كتاب : زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)

قوله تعالى : { قل أُوحيَ إليَّ أنه استمع نَفَرٌ من الجن } قد ذكرنا سبب نزول هذه الآية في [ الأحقاف : 29 ] وبَيَّنَّا هنالك سبب استماعهم . ومعنى «النفر» وعَدَدَهم ، فأما قوله تعالى : { قرآناً عجبا } فمعناه : بليغاً يعجب منه لبلاغته { يهدي إلى الرُّشد } أي : يدعو إلى الصواب من التوحيد والإيمان { ولن نشرك بربنا } أي : لن نعدل بربنا أحداً من خلقه . وقيل : عنوا إبليس ، أي : لا نطيعه في الشرك بالله .
قوله تعالى : { وأنه تعالى جَدُّ رَبِّنا } اختلف القراء في اثنتي عشرة همزة في هذه السورة ، وهي : «وأنه تعالى» ، «وأنه كان يقول» ، «وأنا ظننا» ، «وأنه كان رجال» ، «وأنهم ظنوا» ، «وأنا لمسنا» ، «وأنا كنا» ، «وأنا لا ندري» ، «وأنا منا» ، «وأنا ظننا أن لن نعجز الله» ، «وأنا لما سمعنا» ، «وأنا منا» ، ففتح الهمزة في هذه المواضع ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ، وحفص عن عاصم ، ووافقهم أبو جعفر في ثلاثة مواضع «وأنه تعالى» ، «وأنه كان يقول» ، «وأنه كان رجال» ، وكسر الباقيات . وقرأ الباقون بكسرهن . وقال الزجاج : والذي يختاره النحويون في هذه السورة أن ما كان من الوحي قيل فيه «أن» بالفتح ، وما كان من قول الجن قيل «إن» بالكسر . معطوف على قوله تعالى : { إنا سمعنا قرآناً عجباً } وعلى هذا يكون المعنى : وقالوا : إنه تعالى جَدُّ ربنا ، وقالوا : إنه كان يقول سفيهنا . فأما من فتح ، فذكر بعض النحويين : يعني الفراء ، أنه معطوف على الهاء في قوله تعالى : { فآمنا به } وبأنه تعالى جَدُّ رَبِّنا . وكذلك ما بعد هذا . وهذا رديء في القياس ، لا يعطف على الهاء المتمكّنة المخفوضة إلا بإظهار الخافض . ولكن وجهه أن يكون محمولاً على معنى أمنَّا به ، فيكون المعنى : وصدَّقْنا أنه تعالى جَدُّ رَبِّنا . وللمفسرين في معنى «تعالى جَدُّ رَبِّنا» سبعة أقوال .
أحدها : قُدْرَةُ رَبِّنا ، قاله ابن عباس .
والثاني : غِنى رَبِّنا ، قاله الحسن .
والثالث : جَلاَلُ رَبِّنا ، قاله مجاهد ، وعكرمة .
والرابع : عَظَمَةُ رَبِّنا ، قاله قتادة .
والخامس : أَمْرُ رَبِّنا ، قاله السدي .
والسادس : ارتفاع ذِكره وعظمته ، قاله مقاتل .
والسابع : مُلْكُ رَبِّنا وثناؤه وسلطانه ، قاله أبو عبيدة . { وأنه كان يقول سفيهنا } فيه قولان .
أحدهما : أنه إبليس ، قاله مجاهد ، وقتادة .
والثاني : أنه كفارهم ، قاله مقاتل . و«الشطط» : الجَوْر ، والكذب ، وهو : وصفه بالشريك ، والولد . ثم قالت الجن { وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً } وقرأ يعقوب : «أن لن تَقَوَّلَ» بفتح القاف ، وتشديد الواو . والمعنى : ظنناهم صادقين في قولهم : لله صاحبة وولد ، وما ظننَّاهم يكذبون حتى سمعنا القرآن ، يقول الله عز وجل «وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن» وذلك أن الرجل في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال : أعوذ بِسِّيدِ هذا الوادي من شَرِّ سُفَهَاءِ قومه ، فيبيت في جِوارٍ منهم حتى يصبح .

ومنه حديث كردم بن أبي السائب الأنصاري ، قال خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة ، وذلك أول ما ذُكِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف الليل جاء ذئب ، فأخذ حملاً من الغنم ، فوثب الراعي فنادى : يا عامر الوادي جارك ، فنادى منادٍ لا نراه : يا سرحان أرسله . فإذا الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة ، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم «وأنه كان رجال من الإنس . . . » الآية .
وفي قوله تعالى : { فزادوهم رهقاً } قولان .
أحدهما : أن الإنس زادوا الجن رهقاً لتعوُّذهم بهم ، قاله مقاتل . والمعنى : أنهم لما استعاذوا بسادتهم قالت السادة : قد سدنا الجن والإنس .
والثاني : أن الجن زادوا الإنس رَهَقاً ، ذكره الزجاج . قال أبو عبيدة : زادوهم سَفَهَاً وطغياناً . وقال ابن قتيبة : زادوهم ضلالاً . وأصل الرهق : العيب . ومنه يقال : فلان يرهق في دينه .
قوله تعالى : { وأنهم ظنوا } يقول الله عز وجل : ظن الجن { كما ظننتم } أيها الإنس المشركون أنه لا بعث . وقالت الجن : { وأنا لمسنا السماء } أي : أتيناها { فوجدناها ملئت حَرَساً شديداً } وهم الملائكة الذين يحرسونها من استراق السمع { وشُهُباً } جمع شهاب ، وهو النجم المضيء { وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع } أي : كنا نستمع ، فالآن حين حاولنا الاستماع بعد بعث محمد صلى الله عليه وسلم ، رُمِينا بالشُّهُب . ومعنى : «رصداً» قد أرصد له المرمى به { وأنا لا ندري أَشَرٌّ أريدَ بمن في الأرض } بإرسال محمد إليهم ، فيكذبونه فيهلكون { أم أراد بهم ربهم رشداً } وهو أن يؤمنوا فيهتدوا ، قاله مقاتل . والثاني : أنه قول كفرة الجن ، والمعنى : لا ندري أشرٌّ أريدَ بمن في الأرض بحدوث الرجم بالكواكب ، أم صلاح؟ قاله الفراء . ثم أخبروا عن حالهم ، فقالوا : { وأنا مِنَّا الصالحون } وهم المؤمنون المخلصون { ومِنَّا دون ذلك } فيه قولان .
أحدهما : أنهم المشركون .
والثاني : أنهم أهل الشرِّ دون الشرك { كنَّا طرائق قدداً } قال الفراء : أي : فرقاً مختلفة أهواؤنا . وقال أبو عبيدة : واحد الطرائق : طريقة ، وواحد القِددِ : قدة ، أي : ضروباً وأجناساً ومِلَلاً . قال الحسن ، والسدي : الجن مثلكم فمنهم قَدَرِيَّة ، ومرجِئَةٌ ، ورافضة .
قوله تعالى : { وأنا ظننا } أي : أيقنَّا { أن لن نعجز الله في الأرض } أي : لن نَفُوتَه إِذا أراد بنا أمراً { ولن نعجزه هَرَباً } أي : أنه يدركنا حيث كنَّا { وأنا لمَّا سمعنا الهدى } وهو القرآن الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم { آمنَّا به } أي : صدَّقنا أنه من عند الله عز وجل { فمن يؤمنْ بربه فلا يخاف بخساً } أي : نقصاً من الثواب { ولا رَهَقاً } أي : ولا ظلماً ومكروهاً يغشاه ، { وأنا منَّا المسلمون } قال مقاتل : المخلصون لله { ومِنَّا القاسطون } وهم المَرَدَة . قال ابن قتيبة : القاسطون : الجائرون . يقال : قسط : إذا جار ، وأقسط : إذا عدل .

قال المفسرون : هم الكافرون { فمن أسلم فأولئك تَحَرَّوا رشداً } أي : تَوَخَّوْه ، وأَمَّوْه . ثم انقطع كلام الجن . قال مقاتل : ثم رجع إلى كفار مكة فقال تعالى : { وأن لو استقاموا على الطريقة } يعني طريقة الهدى ، وهذا قول ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، واختاره الزجاج . قال لأن الطريقة هاهنا بالألف واللام معرفة ، فالأوجب أن تكون طريقة الهدى . وذهب قوم إلى أن المراد بها : طريقة الكفر ، قاله محمد بن كعب ، والربيع ، والفراء ، وابن قتيبة ، وابن كيسان . فعلى القول الأول يكون المعنى : لو آمنوا لوسَّعنا عليهم { لِنَفْتِنَهم } أي : لنختبرَهم { فيه } فننظر كيف شُكْرُهم . والماء الغَدَق : الكثير . وإنما ذكر الماء مثلاً ، لأن الخير كله يكون بالمطر ، فأقيم مقامه إِذ كان سببه وعلى الثاني يكون المعنى : لو استقاموا على الكفر فكانوا كفاراً كلهم ، لأكثرنا لهم المال لنفتنهم فيه عقوبة واستدارجاً ، ثم نعذبهم على ذلك . وقيل لأكثرنا لهم الماء فأغرقناهم ، كقوم نوح { ومن يُعْرِضْ عن ذِكْرِ ربِّه } يعني : القرآن { يسلكْه } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر «نسلكه» بالنون . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي بالياء . { عذاباً صعداً } قال ابن قتيبة : أي : عذاباً شاقاً ، يقال : تصعَّدني الأمر : إذا شَقَّ علي . ومنه قول عمر : ما تَصَعَّدني شيء ما تصعَّدَتني خِطْبَةُ النِّكاح . ونرى أصل هذا كله من الصعود ، لأنه شاق ، فكني به عن المشَقَّات . وجاء في التفسير أنه جبل في النَّار يكلَّف صعوده ، وسنذكره عند قوله تعالى : { سأرهقه صعوداً } [ المدثر : 17 ] إن شاء الله تعالى .

وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)

قوله تعالى : { وأن المساجد لله } فيها أربعة أقوال .
أحدها : أنها المساجد التي هي بيوت الصلوات ، قاله ابن عباس . قال قتادة : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبِيَعَهُم أشركوا ، فأمر الله عز وجل المسلمين أن يخلصوا له إذا دخلوا مساجدهم .
والثاني : الأعضاء التي يسجد عليها العبد ، قاله سعيد بن جبير ، وابن الأنباري ، وذكره الفراء . فيكون المعنى ، لا تسجدوا عليها لغيره .
والثالث : أن المراد بالمساجد هاهنا : البقاع كلُّها ، قاله الحسن . فيكون المعنى : أن الأرض كلها مواضع للسجود ، فلا تسجدوا عليها لغير خالقها .
والرابع : أن المساجد : السجود ، فإنه جمع مسجد . يقال : سجدت سجوداً ، ومَسْجِداً ، كما يقال : ضربت في الأرض ضرباً ، ومَضْرِباً ، ثم يجمع ، فيقال : المسَاجِد ، والمضارِب . قال ابن قتيبة : فعلى هذا يكون واحدها : مَسْجَداً ، بفتح الجيم . والمعنى : أَخْلِصُوا له ، ولا تسجدوا لغيره . ثم رجع إلى ذكر الجن فقال تعالى : { وأنه لما قام عبد الله } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { يدعوه } أي : يعبده . وكان يصلي ببطن نخلة على ما سبق بيانه في [ الأحقاف : 29 ] { كادوا يكونون عليه لِبَداً } قرأ الأكثرون : «لبداً» بكسر اللام ، وفتح الباء . وقرأ هشام عن ابن عامر ، وابن محيصن «لُبَداً» بضم اللام ، وفتح الباء مع تخفيفها . قال الفراء : ومعنى القراءتين واحد . يقال : لِبَدة ، ولُبَدة . قال الزجاج : والمعنى : كاد يركب بعضهم بعضاً . ومنه اشتقاق اللبد الذي يفترش . وكل شيء أضفته إلى شيء فقد لَبَّدته . وقرأ قوم منهم الحسن ، والجحدري : «لُبَّداً» بضم اللام مع تشديد الباء . قال الفراء : فعلى هذه القراءة يكون صفة للرجال ، كقولك : رُكَّعاً وركوعاً ، وسُجَّداً وسجوداً . قال الزجاج : هو جمع لابد ، مثل راكع ، وركَّع . وفي معنى الآية ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه إخبار الله تعالى عن الجن يحكي حالهم . والمعنى : أنه لما قام يصلي كاد الجن لازدحامهم عليه يركب بعضهم بعضاً ، حِرْصاً على سماع القرآن ، رواه عطية عن ابن عباس .
والثاني : أنه من قول الجن لقومهم لما رجعوا إليهم ، فوصفوا لهم طاعة أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع ، والسجود ، فكأنهم قالوا : لما قام يصلي كاد أصحابه يكونون عليه لبداً . وهذا المعنى في رواية ابن جبير ، عن ابن عباس .
والثالث : أن المعنى : لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدَّعوة تلبَّدت الإنس والجن ، وتظاهروا عليه ، ليبطلوا الحق الذي جاء به ، قاله الحسن ، وقتادة ، وابن زيد .
قوله تعالى : { قل إنما أدعوا ربي } قرأ عاصم ، وحمزة : «قل إنما أدعو ربي» بغير ألف . وقرأ الباقون «قال» على الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال مقاتل : إن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إنك جئت بأمر عظيم ، لم يسمع بمثله فارجع عنه ، فنزلت هذه الآية .

قوله تعالى : { قل لا أملك لكم ضراً } أي : لا أدفعه عنكم { ولا } أسوق إليكم { رَشَداً } أي : خيراً ، أي : إن الله تعالى يملك ذلك ، لا أنا { قل إني لن يجيرني من الله أحد } أي : إن عصيته لم يمنعني منه أحد ، وذلك أنهم قالوا : اترك ما تدعو إليه ، ونحن نجيرك { ولن أجد من دونه ملتحداً } وقد بيَّنَّاه في [ الكهف : 27 ] { إلا بلاغاً من الله } فيه وجهان ، ذكرهما الفراء .
أحدهما : أنه استثناء من قوله تعالى { لا أملك لكم ضراً ولا رشداً } إلا أن أبلغكم .
والثاني : لن يجيرني من الله أحد إِن لم أبلِّغ رسالته . وبالأول قال ابن السائب . وبالثاني : قال مقاتل . وقال بعضهم : المعنى : لن يجيرني من عذاب الله إلا أن أبلّغ عن الله ما أُرسِلْتُ ، فذلك البلاغ هو الذي يجيرني { ومن يعص الله ورسوله } بترك الإيمان والتوحيد .
قوله تعالى : { حتى إذا رأَوْا } يعني : الكفار { ما يوعدون } من العذاب في الدنيا ، وهو القتل . وفي الآخرة { فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً } أي : جنداً ونصراً ، أهم ، أم المؤمنون؟ { قل إن أدري } أي : ما أدري { أقريب ما توعدون } من العذاب { أم يجعل له ربي أمداً } أي : غاية وبُعْداً . وذلك لأن علم الغيب لله وحده { فلا يُظهِر } أي : فلا يُطلِع على غيبه الذي يعلمه أحداً من الناس { إِلا من ارتضى من رسول } لأن من الدليل على صدق الرسل إخبارَهم بالغيب . والمعنى : أن من ارتضاه للرسالة أطلعه على ما شاء من غيبه . وفي هذا دليل على أن من زعم أن النجوم تدل على الغيب فهو كافر . ثم ذكر أنه يحفظ ذلك الذي يطلع عليه الرسول فقال تعالى : { فإنه يسلك من بين يديه } أي : من بين يدي الرسول { ومِن خلفه رَصَداً } أي : يجعل له حَفَظَةً من الملائكة يحفظون الوحي من أن تَسْتَرِقَه الشياطين ، فتلقيه إلى الكَهَنة ، فيتكلَّمون به قبل أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم الناس . وقال الزجاج : يسلك من بين يَدَيْ الملَك ومن خلفه رصداً . وقيل يسلك من بين يدي الوحي . فالرُّصَّدُ من الملائكة يدفعون الشياطين عن أن تستمع ما ينزل من الوحي .
قوله تعالى : { ليعلم } فيه خمسة أقوال .
أحدها : ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن جبرائيل قد بلَّغ إليه ، قاله ابن جبير .
والثاني : ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن الرسل قبله { قد أبلغوا رسالاتِ رِّبهم } وأن الله قد حفظها فدفع عنها ، قاله قتادة .
والثالث : ليعلم مكذبو الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم ، قاله مجاهد .
والرابع : ليعلم الله عز وجل ذلك موجوداً ظاهراً يجب به الثواب ، فهو كقوله تعالى : { ولمَّا يعلمِ الله الذين جاهدوا منكم } [ آل عمران : 142 ] قاله ابن قتيبة .
والخامس : ليعلم النبيُّ أن الرسل قد أتته ، ولم تصل إلى غيره ، ذكره الزجاج . وقرأ رويس عن يعقوب { ليُعْلَم } بضم الياء على ما لم يسم فاعله . وقال ابن قتيبة : ويُقرأ { لتَعْلَم } بالتاء ، يريد : لتعلم الجن أن الرسل قد بلَّغت عن إلههم بما رَجَوْا من استراق السمع { وأحاط بما لديهم } أي : علم الله ما عند الرسل { وأحصى كل شيء عدداً } فلم يفته شيء حتى الذَّرّ والخردل .

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)

قوله تعالى : { يا أيها المُزَّمِّل } وقرأ أُبَيُّ بن كعب ، وأبو العالية ، وأبو مجلز ، وأبو عمران ، والأعمش : «المتزمِّل» بإظهار التاء . وقرأ عكرمة ، وابن يعمر : «المزمل» بحذف التاء وتخفيف الزاي قال اللغويون : «المُّزَّمِّل» الملتف في ثيابه ، وأصله المتزِّمل فأدغمت التاء في الزاي . فثقِّلت . وكل من التفَّ بثوبه فقد تزمَّل . قال الزجاج : وإِنما أدغمت فيها لقربها منها . قال المفسرون : وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتزمَّل في ثيابه في أول ما جاء جبريل فَرَقاً منه حتى أنس به . وقال السدي : كان قد تزمَّل للنوم . وقال مقاتل : خرج من البيت وقد لبس ثيابه ، فناداه جبريل : يا أيها المُزَّمِّل . وقيل : أريد به مُتَزَمِّل النبوة . قال عكرمة : في معنى هذه الآية : زُمِّلْتَ هذا الأمر ، فَقُمْ به . وقيل : إِنما لم يخاطب بالنبي والرسول هاهنا ، لأنه لم يكن قد بلَّغ ، وإنما كان في بدء الوحي .
قوله تعالى : { قم الليل } أي : للصلاة . وكان قيام الليل فرضاً عليه { إلا قليلا نصفَه } هذا بدل من الليل ، كما تقول : ضربت زيداً رأسَه . فإنما ذكرت زيداً لتوكيد الكلام ، لأنه أوكد من قولك : ضربت رأس زيد . والمعنى : قم من الليل النصف إلا قليلاً { أو انقص منه قليلاً } أي : من النصف { أو زِد عليه } أي : على النصف . قال المفسرون : انقص من النصف إلى الثلث ، أو زد عليه إلى الثلثين ، فجعل له سَعَة في مدة قيامه ، إذ لم تكن محدودة ، فكان يقوم ومعه طائفة من المؤمنين ، فشق ذلك عليه وعليهم ، فكان الرجل لا يدري كم صلى ، وكم بقي من الليل ، فكان يقوم الليل كلَّه مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب ، فنسخ ذلك عنه وعنهم بقوله تعالى : { إِن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ... } الآية ، هذا مذهب جماعة من المفسرين . وقالوا : ليس في القرآن سورة نَسَخَ آخِرُها أولَها سوى هذه السورة ، وذهب قوم إلى أنه نُسِخَ قيامُ اللَّيْلِ في حقِّه بقوله تعالى { ومن الليل فتهجَّدْ به نافلةً لكَ } [ الإسراء : 79 ] ونسخ في حق المؤمنين بالصلوات الخمس . وقيل : نسخ عن الأمة ، وبقي عليه فرضه أبداً . وقيل : إنما كان مفروضاً عليه دونهم ، وفي مدة فرضه قولان .
أحدهما : سَنَةٌ ، قال ابن عباس : كان بين أول ( المزَّمِّل ) وآخرها سَنَةٌ .
والثاني : ستة عشر شهراً ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { وَرَتِّل القرآن } قد ذكرنا الترتيل في [ الفرقان : 32 ] .
قوله تعالى : { إِنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } وهو القرآن . وفي معنى ثِقَله ستة أقوال .
أحدها : أنه كان يثقُل عليه إذا أُوحي إليه . وهذا قول عائشة قالت ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه ، يعني يتخلص عنه ، وإِن جبينه ليتفصّد عرقاً .
والثاني : أن العمل به ثقيل في فروضه وأحكامه ، قاله الحسن ، وقتادة .

والثالث : أنه يثقل في الميزان يوم القيامة ، قاله ابن زيد .
والرابع : أنه المهيب ، كما يقال للرجل العاقل : هو رزين راجح ، قاله عبد العزيز بن يحيى .
والخامس : أنه ليس بالخفيف ولا السفساف ، لأنه كلام الرب عز وجل ، قاله الفراء .
والسادس : أنه قول له وزن في صحته وبيانه ونفعه ، كما تقول : هذا كلام رصين ، وهذا قول وزن : إذا استجدته . ذكره الزجاج .
قوله تعالى : { إِن ناشئة الليل } قال ابن مسعود ، وابن عباس ، هي قيام الليل بلسان الحبشة . وهل هي في وقت مخصوص من الليل ، أم في جميعه؟ فيه قولان .
أحدهما : أنها في جميع الليل . وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه قال : الليل كلُّه ناشئة . وإلى هذا ذهب اللغويون . قال ابن قتيبة : ناشئة الليل : ساعاته الناشئة ، من نشأتْ : إذا ابتدأتْ . وقال الزجاج : ناشئة الليل : ساعات الليل ، كلّ ما نشأ منه ، أي : كلّ ما حدث . وقال أبو علي الفارسي : كأن المعنى : إن صلاة ناشئة ، أو عمل ناشئة الليل .
والثاني : أنها في وقت مخصوص من الليل ، ثم فيه خمسة أقوال .
أحدها : أنها ما بين المغرب والعشاء ، قاله أنس بن مالك .
والثاني : أنها القيام بعد النوم ، وهذا قول عائشة ، وابن الأعرابي . وقد نص عليه أحمد في رواية المرودي .
والثالث : أنها ما بعد العشاء ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبو مجلز .
والرابع : أنها بَدْءُ الليل ، قاله عطاء ، وعكرمة .
والخامس : أنها القيام من آخر الليل ، قاله يمان ، وابن كيسان .
قوله تعالى : { هي أشد وَطْأً } قرأ ابن عامر ، وأبو عمرو ، «وِطاءً» بكسر الواو مع المد ، وهوَ مصدر واطأت فلاناً على كذا مُواطَأَةً ، وَوِطاء ، وأراد أن القراءة في الليل يتواطأ فيها قلب المصلي ولسانه وسمعه على التفهُّم للقرآن والإحكام لتأويله . ومنه قوله تعالى : { ليواطئوا عِدَّة ما حَرَّم الله } [ التوبة : 37 ] وقرأ الباقون «وَطْأً» بفتح الواو مع القصر والمعنى : إنه أثقل على المصلي من ساعات النهار ، من قول العرب : اشتدت على القوم وَطْأَةُ السلطان : إذا ثقل عليهم ما يلزمهم . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم اشدد وطأتك على مضر» ذكر معنى القراءتين ابن قتيبة . وقرأ ابن محيصن «أشد وَطَاءً» بفتح الواو ، والطاء ، وبالمد .
قوله تعالى : { وأقْومُ قيلا } أي : أخلص للقول ، وأسمع له ، لأن الليل تهدأ فيه الأصوات فتخلص القراءة ، ويفرغ القلب لفهم التلاوة ، فلا يكون دون سمعه وتفهّمه حائل .
قوله تعالى : { إن لك في النهار سبحاً طويلاً } أي : فراغاً لنومك وراحتك ، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك ، قاله ابن عباس ، وعطاء ، وقرأ علي ، وابن مسعود ، وأبو عمران ، وابن أبي عبلة «سبخاً» بالخاء المعجمة قال الزجاج : ومعناها في اللغة صحيح يقال : قد سبخت القطن بمعنى نفشته ، ومعنى نَفَّشته : وسَّعته فيكون المعنى : إن لك في النهار توسُّعاً طويلاً .

قوله تعالى : { واذكر اسم ربك } أي : بالنهار أيضاً { وتَبَتَّل إِليه تبتيلا } قال مجاهد : أخلص له إخلاصاً . وقال ابن قتيبة : انقطع إليه ، من قولك : بَتَّلُت الشيء : إذا قطعتَه . وقال الزجاج : انقطع إِليه في العبادة . ومنه قيل لمريم : البتول ، لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة . وكذلك صدقة بتلة : منقطعة من مال المصِّدِّق ، والأصل في مصدر تبتَّل تبتلاً . وإنما قوله تعالى : «تبتيلاً» محمول على معنى تبتّل { رب المشرق } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم «ربُّ» بالرفع . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، بالكسر . وما بعد هذا قد سبق [ الشعراء : 28 ] إلى قوله تعالى { واصبر على ما يقولون } من التكذيب لك والأذى { واهجرهم هجراً جميلاً } لا جزع فيه . وهذه الآية عند المفسرين منسوخة بآية السيف { وذَرْني والمكذِّبين } أي : لا تهتمَّ بهم ، فأنا أكفيكهم { أُولي النَّعْمة } يعني : التَّنَعُّم . وفيمن عُني بهذا ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم المطعِمُون بِبَدْرٍ ، قاله مقاتل بن حيان .
والثاني : أنهم بنو المغيرة بن عبد الله ، قاله مقاتل بن سليمان .
والثالث : أنهم المستهزئون ، وهم صناديد قريش ، حكاه الثعلبي .
قوله تعالى : { ومَهِّلْهم قليلاً } قالت عائشة : فلم يكن إلا اليسير حتى كانت وقعة بدر ، وذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف ، وليس بصحيح .
قوله تعالى : { إن لدينا أنكالاً } وهي القيود ، واحدها : نكل . وقد شرحنا معنى «الجحيم» في [ البقرة : 119 ] { وطعاماً ذا غُصَّةٍ } وهو الذي لا يسوغ في الحلق ، وفيه للمفسرين أربعة أقوال .
أحدها : أنه شوك يأخذ الحلق فلا يدخل ولا يخرج ، قاله ابن عباس ، وعكرمة .
والثاني : الزَّقُّوم ، قاله مقاتل .
والثالث : الضَّريع ، قاله الزجاج .
والرابع : الزَّقُّوم والغِسْلين والضَّريع ، حكاه الثعلبي .
قوله تعالى : { يوم ترجُف الأرض } قال الزجاج : هو منصوب بقوله تعالى : «إن لدينا أنكالاً» والمعنى : ينكِّل الكافرين ، ويعذِّبهم ، { يوم ترجُف الأرض } أي : تُزَلزَل وتُحَرَّك أغلظ حركة .
قوله تعالى : { وكانت الجبال } قال مقاتل : المعنى : وصارت بعد الشدة ، والقوة «كثيباً» قال الفراء : «الكثيب» : الرمل . و«المهيل» : الذي تحرَّك أسفله ، فينهال عليكم من أعلاه . والعرب تقول : مهيل ومهيول ، ومكيل ومكيول . وقال الزجاج : الكثيب جمعه : كثبان ، وهي القطع العظام من الرمل . والمهيل : السائل .
قوله تعالى : { إنا أرسلنا إليكم } يعني : أهل مكة { رسولاً } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم { شاهداً عليكم } بالتبليغ وإِيمان من آمن ، وكفر من كفر { كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً } وهو موسى عليه السلام ، والوبيل : الشديد . قال ابن قتيبة : هو من قولك : استوبلت المكان : إذا استوخمتَه . ويقال : كَلًأ مُسْتَوْبَل أُي : لاَ يُسْتَمْرَأُ . قال الزجاج : الوبيل : الثقيل الغليظ جداً . ومنه قيل للمطر العظيم . وابل قال مقاتل : والمراد بهذا الأخذ الوبيل : الغرق . وهذا تخويف لكفار مكة أن ينزل بهم العذاب لتكذيبهم ، كما نزل بفرعون .
قوله تعالى : { فكيف تتقون إن كفرتم يوماً } أي : عذاب يوم .

قال الزجاج : المعنى : بأي شيء تتحصَّنون من عذاب يوم مِنْ هوله يَشيب الصغير من غير كِبَر . وقرأ أُبي بن كعب ، وأبو عمران «نجعل الولدان» بالنون .
قوله تعالى : { السماء مُنْفَطِرٌ به } قال الفراء : السماء تُذَكَّر وتؤنَّث . وهي هاهنا في وجه التذكير . قال الشاعر :
فَلَوْ رَفَع السَّماءُ إليه قوماً ... لَحِقْنَا بِالسَّماءِ مَعَ السَّحابِ
قال الزجاج : وتذكير السماء على ضربين .
أحدهما : على أن معنى السماء معنى السقف .
والثاني : على قولهم : امرأة مُرْضِع على جهة النسب . فالمعنى : السماء ذات انفطار ، كما أن المرضع ذات الرضاع . وقال ابن قتيبة : ومعنى الآية : السماء مُنْشَقّ به ، أي : فيه ، يعني في ذلك اليوم . قوله تعالى : { كان وعده مفعولاً } وذلك أنه وعد بالبعث فهو كائن لا محالة .

إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

{ إن هذه } يعني : آيات القرآن { تذكرة } أي : تذكير وموعظة { فمن شاء اتخذ إِلى ربه سبيلا } بالإيمان والطاعة .
قوله تعالى : { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى } أي : أقل { من ثُلُثَيِ الليل ونصفَه وثُلُثَه } وقرأ ابن كثير ، وأهل الكوفة . بفتح الفاء والثاء . والباقون : بكسرهما .
قوله تعالى : { وطائفة من الذين معك } يعني : المؤمنين { والله يُقَدِّر الليل والنهارَ } يعلم مقاديرهما ، فيعلم القدر الذي تقومون به من الليل { علم أن لن تحصوه } وفيه قولان .
أحدهما : لن تطيقوا قيام ثُلُثَيِ الليل ، ولا ثلث الليل ، ولا نصف الليل ، قاله مقاتل .
والثاني : لن تحفظوا مواقيت الليل ، قاله الفراء . { فتاب عليكم } أي : عاد عليكم بالمغفرة والتخفيف { فاقرؤوا ما تيسر } عليكم { من القرآن } يعني : في الصلاة ، من غير أن يوقت وقتاً . وقال الحسن : هو ما يقرأ في صلاة المغرب والعشاء . ثم ذكر أعذارهم فقال تعالى : { علم أن سيكونُ منكم مرضى } فلا يطيقون قيام الليل ، { وآخرون يضربون في الأرض } وهم المسافرون للتجارة { يبتغون من فضل الله } أي : من رزقه ، فلا يطيقون قيام الليل ، { وآخرون يقاتلون في سبيل الله } وهم المجاهدون ، فلا يطيقون قيام الليل ، { فاقرؤوا ما تيسر من القرآن } وذكروا أن هذا نسخ عن المسلمين بالصلوات الخمس ، فذلك قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة } أي : الصلوات الخمس في أوقاتها { وأقرضوا الله قرضاً حسناً } وقد سبق بيانه [ الحديد : 18 ] . قال ابن عباس : يريد سوى الزكاة في صلة الرحم ، وقِرى الضيف { وما تقدِّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله } أي : تجدوا ثوابه في الآخرة { هو خيراً } قال أبو عبيدة : المعنى : تجدوه خيراً . قال الزجاج : ودخلت «هو» فصلاً . وقال المفسرون : ومعنى «خيراً» أي : أفضل مما أُعطيتم { وأعظم أجراً } من الذي تؤخِّرونه إلى وقت الوصية عند الموت .

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)

فأما سبب نزولها ، فروى البخاري ومسلم في «صحيحيهما» من حديث جابر بن عبد الله قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جاورت بِحِرَاء شهراً ، فلما قضيت جواري ، نزلتُ فاستَبْطَنْتُ بطن الوادي ، فنوديتُ ، فنظرت أمامي ، وخلفي ، وعن يميني ، وعن شمالي ، فلم أر أحداً ، ثم نوديتُ فرفعتُ رأسي ، فإذا هو في الهواء ( يعني : جبريل عليه السلام ) فأقبلتُ إِلى خديجة ، فقلت دَثِّروني دَثِّروني ، فأنزل الله عز وجل { يا أيها المدثر قم فأنذر } " قال المفسرون : فلما رأى جبريل وقع مغشياً عليه ، فلما أفاق دخل إلى خديجة ، ودعا بماءٍ فصبَّه عليه ، وقال : دثِّروني ، فدثَّروه بقطيفة ، فأتاه جبريل فقال { يا أيها المدِّثر } وقرأ أُبَيُّ بن كعب ، وأبو عمران ، والأعمش ، «المتدثِّر» بإظهار التاء . وقرأ أبو رجاء ، وعكرمة ، وابن يعمر ، «المدثر» بحذف التاء ، وتخفيف الدال . قال اللغويون : وأصل «المدَّثِّر» المتدثر ، فأدغمت التاء ، كما ذكرنا في المتَزَمِّل ، وهذا في قول الجمهور من التدثير بالثياب . وقيل : المعنى : يا أيها المدثر بالنبوَّة ، وأثقالها ، قال عكرمة : دُثِّرْتَ هذا الأمر فقم به .
قوله تعالى : { قم فأنذر } كفارَ مكة العذابَ إن لم يُوحِّدوا { وربَّك فكبِّر } أي : عظِّمه عما يقول عبدة الأوثان { وثيابَك فطهِّر } فيه ثمانية أقوال .
أحدها : لا تلبسها على معصية ، ولا على غدر . قال غيلان بن سلمة الثقفي :
وَإني بِحَمْدِ الله لاَ ثَوْبَ فَاجِرٍ ... لَبِسْتُ وَلاَ مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ
روى هذا المعنى عكرمة عن ابن عباس .
والثاني : لا تكن ثيابُك من مكسب غير طاهر ، روي عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : طهر نفسك من الذنب ، قاله مجاهد ، وقتادة . ويشهد له قول عنترة :
فَشَكَكْتُ بالرُّمْحِ الأَصَمِّ ثِيَابَهُ ... لَيْسَ الكَرِيمُ عَلَى القَنَا بِمُحرَّمِ
أي : نفسه ، وهذا مذهب ابن قتيبة . قال : المعنى : طهر نفسك من الذنوب ، فكنى عن الجسم بالثياب ، لأنها تشتمل عليه . قالت ليلى الأخيلية وذَكَرَتْ إبلاً :
رَمَوْها بأثواب خِفَافٍ فلا ترى ... لَهَا شَبَهَاً إلا النَّعَام المُنَفَّرا
أي : ركبوها ، فَرَمَوْها بأنفسهم . والعرب تقول للعفاف : إزارٌ ، لأن العفيف كأنه استتر لما عَفَّ .
والرابع : وعَمَلَكَ فَأصْلِحْ ، قاله الضحاك .
والخامس : خُلُقَكَ فَحَسِّنْ ، قاله الحسن ، والقرظي .
والسادس : وَثِيَابَك فَقَصِّرْ وشَمِّرْ ، قاله طاووس .
والسابع : قَلْبَكَ فَطَهِّرْ ، قاله سعيد بن جبير . ويشهد له قول امرىء القيس :
فَإنْ يَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِني خَلِيقَةٌ ... فَسُلِّي ثِيابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ
أي : قلبي من قلبك .
والثامن : اغسل ثيابك بالماء ، ونقِّها ، قاله ابن سيرين ، وابن زيد .
قوله تعالى : { والرُّجْزَ فَاهْجُرْ } قرأ الحسن ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وعاصم ، إِلا أبا بكر ، ويعقوب ، وابن محصين ، وابن السميفع ، «والرُّجزَ» بضم الراء . والباقون : بكسرها . ولم يختلفوا في غير هذا الموضع . قال الزجاج : ومعنى القراءتين واحد . وقال أبو علي : قراءة الحسن بالضم ، وقال : هو اسم صنم .

وقال قتادة : صنمان : إساف ، ونائلة ، ومن كسر ، فالرّجز : العذاب . فالمعنى : ذو العذاب فاهجر .
وفي معنى «الرجز» للمفسرين ستة أَقوال .
أحدها : أنه الأصنام ، والأوثان ، قاله ابن عباس . ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والزهري ، والسدي ، وابن زيد .
والثاني : أنه الإثم ، روي عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : الشرك ، قاله ابن جبير ، والضحاك .
والرابع : الذنب ، قاله الحسن .
والخامس : العذاب ، قاله ابن السائب ، قال الزجاج : الرجزُ في اللغة : العذاب . ومعنى الآية : اهجر ما يؤدِّي إلى عذاب الله .
والسادس : الشيطان ، قاله ابن كيسان . { ولا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر } فيه أربعة أقوال .
أحدها : لا تعط عطيَّة تلتمس بها أفضل منها ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، قال المفسرون : معناه : أَعْطِ لِربّك وأرد به الله ، فأدَّبه بأشرفِ الآداب . ومعنى «لا تمنن» : لا تعط شيئاً من مالك لتُعطَى أكثر منه ، وهذا الأدب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، وليس على أحد من أمته إثم أن يهديَ هدية يرجو بها ثواباً أكثر منها .
والثاني : لا تمنن بعملك تستكثره على ربك ، قاله الحسن .
والثالث : لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه ، قاله مجاهد .
والرابع : لا تمنن على الناس بالنُّبُوَّة لتأخذ عليها منهم أجراً ، قاله ابن زيد . { ولربك } فيه أربعة أقوال .
أحدها : لأجل ربك . والثاني : لثواب ربك . والثالث : لأمر ربك . والرابع : لوعْدِ ربِّك { فاصبر } فيه قولان .
أحدهما : على طاعته وفرائضه .
والثاني : على الأذى والتكذيب .
قوله تعالى : { فإذا نقر في الناقور } أي : نفخ في الصور . وهل هذه النفخة هي الأولى أو الثانية؟ فيه قولان { فذلك يومئذ يوم عسير } أي : يعسر الأمر فيه { على الكافرين غير يسير } غير هَيِّن { ذَرْني } قد شرحناه في [ المزمل : 11 ] { ومن خلقتُ } أي : ومن خلقته { وحيداً } فيه قولان .
أحدهما : خلقته وحيداً في بطن أمه لا مال له ولا ولد ، قاله مجاهد .
والثاني : خلقته وحدي لم يَشْركني في خَلْقِهِ أحَدٌ ، قاله الزجاج . قال ابن عباس : جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رَقَّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل ، فأتاه ، فقال : يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً . فإِنك أتيت محمداً تتعرَّض لما قِبَله ، فقال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً ، قال : فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنَّك منكر له ، قال : وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني ، فوالله ما يشبهها الذي يقول ، والله إن لقوله حلاوة ، وإن عليه طلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدِقٌ أسفلُه ، وإنه ليعلو ولا يُعلى . قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه ، قال : فدعني حتى أفكر فيه . فقال : هذا سحر يؤثر : يأثره عن غيره ، فنزلت { ذرني ومن خلقت وحيداً . . . } الآيات كلُّها . وقال مجاهد : قال الوليد لقريش : إن لي إِليكم حاجة فاجتمعوا في دار الندوة ، فقال : إنكم ذوو أحساب وأحلام ، وإن العرب يأتونكم ، وينطلقون من عندكم على أمر مختلف ، فأجمعوا على شيء واحد .

ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا : نقول إِنه شاعر ، فعبس عندها ، وقال : قد سمعنا الشعر فما يشبه قوله الشعر . فقالوا : نقول : إنه كاهن ، قال : إِذن يأتونه فلا يجدونه يحدث بما يحدث به الكهنة ، قالوا : نقول : إِنه مجنون ، قال : إذن يأتونه فلا يجدونه مجنوناً . فقالوا : نقول : إنه ساحر . قال : وما الساحر؟ قالوا بشر يحبِّبون بين المتباغضين ، ويبغِّضون بين المتحابين ، قال : فهو ساحر ، فخرجوا لا يلقى أحد منهم النبي إِلا قال : يا ساحر ، فاشتد ذلك عليه ، فأنزل الله عز وجل «يا أيها المدثر» إِلى قوله تعالى «إنْ هذا إِلا سحر يؤثر» وذكر بعض المفسرين : أن قوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيداً } منسوخ بآية السيف ، ولا يصح .
قوله تعالى : { وجعلت له مالاً ممدوداً } في معنى الممدود ثلاثة أقوال .
أحدها : كثيراً ، قاله أبو عبيدة .
والثاني دائماً ، قاله ابن قتيبة .
والثالث : غير منقطع ، قاله الزجاج .
وللمفسرين في مقداره أربعة أقوال .
أحدها : غَلَّة شهر بشهر قاله عمر بن الخطاب .
والثاني : ألف دينار ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، قال الفراء : نرى أن الممدود : جُعِلَ غاية للعدد ، لأن «ألف» غاية للعدد يرجع في أول العدد من الألف .
والثالث : أربعة آلاف ، قاله قتادة .
والرابع : أنه بستان كان له بالطائف لا ينقطع خيره شتاءً ولا صيفاً ، قاله قاتل .
قوله تعالى : { وبنين شهوداً } أي : حضورا معه لا يحتاجون إلى التصرُّف والسَّفر فيغيبوا عنه . وفي عددهم أربعة أقوال .
أحدها : عشرة ، قاله مجاهد ، وقتادة .
والثاني : ثلاثة عشر ، قاله ابن جبير .
والثالث : اثنا عشر ، قاله السدي .
والرابع : سبعة ، قاله مقاتل . { ومهَّدت له تمهيداً } أي : بسطت له العيش ، وطول العمر ، { ثم يطمع أن أزيد } فيه قولان .
أحدهما : يطمع أن أدخله الجنة ، قاله الحسن . والثاني : أن أزيده من المال والولد ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { كلا } أي : لا أفعل ، فمنعه الله المالَ والوَلدَ حتى مات فقيراً { إنه كان لآياتنا عنيداً } أي : معانداً .
وفي المراد بالآيات هنا ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه القرآن ، قاله ابن جبير .
والثاني : الحق ، قاله مجاهد .
والثالث : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله السدي .
قوله تعالى : { سأُرْهِقُه صَعُوداً } قال الزجاج : سأحمله على مشقة من العذاب . وقال غيره : سأكلِّفه مشقةً من العذاب لا راحة له منها ، وقال ابن قتيبة : «الصَّعود» : العقبة الشاقة ، وكذلك «الكؤود» . وفي حديث أبي سعيد عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : «سأرهقه صَعوداً» قال : جبل من نار يكلَّف أن يصعده ، فإذا وضع رجله عليها ذابت ، فإذا رفعها عادت . يصعد سبعين خريفاً ، ثم يهوي فيه كذلك أبداً ، وذكر ابن السائب ، أنه جبل من صخرة ملساء في النار ، يكلَّف أن يصعَدها حتى إِذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها ، ثم يكلَّف أن يصعَدها ، فذلك دأبه أبداً ، يجذب من أمامه سلاسل الحديد ، ويضرب من خلفه بمقامع الحديد ، فيصعدها في أربعين سنة .

قوله تعالى : { إنَّه فَكَّر } أي : تفكر ماذا يقول في القرآن { وقَدَّر } القول في نفسه { فقُتِلَ } أي : لعن { كيف قَدَّر ثم قُتِلَ كيف قَدَّر } أي : لُعِن على أي حال قَدَّر ما قدَّر من الكلام . وقيل : «كيف» هاهنا بمعنى التعجب والإنكار والتوبيخ . وإنما كرر تأكيداً { ثم نَظَرَ } في طلب ما يدفع به القرآن ، ويردُّه { ثم عبس وبسر } قال اللغويون : أي : كَرَّهَ وَجْهَهُ وقطَّب . يقال : بسر الرجل وجهه ، أي : قبضه . وأنشدوا لتَوْبَةَ :
وقَدْ رَابَني مِنْها صُدُودٌ رَأَيْتُهُ ... وَإِعْرَاضُها عن حَاجتي وبُسُورُها
قال المفسرون : كرَّه وجهه ، ونظر بكراهية شديدة ، كالمهتمّ المتفكِّر في الشيء { ثم أدبر } عن الإيمان { واستكبر } أي : تكبر حين دعي إليه { فقال إنْ هذا } أي : ما هذا القرآن { إلا سحر يؤثر } أي : يُروى عن السَّحَرة { إنْ هذا إِلا قول البشر } أي : من كلام الإنس ، وليس من كلام الله تعالى ، فقال الله تعالى : { سأُصليه سقر } أي : سأدخله النار . وقد ذكر «سقر» في سورة [ القمر : 48 ] { وما أدراك ما سقر } لِعِظَم شَأْنِها { لا تُبقي ولا تذر } أي : لا تبقي لهم لحماً إلا أكلته ، ولا تذرهم إذا أُعيدوا خلقاً جديداً { لَوَّاحَةٌ } أي : مغيِّرة . يقال : لاحته الشمس ، أي : غيَّرتْه وأنشدوا :
يا ابْنَةَ عَمِّي لاَحَني الهواجر ... وقرأ ابن مسعود ، وابن السميفع ، وابن أبي عبلة ، «لوَّاحةً» بالنصب . وفي البَشَر قولان .
أحدهما : أنه جمع بشرة ، وهي جلدة الإنسان الظاهرة ، وهذا قول مجاهد ، والفراء ، والزجاج .
والثاني : أنهم الإنس من أهل النار ، قاله الأخفش ، وابن قتيبة ، في آخرين .
قوله تعالى : { عليها تسعة عشر } وهم خُزَّانها ، مالك ومعه ثمانية عشر ، أعينهم كالبرق الخاطف ، وأنيابهم كالصياصي يخرج لهب النار من أفواههم ، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة ، يسع كَفّ أحدهم مثل ربيعة ومضر . قد نزعت منهم الرحمة . فلما نزلت هذه الآية قال أبو جهل : يخوِّفكم محمد بتسعة عشر ، أما له من الجنود إلا هؤلاء! أيعجز كل عشرة منكم أن يبطش بواحد منهم ، ثم يخرجون من النار! فقال أبو الأشدين : قال مقاتل : اسمه : أسيد بن كلدة . وقال غيره : كلدة بن خلف الجمحي : يا معشر قريش : أنا أمشي بين أيديكم فأرفع عشرة بمنكبي الأيمن ، وتسعة بمنكبي الأيسر ، فندخل الجنة ، فأنزل الله تعالى { وما جعلنا أصحاب النار إِلا ملائكة } لا آدميين ، فمن يطيقهم ومن يغلبهم؟! { وما جعلنا عِدَّتهم } في هذه القِلَّة { إلا فتنة } أي : ضلالة { للذين كفروا } حتى قالوا ما قالوا { ليستيقن الذين أوتوا الكتاب } أن ما جاء به محمد حق ، لأن عِدَّتهم في التوراة تسعة عشر { ويزدادَ الذين آمنوا } من أهل الكتاب { إِيماناً } أي : تصديقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم إذ وجدوا ما يخبرهم موافقاً لما في كتابهم { ولا يرتابَ الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون } أي : ولا يشك هؤلاء في عَدَدِ الخَزَنَة { وليقولَ الذين في قلوبهم مرض } وفيه ثلاثة أقوال .

أحدها : أنه النفاق ، ذكره الأكثرون .
والثاني : أنه الشك ، قاله مقاتل . وزعم أنهم يهود أهل المدينة ، وعنده أن هذه الآية مدنية .
والثالث : أنه الخلاف ، قاله الحسين بن الفضل . وقال : لم يكن بمكة نفاق . وهذه مكية . فأما «الكافرون» فهم مشركو العرب { ماذا أراد الله } أي : أي شيء أراد الله { بهذا } الحديث والخبر { مثلاً } والمثل يكون بمعنى الحديث نفسه . ومعنى الكلام : يقولون : ما هذا من الحديث { كذلك } أي : كما أضلَّ من أنكر عَدَد الخَزَنَة ، وهدى من صدَّق { يُضِلُّ الله من يشاء ويهدي من يشاء } وأُنزل في قول أبي جهل : أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر : { وما يعلم جنود ربك إلا هو } يعني : من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار . وذلك أن لكل واحد من هؤلاء التسعة عشر من الأعوان ما لا يعلمه إلا الله . وذكر الماوردي في وجه الحكمة في كونهم تسعة عشر قولاً محتملاً ، فقال : التسعة عشر : عدد يجمع أكثر القليل ، وأقل الكثير ، لأن الآحاد أقل الأعداد ، وأكثرها تسعة ، وما سوى الآحاد كثير . وأقل الكثير : عشرة ، فوقع الاقتصار على عدد يجمع أقل الكثير ، وأكثر القليل . ثم رجع إلى ذكر النار فقال تعالى : { وما هي إلا ذكرى } أي : ما النار في الدنيا إلا مذكِّرة لنار الآخرة { كلاَّ } أي : حقاً { والقمر . والليل إذْ أدبر } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : «إذا أدبر» وقرأ نافع ، وحمزة ، وحفص ، والفضل عن عاصم ، ويعقوب «إذ» بسكون الذال من غير ألف بعدها «أدبر» بسكون الدال وبهمزة قبلها . وهل معنى القراءتين واحد ، أم لا؟ فيه قولان .
أحدهما : أنهما لغتان بمعنى واحد . يقال : دبر الليل ، وأدبر . ودبر الصيف وأدبر ، هذا قول الفراء ، والأخفش ، وثعلب .
والثاني : أن «دبر» بمعنى خلف ، «وأدبر» بمعنى وَّلى . يقال : دبرني فلان : جاء خلفي ، وإلى هذا المعنى ذهب أبو عبيدة وابن قتيبة .
قوله تعالى : { إذا أسفر } أي : أضاء وتبيَّن { إنها } يعني : سقر { لإحدى الكُبَر } قال ابن قتيبة : الكُبَر ، جمع كبرى ، مثل الأُوَل ، والأُولى ، والصُّغَر ، والصُّغْرى . وهذا كما يقال : إنها لإحدى العظائم . قال الحسن : والله ما أنذر الله بشيءٍ أوهى منها .
وقال ابن السائب ، ومقاتل : أراد بالكُبَر : دركات جهنم السبعة .
قوله تعالى : { نذيراً للبشر } قال الزجاج : نصب «نذيراً» على الحال . والمعنى : إِنها لكبيرة في حال الإنذار . وذَكَّر «النذير» ، لأن معناه معنى العذاب . ويجوز أن يكون «نذيراً» منصوباً متعلقاً بأول السورة ، على معنى : قم نذيراً للبشر .
قوله تعالى : { لمن شاء منكم } بدل من قوله تعالى : «للبشر» ، { أن يتقدَّم أو يتأخَّر } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أن يتقدَّم في طاعة الله أو يتأخَّر عن معصيته ، قاله ابن جريج .
والثاني : أن يتقدَّم إلى النار ، أو يتأخَّر عن الجنة ، قاله السدي .
والثالث : أن يتقدَّم في الخير ، أو يتأخر إلى الشر ، قاله يحيى بن سلام .
والرابع : أن يتقدَّم في الإيمان ، أو يتأخَّر عنه . والمعنى : أن الإِنذار قد حصل لكل أحد ممن أقر أو كفر .

كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

قوله تعالى : { كل نفس بما كسبت رهينة } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : كل نفس بالغةٍ مُرتَهنةٌ بعملها لتُحاسَب عليه { إلا أصحاب اليمين } وهم أطفال المسلمين ، فإنه لا حساب عليهم ، لأنه لا ذنوب لهم ، قاله علي ، واختاره الفراء .
والثاني : كل نفس من أهل النار مُرتَهنةٌ في النار ، إلا أصحاب اليمين ، وهم المؤمنون ، فإنهم في الجنة ، قاله الضحاك .
والثالث : كل نفس مرتهنةٌ بعملها لتحاسب عليه إلا أصحاب اليمين ، فإنهم لا يحاسبون ، قاله ابن جريج .
قوله تعالى : { يتساءلون عن المجرمين } قال مقاتل : إذا خرج أهل التوحيد من النار قال المؤمنون لمن بقي في النار : { ما سلككم في سقر؟ } قال المفسرون : سلككم بمعنى : أدخلكم . وقال مقاتل : ما حبسكم فيها؟ { قالوا لم نك من المصلين } لله في دار الدنيا { ولم نك نطعم المسكين } أي : لم نتصدَّق لله { وكنا نخوض مع الخائضين } أهل الباطل والتكذيب { وكنا نكذِّب بيوم الدين } أي : بيوم الجزاء والحساب { حتى أتانا اليقين } وهو الموت . يقول الله تعالى : { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } وهذا إنما جرى بعد شفاعة الأنبياء والملائكة والشهداء والمؤمنين . وهذا يدل على نفع الشفاعة لمن آمن { فما لهم عن التذكرة معرضين؟ } يعني : كفار قريش حين نفروا من القرآن والتذكير بمواعظه . والمعنى : لا شيء لهم في الآخرة إِذْ أعرضوا عن القرآن فلم يؤمنوا به ، ثم شبَّههم في نفورهم عنه بالحُمُر ، فقال تعالى : { كأنهم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَة } قرأ أبو جعفر ، ونافع ، وابن عامر ، والمفضل عن عاصم بفتح الفاء . والباقون : بكسرها . قال أبو عبيدة ، وابن قتيبة : من قرأ بفتح الفاء أراد : مذعورة ، استنفرت فنفرت . ومن قرأ بكسر الفاء أراد : نافرة . قال الفراء : أهل الحجاز يقولون : حُمُرٌ مستنفَرة . وناس من العرب يكسرون الفاء . والفتح أكثر في كلام العرب . وقراءتنا بالكسر . أنشدني الكسائي :
اِحْبِسْ حِمَارَك إنَّه مُسْتَنْفِرُ ... في إثْرِ أَحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لِغُرَّبِ
و«غرّب» موضع .
وفي «القسورة» سبعة أقوال .
أحدها : أنه الأسد ، رواه يوسف بن مهران ، عن ابن عباس . وبه قال أبو هريرة ، وزيد بن أسلم ، وابنه . قال ابن عباس : الحمر الوحشية إذا عايَنَتْ الأسد هَرَبَتْ منه ، فكذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم هربوا منه ، وإلى هذا ذهب أبو عبيدة ، والزجاج . قال ابن قتيبة : كأنَّه من القَسْرِ والقَهْرِ ، فالأسد يقهر السباع .
والثاني : أن القسورة : الرماة ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال أبو موسى الأشعري ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل ، وابن كيسان .
والثالث : أن القسورة : حِبَال الصيادين ، رواه عكرمة ، عن ابن عباس .
والرابع : أنهم عُصَبُ الرِّجَال ، رواه أبو حمزة عن ابن عباس . واسم أبي حمزة : نصر بن عمران الضبعي .
والخامس : أنه رِكْز الناس ، وهذا في رواية عطاء أيضاً عن ابن عباس .

ورِكْز الناس : حِسُّهم وأصواتهم .
والسادس : أنه الظُّلْمة والليل ، قاله عكرمة .
والسابع : أنه النَّبْل ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { بل يريد كل امرىءٍ منهم أن يُؤتَى صُحُفاً مُنَشَّرةً } فيها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن سَرَّك أن نَتَّبِعْك ، فليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله تعالى إلى فلان بن فلان يؤمر فيه باتِّباعك ، قاله الجمهور .
والثاني : أنهم أرادوا براءةً من النار أن لا يعذَّبوا بها ، قاله أبو صالح .
والثالث : أنهم قالوا : كان الرجل إذا أذنب في بَني إسرائيل وجده مكتوباً إذا أصبح في رُقعة . فما بالنا لا نرى ذلك؟ فنزلت هذه الآية ، قاله الفراء . فقال الله تعالى : { كلا } أي : لا يؤتَون الصُّحُف { بل لا يخافون الآخرة } أي : لا يَخْشَوْن عذابها . والمعنى : أنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات بعد قيام الدلالة { كلاَّ } أي : حقاً . وقيل : معنى { كلا } ليس الأمر كما يريدون ويقولون { إنه تَذْكِرَةٌ } أي : تذكير وموعظة { فمن شاء ذَكره } الهاء عائدة على القرآن فالمعنى : فمن شاء أن يذكر القرآن ويتعظ به ويفهمه ، ذَكره . ثم رد المشيئة إلى نفسه فقال تعالى : { وما يذكرون إلا أن يشاء الله } أي : إلا أن يريد لهم الهدى { هو أهل التقوى } أي : أهل أن يُتَّقى { وأهل المغفرة } أي : أهل أن يَغفِر لمن تاب . روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية ، فقال : قال ربكم عز وجل : أنا أهل أن أُتقى ، فلا يشرك بي غيري . وأنا أهل لمن اتَّقى أن يشرك بي غيري أن أغفر له .

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)

قوله تعالى : { لا أقسم } اتفقوا على أن المعنى «أقسم» واختلفوا في «لا» فجعلها بعضهم زائدة ، كقوله تعالى : { لئلا يعلمَ أهلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] وجعلها بعضهم رداً على منكري البعث . ويدل عليه أنه «أقسم» على كون البعث . قال ابن قتيبة : زيدت «لا» على نية الرد على المكذبين ، كما تقول : لا والله ما ذاك ، ولو حذفت جاز ، ولكنه أبلغ في الرد . وقرأ ابن كثير إلا ابن فليح «لأقسم» بغير ألف بعد اللام ، فجعلت لاما دخلت على «أقسم» ، وهي قراءة ابن عباس ، وأبي عبد الرحمن ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن محيصن ، قال الزجاج : من قرأ «لأقسم» فاللام لام القسم والتوكيد . وهذه القراءة بعيدة في العربية ، لأن لام القسم لا تدخل على الفعل المستقبل إلا مع النون ، تقول : لأَضربنَّ زيداً . ولا يجوز : لأَضْرِبُ زيداً .
قوله تعالى : { ولا أُقْسِمُ بالنَّفْس اللَّوامة } قال الحسن : أَقسمَ بالأولى ولم يقسم بالثانية . وقال قتادة : حكمها حكم الأولى .
وفي «النفس اللّوامة» ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها المذمومة ، قاله ابن عباس . فعلى هذا : هي التي تلوم نفسها حين لا ينفعها اللوم .
والثاني : أنها النفس المؤمنة ، قاله الحسن . قال : لا يُرى المؤمن إلا يلوم نفسه على كل حال .
والثالث : أنها جميع النفوس . قال الفراء : ليس من نفس بَرَّةٍ ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها ، إن كانت عملت خيراً . قال : هلا زِدْت . وإن كانت عملت سوءاً قال : ليتني لم أفعل .
قوله تعالى : { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه } المراد بالإنسان هاهنا : الكافر . وقال ابن عباس : يريد أبا جهل . وقال مقاتل : عدي بن ربيعة ، وذلك أنه قال : أيجمع الله هذه العظام؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم له : «نعم» ، فاستهزأَ مِنْه فنزلت هذه الآية . قال ابن الأنباري : وجواب القسم محذوف ، كأنه : لتُبْعَثُنَّ ، لَتُحَاسَبُنَّ ، فدل قوله تعالى : «أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه» على الجواب ، فحذف .
قوله تعالى : { بلى } وقف حسن . ثم يُبتدأ «قادرين» على معنى : بلى نجمعها قادرين . ويصلح نصب «قادرين» على التكرير بل فَلْيَحْسَبْنَا قادرين { على أن نُسَوِيَّ بَنَانَهُ } وفيه قولان .
أحدهما : أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخُفّ البعير ، وحافر الحمار ، فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة ، كالكتابة والخياطة ، هذا قول الجمهور .
والثاني : نقدر على أن نسوي بنانه كما كانت ، وإن صغرت عظامها ، ومن قدر على جمع صغار العظام ، كان على جمع كبارها أقدر ، هذا قول ابن قتيبة ، والزجاج . وقد بينا معنى البنان في [ الأنفال : 12 ] .
قوله تعالى : { بل يريد الإنسان ليفجر أمامه } فيه قولان .
أحدهما : يكذب بما أمامه من البعث والحساب ، قاله ابن عباس .
والثاني : يقدِّم الذنب ويؤخِّر التوبة ، ويقول : سوف أتوب ، قاله سعيد بن جبير . فعلى هذا : يكون المراد بالإنسان : المسلم .

وعلى الأول : الكافر .
قوله تعالى : { يسأل أيان يوم القيامة } أي : متى هو؟ تكذيباً به ، وهذا هو الكافر { فإذا برق البصر } قرأ أهل المدينة ، وأبان عن عاصم «بَرَق» بفتح الراء ، والباقون بكسرها . قال الفراء : العرب تقول : بَرِق البصر يبرَق ، وبَرَق يبرُق ، إذا رأى هولاً يفزع منه ، و«بَرِق» أكثر وأجود قال الشاعر :
فَنَفْسَكَ فَانْعَ ولا تَنْعَني ... ودَاوِ الكُلُومَ ولاَ تَبْرَقِ
بالفتح . يقول : لا تفزع من هول الجراح التي بك . قال المفسرون : يشخص بصر الكافر يوم القيامة ، فلا يَطْرِفُ لما يرى من العجائب التي كان يكذب بها في الدنيا ، وقال مجاهد : برق البصر عند الموت .
قوله تعالى : { وخسف القمر } قال أبو عبيدة : كَسَف وخَسَف بمعنى واحد ، أي : ذهب ضوؤه .
قوله تعالى : { وجُمِع الشَّمسُ والقمر } إنما قال «جمع» لتذكير القمر ، هذا قول أبي عبيدة . وقال الفراء : إنما لم يقل : جُمِعَتْ ، لأن المعنى : جمع بينهما . وفي معنى الآية قولان .
أحدهما : جمع بين ذاتَيْهما . وقال ابن مسعود : جمعا كالبعيرين القرينين . وقال عطاء بن يسار : يُجْمَعَان ثم يُقْذَفَان في البحر . وقيل : يُقْذَفَان في النار . وقيل : يجمعان ، فيطلعان من المغرب .
والثاني : جمع بينهما في ذهاب نورهما ، قاله الفراء ، والزجاج .
قوله تعالى : { يقول الإنسان } يعني : المكذِّب بيوم القيامة { أين المفر } قرأ الجمهور بفتح الميم ، والفاء ، وقرأ ابن عباس ، ومعاوية ، وأبو رزين ، وأبو عبد الرحمن ، والحسن ، وعكرمة ، والضحاك ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة : بكسر الفاء قال الزجاج : فمن فتح ، فالمعنى : أين الفرار؟ ومن كسر ، فالمعنى : أين مكان الفرار؟ تقول : جلست مجلَساً بالفتح ، يعني : جلوساً . فإذا قلت : مجلِساً بالكسر ، فأنت تريد المكان .
قوله تعالى : { كلا لا وزر } قال ابن قتيبة : لا ملجأ . وأصل الوزر : الجبل . الذي يمتنع فيه { إِلى ربك يومئذ المستقر } أي : المنتهى والمرجع .
{ يُنَبَّأ الإنسان يومئذ بما قَدَّم وأَخَّر } فيه ستة أقوال .
أحدها : بما قدَّم قبل موته ، وما سنَّ من شيء فعُمِل به بعد موته ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس .
والثاني : يُنَبَّأُ بأوَّل عمله وآخره ، قاله مجاهد .
والثالث : بما قدَّم من الشَّرِّ وأخَّر من الخير ، قاله عكرمة .
والرابع : بما قدَّم من فرض ، وأخَّر من فرض ، قاله الضحاك .
والخامس : بما قدَّم من معصية ، وأخَّر من طاعة .
والسادس : بما قدَّم من أمواله ، وما خلَّف للورثة ، قاله زيد بن أسلم .
قوله تعالى : { بل الإنسان على نفسه بصيرة } قال الفراء : المعنى : بل على الإنسان من نفسه بصيرة ، أي : رقباء يشهدون عليه بعمله ، وهي : الجوارح . قال ابن قتيبة : فلما كانت جوارحه منه ، أقامها مقامه . وقال أبو عبيدة : جاءت الهاء في «بصيرة» في صفة الذكر ، كما جاءت في رجل «راوية» ، و«طاغية» ، وعلاَّمة .
قوله تعالى : { ولو ألقى معاذيره } في المعاذير قولان .
أحدهما : أنه جمع عذر ، فالمعنى : لو اعتذر ، وجادل عن نفسه ، فعليه من يكذَّب عذره ، وهي : الجوارح ، وهذا قول الأكثرين .
والثاني : أن المعاذير جمع معذار ، وهو : الستر . والمعاذير : الستور . فالمعنى : ولو أرخى ستوره ، هذا قول الضحاك ، والسدي ، والزجاج ، فيخرج في معنى «ألقى» قولان .
أحدهما : قال ، ومنه { فألْقَوا إليهم القول } [ النحل : 36 ] ، وهذا على القول الأول :
والثاني : أرخى ، وهذا على القول الثاني .

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)

قوله تعالى : { لا تحرِّك به لسانك } روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة ، وكان يشتد عليه حِفظه ، وكان إذا نزل عليه الوحي يُحرِّك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي ، مخافة أن لا يحفَظه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . ومعناها : لا تحرك بالقرآن لسانك لتعجل بأخذه { إِن علينا جمعه وقرآنه } قال ابن قتيبة : أي : ضمَّه وجمعه في صدرك { فإذا قرأناه } أي : جمعناه { فاتبع قرآنه } أي : جمعه . قال المفسرون : يعني : اقرأ إذا فرغ جبريل من قراءته . قال ابن عباس : فاتِّبع قرآنه ، أي : اعمل به . وقال قتادة : فاتبع حلاله وحرامه { ثم إنَّ علينا بيانه } فيه أربعة أقوال .
أحدها : نبيِّنه بلسانك ، فتقرؤه كما أقرأك جبريل . وكان إذا أتاه جبريل أطرق ، فإذا ذهب ، قرأه كما وعده الله ، قاله ابن عباس .
والثاني : إِن علينا أن نجزيَ به يوم القيامة بما فيه من وعد ووعيد ، قاله الحسن .
والثالث : إِن علينا بيان ما فيه من الأحكام ، والحلال ، والحرام ، قاله قتادة .
والرابع : علينا أن ننزِّله قرآناً عربياً ، فيه بيان للناس ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { كلا } قال عطاء : أي : لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وبيانه ، وقال ابن جرير : المعنى : ليس الأمر كما تقولون من أنكم لا تُبْعَثُون ، ولكن دعاكم إلى قِيلِ ذلك مَحَبَّتُكم للعاجلة .
قوله تعالى : { بل تحبون العاجلة } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو «بل يحبون العاجلة ويذرون» بالياء فيهما . وقرأ الباقون بالتاء فيهما . والمراد : كفار مكة ، يحبونها ويعملون لها «ويذرون الآخرة» أي : يتركون العمل لها إيثاراً للدنيا عليها .
قوله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة } أي : مشرقة بالنعيم { إلى ربها ناظرة } روى عطاء عن ابن عباس قال : إلى الله ناظرة . قال الحسن : حق لها أن تَنْضَر وهي تنظر إلى الخالق ، وهذا مذهب عكرمة . ورؤية الله عز وجل حق لا شك فيها . والأحاديث فيها صحاح ، قد ذكرتُ جملة منها في «المغني» و«الحدائق» .
قوله تعالى : { ووجوه يومئذ باسرة } قال ابن قتيبة : أي : عابسة مقطِّبة .
قوله تعالى : { تظن } قال الفراء : أي : تعلم ، و«الفاقرة» الداهية . قال ابن قتيبة : إنه من فَقارة الظهر ، كأنها تكسره ، يقال فَقَرْتُ الرجل : إذا كسرتَ فَقارَه ، كما يقال : رَأَسْتُه : إذا ضربتَ رأْسَه . وبَطَنْتُه : إذا ضَرَبْتَ بَطْنَه . قال ابن زيد : والفاقرة : دخول النار . قال ابن السائب : هي أن تُحْجَبَ عن ربها ، فلا تنظر إليه .

كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)

قوله تعالى : { كلا } قال الزجاج : «كلا» ردع وتنبيه . المعنى : ارتَدِعوا عما يؤدِّي إلى العذاب . وقال غيره : معنى «كلا» : لا يُؤْمِنُ الكافر بهذا .
قوله تعالى : { إذا بلغت } يعني : النفس . وهذه كناية عن غير مذكور . و«التراقي» العظام المكتنفة لنُقْرَة النَّحر عن يمين وشمال . وواحدة التراقي : تَرْقوة ، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت ، { وقيل مَنْ راق } فيه قولان .
أحدهما : أنه قول الملائكة بعضهم لبعض : من يرقى روحه ، ملائكة الرحمة ، أو ملائكة العذاب؟ رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس ، وبه قال أبو العالية ، ومقاتل .
والثاني : أنه قول أهله : هل مِنْ رَاقٍ يَرْقيه بالرُّقى؟ وهو مروي عن ابن عباس أيضاً ، وبه قال عكرمة ، والضحاك ، وأبو قلابة ، وقتادة ، وابن زيد ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزجاج .
قوله تعالى : { وظن } أي : أيقن الذي بلغت روحه التراقيَ { أنه الفِرَاق } للدنيا { والتفَّت الساق بالساق } فيه خمسة أقوال .
أحدها : أمر الدنيا بأمر الآخرة ، رواه الوالبي عن ابن عباس : وبه قال مقاتل .
والثاني : اجتمع فيه الحياة والموت ، قاله الحسن ، وعن مجاهد كالقولين .
والثالث : التفت ساقاه في الكفن ، قاله سعيد بن المسيب .
والرابع : التفت ساقاه عند الموت ، قاله الشعبي .
والخامس : الشدة بالشدة ، قاله قتادة . قال الزجاج : آخر شدة الدنيا بأول شدة الآخرة .
قوله تعالى : { إلى ربك يومئذ المساق } أي : إلى الله المنتهى { فلا صدَّق ولا صلَّى } قال أبو عبيدة : «لا» هاهنا في موضع «لم» . قال المفسرون : هو أبو جهل { ولكن كذَّب وتولَّى } عن الإيمان { ثم ذهب إِلى أهله يتمطَّى } أي : رجع إليهم يتبختر ويختال . قال الفراء «يتمطَّى» أي يتبختر ، لأن الظهر هو المَطَا ، فيلوي ظهره متبختراً . وقال ابن قتيبة : أصله يتمطط ، فقلبت الطاء فيه ياء ، كما قيل : يتظنّى ، وأصله : يتظنن ، ومنه المشية المُطَيْطَاء . وأصل الطاء في هذا كله دال . إنما هو مد يده في المشي إذا تبختر . يقال : مَطَطتُ ومَدَدتُ بمعنى .
قوله تعالى : { أولى لك فأولى } قال ابن قتيبة : هو تهديد ووعيد . وقال الزجاج : العرب تقول : أولى لفلان : إِذا دعت عليه بالمكروه ، ومعناه : وليك المكروه يا أبا جهل .
قوله تعالى : { أيحسب الإنسان } يعني : أبا جهل { أن يُتْرَك سُدى } قال ابن قتيبة : أي : يهمل فلا يؤمر ولا ينهى ولا يعاقب ، يقال : أسديت الشيء ، أي : أهملته . ثم دل على البعث بقوله تعالى : { ألم يك نطفةً من مَنِيٍّ يُمْنَى } قرأ أبن كثير ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي وأبو بكر عن عاصم «تُمْنَى» بالتاء . وقرأ ابن عامر ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب «يُمْنَى» بالياء . وعن أبي عمرو كالقراءتين . وقد شرحنا هذا في [ النجم : 24 ] { ثم كان علقةً } بعد النطفة { فَخَلَق } فيه الروح ، وسَوَّى خلقه { فجعل منه } أي : خَلَقَ من مائه أولاداً ذكوراً وإناثاً { أليس ذلك } الذي فعل هذا { بقادرٍ؟ } وقرأ أبو بكر الصديق ، وأبو رجاء ، وعاصم الجحدري «يقدر» { على أن يحيي الموتى؟! } وهذا تقرير لهم ، أي : إن من قَدَر على الابتداء قَدَر على الإعادة . قال ابن عباس : إذا قرأ أحدكم هذه الآية ، فليقل : اللهم بلى .

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)

قوله تعالى : { هل أتى } قال الفراء : معناه : قد أتى . و«هل» تكون خبراً ، وتكون جحداً ، فهذا من الخبر ، لأنك تقول : هل وعظتك؟ هل أعطيتك؟ فتقرِّره بأنك قد فعلت ذلك . والجحد ، أن تقول : وهل يقدر أحد على مثل هذا؟ وهذا قول المفسرين ، وأهل اللغة . وفي هذا الإنسان قولان .
أحدهما : أنه آدم عليه السلام . والحين . الذي أتى عليه : أربعون سنة ، وكان مصوَّراً من طين لم يُنُفَخ فيه الروح ، هذا قول الجمهور .
والثاني : أنه جميع الناس ، روي عن ابن عباس ، وابن جريج ، فعلى هذا يكون الإنسان اسم جنس ، ويكون الحين زمان كونه نطفة ، وعلقة ، ومضغة .
قوله تعالى : { لم يكن شيئاً مذكوراً } المعنى : أنه كان شيئاً ، غير أنه لم يكن مذكوراً .
قوله تعالى : { إِنَّا خلقنا الإنسان } يعني : ولد آدم { من نطفة أمشاج } قال ابن قتيبة : أي : أخلاط . يقال : مشجته ، فهو مشيج ، يريد : اختلاط ماء المرأة بماء الرجل .
قوله تعالى : { نبتليه } قال الفراء : هذا مقدَّم ، ومعناه التأخير ، لأن المعنى : خلقناه وجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه . قال الزجاج : المعنى : جعلناه كذلك لنختبره . وقوله تعالى : { إنا هديناه السبيل } أي : بيَّنَّا له سبيل الهدى بنصب الأَدلة ، وبعث الرسول { إما شاكراً } أي : خلقناه إما شاكراً { وإما كفوراً } قال الفراء : بيَّنَّا له الطريق إن شكر ، أو كفر .

إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)

قوله تعالى : { إنا اعتدنا للكافرين سلاسلاً } قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة : «سلاسل» بغير تنوين ووقفوا بألف . ووقف أبو عمرو بألف . قال مكي بن أبي طالب النحوي : «سلاسل» و «قوارير» أصله أن لا ينصرف ، ومن صرفه من القراء ، فإنها لغة لبعض العرب . وقيل : إنما صرفه لأنه وقع في المصحف بالألف ، فصرفه لاتباع خط المصحف . قال مقاتل : السلاسل في أعناقهم ، والأغلال في أيديهم . وقد شرحنا معنى «السعير» في [ النساء : 10 ] .
قوله تعالى : { إن الأبرار } واحدهم بَرٌّ ، وبَارٌّ ، وهم الصادقون . وقيل : المطيعون . وقال الحسن : هم الذين لا يؤذون الذَّر { يشربون من كأس } أي : من إناءٍ فيه شراب { كان مزاجها } يعني : مزاج الكأس { كافوراً } وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الكافور المعروف ، قاله مجاهد ، ومقاتل ، فعلى هذا في المراد «بالكافور» ثلاثة أقوال .
أحدها : برده ، قاله الحسن . والثاني : ريحه ، قاله قتادة . والثالث : طعمه ، قاله السدي .
والثاني : أنه اسم عين في الجنة ، قاله عطاء ، وابن السائب .
والثالث : أن المعنى : مزاجها كالكافور لطيب ريحه ، أجازه الفراء ، والزجاج .
قوله تعالى : { عيناً } قال الفراء : هي المفسرة للكافور ، وقال الأخفش : هي منصوبة على معنى : أعني عيناً . وقال الزجاج : الأجود أن يكون المعنى : من عين ، { يشرب بها } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : يشرب منها . والثاني : يشربها ، والباء صلة . والثالث : يشرب بها عباد الله الخمر يمزجونها بها . وفي هذه العين قولان .
أحدهما : أنها الكافور الذي سبق ذكره .
والثاني : التسنيم ، و { عباد الله } هاهنا : أولياؤه { يفجِّرونها تفجيراً } قال مجاهد : يقودونها إلى حيث شاؤوا من الجنة . قال الفراء : حيث ما أحب الرجل من أهل الجنة فجرَّها لنفسه .
قوله تعالى : { يوفون بالنذر } قال الفراء : فيه إضمار «كانوا» يوفون بالنذر . وفيه قولان .
أحدهما : يوفون بالنذر إذا نذروا في طاعة الله ، قاله مجاهد ، وعكرمة .
والثاني : يوفون بما فرض الله عليهم ، قاله قتادة . ومعنى «النذر» في اللغة : الإيجاب . فالمعنى : يوفون بالواجب عليهم { ويخافون يوماً كان شرُّه مستطيراً } قال ابن عباس : فاشياً . وقال ابن قتيبة : فاشياً منتشراً . يقال : استطار الحريق : إِذا انتشر ، واستطار الفجر : إذا انتشر الضوء . وأنشدوا للأعشى :
فَبَانَتْ وَقَدْ أَسْأَرَتْ في الفُؤَا ... دِ صَدْعاً عَلَى نَأْيِها مُسْتَطِيراً
وقال مقاتل : كان شرُّه فاشياً في السموات ، فانشقت ، وتناثرت الكواكب ، وفزعت الملائكة ، وكوِّرت الشمس والقمر في الأرض ، ونُسِفَتْ الجبال ، وغَارَت المياه ، وتكَسَّر كل شيء على وجه الأرض من جبلٍ ، وبناءٍ ، وفَشَا شَرُّ يوم القيامة فيهما .
قوله تعالى : { ويطعمون الطعام على حُبِّه } اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما : نزلت في علي بن أبي طالب . آجر نفسه ليسقي نخلاً بشيء من شعيرٍ ليلة حتى أصبح . فلما قبض الشعير طحن ثلثه ، وأصلحوا منه شيئاً يأكلونه ، فلما استوى أتى مسكين ، فأخرجوه إليه ، ثم عمل الثلث الثاني ، فلما تم أتى يتيم ، فأطعموه ، ثم عمل الثلث الباقي ، فلما استوى جاء أسير من المشركين ، فأطعموه وطوَوْا يومهم ذلك ، فنزلت هذه الآيات ، رواه عطاء عن ابن عباس .

والثاني : أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري صام يوماً ، فلما أراد أن يفطر جاء مسكين ، ويتيم ، وأسير ، فأطعمهم ثلاثة أرغفة ، وبقي له ولأهله رغيف واحد ، فنزلت فيهم هذه الآية ، قاله مقاتل .
وفي هاء الكناية في قوله تعالى «على حُبِّه» قولان .
أحدهما : ترجع إلى الطعام ، فكأنهم كانوا يُؤْثِرُون وهم محتاجون إليه ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، والزجاج ، والجمهور .
والثاني : ترجع إلى الله تعالى ، قاله الداراني . وقد سبق معنى «المسكين واليتيم» [ البقرة : 83 ] . وفي الأسير أربعة أقوال .
أحدها : أنه المسجون من أهل القبلة ، قاله عطاء ، ومجاهد ، وابن جبير .
والثاني : أنه الأسير المشرك ، قاله الحسن ، وقتادة .
والثالث : المرأة ، قاله أبو حمزة الثمالي .
والرابع : العبد ، ذكره الماوردي .
فصل
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية تضمنت مدحهم على إطعام الأسير المشرك . قال : وهذا منسوخ بآية السيف . وليس هذا القول بشيء ، فإن في إطعام الأسير المشرك ثواباً ، وهذا محمول على صدقة التطوع . فأما الفرض فلا يجوز صرفه إلى الكفَّار ، ذكره القاضي أبو يعلى .
قوله تعالى : { إنما نطعمكم لوجه الله } أي : لطلب ثواب الله . قال مجاهد ، وابن جبير : أما إنهم ما تكلموا بهذا ، ولكن علمه الله من قلوبهم ، فأثنى به عليهم لِيَرْغَبَ في ذلك راغب .
قوله تعالى : { لا نريد منكم جزاءً } أي : بالفعل { ولا شكوراً } بالقول { إنا نخاف من ربنا يوماً } أي : ما في يوم { عبوساً } قال ابن قتيبة : أي : تعبس فيه الوجوه ، فجعله من صفة اليوم ، كقوله تعالى : { في يومٍ عاصفٍ } [ إِبراهيم : 18 ] ، أراد : عاصف الريح . فأما «القمطرير» فروى ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أنه الطويل . وروى عنه العوفي أنه قال : هو الذي يقبِّض فيه الرجل ما بين عينيه . فعلى هذا يكون اليوم موصوفاً بما يجري فيه ، كما قلنا في «العبوس» لأن اليوم لا يوصف بتقبيض ما بين العينين . وقال مجاهد ، وقتادة : «القمطرير» الذي يقلِّص الوجوه ، ويقبض الحياة ، وما بين الأعين من شدته . وقال الفراء : هو الشديد . يقال يوم قمطرير ، ويوم قماطر . وأنشدني بعضهم :
بَنِي عَمِّنَا هَلْ تَذْكُرونَ بَلاَءَنَا ... عليكُم إذا ما كان يَوْمٌ قُماطِرُ
وقال أبو عبيدة : العبوس ، والقمطرير ، والقماطر ، والعَصِيب ، والعَصَبْصَب : أشد ما يكون من الأيام ، وأطوله في البلاء .
قوله تعالى : { فوقاهم الله شَرَّ ذلك اليوم } بطاعتهم في الدنيا { ولقَّاهم نَضْرَةً } أي : حُسْنَاً وبياضاً في الوجوه { وسُرُورَاً } لا انقطاع له . وقال الحسن : النَّضْرة في الوجوه . والسُّرُور في القلوب { وجزاهم بما صبروا } على طاعته ، وعن معصيته { جَنَّةً وحريراً } وهو لباس أهل الجنة { متكئين فيها } قال الزجاج : هو منصوب على الحال ، أي : جزاهم جنة في حال اتكائهم فيها ، وقد شرحنا هذا في [ الكهف : 31 ] .

قوله تعالى : { لاَ يرَوْنَ فيها شمساً } فيُؤذيهم حَرُّها { ولا زمهريراً } وهو البرد الشديد . والمعنى : لا يجدون فيها الحَرَّ والبرد . وحكي عن ثعلب أنه قال : الزمهرير : القمر ، وأنشد :
وَلَيْلَةٍ ظَلاَمُهَا قَد اعْتَكَرْ ... قَطَعْتُهَا وَالزّمْهَريرُ مَا زَهَر
أي : لم يطلع القمر .
قوله تعالى : { ودانيةً } قال الفراء : المعنى : وجزاهم جنة ، ودانيةً عليهم ظلالها ، أي : قريبة منهم ظلال أشجارها { وذُلِّلَت قُطوفُها تذليلاً } قال ابن عباس : إِذا هَمَّ أن يتناول من ثمارها تَدَلَّتْ إليه حتى يتناولَ ما يريد . وقال غيره : قُرِّبَتْ إليهم مُذَلَّلة كيف شاؤوا ، فهم يتناولونها قياماً ، وقعوداً ، ومضطجعين ، فهو كقوله تعالى { قطوفها دانية } [ الحاقة : 23 ] . فأما «الأكواب» فقد شرحناها في [ الزخرف : 71 ] { كانت قواريرا } أي : تلك الأكواب هي قوارير ، ولكنها من فضة ، قال ابن عباس : لو ضَرَبْتَ فضةَ الدنيا حتى جعلتَها مثل جناح الذباب ، لم يُرَ الماء من ورائها ، وقوارير الجنة من فضة في صفاء القارورة . وقال الفراء ، وابن قتيبة : هذا على التشبيه ، المعنى : كأنها من فضة ، أي : لها بياض كبياض الفضة وصفاء كصفاء القوارير . وكان نافع ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : يقرؤون «قواريراً قواريراً» فَيَصِلُونَهما جميعاً بالتنوين . ويقفون عليهما بالألف . وكان ابن عامر وحمزة يَصِلاَنِهما جميعاً بغير تنوين ، ويقفان عليهما بغير ألف . وكان ابن كثير يَصِل الأول بالتنوين ، ويقف عليه بالألف ، ويَصِلُ الثاني بغير تنوين ، ويقف بغير ألف . وروى حفص عن عاصم أنه كان يقرأ «سلاسل» و «قوارير قوارير» يَصِلُ الثلاثة بغير تنوين ، ويقف على الثلاثة بالألف . وكان أبو عمرو يقرأ الأول «قواريرا» فيقف عليه بالألف ، ويصل بغير تنوين . وقال الزجاج : الاختيار عند النحويين أن لا يصرف «قوارير» لأن كل جمع يأتي بعد ألفه حرفان لا ينصرف . ومن قرأ «قواريرا» يصرف الأول علامة رأس آية ، وترك صرف الثاني لأنه ليس بآخر آية . ومن صرف الثاني : أتبع اللفظ اللفظ ، لأن العرب ربما قلبت إعراب الشيء لتُتْبِعَ اللفظ اللفظ ، كما قالوا : جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ . وإِنما الخَرِبُ مِن نعت الجحر .
قوله تعالى : { قدَّروها تقديراً } وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو عمران ، والجحدري ، وابن يعمر «قُدِّروها» برفع القاف ، وكسر الدال ، وتشديدها . وقرأ حميد ، وعمرو بن دينار ، «قَدَرُوها» بفتح القاف ، والدال ، وتخفيفها .
ثم في معنى الآية قولان .
أحدهما : قَدَّرُوها في أنفسهم ، فجاءت على ما قَدَّرُوا ، قاله الحسن . وقال الزجاج : جعل الإناء على قَدْر ما يحتاجون إليه ويريدونه على تقديرهم .
والثاني : قَدَّروها على مقدارٍ لا يزيد ولا ينقص ، قاله مجاهد . وقال غيره : قَدَّر الكأس على قَدْر رِيِّهم ، لا يزيد عن رِيِّهم فيُثْقِلُ الكفَّ ، ولا ينقص منه فيطلب الزيادة ، وهذا ألذُّ الشراب . فعلى هذا القول يكون الضمير في «قدَّروا» للسقاة والخدم . وعلى الأول للشاربين .
قوله تعالى : { ويُسْقَوْن فيها } يعني في الجنة { كأساً كان مزاجها زنجبيلا } والعرب تضرب المثل بالزنجبيل ، والخمر ، ممزوجَين .

قال المسيَّب بن عَلسَ يصف فم امرأة :
فَكَأَنَّ طَعْمَ الزَّنْجَبيل بِهِ ... إذْ ذُقْتَهُ وَسُلاَفَةُ الخَمْرِ
وقال آخر :
كَأَنَّ القَرَنْفُلَ والزَّنْجَبِي ... ل باتا بِفِيها وأرْيَاً مُشَاراً
الأَرْي : العسل . والمشار : المستخرج من بيوت ، النحل . قال مجاهد : والزنجبيل : اسم العين التي منها شراب الأبرار ، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : الزنجبيل معرَّب . وقال الدِّيْنَوَرِي : يَنْبُتُ في أرياف عُمَان ، وهي عروق تسري في الأرض ، وليس بشجرة تؤكل رُطَباً . وأجود ما يحمل من بلاد الصين . قال الزجاج : وجائز أن يكون فيها طعم الزنجبيل ، والكلام فيه كالكلام السابق في الكافور . وقيل : شراب الجنة عل بردِ الكافور ، وطعم الزنجبيل ، وريح المسك .
قوله تعالى : { عيناً فيها } قال الزجاج : يسقون عيناً . وسلسبيل : اسم العين ، إلا أنه صرف لأنه رأس آية . وهو في اللغة : صفة لما كان في غاية السلاسة ، فكأن العين وصفت وسميت بصفتها . وقرأتُ على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : قوله تعالى : { تسمى سلسبيلاً } قيل : هو اسم أعجمي نَكِرَة ، فلذلك انصرف . وقيل : هو اسم معرفة ، إلا أنه أُجْرِيَ ، لأنه رأس آية . وعن مجاهد ، قال : حديدة الجرية . وقيل : سلسبيل سلس ماؤها ، مستقيد لهم . وقال ابن الأنباري : السلسبيل صفة للماء . لِسَلَسِهِ وسهولة مدخله في الحلق . يقال : شراب سَلْسَل ، وسَلْسال ، وسَلْسَبِيل . وحكى الماوردي : أن عليّاً قال : المعنى : سَلْ سَبِيلاً إليها ، ولا يصح .
قوله تعالى : { ويطوف عليهم ولدان مخلَّدون } قد سبق بيانه [ الواقعة : 17 ] { إذَا رأيتَهم حَسِبْتَهم لؤلؤاً منثوراً } أي : في بَيَاضِ اللؤلؤ وحُسْنِهُ ، واللؤلؤُ إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظراً . وإنما شُبِّهوا باللؤلؤ المنثور ، لانتشارهم في الخدمة . ولو كانوا صَفْاً لَشَبَّهوه بالمنظوم . { وإذا رأيتَ ثَمَّ } يعني : الجنة { رأيتَ نعيماً } لا يوصف و { مُلكاً كبيراً } أي : عظيماً واسعاً لا يريدون شيئاً إِلا قدَروا عليه ، ولا يدخل عليهم ملَك إلا باستئذان .
قوله تعالى : { عَالِيَهُم } قرأ أهل المدينة ، وحمزة ، والمفضل عن عاصم بإسكان الياء ، وكسر الهاء . وقرأ الباقون بفتح الياء ، إلا أن الجعفي ، عن أبي بكر قرأ «عَالِيَتُهُم» بزيادة تاء مضمومة . وقرأ أنس بن مالك ، ومجاهد ، وقتادة ، «عَلَيْهِم» بفتح اللام ، وإسكان الياء من غير تاءٍ ، ولا ألف .
قال الزجاج : فأما تفسير إعراب «عالِيْهم» بإسكان الياء ، فيكون رفعه بالابتداء . ويكون الخبر { ثيابُ سُنْدُسٍ } وأما «عَالِيَهم» بفتح الياء فنصبه على الحال من شيئين ، أحدهما من الهاء والميم . والمعنى : يطوف على الأبرار وِلْدَانٌ مُخَلَّدُون عَالِيَاً للأبرار ثيابُ سندس ، لأنه وصف أحوالهم في الجنة ، فيكون المعنى : يطوف عليهم في هذه الحال هؤلاء . ويجوز أن يكون حالاً من الوِلْدان . المعنى إذا رأيتَهم حَسِبْتَهم لؤلؤاً منثوراً في حال عُلُوِّ الثياب . وأما «عَالِيَتُهُم» فقد قرئت بالرفع وبالنصب . وهما وجهان جَيِّدان في العربية ، إلا أنهما يخالفان المصحف .

فلا أرى القراءة بهما ، وتفسيرها كتفسير «عاليهم» .
قوله تعالى : { ثيابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ } قرأ ابن عامر ، وأبو عمرو ، «خضر» رفعا «وإِسْتَبْرقٍ» خفضاً . وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم «خُضْرٍ» خفضاً «وإستبرقٌ» رفعا . وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم «خُضْرٌ وإستبرقٌ» كلاهما بالرفع . وقرأ حمزة ، والكسائي ، «خضْرٍ وإسْتَبْرقٍ» كلاهما بالخفض . قال الزجاج : من قرأ «خُضْرٌ» بالرفع فهو نعت الثياب ، ولفظ الثياب لفظ الجمع . ومن قرأ «خُضْرٍ» فهو من نعت السندس ، والسندسُ في المعنى راجع إلى الثياب . ومن قرأ «وإستَبْرَقٌ» فهو نسق على «ثيابٌ» المعنى : وعليهم إستبرق . ومن خفض ، عطفه على السندس ، فيكون المعنى : عليهم ثياب من هذين النوعين وقد بَيّنَّا في [ الكهف : 31 ] معنى السندس ، والإستبرق ، والأساور .
قوله تعالى : { وسقاهم رَبُّهم شراباً طهوراً } فيه قولان .
أحدهما : لا يُحْدِثون ولا يَبُولُون عن شُرْب خَمْر الجَنَّة ، قاله عطية .
والثاني : لأن خمر الجنة طاهرةٌ ، وليست بنجسةٍ كخمرِ الدنيا ، قاله الفراء . وقال أبو قلابة : يُؤْتَوْنَ بعد الطَعام بالشَّرابِ الطَّهورِ فيشربون فَتَضْمُر بذلك بُطونُهم ، ويفيض من جلودهم عَرقٌ مثل ريح المسك .
قوله تعالى : { إنَّ هذا } يعني : ما وصف من نعيم الجنة { كان لكم جزاءً } بأعمالكم { وكان سعيُكم } أَي : عملكم في الدنيا بطاعته { مشكوراً } قال عطاء : يريد شكرتُكم عليه ، وأَثَبْتُكم أفضل الثواب { إنَّا نحن نزَّلنا عليك القرآن تنزيلاً } أي : فضَّلناه في الإنزال ، فلم نُنْزِلْه جُمْلَةً واحدةً { فاصبر لحكم ربك } وقد سبق بيانه في مواضع [ الطور : 48 ، والقلم : 48 ] . والمفسرون يقولون : هذا منسوخ بآية السيف ، ولا يصح ، { ولا تُطِعْ منهم } أي : من مشركي أهل مكة { آثماً أو كفوراً } «أو» بمعنى : الواو ، كقوله تعالى : { أو الحوايا } [ الأنعام : 146 ] وقد سبق هذا وللمفسرين في المراد بالآثم والكفور ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهما صفتان لأبي جهل .
والثاني : أن الآثم : عتبة بن ربيعة ، والكفور : الوليد بن المغيرة .
والثالث : الآثم : الوليد . والكَفُور : عتبة . وذلك أنهما قالا له : ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج . { واذكر اسم رَبِّكَ } أي : اذكره بالتوحيد في الصلاة { بُكْرَةً } يعني : الفجر { وأصيلاً } يعني : العصر . وبعضهم يقول : صلاة الظهر والعصر { ومن الليل فاسْجُدْ له } يعني : المغرب والعشاء . وسَبِّحهُ { ليلاً طويلاً } وهي : صلاة الليل ، كانت فريضة عليه ، وهي لأُمَّتِهِ تَطَوُّع { إن هؤلاء } يعني : كفَّار مكة { يحبُّون العاجلة } أي : الدار العاجلة ، وهي : الدنيا { ويَذَرُون وراءهم } أي : أمامهم { يوماً ثقيلاً } أي : عسيراً شديداً . والمعنى : أنهم يتركون الإيمان به ، والعمل له . ثم ذكر قدرتَه ، فقال تعالى : { نحن خلقناهم وشَدَدَنا أسرهم } أي : خَلْقهم ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج . قال ابن قتيبة : يقال امرأة حَسَنَةُ الأسر . أي : حَسَنَةُ الخَلْقِ ، كأنها أُسِرتْ ، أي : شُدَّتْ . وأصل هذا من الإسار ، وهو : القِدُّ . [ الذي تشد به الأقتاب ] يقال : ما أحسن ما أَسَر قَتَبَهُ ، أي : ما أحسن ما شَدَّه [ بالقِدِّ ] .

وروي عن أبي هريرة قال : مفاصلهم . وعن الحسن قال : أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب { وإذا شئنا بّدَّلنا أمثالهم } أي : إن شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم ، فجعلناهم بدلاً منهم { إنَّ هذه تذكرة } قد شرحنا الآية في [ المزمل : 19 ] .
قوله تعالى : { وما تشاؤون } إيجاد السبيل { إلا أن يشاء الله } ذلك لكم . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، «وما يشاؤون» بالياء .
قوله تعالى : { يُدْخِلُ مَنْ يشاء في رحمته } قال المفسرون : الرحمة : هاهنا الجنة { والظالمين } المشركون . قال أبو عبيدة : نصب «الظالمين» بالجوار . المعنى : ولا يُدخل الظالمين في رحمته . وقال الزجاج : إنما نصب «الظالمين» ، لأنَّ قبله منصوباً . المعنى : يُدخل من يشاء في رحمته ، ويعذب الظالمين . ويكون قوله تعالى : { أعدَّ لهم } تفسيراً لهذا المضمر ، وقرأ أبو العالية ، وأبو الجوزاء ، وابن أبي عبلة ، «والظالمون» رفعاً .

وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)

قوله تعالى : { والمرسلات عُرْفاً } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أنها الرياح يَتْبَعُ بعضُها بعضاً ، رواه أبو العُبَيْدَينِ ، عن ابن مسعود ، والعوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة .
والثاني : أنها الملائكة التي أرسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه ، رواه مسروق عن ابن مسعود ، وبه قال أبو هريرة ، ومقاتل . وقال الفراء : هي الملائكة .
فأما قوله تعالى : «عُرْفاً» فيقال : أُرْسِلتْ بالمعروف ، ويقال : تَتَابَعَتْ كعُرْفِ الفَرَسِ . والعرب تقول : يركب الناس إلى فلان عُرْفاً واحداً : إِذا توجهوا إليه فأكثروا . قال ابن قتيبة : يريد أن الملائكة متتابعة بما ترسَل به . وأصله من عُرْف الفَرَسِ ، لأنه سطر مستوٍ بعضه في إِثر بعض ، فاستعير للقوم يتبع بعضُهم بعضاً .
والثالث : أنهم الرسل بما يعرفون به من المعجزات ، وهذا معنى قول أبي صالح ، ذكره الزجاج .
والرابع : الملائكة والريح ، قاله أبو عبيدة . قال : ومعنى «عُرْفاً» : يتبع بعضها بعضاً . يقال : جاؤوني عُرْفاً . وفي { العاصفات } قولان .
أحدهما : أنها الرياح الشديدة الهبوب ، قاله الجمهور .
والثاني : الملائكة ، قاله مسلم بن صبيح . قال الزجاج : تعصف بروح الكافر . وفي «الناشرات» خمسة أقوال .
أحدها : أنها الرياح تنشر السحاب ، قاله ابن مسعود ، والجمهور .
والثاني : الملائكة تنشر الكتب ، قاله أبو صالح .
والثالث : الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد ، قاله الضحاك .
والرابع : البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح ، قاله الربيع .
والخامس : المطر ينشر النبات ، حكاه الماوردي .
وفي «الفارقات» أربعة أقوال .
أحدها : الملائكة تأتي بما يفرِّق بين الحق والباطل ، قاله الأكثرون .
والثاني : آي القرآن فَرَّقَتْ بين الحلال والحرام ، قاله الحسن ، وقتادة ، وابن كيسان .
والثالث : الريح تفرّق بين السحاب فتبدِّدُه ، قاله مجاهد .
والرابع : الرسل ، حكاه الزجاج .
{ فالملقيات ذكراً } قولان .
أحدهما : الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء ، وهذا مذهب ابن عباس ، وقتادة ، والجمهور .
والثاني : الرسل يلقون ما أُنزل عليهم إلى الأمم ، قاله قطرب .
قوله تعالى : { عُذْراً أو نُذْراً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم «عُذْراً» خفيفاً «أو نُذُراً» مثقلاً . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، وخلف «عُذْراً أو نُذْراً» خفيفتان . قال الفراء : وهو مصدر ، مثقَّلاً كان أو مخفّفاً . ونصبه على معنى : أُرسلتُ بما أرسلتُ به إِعذاراً من الله وإنذاراً . وقال الزجاج : المعنى : فالملقياتِ عُذراً أو نُذراً . ويجوز أن يكون المعنى : فالملقيات ذكراً للإعذار والإنذار . وهذه المذكورات مجرورات بالقسم . وجواب القسم { إنَّما تُوعَدُون لواقع } قال المفسرون : إنَّ ما توعَدون به من أمر الساعة ، والبعث ، والجزاء لَواقِعٌ ، أي : لكائن . ثم ذكر متى يقع فقال تعالى : { فإذا النجوم طُمست } أي : مُحِيَ نُورُها { وإذا السماءُ فُرِجَتْ } أي : شُقَّتْ { وإذا الجبال نُسِفَتْ } قال الزجاج : أي : ذُهِبَ بها كلُّها بسرعة . يقال : انتسفتُ الشيء : إذا أخذتَه بسرعة .

قوله تعالى : { وإذا الرسل أُقِّتَتْ } قرأ أبو عمر «وُقِّتَتْ» بواو مع تشديد القاف . ووافقه أبو جعفر ، إلا أنه خَفَّفَ القاف . وقرأ الباقون : «أُقِّتت» بألف مكان الواو مع تشديد القاف . قال الزجاج : وُقِّتَتْ وأُقِّتَتْ بمعنى واحد . فمن قرأ «أُقِّتت» بالهمز ، فإنه أبدل الهمزة من الواو لانضمام الواو . وكل واو انضمت ، وكانت ضمتها لازمة ، جاز أن تبدل منها همزة . وقال الفراء : الواو إذا كانت أول حرف ، وضُمَّتْ ، همزت . تقول : صلى القوم أُحداناً . وهذه أُجوهٌ حسان . ومعنى «أُقِّتت» : جمعت لوقتها يوم القيامة . وقال ابن قتيبة : جمعت لوقت ، وهو يوم القيامة . وقال الزجاج : جعل لها وقت واحد لفصل القضاء بين الأمة .
قوله تعالى : { لأي يوم أُجِّلَتْ } أي : أُخِّرَتْ . وضَرْبُ الأجل لجمعهم ، يعجِّب العباد من هول ذلك اليوم ، ثم بَيَّنه فقال تعالى : { ليوم الفصل } وهو يوم يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق . ثم عَظَّم ذلك اليوم بقوله : { وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين } بالبعث . ثم أخبر الله تعالى عما فعل بالأمم المكذِّبة ، فقال : { ألم نُهْلِكِ الأوَّلين } يعني بالعذاب في الدنيا حين كذَّبوا رسلهم { ثم نُتْبِعُهم الآخِرين } والقراء على رفع العين في «نتبعُهم» ، وقد قرأ قوم منهم أبو حيوة بإسكان العين . قال الفراء : «نتبعهم» مرفوعة . ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود «وسنتبعهم الآخرين» . ولو جزمتَ على معنى : ألم نقدر على إهلاك الأولين وإتباعهم الآخرين كان وجهاً جيداً ، وقال الزجاج : الجزم عطف على «نُهْلكْ» ، ويكون المعنى : لمن أُهلك أولاً وآخراً . والرفع على معنى : ثم نتبِع الأول الآخر من كل مجرم . وقال مقاتل : ثم نتبعهم الآخرين : يعني : كفار مكة حين كذَّبوا بالنبي صلى الله عليه وسلم . وقال ابن جرير : الأوَّلون : قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، والآخرون : قوم إبراهيم ، ولوط ، ومَدْيَن .
قوله تعالى : { كذلك } أي : مثل ذلك { نفعل بالمجرمين } يعني : المكذِّبين .
فإن قيل : ما الفائدة في تكرار قوله تعالى { ويل يومئذ للمكذبين } ؟
فالجواب : أنه أراد بكل آية منها غير ما أراد بالأخرى ، لأنه كلما ذكر شيئاً قال : { ويل يومئذ للمكذبين } بهذا .
قوله تعالى : { ألم نخلقكم } قرأ قالون عن نافع بإظهار القاف . وقرأ الباقون بإدغامها .
قوله تعالى { من ماءٍ مهينٍ } أي : ضعيف { فجعلناه في قرارٍ مكين } يعني : الرحم { إلى قََدرٍ معلومٍ } وهو مدة الحمل { فَقَدَرْنا } قرأ أهل المدينة ، والكسائي «فَقَدَّرْنَا» بالتشديد . وقرأ الباقون : بالتخفيف . وهل بينهما فرق؟
فيه قولان .
أحدهما : أنهما لغتنان بمعنى واحد . قال الفراء : تقول العرب : قَدَر عليه ، وقَدَّر عليه . وقد احتج من قرأ بالتخفيف فقال : لو كانت مشددة لقال : فنعم المقدِّرون ، فأجاب الفراء فقال : قد تجمع العرب بين اللغتين كقوله تعالى : { فمهل الكافرين أمهلهم رويدا } [ الطارق : 17 ] قال الشاعر :
وَأَنْكَرَتْني وَمَا كانَ الَّذي نَكِرَتْ ... مِنَ الحَوادِثِ إِلا الشَّيْبَ والصَّلَعَا
يقول : ما أنكرت إلا ما يكون في الناس .

والثاني : أن المخفَّفة من القُدْرَة والملك ، والمشدَّدة من التقدير والقضاء . ثم بيَّن لهم صنعه ليعتبروا فيوحِّدوه ، فقال تعالى : { ألم نجعل الأرض كِفَاتاً } قال اللغويون : الكفت في اللغة : الضم . والمعنى : أنها تضم أهلها أحياءً على ظهرها ، وأمواتاً في بطنها . قال ابن قتيبة : يقال : اكفتْ هذا إليك ، أي : ضمه . وكانوا يسمون بقيع الغرقد : كفتة ، لأنه مقبرة يضم الموتى .
وفي قوله تعالى { أحياءً وأمواتاً } قولان .
أحدهما : أن المعنى : تكفتهم أحياءً وأمواتاً ، قاله الجمهور . قال الفراء : وانتصب الأحياء والأموات بوقوع الكفات عليهم ، كأنك قلت : ألم نجعل الأرض كفاتَ أحياءٍ وأمواتٍ ، فإذا نَوَّنْتَ نصبتَ كما يقرأ { أو إطعامٌ في يوم ذي مسغبة يتيماً } [ البلد : 14 ] . وقال الأخفش انتصب على الحال .
والقول الثاني : أن المعنى : ألم نجعل الأرض أحياءً بالنبات والعمارة ، وأمواتاً بالخراب واليبس ، هذا قول ، مجاهد ، وأبي عبيدة .
قوله تعالى { وجعلنا فيها رواسي } قد سبق بيانه { شامخات } أي : عاليات : { وأسقيناكم } قد سبق معنى «أسقينا» ، [ الحجر : 22 : والجن : 16 ] ومعنى «الفرات» [ الفرقان : 53 ، وفاطر : 12 ] والمعنى : أن هذه الأشياء أعجب من البعث . ثم ذكر ما يقال لهم في الآخرة : { إنطلقوا إلى ما كنتم به تكذِّبون } في الدنيا ، وهو النار ، { انطلقوا إلى ظلٍّ } قرأ الجمهور هذه الثانية بكسر اللام على الأمر . وقرأ أُبَيُّ بن كعب ، وأبو عمران ، ورويس عن يعقوب بفتح اللام على الخبر بالفعل الماضي . قال ابن قتيبة و«الظل» هاهنا : ظل من دخان نار جهنم سطع ، ثم افترق ثلاث فرق ، وكذلك شأن الدُّخان العظيم إذا ارتفع أن يتشعب ، فيقال لهم : كونوا فيه إِلى أن يفرغ من الحساب ، كما يكون أولياء الله في ظل عرشه ، أو حيث شاء من الظل ، ثم يُؤْمَرُ بكل فريق إلى مستقرِّه من الجنة والنار { لا ظليل } أي : لا يظلكم من حرِّ هذا اليوم بل يدنيكم من لهب النار إلى ما هو أشد عليكم من حر الشمس . قال مجاهد : تكون شعبة فوق الإِنسان ، وشعبة عن يمينه ، وشعبة عن شماله ، فتحيط به . وقال الضحاك : الشعب الثلاث : هي الضَّريع ، والزَّقوم ، والغِسْلين . فعلى هذا القول يكون هذا بعد دخول النار .
قوله تعالى : { ولا يغني من اللَّهَب } أي : لا يدفع عنكم لَهَبَ جهنم . ثم وصف النار فقال تعالى : { إنها تَرْمي بِشَرَرٍ } ، وهو جمع شررة ، وهو ما يتطاير من النار متفرقاً { كالقَصْر } قرأ الجمهور بإسكان الصاد على أنه واحد القصور المبنيَّة . وهذا المعنى في رواية ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وهو قول الجمهور . وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، ومجاهد ، وأبو الجوزاء ، «كالقَصَر» بفتح الصاد . وفي أفراد البخاري من حديث ابن عباس قال : كنا نرفع الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقل فنرفعه للشتاء ، فنسميه : القصر . قال ابن قتيبة : من فتح الصاد أراد : أُصول النخل المقطوعة المقلوعة . قال الزجاج : أراد أعناق الإبل . وقرأ سعد ابن أبي وقاص ، وعائشة ، وعكرمة ، وأبو مجلز ، وأبو المتوكل ، وابن يعمر «كالقَصِر» بفتح القاف ، وكسر الصاد .

وقرأ ابن مسعود ، وأبو هريرة ، والنخعي ، «كالقُصُر» برفع القاف والصاد جميعاً . وقرأ أبو الدرداء ، وسعيد بن جبير «كالقِصَر» بكسر القاف ، وفتح الصاد ، وقرأ أبو العالية ، وأبو عمران ، وأبو نُهيك ، ومعاذ القارىء ، «كالقُصْر» بضم القاف وإسكان الصاد .
قوله تعالى : { كأنه جِمَالاَتٌ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم «جِمالاَتٌ» بألف . وكسر الجيم . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم «جِمَالَةُ» على التوحيد . وقرأ رويس عن يعقوب «جُمَالاَت» بضم الجيم . وقرأ أبو رزين ، وحميد ، وأبو حيوة ، «جُمَالة» برفع الجيم على التوحيد . قال الزجاج : من قرأ «جِمالات» بالكسر ، فهو جمع جِمَال ، كما تقول : بُيوت ، وبُيوتَات ، وهو جمع الجمع ، فالمعنى : كأن الشرارات كالجمالات . ومن قرأ { جُمالات } بالضم ، فهو جمع «جمالة» ومن قرأ «جِمالةً» فهو جمع جَمَل وجِمالة ، كما قيل : حَجر ، وحِجَارة ، وذَكَر ، وذِكَارَة ، وقرئت «جُمالة» على ما فسرناه في جُمالات بالضم . و«الصُّفْر» هاهنا : السود . يقال للإبل التي هي سود تضرب إلى الصفرة : إِبل صُفْرٌ . وقال الفراء : الصُّفْر : سود الإبل لا يُرى الأسود من الإبل إلا وهو مُشْرَبٌ صُفْرَةً ، فلذلك سَمَّتْ العرب سود الإبل : صُفْراً ، كما سَمَّوا الظباء : أدماً لما يعلوها من الظلمة في بياضها .
قوله تعالى : { هذا يومُ لا ينطقون } قال المفسرون : هذا في بعض مواقف القيامة . قال عكرمة : تكلَّموا واختصموا ، ثم ختم على أفواههم ، فتكلَّمت أيديهم ، وأرجلهم ، فحينئذ لا ينطقون بحجة تَنْفَعُهم . وقرأ أبو رجاء ، والقاسم ابن محمد والأعمش ، وابن أبي عبلة «هذا يومَ لا ينطقون» بنصب الميم .
قوله تعالى : { هذا يوم الفصل } أي : بين أهل الجنة وأهل النار { جمعناكم } يعني : مكذِّبي هذه الأمة و { الأوَّلين } من المكذِّبين الذين كذَّبوا أنبياءَهم { فإن كان لكم كيد فكيدونِ } أثبت فيها الياء في الحالين يعقوب ، أي : إن قَدَرْتُم على حيلة ، فاحتالوا لأنفسكم . ثم ذكر ما للمؤمنين ، فقال تعالى : { إن المتَّقين في ظِلال } يعني : ظلال الشجر ، وظلال أكنان القصور { وعيون } الماء ، وهذا قد تقدَّم بيانه ، إلى قوله تعالى { كلوا } أي : ويقال لهم : كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون في الدنيا بطاعة الله . ثم قال لكفار مكة : { كلوا وتمتعوا قليلاً } في الدنيا إِلى منتهى آجالكم { إِنكم مجرمون } أي : مشركون بالله .
قوله تعالى : { وإذا قيل لهم اركعوا } فيه قولان .
أحدهما : أنه حين يُدْعَون إلى السجود يوم القيامة ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني : أنه في الدنيا كانوا إذا قيل لهم : اركعوا ، أي صلوا { لا يركعون } أي : لا يصلُّون . وإلى نحو هذا ذهب مجاهد في آخرين ، وهو الأصح . وقيل نزلت : في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة ، فقالوا : لا نحني ، فإنها مَسَبَّةٌ علينا ، فقال : لا خير في دين ليس فيه ركوع .
قوله تعالى : { فبأي حديث بعده يؤمنون } أي : إن لم يصدِّقوا بهذا القرآن ، فبأيِّ كتاب بعده يصدِّقون ، ولا كتاب بعده : !

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)

قوله تعالى : { عم يتساءلون } أصله «عنْ ما» فأدغمت النون في الميم ، وحذفت ألف «ما» كقولهم : فيم ، وبم ، قال المفسرون : لما بُعِثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جَعَلَ المشركون يتساءلون بينهم ، فيقولون : ما الذي أتى به؟ ويتجادلون ، ويختصمون فيما بعث به ، فنزلت هذه الآية . واللفظ لفظ استفهام ، والمعنى : تفخيم القصة ، كما يقولون : أيُّ شيء زيد؟ إذا أردت تعظيم شأنه . ثم بيَّن ما الذي يتساءلون عنه ، فقال تعالى : { عن النبإ العظيم } يعني عن الخبر العظيم الشأن . وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : القرآن ، قاله مجاهد ، ومقاتل ، والفراء . قال الفراء : فلما أجاب صارت «عم» كأنها في معنى : لأي شيءٍ يتساءلون عن القرآن .
والثاني : البعث ، قاله قتادة .
والثالث : أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، حكاه الزجاج .
قوله تعالى : { الذي هم فيه مختلفون } من قال : إنه القرآن ، فإن المشركين اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : هو سحر ، وقال بعضهم : هو شعر ، وقال بعضهم : أساطير الأولين ، إلى غير ذلك ، وكذلك من قال : هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم . فأما من قال : إنه البعث والقيامة ، ففي اختلافهم فيه قولان .
أحدهما : أنهم اختلفوا فيه لما سمعوا به ، فمنهم من صدَّق وآمن ، ومنهم من كذَّب ، وهذا معنى قول قتادة .
والثاني : أن المسلمين والمشركين اختلفوا فيه ، فصدَّق به المسلمون ، وكذَّب به المشركون ، قاله يحيى بن سلام .
قوله تعالى : { كلا } قال بعضهم : هي ردع وزجر . وقال بعضهم : هي نفي لاختلافهم ، والمعنى : ليس الأمر على ما قالوا { سيعلمون } عاقبة تكذيبهم حين ينكشف الأمر { ثم كلا سيعلمون } وعيد على إثر وعيد . وقرأ ابن عامر «ستعلمون» في الحرفين بالتاء . ثم ذكر صنعه ليعرفوا توحيده ، فقال تعالى : { ألم نجعل الأرض مهاداً } أي : فراشاً وبساطاً { والجبال أوتاداً } للأرض لئلا تميد { وخلقناكم أزواجاً } أي : أصنافاً ، وأضداداً ، ذكوراً ، وإناثاً ، سوداً ، وبيضاً ، وحمراً { وجعلنا نومكم سباتاً } قال ابن قتيبة : أي : راحة لأبدانكم . وقد شرحنا هذا في [ الفرقان : 47 ] وشرحنا هناك قوله تعالى : { وجعلنا الليل لباساً } .
قوله تعالى : { وجعلنا النهار معاشاً } أي : سبباً لمعاشكم . والمعاش : العيش ، وكل شيء يُعَاشُ به ، فهو مَعَاشٌ . والمعنى : جعلنا النهار مطلباً للمعاش . وقال ابن قتيبة : معاشاً ، أي : عيشاً ، وهو مصدر { وبَنَيْنَا فوقكم سبعاً شداداً } قال مقاتل : هي السموات ، غِلظ كل سماءٍ مسيرة خمسمائة عام ، وبين كل سماءين مثل ذلك ، وهي فوقكم يا بني آدم . فاحذروا أن تَعْصُوا فَتَخِرُّ عليكم .
قوله تعالى : { وجعلنا سراجاً } يعني : الشمس { وهَّاجاً } قال ابن عباس : هو المضيء . وقال اللغويون : الوهَّاج : الوقَّاد . وقيل : الوهَّاج يجمع النور والحرارة .
قوله تعالى : { وأنزلنا من المعصرات } فيها ثلاث أقوال :
أحدها : أنها السموات ، قاله أُبَيّ بن كعب ، والحسن ، وابن جبير .

والثاني : أنها الرّياح ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، ومقاتل . وقال زيد بن أسلم : هي الجنوب . فعلى هذا القول تكون «مِنْ» بمعنى «الباء» ، فتقديره : بالمعصرات . وإنما قيل للرياح : معصرات ، لأنها تستدرُّ المطر .
والثالث : أنها السحاب ، رواه الوالبي عن ابن عباس ، وبه قال أبو العالية ، والضحاك ، والربيع . قال الفراء : السحابة المعصر : التي تتحلَّب بالمطر ولما يجتمع ، مثل الجارية المعصر ، قد كادت تحيض ، ولما تحضْ . وكذلك قال ابن قتيبة : شبِّهت السحاب بمعاصير الجواري ، والمُعصِرُ : الجارية التي قد دنت من الحيض . وقال الزجاج : إنما قيل للسحاب : معصرات ، كما قيل : أجزَّ الزرع ، فهو مُجِزُّ ، أي : صار إلى أن يُجَزَّ ، فكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر ، فقد أعصر .
قوله تعالى : { ماءً ثجاجاً } قال مقاتل : أي : مطراً كثيراً مُنْصبّاً يتبع بعضُه بعضاً . وقال غيره : يقال : ثجَّ الماء يثج : إذا انصبَّ { لِنُخْرِجَ به } أي : بذلك الماء { حباً ونباتاً } وفيه قولان .
أحدهما : أن الحب : ما يأكله الناس ، والنبات : ما تنبته الأرض مما يأكل الناس والأنعام ، هذا قول الجمهور . وقال الزجاج : كُلُّ ما حُصِدَ حَبٌّ ، وكُلُّ ما أَكَلَتْهُ الماشية من الكلإ ، فهو نبات .
والثاني : أن الحب : اللؤلؤ ، والنبات : العشب . قال عكرمة : ما أنزل الله من السماء قطراً ، إلا أنبت به في البحر لؤلؤاً ، وفي الأرض عشباً .
قوله تعالى : { وَجَنََّاتٍ } يعني : بساتين { ألفافاً } قال أبو عبيدة : أي : ملتَفَّة من الشجر ليس بينها خلال ، الواحدة : لَفَّاء ، وجنّات لُفٌّ ، وجمع الجمع : ألْفَافٌ . قال المفسرون : فدلَّ بذكر المخلوقات على البعث . ثم أخبر عن يوم القيامة فقال تعالى : { إن يوم الفصل } أي : يوم القضاء بين الخلائق { كان ميقاتاً } لما وعد الله من الثواب والعقاب . { يوم ينفخ في الصور فتأتون } من قبوركم { أفواجاً } أي : زُمَراً زُمَراً من كل مكان { وفُتِحَت السماء } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، و «فُتِّحت» بالتشديد . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي بالتخفيف ، وإنما تفتح لنزول الملائكة { فكانت أبواباً } أي : ذات أبواب { وسُيِّرت الجبال } عن أماكنها { فكانت سراباً } أي : كالسراب ، لأنها تصير هباءً منبثَّاً فيراها الناظر كالسراب بعد شِدَّتها وصلابتها { إن جهنم كانت مرصاداً } قال المبرد : مرصاداً يرصدون به ، أي : هو مُعَدٌّ لهم يَرصُد بها خزنتها الكفارَ . وقال الأزهري : المرصاد : المكان الذي يَرصُد فيه الراصد العدُوَّ . ثم بين لمن هي مرصاد فقال تعالى { للطاغين } قال ابن عباس : للمشركين { مآباً } أي : مرجعاً .
قوله تعالى : { لابثين } وقرأ حمزة «لَبِثين» والمعنى : فيهما واحد . يقال : هو لابث بالمكان ، ولبث . ومثله طَامع ، وطَمِع ، وفَارِه ، وفَرِه . وأما الأحقاب فجمع حقب ، وقد ذكرنا الاختلاف فيه في [ الكهف 60 ] .
فإن قيل : ما معنى ذكر الأحقاب ، وخلودهم في النار لا نفاد له؟ فعنه جوابان .
أحدهما : أن هذا لا يدل على غاية ، لأنه كلما مضى حقب تبعه حقب .

ولو أنه قال «لابثين فيها عشرة أحقاب أو خمسة» دل على غاية ، هذا قول ابن قتيبة ، والجمهور . وبيانه أن زمان أهل الجنة والنار يُتَصَوَّرُ دخوله تحت العدد ، وإن لم يكن لها نهاية .
والثاني : أن المعنى : أنهم يلبثون فيها أحقاباً { لا يذوقون } في الأحقاب { برداً ولا شراباً } فأما خلودهم في النار فدائم . هذا قول الزجاج . وبيانه أن الأحقاب حَدٌّ لعذابهم بالحميم والغَسّاق ، فإذا انقضت الأحقاب عُذِّبوا بغير ذلك من العذاب . وفي المراد «بالبرد» ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه برد الشراب . روى أبو صالح عن ابن عباس قال : لا يذوقون فيها برد الشراب ، ولا الشراب .
والثاني : أنه الرَّوْح والراحة ، قاله الحسن ، وعطاء .
والثالث : أنه النوم ، قاله مجاهد ، والسدي ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، وأنشدوا :
فَإنْ شِئْتُ حَرَّمْتَ النِّساءَ سِوَاكُمُ ... وَإنْ شِئْتَ لَمُ أَطْعَمْ نُقَاخَاً وَلاَ بَرْدَاً
قال ابن قتيبة : النقاخ : الماء ، والبرد : النوم ، سمي بذلك لأنه تبرد فيه الحرارة . وقال مقاتل : لا يذوقون فيها برداً ينفعهم من حرها ، ولا شراباً ينفعهم من عطش { إلا حميماً وغساقاً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر «غَسَاقاً» بالتخفيف . وقرأ حمزة ، والكسائي ، والمفضل ، وحفص عن عاصم بالتشديد . وقد تقدم ذكر الحميم ، والغساق [ ص 57 ] { جزاءً وفاقاً } قال الفراء : وِفْقاً لأعمالهم . وقال غيره : جُوزوا جزاءً وفاقاً لأعمالهم على مقدارها ، فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النّار .
{ إنهم كانوا لا يرجون حساباً } فيه قولان :
أحدهما : لا يخافون أن يحاسبوا ، لأنهم لا يؤمنون بالبعث ، قاله الجمهور .
والثاني : لا يرجون ثواب حساب ، لأنهم لا يؤمنون بالبعث ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { وكذَّبوا بآياتنا كذاباً } قال الفراء : الكِذَّاب بالتشديد لغة يمانية فصيحة ، يقولون : كذَّبت به كِذَّاباً ، وخرَّقت القميص خِرَّاقاً ، وكل «فَعَّلْتُ» فمصدره في لغتهم مُشَدَّد . قال لي أعرابي منهم على المروة يستفتيني : الحَلْقُ أحب اليك ، أم القِصَّار؟ وأنشدني بعض بني كلاب :
لَقَدْ طَالَ مَا ثَبَّطَتني عن صَحَابَتي ... وَعَنْ حوَجٍ قِضَّاؤها من شِفَائِيَا
وأما أهل نجد ، فيقولون : كذَّبت به تكذيباً . وقال أبو عبيدة : الكِّذاب أشد من الكِذَاب وهما مصدر المكاذبة . قال الأعشى :
فَصَدَقْتُها وكَذَبْتُها ... وَالمَرْءُ يَنْفَعُهُ كِذَابُهْ
قوله تعالى : { وكلّ شيء أحصيناه } قال الزجاج : «كلَّ» منصوب بفعل مضمر تفسيره : أحصيناه ، والمعنى : أحصينا كل شيءٍ ، و { كتاباً } توكيد ل «أحصيناه» ، لأن معنى «أحصيناه» و «كتبناه» فيما يحصل ويثبت واحد . فالمعنى : كتبناه كتاباً . قال المفسرون : وكلّ شيء من الأعمال أثبتناه في اللوح المحفوظ { فذوقوا } أي : فيقال لهم : ذوقوا جزاء فعالكم { فلن نزيدكم إلا عذاباً . إن للمتقين } الذين لم يشركوا { مفازاً } وفيه قولان .
أحدهما : متنزَّهاً ، قاله ابن عباس ، والضحاك .
والثاني : فازوا بأن نَجَوْا من النار بالجنة ، ومن العذاب بالرحمة ، قاله قتادة . قال ابن قتيبة : «مفازاً» في موضع «فوز» { حدائق } قال ابن قتيبة : الحدائق : بساتين نخل ، واحدها : حديقة .

قوله تعالى : { وكواعب } قال ابن عباس : الكواعب : النواهد . قال ابن فارس : يقال : كعبت المرأة كعابة ، فهي كاعب : إذا نَتَأَ ثَدْيُها . وقد ذكرنا معنى «الأتراب» في [ ص : 52 ] .
قوله تعالى : { وكأساً دهاقاً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها الملأى ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، وابن زيد .
والثاني : أنها المتتابعة . رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال ابن جبير . وعن مجاهد كالقولين .
والثالث : أنها الصافية ، قاله عكرمة .
قوله تعالى : { لا يسمعون فيها } أي : في الجنة إذا شربوها { لغواً } وقد ذكرناه في [ الطور : 23 ] وغيرها { ولا كِذَّاباً } أي : لا يكذِّب بعضهم بعضاً ، لأن أهل الدنيا إذا شربوا الخمر تكلَّموا بالباطل ، وأهل الجنة مُنَزَّهون عن ذلك . قال الفراء : وقراءة علي رضي الله عنه «كِذَاباً» بالتخفيف ، كأنه والله أعلم لا يتكاذبون فيها . وكان الكسائي يخفِّف هذه ويشدِّد ، و«كذَّبوا بآياتنا كذِّاباً» لأن «كذَّبوا» يقيد «الكذاب» بالمصدر ، وهذه ليست مقيدة بفعل يصيِّرها مصدراً . وقد ذكرنا عن أبي عبيدة أن الكِذاب بالتشديد والتخفيف مصدر المكاذبة . وقال أبو علي الفارسي : «الكِذَاب» بالتخفيف مصدر «كَذَب» مثل «الكِتَاب» مصدر «كَتَبَ» .
قوله تعالى : { جزاءً } قال الزجاج : المعنى : جازاهم بذلك جزاءً ، وكذلك «عطاءً» لأن معنى أعطاهم وجازاهم واحد . و { حساباً } معناه : ما يكفيهم ، أي : فيه كل ما يشتهون . يقال : أحسبني كذا بمعنى كفاني . { ربِّ السموات } قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، والمفضل ، «ربُّ السموات والأرض وما بينهما الرحمنُ» برفع الباء من «رب» والنون من «الرحمن» على معنى : هو ربُّ السموات . وقرأ عاصم ، وابن عامر بخفض الباء والنون على الصفة من «ربِّك» . وقرأ حمزة والكسائي بكسر الباء ورفع النون ، واختار هذه القراءة الفراء ، ووافقه على هذا جماعة ، وعلَّلوا بأن الربَّ قريب من المخفوض ، والرحمن بعيد منه .
قوله تعالى : { لا يملكون منه خطاباً } فيه قولان .
أحدهما : لا يملكون الشفاعة إلا بإذنه قاله ابن السائب .
والثاني : لا يقدر الخلق أن يكلِّموا الربَّ إلا بإذنه ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { يوم يقوم الروح } فيه سبعة أقوال .
أحدها : أنه جند من جند الله تعالى ، وليسوا بملائكة ، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال مجاهد : هم خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون .
والثاني : أنه مَلَك أعظم من السموات ، والجبال ، والملائكة ، قاله ابن مسعود ، ومقاتل بن سليمان . وروى عطاء عن ابن عباس قال : الروح مَلَك ما خلق الله أعظم منه ، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صَفَّاً ، وقامت الملائكة كلهم صفاً واحداً ، فيكون عِظَمُ خَلْقِه مِثْلَ صفوفهم .
والثالث : أنها أرواح الناس تقوم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن تُرَدَّ إلى الأجسام ، رواه عطية عن ابن عباس .
والرابع : أنه جبريل عليه السلام قاله الشعبي ، وسعيد بن جبير ، والضحاك .

والخامس : أنهم بنو آدم ، قاله الحسن ، وقتادة .
والسادس : أنه القرآن ، قاله زيد بن أسلم .
والسابع : أنهم أشرف الملائكة ، قاله مقاتل بن حيان .
قوله تعالى : { والملائكةُ صفّاً } قال الشعبي : هما سماطان ، سماط من الروح ، وسماط من الملائكة ، فعلى هذا يكون المعنى : يوم يقوم الرُّوحُ صفاً ، والملائكة صفاً . وقال ابن قتيبة : معنى قوله تعالى : { صفاً } صفوفاً .
قوله تعالى : { لا يتكلَّمون } يعني : الخلق كلهم { إلا من أذن له الرحمن } في الكلام { وقال صواباً } أي : قال في الدنيا صواباً ، وهو الشهادة بالتوحيد عند أكثر المفسرين . وقال مجاهد : قال حقاً في الدنيا ، وعمل به { ذلك اليوم الحق } الكائن الواقع بلا شك { فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً } أي : مرجعاً إليه بطاعته . ثم خَوَّفَ كفَّار مكة ، فقال تعالى : { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } وهو عذاب الآخرة ، وكل آتٍ قريبٌ { يوم ينظر المرء ما قدَّمت يداه } أي : يرى عمله مثبَتاً في صحيفته خيراً كان أو شراً { ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً } يا ليتني لم أُبعث . وحكى الثعلبي عن بعض أشياخه أنه رأى في بعض التفاسير أن الكافر هاهنا : إبليس ، وذلك أنه عاب آدم ، لأنه خُلِقَ من التراب ، فتمنَّى يوم القيامة أنه كان بمكان آدم ، فقال : يا ليتني كنت تراباً .

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)

قوله تعالى : { والنازعات } فيه سبعة أقوال :
أحدها : أنها الملائكة تَنْزِعُ أرْواح الكفَّار ، قاله علي ، وابن مسعود . وروى عطية عن ابن عباس قال : هي الملائكة تَنْزِع نفوسَ بني آدم ، وبه قال مسروق .
والثاني : أنه الموت يَنْزِع النفوسَ ، قاله مجاهد .
والثالث : أنها النفس حين تُنْزَعُ ، قاله السدي .
والرابع : أنها النجوم تَنْزِع من أُفُق الى أُفُق تطلع ثم تغيب ، قاله الحسن ، وقتادة ، وأبو عبيدة ، والأخفش ، وابن كيسان .
والخامس : أنها القِسِيّ تَنْزِع بالسَّهم ، قاله عطاء ، وعكرمة .
والسادس : أنها الوحوش تنزع وتنفر ، حكاه الماوردي .
والسابع : أنها الرُّماةُ ، حكاه الثعلبي .
قوله تعالى : { غرقاً } اسم أقيم مقام الإغراق . قال ابن قتيبة : والمعنى : والنازعات إغراقاً ، كما يغرق النازع في الفوس ، يعني أنه يبلغ به غاية المد .
قوله تعالى : { والناشطات نشطاً } فيه خمسة أقوال .
أحدها : أنها الملائكة . ثم في معنى الكلام قولان . أحدهما : أنها حين تنشط أرواح الكفار حتى تخرجها بالكرب والغمِّ ، قاله علي رضي الله عنه . قال مقاتل : ينزع ملك الموت روح الكافر ، فإذا بلغت ترقوته غرقها في حلقه ، فيعذِّبه في حياته ، ثم ينشطها من حلقه أي : يجذبها كما ينشط السفّود من الصوف المبتل . والثاني : أنها تنشط أرواح المؤمنين بسرعة ، كما ينشط العقال من يد البعير إذا حل عنها ، قاله ابن عباس . وقال الفراء : الذي سمعته من العرب : كما أُنْشِط من عِقَال بألف . تقول : إذا ربطت الحبل في يد البعير : نشطته ، فإذا حللته قلت : أنشطته .
والقول الثاني : أنها أنفس المؤمنين تنشط عند الموت للخروج ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً ، وبيانه أن المؤمن يرى منزله من الجنة قبل الموت فتنشط نفسه لذلك .
والثالث : أن الناشطات : الموت ينشط نفس الإنسان ، قاله مجاهد .
والرابع : النجوم تنشط من أفق إلى أفق ، أي : تذهب ، قاله قتادة ، وأبو عبيدة ، والأخفش . ويقال لبقر الوحش : نواشط ، لأنها تذهب من موضع إلى موضع . قال أبو عبيدة : والهموم تنشط بصاحبها . قال هميان بن قحافة :
أَمْسَتْ همومي تَنْشِط المنَاشِطَا ... الشَّامَ بي طَوْراً وطَوْراً وَاسِطَا
والخامس : أنها النفس حين تَنْشط بالموت ، قاله السدي .
قوله تعالى : { والسابحات سبحاً } فيه ستة أقوال .
أحدها : أنها الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين ، قاله علي رضي الله عنه . قال ابن السائب : يقبضون أرواح المؤمنين كالذي يسبح في الماء . فأحياناً ينغمس ، وأحياناً يرتفع ، يسلُّونها سلاً رفيقاً ، ثم يَدَعُونها حتى تستريح .
والثاني : أنهم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين ، كما يقال للفرس الجواد : سابح : إذا أسرع في جريه ، قاله مجاهد ، وأبو صالح ، والفراء .
والثالث : أنه الموت يسبح في نفوس بني آدم ، روي عن مجاهد أيضاً .
والرابع : أنها السفن تسبح في الماء ، قاله عطاء .
والخامس : أنها النجوم ، والشمس ، والقمر ، كل في فلك يسبحون ، قاله قتادة ، وأبو عبيدة .

والسادس : أنها الخيل ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى { فالسابقات سبقاً } فيه خمسة أقوال :
أحدها : أنها الملائكة . ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال . أحدها : أنها تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء ، قاله علي ، ومسروق . والثاني : أنها تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة ، قاله مجاهد ، وأبو رَوْق . والثالث : أنها سبقت بني آدم الى إلإيمان ، قاله الحسن .
والقول الثاني : أنها أنفس المؤمنين تسبق الملائكة شوقاً إلى لقاء الله ، فيقبضونها وقد عاينت السرور ، قاله ابن مسعود .
والثالث : أنه الموت يسبق إلى النفوس ، روي عن مجاهد أيضاً .
والرابع : أنها الخيل ، قاله عطاء .
والخامس : أنها النجوم يسبق بعضها بعضاً في السير ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { فالمدبِّرات أمراً } قال ابن عباس : هي الملائكة . قال عطاء : وُكِّلتْ بأمور عَرَّفهم الله العمل بها ، وقال عبد الرحمن بن سابط : يُدَبِّر أمر الدنيا أربعة أملاك : جبريل ، وهو موكل بالرِّياح والجنود . وميكائيل ، وهو موكل بالقطر والنبات . وملك الموت ، وهو موكل بقبض الأنفس . وإسرافيل ، وهو يَنزل بالأمر عليهم . وقيل : بل جبريل للوحي ، وإسرافيل للصور . وقال ابن قتيبة : فالمدبِّرات أمراً : تنزل بالحلال والحرام .
فإن قيل : أين جواب هذه الأقسام ، فعنه جوابان .
أحدهما : أن الجواب قوله تعالى : { إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } ، قاله مقاتل .
والثاني : أن الجواب مضمر ، تقديره : لَتُبْعَثُنَّ وَلَتُحاسَبُنَّ ، ويدل على هذا قوله تعالى : { أئذا كنا عِظَاماً نَخِرَةً } قاله الفراء .
قوله تعالى : { يوم تُرجف الراجفة } ، وهي النفخة الأولى التي يموت منها جميع الخلائق . و «الراجفة» صيحة عظيمة فيها تردُّدٌ واضطراب كالرعد إذا تمحض . و «ترجف» بمعنى : تتحرَّك حركة شديدةً { تتبعها الرادفة } وهي : النفخة الثانية ردفت الأولى ، أي : جاءت بعدها . وكل شيء جاء بعد شيءٍ فهو يردفه { قلوب يومئذ واجفة } أي : شديدة الاضطراب لما عاينت من أهوال القيامة ، { أبصارها خاشعة } أي : ذليلةٌ لمعاينة النار . قال عطاء : وهذه أبصار من لم يمت على الإسلام . ويدل على هذا أنه ذَكَرَ منكري البعث ، فقال تعالى : { يقولون أئنا لمردودون في الحافرة } قرأ ابن عامر وأهل الكوفة «أئنا» بهمزتين مخففتين على الاستفهام ، وقرأ الباقون بتخفيف الأولى وتليين الثانية ، وفصل بينهما بألف نافع وأبو عمرو .
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .
أحدها : أن الحافرة : الحياة بعد الموت . فالمعنى : أنرجع أحياءً بعد موتنا؟! وهذا قول ابن عباس ، وعطية ، والسدي . قال الفراء : يعنون : أَنُرَدُّ إلى أمرنا الأول إلى الحياة؟! والعرب تقول : أتيت فلاناً ، ثم رجعت على حافرتي ، أي : رجعت من حيث جئت . قال أبو عبيدة : يقال : رجع فلان في حافرته ، وعلى حافرته : إذا رجع من حيث جاء ، وهذا قول الزجاج .
والثاني : أنها الأرض التي تحفر فيها قبورهم ، فَسُمِّيت حافرةً ، والمعنى : محفورة ، كما يقال { ماء دافق } [ الطارق : 6 ] و { عيشة راضية } [ الحاقة : 21 ] وهذا قول مجاهد ، والخليل . فيكون المعنى : أئنا لمردودون إلى الأرض خلقاً جديداً؟!
قال ابن قتيبة : «في الحافرة» أي : إلى أول أمرنا .

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)

قوله تعالى : { هل أتاك حديث موسى } أي : قد جاءك . وقد بيَّنَّا هذا في [ طه : 9 ] وما بعده إلى قوله تعالى : { طوى اذهب } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو «طوى اذهب» غير مُجراةٍ . وقرأ الباقون «طوىً» منونة { فقل هل لك إلى أن تَزَكَّى } وقرأ ابن كثير ، ونافع «تَزَّكَّى» بتشديد الزاي ، أي : تَطَّهَّر من الشرك { وأَهْدِيَكَ إلى ربك } أي : أدعوك إلى توحيده ، وعبادته { فتخشى } عذابه { فأراه الآية الكبرى } وفيها قولان .
أحدهما : أنها اليد والعصا ، قاله جمهور المفسرين . والثاني : أنها اليد ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { فكذب } أي : بأنها من الله ، { وعصى } نبيَّه { ثم أدبر } أي : أعرض عن الإيمان { يسعى } أي : يعمل بالفساد في الأرض { فحشَر } أي : فجمع قومه وجنوده { فنادى } لما اجتمعوا { فقال أنا ربكم الأعلى } أي : لا ربَّ فوقي . وقيل أراد أن الأصنام أرباب ، وأنا ربُّها وربُّكم . وقيل : أراد : أنا ربُّ السادة والقادة .
قوله تعالى : { فأخذه الله نكال الآخرة والأولى } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أن الأولى قوله { ما علمت لكم من إله غيري } [ القصص : 38 ] والآخرة قوله «أنا ربكم الأعلى» ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، والشعبي ، ومقاتل ، والفراء . ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد . قال ابن عباس : وكان بينهما أربعون سنة . قال السدي : فبقي بعد الآخرة ثلاثين سنة . قال الفراء : فالمعنى : أخذه الله أخذاً نكالاً للآخرة والأولى .
والثاني : المعنى : جعله الله نكال الدنيا والآخرة ، أغرقه في الدنيا ، وعذَّبه في الآخرة ، قاله الحسن ، وقتادة . وقال الربيع بن أنس : عذَّبه الله في أول النهار بالغَرَق ، وفي آخره بالنَّار .
والثالث : أن الأولى : تكذيبه وعصيانه . والآخرة قوله : «أنا ربكم الأعلى» ، قاله أبو رزين .
والرابع : أنها أول أعماله وآخرها ، رواه منصور عن مجاهد . قال الزجاج : النكال : منصوب مصدر مؤكد ، لأن معنى أخذه الله : نكل الله به نكال الآخرة والأولى : فأغرقه في الدنيا ويعذِّبه في الآخرة . قوله تعالى { إن في ذلك } الذي فُعِل بفرعون { لعبرةً } أي : لعظةً { لمن يخشى } الله .
ثم خاطب منكري البعث ، فقال تعالى { أأنتم أشد خلقاً أم السماءُ بناها } قال الزجاج : ذهب بعض النحويين الى أن قوله تعالى { بناها } من صفة السماء ، فيكون المعنى : أم السماء التي بناها . وقال قوم : السماء ليس مما توصل ، ولكن المعنى : أأنتم أشد خلقاً ، أم السماءُ أشد خلقاً . ثم بيَّن كيف خلقها ، فقال تعالى { بناها } قال المفسرون : أخَلْقُكم بعدَ الموت أشدُّ عندكم ، أم السماءُ في تقديركم؟ وهما في قدرة الله واحد . ومعنى : «بناها» رفعها . وكل شيء ارتفع فوق شيءٍ فهو بناءٌ . ومعنى { رفع سَمْكها } رفع ارتفاعها وعلوَّها في الهواء «فسوَّاها» بلا شقوق ، ولا فُطور ، ولا تفاوت ، يرتفع فيه بعضها على بعض { وأغطش ليلها } أي : أظلمه فجعله مظلماً .

قال الزجاج : يقال : غطش الليل وأغطش ، وغبش وأغبش ، وغسق وأغسق ، وغشي وأغشى ، كله بمعنى أظلم .
قوله تعالى : { وأخرج ضحاها } أي : أبرز نهارها . والمعنى : أظهر نورها بالشمس . وإنما أضاف النور والظلمة إلى السماء لأنهما عنها يصدران { والأرض بعد ذلك } أي : بعد خلق السماء { دحاها } أي : بسطها . وبعض من يقول : إن الأرض خلقت قبل السماء يزعم أن «بعد» هاهنا بمعنى «قبل» ، كقوله تعالى : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذِّكر } [ الأنبياء : 105 ] وبعضهم يقول : هي بمعنى «مع» كقوله تعالى { عُتُلٍّ بعد ذلك زنيم } [ القلم : 13 ] ولا يمتنع أن تكون الأرض خلقت قبل السماء ، ثم دحيت بعد كمال السماء ، وهذا مذهب عبد الله بن عمرو بن العاص . وقد أشرنا إلى هذا الخلاف في [ البقرة : 29 ] ونصبت الأرض بمضمر تفسيره قوله تعالى : { دحاها } .
{ أخرج منها ماءها } أي : فجَّر العيون منها { ومرعاها } وهو ما يأكله الناس والأنعام { والجبال أرساها } قال الزجاج : أي : أثبتها { متاعاً لكم } أي : للإمتاع ، لأن معنى أخرج منها ماءها ومرعاها : أمتع بذلك . وقال ابن قتيبة : «متاعاً لكم» أي : منفعة [ لكم ] .

فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)

قوله تعالى : { فإذا جاءت الطامة الكبرى } والطامة : الحادثة التي تطمُ على ما سواها ، أي : تعلو فوقه . وفي المراد بها هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : النفخة الثانية التي فيها البعث .
والثاني : أنها حين يقال لأهل النار : قوموا إلى النار .
والثالث : أنها حين يساق أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار .
قوله تعالى : { يتذكَّر الإنسان ما سعى } أي : ما عمل من خير وشر { وبُرِّزَتِ الجحيم لمن يرى } أي : لأبصار الناظرين . قال مقاتل : يكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق . وقرأ أبو مجلز ، وابن السميفع «لمن ترى» بالتاء . وقرأ ابن عباس ، ومعاذ القارىء «لمن رأى» بهمزة بين الراء والألف .
قوله تعالى : { فأما من طغى } في كفره { وآثر الحياة الدنيا } على الآخرة { فإن الجحيم هي المأوى } قال الزجاج : أي : هي المأوى له . وهذا جواب «فإذا جاءت الطامة» فإن الأمر كذلك .
قوله تعالى : { وأما من خاف مقام ربه } قد ذكرناه في سورة [ الرحمن : 46 ] .
قوله تعالى : { ونهى النفس عن الهوى } أي : عما تهوى من المحارم . قال مقاتل : هو الرجل يَهُمّ بالمعصية ، فيذكر مقامه للحساب ، فيتركها .
قوله تعالى : { يسألونك عن الساعة أيّان مرساها } قد سبق في [ الأعراف : 187 ] { فيم أنت مِن ذِكراها } أي : لست في شيءٍ من علمها وذِكْرِها . والمعنى : إنك لا تعلمها { إلى ربك منتهاها } أي : منتهى علمها { إنما أنت منذر من يخشاها } وقرأ أبو جعفر «منذرٌ» بالتنوين . ومعنى الكلام : إنما أنت مُخَوِّفٌ من يخافها . والمعنى : إنما ينفع إنذارك من يخافها ، وهو المؤمن بها . وأما من لا يخافها فكأنه لم يُنْذَر { كأنهم } يعني : كفار قريش { يوم يرَونها } أي : يعاينون القيامه { لم يلبثوا } في الدنيا . وقيل : في قبورهم { إلا عشية أو ضحاها } أي : قَدْر آخر النهار من بعد العصر ، أو أوله إلى أن ترتفع الشمس . قال الزجاج : والهاء والألف في «ضحاها» عائدان إلى العشية . والمعنى : إلا عشية ، أو ضحى العشية . قال الفراء .
فإن قيل : للعشية ضحى ، إنما الضحى لصدر النهار؟ .
فالجواب : أن هذا ظاهر في كلام العرب أن يقولوا : آتيك العشية ، أو غداتَها ، أو آتيك الغداةَ ، أو عَشِيَّتَها ، فتكون العشية في معنى «آخر» ، والغداة في معنى «أول» . أنشدني بعض بني عقيل :
نَحْنُ صَبَحْنَا عَامِراً في دَارِها ... عَشِيَّةَ الهِلاَلِ أو سِرارِها
أراد : عشية الهلال ، أو عشية سرار العشية ، فهذا أشد من قولهم : آتيك الغداة أو عشيتها .

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)

قوله تعالى : { عبس وتولَّى } قال المفسرون : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يناجي عتبة بن ربيعة ، وأبا جهل بن هشام ، وأُمية وأُبَيَّاً ابني خلف ، ويَدْعوهم إلى الله تعالى ، ويرجو إسلامهم ، فجاء ابن أم مكتوم الأعمى ، فقال : علِّمني يا رسول الله مما علَّمك الله ، وجعل يناديه ، ويكرِّر النداء ، ولا يدري أنه مشتغل بكلام غيره ، حتى ظهرت الكراهية في وجهه صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل على القوم يكلِّمهم ، فنزلت هذه الآيات ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه بعد ذلك ، ويقول : مرحباً بمن عاتبني فيه ربي . وذهب قوم ، منهم مقاتل ، إلى أنه إنما جاء ليؤمن ، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم اشتغالاً بالرؤساء ، فنزلت فيه هذه الآيات .
ومعنى «عبس» قطَب وكَلَح «وتَوَلَّى» أعرض بوجهه { أن جاءه } أي : لأن جاءه . وقرأ أُبَيُّ بن كعب ، والحسن ، وأبو المتوكل ، وأبو عمران «آن جاءه» بهمزة واحدة مفتوحة ممدودة . وقرأ ابن مسعود ، وابن السميفع ، «أَأَن» بهمزتين مقصورتين مفتوحتين . و { الأعمى } هو ابن أم مكتوم ، واسمه عمرو بن قيس . وقيل : اسمه عبد الله بن عمرو { وما يدريك لعلَّه يَزَّكَّى } أي : يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح ، وما يتعلَّمه منك . وقال مقاتل : لعله يؤمن { أو يَذَّكَّرُ } أي : يتعظ بما يتعلمه من مواعظ القرآن { فتنفعَه الذكرى } قرأ حفص عن عاصم «فتنفعه» بفتح العين ، والباقون برفعها . قال الزجاج : من نصب ، فعلى جواب «لعل» ومن رفع ، فعلى العطف على «يزَّكَّى» .
قوله تعالى : { أما من استغنى } قال ابن عباس : استغنى عن الله وعن الإيمان بماله . قال مجاهد : «أما من استغنى» : عتبة ، وشيبة ، { فأنت له تَصَدَّى } . قرأ ابن كثير ، ونافع ، «تصَّدَّى» بتشديد الصاد . وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، «تَصَدَّى» بفتح التاء ، والصاد وتخفيفها ، وقرأ أُبَيُّ بن كعب ، وأبو الجوزاء ، وعمرو بن دينار «تَتَصَدَّى» بتاءين مع تخفيف الصاد . قال الزجاج : الأصل : تتصدى ، ولكن حذفت التاء الثانية لاجتماع تاءين . ومن قرأ «تَصَدَّى» بإدغام التاء ، فالمعنى أيضاً : تتصدى ، إلا أن التاء أدغمت في الصاد لقرب مخرج التاء من الصاد . قال ابن عباس : «تَصَدَّى» تقبل عليه بوجهك . وقال ابن قتيبة : تتعرض . وقرأ ابن مسعود ، وابن السميفع ، والجحدري ، { تُصْدَى } بتاء واحدة مضمومة ، وتخفيف الصاد .
قوله تعالى : { وما عليك } أي : أي شيءٍ عليك في أن لا يُسْلِمَ مَنْ تدعوه إلى الإسلام؟ يعني : أنه ليس عليه إلا البلاغ .
{ وأمَّا من جاءك يسعى } فيه قولان .
أحدهما : يمشي .
والثاني : يعمل في الخير ، وهو ابن أم مكتوم { وهو يخشى } الله { فأنت عنه تلهَّى } وقرأ ابن مسعود ، وطلحة بن مصرف ، وأبو الجوزاء «تتلهى» بتاءين .

وقرأ أُبيّ ابن كعب ، وابن السميفع ، والجحدري ، «تُلْهَى» بتاءٍ واحدة خفيفة مرفوعة . قال الزجاج : أي : تتشاغل عنه . يقال : لهيت عن الشيء ألهى عنه : إذا تشاغلتَ عنه .
قوله تعالى : { كلا } أي : لا تفعل ذلك . { إنها } في المكني عنها قولان .
أحدهما : آيات القرآن ، قاله مقاتل .
والثاني : هذه السورة ، قاله الفراء «والتذكرة» بمعنى التذكير { فمن شاء ذكره } مفسر في آخر [ المدثر : 55 ] . ثم أخبر بجلالة القرآن عنده ، فقال تعالى : { في صُحُفٍ مُكَرَّمة } أي : هو في صحف ، أي : في كتب مكرَّمة ، وفيها قولان .
أحدهما : أنها اللوح المحفوظ ، قاله مقاتل .
والثاني : كتب الأنبياء ، ذكره الثعلبي . فعلى هذا يكون معنى «مرفوعة» عالية القدر . وعلى الأول يكون رفعها كونها في السماء .
وفي معنى «المطهرة» أربعة أقوال .
أحدها : مطهرة من أن تنزل على المشركين ، قاله الحسن .
والثاني : مطهرة من الشرك والكفر ، قاله مقاتل .
والثالث : لأنه لا يمسها إلا المطهرون ، قاله الفراء .
والرابع : مطهرة من الدنس ، قاله يحيى بن سلام .
قوله تعالى : { بأيدي سفرة } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم الملائكة ، قاله الجمهور .
والثاني : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله وهب بن منبه .
وفي معنى «سفرة» ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم الكتَبَة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزجاج . قال الزجاج : واحدهم : سَافر ، وسَفَرَة ، مثل كَاتِب ، وكَتَبَة ، وكافِر وكَفَرة . وإنما قيل للكتاب : سفر ، وللكاتب : سافر ، لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه . يقال : أسفر الصبح : إذا أضاء . وسفرت المرأة . إذا كشفت النقاب عن وجهها . ومنه : سفرتُ بين القوم ، أي : كشفتُ ما في قلب هذا ، وقلب هذا ، لأُصْلِحَ بينهم .
والثاني : أنهم القراء ، قاله قتادة .
والثالث : أنهم السفراء ، وهم المصلحون . قال الفراء : تقول العرب : سفرتُ بين القوم ، أي : أصلحتُ بينهم ، فجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله ، كالسفير الذي يصلح بين القوم . قال الشاعر :
وَمَا أَدَعُ السِّفَارَةَ بَيْنَ قَوْمي ... وَمَا أَمشي بِغِشٍّ إنْ مَشَيْتُ
قوله تعالى : { كِرَامٍ } أي : على ربِّهم { بَرَرَةٍ } أي : مطيعين . قال الفراء : واحد { البررة } في قياس العربية : بَارٌّ ، لأن العرب لا تقول : فَعَلَة ينوون به الجمع إلا والواحد منه فاعل ، مثل كافر ، وكَفَرة ، وفاجر ، وفَجَرَة .

قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)

قوله تعالى : { قتل الإنسان } أي : لعن . والمراد بالإنسان هاهنا : الكافر . وفيمن عنى بهذا القول ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه أشار إلى كل كافر ، قاله مجاهد .
والثاني : أنه أُمية بن خلف ، قاله الضحاك .
والثالث : عتبة بن أبي لهب ، قاله مقاتل .
وفي قوله تعالى : { ما أكفره } ثلاثة أقوال .
أحدها : ما أشد كفره ، قاله ابن جريج .
والثاني : أي شيء أكفَره؟ قاله السدي . فعلى هذا يكون استفهام توبيخ .
الثالث : أنه على وجه التعجُّب ، وهذا التعجب يؤمر به الآدميون والمعنى : اعجبوا أنتم من كفره ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { من أيِّ شيءٍ خَلَقَه } ثم فسره فقال تعالى : { من نطفةٍ خَلَقه } ، وفي معنى «فقدره» ثلاثة أقوال .
أحدها : قدَّر أعضاءه : رأسه ، وعينيه ، ويديه ، ورجليه ، قاله ابن السائب .
والثاني : قدَّره أطواراً : نطفة ، ثم علقة ، إلى آخر خلقه ، قاله مقاتل .
والثالث : فقدره على الاستواء ، قاله الزجاج .
{ ثم السبيل يسَّره } فيه قولان .
أحدهما : سهَّل له العلم بطريق الحق والباطل ، قاله الحسن ، ومجاهد . قال الفراء : والمعنى : ثم يسره للسبيل .
والثاني : يسر له السبيل في خروجه من بطن أمه ، قاله السدي ، ومقاتل .
قوله تعالى : { فأقبرَه } قال الفراء : أي : جعله مقبوراً ، ولم يجعله ممن يلقى للسباع والطير ، فكأنَّ القبر مما أُكْرِم به المسلم . ولم يقل : قبره ، لأن القابر هو الدافن بيده . والمُقْبِرُ الله ، لأنه صيَّره مقبوراً ، فليس فعله كفعل الآدمي . والعرب تقول : بَتَرْتُ ذَنَبَ البعير ، والله أبتره . وَعضَبْتُ قَرْنَ الثور ، والله أَعْضَبَه . وطردتُ فلاناً عني ، والله أطرده ، أي : صيَّره طريداً . وقال أبو عبيدة : أقبره : أي أمر أن يقبر ، وجعل له قبراً . قالت بنو تميم لعمر بن هبيرة لما قتل صالح بن عبد الرحمن : أقبرنا صالحاً ، فقال : دونكموه . والذي يدفن بيده هو القابر . قال الأعشى :
لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِها ... عاش وَلَمْ يُسْلَم إلى قَابِرِ
قوله تعالى : { ثم إذا شاء أنشره } أي : بعثه . يقال : أنشر الله الموتى ، فَنُشِرُوا ، ونَشَر الميِّتُ : حَيِيَ [ هو ] بِنَفْسه ، وواحدهم ناشر . قال الأعشى :
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مَمَّا رَأَوْا ... يَا عَجَبَاً لِلْمَيِّتِ النّاشِرِ
قوله تعالى : { كلا } قال الحسن : حقاً { لمّا يقضِ ما أمره } به ربُّه ، ولم يؤدِّ ما فرض عليه . وهل هذا عام ، أم خاص؟ فيه قولان .
أحدهما : أنه عام . قال مجاهد : لا يقضي أحد أبداً كُلَّ ما افترض الله عليه .
والثاني : أنه خاص للكافر لم يقض ما أُمِرَ به من الإيمان والطاعة ، قاله يحيى بن سلام . ولما ذَكَر خَلْق ابن آدم ، ذكر رزقه ليعتبر وليستدلَّ بالنبات على البعث ، فقال تعالى : { فلينظر الإنسان إلى طعامه } قال مقاتل : يعني به عتبة بن أبي لهب . ومعنى الكلام : فلينظر الإنسان كيف خلق الله طعامه الذي جعله سبباً لحياته؟ ثم بين فقال تعالى : { أنّا } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر «إنا» بالكسر .

وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي { أنا صببنا } بفتح الهمزة في الوصل وفي الابتداء ، ووافقهم رويس على فتحها في الوصل ، فإذا ابتدأ كسر . قال الزجاج : من كسر «إنا» فعلى الابتداء والاستئناف ، ومن فتح ، فعلى البدل من الطعام ، المعنى : فلينظر الإنسان أنا صببنا . قال المفسرون : أراد بصب الماء : المطر . { ثم شققنا الأرض } بالنبات { شقاً فأنبتنا فيها حباً } يعني به جميع الحبوب التي يُتَغَذَّى بها { وعِنَباً وقَضْباً } قال الفراء : هو الرَّطبة . وأهل مكة يسمون القَتَّ : القضب . قال ابن قتيبة : ويقال : إنه سمي بذلك ، لأنه يُقْضَبُ مرة بعد مرة ، أي : يقطع ، وكذلك القَصيل ، لأنه يُقْصَلُ ، أي يقطع .
قوله تعالى : { وزيتوناً ونخلاً وحدائق غُلْباً } قال الفراء : كل بستان كان عليه حائط ، فهو حديقة ، وما لم يكن عليه حائط لم يقل : حديقة . والغُلْب : ما غلظ من النخل . قال أبو عبيدة : يقال : شجرة غَلْباء : إذا كانت غليظة . وقال ابن قتيبة : الغُلب : الغِلاظ الأعناق . وقال الزجاج : هي المتكاثفةُ ، العظامُ .
قوله تعالى : { وفاكهة } يعني : ألوان الفاكهة { وأبأ } فيه قولان .
أحدهما : أنه ما ترعاه البهائم ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، واللغويون . وقال الزجاج : هو جميع الكلأ التي تعتلفه الماشية .
والثاني : أنه الثمار الرطبة ، رواه الوالبي عن ابن عباس .
{ متاعاً لكم ولأنعامكم } قد بَيَّنَّاه في السورة التي قبلها [ النازعات : 33 ] .

فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

قوله تعالى : { فإذا جاءت الصاخة } وهي الصيحة الثانية . قال ابن قتيبة : الصاخة تصِخُّ صَخَّاً ، أي : تُصِمُّ . يقال : رجل أصخ ، وأصلخ : إذا كان لا يسمع . والداهية صاخة أيضاً . وقال الزجاج : هي الصيحة التي تكون عليها القيامة ، تصخ الأسماع ، أي : تصمها ، فلا تسمع إلا ما تدعى به لإحيائها . ثم فسر في أي وقت تجيء ، فقال تعالى : { يوم يَفِرُّ المرء من أخيه } قال المفسرون : المعنى : لا يلتفت الإنسان إلى أحد من أقاربه ، لِعِظَم ما هو فيه . قال الحسن : أول من يَفِرُّ من أخيه هابيل ، ومن أُمه وأبيه إبراهيم ، ومن صاحبته نوح ولوط ، ومن ابنه نوح . وقال قتادة : يفر هابيل من قابيل ، والنبي صلى الله عليه وسلم من أُمه ، وإبراهيم من أبيه ، ولوط من صاحبته ، ونوح من ابنه .
قوله تعالى : { لكل امرىءٍ منهم يومئذ شأن يُغنيه } قال الفراء : أي : يَشْغَلُه عن قرابته . وقال ابن قتيبة : أي : يَصْرِفه ويصدُّه عن قرابته ، يقال : اغْنِ عني وجهك ، أي : اصرفه ، واغْن عني السفيه . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، والزهري ، وأبو العالية ، وابن السميفع ، وابن محيصن ، وابن أبي عبلة ، «يَعنيه» بفتح الياء والعين غير معجمة . قال الزجاج : معنى الآية : له شأن لا يقدر مع الاهتمام به على الاهتمام بغيره . وكذلك قراءة من قرأ «يغنيه» بالغين ، معناه : له شأن لا يهمه معه غيره .
وقد روى أنس بن مالك قال : قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم : أنحشر عراةً؟ قال : نعم . قالت : واسوءتاه ، فأنزل الله تعالى { لكل امرىءٍ منهم يومئذ شأن يغنيه } .
قوله تعالى : { وجوه يومئذ مُسْفِرة } أي : مضيئة قد علمت ما لها من الخير { ضَاحِكَةٌ } لسرورها { مستبشرة } أي : فرحة بما نالها من كرامة الله عز وجل { ووجوه يومئذ عليها غَبَرة } أي : غبار . وقال مقاتل : أي سواد وكآبة { ترهقها } أي : تغشاها { قَتَرة } أي : ظُلمة . وقال الزجاج : يعلوها سواد كالدخان . ثم بَيَّن مَنْ أَهْلُ هذه الحال ، فقال تعالى : { أولئك هم الكَفَرة الفَجَرة } وهو جمع كافر وفاجر .

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)

روى أبو عبد الله الحاكم في «صحيحه» من حديث عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ قوله تعالى : { إذا الشمس كورت } " . وفي قوله تعالى : { كُوِّرَتْ } أربعة أقوال .
أحدها : أظلمت ، رواه الوالبي عن ابن عباس ، وكذلك قال الفراء : ذهب ضوؤها ، وهذا قول قتادة ، ومقاتل .
والثاني : ذَهَبَتْ ، رواه عطية عن ابن عباس ، وكذلك قال مجاهد : اضمحلَّتْ .
والثالث : غُوِّرَتْ ، روي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وابن الأنباري ، وهذا من قول الناس بالفارسية : كُورْبكرد . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : هو بالفارسية كورُبورْ .
والرابع : أنها تُكَوَّرُ مثل تكوير العمامة ، فتلفُّ وتمحى ، قاله أبو عبيد .
قال الزجاج : ومعنى «كُوِّرت» جمع ضوؤها ، ولُفَّتْ كما تلف العمامة . ويقال : كَوَّرْتُ العمامة على رأسي أُكوِّرُها : إذا لَفَفْتَها . قال المفسرون : تُجمع الشمس بعضُها إلى بعض ، ثم تُلَفُّ ويرمى بها في البحر . وقيل : في النار . وقيل تعاد إلى ما خلقت منه .
قوله تعالى : { وإذا النجوم انكدرَتْ } أي : تناثرت ، وتهافتت . يقال انكدر الطائر في الهواء : إذا انقضَّ { وإذا الجبال سُيِّرت } عن وجه الأرض ، فاستوت مع الأرض { وإذا العشار عُطِّلَتْ } قال المفسرون وأهل اللغة : العشار : النوق الحوامل ، وهي التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر فقيل لها : العشار لذلك ، وذلك الوقت أَحْسَنُ زَمَانِ حَمْلِها ، وهي تضع إذا وَضَعَتْ لتمامٍ في سنة ، فهي أنفس ما للعرب عندهم ، فلا يعطلونها إلا لإتيان ما يَشْغَلهم عنها ، وإنما خوطبت العرب بأمر العشار ، لأن أكثر عيشهم ومالهم من الإبل . ومعنى «عُطِّلت» سُيِّبَتْ وأُهْمِلَتْ ، لإشتغالهم عنها بأهوال القيامة .
قوله تعالى : { وإذا الوحوش } يعني : دوابَّ البحر { حشرت } وفيه قولان .
أحدهما : ماتت ، قاله ابن عباس .
والثاني : جمعت إلى القيامة ، قاله السدي . وقد زدنا هذا شرحاً في [ الأنعام : 111 ] .
قوله تعالى : { وإذا البِحار سُجِّرت } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو «سُجِرَتُ» بتخفيف الجيم ، وقرأ الباقون بتشديدها .
وفي المعنى ثلاثة أقوال :
أحدها : أُوقِدَتْ فاشتعلت ناراً ، قاله علي وابن عباس .
والثاني : يبست ، قاله الحسن .
والثالث : ملئت بأن صارت بحراً واحداً ، وكثر ماؤها ، قاله ابن السائب ، والفراء ، وابن قتيبة .
قوله تعالى : { وإذا النُّفوس زُوِّجَتْ } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : قرنت بأشكالها ، قاله عمر رضي الله عنه . الصالح مع الصالح في الجنة ، والفاجر مع الفاجر في النار ، وهذا قول الحسن ، وقتادة .
والثاني : رُدَّت الأرواح إلى الأجساد ، فَزُوِّجَت بها ، قاله الشعبي . وعن عكرمة كالقولين .
والثالث : زُوِّجت أنفس المؤمنين بالحور العين ، وأنفس الكافرين بالشياطين ، قاله عطاء ، ومقاتل .
قوله تعالى : { وإذا الموؤودة سئلت } قال اللغويون : الموؤودة : البنت تُدْفَن وهي حَيَّةٌ ، وكان هذا من فعل الجاهلية .

يقال : وَأَدَ وَلَدَهُ ، أي : دفنه حياً . قال الفرزدق :
وَمِنَّا الَّذِي مَنَعَ الوَائِدَا ... تِ فَأَحْيَا الوَئِيدَ وَلَمْ يُوأَدِ
يعني : صعصعة بن صوحان ، وهو جَدّ الفرزدق . قال الزجاج : ومعنى سؤالها : تبكيت قاتليها في القيامة ، لأن جوابها : قتلت بغير ذنب . ومثل هذا التبكيت قوله تعالى : { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين؟! } [ المائدة : 116 ] . وقرأ علي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو عبد الرحمن ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة ، وهارون عن أبي عمرو «سَأَلَتْ» بفتح السين ، وألف بعدها { بأيِّ ذنب قُتِلَتُ } بإسكان اللام ، وضم التاءَ الأخيرة . وسؤالها هذا أيضاً تبكيت لقاتليها . قال ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت ، فكان أوان ولادها حفرت حفيرة ، فتمخَّضت على رأس الحفيرة ، فإن ولدت جارية رَمَتْ بها في الحفيرة ، وإن ولدت غلاماً حبسته .
قوله تعالى : { وإذا الصُّحُفُ نُشِرَتْ } قرأ نافع ، وعاصم ، وأبو جعفر ، وابن عامر ، ويعقوب «نُشِرَتْ» بالتخفيف ، والباقون بالتشديد . والمراد بالصحف : صحائف أعمال بني آدم تنشر للحساب { وإذا السماء كشطت } قال الفراء : نُزِعَتْ ، فطُوِيَتْ . وفي قراءة عبد الله «قُشِطَتْ» بالقاف ، وهكذا تقوله قيس ، وتميم ، وأسد ، بالقاف . وأما قريش ، فتقوله بالكاف ، والمعنى واحد .
والعرب تقول : القافور ، والكافور ، والقسط ، والكسط . وإذا تقارب الحرفان في المخرج تعاقبا في اللغات ، كما يقال : حَدَثٌ ، وَحدَتٌ . قال ابن قتيبة : كُشِطَتْ كما يُكْشَطُ الغِطَاء عن الشيء ، فطُوِيَتْ . وقال الزجاج : قلعت كما يقلع السقف . و { سُعِرت } أُوقدت . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم «سُعِّرت» مشددة . قال الزجاج : المعنى واحد . إلا أن معنى المشدد : أُوقدت مرة بعد مرة . و { أُزْلِفَتْ } قُرِّبَتْ من المتقين . وجواب هذه الأشياء { علمت نفس ما أحضرت } أي : إذا كانت هذا الأشياء عَلِمَتْ في ذلك الوقت كلُّ نفس ما أحضرت من عمل ، فأثيبتْ على قدر عملها . وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال في قوله تعالى : { علمت نفس ما أحضرت } : لهذا جرى الحديث . وقال ابن عباس : من أول السورة إلى هاهنا اثنتا عشرة خصلة ، ستة في الدنيا ، وستة في الآخرة .

فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)

قوله تعالى : { فلا أقسم } لا زائدة ، والمعنى : أقسم { بالخُنَّس } وفيها خمسة أقوال .
أحدها : أنها خمسة أنجم تَخْنُس بالنهار فلا تُرى ، وهي زُحَل ، وعُطَارد ، والمشتري ، والمرِّيخ ، والزُّهرة ، قاله علي ، وبه قال مقاتل ، وابن قتيبة . وقيل : اسم المشتري : البرجس . واسم المريخ : بهرام .
والثاني : أنها النجوم ، قاله الحسن وقتادة على الإطلاق ، وبه قال أبو عبيدة .
والثالث : أنها بقر الوحش ، قاله ابن مسعود .
والرابع : الظباء ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير .
والخامس : الملائكة ، حكاه الماوردي . والأكثرون على أنها النجوم . قال ابن قتيبة : وإنما سماها خُنَّساً ، لأنها تسير في البروج والمنازل ، كسير الشمس والقمر ، ثم تَخْنُس ، أي : ترجع ، بينا يرى أحدها في آخر البروج كَرَّ راجعاً إلى أوله ، وسماها كُنَّساً ، لأنها تكنس ، أي : تسير كما تكنس الظباء ، وقال الزجاج : تخنس ، أي : تغيب ، وكذلك تكنس ، أي : تغيب في المواضع التي تغيب فيها . وإذا كان المراد الظباء فهو يدخل الكناس ، وهو الغصن من أغصان الشجر . ووقف يعقوب على «الجواري» بالياء .
قوله تعالى : { والليل إذا عسعس } فيه قولان .
أحدهما : ولَّى ، قاله ابن عباس ، وابن زيد ، والفراء .
والثاني : أقبل ، قاله ابن جبير ، وقتادة . قال الزجاج : يقال : عسعس الليل : إذا أقبل . وعسعس : إذا أدبر . واستدل من قال : إن المراد : إدباره بقوله تعالى { والصبح إذا تَنَفَّس } وأنشد أبو عبيدة لعلقمة بن قرط :
حتى إذا الصُّبْحُ لها تَنَفَّسا ... وإنجاب عنها لَيْلُها وعَسْعَسَا
وفي قوله تعالى { تَنَفَّس } قولان .
أحدهما : أنه طلوع الفجر ، قاله علي وقتادة .
والثاني : طلوع الشمس ، قاله الضحاك . قال الزجاج : معناه : إذا امتد حتى يصير نهاراً بَيِّناً . وجواب القسم في قوله : { فلا أقسم بالخُنَّس } وما بعده قولُه { إنه لقول رسول كريم } يعني : أن القرآن نزل به جبريل . وقد بيَّنَّا هذا في [ الحاقة : 40 ] . ثم وصف جبريل بقوله تعالى : { ذي قوة } وهو كقوله تعالى : { ذو مرة } وقد شرحناه في [ النجم آية : 6 ] { ذي قوة عند ذي العرش مكين } يعني : في المنزلة { مُطَاع ثَمَّ أمين } أي : في السموات تطيعه الملائكة . فَمِنْ طَاعَةِ الملائكة له : أنه أَمَرَ خازن الجنة ليلة المعراج حتى فتحها لمحمد صلى الله عليه وسلم فدخلها ورأى ما فيها ، وأمر خازن جهنم ففتَح له عنها حتى نظر إليها . وقرأ أُبَيُّ بن كعب ، وابن مسعود ، وأبو حيوة ، «ثُمَّ» بضم الثاء . ومعنى «أَمين» على وحي الله ورسالاته . قال أبو صالح : أمين على أن يدخل سبعين سرادقاً من نور بغير إذن .
قوله تعالى : { وما صاحبكم بمجنون } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم ، والخطاب لأهل مكة . قال الزجاج : وهذا أيضاً من جواب القسم ، وذلك أنه أقسم أن القرآن نزل به جبريل ، وأن محمداً ليس بمجنون كما يقول أهل مكة .

قوله تعالى : { ولقد رآه بالأفق المبين } قال المفسرون : رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته بالأفق ، وقد ذكرنا هذا في سورة [ النجم : 7 ] .
قوله تعالى : { وما هو } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم { على الغيب } أي : على خبر السماء الغائب عن أهل الأرض { بضنين } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي ، ورويس ، «بظنين» بالظاء ، وقرأ الباقون بالضاد . قال ابن قتيبة : من قرأ بالظاء ، فالمعنى : ما هو بمُتَّهم على ما يخبر به عن الله ، ومن قرأ بالضاد ، فالمعنى : ليس ببخيل عليكم بعلم ما غابَ عنكم مما ينفعكم . وقال غيره : ما يكتمه كما يكتم الكاهن ليأخذ الأجر عليه .
قوله تعالى : { وما هو } يعني : القرآن { بقول شيطان رجيم } قال مقاتل : وذلك أن كفار مكة قالوا : إنما يجيء به الشيطان ، فيلقيه على لسان محمد .
قوله تعالى : { فأين تذهبون } قال الزجاج : معناه : فأيَّ طريق تسلكون أَبْيَنَ من هذه الطريقة التي قد بَيَّنَتُ لكم؟ { إن هو } أي : ما هو ، يعني : القرآن { إلا ذكر للعالمين } أي : موعظة للخلق أجمعين { لمن شاء منكم أن يستقيم } على الحق والإيمان . والمعنى : أن القرآن إنما يتعظ به من استقام على الحق . وقد بيَّنَّا سبيل الإستقامة ، فمن شاء أخذ في تلك السبيل . ثم أعلمهم أن المشيئة في التوفيق إليه بما بعد هذا ، وقد بَيَّنَّا هذا في سورة [ الإنسان : 30 ] قال أبو هريرة : لما نزلت { لمن شاء منكم أن يستقيم } قالوا : الأمر إلينا ، إن شئنا استقمنا ، وإن شئنا لم نستقم ، فنزل قوله تعالى : { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين } وقيل : القائل لذلك أبو جهل . وقرأ أبو بكر الصديق ، وأبو المتوكل ، وأبو عمران : «وما يشاؤون» بالياء .
فصل
وقد زعم بعض ناقلي التفسير أن قوله تعالى { لمن شاء منكم أن يستقيم } وقوله تعالى في [ عبس : 12 ] { فمن شاء ذكره } وقوله تعالى في سورة [ الإنسان : 29 ] وفي سورة [ المزمل : 18 ] { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا } كله منسوخ بقوله تعالى { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } ولا أرى هذا القول صحيحاً ، لأنه لو جاز وقوع مشيئتهم مع عدم مشيئته توجَّه النسخ . فأما إذ أخبر أن مشيئتهم لا تقع إلا بعد مشيئته ، فليس للنسخ وجه .

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

قوله تعالى : { إذا السماء انفطرت } انفطارها : انشقاقها . و { انتثرت } بمعنى تساقطت . و { فجرت } بمعنى فُتح بعضها في بعض فصارت بحراً واحداً . وقال الحسن : ذهب ماؤها ، و { بُعْثِرَتْ } بمعنى أثيرت . قال ابن قتيبة : قُلِبَتْ فأُخْرِج ما فيها . يقال بَعْثَرْتُ المتاع وبَحْثَرْتُه : إذا جعلتَ أسفله أعلاه .
قوله تعالى : { علمت نفس ما قدَّمت وأخَّرت } هذا جواب الكلام . وقد شرحناه في قوله تعالى { يُنَبَّأُ الإنسان يومئذ بما قدَّم وأخَّر } [ القيامة : 13 ] .
قوله تعالى : { يا أيها الإنسان } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أنه عُنِيَ به أبو الأشدين ، وكان كافراً ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . وقد ذكرنا اسمه في [ المدثر : 30 ] .
والثاني : أنه الوليد بن المغيرة ، قاله عطاء .
والثالث : أُبيّ بن خلف ، قاله عكرمة .
والرابع : أنه أشار الى كل كافر ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { ما غَرَّكَ } قال الزجاج : أي : ما خَدَعك وسوَّلَ لك حتى أضعتَ ما وجب عليك؟ . وقال غيره : المعنى : ما الذي أمَّنك من عقابه وهو كريم متجاوز إذْ لم يعاقبك عاجلاً؟ وقيل للفضيل بن عياض : لو أقامك الله سبحانه يوم القيامة ، وقال : ما غرَّك بربك الكريم ، ماذا كنت تقول؟ قال : أقول : غرني سُتورك المرخاة . وقال يحيى بن معاذ : لو قال لي : ما غرك بي؟ قلت : بِرُّك سالفاً وآنفاً . قيل : لما ذكر الصفة التي هي الكرم هاهنا دون سائر صفاته ، كان كأنه لقَّن عبده الجواب ، ليقول : غَرَّني كرم الكريم .
قوله تعالى : { الذي خلقك } ولم تك شيئاً { فسوَّاك } إنساناً تسمع وتبصر { فَعَدلك } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر «فعدَّلك» بالتشديد . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي «فَعَدَلك» بالتخفيف . قال الفراء : من قرأ بالتخفيف ، فوجهه والله أعلم فصوَّرك إلى أي صورة شاء ، إما حَسَن ، وإما قبيح ، وإما طويل ، وإما قصير . وقيل : في صورة أب ، في صورة عم ، في صورة بعض القرابات تشبيها . ومن قرأ بالتشديد ، فإنه أراد والله أعلم- : جعلك معتدلاً ، معدَّل الخلقة . وقال غيره : عدَّل أعضاءك فلم تفضل يد على يد ، ولا رِجل على رجل ، وعدل بك أن يجعلك حيواناً بهيماً .
قوله تعالى : { في أي صورة ما شاء ركَّبك } قال الزجاج : يجوز أن تكون «ما» زائدة . ويجوز أن تكون بمعنى الشرط والجزاء ، فيكون المعنى : في أي صورة ما شاء أن يركِّبك فيها ركبك . وفي معنى الآية أربعة أقوال .
أحدها : في أي صورة من صور القرابات ركَّبك ، وهو معنى قول مجاهد .
والثاني : في أي صورة ، من حسن ، أو قبح ، أو طول ، أو قصر ، أو ذَكَر ، أو أنثى ، وهو معنى قول الفراء .
والثالث : إن شاء أن يركِّبك في غير صورة الإنسان ركبك ، قاله مقاتل . وقال عكرمة : إن شاء في صورة قرد ، وإن شاء في صورة خنزير .

والرابع : إن شاء في صورة إنسان بأفعال الخير . وإن شاء في صورة حمار بالبلادة والبله ، وإن شاء في صورة كلب بالبخل ، أو خنزير بالشره ، ذكره الثعلبي .
قوله تعالى : { بل تكذِّبون بالدِّين } وقرأ أبو جعفر «بالياء» أي : بالجزاء والحساب ، تزعمون أنه غير كائن . ثم أعلمهم أن أعمالهم محفوظة ، فقال تعالى { وإن عليكم لحافظين } أي : من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم { كراماً } على ربِّهم { كاتبين } يكتبون أعمالكم { يعلمون ما تفعلون } من خير وشر ، فيكتبونه عليكم .
قوله تعالى : { إن الأبرار لفي نعيم } وذلك في الآخرة إذا دخلوا الجنة { وإن الفجار } وفيهم قولان .
أحدهما : أنهم المشركون .
والثاني : الظَّلَمة . ونقل عن سليمان بن عبد الملك أنه قال لأبي حازم : يا ليت شعري ما لنا عند الله؟ فقال له : اعرض عملك على كتاب الله ، فإنك تعلم ما لك عنده ، فقال : وأين أجده؟ قال : عند قوله تعالى : { إن الأبرار لفي نعيم ، وإن الفجار لفي جحيم } قال سليمان : فأين رحمة الله؟ قال : قريب من المحسنين .
قوله تعالى : { يصلونها } يعني : يدخلون الجحيم مقاسين حرَّها { يوم الدِّين } أي : يوم الجزاء على الأعمال { وما هم عنها } أي : عن الجحيم { بغائبين } وهذا يدل على تخليد الكفار . وأجاز بعض العلماء أن تكون «عنها» كناية عن القيامة ، فتكون فائدة الكلام تحقيق البعث . ويشتمل هذا على الأبرار والفجار . ثم عظَّم ذلك اليوم بقوله تعالى : { وما أدراك ما يوم الدِّين } ثم كرَّر ذلك تفخيماً لشأنه ، وكان ابن السائب يقول : الخطاب بهذا للإنسان الكافر ، لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { يوم لا تملك نفس لنفس } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو «يوم» بالرفع والباقون بالفتح . قال الزجاج : من رفع «اليوم» ، فعلى أنه صفة لقوله تعالى : «يوم الدين» . ويجوز أن يكون رفعه بإضمار «هو» ، ونصبه على معنى : هذه الأشياء المذكورة تكون { يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً } قال المفسرون : ومعنى الآية أنه لا يملك الأمرَ أحدٌ إلا الله ، ولم يملِّك أحداً من الخلق شيئاً كما ملَّكهم في الدنيا . وكان مقاتل يقول : لا تملك نفس لنفسٍ كافرةٍ شيئاً من المنفعة . والقول على الإطلاق أصح ، لأن مقاتلاً فيما أحسب خاف نفي شفاعة المؤمنين . والشفاعة إنما تكون عن أمر الله وتمليكه .

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)

قوله تعالى : { ويل للمطففين } قال ابن عباس : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً ، فأنزل الله تعالى { ويل للمطففين } فأحسنوا الكيل بعد ذلك . وقال السدي : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وبها رجل يقال له : أبو جهينة ، ومعه صاعان ، يكيل بأحدهما ، ويكتال بالآخر ، فأنزل الله هذه الآية . وقد شرحنا معنى «الويل» في [ البقرة : 79 ] . وقال ابن قتيبة : المطفف : الذي لا يوفي الكيل ، يقال : إناء طَفَّانُ : إذا لم يكن مملوءاً . وقال الزجاج : إنما قيل : مطفِّف ، لأنه لا يكاد يسرق في الميزان والمكيال إلا الشيء الطفيف ، وإنما أخذ من طَفَّ الشيء ، وهو جانبه .
قوله تعالى : { الذين إذا اكتالوا على الناس } أي : من الناس . ف «على» بمعنى «من» في قول المفسرين واللغويين . قال الفراء : «على» ، و «من» يعتقبان في هذا الموضع ، لأنك إذا قلت : اكتلت عليك ، فكأنك قلت : أخذت ما عليك ، [ كيلاً ] ، وإذا قلت : اكتلت منك ، فهو كقولك : استوفيت منك . [ كيلاً ] . قال الزجاج : المعنى : إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل ، وكذلك إذا اتَّزنوا ، ولم يَذْكُرْ «إذا اتَّزنوا» ، لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يُكَال ويُوزَن ، فأحدهما يدل على الآخر { وإذا كالوهم } أي : كالوا لهم { أو وزنوهم } أي : وزنوا لهم { يُخسِرون } أي : ينقصون في الكيل ، والوزن . فعلى هذا لا يجوز أن يقف على «كالوا» ومِنَ الناس من يجعل «هم» توكيداً لما كالوا ، ويجوز أن يقف على «كالوا» والاختيار الأول . قال الفراء : سمعت أعرابية تقول :
إذا صدر الناس أتينا التاجر ، فيكليلنا المدَّ والمدِّين إلى الموسم المقبل .
قوله تعالى : { ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون؟! } قال الزجاج : المعنى : لو ظنوا أنهم يُبْعَثُون ما نقصوا في الكيل والوزن { ليوم عظيم } يعني به يوم القيامة { يوم يقوم الناس } منصوب بقوله تعالى «مبعوثون» . قال المفسرون : والظن هاهنا بمعنى العلم واليقين . ومعنى : يقوم الناس ، أي : من قبورهم { لرب العالمين } أي : لأمره ، أو لجزائه وحسابه ، وقيل : يقومون بين يديه لفصل القضاء . وفي «الصحيحين» من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : في هذه الآية : " يقوم أحدهم في رَشَحِهِ إلى أنصاف أذنيه " وقال كعب : يقفون ثلاثمائة عام . قال مقاتل : وذلك إذا خرجوا من قبورهم .

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)

قوله تعالى : { كلا } ردع وزجر ، أي : ليس الأمر على ما هم عليه ، فليرتدعوا . وهاهنا تم الكلام عند كثير من العلماء . وكان أبو حاتم يقول : «كلا» ابتداء يتصل بما بعده على معنى «حقاً» { إن كتاب الفجار } قال مقاتل : إن كتاب أعمالهم { لفي سجين } وفيها أربعة أقوال :
أحدها : أنها الأرض السابعة ، وهذا قول مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد ، ومقاتل . وروي عن مجاهد قال : «سجين» صخرة تحت الأرض السابعة ، يجعل كتاب الفجار تحتها ، وهذه علامة لخسارتهم ، ودلالة على خساسة منزلتهم .
والثاني : أن المعنى إن كتابهم لفي سفال ، قاله الحسن .
والثالث : لفي خسار ، قاله عكرمة .
والرابع : لفي حبس ، فعِّيل من السجن ، قاله أبو عبيدة .
قوله تعالى : { وما أدراك ما سجين } هذا تعظيم لأمرها . وقال الزجاج : أي : ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك .
قوله تعالى : { كتاب مرقوم } أي : ذلك الكتاب الذي في سجين كتاب مرقوم ، أي : مكتوب . قال ابن قتيبة : والرقم : الكتاب ، قال أبو ذؤيب :
عَرَفْتُ الدِّيَارَ كَرَقْمِ الدَّوَا ... ةِ يَزْبُرُه الكَاتِبُ الحِمْيَرِيُّ
وأنشده الزجاج : «يَذْبِرها» بالذال المعجمة ، وكسر الباء . قال الأصمعي : يقال : زبر : كتب ، وذبر : قرأ . وروى أبو عمرو عن ثعلب ، عن ابن الأعرابي ، قال : الصواب : زبرت بالزاي كتبت . وذبرت بالذال أتقنت ما حفظت . قال : والبيت يزبرها ، بالزاي والضم . وقال ابن قتيبة : يروى «يزبرُها» و«يذبرُها» وهو مثله ، يقال : زبر الكتاب يزبرُه ، ويزبرِه . وذَبره يذبرُه ، ويذبِره . وقال قتادة : رقّم له بشرٍّ ، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه الكافر . وقيل : المعنى : إنه مثبت لهم كالرقم في الثوب ، لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به .
قوله تعالى : { ويل يومئذ للمكذبين } هذا منتظم بقوله تعالى : { يوم يقوم الناس } وما بينهما كلام معترض . وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله تعالى : { بل ران على قلوبهم } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر «بل ران» بفتح الراء مدغمة ، وقرأ أبو بكر عن عاصم «بل ران» مدغمة بكسر الراء . وقرأ حفص عن عاصم «بل» بإظهار اللام «ران» بفتح الراء . قال اللغويون : أي : غلب على قلوبهم ، يقال : الخمرة ترين على عقل السكران . قال الزجاج : قرئت بإدغام اللام في الراء ، لقرب ما بين الحرفين ، وإظهار اللام جائز ، لأنه من كلمة ، والرأس من كلمة أخرى . ويقال : ران على قلبه الذَّنْب يرين ريناً : إذا غشي على قلبه ، ويقال : غان يغين غنياً ، والغين كالغيم الرقيق ، والرين كالصدأ يغشى على القلب . وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول : الغين يقال : بالراء ، وبالغين ، ففي القرآن «كلا بل ران» وفي الحديث " إنه ليغان على قلبي " وكذلك الراية تقال بالراء ، وبالغين ، والرميصاء تكتب «بالغين» ، وبالراء ، لأن الرمص يكتب بهما .

قال المفسرون : لما كثرت معاصيهم وذنوبهم أحاطت بقلوبهم . قال الحسن : هو الذَّنب على الذَّنب حتى يعمى القلب .
قوله تعالى : { كلا } أي : لا يصدِّقون . ثم استأنف { إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } قال ابن عباس : إنهم عن النظر إلى ربهم يومئذ لمحجوبون ، والمؤمن لا يحجب عن رؤيته . وقال مالك بن أنس : لما حجب أعداءه فلم يَرَوْه تجلَّى لأوليائه حتى رأوه . وقال الشافعي : لما حجب قوما بالسُّخْطِ دل على أن قوماً يَرَوْنه بالرضى . وقال الزجاج : في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يُرى في القيامة . ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة ، ولا خسَّت منزلة الكفار بأنهم يحجبون عن ربهم . ثم من بعد حجبهم عن الله يدخلون النار ، فذلك قوله تعالى { ثم إنهم لصالوا الجحيم } .
قوله تعالى : { ثم يقال } أي : يقول لهم خزنة النار : { هذا } العذاب { الذي كنتم به تكذبون . كلا } أي : لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه . ثم أعلم أين محل { كتاب الأبرار } فقال تعالى : { لفي عليِّين } وفيها سبعة أقوال .
أحدها : أنها الجنة ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثاني : أنه لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش فيه أعمالهم مكتوبة ، روي عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : أنها السماء السابعة ، وفيها أرواح المؤمنين ، قاله كعب ، وهو مذهب مجاهد ، وابن زيد .
والرابع : أنها قائمة العرش اليمنى ، قاله قتادة . وقال مقاتل : ساق العرش .
والخامس : أنه سدرة المنتهى ، قاله الضحاك .
والسادس : أنه في علو وصعود إلى الله عز وجل ، قاله الحسن . وقال الفراء : في ارتفاع بعد ارتفاع .
والسابع : أنه أعلى الأمكنة ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { وما أدراك ما عليُّون } هذا تعظيم لشأنها .
قوله تعالى : { كتاب مرقوم } الكلام فيه كالكلام في الآية التي قبلها .
قوله تعالى : { يشهده المقربون } أي : يحضر المقرَّبون من الملائكة ذلك المكتوب ، أو ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين . وما بعد هذا قد سبق بيانه [ الانفطار : 13 ] إلى قوله تعالى : { ينظرون } وفيه قولان .
أحدهما : إلى ما أعطاهم الله من الكرامة .
والثاني : إلى أعدائهم حين يعذَّبون .
قوله تعالى : { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } وقرأ أبو جعفر ، ويعقوب ، «تُعرَف» بضم التاء ، وفتح الراء «نضرةُ» بالرفع . قال الفراء : بريق النعيم ونداه ، قال المفسرون : إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعيم ، لما ترى من الحسن والنور . وفي «الرحيق» ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الخمر ، قاله الجمهور . ثم اختلفوا أي الخمر هي على أربعة أقوال . أحدها : أجود الخمر ، قاله الخليل بن أحمد . والثانية : الخالصة من الغش ، قاله الأخفش . والثالث : الخمر البيضاء ، قاله مقاتل . والرابع : الخمر العتيقة ، حكاه ابن قتيبة .
والقول الثاني : أنه عين في الجنة مشوبة بالمسك ، قاله الحسن .
والثالث : أنه الشراب الذي لا غش فيه ، قاله ابن قتيبة ، والزجاج . وفي قوله تعالى { مختوم } ثلاثة أقوال .

أحدها : ممزوج ، قاله ابن مسعود .
والثاني : مختوم على إنائه ، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد .
والثالث : له ختام ، أي : عاقبة ريح ، وتلك العاقبة هي قوله تعالى : ختامه مسك ، أي : عاقبته . هذا قول أبي عبيدة .
{ ختامه مسك } قرأ ابن كثير ، وعاصم ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة «ختامه» بكسر الخاء ، وبفتح التاء ، وبألف بعدهما ، مرفوعه الميم . وقرأ الكسائي «خَاتَمه» بخاء مفتوحة ، بعدها ألف ، وبعدها تاء مفتوحة . وروى الشيزري «خَاتِمه» مثل ذلك ، إلا أنه يكسر التاء . وقرأ أُبَيُّ بن كعب ، وعروة ، وأبو العالية : «خَتَمه» بفتح الخاء والتاء و [ بضم ] الميم من غير ألف .
وللمفسرين في قوله تعالى : { ختامه مسك } أربعة أقوال .
أحدها : خلطه مسك ، قاله ابن مسعود ، ومجاهد .
والثاني : أن ختمه الذي يختم به الإناء مسك ، [ قاله ابن عباس .
والثالث : أن طعمه وريحه مسك ، قاله علقمة .
والرابع : أن آخر طعمه مسك ] قاله سعيد بن جبير ، والفراء ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزجاج في آخرين .
قوله تعالى : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } أي : فليجدُّوا في طلبه ، وليحرصوا عليه بطاعة الله . والتنافس : كالتشاحّ على الشيء ، والتنازع فيه .
قوله تعالى : { ومزاجه من تسنيم } فيه قولان .
أحدهما : أنه اسم عين في الجنة يشربها المقربون صرفاً ، وتمزج لأصحاب اليمين .
والثاني : أن التسنيم الماء ، قاله الضحاك . قال مقاتل : وإنما سمي تسنيماً ، لأنه يتسنّم عليه من جنة عدن ، فينصبُّ عليهم انصباباً ، فيشربون الخمر من ذلك الماء . قال ابن قتيبة : يقال : إن التسنيم أرفع شراب في الجنة . ويقال : إنه يمتزج بماءٍ ينزل من تسنيم ، أي : من علو . وأصل هذا من سنام البعير ، ومن تسنيم القبور . وهذا أعجب إليَّ ، لقول المسيَّب بن عَلَس في وصف امرأة :
كَأَنَّ بِرِيقَتِها لِلْمِزَا ... جِ مِنْ ثَلْجِ تَسْنِيمَ شِيْبَتْ عُقَاراً
أراد كأن بريقتها عُقَاراً شِيْبَتْ للمزاج من ثلج تسنيم ، يريد : جبلاً . قال الزجاج : المعنى : ومزاجه من تسنيم عيناً تأتيهم من تسنيم ، أي : من علو يَتَسَنَّم عليهم من الغرف . ف «عيناً» في هذا القول منصوبة ، كما قال تعالى : { أو إطعامٌ في يوم ذي مَسْغَبَة يتيماً } [ البلد : 15 ] ويجوز أن تكون «عيناً» منصوبة بقوله : يُسْقَوْن عيناً ، أي : من عين . وقد بينا معنى { يشرب بها } في [ هل أتى : 6 ] .

إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

قوله تعالى : { إن الذين أجرموا } أي : أشركوا { كانوا من الذين آمنوا } يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثل عمَّار ، وبلال ، وخبَّاب وغيرهم { يضحكون } على وجه الإستهزاء بهم { وإذا مرُّوا } يعني : المؤمنين { بهم } أي : بالكفار { يتغامزون } أي : يشيرون بالجفن والحاجب استهزاءً بهم { وإذا انقلبوا } يعني الكُفار { إلى أهلهم انقلبوا فكهين } أي : متعجِّبين بما هم فيه يتفكَّهون بذكرهم . وقرأ أبو جعفر ، وحفص عن عاصم ، وعبد الرزاق عن ابن عامر «فكهين» بغير ألف . وقد شرحنا معنى القراءتين في [ يس : 55 ] { وإذا رأَوْهم } أي : رأَوْا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم { قالوا إن هؤلاء لضالون } يقول الله تعالى { وما أُرسلوا } يعني الكفار { عليهم } أي : على المؤمنين { حافظين } يحفظون أعمالهم عليهم ، أي : لم يُوَكَّلوا بحفظ أعمالهم { فاليوم } يعني : في الآخرة { الذين آمنوا من الكفار يضحكون } إذا رَأَوْهم يعذَّبون في النار . قال أبو صالح : يقال لأهل النار وهم فيها : اخرجوا ، وتفتح لهم أبوابها ، فإذا أقبلوا يريدون الخروج ، غُلِّقت أبوابها دونهم . والمؤمنون . { على الأرآئك ينظرون } إلى عذاب عدوِّهم . قال مقاتل : لكل رجل من أهل الجنة ثلمة ينظرون إلى أعداء الله كيف يعذَّبون . فيحمدون الله على ما أكرمهم به ، فهم يكلِّمون أهل النار ويكلمونهم إلى أن تطبق النار على أهلها ، فتسد حينئذ الكوى .
قوله تعالى : { هل ثُوِّب الكفار } وقرأ حمزة ، والكسائي ، وهارون عن أبي عمرو «هل ثوب» بإدغام اللام . أي : هل جوزوا وأُثيبوا على استهزائهم بالمؤمنين في الدنيا؟ وهذا الإستفهام بمعنى التقرير .

إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)

قوله تعالى : { إذا السماء انشقت } قال المفسرون : انشقاقها من علامات الساعة . وقد ذكر ذلك في مواضع من القرآن . [ الفرقان : 225 ، الرحمن : 37 ، الحاقة : 16 ] { وأَذِنَتْ لربها } أي : استمعت وأطاعت في الانشقاق ، من الأذن ، وهو الاستماع للشيء والإصغاء إليه ، وأنشدوا :
صُمٌّ إذا سَمِعُوا خيراً ذُكِرْتُ بِهِ ... فَإنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُم أَذِنُوا
{ وحُقَّتْ } أي : حقَّ لها أن تُطيع ربَّها الذي خلقها { وإذا الأرض مُدَّتْ } قال ابن عباس : تُمَدُّ مَدَّ الأديم ، ويزاد في سَعَتها ، وقال مقاتل : لا يبقى جبل ولا بناءٌ إلا دخل فيها .
قوله تعالى : { وأَلْقَتْ ما فيها من الموتى } والكنوز { وتخلَّتْ } أي : خلت من ذلك ، فلم يبق في باطنها شيء . واختلفوا في جواب هذه الأشياء المذكورات على أربعة أقوال .
أحدها : أنه متروك ، لأن المعنى معروف قد تردَّد في القرآن .
والثاني : أنه { يا أيها الإنسان } كقول القائل ، إذا كان كذا وكذا في أيها الناس تَرَوْن ما عملتم ، فيجعل : { يا أيها الإنسان } هو الجواب ، وتضمر فيه الفاء ، كأن المعنى : يرى الثواب والعقاب إذا السماء انشقت ، وذكر القولين الفراء .
والثالث : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، تقديره «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه إذا السماء انشقت» قاله المبرد .
والرابع : أن الجواب مدلول عليه بقوله تعالى «فملاقيه» . فالمعنى : إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { إنك كادح إلى ربك كدحاً } فيه قولان .
أحدهما : إنك عامل لربك عملاً ، قاله ابن عباس .
والثاني : ساعٍ إلى ربك سَعْياً ، قاله مقاتل . قال الزجاج : و «الكدح» في اللغة : السعي ، والدأب في العمل في باب الدنيا والآخرة . قال تميم بن مقبل :
وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارَتَانِ فمِنْهما ... أَمُوت وأُخرى أَبْتَغي العَيْشَ أَكْدَحُ
وفي قوله تعالى { إلى ربك } قولان .
أحدهما : عامل لربك ، وقد ذكرناه عن ابن عباس .
والثاني : إلى لقاء ربك ، قاله ابن قتيبة . وفي قوله تعالى : { فملاقيه } قولان .
أحدهما : فملاقٍ عَمَلَكَ .
والثاني : فملاقٍ ربَّك ، كما ذكرهما الزجاج .
قوله تعالى : { فسوف يحاسَب حساباً يسيراً } وهو أن تعرض عليه سيئاته ، ثم يغفرها الله له . وفي «الصحيحين» من حديث عائشة ، قالت : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من نوقش الحساب هلك ، فقلت : يا رسول الله ، فإن الله يقول : «فسوف يحاسب حساباً يسيراً» قال : «ذلك العرض» " . قوله تعالى : { وينقلب إلى أهله } يعني : في الجنة من الحور العين والآدميات { مسروراً } بما أُوتي من الكرامة { وأما من أُوتي كتابه وراء ظهره } قال المفسرون : تُغَلُّ يده اليمنى إلى عنقه ، وتجعل يده اليسرى وراء ظهره { فسوف يدعو ثبوراً } قال الزجاج : يقول : يا ويلاه ، يا ثبوراه ، وهذا يقوله كلُّ من وقع في هلكة .
قوله تعالى : { ويصلى سعيراً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، والكسائي ، «ويُصُلَّى» بضم الياء ، وتشديد اللام . وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة «ويصلى» بفتح الياء خفيفة ، إلا أن حمزة والكسائي يميلانها . وقد شرحناه في سورة [ النساء : 11 ] .
قوله تعالى : { إنه كان في أهله } يعني في الدنيا { مسروراً } باتباع هواه ، وركوب شهواته . { إنه ظن أن لن يحور } أي : لن يرجع إلى الآخرة ، ولن يبعث وهذه صفة الكافر . قال اللغويون : الحور في اللغة : الرجوع ، وأنشدوا للبيد :
وَمَا المرْء إِلا كالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ ... يَحُورُ رَمَاداً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ

بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

قوله تعالى : { بلى } قال الفراء : المعنى : بلى ليحورون ، ثم استأنف ، فقال تعالى : { إن ربه كان به بصيراً } قال المفسرون : بصيراً به على جميع أحواله .
قوله تعالى : { فلا أقسم } قد سبق بيانه .
فأما «الشفق» فقال ابن قتيبة : هما شفقان : الأحمر ، والأبيض ، فالأحمر : من لدن غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء ثم يغيب ، ويبقى الشفق الأبيض إلى نصف الليل .
وللمفسرين في المراد «بالشفق» هاهنا ستة أقوال .
أحدها : الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس . وقد روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «الشفق : الحمرة» ، وهذا قول عمر ، وابنه ، وابن مسعود ، وعبادة ، وأبي قتادة ، وجابر بن عبد الله ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، وأنس ، وابن المسيب ، وابن جبير ، وطاووس ، ومكحول ، ومالك ، والأوزاعي ، وأبي يوسف ، والشافعي ، وأبي عبيد ، وأحمد ، وإسحاق ، وابن قتيبة ، والزجاج . قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول وعليه ثوب مصبوغ : كأنه الشفق ، وكان أحمر .
والثاني : أنه النهار .
والثالث : الشمس ، روي القولان عن مجاهد .
والرابع : ما بقي من النهار ، قاله عكرمة .
والخامس : السواد الذي يكون بعد ذهاب البياض ، قاله أبو جعفر محمد ابن علي .
والسادس : أنه البياض ، قاله عمر بن عبد العزيز .
قوله تعالى : { والليل وما وسق } أي : وما جمع وضم . وأنشدوا :
إنَّ لنا قَلائصَاً حَقَائِقا ... مُسْتَوْسِقَاتٍ لو يَجِدْنَ سَائِقَا
قال أبو عبيدة : { وَمَا وَسَقَ } ما علا فلم يمنع منه شيء ، فإذا جلل الليل الجبال ، والأشجار ، والبحار ، والأرض ، فاجتمعت له ، فقد وسقها . وقال بعضهم : معنى : «ما وسق» : ما جمع مما كان منتشراً بالنهار في تصرفه إلى مأواه .
قوله تعالى : { والقمر إذا اتسق } قال الفراء : اتساقه : اجتماعه واستواؤه ليلة ثلاث عشرة ، وأربع عشرة ، إلى ست عشرة .
قوله تعالى : { لتركبنَّ طبقاً عن طبق } قرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي «لتركبن» بفتح التاء والباء ، وفي معناه قولان .
أحدهما : أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم في معناه قولان .
أحدهما : لتركبنَّ سماءً بعد سماءٍ ، قاله ابن مسعود ، والشعبي ، ومجاهد .
والثاني : لتركبن حالاً بعد حال ، قاله ابن عباس ، وقال : هو نبيُّكم .
والقول الثاني : أن الإشارة إلى السماء . والمعنى : أنها تتغير ضروباً من التغيير ، فتارة كالمُهْل ، وتارةً كالدِّهان ، روي عن ابن مسعود أيضاً .
وقرأ عاصم ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر «لتركبنَّ» بفتح التاء ، وضم الباء ، وهو خطاب لسائر الناس . ومعناه . لتركبنَّ حالاً بعد حال . وقرأ ابن مسعود ، وأبو الجوزاء ، وأبو الأشهب ، «ليركبَنّ» بالياء ، ونصب الباء . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو عمران ، وابن يعمر «ليركبُنَّ» بالياء ، وضم الباء . و «عن» بمعنى : «بعد» . وهذا قول عامة المفسرين واللغوين ، وأنشدوا للأقرع بن حابس .
إنّي امْرُؤٌ قد حَلَبْتُ الدَّهْرَ أَشْطَرَهُ ... وَسَاقَنِي طَبَقٌ منه إلى طَبَقِ

ثم في معنى الكلام خمسة أقوال .
أحدها : أنه الشدائد ، والأهوال ، ثم الموت ، ثم البعث ، ثم العرض ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه الرخاء بعد الشدة ، والشدة بعد الرخاء ، والغنى بعد الفقر ، والفقر بعد الغنى ، والصحة بعد السقم ، والسقم بعد الصحة ، [ قاله الحسن .
والثالث : أنه كون الإنسان رضيعاً ثم فطيماً ثم غلاماً شاباً ثم شيخاً ] ، قاله عكرمة .
والرابع : أنه تغير حال الإنسان في الآخرة بعد الدنيا ، فيرتفع من كان وضيعاً ، ويتضع من كان مرتفعاً ، وهذا مذهب سعيد بن جبير .
والخامس : أنه ركوب سنن من كان قبلهم من الأولين ، قاله أبو عبيدة . وكان بعض الحكماء يقول : من كان اليوم على حالة ، وغداً على حالة أخرى ، فليعلم أن تدبيره إلى سواه .
قوله تعالى : { فما لهم } يعني : كفار مكة { لا يؤمنون } أي : لا يؤمنون بمحمد والقرآن ، وهو استفهام إنكار { وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون } فيه قولان .
أحدهما : لا يصلُّون ، قاله عطاء ، وابن السائب .
والثاني : لا يخضعون له ، ويستكينون ، قاله ابن جرير ، واختاره القاضي أبو يعلى . قال : وقد احتج بها قوم على وجوب سجود التلاوة ، وليس فيها دلالة على ذلك ، وإنما المعنى : لا يخشعون ، ألا ترى أنه أضاف السجود إلى جميع القرآن ، والسجود يختص بمواضع منه .
قوله تعالى : { بل الذين كفروا يكذِّبون } بالقرآن ، والبعث ، والجزاء { والله أعلم بما يوعون } في صدورهم ويضمرون في قلوبهم من التكذيب . قال ابن قتيبة : «يوعون» : يجمعون في قلوبهم . وقال الزجاج : يقال : أوعيت المتاع في الوعاء ، ووعيت العلم .
قوله تعالى : { فبشرهم بعذاب أليم } أي أخبرهم بذلك . وقال الزجاج : اجعل للكفار بدل البشارة للمؤمنين بالجنة والرحمة ، العذابَ الأليم . و «الممنون» عند أهل اللغة : المقطوع .

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

قوله تعالى : { والسماء ذات البروج } قد ذكرنا البروج في [ الحجر : 16 ] { واليوم الموعود } هو يوم القيامة بإجماعهم { وشاهدٍ ومشهود } فيه أربعة وعشرون قولاً .
أحدها : أن الشاهد ، يوم الجمعة ، والمشهود . يوم عرفة ، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه قال علي ، وابن عباس في رواية ، وابن زيد . فعلى هذا سمي يومُ الجمعة شاهداً ، لأنه يشهد على كل عامل بما فيه ، وسمي يومُ عرفة مشهوداً ، لأن الناس يشهدون فيه موسم الحج ، وتشهده الملائكة .
والثاني : أن الشاهد : يوم الجمعة ، والمشهود : يوم النحر ، قاله ابن عمر .
والثالث : أن الشاهد : الله عز وجل ، والمشهود : يوم القيامة ، رواه الوالبي عن ابن عباس .
والرابع : أن الشاهد : يوم عرفة ، والمشهود : يوم القيامة ، رواه مجاهد عن ابن عباس .
والخامس : أن الشاهد : محمد صلى الله عليه وسلم ، والمشهود : يوم القيامة ، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس ، وبه قال الحسن بن علي .
والسادس : أن الشاهد : يوم القيامة ، والمشهود : الناس ، قاله جابر بن عبد الله .
والسابع : أن الشاهد : يوم الجمعة ، والمشهود : يوم القيامة ، قاله الضحاك .
والثامن : أن الشاهد : يوم التروية ، والمشهود : يوم عرفة ، قاله سعيد بن المسيب .
والتاسع : أن الشاهد : هو الله ، والمشهود : بنو آدم ، قاله سعيد بن جبير .
والعاشر : أن الشاهد : محمد ، والمشهود : يوم عرفة ، قاله الضحاك .
والحادي عشر : أن الشاهد : آدم عليه السلام ، والمشهود : يوم القيامة ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .
والثاني عشر : أن الشاهد ، ابن آدم ، والمشهود : يوم القيامة ، رواه ليث عن مجاهد ، وبه قال عكرمة .
الثالث عشر : أن الشاهد : آدم عليه السلام ، وذريته ، والمشهود يوم القيامة ، قاله عطاء بن يسار .
والرابع عشر : أن الشاهد : الإنسان ، والمشهود : الله عز وجل ، قاله محمد بن كعب .
والخامس عشر : أن الشاهد : يوم النحر ، والمشهود : يوم عرفة ، قاله إبراهيم .
والسادس عشر : أن الشاهد : عيسى عليه السلام ، والمشهود ، أمته ، قاله أبو مالك . ودليله قوله تعالى : { وكنتُ عليهم شهيداً } [ المائدة : 117 ] .
والسابع عشر : أن الشاهد : محمد صلى الله عليه وسلم ، والمشهود : أمته ، قاله عبد العزيز بن يحيى ، وبيانه { وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } [ النساء : 41 ] .
والثامن عشر : أن الشاهد : هذه الأمة ، والمشهود : سائر الناس ، قاله الحسين بن الفضل ، ودليله { لتكونوا شهداء على الناس } [ البقرة : 143 ] .
والتاسع عشر : أن الشاهد : الحفظة ، والمشهود : بنو آدم ، قاله محمد بن علي الترمذي ، وحكي عن عكرمة نحوه .
والعشرون : أن الشاهد : الحق ، والمشهود : الكون ، قاله الجنيد .
والحادي والعشرون : أن الشاهد ، الحجر الأسود ، والمشهود : الحاج .
والثاني والعشرون : أن الشاهد : الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والمشهود : محمد صلى الله عليه وسلم ، وبيانه { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين . . . . } الآية [ آل عمران : 81 ] .
والثالث والعشرون : أن الشاهد : الله عز وجل ، والملائكة ، وأولو العلم ، والمشهود : لا إله إلا الله ، وبيانه

{ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } [ آل عمران : 18 ] ، حكى هذه الأقوال الثلاثة الثعلبي .
والرابع والعشرون : أن الشاهد : الأنبياء عليهم السلام ، والمشهود : الأمم ، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله .
وفي جواب القسم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه قوله تعالى : { إنَّ بطش ربك لشديد } قاله قتادة ، والزجاج .
والثاني : أنه قوله تعالى : { قُتِلَ أصحاب الأُخدود } ، كما أن القسم في قوله تعالى : { والشمس وضحاها } { قد أفلح } ، حكاه الفراء .
والثالث : أنه متروك ، وهذا اختيار ابن جرير .
قوله تعالى : { قُتِلَ أصحابُ الأُخدود } أي : لُعِنُوا . والأخدود : شق يشق في الأرض ، والجمع : أخاديد . وهؤلاء قوم حفروا حفائر في الأرض وأوقدوا فيها النار ، وألقَوا فيها من لم يكفر .
واختلف العلماء فيهم على ستة أقوال .
أحدها : أنه مَلِكٌ كان له ساحر فبعث إليه غلاماً يعلِّمه السحر ، وكان الغلام يمرُّ على راهب ، فأعجبه أمره ، فتبعه ، فعلم به المَلِك ، فأمره أن يرجع عن دينه ، فقال : لا أفعل ، فاجتهد الملك في إهلاكه ، فلم يقدر ، فقال الغلام : لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به . اجمع الناس في صعيد واحد ، واصلبني على جذع ، وارمني بسهم من كنانتي ، وقل : بسم الله ربِّ الغلام ، ففعل ، فمات الغلام ، فقال الناس : آمنا برب الغلام ، فخدَّ الأخاديد ، وأضرم فيها النار ، وقال : من لم يرجع عن دينه فاقحموه فيها ، ففعلوا ، وهذا مختصر الحديث ، وفيه طول ، وقد ذكرته في «المغني» و «الحدائق» بطوله من حديث صهيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أن ملكاً من الملوك سكر ، فوقع على أخته ، فلما أفاق قال لها :
ويحك : كيف المخرج؟ فقالت له : اجمع أهل مملكتك فأخبرهم أن الله عز وجل قد أَحَلَّ نكاح الأخوات ، فإذا ذهب هذا في الناس وتناسَوه ، خطبتَهم فحرَّمته . ففعل ذلك ، فأبوا أن يقبلوا ذلك منه ، فبسط فيهم السوط ، ثم جرَّد السيف ، فأبَوْا فخدَّ لهم أخدودا ، وأوقد فيه النار ، وقذف من أبى قبول ذلك ، قاله علي بن طالب .
والثالث : أنهم ناس اقتتل مؤمنوهم وكفارهم ، فظهر المؤمنون ، ثم تعاهدوا أن لا يَغدِر بعضهم ببعض ، فغَدَر كفارهم ، فأخذوهم ، فقال له رجل من المؤمنين : أوقدوا ناراً ، واعرضوا عليها ، فمن تابعكم على دينكم ، فذاك الذي تحبون ، ومن لم يتبعكم أُقحم النار فاسترحتم منه ، ففعلوا ، فجعل المسلمون يقتحمونها ، ذكره قتادة .
والرابع : أن قوماً من المؤمنين اعتزلوا الناس في الفترة ، فأرسل إليهم جبَّار من عبدة الأوثان ، فعرض عليهم الدخول في دينه فأَبَوْا ، فخدَّلهم أخدودا ، وألقاهم فيه ، قاله الربيع بن أنس .
والخامس : أن جماعة آمنوا من قوم يوسف بن ذي نواس بعدما رفع عيسى ، فخدَّلهم أُخدوداً ، وأوقد فيه النار ، فأحرقهم كلهم ، فأنزل الله تعالى : «قُتل أصحاب الأخدود» وهم : يوسف بن ذي نواس وأصحابه ، قاله مقاتل .
والسادس : أنهم قوم كانوا يعبدون صنماً ، ومعهم قوم يكتمون إيمانهم ، فعلموا بهم ، فخدُّوا لهم أُخدوداً ، وقذفوهم فيه ، حكاه الزجاج .

واختلفوا في الذين أُحرقوا على خمسة أقوال .
أحدها : أنهم كانوا من الحبشة ، قاله علي كرم الله وجهه .
والثاني : من بني إسرائيل ، قاله ابن عباس .
والثالث : من أهل اليمن ، قاله الحسن . وقال الضحاك : كانوا من نصارى اليمن ، وذلك قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة .
والرابع : من أهل نجران ، قاله مجاهد .
والخامس : من النبط ، قاله عكرمة .
وفي عددهم ثلاثة أقوال .
أحدها : اثنا عشر ألفاً ، قاله وهب .
والثاني : سبعون ألفاً ، قاله ابن السائب .
والثالث : ثمانون رجلاً ، وتسعة نسوة ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { النَّارِ ذاتِ الوقُود } هذا بدل من «الأخدود» كأنه قال : قتل أصحاب النار ، و «الوقود» مفسر في [ البقرة : 24 ] . وقرأ أبو رزين العقيلي ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة «الوُقُود» بضم الواو { إذ هم عليها قعود } أي : عند النار . وكان الملك وأصحابه جلوساً على الكراسي عند الأخدود يعرضون المؤمنين على الكفر ، فمن أبى ألْقَوْه { وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود } أي : حضور ، فأخبر الله عز وجل في هذه الآيات بقصة قوم بلغ من إيمانهم ويقينهم أن صبروا على التحريق بالنار ، ولم يرجعوا عن دينهم .
قوله تعالى : { وما نقموا منهم } قرأ ابن أبي عبلة «نقِموا» بكسر القاف .
قال الزجاج : { أي } ما أنكروا عليهم إيمانهم . وقد شرحنا معنى «نقموا» في [ المائدة : 59 ] و [ براءة : 74 ] وشرحنا معنى «العزيز الحميد» في [ البقرة : 129 ، 267 ] .
قوله تعالى : { والله على كل شيء شهيد } أي : لم يَخْفَ عليه ما صنعوا ، فهو شهيد عليهم بما فعلوا .
قوله تعالى : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } أي : أحرقوهم ، وعذَّبوهم .
كقوله تعالى : { يوم هم على النار يفتنون } [ الذاريات : 13 ] { ثم لم يتوبوا } من شركهم وفعلهم ذلك بالمؤمنين { فلهم عذاب جهنم } بكفرهم { ولهم عذاب الحريق } بما أحرقوا المؤمنين ، وكلا العذابَيْن في جهنم عند الأكثرين . وذهب الربيع بن أنس في جماعة إلى أن النار ارتفعت إلى الملك وأصحابه فأحرقتهم ، فذلك عذاب الحريق في الدنيا . قال الربيع : وقبض الله أرواح المؤمنين قبل أن تمسَّهم النار . وحكى الفراء أن المؤمنين نَجوْا من النار ، وأنها ارتفعت فأحرقت الكفرة .
قوله تعالى : { ذلك الفوز الكبير } لأنهم فازوا بالجنة . وقال بعض المفسرين : فازوا من عذاب الكفار ، وعذاب الآخرة .
قوله تعالى : { إن بطش ربك } قال ابن عباس : إن أخذه بالعذاب إذا أَخَذَ الظَّلَمَة والجبابرة لشديد .
قوله تعالى : { إنه هو يُبْدِئُ ويعيدُ } فيه قولان :
أحدهما : يبدئ الخلق ويعيدهم ، قاله الجمهور .
والثاني : يبدئ العذاب في الدنيا على الكفار ثم يعيده عليهم في الآخرة ، رواه العوفي عن ابن عباس . وقد شرحنا في [ هود : 90 ] معنى «الودود» .
قوله تعالى : { ذو العرش المجيدُ } وقرأ حمزة ، والكسائي ، والمفضل عن عاصم «المجيدِ» بالخفض ، وقرأ غيرهم بالرفع ، فمن رفع «المجيدُ» جعله من صفات الله عز وجل ، ومن كسر جعله من صفة العرش .

قوله تعالى : { هل أتاك حديث } أي : قد أتاك حديث { الجنودِ } وهم الذين تجنَّدوا على أولياء الله . ثم بَيَّن من هم ، فقال تعالى : { فرعونَ وثمودَ بل الذين كفروا } يعني : مشركي مكة { في تكذيبٍ } لك والقرآن ، أي : لم يعتبروا بمن كان قبلهم { والله من ورائهم محيط } لا يخفى عليه شيء من أعمالهم { بل هو قرآنٌ مجيدٌ } أي : كريم ، لأنه كلام الله ، وليس كما يقولون بشعر ، ولا كهانة ، ولا سِحر . وقرأ أبو العالية ، وأبو الجوزاء ، وأبو عمران ، وابن السميفع «بل هو قرآن مجيد» بغير تنوين وبخفض «مجيد» { في لوحٍ محفوظٍ } وهو اللوح المحفوظ ، منه نسخ القرآن وسائر الكتب ، فهو محفوظ عند الله ، محروس به من الشياطين ، ومن الزيادة فيه والنقصان منه . وقرأ نافع «محفوظ» رفعاً على نعت القرآن . فالمعنى : إنه محفوظ من التحريف والتبديل .

وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)

قوله تعالى : { والسماء والطارق } قال ابن قتيبة : الطارق : النجم ، سمي بذلك ، لأنه يطرق ، أي : يطلع ليلاً ، وكل من أتاك ليلاً ، فقد طرقك . ومنه قول هند ابنة عتبة :
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
تريد : إن أبانا نجم في شَرََفه وعلوِّه .
قوله تعالى : { وما أدراك ما الطارق } قال المفسرون : ذلك أن هذا الاسم يقع على كل ما طرق ليلاً ، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدري ما المراد به حتى تبينه بقوله تعالى : { النجم الثاقب } يعني : المضيء ، كما بيَّنا في [ الصافات : 10 ] .
وفي المراد بهذا النجم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه زُحَل ، قاله علي رضي الله عنه . وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال : هو زحل ، ومسكنه في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم ، فإذا أخذت النجومُ أمكنتَها من السماء ، هبط ، فكان معها ، ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة ، فهو طارق حين ينزل ، وطارق حين يصعد .
والثاني : أنه الثريا ، قاله ابن زيد .
والثالث : أنه اسم جنس ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري .
قوله تعالى : { إن كلُّ نفسٍ } قرأ أُبَيُّ بن كعب ، وأبو المتوكل [ إنَّ ] بالتشديد «كلَّ» بالنصب { لما عليها حافظ } وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر ، وعاصم الجحدري ، وحمزة ، وأبو حاتم عن يعقوب «لمَّا» بالتشديد . وقرأ الباقون بالتخفيف .
قال الزجاج : هذه الآية جواب القسم ، ومن خفف فالمعنى : لَعَلَيْها حافظ و «ما» لغو . ومن شدد ، فالمعنى : إلا ، قال : فاستعملت «لما» في موضع «إلا» في موضعين . أحدهما : هذا . والآخر : في باب القسم . تقول : سألتك لما فعلت ، بمعنى : إلا فعلت . قال المفسرون : المعنى : ما من نفس إلا عليها حافظ . وفيه قولان .
أحدهما : أنهم الحفظة من الملائكة ، قاله ابن عباس . قال قتادة : يحفظون على الإنسان عمله من خير أو شر .
والثاني : حافظ يحفظ الإنسان حتى حين يسلِّمه إلى المقادير ، قاله الفراء . ثم نبه على البعث بقوله تعالى : { فلينظر الإنسان مم خلق؟ } أي : من أي شيء خلقه الله؟ والمعنى : فلينظر نظر التفكُّر والاستدلال ليعرف أن الذي ابتدأه من نطفة قادرٌ على إعادته .
قوله تعالى : { من ماءٍ دافقٍ } قال الفراء : معناه : مدفوق ، كقول العرب . سرٌّ كاتم ، وهمٌ ناصب ، وليلٌ نائم ، وعيشة راضية ، وأهل الحجاز يجعلون المفعول فاعلاً ، قال الزجاج : ومذهب سيبويه ، وأصحابه أن معناه النسب إلى الاندفاق ، والمعنى : من ماءٍ ذي اندفاق .
قوله تعالى : { يخرج من بين الصلب } قرأ ابن مسعود ، وابن سيرين ، وابن السميفع ، وابن أبي عبلة «الصلب» بضم الصاد ، واللام جميعاً . يعني : يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة . قال الفراء : يريد يخرج من الصلب والترائب . يقال : يخرج من بين هذين الشيئين خير كثير . بمعنى : يخرج منهما .

وفي «الترائب» ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه موضع القلادة ، قاله ابن عباس . قال الزجاج : قال أهل اللغة أجمعون : الترائب : موضع القلادة من الصدر ، وأنشدوا لامرىء القيس :
مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ ... تَرائِبُها مَصْقُولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ
قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : السجنجل : المرآة بالرومية . وقيل : هي سبيكة الفضة ، وقيل : السجنجل : الزعفران ، وقيل : ماء الذهب . ويروى : البيت «بالسجنجل» .
والثاني : أن الترائب : اليدان والرجلان والعينان ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك .
والثالث : أنها أربعة أضلاع من يمنة الصدر ، وأربعة أضلاع من يسرة الصدر ، حكاه الزجاج .
قوله تعالى : { إنه } الهاء كناية عن الله عز وجل { على رجعه } الرجع : رد الشيء إلى أول حاله . وفي هذه الهاء قولان .
أحدهما : أنها تعود على الإنسان . ثم فيه قولان .
أحدهما : أنه على إعادة الإنسان حياً بعد موته قادر ، قاله الحسن ، وقتادة . قال الزجاج : ويدل على هذا القول قوله تعالى { يوم تبلى السرائر } .
والثاني : أنه على رجعه من حال الكبر إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الصبا ، ومن الصبا إلى النطفة قادر ، قاله الضحاك . والقول الثاني : أنها تعود إلى الماء . ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال .
أحدها : رد الماء في الإحليل ، قاله مجاهد .
والثاني : على رده في الصلب ، قاله عكرمة ، والضحاك .
والثالث : على حبس الماء فلا يخرج ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { يوم تبلى السرائر } التي بين العبد وبين ربه حتى يظهر خيرها من شرها ، ومؤدِّيها من مضيِّعها ، فإن الإنسان مستور في الدنيا ، لا يُدري أصلى ، أم لا؟ أتوضأ ، أم لا؟ فإذا كان يوم القيامة أبدى الله كل سِرٍّ ، فكان زَيْناً في الوجه ، أو شَيْناً . وقال ابن قتيبة : تُخْتَبرُ سرائر القلوب .
قوله تعالى : { فما له من قوة } أي : فما لهذا الإنسان المنكر للبعث من قوة يمتنع بها من عذاب الله { ولا ناصر } ينصره .

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)

قوله تعالى : { والسماء ذات الرَّجع } أي : ذات المطر ، وسمي المطر رجعاً لأنه يجيء ويرجع ويتكرَّر { والأرض ذات الصَّدْع } أي : ذات الشقّ . وقيل لها هذا ، لأنها تتصدَّع وتتشقَّق بالنبات ، هذا قول المفسرين وأهل اللغة في الحرفين .
قوله تعالى : { إنه لقول فصل } يعني به القرآن ، وهذا جواب القسم . والفصل : الذي يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما { وما هو بالهَزْل } أي : بالَّلعِب . والمعنى : إنه جِدٌّ ، ولم ينزل بالَّلعِب . وبعضهم يقول : الهاء ، في «إنه» كناية عن الوعيد المتقدم ذكره .
قوله تعالى : { إنهم } يعني مشركي مكة { يكيدون كيداً } [ أي : يحتالون ] وهذا الاحتيال المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا في دار الندوة ، { وأكيد كيداً } أي : أُجازيهم [ على كيدهم ] بأن أستدرجهم من حيث لا يعلمون ، فأنتقم منهم في الدنيا بالسيف ، وفي الآخرة بالنار . { فمهِّل الكافرين } هذا وعيد من الله لهم . ومَهِّل وأَمْهِل لغتان جمعتا هاهنا . ومعنى الآية : مهِّلهم قليلاً حتى أهلكهم ، ففعل الله ذلك بِبَدْر ، ونسخ الإمهال بآية السيف . قال ابن قتيبة : ومعنى «رويداً» مهلاً ، ورويدَك بمعنى أمهل . قال تعالى : { فمهل الكافرين أمهلهم رويداً } أي : أمهلهم قليلاً ، فإذا لم يتقدمها «أمهلهم» كانت بمعنى «مهلاً» . ولا يتكلم بها إلا مصغرة ومأموراً بها ، وجاءت في الشعر بغير تصغير في غير معنى الأمر .
قال الشاعر :
كأنها مِثْلُ مَنْ يمشي على رُودِ ... أي : على مهل .

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)

وفي معنى { سبح } خمسة أقوال .
أحدها : قل سبحان ربي الأعلى ، قاله الجمهور .
والثاني : عَظِّم .
والثالث : صَلِّ بأمر ربك ، روي القولان عن ابن عباس .
والرابع : نَزِّه ربك عن السوء ، قاله الزجاج .
والخامس : نَزِّه اسم ربك وذكرك إياه أن تذكره وأنت معظم له ، خاشع له ، ذكره الثعلبي .
وفي قوله تعالى : { اسم ربك } قولان .
أحدهما : أن ذكر الاسم صلة ، كقول لبَيد بن ربيعة :
إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُما ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كاملاً فَقَد اعْتَذَرْ
والثاني : أنه أصلي . وقال الفراء : [ سبح ربك ، و ] سبح اسم ربك سواء في كلام العرب .
قوله تعالى : { الذي خلق فسوَّى } أي : فعدَّل الخلق . وقد أشرنا إلى هذا المعنى في [ الإنفطار : 7 ] { والذي قَدّر } قرأ الكسائي وحده «قَدَر» بالتخفيف { فهدى } فيه سبعة أقوال .
أحدها : قدَّر الشقاوة والسعادة ، وهدى للرشد والضلالة ، قاله مجاهد .
والثاني : جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها إليه ، قاله عطاء .
والثالث : قَدَّر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج ، قاله السدي .
والرابع : قَدَّرهم ذكوراً وإناثاً ، وهدى الذكر لإتيان الأنثى ، قاله مقاتل .
والخامس : أن المعنى : قدَّر فهدى وأضل ، فحذف «وأضل» ، لأن في الكلام دليلاً على ذلك ، حكاه الزجاج .
والسادس : قَدَّر الأرزاق ، وهدى إلى طلبها .
والسابع : قَدَّر الذنوب ، وهدى إلى التوبة ، حكاهما الثعلبي .
قوله تعالى : { والذي أخرج المرعى } أي : أنبت العشب ، وما ترعاه البهائم { فجعله } بعد الخضرة { غُثَاءً } قال الزجاج ، أي : جفَّفه حتى جعله هشيماً جافاً كالغثاء الذي تراه فوق ماء السيل . وقد بينا هذا في سورة [ المؤمنين : 41 ] فأما قوله تعالى : { أحوى } فقال الفراء : الأحوى : الذي قد اسود عن القِدَم ، والعتق ، ويكون أيضاً : أخرج المرعى أحوى : أسود من الخضرة ، فجعله غثاءً كما قال تعالى : { مدهامتان } [ الرحمن : 64 ] .
قوله تعالى : { سنقرئك فلا تنسى } قال مقاتل : سنعلِّمك القرآن ، ونجمعه في قلبك فلا تنساه أبداً .
قوله تعالى : { إلا ما شاء الله } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : إلا ما شاء الله أن ينسخه فتنساه ، قاله الحسن ، وقتادة .
والثاني : إلا ما شاء الله أن تنسى شيئاً ، فإنما هو كقوله تعالى : { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إِلا ما شاء ربك } [ هود : 107 ] فلا يشاء .
قوله تعالى : { إنه يعلم الجهر } من القول والفعل { وما يخفى } منهما { ونيسِّرك لليسرى } أي : نُسهِّل عليك عمل الخير { فذكِّر } أي : عظ أهل مكة { إن نفعت الذكرى } وفي «إن» ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها الشرطية ، وفي معنى الكلام قولان ،
أحدهما : إن قُبِلَتْ الذكرى ، قاله يحيى ابن سلام .
والثاني : إن نفعت وإن لم تنفع ، قاله علي بن أحمد النيسابوري .
والثاني : أنها بمعنى «قد» فتقديره : قد نفعت الذكرى ، قاله مقاتل .
والثالث : أنها بمعنى «ما» فتقديره : فذكر ما نفعت الذكرى ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { سيذكَّر } سيتعظ بالقرآن { من يخشى ويتجنبها } ويتجنب الذكرى { الأشقى الذي يصلى النار الكبرى } أي : العظيمة الفظيعة لأنها أشد من نار الدنيا { ثم لا يموت فيها } فيستريح { ولا يحيى } حياة تنفعه . وقال ابن جرير : تصير نفس أحدهم في حلقه ، فلا تخرج فتفارقه فيموت ، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا .

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)

قوله تعالى : { قد أفلح } قال الزجاج : أي : صادف البقاء الدائم ، والفوز { مَنْ تزكى } فيه خمسة أقوال .
أحدها : من تطهَّر [ من ] الشرك بالإيمان ، قاله ابن عباس .
والثاني : من أعطى صدقة الفطر ، قاله أبو سعيد الخدري ، وعطاء ، وقتادة .
والثالث : من كان عمله زاكياً ، قاله الحسن ، والربيع .
والرابع : أنها زكوات الأموال كلّها ، قاله أبو الأحوص .
والخامس : تكثَّر بتقوى الله . ومعنى الزاكي : النامي الكثير ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { وذكر اسم ربه } قد سبق بيانه [ الأحزاب : 31 ] .
وفي قوله تعالى : { فصلَّى } ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها الصلوات الخمس ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : صلاة العيدين ، قاله أبو سعيد الخدري .
والثالث : صلاة التطوع ، قاله أبو الأحوص . والقول قول ابن عباس في الآيتين ، فإن هذه السورة مكية بلا خلاف ، ولم يكن بمكة زكاة ، ولا عيد .
قوله تعالى : { بل تؤثرون الحياة الدنيا } قرأ أبو عمرو ، وابن قتيبة ، وزيد عن يعقوب «بل يؤثرون» بالياء ، والباقون بالتاء ، واختار الفراء والزجاج التاء ، لأنها رويت عن أُبَيِّ بن كعب : «بل أنتم تؤثرون» . فإن أريد بذلك الكفار ، فالمعنى : أنهم يؤثرون الدنيا على الآخرة ، لأنهم لا يؤمنون بها . وإن أريد به المسلمون ، فالمعنى : يؤثرون الاستكثار من الدنيا على الاستحسان من الثواب . قال ابن مسعود : إن الدنيا عجِّلت لنا ، وإن الآخرة نُعِتَتْ لنا ، وزويت عنا ، فأخذنا بالعاجل [ وتركنا الآجل ] .
قوله تعالى : { والآخرة خير لك } يعني الجنة أفضل { وأبقى } أي : أدوم من الدنيا .
{ إن هذا لفي الصحف الأولى } في المشار إليه أربعة أقوال .
أحدها : أنه قوله تعالى { والآخرة خير وأبقى } قاله قتادة .
والثاني : هذه السورة ، قاله عكرمة ، والسدي .
والثالث : أنه لم يرد [ أن معنى ] السورة [ في الصحف الأولى ] ، ولا الألفاظ بعينها ، وإنما أراد أن الفلاح لمن تزكى وذكر اسم ربه فصلى ، في الصحف الأولى ، كما هو في القرآن ، قاله ابن قتيبة .
والرابع : أنه من قوله تعالى : { قد أفلح من تزكى } ، إلى قوله : { وأبقى } قاله ابن جرير .
ثم بين الصحف الأولى ما هي ، فقال : { صحف إبراهيم وموسى } وقد فسرناها في [ النجم : 36 ] .

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)

قوله تعالى : { هل أتاك } أي : قد أتاك ، قاله قطرب . وقال الزجاج : والمعنى : هذا لم يكن من علمك ولا من علم قومك .
وفي «الغاشية» قولان .
أحدهما : أنها القيامة تغشى الناس بالأهوال ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، وابن قتيبة .
والثاني : أنها النار تغشى وجوه الكفار ، قاله سعيد بن جبير ، والقرظي ، ومقاتل .
قوله تعالى : { وجوه يومئذ خاشعة } أي : ذليلة وفيها قولان .
أحدهما : أنها وجوه اليهود والنصارى ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه جميع الكفار ، قاله يحيى بن سلام .
قوله تعالى : { عاملة ناصبة } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أنهم الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين الإسلام ، كعبدة الأوثان ، وكفَّار أهل الكتاب ، مثل الرهبان وغيرهم ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثاني : أنهم الرهبان ، وأصحاب الصوامع ، رواه أبو الضحى عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، وزيد بن أسلم .
والثالث : عاملة ناصبة في النار بمعالجة السلاسل والأغلال ، لأنها [ لم ] تعمل لله في الدنيا ، فأعملها وأنصبها في النار ، وروى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن . وقال قتادة : تكبَّرت في الدنيا عن طاعة الله ، فأعملها وأنصبها في النار بالانتقال من عذاب إلى عذاب . قال الضحاك : يُكلِّفون ارتقاء جبل في النار . وقال ابن السائب : يَخِرُّون على وجوههم في النار . وقال مقاتل : عاملة في النار تأكل من النار ، ناصبة للعذاب .
والرابع : عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في النار يوم القيامة ، قاله عكرمة ، والسدي . والكلام هاهنا على الوجوه ، والمراد أصحابها . وقد بينا معنى «النصب» في قوله تعالى : { لا يمسهم فيها نصب } [ الحجر : 48 ] .
قوله تعالى : { تصلى ناراً حامية } قرأ أهل البصرة وعاصم إلا حفصاً «تُصْلَى» بضم التاء . والباقون بفتحها . قال ابن عباس : قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله ، { تسقى من عين آنية } ، أي : متناهية في الحرارة . قال الحسن : وقد [ أوقدت ] عليها جهنم منذ خلقت ، فدفعوا إليها [ وِرْداً ] عطاشاً .
قوله تعالى : { ليس لهم طعام إلا من ضريع } فيه ستة أقوال .
أحدها : أنه نبت ذو شوك لا طىءٍ بالأرض ، وتسميه قريش «الشِّبْرِق» فإذا هاج سموه : ضريعاً ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة .
والثاني : أنه شجر من نار ، رواه الوالبي عن ابن عباس .
والثالث : أنها الحجارة ، قاله ابن جبير .
والرابع : أنه السَّلَم ، قاله أبو الجوزاء .
والخامس : أنه في الدنيا : الشوك اليابس الذي ليس له ورق ، وهو في الآخرة شوك من نار ، قاله ابن زيد .
والسادس : أنه طعام يضرعون إلى الله تعالى منه ، قاله ابن كيسان .
قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية قال المشركون : إن إبلنا لتسمن على الضريع ، فأنزل الله تعالى { لا يسمن ولا يغني من جوع } وكُذِّبوا ، فإن الإبل إنما ترعاه ما دام رطباً ، وحينئذ يسمَّى شِبْرِقاً ، لا ضريعاً ، فإذا يبس يسمى : ضريعاً لم يأكله شيء .
فإن قيل : إنه قد أخبر في هذه الآية : «ليس لهم طعام إلا من ضريع» وفي مكان آخر { ولا طعامٌ إلا من غسلين } [ الحاقة : 36 ] فكيف الجمع بينهما؟ .
فالجواب : أن النار دركات ، وعلى قدر الذنوب تقع العقوبات ، فمنهم من طَعامُهُ الزَّقُّوم ، [ ومنهم ] مَنْ طعامه غِسْلين ، ومنهم من شرابه الحميم ، ومنهم مَنْ شَرَابُهُ الصَّديد . قاله ابن قتيبة .

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)

قوله تعالى : { وجوه يومئذ ناعمة } أي : في نعمة وكرامة { لسعيها } في الدنيا { راضية } والمعنى : رضيت بثواب عملها { في جنة عالية } قد فسرناه في «الحاقة» [ آية : 22 ] { لا تسمع فيها لاغية } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ورويس «لا يُسمع» بياء مضمومة . «لاغيةُ» بالرفع . وقرأ نافع كذلك إلا أنه بتاءٍ مضمومة ، والباقون بتاءٍ مفتوحة ، ونصب «لاغيةً» والمعنى : لا تسمع فيها كلمة [ لغو ] { فيها سُرُرٌ مرفوعةٌ } قال ابن عباس : ألواحها من ذهب مكلَّلة بالزبرجد ، والدر ، والياقوت ، مرتفعة ما لم يجئ أهلها ، فإذا أراد أن يجلس عليها صاحبها ، تواضعت له حتى يجلس عليها ، ثم ترتفع إلى موضعها { وأكوابٌ موضوعة } عندهم وقد ذكرنا «الأكواب» في [ الزخرف : 71 ] { ونمارق } وهي الوسائد ، واحدها : نمرقة بضم النون . قال الفراء : وسمعت بعض كلب تقول : نِمرِقة ، بكسر النون والراء { مصفوفة } بعضها إلى جنب بعض ، والزرابي : الطنافس [ التي ] لها خَمْل رقيق { مبثوثة } كثيرة . قال ابن قتيبة : كثيرة مفرّقة . قال المفسرون : لما نعت الله سبحانه ما في الجنة ، عجب من ذلك أهل الكفرة ، فذكَّرهم صنعه ، فقال تعالى : { أفلا ينظرون إلى الإبل } وقال قتادة : ذكر الله ارتفاع [ سُرُرِ ] الجنة ، وفرشها ، فقالوا : كيف نصعدها ، فنزلت هذه الآية . قال العلماء : وإنما خص الإبل من غيرها لأن العرب لم يَرَوْا بهيمة قَطُّ أعظمَ منها ، ولم يشاهدوا الفيل إلا الشاذ منهم ، ولأنها كانت أَنْفَسَ أموالهم وأكثرها ، لا تفارقهم ولا يفارقونها ، فيلاحظون فيها العِبَر الدَّالةَ على قدرة الخالق ، من إخراج لبنها من بين فَرْثٍ وَدَمٍ [ و ] من عجيب خَلْقِها ، وهي على عِظَمها مُذلَّلة للحمل الثقيل ، وتنقاد للصبي الصغير ، وليس في ذوات الأربع ما يحمل عليه وقره وهو بارك فيطيق النهوض به سواها ، وقرأ ابن عباس ، وأبو عمران الجوني ، والأصمعي عن أبي عمرو «الإبْل» بإسكان الباء ، وتخفيف اللام . وقرأ أُبَيُّ بن كعب ، وعائشة ، وأبو المتوكل ، والجحدري ، وابن السميفع ، ويونس بن حبيب وهارون كلاهما عن أبي عمرو «الإبِلِّ» بكسر الباء ، وتشديد اللام . قال هارون : قال أبو عمرو «الإبِلُّ» بتشديد اللام : السحاب الذي يحمل الماء .
قوله تعالى : { كيف خُلقَتْ } وقرأ علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وأبو العالية ، وأبو عمران ، وابن أبي عبلة «خَلَقْتُ» بفتح الخاء ، وضم التاء . وكذلك قرؤوا : «رَفَعْتُ» و«نَصَبْتُ» و «سَطَحْتُ» .
قوله تعالى : { وإلى السماء كيف رُفِعَتْ } من الأرض حتى لا ينالها شيء بغير عَمَدٍ { وإلى الجبال كيف نُصَبَتْ } على الأرض لا تزول ولا تتغير { وإلى الأرض كيف سُطِحَتْ } أي : بُسِطَتْ . والسطح : بسط الشيء ، وكل ذلك يدل على [ قدرة ] خَالقه { فَذكِّرْ } أي : عظ { إنما أنت مذكِّر } أي : واعظ ، ولم يكن حينئذ أمر بغير التذكير ، ويدل عليه قوله تعالى : { لَسْتَ عليهم بمسيطر } أي : بمسلِّط ، فتقتلهم وتكرههم على الإيمان .

ثم نسختها آية السيف . وقرأ أبو رزين ، وأبو عبد الرحمن ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والحلواني عن ابن عامر «بمسيطر» بالسين . وقد سبق بيان «المسيطر» في قوله تعالى { أم هم المسيطرون } [ الطور : 37 ] .
قوله تعالى : { إلا من تولَّى } وهذا استثناء منقطع معناه : لكن من تولى { وكفر } بعد التذكر . وقرأ ابن عباس ، وعمرو بن العاص ، وأنس بن مالك ، وأبو مجلز ، وقتادة ، وسعيد بن جبير «ألا من تولّى» بفتح الهمزة وتخفيف اللام . { فيعذبه الله العذاب الأكبر } وهو أن يدخله جهنم ، وذلك أنهم قد عُذِّبوا في الدنيا بالجوع ، والقتل ، والأسر ، فكان عذاب جهنم هو الأكبر { إن إلينا إيابهم } قرأ أُبَيُّ بن كعب ، وعائشة ، وعبد الرحمن ، وأبو جعفر «إيَّابهم» بتشديد الياء ، أي : رجوعهم ومصيرهم بعد الموت { ثم إِن علينا حسابهم } قال مقاتل : أي : جزاءهم .

وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)

قوله تعالى : { والفجر } قال ابن عباس : الفجر : انفجار الظُّلمة عن الصبح ، وانفجر الماء : انبجس . قال شيخنا علي بن عبيد الله : الفجر : ضوء النهار إذا انشق عنه الليل ، وهو مأخوذ من الانفجار ، يقال : انفجر النهر ينفجر انفجاراً : إذا انشق فيه موضع لخروج الماء ، ومن هذا سمي الفاجر فاجراً ، لأنه خرج عن طاعة الله .
وللمفسرين في المراد بهذا الفجر ستة أقوال .
أحدها : أنه الفجر المعروف الذي هو بدء النهار ، قاله عليٌّ رضي الله عنه . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : هو انفجار الصبح كل يوم ، وبهذا قال عكرمة ، وزيد بن أسلم ، والقرظي .
والثاني : صلاة الفجر ، رواه عطية عن ابن عباس .
والثالث : النهار كلُّه ، فعبَّر عنه بالفجر ، لأنه أوله ، وروى هذا المعنى أبو نصر عن ابن عباس .
والرابع : أنه فجر يوم النحر خاصة قاله مجاهد .
والخامس : أنه فجر أول يوم من ذي الحجة ، قاله الضحاك .
والسادس : أنه أول يوم من المحرم تنفجر منه السنة قاله قتادة .
قوله تعالى : { وليالٍ عشر } فيها أربعة أقوال .
أحدها : أنه عشر ذي الحجة ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ومقاتل .
والثاني : أنها العشر الأواخر من رمضان ، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس .
والثالث : العشر الأول من رمضان ، قاله الضحاك .
والرابع : العشر الأول من المحرم ، قاله يمان بن رئاب .
قوله تعالى : { والشَّفْعِ والوَتْرِ } قرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف «والوِتْر» بكسر الواو ، وفتحها الباقون ، وهما لغتان . قال الفراء : الكسر لقريش وتميم وأسد ، والفتح لأهل الحجاز .
وللمفسرين في «الشفع والوتر» عشرون قولاً .
أحدهما : أن الشفع : يوم عرفة ويوم الأضحى ، والوتر : ليلة النحر ، رواه أبو أيوب الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والثاني : يوم النحر ، والوتر : يوم عرفة ، [ رواه جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبه قال ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك ] .
والثالث : أن الشفع والوتر : الصلاة ، منها الشفع ، ومنها الوتر ، رواه عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبه قال قتادة .
والرابع : [ أن الشفع : الخلق كله ، والوتر : الله تعالى ] ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد في رواية مسروق ، وأبو صالح .
والخامس : أن الوتر : آدم شفع بزوجته ، رواه مجاهد عن ابن عباس .
والسادس : أن الشفع يومان بعد يوم النحر ، وهو النفر الأول ، والوتر : اليوم الثالث ، وهو النفر الأخير ، قاله عبد الله ابن الزبير ، واستدل بقوله تعالى : { فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه } [ البقرة : 203 ] .
والسابع : أن الشفع : صلاة الغداة ، والوتر : صلاة المغرب ، حكاه عطية .
والثامن : أن الشفع : الركعتان من صلاة المغرب ، والوتر : الركعة الثالثة ، قاله أبو العالية ، والربيع بن أنس .

والتاسع : أن الشفع والوتر : الخلق كله ، منه شفع ، ومنه وتر ، قاله ابن زيد ومجاهد في رواية .
والعاشر : أنه العدد ، منه شفع ، ومنه وتر ، وهذا والذي قبله مرويان عن الحسن .
والحادي عشر : أن الشفع : عشر ذي الحجة ، والوتر : أيام [ منى ] الثلاثة ، قاله الضحاك .
والثاني عشر : أن الشفع : هو الله ، لقوله تعالى : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } [ المجادلة : 7 ] والوتر : هو الله ، لقوله تعالى : { قل هو الله أحد } ، قاله سفيان بن عيينة .
والثالث عشر : أن الشفع : هو آدم وحواء . والوتر : الله تعالى ، قاله مقاتل بن سليمان .
والرابع عشر : أن الشفع : الأيام والليالي ، والوتر : اليوم الذي لا ليلة [ بعده ] ، وهو يوم القيامة ، قاله مقاتل بن حيان .
والخامس عشر : الشفع : درجات الجنان ، لأنها ثمان ، والوتر : دَرَكات النار لأنها سبع ، فكأن الله أقسم بالجنة والنار ، قاله الحسين بن الفضل .
والسادس عشر : الشفع : تضاد أوصاف المخلوقين بين عِزٍ وذُلٍّ ، وقدرة وعجز ، وقوة وضعف ، وعلم وجهل ، وموت وحياة . والوتر : انفراد صفات الله عز وجل : عِزٌّ بلا ذل ، وقدرة بلا عجز ، وقوة بلا ضعف ، وعلم بلا جهل ، وحياة بلا موت ، قاله أبو بكر الورَّاق .
والسابع عشر : أن الشفع : الصفا والمروة ، والوتر : البيت .
والثامن عشر : أن الشفع : مسجد مكة والمدينة ، والوتر : بيت المقدس .
والتاسع عشر : أن الشفع : القِرَان بين الحج والتمتع ، والوتر : الإفراد .
والعشرون : الشفع : العبادات المتكررة ، كالصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والوتر : العبادة التي لا تتكرر ، وهو الحج ، حكى هذه الأقوال الأربعة الثعلبي .
قوله تعالى : { والليل إذا يسر } وقرأ ابن كثير ، ويعقوب «يسري» بياءٍ في الوصل والوقف ، وافقهما في الوصل نافع وأبو عمرو . وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «يسر» بغير ياءٍ في الوصل والوقف . قال الفراء ، والزجاج : الاختيار حذفها لمشاكلتها لرؤوس الآيات ، ولاتِّباع المصحف . وفي قوله تعالى : { والليل إذا يسر } قولان .
أحدهما : أن الفعل له ، ثم فيه قولان .
أحدهما : إذا يسري ذاهباً ، قاله الجمهور ، وهو اختيار الزجاج .
والثاني : إذا يسري مقبلا ، قاله قتادة .
والقول الثاني : أن الفعل لغيره ، والمعنى : إذا يسري فيه ، كما يقال : ليل نائم ، أي : ينام فيه ، قاله الأخفش ، وابن قتيبة .
وفي المراد بهذا الليل ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه عام في كل ليلة ، وهذا الظاهر .
والثاني : أنه ليلة المزدلفة ، وهي ليلة جَمْعٍ : قاله مجاهد وعكرمة .
والثالث : ليلة القدر ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { هل في ذلك } أي : [ هل في ذلك المذكور من الأمور التي أقسمنا بها ] { قسم لذي حجر } أي : لذي عقل ، وسمي العقل حجْراً ، لأنه يحجر صاحبه عن القبيح ، وسمي عقلاً ، لأنه يعقل عمالا يحسن ، وسمي العقل النُّهى ، لأنه ينهى عما لا يحل . ومعنى الكلام : أن من كان ذا لبٍّ عَلِم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء ، فيه دلائل على توحيد الله وقدرته ، فهو حقيق أن يقسم به لدلالته .

وجواب القسم قوله تعالى { إن ربك لبالمرصاد } فاعترض بين القسم وجوابه بقوله تعالى : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } فخوَّف أهل مكة بإهلاك من كان أشدَّ منهم . وقرأ ابن مسعود ، وابن يعمر «بعادِ إِرمَ» بكسر الدال من غير تنوين على الإضافة .
وفي «إرم» أربعة أقوال .
أحدها : أنه اسم بلدة ، قال الفراء . ولم يُجْرَ «إرم» لأنها اسم بلدة ثم فيها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها دمشق ، قاله سعيد بن المسيب ، وعكرمة ، وخالد الرَّبَعِي .
والثاني : الإسكندرية ، قاله محمد بن كعب .
والثالث : أنها مدينة صنعها شداد بن عاد ، وهذا قول كعب . وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى .
والقول الثاني : أنه اسم أمة من الأمم ، ومعناه : القديمة ، قاله مجاهد .
والثالث : أنه قبيلة من قوم عاد ، قاله قتادة ومقاتل . قال الزجاج : وإنما لم تنصرف «إرم» لأنها جعلت اسماً للقبيلة ففتحت ، وهي في موضع خفض .
والرابع : أنه اسم لجَدِّ عادٍ ، لأنه عاد بن عَوْص بن إرم بن سام بن نوح ، قاله ابن اسحاق . قال الفراء : فإن كان اسماً لرجل على هذا القول ، فإنما ترك إجراؤه ، لأنه كالعجمي ، قال أبو عبيدة : هما عادان ، فالأولى : هي إرم ، وهي التي قال الله تعالى : { وأنه أهلك عاداً الأولى } [ النجم : 50 ] .
وهل قوم هود عاد الأولى ، أم لا؟ فيه قولان قد ذكرناهما في ( النجم ) .
وفي قوله تعالى : { إرم ذات العماد } أربعة أقوال .
أحدها : لأنهم كانوا أهل عمد وخيام يطلبون الكلأ حيث كان ، ثم يرجعون إلى منازلهم ، فلا يقيمون في موضع ، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، والفراء .
والثاني : أن معنى ذات العماد : ذات الطول ، روي عن ابن عباس أيضاً ، وبه قال مقاتل ، وأبو عبيدة ، قال الزجاج يقال رجل مُعْمَدٌ : إذا كان طويلاً .
والثالث : ذات القوة والشدة ، مأخوذ من قوة الأعمدة ، قاله الضحاك .
والرابع : ذات البناء المحكم بالعماد ، قاله ابن زيد . وقيل : إنما سميت ذات العماد لبناءٍ بناه بعضهم .
قوله تعالى : { التي لم يخلق مثلها في البلاد } وقرأ أبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وأبو عمران : «لم تَخْلُق» بتاءٍ مفتوحة ورفع اللام «مثلَها» بنصب اللام . وقرأ معاذ القارئ ، وعمرو بن دينار : «لم نَخْلُق» بنون مفتوحة ورفع اللام «مثلَها» بنصب اللام .
وفي المشار إليها قولان .
أحدهما : لم يَخْلُق مثل تلك القبيلة في الطول والقوّة ، وهذا معنى قول الحسن .
والثاني : المدينة لم يخلق مثل مدينتهم ذات العماد ، قاله عكرمة .
وقد جاء في التفسير صفات تلك المدينة . وهذه الإشارة إلى ذلك .
روى وهب بن منبه عن عبد الله بن قِلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت ، فبينما هو في صحارى عدن وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن ، وحول الحصن قصور كثيرة . فلما دنا منها ظن أن فيها أحداً يسأله عن إبله ، فلم ير خارجاً ولا داخلاً ، فنزل عن دابته ، وعقلها ، وسلَّ سيفه ، ودخل من باب الحصن ، فلما دخل الحصن إذا هو ببابين عظيمين [ لم ير أعظم منهما ] ، والبابان مُرصَّعان بالياقوت [ الأبيض و ] الأحمر ، فلما رأى ذلك دهش ، ففتح أحد البابين ، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها ، وإذا قصور ، كلُّ قصر فوقه غرف وفوق الغرف غرف مبنيَّة بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت ، ومصاريع تلك الغرف مثل مصاريع المدينة ، يقابل بعضها بعضاً ، مفروشة كلها باللؤلؤ ، وبنادق من مسك وزعفران .

فلما عاين ذلك ، ولم ير أحداً ، هَالَه ذلك ، ثم نظر إلى الأزقة فإذا هو في كل زقاق منها شجر قد أثمر ، وتحت الشجر أنهار مطردة يجري ماؤها من قنوات من فضة . فقال الرجل : إن هذه هي الجنة ، فحمل معه من لؤلؤها ، ومن بنادق المسك والزعفران ورجع إلى اليمن ، فأظهر ما كان معه . وبلغ الأمر إلى معاوية ، فأرسل إليه ، فقص عليه ما رأى ، فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار ، فلما أتاه قال له : يا أبا إسحاق : هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة؟ قال : نعم . أخبرك بها وبمن بناها؟ إنما بناها شداد بن عاد ، والمدينة :
«إرم ذات العماد» ، قال : فحدثني حديثها ، فقال إن عاداً المنسوب إليهم عاد الأولى ، كان له ولدان : شديد ، وشداد . فلما مات [ عاد ] ، ثم مات شديد وبقي شداد ، ملك الأرض ، ودانت له الملوك ، وكان مولعاً بقراءة الكتب ، فكان إذا مر بذكر الجنة دعته نفسه إلى بناء مثلها عُتُوَّاً على الله تعالى . فأمر بصنع «إرم ذات العماد» فأمَّر على عملها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف من الأعوان ، وكتب إلى ملوك الأرض أن يمدُّوه بما في بلادهم من الجواهر ، فخرج القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا أرضاً موافقة ، فوقفوا على صحراء عظيمة نقية من التلال ، وإذا فيها عيون ماء ومروج فقالوا : هذه صفة الأرض التي أمر الملك أن يبنى بها ، فوضعوا أساسها من الجزع اليماني ، وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة ، وكان عمر شداد تسعمائة سنة ، فلما أتوه وقد فرغوا منها قال : انطلقوا ، واجعلوا عليها حصناً ، واجعلوا حول الحصن ألف قصر ، عند كل قصر ألف عَلَم ليكون في كل قصر من تلك القصور وزير من وزرائي ، ففعلوا ذلك ، فأمر الملك الوزراء وهم ألف وزير أن يتهيئوا للنقلة إلى «إرم ذات العماد» ، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين ، ثم ساروا إليها ، فلما كانوا منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه ، وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعاً ، ولم يَبْقَ منهم أحد .
وروى الشعبي عن دَغْفَل الشيباني عن علماء حِمْيَر قالوا : لما هلك شداد ابن عاد ومن معه من الصيحة ، ملَكَ بعده ابنه مَرْثَد بن شَدَّاد ، وقد كان أبوه خلَّفه بحضرموت على ملكه وسلطانه ، فأمر بحمل أبيه من تلك المفازة إلى حضرموت ، وأمر [ بدفنه ] فَحُفِرَتْ له حفيرة في مفازة ، فاستودعه فيها على سرير من ذهب ، وألقى عليه سبعين حُلَّةً منسوجة بقضبان الذهب ، ووضع عند رأسه لوحاً عظيماً من ذهب وكتب عليه :

إعتبر يا أيُّها المغ ... رورُ بالعمرِ المديدِ
أنا شَدَّادُ بنُ عادٍ ... صاحبُ الحصن المشيدِ
وأخو القوَّة والبأْ ... ساءِ والملك الحشيدِ
دان أهل الأرض طُرَّاً ... ليَ من خوف وعيدي
وملكت الشرق والغر ... ب بسلطان شديدِ
وبفضل الملك والع ... دة فيه والعديدِ
فأتى هود وكنَّا ... في ضلال قبل هودِ
فدعانا لو قبلنا ... ه إلى الأمر الرشيدِ
فعصيناه ونادى ... ما لكم هل من محيدِ؟
فأتتنا صيحة ته ... وي من الأفق البعيدِ
فتوافينا كزرعٍ ... وسط بيداء حصيدِ
قوله تعالى : { وثمود الذين جابوا الصخر } قطعوه ونقبوه . قال إسحاق : والوادي : وادي القرى . وقرأ الحسن : «بالوادي» بإثبات الياء في الحالين { وفرعون ذي الأوتاد } مفسر في سورة [ ص : 12 ] { الذين طَغَوْا في البلاد } يعني : عاداً ، وثمود ، وفرعون ، عملوا بالمعاصي ، وتجبَّروا على أنبياء الله { فأكثروا فيها الفساد } القتل والمعاصي { فصبَّ عليهم ربك سَوْطَ عذاب } .
قال ابن قتيبة : وإنما قال : سوط عذاب ، لأن التعذيب قد يكون بالسوط . وقال الزجاج : [ أي جعل سوطَهم الذي ضربهم به العذابَ ] { إن ربك لبالمرصاد } أي : يرصد مَنْ كفر به بالعذاب ، والمرصد : الطريق ، وقد شرحناه في قوله تعالى { كانت مرصاداً } [ النبأ : 21 ] .

فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)

قوله تعالى : { فأما الإنسان } فيمن عنى به أربعة أقوال .
أحدها : عتبة بن ربيعة ، وأبو حذيفة بن المغيرة ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثاني : أُبَيّ بن خلف ، قاله ابن السائب .
والثالث : أُمية بن خلف ، قاله مقاتل .
والرابع : أنه الكافر الذي لا يؤمن بالبعث ، قال الزجاج : وابتلاه بمعنى اختبره بالغنى واليسر { فأكرمه } بالمال { ونَعَّمه } بما وسَّع عليه من الإفضال { فيقول ربي أكرمني } فتح ياء «ربيَ» «أكرمنيَ» «ربيَ» «أهاننيَ» أهل الحجاز ، وأبو عمرو ، أي : فضلني بما أعطاني ، ويظن أن ما أعطاه من الدنيا لكرامته عليه { وأما إذا ما ابتلاه } بالفقر { فقَدَر عليه رِزْقَه } وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر «فقدَّر» بتشديد الدال ، والمعنى : ضيَّق عليه بأن جعله على مقدار البُلْغَة { فيقول ربي أهانني } أي : هذا الهوان منه لي حين أذلَّني بالفقر .
واعلم أن من لا يؤمن بالبعث ، فالكرامة عنده زيادة الدنيا ، والهوان قِلَّتُها .
قوله تعالى : { كلا } أي : ليس الأمر كما يظن . قال مقاتل : ما أعطيت [ من أغنيت ] هذا الغنى لكرامته عليَّ ، ولا أفقرت [ مَنْ ] أفقرت لهوانه عليَّ ، وقال الفراء : المعنى : لم يكن ينبغي له أن يكون هكذا ، إنما ينبغي أن يحمد الله على الأمرين : الفقر ، والغنى . ثم أخبر عن الكفار فقال تعالى : { بل لا تكرمون اليتيم } قرأ أهل البصرة «يُكرِمون» و «يَحُضُّون» و «يَأْكُلون» و «يُحِبُّون» بالياء فيهن ، والباقون بالتاء . ومعنى الآية : إني أهنت من أهنت من أجل أنه لا يكرم اليتيم . والآية تحتمل معنيين .
أحدهما : أنهم كانوا لا يَبَرُّونه .
والثاني : لا يعطونه حَقَّه من الميراثِ ، وكذلك كانت عادة الجاهلية لا يورِّثون النساء ولا الصبيان . ويدل على المعنى الأول قوله تعالى : { ولا تَحاضُّون على طعام المسكين } قرأ أبو جعفر ، وأهل الكوفة «تحاضون» بألف مع فتح التاء . وروى الشيرزي عن الكسائي كذلك إلا أنه ضم التاء . والمعنى : لا يأمرون بإطعامه لأنهم لا يرجون ثواب الآخرة . ويدل على المعنى الثاني قوله تعالى : { وتأكلون التُّراثَ أكلاً لَمّا } قال ابن قتيبة : التراث : الميراث ، والتاء فيه منقلبة عن واوٍ ، كما قالوا : تُجاه ، والأصل : وُجاه ، وقالوا : تُخمَة ، والأصل : وُخَمَة . و { لَمَّا } أي : شديداً ، وهو من قولك : لممْتُ بالشيء : إذا جمعتَه ، وقال الزجاج : هو ميراث اليتامى .
قوله تعالى : { وتحبون المال } أي : تحبون جمعه { حُبّاً جماً } أي : كثيراً فلا تنفقونه في خير { كلا } أي : ما هكذا ينبغي أن يكون [ الأمر ] . ثم أخبر عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم ، فقال تعالى : { إذا دُكَّت الأرض دَكَّاً دَكَّاً } أي : مرَّة بعد مرَّة ، فتكسَّر كل شيء عليها ، { وجاء ربك } قد ذكرنا هذا المعنى في قوله تعالى : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله } [ البقرة : 210 ] .
قوله تعالى : { والملك صفاً صفاً } أي : تأتي [ ملائكة ] كل سماءٍ صفاً [ صفا ] على حدة .

قال الضحاك : يكونون سبعة صفوف ، { وجيء يومئذٍ بجهنَّم } روى مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام ، مع [ كل زمام ] سبعون ألف ملك يجرَّونها " قال مقاتل : يجاء بها فتقام عن يسار العرش .
قوله تعالى : { يومئذ } أي : يوم يجاء بجهنم { يتذكر الإنسان } أي : يتَّعظ الكافر ويتوب . قال مقاتل : هو أمية بن خلف { وأنَّى له الذكرى } أي : كيف له بالتوبة وهي في القيامة لا تنفع { يقول يا ليتني قدَّمتُ } العمل الصالح في الدنيا { لحياتي } في الآخرة التي لا موت فيها { فيومئذ لا يعذَّب عذابه أحدٌ } قرأ الكسائي ، ويعقوب ، والمفضل «لا يعذَّب» بفتح الذال ، والباقون بكسرها ، فمن فتح ، أراد : لا يعذب عذاب الكافر أحد ، ومن كسر أراد : لا يعذَّب عذاب الله أحد ، أي كعذابه ، وهذه القراءة تختص بالدنيا ، والأولى تختص بالآخرة .
قوله تعالى : { يا أيتها النفس المطمئنة } اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال .
أحدها : في حمزة بن عبد المطلب لما استشهد يوم أُحد ، قاله أبو هريرة ، وبريدة الأسلمي .
والثاني : في عثمان بن عفان حين أوقف بئر رومة ، قاله الضحاك .
والثالث : في خبيب بن عدي لما صلبه أهل مكة ، قاله مقاتل .
والرابع : في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، حكاه الماوردي .
والخامس : [ في ] جميع المؤمنين ، قاله عكرمة .
وفي معنى «المطمئنة» ثلاثة أقوال .
أحدها : المؤمنة ، قاله ابن عباس . وقال الزجاج : المطمئنة بالإيمان .
والثاني : الراضية بقضاء الله ، قاله مجاهد .
والثالث : الموقنة بما وعد الله ، قاله قتادة .
واختلفوا في أي حين يقال لها ذلك على قولين .
أحدهما : عند خروجها من الدنيا ، قاله الأكثرون .
والثاني : عند البعث يقال لها : ارجعي إلى صاحبك ، وإلى جسدك ، فيأمر الله الأرواح أن تعود إلى الأجساد ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال عطاء ، وعكرمة والضحاك .
وفي قوله تعالى { ارجعي إلى ربك راضية } أربعة أقوال .
أحدها : ارجعي إلى صاحبك الذي كنتِ في جسده ، وهذا المعنى في رواية العوفي عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة والضحاك .
والثاني : { ارجعي إلى ربك } بعد الموت في الدنيا ، قاله أبو صالح .
والثالث : ارجعي إلى ثواب ربك ، قاله الحسن .
والرابع : يا أيتها النفس المطمئنة [ إلى الدنيا ] ارجعي إلى الله تعالى بتركها ، حكاه الماوردي .
قوله تعالى : { فادخلي في عبادي } أي : في جملة عبادي المصطَفَيْن . قال أبو صالح : يقال لها عند الموت : ارجعي إلى ربك ، فإذا كان يوم القيامة قيل لها : { فادخلي في عبادي } وقال الفراء : ادخلي مع عبادي . وقرأ سعد بن أبي وقاص ، وأُبَي بن كعب ، وابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وأبو العالية ، وأبو عمران : «في عبدي» على التوحيد . قال الزجاج : فعلى هذه القراءة والله أعلم يكون المعنى : ارجعي إلي ربك ، أي : إلى صاحبك الذي خرجتِ منه ، فادخلي فيه .

لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)

قوله تعالى : { لا أقسم } قال الزجاج : المعنى : أقسم . و «لا» دخلت توكيداً ، كقوله تعالى : { لئلا يعلم أهل الكتاب } [ الحديد : 29 ] وقرأ عكرمة ، ومجاهد ، وأبو عمران ، وأبو العالية ، «لأُقْسِمُ» قال الزجاج : وهذه القراءة بعيدة في العربية ، وقد شرحنا هذا في أول «القيامة» .
قوله تعالى : { وأنت حل بهذا البلد } فيه ثلاثة أقوال .
و { البلد } هاهنا : مكة .
أحدها : حل لك ما صنعت في هذا البلد من قَتْلٍ أو غيره ، قاله ابن عباس ، ومجاهد . قال الزجاج : يقال : رجل حِلٌّ ، وحَلاَل ، ومُحِلٌّ . قال المفسرون : والمعنى : إن الله تعالى وعد نبيَّه أن يفتح مكة على يديه بأن يُحلَّها له ، فيكون فيها حِلاًّ .
والثاني : فأنت مُحِلٌّ بهذا البلد غير مُحْرم في دخوله ، يعني : عام الفتح ، قاله الحسن ، وعطاء .
والثالث : أن المشركين بهذا البلد يستحلون إخراجك وقتلك ، ويحرِّمون قتل الصيد ، حكاه الثعلبي .
قوله تعالى : { ووالدٍ وما ولد } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه آدم وما ولد ، قاله الحسن ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة .
والثاني : أولاد إبراهيم ، وما ولد : ذريته ، قاله أبو عمران الجوني .
والثالث : أنه عامٌّ في كل والدٍ وما ولد ، حكاه الزجاج .
قوله تعالى : { لقد خلقنا الإنسان } هذا جواب القسم .
وفيمن عنى بالإنسان خمسة أقوال .
أحدهما : أنه اسم جنس ، وهو معنى قول ابن عباس .
والثاني : أنه أبو الأشدين الجمحي ، وقد سبق ذكره ، [ المدثر : 29 ، والانفطار : 5 ] قاله الحسن .
والثالث : أنه الحارث بن عامر بن نوفل ، وذلك أنه أذنب ذنباً ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة ، فقال : لقد ذهب مالي في الكفارات ، والنفقات منذ دخلت في دين محمد ، قاله مقاتل .
والرابع : آدم عليه السلام ، قاله ابن زيد .
والخامس : الوليد بن المغيرة ، حكاه الثعلبي .
قوله تعالى : { في كَبَدٍ } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : في نَصَبٍ ، رواه الوالبي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو عبيدة ، فإنهم قالوا : في شدة . قال الحسن : يكابد الشكر على السَّرَّاء والصبر على الضَّرَّاء ، لأنه لا يخلو من أحدهما ويكابد مصائب الدنيا ، وشدائد الآخرة . قال ابن قتيبة : في شدة غلبةٍ ومكابدةٍ لأمور الدنيا والآخرة ، فعلى هذا يكون من مكابدة الأمر ، وهي معاناته .
والثاني : أن المعنى : خلق منتصباً يمشي على رجلين ، وسائر الحيوان غير منتصب ، رواه مقسم عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، والضحاك ، وعطية ، والفراء ، فعلى هذا يكون معنى الكبد : الاستواء والاستقامة .
والثالث : في وسط السماء ، قال ابن زيد : «لقد خلقنا الإنسان» يعني : آدم «في كبد» أي : في وسط السماء .
قوله تعالى : { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } يعني اللهَ عز وجل أي : [ أيحسب أن ] لن نقدر على بعثه ، ومعاقبته؟! { يقول أهلكت مالا لُبَداً } أي : كثيراً ، قال أبو عبيدة : هو فعل من التلبُّد ، وهو المال الكثير بعضه على بعض .

قال ابن قتيبة : وهو المال المتلبد ، كأنَّ بعضَه على بعض . قال الزجاج : وهو فعل للكثرة ، كما يقال : رجل حُطَم : إذا كان كثير الحطم ، وقرأ أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وعائشة ، وأبو عبد الرحمن ، وقتادة ، وأبو العالية ، وأبو جعفر «لُبَّدا» بضم اللام ، وتشديد الباء مفتوحة ، وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وأبو المتوكل ، وأبو عمران «لَبْدا» بفتح اللام وتسكين الباء خفيفة . وقرأ عثمان بن عفان ، والحسن ، ومجاهد ، «لُبُداً» برفع اللام والباء وتخفيفهما . وقرأ علي وابن أبي الجوزاء «لِبَدَاً» بكسر اللام ، وفتح الباء مخففة .
وفيما قال لأجله ذلك قولان .
أحدهما : أنه أراد : أهلكت مالاً كثيراً في عداوة محمد ، قاله ابن السائب ، فكأنه استطال بما أنفق .
والثاني : أنفقت في سبيل الله وفي الكفارات مالاً كثيراً ، قاله مقاتل . فكأنه ندم على ما أنفق .
قوله تعالى : { أيحسب أن لم يَرَهُ أحد } يعني اللهَ عز وجل : والمعنى : أيظن أن الله لم ير نفقته ، ولم يُحْصِها؟! وكان قد ادعى ما لم ينفق .
قوله تعالى : { ألم نجعل له عينين } والمعنى : ألم نفعل به ما يدل على أن الله قادر على بعثه؟! .
قوله تعالى : { وهديناه النَّجدين } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : سبيل الخير والشر ، قاله علي ، والحسن ، والفراء . وقال ابن قتيبة : يريد طريق الخير والشر . وقال الزجاج : النجدان : الطريقان الواضحان . والنجد : المرتفع من الأرض ، فالمعنى : ألم نُعرِّفه طريق الخير والشر كَتَبَيُّن الطريقين العاليين .
والثاني : سبيل الهدى والضلال ، قاله ابن عباس . وقال مجاهد : هو سبيل الشقاوة والسعادة .
والثالث : الثديانِ ليتغذى بلبنهما ، روي عن ابن عباس أيضاً ، وبه قال ابن المسيب ، والضحاك ، وقتادة .

فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

قوله تعالى : { فلا اقتحم العقبة } قال أبو عبيدة : فلم يقتحم العقبة [ في الدنيا ] . وقال ابن قتيبة : فلا هو اقتحم العقبة . قال الفراء : لم يضم إلى قوله تعالى : فلا اقتحم العقبة كلاماً آخر فيه «لا» ، والعرب لا تكاد تفرد «لا» في الكلام حتى يعيدوها عليه في كلام آخر ، كقوله تعالى : { فلا صدق ولا صلى } [ القيامة : 31 ] ، { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [ البقرة : 62 ] . ومعنى «لا» مأخوذ من آخر هذا الكلام ، فاكتفى بواحدة من الأخرى ، ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة ، فقال : فكُّ رقبة . { أو إطعام في يوم ذي مسغبة } { ثم كان من الذين آمنوا } ففسرها بثلاثة أشياء . فكأنه كان في أول الكلام : فلا فعل ذا ، ولا ذا . وذهب ابن زيد في آخرين إلى أن المعنى : أفلا اقتحم العقبة؟ على وجه الاستفهام ، والمعنى : فهلاَّ أنفق ماله في فَكِّ الرِّقاب والإطعام ليجاوز بذلك العقبة؟!
فأما الاقتحام فقد بَيَّناه في [ ص : 59 ] .
وفي العقبة سبعة أقوال .
أحدها : أنه جبل في جهنم ، قاله ابن عمر .
والثاني : عقبة دون الجسر ، قاله الحسن .
والثالث : سبعون دركة في جهنم ، قاله كعب .
والرابع : الصراط ، قاله مجاهد ، والضحاك .
والخامس : نار دون الجسر ، قاله قتادة .
والسادس : طريق النجاة ، قاله ابن زيد .
والسابع : أن ذكر العقبة هاهنا مَثَلٌ ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البِرِّ ، فجعله كالذي يتكلَّف صعود العقبة . يقول : لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري في آخرين .
قوله تعالى : { وما أدراك ما العقبة } قال سفيان بن عيينة : كلُّ ما فيه «وما أدراك» فقد أخبره به ، وكلُّ ما فيه «وما يدريك» فإنه لم يخبره به . قال المفسرون : المعنى : وما أدراك ما اقتحام العقبة؟ ثم بيَّنه فقال تعالى : { فَكُّ رقبة } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، إلا عبد الوارث ، والكسائي ، والداجوني عن ابن ذكوان «فَكَّ» بفتح الكاف «رَقَبَةَ» بالنصب «أو أطعم» بفتح الهمزة والميم وسكون الطاء من غير ألف . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، ونافع ، وحمزة «فَكُ» بالرفع «رقبةٍ» بالخفض «أو إطعامٌ» بالألف . ومعنى فك الرقبة : تخليصها من أسر الرق ، وكل شيء أطلقته فقد فكَكْتَه . ومن قرأ «فَكَّ رقبَةَ» على الفعل ، فهو تفسير اقتحام العقبة بالفعل ، واختاره الفراء ، لقوله تعالى : { ثم كان من الذين آمنوا } قال ابن قتيبة : والمسغبة : المجاعة ، يقال : سَغِبَ يَسْغَبُ سُغُوباً : إذا جاع { يتيماً ذا مقربة } أي : ذا قرابة { أو مسكيناً ذا متربة } أي : ذا فقر كأنه لَصِق بالتراب . وقال ابن عباس : هو المطروح في التراب لا يقيه شيء . ثم بين أن هذه القُرَبَ إنما تنفع مع الإيمان بقوله تعالى : { ثم كان من الذين آمنوا } و «ثم» هاهنا بمعنى الواو ، كقوله تعالى : { ثم الله شهيد } [ يونس : 46 ] .
قوله تعالى : { وتواصوا بالصبر } على فرائض الله وأمره { وتواصوا بالمرحمة } أي : بالتراحم بينهم . وقد ذكرنا أصحاب الميمنة والمشأمة في [ الواقعة : 7 ، 8 ] قال الفراء : و «المؤصدة» المطبقة . قال مقاتل : يعني أبوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لها باب ، ولا يخرج منها غم ، ولا يدخل فيها روح آخر الأبد . وقال ابن قتيبة : يقال : أَوْصَدْتُ الباب وآصدته : إذا أطبقته . وقال الزجاج : المعنى : أن العذاب مطبق عليهم . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم «موصدة» بغير همز هاهنا وفي [ الهمزة : 8 ] وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، وحفص عن عاصم بالهمز في الموضعين .

وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)

قوله تعالى : { والشمس وضحاها } في المراد «بضحاها» ثلاثة أقوال .
أحدها : ضوؤها ، قاله مجاهد ، والزجاج . والضحى : حين يصفو ضَوْءُ الشمس بعد طلوعها .
والثاني : النهار كلُّه ، قاله قتادة ، وابن قتيبة .
والثالث : حَرُّها ، قاله السدي ، ومقاتل : { والقمر إذا تلاها } فيه قولان .
أحدهما : إذا تَبِعهَا ، قاله ابن عباس في آخرين . ثم في وقت اتباعه لها ثلاثة أقوال .
أحدهما : أنه في أول ليلة من الشهر يرى القمر إذا سقطت الشمس ، قاله قتادة .
والثاني : أنه في الخامس عشر يطلع القمر مع غروب الشمس ، حكاه الماوردي .
والثالث : أنه في النصف الأول من الشهر إذا غربت تلاها القمر في الإضاءة ، وخَلَفها في النور ، حكاه علي بن أحمد النيسابوري .
والقول الثاني : إذا ساواها ، قاله مجاهد . وقال غيره : إذا استدار ، فتلا الشمس في الضياء والنور ، وذلك في الليالي البيض .
قوله تعالى : { والنهار إذا جَلاَّها } في المكنى عنها قولان .
أحدهما : أنها الشمس ، قاله مجاهد ، فيكون المعنى : والنهار إذا بَيَّن الشمس ، لأنها تتبيَّن إذا انبسط النهار .
والثاني : أنها الظلمة ، فيكون كناية عن غير مذكور ، لأن المعنى معروف ، كما تقول : أصبحت باردة ، وهبت شمالاً ، وهذا قول الفراء ، واللغويين .
{ والليل إذا يغشاها } أي : يغشى الشمس حين تغيب فتظلم الآفاق .
قوله تعالى : { والسماء وما بناها } في «ما» قولان .
أحدهما : بمعنى «مَن» تقديره «ومن بناها» قاله الحسن ، ومجاهد ، وأبو عبيدة ، وبعضهم يجعلها بمعنى الذي .
والثاني : أنها بمعنى المصدر ، تقديره : وبنائها ، وهذا مذهب قتادة ، والزجاج . وكذلك القول في «وما طحاها» «وما سَّواها» وقد قرأ أبو عمران الجوني في آخرين «ومن بناها» «ومن طحاها» «ومن سوَّاها» كله بالنون . قال أبو عبيدة : ومعنى «طحاها» : بسطها يميناً وشمالاً ، ومن كل جانب . قال ابن قتيبة : يقال : خَيْرٌ طَاحٍ ، أي كثير متّسع .
وفي المراد «بالنفس» ها هنا قولان :
أحدهما : آدم ، قاله الحسن .
والثاني : جميع النفوس ، قاله عطاء . وقد ذكرنا معنى «سوَّاها» في قوله تعالى : { فسوَّاك فعدلك } [ الانفطار : 7 ] { فألهمها فجورها وتقواها } الإلهام : إيقاع الشيء في النفس . قال سعيد بن جبير : ألزمها فجورها وتقواها . وقال ابن زيد : جعل ذلك فيها بتوفيقه إياها للتقوى ، وخذلانه إياها للفجور .
قوله تعالى : { قد أفلح من زكاها } قال الزجاج : هذا جواب القسم . والمعنى : لقد أفلح ، ولكن اللام حذفت لأن الكلام طال ، فصار طوله عوضاً منها . قال ابن الأنباري : جوابه محذوف . وفي معنى الكلام قولان .
أحدهما : قد أفلحت نفس زكاها الله عز وجل ، قاله ابن عباس ، ومقاتل ، والفراء ، والزجاج .
والثاني : قد أفلح من زكّى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال ، قاله قتادة ، وابن قتيبة . ومعنى «زكاها» : أصلحها وطهرها من الذنوب { وقد خاب من دساها } فيه قولان كالذي قبله .
فإن قلنا : إن الفعل لله ، فمعنى «دساها» خذلها ، وأخملها ، وأخفى محلها ، [ بالكفر والمعصية ] ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح .
وإن قلنا : الفعل للإنسان ، فمعنى «دساها» أخفاها بالفجور . قال الفراء : ويروى أن «دَسَّاها» دَسَّسَهَا لأن البخيل يخفي منزله وماله . وقال ابن قتيبة : المعنى : دسى نفسه ، أي : أخفاها بالفجور والمعصية . والأصل من دَسَّسَتُ ، فقلبت السين ياءً ، كما قالوا : قصَّيت أظفاري ، أي : قصصتها . فكأن النَّطِفَ بارتكاب الفواحش دس نفسه ، وقمعها ، ومُصْطَنِعُ المعروف شهر نفسه ورفعها ، وكانت أجواد العرب تنزل الرُّبا للشهرة . واللئام تنزل الأطراف لتخفي أماكنها . وقال الزجاج : معنى «دساها» جعلها قليلة خسيسة .

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)

قوله تعالى : { كذبت ثمود بطغواها } أي : كذبت رسولها بطغيانها . والمعنى : أن الطغيان حملهم على التكذيب . قال الفراء : أراد بطغواها : طغيانها ، وهما مصدران ، إلا أن الطغوى أشكل برؤوس الآيات ، فاختير لذلك . وقيل : كذبوا العذاب { إذ انبعث } أي : انْتَدَبَ { أشقاها } وهو : عاقر الناقة لعقرها { فقال لهم رسول الله } وهو صالح { ناقة الله } قال الفراء : نصب الناقة على التحذير ، وكل تحذير فهو نصب . قال ابن قتيبة : المعنى : احذروا ناقة الله وشربها . وقال الزجاج : المعنى : ذَرُوا ناقة الله { و } ذَرُوا { سقياها } . قال المفسرون : سقياها : شربها من الماء . والمعنى : لا تتعرَّضوا ليوم شربها { فكذَّبوه } في تحذيره إياهم العذاب بعقرها { فعقروها } وقد بيَّنا معنى «العقر» في [ الأعراف : 77 ] { فدمدمَ عليهم ربهم } قال الزجاج : أي : أطبق عليهم العذاب . يقال : دمدمت على الشيء : إذا أطبقت فكرَّرت الإطباق . وقال المؤرِّج : الدمدمة : إهلاك باستئصال .
وفي قوله تعالى : { فَسوَّاها } قولان .
أحدهما : سوَّى بينهم في الإهلاك ، قاله السدي ، ويحيى بن سلام . وقيل : سوَّى الدمدمة عليهم . والمعنى : أنه أهلك صغيرهم ، وكبيرهم .
والثاني : سوَّى الأرض عليهم . قال مقاتل : سوَّى بيوتهم على قبورهم . وكانوا قد حفروا قبوراً فاضطجعوا فيها ، فلما صِيْحَ بهم فهلكوا زُلزلت بيوتهم فوقعت على قبورهم .
قوله تعالى : { ولا يخاف عقباها } قرأ أبو جعفر ، ونافع ، وابن عامر ، «فلا يخاف» بالفاء ، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام . وقرأ الباقون بالواو ، وكذلك هي في مصاحف مكة ، والكوفة ، والبصرة .
وفي المشار إليه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الله عز وجل ، فالمعنى : لا يخاف الله من أحد تَبِعَةً في إهلاكهم ، ولا يخشى عقبى ما صنع ، قاله ابن عباس ، والحسن .
والثاني : أنه الذي عقرها ، فالمعنى : أنه لم يخف عقبَى ما صنع ، وهذا مذهب الضحاك والسدي ، وابن السائب . فعلى هذا في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : إذ انبعث أشقاها وهو لا يخاف عقباها .
والثالث : أنه نبي الله صالح لم يخف عقباها ، حكاه الزجاج .

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)

قوله تعالى : { والليل إذا يغشى } قال ابن عباس : يغشى بظلمته النهار . وقال الزجاج : يغشى الأفق ، ويغشى جميع ما بين السماء والأرض ، { والنهار إذا تجلى } أي : بان وظهر من بين الظلمة ، { وما خلق الذكر والأنثى } في «ما» قولان . وقد ذكرناهما عند قوله تعالى : { وما بناها } [ الشمس : 5 ] وفي «الذكر والأنثى» قولان .
أحدهما : آدم وحواء ، قاله ابن السائب ، ومقاتل .
والثاني : أنه عام ، ذكره الماوردي . قوله تعالى : { إن سعيكم لشتى } هذا جواب القسم . قال ابن عباس : إن أعمالكم لمختلفة ، عمل للجنة ، وعمل للنار . وقال الزجاج : سعي المؤمن والكافر مختلف ، بينهما بُعْدٌ .
وفي سبب نزول هذه السورة قولان .
أحدهما : أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه اشترى بلالاً من أُمَيَّة وأُبَيٍّ ابنَي خلف بِبُرْدةٍ وعشرة أواق ، فأعتقه ، فأنزل الله عز وجل «والليل» إلى قوله تعالى : { إن سعيكم لشتى } يعني : سعي أبي بكر ، وأُميَّة وأُبَيٍّ ، قاله عبد الله بن مسعود .
والثاني : " أن رجلاً كانت له نخلةٌ فرعُها في دار رجلٍ فقيرٍ ذي عيال ، وكان الرجل إذا صَعِدَ النخلة ليأخذ منها الثمر ، فربما سقطت الثمرة ، فيأخذها صبيان الفقير فينزل الرجل من نخلته حتى يأخذ الثمرة من أيديهم ، فإن وجدها في فم أحدهم أدخل أصبعه حتى يخرجها ، فشكا ذلك الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقي النبيُّ صلى الله عليه وسلم صاحبَ النخلة ، فقال : «تعطني نخلتك التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة؟» فقال الرجل : إن لي نخلاً وما فيه نخلة أعجب إليَّ منها ، ثم ذهب الرجل ، فقال رجل : ممن سمع ذلك الكلام : يا رسول الله ، أتعطيني نخلة في الجنة إن أنا أخذتها؟ قال : نعم ، فذهب الرجل ، فلقي صاحب النخلة ، فساومها منه ، فقال له : أَمَا شَعَرْتَ أن محمداً أعطاني بها نخلة في الجنة؟ فقلتُ : ما لي نخلة أعجب إليَّ منها ، فقال له : أتريد بيعها؟ قال : لا ، إلا أن أُعطى بها مالا أظنني أعطى ، قال : ما مناك؟ قال : أربعون نخلة ، فقال : أنا أُعطيك أربعين نخلة ، فأشهد له ناساً ، ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن النخلة قد صارت في ملكي ، وهي لك ، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صاحب الدار ، فقال : النخلة لك ولعيالك ، فأنزل الله عز وجل «والليل إذا يغشى» إلى قوله تعالى { إن سعيكم لشتى } " رواه عكرمة عن ابن عباس . وقال عطاء : الذي اشتراها من الرجل أبو الدحداح ، أخذها بحائط له ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات إلى قوله تعالى : «إن سعيكم لشتى» أبو الدحداح ، وصاحب النخلة .
قوله تعالى : { فأما من أعطى واتقى } قال ابن مسعود : يعني : أبا بكر الصديق ، هذا قول الجمهور .

وقال عطاء : هو أبو الدحداح .
وفي المراد بهذا العطاء ثلاثة أقوال .
أحدها : أعطى من فضل ماله ، قاله ابن عباس .
والثاني : أعطى الله الصدق من قبله ، قاله الحسن .
والثالث : أعطى حق الله عليه ، قاله قتادة .
وفي قوله تعالى { واتقى } ثلاثة أقوال .
أحدها : اتقى الله ، قاله ابن عباس .
والثاني : اتقى البُخْل ، قاله مجاهد .
والثالث : اتقى محارم الله التي نهى عنها ، قاله قتادة .
وفي «الحسنى» ستة أقوال :
أحدها : أنه «لا إله إلا الله» ، رواه عطية عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك .
والثاني : الخَلَف ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن .
والثالث : الجنة ، قاله مجاهد .
والرابع : نِعَم الله عليه ، قاله عطاء .
والخامس : بوعد الله أن يثيبه ، قاله قتادة ، ومقاتل .
والسادس : الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، قاله زيد بن أسلم .
قوله تعالى : { فسنيسره لليسرى } ضم أبو جعفر سين «اليسرى» وسين «العسرى» وفيه قولان .
أحدهما : للخير ، قاله ابن عباس . والمعنى : نُيَسِّر ذلك عليه .
والثاني : للجنة ، قاله زيد بن أسلم .
{ وأما من بخل } قال ابن مسعود : يعني ذلك أُميَّة وأُبي ابنَيْ خلف . وقال عطاء : هو صاحب النخلة .
قال المفسرون : «وأما من بخل» بالنفقة في الخير والصدقة . وقال قتادة : بحق الله عز وجل { واستغنى } عن ثواب الله فلم يرغب فيه { وكذّب بالحسنى } وقد سبقت الأقوال فيها .
وفي «العسرى» قولان .
أحدهما : النار ، قاله ابن مسعود .
والثاني : الشر ، قاله ابن عباس . والمعنى : سنهيؤه للشر فيؤدِّيه إلى الأمر العسير ، وهو عذاب النار .
ثم ذكر أن ما أمسكه من ماله لا ينفعه ، فقال تعالى : { وما يغنى عنه ماله } الذي بخل به عن الخير { إذا تردَّى } وفيه قولان .
أحدهما : إذا تردَّى في جهنم ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والمعنى : إذا سقط فيها .
والثاني : إذا مات فتردَّى في قبره ، قاله مجاهد .

إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)

قوله تعالى : { إن علينا للْهُدى } قال الزجاج : المعنى : إن علينا أن نبيِّن طريق الهدى من طريق الضلالة { وإنَّ لنا للآخرة والأولى } أي : فليطلبا منا { فأنذرتكم ناراً تلظى } أي : تَوقَّد وتتوهَّج { لا يصلاها إلا الأشقى } يعني : المشرك { الذي كذب } الرسول { وتولى } عن الإيمان . قال أبو عبيدة : { الأشقى } بمعنى الشقيّ . والعرب تضع «أَفْعَلَ» في موضع «فاعل» . قال طرفة :
تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ ... فَتِلْكَ سَبِيلٌ لِسْتُ فيها بِأَوْحَدِ
قال الزجاج : وهذه الآية التي من أجلها زعم أهل الإرجاء أنه لا يدخل النار إلا كافر ، وليس [ الأمر ] كما ظنوا . هذه نار موصوفة بعينها ، ولأهل النار منازل . فلو كان [ كل ] من لا يشرك لا يعذَّب لم يكن في قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] فائدة [ وكان «ويغفر ما دون ذلك» كلاماً لا معنى له ] .
قوله تعالى : { وسيجنَّبُها } أي : يُبْعَدُ عنها ، فيجعل منها على جانب { الأتقى } يعني : أبا بكر الصديق في قول جميع المفسرين { الذي يؤتي ماله يتزكَّى } أي : يطلب أن يكون عنه الله زاكيا ، ولا يطلب الرياء ، ولا السمعة ، { وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تجزى } أي : لم يفعل ذلك مجازاة ليد أُسْدِيَتْ إليه .
وروى عطاء عن ابن عباس أن أبا بكر لما اشترى بلالاً بعد أن كان يعذَّب قال المشركون : ما فعل أبو بكر ذلك إلا ليدٍ كانت لبلال عنده ، فأنزل الله تعالى : { وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } . أي : إلا طلباً لثواب ربه . قال الفراء : و «إلا» بمعنى «لكن» ونصب «ابتغاءَ» على إضمار إنفاقه . فالمعنى : وما ينفق إلا ابتغاء وجه ربه .
قوله تعالى : { ولسوف يرضى } أي : بما يُعطَى في الجنة من الثواب .

وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

وفي المراد «بالضحى» أربعة أقوال .
أحدها : ضوء النهار ، قاله مجاهد .
والثاني : صدر النهار ، قاله قتادة .
والثالث : أول ساعة من النهار إذا ترحّلت الشمس ، قاله السدي ، ومقاتل .
والرابع : النهار كلُّه ، قاله الفراء .
وفي معنى «سجى» خمسة أقوال .
أحدها : أظلم .
والثاني : ذهب ، رويا عن ابن عباس .
والثالث : أقبل ، قاله سعيد بن جبير .
والرابع : سكن ، قاله عطاء ، وعكرمة ، وابن زيد . فعلى هذا : في معنى «سكن» قولان .
أحدهما : استقر ظلامه . قال الفراء : «سجى» بمعنى أظلم وركد في طوله . كما يقال : بَحْرٌ سَاجٍ : ولَيْل سَاجٍ : إذا ركد وأظلم . ومعنى : ركد : سكن . قال أبو عبيدة ، يقال : ليلة ساجية ، وساكنة ، وشاكرة . قال الحادي :
يَا حَبَّذا القَمْرَاءُ والليلُ الساجْ ... وطُرُقٌ مِثْلُ مُلاءِ النِّساجْ
قال ابن قتيبة : «سجى» بمعنى سكن ، وذلك عند تناهي ظلامه وركوده .
والثاني : سكن الخلق فيه ، ذكره الماوردي .
والخامس : امتد ظلامه ، قاله ابن الأعرابي .
قوله تعالى : { ما وَدَّعك ربك } وقرأ عمر بن الخطاب ، وأنس ، وعروة ، وأبو العالية ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة ، وأبو حاتم عن يعقوب «مَا وَدَعَكَ» بتخفيف الدال . وهذا جواب القسم . قال أبو عبيدة : «ما وَدَّعك» من التوديع كما يودع المفارق ، و «مَا وَدَعَكَ» مخففة من ودعه يدعه { وما قلى } أي : أبغض .
قوله تعالى : { وللآخرة خير لك من الأولى } قال عطاء ، خير لك من الدنيا . وقال غيره : الذي لك في الآخرة أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا .
قوله تعالى : { ولسوف يعطيك ربك } في الآخرة من الخير { فترضى } بما تُعطَى . قال علي والحسن : هو الشفاعة في أمته حتى يرضى . قال ابن عباس : عُرِض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما يُفْتَح على أُمته من بعده كَفْرَاً كَفْرَاً ، فَسُر بذلك ، فأنزل الله عز وجل : «وللآخرة خير لك من الأولى . ولسوف يعطيك ربك فترضى» .
قوله تعالى : { ألم يجدك يتيماً فآوى } فيه قولان .
أحدهما : جعل لك مأوى ، إذا ضَمَّك إلى عمك أبي طالب ، فكفاك المؤونة ، قاله مقاتل .
والثاني : جعل لك مأوى لنفسك أغناك عن كفالة أبي طالب ، قاله ابن السائب .
قوله تعالى : { ووجدك ضالاً فهدى } فيه ستة أقوال .
أحدها : ضالاً عن معالم النبوة ، وأحكام الشريعة ، فهداك إليها ، قاله الجمهور ، منهم الحسن ، والضحاك .
والثاني : أنه ضَلَّ وهو صبي صغير في شعاب مكة ، فردَّه الله إلى جده عبد المطلب ، رواه أبو الضحى عن ابن عباس .
والثالث : أنه لما خرج مع ميسرة غلام خديجة أخذ إبليس بزمام ناقته ، فعدل به عن الطريق ، فجاء جبريل ، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى الحبشة ، ورده إلى القافلة ، فمنَّ الله عليه بذلك ، قاله سعيد بن المسيب .
والرابع : أن المعنى : ووجدك في قوم ضُلاَّل ، فهداك للتوحيد والنبوة ، قاله ابن السائب .

والخامس : ووجدك نِسْيَاً ، فهداك إلى الذِّكْر . ومثله : { أن تَضِلَّ إحداهما فتذكَّر إحداهما الأخرى } [ البقرة : 282 ] ، قاله ثعلب .
والسادس : ووجدك خاملاً لا تُذْكَر ولا تُعْرَف ، فهدى الناس إليك حتى عرفوك ، قاله عبد العزيز بن يحيى ، ومحمد بن علي الترمذي .
قوله تعالى : { ووجدك عائلاً } قال أبو عبيدة : أي : ذا فقر . وأنشد :
وَمَا يَدْري الفقيرُ مَتى غِنَاهُ ... وما يَدْرِي الغَنِيُّ مَتى يَعِيلُ
أي : يفتقر . قال ابن قتيبة : العائل : الفقير ، كان له عيال ، أو لم يكن . يقال : عال الرجل ، إذا افتقر . وأعال : إذا كثر عياله .
قوله تعالى : { فأغنى } قولان .
أحدهما : رَضَّاك بما أعطاك من الرزق ، قاله ابن السائب ، واختاره الفراء . وقال : لم يكن غناه عن كثرة المال ، ولكن الله رضَّاه بما آتاه .
والثاني : فأغناك بمال خديجة عن أبي طالب ، قاله جماعة من المفسرين .
قوله تعالى : { فأما اليتيم فلا تقهر } فيه قولان .
أحدهما : لا تحقر ، قاله مجاهد .
والثاني : لا تقهره على ماله ، قاله الزجاج { وأما السائل } ففيه قولان .
أحدهما : سائل البِر ، قاله الجمهور . والمعنى : إذا جاءك السائل ، فإما أن تعطيه ، وإِما أن تردَّه ردَّاً ليناً . ومعنى { فلا تنهر } لا تنهره ، يقال : نهره وانتهره : إذا استقبله بكلام يزجره .
والثاني : أنه طالب العلم ، قاله يحيى بن آدم في آخرين .
قوله تعالى : { وأما بنعمة رَبِّك فَحَدِّثْ } في النعمة ثلاثة أقوال .
أحدها : النُبُوَّة .
والثاني : القرآن ، رويا عن مجاهد .
والثالث : أنها عامة في جميع الخيرات ، وهذا قول مقاتل . وقد روي عن مجاهد قال : قرأت على ابن عباس . فلما بلغت «والضحى» قال : كبِّر إذا ختمت كل سورة حتى تختم . وقد قرأتُ على أُبيِّ بن كعب فأمرني بذلك . قال علي بن أحمد النيسابوري : ويقال : إن الأصل في ذلك أن الوحي لما فتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال المشركون : قد هجره شيطانه وَوَدَعَه ، اغتمَّ لذلك ، فلما نزل «والضحى» كبَّر عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحاً بنزول الوحي ، فاتخذه الناس سُنَّةً .

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)

قوله تعالى : { ألم نشرح لك صَدْرك } الشرح : الفتح بإذهاب ما يصد عن الإدراك . والله تعالى فتح صدر نبيه للهدى والمعرفة بإذهاب الشواغل التي تصدر عن إدراك الحق . ومعنى هذا الإستفهام : التقريرُ ، أي : قد فعلنا ذلك { ووضعنا عنك وزرك } أي : حَطَطْنَا عنك إِثْمَكَ الذي سَلَفَ في الجاهلية ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والفراء ، وابن قتيبة في آخرين . وقال الزجاج : المعنى : أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . قال ابن قتيبة : وأصل الوِزْر : ما حمله الإنسان على ظهره ، فَشُبِّه بالحمل فجعل مكانه . ومعنى { أنقض ظهرك } أثقله حتى سمع نقيضه ، أي : صوته . وهذا مَثَلٌ ، يعني : أنه لو كان حملاً يحمل لَسُمِع نقيضُ الظهر منه . وذهب قوم إلى أن المراد بهذا تخفيف أعباء النبوة التي يُثْقِلُ القيامُ بها الظُّهْرَ ، فَسَهَّلَ الله له ذلك حتى تيَسَّر عليه الأمر . وممن ذهب إلى هذا عبد العزيز بن يحيى .
قوله تعالى : { ورفعنا لك ذِكْرَك } فيه خمسة أقوال . أحدها : ما روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عن هذه الآية ، فقال : قال الله عز وجل : إذا ذُكِرْتُ [ ذُكِرْتَ ] معي . قال قتادة : فليس خطيب ، ولا مُتَشَهِّدٌ ، ولا صاحب صلاة إلا يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله ، وهذا قول الجمهور .
والثاني : رفعنا لك ذِكْرَك بالنبوة ، قاله يحيى بن سلام .
والثالث : رفعنا لك ذكرك في الآخرة كما رفعناه في الدنيا ، حكاه الماوردي .
والرابع : رفعنا لك ذكرك عند الملائكة في السماء .
والخامس : بأخذ الميثاق لك على الأنبياء ، وإلزامهم الإيمان بك ، والإقرار بفضلك ، حكاهما الثعلبي .
قوله تعالى : { فإن مع العسر يسراً } ضم سين «العُسُر» وسين «اليُسُر» أبو جعفر . و «العسر» مذكور في الآيتين بلفظ التعريف . و «اليُسر» مذكور بلفظ التنكير ، فدل على أن العسر واحد ، واليسر اثنان . قال ابن مسعود ، وابن عباس في هذه [ الآية ] : لن يغلب عُسْر يسرين . قال الفراء : العرب إذا ذَكَرَتْ نَكِرَةً ثم أعادتها بنكرة صارت اثنتين ، كقولك : إذا كسبت درهماً فأنفق درهماً ، فالثاني غير الأول ، وإذا أعادتها معرفة ، فهي كقولك : إذا كسبت درهماً فأنفق الدرهم ، فالثاني هو الأول . ونحو هذا قال الزجاج : ذَكَرَ العُسْر بالألف واللام ، ثم ثَنَّى ذِكْرَه ، فصار المعنى : إن مع العسر يسرين . وقال الحسين بن يحيى الجرجاني ويقال له : صاحب النظم : معنى الكلام : لا يحزنك ما يُعَيِّرك به المشركون من الفقر «فإن مع العسر يسراً» [ عاجلاً في الدنيا ، فأنجزه بما وعده ، بما فتح عليه ، ثم ابتدأ فصلاً آخر فقال : «إن مع العسر يسراً» ] والدليل على ابتدائه تَعرِّيه من الفاء والواو ، وهو وعد لجميع المؤمنين أن مع عسر المؤمنين يسراً في الآخرة ، فمعنى قولهم : لن يغلب عسر يسرين : لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعده الله المؤمنين في الدنيا ، فاليسر الذي وعدهم في الآخرة ، إنما يغلب أحدهما ، وهو يسر الدنيا .

فأما يسر الآخرة ، فدائم لا ينقطع ، كقوله [ صلى الله عليه وسلم ] : « شهرا عيد لا ينقصان » أي لا يجتمعان في النقص . وحكي عن العتبي قال : كنت ذات ليلة في البادية بحالة من الغَمِّ ، فأُلْقِيَ في رَوعي بيت من الشعر ، فقلت :
أَرَى المَوْتَ لِمَنْ أَصْبَ ... حَ مَغْمُوماً لَهُ أَرُوَحْ
فلما جن الليل سمعت هاتفاً يهتف :
أَلاَ يا أَيُّهَا المرءُ الْ ... لَذِي الهمُّ بِه بَرَّحْ
وَقَدْ أَنْشَدَ بَيْتَاً لَمْ ... يَزَلْ في فِكْرِهِ يَسْنَحْ
إذا اشتَدَّ بك العُسْرُ ... فَفَكِّر في { أَلَمْ نَشْرَحْ }
فَعُسْرٌ بَيْنَ يُسْرَيْنِ ... إِذا أَبْصَرْتَهُ فَافْرَحْ
فحفظت الأبيات وفرَّج الله غَمِّي .
قوله تعالى : { فإذا فرغت فانصب } أي : فادأبْ في العمل ، وهو من النَّصْب ، والنَّصب : التعبُ ، الدَّؤوب في العمل .
وفي معنى الكلام خمس أقوال .
أحدها : فإذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل ، قاله ابن مسعود .
والثاني : فإذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، ومقاتل .
والثالث : فإذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل آخرتك ، قاله مجاهد .
والرابع : فإذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك ، قاله الشعبي ، والزهري .
والخامس : إذا صح بدنك فاجعل صحتك نَصباً في العبادة ، ذكره علي ابن أبي طلحة { وإلى ربك فارغب } قال الزجاج : اجعل رغبتك إلى الله عز وجل وحده .

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)

قوله تعالى : { والتين والزيتون } فيهما سبعة أقوال .
أحدها : أنه التين المعروف ، والزيتون المعروف ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، ومجاهد ، وعكرمة ، وجابر بن زيد ، وإبراهيم . وذكر بعض المفسرين أنه إنما أقسم بالتين لأنها فاكهة مُخَلَّصة من شائب التنغيص ، وهو يدل على قدرة من هيَّأه على تلك الصفة . وجعل الواحدة منه على مقدار اللقمة ، وإنما أقسم بالزيتون لكثرة الانتفاع به .
والثاني : أن التين : مسجد نوح عليه السلام الذي بنى على الجودي . والزيتون : بيت المقدس ، رواه عطية عن ابن عباس .
والثالث : التين المسجد الحرام ، والزيتون : المسجد الأقصى ، قاله الضحاك .
والرابع : التين : مسجد دمشق ، والزيتون : بيت المقدس ، قاله كعب ، وقتادة ، وابن زيد .
والخامس : أنهما جبلان ، قاله عكرمة في رواية . وروي عن قتادة قال : التين : الجبل الذي عليه دمشق ، والزيتون : الجبل الذي عليه بيت المقدس .
والسادس : أن التين : مسجد أصحاب الكهف ، والزيتون : مسجد إيلياء ، قاله القرظي .
والسابع : أن التين : جبال ما بين حلوان إلى همذان ، والزيتون : جبال بالشام ، حكاه الفراء .
فأما { طور سينين } فالطور : جبل وفيه قولان .
أحدهما : أنه الجبل الذي كلم الله موسى عليه ، قاله كعب الأحبار في الأكثرين .
والثاني : أنه جبل بالشام ، قاله قتادة .
فأما «سينين» فهو لغة في سيناء . وقد قرأ علي ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبو العالية ، وأبو مجلز و«طور سَيناء» ممدودة مهموزة ، مفتوحة السين . وقرأ ابن مسعود ، وأبو الدرداء ، وأبو حيوة «وطورِ سيناء» مثلهم إلا أنهم كسروا السين . وقرأ أبو رجاء ، والجحدري «سينين» كما في المصحف ، لكنهما فتحا السين . وقال ابن الأنباري : «سينين» هو سيناء .
واختلفوا في معناه ، فقيل : معناه : الحسن . وقيل : المبارك . وقيل : إنه اسم للشجر الذي حوله . وقد شرحنا هذا في سورة [ المؤمنين : 20 ] قال الزجاج : وقد قرىء هاهنا «وطور سَيْناء» وهو أشبه لقوله تعالى { وشجرةً تخرج من طُورِ سيناء } [ المؤمنون : 20 ] . وقال مقاتل : كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين ، وسيناء بلغة النبط .
قوله تعالى : { وهذا البلد الأمين } يعني : مكة يأمن فيه الخائف في الجاهلية ، والإسلام قال الفراء : ومعنى «الأمين» الآمن . والعرب تقول للأمين : آمن .
قال الشاعر :
أَلَمْ تَعْلَمي يا أَسْمَ وَيْحَكِ أَنَّني ... حَلَفْتُ يَمِيناً لا أَخُونُ أَمِينِي
يريد آمني .
قوله تعالى : { لقد خلقنا الإنسان } هذا جواب القسم . وفي المراد بالإنسان هاهنا خمسة أقوال .
أحدها : أنه كَلدَة بن أسيد ، قاله ابن عباس .
والثاني : الوليد بن المغيرة ، قاله عطاء .
والثالث : أبو جهل بن هشام .
والرابع : عتبة ، وشيبة ، حكاهما الماوردي .
والخامس : أنه اسم جنس ، وهذا مذهب كثير من المفسرين ، وهو معنى قول مقاتل .
قوله تعالى : { في أحسن تقويم } فيه أربعة أقوال .
أحدها : في أعدل خلق .
والثاني : منتصب القامة ، رويا عن ابن عباس .
والثالث : في أحسن صورة ، قاله أبو العالية .

والرابع : في شباب وقوة ، قاله عكرمة { ثم رددناه أسفل سافلين } فيه قولان .
أحدهما : إلى أرذل العُمُر ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، وإبراهيم ، وقتادة . وقال الضحاك : إلى الهرم بعد الشباب ، والضعف بعد القوََّة ، والسافلون : هم الضعفاء ، والزَّمنى ، والأطفال ، والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعاً . قال الفراء : وإنما قال : «سافلين» على الجمع ، لأن الإنسان في معنى جمع . تقول : هذا أفضل قائم ، ولا تقول : قائمين ، لأنك تريد واحداً ، فإذا لم ترد واحداً ذكرته بالتوحيد وبالجمع .
والثاني : إلى النار ، قاله الحسن ، وأبو العالية ، ومجاهد . والمعنى : إنا نفعل هذا بكثير من الناس . تقول العرب : أنفق فلان ماله على فلان ، وإنما أنفق بعضه ، ومثله قوله تعالى : { الذي يؤتي ماله يتزكى } [ الليل : 18 ] لم يُرِدْ كُلَّ ماله . ثم استثنى من الإنسان فقال تعالى : { إلا الذين آمنوا } لأن معنى الإنسان الكثير .
وللمفسرين في معنى الاستثناء قولان :
أحدهما : إلا الذين آمنوا ، فإنهم لا يُرَدُّون إلى الخَرَف وأَرْذَل العُمُر وإن عُمِّروا طويلاً ، وهذا على القول الأول . قال ابن عباس : من قرأ القرآن لم يُرَدَّ إلى أرذل العمر . وقال النخعي : إذا بلغ المؤمن من الكِبَر ما يعجز عن العمل كُتِبَ له ما كان يعمل ، وهو قوله تعالى : { فلهم أجر غير ممنون } وقال ابن قتيبة : المعنى : إلا الذين آمنوا في وقت القوَّة والقدرة ، فإنهم حال الكِبَر غير منقوصين وإن عجزوا عن الطاعات ، لأن الله تعالى علم أنهم لو لم يسلبهم القوَّة لم ينقطعوا عن أفعال الخير ، فهو يجري لهم أجر ذلك .
والثاني : إلا الذين آمنوا ، فإنهم لا يُرَدُّون إلى النار . وهذا على القول الثاني .
وقد شرحنا معنى «الممنون» في «ن» [ آية : 3 ] .
قوله تعالى : { فما يكذِّبك بعد بالدين } فيه قولان .
أحدهما : فما يكذِّبك أيها الإنسان بعد هذه الحجة «بالدِّين» أي : ما الذي يجعلك مكذِّباً بالجزاء؟! وهذا توبيخ للكافر ، وهو معنى قول مقاتل . وزعم أنها نزلت في عدي بن ربيعة .
والثاني : فمن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب بعدما تبين له خلقُنا الإنسان على ما وصفنا ، قاله الفراء . فأما «الدِّين» فهو الجزاء . والمشار بذكره إلى البعث ، كأنه استدل بتقليب الأحوال على البعث .
قوله تعالى { أليس الله بأحكم الحاكمين } أي : بأقضى القاضين . قال مقاتل : يحكم بينك وبين مكذِّبيك . وذكر بعض المفسرين : أن معنى هذه الآية تسليته في تركهم والإعراض عنهم . ثم نسخ هذا المعنى بآية السيف .

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)

قوله تعالى : { اقرأ } قرأ أبو جعفر بتخفيف الهمزة في الحرفين . قال أبو عبيدة : المعنى : { إِقرأ باسم ربك } والباء زائدة .
وقال المفسرون : المعنى : اذكر اسمه مستفتحاً به قراءتك . وإنما قال تعالى : { الذي خلق } لأن الكفار كانوا يعلمون أنه الخالق دون أصنامهم . والإنسان هاهنا : ابن آدم . والعلق : جمع علقة ، وقد بَيَّنَّاها في سورة «الحج» قال الفراء : لما كان الإنسان في معنى الجمع جمع العلق مع مشاكلة رؤوس الآيات .
قوله تعالى : { اقرأ } تقرير للتأكيد . ثم استأنف فقال تعالى : { وربُّك الأكرم } قال الخطابي : الأكرم : الذي لايوازيه كرم ، ولا يعادله في الكرم نظير . وقد يكون الأكرم بمعنى الكريم ، كما جاء الأعَزُّ والأطول بمعنى العزيز والطويل . وقد سبق تفسير الكريم .
قوله تعالى : { الذي علم بالقلم } أي : علم الإنسان الكتابة بالقلم { علم الإنسان ما لم يعلم } من الخط ، والصنائع ، وغير ذلك . وقيل : المراد بالإنسان هاهنا : محمد صلى الله عليه وسلم .

كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)

قوله تعالى : { كلا } أي : حقاً . وقال مقاتل : { كَلاَّ } لا يعلم أن الله علمه . ثم استأنف فقال تعالى : { إن الإنسان ليطغى } يعني : أبا جهل . وكان إذا أصاب مالاً أَشر وبَطِرَ في ثيابه ، ومراكبه ، وطعامه { أن رآه استغنى } قال ابن قتيبة : أي : أن رأى نفسه استغنى . و «الرُّجْعى» المرجع .
قوله تعالى : «أرأيت الذي ينهى» معنى : أرأيت : تعجيبه المخاطب ، وإنما كررها للتأكيد والتعجيب . والمراد بالناهي هاهنا : أبو جهل . قال أبو هريرة : قال أبو جهل هل يعفِّر محمَّدٌ وجهه بين أظهركم؟ قالوا : نعم . قال : فبالذي يحلف به لئن رأيتُه لأَطَأَنَّ على رقبته . فقيل له : هاهو ذاك يصلي . فانطلق لِيَطَأَ على رقبته ، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ، ويتَّقي بيديه ، فأتَوْه فقالوا : مالك يا أبا الحكم؟ فقال : إن بيني وبينه خندقاً من نار ، وهولاً وأَجْنِحَةً . وقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً " ، فأنزل الله تعالى { أرأيت الذي ينهى } إلى آخر السورة . وقال ابن عباس : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ، فجاء أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا؟! فانصرف إليه النبي صلى الله عليه وسلم فَزَبَرَه ، فقال أبو جهل : والله إنك لتعلم ما بها نادٍ أكثر مني ، فأنزل الله تعالى : { فليدع ناديه سندع الزبانية } قال ابن عباس : والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله .
قال المفسرون : والمراد بالعبد هاهنا : محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : كانت الصلاة صلاة الظهر .
قوله تعالى : { أرأيت إن كان على الهدى } يعني المنهي وهو النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { أرأيتَ إن كذَّب وتولَّى } يعني : الناهي ، وهو أبو جهل ، قال الفراء : والمعنى : أرأيتَ الذي ينهى عبداً إذا صلى ، وهو كاذب مُتَوَلٍّ عن الذِّكْر ، فأي شيء أعجب من هذا؟! وقال ابن الأنباري : تقديره : أرأيته مصيباً .
قوله تعالى : { ألم يعلم } يعني أبا جهل { بأنَّ الله يرى } ذلك فيجازيه { كلا } أي : لا يعلم ذلك { لئن لم ينته } عن تكذيب محمد وشتمه وإيذائه { لنسفعاً بالناصية } السفع : الأخذ ، والناصية : مُقَدَّم الرأس . قال أبو عبيدة : يقال : سفعتُ بيده ، أي أخذتُ بها . وقال الزجاج : يقال سفعتُ الشيءَ : إذا قبضتَ عليه وجذبته جذباً شديداً . والمعنى : لَنَجُرَّنَّ ناصيته إلى النار .
قوله تعالى : { ناصيةٍ } قال أبو عبيدة : هي بدل ، فلذلك جَرَّها . قال الزجاج : والمعنى : بناصية صاحبُها كاذبٌ خاطىءٌ ، كما يقال : نهارُه صائم ، وليله قائم ، أي : هو صائم في نهاره ، قائم في ليله { فليَدْعُ ناديه } أي : أهل ناديه ، وهم أهل مجلسه فليستنصرهم { سَنَدْعُ الزَّبانية } قال عطاء : هم الملائكة الغِلاظ الشِّداد . وقال مقاتل : هم خَزَنَةُ جهنم . وقال قتادة : الزَّبانية في كلام العرب : الشُّرَط .

قال الفراء : كان الكسائي يقول : لم أسمع للزَّبانية بواحد ، ثم قال بأَخَرة : واحد الزبانية : زِبْنِيٌّ ، فلا أدري أقياساً منه أو سماعاً . وقال أبو عبيدة : واحد الزبانية : زِبْنِيَة وهو كل متمرِّد من إنس ، أو جان . يقال : فلان زِبْنِيَة عِفْرِيَة . قال ابن قتيبة : وهو مَأْخوذٌ من الزَّبْن ، وهو الدَّفْع ، كأنهم يدفعون أهل النار إليها . قال ابن دريد : الزَّبْن الدفع . يقال : ناقة زبون : إذا زَبَنَتْ حالبها ، ودفعته برجلها . وتَزَابَنَ القوم : تدارؤوا . واشتقاق الزبانية من الزَّبْن . والله أعلم .
قوله تعالى : { كلا } أي : ليس الأمر على ما عليه أبو جهل { لا تُطعْهُ } في ترك الصلاة { واسجد } أي : صَلِّ لله { واقترب } إليه بالطاعة ، وهذا قول الجمهور أن قوله تعالى { واقترب } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم . وقد قيل : إنه خطاب لأبي جهل . ثم فيه قولان .
أحدهما : أن المعنى : اسجد أنت يا محمد ، واقترب أنت يا أبا جهل من النَّار ، قاله زيد بن أسلم .
والثاني : واقترب يا أبا جهل تَهَدَّدَاً له ، رواه أبو سليمان الدمشقي عن بعض القُدَماء . وهذا يشرحه حديث أبي هريرة الذي قدَّمناه . وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء » .

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

قوله تعالى : { إنا أنزلناه } يعني : القرآن { في ليلة القدر } وذلك أنه أنزل جملةً في تلك الليلة إلى بيت العِزَّة ، وهو بيت في السماء الدنيا . وقد ذكرنا هذا الحديث في أول كتابنا . والهاء في «إنا أنزلناه» كناية عن غير مذكور . وقال الزجاج : قد جرى ذكره في قوله تعالى { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } [ الدخان : 3 ] .
فأما { ليلة القدر } ففي تسميتها بذلك خمسة أقوال .
أحدها : أن القَدْرَ : العظمةُ ، من قولك : لفلان قَدْر ، قاله الزهري .
ويشهد له قوله تعالى : { وما قَدَرُوا الله حق قَدْرِه } [ الأنعام : 91 ] و [ الزمر : 67 ] .
والثاني : أنه من الضيق ، أي : هي ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة الذين ينزلون ، قاله الخليل بن أحمد ، ويشهد له قوله تعالى : { وَمَنْ قُدِرَ عليه رِزْقُه } [ الطلاق : 7 ] .
والثالث : أن القَدْرَ : الحُكم كأن الأشياء تقَدَّرُ فيها ، قاله ابن قتيبة .
والرابع : لأن من لم يكن له قَدْر صار بمراعاتها ذَا قَدْر ، قاله أبو بكر الورَّاق .
والخامس : لأنه نزل فيها كتاب ذُو قَدر ، وتنزل فيها رحمة ذات قَدْر ، وملائكةٌ ذوُو قَدْر ، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله .
فصل
واختلف العلماء هل ليلة القدر باقية ، أم كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة؟ والصحيح بقاؤها .
وهل هي في جميع السنة ، أم في رمضان؟
فيه قولان .
أحدهما : في رمضان ، قاله الجمهور .
والثاني : في جميع السنة ، قاله ابن مسعود .
واختلف القائلون بأنها في شهر رمضان هل تختص ببعضه دون بعض؟ على قولين :
أحدهما : أنها في العشر الأواخر ، قاله الجمهور ، وأكثر الأحاديث الصحيحة تدل عليه .
وقد روى البخاري في أفراده من حديث ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ، في تاسعةٍ تبقى ، أو سابعة تبقى ، أو في خامسة تبقى " وفي حديث أبي بَكْرَة قال : ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلاَ في العشر الأواخر ، فإني سمعته يقول : " التمسوها في تسع يبقين ، أو سبع يبقين ، أو خمس يبقين ، أو ثلاث يبقين ، أو آخر ليلة " . والقول الثاني : أنها في جميع رمضان ، قاله الحسن البصري .
واختلف القائلون بأنها في العشر الأواخر هل تختص ليالي الوتر دون الشفع؟ على قولين .
أحدهما : أنها تختص الأفراد ، قاله الجمهور . والأحاديث الصحاح كلها تدل عليه . وقد أخرج البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ابتغوها في العشر الأواخر في الوتر منها " . والثاني : أنها تكون في الشفع كما تكون في الوتر ، قاله الحسن . وروي عن الحسن ومالك بن أنس قالا : هي ليلة ثماني عشرة .

واختلف القائلون بأنها في الأفراد في أخص الليالي بها على خمسة أقوال .
أحدها : أن الأخص بها ليلة إحدَى وعشرين . فروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري قال : اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الوسط ، واعتكفنا معه ، فلما أصبحنا صبيحة عشرين رجع ، ورجعنا معه ، وأُرِيَ ليلةَ القدر ، ثم أُنسيها ، فقال : " إني رأيتُ ليلة القدر ، ثم أُنسيتها وأُراني أسجد في ماء وطين ، فمن اعتكف فليرجع إلى مُعتَكفه ، وهاجت علينا السماء آخر تلك العشية ، وكان سَقْفُ المسجد عريشاً من جريد ، فوكف [ المسجد ] فوالذي هو أكرمه ، وأنزل عليه الكتاب لَرَأَيْتُه يصلي ، بدأ المغرب ليلة إحدى وعشرين ، وإن جبهته وأرنبة أنفه لفي الماء والطين " وهذا مذهب الشافعي .
والثاني : أن الأخص بها ليلة ثلاث وعشرين . روى أبو هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليلة ثلاث وعشرين : «اطلبوها الليلة» " . وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " من كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئاً فليقم ليلة ثلاث وعشرين " . وروى مسلم في أفراده من " حديث عبد الله بن أُنَيْس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أُرِيتُ ليلةَ القدر ثم أُنسيتُها ، وأُراني صُبْحَها أسجد في ماء وطين . قال : فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين ، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه " قال : وكان عبد الله بن أُنَيْس يقول ليلة ثلاث وعشرين .
والثالث : ليلة خمس وعشرين ، روى هذا المعنى أبو بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والرابع : ليلة سبع وعشرين ، روى مسلم في أفراده من حديث ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : من كان متحرياً فليتحرها ليلة سبع وعشرين ، يعني : ليلة القدر ، وهذا مذهب عليٍّ وأُبَيِّ بن كعب . وكان أُبَيٌّ يحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين ، وبه قال ابن عباس ، وعائشة ، ومعاوية ، واختاره أحمد رضي الله عنه .
وروي عن ابن عباس : أنه استدل على ذلك بشيئين .
أحدهما : أنه قال : إن الله تعالى خلق الإنسان على سبعة أصناف ، يشير إلى قوله تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة } [ المؤمنين : 12 ] الآيات . ثم جعل رزقه في سبعة أصناف يشير إلى قوله تعالى : { أنا صببنا الماء صباً } [ عبس : 25 ] ثم تصلى الجمعة على رأس سبعة أيام ، وجعل السموات سبعاً ، والأرضين سبعاً ، والمثاني سبعاً ، فلا أرى ليلة القدر إلا ليلة السابعة [ وعشرين ] .
والثاني : أنه قال : قوله تعالى { سلام } هي الكلمة السابعة والعشرون ، فدل على أنها كذلك .
واحتج بعضهم فقال : ليلة القدر كُرِّرت في هذه السورة ثلاث مرات ، وهي تسعة أحرف ، والتسعة إذا كُرِّرت ثلاثاً فهي سبع وعشرون ، وهذا تنبيه على ذلك .

والقول الخامس : أن الأولى طلبها في أول ليلة من رمضان ، قاله أبو رزين العقيلي .
وروى أيوب عن أبي قُلابة أنه قال : ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر .
فأما الحكمة في إخفائها فليتحقق اجتهاد العباد في ليالي رمضان طَمَعاً منهم في إدراكها ، كما أخفى ساعة الجمعة ، وساعة الليل ، واسمه الأعظم ، والصلاة الوسطى ، والوليُّ في الناس .
قوله تعالى : { وما أدراك ما ليلة القدر } هذا على سبيل التعظيم والتشوق إلى خيرها .
قوله تعالى : { ليلة القدر خير من ألف شهر } قال مجاهد : قيامها والعمل فيها خير من قيام ألف شهر وصيامها ليس فيها ليلة القدر ، وهذا قول قتادة ، واختيار الفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج ، وروى عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ذُكِرَ له رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر ، فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك ، وتمنَّى أن يكون ذلك في أمته ، فأعطاه الله ليلة القدر ، وقال هي خير من ألف شهر التي حمل فيها الاسرائيلي السلاح في سبيل الله . وذكر بعض المفسرين أنه كان الرجل فيما مضى لا يستحق أن يقال له : عابد حتى يعبد الله ألف شهر كانوا يعبدون فيها .
قوله تعالى : { تنزَّل الملائكة } قال أبو هريرة : الملائكة ليلة القدر في الأرض أكثر من عدد الحصى .
وفي الروح ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه جبريل ، قاله الأكثرون . وفي حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلُّون ويسلِّمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عز وجل " . والثاني : أن الروح : طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر ، قاله كعب ، ومقاتل بن حيان .
والثالث : أنه ملَك عظيم يفي بخلق من الملائكة ، قاله الواقدي .
قوله تعالى : { فيها } أي : في ليلة القدر { بإذن ربهم } أي : بما أمر به وقضاه { من كل أمر } قال ابن قتيبة : أي : بكل أمر . قال المفسرون : يتنزَّلون بكل أمر قضاه الله في تلك السنة إلى قابل . وقرأ ابن عمر ، وابن عباس ، وأبو العالية ، وأبو عمران الجوني «من كل امرِىءٍ» بكسر الراء وبعدها همزة مكسورة منوَّنة ، وبوصل اللام من غير همز ، ولهذه القراءة وجهان .
أحدهما : من كل مَلَك سلام .
والثاني : أن تكون «من» بمعنى «على» تقديره : على كل أمر من المسلمين سلام من الملائكة ، كقوله تعالى : { ونصرناه من القوم الذين كذبوا } [ الأنبياء : 77 ] والقراءة الموافقة لخط المصحف هي الصواب . ويكون تمام الكلام عند قوله تعالى :
«من كل أمر» ثم ابتدأ فقال تعالى : { سلام هي } أي : ليلة القدر سلام . وفي معنى السلام قولان .
أحدهما : أنه لا يحدث فيها داءٌ ، ولا يُرسَل فيها شيطان ، قاله مجاهد .

والثاني : أن معنى السلام : الخير والبركة ، قاله قتادة . وكان بعض العلماء يقول : الوقف على «سلام» على معنى تنزَّل الملائكة بالسلام .
قوله تعالى : { حتى مطلع الفجر } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة «مطلَع» بفتح اللام . وقرأ الكسائي بكسرها . قال الفراء : والفتح أقوى في قياس العربية ، لأن المطلَع بالفتح : الطلوع ، وبالكسر : الموضع الذي يطلع منه ، إلا أن العرب تقول : طلعت الشمس مطلِعاً ، بالكسر ، وهم يريدون المصدر ، كما تقول : أكرمتك كرامة ، فتجتزئِ بالاسم عن المصدر . وقد شرحنا هذا المعنى في «الكهف» عند قوله تعالى : { مطلع الشمس } [ آية : 9 ] شرحاً كافياً ، ولله الحمد .

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

قوله تعالى : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني اليهود والنصارى { والمشركين } أي : ومن المشركين ، وهم عبدة الأوثان { مُنْفَكِّينَ } أي : منفصلين وزائلين يقال : فككت الشيء ، فانفك ، أي انفصل والمعنى : لم يكونوا زائلين عن كفرهم وشركهم { حتى تأتِيَهم } أي : حتى أتتهم ، فلفظه لفظ المستقبل ، ومعناه الماضي . و { البيِّنة } الرسول ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه بَيَّنَ لهم ضلالهم وجهلهم ، وهذا بيان عن نعمة الله على من آمن من الفريقين إذ أنقذهم . وذهب بعض المفسرين إلى أن معنى الآية : لم يختلفوا أن الله يبعث إليهم نبياً حتى بعث فافترقوا . وقال بعضهم : لم يكونوا ليتركوا منفكين عن حجج الله حتى أُقيمت عليهم البَيِّنة . والوجه هو الأول . والرسول هاهنا محمد صلى الله عليه وسلم . ومعنى { يتلو صحفاً } أي : ما تضمنته الصحف من المكتوب فيها ، وهو القرآن . ويدل على ذلك أنه كان يتلو القرآن عن ظهر قلبه لا من كتاب . ومعنى { مُطَهرة } أي : من الشرك والباطل . { فيها } أي : في الصحف { كُتُبٌ قَيِّمة } أي : عادلة مستقيمة تُبِيِّن الحق من الباطل ، وهي الآيات . قال مقاتل : وإنما قيل لها : كتب لما جَمَعَتْ من أُمورٍ شَتَّى .
قوله تعالى : { وما تَفَرَّق الذين أوتوا الكتاب } يعني : من لم يؤمن منهم { إلا من بعد ما جاءتهم البَيِّنة } وفيها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها محمد صلى الله عليه وسلم . والمعنى : لم يزالوا مجتمعين على الإيمان به حتى بُعِث ، قاله الأكثرون .
والثاني : القرآن ، قاله أبو العالية .
والثالث : ما في كتبهم من بيان نُبُوَّتِهِ ، ذكره الماوردي . وقال الزجاج : وما تَفَرَّقوا في كفرهم بالنبيِّ إلا من بعد أن تَبَيَّنوا أنه الذي وُعِدُوا به في كُتُبِهم .
قوله تعالى : { وما أُمروا } أي : في كتبهم { إلا ليعبدوا الله } أي : إلا أن يعبدوا الله . قال الفراء : والعرب تجعل اللام في موضع «أن» في الأمر والإرادة كثيراً ، كقوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم } [ النساء : 26 ] و { يريدون ليطفئوا نور الله } [ الصف : 8 ] وقال في الأمر { وأُمِرْنا لنسلم } [ الأنعام : 71 ] .
قوله تعالى : { مخلصين له الدين } أي : موحِّدين لا يعبدون سواه { حُنَفَاءَ } على دين إبراهيم { ويقيموا الصلاة } المكتوبة في أوقاتها { ويؤتوا الزكاة } عند وجوبها { وذلك } الذي أُمروا به هو { دين القَيَّمة } قال الزجاج : أي دين الأمة القيِّمة بالحق . ويكون المعنى : ذلك الدِّينُ دين الملة المستقيمة .
قوله تعالى : { أولئك هم خير البرية } قرأ نافع ، وابن ذكوان عن ابن عامر بالهمز بالكلمتين . وقرأ الباقون بغير همز فيهما . قال ابن قتيبة : البريَّة : الخلق . وأكثر العرب والقراء على ترك همزها لكثرة ما جرت على الألسنة ، وهي فعلية بمعنى مفعولة . ومن الناس من يزعم أنها مأخوذة من بَرَيْتُ العود ، ومنهم من يزعم أنها من البَرَى وهو التراب [ أي : خلق من التراب ، وقالوا : لذلك لا يهمز ، وقال الزجاج : لو كان من البَرَي وهو التَراب ] لما قرنت بالهمز ، وإنما اشتقاقها من بَرَأ الله الخلق . وقال الخطابي : أصل البريَّة الهمز ، إلا أنهم اصطلحوا على ترك الهمز فيها . وما بعده ظاهر إلى قوله تعالى : { رضي الله عنهم } قال مقاتل : رضي الله عنهم بطاعتهم { ورضُوا عنه } بثوابه . وكان بعض السلف يقول : إذا كنت لا ترضى عن الله ، فكيف تسأله الرضى عنك؟! .
قوله تعالى : { ذلك لمن خشي ربه } أي : خافه في الدنيا ، وتناهى عن معاصيه .

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

قوله تعالى : { إذا زُلْزلت الأرض زِلْزَالها } أي : حُرِّكت حركةً شديدةً ، وذلك عند قيام الساعة . وقال مقاتل : تتزلزل من شدة صوت إسرافيل حتى يَنْكَسِرَ كلُّ ما عليها من شدة الزّلزلة ولا تسكن حتى تلقيَ ما على ظهرها من جبل ، أو بناءٍ ، أو شجر ، ثم تتحرك وتضطرب ، فتُخْرِج ما في جوفها .
وفي وقت هذه الزلزلة قولان .
أحدهما : تكون في الدنيا ، وهي من أشراط الساعة ، قاله الأكثرون .
والثاني : أنها زلزلة يوم القيامة ، قاله خارجة بن زيد في آخرين . قال الفراء : حدثني محمد بن مروان ، قال : قلت للكلبي : أرأيتَ قول الله تعالى : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } ؟ فقال هذه بمنزلة قوله تعالى : { ويخرجكم إخراجاً } [ نوح : 18 ] فأضيف المصدر إلى صاحبه ، وأنت قائل في الكلام : لأُعطيَنَّكَ عَطِيَّتَكَ ، تريد عطية . والزِّلزال بالكسر المصدر ، وبالفتح الاسم . وقد قرأ أبو العالية ، وأبو عمران ، وأبو حيوة الجحدري : «زَلزالها» بفتح الزاي .
قوله تعالى : { وأخرجت الأرض أثقالها } فيه قولان .
أحدهما : ما فيها من الموتى ، قاله ابن عباس .
والثاني : كنوزها ، قاله عطية وجمع الفراء بين القولين فقال : لفظت ما فيها من ذهب ، أو فضة ، أو ميت .
قوله تعالى : { وقال الإنسان ما لها } فيه قولان .
أحدهما : أنه اسم جنس يعم الكافر والمؤمن ، وهذا قول من جعلها من أشراط الساعة ، لأنها حين ابتدأت لم يعلم الكلُّ أنها من أشراط الساعة ، فسأل بعضهم بعضاً حتى أيقنوا .
والثاني : أنه الكافر خاصة ، وهذا قول من جعلها زلزلة القيامة ، لأن المؤمن عارف فلا يسأل عنها ، والكافر جاحد لها لأنه لا يؤمن بالبعث ، فلذلك يسأل .
قوله تعالى : { يومئذ تُحَدِّثُ أخبارها } قال الزجاج : «يومئذ» منصوب بقوله تعالى : { إذا زلزلت } { وأخرجت } ففي ذلك اليوم تحدِّث بأخبارها ، أي : تخبر بما عمل عليها . وفي حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : أتدرون ما أخبارها؟ قالوا : الله و رسوله أعلم . قال : أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها تقول : عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا .
قوله تعالى : { بأنَّ ربَّك أوحى لها } قال الفراء : تحدِّث أخبارها بوحي الله وإذنه لها . قال ابن عباس : أوحى لها ، أي : أوحى إليها ، وأذن لها أن تخبر بما عمل عليها . وقال أبو عبيدة : «لها» بمعنى «إليها» قال العجَّاج :
وَحَىَ لها القَرَارَ فاسْتَقَرَّتِ ... قوله تعالى : { يومئذ يَصْدُرُ النَّاس } أي : يرجعون عن موقف الحساب { أشتاتاً } أي : فِرَقاً . فأهل الإيمان على حدةٍ وأهل الكفر على حِدة { ليُرَوْا أعمالهم } وقرأ أبو بكر الصديق ، وعائشة ، والجحدري : «لِيَروْا» بفتح الياء . قال ابن عباس : أي : ليروا جزاء أعمالهم . فالمعنى : أنهم يرجعون عن الموقف فرقاً لينزلوا منازلهم من الجنة والنار . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : تُحَدِّث أخبارها بأن ربَّك أوحى لها ليروا أعمالهم يومئذ يصدر الناس أشتاتاً .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20