كتاب : زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي

وقرأ يعقوب { وفَصْلُهُ } بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف { ثلاثون شهراً } قال ابن عباس : « ووضعتْه كُرْهاً » يريد به شِدَّةَ الطَّلْق . واعلم أن هذه المُدَّة قُدِّرتْ لأقلِّ الحَمْل وأكثرِ الرَّضاع؛ فأمّا الأشُدّ ، ففيه أقوال قد تقدَّمت؛ واختار الزجاج أنه بلوغ ثلاث وثلاثين سنة ، لأنه وقت كمال الإِنسان في بدنه وقوَّته واستحكام شأنه وتمييزه . وقال ابن قتيبة : أشُدُّ الرجُل غير أشُدِّ اليتيم ، لأن أشُدَّ الرجُل : الاكتهال والحُنْكَةُ وأن يشتدَّ رأيُه وعقلُه ، وذلك ثلاثون سنة ، ويقال : ثمان وثلاثون سنة ، وأشُدُّ الغُلام : أن يشتدَّ خَلْقُه ويتناهى نَبَاتُه . وقد ذكرنا بيان الأَشُد في [ الانعام : 153 ] وفي [ يوسف : 22 ] وهذا تحقيقه . واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال :
أحدها : [ أنها ] نزلتْ في أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه ، وذلك أنه صَحِبَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة وهم يريدون الشام في تجارة ، فنزلوا منزلاً فيه سِدْرَة ، فقعد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ظِلِّها ، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين ، فقال [ له ] : مَن الرَّجُل الذي في ظِلِّ السِّدْرة؟ فقال : ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، فقال : هذا واللهِ نبيٌّ وما استَظَلَّ تحتَها أحدٌ بعد عيسى إِلاّ محمدٌ نبيُّ الله ، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق ، فكان لا يفارِق رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره وحضره ، فلمّا نُبِّىء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة صدَّق رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فلمّا بلغ أربعين سنة ، قال : رب أَوْزِعْني أن أشكُرََ نِعمتَكَ التي أنعمت عليَّ . رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال الأكثرون؛ قالوا : فلما بلغ أبو بكر أربعين سنة ، دعا الله عز وجل بما ذكره في هذه الآية ، فأجابه الله ، فأسلم والداه و أولادُه ذكورُهم وإناثُهم ، ولم يجتمع ذلك لغيره من الصحابة .
والقول الثاني : أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص ، وقد شرحنا قصته في سورة [ العنكبوت : 8 ] ، وهذا مذهب الضحاك ، والسدي .
والثالث : أنها نزلت على العموم ، قاله الحسن . وقد شرحنا في سورة [ النمل : 19 ] معنى قوله : { أوزعني } .
قوله تعالى : { وأن أعمل صالحاً ترضاه } قال ابن عباس : أجابه الله يعني أبا بكر فأعتق تسعةً من المؤمنين كانوا يُعذَّبون في الله عز وجل ، ولم يُرِدْ شيئاً من الخير إِلاّ أعانه اللهُ عليه ، واستجاب له في ذُرِّيته فآمنوا ، { إنِّي تُبْتُ إليك } أي : رَجَعْتَ إِلى كل ما تُحِبُّ .
قوله تعالى : { أولئك الذين نَتقبَّل عنهم أحسنَ ما عَمِلوا ونتجاوز عن سيِّئاتهم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : « يُتَقَبَّلُ » « ويُتَجَاوَزُ » بالياء المضمومة فيهما .

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف : { نَتَقَبَّلُ } و { نَتَجَاوَزُ } بالنون فيهما . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو رجاء ، وأبو عمران الجوني : « يَتَقَبَّلُ » و « يَتَجَاوَزُ » بياء مفتوحة فيهما ، يعني أهل هذا القول والأحسن بمعنى الحَسَن .
{ في أصحاب الجنة } أي : في جملة من يُتجاوز عنهم ، وهم أصحاب الجنة . وقيل : « في » بمعنى « مع » .
{ وَعْدَ الصِّدْقِ } قال الزجاج : هو منصوب ، لأنه مصدر مؤكِّد لِمَا قَبْله ، لأن قوله : « أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عنهم » بمعنى الوعد ، لأنه وعدهم القبول بقوله : { وَعْدَ الصِّدْقِ } ، يؤكِّد ذلك قولُه : { الذين كانوا يُوعَدون } أي : على ألسنة الرُّسل في الدنيا .

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

قوله تعالى : { والذي قال لوالدَيْه أُفٍّ لكما } قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي . وأبو بكر عن عاصم : { أُفِّ لكما } بالخفض من غير تنوين . وقرأ ابن كثير ، وابن عامر : بفتح الفاء . وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم : { أُفٍّ } بالخفض والتنوين . وقرأ ابن يعمر : { أُفٌّ } بتشديد الفاء مرفوعة منوَّنة . وقرأ حميد ، والجحدري : « أُفّاً » بتشديد الفاء وبالنصب والتنوين . وقرأ عمرو بن دينار : « أُفُّ » بتشديد الفاء وبالرفع من غير تنوين . وقرأ أبو المتوكل ، [ وعكرمة ] ، وأبو رجاء : { أُفْ لكما } باسكان الفاء خفيفة . وقرأ أبو العالية ، وأبو عمران : { أُفِّيْ } بتشديد الفاء وياءٍ ساكنة مُمالة . وروي عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قَبْلَ إِسلامه ، كان أبواه يدعُوانه إِلى الإِسلام ، وهو يأبى ، وعلى هذا جمهور المفسرين . وقد روي عن عائشة أنها كانت تُنْكِر أن تكون الآية نزلت في عبد الرحمن ، وتَحْلِفُ على ذلك وتقول : لوشئتُ لسمَّيتُ الذي نزلتْ فيه . قال الزجاج : وقول من قال : إِنها نزلت في عبد الرحمن ، باطل بقوله : { أولئك الذين حَقَّ عليهم القَوْلُ } فأعلَمَ اللهُ أن هؤلاء لا يؤمِنون ، وعبد الرحمن مؤمِن؛ والتفسير الصحيح أنا نزلت في الكافر العاقِّ . وروي [ عن ] مجاهد أنها نزلت في عبد الله بن أبي بكر ، وعن الحسن : [ أنها ] نزلت في جماعة من كفار قريش قالوا ذلك لآبائهم .
قوله تعالى : { وقد خَلَتِ القُرونُ مِنْ قَبْلِي } فيه قولان :
أحدهما : مضت القُرون فلم يرجع منهم أحد ، قاله مقاتل .
والثاني : مضت القُرون مكذِّبة بهذا ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { وهما يستغيثان اللهَ } أي : يَدعُوَان اللهَ له بالهدى ، ويقولان له : ( ويلك آمِن ) أي : صدِّق بالبعث ، { فيقول ما هذا } الذي تقولان { إِلاّ أساطيرُ الأوَّلين } وقد سبق شرحها [ الأنعام : 25 ] .
قوله تعالى : { أولئك } يعني الكفار { الذين حَقَّ عليهم القولُ } أي : وجب عليهم قضاء الله أنهم من أهل النار { في أُمم } أي : مع أُمم . فذكر الله تعالى في الآيتين قَبْلَ هذه مَنْ بَرَّ والدَيْه وعَمِل بوصيَّة الله عز وجل ، ثم ذكر مَنْ لم يَعْمَل بالوصيَّة ولم يُطِعْ ربَّه ولا والدَيْه { إِنهم كانوا خاسرِين } وقرأ ابن السميفع ، وأبو عمران : { أنَّهم } بفتح الهمزة .
ثم قال : { ولكلٍّ دَرَجاتٌ ممّا عَمِلوا } أي : منازل ومراتب بحسب ما اكتسبوه من إِيمان وكفر ، فيتفاضل أهلُ الجنة في الكرامة ، وأهل النار في العذاب { ولِيُوُفِّيَهُمْ أعمالَهم } قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو : « ولِيُوَفِّيَهُمْ » بالياء ، وقرأ الباقون : بالنون؛ أي : جزاء أعمالهم .
قوله تعالى : { ويومَ يُعْرَضُ } المعنى : واذكُرْ لهم يومَ يُعْرَض { الذين كَفَروا على النّار أذْهَبْتُمْ } أي : ويقال لهم : أذهبتم ، قرأ ابن كثير : [ { آذْهَبْتُمْ } بهمزة مطوَّلة . وقرأ ] ابن عامر : « أأذْهَبْتُمْ » بهمزتين .

وقرأ نافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : « أذْهَبْتُمْ » على الخبر ، وهو توبيخ لهم . قال الفراء ، والزجاج : [ العرب ] توبِّخ بالألف وبغير الألف ، فتقول : أذَهَبْتَ وفعلت كذا؟! وذهبتَ ففعلت؟! قال المفسرون : والمراد بطيِّباتهم ما كانوا فيه من اللذَّات مشتغلين بها عن الآخرة مُعرِضين عن شُكرها . ولمّا وبَّخهم اللهُ بذلك ، آثر النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحون بعدهم اجتنابَ نعيم العيش ولذَّته ليتكامل أجرُهم ولئلا يُلهيَهم عن مَعادهم . وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على خَصَفة وبعضُه على التراب وتحت رأسه وسادة محشوَّة ليفاً ، فقال : يا رسول الله : أنتَ نبيُّ الله وصفوتُه ، وكسرى وقيصر على سُرُر الذَّهب وفُرُش الدِّيباج والحرير؟! فقال صلى الله عليه وسلم : « يا عمر ، إِن أولئك قوم عُجِّلت لهم طيِّباتُهم ، وهي وشيكة الانقطاع ، وإِنّا أُخِّرتْ لنا طيِّباتُنا » وروى جابر بن عبد الله قال : رأى عمر بن الخطاب لحماُ معلَّقاً في يدي ، فقال : ما هذا ياجابر؟ فقلت : اشتهيت لحماً فاشتريتُه ، فقال : أوَ كلمَّا اشتّهيت اشتريت يا جابر؟! أما تخاف هذه الآية { أذْهَبْتُم طيِّباتكم في حياتكم الدُّنيا } . وروي عن عمر أنه قيل له : لو أمرتَ أن نصنع لك طعاما ألين من هذا ، فقال : إني سمعت الله عيَّر أقواما فقال : { أذْهَبْتُمْ طيِّباتكم في حياتكم الُّدنيا } .
قوله تعالى : { تَسْتَكْبِرونَ في الأرض } أي : تتكبَّرون عن عبادة الله والإِيمان به .

وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

قوله تعالى : { واذْكُرْ أخا عادٍ } يعني هوداً { إِذ أنذَرَ قومَه بالأحقاف } قال الخليل : الأحقاف : الرِّمال العِظام . وقال ابن قتيبة : واحد الأحقاف : حِقْف ، وهو من الرَّمْل : ما أشرَفَ من كُثبانه واستطال وانحنى . وقال ابن جرير : هو ما استطال من الرَّمْل ولم يبلُغ أن يكون جَبَلاً .
واختلفوا في المكان الذي سمَّي بهذا الاسم على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه جبل بالشام ، قاله ابن عباس ، والضحاك .
والثاني : أنه وادٍ ، ذكره عطية . وقال مجاهد : هي أرض . وحكى ابن جرير أنه وادٍ بين عُمان ومَهْرة . وقال ابن إِسحاق : كانوا ينزِلون ما بين عُمان وحَضْرَمَوْت واليمن كلُّه .
والثالث : أن الأحقاف : رمال مشرِفة على البحر بأرض يقال لها الشِّحْر ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { وقد خَلتِ النُّذُرُ } أي : قد مضت الُّرُّسل مِنْ قَبْلِ هود ومِنْ بَعده بإنذار أُممها { ألاّ تعبُدوا إِلاّ اللهَ } ؛ والمعنى لم يُبعَث رسولٌ قَبْلَ هود ولا بعده إِلاّ بالأمر بعبادة الله وحده . وهذا كلام اعترض بين إِنذار هود وكلامه لقومه . ثم عاد إِلى كلام هود فقال : { إِنِّي أخافُ عليكم } .
قوله تعالى : { لِتأفِكَنا } أي : لِتَصْرِفَنا عن عبادة آلهتنا بالإِفك .
قوله تعالى : { إِنَّما العِلْمُ عِنْدَ اللهِ } أي : هو يَعْلَم متى يأتيكم العذاب .
{ فلمّا رأوْه } يعني ما يوعَدون في قوله : « بما تَعِدُنا » { عارِضاً } أي : سحاب يعرُض من ناحية السماء . قال ابن قتيبة : العارض : السحاب . قال المفسرون : كان المطر قد حُبِس عن عاد ، فساق اللهُ إِليهم سحابةً سوداءَ فلمّا رأوها فرحوا و { قالوا هذا عارضٌ مُمْطِرُنا } ، فقال لهم هود : { بل هو ما استَعْجَلْتم به } ، ثم بيَّن ما هو فقال : { ريح فيها عذابٌ أليمٌ } ، فنشأت الرِّيح من تلك السحابة ، { تُدمِّر كُلَّ شيء } أي : تُهٍلِك كلَّ شيءٍ مَرَّت به من الناس والدوابّ والأموال . قال عمرو بن ميمون : لقد كانت الرِّيح تحتمل الظّعينة فترفعُها حتى تُرى كأنها جرادة ، { فأصبحوا } يعني عاداً { لا يُرَى إلا مَساكنُهم } قرأ عاصم ، وحمزة : « لا يُرَى » برفع الياء « إِلاَّ مَسَاكِنُهم » برفع النون . وقرأ علي ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، وقتادة ، والجحدري : « لا تُرَى » بتاء مضمومة . وقرأ أبو عمران ، وابن السميفع : « لا تَرَى » بتاء مفتوحة « إلاّ مسكنهم » على التوحيد وهذا لأن السُّكّان هلكوا فقيل أصبحوا وقد غطتَّهم الرِّيح بالرَّمْل فلا يُرَوْن .

وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)

ثم خوف كفار مكة فقال عز وجل { ولقد مكَّنّاهم فيما إِنْ مكَّنّاكم فيه } في « إِنْ » قولان :
أحدهما : أنها بمعنى « لَمْ » ، فتقديره : فيما لم نمكِّنْكم فيه ، [ قاله ابن عباس ، وابن قتيبة . وقال الفراء : هي بمنزلة « ما » في الجحد ، فتقديره : الكلام : في الذي لم نمكِّنْكم فيه ] .
والثاني : أنها زائدة؛ والمعنى فيما مكَّنّاكم فيه ، وحكاه ابن قتيبة أيضاً .
ثم أخبر أنه جعل لهم آلات الفهم ، فلم يتدبَّروا بها ، ولم يتفكّروا فيما يدلُّهم على التوحيد . قال المفسرون : والمراد بالأفئدة : القلوب؛ وهذه الآلات لم ترُدَّ عنهم عذابَ الله .
ثم زاد كفَّارَ مكة في التخويف فقال : { ولقد أهْلَكْنا ما حولَكم من القُرى } كديار عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم من الأُمم المُهْلَكة { وصرَّفْنا الآياتِ } أي : بيَّنّاها { لعلَّهم } يعني أهل القُرى { يَرجِعونَ } عن كفرهم . وهاهنا محذوف ، تقديره : فما رَجَعوا عن كفرهم .
{ فلولا } أي : فهلاّ { نَصَرَهم } أي : منعهم من عذاب الله { الذين اتَّخَذوا مِنْ دون اللهُ قرباناً آلهةً } ؟! يعني الأصنام التي تقرَّبوا بعبادتها إِلى الله على زعمهم؛ وهذا استفهام إِنكار معناه : لم ينصروهم { بل ضَلُّوا عنهم } أي : لم ينفعوهم عند نزول العذاب { وذلك } يعني دعاءَهم الآلهةَ { إِفكُهم } أي : كذبهم . وقرأ سعد بن أبي وقاص ، وابن يعمر ، وأبو عمران : { وذلك أفَّكَهم } بفتح الهمزة وقصرها وفتح الفاء وتشديدها ونصب الكاف . وقرأ أًبيُّ بن كعب ، وابن عباس ، وأبو رزين ، والشعبي ، وأبو العالية ، والجحدري : « أفَكَهم » بفتح الهمزة وقصرها ونصب الكاف والفاء [ وتخفيفها ] . قال ابن جرير : أي أضلَّهم . وقال الزجاج : معناها : صَرَفهم عن الحق فجعلهم ضُلاّلاً . وقرأ ابن مسعود ، وأبو المتوكل : { آفِكُهم } بفتح الهمزة ومدِّها وكسر الفاء وتخفيفها ورفع الكاف ، أي مُضِلُّهم .

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)

قوله تعالى : { وإِذ صَرَفْنا إِليك نَفَراً من الجِنِّ } وبَّخ اللهُ عز وجل بهذه الآية كُفّارَ قريش بما آمنتْ به الجِنُّ . وفي سبب صرفهم إِلى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال :
أحدها : أنهم صُرِفوا إِليه بسبب ما حدث من رجمهم بالشُّهُب . روى البخاري ومسلم في « الصحيحين » من حديث ابن عباس قال : انطلَق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأُرسلتْ عليهم الشُّهُب ، فرجعت الشياطين فقالوا : ما لكم؟ قالوا : حِيل بيننا وبين خبر السماء ، وأُرسلْت علينا الشُّهُب ، قالوا : ما ذاك إِلاّ من شيءٍ حدث ، فاضرِبوا مشارق الأرض ومغاربَها فانظروا ما هذا الأمر . فمرَّ النَّفرُ الذين توجَّهوا نحو تِهامة بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ب « نَخْلةَ » وهو يصلِّي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن تسمَّعوا له ، فقالوا : هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك رجَعوا إِلى قومهم فقالوا : { إِنّا سَمِعْنا قرآناً عَجَباً يَهدي إِلى الرُّشْد } [ الجن : 1 2 ] فأنزل اللهُ على نبيِّه { قُلْ أُوحِيَ إِليَّ أنه استَمَعَ نَفَرٌ من الجِنِّ } [ الجن : 1 ] وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ما قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الجن ، ولا رآهم ، وإِنما أتَوْه وهو ب « نخلة » فسمعوا القرآن .
والثاني : أنهم صُرِفوا إِليه لِيُنْذِرهم ، وأمر أن يقرأ عليهم القرآن ، هذا مذهب جماعة ، منهم قتادة . وفي أفراد مسلم « من حديث علقمة قال : قلت لعبد الله : من كان منكم مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ الجن؟ فقال : ما كان منَّا معه أحد . فقدْناه ذاتَ ليلة ونحن بمكة ، فقلنا : اغتيل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أو استُطير ، فانطلقْنا نطلبه في الشِّعاب ، فلقِيناهُ مُقْبِلاً من نحو حِراء ، فقلنا : يا رسول الله ، أين كنتَ؟ لقد أشفقنا عليك ، وقلنا له : بِتْنا الليلةَ بِشَرِّ ليلةٍ بات بها قوم حين فَقَدْناكَ ، فقال : » إِنه أتاني داعي الجن ، فذهبت أُقْرِئهم القرآن « فذهبَ بنا ، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم » وقال قتادة : « ذُكِر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » إنِّي أُمِرْتُ أن أقرأ على الجن ، فأيُّكم يَتبعُني «؟ فاطرقوا ، ثم استتبعهم فأطرقوا ، ثم استتبعهم الثالثةَ فأطرقوا ، فأتبعه عبد الله بن مسعود ، فدخل نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم شِعْباً يقال له : » شِعْبُ الحَجون « ، وخطَّ على عبد الله خطّاً ليُثبته به ، قال : فسمعت لغطاً شديداً حتى خِفْتُ على نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم فلمّا رجَع قلت : يا نبي الله ما اللغط الذي سمعتُ ، قال : » اجتَمعوا إِليَّ في قتيل كان بينهم ، فقضيت بينهم بالحق «

والثالث : أنهم مَرُّوا به وهو يقرأ ، فسمعوا القرآن . فذكر بعض المفسرين أنه لمّا يئس من أهل مكة أن يجيبوه ، خرج إِلى الطائف ليدعوَهم إِلى الإِسلام وقيل : ليلتمس نصرهم وذلك بعد موت أبي طالب ، فلمّا كان ببطن نخلة قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر ، فمرَّ به نفرٌ من أشراف جِنِّ نصيبين فاستمعوا القرآن . فعلى هذا القول والقول الأول ، لم يعلم بحضورهم حتى أخبره الله تعالى؛ وعلى القول الثاني ، عَلِمَ بهم حين جاءوا . وفي المكان الذي سمِعوا فيه تلاوةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قولان :
أحدهما : الحَجون ، وقد ذكرناه عن ابن مسعود ، وبه قال قتادة .
والثاني : بطن نخلة ، وقد ذكرناه عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد .
وأما النَّفَر ، فقال ابن قتيبة : يقال : إِنَّ النَّفَر ما بين الثلاثة إِلى العشرة . وللمفسرين في عدد هؤلاء النَّفَر ثلاثة أقوال :
أحدها : أنهم كانوا سبعة ، قاله ابن مسعود ، وزِرُّ بن حبيش ، ومجاهد ، ورواه عكرمة عن ابن عباس :
والثاني : تسعةً ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : اثني عشر ألفاً ، روي عن عكرمة . ولا يصح ، لأن النَّفَر لا يُطلَق على الكثير .
قوله تعالى : { فلمّا حَضَروه } أي : حضروا استماعه و { قُضِيَ } يعني : فُرِغَ من تلاوته { ولَّوا إِلى قومهم مُنْذِرِينَ } أي : محذِّرين عذاب الله عز وجل إن لم يؤمِنوا .
وهل أنذَروا قومَهم مِنْ قِبَل أنفُسهم أم جعلَهم رسولُ اللهُ رسُلاً إِلى قومهم؟ فيه قولان :
قال عطاء : كان دِينُ أولئك الجِنِّ اليهوديةَ فلذلك قالوا : { مِنْ بَعْدِ موسى } .
قوله تعالى : { أجيبوا داعيَ اللهِ } يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم . وهذا يدُلُّ على أنه أُرسِلَ إِلى الجن والإِنس .
قوله تعالى : { يَغْفِرْ لكمِ مِنْ ذُنوبكم } « مِنْ » هاهنا صلة .
قوله تعالى : { فليس بمُعْجِزٍ في الأرض } أي : لا يُعْجِزُ اللهَ تعالى { وليس له مِنْ دونِه أولياءُ } أي : أنصار يمنعونه من عذاب الله تعالى { أولئك } الذين لا يجيبون الرُّسل { في ضلالٍ مُبينٍ } .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)

ثم احتج على إحياء الموتى بقوله : { أَوَلَمْ َيَروْا . . . } إِلى آخر الآية . والرُّؤية هاهنا بمعنى العِلْم .
{ ولَمْ يَعْيَ } أي : لم يَعْجَزْ عن ذلك؛ يقال : عَيَّ فلانٌ بأمره ، إِذا لم يَهتد له ولم يَقدر عليه . قال الزجاج : يقال عَيِيتُ بالأمر ، إِذا لم تعرف وجهه ، وأعيَيْتُ ، إِذا تعبتَ .
قوله تعالى : { بقادرٍ } قال أبو عبيدة والأخفش : الباء زائدة مؤكِّدة . وقال الفراء : العرب تُدخل الباءَ مع الجحد ، مثل قولك ما أظُنُّك بقائم ، وهذا قول الكسائي ، والزجاج . وقرأ يعقوب : « يَقْدْرُ » بياء مفتوحة مكان الباء وسكون القاف ورفع الراء من غير ألف . وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله : { كما صَبَرَ أُولُوا العَزْم } أي : ذَوو الحَزْم والصَّبْر؛ وفيهم عشرة أقوال :
أحدها : أنهم نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد ، صلى الله عليهم وسلم ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، وابن السائب .
والثاني : نوح ، وهود ، وإبراهيم ، ومحمد ، صلى الله عليهم وسلم ، قاله أبو العالية الرياحي .
والثالث : أنهم الذين لم تُصِبْهم فتنةٌ من الأنبياء ، قاله الحسن .
والرابع : أنهم العرب من الأنبياء ، قاله مجاهد والشعبي .
والخامس : أنهم إبراهيم ، وموسى ، وداود ، وسليمان ، وعيسى ، ومحمد ، صلى الله عليهم وسلم ، قاله السدي .
والسادس : أن منهم إِسماعيل ، ويعقوب ، وأيُّوب ، وليس منهم آدم ، ولا يونس ، ولا سليمان ، قاله ابن جريج .
والسابع : أنهم الذين أُمروا بالجهاد والقتال ، قاله ابن السائب ، وحكي عن السدي .
والثامن : أنهم جميع الرُّسل ، فإن الله لم يَبْعَثْ رسولاً إِلاّ كان من أُولي العزم ، قاله ابن زيد ، واختاره ابن الأنباري ، وقال : « مِنْ » دخلتْ للتجنيس لا للتبعيض ، كما تقول : قد رأيتُ الثياب من الخَزِّ والجِباب من القَزِّ .
والتاسع : أنهم الأنبياء الثمانية عشر المذكورون في سورة [ الأنعام : 83 86 ] ، قاله الحسين بن الفضل .
والعاشر : أنهم جميع الأنبياء إِلاّ يونس ، حكاه الثعلبي .
قوله تعالى : { ولا تَسْتَعْجِلْ لهم } يعني العذاب قال بعض المفسرين : كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم ضَجِر بعض الضَّجَر ، وأحبَّ أن ينزل العذاب بمن أبى من قومه ، فأُمر بالصَّبر .
قوله تعالى : { كأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدونَ } أي : من العذاب { لَمْ يَلْبَثُوا } في الدنيا { إِلاّ ساعةً مِنْ نَهارٍ } لأن ما مضى كأنه لم يكن وإن كان طويلاً . وقيل : لأن مقدار مَكْثهم في الدُّنيا قليلٌ في جَنْبِ مَكْثهم في عذاب الآخرة . وهاهنا تم الكلام . ثم قال : { بلاغٌ } أي : هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغٌ عن الله إِليكم .
وفي معنى وَصْفِ القرآنِ بالبلاغ قولان :
أحدهما : أن البلاغ بمعنى التبليغ .
والثاني : أن معناه : الكفاية ، فيكون المعنى : ما أخبرناهم به لهم فيه كفايةٌ وغِنىً .
وذكر ابن جرير وجهاً آخر ، وهو أن المعنى : لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعةً من نهار ، ذلك لُبْث بلاغ ، أي : ذلك بلاغ لهم في الدنيا إِلى آجالهم ، ثُمَّ حُذفتْ « ذلك لُبْث » اكتفاءً بدلالة ما ذُكِر في الكلام عليها .
وقرأ أبو العالية ، وأبو عمران : « بَلِّغْ » بكسر اللام وتشديدها وسكون الغين من غير ألف .
قوله تعالى : { فهل يُهْلَكُ } وقرأ أبو رزين ، وأبو المتوكل ، وابن محيصن : { يَهْلِكُ } بفتح الياء وكسر اللام ، أي : عند رؤية العذاب { إلاّ القَوْمُ الفاسقونَ } الخارجون عن أمر الله عز وجل .

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)

قوله تعالى : { الذين كَفَروا } أي : بتوحيد الله { وصَدُّوا } الناس عن الإِيمان به ، وهم مشركو قريش ، { أَضَلَّ أعمالَهم } أي : أبطلها ، ولم يجعل لها ثواباً ، فكأنَّها لم تكن؛ وقد كانوا يُطْعِمُون الطَّعامَ ، ويَصِلون الأرحام ، ويتصدّقون ، ويفعلون ما يعتقدونه قُرْبَةً .
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعني : أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ وآمَنوا بما نُزِّل على محمد } وقرأ ابن مسعود { نَزَّلَ } بفتح النون والزَّاي وتشديدها . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، ومعاذ القارىء : « أُنْزِلَ » بهمزة مضمومة مكسورة الزَّاي . وقرأ أبو رزين ، وأبو الجوزاء ، وأبو عمران : « نَزَلَ » بفتح النون والزاي وتخفيفها ، { كَفَّر عنهم سيِّئآتِهم } أي : غفرها لهم { وأصْلَحَ بالَهم } أي : حالَهم ، قاله قتادة ، والمبرِّد .
قوله تعالى : { ذلك } قال الزجاج : معناه : الأمرُ ذلك ، وجائز أن يكون : ذلك الإِضلال ، لاتِّباعهم الباطل ، وتلك الهداية والكفّارات باتِّباع المؤمنين الحقَّ ، { كذلك يَضْرِبُ اللهُ للناس أمثالَهم } أي : كذلك يبيِّن أمثال حسنات المؤمنين وسيِّئات الكافرين كهذا البيان .
قوله تعالى : { فضَرْبَ الرِّقابِ } إِغراءُ؛ والمعنى : فاقتُلوهم ، لأن الأغلب في موضع القتل ضربُ العُنق { حتى إَذا أثْخَنْتموهم } أي : أكثرتُم فيهم القتل { فشُدُّوا الوَثاقَ } يعني في الأسر؛ وإِنما يكون الأسر بعد المبالغة في القتل . و « الوَثاق » اسم من الإِيثاق؛ تقول : أوثقتُه إِيثاقاً ووَثاقاً ، إِذا شددتَ أسره لئلا يُفْلِت { فإمّا مَنّاً بَعْدُ } قال أبو عبيدة : إِمّا أن تُمنُّوا وإِمّا أن تفادوا ، ومثلُه سَقْياً ، ورَعْياً ، وإِنما هو سُقِيتَ ورُعِيتَ . وقال الزجاج : إِمَّا منَنَتُم عليهم بعد أن تأسِروهم مَنّاً ، وإِمّا أطلقتُموهم بِفِداء .
فصل
وهذه الآية محكَمة عند عامَّة العلماء . وممَّن ذهب إِلى أنَّ حُكم المَنِّ والفداء باقٍ لم يُنْسَخ : ابنُ عمر ، ومجاهدٌ ، والحسنُ ، وابنُ سيرين ، وأحمدُ ، والشافعيُّ . وذهب قوم إلى نسخ المَنِّ والفداء بقوله : { فاقْتُلوا المشركين حيثُ وجدتموهم } ، وممن ذهب إلى هذا ابن جريج ، والسدي وأبو حنيفة . وقد أشرنا إِلى القولين في [ براءة : 5 ] .
قوله تعالى : { حتَّى تَضَعَ الحربُ أوزارَها } قال ابن عباس : حتى لا يبقى أحد من المشركين . وقال مجاهد : حتى لا يكون دِينُ إِلاّ دين الإِسلام . وقال سعيد بن جبير : حتى يخرُج المسيح . وقال الفراء : حتى لا يبقى إلاّ مُسْلِم أو مُسالِم . وفي معنى الكلام قولان :
أحدهما : حتى يضعَ أهلُ الحرب سلاحَهم؛ قال الأعشى :
وَأًَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا ... رِمَاحاً طِوَالاً وَخَيْلاً ذُكُوراَ
وأصل « الوِزْرِ » ما حملته ، فسمّى السلاح « أوزاراً » لأنه يُحْمل ، هذا قول ابن قتيبة .
والثاني : حتى تضعَ حربُكم وقتالكم أوزارَ المشركين وقبائح أعمالهم بأن يُسْلِموا ولا يعبُدوا إِلاَّ الله ، ذكره الواحدي .
قوله تعالى : { ذلك } أي : الأمر ذلك الذي ذَكَرْنا { ولو يشاء اللهُ لانْتَصَر منهم } بإهلاكهم أوتغذيتهم بما شاء { ولكنْ } أمركم بالحرب { لِيَبْلُو بعضَكم ببعض } فيُثيب المؤمن ويُكرمه بالشهادة ، ويُخزي الكافر بالقتل والعذاب .

قوله تعالى : { والذين قُتِلُوا } قرأ أبو عمرو ، وحفص عن عاصم : { قٌتِلُوا } بضم القاف وكسر التاء؛ والباقون : { قاتَلُوا } بألف .
قوله تعالى : { سيَهدِيهم } فيه أربعة أقوال :
أحدها : يَهديهم إِلى أرشد الأمور ، قاله ابن عباس .
والثاني : يحقق لهم الهداية ، قاله الحسن .
والثالث : إِلى مُحاجَّة منكَر ونكير .
والرابع : إِلى طريق الجنة ، حكاهما الماوردي .
وفي قوله : { عرَّفها لهم } قولان :
أحدهما : عرَّفهم منازلهم فيها فلا يستدِلُّون عليها ولا يُخطِئونها ، هذا قول الجمهور ، منهم مجاهد وقتادة ، واختاره الفراء ، وأبو عبيدة .
والثاني : طيَّبها لهم ، رواه عطاء عن ابن عباس . قال ابن قتيبة : وهو قول أصحاب اللغة يقال : طعامٌ معرَّف ، أي : مطيَّب .
وقرأ أبو مجلز ، وأبو رجاء وابن محيصن : { عَرَفَها لهم } بتخفيف الراء .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)

قوله تعالى : { إِن تنصُروا اللهَ } أي : تنصُروا دينه ورسوله { ينصُرْكم } على عدوِّكم { ويثبِّتْ أقدامكم } عند القتال . وروى المفضل عن عاصم : { ويُثْبِتْ } بالتخفيف .
{ والذين كَفَروا فتَعْساً لهم } قال الفراء : المعنى : فأتْعَسَهم اللهُ ، والدُّعاء قد يجري مَجرى الأمر والنهي . قال ابن قتيبة : هو من قولك : تَعَسْتُ ، أي : عَثَرْتُ وسَقَطْتُ . وقال الزجاج : التَّعْسُ في اللغة : الانحطاط والعُثُور . وما بعد هذا قد سبق بيانه [ الكهف : 105 ] [ يوسف : 109 ] إِلى قوله : { دمَّر اللهُ عليهم } أي : أهلكم [ اللهُ ] { وللكافرين أمثالُها } أي : أمثالُ تلك العاقبة .
{ ذلك } الذي فعله بالمؤمنين من النصر ، وبالكافرين من الدَّمار { بأنَّ اللهَ مَوْلَى الذين آمَنوا } أي : ولِيُّهم .
وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله : { ويأكُلون كما تأكُل الأنعامُ } أي : إِن الأنعام تأكُل وتشرب ، ولا تَدري ما في غدٍ ، فكذلك الكفار لا يلتفتون إِلى الآخرة . والمَثْوىَ : المَنْزِل .
{ وكأيِّن } مشروح في [ آل عمران : 146 ] . والمراد بقريته مكة؛ وأضاف القوة والإخراج إِليها ، والمراد أهلُها ولذلك قال { أهلَكْناهم } .
قوله تعالى : { أفَمَن كان على بيِّنة من ربِّه } فيه قولان .
أحدهما : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو العالية .
والثاني : أنه المؤمن ، قاله الحسن .
وفي { البيِّنة } قولان .
أحدهما : القرآن ، قاله ابن زيد .
والثاني : الدِّين ، قاله ابن السائب .
{ كمَنْ زُيِّن له سوءُ عمله } يعني عبادة الأوثان ، وهو الكافر { واتَّبَعوا أهواءَهم } بعبادتها .

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)

{ مَثَلُ الجَنَّةِ التي وعد المتقون } أي : صِفَتُها وقد شرحناه في [ الرعد : 35 ] . و « المتَّقون » عند المفسرين : الذين يَتَّقون الشِّرك . و « الآسِن » المتغيِّر الرِّيح ، قاله أبو عبيدة ، والزجاج . وقال ابن قتيبة : هو المتغير الرِّيح والطَّعم و « الآجِن » نحوه . وقرأ ابن كثير { غيرِ أسِنٍ } بغير مد . وقد شرحنا قوله : { لَذَّةٍ للشّارِبين } في [ الصافات : 46 ] .
قوله تعالى : { من عسلٍ مُصَفّىً } أي : من عسل ليس فيه عكر ولا كدر كعسل أهل الدنيا .
قوله تعالى : { كمَنْ هو خالدٌ في النار } قال الفراء : أراد مَنْ كان في هذا النعيم ، كمن هو خالد في النار؟! .
قوله تعالى : { ماءً حميماً } أي : حارا شديد الحرارة . و « الأمعاء » جميع ما في البطن من الحوايا .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)

قوله تعالى : { ومنهم مَنْ يَسْتَمِعُ إِليكَ } يعني المنافقين . وفيما يستمعون قولان .
أحدهما : أنه سماع خُطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ الجمعة .
والثاني : سماع قوله على عموم الأوقات . فأمّا { الذين أوتوا العلم } ، فالمراد بهم : علماء الصحابة .
قوله تعالى : { ماذا قال آنفاً } قال الزجاج : أي : ماذا قال الساعة ، وهو من قولك : استأنفتُ الشيء : إذا ابتدأتَه ، وروضة أُنُف : لمن تُرْعَ ، أي : لها أوَّل يُرْعى؛ فالمعنى : ماذا قال في أوَّل وقت يَقْرُبُ مِنّا . وحُدِّثْنا عن أبي عمر غلامِ ثعلب أنه قال : معنى « آنفاً » مُذْ ساعة . وقرأ ابن كثير ، في بعض الروايات عنه : « أَنِفاً » بالقصر ، وهذه قراءة عكرمة ، وحميد وابن محيصن . قال أبو علي : يجوز أن يكون ابن كثير توهَّم ، مثل حاذِر وحَذِر ، وفاكِه وفَكِه وفي استفهامهم قولان .
أحدهما : لأنهم لم يَعْقِلوا ما يقول ، ويدُلُّ عليه باقي الآية .
والثاني : أنهم قالوه استهزاءً .
قوله تعالى : { والذين اهْتَدَوْا } فيهم قولان .
أحدهما : أنهم المسلمون ، قاله الجمهور .
والثاني : قومٌ من أهل الكتاب كانوا على الإِيمان بأنبيائهم وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، فلمّا بُعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم آمَنوا به ، قاله عكرمة .
وفي الذي زادهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الله عز وجل .
والثاني : قول الرسول .
والثالث : استهزاء المنافقين زاد المؤمنين هُدىً ، ذكرهن الزجاج . وفي معنى الهُدى قولان .
أحدهما : أنه العِلْم .
والثاني : البصيرة .
وفي قوله : { وآتاهم تقواهم } ثلاثة أقوال .
أحدها : ثواب تقواهم في الآخرة ، قاله السدي .
والثاني : اتِّقاء المنسوخ والعمل بالناسخ ، قاله عطية .
والثالث : أعطاهم التقوى مع الهُدى ، فاتَّقَوْا معصيته خوفاً من عقوبته ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
و { ينظُرونَ } بمعنى ينتظِرون { أن تأتيَهم } وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وأبو الأشهب ، وحميد : { إِنْ تَأْتِهم } بكسر الهمزة من غير ياء بعد التاء . والأشراط : العلامات؛ قال أبو عبيدة : الأشراط : الأعلام ، وإِنما سمِّي الشُّرط فيما تَرى لأنهم أعلموا أنفُسهم . قال المفسرون : ظُهور النبيِّ صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة ، وانشقاقُ القمر والدخانُ وغير ذلك .
{ فأنَّى لهم } أي : فمِن أين لهم { إِذا جاءتْهم } الساعة { ذِكْراهم } ؟! قال قتادة : أنَّى لهم أن يَذَّكَّروا ويتوبوا إِذا جاءت؟! .

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)

قوله تعالى : { فاعْلَمْ أنه لا إِله إِلاّ اللهُ } قال بعضهم : اثْبُتْ على عِلْمك ، وقال قوم : المراد بهذا الخطاب غيره؛ وقد شرحنا هذا في فاتحة ( الأحزاب ) . وقيل : إِنه كان يَضيق صدرُه بما يقولون ، فقيل له : اعْلَمْ أنه لا كاشفِ لما بِكَ إِلاّ اللهُ .
فأمّا قوله؛ { واستَغْفِر لِذَنْبِكَ } فإنه كان يَستغفر في اليوم مائة مرة ، وأُمر أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات إِكراماً لهم لأنه شفيعٌ مُجابٌ .
{ واللهُ يَعْلَمُ متقلَّبَكم ومَثْواكم } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : مُتقلَّبكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة ، وهو معنى قول ابن عباس .
والثاني : مُتقلَّبكم في أصلاب الرجال إلى أرحام النساء ، ومقامكم في القبور ، قاله عكرمة .
والثالث : « مُتقلَّبكم » بالنهار و « مثواكم » أي : مأواكم بالليل ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { ويقول الذين آمَنوا لولا نُزِّلَتْ سُورةٌ } قال المفسرون : سألوا ربَّهم أن يُنزل سُورةً فيها ثواب القتال في سبيل الله ، اشتياقاً منهم إلى الوحي وحِرصاً على الجهاد ، فقالوا : « لولا » أي : هلا؛ وكان أبو مالك الأشجعي يقول : « لا » هاهنا صلة ، فالمعنى : لو أُنزلتْ سورة ، شوقاً منهم إِلى الزيادة في العِلْم ، ورغبةً في الثواب والأجر بالاستكثار من الفرائض .
وفي معنى { مُحكَمة } ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها التي يُذْكَر فيها القتال ، قاله قتادة .
والثاني : أنها التي يُذْكَر فيها الحلال والحرام .
والثالث : التي لا منسوخ فيها ، حكاهما أبو سليمان الدمشقي .
ومعنى قوله : { وذُكِرَ فيها القتالُ } أي : فُرِضَ فيها الجهاد .
وفي المراد بالمرض قولان .
أحدهما : النفاق ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والجمهور .
والثاني : الشكّ ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { ينظُرونَ إِليك } أي : يَشْخَصون نحوك بأبصارهم ينظرون نظراً شديداً كما ينظُر الشاخص ببصره عند الموت ، لأنهم يكرهون القتال ، ويخافون إِن قعدوا أن يتبيَّن نفاقُهم .
{ فأَوْلَى لهم } قال الأصمعي : معنى قولهم في التهديد : « أَوْلَى لكَ » أي : وَلِيَكَ وقارَبَك ما تَكْره . وقال ابن قتيبة : هذا وَعِيدُ وتهديد ، تقولُ للرجُل إذا أردتَ به سوءاً ، فَفَاتَكَ أوْلَى لكَ ، ثم ابتدأ ، فقال : { طاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ . . . } وقال سيبويه والخليل : المعنى طاعةُ وقولٌ معروفٌ أمثل . وقال الفراء : الطاعةُ معروفةٌ في كلام العرب ، إِذا قيل لهم : افعلوا كذلك ، قالوا : سَمعٌ وطاعةٌ ، فوصف [ اللهُ ] قولَهم قبل أن تنزل السُّورة أنهم يقولون : سمعٌ وطاعة ، فإذا نزل الأمر كرهوا . وأخبرني حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : قال الله تعالى : { فأولى } ، ثم قال : { لهم } أي : للذين آمنوا منهم { طاعةٌ } فصارت ( أَوْلَى ) وعيداً لِمَن كَرِهها ، واستأنف الطاعة ب { لهم } ؛ والأول عندنا كلام العرب ، وهذا غير مردود ، يعني حديث أبي صالح . وذكر بعض المفسرين أن الكلام متصل بما قبله؛ والمعنى : فأَوْلَى لهم أن يُطيعوا وأن يقولوا معروفاً بالإِجابة .
قوله تعالى : { فإذا عَزَمَ الأمْرُ } قال الحسن : جَدَّ الأمْرُ . وقال غيره : جَدَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه في الجهاد ، ولَزِمَ فرضُ القتال ، وصار الأمر معروفاً عليه . وجواب « إذا » محذوف تقديره : فإذا عَزَمَ الأمْرُ نَكَلُوا؛ يدُلُّ على المحذوف { فلَوْ صَدَقُوا اللهَ } أي : في إِيمانهم وجهادهم { لكان خَيْراً لهم } من المعصية والكراهة .

فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)

قوله تعالى : { فهل عَسَيْتُمْ إِن توليتم } في المخاطَب بهذا أربعة أقوال .
أحدها : المنافقون ، وهو الظاهر .
والثاني : منافقو اليهود ، قاله مقاتل .
والثالث : الخوارج ، قاله بكر بن عبد الله المزني .
والرابع : قريش ، حكاه جماعة منهم الماوردي .
وفي قوله : { تولَّيتم } قولان :
أحدهما : أنه بمعنى الإِعراض فالمعنى : إِن أعرضتم عن الإِسلام { أن تُفْسِدوا في الأرض } بأن تعودوا إِلى الجاهلية يقتل بعضكم بعضاً ، ويُغِير بعضكم على بعض ، ذكره جماعة من المفسرين .
والثاني : أنه من الوِلاية لأُمور الناس ، قاله القرظي . فعلى هذا يكون معنى « أن تُفْسِدوا في الأرض » : بالجَوْر والظُّلم .
وقرأ يعقوب : { وتَقْطَعوا } بفتح التاء والطاء وتخفيفها وسكون القاف . ثم ذَمَّ من يريد ذلك بالآية التي بعد هذه .
وما بعد هذا قد سبق [ النساء : 82 ] إِلى قوله : { أَمْ على قُلوب أقفالُها } « أَمْ » بمعنى « بَلْ » ، وذِكْر الأقفال استعارة ، والمراد أن القَلْب يكون كالبيت المُقفَل لا يَصِلُ إِليه الهُدى . [ قال مجاهد ] : الرّان أيسرُ من الطَّبْع ، والطَّبْع أيسرُ من الإِقفال ، والإِقفال أشَدُّ ذلك كُلِّه . وقال خالد بن معدان : مامِنْ آدميٍّ إِلاّ وله أربعُ أعيُنٍ ، عَيْنان في رأسه لدُنياه وما يُصْلِحه من معيشته ، وعَيْنان في قَلْبه لِدِينه وما وَعَد اللهُ من الغَيْب ، فإذا أراد اللهُ بعبد خيراً أبصرتْ عيناه اللتان في قلبه ، وإِذا أراد به غير ذلك طمس عليهما ، فذلك قوله : { أَمْ على قُلوب أقفالُها } .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين ارتَدُّوا على أدبارهم } أي : رجَعوا كُفّاراً؛ وفيهم قولان .
أحدهما : أنهم المنافقون ، قاله ابن عباس ، والسدي ، وابن زيد .
والثاني : أنهم اليهود ، قاله قتادة ، ومقاتل . { مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى } أي : مِنْ بَعْدِ ما وَضَحَ لهم الحقُّ . ومن قال : هم اليهود ، قال : مِنْ بَعْدِ أن تبيّن لهم وصفُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ونعتُه في كتابهم و { سَوَّلَ } بمعنى زيَّن . { وأَمْلَى لهم } قرأ أبو عمرو ، وزيد عن يعقوب : { وأُمْلِيَ لهم } بضم الهمزة وكسر اللام وبعدها ياء مفتوحة . وقرأ يعقوب إِلاّ زيداً ، وأبان عن عاصم كذلك ، إِلاّ أنهما أسكنا الياء . وقرأ الباقون بفتح الهمزة واللام . وقد سبق معنى الإِملاء [ آل عمران : 178 ] [ الأعراف : 183 ] .
قوله تعالى : { ذلك } قال الزجاج : المعنى : الأَمْرُ ذلك ، أي : ذلك الإِضلال بقولهم { للذين كَرِهوا ما نَزَّلَ الله } وفي الكارهِين قولان .
أحدهما : أنهم المنافقون ، فعلى هذا في معنى قوله : { سنُطيعُكم في بعض الأَمْر } ثلاثة أقوال .
أحدها : في القُعود عن نُصرة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله السدي .
والثاني : في المَيْل إِليكم والمظاهرة على محمد صلى الله عليه وسلم .
والثالث : في الارتداد بعد الإِيمان ، حكاهما الماوردي .
والثاني : أنهم اليهود ، فعلى هذا في الذي أطاعوهم فيه قولان .
أحدهما : في أن لا يصدِّقوا شيئاً من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله الضحاك .
والثاني : في كَتْم ما عَلِموه من نُبوَّته ، قاله ابن جريج .
{ واللهُ يَعْلَمُ إِسرارَهم } قرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، وحفص عن عاصم ، والوليد عن يعقوب : بكسر الألف على أنه مصدر أسْرَرْتُ؛ وقرأ الباقون : بفتحها على أنه جمع سِرٍّ والمعنى : أنه يَعْلَم ما بين اليهود والمنافقين من السِّرِّ .
قوله تعالى : { فكيف إِذا توفَّتْهم الملائكةُ } ، أي : فكيف يكون حالُهم حينئذ؟ وقد بيَّنّا في [ الأنفال : 50 ] معنى قوله : { يَضْرِبونُ وجوهَهم وأدبارَهم } .
قوله تعالى : { وكَرِهوا رِضْوانَه } أي : كَرِهوا ما فيه الرِّضوان ، وهو الإِيمان والطاعة .

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)

قوله تعالى : { أَمْ حَسِبَ الذين في قُلوبهم مَرَضٌ } أي : نفاق { أنْ لن يُخْرِجَ اللهُ أضغانَهم } قال الفراء : أي : لن يُبْدِيَ اللهُ عداوتَهم وبُغْضَهم لمحمد صلى الله عليه وسلم . وقال الزجاج : أي : لن يُبْدِيَ عداوتَهم لرسوله صلى الله عليه وسلم ويُظْهِرَهُ على نفاقهم .
{ ولو نشاء لأرَيْناكهم } أي : لعرَّفْناكهم ، تقول : قد أرَيْتُكَ هذا الأمر ، أي : قد عرَّفْتُك إيّاه ، المعنى : لو نشاء لجَعَلْنا على المنافقين علامة ، وهي السّيماء { فلَعَرَفْتَهم بِسِيماهم } أي : بتلك العلامة { وَلتَعْرَفَنَّهم في لَحْنِ القَوْلِ } أي : في فحوى القَوْل ، فدلَّ بهذا على أن قول القائل وفعله يدُلُّ على نِيَّته . وقولُ الناس : قد لَحَنَ فلانٌ ، تأويله : قد أَخذ في ناحية عن الصواب ، وَعدَلَ عن الصواب إِليها ، وقول الشاعر :
مَنْطِقٌ صائِبٌ وتَلْحَنُ أَحْيا ... ناً ، وخَيْرُ الحديثِ ما كانَ لَحْنا
تأويله : خير الحديث من مِثْل هذه ما كان لا يعرفه كلُّ أحد ، إِنما يُعْرََفُ قولها في أنحاء قولها . قال المفسرون : وَلتَعْرِفَنَّهم في فحوى الكلام ومعناه ومقْصَده ، فإنهم يتعرَّضون بتهجين أمرك والاستهزاء بالمسلمين . قال ابن جرير : ثم عرَّفه اللهُ إيّاهم .
قوله تعالى : { وَلنَبْلُوَنَّكم } أي : وَلنُعامِلَنَّكم معامَلةَ المُخْتَبِر بأن نأمرَكم بالجهاد { حتَّى نَعْلَم } العِلْم الذي هو عِلْم وجود ، وبه يقع الجزاء؛ وقد شرحنا هذا في [ العنكبوت : 3 ] .
قوله تعالى : { وَنبْلُوَ أَخبارَكم } أي : نُظْهِرها وَنكْشِفها باباء من يأبى القتال ولا يَصْبِر على الجهاد . وقرأ أبو بكر عن عاصم : { وَليَبْلُوَنَّكم } بالياء « حتى يَعْلَمَ » بالياء { ويَبْلُوَ } بالياء فيهن . وقرأ معاذ القارىء ، وأيوب السختياني : « أخياركم » بالياء جمع « خير » .
قوله تعالى : { إِن الذين كَفَروا . . } [ الآية ] اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال .
أحدها : أنها في المُطْعِمِين يومَ بدر ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنها نزلت في الحارث بن سويد ، ووحوح الأنصاري ، أسلما ثم ارتدّا ، فتاب الحارث ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبى صاحبه أن يَرْجِع حتى مات ، قاله السدي .
والثالث : أنها في اليهود ، قاله مقاتل .
والرابع : أنها في قريظة [ والنضير ] ، ذكره الواحدي .
قوله تعالى : { ولا تُبْطِلوا أعمالكم } اختلفوا في مُبْطِلها على أربعة أقوال .
أحدها : المعاصي والكبائر ، قاله الحسن .
والثاني : الشَّكّ والنِّفاق ، قاله عطاء .
والثالث : الرِّياء والسُّمعة ، قاله ابن السائب .
والرابع : بالمَنّ ، وذلك أن قوماً من الأعراب قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أتيناك طائعين ، فلنا عليك حق ، فنزلت هذه الآية . ونزل قوله { يَمُنُّونَ عليكَ أن أَسْلَموا } [ الحجرات : 17 ] ، هذا قول مقاتل . قال القاضي أبو يعلى : وهذا يدُلُّ على أن كُلُّ مَنْ دخل في قُرْبَة لم يَجُزْ له الخُروج منها قبل إِتمامها ، وهذا على ظاهره في الحج ، فأما في الصلاة والصيام ، فهو على سبيل الاستحباب .

فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)

قوله تعالى : { فلا تَهِنُوا } أي : فلا تَضْعُفوا { وتَدْعوا إِلى السَّلْم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : { إِلى السَّلْم } بفتح السين؛ وقرأ حمزة ، وأبو بكر عن عاصم : بكسر السين ، والمعنى : لا تَدْعُوا الكفار إِلى الصلح ابتداءاً . وفي هذا دلالة على أنه لا يجوز طلب الصُّلح من المشركين ، و دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل مكة صلحاً ، لأنه نهاه عن الصُّلح .
قوله تعالى : { وأنتم الأعْلَوْنَ } أي : أنتم أعزُّ منهم ، والحُجَّة لكم ، وآخِرُ الأمر لكم وإِن غَلَبوكم في بعض الأوقات { واللهُ معكم } بالعَوْن والنُّصرة { ولن يَتِرَكُمْ } قال ابن قتيبة : أي : لن يَنْقُصَكم ولن يَظْلِمَكم ، يقال وتَرْتَني حَقِّي ، أي بَخسْتَنِيه . قال المفسرون : المعنى : لن يَنْقُصَكم من ثواب أعمالكم شيئا .
قوله تعالى : { ولا يَسألْكم أموالكم } أي : لن يَسألَكُموها كُلَّها .
قوله تعالى : { فيُحْفِكُم } قال الفراء : يُجْهِدكم . وقال ابن قتيبة : يُلِحّ عليكم بما يوجبه في أموالكم { تبخلوا } ، يقال : أحْفاني بالمسألة وألحْف : إِذا ألحَّ . وقال السدي : إِن يسألْكم جميعَ ما في أيديكم تبخلوا .
{ ويُخْرِجْ أضغانَكم } وقرأ سعد بن أبي وقاص ، وابن عباس ، وابن يعمر : { ويُخْرَج } بياء مرفوعه وفتح الراء { أضغانُكم } بالرفع . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وأبو رزين ، وعكرمة ، وابن السميفع ، وابن محيصن ، والجحدري : { وتَخْرُج } بتاء مفتوحة ورفع الراء { أضغانُكم } بالرفع . وقرأ ابن مسعود ، والوليد عن يعقوب : { ونُخْرِج } بنون مرفوعة وكسر الراء { أضغانَكم } بنصب النون ، أي يُظهر بُغضَكم وعداوتَكم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ؛ ولكنه فرض عليكم يسيراً .
وفيمن يضاف إِليه هذا الإِخراج وجهان :
أحدهما : إِلى الله عز وجل .
والثاني : البخل ، حكاهما الفراء . وقد زعم قوم أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة ، وليس بصحيح ، لأنّا قد بيَّنّا أن معنى الآية : إن يسألْكم جميعَ أموالكم؛ والزكاة لا تنافي ذلك .
قوله تعالى : { ها أنتم هؤلاء تَدْعَوْنَ لِتُنْفِقوا في سبيل الله } يعني ما فرض عليكم في أمولكم { فمنكم من يَبْخَلُ } بما فُرض عليه من الزكاة { ومَنْ يَبْخَلْ فإنما يَبْخَلُ عن نَفْسه } أي : على نفسه بما ينفعٌها في الآخرة { واللهُ الغنيُّ } عنكم وعن أموالكم { وأنتم الفقراء } إِليه إلى ما عنده من الخير والرحمة { وإن تتولَّوا } عن طاعته { يَسْتَبْدِلْ قوْماً غيرَكم } أطوعُ له منكم { ثُمَّ لا يكونوا أمثالكم } بل خيراً منكم . وفي هؤلاء القوم ثمانية أقوال :
أحدها : أنهم العجم ، قاله الحسن ، وفيه حديث يرويه أبو هريرة قال : لمّا نزلت { وإِن تتولَّوا يَسْتَبْدِلْ قوْماً غيرَكم } كان سلمان إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، مَنْ هؤلاء الذين إذا تولَّينا استُبْدِِلوا بنا؟ فضرب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم [ يدَه ] على مَنْكِب سلمان ، فقال : « هذا وقومُه ، والذي نفسي بيده ، لو أن الدِّين معلَّق بالثُّريَّا لتناوله رجال من فارس » .

والثاني : فارس والروم ، قاله عكرمة .
والثالث : من يشاء من جميع الناس ، قاله مجاهد .
والرابع : يأتي بخلق جديد غيركم . وهو معنى قول قتادة .
والخامس : كندة والنخع ، قاله ابن السائب .
والسادس : أهل اليمن ، قاله راشد بن سعد ، وعبد الرحمن بن جبير ، وشريح بن عبيد .
والسابع : الأنصار ، قاله مقاتل .
والثامن : أنهم الملائكة ، حكاه الزجاج وقال : فيه بُعْدٌ [ لأنه ] لا يقال للملائكة « قَوْمٌ » إِنما يقال ذلك للآدميين ، قال : وقد قيل : إن تولَّى أهلُ مكَّة استَبْدَلَ اللهُ بهم أهلَ المدينة ، وهذا [ معنى ] ما ذكَرْنا عن مقاتل .

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)

قوله تعالى : { إِنّا فَتَحْنا لك فَتْحاً مُبِيناً . . } [ الآية ] سبب نزولها : أنه لمَا نزل قوله : { وما أَدري ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُم } [ الأحقاف : 9 ] قال اليهود : كيف نتَّبع رجُلاً لا يَدري ما يُفْعَلُ به؟! فاشتدَّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، رواه عطاء عن ابن عباس .
وفي المراد بالفتح أربعة أقوال .
أحدها : أنه كان يومَ الحديبية ، قاله الأكثرون . قال البراء بن عازب : نحن نَعُدُّ الفتح بَيْعةَ الرِّضْوان . وقال الشعبي : هو فتح الحديبية ، غُفِر له ما تقدَّم من ذَنْبه وما تأخَّر ، وأُطعموا نخل خيبر ، وبلغ الهَدْيُ مَحِلَّه ، وظَهرت الرُّومَ على فارس ، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس قال الزهري : لم يكن فتحٌ أعظمَ من صُلح الحديبية ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكَّن الإِسلامُ في قلوبهم ، وأسلم في ثلاث سنين خَلْقٌ كثير ، وكَثُر بهم سواد الإِسلامُ . قال مجاهد : يعني بالفتح ما قضى اللهُ له من نحر الهَدْي بالحديبية وحَلْق رأسه . وقال ابن قتيبة : « إِنّا فَتَحْنا لك فتحاً مُبيناً » أي : قَضَيْنا لك قضاءً عظيماً ، ويقال للقاضي : الفتَّاح . قال الفراء : والفتح قد يكون صُلحاً ، ويكون أَخْذَ الشيء عَنْوةً ، ويكون بالقتال . وقال غيره : معنى الفتح في اللغة : فتح المنغلق ، والصُّلْح الذي جُعل مع المشركين بالحديبية كان مسدوداً متعذِّراً حتى فتحه الله تعالى .
الإِشارة إِلى قصة الحديبية :
روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في النَّوم كأن قائلاً يقول [ له ] لَتَدْخُلُنْ المسجد الحرام إِن شاء اللهُ آمنين ، فأصبح فحدَّث الناس برؤياه ، وأمرهم بالخروج للعُمْرة؛ فذكر أهلُ العِلْم بالسِّيَرِ أنَّه خرج واستنفر أصحابَه للعمرة ، وذلك في سنة ست ، ولم يخرج بسلاح إِلاّ السيوف في القُرُب ، وساق هو وأصحابُه البُدْنَ ، فصلَّى الظُّهر ب « ذي الحُلَيْفة » ، ثم دعا بالبُدْنِ فجُلِّلَتْ ، ثم أشعرها وقلَّدها ، فعل ذلك أصحابه ، وأحرم ولبَّى . فبلغ المشرِكينَ خروجُه فأجمع رأيُهم على صدِّه عن المسجد الحرام ، وخرجوا حتى عسكروا ب « بَلْدَح » وقدَّموا مائتي فارس إِلى كُراع الغميم ، وسار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى دنا من الحديبية؛ قال الزجاج : وهي بئر ، فسمِّي المكان باسم البئر؛ قالوا : وبينها وبين مكة تسعة أميال ، فوقفت يَدَا راحلته فقال المسلمون : حَلْ حَلْ ، يزجرونها ، فأبَتْ فقالوا : خَلأَتْ القصْواءُ والخِلاءُ في النّاقة مثل الحِران في الفَرَس . فقال : « ما خَلأَتْ ، ولكن حَبَسها حابِسَ الفِيلِ ، أما واللهِ لا يسألوني خُطَّةً فيها تعظيمُ حُرْمة اللهِ إِلاّ أعطيتُهم إِيّاها » ، ثم جرَّها فقامت ، فولَّى راجعاً عَوْده على بَدْئه حتى نزل على ثمد من أثماد الحديبية قليلِ الماء ، فانتزع سهماً من كنانته فغرزه فيها ، فجاشت لهم بالرَّواء ، وجاءه بُدَيْل بن ورقاء في ركب فسلَّموا وقالوا : جئناك من عند قومك وقد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم ، يُقْسِمون ، لا يُخَلُّون بينك وبين البيت حتى تُبيد خَضْراءَهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« لَمْ نأتِ لقتال أحَد إِنما جئنا لنطوف بهذا البيت ، فمن صدَّنا عنه قاتلْناه » فرجعَ [ بديل ] فأخبر قريشاً ، فبعثوا عروة بن مسعود ، فكلَّمه بنحو ذلك ، فأخبر قريشاً ، فقالوا : نَرُدُّه مِن عامِنا هذا ويَرْجِع من قابِل فيَدْخُل مكة ويطوف بالبيت ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمانَ بن عفان قال : « اذْهَبْ إِلى قريش فأَخْبِرْهم أنّا لَمْ نأتِ لقتالِ أحَدٍ ، وإِنما جئنا زُوّاراً لهذا البيت ، معنا الهدي ننحره وننصرف » ، فأتاهم فأخبرهم ، فقالوا : لا كان هذا أبداً ، ولا يَدخُلها العامَ ، وبَلَغَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ عثمان قد قُتل ، فقال : « لا نَبْرَحُ حتى نُناجِزَهم » ، فذاك حين دعا المسلمين إِلى بيعة الرّضوان ، فبايعهم تحت الشجرة .
وفي عددهم يومئذ أربعة أقوال .
أحدها : ألف وأربعمائة ، قاله البراء ، وسلمة بن الأكوع ، وجابر ، ومعقل بن يسار .
والثاني : ألف وخمسمائة ، روي عن جابر أيضاً ، وبه قال قتادة .
والثالث : ألف وخمسمائة وخمس وعشرون ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والرابع : ألف وثلاثمائة ، قاله عبد الله بن أبي أوفى . قال : وضَرَبَ يومئذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشماله على يمينه لعثمان ، وقال : إِنه ذهب في حاجة الله ورسوله ، وَجعَلَت الرُّسُل تختلف بينهم ، فأجمعوا على الصُّلح ، فبعثوا سهيل بن عمرو في عِدَّة رجال ، فصالحه كما ذكرنا في [ براءة : 7 ] فأقام بالحديبية بضعة عشر يوماً ، ويقال : عشرين ليلة ، ثم انصرف ، فلمّا كان ب { ضَجَنَان } نزل عليه : { إنّا فَتَحْنا لك فَتْحاً مبيناً } ، فقال جبريل : يَهنيك يا رسول الله ، وهنّأه المسلمون .
والقول الثاني : أن هذا الفتح فتح مكة ، رواه مسروق عن عائشة وبه قال السدي . وقال بعض مَن ذَهَب إِلى هذا : إِنما وُعِد بفتح مكة بهذه الآية .
والثالث : أنه فتح خيبر ، قاله مجاهد ، والعوفي وعن أنس بن مالك كالقولين .
والرابع : أنه القضاء له بالإِسلام ، قاله مقاتل . وقال غيره : حَكَمْنا لك بإظهار دِينك والنُّصرة على عدوِّك .
قوله تعالى : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ } قال ثعلب : اللام لام « كي » ، والمعنى : لكي يجتمع لك [ مع ] المغفرة تمام النِّعمة في الفتح ، فلمّا انضمَّ إلى المغفرة شيءٌ حادِثٌ ، حَسُنَ معنى « كي » . وغَلِط من قال : ليس . الفتح سببَ المغفرة . قوله تعالى { ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تأخَّرَ } قال ابن عباس : والمعنى « ما تقدَّم » في الجاهلية ، و « ما تأخَّر » ما لم تعلمه ، وهذا على سبيل التأكيد ، كما تقول : فلان يَضْرِب من يلقاه ومن لا يلقاه .
قوله تعالى : { ويُتِمِّ نِعمتَه عليك } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أن ذلك في الجنة .
والثاني : أنه بالنُبُوَّة والمغفرة ، رويا عن ابن عباس .
والثالث : بفتح مكة والطائف وخيبر حكاه الماوردي .
والرابع : بإظهار دِينك على سائر الأديان ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { ويَهْدِيَكَ صراطاً مستقيماً } أي : ويُثبِّتك عليه؛ وقيل : ويَهدي بك ، { ويَنْصُرَكُ اللهُ } على عدوِّك { نَصْراً عزيزاً } قال الزجاج : أي : نَصْراً ذا عِزٍّ لا يقع معه ذُلٌّ .

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)

قوله تعالى : { هو الذي أنزل السَّكينة } أي : السُّكون والطمُّأنينة { في قلوب المؤمنين } لئلاّ تنزعج قلوبُهم لِمَا يَرِد عليهم ، فسلَّموا لقضاء الله ، وكانوا قد اشتد عليهم صَدُّ المشركين لهم عن البيت ، حتى قال عمر : علامَ نُعطي الدَّنِيَّة في ديننا ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم « أنا عَبْدُ الله ورسوله ، لن أُخالِف أمره ولن يُضَيِّعني » ، ثم أَوْقَعَ اللهُ الرِّضى بما جرى في قلوب المسلمين ، فسلَّموا وأطاعوا .
{ لِيَزدادوا إيماناً } وذلك أنه كلَّما نزلت فريضة زاد إِيمانُهم .
{ وللهِ جُنودُ السموات والأرضَ } يريد : أن جميع أهل السموات والأرض مُلْكٌ له لو أراد نُصرة نبيِّه بغيركم لَفَعَل ، ولكنه اختاركم لذلك ، فاشكُروه .
قوله تعالى : { لِيُدْخِلَ المؤمنين . . . } الآية . سبب نزولها أنه لمّا نزل قوله { إِنّا فَتَحْنا لك } قال أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم : هنيئاً لك يا رسول الله بما أعطاك الله ، فما لَنا؟ فنزلت هذه الآية ، قاله أنس بن مالك . قال مقاتل : فلمّا سمع عبد الله بن أُبيّ بذلك ، انطلق في نَفَرٍ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ما لَنا عند الله؟ فنزلت { ويُعذِّبَ المنافقين . . . } الآية .
قال ابن جرير : كُرِّرت اللاّمُ في « لِيُدْخِلَ » على اللام في « لِيَغْفِرَ » ، فالمعنى : إَِنّا فَتَحْنا لك لِيَغْفِرَ لك اللهُ لِيُدْخِلَ المؤمنين ، ولذلك لم يُدخِل بينهما واو العطف ، والمعنى : لِيُدْخِل ولِيُعَذِّب .
قوله تعالى : { عليهم دائرةُ السُّوْء } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : بضم السين؛ والباقون بفتحها .
قوله تعالى : { وكان ذلك } أي : ذلك الوَعْد بإدخالهم الجنة وتكفير سيِّئاتهم { عِنْدَ الله } أي : في حُكمه { فَوزاً عظيماً } لهم؛ والمعنى : أنه حكم لهم بالفَوْز ، فلذلك وعدهم إِدخال الجنة .
قوله تعالى : { الظانِّين بالله ظَنَّ السَّوْءِ } فيه خمسة أقوال :
أحدها : أنهم ظنُّوا أن لله شريكاً .
والثاني : أن الله لا ينصُر محمداً وأصحابه .
والثالث : أنهم ظنُّوا به حين خرج إِلى الحديبية أنه سيُقْتَل أويُهْزَمُ ولا يعود ظافراً .
والرابع : أنهم ظنُّوا أنهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة واحدة عند الله .
والخامس : ظنُّوا أن الله لا يبعث الموتى وقد بيَّنّا معنى « دائرة السّوء في [ براءة : 98 ] .
وما بعد هذا قد سبق بيانه [ الفتح : 4 ] [ الاحزاب : 45 ] إِلى قوله : { لِيؤْمِنوا بالله ورسوله } قرأ ابن كثير » ، وأبو عمرو : « لِيُؤْمِنوا » بالياء « ويُعزِّروه ويُوقِّروه ويُسبِّحوه » كلُّهن بالياء ، والباقون : بالتاء؛ على معنى : قل لهم : إِنّا أرسلناك ، لتؤمنوا . وقرأ علي بن أبي طالب : وابن السميفع : { ويُعَزٍّزوه } بزاءين وقد ذكرنا في [ الأعراف : 157 ] معنى « ويُعَزِّروه » عند قوله : { وعزَّروه ونصروه } .
قوله تعالى : { ويوقِّروه } أي : يعظِّموه ويبجِّلوه . واختار كثير من القرَّاء الوقف هاهنا ، لاختلاف الكناية فيه وفيما بعده .

قوله تعالى : { ويسبِّحوه } هذه الهاء ترجع إلى الله عز وجل . والمراد بتسبيحه هاهنا : الصلاةُ له . قال المفسرون : والمراد بصلاة البُكرة الفجر ، وبصلاة الأصيل باقي الصلوات الخمس .
قوله تعالى : { إِن الذين يبايعونك } يعني بَيْعة الرّضوان بالحديبية . وعلى ماذا بايعوه؟ فيه قولان :
أحدهما : أنهم بايعوه على الموت ، قاله عبادة بن الصامت .
والثاني : على أن لا يفِرًّوا ، قاله جابر بن عبد الله . ومعناهما متقارب ، لأنه أراد : على أن لا تَفرُّوا ولو متُّم ، وسمِّيتْ بَيْعة ، لأنهم باعوا أنفُسهم من الله بالجنة ، وكان العَقْد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنهم بايَعوا اللهَ عز وجل ، لأنه ضَمِن لهم الجنة بوفائهم .
{ يَدُ الله فَوْقَ أيديهم } فيه أربعة أقوال .
أحدها : يد الله في الوفاء فوق أيديهم .
والثاني : يد الله في الثواب فوق أيديهم .
والثالث : يد الله عليهم في المنّة بالهداية فوق أيديهم بالطاعة ، ذكر هذه الأقوال الزجاج .
والرابع : قُوَّة الله ونُصرته فوق قُوَّتهم ونُصرتهم ، ذكره ابن جرير وابن كيسان .
قوله تعالى : { فمَنْ نَكَثَ } أي : نقض ما عقده من هذه البَيْعة { فإنَّما يَنْكُثُ على نَفْسه } أي : يَرْجِع ذلك النَّقْضُ عليه { ومن أوفى بما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ } من البَيْعة { فسنُؤتيه } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وأبان عن عاصم : { فسنُؤتيه } بالنون . وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : بالياء { أجْراً عظيماً } وهو الجنة . قال ابن السائب : فلم ينكُث العهد منهم غير رجل واحد يقال له : الجدّ بن قيس ، وكان منافقاً .

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)

قوله تعالى : { سيقول لك المُخلَّفون من الأعراب } قال ابن إِسحاق : لما أراد العمرة استنفرَ مَنْ حَوْلَ المدينة من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه ، خوفاً من قومه أن يَعْرِضوا له بحرب أو بصَدٍّ ، فتثاقل عنه كثير منهم ، فهم الذين عنى الله بقوله : { سيقول لك المُخلَّفون من الأعراب } قال أبو صالح [ عن ابن عباس ] : وهم غفار ومزينة وجهينة وأشجع والدِّيل وأسلم . قال يونس النحوي : الدِّيل في عبد القيس ساكن الياء ، والدُّول من حنيفة ساكن الواو ، والدُّئِل في كنانة رهط أبي الأسود الدُّؤَلي . فأمّا المخلَّفون فإنهم تخلَّفوا مخافة القتل . { شَغَلَتْنا أموالُنا وأهلونا } أي : خِفْنا عليهم الضَّيْعة { فاستَغْفِرْ لنا } أي : ادْعُ [ اللهَ ] أنْ يَغْفِر لنا تخلُّفنا عنك { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } أي : ما يبالون استغفرتَ لهم أم لم تستغفر لهم .
قوله تعالى : { فمَنْ يَمْلِكُ لكم من الله شيئاً إِن أراد بكم ضَرّاً } قرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : { ضُراً } بضم الضاد؛ والباقون : بالفتح . قال أبو علي : « الضَّرُّ » بالفتح : خلاف النفع ، وبالضم : سوء الحال ، ويجوز أن يكونا لغتين كالفَقْر والفُقْر ، وذلك أنهم ظنُّوا أن تخلَّفهم يدفع عنهم الضَّرَّ ، ويعجِّل لهم النفع بسلامة أنفسهم وأموالهم فأخبرهم الله تعالى أنه إِن أراد بهم شيئاً ، لم يَقْدِر أحد على دفعه [ عنهم ] ، { بل كان الله بما تعملون خبيرا } من تخلُّفهم وقولهم عن المسلمين أنهم سيهلكون ، وذلك قوله : { بَلْ ظَنَنْتُمْ } أي : توهَّمتم { أنْ لن يَنْقَلِبَ الرَّسولُ والمؤمنون إِلى أهليهم } أي : لا يَرْجِعون إِلى المدينة ، لاستئصال العدوِّ إِيّاهم ، { وزُيِّن ذلك في قُلوبكم } وذلك من تزيين الشيطان .
قوله تعالى : { وكنتم قَوْماً بوراً } قد ذكرناه في [ الفرقان : 18 ] .

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)

وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : { سيقول المُخلَّفون } الذين تخلَّفُوا عن الحديبية { إِذا انطلقتم إِلى مَغانِمَ } وذلك أنهم لمّا انصرفوا عن الحديبية بالصُّلح وعَدَهم اللهُ فَتْحَ خيبر ، وخصَّ بها من شَهد الحديبية فانطلقوا إِليها ، فقال هؤلاء المخلَّفون : { ذَرونا نتَّبعْكم } ، قال الله تعالى : { يريدون أن يبدِّلوا كلام الله } وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : « أن يبدِّلوا كَلِمَ الله » بكسر اللام .
وفي المعنى قولان :
أحدهما : أنه مواعيد الله بغنيمة خيبر لأهل الحديبية خاصة ، قاله ابن عباس .
والثاني : أمْرُ الله نبيَّه أن لا يسير معه منهم أحد ، وذلك أن الله وعده وهو بالحديبية أن يفتح عليه خيبر ، ونهاه أن يسير معه أحد من المتخلِّفين ، قاله مقاتل .
وعلى القولين : قصدوا أن يجيز لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالِف أمْرَ الله ، فيكون تبديلاً لأمره .
قوله تعالى : { كذلكم قال اللهُ مِنْ قَبْلُ } فيه قولان .
أحدهما : قال إِن غنائم خيبر لِمَن شَهِد الحديبية ، وهذا على القول الأول .
والثاني : قال لن تتَّبعونا ، وهذا قول مقاتل .
{ فسيقولون بل تحسُدوننا } أي : يمنعُكم الحسد من أن نُصيب معكم الغنائم .

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)

قوله تعالى : { ستُدْعَون إِلى قَوْم } المعنى : إن كنتم تريدون الغزو والغنيمة فستُدْعََون إِلى جهاد قوم { أُولي بأسٍِ شديدٍ } .
وفي هؤلاء القوم ستة أقوال :
أحدها : أنهم فارس ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال عطاء بن أبي رباح ، وعطاء الخراساني ، وابن أبي ليلى ، وابن جريج في آخرين .
والثاني : فارس والروم ، قاله الحسن ، و رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .
والثالث : أنهم أهل الأوثان ، رواه ليث عن مجاهد .
والرابع : أنهم الروم ، قاله كعب .
والخامس : أنهم هوازن وغطفان ، وذلك يوم حنين ، قاله سعيد بن جبير ، وقتادة .
والسادس : بنو حنيفة يوم اليمامة ، وهم أصحاب مسيلمة الكذَّاب ، قاله الزهري ، وابن السائب ، ومقاتل . قال مقاتل : خِلافةُ أبي بكر في هذه بيِّنةٌ مؤكدة . وقال رافع بن خديج : كنّا نقرأ هذه الآية ولا نَعْلَم مَنْ هُمْ حتى دُعِيَ أبو بكر إِلى قتال بني حنيفة ، فعَلِمنا أنهم هُمْ . وقال بعض أهل العِلْم : لا يجوز أن تكون هذه الآية إِلاّ في العرب ، لقوله : { تُقاتِلونهم أو يُسْلِمُونَ } ، وفارس والروم إِنما يقاتَلون حتى يُسْلِموا أو يؤدُّوا الجزية ، وقد استدلَّ جماعةٌ من العلماء على صِحَّة إِمامة أبي بكر وعمر بهذه الآية ، لأنه إِن أُريدَ بها بنو حنيفة ، فأبو بكر دعا إِلى قتالهم ، وإِن أُريدَ بها فارس والروم ، فعمر دعا إِلى قتالهم ، والآية تُلْزِمهم اتباع طاعة من يدعوهم وتتوعَّدهم على التخلُّف بالعقاب . قال القاضي أبو يعلى : وهذا يدُلُّ على صِحَّة إِمامتها إِذا كان المتولِّي عن طاعتهما مستحقاً للعقاب .
قوله تعالى : { فإن تُطيعوا } قال ابن جريج : فإن تُطيعوا أبا بكر وعمر ، { وإِن تتولَّوا } عن طاعتهما { كما تولَّيتم } عن طاعة محمد صلى الله عليه وسلم في المسير إِلى الحديبية . وقال الزجاج : المعنى : إِن تُبتم وتركتم نفاقكم وجاهدتم ، يؤتكم اللهُ أجْراً حسناً ، وإن تولَّيتم فأقمتم على نفاقكم ، وأعرضتم عن الإِيمان والجهاد كما تولَّيتم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعذِّبكم عذاباً أليماً .
قوله تعالى : { ليس على الأعمى حَرَجٌ } قال المفسرون : عَذَرَ اللهُ أهل الزَّمانة الذين تخلَّفوا عن المسير إِلى الحديبية بهذه الآية .
قوله تعالى : { يُدْخِلْه جناّتٍ } قرأ نافع ، وابن عامر : « نُدْخِلْه » و « نُعْذِّبْه » بالنون فيهما؛ والباقون : بالياء .

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)

ثم ذكر الذين أخلصوا نِيَّتهم وشَهِدوا بَيْعة الرّضوان بقوله : { لقد رضِيَ اللهُ عن المؤمِنين } وقد ذكرنا سبب هذه البَيْعة آنفاً ، وإِنما سمِّيتْ بَيْعةَ الرّضوان ، لقوله : { لقد رَضِيَ اللهُ عن المؤمنين إذ يُبايعونك تحت الشجرة } روى إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه ، قال : بينما نحن قائلون زمن الحديبية ، نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيها الناس ، البَيْعةَ البَيْعةَ ، نَزَل روح القُدُس قال : فثُرنا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سَمُرة ، فبايَعْناه ، وقال عبد الله بن مغفَّل : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة يبايع الناس ، وإِنِّي لأرفع أغصانَها عن رأسه . وقال بكير بن الأشج : كانت الشجرة بفجٍّ نحو مكة . قال نافع : كان الناس يأتون تلك الشجرة فيصلُّون عندها ، فبلغ ذلك عمرَ بن الخطاب فأوعدهم فيها وأمر بها فقُطِعتْ .
قوله تعالى : { فَعَلِمَ ما في قُلوبهم } أي : من الصِّدق والوفاء ، والمعنى : علم أنهم مُخْلِصون { فأنزل السَّكينة عليهم } يعني الطُّمأنينة والرِّضى حتى بايَعوا على أن يقاتِلوا ولا يَفِرُّوا { وأثابهم } أي : عوَّضهم على الرِّضى بقضائه والصَّبر على أمره { فَتْحاً قريباً } وهو خيبر ، { ومَغانِمَ كثيرةً يأخذونها } أي : من خيبر ، لأنها كانت ذات عَقار وأموال ، فأمّا قوله بعد هذا : { وعَدَكم اللهُ مَغانِمَ كثيرة تأخذونها } فقال المفسرون : هي الفُتوح التي تُفْتَح على المسلمين إِلى يوم القيامة .
{ فعجَّل لكم هذه } فيها قولان .
أحدهما : أنها غنيمة خيبر ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والجمهور .
والثاني : أنه الصُّلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش ، رواه العوفي عن ابن عباس .
قوله تعالى : { وكَفَّ أيديَ الناس عنكم } فيهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم اليهود همُّوا أن يغتالوا عيال المسلمين الذين خلّفوهم في المدينة ، فكفَّهم اللهُ عن ذلك ، قاله قتادة .
والثاني : أنهم أسد وغطفان جاؤوا لينصروا أهل خيبر ، فقَذَفَ اللهُ في قلوبهم الرُّعب ، فانصرفوا عنهم ، قاله مقاتل . وقال الفراء : كانت أسد وغطفان [ مع أهل خيبر ، فقصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصالحوه وخلَّوا بينه وبين خيبر . وقال غيرهما : بل همَّت أسد وغطفان ] باغتيال [ أهل ] المدينة ، فكفَّهم اللهُ عن ذلك .
والثالث : أنهم أهل مكة كفَّهم اللهُ بالصلح ، حكاهما الثعلبي وغيره .
ففي قوله « عنكم » قولان .
أحدهما : أنه على أصله ، قاله الأكثرون .
والثاني : عن عيالكم ، قاله ابن قتيبة ، وهو مقتضى قول قتادة .
{ ولِتَكون آيةً للمؤمنين } في المشار إليها قولان .
أحدهما : أنها الفَعْلة التي فَعَلها بكم من كَفِّ أيديهم عنكم كانت آيةً للمؤمنين ، فعَلِموا أن الله تعالى متولَّي حراستهم في مَشهدهم ومَغيبهم .
والثاني : أنها خيبر كان فتحها علامةً للمؤمنين ، في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما وعدهم به .

قوله تعالى : { ويَهْدِيَكم صراطاً مستقيماً } فيه قولان .
أحدهما : طريق التوكُّل عليه والتفويض إِليه ، وهذا على القول الأول .
والثاني : يَزيدكم هُدىً بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من وعد الله تعالى بالفتح والغنيمة .
قوله تعالى : { وأُخرى } المعنى : وعدكم الله مَغانمَ أُخرى؛ وفيها أربعة أقوال .
أحدها : أنها ما فُتح للمسلمين بعد ذلك . روى سماك الحنفي عن ابن عباس { وأُخرى لَمْ تَقْدِروا عليها } قال : ما فتح لكم من هذه الفتوح ، وبه قال مجاهد .
والثاني : أنها خيبر ، رواه عطية ، والضحاك عن ابن عباس ، وبه قال ابن زيد .
والثالث : فارس والروم ، روي عن ابن عباس أيضاً ، وبه قال الحسن ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى .
والرابع : مكة ، ذكره قتادة ، وابن قتيبة .
قوله تعالى : { قد أحاط اللهُ بها } فيه قولان .
أحدهما : أحاط بها عِلْماً أنها ستكون من فُتوحكم .
والثاني : حَفِظها لكم ومَنَعها من غيركم حتى فتحتموها .
قوله تعالى : { ولو قاتلكم الذين كفروا } هذا خطاب لأهل الحديبية ، قاله قتادة؛ { والذين كفروا } مشركو قريش . فعلى هذا يكون المعنى لو قاتلوكم يومَ الحديبية { لولَّوُا الأدبار } لِما في قلوبهم من الرُّعب { ثم لا يجدون وليّاً } لأن لله قد خذلهم . قال الزجاج : المعنى : لو قاتلك من لم يقاتِلْك لنُصِرْتَ عليه ، لأن سُنَّة الله النُّصرةُ لأوليائه . و « سُنَّةَ الله » منصوبة على المصدر ، لأن قوله : « لولَّوُا الأدبار » معناه : سَنَّ اللهُ عز وجل خِذلانهم سُنَّةً ، وقد مَرَّ مِثْلُ هذا في قوله : { كتابَ اللهِ عليكم } [ النساء : 24 ] وقوله : { صُنْع اللهِ } [ النمل : 88 ] .
قوله تعالى : { وهُو الذي كَفَّ أيديَهم عنكم } روى أنس بن مالك أن ثمانين رجلاً من أهله مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلِّحين يريدون غِرَّة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابِه ، فأخذهم سِلْماً ، فاستحياهم ، وأنزل الله هذه الآية . وروى عبد الله بن مغفَّل قال : « كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة ، فبينا نحن كذلك إِذ خرج علينا ثلاثون شابّاً ، فثاروا في وُجوهنا ، فدعا عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم ، فقمنا إليهم فأخذناهم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هل جئتم في عهد؟ « أو » هل جعل لكم أحد أماناً؟ « قالوا : اللهم لا ، فخلَّى سبيلهم ، ونزلت هذه الآية » وذكر قتادة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خَيْلاً فأتَوه باثني عشر فارساً من الكفار ، فأرسلهم . وقال مقاتل : خرجوا يقاتِلون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فهزمهم النبي صلى الله عليه وسلم بالطَّعن والنَّبل حتى أدخلهم بيوت مكة . قال المفسرون : ومعنى الآية : إِن الله تعالى ذكر مِنَّته إِذ حجز بين الفريقين فلم يقتتلا حتى تم الصلح بينهم . وفي بطن مكة ثلاثة أقوال .

أحدها : أنه الحديبية ، قاله أنس .
والثاني : وادي مكة ، قاله السدي .
والثالث : التنعيم ، حكاه أبو سليمان الدمشقي .
فأمّا « مكة » فقال الزجاج : « مكة » لا تنصرف لأنها مؤنَّثة ، وهي معرفة ، ويصلُح أن يكون اشتقاقها كاشتقاق « بكة » ، والميم تُبدل من الباء ، يُقال : ضَرْبة لازم ، ولازب ، ويصلُح أن يكون اشتقاقها من قولهم : امْتَكَّ الفَصيل مافي ضرع النّاقة : إِذا مَصَّ مَصّاً شديداً حتى لا يُبْقي فيه شيئاً . فيكون سمِّيتْ بذلك لشِدَّة الازدحام فيها؛ قال : والقول الأول أحسن . وقال قطرب : مكة من تَمَكَّكْتُ المُخَّ : إذا أكلتَه . وقال ابن فارس : تَمَكَّكْتُ العظم : إِذا أخرجتَ مُخَّه؛ والتمكُّكُ : الاستقصاء؛ وفي الحديث : « لا تُمَكِّكوا على غُرَمائكم » .
وفي تسمية « مكة » أربعة أقوال .
أحدها : لأنها مَثَاَبَةٌ يؤمُّها الخَلْقُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ ، وكأنها هي التي تجذِبُهم إِليها ، وذلك من قول العرب : امْتَكَّ الفَصيلُ ما في ضَرْع النّاقة .
والثاني : أنها سمِّيتْ ( مكة ) من قولك : بَكَكْتُ الرجُل : إِذا وضَعْتَ منه وَرَدَدْتَ نَخْوتَه فكأنها تَمُكُّ مَنْ ظلم فيها ، أي تُهلكه وتُنْقِصه ، وأنشدوا :
يا مَكَّةُ ، الفاجِرَ مُكِّي مَكَّا ... ولا تَمُكِّي مَذْحِجاً وعَكَّا
والثالث : [ أنها ] سمِّيتْ بذلك لجَهْد أهلها .
والرابع : لِقلَّة الماء بها .
وهل مكة وبكة واحد؟ قد ذكرناه في [ آل عمران : 96 ] .
قوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ أن أَظفركم عليهم } أي : بهم؛ يقال : ظَفِرْتُ بفلان ، وظَفِرْتُ عليه .
قوله تعالى : { وكان اللهُ بما تعلمون بصيراً } قرأ أبو عمرو : { يعملون } بالياء والباقون : بالتاء .

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)

قوله تعالى : { هُمُ الذين كفَروا } يعني أهل مكة { وصدًّوكم عن المسجد الحرام } أن تطوفوا به وتحلّوا من عُمرتكم { والهَدْيَ } قال الزَّجاج : أي : وصدُّوا الهدي { معكوفاً } أي : محبوساً { أن يبلُغَ } أي : عن أن يبلُغَ { مَحِلَّه } قال المفسرون : « مَحِلّه » مَنْحَره ، وهو حيث يَحِلُّ نَحْرُه { ولولا رجالٌ مؤمِنون ونساءٌ مؤمنات } وهم المستَضعفون بمكة { لم تَعْلَموهم } أي : لم تعرفوهم { أن تطؤُوهم } بالقتل . ومعنى الآية : لولا أن تطؤوا رجالاً مؤمنين ونساءٌ مؤمنات بالقتل ، وُتوقِعوا بهم ولا تعرفونهم ، { فتُصيبَكم منهم مَعَرَّةٌ } وفيها أربعة أقوال .
أحدهما : إِثم ، قاله ابن زيد .
والثاني : غُرم الدِّيَة ، قاله ابن إِسحاق .
والثالث : كفّارة قتل الخطأ ، قاله ابن السائب .
والرابع : عيب بقتل مَنْ هو على دينكم ، حكاه جماعة من المفسرين . وفي الآية محذوف ، تقديره : لأدخلتُكم من عامكم هذا؛ وإنما حُلْتُ بينكم وبينهم { لِيُدْخِلَ اللهُ في رحمته } أي : في دينه { من يشاء } من أهل مكة ، وهم الذين أسلموا بعد الصُّلح { لو تزيَّلوا } قال ابن عباس : لو تفرَّقوا . وقال ابن قتيبة ، والزجاج : لو تميَّزوا . قال المفسرون : لو انماز المؤمنون من المشركين { لعذَّبْنا الذين كفروا } بالقتل والسَّبْي بأيديكم . وقال قوم : لو تزيَّل المؤمنون من أصلاب الكُفّار لعذَّبْنا الكفار . وقال بعضهم : قوله : « لعذَّبْنا » جواب لكلامين .
أحدهما : « لولا رجال » ،
والثاني : « لو تزيَّلوا » وقوله { إِذ جَعَل } من صلة قوله { لعذَّبْنا } . والحميَّة : الأنَفَة والجَبَريَّة . قال المفسرون : وإنما أخذتهم الحمية حين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول مكة ، فقالوا : يدخلون علينا [ وقد قتلوا ] أبناءنا وإِخواننا فتتحدَّث العربُ بذلك! واللهِ لا يكون ذلك ، { فأنْزَلَ اللهُ سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } فلم يَدخُلْهم ما دخل أولئك فيخالفوا الله في قتالهم . وقيل : الحميَّةُ ما تداخل سهيلَ بن عمرو من الأنَفَة أن يكتُب في كتاب الصُّلح ذِكْر « الرحمن الرحيم » وذِكْر « رسول الله » صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { وألزَمَهم كَلِمةَ التَّقوى } فيه خمسة أقوال .
أحدهما : « لا اله إلا الله » ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، وابن زيد في آخرين ، وقد روي مرفوعاً إِلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فعلى هذا يكون معنى : « ألزَمَهم » : حَكَمَ لهم بها ، وهي التي تَنفي الشِّرك .
والثاني : « لا إِله إلا الله والله أكبر » ، قاله ابن عمر . وعن علي بن أبي طالب كالقولين .
والثالث : « لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له له المُلك وله الحمد وهو على كل شيء قدير » ، قاله عطاء بن أبي رباح .
والرابع : « لا ِإله إِلا الله محمد رسول الله » ، قاله عطاء الخراساني .
والخامس : « بسم الله الرحمن الرحيم » ، قاله الزهري .
فعلى هذا يكون المعنى : أنه لمّا أبى المشركون أن يكتُبوا هذا في كتاب الصُّلح ، ألزمه اللهُ المؤمنين . { وكانوا أحقَّ بها } من المشركين { و } كانوا { أهلَها } في عِلْم الله تعالى .

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)

قوله تعالى : { لقد صَدَقَ اللهُ رسولَه الرُّؤيا بالحق } قال المفسرون : سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أُري في المنام قبل خروجه إلى الحديبية قائلاً يقول له : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام } إِلى قوله { لا تَخافونَ } ورأى كأنه هو وأصحابه يدخُلون مكة وقد حَلَقوا وقصَّروا ، فأخبر بذلك أصحابَه ففرِحوا ، فلمّا خرجوا إِلى الحديبية حَسِبوا أنهم يدخُلون مكة في عامهم ذلك ، فلمّا رجعوا ولم يدخُلوا قال المنافقون : أين رؤياه التي رأى؟! فنزلت هذه الآية ، فدخلوا في العام المقبل .
وفي قوله : { إِنْ شاء اللهُ } ستة أقوال .
أحدها : أن « إن » بمعنى « إذ » ، قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة .
والثاني : أنه استثناء من الله ، وقد عَلِمه ، والخَلْق يستثنون فيما لا يَعْلَمون ، قاله ثعلب؛ فعلى هذا يكون المعنى أنه عَلِم أنهم سيدخُلونه ، ولكن استثنى على ما أُمر الخَلْق به من الاستثناء .
والثالث : أن المعنى : لتدخُلُنَّ المسجد الحرام إِن أمركم اللهُ به ، قاله الزجاج .
والرابع : أن الاستثناء يعود إلى دخول بعضهم أو جميعهم ، لأنه عَلِم أن بعضهم يموت ، حكاه الماوردي .
والخامس : أنه على وجه الحكاية لِما رآه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في المنام أن قائلاً يقول { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شاء الله آمنين } ، حكاه القاضي أبو يعلى .
والسادس : أنه يعود إِلى الأمن والخوف ، فأمّا الدُّخول ، فلا شَكَّ فيه ، حكاه الثعلبي .
قوله تعالى : { آمنين } من العَدُوِّ { محلِّقين رؤوسكم ومقصِّرين } من الشَّعر { لا تَخافونَ } عدُوّاً .
{ فعَلِم ما لم تَعْلَموا } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : عَلِم أن الصَّلاح في الصُّلح .
والثاني : أن في تأخير الدُّخول صلاحاً .
والثالث : فعلم أن يفتح عليكم خيبر قبل ذلك .
قوله تعالى : { فجَعَلَ مِنْ دون ذلك فتحاً قريباً } فيه قولان .
أحدهما : فتح خيبر ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال عطاء ، وابن زيد ، ومقاتل .
والثاني : صلح الحديبية ، قاله مجاهد ، والزهري ، وابن إِسحاق وقد بيَّنّا كيف كان فتحاً في أول السورة .
وما بعد هذا مفسر في [ براءة : 33 ] إِلى قوله : { وكفى بالله شهيداً } وفيه قولان .
أحدهما : أنه شَهِدَ له على نَفْسه أنه يُظْهِره على الدِّين كُلِّه ، قاله الحسن .
والثاني : كفى به شهيداً أن محمداً رسوله قاله مقاتل .

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)

قوله تعالى : { محمدٌ رسولُ الله } وقرأ الشعبي ، وأبو رجاء ، وأبو المتوكل ، والجحدري : « محمداً رسولُ الله » بالنصب فيهما . قال ابن عباس شَهِد : له بالرِّسالة .
قوله تعالى : { والذين معه } يعني أصحابه والأشدّاء : جمع شديد . قال الزجاج : والأصل أَشْدِدَاءُ ، نحو نصيب وأنصباء ، ولكن الدّالَين تحركتا ، فأُدغمت الأولى في الثانية ، [ ومثله ] { مَنْ َيْرَتَّد منكم } [ المائدة : 54 ] .
قوله تعالى : { رُحَماءُ بينَهم } الرُّحَماء جمع رحيم ، والمعنى : أنهم يُغْلِظون على الكفار ، وَيتوادُّون بينَهم { تَراهم رُكَّعاً سُجَّداً } يَصِفُ كثرة صَلاتهم { يبتغون فَضْلاً من الله } وهو الجنة { ورِضواناً } وهو رضى الله عنهم . وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجُمهور وروى مبارك بن فضاله عن الحسن البصري أنه قال : « والذين معه » أبو بكر « أشداء على الكفار » عمر « رحماء بينهم » عثمان « تراهم رُكَّعاً سُجَّداً » عليّ بن أبي طالب « يبتغون فضلاً من الله ورضواناً » طلحة والزبير وعبدالرحمن وسعد وسعيد وأبو عبيدة .
قوله تعالى : { سِيماهم } أي : علامتهم { في وُجوههم } ، وهل هذه العلامة في الدنيا ، أم في الآخرة؟ فيه قولان .
أحدهما : في الدنيا . ثم فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها السَّمْت الحسن ، قاله ابن عباس في رواية ابن أبي طلحة؛ وقال في رواية مجاهد : أما إِنه ليس بالذي ترون ، ولكنه سيما الإِسلام وسَمْتُه وخُشوعُه ، وكذلك قال مجاهد : ليس بِنَدَبِ التراب في الوجه ، ولكنه الخُشوع والوَقار والتواضع .
والثاني : أنه نَدَى الطَّهور وتَرَى الأرض ، قاله سعيد بن جبير . وقال أبو العالية : لأنهم يسجُدون على التراب لا على الأثواب . وقال الأوزاعي : بلغني أنه ما حمَلَتْ جباهُهم من الأرض .
والثالث : أنه السُّهوم ، فإذا سهم وجه الرجُل من الليل أصبح مُصفارّاً . قال الحسن البصري : « سيماهم في وجوههم » : الصُّفرة؛ وقال سعيد بن جبير : أثر السهر؛ وقال شمر بن عطية : هو تهيُّج في الوجه من سهر الليل .
والقول الثاني : أنها في الآخرة . ثم فيه قولان .
أحدهما : أن مواضع السجود من وجوههم يكون أشدَّ وجوههم بياضاً يوم القيامة ، قاله عطية العوفي ، وإِلى نحو هذا ذهب الحسن ، والزهري . وروى العوفي عن ابن عباس قال : صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة .
والثاني : أنهم يُبْعَثون غُراً محجَّلين من أثر الطَّهور ، ذكره الزجاج .
قوله تعالى : { ذلك مَثَلُهم } أي : صِفَتُهم والمعنى أن صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه { في التوراة } هذا .
فأما قوله : { ومَثَلُهم في الإِنجيل } ففيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن هذا المَثَل المذكور أنه في التوراة هو مَثَلُهم في الإِنجيل . قال مجاهد : مَثَلُهم في التوراة والإِنجيل واحد .
والثاني : أن المتقدِّم مَثَلُهم في التوراة ، فأمّا مَثَلُهم في الإِنجيل فهو قوله : { كزرعٍ } ، وهذا قول الضحاك ، وابن زيد .

والثالث : أن مَثَلَهُم في التوراة والإِنجيل كزرع ، ذكر هذه الأقوال أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { أَخْرَجَ شَطْأهَُ } وقرأ ابن كثير ، وابن عامر : [ « شَطَأَهُ » بفتح الطاء والهمزة . وقرأ نافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : { شطْأه } بسكون الطاء . وكلهم يقرأ بهمزة مفتوحة . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وأبو العالية ، وابن أبي عبلة ] : { شَطاءَهُ } بفتح الطاء [ وبالمد ] والهمزة وبألف . قال أبو عبيدة : أي فِراخه يقال أشطأ الزَّرعُ فهو مُشْطِىءُ : إِذا أفرخ { فآزره } أي : ساواه ، وصار مثل الأُمّ . وقرأ ابن عامر : « فأَزَرَهُ » مقصورة الهمزة مثل فَعَلَهُ . وقال ابن قتيبة : آزره أعانه وقوّاه { فاستغلظ } أي : غَلُظ { فاستوى على سُوقِهِ } وهي جمع « ساق » ، وهذا مَثَلٌ ضربه اللهُ عز وجل للنبيَّ صلى الله عليه وسلم إِذ خرج وحده ، فأيَّده بأصحابه ، كما قوَّى الطَّاقة من الزَّرع بما نبت منها حتى كَبُرتْ وغَلُظت واستحكمت . وقرأ ابن كثير : على « سُؤْقه » مهموزة؛ والباقون بلا همزة . وقال قتادة : في الإِنجيل : سيَخْرج قومٌ ينبتون نبات الزَّرع . وفيمن أُريدَ . بهذا المثَل قولان .
أحدهما : أن أصل الزَّرع : عبد المطلب « أخرج شطأه » أخرج محمداً صلى الله عليه وسلم { فآزره } : بأبي بكر { فاستغلظ } : بعمر { فاستوى } : بعثمان { على سوقه } : عليّ بن أبي طالب ، رواه سعيد ابن جبير عن ابن عباس .
والثاني : أن المراد بالزَّرع محمد صلى الله عليه وسلم « أخرج شطأه » أبو بكر « فآزره » بعمر « فاستغلظ » بعثمان « فاستوى على سوقه » : بعليّ { يُعْجِبُ الزُّرّاعَ } : يعني المؤمنين « لِيَغيظَ بهم الكُفّار » وهو قول عمر لأهل مكة : لا يُعْبَدُ اللهُ سِرَاً بعد اليوم ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، ومبارك عن الحسن .
قوله تعالى : { لِيَغيظَ بهم الكُفّار } أي : إِنَّما كثَّرهم وقوَّاهم لِيَغيظ بهم . الكُفّار . وقال مالك بن أنس : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية . وقال ابن إِدريس : لا آمَنُ أن يكونوا قد ضارعوا الكُفّار ، يعني الرّافضة ، لأن الله تعالى يقول : « لِيَغيظَ بهم الكُفّار » .
قوله تعالى : { وَعَدَ اللهُ الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحات منهم مغفرةً وأجراً عظيماً } قال الزجاج : في « مِنْ » قولان .
أحدهما : أن يكون تخليصاً للجنس من غيره ، كقوله { فاجتَنِبوا الرِّجْسَ من الأوثان } [ الحج : 30 ] ، ومثله أن تقول : أَنْفِقْ من الدَّراهم ، أي : اجعل نفقتك من هذا الجنس . قال ابن الأنباري : معنى الآية : وَعَدَ اللهُ الذين آمَنوا من هذا الجنس ، أي من جنس الصحابة .
والثاني : أن يكون [ هذا ] الوعْدُ لِمن أقام منهم على الإيمان والعمل الصالح .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)

قوله تعالى : { يا أيَّها الذين آمَنوا لا تُقَدِّموا بينَ يَدَيَ الله ورسولِه } في سبب نزولها أربعة أقوال .
أحدها : أن رَكْباً من بني تميم قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أَمِّرِ القعقاعَ ابنَ معبد ، وقال عمر : أَمِّرِ الأقرعَ بن حابس ، فقال أبو بكر : ما أردتَ إِلا خِلافي ، وقال عمر : ما أردتُ خلافَك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتُها فنزل قوله : { يا أيُّها الذين آمَنوا لا تُقَدِّموا بين يَدَيِ اللهِ ورسولِه } إلى قوله : { ولَوْ أنَّهم صَبَروا } فما كان عمرُ يسْمِع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم [ بعد هذه الآية ] حتى يستفهمه ، رواه عبد الله بن الزبير .
والثاني : أن قوماً ذَبحوا قبل أن يُصَلِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ النَّحر ، فأمرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُعيدوا الذَّبح ، فنزلت الآية ، قاله الحسن .
والثالث : أنها نزلت في قوم كانوا يقولون : لو أنزَلَ اللهُ فِيَّ كذا وكذا! فكَرِه اللهُ ذلك ، وقدَّم فيه ، قاله قتادة .
والرابع : [ أنها ] نزلت في عمرو بن أميّة الضّمْري ، وكان قد قتل رجُلين من بني سليم قبل أن يستأذن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن السائب . وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : لا تقولوا خلاف الكتاب والسُّنَّة . وروى العوفي عنه قال : نُهو أن يتكلمَّوا بين يَدَيْ كلامه . وروي عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية قالت : لا تصوموا قبل أن يصومَ نبيُّكم . ومعنى الآية على جميع الأقوال : لا تعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل . قال ابن قتيبة : يقال فلانٌ يُقَدِّم بين يَدَيِ الإِمام وبين يَدَي أبيه ، أي يُعجِّل بالأمر والنهي دونه .
فأمّا { تُقدِّموا } فقرأ ابن مسعود وأبو هريرة ، وأبو رزين ، وعائشة ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وعكرمة ، والضحاك وابن سيرين ، وقتادة ، وابن يعمر ، ويعقوب : بفتح التاء والدال؛ وقرأ الباقون : بضم التاء وكسر الدال . قال الفراء : كلاهما صواب ، يقال : قَدَّمْتُ وتَقَدَّمْتُ؛ وقال الزجاج : كلاهما واحد؛ فأمّا « بينَ يَدَيِ اللهِ ورسولِهِ » فهو عبارة عن الأمام ، لأن ما بين يَدَيِ الإِنسان أمامَه؛ فالمعنى : لا تَقَدَّموا قُدّام الأمير .
قوله تعالى : { لا تَرْفَعوا أصواتَكم } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن أبا بكر وعمر رفعا أصواتهما فيما ذكرناه آنفاً في حديث ابن الزبير ، وهذا قول ابن أبي مليكة .
والثاني : [ أنها ] نزلت في ثابت بن قيس بن شمَّاس ، وكان جَهْوَرِيَّ الصَّوت ، فربما كان إِذا تكلَّم تأذَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بصوته ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { ولا تَجهر له بالقَوْلِ } فيه قولان .
أحدهما : أن الجهر بالصَّوت في المخاطبة ، قاله الأكثرون .

والثاني : لا تَدْعوه باسمه : يا محمد ، كما يدعو بعضُكم بعضاً ، ولكن قولوا : يا رسول الله ، ويا نبيَّ الله ، وهو معنى قول سعيد بن جبير ، والضحاك ، ومقاتل .
قوله تعالى : { أن تَحْبَطَ } قال ابن قتيبة : لئلا تَحْبَطَ . وقال الأخفش : مَخافة أن تَحْبَطَ . قال أبو سليمان الدمشقي : وقد قيل معنى الإحباط هاهنا : نقص المَنْزِلة ، لا إِسقاط العمل من أصله كما يسقط بالكفر .
قوله تعالى : { إِن الذين يَغُضُّونَ أصواتَهم } قال ابن عباس : لمّا نزل قوله : « لا ترفعوا أصواتكم » تألَّى أبو بكر أن لا يكلِّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إِلاّ كأخي السّرار ، فأنزل اللهُ في أبي بكر : { إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتَهم } ، والغَضُّ : النَّقْص كما بيَّنّا عند قوله : { قُلْ للمؤمنين يَغِضُّوا } [ النور : 30 ] .
{ أولئك الذين امْتَحَنَ اللهُ قلوبَهم } قال ابن عباس : أخلصها { للتقوى } من المعصية . وقال الزجاج : اختبر قلوبهم فوجدهم مُخلصين ، كما تقول : قد امتحنت هذا الذهب والفضة ، أي : اختبرتهما بأن أذبتهما حتى خَلَصا ، فعلمت حقيقة كل واحد منهما . وقال ابن جرير : اختبرها بامتحانه إيّاها فاصطفاها وأخلصها للتَّقوى .

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

قوله تعالى : { إِنَّ الذين ينادونك مِنْ وراءِ الحُجُرات } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : « أن بني تميم جاؤوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادَوْا على الباب : يا محمد اخرُج إِلينا ، فإنَّ مَدْحَنا زَيْن وإِن ذَمَّنا شَيْن ، فخرج وهو يقول : » إنما ذلكم الله « ، فقالوا : نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك ، فقال : » ما بالشعر بُعِثْتُ ولا بالفخَار أُمِرْتُ ، ولكن هاتوا « فقال الزبرقان بن بدر لشابً منهم قمُ ْفاذكُر فَضْلك وفَضْل قومك ، فقام فذكر ذلك ، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثابتَ بن قيس ، فأجابه ، وقام شاعرُهم ، فأجابه حسان ، فقال الأقرع بن حابس : والله ما أدري ما هذا الأمر؟! تكلَّم خطيبُنا فكان خطيبُهم أحسنَ قولاَ ، وتكلم شاعرُنا فكان شاعرُهم أشعَر ، ثم دنا فأسلم ، فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم ، وارتفعت الأصوات وكثر اللَّغَط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية » ، هذا قول جابر بن عبد الله في آخرين . وقال ابن اسحاق : نزلت في جُفاة بني تميم ، وكان فيهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ، والزبرقان بن بدر ، [ وقيس بن عاصم المنقري ] ، وخالد بن مالك ، وسويد بن هشام ، وهما نهشليَّان ، والقعقاع بن معبد ، وعطاء بن حابس ، ووكيع بن وكيع .
والثاني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سريَّة إِلى بني العنبر ، وأمَّر عليهم عيينة بن حصن الفزاري ، فلما عَلِموا بذلك هربوا وتركوا عيالهم ، فسباهم عيينة ، فجاء رجالُهم يَفْدون الذَّراري ، فقَدِموا وقت الظهيرة ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائل ، فجعلوا : ينادون يا محمد اخْرُج إِلينا ، حتى أيقظوه ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس .
والثالث : أن ناساً من العرب قال بعضهم لبعض : انطلِقوا بنا إِلى هذا الرجُل ، فإن يكن نبيّاً نكن أسعد الناس به ، وإِن يكن ملِكاً نعش في جناحه ، فجاؤوا ، فجعلوا ينادون : يا محمد ، يا محمد ، فنزلت هذه الآية ، [ قاله زيد بن أرقم ] .
فأمّا « الحجرات » فقرأ أُبيُّ بن كعب ، وعائشة ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، ومجاهد وأبو العالية ، وابن يعمر ، [ وأبو جعفر وشيبة ] : بفتح الجيم؛ وأسكنها أبو رزين ، وسعيد بن المسيب ، وابن أبي عبلة؛ وضمها الباقون . قال الفراء : وجه الكلام أن تُضمَّ الحاء والجيم ، وبعض العرب يقول : الحُجُرات والرُّكبات ، وربما خفَّفوا فقالوا : « الحُجْرات » ، والتخفيف في تميم ، والتثقيل في أهل الحجاز . وقال ابن قتيبة . واحد الحُجُرات حُجرة ، مثل ظُلْمة وظُلُمات . قال المفسرون : وإنما نادَوا من وراء الحُجرات ، لأنهم لم يعلموا في أيّ الحُجَر رسولُ الله .
قوله تعالى : { ولو أنَّهم صَبَروا حتى تخْرُجَ إِليهم لكان خيراً لهم } قال الزجاج : أي : لكان الصَّبر خيراً لهم . وفي وجه كونه خيراً لهم قولان .
أحدهما : لكان خيراً لهم فيما قَدِموا له من فداء ذراريهم ، فلو صَبَروا خلَّى سبيلهم بغير فداءٍ ، قاله مقاتل .
والثاني : لكان أحسنَ لآدابهم في طاعة الله ورسوله ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { واللهُ غفورٌ رحيمٌ } أي : لمن تاب منهم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

قوله تعالى : { إِن جاءكم فاسقٌ بنبأٍ فتبيَّنوا } نزلت في الوليد بن عقبة ، بعثه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلى بني المصطلق ليِقَبْضِ صدقاتهم ، وقد كانت بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فسار بعضَ الطريق ، ثم خاف فرجع فقال : إِنهم قد منعوا الصدقة وأرادوا قتلي ، فصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم البَعْثَ إِليهم ، فنزلت هذه الآية . وقد ذكرتُ القصد في كتاب « المُغني » وفي « الحدائق » مستوفاة ، وذكرتُ معنى { فتبيَّنوا } في سورة [ النساء : 94 ] ، والنَّبأ : الخبر ، و « أنْ » بمعنى « لئلاً » ، والجهالة هاهنا : أن يجهل حال القوم ، { فتُصْبِحوا على ما فَعَلْتم } من إِصابتهم بالخطأِ { نادمين } .
ثم خوَّفهم فقال : { واعْلَموا أن فيكم رسولَ اللهَ } أي : إِن كَذَبتموه أَخبره اللهُ فافتُضِحْتُم ، ثم قال : { لو يُطِيعُكم في كثيرٍ من الأمر } أي : ممّا تخبرونه فيه بالباطل { لَعَنِتُّم } أي : لَوَقَعْتُم في عَنََتٍ . قال ابن قتيبة : وهو الضَّرر والفساد . وقال غيره : هو الإِثم والهلاك وذلك أن المسلمين لمّا سَمِعوا أن أولئك القوم قد كَفَروا قالوا : ابْعَثْ إِليهم يا رسولَ الله واغْزُهم واقْتُلهم؛ ثم خاطب المؤمنين فقال : { ولكنَّ الله حَبَّب إِليكم الإِيمان } إِلى قوله : { والعِصيانَ } ، ثم عاد إِلى الخبر عنهم فقال : { أولئك هم الرّاشدون } أي : المهتدون إِلى محاسن الأُمور ، { فَضْلاً من الله } قال الزجاج : المعنى : ففعل بكم ذلك فضلاً ، أي : للفضل والنّعمة .

وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)

قوله تعالى : { وإِنْ طائفتان . . . . } الآية ، في سبب نزولها قولان .
أحدهما : ما روى البخاري ومسلم في « الصحيحين » من حديث أنس بن مالك قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أتيتَ عبدَ الله ابن أُبيٍّ ، فركب حماراً وانطلق معه المسلمون يمشون ، فلمّا أتاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال : إِليكَ عنِّي ، فوالله لقد آذاني نتن حمارك . فقال رجل من الأنصار : واللهِ لحمارُ رسولِ الله أطيبُ ريحاُ منك ، فغضب لعبد الله رجلٌ من قومه ، وغضب لكل واحد منهما أصحابُه فكان بينهم ضربٌ بالجريد والأيدي والنِّعال ، فبلغَنا أنه أُنزلت فيهم { وإِن طائفتان . . . } الآية . وقد أخرجا جميعاً من حديث أسامة ابن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يعود سعد بن عبادة ، فمرَّ بمجلس فيهم عبدُ الله بن أُبيّ ، وعبدُ الله بن رواحة ، فخمَّر ابنُ أُبيّ وجهه بردائه ، وقال : لا تغبِّروا علينا . فذكر الحديث ، وأن المسلمين والمشركين واليهود استَبُّوا . وقد ذكرت الحديث بطوله في « المغني » و « الحدائق » . وقال مقاتل : وقف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار وهو على حمار له ، فبال الحمار ، فقال عبد الله بن أُبيٍّ : أف ، وأمسك على أنفه . فقال عبد الله بن رواحة : واللهِ لَهُوَ أطيبُ ريحاً منك ، فكان بين قوم ابن أُبيُّ وابن رواحة ضرب بالنِّعال والأيدي والسَّعَف ، ونزلت هذه الآية .
والقول الثاني : أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مُماراة في حقِّ بينهما ، فقال أحدهما : لآخذنَّ حقي عَنوة ، وذلك لكثرة عشيرته ، ودعاه الآخر ليحاكمه إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل الأمر بينهما حتى تناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال ، قاله قتادة . وقال مجاهد : المراد بالطائفتين : الأوس والخزرج؛ اقتتلوا بالعصي بينهم . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وابن مسعود ، وأبو عمران الجوني : « اقتتلا » على فعل اثنين مذكَّرين . وقرأ أبو المتوكل الناجي ، وأبو الجون ، وابن أبي عبلة { اقتتلتا } بتاء وألف بعد اللام على فعل اثنين مؤنثتين . وقال الحسن وقتادة والسدي { فأصلِحوا بينهما } بالدعاء إِلى حكم كتاب الله عز وجل والرضى بما فيه لهما وعليها { فإن بغت إِحداهما } طلبت ما ليس لها ، ولم ترجع إَلى الصلح ، { فقاتِلوا التي تبغي حتى تفيءَ } أي : تَرْجِع { إِلى أمر الله } أي : إِلى طاعته في الصلح الذي أمر به .
قوله تعالى : { وأَقسِطوا } أي : اعدلوا في الإِصلاح بينهما .
قوله تعالى : { إِنما المؤمنون إِخوة } قال الزجاج : إِذا كانوا متفقين في دينهم رجَعوا باتفاقهم إِلى أصل النسب ، لأنهم لآدم وحواءَ ، فإذا اختلفت أديانهم افترقوا في النسب .
قوله تعالى : { فأصِلحوا بين أخويكم } قرأ الأكثرون « بين أخويكم » بياء على التثنية . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، ومعاوية ، وسعيد بن المسيب ، وابن جبير ، [ وقتادة ] ، وأبو العالية ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة ، ويعقوب : « بين إِخوتكم » بتاء مع كسر الهمزة على الجمع . وقرأ علي بن أبي طالب ، وأبو رزين ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، والشعبي ، وابن سيرين : « بين إخوانكم » بالنون وألف قبلها . قال قتادة : ويعني بذلك الأوس والخزرج .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)

قوله تعالى : { لا يَسْخَر قومٌ من قوم } هذه الآية نزلت على ثلاثة أسباب؛ فأما أولها : إلى قوله تعالى : { خيراً منهم } فنزلت على سبب وفيه قولان .
أحدهما : أن ثابت بن قيس بن شمَّاس جاء يوماً يريد الدُّنُوَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان به صمم ، فقال لرجل بين يديه : افسح ، فقال له الرجل : قد أصبتَ مجلساً ، فجلس مُغْضَباً ثم قال للرجل : من أنت؟ قال أنا فلان . فقال ثابت : أنت ابن فلانة!! فذكر أمّاً له كان يعيَّر بها في الجاهلية ، فأغضى الرجل ونَكَسَ رأسَه ونزل قوله تعالى : { لا يَسْخَر قومٌ من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم } ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أن وفد تميم استهزؤوا بفقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لِما رأَوا من رثاثة حالهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله الضحاك ومقاتل .
وأما قوله تعالى { ولا نساءٌ من نساء } فنزلت على سبب ، وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم عيَّرن أًمَّ سَلَمة بالقِصَر ، فنزلت هذه [ الآية ] ، قاله أنس بن مالك . وزعم مقاتل أن عائشة استهزأت من قِصَر أًمِّ سَلَمة .
والثاني : أن امرأتين من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم سَخِرتا من أم سلمة زوجِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت أم سلمة قد خرجت ذات يوم وقد ربطت أحد طرفي جلبابها على حَقْوها ، وأرخت الطرف الآخر خلفها ، ولا تعلم ، فقالت إِحداهما للأخرى : انظُري ما خَلْفَ أم سلمة كأنه لسان كلب ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : « أن صفيَّة بنت حُيَيّ بن أخطب أتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إِن النساء يعيِّرنني ويقُلن : يا يهودية بنت يهوديَّين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هلاّ قُلْتِ : إِن أبي هارون ، وإِن عمِّي موسى ، وإن زوجي محمد » فنزلت هذه الآية ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
وأما قوله تعالى { ولا تَلْمِزوا أنفُسَكم ولا تَنابزوا بالألقاب } فنزلت على سبب ، وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِمَ المدينة ولهم ألقاب يُدْعَون بها ، فجعل الرجل يدعو الرجل بلقَبه ، فقيل له : يا رسول الله : إِنهم يكرهون هذا ، فنزل قوله تعالى : « ولا تَنابزوا بالألقاب » ، قاله أبو جبيرة بن الضحاك .
والثاني : أن أبا ذر كان بينه وبين رجل منازعة ، فقال له الرجل : يا ابن اليهودية ، فنزلت : « ولا تَنابزوا بالألقاب » ، قاله الحسن .
والثالث : أن كعب بن مالك الأنصاري كان بينه وبين عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي كلام ، فقال له : يا أعرابي ، فقال له عبد الله : يا يهودي فنزلت فيهما { ولا تَلمزوا أنفُسكم ولا تَنابزوا بالألقاب } قاله مقاتل .

وأمّا التفسير ، فقوله تعالى : { لا يَسخر قومٌ من قوم } أي : لا يستهزئ غنيٌّ بفقير ، ولا مستور عليه ذنْبُه بمن لم يُستَر عليه ، ولا ذو حَسَب بلئيم الحَسَب ، وأشباه ذلك ممّا يتنقَّصه به ، عسى أن يكون عند الله خيراً [ منه ] . وقد بيَّنّا في [ البقرة : 54 ] أن القوم اسم الرجال دون النساء ، ولذلك قال : « ولا نساءٌ من نساء » و « تَلْمِزوا » بمعنى تَعيبوا ، وقد سبق بيانه [ التوبة : 58 ] . والمراد بالأنفُس هاهنا : الإِخوان . والمعنى : لا تَعيبوا إِخوانكم من المسلمين لأنهم كأنفسكم ، والتنابز : التفاعل من النَّبْز ، وهو مصدر ، والنَّبَز الاسم . { والألقاب } جمع لقب ، وهو اسم يُدعى به الإنسان سوى الاسم الذي سمِّي به . قال ابن قتيبة : { ولا تَنابزوا بالألقابَ } أي : لا تتداعَوْا بها . و « الألقاب » و « الأنْباز » واحد ، ومنه الحديث : « نَبْزُهم الرافضة » أي : لقبُهم . وللمفسرين في المراد بهذه الألقاب أربعة أقوال .
أحدها : تعيير التائب بسيِّئات قد كان عملها ، رواه عطية العوفي عن ابن عباس .
والثاني : أنه تسميته بعد إسلامه بدينه قبل الإِسلام كقوله لليهودي إِذا أسلم : يا يهودي ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً . وبه قال الحسن ، وسعيد ابن جبير ، وعطاء الخراساني ، والقرظي .
والثالث : أنه قول الرجل للرجل : يا كافر ، يا منافق ، قاله عكرمة .
والرابع : أنه تسميته بالأعمال السيئة ، كقوله : يا زاني؛ يا سارق ، يا فاسق ، قاله ابن زيد . قال : أهل العلم : والمراد بهذه الألقاب : ما يكرهه المنادَى به ، أو يُعَدُّ ذمَاً له . فأمّا الألقاب التي تكسب حمداً وتكون صدقاً ، فلا تُكره ، كما قيل لأبي بكر : عتيق ، ولعمر : فاروق ، ولعثمان : ذو النورين ، ولعليّ : أبو تراب ، ولخالد سيف الله ، ونحو ذلك . وقوله { بئسَ الاسمُ الفُسوق } أي : تسميتُه فاسقاً أو كافراً وقد آمن ، { ومن لم يَتُب } من التَّنابُز { فأولئك هم الظالمون } وفيه قولان .
أحدهما : الضارُّون لأنْفُسهم بمعصيتهم ، قاله ابن عباس .
والثاني : هم أظلم من الذين قالوا لهم ذلك ، قاله ابن زيد .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

قوله تعالى : { اجتنبوا كثيراً من الظَّنِّ } قال ابن عباس : نهى اللهُ تعالى المؤمنَ أن يظُنَّ بالمؤمن شرّاً . وقال سعيد بن جبير : هو الرجل يسمع من أخيه كلاماً لا يريد به سوءاً أو يدخُل مَدخلاً لا يريد به [ سوءاً ] ، فيراه أخوه المسلم فيظُن به سوءاً . وقال الزجاج : هو أن يظُن بأهل الخير سوءاً ، فأمّا أهل السوء والفسق ، فلنا أن نظُنَّ بهم مِثْل الذي ظهر منهم . قال القاضي أبو يعلى : هذه الآية تدل على أنه لم يُنْه عن جميع الظَّنّ؛ والظَّنُّ على أربعة أضرب . محظور ، ومأمور به ، ومباح ومندوب إِليه ، فأمّا المحظور ، فهو سوء الظن بالله تعالى ، والواجب : حُسْنُ الظن بالله ، وكذلك سوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرُهم العدالةُ محظور ، وأما الظن المأمور به ، فهو ما لم ينصب عليه دليل يوصل إِلى العِلْم به ، وقد تُعُبِّدنا بتنفيذ الحُكم فيه ، والاقتصار على غالب الظن ، وإجراء الحُكم عليه واجب ، وذلك نحو ما تُعُبِّدنا به من قبول شهادة العُدول ، وتحرِّي القِبلة ، وتقويم المستهلَكات ، وأروش الجنايات التي لم يَرِدْ بمقاديرها توقيف ، فهذا وما كان من نظائره قد تُعُبِّدنا فيه بأحكام غالب الظنُّون . فأمّا الظن المباح : فكالشّاكِّ في الصلاة إِذا كان إماماً ، أمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالتحرِّي والعملِ على ما يَغْلِب في ظنِّه ، وإن فعله كان مباحاً ، وإِن عَدَلَ عنه إِلى البناء على اليقين كان جائزاً . وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إِذا ظَنَنْتُم فلا تحقّقوا » وهذا من الظن الذي يَعْرِض في قلب الإِنسان في أخيه فيما يوجب الرِّيبة فلا ينبغي له أن يحقِّقه . وأما الظن المندوب إِليه : فهو إِحسان الظن بالأخ المسلم يُنْدَب إِليه ويُثاب عليه . فأمّا ما روي في الحديث : « احترِسوا من الناس بسوء الظن » فالمراد : الإحتراس بحفظ المال ، مثل أن يقول : إن تركت بابي مفتوحاً خشيت السُّرّاق .
قوله تعالى : { إِنَّ بعض الظَّنِّ إِثم } قال المفسرون : هو ما تكلم به مما ظنَّه من السُّوءِ بأخيه المسلم ، فإن لم يتكلَّم به فلا بأس ، وذهب بعضهم إِلى أنه يأثم بنفس ذلك الظن وإِن لم يَنْطِق به .
قوله تعالى : { ولا تَجَسَّسوا } وقرأ أبو رزين ، والحسن ، والضحاك ، وابن سيرين ، وأبو رجاء ، وابن يعمر : بالحاء . قال أبو عبيدة : التجسس والتحسس واحد ، وهو التَّبحُّث ومنه الجاسوس . وروي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال : التجسس ، بالجيم : البحث عن عورات الناس ، وبالحاء : الاستماع لحديث القوم . قال المفسرون : التجسس : البحث عن عيب المسلمين وعوراتهم؛ فالمعنى : لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه ليطَّلع عليه إِذ ستره الله . وقيل لابن مسعود : هذا الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً ، فقال : إِنا نُهينا عن التجسس ، فإن يَظهرْ لنا شيء نأخذْه به .

قوله تعالى : { ولا يَغْتَبْ بعضُكم بعضاً } أي : لا يتناول بعضُكم بعضاً بظهَر الغَيْب بما يَسوؤُه . وقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل ما الغيبة؟ قال : « ذِكْرُكَ أخاك بما يََكره » ، قال : أرأيتََ إن كان في أخي ما أقول قال : « إِن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته ، وإِن لم يكن فيه فقد بهتَّه » . ثم ضَرَبَ اللهُ للغِيبة مثلاً فقال : { أيُحِبُّ أحدُكم أن يأكل لحم أخيه مَيْتاً } وقرأ نافع « ميّتاً » بالتشديد . قال الزجاج : وبيانه أن ذِكرك بسوءٍ مَنْ لم يَحْضُر ، بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يُحِسُّ بذلك . قال القاضي أبو يعلى : وهذا تأكيد لتحريم الغيبة ، لأن أكل لحم المسلم محظور ، ولأن النُّفوس تَعافُه من طريق الطَّبع ، فينبغي أن تكون الغِيبة بمنزلته في الكراهة .
قوله تعالى : { فكرِهتموه } وقرأ الضحاك ، وعاصم الجحدري { فكُرّهتموه } برفع الكاف وتشديد الراء . قال الفراء : أي : وقد كرهتموه فلا تفعلوه ، ومن قرأ « فكُرّهتموه » أي : فقد بُغِّض إِليكم ، والمعنى واحد . قال الزجاج : والمعنى : كما تكرهون أكل لحمه ميتاً ، فكذلك تجنَّبوا ذِكْره بالسُّوء غائباً .
قوله تعالى : { واتَّقوا الله } أي : في الغِيبة { إِن الله توّابٌ } على من تاب { رحيمٌ } به .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

قوله تعالى : { يا أيُّها النَّاس إِنّا خلقناكم من ذكر وأنثى } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : نزلت في ثابت بن قيس وقولِه في الرجل الذي لم يفسح له : أنت ابن فلانة ، وقد ذكرناه عن ابن عباس في قوله : { لا يسخرْ قومٌ من قوم } [ الحجرات : 11 ] .
والثاني : أنه لمّا كان يوم الفتح أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فصَعِد على ظهر الكعبة فأذَّن ، وأراد أن يُذِلَّ المشركين بذلك ، فلما أذَّن قال عتاب بن أَسِيد : الحمدُ لله الذي قبض أسيداً قبل اليوم ، وقال الحارث بن هشام : أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسودِ مؤذِّناً؟! وقال سهيل بن عمرو : إن يَكْرَهِ اللهُ شيئاً يغيِّره . وقال أبو سفيان : أمّا أنا فلا أقول شيئاً ، فإنِّي إن قُلتُ شيئاً لَتْشْهَدَنَّ عليَّ السماءُ ، ولَتُخْبِرَنَّ عنِّي الأرض ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل .
والثالث : أن عبداً أسود مرض فعاده رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قُبض فتولَّى غسله وتكفينه ودفنه ، فأثَّر ذلك عند الصحابة ، فنزلت هذه الآية ، قاله يزيد بن شجرة . فأمّا المراد بالذَّكَر والأُنثى ، فآدم وحوَّاء . والمعنى : إِنكم تتساوَوْن في النسب؛ وهذا زجر عن التفاخر بالأنساب . فأمّا الشُّعوب ، فهي جمع شَعب . وهو الحيُّ العظيم ، مثل مضر وربيعة ، والقبائل دونها ، كبَكر من ربيعة ، وتميم من مضر ، هذا قول الجمهور من المفسرين وأهل اللغة . وروى عطاء عن ابن عباس قال : يريد بالشعوب : الموالي ، وبالقبائل : العرب . وقال أبو رزين : الشعوب أهل الجبال الذين لا يَعْتَزُون لأحد ، والقبائل : قبائل العرب . وقال أبو سليمان الدمشقي : وقد قيل : إِن القبائل هي الأصول ، والشُّعوب هي البُطون التي تتشعَّب منها ، وهذا ضد القول الأول .
قوله تعالى : { لِتَعارفوا } أي : ليَعْرِفَ بعضُكم بعضاً في قُرب النسب وبُعده . قال الزجاج : المعنى جعلْناكم كذلك لتَعارفوا ، لا لتَفاخروا . ثم أعلمهم أن أرفعهم عنده منزلةً أتقاهم . وقرأ أًبيُّ بن كعب . وابن عباس ، والضحاك ، وابن يعمر ، وأبان عن عاصم : « لِتَعْرِفوا » بإسكان العين وكسر الراء من غير ألف . وقرأ مجاهد ، وأبو المتوكل ، وابن محيصن : { لِتَّعارَفوا } بتاء واحدة مشددة وبألف مفتوحة الراء مخففة . وقرأ أبو نهيك ، والأعمش : « لِتتعرَّفوا » بتاءين مفتوحة الراء وبتشديدها من غيرَ ألف .
قوله تعالى : { إِنَّ أكرمكم } وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمي ، ومجاهد ، وأبو الجوزاء : « أنَّ » بفتح الهمزة قال الفراء : من فتح « أنَّ » فكأنه قال : لتعارفوا أنَّ الكريمَ التَّقيُّ ولو كان كذلك لكانت « لِتَعْرِفوا » ، غير أنه يجوز « لِتَعارفوا » على معنى : ليعرِّف بعضُكم بعضاً أن أكرمكم عند الله أتقاكم « .

قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

قوله تعالى : { قالت الأعراب آمَنّا } قال مجاهد : نزلت في أعراب بني أسد ابن خزيمة . ووصف غيره حالهم ، فقال : قَدِموا المدينةَ في سنة مُجْدِبة ، فأظهروا الإِسلام ولم يكونوا مؤمنين ، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات ، وأغلَوا أسعارهم ، وكانوا يُمنُّون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون : أتيناك بالأثقال والعيال ، ولَمْ نُقاتِلْك ، فنزلت فيهم هذه الآية . وقال السدي : نزلت في أعراب مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار [ وهم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة ( الفتح ) وكانوا يقولون : آمنا بالله ليأمنوا على أنفُسهم ] ، فلما استُنفروا إِلى الحديبية تخلَّفوا ، فنزلت فيهم هذه الآية . وقال مقاتل : كانت منازلهم بين مكة والمدينة ، فكانوا إِذا مرَّت بهم سريَّة من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : آمنا ، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم ، فلمّا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى الحديبية استنفرهم فلم يَنْفِروا معه .
قوله تعالى : { قُلْ لَمْ تؤْمِنوا } أي : لَمْ تصدّقوا { ولكن قولوا أسلمنا } قال ابن قتيبة : أي اسْتَسلمنا من خوف السيف ، وانْقَدْنا . قال الزجاج : الإِسلام : إِظهار الخُضوع والقَبول لِما أتى به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وبذلك يُحْقَن الدَّم . فإن كان معه اعتقاد وتصديق بالقلب ، فذلك الإِيمان ، فأخْرَجَ اللهُ هؤلاء من الإِيمان بقوله : { ولمّا يَدْخُل الإِيمانُ في قُلوبكم } أي : لَمْ تُصَدِّقوا ، إِنما أسلمتم تعوُّذاً من القتل . وقال مقاتل : « ولمّا » بمعنى « ولم » يدخُل التصديقُ في قلوبكم .
قوله تعالى : { وإِن تُطيعوا اللهَ ورسولَه } قال ابن عباس : إِن تُخْلِصوا الإِيمان { لا يألِتْكُم } قرأ أبو عمرو : { يَألِتْكُم } بألف وهمز؛ وروي عنه بألف ساكنة مع ترك الهمزة : وقرأ الباقون : « يَلِتْكُم » بغير ألف ولا همز . فقراءة أبي عمرو من ألَتَ يألِتُ . وقراءة الباقين من لاتَ يَلِيتُ ، قال الفراء : وهما لغتان ، قال الزجاج : معناهما واحد . والمعنى : لا يَنْقُصكم وقال أبو عبيدة : فيها ثلاث لغات : ألَتَ يألِتُ ، تقديرها : أفَكَ يأفِكُ ، وألاتَ يُلِيتُ تقديرها : أقال يُقِيلُ ، ولاتَ يَلِيتُ ، قال رؤبة :
وليلةٍ ذاتِ نَدىً سَرَيْتُ ... ولم يَلِتْنِي عن سُراها لَيْتُ
قوله تعالى : { مِنْ أعمالكم } أي : من ثوابها . ثم نعت الصادقين في إِيمانهم بالآية التي تلي هذه . ومعنى : { يَرتابوا } يَشُكُّوا . وإِنما ذكر الجهاد ، لأن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فرضاً في ذلك الوقت ، { أولئك هم الصادقون } [ في إِيمانهم ، فلمّا نزلت هاتان الآيتان أتوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يحلفون أنهم مؤمنون صادقون ] فنزلت [ هذه الآية ] .
قوله تعالى : { قُلْ أتُعَلِّمون اللهَ بدينكم } و « علَّم » ، بمعنى « أعلم » ، ولذلك دخلت الباء في قوله : { بدينكم } والمعنى : أتُخبرون [ اللهَ ] بالدِّين الذي أنتم عليه؟! ، أي : هو عالِمٌ بذلك لا يحتاج إِلى أخباركم؛ وفيهم نزل قوله تعالى : { يَمُنُّون عليك أن أَسْلموا } قالوا : أَسْلَمْنا ولم نُقاتِلْكَ ، [ والله أعلم ] .

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)

قوله تعالى : { ق } قرأ الجمهور : بإسكان الفاء . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو المتوكل ، وأبو رجاء ، وأبو الجوزاء ، «قافَ» بنصب الفاء . وقرأ أبو رزين ، وقتادة ، «قافُ» برفع الفاء . وقرأ الحسن ، وأبو عمران ، «قافِ» بكسر الفاء . وفي «قا» خمسة أقوال .
أحدها : أنه قسم أقسم اللهُ به ، وهو من أسمائه ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثاني : أنه جبل من زَبَرْجَدة خضراء ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وروى عكرمة عن ابن عباس قال : خَلَقَ اللهُ جبلاً يقال له «قا» محيط بالعالم ، وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض ، فإذا أراد اللهُ عز وجل أن يزلزل قرية ، أمر ذلك الجبل فحرَّك العرق الذي يلي تلك القرية . وقال مجاهد : هو جبل محيط بالأرض . وروي عن الضحاك أنه من زمردة خضراء ، وعليه كَنَفَا السماء ، وخُضرة السماء منه .
والثالث : أنه جبل من نار في النار ، قاله الضحاك في رواية عنه عن ابن عباس .
والرابع : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة .
والخامس : أنه حرف من كلمة . ثم فيه خمسة أقوال .
أحدها : أنه افتتاح اسمه «قدير» ، قاله أبو العالية .
والثاني : أنه افتتاح أسمائه : القدير ، والقاهر ، والقريب ، ونحو ذلك . قاله القرظي .
والثالث : أنه افتتاح «قُضي الأمرُ» ، وأنشدوا :
قُلنا لها قِفِي فقالتْ قافْ ... معناه : أقف ، فاكتفت بالقاف من «أقف» ، حكاه جماعة منهم الزجاج .
والرابع : قف عند أمرنا ونهينا ، ولا تَعْدُهُما ، قاله أبو بكر الورّاق .
والخامس : قُلْ يا محمد ، حكاه الثعلبي .
قوله تعالى : { والقرآنِ المَجيدِ } قال ابن عباس ، وابن جبير : المَجيد : الكريم . وفي جواب هذا القسم أربعة أقوال .
أحدها : أنه مُضمر ، تقديره : لَيُبْعَثُنَّ بَعْدَ الموت . قاله الفراء ، وابن قتيبة ، ويدُلُّ عليه قولُ الكفار : { هذا شيءٌ عجيبٌ } .
والثاني : أنه قوله : { قد عَلِمْنا ما تَنْقُص الأرضُ منهم } ، فيكون المعنى : [ قاف ] والقرآنِ المجيدِ لقد عَلِمْنا ، فحُذفت اللاّمُ لأنّ ما قبْلَها عِوَضٌ منها ، كقوله : { والشَّمسِ وضُحَاها . . . قد أفلح } [ الشمس : 1-9 ] أي : لقد أفلح ، أجاز هذا القول الزجاج .
والثالث : أنه قوله : { ما يَلْفِظُ من قول } ، حكي عن الأخفش .
والرابع : أنه في سورة أُخرى ، حكاه أبو سليمان الدمشقي ، ولم يبيِّن في أي سورة .
قوله تعالى : { بَلْ عَجِبوا } مفسَّر في [ ص : 4 ] إلى قوله : { شيءٌ عجيبٌ } أي : مُعْجِبٌ .
{ أئذا مِتْنا } قال الأخفش : هذا الكلام على جواب ، كأنه قيل لهم : إنكم ترجعون ، فقالوا : أئذا متنا وكنا ترابا؟ وقال غيره : تقدير الكلام : ق والقرآنِ لَيُبْعَثُنَّ ، فقال : أئذا متنا وكنا تراباً؛ والمعنى : أنُبْعَث إذا كنا كذلك؟! وقال ابن جرير : لمّا تعجَّبوا من وعيد الله على تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فقالوا : هذا شيء عجيب ، كان كأنه قال لهم : ستعلمون إذا بُعثتم ما يكون حالُكم في تكذيبكم محمداً ، فقالوا : أئذا متنا وكنا ترابا؟!
قوله تعالى : { ذلك رَجْعٌ } أي : ردٌّ إلى الحياة { بعيدٌ } قال ابن قتيبة : أيْ : لا يكون .

{ قد عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الأرضُ منهم } أي : ما تأكل من لحومهم ودمائهم وأشعارهم إذا ماتوا ، يعني أن ذلك لا يَعْزُب عن عِلْمه { وعندنا } مع عِلْمنا بذلك { كتابٌ حفيظٌ } أي : حافظ لعددهم وأسمائهم ، ولِما تَنْقُص الأرضُ منهم ، وهو اللوح المحفوظ قد أُثبت فيه ما يكون .
{ بل كذَّبوا بالحق } وهو القرآن . والمَريج : المختلِط قال ابن قتيبة : يقال : مَرِج [ أمرُ ] الناس ، ومَرِج الدِّينُ . وأصل هذا أن يَقْلَق الشيء ، ولا يستقر ، يقال : مَرِج الخاتم في يدي ، إذا قلق ، للهُزَال . قال المفسرون : ومعنى اختلاط أمرهم : أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : مَرَّة : ساحر ، ومرة شاعر ، ومرة مُعَلمَّ ، ويقولون للقرآن مرة : سحر ، ومرة : مُفْتَرى ، ومرة : رَجَز ، فكان أمرُهم ملتبساً مختلطاً عليهم .

أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)

ثم دلَّهم على قُدرته على البعث بقوله : { أفلم ينظُروا إلى السماء فوقَهم كيف بنيناها } بغير عمد { وزيَّنَّاها } بالكواكب { وما لها من فُروج } أي : من صُدوع وشُقوق . والزَّوج : الجنس . والبهيج : الحَسَن ، قاله أبو عبيدة ، وقال ابن قتيبة : البهيج : الذي يُبْتَهَج به .
قوله تعالى : { تَبْصِرَةً وذكرى لكل عبد منيب } قال الزجاج : أي : فَعَلنا ذلك لِنُبَصِّر ونَدُلَّ على القُدرة . والمُنيب : الذي يَرْجِع إلى الله ويفكِّر في قُدرته .
قوله تعالى : { ونزَّلنْا من السماء ماء } وهو المطر { مُبارَكاً } أي : كثير الخير ، فيه حياة كل شيء { فأنْبَتْنا به جَنَّاتٍ } وهي البساتين { وحَبَّ الحَصِيدِ } أراد : الحَبَّ الحَصيدَ ، فأضافه إلى نَفْسه ، كقوله : { لَهُوَ حَقُّ اليَقِينِ } [ الواقعة : 95 ] وقوله : { مِنْ حَبْلِ الوَريدِ } [ ق : 16 ] فالحَبْلُ هو الوَريد ، وكما يقال : صلاةُ الأُولى ، يراد : الصلاةُ الأُولى ، ويقال : مسجدُ الجامع ، يراد : المسجدُ الجامعُ ، وإنما تضاف هذه الأشياء إلى أنفسها لاختلاف لفظ اسمها ، وهذا قول الفراء ، وابن قتيبة . وقال غيرهما : أراد حَبَّ النّبتِ الحَصيدِ { والنَّخْلَ } أي : وأنْبَتْنا النخل { باسقاتٍ } و«بُسوقها» طُولها . قال ابن قتيبة : يقال : بَسقَ الشيءُ يَبْسُقُ بُسوقاً : إذا طال ، والنَّضيد : المنضود بعضُه فوق بعض ، وذلك قبل أن يتفتَّح ، فاذا انشقَّ جُفُّ طلْعه وتفرَّق فليس بنضيدٍ .
قوله تعالى : { زِرْقاً للعِبادِ } أي : أنْبَتْنا هذه الأشياء للرِّزق { وأَحْيَيْنا به } أي : بالمطر { بَلْدَةً مَيْتاً كذلك الخروجُ } من القُبور .
ثم ذكر الأُمم المكذِّبة بما بعد هذا . وقد سبق بيانه إلى قوله : { فحَقَّ وَعيدِ } أي : وجب عليهم عذابي .
{ أفعَيِينا بالخَلْقِ الأَوَّلِ } هذا جواب لقولهم : ذلك رَجْعٌ بَعيدٌ . والمعنى : أعَجَزْنا عن ابتداء الخَلْق ، وهو الخَلْق الأَوَّل ، فنعيا بالبعث وهو الخلق الثاني؟! وهذا تقرير لهم ، لأنهم اعترفوا أنه الخالق ، وأنكروا البعث { بل هم في لَبْسٍ } أي : في شَكٍّ { مِنْ خَلْقٍ جديدٍ } وهو البعث .

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)

{ ولقد خَلَقْنا الإنسان } يعني ابن آدم { ونَعلمُ ما تُوسوِسُ به نَفْسُه } أي : ما تحدِّثه به نفسه . وقال الزجاج : نعلم ما يُكِنُّه في نَفْسه .
قوله تعالى : { ونحن أقربُ إليه } أي : بالعِلْم { من حَبْلِ الوريد } الحَبْل هو الوريد ، وإنما أضافه إلى نفسه لِما شرحناه آنفاً في قوله : { وحَبَّ الحَصيدِ } [ ق : 9 ] قال الفراء : والوريد : عِرْقٌ بين الحُلْقوم والعِلْباوَيْن . وعنه أيضاً قال : عرق بين اللَّبَّة والعِلْباوَيْن . وقال الزجاج : الوريد : عِرْق في باطن العُنُق ، [ وهما وريدان ] ، والعِلْباوَان : العَصَبتان الصَّفراوان في مَتْن العُنُق ، واللَّبَّتان : مَجرى القُرط في العُنُق . وقال ابن الأنباري : اللَّبَّة حيث يتذبذب القُرْط مِمّا يَقْرُبُ من شحمة الأُذن . وحكى بعض العلماء أن الوريد : عِرْقٌ متفرِّق في البدن مُخالِط لجميع الأعضاء . فلمّا كانت أبعاض الإِنسان يحجب بعضُها بعضاً ، أَعْلَمَ أن عِلْمه لا يحجُبه شيءٌ . والمعنى : ونحن أقربُ إليه حين يَتلقَّى المتُلقِّيان ، وهما الملَكان الموكَّلان بابن آدم يتلقيَّانِ عَمَلَه وقوله : { إذا يَتلقَّى المُتلقِّيان } أي : يأخُذان ذلك ويُثْبِتانه { عن اليمين } كاتب الحسنات { وعن الشِّمال } كاتب السَّيِّئات . قال الزجاج : والمعنى : عن اليمين قَعيد ، وعن الشِّمال قَعيد ، فدلَّ أحدُهما على الآخر ، فحذف المدلولُ عليه ، قال الشاعر :
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنْتَ بِمَا عِنْ ... دَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وقال آخر :
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوالِدِي ... بَريئاً ومِنْ أَجْلِ الطَّوِىِّ رَمَانِي
المعنى : كنتُ منه بريئاً . وقال ابن قتيبة : القَعيد بمعنى قاعد ، كما يقال : «قدير» بمعنى «قادر» ، ويكون القعيد بمعنى مُقاعِد ، كالأكيل والشَّريب بمنزلة : المُؤاكِل والمُشارِب .
قوله تعالى : { ما يَلْفِظُ } يعني الانسان ، أي : ما يتكلَّم من كلام فيَلْفِظُه ، أي : يَرميه من فمه ، { إلاّ لَدَيْه رقيبٌ } أي : حافظ ، وهو الملَك الموكَّل به ، إِمّا صاحب اليمين ، وإِمّا صاحب الشمال { عَتيدٌ } قال الزجاج : العَتيد : الثّابِت اللاّزم . وقال غيره : العَتيد : الحاضر معه أينما كان . وروى أبو أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كاتِبُ الحَسَنات على يمين الرجلُ ، وكاتب السَّيِّئات على يساره ، فكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها له صاحب اليمين عشراً ، وإذا عمل سيئة ، وأراد صاحب الشمال أن يكتبها ، قال صاحب اليمين : أَمْسِكْ ، فيُمْسِك عنه سَبْعَ ساعات ، فإن استغفر منها لم يُكتَب عليه شيءٌ ، وإن لم يستغفر كُتِب عليه سيِّئة واحدة " وقال ابن عباس : جَعَل اللهُ على ابن آدم حافظين في الليل ، وحافظين في النهار . واختلفوا هل يكتُبان جميع أفعاله وأقواله على قولين .
أحدهما : أنهما يكتُبان عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه ، قاله مجاهد .
والثاني : أنهما لا يكتبان إلاّ ما يؤجَر [ عليه ] ، أو يُوزَر ، قاله عكرمة . فأمّا مجلسهما ، فقد نطق القرآن بأنهما عن اليمين وعن الشمال ، وكذلك ذكرنا في حديث أبي أمامة .

وقد روى عليّ كرَّم اللهُ وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن مقعد ملَكَيك على ثنيَّتيك ، ولسانُك قلمهما ، وريقك مدادهما ، وأنت تجري فيما لا يعنيك " وروي عن الحسن والضحاك قالا : مجلسهما تحت الشعر على الحنك .
قوله تعالى : { وجاءت سَكرْةُ المَوت } وهي غَمرتُه وشِدَّتُه ، التي تَغشى الإِنسان وتَغْلِب على عقله وتدُلُّه على أنه ميت { بالحق } وفيه وجهان .
أحدهما : أن معناه : جاءت بحقيقة الموت .
والثاني : بالحق من أمر الآخرة ، فأبانت للانسان ما لم يكن بيَّنّا له من أمر الآخرة . ذكر الوجهين الفراء ، وابن جرير .
وقرأ أبو بكر الصديق رضي الله عنه : { وجاءت سَكْرةُ الحق بالموت } ، قال ابن جرير : ولهذه القراءة وجهان .
أحدهما : أن يكون الحق هو الله تعالى ، فيكون المعنى : وجاءت سَكْرة الله بالموت .
والثاني : أن تكون السَّكْرة هي الموت ، أضيفت إلى نفسها ، كقوله : { إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقينِ } [ الواقعة 95 ] ، فيكون المعنى : وجاءت السَّكْرة الحَقُّ بالموت ، بتقديم «الحَقّ» . وقرأ ابن مسعود ، وأبو عمران : «وجاءت سَكَراتُ» على الجمع «الحَقِّ بالموتِ» بتقديم «الحَقّ» وقرأ أُبيُّ ابن كعب ، وسعيد بن جبير : «وجاءت سَكَراتُ الموت» على الجمع «بالحق» بتأخير «الحق» .
قوله تعالى : { ذلك } أي : فيقال للانسان حينئذ : «ذلك» أي : ذلك الموت { ما كنتَ منه تَحِيدُ } أي : تهرُب وتفِرّ . وقال ابن عباس : تَكره .
قوله تعالى : { ونُفِخ في الصُّور } يعني نفخة البعث { ذلك } اليوم { يومُ الوعيد } أي : يوم وقوع الوعيد .
قوله تعالى : { معها سائق } فيه قولان .
أحدهما : أن السائق : ملَك يسوقها إلى مَحْشَرها ، قاله أبو هريرة .
والثاني : أنه قرينها من الشياطين ، سمِّي سائقا ، لأنه يتبَعها وإِن لم يَحثَّها .
وفي الشهيد ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه ملَك يَشهد عليها بعملها ، قاله عثمان بن عفان ، والحسن . وقال مجاهد : الملَكان : سائق : وشهيد . وقال ابن السائب : السائق : الذي كان يكتب عليه السَّيَِئات ، والشهيد : الذي كان يكتب الحسنات .
والثاني : أنه العمل يَشهد على الإنسان ، قاله أبو هريرة .
والثالث : الأيدي والأرجل تَشهد عليه بعمله ، قاله الضحاك .
وهل هذه الآيات عامّة ، أم خاصَّة؟ فيها قولان .
أحدهما : أنها عامة ، قاله الجمهور .
والثاني : خاصة في الكافر ، قاله الضحاك ، ومقاتل .
قوله تعالى : { لقد كنتَ } أي : ويقال له : { لقد كنتَ في غفلة من هذا } اليوم وفي المخاطَب بهذه الآيات ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الكافر ، قاله ابن عباس ، وصالح بن كيسان في آخرين .
والثاني : أنه عامّ في البَرِّ والفاجر ، قاله حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، واختاره ابن جرير .
والثالث : أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول ابن زيد . فعلى القول الأول يكون المعنى : لقد كنتَ في غفلة من هذا اليوم في الدنيا بكفرك به؛ وعلى الثاني : كنتَ غافلاً عن أهوال القيامة { فكَشَفْنا عنك غِطاءك } الذي كان في الدنيا يغشى قلبك وسمعك وبصرك .

وقيل معناه : أريناك ما كان مستوراً عنك؛ وعلى الثالث : لقد كنتَ قبل الوحي في غفلة عمّا أُوحي إِليك ، فكشفنا عنك غطاءك بالوحي { فبصرُك اليومَ حديدٌ } وفي المراد بالبصر قولان .
أحدهما : البصر المعروف ، قاله الضحاك .
والثاني : العِلمْ ، قاله الزجاج .
وفي قوله : «اليومَ» قولان .
أحدهما : أنه يوم القيامة ، قاله الأكثرون .
والثاني : أنه في الدنيا ، وهذا على قول ابن زيد . فأمّا قوله : «حديدٌ» فقال ابن قتيبة : الحديد بمعنى الحادّ . أي : فأنت ثاقب البصر . ثم فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : فبصرك حديدٌ إلى لسان الميزان حين تُوزَن حسناتُك وسيِّئاتُك ، قاله مجاهد .
والثاني : أنه شاخص لا يطرف لمعاينة الأخرة ، قاله مقاتل .
والثالث : أنه العِلْم النافذ ، قاله الزجاج .

وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)

قوله تعالى : { وقال قرينُه } قال مقاتل : هو مَلَكُه الذي كان يكتُب عملَه السيّءَ في دار الدنيا ، يقول لربِّه : قد كتبتُ ما وكَّلْتَني به ، فهذا عندي مُعَدٌّ حاضرٌ من عمله الخبيث ، فقد أتيتُك به وبعمله . وفي «ما» قولان .
أحدهما : أنها بمعنى «من» قاله مجاهد .
والثاني : أنها بمعنى الشيء ، فتقديره : هذا شيء لديَّ عتيدٌ ، قاله الزجاج . وقد ذكرنا معنى العتيد في هذه السورة [ ق : 18 ] فيقول الله تعالى { ألْقيَا في جهنَّم } وفي معنى هذا الخطاب ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه مخاطبة للواحد بلفظ الخطاب للاثنين ، قال الفراء : والعرب تأمر الواحد والقوم بأمر الاثنين ، فيقولون للرجُل : ويلك ارحلاها وازجُراها ، سمعتها من العرب ، وأنشدني بعضهم :
فقُلْتُ لِصَاحِبِي لا تَحْبِسانا ... بِنَزْعِ أُصُولِهِ واجْتَزَّ شِيحا
وأنشدني أبو ثَرْوان :
فانْ تَزْجُرانِي يابْنَ عَفَّان أَنْزَجِرْ ... وإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّّعا
ونرى أن ذلك منهم ، لأن أدنى أعوان الرجُل في إبله وغنمه اثنان ، وكذلك الرُّفقة أدنى ما تكون ثلاثة ، فجرى الكلام على صاحبيه ، ألا ترى الشعر أكثر شيء قِيلاً : يا صَاحِبَيَّ ويا خليليَّ . قال امرؤ القيس :
خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي على أُمِّ جُنْدَبٍ ... نُقَضِّي لُباناتِ الْفُؤادِ المُعَذَّبِ
ثم قال :
ألم تَرَأَنِي كُلمَّا جِئْتُ طارِقاً ... وَجَدْتُ بها طِيباً وإِنْ لَمْ تَطَيَّبِ
فرجع إلى الواحد ، وأول كلامه اثنان ، وإِلى هذا المعنى ذهب مقاتل ، وقال : «ألقيا» خطاب للخازن ، يعني خازن النار .
والثاني : أنه فِعل ثُنِّي توكيداً ، كأنه لمّا قال : «ألقيا» ، ناب عن أَلْقِ أَلْقِ ، وكذلك : قِفا نَبْكِ ، معناه : قِفْ قِفْ ، فلمّا ناب عن فعلين ، ثُنِّي ، قاله المبرد .
والثالث : أنه أمر للملكين ، يعني السائق والشهيد ، وهذا اختيار الزجاج .
فأمّا «الكَفّارُ» فهو أشَدُّ مُبالَغةً من الكافر . و«العنيد» قد فسرناه في [ هود : 59 ] .
قوله تعالى : { منَّاعٍ للخير } في المراد بالخير هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : الزكاة المفروضة ، قاله قتادة .
والثاني : أنه الإسلام ، يمنع الناس من الدُّخول فيه ، قاله الضحاك ، ومقاتل ، وذكر أنها نزلت في الوليد بن المغيرة ، منع بني أخيه عن الإسلام .
والثالث : أنه عامٌّ في كل خير من قول أو فعل ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { مُعتَدٍ } أي : ظالم لا يُقِرُّ بالتوحيد { مُريبٍ } أي : شاكّ في الحق ، من قولهم : أرابَ الرجُلُ : إذا صار ذا رَيْب .
قوله تعالى : { قال قرينُه } فيه قولان .
أحدهما : شيطانه ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والجمهور . وفي الكلام اختصار تقديره : إن الإنسان ادّعى على قرينه من الشياطين أنه أضلَّه فقال : { ربَّنا ما أطغيتُه } أي : لم يكن لي قُوَّة على إضلاله بالإكراه ، وإنما طغى هو بضلاله .
والثاني : أنه الملَك الذي كان يكتُب السَّيِّئات .
ثم فيما يدَّعيه الكافرُ على الملَك قولان .
أحدهما : [ أنه ] يقول : زاد عليَّ فيما كتب ، فيقول الملَك : ما أطغيتُه ، أي : ما زدتُ عليه ، قاله سعيد بن جبير .

والثاني : أنه يقول : كان يُعْجِلني عن التَّوبة ، فيقول : ربَّنا ما أطغيتُه ، هذا قول الفراء .
قوله تعالى : { ولكن كان في ضلال بعيدٍ } أي : بعيد من الهُدى ، فيقول الله تعالى : { لا تختصموا لديَّ } . في هذا الخصام قولان .
أحدهما : أنه اعتذارهم بغير عذر ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه خصامهم مع قرنائهم الذين أغوَوْهم ، قاله أبو العالية . فأما اختصامهم فيما كان بينهم من المظالم في الدنيا ، فلا يجوز أن يُهمَل ، لأنه يوم التناصف .
قوله تعالى : { وقد قدَّمتُ إليكم بالوعيد } أي : قد أخبرتُكم على ألسُن الرُّسل بعذابي في الآخرة لمن كفر .
{ ما يُبَدَّلُ القولُ لديَّ } فيه قولان .
أحدهما : ما يبدَّل [ القول ] فيما وعدتُه من ثواب وعقاب ، قاله الأكثرون .
والثاني : ما يُكذَّب عندي ولا يغيَّر القول عن جهته ، لأنِّي أعْلَمُ الغيب وأعْلَمُ كيف ضلُّوا وكيف أضللتموهم ، هذا قول ابن السائب واختيار الفراء وابن قتيبة ، ويدل عليه أنه قال تعالى : { ما يُبَدَّل القول لديَّ } ولم يقل : ما يُبَدَّل قولي { وما أنا بظلاّمٍ للعبيدِ } فأَزيدَ على إساءة المُسيء ، أو أنقص من إحسان المُحسن .

يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)

{ يومَ نقول لجهنم } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر؛ وحمزة ، والكسائي : «يومَ نقول» بالنون المفتوحة وضم القاف . [ وقرأ نافع ، وأبو بكر ، والمفضل عن عاصم : «يومَ يقول» بالياء المفتوحة وضم القاف ] . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، والحسن ، وعبد الوارث عن أبي عمرو : «يومَ يُقال» بياء مضمومة وفتح القاف وإثبات ألف . قال الزجاج : وانتصاب «يومَ» على وجهين ، أحدهما : على معنى : ما يُبدَّل القولُ لديَّ في ذلك اليوم . والثاني : على معنى : وأَنْذِرْهم يومَ نقولُ لجهنم .
فأمّا فائدة سؤاله إيّاها ، وقد عَلِم هل امتلأتْ أم لا ، فإنه توبيخ لمن أُدْخِلها ، وزيادة في مكروهه ، ودليل على تصديق قوله : { لأَملأنَّ جهنمَ } [ الأعراف : 18 ] .
وفي قولها : { هل من مزيد } قولان عند أهل اللغة .
أحدهما : أنها تقول ذلك بعد امتلائها ، فالمعنى : هل بقي فيَّ موضعٌ لم يمتلىء؟ أي : قد امتلأتُ .
والثاني : أنها تقول تغيُّظاً على من عصى اللهَ تعالى ، وجَعَلَ اللهُ فيها أن تميِّز وتخاطِب ، كما جَعَلَ في النملة أن قالت : { أُدخُلوا مساكنَكم } [ النمل : 18 ] وفي المخلوقات أن تسبِّح بحمده .
قوله تعالى : { وأُزلِفَتِ الجَنَّة للمُتَّقين } اي : قُرِّبت للمُتَّقين [ الشركَ ] { غيرَ بَعيدٍ } أي : جُعلتْ عن يمين العرش حيث يراها أهلُ الموقف ، ويقال لهم : { هذا } الذي ترونه { ما تُوعَدونَ } وقرأ عثمان بن عفان ، وابن عمر ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن محيصن : «يُوعَدونَ» بالياء { لكُلِّ أوَّاب } وفيه أقوال قد ذكرناها في [ بني إسرائيل : 25 ] وفي { حفيظٍ } قولان .
أحدهما : الحافظ لذنوبه حتى يرجع عنها ، قاله ابن عباس .
والثاني : الحافظ لأمر الله تعالى ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { من خَشِيَ الرَّحمنَ بالغيبِ } قد بيَّنّاه في [ الأنبياء : 49 ] { وجاء بقلبٍ مُنيبٍ } أي : راجع إلى طاعة الله عن معصيته .
{ أُدخلوها } أي : يقال لهم : أُدخلوا الجنة { بسلام } وذلك أنهم سَلِموا من عذاب الله ، وسلموا فيها من الغُموم والتغيُّر والزَّوال ، وسلَّم اللهُ وملائكتُه عليهم { ذلك يومُ الخُلود } في الجنة ، لأنه لا موت فيها ولا زوال .
{ لهم ما يشاؤون فيها } وذلك أنهم يَسألون الله حتى تنتهي مسائلُهم ، فيُعْطَوْن ما شاؤوا ، ثم يَزيدُهم ما لم يَسألوا ، فذلك قوله : { ولدينا مَزيدٌ } وللمفسرين في المراد بهذا المزيد ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه النظر إلى الله عز وجل؛ روى عليٌ رضي الله عنه عن النبي عليه السلام في قوله : «ولدينا مَزيدٌ» قال : يتجلَّى لهم . وقال أنس بن مالك : في قوله «ولدينا مزيد» يتجلَّى لهم الرب تعالى في كل جمعة .
والثاني : أن السحاب يَمُرَّ بأهل الجنة ، فيمطرهم الحورَ ، فتقول الحور : نحن اللواتي قال الله عزل وجل : «ولدينا مزيد» ، حكاه الزجاج .
والثالث : أن الزِّيادة على ما تمنَّوه وسألوا ممّا لم تسمع به أذن ولم يخطُر على قلب بشر ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .
ثم خوَّف كفار مكة بما بعد هذا إلى قوله : { فنَقَّبوا في البلاد } قرأ الجمهور «فنَقَّبوا» بفتح النون والقاف مع تشديدها .

وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وابن عباس ، والحسن ، وابن السميفع ، ويحيى بن يعمر . كذلك ، إلا أنهم كسروا القاف على جهة الأمر تهدُّداً . وقرأ عمر بن الخطاب ، وعمر بن عبد العزيز ، وقتادة ، وابن أبي عبلة ، وعبيد عن أبي عمر ، «فنَقَبوا» بفتح القاف وتخفيفها . قال الفراء : ومعنى «فنقَّبوا» ساروا في البلاد ، فهل كان لهم من الموت { مِن مَحيص } فأُضمرت «كان» هاهنا ، كقوله : { أهلَكْناهم فلا ناصر لهم } [ محمد : 13 ] أي : فلم يكن لهم ناصر . ومن قرأ «فنَقِّبوا» بكسر القاف ، فإنه كالوعيد؛ والمعنى : اذهبوا في البلاد وجيئوا فهل من الموت مِن مَحيص؟! وقال الزجاج «نَقِّبوا» : طوِّقوا وفتِّشوا ، فلم تَرَوا مَحيصاً من الموت . قال امرؤ القيس :
لقَدْ نَقَّبْتُ في الآفاقِ حتَّى ... رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بالإِيابِ
فأمّا المَحيص فهو الَمعْدلِ؛ وقد استوفينا شرحه في [ سورة النساء : 121 ] .
قوله تعالى : { إنَّ في ذلك } يعني الذي ذكره من إهلاك القرى { لَذِكرى } أي : تذكرة وعِظَة { لِمَن كان له قلبٌ } قال ابن عباس : أي : عقل . قال الفراء : وهذا جائز في اللغة أن تقول : ما لَكَ قلب ، وما معك قَلبُك ، تريد العقل . وقال ابن قتيبة : لما كان القلب موضعاً للعقل كنى به [ عنه ] . وقال الزجاج : المعنى : لمن صرف قلبه إلى التفهُّم ، { أو ألقى السَّمْع } أي : استَمَع مِنِّي { وهو شهيدٌ } أي : وقَلْبُه فيما يسمع . وقال الفراء : وهو شهيد أي : شاهد ليس بغائب .
قوله تعالى : { ولقد خَلَقْنا السموات والأرض } ذكر المفسرون أن اليهود قالت : خَلَقَ اللهُ السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، آخرها يوم الجمعة ، واستراح يوم السبت ، فلذلك لا نعمل فيه شيئا ، فنزلت هذه الآيات ، فأكذبهم اللهُ عز وجل بقوله : { وما مَسَّنا مِن لغوبٍ } قال الزجاج : واللُّغوب التَّعب والإعياء .
قوله تعالى : { فاصْبِر على ما يقولون } أي : من بَهتهم وكذبهم . قال المفسرون : ونسخ معنى قوله : «فاصْبِر» بآية السيف { وسَبِّح بحمد ربِّك } أي : صَلِّ بالثَّناء على ربِّك والتنزيه [ له ] ممَّا يقول المُبْطِلون { قَبْلَ طُلوع الشمس } وهي صلاة الفجر . { وقَبْلَ الغُروب } فيها قولان .
أحدهما : صلاة الظهر والعصر ، قاله ابن عباس .
والثاني : صلاة العصر ، قاله قتادة . وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث جرير بن عبد الله ، قال : " كُنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البدر ، فقال : إنَّكم سَترُونَ ربَّكم عِيانا كما ترون هذا القمر ، لا تُضَامُّونَ في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبوا على صلاةٍ قَبْلَ طُلوع الشمس وقبل الغُروب فافعلوا " . وقرأ «فسبِّح بحمد ربِّك قبل طُلوع الشمس وقبل الغروب» .
قوله تعالى : { ومن الليل فسبِّحْه } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها صلاة الليل كلِّه ، أيَّ : وقت صلّى منه ، قاله مجاهد .
والثاني : صلاة العشاء ، قاله ابن زيد .

والثالث : صلاة المغرب والعشاء قاله مقاتل .
قوله تعالى : { وأدبارَ السُّجود } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، وخلف : بكسر الهمزة؛ وقرأ الباقون بفتحها . قال الزجاج : من فتح ألف «أدبار» فهو جمع دُبُر ، ومن كسرها فهو مصدر : أدبر يُدْبِر إدباراً .
وللمفسرين في هذا التسبيح ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الرَّكعتان بعد صلاة المغرب ، روي عن عمر ، وعليّ ، والحسن بن علي ، رضي الله عنهم ، وأبي هريرة ، والحسن ، ومجاهد ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، في آخرين ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس .
والثاني : أنه النوافل بعد المفروضات قاله ابن زيد .
والثالث : أنه التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات ، رواه مجاهد عن ابن عباس . وروي عن أبي الأحوص أنه قال في جميع التسبيح المذكور في هاتين الآيتين كذلك .

وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)

قوله تعالى : { واسْتَمِعْ يومَ يُنادي المُنادي } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، «ينادي المُنادي» بياء في الوصل . ووقف ابن كثير بياءٍ ، ووقف نافع وأبو عمرو بغير ياءٍ . ووقف الباقون ووصلوا بياءٍ . قال أبو سليمان الدمشقي : المعنى : واستمع حديث يوم ينادي المنادي . قال المفسرون : والمنادي إسرافيل ، يقف على صخرة بيت المقدس فينادي : يا أيها الناس هلُمُّوا إلى الحساب ، إن الله يأمركم أن تجتمعوا لفصل القضاء؛ وهذه هي النفخة الأخيرة . والمكان القريب صخرة بيت المقدس . قال كعب ومقاتل : هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً وقال ابن السائب : باثني عشر ميلاً قال الزجاج : ويقال : إن تلك الصخرة في وسط الأرض .
قوله تعالى : { يومَ يَسْمَعونَ الصَّيحة } وهي [ هذه ] النَّفخة الثانية { بالحَقِّ } ، أي : بالبعث الذي لا شكَّ فيه { ذلك يومُ الخُروج } من القبور .
{ إنا نحنُ نُحيي ونُميتُ } أي : نُميت في الدنيا ونُحيي للبعث { وإلينا المَصيرُ } بعد البعث ، وهو قوله { يوم تَشَقَّقُ الأرضُ عنهم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، «تَشَّقَّقُ» بتشديد الشين؛ وقرأ الباقون بتخفيفها { سراعاً } أي : فيخرجون منها سِراعاً ، { ذلك حَشْرٌ علينا يَسيرٌ } أي هَيِّنٌ .
ثم عزَّى نبيَّه فقال : { نحنُ أعلمُ بما يقولون } في تكذيبك ، يعني كفار مكة { وما أنتَ عليهم بجَبَّارٍ } قال ابن عباس : لم تبعث لتجبرَهم على الاسلام إنما بُعثتَ مذكِّراً ، وذلك قبل أن يؤمَر بقتالهم؛ وأنكر الفراء هذا القول فقال : العرب لا تقول «فَعَّال من أفْعَلتُ» لا يقولون «خَرَّاج» يريدون «مُخْرِج» ولا «دخَّال» يريدون «مُدْخِل» ، إنما يقولون : «فَعَّال» من «فَعَلْتُ» ، وإنما الجَبَّار هنا في موضع السلطان من الجبرية ، وقد قالت العرب في حرف واحد : «دَرَّاك» من «أدْرَكْتُ» ، وهو شاذ ، فإن جعل هذا على هذه الكلمة فهو وجه . وقال ابن قتيبة : { بجبَّار } أي : بمسلَّط ، والجبَّار : الملِك ، سمِّي بذلك لِتَجَبُّره ، يقول : لستَ عليهم بملِك مُسَلَّط . قال اليزيدي : لستَ بمسلَّط فتَقْهَرهم على الإسلام ، وقال مقاتل : لِتَقْتُلَهم . وذكر المفسرون أن قوله : { وما أنت عليهم بجبَّار } منسوخ بآية السيف .
قوله تعالى : { فذكِّر بالقرآن } أي : فَعِظْ به { مَنْ يَخافُ وَعيدِ } [ وقرأ يعقوب : «وعيدي» بياءٍ في الحالين ] ، أي : ما أَوعدتُ مَنْ عَصاني من العذاب .

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)

قوله تعالى : { والذَّاريات ذَرْواً } يعني الرِّياح ، يقال : ذَرَت الرِّيحُ الترابَ تَذْرُوه ذَرْواً ، إذا فرَّقَتْه ، قال الزجاج : يقال ذَرَت فهي ذارية ، وأذْرَت فهي مُذْرية بمعنى واحد .
{ والذّارياتِ } ، مجرورة على القَسَم ، المعنى : أحْلفِ بالذّارياتِ وهذه الأشياء ، والجواب { إنما تُوعَدون لَصادقٌ } ، قال قوم : المعنى : وربِّ الذاريات ، وربِّ الجاريات .
قوله تعالى : { فالحاملاتِ وِقْراً } يعني السحاب التي تحمل وِقْرها من الماء .
{ فالجارياتِ يُسْراً } يعني السُّفن تجري ميسَّرة [ في الماء ] جَرياً سهلاً .
{ فالمقسِّماتِ أَمْراً } يعني الملائكة تقسم الأمور على ما أمَر اللهُ به ، قال ابن السائب : والمقسِّمات أربعة : جبريل ، وهو صاحب الوحي والغِلظة ، وميكائيل ، وهو صاحب الرِّزق والرَّحمة ، وإسرافيل ، وهو صاحب الصُّور واللَّوح ، وعزرائيل ، وهو قابض الأرواح . وإنما أقسَم بهذه الأشياء لِما فيها من الدلالة على صُنعه وقُدرته .
ثم ذكر المُقسَم عليه فقال : { إنّما تُوعَدون } أي : من الثواب والعقاب يومَ القيامة { لَصادقٌ } أي : لَحَقّ .
{ وإنَّ الدِّين } فيه قولان .
أحدهما : الحساب .
والثاني : الجزاء { لَواقعٌ } أي : لَكائن .
ثم ذكر قَسَماً آخر فقال : { والسَّماءِ ذاتِ الحُبُكِ } وقرأ عمر بن الخطاب ، وأبو رزين : { الحِبِكِ } بكسر الحاء والباء جميعاً . وقرأ عثمان بن عفان ، والشعبي ، وأبو العالية ، وأبو حيوة ، «الحِبْكِ» بكسر الحاء وإسكان الباء . وقرأ أُبيُّ ابن كعب ، وابن عباس ، وأبو رجاء ، وابن أبي عبلة ، «الحُبْكِ» برفع الحاء وإسكان الباء . وقرأ ابن مسعود ، وعكرمة : «الحَبَكِ» بفتح الحاء والباء جميعاً . وقرأ أبو الدرداء ، وأبو الجوزاء ، وأبو المتوكل ، وأبو عمران الجوني ، وعاصم الجحدري : [ «الحَبِكِ» ] بفتح الحاء وكسر الباء .
ثم في معنى «الحبك» أربعة أقوال :
أحدها : ذات الخَلْق الحَسَن ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة .
والثاني : البُنيان المُتْقَن ، قاله مجاهد .
والثالث : ذات الزِّينة ، قاله سعيد بن جبير . وقال الحسن : حُبُكها نُجومها .
والرابع : ذات الطرائق ، قاله الضحاك واللغويون . وقال الفراء : الحُبُك : تَكَسُّر كلِّ شيء كالرَّمْل إذا مَرَّت به الرِّيح السّاكنة ، والماء القائم إذا مَرّت به الرِّيح ، والشَّعرةُ الجَعْدَة تكسُّرُها حُبُك ، وواحد الحُبُك : حِباك وحَبِيكة . وقال الزجاج : أهل اللغة يقولون : الحُبُك : الطرَّائق الحَسَنة ، والمَحْبُوك في اللغة : ما أُجيد عملُه ، وكل ما تراه من الطَّرائق في الماء وفي الرَّمْل إذا أصابته الرِّيح فهو حُبُك . وروي عن عبد الله بن عمرو أنه قال : هذه هي السماء السابعة .
ثم ذكر جواب القَسَم الثاني ، قال : { إنَّكم } يعني أهل مكة { لَفي قَوْلٍ مختلِفٍ } في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، بعضُكم يقول : شاعر ، وبعضكم يقول : مجنون ، وفي القرآن [ بعضكم ] يقول : سِحْر ، وبعضكم يقول : كَهانة ورَجَز ، إلى غير ذلك .
{ يؤفَكُ عنه مَنْ أُفِكَ } أي : يُصْرَف عن الإيمان [ به ] مَن صُرِف [ فحُرِمَه ] . [ والهاء في «عنه» عائدة إلى القرآن ، وقيل : يُصْرَف عن هذا القول ، أي : من أجْله وسببه عن الإيمان من صُرِف ] .

وقرأ قتادة «مَنْ أَفَكَ» بفتح الألف والفاء . وقرأ عمرو بن دينار «مَنْ أَفِكَ» بفتح الألف وكسر الفاء .
{ قُتِل الخَرَّاصُونَ } قال الفراء : يعني : [ لُعن ] الكذّابون الذين قالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم ساحر وكذَّاب وشاعر ، خَرَصوا ما لا علم لهم به . وفي رواية العوفي عن ابن عباس : أنهم الكهنة . وقال ابن الأنباري : والقتل إذ أُخبر عن الله به فهو بمعنى اللعنة ، لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك .
قوله تعالى { الذين هم في غَمْرة } أي : في عمىً وجهالة بأمر الآخرة { ساهون } أي : غافلون . والسَّهو : الغَفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه .
{ يَسألونَ أيّان يومُ الدِّين } أي : يقولون : يا محمد متى يومُ الجزاء؟! تكذيباً منهم واستهزاءاً .
ثم أخبر عن ذلك اليوم فقال : { يومَ هُم على النّار } قال الزجاج : «اليومَ» منصوب على معنى : يقع الجزاء يومَ هُم على النّار . { يُفْتَنونَ } أي : يُحرَقون ويعذَّبون ، ومن ذلك يقال للحجارة السُّود التي كأنها قد أُحرقت بالنار الفَتِين .
قوله تعالى : { ذُوقوا } المعنى : يقال لهم : ذوقوا { فِتْنَتَكم } وفيها قولان .
أحدهما : تكذيبكم ، قاله ابن عباس .
والثاني : حريقكم ، قاله مجاهد . قال أبو عبيدة : هاهنا تم الكلام ، ثم ائتنف ، فقال { هذا الذي كنتم به تستعجِلونَ } قال المفسرون : يعني الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا استهزاءاً . ثم ذكر ما وعَد اللهُ لأهل الجنة فقال : { إنَّ المُتَّقِينَ في جنّاتٍ وعُيونٍ } وقد سبق شرح هذا [ البقرة : 25 ، الحجر : 45 ] .
قوله تعالى : { آخذين } قال الزجاج : هو منصوب على الحال ، فالمعنى : في جنّات وعيون في حال أخذ { ما آتاهم ربُّهم } قال المفسرون : أي : ما أعطاهم اللهُ من الكرامة { إنَّهم كانوا قبلَ ذلك محسِنين } في أعمالهم . وفي الآية وجه آخر : «آخذين ما آتاهم ربُّهم» أي : عاملين بما أمرهم به من الفرائض «إنهم كانوا قبلَ» أن تفرض الفرائض عليهم ، «محسِنين» أي : مطيعين ، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية مسلم البطين .
ثم ذكر إحسانهم فقال : { كانوا قليلاً من الليل ما يَهجعون } والهُجوع : النَّوم بالليل دون النهار .
وفي «ما» قولان .
أحدهما : النفي . ثم في المعنى قولان . أحدهما : كانوا يسهرون قليلاً من الليل . قال أنس بن مالك ، وأبو العالية : هو ما بين المغرب والعشاء .
والثاني : كانوا ما ينامون قليلاً من الليل . واختار قوم الوقف على قوله «قليلاً» على معنى كانوا من الناس قليلاً ، ثم ابتدأ فقال : «من الليل ما يهجعون» على معنى نفي النوم عنهم البتَّة ، وهذا مذهب الضحاك ، ومقاتل .
والقول الثاني : أن «ما» بمعنى الذي ، فالمعنى : كانوا قليلاً من الليل الذي يهجعونه ، وهذا مذهب الحسن ، والأحنف بن قيس ، والزهري . وعلى هذا يحتمل أن تكون «ما» زائدة .
قوله تعالى : { وبالأسحار هُمْ يَستغفرون } وقد شرحناه في [ آل عمران : 17 ] .
قوله تعالى : { وفي أموالهم حَقٌ } أي نصيب ، وفيه قولان .

أحدهما : أنه ما يَصِلون به رَحِمًا ، أو يَقْرون به ضيفاً ، أو يحملون به كلاًّ ، أو يُعينون به محروماً ، وليس بالزَّكاة ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه الزكاة قاله قتادة ، وابن سيرين .
قوله تعالى : { للسائل } وهو الطالب .
وفي { المحروم } ثمانية أقوال .
أحدها : أنه الذي ليس له سهم في فيء المسلمين ، وهو المُحارَف ، قاله ابن عباس . وقال إبراهيم : هو الذي لا سهم له في الغنيمة .
والثاني : أنه الذي لا ينمى له شيء ، قاله مجاهد ، وكذلك قال عطاء : هو المحروم في الرِّزق والتجارة .
والثالث : أنه المسلم الفقير ، قاله محمد بن علي .
والرابع : أنه المتعفِّف الذي لا يَسأل شيئاً ، قاله قتادة ، والزهري .
والخامس : أنه الذي يجيء بعد الغنيمة ، وليس له فيها سهم ، قاله : الحسن ابن محمد بن الحنفية .
والسادس : أنه المصاب ثمرته وزرعه أو نسل ماشيته ، قاله ابن زيد .
والسابع : أنه المملوك ، حكاه الماوردي .
والثامن : أنه الكَلْب ، روي عن عمر بن عبد العزيز . وكان الشعبي يقول : أعياني أن أعلَم ما المحروم . وأظهر الأقوال قول قتادة والزهري ، لأنه قرنه بالسائل ، والمتعفِّف لا يَسأل ولا يكاد الناس يعطون من لا يسأل ثم يتحفظ بالتعفُّف من ظُهور أثر الفاقة عليه ، فيكون محروما من قِبَل نفسه حين لم يَسأل ، ومن قِبَل الناس حين لا يُعطونه ، وإنما يفطن له متيقِّظ . وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة ، ولا يصح .
قوله تعالى : { وفي الأرض آياتٌ } كالجبال والأنهار والأشجار والثمار وغير ذلك { للموقنين } بالله عز وجل الذين يعرفونه بصنعه .
{ وفي أنفُسكم } آياتٌ إذ كنتم نُطَفاً ، ثم عظاماً ، ثم عَلَقاً ، ثم مُضَغاً ، إلى غير ذلك من أحوال الاختلاف ، ثم اختلاف الصُّوَر والألوان والطبائع ، وتقويم الأدوات ، والسمع والبصر والعقل ، وتسهيل سبيل الحدث ، إلى غير ذلك من العجائب المودَعة في ابن آدم . وتمَّ الكلام عند قوله : «وفي أنفسكم» ، ثم قال : { أفلا تُبْصِرونَ } قال مقاتل : أفلا تبصرون كيف خَلَقكم فتعرِفوا قُدرته على البعث .
قوله تعالى : { وفي السَّماء رِزْقُكم } وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وحميد ، وأبو حصين الأسدي : «أرْزاقُكم» براءٍ ساكنة وبألف بين الزاي والقاف . وقرأ ابن مسعود ، والضحاك ، وأبو نهيك : «رازِقُكم» بفتح الراء وكسر الزّاي وبألف بينهما . وعن ابن محيصن كهاتين القراءتين . وفيه قولان .
أحدهما : أنه المطر ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وليث عن مجاهد ، وهو قول الجمهور .
والثاني : الجنة ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .
وفي قوله : { ما تُوعَدونَ } قولان .
أحدهما : أنه الخير والشر كلاهما يأتي من السماء ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وابن أبي نجيح عن مجاهد .
والثاني : الجنة رواه ليث عن مجاهد . قال : أبو عبيدة : في هذه الآية مضمر مجازه : عند مَنْ في السماء رزقُكم ، وعنده ما توعدون ، والعرب تُضْمِر ، قال نابغة [ ذبيان ] :
كأنَّكَ مِنْ جِمالِ بَني أُقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ

أراد : كأنك جملٌ من جِمال بني أُقَيش .
قوله تعالى : { إنَّه لَحَقٌ } قال الزجاج : يعني : ما ذكره من أمر الآيات والرِّزق وما توعدون وأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، { مِثْلَ ما أنَّكم تَنْطِقونَ } قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «مِثْلُ» برفع اللام . وقرأ الباقون بنصب اللام . قال الزجاج : فمن رفع «مِثْلُ» فهي من صفة الحق ، والمعنى : إنه لَحَقٌ مِثْلُ نُطْقكم؛ ومن نصب فعلى ضربين :
أحدهما : أن يكون في موضع رفع ، إلا أنه لمّا أُضيف إلى «أنَّ» فُتح .
والثاني : أن يكون منصوبا على التأكيد ، على معنى : إنه لَحَقٌ حَقّاً مِثْلَ نُطقكم ، وهذا الكلام كما تقول : إنه لَحَقٌ كما أنَّك تتكلَّم .

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)

قوله تعالى : { هل أتاكَ حديثُ ضَيْفِ إبراهيمَ المُكْرَمِينَ } «هل» بمعنى : «قد» في قول ابن عباس ، ومقاتل ، فيكون المعنى : قد أتاك فاستمع نَقْصُصْهُ عليك ، وضَيفُه : هم الذين جاؤوا بالبشرى . وقد ذكرنا عددهم في [ هود : 70 ] وذكرنا هناك معنى الضَّيف .
وفي معنى : «المُكْرَمِينَ» أربعة أقوال .
أحدهما : لأنه أكرمهم بالعِجْل ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد .
والثاني : بأن خدمهم هو وامرأته بأنفُسهما ، قاله السدي .
والثالث : أنهم مُكْرَمون عند الله ، قاله عبد العزيز بن يحيى .
والرابع : لأنهم أضياف ، والأضياف مُكْرَمون ، قاله أبو بكر الورَّاق .
قوله تعالى : { فقالوا سلاماً } قد ذكرناه في [ هود : 70 ] .
قوله تعالى : { قومٌ مُنْكَرونَ } قال الزجاج : ارتفع على معنى : أنتم قومٌ مُنْكَرونَ .
وللمفسرين في سبب إنكارهم أربعة أقوال .
أحدها : لأنه لم يعرفهم ، قاله ابن عباس .
والثاني : لأنهم سلَّموا عليه ، فأنكر سلامهم ، في ذلك الزمان وفي تلك الأرض ، قاله أبو العالية .
والثالث : لأنهم دخلوا [ عليه ] من غير استئذان .
والرابع : لأنه رأى فيهم صورة البشر وصورة الملائكة .
قوله تعالى : { فراغَ إلى أهله } قال ابن قتيبة : أي : عَدَل إليهم في خُفْية ، ولا يكون الرَّواغُ إلاَّ أن تُخْفِيَ ذهابَك ومَجيئك .
قوله تعالى : { فجاء بِعِجْلٍ سمينٍ } وكان مشويّاً { فقرَّبه إليهم } قال الزجاج : والمعنى : فقرَّبه إليهم ليأكلوا منه ، فلم يأكلوا ، فقال : { ألا تأكلونَ } ؟! على النَّكير ، أي : أمرُكم في ترك الأكل ممّا أُنْكِرُه .
قوله تعالى : { فأوجس منهم خِيفةً } قد شرحناه في [ هود : 70 ] ، وذكرنا معنى «غلامٍ عليمٍ» في [ الحجر : 54 ] .
{ فأقبلَت امرأتُه } وهي : سارة . قال الفراء وابن قتيبة : لم تُقْبِل مِن مَوضع إلى مَوضع ، وإنما هو كقولك : أقبلَ يَشتُمني ، وأقبل يَصيح ويتكلَّم ، أي : أخذ في ذلك ، والصَّرَّة : الصَّيحة . وقال أبو عبيدة : الصَّرَّة : شِدة الصَّوت .
وفيما قالت في صَيحتها قولان .
أحدهما : أنها تأوَّهتْ ، قال قتادة .
والثاني : أنها قالت : يا ويلتا ، ذكره الفراء .
قوله تعالى : { فصَكَّت وَجْهَها } فيه قولان .
أحدهما : لطمتْ وجهها ، قاله ابن عباس .
والثاني : ضربتْ جبينها تعجُّباً ، قاله مجاهد . ومعنى الصَّكِّ : ضَرْبُ الشيء بالشيء العريض .
{ وقالت عجوزٌ } قال الفراء : هذا مرفوع بإضمار «أتَلِدُ عجوزٌ» . وقال الزجاج : المعنى : أنا عجوز عقيمٌ ، فكيف ألِدُ؟! وقد ذكرنا معنى { العقيم } في [ هود : 72 ] .
{ قالوا كذلكِ قال ربُّكِ } أنك ستَلِدين غُلاماً؛ والمعنى : إنما نُخبرك عن الله عز وجل وهو حكيم عليم يَقْدِر أن يَجعل العقيم وَلُوداً ، فعَلِم [ حينئذ ] إبراهيمُ أنهم ملائكة .
{ قال فما خَطْبُكم } مفسر في [ الحجر : 57 ] .
قوله تعالى : { حجارةً من طِينٍ } قال ابن عباس : هو الآجُرُّ .
قوله تعالى : { مُسوَّمةً عند ربِّك } قد شرحناه في [ هود : 83 ] .
قوله تعالى : { للمُسرِفين } قال ابن عباس : للمشركين .
قوله تعالى : { فأخرَجْنا مَن كان فيها } ، أي : من قُرى لوط { مِن المؤمنين } وذلك قوله تعالى : { فأسْرِ بأهلك . . . } الآية : [ هود : 82 ] .
{ فما وَجَدْنَا فيها غيرَ بَيْتٍ من المُسلمين } وهو لوط وابنتاه ، وصَفهم اللهُ عز وجل بالإيمان والإسلام ، لأنه ما من مؤمِن إلا وهو مُسْلِم .
{ وتَرَكْنا فيها آيةً } أي : علامة للخائفين من عذاب الله تَدُلُّهم على أن الله أهلكهم . وقد شرحنا هذا في [ العنكبوت : 35 ] وبيَّنَّا الَمكني عنها .

وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)

قوله تعالى : { وفي موسى } اي : وفيه ايضاً آية { إذ أَرسلْناه إلى فرعون بسُلطان مُبِينٍ } اي : بحُجَّة ظاهرة { فتولَّى } اي : أعرَضَ { بِرُكْنه } قال مجاهد : بأصحابه . وقال ابو عبيدة : «بِرُكْنه» و«بجانبه» سواء ، إنما هي ناحيته ، { وقال ساحرٌ } : اي وقال لموسى : هذا ساحر { أو مجنونٌ } وكان أبو عبيدة يقول «أو» بمعنى الواو . فأمّا «الَيمُّ» فقد ذكرناه في [ الأعراف : 136 ] و«مُليم» في [ الصافات : 142 ] .
قوله تعالى : { وفي عاد } اي : في إهلاكهم آية ايضاً { إذ أَرسلْنا عليهم الرِّيحُ العَقيم } وهي التي لا خَير فيها ولا بَرَكة ، لا تُلْقِح شجراً ولا تَحْمِل مطراً ، وإنما هي للإهلاك . وقال سعيد بن المسيّب : هي الجَنُوب .
{ ما تَذَر من شيء أَتَتْ عليه } أي : من أنفُسهم وأموالهم { إلا جَعلتْه كالرَّميم } اي : كالشيء الهالك البالي . قال الفراء : الرَّميم : نبات الأرض إذا يَبِس وَدِيس . وقال الزجاج : الرَّميم : الورَق الجافّ المتحطِّم مثل الهشيم .
{ وفي ثمودَ } آيةٌ ايضاً { إذ قيل لهم تَمتَّعوا حتَّى حِين } فيه قولان .
أحدهما : أنه قيل لهم : تَمتَّعوا في الدُّنيا إلى وقت انقضاء آجالكم تهدُّداً لهم .
والثاني : أن صالحاً قال لهم بعد عَقْر النّاقة : تَمتَّعوا ثلاثة أيام؛ فكان الحِين وقتَ فناء آجالهم ، { فَعتْوا عن أَمْر ربِّهم } قال مقاتل : عصوا أَمْره { فأخذَتْهم الصاعقة } يعني العذاب ، وهو الموت من صيحة جبريل . وقرأ الكسائي وحده «الصَّعْقةُ» [ بسكون العين من غير الف ] ؛ وهي الصَّوت الذي يكون عن الصاعقة .
قوله تعالى : { وهم ينظُرونَ } فيه قولان .
أحدهما : يَرَوْن ذلك عِياناً . والثاني : وهم يَنتظرون العذاب ، فأتاهم صيحةٌ يومَ السبت .
قوله تعالى : { فما استطاعوا من قيام } فيه قولان .
أحدهما : ما استطاعوا نُهوضاً من تلك الصَّرعة .
والثاني : ما أطاقوا ثُبوتاً لعذاب الله . { وما كانوا منتصِرين } أي : ممتنعين من العذاب .
قوله تعالى : { وقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ } قرأ أبو عمرو إلاّ عبد الوارث ، وحمزة ، والكسائي : بخفض الميم ، وروى عبد الوارث رفع الميم ، والباقون بنصبها . قال الزجاج : من خفض القوم فالمعنى : وفي قومِ نوحٍ آيةٌ ، ومن نصب فهو عطف على معنى قوله «فأخذتْهم الصّاعقةُ» فإن معناه : أهلكْناهم ، فيكون المعنى : وأهلَكْنا قومَ نوح ، والأحسن والله أعلم أن يكون محمولاً على قوله «فأخذْناه وجنوده فنبذنْاهم في اليمِّ» لأن المعنى : أغرقناه ، وأغرقْنا قومَ نوح .
{ والسماء بنيناها } المعنى : وبنينا السماء بنيناها { بأَيْدٍ } أي : بقْوَّة ، وكذلك قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وسائر المفسرين واللغويين «بأيد» اي : بقُوَّة .
وفي قوله : { وإنّا لَموسِعونَ } خمسة أقوال .
أحدها : لموسِعون الرِّزق بالمطر ، قاله الحسن . والثاني : لموسِعون السماء ، قاله ابن زيد . والثالث : لقادرون ، قاله ابن قتيبة . والرابع : لموسِعون ما بين السماء والأرض ، قاله الزجاج . والخامس : لذو سعة لا يضيق عمّا يريد ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { والأرض فرشناها فنِعْم الماهدون } قال الزجاج : هذا عطفٌ على ما قبله منصوبٌ بفعل مُضْمر محذوف يدلُّ عليه قوله : «فرشْناها» ، فالمعنى : فرشْنا الأرض فرشْناها «فنِعْم الماهدون» أي : فنِعْم الماهدون نحن .

قال مقاتل : «فرشْناها» أي : بسطْناها مسيرة خمسمائة عام ، وهذا بعيد . وقد قال قتادة : الأرضُ عشرون ألف فرسخ ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : { ومِنْ كُلِّ شيء خَلقْنا زوجين } ، اي : صِنفين ونَوعَين كالذكر والأنثى ، والبرِّ والبحر والليِّل والنَّهار ، والحُلو والمُرِّ ، والنُّور والظُّلمة ، وأشباه ذلك { لعلَّكم تذكَّرون } فتعلْموا أن خالق الأزواج واحد .
{ ففِرُّوا إلى الله } بالتَّوبة من ذنوبكم؛ والمعنى : اهْرُبوا ممّا يوجِب العِقاب من الكُفر والعِصيان إلى ما يوجِب الثَّواب من الطَّاعة والإيمان .

كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

قوله تعالى : { كذلك } أي : كما كذَّبك قومُك وقالوا : ساحر أو مجنون ، كانوا من قبلك يقولون للأنبياء .
قوله تعالى : { أتواصوْا به } أي : أوْصى أوَّلُهم آخرَهم بالتكذيب؟! وهذا استفهام توبيخ . وقال أبو عبيدة : أتواطؤوا عليه فأخذه بعضُهم من بعض؟!
قوله تعالى : { بلْ هم قوم طاغون } اي : يحملُهم الطُّغيان فيما أُعطوا من الدُّنيا على التكذيب؛ والمشار إِليهم اهل مكة .
{ فتولَّ عنهم } فقد بلَّغْتَهم { فما أنت } عليهم { بملومٍ } لأنَّك قد أدَّيت الرِّسالة . ومذهب أكثر المفسرين أن هذه الآية منسوخة ، ولهم في ناسخها قولان .
أحدهما : أنه قوله { وذكِّر فإن الذِّكرى تنفع المؤمنين } .
والثاني : آية السيف . وفي قوله «وذكِّر» قولان .
أحدهما : عِظْ ، قاله مقاتل . والثاني : ذكِّرهم بأيّام الله وعذابه ورحمته ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { وما خلقْتُ الجنَّ والإنس إلاّ لِيعْبُدونِ } أثبت الياء في «يعْبُدون» و«يُطْعِمون» و«لا يستعجِلون» في الحالين يعقوب . واختلفوا في هذه الآية على أربعة أقوال .
أحدها : إلاّ لآمُرهم أن يعبدوني ، قاله عليُّ بن أبي طالب ، واختاره الزجاج .
والثاني : إلا لِيُقِرُّوا بالعُبودية طوْعاً وكرْهاً ، قاله ابن عباس؛ وبيان هذا قوله { ولئن سألتهم منْ خلقهم ليقولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] .
والثالث : أنه خاصّ في حقِّ المؤمنين . قال سعيد بن المسيّب : ما خلقتُ منْ يعبُدني إلا ليعبُدَني . وقال الضحاك ، والفراء ، وابن قتيبة : هذا خاصّ لأهل طاعته ، وهذا اختيار القاضي ابي يعلى فإنه قال : معنى هذا الخصوصُ لا العمومُ ، لأن البُله والأطفال والمجانين لا يدخُلون تحت الخطاب وإن كانوا من الإنس ، فكذلك الكُفَّار يخرُجون من هذا بدليل قوله : { ولقد ذرأْنا لجهنَّم كثيراً من الجِنِّ والإنس } [ الأعراف : 179 ] ، فمن خُلق للشَّقاء ولجهنَّم ، لم يخلق للعبادة .
والرابع : إلا ليخضعوا إليَّ ويتذللَّوا . ومعنى العبادة في اللغة : الذُّلُّ والانقياد . وكُلُّ الخلْق خاضعٌ ذليلٌ لقضاء الله عز وجل لا يملك خُروجاً عمّا قضاه اللهُ عز وجل ، هذا مذهب جماعة من أهل المعاني .
قوله تعالى : { ما أُريدُ منهم من رِزْقٍ } أي : ما أُريدُ أن يرزُقوا أنفسهم { وما أُريدُ أن يُطْعِموني } أي : أن يُطْعِموا أحداً من خَلْقي ، لأنِّي أنا الرَّزّاق . وإنما أسند الإطعام إلى نفسه ، لأن الخلق عيالُ الله ، ومن أطعمَ عِيالَ أحد فقد أطعمه . وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول اللهُ عز وجل يوم القيامة : يا ابن آدم : استطعمتُكَ فلم تُطْعِمْني " ، اي : لم تُطْعِم عبدي .
فأما { الرَّزّاق } فقرأ الضحاك ، وابن محيصن : «الرّازق» بوزن «العالِم» . قال الخطابي : هو المتكفِّل بالرِّزق القائمُ على كل نَفْس بما يُقيمها من قُوتها . { والمتينُ } الشديد القُوَّة الذي لا تنقطع قُوَّته ولا يَلحقه في أفعاله مَشقَّة . وقد روى قتيبة عن الكسائي أنه قرأ : «المتينِ» بكسر النون .

وكذا قرأ أبو رزين ، وقتادة ، وأبو العالية ، والأعمش . قال الزجاج : { ذو القوَّة المتينِ } أي : ذو الاقتدار الشديد ، ومن رفع «المتين» فهو صفة الله عز وجل ، ومن خفضه جعله صفة للقُوة ، لأن تأنيث القُوَّة كتأنيث المُوعظة ، فهو كقوله : { فمن جاءه مَوعِظةٌ من ربِّه } [ البقرة : 275 ] .
قوله تعالى : { فإنَّ لِلذينَ ظَلموا } يعني مشركي مكة { ذَنوباً } أي : نصيباً من العذاب { مِثْلَ ذَنوبِ أصحابهم } الذين أُهلكوا ، كقوم نوح وعاد وثمود . قال الفراء : الذَّنوب في كلام العرب : الدَّلْوُ العظيمة ، ولكن العرب تذهب بها إلى النَّصيب والحظِّ ، قال الشاعر :
لَنا ذَنُوبٌ وَلكُمْ ذَنُوبُ ... فإِنْ أَبَيْتُم فَلَنا الْقَلِيبُ
والذَّنوب ، يُذَكَّر ويؤنَّث . وقال ابن قتيبة ، أصل الذَّنوب : الدَّلو العظيمة ، وكانوا يَستقون ، فيكون لكل واحدٍ ذَنوبٌ ، فجُعل «الذَّنوب» مكان «الحظّ والنصيب» قوله تعالى : { فلا يَستعجِلونِ } أي : بالعذاب إن أُخِّروا إلى يوم القيامة ، وهو يومهم الذي يوعدون ، ويقال : هو يوم بدر .

وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)

قوله تعالى : { والطُّورِ } هذا قَسم بالجبل الذي كلَّم اللهُ عز وجل عليه موسى عليه السلام ، وهو بأرض مَدْين [ واسمه زَبير ] .
{ وكتابٍ مسطورٍ } أي : مكتوب ، وفيه أربعة أقوال .
أحدها : أنه اللوح المحفوظ ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : كتب أعمال بني آدم ، قاله مقاتل ، والزجاج .
والثالث : التوراة .
والرابع : «القرآن» حكاهما الماوردي .
قوله تعالى : { في رَقٍّ } قال أبو عبيدة : الرَّقُّ : الوَرَق . فأما المنشور فهو المبسوط .
قوله تعالى : { والبيتِ المعمورِ } فيه قولان .
أحدهما : أنه بيت في السماء . وفي أي سماء هو؟ [ فيه ] ثلاثة أقوال :
أحدها : [ أنه ] في السماء السابعة . رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم . وحديث مالك بن صعصعة الذي أُخرج في «الصحيحين» يدل عليه .
والثاني : أنه في السماء السادسة ، قاله عليّ رضي الله عنه .
والثالث : أنه في السماء الدنيا ، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس : هو حيال الكعبة يحُجُّه كُلَّ يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون فيه حتى تقوم الساعة ، يسمى الضُّراح . وقال الربيع بن أنس : كان البيت المعمور مكان الكعبة في زمان آدم ، فلمّا كان زمن نوح أمر الناس بحجِّه ، فعصوه ، فلمّا طغى الماءُ رُفع فجُعل بحذاء البيت في السماء الدنيا .
والثاني : أنه البيت الحرام ، قاله الحسن . وقال أبو عبيدة : ومعنى : «المعمور» الكثير الغاشية .
قوله تعالى : { والسَّقْفِ المرفوعِ } فيه قولان :
أحدهما : أنه السماء ، قاله علي رضي الله عنه والجمهور .
والثاني : العرش ، قاله الربيع .
قوله تعالى : { والبحرِ } فيه قولان .
أحدهما : أنه بحر تحت العرش ماؤه غليظ يُمْطَر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحاً فينبتُون في قبورهم ، قاله عليّ رضي الله عنه .
والثاني : أنه بحر الأرض ، ذكره الماوردي .
وفي { المسجور } أربعة أقوال .
أحدها : المملوء ، قاله الحسن ، وأبو صالح ، وابن السائب ، وجميع اللغويين .
والثاني : أنه المُوقد ، قاله مجاهد ، وابن زيد . وقال شمر بن عطية : هو بمنزلة التنور المسجور .
والثالث : أنه اليابس الذي قد ذهب ماؤه ونضب ، قاله أبو العالية . وروي عن الحسن قال : تسجر ، يعني البحار ، حتى يذهب ماؤها ، فلا يبقى فيها قطرة . وقول هذين يرجع إلى معنى قول مجاهد . وقد نقل في الحديث أن الله تعالى يجعل البحار كلَّها ناراً ، فتزاد في نار جهنم .
والرابع : أن «المسجور» المختلط عذْبه بمِلحه ، قاله الربيع بن أنس . فأقسم اللهُ تعالى بهذه الأشياء للتنبيه على ما فيها من عظيم قدرته على أن تعذيب المشركين حق ، فقال : { إنَّ عذاب ربِّك لواقعٌ } أي : لكائن في الآخرة . ثم بيَّن متى يقع ، فقال : { يومَ تمورُ السماءُ موْراً } وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : تدور دَوْراً «رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وهو اختيار الفراء وابن قتيبة والزجاج .

والثاني : تحرَّكُ تحرُّكاً ، رواه ابن ابي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة . وقال أبو عبيدة «تمور» أي : تَكفّأُ ، وقال الأعشى :
كأنَّ مِشْيتَها مِنْ بيْتِ جارَتِها ... مَوْرُ السَّحابةِ لا ريْثٌ ولا عَجَلُ
والثالث : يموج بعضها في بعض لأمر الله تعالى ، قاله الضحاك . وما بعد هذا قد سبق بيانه [ النمل : 88 ] إلى قوله : { الذين هُمْ في خوْضٍ يلعبون } أي : يخوضون في حديث محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والاستهزاء ، ويلهُون بذكْره ، فالويل لهم .
{ ويوم يُدعُّون } قال ابن قتيبة : أي : يُدْفعون ، يقال : دععْتُه أدُعُّه ، أي : دفعته ، ومنه قوله { يدُعُّ اليتيم } [ الماعون : 2 ] قال ابن عباس : يُدْفع في أعناقهم حتى يردوا النّار . وقال مقاتل : تُغلُّ أيديهم إلى أعناقهم وتُجْمعُ نواصيهم إلى أقدامهم ، ثم يُدفعون إلى جهنم على وجوههم ، حتى إذا دَنوا منها قالت لهم خزنتُها : { هذه النار التي كنتم بها تكذِّبون } في الدنيا { أفسحر هذا } العذاب الذي ترون؟ فإنكم زعمتم أن الرُّسل سحرةٌ { أمْ أنتم لا تُبْصِرون } النار؟ فلمّا أُلقوا فيها قال لهم خزنتُها : { إصْلوها } . وقال غيره : لمّا نسبوا محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أنه ساحر يغطِّي على الأبصار بالسِّحر ، وُبِّخوا عند رؤية النار بهذا التوبيخ ، وقيل : { إصلوها } أي : قاسوا شِدَّتها { فاصبِروا } على العذاب { أو لا تصْبِروا سواءٌ عليكم } الصَّبر والجزع { إنمَّا تُجْزوْن } جزاء { ما كنتم تعملون } من الكفر والتكذيب .

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)

ثم وصف ما للمؤمنين بما بعد هذا ، وقوله : { فاكِهين } قرئت بألف وبغير ألف ، وقد شرحناها في [ يس : 55 ] ، { ووقاهم } أي : صرف عنهم و { الجحيم } مذكور في [ البقرة : 119 ] .
{ كُلوا } أي : يقال لهم : كُلوا { واشربوا هنيئاً } تأمنون حدوث المرض عنه . قال الزجاج : المعنى : لِيهْنِكم ما صِرتم إليه ، وقد شرحنا هذا في سورة [ النساء : 4 ] ثم ذكر حالهم عند أكلهم وشربهم فقال : { مُتَّكِئين على سُرُرٍ } وقال ابن جرير : فيه محذوف تقديره : على نمارق على سُرُر ، وهي جمع سرير { مصفوفةٍ } قد وُضع بعضُها إلى جنْب بعض . وباقي الآية مفسَّر في سورة [ الدخان : 54 ] .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)

قوله تعالى : { وأَتبعْناهم ذُرِّياتِهم } قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : «واتَّبعْتهم» بالتاء «ذُرِّيَّتُهم» واحدة { بهم ذُرِّيَّتَهم } واحدة أيضاً . وقرأ نافع : «واتَّبعتْهم ذُرِّيَّتُهم» واحدة «بهم ذُرِّيَّاتِهم» جمعاً . وقرأ ابن عامر «وأَتْبعْناهم ذُرِّيَّاتِهم» «بهم ذُرِّيّاتِهم» جمعاً في الموضعين . واختلفوا في تفسيرها على ثلاثة أقوال .
أحدها : أن معناها : واتَّبعتهم ذريتُهم بإيمان ألحقنا بهم [ ذرياتهم ] من المؤمنين في الجنة ، وإن كانوا لم يبلُغوا أعمال آبائهم ، تكرمةً من الله تعالى لآبائهم المؤمنين باجتماع أولادهم معهم ، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثاني : واتَّبعتهم ذريتُهم بإيمان ، أي : بلغت أن آمنتْ ، ألحقنا بهم ذُرِّيَّتهم الصِّغار الذين لم يبلُغوا الإيمان . وروى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك . ومعنى هذا القول : أن أولادهم الكبار تبعوهم بإيمان منهم ، وأولادهم الصغار تبعوهم بإيمان الآباء ، [ لأن الولد يُحكم له بالإسلام تبعاً لوالده .
والثالث : «وأتبَعْناهم ذُرِّياتهم» بإيمان الآباء ] فأدخلناهم الجنة ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً .
قوله تعالى : { وما ألتْناهم } قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : «وما ألَتْناهم» بالهمزة وفتح اللام . وقرأ ابن كثير : «وما ألِتْناهم» بكسر اللام . وروى ابن شنبوذ عن قنبل عنه «ومالِتْناهم» بإسقاط الهمزة مع كسر اللام . وقرأ أبو العالية ، وأبو نهيك ، ومعاذ القارىء بإسقاط الهمزة مع فتح اللام . وقرأ ابن السميفع «وما آلَتْناهم» بمد الهمزة وفتحها . وقرأ الضحاك ، وعاصم ، الجحدري : «وماوَلَتْناهم» بواو مفتوحة من غير همزة وبنصب اللام . وقرأ ابن مسعود ، وأبو المتوكل : «وما أَلَتُّهُمْ» مثل جَعلتُهم . وقد ذكرنا هذه الكلمة في [ الحجرات : 140 ] والمعنى : ما نَقَصْنا الآباء بما أعطَيْنا الذُّرِّيَّةَ .
{ كُلُّ امريءٍ بما كسب رهينٌ } أي : مُرْتَهَن بعمله لا يؤاخذ أحدٌ بذَنْب أحد . وقيل : هذا الكلام يختصُّ بصفة أهل النار ، وذلك الكلام قد تَمَّ .
قوله تعالى : { وأَمْدَدْناهم } قال ابن عباس : هي الزيادة على الذي كان لهم .
قوله تعالى : { يَتنازعون } قال أبو عبيدة : أي : يتعاطَون ويتداولون ، وأنشد الأخطل :
نازَعْتُهُ طَيِّبَ الرَّاحِ الْشَّمُولِ وقَدْ ... صَاحَ الدَّجاجُ وحانَتْ وَقْعَةُ الْسّاري
قال الزَّجَّاج : يتناول هذا الكأسَ من يد هذا ، وهذا من يد هذا ، فأمّا الكأس فقد شرحناها في [ الصافات : 45 ] .
قوله تعالى : { لا لَغْوٌ فيها ولا تأثيمٌ } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «لا لَغْوَ فيها ولا تأثيمَ» نصباً وقرأ الباقون : «لا لَغْوٌ فيها ولا تأثيمٌ» رفعاً منوَّناً . قال ابن قتيبة : أي : لا تَذهبُ بعقولهم فيَلْغُوا ويَرْفُثوا فيأثموا ، كما يكون ذلك في خمر الدنيا . وقال غيره : التأثيم : تفعيل من الإثم ، يقال آثمه : إذا جعله ذا إثم : والمعنى أن تلك الكأس لا تجعلهم آثمين .
{ ويطوف عليهم } للخدمة { غِلْمانٌ لهم كأنَّهم } في الحُسن والبياض { لؤلؤٌ مكنونٌ } أي : مصونٌ لمْ تَمَسَّه الأيدي .

وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل : يا نبيَّ الله ، هذا الخادم ، فكيف المخدوم؟ فقال : " إنَّ فَضْل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " . قوله تعالى : { وأقبل بعضُهم على بعض يتساءلون } قال ابن عباس : يتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من الخوف والتعب ، وهو قوله : { قالوا إنّا كُنّا قَبْلُ في أهلنا } أي : في دار الدنيا { مشفقين } أي : خائفين من العذاب ، { فمنَّ اللهُ علينا } بالمغفرة { ووقانا عذابَ السَّموم } أي : عذاب النار . وقال الحسن : السَّموم من أسماء جهنم . وقال غيره : سَموم : جهنم . وهو ما يوجد من نَفْحها وَحرِّها ، { إنّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ ندعوه } أي : نوحِّده ونُخْلِص له { إنَّه هو البَرُّ } وقرأ نافع ، والكسائي : «أنَّه» بفتح الهمزة .
وفي معنى «البَرِّ» ثلاثة أقوال :
أحدها : الصادق فيما وعد ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : اللطيف ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثالث ، العطوف على عباده المحسن إليهم الذي عَمَّ بِبِرِّه جميع خَلْقه ، قاله أبو سليمان الخطابي .

فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)

قوله تعالى : { فذكِّر } أي : فَعِظ بالقرآن { فما أنت بنعمة ربِّك } أي : بإنعامه عليك بالنبوَّة { بكاهنٍ } وهو الذي يوهم أنه يعلم الغيب ويُخْبِر عمّا في غد من غير وحي . والمعنى : إنما تَنْطِق بالوحي لا كما يقول [ فيك ] كفار مكة .
{ أم يقولون شاعرٌ } أي : هو شاعر . وقال أبو عبيدة : «أم» بمعنى «بل» قال الأخطل :
كَذَبتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِواسِطٍ ... غَلَسَ الْظَّلامِ مِنَّ الرَّبابِ خَيالاَ
لم يستفهم ، إنما أوجب أنه رأى .
قوله تعالى : { نَتربَّصُ به رَيْبَ المَنون } فيه قولان :
أحدهما : أنه الموت ، قاله ابن عباس .
والثاني : حوادث الدهر ، قاله مجاهد ، قال ابن قتيبة : حوادث الدهر وأوجاعه ومصائبه ، و«المَنون» الدهر ، قال أبو ذؤيب :
أمِنَ المَنُونِ ورَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ ... والدَّهْرُ ليْسَ بمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
هكذا أنشدنَاه أصحابُ الأصمعيّ عنه ، وكان يذهب إلى أن المَنونَ الدَّهْرُ ، قال : وقوله «والدَّهْرُ ليس بمُعْتِبٍ» يدُلُّ على ذلك ، كأنه قال : «أمِنَ الدِّهْرُ ورَيْبِهِ تتَوَجَّعُ؟!» قال الكسائيُّ : العرب تقول : لا أكلِّمك آخِرَ المَنون ، أي : آخِرَ الدَّهْر .
قوله تعالى : { قُلْ تربَّصوا } أي : انتظِروا بي ذلك { فإني معكم من المتربِّصين } أي : من المُنتظِرين عذابَكم ، فعُذِّبوا يومَ بدر بالسيف . وبعض المفسرين يقول : هذا منسوخ بآية السيف ، ولا يصح ، إِذ لاتضَادَّ بين الآيتين .
قوله تعالى : { أمْ تأمُرُهم أحلامُهم بهذا } قال المفسرون : كانت عظماء قريش توصَف بالأحلام ، وهي العُقول ، فأزرى اللهُ بحُلومهم ، إذ لم تُثمِر لهم معرفةَ الحق من الباطل . وقيل لعمرو بن العاص : ما بال قومِك لم يؤمِنوا وقد وصفهم اللهُ تعالى بالعُقول؟! فقال : تلك عُقول كادها بارئُها ، أي : لمْ يَصْحَبْها التَّوفيقُ .
وفي قوله : «أَمْ تأمُرُهم» وقوله : { أَمْ هُمْ } قولان .
أحدهما : أنهما بمعنى «بل» ، قاله أبو عبيدة .
والثاني : بمعنى ألف الاستفهام ، قاله الزجاج؛ قال : والمعنى : أتأمُرُهم أحلامُهم بترك القَبول ممَّن يدعوهم إلى التوحيد ويأتيهم على ذلك بالدَّلائل ، أم يكفُرون طُغياناً وقد ظهر لهم الحق؟! وقال ابن قتيبة : المعنى : أم تدُلُّهم عقولُهم على هذا؟! لأن الحِلم يكون بالعقل ، فكني عنه به .
قوله تعالى : { أَمْ يقولون تقوَّله } أي : افتَعَل القرآنَ من تِلقاء نَفْسه؟ والتَّقوُّل : تكلُّف القول ، ولا يستعمل إلاّ في الكذب { بّلْ } أي : ليس الأمر كما زعموا { لا يؤمِنون } بالقرآن ، استكباراً .
{ فَلْيأتوا بحديثٍ مِثلِه } في نَظْمه وحُسن بيانه . وقرأ أبو رجاء ، وأبو نهيك ، ومورّق العجلي ، وعاصم الجحدري : «بحديثِ مِثْلِه» بغير تنوين { إن كانوا صادقِين } أن محمداً تقوَّله .

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)

قوله تعالى : { أَمْ خُلِقوا من غير شيء } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أَمْ خُلقوا من غير ربٍّ خالق؟
والثاني : أَمْ خُلقوا من غير آباءٍ ولا أُمَّهات ، فهم كالجماد لا يعقِلون؟
والثالث : أَمْ خُلقوا من غير شيء كالسماوات والأرض؟ أي : إنهم ليسوا بأشَدَّ خَلْقاً من السماوات والأرض ، لأنها خُلقت من غير شيء وهم خُلقوا من آدم ، وآدم من تراب .
والرابع : أَمْ خُلقوا لغير شيء؟ فتكون «مِنْ» بمعنى اللام . والمعنى : ما خُلقوا عَبَثاً فلا يؤمَرون ولا يُنْهَون .
قوله تعالى : { أَمْ هُمُ الخالقون } فلذلك لا يأتمرون ولا ينتهون؟ لأن الخالق لا يؤمر ولا يُنهى .
قوله تعالى : { بَلْ لا يوقِنون } بالحق ، وهو توحيدُ الله وقدرته على البعث .
قوله تعالى : { أَمْ عندهم خزائنُ ربِّك } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : المطر والرِّزق ، قاله ابن عباس .
والثاني : النُّبوَّة ، قاله عكرمة .
والثالث : عِلْم ما يكون من الغيب ، ذكره الثعلبي . وقال الزجاج : المعنى : أعندهم ما في خرائن ربِّك من العِلْم ، وقيل : من الرِّزق ، فهم مُعْرِضون عن ربِّهم لاستغنائهم؟!
قوله تعالى : { أَمْ هُمُ المصيطِرون } قرأ ابن كثير : «المُسيطِرونَ» بالسين . وقال ابن عباس : المسلَّطون . قال أبو عبيدة : «المُصيطِرون» الأرباب . يقال : تسيطرتَ عليَّ ، أي : اتَّخذتَني خَوَلاً ، قال : ولم يأت في كلام العرب اسم على «مُفَيْعِل» إلا خمسة أسماء : مُهَيْمِن ، ومُجَيْمِر ، ومُسَيْطِر ، ومُبَيْطِر ، ومُبَيْقِر ، فالمُهيْمن : الله الناظر المُحصي الذي لا يفوته شيء؛ ومُجَيْمر : جبل؛ والمُسَيْطِر : المسلَّط؛ ومُبَيْطِر : بَيْطار؛ والمُبَيْقِر : الذي يخرُج من أرض إلى أرض ، يقال : بَيْقَرَ : إذا خرج من بلد إلى بلد ، قال امرؤ القيس :
أَلا هَلْ أَتاهَا ، والحوادِثُ جَمَّةٌ ... بأنَّ امْرأَ القَيْس بنَ تَمْلِك بَيْقَرا؟
قال الزجّاج : المسيطِرون : الأرباب المسلَّطون ، يقال : قد تسيطر علينا وتصيطر : بالسين والصاد ، والأصل السين ، وكل سين بعدها طاء ، فيجوز أن تُقلب صاداً ، تقول : سطر وصطر ، وسطا علينا وصطا . قال المفسرون : معنى الكلام : أم هم الأرباب فيفعلون ما شاؤوا ولا يكونون تحت أمر ولا نهى؟!
قوله تعالى : { أَمْ لهم سُلّمٌ } أي : مَرْقَىً ومصْعدٌ إلى السماء { يستمِعونَ فيه } أي : عليه الوحيَ ، كقوله : { في جذوع النَّخْل } [ طه : 71 ] فالمعنى يستمِعونَ [ الوحي ] فيعلمون أنَّ ما هُم عليه حق { فلْيأت مُستمِعُهم } إِن ادَّعى ذلك { بسُلطانٍ مُبينٍ } أي ، بحُجَّة واضحة كما أتى محمد بحُجَّة على قوله .
{ أمْ له البناتُ ولكم البَنونَ } هذا إنكار عليهم حين جَعلوا لله البناتِ .
{ أم تسألُهم أجراً فهم من مَغْرَمٍ مُثْقَلونَ } أي : هل سألتهم أجراً على ما جئتَ به ، فأثقلهم ذلك الذي تطلبه منهم فمنعهم عن الاسلام؟ والمَغْرمَ بمعنى الغُرْم وقد شرحناه في [ براءة : 98 ] .
قوله تعالى : { أم عندهم الغَيْبُ } هذا جواب لقولهم : «نَتربَّص به ريْبَ المَنون»؛ والمعنى : أعندهم الغيب؟ وفيه قولان .

أحدهما : أنه اللوح المحفوظ ، { فهم يكتبون } ما فيه ويخبِرون الناس . قاله ابن عباس .
والثاني : أعندهم عِلْم الغيب فيَعلمون أن محمداً يموت قبلم { فهم يكتُبون } أي : يحكُمون فيقولون : سَنقْهَرُك . والكتاب : الحُكم؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « سأقضي بينكما بكتاب الله » أي : بحُكم الله عز وجل؛ وإلى هذا المعنى : ذهب ابن قتيبة .
قوله تعالى : { أم يُريدون كَيْداً } وهو ما كانوا عزموا عليه في دار النَّدوة؛ وقد شرحنا ذلك في قوله : { وإذ يمكُرُ بِكَ الذين كفَروا } [ الأنفال : 30 ] ومعنى { هُمُ المَكيدونَ } هم المَجْزِيُّون بكَيدهم ، لأن ضرر ذلك عاد عليهم فقُتلوا ببدر وغيرها .
{ أم لهم إلهٌ غيرُ الله } أي : ألَهُم إله يرزقهم ويحفظهم غيرُ الله؟ والمعنى أن الأصنام ليست بآلهة ، لأنها لا تنفع ولا تدفع . ثم نزَّه نَفْسه عن شرِكهم بباقي الآية .

وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)

ثم ذكر عنادهم فقال : { وإن يَرَوْا كِسْفاً من السماء ساقطاً } والمعنى : لو سقط بعضُ السماء عليهم لَمَا انتهوا عن كفرهم ، ولَقالوا : هذه قِطعة من السَّحاب قدُركم بعضُه على بعض .
{ فذرْهم } أي خَلِّ عنهم { حتَّى يُلاقُوا } قرأ أبو جعفر «يَلْقَوا» بفتح الياء والقاف وسكون اللام من غير ألف { يوْمَهم } وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه يوم موتهم .
والثاني : يوم القيامة .
والثالث : يوم النَّفخة الأولى .
قوله تعالى : { يُصْعَقُون } قرأ عاصم ، وابن عامر : «يُصْعَقُون» برفع الياء ، من أصعَقَهم غيرُهم؛ والباقون بفتحها ، من صعقوهم .
وفي قوله : { يُصْعقون } قولان .
أحدهما : يموتون .
والثاني : يُغشى عليهم ، كقوله : { وخَرَّ موسى صعِقاً } [ الأعراف : 143 ] وهذا يخرج على قول من قال : هو يوم القيامة ، فإنهم يُغْشى عليهم من الأهوال . وذكر المفسرون أن هذه الآية منسوخة بآية السيف ، ولا يصح ، لأن معنى الآية الوعيد .
قوله تعالى : { يوْم لا يُغْني عنهم كيْدُهم شيئاً } هذا اليوم الأول؛ والمعنى : لا ينفعهم مكرهم ولا يدفع عنهم العذاب { ولا هُمْ يُنْصَرون } أي : يُمْنعون من العذاب .
قوله تعالى : { وإِنَّ لِلَّذين ظلموا } أي : أشركوا { عذاباً دون ذلك } أي : قبْل ذلك اليوم؛ وفيه أربعة أقوال .
أحدها : أنه عذاب القبر ، قاله البراء ، وابن عباس .
والثاني : عذاب القتل يوم بدر ، وروي عن ابن عباس أيضاً ، وبه قال مقاتل .
والثالث : مصائبهم في الدنيا ، قاله الحسن ، وابن زيد .
والرابع : عذاب الجوع ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { ولكنَّ أكثرهم لا يعْلمون } أي : لا يعلمون ما هو نازلٌ بهم .
{ واصْبِر لحُكم ربِّك } أي : لما يحكُم به عليك { فإنَّك بأعيُننا } قال الزجّاج : فإنك بحيث نراك ونحفظك ونرعاك ، فلا يصِلون إلى مكروهك . وذكر المفسرون : أن معنى الصبر نُسخ بآية السيف ، ولا يصح لأنه لا تضادَّ .
{ وسبِّح بحمد ربِّك حين تقوم } فيه ستة أقوال .
أحدها : صلِّ لله حين تقوم من منامك ، قاله ابن عباس .
والثاني : قُلْ : " سبحانك اللهمَّ وبحمدك " حين تقوم من مجلسك ، قاله عطاء ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد في آخرين .
والثالث : قُلْ «سبحانك الله وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جُّدك ولا إله غيرك» حين تقوم في الصلاة ، قاله الضحاك .
والرابع : سبِّح الله إذا قُمْت من نومك ، قاله حسّان بن عطيّة .
والخامس : صلِّ صلاة الظُّهر إذا قُمْت من نوم القائلة ، قاله زيد بن أسلم .
والسادس : اذْكُر الله بلسانك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخُل في الصلاة ، قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { ومِن اللَّيل فسبِّحْه } قال مقاتل : صلِّ المغرب وصلِّ العِشاء { وإدبار النُّجوم } قرأ زيد عن يعقوب ، وهارون عن أبي عمرو ، والجعفي عن أبي بكر : «وأدبار النُّجوم» بفتح الهمزة؛ وقرأ الباقون بكسرها . وقد شرحناها في [ ق : 40 ] ؛ والمعنى : صلِّ له في إدبار النجوم ، أي : حين تُدْبِر ، أي : تغيب بضَوء الصُّبح . وفي هذه الصلاة قولان .
أحدهما : أنها الرَّكعتان قَبْل صلاة الفجر ، رواه عليٌّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهو قول الجمهور .
والثاني : أنها صلاة الغداة ، قاله الضحاك ، وابن زيد .

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)

قوله تعالى : { والنَّجْم إِذا هوى } هذا قسم . وفي المراد بالنجم خمسة أقوال .
أحدها : أنه الثُّريّا ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وابن أبي نجيح عن مجاهد ، قال ابن قتيبة : والعرب تسمي الثريا - وهي ستة أنجُم - نجماً . وقال غيره : هي سبعة ، فستة ظاهرة ، وواحد خفي ، يمتحن به الناسُ أبصارَهم .
والثاني : الرُّجوم من النُّجوم ، يعني ما يرمى به الشياطين ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثالث : أنه القرآن نزل نجوماً متفرِّقة ، قاله عطاء عن ابن عباس ، والأعمش عن مجاهد . وقال مجاهد : كان ينزل نجوماً ثلاث آيات وأربع آيات ونحو ذلك .
والرابع : نجوم السماء كُلِّها ، وهو مروي عن مجاهد أيضاً .
والخامس : أنها الزُّهَرةُ : قاله السدي .
فعلى قول من قال : النجم : الثريا ، يكون «هوى» بمعنى «غاب»؛ ومن قال : هو الرُّجوم ، يكون هُوِيُّها في رمي الشياطين ، ومن قال : القرآن ، يكون معنى «هوى» نزل ، ومن قال : نجوم السماء كلِّها ، ففيه قولان .
أحدهما : أن هُوِيَّها أن تغيب .
والثاني : أن تنتثر يوم القيامة .
قرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر هذه السورة كلَّها بفتح أواخر آياتها . وقرأ أبو عمرو ونافع بين الفتح والكسر . وقرأ حمزة والكسائي ذلك كلَّه بالإمالة .
قوله تعالى : { ما ضَلَّ صاحبُكم } هذا جواب القَسَم؛ والمعنى : ما ضَلَّ عن طريق الهُدى ، والمراد به : رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ وما يَنْطِقُ عن الهَوى } أي : ما يتكلَّم بالباطل . وقال أبو عبيدة : «عن» بمعنى الباء . وذلك أنهم قالوا : إنه يقول القرآن من تلقاء نفسه .
{ إنْ هُوَ } أي : ما القرآنُ { إلاّ وَحْيٌ } من الله { يُوحَى } وهذا ممّا يحتجُّ به من لا يُجيز للنبيّ أن يجتهد ، وليس كما ظنُّوا ، لأن اجتهاد الرأي إذا صدر عن الوحي ، جاز أن يُنْسَبَ إلى الوحي .

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)

قوله تعالى : { عَلَّمه شديدُ القُوى } وهو جبريل عليه السلام علَّم النبيَّ صلى الله عليه وسلم ؛ قال ابن قتيبة : وأصل هذا من «قُوَى الحَبْل» وهي طاقاتُه ، الواحدة : قُوَّةٌ { ذو مِرَّةٍ } أي : ذو قُوَّة ، وأصل المِرَّة : الفَتْلُ . قال المفسرون : وكان من قُوَّته أنه قلع قَرْيات لوط وحملها على جناحه فقلبها ، وصاح بثمود فأصبحوا خامدين .
قوله تعالى : { فاستوى ، وهُو بالأُفُق الأعلى } فيه قولان .
أحدهما : فاستوى جبريل ، وهو يعني النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : أنهما استويا بالأفق الأعلى لمّا أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله الفراء .
والثاني : فاستوى جبريل ، وهو يعني جبريل بالأفق الأعلى على صورته الحقيقية ، لأنه كان يَتمثَّل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجُل ، وأحبَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يراه على حقيقته ، فاستوى في أفق المَشْرِق ، فملأ الأفق؛ فيكون المعنى؛ فاستوى جبريلُ بالأفق الأعلى في صورته ، هذا قول الزجَّاج . قال مجاهد : والأفق الأعلى : هو مَطْلِع الشمس . وقال غيره : إنما قيل له : «الأعلى» لأنه فوق جانب المَغْرب في صعيد الأرض لا في الهواء .
قوله تعالى : { ثُمَّ دنا فتَدَلَّى } قال الفراء : المعنى : ثم تَدلَّى فدنا . ولكنه جائز أن تقدِّم أيَّ الفعلين شئتَ إذا كان المعنى فيهما واحداً ، فتقول : قد دنا فقَربُ ، وقَرُبَ فدنا ، وشتم فأساء ، وأساء فشتم ، ومنه قوله : { اقتربتِ الساعةُ وانشقَّ القمر } [ القمر : 1 ] المعنى والله أعلم : انشق القمر واقتربت الساعة . قال ابن قتيبة : المعنى : تَدلَّى فدنا ، لأنه تَدَلَّى للدُّنُوِّ ، ودنا بالتَّدلِّي . وقال الزجاج : دنا بمعنى قَرُبَ ، وتدلى : زاد في القُرْب ، ومعنى اللفظتين واحد . وقال غيرهم : أصل التَّدَلِّي : النُّزول إلى الشيء حتى يقرب منه ، فوُضع موضع القُرْب .
وفي المشار إليه بقوله : «ثُمَّ دنا» ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الله عز وجل . روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث شريك بن أبي نَمِر عن أنس بن مالك قال : دنا الجبّار ربُّ العِزَّة فتدلَّى حتى كان منه قابَ قوسين أو أدنى . وروى أبو سلمة عن ابن عباس : «ثم دنا» قال : دنا ربُّه فتدلَّى ، وهذا اختيار مقاتل . قال : دنا الرَّبُّ من محمد ليلةَ أُسْرِي به ، ، فكان منه قابَ قوسين أو أدنى . وقد كشفتُ هذا الوجه في كتاب «المُغْني» وبيَّنتُ أنه ليس كما يخطُر بالبال من قُرب الأجسام وقطع المسافة ، لأن ذلك يختص بالأجسام ، والله منزَّه عن ذلك .
والثاني : أنه محمد دنا من ربِّه ، قاله ابن عباس ، والقرظي .
والثالث : أنه جبريل . ثم في الكلام قولان .
أحدهما : دنا جبريلُ بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض ، فنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله الحسن ، وقتادة .

والثاني : دنا جبريلُ من ربِّه عز وجل فكان منه قابَ قوسين أو أدنى ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { فكان قابَ قَوْسَيْنِ أو أدنى } وقرأ ابن مسعود ، وأبو رزين : «فكان قاد قوسين» بالدال . وقال أبو عبيدة : القابُ والقادُ : القَدْر . وقال ابن فارس : القابُ : القدر . ويقال : بل القابُ : ما بين المَقْبِض والسِّية ، ولكل قوس قابان . وقال ابن قتيبة : سِيَة القَوْس : ما عُطِفَ من طَرَفيْها .
وفي المراد بالقوسين قولان .
أحدهما : أنها القوس التي يُرمى بها ، قاله ابن عباس ، واختاره ابن قتيبة ، فقال : قَدْر قوسين . وقال الكسائي : أراد بالقوسين : قوساً واحداً .
والثاني : أن القوس : الذراع؛ فالمعنى : كان بينهما قَدْر ذراعين ، حكاه ابن قتيبة . وهو قول ابن مسعود ، وسعيد بن جبير ، والسدي . قال ابن مسعود : دنا جبريل منه حتى كان قَدْرَ ذراع أو ذراعين .
قوله تعالى : { أو أدنى } فيه قولان .
أحدهما : أنها بمعنى «بل» ، قاله مقاتل .
والثاني : أنهم خوطبوا على لغتهم؛ والمعنى : كان على ما تقدِّرونه أنتم قَدْرَ قوسين أو أقلَّ ، هذا اختيار الزجّاج .
قوله تعالى : { فأَوْحى إلى عَبْده ما أَوْحى } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أَوْحى اللهُ إلى محمد كِفاحاً بلا واسطة ، وهذا على قول من يقول : إنه كان في ليلة المعراج .
والثاني : أَوحى جبريلُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أَوحى اللهُ إليه ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثالث : أَوحى [ اللهُ ] إلى جبريل ما يوحيه ، روي عن عائشة رضي الله عنها ، والحسن ، وقتادة .
قوله تعالى : { ما كَذَبَ الفؤادُ ما رأى } قرأ أبو جعفر ، وهشام عن ابن عامر ، وأبان عن عاصم : «ما كَذَّب» بتشديد الذّال؛ وقرأ الباقون بالتخفيف . فمن شدَّد أراد : ما أَنكر فؤادُه ما رأته عينُه؛ ومن خفَّف أراد : ما أوهمه فؤادُه أنه رأى ، ولم ير ، بل صَدَّقَ الفؤاد رؤيته .
وفي الذي رأى قولان .
أحدهما : أنه رأى ربَّه عز وجل ، قاله ابن عباس ، [ وأنس ] ، والحسن ، وعكرمة .
والثاني : أنه رأى جبريلَ في صورته التي خُلق عليها ، قاله ابن مسعود وعائشة .
قوله تعالى : { أفَتُمارُونه } وقرأ حمزة ، والكسائي ، والمفضل ، وخلف ، ويعقوب : «أفَتمْروُنه» . قال ابن قتيبة : معنى «أفَتُماروُنه» : أفتُجادِلونه ، مِن المِراء ، ومعنى «أفتَمْرُونه» : أفَتَجْحدونه .
قوله تعالى : { ولقد رآه نَزْلَةً أُخْرَى } قال الزجّاج : أي : رآه مَرَّةً أُخرى . قال ابن عباس : رأى محمدٌ ربَّه؛ وبيان هذا أنه تردَّد لأجل الصلوات مراراً ، فرأى ربَّه في بعض تلك المرّات مَرَّةً أُخرى . قال كعب : إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى ، فرآه محمد مرتين ، وكلَّمه موسى مرتين . وقد روي عن ابن مسعود أن هذه الرؤية لجبريل أيضاً ، رآه على صورته التي خُلق عليها .
فأمّا سِدْرة المُنتهى ، فالسِّدْرة : شجرة النَّبِق ، وقد صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " نَبِقُها مِثْلُ قِلال هَجَر ، ووَرَقُها مِثلُ آذان الفِيَلة "

وفي مكانها قولان .
أحدهما : أنها فوق السماء السابعة ، وهذا مذكور في «الصحيحين» من حديث مالك بن صعصعة . قال مقاتل : وهي عن يمين العرش .
والثاني : أنها في السماء السادسة ، أخرجه مسلم في أفراده عن ابن مسعود وبه قال الضحاك . قال المفسرون : وإنما سُمِّيتْ سِدْرة المُنتهى ، لأنه إليها مُنتهى ما يُصْعَد به من الأرض ، فيُقْبَض منها ، وإليها ينتهي ما يُهبْطَ به من فوقها فيُقْبَض منها ، وإليها ينتهي عِلْم جميع الملائكة .
قوله تعالى : { عِنْدَها } وقرأ معاذ القارىء ، وابن يعمر ، وأبو نهيك : «عِنْدَهُ» بهاءٍ مرفوعة على ضمير مذكَّر { جَنَّةُ المأوى } قال ابن عباس : هي جنة يأوي إليها جبريل والملائكة . وقال الحسن : هي التي يصير إليها أهل الجنة . وقال مقاتل : هي جَنَّة إليها تأوي أرواح الشهداء . وقرأ سعيد بن المسيّب ، والشعبي ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وأبو العالية : «جَنَّهُ المأوى» بهاءٍ صحيحة مرفوعة . قال ثعلب : يريدون أَجنَّهُ ، وهي شاذَّة . وقيل : معنى «عندها» : أدركه المبيت يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم . قوله تعالى : { إذ يَغْشى السِّدْرَةَ ما يغْشى } روى مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال : غَشِيَها فَراشٌ مِنْ ذهب . وفي حديث مالك بن صعصعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لمّا غَشِيَها مِنْ أمْر الله ما غَشِيَها ، تغيَّرتْ ، فما أحدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يستطيع أن يَصِفها مِنْ حُسْنها " وقال الحسن ، ومقاتل : تَغْشاها الملائكةُ أمثالَ الغِرْبان حين يَقَعْنَ على الشجرة . وقال الضحاك : [ غَشِيها ] نور ربِّ العالمين .
قوله تعالى : { ما زاغ البَصَرُ } أي : ما عَدَلَ بَصرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يميناً ولا شِمالاً { وما طغى } أي : ما زاد ولا جاوز ما رأى؛ وهذا وصف أدبه صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام .
{ لقد رأى مِنْ آياتِ ربِّه الكُبرى } فيه قولان . أحدهما : [ لقد ] رأى من آياتِ ربِّه العِظامِ . والثاني : لقد رأى من آيات ربِّه [ الآية ] الكُبرى .
وللمفسرين في المراد بما رأى من الآيات ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه رأى رفرفاً أخضر من الجنة قد سَدَّ الأفق ، قاله ابن مسعود .
والثاني : أنه رأى جبريل في صورته التي يكون عليها في السماوات ، قاله ابن زيد .
والثالث : أنه رأى من أعلام ربِّه وأدلَّته [ الأعلامَ والأدلةَ ] الكُبرى ، قاله ابن جرير :

أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)

قال الزجاج : فلمّا قَصَّ اللهُ تعالى هذه الأقاصيص قال : { أفَرَأيتم اللاّت والعُّزَّى } المعنى : أخبِرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها هل لها من القُدرة والعظمة التي وُصف بها ربُّ العِزَّة شيءٌ؟!
فأمّا «اللاّت» فقرأ الجمهور بتخفيف التاء ، وهو اسم صنم كان لثقيف اتَّخذوه مِن دون الله ، وكانوا يَشتقُّون لأصنامهم من أسماء الله تعالى ، فقالوا من «الله» : اللات ، : ومن «العزيز» : العُزَّى . قال أبو سليمان الخطابي : كان المشركون يتعاطَون «الله» اسماً لبعض أصنامهم ، فصرفه الله إلى اللاّت صيانةً لهذا الاسم وذَبّاً عنه . وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والضحاك ، وابن السميفع ، ومجاهد ، وابن يعمر ، والأعمش ، وورش عن يعقوب : «اللاتّ» بتشديد التاء؛ ورد في تفسير ذلك عن ابن عباس ومجاهد أن رجلاً كان يلُتُّ السَّويق للحاجّ ، فلمّا مات عكفوا على قبره فعبدوه . وقال الزجاج : زعموا أن رجلاً كان يلُتُّ السَّويق ويبيعه عند ذلك الصنم ، فسُمِّي الصنمُ : اللاّتّ . وكان الكسائي يقف عليه بالهاء ، فيقول : «اللاّه»؛ وهذا قياس ، والأجود الوقوف بالتاء ، لاتباع المصحف .
وأما «العُزَّى» ففيها قولان .
أحدهما : أنها شجرة لغطفان كانوا يعبدونها ، قاله مجاهد .
والثاني : صنم لهم ، قاله الضحاك . قال : وأمّا «مَناةَ» فهو صنم لهُذَيل وخُزاعة يعبُده أهلُ مكة . وقال قتادة : بل كانت للأنصار . وقال أبو عبيدة : كانت اللاّت والعُزَّى ومَناة أصناماً من حجارة في جوف الكعبة يعبدونها . وقرأ ابن كثير «ومَناءَةَ» ممدودة مهموزة .
فأمّا قوله : { الثالثةَ } فانه نعت ل «مَناة» ، هي ثالثة الصنمين في الذِّكر ، و«الأُخرى» نعت لها . قال الثعلبي : العرب لا تقول للثالثة : الأُخرى ، وإنما الأُخرى نعت للثانية؛ فيكون في المعنى وجهان .
أحدهما : أن ذلك لِوِفاق رؤوس الآي ، كقوله { مَآربُ أُخرى } [ طه : 18 ] ولم يقل ، أُخَر ، قاله الخليل .
والثاني : أن في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره : أفرأيتم اللاّت والعُزَّى الأخرى ومَناة الثالثة ، قاله الحسين بن الفضل .
قوله تعالى : { أَلَكُمُ الذَّكَرُ } قال ابن السائب : إن مشركي قريش قالوا للأصنام والملائكة : بناتُ الله ، وكان الرجُل منهم إذا بُشِّر بالأُنثى كرِه ، فقال الله تعالى مُنْكِراً عليهم : { ألَكُمُ الذَّكرُ وله الأُنثى } ؟! يعني الأصنام وهي [ إناث ] في أسمائها .
{ تلك إذاً قِسْمةٌ ضِيزى } قرأ عاصم ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : [ «ضِيزى» ] بكسر الضاد من غير همز؛ وافقهم ابن كثير [ في ] كسر الضاد ، لكنه همز . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، ومعاذ القارىء : «ضَيْزى» بفتح الضاد من غير همز . قال الزجاج : الضِّيزى في كلام العرب : الناقصةُ الجائرة ، يقال : ضازه يَضِيزُه : إذا نقصه حَقَّه ، ويقال : ضَأَزَه يَضْأَزُه بالهمز . وأجمع النحويُّون أن أصل ضِيزَى : ضُوزًى ، وحُجَّتُهم أنها نُقلت من «فُعْلى» من ضْوزى إلى ضِيزى ، لتَسلم الياء ، كما قالوا : أبيض وبِيْض ، وأصله : بُوضٌ ، فنُقلت الضَّمَّة إلى الكسرة .

وقرأت على بعض العلماء باللُّغة : في «ضيزى» لغات؛ يقال : ضِيزَى ، وضُوزَى ، وضُؤْزَى ، وضَأْزَى على «فَعْلى» مفتوحة؛ ولا يجوز في القرآن إلاّ «ضِيزى» بياءٍ غير مهموزة؛ وإنما لم يقُل النحويُّون : إنها على أصلها لأنهم لا يعرفون في الكلام «فِعْلى» صفة ، إنما يعرفون الصِّفات على «فَعْلَى» بالفتح ، نحو سَكُرَى وغَضْبى ، أو بالضم ، نحو حُبْلى وفُضْلى .
قوله تعالى : { إن هي } يعني الأوثان { إلاّ أسماءٌ } والمعنى : إن هذه الأوثان التي سمَّوها بهذه الأسامي لا معنى تحتها ، لأنها لا تضر ولا تنفع ، فهي تسميات أُلقيت على جمادات ، { ما أَنزل اللهُ بها من سُلطان } أي : لم يُنزل كتاباً فيه حُجّة بما يقولون : إِنها آلهة . ثم رجع إلى الإخبار عنهم بعد الخطاب لهم فقال : { إن يَتَّبِعونَ } في أنها آلهة ، [ { إلا الظن وما تهوى الأنفس } ] وهو ما زيَّن لهم الشيطان ، { ولقد جاءهم مِن ربِّهم الهُدى } وهو البيان بالكتاب والرسول ، وهذا تعجيب من حالهم إذ لم يتركوا عبادتها بعد وُضوح البيان .
ثم أنكر عليهم تَمنِّيهم شفاعتَها فقال : { أَم للإنسان } يعني الكافر { ما تَمنَّى } من شفاعة الأصنام { فلِلَّهِ الآخِرةُ والأُولى } أي لا يَملك فيهما أحد شيئاً إلاّ بإذنه . ثم أكَّد هذا بقوله : { وكم مِنْ مَلَكٍ في السموات لا تُغْني شفاعتُهم شيئاً } فجمع في الكناية ، لأن معنى الكلام الجمع { إلاّ مِنْ بَعْدِ أن يأذن اللهُ } في الشفاعة { لِمن يشاءُ ويَرضى } ؛ والمعنى أنهم لا يَشفعون إلاّ لِمن رضي اللهُ عنهم .

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)

قوله تعالى : { إن الذين لا يؤمِنون بالآخرة } أي : بالبعث { لَيُسَمُّونَ الملائكةَ تسميةَ الأُنثى } وذلك حين زعموا أنها بنات الله ، { وما لهم } بذلك ، { من عِلْمٍ } أي : ما يَستيقِنون أنها إناث { إن يَتَّبَعون إِلاّ الظَّنَّ وإن الظَّنَّ لا يُغْني مِن الحقِّ شيئاً } أي : لا يقوم مقامَ العِلْم؛ فالحقُّ هاهنا بمعنى العِلْم .
{ فأَعْرِضْ عمَّن تولَّى عن ذِكْرِنا } يعني القرآن؛ وهذا عند المفسرين منسوخ بآية السيف .
قوله تعالى : { ذلك مَبلغُهم من العِلْم } قال الزجّاج : إنَّما يعلمون ما يحتاجون إليه في معايشهم ، وقد نبذوا أمر الآخرة .
قوله تعالى : { هو أعلمُ بمن ضَلَّ عن سبيله . . . } الآية؛ والمعنى أنه عالِمٌ بالفريقين فيجازيهم .

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)

قوله تعالى : { ولله ما في السموات وما في الأرض } هذا إِخبار عن قُدرته وسَعَة مُلكه ، وهو كلام معترض بين الآية الأولى وبين قوله : { لِيَجْزِيَ الذين أساؤوا } لأن اللام في «ليجزي» متعلقة بمعنى الآية الأولى ، لأنه إِذا كان أعلم بهما ، جازى كُلاًّ بما يستحقُّه ، وهذه لام العاقبة ، وذلك أن عِلْمه بالفريقين أدَّى إلى جزائهم باستحقاقهم ، وإِنما يَقْدِر على مُجازاة الفريقين إذا كان واسع المُلك ، فلذلك أخبر به في قوله : { ولله ما في السموات وما في الأرض } . قال المفسرون : و«أساؤوا» بمعنى أشركوا ، و«أحسنوا» بمعنى وحَّدوا . والحُسنى : الجنَّة . والكبائر مذكورة في سورة [ النساء : 31 ] وقيل : كبائر الإثم : كُلُّ ذَنْب خُتم بالنّار ، والفواحش : كُلُّ ذَنْب فيه الحدّ . وقرأ حمزة ، والكسائي ، والمفضل ، وخلف : «يَجْتَنِبون كبِيرَ الإثم» واللَّمم في كلام العرب : المُقارَبة للشيء . وفي المراد به هاهنا ستة أقوال .
أحدها : ما أَلمُّوا به من الإثم والفواحش في الجاهلية ، فإنه يُغْفَر في الإسلام ، قاله زيد بن ثابت .
والثاني : أن يُلِمَّ بالذَّنْب مَرَّةً ثم يتوب ولا يعود ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والسدي .
والثالث : أنه صِغار الذُّنوب ، كالنَّظرة والقُبلة وما كان دون الزِّنا ، قاله ابن مسعود ، وأبو هريرة ، والشعبي ، ومسروق ، ويؤيِّد هذا حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزِّنا ، فزِنا العينين النَّظر ، وزِنا اللسان النُّطق ، والنفس تشتهي وتتمنَّى ، ويصدِّق ذلك ويكذِّبه الفَرْج ، فإن تقدَّم بفَرْجه كان الزِّنا ، وإلا فهو اللَّمم " . والرابع : أنه ما يَهُمُّ به الإنسان ، قاله محمد بن الحنفية .
والخامس : أنه ألَّم بالقلب ، أي : خَطَر ، قاله سعيد بن المسيّب .
والسادس : أنه النَّظر من غير تعمُّد ، قاله الحسين بن الفضل . فعلى القولين [ الأولين ] يكون الاستثناء من الجنس ، وعلى باقي الأقوال ليس من الجنس .
قوله تعالى : { إنَّ ربَّكَ واسعُ المغفرة } قال ابن عباس : لِمَن فعل ذلك ثم تاب . وهاهنا تمَّ الكلام . ثم قال { هو أعْلَمُ بِكُمْ } يعني قبل خَلْقكم { إذ أنشأكم من الأرض } يعني آدم عليه السلام { وإذا أنتم أجِنَّةٌ } جمع جَنِين؛ والمعنى أنه عَلِم ما تفعلون وإلى ماذا تصيرون ، { فلا تُزَكُّوا أنفُسَكم } أي : لا تَشهدوا لها أنَّها زكيَّة بريئة من المعاصي . وقيل : لا تمدحوها بحُسن أعمالها . وفي سبب نزول هذه الآية قولان .
أحدهما : أن اليهود كانوا إذا هلك لهم صبيّ ، قالوا : صِدِّيق ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول عائشة رضي الله عنها .
والثاني : أن ناساً من المسلمين قالوا : قد صليَّنا وصُمنا وفعلنا ، يُزَكُّون أنفُسَهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { وهو أعلَمُ بِمَنِ اتَّقى } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : عمل حسنة وارعوى عن معصية ، قاله عليّ رضي الله عنه .
والثاني : أخلص العملَ لله ، قاله الحسن .
والثالث : اتَّقى الشِّرك فآمن ، قاله الثعلبي .

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)

قوله تعالى : { أفرأيتَ الذي تَولَّى } اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال .
أحدها : أنه الوليد بن المغيرة ، وكان قد تَبِع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه ، فعيَّره بعضُ المشركين ، وقال : تركتَ دين الأشياخ وضللَّتَهم؟ قال : إنِّي خشيتُ عذابَ الله ، فضَمِن له إن هو أعطاه شيئاً من ماله ورجَع إلى شِركه أن يتحمَّل عنه عذابَ الله عز وجل ففعل ، فأعطاه بعضَ الذي ضَمِن له ، ثم بَخِل ومنعه ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد ، وابن زيد .
والثاني : أنه النَّضر بن الحارث أعطى بعضَ الفقراء المسلمين خمسَ قلائص حتى ارتدَّ عن إسلامه ، وضَمِن له أن يَحْمِل عنه إثمه ، قاله الضحاك .
والثالث : أنه أبو جهل ، وذلك أنه قال : واللهِ ما يأمُرُنا محمدٌ إلاّ بمكارم الأخلاق ، قاله محمد بن كعب القرظي .
والرابع : أنه العاص بن وائل السهمي ، وكان رَّبما وافق رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأُمور ، قاله السدي .
ومعنى «تَولَّى» : أعرضَ عن الإيمان .
{ وأعطى قليلاً } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أطاع قليلاً ثم عصى . قاله ابن عباس .
والثاني : أعطى قليلاً من نَفْسه بالاستماع ثم أكدى بالانقطاع ، قاله مجاهد .
والثالث : أعطى قليلاً من ماله ثم مَنَع ، قاله الضحاك .
والرابع : أعطى قليلاً من الخير بلسانه ثم قطع ، قاله مقاتل . قال ابن قتيبة : ومعنى «أَكْدَى» : قَطَع ، وهو من كُدْية الرَّكِيَّة ، وهي الصَّلابة فيها ، وإذا بلغها الحافر يئس من حَفْرها ، فقطع الحَفْر ، فقيل لكل من طلب شيئاً فلم يبلُغ آخِرَه ، أو أعطَى ولم يُتِمَّ : أَكْدَىَ .
قوله تعالى : { أعِنْدَهُ عِلْمُ الغَيْبِ فَهُوَ يَرَى } فيه قولان .
أحدهما : فهو يرى حاله في الآخرة ، قاله الفراء .
والثاني : فهو يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة وغيرها ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأُ بِما في صُحُف موسى } يعني التوراة ، { وإبراهيمَ } أي : وصحف إبراهيم . وفي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن الله تعالى أَنزل على إبراهيمَ عشر صحائف ، وأنزل على موسى قَبْلَ التَّوراة عشر صحائف " . قوله تعالى : { الذي وَفَّى } قرأ سعيد بن جبير ، وأبو عمران الجوني ، وابن السميفع اليماني «وَفَى» بتخفيف الفاء . قال الزجاج : قوله : «وَفَّى» أبلغ من «وَفَى» ، لأن الذي امتُحن به مِنْ أعظمِ المِحن . وللمفسرين في الذي وفَّى عشرة أقوال .
أحدها : أنه وفَّى عملَ يومه بأربع ركعات في أول النهار ، رواه أبوأُمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أنه وفَّى في كلمات كان يقولها . روى سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ألا أُخْبِرُكم لِمَ سمَّى اللهُ إِبراهيمَ خليله [ الذي وفَّى ] ؟ "

لأنه كان يقول كلمَّا أصبحَ وكلمَّا أمسى : { فسُبْحانَ اللهِ حينَ تُمْسونُ وحين تُصْبِحونَ . . . } [ الروم : 17 ] وختم الآية .
والثالث : أنه وفَّى الطاعة فيما فعل بابنه ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال القرظي .
والرابع : أنه وفَّى ربَّه جميع شرائع الإسلام ، روى هذا المعنى عكرمة عن ابن عباس .
والخامس : أنه وفَّى ما أُمر به من تبليغ الرِّسالة ، روي عن ابن عباس أيضاً .
والسادس : أنه عَمِل بما أُمر به ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وقال مجاهد : وفَّى ما فُرض عليه .
والسابع : أنه وفَّى بتبليغ هذه الآيات ، وهي : «ألاّ تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أُخْرى» وما بعدها ، وهذا مروي عن عكرمة ، ومجاهد ، والنخعي .
والثامن : وفَّى شأن المناسك ، قاله الضحاك .
والتاسع : أنه عاهد أن لا يَسأل مخلوقاً شيئاً ، فلمّا قُذف في النار قال له جبريل ، ألَكَ حاجةٌ؟ فقال : أمّا إليك فلا ، فوفَّى بما عاهد ، ذكره عطاء بن السائب .
والعاشر : أنه أدَّى الأمانة ، قاله سفيان بن عيينة .
ثم بيَّن ما في صحفهما فقال : { ألاّ تَزِرُ وازِرةٌ وِزْرَ أُخْرى } أي : لا تَحْمِل نَفْس حاملةٌ حِْملَ أُخْرى؛ والمعنى : لا تؤخَذ بإثم غيرها .
{ وأن ليس للإنسان إِلاّ ما سعى } قال الزجّاج : هذا في صحفهما أيضاً . ومعناه : ليس للإنسان إِلاّ جزاء سعيه ، إِن عَمِل خيراً جُزِي عليه خيراً ، وإِن عَمِل شَرّاً . جزي شَرّاً . واختلف العلماء في هذه الآية على ثمانية أقوال .
أحدها : أنها منسوخة بقوله : { وأَتْبَعْناهم ذُرِّياتِهم بإيمان } [ الطور : 21 ] فأُدخل الأبناء الجَنَّة بصلاح الآباء ، قاله ابن عباس ، ولا يصح ، لأن لفظ الآيتين لفظ خبر ، والأخبار لا تُنْسَخ .
والثاني : أن ذلك كان لقوم إبراهيم وموسى ، وأما هذه الأمَّة فلهم ما سَعَوا وما سعى غيرُهم ، قاله عكرمة ، واستدل " بقول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة التي سألته : إنَّ أبي مات ولم يحُجَّ ، فقال : «حُجِّي عنه» " . والثالث : أن المراد بالإنسان هاهنا : الكافر ، فأمّا المؤمن ، فله ما سعى وما سُعي له ، قاله الربيع بن أنس .
والرابع : أنه ليس للإنسان إلاّ ما سعى من طريق العدل ، فأمّا مِنْ باب الفَضْل ، فجائز أن يَزيده اللهُ عز وجل ما يشاء ، قاله الحسين بن الفضل .
والخامس : أن معنى «ما سعى» ما نوى ، قاله أبو بكر الورّاق .
والسادس : ليس للكافر من الخير إلا ما عمله في الدُّنيا ، فيُثاب عليه فيها حتى لا يبقى له في الآخرة خير ، ذكره الثعلبي .
والسابع : أن اللام بمعنى «على» فتقديره : ليس على الإنسان إلا ما سعى .
والثامن : أنه ليس له إلاّ سعيه ، غير أن الأسباب مختلفة ، فتارة يكون سعيه في تحصيل قرابة وولد يترحم عليه وصديق ، وتارة يسعى في خِدمة الدِّين والعبادة ، فيكتسب محبة أهل الدِّين ، فيكون ذلك سببا حصل بسعيه ، حكى القولين شيخنا علي بن عبيد الله الزاغوني .
قوله تعالى : { وأنَّ سَعْيَه سوف يُرَى } فيه قولان .
أحدهما : سوف يُعْلَم ، قاله ابن قتيبة .
والثاني : سوف يرى العبدُ سعيَه يومَ القيامة ، أي : يرى عمله في ميزانه ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { يُجْزاه } الهاء عائدة على السعي { الجزاءَ الأَوْفَى } أي : الأكمل الأَتمّ .

وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)

{ وأنَّ إلى ربِّك المُنتهى } أي : مُنتهى العباد ومَرجِعهُم . قال الزجاج : هذا كُلُّه في صحف إبراهيم وموسى .
قوله تعالى : { وأنَّه هو أضْحك وأبْكى } قالت عائشة : " مَرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوم يضحكون ، فقال : لو تَعْلَمونَ ما أعْلَمُ لَضَحِكتم قليلاً ، ولبَكَيتم كثيراً " ، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية ، فرجع إليهم ، فقال : ما خطَوْتُ أربعينَ خطوة حتى أتاني جبريل ، فقال : إئت هؤلاء فقُل لهم : إن الله يقول : وأنَّه هو أضحك وأبْكى ، وفي هذا تنبيه على أن جميع الأعمال بقضاء الله وقدره حتى الضحك والبُكاء . وقال مجاهد : أضْحكَ أهلَ الجَنَّة ، وأبكى أهل النّار . وقال الضحاك : أضْحَك الأرض بالنبات . وأبكى السماءَ بالمطر .
قوله تعالى : { وأنَّه هو أمات } في الدُّنيا { وأحْيا } للبعث .
{ وأنَّه خَلَق الزَّوجَين } أي : الصِّنفين { الذَّكر والأنثى } من جميع الحيوانات ، { مِنْ نُطْفة إذا تُمْنى } فيه قولان .
أحدهما : إذا تُراق في الرَّحِم ، قاله ابن السائب .
والثاني : إذا تُخْلق وتُقَدَّر ، { وأنَّ عليه النَّشْأةَ الأخْرى } وهي الخَلْق الثاني للبعث يوم القيامة .
{ وأنَّه هو أغْنى } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أغنى بالكفاية ، قاله ابن عباس .
والثاني : بالمعيشة ، قاله الضحاك .
والثالث : بالأموال ، قاله أبو صالح .
والرابع : بالقناعة ، قاله سفيان .
وفي قوله : { أقنى } ثلاثة أقوال :
أحدها : أرْضى بما أعطى ، قاله ابن عباس .
والثاني : أخْدم ، قاله الحسن ، وقتادة ، وعن مجاهد كالقولين .
والثالث : جعل للإنسان قِنْيَةً ، وهو أصل مال ، قاله أبو عبيدة .
قوله تعالى : { وأنَّه هو ربُّ الشِّعْرى } قال ابن قتيبة : هو الكوكب الذي يطْلُع بعد الجَوْزاء ، وكان ناس من العرب يعبُدونها .
قوله تعالى : { وأنَّه أهلك عاداً الأولى } قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «عاداً الأولى» منوَّنة . وقرأ نافع ، وأبو عمرو : «عاداً لُولى» موصولة مدغمة . ثم فيهم قولان .
أحدهما : أنهم قوم هود ، وكان لهم عقب فكانوا عاداً الأخرى ، هذا قول الجمهور .
والثاني : أن قوم هود هم عادٌ الأخرى ، وهم من أولاد عادٍ الأولى ، قاله كعب الأحبار . وقال الزجاج : وفي «الأولى» لغات ، أجودها سكون اللام وإثبات الهمزة ، والتي تليها في الجودة ضم اللام وطرح الهمزة ، ومن العرب من يقول : لُولى ، يريد : الأُولى ، فتطرح الهمزة لتحرّك اللاّم .
قوله تعالى : { وقومَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ } أي : مِن قَبْل عادٍ وثمودَ { إنَّهم كانوا هُمْ أظلمَ وأطغى } من غيرهم ، لطول دعوة نوح إيّاهم ، وعتوّهم .
{ والمُؤتفِكةُ } قُرى قوم لوط { أهوى } [ أي ] : أسقط ، وكان الذي تولَّى ذلك جبريل بعد أن رفعها ، وأتبعهم اللهُ بالحجارة ، فذلك قوله : { فغشّاها } أي : ألبسها { ما غشَّى } يعني الحجارة { فبأيِّ آلاءِ ربِّكَ تتمارى } هذا خطاب للإنسان ، لمّا عدَّد اللهُ ما فعله ممّا يَدلُّ على وحدانيَّته قال : فبأيِّ نِعم ربِّك التي تدُلُّ على وحدانيَّته تتشكَّك؟ وقال ابن عباس : فبأي آلاءِ ربِّك تكذِّب يا وليد ، يعني [ الوليد ] بن المغيرة .

هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)

قوله تعالى : { هذا نذيرٌ } فيه قولان .
أحدهما : أنه القرآن ، نذيرٌ بما أنذرتْ الكتبُ المتقدِّمة ، قاله قتادة .
والثاني : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نذيرٌ بما أنذرتْ به الأنبياءُ ، قاله ابن جريج .
قوله تعالى : { أزِفت الآزفة } أي : دَنَت القيامة ، { ليس لها مِنْ دُون الله كاشفة } فيه قولان .
أحدهما : إذا غَشِيَت الخَلْقَ شدائدُها وأهوالُها لمْ يَكْشِفها أحد ولم يرُدَّها ، قاله عطاء ، وقتادة ، والضحاك .
والثاني : ليس لعِلْمها كاشف دونَ الله ، أي : لا يَعلم عِلْمها إلاّ الله ، قاله الفراء ، قال : وتأنيث «كاشفة» كقوله : { هل ترى لهم من باقيةٍ } [ الحاقة : 8 ] يريد : مِن بقاءٍ؛ والعافية والباقية والناهية كُلُّه في معنى المصدر . وقال غيره : تأنيث «كاشفة» على تقدير : نفس كاشفة .
قوله تعالى : { أفَمِن هذا الحديث } قال مقاتل : يعني القرآن { تَعْجَبونَ } تكذيباً به ، { وتَضْحَكون } استهزاءً { ولا تَبْكون } ممّا فيه من الوعيد؟! ويعني بهذا كفار مكة ، { وأنتم سامِدون } فيه خمسة أقوال .
أحدها : لاهون ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الفّراء والزجّاج . قال أبو عبيدة : يقال : دَعْ عنك سُمودَك ، أي : لَهْوك .
والثاني : مُعْرِضون ، قاله مجاهد .
والثالث : أنه الغِناء ، وهي لغة يمانية ، يقولون : اسْمُد لنا ، أي : تَغَنَّ لنا ، رواه عكرمة عن ابن عباس . وقال عكرمة : هو الغِناء بالحِمْيَريَّة .
والرابع : غافلون ، قاله قتادة .
والخامس : أشِرون بَطِرون ، قاله الضحاك .
قوله تعالى : { فاسْجُدوا لله } فيه قولان .
أحدهما : أنه سُجود التلاوة ، قاله ابن مسعود .
والثاني : سُجود الفرض في الصلاة .
قال مقاتل : يعني بقوله : «فاسْجُدوا» : الصلوات الخمس .
وفي قوله : { واعْبُدوا } قولان .
أحدهما : أنه التوحيد .
والثاني : العبادة .

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)

وهي مكيَّة بإجماعهم ، وقال مقاتل : مكِّيَّة غير آية { سيُهْزمُ الجَمْعُ } [ القمر : 45 ] ، وحكي عنه أنه قال : إلاّ ثلاث آيات ، أولها : { أم يقولون نحنُ جميعٌ مْنتَصِرٌ } [ القمر : 44 ] إلى قوله { وأمَرُّ } [ القمر : 46 ] ، قال ابن عباس : " اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن كنت صادقاً فشُقَّ لنا القمر فرقتين ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن فعلتُ تؤمنون؟» قالوا : نعم ، فسأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ربَّه أن يُعطيَه ما قالوا ، فانشقَّ القمر فرقتين ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ينادي : «يا فلان يا فلان اشْهَدوا» " وذلك بمكة قبل الهجرة . وقد روى البخاري ومسلم في «صحيحيهما» من حديث ابن مسعود قال : " انشقَّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقَّتين ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «اشْهَدوا» " وقد روى حديث الانشقاق جماعةٌ ، منهم عبد الله بن عمر ، وحذيفة ، وجبير بن مطعم ، وابن عباس ، وأنس بن مالك ، وعلى هذا جميع المفسرين ، إلاّ أن قوماً شذُّوا فقالوا : سيَنْشَقُّ يوم القيامة . وقد روى عثمان بن عطاء عن أبيه نحو ذلك ، وهذا القول الشاذ لا يقاوم الإجماع ، ولأن قوله : { وانْشَقَّ } لفظ ماض ، وحَمْلُ لفظ الماضي على المستقبل يفتقر إلى قرينة تنقله ودليل ، وليس ذلك موجوداً . وفي قوله : «وإن يَروا آيةً يُعْرضوا» دليل على أنه قد كان ذلك . ومعنى { اقْتَربَت } : دنَتْ؛ و { الساعةُ } القيامة . وقال الفراء : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : انشقَّ القمر واقتربت الساعة . وقال مجاهد : انشقَّ القمر فصار فِرقتين ، فثبتت فِرقة ، وذهبت فِرقة وراء الجبل . وقال ابن زيد : لمّا انشقَّ القمر كان يُرى نصفُه على قُعيَقِعَانَ ، والنصف الآخر على أبي قُبيس . قال ابن مسعود : لمّا انشقَّ القمر قالت قريش : سحركم ابن أَبي كبشة ، فاسألوا السُّفَّار ، فسألوهم ، فقالوا : نعم قد رأيناه ، فأنزل اللهُ عز وجل : «اقتربتِ السّاعةُ وانشَقَّ القمر» .
قوله تعالى : { وإنْ يروا آيةً } أي : آية تدُلُّهم على صدق الرسول ، والمراد بها هاهنا : انشقاق القمر { يُعْرضوا } عن التصديق { ويقولوا سِحْرٌ مستمرٌّ } فيه ثلاثة أَقوال .
أحدها : ذاهبٌ ، من قولهم : مَرَّ الشيءُ واستمرَّ : إذا ذهب ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والكسائي ، والفراء؛ فعلى هذا يكون المعنى : هذا سِحر ، والسِّحر يذهب ولا يثبت .
والثاني : شديدٌ قويٌّ ، قاله أبو العالية ، والضحاك ، وابن قتيبة ، قال : وهو مأخوذ من المِرَّة ، والمِرَّة : الفَتْل .
والثالث : دائمٌ ، حكاه الزجّاج .
قوله تعالى : { وكذَّبوا } يعني كذَّبوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وما عاينوا من قُدرة الله تعالى { واتَّبَعوا أَهواءَهم } ما زيَّن لهم الشيطانُ { وكُلُّ أمْرٍ مُسْتَقِرٌّ } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن كُلَّ أمْر مستقِرٌّ بأهله ، فالخير يستقِرُّ بأهل الخير ، والشر يستقِرُّ بأهل الشر ، قاله قتادة .

والثاني : لكل حديثٍ مُنتهىً وحقيقةٌ ، قاله مقاتل .
والثالث : أن قرار تكذيبهم مستقِرّ ، وقرار تصديق المصدِّقين مستقِرّ حتى يعلموا حقيقته بالثواب والعقاب ، قاله الفراء .
قوله تعالى : { ولقد جاءهم } يعني أهل مكة { مِنَ الأنباء } أي : من أخبار الأُمم المكذِّبة في القرآن { ما فيه مُزْدَجَرٌ } قال ابن قتيبة : أي : مُتَّعَظٌ ومُنتهىً .
قوله تعالى : { حِكْمَةٌ بالغةٌ } قال الزجّاج : هي مرفوعة لأنها بدل من «ما» فالمعنى : ولقد جاءهم حكمةٌ بالغةٌ [ وإن شئت رفعتهما بإضمار : هو حكمة بالغة ] . و«ما» في قوله { فما تُغْنِ النُّذُرُ } جائز أن يكون استفهاماً بمعنى التوبيخ ، فيكون المعنى : أيّ شيء تُغْني النُّذُر؟! وجائز أن يكون نفياً ، على معنى ، فليست تُغْني النُّذُر . قال المفسرون : والمعنى : جاءهم القرآن وهو حِكْمة تامَّة قد بلغت الغاية ، فما تُغُني النُّذُر إذا لم يؤمِنوا؟! .

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)

{ فَتَولَّ عنهم } قال الزجّاج : هذا وقف التمام ، و { يومَ } منصوب بقوله : «يخرُجون من الأجداث» وقال مقاتل : فتولَّ عنهم [ إلى ] يوم { يَدْعُ الدّاعي } أثبت هذه الياء في الحالين يعقوب؛ وافقه أبو جعفر ، وأبو عمرو في الوصل ، وحذفها الأكثرون في الحالين . و«الداعي» : إِسرافيل ينفُخ النفخة الثانية { إلى شيءٍ نُكُرٍ } وقرأ ابن كثير : «نُكْرٍ» خفيفة؛ أي : إلى أمر فظيع . وقال مقاتل : «النُّكُر» بمعنى المُنْكَر ، وهو القيامة ، وإنما يُنْكِرونه إعظاماً له . والتَّولِّي المذكور في الآية منسوخ عند المفسرين بآية السيف .
قوله تعالى : { خُشَّعاً أبصارُهم } قرأ أهل الحجاز ، وابن عامر ، وعاصم : «خُشَّعاً» بضم الخاء وتشديد الشين من غير ألف . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : «خاشِعاً» بفتح الخاء وألف بعدها وتخفيف الشين . قال الزجاج : المعنى : يخرُجون خُشَّعاً ، و«خاشعاً» منصوب على الحال ، وقرأ ابن مسعود : «خاشعةً»؛ ولك في أسماء الفاعلين إذا تقدَّمت على الجماعة التوحيد والتأنيث والجمع؛ تقول : مررت بشُبّانٍ حَسَنٍ أوجُههم ، وحِسانٍ أوجُههم ، وحَسَنةٍ أوجُههم ، قال الشاعر :
وشَبابٍ حَسَنٍ أَوْجُهُهُمْ ... مِنْ إِياد بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ
قال المفسرون : والمعنى أن أبصارهم ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب . والأجداث : القبور ، وإنما شبَّههم بالجراد المنتشِر ، لأن الجراد لا جِهةَ له يَقْصِدها ، [ فهو أبداً مختلف بعضه في بعض ] ، فهم يخرُجون فزعين ليس لأحد منهم جهة يَقْصِدها . والدّاعي : إِسرافيل . وقد أثبت ياء «الدّاعي» في الحالين ابن كثير ، ويعقوب؛ تابعهما في الوصل نافع ، وأبو عمرو؛ والباقون بحذفها في الحالين . وقد بيَّنّا معنى «مُهْطِعين» في سورة [ إبراهيم : 43 ] والعَسِر : الصَّعب الشَّديد .

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)

قوله تعالى : { كذَّبتْ قَبْلَهم } أي : قبل أهل مكة { قومُ نُوح فكذَّبوا عَبْدَنا } نوحاً { وقالوا مجنونٌ وازْدُجِرَ } قال أبو عبيدة : افتُعِل مِن زُجِر . قال المفسرون : زجروه عن مقالته { فدعا } عليهم نوح { ربَّه } ب { أنِّي مغلوبٌ فانْتَصر } أي : فانتَقِم لي ممَّن كذَّبني . قال الزَّجاج : وقرأ عيسى بن عمر النحوي : «إنِّي» بكسر الألف ، وفسرها سيبويه فقال : هذا على إِرادة القول ، فالمعنى : قال : إني مغلوب؛ ومن فتح ، وهو الوجه ، فالمعنى : دعا ربَّه ب { أنِّي مغلوب } .
قوله تعالى : { ففَتَحْنا أبوابَ السماء } قرأ ابن عامر : «ففَتَّحْنا» بالتشديد . فأما المُنهمِر ، فقال ابن قتيبة : هو الكثير السريع الانصباب ، ومنه يُقال : هَمَر الرجلُ : إذا أكثر من الكلام وأسرع . وروى عليٌّ رضي الله عنه أن أبواب السماء فُتحت بالماء من المَجَرَّة ، وهي شَرَجُ السماء . وعلى ما ذكرنا من القصة في [ هود : 44 ] أن المطر جاءهم ، يكون هو المراد بقوله : { ففَتَحْنا أبوابَ السماء } قال المفسرون : جاءهم الماء من فوقهم أربعين يوماً ، وفُجِّرت الأرض من تحتهم عيوناً أربعين يوماً .
{ فالتقى الماءُ } وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وأبو رجاء ، وعاصم الجحدري : «المآءان» بهمزة وألف ونون مكسورة . وقرأ ابن مسعود : «المايانِ» بياءٍ وألف ونون مكسورة من غير همز . وقرأ الحسن ، وأبو عمران : «الماوانِ» بواو وألف وكسر النون . قال الزجاج : يعني بالماء : ماء السماء وماء الأرض ، ويجوز الماءان ، لأن اسم الماء اسم يجمع ماء الأرض وماء السماء .
قوله تعالى : { على أَمْرٍ قد قُدِرَ } فيه قولان .
أحدهما : كان قَدْر ماء السماء كقَدْر ماء الأرض ، قاله مقاتل .
والثاني : قد قُدر في اللوح المحفوظ ، قاله الزجاج . فيكون المعنى : على أمر قد قُضي عليهم ، وهو الغرق .
قوله تعالى : { وحَمَلْناه } يعني نوحاً { على ذات ألواحٍ ودُسُرٍ } قال الزجاج : أي : على سفينةٍ ذاتِ ألواحٍ . قال المفسرون : ألواحها : خشباتها العريضة التي منها جُمعت . وفي الدُّسُر أربعة أقوال .
أحدها : أنها المسامير ، رواه الوالبي عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والقرظي ، وابن زيد ، وقال الزجاج : الدُّسُر : المسامير والشُّرُط التي تُشَدِّ بها الألواح ، وكل شيء نحو السَّمْر أو إدخال شيء في شيءٍ بقوَّة وشِدة قَهر فهو دَسْر ، يقال : دَسَرْتُ المسمار أدْسُرُه وأَدْسِرُه . والدُّسُر : واحدها دِسار ، نحو حِمار ، وحُمُر .
والثاني : أنه صَدْر السفينة ، سُمِّي بذلك لأنه يَدْسُر الماء ، أي : يدفعه ، رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال الحسن وعكرمة؛ ومنه الحديث في العنبر أنه شيء دسره البحر ، أي : دفعه .
والثالث : أن الدُّسُر : أضلاع السفينة ، قاله مجاهد .
والرابع : أن الدُّسُر : طرفاها وأصلها ، والألواح : جانباها ، قاله الضحاك .
قوله تعالى : { تَجْري بأعيْننا } أي : بمَنْظَرٍ ومرأىً مِنّا { جزاءً } قال الفراء : فعَلْنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثواباً لمن كُفِر به .
وفي المراد ب «مَنْ» ثلاثة أقوال .

أحدها : أنه الله عز وجل ، وهو مذهب مجاهد ، فيكون المعنى : عوقبوا لله ولكُفرهم به .
والثاني : أنه نوحٌ كُفِر به وجُحِد أمْرُه ، قاله الفراء .
والثالث : أن «مَنْ» بمعنى «ما»؛ فالمعنى : جزاءً لِما كان كُفِر من نِعم الله عند الذين أغرقهم ، حكاه ابن جرير . وقرأ قتادة : «لِمَنْ كان كَفَر» بفتح الكاف والفاء .
قوله تعالى : { ولقد تَرَكْناها } في المشار إليها قولان .
أحدهما : أَنها السفينة ، قال قتادة : أبقاها الله على الجوديّ حتى أدركها أوائل هذه الأمة .
والثاني : أنها الفَعْلة ، فالمعنى : تركنا هذه الفَعْلة وأمر سفينة نوح آية ، أي : علامة ليُعتبر بها ، { فهل مِنْ مُدَّكِرٍ } وأصله مُدتكِر ، فأبدلت التاء دالاً على ما بيَّنّا في قوله : { وادَّكَرَ بعدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] قال ابن قتيبة : أصله : مذْتَكِر ، فأْدغمت التاء في الذال ، ثم قُلبت دالاً مشدَّدة . قال المفسرون : والمعنى : هل من متذكِّر يعتبر بذلك؟ { فكيف كان عذابي ونُذُرِ } وفي هذه السورة «ونُذُر» ستة مواضع ، أثبت الياء فيهن في الحالين يعقوب ، تابعه في الوصل ورش ، والباقون بحذفها في الحالين ، وقوله : «فكيف كان عذابي» استفهام عن تلك الحالة ، ومعناه التعظيم لذلك العذاب . قال ابن قتيبة : والنُّذُر هاهنا جمع نذير ، وهو بمعنى الإنذار ، ومثله النَّكير بمعنى الإنكار . قال المفسرون : وهذا تخويف لمشركي مكة .
{ ولقد يسَّرنا القرآنَ } أي : سهَّلْناه { للذِّكر } أي : للحِفظ والقراءة { فهل من مُدَّكِرٍ } أي : من ذاكرٍ يذكره ويقرؤه؛ والمعنى : هو الحث على قراءته وتعلُّمه قال سعيد بن جبير : ليس من كتب الله كتاب يُقرأ كُلُّه ظاهراً إلاّ القرآن . وأمّا الرِّيح الصَّرصر ، فقد ذكرناها في [ حم السجدة : 160 ] .
قوله تعالى : { في يومِ نَحْسٍ مُستمرٍّ } قرأ الحسن : «في يومٍ» بالتنوين ، على أن اليوم منعوت بالنَّحْس . والمُستمِّر : الدائم الشؤم ، استمر عليهم بنُحوسه . وقال ابن عباس : كانوا يتشاءمون بذلك اليوم . وقيل : إنه كان يومَ أربعاء في آخر الشهر .
{ تَنْزِعُ النّاسَ } أي : تقلعهُم من الأرض من تحت أقدامهم فتصرعهم على رقابهم فتدُقّ رقابَهم فتُبِين الرّأسَ عن الجسد ، ف { كأنهم أعجاز نَخْلٍ } وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وابن السميفع : «أعْجُزُ نَخْلٍ» برفع الجيم من غير ألف بعد الجيم . وقرأ ابن مسعود ، وأبو مجلز ، وأبو عمران : «كأنَّهم عُجُز نخل» بضم العين والجيم . ومعنى الكلام : كأنهم أصول «نَخلٍ مُنْقَعِرٍ» أَي : مُنْقَلِع . وقال الفراء : المُنْقَعِر : المُنْصَرِع من النَّخْل . قال ابن قتيبة : يقال : قَعَرْتُه فانْقَعَر ، أي قلعته فسقط . قال أبو عبيدة : والنَّخْل يُذَكَّر ويؤنَّث ، فهذه الآية على لغة من ذكَّر ، وقوله : { أعجازُ نَخْلٍ خاويةٍ } [ الحاقة : 8 ] على لغة من أنَّث . وقال مقاتل : شبَّههم حين وقعوا من شِدَّة العذاب بالنَّخْل الساقطة التي لا رؤوس لها ، وإنما شبَّههم بالنَّخْل لِطُولهم ، وكان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعاً .

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)

قوله تعالى : { كذَّبَتْ ثمودُ بالنُّذُر } فيه قولان .
أحدهما : أنه جمع نذير . وقد بيَّنّا أن من كذَّب نبيّاً واحداً فقد كذَّب الكُلَّ .
والثاني : أن النُّذُر بمعنى الإنذار كما بيَّنّا في قوله : «فكيف كان عذابي ونُذُرِ»؛ فكأنهم كذَّبوا الإنذار الذي جاءهم به صالح ، { قالوا أبَشَراً مِنّا } قال الزجاج : هو منصوب بفعل مُضْمَر والذي ظهر تفسيره ، المعنى : أنتبع بَشَراً مِنّا { واحداً } ، قال المفسرون : قالوا : هو آدميّ مِثْلَنا ، وهو واحد فلا نكون له تَبَعاً { إنّا إذاً } إن فعلنا ذلك { لَفي ضلالٍ } أي : خطأٍ وذهاب عن الصواب { وسُعُرٍ } قال ابن عباس : أي : جنون . قال ابن قتيبة : هو من : تَسَعَّرتِ النّارُ : إذا التَهبتْ ، يقال : ناقةٌ مَسْعُورةٌ ، أي : كأنها مجنونة من النشاط . وقال غيره : لَفي شقاءٍ وعَناءٍ لأجل ما يلزمنا من طاعته .
ثم أنْكَروا أن يكون الوحي يأتيه فقالوا : { أَأُلْقِي الذِّكْرُ؟ } أي : أَنَزَل الوحيُ { عليه مِنْ بينِنا } أي : كيف خُصَّ من بيننا بالنُّبوَّة والوحي؟! { بل هو كذّابٌ أشِرٌ } وفيه قولان .
أحدهما : أنه المَرِح المتكبِّر ، قاله ابن قتيبة .
والثاني : البَطِر ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { سيَعْلَمونَ غداً } قرأ ابن عامر وحمزة : «ستَعلمون» بالتاء «غداً» فيه قولان .
أحدهما : يوم القيامة ، قاله ابن السائب .
والثاني : عند نزول العذاب بهم ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { إنا مُرْسِلوا النّاقةِ } وذلك أنهم سألوا صالحاً أن يُظْهِر لهم ناقةً من صخرة ، فقال الله تعالى : «إنّا مُرْسِلوا النّاقةِ» أي : مُخرجوها كما أرادوا { فِتنةً لهم } أي : مِحنةً واختباراً { فارتَقِبْهم } أي : فانتظر ما هم صانعون { واصْطَبِر } على ما يُصيبُك من الأذى ، { ونَبِّئْهم أنَّ الماءَ قسمةٌ بينهم } أي : بين ثمود وبين الناقة ، يوم لها ويوم لهم ، فذلك قوله : { كُلُّ شِرْبٍ مُحتضَرٌ } يحضُرُهُ صاحبُه ويستحقُّه .
قوله تعالى : { فنادَوا صاحبَهم } واسمه قُدار بن سالف { فتعاطى } قال ابن قتيبة : تعاطى عَقْر الناقة { فعَقَر } أي : قتل؛ وقد بيَّنا هذا في [ الأعراف : 77 ] .
قوله تعالى : { إنا أرسلنا عليهم صَيْحةً واحدةً } وذلك أن جبريل عليه السلام صاح بهم؛ وقد أشرنا إلى قصتهم في [ هود : 61 ] { فكانوا كهَشِيم المُحتظِر } قال ابن عباس : هو الرجُل يجعل لغنمه حظيرة بالشَّجر والشوك دون السِّباع ، فما سقط من ذلك وداسته الغنمُ ، فهو الهَشيم . وقد بيَّنا معنى «الهشيم» في [ الكهف : 45 ] . وقال الزجَّاج : الهَشيم : ما يَبِس من الورق وتكسَّر وتحطَّم ، والمعنى : كانوا كالهَشِيم الذي يجمعه صاحبُ الحظيرة بعد أن بلغ الغاية في الجفاف ، فهو يُجمع لِيوقد . وقرأ الحسن : «المُحتظَرِ» بفتح الظاء ، وهو اسم الحظيرة؛ والمعنى : كهشيم المكان الذي يُحتظَر فيه الهشيم من الحطب . وقال سعيد بن جبير : هو التراب الي يتناثر من الحيطان . وقال قتادة : كالعظام النَّخِرة المحترقة . والمراد من جميع ذلك : أنهم بادوا وهلكوا حتى صاروا كالشيء المتحطِّم .

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)

قوله تعالى : { إنا أرسَلْنا عليهم حاصِباً } قال المفسرون : هي الحجارة التي قُذِفوا بها { إلاّ آلَ لوطٍ } يعني لوط وابنتيه { نجَّيْناهم } من ذلك العذاب { بسَحَرٍ } قال الفراء : «سَحَرٍ» هاهنا يجري لأنه نكرة ، كقوله : نجَّيناهم بِلَيْلٍ ، فإذا ألقت العرب منه الباء لم يَجر ، لأن لفظهم به بالألف واللام ، يقولون : ما زال عندنا منذُ السَّحَرِ ، لا يكادون يقولون غيره ، فإذا حذفت منه الألف واللام لم يُصْرَف . وقال الزجاج : إِذا كان السَّحر نكرة يراد به سَحَرٌ من الأسحار ، انصرف ، فإذا أردتَ سَحَرَ يومِك ، لم ينصرف .
قوله تعالى : { كذلك نجزي من شكرَ } قال مقاتل : من وحدَّ الله تعالى لم يُعَذَّب مع المشركين .
قوله تعالى : { ولقد راودوه عن ضَيفه } أي : طلبوا أن يسلِّم إليهم أضيافه ، وهم الملائكة { فطَمَسْنا أعيُنهَم } وهو أن جبريل ضرب أعيُنَهم بجَناحه فأذهبها . وقد ذكرنا القصة في سورة [ هود : 81 ] . وتم الكلام هاهنا ، ثم قال : { فذوقوا } أي : فقُلنا لقوط لوط لما جاءهم العذاب : ذوقوا { عذابي ونُذُرِ } أي : ما أنذركم به لوط ، { ولقد صبَّحهم بُكْرَةً } أي : أتاهم صباحاً { عذابٌ مستقِرٌ } أي : نازل بهم . قال مقاتل : استقرَّ بهم العذابُ بُكْرةً . قال الفرّاء : والعرب تُجري «غُدوة» و«بُكرة» ولا تُجريهما ، وأكثر الكلام في «غُدوة» ترك الإجراء ، وأكثر في «بكرة» أن تُجرى ، فمن لم يُجرها جعلها معرفة ، لأنها اسم يكون أبداً في وقتٍ واحد بمنزلة «أمسِ» و«غدٍ» وأكثر ما تُجري العربُ «غُدوةً» إذا قُرنت بعشيَّةٍ ، يقولون : إني لآتيهم غُدوةً وعشيَّةً ، [ وبعضهم يقول : «غُدوة» ، فلا يُجريها ، و«عشيةً» ] فيُجريها ، ومنهم من لا يُجري «عشيَّة» لكثرة ما صحبت «غُدوةً» . وقال الزجاج : الغُدوة والبُكرة إذا كانتا نكِرتين نُوِّنتا وصُرِفتا ، فإذا أردتَ بهما بُكرة يومك وغداة يومك ، لم تصرفهما ، والبُكرة هاهنا نكِرة ، فالصرف أجود ، لأنه لم يثبُت رواية في أنه كان في يوم كذا في شهر كذا .

وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)

قوله تعالى : { ولقد جاء آل فرعونَ } يعني القِبْطَ { النُّذُرُ } فيهم قولان .
أحدهما : [ أنه ] جمع نذير ، وهي الآيات التي أنذرهم بها موسى .
والثاني : أن النُّذُر بمعنى الإنذار؛ وقد بيَّناه آنفاً ، { فأخذناهم } بالعذاب { أخْذَ عَزيزٍ } أي : غالبٍ في انتقامه { مُقْتَدِرٍ } قادر على هلاكهم .
ثم خوَّف أهل مكة فقال : { أكُفّاركم } يا معشر العرب { خيرٌ } أي : أشدُّ وأقوى { مِنْ أولئكم؟! } وهذا استفهام معناه الإنكار؛ والمعنى : ليسوا بأقوى من قوم نوح وعاد وثمود ، وقد أهلَكْناهم { أمْ لكم براءةٌ } من العذاب أنه لا يصيبكم ما أصابهم { في الزُّبر } أي : في الكُتب المتقدِّمة ، { أم يقولون نحن جميع منتصر } المعنى : أيقولون : نحن يدٌ واحدةٌ على مَنْ خالفنا فننتصر منهم؟ وإنما وحَّد المُنْتَصِر للفظ الجميع ، فإنه على لفظ «واحد» وإن كان اسماً للجماعة { سيُهْزَمُ الجمع } وروى أبو حاتم بن يعقوب : «سنهزم» بالنون ، «الجمعَ» بالنصب ، «وتوّلون» بالتاء ، ويعني بالجمع : جمع كفار مكة { ويوّلون الدُّبرَ } ولم يقل : الأدبار ، وكلاهما جائز؛ قال الفراء : مِثلُه أن يقول : إن فلانا لكثير الدِّينار والدِّرهم . وهذا مما أخبر اللهُ به نبيَّه من عِلم الغَيب ، فكانت الهزيمة يومَ بدر .
قوله تعالى : { والسّاعةُ أدهى } قال مقاتل : هي أفظع { وأمَرُّ } من القتل . قال الزجاج : ومعنى الدّاهية : الأمر الشديد الذي لا يُهتدى لدوائه؛ ومعنى «أمَرُّ» : أشَدُّ مرارةً من القَتْل والأسْر .

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

قوله تعالى : { إنَّ المجرمينَ في ضلالٍ وسُعُرٍ } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن مشركي مكة جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخاصِمونَ في القدَرَ ، فنزلت هذه الآية إلى قوله : { خَلَقْناه بقَدَرٍ } انفرد بإخراجه مسلم من حديث أبي هريرة وروى أبو أُمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن هذه الآية نزلت في القَدَريَّة " . والثاني : " أن أُسْقُف نَجران جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم فقال : يا محمد تزعُم أن المعاصي بقَدر ، وليس كذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنتم خُصَماءُ الله» " ، فنزلت : { إِن المجرمين } إلى قوله { بقَدرٍ } ، قاله عطاء .
قوله تعالى : { وسُعُرٍ } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : الجنون .
والثاني : العَناء ، وقد ذكرناهما في صدر السورة .
والثالث : أنه نار تَسْتَعِرُ عليهم ، قاله الضحاك .
فأمّا { سَقَر } فقال الزجّاج : هي اسم من أسماء جهنَّم لا ينصرف لأنها معرفة ، وهي مؤنَّثة . وقرأت على شيخنا أبي منصور قال : سَقَر : اسم لنار الأخرة أعجميّ ، ويقال : بل هو عربيّ ، من قولهم : سَقَرَتْه الشمس : إذا أذابته ، سمِّيتْ بذلك لأنها تُذيب الأجسام . وروى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا جَمَع اللهُ الخلائق يوم القيامة أمر منادياً فنادى نداءً يسمعُه الأوَّلون والآخرون : أين خُصَماءُ اللهِ؟ فتقوم القَدريَّة ، فيؤمر بهم إلى النار " ، يقول الله تعالى : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَر إنّا كُلَّ شيء خلقناه بقَدرٍ } ، وإنما قيل لهم : «خُصَماء الله» لأنهم يُخاصمون في أنه لا يجوز أن يُقَدِّر المعصية على العَبْد ثم يعذِّبه عليها . وروى هشام بن حسان عن الحسن قال : واللهِ لو أنِّ قدريّاً صام حتى يصير كالحَبْل ، ثم صلَّى حتى يصير كالوتر ، ثم أخذ ظلماً وزُوراً حتى ذُبح بين الرُّكْن والمقام لكَبَّه اللهُ على وجهه في سَقَر «إنّا كُلَّ شيءٍ خلقناه بقدرٍ» . وروى مسلم في أفراده من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كُلُّ شيء بقدرٍ حتى العَجْزُ والكَيْسُ " وقال ابن عباس : كل شيء بقدرٍ حتى وضعُ يدك على خدِّك . وقال الزجّاج : معنى «بقَدَرٍ» أي : كل شيء خلقناه بقدرٍ مكتوبٍ في اللوح المحفوظ . قبل وقوعه ، ونصب «كُلَّ شيءٍ» بفعل مضمر؛ المعنى : إنّا خلقنا كلَّ شيء خلقناه بقَدرٍ .
قوله تعالى : { وما أمْرُنا إلاّ واحدةٌ } قال الفراء : أي : إلاّ مرَّة واحدة ، وكذلك قال مقاتل : مرَّة واحدة لا مثنوّية لها . وروى عطاء عن ابن عباس قال يريد : إِن قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر . وقال ابن السائب : المعنى : وما أمرنا بمجيء الساعة في السُّرعة إلاّ كلَمْح البصر .

ومعنى اللَّمْح بالبصر : النَّظر بسرعة .
{ ولقد أهلكْنا أشياعَكم } أي : أشباهكم ونُظَراءكم في الكُفر من الأمم الماضية { فهل من مُدَّكر } أي مُتَّعظ { وكل شيء فعلوه } يعني الأمم .
وفي { الزُّبُر } قولان .
أحدهما : أنه كُتُب الحَفَظة .
والثاني : اللَّوح المحفوظ .
{ وكُلُّ صغيرٍ وكبيرٍ } أي : من الأعمال المتقدِّمة { مُسْتَطَرٌ } أي : مكتوب ، قال ابن قتيبة : هو «مُفْتَعَلٍ» من «سَطَرْتُ» : إذا كتبت ، وهو مثل «مَسْطُور» .
قوله تعالى : { في جَنّاتٍ ونَهَرٍ } قال الزجّاج : المعنى : في جنّات وأنهار ، والاسم الواحد يَدلُّ على الجميع ، فيجتزأ به من الجميع . أنشد سيبويه والخليل :
بِها جِيَفُ الْحَسْرَى ، فأَمّا عِظامُها ... فَبِيضٌ وأَمّا جِلْدُها فَصَلِيبُ
يريد : وأمّا جلودها ، ومثله :
في حَلْقِكُم عَظْمٌ وقد شجينا ... ومثله :
كُلُوا في نِصْفِ بَطْنِكُمُ تَعِيشُوا ... وحكى ابن قتيبة عن الفراء أنه وُحِّد لأنه رأسُ آية ، فقابل بالتوحيد رؤوس الآي ، قال : ويقال : النَّهَر : الضِّياء والسَّعة ، من قولك : أنْهَرْتُ الطعنة : إِذا وسَّعْتَها ، قال قيس بن الخَطِيم يصف طعنة :
مَلَكْتُ بها كَفِّي فأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا ... يَرَى قائمٌ مِنْ دُونِها ما وراءَها
أي : أوسعتُ فَتْقَها . قلت : وهذا قول الضحاك . وقرأ الأعمش «ونُهُرٍ» .
قوله تعالى : { في مَقْعَدِ صِدْقٍ } أي : مَجلِس حسن؛ وقد نبَّهْنا على هذا المعنى في قوله : { أنَّ لهم قَدَمَ صِدْقٍ } [ يونس : 2 ] فأمّا المَلِيك ، فقال الخطابي : المَلِيك : هو المالك ، وبناء فَعِيل للمُبالغة في الوصف ، ويكون المَلِيك بمعنى المَلِك ، ومنه هذه الآية . والمُقْتَدِر مشروح في [ الكهف : 45 ] .

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)

قوله تعالى : { الرَّحْمنُ . علَّم القُرآنَ } قال مقاتل : لمّا نزل قوله : { اسْجُدوا للرَّحْمنِ } [ الفرقان : 60 ] قال كُفّار مكَّةَ : وما الرَّحْمنُ؟! فأَنكروه وقالوا : لا نَعرِفُ الرحْمنَ ، فقال تعالى : { الرَّحْمنُ } الذي أَنكروه هو الذي «علَّم القُرآنَ» .
وفي قوله : { علَّم القُرآنَ } قولان .
أحدهما : علَّمه محمداً ، وعلَّم محمدٌ أُمَّته قاله ابن السائب .
والثاني : يسَّر القرآنَ ، قاله الزجّاج .
قوله تعالى : { خَلَقَ الإِنسانَ } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه اسم جنس ، فالمعنى : خلق الناسَ جميعاً ، قاله الأكثرون . فعلى هذا ، في «البيان» ستة أقوال .
أحدها : النُّطق والتَّمييز ، قاله الحسن . والثاني : الحلال والحرام ، قاله قتادة . والثالث : ما يقول وما يُقال له ، قاله محمد بن كعب . والرابع : الخير والشر ، قاله الضحاك . والخامس : [ طُرق ] الهُدى ، قاله ابن جريج . والسادس : الكتابة والخط ، قاله يمان .
والثاني : أنه آدم ، قاله ابن عباس ، وقتادة . فعلى هذا في «البيان» ثلاثة أقوال . أحدها : أسماء كل شيء . والثاني : بيان كل شيء . والثالث : اللّغات .
والقول الثالث : أنه محمد صلى الله عليه وسلم ، علَّمه بيانَ ما كان وما يكون ، قاله ابن كيسان .
قوله تعالى : { الشَّمْسُ والقمرُ بحُسْبانٍ } أي بحساب ومنازل ، لا يَعْدُوانها؛ وقد كشَفْنا هذا المعنى في [ الأنعام : 96 ] . قال الأخفش : أضمر الخبر ، وأظُنُّه والله أعلَمُ أراد : يَجريان بحُسبان .
قوله تعالى : { والنَّجْمُ والشّجَرُ يَسْجُدانِ } في النَّجْم قولان . أحدهما : أنه كُلُّ نَبْتٍ ليس له ساق ، وهو مذهب ابن عباس ، والسدي ، ومقاتل ، واللُّغويين . والثاني : أنه نَجْم السَّماء ، والمُراد به : جميعُ النُّجوم ، قاله مجاهد . فأمّا الشَّجَرَ : فكُلُّ ما له ساق . قال الفراء : سُجودهما : أنَّهما يستقبِلان الشمسَ إذا أشرقت ، ثم يَميلان معها حتى ينكسر الفَيْىءُ . وقد أشرت في [ النحل : 49 ] إلى معنى سُجود مالا يَعْقِل . قال أبو عبيدة : وإنّما ثني فعلهما على لفظهما .
قوله تعالى : { والسماءَ رفَعَها } وإنما فعل ذلك ليحيا الحيوان وتمتدَّ الأنفاس ، وأجرى الرِّيح بينها وبين الأرض ، كيما يتروحَ الخَلق . ولولا ذلك لماتت الخلائق كَرْباً .
قوله تعالى : { ووَضَعَ الميزانَ } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه العَدْل ، قاله الأكثرون . منهم مجاهد والسدي واللغويون . قال الزجّاج : وهذا لأن المعادلة : مُوازَنة الأشياء .
والثاني : أنه الميزان المعروف ، ليتناصف الناس في الحقوق ، قاله الحسن ، وقتادة ، والضحاك .
والثالث : أنه القرآن ، قاله الحسين بن الفضل .
قوله تعالى : { ألاَّ تَطْغَوْا } ذكر الزجّاج في «أنْ» وجهين .
أحدهما : أنها بمعنى اللام؛ والمعنى : لئلاّ تَطْغَوْا .
والثاني : أنها للتفسير ، فتكون «لا» للنهي؛ والمعنى : أي : لاتَطْغَوْا ، أي لا تُجاوِزوا العَدْل .
قوله تعالى : { ولا تُخْسِروا الميزان } قال ابن قتيبة : أي لا تنقصوا الوزن .
فأمّا الأنام ، ففيهم ثلاثة أقوال :
أحدها : أنهم الناس ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثاني : كل ذي رُوح ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والشعبي ، وقتادة ، والسدي ، والفراء .

والثالث : الإنس والجن ، قاله الحسن ، والزجّاج .
قوله تعالى : { فيها فاكهةٌ } أي ، ما يُتفكَّه [ به ] من ألوان الثمار { والنَّخْلُ ذاتُ الأكمام } والأكمام : الأوعية والغُلُف؛ وقد استوفينا شرح هذا في [ حم السجدة : 47 ] .
قوله تعالى : { والحَبُّ } يريد : جميع الحبوب ، كالبُر والشعير وغير ذلك . وقرأ ابن عامر : «والحَبَّ» بنصب الباء «ذا العصف» بالألف «والرَّيْحانَ» بنصب النون . وقرأ حمزة ، والكسائي إلاّ ابن أبي سُريج ، وخلف : «والحَبُّ ذو العَصْفِ والرَّيْحانِ» بخفض النون؛ وقرأ الباقون بضم النون .
وفي «العَصفْ» قولان :
أحدهما : أنه تِبن الزَّرع وورقه الذي تعصفه الرِّياح ، قاله ابن عباس . وكذلك قال مجاهد : هو ورق الزَّرع . قال ابن قتيبة : العَصْف : ورق الزَّرع ، ثم يصير إذا جفَّ ويبِس ودِيس تبناً .
والثاني : أن العَصْف : المأكول من الحبِّ ، حكاه الفراء .
وفي «الرَّيْحان» أربعة أقوال .
أحدها : أنه الرِّزق ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والسدي . قال الفراء : الرَّيْحان في كلام العرب : الرِّزق ، تقول : خرجنا نطلُب رَيْحان الله ، وأنشد الزجاج للَّنمِر بن تَوْلب :
سلامُ الإلهِ ورَيْحانُه ... ورَحْمَتُه وسَماءٌ دِرَرْ
والثاني : أنه خُضرة الزَّرع ، رواه الوالبي عن ابن عباس . قال أبو سليمان الدمشقي : فعلى هذا ، سُمِّي رَيْحاناً ، لاستراحة النَّفْس بالنظر إِليه .
والثالث : أنه رَيحانكم هذا الذي يُشَمُّ ، روى العوفي عن ابن عباس قال : «الرَّيْحان» ما أَنبتت الأرضُ من الرَّيْحان ، وهذا مذهب الحسن ، والضحاك ، وابن زيد .
والرابع : أنه ما [ لم ] يؤكل من الحَبّ ، والعَصْف : المأكول منه ، حكاه الفراء .
قوله تعالى : { فبأيِّ آلاءِ ربِّكما تُكذِّبانِ } فإن قيل : كيف خاطب اثنين ، وإنما ذكر الإنسان وحده؟ فعنه جوابان ذكرهما الفراء .
أحدهما : أن العرب تخاطب الواحد بفعل الاثنين كما بيَّنّا في قوله : { أَلقِيا في جهنَّمَ } [ ق : 24 ] .
والثاني : أن الذِّكر أريد به الإنسان والجانّ ، فجرى الخطاب لهما من أول السورة إلى آخرها . قال الزجاج : لمّا ذكر اللهُ تعالى في هذه السورة ما يدُلُّ على وحدانيته من خَلْق الإنسان وتعليم البيان وخَلْق الشمس والقمر والسماء والأرض ، خاطب الجن والإنس ، قال : { فبأيِّ ألاءِ ربِّكما تُكذِّبانِ } أي : فبأيِّ نِعَم ربِّكما تُكذِّبان من هذه الأشياء المذكورة ، لأنها كلَّها مُنْعَم بها عليكم في دلالتها إيّاكم على وحدانيَّته وفي رزقه إيّاكم ما به قِوامكم . وقال ابن قتيبة : الآلاء : النِّعم ، واحدها : أَلاً ، مثل : قفاً ، وإِلاً ، مثل : مِعىً .

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)

قوله تعالى : { خَلَقَ الإنسانَ } يعني آدم { مِنّ صَلْصالٍ } قد ذكرنا في [ الحجر : 26 - 27 ] الصَلْصال والجانَّ . فأمّا قوله : { كالفَخّار } فقال أبو عبيدة : خُلق من طينٍ يابس لم يُطْبَخ ، فله صوتٌ إذا نُقِر ، فهو من يُبْسِه كالفَخّار . والفَخّار : ما طُبِخ بالنّار .
فأمّا المارِج ، فقال ابن عباس : هو لسان النار الذي يكون في طرفها إِذا التهبت . وقال مجاهد : هو المختلِط بعضُه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أُوقِدَتْ . وقال مقاتل : هو لهب النار الصافي من غير دخان . وقال أبو عبيدة : المارج : خَلْط من النار . وقال ابن قتيبة : المارج : لهب النار ، من قولك : قد مَرِجَ الشيءُ : إذا اضطرب ولم يستقرّ . وقال الزجاج : هو اللَّهب المختلط بسواد النار .
فإن قيل : قد أَخبر اللهُ تعالى عن خَلْق آدم عليه السلام بألفاظ مختلفة ، فتارة يقول : { خَلَقه مِن تراب } [ آل عمران : 59 ] ، وتارة : «مِن صَلْصالٍ» وتارة : { مِنْ طِينٍ لازِبٍ } [ الصافات : 11 ] وتارة { كالفَخّار } [ الرحمن : 14 ] وتارة : { مِنْ حَمَأٍ مسنونٍ } [ الحجر : 29 ] ؛ فالجواب : أن الأصل التراب فجُعل طيناً ، ثم صار كالحمإِ المسنون ، ثم صار صَلصالاً كالفَخّار ، هذه أخبار عن حالات أصله . فإن قيل : ما الفائدة في تكرار قوله : «فبأيِّ آلاء ربِّكما تُكذِّبانِ» الجواب أن ذلك التكرير لتقرير النِّعم وتأكيد التذكير بها . قال ابن قتيبة : من مذاهب العرب التكرار للتوكيد والإفهام ، كما أن من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز ، لأن افتنان المتكلِّم والخطيب في الفنون أحسن من اقتصاره في المقام على فنٍّ واحدٍ ، يقول القائل منهم : واللهِ لا أفعله ، ثم واللهِ لا أفعله ، إذا أراد التوكيد وحسم الأطماع مِنْ أنْ يفعله ، كما يقول : واللهِ أفعلُه ، بإضمار «لا» إذا أراد الاختصار ، ويقول القائل المستعجِل : اعْجَل اعْجَل ، وللرامي : ارمِ ارمِ ، قال الشاعر :
كَمْ نِعْمَةٍ كانَتْ له وَكمْ وَكمْ ... وقال الآخر :
هَلاًّ سَأَلْتَ جُمْوعَ كِنْ ... دَةَ يَوْمَ وَلَّوْا أَيْنَ أَيْنا
وربَّما جاءت الصِّفة فأرادوا توكيدها ، واستوحشوا من إعادتها ثانيةً لأنها كلمة واحدةٌ ، فغيَّروا منها حرفاً ثم أتبعوها الأولى ، كقولهم : عَطْشَانُ نَطْشَان ، وشَيطان لَيْطان ، وحَسَنٌ بَسَنٌ . قال ابن دريد : ومن الإتباع : جائع نائع ، ومليح قريح ، وقبيح شَقِيح ، وشَحيح نَحيح ، وخَبيث نَبيث ، وكَثير بَثير ، وسيِّغ لَيِّغ ، وسائغ لائغ ، وحَقير نَقير ، وضَئيل بَئيل ، وخضر مضر ، وعِفْريت نِفْريت ، وثِقَةٌ نِقَةٌ ، وكِنٌّ إنٌّ ، وواحدٌ فاحدٌ ، وحائرٌ بائرٌ ، وسَمْحٌ لَمْحٌ . قال ابن قتيبة : فلمّا عَدَّد اللهُ تعالى في هذه السورة نعماءَه ، وأذكَرَ عِبَادَه آلاءَه ، ونبَّههم على قُدرته ، جعل كل كلمة من ذلك فاصلة بين كل نِعمتين ، ليُفَهِّمهم النِّعم ويُقَرِّرهم بها ، كقولك للرجل : أَلم أُبَوِّئْكَ مَنْزِلاً وكنتَ طريداً؟ أفتُنْكِرُ هذا؟ ألم أحُجَّ بك وأنت صَرُورَةٌ؟ أفَتُنْكِرُ هذا؟ . وروى الحاكم أبو عبد الله في «صحيحه» من حديث جابر بن عبد الله قال :

" قرأ علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال : «مالي أراكم سكوتاً؟! لَلْجِنُّ كانوا أحسنَ منكم ردّاً ، ما قرأتُ عليهم هذه الآية من مَرَّة» { فبأيِّ آلاء ربِّكما تكذِّبان } إِلاّ قالوا : ولا بشيء من نِعمك ربَّنا نكذِّب فلك الحمد " . قوله تعالى : { ربُّ المشْرِقَيْنِ } قرأ أبو رجاء ، وابن أبي عبلة : «ربِّ المشْرِقَيْن وربِّ المَغْرِبَيْن» بالخفض ، وهما مَشْرِق الصَّيف ومَشْرِق الشتاء ومَغْرِب الصَّيف ومَغْرِب الشتاء للشمس والقمر جميعاً .
قوله تعالى : { مَرَج البَحْرَين } أي : أرسل العذبَ والمِلْحَ وخلاهما وجعلهما { يلتقيان } ، { بينهما برزخٌ } أي : حاجز من قدرة الله تعالى { لا يبغيان } أي : لا يختلطان فيبغي أحدهما على الآخر . وقال ابن عباس : بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كلَّ عام . قال الحسن : «مَرَجَ البحرين» يعني بحر فارس والروم ، بينهما برزخ ، يعني الجزائر؛ وقد سبق بيان هذا في [ الفرقان : 53 ] .
قوله تعالى : { يخرُج منهما اللُّؤلؤ والمَرْجان } قال الزجاج : إنما يخرُج من البحر المِلْحِ ، وإنما جمعهما ، لأنه إذا خرج من أحدهما فقد أُخرج منهما ، ومِثلُه { وجَعَلَ القمرَ فيهنَّ نُوراً } [ نوح : 16 ] . قال أبو علي الفارسي : أراد : يخرُج من أحدهما ، فحذف المضاف . وقال ابن جرير : إنما قال «منهما» لأنه يخرج من أصداف البحر عن قطر السماء .
فأمّا اللُّؤلؤ والمرجان ، ففيهما قولان .
أحدهما : أن المرجان : ما صَغُر من اللُّؤلؤ ، واللُّؤلؤ : العظام ، قاله الأكثرون ، منهم ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، والفراء . وقال الزجاج : اللُّؤلؤ : اسم جامع للحَبِّ الذي يخرج من البحر ، والمرجان : صِغاره .
والثاني : أن اللُّؤلؤ : الصِّغار ، والمرجان : الكبار ، قاله مجاهد ، والسدي ، ومقاتل . قال ابن عباس : إذا أمطرت السماء ، فتحت الأصدافُ أفواهها ، فما وقع فيها من مطر فهو لؤلؤ ، قال ابن جرير : حيث وقعت قطرةٌ كانت لؤلؤة . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللُّغويّ قال : ذكر بعضُ أهل اللُّغة أن المَرجان أعجميّ معرَّب . قال أبو بكر ، يعني ابن دريد : ولم أسمع فيه بفعل منصرف ، وأَحْرِ به أن يكون كذلك . قال ابن مسعود : المرجان : الخرز الأحمر . وقال الزجاج : المَرجان أبيض شديد البياض . وحكى القاضي أبو يعلى أن المرجان : ضرب من اللُّؤلؤ كالقضبان .
قوله تعالى : { وله الجَوارِ } يعني السفن { المُنْشَآتُ } قال مجاهد : هو ما قد رُفع قِلْعه من السفن دون مالم يُرفع قِلْعه . قال ابن قتيبة : هُنَّ اللواتي أُنشئن ، أي : ابتُدىء بهنَّ { في البحر } ، وقرأ حمزة : «المُنْشِئاتُ» ، فجعلهن اللواتي ابتدأن ، يقال : أنشأت السحابةُ تُمطر : إذا ابتدأتْ ، وأنشأ الشاعُر يقول ، والأعلام : الجبال ، وقد سبق هذا [ الشورى : 32 ] .

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)

قوله تعالى : { كُلُّ مَنْ عليها فانٍ } أي : على الأرض ، وهي كناية عن غير المذكور ، «فانٍ» أي؛ هالكٌ .
{ ويَبقى وجهُ ربِّكَ } أي : ويبقى ربُّكَ { ذو الجلال والإكرام } قال أبو سليمان الخطابي : الجلال : مصدر الجليل ، يقال : جليل بَيِّن الجلالة والجلال . والإكرام : مصدر أكرمَ يُكْرِم إكراماً؛ والمعنى أن الله تعالى مستحِق أن يُجَلَّ ويُكْرَم ، ولا يُجحَد ولا يُكْفَر به ، وقد يحتمل أن يكون المعنى : أنه يُكرم أهلَ ولايته ويرفع درجاتهم؛ وقد يحتمل أن يكون أحد الأمرين وهو الجلال مضافاً إلى الله تعالى بمعنى الصفة له ، والآخر مضافاً إلى العبد بمعنى الفعل منه ، كقوله تعالى : { هو أهلُ التَّقوى وأهلُ المَغْفِرة } [ المدثر : 56 ] فانصرف أحد الأمرين إلى الله وهو المغفرة ، والآخر إلى العباد وهو التقوى .
قوله تعالى : { يسألُه من في السموات والأرضِ } المعنى أن الكل يحتاجون إليه فيسألونه وهو غنيٌّ عنهم { كُلَّ يومٍ هو في شأنٍ } مثل أن يُحيي ويُميت ، ويُعِزّ ويُذِلّ ، ويشفي مريضاً ، ويُعطي سائلاً ، إلى غير ذلك من أفعاله . وقال الحسين بن الفضل : هو سَوق المقادير إِلى المواقيت . قال مقاتل : وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالت : إن الله لا يقضي في يوم السبت شيئاً ، فنزلت : «كُلَّ يومٍ هو في شأنٍ» .

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)

قوله تعالى : { سنَفْرُغُ لكم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «سنَفْرُغُ» بنون مفتوحة . وقرأ ابن مسعود ، وعكرمة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وعبد الوارث : [ «سيَفْرُغُ» ] بياءٍ مفتوحة . وقرأ ابن السميفع ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة ، وعاصم الجحدري ، عن عبد الوارث : «سيُفْرَغُ» بضم الياء وفتح الراء . قال الفراء : هذا وعيد من الله تعالى ، لأنه لا يشغَله شيء عن شيء ، تقول للرجل الذي لا شغل له : قد فرغتَ لي ، قد فرغت تشتمني؟! أي : قد أخذتَ في هذا وأقبلتَ عليه؟! قال الزجاج : الفراغ في اللغة على ضربين . أحدهما : الفراغ من شغل . والآخر : القصد للشيء ، تقول : قد فرغتُ مما كنتُ فيه ، أي : قد زال شغلي به ، وتقول : سأتفرَّغ لفلان ، أي : سأجعله قصدي ، ومعنى الآية : سنَقْصُد لحسابكم . فأمّا «الثَّقَلان» فهما الجن والإنس ، سُمِّيا بذلك لأنهما ثقل الأرض .
قوله تعالى : { أن تَنْفُذوا } أي : تخرُجوا؛ يقال : نفذ الشيء من الشيء : إذا خَلَص منه ، كالسهم ينفُذ من الرَّمِيَّة ، والأقطار : النواحي والجوانب . وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .
أحدها : إِن استطعتم أن تعلَموا ما في السموات والأرض فاعلَموا ، قاله ابن عباس .
والثاني : إن استطعتم أن تهرُبوا من الموت بالخروج من أقطار السموات والأرض فاهرُبوا واخرُجوا منها؛ والمراد : أنكم حيثما كنتم أدرككم الموت ، هذا قول الضحاك ومقاتل في آخرين .
والثالث : إن استطعتم أن تَجُوزوا أطراف السموات والأرض فتُعجِزوا ربَّكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا؛ وإنما يقال لهم هذا يوم القيامة ، ذكره ابن جرير .
قوله تعالى : { لا تنفُذونَ إِلاّ بسُلطانٍ } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : لا تنفذون إِلا في سلطان الله ومُلكه ، لأنه مالك كل شيء ، قاله ابن عباس .
والثاني : لا تنفذون إِلاّ بحُجَّة ، قاله مجاهد .
والثالث : لا تنفُذون إِلا بمُلك ، وليس لكم مُلك ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { يُرْسَلُ عليكما } فثنَّى على اللفظ . وقد جمع في قوله : { إِن استطعتم } على المعنى .
فأمّا «الشُّواظ» ففيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه لهب النار ، قاله ابن عباس . وقال مجاهد : هو اللهب الأخضر المنقطع من النار .
والثاني : الدُّخان ، قاله سعيد بن جبير .
والثالث : النار المحضة ، قاله الفراء . وقال أبو عبيدة : هي النار التي تأجَّج لا دخان فيها ، ويقال : شُواظ وشِواظ . وقرأ ابن كثير بكسر الشين؛ وقرأ أيضاً هو وأهل البصرة : «ونُحاسٍ» بالخفض ، والباقون برفعهما .
وفي «النُّحاس» قولان .
أحدهما : أنه دخان النار ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، والفراء وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزجاج ، ومنه قول الجعديّ يذكر امرأة :
تُضيءُ كضَوْءٍ سِراج السَّلِي ... طِ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ فيه نُحاسا
وذكر الفراء في السَّليط ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه دُهن السَّنام ، وليس له دخان إِذا استُصبح به .
والثاني : أنه دُهن السِّمسِم .
والثالث : الزيت .
والثاني : أنه الصُّفْر المُذاب يُصَبُّ على رؤوسهم ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة . قال مقاتل : والمراد بالآية : كفار الجن والإنس ، يرسل عليهما في الآخرة لهب النار والصُّفْر الذائب ، وهي خمسة أنهار تجري من تحت العرش على رؤوس أهل النار ، ثلاثة أنهار على مقدار الليل ، ونهران على مقدار نهار الدنيا ، { فلا تَنْتَصِرانِ } أي : فلا تمتنعان من ذلك .

فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)

قوله تعالى : { فإذا انْشَقَّت السَّماءُ } أي : انفرجتْ من المجرَّة لنُزول مَنْ فيها يومَ القيامة { فكانت وردةً } وفيها قولان .
أحدهما : كلَوْن الفرس الوردة ، قاله أبو صالح ، والضحاك . وقال الفراء : الفرس الوردة ، تكون في الربيع وردة إِلى الصُّفرة ، فإذا اشتد الحر كانت وردة حمراء ، فإذا كان بعد ذلك كانت وردة إلى الغبرة ، فشبّه تلوّن السماء بتلوّن الوردة من الخيل؛ وكذلك قال الزجاج : «فكانت وردة» أي : كلون فرس وردة؛ والكُميت : الورد يتلوَّن ، فيكون لونه في الشتاء خلاف لونه في الصيف ، ولونه في الصيف خلاف لونه في الشتاء ، فالسماء تتلوَّن من الفزع الأكبر . وقال ابن قتيبة : المعنى : فكانت حمراء في لون الفرس الورد .
والثاني : أنها وردة النبات؛ وقد تختلف ألوانها ، إلا أن الأغلب عليها الحمرة ، ذكره الماوردي .
وفي الدِّهان قولان .
أحدهما : أنه واحد ، وهو الأديم الأحمر ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه جمع دُهن ، والدُّهن تختلف ألوانه بخُضرة وحُمرة وصُفرة ، حكاه اليزيدي ، وإلى نحوه ذهب مجاهد . وقال الفراء : شبّه تلوُّن السماء بتلوُّن الوردة من الخيل ، وشبّه الوردة في اختلاف ألوانها بالدُّهن .
قوله تعالى : { فيومَئذ لا يُسألُ عن ذَنْبه إنسٌ ولا جانٌّ } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : لا يسألون ليُعلم حالهم ، لأن الله تعالى أعلم منهم بذلك .
والثاني : لا يسأل بعضهم بعضاً عن حاله لاشتغال كل واحد منهم بنفسه ، روي القولان عن ابن عباس .
والثالث : لا يُسألون عن ذنوبهم لأنهم يُعرفون بسيماهم ، فالكافر أسود الوجه ، والمؤمن أغر محجَّل من أثر وضوئه ، قاله الفراء . قال الزجاج : لا يُسأل أحد عن ذنْبه ليُستفهم ، ولكنه يُسأل سؤال توبيخ .
قوله تعالى : { يُعْرَفُ المُجْرِمونَ بسِيماهم } قال الحسن : بسواد الوجوه ، وزَرَق الأعيُن { فيؤخذ بالنَّواصي والأقدامِ } فيه قولان .
أحدهما : أن خزنة جهنم تجمع بين نواصيهم إلى أقدامهم من وراء ظُهورهم ، ثم يدفعونهم على وجوههم في النار ، قاله مقاتل .
والثاني : يؤخذ بالنَّواصي والأقدام ، فيُسحبون إلى النار ، ذكره الثعلبي . وروى مردويه الصائغ ، قال : صلّى بنا الإمام صلاة الصبح فقرأ سورة «الرحمن» ومعنا علي بن الفضيل بن عياض ، فلمّا قرأ «يُعْرَفُ المُجْرِمون بسِيماهم» خَرَّ عليٌّ مغشيّاً عليه حتى فرغنا من الصلاة ، فلمْا كان بعد ذلك قلنا له : أما سمعتَ الإمام يقرأ «حُورٌ مقصوراتٌ في الخيام»؟ قال : شغلني عنها «يُعْرَفُ المُجْرِمون بسِيماهم فيؤخذ بالنَّواصي والأقدام» .
قوله تعالى : { هذه جهنَّمُ } أي : يقال لهم . هذه جهنَّمُ { التي يكذّب بها المُجْرِمونَ } يعني المشركين ، { يَطُوفون بينها } وقرأ أبو العالية ، وأبو عمران الجوني : «يُطَوِّفون» بياءٍ مضمومة مع تشديد الواو؛ وقرأ الأعمش مثله إلا أنه بالتاء .
قوله تعالى : { وبين حميمٍ آنٍ } قال ابن قتيبة : الحميم : الماء الحارّ ، والآني : الذي قد انتهت شِدَّة حَرِّه . قال المفسرون : المعنى أنهم يسعَون بين عذاب الجحيم وبين الحميم ، إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم الشديد الحرارة .

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)

قوله تعالى : { ولِمَن خاف مَقام ربِّه جَنَّتانِ } فيه قولان .
أحدهما : قيامه بين يدي ربه عز وجل يوم الجزاء .
والثاني : قيام الله على عبده بإحصاء ما اكتسب . وجاء في التفسير ، أن العبد يهُمُّ بمعصية فيتركها خوفاً من الله عز وجل فله جنَّتان ، وهما بستانان .
{ ذواتا أفنانٍ } فيه قولان .
أحدهما : أنها الأغصان ، وهي جمع فَنَن ، وهو الغُصن المستقيم طولاً ، وهذا قول مجاهد ، وعكرمة ، وعطية ، والفراء ، والزجاج .
والثاني : أنها الألوان والضروب من كل شيء ، وهي جمع فَنَن ، وهذا قول سعيد بن جبير . وقال الضحاك : ذواتا ألوان من الفاكهة .
وجمع عطاء بين القولين ، فقال في كل غصن فُنون من الفاكهة .
قوله تعالى : { فيهما عينان تَجْرِيان } قال ابن عباس : تجريان بالماء الزلال ، إحداهما : السلسبيل ، والأخرى : التسنيم . وقال عطية : إحداهما : من ماءٍ غير آسن ، والأخرى : من خمر . وقال أبو بكر الورّاق : فيهما عينان تجريان لِمَن كانت له في الدنيا عينان تَجْرِيان من البكاء .
قوله تعالى : { فيهما من كُلِّ فاكهةٍ زوجان } أي : صنفان ونوعان . قال المفسرون : فيهما من كل ما يُتفكَّه به نوعان ، رطب ويابس ، لا يقصر أحدهما عن الآخر في فضله .

مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)

{ مُتَّكِئِين } هذا حال المذكورين { على فُرُشٍ } جمع فِراش { بطائنُها } جمع بِطانة ، وهي التي تحت الظِّهارة . وقال أبو هريرة : هذه البطائن ، فما ظنُّكم بالظهائر؟! وقال ابن عباس : إنما ترك وصف الظواهر ، لأنه ليس أحدٌ يعلم ما هي . وقال قتادة : البطائن : هي الظواهر بلُغة قوم . وكان الفراء يقول : قد تكون البطانة ظاهرة ، والظاهرة بطانة ، لأن كل واحد منهما قد يكون وجهاً ، والعرب تقول : هذا ظَهْرُ السماءِ ، وهذا بَطْنُ السَّماءِ ، لظاهرها ، وهو الذي نراه ، وقال ابن الزبير يَعيب قَتَلة عثمان : خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية ، فقتلهم الله كل قتلة ، ونجا منهم من نجا تحت بطون الكواكب . يعني هربوا ليلاً؛ فجعلوا ظهور الكواكب بطوناً ، وذلك جائز في العربيَّة . وأنكر هذا القول ابن قتيبة جداً ، وقال : إنما أراد الله أن يعرِّفنا من حيث نَفهم فضلَ هذه الفُرش وأن ما وليَ الأرض منها إستَبْرَقٌ ، وإذا كانت البِطانة كذلك ، فالظِّهارةُ أعلى وأشرفُ . وهل يجوز [ لأحد ] أن يقول لوجهِ مصَلٍّ : هذا بِطانتُه ، ولِما وَلِيَ الأرضَ منه : هذا ظِهارته؟! وإنما يجوز هذا في ذي الوجهين المتساويين ، تقول لِما وَلِيَك من الحائط : هذا ظَهْرُ الحائط ، ويقول جارك لِما وَلِيَه : هذا ظَهْرُ الحائط ، وكذلك السماء ماوَلِيَنا منها : ظَهْر ، وهي لِمَن فَوْقَها : بَطْن . وقد ذكرنا الإستبرق في [ سورة الكهف : 31 ] .
قوله تعالى : { وجنى الجَنَّتَين دانٍ } قال أبو عبيدة : أي : ما يُجتنى قريبٌ لا يُعَنِّي الجانِيَ .
قوله تعالى : { فِيهِنَّ قاصراتُ الطَّرْفِ } قد شرحناه في [ الصافات : 48 ] .
وفي قوله : «فِيهِنَّ» قولان .
أحدهما : أنها تعود إلى الجَنَّتَين وغيرهما مما أُعدَّ لصاحب هذه القِصَّة ، قاله الزجاج .
والثاني : أنها تعود إلى الفُرُش ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري .
قوله تعالى : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ } قرأ الكسائي بضم الميم ، والباقون بكسرها ، وهما لغتان : يَطْمِثُ ويَطْمُثُ ، مثل يَعْكِفُ ويَعْكِفُ . وفي معناه قولان .
أحدهما : لم يَقْتَضِضْهُنَّ؛ والطَّمْثُ : النِّكاح بالتَّدمية ، ومنه قيل للحائض : طامِثٌ ، قاله الفراء .
والثاني : لَمْ يَمْسَسْهُنَّ؛ يقال : ما طَمَثَ هذا البعيرَ حَبْلٌ قَطٌ ، أي : ما مسَّه ، قاله أبو عبيدة . قال مقاتل : وذلك لأنهنَّ خُلِقْنَ من الجَنَّة؛ فعلى قوله ، هذا صفة الحُور . وقال الشعبي : هُنَّ من نساء الدنيا لَمْ يَمْسَسْهُنَّ مذ أُنشئن خَلْقٌ . وفي الآية دليل على أن الجِنِّيَّ يَغْشَى المرأة كالإنسيِّ .
قوله تعالى : { كأنَّهُنَّ الياقوتُ والمُرْجانُ } قال قتادة : هُنَّ في صفاء الياقوت وبياض المَرْجان . وذكر الزجاج أن أهل التفسير وأهل اللغة قالوا : هُنَّ في صفاء الياقوت وبياض المَرْجان والمَرْجان : صِغار اللؤلؤ ، وهو أشدُّ بياضاً . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : «الياقوت» فارسيٌّ معرَّب ، والجمع «اليواقيت» وقد تكلَّمت به العربُ ، قال مالكُ بن نُوَيْرَةَ اليَرْبُوعيّ :
لَنْ يُذْهِبَ اللُّؤْمَ تاجٌ قَدْ حُبِيتَ بِهِ ... مِنَ الزَّبَرْجَدِ والياقوتِ والذَّهَبِ
قوله تعالى : { هَلْ جزآءُ الإحسانِ إلاّ الإحسانُ } قال الزجاج ، أي : ما جزاءُ مَنْ أحسنَ في الدُّنيا إلاّ أن يُحسَنَ إِليه في الآخرة . وقال ابن عباس : هل جزاءُ من قال : «لا إِله إِلاّ اللهُ» وعَمِل بما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم إلاّ الجنة . وروى أنس بن مالك قال : " قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، وقال : «هل تدرون ما قال ربُّكم»؟ قالوا : اللهُ ورسُوله أعلمُ ، قال : «فإن ربَّكم يقول : هل جزاءُ مَنْ أنْعَمْنا عليه بالتوحيد إلاّ الجنّة» "

وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)

قوله تعالى : { ومِنْ دُونِهما جَنَّتانِ } قال الزجاج : المعنى : ولِمَن خاف مقام ربِّه جنَّتان ، وله مِن دونهما جنَّتان .
وفي قوله : «ومِنْ دونِهما» قولان .
أحدهما : دونهما في الدَّرج ، قاله ابن عباس .
والثاني : دونهما في الفضل كما روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " جنَّتان من ذهب وجنَّتان من فضة " ؛ وإلى نحو هذا ذهب ابن زيد ، ومقاتل .
قوله تعالى : { مُدْهامَّتانِ } قال ابن عباس [ وابن الزبير ] : خضراوان من الرِّيّ . وقال أبو عبيدة : من خُضرتهما قد اسودَّتا . قال الزجاج : يعني أنهما خضراوان تضرب خضرتُهما إلى السَّواد ، وكل نبت أخضر فتمام خُضرته ورِيِّه أن يَضرب إلى السَّواد .
قوله تعالى : { نضّاختان } قال أبو عبيدة : فوّارتان . وقال ابن قتيبة : تفوران ، و«النَّضْخ» أكثر من «النَّضْح» . وفيما يفوران به أربعة أقوال .
أحدها : بالمسك والكافور ، قاله ابن مسعود .
والثاني : بالماء ، قاله ابن عباس .
والثالث : بالخير والبركة ، قاله الحسن .
والرابع : بأنواع الفاكهة ، قاله سعيد بن جبير .
قوله تعالى : { ونَخْلٌ ورُمّانٌ } قال ابن عباس : نَخْلُ الجَنَّة : جذوعها زمرُّد أخضر ، وكَرَبُها : ذهبٌ أحمر ، وسَعَفها : كُسوة أهل الجنة ، منها مُقطَّعاتهم وحُللهم . وقال سعيد بن جبير : نخل الجنة : جذوعها من ذهب ، وعروقها من ذهب ، وكرانيفها من زمرُّد ، ورُطَبها كالدِّلاء أشد بياضاً من اللَّبَن ، وألين من الزُّبد ، وأحلى من العسل ، ليس له عَجَم . قال أبو عبيدة : الكرانيف : أصول السَّعَف الغلاظ ، الواحدة : كرْنافَة . وإنما أُعاد ذِكر النَّخْل والرُّمّان وقد دخلا في الفاكهة لبيان فضلهما كما ذكرنا في قوله : { وملائكتِه ورُسُله وجِبريل ومِيكالَ } [ البقرة : 98 ] ، هذا قول جمهور المفسرين واللُّغويِّين . وحكى الفراء والزجاج أن قوماً قالوا : ليسا من الفاكهة؛ قال الفراء : وقد ذهبوا مذهباً ، ولكن العرب تجعلهما فاكهة . قال الأزهري : ما علمتُ أحداً من العرب قال في النخيل والكروم وثمارها : إِنها ليست من الفاكهة ، وإنما قال من قال ، لقِلَّة عِلْمه بكلام العرب ، فالعرب تذكرُ أشياء جملة ثم تخُصُّ شيئاً منها بالتسمية تنبيهاً على فضل فيه ، كقوله : { وجِبريلَ ومِيكالَ } [ البقرة : 98 ] ؛ فمن قال : ليسا من الملائكة كفر ، ومن قال : ثمر النخل والرمان ليسا من الفاكهة جهل .
قوله تعالى : { فِيهِنَّ } يعني في الجِنان الأربع { خَيْراتٌ } يعني الحُور . وقرأ معاذ القارىء ، وعاصم الجحدري ، وأبو نهيك : «خَيِّراتٌ» بتشديد الياء . قال اللغويون : أصله «خَيِّراتٌ» بالتشديد ، فخُفِّف ، كما قيل : هَيْنٌ لَيْنٌ ، وهَيِّنٌ لَيِّنٌ . وروت أُمُّ سَلَمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خَيْراتُ الأخلاقِ حِسان الوُجوه " . قوله تعالى : { حُورٌ مقصوراتٌ } قد بيَّنّا في سورة [ الدخان : 54 ] معنى الحُور .
وفي المقصورات قولان .
أحدهما : المحبوسات في الحِجَال ، قاله ابن عباس ، وهو مذهب الحسن ، وأبي العالية ، والقرظي ، والضحاك ، وأبي صالح .

والثاني : المقصورات الطَّرف على أزواجهنّ ، فلا يرفعن طَرْفاً إلى غيرهم ، قاله الربيع . وعن مجاهد كالقولين . والأول أصح ، فإن العرب تقول : امرأة مَقْصُورة وقَصِيرة وقَصُورَة : إذا كانت ملازمة خدرها ، قال كُثيِّر :
لَعَمْرِي لقد حبَّبْتِ كلَّ قصيرةٍ ... إليَّ وما تَدْرِي بذاكَ القَصَائِرُ
عَنَيْتُ قَصيرات الحِجَالِ ولَمْ أُرِدْ ... قِصارَ الخُطى ، شَرُّ النِّساءِ البَحاتِرُ
وبعضهم ينشده : قَصُورَة ، وقَصُورات؛ والبحاتر : القِصار .
وفي «الخيام» قولان .
أحدهما : أنها البيوت .
والثاني : خيام تضاف إلى القصور . وقد روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن للمؤمن في الجنة لَخيمةً من لؤلؤةٍ واحدةٍ مجوَّفةٍ ، طُولها في السماء سِتُّون مِيلاً ، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن ، فلا يرى بعضهم بعضاً " وقال عمر بن الخطاب ، وابن مسعود ، وابن عباس : الخيام : دُرٌّ مُجَوَّف . وقال ابن عباس : الخيمة : لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب .
قوله تعالى : { مُتَّكِئين على رَفْرَف } وقرأ عثمان بن عفان ، وعاصم الجحدري ، وابن محيصن : «على رَفَارفَ» جمع غير مصروف . وقرأ الضحاك ، وأبو العالية ، وأبو عمران الجوني مثلهم ، إلاّ أنهم صرفوا «رفارف» قال ثعلب : إنما لم يقل : أخضر ، لأن الرَّفرف جمع ، واحدته : رفرفة ، كقوله : { الذي جَعَلَ لكم من الشجر الأخضر ناراً } [ يس : 80 ] ولم يقل : الخُضْر ، لأن الشجر جمع ، تقول : هذا حصىً أبيض ، وحصى أسود ، قال الشاعر :
أَحَقّاً عِبادَ اللِه أنْ لستُ ماشياً ... بِهِرْجَابَ ما دامَ الأَراكُ به خُضْرا
واختلف المفسرون في المراد بالرَّفرف على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها فضول المحابس [ والبُسُط ] ، رواه العوفي عن ابن عباس . وقال أبو عبيدة : هي : الفُرُش والبُسط . وحكى الفراء ، وابن قتيبة : أنها المحابس . وقال النقاش : الرَّفرف : المحابس الخُضْر فوق الفْرُش .
والثاني : أنها رياض الجنة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير .
والثالث : أنها الوسائد ، قاله الحسن .
قوله تعالى : { وعبقريٍّ حِسانٍ } فيه قولان .
أحدهما : أنها الزَّرابيّ ، قاله ابن عباس ، وعطاء ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد ، وكذلك قال ابن قتيبة : العبقريّ : الطّنافِس الثِّخان . قال أبو عبيدة : يقال لكل شيء من البُسُط : عبقريّ .
والثاني : أنه الدِّيباج الغليظ ، قاله مجاهد . قال الزجاج : أصل العبقريّ في اللغة أنه صفة لكل ما بُولِغَ في وصفه ، وأصلُه أن عبقر : بلد كان يوشى فيه البُسط وغيرها ، فنُسب كل شيء جيِّد إليه ، قال زهير :
بِخَيْلٍ عليها جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ ... جَدِيرونَ يَوْماً أن يَنالوا فيَسْتَعْلُوا
وقرأ عثمان بن عفان ، وعاصم الجحدري ، وابن محيصن : «وعَباقِرِيَّ» بألف مكسورة القاف مفتوحة الياء من غير تنوين؛ قال الزجاج : ولا وجه لهذه القراءة في العربية ، لأن الجمع الذي بعد ألفه حرفان ، نحو؛ مساجد ومفاتح ، لا يجوز أن يكون فيه مثل عباقِرِي ، لأن ما جاوز الثلاثة لا يُجمع بياء النَّسب ، فلو جمعت «عبقريّ» كان جمعُه «عباقرة» ، كما أنك لو جمعت «مُهلبيّ» كان جمعه «مَهالبة» ، ولم تقل : «مَهالبيّ» قال : فإن قيل : «عبقريّ» واحد ، و«حِسَان» جمع ، فكيف جاز هذا؟ فالأصل أن واحد هذا «عبقريّة» والجمع «عبقري» ، كما تقول : تَمْرة ، وتَمْر ، ولَوْزة ، ولَوْز ، ويكون أيضاً «عبقري» اسماً للجنس .

وقرأ الضحاك ، وأبو العالية ، وأبو عمران : «وعَباقِرِيٍّ» بألف مع التنوين .
قوله تعالى : { تبارك اسمُ ربِّكَ } فيه قولان .
أحدهما : أن ذِكْر «الاسم» صِلَة ، والمعنى : تبارك ربُّك .
والثاني : أنه أصل . قال ابن الأنباري : المعنى : تفاعل من البَرَكة ، أي : البَرَكة تُنال وتُكْتَسَب بذِكْر اسمه . وقد بيَّنّا معنى «تبارك» في [ الأعراف : 54 ] ، وذكرنا في هذه السورة معنى { ذي الجلال والإكرام } [ الرحمن : 27 ] ، وكان ابن عامر يقرأ : «ذو الجلال» وكذلك هي في مصاحف أهل الشام؛ والباقون : «ذي الجلال» وكذلك هي في مصاحف أهل الحجاز والعراق ، وهم متفقون على الموضع الأول أنه «ذو» .

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)

قوله تعالى : { إذا وقَعَتِ الواقعةُ } قال أبو سليمان الدمشقي : لمّا قال المشركون : متى هذا الوعد ، متى هذا الفتح؟! نزل قوله : { إِذا وَقَعَتِ الواقعةُ } ، فالمعنى : يكون إذا وقعت الواقعة . قال المفسرون : والواقعة : القيامة ، وكل آتٍ يتوقع ، يقال له إذا كان : قد وقع ، والمراد بها هاهنا : النَّفخة في الصُّور لقيام الساعة .
{ ليس لِوَقْعَتِها } أي : لظُهورها ومَجيئها { كاذبةٌ } أي : كذب ، كقوله : { لا تَسْمَعُ فيها لاغيةً } [ الغاشية : 11 ] أي : لغواً . قال الزجاج : و«كاذبة» مصدر ، كقولك : عافاه الله عافيةً ، وكَذَب كاذبةً ، فهذه أسماء في موضع المصدر . وفي معنى الكلام قولان .
أحدهما : لا رجعةَ لها ولا ارتداد ، قاله قتادة .
والثاني : ليس الإخبار عن وقوعها كذباً ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { خافضةٌ } أي : هي خافضة { رافعةٌ } وقرأ أبو رزين ، وأبو عبد الرحمن ، وأبو العالية ، والحسن ، وابن أبي عبلة ، وأبو حيوة ، واليزيدي في اختياره : «خافضةً رافعةً» بالنصب فيهما . وفي معنى الكلام قولان .
أحدهما : أنها خفضتْ فأسمعتِ القريبَ ، ورفعتْ فأسمعتِ البعيدَ ، رواه العوفي عن ابن عباس . وهذا يدل على أن المراد بالواقعة : صيحة القيامة .
والثاني : أنها خفضت ناساً ، ورفعت آخرين ، رواه عكرمة عن ابن عباس . قال المفسرون : تخفض أقواماً إلى أسفل السافلين في النار ، وترفع أقواماً إِلى عِلِّيِّين في الجنة .
قوله تعالى : { إذا رُجَّتِ الأرض رَجّاً } أي : حُرِّكتْ حركةً شديدةً وزلزلتْ ، وذلك أنها ترتجُّ حتى ينهدم ما عليها من بناءٍ ، ويتفتَّت ما عليها من جبل . وفي ارتجاجها قولان .
أحدهما : أنه لإماتة مَن عليها من الأحياء .
والثاني : لإخراج من في بطنها من الموتى .
قوله تعالى : { وبُسَّتِ الجبالُ بَسّاً } فيه قولان .
أحدهما : فُتِّتت فَتّاً ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد . قال ابن قتيبة : فُتِّتتْ حتى صارت كالدَّقيق والسَّويق المبسوس .
والثاني : لُتَّتْ ، قاله قتادة . وقال الزجاج : خُلِطتْ ولُتَّت . قال الشاعر :
لا تَخْبِزوا خَبْزاً وبُسَّا بَسَّا ... وفي «الهَباء» أقوال قد ذكرناها في [ الفرقان : 23 ] . وذكر ابن قتيبة أن الهَباء المُنْبَثّ : ما سطع من سنابك الخيل ، وهو من «الهَبْوَة» والهَبْوَة : الغُبار . والمعنى : كانت تراباً منتشراً .
قوله تعالى : { وكنتم أزواجاً } أي : أصنافاً { ثلاثةً } .
{ فأصحابُ الميمنة } فيهم ثمانية أقوال .
أحدها : [ أنهم ] الذين كانوا على يمين آدم حين أُخرجت ذُرِّيَّتهُ مِنْ صُلبه ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنهم الذين يُعْطَون كتبهم بأيمانهم ، قاله الضحاك ، والقرظي .
والثالث : أنهم الذين كانوا ميامين على أنفُسهم ، أي : مبارَكين ، قاله الحسن ، والربيع .
والرابع : أنهم الذين أُخذوا من شِقِّ آدم الأيمن ، قاله زيد بن أسلم .
والخامس : أنهم الذين منزلتهم عن اليمين ، قاله ميمون بن مهران .
والسادس : أنهم أهل الجنة ، قاله السدي .
والسابع : أنهم أصحاب المنزلة الرفيعة ، قاله الزجاج .
والثامن : أنهم الذين يؤخذ [ بهم ] ذاتَ اليمين إلى الجنة ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20