كتاب : زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي

وقرأ ابن مسعود ، وابن السميفع : { عِفْرَاةٌ } بكسر العين وفتح الراء وبألف من غير ياء .
قوله تعالى : { قَبْلَ أن تَقُوم من مَقامِكَ } أي : من مجلسك؛ ومثله { في مَقَامٍ أمينٍ } [ الدخان : 51 ] . وكان سليمان يجلس للقضاء بين الناس من وقت الفجر إِلى طلوع الشمس ، وقيل : إِلى نصف النهار { وإِنِّي عليه } أي : على حمله { لَقَوِيٌّ } .
وفي قوله { أمينٌ } قولان .
أحدهما : أمين على ما فيه من الجوهر والدُّرِّ وغير ذلك ، قاله ابن السائب .
والثاني : أمين أن لا آتيك بغيره بدلاً منه ، قاله ابن زيد .
قال سليمان : أريد اسرع من ذلك ، { قال الذي عنده عِلْمٌ مِنَ الكِتَاب } وهل هو إِنسي أم مَلَك؟ فيه قولان .
أحدهما : إِنسيّ ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، وأبو صالح . ثم فيه أربعة أقوال .
أحدها : أنَّه رجل من بني إِسرائيل ، واسمه آصف بن برخيا ، قاله مقاتل . قال ابن عباس : دعا آصف وكان آصف يقوم على رأس سليمان بالسيف فبعث اللّهُ الملائكة فحملوا السرير تحت الأرض يَخُدُّون الأرض خَدّاً ، حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان .
والثاني : أنه سليمان عليه السلام ، وإِنما قال له رجل : أنا آتيك به قبل أن يرتد إِليك طَرْفك ، فقال : هات ، قال : أنت النبيُّ ابن النبيِّ ، فان دعوتَ الله جاءكَ ، فدعا اللّهَ فجاءه ، قاله محمد بن المكندر .
والثالث : أنَّه الخضر ، قاله ابن لهيعة .
والرابع : أنه عابد خرج يومئذ من جزيرة في البحر فوجد سليمان فدعا فأُتيَ بالعرش ، قاله ابن زيد .
والقول الثاني : أنه من الملائكة . ثم فيه قولان .
أحدهما : أنه جبريل عليه السلام .
والثاني : مَلَك من الملائكة أيَّد اللّهُ به سليمان ، حكاهما الثعلبي .
وفي العِلْم الذي عنده من الكتاب ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه اسم الله الأعظم ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والجمهور .
والثاني : أنه عِلْم كتاب سليمان إِلى بلقيس .
والثالث : أنه عِلْم ما كتب اللّهُ لبني آدم ، وهذا على أنه مَلَك ، حكى القولين الماوردي .
وفي قوله : { قبل أن يَرْتَدَّ إِليكَ طَرْفُك } أربعة أقوال .
أحدها : قبل أن يأتيَك أقصى ما تنظر إِليه ، قاله سعيد بن جبير .
والثاني : قبل أن ينتهي طرفك إِذا مددته إِلى مداه ، قاله وهب .
والثالث : قبل أن يرتد طرفك حسيراً إِذا أدمتَ النظر ، قاله مجاهد .
والرابع : بمقدار ما تفتح عينك ثم تطرف ، قاله الزجاج . قال مجاهد : دعا فقال : ياذا الجلال والإِكرام . وقال ابن السائب : إِنما قال : ياحيُّ ياقيُّوم .
قوله تعالى : { فلمَّا رآه } في الكلام محذوف ، تقديره : فدعا اللّهَ [ فأُتيَ ] به ، فلمَّا رآه ، يعني : سليمان { مستقِرّاً عنده } أي : ثابتاً بين يديه { قال هذا } يعني : التمكُّن من حصول المراد .
قوله تعالى : { أأشكُر أم أكفُر } فيه قولان .
أحدهما : أأشكر على السرير إِذ أُتيتُ به ، أم أكفر إِذا رأيتُ من هو دوني في الدنيا أعلم مني ، قاله ابن عباس .
و الثاني : أأشكر ذلك من فضل الله عليَّ ، أم أكفر نعمته بترك الشُّكر له ، قاله ابن جرير .

قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)

قوله تعالى : { قال نكِّروا لها عرشها } قال المفسرون : خافت الشياطين أن يتزوج سليمان بلقيس ، فتُفشي إِليه أسرار الجن ، لأن أُمَّها كانت جِنِّية ، فلا ينفكُّون من تسخير سليمان وذرِّيَّته بعده ، فأساؤوا الثناء عليها وقالوا : إِن في عقلها شيئاً ، وإِن رجلها كحافر الحمار ، فأراد سليمان [ أن ] يختبر عقلها بتنكير عرشها ، وينظر إِلى قدميها ببناء الصرح . قال ابن قتيبة : ومعنى { نكِّروا } : غيِّروا ، يقال : نكَّرت الشيء فتنكَّر ، أي : غيَّرتُه فتغيَّر . وللمفسرين في كيفية تغييره ستة أقوال .
أحدها : أنه زِيد فيه ونقص منه ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني : أنهم جعلوا صفائح الذهب التي كانت عليه مكان صفائح الفضة ، وصفائح الفضة مكان صفائح الذهب ، والياقوتَ مكان الزَّبَرْجَد ، والدُّرَّ مكان اللؤلؤ ، وقائمتَي الزَّبَرْجَد مكان قائمتَي الياقوت ، قاله ابن عباس أيضاً .
والثالث : أنهم نزعوا ما عليه من فصوصه وجواهره ، روي عن ابن عباس أيضاً .
والرابع : أنهم جعلوا ما كان منه أحمرَ أخضرَ ، وما كان أخضر أحمر ، قاله مجاهد .
والخامس : أنهم جعلوا أسفله أعلاه ، ومُقَدَّمه مُؤخَّره ، وزادوا فيه ، ونقصوا منه ، قاله قتادة .
والسادس : أنهم جعلوا فيه تماثيل السَّمك ، قاله أبو صالح .
وفي قوله { كأنّه هو } قولان .
أحدهما : أنها لمَّا رأته جعلت تَعْرِف وتُنْكِر ، ثم قالت في نفسها : من أين يَخْلُص إِلى ذلك وهو في سبعة أبيات والحرس حوله؟! ثم قالت : كأنه هو ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقال قتادة : شبَّهتْه بعرشها . وقال السدي : وجدت فيه ما تعرفه فلم تُنْكِر ، ووجدت فيه ما تُنْكِره فلم تُثْبِت ، فلذلك قالت : كأنه هو .
والثاني : أنَّها عرفتْه ، ولكنها شبَّهتْ عليهم كما شبَّهوا [ عليها ] ، فلو أنهم قالوا : هذا عرشكِ ، لقالت : نعم ، قاله مقاتل . قال المفسرون : فقيل لها : فانه عرشكِ ، فما أغنى عنكِ إِغلاق الابواب؟!
وفي قوله : { وأُوتينا العِلْم } ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه قول سليمان ، قاله مجاهد . ثم في معناه قولان .
أحدهما : وأُوتينا العِلْم بالله وقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة .
والثاني : أُوتينا العِلْم باسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكُنَّا مُسْلِمِين لله .
والقول الثاني : انه من قول بلقيس ، فانها لمّا رأت عرشها ، قالت : قد عرفتُ هذه الآية ، وأُوتينا العِلْم بصِحَّة نبوَّة سليمان بالآيات المتقدِّمة ، تعني أمر الهدهد والرُّسُلِ التي بُعثت من قَبْل هذه الآية ، وكُنَّا مُسْلِمِين منقادِين لأمركَ قبل أن نجىء .
والثالث : أنه من قول قوم سليمان ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { وصدَّها ما كانت تعبُد مِنْ دون الله } قال الفراء : معنى الكلام : هي عاقلة ، إِنَّما صدَّها عن عبادة الله عبادتُها الشمس والقمر ، وكان عادةً من دين آبائها؛ والمعنى : وصدَّها أن تعبُد الله ما كانت تعبد ، قال : وقد قيل : صدَّها سليمانُ ، أي : منعها ما كانت تعبُد .

قال الزجاج : المعنى : صدَّها عن الإِيمان العادةُ التي كانت عليها ، لأنها نشأت ولم تعرِف إِلا قوماً يعبُدون الشمس ، وبيَّن عبادتها بقوله : { إِنَّها كانت من قوم كافرين } وقرأ سعيد بن جبير ، وابن أبي عبلة : { أنَّها كانت } بفتح الهمزة .
قوله تعالى : { قيل لها ادخُلي الصَّرْحَ } قال المفسرون : أمر الشياطين فبنَوا له صرحاً كهيئة السطح من زجاج .
وفي سبب أمره بذلك ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه أراد أن يريَها مُلكاً هو اعزُّ من مُلكها ، قاله وهب بن منبِّه .
والثاني : أنه أراد أن ينظر إِلى قدمها من غير أن يسألها كشفها ، لأنه قيل له إِن رجلها كحافر الحمار ، فأمر ان يُهيَّأ لها بيت من قوارير فوق الماء ، ووُضع سرير سليمان في صدر البيت ، هذا قول محمد بن كعب القرظي .
والثالث : أنه فعل ذلك ليختبرها كما اختبرته بالوصائف والوصفاء ، ذكره ابن جرير . فأمّا الصَّرْح فقال ابن قتيبة : هو القصر ، وجمعه : صُروح ، ومنه قول الهذليِّ :
[ على طُرُقٍ كنحور الرِّكا ... بِ ] تَحْسَبُ أعلامَهنَّ الصُّروحا
قال : ويقال : الصَّرْحُ بلاطٌ اتُّخِذ لها من قَوارير ، وجُعل تحتها ماءٌ وسمك . قال مجاهد : كانت بِركة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير . وقال مقاتل : كان قصراً من قوارير بني على الماء ، وتحته السَّمك .
قوله تعالى : { حَسِبَتْه لُجَّةً } وهي : مُعْظَم الماء { وكَشَفَتْ عن ساقَيْها } لدخول الماء ، فناداها سليمان { إِنَّه صَرْحٌ مُمَرَّدٌ } أي : مملَّسٌ { مِنْ قَوارير } أي : من زُجاج؛ فعلمتْ حينئذ أن مُلك سليمان من الله تعالى ، ف { قالت ربِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسي } أي : بعبادة غيرك . وقيل : ظنَّت في سليمان أنه يريد تغريقها في الماء ، فلمَّا علمتْ أنه صَرْح ممرَّد قالت : ربِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نفسي بذلك الظَّنِّ ، وأسلمتُ مع سليمان ، ثم تزوجها سليمان . وقيل : إِنه ردَّها إِلى مملكتها وكان يزورها في كل شهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام ، وأنها ولدت منه ، وقيل : إِنه زوَّجها ببعض الملوك ولم يتزوجها هو .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)

قوله تعالى : { فاذا هم فريقان } أي : مؤمن وكافر { يختصمون } وفيه قولان .
أحدهما : أنه قولهم { أتَعْلَمون أنَّ صالحاً مُرْسَلٌ مِنْ ربِّه . . . } الآيات [ الأعراف : 75 ، 80 ] .
والثاني : أنه قول كل فريق منهم : الحقُّ معي .
قوله تعالى : { لِمَ تَسْتَعْجِلونَ بالسَّيِّئة } وذلك حين قالوا : إِن كان ما أتيتنا به حقّاً فائتنا بالعذاب . وفي السيِّئة والحسنة قولان .
أحدهما : أن السيِّئة : العذابُ ، والحسنة : الرحمة ، قاله مجاهد .
والثاني : [ أن ] السيِّئة : البلاءُ ، والحسنة : العافية ، قاله السدي .
قوله تعالى : { لولا } أي : هلاَّ { تَستغفِرونَ اللّهَ } من الشِّرك { لعلَّكم تُرْحَمون } فلا تعذَّبون . { قالوا اطَّيَّرْنا } قال ابن قتيبة : المعنى : تَطَيَّرنا وتشاءَمْنا { بك } ، فأُدغمت التاء في الطاء ، وأُثبتت الألف ، ليسلم السكونُ لِمَا بعدها . وقال الزجاج : الأصل : تطيَّرنا ، فأُدغمت التاء في الطاء ، واجتُلبت الألفُ لسكون الطاء؛ فاذا ابتدأتَ قلتَ : اطَّيَّرنا ، وإِذا وصلتَ لم تذكر الألف وتسقط لأنها ألِف وصل ، [ وإِنما ] تطيَّروا به ، لأنهم قحطوا وجاعوا ، ف { قال } لهم { طائرُكم عِنْدَ الله } وقد شرحنا هذا المعنى في [ الاعراف : 131 ] .
وفي قوله : { تُفْتَنون } ثلاثة أقوال .
أحدها : تُختَبرون بالخير والشر ، قاله ابن عباس .
والثاني : تُصرَفون عن دينكم ، قاله الحسن .
والثالث : تُبتلَوْن بالطاعة والمعصية ، قاله قتادة .

وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)

قوله تعالى : { وكان في المدينة } وهي الحِجْر التي نزلها صالح { تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفسدون في الأرض } يريد : في أرض الحِجْر ، وفسادهم : كفرهم ومعاصيهم ، وكانوا يسفكون الدِّماء ويَثِبون على الأموال والفروج ، وهم الذين عملوا في قتل الناقة . وروي عن سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح قالا : كان فسادهم كسر الدراهم والدنانير ، { قالوا } فيما بينهم { تَقَاسَموا بالله } أي : احلفوا بالله { لَنُبَيِّتَنَّهُ } أي : لنقتُلنَّ صالحاً { وأهلَه } ليلاً { ثم لَنَقولَنَّ } وقرأ حمزة ، والكسائي { لتُبَيِّتُنَّهُ وأهلَه ثم لَتَقولُنَّ } بالتاء فيهما . وقرأ مجاهد ، وأبو رجاء ، وحميد بن قيس { لَيُبَيِّتُنَّهُ } بياء وتاء مرفوعتين { ثم لَيَقُولُنَّ } بياء مفتوحة وقاف مرفوعة وواو ساكنة ولام مرفوعة { لِوَليِّه } أي : لوليِّ دمه إِنْ سألَنا عنه { ما شَهِدْنا } أي : ما حضرنا { مُهْلِكَ أَهْلِهِ } قرأ الأكثرون بضم الميم وفتح اللام؛ والمَهْلِك : يجوز أن يكون مصدراً بمعنى الإِهلاك ، ويجوز أن يكون الموضع . وروى ابو بكر ، وأبان عن عاصم : بفتح الميم واللام ، يريد الهلاك؛ يقال : هَلَكَ يَهْلِكُ مَهْلَكاً . وروى عنه حفص ، والمفضل : بفتح الميم وكسر اللام ، وهو اسم المكان ، على معنى : ما شهدنا موضع هلاكهم؛ فهذا كان مكرهم ، فجازاهم الله عليه فأهلكهم .
وفي صفة إِهلاكهم أربعة أقوال .
أحدها : أنهم أتَوا دار صالح شاهرين سيوفهم ، فرمتْهم الملائكة بالحجارة فقتلتهم ، [ قاله ابن عباس .
والثاني : رماهم الله بصخرة فقتلتهم ، قاله قتادة ] .
والثالث : أنهم دخلوا غاراً ينتظرون مجيء صالح ، فبعث الله صخرة سدَّت باب الغار ، قاله ابن زيد .
والرابع : أنهم نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضاً ليأتوا دار صالح ، فجثم عليهم الجبل فأهلكهم ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { أنَّا دَمَّرْنَاهُم } قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : { أنَّا دمَّرناهم } بفتح الألف . وقرأ الباقون بكسرها . فمن كسر استأنف ، ومن فتح ، فقال أبو علي : فيه وجهان .
أحدهما : أن يكون بدلاً من { عاقبةُ مَكْرهم } .
والثاني : أن يكون محمولاً على مبتدإٍ مضمر ، كأنه قال : هو أنَّا دمَّرناهم .
قوله تعالى : { فَتِلْك بيوتُهم خاويةً } قال الزجاج : هي منصوبة على الحال؛ المعنى : فانظر إِلى بيوتهم خاويةً .

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)

قوله تعالى : { أتأتون الفاحشة وأنتم تُبْصِرونَ } فيه قولان .
أحدهما : وأنتم تعلمون أنَّها فاحشة .
والثاني : وبعضكم يُبْصِر بعضاً .
قوله تعالى : { بل أنتم قوم تَجْهَلونَ } قال ابن عباس : تجهلون القيامة وعاقبة العِصيان .
قوله تعالى : { قَدَّرْنَاهَا مِنَ الغابِرِين } أي : جعلناها بتقديرنا وقضائنا عليها من الباقين في العذاب . وقرأ أبو بكر عن عاصم : { قَدَرْنَاهَا } خفيفة ، وهي في معنى المشدَّدة . وباقي القصة قد تقدم تفسيره [ هود : 77 ] .

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)

قوله تعالى : { قُلِ الحمدُ لله } هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أُمِرَ أن يَحْمَد اللّهَ على هلاك الأمم الكافرة ، وقيل : على جميع نِعَمه ، { وسلامٌ على عباده ، الذين اصطفى } فيهم أربعة أقوال .
أحدها : الرسل ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وروى عنه عكرمة ، قال : اصطفى إِبراهيم بالخُلَّة ، وموسى بالكلام ، ومحمداً بالرؤية .
والثاني : أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، رواه أبو مالك عن ابن عباس ، وبه قال السدي .
والثالث : أنهم الذين وحَّدوه وآمنوا به ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والرابع : أنه محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { آللّهُ خَيْرٌ أمَّا يُشْرِكونَ } قال أبو عبيدة : مجازه : أو ما يشركون ، وهذا خطاب للمشركين؛ والمعنى : آلله خير لمن عبده ، أم الأصنام لعابديها؟! ومعنى الكلام : أنه لمَّا قصَّ عليهم قصص الأمم الخالية ، أخبرهم أنَّه نجَّى عابديه ، ولم تُغْنِ الأصنام عنهم .
قوله تعالى : { أمَّنْ خَلَقَ السموات } تقديره : أمَّا يشركون خير ، أمَّن خلق السماوات { والأرضَ وأنزلَ لكم من السماءِ ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجة } ؟! فأمَّا الحدائق ، فقال ابن قتيبة : هي البساتين ، واحدها : حديقة ، سميت بذلك لأنه يُحْدَقُ عليها ، أي : يُحْظَر ، والبهجة : الحُسن .
قوله تعالى : { ما كان لكم أن تُنْبتُوا شجرها } أي : ما ينبغي لكم ذلك [ لأنكم ] لا تقدرون عليه . ثم قال مستفهماً مُنْكِراً عليهم : { أإِله مع الله } ؟! أي : ليس معه إِله { بل هم } يعني : كفار مكة { قوم يَعْدِلون } وقد شرحناه في فاتحة [ الأنعام ] . { أمَّنْ جَعَلَ الأرض قراراً } أي : مُسْتَقَرّاً لا تَمِيد بأهلها { وجَعَلَ خلالها } أي : فيما بينها { أنهاراً وجعل لها رواسيَ } أي جبالاً ثوابتَ { وجعل بين البحرين حاجزاً } أي : مانعاً من قدرته بين العذْب والمِلْح ان يختلطا { بل أكثرهم لا يَعْلَمونَ } قَدْر عَظَمة الله .

أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)

قوله تعالى : { أمَّنْ يجيب المُضْطَرَّ } وهو : المكروب المجهود؛ { ويَكْشِفُ السُّوء } يعني الضُّرَّ { ويجعلُكم خُلَفَاءَ الأرض } أي : يُهلك قرناً وينشىء آخرين ، و { تَذَكَّرون } بمعنى تتَّعظون . وقرأها أبو عمرو بالياء ، والباقون بالتاء . { أمَّنْ يَهديكم } أي : يُرشدكم إِلى مقاصدكم إِذا سافرتم { في ظُلُمات البرِّ والبحر } وقد بيَّنَّاها في [ الأنعام : 63 ، 97 ] وشرحنا ما يليها من الكلمات فيما مضى [ الأعراف : 57 ، ويونس : 4 ] إِلى قوله : { وما يَشْعُرونَ } يعني مَنْ في السموات والأرض { أيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي : متى يُبْعَثون بعد موتهم .
قوله تعالى : { بل أَدْرَكَ عِلْمُهم في الآخرة } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : { بل أَدْرَكَ } قال مجاهد : «بل» بمعنى «أم» والمعنى : لم يُدْرِكْ عِلْمُهم ، وقال الفراء : المعنى : هل أَدرك عِلْمُهم عِلْم الآخرة؟ فعلى هذا يكون المعنى : إِنهم لا يقفون في الدنيا على حقيقة العِلْم بالآخرة . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : { بل ادّارَكَ } على معنى : بل تدارك ، أي : تتابع وتلاحق ، فأُدغمت التاء في الدال ، ثم في معناها قولان .
أحدهما : بل تكامل عِلْمهم يوم القيامة لأنهم مبعوثون ، قاله الزجاج . وقال ابن عباس : ما جهلوه في الدُّنيا ، عَلِموه في الآخرة .
والثاني : بل تدارك ظَنُّهم وحَدْسهم في الحكم على الآخرة ، فتارة يقولون : إِنها كائنة ، وتارة يقولون : لا تكون ، قاله ابن قتيبة . وروى أبو بكر عن عاصم : { بل ادّرَكَ } على وزن افتعل من أدركت .
قوله تعالى : { بل هم في شَكِّ منها } أي : بل هم اليوم في شك من القيامة { بل هم منها عَمُونَ } قال ابن قتيبة : أي : من عِلْمِها . وما بعد هذا قد سبق بيانه [ النحل : 127 ، المؤمنون : 35 ، 82 ] إِلى قوله : { متى هذا الوعد } يعنون : العذاب الذي تَعِدنا . { قُلْ عسى أن يكون رَدِف لكم } قال ابن عباس : قَرُب لكم . وقال ابن قتيبة : تَبِعَكم ، واللام زائدة ، كأنه قال : رَدِفَكم .
وفي ما تبعهم مِمَّا استعجلوه قولان .
أحدهما : يوم بدر .
والثاني : عذاب القبر .
قوله تعالى : { وإِنَّ ربَّكَ لَذُو فَضْلٍ على النَّاس } قال مقاتل : على أهل مكة حين لا يعجل عليهم بالعذاب .
قوله تعالى : { وإِنَّ ربَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدورهم } أي : ما تُخفيه { وما يُعْلِنون } بألسنتهم من عداوتك وخلافك؛ والمعنى : أنه يجازيهم عليه . { وما مِنْ غائبة } أي : وما من جملة غائبة { إِلا في كتاب } يعني اللوح المحفوظ؛ والمعنى : إِنَّ عِلْم ما يستعجلونه من العذاب بَيِّنٌ عند الله وإِن غاب عن الخَلْق .

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)

{ إِنَّ هذا القرآنَ يَقُصُّ على بني إِسرائيل } وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم ، فصاروا أحزاباً يطعن بعضهم على بعض ، فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه ، فلو أخذوا به لسلموا . { إِنَّ ربِّكَ يقضي بينهم } يعني بين بني إِسرائيل { بِحُكْمِهِ } وقرأ أبو المتوكل؛ وأبو عمران الجوني ، وعاصم الجحدري : { بِحِكَمِه } بكسر الحاء وفتح الكاف .
قوله تعالى : { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الموتى } الموتى قال المفسرُون : هذا مَثَلٌ ضربه الله للكفار فشبَّههم بالموتى .
قوله تعالى : { ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ } وقرأ ابن كثير : { ولا يَسْمَعُ الصُّمُّ } بفتح ميم { يَسْمَعُ } وضم ميم { الصُّمُّ } .
قوله تعالى : { إِذا ولَّوا مُدْبِرِينَ } أي : أن الصُّم إِذا أدبروا عنك ثم ناديتَهم لم يسمعوا ، فكذلك الكافر { وما أنتَ بِهَادِ العُمْيِ } أي : [ ما أنت ] بمرشِد من أعماه الله عن الهدى ، { إِنْ تُسْمِعُ } إِسماع إِفهام { إِلاّ مَنْ يُؤْمِنُ بآياتنا } .
قوله تعالى : { وإِذا وَقَعَ القَوْلُ عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض } { وقع } بمعنى «وجب» .
وفي المراد بالقول ثلاثة أقوال .
أحدها : العذاب ، قاله ابن عباس .
والثاني : الغضب ، قاله قتادة .
والثالث : الحُجَّة ، قاله ابن قتيبة . ومتى ذلك؟ فيه قولان .
أحدهما : إِِذا لم يأمروا بمعروف ، ولم ينهَوا عن منكر ، قاله ابن عمر ، وأبو سعيد الخدري .
والثاني : إِذا لم يُرج صلاحُهم ، حكاه أبو سليمان الدمشقي ، وهو معنى قول أبي العالية . والإِشارة بقوله : { عليهم } إِلى الكفار الذين تخرج الدابَّة عليهم .
وللمفسرين في صفة الدابَّة أربعة أقوال .
أحدها : أنها ذات وبر وريش ، رواه حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس : ذات زغب وريش لها أربع قوائم .
والثاني : أن رأسها رأس ثور ، وعينها عين خنزير ، وأذنها أذن فيل ، وقرنها قرن إِيَّل ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هرٍّ ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير ، بين كل مَفصِلين اثنا عشر ذراعاً ، رواه ابن جريج عن أبي الزبير .
والثالث : أن وجهها وجه رجل ، وسائر خَلْقها كخَلْق الطَّير ، قاله وهب .
والرابع : أن لها أربع قوائم وزغباً وريشاً وجناحين ، قاله مقاتل .
وفي المكان الذي تخرج منه خمسة أقوال .
أحدها : من الصفا . روى حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه ] قال : " بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون ، تضطرب الأرض تحتهم ، وينشقُّ الصَّفا مِمَّا يلي المسعى ، وتخرج الدابَّة من الصَّفا ، أول ما يبدو منها رأسها ، ملمَّعةٌ ذاتُ وَبَر وريش ، لن يدركها طالب ، ولن يفوتها هارب " وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " طولها ستون ذراعاً " ، وكذلك قال ابن مسعود : تخرج من الصفا . وقال ابن عمر : تخرج من صدع في الصفا كجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها .

وقال عبد الله بن عمر : تخرج الدابَّة فيَمَسُّ رأسها السحاب ورِجلاها في الأرض ما خرجتا .
والثاني : أنها تخرج من شِعْب أجياد ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن ابن عمر مثله .
والثالث : تخرج من بعض أودية تهامة ، قاله ابن عباس .
والرابع : من بحر سَدوم ، قاله وهب بن منبّه .
والخامس : أنها تخرج بتهامة بين الصًَّفا والمروة ، حكاه الزجّاج . وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « تخرج الدابَّة معها خاتم سليمان ، وعصا موسى ، فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتحطم أنف الكافر بالخاتم ، حتى إِن أهل البيت ليجتمعون ، فيقول هذا : يا مؤمن ، ويقول هذا : يا كافر » وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « تَسِم المؤمن بين عينيه وتكتب بين عينيه : مؤمن ، وتَسِم الكافر بين عينيه وتكتب بين عينيه : كافر ، وتصرخ ثلاث صرخات يسمعُها مَنْ بين الخافِقَين » وقال حُذيفة بن أسِيد : إِن للدابه ثلاث خرجات ، خرجة في بعض البوادي ثم تنكتم ، وخرجة في بعض القرى ثم تنكتم ، فبينما الناس عند أشرف المساجد - يعني المسجد الحرام - إِذ ارتفعت الأرض ، فانطلق الناس هِراباً ، فلا يفوتونها ، حتى إِنَّها لتأتي الرجل وهو يصلِّي ، فتقول : أتتعوَّذ بالصلاة ، والله ما كنت مِنْ أهل الصَّلاة ، فتَخْطِمُه ، وتجلو وجه المؤمن . وقال عبد الله بن عمرو : إِنها تَنْكُتُ في وجه الكافر نُكْتَةً سوداء فتفشو في وجهه فيسودُّ وجهُه ، وتَنْكُتُ في وجه المؤمن نُكْتَةً بيضاء فتفشو في وجهه حتَّى يبيضَّ وجهه ، فيعرف الناس المؤمن والكافر ، ولَكَأنِّي بها قد خرجت في عقب ركب من الحاج .
قوله تعالى : { تُكلِّمُهم } قرأ الأكثرون بتشديد اللام ، فهو من الكلام .
وفيما تكلِّمهم به ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها تقول لهم : إِنَّ الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ، قاله قتادة .
والثاني : تكلِّمهم ببطلان الأديان سوى دين الاسلام ، قاله السدي .
والثالث : تقول : هذا مؤمن ، وهذا كافر ، حكاه الماوردي .
وقرأ ابن أبي عبلة ، والجحدري : بتسكين الكاف وكسر اللام [ وفتح التاء ] ، فهو [ من ] الكَلْم؛ قال ثعلب : والمعنى : تجرحهم . وسئل ابن عباس عن القراءتين ، فقال : كل ذلك والله تفعله ، تُكلِّم المؤمن ، وتَكْلِم الفاجر والكافر ، أي : تجرحه .
قوله تعالى : { أَنَّ الناس } قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي بفتح الهمزة ، وكسرها الباقون؛ فمن فتح أراد : تكلِّمهم بأن الناس ، وهكذا قرأ ابن مسعود ، وأبو عمران الجوني : { تكلِّمهم بأنَّ الناس } بزيادة باء مع فتح الهمزة؛ ومن كسر ، فلأنّ معنى { تكلِّمهم } : تقول لهم : إِن الناس ، والكلام قول .

وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)

قوله تعالى : { ويوم نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أمَّة فَوْجاً } الفوج : الجماعة من الناس كالزُّمرة ، والمراد به : الرؤساء والمتبوعون في الكفر ، حُشروا وأُقيمت الحجة عليهم . وقد سبق معنى { يُوزَعون } [ النمل : 17 ] . { حتى إِذا جاؤوا } إِلى موقف الحساب { قال } الله تعالى لهم : { أكذَّبتم بآياتي } ؟! هذا استفهام إِنكار عليهم ووعيد لهم ، { ولم تُحيطوا بها عِلْماً } فيه قولان .
أحدهما : لم تعرفوها حقَّ معرفتها .
والثاني : لم تُحيطوا عِلْماً ببطلانها . والمعنى : إِنكم لم تتفكَّروا في صحتها ،
{ أم ماذا كنتم تعملون } في الدنيا فيما أمرتُكم به ونهيتُكم عنه؟! .
قوله تعالى : { وَوقَعَ القولُ عليهم } قد شرحناه آنفاً [ النمل : 82 ] { بما ظَلَمُوا } أي : بما أَشركوا { فهم لا يَنْطِقُون } بحجة عن أنفسهم . ثُم احتج عليهم بالآية التي تلي هذه . ومعنى قوله : { والنَّهارَ مُبْصِراً } أي : يُبْصَر فيه لابتغاء الرِّزق .

وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)

قوله تعالى : { ويَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّور } قال ابن عباس : هذه النفخة الأولى .
قوله تعالى : { ففَزِعَ مَنْ في السمواتِ ومَن في الأرض } [ قال المفسرون : المعنى : فيفزع مَن في السماوات ومن في الارض ] ، والمراد أنهم ماتوا ، بلغ بهم الفزع إِلى الموت .
وفي قوله : { إِلاَّ مَنْ شاء اللّهُ } ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم الشهداء ، قاله أبو هريرة ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير .
والثاني : جبريل وميكائيل وإِسرافيل ومَلَك الموت ، ثم إِن الله تعالى يميتهم بعد ذلك ، قاله مقاتل .
والثالث : أنهم الذين في الجنة من الحور وغيرهن ، وكذلك مَن في النار ، لأنهم خُلقوا للبقاء ، ذكره أبو إِسحاق ابن شاقلا من أصحابنا .
قوله تعالى : { وكُلٌّ } أي : من الأحياء الذين ماتوا ثم أُحيوا { آتُوه } وقرأ حمزة ، وحفص عن عاصم : { أَتَوْهُ } بفتح التاء مقصورة ، أي : يأتون الله يوم القيامة { داخِرِينَ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : صاغرين . قال أبو عبيدة : { كُلٌّ } لفظه لفظ الواحد ، ومعناه يقع على الجميع ، فهذه الآية في موضع جمع .
قوله تعالى : { وتَرَى الجبالَ } قال ابن قتيبة : هذا يكون إِذا نُفخ في الصُّور ، تُجمَع الجبالُ وتُسَيَّر ، فهي لكثرتها تُحسب { جامدة } أي : واقفة { وهي تَمُرُّ } أي : تسير سير السحاب ، وكذلك كلُّ جيش عظيم يحسبه الناظر من بعيد واقفاً وهو يسير ، لكثرته ، قال الجَعْدِيّ يصف جيشاً :
بِأَرْعَنَ مِثْلِ الطَّوْدِ تَحْسَبُ أنَّهُمْ ... وُقُوفٌ لِحَاجٍ والرِّكاب تُهَمْلِجُ
قوله تعالى : { صُنْعَ اللّهِ } قال الزجاج : هو منصوب على المصدر ، لأن قوله : { وتَرَى الجبال تحسَبُها جامدةً } دليل على الصنعة ، فكأنه قال : صنع الله ذلك صنعاً ، ويجوز الرفع على معنى : ذلك صُنْع الله . فأما الإِتقان ، فهو في اللغة : إِحكام الشيءِ .
قوله تعالى : { إِنَّه خَبير بما تَفْعَلون } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : { يفعلون } بالياء . وقرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي بالتاء .
قوله تعالى : { مَنْ جاءَ بالحسَنة } قد شرحنا الحسنة والسيِّئة في آخر [ الأنعام : 160 ] .
قوله تعالى : { فله خير منها } فيه قولان .
أحدهما : فله خير منها يصل إِليه ، وهو الثواب ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة .
والثاني : فله أفضل منها ، لأنه يأتي بحسنة فيُعطى عشر أمثالها ، قاله زيد ابن أسلم .
قوله تعالى : { وهم من فزع يومئذ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر { مِنْ فَزَعِ يَوْمِئِذٍ } مضافاً . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : { مِنْ فَزَعٍ } بالتنوين { يومَئذٍ } بفتح الميم . وقال الفراء : الإِضافة أعجب إِليَّ في العربية ، لأنه فزع معلوم ، ألا ترى إِلى قوله : { لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأََكْبَرُ } [ الانبياء : 103 ] فصيَّره معرِفة ، فاذا أضفت مكان المعرفة كان أحبَّ إِليَّ . واختار أبو عبيدة قراءة التنوين وقال : هي أعمُّ التأويلين ، فيكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم . قال أبو علي الفارسي : إِذا نوّن جاز أن يُعنى به فزعٌ واحدٌ ، وجاز أن يُعنى به الكثرة ، لأنه مصدر ، والمصادر تدل على الكثرة وإِن كانت مفردة الألفاظ ، كقوله :

{ إِنَّ أنكر الأصوات لَصوتُ الحمير } [ لقمان : 19 ] ، وكذلك إِذا أضيف جاز أن يُعنى به فزع واحد ، وجاز أن يعنى به الكثرة؛ وعلى هذا القول ، القراءتان سواء ، فان أريد به الكثرة ، فهو شامل لكل فزع يكون يوم القيامة ، وإِن أريد به الواحد ، فهو المشار إِليه بقوله : { لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأكْبَرُ } [ الأنبياء : 103 ] . وقال ابن السائب : إِذا أطبقت النَّارُ على أهلها فَزِعوا فَزْعَةً لم يفزعوا مثلها ، وأهل الجَنَّة آمنون من ذلك الفزع .
قوله تعالى : { ومَنْ جاء بالسَّيِّئة } قال المفسرون : هي الشِّرك { فكُبَّتْ وُجوهُهم } يقال : كَبَبْتُ الرجل : إِذا ألقيتَه لوجهه؛ وتقول لهم خَزَنة جهنم : { هل تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنتم تَعْمَلونَ } أي : إِلاَّ جزاءَ ما كنتم تعملون في الدُّنيا من الشِّرك .

إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

قوله تعالى : { إِنَّما أُمِرْتُ } المعنى : قل للمشركين : إِنَّما أُمِرْتُ { أنْ أعبُد ربَّ هذه البلدة الذي حرَّمها } وقرأ ابن مسعود ، وأبو عمران الجوني : { التي حرَّمها } ، وهي مكة ، وتحريمها : تعظيم حرمتها بالمنع من القتل فيها والسبي والكفّ عن صيدها وشجرها ، { وله كُلُّ شيء } لأنه خالقه ومالكه ، { وأُمِرْتُ أن أكون من المسلِمِين } أي : من المخلِصِين لله بالتوحيد ، { وأن أتلوَ القرآن } عليكم { فمن اهتدى فانَّما يهتدي لنفسه } أي : فله ثواب اهتدائه { ومَنْ ضَلَّ } أي : أخطأ [ طريق ] الهُدى { فَقُلْ إِنَّما أنا مِنَ المُنْذِرِين } أي : ليس عليَّ إِلا البلاغ؛ وذكر المفسرون أن هذا منسوخ بآية السيف ، { وقُلِ الحمدُ لله } أي : قُلْ لِمن ضَلَّ : الحمد لله الذي وفَّقَنا لقَبول ما امتنعتم منه { سيريكم آياته } . ومتى يريهم؟ فيه قولان .
أحدهما : في الدنيا . ثم فيها ثلاثة أقوال .
أحدها : أن منها الدخان وانشقاق القمر ، وقد أراهم ذلك ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : سيريكم آياته [ فتعرفونها ] في السماء ، وفي أنفسكم ، وفي الرِّزق ، قاله مجاهد .
والثالث : القتل ببدر ، قاله مقاتل .
والثاني : سيُريكم آياته في الآخرة فتَعْرِفونها على ما قال في الدنيا ، قاله الحسن . قوله تعالى : { وما ربُّك بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم { تعملون } بالتاء ، على معنى : قل لهم ، وقرأ الباقون بالياء ، على أنه وعيد لهم بالجزاء على أعمالهم .

طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)

قوله تعالى : { طسم } قد سبق تفسيره [ الشعراء ] .
قوله تعالى : { إِنَّ فرعون علا في الأرض } أي : طغى وتجبَّر في أرض مصر { وجَعَلَ أهلَها شِيَعاً } أي : فِرَقاً وأصنافاً في خدمته { يَسْتضعف طائفةً منهم } وهم بنو إِسرائيل ، واستضعافه إِيّاهم : استعبادُهم { إِنَّه كان مِنَ المُفْسِدِينَ } بالقتل والعمل بالمعاصي . { يُذَبِّحُ أبناءَهم } وقرأ أبو رزين ، والزهري ، وابن محيصن ، وابن أبي عبلة : { يَذْبَحُ } بفتح الياء وسكون الذال خفيفة .
قوله تعالى : { ونُريدُ أن نَمُنَّ } أي : نُنْعِم { على الذين استُضْعِفوا } وهم بنو إِسرائيل { ونَجْعَلَهم أئمَّةً } يُقتدى بهم في الخير؛ وقال قتادة : وُلاةً وملوكاً { ونجعلَهم الوارِثين } لمُلك فرعون بعد غَرَقه .
قوله تعالى : { ونُرِيَ فرعونَ وهامانَ وجنودَهما } وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف { ويَرِى } بياء مفتوحة وإِمالة الألف التي بعد الراء { فرعونُ وهامانُ وجنودُهما } بالرفع . ومعنى الآية : أنهم أُخبِروا أن هلاكهم على يَدَي رجل من بني إِسرائيل ، فكانوا على وَجَل منهم ، فأراهم اللّهُ ما كانوا يَحْذَرون .

وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)

قوله تعالى : { وأَوحينا إِلى أُمِّ موسى } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنَّه إِلهام ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنَّ جبريل أتاها بذلك ، قاله مقاتل .
والثالث : أنَّه كان رؤيا منام ، حكاه الماوردي . قال مقاتل : واسم أم موسى «يوخابذ» .
قوله تعالى : { أنْ أَرْضِعِيه } قال المفسرون : كانت امرأةٌ من القوابل مصافية لأم موسى ، فلمَّا وضعتْه تولَّت أمرها ثم خرجت فرآها بعض العيون فجاؤوا ليدخلوا على أم موسى ، فقالت أخته : يا أُمَّاه هذا الحرس بالباب ، فلفَّت موسى في خرقة ووضعته في التَّنُّور وهو مُسْجَر ، فدخلوا ثم خرجوا ، فقالت لأخته : أين الصبيُّ ، قالت : لا أدري ، فسمعت بكاءه من التَّنُّور فاطَّلعت وقد جعل الله عليه النَّارَ بَرْداً وسلاماً ، فأرضعته بعد ولادته ثلاثة أشهر ، وقيل : أربعة أشهر ، فلمَّا خافت عليه صنعت له التابوت .
وفي قوله : { فاذا خِفْتِ عليه } قولان .
أحدهما : إِذا خِفْتِ عليه القتل ، قاله مقاتل .
والثاني : إِذا خِفْتِ [ عليه ] أن يصيح أو يبكي فيُسمع صوتُه ، قاله ابن السائب .
وفي قوله : { ولا تَخافي } قولان .
أحدهما : أن يغرق ، قاله ابن السائب .
والثاني : أن يضيع ، قاله مقاتل .
وقال الأصمعي : قلت لأعرابية : ما أفصحكِ! فقالت : أوَ بعد هذه الآية فصاحة وهي قوله { وأَوحينا إِلى أم موسى أن أرضعيه ، فاذا خفت عليه فألقيه في اليم ، ولا تخافي ولا تحزني ، إِنَّا رادُّوه إِليك وجاعلوه من المرسلين } جمع فيها بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين؟!
قوله تعالى : { فالتقَطَه آلُ فرعون } الالتقاط : إِصابة الشيء من غير طلب ، والمراد بآل فرعون : الذين تولَّوا أخذ التابوت من البحر .
وفي الذين التقطوه ثلاثة أقوال .
أحدها : جواري امرأة فرعون ، قاله السدي .
والثاني : ابنة فرعون ، قاله محمد بن قيس .
والثالث : أعوان فرعون ، قاله ابن إِسحاق .
قوله تعالى : { لِيَكونَ لهم عدوّاً } أي : ليصير بهم الأمر إِلى ذلك ، لا أنهم أخذوه لهذا ، وهذه اللام تسمى لام العاقبة ، وقد شرحناه في [ يونس : 88 ] .
وللمفسرين في معنى الكلام قولان .
أحدهما : ليكون لهم عَدُوّاً في دينهم وحَزَناً لِمَا يصنعه بهم .
والثاني : عدوّاً لرجالهم وحَزَنَاً على نسائهم ، فقتل الرجال بالغرق ، واستعبد النساء . { وقالت امرأة فرعون } وهي آسية بنت مزاحم ، وكانت من بني إِسرائيل تزوجها فرعون : { قُرَّةُ عَيْنٍ } قال الزجاج : رفع { قُرَّةُ عَيْنٍ } على إِضمار «هو» . قال المفسرون : كان فرعون لا يولد له إِلا البنات ، فقالت : { عسى أن ينفعنا } فنُصيب منه خيراً { أو نَتَّخِذَه ولداً } ، { وهم لا يشعرون } فيه أربعة أقوال .
أحدها : لا يشعرون أنَّه عدوٌّ لهم ، قاله مجاهد .
والثاني : أنَّ هلاكهم على يديه ، قاله قتادة .
والثالث : لا يشعر بنو إِسرائيل أنَّا التقطناه ، قاله محمد ابن قيس .
والرابع : لا يشعرون أنِّي أفعل ما أريد لا ما يريدون ، قاله محمد ابن إِسحاق .

وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)

قوله تعالى : { وأَصبح فؤادُ أُمِّ موسى فارغاً } فيه أربعة أقوال .
أحدها : فارغاً من كل شيء إِلا من ذِكْر موسى ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك .
والثاني : أصبح فؤادها فَزِعاً ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وهي قراءة أبي رزين ، وأبي العالية ، والضحاك ، وقتادة ، وعاصم الجحدري ، فانهم قرؤوا { فَزِعاً } بزاي معجمة .
والثالث : فارغاً من وحينا بنسيانه ، قاله الحسن ، وابن زيد .
والرابع : فارغاً من الحزن ، لِعِلْمها أنَّه لم يُقتَل ، قاله أبو عبيدة . قال ابن قتيبة : وهذا من أعجب التفسير ، كيف يكون كذلك واللّهُ يقول : { لولا أنْ رََبَطْنا على قَلْبها } ؟! وهل يُرْبَطُ إِلاّ على قلب الجازع المحزون؟!
قوله تعالى : { إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي به } في هذه الهاء قولان .
أحدهما : أنها ترجع إِلى موسى . ومتى أرادت هذا؟ فيه ثلاثة أقوال . أحدها : أنه حين فارقتْه؛ روى سعيد بن جبير عن ابن عباس [ أنه ] قال : كادت تقول : يا بُنَيَّاه . قال قتادة : وذلك من شدة وجدها . والثاني : حين حُمِلَتْ لِرَضاعه ثم كادت تقول : هو ابني ، قاله السدي . والثالث : أنَّه لمَّا كَبِر وسَمِعَت الناسَ يقولون : موسى بن فرعون ، كادت تقول : لا بل هو ابني ، قاله ابن السائب .
والقول الثاني : أنها ترجع إِلى الوحي؛ والمعنى : إِنْ كادت لتُبْدي بالوحي ، حكاه ابن جرير .
قوله تعالى : { لولا أنْ رَبَطْنَا على قَلْبِها } قال الزجاج : المعنى : لولا ربطنا على قلبها ، والرَّبْط : إِلهام الصبر وتشديد القلب وتقويته .
قوله تعالى : { لِتَكُونَ مِنَ المؤمِنِينَ } أي : من المُصَدِّقِين بوعد الله . { وقالت لأُخته قُصِّيه } قال ابن عباس : قُصّي أثره واطلُبيه هل تسمعين له ذِكْراً ، [ أي ] : أحيٌّ هو ، أو قد أكلته الدوابّ؟ ونسيتْ الذي وعدها الله فيه . وقال وهب : إِنَّما قالت لأخته : قصِّيه ، لأنَّها سمعتْ أنَّ فرعون قد أصاب صبيّاً في تابوت . قال مقاتل : واسم أخته : مريم . قال ابن قتيبة : ومعنى «قُصِّيه» : قُصَِّي أَثَرَه واتبعيه { فبَصُرَتْ به عن جُنُبٍ } أي : عن بُعْدٍ منها عنه وإِعراضٍ ، لئلاَّ يَفْطنوا ، والمجانبة مِن هذا . وقرأ أُبيُّ ابن كعب ، وأبو مجلز : { عَنْ جَنَابٍ } بفتح الجيم والنون وبألف بعدهما . وقرأ ابن مسعود ، وأبو عمران الجوني : { عَنْ جَانِبٍ } بفتح الجيم وكسر النون وبينهما ألف . وقرأ قتادة ، وأبو العالية ، وعاصم الجحدري : { عَنْ جَنْبٍ } بفتح الجيم وإِسكان النون من غير ألف .
قوله تعالى : { وهم لا يشعُرونَ } فيه قولان .
أحدهما : وهم لا يشعُرون أنَّه عدٌّو لهم ، قاله مجاهد .
والثاني : لا يشعُرون أنَّها أختُه ، قاله السدي .
قوله تعالى : { وحَرَّمْنا عليه المراضع } وهي جمع مُرْضِع { مِنْ قَبْلُ } أي : مِنْ قَبْل أنْ نَرُدَّه على أُمِّه ، وهذا تحريم منع ، لا تحريم شرع . قال المفسرون : بقي ثمانية أيام ولياليهن ، كلَّما أُتي بمُرْضِع لم يَقْبل ثديها ، فأهمَّهم ذلك واشتدَّ عليهم { فقالت } لهم أخته : { هل أَدُلُّكم على أهل بيت يَكْفُلونه لكم } فقالوا لها : نعم ، مَنْ تلك؟ فقالت : أُمِّي ، قالوا : وهل لها لبن؟ قالت : لبن هارون . فلمَّا جاءت قَبِل ثديها . وقيل : إِنَّها لمَّا قالت : { وهم له ناصحون } قالوا : لعلَّكِ تعرفين أهله ، قالت : لا ، ولكني إِنما قلت : وهم للملِكِ ناصحون .
قوله تعالى : { فَرَدَدْنَاهُ إِلى أُمِّه } قد شرحناه في [ طه : 40 ] .
قوله تعالى : { ولِتَعْلَمَ أنَّ وعد الله } بردِّ ولدها { حَقٌّ } وهذا عِلْم عِيان ومشاهدة { ولكنَّ أكثرهم لاَ يعْلَمون } أنّ الله وعدها أن يردَّه إليها .

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)

{ ولمَّا بلغ أشُدَّه } قد فسرنا هذه الآية في سورة [ يوسف : 22 ] ، وكلامُ المفسرين في لفظ الآيتين متقارب ، إِلا أنهم فرَّقوا بين بلوغ الأشُدِّ وبي الاستواء؛ فأما بلوغ الأشُدِّ ، فقد سلف بيانه [ الانعام : 152 ] .
وفي مدة الاستواء لهم قولان .
أحدهما : أنه أربعون سنة ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد .
والثاني : ستون سنة ، ذكره ابن جرير . قال المفسرون : مكث عند أمِّه حتى فطمته ، ثم ردَّته إِليهم ، فنشأ في حِجْر فرعون وامرأته واتخذاه ولداً .
قوله تعالى : { ودخل المدينة } فيها قولان .
أحدهما : أنها مصر .
والثاني : مدينة بالقرب من مصر .
قال السدي : ركب فرعون يوماً وليس عنده موسى ، فلما جاء موسى ركب في إِثره فأدركه المَقِيل في تلك المدينة . وقال غيره : لمَّا توهَّم فرعون في موسى أنَّه عدوُّه أمر باخراجه من مدينته ، فلم يدخل إِلا بعد أن كَبِر ، فدخلها يوماً { على حين غفلة من أهلها } . وفي ذلك الوقت أربعة أقوال .
أحدها : أنَّه كان يوم عيد لهم ، وكانوا قد اشتغلوا فيه بلهوهم ، قاله عليٌّ عليه السلام .
والثاني : أنه دخل نصف النهار ، رواه جماعة عن ابن عباس ، وبه قال سعيد ابن جبير .
والثالث : بين المغرب والعشاء ، قاله وهب بن منبِّه .
والرابع : أنَّهم لمَّا أخرجوه لم يدخل عليهم حتى كَبِر ، فدخل على حين غفلة عن ذِكْره ، لأنَّه قد نُسي أمرُه ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { هذا مِنْ شِيعته } أي : من أصحابه من بني إِسرائيل { وهذا مِنْ عدوِّه } أي : من أعدائه من القِبط ، والعدوّ يُذْكَر للواحد وللجمع . قال الزجاج : وإِنما قيل في الغائب : «هذا» و «هذا» ، على جهة الحكاية للحضرة؛ والمعنى : أنه إِذا نظر إِليهما الناظر قال : هذا مِنْ شِيعته ، وهذا مِنْ عدوِّه . قال المفسرون : وإِنَّ القِبطي كان قد سَخَّر الإِسرائيليَّ أن يحمل حطباً إِلى مطبخ فرعون { فاستغاثه } أي : فاستنصره ، { فوكزه } قال الزجاج : الوَكْز : أن يضربه بجميع كفِّه . وقال ابن قتيبة : { فوكزه } أي : لَكَزَهُ ، يقال : وَكَزْتُه ولَكَزْتُه ولَهَزْتُه : إِذا دفَعْته ، { فقضى عليه } أي : قتله؛ وكلُّ شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه . وللمفسرين فيما وكزه به قولان .
أحدهما : كفّه ، قاله مجاهد .
والثاني : عصاه ، قاله قتادة .
فلمَّا مات القِبطي ندم موسى لأنه لم يُرِد قتله ، و { قال هذا مِنْ عمل الشيطان } أي : هو الذي هيَّج غضبي ، حتى ضربتُ هذا ، { إِنَّه عَدُوٌّ } لابن آدم { مُضِلٌّ } له { مُبِينٌ } عداوته . ثم استغفر ف { قال ربِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نفسي } أي : بقتل هذا ، ولا ينبغي لنبيّ أن يقتُل حتى يُؤْمَر . { قال ربِّ بما أنعمتَ عليَّ } بالمغفرة { فلن أكون ظهيراً للمُجْرِمِين } قال ابن عباس : عوناً للكافرين ، وهذا يدلُّ على أن الإِسرائيليَّ الذي أعانه موسى كان كافراً .

فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)

قوله تعالى : { فأصبح في المدينة } وهي التي قتل بها القِبطيَّ { خائفاً } على نفسه { يترقَّب } أي : ينتظر سوءاً يناله منهم ويخاف أن يُقتل به { فاذا الذي استنصره بالأمس } وهو الاسرائيلي { يستصرخُه } أي : يستغيث به على قِبطي آخر أراد أن يسخِّره أيضاً { قال له موسى } في هاء الكناية قولان .
أحدهما : أنها ترجع إلى القِبطي .
والثاني : إِلى الإِسرائيليّ ، وهو أصح .
فعلى الأول يكون المعنى : { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ } بتسخيرك وظلمك .
وعلى الثاني فيه قولان .
أحدهما : أن يكون الغَوِيُّ بمعنى المُغْوِي ، كالأليم والوجيع بمعنى المؤلِم والموجِع ، والمعنى : إِنَّكَ لمُضِلٌّ حين قتلتُ بالأمس رجلاً بسببك ، وتَدْعوني اليوم إِلى آخر .
والثاني : أن يكون الغوي بمعنى الغاوي؛ والمعنى : إِنك غاوٍ في قتالك من لا تُطيق دفع شرِّه عنك .
قوله تعالى : { فلمَّا أن أراد أنْ يَبْطِشَ بالذي هو عدوٌّ لهما } أي : بالقِبطي { قال يا موسى } هذا قول الإِسرائيليّ من غير خلاف علمناه بين المفسرين؛ قالوا : لمَّا رأى الاسرائيليُّ غضبَ موسى عليه ، حين قال [ له ] : { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِين } ورآه قد همَّ أن يَبْطِش بالفرعونيِّ ، ظنَّ أنَّه يريده فخاف على نفسه ف { قال يا موسى أتريد أن تقتُلَني } وكان قوم فرعون لم يعلموا مَنْ قاتِلُ القِبطي ، إِلاَّ أنَّهم أَتَواْ إِلى فرعون فقالوا : إِن بني إِسرائيل قتلوا رجلاً مِنَّا فخُذ لَنَا بحقِّنا ، فقال : ابغوني قاتله ومن يشهد عليه لآخذ لكم حقَّكم ، فبينا هم يطوفون ولا يدرون مَنْ القاتل ، وقعت هذه الخصومة بين الإِسرائيلي والقِبطي في اليوم الثاني ، فلمّا قال الإِسرائيليُّ لموسى : { أتريد أن تقتُلني كما قَتَلْتَ نفساً بالأمس } انطلق القبطي إِلى فرعون فأخبره أنَّ موسى هو الذي قتل الرجل ، فأمر بقتل موسى ، فعلم بذلك رجل من شيعة موسى فأتاه فأخبره ، فذلك قوله : { وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى } . فأمَّا الجبَّار ، فقال السدي : هو القتَّال ، وقد شرحناه في [ هود : 59 ] ، وأقصى المدينة : آخرها وأبعدها ، ويسعى : بمعنى يُسرع . قال ابن عباس : وهذا الرجل هو مؤمن آل فرعون ، وسيأتي الخلاف في اسمه في سورة [ المؤمن : 28 ] . فأمّا الملأ ، فهم الوجوه من الناس والأشراف .
وفي قوله : { يأتمرون بك } ثلاثة اقوال .
أحدها : يتشاورون فيك ليقتلوك ، قاله أبو عبيدة .
والثاني : يَهُمُّون بك ، قاله ابن قتيبة .
والثالث : يأمر بعضهم بعضاً بقتلك ، قاله الزجاج .

فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)

قوله تعالى : { فخرج منها } أي : من مصر { خائفاً } وقد مضى تفسيره [ القصص : 18 ] .
قوله تعالى : { نجِّني مِنَ القومِ الظالمين } يعني المشركين أهل مصر .
{ ولمَّا توجَّه تِلْقَاءَ مَدْيَنَ } قال ابن قتيبة : أي : تِجَاهَ مَدْيَن ونحوَها وأصله : اللِّقاء ، وزيدت فيه التاء ، قال الشاعر :
[ أمَّلْتُ خَيْرَكَ هل تأتي مَواعِدُهُ ] ... فاليومَ قَصَّرَ عن تِلْقَائك الأَملُ
أي : عن لقائك .
قال المفسرون : خرج خائفاً بغير زاد ولا ظَهْر ، وكان بين مصر ومَدْيَن مسيرة ثمانية أيام ، ولم يكن له بالطريق عِلْم ، ف { قال عسى ربِّي أن يَهْدِيَني سَواءَ السَّبيل } أي : قَصْدَه . قال ابن عباس : لم يكن له عِلْم بالطريق إِلاَّ حُسْن ظنِّه بربِّه . وقال السدي : بعث الله له مَلَكاً فدلَّه ، قالوا : ولم يكن له في طريقه طعام إِلا ورق الشجر ، فورد ماءَ مَدْيَن وخُضرةُ البقل تتراءى في بطنه من الهُزَال؛ والأُمَّة : الجماعة ، وهم الرعاة ، { يَسْقون } مواشيهم { وَوَجد مِنْ دونهم } أي من سوى الأُمَّة { امرأتين } وهما ابنتا شعيب؛ قال مقاتل : واسم الكبرى : صبورا والصغرى : عبرا { تذودان } قال ابن قتيبة : أي : تكُفَّان غَنَمهما ، فحذف الغنم اختصاراً . قال المفسرون : وإِنما فَعَلَتا ذلك ليَفْرُغ الناس وتخلوَ لهما البئر ، قال موسى : { ما خَطْبُكما } أي : ما شأنكما لا تسقيان؟! { قالتا لا نَسْقِي } وقرأ ابن مسعود ، وأبو الجوزاء ، وابن يعمر ، وابن السميفع : { لا نُسقي } برفع النون { حتى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ } وقرأ أبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو جعفر : «يَصْدُرَ» بفتح الياء وضم الدال ، أي حتى يرجع الرِّعاء . وقرأ الباقون { يُصْدِرَ } بضم الياء وكسرالدال ، أرادوا : حتى يَرُدَّ الرِّعاء غنمهم عن الماء ، والرِّعاء : جمع راعٍ ، كما يقال : صاحب وصِحاب . وقرأ عكرمة ، وسعيد بن جبير ، وابن يعمر ، وعاصم الجحدري : { الرُّعَاءُ } بضم الراء ، والمعنى : نحن امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال { وأبونا شيخ كبير } لا يَقْدِر أن يَسْقيَ ماشيته من الكِبَر؛ فلذلك احْتَجْنَا نحن إِلى أن نسقيَ ، وكان على تلك البئر صخرة عظيمة ، فاذا فرغ الرِّعاء مِنْ سَقيهم أعادوا الصخرة ، فتأتي المرأتان إِلى فضول حياض الرِّعاء فتَسْقيان غنمهما . { فسقى لهما } موسى .
وفي صفة ما صنع قولان .
أحدهما : أنه ذهب إلى بئر أُخرى عليها صخرة لا يقتلعها إِلا جماعة من الناس ، فاقتلعها وسقى لهما ، قاله عمر بن الخطاب ، وشُريح .
والثاني : أنه زاحم القوم على الماء ، وسقى لهما ، قاله ابن إِسحاق ، والمعنى : سقى غنمهما لأجلهما .
{ ثم تولَّى } أي : انصرف { إِلى الظِّلِّ } وهو ظِل شجرة { فقال ربِّ إِنِّي لِمَا } اللام بمعنى إِلى ، فتقديره : إِنِّي إِلى ما { أَنْزَلْتَ إِليَّ مِنْ خَيْرٍ فَقيرٌ } وأراد بالخير : الطعام . وحكى ابن جرير : أنه أسمع المرأتين هذا الكلام تعريضاً أن تُطْعِماه ، { فجاءته إِحداهما } المعنى : فلمّا شربتْ غنمَهُما رَجَعَتا إِلى أبيهما فأخبرتاه خبر موسى ، فبعث إِحداهما تدعو موسى .

وفيها قولان .
أحدهما : الصغرى .
والثاني : الكبرى . فجاءته { تمشي على استحياء } قد سترت وجهها بِكُمِّ دِرْعها .
وفي سبب استحيائها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه كان من صفتها الحياء ، فهي تمشي مشي مَن لم يعتد الخروج والدخول .
والثاني : لأنها دعته لتكافئَه ، وكان الأجمل عندها أن تدعوَه من غير مكافأة .
والثالث : لأنها رسول أبيها .
قوله تعالى : { ليَجْزِيَكَ أجر ما سَقَيْتَ لنا } قال المفسرون : لمَّا سمع موسى هذا القول كرهه وأراد أن لا يتبعها ، فلم يجد بُدّاً للجَهْد الذي به من اتِّباعها ، فتَبِعها ، فكانت الريح تضرب ثوبها فيصف بعض جسدها ، فناداها : يا أَمَة الله ، كوني خلفي ودُلِّيني الطريق ، { فلما جاءه } أي : جاء موسى شعيباً ، { وقَصَّ عليه القَصَصَ } أي : أخبره بأمره مِنْ حين وُلد والسبب الذي أخرجه من أرضه { قال لا تَخَفْ نجوتَ مِنَ القوم الظَّالِمِينَ } أي : لا سُلطان لفرعون بأرضنا ولسنا في مملكته . { قالت إِحداهما } وهي الكبرى : { يا أبت استأجِرْهُ } أي : اتَّخِذه أجيراً { إِنَّ خير من استأجرتَ القويُّ الأمينُ } أي : خير من استعملتَ على عملكَ مَنْ قَوِيَ على عملك وأدَّى الأمانة؛ وإِنَّما سمَّتْه قويّاً ، لرفعه الحجر عن رأس البئر ، وقيل : لأنه استقى بدلو لا يُقِلُّها إِلا العدد الكثير من الرجال ، وسمَّته أميناً ، لأنه امرها أن تمشيَ خلفه . وقال السدي : قال لها شعيب : قد رأيتِ قوَّته ، فما يُدريكِ بأمانته؟ فحدَّثَتْه . قال المفسرون : فرغب فيه شعيب ، فقال له : { إِنِّي أُريدُ أنْ أُنْكِحَكَ } أي : أُزوِّجِك { إِحدى ابنتيَّ هاتين على أن تأجُرَني ثمانيَ حِجَج } قال الفراء : تأجُرني وتأجِرني ، بضم الجيم وكسرها ، لغتان . قال الزجاج : والمعنى : تكون أجيراً لي ثماني سنين { فإن أتمتَ عَشْراً فمِنْ عِنْدِكَ } أي : فذلك تفضل منكَ ، وليس بواجب عليك .
قوله تعالى : { وما أُريد أن أشُقَّ عليكَ } أي : في العَشْر { ستجدني إِن شاء اللّهُ من الصالِحِينَ } أي : في حُسْن الصُّحبة والوفاء بما قلت . { قال } له موسى { ذلكَ بيني وبَيْنَكَ } أي : ذلك الذي وصفتَ وشرطتَ عليَّ فلكَ ، وما شرطتَ لي مِنْ تزويج إِحداهما فلي ، فالأمر كذلك بيننا . وتم الكلام هاهنا . ثم قال { أيَّما الأجَلَين } يعني : الثمانيَ والعشر . قال أبو عبيدة «ما» زائدة .
قوله تعالى : { قضيتُ } أي : أتممتُ { فلا عُدْوانَ عَلَيَّ } أي : لا سبيل عَلَيَّ؛ والمعنى : لا تعتد عليَّ بأن تُلْزِمني أكثر منه { واللّهُ على ما نقولُ وكيل } قال الزجاج : أي : واللّهُ شاهِدُنا على ما عقدَ بعضُنا على بعض . واختلف العلماء في هذا الرجل الذي استأجر موسى على أربعة أقوال .
أحدها : أنه شُعيب نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا أكثر [ أهل ] التفسير ، وفيه أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل عليه ، وبه قال وهب ، ومقاتل .
والثاني : أنه صاحب مَدْيَن ، واسمه يثرى ، قاله ابن عباس .
والثالث : رجل من قوم شعيب ، قاله الحسن .
والرابع : أنه يثرون ابن أخي شعيب ، رواه عمرو بن مرَّة عن أبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود ، وبه قال ابن السائب .
واختلفوا في التي تزوَّجها موسى من الابنتين على قولين .
أحدهما : الصغرى ، روي عن ابن عباس .
والثاني : الكبرى ، قاله مقاتل . وفي اسم التي تزوجها ثلاثة أقوال .
أحدها : صفوريا ، حكاه أبو عمران الجوني .
والثاني : صفورة ، قاله شعيب الجبائي .
والثالث : صبورا ، قاله مقاتل .

فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)

قوله تعالى : { فلمَّا قضى موسى الأجَلَ } روى ابن عباس رضي الله عنهما " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل : أيّ الأجلين قضى موسى ، قال : «أوفاهما وأطيبهما» " قال مجاهد : مكث بعد قضاء الأجل عندهم عشراً أُخَر . وقال وهب بن منبِّه : أقام عندهم بعد أن أدخل عليه امرأته سنين ، وقد سبق تفسير هذه الآية [ طه : 10 ] إِلى قوله : { أو جَذْوَةٍ } وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والكسائي : { جِذْوَةٍ } بكسر الجيم . وقرأ عاصم بفتحها . وقرأ حمزة ، وخلف ، والوليد عن ابن عامر بضمها ، وكلُّها لغات . قال ابن عباس : الجذوة : قطعة حطب فيها نار ، وقال أبو عبيدة : قطعة غليظة من الحطب ليس فيها لَهب ، وهي مثل الجِذْمَة من أصل الشجرة ، قال ابن مقبل :
باتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمِسْنَ لَهَا ... جَزْلَ الجِذَا غيرَ خَوَّارٍ وَلا دَعِرِ
والدَّعِر : الذي قد نَخِر ، ومنه رجل داعر ، أي : فاسد .
قوله تعالى : { نُودِيَ مِنْ شاطىء الواد } وهو : جانبه { الأيمنِ } وهو الذي عن يمين موسى { في البُقْعة } وهي القطعة من الأرض { المباركةِ } بتكليم الله موسى فيها { مِنَ الشجرة } أي : من ناحيتها . وفي تلك الشجرة قولان .
أحدهما : [ أنها ] شجرة العنَّاب ، قاله ابن عباس .
والثاني : عوسجة ، قاله قتادة ، وابن السائب ، ومقاتل . وما بعد هذا قد سبق بيانه [ النمل : 10 ] إِلى قوله : { إِنك من الآمنين } أي : من أن ينالك مكروه .
قوله تعالى : { أُسْلُك يدك } أي : أَدْخِلها ، { واضمُمْ إِليكَ جناحك } قد فسرنا الجناح في [ طه : 22 ] إِلا ان بعض المفسرين خالف بين تفسير اللفظين ، فشرحناه . وقال ابن زيد : جناحه : الذِّراع والعضُد والكفُّ . وقال الزجاج : الجناح هاهنا : العضُد ، ويقال لليد كلِّها : جناح . وحكى ابن الأنباري عن الفراء أنه قال : الجناح هاهنا : العصا . قال ابن الأنباري : الجناح للانسان مشبَّه بالجناح للطائر ، ففي حال تُشبَِّه العربُ رِجْلي الإِنسان بجناحَي الطائر ، فيقولون : قد مضى فلان طائراً في جناحيه ، يعنون ساعياً على قدميه ، وفي حال يجعلون العضد منه بمنزلة جناحي الطائر ، كقوله : { واضمُمْ يدك إِلى جناحك } ، وفي حال يجعلون العصا بمنزلة الجناح ، لأن الإِنسان يدفع بها عن نفسه كدفع الطائر عن نفسه بجناحه ، كقوله : { واضمُمْ إِليك جناحك مِنْ الرَّهْب } ، وإِنما يوقع الجناح على هذه الأشياء تشبيهاً واستعارة ، كما يقال : قد قُصَّ جناح الإِنسان ، وقد قُطعت يده ورجله : إِذا وقعت به جائحة أبطلت تصرُّفه؛ ويقول الرجل للرجل : أنت يدي ورِجْلي ، أي : أنت مَنْ به أُصِلُ إِلى محابِّي ، قال جرير :
سَأَشْكُرُ أَنْ رَدَدْتَ إِليَّ رِيشي ... وأَنْبَتَّ القَوادمَ في جَناحِي
وقالت امرأة من العرب ترثي زوجها الأغرّ :
يا عِصمتي في النَّائبات ويا ... رُكْني [ الأغرّ ] ويا يَدي اليمنى
لا صُنْتُ وجهاً كنتُ صَائنه ... أبداً ووجهك في الثرى يَبْلى

فأمَّا الرَّهَب ، فقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : { مِنَ الرَّهَب } بفتح الراء والهاء . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : { من الرُّهْب } بضم الراء وسكون الهاء . وقرأ حفص [ وأبان ] عن عاصم : { من الرَّهْب } بفتح الراء وسكون الهاء [ وهي قراءة ابن مسعود ، وابن السميفع ] . وقرأ أُبيّ بن كعب ، والحسن ، وقتادة ، بضم الراء والهاء . قال الزجاج : الرُّهْب ، والرَّهَب بمعنى واحد ، مثل الرُّشْد ، والرَّشَد . وقال أبو عبيدة : الرُّهْب والرَّهْبة بمعنى الخوف والفَرَق . وقال ابن الأنباري : الرَّهْبُ ، والرُّهُب ، والرَّهَب ، مثل الشَّغْل ، والشُّغْل ، والشَّغَل ، والبَخْل ، والبُخُل ، والبَخَل ، وتلك لغات ترجع إلى معنى الخوف والفَرَق .
وللمفسرين في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال .
أحدها : أنَّه لمَّا هرب من الحيَّة أمره الله أن يَضُم إِليه جناحه ليذهب عنه الفزع . قال ابن عباس : المعنى : اضمم يدك إِلى صدرك من الخوف ولا خوف عليك . وقال مجاهد : كلٌّ مَنْ فَزِع فضَمَّ جناحه إِليه ذهب عنه الفَزَع .
والثاني : أنَّه لمَّا هاله بياض يده وشعاعها ، أُمِر أن يُدْخِلها في جيبه ، فعادت إلى حالتها الأولى .
والثالث : أن معنى الكلام : سَكِّن رَوْعَك ، وثَبِّت جأْشَك . قال أبو علي : ليس يراد به الضَّمُّ بين الشيئين ، إِنما أُمِر بالعزم [ على ما أُمِر به ] والجدِّ فيه ، ومثله : اشدد حيازيمك للموت .
قوله تعالى : { فذانك } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : { فذانِّك } بالتشديد . وقرأ الباقون : { فذانك } بالتخفيف . قال الزجاج : التشديد تثنية «ذلك» ، والتخفيف تثنية «ذاك» ، فجعل اللام في «ذلك» بدلاً من تشديد النون في «ذانِّك» ، { بُرْهانان } أي : بيانان اثنان . قال المفسرون : «فذانك» يعني العصا واليد ، حُجَّتان من الله لموسى على صِدْقه ، { إِلى فرعون } أي : أرسلنا بهاتين الآيتين إِلى فرعون . وقد سبق تفسير ما بعد هذا [ الشعراء : 14 ] إِلى قوله : { هو أَفْصَحُ مِنِّي لساناً } أي : أحسنُ بياناً ، لأنَّ موسى كان في لسانه أثر الجمرة التي تناولها ، { فأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً } قرأ الأكثرون : { رِدْءاً } بسكون الدال وبعدها همزة . وقرأ أبو جعفر : { رِدا } بفتح الدال وألف بعدها من غير تنوين ولا همز؛ وقرأ نافع كذلك ، إِلا أنه نوَّن . وقال الزجاج : الرِّدْءُ : العون ، يقال : ردأتُه أردؤه رِدْءاً : إِذا أعنتَه .
قوله تعالى : { يُصَدِّقُني } قرأ عاصم ، وحمزة : { يُصَدِّقُني } بضم القاف . وقرأ الباقون بسكون القاف . قال الزجاج : من جزم { يُصَدِّقْني } فعلى جواب المسألة : أَرْسِلْهُ يُصَدِّقْني؛ ومن رفع ، فالمعنى : رِدْءاً مُصَدِّقاً لي . وأكثر المفسرين على أنه أشار بقوله : { يُصَدِّقُني } إِلى هارون؛ وقال مقاتل بن سليمان : لكي يُصَدِّقني فرعون .
قوله تعالى : { سنَشُدُّ عَضُدكَ بأخيك } قال الزجاج : المعنى : سنُعينك بأخيك ، ولفظ العَضُد على جهة المثل ، لأن اليد قِوامُها عَضُدُها ، وكل مُعين فهو عَضُد ، { ونَجْعَلُ لكما سُلطاناً } أي : حُجَّة بيِّنة . وقيل للزَّيت : السَّليط ، لانه يُستضاء به؛ والسُّلطان : أبْيَن الحُجج .
قوله تعالى : { فلا يَصِلُونَ إِليكما } أي : بقتل ولا أذى . وفي قوله { بآياتنا } ثلاثة أقوال .
أحدها : أن المعنى : تمتنعان منهم بآياتنا وحُججنا فلا يَصِلُون إِليكما .
والثاني : أنَّه متعلِّق بما بعده ، فالمعنى : بآياتنا أنتما ومَنْ اتبَّعكما الغالبون ، أي : تَغْلِبُون بآياتنا .
والثالث : أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً ، تقديره : ونجعل لكما سُلطاناً بآياتنا ، فلا يَصِلُون إِليكما .

فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)

قوله تعالى : { ما هذا إِلا سِحْرٌ مفْترىً } أي : ما هذا الذي جئتَنا به إِلا سِحْر افتريتَه مِنْ قِبَل نفسك ولم تُبعَث به { وما سَمِعْنا بهذا } الذي تدعونا إِليه { في آبائنا الأوَّلين } ، { وقال موسى ربِّي أعلم } وقرأ ابن كثير : { قال موسى } بلا واو ، وكذلك هي في مصاحفهم { بمن جاء بالهُدى } أي : هو أعلم بالمُحِقِّ منَّا ، { ومَنْ تكونُ له عاقبة الدَّار } وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، [ والمفضل ] : «يكون» بالياء ، والباقون بالتاء .

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)

قوله تعالى : { فأَوْقِد لي يا هامانُ على الطِّين } قال ابن قتيبة : المعنى : اصنع لي الآجُرّ { فاجْعَلْ لي صَرْحاً } أي : قصراً عالياً . وقال الزجاج : الصَّرْح : كلُّ بناءٍ متَّسع مرتفع . وجاء في التفسير أنَّه لمَّا أمر هامان وهو وزيره ببناء الصَّرْح ، جمع العمَّال والفَعَلة حتى اجتمع خمسون ألف بنَّاء سوى الأتباع ، فرفعوه وشيَّدوه حتى ارتفع ارتفاعاً لم يبلغه بنيان أحد قَطٌّ ، فلمَّا تمَّ ارتقى فرعون فوقه ، وأمر بنُشَّابَةٍ فرمى بها نحو السماء ، فرُدَّت وهي متلطِّخة بالدَّم ، فقال : قد قتلتُ إِله موسى ، فبعث الله تعالى جبريلَ فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع ، فوقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلتْ ألف ألف رجل ، ووقعت قطعة أخرى في البحر ، وأخرى في المغرب .
قوله تعالى : { لَعَلِّي أطَّلِعُ إِلى إِله موسى } أي : أصعد إِليه وأُشْرِفُ عليه { وإِنِّي لأظُنُّه } يعني موسى { من الكاذبين } في ادِّعائه إِلهاً غيري . وقال ابن جرير : المعنى : أظنُّ موسى كاذباً في ادِّعائه أنَّ في السماء ربّاً أرسله . { واستكبر هو وجنودُه في الأرض } يعني أرض مصر { بغير الحق } أي : بالباطل والظُّلم { وظنُّوا أنَّهم إِلينا لا يُرْجَعون } بالبعث للجزاء . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : { يُرْجَعون } برفع الياء؛ وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي : بفتحها .
قوله تعالى : { وجعلناهم } أي : في الدنيا { أئمَّةً } أي : قادة في الكفر يأتمُّ بهم العتاة ، { يَدْعُونَ إِلى النَّار } لأن من أطاعهم دخلها؛ { ويُنْصَرون } بمعنى : يُمْنَعون من العذاب . وما بعد هذا مفسر في [ هود : 60 ، 99 ] .
قوله تعالى : { من المقبوحين } أي : من المُبعَدين الملعونين؛ قال أبو زيد : يقال : قَبَحَ اللّهُ فلاناً ، أي : أبعده من كل خير . وقال ابن جريج : معنى الآية : وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة لعنةً أخرى ، ثم استقبل الكلام ، فقال : هم من المقبوحين .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)

قوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنا القرونَ الأولى } يعني قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم { بصائرَ للناس } أي : ليبصروا به ويهتدوا .
قوله تعالى : { وما كنتَ بجانب الغربيِّ } قال الزجاج : أي : وما كنتَ بجانب الجبل الغربيّ .
قوله تعالى : { إِذ قَضَيْنا إِلى موسى الأمرَ } أي : أحْكَمْنا الأمر معه بارساله إِلى فرعون وقومه ، { وما كنتَ مِن الشاهدين } لذلك الأمر؛ وفي هذا بيان لصحة نبوَّة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ، لأنهم يعلمون أنه لم يقرأ الكتب ، ولم يشاهِد ما جرى ، فلولا أنَّه أُوحي إِليه ذلك ، ما علم .
قوله تعالى : { ولكنَّا أنشأْنا قروناً } أي : خَلَقْنا أُمماً مِن بعد موسى { فتَطَاوَلَ عليهم العُمُرُ } أي : طال إِمهالُهم فنسوا عهد الله وتركوا أمره؛ وهذا يدلُّ على أنه قد عُهد إِلى موسى وقومه عهود في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وأُمروا بالإِيمان به ، فلمَّا طال إِمهالُهم ، أعرضوا عن مراعاة العهود ، { وما كنتَ ثاوياً } أي : مقيماً { في أهل مَدْيَنَ } فتَعْلَم خبر موسى وشعيب وابنتيه فتتلو ذلك على أهل مكة ، { ولكنَّا كُنَّا مرسِلِين } أرسلناكَ إِلى أهل مكة ، وأخبرناك خبر المتقدِّمِين ، ولولا ذلك ما علمتَه . { وما كنتَ بجانب الطُّور } أي : بناحية الجبل الذي كُلّم عليه موسى { إِذ نادَيْنا } موسى وكلَّمناه ، هذا قول الأكثرين؛ وقال أبو هريرة : كان هذا النداء : يا أُمَّة محمد ، أعطيتُكم قبل أن تسألوني . وأستجيب لكم قبل أن تدعوني .
قوله تعالى : { ولكن رحمةً مِنْ ربِّك } قال الزجاج : المعنى : لم تُشاهِد قصص الأنبياء ، ولكنَّا أوحينا إِليك وقصصناها عليك ، رحمةً من ربِّك .
{ ولولا أن تصيبهم مصيبة } جواب «لولا» محذوف ، تقديره : لولا أنهم يحتجُّون بترك الإِرسال إِليهم لعاجلناهم بالعقوبة . وقيل : لولا ذلك لم نَحْتَجْ إِلى إِرسال الرسل ومؤاثرة الاحتجاج .

فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)

قوله تعالى : { فلمَّا جاءهم } يعني أهل مكة { الحقُّ مِنْ عندنا } وهو محمد عليه السلام والقرآن { قالوا لولا } أي : هلاَّ { أُوتيَ } محمد من الآيات { مِثْلَ ما أُوتيَ موسى } كالعصا واليد . قال المفسرون : أمرت اليهودُ قريشاً أن تسأل محمداً مثل ما أُوتيَ موسى ، فقال الله تعالى : { أو لم يَكْفُروا بما أُوتيَ موسى } أي : فقد كفروا بآيات موسى ، و { قالوا } في المشار إِليهم قولان .
أحدهما : اليهود .
والثاني : قريش . { سحران } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : [ ساحران } . { تََظَاهَرا } أي : تعاونا . وروى العباس الانصاري عن أبي عمرو : { تَظَّاهَرا } بتشديد الظاء .
وفيمن عَنَواْ ثلاثة أقوال .
أحدها : موسى ومحمد ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير؛ فعلى هذا هو من قول مشركي العرب .
والثاني : موسى وهارون ، قاله مجاهد؛ فعلى هذا هو من قول اليهود لهما في ابتداء الرسالة .
والثالث : محمد وعيسى ، قاله قتادة؛ فعلى هذا هو من قول اليهود الذين لم يؤمنوا بنبيِّنا . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : { سِحْران } وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : التوراة والفرقان ، قاله ابن عباس ، والسدي .
والثاني : الإِنجيل والقرآن ، قاله قتادة .
والثالث : الثوراة والإِنجيل ، قاله أبو مجلز ، وإِسماعيل ابن أبي خالد . ومعنى الكلام : كلُّ سِحْر منهما يقوِّي الآخر ، فنُسب التظاهر إِلى السِحْرين توسُّعاً في الكلام ، { وقالوا إِنَّا بكلٍّ كافرون } يعنون ما تقدَّم ذِكْره على اختلاف الأقوال ، فقال الله لنبيِّه { قُلْ } لكفَّار مكة { فأْتُوا بكتابٍ مِنْ عِنْدِ الله هو أهدى منهما } أي : من التوراة والقرآن ، { إِن كنتم صادِقين } أنَّهما ساحران . { فان لم يستجيبوا لك } أي : فان لم يأتوا بمثل التوراة والقرآن ، { فاعلم أنَّما يَتَّبعون أهواءهم } أي : أنَّ ما ركبوه من الكفر لم يحملهم عليه حُجَّة ، وإِنما آثروا فيه الهوى { ومَنْ أضَلُّ } أي : ولا أحد أضل ، { مِمَّن اتَّبع هواه بغير هُدىً } أي : بغير رشاد ولا بيان جاء { من الله } . { ولقد وصَّلْنَا لهم القَولَ } وقرأ الحسن ، وأبو المتوكل ، وابن يعمر : { وصَلْنَا } بتخفيف الصاد .
وفي المشار إِليهم قولان .
أحدهما : أنهم قريش ، قاله الأكثرون ، منهم مجاهد .
والثاني : اليهود ، قاله رفاعة القرظي .
والمعنى : أنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضاً ، ويُخْبِر عن الأمم الخالية كيف عُذِّبِوا لعلَّهم يتَّعظون .
{ الذين آتيناهم الكتاب } وفيهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم مؤمنو أهل الكتاب ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد .
والثاني : مسلمو أهل الإِنجيل ، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن أربعين من أصحاب النجاشي قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدوا معه أُحُداً ، فنزلت فيهم هذه الآية .
والثالث : مسلمو اليهود ، كعبد الله بن سلام وغيره ، قاله السدي .
قوله تعالى : { مِنْ قَبْله } أي : من قبل القرآن ، { هُمْ به } في هاء الكناية قولان .
أحدهما : أنها ترجع إِلى محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن ذِكْره كان مكتوباً [ عندهم ] في كتبهم ، فآمنوا به .

والثاني : إِلى القرآن .
قوله تعالى : { وإِذا يُتْلى عليهم } يعني القرآن { قالوا آمَنَّا به } ، { إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْله } أي : من قبل نزول القرآن { مُسْلِمِين } أي : مُخْلِصِين لله مصدِّقين بمحمد ، وذلك لأن ذِكْره كان في كتبهم فآمنوا به { أولئك يؤتَوْن أجرهم مَرَّتين } . في المشار إِليهم قولان .
أحدهما : أنَّهم مؤمنو أهل الكتاب ، وهذا قول الجمهور ، وهو الظاهر ، وفيما صبروا عليه قولان .
أحدهما : أنهم صبروا على الكتاب الأوَّل ، وصبروا على اتِّباعم محمداً ، قاله قتادة ، وابن زيد .
والثاني : أنهم صبروا على الإِيمان بمحمد قبل أن يُبْعَث ، ثم على اتِّباعه حين بُعث ، قاله الضحاك .
والقول الثاني : انهم قوم من المشركين أسلموا ، فكان قومهم يؤذونهم ، فصبروا على الأذى ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { ويدرؤون بالحسنة السَّيئة } فيه أقوال قد شرحناها في [ الرعد : 22 ] .
قوله تعالى : { وإِذا سَمِعُوا اللَّغو } فيه ثلاث أقوال .
أحدها : الاذى والسَّبّ ، قاله مجاهد .
والثاني : الشِّرك ، قاله الضحاك .
والثالث : أنهم قوم من اليهود آمنوا ، فكانوا يسمعون ما غيَّراليهود من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيَكرهون ذلك ويُعْرِضون عنه ، قاله ابن زيد . وهل هذا منسوخ ، أم لا؟ فيه قولان .
وفي قوله : { وقالوا لنا أعمالُنا ولكم أعمالكم } قولان .
أحدهما : لنا دِيننا ولكم دِينكم .
والثاني : لنا حِلْمُنا ولكم سَفَهُكم .
{ سلام عليكم } قال الزجاج : لم يريدوا التحيَّة ، وإِنَّما أرادوا : بيننا وبينكم المُتَارَكة ، وهذا قبل أن يؤمَر المسلمون بالقتال ، وذكر المفسرون أنَّ هذا منسوخ بآية السيف .
وفي قوله : { لا نبتغي الجاهلين } ثلاثة أقوال .
أحدها : لا نبتغي دِين الجاهلين .
والثاني : لا نطلُب مجاورتهم .
والثالث : لا نريد أن نكون جُهَّالاً .

إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)

قوله تعالى : { إِنَّكَ لا تَهْدي مَنْ أحببتَ } قد ذكرنا سبب نزولها عند قوله : { ما كان للنَّبيِّ والذين آمنوا أن يَسْتَغْفِروا للمُشْرِكين } [ التوبة : 113 ] ، وقد روى مسلم فيما انفرد به عن البخاري من حديث أبي هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمِّه «قل : لا إِله إِلا الله أشهد لك بها يوم القيامة» ، فقال : لولا أن تُعيِّرني نساءُ قريش ، يقلن : إِنَّما حمله على ذلك الجزع ، لاقررتُ بها عينك ، فأنزل الله عز وجل : { إِنَّك لا تهدي مَنْ أحببت } " قال الزجاج : أجمع المفسرون أنها نزلت في أبي طالب . وفي قوله : { مَنْ أحببتَ } قولان .
أحدهما : من أحببتَ هدايته .
والثاني : من أحببتَه لقرابته .
{ ولكنَّ الله يهدي من يشاء } أي : يُرْشِد لِدِينه من يشاء { وهو أعلمُ بالمهتدين } أي : من قدَّر له الهُدى .
قوله تعالى : { وقالوا إِنْ نَتَّبِعِ الهُدى معكَ } قال ابن عباس في رواية العوفي : هم ناس من قريش قالوا ذلك . وقال في رواية ابن أبي مُلَيْكة : إِنَّ الحارث بن عامر بن نوفل قال ذلك . وذكر مقاتل أن الحارث بن عامر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنَّا لَنعلم أنَّ الذي تقول حق ، ولكن يمنعنا ان نتَّبع [ الهُدى ] معك مخافة أن تتخطَّفنا العرب من أرضنا ، يعنون مكة . ومعنى الاية : إِن اتَّبعناك على دينك خِفْنا العرب لمخالفتنا إِياها . والتَّخَطُّف : الانتزاع بسرعة؛ فردَّ اللّهُ عليهم قولهم ، فقال : { أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لهم حَرَماً } أي : أَوَلَمْ نُسْكِنْهم حَرَماً ونجعله مكاناً لهم ، ومعنى { آمِناً } : ذو أمن يأمن فيه الناس ، وذلك أن العرب كان يُغِير بعضُها على بعض ، وأهل مكة آمنون في الحرم من القتل والسَّبي والغارة ، أي : فكيف يخافون إِذا أسلموا وهم في حرم آمن؟! { يُجْبي } [ قرأ نافع : { تُجْبي } بالتاء ] ، أي : تُجْمَع إِليه وتُحمل من [ كل ] النواحي الثمرات ، { رزْقاً مِنْ لَدُنَّا } أي : مِنْ عندنا { ولكنَّ أكثرهم } يعني أهل مكة { لا يَعْلَمون } أنَّ الله هو الذي فعل بهم ذلك فيشكرونه . ومعنى الآية : إِذا كنتم آمنين في حرمي تأكلون رزقي وتعبُدون غيري ، فكيف تخافون إِذا عَبَدتموتي وآمنتم بي؟! ثم خوَّفهم عذاب الأمم الخالية فقال : { وكم أَهْلَكْنَا من قرية بَطِرَتْ مَعِيشتَها } قال الزجاج : { معيشتَها } منصوبة باسقاط «في» ، والمعنى : بَطِرَتْ في معيشتها ، والبطر : الطُّغيان في النِّعمة . قال عطاء : عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام .
قوله تعالى : { فتلك مساكنُهم لَمْ تُسْكَن مِنْ بَعدهم إِلاَّ قليلاً } قال ابن عباس : لم يسكُنْها إِلاَّ المسافرون ومارُّ الطريق يوماً أو ساعة ، والمعنى : لم تُسْكَن من بعدهم إِلا سُكُوناً قليلاً { وكُنَّا نحن الوارثين } أي : لم يَخْلُفهم أحد بعد هلاكهم في منازلهم ، فبقيتْ خراباً غير مسكونة .

وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)

{ وما كان ربُّك مُهْلِكَ القُرى } يعني القرى الكافر أهلها { حتَّى يَبْعَثَ في أُمِّها } أي : في أعظمها { رسولاً } ، وإِنما خصَّ الأعظم ببعثة الرسول ، لأن الرسول إِنَّما يُبعث إِلى الأشراف ، وأشراف القوم ملوكهم ، وإِنما يسكُنون المواضع التي هي أُمُّ ما حولها . وقال قتادة : أُم القرى : مكة ، والرسول : محمد .
قوله تعالى : { يَتْلو عليهم آياتنا } قال مقاتل : يخبرهم الرسول أنَّ العذاب نازل بهم إِن لم يؤمنوا .
قوله تعالى : { وما كُنَّا مُهْلِكي القرى إِلاَّ وأهلها ظالمون } أي : بظلمهم أُهلكهم . وظلمهم : شركهم . { وما أُوتيتم من شيء } أي : ما أُعطيتم من مال وخير { فمتاعُ الحياة الدُّنيا } تتمتَّعون به أيام حياتكم ثم يفنى وينقضي ، { وما عند الله } من الثواب { خير وأبقى } أفضل وأَدْوَم لأهله { أفلا تَعْقِلون } أَنَّ الباقي أفضل مِنَ الفاني؟!
قوله تعالى : { أفَمَنْ وَعَدْناه وَعْداً حَسَناً } اختُلف فيمن نزلت على أربعة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي جهل .
والثاني : في عليّ وحمزة عليهما السلام ، وأبي جهل . والقولان مرويان عن مجاهد .
والثالث : في المؤمن والكافر ، قاله قتادة .
والرابع : في عمَّار والوليد بن المغيرة ، قاله السدي . وفي الوعد الحسن قولان .
أحدهما : الجنة .
والثاني : النصر .
قوله تعالى : { فهو لاقِيه } أي : مُصيبه ومُدْرِكه { كَمَنْ مَتَّعْناه متاع الحياة الدنيا } أي : كمن هو ممتَّع بشيء يفنى ويزول عن قريب { ثُمَّ هو يومَ القيامة من المُحْضَرِين } فيه قولان .
أحدهما : من المُحْضَرِين في عذاب الله ، قاله قتادة .
والثاني : من المُحْضَرِين للجزاء ، حكاه الماوردي .

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)

قوله تعالى : { ويوم يناديهم } أي : ينادي اللّهُ تعالى المشركين يومَ القيامة { فيقول أين شركائيَ } هذا على حكاية قولهم؛ والمعنى : أين شركائي في قولكم؟! { قال الذين حَقَّ عليهم القول } أي : وجب عليهم العذاب ، وهم رؤساء الضلالة ، وفيهم قولان .
أحدهما : أنهم رؤوس المشركين . والثاني : أنهم الشياطين { ربَّنا هؤلاء الذين أَغْوَينا } يعنون الأتباع { أَغْوَيناهم كما غَوَيْنا } أي : أضللناهم كما ضَلَلْنا { تبرَّأْنا إِليكَ } أي : تبرَّأنا منهم إِليك؛ والمعنى : أنهم يتبرَّأُ بعضهم من بعض ويصيرون أعداءاً . { وقيل } لكُفَّار بني آدم { ادعوا شركاءكم } أي : استغيثوا بآلهتكم لتُخَلِّصكم من العذاب { فدعَوْهم فلم يستجيبوا لهم } أي : فلم يجيبوهم إِلى نصرهم { ورأَوُا العذاب لو أنَّهم كانوا يَهْتَدون } قال الزجّاج : جواب «لو» محذوف؛ والمعنى : لو [ أنهم ] كانوا يهتدون لَمَا اتبَّعوهم ولَمَا رأوُا العذاب .
قوله تعالى : { ويوم يناديهم } أي : ينادي اللّهُ الكفار ويسألهم { فيقولُ ماذا أجبتم المرسَلِين } . { فَعَمِيَت عليهم الأنباءُ } وقرأ أبو رزين العقبلي ، وقتادة ، وأبو العالية ، وأبو المتوكل ، وعاصم الجحدري : { فَعُمِّيَتْ } برفع العين وتشديد الميم . قال المفسرون : خفيت عليهم الحُجج ، وسمِّيت أنباءً ، لأنها أخبار يُخبرَ بها . قال ابن قتيبة : والمعنى : عَمُوا عنها من شدة الهول فلم يُجيبوا ، و { الأنباءُ } هاهنا : الحُجج .
قوله تعالى : { فهم لا يتساءلون } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : لا يسأل بعضهم بعضاً عن الحُجَّة ، قاله الضحاك .
والثاني : أن المعنى : سكتوا فلا يتساءلون في تلك الساعة ، قاله الفراء .
والثالث : لا يسأل بعضهم بعضاً أن يحمل عنه شيئاً من ذنوبه ، حكاه الماوردي .
{ فأمَّا مَنْ تاب } من الشِّرك { وآمَنَ } أي : صدَّق بتوحيد الله { وعَمِل صالحاً } أدَّى الفرائض { فعسى أن يكون من المُفْلِحِين } و { عسى } من الله واجب .

وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)

قوله تعالى : { وربُّكَ يَخْلُقُ ما يشاء ويختار } روى العوفي عن ابن عباس في قوله : { وربُّكَ يَخْلُقُ ما يشاء ويختار } قال : كانوا يجعلون لآلهتهم خير أموالهم في الجاهلية . وقال مقاتل : نزلت في الوليد ابن المغيرة حين قال : { لولا نُزِّلَ هذا القُرآنُ على رَجُلٍ مِنَ القريتين عظيمٍ } [ الزخرف : 31 ] ؛ والمعنى : أنَّه لا تُبْعَث الرسل باختيارهم . قال الزجاج : والوقف الجيِّد على قوله : «ويختار» وتكون «ما» نفياً؛ والمعنى : ليس لهم أن يختاروا على الله؛ ويجوز أن تكون «ما» بمعنى «الذي» ، فيكون المعنى : ويختار الذي لهم فيه الخِيَرة ممَّا يتعبَّدهم به ويدعوهم إِليه؛ قال الفراء : والعرب تقول لِمَا تختاره : أعطِني الخِيْرَة والخِيَرة والخَيْرة ، قال ثعلب : كلها لغات .
قوله تعالى : { ما تُكِنُّ صُدورُهم } أي : ما تُخفي من الكفر والعداوة { وما يُعْلِنون } بألسنتهم . قوله تعالى : { له الحَمْد في الأُولى والآخرة } [ أي ] : يَحْمَدُه أولياؤُه في الدنيا ويَحْمَدونه في الجنة { وله الحُكْم } وهو الفصل بين الخلائق . والسَّرمد : الدائم .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)

قوله تعالى : { أفلا تَسْمَعون } أي : سماع فَهْم وقَبول ، فتستدلُّوا بذلك على وحدانية الله تعالى؟! ومعنى { تَسْكُنون فيه } : تستريحون من الحركة والنَّصَب { أفلا تُبْصِرون } ما أنتم عليه من الخطأ والضلالة؟! ثم أخبر أن اللَّيل والنهار رحمة منه . وقوله { لتَسْكُنوا فيه } يعني في الليل { ولِتَبْتَغوا مِنْ فَضْله } أي : لتلتمسوا من رزقه بالمعاش في النهار { ولعلَّكم تَشْكُرون } الذي أنْعَم عليكم بهما .
قوله تعالى : { ونَزَعْنا مِنْ كلِّ أُمَّة شهيداً } أي : أخرْجنا من كل أُمَّة رسولها الذي يشهد عليها بالتبليغ { فقُلنا هاتوا بُرهانكم } أي : حُجَّتكم على ما كنتم تعبُدون من دوني { فعَلِموا أنَّ الحق لله } أي : عَلِموا أنَّه لا إِله إِلا هو { وضَلَّ عنهم } أي : بَطَل في الآخرة { ما كانوا يَفْتَرون } في الدنيا من الشركاء .

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)

قوله تعالى : { إِنَّ قارونَ كان من قوم موسى } أي : من عشيرته؛ وفي نسبه إِلى موسى ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه كان ابن عمه ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال عبد الله بن الحارث ، وإِبراهيم ، وابن جريج .
والثاني : ابن خالته ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثالث : أنه كان عمَّ موسى ، قاله ابن إِسحاق .
قال الزجاج : «قارون» اسم أعجمي لا ينصرف ، ولو كان «فاعولاً» من العربية من «قرنتُ الشيء» لانصرف .
قوله تعالى : { فبغى عليهم } فيه خمسة أقوال .
أحدها : أنه جعل لِبَغِيٍّ جُعْلاً على أن تقذف موسى بنفسها ، ففعلت ، فاستحلفها موسى على ما قالت ، فأخبرته بقصتها ، فكان هذا بغيه ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه بغى بالكفر بالله تعالى ، قاله الضحاك .
والثالث : بالكِبْر ، قاله قتادة .
والرابع : أنه زاد في طول ثيابه شِبراً ، قاله عطاء الخراساني ، وشهر بن حوشب .
والخامس : أنه كان يخدم فرعون فتعدَّى على بني إِسرائيل وظلمهم ، حكاه الماوردي . وفي المراد بمفاتحه قولان .
أحدهما : أنها مفاتيح الخزائن التي تفتح بها الأبواب ، قاله مجاهد ، وقتادة . وروى الأعمش عن خيثمة قال : كانت مفاتيح قارون وِقْر ستين بغلاً ، وكانت من جلود ، كل مفتاح مثل الأصبع .
والثاني : أنها خزائنه ، قاله السدي ، وأبو صالح ، والضحاك . قال الزجاج : وهذا الأشبه أن تكون مفاتحه خزائن ماله؛ وإِلى نحو هذا ذهب ابن قتيبة . قال أبو صالح : كانت خزائنه تُحمل على أربعين بغلاً .
قوله تعالى : { لَتَنُوءُ بالعُصبة } أي : تُثقلهم وتُميلهم . ومعنى الكلام : لَتُنِيءُ العصبةَ ، فلمَّا دخلت الباءُ في «العُصْبة» انفتحت التاء ، كما تقول : هذا يَذْهَبُ بالأبصارِ ، وهذا يُذْهِبُ الأبصارَ ، وهذا اختيار الفراء ، وابن قتيبة ، والزجَّاج في آخرين . وقال بعضهم : هذا من المقلوب ، وتقديره : ما إِن العُصْبة لَتَنُوء بمفاتحه ، كما يقال : إِنها لَتَنُوء بها عجيزُتها ، أي : هي تَنْوء بعجيزتها ، وأنشدوا :
فَدَيْتُ بِنَفْسِهِ نَفِسْي ومَالي ... ومَا آلُوكَ إِلاَّ مَا أُطِيقُ
أي : فديت بنفسي وبمالي نفسه ، وهذا اختيار أبي عبيدة ، والأخفش . وقد بيَّنَّا معنى العُصْبة في سورة [ يوسف : 8 ] ، و [ في ] المراد بها [ هاهنا ] ستة أقوال .
أحدها : أربعون رجلاً ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني : ما بين الثلاثة إِلى العشرة ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثالث : خمسة عشر ، قاله مجاهد .
والرابع : فوق العشرة إِلى الأربعين ، قاله قتادة .
والخامس : سبعون رجلاً ، قاله أبو صالح .
والسادس : ما بين الخمسة عشر إِلى الأربعين ، حكاه الزجاج . قوله تعالى { إِذ قال له قومه } في القائل له قولان .
أحدهما : أنهم المؤمنون من قومه ، قاله السدي .
والثاني : أنه قول موسى له ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { لا تَفْرَحْ } قال ابن قتيبة : المعنى : لا تأشَرْ ، ولا تَبطَرْ ، قال الشاعر :
ولستُ بِمِفْراحٍ إِذا الدَّهرُ سَرَّني ... ولا جازعٍ من صَرْفهِ المُتَحَوِّلِ

أي : لستُ بأَشِرٍ ، فأمَّا السرورُ ، فليس بمكروه . { إِنَّ الله لا يُحِبُّ الفَرِحِين } وقرأ أبو رجاء ، وأبو حيوة ، وعاصم الجحدري ، وابن أبي عبلة : { الفَارِحِين } [ بألف ] .
قوله تعالى : { وابْتَغِ فيما آتاكَ اللّهُ } أي : اطلب فيما أعطاكَ اللّهُ من الأموال . وقرأ أبو المتوكل ، وابن السميفع : { واتَّبِعْ } بتشديد التاء وكسر الباء بعدها وعين ساكنة غير معجمة { الدارَ الآخرةَ } وهي : الجنة؛ وذلك يكون بانفاقه في رضى الله تعالى وشُكر المُنْعِم به { ولا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِن الدُّنيا } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن يعمل في الدنيا للآخرة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والجمهور .
والثاني : أن يُقدِّم الفضل ويُمسك ما يُغْنيه ، قاله الحسن .
والثالث : أن يستغنيَ بالحلال عن الحرام ، قاله قتادة .
وفي معنى { وأَحْسِنْ كما أحسن اللّهُ إِليك } ثلاثة أقوال حكاها الماوردي .
أحدها : أَعْطِ فضل مالك كما زادك على قدر حاجتك .
والثاني : أَحْسِن فيما افترض عليك كما أحسن في إِنعامه إِليك .
والثالث : أحسن في طلب الحلال كما أحسن إِليك في الإِحلال .
قوله تعالى : { ولا تَبْغِ الفساد في الأرض } فتعمل فيها بالمعاصي .

قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)

قوله تعالى : { إِنَّما أُوتيتُه } يعني المال { على عِلْمٍ عِندي } فيه خمسة أقوال .
أحدها : على عِلْم عندي بصنعة الذهب ، رواه أبو صالح عن ابن عباس؛ قال الزجاج : وهذا لا أصل له ، لأن الكيمياء باطل لا حقيقة له .
والثاني : برضى الله عني ، قاله ابن زيد .
والثالث : على خيرٍ عَلِمَهُ الله عندي ، قاله مقاتل .
والرابع : إِنما أُعطيتُه لفضل علمي ، قاله الفراء . قال الزجاج : ادَّعى أنه أُعطيَ المال لعلمه بالتوراة .
والخامس : على علم عندي بوجوه المكاسب ، حكاه الماوردي . قوله تعالى { أَوَلَمْ يَعْلَمْ } يعني قارون { أنَّ الله قد أهلك } بالعذاب { مِنْ قَبْله مِنَ القُرون } في الدُّنيا حين كذَّبوا رُسُلَهم { مَنْ هو أشدُّ منه قُوَّةً وأكثرُ جَمْعاً } للأموال .
وفي قوله : { ولا يُسْأَلُ عن ذُنوبهم المُجْرِمون } ثلاثة أقوال .
أحدها : لا يُسْأَلون ليُعْلَم ذلك مِنْ قِبَلهم وإِن سئلوا سؤال توبيخ ، قاله الحسن .
والثاني : أن الملائكة تعرفهم بسيماهم فلا تسألهم عن ذنوبهم ، قاله مجاهد .
والثالث : يدخلون النار بغير حساب ، قاله قتادة . وقال السدي : يعذَّبون ولا يُسْأَلون عن ذُنوبهم .

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)

قوله تعالى : { فخرج على قومه في زينته } قال الحسن : في ثيابٍ حمر وصفر؛ وقال عكرمة : في ثياب مُعَصْفَرة . وقال وهب بن منبِّه : خرج على بغلة شهباء عليها سرج أحمر من أُرْجُوان ، ومعه أربعة آلاف مقاتل ، وثلاثمائة وصيفة عليهن الحلي والزِّينة على بغال بيض . قال الزجاج : الأُرْجُوان في اللغة : صِبغ أحمر .
قوله تعالى : { لَذُو حَظٍّ } أي : لَذُو نصيب وافر من الدنيا .
[ وقوله ] : { وقال الذين أُوتوا العِلْم } قال ابن عباس : يعني الأحبار من بني إِسرائيل . وقال مقاتل : الذين أوتوا العلم بما وَعَدَ اللّهُ في الآخرة قالوا للذين تَمنَّوا ما أُوتيَ [ قارون ] { وَيْلكم ثوابُ الله } أي : ما عنده من الجزاء { خيرٌ لِمَنْ آمَنَ } مِمَّا أُعطيَ قارونُ . قوله تعالى : { ولا يُلَقَّاها } قال أبو عبيدة : لا يوفَّق لها ويُرْزَقُها . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وابن أبي عبلة : { ولا يَلْقَاها } بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف . وفي المشار إِليها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها الأعمال الصالحة ، قاله مقاتل .
والثاني : أنها الجنة ، والمعنى : لا يُعطاها في الآخرة إِلاَّ الصابرون على أمر الله ، قاله ابن السائب .
والثالث : أنها الكلمة التي قالوها ، وهي قولهم : { ثوابُ الله خيرٌ } ، قاله الفراء .

فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)

قوله تعالى : { فَخَسَفْنَا به وبداره الأرض } لمَّا أمر قارونُ البَغِيَّ بقذف موسى على ما سبق شرحه [ القصص : 76 ] غضب موسى فدعا عليه ، فأوحى الله تعالى إِليه . إِنِّي قد أمرت الأرض أن تُطيعَك فَمُرْها؛ فقال موسى : يا أرض خُذيه ، فأخذتْه حتى غيَّبَتْ سريره ، فلمَّا رأى ذلك ناشده بالرَّحم ، فقال : خُذيه ، فأخذته حتى غيَّبتْ قدميه؛ فما زال يقول : خُذيه ، حتى غيَّبتْه ، فأوحى الله تعالى إِليه : يا موسى ما أفظَّك ، وعِزَّتي وجلالي لو استغاث بي لأغثته . قال ابن عباس : فخُسفتْ به الأرضُ إِلى الأرض السفلى . وقال سَمُرَة بنُ جنْدَب : إِنَّه يُخسف به كلَّ يوم قامة ، فتبلغ به الأرض السفلى يوم القيامة . وقال مقاتل : فلمَّا هلك قارون قال بنو إِسرائيل : إِنَّما أهلكه موسى ليأخذ ماله وداره ، فخَسَفَ اللّهُ بداره وماله بعده بثلاثة أيام .
قوله تعالى : { يَنْصُرونه مِنْ دون الله } أي : يمنعونه من الله { وما كان من المُنْتَصِرِين } أي : من الممتنعين ممَّا نزل به . ثم أعلَمنا أن المتمنِّين مكانه ندموا على ذلك التمنِّي بالآية التي تلي هذه .
وقوله تعالى : { لَخُسف بنا } الأكثرون على ضم الخاء وكسر السين . وقرأ يعقوب ، والوليد عن ابن عامر ، وحفص ، وأبان عن عاصم : بفتح الخاء والسين .
فأما قوله : { وَيْكَ } فقال ابن عباس : معناه : ألم تر . وكذلك قال أبو عبيده ، والكسائي . وقال الفراء : «وَيْكَ أن» في كلام العرب تقرير ، كقول الرجل : أما ترى إِلى صنع الله وإِحسانه ، أنشدني بعضهم :
وَيْكَ أَنْ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحْ ... بَبْ ومَنْ يفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ
وقال ابن الأنباري : في قوله : { وَيْكَ أنَّه } ثلاثة أوجه .
إِن شئت قلت : «وَيْكَ» حرف ، و «أنَّه» حرف؛ والمعنى : ألم تر أنَّه ، والدليل على هذا قول الشاعر :
سالَتَاني الطَّلاق أنْ رَأَتَاني ... قَلَّ مالي قَدْ جِئْتُمَاني بِنُكْرِ
وَيْكَ أَنْ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحْ ... بَبْ ومَن يفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْش ضُرِّ
والثاني : أن يكون «وَيْكَ» حرفاً ، و «أَنَّه» حرفاً ، والمعنى : ويلك اعلمْ أنَّه ، فحذفت اللام ، كما قالوا : قم لا أباك ، يريدون : لا أبالك ، وأنشدوا :
أَبِالْمَوْتِ الذي لا بُدَّ أنِّي ... مُلاقٍ لا أَبَاكِ تُخَوِّفِيني
أراد : لا أَبَالَكِ ، فحذف اللام .
والثالث : أن يكون «وَيْ» حرفاً ، و «كأنَّه» حرفاً ، فيكون معنى «وَيْ» التعجُّب ، كما تقول وَيْ لِمَ فعلت كذا وكذا ، ويكون معنى «كأنَّه» : أظُنُّه وأعلمُه ، كما تقول في الكلام : كأنَّك بالفَرَج قد أَقْبَل؛ فمعناه : أظُنُّ الفَرَجُ مقْبِلاً ، وإِنما وصلوا الياء بالكاف في قوله : «وَيْكأنَّه» لأنَّ الكلام بهما كَثُر ، كما جعلوا { يا ابْنَ أُمَّ } في المصحف حرفاً واحداً ، وهما حرفان [ طه : 94 ] . وكان جماعة منهم يعقوب ، يقفون على «وَيْكَ» في الحرفين ، ويبتدؤون «أنّ» و«أنَّه» في الموضعين . وذكر الزجَّاج عن الخليل أنه قال : «وَيْ» مفصولة من «كأنَّ» ، وذلك أنَّ القوم تندَّموا فقالوا : «وَيْ» متندِّمين على ما سلف منهم ، وكلُّ مَنْ نَدِم فأظهر ندامته قال : وَيْ . وحكى ابن قتيبة عن بعض العلماء أنَّه قال : معنى «ويكأنَّ» : رحمةً لك ، بلغة حِمْيَر .
قوله تعالى : { لولا أنْ مَنَّ اللّهُ علينا } أي : بالرحمة والمعافاة والإِيمان { لَخَسَف بِنَا } .

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)

قوله تعالى : { تِلْكَ الدَّارُ الآخرةُ } يعني الجنة { نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُوّاً في الأرض } وفيه خمسة أقوال .
أحدها : أنَّه البَغْي ، قاله سعيد بن جبير .
والثاني : الشَّرَفُ والعِزّ ، قاله الحسن .
والثالث : الظُّلْم ، قاله الضحاك .
والرابع : الشِّرك ، قاله يحيى بن سلام .
والخامس : الاستكبار عن الإِيمان ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { ولا فساداً } فيه قولان .
أحدهما : العمل بالمعاصي ، قاله عكرمة .
والثاني : الدُّعاء إِلى غير عبادة الله ، قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { والعاقبةُ للمتَّقِين } أي : العاقبة المحمودة لهم .
قوله تعالى : { مَنْ جاء بالحسنة } قد فسرناه في سورة [ النمل : 89 ] .
قوله تعالى : { فلا يُجزى الذين عَمِلوا السَّيِّئات } يريد الذين أشركوا { إِلاَّ ما كانوا يَعْمَلون } أي : إِلاَّ جزاء عملهم من الشِّرك ، وجزاؤه النَّار .

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

قوله تعالى : { إِنَّ الذي فَرَضَ عليكَ القُرآنَ } قال مقاتل : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار ليلاً ، فمضى من وجهه إِلى المدينة فسار في غير الطريق مخافة الطَّلب؛ فلمَّا أَمِن رجع إِلى الطريق فنزل الجُحْفَةَ بين مكة والمدينة ، فعرف الطريق إِلى مكة ، فاشتاق إِليها ، وذكر مولده ، فأتاه جبريل فقال : أتشتاق إِلى بلدك ومولدك؟ قال : نعم؛ قال : فان الله تعالى يقول : { إِنَّ الذي فَرَضَ عليك القرآن لرادُّك إِلى مَعَادٍ } ، فنزلت هذه الآية بالجُحْفة .
وفي معنى { فَرَضَ عليكَ } ثلاثة أقوال .
أحدها : فرض عليك العمل بالقرآن ، قاله عطاء بن أبي رباح ، وابن قتيبة .
والثاني : أعطاك القرآن ، قاله مجاهد .
والثالث : أنزل عليك القرآن ، قاله مقاتل ، والفراء ، وأبو عبيدة .
وفي قوله : { لرادُّكَ إِلى مَعادٍ } أربعة أقوال .
أحدها : إِلى مكة ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد في رواية ، والضحاك . قال ابن قتيبة : مَعَادُ الرَّجُل : بلدُه ، لأنه يتصرَّف [ في البلاد ويَضْرِب في الأرض ] ثم يعود إِلى بلده .
والثاني : إِلى معادك من الجنة ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والزهري . فإن اعتُرض على هذا فقيل : الرَّدُّ يقتضي أنه قد كان فيما رُدَّ إِليه؛ فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها : أنَّه لمَّا كان أبوه آدم في الجنة ثم أُخرج ، كان كأنَّ ولده أُخرج منها ، فاذا دخلها فكأنه أُعيد .
والثاني : أنَّه دخلها ليلة المعراج ، فاذا دخلها يوم القيامة كان ردّاً إِليها ، ذكرهما ابن جرير .
والثالث : أن العرب تقول : رجع الأمر إِلى كذا ، وإِن لم يكن له كَوْن فيه قطّ ، وأنشدوا :
[ وما المَرْءُ إِلاَّ كالشِّهَابِ وضَوْئِهِ ] ... يَحُورُ رَمَاداً بَعْدَ إِذ هُوَ سَاطِعُ
وقد شرحنا هذا في قوله { وإِلى الله تُرْجَعُ الأمور } [ البقرة : 210 ] .
والثالث : لَرَادُّك إِلى الموت ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال أبو سعيد الخدري .
والرابع : لَرَادُّك إِلى القيامة بالبعث ، قاله الحسن ، والزهري ، ومجاهد في رواية ، والزجاج .
ثم ابتدأ كلاماً يَرُدُّ به على الكفار حين نسبوا النبي صلى الله عليه وسلم إِلى الضَّلال ، فقال : { قُلْ رَبِّي أعلمُ مَنْ جاء بالهُدى } ؛ والمعنى : قد علم أنِّي جئت بالهُدى ، وأنَّكم في ضلال مبين ، ثم ذَكَّرهُ نِعَمَه فقال : { وما كُنْتَ ترجو أن يُلْقَى إِليكَ الكتابُ } أي : أن تكون نبيّاً وأن يوحى إِليكَ القرآنُ { إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ ربِّكَ } قال الفراء : هذا استثناء منقطع ، والمعنى : إِلاَّ أنَّ ربَّكَ رَحِمَكَ فأنزله عليك { فلا تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين } أي : عَوْناً لهم على دينهم ، وذلك أنَّهم دَعوه إِلى دين آبائه فأُمر بالاحتراز منهم؛ والخطاب بهذا وأمثاله له ، والمراد أهل دينه لئلاَّ يُظاهِروا الكفَّار ولا يوافقوهم .
قوله تعالى : { كُلُّ شيء هالكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } فيه قولان .
أحدهما : إِلا ما أُرِيدَ به وجهُه ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال الثوري . والثاني : إِلاَّ هو ، قاله الضحاك ، وأبو عبيدة .
قوله تعالى : { لَهُ الحُكْم } أي : الفصل بين الخلائق في الآخرة دون غيره { وإِليه تُرْجَعُونَ } في الآخرة .

الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)

قوله تعالى : { الم أحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكوا } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنَّه لمَّا أُمر بالهجرة ، كتب المسلمون إِلى إِخوانهم بمكة أنَّه لا يُقْبَل منكم إِسلامكم حتى تُهاجِروا ، فخرجوا نحو المدينة فأدركهم المشركون فردُّوهم ، فأنزل الله عز وجل من أول هذه السورة عشر آيات ، فكتبوا إِليهم يخبرونهم بما نزل فيهم ، فقالوا : نَخْرُج ، فان اتَّبَعَنَا أحدٌ قاتلناه ، فخرجوا فاتَّبعهم المشركون فقاتلوهم ، فمنهم مَنْ قُتل ، ومنهم مَنْ نجا ، فأنزل الله عز وجل فيهم { ثُمَّ إِنَّ ربِّكَ للذين هاجروا مِنْ بَعْد ما فُتِنوا } [ النحل : 110 ] ، هذا قول الحسن ، والشعبي .
والثاني : أنَّها نزلت في عمَّار بن ياسر إِذ كان يعذَّب في الله عز وجل ، قاله عبد الله بن عُبيد بن عُمير .
والثالث : أنَّها نزلت في مِهْجَع مولى عمر بن الخطاب حين قُتل ببدر ، فجزع عليه أبواه وامرأته ، فأنزل الله تعالى في أبويه وامرأته هذه الآية .
قوله تعالى : { أحَسِبَ النَّاسُ } قال ابن عباس : يريد بالناس : الذين آمنوا بمكة ، كعيَّاش بن أبي ربيعة ، وعمَّار بن ياسر ، وسَلَمة بن هشام ، وغيرهم .
قال الزجاج : لفظ الآية استخبار ، ومعناه معنى التقرير والتوبيخ؛ والمعنى : أحَسِب النَّاس أن يُتْرَكوا بأن يقولوا : آمَنَّا ، ولأَن يقولوا : آمَنَّا ، أي : أَحَسِبوا أن يُقْنَع منهم بأن يقولوا : إِنَّا مؤمنون ، فقط ، ولا يُمتَحنون بما يبيِّن حقيقة إِيمانهم ، { وهم لا يُفْتَنون } أي لا يُختَبرون بما يُعْلَم به صِدق إِيمانهم من كذبه .
وللمفسرين فيه قولان .
أحدهما : لا يُفْتَنون في أنفسهم بالقتل والتعذيب ، قاله مجاهد .
والثاني : لا يُبْتَلَوْن بالأوامر والنواهي .
قوله تعالى : { ولقد فَتَنَّا الذِين مِنْ قَبْلِهم } أي : ابتليناهم واختبرناهم ، { فَلَيَعْلَمَنَّ اللّهُ } فيه ثلاثة أقوال .
أحدهما : فلَيُرِيَنَّ اللّهُ الذين صَدَقوا في إِيمانهم عند البلاء إِذا صبروا لقضائه ، ولَيُرِيَنَّ الكاذبين في إِيمانهم إِذا شكُّوا عند البلاء ، قاله مقاتل .
والثاني : فلَيُمَيِّزَنَّ ، لأنَّه [ قد ] عَلِم ذلك مِنْ قَبْل ، قاله أبو عبيدة .
والثالث : فلَيُظْهِرَنَّ ذلك حتى يوجد معلوماً ، حكاه الثعلبي .
وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وجعفر بن محمد : { فلَيُعْلِمَنَّ اللّهُ } { ولَيُعْلِمَنَّ الكاذبين } { ولَيُعْلِمَنَّ اللّهُ الذين آمنوا ولَيُعْلِمَنَّ المنافقين } [ العنكبوت : 11 ] بضم الياء وكسر اللام .
قوله تعالى : { أَمْ حَسِبَ } أي : أَيَحْسَب { الذين يَعْمَلون السَّيِّئات } يعني الشِّرك { أن يَسْبِقونا } أي : يفُوتونا ويُعْجِزونا { ساء ما يحكُمون } أي : بئس ما حكموا لأنفسهم حين ظنُّوا ذلك . قال ابن عباس : عنى بهم الوليد بن المغيرة ، وأبا جهل ، والعاص بن هشام ، وغيرهم .

مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)

قوله تعالى : { من كان يرجو لقاء الله } قد شرحناه في آخر [ الكهف ] { فانَّ أَجَل الله لآتٍ } يعني الأجل المضروب للبعث؛ والمعنى : فليعمل لذلك اليوم { وهو السميع } لما يقول { العليم } بما يعمل . { ومَنْ جاهد فانَّما يُجاهِد لنفسه } أي : إِن ثوابه إِليه يرجع .
قوله تعالى : { لَنُكَفِرَنَّ عنهم سيِّآتهم } أي : لَنُبْطِلَنَّها حتى تصير بمنزلة ما لم يُعمل { ولَنَجْزِيَنَّهم أحسنَ الذين كانوا يَعْمَلون } أي : بأحسن أعمالهم ، وهو الطاعة ، ولا نجزيهم بمساوئ أعمالهم .

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)

قوله تعالى : { ووصَّينا الإِنسان بوالديه حُسْناً } وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وأبو مجلز : وعاصم الجحدري { إِحساناً } بألف . وقرأ ابن مسعود ، وأبو رجاء : { حَسَناً } بفتح الحاء والسين . روى أبو عثمان النَّهْدي عن سعد ابن أبي وقَّاص ، قال : فيَّ أُنزلت هذه الآية ، كنت رجلاً بَرّاً بأُمِّي ، فلمَّا أسلمتُ قالت : يا سعد! ما هذا الدِّين الذي قد أحدثتَ ، لَتَدَعنَّ دِينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموتَ فتُعيَّر بي فيقال : يا قاتلَ أُمِّه ، قلت : لا تفعلي يا أُمَّاه ، إِنِّي لا أَدَعُ ديني هذا لشيء ، قال : فمكثتْ يوماً وليلة لا تأكل ، فأصبحتْ قد جُهِدَتْ ، ثم مكثتْ يوماً آخر وليلة لا تأكل ، فلمَّا رأيتُ ذلك قلتُ : تعلمين والله يا أُمَّاه لو كانت لكِ مائة نَفْس فخرجتْ نَفْساً نَفْساً ما تركت ديني هذا لشيء ، فكُلي ، وإِن شئتِ لا تأكلي ، فلمَّا رأت ذلك أكلتْ ، فأُنزلت هذه الآية . وقيل : إِنَّها نزلت في عيَّاش بن أبي ربيعة ، وقد جرى له مع أُمِّه نحو هذا . وذكر بعض المفسرين أنَّ هذه الآية ، والتي في [ لقمان : 15 ] وفي [ الأحقاف : 15 ] نزلن في قصة سعد . قال الزجاج : مَنْ قرأ : { حُسْناً } فمعناه : ووصَّينا الإِنسان أن يفعل بوالديه ما يَحْسُن ، ومن قرأ { إِحساناً } فمعناه : ووصينا الإِنسان أن يُحْسِن إِلى والديه ، وكان { حُسْناً } أعمَّ في البِرّ .
{ وإِن جاهداك } قال أبو عبيدة : مجاز هذا الكلام مجاز المختصر الذي فيه ضمير ، والمعنى : وقلنا له : وإِن جاهداك .
قوله تعالى : { لِتُشْرِك بي } معناه : لتشرك بي شريكاً لا تَعْلَمه لي وليس لأحد بذلك عِلْم ، { فلا تُطِعْمها } .
قوله تعالى : { لَنُدْخِلَنَّهم في الصالحين } أي : في زُمرة الصَّالحين في الجنة . وقال مقاتل : «في» بمعنى «مع» .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)

قوله تعالى : { ومِنَ النَّاس مَنْ يقولُ آمَنَّا بالله } اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال .
أحدها : أنَّها نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون إٍلى بدر فارتدُّوا ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثاني : نزلت في قوم كانوا يؤمنون بألسنتهم ، فاذا أصابهم بلاءٌ من الله أو مصيبة في أنفسهم وأموالهم افتتنوا ، قاله مجاهد .
والثالث : نزلت في ناس من المنافقين بمكة ، كانوا يؤمنون ، فاذا أُوذوا وأصابهم بلاءٌ من المشركين رجعوا إِلى الشِّرك ، قاله الضحاك .
والرابع : أنها نزلت في عيَّاش بن أبي ربيعة ، كان أسلم ، فخاف على نفسه من أهله وقومه ، فخرج من مكة هارباً إِلى المدينة ، وذلك قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة ، فجزعت أمُّه فقالت لأخويه أبي جهل والحارث ابني هشام وهما أخواه لأمِّه : والله لا آوي بيتاً ولا آكل طعاماً ولا أشرب شراباً حتى تأتياني به ، فخرجا في طلبه فظفرا به ، فلم يزالا به حتى تابعهما وجاءا به إِليها ، فقيَّدتْه ، وقالت : والله لا أحُلُّك من وَثاقك حتى تكفُر بمحمد ، ثم أقبلت تَجْلِده بالسِّياط وتعذِّبه حتى كفر بمحمد عليه السلام جَزَعاً من الضَّرْب ، فنزلت [ فيه ] هذه الآية ، ثم هاجر بَعْدُ وحَسُنَ إِسلامه ، هذا قول ابن السائب ، ومقاتل . وفي رواية عن مقاتل أنَّهما جَلَداه في الطريق مائتي جلدة ، فتبرَّأ من دين محمد ، فنزلت هذه الآية .
قوله تعالى : { فاِذا أُوذِيَ في الله } أي : ناله أذى أو عذاب بسبب إِيمانه { جَعَلَ فِتْنَةَ الناس } أي : ما يصيبه من عذابهم في الدنيا { كعذاب الله } في الآخرة؛ وإِنما ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذى في الله تعالى لِمَا يرجو من ثوابه { ولئن جاء نصرٌ من ربِّك } يعني دولة للمؤمنين { لَيَقُولُنَّ } يعني المنافقين للمؤمنين { إِنَّا كنَّا معكم } على دينكم . فكذَّبهم الله عز وجل وقال : { أوَليس اللّهُ بأعلَم بما في صدور العالَمِين } من الإِيمان والنفاق . وقد فسرنا الآية التي تلي هذه في أول السورة .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)

قوله تعالى : { اتَّبِعوا سبيلنا } يعنون : ديننا . قال مجاهد : هذا قول كفار قريش لمن آمن من أهل مكة ، قالوا لهم : لا نُبعَث نحن ولا أنتم فاتَّبِعونا ، فان كان عليكم شيء فهو علينا .
قوله تعالى : { ولْنَحملْ خطاياكم } قال الزجاج : هو أمر في تأويل الشرط والجزاء ، يعني : إِن اتَّبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم . وقال الأخفش : كأنّهم أمروا أنفسهم بذلك . وقرأ الحسن : { ولِنَحمل } بكسر اللام . قال ابن قتيبة : الواو زائدة والمعنى : لنحمل خطاياكم .
قوله تعالى : { إِنَّهم لكاذبون } أي : فيما ضمنوا من حمل خطاياهم .
قوله تعالى : { ولَيَحمِلُنَّ أثقالهم } أي : أوزار أنفسهم { وأثقالاً مع أثقالهم } أي : أوزاراً مع أوزارهم ، وهي أوزار الذين أضلُّوهم ، وهذا كقوله : { لِيَحْمِلوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يُضِلُّونهم بغير عِلْم } [ النحل : 25 ] { ولَيُسْألُنَّ يوم القيامة } سؤال توبيخ وتقريع { عمَّا كانوا يَفْتَرون } من الكذب على الله عز وجل؛ وقال مقاتل : عن قولهم : نحن الكفلاء بكل تَبِعة تصيبكم من الله عز وجل .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)

قوله تعالى : { ولقد أرسَلْنا نوحاً إِلى قومه } في هذه القصة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حيث أُعلم أن الأنبياء قد ابتُلوا قبلَه ، وفيها وعيد شديد لمن أقام على الشّرك ، فانهم وإِن أُمهلوا ، فقد أُمهل قوم نوح أكثر ثم أُخذوا .
قوله تعالى : { فلَبِثَ فيهم ألفَ سنةٍ إِلاَّ خمسينَ عاماً } اختلفوا في عُمُر نوح على خمسة أقوال .
أحدها : بُعث بعد أربعين سنة ، وعاش في قومه ألف سنة إِلا خمسين عاماً يدعوهم ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة ، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس .
والثاني : أنَّه لبث فيهم ألف سنة إِلا خمسين عاماً ، وعاش بعد ذلك سبعين عاماً ، فكان مبلغ عُمُره ألف سنة وعشرين سنة ، قاله كعب الأحبار .
والثالث : أنهُ بعث وهو ابن خمسين وثلاثمائة ، فلبث فيهم ألف سنة إِلا خمسين عاماً ، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة ، قاله عون بن أبي شداد .
والرابع : أنَّه لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة ، [ ودعاهم ثلاثمائة سنة ] ولبث بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة ، قاله قتادة . وقال وهب ابن منبِّه : بُعث لخمسين سنة .
والخامس : أنَّ هذه الآية بيَّنت مقدار عُمُره كلِّه ، حكاه الماوردي .
فان قيل : ما فائدة قوله { إِلاَّ خمسينَ عاماً } ، فهلاَّ قال : تسعمائة وخمسين!
فالجواب : أنَّ المراد به تكثير العدد ، وذِكْر الألف أفخم في اللفظ ، وأعظم للعدد .
قال الزجاج : تأويل الاستثناء في كلام العرب : التوكيد ، تقول : جاءني إِخوتك إِلا زيداً ، فتؤكِّد أَنَّ الجماعة جاؤوا ، وتنقص زيداً . واستثناء نصف الشيء قبيح جداً لا تتكلَّم به العرب ، وإِنما تتكلَّم بالاستثناء كما تتكلم بالنقصان ، تقول : عندي درهم ينقُص قيراطاً ، فلو قلت : ينقُص نصفه ، كان الأَولى أن تقول : عندي نصف درهم ، ولم يأت الاستثناء في كلام العرب إِلاَّ قليل من كثير .
قوله تعالى : { فأخذَهم الطُّوفان } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : الموت ، روت عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { فأخذَهم الطُّوفان } قال : «الموت» .
والثاني : المطر ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة . قال ابن قتيبة : هو المطر الشديد .
والثالث : الغرق ، قاله الضحاك .
قال الزجاج : الطُّوفان من كل شيء : ما كان كثيراً مطيفاً بالجماعة كلِّها ، فالغرق الذي يشتمل على المدن الكثيرة : طوفان ، وكذلك القتل الذريع ، والموت الجارف : طوفان .
قوله تعالى : { وهم ظالمون } قال ابن عباس : كافرون .
قوله تعالى : { وجعلناها } يعني السفينة ، قال قتادة : أبقاها الله آية للناس بأعلى الجُودِيّ . قال أبو سليمان الدمشقي : وجائز أن يكون أراد : الفعلة التي فعلها بهم من الغرق { آية } ، أي عِبرة { للعالَمين } [ بعدهم ] .

وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)

قوله تعالى : { وإِبراهيمَ } قال الزجّاج : هو معطوف على نوح ، والمعنى : أرسلنا إِبراهيم .
قوله تعالى : { ذلكم } يعني عبادة الله { خير لكم } من عبادة الأوثان ، { إِن كنتم تَعْلَمون } ما هو خير لكم مما هو شر لكم؛ والمعنى : ولكنكم لا تعلمون . { إِنَّما تعبُدون مِنْ دون الله أوثاناً } قال الفراء : «انَّما» في هذا الموضع حرف واحد ، وليست على معنى «الذي» ، وقوله : { وتخلُقون إِفكاً } مردود على «إِنما» ، كقولك : إِنما تفعلون كذا ، وإِنما تفعلون كذا وقال مقاتل : الأوثان : الأصنام . قال ابن قتيبة : واحدها وثن ، وهو ما كان من حجارة أو جِصّ .
قوله تعالى : { وتخلُقون إِفكاً } وقرأ ابن السميفع ، وأبو المتوكل : { وتختلقون } بزيادة تاءٍ . ثم فيه قولان .
أحدهما : تختلقون كذباً في زعمكم أنَّها آلهة .
والثاني : تصنعون الأصنام؛ والمعنى : تعبدون أصناماً أنتم تصنعونها . ثم بيَّن عجزهم بقوله : { لا يملكون لكم رزقاً } أي : لا يقدرون على أن يرزقوكم { فابتغوا عند الله الرِّزق } أي : فاطلبوا من الله ، فانَّه القادر على ذلك .
قوله تعالى : { وإِن تكذِّبوا } هذا تهديد لقريش { فقد كذَّب أُمَمٌ مِنْ قبلكم } والمعنى : فأُهلكوا .

أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)

{ أَوَلَمْ يَرَوا } [ قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر { يَرَواْ } ] بالياء وقرأ حمزة ، والكسائي : بالتاء . [ وعن عاصم كالقراءتين ] . وعنى بالكلام كفار مكة { كيف يُبْدِىء اللّهُ الخَلْق } أي : كيف يخلُقهم ابتداءً من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مُضغة إِلى أن يتم الخلق { ثُمَّ يُعيده } أي : ثم هو يُعيده في الآخرة عند البعث . وقال أبو عبيدة : مجازه : أولم يَرَوا كيف استأنف الله الخلق الأوَّل ثم يعيده . وفيه لغتان : أبدأ وأعاد ، وكان مُبدئاً ومُعيداً ، وبدأ وعاد ، وكان بادئاً وعائداً .
قوله تعالى : { إِنَّ ذلك على الله يسير } يعني الخَلْق الأول والخَلْق الثاني .
قوله تعالى : { قُلْ سِيروا في الأرض } أي : انظروا إِلى المخلوقات التي في الأرض ، وابحثوا عنها هل تجدون لها خالقاً غير الله ، فاذا علموا أنه لا خالق لهم سواه ، لزمتهم الحجة في الإِعادة ، وهو قوله : { ثُمَّ اللّهُ يُنشىء النشَّأة الآخرة } أي : ثم الله ينشئهم عند البعث نشأة أخرى . وأكثر القراء قرؤوا : { النَّشْأة } بتسكين الشين وترك المد . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : { النَّشاءَة } بالمد .
قوله تعالى : { يعذِّب من يشاء } فيه قولان .
أحدهما : أنَّه في الآخرة بعد إِنشائهم .
والثاني : أنَّه في الدنيا . ثم فيه خمسة أقوال حكاها الماوردي .
أحدها : يعذِّب من يشاء بالحرص ، ويرحم من يشاء بالقناعة .
والثاني : يعذِّب بسوء الخُلُق ويرحم بحُسْن الخُلُق .
والثالث : يعذِّب بمتابعة البدعة ، ويرحم بملازمة السُّنَّة .
والرابع : يعذِّب بالانقطاع إِلى الدنيا ، ويرحم بالإِعراض عنها .
والخامس : يعذِّب من يشاء ببغض الناس له ، ويرحم من يشاء بحبِّ الناس له .
قوله تعالى : { وإِليه تُقْلَبون } أي : تُرَدُّون { وما أنتم بمُعْجِزِين في الأرض } فيه قولان حكاهما الزجاج .
أحدهما : وما أنتم بمعجزين في الأرض ، ولا أهلُ السماء بمعجزين في السماء .
والثاني : وما أنتم بمعجزين في الأرض ، ولا لو كنتم في السماء وقال قطرب : هذا كقولك : ما يفوتني فلان لا هاهنا ولا بالبصرة ، أي : ولا بالبصرة لو صار إِليها . قال مقاتل : والخطاب لكفار مكة؛ والمعنى : لا تَسبقون الله حتى يجزيَكم بأعمالكم السيِّئة ، { وما لكم مِنْ دون الله مِنْ وليٍّ } أي : قريب ينفعكم { ولا نصيرٍ } يمنعكم من الله .
قوله تعالى : { والذين كفروا بآيات الله ولقائه } أي : بالقرآن والبعث { أولئك يَئِسوا مِنْ رحمتي } في الرحمة قولان .
أحدهما : الجنة ، قاله مقاتل .
والثاني : العفو والمغفرة ، قاله أبو سليمان . قال ابن جرير : وذلك في الآخرة عند رؤية العذاب .

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)

ثم عاد الكلام إِلى قصة إِبراهيم ، وهو قوله : { فما كان جوابَ قومه } أي : حين دعاهم إِلى الله ونهاهم عن الأصنام { إِلاَّ أن قالوا اقتُلوه أو حرِّقوه } وهذا بيان لسفه أحلامهم حين قابلوا احتجاجه عليهم بهذا .
قوله تعالى : { فأنجاه الله } المعنى : فحرَّقوه فأنجاه الله { مِنَ النَّار } .
قوله تعالى : { إِنَّ في ذلك } يشير إِلى إِنجائه إِبراهيم .
قوله تعالى : { وقال } يعني إِبراهيم { إِنَّما اتَّخذتم مِنْ دون الله أوثاناً مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : { مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ } بالرفع والإِضافة . قال الزجاج : { مَوَدَّةُ } مرفوعة باضمار «هي» ، كأنه قال : تلك مَوَدةُ بينِكم ، أي : أُلفتكم واجتماعكم على الأصنام مَوَدَّةُ بينِكم؛ والمعنى : إِنَّما اتخذتم هذه الأوثان لتتوادُّوا بها في الحياة الدنيا . ويجوز أن تكون «ما» بمعنى الذي .
وقرأ ابن عباس ، وسعيد بن المسيّب ، وعكرمة ، وابن أبي عبلة : { مَوَدَّةٌ } بالرفع { بَيْنَكُمْ } بالنصب .
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : { مَوَدَّةً بَيْنَكم } قال أبو علي : المعنى : اتَّخذتم الأصنام للمودَّة ، و { بينَكم } نصب على الظرف ، والعامل فيه المودَّة .
وقرأ حمزة ، وحفص عن عاصم : { مَوَدَّةَ بَيْنِكُم } بنصب { مَوَدَّةَ } مع الإِضافة ، وهذا على الاتساع في جعل الظرف اسماً لِما أُضيف إِليه .
قال المفسرون : معنى الكلام : إِنَّما اتَّخذتموها لِتَتَّصِلَ المودَّة بينكم واللِّقاء والاجتماع عندها ، وأنتم تعلمون أنها لا تضر ولا تنفع ، { ثُمَّ يومَ القيامة يكفُر بعضُكم ببعض } أي : يتبرَّأ القادة من الأتباع { ويَلعنُ بعضُكم بعضاً } يلعن الأتباعُ القادةَ لأنَّهم زيَّنوا لهم الكفر .

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)

قوله تعالى : { فآمن له لوط } أي : صدَّق بابراهيم { وقال } يعني إِبراهيم { إِنِّي مُهَاجِر إِلى ربِّي } فيه قولان .
أحدهما : إِلى رضى ربِّي .
والثاني : إِلى حيث أمرني ربِّي ، فهاجر من سواد العراق إِلى الشام وهجر قومه المشركين . { ووهَبْنا له إِسحاق } بعد إِسماعيل { ويعقوبَ } من إِسحاق { وجَعَلْنا في ذُرِّيَّته النُّبُوَّة والكتاب } وذلك أن الله تعالى لم يبعث نبيّاً بعد إِبراهيم إِلاَّ مِنْ صُلبه { وآتيناه أجره في الدُّنيا } فيه أربعة أقوال .
أحدها : الذِّكْر الحسن ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثاني : الثناء الحسن والولد الصالح ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : العافية والعمل الحسن والثناء ، فلست تَلْقى أحداً من اهل الملَل إِلاَّ يتولاَّه ، قاله قتادة .
والرابع : أنه أُري مكانَه من الجنة ، قاله السدي .
قوله تعالى : { وإِنَّه في الآخرة لَمِنَ الصَّالحين } قد سبق بيانه [ البقرة : 130 ] . قال ابن جرير : له هناك جزاء الصَّالحين غير منقوص من الآخرة بما أُعطي في الدنيا من الأجر . وما بعد هذا قد سبق بيانه [ الأعراف : 80 ] إِلى قوله : { وتقطعون السبيل } وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم كانوا يعترضون مَنْ مَرَّ بهم لعملهم الخبيث ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنهم كانوا إِذا جلسوا في مجالسهم يرمون ابن السبيل بالحجارة ، فيقطعون سبيل المسافر ، قاله مقاتل .
والثالث : أنه قطع النسل للعدول عن النساء إِلى الرجال ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { وتأتون في ناديكم المُنْكَر } قال ابن قتيبة : النادي : المجلس ، والمُنْكَر يجمع الفواحش من القول والفعل .
وللمفسرين في المراد بهذا المُنْكَر أربعة أقوال .
أحدها : أنهم كانوا يَحْذِفون أهل الطريق ويسخرون منهم ، فذلك المنكر ، روته أم هانىء بنت أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال عكرمة ، والسدي : كانوا يَحْذِفون كلَّ مَنْ مَرَّ بهم .
والثاني : لَفُّ القميص على اليد ، وجرُّ الإِزار ، وحَلُّ الأزرارِ ، والحذف والرمي بالبندق ، ولعب الحمام ، والصَّفير ، في خصال أُخَر رواها ميمون بن مهران عن ابن عباس .
والثالث : أنه الضُّراط ، رواه عروة عن عائشة ، وكذلك فسَّره القاسم ابن محمد .
والرابع : أنه إِتيان الرجال في مجالسهم ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد .
وهذه الآية [ تدل ] على أنه لا ينبغي للمجتمعين أن يتعاشروا إِلا على ما يقرِّب من الله عز وجل ، ولا ينبغي ان يجتمعوا على الهزء واللعب .
قوله تعالى : { ربِّ انْصُرْني } أي : بتصديق قولي في العذاب .

وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)

قوله تعالى : { إِنَّا مُهْلِكو أهلِ هذه القرية } يعنون قرية لوط .
قوله تعالى : { لَنُنَجِّيَنَّه } قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم : { لَنُنَجِّيَنَّه } و { إِنَّا مُنَجُّوكَ } بتشديد الحرفين ، وخفَّفهما حمزة ، والكسائي . وروى أبوبكر عن عاصم : { لَنُنَجِّيَنَّه } مشددة ، و { إِنَّا مُنْجُوكَ } مخففة ساكنة النون . وقد سبق شرح ما أخللنا بذكره [ هود : 77 ] إِلى قوله : { إِنَّا مُنْزِلُونَ على أهل هذه القرية رِجْزاً } وهو الحَصْب والخسف .
قوله تعالى : { ولقد تَرَكْنا منها } في المكني عنها قولان .
أحدهما : أنها الفَعْلة التي فعل بهم؛ فعلى هذا في الآية ثلاثة أقوال . أحدها : أنها الحجارة التي أدركت أوائل هذه الأُمَّة ، قاله قتادة . والثاني : الماء الاسود على وجه الأرض ، قاله مجاهد . والثالث : الخبر عما صُنع بهم .
والثاني : أنها القرية؛ فعلى هذا في المراد بالآية ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها آثار منازلهم الخَرِبة ، قاله ابن عباس .
والثاني : أن الآية في قريتهم إِلى الآن أن أساسها أعلاها وسقوفها أسفلها ، حكاه أبو سليمان الدمشقي .
والثالث : أن المعنى : تركناها آية تقول : إِن في السماء لآية ، تريد أنها هي الآية ، قاله الفراء .

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)

قوله تعالى : { وارجُوا اليومَ الآخِر } قال المفسرون : اخشَوا البعث الذي فيه جزاء الأعمال .

وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)

قوله تعالى : { وعاداً وثمود } قال الزجاج : المعنى : وأهلكنا عاداً وثموداً ، لأن قبل هذا { فأخذتْهم الرجفة } .
قوله تعالى : { وقد تَبَيَّن لكم مِنْ مساكنهم } أي : ظهر لكم يا أهل مكة من منازلهم بالحجاز واليمن آية في هلاكهم ، { وكانوا مستبصِرِين } قال الفراء : أي : ذوي بصائر . وقال الزجاج : أتوا ما أتوه وقد تبين لهم أن عاقبته عذابهم . وقال غيره : كانوا عند أنفسهم مستبصِرِين ، يظنون أنهم على حق .
قوله تعالى : { وما كانوا سابِقِين } أي : ما كانوا يفوتون الله أن يفعل بهم ما يريد .
قوله تعالى : { فكلاًّ أخذْنا بذنْبه } أي : عاقبْنا بتكذيبه { فمنهم من أرسَلْنا عليه حاصباً } يعني قوم لوط { ومنهم من أخذتْه الصَّيحة } يعني ثموداً وقوم شعيب { ومنهم مَنْ خَسَفْنا به الأرض } يعني قارون وأصحابه { ومنهم من أغرقْنا } يعني قوم نوح وفرعون { وما كان الله لِيَظْلِمهم } فيعذِّبهم على غير ذَنْب { ولكنْ كانوا أنفسَهم يَظْلِمون } بالإِقامة على المعاصي .

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)

قوله تعالى : { مَثَلُ الذين اتَّخذوا من دون الله أولياءَ } يعني الأصنام يتخذها المشركون أولياء يرجون نفعها ونصرها ، فمَثَلهم في ضعف احتيالهم { كَمَثَل العنكبوت اتَّخذتْ بيتاً } قال ثعلب : والعنكبوت أنثى ، وقد يذكِّرها بعض العرب ، قال الشاعر :
[ على هَطَّالِهم منهم بُيوتٌ ] ... كأنَّ العَنْكَبُوتَ هو ابْتَناها
قوله تعالى : { إِنَّ الله يَعْلَمُ ما يَدْعُون مِنْ دونه مِنْ شَيء } أي : هو عالِم بما عبدوه من دونه ، لا يخفى عليه ذلك؛ والمعنى : أنه يجازيهم على كفرهم . { وتلك الأمثال } يعني أمثال القرآن التي شبّه بها أحوال الكفار؛ وقيل : إِن «تلك» بمعنى «هذه» { والعالِمون } : الذين يعقلون عن الله عز وجل .

خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)

{ خَلَقَ اللّهُ السموات والأرض بالحقّ } أي : للحق ، ولإِظهار الحق .
قوله تعالى : { إِنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمُنْكَر } في المراد بالصلاة قولان .
أحدهما : أنها الصلاة المعروفة ، قاله الأكثرون . وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَنْ لم تَنْهَهُ صلاتُه عن الحشاء والمُنْكَر ، لم يزد من الله إلا بُعداً » . والثاني : أنّ المراد بالصلاة : القرآن ، قاله ابن عمر؛ ويدل على هذا قوله : { ولا تَجْهَر بِصَلاتك } [ الاسراء : 110 ] . وقد شرحنا معنى الفحشاء والمنكر فيما سبق [ البقرة : 168 ، النحل : 90 ] .
وفي معنى هذه الآية للعلماء ثلاثة أقوال .
أحدها : أن الإِنسان إِذا أدَّى الصلاة كما ينبغي وتدبَّر ما يتلو فيها ، نهته عن الفحشاء والمنكر ، هذا مقتضاها وموجبها .
والثاني : أنها تنهاه ما دام فيها .
والثالث : أن المعنى : ينبغي أن تنهى الصلاةُ عن الفحشاء والمنكر .
قوله تعالى : { وَلذِكْرُ الله أكبر } فيه أربعة أقوال .
أحدها : ولَذِكْرُ الله إِيَّاكم أكبرُ من ذِكْركم إِيَّاه ، رواه ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبه قال ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد في آخرين .
والثاني : ولَذِكْرُ الله أفضلُ من كل شيء سواه ، وهذا مذهب أبي الدرداء ، وسلمان ، وقتادة .
والثالث : ولَذِكْرُ الله في الصلاة أكبرُ ممََّا نهاك عنه من الفحشاء والمُنكَر ، قاله عبد الله بن عون .
والرابع : ولَذِكْرُ الله العبدَ - ما كان في صلاته - أكبرُ من ذِكْر العبدِ لله ، قاله ابن قتيبة .

وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)

قوله تعالى : { ولا تُجادِلوا أهل الكتاب إِلاَّ بالَّتي هي أحسن } في التي هي أحسن ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها لا إِله إلا الله ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثاني : أنها الكفُّ عنهم إِذا بذلوا الجزية ، فان أبَواْ قوتِلوا ، قاله مجاهد .
والثالث : أنها القرآن والدُّعاء إِلى الله بالآيات والحُجج .
قوله تعالى : { إِلاَّ الذين ظَلَموا منهم } وهم الذين نصبوا الحرب وأبَواْ أن يؤدُّوا الجزية ، فجادِلوا هؤلاء بالسيف حتى يُسْلِموا أو يُعطوا الجزية { وقولوا } لِمَن أدَّى الجزية منهم إِذا أخبركم بشيء ممَّا في كتبهم { آمَنَّا بالذي أُنْزل إِلينا وأُنْزل إِليكم . . . } [ الآية ] . وقد روى أبو هريرة قال : " كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ، ويفسِّرونها بالعربية لأهل الإِسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تصدِّقوا أهل الكتاب ولا تكذِّبوهم وقولوا آمنَّا بالذي أُنزل إِلينا وأُنزل إِليكم . . . } » " [ الآية ] .
فصل
واختُلف في نسخ هذه الآية على قولين .
أحدهما : أنها نُسخت بقوله تعالى : { قاتِلوا الذين لا يؤمِنون بالله . . . } [ التوبة : 29 ] إِلى قوله : { وهم صاغرون } [ التوبة : 29 ] قاله قتادة ، والكلبي .
والثاني : أنها ثابتة الحكم ، وهو مذهب ابن زيد .

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)

قوله تعالى : { وكذلك } أي : وكما أنزلنا الكتاب عليهم ، { أنزَلْنا إِليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمِنون به } يعني مؤمني أهل الكتاب { ومِنْ هؤلاء } يعني أهل مكة { مَنْ يؤمِن به } وهم الذين أسلموا { وما يَجْحَد بآياتنا إِلاَّ الكافرون } قال قتادة : إِنَّما يكون الجَحْد بعد المعرفة . قال مقاتل : وهم اليهود .
قوله تعالى : { وما كنتَ تتلو مِنْ قَبْله مِنْ كِتَاب } قال أبو عبيدة : مجازه : ما كنت تقرأ قبله كتاباً ، و «مِن» زائدة . فأما الهاء في «قَبْله» فهي عائدة إِلى القرآن . والمعنى : ما كنتَ قارئاً قبل الوحي ولا كاتباً ، وهكذا كانت صفته في التوراة والإِنجيل أنَّه أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب ، وهذا يدلّ على ان الذي جاء به ، من عند الله تعالى .
قوله تعالى : { إِذاً لارتاب المُبْطِلون } أي : لو كنتَ قارئاً كاتباً لشكَّ اليهودُ فيكَ ، ولقالوا : ليست هذه صفته في كتابنا . والمُبْطِلون : الذين يأتون بالباطل ، وفيهم هاهنا قولان .
أحدهما : كفار قريش ، قاله مجاهد .
والثاني : كفار اليهود ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { بل هو آياتٌ بيِّناتٌ } في المكنيِّ عنه قولان .
أحدهما : أنه النبيُّ محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم في معنى الكلام قولان .
أحدهما : أن المعنى : بل وجْدانُ أهل الكتاب في كتبهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يكتب ولا يقرأ ، وأنه أُمِّيٌّ ، آياتٌ بيِّنات في صدورهم ، وهذا مذهب ابن عباس ، والضحاك ، وابن جريج .
والثاني : أن المعنى : بل محمد ذو آيات بيِّنات في صدور الذين أوتوا العِلْم من أهل الكتاب ، لأنَّهم يجدونه بنعته وصفته ، قاله قتادة .
والثاني : أنه القرآن ، والذين أوتوا العلم : المؤمنون الذين حملوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملوه بعده . وإِنما أُعطي الحفظ هذه الأمة ، وكان مَنْ قبلهم لا يقرؤون كتابهم إِلاَّ نظراً ، فاذا أطبقوه لم يحفظوا ما فيه سوى الأنبياء ، وهذا قول الحسن .
وفي المراد بالظالمين هاهنا قولان .
أحدهما : المشركون ، قاله ابن عباس .
والثاني : كفار اليهود ، قاله مقاتل .

وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)

قوله تعالى : { وقالوا } يعني كفار مكة { لولا أُنزل عليه آياتٌ مِنْ ربِّه } قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : { آياتٌ } على الجمع . وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : { آيةٌ } على التوحيد . وإِنما أرادوا : كآيات الأنبياء { قُلْ إِنَّما الآياتُ عند الله } أي : هو القادر على إِرسالها ، وليست بيدي . وزعم بعض علماء التفسير أن قوله { وإِنَّما أنا نذير مُبِين } منسوخ بآية السيف .
ثم بيَّن اللّهُ عز وجل أن القرآن يكفي من الآيات التي سألوها بقوله : { أَوَلَمْ يَكْفِهم أنَّا أَنزلنا عليكَ الكتاب } ؟! وذكر يحيى بن جعدة " أن ناساً من المسلمين أتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتب قد كتبوها ، فيها بعض ما يقول اليهود ، فلمَّا نظر إِليها ألقاها وقال : «كفى بها حماقة قوم ، أو ضلالة قوم ، أن يرغبوا عمَّا جاء به نبيُّهم إِلى قوم غيرهم» " ، فنزلت : { أَوَلَمْ يَكْفِهم } إِلى آخر الآية .
قوله تعالى : { قُلْ كفى بالله } قال المفسرون : لمَّا كذَّبوا بالقرآن نزلت : { قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً } يَشهَد لي أنِّي رسوله ، ويشهد عليكم بالتكذيب ، وشهادةُ الله له : إِثبات المعجزة له بانزال الكتاب عليه ، { والذين آمنوا بالباطل } قال ابن عباس : بغير الله . وقال مقاتل : بعبادة الشيطان .

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

قوله تعالى : { ويستعجلونك بالعذاب } قال مقاتل : نزلت في النَّضْر بن الحارث حين قال : { فأَمْطِرْ علينا حجارةً مِنَ السَّماء } [ الأنفال : 32 ] .
وفي [ الأجل ] المسمى أربعة أقوال .
أحدها : أنه يوم القيامة ، قاله سعيد ابن جبير .
والثاني : أجل الحياة إِلى حين الموت ، وأجل الموت إِلى حين البعث ، قاله قتادة .
والثالث : مُدَّة أعمارهم ، قاله الضحاك .
والرابع : يوم بدر ، حكاه الثعلبي .
قوله تعالى : { ولَيَأْتِيَنَّهم } يعني العذاب . وقرأ معاذ القارئ ، وأبو نهيك ، وابن أبي عبلة : { ولَتَأْتِيَنَّهم } بالتاء { بغتةً وهم لا يَشْعُرون } باتيانه .
قوله تعالى : { وإِنَّ جهنَّم لَمُحيطة بالكافرين } أي : جامعة لهم . قوله تعالى : { ويقولُ ذُوقوا } قرأ ابن كثير : بالنون . وقرأ نافع : بالياء . فمن قرأ بالياء ، أراد الملَك الموكَّل بعذابهم؛ ومن قرأ بالنون ، فلأنَّ ذلك لمَّا كان بأمر الله تعالى جاز أن يُنسَب إِليه . ومعنى { ما كنتم تعملون } أي : جزاء ما عملتم من الكفر والتكذيب .

يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)

قوله تعالى : { يا عباديَ الذين آمنوا } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر : { يا عباديَ } بتحريك الياء . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : باسكانها .
قوله تعالى : { إِن أرضي واسعة } وقرأ ابن عامر وحده : { أرضيَ } بفتح الياء . وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه خطاب لِمَن آمن [ مِنْ ] أهل مكة ، قيل لهم : { إِن أرضي } يعني المدينة { واسعة } ، فلا تجاوروا الظَّلَمة في أرض مكة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس؛ وكذلك قال مقاتل : نزلت في ضُعفاء مُسْلِمي مكة ، [ أي ] : إِن كنتم في ضيق بمكة من إِظهار الإِيمان ، فارض المدينة واسعة .
والثاني : أن المعنى : إِذا عُمل بالمعاصي في أرض فاخرجوا منها ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال عطاء .
والثالث : إِنَّ رزقي لكم واسع ، قاله مطرف بن عبد الله .
قوله تعالى : { فايَّايَ فاعبُدونِ } أثبت فيها الياء يعقوب في الحالين ، وحذفها الباقون . قال الزجّاج : أمرهم بالهجرة من الموضع الذي لا يمكنهم فيه عبادة الله إِلى حيث تتهيَّأُ لهم العبادة؛ ثم خوَّفهم بالموت لتهون عليهم الهجرة ، فقال : { كلُّ نَفْس ذائقةُ الموت } المعنى : فلا تُقيموا في دار الشِّرك خوفاً من الموت { ثُمَّ إِلينا تُرْجَعون } بعد الموت فنجزيَكم بأعمالكم ، والأكثرون قرؤوا : { تُرْجَعون } بالتاء على الخطاب؛ وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء .
قوله تعالى : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ } [ قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ } بالباء ] ، أي : لَنُنْزِلَنَّهم . وقرأ حمزة ، والكسائي ، [ وخلف ] : { لَنُثْوِيَنَّهُمْ } بالثاء ، [ وهو ] من : ثويتُ بالمكان : إِذا أقمت به قال الزجاج : [ يقال ] : ثوى الرجل : إِذا أقام ، وأثويتُه : إِذا أنزلتَه منزلاً يُقيم فيه .
قوله تعالى : { وكأيِّن مِنْ دابَّة لا تحملُ رزقَها } قال ابن عباس : لمَّا أمرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إِلى المدينة ، قالوا : يا رسول الله ، نخرُج إِلى المدينة وليس لنا بها عقار ولا مال؟! فمن يؤوينا ويطعمنا؟ فنزلت هذه الآية . قال ابن قتيبة : ومعنى الآية : كم مِنْ دابَّة لا ترفَعُ شيئاً لغدٍ ، قال ابن عُيَيْنَةَ : ليس شيءٌ يَخْبَأُ إِلا الإِنسانُ والفأرةُ والنملة . قال المفسرون : وقوله : { اللّهُ يرزُقُها } أي : حيثما توجهتْ { وإِيَّاكم } أي : ويرزُقكم إِن هاجرتم إِلى المدينة { وهو السَّميع } لقولكم : لا نجد ما نُنْفِق بالمدينة { العليمُ } بما في قلوبكم .

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)

قوله تعالى : { ولَئن سألتَهم } يعني كفار مكة ، وكانوا يُقِرُّون بأنه الخالق والرَّازق؛ وإِنَّما أمَره أن يقول : { الحمدُ لله } على إِقرارهم ، لأن ذلك يُلزمهم الحُجَّة فيوجِب عليهم التوحيد { بل أكثرُهم لا يَعْقِلون } توحيد الله مع إِقرارهم بأنه الخالق . والمراد بالأكثر : الجميع .

وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)

قوله تعالى : { وما هذه الحياةُ الدُّنيا إِلا لَهْوٌ ولَعِبٌ } والمعنى : وما الحياةُ في هذه الدنيا إِلا غرور ينقضي عن قليل { وإِنَّ الدَّار الآخرة } يعني الجنة { لَهِيَ الحَيَوانُ } قال أبو عبيدة : اللام في { لَهِيَ } زائدة للتوكيد ، والحيوان والحياة واحد؛ والمعنى : لهي دارُ الحياة التي لا موتَ فيها ، ولا تنغيص يشوبها كما يشوب الحياةَ الدُّنيا { لو كانوا يَعْلَمون } أي : لو علموا لرغبوا عن الفاني في الباقي ، ولكنهم لا يَعْلَمون .
قوله تعالى : { فاذا رَكِبُوا في الفُلْك } يعني المشركين { دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِين له الدِّين } أي : أفردوه بالدُّعاء . قال مقاتل : والدِّين بمعنى التوحيد؛ والمعنى أنهم لا يَدْعُون مَنْ يَدْعُونه شريكاً له { فلمَّا نَجَّاهم } أي : خلَّصهم من أهوال البحر ، وأَفْضَوا { إِلى البَرِّ إِذا هم يُشْرِكون } في البَرّ ، وهذا إِخبار عن عنادهم . { لِيَكْفُروا بِمَا آتيناهم } هذه لام الأمر ، ومعناه التهديد والوعيد ، كقوله : { اعْمَلوا ما شِئْتُم } [ فُصِّلت : 40 ] ؛ والمعنى : ليَجْحَدوا نِعْمة الله في إِنجائه إِيَّاهم { ولِيَتَمَتَّعُوا } قرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي باسكان اللام على معنى الأمر؛ والمعنى : ليتمتعوا بباقي أعمارهم { فسوف يَعْلَمون } عاقبة كفرهم . وقرأ الباقون بكسر اللام في { لِيَتَمتَّعُوا } ، فجعلوا اللاَّمين بمعنى «كي» ، فتقديره : لكي يكفُروا ، ولكي يَتَمتَّعوا ، فيكون معنى الكلام : إِذا هم يُشْرِكون ليكفُروا ولِيتمتَّعوا ، أي : لا فائدة لهم في الإِشراك إِلاّ الكفر والتمتُّع بما يتمتَّعون به في العاجلة من غير نصيب لهم في الآخرة .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَواْ } يعني كفار مكة { أنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً } يعني مكة؛ وقد شرحنا هذا المعنى في [ القصص : 57 ] { ويُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حولهم } أي : أن العرب يَسْبي بعضهم بعضاً وأهلُ مكة آمنون { أفبالباطل } وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها : الشِّرك ، قاله قتادة .
والثاني : الأصنام ، قاله ابن السائب .
والثالث : الشيطان ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { يُؤْمِنونَ } وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وعاصم الجحدري : { تُؤْمِنونَ وبنِعمة الله تكفُرونَ } بالتاء فيهما .
قوله تعالى : { وبنِعمة الله } يعني : محمداً والإِسلام؛ وقيل : بانعام الله عليهم حين أطعمهم وآمنهم { يكفُرون } ، { ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّن افترى على الله كَذِباً } أي : زعم أن له شريكاً وأنه أمر بالفواحش { أو كذَّبَ بالحق لمَّا جاءه } يعني محمداً والقرآن { أليس في جهنم مثوىً للكافرين } ؟! وهذا استفهام بمعنى التقرير ، كقول جرير :
ألَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطايا ... [ وأندى العالَمينَ بُطونَ راحِ ]
{ والذين جاهَدوا فينا } أي : قاتلوا أعداءنا لأجلنا { لَنَهْدِيَنَّهم سُبُلَنا } أي : لَنُوَفّقَنَّهم لإِصابة الطريق المستقيمة؛ وقيل : لَنَزِيدنَّهم هِدايَة { وإِنَّ الله لَمَعَ المُحْسِنِينَ } بالنُّصرة والعون . قال ابن عباس : يريد بالمُحْسِنِين : الموحِّدين؛ وقال غيره : يريد المجاهدين . وقال ابن المبارك : من اعتاصت عليه مسألة ، فليسأل أهل الثُّغور عنها ، لقوله : { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } .

الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)

قوله تعالى : { غُلِبَتِ الرُّومُ } ذكر أهل التفسير في سبب نزولها أنه كان بين فارس والروم حرب فغلبت فارس الرُّومَ ، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه ، فشقَّ ذلك عليهم ، وفرح المشركون بذلك ، لأنَّ فارس لم يكن لهم كتاب وكانوا يجحدون البعث ويعبُدون الأصنام ، والرُّوم أصحاب كتاب ، فقال المشركون لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنكم أهل كتاب ، والنصارى أهل كتاب ، ونحن أُمِّيُونَ ، وقد ظهر إِخواننا من أهل فارس على إِخوانكم من الرُّوم ، فان قاتلتمونا لَنَظْهَرَنَّ عليكم ، فنزلت هذه الآية ، فخرج بها أبو بكر الصديق إِلى المشركين ، فقالوا : هذا كلام صاحبك ، فقال : اللّهُ أَنزل هذا ، فقالوا لأبي بكر : نراهنك على أن الروم لا تغلب فارس ، فقال أبو بكر : البِضْع ما بين الثلاث إِلى التسع ، فقالوا : الوسط من ذلك ست ، فوضعوا الرِّهان ، وذلك قبل أن يُحرَّم الرِّهان ، فرجع أبو بكر إِلى أصحابه فأخبرهم ، فلاموه وقالوا : هلاَّ أقررتَها كما أقرَّها الله؟! لو شاء أن يقول : ستاً ، لقال! فلمَّا كانت سنة ست ، لم تظهر الروم على فارس ، فأخذوا الرهان ، فلمَّا كانت سنة سبع ظهرت الرُّومُ على فارس . وروى ابن عباس ، قال : " لمَّا نزلت : { آلم غُلِبَت الرُّومُ } ناحب أبو بكر قريشاً ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا احتطتَ ، فانَّ البِضْع ما بين السبع والتسع» ، وذكر بعضهم أنهم ضربوا الأجَل خمس سنين ، وقال بعضهم : ثلاث سنين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنما البِضْع ما بين الثلاث إِِلى التسع» ، فخرج أبو بكر فقال لهم : أُزايدُكم في الخطر وأَمُدُّ في الأجَل إِلى تسع سنين ، ففعلوا ، فقهرهم أبو بكر ، وأخذ رهانهم " وفي الذي تولَّى وضع الرهان من المشركين قولان .
أحدهما : أُبيُّ بن خلف ، قاله قتادة .
والثاني : أبو سفيان بن حرب ، قاله السدي .
قوله تعالى : { في أدنى الأرض } وقرأ أُبيُّ بن كعب ، والضحاك ، وأبو رجاء ، وابن السميفع : { في أَداني الأرض } بألف مفتوحة الدال ، أي : أقرب الأرض أرض الروم إِلى فارس . قال ابن عباس : وهي طرف الشام .
وفي اسم هذا المكان ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الجزيرة ، وهي أقرب أرض الروم إِلى فارس ، قاله مجاهد .
والثاني؛ أذْرِعات وكَسْكَر ، قاله عكرمة .
والثالث : الأردنُّ وفلسطين ، قاله السدي .
قوله تعالى : { وهم } يعني الروم { مِنْ بَعْدِ غَلَبهم } وقرأ أبو الدرداء ، وأبو رجاء ، وعكرمة ، والأعمش : { غَلْبهم } بتسكين اللام؛ أي : من بعد غلبة فارس إِيَّاهم . والغَلَب والغَلَبة لغتان ، { سيَغْلِبون } فارس في { بِضْع سنينَ } في البِضْع تسعة أقوال قد ذكرناها في [ يوسف : 42 ] قال المفسرون : وهي هاهنا سبع سنين ، وهذا من علم الغيب الذي يدل على أن القرآن حق ، { لله الأمر مِنْ قَبْلُ ومن بعدُ } أي : من قبل ان تُغلَب الروم ومِنْ بَعْد ما غَلبت؛ والمعنى : أن غَلَبة الغالب وخِذْلان المغلوب ، بأمر الله وقضائه { ويومَئذ } يعني يوم غلبت الرومُ فارس { يَفرح المؤمنون بنصر الله } للروم . وكان التقاء الفريقين في السنة السابعة من غَلَبة فارس إِيَّاهم ، فغلبتْهم الرُّوم ، وجاء جبريلُ يخبر بنصر الروم على فارس ، فوافق ذلك يوم بدر ، وقيل : يوم الحديبية .

وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)

قوله تعالى : { وَعْدَ الله } أي : وَعَدَ اللّهُ وَعْداً { لا يُخْلِفُ اللّهُ وَعْدَهُ } أنَّ الرُّوم يَظهرون على فارس { ولكنَّ أكثر النَّاس } يعني كفار مكة { لا يَعلمون } ان الله لا يُخْلِف وعده في ذلك .
ثم وصف كفار مكة ، فقال : { يَعْلَمون ظاهراً مِنَ الحياة الدُّنيا } قال عكرمة : هي المعايش . وقال الضحاك : يعلمون بنيان قصورها وتشقيق أنهارها . وقال الحسن : يعلمون متى زرعهم و [ متى ] حصادهم ، ولقد بلغ واللّهِ مِنْ عِلْم أحدهم بالدنيا أنه ينقُر الدرهم بظُفره فيُخبرك بوزنه ولا يُحسن يصلِّي .
قوله تعالى : { وهم عن الآخرة هم غافلون } لأنهم لا يؤمنون بها . قال الزجاج : وذِكْرهم ثانية يجري مجرى التوكيد ، كما تقول : زيد هو عالم ، وهو أوكد من قولك : زيد عالم .
قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّروا في أنفُسهم } قال الزجاج : معناه : أولم يتفكروا فيعلموا ، فحذف { فيعلموا } لأن في الكلام دليلاً [ عليه ] . ومعنى { إِلاَّ بالحقِّ } إِلاَّ للحق ، أي لإِقامة الحق { وأجلٍ مسمّىً } وهو وقت الجزاء { وإِنَّ كثيراً من الناس بلقاء ربِّهم لَكافرون } المعنى : لكافرون بلقاء ربِّهم ، فقدِّمت الباء ، لأنها متصلة ب { بكافرون } ؛ وما اتصل بخبر «إِنَّ» جاز أن يقدَّم قبل اللام ، ولا يجوز أن تدخل اللام بعد مضي الخبر من غير خلاف بين النحويين ، لا يجوز أن تقول : إِن زيداً كافرٌ لَبِالله ، لأن اللام حَقُّها أن تدخل على الابتداء أو الخبر ، أو بين الابتداء والخبر ، لأنها تؤكِّد الجملة . وقال مقاتل في قوله : { وأَجَلٍ مسمّىً } : للسموات والأرض أَجَل ينتهيان إِليه ، وهو يوم القيامة ، { وإِنَّ كثيراً مِنَ الناس } يعني كفار مكة { بِلِقاء ربِّهم } أي : بالبعث { لَكافرون } .

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)

قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَسيروا في الأرض } أي : أَوَلَمْ يسافروا فينظروا مصارع الأُمم قبلهم كيف أُهلكوا بتكذيبهم فيعتَبروا .
قوله تعالى : { وأثاروا الأرض } أي : قلبوها للزراعة ، ومنه قيل للبقرة : مثيرة . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، ومعاذ القارىء ، وأبو حيوة : { وآثَرُوا الأرض } بمد الهمزة وفتح الثاء مرفوعة الراء ، { وعَمَرُوها أكثرَ مِمَّا عَمَرُوها } أي : أكثر من عِمارة أهل مكة ، لطول أعمار أولئك وشدة قوَّتهم { وجاءتهم رسُلُهم بالبيِّنات } أي : بالدَّلالات { فما كان الله لِيَظْلِمهم } بتعذيبهم على غير ذنب { ولكن كانوا أنفُسَهم يَظْلِمون } بالكفر والتكذيب؛ ودلَّ هذا على أنهم لم يؤمنوا فأُهلكوا .
ثم أخبر عن عاقبتهم فقال : { ثُمَّ كان عاقبةَ الذين أساؤوا السُّوأى } يعني : الخَلَّة السيِّئة؛ وفيها قولان .
أحدهما : أنها العذاب ، قاله الحسن .
والثاني : جهنم ، قاله السدي .
قوله تعالى : { أن كذَّبوا } قال الفراء : معناه : لأن كذَّبوا ، فلمَّا أُلقيت اللامُ كان نصباً . وقال الزجاج : لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم . وقيل : السُّوأى مصدر بمنزلة الإِساءَة؛ فالمعنى : ثم كان التكذيب آخرَ أمرهم ، أي : ماتوا على ذلك ، كأنَّ الله تعالى جازاهم على إِساءَتهم أن طبع على قلوبهم حتى ماتوا على التكذيب عقوبةً لهم . وقال مكي بن أبي طالب النحوي : { عاقبةُ } اسم كان ، و { السُّوأى } خبرها ، و { أن كذَّبوا } مفعول من أجله؛ ويجوز أن يكون { السُّوأى } مفعولة ب { أساؤوا } ، و { أن كذَّبوا } خبر كان؛ ومن نصب «عاقبةَ» جعلها خبر «كان» ، و «السُّوأى» اسمها ، ويجوز أن يكون { أن كذَّبوا } اسمها . وقرأ الأعمش : «أساؤوا السُّوءُ» برفع «السُّوءُ» .
قوله تعالى : { الله يبدأ الخَلْق ثم يُعيدُه } أي : يخلُقهم أوّلاً ، ثم يعيدهم بعد الموت أحياءً كما كانوا ، { ثُمَّ إِليه تُرْجَعون } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : { تُرْجَعون } بالتاء؛ فعلى هذا يكون الكلام عائداً من الخبر إِلى الخطاب وقرأ أبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : بالياء ، لأن المتقدِّم ذِكْره غَيبة ، والمراد بذِكر الرجوع : الجزاءُ على الأعمال ، والخَلْق بمعنى المخلوقين ، وإِنما قال : { يُعِيده } على لفظ الخَلْق .

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)

قوله تعالى : { يُبْلِسُ المجرمون } قد شرحنا الإِبلاس في [ الأنعام : 44 ] .
قوله تعالى : { وَلمْ يكُن لهم من شركائهم } أي : [ من ] أوثانهم التي عبدوها { شفعاء } في القيامة { وكانوا بشركائهم كافرين } يتبرَّؤون منها وتتبرَّأ منهم .
قوله تعالى : { يومَئذ يتفرَّقون } وذلك بعد الحساب ينصرف قوم إِلى الجنة ، وقوم إِلى النار .
قوله تعالى : { فهُم في روضة } الرَّوضة : المكان المخضرُّ من الأرض؛ وإِنَّما خصَّ الروضة ، لأنها كانت أعجب الأشياء إِلى العرب؛ قال أبو عبيدة : ليس شيءٌ عند العرب أحسنَ من الرياض المُعْشِبة ولا أطيبَ ريحاً ، قال الأعشى :
مَا رَوْضَةٌ مِن رِياضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خَضْرَاءُ جادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ
يَوْماً بأطْيَبَ مِنْها نَشْرَ رائحَةٍ ... وَلا بأحْسَنَ مِنْها إِذ دَنا الأُصُلُ
قال المفسرون : والمراد بالروضة : رياض الجنة .
وفي معنى { يُحْبَرون } أربعة أقوال .
أحدها : يُكْرَمون ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
والثاني : يَنْعَمون ، قاله مجاهد ، وقتادة . قال الزجاج : والحَبْرَة في اللغة : كل نَغْمَةَ حسنَة .
والثالث : يفرحون ، قاله السدي . وقال ابن قتيبة : { يُحْبَرون } : يُسَرُّون ، والحَبْرَة : السُّرور .
والرابع : أن الحَبْر : السَّماع في الجنة ، فاذا أخذ أهل الجنة في السماع ، لم تبق شجرة إِلاَّ ورَّدت ، قاله يحيى بن أبي كثير . وسئل يحيى بن معاذ : أيّ الأصوات أحسن؟ فقال : مزامير أُنس ، في مقاصير قُدس ، بألحان تحميد ، في رياض تمجيد { في مَقْعَد صِدْقٍ عِنْدَ مَليكٍ مُقْتَدِر } [ القمر : 55 ] .
قوله تعالى : { فأولئك في العذاب مُحْضَرون } أي : هم حاضرون العذاب أبداً لا يخفَّف عنهم .

فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)

ثم ذكر ما تُدْرَك به الجنة ويُتباعَد به من النار فقال : { فسُبحَانَ الله حين تُمْسُونَ } قال المفسرون : المعنى : فصلُّوا لله حين تُمسون ، أي : حين تدخُلون في المساء { وحين تُصْبِحونَ } أي : تدخُلون في الصباح ، و { تُظْهِرونَ } تدخُلون في الظهيرة ، وهي وقت الزَّوال ، { وعشيّاً } أي : وسبِّحوه عشيّاً . وهذه الآية قد جمعت الصلوات الخمس ، فقوله : { حين تُمسون } يعني [ به ] صلاة المغرب والعشاء ، { وحين تصبحون } يعني به صلاة الفجر ، { وعشيّاً } العصر ، «وحين تُظْهِرونَ» الظُّهر .
قوله تعالى : { وله الحمد في السموات والأرض } قال ابن عباس : يَحْمَده أهل السموات وأهل الأرض ويصلُّون له .
قوله تعالى : { يُخْرِجُ الحيَّ من الميِّت } فيه أقوال قد ذكرناها في سورة [ آل عمران : 27 ] .
قوله تعالى : { ويُحيي الأرض بعد موتها } أي : يجعلها مُنْبِتة بعد أن كانت لا تُنْبِت ، وتلك حياتها { وكذلك تُخْرَجون } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «تُخْرَجون» بضم التاء ، وفتحها حمزة والكسائي؛ والمراد : تخرجون يوم القيامة من الأرض ، أي : كما أحيا الأرض بالنبات يُحييكم بالبعث .

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)

قوله تعالى : { ومِنْ آياته } أي : من دلائل قدرته { أنْ خلقكم من تراب } يعني آدم ، لأنه أصل البشر { ثُمَّ إِذا أنتم بَشرٌ } من لحم ودم ، يعني ذريته { تَنْتَشِرون } أي : تنبسطون في الأرض .
قوله تعالى : { أنْ خَلَق لكم من أنفُسكم أزواجاً } فيه قولان .
أحدهما : أنه يعني بذلك آدم ، خلق حوَّاء من ضِلعه ، وهو معنى قول قتادة .
والثاني : أن المعنى : جعل لكم آدميَّات مثلكم ، ولم يجعلهنَّ من غير جنسكم ، قاله الكلبي .
قوله تعالى : { لتسكنُوا إِليها } أي : لتأووا إِلى الأزواج { وجعل بينكم مودَّةً ورحمة } وذلك أن الزوجين يتوادَّان ويتراحمان من غير رَحِم بينهما { إِنَّ في ذلك } الذي ذكره من صنعه { لآياتٍ لقوم يتفكَّرون } في قدرة الله وعظَمته .
قوله تعالى : { واختلافُ ألسنتكم } يعني اللغات من العربية والعجمية وغير ذلك { وألوانِكم } لأنَّ الخلق بين أسود وأبيض وأحمر ، وهم ولد رجل واحد وامرأة واحدة . وقيل : المراد باختلاف الألسنة اختلاف النَّغَمات والأصوات ، حتى إِنه لا يشتبه صوت أخوين من أب وأم والمراد باختلاف الألوان : اختلاف الصُّوَر ، فلا تشتبه صورتان مع التشاكل { إِنَّ في ذلك لآيات للعالِمِين } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، [ والكسائي ] ، وأبو بكر عن عاصم : { للعالَمِين } بفتح اللام . وقرأ حفص عن عاصم : { للعالِمِين } بكسر اللام .
قوله تعالى : { ومن آياته منامُكم بالليل والنهار } أي : نومكم . قال أبو عبيدة : المنام من مصادر النَّوم ، بمنزلة قام يقوم قِياماً ومَقاماً ، وقال يقول مَقالاً ، قال المفسرون : وتقدير الآية : منامكم بالليل { وابتغاؤكم من فضله } وهو طلب الرزق بالنهار { إِنَّ في ذلك لآيات لقوم يسمعون } سماع اعتبار [ وتذكُّر ] وتدبُّر . { ومن آياته يُريكم البرق } قال اللغويون : إِنَّما حذف «أنْ» لدلالة الكلام عليه ، وأنشدوا :
[ وما الدَّهْرُ إِلاَّ تارتان فتارةً ... أموتُ وأُخرى أبتغي العَيْش أكدحُ
ومعناه : فتارة أموت فيها ] ، وقال طرفة :
ألا أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوَغَى ... [ وأن أَشهد اللَّذَّاتِ هل أنتَ مُخْلِدي ]
أراد : أن أحضر . وقد شرحنا معنى الخوف والطمع في رؤية البَرْق في سورة [ الرعد : 12 ] .
قوله تعالى : { أن تقوم السماء والأرض } أي : تدوما قائمتين { بأمره } { ثم إِذا دعاكم دعوةً } وهي نفحة إِسرافيل الأخيرة في الصُّور بأمر الله عز وجل { من الأرض } أي : من قبوركم { إِذا أنتم تخرُجون } منها . وما بعد هذا قد سبق بيانه [ البقرة : 116 ، العنكبوت : 19 ] إِلى قوله : { وهو أهونُ عليه } وفيه أربعة أقوال .
أحدها : أن الإِعادة أهون عليه من البداية ، وكُلُّ هيِّنٌ عليه ، قاله مجاهد ، وأبو العالية .
والثاني : أن «أهون» بمعنى «هيِّن» ، فالمعنى : وهو هيِّن عليه ، وقد يوضع «أفعل» في موضع «فاعل» ، ومثله قولهم في الأذان : الله أكبر ، أي : الله كبير ، قال الفرزدق :
إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّماءَ بَنى لَنا ... بَيْتاً دعَائِمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ

وقال معن بن أوس المزني :
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وإِنِّي لأَوْجَلُ ... على أيِّنا تَغْدُوا المَنِيَّةُ أَوَّلُ
أي : وإِنِّي لَوَجِل ، وقال غيره :
أصبحتُ أمنحُك الصُّدودَ وإِنَّني ... قسماً إِليك مع الصُّدود لأَمْيَلُ
وأنشدوا أيضاً :
تَمَنَّى رِجالٌ أنْ أموتَ وإِنْ أمُتْ ... فَتِلكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيها بأَوْحَدِ
أي : بواحد ، هذا قول أبي عبيدة ، وهو مروي عن الحسن ، وقتادة . و [ قد ] قرأ أُبيُّ بن كعب ، وأبو عمران الجوني ، وجعفر بن محمد : { وهو هَيِّن عليه } .
والثالث : أنه خاطب العباد بما يعقلون ، فأعلمهم أنه يجب أن يكون عندهم البعث أسهل من الابتداء في تقديرهم وحُكمهم ، فمن قَدَرَ على الإِنشاء كان البعثُ أهونَ عليه ، هذا اختيار الفراء ، والمبرد ، والزجاج ، وهو قول مقاتل . وعلى هذه الأقوال الثلاثة تكون الهاء في «عليه» عائدة إِلى الله تعالى .
والرابع : أن الهاء تعود على المخلوق ، لأنه خلَقه نطفة ثم علقة ثم مضغة ، ويوم القيامة يقول له كن فيكون ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهو اختيار قطرب .
قوله تعالى : { وله المَثَلُ الأعلى } قال المفسرون : أي : له الصِّفة العُليا { في السماوات والأرض } وهي أنَّه لا إِله غيره .
قوله تعالى : { ضَرَبَ لكم مَثَلاً } سبب نزولها أن أهل الجاهلية كانوا يلبُّون فيقولون : لبيك لا شريك لك إِلا شريكاً هو لك تملكُه وما ملك ، فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن جبير ، ومقاتل . ومعنى الآية : بيَّن لكم أيها المشركون شَبَهاً ، وذلك الشَّبه { من أنفُسكم } ، ثم بيَّنه فقال : { هل لكم ممَّا ملكت أيمانُكم } أي : من عبيدكم { من شركاءَ فيما رزقناكم } من المال والأهل والعبيد ، أي : هل يشارككم عبيدكم في أموالكم { فأنتم فيه سواءٌ } أي : أنتم وشركاؤكم من عبيدكم سواءٌ { تخافونهم كخِيفتكم أنفُسكم } أي : كما تخافون أمثالكم من الأحرار ، وأقرباءكم كالآباء والأبناء؟ قال ابن عباس : تخافونهم أن يَرِثوكم كما يَرِث بعضكم بعضاً؟ وقال غيره : تخافونهم أن يقاسموكم أموالكم كما يفعل الشركاء؟ والمعنى : هل يرضى أحدكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويَه في التصرُّف في ذلك ، فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه كما يخاف غيرَه من الشركاء الأحرار؟! فاذا لم ترضَواْ ذلك لأنفسكم ، فلم عَدَلتم بي من خَلْقي مَنْ هو مملوك لي؟! { كذلك } أي : كما بيَّنَّا هذا المَثَل { نفصِّل الآيات لقوم يَعْقِلون } عن الله . ثم بيَّن أنَّهم إِنَّما اتَّبعوا الهوى في إِشراكهم ، فقال : { بل اتَّبع الذين ظلموا } أي : أشركوا بالله { أهواءهم بغير عِلْم فمن يَهدي مَن أضلَّ اللّهُ } وهذا يدل على أنهم إِنما أشركوا باضلال الله إِيَّاهم { وما لهم من ناصرين } أي : مانعين من عذاب الله .

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)

قوله تعالى : { فأقم وجهك } قال مقاتل : أخلص دينك الإِسلام { للدِّين } أي : للتوحيد . وقال أبو سليمان الدمشقي : استقم بدينك نحو الجهة التي وجَّهك الله إِليها . وقال غيره : سدِّد عملك ، والوجه : ما يُتَوجَّه إِليه ، وعمل الإِنسان ودينه : ما يتوجَّه إِليه لتسديده وإِقامته .
قوله تعالى : { حنيفاً } قال الزجاج : { الحنيف } : الذي يميل إِلى الشيء ولا يرجع عنه ، كالحَنَف في الرِّجل ، وهو ميلها إِلى خارجها خِلْقة ، لا يقدر الأحنف أن يردَّ حَنَفه وقوله : { فطرةَ الله } منصوب ، بمعنى : اتَّبِع فطرةَ الله ، لأن معنى { فأقم وجهك } : اتَّبِع الدِّين القيِّم ، واتَّبع فطرة الله ، أي : دين الله . والفطرة : الخِلْقة التي خَلَق اللّهُ عليها البشر . وكذلك قوله عليه السلام : « كل مولود يولد على الفطرة » ، أي : على الإِيمان بالله . وقال مجاهد في قوله : { فطرة الله التي فطر الناسَ عليها } قال : الإِسلام ، وكذلك قال قتادة . والذي أشار إِليه الزجاج أصح ، وإِليه ذهب ابن قتيبة ، فقال : فرقُ ما بيننا وبين أهل القَدَر في هذا الحديث ، أن الفطرة عندهم : الإِسلام ، والفطرة عندنا : الإِقرار بالله والمعرفة به ، لا الإِسلام ، ومعنى الفطرة : ابتداء الخِلقة ، والكل أقرُّوا حين قوله : { ألستُ بربِّكم قالوا بلى } [ الأعراف : 172 ] ولستَ واجداً أحداً إِلا وهو مُقِرّ بأنَّ له صانعاً ومدبِّراً وإِن عبد شيئاً دونه وسمَّاه بغير اسمه؛ فمعنى الحديث : إِن كل مولود في العالَم على ذلك العهد وذلك الإِقرار الأول ، وهو الفطرة ، ثم يهوِّد اليهودُ أبناءهم ، أي يعلِّمونهم ذلك ، وليس الإِقرار الأول ممَّا يقع به حُكم ولا ثواب؛ وقد ذكر نحو هذا أبو بكر الأثرم ، واستدل عليه بأن الناس أجمعوا على أنه لا يرث المسلُم الكافرَ ، ولا الكافرُ المسلمَ ، ثم أجمعوا على أن اليهوديَّ إِذا مات له ولد صغير ورثه ، وكذلك النصراني والمجوسي ، ولو كان معنى الفطرة الإِسلام ، ما ورثه إِلا المسلمون ، ولا دفن إِلا معهم؛ وإِنما أراد بقوله عليه السلام : « كل مولود يولد على الفطرة » أي : على تلك البداية التي أقرُّوا له فيها بالوحدانية حين أخذهم مِن صُلْب آدم ، فمنهم من جحد ذلك بعد إِقراره . ومثل هذا الحديث حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « قال الله عز وجل : إِني خَلقتُ عبادي حنفاء » ، وذلك أنه لم يدعُهم يوم الميثاق إِلاَّ إِلى حرف واحد ، فأجابوه .
قوله تعالى : { لا تبديل لَخِلْق الله } لفظه لفظ النفي ، ومعناه النهي؛ والتقدير : لا تبدِّلوا خَلْق الله . وفيه قولان .
أحدهما : أنه خِصاء البهائم ، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
والثاني : دين الله ، قاله مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والنخعي في آخرين . وعن ابن عباس وعكرمة كالقولين .
قوله تعالى : { ذلك الدِّينُ القيِّم } يعني التوحيد المستقيم { ولكنَّ أكثر الناس } يعني كفار مكة { لا يَعْلَمون } توحيد الله .

قوله تعالى : { مُنِيبِين إِليه } قال الزجاج : زعم جميع النحويين أن معنى هذا : فأقيموا وجوهكم منيبين ، لأن مخاطَبة النبي صلى الله عليه وسلم تدخل معه فيها الأُمَّة ومعنى { منيبين } : راجعين إِليه في كل ما أمر ، فلا يخرجون عن شيء من أمره . وما بعد هذا قد سبق تفسيره [ البقرة : 3 ، الأنعام : 159 ] إِلى قوله : { وإِذا مَسَّ الناسَ ضُرٌّ دَعَواْ ربَّهم مُنِيبِين إِليه ثم إِذا أذاقهم منه رحمةً } وفيه قولان .
أحدهما : أنه القحط ، والرحمة : المطر .
والثاني : أنه البلاء ، والرحمة : العافية ، { إِذا فريق منهم } وهم المشركون . والمعنى : إِن الكل يلتجؤون إِليه في شدائدهم ، ولا يلتفت المشركون حينئذ إِلى أوثانهم .
قوله تعالى : { لِيَكفُروا بما آتيناهم } قد شرحناه في آخر [ العنكبوت : 67 ] ، وقوله تعالى : { فتَمتَّعوا } خطاب لهم بعد الإِخبار عنهم .
قوله تعالى : { أم أنزَلْنا عليهم } أي : على هؤلاء المشركين { سُلطاناً } أي : حُجَّة وكتاباً من السماء { فهو يتكلَّم بما كانوا به يُشْرِكون } أي : يأمرهم بالشِّرك؟! وهذا استفهام إِنكار ، معناه : ليس الأمر كذلك .
قوله تعالى : { وإِذا أذقنا الناس } قال مقاتل : يعني كفار مكة { رحمةً } وهي المطر . والسيِّئة : الجوع والقحط . وقال ابن قتيبة : الرحمة : النعمة ، والسيِّئة المصيبة . قال المفسرون : وهذا الفرح المذكور هاهنا ، هو فرح البطر ، الذي لا شُكر فيه ، والقنوط : اليأس من فضل الله ، وهو خلاف وصف المؤمن ، فانه يشكر عند النعمة ، ويرجو عند الشدة؛ وقد شرحناه في بني [ إِسرائيل : 26 ] إِلى قوله : { ذلك } يعني إِعطاء الحق { خير } أي : أفضل من الإِمساك { للذين يريدون وجه الله } أي : يطلُبون بأعمالهم ثواب الله .

وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)

قوله تعالى : { وما آتيتم من رِباً } في هذه الآية أربعة أقوال .
أحدها : أن الرِّبا هاهنا : أن يُهدي الرجل للرجل الشيء يقصِد أن يُثيبه عليه أكثر من ذلك ، هذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وطاووس ، [ والضحاك ] ، وقتادة ، والقرظي . قال الضحاك : فهذا ليس فيه أجر ولا وزر . وقال قتادة : ذلك الذي لا يَقبله الله ولا يَجزي به ، وليس فيه وِزْر .
والثاني : أنه الرِّبا المحرَّم ، قاله الحسن البصري .
والثالث : أن الرجل يُعطي قرابته المال ليصير به غنيّاً ، لا يقصد بذلك ثواب الله تعالى ، قاله إِبراهيم النخعي .
والرابع : أنه الرجل يُعطي من يخدمه لأجل خدمته ، لا لأجل الله تعالى ، قاله الشعبي .
قوله تعالى : { لِيَرْبُوَ في أموال الناس } وقرأ نافع ، ويعقوب : [ { لتَرْبوْ } ] بالتاء وسكون الواو ، أي : [ في ] اجتلاب أموال الناس ، واجتذابها { فلا يربو عند الله } أي : لا يزكو ولا يضاعَف ، لأنكم قصدتم زيادة العِوَض ، ولم تقصُدوا القُربة .
{ وما آتيتم من زكاة } أي : ما أَعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة ، إِنما تريدون بها ما عند الله ، { فأولئك هم المُضْعِفُونَ } قال ابن قتيبة : الذين يجدون التضعيف والزيادة . وقال الزجاج : أي ذوو الأضعاف من الحسنات ، كما يقال : رجل مُقْوٍ ، أي : صاحب قُوَّة ، ومُوسِر : صاحب يسار .

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)

قوله تعالى : { ظَهَر الفسادُ في البَرِّ والبحر } في هذا الفساد أربعة أقوال .
أحدها : نقصان البَرَكة ، قاله ابن عباس .
والثاني : ارتكاب المعاصي ، قاله أبو العالية .
والثالث : الشِّرك ، قاله قتادة ، والسدي .
والرابع : قحط المطر ، قاله عطية .
فأما البَرّ . فقال ابن عباس : البَرُّ : البرِّيَّة التي ليس عندها نهر .
وفي البحر قولان .
أحدهما : أنه ما كان من المدائن والقرى على شطِّ نهر ، قاله ابن عباس . وقال عكرمة : لا أقول : بحرُكم هذا ، ولكن كل قرية عامرة . وقال قتادة : المراد بالبَرِّ : أهل البوادي ، وبالبحر : أهل القرى . وقال الزجاج : المراد بالبحر : مدن البحر التي على الأنهار ، وكل ذي ماءٍ فهو بحر .
والثاني : أن البحر : الماء المعروف . قال مجاهد : ظهور الفساد في البر : قتل ابن آدم أخاه ، وفي البحر : مَلِك جائر يأخذ كل سفينة غصباً . وقيل لعطيَّة : أيّ فساد في البحر؟ فقال : إِذا قلَّ المطر قل الغَوص .
قوله تعالى : { بما كسبتْ أيدي الناس } أي : بما عملوا من المعاصي { لِيُذيقَهم } وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وعكرمة ، وقتادة ، وابن محيصن ، وروح [ عن يعقوب ] ، وقنبل عن ابن كثير : { لِنُذيقَهم } بالنون { بعضَ الذي عَمِلوا } أي : جزاء بعض أعمالهم؛ فالقحط جزاءٌ ، ونقصان البركة جزاءٌ ، ووقوع المعصية منهم جزاءٌ معجَّل لمعاصيهم أيضاً .
قوله تعالى : { لعلَّهم يَرجِعونَ } في المشار إِليهم قولان .
أحدهما : أنهم الذين أُذيقوا الجزاءَ ، ثم في معنى رجوعهم قولان .
أحدهما : يرجعون عن المعاصي ، قاله أبو العالية .
والثاني : يرجعون إِلى الحق ، قاله إِبراهيم .
والثاني : أنهم الذين يأتون بعدهم؛ فالمعنى : لعلَّه يرجع مَنْ بعدَهُم ، قاله الحسن .
قوله تعالى : { قُل سِيروا في الأرض } أي : سافِروا { فانظروا كيف كان عاقبةُ الذين مِنْ قَبْلُ } أي : الذين كانوا قبلكم؛ والمعنى : انظروا إِلى مساكنهم وآثارهم { كان أكثرهم مشركين } المعنى : فأُهلكوا بشِركهم . { فأقَم وجهك للدِّين } أي : أَقم قصدك لاتِّباع الدِّين { القيّمِ } وهو الإِسلام المستقيم { مِنْ قَبْلِ أن يأتيَ يومٌ لا مَرَدَّ له من الله } يعني : [ يوم ] القيامة لا يقدر أحد على رد ذلك اليوم ، لأن الله تعالى قد قضى كونه { يَومَئِذٍ يَصَّدَّعون } أي : يتفرَّقون إِلى الجنة والنار .

مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)

{ من كَفَرَ فعليه كُفره } أي : جزاء كفره { ومن عمل صالحاً فلأنفُسهم يَمْهَدُونَ } أي : يُوَطِّئُون . وقال مجاهد : يسوُّون المضاجع في القبور ، قال أبو عبيدة : «مَنْ» يقع على الواحد والاثنين والجمع من المذكَّر والمؤنَّث ، ومجازها هاهنا مجاز الجميع ، و { يَمْهَد } بمعنى يكتسب ويعمل ويستعدّ .

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)

قوله تعالى : { ومن آياته أن يُرْسِل الرياح مبشِّراتٍ } تبشِّر بالمطر { ولِيُذيقكم مِنْ رحمته } وهو الغيث والخصب { ولِتَجريَ الفُلْكُ } في البحر بتلك الرياح { بأمره } { ولِتَبتغوا } بالتجارة في البحر { مِنْ فَضله } وهو الرزق؛ وكلُّ هذا بالرياح .
قوله تعالى : { فجاؤوهم بالبيِّنات } أي : بالدلالات على صِدقهم { فانتقمنا من الذين أَجرموا } أي : عذَّبْنا الذين كذَّبوهم { وكان حَقّاً علينا } أي : واجباً هو أوجبه على نفسه { نصرُ المؤمنين } إِنجاؤهم مع الرُّسل من عذاب المكذِّبين .

اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)

قوله تعالى : { يُرْسِلُ الرِّياح } وقرأ ابن مسعود ، وأبو رجاء ، والنخعي ، وطلحة بن مصرِّف ، والأعمش : { يُرْسِلُ الرِّيح } بغير ألف .
قوله تعالى : { فتُثير سحاباً } أي : تُزعجه { فيَبْسُطُهُ } الله { في السماء كيف يشاء } إِن شاء بسطه مسيرة يوم أو يومين أو أقل أو أكثر { ويجعلُه كِسَفاً } أي : قِطعاً متفرِّقة . والأكثرون فتحوا سين { كِسَفاً } ؛ وقرأ أبو رزين ، وقتادة ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، وابن أبي عبلة : بتسكينها؛ قال أبو علي : يمكن أن يكون مثل سِدْرَة وسِدَر ، فيكون معنى القراءتين واحداً { فتَرى الوَدْق يخرُج مِن خِلاَله } وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية : { مِن خَلَلِه } ؛ وقد شرحناه في [ النور43 ] { فاذا أَصاب به } أي : بالوَدْق؛ ومعنى { يَستبشِرون } يفرحون بالمطر ، { وإِن كانوا مِنْ قَبْلِ أن يُنَزَّل عليهم } المطر { مِنْ قَبْله } وفي هذا التكرير ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه للتأكيد كقوله : { فسجد الملائكة كلُّهم أجمعون } [ الحجر : 30 ] ، قاله الأخفش في آخرين .
والثاني : أن «قَبْل» الأولى للتنزيل ، والثانية للمطر ، قاله قطرب . قال ابن الأنباري : والمعنى : مِنْ قَبْل نزول المطر ، مِنْ قَبْل المطر ، وهذا مثلما يقول القائل : آتيك من قبل أن تتكلم ، من قبل ان تطمئن في مجلسك ، فلا تُنكَر الإِعادة ، لاختلاف الشيئين .
والثالث : أن الهاء في قوله : { مِنْ قبْله } ترجع إِلى الهُدى وإِن لم يتقدَّم له ذِكْر ، فيكون المعنى : كانوا يقنَطنون من قبل نزول المطر ، من قبل الهُدى ، فلمَّا جاء الهُّدى والإِسلام زال القُنوط ، ذكره ابن الأنباري عن أبي عُمر الدُّوري وأبي جعفر بن قادم . والمبلسون : الآيسون وقد سبق الكلام في هذا [ الأنعام : 44 ] .
{ فانظُر إِلى آثار رحمة الله } قرأ أبن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : { إِلى أَثَر } . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : { إِلى آثار } على الجمع ، والمراد بالرحمة هاهنا المطر ، وأثرها : النبت؛ والمعنى : انظر إِلى حسن تأثيره في الأرض { كيف يُحيي الارض } أي : كيف يجعلها تُنبت بعد أن لم يكن فيها نبت . وقرأ عثمان بن عفان ، وأبو رجاء ، وأبو عمران الجوني ، وسليمان التيمي . { كيف تُحْيِي } بتاء مرفوعة مكسورة الياء { الأرضَ } بفتح الضاد .
قوله تعالى : { ولَئن أَرسلْنا ريحاً } [ أي : ريحاً ] باردة مُضِرَّة ، والريح إِذا أتت على لفظ الواحد أُريدَ بها العذاب ، ولهذا " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند هبوب الريح : «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» " { فرأوه مُصْفَرّاً } يعني النبت ، والهاء عائدة إِلى الأثر . قال الزجاج : المعنى : فرأَوُا النبت قد اصفرّ وجفَّ { لظلُّوا مِنْ بَعده يكفُرونَ } ومعناه : لَيَظَلُّنّ ، لأن معنى الكلام الشرط والجزاء ، فهم يستبشرون بالغيث ، ويكفرون إِذا انقطع عنهم الغيث وجفَّ النبت . وقال غيره : المراد برحمة الله : المطر . و { ظلُّوا } بمعنى صاروا { من بعده } أي : من بعد اصفرار النبت يجحدون ما سلف من النِّعمة .

وما بعد هذا مفسَّر في سورة [ النمل : 80 ، 81 ] إِلى قوله : { اللّهُ الذي خلقكم من ضَعْف } وقد ذكرنا الكلام فيه في [ الأنفال : 66 ] ، قال المفسرون : المعنى : خلقكم من ماءٍ ذي ضَعف ، وهو المنيّ { ثُمَّ جَعل مِنْ بَعْد ضَعْف } يعني ضعف الطفولة قوَّة الشباب ، ثُمَّ جَعل مِن بَعْد قوَّة الشباب ضعف الكِبَر ، وشيبةً ، { يخلُق ما يشاء } أي : من ضعف وقوَّة وشباب وشَيبة { وهو العليم } بتدبير خلقه { القدير } على ما يشاء .
{ ويوم تقوم الساعة } قال الزجاج : الساعة في القرآن على معنى الساعة التي تقوم فيها القيامة ، فلذلك لم تُعرف أيّ ساعة هي .
قوله تعالى : { يُقسِم المجرِمون } أي : يَحْلِف المشركون { ما لَبِثوا } في القبور { غيرَ ساعةٍ كذلك كانوا يؤفَكون } قال ابن قتيبة : يقال : أُفِكَ الرجلُ : إِذا عُدِل به عن الصِّدق ، فالمعنى أنهم قد كذَّبوا في هذا الوقتِ كما كَذَّبوا في الدنيا . وقال غيره : أراد الله تعالى أن يفضحهم يوم القيامة بين المؤمنين ، فحلفوا على شيء يبَين للمؤمنين كذبُهم فيه ، ويستدلُّون على كذبهم في الدنيا . ثم ذكر إِنكار المؤمنين عليهم بقوله : { وقال الذين أُوتوا العِلْم والإِيمانَ } وفيهم قولان .
أحدهما : أنهم الملائكة .
والثاني : المؤمنون .
قوله تعالى : { لقد لَبِثتم في كتاب الله إِلى يوم البعث } فيه قولان .
أحدهما : أن فيه تقديماً وتأخيراً ، تقديره : وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإِيمان بالله ، قاله ابن جريج في جماعة من المفسرين .
والثاني : أنه على نظمه . ثم في معناه قولان .
أحدهما : لقد لَبِثتم في عِلْم الله ، قاله الفراء .
والثاني : لقد لَبِثتم في خَبَر الكتاب ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى : { فهذا يومُ البعث } أي : اليوم الذي كنتم تُنْكِرونه { ولكنَّكم كنتم لا تَعْلَمون } في الدنيا أنه يكون . { فيومَئذ لا يَنْفَعُ الذين ظَلَموا معذرتُهم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : { لا تَنْفَعُ } بالتاء . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : بالياء ، لأن التأنيث غير حقيقي .
قال ابن عباس : لا يُقْبَلُ من الذين أشركوا عُذر ولا توبة .
قوله تعالى : { ولا هُمْ يُسْتَعْتَبون } أي : لا يُطلب منهم العتبى والرجوعُ في الآخرة .

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)

قوله تعالى : { ولئن جئتَهم بآية } أي : كعصا موسى ويده { لَيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ أنْتم } أي : ما أنتم يا محمد وأصحابك { إِلا مُبْطِلون } أي : أصحاب أباطيل ، وهذا بيان لعنادهم . { كذلك } أي : كما طبع على قلوبهم حتى لا يصدِّقون الآيات { يَطبع اللّهُ على قُلوب الذين لا يَعْلَمون } توحيد الله؛ فالسبب في امتناع الكفار من التوحيد ، الطَّبْع على قلوبهم .
قوله تعالى : { فاصْبِر إِنَّ وَعْدَ الله } بنصرك وإِظهارك على عدوِّك { حقٌّ } . { ولا يَسْتَخِفَّنَّكَ } وقرأ يعقوب إِلا روحاً وزيداً : { يَسْتَخِفَّنْكَ } بسكون النون . قال الزجاج : لايَستفزَّنَّك عن دِينك { الذين لا يُوقِنونَ } أي : هم ضُلاَّلٌ شاكُّونَ . وقال غيره : لا يُوقِنون بالبعث والجزاء . وزعم بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة .

الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)

قوله تعالى : { هُدىً ورحمةً } وقرأ حمزة وحده : { ورحمةٌ } بالرفع . قال الزجاج : القراءة بالنصب على الحال؛ والمعنى : تلك آيات الكتاب في حال الهداية والرحمة؛ ويجوز الرفع على إِضمار { هو هدىً ورحمةٌ } وعلى معنى { تلك هدىً ورحمةٌ } . وقد سبق تفسير مفتتحَ هذه السورة [ البقرة : 1-5 ] إِلى قوله : { ومِنَ النَّاس من يشتري لَهْوَ الحديث } قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في رجل اشترى جارية مغنّيةً . وقال مجاهد : نزلت في شراء القِيَان والمغنِّيات . وقال ابن السائب ومقاتل : نزلت في النَّضْر بن الحارث ، وذلك أنه كان تاجراً إِلى فارس ، فكان يشتري أخبار الأعاجم فيحدِّث بها قريشاً ويقول لهم : إِنَّ محمداً يحدِّثكم بحديث عاد وثمود ، وأنا أُحدِّثكم بحديث رستم وإِسفنديار وأخبار الأكاسرة ، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن ، فنزلت فيه هذه الآية .
وفي المراد بلهو الحديث أربعة أقوال .
أحدها : [ أنه ] الغناء . كان ابن مسعود يقول : هو الغناء والذي لا إِله إِلا هو ، يُردِّدها ثلاث مرات؛ وبهذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد ، قال : اللهو : الطبل .
والثاني : أنه ما ألهى عن الله ، قاله الحسن ، وعنه مثل القول الأول .
والثالث : أنه الشِّرك ، قاله الضحاك .
والرابع : الباطل ، قاله عطاء .
وفي معنى { يشتري } قولان .
أحدهما : يشتري بماله؛ وحديث النضر يعضده .
والثاني : يختار ويستحبّ ، قاله قتادة ، ومطر . وإِنما قيل لهذه الأشياء : لهو الحديث ، لأنها تُلهي عن ذِكْر الله .
قوله تعالى : { لِيَضِلَّ } المعنى : ليصير أمره إِلى الضلال ، وقد بيَّنَّا هذا الحرف في [ الحج : 9 ] .
وقرأ أبو رزين ، والحسن وطلحة بن مصرف ، والأعمش ، وأبو جعفر : { لِيُضِلَّ } بضم الياء ، والمعنى : لِيُضِلَّ غيره ، وإِذا أضَلَّ غيره فقد ضَلَّ هو أيضاً .
قوله تعالى : { ويَتَّخِذَها } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : { ويَتَّخِذُها } برفع الذال . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : بنصب الذال . قال أبو علي : من نصب عطف على { لِيُضِلَّ } { ويَتَّخذ } ومن رفع عطفه على { من يشتري } { ويتخذ } .
وفي المشار إِليه بقوله : { ويَتَّخِذَها } قولان .
أحدهما : أنها الآيات .
والثاني : السبيل .
وما بعد هذا مفسر في مواضع قد تقدَّمت [ الاسراء : 46 ، الانعام : 25 ، البقرة : 25 ، الرعد : 2 ، النحل : 15 ، الشعراء : 7 ] إِلى قوله : { ولقد آتيْنا لُقمَان الحكمة } وفيها قولان .
أحدهما : الفهم والعقل ، قاله الأكثرون .
والثاني : النبوَّة . وقد اختُلف في نبوَّته على قولين :
أحدهما : أنه كان حكيماً ولم يكن نبيّاً ، قاله سعيد بن المسيب ، ومجاهد ، وقتادة .
والثاني : أنه كان نبيّاً ، قاله الشعبي ، وعكرمة ، والسدي . هكذا حكاه عنهم الواحدي ، ولا يعرف ، إِلاَّ أن هذا ممَّا تفرَّد به عكرمة؛ والقول الأول أصح .
وفي صناعته ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه كان خيّاطاً ، قاله سعيد بن المسيب .
والثاني : راعياً ، قاله ابن زيد .
والثالث : نجاراً ، قاله خالد الربعي .
فأما صفته ، فقال ابن عباس : كان عبداً حبشيّاً . وقال سعيد بن المسيب : كان لقمان أسود من سودان مصر . وقال مجاهد : كان غليظ الشفتين مشقَّق القدمين ، وكان قاضياً على بني إِسرائيل .
قوله تعالى : { أَنِ اشكُر لله } المعنى : وقلنا له : أن أشكر لله [ على ] ما أعطاك من الحكمة { ومن يشكُرْ فانَّما يَشكُرُ لنَفْسه } أي : إِنما يفعل لنفسه { ومن كَفَر } النِّعمة ، فان الله لغنيٌّ عن عِبادة خَلْقه .

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)

قوله تعالى : { ووصَّينا الإِنسان بوالديه } قال مقاتل : نزلت في سعد بن أبي وقاص ، وقد شرحنا ذلك في [ العنكبوت : 8 ] .
قوله تعالى : { حملتْه أُمُّه وَهْناً على وَهْنٍ } وقرأ الضحاك ، وعاصم الجحدري { وَهَناً على وَهَنٍ } بفتح الهاء فيهما . قال الزجاج : أي ضَعْفاً على ضَعْف . والمعنى : لزمها بحَمْلها إِيَّاه أن تَضْعُف مَرَّةً بعد مَرَّة . وموضع «أن» نصب ب { وصَّيْنا } ؛ المعنى : ووصَّينا الإِنسان أن أشكُر لي ولوالدَيْك ، أي : وصَّيناه بشُكْرنا وشُكر والدَيه .
قوله تعالى : { وفِصَالُه في عامَين } أي : فِطامُه يقع في انقضاء عامين . وقرأ إِبراهيم النخعي ، وأبو عمران ، والأعمش : { وفَصَالُه } بفتح الفاء . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، والحسن وأبو رجاء ، وطلحة بن مصرِّف؛ وعاصم الجحدري ، وقتادة؛ { وفَصْلُه } بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف . والمراد : التنبيه على مشقَّة الوالدة بالرَّضاع بعد الحمل . قوله تعالى : { وإِن جاهَداكَ } قد فسرنا ذلك في سورة [ العنكبوت : 8 ] إِلى قوله : { وصاحِبْهُما في الدُّنيا معروفاً } قال الزجاج : أي مُصَاحَباً معروفاً ، تقول صاحبه مُصَاحَباً ومُصَاحَبَةً؛ والمعروف : ما يُستحسن من الأفعال .
قوله تعالى : { واتَّبِعْ سبيلَ مَنْ أناب إِليَّ } أي : مَنْ رَجَع إِليَّ؛ وأهل التفسير يقولون : هذه الآية نزلت في سعد ، وهو المخاطَب بها .
وفي المراد بمَنْ أناب ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه أبو بكر الصِّدِّيق ، قيل لسعد : اتَّبِع سبيله في الإِيمان ، هذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء . وقال ابن إِسحاق : أسلم على يَدي أبي بكر [ الصِّدِّيق ] : عثمانُ بن عفان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف .
والثاني : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن السائب .
والثالث : مَنْ سلك طريق محمد وأصحابه ، ذكره الثعلبي .
ثم رجع إِلى الخبر عن لقمان فقال : { يا بُنيَّ } . وقال ابن جرير : وجه اعتراض هذه الآيات بين الخبرين عن وصيَّة لقمان أنَّ هذا ممَّا أوصى به لقمانُ ابنَه .
قوله تعالى : { إِنَّها إِنْ تَكُ مِثقالَ حَبَّة } وقرأ نافع وحده : { مِثقالُ حَبَّة } برفع اللام . وفي سبب قول لقمان لابنه هذا قولان .
أحدهما : أن ابن لقمان قال لأبيه : أرأيتَ لَو كانت حبَّة في قعر البحر أكان اللّهُ يعلَمُها؟ فأجابه بهذه الآية ، قاله السدي .
والثاني : أنه قال يا أبت إِن عملتُ الخطيئة حيث لا يراني أحد ، كيف يعلَمُها الله؟ فأجابه بهذا ، قاله مقاتل .
قال الزجاج : من قرأ برفع المثقال مع تأنيث { تَكُ } فلأنَّ { مثقال حبَّة من خردل } راجع إِلى معنى : خردلة ، فهي بمنزلة : إِن تَكُ حبَّةٌ من خردل؛ ومن قرأ { مثقالَ حبَّة } فعلى معنى : إِن التي سألتَني عنها إِن تَكُ مثقالَ حبَّة ، وعلى معنى : إِنَّ فَعْلَة الإِنسان وإِن صَغُرت يأت بها الله . وقد بيَّنَّا معنى { مثقالَ حبَّة من خردل } في [ الأنبياء47 ] .
قوله تعالى : { فتكُن في صخرة } قال قتادة : في جبل .

وقال السدي : هي الصخرة التي تحت الأرض السابعة ، ليست في السماوات ولا في الأرض .
وفي قوله : { يأت بها اللّهُ } ثلاثة أقوال .
أحدها : يعلَمها اللّهُ ، قاله أبو مالك .
والثاني : يُظهرها ، قاله ابن قتيبة .
والثالث : يأت بها الله في الآخرة للجزاء عليها .
{ إِنَّ الله لطيف } قال الزجاج : لطيف باستخراجها { خبير } بمكانها . وهذا مَثَل لأعمال العباد ، والمراد أنَّ الله تعالى يأتي بأعمالهم يوم القيامة ، مَنْ يعمل مثقال ذَرَّة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذَرَّة شرّاً يره .
قوله تعالى : { واصْبِر على ما أصابك } أي : في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنْكَر من الأذى . وباقي الآية مفسر في [ آل عمران : 286 ] .

وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)

قوله تعالى : { ولا تُصَعِّر خدَّك للنَّاس } قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب : { تُصَعِّر } بتشديد العين من غير ألف . وقرأ نافع ، [ وأبو عمرو ] ، وحمزة ، والكسائي : بألف من غير تشديد . قال الفراء : هما لغتان ، ومعناهما : الإِعراض من الكِبْر . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وأبو رجاء ، وابن السميفع ، وعاصم الجحدري : { ولا تُصْعِر } باسكان الصاد وتخفيف العين من غير ألف . وقال الزجاج : معناه : لا تُعْرِض عن الناس تكبُّراً؛ يقال : أصاب البعير صَعَرٌ : إِذا أصابه داءٌ يَْلوي منه عُنُقه . وقال ابن عباس : هو الذي إِذا سُلِّم عليه لوى عُنُقه كالمستكبِر . وقال أبو العالية : ليكن الغنيُّ والفقير عندك في العِلْم سواءً . وقال مجاهد : هو الرجل يكون بينه وبين أخيه الحِنَة ، فيراه فيُعرض عنه . وباقي الآية بعضه مفسر في [ بني إِسرائيل : 37 ] وبعضه في سورة [ النساء : 36 ] .
قوله تعالى : { واقْصِدْ في مَشْيِكَ } أي : ليكن مشيُك قصداً ، لا تخيُّلاً ولا إِسراعاً . قال عطاء : امش بالوقار والسَّكينة .
قوله تعالى : { واغضُض من صوتك } أي : انقص منه . قال الزجاج : ومنه قولهم : غضضتُ بصري ، وفلان يغضُّ من فلان ، أي : يقصر به .
{ إِنَّ أنكر الأصوات } وقرأ أبو المتوكل ، وابن أبي عبلة : { أنَّ أنكر الأصوات } بفتح الهمزة . ومعنى { أنكر } : أقبح؛ تقول : أتانا فلان بوجهٍ منكَر ، أي : قبيح . وقال المبرِّد : تأويله : أن الجهر بالصوت ليس بمحمود ، وأنه داخل في باب الصوت المنكَر . وقال ابن قتيبة : عَرَّفَهُ قُبْحَ رفْعِ الأصوات في المخاطبة والمُلاحاة بقبح أصوات الحمير ، لأنها عالية . قال ابن زيد : لو كان رفع الصوت خيراً ، ما جعله الله للحمير . وقال سفيان الثوري : صياح كل شيء تسبيح لله عز وجل ، إِلا الحمار ، فانه ينهق بلا فائدة .
فان قيل : كيف قال { لَصَوتُ } ولم يقل { لأَصواتُ الحمير } ؟ فالجواب : أن لكل جنس صوتاً ، فكأنه قال : إِن أنكر أصوات الأجناس صوت هذا الجنس .

أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)

قوله تعالى : { وأَسبغَ عليكم } أي : أَوسع َوأَكملَ { نَعَمَهُ } قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : { نِعَمَهُ } ، أرادوا جميع ما أنعم به . وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : { نِعْمَةً } على التوحيد . قال الزجاج : هو ما أعطاهم من توحيده . وروى الضحاك عن ابن عباس ، قال : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله! ما هذه النِّعمة الظاهرة والباطنة؟ فقال : «أمَّا ما ظهر : فالإِسلام ، وما سوَّى اللّهُ مِنْ خَلْقِك ، وما أَفضل عليك من الرِّزق . وأمَّا ما بطن : فستر مساوىء عملك ، ولم يفضحك» " وقال الضحاك : الباطنة : المعرفة ، والظاهرة : حسن الصورة ، وامتداد القامة ، وتسوية الأعضاء .
قوله تعالى : { أَوَلَوْ كان الشَّيطان يَدْعُوهم } هو متروك الجواب ، تقديره : أفتتَّبعونه؟

وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)

قوله تعالى : { ومن يُسْلِمْ وجهه } وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو العالية ، وقتادة : { ومن يُسَلِّم } بفتح السين وتشديد اللام . وذكر المفسرون أن قوله : { ومن كَفَرَ فلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ } منسوخ بآية السيف ، ولا يصح ، لأنه تسلية عن الحُزن ، وذلك لا ينافي الأمر بالقتال . وما بعد هذا قد تقدم تفسير ألفاظه في مواضع [ هود : 48 ، العنكبوت : 61 ، البقرة : 267 ] إِلى قوله : { ولو أنَّ ما في الأرض مِنْ شجرة أقلامٌ } وفي سبب نزولها قولان .
أحدهما : " أن أحبار اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيتَ قول الله عز وجل : { وما أُوتيتم من العِلْم إِلاَّ قليلاً } [ الاسراء : 85 ] ، إِيَّانا يريد ، أم قومك؟ فقال : «كُلاً» ، فقالوا : ألستَ تتلو فيما جاءك أنَّا قد أوتينا التوراة فيها تِبيانُ كل شيء؟ فقال : «إِنَّها في عِلْم الله قليل» " ، فنزلت هذه الآية ، رواه سعيد ابن جبير عن ابن عباس .
والثاني : أن المشركين قالوا في القرآن : إِنَّما هو كلام [ يوشك أن ] يَنْفَد وينقطع ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة . ومعنى الآية : لو كانت شجر الأرض أقلاماً ، وكان البحر ومعه سبعة أبحر مِداداً - وفي الكلام محذوف تقديره : فكُتب بهذه الأقلام وهذه البحور كلمات الله - لتكسَّرت الأقلامُ ونَفِذت البحور ، ولم تَنْفَذ كلماتُ الله ، أي : لم تنقطع .
فأما قوله : { والبَحْرُ } فقرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : { والبَحْرُ } بالرفع ، ونصبه أبو عمرو . وقال الزجاج : من قرأ : { والبَحْرَ } بالنصب ، فهو عطف على «ما»؛ المعنى : ولو أن ما في الأرض ، ولو أن البحر؛ والرفع حسن على معنى : والبحرُ هذه حالُه . قال اليزيدي : ومعنى { يَمُدُّهُ مِنْ بَعده } : يزيد فيه؛ يقال : مُدَّ قِدْرَكَ ، أي : زِدْ في مائها ، وكذلك قال ابن قتيبة : { يَمُدُّه } من المِداد ، لا من الإِمداد ، يقال : مَدَدْتُ دواتي بالمِداد ، وأَمددتُه بالمال والرجال .

مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)

قوله تعالى : { ما خَلْقُكُم ولا بَعْثُكُم إِلا كنَفْس واحدة } سبب نزولها أن أُبيَّ بن خلف في آخرين من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إِنَّ الله خلقنا أطواراً : نطفة ، علقة ، مضغة ، عظاماً ، لحماً ، ثم تزعم أنَّا نُبْعَث خَلْقاً جديداً جميعاً في ساعة واحدة؟! فنزلت هذه الآية ومعناها : ما خَلْقُكم أيُّها الناس جميعاً في القُدرة إِلا كخَلْق نفس واحدة ، ولا بَعْثُكم جميعاً في القُدرة إِلا كبعث نفس واحدة ، قاله مقاتل .
وما بعد هذا قد تقدم تفسيره [ آل عمران : 27 ، الرعد : 2 ، الحج : 62 ] إِلى قوله : { أَلَمْ تَرَ أنَّ الفُلْك تجري في البحر بنِعمة الله } قال ابن عباس : من نِعَمه جريان الفُلْك { لِيُرِيَكم من آياته } أي : لِيُرِيَكم من صنعته عجائبه في البحر ، وابتغاء الرزق { إِنَّ في ذلك لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ } قال مقاتل : أي : لكل صبور على أمر الله { شكورٍ } في نِعَمه .
قوله تعالى : { وإِذا غَشِيَهم } يعني الكفار؛ وقال بعضهم : هو عامّ في الكفار والمسلمين { موجٌ كالظُّلل } قال ابن قتيبة : وهي جمع ظُلَّة ، يراد أنَّ بعضه فوق بعض ، فله سوادٌ من كثرته .
قوله تعالى : { دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ له الدِّين } وقد سبق شرح هذا [ يونس : 22 ] ؛ والمعنى أنهم لا يذكُرون أصنامهم في شدائدهم إِنما يذكُرون الله وحده ، وجاء في الحديث أن عكرمة بن ابي جهل لمًّا هرب يوم الفتح من رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب البحر فأصابتهم ريح عاصف ، فقال أهل السفينة : أَخْلِصوا ، فان آلهتكم لا تُغْني عنكم شيئاً هاهنا ، فقال عكرمة : ما هذا الذي تقولون؟ فقالوا : هذا مكان لا ينفع فيه إِلاَّ اللّهُ ، فقال : هذا إِله محمد الذي كان يدعونا إِليه ، لَئن لم ينجني في البحر إِلاَّ الإِخلاص ما ينجيني في البَرِّ غيرُه ، ارجعوا بن ، فرجَع فأسلم .
قوله تعالى : { فمِنهم مُقْتَصِدٌ } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : مؤمن ، قاله الحسن .
والثاني : مقتصد في قوله ، وهو كافر ، قاله مجاهد . يعني أنه يعترف بأن الله وحده القادر على إِنجائه وإِن كان مُضْمِراً للشِّرك .
والثالث : أنه العادل في الوفاء بما عاهد اللّهَ عليه في البحر من التوحيد ، قاله مقاتل .
فأما { الخَتَّار } فقال الحسن : هو الغدَّار . قال ابن قتيبة : الخَتْرُ : أقبح الغَدْر وأشدُّه .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

قوله تعالى : { يا أيُّها النَّاس اتَّقُوا ربَّكم } قال المفسرون : هذا خطاب لكفار مكة . وقوله : { لا يَجزي والدٌ عن ولده } أي : لا يقضي عنه شيئاً من جنايته ومظالمه . قال مقاتل : وهذا يعني به الكفار . وقد شرحنا هذا في [ البقرة : 48 ] . قال الزجاج : وقوله : { هو جازٍ } جاءت في المصاحف بغير ياء ، والأصل { جازيٌ } بضمة وتنوين . وذكر سيبويه والخليل أن الاختيار في الوقف هو { جازٍ } بغير ياءٍ ، هكذا وقف الفصحاء من العرب ليُعلموا أن هذه الياء تسقُط في الوصل . وزعم يونس أن بعض العرب الموثوق بهم يقف بياءٍ ، ولكن الاختيار اتِّباع المصحف .
قوله تعالى : { إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أي : بالبعث والجزاء { فلا تَغُرَّنَّكم الحياةُ الدُّنيا } بزينتها عن الإِسلام والتزوُّد للآخرة { ولا يَغُرَّنَّكم بالله } أي : بحِلْمه وإِمهاله { الغَرورُ } يعني : الشيطان ، وهو الذي من شأنه أن يَغُرُّ . قال الزجاج : { الغَرور } على وزن الفَعول ، وفَعول من أسماء المبالغة ، يقال : فلان أَكُول : إِذا كان كثير الأكل ، وضَروب : إِذا كان كثير الضَّرْب ، فقيل للشيطان : غَرور ، لأنه يَغُرُّ كثيراً . وقال ابن قتيبة : الغَرور بفتح الغين : الشيطان ، وبضمها : الباطل .
قوله تعالى : { إِنَّ الله عنده عِلْم الساعة } سبب نزولها " أن رجلاً من أهل البادية جاء إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إِنَّ امرأتي حُبْلى ، فأَخبِرني ماذا تَلِد؟ وبلدنا مُجْدِب ، فأَخبِرني متى يَنزل الغيث؟ وقد علمت متى وُلدتُ ، فأخبرني متى أموتُ " ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد .
ومعنى الآية : { إِنَّ الله } عز وجل { عنده عِلْم الساعة } متى تقوم ، لا يعلم سواه ذلك { ويُنْزِلُ الغَيْثَ } وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر : { ويُنَزِّلُ } بالتشديد ، فلا يعلم أحد متى يَنزل الغيث ، ألَيْلاَ أم نهاراً { ويَعْلَمُ ما في الأرحام } لا يعلم سواه ما فيها؛ أذكراً أم أنثى ، أبيض أو أسود { وما تَدري نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غداً } أخيراً أم شرّاً { وما تَدري نَفْس بأيِّ أرض تموت } أي : بأيِّ مكان . وقرأ ابن مسعود ، وأُبيُّ بن كعب ، وابن أبي عبلة : { بأيَّة أرض } بتاء مكسورة . والمعنى : ليس أحد يعلم [ أين ] مضجعه من الأرض حتى يموت ، أفي برٍّ أو بحر أو سهل أو جبل . وقال أبو عبيدة : [ يقال ] : بأيِّ أرض كنتَ ، وبأية أرض كنت ، لغتان . وقال الفراء : من قال : بأيِّ أرض ، اجتزأ بتأنيث الأرض من أن يُظهر في «أيّ» تأنيثاً آخر . قال ابن عباس : هذه الخمس لا يعلمها ملَك مقرَّب ولا نبيٌّ [ مرسَل ] مصطفى . قال الزجاج : فمن ادَّعى أنه يعلم شيئاً من هذه كفر بالقرآن لأنه خالفه .

الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)

قوله تعالى : { تنزيلُ الكتاب لا ريب فيه } قال مقاتل : المعنى : لا شكَّ فيه أنَّه تنزيل { مِنْ ربِّ العالَمِين } .
{ أم يقولون } بل يقولون ، يعني المشركين { افْتراه } محمد من تِلقاء نَفْسه ، { بل هو الحقُّ من ربِّك لِتُنْذِر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك } يعني : العرب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأتهم نذير من قَبْل محمد عليه السلام . وما بعده قد سبق تفسيره [ الاعراف : 54 ] إِلى قوله : { ما لكم مِنْ دونه من وليٍّ } يعني الكفار؛ يقول : ليس لكم من دون عذابه من وليٍّ ، أي : قريب يمنعُكم فيرُدُّ عذابه عنكم { ولا شفيعٍ } يشفع لكم { أفلا تَتذكَّرونَ } فتؤمنوا .

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)

قوله تعالى : { يدبِّر الأَمر من السماء إِلى الأرض } في معنى الآية قولان .
أحدهما : يقضي القضاء من السماء فينزِّله مع الملائكة إِلى الأرض ، { ثم يَعْرُجُ } الملَك { إِليه في يوم } من أيام الدنيا ، فيكون الملَك قد قطع في يوم واحد من أيام الدنيا في نزوله وصعوده مسافة ألف سنة من مسيرة الآدمي .
والثاني : يدبِّر أمر الدنيا مدة أيَّام الدنيا ، فينزِّل القضاء والقدر من السماء إِلى الأرض ، { ثم يعرُج إِليه } أي : يعود إِليه الأمر والتدبير حين ينقطع أمر الأمراء وأحكام الحكّام وينفرد الله تعالى بالأمر { في يوم كان مقداره ألف سنة } وذلك في [ يوم ] القيامة ، لأنَّ كل يوم من أيام الآخرة كألف سنة .
وقال مجاهد : يقضي أمر ألف سنة في يوم واحد ، ثم يلقيه إِلى الملائكة ، فاذا مضت قضى لألف سنة آخرى ، ثم كذلك أبداً .
وللمفسرين في المراد بالأمر ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الوحي ، قاله السدي .
والثاني : القضاء ، قاله مقاتل .
والثالث : أمر الدنيا .
و { يعرُج } بمعنى يصعَد . قال الزجاج : يقال : عَرَجْتُ في السُّلَّم أعرُج ، وعَرِج الرجُل يعرَج : إِذا صار أعرج .
وقرأ معاذ القارىء ، وابن السميفع ، وابن أبي عبلة : { ثم يُعْرَجُ إِليه } بياء مرفوعة وفتح الراء . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو الجوزاء : { يَعْرِجُ } بياء مفتوحة وكسر الراء . وقرأ أبو عمران الجوني ، وعاصم الجحدري : { ثم تَعْرُجُ } بتاء مفتوحة ورفع الراء .
قوله تعالى : { الذي أحسنَ كُلَّ شيء خَلَقه } فيه خمسة أقوال .
أحدها : جعله حَسَناً .
والثاني : أحكم كل شيء ، رويا عن ابن عباس ، وبالأول قال قتادة ، وبالثاني قال مجاهد .
والثالث : أحسنه ، لم يتعلمه من أحد ، كما يقال : فلان يُحْسِن كذا : إِذا عَلِمه ، قاله السدي ، ومقاتل .
والرابع : أن المعنى : ألهم خَلْقه كلَّ ما يحتاجون إِليه ، كأنه أعلمهم كل ذلك وأحسنهم ، قاله الفراء .
والخامس : أحسن إِلى كل شيء خَلْقه ، حكاه الماوردي .
وفي قوله : { خَلْقَه } قراءتان . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : { خَلْقَه } ساكنة اللام . وقرأ الباقون بتحريك اللام . وقال الزجاج : فتحها على الفعل الماضي ، وتسكينها على البدل ، فيكون المعنى : أحسنَ خَلْقَ كلِّ شيء خَلَقه . وقال أبو عبيدة : المعنى : أحسن خَلْق كلِّ شيء ، والعرب تفعل مثل هذا ، يقدِّمون ويؤخِّرون .
قوله تعالى : { وبدأ خَلْقَ الإِنسان } يعني آدم ، { ثم جعل نسله } أي : ذرِّيته وولده؛ وقد سبق شرح الآية [ المؤمنون : 12 ] .
ثم رجع إِلى آدم فقال : { ثُمَّ سوَّاه ونَفَخ فيه من رُوحه } وقد سبق بيان ذلك [ الحجر : 29 ] . ثم عاد إِلى ذريته فقال : { وجَعَل لكم السَّمْع والأبصار } أي : بعد كونكم نُطَفاً .

وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)

قوله تعالى : { وقالوا } يعني منكري البعث { أإِذا ضَلَلْنا في الأرض } وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وعليّ بن الحسين ، وجعفر بن محمد ، وأبو رجاء ، وأبو مجلز ، وحميد ، وطلحة : { ضَلِلْنَا } بضاد معجمة مفتوحة وكسر اللام الأولى . قال الفراء : ضَلَلْنَا وضَلِلْنَا لغتان ، والمعنى : إِذا صارت عظامنا ولحومنا تراباً كالأرض؛ تقول ضَلَّ الماءُ في اللَّبَن ، وضل الشيء في الشيء : إِذا أخفاه وغلب عليه . وقرأ أبو نهيك ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : { ضُلِّلْنَا } [ بضم ] الضاد المعجمة وتشديد اللام الأولى وكسرها . وقرأ الحسن ، وقتادة ، ومعاذ القارىء : { صَلَلْنَا } بصاد غير معجمة مفتوحة ، وذكر لها الزجاج معنيين .
أحدهما : أَنْتَنَّا وتَغَيَّرْنا وتغيَّرَت صُوَرُنا؛ يقال : صَلَّ اللحمُ وأَصَلَّ : إِذا أنتن وتغيَّر .
والثاني : صِرْنَا من جنس الصَّلَّة ، وهي الأرض اليابسة .
قوله تعالى : { أإِئنَّا لفي خَلْق جديد } ؟! هذا استفهام إِنكار .
قوله تعالى : { الذي وُكِّل بِكُم } أي : بقبض أرواحكم { ثُمَّ إِلى ربِّكم تُرْجَعُون } يوم الجزاء .
ثم أخبر عن حالهم في القيامة فقال : { ولو ترى إِذِ المجْرِمون ناكِسو رؤوسِهم } أي : مُطأطئوها حياءً وندماً ، { ربَّنا } فيه إِضمار { يقولون ربَّنا } { أبصَرْنا وسَمِعْنا } أي : عَلِمْنا صِحَّة ما كنَّا به مكذِّبين { فارْجِعنا } إِلى الدنيا؛ وجواب «لو» متروك تقديره : لو رأيتَ حالهم لرأيتَ ما يُعتبر به ، ولشاهدت العَجَب .

وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)

قوله تعالى : { ولكنْ حَقَّ القولُ مِنِّي } أي : وجب وسبق؛ والقول هو قوله لإِبليس { لأَملأنَّ جهنَّم منكَ وممَّن تَبِعك منهم أجمعين } [ ص : 85 ] .
قوله تعالى : { لأَملأنَّ جهنَّم مِنَ الجِنَّة والنَّاس أجمعين } أي : من كفار الفريقين . { فذُوقوا بما نسيتم لقاءَ يومكم هذا } قال مقاتل : إِذا دخلوا النار قالت لهم الخزَنة : فذوقوا العذاب . وقال غيره : إِذا اصطرخوا فيها قيل لهم : ذُوقوا بما نَسِيتُم ، أي : بما تركتم العمل للقاء يومكم هذا ، { إِنَّا نَسِيناكم } أي : تركناكم من الرَّحمة .
قوله تعالى : { إِنَّما يؤمِن بآياتنا الذين إِذا ذُكِّروا بها } أي : وُعِظوا بها { خَرُّوا سُجَّداً } أي : سقطوا على وجوههم ساجدين . وقيل : المعنى : إِنَّما يؤمِن بفرائضنا من الصلوات الخمس الذين إِذا ذُكِّروا بها بالأذان والإِقامة خَرُّوا سُجَّداً .
قوله تعالى : { تتجافى جنوبُهم } اختلفوا فيمن نزلت وفي الصلاة التي تتجافى لها جنوبهم على أربعة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في المتهجِّدين بالليل؛ " روى معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { تتجافى جنوبُهم } قال : «قيام العبد من الليل» " وفي لفظ آخر أنه قال لمعاذ : " إِن شئتَ أنبأتُك بأبواب الخير» قال : قلت أجَلْ يا رسول الله ، قال : «الصَّوم جُنَّة ، والصدقة تكفِّر الخطيئة ، وقيام الرَّجل في جوف الليل يبتغي وجه الله» " ا ثم قرأ : { تتجافى جنوبُهم عن المضاجع } . وكذلك قال الحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وأبو العالية ، وقتادة ، وابن زيد أنها في قيام الليل . وقد روى العوفي عن ابن عباس قال : تتجافى جنوبهم لذِكْر الله ، كلَّما استيقظوا ذَكَروا الله ، إِما في الصلاة ، وإِمَّا في قيام ، أو في قعود ، أو على جنوبهم ، فهم لا يزالون يذكُرون الله عز وجل .
والثاني : أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانوا يصلُّون ما بين المغرب والعشاء ، قاله أنس بن مالك .
والثالث : أنها نزلت في صلاة العشاء [ كأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينامون حتى يصلُّوها ، قاله ابن عباس .
والرابع : أنها صلاة العشاء ] والصبح في جماعة ، قاله أبو الدرداء ، والضحاك .
ومعنى «تَتَجافى» : ترتفع . والمَضَاجِع جمع مَضْجَع ، وهو الموضع الذي يُضْطَجَع عليه .
{ يَدْعُونَ ربَّهم خَوْفاً } من عذابه { وطمعاً } في رحمته [ وثوابه ] { ومِمَّا رَزَقْناهم يُنْفِقونَ } في الواجب والتطوُّع .
{ فلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لهم } وأسكن ياء «أُخْفِي» حمزة ، ويعقوب . قال الزجاج : في هذا دليل على أن المراد بالآية التي قبلها : الصلاة في جوف الليل ، لأنه عمل يسترُّ الإِنسان به ، فجعل لفظ ما يُجازى به { أُخفي لهم } ، فاذا فتحتَ ياء «أُخْفِيَ» ، فعلى تأويل الفعل الماضي ، وإِذا أسكنْتَها ، فالمعنى : ما أُخْفِي أنا لهم ، إِخبار عن الله تعالى؛ وكذلك قال الحسن البصري : أخفي لهم ، بالخُفْية خُفْية ، وبالعلانية علانية . وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عز وجل : أعددتُ لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خَطَرَ على قلب بشر ، اقرؤوا إِن شئتم : { فلا تَعْلَمُ نَفْس ما أُخْفيَ لهم } " . قوله تعالى : { مِن قُرَّة أعيُنٍ } وقرأ أبو الدرداء ، وأبو هريرة ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والشعبي ، وقتادة : { من قُرَّاتِ أعيُنٍ } [ بألف ] على الجمع .

أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)

قوله تعالى : { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط قال لعليّ بن أبي طالب : أنا أحدٌّ منك سناناً ، وأبسط منك لساناً ، وأملأ للكتيبة منك ، فقال له عليٌّ : اسكت فانما أنت فاسق ، فنزلت هذه الآية ، فعنى بالمؤمن عليّاً ، وبالفاسق الوليد ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال عطاء بن يسار ، وعبد الرحمن ابن أبي ليلى ، ومقاتل .
والثاني : أنها نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل ، قاله شريك .
قوله تعالى : { لا يستوون } قال الزجاج : المعنى : لا يستوي المؤمنون والكافرون؛ ويجوز أن يكون لاثنين ، لأن معنى الاثنين جماعة؛ وقد شهد الله بهذا الكلام لعليٍّ عليه السلام بالايمان وأنَّه في الجنَّة ، لقوله : { أمَّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنَّات المأوى } . وقرأ ابن مسعود ، وطلحة بن مصرِّف : { جنةُ المأوى } على التوحيد .
قوله تعالى : { نُزُلاً } وقرأ الحسن ، والنخعي ، والأعمش ، وابن أبي عبلة : { نُزْلاً } بتسكين الزاي . وما بعد هذا قد سبق بيانه [ الحج : 22 ] إِلى قوله تعالى : { ولَنُذيقنَّهم مِنَ العذاب الأدنى } وفيه ستة أقوال .
أحدها : أنه ما أصابهم يوم بدر ، رواه مسروق عن ابن مسعود ، وبه قال قتادة ، والسدي .
والثاني : سنون أُخذوا بها ، رواه أبو عبيدة عن ابن مسعود ، وبه قال النخعي . وقال مقاتل : أُخذوا بالجوع سبع سنين .
والثالث : مصائب الدنيا ، قاله أُبيُّ بن كعب ، وابن عباس في رواية ابن أبي طلحة ، وأبو العالية ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك .
والرابع : الحدود ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والخامس : عذاب القبر ، قاله البراء .
والسادس : القتل والجوع ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { دون العذاب الأكبر } أي : قَبْل العذاب الأكبر؛ وفيه قولان .
أحدهما : أنه عذاب يوم القيامة ، قاله ابن مسعود .
والثاني : أنه القتل ببدر ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { لعلَّهم يرجِعون } قال أبو العالية : لعلهم يتوبون . وقال ابن مسعود : لعلَّ مَنْ بقي منهم يتوب . وقال مقاتل : لكي يرجِعوا عن الكفر إِلى الإِيمان .
قوله تعالى : { ومن أظلمُ } قد فسرناه في [ الكهف : 57 ] .
قوله تعالى : { إِنَّا من المجرمين منتقمون } قال زيد بن رفيع : هم أصحاب القَدَر . وقال مقاتل : هم كفار مكة انتقم الله منهم بالقتل ببدر ، وضربت الملائكةُ وجوههم وأدبارهم ، وعجُّل أرواحهم إِلى النار .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)

قوله تعالى : { ولقد آتَيْنا موسى الكتاب } يعني التوراة { فلا تَكُنْ في مِرْيَة من لقائه } فيه أربعة أقوال .
أحدها : فلا تكن في مرية من لقاء موسى ربَّه ، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والثاني : من لقاء موسى ليلة الإِسراء ، قاله أبو العالية ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن السائب .
والثالث : فلا تكن في شكٍّ من لقاء الأذى كما لقي موسى ، قاله الحسن .
والرابع : لا تكن في مرية من تلقِّى موسى كتابَ الله بالرضى والقبول ، قاله السدي . قال الزجاج : وقد قيل : فلا تكن في شكٍّ من لقاء موسى الكتاب ، فتكون الهاء للكتاب . وقال أبو علي الفارسي : المعنى : من لقاء موسى الكتاب ، فأضيف المصدر إِلى ضمير الكتاب ، وفي ذلك مدح له على امتثاله ما أُمر به ، وتنبيه على الأخذ بمثل هذا الفعل . وفي قوله : { وجعلناه هُدىً } قولان .
أحدهما : الكتاب ، قاله الحسن .
والثاني : موسى ، قاله قتادة .
{ وجعلنا منهم } أي : من بني إِسرائيل { أئمَةً } أي : قادة في الخير { يَهْدُونَ بأمرنا } أي : يدعون الناس إِلى طاعة الله { لمَّا صبروا } [ قرأ ابن كثير ، وعاصم ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : { لَمَّا صبروا } بفتح اللام وتشديد الميم . وقرأ حمزة ، والكسائي : { لِمَا } بكسر اللام خفيفة . وقرأ ابن مسعود { بما } بباء مكان اللام؛ والمراد : صبرهم ] على دينهم وأذى عدوِّهم { وكانوا بآياتنا يوقِنون } أنها من الله عز وجل؛ وفيهم قولان .
أحدهما : أنهم الأنبياء .
والثاني : أنهم قومٌُ صالحون سوى الأنبياء . وفي هذا تنبيه لقريش أنكم إِن أَطعتم جعلتُ منكم أئمة .
قوله تعالى : { إِنَّ ربَّكَ هو يَفْصِلُ بينهم } أي : يقضي ويحكُم؛ وفي المشار إِليهم قولان .
أحدهما : أنهم الأنبياء وأُممهم .
والثاني : المؤمنون والمشركون .
ثم خوَّف كفار مكة بقوله : { أَوَلَمْ يَهْدِ لهم } وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : { نَهْدِ } بالنون . وقد سبق تفسيره في [ طه : 128 ] .
{ أَوَلَمْ يَرَواْ أنَّا نَسُوق الماء } يعني المطر والسيل { إِلى الأرض الجُرُز } وهي التي لا تُنبت - وقد ذكرناها في أول [ الكهف : 8 ] - فاذا جاء الماء أنبتَ فيها ما يأكل الناس والأنعام .
{ ويقولون } يعني كفار مكة { متى هذا الفتح } وفيه أربعة أقوال .
أحدها : أنه ما فتح يوم بدر؛ روى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال : يومَ بدر فُتح للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فلم ينفع الذين كفروا إِيمانُهم بعد الموت .
والثاني : أنه يوم القيامة ، وهو يوم الحُكم بالثواب والعقاب ، قاله مجاهد .
والثالث : أنه اليوم الذي يأتيهم فيه العذاب في الدنيا؛ قاله السدي .
والرابع : فتح مكة ، قاله ابن السائب ، والفراء ، وابن قتيبة؛ وقد اعتُرض على هذا القول ، فقيل : كيف لا ينفع الكفارَ إِيمانُهم يوم الفتح ، وقد أسلم جماعة وقُبِلَ إِسلامُهم يومئذ؟! فعنه جوابان .

أحدهما : لا ينفع مَنْ قُتل من الكفار يومئذ إِيمانُهم بعد الموت؛ وقد ذكرناه عن ابن عباس . وقد ذكر أهل السِّيَر أنَّ خالداً دخل يوم الفتح من غير الطريق التي دخل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقيه صفوان بن أميَّة وسهيل ابن عمرو في آخرين فقاتلوه ، فصاح خالد في أصحابه وقاتلهم ، فقتل أربعة وعشرين من قريش ، وأربعة من هذيل ، وانهزموا ، فلمَّا ظهر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال : «ألم أَنه عن القتال»؟ فقيل : إِن خالداً قوتل فقاتل .
والثاني : لا ينفع الكفارَ ما أُعطوا من الأمان ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ أَغلق بابَه فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن " قال الزجاج : يقال : آمنتُ فلاناً إِيماناً ، فعلى هذا يكون المعنى : لا يدفع هذا الأمانُ عنهم عذابَ الله . وهذا القول الذي قد دافعنا عنه ليس بالمختار ، وإِنما بيَّنَّا وجهه لأنه قد قيل .
وقد خرج بما ذكرنا في الفتح قولان .
أحدهما : أنه الحكم والقضاء ، وهو الذي نختاره .
والثاني : فتح البلد .
قوله تعالى : { فأَعْرِضْ عنهم وانْتَظِر } أي : انتظر عذابهم { إِنَّهم مُنْتَظِرونَ } بك حوادث الدهر . قال المفسرون : وهذه الآية منسوخة بأية السيف .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)

قوله تعالى : { يا أيُّها النبيُّ اتَّقِ الله } سبب نزولها أن أبا سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبا الأعور السلمي ، قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموادعة التي كانت بينهم ، فنزلوا على عبد الله بن أُبيّ ، ومعتّب بن قُشَير ، والجَدّ بن قيس؛ فتكلَّموا فيما بينهم ، وأتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعَوه إِلى أمرهم وعرضوا عليه أشياء كرهها ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . قال مقاتل : سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفُض ذِكْر اللات والعُزَّى ويقولَ : إِنَّ لها شفاعة ، فكَرِه ذلك ، ونزلت [ هذه ] الآية . وقال ابن جرير : { ولا تُطِع الكافرينَ } الذين يقولون : اطرد عنَّا أتباعك من ضعفاء المسلمين { والمنافقينَ } فلا تَقْبَل منهم رأياً .
فان قيل : ما الفائدة في أمر الله تعالى رسولَه بالتقوى ، وهو سيِّد المتَّقين؟! فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها : أن المراد بذلك استدامة ما هو عليه .
والثاني : الإِكثار مما هو فيه .
والثالث : أنه خطاب وُوجِهَ به ، والمراد أُمَّتُه .
قال المفسرون : وأراد بالكافرين في هذه الآية : أبا سفيان ، وعكرمة ، وأبا الأعور ، وبالمنافقين : عبد الله بن أُبيّ ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وطُعمة بن أُبَيْرِق . وما بعد هذا قد سبق بيانه [ النساء : 81 ] إِلى قوله : { ما جعل اللّهُ لرجُل من قلبين في جوفه } وفي سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن المنافقين كانوا يقولون : لمحمد قلبان ، قلب معنا ، وقلبٌ مع أصحابه ، فأكذبهم اللّهُ تعالى ، ونزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنها نزلت في جميل بن مَعْمَر الفهري كذا نسبه جماعة من المفسرين . وقال الفراء : جميل بن أسد ، ويكنى : أبا مَعْمَر . وقال مقاتل : أبو مَعْمَر بن أنس الفهري - وكان لبيباً حافظاً لِمَا سمع ، فقالت قريش : ما حفظ هذه الأشياء إِلا وله قلبان في جوفه ، وكان يقول : إِن لي قلبين أعقِل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد ، فلمَّا كان يوم بدر وهُزم المشركون وفيهم يومئذ جميل بن معمر ، تلقَّاه أبو سفيان وهو معلِّق إِحدى نعليه بيده ، والأخرى في رجله ، فقال له : ما حالُ الناس؟ فقال : انهزموا ، قال : فما بالك إِحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟ قال : ما شعرتُ إِلاَّ أنهما في رِجليّ ، فعرفوا [ يومئذ ] أنه لو كان له قلبان لَمَا نسي نعله في يده؛ وهذا قول جماعة من المفسرين . وقد قال الزهري في هذا قولاً عجيباً ، قال : بلغَنا أن ذلك في زيد ابن حارثة ضُرب له مثَل يقول : ليس ابنُ رجل آخر ابنَك . قال الأخفش : «مِنْ» زائدة في قوله : { مِنْ قلبين } . قال الزجاج : أكذبَ اللّهُ عز وجل هذا الرجل الذي قال : لي قلبان ، ثم قرر بهذا الكلام ما يقوله المشركون وغيرهم ممَّا لا حقيقة له ، فقال : { وما جَعل أزواجَكم اللاَّئي تُظاهِرونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكم } فأعلم الله تعالى أن الزوجة لا تكون أُمّاً ، وكانت الجاهلية تُطلِّق بهذا الكلام ، وهو أن يقول لها : أنتِ عليَّ كَظَهر أُمِّي ، وكذلك قوله : { وما جَعل أدعياءَكم أبناءَكم } أي : ما جعل مَنْ تَدْعونه ابناً وليس بولد في الحقيقة ابناً { ذلكم قولُكم بأفواهكم } أي : نسبُ مَنْ لا حقيقةَ لنَسَبه قولٌ بالفم لا حقيقة تحته { واللّهُ يقولُ الحقَّ } أي : لا يجعل غير الابن ابناً { وهو يَهدي السبيل } أي : للسبيل المستقيم .

وذكر المفسرون أن قوله : { وما جَعل أزواجَكم اللاَّئي تُظاهِرون مِنْهُنَّ } نزلت في اوس بن الصامت وامرأته خولة بنت ثعلبة .
ومعنى الكلام : ما جعل أزواجكم اللاَّئي تُظِاهرون منهنَّ كأُمَّهاتكم في التحريم ، إِنَّما قولُكم معصية ، وفيه كفَّارة ، وأزواجُكم لكم حلال؛ وسنشرح هذا في سورة [ المجادلة ] إِن شاء الله . وذكروا أن قوله : { وما جعل أدعياءَكم أبناءَكم } نزل في زيد بن حارثة ، أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبنَّاه قبل الوحي ، فلمَّا تزوَّج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش قال اليهود والمنافقون : تزوَّج محمدٌ امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها ، فنزلت هذه الآية .

ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)

قوله تعالى : { أُدعوهم لآبائهم } قال ابن عمر : ما كنَّا ندعو زيد بن حارثة إِلا زيد بن محمد ، حتى نزلت { أُدعوهم لآبائهم } . قوله تعالى : { هو أقسط } أي : أعدل ، { فان لم تَعْلَموا آباءهم } أي : إِن لم تعرفوا آباءهم { فاخوانُكم } أي : فهم إِخوانُكم ، فليقُل أحدُكم : يا أخي ، { ومواليكم } قال الزجاج : أي : بنو عمِّكم . ويجوز أن يكون { مواليكم } أولياءَكم في الدِّين .
{ وليس عليكم جُناح فيما أخطأتم به } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : فيما أخطأتم به قبل النَّهي ، قاله مجاهد .
والثاني : في دعائكم من تَدْعونه إِلى غير أبيه وأنتم ترَونه كذلك ، قاله قتادة .
والثالث : فيما سهوتم فيه ، قاله حبيب بن أبي ثابت .
فعلى الأول يكون معنى قوله : { ولكن ما تعمَّدتْ قلوبُكم } أي : بعد النَّهي . وعلى الثاني والثالث : ما تعمَّدتْ في دعاء الرجل إِلى غير أبيه .
قوله تعالى : { النَّبيُّ أَولى بالمؤمِنين مِنْ أنفُسهم } أي : أحقُّ ، فله أن يحكُم فيهم بما يشاء ، قال ابن عباس : إِذا دعاهم إِلى شيء ، ودعتْهم أنفسهم إِلى شيء ، كانت طاعتُه أولى من طاعة أنفُسهم؛ وهذا صحيح ، فان أنفُسهم تدعوهم إِلى ما فيه هلاكهم ، والرسول يدعوهم إِلى ما فيه نجاتهم . قوله تعالى : { وأزواجُه أُمَّهاتُهم } أي : في تحريم نكاحهنَّ على التأبيد ، ووجوب إِجلالهنَّ وتعظيمهنَّ؛ ولا تجري عليهنَّ أحكام الأُمَّهات في كل شيء ، إِذ لو كان كذلك لَمَا جاز لأحد أن يتزوج بناتِهنَّ ، وَلَورِثْنَ المسلمين ، ولجازت الخَلوة بهنَّ . وقد روى مسروق عن عائشة أن أمرأة قالت : يا أُمَّاه ، فقالت : لستُ لكِ بأُمٍّ؛ إِنَّما أنا أُمُّ رجالكم؛ فبان بهذا الحديث أن معنى الأُمومة تحريمُ نكاحهنَّ فقط . وقال مجاهد : «وأزواجُه أُمَّهاتُهم» وهو أب لهم . وما بعد هذا مفسَّر في آخر [ الأنفال ] إِلى قوله تعالى : { من المؤمنين والمهاجرين } والمعنى أن ذوي القرابات بعضُهم أولى بميراث بعض من أن يَرِثوا بالإِيمان والهجرة كما كانوا يفعلون قبل النسخ { إِلاَّ أن تفعلوا إِلى أوليائكم معروفاً } [ وهذا استثناء ليس من الأول ، والمعنى : لكن فِعلُكم إِلى أوليائكم معروفاً ] جائز ، وذلك أن الله تعالى لمَّا نسخ التوارث بالحلف والهجرة ، أباح الوصية للمعاقدين ، فللانسان أن يوصيَ لمن يتولاَّه بما أحب من ثلثه . فالمعروف هاهنا : الوصية .
قوله تعالى : { كان ذلك } يعني نسخ الميراث بالهجرة وردّه إِلى ذوي الأرحام { في الكتاب } يعني اللوح المحفوظ { مسطوراً } أي : مكتوباً .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)

قوله تعالى : { وإِذ أخذْنا } المعنى : واذكر إِذ أخذنا { من النبييِّن ميثاقهم } أي : عهدهم؛ وفيه قولان .
أحدهما : أخذُ ميثاق النبييِّن : أن يصدِّق بعضُهم بعضاً ، قاله قتادة .
والثاني : أن يعبدوا الله ويدعوا إِلى عبادته ، ويصدِّق بعضهم بعضاً ، وأن ينصحوا لقومهم ، قاله مقاتل . وهذا الميثاق أُخِذ منهم حين أُخرجوا من ظهر آدم كالذَّرِّ . قال أُبيُّ بن كعب : لمَّا أخذ ميثاق الخَلْق خصَّ النبييِّن بميثاق آخر .
فان قيل : لِمَ خصَّ الأنبياءَ الخمسة بالذِّكْر دون غيرهم من الأنبياء؟
فالجواب : أنه نبَّه بذلك على فضلهم ، لأنهم أصحاب الكتب والشرائع؛ وقدَّم نبيَّنا صلى الله عليه وسلم بياناً لفضله عليهم . قال قتادة : كان نبيُّنا أولَ النبييِّن في الخَلْق .
وقوله : { ميثاقاً غليظاً } أي : شديداً على الوفاء بما حُمِّلوا . وذكر المفسرون أن ذلك العهد الشديد : اليمينُ بالله عز وجل . { لِيَسألَ الصادقين } يقول : أخذنا ميثاقهم لكي نسأل الصادقين ، وهم الأنبياء { عن صِدقهم } في تبليغهم . ومعنى سؤال الأنبياء وهو يعلم صدقهم تبكيت مكذِّبيهم . وهاهنا تم الكلام . ثم أخبر بعد ذلك عمَّا أعدَّ للكافرين بالرسل .
قوله تعالى : { يا أيُّها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إِذ جاءتكم جنود } وهم الذين تحزَّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الخندق .
الإِشارة إِلى القصة .
ذَكر أهل العلم بالسِّيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا أجلى بني النضير ، ساروا إِلى خيبر ، فخرج نفر من أشرافهم إِلى مكة فألَّبوا قريشاً ودعَوهم إِلى الخروج لقتاله ، ثم خرجوا من عندهم فأتَوا غطفان وسُلَيم ، ففارقوهم على مثل ذلك . وتجهزت قريشٌ ومن تبعهم من العرب ، فكانوا أربعة آلاف ، وخرجوا يقودهم أبو سفيان ، ووافتهم بنو سُلَيم ب «مرِّ الظهران» وخرجت بنو أسد ، وفزارة ، وأشجع ، وبنو مُرَّة ، فكان جميع من وافى الخندق من القبائل عشرة آلاف ، وهم الأحزاب؛ فلمَّا بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خروجُهم من مكة ، أخبر الناسَ خبرهم ، وشاورهم ، فأشار سلمان بالخندق ، فأعجب ذلك المسلمين ، وعسكر بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلى سفح «سَلْعٍ» ، وجعل سَلْعاً خلف ظهره؛ ودسَّ أبو سفيان بن حرب حُيَيَّ بن أخطب إِلى بني قريظة يسألهم أن ينقُضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكونوا معهم عليه ، فأجابوا ، واشتد الخوف ، وعَظُم البلاء ، ثم جرت بينهم مناوشة وقتال ، وحُصِر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه بضع عشرة ليلة حتى خلص إِليهم الكَرْب ، وكان نُعَيم بن مسعود الأشجعيّ قد أسلم ، فمشى بين قريش وقريظة وغطفان فخذَّل بينهم ، فاستوحش كل منهم من صاحبه ، واعتلَّت قريظة بالسبت فقالوا : لا نقاتِل فيه ، وهبَّت ليلةَ السبت ريح شديدة ، فقال أبو سفيان : يا معشر قريش ، إِنكم والله لستم بدار مُقام ، لقد هلك الخُفُّ والحافر ، وأجدب الجَنَاب ، وأخلفتْنا قريظةُ ، ولقينا من الريح ما ترَون ، فارتحِلوا فاني مرتحِل؛ فأصبحت العساكر قد أقشَعت كلُّها . قال مجاهد : والريح التي أُرسلت عليهم هي الصَّبا ، حتى أكفأت قدورهم ، ونزعت فساطيطهم . والجنود : الملائكة ، ولم تقاتل يومئذ . وقيل : إِن الملائكة جَعلت تقلَعُ أوتادهم وتطفىء نيرانهم وتكبِّر في جوانب عسكرهم ، فاشتدت عليهم ، فانهزموا من غير قتال .
قوله تعالى : { لَمْ تَرَوْهَا } وقرأ النخعي ، والجحدري ، والجوني ، وابن السميفع : { لم يَرَوْهَا } بالياء { وكان اللّهُ بما تعملون بصيراً } وقرأ أبو عمرو : [ { يعملون } ] بالياء .

إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)

قوله تعالى : { إِذ جاؤوكم مِنْ فوقكم ومِن أسفلَ منكم } أي : مِنْ فوق الوادي ومن أسفله { وإِذ زاغت الأبصار } أي : مالت وعَدَلت ، فلم تنظُر إِلى شيء إِلاَّ إِلى عدوِّها مُقْبِلاً من كل جانب ، { وبَلَغت القلوبُ الحناجر } وهي جمع حَنْجَرَة ، والحَنْجَرَة : جوف الحُلْقُوم . قال قتادة : شَخَصتْ عن مكانها ، فلولا أنَّه ضاق الحُلقوم عنها أن تخرُج لخرجتْ . وقال غيره : المعنى : أنهم جَبُنوا وَجِزع أكثرهم؛ وسبيل الجبان إِذا اشتدُّ خوفُه أن تنتفخ رئته فيرتفع حينئذ القلب إِلى الحَنْجَرة ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس والفراء . وذهب ابن قتيبة إِلى أن المعنى : كادت القلوبُ تبلُغ الحُلوقَ من الخوف . وقال ابن الأنباري : «كاد» لا يُضْمَر ولا يُعْرَف معناه إِذا لم يُنْطَق به .
قوله تعالى : { وتَظُنُّون بالله الظنُّونا } قال الحسن : اختلفت ظنونهم ، فظن المنافقون أن محمداً وأصحابه يُستأصَلون ، وظن المؤمنون أنه يُنْصَر .
قرأ ابن كثير ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : { الظنُّونا } و { الرَّسولا } [ الأحزاب : 66 ] و { السَّبيلا } [ الأحزاب : 67 ] بألف إِذا وقفوا عليهن ، وبطرحها في الوصل . وقال هبيرة عن حفص عن عاصم : وصل أو وقْف بألف . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : بالألف فيهن وصلاً ووقفاً . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : بغير ألف في وصل ولا وقف . قال الزجاج : والذي عليه حُذَّاق النحويين والمتَّبعون السُّنَّة من قُرَّائهم أن يقرؤوا : { الظنُّونا } ويقفون على الألف ولا يَصِلون؛ وإِنما فعلوا ذلك ، لأن أواخر الآيات عندهم فواصل يُثبتون في آخرها الألف في الوقف .
قوله تعالى : { هنالك } أي : عند ذلك { ابْتُلِيَ المؤمِنون } أي : اختُبروا بالقتال والحصر ليتبيَّن المُخلِص من المنافق { وزُلْزِلوا } أي : أُزعجوا وحُرِّكوا بالخوف ، فلم يوجَدوا إِلا صابرين . وقال الفراء : حُرِّكوا إِلى الفتنة تحريكاً ، فعُصموا .
قوله تعالى : { وإِذ يقولُ المنافقون والذين في قلوبهم مرض } فيه قولان .
أحدهما : أنه الشِّرك ، قاله الحسن .
والثاني : النفاق ، قاله قتادة { ما وَعَدَنا اللّهُ ورسولُه إِلاَّ غُروراً } قال المفسرون : قالوا يومئذ : إِن محمداً يَعِدنا أن نفتَح مدائن كسرى وقيصر وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله! هذا واللّهِ الغُرور . وزعم ابن السائب أن قائل هذا معتِّب بن قُشَير .

وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)

قوله تعالى : { وإِذ قالت طائفة منهم } يعني من المنافقين . وفي القائلين لهذا منهم قولان .
أحدهما : عبد الله بن أُبيّ وأصحابه ، قاله السدي .
والثاني : بنو سالم من المنافقين ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { يا أهل يثرب } قال أبو عبيدة : يَثْرِب : اسم أرض ، ومدينةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في ناحية منها . قوله تعالى : { لا مَقَامَ لكم } وقرأ حفص عن عاصم { لا مُقَامَ } بضم الميم . قال الزجاج : من ضمَّ الميم ، فالمعنى : لا إِقامة لكم؛ ومن فتحها ، فالمعنى : لا مكان لكم تُقيمون فيه . وهؤلاء كانوا يثبِّطون المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { فارجِعوا } أي : إِلى المدينة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالمسلمين حتى عسكروا ب «سَلْعِ» ، وجعلوا الخندق بينهم وبين القوم ، فقال المنافقون للناس : ليس لكم هاهنا مُقام ، لكثرة العدوِّ ، وهذا قول الجمهور . وحكى الماوردي قولَين [ آخرَين ] .
أحدهما : لا مُقام لكم على دين محمد فارجِعوا إِلى دين مشركي العرب ، قاله الحسن .
والثاني : لا مُقام لكم على القتال ، فارجعوا إِلى طلب الأمان ، قاله الكلبي .
قوله تعالى : { ويستأذنُ فريقٌ منهم النَّبيَّ } فيه قولان .
أحدهما : أنهم بنو حارثة ، قاله ابن عباس . وقال مجاهد : بنو حارثة ابن الحارث بن الخزرج . وقال السدي : إِنما استأذنه رجلان من بني حارثة .
والثاني : بنو حارثة ، وبنو سلمة بن جشم ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { إِنَّ بيوتنا عَوْرة } قال ابن قتيبة : أي : خاليةٌ ، فقد أمْكَن من أراد دخولَها ، وأصل العَوْرة : ما ذهب عنه السِّتر والحِفظ ، فكأنَّ الرجال سِترٌ وحفظٌ للبيوت ، فاذا ذهبوا أعْوَرت البيوتُ ، تقول العرب : أَعْوَرَ منزلي : إِذا ذهب سِتْرُه ، أو سقط جداره ، وأعْوَرَ الفارسُ : إِذا بان منه موضع خلل للضرب والطعن ، يقول الله : { وما هي بِعَوْرة } لأنَّ الله يحفظها ، ولكن يريدون الفرار . وقال الحسن ، ومجاهد : قالوا : بيوتنا ضائعة نخشى عليها السُّرَّاق . وقال قتادة : قالوا : بيوتنا ممَّا يلي العدوّ ، ولا نأمنَ على أهلنا ، فكذَّبهم الله وأعلَم أنَّ قصدهم الفرار .
قوله تعالى : { ولو دُخِلَتْ عليهم من أقطارها } يعني المدينة؛ والأقطار : النواحي والجوانب ، واحدها : قُطْر ، { ثم سُئلوا الفتنة } وقرأ عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، والضحاك ، والزهري ، وأبو عمران ، وأبو جعفر ، وشيبة : { ثم سُيِلوا } برفع السين وكسر الياء من غير همز . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، ومجاهد ، وأبو الجوزاء : { ثم سوءِلوا } برفع السين ومدِّ الواو بهمزة مكسورة بعدها . وقرأ الحسن ، وأبو الأشهب : { ثم سُوْلوا } برفع السين وسكون الواو من غير مدٍّ ولا همز . وقرأ الأعمش ، وعاصم الجحدري : { ثم سِيْلوا } بكسر السين ساكنة الياء من غير همز ولا واو . ومعنى : { سُئلوا الفتنة } ، أي : سُئلوا فعلها؛ [ والفتنة : الشِّرك ، { لآتَوْها } ] قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : { لأَتَوَهْا } بالقصر ، أي : لقصدوها ، ولفعلوها .

وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : { لآتَوْها } بالمد ، أي لأعطَوها . قال ابن عباس في معنى الآية : لو ان الأحزاب دخلوا المدينة ثم أمروهم بالشِّرك لأشركوا .
قوله تعالى : { وما تَلَبَّثوا بها إِلاَّ يسيراً } فيه قولان .
أحدهما : وما احتَبَسوا عن الإِجابة إِلى الكفر إِلا قليلاً ، قاله قتادة .
والثاني : وما تلبَّثوا بالمدينة بعد الإِجابة إِلاَّ يسيراً حتى يعذَّبوا ، قاله السدي ، وحكى أبو سليمان الدمشقي في الآية قولاً عجيباً ، وهو أن الفتنة هاهنا : الحرب ، والمعنى : ولو دُخلت المدينةُ على أهلها من أقطارها ، ثم سُئل هؤلاء المنافقون الحرب لأتوها مبادِرين ، وما تلبْثوا يعني الجيوش الداخلة عليهم بها - إِلاَّ قليلاً حتى يُخرجوهم منها؛ وإِنَّما منعهم من القتال معك ما قد تداخلهم من الشكِّ في دينك؛ قال : وهذا المعنى حَفِظتُه من كتاب الواقدي .
قوله تعالى : { ولقد كانوا عاهَدوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ } في وقت معاهدتهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم ناس غابوا عن وقعة بدر ، فلمَّا علموا ما اعطى اللّهُ أهل بدر من الكرامة قالوا : لئن شهدنا قتالاً لنقاتِلَنّ ، قاله قتادة .
والثاني : أنهم أهل العقبة ، وهم سبعون رجلاً بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على طاعة الله ونُصرة رسوله ، قاله مقاتل .
والثالث : أنه لمَّا نزل بالمسلمين يوم أُحد ما نزل ، عاهد اللّهَ معتّب بن قُشَير وثعلبة بن حاطب : لا نولِّي دُبُراً قطُّ ، فلمَّا كان يوم الأحزاب نافقا ، قاله الواقدي ، واختاره أبو سليمان الدمشقي ، وهو اليَق ممَّا قبله . وإِذا كان الكلام في حق المنافقين ، فكيف يُطْلَق القول على أهل العَقَبة كلِّهم!
قوله تعالى : { وكان عهد الله مسؤولاً } أي : يُسأَلون عنه في الآخرة .
ثم أخبر أن الفرار لا يزيد في آجالهم ، فقال : { قُلْ لن ينفعَكم الفرار إِن فَرَتم من الموت أو القتل وإِذاً لا تُمتَّعون } بعد الفرار في الدنيا { إِلاَّ قليلاً } وهو باقي آجالكم .
ثم أخبر ان ما قدَّره عليهم لا يُدفَع ، بقوله : { من ذا الذي يَعْصِمُكم مِنَ الله } أي : يُجيركم ويمنعكم منه { إِن أراد بكم سُوءاً } وهو الإِهلاك والهزيمة والبلاء { أو أراد بكم رَحْمة } وهي النصر والعافية والسلامة { ولا يجِدون لهم من دُون الله وليّاً ولا نصيراً } أي : لا يجدون مُوالياً ولا ناصراً يمنعهم من مُراد الله فيهم .

قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)

قوله تعالى : { قد يَعْلَمُ اللّهُ المعوِّقين منكم } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن رجلاً انصرف من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ، فوجد أخاه لأُمِّه وابيه وعنده شِواءُ ونبيذٌ ، فقال له : أنتَ هاهنا ورسولُ الله بين الرِّماح والسيوف؟! فقال : هلمَّ إِليَّ ، لقد أُحيطَ بك وبصاحبك؛ والذي يُحْلَفُ به لا يستقبلها محمدٌ أبداً؛ فقال له : كذبتَ ، والذي يُحْلَف به ، أما والله لأُخْبِرَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأمرك ، فذهب إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرَه ، فوجده قد نزل جبريل بهذه الآية إِلى قوله : { يسيراً } ، هذا قول ابن زيد .
والثاني : أن عبد الله بن أُبيّ ومُعتّب بن قُشَير والمنافقين الذين رجعوا من الخندق إِلى المدينة ، كانوا إِذا جاءهم منافق قالوا له : ويحك اجلس فلا تخرُج ، ويكتُبون بذلك إِلى إِخوانهم الذين في العسكر أن ائتونا بالمدينة فإنَّا ننتظركم - يثبِّطونهم عن القتال - وكانوا لا يأتون العسكر إِلاَّ أن لا يجدوا بُدّاً ، فيأتون العسكر ليرى الناسُ وجوههم ، فاذا غُفل عنهم ، عادوا إِلى المدينة ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن السائب .
والمعوِّق : المثبّط؛ تقول : عاقني فلان ، واعتاقني ، وعوَّقني : إِذا منعك عن الوجه الذي تريده . وكان المنافقون يعوِّقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نُصَّاره .
قوله تعالى : { والقائلين لإِخوانهم هَلُمَّ إِلينا } فيهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه المنافق الذي قال لأخيه ما ذكرناه في قول ابن زيد .
والثاني : أنهم اليهود دعَواْ إِخوانهم من المنافقين إِلى ترك القتال ، قاله مقاتل .
والثالث : أنهم المنافقون دعَواْ المسلمين إِليهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { ولا يأتون البأْس } أي : لا يحضُرون القتال في سبيل الله { إِلاَّ قليلاً } للرِّياء والسُّمعة من غير احتساب ، ولو كان ذلك [ القليل ] لله لكان كثيراً .
قوله تعالى : { أَشِحَّةً عليكم } قال الزجاج : هو منصوب على الحال . المعنى : لا يأتون الحرب إِلا تعذيراً ، بخلاءَ عليكم .
وللمفسرين فيما شحُّوا به أربعة أقوال .
أحدها : أشحة بالخير ، قاله مجاهد .
والثاني : بالنفقة في سبيل الله .
والثالث : بالغنيمة ، رويا عن قتادة . وقال الزجاج : بالظَّفَر والغنيمة .
والرابع : بالقتال معكم ، حكاه الماوردي .
ثم أخبر عن جُبنهم فقال : { فاذا جاء الخوفُ } أي : إِذا حضر القتال { رأيتَهم ينظُرون إِليك تدورُ أعينُم كالذي يُغْشَى عليه مِنَ الموت } أي : كدوَران عين الذي يُغْشَى عليه من الموت ، وهو الذي دنا موته وغشيتْه أسبابُه ، فانه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره فلا يَطْرِف ، فكذلك هؤلاء ، لأنهم يخافون القتل .
{ فاذا ذهبَ الخوفُ سَلَقُوكم } قال الفراء : آذَوْكم بالكلام في الأمن { بألسنة حِدادٍ } سليطة ذَرِبة ، والعرب تقول : صَلَقوكم ، بالصاد ، ولا يجوز في القراءة؛ وهذا قول الفراء .

وقد قرأ بالصاد أُبيُّ بن كعب ، وأبو الجوزاء ، وأبو عمران الجوني ، وابن أبي عبلة في آخرين وقال الزجاج : معنى : { سلقوكم } : خاطبوكم أشدَّ مخاطَبة وأبلَغها في الغنيمة ، يقال : خطيب مِسْلاق : إِذا كان بليغاً في خطبته { أَشِحَّةً على الخير } أي : خاطبوكم وهُم أشحَّة على المال والغنيمة . قال قتادة : إِذا كان وقت قسمة الغنيمة ، بسطوا ألسنتهم فيكم ، يقولون : أعطُونا فلستم أحقَّ بها منَّا؛ فأمَّا عند الباس ، فأجبن قوم وأخذله للحق ، وأمَّا عند الغنيمة ، فأشحُّ قوم .
وفي المراد بالخير هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الغنيمة .
والثاني : على المال أن يُنفقوه في سبيل الله تعالى .
والثالث : على رسول الله صلى الله عليه وسلم بظَفَره . قوله تعالى : { أولئك لم يُؤْمِنوا } أي : هُمْ وإِن أظهروا الإِيمان فليسوا بمؤمِنين ، لنفاقهم { فأحبَطَ اللّهُ أعمالَهم } قال مقاتل : أبطلَ جهادهم ، لأنه لم يكن في إِيمان { وكان ذلك } الإِحباط { على الله يسيراً } .
ثم أخبر عنهم بما يدل على جُبنهم ، فقال : { يَحْسَبون الأحزاب لم يَذهبوا } أي : يحسب المنافقون من شدة خوفهم وجُبنهم أن الأحزاب بعد انهزامهم وذهابهم لم يذهبوا ، { وإِن يأتِ الأحزاب } [ أي ] : يَرجعوا إِليهم كَرَّةً ثانية للقتال { يَوَدُّوا لو أنَّهم بادُون في الأعراب } أي : يتمنَّوا لو كانوا في بادية الأعراب من خوفهم ، { يَسألون عن أنبائكم } أي : ودُّوا لو أنَّهم بالبُعد منكم يسألون عن أخباركم ، فيقولون : ما فعل محمد وأصحابه ، ليعرفوا حالكم بالاستخبار لا بالمشاهَدة ، فَرَقاً وجُبناً؛ وقيل : بل يَسألون شماتةً بالمسلمين وفرحاً بنكَبَاتهم { ولو كانوا فيكم } أي : لو كانوا يشهدون القتال معكم { ما قاتلوا إِلاَّ قليلاً } فيه قولان .
أحدهما : إِلا رمياً بالحجارة ، قاله ابن السائب .
والثاني : إِلا رياءً من غير احتساب ، قاله مقاتل .
ثم عاب من تخلَّف بالمدينة بقوله : { لقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسنة } أي : قُدوة صالحة . والمعنى : لقد كان لكم به اقتداءٌ لو اقتديتم به في الصبر [ معه ] كما صبر يوم أُحُد حتى كُسِرت رَباعِيَّتُه وشُجَّ جبينه وقُتِل عمُّه ، وآساكم مع ذلك بنفسه .
وقرأ عاصم : { أُسوةٌ } بضم الألف؛ والباقون بكسر الألف؛ وهما لغتان . قال الفراء : أهل الحجاز وأَسَد يقولون : { إِسوة } بالكسر ، وتميم وبعض قيس يقولون : { أُسوة } بالضم . وخَصَّ اللّهُ تعالى بهذه الأُسوة المؤمنين ، فقال : { لِمَن كان يرجو الهل واليوم الآخر } والمعنى أن الأسوة برسول الله إِنما كانت لِمَن كان يرجو الله { واليوم الآخر } ؛ وفيه قولان .
أحدهما : يرجو ما عنده من الثواب والنعيم ، قاله ابن عباس .
والثاني : يخشى اللّهَ ويخشى البعث ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { وذَكَرَ اللّهَ كثيراً } أي : ذِكْراً كثيراً ، لأن ذاكر الله متَّبِع لأوامره ، بخلاف الغافل عنه .
ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب ، فقال : { ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعَدَنا اللّهُ ورسولُه } وفي ذلك الوعد قولان .
أحدهما : أنه قوله : { أم حَسِبتم أن تدخلوا الجَنَّة ولَمَّا يأتكم مَثَل الذين خَلَوا مِنْ قَبْلِكم . . . } الآية : [ البقرة : 214 ] فلمَّا عاينوا البلاء يومئذ قالوا : هذا ما وعَدَنا اللّهُ ورسولُه ، قاله ابن عباس ، وقتادة في آخرين .
والثاني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدهم النصر والظهور على مدائن كسرى وقصور الحِيرة ، ذكره الماوردي وغيره .
قوله تعالى : { وما زادهم } يعني ما رأوه { إِلاَّ إِيماناً } بوعد الله { وتسليماً } لأمره .

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)

قوله تعالى : { مِنَ المؤمنين رجال صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه } اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما : أنها نزلت في أنس بن النضر ، قاله أنس بن مالك . وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك قال : غاب عمِّي أَنَس بن النَّضْر عن قتال بدر ، فلمَّا قَدِم قال : غِبْتُ عن أوَّل قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين ، لئن أشهدني اللّهُ عز وجل قتالاً لَيَرَيَنَّ اللّهُ ما أصنع ، فلمّا كان يوم أُحُدٍ انكشف الناسُ ، فقال : اللهم إِني أبرأُ إِليكَ ممَّا جاء به هؤلاء ، يعني المشركين ، وأعتذر إِليك ممَّا صنع هؤلاء ، يعني المسلمين؛ ثم مشى بسيفه ، فلقيه سعد بن معاذ ، فقال : أي سعد ، والذي نفسي بيده إِني لأجد ريح الجنة دون أُحُد ، واهاً لريح الجنة . قال سعد : فما استطعتُ يا رسول الله ما صنع؛ قال أنس : فوجدناه بين القتلى به بِضْع وثمانون جِراحة ، من ضربة بسيف ، وطعنة برمح ، ورَمْيَة بسهم ، قد مثَّلوا به؛ قال : فما عرفناه حتى عرفتْه أختُه بِبَنانه؛ قال أنس : فكنّا نقول : أُنزلت هذه الآية { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } فيه وفي أصحابه .
والثاني : أنها نزلت في طلحة بن عبيد الله ، روى النزَّال بن سَبْرة عن عليّ عليه السلام أنهم قالوا له : حدِّثنا عن طلحة ، قال : ذاك امرؤٌ نزلت فيه آية من كتاب الله تعالى { فمنهم من قضى نحبه } لا حساب عليه فيما يستقبل . وقد جعل بعض المفسرين هذا القدر من الآية في طلحة ، وأولها في أنس . قال ابن جرير : ومعنى الآية : وَفَواْ لله بما عاهدوه عليه . وفي ذلك أربعة أقوال .
أحدها : أنهم عاهدوا ليلة العقبة على الإِسلام والنصرة .
والثاني : أنهم قوم لم يشهدوا بدراً ، فعاهدوا الله أن لا يتأخَّروا بعدها .
والثالث : أنهم عاهدوا أن لا يفرُّوا إِذا لاقَواْ ، فصَدَقوا .
والرابع : أنهم عاهدوا على البأساء والضرَّاء وحين البأس .
قوله تعالى : { فمنهم من قضى نَحْبه ومنهم من يَنْتَظِرُ } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : فمنهم من مات ، ومنهم من ينتظر الموت ، قاله ابن عباس .
والثاني : فمنهم من قضى عهده قُتل أو عاش . ومنهم من ينتظر أن يقضيَه بقتال أو صدق لقاءٍ ، قاله مجاهد .
والثالث : فمنهم من قضى نَذْره الذي كان نذر ، قاله أبو عبيدة . فيكون النَّحْب على القول الأول : الأَجْل؛ وعلى الثاني : العهد؛ وعلى الثالث : النَّذْر . وقال ابن قتيبة : { قضى نحبه } أي : قُتل ، وأصل النَّحْب : النَّذْر ، كأن قوماً نذورا أنهم إِن لَقُوا العدوَّ قاتَلوا حتى يُقتَلوا أو يَفتَح اللّهُ عليهم ، فقُتِلوا ، فقيل : فلان قضى نَحْبَه ، أي : قُتِل ، فاستعير النَّحْب مكان الأَجَل ، لأن الأَجَل وقع بالنَّحْب ، وكان النَّحْبُ سبباً له ، ومنه قيل : للعطيَّة : «مَنْ» ، لأن من أعطى فقد مَنَّ .

قال ابن عباس : ممَّن قضى نَحْبه : حمزة بن عبد المطلب ، وأنس بن النَّضْر وأصحابه . وقال ابن إِسحاق : { فمنهم من قضى نحبه } من استُشهد يوم بدر وأُحُدٍ ، { ومنهم من ينتظرُ } ما وعد اللّهُ من نصره ، أو الشهادة على ما مضى عليه أصحابه { وما بدَّلوا } أي : ما غيَّروا العهد الذي عاهدوا ربَّهم عليه كما غيَّر المنافقون .
قوله تعالى : { لِيَجْزِيَ اللّهُ الصَّادِقِين بِصِدقهم } وهم المؤمنون الذين صدقوا فيما عاهدوا { الله } عليه { ويعذِّبَ المنافقين } بنقض العهد { إِن شاء } وهو أن يُميتَهم على نفاقهم { أو يتوبَ عليهم } في الدنيا ، فيخرجَهم من النفاق إِلى الإِيمان ، فيغفر لهم .
{ وردَّ اللّهُ الذين كفروا } يعني الأحزاب ، صدَّهم ومنعهم عن الظَّفَر بالمسلمين { بِغَيْظهم } أي : لم يَشْفِ صدورهم بِنَيْل ما أرادوا { لم ينالوا خيراً } . أي : لم يظفروا بالمسلمين ، وكان ذلك عندهم خيراً ، فخوطبوا على استعمالهم { وكفى اللّهُ المؤمنين القتال } بالريح والملائكة ، { وأَنزل الذين ظاهروهم } أي : عاونوا الأحزاب ، وهم بنو قريظة ، وذلك أنهم نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد ، وصاروا مع المشركين يداً واحدة .
وهذه الإِشارة إِلى قصتهم .
ذكر أهل العِلْم بالسِّيرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا انصرف من الخندق وضع عنه اللأْمة واغتسل ، فتبدَّى له جبريل ، فقال : ألا أراك وضعت اللأْمة ، وما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة؟! إِن الله يأمرك أن تسير إِلى بني قريظة فانِّي عامد إِليهم فمزلزِل بهم حصونهم؛ فدعا عليّاً فدفع لواءه إِليه ، وبعث بلالاً فنادى في الناس : إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن لا تصلُّوا العصر إِلا ببني قريظة ، ثم سار إِليهم فحاصرهم خمسة عشر يوماً أشدَّ الحصار ، وقيل : عشرين ليلة ، فأَرسلوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَرْسِل إِلينا أبا لُبَابة بن عبد المنذر ، فأرسله إِليهم ، فشاوروه في أمرهم ، فأشار إِليهم بيده : إِنه الذَّبْح ، ثُمَّ ندم فقال : خنتُ اللّهَ ورسولَه ، فانصرف ، فارتبط في المسجد حتى أنزل الله توبته ، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمَّر بهم رسول الله محمدَ ابن مَسْلمة ، وكُتِّفوا ، ونُحُّوا ناحيةً ، وجُعل النساء والذُّرِّية ناحيةً . وكلَّمت الأوسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يَهَبَهم لهم ، وكانوا حلفاءهم ، فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الحُكْمَ فيهم إِلى سعد بن معاذ " ؛ هكذا ذكر محمد بن سعد . وحكى غيره : " أنهم نزلوا أوَّلاً على حكم سعد بن معاذ ، وكان بينهم وبين قومه حلف ، فَرَجَواْ أن تأخذه فيهم هوادة ، فحكم فيهم أن يُقتل كلُّ مَنْ جَرَت عليه المَوَاسي ، وتُسبى النساء والذراري ، وتُقسم الأموال . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لقد حكمتَ بحُكم الله من فوق سبعة أرقعة»؛ وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر بهم فأُدخلوا المدينة ، وحُفر لهم أُخدود في السوق ، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه ، وأُخرجوا إِليه فضُربت أعناقهم ، وكانوا ما بين الستمائة إِلى السبعمائة " .

قوله تعالى : { مِنْ صياصيهم } قال ابن عباس وقتادة : من حصونهم؛ قال ابن قتيبة : وأصل الصيَّاصي : قرون البقر ، لأنها تمتنع بها وتدفع عن أنفسها؛ فقيل : للحصون : الصياصي ، لأنها تَمنع ، وقال الزجاج : كل قرن صيصية ، وصيصية الديك : شوكة يتحصن بها .
قوله تعالى : { وقَذَفَ في قلوبهم الرُّعب } أي : ألقى فيها الخوف { فريقاً تقتُلون } وهم المُقاتِلة { وتأسِرون } وقرأ ابن يعمر ، وابن أبي عبلة : { وتأسُرون } برفع السين { فريقاً } وهم النساء والذَّراري ، { وأَورَثكم أرضَهم وديارهم } يعني عَقارهم ونخيلهم ومنازلهم { وأموالَهم } من الذهب والفضة والحُلِيّ والعبيد والإِماء { وأرضاً لم تطؤوها } أي : لم تطؤوها بأقدامكم بَعْدُ ، وهي مما سنفتحها عليكم؛ وفيها أربعة أقوال .
أحدها : أنها فارس والروم ، قاله الحسن .
والثاني : ما ظهر عليه المسلمون إِلى يوم القيامة ، قاله عكرمة .
والثالث : مكة ، قاله قتادة .
والرابع : خيبر ، قاله ابن زيد ، وابن السائب ، وابن إِسحاق ، ومقاتل .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)

قوله تعالى : { يا أيُّها النبيُّ قُلْ لأزواجكَ . . . } الآية ، ذكر أهل التفسير " أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سألنه شيئاً من عرض الدنيا ، وطلبن منه زيادة النفقة ، وآذينه بغَيْرة بعضهنّ على بعض ، فآلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْهُنَّ شهراً ، وصَعِد إِلى غرفة له فمكث فيها ، فنزلت هذه الآية ، وكُنَّ أزواجُه يومئذ تسعاً . عائشة ، وحفصة ، وأم حبيبة ، وسَوْدة ، وأم سَلَمة ، وصَفِيَّة الخيبريَّه ، وميمونة الهلالية؛ وزينب بنت جحش ، وجويرية بنت الحارث ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض الآية عليهنّ ، فبدأ بعائشة ، فاختارت الله ورسوله ، ثم قالت : يا رسول الله لا تُخبر أزواجك أنِّي اخترتك؛ فقال : «إِن الله بعثني مُبلِّغاً ولم يبعثني متعنِّتاً» " وقد ذكرت حديث التخيير في كتاب «الحدائق» وفي «المغني» بطوله . وفي ما خيَّرهنَّ فيه قولان .
أحدهما : أنه خيَّرهن بين الطلاق والمقام معه ، هذا قول عائشة عليها السلام .
والثاني : أنه خيَّرهنَّ بين اختيار الدنيا فيفارقهنّ ، أو اختيار الآخرة فيُمسكهنّ ، ولم يخيِّرهنّ في الطلاق ، قاله الحسن ، وقتادة .
وفي سبب تخييره إِيَّاهُنَّ ثلاثة أقوال .
أحدها : أنَّهنَّ سألنَه زيادة النَّفقة .
والثاني : أنَّهنَّ آذَينه بالغَيْرة ، والقولان مشهوران في التفسير .
والثالث : أنه لمَّا خُيِّر بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة فاختار الآخرة ، أُمِر بتخيير نسائه ليكنَّ على مِثْل حاله ، حكاه أبو القاسم الصَّيمري .
والمراد بقوله : { أُمَتَّعْكُنَّ } : مُتعة الطلاق . والمراد بالسَّراح : الطلاق ، وقد ذكرنا ذلك في [ البقرة : 231 ] . والمراد بالدار الآخرة . الجنة . والمُحْسِنات : المُؤْثِرات للآخرة .
قال المفسرون : فلمّا اخْتَرْنَه أثابهنَّ اللّهُ عز وجل ثلاثة أشياء .
أحدها : التفضيل على سائر النساء بقوله : { لَسْتُنَّ كأحَد من النساء } .
والثاني : أن جَعَلَهُنَّ أُمَّهات المؤمنين .
والثالث : أن حظر عليه طلاقَهُنَّ والاستبدال بهنّ بقوله : { لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ } [ الأحزاب : 52 ] . وهل أُبيح له بعد ذلك التزويج عليهنّ؟ فيه قولان سيأتي ذِكْرهما إِن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : { مَنْ يأتِ مِنْكُنَّ بفاحشة مُبَيِّنة } أي : بمعصية ظاهرة . قال ابن عباس : يعني النشوز وسوءَ الخُلُق { يُضَاعَفْ لها العذابُ ضِعفين } أي : يُجعل عذاب جُرمها في الآخرة كعذاب جُرمَين ، كما أنها تُؤتى أجرَها على الطاعة مرتين . وإِنما ضوعف عِقابُهنّ ، لأنهنَّ يشاهدن من الزّواجر الرَّادعة مالا يُشاهِد غيرُهن ، فاذا لم يمتنعن استحققن تضعيف العذاب ، ولأن في معصيتهنَّ أذىً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وجُرم من آذى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أكبرُ من جُرم غيره .
قوله تعالى : { وكان ذلك على الله يسيراً } أي : وكان عذابُها على الله هيِّناً . { ومن يَقْنُت } أي : تُطع ، و { وأعتدنا } قد سبق بيانه [ النساء : 37 ] ، والرِّزق الكريم : الحَسَن ، وهو الجنة .
ثُمَّ أظهر فضيلتهنَّ على النساء بقوله : { لَسْتُنَّ كأَحد من النساء } قال الزجاج : لم يقل : كواحدة من النساء ، لأن «أَحَداً» نفي عامّ للمذكَّر والمؤنَّث والواحد والجماعة .

قال ابن عباس : يريد ليس قدرُكُنَّ عندي مثل قَدْر غيركنَّ من النساء الصالحات ، أنْتُنَّ أكرمُ عليَّ ، وثوابُكُنَّ أعظم { إِنِ اتَّقَيْتُنَّ } ، فشرط عليهن التقوى بياناً أن فضيلتهنَّ إِنَّما تكون بالتقوى ، لا بنفس اتصالهنَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم . قوله تعالى : { فلا تَخْضَعْنَ بالقول } أي : لا تلِنَّ بالكلام { فَيَطْمَعَ الذي في قلبه مرض } أي : فُجور؛ والمعنى : لا تَقُلْنَ قولاً يجد به منافق أو فاجر سبيلاً إِلى موافقتكن له؛ والمرأة مندوبة إِذا خاطبت الأجانب إِلى الغِلظة في المَقَالة ، لأن ذلك أبعد من الطمع في الرِّيبة .
{ وقُلْنَ قولاً معروفاً } أي : صحيحاً عفيفاً لا يُطمِع فاجراً .
{ وقَرْنَ في بُيوتِكُنَّ } قرأ نافع ، وعاصم إِلا أبان ، وهبيرة ، والوليد بن مسلم عن ابن عامر : { وقََرْنَ } بفتح القاف؛ وقرأ الباقون بكسرها . قال الفراء : من قرأ بالفتح ، فهو من قَرَرْتُ في المكان ، فخفِّفت ، كما قال : { ظَلْتَ عليه عاكفاً } [ طه : 97 ] ، ومن قرأ بالكسر ، فمن الوَقار ، يقال : قِرْ في منزلك . وقال ابن قتيبة : من قرأ بالكسر ، فهو من الوقار ، يقال : وَقَرَ في منزله يَقِرُ وَقُوراً . ومن قرأ بنصب القاف جعله من القرار . وقرأ أُبيُّ بن كعب ، وأبو المتوكل { واقْرَرْنَ } باسكان القاف وبراءين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة . وقرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة مثله ، إِلا أنهما كسرا الراء الأولى .
قال المفسرون : ومعنى الآية : الأمر لهن بالتوقُّر والسكون في بُيوتهنَّ وأن لا يَخْرُجْنَ .
قوله تعالى : { ولا تَبَرَّجْنَ } قال أبو عبيدة : التبرُّج : أن يُبْرِزن محاسنهن . وقال الزجاج : التبرُّج : إِظهار الزِّينة وما يُستدعى به شهوةُ الرجل .
وفي { الجاهلية الأولى } أربعة أقوال .
أحدها : أنها كانت بين إِدريس ونوح ، وكانت ألف سنة ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثاني : أنها كانت على عهد إِبراهيم عليه السلام ، وهو قول عائشة رضي الله عنها .
والثالث : بين نوح وآدم ، قاله الحكم .
والرابع : ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام ، قاله الشعبي . قال الزجاج : وإِنما قيل : { الأولى } ، لأن كل متقدِّم أوَّل ، وكل متقدِّمة أُولى ، فتأويله : أنهم تقدّموا أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم .
وفي صفة تبرُّج الجاهلية الأولى ستة أقوال .
أحدها : أن المرأة كانت تخرج فتمشي بين الرجال ، فهو التبرج ، قاله مجاهد .
والثاني : أنها مِشية فيها تكسُّر وتغنُّج ، قاله قتادة .
والثالث : أنه التبختر ، قاله ابن أبي نجيح .
والرابع : أن المرأة منهن كانت تتخذ الدِّرع من اللؤلؤ فتَلْبَسُه ثم تمشي وسط الطريق ليس عليها غيره ، وذلك في زمن إِبراهيم عليه السلام ، قاله الكلبي .
والخامس : أنها كانت تُلقي الخِمار عن رأسها ولا تشُدُّه ، فيُرى قُرْطها وقلائدها ، قاله مقاتل .
والسادس : أنها كانت تَلْبَس الثياب تبلغ المال ، لا تواري جَسدها ، حكاه الفراء .
قوله تعالى : { إِنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عنكم الرِّجس } وفيه للمفسرين خمسة أقوال .
أحدها : الشرك ، قاله الحسن .

والثاني : الإِثم ، قاله السدي .
والثالث : الشيطان ، قاله ابن زيد .
والرابع : الشكّ .
والخامس : المعاصي ، حكاهما الماوردي . قال الزجاج : الرِّجس : كل مستقذَر من مأكول أو عمل أو فاحشة .
ونصب { أهلَ البيت } على وجهين .
أحدهما : على معنى : أعني أهلَ البيت .
والثاني : على النداء ، فالمعنى : يا أهل البيت .
وفي المراد بأهل البيت هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهنَّ في بيته ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، وابن السائب ، ومقاتل . ويؤكذ هذا القولَ أن ما قبله وبعده متعلِّق بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعلى أرباب هذا القول اعتراض ، وهو أن جمع المؤنَّث بالنون ، فكيف قيل : { عنكم } { ويطهركم } ؟ فالجواب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهنَّ ، فغلّب المذكَّر .
والثاني : أنه خاصٌّ في رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليَ وفاطمة والحسن والحسين ، قاله أبو سعيد الخدري . وروي عن أنس وعائشة وأم سلمة نحو ذلك .
والثالث : أنهم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه ، قاله الضحاك . وحكى الزجاج أنهم نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال الذين هم آله؛ قال : واللغة تدل على أنها للنساء والرجال جميعاً ، لقوله : «عنكم» بالميم ، ولو كانت للنساء ، لم يجز إِلاَّ «عنكنّ» «ويُطهركنّ» .
قوله تعالى : { ويُطَهِّرَكم تطهيراً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : من الشِّرك ، قاله مجاهد .
والثاني : من السُّوء ، قاله قتادة .
والثالث : من الإِثم ، قاله السدي ، ومقاتل .
قوله تعالى : { واذكُرْنَ } فيه قولان .
أحدهما : أنه تذكير لهنَّ بالنِّعَم .
والثاني : أنه أمرٌ لهنَّ بحفظ ذلك . فمعنى { واذكُرْنَ } : واحفَظْن { ما يُتْلى في بيوتكُنَّ من آيات الله } يعني القرآن . وفي الحكمة قولان .
أحدهما : أنها السُّنَّة ، قاله قتادة .
والثاني : الأمر والنهي ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { إِن الله كان لطيفاً } أي : ذا لطف بكُنَّ إِذْ جعلكُنَّ في البيوت التي تُتْلى فيها آياتُه { خبيراً } بكُنَّ إِذ اختارَكُنَّ لرسوله .

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)

قوله تعالى : { إِنَّ المسلمين والمسلمات } في سبب نزولها خمسة أقوال .
أحدها : أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم قُلْنَ : ما له ليس يُذْكَر إِلاَّ المؤمنون ، ولا تُذْكَر المؤمنات بشيء؟! فنزلت هذه الآية ، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس .
والثاني : أن أُمَّ سَلَمَة قالت : يا رسول الله يُذْكَرُ الرجال ولا نُذْكَر! فنزلت هذه الآية ، ونزل قوله : { لا أُضِيعُ عمل عامل منكم } [ آل عمران : 195 ] ، قاله مجاهد .
والثالث : أن أُمَّ عُمَارة الأنصارية قالت : قلت : يا رسول الله بأبي وأُمِّي ما بالُ الرجال يُذْكَرون ، ولا تُذْكرَ النساء؟! فنزلت هذه الآية ، قاله عكرمة . وذكر مقاتل بن سليمان أن أُمُّ سَلَمة وأُمُّ عُمَارة قالتا ذلك ، فنزلت [ هذه ] الآية في قولهما .
والرابع : أن الله تعالى لمَّا ذكر أزواج رسوله دخل النساءُ المُسْلمات عليهنَّ فقُلْنَ : ذُكِرْتُنَّ ولم نُذْكَر ، ولو كان فينا خيرٌ ذُكِرنا ، فنزلت هذه الآية قاله قتادة .
والخامس : " أن أسماء بنت عُمَيس لما رجعت من الحبشة دخلت على نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قُلْنَ : لا ، فأتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله إِن النساء لفي خَيْبة وخسار ، قال : «ومم ذاك»؟ قالت : لأنهنَّ لا يُذْكَرْنَ بخير كما يُذْكَر الرجال " ، فنزلت هذه الآية ، ذكره مقاتل بن حيَّان .
وقد سبق تفسير ألفاظ الآية في مواضع [ البقرة : 129 ، 109 ، الاحزاب : 31 ، آل عمران : 17 ، البقرة : 45 ، يوسف : 88 ، البقرة : 184 ، الانبياء : 91 ، آل عمران : 191 ] .

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)

قوله تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة . . . } الآية ، في سبب نزولها قولان .
أحدهما : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يخطب زينب بنت جحش لزيد بن حارثة ، فقالت : لا أرضاه ، ولستُ بِنَاكِحَتِه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بلى فانكحيه ، فانِّي قد رضيتُه لك» ، فأبت " ، فنزلت هذه الآية . وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والجمهور . وذكر بعض المفسرين أن عبد الله بن جحش أخا زينب كره ذلك كما كرهته زينب ، فلمَّا نزلت الآيةُ رضيا وسلَّما . قال مقاتل : والمراد بالمؤمن : عبد الله بن جحش ، والمؤمنة : زينب بنت جحش .
والثاني : " أنها نزلت في أُمِّ كُلثوم بنت عُقْبة بن أبي مُعَيط ، وكانت أوَّل امرأة هاجرت ، فوهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «قد قَبلْتُكِ» ، وزوَّجها زيدَ بن حارثة ، فسخطت هي وأخوها ، وقالا : إِنَّما أردنا رسولَ الله فزوَّجها عبدَه " ؟ فنزلت هذه الآية ، قاله ابن زيد . والأول عند المفسرين أصح .
قوله تعالى : { إِذا قضى اللّهُ ورسولُه أمراً } أي : حَكَما بذلك { أن تكون } وقرأ أهل الكوفة : { أن يكون } بالياء { لهم الخِيَرَةُ } وقرأ أبو مجلز ، وأبو رجاء : { الخِيْرَةُ } باسكان الياء؛ فجمع في الكناية في قوله «لهم» ، لأن المراد جميع المؤمنين والمؤمنات ، والخِيرَة : الاختيار ، فأعلم الله عز وجل أنه لا اختيار على ما قضاه الله ورسوله ، فلمَّا زوَّجها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زيداً مكثت عنده حيناً ، ثم إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منزل زيد فنظر إِليها وكانت بيضاء جميلة من أتمِّ نساء قريش ، فوقعت في قلبه ، فقال : «سبحان مقلِّب القلوب» ، وفطن زيد ، فقال : يا رسول الله ائذن لي في طلاقها . وقال بعضهم : أتى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منزل زيد ، فرأى زينب ، فقال : «سبحان مقلِّب القلوب» ، فسمعت ذلك زينب ، فلمَّا جاء زيد ذكرت له ذلك ، فعلم أنها قد وقعت في نفسه ، فأتاه فقال : يا رسول الله ائذن لي في طلاقها . وقال ابن زيد : جاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلى باب زيد - وعلى الباب سِتْر من شعر - فرفعت الريح السِّتر ، فرأى زينب ، فلمَّا وقعت في قلبه كرهت إِلى الآخر ، فجاء فقال : يا رسول الله أُريد فراقها ، فقال له : «اتق الله» . وقال مقاتل : لمَّا فطن زيد لتسبيح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : يا رسول الله ائذن لي في طلاقها ، فان فيها كِبْراً ، فهي تَعظَّم عليَّ وتؤذيني بلسانها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : { أمسك عليك زوجك واتق الله } . ثم إِن زيداً طلَّقها بعد ذلك ، فأنزل الله تعالى : { وإِذ تقولُ للذي أنعم اللّهُ عليه } بالاسلام { وأنعمتَ عليه } بالعِتْق .

قوله تعالى : { واتَّقِ اللّهَ } أي : في أمرها فلا تطلِّقها { وتُخفي في نَفْسك } أي : تُسِرُّ وتُضْمِر في قلبك { ما اللّهُ مُبْدِيه } أي : مُظْهِره؛ وفيه أربعة أقوال .
أحدها : حُبّها ، قاله ابن عباس .
والثاني : عهد عهده الله إِليه أنَّ زينب ستكون له زوجة ، فلمَّا أتى زيد يشكوها ، قال له : { أَمْسِك عليك زوجك واتق الله } ، وأخفى في نفسه ما الله مبديه ، قاله علي بن الحسين .
والثالث : إِيثاره لطلاقها ، قاله قتادة ، وابن جريج ، ومقاتل .
والرابع : أن الذي أخفاه : إِن طلَّقها زيد تزوجتُها ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { وتخشى الناسَ } فيه قولان .
أحدهما : أنه خشي اليهود أن يقولوا : تزوَّج محمد امرأة ابنه ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثاني : أنه خشي لوم الناس أن يقولوا أمر رجلاً بطلاق امرأته ، ثم نكحها .
قوله تعالى : { واللّهُ أحقُّ أن تَخْشَاه } أي : أولى أن تخشى في كل الأحوال ، وليس المراد أنه لم يخش اللّهَ في هذه الحال ، ولكن لمَّا كان لخشيته بالخَلْق نوع تعلُّق ، قيل له : اللّهُ أحقُّ أن تخشى منهم . قالت عائشة : ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشدّ عليه من هذه الآية ، ولو كتم شيئاً من الوحي لكتمها .
فصل
وقد ذهب بعض العلماء إِلى تنزيه رسول الله من حُبِّها وإِيثاره طلاقها ، وإِن كان ذلك شائعاً في التفسير . قالوا : وإِنما عوتب في هذه القصة على شيئين :
أحدهما : أنه أُخبر بأنها ستكون زوجة له ، فقال لزيد : { أمسك عليك زوجك } فكتم ما أخبره الله به من أمرها حياءً من زيد ان يقول له : إِنَّ زوجتَك ستكون امرأتي؛ وهذا يخرج على ما ذكرنا عن عليّ بن الحسين ، وقد نصره الثعلبي ، والواحدي .
والثاني : أنه لمَّا رأى اتصال الخصومة بين زيد وزينب ، ظن أنهما لا يتفقان وأنه سيفارقها ، وأضمر أنه إِن طلَّقها تزوَّجتُها صِلةً لرحمها ، وإِشفاقاً عليها ، لأنها كانت بنت عمته أُميمة بنت عبد المطلب ، فعاتبه الله على إِضمار ذلك وإِخفائه حين قال لزيد : { أَمسك عليك زوجك } ، وأراد منه أن يكون ظاهره وباطنه عند الناس سواء كما قيل له في قصة رجل أراد قتله : هلاّ أومأتَ إِلينا بقتله؟ فقال : « ما ينبغي لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين » ، ذكر هذا القول القاضي أبو يعلى رحمه الله عليه .
قوله تعالى : { فلمَّا قضى زيدٌ منها وَطَراً } قال الزجاج : الوَطَر : كل حاجة لك فيها هِمَّة ، فاذا بلغها البالغ قيل : قد قضى وَطَره . وقال غيره : قضاء الوَطَر في اللغة : بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء ، ثم صار عبارة عن الطلاق ، لأن الرجل إِنما يطلِّق امرأته إِذا لم يبق له فيها حاجة . والمعنى : لمَّا قضى زيد حاجته من نكاحها { زوَّجْناكها } ، وإِنما ذكر قضاء الوَطَر هاهنا ليُبيِّن أن امرأة المتبنَّي تَحِلُّ وإِن وطئها ، وهو قوله : { لِكَيْلا يكونَ على المؤمنين حَرَجٌ في أزواج أدعيائهم إِذا قَضَواْ منهنَّ وَطَراً } ؛ والمعنى : زوجْناك زينب - وهي امرأة زيد الذي تبنَّيتَه - لكيلا يُظَنَّ أن امرأة المتبنَّى لا يحلُّ نكاحها .

وروى مسلم في أفراده من حديث أنس بن مالك قال : لمَّا انقضت عِدَّة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد : «اذهب فاذْكُرها علَيَّ» ، قال زيد : فانطلقتُ ، فلمَّا رأيتُها عَظُمَتْ في صدري حتى ما أستطيع أن أنظرُ إِليها ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها ، فولَّيتُها ظهري ، ونَكَصْتُ على عَقِبي ، وقلتُ : يا زينب : أرسلني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يذكُركِ ، قالت : ما أنا بصانعة شيئاً حتى أُوَامر ربِّي ، فقامت إِلى مسجدها ، ونزل القرآن ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إِذن .
وذكر أهل العلم أن من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أُجيز له التزويج بغير مَهْر ليَخلُص قَصْد زوجاته لله دون العِوَض ، وليخفّف عنه ، وأُجيز له التزويج بغير وليٍّ ، لأنه مقطعوع بكفاءته ، وكذلك هو مستغنٍ في نكاحه عن الشهود . وكانت زينب تفاخر نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول : زوَّجكُنَّ أهلوكُنَّ ، وزوَّجني اللّهُ عز وجل .

مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)

قوله تعالى : { ما كان على النبيِّ مِنْ حَرَجٍ فيما فَرَضَ اللّهُ له } قال قتادة : فيما أَحَلَّ اللّهُ له من النساء .
قوله تعالى : { سُنَّةَ الله } هي منصوبة على المصدر ، لأن معنى { ما كان على النبيِّ مِنْ حَرَج } : سنَّ اللّهُ سُنَّة واسعة لا حَرَج فيها . والذين خَلَوا : هم النبيُّون؛ فالمعنى : أن سُنَّة الله في التَّوسعة على محمد فيما فرض له ، كسُنَّته في الأنبياء الماضين . قال ابن السائب : هكذا سُنَّة الله في الأنبياء ، كداود ، فانه كان له مائة امرأة ، وسليمان كان له سبعمائة امرأة وثلاثمائة سُرِّيَّة ، { وكان أمر الله قَدَراً مقدوراً } أي : قضاءً مقضيّاً . وقال ابن قتيبة : { سُنَّةَ الله في الذين خَلَوا } معناه : لا حَرَجَ على أحد فيما لم يَحْرُم عليه .
ثم أثنى الله على الأنبياء بقوله : { الذين يبلِّغون رسالات الله ويخشَوْنه ولا يَخشَون أَحداً إِلاَّ اللّهَ } أي : لا يخافون لائمة الناس وقولهم فيما أُحِلَّ لهم . وباقي الآية قد تقدم بيانه [ النساء : 6 ] .
قوله تعالى : { ما كان محمَّدٌ أبا أحَد من رجالكم } قال المفسرون : لمَّا تزوَّج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زينب ، قال الناس : إِن محمداً قد تزوَّج امرأة ابنه ، فنزلت هذه الآية ، والمعنى : ليس بأب لزيد فتَحْرُم عليه زوجته { ولكنْ رسولَ الله } قال الزجاج : من نصبه ، فالمعنى : ولكن كان رسولَ الله ، وكان خاتم النبيِّين؛ ومن رفعه ، فالمعنى : ولكنْ هو رسولُ الله؛ ومن قرأ : { خاتِمَ } بكسر التاء ، فمعناه : وختم النبيِّين؛ ومن فتحها ، فالمعنى : آخِر النبيِّين . قال ابن عباس : يريد : لو لم أَختِم به النبيِّين ، لَجَعلتُ له ولداً يكون بعده نبيّاً .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)

قوله تعالى : { اذْكُروا الله ذِكْراً كثيراً } قال مجاهد : هو أن لا ينساه أبداً . وقال ابن السائب : يقال : { ذِكْراً كثيراً } بالصلوات الخمس . وقال مقاتل بن حيَّان : هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير على كل حال : وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول ربُّكم : أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه "
قوله تعالى : { وسَبِّحوه بُكْرةً وأَصيلاً } قال أبو عبيدة : الأصيل : ما بين العصر إِلى الليل . وللمفسرين في هذا التسبيح قولان .
أحدهما : أنه الصلاة ، واتفق أرباب هذا القول على أن المراد بالتسبيح بُكْرة : صلاةُ الفجر .
واختلفوا في صلاة الأصيل على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها صلاة العصر ، قاله أبو العالية ، وقتادة .
والثاني : أنها الظهر والعصر والمغرب والعشاء . قاله ابن السائب .
والثالث : أنها الظهر والعصر ، قاله مقاتل .
والقول الثاني : أنه التسبيح باللسان ، وهو قول : «سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إِله إِلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قُوَّة إِلاَّ بالله» ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { هو الذي يصلِّي عليكم وملائكتُه } في صلاة الله علينا خمسة أقوال .
أحدها : أنها رحمته ، قاله الحسن .
والثاني : مغفرته ، قاله سعيد بن جبير .
والثالث : ثناؤه ، قاله أبو العالية .
والرابع : كرامته ، قاله سفيان .
والخامس : بَرَكَتُه ، قاله أبو عبيدة .
وفي صلاة الملائكة قولان .
أحدهما : أنها دعاؤهم ، قاله أبو العالية .
والثاني : استغفارهم ، قاله مقاتل .
وفي الظُّلُمات والنُّور هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : الضَّلالة والهدى ، قاله ابن زيد .
والثاني : الإِيمان والكفر ، قاله مقاتل .
والثالث : الجنة والنار ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { تحيَّتُهم } الهاء والميم كناية عن المؤمنين .
فأما الهاء في قوله { يَلْقَونه } ففيها قولان .
أحدهما : أنها ترجع إِلى الله عز وجل . ثم فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن معناه : تحيَّتُهم من الله يوم يَلْقَونه سلام . وروى صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يسلِّم على أهل الجنة . والثاني : تحيَّتُهم من الملائكة يوم يَلْقَون اللّهَ : سلامٌ ، قاله مقاتل . وقال أبو حمزة الثُّمالي : تسلِّم عليهم الملائكة يوم القيامة ، وتبشِّرهم حين يخرجون من قبورهم . والثالث : تحيَّتُهم بينهم يوم يلقون ربَّهم : سلام ، وهو أن يُحيِّي بعضُهم بعضاً بالسلام ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .
والقول الثاني : أن الهاء ترجع إِلى ملك الموت ، وقد سبق ذِكْره في ذِكْر الملائكة . قال ابن مسعود : إِذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال له : ربُّك يقرئك السلام . وقال البراء بن عازب : في قوله : { تحيَّتُهم يوم يَلْقَونه } قال : ملَك الموت ، ليس مؤمن يقبض روحه إِلا سلَّم عليه . فأما الأجر الكريم ، فهو الحسن في الجنة .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)

قوله تعالى : { يا أيُّها النبيُّ إِنَّا أرسلناكَ شاهداً } أَي : على أُمَّتك بالبلاغ { ومبشِّراً } بالجنة لمن صدَّقك { ونذيراً } أي : منذِراً بالنار لمن كذَّبك ، { وداعياً إِلى الله } أي : إِلى توحيده وطاعته { بِإِذنه } أي : بأمره ، لا أنك فعلتَه من تلقاء نفسك { وسراجاً منيراً } أي : أنت لِمَن اتَّبعك { سراجاً } ، أي : كالسِّراج المضيء في الظلمة يُهتدى به .
قوله تعالى : { وبَشِّر المؤمنين بأنَّ لهم من الله فضلاً كبيراً } وهو الجنة . قال جابر بن عبد الله : لمَّا أُنزل قوله : { إِنَّا فتحنا لك فتحاً ميناً . . . } الآيات [ الفتح ] قال الصحابة : هنيئاً لك يا رسول الله ، فما لَنا؟ فنزلت هذه الآية .
قوله تعالى : { ولا تُطِع الكافرين } قد سبق في أول السورة .
قوله تعالى : { ودَعْ أذاهم } قال العلماء : معناه لا تجازهم عليه { وتوكَّلْ على الله } في كفاية شرِّهم؛ وهذا منسوخ بآية السيف .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20