إليك البصر خاسئاً } قال ابن قتيبة : أي : مبعداً من قولك : خسأتُ الكلب : إذا باعدتَه { وهو حسير } أي : كليل منقطع عن أن يلحق ما نظر إليه . وقال الزجاج : قد أعيا من قبل أن يرى في السماء خَلَلاً .
قوله تعالى : { ولقد زيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح } وقد شرحناه في [ حم السجدة : 12 ] { وجعلناها رجوماً للشياطين } أي : يرجم بها مسترقو السمع . وقد سبق بيان هذا المعنى [ الحجر : 18 ] { وأعتدنا لهم } أي : في الآخرة { عذاب السعير } وهذا وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله تعالى : { سمِعوا لها شهيقاً } أي : صوتاً مثل صوت الحمار . وقد بينا معنى الشهيق في [ هود : 106 ] { وهي تفور } أي : تغلي بهم كغلي المِرْجَل { تكاد تميَّز } أي : تتقطَّع من تَغَيُّظها عليهم { كلما أُلقي فيها فَوْجٌ } أي : جماعة منهم { سألهم خَزَنَتُها ألم يأتكم نذير؟! } وهذا سؤال توبيخ .
قوله تعالى : { إِن أنتم } أي : قلنا للرسل : { إن أنتم إلا في ضلال } أي : في ذهاب عن الحق بعيد . قال الزجاج : ثم اعترفوا بجهلهم فقالوا : { لو كنا نسمع } أي : سماع من يعي ويفكِّر { أو نعقل } عقل من يُميِّز وينظر { ما كنا } من أهل النار { فسحقاً } أي : بُعْدَاً . وهو منصوب على المصدر ، المعنى : أسحقهم الله سحقاً ، أي : باعدهم الله من رحمته مباعدة ، والسحيق : البعيد . وكذلك روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس «فسحقاً» أي : بُعْدَاً . وقال سعيد بن جبير ، وأبو صالح : السُّحق : وادٍ في جهنم يقال له : سُحق .

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)

قوله تعالى : { إن الذين يَخْشَوْنَ ربَّهم بالغيب } قد شرحناه في [ سورة الأنبياء : 49 ] { لهم مغفرة } لذنوبهم { وأجر كبير } وهو : الجنة . ثم عاد إلى خطاب الكفَّار ، فقال تعالى : { وأَسِرُّوا قولكم أو اجهروا به } قال ابن عباس : نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيخبره جبرائيل بما قالوا ، فيقول بعضهم : أسروا قولكم حتى لا يسمع إله محمد .
قوله تعالى : { ألا يعلم من خلق؟! } أي : ألا يعلم ما في الصدور خالقها؟! ، و«اللطيف» مشروح في [ الأنعام : 103 ] و«الخبير» في [ البقرة : 234 ] .
قوله تعالى : { هو الذي جعل لكم الأرض ذَلُولاً } أي : مُذَلَّلةً سَهْلَةَ لم يجعلها ممتنعة بالحُزُونَة والغِلَظ .
قوله تعالى : { فامشوا في مناكبها } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : طرقاتها ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد .
والثاني : جبالها ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، واختاره الزجاج ، قال : لأن المعنى : سهل لكم السلوك فيها ، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها ، فهو أبلغ في التذليل .
والثالث : في جوانبها ، قاله مقاتل ، والفراء ، وأبو عبيدة ، واختاره ابن قتيبة ، قال : ومنكبا الرجل : جانباه .
قوله تعالى : { وإليه النشور } أي : إليه تُبْعَثُون من قبوركم .

أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)

ثم خوف الكفار فقال : { أأمنتم } قرأ ابن كثير : «وإليه النشور وأمنتم» وقرأ نافع ، وأبو عمرو : «النشور آمنتم» بهمزة ممدودة . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «أأمنتم» بهمزتين { مَنْ في السماء } قال ابن عباس : أمنتم عذاب مَنْ في السماء ، وهو الله عزَّ وجل؟! و«تمور» بمعنى تدور . قال مقاتل : والمعنى : تدور بكم إلى الأرض السفلى .
قوله تعالى : { أن يرسل عليكم حاصباً } وهي : الحجارة ، كما أرسل على قوم لوط { فستعلمون كيف نذيرِ } أي : كيف كانت عاقبة إِنذاري لكم في الدنيا إذا نزل بكم العذاب { ولقد كذَّب الذين من قبلهم } يعني : كفار الأمم { فكيف كان نكيرِ } أي : إنكاري عليهم بالعذاب .
{ أولم يروا إلى الطير فوقهم صافَّات } أي : تصفُّ أجنحتها في الهواء ، وتقبض أجنحتها بعد البسط ، وهذا معنى الطيران ، وهو بسط الجناح وقبضه بعد البسط { ما يُمسِكُهنَّ } أن يقعن { إلا الرحمنُ } .

أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)

قوله تعالى : { أمَّن هذا الذي هو جند لكم } هذا استفهام إنكار . ولفظ «الجُنْدِ» مُوحَّد ، فلذلك قال تعالى : «هذا الذي هو» والمعنى : لا جُنْدَ لكم { ينصركم } أي : يمنعكم من عذاب الله إن أراده بكم { إنِ الكافرون إلا في غرور } وذلك أن الشيطان يغرُّهم ، فيقول : إن العذاب لا ينزل بكم { أمَّن هذا الذي يرزقكم } المطر وغيرَه { إن أمسك } الله ذلك عنكم { بل لجُّوا في عُتُوٍّ } أي : تمادٍ في كفر { ونفور } عن الإيمان .
ثم ضرب مثلاً ، فقال تعالى : { أفمن يمشي مُكِبّاً على وجهه } قال ابن قتيبة : أي : لا يبصر يميناً ، ولا شمالاً ، ولا من بين يديه . يقال : أكبَّ فلانٌ على وجهه بالألف ، وكبَّه الله لوجهه ، وأراد : الأعمى . قال المفسرون : هذا مثل للمؤمن ، والكافر . و«السويُّ» : المعتدل ، أي : الذي يبصر الطريق . وقال قتادة : هذا في الآخرة يحشر الله الكافر مُكِبّاً على وجهه ، والمؤمن يمشي سوياً .
قوله تعالى : { قليلاً ما تشكرون } فيه قولان .
أحدهما : أنهم لا يشكرون ، قاله مقاتل .
والثاني : يشكرون قليلاً ، قاله أبو عبيد .
قوله تعالى : { ذَرَأَكُمْ } أي : خلقكم { ويقولون متى هذا الوعد } يعنون بالوعد : العذابَ { فلما رأوه زُلْفَةً } أي : رأوا العذاب قريباً منهم { سِيْئَتْ وجوه الذين كفروا } قال الزجاج : أي : تبين فيها السُّوءُ . وقال غيره : قُبِّحْت بالسواد { وقيل هذا الذي كنتم به تَدَّعُونَ } فيه قولان .
أحدهما : أنَّ «تدَّعون» بالتشديد ، بمعنى تدعون بالتخفيف ، وهو «تفتعلون» من الدعاء . يقال : دعوت ، وادَّعيت ، كما يقال : خَبَرْتُ وَاخْتَبَرْتُ ، ومثله : يَدَّكِرون ، ويَدْكُرون ، هذا قول الفراء ، وابن قتيبة .
والثاني : أن المعنى : هذا الذي كنتم من أجله تَدَّعون الأباطيلَ والأكاذيبَ ، تَدَّعون أنكم إِذا مُتُّم لا تُبْعَثُون؟! وهذا اختيار الزجاج . وقرأ أبو رزين ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، وابن أبي عبلة ، ويعقوب : «تَدْعون» بتخفيف الدال ، وسكونها ، بمعنى تَفْعَلون من الدعاء . وقال قتادة : كانوا يَدعُون بالعذاب .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)

قوله تعالى : { قل أرأيتم إن أهلكني الله } بعذابه { ومن معيَ } من المؤمنين . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «معيَ» بفتح الياء . وقرأ أبو بكر عن عاصم ، والكسائي : «معي» بالإسكان { أو رَحِمَنَا } فلم يعذِّبْنَا { فَمَنْ يجير الكافرين } أي يمنعهم ويؤمِّنُهم { من عذاب أليم } ومعنى الآية : إنا مع إِيماننا ، بين الخوف الرَّجاء : فمن يجيرُكم مع كفركم من العذاب؟! أي : لأنه لا رجاء لكم كرجاء المؤمنين { قل هو الرحمن } الذي نعبُدُ { فستعلمون } وقرأ الكسائي : «فسيعلمون» بالياء عند معاينة العذاب مَن الضالُّ نَحْن أم أنتم .
قوله تعالى : { إن أصبح ماؤكم غَوْراً } قد بيَّنَّاه في [ الكهف : 41 ] { فمن يأتيكم بماءٍ معينٍ؟! } أي : بماءٍ ظاهر تراه العيون ، وتناله الأرشية .

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)

قوله تعالى : { ن } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، وحفص : { نْ والقلم } النون في آخر الهجاء من نون ظاهرة عند الواو ، وهذا اختيار الفراء . وروى أبو بكر عن عاصم أنه كان لا يُبين النون من { نون } . وبها قرأ الكسائي ، وخلف ، ويعقوب ، وهو اختيار الزجاج . وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وقتادة ، والأعمش : «نونِ والقلم» بكسر النون . وقرأ الحسن ، وأبو عمران ، وأبو نهيك : «نُ والقلم» برفع النون .
وفي معنى نون سبعة أقوال .
أحدها : أنها الدواة . روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أول ما خلق الله القلم ، ثم خلق النون ، وهي الدواة " وهذا قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير ، وبه قال الحسن وقتادة .
والثاني : أنه آخر حروف الرحمن ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثالث : أنه الحوت الذي على ظهر الأرض ، وهذا المعنى في رواية أبي ظبيان عن ابن عباس ، وهو مذهب مجاهد ، والسدي ، وابن السائب ، ومقاتل .
والرابع : أنه لَوْح من نور ، قاله معاوية بن قُرَّة .
والخامس : أنه افتتاح اسمه «نصير» ، و«ناصر» ، قاله عطاء .
والسادس : أنه قَسَم ٌبِنُصْرَةِ الله للمؤمنين ، قاله القرظي .
والسابع : أنه نهر في الجنة ، قاله جعفر الصادق .
وفي القلم قولان .
أحدهما : أنه الذي كتب به في اللوح المحفوظ .
والثاني : أنه الذي يكتب به الناس . وإنما أقسم به ، لأن كتبه إنما تكتب و { يسطرون } بمعنى : يكتبون . وفي المشار إليهم قولان .
أحدهما : أنهم الملائكة . وفيما أرادوا بما يكتبونه قولان .
أحدهما : أنه الذّكر ، قاله مجاهد ، والسدي .
والثاني : أعمال بني آدم ، قاله مقاتل .
والقول الثاني : أنهم جميع الكَتَبة ، حكاه الثعلبي { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } أي : ما أنت بِإنْعامِ ربِّك عليك بالإيمان والنُّبوَّة بمجنون . قال الزجاج : هذا جواب قولهم : إنك لمجنون . وتأويله : فارقك الجنون بنعمة الله .
قوله تعالى : { وإِنَّ لك } بصبرك على افترائهم عليك ، ونسبتهم إيّاك إلى الجنون { لأجراً غير ممنون } أي : غير مقطوع ولا منقوص ، { وإِنك لعلى خلق عظيم } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : دين الإسلام ، قاله ابن عباس .
والثاني : أدب القرآن ، قاله الحسن .
والثالث : الطبع الكريم . وحقيقة «الخُلُق» : ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب ، فسمي خُلُقاً ، لأنه يصير كالخِلْقة في صاحبه . فأما ما طبع عليه فيسمى : «الخِيم» فيكون الخِيم : الطبع الغريزي ، والخُلُق : الطبع المُتكلَّف . هذا قول الماوردي . وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كان خُلُقُه القرآن . تعني : كان على ما أمره الله به في القرآن .
قوله تعالى : { فستبصر ويبصرون } يعني : أهل مكة . وهذا وعيد لهم بالعذاب . والمعنى : سترى ويرون إذا نزل بهم العذاب بِبَدْرٍ { بأيِّكم المفتون } وفيه أربعة أقوال .

أحدها : الضالُّ ، قاله الحسن .
والثاني : الشيطان ، قاله مجاهد .
والثالث : المجنون ، قاله الضحاك .
والمعنى : الذي قد فتن بالجنون .
والرابع : المعذَّب ، حكاه الماوردي .
وفي الباء قولان .
أحدهما : أنها زائدة ، قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة . وأنشدوا :
[ نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَصْحَابُ الفَلَجْ ] ... نَضْرِبُ بِالسَّيْف وَنَرْجُو بِالْفَرَجْ
والثاني : أنها أصلية ، وهذا قول الفراء ، والزجاج . قال الزجاج : ليس كونها لغواً بجائز في العربية في قول أحد من أهلها .
وفي الكلام قولان للنحويين .
أحدهما : أن «المفتون» هاهنا : الفتون . والمصادر تجيء على المفعول . تقول العرب : ليس هذا معقود رأي ، أي : عقد رأي ، وتقول : دعه إلى ميسوره ، أي : يسره . والمعنى : بأيكم الجنون .
والثاني : بأيكم المفتون بالفرقة التي أنت فيها ، أم بفرقة الكفار؟ فيكون المعنى : في أي الفرقتين المجنون . وقد ذكر الفراء نحو ما شرحه الزجاج . وقد قرأ أُبَيُّ بن كعب ، وأبو عمران ، وابن أبي عبلة : «في أي المفتون» . ثم أخبر أنه عالم بالفريقين بما بعد هذا .

فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)

قوله تعالى : { فلا تطع المكذبين } وذلك أن رؤساء أهل مكة دَعَوْه إلى دين آبائه ، فنهاه الله أن يطيعهم { وَدُّوا لو تُدْهِنُ فيُدْهنون } فيه سبعة أقوال .
أحدها : لو ترخص فيرخصون ، قاله ابن عباس .
والثاني : لو تُصَانِعُهم في دِينك فَيَصانِعون في دينهم ، قاله الحسن .
والثالث : لو تكفر فيكفرون ، قاله عطية ، والضحاك ، ومقاتل .
والرابع : لو تَلِينُ فيلينون لك ، قاله ابن السائب .
والخامس : لو تنافق وترائي فينافقون ويراؤون ، قاله زيد بن أسلم .
والسادس : ودُّوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم . وكانوا أرادوه على أن يعبد آلهتهم مُدَّة ، ويعبدوا الله مدة ، قاله ابن قتيبة . وقال أبو عبيدة : هو من المداهنة .
والسابع : لو تقاربهم فيقاربونك ، قاله ابن كيسان .
قوله تعالى : { ولا تطع كل حلاَّف } وهو كثير الحلف بالباطل { مَهينٍ } وهو الحقير الدنيء . وروى العوفي عن ابن عباس قال : المَهين : الكذَّاب .
واختلفوا فيمن نزل هذا على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الوليد بن المغيرة ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : الأخنس بن شريق ، قاله عطاء ، والسدي .
والثالث : الأسود بن عبد يغوث ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { همَّاز } قال ابن عباس : هو المغتاب . وقال ابن قتيبة : هو العَيَّاب .
قوله تعالى : { مَشَّاءٍ بنميم } أي : يمشي بين الناس بالنميمة ، وهو نقل الكلام السيء من بعضهم إلى بعض ليفسد بينهم { مَنَّاعٍ للخير } فيه قولان .
أحدهما : أنه منع ولده وعشيرته الإسلام ، قاله ابن عباس .
والثاني : مَنَّاعٍ للحقوق في ماله ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { معتدٍ } أي : ظلوم { أثيم } فاجر { عُتُلٍّ بعد ذلك } أي : مع ما وصفناه به . وفي «العُتُلِّ» سبعة أقوال .
أحدها : أنه العاتي الشديد المنافق ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه المتوفِّر الجسم ، قاله الحسن .
والثالث : الشديدُ الأَشِرُ ، قاله مجاهد .
والرابع : القويُّ في كفره ، قاله عكرمة .
والخامس : الأكول الشروب القوي الشديد ، قاله عبيد بن عمير .
والسادس : الشديد الخصومة بالباطل ، قاله الفراء .
والسابع : أنه الغليظ الجافي ، قاله ابن قتيبة .
وفي «الزنيم» أربعة أقوال .
أحدها : أنه الدَّعيُّ في قريش وليس منهم ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وهذا معروف في اللغة أن الزنيم : هوالملتصق في القوم وليس منهم ، وبه قال الفراء ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة . قال حسان :
وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ في آل هَاشِمٍ ... كما نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ القَدَحُ الفَرْدُ
والثاني : أنه الذي يعرف بالشَّرِّ ، كما تعرف الشاة بِزَنَمتها ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثالث : أنه الذي له زَنَمة مثل زنمة الشاة . وقال ابن عباس : نُعت فلم يعرف حتى قيل : زنيم ، فعرف ، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها . ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه من ذكر عيوب الوليد ، لأنه وصفه بالحلف ، والمهانة ، والعيب للناس ، والمشي بالنميمة ، والبخل ، والظلم ، والإثم ، والجفاء ، والدِّعوة ، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة .

والزَّنَمَتان : المعلقتان عند حلوق المعزى . وقال ابن فارس : يعني التي تتعلق من أذنها .
والرابع : أنه الظلوم ، رواه الوالبي عن ابن عباس .
قوله تعالى : { أن كان ذا مال وبنين } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : «أن كان» على الخبر ، أي : لأن كان . والمعنى : لا تطعه لماله وبنيه . وقرأ ابن عباس بهمزتين ، الأولى : مخففة . والثانية : ملينة ، وفصل بينهما بألف أبو جعفر . وقرأ حمزة : «أأن كان» بهمزتين مخففتين على الاستفهام ، وله وجهان .
أحدهما : لأن كان ذا مال تطيعه؟! .
والثاني : ألأن كان ذا مال وبنين ، { إِذا تتلى عليه آياتنا } يكفر بها؟ فيقول : { أساطير الأولين } ذكر القولين الفراء . وقرأ ابن مسعود : «أن كان» بهمزة واحدة مقصورة . ثم أوعده فقال تعالى : { سنسمه على الخرطوم } الخرطوم : الأنف . وفي هذه السِّمة ثلاثة أقوال .
أحدها : سنسمه بالسيف ، فنجعل ذلك علامة على أنفه ما عاش ، فقاتل يوم بدر فخطم بالسيف ، قاله ابن عباس .
والثاني : سنُلْحق به شيئاً لا يفارقه ، قاله قتادة ، واختاره ابن قتيبة .
والثالث : أن المعنى : سَنُسَوِّد وجهه . قال الفراء : و«الخرطوم» وإِن كان قد خص بالسِّمة ، فإنه في مذهبٍ الوجه ، لأن بعض الوجه يؤدِّي عن البعض . وقال الزجاج : سنجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم . وجائز والله أعلم أن يفرد بسمة لمبالغته في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتبيَّن بها عن غيره .

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)

قوله تعالى : { إنا بلوناهم } يعني : أهل مكة ، أي : ابتليناهم بالجوع ، والقحط { كما بَلَوْنا أصحاب الجنة } حين هلكت جَنَّتهم .
وهذه الإشارة إِلى قصتهم
ذكر أهل التفسير أن رجلاً كان بناحية اليمن له بستان ، وكان مؤمناً . وذلك بعد عيسى بن مريم عليهما السلام ، وكان يأخذ منه قدر قوته ، وكان يتصدّق بالباقي . وقيل : كان يترك للمساكين ما تعدَّاه المنجل ، وما يسقط من رؤوس النخل ، وما ينتثر عند الدِّراس ، فكان يجتمع من هذا شيء كثير ، فمات الرجل عن ثلاث بنين ، فقالوا : والله إن المال لقليل ، وإن العيال لكثير ، وإِنما كان أبونا يفعل هذا إذْ كان المال كثيراً ، والعيال قليلاً ، وأما الآن فلا نستطيع أن نفعل هذا . فعزموا على حرمان المساكين ، وتحالفوا بينهم ليغدُنَّ قبل خروج الناس ، فليصرمُنَّ نخلهم ، فذلك قوله تعالى : { إذْ أقسموا } أي : حلفوا { ليصرُمنّها } أي : ليقطعنّ نخلهم { مصبحين } أي : في أول الصباح . وقد بقيت من الليل ظُلمة لئلا يبقى للمساكين شيء .
وفي قوله تعالى : { ولا يستثنون } قولان .
أحدهما : لا يقولون : إن شاء الله قاله الأكثرون .
والثاني : لا يستثنون حق المساكين ، قاله عكرمة { فطاف عليها طائف من ربك } أي : من أمر ربك . قال الفراء : الطائف لا يكون إلا بالليل . قال المفسرون : بعث الله عليها ناراً بالليل ، فاحترقت ، فصارت سوداء ، فذلك قوله تعالى : { فأصبحت كالصريم } وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : كالرَّماد الأسود ، قاله ابن عباس .
والثاني : كالليل المسودّ ، قاله الفراء . وكذلك قال ابن قتيبة : أصبحت سوداء كالليل محترقة . والليل : هو الصريم ، والصبح أيضاً : صريم ، لأن كل واحد منهما ينصرم عن صاحبه .
والثالث : أصبحت وقد ذهب ما فيها من الثمر ، فكأنه قد صرم ، أي : قطع ، وجُذَّ حكاه ابن قتيبة أيضاً .
قوله تعالى : { فتنادَوْا مصبحين } أي : نادى بعضهم بعضاً لما أصبحوا { أن اغْدُوا على حرثكم } يعني : الثمار والزروع والأعناب { إن كنتم صارمين } أي : قاطعين للنخل ، { فانطلقوا } أي : ذهبوا إلى جنَّتهم { وهم يتخافتون } قال ابن قتيبة : يتساررون ب { أن لا يدخلنَّها اليوم عليكم مسكين وغَدَوُا على حرد } فيه ثمانية أقوال .
أحدهما : على قدرة ، قاله ابن عباس .
والثاني : على فاقة ، قاله الحسن في رواية .
والثالث : على جد ، قاله الحسن في رواية ، وقتادة ، وأبو العالية ، والفراء ، ومقاتل .
والرابع : على أمر مجمع قد أسَّسوه بينهم ، قاله مجاهد ، وعكرمة .
والخامس : أن الحرد : اسم الجنة ، قاله السدي .
والسادس : أنه الحنَق والغضب على المساكين ، قاله الشعبي ، وسفيان . وأنشد أبو عبيدة :
أُسُودُ شَرَىً لاَقَتْ أُسُودَ خَفِيَّةٍ ... تَسَاقَوْا على حَرْدٍ دِمَاءَ الأَسَاوِدِ
والسابع : أنه المنع ، مأخوذ من حارَدَتِ السَّنَة فليس فيها مطر ، وحاردت الناقة فليس لها لبن ، قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة .
والثامن : أنه القصد . يقال : حَرَدْتُ حَرْدَكَ ، أي : قَصَدْتُ قَصْدَكَ ، حكاه الفراء ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة .

وأنشدوا :
قَدْ جَاءَ سَيْلٌ كَانَ مِنْ أَمْرِ اللهْ ... يَحْرُدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّةْ
أي : يقصد قصدها . قال ابن قتيبة : وفيها لغتان : حَرَدٌ ، وحَرْدٌ ، كما يقال : الدَّرَك ، والدَّرْك .
وفي قوله تعالى : { قادرين } ثلاثة أقوال .
أحدها : قادرين على جَنَّتهم عند أنفسهم ، قاله قتادة .
والثاني : قادرين على المساكين ، قاله الشعبي .
والثالث : أن المعنى : منعوا وهم قادرون ، أي : واجدون ، قاله ابن قتيبة . قالوا : { فلما رَأَوْها } محترقة { قالوا إنا لضالون } أي : قد ضللنا طريق جَنَّتنا ، فليست هذه . ثم علموا أنها عقوبة ، فقالوا : { بل نحن محرومون } أي : حرِمْنَا ثَمَرَ جَنَّتنَا بمنعنا المسكين { قال أوسطهم } أي : أعدلهم ، وأفضلهم { لولا } أي : هلاَّ { تسبِّحون } وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : هلا تَسْتَثْنُون عند قولكم : «ليصرُمنَّها مصبحين» قاله ابن جريج والجمهور . والمعنى : هلاَّ قلتم : إن شاء الله . قال الزجاج : وإنما قيل للاستثناء : تسبيح ، لأن التسبيح في اللغة : تنزيه الله عز وجل عن السوء . والاستثناء تعظيم لله ، وإقرار بأنه لا يقدر أحد أن يفعل فعلاً إلا بمشيئة الله .
والثاني : أنه كان استثناؤهم قول : «سبحان الله» ، قاله أبو صالح .
والثالث : هلا تسبِّحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم ، حكاه الثعلبي . وقوله تعالى : { قالوا سبحان ربنا } فنزَّهوه أن يكون ظالماً فيما صنع ، وأقرُّوا على أنفسهم بالظلم فقالوا : { إنَّا كنَّا ظالمين } بمنعنا المساكين { فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون } أي : يلوم بعضهم بعضاً في منع المساكين حقوقهم . يقول هذا لهذا : أَنْتَ أَشَرْتَ علينا ، ويقول الآخر : أنت فَعَلْتَ ، ثم نادَوْا على أنفسهم بالويل فقالوا : { يا ويلنا إنا كنا طاغين } حين لم نصنع ما صنع آباؤنا ، ثم رجعوا إِلى الله تعالى فسألوه أن يبدِّلهم خيراً منها ، فذلك قوله : { عسى رَبُّنا أن يبدِّلنا خيراً منها } . وقرأ قوم : «يبدِلنا» بالتخفيف ، وهما لغتان . وفرَّق قوم بينهما ، فقالوا : التبديل : تغيير حال الشيء وصفته والعين باقية . والإبدال : إزالة الشيء ووضع غيره مكانه . ونقل أن القوم أخلصوا ، فبدَّلهم الله جنَّةً العنقودُ منها وِقْرُ بَغْلٍ .
قوله تعالى : { كذلك العذاب } ما فعلنا بهم نفعل بمن تعدَّى حدودنا . وهاهنا انتهت قصة أهل الجنة . ثم قال تعالى : { ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } يعني : المشركين . ثم ذكر ما للمتقين عنده بما بعد هذا ، فقال المشركون : إنا لنُعْطى في الآخرة أفضل مما تُعْطَوْنَ ، فقال تعالى مكذِّباً لهم { أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟! } قال الزجاج : هذه ألف الاستفهام مجازها هاهنا مجاز التوبيخ ، والتقرير .
قوله تعالى : { كيف تحكمون } أي : كيف تقضون بالجَوْرِ { أم لكم كتاب } أُنْزِلَ من عند الله { فيه } هذا { تدرسون } أي : تقرؤون ما فيه { إن لكم } في ذلك الكتاب { لَمَا تَخَيَّرون } أي : ما تختارون وتشتهون . وقرأ أبو الجوزاء ، وعاصم الجحدري ، وأبو عمران : «أن لكم» بفتح الهمزة . وهذا تقريع لهم ، وتوبيخ على ما يتمنَّوْن من الباطل «سَلْهم أَيُّهم بذلك زعيم» { أم لكم أَيْمانٌ علينا بالغةٌ } أي : ألكم عهود على الله تعالى حلف لك على ما تَدَّعُونَ بأَيْمانٍ بالغةٍ ، أي : مُؤكَّدةٍ .

وكل شيء متناهٍ في الجودة والصحة فهو بالغ . ويجوز أن يكون المعنى : بالغة إلى يوم القيامة ، أي : تبلغ تلك الأَيمان إلى يوم القيامة في لزومها وتوكيدها { إن لكم لَمَا تحكمون } لأنفسكم به من الخير والكرامة عند الله تعالى . قال الفراء : والقرَّاء على رفع «بالغةٌ» إِلا الحسن فإنه نصبها على مذهب المصدر ، كقوله تعالى : { حقاً } [ الروم : 47 ] ومعنى الآية : هل لكم أيمان علينا بالغة بأن لكم ما تحكمون؟! فلما كانت اللام في جواب «إن» كسرتَها .
قوله تعالى : { سلهم أيُّهم بذلك زعيم } فيه قولان .
أحدهما : أنه الكفيل ، قاله ابن عباس ، وقتادة . والمعنى : أيُّهُمْ كفل بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين من الخير .
والثاني : أنه الرسول ، قاله الحسن .
قوله تعالى : { أم لهم شركاء } يعني : الأصنام التي جعلوها شركاء لله تعالى ، والمعنى : ألهم أرباب يفعلون بهم هذا الذي زعموا . وقيل : يشهدون لهم بصدق ما ادَّعَوْا { فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين } في أنها شركاء الله . وإنما أضيف الشركاء إليهم لادِّعائهم أنهم شركاء الله .

يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)

{ يوم يُكْشَفُ } المعنى : فليأتوا بها يوم يكشف عن ساق . قرأ الجمهور : «يُكْشَفُ» بضم الياء ، وفتح الشين . وقرأ ابن أبي عبلة ، وعاصم الجحدري ، وأبو الجوزاء ، بفتح الياء ، وبكسر الشين . وقرأ أبي بن كعب ، وابن عباس : «تَكْشِف» بتاءٍ مفتوحة ، وكسر الشين . وقرأ ابن مسعود ، وأبو مجلز ، وابن يعمر ، والضحاك : «نَكشف» بنون مفتوحة مع كسر الشين . وهذا اليوم هو يوم القيامة . وقد روى عكرمة عن ابن عباس : «يوم يُكْشَفُ عن ساق» قال : يُكْشَفُ عن شِدَّةٍ ، وأنشد :
وَقَامَتْ الحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقْ ... وهذا قول مجاهد ، وقتادة .
قال ابن قتيبة : وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إِلى معاناته والجدّ فيه ، شمّر عن ساقه ، فاستعيرت الساق في موضع الشدة ، هذا قول الفراء ، وأبي عبيدة ، واللغويين . وقد أضيف هذا الأمر إِلى الله تعالى . فروي في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " يكشف عن ساقه " ، وهذا إضافة إليه ، لأن الكل له وفعله . وقال أبو عمر الزاهد : يراد بها النفس ، ومنه قول علي رضي الله عنه : أقاتلهم ولو تلفت ساقي ، أي : نفسي . فعلى هذا يكون المعنى : يتجلّى لهم .
قوله تعالى : { وَيُدْعَوْنَ إلى السجود } يعني : المنافقين { فلا يستطيعون } كأن في ظهورهم سفافيد الحديد . قال النقاش : وليس ذلك بتكليف لهم أن يسجدوا ، وهم عجزة ، ولكنه توبيخ لهم بتركهم السجود { خاشعةً أبصارهم } أي : خاضعةً { ترهقهم ذِلَّة } أي : تغشاهم { وقد كانوا يُدْعَوْن إِلى السجود } يعني : بالأذان في دار الدنيا ، ويُؤْمَرون بالصلاة المكتوبة { وهم سالمون } أي : معافَوْن ليس في أصلابهم مثل سفافيد الحديد . وفي هذا وعيد لمن ترك صلاة الجماعة . وكان كعب يقول : والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلَّفون عن الجماعات { فَذَرْني ومن يكذِّب بهذا الحديث } يعني : القرآن . والمعنى : خَلِّ بيني وبينه . قال الزجاج : أي : لا تشغل قلبك به ، كِلْه إليَّ فأنا أكفيك أمره . وذكر بعض المفسرين أن هذا القدر من الآية إلى قوله : «الحديث» منسوخ بآية السيف . وما بعد هذا مفسر في [ الأعراف : 183 ، 182 ] إلى قوله تعالى : { أم تسألهم أجراً } فإنها مفسرة والتي قبلها في [ الطور : 40 ، 39 ] .

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)

قوله تعالى : { فاصبر لحكم ربك } أي : اصبر على أذاهم لقضاء ربك الذي هو آتٍ . وقيل : معنى الأمر بالصبر منسوخ بآية السيف .
قوله تعالى : { ولا تكن كصاحب الحوت } وهو يونس . وفيماذا نُهِيَ أن يكون مثله قولان :
أحدهما : أنه العجلة ، والغضب ، قاله قتادة .
والثاني : الضعف عن تبليغ الرسالة ، قاله ابن جرير .
قال ابن الأنباري : وهذا لا يُخْرِجُ يونس من أولي العزم ، لأنها خطيئة . ولو قلنا : إن كل مخطىءٍ من الأنبياء ليس من أولي العزم ، خرجوا كلهم إلا يحيى . ثم أخبر عن عقوبته إذْ لم يصبر ، فقال تعالى : { إذ نادى وهو مكظوم } قال الزجاج : مملوء غماً وكرباً .
قوله تعالى : { لولا أن تداركه } وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن أبي عبلة : «لولا أن تَداركتْه» بتاء خفيفة ، وبتاءٍ ساكنة بعد الكاف مع تخفيف الدال . وقرأ أبو هريرة ، وأبو المتوكل : «تَدَّاركه» بتاء واحدة خفيفة مع تشديد الدال . وقرأ أُبَيّ بن كعب : «تتداركه» بتاءين خفيفتين { نعمةٌ من ربه } فرحمه بها ، وتاب عليه من معاصيه { لَنُبِذَ بالعَرَاءِ وهو مذموم } وقد بينا معنى «العَراء» في [ الصافات : 145 ] ومعنى الآية : أنه نبِذَ غيرَ مذموم لنعمة الله عليه بالتوبة والرحمة . وقال ابن جريج : نُبِذَ بالعراء ، وهي : أرض المحشر ، فالمعنى : أنه كان يبقى مكانه إلى يوم القيامة { فاجتباه ربه } أي : استخلصه واصطفاه ، وخلَّصه من الذم { فجعله من الصالحين } فردَّ عليه الوحي ، وشفَّعه في قومه ونفسه { وإن يكاد الذين كفروا لَيُزْلِقُونَكَ بأبصارهم } قرأ الأكثرون بضم الياء من أزلقته ، وقرأ أهل المدينة ، وأبان بفتحها من زَلَقْتُه أزْلِقُهُ ، وهما لغتان مشهورتان في العرب . قال الزجاج : يقال : زلق الرَّجُلُ رأسَه وأزلقه : إذا حلقه . وفي معنى الآية للمفسرين قولان :
أحدهما : أن الكفار قصدوا أن يصيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين ، وكان فيهم رجل يمكث اليومين والثلاثة لا يأكل شيئاً ، ثم يرفع جانب خبائه ، فتمرُّ به النَّعم ، فيقول : لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه ، فما تذهب إلا قليلاً حتى يسقط منها عدة ، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين ، فعصم الله نبيَّه ، وأنزل هذه الآية ، هذا قول الكلبي ، وتابعه قوم من المفسرين تلقَّفوا ذلك من تفسيره ، منهم الفراء .
والثاني : أنهم كانوا ينظرون إليه بالعداوة نظراً شديداً يكاد يُزْلِقُه من شدته ، أي : يلقيه إلى الأرض . وهذا مستعمل في كلام العرب . يقول القائل : نظر إليَّ فلان نظراً كاد يصرعني . وأنشدوا :
يَتَقَارضُون إذا التَقَوْا في مَوْطنٍ ... نَظَراً يُزيلُ مَواطِنَ الأَقْدَامِ
أي : ينظر بعضهم إلى بعض نظراً شديداً بالعداوة يكاد يزيل الأقدام ، وإلى هذا ذهب المحققون ، منهم ابن قتيبة ، والزجاج . ويدل على صحته أن الله تعالى قرن هذا النظر بسماع القرآن ، وهو قوله تعالى : { لما سمعوا الذِّكْرَ } والقوم كانوا يكرهون ذلك أَشَدَّ الكراهة ، فيُحِدُّون النظر إليه بالبغضاء ، وإصابةُ العين ، إنما تكون مع الإعجاب والاستحسان ، لا مع البغض ، فلا يُظن بالكلبي أنه فهم معنى الآية { وما هو } يعني : القرآن { إلا ذكر } أي : موعظة .

الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)

{ الحاقة } : القيامة . قال الفراء : إنما قيل لها : حاقة ، لأن فيها حواق الأمور . وقال الزجاج : إنما سميت الحاقة ، لأنها تحق كل إنسان بعمله من خير وشر .
قوله تعالى : { ما الحاقة؟ } هذا استفهام ، معناه التفخيم لشأنها ، كما تقول : زيد ، وما زيد؟ على التعظيم لشأنه . ثم زاد في التهويل بأمرها ، فقال تعالى : { وما أدراك ما الحاقة } أي : لأنك لم تعاينها ، ولم تدر ما فيها من الأهوال . ثم أخبر عن المكذِّبين بها ، فقال تعالى : { كَذَّبَتْ ثمودُ وعادٌ بالقارعة } قال ابن عباس : القارعة : اسم من أسماء يوم القيامة . قال مقاتل : وإنما سميت بالقارعة ، لأن الله تعالى يقرع أعداءه بالعذاب . وقال ابن قتيبة : القارعة : القيامة لأنها تقرع ، يقال : أصابتهم قوارع الدهر . وقال الزجاج : لأنها تقرع بالأهوال . وقال غيرهم : لأنها تقرع القلوب بالفزع . فأما { الطاغية } ففيها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها طغيانهم وكفرهم ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، ومقاتل ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، قال الزجاج : ومعنى الطاغية عند أهل اللغة : طغيانهم و«فاعلة» قد يأتي بمعنى المصادر ، نحو عاقبة ، وعافية .
والثاني : بالصيحة الطاغية ، قاله قتادة . وذلك أنها جاوزت مقدار الصياح فأهلكتهم .
والثالث : أن الطاغية : عاقر الناقة ، قاله ابن زيد . والريح الصرصر قد فسرناها في [ حم السجدة : 16 ] والعاتية : التي جاوزت المقدار . وجاء في التفسير أنها عَتَتْ على خُزَّانها يومئذ ، فلم يكن لهم عليها سبيل .
قوله تعالى : { سخَّرها عليهم } أرسلها وسلَّطها . والتسخير : استعمال الشيء بالاقتدار . وفي قوله تعالى : { حسوماً } ثلاثة أقوال .
أحدها : تباعاً ، قاله ابن عباس . قال الفراء : الحسوم : التِّباع ، يقال في الشيء إذا تتابع ، فلم ينقطع أوله عن آخره : حسوم . وإِنما أُخِذَ والله أعلم من حَسْمِ الدَّاءِ : إذا كُوي صاحبُه ، لأنه يحمى ثم يكوى ، ثم يتابع الكي عليه .
والثاني : كاملة ، قاله الضحاك . فيكون المعنى : أنها حسمت الليالي والأيام فاستوفتها على الكمال ، لأنها ظهرت مع طلوع الشمس ، وذهبت مع غروبها . قال مقاتل : هاجت الريح غُدْوَةً ، وسكنت بالعَشِيِّ في اليوم الثامن ، وقبضت أرواحهم في ذلك اليوم ، ثم بعث الله طيراً أسود فالتقطهم حتى ألقاهم في البحر .
والثالث : أنها حسمتهم ، فلم تبق منهم أحداً ، أي : أذهبتهم وأفنتهم ، هذا قول ابن زيد .
قوله تعالى : { فترى القوم فيها } أي : في تلك الليالي والأيام { صرعى } وهو جمع صريع ، لأنهم صرعوا بموتهم { كأنهم أعجاز نخل } أي : أصول نخل { خاوية } أي : بالية . وقد بيَّنَّا هذا في سورة [ القمر : 20 ] .
قوله تعالى : { فهل ترى لهم من باقية } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : من بقاءٍ ، قاله الفراء .
والثاني : من بقية ، قاله أبو عبيدة . قال : وهو مصدر كالطاغية .
والثالث : هل ترى لهم من أثر؟ قاله ابن قتيبة { وجاء فرعون ومَن قبله } قرأ أبو عمرو ، ويعقوب ، والكسائي ، وأبان : بكسر القاف ، وفتح الباء .

والباقون : بفتح القاف ، وإسكان الباء . فمن كسر القاف أراد : من يليه ويَحفّ به من جنوده وأتباعه . ومن فتحها أراد : من كان قبله من الأمم الكافرة . وفي «المؤتفكات» ثلاثة أقوال .
أحدها : قرى قوم لوط . والمعنى : وأهل المؤتفكات ، قاله الأكثرون .
والثاني : أنهم الذين ائتفكوا بذنوبهم ، أي : هلكوا بالذنوب التي معظمها الإفك . وهو الكذب ، قاله الزجاج .
والثالث : أنه قارون وقومه ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { بالخاطئة } قال ابن قتيبة : أي : بالذنوب ، وقال الزجاج : الخاطئة : الخطأ العظيم { فعصَوْا رسول ربهم } أي : كذَّبوا رسلهم { فأخذهم أخذةً رابيةً } أي : زائدة على الأحداث { إنا لما طغى الماء } أي : تجاوز حدَّه حتى علا على كل شيء في زمن نوح { حملناكم } يعني : حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم { في الجارية } وهي : السفينة التي تجري في الماء { لنجعلها } أي : لنجعل تلك الفَعْلةَ التي فعلنا من إغراق قوم نوح ، ونجاة من حملنا معه { تذكرةً } أي : عبرةً ، وموعظةً { وتعيها أذن واعية } أي : أُذُنٌ تحفظُ ما سمعَتْ ، وتعمل به . وقال الفراء : لتحفظها كل أُذُن ، فتكون عظة لمن يأتي بعده .

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)

قوله تعالى : { فإذا نفخ في الصور نفخةٌ واحدةٌ } وفيها قولان .
أحدهما : أنها النفخة الأولى ، قاله عطاء .
والثاني : الأخيرة ، قاله ابن السائب ، ومقاتل . { وحُمِلَت الأرضُ والجبالُ } أي : حملت الأرض والجبال وما فيها { فَدُكَّتا دكةً واحدةً } أي : كسرتا ، ودقَّتا دقَّةً واحدة ، لا يثنى عليها حتى تستوي بما عليها من شيءٍ ، فتصير كالأديم الممدود . وقد أشرنا إلى هذا المعنى في ( الأعراف ) عند قوله تعالى : { جعله دكاً } [ آية : 143 ] . قال الفراء : وإنما قال : فدكتا ، ولم يَقُل فَدُكِكْنَ ، لأنه جعل الجبال كالشيء الواحد ، كقوله تعالى : { أن السموات والأرض كانتا رتقاً } [ الأنبياء : 30 ] ، وانشدوا :
هُمَا سَيِّدَانَا يَزْعُمانِ وَإنَّما ... يَسُودَانِنَا أَنْ يَسَّرَتْ غَنَماهُما
والعرب تقول : قد يسرت الغنم : إذا ولدت ، أو تهيأت للولادة .
قوله تعالى : { فيومئذ وقعت الواقعة } أي : قامت القيامة { وانشقت السماء } لنزول من فيها من الملائكة { فهي يومئذ واهية } فيه قولان .
أحدهما : أن وَهْيَها : ضَعْفُها وتمزُّقْها من الخوف ، قاله مقاتل .
والثاني : أنه تشققها ، قاله الفراء { والملك } يعني : الملائكة ، فهو اسم جنس { على أرجائها } أي : على جوانبها . قال الزجاج : ورجاء كل شيء : ناحيته ، مقصور . والتثنية : رجوان ، والجمع : أرجاء . وأكثر المفسرين على أن المشار إليها السماء . قال الضحاك : إذ انشقت السماء كانت الملائكة على حافتها حتى يأمرهم الله تعالى ، فينزلون إلى الأرض ، فيحيطون بها ، ومن عليها . وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : على أرجاء الدنيا .
قوله تعالى : { ويحمل عرش ربك فوقهم } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : فوق رؤوسهم ، أي : العرش على رؤوس الحَمَلة ، قاله مقاتل .
والثاني : فوق الذين على أرجائها ، أي : أن حملة العرش فوق الملائكة الذين هم على أرجائها .
والثالث : أنهم فوق أهل القيامة ، حكاهما الماوردي { يومئذ } أي : يوم القيامة { ثمانية } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : ثمانية أملاك . وجاء في الحديث أنهم اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة أمدهم الله بأربعة أملاك آخرين ، هذا قول الجمهور .
والثاني : ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، وعكرمة .
والثالث : ثمانية أجزاء من الكروبيين لا يعلم عددهم إِلا الله ، قاله مقاتل . وقد روى أبو داود في «سننه» من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أُذِنَ لي أن أُحَدِّثَ عن مَلَك من ملائكة الله من حملة العرش ، أن ما بين شحمة أُذُنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام " . قوله تعالى : { يومئذ تُعْرَضُون } على الله لحسابكم { لا تخفى } عليه . قرأ حمزة ، والكسائي : «لا يخفى» بالياء . وقرأ الباقون بالتاء . والمعنى : لا يخفى عليه { منكم خافية } أي : نفس خافية ، أو فَعْلَة خافية . وفي حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدال ، ومعاذير ، وأما الثالثة ، فعندها تتطاير الصحف في الأيدي ، فآخذ بيمينه ، وآخذ بشماله ، وكان عمر بن الخطاب يقول : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا ، وتزيَّنوا للعرض الأكبر ، يومئذ لا تخفى منكم خافية .

{ فيقول : هاؤم } قال الزجاج : «هاؤم» أمر من الجماعة . بمنزلة هاكم . تقول للواحد : ها يا رجل ، وللاثنين : هاؤما يا رجلان . وللثلاثة : هاؤم يا رجال . قال المفسرون : إنما يقول هذا ثقة بسلامته وسروراً بنجاته . وذكر مقاتل أنها نزلت في أبي سلمة بن عبد الأسد .
قوله تعالى : { إني ظننت } أي : علمت وأيقنت في الدنيا { أني ملاقٍ حسابِيَهْ } أي : أبعث ، وأحاسب في الآخرة { فهو في عيشة } أي : حالة من العيش { راضية } قال الفراء : أي : فيها الرضى . وقال الزجاج : أي : ذات رضىً يرضاها من يعيش فيها . وقال أبو عبيدة : مجازها مجاز مرضية { في جنَّةٍ عاليةٍ } أي : عالية المنازل { قطوفها } أي : ثمارها { دانيةٌ } أي : قريبة ممن يتناولها ، وهي جمع قطف . والقطف : ما يقطف من الثمار . قال البراء بن عازب : يتناول الثمرة وهو نائم .
قوله تعالى : { كلوا } أي : يقال لهم : كلوا { واشربوا هنيئاً بما أسلفتم } أي : قَدَّمتم من الأعمال الصالحة { في الأيام الخالية } الماضية ، وهي أيام الدنيا . { وأما من أوتي كتابه بشماله } قال مقاتل : نزلت في الأسود بن عبد الأسود ، قتله حمزة ببدر ، وهو أخو أبي سلمة . وقيل : نزلت في أبي جهل .
قوله تعالى : { يا ليتني لم أوت كتابيه } وذلك لما يرى فيه من القبائج { ولم أدر ما حسابيه } لأنه لا حاصل له في ذلك الحساب ، إنما كلُّه عليه . وكان ابن مسعود . وقتادة ، ويعقوب ، يحذفون الهاء من «كتابيه» ، و«حسابيه» في الوصل . قال الزجاج : والوجه أن يوقف على هذه الهاآت ، ولا توصل ، لأنها أدخلت للوقف . وقد حذفها قوم في الوصل ، ولا أُحبُّ مخالفة المصحف ، وكذلك قوله تعالى : { وما أدراك ماهيه } [ القارعة : 10 ] .
قوله تعالى : { يا ليتها } يعني : الموتة التي ماتها في الدنيا { كانت القاضية } أي القاطعة للحياة ، فكأنه تمنَّى دوام الموت ، وأنه لم يُبْعَثْ للحساب { هلك عني سلطانيه } فيه قولان .
أحدهما : ضلَّت عني حجتي ، قاله مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، والسدي .
والثاني : زال عني ملكي ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { خذوه } أي : يقول الله تعالى : { خذوه فغلُّوه } أي : اجمعوا يده إلى عنقه { ثم الجحيم صَلُّوه } أي : أدخلوه النار . وقال الزجاج : اجعلوه يَصْلَى النَّارَ { ثم في سِلْسِلَةٍ } وهي : حَلَقٌ منتظمة { ذَرْعُها سبعون ذراعاً } قال ابن عباس : بذراع المَلَك . وقال نوفٌ الشامي : كل ذراع سبعون باعاً . الباع أبعد مما بينك وبين مكة ، وكان في رحبة الكوفة . وقال سفيان : كل ذراع سبعون ذراعاً . وقال مقاتل : ذرعها سبعون ذراعاً بالذراع الأول . ويقال : إن جميع أهل النار في تلك السلسلة .
قوله تعالى : { فاسلكوه } أي : أدخلوه .

قال الفراء : وذكر أنها تدخل في دبر الكافر فتخرج من رأسه ، فذلك سلكه فيها . والمعنى : ثم اسكلوا فيه السلسلة ، ولكن العرب تقول : أدخلت رأسي في القلنسوة ، وأدخلتها في رأسي . ويقال : الخاتم لا يدخل في يدي ، وإنما اليد تدخل في الخاتم ، وإنما استجازوا ذلك ، لأن معناه معروف .
قوله تعالى : { إنه كان لا يؤمن بالله العظيم } أي : لا يصدِّق بوحدانيته وعظمته { ولا يَحُضُّ على طعام المسكين } أي : لا يطعمه ، ولا يأمر بإطعامه { فليس له اليوم هاهنا حميم } أي : قريب ينفعه ، أي : يشفع له { ولا طعام إلا من غسلين } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه صديد أهل النار ، قاله ابن عباس . قال مقاتل : إِذا سال القيح ، والدم ، بادروا أكله قبل أن تأكله النار .
والثاني : شجر يأكله أهل النار ، قاله الضحاك ، والربيع :
والثالث : أنه غُسَالَةُ أجوافهم ، قاله يحيى بن سلام . قال ابن قتيبة : وهو «فِعْلِين» من «غسلت» كأنه غسالة .
قوله تعالى : { إلا الخاطئون } يعني : الكافرين .

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)

قوله تعالى : { فلا أقسم } «لا» ردٌّ لكلام المشركين ، كأنه قيل : ليس الأمر كما يقول المشركون { أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون } وقال قوم : «لا» زائدة مؤكدة . والمعنى : أقسم بما ترون ، وما لا ترون ، فأراد جميع الموجودات . وقيل : الأجسام والأرواح { إنه } يعني : القرآن { لَقَوْلُ رسولٍ كريمٍ } فيه قولان .
أحدهما : محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الأكثرون .
والثاني : جبريل ، قاله ابن السائب ، ومقاتل . قال ابن قتيبة : لم يرد أنه قول الرسول ، وإِنما أراد أنه قول الرسول عن الله تعالى ، وفي الرسول ما يدل على ذلك ، فاكتفى به من أن يقول عن الله { وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون } وقرأ ابن كثير . «يؤمنون» و«يَذَكَّرون» بالياء فيهما . قال الزجاج : «ما» مؤكدة ، وهي لغو في باب الإعراب . والمعنى : قليلاً تؤمنون . وقال غيره : أراد نفي إيمانهم أصلاً . وقد بيَّنَّا معنى «الكاهن» في [ الطور : 29 ] قال الزجاج : وقوله تعالى : «تنزيل» مرفوع ب «هو» مضمرة يدل عليها قوله تعالى : «وما هو بقول شاعر» هو تنزيل .

وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

قوله تعالى : { ولو تَقَوَّلَ علينا } أي : لو تكلَّف محمد أن يقول علينا ما لم نقله { لأخذنا منه باليمين } أي : لأخذناه بالقوة والقدرة ، قاله الفراء ، والمبرد ، والزجاج . قال ابن قتيبة : إنما أقام اليمين مقام القوة ، لأن قوة كل شيء في ميامنه .
قوله تعالى : { ثم لقطعنا منه الوتين } وهو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب ، فإذا انقطع بطلت القوى : ومات صاحبه . قال أبو عبيدة : الوتين : نياط القلب ، وأنشد الشَّمَّاخ :
إِذَا بَلَّغْتِنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي ... عَرَابَةَ فَاشْرَقِي بِدَمِ الوَتينِ
وقال الزجاج : الوتين : عرق أبيض غليظ كأنه قصبة .
قوله تعالى : { فما منكم من أحد عنه حاجزين } أي : ليس منكم أحد يحجزنا عنه ، وإنما قال تعالى : { حاجزين } لأن أحداً يقع على الجمع ، كقوله تعالى : { لا نُفَرِّق بين أحد من رسله } [ البقرة : 285 ] ، هذا قول الفراء ، وأبي عبيدة ، والزجاج . ومعنى الكلام : أنه لا يتكلَّف الكذب لأجلكم مع علمه أنه لو تكلَّف ذلك لعاقبناه ، ثم لم يقدر على دفع عقوبتنا عنه { وإنه } يعني : القرآن { لحسرة على الكافرين } في يوم القيامة . يندمون إذ لم يؤمنوا به { وإِنه لحق اليقين } إضافة إلى نفسه لاختلاف اللفظين ، كقوله تعالى : { ولدار الآخرة } [ يوسف : 109 ] . وقال الزجاج : المعنى : وإنه لليقين حق اليقين ، وقد شرحنا هذا المعنى ، وما بعده في [ الواقعة : 95 ، 96 ] .

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)

قوله تعالى : { سَأَلَ سَائِلٌ } قال المفسرون : نزلت في النضر بن الحارث حين قال : { اللهم إن كان هذا هو الحقَ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } [ الأنفال : 32 ] وهذا مذهب الجمهور ، منهم ابن عباس ، ومجاهد . وقال الربيع بن أنس : هو أبو جهل . قرأ أبو جعفر ، ونافع ، وابن عامر : «سال» بغير همز . والباقون بالهمز . فمن قرأ «سأل» بالهمز ففيه ثلاثة أقوال .
أحدها : دَعَا دَاعٍ على نفسه بعذابٍ واقعٍ .
والثاني : سأل سائل عن عذابٍ واقعٍ لمن هو؟ وعلى من يَنْزِل؟ ومتى يكون؟ وذلك على سبيل الاستهزاء ، فتكون الباء بمعنى «عن» وأنشدوا :
فَإنْ تَسْأَلُوني بالنِّساءِ فَإنَّنِي ... خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّساءِ طَبِيبُ
والثالث : سأل سائل عذاباً واقعاً ، والباء زائدة .
ومن قرأ بلا همز ففيه قولان .
أحدهما : أنه من السؤال أيضاً ، وإنما لَيَّن الهمزة ، يقال سأل ، وسال ، وأنشد الفراء :
تَعَالَوْا فَسَالُوا يَعْلمِ النَّاسُ أَيُّنَا ... لِصَاحِبِهِ في أَوَّلِ الدَّهْرِ تَابِع
والثاني : المعنى سال وادٍ في جهنم بالعذاب للكافرين ، وهذا قول زيد بن ثابت ، وزيد بن أسلم ، وابنه عبد الرحمن ، وكان ابن عباس في آخرين يقرؤون «سَالَ سَيْلٌ» بفتح السين ، وسكون الياء من غير ألف ولا همز . وإذا قلنا إنه من السؤال فقوله تعالى : «للكافرين» جواب للسؤال ، كأنه لما سأل : لمن هذا العذاب؟ قيل : للكافرين . والواقع : الكائن . والمعنى : أن العذاب للذي سأله هذا الكافر كائن لا محالة في الآخرة { للكافرين ليس له دافع من الله } قال الزجاج : المعنى : ذلك العذاب واقع من الله للكافرين .
قوله تعالى : { ذي المعارج } فيه قولان .
أحدهما : أنها السموات ، قاله ابن عباس ، وقال مجاهد : هي معارج الملائكة . قال ابن قتيية : وأصل المعارج الدَّرَج ، وهي من عَرَجَ : إِذا صَعِدَ قال الفراء : لما كانت الملائكة تَعْرُج إليه ، وصف نفسه بذلك . قال الخطابي : المعارج : الدَّرَج ، واحدها : مَعْرَجٌ ، وهو المَصْعَدُ ، فهو الذي يُصْعَدُ إِليه بأعمال العباد ، وبأرواح المؤمنين . فالمعارج : الطرائق التي يُصْعَدُ فيها .
والثاني : أن المَعَارِجَ : الفَوَاضِلُ والنِّعم . قاله قتادة .
قوله تعالى : { تَعْرُجُ الملائكة } قرأ الكسائي : «يَعْرُج» بالياء .
{ والروحُ } في «الروح» قولان .
أحدهما : جبريل ، قاله الأكثرون .
والثاني : روُح الميِّت حين تُقْبَضُ ، قاله قبيصة بن ذُؤَيْب .
قوله تعالى : { إليه } أي : إِلى الله عز وجل { في يومٍ كان مقدارُه خمسين ألفَ سنةٍ } فيه قولان .
أحدهما : أنه يوم القيامة ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والقرظي ، وهذا هو مقدار يوم القيامة من وقت البعث إِلى أن يفصل بين الخلق . وفي الحديث " إنه لَيُخفَّفُ على المؤمِن حتى يكون أَخَفَّ عليه من صلاة مكتوبة " وقيل : بل لو ولي حساب الخلق سوى الله عز وجل لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة ، والحقُّ يفرغ منه في ساعة من نهار .

وقال عطاء : يفرغ الله من حساب الخلق في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا ، فعلى هذا يكون المعنى : ليس دافع من الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، وقيل : المعنى : سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة . فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير .
والثاني : أن مقدار صعود الملائكة من أسفل الأرض إلى العرش لو صعِده غيرهم قطعه في خمسين ألف سنة ، وهذا معنى قول مجاهد .
قوله تعالى : { فاصبر } أي : اصبر على تكذيبهم إياك { صبراً جميلاً } لا جزع فيه ، وهذا قبل أن يُؤْمَرَ بقتالهم ، ثم نسخ بآية السيف { إنهم يَرَوْنَهُ } يعني العذاب { بعيداً } غير كائن { ونراه قريباً } كائناً ، لأن كل ما هو آتٍ قريبٌ . ثم أخبر متى يكون فقال تعالى { يوم تكون السماء كالمهل } وقد شرحناه في [ الكهف 29 ] { وتكون الجبال كالعهن } أي : كالصوف . فَشَبَّهها في ضَعْفها ولِينِها بالصوف . وقيل : شبَّهها به في خِفَّتِها وسَيْرِها ، لأنه قد نقل أنها تسير على صورها ، وهي كالهباء : قال الزجاج : «العهن» الصوف . واحدته : عِهْنَةٌ ، ويقال : عُهْنَةٌ ، وعُهْنٌ ، مثل : صُوفَةٍ ، وصُوفٍ . وقال ابن قتيبة : «العِهْنُ» الصوفُ المصبوغ .
وقوله تعالى : { ولا يَسْأَلُ حميمٌ حميماً } قرأ الأكثرون : «سأل» بفتح الياء . والمعنى : لا يسأل قريب عن قرابته ، لاشتغاله بنفسه . وقال مقاتل : لا يسأل الرجل قرابته ، ولا يكلِّمه من شدة الأهوال . وقرأ معاوية ، وأبو رزين ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن محيصن ، وابن أبي عبلة ، وأبو جعفر : بضم الياء . والمعنى : لا يقال للحميم : أين حَمِيمُكَ؟ .
قوله تعالى : { يُبَصَّرُونَهم } أي : يُعَرَّفُ الحميم حميمَه حتى يَعْرِفَه ، وهو مع ذلك لا يسأل عن شأنه . ولا يكلِّمه اشتغالاً بنفسه . يقال : بَصَّرْتُ زيداً كذا : إذا عَرَّفْتَهُ إيَّاه . قال ابن قتيبة : معنى الآية لا يَسْأَلُ ذو قرابة عن قرابته ، ولكنهم يُبَصَّرُونَهم ، أي : يُعَرَّفُونَهم . وقرأ قتادة ، وأبو المتوكل ، وأبو عمران : «يُبْصِرُونَهم» بإسكان الباء ، وتخفيف الصاد ، وكسرها .
قوله تعالى : { يَوَدُّ المجرم } يعني : يتمنَّى المشرك لو قُبِلَ منه الفداءُ { يومئذٍ ببنيه ، وصاحبته } وهي الزوجة { وفصيلته } قال ابن قتيبة : أي : عشيرته . وقال الزجاج : هي أدنى قبيلته منه ، ومعنى { تُؤويه } تضمه ، فيودُّ أن يفتديَ بهذه المذكورات { ثم ينجيه } ذلك الفداء { كَلاَّ } لا ينجيه ذلك { إنها لَظَى } قال الفراء : هو اسم من أسماء جهنم ، فلذلك لم يُجْرَ ، وقال غيره : معناها في اللغة : اللهب الخالص ، وقال ابن الأنباري : سميت لظى لشدة تَوَقُّدِها وتلهُّبِها ، يقال : هو يتلظَّى ، أي : يتلهَّب ويتوقَّد . وكذلك النار تتلظَّى يراد بها هذا المعنى . وأنشدوا :
جَحِيماً تَلَظَّى لا تَفْتَّرُ سَاعَةً ... ولا الحَرُّ مِنْها غَابِرَ الدَّهْرِ يَبْرُدُ
{ نَزَّاعةً لِلشَّوى } قرأ الجمهور «نَزَّاعةٌ للشوى» بالرفع على معنى : هي نزَّاعة . وقرأ عمر بن الخطاب ، وأبو رزين ، وأبو عبد الرحمن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن أبي عبلة ، وحفص عن عاصم «نَزَّاعةً» بالنصب .

قال الزجاج : وهذا على أنها حال مؤكدة ، كما قال تعالى : { هو الحق مصدقاً } [ فاطر : 31 ] ويجوز أن ينصب على معنى «إنها تتلظى نزاعة» .
وفي المراد ب «الشَّوى» أربعة أقوال .
أحدها : جلدة الرأس ، قاله مجاهد .
والثاني : محاسن الوجه ، قاله الحسن ، وأبو العالية .
والثالث : العصب ، والعقب ، قاله ابن جبير .
والرابع : الأطراف اليدان ، والرجلان ، والرأس ، قاله الفراء ، والزجاج .
قوله تعالى : { تَدْعُو من أدبر } عن الإيمان { وتولَّى } عن الحق . قال المفسرون : تقول : إِليّ يا مشرك ، إِليّ يا منافق { وجمع فأوعى } قال الفراء : أي : جمع المال في وعاءٍ فلم يؤدِّ منه زكاةً ، ولم يصل منه رحماً .

إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)

قوله تعالى : { إن الإنسان خلق هلوعاً } قال مقاتل : عنى به أُميَّة بن خلف الجُمَحي . وفي الهَلوع سبعة أقوال .
أحدها : أنه الموصوف بما يلي هذه الآية ، رواه عطية عن ابن عباس ، وبه قال أبو عبيدة ، والزجاج .
والثاني : أنه الحريص على ما لا يحلُّ له ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس .
والثالث : البخيل ، قاله الحسن ، والضحاك .
والرابع : الشحيح ، قاله ابن جبير .
والخامس : الشَّرِه ، قاله مجاهد .
والسادس : الضَّجُور ، قاله عكرمه ، وقتادة ، ومقاتل ، والفراء .
والسابع : الشديد الجزع ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى : { إذا مسه الشر } أي : أصابه الفقر { جزوعاً } لا يصبر . ولا يحتسب { وإذا مسه الخير } أصابه المال { منوعاً } بمنعه من حق الله عز وجل { إلا المصلين } وهم أهل الإيمان بالله . وإنما استثنى الجمع من الإنسان ، لأنه اسم جنس { الذين هم على صلاتهم دائمون } وفيهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم الذين يحافظون على المكتوبات ، وهو معنى قول ابن مسعود .
والثاني : أنهم لا يلتفتون عن أيمانهم وشمائلهم في الصلاة ، قاله عقبة بن عامر . واختاره الزجاج قال : ويكون اشتقاقه من الدائم ، وهو الساكن ، كما جاء في الحديث أنه نهى عن البول في الماء الدائم .
والثالث : أنهم الذين يكثرون فعل التطوع ، قاله ابن جريج . { والذين في أموالهم حق معلوم } قد سبق شرح هذه الآية والتي بعدها في [ الذاريات : 19 ] وبينا معنى «يوم الدين» في «الفاتحة» . وما بعد هذا قد شرحناه في [ المؤمنين 7 ، 8 ] إلى قوله تعالى «لأماناتهم» قرأ ابن كثير وحده : «لأمانتهم» { والذين هم بشهاداتهم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «بشهادتهم» على التوحيد . وقرأ حفص عن عاصم : «بشهاداتهم» جمعاً { قائمون } أي : يقومون فيها بالحق ، ولا يكتمونها { فمالِ الذين كفروا قِبلَكَ مُهْطِعين } نزلت في جماعة من الكفار جلسوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يستهزؤون بالقرآن ، ويكذِّبون به . قال الزجاج : والمُهْطِع : المُقْبِلُ ببَصَره على الشيء لا يُزَايِلُه ، وكانوا ينظرون إلى النبي نظر عداوة . وقد سبق الخلاف في قوله تعالى : { مهطعين } [ إبراهيم 43 ، والقمر : 8 ] .
قوله : { عن اليمين وعن الشمال عِزين } . قال الفراء : العِزُون : الحِلَق ، الجماعات ، واحدتها : عِزَةٌ ، وكانوا يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون : إن دخل هؤلاء الجنة ، كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فلندخلنَّها قبلهم ، فنزل قوله تعالى { أيطمع كل امرىءٍ منهم أن يُدَخل جنة نعيم } وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، وطلحة بن مصرف ، والأعمش ، والمفضل عن عاصم : «أن يَدْخُلَ» بفتح الياء ، وضم الخاء . وقال أبو عبيدة : عِزِين : جمع عِزَة ، مثل ثُبَة ، وثُبِين ، فهي جماعات في تفرقة .
قوله تعالى : { كلا } أي : لا يكون ذلك { إنا خلقناهم مما يعلمون } فيه قولان .
أحدهما : من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ، فالمعنى : لا يستوجب الجنة أحد بما يَدَّعيه من الشرف على غيره ، إذ الأصل واحد ، وإِنما يستوجبها بالطاعة .

والثاني : إنا خلقناهم من أقذار . فبماذا يستحقون الجنة ولم يؤمنوا؟ وقد روى بشر بن جَحَّاش عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية { إنا خلقناهم مما يعلمون } ثم بَزَق ، قال : يقول الله عز وجل : أنَّى تعجزني ، وقد خلقتك من مثل هذه؟! حتى إذا سَوَّيتُك ، وعَدَّلتُك ، مَشَيْتَ بين بُرْدَيْنِ ، وللأرض منك وئيد ، فجمعتَ ، ومنعتَ ، حتى إذا بلغت التراقي قلت : أتَصدَّقُ ، وأنَّى أوان الصدقة؟! .
قوله تعالى : { فلا أقسم } قد تكلمنا عليه في [ الحاقة : 38 ] والمراد بالمشارق ، والمغارب : شرقُ كل يوم ومغربُه { إِنَّا لقادرون على أن نُبَدِّل خيراً منهم } أي : نَخْلُقَ أَمْثَلَ منهم ، وأَطْوَعَ لله حين عَصَوْا { وما نحن بمسبوقين } مفسر في [ الواقعة : 60 ] { فذرهم يخوضوا } في باطلهم { ويلعبوا } أي : يلهوا في دنياهم { حتى يُلاقوا } وقرأ ابن محيصن «يَلْقَوْا يومَهم الذي يوعدون» وهو يوم القيامة . وهذا لفظ أمر ، معناه : الوعيد . وذكر المفسرون أنه منسوخ بآية السيف . وإذا قلنا : إنه وعيد بلقاء يوم القيامة ، فلا وجه للنسخ { يوم يخرجون من الأجداث سراعاً } أي : يخرجون بسرعة كأنهم يَسْتَبِقُون .
قوله تعالى : { كأنهم إلى نُصُبٍ } قرأ ابن عامر ، وحفص عن عاصم بضم النون والصاد . وقال ابن جرير : وهو واحد الأنصاب ، وهي آلهتهم التي كانوا يعبدونها ، فعلى هذا يكون المعنى : كأنهم إلى آلهتهم التي كانوا يعبدونها يُسرعون . وقرأ ابن كثير ، وعاصم ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : بفتح النون وسكون الصاد ، وهي في معنى القراءة الأولى ، إلا أنه مصدر . كقول القائل : نصبت الشيء أنصبه نصباً . قال قتادة : معناه : كأنهم إلى شيء منصوب يسرعون . وقال ابن جرير : تأويله ، كأنهم إِلى صنم منصوب يُسْرِعُون . وقرأ ابن عباس ، وأبو مجلز ، والنخعي «نُصْب» برفع النون ، وإسكان الصاد ، وقرأ الحسن ، وأبو عثمان النَّهدي ، وعاصم الجحدري «إلى نَصَبٍ» بفتح النون والصاد جميعاً . قال ابن قتيبة : النصب : حجر يُنْصَبُ أو صنم ، يقال : نَصْب ، ونُصْب ، ونُصُب ، وقال الفراء : النَّصْب والنُّصْبُ واحد ، وهو مصدر ، والجمع : الأنصاب . وقال الزجاج : النَّصْب ، والنُّصُب : العلم المنصوب . قال الفراء : والإيفاض : الإسراع .
قوله تعالى : { ترهقهم ذِلَّةٌ } قرأ أبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وعمرو ابن دينار «ذِلَّةُ ذلك اليومِ» بغير تنوين ، وبخفض الميم . وباقي السورة قد تقدم بيانه [ المعارج : 42 ] .

إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)

قوله تعالى : { أن أنذر قومك } أي : بأن أنذر قومك . و«العذاب الأليم» ، الغَرَق .
قوله تعالى : { أن اعبدوا الله } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وعلي بن نصر عن أبي عمرو «أنُ اعبدوا الله» بضم النون . وقرأ عاصم ، وحمزة ، وعبد الوارث عن أبي عمرو «أنِ اعبدوا الله» بكسر النون . قال أبو علي : من ضم كره الكسر .
قوله تعالى : { وأطيعونِ } أثبت الياء في الحالين يعقوب .
قوله تعالى : { من ذنوبكم } «مِن» هاهنا صلة . والمعنى : يغفر لكم ذنوبَكم ، قاله السدي ، ومقاتل . وقال الزجاج : إنما دخلت «من» هاهنا لتختص الذنوب من سائر الأشياء ، ولم تدخل لتبعيض الذنوب ، ومثله { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [ الحج : 30 ] وذهب بعض أهل المعاني إلى أنها للتبعيض . والمعنى : يغفر لكم من ذنوبكم إلى وقت الإيمان { ويؤخركم } أي : عن العذاب { إلى أجل مسمى } وهو منتهى آجالهم . والمعنى : فتموتوا عند منتهى آجالكم غير مِيتة المعذَّبين { إنَّ أجلَ الله } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه أجل الموت ، قاله مجاهد . فيكون المعنى : إن أجل الله الذي أَجَّلكم إِليه ، لا يُؤَخَّرُ إذا جاءَ ، فلا يمكنكم حينئذ الإيمان .
والثاني : أنه أجل البعث ، قاله الحسن .
والثالث : أجل العذاب ، قاله السدي ، ومقاتل .

قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)

قوله تعالى : { فلم يزدهم دعائي إِلا فراراً } أي : تباعداً من الإيمان { وإني كلما دعوتهم } إلى الإيمان والطاعة { جعلوا أصابعهم في آذانهم } لئلا يسمعوا صوتي { واستغْشَوْا ثيابهم } أي : غطوا بها وجوههم لئلا يَرَوْني { وأصَرُّوا } على كفرهم { واستكبروا } عن الإيمان بك واتِّباعي { ثم إِني دعوتهم جهاراً } أي : معلناً لهم بالدعاء . قال ابن عباس : بأعلى صوتي { ثم إني أعلنت لهم } أي : كرَّرت الدعاء معلناً { وأسررت لهم إِسراراً } قال ابن عباس : يريد أكلِّم الرجل بعد الرجل في السِّرِّ ، وأدعوه إلى توحيدك وعبادتك { فقلت استغفروا ربكم } قال المفسرون : منع الله عنهم القطر ، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة ، فقال لهم نوح { استغفروا ربكم } من الشرك ، أي : استدعوا مغفرته بالتوحيد { يرسلِ السماء عليكم مدراراً } قد شرحناه في أول [ الأنعام : 6 ] ومعنى الكلام أنه أخبرهم أن الإيمان يجمع لهم خير الدنيا والآخرة .
قوله تعالى : { ما لكم لا ترجون لله وقاراً؟ } فيه أربعة أقوال .
أحدها : لا تَرَوْن لله عظمة ، قال الفراء ، وابن قتيبة .
والثاني : لا تخافون عظمة الله ، قاله الفراء ، وابن قتيبة .
والثالث : لا تَرَوْن لله طاعة ، قاله ابن زيد .
والرابع : لا ترجون عاقبة الإيمان والتوحيد ، قاله الزجاج { وقد خلقكم أطواراً } أي : وقد جعل لكم في أنفسكم آيةً تدل على توحيده من خلقه إياكم من نطفة ، ثم من علقة شيئاً بعد شيء إلى آخر الخلق . قال ابن الأنباري : الطَّوْر : الحال ، وجمعه : أطوار . وقال ابن فارس : الطَّوْر : التارة ، طوراً بعد طور ، أي : تارةً بعد تارة . وقيل أراد بالأطوار : اختلاف المناظر والأخلاق ، من طويل ، وقصير ، وغير ذلك ، ثم قَرَّرَهم ، فقال تعالى : { ألم تَرَوْا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً } وقرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة : «طباقٍ» بتنوين القاف ، وكسرها من غير ألف . وقد بيَّنَّا هذا في سورة [ الملك : 3 ] .
قوله تعالى : { وجعل القمر فيهنَّ نوراً } فيه قولان .
أحدهما : أن وجهَ القمر قِبَل السموات ، وظهرَه قِبَل الأرض ، يضيء ، لأهل السموات ، كما يضيء لأهل الأرض ، وكذلك الشمس ، هذا قول عبد الله ابن عمرو .
والثاني : أن القمر في السماء الدنيا ، وإنما قال «فيهن» لأنهن كالشيء الواحد ، ذكره الأخفش والزجاج ، وغيرهما . وهذا كما تقول : أتيت بني تميم ، وإنما أتيتَ بعضهم ، وركبتُ السفن ، { وجعل الشمس سراجاً } يستضيء بها العالم { والله أنبتكم من الأرض } يعني : أن مبتدأ خلقكم من الأرض ، وهو آدم { نباتاً } قال الخليل : معناه : فنبتُّم نباتاً . وقال الزجاج : «نباتاً» محمول في المصدر على المعنى ، لأن معنى أنبتكم : جعلكم تنبتون نباتاً . قال ابن قتيبة : هذا مما جاء فيه المصدر على غير المصدر ، لأنه جاء على نبت . ومثله : { وتبتَّل إليه تبتيلاً } [ المزمل : 8 ] فجاء على «بَتَّل» .
قال الشاعر :
وَخَيْرُ الأَمْرِ ما استقبلتَ من ... ه وليس بِأَنْ تَتَبَّعَهُ اتِّباعاً

فجاء على اتَّبَعْتُ . وقال الآخر :
وإن شئتم تعاودنا عواداً ... فجاء على «عوادنا» وإنما تجيء المصادر مخالفة الأفعال ، لأن الأفعال وإن اختلفت أبنيتها ، واحدة في المعنى .
قوله تعالى : { سبلاً فجاجاً } قال الفراء : هي الطرق الواسعة .
قوله تعالى : { واتَّبعوا مَنْ لم يزده مالُه وولدُه } قرأ أهل المدينة ، وابن عامر ، وعاصم ، «ووَلَده» بفتح اللام والواو . وقرأ الباقون «وُلْده» بضم الواو ، وسكون اللام . قال الزجاج : وهما بمعنى واحد ، مثل العَرَب ، والعُرْب ، والعَجَم ، والعُجْم ، وقرأ الحسن ، وأبو العالية ، وابن يعمر ، والجحدري ، «وَوِلْده» بكسر الواو ، وإسكان اللام . قال المفسرون : المعنى : أن الأتباع ، والفقراء اتَّبَعوا رَأْيَ الرؤساء والكبراء .
قوله تعالى : { ومكروا مكراً كُبَّاراً } قرأ أبو رجاء ، وأبو عمران : «كُبَارا» برفع الكاف ، وتخفيف الباء . وقرأ ابن يعمر ، وأبو الجوزاء ، وابن محيصن : «كِبَارا» بكسر الكاف مع تخفيف الباء . والمعنى : «كبيراً» يقال : كبير ، وكبار ، وقد شرحنا هذا في أول { ص } ومعنى «المكر» : السعي في الفساد . وذلك أن الرؤساء منعوا أتباعهم من الإيمان بنوح { وقالوا لا تَذَرُنَّ آلهتَكم } أي : لا تَدَعُنَّ عبادتها { ولا تَذَرُنَّ وداً } قرأ أبو جعفر ، ونافع بضم الواو . والباقون بفتحها . وهذا الاسم وما بعده أسماء آلهتهم . وجاء في التفسير أن هذه أسماء قوم صالحين ، كانوا بين آدم ونوح . ونشأ قوم بعدهم يأخذون بأخذهم في العبادة ، فقال لهم إبليس : لو صورتم صُوَرَهُمْ كان أنشط لكم ، وأشوق للعبادة ، ففعلوا . ثم نشأ قوم بعدهم ، فقال لهم إبليس : إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم ، فعبدوهم ، وكان ابتداء عبادة الأوثان من ذلك الوقت . وسميت تلك الصور بهذه الأسماء ، لأنهم صوروها على صور أولئك القوم المسمّين بهذه الأسماء . وقيل : إنما هي أسماء لأولاد آدم ، مات ، منهم واحد ، فجاء الشيطان فقال : هل لكم أن أصور لكم صورته ، فتذكرونه بها؟ فصورها . ثم مات آخر ، فصور لهم صورته ، إلى أن صور صوراً خمسة . ثم طال الزمان . وتركوا عبادة الله ، فقال لهم الشيطان : ما لكم لا تعبدون شيئاً؟ فقالوا : لمن نعبد؟ قال هذه آلهتكم ، وآلهة آبائكم ، ألا ترونها مصوَّرة في مصلاكم؟! فعبدوها . وقال الزجاج : هذه الأصنام كانت لقوم نوح ، ثم صارت إِلى العرب ، فكان «ود» لكلب ، و «سواع» لهمدان ، و«يغوث» لبني غطيف ، وهم حي من مراد . وقيل : لما جاء الطوفان غطى على هذه الأصنام وطمَّها التراب ، فلما ظهرت بعد الطوفان صارت إلى هؤلاء المذكورين ، قال الواقدي : كان «ود» على صورة رجل ، «وسواع» على صورة امرأة ، «ويغوث» على صورة أسد ، و «يعوق» على صورة فرس ، و «نسر» على صورة النسر من الطير .
قوله تعالى : { وقد أضلوا كثيراً } فيه قولان .
أحدهما : وقد أضلت الأصنام كثيراً من الناس ، أي : ضلوا بسببها .
والثاني : وقد أضلَّ الكبراء كثيراً من الناس { ولا تزد الظالمين } يعني : الكافرين { إلا ضلالاً } وهذا دعاء من نوح عليهم ، لما أعلمه الله أنهم لا يؤمنون .

مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)

قوله تعالى : { مما خطيآتهم } «ما» : صلة . والمعنى : من خطيآتهم : أي : من أجلها ، وسببها ، وقرأ أبو عمرو «مما خطاياهم» وقرأ أبو الجوزاء ، والجحدري «خطيئتهم» من غير ألف { أُغرقوا فأُدخلوا ناراً } قال ابن السائب : المعنى : سيدخلون في الآخرة ناراً ، فجاء لفظ الماضي بمعنى الاستقبال ، لأن الوعد حق ، هذا قول الأكثرين . وقال الضحاك : فأُدخلوا ناراً في الدنيا ، وذلك أنهم كانوا يغرقون من جانب ، ويحترقون في الماء من جانب .
قوله تعالى : { فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً } أي : لم يجدوا أحداً يمنعهم من عذاب الله .
قوله تعالى : { دَيَّاراً } قال ابن قتيبة : أي : أحداً . يقال : ما بالمنازل دَيَّارٌ ، أي : ما بها أحد ، وهو من الدار ، أي : ليس بها نازل داراً . وقال الزجاج : أصلها «دَيْوار» فَيْعَال ، فقلبت الواو ياءً ، وأدغمت إحداهما في الأخرى . وإِنما دعا عليهم نوح لأن الله تعالى أوحى إليه { لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } [ هود : 36 ] .
قوله تعالى : { يُضِلُّوا عبادك } وذلك أن الرجل منهم كان ينطلق بابنه إلى نوح ، فيحذِّره تصديقه .
قوله تعالى : { ولا يَلِدُوا إلا فاجراً كفاراً } قال المفسرون : إن الله تعالى أخبر نوحاً أنهم لا يلدون مؤمناً ، فلذلك علم الفاجر الخارج عن الطاعة .
قوله تعالى : { رب اغفر لي ولوالديَّ } قال الحسن : وذلك أنهما كانا مؤمنَين . وقرأ أبو بكر الصديق ، وسعيد بن المسيب ، وابن جبير ، والجحدري ، والجوني «ولوالدِي» ساكنة الياء على التوحيد . وقرأ ابن مسعود ، وأبو العالية ، وابن يعمر ، والزهري ، والنخعي «ولولَدَيَّ» من غير ألف على التثنية { ولمن دخلَ بيتي } وقرا حفص عن عاصم «بيتيَ» بفتح الياء . وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : منزله ، قاله ابن عباس .
والثاني : مسجده ، قاله الضحاك .
والثالث : سفينته ، حكاه الثعلبي .
قوله تعالى : { وللمؤمنين والمؤمنات } هذا عام في كل من آمن { ولا تزد الظالمين } يعني : الكافرين { إلا تَبَاراً } أي : هلاكاً . ومنه قوله تعالى : { تَبَّرْنَا تَتْبِيراً } [ الفرقان : 39 ] .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20