كتاب : زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)

قوله تعالى : { ذلك بأنهم قالوا } يعني : الذي حملهم على التولي والإعراض أنهم قالوا : { لن تمسنا النار إِلا أياماً معدودات } وقد ذكرناها في «البقرة» . و { يفترون } يختلقون وفي الذي اختلقوه قولان . أحدهما : أنه قولهم : لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات ، قاله مجاهد ، والزجاج . والثاني : قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه ، قاله قتادة : ومقاتل .

فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)

قوله تعالى : { فكيف إذا جمعناهم } معناه : فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم ، { ليوم } أي : لجزاء يوم ، أو لحساب يوم . وقيل «اللام» بمعنى : «في» .

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)

قوله تعالى : { قل اللهم مالك الملك } في سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما فتح مكة ، ووعد أمته ملك فارس والروم ، قال المنافقون واليهود : هيهات ، فنزلت هذه الآية . قاله ابن عباس ، وأنس بن مالك ، والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته ، فنزلت هذه الآية . حكاه قتادة . والثالث : أن اليهود قالوا : والله لا نطيع رجلاً جاء ينقل النبوة من بني اسرائيل إلى غيرهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو سليمان الدمشقي . فأما التفسير ، فقال الزجاج : قال الخليل ، وسيبويه ، وجميع النحويين الموثوق بعلمهم : «اللهم» بمعنى «يا الله» ، و «الميم» المشددة زيدت عوضاً من «يا» ، لأنهم لم يجدوا «يا» مع هذه «الميم» في كلمة ، ووجدوا اسم الله عز وجل مستعملاً ب «يا» إذا لم تذكر الميم ، فعلموا أن الميم في آخر الكلمة بمنزلة «يا» في أولها والضمة التي في «الهاء» هي ضمة الاسم المنادى المفرد . قال أبو سليمان الخطابي : ومعنى : «مالك الملك» : أنه بيده ، يؤتيه من يشاء ، قال : وقد يكون معناه ، مالك الملوك ، ويحتمل أن يكون معناه : وارث الملك يوم لا يدعيه مدّع كقوله تعالى : { الملك يومئذ الحقّ للرحمن } [ الفرقان : 26 ] .
قوله تعالى : { تؤتي الملك من تشاء } في هذا الملك قولان . أحدهما : أنه النبوة ، قاله ابن جبير ، ومجاهد . والثاني : أنه المال ، والعبيد ، والحفدة ، ذكره الزجاج . وقال مقاتل : تؤتي الملك من تشاء ، يعني : محمداً وأمته ، وتنزع الملك ممن تشاء ، يعني فارس والروم . { وتعزُّ من تشاء } محمداً وأمته { وتذل من تشاء } فارس والروم . وبماذا يكون هذا العز والذل؟ فيه ثلاثة أقوال . أحدها : العز بالنصر ، والذل بالقهر . والثاني : العز بالغنى ، والذل بالفقر ، والثالث : العز بالطاعة ، والذل بالمعصية .
قوله تعالى : { بيدك الخير } قال ابن عباس : يعني النصر والغنيمة ، وقيل : معناه بيدك الخير والشر ، فاكتفى بأحدهما ، لأنه المرغوب فيه .

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)

قوله تعالى : { تولج الليل في النهار } أي : تدخل ما نقّصت من هذا في هذا . وقال ابن عباس ، ومجاهد : ما ينقص من أحدهما يدخل في الآخر . قال الزجاج : يقال : ولج الشيء يلج ولوجاً وولجاً وولجة .
قوله تعالى : { وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحيّ } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبوبكر عن عاصم ، { وتخرج الحي من الميْت وتخرج الميْت من الحي } و { لبلد ميْت } [ الأعراف : 57 ] . و { أوَ مَنْ كان ميْتاً } [ الأنعام : 122 ] . و { وإِن يكن ميتةً } [ الأنعام : 139 ] ، و { الأرض الميتة } [ يس : 33 ] . كله بالتخفيف . وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي : { وتخرج الحي من الميِّت وتخرج الميّت من الحي } و { لبلد ميِّت } و { إِلى بلد ميِّت } وخفف حمزة ، والكسائي غير هذه الحروف . وقرأ نافع { أومن كان ميِّتاً } و { الأرض الميِّتة } و { لحم أخيه ميِّتاً } [ الحجرات : 12 ] . وخفف في سائر القرآن ما لم يمت . وقال أبو علي : الأصل التثقيل ، والمخفف محذوف منه ، وما مات ، ومالم يمت في هذا الباب مستويان في الاستعمال . وأنشدوا :
ومنهل فيه الغراب مَيتُ ... سَقَيتُ مِنه القومَ واستقيت
فهذا قد مات . وقال آخر :
ليسَ مَن ماتَ فاستراحَ بميتٍ ... إِنما المَيْتُ مَيِّتُ الأحياء
فخفف ما مات ، وشدد مالم يمت . وكذلك قوله تعالى : { إِنك ميّت وإِنهم ميتون } [ الزمر : 30 ] . ثم في معنى الآية ثلاثة أقوال . أحدها : أنه إخراج الإنسان حياً من النطفة ، وهي ميتة . وإخراج النطفة من الإنسان ، وكذلك إخراج الفرخ من البيضة ، وإخراج البيضة من الطائر ، هذا قول ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، والجمهور . والثاني : أنه إخراج المؤمن الحي بالإيمان من الكافر الميت بالكفر ، وإخراج الكافر الميت بالكفر من المؤمن الحي بالإيمان ، روى نحو هذا الضحاك عن ابن عباس ، وهو قول الحسن ، وعطاء . والثالث : أنه إخراج السنبلة الحيّة من الحبة الميّتة ، والنخلة الحيّة من النواة الميّتة ، والنواة الميّتة من النخلة الحية ، قاله السدي . وقال الزجاج : يخرج النبات الغض من الحب اليابس ، والحب اليابس من النبات الحي النامي .
قوله تعالى : { بغير حساب } أي : بغير تقتير . قال الزجاج : يقال للذي ينفق موسعاً : فلان ينفق بغير حساب ، كأنه لا يحسب ما أنفقه إنفاقاً .

لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)

قوله تعالى : { لا يتخِذِ المؤمنون الكافرين أولياءَ } في سبب نزولها أربعة أقوال . أحدها : أن عبادة بن الصامت كان له حُلفاء من اليهود ، فقال يوم الأحزاب : يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود ، وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو ، فنزلت هذه الآية ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثاني : أنها نزلت في عبد الله بن أُبيّ ، وأصحابه من المنافقين كانوا يتولون اليهود ، ويأتونهم بالأخبار يرجون لهم الظفر من النبي صلى الله عليه وسلم ، فنهى الله المؤمنين عن مثل فعلهم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثالث : أن قوماً من اليهود ، كانوا يباطنون نفراً من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم ، فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك ، وقالوا : اجتنبوا هؤلاء اليهود ، فأبوا ، فنزلت هذا الآية . روي عن ابن عباس أيضا . والرابع : أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ، كانوا يظهرون المودة لكفار مكة ، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك ، هذا قول المقاتلين ، ابن سليمان ، وابن حيان . فأما التفسير ، فقال الزجاج : معنى قوله تعالى : { من دون المؤمنين } أي : لا يجعل المؤمن ولايته لمن هو غير مؤمن ، أي : لا يتناول الولاية من مكان دون مكان المؤمنين ، وهذا كلام جرى على المثل في المكان ، كما تقول : زيد دونك ، ولست تريد المكان ، ولكنك جعلت الشرف بمنزلة الارتفاع في المكان ، والخسة كالاستفال في المكان . ومعنى { فليس من الله في شيء } أي : فالله بريء منه .
قوله تعالى { إِلا أن تتقوا منهم تُقاةً } قرأ يعقوب ، والمفضل عن عاصم ، «تَقيِّةً» بفتح التاء من غير ألف ، قال مجاهد : إلا مُصانعة في الدنيا . قال أبوالعالية : التقاة باللسان ، لا بالعمل .
فصل
والتقية رخصة ، وليست بعزيمة . قال الإمام أحمد : وقد قيل : إن عرضت على السيف تجيب؟ قال : لا . وقال إِذا أجاب العالم تقية ، والجاهل بجهل ، فمتى يتبين الحق؟ وسنشرح هذا المعنى في «النحل» عند قوله تعالى : { إلا من أكره } [ النحل : 106 ] . إن شاء الله .

قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)

قوله تعالى : { قل إِن تُخفوا ما في صدوركم أو تُبدوه } قال ابن عباس : يعني اتخاذ الكافرين أولياء .

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)

قوله تعالى : { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً } قال الزجاج : نصب «اليوم» بقوله : { ويحذركم الله نفسه } في ذلك اليوم . قال ابن الأنباري : يجوز أن يكون متعلقاً بالمصير ، والتقدير : والى الله المصير ، يوم تجد . ويجوز أن يكون متعلقاً بفعل مضمر ، والتقدير : اذكر يوم تجد . وفي كيفية وجود العمل وجهان . أحدهما : وجوده مكتوباً في الكتاب . والثاني : وجود الجزاء عليه . والأمد : الغاية .
قال الطرماح :
كلُّ حيٍّ مُسْتَكْملٌ عِدَة العم ... رِ ومُودٍ إِذا انقضى أمَدُه
يريد : غاية أجله .

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)

قوله تعالى : { قل إِن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } في سبب نزولها أربعة أقوال . أحدها : " أن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقف على قريش ، وقد نصبوا أصنامهم يسجدون لها ، فقال : يا معشر قريش : «لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم» . فقالوا : يا محمد إِنما نعبد هذه حباً لله ، ليقربونا إلى الله زلفى " ، فنزلت هذه الآية . رواه الضحاك عن ابن عباس . والثاني : أن اليهود قالوا : نحن أبناء الله وأحبَّاؤه ، فنزلت هذه الآية ، فعرضها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ، فلم يقبلوها ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثالث : أن ناساً قالوا : إنّا لنحب ربنا حبّاً شديداً ، فأحب الله أن يجعل لحبه علماً ، فأنزل هذه الآية ، قاله الحسن ، وابن جريج . والرابع : أن نصارى نجران ، قالوا : إنما تقول هذا في عيسى حباً لله ، وتعظيماً له ، فنزلت هذه الآية ، ذكره ابن اسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، واختاره أبو سليمان الدمشقي .

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)

قوله تعالى : { قل أطيعوا الله والرسول } في سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها : أن عبد الله بن أبيّ قال لأصحابه : إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى بن مريم ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس . والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، دعا اليهود إلى الإسلام ، فقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، ونحن أشد حبّاً لله مما تدعونا إليه ، فنزلت : { قل إِن كنتم تحبون الله } ونزلت هذه الآية ، هذا قول مقاتل . والثالث : أنها نزلت في نصارى نجران ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)

قوله تعالى : { إِن الله اصطفى آدم } قال ابن عباس : قالت اليهود : نحن أبناء إبراهيم وإسحاق ، ويعقوب ، ونحن على دينهم ، فنزلت هذه الآية . قال الزجاج : ومعنى اصطفاهم في اللغة : اختارهم ، فجعلهم صفوة خلقه ، وهذا تمثيل بما يرى ، لأن العرب تمثل المعلوم بالشيء المرئي ، فاذا سمع السامع ذلك المعلوم كان عنده بمنزلة ما يشاهد عياناً ، فنحن نُعاين الشيء الصافي أنه النقي من الكدر ، فكذلك صفوة الله من خلقه . وفيه ثلاث لغات : صَفوة ، وصِفوة ، وصُفوة ، وأما آدم فعربي ، وقد ذكرنا اشتقاقه في «البقرة» وأما نوح ، فأعجمي مُعربّ ، قال أبو سليمان الدمشقي : اسم نوح : السكن ، وإنما سمي نوحاً لكثرة نوحه . وفي سبب نوحه خمسة أقوال . أحدها : أنه كان ينوح على نفسه ، قاله يزيد الرقاشي ، والثاني : أنه كان ينوح لمعاصي أهله ، وقومه . والثالث : لمراجعته ربه في ولده . والرابع : لدعائه على قومه بالهلاك . والخامس : أنه مر بكلب مجذوم ، فقال : اخسأ يا قبيح ، فأوحى الله إليه : أعِبتني يا نوح ، أم عبت الكلب؟ وفي آل إبراهيم ثلاثة أقوال . أحدها : أنه من كان على دينه ، قاله ابن عباس ، والحسن . والثاني : أنهم إسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط ، قاله مقاتل . والثالث : أن المراد «آل إبراهيم» هو نفسه ، كقوله : { وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون } [ البقرة : 248 ] ، ذكره بعض أهل التفسير . وفي «عمران» قولان . أحدهما : أنه والد مريم ، قاله الحسن ، ووهب . والثاني : أنه والد موسى ، وهارون ، قاله مقاتل . وفي «آله» ثلاثة أقوال . أحدها : أنه عيسى عليه السلام ، قاله الحسن . والثاني : أن آله موسى وهارون ، قاله مقاتل . والثالث : أن المراد ب «آله» نفسه ، ذكره بعض المفسرين ، وإنما خصّ هؤلاء بالذكر ، لأن الأنبياء كلهم من نسلهم . وفي معنى اصطفاء هؤلاء المذكورين ثلاثة أقوال . أحدها : أن المراد اصطفى دينهم على سائر الأديان ، قاله ابن عباس ، واختاره الفراء ، والدمشقي . والثاني : اصطفاهم بالنبوة ، قاله الحسن ، ومجاهد ، ومقاتل . والثالث : اصطفاهم بتفضيلهم في الأمور التي ميزهم بها على أهل زمانهم . والمراد ب «العالمين» : عالمو زمانهم ، كما ذكرنا في «البقرة» .

ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)

قوله تعالى : { ذرَّيةً بعضها من بعض } قال الزجاج : نصْبُها على البدل ، والمعنى : اصطفى ذرية بعضها من بعض . قال ابن الأنباري : وإنما قال : بعضها ، لأن لفظ الذرية مؤنث ، ولو قال : بعضهم : ذهب إلى معنى الذرية . وفي معنى هذه البعضية قولان . أحدهما : أن بعضهم من بعض في التناصُر والدين ، لا في التناسل ، وهو معنى قول ابن عباس ، وقتادة . والثاني : أنه في التسلسل ، لأن جميعهم ذرية آدم ، ثم ذرية نوح ، ثم ذرية إبراهيم ، ذكره بعض أهل التفسير . قال أبو بكر النقاش : ومعنى قوله : { ذرية بعضها من بعض } أن الأبناء ذرية للآباء ، والآباء ذرية للأبناء ، كقوله تعالى : { حملنا ذريتهم في الفلك المشحون } [ يس : 41 ] . فجعل الآباء ذرية للأبناء ، وإنما جاز ذلك ، لأن الذرية مأخوذة من : ذرأ الله الخلق ، فسمي الولد للوالد ذرية ، لأنه ذرىء منه ، وكذلك يجوز أن يقال للأب : ذرية للابن ، لأن ابنه ذرئ منه ، فالفعل يتصل به من الوجهين . ومثله { يحبونهم كحُب الله } [ البقرة : 165 ] . فأضاف الحب إلى الله ، والمعنى : كحب المؤمن لله ، ومثله { ويطعمون الطعام على حبّه } [ الدهر : 8 ] . فأضاف الحب للطعام .

إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)

قوله تعالى : { إِذ قالت امرأة عمران } في «إذ» قولان . أحدهما : أنها زائدة ، واختاره أبو عبيدة ، وابن قتيبة . والثاني : أنها أصلٌ في الكلام ، وفيها ثلاثة أقوال . أحدها : أن المعنى : اذكر إذ قالت امرأة عمران ، قاله المبرّد ، والأخفش . والثاني : أن العامل في { إذ قالت } معنى الاصطفاء ، فيكون المعنى : اصطفى آل عمران ، إذ قالت امرأة عمران ، واصطفاهم إذ قالت الملائكة : يا مريم ، هذا اختيار الزجاج . والثالث : أنها من صلة «سميعٌ» تقديره : والله سميعٌ إذ قالت ، وهذا اختيار ابن جرير الطبري . قال ابن عباس : ، واسم امرأة عمران حنة ، وهي أم مريم ، وهذا عمران بن ماتان ، وليس ب «عمران أبي موسى» وليست هذه مريم أخت موسى . وبين عيسى وموسى ألف وثمانمائة سنة . والمحَرّر : العتيق . قال ابن قتيبة : يقال : أعتقت الغلام ، وحررته : سواء . وأرادت : أي نذرت أن أجعل ما في بطني محرراً من التعبيد للدنيا ، ليعبدك . وقال الزجاج : كان على أولادهم فرضاً أن يطيعوهم في نذرهم ، فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادماً في متعبدهم ، وقال ابن اسحاق : كان السبب في نذرها أنه أمسك عنها الولد حتى أسنت ، فرأت طائراً يطعم فرخاً له ، فدعت الله أن يهب لها ولداً ، وقالت : اللهم لك عليَّ إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس ، فحملت بمريم ، وهلك عمران ، وهي حامل . قال القاضي أبو يعلى : والنذر في مثل ما نذرت صحيح في شريعتنا ، فإنه إذا نذر الإنسان أن ينشئ ولده الصغير على عبادة الله وطاعته ، وأن يعلمه القرآن ، والفقه ، وعلوم الدين ، صح النذر .

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)

قوله تعالى : { والله أعلم بما وضعت } قرأ ابن عامر ، وعاصم إلا حفصاً ويعقوب { بما وضعْتُ } بإسكان العين ، وضم التاء . وقرأ الباقون بفتح العين ، وجزم التاء ، قال ابن قتيبة : من قرأ بجزم التاء ، وفتح العين ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : إني وضعتها أُنثى ، وليس الذكر كالأنثى ، والله أعلم بما وضعت ، ومن قرأ بضم التاء ، فهو كلام متصل من كلام أمّ مريم .
قوله تعالى : { وليس الذكر كالأنثى } من تمام اعتذارها ، ومعناه : لا تصلح الأنثى لما يصلح له الذكر ، من خدمته المسجد ، والإقامة فيه ، لما يلحق الأنثى من الحيض والنفاس . قال السدي : ظنت أن ما في بطنها غلام ، فلما وضعت جارية ، اعتذرت . ومريم : اسم أعجمي . وفي الرجيم قولان . أحدهما : الملعون ، قاله قتادة . والثاني : أنه المرجوم بالحجارة ، كما تقول : قتيل بمعنى مقتول ، قاله أبو عبيدة ، فعلى هذا سُمي : رجيماً ، لأنه يرمى بالنجوم .

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

قوله تعالى : { فتقبلها ربُّها بقبول حسن } قرأ مجاهد { فتقبَّلْها } بسكون اللام { ربَّها } بنصب الباء { وأنبتها } بكسر الباء وسكون التاء على معنى الدعاء . قال الزجاج : الأصل في العربية : فتقبَّلها بتقبُّل حسن ، ولكن «قبول» محمول على قبلها قبولاً يقال : قبلت الشيء : قَبولاً ، ويجوز قُبولا : إذا رضيته . { وأنبتها نباتاً حسناً } أي : جعل نشوءها نشوءاً حسناً ، وجاء «نباتاً» على غير لفظ أنبت ، على معنى : نبتت نباتاً حسناً . وقال ابن الأنباري : لما كان «أنبت» يدل على «نبت» حمل الفعل على المعنى ، فكأنه قال : وأنبتها ، فنبتت هي نباتاً حسناً .
قال امرؤ القيس :
فصرنا إِلى الحسنى ورقَّ كلامنا ... ورضتُ فذلَّت صعبةٌ أيَّ إِذلال
أراد : أي رياضة ، فلما دل «رضت» على «أذللت» حمله على المعنى . وللمفسرين في معنى النبات الحسن ، قولان . أحدهما : أنه كمال النشوء ، قال ابن عباس : كانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام ، والثاني : أنه ترك الخطايا . قال قتادة : حدثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب ، كما يصيب بنو آدم .
قوله تعالى : { وكفَّلها } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، «وكفلها» بفتح الفاء خفيفة ، و «زكرياء» مرفوع ممدود . وروى أبو بكر عن عاصم : تشديد الفاء ، ونصب «زكرياء» ، وكان يمد «زكرياء» في كل القرآن في رواية أبي بكر . وروى حفص عن عاصم : تشديد الفاء و «زكريا» مقصور في كل القرآن . وكان حمزة والكسائي يشددان و «كفلها» ، ويقصران «زكريا» في كل القرآن . فأما «زكريا» فقال الفراء : فيه ثلاث لغات . أهل الحجاز يقولون : هذا زكريا قد جاء ، مقصور ، وزكرياء ، ممدود ، وأهل نجد يقولون : زكري ، فيجرونه ، ويلقون الألف . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي ، عن ابن دريد ، قال : زكريا اسم أعجمي ، يقال : زكريُّ ، وزكرياء ممدود ، وزكريا مقصور . وقال غيره : وزكري بتخفيف الياء ، فمن قال : زكرياء بالمد ، قال في التثنيه : زكرياوان ، وفي الجمع زكرياوون ، ومن قال : زكريا بالقصر ، قال في التثنيه زكريان ، كما تقول : مدنيان : ومن قال : زكري بتخفيف الياء ، قال في التثنية : زكريان الياء خفيفة ، وفي الجمع : زكرون بطرح الياء .
الإشارة إلى كفالة زكريا مريم
قال السدي : انطلقت بها أمها في خرقها ، وكانوا يقترعون على الذين يؤتون بهم ، فقال زكريا وهو نبيهم يومئذ : أنا أحقكم بها ، عندي أختها ، فأبوا ، وخرجوا إلى نهر الأردن ، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها ، فجرت الأقلام ، وثبت قلم زكريا ، فكفلها . قال ابن عباس : كانوا سبعة وعشرين رجلا ، فقالوا : نطرح أقلامنا ، فمن صعد قلمه مغالباً للجرية فهو أحق بها ، فصعد قلم زكريا ، فعلى هذا القول كانت غلبة زكريا بمصاعدة قلمه ، وعلى قول السدي بوقوفه في جريان الماء وقال مقاتل : كان يغلق عليها الباب ، ومعه المفتاح ، لا يأمن عليه أحداً ، وكانت إذا حاضت ، أخرجها إلى منزله تكون مع أختها أم يحيى ، فاذا طهرت ، ردها إلى بيت المقدس .

والأكثرون على أنه كفلها منذ كانت طفلة بالقرعة . وقد ذهب قوم إلى أنه كفلها عند طفولتها بغير قرعة ، لأجل أن أمها ماتت ، وكانت خالتها عنده ، فلما بلغت ، أدخلوها الكنيسة لنذر أمها ، وإنما كان الاقتراع بعد ذلك بمدة ، لأجل سنة أصابتهم . فقال محمد بن إسحاق : كفلها زكريا إلى أن أصابت الناس سنة ، فشكا زكريا إلى بني إسرائيل ضيق يده ، فقالوا : ونحن أيضاً كذلك ، فجعلوا يتدافعونها حتى اقترعوا ، فخرج السهم على جريج النجار ، وكان فقيراً ، وكان يأتيها باليسير ، فينمي ، فدخل زكريا ، فقال : ما هذا؟ على قدر نفقة جريج؟ فمن أين هذا؟ قالت هو من عند الله . والصحيح ما عليه الأكثرون ، وأن القوم تشاحوا على كفالتها ، لأنها كانت بنت سيدهم وإمامهم عمران ، كذلك قال قتادة في آخرين ، وأن زكريا ظهر عليهم بالقرعة منذ طفولتها . فأما المحراب ، فقال أبو عبيدة : المحراب سيد المجالس . ومقدمها ، وأشرفها ، وكذلك هو من المسجد . وقال الأصمعي : المحراب هاهنا : الغرفة . وقال الزجاج : المحراب في اللغة : الموضع العالي الشريف .
قال الشاعر :
ربَّةُ محراب إِذا جئتها ... لم ألقها أو أرتقي سلماً
قوله تعالى : { وجد عندها رزقاً } قال ابن عباس : ثمار الجنة ، فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، وهذا قول الجماعة .
قوله تعالى : { إنى لكِ هذا } أي : من أين؟ قال الربيع بن أنس : كان زكريا إذا خرج ، أغلق عليها سبعة أبواب ، فإذا دخل وجد عندها رزقاً . وقال الحسن : لم ترتضع ثدياً قط ، وكان يأتيها رزقها من الجنة ، فيقول زكريا : أنى لك هذا؟ فتقول : هو من عند الله ، فتكلمت وهي صغيرة . وزعم مقاتل أن زكريا استأجر لها ظئراً ، وعلى ما ذكرنا عن ابن إسحاق يكون قوله لها : أنى لك هذا؟ لاستكثار ما يرى عندها . وماعليه الجمهور أصح . والحساب في اللغة : التقتير والتضييق .

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)

قوله تعالى : { هنالك دعا زكريا ربه } قال المفسرون : لما عاين زكريا هذه الآية العجيبة من رزق الله تعالى مريم الفاكهة في غير حينها ، طمع في الولد على الكبر . و { من لدنك } بمعنى : من عندك . والذرية ، تقال للجمع ، وتقال للواحد ، والمراد بها هاهنا : الواحد . قال الفراء : وإنما قال طيبة ، لتأنيث الذرية ، والمراد بالطيبة : النقيّة الصالحة . والسميع : بمعنى السامع . وقيل : أراد مجيب الدعاء .

فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)

قوله تعالى : { فنادته الملائكة } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : فنادته بالتاء ، وقرأ حمزة ، والكسائي : فناداه بألف ممالة ، قال أبو علي : هو كقوله تعالى : { وقال نسوة } [ يوسف : 20 ] . وقرأ علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، «فناداه» بألف . وفي الملائكة قولان . أحدهما : جبريل وحده ، قال السدي ، ومقاتل ، ووجهه أن العرب تخبر عن الواحد بلفظ الجمع ، تقول : ركبت في السفن ، وسمعت هذا من الناس . والثاني : أنهم جماعة من الملائكة ، وهو مذهب قوم ، منهم ابن جرير الطبري . وفي المحراب قولان . أحدهما : أنه المسجد . والثاني : أنه قبلة المسجد . وفي تسمية محراب الصلاة محراباً ، ثلاثة أقوال . أحدها : لانفراد الإمام فيه ، وبُعده من الناس ، ومنه قولهم : فلان حرب لفلان : إذا كان بينهما مباغضة ، وتباعد ، ذكره ابن الأنباري عن أبيه ، عن أحمد بن عبيد . والثاني : أن المحراب في اللغة أشرف الأماكن ، وأشرف المسجد مقام الإمام . والثالث : أنه من الحرب فالمصلي محارب للشيطان .
قوله تعالى : { أنَّ الله يبشِّرك بغلام } قرأ الأكثرون بفتح الألف على معنى : فنادته الملائكة بأن الله ، فلما حذف الجار منها ، وصل الفعل إليها ، فنصبها . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، بكسر «إنَّ» فأضمر القول . والتقدير : فنادته : فقالت : إن الله يبشرك . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : يبشرك بضم الياء : وفتح الباء ، والتشديد في جميع القرآن إلا في { حم عسق } { يبشر الله عباده } [ الشورى : 23 ] فإنهما فتحا الياء وضما الشين ، وخففاها . فأما نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، فشددا كل القرآن . وقرأ حمزة : «يبشر» خفيفاً في كل القرآن ، إلا قوله تعالى :
{ فبم تبشرون } [ الحجر : 54 ] . وقرأ الكسائي «يبشر» مخففة في خمسة مواضع ، في { آل عمران } في قصة زكرياء ، وقصة مريم ، وفي بني ( إسرائيل ) ، وفي ( الكهف ) وفي ( حم عسق ) قال الزجاج : وفي «يبشرك» ثلاث لغات . أحدها : يبشرك ، بفتح الباء وتشديد الشين ، والثانية : «يبشرك» باسكان الباء ، وضم الشين . والثالثة : «يبشرك» بضم الياء وإسكان الباء ، فمعنى «يبشرك» بالتشديد و «يبشرك» بضم الياء : البشارة . ومعنى «يبشرك» بفتح الياء : يَسُرّك ويفرحك ، يقال : بشَرت الرجل أبشُرُه ، : إذا أفرحته ، وبشر الرجل يبشَر : إذا فرح .
وأنشد الأخفش والكسائي :
وإِذا لقيت الباهشين الى العلى ... غُبْراً أكفُّهُم بقاعٍ مُمحِل
فأعنهمُ وابشَرْ بِما بَشِروا به ... واذا هُمُ نزلوا بضنك فانزل
فهذا على بشر يبشَر : إذا فرح . وأصل هذا كله أن بشَرة الإنسان تنبسط عند السرور ، ومنه قولهم : يلقاني ببشر . أي : بوجهٍ منبسط ، وفي معنى تسميته «يحيى» خمسة أقوال .
أحدها : لأن الله تعالى أحيا به عقر أمه ، قاله ابن عباس . والثاني : لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان ، قاله قتادة . والثالث : لأنه أحياه بين شيخ وعجوز ، قاله مقاتل . والرابع : لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها ، قاله الزجاج . والخامس : لأن الله أحياه بالطاعة ، فلم يعص ، ولم يَهمَّ ، قاله الحسن بن الفضل .

وفي «الكلمة» قولان . أحدهما : أنها عيسى ، وسمي كلمة ، لأنه بالكلمة كان ، وهي «كن» وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدّي ، ومقاتل . وقيل : إن يحيى كان أكبر من عيسى بستة أشهر ، وقتل يحيى قبل رفع عيسى . والثاني : أن الكلمة كتاب الله وآياته ، وهو قول أبي عبيدة في آخرين . ووجهه أن العرب تقول : أنشدني فلان كلمة ، أي : قصيدة . وفي معنى السيد ثمانية أقوال . أحدها : أنه الكريم على ربه ، قاله ابن عباس ، ومجاهد . والثاني : أنه الحليم التقي ، روي عن ابن عباس أيضاً ، وبه قال الضحاك . والثالث : أنه الحكيم ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وعطاء ، وأبو الشعثاء ، والربيع ، ومقاتل . والرابع : أنه الفقيه العالم ، قاله سعيد بن المسيب . والخامس : أنه التقي ، رواه سالم عن ابن جبير . والسادس : أنه الحَسَن الخلق ، رواه أبو روق عن الضحاك . والسابع : أنه الشريف ، قاله ابن زيد . والثامن : أنه الذي يفوق قومَه في الخير ، قاله الزجاج . وقال ابن الأنباري : السيد هاهنا الرئيس ، والإمام في الخير . فأما «الحصور» فقال ابن قتيبة : هو الذي لا يأتي النساء ، وهو فعول بمعنى مفعول ، كأنه محصور عنهن ، أي : محبوس عنهن ، وأصل الحصر : الحبس . ومما جاء على «فعول» بمعنى «مفعول» : ركوب بمعنى مركوب ، وحلوب بمعنى محلوب ، وهيوب بمعنى مهيب . واختلف المفسرون لماذا كان لا يأتي النساء؟ على أربعة أقوال . أحدها : أنه لم يكن له ما يأتي به النساء ، فروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال " كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إِلا ما كان من يحيى بن زكريا» قال : ثم دلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الأرض ، فأخذ عوداً صغيراً ، ثم قال : وذلك أنه لم يكن له ماللرجال إلا مثل هذا العود ، ولذلك سماه الله سيداً وحصوراً " وقال سعيد بن المسيب : كان له كالنواة . والثاني : أنه كان لا ينزل الماء ، قاله ابن عباس ، والضحاك . والثالث : أنه كان لا يشتهي النساء ، قاله الحسن ، وقتادة ، والسدي ، والرابع : أنه كان يمنع نفسه من شهواتها ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { ونبياً من الصالحين } قال ابن الأنباري : معناه : من الصالحي الحال عند الله .

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)

قوله تعالى : { قال رب أنى يكون لي غلام } أي : كيف يكون؟! .
قال الكميت :
أنى ومن أينَ آبَكَ الطرب ... قال العلماء : منهم الحسن ، وابن الأنباري ، وابن كيسان : كأنه قال : من أي وجه يكون لي الولد؟ أيكون بازالة العقر عن زوجتي ، وردّ شبابي؟ أم يأتي ونحن على حالنا؟ فكان ذلك على سبيل الاستعلام ، لا على وجه الشك . قال الزجاج : يقال : غلام بيّن الغلوميَّة ، وبين الغلاميَّة ، وبين الغلومة . قال شيخنا : أبو منصور اللغوي : الغلام : فعال ، من الغُلمة ، وهي شدة شهوة النكاح . ويقال للكهل : غلام .
قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج :
. . . . . . ... غلام إِذا هزَّ القناة سقاها
وكأن قولهم للكهل : غلام ، أي : قد كان مرة غلاماً . وقولهم للطفل : غلام على معنى التفاؤل ، أي : سيصير غلاماً . قال : وقيل : الغلام الطار الشارب ، ويقال للجارية : غلامة . قال الشاعر :
. . . . . . ... يهان لها الغلامة والغلام
قوله تعالى : { وقد بلغنيَ الكبر } أي : وقد بلغت الكبر ، قال الزجاج : كل شيء بلغته فقد بلغك . وفي سنة يومئذ ستة أقوال . أحدها : أنه كان ابن مائة وعشرين سنة ، امرأته بنت ثمان وتسعين سنة ، قاله ابن عباس . والثاني : أنه كان ابن بضع وسبعين سنة ، قاله قتادة . والثالث : ابن خمس وسبعين ، قاله مقاتل . والرابع : ابن سبعين . حكاه فضيل بن غزوان . والخامس : ابن خمس وستين . والسادس : ابن ستين ، حكاهما الزجاج ، قال اللغويون : والعاقر من الرجال والنساء : الذي لا يأتيه الولد ، وإنما قال : «عاقر» ، ولم يقل : عاقرة ، لأن الأصل في هذا الوصف للمؤنث ، والمذكر فيه كالمستعار ، فأجري مجرى «طالق» «حائض» هذا قول الفراء .

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)

قوله تعالى : { ربِّ اجعل لي آية } أي : علامة على وجود الحمل . وفي علة سؤاله «آية» قولان . أحدهما : أن الشيطان جاءه فقال : هذا الذي سمعت من صوت الشيطان ، ولو كان من وحي الله ، لأوحاه إليك ، كما يوحي إليك غيره ، فسأل الآية ، قاله السدي عن أشياخه . والثاني : أنه إنما سأل الآية على وجود الحمل ليبادر بالشكر ، وليتعجل السرور ، لأن شأن الحمل لا يتحقق بأوله ، فجعل الله آية وجود الحمل حبس لسانه ثلاثة أيام . فأما «الرَمز» فقال الفراء : الرمز بالشفتين ، والحاجبين ، والعينين ، وأكثره في الشفتين . قال ابن عباس : جعل يكلم الناس بيده . وإنما منع من مخاطبة الناس ، ولم يحبس عن الذكر لله تعالى . وقال ابن زيد : كان يذكر الله ، ويشير إلى الناس . وقال عطاء بن السائِب : اعتُقِلَ لسانه من غير مرض . وجمهور العلماء على أنه إنما اعتقل لسانه آيةً على وجود الحمل . وقال قتادة ، والربيع بن أنس : كان ذلك عقوبةً له إذ سأل الآية بعد مشافهة الملائكة بالبشارة .
قوله تعالى : { وسبِّح } قال مقاتل : صل . قال الزجاج : يقال : فرغت من سُبحتي ، أي : من صلاتي . وسمّيت الصلاة تسبيحاً ، لأن التسبيح تعظيم الله ، وتبرئته من السوء ، فالصلاة يوصف فيها بكل ما يبرئه من السوء .
قوله تعالى : { بالعشي } العشي : من حين نزول الشمس إلى آخر النهار : { والإِبكار } ما بين طلوع الفجر إلى وقت الضحى : قال الشاعر :
فلا الظلَّ في بَردِ الضّحى تستطيعه ... ولا الفيءَ من بردِ العشيّ يذوق
قال الزجاج : يقال : أبكر الرجل يبكر إِبكاراً ، وبكر يبكر تبكيراً ، وبكر يبكر في كل شيء تقدم فيه .

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)

قوله تعالى : { وإِذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك } قال جماعة من المفسرين : المراد بالملائكة : جبريل وحده . وقد سبق معنى الاصطفاء . وفي المراد بالتطهير هاهنا أربعة أقوال .
أحدها : أنه التطهير من الحيض ، قاله ابن عباس . وقال السدي : كانت مريم لا تحيض . وقال قوم : من الحيض والنفاس .
والثاني : من مس الرجال ، روي عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : من الكفر ، قاله الحسن ، و مجاهد .
والرابع : من الفاحشة والإثم ، قاله مقاتل . وفي هذا الاصطفاء الثاني : أربعة أقوال .
أحدها : أنه تأكيد للأول . والثاني : أن الأول للعبادة ، والثاني : لولادة عيسى عليه السلام . والثالث : أن الاصطفاء الأول اختيار مبهمَ ، وعموم يدخل فيه صوالح من النساء ، فأعاد الاصطفاء لتفضيلها على نساء العالمين .
والرابع : أنه لما أطلق الاصطفاء الاول ، أبان بالثاني أنها مصطفاة على النساء دون الرجال . قال ابن عباس ، والحسن ، وابن جريج : اصطفاها على عالمي زمانها . قال ابن الأنباري : وهذا قول الأكثرين .

يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

قوله تعالى : { يا مريم اقنتي لربك } قد سبق شرح القنوت في «البقرة» وفي المراد به هاهنا أربعة أقوال .
أحدها : أنه العبادة ، قاله الحسن .
والثاني : طول القيام في الصلاة ، قاله مجاهد .
والثالث : الطاعة ، قاله قتادة ، والسدي ، وابن زيد .
والرابع : الإخلاص ، قاله سعيد بن جبير . وفي تقديم السجود على الركوع أربعة أقوال .
أحدها : أن الواو لا تقتضي الترتيب ، وإنما تؤذن بالجمع ، فالركوع مقدّم ، قاله الزجاج في آخرين .
والثاني : أن المعنى استعملي السجود في حال ، والركوع في حال ، لا أنهما يجتمعان في ركعة ، فكأنه حثٌ لها على فعل الخير .
والثالث : أنه مقدم ومؤخر ، والمعنى : اركعي واسجدي ، كقوله تعالى : { إني متوفيكَ ورافعُكَ إِليَّ } [ آل عمران : 55 ] . ذكرهما ابن الأنباري .
والرابع : أنه كذلك كان في شريعتهم تقديم السجود على الركوع ، ذكره أبو سليمان الدمشقي . قال مقاتل : ومعناه : اركعي مع المصلين قُرَّاء بيت المقدس . قال مجاهد سجدت حتى قرحت .

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)

قوله تعالى : { ذلك من أنباء الغيب } «ذلك» إِشارة إلى ما تقدم من قصة زكرياء ، ويحيى ، وعيسى ، ومريم . والأنباء : الأخبار ، والغيب : ما غاب عنك . والوحي : كل شيء دللت به من كلام ، أو كتاب ، أو إشارة ، أو رسالة ، قاله ابن قتيبة . والوحي في القرآن على أوجه تراها في كتابنا الموسوم ب «الوجوه والنظائر» مونقة . وفي الأقلام ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها التي يكتب بها ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، والسدي .
والثاني : أنها العصيّ ، قاله الربيع بن أنس .
والثالث : أنها القداح ، وهو اختيار ابن قتيبة ، وكذلك قال الزجاج : هي قداح جعلوا عليها علامات يعرفونها على جهة القرعة . وإنما قيل للسهم : القلم ، لأنه يقلم ، أي : يبرى . وكل ما قطعت منه شيئاً بعد شيء ، فقد قلمته ، ومنه القلم الذي يكتب به ، لأنه قُلم مرة بعد مرة ، ومنه : قلمت أظفاري . قال : ومعنى : { أيهم يكفل مريم } لينظروا أيهم تجب له كفالة مريم ، وهو الضمان للقيام بأمرها . ومعنى { لديهم } عندهم وقد سبق شرح كفالتهم لها آنفاً . وفي المراد بالكلمة هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه قول الله له : «كن» فكان ، قاله ابن عباس ، وقتادة .
والثاني : أنها بشارة الملائكة مريم بعيسى ، حكاه أبو سليمان .
والثالث : أن الكلمة اسم لعيسى ، وسمي كلمة ، لأنه كان عن الكلمة . وقال القاضي أبو يعلى : لأنه يهتدى به كما يهتدى بالكلمة من الله تعالى . وفي تسميته بالمسيح ستة أقوال .
أحدها : أنه لم يكن لقدمه أخمص ، والأخمص : ما يتجافى عن الأرض من باطن القدم ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثاني : أنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برأ ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثالث : أنه مسح بالبركة ، قاله الحسن ، وسعيد .
والرابع : أن معنى : المسيح : الصديق ، قاله مجاهد ، وإبراهيم النخعي ، وذكره اليزيدي . قال أبو سليمان الدمشقي : ومعنى هذا أن الله مسحه ، فطهره من الذنوب .
والخامس : أنه كان يمسح الأرض أي : يقطعها ، ذكره ثعلب ، وبيانه : أنه كان كثير السياحة .
والسادس : أنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن ، قاله أبو سليمان الدمشقي ، وحكاه ابن القاسم وقال أبو عبيد : المسيح في كلام العرب على معنيين . أحدهما : المسيح الدجال ، والأصل فيه : الممسوح ، لأنه ممسوح أحد العينين . والمسيح عيسى ، وأصله بالعبرانية «مشيحا» ، بالشين ، فلما عربته العرب ، أبدلت من شينه سيناً ، كما قالوا : موسى ، وأصله بالعبرانية موشى . قاله ابن الأنباري ، وإنما بدأ بلقبه ، فقال : المسيح عيسى بن مريم ، لأن المسيح أشهر من عيسى ، لأنه قل أن يقع على سميٍّ يشتبه به ، وعيسى قد يقع على عدد كثير ، فقدمه لشهرته ، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم . فأما قوله : عيسى بن مريم ، فإنما نسبه إلى أمه ، لينفي ما قال عنه الملحدون من النصارى ، إذ أضافوه إلى الله تعالى .

قوله تعالى : { وجيهاً } قال ابن زيد : الوجيه في كلام العرب : المحبب المقبول . وقال ابن قتيبة . الوجيه : ذوالجاه . وقال الزجاج : هو ذو المنزلة الرفيعة عند ذوي القدر والمعرفة ، يقال قد وجُه الرجل يوْجُه ، وجاهة ، ولفلان جاه عند الناس ، أي : منزلة رفيعة .
قوله تعالى : { ومن المقرّبين } قال قتادة : عند الله يوم القيامة . والمهد : مضجع الصبي في رضاعه ، وهو مأخوذ من التمهيد ، وهو التوطئة ، وفي تكليمه للناس في تلك الحال قولان . أحدهما : لتبرئة أمه مما قذفت به ، والثاني : لتحقيق معجزته الدالة على نبوته . ، قال ابن عباس : تكلم ساعة في مهده ، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق . { وكهلاً } قال : ابن ثلاثين سنة أرسله الله تعالى ، فمكث في رسالته ثلاثين شهراً ، ثم رفعه الله . وقال وهب بن منبه : جاءه الوحي على رأس ثلاثين سنة ، فمكث في نبوته ثلاث سنين ، ثم رفعه الله . قال ابن الأنباري كان عليه السلام قد زاد على الثلاثين ، ومن أربى عليها ، فقد دخل في الكهولة ، والكهل عند العرب : الذي قد جاوز الثلاثين ، وإنما سمي الكهل كهلاً ، لاجتماع قوته ، وكمال شبابه ، وهو من قولهم : قد اكتهل النبات . وقال ابن فارس : الكهل : الرجل حين وخطه الشيب . فإن قيل : قد علم أن الكهل يتكلم ، فعنه ثلاثة أجوبة . أحدها : أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة بطول عمره ، أي : أنه يبلغ الكهولة . وقد روي عن ابن عباس أنه قال : { وكهلاً } قال : ذلك بعد نزوله من السماء . والثاني : أنه أخبرهم أن الزمان يؤثر فيه ، وأن الأيام تنقله من حال إلى حال ، ولو كان إلهاً لم يدخل عليه هذا التغير ، ذكره ابن جرير الطبري . والثالث : أن المراد بالكهل : الحليم ، قاله مجاهد .

قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)

قوله تعالى : { قالت رب أنّى يكون لي ولد } في علة قولها هذا قولان . أحدهما : أنها قالت هذا تعجباً واستفهاماً ، لا شكاً وإنكاراً ، على ما أشرنا إليه في قصة زكريا ، وعلى هذا الجمهور ، والثاني : أن الذي خاطبها كان جبريل ، وكانت تظنه آدميا يريد بهاً سوءاً ، ولهذا قالت : { أعوذ بالرحمن منك إِن كنت تقياً } [ مريم : 18 ] . فلما بشرها لم تتيقن صحة قوله ، لأنها لم تعلم أنه ملك ، فلذلك قالت : { أنى يكون لي ولد } قاله ابن الأنباري .
قوله تعالى : { ولم يمسسني بشر } أي : ولم يقربني زوج . والمس : الجماع ، قاله ابن فارس . وسمي البشر بشراً ، لظهورهم ، والبشرة : ظاهر جلد الإنسان ، وأبشرت الأرض : أخرجت نباتها ، وبشرت الأديم : إذا قشرت وجهه ، وتباشير الصبح : أوائله . قال : يعني جبريل : { كذلكِ الله يخلق ما يشاء } أي : بسبب ، وبغير سبب . وباقي الآية مفسر في «البقرة» .

وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)

قوله تعالى : { ويعلمه الكتاب } قرأ الأكثرون ، «ونعلمه» بالنون . وقرأ نافع ، وعاصم بالياء ، فعطفاه على قوله «يبشرك» ، وفي الكتاب قولان . أحدهما : أنه كُتُبُ النبيين وعلمهم ، قاله ابن عباس . والثاني : الكتابة : قاله ابن جريج ، ومقاتل . قال ابن عباس : والحكمة : الفقه ، وقضاء النبيين .

وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)

قوله تعالى : { ورسولاً } قال الزجاج : ينتصب على وجهين . أحدهما : ونجعله رسولاً ، والاختيار عندي : ويكلم الناس رسولاً .
قوله تعالى : { أني أخلق } قرأ الأكثرون «أني» بالفتح ، فجعلوها بدلاً من آية ، فكأنه قال : قد جئتكم بأني أخلق لكم ، وقرأ نافع بالكسر ، قال أبو علي : يحتمل وجهين . أحدهما : أن يكون مستأنفاً . والثاني : أنه فسر الآية بقوله : إني أخلق ، أي : أصور وأقدر . قال ابن عباس : أخذ طيناً ، وصنع منه خفاشاً ، ونفخ فيه ، فاذا هو يطير ، ويقال : لم يصنع غير الخفاش ، ويقال : إن بني إسرائيل نعتوه بذلك ، لأن الخفاش عجيب الخلق . وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال لهم : ماذا تريدون؟ قالوا : الخفاش : فسألوه أشد الطير خلقاً؛ لأنه يطير بغير ريش . وقال وهب : كان الذي صنعه يطير ما دام الناس ينظرونه ، فاذا غاب عن أعينهم ، سقط ميتاً ، ليتميز فعل الخلق من فعل الخالق ، والأكثرون قرؤوا { فيكونَ طيراً } وقرأ نافع هاهنا وفي ( المائدة ) طائراً . قال أبو علي : حجة الجمهور قوله تعالى : { كهيئة الطير } ولم يقل كهيئة الطائر . ووجهة قراءة نافع : أنه أراد : يكون ما أنفخ فيه ، أو ما أخلقه طائراً ، وفي «الأكمه» أربعة أقوال .
أحدها : أنه الذي يولد أعمى ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وسعيد عن قتادة ، وبه قال اليزيدي : وابن قتيبة ، والزجاج .
والثاني : أنه الأعمى ، ذكره ابن جريج عن ابن عباس ، ومعمر عن قتادة ، وبه قال الحسن ، والسدي . وحكى الزجاج عن الخليل أن الأكمه : هو الذي يولد أعمى ، وهو الذي يعمى ، وإن كان بصيراً .
والثالث : أنه الأعمش ، قاله عكرمة .
والرابع : أنه الذي يبصر بالنهار ، ولا يبصر بالليل ، قاله مجاهد والضحاك . والأبرص : الذي به وضح . وكان الغالب على زمان عيسى عليه السلام ، علم الطب ، فأراهم المعجزة من جنس ذلك ، إلا أنه ليس في الطب إبراء الأكمه والأبرص ، وكان ذلك دليلاً على صدقه . قال وهب : ربما اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفاً ، وإنما كان يداويهم بالدعاء . وذكر المفسرون أنه أحيا أربعة أنفس من الموت . وعن ابن عباس : أن الأربعة كلهم بقي حتى ولد له ، إلا سام بن نوح .
قوله تعالى : { وأنبئُكم بما تأكلون } قال سعيد بن جبير : كان عيسى إذا كان في المكتب يخبرهم بما يأكلون ، ويقول للغلام : يا غلام إن أهلك قد هيؤوا لك كذا وكذا من الطعام فتطعمني منه؟ وقال مجاهد : بما أكلتم البارحة ، وبما خبأتم منه . وعلى هذا المفسرون ، إلا أن قتادة كان يقول : وأنبئُكم بما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم ، وما تدخرون منها ، وكان أخذ عليهم أن يأكلوا منها ، ولا يدَّخروا ، فلما خانوا ، مُسخوا خنازير .

وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)

قوله تعالى : { ومصدقاً لما بين يدي } قال الزجاج : نصب «مصدقاً»على الحال ، أي : وجئتكم مصدقاً { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } قال قتادة : كان قد حرم عليهم موسى الإبل والثروب وأشياء من الطير ، فأحلها عيسى .
قوله تعالى : { وجئتكم بآية } أي : بآيات تعلمون بها صدقي ، وإنما وحد ، لأن الكل من جنس واحد { من ربكم } أي : من عند ربكم .

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)

قوله تعالى : { فلما أحس عيسى } أي : علم . قال شيخنا أبو منصور اللغوي : يقال : أحسستُ بالشيء ، وحسست به وقول الناس في المعلومات «محسوسات» خطأ ، إنما الصواب «المحسات» فأما المحسوسات ، فهي المقتولات ، يقال حسه : إذا قتله . والأنصار : الأعوان . و «إِلى» بمعنى «مع» في قول الجماعة ، قال الزجاج : وإنما حسنت في موضع «مع» لأن «إِلى» غاية و «مع» تضم الشيء بالشيء . قال ابن الأنباري : ويجوز أن يكون المعنى : من أنصاري إلى أن أبين أمر الله . واختلفوا في سبب استنصاره بالحواريين ، فقال مجاهد : لما كفر به قومه ، وأرادوا قتله ، استنصر الحواريين . وقال غيره : لما كفروا به ، وأخرجوه من قريتهم ، استنصر الحواريين . وقيل : استنصرهم ، لإقامة الحق ، وإظهار الحجة . والجمهور على تشديد «ياء» الحواريين . وقرأ الجوني ، والجحدري ، وأبو حيوة : الحواريون بتخفيف الياء . وفي معنى الحواريين ستة أقوال . أحدها : أنهم الخواص الأصفياء ، قال ابن عباس : الحواريون : أصفياء عيسى . وقال الفراء : كانوا خاصة عيسى . وقال الزجاج : الحواريون في اللغة : الذين أخلصوا ، ونقوا من كل عيب ، وكذلك الدقيق : الحوّاري ، إنما سمي بذلك ، لأنه ينقى من لباب البر وخالصه . قال حذاق اللغويين : الحواريون : صفوة الأنبياء الذين خلصوا وأخلصوا في تصديقهم ونصرتهم . ويقال : عين حوراء : إذا اشتد بياضها ، وخلص ، واشتد سوادها ، ولا يقال : امرأة حوراء ، إلا أن تكون مع حور عينها بيضاء . والثاني : أنهم البيض الثياب ، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنهم سموا بذلك ، لبياض ثيابهم . والثالث : أنهم القصارون ، سموا بذلك ، لأنهم كانوا يحورون الثياب ، أي : يبيضونها ، قال الضحاك ، ومقاتل ، الحواريون : هم القصارون . قال اليزيدي : ويقال للقصارين : الحواريون ، لأنهم يبيضون الثياب ، ومنه سمي الدقيق : الحُوَّارى ، والعين الحوراء : النقية المحاجر . والرابع : الحواريون : المجاهدون .
وأنشدوا :
ونحن أناسٌ يملأ البَيض هامنا ... ونحن حواريون حين نزاحف
جَماجِمُنا يوم اللقاء تراسُنا ... إِلى الموت نمشي ليس فينا تحانف
والخامس : الحواريون : الصيادون . والسادس : الحواريون الملوك ، حكى هذه الأقوال الثلاثة ابن الأنباري . قال ابن عباس : وعدد الحواريين اثنا عشر رجلاً . وفي صناعتهم قولان . أحدهما : أنهم كانوا يصطادون السمك ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . والثاني : أنهم كانوا يغسلون الثياب ، قاله الضحاك ، وأبو أرطاة .

رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)

قوله تعالى : { ربنا آمنا بما أنزلت } هذا قول الحواريين . والذي أنزل : الإنجيل . والرسول : عيسى . وفي المراد بالشاهدين خمسة أقوال . أحدها : أنهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمته ، لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ ، رواه عكرمة عن ابن عباس . والثاني : أنهم من آمن قبلهم من المؤمنين ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثالث : أنهم الأنبياء ، لأن كل نبي شاهد أمته ، قاله عطاء . والرابع : أن الشاهدين : الصادقون ، قاله مقاتل . والخامس : أنهم الذين شهدوا للأنبياء بالتصديق . فمعنى الآية : صدقنا ، واعترفنا ، فاكتبنا مع من فعل فعلنا ، هذا قول الزجاج .

وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)

قوله تعالى : { ومكروا ومكر الله } قال الزجاج : المكر من الخلق : خبث وخداع ، ومن الله عز وجل : المجازاة ، فسمي باسم ذلك ، لأنه مجازاة عليه ، كقوله تعالى : { الله يستهزئ بهم } [ البقرة : 15 ] . { والله خير الماكرين } [ آل عمران : 54 ] . لأن مكره مجازاة ، ونصر للمؤمنين . قال ابن عباس : ومكرهم ، أن اليهود أرادوا قتل عيسى ، فدخل خوخة ، فدخل رجل منهم ، فألقى عليه شبه عيسى ، ورفع عيسى إلى السماء ، فلما خرج إليهم ، ظنوه عيسى ، فقتلوه .

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)

قوله تعالى : { إِذ قال الله يا عيسى إني متوفيك } قال ابن قتيبة : التوفي ، من استيفاء العدد ، يقال : توفيت ، واستوفيت ، كما يقال : تيقنت الخبر ، واستيقنته ، ثم قيل للموت : وفاة ، وتوف . وأنشد أبو عبيدة :
إِنَّ بني الأدرد ليسوا من أحدٍ ... ليسوا إِلى قيس وليسوا من أسد
ولا توفاهم قريش في العدد ... أي : لا تجعلهم وفاء لعددها ، والوفاء : التمام . وفي هذا التوفي قولان . أحدهما : أنه الرفع إلى السماء . والثاني : أنه الموت . فعلى القول الأول يكون نظم الكلام مستقيماً من غير تقديم ولا تأخير ، ويكون معنى «متوفيك» قابضك من الأرض وافياً تاماً من غير أن ينال منك اليهود شيئاً ، هذا قول الحسن ، وابن جريج ، وابن قتيبة ، واختاره الفراء . ومما يشهد لهذا الوجه قوله تعالى : { فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم } [ المائدة : 117 ] . أي : رفعتني إلى السماء من غير موت ، لأنهم إنما بدلوا بعد رفعه ، لا بعد موته . وعلى القول الثاني يكون في الآية تقديم وتأخير ، تقديره : إني رافعك إليَّ ومطهِّرك من الذين كفروا ، ومتوفيك بعد ذلك ، هذا قول الفراء ، والزجاج في آخرين . فتكون الفائدة في إعلامه بالتوفي تعريفه أن رفعَه إلى السماء لا يمنع من موته . قال سعيد بن المسيب : رُفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وقال مقاتل : رفع من بيت المقدس ليلة القدر في رمضان . وقيل عاشت أمه مريم بعد رفعه ست سنين . ويقال ماتت قبل رفعه .
قوله تعالى : { ومطهرك من الذين كفروا } فيه قولان .
أحدهما : أنه رفعه من بين أظهرهم .
والثاني : منعهم من قبله ، وفي الذين اتبعوه قولان .
أحدهما : أنهم المسلمون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنهم صدقوا بنبوته ، وأنه روح الله وكلمته ، هذا قول قتادة ، والربيع ، وابن السائب .
والثاني : أنهم النصارى ، فهم فوق اليهود ، واليهود مستذلون مقهورون ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { فيما كنتم فيه تختلفون } يعني : الدين .

فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)

قوله تعالى : { فأما الذين كفروا } قيل : هم اليهود والنصارى ، وعذابهم في الدنيا بالسيف والجزية ، وفي الآخرة بالنار .

وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)

قوله تعالى : { فيوفيهم أجورهم } قرأ الأكثرون بالنون ، وقرأ الحسن ، وقتادة ، وحفص عن عاصم : فيوفيهم بالياء معطوفاً على قوله تعالى : { إِذ قال الله يا عيسى }

ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)

قوله تعالى : { ذلك نتلوه عليك } يعني ما جرى من القصص . { من الآيات } يعني الدلالات على صحة رسالتك ، إذ كانت أخباراً لا يعلمها أميٌ { والذكر الحكيم } قال ابن عباس : هو القرآن . قال الزجاج : معناه : ذو الحكمة في تأليفه ونظمه ، وإبانة الفوائد منه .

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)

قوله تعالى : { إِن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } قال أهل التفسير : سبب نزول هذه الآية ، مخاصمة وفد نجران من النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم ، في أمر عيسى ، وقد ذكرناه في أول السورة . فأما تشبيه عيسى بآدم ، فلأنهما جميعاً من غير أب .
قوله تعالى : { خلقه من تراب } يعني : آدم . قال ثعلب : وهذا تفسير لأمر آدم وليس بحال .
قوله تعالى : { ثم قال له } يعني لآدم ، وقيل لعيسى { كن فيكون } أي : فكان : فأريد بالمستقبل الماضي ، كقوله تعالى : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } أي : ما تلت الشياطين .

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)

قوله تعالى : { الحق من ربك } قال الزجاج : الحق مرفوع على خبر ابتداء محذوف ، المعنى : الذي أنبأتك به في قصة عيسى الحق من ربك { فلا تكن من الممترين } أي : الشاكين والخطاب للنبي خطابٌ للخلق ، لأنه لم يشك .

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)

قوله تعالى : { فمن حاجَّك فيه } في هاء «فيه» قولان . أحدهما : أنها ترجع إلى عيسى . والثاني : إلى الحق . والعلم : البيان والإيضاح .
قوله تعالى : { فقل تعالَوا } قال ابن قتيبة : تعالى : تفاعل ، من علوت ، ويقال للاثنين من الرجال والنساء : تعاليا ، وللنساء : تعالين . قال الفراء : أصلها من العلو ، ثم إن العرب لكثرة استعمالهم إياها ، صارت عندهم بمنزلة «هلم» حتى استجازوا أن يقولوا للرجل ، وهو فوق شرف : تعال ، أي : اهبط . وإنما أصلها : الصعود . قال المفسرون : أراد بأبنائنا : فاطمة والحسن ، والحسين . وروى مسلم في «صحيحه» من حديث سعد بن أبي وقاص قال : لما نزلت هذه الآية { تعالوا ندعُ أبناءَنا وأبناءَكم } " دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال : «اللهم هؤلاء أهلي» "
قوله تعالى : { وأنفسنا } فيه خمسة أقوال .
أحدها : أراد علي بن أبي طالب ، قاله الشعبي . والعرب تخبر عن ابن العم بأنه نفس ابن عمه .
والثاني : أراد الإخوان ، قاله ابن قتيبة .
والثالث : أراد أهل دينه ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
والرابع : أراد الأزواج .
والخامس : أراد القرابة القريبة ، ذكرهما علي بن أحمد النيسابوري ، فأما الابتهال ، فقال ابن قتيبة : هو التداعي باللَّعن ، يقال : عليه بَهلةُ الله ، وبُهلته ، أي : لعنته . وقال الزجاج : معنى الابتهال في اللغة : المبالغة في الدعاء ، وأصله : الالتعان ، يقال : بهله الله ، أي : لعنه . وأمر بالمباهلة بعد إقامة الحجة . قال جابر بن عبد الله : قدم وفد نجران فيهم السيّد والعاقب ، فذكر الحديث . . . إلى أن قال : فدعاهما إلى الملاعنة ، فواعداه أن يفادياه ، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ، ثم أرسل اليهما ، فأبيا أن يجيباه ، فأقرا له بالخراج ، فقال : " والذي يعثني بالحق لو فعلا ، لأمطر الوادي عليهم نارا " .

إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)

قوله تعالى : { وما مِن إِله إِلا الله } قال الزجاج : دخلت «مِن» هاهنا توكيداً ودليلاً على نفي جميع ما ادعى المشركون من الآلهة .

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)

قوله تعالى : { فان تولوا } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : عن الملاعنة ، قاله مقاتل .
والثاني : أنه عن البيان الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله الزجاج .
والثالث : عن الإقرار بوحدانية الله ، وتنزيهه عن الصاحبة والولد ، قاله أبو سليمان الدمشقي ، وفي الفساد هاهنا قولان .
أحدهما : أنه العمل بالمعاصي ، قاله مقاتل .
والثاني : الكفر ، ذكره الدمشقي .

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)

قوله تعالى : { قل يا أهل الكتابِ } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم اليهود ، قاله قتاده ، وابن جريج ، والربيع بن أنس .
والثاني : وفد نجران الذين حاجوا في عيسى ، قاله السدي ومقاتل .
والثالث : أهل الكتابين جميعاً ، قاله الحسن . وقال ابن عباس : نزلت في القسيسين والرهبان ، فبعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى جعفر وأصحابه بالحبشة ، فقرأها جعفر ، والنجاشي جالس ، وأشراف الحبشة . فأما «الكلمة» فقال المفسرون هي : لا إله إلا الله فإن قيل : فهذه كلمات ، فلم قال كلمة؟ فعنه جوابان . أحدهما : أن الكلمة تعبر عن ألفاظ وكلمات . قال اللغويون : ومعنى كلمة : كلام فيه شرح قصة وإن طال ، تقول العرب : قال زهير في كلمته يراد في قصيدته .
قالت الخنساء :
وقافيةٍ مثلِ حدِّ السنا ... ن تبقى ويذهبُ من قالها
تقدُّ الذّؤابة مِن يَذْبلٍ ... أبت أن تُزايل أوعالَها
نطْقتَ ابنَ عمروٍ فسهَّلتها ... ولم ينطق الناس أمثالها
فأوقعت القافيه على القصيدة كلها ، والغالب على القافية أن تكون في آخر كلمة ، من البيت ، وإنما سميت قافية ، لإن الكلمة تتبع البيت ، وتقع آخره ، فسُميت قافية من قول العرب : قفوت فلاناً : إذا اتبعته ، وإلى هذا الجواب يذهب الزجاج وغيره . والثاني : أن المراد بالكلمة : كلمات ، فاكتفى بالكلمة من كلمات ، كما قال علقمة بن عبدة .
بِها جيفُ الحسرى فأمّا عظامُها ... فبيضٌ وأما جلدُها فصليب
أراد : وأما جلودها ، فاكتفى بالواحد من الجمع ، ذكره والذي قبله ابن الأنباري .
قوله تعالى : { سواء بيننا وبينكم } قال الزجاج : يعني بالسواء العدل ، وهو من استواء الشيء ، ويقال للعدل سَواء وسِواء وسُواء .
قال زهير بن أبي سلمى :
أروني خُطةً لا ضيمَ فيها ... يسوّي بيننا فيها السَّواء
فإن تدعوا السواء فليس بيني ... وبينكم بني حصن بقاء
قال : وموضع «أن» في قوله تعالى { ألا تعبدوا إلا الله } خفض على البدل من «كلمة» المعنى : تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله . وجائز أن يكون «أن» في موضع رفع ، كأن قائلاً قال : ما الكلمة؟ فأجيب ، فقيل : هي ألاّ نعبد إلا الله .
قوله تعالى : { ولا يتخذَ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه سجود بعضهم لبعض ، قاله عكرمة .
والثاني : لا يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله ، قاله ابن جريج .
والثالث : أن نجعل غير الله رباً ، كما قالت النصارى في المسيح ، قاله مقاتل والزجاج .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)

قوله تعالى : { يا أهل الكتاب لِم تحاجون في إِبراهيم } قال ابن عباس ، والحسن ، والسدي : اجتمع عند النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران ، وأحبار اليهود ، فقال هؤلاء : ما كان إبراهيم إلا يهودياً ، وقال هؤلاء : ما كان إلا نصرانياً . فنزلت هذه الآية .

هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)

قوله تعالى : { ها أنتم } قرأ ابن كثير «هأنتم» مثل : هعنتم ، فأبدل من همزة الاستفهام «الهاء» أراد : أأنتم . وقرأ نافع وأبو عمرو «هانتم» ممدوداً ، استفهام بلا همزة ، وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي . «ها أنتم» ممدوداً مهموزاً ، ولم يختلفوا في مد «هؤلاء» و «أولاء» .
قوله تعالى : { فيما لكم به علم } فيه قولان . أحدهما : أنه ما رأوا وعاينوا ، قاله قتادة . والثاني : ما أُمروا به ، ونهوا عنه ، قاله السدي . فأما الذي ليس لهم به علم ، فهو شأن إبراهيم عليه السلام . وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنه كان بين إبراهيم وموسى ، خمسمائة وخمس وسبعون سنة . وبين موسى وعيسى ألف وستمائة واثنتان وثلاثون سنة . وقال ابن إسحاق : كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة وخمس وستون سنة ، وبين موسى وعيسى ألف وتسعمائة وخمس وعشرون سنة . وقد سبق في ( البقرة ) معنى الحنيف .

مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

قوله تعالى : { إن أولى الناس بإبراهيم لَلَّذين اتبعوه } في سبب نزولها قولان . أحدهما : أن رؤساء اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لقد علمت أنَّا أولى بدين إبراهيم منك ، وأنه كان يهودياً ، وما بك إلا الحسد ، فنزلت هذه الآية . ومعناها : أحق الناس بدين إبراهيم ، الذين اتبعوه على دينه ، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم على دينه ، قاله ابن عباس . والثاني : أن عمرو بن العاص أراد أن يُغضب النجاشي على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال للنجاشي : إنهم ليشتمون عيسى . فقال النجاشي : ما يقول صاحبكم في عيسى؟ فقالوا : يقول : إنه عبد الله وروحه ، وكلمته ألقاها إلى مريم . فأخذ النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين ، فقال : والله ما زاد على ما يقول صاحبكم ما يَزِن هذا القذى ، ثم قال : أبشروا ، فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم . قال عمرو بن العاص : ومَن حزب إبراهيم؟ قال : هؤلاء الرهط وصاحبهم . فأنزل الله يوم خصومتهم على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، هذا قول عبد الرحمن بن غنم .

وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)

قوله تعالى : { ودت طائفة من أهل الكتاب لو يُضلُّونكم } سبب نزولها أن اليهود قالوا لمعاذ بن جبل ، وعمَّار بن ياسر : تركتما دينكما ، واتبعتما دين محمد ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . والطائفة : اسم لجماعة مجتمعين على ما اجتمعوا عليه من دين ، ورأي ، ومذهب ، وغير ذلك . وفي هذه الطائفة قولان . أحدهما : أنهم اليهود ، قاله ابن عباس . والثاني : اليهود والنصارى ، قاله أبو سليمان الدمشقي . والضلال : الحيرة . وفيه هاهنا قولان . أحدهما : أنه الاستنزال عن الحق إلى الباطل ، وهو قول ابن عباس ، ومقاتل . والثاني : الإهلاك ، ومنه { أإِذا ضللنا في الأرض } [ السجدة : 10 ] . قاله ابن جرير ، والدمشقي . وفي قوله : { وما يشعرون } قولان . أحدهما : وما يشعرون أن الله يدل المؤمنين على حالهم ، والثاني : وما يشعرون أنهم يضلون أنفسهم .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)

قوله تعالى : { لِمَ تكفرون بآيات الله؟ } قال قتادة : يعني : محمداً والإسلام { وأنتم تشهدون } أن بعث محمد في كتابكم ، ثم تكفرون به .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)

قوله تعالى : { لم تلبسون الحق بالباطل؟ } قال اليزيدي : معناه : لم تخلطون الحق بالباطل؟ قال ابن فارس : واللبس : اختلاط الأمر ، وفي الأمر لبسة ، أي : ليس بواضح . وفي الحق والباطل أربعة أقوال . أحدها : أن الحق : إقرارهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، والباطل : كتمانهم بعض أمره . والثاني : الحق : إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وسلم غدوة ، والباطل : كفرهم به عشية ، رويا عن ابن عباس . والثالث : الحق : التوراة ، والباطل : ما كتبوه فيها بأيديهم ، قاله الحسن ، وابن زيد . والرابع : الحق : الإسلام ، والباطل : اليهودية والنصرانية ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { وتكتمون الحق } قال قتادة : كتموا الإسلام ، وكتموا محمداً صلى الله عليه وسلم .

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)

قوله تعالى : { وقالت طائفة من أهل الكتاب } في سبب نزولها قولان . أحدهما : أن طائفة من اليهود قالوا : إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار ، فآمنوا ، وإذا كان آخره ، فصلوا صلاتكم لعلهم يقولون : هؤلاء أهل الكتاب ، وهم أعلم منا ، فينقلبون عن دينهم ، رواه عطية عن ابن عباس . وقال الحسن والسدي : تواطأ اثنا عشر حبراً من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد باللسان أول النهار ، واكفروا آخره ، وقولوا : إنا نظرنا في كتبنا ، وشاورنا علماءنا ، فوجدنا محمداً ليس بذلك ، فيشك أصحابه في دينهم ، ويقولون : هم أهل الكتاب ، وهم أعلم منا ، فيرجعون إلى دينكم ، فنزلت هذه الآية . وإلى هذا المعنى ذهب الجمهور . والثاني : أن الله تعالى صرف نبيه إلى الكعبة عند صلاة الظهر ، فقال قوم من علماء اليهود : { آمنوا بالذي أُنزل على الذين آمنوا وجه النهار } يقولون : آمنوا بالقبلة التي صلوا إليها الصبح ، واكفروا بالتي صلوا إليها آخر النهار ، لعلهم يرجعون إلى قبلتكم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . قال مجاهد ، وقتادة ، والزجاج في آخرين : وجه النهار : أوله .
وأنشد الزجاج :
من كان مسروراً بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسراً يَنْدبنه ... قد قُمن قبل تبلُّج الأسحار

وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)

قوله تعالى : { ولا تؤمنوا إِلا لمن تبِع دينَكم } اختلف العلماء في توجيه هذه الآية على أربعة أقوال .
أحدها : أن معناه : و لا تصدقوا إلا من تبع دينكم ، ولا تصدقوا أن يؤتى أحدٌ مما أوتيتم من العلم ، وفلق البحر ، والمنِّ ، والسلوى ، وغير ذلك ، ولا تصدقوا أن يجادلوكم عند ربكم ، لأنكم أصح ديناً منهم ، فيكون هذا كله من كلام اليهود بينهم ، وتكون اللام في «لمن» صلة ، ويكون قوله تعالى : { قل إِنَّ الهدى هدى الله } كلاماً معترضاً بين كلامين ، هذا معنى قول مجاهد ، والأخفش .
والثاني : أن كلام اليهود تام عند قوله : { لمن تبع دينكم } والباقي من قول الله تعالى ، لا يعترضه شيءٌ من قولهم ، وتقديره : قل يا محمد : إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم يا أمة محمد ، إلاّ أن تجادلكم اليهود بالباطل ، فيقولون : نحن أفضل منكم ، هذا معنى قول الحسن ، وسعيد بن جبير . قال الفراء : معنى : «أن يؤتى» أن لا يؤتى .
والثالث : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، تقديره : ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم ، إلا من تبع دينكم ، فأخرت «أن» ، وهي مقدمة في النية على مذهب العرب في التقديم والتأخير ، ودخلت اللام على جهة التوكيد ، كقوله تعالى : { عسى أن يكون رَدِفَ لكم } [ النمل : 72 ] أي ردفكم .
وقال الشاعر :
ما كنتُ أخدعُ للخليل بخلَّة ... حتى يكون ليَ الخليلُ خَدوعا
أراد : ما كنت أخدع الخليل .
وقال الآخر :
يذمّون للدنيا وهم يحلبونها ... أفاويقَ حتى ما يَدِرُّ لها ثُعْل
أراد : يذمون الدنيا ، ذكره ابن الأنباري .
والرابع : أن اللام غير زائدة ، والمعنى : لا تجعلوا تصديقكم النبي في شيء مما جاء به إلا لليهود ، فإنكم إن قلتم ذلك للمشركين ، كان عوناً لهم على تصديقه ، قاله الزجاج . وقال ابن الأنباري : لا تؤمنوا أن محمداً وأصحابه على حق ، إلا لمن تبع دينكم ، مخافة أن يطلع على عنادكم الحق ، ويحاجوكم به عند ربكم . فعلى هذا يكون معنى الكلام : لا تقروا بأن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم ، وقد ذكر هذا المعنى مكي بن أبي طالب النحوي . وقرأ ابن كثير : أان يؤتى بهمزتين ، الأولى مخفّفة ، والثانية : مليّنة على الاستفهام ، مثل : أانتم أعلم . قال أبو علي : ووجهها أن «أن» في موضع رفع بالابتداء ، وخبره : يصدقون به ، أو يعترفون به ، أو يذكرونه لغيركم ، ويجوز أن يكون موضع «أن» نصباً ، فيكون المعنى : أتشيعون ، أو أتذكرون أن يؤتى أحدٌ ، ومثله في المعنى : { أتحدِّثونهم بما فتح الله عليكم } [ البقرة : 76 ] وقرأ الأعمش ، وطلحة بن مصرّف : إن يؤتى ، بكسر الهمزة ، على معنى : ما يؤتى . وفي قوله تعالى : { أو يحاجوكم عند ربكم } قولان . أحدهما : أن معناه : ولا تصدقوا أنهم يحاجوكم عند ربكم ، لأنهم لا حجة لهم ، قاله قتادة . والثاني : أن معناه : حتى يحاجوكم عند ربكم على طريق التعبّد ، كما يقال : لا يلقاه أو تقوم الساعة ، قاله الكسائي .
قوله تعالى : { إن الفضل بيد الله } قال ابن عباس : يعني النبوة ، والكتاب ، والهدى { يؤتيه من يشاء } لا ما تمنَّيتموه أنتم يا معشر اليهود من أنه لا يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم .

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)

قوله تعالى : { يختص برحمته من يشاء } في الرحمة ثلاثة أقوال . أحدها : أنها الإسلام ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . والثاني : النبوة ، قاله مجاهد . والثالث : القرآن والإسلام ، قاله ابن جريج .

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)

قوله تعالى : { ومِنْ أهل الكتاب مَنْ إِن تأمنه بقنطار } قال ابن عباس : أودع رجل ألفاً ومئتي أوقيه من ذهب عبد الله بن سلام ، فأداهما إليه ، فمدحه الله بهذا الآية ، وأودع رجل فنحاصَ بن عازوراء ديناراً ، فخانه . وأهل الكتاب : اليهود . وقد سبق الكلام في القنطار . وقيل إِن «الباء» في قوله : «بقنطارٍ» بمعنى «على» فأما الدينار ، فقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي ، قال : الدينار فارسي معرّب ، وأصله : دِنّار ، وهو وإِن كان معرباً ، فليس تعرف له العرب اسماً غير الدينار ، فقد صار كالعربي ، ولذلك ذكره الله تعالى في كتابه ، لأنه خاطبهم بما عرفوا ، واشتقوا منه فِعلاً ، فقالوا : رجل مُدَنَّر : كثير الدنانير . وبرذون مدنّر : أشهب مستدير النقش ببياض وسواد . فان قيل : لم خصَّ أهل الكتاب بأن فيهم خائناً وأميناً والخلق على ذلك ، فالجواب : أنهم يخونون المسلمين استحلالاً لذلك ، وقد بيَّنه في قوله تعالى : { ليس علينا في الأمِّيِّين سبيل } فحذَّر منهم . وقال مقاتل : الأمانة ترجع إلى من أسلم منهم ، والخيانة إلى من لم يسلم . وقيل : إن الذين يؤدون الأمانة : النصارى ، والذين لا يؤدونها : اليهود .
قوله تعالى : { إِلا مادمت عَليه قائماً } قال الفراء : أهل الحجاز يقولون : دُمتَ ودُمتم ، ومُت ومُتم . وتميم يقولون : مِت ودِمت بالكسر ، ويجتمعون في «يفعل» يدوم ويموت . وفي هذا القيام قولان . أحدهما : أنه التقاضي ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج . قال ابن قتيبة : والمعنى : ما دمت مواظباً بالاقتضاء له والمطالبة . وأصل هذا أن المطالب بالشيء يقوم فيه ، ويتصرَّف . والتارك له يقعد عنه .
[ قال الأعشى :
يقوم على الرَّغم في قومه ... فيعفو إِذا شاء أو ينتقم
أي : يطالب بالذخل ولا يقعد عنه . قال تعالى : { ليسوا سواءً } ] { من أهل الكتاب أمةٌ قائمة } [ آل عمران : 113 ] أي : عاملة غير تاركة ، وقال تعالى : { أفمن هو قائمٌ على كل نفسٍ بما كسبت } [ الرعد : 33 ] أي : آخذ لها بما كسبت . والثاني : أنه القيام حقيقة ، فتقديره : إلا ما دمت قائماً على رأسه ، فإنه يعترف بأمانته ، فاذا ذهبت ، ثم جئت ، جحدك ، قاله السدي .
قوله تعالى : { ذلك } يعني : الخيانة . والسبيل : الإثم والحرج ، ونظيره { ما على المحسنين من سبيل } [ التوبة : 91 ] قال قتادة : إنما استحل اليهود أموال المسلمين ، لأنهم عندهم ليسوا أهل كتاب .
قوله تعالى : { ويقولون على الله الكذب } قال السدي : يقولون : قد أحل الله لنا أموال العرب .
قوله تعالى : { وهم يعلمون } قولان . أحدهما : يعلمون أن الله قد أنزل في التوراة الوفاء ، وأداء الأمانة . والثاني : يقولون الكذب ، وهم يعلمون أنه كذب .

بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)

قوله تعالى : { بلى } رد الله عز وجل عليهم قولهم : { ليس علينا في الأميين سبيل } بقوله : { بلى } قال الزجاج : وهو عندي وقف التمام ، ثم استأنف ، فقال : { من أوفى بعهده } ويجوز أن يكون استأنف جملة الكلام بقوله : { بلى من أوفى } . والعهد : ما عاهدهم الله عز وجل عليه في التوراة . وفي «هاء» { عهده } قولان . أحدهما : أنها ترجع إلى الله تعالى . والثاني : إلى الموفي .

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)

قوله تعالى : { إِن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً } في سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها : أن الأشعث بن قيس خاصم بعض اليهود في أرض ، فجحده اليهودي ، فقدّمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال [ له ] : «ألك بينة»؟ قال : لا . قال لليهودي : «أتحلف»؟ فقال الأشعث : إذاً يحلف فيذهب بمالي . فنزلت هذه الآية . أخرجه البخاري ومسلم . والثاني : أنها نزلت في اليهود ، عهد الله إليهم في التوراة تبيين صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، فجحدوا ، وخالفوا لما كانوا ينالون من سفلتهم من الدنيا ، هذا قول عكرمة ، ومقاتل . والثالث : أن رجلاً أقام سلعته في السوق أول النهار ، فلما كان آخره ، جاء رجل ، يساومه ، فحلف : لقد منَعَها أول النهار من كذا ، ولولا المساء لما باعها به ، فنزلت هذا الآية ، هذا قول الشعبي ، ومجاهد . فعلى القول الأول ، والثالث ، العهد : لزوم الطاعة ، وترك المعصية ، وعلى الثاني : ما عهده إلى اليهود في التوراة . واليمين : الحلف . وإن قلنا : إنها في اليهود ، والكفار ، فإن الله لا يكلمهم يوم القيامة أصلاً . وإن قلنا : إنها في العصاة ، فقد روي عن ابن عباس أنه قال : لا يكلمهم الله كلام خير . ومعنى : { ولا ينظر إِليهم } ، أي : لا يعطف عليهم بخير مقتاً لهم ، قال الزجاج : تقول : فلان لا ينظر إلى فلان ، ولا يكلمه ، معناه : أنه غضبان عليه .
قوله تعالى : { ولا يزكيهم } أي : لا يطهرهم من دنس كفرهم وذنوبهم .

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)

قوله تعالى : { وإِن منهم لفريقاً } اختلفوا فيمن نزلت على قولين . أحدهما : أنها نزلت في اليهود ، رواه عطية ، عن ابن عباس . والثاني : في اليهود والنصارى ، رواه الضحاك ، عن ابن عباس .
قوله تعالى : { وإِنَّ } هي كلمة مؤكدة ، واللام في قوله : «لَفريقاً» توكيد زائد على توكيد «إِنَّ» قال ابن قتيبه : ومعنى { يَلْوُون ألسنتهم } : يقلبونها بالتحريف والزيادة . والألسنة : جمع لسان ، قال أبو عمرو : واللسان يذكر ويؤنَّث ، فمن ذكره جمعه : ألسنة ، ومن أنَّثه ، جمعه : ألسناً . وقال الفراء : اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلا مذكراً . وتقول العرب : سبق من فلان لسان ، يعنون به الكلام ، فيذكِّرونه .
وأنشد ابن الأعرابي :
لسانك معسولٌ ونفسُك شحَّة ... وعند الثريا من صديقك مالُكا
وأنشد ثعلب :
ندِمت على لسانٍ كان مني ... فليت بأنَّه في جوفِ عِكْمِ
والعكم : العدل . ودل بقوله : كان مني ، على أن اللسان الكلام .
وأنشد ثعلب :
أتتني لسان بني عامر ... أحاديثها بعد قولٍ نكر
فأنث اللسان ، لأنه عنى الكلمة والرسالة .

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)

قوله تعالى : { ما كان لبشر } في سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها : أن قوماً من رؤساء اليهود والنصارى ، قالوا : يا محمد أتريد أن نتخذك رباً؟ فقال : معاذالله ، ما بذلك بعثني ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . والثاني : " أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا نسجد لك؟ قال : «لا ، فإنه لا ينبغي أن يُسجَد لأحد من دون الله» " فنزلت هذه الآية ، قاله الحسن البصري . والثالث : أنها نزلت في نصارى نجران حيث عبدوا عيسى . قاله الضحاك ، ومقاتل . وفيمن عنى ب «البشر» قولان . أحدهما : محمد صلى الله عليه وسلم . والكتاب : القرآن ، قاله ابن عباس ، وعطاء . والثاني : عيسى ، والكتاب : الإنجيل ، قاله الضحاك ، ومقاتل . والحكم : الفقه والعلم ، قاله قتادة في آخرين . قال الزجاج : ومعنى الآية : لا يجتمع لرجل نبوَّة ، والقول للناس : كونوا عباداً لي من دون الله ، لأن الله لا يصطفي الكذبة .
قوله تعالى : { ولكن كونوا } أي : ولكن يقول لهم : كونوا ، فحذف القول لدلالة الكلام عليه .
فأما الربانيون ، فروي عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : هم الذين يغذّون الناس بالحكمة ، ويربونهم عليها . وقال ابن عباس ، وابن جبير : هم الفقهاء المعلِّمون . وقال قتادة ، وعطاء : هم الفقهاء العلماء الحكماء . قال ابن قتيبة : واحدهم رباني ، وهم العلماء المعلمون . وقال أبو عبيد : أحسب الكلمة ليست بعربية ، إنما هي عبرانية ، أو سريانية ، وذلك أن أبا عبيدة زعم أن العرب لا تعرف الربانيين . قال أبو عبيد : وإنما عرفها الفقهاء ، وأهل العلم ، قال : وسمعت رجلاً عالماً بالكتب يقول : هم العلماء بالحلال والحرام ، والأمر والنهي . وحكى ابن الأنباري عن بعض اللغويين : الرباني : منسوب إلى الرب ، لأن العلم : مما يطاع الله به ، فدخلت الألف والنون في النسبة للمبالغة ، كما قالوا : رجل لحياني : إذا بالغوا في وصفه بكبر اللحية .
قوله تعالى : { بما كنتم تعلِّمون الكتاب } قرأ ابن كثير ، ونافع وأبو عمرو : تعْلَمون ، باسكان العين ، ونصب اللام . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : تعلِّمون مثقلاً ، وكلهم قرؤوا : «تدرسون» خفيفة . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو رزين ، وسعيد بن جبير ، وطلحة بن مصرِّف ، وأبو حيوه : تُدرِّسون ، بضم التاء مع التشديد . والدراسة : القراءة . قال الزجاج : ومعنى الكلام : ليكن هديكم ونيتكم في التعليم هدي العلماء والحكماء ، لأن العالم إنما يستحق هذا الاسم إذا عمل بعلمه .

وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)

قوله تعالى : { ولا يأمركم أن } قرأ ابن عامر ، وحمزة ، وخلف ، ويعقوب ، وعاصم في بعض الروايات عنه ، وعبد الوارث ، عن أبي عمرو ، واليزيدي في اختياره ، بنصب الراء . وقرأ الباقون برفع الراء ، فمن نصب كان المعنى : وما كان لبشر أن يأمركم ، ومن رفع قطعه مما قبله . قال ابن جريج : ولا يأمركم محمد .

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)

قوله تعالى : { وإِذ أخذ الله ميثاق النبين } قال الزجاج : موضع «إِذ» نصب ، المعنى : واذكر في أقاصيصك إذ أخذ الله . قال ابن عباس : الميثاق : العهد . وفي الذي أخذ ميثاقهم عليه قولان . أحدهما : أنه تصديق محمد صلى الله عليه وسلم ، روي عن علي ، وابن عباس ، وقتادة ، والسدي . والثاني : أنه أخذ ميثاق الأول من الأنبياء ليؤمننَّ بما جاء به الآخر منهم ، قاله طاووس . قال مجاهد ، والربيع بن أنس : هذه الآية خطأ من الكتَّاب ، وهي في قراءة ابن مسعود : { وإِذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } واحتج الربيع بقوله تعالى : { ثم جاءكم رسول } . وقال بعض أهل العلم : إنما أخذ الميثاق على النبيين ، وأممهم ، فاكتفى بذكر الأنبياء عن ذكر الأمم ، لأن في أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على التابع ، وهذا معنى قول ابن عباس ، والزجاج .
واختلف العلماء في لام «لما» فقرأ الأكثرون «لما» بفتح اللام والتخفيف ، وقرأ حمزة مثلها ، إلا أنه كسر اللام ، وقرأ سعيد بن جبير «لما» مشدَّدة الميم ، فقراءة ابن جبير ، معناها : حين آتيتكم . وقال الفراء في قراءة حمزة : يريد أخذ الميثاق للذي آتاهم ، ثم جعل قوله : { لتؤمنن به } من الأخذ . قال الفراء : ومن نصب اللام جعلها زائدة . و «ما» هاهنا بمعنى الشرط والجزاء ، فالمعنى : لئن آتيتكم ومهما آتيتكم شيئاً من كتاب وحكمة . قال ابن الأنباري : اللام في قوله تعالى : { لما آتيتكم } على قراءة من شدَّد أو كسر : جواب لأخذ الميثاق ، قال : لأن أخذ الميثاق يمين ، وعلى قراءة من خففها ، معناها : القسم ، وجواب القسم اللام في قوله : { لتؤمنن به } . وإنما خاطب ، فقال : آتيتكم . بعد أن ذكر النبيين وهم غيَّب ، لأن في الكلام معنى قول وحكاية ، فقال مخاطباً لهم : لما آتيتكم وقرأ نافع «آتيناكم» بالنون والألف .
قوله تعالى : { ثم جاءكم رسول } قال علي رضي الله عنه : ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه العهد ، إن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه . وقال غيره : أخذ ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضُهم بعضاً . والإصر هاهنا : العهد في قول الجماعة . قال ابن قتيبة : أصل الإصر : الثِّقل ، فسمي العهد إصراً ، لأنه منعٌ من الأمر الذي أخذ له ، وثقل وتشديد . وكلهم كسر ألف «إصري» . وروى أبو بكر ، عن عاصم ضمَّه . قال أبو علي : يشبه أن يكون الضم لغة .
قوله تعالى : { قال فاشهدوا } قال ابن فارس : الشهادة : الإخبار بما شوهد . وفيمن خوطب بهذا قولان . أحدهما : أنه خطاب للنبيين ، ثم فيه قولان . أحدهما : أنه معناه : فاشهدوا على أممكم ، قاله علي بن أبي طالب . والثاني : فاشهدوا على أنفسكم ، قاله مقاتل . والثاني : أنه خطاب للملائكة ، قاله سعيد بن المسيب . فعلى هذا يكون كناية عن غير مذكور .

فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)

قوله تعالى : { أفغيرَ دينِ الله يبغون } قرأ أبوعمرو : «يبغون» بالياء مفتوحة . { وإِليه تُرجعون } بالتاء مضمومة ، وقرأها الباقون بالياء في الحرفين . وروى حفص عن عاصم : «يبغون» و «يرجعون» بالياء فيهما ، وفتح الياء وكسر الجيم يعقوب على أصله . قال ابن عباس : اختصم أهل الكتابين ، فزعمت كلُّ فرقة أنها أولى بدين إبراهيم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم " فغضبوا ، وقالوا : والله لا نرضى بقضائك ، ولا نأخذ بدينك ، فنزلت هذه الآية . والمراد بدين الله ، دين محمد صلى الله عليه وسلم . { وله أسلم } انقاد ، وخضع { طوعاً وكرهاً } الطوع : الانقياد بسهولة ، والكره : الانقياد بمشقة وإباءٍ من النفس . وفي معنى الطوع والكره ستة أقوال . أحدها : أن إسلام الكل كان يوم الميثاق طوعاً وكرهاً ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، والأعمش عن مجاهد ، وبه قال السدي . والثاني : أن المؤمن يسجد طائعاً ، والكافر يسجد ظلُّه وهو كاره ، روي عن ابن عباس ، ورواه ابن أبي نجيح ، وليث عن مجاهد . والثالث : أن الكل أقروا له بأنه الخالق ، وإن أشرك بعضهم ، فإقراره بذلك حجة عليه في إشراكه ، هذا قول أبو العالية ، ورواه منصور عن مجاهد . والرابع : أن المؤمن أسلم طائعاً ، والكافر أسلم مخافة السيف ، هذا قول الحسن . والخامس : أن المؤمن أسلم طائعاً ، والكافر أسلم حين رأى بأس الله ، فلم ينفعه في ذلك الوقت ، هذا قول قتادة . والسادس : أن إسلام الكل خضوعهم لنفاذ أمره في جبلتهم ، لا يقدر أحد أن يمتنع من جبّلةٍ جبله عليها ، ولا على تغييرها ، هذا قول الزجاج ، وهو معنى قول الشعبي : انقاد كلهم له .

قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)

قوله تعالى : { كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم } في سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها : أن رجلاً من الأنصار ارتدَّ فلحق بالمشركين ، فنزلت هذه الآية ، إلى قوله تعالى : { إِلا الذين تابوا } فكتب بها قومه إليه ، فرجع تائباً [ فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه ، وخلَّى عنه ] رواه عكرمة عن ابن عباس . وذكر مجاهد ، والسدي أن اسم ذلك الرجل : الحارث بن سويد .
والثاني : أنها نزلت في عشرة رهط ارتدوا ، فيهم الحارث بن سويد ، فندم ، فرجع . رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل .
والثالث : أنها في أهل الكتاب ، عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم كفروا به . رواه عطية عن ابن عباس . وقال الحسن : هم اليهود والنصارى . وقيل : إن «كيف» هاهنا لفظها لفظ الاستفهام ، ومعناها الجحد ، أي : لا يهدي الله هؤلاء .

خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)

قوله تعالى : { خالدين فيها } قال الزجاج أي : في عذاب اللعنة { ولا هم ينظرون } أي : يؤخرون عن الوقت . قال : ومعنى : { أصلحوا } أي : أظهروا أنهم كانوا على ضلال ، وأصلحوا ما كانوا أفسدوه ، وغرّوا به من تبعهم ممن لا علم له .
فصل
وهذه الآية استثنت مَن تاب ممن لم يتب وقد زعم قوم أنها نَسخت ما تضمنته الآيات قبلها من الوعيد ، وليس بنسخ .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)

قوله تعالى : { إِن الذين كفروا بعد إِيمانهم } اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها نزلت فيمن لم يتب من أصحاب الحارث بن سويد ، فإنهم قالوا : نقيم بمكة ونتربص بمحمد ريب المنون ، قاله ابن عباس ، و مقاتل .
والثاني : أنها نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد والقرآن ، قاله الحسن ، وقتادة ، وعطاء الخراساني .
والثالث : أنها نزلت في اليهود والنصارى ، كفروا بمحمد بعد إيمانهم بصفته ، ثم ازدادوا كفراً باقامتهم على كفرهم ، قاله أبو العالية . قال الحسن : كلما نزلت آية كفروا بها ، فازداوا كفراً . وفي عِلة امتناع قبول توبتهم أربعة أقوال .
أحدها : أنهم ارتدوا ، وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم ، والكفر في ضمائرهم ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنهم قوم تابوا من الذنوب في الشرك ، ولم يتوبوا من الشرك ، قاله أبو العالية .
والثالث : أن : معناه : لن تُقبل توبتهم حين يحضرهم الموت ، وهو قول الحسن ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، والسدي .
والرابع : لن تقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر ، قاله مجاهد .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)

قوله تعالى : { إِن الذين كفروا وماتوا وهم كفار } روى أبو صالح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة ، دخل من كان من أَصحاب الحارث بن سويد حياً في الإسلام ، فنزلت هذه الآية فيمن مات منهم كافراً . قال الزجاج : وملء الشيء : مقدار ما يملؤه . قال سيبويه ، والخليل : والملء بفتح الميم : الفعل ، تقول : ملأت الشيء أملؤه ملأً ، المصدر بالفتح لا غير . والملاءة : التي تلبس ممدودة . والملاوة من الدهر : القطعة الطويلة منه ، يقولون : ابل جديداً ، وتمل حبيباً ، أي : عش معه دهراً طويلاً . و { ذهباً } منصوب على التمييز . وقال ابن فارس : ربما أُنث الذهب ، فقيل : ذهبة ، ويجمع على الأذهاب .
قوله تعالى : { ولو افتدى به } قال الفراء : الواو هاهنا قد يستغنى عنها ، ولو حذفت كان صواباً ، كقوله تعالى :
{ وليكونَ من الموقنين } [ الأنعام : 75 ] قال الزجاج : هذا غلط ، لأن فائدة الواو بيِّنة ، فليست مما يلقى . قال النحاس : قال أهل النظر من النحويين في هذه الآية : الواو ليست مقحمة ، وتقديره : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً تبرعاً ولو افتدى .

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

قوله تعالى : { لن تنالوا البر } في البر أربعة أقوال .
أحدها : أنه الجنة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي في آخرين . قال ابن جرير : فيكون المعنى : لن تنالوا بر الله بكم الذي تطلبونه بطاعتكم .
والثاني : التقوى ، قاله عطاء ، ومقاتل .
والثالث : الطاعة ، قاله عطية .
والرابع : الخير الذي يُستحق به الأجر ، قاله أبو روق . قال القاضي أبو يعلى : لم يرد نفي الأصل ، وإنما نفي وجود الكمال ، فكأنه قال : لن تنالوا البر الكامل .
قوله تعالى : { حتى تنفقوا مما تحبون } فيه قولان . أحدهما : أنه نفقة العبد من ماله ، وهو صحيح شحيح ، رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني : أنه الإنفاق من محبوب المال ، قاله قتادة ، والضحاك . وفي المراد بهذه النفقة ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها الصدقة المفروضة ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والضحاك .
والثاني : أنها جميع الصدقات ، قاله ابن عمر .
والثالث : أنها جميع النفقات التي يُبتغى بها وجه الله تعالى ، سواء كانت صدقة ، أو لم تكن ، نُقل عن الحسن ، واختاره القاضي أبو يعلى وروى البخاري ، ومسلم في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك قال : كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً من نخل ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيبٍ . قال أنس : " فلما نزلت : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } قام أبو طلحة ، فقال : يا رسول الله إن الله يقول : { لن تنالوا البرَّ حتى تنفقوا مما تحبون } وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء ، وإنها صدقة لله ، أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى ، فضعها حيث أراك الله ، فقال صلى الله عليه وسلم : «بخ بخ ، ذاك مال رابح أو رائح [ شك الراوي ] وقد سمعتُ ما قلت ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين»فقسمها أبو طلحة في أقاربه ، وبني عمِّه " وروي عن عبد الله بن عمر أنه قرأ هذه الآية فقال : لا أجد شيئاً أحب إليَّ من جاريتي رميثة ، فهي حرة لوجه الله ، ثم قال : لولا أني أعود في شيء جعلته لله ، لنكحتها ، فأنكحها نافعاً ، فهي أم ولده . وسُئل أبو ذر : أي الأعمال أفضل : فقال : الصلاة : عماد الإسلام ، والجهاد : سنام العمل ، والصدقة : شيء عَجَب . ثم قال السائل : يا أبا ذرٍ لقد تركت شيئاً هو أوثق عمل في نفسي لا أُراك ذكرته . قال : ما هو؟ قال : الصيام . فقال : قربة وليس هناك ، وتلا قوله تعالى : { لن تنالوا البرَّ حتى تنفقوا مما تحبون } . قال الزجاج : ومعنى قوله تعالى : { فإن الله به عليم } أي : يجازي عليه .

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)

قوله تعالى : { كل الطعام كان حلاً لبني إِسرائيل } سبب نزولها " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «أنا على ملة إِبراهيم» فقالت اليهود : كيف وأنت تأكل لحوم الإِبل؟ وتشرب ألبانها؟ فقال : «كان ذلك حلاً لإبراهيم» . فقالوا كل شيء نحرِّمه نحن ، فإنه كان محرّماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا " فنزلت هذه الآية تكذيباً لهم . قاله أبو روق ، وابن السائب و «الطعام» اسم للمأكول . قال ابن قتيبة : والحل : الحلال ، ومثله الحرم والحرام ، واللبس واللباس . وفي الذي حرَّمه على نفسه ، ثلاثة أقوال . أحدها : لحوم الإبل وألبانها . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ورواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، وهو قول الحسن ، وعطاء ابن أبي رباح ، وأبي العالية في آخرين . والثاني : أنه العروق ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وهو قول مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي في آخرين . والثالث : أنه زائدتا الكبد ، والكليتان ، والشحم إلا ما على الظهر ، قاله عكرمة . وفي سبب تحريمه لذلك أربعة أقوال . أحدها : أنه طال به مرضٌ شديد ، فنذر : لئن شفاه الله ، ليحرِّمنَّ أحبَّ الطعام والشراب إليه ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني : أنه اشتكى عرق النسا فحرّم العروق ، قاله ابن عباس في آخرين . والثالث : أن الأطباء وصفوا له حين أصابه النسا اجتناب ما حرمه ، فحرمه ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والرابع : أنه كان إذا أكل ذلك الطعام ، أصابه عرق النسا ، فيبيت وقيذاً فحرمه ، قاله أبو سليمان الدمشقي . واختلفوا : هل حرم ذلك بإذن الله ، أو باجتهاده؟ على قولين . واختلفوا : بماذا ثبت تحريم الطعام الذي حرمه على اليهود ، على ثلاثة أقوال . أحدها : أنه حرم عليهم بتحريمه ، ولم يكن محرماً في التوراة ، قاله عطية . وقال ابن عباس : قال يعقوب : لئن عافاني الله لا يأكله لي ولد . والثاني : أنهم وافقوا أباهم يعقوب في تحريمه ، لا أنه حرِّم عليهم بالشرع ، ثم أضافوا تحريمه إلى الله ، فأكذبهم الله بقوله : { قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إِن كنتم صادقين } هذا قول الضحاك . والثالث : أن الله حرمه عليهم بعد التوراة لا فيها . وكانوا إذا أصابوا ذنباً عظيماً ، حرم عليهم به طعام طيب ، أو صب عليهم عذاب ، هذا قول ابن السائب . قال ابن عباس : { فأتوا بالتوراة فاتلوها } هل تجدون فيها تحريم لحوم الإبل وألبانها! .

فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)

قوله تعالى : { فمن افترى } يقول : اختلق { على الله الكذب من بعد ذلك } أي : من بعد البيان في كتبهم ، وقيل : من بعد مجيئكم بالتوراة وتلاوتكم إياها .

قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)

قوله تعالى : { قل صدق الله } الصدق : الإخبار بالشيء على ما هو به ، وضده الكذب . واختلفوا أي خبر عنى بهذه الآية؟ على قولين . أحدهما : أنه عنى قوله تعالى : { ما كان ابراهيم يهودياً } قاله مقاتل ، وأبو سليمان الدمشقي . والثاني : أنه عنى قوله تعالى : { كلُّ الطعامِ كان حلاً } قاله ابن السائب .

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)

قوله تعالى : { إِن أول بيت وضع للناس } قال مجاهد : افتخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل من الكعبة . وقال المسلمون : الكعبة أفضل ، فنزلت هذه الآية . وفي معنى كونه «أول» قولان . أحدهما : أنه أول بيت كان في الأرض ، واختلف أرباب هذا القول ، كيف كان أول بيت على ثلاثة أقوال :
أحدهما : أنه ظهر على وجه الماء حين خلق الله الأرض ، فخلقه قبلها بألفي عام ، ودحاها من تحته ، فروى سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : كانت الكعبة حشفة على وجه الماء ، عليها ملكان يسبحان الليل والنهار قبل الأرض بألفي سنة . وقال ابن عباس : وضع البيت في الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي سنة . ثم دُحيت الأرض من تحت البيت ، وبهذا القول يقول ابن عمر ، وابن عمرو ، وقتادة ، ومجاهد ، والسدي في آخرين .
والثاني : أن آدم استوحش حين أُهبط ، فأوحى الله إليه ، أن : ابن لي بيتاً في الأرض ، فاصنع حوله نحو ما رأيت ملائكتي تصنع حول عرشي ، فبناه ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس .
والثالث : أنه أُهبط مع آدم ، فلما كان الطوفان ، رُفع فصار معموراً في السماء ، وبنى إبراهيم على أثره ، رواه شيبان عن قتادة . القول الثاني : أنه أول بيت وُضع للناس للعبادة ، وقد كانت قبله بيوت ، هذا قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، والحسن ، وعطاء بن السائب في آخرين . فأما بكة ، فقال الزجاج : يصلح هذا الاسم أن يكون مشتقاً من البَكِّ . يقال بكَّ الناس بعضهم بعضاً ، أي : دفع . واختلفوا في تسميتها ببكة على ثلاثة أقوال .
أحدها : لازدحام الناس بها ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة ، والفراء ، ومقاتل .
والثاني : لأنها تبكّ أعناق الجبابرة ، أي : تدُّقها ، فلم يقصدها جبارٌ إلا قصمه الله ، روي عن عبد الله ابن الزبير ، وذكره الزجاج .
والثالث : لأنها تضع من نخوة المتجبرين ، يقال : بككت الرجل ، أي وضعت منه ، ورددت نخوته ، قاله أبو عبد الرحمن اليزيدي ، وقُطرُب . واتفقوا على أن مكة اسمٌ لجميع البلدة . واختلفوا في بكة على أربعة أقوال .
أحدها : أنه اسمٌ للبقعة التي فيها الكعبة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو مالك ، وإبراهيم ، وعطيَّة . والثاني : أنها ما حول البيت ، ومكة ما وراء ذلك ، قاله عكرمة .
والثالث : أنها المسجد ، والبيت . ومكة : اسمٌ للحرم كله ، قاله الزهري ، وضمرة بن حبيب .
والرابع : أن بكة هي مكة ، قاله الضحاك ، وابن قتيبة ، واحتج ابن قتيبة بأن الباء تبدل من الميم؛ يقال : سمد رأسه ، وسبد رأسه : إذا استأصله . وشر لازم ، ولازب .
قوله تعالى : { مباركاً } قال الزجاج : هو منصوب على الحال . المعنى : الذي استقر بمكة في حال بركته .
قوله تعالى : { وهدىً } أي : وذا هدىً .

ويجوز أن يكون «هدى» في موضع رفع ، المعنى : وهو هدى ، فأما بركته ، ففيه تغفر الذنوب ، وتضاعف الحسنات ، ويأمَن مَن دخله .
وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من طاف بالبيت ، لم يرفع قدماً ، ولم يضع أُخرى ، إلا كتب الله له بها حسنة ، وحط عنه بها خطيئة ، ورفع له بها درجة " قوله تعالى : { وهدىً للعالمين } ، في الهدى هاهنا أربعة أقوال . أحدها : أنه بمعنى القبلة ، فتقديره : وقبلة للعالمين . والثاني : أنه بمعنى : الرحمة . والثالث : أنه بمعنى : الصلاح ، لأن من قصده ، صلحت حاله عند ربه . والرابع : أنه بمعنى : البيان ، والدلالة على الله تعالى بما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره . حيث يجتمع الكلب والظبي في الحرم ، فلا الكلب يهيج الظبي ، ولا الظبي يستوحش منه ، قاله القاضي أبو يعلى .

فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)

قوله تعالى : { فيه آيات بينات } ، الجمهور يقرؤون : آيات . وروى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ : { فيه آية بينة مقام إبراهيم } ، وبها قرأ مجاهد . والآية : مقام إبراهيم . فأما مَن قرأ : «آيات» فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الآيات : مقام إبراهيم ، وأمنُ مَنْ دخله . فعلى هذا يكون الجمع معبراً عن التثنية ، وذلك جائز في اللغة ، كقوله تعالى : { وكنَّا لحكمهم شاهدين } [ الأنبياء : 78 ] . وقال أبو رجاء : كان الحسن يعدّهن ، وأنا أنظر إلى أصابعه : مقام إبراهيم ، ومَن دخله كان آمناً ، ولله على الناس حج البيت . وقال ابن جرير : في الكلام إضمار ، تقديره : منهن مقام إبراهيم . قال المفسرون : الآيات فيه كثيرة ، منها مقام إبراهيم ، ومنها : أمن من دخله ، ومنها : امتناع الطير من العلو عليه ، واستشفاء المريض منها به ، وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته ، وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا إخرابه ، إلى غير ذلك . قال القاضي أبو يعلى : والمراد بالبيت هاهنا : الحرم كلُّه ، لأن هذه الآيات موجودة فيه ، ومقام إبراهيم ليس في البيت ، والآية في مقام إبراهيم أنه قام على حجر ، فأثَّرث قدماه فيه ، فكان ذلك دليلاً على قدرة الله ، وصدق إبراهيم .
قوله تعالى : { ومن دخله كان آمناً } قال القاضي أبو يعلى : لفظه لفظ الخبر ، ومعناه : الأمر ، وتقديره : ومَنْ دخَله ، فأمنوه ، وهو عام فيمن جنى جناية قبل دخوله ، وفيمن جنى فيه بعد دخوله ، إلا أن الإجماع انقعد على أن من جنى فيه لا يؤمَّن ، لأنه هتك حرمة الحرم ورد الأمان ، فبقي حكم الآية فيمن جنى خارجاً منه ، ثم لجأ إلى الحرم . وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فقال أحمد في رواية المروذي : إذا قتل ، أو قطع يداً ، أو أتى حداً في غير الحرم ، ثم دخله ، لم يقم عليه الحدُّ ، ولم يقتصَّ منه ، ولكن لا يبايع ، ولا يشارى ، ولا يؤاكل حتى يخرج ، فإن فعل شيئاً من ذلك في الحرم ، استوفي منه . وقال أحمد في رواية حنبل : إذا قتل خارج الحرم ، ثم دخله ، لم يقتل . وإن كانت الجناية دون النفس ، فإنه يقام عليه الحد ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه . وقال مالك والشافعي : يقام عليه جميع ذلك في النفس ، وفيما دون النفس .
وفي قوله تعالى : { ومن دخله كان آمناً } ، دليل على أنه لا يقام عليه شيء من ذلك ، وهو مذهب ابن عمر ، وابن عباس ، وعطاء ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، وطاووس .
قوله تعالى : { ولله على الناس حِج البيت } ، الأكثرون على فتح حاء «الحج» ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : بكسرها . قال مجاهد : لما أنزل قوله تعالى : { ومن يبتغ غير الإِسلام ديناً فلن يقبل منه } [ آل عمران : 85 ] قال أهل الملل كلهم : نحن مسلمون ، فنزلت هذه الآية ، فحجه المسلمون ، وتركه المشركون ، وقالت اليهود : لا نحجه أبداً .

قوله تعالى : { من استطاع إليه سبيلا } قال النحويون : من استطاع بدل من «الناس» ، وهذا بدل البعض من الكلّ ، كما تقول : ضربت زيداً رأسه . وقد روي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وأنس ، وعائشة " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئِل : ما السبيل؟ فقال : «من وجد الزاد والراحلة» " قوله تعالى : { ومن كفر } ، فيه خمسة أقوال .
أحدها : أن معناه : من كفر بالحج فاعتقده غير واجب ، رواه مقسم عن ابن عباس ، وابن جريج عن مجاهد ، وبه قال الحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، والضحاك ، ومقاتل .
والثاني : من لم يرج ثواب حجه ، ولم يخف عقاب تركه ، فقد كفر به ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وابن أبي نجيح عن مجاهد .
والثالث : أنه الكفر بالله ، لا بالحج ، وهذا المعنى مروي عن عكرمة ، ومجاهد .
والرابع : أنه إذا أمكنه الحج ، فلم يحج حتى مات ، وسم بين عينيه : كافر ، هذا قول ابن عمر .
والخامس : أنه أراد الكفر بالآيات التي أُنزلت في ذكر البيت ، لأن قوماً من المشركين قالوا : نحن نكفر بهذه الآيات ، هذا قول ابن زيد .

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)

قوله تعالى : { قلْ يا أهلَ الكتابِ } . قال الحسن : هم اليهود والنصارى ، فأما آيات الله . فقال ابن عباس : هي القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم . وأما الشهيد ، فقال ابن قتيبة : هو بمعنى الشاهد ، وقال الخطابي : هو الذي لا يغيب عنه شيء ، كأنه الحاضر الشاهد .
قوله تعالى : { يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله مَنْ آمَن } . قال مقاتل : دعت اليهود حذيفة ، وعمار بن ياسر ، إلى دينهم ، فنزلت هذه الآية . وفي المراد بأهل الكتاب هاهنا قولان . أحدهما : أنهم اليهودُ والنصارى ، قاله الحسن . والثاني : اليهود . قاله زيد بن أسلم ، ومقاتل . قال ابن عباس : لم تصدون عن سبيل الله : الإسلام ، والحج . وقال قتادة : لمَ تصدون عن نبي الله ، وعن الإسلام . قال السديُّ : كانوا إذا سئلوا : هل تجدون محمداً في كتبكم؟ قالوا : لا . فصدوا عنه الناس .
قوله تعالى : { تبغونها } ، قال اللغويون : الهاء كناية عن السبيل ، والسبيل يذكَّر ويؤَنَّث . وأنشدوا :
فلا تبعُد فَكُلُّ فتى أُناس ... سَيُصبِحُ سالكاً تلك السبيلا
ومعنى «تبغونها» تبغون لها ، تقول العرب : ابغني خادماً ، يريدون : ابتغه لي : فاذا أرادوا : ابتغ معي ، وأعني على طلبه ، قالوا : ابغني ، ففتحوا الألف ، ويقولون : وهبتك درهماً ، كما يقولون : وهبت لك . قال الشاعر :
فتولَّى غُلامُهم ثم نادى ... أظليماً أصيدُكم أم حماراً؟ .
أراد : أصيدُ لكم : ومعنى الآية : يلتمسون لسبيل الله الزيغ والتحريف ، ويريدون ردَّ الإيمان والاستقامة إلى الكفر والاعوجاج ، ويطلبون العدول عن القصد ، هذا قول الفراء ، والزجاج ، واللغويين . قال ابن جرير : خرج هذا الكلام على السبيل ، والمعنى : لأهله ، كأن المعنى : تبغون لأهل دين الله ، ولمن هو على سبيل الحقِ عوجاً . أي : ضلالاً . قال أبو عبيدة : العوج بكسر العين ، في الدين ، والكلام ، والعمل ، والعَوج بفتحها ، في الحائطِ والجذعِ . وقال الزجاج : العوج بكسر العين : فيما لا ترى له شخصاً ، وما كان له شخص قلت : عَوج بفتحها ، تقول : في أمره ودينه عِوَج ، وفي العصا عَوج . وروى ابن الأنباري عن ثعلب قال : العِوج عند العرب بكسر العين : في كل ما لا يحاط به ، والعَوج بفتح العين في كل مالا يحصَّل ، فيقال : في الأرضِ عوج ، وفي الدين عوج ، لأن هذين يتسعان ، ولا يدركان . وفي العَصا عَوج ، وفي السن عَوج ، لأنهما يحاط بهما ، ويبلغ كنههما . وقال ابن فارس : العوج بفتح العين : في كل منتصب ، كالحائط . والعِوج : ما كان في بساط أو أرض ، أو دين ، أو معاش .
قوله تعالى : { وأنتم شهداء } فيه قولان . أحدهما : أن معناه ، وأنتم شاهدون بصحة ما صددتم عنه ، وبُطلان ما أنتم فيه ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، وقتادة ، والأكثرين . والثاني : أن معنى الشهداء هاهنا : العُقلاء ، ذكره القاضي أبو يعلى في آخرين .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)

سبب نزولها أن الأوس والخزرج كان بينهما حرب في الجاهلية ، فلما جاءَ النبي صلى الله عليه وسلم أطفأ تلك الحرب بالإسلام ، فبينما رجلان أوسي وخزرجي يتحدثان ، ومعهما يهودي ، جعل اليهودي يذكِّرِهُما أيامهما ، والعداوة التي كانت بينهما حتى اقتتلا ، فنادى كل واحد منهما بقومه ، فخرجوا بالسلاح ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فأصلح بينهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد ، وعكرمة ، والجماعة . قال المفسرون : والخطاب بهذه الآية للأوس والخرزج . قال زيد بن أسلم : وعنى بذلك الفريق : شاس بن قيس اليهودي وأصحابه ، قال الزجاج : ومعنى طاعتهم : تقليدهم .

وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)

قوله تعالى : { ومن يعتصم بالله }
قال ابن قتيبةَ : أي : يمتنع ، وأصل العصمة : المنع ، قال الزجاج : ويعتصم جَزمٌ ب «من» والجواب { فقد هُديَ } .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)

قال عكرمةُ : نزلت في الأوس والخزرج حين اقتتلوا ، وأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم . وفي «حق تقاته» ثلاثة أقوال . أحدها : أن يُطاع الله فلا يُعصى ، وأن يُذكر فلا يُنسى ، وأن يشكر فلا يكفر ، رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهو قول ابن مسعود ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة ، ومقاتل . والثاني : أن يجاهد في الله حق الجهاد ، وأن لا يأخذ العبد فيه لومة لائم ، وأن يقوموا له بالقسط ، ولو على أنفسهم ، وآبائهم ، وأبنائهم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . والثالث : أن معناه : اتقوه فيما يحق عليكم أن تتقوه فيه ، قاله الزجاج .
فصل
واختلف العلماء : هل هذا الكلام محكم أو منسوخ؟ على قولين . أحدهما : أنه منسوخ ، وهو قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن زيد ، والسدي ، ومقاتل . قالوا : لما نزلت هذه الآية ، شقت على المسلمين ، فنسخها قوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] . والثاني : أنها محكمة ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وهو قول طاووس . قال شيخنا علي بن عبد الله : والاختلاف في نسخها وإحكامها ، يرجع إلى اختلاف المعنى المراد بها ، فالمعتقد نسخها يرى أن «حق تقاته»الوقوف على جميع ما يجب له ويستحقه ، وهذا يعجز الكل عن الوفاء به ، فتحصيله من الواحد ممتنع ، والمعتقد إحكامها يرى أن «حق تقاته» أداء ما يلزم العبد على قدر طاقته ، فكان قوله تعالى : «ما استطعتم» مفسراً ل «حق تقاته» لا ناسخاً ولا مخصصاً .

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

قوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعاً } قال الزجاج : اعتصموا : استمسكوا . فأما الحبل ، ففيه ستة أقوال .
أحدها : أنه كتاب الله : القرآن : رواه شقيق عن ابن مسعود وبه قال قتادة ، والضحاك ، والسدي .
والثاني : أنه الجماعة ، رواه الشعبي عن ابن مسعود .
والثالث : أنه دين الله ، قاله ابن عباس ، وابن زيد ، ومقاتل ، وابن قتيبة . وقال ابن زيد : هو الإسلام .
والرابع : عهد الله ، قاله مجاهد ، وعطاء ، وقتادة في رواية ، وأبو عبيد ، واحتج له الزجاج بقول الأعشى :
وإِذا تُجَوِّزُها حبالُ قبيلة ... أخذت من الأخرى إِليك حبالها
وأنشد ابن الأنباري :
فلو حبلاً تناول من سُليمى ... لمدَّ بحبلِها حبلاً متينا
والخامس : أنه الإخلاص ، قاله أبوالعالية ، والسادس : أنه أمر الله وطاعته ، قاله مقاتل بن حيان . قال الزجاج : وقوله : «جميعاً» منصوب على الحال ، أي : كونوا مجتمعين على الاعتصام به . وأصل «تفرَّقوا» تتفرَّقوا ، إلا أن التاء حذفت لاجتماع حرفين من جنس واحد ، والمحذوفة هي الثانية ، لأن الأولى دليلة على الاستقبال ، فلا يجوز حذف الحرف الذي يدل على الاستقبال ، وهو مجزوم بالنهي ، والأصل : ولا تتفرقون ، فحذفت النون ، لتدل على الجزم .
قوله تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم } اختلفوا فيمن أُريد بهذا الكلام على قولين . أحدهما : أنهم مشركو العرب ، كان القوي يستبيح الضعيف ، قاله الحسن ، وقتادة . والثاني : الأوس والخزرج ، كان بينهم حرب شديد ، قاله ابن إسحاق . والأعداء : جمع عدو . قال ابن فارس : وهو من عَدَا : إِذا ظَلم .
قوله تعالى : { فأصبحتم } أي : صرتم ، قال الزجاج : وأصل الأخ في اللغة أنه الذي مقصده مقصد أخيه ، والعرب تقول : فلان يتوخى مسارّ فلان ، أي : ما يسره . والشَّفا : الحرف . واعلم أن هذا مثل ضربه الله لإشرافهم على الهلاك . وقربهم من العذاب ، كأنه قال : كنتم على حرف حفرةٍ من النَّار ، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا الموت على الكفر . قال السدي : فأنقذكم منها محمد صلى الله عليه وسلم .

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)

قوله تعالى : { ولتكن منكم أُمَّة } قال الزجاج : معنى الكلام : ولتكونوا كلكم أمة تدعون إلى الخير ، وتأمرون بالمعروف ، ولكن «من» هاهنا تدخل لتحض المخاطبين من سائر الأجناس ، وهي مؤكدة أن الأمر للمخاطبين ، ومثله : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [ الحج : 20 ] معناه : اجتنبوا الأوثان ، فانها رِجس . ومثله قول الشاعر :
أخو رغائبَ يعطيها ويسألها ... يأبى الظلامة منه النَّوفل الزفر
وهو النوفل الزفر . لأنه وصفه بإعطاء الرغائب . والنوفل : الكثير الإعطاء للنوافل ، والزفر : الذي يحمل الأثقال . ويدل على أن الكل أُمروا بالمعروف والنهي عن المنكر . قوله تعالى : { كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } قال : ويجوز أن يكون أمر منهم فرقة ، لأن الدعاة ينبغي أن يكونوا علماء بما يدعون إليه ، وليس الخلق كلهم علماء ، والعلم ينوب بعض الناس فيه عن بعض ، كالجهاد . فأما الخير ، ففيه قولان .
أحدهما : أنه الإسلام ، قاله مقاتل .
والثاني : العمل بطاعة الله ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وأما المعروف ، فهو ما يعرف كل عاقل صوابه ، وضده المنكر ، وقيل : المعروف هاهنا : طاعة الله ، والمنكر : معصيته .

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)

قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا } فيهم قولان .
أحدهما : أنهم اليهود والنصارى ، قاله ابن عباس ، والحسن في آخرين .
والثاني : أنهم الحُرورية قاله أبو أمامة .

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)

قوله تعالى : { يومَ تبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوهٌ } قرأ أبو رزين العقيلي ، وأبو عمران الجوني ، وأبو نهيك : تبيض وتسود ، بكسر التاء فيهما . وقرأ الحسن ، والزهري ، وابن محيصن ، وأبو الجوزاء : تبياضُّ وتسوادُّ بألف ، ومدة فيهما . وقرأ أبو الجوزاء ، وابن يعمر . فأما الذين اسوادَّت وابياضَّت ، بألف ومدة . قال الزجاج : أخبر الله بوقت ذلك العذاب ، فقال : يوم تبيض وجوه . قال ابن عباس : تبيض وجوه أهل السنَّة ، وتسود وجوه أهل البدعة . وفي الذين اسودت وجوههم ، خمسة أقوال .
أحدها : أنهم كل من كفر بالله بعد إيمانه يوم الميثاق ، قاله أُبيّ بن كعب .
والثاني : أنهم الحرورية ، قاله أبو أُمامة ، وأبو إسحاق الهمذاني .
والثالث : اليهود ، قاله ابن عباس .
والرابع : أنهم المنافقون ، قاله الحسن .
والخامس : أنهم أهل البدع ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { أكفرتم } قال الزجاج : معناه : فيقال لهم : أكفرتم ، فحذف القول لأن في الكلام دليلاً عليه ، كقوله تعالى : { وإسماعيل ربَّنا تقبل منا } [ البقرة : 127 ] ، أي : ويقولان : ربنا تقبَّل منا . ومثله : { من كل باب . سلام عليكم } [ الرعد : 25 ، 26 ] والمعنى : يقولون : سلام عليكم . والألف لفظها لفظ الاستفهام ، ومعناها التقرير والتوبيخ . فإن قلنا : إنهم جميع الكفار ، فإنهم آمنوا يوم الميثاق ، ثم كفروا ، وإن قلنا : إنهم الحرورية ، وأهل البدع ، فكفرهم بعد إيمانهم : مفارقة الجماعة في الاعتقاد ، وإن قلنا : اليهود ، فإنهم آمنوا بالنبي قبل مبعثه ، ثم كفروا بعد ظهوره ، وإن قلنا :
المنافقون ، فإنهم قالوا بألسنتهم ، وأنكروا بقلوبهم .
قوله تعالى : { فذوقوا العذاب } أصل الذوق إنما يكون بالفم ، وهذا استعارة منه ، فكأنهم جعلوا ما يُتَعَرَّف ويُعرف مذوقاً على وجه التشبيه بالذي يعرف عند التطعم ، تقول العرب : قد ذُقتُ من إكرام فلان ما يُرغبني في قصده ، يعنون : عرفت ، ويقولون : ذق الفرس ، فاعرف ما عنده .
قال تميم بن مقبل :
أو كاهْتِزَازِ رُديني تُذاوِقُه ... أيدي التجار فزادوا متنه لينا
وقال الآخر :
وإنَّ الله ذاقَ حُلومَ قيس ... فلمَا راءَ خِفَّتَها قلاها
يعنون بالذوق : العلم . وفي كتاب الخليل : كل ما نزل بإنسان من مكروهٍ ، فقد ذاقه .

وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)

قوله تعالى : { وأما الذين ابيضت وجوههم } قال ابن عباس : هم المؤمنون . ورحمة الله : جنته ، قال ابن قتيبة : وسمَّى الجنة رحمة ، لأن دخولهم إياها كان برحمته . وقال الزجاج : معناه : في ثواب رحمته ، قال : وأعاد ذكر «فيها» توكيداً .

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)

قوله تعالى : { وما الله يريد ظلماً للعالَمين } قال بعضهم : معناه : لا يعاقبهم بلا جُرمٍ . وقال الزجاج : أعلمنا أنه يعذب من عذبه باستحقاق .

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)

قوله تعالى : { كنتم خير أُمَّةٍ أُخرجت للناس } سبب نزولها أن مالك بن الضيف ووهب بن يهوذا اليهوديين ، قالا لابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة [ وأُبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ] : ديننا خير مما تدعونا إليه ، ونحن أفضل منكم ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول عكرمة ، ومقاتل . وفيمن أُريد بهذه الآية ، أربعة أقوال .
أحدها : أنهم أهل بدر . والثاني : أنهم المهاجرون . والثالث : جميع الصحابة .
والرابع : جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، نقلت هذه الأقوال كلها عن ابن عباس . وقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : « إِنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها ، وأكرمها على الله تعالى » قال الزجاج : وأصل الخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يعم سائر أمته .
وفي قوله تعالى : { كنتم } ، قولان .
أحدهما : أنها على أصلها ، والمراد بها الماضي ، ثم فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن معناه : كنتم في اللوح المحفوظ .
والثاني : أن معناه : خُلِقتم ووُجِدْتم . ذكرهما المفسرون .
والثالث : أن المعنى : كنتم مذكنتم ، ذكره ابن الأنباري . والثاني : أن معنى كنتم : أنتم ، كقوله تعالى : { وكان الله غفوراً رحيما } [ النساء : 96 ] .
ذكره الفراء ، والزجاج . قال ابن قتيبة : وقد يأتي الفعل على بنية الماضي ، وهو راهن ، أو مستقبل ، كقوله تعالى : { كنتم } ومعناه : أنتم ، ومثله : { وإذ قال الله يا عيسى } [ المائدة : 116 ] أي : وإذ يقول . ومثله : { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] ، أي : سيأتي ، ومثله : { كيف نُكلِّم مَنْ كان في المهد صبياً } [ مريم : 29 ] أي : من هو في المهد ، ومثله : { وكان الله سميعاً بصيراً } [ النساء : 134 ] أي : والله سميع بصير ، ومثله : { فتثير سحاباً فسقناه } [ فاطر : 9 ] أي : فنسوقه .
وفي قوله تعالى : { كنتم خيرَ أمة أُخرجت للناس } قولان .
أحدهما : أن معناه : كنتم خير الناس للناس . قال أبو هريرة : يأتون بهم في السلاسل حتى يدخلوهم في الإسلام .
والثاني : أن معناه : كنتم خير الأمم التي أُخرجت .
وفي قوله تعالى : { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } قولان .
أحدهما : أنه شرط في الخيريَّة ، وهذا المعنى مروي عن عمر بن الخطاب ، ومجاهد ، والزجاج .
والثاني : أنه ثناء من الله عليهم ، قاله الربيع بن أنس . قال أبو العالية : والمعروف : التوحيد . والمنكر : الشرك . قال ابن عباس : وأهل الكتاب : اليهود والنصارى .
قوله تعالى : { منهم المؤمنون } : مَنْ أسلم ، كعبد الله بن سلام وأصحابه . { وأكثرهم الفاسقون } ، يعني : الكافرين ، وهم الذين لم يسلموا .

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)

قوله تعالى : { لن يضروكم إلا أذىً } قال مقاتل : سبب نزولها أن رؤساء اليهود عمدوا إلى عبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم ، فنزلت هذه الآية . قال ابن عباس : والأذى قولهم : { عزير ابن الله } [ التوبة : 30 ] و { المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] و { ثالث ثلاثة } [ المائدة : 73 ] وقال الحسن : هو الكذب على الله ، ودعاؤهم المسلمين إلى الضلالة . وقال الزجاج : هو البهت والتحريف . ومقصود الآية : إعلام المسلمين بأنه لن ينالهم منهم إلا الأذى باللسان من دعائهم إياهم إلى الضلال ، وإسماعهم الكفر ، ثم وعدهم النَّصرَ عليهم في قوله : { وإِن يقاتلوكم يولُّوكُم الأدبار } .

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)

قوله تعالى : { أين ما ثقفوا } معناه : أُدركوا وَوُجِدوا ، وذلك أنهم أين نزلوا احتاجوا إلى عهد من أهل المكان ، وأداء جزية . قال الحسن : أدركتهم هذه الأمة ، وإن المجوس لنجبيهم الجزية . وأما الحبل ، فقال ابن عباس ، وعطاء ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد : الحبل : العهد ، قال بعضهم : ومعنى الكلام : إلا بعهدٍ يأخذونه من المؤمنين بإذن الله . قال الزجاج : وما بعد الاستثناء في قوله تعالى : { إلا بحبلٍ من الله } ليس من الأول ، وإنما المعنى : أنهم أذلاء ، إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه . وقد سبق في «البقرة» تفسير باقي الآية .

لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)

قوله تعالى { ليسوا سواءً } ، في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، احتبس عن صلاة العشاء ليلةً حتى ذهب ثلث الليل ، ثم جاء فبشرهم ، فقال : " إِنه لا يصلي هذه الصلاة أحدٌ من أهل الكتاب " فنزلت هذه الآية ، قاله ابن مسعود .
والثاني : أنه لما أسلم ابن سلاَّم في جماعة من اليهود ، قال أحبارهم : ما آمن بمحمد إلا أشرارنا ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . وفي معنى الآية قولان .
أحدهما : ليس أمة محمد واليهود سواء ، هذا قول ابن مسعود ، والسدي .
والثاني : ليس اليهود كلهم سواء ، بل فيهم من هو قائم بأمر الله ، هذا قول ابن عباس ، وقتادة . وقال الزجاج : الوقف التام { ليسوا سواءً } أي : ليس أهل الكتاب متساوين . وفي معنى «قائمة» ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها الثابتة على أمر الله ، قاله ابن عباس ، وقتادة .
والثاني : أنها العادلة ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وابن جريج .
والثالث : أنها المستقيمة ، قاله أبو عيبد ، والزجاج . قال الفراء : ذكر أمة واحدة ولم يذكر بعدها أخرى ، والكلام مبني على أخرى ، لأن «سواءً» لا بد لها من اثنين ، وقد تستجيز العرب إضمار أحد الشيئين إذا كان في الكلام دليل عليه . قال أبو ذؤيب :
عصيت إِليها القلب إني لأمرِهِ ... سميعٌ فما أدري أرشد طلابها؟!
ولم يقل : أم لا ، ولا أم غيّ ، لأن الكلام معروف المعنى .
وقال آخر :
وما أدري إذا يمَّمت أرضاً ... أريدُ الخيرَ أيُّهما يليني
أأَلخيرَ الذي أنا أبتغيهِ ... أم الشرَّ الذي هو يبتغيني
ومثله قوله تعالى : { أمَّن هو قانت آناءَ الليل ساجداً وقائماً } [ الزمر : 9 ] ولم يذكر ضده ، لأن في قوله : { قل هي يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر : 9 ] . دليلاً على ما أضمر من ذلك ، وقد رد هذا القول الزجاج ، فقال : قد جرى ذكر أهل الكتاب في قوله تعالى : { كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون الأنبياء بغير حق } فأعلم الله أن منهم أمة قائمة . فما الحاجة إلى أن يقال : وأمة غير قائمة؟ وإنما بدأ بذكر فعل الأكثر منهم ، وهو الكفر والمشاقة ، فذكر من كان منهم مبايناً لهؤلاء . قال : و «آناء الليل» ساعاته ، وواحد الآناء : إنى . قال ابن فارس : يقال : مضى من الليل إني ، وإتيان ، والجمع : الآناء . واختلف المفسرون : هل هذه الآناء معينة من الليل أم لا؟ على قولين .
أحدهما : أنها معينة ، ثم فيها ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها صلاة العشاء ، قاله ابن مسعود ، ومجاهد .
والثاني : أنها ما بين المغرب والعشاء ، رواه سفيان عن منصور .
والثالث : جوف الليل ، قاله السدي .
والثاني : أنها ساعات الليل من غير تعيين ، قاله قتادة في آخرين .
وفي قوله تعالى : { وهم يسجدون } قولان .
أحدهما : أنه كناية عن الصلاة ، قاله مقاتل ، والفراء ، والزجاج .
والثاني : أنه السجود المعروف ، وليس المراد أنهم يتلون في حال السجود ، ولكنهم جمعوا الأمرين ، التلاوة والسجود .

يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)

قوله تعالى : { وما يفعلوا من خيرٍ فلن يُكفروه } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : تفعلوا ، وتكفروه ، بالتاء في الموضعين على الخطاب ، لقوله تعالى : { كنتم خير أُمة } . قال قتادة : فلن تُكفروه : لن يضل عنكم . وقرأ قوم ، منهم حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وعبد الوارث عن أبي عمرو : يفعلوا ، ويكفروا ، بالياء فيهما ، إخباراً عن الأمة القائمة . وبقية أصحاب أبي عمرو يخِّرون بين الياء والتاء .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)

قوله تعالى : { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا } اختلفوا فيمن أنزلت على أربعة أقوال .
أحدها : أنها في نفقات الكفار ، وصدقاتهم ، قاله مجاهد .
والثاني : في نفقة سفلة اليهود على علمائهم ، قاله مقاتل .
والثالث : في نفقة المشركين يوم بدر .
والرابع : في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين ، ذكر هذين القولين أبو الحسن الماوردي . وقال السدي : إنما ضرب الإنفاق مثلاً لأعمالهم في شركهم . وفي الصرّ ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه البرد ، قاله الأكثرون .
والثاني : أنه النار ، قاله ابن عباس ، وقال ابن الأنباري : وإنما وصفت النار بأنها صرّ لتصويتها عند الالتهاب .
والثالث : أن الصرّ : التصويت ، والحركة من الحصى والحجارة ، ومنه صرير النعل ، ذكره ابن الأنباري . والحرث : الزرع . وفي معنى «ظلموا أنفسهم» قولان .
أحدهما : ظلموها بالكفر ، والمعاصي ، ومنع حق الله تعالى .
والثاني : بأن زرعوا في غير وقت الزرع .
قوله تعالى : { وما ظلمهم الله } قال ابن عباس : أي : ما نقصهم ذلك بغير جرم أصابوه ، وإنما أُنزل بهم ذلك لظلمهم أنفسهم بمنع حق الله منه ، وهذا مثل ضربه الله لإبطال أعمالهم في الآخرة . وحدثنا عن ثعلب ، قال : بدأ الله تعالى هذه الآية بالريح ، والمعنى : على الحرث ، كقوله تعالى : { كمثل الذي ينعِق بما لا يسمع } وإنما المعنى على المنعوق به ، وقريب منه قوله تعالى :
{ والذين يُتوفَّون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن } فخبر عن «الأزواج» وترك «الذين» كأنه قال : أزواج الذين يتوفون منكم يتربصن ، فبدأ بالذين ، ومراده : بعد الأزواج . وأنشد :
لعلِّيَ إِن مالت بي الريح ميلةً ... على ابن أبي ديَّان أن يتندَّما
فخبر عن ابن أبي ديان ، وترك نفسه ، وإنما أراد : لعل ابن أبي ديان أن يتندما إن مالت بي الريح ميلةً . وقد يبدأ بالشيء ، والمراد التأخير ، كقوله تعالى : { ويوم القيامة ترى الذين كَذَبوا على الله وجوهُهم مسودةٌ } [ الزمر : 60 ] والمعنى : ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة يوم القيامة .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم } قال ابن عباس ، ومجاهد : نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين ، ويواصِلون رجالاً من اليهود لما كان بينهم من القرابة ، والصداقة ، والجوار ، والرضاع ، والحلف ، فنهوا عن مباطنتهم . قال الزجاج : البطانة : الدُّخلاء الذين يستبطنون [ أمره ] وينبسط إليهم ، يقال : فلان بطانة لفلان ، أي : مُداخل له ، مؤانس . ومعنى لا يألونكم : لا يتقون غاية في إلقائكم فيما يُضرُّكم .
قوله تعالى : { ودُّوا ما عنتُّم } أي : ودُّوا عَنتكم ، وهو ما نزل بكم من مكروه وضرٍ ، يقال : فلان يعنت فلاناً ، أي : يقصد إدخال المشقة والأذى عليه ، وأصل هذا من قولهم : أكمةٌ عنوتٌ ، إذا كانت طويلة ، شاقة المسلك . قال ابن قتيبة : ومعنى { من دونكم } أي : من غير المسلمين . والخبال : الشر .
قوله تعالى : { قد بدت البغضاء من أفواههم } قال ابن عباس : أي : قد ظهر لكم منهم الكذب ، والشتم ، ومخالفة دينكم . قال القاضي أبو يعلى : وفي هذه الآية دلالة على أنَّه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة ، ولهذا قال أحمد : لا يستعين الإمام بأهل الذِّمة على قتال أهل الحرب . وروي عن عمر أنه بلغه أنَّ أبا موسى استكتب رجلاً من أهل الذمة ، فكتب إليه يعنفه ، وقال : لا تردوهم إلى العزِّ بعد إذ أذلهم الله .

هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)

قوله تعالى : { ها أنتم أُولاء تحبونهم } قال ابن عباس : كان عامة الأنصار يواصلون اليهود ويواصلونهم ، فلما أسلم الأنصار بغضهم اليهود ، فنزلت هذه الآية . والخطاب بهذه الآية للمؤمنين . قال ابن قتيبة : ومعنى الكلام : ها أنتم يا هؤلاء . فأما «تحبونهم» . فالهاء والميم عائدة إلى الذين نهوا عن مصافاتهم . وفي معنى محبة المؤمنين لهم أربعة أقوال .
أحدها : أنها الميل إليهم بالطباع ، لموضع القرابة ، والرضاع ، والحلف ، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس .
والثاني : أنها بمعنى الرحمة لهم ، لما يفعلون من المعاصي التي يقابلها العذاب الشديد ، وهذا المعنى منقول عن قتادة .
والثالث : أنها لموضع إظهار المنافقين الإيمان ، روي عن أبي العالية .
والرابع : أنها بمعنى إرادة الإسلام لهم ، وهم يريدون المسلمين على الكفر ، وهذا قول المفضل ، والزجاج . والكتاب : بمعنى الكتب ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { وإِذا لقوكم قالوا آمنَّا } هذه حالة المنافقين ، وقال مقاتل : هم اليهود . والأنامل : أطراف الأصابع . قال ابن عباس : والغيظ : الحنق عليكم ، وقيل : هذا من مجاز الكلام ، ضُرِب مثلاً لما حلَّ بهم ، وإن لم يكن هناك عض على أنملة ، ومعنى «موتوا بغيظكم» : ابقوا به حتى تموتوا ، وإنما كان غيظهم من رؤية شمل المسلمين ملتئماً . قال ابن جرير : هذا أمر من الله تعالى لنبيِّه أن يدعو عليهم بأن يهلكهم الله كمداً من الغيظ .

إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)

قوله تعالى : { إن تمسسكم حسنة } قال قتادة : وهي الألفة والجماعة . والسيئة : الفرقة والاختلاف ، وإصابة طرف من المسلمين . وقال ابن قتيبة : الحسنة : النعمة . والسيئة : المصيبة .
قوله تعالى : { وإن تصبروا } فيه قولان . أحدهما : على أذاهم ، قاله ابن عباس .
والثاني : على أمر الله ، قاله مقاتل .
وفي قوله تعالى : { وتتقوا } قولان .
أحدهما : الشرك ، قاله ابن عباس .
والثاني : المعاصي ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { لا يضرُّكم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، يضِركم بكسر الضاد ، وتخفيف الراء . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : لا يضركم بضم الضاد وتشديد الراء . قال الزجاج : الضر والضير بمعنى واحد . فأما الكيد فقال ابن قتيبة : هو المكر . قال أبو سليمان الخطابي : والمحيط : الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه ، وأحاط علمه بالأشياء كلها .

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)

قوله تعالى : { وإِذ غدوت من أهلك } قال المفسرون : في هذا الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : ولقد نصركم الله ببدر ، وإذ غدوت من أهلك . وقال ابن قتيبة : تبوىء ، من قولك : بوَّأتُك منزلاً : إذا أفدتك إياه ، أو أسكنتكه . ومعنى مقاعد للقتال : المعسكر والمصافُّ . واختلفوا في أي يوم كان ذلك ، على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه يوم أُحد ، قاله عبد الرحمن بن عوف ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والزهري ، وقتادة ، والسدي ، والربيع ، وابن إسحاق ، وذلك أنه خرج يوم أُحد من بيت عائشة إلى أُحد ، فجعل يصف أصحابه للقتال . والثاني : أنه يوم الأحزاب ، قاله الحسن ، ومجاهد ، ومقاتل .
والثالث : يوم بدر ، نقل عن الحسن أيضاً . قال ابن جرير : والأول أصح ، لقوله تعالى : { إذ همَّتْ طائفتان منكم أن تفشلا } وقد اتفق العلماء أن ذلك كان يوم أُحد .
قوله تعالى : { والله سميع عليم } قال أبو سليمان الدمشقي : سميع لمشاورتك إياهم في الخروج ، ومرادهم للخروج ، عليم بما يخفون من حب الشهادة .

إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)

قوله تعالى : { إِذ همَّتْ طائفتان منكم أن تفشلا } قال الزجاج : كنت النبوئة في ذلك الوقت . وتفشلا : تجبنا ، وتخورا . { والله وليهما } ، أي : ناصرهما . قال جابر بن عبد الله : نحن هم بنو سلمة ، وبنو حارثة ، وما نحبُّ أن لو لم يكن ذلك لقول الله : { والله وليهما } . وقال الحسن : [ هما ] طائفتان من الأنصار همتا بذلك ، فعصمهما الله . وقيل : لما رجع عبد الله بن أُبي في أصحابه يوم أُحد ، همت الطائفتان باتباعه ، فعصمهما الله .
فصل
فأما التوكل ، فقال ابن عباس : هو الثقة بالله . وقال ابن فارس : هو إظهار العجز [ في الأمر ] ، والاعتماد على غيرك ، ويقال : فلان وُكَلَهٌ تُكَلَةٌ ، أي : عاجز ، يكل أمره إلى غيره . وقال غيره : هو تفعل من الوكالة ، يقال : وكلت أمري إلى فلان فتوكل به ، أي : ضمنه ، وقام به ، وأنا متوكل عليه . وقال بعضهم : هو تفويض الأمر إلى الله ثقة بحسن تدبيره .

وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)

قوله تعالى : { ولقد نصركم الله ببدرٍ } في تسمية بدر قولان .
أحدهما : أنها بئر لرجل اسمه بدر ، قاله الشعبي .
والثاني : أنه اسم للمكان الذي التقوا عليه ، ذكره الواقدي عن أشياخه .
قوله تعالى : { وأنتم أذِلَّةٌ } أي : لقلة العَدد والعُدد . { لعلكم تشكرون } ، أي : لتكونوا من الشاكرين .

إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)

قوله تعالى : { إِذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يُمِدَّكم ربُّكم } قال الشعبي : قال كُرْز ابن جابر لمشركي مكة : إني أمدكم بقومي ، فاشتد ذلك على المسلمين ، فنزلت هذه الآية ، وفي أي يوم كان ذلك فيه قولان .
أحدهما : يوم بدر ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة .
والثاني : يوم أُحد ، وعدهم فيه بالمدد إن صبروا ، فلما لم يصبروا ، لم يُمدُّوا ، روي عن عكرمة ، والضحاك ، ومقاتل ، والأول أصح . والكفاية : مقدار سد الخلة . والاكتفاء : الاقتصار على ذلك . والإمداد : إعطاء الشيء بعد الشيء .
قوله تعالى : { منزِلين } قرأ الأكثرون بتخفيف الزاي ، وشددها ابن عامر .

بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)

قوله تعالى : { ويأتوكم من فورهم هذا } فيه قولان .
أحدهما : أن معناه : من وجههم وسفرهم هذا ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل ، والزجاج .
والثاني : من غضبهم هذا ، قاله عكرمة ، ومجاهد ، والضحاك في آخرين . قال ابن جرير : من قال : من وجههم ، أراد ابتداء مخرجهم يوم بدر ، ومن قال : من غضبهم ، أراد ابتداء غضبهم لقتلاهم يوم بدر . وأصل الفور : ابتداء الأمر يؤخذ فيه ، يقال : فارت القدر : إذا ابتدأ ما فيها بالغليان ، ثم اتصل . وقال ابن فارس : الفور : الغليان ، يقال : فارت القدر تفور ، وفار غضبه : إذا جاش ، ويقولون : فعله من فوره ، أي : قبل أن يسكن .
وفي يوم فورهم قولان .
أحدهما : أنه يوم بدر ، قاله قتادة .
والثاني : يوم أُحد ، قال مجاهد ، والضحاك ، كانوا غضبوا يوم أُحد ليوم بدر مما لقوا .
قوله تعالى : { مسوِّمين } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم بكسر الواو ، والباقون بفتحها ، فمن فتح الواو ، أراد أن الله سوَّمها ، ومن كسرها ، أراد أن الملائكة سومت أنفسها . وقال الأخفش : سوّمت خيلها ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم بدر : « سوموا فإن الملائكة قد سومت » ونسب الفعل إليها ، فهذا دليل الكسر . قال ابن قتيبة : ومعنى مسومين : معلمين بعلامة الحرب ، وهو من السيماء [ مأخوذ ] ، والسومة : العلامة التي يعلم بها الفارس نفسه . قال علي رضي الله عنه : وكان سيماء خيل الملائكة يوم بدر ، الصوف الأبيض في أذنابها ونواصيها . وقال أبو هريرة : العهن الأحمر . وقال مجاهد : كانت أذناب خيولهم مجزوزة ، وفيها العهن . وقال هشام بن عروة : كانت الملائكة على خيل بلق ، وعليهم عمائم صفر . وروى ابن عباس عن رجل من بني غفار قال : حضرت أنا وابن عم لي بدراً ، ونحن على شركنا ، فأقبلت سحابة ، فلما دنت من الخيل سمعنا فيها حمحمة الخيل ، وسمعنا فارساً يقول : أقدم حيزوم ، فأما صاحبي فمات مكانه ، وأما أنا فكدت أهلك ، ثم انتعشت . وقال أبو داود المازني : إني لأتبع يوم بدر رجلاً من المشركين لأضربه ، فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي ، فعرفت أن غيري قد قتله .
وفي عدد الملائكة يوم بدر خسمة أقوال .
أحدها : خمسة آلاف ، قاله الحسن . وروى جبير بن مطعم عن علي رضي الله عنه ، قال : بينا أنا أمتح من قليب بدر ، جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها ، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها إلا التي كانت قبلها ، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها ، فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألفين من الملائكة ، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألفين من الملائكة عن يمين رسول الله ، وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن يسار رسول الله ، وكنت عن يساره ، وهزم الله أعداءه .
والثاني : أربعة آلاف : قاله الشعبي .
والثالث : ألف ، قاله مجاهد .
والرابع : تسعة آلاف ، ذكره الزجاج .
والخامس : ثمانية آلاف ، ذكره بعض المفسرين .

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)

قوله تعالى : { وما جعله الله } يعني المدد { إِلا بشرى } ، أي : إلا بشارة تطيِّب أنفسكم ، { ولتطمئن قلوبكم به } ، فتسكن في الحرب ، ولا تجزع ، والأكثرون على أن هذا المدد يوم بدر . وقال مجاهد : يوم أُحد ، وروي عنه ما يدل على أن الله أمدهم في اليومين بالملائكة جميعاً ، غير أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر .
قوله تعالى : { وما النّصر إِلا من عند الله } أي : ليس بكثرة العَدد والعُدد .

لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)

قوله تعالى : { ليقطع طرفاً } معناه : نصركم ببدر ليقطع طرفاً . قال الزجاج : أي : ليقتل قطعةً منهم . وفي أي يوم كان ذلك فيه قولان .
أحدهما : في يوم بدر ، قاله الحسن ، وقتادة ، والجمهور .
والثاني : يوم أُحد ، قتل منهم ثمانية وعشرون ، قاله السدي .
قوله تعالى : { أو يكبتهم } فيه سبعة أقوال .
أحدها : أن معناه يهزمهم ، قاله ابن عباس ، والزجاج .
والثاني : يخزيهم ، قاله قتادة ، ومقاتل .
والثالث : يصرعهم ، قاله أبو عبيد ، واليزيدي . وقال الخليل : هو الصرع على الوجه .
والرابع : يهلكهم ، قاله أبو عبيدة .
والخامس : يلعنهم ، قاله السدي .
والسادس : يُظفِّر عليهم ، قاله المبرّد .
والسابع : يغيظهم ، قاله النضر بن شميل ، واختاره ابن قتيبة . وقال ابن قتيبة : أهل النظر يرون أن التاء فيه منقلبة عن دال ، كأن الأصل فيه : يكبدهم ، أي : يصيبهم في أكبادهم بالحزن والغيظ ، وشدة العداوة ، ومنه يقال : فلان قد أحرق الحزن كبده ، وأحرقت العداوة كبده ، والعرب تقول : العدو : أسود الكبد . قال الأعشى :
فما أُجْشِمْتُ من إِتيان قوم ... هم الأعداء والأكباد سود
كأن الأكباد لما احترقت بشدة العداوة ، اسودت ، ومنه يقال للعدو : كاشح ، لأنه يخبأ العداوة في كشحه . والكشح : الخاصرة ، وإنما يريدون الكبد ، لأن الكبد هناك . قال الشاعر :
وأُضمِر أضغاناً عليَّ كشوحُها ... والتاء والدال متقاربتا المخرج ، والعرب تدغم إحداهما في الأخرى ، وتبدل إحداهما من الأخرى ، كقولهم : هرت الثوب وهرده : إذا خرقه ، وكذلك : كبت العدو ، وكبده ، ومثله كثير .
قوله تعالى : { فينقلبوا خائبين } قال الزجاج : الخائب : الذي لم ينل ما أمَّل . وقال غيره : الفرق بين الخيبة واليأس ، أن الخيبة لا تكون إلا بعد الأمل ، واليأس قد يكون من غير أمل .

لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)

قوله تعالى : { ليس لك من الأمر شيء } في سبب نزولها خمسة أقوال .
أحدها : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أُحد ، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه ، فقال : «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم ، وهو يدعوهم إِلى ربهم عز وجل؟!»فنزلت هذه الآية " ، أخرجه مسلم في «أفراده» من حديث أنس . وهو قول ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والربيع .
والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لعن قوماً من المنافقين ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عمر .
والثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم همَّ بسب الذين انهزموا يوم أُحد ، فنزلت هذه الآية ، فكفَّ عن ذلك ، نقل عن ابن مسعود ، وابن عباس .
والرابع : أن سبعين من أهل الصفة ، خرجوا إلى قبيلتين من بني سليم ، عصية وذكوان ، فقتلوا جميعاً ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم أربعين يوماً ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل ابن سليمان .
والخامس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حمزة ممثلاً به ، قال : «لأُمثلن بكذا وكذا منهم» فنزلت هذه الآية " ، قاله الواقدي . وفي معنى الآية قولان .
أحدهما : ليس لك من استصلاحهم أو عذابهم شيء .
والثاني : ليس لك من النصر والهزيمة شيء . وقيل : إن «لك» بمعنى «إليك» .
قوله تعالى : { أو يتوب عليهم } قال الفراء : في نصبه وجهان ، إن شئت جعلته معطوفاً على قوله تعالى : { ليقطع طرفاً } وإن شئت جعلت نصبه على مذهب «حتى» كما تقول : لا أزال معك حتى تعطيني ، ولما نفى الأمر عن ، نبيه أثبت أن جميع الأمور إليه بقوله تعالى : { ولله ما في السموات وما في الأرض } .

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا } قال أهل التفسير : هذه الآية نزلت في ربا الجاهلية . قال سعيد بن جبير : كان الرجل يكون له على الرجل المال ، فاذا حلّ الأجل ، فيقول : أخّر عني ، وأزيدك على مالك ، فتلك الأضعاف المضاعفة .

وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)

قوله تعالى : { واتقوا النار التي أُعدت للكافرين } قال ابن عباس : هذا تهديد للمؤمنين ، لئلا يستحلوا الربا . قال الزجاج : والمعنى : اتقوا أن تحلوا ما حرّم الله فتكفروا .

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)

قوله تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } كلهم أثبت الواو في «وسارعوا» إلا نافعاً ، وابن عامر ، فإنهما لم يذكراها . وقال أبو علي : وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام ، فمن قرأ بالواو ، عطف «وسارعوا» على «وأطيعوا» ومن حذفها ، فلأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى ، فاستغنت عن العطف . ومعنى الآية : بادروا إلى ما يوجب المغفرة . وفي المراد بموجب المغفرة . هاهنا عشرة أقوال .
أحدها : أنه الإخلاص ، قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه .
والثاني : أداء الفرائض ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
والثالث : الإسلام ، قاله ابن عباس .
والرابع : التكبيرة الأولى من الصلاة ، قاله أنس بن مالك .
والخامس : الطاعة ، قاله سعيد بن جبير .
والسادس : التوبة ، قاله عكرمة .
والسابع : الهجره ، قاله أبوالعالية .
والثامن : الجهاد ، قاله الضحاك .
والتاسع : الصلوات الخمس ، قاله يمان .
والعاشر : الأعمال الصالحة ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { وجنة عرضها السموات والأرض } قال ابن قتيبة : أراد بالعرض السعة ، ولم يرد العرض الذي يخالف الطول ، والعرب تقول : بلاد عريضة ، أي : واسعة . " وقال النبي صلى الله عليه وسلم للمنهزمين يوم أحد «لقد ذهبتم فيها عريضة» " . قال الشاعر :
كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كِفَّةُ حابل
قال : وأصل هذا من العرض الذي هو خلاف الطول ، وإذا عرض الشيء اتسع ، وإذا لم يعرض ضاق ودق . وقال سعيد بن جبير : لو ألصق بعضهن إلى بعض كانت الجنة في عرضهن .

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)

قوله تعالى : { الذين ينفقون في السراء والضراء } قال ابن عباس : في العسر واليسر . ومعنى الآية : أنهم رغبوا في معاملة الله ، فلم يبطرهم الرخاء ، فينسيهم ، ولم تمنعهم الضراء فيبخلوا .
قوله تعالى : { والكاظمين الغيظ } قال الزجاج : يقال : كظمت الغيظ : إذا أمسكت على ما في نفسك منه ، وكظم البعير على جرَّته : إذا رددها في حلقه . وقال ابن الأنباري : الأصل في الكظم : الإمساك على غيظ وغم . وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى " . قوله تعالى : «والعافين عن الناس» فيه قولان .
أحدهما : أنه العفو عن المماليك ، قاله ابن عباس ، والربيع .
والثاني : أنه على إطلاقه ، فهم يعفون عمن ظلمهم ، قاله زيد بن أسلم ، ومقاتل .

وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)

قوله تعالى : { والذين إِذا فعلوا فاحشة } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أن امرأة أتت إلى نبهان التمار تشتري منه تمراً فضمّها ، وقبّلها ، ثم ندم ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك ، فنزلت هذه الآية ، رواه عطاء عن ابن عباس .
والثاني : أن أنصارياً وثقفياً آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهما ، فخرج الثقفي مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه ، فكان الأنصاري يتعهد أهل الثقفي ، فجاء ذات يوم فأبصر المرأة قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها ، فدخل ولم يستأذن؛ فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها ، فقبله ثم ندم ، فأدبر راجعاً ، فقالت : سبحان الله خنت أمانتك ، وعصيت ربك ، ولم تصب حاجتك . قال : فخرج يسيح في الجبال ، ويتوب إلى الله من ذنبه . فلما قدم الثقفي أخبرته المرأة بفعله ، فخرج يطلبه حتى دل عليه ، فندم على صنيعه فوافقه ساجداً يقول : ذنبي ذنبي ، قد خنت أخي . فقال له : يا فلان انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله عن ذنبك ، لعل الله أن يجعل لك منه مخرجاً ، فرجع إلى المدينة ، فنزلت هذه الآية بتوبته ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس . وذكره مقاتل .
والثالث : " أن المسلمين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : بنو إسرائيل أكرم على الله منا! كان أحدهم إذا أذنب ، أصبحت كفارة ذنوبه مكتوبة في عتبة بابه ، فنزلت هذه الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ألا أخبركم بخير من ذلك» فقرأ هذه الآية ، والتي قبلها " ، هذا قول عطاء . واختلفوا هل هذه الآية نعت للمنفقين في السراء والضراء؟ أم لقوم آخرين؟ على قولين .
أحدهما : أنها نعت لهم ، قاله الحسن .
والثاني : أنها لصنف آخر ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
والفاحشة : القبيحة وكل شيء جاوز قدره ، فهو فاحش . وفي المراد بها هاهنا قولان .
أحدهما : أنها الزنى . قاله جابر بن زيد ، والسدي ، ومقاتل .
والثاني : أنها كل كبيرة ، قاله جماعة من المفسرين .
واختلفوا في «الظلم» المذكور بعدها ، فلم يفرق قوم بينه وبين الفاحشة ، وقالوا : الظلم للنفس فاحشة أيضاً ، وفرق آخرون ، فقالوا : هو الصغائر . وفي قوله تعالى : { ذكروا الله } قولان .
أحدهما : أنه ذكر اللسان ، وهو الاستغفار ، قاله ابن مسعود ، وعطاء في آخرين .
والثاني : أنه ذكر القلب ، ثم فيه خمسة أقوال .
أحدها : أنه ذكر العرض على الله ، قاله الضحاك .
والثاني : أنه ذكر السؤال عنه يوم القيامة ، قاله الواقدي .
والثالث : ذكر وعيد الله لهم على ما أتوا ، قاله ابن جرير .
والرابع : ذكر نهي الله لهم عنه .
والخامس : ذكر غفران الله : ذكر القولين أبو سليمان الدمشقي .
فأما الإصرار ، فقال الزجاج : هو الإقامة على الشيء . وقال ابن فارس : هو العزم على الشيء والثبات عليه . وللمفسرين في المراد بالإصرار ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه مواقعة الذنب عند الاهتمام به . وهذا مذهب مجاهد .
والثاني : أنه الثبوت عليه من غير استغفار ، وهذا مذهب قتادة ، وابن إسحاق .
والثالث : أنه ترك الاستغفار منه ، وهذا مذهب السدي . وفي معنى { وهم يعلمون } ثلاثة أقوال .
أحدها : وهم يعلمون أن الإصرار يضر ، وأن تركه أولى من التمادي ، قاله ابن عباس ، والحسن .
والثاني : يعلمون أن الله يتوب على من تاب ، قاله مجاهد ، وأبو عمارة .
والثالث : يعلمون أنهم قد أذنبوا ، قاله السدي ، ومقاتل .

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)

قوله تعالى : { قد خلت من قبلكم سنن } السنن : جمع سنة ، وهي الطريقة . وفي معنى الكلام قولان .
أحدهما : قد مضى قبلكم أهل سنن وشرائع ، فانظروا ماذا صنعنا بالمكذبين منهم ، وهذا قول ابن عباس .
والثاني : قد مضت قبلكم سنن الله في إهلاك من كذب من الأمم ، فاعتبروا بهم ، وهذا قول مجاهد . وفي معنى { فسيروا في الأرض } قولان .
أحدهما : أنه السير في السفر . قال الزجاج : إذا سرتم في أسفاركم ، عرفتم أخبار الهالكين بتكذيبهم .
والثاني : أنه التفكر . ومعنى : فانظروا : اعتبروا ، والعاقبة : آخر الأمر .

هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)

قوله تعالى : { هذا بيانٌ للناس } قال سعيد بن جبير : هذه الآية أول ما نزل من «آل عمران» وفي المشار إليه ب «هذا» قولان .
أحدهما : أنه القرآن ، قاله الحسن ، وقتادة ، ومقاتل .
والثاني : أنه شرح أخبار الأمم السالفة ، قاله ابن اسحاق . والبيان : الكشف عن الشيء ، وبان الشيء : اتضح ، وفلانٌ أبين من فلان ، اي : أفصح . قال الشعبي : هذا بيان للناس من العمى ، وهدىً من الضلالة ، وموعظة من الجهل .

وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)

قوله تعالى : { ولا تهنوا ولا تحزنوا } سبب نزولها " أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انهزموا يوم أُحد ، أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم لا يعلون علينا ، اللهم لا قوَّةَ لنا إِلا بك» فنزلت هذه الآيات " ، قاله ابن عباس . قال ابن عباس ، ومجاهد : { ولا تهنوا } أي : ولا تضعفوا . وفيما نهوا عن الحزن عليه أربعة أقوال .
أحدها : أنه قتل إخوانهم من المسلمين ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه هزيمتهم يوم أُحد ، وقتلهم ، قاله مقاتل .
والثالث : أنه ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من شجه ، وكسر رباعيته ، ذكره الماوردي .
والرابع : أنه ما فات من الغنيمة ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري .
قوله تعالى : { وأنتم الأعلون } قال ابن عباس : يقول : أنتم الغالبون فآخر الأمر لكم .

إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)

قوله تعالى : { إن يمسسكم قرح } قال ابن عباس : أصابهم يوم أحد قرح ، فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقوا ، فنزلت هذه الآية . فأما المس ، فهو الإصابة ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، ونافع «قرح» بفتح القاف . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، عن عاصم «قرح» بضم القاف . واختلفوا هل معنى القراءتين واحد أم لا؟ فقال أبو عبيد : القرح بالفتح : الجراح ، والقتل . والقُرح بالضم : ألم الجراح . وقال الزجاج : هما في اللغة بمعنى واحد ، ومعناه : الجراح وألمها ، قال : ومعنى نداولها ، أي : نجعل الدولة في وقت للكفار على المؤمنين إذا عصى المؤمنون ، فأما إذا أطاعوا ، فهم منصورون ، قال ومعنى { ليعلمه الله } أي : ليعلم واقعاً منهم ، لأنه عالم قبل ذلك ، وإنما يجازي على ما وقع . وقال ابن عباس : معنى العلم هاهنا : الرؤية .
قوله تعالى : { ويتخذ منكم شهداء } قال أبو الضحى : نزلت في قتلى أُحد ، قال ابن جريج : كان المسلمون يقولون : ربنا أرنا يوماً كيوم بدر ، نلتمس فيه الشهادة ، فاتخذ منهم شهداء يوم أحد . قال ابن عباس : والظالمون هاهنا : المنافقون : وقال غيره : هم الذين انصرفوا يوم أُحد مع ابن أُبيّ المنافق .

وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)

قوله تعالى : { وليمحص الله الذين آمنوا } قال الزجاج : معنى الكلام : جعل الله الأيام مداولة بين الناس ، ليمحص المؤمنين ، ويمحق الكافرين . وفي التمحيص قولان .
أحدهما : أنه الابتلاء والاختبار ، وأنشدوا :
رأيت فضيلاً كان شيئاً ملففاً ... فكشَّفه التمحيص حتى بدا ليا
وهو قول الحسن ، ومجاهد ، والسدي ، ومقاتل ، وابن قتيبة في آخرين .
والثاني : أنه التنقية ، والتخليص ، وهو قول الزجاج . وحكي عن المبرّد ، قال : يقال : محص الحبل محصاً : إذا ذهب منه الوبر حتى يتخلص ، ومعنى قولهم : [ اللهم ] محص عنا ذنوبنا : أذهبها عنا . وذكر الزجاج عن الخليل أن التمحيص : التخليص ، يقال : محصت الشيءُ أمحصه محصاً : إذا أخلصته . فعلى القول الأول التمحيص : ابتلاء المؤمنين بما يجري عليهم ، وعلى الثاني : هو تنقيتهم من الذنوب بذلك . قال الفراء : معنى الآية : وليمحص الله بالذنوب عن الذين آمنوا .
قوله تعالى : { ويمحق الكافرين } فيه أربعة أقوال .
أحدها : يهلكهم ، قاله ابن عباس . والثاني : يذهب دعوتهم ، قاله مقاتل .
والثالث : ينقصهم ويقللهم ، قاله الفراء .
والرابع : يحبط أعمالهم ، ذكره الزجاج .

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)

قوله تعالى : { ولقد كنتم تمنون الموت } قال ابن عباس : لما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، بما فعل بشهداء يوم بدر من الكرامة ، رغبوا في ذلك ، فتمنوا قتالاً يستشهدون فيه ، فيلحقون بإخوانهم ، فأراهم الله يوم أُحد ، فلم يلبثوا أن انهزموا إلا مَن شاء الله منهم ، فنزل فيهم { ولقد كنتم تمنون الموت } يعني القتال { من قبل أن تلقوه } أي : من قبل أن تنظروا إليه يوم أحد { فقد رأيتموه } يومئذ ، قال الفراء ، وابن قتيبة : أي : رأيتم أسبابه ، وهي السيف ونحوه من السلاح . وفي معنى { وأنتم تَنْظُرُون } ثلاثة أقوال .
أحدها : تنظرون إلى السيوف ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه ذكر للتوكيد ، قاله الأخفش . وقال الزجاج : معناه : فقد رأيتموه ، وأنتم بُصراء ، كما تقول : رأيت كذا وكذا ، وليس في عينك علة ، أي : رأيتُه رؤية حقيقة .
والثالث : أن معناه : وأنتم تنظرون ما تمنيتم . وفي الآية إضمار [ أي : فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ] فلم انهزمتم!؟ .

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)

قوله تعالى : { وما محمد إلا رسول } قال ابن عباس : صاح الشيطان يوم أُحد : قتل محمد . فقال قوم : لئن كان قتل لنعطينهم بأيدينا إنهم لعشائرنا وإخواننا ، ولو كان محمد حياً لم نهزم ، فترخصوا في الفرار ، فنزلت هذه الآية . وقال الضحاك : قال قوم من المنافقين : قتل محمد ، فالحقوا بدينكم الأول ، فنزلت هذه الآية . وقال قتادة : قال أناس : لو كان نبياً ما قُتل ، وقال ناسٌ من عِلْيَة أصحاب رسول الله : قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى تلحقوا به ، فنزلت هذه الآية . ومعنى الآية : أنه يموت كما ماتت قبله الرُّسل ، أفإن مات على فراشه ، أو قتل كمن قتل قبله من الأنبياء ، أتنقلبون على أعقابكم؟! أي : ترجعون إلى ما كنتم عليه من الكفر؟! وهذا على سبيل المثل ، يقال لكل من رجع عما كان عليه : قد انقلب على عقبيه ، وأصله : رجعة القهقرى ، والعقب : مؤخر القدم .
قوله تعالى : { فلن يضر الله شيئاً } أي : لن ينقص الله شيئاً برجوعه ، وإنما يضر نفسه . { وسيجزي } أي : يثيب الشاكرين ، وفيهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم الثابتون على دينهم ، قاله علي رضي الله عنه ، وقال : كان أبو بكر أمير الشاكرين .
والثاني : أنهم الشاكرون على التوفيق والهداية .
والثالث : على الدين .

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)

قوله تعالى : { وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله } في الإذن قولان .
أحدهما : أنه الأمر ، قاله ابن عباس . والثاني : الإذن نفسه ، قاله مقاتل .
قال الزجاج : ومعنى الآية : وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله .
قوله تعالى : { كتاباً مؤجلاً } توكيد ، والمعنى : كتب الله ذلك كتاباً مؤجلاً ، أي : كتاباً ذا أجل . والأجل : الوقت المعلوم ، ومثله في التوكيد { كتابَ الله عليكم } [ النساء : 24 ] لأنه لما قال : { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 22 ] دلّ على أنه مفروض ، فأكد بقوله { كتابَ الله عليكم } [ النساء : 24 ] وكذلك قوله تعالى : { صنعَ الله } [ النمل : 88 ] لأنه لما قال : { وترى الجبال تحسبها جامدة } [ النمل : 88 ] دلّ على أنه خلق الله فأكد بقوله : { صنع الله } .
قوله تعالى : { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها } أي : من قصد بعمله الدنيا ، أُعطي منها ، قليلاً كان أو كثيراً ، ومن قصد الآخرة بعمله ، أُعطي منها . وقال مقاتل : عنى بالآية : من ثبت يوم أحد ، ومن طلب الغنيمة .
فصل
وأكثر العلماء على أن هذا الكلام محكم ، وذهبت طائفة إلى نسخه بقوله تعالى : { عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } [ الاسراء : 18 ] والصحيح أنه محكم ، لأنه لا يؤتى أحد شيئاً إلا بقدرة الله ومشيئته .
ومعنى قوله تعالى : { نؤته منها } أي : ما نشاء ، وما قدرنا له ، ولم يقل : ما يشاء هو .

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)

قوله تعالى : { وكأين من نبي } قرأ الجمهور «وكأين» في وزن »كعيِّن» . وقرأ ابن كثير و «كائن» في وزن «كاعن» قال الفراء : أهل الحجاز يقولون : «كأيِّن» مثل : «كعِّين» ينصبون الهمزة ، ويشددون الياء . وتميم يقولون : و «كائن» كأنها فاعل من كئت . وأنشدني الكسائي :
وكائِن ترى يسعى من الناس جاهداً ... على ابنٍ غدا منه شجاعٌ وعقربُ
وقال آخر :
وكائِن أصابت مؤمناً من مُصيبةٍ ... على الله عُقباها ومنه ثوابُها
وقال ابن قتيبة : كائن بمعنى «كم» مثل قوله : { وكأين من قرية عتت عن أمر ربها } [ الطلاق : 8 ] وفيها لغتان . «كأين» بالهمزة وتشديد الياء ، و «كائن» على وزن «قائل» [ وبائع ] وقد قُرىء بهما [ جميعاً في القرآن ] والأكثر والأفصح تخفيفها . قال الشاعر :
وكائن أرينا الموتَ من ذي تحيَّةٍ ... إذا ما ازدرانا أو أصرَّ لمأثمِ
وقال الآخر :
وكائِن ترى من صامتٍ لكَ مُعْجَبٍ ... زيادتُه أو نقصُه في التَّكلم
قوله تعالى : { قاتل معه ربيُّون } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وأبان ، والمفضل كلاهما عن عاصم : «قُتِل» بضم القاف ، وكسر التاء ، من غير ألف ، وقرأ الباقون : «قاتل» بألف ، وقرأ ابن مسعود ، وأبو رزين ، وأبو رجاء ، والحسن ، وابن يعمر ، وابن جبير ، وقتادة ، وعكرمة ، وأيوب : «ربيون» بضم الراء . وقرأ ابن عباس ، وأنس ، وأبو مجلز ، وأبو العالية ، والجحدري ، بفتحها . فعلى حذف الألف يحتمل وجهين .
أحدهما : أن يكون قتل للنبي وحده ، ويكون المعنى : وكأين من نبي قتل ، ومعه ربيون ، فما وهنوا بعد قتله .
والثاني : أن يكون قتل للربيين ، ويكون : «فما وهنوا» لمن بقي منهم . وعلى إثبات الألف يكون المعنى : أن القوم قاتلوا ، فما وهنوا . وفي معنى الربيين خمسة أقوال .
أحدها : أنهم الألوف ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس في رواية ، واختاره الفراء .
والثاني : الجماعات الكثيرة ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، والربيع ، واختاره ابن قتيبة .
والثالث : أنهم الفقهاء والعلماء ، رواه سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، واختاره اليزيدي ، والزجاج .
والرابع : أنهم الأتباع ، قاله ابن زيد .
والخامس : أنهم المتألهون العارفون بالله تعالى ، قاله ابن فارس .
قوله تعالى : { فما وهنوا } فيه قولان .
أحدهما : أنه الضعف ، قاله ابن عباس ، وابن قتيبة .
والثاني : أنه العجز ، قاله قتادة .
قال ابن قتيبة : والاستكانة : الخشوع ، والذل ، ومنه أخذ المسكين . وفي معنى الكلام قولان .
أحدهما : فما وهنوا بالخوف ، وما ضعفوا بنقصان القوة ، ولا استكانوا بالخضوع .
والثاني : فما وهنوا لقتل نبيهم ، ولا ضعفوا عن عدوهم ، ولا استكانوا لما أصابهم .

وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)

قوله تعالى : { وما كان قولهم } يعني الربيين . { إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا } أي : لم يكن قولهم غير الاستغفار . والإسراف : مجاوزة الحد ، وقيل : أريد بالذنوب الصغائر ، وبالإسراف : الكبائر .
قوله تعالى : { وثبت أقدامنا } قال ابن عباس : على القتال . وقال الزجاج : معناه : ثبتنا على دينك ، فإن الثابت على دينه ثابت في حربه .

فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)

قوله تعالى : { فآتاهم الله ثواب الدنيا } فيه قولان .
أحدهما : أنه النصر ، قاله قتادة .
والثاني : الغنيمة ، قاله ابن جريج . وروي عن ابن عباس ، أنه قال : النصر والغنيمة .
وفي حسن ثواب الآخرة قولان .
أحدهما : أنه الجنة .
والثاني : الأجر والمغفرة ، وهذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين ما يفعلون ويقولون عند لقاء العدو .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا } قال ابن عباس : نزلت في قول ابن أبي للمسلمين ، لما رجعوا من أحد : لو كان نبياً ما أصابه الذي أصابه وفي الذين كفروا هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم المنافقون على قول ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : أنهم اليهود والنصارى ، قاله ابن جريج .
والثالث : أنهم عبدة الأوثان ، قاله السدي . قالوا وكانوا قد أمروا المسلمين بالرجوع عن دينهم . ومعنى { يردوكم على أعقابكم } يصرفوكم إلى الشرك ، { فتنقلبوا خاسرين } بالعقوبة .

بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)

قوله تعالى : { بلِ اللهُ مولاكم } أي : وليكم ينصركم عليهم ، فاستغنوا عن موالاة الكفار .

سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)

قوله تعالى : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } قال السدي : لما ارتحل المشركون يوم أُحد نحو مكة ندموا في بعض الطريق ، وقالوا : قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشرذمة ، تركتموهم؟ ارجعوا فاستأصلوهم ، فقذف الله في قلوبهم الرعب ، ونزلت هذه الآية . والإلقاء : القذف . والرعب : الخوف . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة «الرعب» ساكنة العين ، خفيفة ، وقرأ ابن عامر ، والكسائي ، ويعقوب ، وأبو جعفر ، مضمومة العين ، مثقله ، أين وقعت . والسلطان هاهنا : الحجة في قول الجماعة . والمأوى : المكان الذي يؤوى إليه . والمثوى : المقام . والثوى : الإقامة . قال ابن عباس : والظالمون هاهنا : الكافرون .

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)

قوله تعالى : { ولقد صدقكم الله وعده } قال محمد بن كعب القرظي : لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أُحد ، قال قومٌ منهم : من أين أصابنا هذا ، وقد وعدنا الله النصر؟ فنزلت هذه الآية . وقال المفسرون : وعد الله تعالى المؤمنين النصر بأحد ، فنصرهم ، فلما خالفوا ، وطلبوا الغنيمة ، هُزِموا . وقال ابن عباس : ما نُصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في موطن ما نُصر في أُحد ، فأنكر ذلك عليه ، فقال : بيني وبينكم كتاب الله ، إن الله يقول : { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } فأما الحسُّ ، فهو القتل ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والسدي ، والجماعة ، وقال ابن قتيبة : تحسونهم ، أي : تستأصلونهم بالقتل ، يقال : سَنَةٌ حسوس : إذا أتت على كل شيء ، وجراد محسوس : إذا قتله البرد .
وفي قوله تعالى { بإذنه } ثلاثة أقوال .
أحدها : بأمره ، قاله ابن عباس .
والثاني : بعلمه ، قاله الزجاج .
والثالث : بقضائه ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { حتى إذا فشلتم } قال الزجاج : أي : جبنتم { وتنازعتم } أي : اختلفتم { من بعد ما أراكم ما تحبون } يعني : النصرة . وقال الفراء : فيه تقديم وتأخير ، معناه : حتى إذا تنازعتم في الأمر ، فشلتم وعصيتم ، وهذه الواو زائدة ، كقوله تعالى : { فلما أسلما وتلَّه للجبين وناديناه } [ الصافات : 103 ] . معناه : ناديناه . فأما تنازعهم ، فإن بعض الرماة قال : قد إنهزم المشركون ، فما يمنعنا من الغنيمة؟ وقال بعضهم : بل نثبت مكاننا كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فترك المركز بعضهم ، وطلب الغنيمة ، وتركوا مكانهم ، فذلك عصيانهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ، قد أوصاهم : « لو رأيتم الطير تخطفنا فلا تبرحوا من مكانكم » .
قوله تعالى : { منكم من يريد الدنيا } قال المفسرون : هم الذين طلبوا الغنيمة ، وتركوا مكانهم { ومنكم من يريد الآخرة } وهم الذين ثبتوا . وقال ابن مسعود : ما كنت أظن أحداً من أصحاب محمد يريد الدنيا . حتى نزلت هذه الآية .
قوله تعالى : { صرفكم عنهم } أي : ردكم عن المشركين بقتلكم وهزيمتكم . { ليبتليكم } أي : ليختبركم ، فيبين الصابر من الجازع .
قوله تعالى : { ولقد عفا عنكم } فيه قولان :
أحدهما : عفا عن عقوبتكم ، قاله ابن عباس .
والثاني : عفا عن استئصالكم ، قاله الحسن . وكان يقول : هؤلاء مع رسول الله ، في سبيل الله غضاب لله ، يقاتلون في سبيل الله ، نهوا عن شيء فضيعوه ، فما تركوا حتى غموا بهذا الغم ، والفاسق اليوم يتجرم كل كبيرة ، ويركب كل داهية ، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم .
قوله تعالى : { والله ذو فضل على المؤمنين } فيه قولان .
أحدهما : إذ عفا عنهم ، قاله ابن عباس .
والثاني : إذ لم يقتلوا جميعاً ، قاله مقاتل .

إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)

قوله تعالى : { إذ تصعدون ولا تلوون } قال المفسرون : «إذ» متعلقة بقوله تعالى : { ولقد عفا عنكم } وأكثر القراء على ضم التاء ، وكسر العين من قوله : «تصعدون» وهو من الإصعاد . وروى أبان عن ثعلب ، عن عاصم ، فتحها ، وهي قراءة الحسن ، ومجاهد وهو من الصعود . قال الفراء : الإصعاد في ابتداء الأسفار ، والمخارج ، تقول : أصعدنا من بغداد إلى خراسان ، فإذا صعدت على سلم ، أو درجة ، قلت : صعدت ، ولا تقول : أصعدت . وقال الزجاج : كل من ابتدأ مسيراً من مكان ، فقد أصعد ، فأما الصعود ، فهو من أسفل إلى فوق . ومن فتح التاء والعين ، أراد الصعود في الجبل . وللمفسرين في معنى الآية . قولان .
أحدهما : أنه صعودهم في الجبل ، قاله ابن عباس ومجاهد .
والثاني : أنه الإبعاد في الهزيمة ، قاله قتادة ، وابن قتيبة ، و «تلوون» بمعنى : «تعرجون» .
وقوله تعالى : { على أحد } عام ، " وقد روي عن ابن عباس أنه أُريد به النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : والنبي صلى الله عليه وسلم ، يناديهم من خلفهم : «إِليَّ عباد الله ، أنا رسول الله» " ، وقرأت عائشة ، وأبو مجلز ، وأبو الجوزاء ، وحميد ، «على أُحد» بضم الألف والحاء ، يعنون الجبل .
قوله تعالى : { فأثابكم } أي : جازاكم . قال الفراء : الإثابة هاهنا بمعنى عقاب ، ولكنه كما قال الشاعر :
أخاف زياداً أن يكونَ عطاؤه ... أداهِمَ سوداً أو محدرجةً سُمْرا
المحدرجة : السياط . والسود فيما يقال : القيود .
قوله تعالى { غماً بغمٍ } في هذه الباء أربعة أقوال .
أحدها : أنها بمعنى «مع» .
والثاني : بمعنى «بعد» .
والثالث بمعنى «على» ، فعلى هذه الثلاثة الأقوال يتعلق الغمان بالصحابة . وللمفسرين في المراد بهذين الغمين خمسة أقوال .
أحدها : أن الغم الأول ما أصابهم من الهزيمة والقتل . والثاني : إشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين عليهم ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : أن الأول فرارهم الأول ، والثاني : فرارهم حين سمعوا أن محمداً قد قتل ، قاله مجاهد .
والثالث : أن الأول ما فاتهم من الغنيمة وأصابهم من القتل والجراح . والثاني : حين سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل ، قاله قتادة .
والرابع : أن الأول ما فاتهم من الغنيمة ، والفتح ، والثاني : إشراف أبي سفيان عليهم ، قاله السدي .
والخامس : أن الأول إشراف خالد بن الوليد عليهم ، والثاني : إشراف أبي سفيان عليهم ، ذكره الثعلبي .
والقول الرابع : أن الباءَ بمعنى الجزاء ، فتقديره : غمكم كما غممتم غيركم ، فيكون أحد الغمين للصحابة ، وهو أحد غمومهم التي ذكرناها عن المفسرين ، ويكون الغم الذي جُوزوا لأجله لغيرهم . وفي المراد بغيرهم قولان .
أحدهما : أنهم المشركون غموهم يوم بدر ، قاله الحسن .
والثاني : أنه النبي صلى الله عليه وسلم ، غموه حيث خالفوه ، فجوزوا على ذلك بأن غمو بما أصابهم ، قاله الزجاج .
قوله تعالى { لكيلا تحزنوا } في «لا» قولان .

أحدهما : أنها باقية على أصلها ، ومعناها النفي ، فعلى هذا في معنى الكلام قولان .
أحدهما : فأثابكم غماً أنساكم الحزن على ما فاتكم وما أصابكم ، وقد روي أنهم لما سمعوا أن النبي قد قتل ، نسوا ما أصابهم ، وما فاتهم .
والثاني : أنه متصل بقوله : { ولقد عفا عنكم } فمعنى الكلام : عفا عنكم ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم ، لأن عفوه يذهب كل غم .
والقول الثاني : أنها صلة ، ومعنى الكلام : لكي تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم عقوبة لكم في خلافكم . ومثلها قوله تعالى : { لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله } [ الحديد : 29 ] . أي : ليعلم . هذا قول المفضل . قال ابن عباس : والذي فاتهم : الغنيمة ، والذي أصابهم : القتل والهزيمة .

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)

قوله تعالى : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنةً } قال ابن قتيبة : الأمنة : الأمن . يقال : وقعت الأمنة في الأرض . وقال الزجاج : معنى الآية : أعقبكم بما نالكم من الرعب أن أمنكم أمناً تنامون معه ، لأن الشديد الخوف لا يكاد ينام . و «نعاساً» منصوب على البدل من «أمنة» يقال : نعس الرجل ينعس نعاساً ، فهو ناعس . وبعضهم يقول : نعسان . قال الفراء : قد سمعتها ، ولكني لا أشتهيها . قال العلماء : النعاس : أخف النوم . وفي وجه الامتنان عليهم بالنعاس قولان .
أحدهما : أنه أمنهم بعد خوفهم حتى ناموا ، فالمنة بزوال الخوف ، لأن الخائف لا ينام . والثاني : قواهم بالاستراحة على القتال .
قوله تعالى : { يغشى طائفةً منكم } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر «يغشى» بالياء مع التفخيم ، وهو يعود إلى النعاس . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف «تغشى» بالتاء مع الإمالة ، وهو يرجع إلى الأمنة . فأما الطائفة التي غشيها النوم ، فهم المؤمنون ، والطائفة الذين أهمَّتهم أنفسهم : المنافقون ، أهمهم خلاص أنفسهم ، فذهب النوم عنهم . قال أبو طلحة : كان السيف يسقط من يدي ، ثم آخذه ، ثم يسقط ، وآخذه من النعاس . وجعلت أنظر ، وما منهم أحد يومئذ إلا يميد تحت حَجَفَته من النعاس . وقال الزبير : أرسل الله علينا النوم ، فما منَّا رجل إلا ذقنه في صدره ، فوالله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير : { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } ، فحفطتها منه .
قوله تعالى : { يظنون بالله غير الحق } فيه أربعة أقوال .
أحدها : أنهم ظنُّوا أن الله لا ينصر محمداً وأصحابه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني : أنهم كذبوا بالقدر ، رواه الضحاك ، عن ابن عباس .
والثالث : أنهم ظنوا أن محمداً قد قتل ، قاله مقاتل .
والرابع : ظنُّوا أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم مضمحل ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { ظن الجاهلية } قال ابن عباس : أي : كظن الجاهلية .
قوله تعالى : { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه : الجحد ، تقديره : ما لنا من الأمر من شيء . قال الحسن : قالوا : لو كان الأمر إلينا ما خرجنا ، وإنما أُخرجنا كرهاً . وقال غيره : المراد بالأمر : النصر والظفر ، قالوا : إنما النصر للمشركين { قل إن الأمر كلَّه } أي : النصر ، والظفر ، والقضاء والقدر { لله } . والأكثرون قرؤوا { إن الأمر كله لله } بنصب اللام ، وقرأ أبو عمرو برفعها ، قال أبو علي : حجة من نصب ، أن «كله» بمنزلة «أجمعين» في الإحاطة والعموم ، فلو قال : إن الأمر أجمع ، لم يكن إلا النَّصب ، و «كله» بمنزلة «أجمعين» ومن رفع ، فلأنه قد ابتدأ به ، كما ابتدأ بقوله تعالى : { وكلهم آتية } .
قوله تعالى { يخفون في أنفسهم } في الذي أخفوه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه قولهم : { لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا } .

والثاني : أنه إسرارهم الكفر ، والشك في أمر الله .
والثالث : الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد .
قال أبو سليمان الدمشقي : والذي قال : { هل لنا من الأمر من شيء } عبد الله بن أُبي . والذي قال : { لو كان لنا من الأمر من شيء } معتب بن قشير .
قوله تعالى { قل لو كنتم في بيوتكم } أي : لو تخلفتم ، لخرج منكم من كُتب عليه القتل ، ولم ينجه القعود . والمضاجع : المصارع بالقتل . قال الزجاج : ومعنى { برزوا } : صاروا إلى براز ، وهو المكان المنكشف . ومعنى { وليبتليَ الله ما في صدوركم } أي : ليختبره بأعمالكم ، لأنه قد علمه غيباً ، فيعلمه شهادة .
قوله تعالى : { وليمحص الله ما في قلوبكم } قال قتادة : أراد ليظهرها من الشك والارتياب ، بما يريكم من عجائب صنعه من الأمنة ، وإظهار سرائر المنافقين . وهذا التمحيص خاص للمؤمنين . وقال غيره : أراد بالتمحيص : إبانة ما في القلوب من الاعتقاد لله ، ولرسوله ، وللمؤمنين ، فهو خطاب للمنافقين .
قوله تعالى { والله عليم بذات الصدور } أي : بما فيها . وقال ابن الأنباري : معناه : عليم بحقيقة ما في الصدور من المضمرات ، فتأنيث ذات بمعنى الحقيقة ، كما تقول العرب : لقيته ذات يوم . فيؤنثون لأن مقصدهم : لقيته مرة في يوم .

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)

قوله تعالى : { إِن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان } الخطاب للمؤمنين ، وتوليهم : فرارهم من العدو . والجمعان : جمع المؤمنين ، وجمع المشركين ، وذلك يوم أُحد . واستزلهم : طلب زللهم ، قال ابن قتيبة : هو كما تقول : استعجلت فلاناً ، أي : طلبت عجلته ، واستعملته : طلبت عمله . والذي كسبوا : يريد به الذنوب . وفي سبب فرارهم يؤمئذ قولان .
أحدها : أنهم سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فترخصوا في الفرار ، قاله ابن عباس في آخرين .
والثاني : أن الشيطان أذكرهم خطاياهم ، فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها قاله الزجاج .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا } أي كالمنافقين الذين قالوا لإخوانهم في النفاق ، وقيل : إخوانهم في النسب . قال الزجاج : وإنما قال : «إِذا ضربوا» ولم يقل : إذ ضربوا ، لأنه يريد : شأنُهم هذا أبداً ، تقول : فلان إذا حدث صدق ، وإذا ضُرِب صبر . و «إذا» لما يستقبل ، إلا أنه لم يحكم له بهذا المستقبل إلا لما قد خبر منه فيما مضى . قال المفسرون : ومعنى { ضربوا في الأرض } : ساروا وسافروا . و «غزىً» جمع غازي . وفي الكلام محذوف تقديره : إذا ضربوا في الأرض ، فماتوا ، أو غزوا ، فقتلوا .
قوله تعالى { ليجعل الله ذلك } قال ابن عباس : ليجعل الله ما ظنوا من أنهم لو كانوا عندهم ، سلموا ، { حسرة في قلوبهم } أي : حزناً . قال ابن فارس : الحسرة : التلهف على الشيء الفائت .
قوله تعالى : { والله يحيي ويميت } أي : ليس تحرُّز الإنسان يمنعه من أجله .
قوله تعالى : { والله بما تعملون بصير } قرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي : يعملون بالياء ، وقرأ الباقون بالتاء . قال أبو علي : حجة من قرأ بالياء أن قبلها غيبة ، وهو قوله تعالى : { وقالوا لإخوانهم } ، ومن قرأ بالتاء ، فحجته { لا تكونوا كالذين كفروا } .

وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)

قوله تعالى : { ولئن قتلتم } اللام في «لئن» لام القسم ، تقديره : والله لئن قتلتم في الجهاد { أو متم } في إقامتكم . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «مُتَّ» و «مُتُّم» و «مُتنا» برفع الميم في جميع القرآن ، وروى حفص عن عاصم : { أو متُّم } { ولئن متم } برفع الميم في هذين دون باقي القرآن . وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي كل ما في القرآن بالكسر .
قوله تعالى : { لَمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون } أي : من أعراض الدنيا التي تتركون الجهاد لجمعها . وقرأ حفص عن عاصم : يجمعون بالياء ، ومعناه : خير مما يجمع غيركم مما تركوا الجهاد لجمعه . قال ابن عباس : خير مما يجمع المنافقون في الدنيا .

وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)

قوله تعالى : { ولئن متم } أي : في إقامتكم . { أو قتلتم } في جهادكم . { لإِلى الله تحشرون } وهذا تخويف من القيامة . والحشر : الجمع مع سوق .

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)

قوله تعالى : { فبما رحمة من الله لنت لهم } قال الفراء وابن قتيبة ، والزجاج «ما» هاهنا صلة ، ومثله : { فبما نقضهم ميثاقهم } قال ابن الأنباري : دخول «ما» هاهنا يحدث توكيداً .
قال النابغة :
المرءُ يهوى أن يعي ... شَ وطولُ عيش ما يضرُّه
فأكد بذكر «ما» وفيمن تتعلق به هذه الرحمة قولان .
أحدهما : أنها تتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم . والثاني : بالمؤمنين .
قال قتادة : ومعنى { لنت لهم } لان جانبك ، وحَسُن خُلُقُك ، وكثر احتمالك . قال الزجاج : والفظ : الغليظ الجانب ، السيء الخلق ، يقال : فظظت تفظ فظاظة وفظظاً ، والفظ : ماء الكرش والفرث ، وإنما سمي فظاً لغلظ مشربه . فأما الغليظ القلب ، فقيل : هو القاسي القلب ، فيكون ذكر الفظاظة والغلظ وإن كانا بمعنى واحد توكيداً . وقال ابن عباس : الفظ : في القول ، والغليظ القلب : في الفعل .
قوله تعالى : { لانفضوا } أي : تفرقوا . وتقول : فضضت عن الكتاب ختمه : إذا فرقته عنه . { فاعفُ عنهم } أي : تجاوز عن هفواتهم ، وسل الله المغفرة لذنوبهم { وشاورهم في الأمر } معناه : استخرج آراءهم ، واعلم ما عندهم . ويقال : إنه من : شرت العسل .
وأنشدوا :
وقاسمها بالله حقاً لأنتم ... ألذُّ من السَّلوى إذا ما نشورُها
قال الزجاج : يقال : شاورت الرجل مشاورة وشوراً ، وما يكون عن ذلك اسمه المشورة . وبعضهم يقول : المشوْرَة . ويقال : فلان حسن الصورة والشورة ، أي : حسن الهيئة واللباس . ومعنى قولهم : شاورت فلاناً ، أظهرت ما عنده وما عندي . وشرت الدابة : إذا امتحنتها ، فعرفت هيئتها في سيرها . وشرت العسل : إذا أخذته من مواضع النحل . وعسل مشار . قال الأعشى :
كأنّ القرنفل والزنجبي ... ل باتا بفيها وأرياً مشاراً
والأري : العسل . واختلف العلماء لأي معنى أمر الله نبيه بمشاورة أصحابه مع كونه كامل الرأي ، تام التدبير ، على ثلاثة أقوال .
أحدها : ليستن به من بعده ، وهذا قول الحسن ، وسفيان بن عيينة .
والثاني : لتطيب قلوبهم ، وهو قول قتادة ، والربيع ، وابن إسحاق . ومقاتل . قال الشافعي رضي الله عنه : نظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم " البكر تُستأمر في نفسها " إنما أراد استطابة نفسها ، فإنها لو كرهت ، كان للأب أن يزوجها ، وكذلك مشاورة إبراهيم عليه السلام لابنه حين أُمر بذبحه .
والثالث : للإعلام ببركة المشاورة ، وهو قول الضحاك . ومن فوائد المشاورة أن المشاور إذا لم ينجح أمره . علم أن امتناع النجاح محض قدر ، فلم يلم نفسه ، ومنها أنه قد يعزم على أمر ، فيبين له الصواب في قول غيره ، فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح . قال علي رضي الله عنه : الاستشارة عين الهداية ، وقد خاطر من استغنى برأيه ، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم . وقال بعض الحكماء : ما استُنْبِطَ الصواب بمثل المشاورة ، ولا حُصِّنتِ النعم بمثل المواساة ، ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر .

واعلم أنه إنما أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما لم يأته فيه وحي ، وعمهم بالذكر ، والمقصود أرباب الفضل والتجارِب منهم . وفي الذي أُمر بمشاورتهم فيه قولان : حكاهما القاضي أبو يعلى .
أحدهما : أنه أمر الدنيا خاصة .
والثاني : أمر الدين والدنيا ، وهو أصح .
وقد قرأ ابن مسعود ، و ابن عباس «وشاورهم في بعض الأمر» .
قوله تعالى : { فإذا عزمت } قال ابن فارس : العزم : عقد القلب على الشيء ويريد أن يفعله . وقد قرأ أبو رزين ، وأبو مجلز ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والجحدري : { فإذا عزمتُ } بضم التاء . فأما التوكل ، فقد سبق شرحه .
ومعنى الكلام : فإذا عزمت على فعل شيء ، فتوكل على الله ، لا على المشاورة .

إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)

قوله تعالى : { إِن ينصركم الله } قال ابن فارس : النصر : العون ، والخذلان : ترك العون . وقيل : الكناية في قوله { من بعده } تعود إلى خذلانه .

وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)

قوله تعالى : { وما كان لنبي أن يغل } في سبب نزولها سبعة أقوال .
أحدها : أن قطيفة من المغنم فقدت يوم بدر ، فقال ناس : لعل النبي صلى الله عليه وسلم أخذها ، فنزلت هذه الآية ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثاني : أن رجلاً غلَّ من غنائم هوازن يوم حنين ، فنزلت هذه الآية ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثالث : أن قوماً من أشراف الناس طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخصهم بشيء من الغنائم ، فنزلت هذه الآية ، نقل عن ابن عباس أيضاً .
والرابع : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث طلائعاً ، فغنم النبي صلى الله عليه وسلم غنيمة ، ولم يقسم للطلائع ، فقالوا : قسم الفيء ولم يقسم لنا ، فنزلت هذه الآية ، قاله الضحاك .
والخامس : أن قوماً غلُّوا يوم بدر ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة .
والسادس : " أنها نزلت في الذين تركوا مركزهم يوم أُحد طلباً للغنيمة ، وقالوا : نخاف أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «من أخذ شيئاً ، فهو له» فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : «ألم أعهد إليكم ألا تبرحوا؟! أظننتم أنا نغل؟!» " فنزلت هذه الآية ، قاله ابن السائب ، ومقاتل .
والسابع : أنها نزلت في غلول الوحي ، قاله القرظي ، وابن إسحاق .
وذكر بعض المفسرين أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وآلهتم ، فسألوه أن يطوي ذلك ، فنزلت هذه الآية .
واختلف القراء في «يغل» فقرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو : بفتح الياء وضم الغين ، ومعناها : يخون . وفي هذه الخيانة قولان .
أحدهما : خيانة المال على قول الأكثرين .
والثاني : خيانة الوحي على قول القرظي ، وابن اسحاق . وقرأ الباقون : بضم الياء وفتح الغين ، ولها وجهان .
أحدهما : أن يكون المعنى يُخان ، [ ويجوز أن يكون : يلفى خائناً ، يقال : أغللت فلاناً ، أي : وجدته غالاً ، كما يقال : أحمقته : وجدته أحمق ، وأحمدته : وجدته محمودا ] ، قاله الحسن ، وابن قتيبة .
والثاني : يُخوَّن ، قاله الفراء ، وأجازه الزجاج ، ورده ابن قتيبة ، فقال : لو أراد : يخون ، لقال : يغلل ، كما يقال : يفسق ، ويخون ، ويفجر .
وقيل «اللام» في قوله «لنبي» منقولة ، ومعنى الآية : وما كان النبي ليغُلَّ ، ومثله : { ما كان لله أن يتخذ من ولد } [ مريم : 36 ] أي : ما كان الله ليتخذ ولداً .
وهذه الآية من ألطف التعريض ، إذ قد ثبتت براءة ساحة النبي صلى الله عليه وسلم ، من الغُلول فدل على أن الغلول في غيره . ومثله : { وإِنا أو إِياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 25 ] وقد ذكر عن السدي نحو هذا .
قوله تعالى : { ومن يغلل يأت بما غلَّ يوم القيامة } الغلول : أخذ شيء من المغنم خفية ، ومنه الغلالة ، وهي ثوب يلبس تحت الثياب ، والغَلل : وهو الماء الذي يجري بين الشجر ، والغِلُّ : وهو الحقد الكامن في الصدر ، وأصل الباب الاختفاء .

وفي إتيانه بما غل ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه يأتي بما غله ، يحمله ، ويدل عليه ما روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فذكر الغلول ، فعظمه ، وعظم أمره ، ثم قال " لا أُلفينَّ أحدَكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، يقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً ، قد أبلغتك ، لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً ، قد أبلغتك . لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ، يقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً ، قد أبلغتك . لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً ، قد أبلغتك . لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً ، قد أبلغتك . لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً ، قد أبلغتك " . الرغاء : صوت البعير ، والثغاء : صوت الشاة ، والنفس : ما يُغل من السَّبي ، والرقاع : الثياب . والصامت : المال .
والقول الثاني : أنه يأتي حاملاً إثم ما غل .
والثالث : أنه يردُّ عوض ما غل من حسناته ، والقول الأول أصح لمكان الأثر الصحيح .
قوله تعالى : { ثم تُوفَّى كل نفس ما كسبت } أي : تعطى جزاء ما كسبت .

أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)

قوله تعالى : { أفمن اتبع رضوان الله } اختلفوا في معنى هذه الآية على قولين .
أحدهما : أن معناها : أفمن اتبع رضوان الله ، فلم يغل ، { كمن باء بسخط من الله } حين غل؟! هذا قول سعيد بن جبير ، والضحاك ، والجمهور .
والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر المسلمين باتباعه يوم أُحد ، اتبعه المؤمنون ، وتخلف جماعة من المنافقين ، فأخبر الله بحال من تبعه ، ومن تخلف عنه ، هذا قول الزجاج .

هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)

قوله تعالى : { هم درجات } قال الزجاج : معناه : هم ذوو درجات . وفي معنى درجات قولان .
أحدهما : أنها درجات الجنة ، قاله الحسن .
والثاني : أنها فضائلهم ، فبعضهم أفضل من بعض ، قاله الفراء ، وابن قتيبة .
وفيمن عنى بهذا الكلام قولان .
أحدهما : أنهم الذين اتبعوا رضوان الله ، والذين باؤوا بسخط من الله ، فلمن اتبع رضوان الله الثواب ، ولمن باء بسخطه العذاب ، هذا قول ابن عباس .
والثاني : أنهم الذين اتبعوا رضوان الله فقط ، فإنهم يتفاوتون في المنازل ، هذا قول سعيد بن جبير ، وأبي صالح ، ومقاتل .

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)

قوله تعالى : { لقد منَّ الله على المؤمنين } أي : أنعم عليهم . و «أنفسهم» جماعتهم ، وقيل : نسبَهم . وقرأ الضحاك ، وأبو الجوزاء : { من أنفَسهم } بفتح الفاء . وفي وجه الامتنان عليهم بكونه من أنفسهم أربعة أقوال .
أحدها : لكونه معروف النسب فيهم ، قاله ابن عباس ، وقتادة .
والثاني : لكونهم قد خبروا أمره ، وعلموا صدقه ، قاله الزجاج .
والثالث : ليسهل عليهم التعلم منه ، لموافقة لسانه للسانهم ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
والرابع : لأن شرفهم يتم بظهور نبي منهم ، قاله الماوردي .
وهل هذه الآية خاصة أم عامة؟ فيه قولان .
أحدهما : أنها خاصة للعرب ، روي عن عائشة والجمهور .
والثاني : أنها عامة لسائر المؤمنين ، فيكون المعنى أنه ليس بملكٍ ، ولا من غير بني آدم ، وهذا اختيار الزجاج . وقد سبق في ( البقرة ) بيان باقي الآية .

أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)

قوله تعالى : { أو لما أصابتكم مصيبة } قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لما كان يوم أُحد ، عوقبوا بما صنعوا يوم بدر ، من أخذهم الفداء ، فقتل منهم سبعون ، وفرَّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وكسرت رباعيته ، وهشمت البيضة على رأسه ، وسال الدم على وجهه ، فنزلت هذه الآية إلى قوله تعالى { قل هو من عند أنفسكم } قال : بأخذكم الفداء .
قوله تعالى : { أوَ لمَّا } قال الزجاج : هذه واو النسق ، دخلت عليها ألف الاستفهام ، فبقيت مفتوحة على هيئتها قبل دخولها ، ومثل ذلك قول القائل : تكلم فلان بكذا وكذا فيقول المجيب له : أو هو ممن يقول ذلك؟ فأما «المصيبة» فما أصابهم يوم أُحد ، وكانوا قد أصابوا مثليها من المشركين يوم بدر ، لأنهم قتل منهم سبعون ، فقتلوا يوم بدر سبعين ، وأسروا سبعين ، وهذا قول ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، والجماعة ، إلا أن الزجاج قال : قد أصبتم يوم أُحد مثلها ، ويوم بدر مثلها ، فجعل المثلين في اليومين .
قوله تعالى : { أنى هذا } قال ابن عباس : من أين أصابنا هذا ونحن مسلمون .
قوله تعالى : { قل هو من عند أنفسكم } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن معناه : بأخذكم الفداء يوم بدر ، قاله عمر بن الخطاب . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله قد كره ما صنع قومك من أخذهم الفداء ، وقد أمرك أن تخيِّرهم بين أن يضربوا أعناق الأسارى ، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يُقتل منهم عدَّتهم ، فذكر ذلك للناس فقالوا : عشائرنا وإخواننا ، بل نأخذ منهم الفداء ، ويستشهد منا عدّتهم ، فقتل منهم يوم أُحد سبعون عدد أسارى بدر فعلى هذا يكون المعنى : قل هو بأخذكم الفداءَ ، واختياركم القتل لأنفسكم .
والثاني : أنه جرى ذلك بمعصية الرماة يوم أُحد ، وتركهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس ، ومقاتل في آخرين .
والثالث : أنه بمخالفتهم الرسول في الخروج من المدينة يوم أُحد ، فإنه أمرهم بالتحصُّن فيها ، فقالوا : بل نخرج ، قاله قتادة ، والربيع . قال مقاتل : إن الله على كل شيء من النصر والهزيمة قدير .

وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)

قوله تعالى : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان } الجمعان : النبي وأصحابه ، وأبو سفيان وأصحابه ، وذلك في يوم أحد ، وقد سبق ذكر ما أصابهم .
قوله تعالى : { فبإذن الله } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أمره ، والثاني : قضاؤه ، رويا عن ابن عباس . والثالث : علمه ، قاله الزجاج .
قوله تعالى : { وليعلم المؤمنين } أي : ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم على ما نالهم ، ويظهر نفاق المنافقين بفشلهم ، وقلة صبرهم قال ابن قتيبة ، والنفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع ، وهو جحر من جِِحَرتِه يخرج منه إذا أخذ عليه الجحر الذي دخل فيه . قال الزيادي عن الأصمعي : ولليربوع أربعة أجحرة ، النافقاء : وهو الذي يخرج منه كثيراً ، ويدخل منه كثيراً . والقاصعاء ، سمي بذلك لأنه يخرج تراب الجحر ، ثم يقصِّع ببعضه كأنه يسد به فم الجحر ، ومنه يقال : جرح فلان قد قصع بالدم : إذا امتلأ ولم يسل . والدّامّاء سمي بذلك ، لأنه يخرج التراب من فم الجحر ، ثم يدمُّ به فم الجحر ، كأنه يطليه به ، ومنه يقال : ادمم قدرك بشحم ، أي اطلها به . والرّاهطاء ، ولم يذكر اشتقاقه ، وإنما يتخذ هذه الجحر عدداً ، فاذا أخذ عليه بعضها ، خرج من بعض . قال أبو زيد : فشبه المنافق به ، لأنه يدخل في الإسلام ، بلفظه ، ويخرج منه بعقده ، كما يدخل اليربوع من باب ويخرج من باب . قال ابن قتيبة : والنفاق : لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبل الإسلام . قال ابن عباس : والمراد بالذين نافقوا عبد الله بن أُبي ، وأصحابه . قال موسى بن عقبة : خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد . ومعه المسلمون ، وهم ألف رجل ، والمشركون ثلاثة آلاف ، فرجع عنه ابن أُبي في ثلاثمئة . فأما القتال ، فمباشرة الحرب ، وفي المراد بالدفع ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه التكثير بالعدد ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وهو قول الحسن ، وعكرمة ، والضحاك ، والسدي ، وابن جريج في آخرين .
والثاني : أن معناه : ادفعوا عن أنفسكم ، وحريمكم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهو قول مقاتل .
والثالث : أنه بمعنى ، القتال أيضاً . قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { لو نعلم قتالاً } فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن معناه : لو نعلم أن اليوم يجري قتال ما أسلمناكم ، ذكره ابن اسحاق .
والثاني : لو كنا نحسن القتال لاتبعناكم .
والثالث : إنما معناه : أن هناك قتلاً وليس بقتال ، ذكرهما الماوردي .
قوله تعالى : { هم للكفر } أي : إلى الكفر { أقرب منهم للإيمان } أي : إلى الإيمان ، وإنما قال : يومئذ ، لأنهم فيما قبل لم يظهروا مثل ما أظهروا ، فكانوا بظاهر حالهم فيما قبل أقرب إلى الإيمان .
قوله تعالى : { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } فيه وجهان ذكرهما المارودي .
أحدهما : ينطقون بالإيمان ، وليس في قلوبهم إلا الكفر .
والثاني : يقولون : نحن أنصار ، وهم أعداء . وذكر في الذي يكتمون وجهين .
أحدهما : أنه النفاق . والثاني : العداوة .

الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)

قوله تعالى : { الذين قالوا لإخوانهم } قال ابن عباس : نزلت في عبد الله بن أُبي . وفي إخوانهم قولان .
أحدهما : أنهم إخوانهم في النفاق ، قاله ابن عباس .
والثاني : إخوانهم في النسب ، قاله مقاتل . فعلى الأول يكون المعنى : قالوا لإخوانهم المنافقين : لو أطاعنا الذين قتلوا مع محمد ما قتلوا ، وعلى الثاني يكون المعنى : قالوا عن إخوانهم الذين استشهدوا بأحد : لو أطاعونا ما قتلوا .
قوله تعالى : { وقعدوا } يعني القائلين قعدوا عن الجهاد .
قوله تعالى : { فادرؤوا } أي فادفعوا { عن أنفسكم الموت إِن كنتم صادقين } أنَّ الحذر لا ينفع مع القدر .

وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)

قوله تعالى : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } قرأ ابن عامر : قتّلوا بالتشديد . واختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها نزلت في شهداء أُحد ، روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ، وحسن مقيلهم ، قالوا : ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا ، لئلا يزهدوا في الجهاد [ ولا ينكلوا عن الحرب ] قال الله تعالى : أنا أبلغهم عنكم ، " فأنزل الله تعالى هذه الآية» . وهذا قول سعيد بن جبير ، وأبي الضحى .
والثاني : أنها نزلت في شهداء بدر لما أفضوا إلى كرامة الله تعالى وقالوا : ربنا أعلِمْ إخواننا ، فنزلت هذه الآية والتي بعدها ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وهو قول مقاتل .
والثالث : أنها نزلت في شهداء بئر معونة . روى محمد بن إسحاق عن أشياخ له ، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث المنذر بن عمرو في سبعين رجلاً من خيار المسلمين إلى أهل نجد ، فلما نزلوا بئر معُونة ، خرج حرام بن ملحان إلى عامر بن الطفيل بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم ينظر فيه عامر ، وخرج رجل من كسر البيت برمح ، فضرب به في جنب حرام حتى خرج من الشق الآخر ، فقال : الله أكبر ، فزت ورب الكعبة ، وقتل سائر أصحابه غير واحد منهم ، قال أنس بن مالك : فأنزل الله تعالى فيهم : «بلغوا قومنا عنا أنا قد لقينا ربنا ، فرضي عنا ورضينا عنه» ثم رفعت ، فنزلت هذه الآية : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } .
فهذا اختلاف الناس فيمن نزلت ، واختلفوا في سبب نزولها على ثلاثة أقوال .
أحدها : أن الشهداء بعد استشهادهم سألوا الله أن يخبر إخوانهم بمصيرهم ، وقد ذكرناه عن ابن عباس .
والثاني : أن رجلاً قال : يا ليتنا نعلم ما لقي إخواننا الذين استشهدوا ، فنزلت ، قاله مقاتل .
والثالث : أن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور ، تحسروا ، وقالوا نحن في النعمة والسرور ، وآباؤنا ، وأبناؤنا ، وإخواننا ، في القبور ، فنزلت هذه الآية ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري .
فأما التفسير ، فمعنى الآية : لا تحسبنهم أمواتاً كالأموات الذين لم يقتلوا في سبيل الله ، وقد بينا هذا المعنى في ( البقرة ) وذكرنا أن معنى حياتهم : أن أرواحهم في حواصل طير تأكل من ثمار الجنة ، وتشرب من أنهارها . قال مجاهد : يرزقون من ثمر الجنة .

فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)

قوله تعالى : { فرحين } قال ابن قتيبة : الفرح : المسرة ، فأما الذي آتاهم الله ، فما نالوا من كرامة الله ورزقه ، والاستبشار : السرور بالبشارة ، { بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } إخوانهم من المسلمين ، وفي سبب استبشارهم بهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أن الله تعالى ما أخبر بكرامة الشهداء ، أخبر الشهداء بأني قد أنزلت على نبيكم ، وأخبرته بأمركم ، فاستبشروا ، وعلموا أن إخوانهم سيحرصون على الشهادة ، قاله سعيد بن جبير .
والثاني : يستبشرون بإخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة ، يقولون : إن قتلوا نالوا ما نلنا من الفضل ، قاله قتادة .
والثالث : أن الشهيد يؤتى بكتاب فيه ذكر من تقدم عليه من إخوانه وأهله ، وفيه يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا ، فيستبشر بقدومه ، كما يستبشر أهل الغائب به ، هذا قول السدي و «الهاء» و «الميم» في قوله تعالى : { أن لا خوف عليهم } تعود إلى الذين لم يلحقوا بهم . قال الفراء : معناه : يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم ، ولا حزن . وفي ماذا يرتفع «الخوف» و «الحزن» عنهم؟ فيه قولان .
أحدهما : لا خوف عليهم فيمن خلفوه من ذريتهم ، ولا يحزنون على ما خلفوا من أموالهم .
والثاني : لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه ، ولا يحزنون على مفارقة الدنيا فرحاً بالآخرة .

يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)

قوله تعالى : { يستبشرون بنعمة من الله وفضلٍ } قال مقاتل : برحمة ورزق .
قوله تعالى : { وأن الله } قرأ الجمهور بالفتح على معنى : ويستبشرون بأن الله ، وقرأ الكسائي بالكسر على الاستئناف .

الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)

قوله تعالى : { الذين استجابوا لله والرسول } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن المشركين لما انصرفوا يوم أُحد ، ندب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لاتباعهم ، ثم خرج بمن انتدب معه ، فلقي أبو سفيان قوماً ، فقال : إن لقيتم محمداً ، فأخبروه أني في جمع كثير ، فلقيهم النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم عنه؟ فقالوا : لقيناه في جمع كثير ، ونراك في قلةٍ ، فأبى إلا أن يطلبه ، فسبقه أبو سفيان ، فدخل مكة ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس ، والجمهور .
والثاني : أن أبا سفيان لما أراد الانصراف عن أُحد ، قال : يا محمد ، موعد بيننا وبينك موسم بدر ، فلما كان العام المقبل ، خرج أبو سفيان ، ثم ألقى الله في قلبه الرعب ، فبدا له الرجوع ، فلقي نُعيم بن مسعود ، فقال : إني قد واعدت محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى . وهذا عام جدب ، لا يصلح لنا ، فثبطهم عنا ، وأعلمهم أنَّا في جمع كثير ، فلقيهم فخوفهم ، فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم ، بأصحابه ، حتى أقاموا ببدر ينتظرون أبا سفيان ، فنزل قوله تعالى : { الذين استجابوا لله والرسول } الآيات . وهذه المعنى : مروي عن مجاهد ، وعكرمة . والاستجابة : الإجابة . وأنشدوا :
. . . . . . . . . . ... فلم يَسْتَجِبْهُ عند ذاك مجيبُ
أي : فلم يجبه .
وفي مراد النبي صلى الله عليه وسلم ، وخروجه وندب الناس للخروج ثلاثة أقوال .
أحدها : ليرهب العدو باتباعهم .
والثاني : لموعد أبي سفيان .
والثالث : لأنه بلغه عن القوم أنهم قالوا : أصبتم شوكتهم ، ثم تركتموهم ، وقد سبق الكلام في القرح .
قوله تعالى : { للذين أحسنوا منهم } أي : أحسنوا بطاعة الرسول ، واتقوا مخالفته .

الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)

قوله تعالى : { الذين قال لهم الناس } في المراد بالناس ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم ركب لقيهم أبو سفيان ، فضمن لهم ضماناً لتخويف النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ، قاله ابن عباس ، وابن إسحاق .
والثاني : أنه نعيم بن مسعود الأشجعي ، قاله مجاهد ، وعكرمة ، ومقاتل في آخرين .
والثالث : أنهم المنافقون لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ، يتجهز ، نهوا المسلمين عن الخروج ، وقالوا : إن أتيتموهم في ديارهم ، لم يرجع منكم أحد ، هذا قول السدي .
قوله تعالى : { إن الناس قد جمعوا لكم } يعني أبا سفيان وأصحابه .
قوله تعالى : { فزادهم إِيماناً } قال الزجاج : زادهم ذلك التخويف ثبوتاً في دينهم ، وإِقامة على نصرة نبيهم ، وقالوا : { حسبنا الله } أي : هو الذي يكفينا أمرهم . فأما «الوكيل» ، فقال الفراء : الوكيل : الكافي ، واختاره ابن القاسم ، وقال ابن قتيبة ، هو الكفيل ، . قال : ووكيل الرجل في ماله : هو الذي كفله له ، وقام به . وقال الخطابي : الوكيل : الكفيل بأرزاق العباد ومصالحهم ، وحقيقته : أنه الذي يستقل بالأمر الموكول إليه ، وحكى ابن الأنباري : أن قوماً قالوا : الوكيل : الرب .

فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)

قوله تعالى : { فانقلبوا بنعْمة من الله } الانقلاب : الرجوع . وفي النعمة ، ثلاثة أقوال .
أحدها : أنها الأجر ، قاله مجاهد .
والثاني : العافية ، قاله السدي .
والثالث : الإيمان والنصر ، قاله الزجاج ، وفي الفضل ، ثلاثة أقوال .
أحدها : ربح التجارة ، قاله مجاهد ، والسدي ، وهذا قول من يرى أنهم خرجوا لموعد أبي سفيان . قال الزهري : لما استنفر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين لموعد أبي سفيان ببدر . خرجوا ببضائع لهم ، وقالوا : إن لقينا أبا سفيان ، فهو الذي خرجنا إليه ، وإن لم نلقه ابتعنا ببضائعنا ، وكانت بدر متجراً يوافى كل عام ، فانطلقوا فقضوا حوائجهم ، وأخلف أبو سفيان الموعد .
والثاني : أنهم أصابوا سرية بالصفراء ، فرزقوا منها ، قاله مقاتل .
والثالث : أنه الثواب ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { لم يمسسهم سوء } قال ابن عباس : لم يؤذهم أحد . { واتبعوا رضوان الله } في طلب القوم . { والله ذو فضل } أي : ذو منٍّ بدفع المشركين عن المؤمنين .

إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)

قوله تعالى : { إِنما ذلكم الشيطان } قال الزجاج : معناه : ذلك التخويف كان فعل الشيطان ، سوّله للمخوِّفين .
وفي قوله تعالى { يخوف أولياءه } قولان .
أحدهما : أن معناه : يخوّفكم بأوليائه ، قاله الفراء ، واستدل بقوله تعالى : { لينذر بأساً شديداً } [ الكهف : 4 ] أي ببأس ، وبقوله تعالى : { لينذر يوم التلاق } [ غافر : 15 ] أي : بيوم التلاق . وقال الزجاج : معناه : يخوفكم من أوليائه ، بدليل : قوله تعالى : { فلا تخافوهم وخافون }
وهذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وإبراهيم ، وابن قتيبة .
وأنشد ابن الأنباري في ذلك :
وأيقنتُ التفرُّقَ يوم قالوا ... تُقُسِّمَ مال أربد بالسهام
أراد : أيقنت بالتفرق . قال : فلما أسقط الباء أعمل الفعل فيما بعدها ونصبه . قال : والذي نختاره في الآية : أن المعنى : يخوفكم أولياءه . تقول العرب : قد أعطيت الأموال ، يريدون : أعطيت القوم الأموال ، فيحذفون القوم ، ويقتصرون على ذكر المفعول الثاني . فهذا أشبه من ادعاء «باء» ما عليها دليل ، ولا تدعوا إليها ضرورة .
والثاني : أن معناه : يخوف أولياءه المنافقين ، ليقعدوا عن قتال المشركين ، قاله الحسن والسدي ، وذكره الزجاج .
قوله تعالى { فلا تخافوهم } يعني : أولياء الشيطان { وخافون } في ترك أمري ، وفي «إنْ» قولان .
أحدهما : أنها بمعنى «إذ» قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : أنها للشرط ، وهو قول الزجاج في آخرين .

وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)

قوله تعالى : { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } قرأ نافع «يُحزنك» «ليُحزنني» «وليُحزن» بضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن ، إلا في ( الأنبياء ) { لا يحزنهم الفزع } [ الأنبياء : 103 ] ، فإنه فتح الياء ، وضم الزاي . وقرأ الباقون كل ما في القرآن بفتح الياء وضم الزاي . قال أبو علي : يشبه أن يكون نافع تبع في سورة { الأنبياء } أثراً ، أو أحب أن يأخذ بالوجهين . وفي الذين يسارعون في الكفر أربعة أقوال .
أحدها : أنهم المنافقون ، ورؤساء اليهود ، قاله ابن عباس .
والثاني : المنافقون ، قاله مجاهد .
والثالث : كفار قريش قاله الضحاك .
والرابع : قوم ارتدوا عن الإسلام ، ذكره الماوردي .
وقيل : معنى مسارعتهم في الكفر : مظاهرتهم للكفار ، ونصرهم إياهم . فإن قيل : كيف لا يحزنه المسارعة في الكفر؟ فالجواب لا يحزنك فعلهم ، فإنك منصور عليهم .
قوله تعالى : { إِنهم لن يضرّوا الله شيئاً } فيه قولان .
أحدهما : لن : ينقصوا الله شيئاً بكفرهم ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : لن يضروا أولياء الله شيئاً ، قاله عطاء . قال ابن عباس : والحظ : النصيب ، والآخرة : الجنة . { ولهم عذاب عظيم } في النار .

إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)

قوله تعالى : { إِن الذين اشتروا الكفر بالإيمان } قال مجاهد : المنافقون آمنوا ثم كفروا ، وقد سبق في ( البقرة ) معنى الاشتراء .

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)

قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم } اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال .
أحدها : في اليهود والنصارى والمنافقين ، قاله ابن عباس .
والثاني : في قريظة والنضير ، قاله عطاء .
والثالث : في مشركي مكة ، قاله مقاتل .
والرابع : في كل كافر ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمر ، ونافع { ولا يحسبن الذين كفروا } [ آل عمران : 178 ] { ولا يحسبن الذين يبخلون } [ آل عمران : 180 ] { ولا يحسبن الذين يفرحون } [ آل عمران : 188 ] بالياء وكسر السين ، ووافقهم ابن عامر غير أنه فتح السين ، وقرأهن حمزة بالتاء وقرأ عاصم والكسائي كل ما في هذه السورة بالتاء غير حرفين { ولا يحسبن الذين كفروا } { ولا يحسبن الذين يبخلون } فإنهما بالياء ، إلا أن عاصماً فتح السين ، وكسرها الكسائي ، ولم يختلفوا في { ولا تحسبن الذين قتلوا } أنها بالتاء . { ونملي لهم } أي : نطيل لهم في العمر ومثله { واهجرني ملياً } قال ابن الأنباري : واشتقاق «نملي لهم» من الملوة ، وهي المدة من الزمان ، يقال : مَلوة من الدهر ، ومِلوة ، ومُلوة ، ومَلاوة ، ومِلاوة ، ومُلاوة ، بمعنى واحد ، ومنه قولهم : البس جديداً وتملّ حبيباً ، أي : لتطل أيامك معه .
قال متمم بن نويرة :
بودِّيَ لو أني تملَّيت عُمرَه ... بماليَ من مالٍ طريفٍ وتالد

مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)

قوله تعالى : { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه } في سبب نزولها خمسة أقوال .
أحدها : أن قريشا قالت : تزعم يا محمد أن من اتبعك ، فهو في الجنة ، ومن خالفك فهو في النار؟! فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس .
والثاني : أن المؤمنين سألوا أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول أبي العالية .
والثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " عُرضتْ عليَّ أُمتي ، وأُعلمت من يؤمن بي ، ومن يكفر ، فبلغ ذلك المنافقين ، فاستهزؤوا ، وقالوا : فنحن معه ولا يعرفنا " فنزلت هذه الآية ، هذا قول السدي .
والرابع : أن اليهود ، قالت : يا محمد قد كنتم راضين بديننا ، فكيف بكم لو مات بعضكم قبل نزول كتابكم؟! فنزلت هذه الآية . هذا قول عمر مولى غفرة .
والخامس : أن قوماً من المنافقين ادَّعوْا أنهم في إيمانهم مثل المؤمنين ، فأظهر الله نفاقهم يوم أُحد ، وأنزل هذه الآية ، هذا قول أبي سليمان الدمشقي .
وفي المخاطب بهذه الآية قولان .
أحدهما : أنهم الكفار ، والمنافقون ، وهو قول ابن عباس ، والضحاك .
والثاني : أنهم المؤمنون ، فيكون المعنى : ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق . قال الثعلبي : وهذا قول أكثر أهل المعاني .
قوله تعالى : { حتى يميز الخبيث من الطيب } قرأ ابن كثير ، ونافع وأبو عمرو ، وابن عامر { حتى يميز } و { ليميز الله الخبيث } بفتح الياء والتخفيف . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، ويعقوب : «يميز» بالتشديد ، وكذلك في [ الأنفال : 37 ] { ليميّز الله الخبيث } قال أبو علي : مزت وميَّزت لغتان . قال ابن قتيبة : ومعنى : يميز : يخلص . فأما الطيب ، فهو المؤمن . وفي الخبيث قولان .
أحدهما : أنه المنافق ، قاله مجاهد ، وابن جريج .
والثاني : الكافر ، قاله قتادة ، والسدي . وفي الذي وقع به التمييز بينهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الهجرة والقتال ، قاله قتادة ، وهو قول من قال : الخبيث : الكافر .
والثاني : أنه الجهاد ، وهو قول من قال : هو المنافق . قال مجاهد : فميّز الله يوم أُحد بين المؤمنين والمنافقين ، حيث أظهروا النفاق وتخلّفوا .
والثالث : أنه جميع الفرائض والتكاليف ، فإن المؤمن مستور الحال بالإقرار ، فإذا جاءت التكاليف بانَ أمرُه ، هذا قول ابن كيسان .
وفي المخاطب بقوله : { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } قولان .
أحدهما : أنهم كفار قريش ، فمعناه : ما كان الله ليبين لكم المؤمن من الكافر ، لأنهم طلبوا ذلك ، فقالوا : أخبرنا بمن يؤمن ومن لا يؤمن ، هذا قول ابن عباس .
والثاني : أنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فمعناه : وما كان الله ليطلع محمداً على الغيب ، قاله السدي «ويجتبي» بمعنى يختار ، قاله الزجاج وغيره . فمعنى الكلام على القول الأول : أن الله لا يطلع على الغيب أحداً إلا الأنبياء الذين اجتباهم ، وعلى القول الثاني : أن الله لا يطلع على الغيب أحداً إلا أنه يجتبي من يشاء فيطلعه على ما يشاء .

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله } اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما : أنها نزلت في الذين يبخلون أن يؤدوا زكاة أموالهم ، وهو قول ابن مسعود وأبي هريرة ، وابن عباس في رواية أبي صالح ، والشعبي ، ومجاهد ، وفي رواية السدي في آخرين .
والثاني : أنها في الأحبار الذين كتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، ونبوته ، رواه عطية عن ابن عباس ، وابن جريج عن مجاهد ، واختاره الزجاج .
قال الفراء : ومعنى الكلام : لا يحسبن الباخلون البخل هو خيراً لهم ، فاكتفى بذكر «يبخلون» من البخل ، كما تقول : قدم فلان ، فسررت به ، أي : سررت بقدومه .
قال الشاعر :
إِذا نُهي السفيهُ جرى إِليه ... وخالف والسفيه إِلى خلاف
يريد : جرى إلى السفه . والذي آتاهم الله على قول من قال : البخل بالزكاة : هو المال ، وعلى قول من قال : البخل بذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم هو العلم .
قوله تعالى { هو } إشارة إلى البخل وليس مذكوراً ، ولكنه مدلول عليه ب «يبخلون» وفي معنى تطويقهم به أربعة أقوال .
أحدها : أنه يجعل كالحية يطوق بها الإنسان ، روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا مُثِّل له يوم القيامة شجاع أقرع يفر منه ، وهو يتبعه حتى يطوق في عنقه " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { سيطوَّقون ما بخلوا به يوم القيامة } . وهذا مذهب ابن مسعود ، ومقاتل .
والثاني : أنه يجعل طوقاً من نار ، رواه منصور عن مجاهد ، وإبراهيم .
والثالث : أن معنى تطويقهم به : تكليفهم أن يأتوا به ، رواه ابن أبي نجيح ، عن مجاهد .
والرابع : أن معناه : يلزم أعناقهم إثمه ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى { ولله ميراث السموات والأرض } قال ابن عباس : يموت أهل السموات وأهل الأرض ، ويبقى رب العالمين . قال الزجاج : خوطب القوم بما يعقلون ، لأنهم يجعلون ما رجع إلى الإنسان ميراثاً إذا كان ملكاً له ، وقال ابن الأنباري : معنى : الميراث : انفراد الرجل بما كان لا ينفرد به ، فلما مات الخلق ، وانفرد عزّ وجل ، صار ذلك له وراثة .
قوله تعالى : { والله بما تعملون خبير } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، «يعملون» بالياء إتباعاً لقوله تعالى : { سيطوَّقون } وقرأ الباقون بالتاء ، لأن قبله { وإن تؤمنوا وتتقوا } .

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)

قوله تعالى : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إِن الله فقير } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل بيت مدراس اليهود ، فوجدهم قد اجتمعوا على رجل منهم ، اسمه فنحاص ، فقال له أبو بكر : اتق الله وأسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله . فقال : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر ، وإنه إلينا لفقير ، ولو كان غنياً عنا ما استقرض منا . فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة ، وقال : والله لولا العهد الذي بيننا لضربت عنقك . فذهب فنحاص يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخبره أبو بكر بما قال ، فجحد فنحاص ، فنزلت هذه الآية ، ونزل فيما بلغ من أبي بكر من الغضب { ولتسمَعُنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً } [ آل عمران : 186 ] . هذا قول ابن عباس وإلى نحوه ذهب مجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، ومقاتل .
والثاني : أنه لما نزل قوله { مَن ذا الذي يقرض الله قرضاً } [ البقرة 245 ] قالت اليهود : إنما يستقرض الفقير من الغني ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول الحسن ، وقتادة .
وفي الذين قالوا : إن الله فقير ، أربعة أقوال .
أحدها : أنه فنحاص بن عازوراء اليهودي ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني : حيي بن أخطب ، قاله الحسن ، وقتادة .
والثالث : أن جماعة من اليهود قالوه . قال مجاهد : صكَّ أبو بكر رجلاً من الذين قالوا : { إِن الله فقير ونحن أغنياء } لم يستقرضنا وهو غني؟! .
والرابع : أنه النَّباش بن عمرو اليهودي ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { سنكتب ما قالوا } قرأ حمزة وحده : «سيُكتب» بياء مضمومة ، و «قتلُهم» بالرفع و «يقول» بالياء ، وقرأ الباقون : { سنكتب ما قالوا } بالنون ، و «قتلهم» بالنصب و «نقول» بالنون ، وقرأ ابن مسعود «ويقال» ، وقرأ الأعمش ، وطلحة : و «يقول» .
وفي معنى : { سنكتب ما قالوا } قولان .
أحدهما : سنحفظ عليهم ما قالوا ، قاله ابن عباس .
والثاني : سنأمر الحفظة بكتابته ، قاله مقاتل .
قوله تعالى : { وقتلَهم الأنبياء } أي : ونكتب ذلك . فإن قيل : هذا القائل لم يقتل نبياً قط ، فالجواب أنه رضي بفعل متقدميه لذلك ، كما بينا في قوله تعالى { ويقتلون النبيين بغير الحق } قال الزجاج : ومعنى { عذاب الحريق } عذاب محرق ، أي : عذاب بالنار ، لأن العذاب قد يكون بغير النار .

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)

قوله تعالى : { ذلك } إشارة إلى العذاب ، والذي قدمت أيديهم : الكفر والخطايا .

الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)

قوله تعالى : { الذين قالوا إِن الله عهد إلينا } قال ابن عباس : نزلت في كعب ابن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، وحيي بن أخطب ، وجماعة من اليهود ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إن الله عهد إلينا ، أي : أمرنا في التوراة : أن لا نؤمن لرسول ، أي : لا نصدق رسولاً يزعم أنه رسول ، حتى يأتينا بقربان تأكله النار . قال ابن قتيبة : والقربان : ما تُقرب به إلى الله تعالى من ذبح وغيره . وإنما طلبوا القربان ، لأنه كان من سنن الأنبياء المتقدمين ، وكان نزول النار علامة القبول . قال ابن عباس : كان الرجل يتصدق ، فإذا قبلت منه ، نزلت نار من السماء ، فأكلته ، وكانت ناراً لها دويُّ ، وحفيف . وقال عطاء : كان بنو إسرائيل يذبحون لله ، فيأخذون أطايب اللحم ، فيضعونها في وسط البيت تحت السماء ، فيقوم النبي في البيت ، ويناجي ربه ، فتنزل نار ، فتأخذ ذلك القربان ، فيخر النبي ساجداً ، فيوحي الله إليه ما يشاء . قال ابن عباس : قل يا محمد لليهود { قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات } أي : بالآيات ، { وبالذي } سألتم من القربان .

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)

قوله تعالى : { فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك } معناه : لست بأول رسول كذب . قال أبو علي : وقرأ ابن عامر وحده «بالبينات وبالزبر» بزيادة باءٍ ، وكذلك في مصاحف أهل الشام ، ووجهه أن إعادة الباء ضرب من التأكيد ، ووجه قراءة الجمهور أن الواو قد أغنت عن تكرير العامل ، تقول : مررت بزيد وعمرو ، فتستغني عن تكرير الباء . وقال الزجاج : والزُّبُر : جمع زبور ، والزبور : كل كتاب ذي حكمة .
قوله تعالى : { والكتاب المنير } قال أبو سليمان : يعني به الكتب النيرة بالبراهين والحجج .

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)

قوله تعالى : { كل نفسٍ ذائقة الموت } قال ابن عباس : لما نزل قوله { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكِّل بكم } [ السجدة : 11 ] . قالوا : يا رسول الله إنما نزل في بني آدم ، فأين ذكر الموت في الجن ، والطير ، والأنعام ، فنزلت هذه الآية . وفي ذكر الموت تهديد للمكذبين بالمصير ، وتزهيد في الدنيا ، وتنبيه على اغتنام الأجل .
وفي قوله تعالى : { إِنما توفون أُجوركم يوم القيامة } بشارة للمحسنين ، وتهديد للمسيئين .
قوله تعالى : { فمن زحزح } قال ابن قتيبة : نُجِّي وأُبعد . { فقد فاز } قال الزجاج : تأويل فاز : تباعد عن المكروه ، ولقي ما يحب ، يقال لمن نجا من هلكة ، ولمن لقي ما يغتبط به : قد فاز .
قوله تعالى : { وما الحياة الدنيا إِلا متاع الغرور } يريد أن العيش فيها يغر الإنسان بما يمنِّيه من طول البقاء ، وسينقطع عن قريب . قال سعيد بن جبير : هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة ، فأما من يشتغل بطلب الآخرة ، فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منها .

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)

قوله تعالى : { لتبلون في أموالكم وأنفسِكم } في سبب نزولها خمسة أقوال .
أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، مرَّ بمجلس فيه عبد الله بن أُبيّ ، وعبد الله بن رواحة ، فغشي المجلس عجاجة الدابة ، فخمر ابن أُبيّ أنفه بردائه ، وقال : لا تغبِّروا علينا ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم دعاهم إلى الله ، وقرأ عليهم القرآن ، فقال ابن أُبي : إنه لا أحْسَنَ مما تقول ، إن كان حقاً فلا تؤذنا في مجالسنا . وقال ابن رواحة : اغشنا به في مجالسنا يا رسول الله ، فإنَّا نحب ذلك ، فاستبَّ المسلمون ، والمشركون ، واليهود ، فنزلت هذه الآية ، رواه عروة عن أسامة بن زيد .
والثاني : أن المشركين واليهود كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد الأذى ، فنزلت هذه الآية ، قاله كعب ابن مالك الأنصاري .
والثالث : أنها نزلت فيما جرى بين أبي بكر الصديق ، وبين فنحاص اليهودي ، وقد سبق ذكره عن ابن عباس .
والرابع : أنها نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر الصديق ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . واختاره مقاتل ، وقال عكرمة : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر الصديق ، وفنحاص اليهودي .
والخامس : أنها نزلت في كعب بن الأشرف ، كان يحرِّض المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره ، وهذا مذهب الزهري .
قال الزجاج : ومعنى «لتبلون» : لتختبرُنَّ ، أي : توقع عليكم المحن ، فيعلم المؤمن حقاً من غيره . و «النون» دخلت مؤكدة مع لام القسم ، وضمت الواو لسكونها ، وسكون النون . وفي البلوى في الأموال قولان .
أحدهما : ذهابها ونقصانها . والثاني : ما فرض فيها من الحقوق .
وفي البلوى في الأنفس أربعة أقوال .
أحدها : المصائب ، والقتل . والثاني : ما فرض من العبادات .
والثالث : الأمراض . والرابع : المصيببة بالأقارب ، والعشائر .
وقال عطاء : هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم ، وباعوا رباعهم ، وعذبوهم .
قوله تعالى : { ولتسمعن من الذين أُوتوا الكتاب } قال ابن عباس : هم اليهود والنصارى ، والذين أشركوا : مشركو العرب { وإِن تصبروا } على الأذى { وتتقوا } الله بمجانبة معاصيه .
قوله تعالى : { فإن ذلك من عزم الأمور } أي : ما يعزم عليه ، لظهور رشده .
فصل
والجمهور على إحكام هذه الآية ، وقد ذهب قوم إلى أن الصبر المذكور منسوخ بآية السيف .

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)

قوله تعالى : { وإِذ أخذ الله ميثاق الذين أُوتوا الكتاب } فيهم ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم اليهود ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، والسدي ، ومقاتل ، فعلى هذا ، الكتاب : التوراة .
والثاني : أنهم اليهود ، والنصارى ، والكتاب : التوراة والإنجيل .
والثالث : أنهم جميع العلماء ، فيكون الكتاب اسم جنس .
قوله تعالى : { لتبينُنَّه للناس } .
قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر ، والمفضل عن عاصم ، وزيد عن يعقوب { ليبيننه للناس ولا يكتمونه } بالياء فيهما ، وقرأ الباقون ، وحفص عن عاصم بالتاء فيهما . وفي هاء الكناية في «لتبيننه» ، و «تكتمونه» قولان .
أحدهما : أنها ترجع إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول من قال : هم اليهود .
والثاني : أنها ترجع إلى الكتاب ، قاله الحسن ، وقتادة ، وهو أصح ، لأن الكتاب أقرب المذكورين ، ولأن من ضرورة تبيينهم ما فيه إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول من ذهب إلى أنه عام في كل كتاب . وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلِّموا .
قوله تعالى : { فنبذوه } قال الزجاج : أي : رمَوْا به ، يقال للذي يطرح الشيء ولا يعبأ به : قد جعلت هذا الأمر بظهر . قال الفرزدق :
تميم بن قيس لا تكوننَّ حاجتي ... بظهر ولا يعيا عليَّ جوابها
معناه : لا تكونن حاجتي مُهمَلة عندك ، مطرحة . وفي هاء «فنبذوه» قولان .
أحدهما : أنها تعود إلى الميثاق .
والثاني إلى الكتاب .
قوله تعالى : { واشتَروا به } يعني : استبدلوا بما أخذ الله عليهم القيام به ، ووعدهم عليه الجنة { ثمناً قليلاً } أي : عرضاً يسيراً من الدنيا .

لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)

قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا } وقرأ أهل الكوفة : لا تحسبنَّ بالتاء . وفي سبب نزولها ثمانية أقوال .
أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، سأل اليهود عن شيء ، فكتموه ، وأخبروه بغيره ، وأروه أنهم قد أخبروه به ، واستحمدوا بذلك إِليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ، فنزلت هذه الآية .
والثاني : أنها نزلت في قوم من اليهود ، فرحوا بما يصيبون من الدنيا ، وأحبّوا أن يقول الناس : إنهم علماء ، وهذا القول ، والذي قبله عن ابن عباس .
والثالث : أن اليهود قالوا : نحن على دين إبراهيم ، وكتموا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن جبير .
والرابع : أن يهود المدينة كتبت إلى يهود العراق واليمن ، ومن بلغهم كتابهم من اليهود في الأرض كلها : أن محمداً ليس بنبي ، فاثبتوا على دينكم ، فاجتمعت كلمتهم على الكفر به ، ففرحوا بذلك ، وقالوا : نحن أهل الصوم والصلاة ، وأولياء الله . فنزلت هذه الآية ، هذا قول الضحاك ، والسدي .
والخامس : أن يهود خيبر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقالوا : نحن على رأيكم ، ونحن لكم ردء ، وهم مستمسكون بضلالتهم ، فأرادوا أن يحمدهم نبي لله بما لم يفعلوا ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة .
والسادس : أن ناساً من اليهود جهزوا جيشاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، واتفقوا عليهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله إبراهيم النخعي .
والسابع : أن قوماً من أهل الكتاب دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم خرجوا من عنده فذكروا للمسلمين أنهم قد أخبروا بأشياء قد عرفوها ، فحمدوهم ، وأبطنوا خلاف ما أظهروا ، فنزلت هذه الآية ، ذكره الزجاج .
والثامن : أن رجالاً من المنافقين كانوا يتخلفون عن الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا قدم ، اعتذروا إليه ، وحلفوا ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا . فنزلت هذه الآية ، قاله أبو سعيد الخدري ، وهذا القول يدل على أنها نزلت في المنافقين ، وما قبله من الأقوال يدل على أنها في اليهود .
وفي الذي أتوا ثمانية أقوال .
أحدها : أنه كتمانهم ما عرفوا من الحق .
والثاني : تبديلهم التوراة .
والثالث : إيثارهم الفاني من الدنيا على الثواب .
والرابع : إضلالهم الناس .
والخامس : اجتماعهم على تكذيب النبي .
والسادس : نفاقهم بإظهار ما في قلوبهم ضده .
والسابع : اتفاقهم على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه أقوال من قال : هم اليهود .
والثامن : تخلُّفهم في الغزوات ، وهذا قول من قال : هم المنافقون .
وفي قوله تعالى : { ويحبُّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } ستة أقوال .
أحدها : أحبوا أن يُحمدوا على إجابة النبي صلى الله عليه وسلم ، عن شيء سألهم عنه وما أجابوه .
والثاني : أحبوا أن يقول الناس : هم علماء ، وليسوا كذلك .
والثالث : أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الصلاة ، والصيام ، وهذه الأقوال الثلاثة عن ابن عباس .

والرابع : أحبوا أن يحمدوا على قولهم : نحن على دين إبراهيم ، وليسوا عليه ، قاله سعيد بن جبير .
والخامس : أحبوا أن يحمدوا على قولهم : إنا راضون بما جاء به النبي ، وليسوا كذلك ، قاله قتادة . وهذه أقوال من قال : هم اليهود .
والسادس : أنهم كانوا يحلفون للمسلمين ، إذا نصروا : إنا قد سررنا بنصركم ، وليسوا كذلك ، قاله أبو سعيد الخدري ، وهو قول من قال : هم المنافقون .
قوله تعالى : { فلا يحسبُنهم } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، فلا يحسبُنهم ، بالياء وضم الباء . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، بالتاء ، وفتح الباء . قال الزجاج : إنما كررت «تحسبنهم» لطول القصة ، والعرب تعيد إذا طالت القصة «حسبت» ، وما أشبهها ، إعلاماً أن الذي يجرى متصل بالأول ، وتوكيداً له ، فتقول : لا تظننَّ زيداً إذا جاء وكلمك بكذا وكذا ، فلا تظننَّه صادقاً .
قوله تعالى : { بمفازة } قال ابن زيد ، وابن قتيبة ، بمنجاة .

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)

قوله تعالى : { ولله ملك السموات والأرض } فيه تكذيب القائلين : بأنه فقير .
وفي قوله تعالى : { والله على كل شيء قدير } تهديد لهم ، أي : لو شئت لعجلت عذابهم .

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)

قوله تعالى : { إن في خلق السموات والأرض } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أن قريشاً قالوا لليهود : ما الذي جاءكم به موسى؟ قالوا : عصاه ويده البيضاء . وقالوا للنصارى : ما الذي جاءكم به عيسى؟ قالوا : كان يبرىء الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى . فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : ادع ربك يجعل لنا الصفا ذهباً ، فنزلت هذه الآية ، رواه ابن جبير عن ابن عباس .
والثاني : أن أهل مكة سألوه أن يأتيهم بآية ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث : أنه لما نزل قوله تعالى : { وإِلهكم إِله واحد } [ البقرة : 163 ] . قالت قريش : قد سوى بين آلهتنا ، إئتنا بآية ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو الضحى ، واسمه : مُسلم بن صُبيح . فأما تفسير الآية فقد سبق .

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)

قوله تعالى : { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً } في هذا الذكر ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الذكر في الصلاة ، يصلي قائماً ، فإن لم يستطع ، فقاعداً ، فإن لم يستطع ، فعلى جنب ، هذا قول علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة .
والثاني : أنه الذكر في الصلاة وغيرها ، وهو قول طائفة من المفسرين .
والثالث : أنه الخوف ، فالمعنى : يخافون الله قياماً في تصرفهم ، وقعوداً في دعتهم ، وعلى جنوبهم في منامهم .
قوله تعالى : { ويتفكرون في خلق السموات والأرض } قال ابن فارس : التفكر : تردد القلب في الشيء . قال ابن عباس : ركعتان مقتصدتان في تفكرٍ ، خيرٌ من قيام ليلة ، والقلب ساه .
قوله تعالى : { ربَّنا } قال الزجاج : معناه : يقولون : ربنا { ما خلقت هذا باطلاً } ، أي : خلقته دليلاً عليك ، وعلى صدق ما أتت به أنبياؤك . ومعنى { سبحانك } : براءةً لك من السوء ، وتنزيهاً لك أن تكون خلقتهما باطلاً { فقنا عذاب النار } فقد : صدَّقْنا أنَّ لك جنَّة وناراً .

رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)

قوله تعالى : { ربنا إِنك من تدخلِ النار فقد أخزيته } قال الزجاج : المخزى في اللغة : المذَّل المحقور بأمرٍ قد لزمه ، وبحجة . يقال : أخزيته ، أي : ألزمته حجةً أذللته معها . وفيمن يتعلق به هذا الخزي قولان :
أحدهما : أنه يتعلق بمن يدخلها مخلَّداً ، قاله أنس بن مالك ، وسعيد بن المسيب ، وابن جبير ، وقتادة ، وابن جريج ، ومقاتل .
والثاني : أنه يتعلق بكل داخل إليها ، وهذا المعنى مروي عن جابر بن عبد الله ، واختاره ابن جرير الطبري ، وأبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى : { وما للظالمين من أنصار } قال ابن عباس : وما للمشركين من مانع يمنعهم عذاب الله تعالى .

رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)

قوله تعالى : { ربنا إِننا سمعنا منادياً } في المنادي قولان .
أحدهما : أنه النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس ، وابن جريج ، وابن زيد ، ومقاتل .
والثاني : أنه القرآن ، قاله محمد بن كعب القرظي ، واختاره ابن جرير الطبري .
قوله تعالى : { ينادي للإيمان } فيه قولان .
أحدها : أن معناه : ينادي إلى الإيمان ، ومثله { الذي هدانا لهذا } [ الأعراف : 43 ] . { بأن ربك أوحى لها } [ الزلزلة : 5 ] . [ يريد : هدانا إلى هذا ، وأوحى إليها ] قاله الفراء .
والثاني : بأنه مقدم ومؤخر ، والمعنى : سمعنا منادياً للإيمان ينادي ، قاله أبو عبيدة .
قوله تعالى : { وكفِّرْ عنا سيئاتنا } قال مقاتل : امح عنا خطايانا . وقال غيره غطها عنا ، وقيل : إنما جمع بين غفران الذنوب ، وتكفير السيئات ، لأن الغفران بمجرد الفضل ، والتكفير بفعل الخير { وتوفنا مع الأبرار } قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، «الأبرار» ، و «الأشرار» و «ذات قرار» وما كان مثله بين الفتح والكسر ، وقرأ ابن كثير ، وعاصم بالفتح : ومعنى : «مع الأبرار» فيهم ، قال ابن عباس : وهم الأنبياء والصالحون .

رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)

قوله تعالى : { ربنا وآتنا ما وعدتنا } قال ابن عباس : يعنون : الجنة { على رسلك } أي : على ألسنتهم . فإن قيل : ما وجه هذه المسألة والله لا يخلف الميعاد؟ فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها : أنه خرج مخرج المسألة ، ومعناه : الخبر ، تقديره : فآمنا ، فاغفر لنا لتؤتينا ما وعدتنا .
والثاني : أنه سؤال له ، أن يجعلهم ممن آتاه ما وعده ، لا أنهم استحقوا ذلك ، إذ لو كانوا قد قطعوا أنهم من الأبرار ، لكانت تزكية لأنفسهم .
والثالث : أنه سؤال لتعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء ، لأنه وعدهم نصراً غير مؤقت ، فرغبوا في تعجيله ، ذكر هذه الأجوبة ابن جرير ، وقال : أولى الأقوال بالصواب ، أن هذه صفة المهاجرين ، رغبوا في تعجيل النصر على أعدائهم . فكأنهم قالوا : لا صبر لنا على حلمك عن الأعداء ، فعجل خزيهم ، وظفرنا بهم .

فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)

قوله تعالى : { فاستجاب لهم ربهم } روي عن أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله ، لا أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فنزلت هذه الآية ، واستجاب : بمعنى أجاب . والمعنى : أجابهم بأن قال لهم : إني لا أُضيع عمل عامل منكم ، ذكراً كان أو أُنثى .
وفي معنى قوله تعالى : { بعضكم من بعض } ثلاثة أقوال .
أحدها : بعضكم من بعض في الدين ، والنُصرة والموالاة .
والثاني : حكم جميعكم في الثواب واحد ، لأن الذكور من الإناث ، والإناث من الذكور .
والثالث : كلكم من آدم وحواء .
قوله تعالى : { فالذين هاجروا } أي : تركوا الأوطان والأهل والعشائر { وأخرجوا من ديارهم } يعني : المؤمنين الذين أخرجوا من مكة بأذى المشركين ، فهاجروا ، { وقاتلوا } المشركين { وقتلوا } . قرأ ابن كثير ، وابن عامر : «وقاتلوا وقتّلوا» مشددة التاء . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم : «وقاتلوا وقتلوا» خفيفة . وقرأ حمزة ، والكسائي : و«قتلوا وقاتلوا» . قال أبو علي : تقديم «قتلوا» جائز ، لأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولاً في المعنى ، مؤخراً في اللفظ .
قوله تعالى : { ثواباً من عند الله } قال الزجاج : هو مصدرٌ مؤكد لما قبله ، لأن معنى { لأدخلنّهم جنَّات } لأثيبنَّهم .

لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)

قوله تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما : أنها نزلت في اليهود ، ثم في ذلك قولان .
أحدهما : أن اليهود كانوا يضربون في الأرض ، فيصيبون الأموال ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس .
والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أراد أن يستسلف من بعضهم شعيراً ، فأبى إلا على رهن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو أعطاني لأوفيته ، إني لأمينٌ في السماء أمينٌ في الأرض " فنزلت ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .
والقول الثاني : أنها نزلت في مشركي العرب كانوا في رخاءٍ ، فقال بعض المؤمنين : قد أهلكنا الجهد ، وأعداء الله فيما ترون ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول مقاتل . قال قتادة : والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد غيره . وقال غيره : إنما خاطبه تأديباً ، وتحذيراً ، وإن كان لا يغتر . وفي معنى «تقلبهم» ثلاثة أقوال .
أحدها : تصرُّفهم في التجارات ، قاله ابن عباس ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج .
والثاني : تقلُّب ليلهم ونهارهم ، وما يجري عليهم من النعم ، قاله عكرمة ، ومقاتل .
والثالث : تقلُّبهم غير مأخوذين بذنوبهم ، ذكره بعض المفسرين ، قال الزجاج : ذلك الكسب والربح متاع قليل وقال ابن عباس : منفعة يسيرة في الدنيا ، والمهاد : الفراش .

لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)

قوله تعالى : { لكن الذين اتقوا ربهم } قرأ أبو جعفر : «لكنَّ» بالتشديد هاهنا ، وفي ( الزُمر ) قال مقاتل : وحدوا . قال ابن عباس : «النزل» الثواب . قال ابن فارس : النُّزُل : ما يهيأ للنزيل ، والنزيل : الضيف .

وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)

قوله تعالى : { وإِن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله } اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال .
أحدها أنها نزلت في النجاشي ، لأنه لما مات صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال قائل : يصلي على هذا العلج النصراني ، وهو في أرضه؟! فنزلت هذه الآية ، هذا قول جابر ابن عبد الله ، وابن عباس ، وأنس . وقال الحسن . وقتادة : فيه وفي أصحابه .
والثاني : أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد .
والثالث : في عبد الله بن سلام ، وأصحابه ، قاله ابن جريج ، وابن زيد ، ومقاتل .
والرابع : في أربعين من أهل نجران ، وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى ، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، قاله عطاء .
قوله تعالى : { وما أُنزل إِليكم } يعني : القرآن ، { وما أُنزل إِليهم } يعني : كتابهم . والخاشع : الذليل . { لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً } أي : عرضاً من الدنيا كما فعل رؤساء اليهود ، وقد سلف بيان سرعة الحساب .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا } قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : نزلت في انتظار الصلاة بعد الصلاة ، وليس يؤمئذ غزوٌ يرابَط . وفي الذي أمروا بالصبر عليه خمسة أقوال .
أحدها : البلاء والجهاد ، قاله ابن عباس .
الثاني : الدين ، قاله الحسن ، والقرظي ، والزجاج .
والثالث : المصائب ، روي عن الحسن أيضاً .
والرابع : الفرائض ، قاله سعيد بن جبير .
والخامس : طاعة الله ، قاله قتادة . وفي الذي أمروا بمصابرته قولان .
أحدهما : العدو ، قاله ابن عباس ، والجمهور .
والثاني : الوعد الذي وعدهم الله : قاله عطاء ، والقرظي . وفيما أمروا بالمرابطة عليه قولان .
أحدهما : الجهاد للأعداء ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة في آخرين . قال ابن قتيبة : وأصل المرابطة والرباط : أن يربط هؤلاء خيولهم ، وهؤلاء خيولهم في الثغر ، كلٌ يُعدُّ لصاحبه .
والثاني : أنه الصلاة ، أُمروا بالمرابطة عليها ، قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وقد ذكرنا في ( البقرة ) معنى «لعل» ، ومعنى «الفلاح» .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)

اختلفوا في نزولها على قولين .
أحدهما : أنها مكيَّة ، رواه عطيّة عن ابن عباس ، وهو قول الحسن ، ومجاهد ، وجابر بن زيد ، وقتادة .
والثاني : أنها مدنية ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وهو قول مقاتل . وقيل : إنها مدنية ، إِلا آية نزلت بمكة في عثمان بن طلحة حين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منه مفاتيح الكعبة ، فيسلِّمها إلى العباس ، وهي قوله : { إِن اللهَ يأمُرُكُمْ أنْ تُؤدُّوا الأمَانَاتِ إلى أهْلِهَا } ذكره الماوردي .
قوله تعالى : { اتقوا ربكم } . فيه قولان .
أحدهما : أنه بمعنى الطاعة ، قاله ابن عباس . والثاني : بمعنى الخشية . قاله مقاتل .
والنفس الواحدة : آدم ، وزوجها حواء و«مِن» في قوله : { وخلق منها } للتبعيض في قول الجمهور . وقال ابن بحر : منها ، أي : من جنسها .
واختلفوا أي وقت خلقت له ، على قولين :
أحدهما : أنها خلقت بعد دخوله الجنة ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس .
والثاني : قبل دخوله الجنة ، قاله كعب الأحبار ، ووهب ، وابن إسحاق .
قال ابن عباس : لما خلق الله آدم ، ألقى عليه النوم ، فخلق حواء من ضِلَع من أضلاعه اليُسرى ، فلم تؤذه بشيء ولو وجد الأذى ما عطف عليها أبداً ، فلما استيقظ؛ قيل : يا آدم ما هذه؟ قال : حواء .
قوله تعالى : { وبثَّ منهما } قال الفراء : بثَّ : نشر ، ومن العرب من يقول : أبث الله الخلق ، ويقولون : بثثتك ما في نفسي ، وأبثثتك .
قوله تعالى : { الذي تساءلون به } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، والبرجمي ، عن أبي بكر ، عن عاصم . واليزيدي ، وشجاع ، والجعفي ، وعبد الوارث . عن أبي عمرو : «تسّاءلون» بالتشديد . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وكثير من أصحاب أبي عمرو عنه بالتخفيف .
قال الزجاج : الأصل : تتساءلون ، فمن قرأ بالتشديد . أدغم التاء في السين ، لقرب مكان هذه من هذه ، و من قرأ بالتخفيف ، حذف التاء الثانية لاجتماع التاءين .
وفي معنى «تساءلون به» ثلاثة أقوال .
أحدها : تتعاطفون به ، قاله ابن عباس . والثاني : تتعاقدون ، وتتعاهدون به . قاله الضحاك ، والربيع .
والثالث : تطلبون حقوقكم به ، قاله الزجاج .
فأما قوله «والأرحام» فالجمهور على نصب الميم على معنى : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وفسّرها على هذا ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسُّدّي ، وابن زيد . وقرأ الحسن ، وقتادة ، والأعمش ، وحمزة بخفض الميم على معنى : تساءلون به وبالأرحام ، وفسرها على هذا الحسن ، وعطاء ، والنخعي .
وقال الزجاج : الخفض في «الأرحام» خطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار الشعر ، وخطأ في الدين ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحلفوا بآبائِكم " وذهب إلى نحو هذا الفرّاء ، وقال ابن الأنباري : إِنما أراد ، حمزة الخبر عن الأمر القديم الذي جرت عادتهم به ، فالمعنى : الذي كنتم تساءلون به وبالأرحام في الجاهلية . قال أبو علي : من جر ، عطف على الضمير المجرور بالباء ، وهو ضعيف في القياس ، قليل في الاستعمال ، فترك الأخذ به أحسن .
فأما الرقيب ، فقال ابن عباس ، ومجاهد : الرقيب : الحافظ . وقال الخطابي : هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء ، وهو في نعوت الآدميين الموكل بحفظ الشيء ، المترصد له ، المتحرز عن الغفلة فيه ، يقال منه : رَقَبْتُ الشيء أرْقُبُه رِقْبَةً .

وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)

قوله تعالى : { وآتوا اليتامى أموالهم } سبب نزولها : أن رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ ، طلب ماله فمنعه ، فخاصمه إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ، قاله سعيد بن جبير . والخطاب بقوله : «وآتوا» للأولياء والأوصياء . قال الزجاج : وإِنما سموا يتامى بعد البلوغ ، بالاسم الذي كان لهم ، و قد كان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : يتيم أبي طالب .
قوله : { ولا تتبدّلوا الخبيث بالطيب } قرأ ابن محيصن : «تبدلوا» بتاء واحدة . ثم في معنى الكلام قولان .
أحدهما : أنه إِبدال حقيقة ، ثم فيه قولان .
أحدهما : أنه أخذ الجيّد ، وإعطاء الرديء مكانه ، قاله سعيد بن المسيب ، والضحاك ، والنخعي ، والزهري ، والسُّدّي . قال السدي : كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ، ويجعل مكانها المهزولة ، ويأخذ الدراهم الجياد ، ويطرح مكانها الزيوف .
والثاني : أنه الربح على اليتيم ، واليتيم غرّ لا عِلْمَ له ، قاله عطاء .
والقول الثاني : أنه ليس بإبدال حقيقة ، وإنما هو أخْذه مستهلكاً ، ثم فيه قولان .
أحدهما : أنهم كانوا لا يورثون النساء والصغار ، وإنما يأخذ الميراث الأكابر من الرجال ، فنصيب الرجل من الميراث طيب ، وما أخذه من حق اليتيم خبيث ، هذا قول ابن زيد .
والثاني : أنه أكل مال اليتيم بدلاً من أكل أموالهم ، قاله الزجاج .
و«إلى» بمعنى «مع» والحوب : الإِثم . وقرأ الحسن ، وقتادة ، والنخعي بفتح الحَاء .
قال الفرّاء : أهل الحجاز يقولون : حُوب بالضم ، وتميم يقولونه بالفتح . قال ابن الأنباري : وقال الفراء : المضموم الاسم ، والمفتوح المصدر . قال ابن قتيبة : وفيه ثلاث لغات : حُوب ، وحَوب ، وحاب .

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)

قوله تعالى : { وإِن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى } اختلفوا في تنزيلها ، وتأويلها على ستة أقوال .
أحدها : أن القوم كانوا يتزوجون عدداً كثيراً من النساء في الجاهلية ، ولا يتحرّجون من ترك العدل بينهن ، وكانوا يتحرّجون في شأن اليتامى ، فقيل لهم بهذه الآية : احذروا من ترك العدل بين النساء ، كما تحذرون من تركه في اليتامى ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل .
والثاني : أن أولياء اليتامى كانوا يتزوجون النساء بأموال اليتامى ، فلما كثر النساء ، مالوا على أموال اليتامى ، فَقُصِروا على الأربع حفظاً لأموال اليتامى . وهذا المعنى مروي عن ابن عباس أيضاً ، وعكرمة .
والثالث : أن معناها : وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في صدقات اليتامى إذا نكحتموهن ، فانكحوا سواهن من الغرائب اللواتي أحلَّ الله لكم ، وهذا المعنى مروي عن عائشة .
والرابع : أن معناها : وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في نكاحهن ، وحذرتم سوء الصحبة لهن ، وقلة الرغبة فيهن ، فانكحوا غيرهن ، وهذا المعنى مروي عن عائشة أيضا ، والحسن .
والخامس : أنهم كانوا يتحرّجون من ولاية اليتامى ، فأمِروا بالتحرّج من الزنى أيضا ، ونُدبوا إلى النكاح الحلال ، وهذا المعنى مروي عن مجاهد .
والسادس : أنهم تحرجوا من نكاح اليتامى ، كما تحرجوا من أموالهم ، فرخّص الله لهم بهذه الآية ، وقصرهم على عدد يمكن العدل فيه ، فكأنه قال : وإِن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن ، فانكحوهن ، ولا تزيدوا على أربع لتعدلوا ، فإن خفتم أن لا تعدلوا فيهن ، فواحدة ، وهذا المعنى مروي عن الحسن .
قال ابن قتيبة : ومعنى قوله : وإن خفتم ، أي [ فإن ] علمتم أنكم لا تعدلون ، [ بين اليتامى ] يقال : أقسط الرجل : إذا عدل [ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم " المقسطون في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة ] " و [ يقال : ] قسط الرجل : إذا جار [ ومنه قول الله : { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } ] وفي معنى العدل في اليتامى قولان .
أحدهما : في نكاح اليتامى ، والثاني : في أموالهم .
قوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم } أي : ما حل لكم .
قال ابن جرير : وأراد بقوله : ما طاب لكم ، الفعل دون أعيان النساء ، ولذلك قال : «ما» ولم يقل : «من» واختلفوا : هل النكاح من اليتامى ، أو من غيرهن؟ على قولين قد سبقا .
قوله تعالى : { مثنى وثلاث ورباع } .
قال الزجاج : هو بدل من «ما طاب لكم» ومعناه : اثنتين اثنتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وأربعاً أربعاً ، وإِنما خاطب الله العرب بأفصح اللغات ، وليس من شأن البليغ أن يعبّر في العدد عن التسعة باثنتين ، وثلاث ، وأربع ، لأن التسعة قد وضعت لهذا العدد ، فيكون عِيَّاً في الكلام .

وقال ابن الأنباري : هذه الواو معناها التفرّق ، وليست جامعة ، فالمعنى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى ، وانكحوا ثُلاث في غير الحال الأولى ، وانكحوا رُباع في غير الحالين .
وقال القاضي أبو يعلى : الواو هاهنا لإِباحة أيِّ الأعداد شاء ، لا للجمع ، وهذا العدد إنما هو للأحرار ، لا للعبيد ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي .
وقال مالك : هم كالأحرار . ويدل على قولنا : أنه قال : فانكحوا ، فهذا منصرف إلى مَن يملك النكاح ، والعبد لا يملك ذلك بنفسه ، وقال في سياقها { فواحدةً أو ما ملكت أيمانكم } ، والعبد لا ملك له ، فلا يباح له الجمع إِلا بين اثنتين .
قوله تعالى : { فإن خفتم } فيه قولان . أحدهما : علمتم ، والثاني : خشيتم .
قوله تعالى : { أن لا تعدلوا } قال القاضي أبو يعلى : أراد العدل في القسم بينهن .
قوله تعالى : { فواحدةً } أي : فانكحوا واحدة ، وقرأ الحسن ، والأعمش ، وحميد : فواحدةٌ بالرفع ، المعنى فواحدة تقنع .
قوله تعالى : { أو ما ملكت أيمانكم } يعني : السراري . قال ابن قتيبة : معنى الآية : فكما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى إذا كفلتموهم ، فخافوا [ أيضا ] أن لا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهن ، فَقَصَرَهم على أربع ، ليقدروا على العدل ، ثم قال : فإن خفتم أن لا تعدلوا بين هؤلاء الأربع ، فانكحوا واحدةا واقتصروا على ملك اليمين .
قوله تعالى : { ذلك أدنى } أي : أقرب . وفي معنى «تعولوا» ثلاثة أقوال .
أحدهما : تميلوا ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، وإبراهيم ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل ، والفراء . وقال أبو مالك ، وأبو عبيد : تجوروا .
قال ابن قتيبة ، والزجاج : تجوروا وتميلوا بمعنى واحد . واحتكم رجلان من العرب إلى رجل ، فحكم لأحدهما ، فقال المحكوم عليه : إنك والله تعول علي ، أي : تميل وتجور .
والثاني : تضلوا ، قاله مجاهد ، والثالث : تكثر عيالكم ، قال ابن زيد ، ورواه أبو سليمان الدمشقي في «تفسيره» عن الشافعي ، وردّه الزجاج ، فقال : جميع أهل اللغة يقولون : هذا القول خطأ ، لأن الواحدة يعولها ، وإِباحة ملك اليمين أزيد في العيال من أربع .

وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)

قوله تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين .
أحدهما : أنهم الأزواج ، وهو قول الجمهور ، واحتجوا بأن الخطاب للناكحين قد تقدم ، وهذا معطوف عليه ، وقال مقاتل : كان الرجل يتزوج بلا مهر ، فيقول : أرثكِ وترثيني ، فتقول المرأة : نعم ، فنزلت هذه الآية . والثاني : أنه متوجّه إلى الأولياء ثم فيه قولان .
أحدهما : أن الرجل كان إِذا زوّج أيِّمة جاز صداقها دونها ، فنهوا بهذه الآية ، هذا قول أبي صالح ، واختاره الفراء ، وابن قتيبة .
والثاني : أن الرجل كان يعطي الرجل أخته ويأخذ أخته مكانها من غير مهر ، فنهوا عن هذا بهذه الآية ، رواه أبو سليمان التيمي عن بعض أشياخه .
قال ابن قتيبة : والصدقات : المهور ، واحدها : صدقة . وفي قوله «نحلة» أربعة أقوال .
أحدها أنها بمعنى الفريضة ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن جريج ، وابن زيد ، ومقاتل . والثاني : أنها الهبة والعطية ، قاله الفراء .
قال ابن الأنباري : كانت العرب في الجاهلية لا تعطي النساء شيئا من مهورهن ، فلما فرض الله لهن المهر ، كان نحلة من الله ، أي : هبة للنساء ، فرضا على الرجال .
وقال الزجاج : هو هبة من الله للنساء . قال القاضي أبو يعلى : وقيل : إِنما سمي المهر : نحلة ، لأن الزّوج لا يملك بدله شيئاً ، لأن البضع بعد النكاح في ملك المرأة ، ألا ترى أنها لو وُطئت بشبهة ، كان المهر لها دون الزوج ، وإِنما الذي يستحقه الزوج الاستباحة ، لا الملك .
والثالث : أنها العطية بطيب نفس ، فكأنه قال : لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون ، قاله أبو عبيدة .
والرابع : أن معنى «النحلة» : الديانة ، فتقديره : وآتوهن صدقاتهن ديانة ، يقال : فلان ينتحل كذا ، أي : يدين به ، ذكره الزجاج عن بعض العلماء .
قوله تعالى : { فان طبن لكم } يعني : النساء المنكوحات . وفي «لكم» قولان .
أحدهما : أنه يعني الأزواج .
والثاني : الأولياء . و «الهاء» في «منه» كناية عن الصداق ، قال الزجاج : و «منه» هاهنا للجنس ، كقوله { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } معناه : فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن ، فكأنه قال : كلوا الشيء الذي هو مهر ، فيجوز أن يسأل الرجل المهر كله . و«نفساً» : منصوب على التمييز .
فالمعنى : فان طابت أنفسهن لكم بذلك ، فكلوه هنيئا مريئا . وفي الهنيء ثلاثة أَقوال .
أحدها : أنه ما تؤمن عاقبته .
والثاني : ما أعقب نفعا وشفاءً .
والثالث : أنه الذي لا ينغِّصُه شيء . وأما «المريء» فيقال : مرى الطعام : إذا انهضم ، وحمدت عاقبته .

وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)

قوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } المراد بالسفهاء خمسة أقوال .
أحدها : أنهم النساء ، قاله ابن عمر .
والثاني : النساء والصبيان ، قاله سعيد بن جبير ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل ، والفراء ، وابن قتيبة ، وعن الحسن ومجاهد كالقولين .
والثالث : الأولاد ، قاله أبو مالك . وهذه الأقوال الثلاثة مروية عن ابن عباس ، وروي عن الحسن ، قال : هم الأولاد الصغار .
والرابع : اليتامى ، قاله عكرمة ، وسعيد بن جبير في رواية .
قال الزجاج : ومعنى الآية : ولا تؤتوا السفهاء أموالهم ، بدليل قوله { وارزقوهم فيها } . وإنما قال : «أموالكم» ذكراً للجنس الذي جعله الله أموالاً للناس . وقال غيره : أضافها إِلى الولاة ، لأنهم قوّامها .
والخامس : أن القول على إِطلاقه ، والمراد به كل سفيه يستحق الحجر عليه ، ذكره ابن جرير ، وأبو سليمان الدمشقي ، وغيرهما ، وهو ظاهر الآية .
وفي قوله : { أموالكم } قولان . أحدهما : أنه أموال اليتامى . والثاني : أموال السفهاء .
قوله تعالى : { التي جعل الله لكم قياما } قرأ الحسن : «اللاتي جعل الله لكم قِواماً» . وقرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو عمرو : «قياماً» بالياء مع الألف هاهنا ، وقرأ نافع ، وابن عامر : «قَيِّماً» بغير ألف .
قال ابن قتيبة : قياماً وقواماً بمنزلة واحدة ، تقول : هذا قوام أمرك وقيامه ، أي : ما يقوم به [ أمرك ] . وذكر أبو علي الفارسي أن «قواماً» و«قياماً» و«قيماً» ، بمعنى القوام الذي يقيم الشأن ، قال : وليس قول من قال : «القيم» هاهنا : جمع : «قيمة» بشيء .
قوله تعالى : { وارزقوهم فيها } أي : منها . وفي «القول المعروف» ثلاثة أقوال .
أحدها : العدة الحسنة ، قال ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، ومقاتل .
والثاني : الردّ الجميل ، قاله الضحاك . والثالث : الدعاء ، كقولك : عافاك الله ، قاله ابن زيد .

وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)

قوله تعالى : { وابتلوا اليتامى } سبب نزولها أن رجلاً ، يقال له : رفاعة ، مات وترك ولداً صغيراً ، يقال له : ثابت ، فوليه عمّه ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحل لي من ماله؟ ومتى أدفع إِليه ماله؟ فنزلت هذه الآية ، ذكر نحوه مقاتل . والابتلاء : الاختبار . وبماذا يختبرون؟ فيه ثلاثة أقوال .
أحدها : أنهم يختبرون في عقولهم ، قاله ابن عباس ، والسدي ، وسفيان ، ومقاتل . والثاني : يختبرون في عقولهم ودينهم ، قاله الحسن ، وقتادة . وعن مجاهد كالقولين .
والثالث : في عقولهم ودينهم ، وحفظهم أموالهم ، ذكره الثعلبي . قال القاضي أبو يعلى : وهذا الابتلاء قبل البلوغ .
قوله تعالى : { حتى إذا بلغوا النكاح } قال ابن قتيبة : أي : بلغوا أن ينكحوا النساء { فان آنستم } أي : علمتم ، وتبيّنتم . وأصل : أنست : أبصرت . وفي الرشد أربعة أقوال .
أحدها : الصلاح في الدين ، وحفظ المال ، قاله ابن عباس ، والحسن .
والثاني : الصلاح في العقل ، وحفظ المال ، روي عن ابن عباس والسدي .
والثالث : أنه العقل ، قاله مجاهد ، والنخعي .
والرابع : العقل ، والصلاح في الدين ، روي عن السدي .
فصل
واعلم أن الله تعالى علَّق رفع الحجر عن اليتامى بأمرين؛ بالبلوغ والرشد ، وأمر الأولياء باختبارهم ، فإذا استبانوا رشدهم ، وجب عليهم تسليم أموالهم إليهم .
والبلوغ يكون بأحد خمسة أشياء ، ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء؛ الاحتلام ، واستكمال خمس عشرة سنة ، والإِنبات ، وشيئان يختصان بالنساء : الحيض والحمل .
قوله تعالى : { ولا تأكلوها إِسرافاً } خطاب للأولياء ، قال ابن عباس : لا تأكلوها بغير حق . و«بداراً» : تُبادِرون أكل المال قبل بلوغ الصبِيّ { ومن كان غنياً فليستعفف } بماله عن مال اليتيم . وفي الأكل بالمعروف أربعة أقوال .
أحدها : أنه الأخذ على وجه القرض ، وهذا مروي عن عمر ، وابن عباس ، وابن جبير ، وأبي العالية ، وعبيدة ، وأبي وائل ، ومجاهد ، ومقاتل .
والثاني : الأكل بمقدار الحاجة من غير إِسراف ، وهذا مروي عن ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، والنخعي ، وقتادة ، والسدي .
والثالث : أنه الأخذ بقدر الأجرة إِذا عمل لليتيم عملاً ، روي عن ابن عباس ، وعائشة ، وهي رواية أبي طالب ، وابن منصور ، عن أحمد رضي الله عنه .
والرابع : أنه الأخذ عند الضرورة ، فان أيسر قضاه ، وإن لم يوسر ، فهو في حل ، وهذا قول الشعبي .
فصل
واختلف العلماء هل هذه الآية محكمة أو منسوخة؟ على قولين .
أحدهما : محكمة ، وهو قول عمر ، وابن عباس ، والحسن ، والشعبي ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وابن جبير ، والنخعي ، وقتادة في آخرين . وحكمها عندهم أن الغني ليس له أن يأكل من مال اليتيم شيئاً ، فأما الفقير الذي لا يجد ما يكفيه ، وتشغله رعاية مال اليتيم عن تحصيل الكفاية ، فله أن يأخذ قدر كفايته بالمعروف من غير إِسراف . وهل عليه الضمان إذا أيسر؟ فيه قولان لهم .

أحدهما : أنه لا ضمان عليه ، بل يكون كالأجرة له على عمله ، وهو قول الحسن ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، وأحمد بن حنبل .
والثاني : إذا أيسر وجب عليه القضاء ، روي عن عمر وغيره ، وعن ابن عباس أيضا كالقولين .
والقول الثاني : أنها منسوخة بقوله { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ النساء : 29 ] وهذا مروي عن ابن عباس ، ولا يصح .
قوله تعالى : { فأشهدوا عليهم } قال القاضي أبو يعلى : هذا على طريق الاحتياط لليتيم ، والولي ، وليس بواجب ، فأما اليتيم ، فإنه إذا كانت عليه بيِّنة ، كان أبعد من أن يدّعي عدم القبض ، وأما الولي ، فإن تظهر أمانته ، ويسقط عنه اليمين عند إِنكار اليتيم للدَّفع . وفي «الحسيب» ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الشهيد ، قاله ابن عباس ، والسدّي ، ومقاتل .
والثاني : أنه الكافي ، من قولك : أحسبَني هذا الشيءُ [ أي : كفاني ، والله حسيبي وحسيبك ، أي : كافينا ، أي : يكون حكماً بيننا كافيا .
قال الشاعر :
ونُقْفي وليد الحي إن كان جائعاً ... ونُحسِبُه إن كان ليس بجائع
أي : نعطيه ما يكفيه حتى يقول : حسبي ] قاله ابن قتيبة والخطابي .
والثالث : أنه المحاسب ، فيكون في مذهب جليس ، وأكيل ، وشريب ، حكاه ابن قتيبة والخطابي .

لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)

قوله تعالى : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } سبب نزولها أن أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك ثلاث بنات وامرأة ، فقام رجلان من بني عمّه ، يقال لهما : قتادة ، وعرفطة فأخذا ماله ، ولم يعطيا امرأته ، ولا بناته شيئاً ، فجاءت امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرت له ذلك ، وشكت الفقر ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . وقال قتادة : كانوا لا يورِّثون النساء ، فنزلت هذه الآية .
والمراد بالرجال : الذكور ، وبالنساء : الإِناث ، صغاراً كانوا أو كبارا . «والنصيب» : الحظ من الشيء ، وهو مجمل في هذه الآية ، ومقداره معلوم من موضع آخر ، وذلك مثل قوله : { وآتوا حقّه يوم حصاده } [ الأنعام : 141 ] وقوله : { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة 103 ] والمفروض : الذي فرضه الله ، وهو آكدُ من الواجب .

وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)

قوله تعالى : { وإِذا حضر القسمة أولوا القربى } . في هذه القسمة قولان .
أحدهما : قسمة الميراث بعد موت الموروث ، فعلى هذا يكون الخطاب للوارثين ، وبهذا قال الأكثرون ، منهم ابن عباس ، والحسن ، والزهري .
والثاني : أنها وصيّة الميّت قبل موته ، فيكون مأموراً بأن يعيّن لمن لا يرثه شيئاً ، روي عن ابن عباس ، وابن زيد . قال المفسّرون : والمراد بأولي القربى : الذين لا يرثون ، «فارزقوهم منه» أي : أعطوهم منه ، وقيل : أطعموهم ، وهذا على الاستحباب عند الأكثرين ، وذهب قوم إِلى أنه واجب في المال ، فان كان الورثة كباراً ، تولوا إِعطاءهم ، وإِن كانوا صغاراً ، تولّى ذلك عنهم وليّ مالهم ، فروي عن عبيدة أنه قسم مال أيتام ، فأمر بشاة ، فاشتريت من مالهم ، وبطعام فصنع ، وقال : لولا هذه الآية لأحببت أن يكون من مالي وكذلك فعل محمد ابن سيرين في أيتامِ ولِيَهم ، وكذلك روي عن مجاهد : أن ما تضمّنتْه هذه الآية واجب .
وفي «القول المعروف» أربعة أقوال .
أحدها : أن يقول لهم الولي حين يعطيهم : خذ بارك الله فيك ، رواه سالم الأفطس ، عن ابن جبير .
والثاني : أن يقول الولي : إِنه مال يتامى ، ومالي فيه شيء ، رواه أبو بشر عن ابن جبير . وفي رواية أخرى عن ابن جبير ، قال : إِن كان الميت أوصى لهم بشيء أُنفذت لهم وصيَّتهم ، وإِن كان الورثة كباراً رضخوا لهم ، وإن كانوا صغاراً ، قال وليُّهم : إِني لست أملك هذا المال ، إِنما هو للصغار ، فذلك القول المعروف .
والثالث : أنه العِدَة الحسنة ، وهو أن يقول لهم أولياء الورثة : إِن هؤلاء الورثة صغار ، فاذا بلغوا ، أمرناهم أن يعرفوا حقكم . رواه عطاء بن دينار ، عن ابن جبير .
والرابع : أنهم يُعْطَوْنَ من المال ، ويقال لهم عند قسمة الأرضين والرقيق : بورك فيكم ، وهذا القول المعروف . قال الحسن والنخعي : أدركنا الناس يفعلون هذا .
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين .
أحدهما : أنها محكمة ، وهو قول أبي موسى الأشعري ، وابن عباس ، والحسن ، وأبي العالية ، والشعبي ، وعطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والنخعي ، والزهري ، وقد ذكرنا أن ما تضمنته من الأمر مستحب عند الأكثرين ، وواجب عند بعضهم .
والقول الثاني : أنها منسوخة نسخها قوله : { يوصيكم الله في أولادكم } رواه مجاهد عن ابن عباس ، وهو قول سعيد بن المسيّب وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة في آخرين .

وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)

قوله تعالى : { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذريّة ضعافا } اختلفوا في المخاطب بهذه الآية على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه خطاب للحاضرين عند الموصي . وفي معنى الآية على هذا القول قولان . أحدهما : وليخش الذين يحضرون موصياً في ماله أن يأمروه بتفريقه فيمن لا يرثه ، فيفرِّقه ، ويترك ورثته ، كما لو كانوا هم الموصين ، لسَرَّهم أن يحثَّهم من حضرهم على حفظ الأموال للأولاد ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل .
والثاني : على الضدّ من هذا القول ، وهو أنه نهي لحاضري الموصي أي يمنعوه من الوصية لأقاربه ، وأن يأمروه بالاقتصار على ولده ، وهذا قول مقسم ، وسليمان التيمي في آخرين .
والقول الثاني : أنه خطاب لأولياء اليتامى متعلق بقوله { ولا تأكلوها إِسرافاً وبداراً } فمعنى الكلام : أحسنوا فيمن وليتم من اليتامى ، كما تحبّون أن يحسن ولاة أولادكم بعدكم ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، وابن السائب .
والثالث : أنه خطاب للأوصياء أمروا بأداء الوصيّة على ما رسم الموصي ، وأن تكون الوجوه التي عينها مرعيّة بالمحافظة كرعي الذرّية الضعاف من غير تبديل ، ثم نسخ ذلك بقوله { فمن خاف من موص جنفاً أو إِثما فأصلح بينهم فلا إِثم عليه } [ البقرة : 182 ] . فأمر الوصي بهذه الآية إِذا وجد ميلاً عن الحق أن يستعمل قضيّة الشرع ، ويصلح بين الورثة ، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله ، وغيره ، في «الناسخ والمنسوخ» فعلى هذا تكون الآية منسوخة وعلى ما قبله تكون محكمة .
و«الضعاف» : جمع ضعيف ، وهم الأولاد الصغار . وقرأ حمزة : ضعافاً بإمالة العين .
قال أبو علي : ووجهها : أن ما كان على «فعال» وكان أوله حرفاً مستعلياً مكسوراً ، نحو ضعاف ، وقفاف ، وخفاف؛ حسنت فيه الإِمالة ، لأنه قد يُصَعَّدُ بالحرف المستعلي ، ثم يُحْدرُ بالكسر ، فيستحب أن لا يُصَعَّد بالتفخيم بعد التصوُّب بالكسر ، فيجعل الصوت على طريقة واحدة ، وكذلك قرأ حمزة : { خافوا عليهم } بامالة الخاء ، والإِمالة هاهنا حسنة ، وإِن كانت «الخاء» حرفاً مستعلياً ، لأنه يطلب الكسرة التي في «خِفت» فينحو نحوها بالإِمالة . والقول السَّديد : الصواب .

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)

قوله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } في سبب نزولها قولان .
أحدهما : أن رجلاً من غطفان ، يقال له : مرثد بن زيد ، ولي مال ابن أخيه ، فأكله ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل بن حيان .
والثاني : أن حنظلة بن الشمردل ولي يتيما ، فأكل ماله ، فنزلت هذه الآية ، ذكره بعض المفسرين . وإنما خصّ الأكل بالذكْر ، لأنه معظم المقصود ، وقيل : عبّر به عن الأخذ .
قال سعيد بن جبير : ومعنى الظلم : أن يأخذه بغير حق . وأما ذكر «البطون» فللتوكيد ، كما تقول : نظرت بعيني ، وسمعت بأذني ، وفي المراد بأكلهم النار قولان .
أحدهما : أنهم سيأكلون يوم القيامة ناراً ، فسمي الأكل بما يؤول إليه أمرهم ، كقوله : { أعصِرُ خمراً } [ يوسف 36 ] قال السدي : يبعث آكل مال اليتيم ظلماً ، ولهب النار يخرج مِن فيه ، ومن مسامعه ، وأذنيه ، وأنفه ، وعينيه ، يعرفه مَن رآه يأكل مال اليتيم .
والثاني : أنه مَثَل . معناه : يأكلون ما يصيرون به إلى النار ، كقوله : { ولقد كنتم تمنَّون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه } [ آل عمران 143 ] أي : رأيتم أسبابه .
قوله تعالى : { وسيصلون سعيراً } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، «وسيصلون» بفتح الياء ، وقرأ الحسن ، وابن عامر ، بضم الياء ، ووافقهما ابن مقسم ، إِلاَّ أنه شدّد . والمعنى : سيُحرَّقون بالنار ، ويُشْوَوْن . والسعير : النار المستعرة ، واستِعار النارِ : توقُّدها .
فصل
وقد توهم قومٌ لا علم لهم بالتفسير وفقهه ، أن هذه الآية منسوخة ، لأنهم سمعوا أنها لما نزلت ، تحرج القوم عن مخالطة اليتامى ، فنزل قوله : { وإِن تخالطوهم فإخوانكم } [ البقرة 220 ] وهذا غلط ، وإِنما ارتفع عنهم الحرج بشرط قصد الإِصلاح ، لا على إِباحة الظلم .

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)

قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها : أن جابر بن عبد الله مرض ، فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : كيف أصنع في مالي يا رسول الله ، فنزلت هذه الآية ، رواه البخاري ومسلم .
والثاني : أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بابنتين لها ، فقالت : يا رسول قُتِل أبو هاتين معك يوم أحد ، وقد استفاء عمهما مالهما ، فنزلت ، روي عن جابر بن عبد الله أيضاً .
والثالث : أن عبد الرحمن أخا حسان بن ثابت مات ، وترك امرأة ، وخمس بنات ، فأخذ ورثته ماله ، ولم يعطوا امرأته ، ولا بناته شيئاً ، فجاءت امرأته تشكو إِلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول السدي .
قال الزجاج : ومعنى يوصيكم : يفرض عليكم ، لأن الوصيّة منه فرض ، وقال غيره : إنما ذكره بلفظ الوصية لأمرين .
أحدهما : أن الوصية تزيد على الأمر ، فكانت آكد .
والثاني : أن في الوصية حقاً للموصي ، فدل على تأكيد الحال بإضافته إلى حقه . وقرأ الحسن ، وابن أبي عبلة : «يوصِّيكم» بالتشديد .
قوله تعالى : { للذكر مثل حظ الأنثيين } يعني ، للابن من الميراث مثل حظ الأنثيين ، ثم ذكر نصيب الإِناث من الأول فقال ، { فإن كن } يعني : البنات { نساءً فوق اثنتين } وفي قوله : «فوق» قولان .
أحدهما : أنها زائدة ، كقوله { فاضربوا فوق الأعناق } [ الأنفال : 13 ] . والثاني : أنها بمعنى الزيادة . قال القاضي أبو يعلى : إنما نص على ما فوق الاثنتين ، والواحدة ، ولم ينص على الاثنتين ، لأنه لما جعل لكل واحدة مع الذكر الثلث ، كان لها مع الأنثى الثلث أولى .
قوله تعالى : { وإِن كانت واحدة } قرأ الجمهور بالنصب ، وقرأ نافع بالرفع ، على معنى : وإِن وقعت ، أو وجدت واحدة .
قوله تعالى : { ولأبويه } قال الزجاج : أبواه تثنية أَبٍ وأبة ، والأصل في الأم أن يقال لها : أبة ، ولكن استغنى عنها بأم ، والكناية في قوله «لأبويه» عن الميت وإن لم يجرِ له ذكر .
وقوله تعالى : { فلأمه الثلث } أي : إِذا لم يخلف غير أبوين ، فثلث ماله لأمه ، والباقي للأب ، وإِنما خص الأم بالذكر ، لأنه لو اقتصر على قوله : { وورثه أبواه } ظنّ الظان أن المال يكون بينهما نصفين ، فلما خصّها بالثلث ، دل على التفضيل .
وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر «فلأُمه» و { في بطون أمهاتكم } [ الزمر : 6 ] و { في أمها } [ القصص : 59 ] و { في أم الكتاب } [ الزخرف : 4 ] بالرفع . وقرأ حمزة والكسائي كل ذلك بالكسر إذا وصلا ، وحجتهما : أنهما أتبعا الهمزة ما قبلها ، من ياء أو كسرة .
قوله تعالى : { فان كان له إِخوة } أي : مع الأبوين ، فإنهم يحجبون الأم عن الثلث ، فيردونها إلى السدس ، واتفقوا على أنهم إذا كانوا ثلاثة إخوة ، حجبوا ، فإن كانا أخوين ، فهل يحجبانها؟ فيه قولان .

أحدهما : يحجبانها عن الثلث ، قاله عمر ، وعثمان ، وعلي ، وزيد ، والجمهور .
والثاني : لا يحجبها إِلا ثلاثة ، قاله ابن عباس ، واحتج بقوله : إِخوة . والأخوة : اسم جمع ، واختلفوا في أقل الجمع ، فقال الجمهور : أقله ثلاثة ، وقال قوم : اثنان ، والأول : أصح . وإِنما حجب العلماء الأم بأخوين لدليل اتفقوا عليه ، وقد يُسمّى الاثنان بالجمع ، قال الزجاج : جميع أهل اللغة يقولون : إن الأخوين جماعة ، وحكى سيبويه أن العرب تقول : وضعا رحالهما ، يريدون : رَحْلَي راحلتيهما .
قوله تعالى : { من بعد وصية } أي : هذه السهام إِنما تقسم بعد الوصيّة والدّين . وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو بكر ، عن عاصم «يوصَى بها» بفتح الصاد في الحرفين . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : «يوصي» فيهما بالكسر ، وقرأ حفص ، عن عاصم الأولى بالكسر ، والثانية بالفتح .
واعلم أن الدَّين مؤخّر في اللفظ ، مقدم في المعنى ، لأن الدين حق عليه ، والوصيّة حق له ، وهما جميعا مقدمان على حق الورثة إِذا كانت الوصيّة في ثلث المال ، و «أو» لا توجب الترتيب ، إِنما تدل على أن أحدهما إِن كان ، فالميراث بعده ، وكذلك إن كانا .
قوله تعالى : { آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً } فيه قولان . أحدهما : أنه النفع في الآخرة ، ثم فيه قولان . أحدهما : أن الوالد إذا كان أرفع درجة من ولده ، رفع إليه ولده ، وكذلك الولد ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس .
والثاني : أنه شفاعة بعضهم في بعض ، رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس .
والقول الثاني : أنه النفع في الدنيا ، قاله مجاهد . ثم في معناه قولان .
أحدهما : أن المعنى : لا تدرون هل موت الآباء أقرب ، فينتفع الأبناء بأموالهم ، أو موت الأبناء ، فينتفع الآباء بأموالهم؟ قاله ابن بحر .
والثاني : أن المعنى : أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النفع ، حتى لا يدري أيهم أقرب نفعاً ، لأن الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء ، والآباء ينتفعون في كبرهم بالأبناء ، ذكره القاضي أبو يعلى .
وقال الزجاج : معنى الكلام : أن الله قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة . ولو وكل ذلك إِليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم ، فتضعون الأموال على غير حكمة . إن الله كان عليماً بما يصلح خلقه ، حكيماً فيما فرض .
وفي معنى «كان» ثلاثة أقوال .
أحدها : أن معناها : كان عليماً بالأشياء قبل خلقها ، حكيماً فيما يقدِّر تدبيره منها ، قاله الحسن .
والثاني : أن معناها : لم يزل . قال سيبوبه : كأن القوم شاهدوا علماً وحكمة فقيل لهم : إن الله كان كذلك ، أي : لم يزل على ما شاهدتم ، ليس ذلك بحادث .
والثالث : أن لفظة «كان» في الخبر عن الله عز وجل يتساوى ماضيها ومستقبلها ، لأن الأشياء عنده على حال واحدة ، ذكر هذه الأقوال الزجاج .

وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

قوله تعالى : { وإِن كان رجل يورث كلالة } قرأ الحسن : «يُوَرِّثُ» بفتح الواو ، وكسر الراء مع التشديد . وفي الكلالة أربعة أقوال .
أحدها : أنها ما دون الوالد والولد ، قاله أبو بكر الصديق . وقال عمر ابن الخطاب : أتى عليّ حين وأنا لا أعرف ما الكلالة ، فإذا هو : من لم يكن له والد ولا ولد ، وهذا قول علي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والزهري ، وقتادة ، والفراء ، وذكر الزجاج عن أهل اللغة ، أن «الكلالة» : من قولهم : تكلله النسب ، أي : لم يكن الذي يرثه ابنه ، ولا أباه . قال : والكلالة سوى الوالد والولد ، وإنما هو كالاكليل على الرأس . وذكر ابن قتيبة عن أبي عبيدة أنه مصدر تكلله النسب : إذا أحاط به . والابن والأب : طرفان للرجل ، فاذا مات ، ولم يخلفهما ، فقد مات عن ذهاب طرفيه ، فسُمي ذهاب الطرفين : كلالة [ وكأنها اسم للمصيبة في تكلل النسب مأخوذ منه؛ نحو هذا قولهم : وجهت الشيء : أخذت وجهه ، وثغَّرت الرجل : كسرت ثغره ] .
والثاني : أن الكلالة : من لا ولد له ، رواه ابن عباس ، عن عمر بن الخطاب ، وهو قول طاووس .
والثالث : أن الكلالة : ما عدا الوالد ، قاله الحكم .
والرابع : أن الكلالة : بنو العم الأباعد ، ذكره ابن فارس ، عن ابن الأعرابي .
واختلفوا على ما يقع اسم الكلالة على ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه اسم للحي الوارث ، وهذا مذهب أبي بكر الصديق ، وعامة العلماء الذين قالوا : إن الكلالة مِن دون الوالد والولد ، فانهم قالوا : الكلالة : اسم للورثة إِذا لم يكن فيهم ولد ولا والد ، قال بعض الأعراب : مالي كثير ، ويرثني كلالة متراخ نسبهم .
والثاني : أنه اسم للميت ، قاله ابن عباس ، والسدي ، وأبو عبيدة في جماعة . قال القاضي أبو يعلى : الكلالة : اسم للميت ، ولحاله ، وصفته ، ولذلك انتصب .
والثالث : أنه اسم للميت والحي ، قاله ابن زيد .
وفيما أخذت منه الكلالة قولان .
أحدهما : أنه اسم مأخوذ من الإِحاطة ، ومنه الاكليل ، لإحاطته بالرأس .
والثاني : أنه مأخوذ من الكلال ، وهو التعب ، كأنه يصل إلى الميراث من بُعد وإِعياء . قال الأعشى :
فآليتُ لا أرثي لها من كلالةٍ ... ولا من حفىَ حتَّى تزورَ محمداً
قوله : { وله أخ أو أخت } يعني : من الأم بإجماعهم .
قوله تعالى : { فهم شركاءُ في الثلث } قال قتادة : ذكرهم وأنثاهم فيه سواء .
قوله تعالى : { غير مضارٍ } قال الزجاج : «غير» منصوب على الحال ، والمعنى : يوصي بها غير مضار ، يعني : للورثة .

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)

قوله تعالى : { تلك حدود الله } قال ابن عباس : يريد ما حدَّ الله من فرائضه في الميراث { ومن يطع الله ورسوله } في شأن المواريث { يدخله جنات } قرأ ابن عامر ، ونافع : «ندخله» بالنون في الحرفين جميعاً ، والباقون بالياء فيهما .

وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)

قوله تعالى : { ومَن يعص الله } فلم يرض بقسمه { يدخله ناراً } فان قيل : كيف قطع للعاصي بالخلود؟ فالجواب : أنه إِذا ردَّ حكم الله ، وكفر به ، كان كافرا مخلدا في النار .

وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)

قوله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة } قال الزجاج : «التي» تجمع اللاتي واللواتي . قال الشاعر :
من اللواتي والتي واللاتي ... زعمن أني كَبِرتْ لِدَاتي
وتجمع اللاتي بإثبات التاء وحذفها . قال الشاعر :
من اللاتي لم يحججن يبغين حِسبة ... ولكن لِيَقْتُلْنَ البريء المغفَّلا
والفاحشة : الزنى في قول الجماعة . وفي قوله : { فاستشهدوا عليهن } قولان .
أحدهما : أنه خطاب للأزواج .
والثاني : خطاب للحكام ، فالمعنى : اسمعوا شهادة أربعة منكم ، ذكرهما الماوردي . قال عمر بن الخطاب : إِنما جعل الله عز وجل الشهور أربعة ستراً ستركم به دون فواحشكم . ومعنى : «منكم» من المسلمين .
قوله تعالى : { فأمسكوهن في البيوت } قال ابن عباس : كانت المرأة إِذا زنت ، حبست في البيت حتى تموت ، فجعل الله لهن سبيلا ، وهو الجلد ، أو الرجم .

وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)

قوله تعالى : { واللذان } قرأ ابن كثير : «واللذانِّ» بتشديد النون ، «وهذانِّ» في { طه } و { الحج } «وهاتينِّ» في { القصص } : «إِحدى ابنتيَّ هاتينِّ» «وفذانِّك» كله بتشديد النون . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، بتخفيف ذلك كله ، وشدد أبو عمرو «فذانِّك» وحدها .
وقوله : واللذان : يعني الزانيين . وهل هو عام ، أم لا؟ فيه قولان .
أحدهما : أنه عام في الأبكار والثُّيَّب من الرجال والنساء ، قاله الحسن ، وعطاء .
والثاني : أنه خاص في البكرين إِذا زنيا ، قاله أبو صالح ، والسدّي ، وابن زيد ، وسفيان . قال القاضي أبو يعلى : والأول أصح ، لأن هذا تخصيص بغير دلالة .
قوله تعالى : { يأتيانها } يعني الفاحشة . قوله : { فآذوهما } فيه قولان .
أحدهما : أنه الأذى بالكلام ، والتعيير ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والسدي ، والضحاك ، ومقاتل .
والثاني : أنه التعيير ، والضرب بالنعال ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس . { فان تابا } من الفاحشة { وأصلحا } العمل { فأعرضوا } عن أذاهما . وهذا كله كان قبل الحد .
فصل
كان حد الزانيين ، فيما تقدم ، الأذى لهما ، والحبس للمرأة خاصة ، فنسخ الحكمان جميعا ، واختلفوا بماذا وقع نسخهما ، فقال قوم : بحديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خذوا عني خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا ، الثَّيِّب بالثَّيب جلد مائة ، ورجم بالحجارة ، والبكر بالبكر جلد مائة ، ونفي سنة " وهذا على قول من يرى نسخ القرآن بالسنة .
وقال قوم : نسخ بقوله : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } [ النور : 2 ] قالوا : وكان قوله : { واللذان يأتيانها } للبكرين ، فنسخ حكمهما بالجلد ، ونسخ حكم الثيّب من النساء بالرجم .
وقال قوم : يحتمل أن يكون النسخ وقع بقرآن ، ثم رفع رسمه ، وبقي حكمه ، لأن في حديث عبادة " قد جعل الله لهن سبيلا " والظاهر : أنه جعل بوحي لم تستقر تلاوته . قال القاضي أبو يعلى : وهذا وجه صحيح ، يخرج على قول من لم ينسخ القرآن بالسنة . قال : ويمتنع أن يقع النسخ بحديث عبادة ، لأنه من أخبار الآحاد ، والنسخ لا يجوز بذلك .

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)

قوله تعالى : { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة } قال الحسن : إِنما التوبة التي يقبلها الله . فأما «السوء» فهو المعاصي ، سمي سوءاً لسوء عاقبته .
قوله تعالى : { بجهالة } قال مجاهد : كل عاصٍ فهو جاهل حين معصيته . وقال الحسن ، وعطاء ، وقتادة ، والسدي في آخرين . إنما سُمّوا جهالاً لمعاصيهم لا أنهم غير مُميّزين .
وقال الزجاج : ليس معنى الآية أنهم يجهلون أنه سوء ، لأن المسلم لو أتى ما يجهله ، كان كمن لم يوقع سوءاً ، وإنما يحتمل أمرين .
أحدهما : أنهم عملوه ، وهم يجهلون المكروه فيه .
والثاني : أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة ، وآثروا العاجل على الآجل ، فسموا جُهَّالاً ، لإِيثارهم القليل على الراحة الكثيرة ، والعاقبة الدائمة .
وفي «القريب» ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه التوبة في الصحة ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، وبه قال السدي ، وابن السائب .
والثاني : أنه التوبة قبل معاينة ملك الموت . رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال أبو مجلز .
والثالث : أنه التوبة قبل الموت ، وبه قال ابن زيد في آخرين .

وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)

قوله تعالى : { وليست التوبة للذين يعملون السيئات } في السيئات ثلاثة أقوال .
أحدها : الشرك ، قاله ابن عباس ، وعكرمة . والثاني : أنها النفاق ، قاله أبو العالية ، وسعيد بن جبير . والثالث : أنها سيئات المسلمين ، قاله سفيان الثوري ، واحتجّ بقوله { ولا الذين يموتون وهم كفار } .
قوله تعالى : { حتى إِذا حضر أحدَهم الموتُ } في الحضور قولان .
أحدهما : أنه السَّوْق ، قاله ابن عمر .
والثاني : أنه معاينة الملائكة لقبض الروح ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقد روى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنه قال : أنزل الله تعالى بعد هذه الآية { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية [ النساء : 116 ] . فحرّم المغفرة على مَن مات مشركاً ، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته [ فلم يؤيسهم من المغفرة ] . فعلى هذا تكون منسوخة في حق المؤمنين .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } سبب نزولها : أن الرجل كان إِذا مات ، كان أولياؤه أحق بامرأته ، إِن شاؤوا زوجوها ، وإِن شاؤوا لم يزوّجوها ، فنزلت هذه الآية . قاله ابن عباس . وقال في رواية أخرى : كانوا في أول الإِسلام إِذا مات الرجل ، قام أقرب الناس منه ، فيُلقي على امرأته ثوباً ، فيرث نكاحها . وقال مجاهد : كان إِذا توفي الرجل ، فابنه الأكبر أحق بامرأته ، فينكحها إِن شاء ، أو يُنكحها من شاء . وقال أبو أمامة بن سهل ابن حنيف : لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته من بعده ، وكان ذلك لهم في الجاهلية ، فنزلت هذه الآية . قال عكرمة : واسم هذه المرأة : كبيشة بنت معن بن عاصم ، وكان هذا في العرب . وقال أبو مجلز : كانت الأنصار تفعله . وقال ابن زيد : كان هذا في أهل المدينة . وقال السّدي : إنما كان ذلك للأولياء ما لم تسبق المرأة ، فتذهب إِلى أهلها ، فإن ذهبت ، فهي أحق بنفسها . وفي معنى قوله : { أن ترثوا النساء كرهاً } . قولان .
أحدهما : أن ترثوا نكاح النساء ، وهذا قول الجمهور .
والثاني : أَن ترثوا أموالهن كرهاً . روى ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : كان يُلقي حميم الميت على الجارية ثوباً ، فان كانت جميلة تزوجها ، وإِن كانت دَميمة حبسها حتى تموت ، فيرثها .
واختلف القراء في فتح كاف «الكره» وضمّها في أربعة مواضع : هاهنا ، وفي { التوبة } وفي { الأحقاف } في موضعين ، فقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو بفتح الكاف فيهن ، وضمهن حمزة . وقرأ عاصم ، وابن عامر بالفتح في { النساء } و { التوبة } وبالضم في { الأحقاف } . وهما لغتان ، قد ذكرناهما في { البقرة } .
وفيمن خوطب بقوله { ولا تعضلوهن } ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه خطاب للأزواج ، ثم في العضل الذي نهى عنه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن الرجل كان يكره صحبة امرأته ، ولها عليه مهر ، فيحبسها ، ويضربها لتفتدي ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي .
والثاني : أن الرجل كان ينكح المرأة الشريفة ، فلعلها لا توافقه ، فيفارقها على أن لا تتزّوج إِلاّ بإذنه ، ويشهد على ذلك ، فاذا خطبت ، فأرضته ، أذن لها ، وإِلا عضلها ، قاله ابن زيد .
والثالث : أنهم كانوا بعد الطلاق يعضلون ، كما كانت الجاهلية تفعل ، فنهوا عن ذلك ، روي عن ابن زيد أيضا . وقد ذكرنا في { البقرة } أن الرجل كان يطلق المرأة ، ثم يراجعها ، ثم يطلقها كذلك أبداً إِلى غير غاية يقصد إِضرارها ، حتى نزلت { الطلاق مرتان } [ البقرة : 229 ] .
والقول الثاني : أنه خطاب للأولياء ، ثم في ما نهوا عنه ثلاثة أقوال .
أحدها : أن الرجل كان في الجاهلية إذا كانت له قرابة قريبة ، ألقى عليها ثوبه ، فلم تتزّوج أبداً غيره إِلا بإذنه ، قاله ابن عباس .

والثاني : أن اليتيمة كانت تكون عند الرجل ، فيحبسها حتى تموت ، أو تتزوّج بابنه ، قاله مجاهد .
والثالث : أن الأولياء كانوا يمنعون النساء من التزويج ، ليرثوهن ، روي عن مجاهد أيضا .
والقول الثالث : انه خطاب لورثة أزواج النساء الذين قيل لهم : لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً . كان الرجل يرث امرأة قريبة ، فيعضلها حتى تموت ، أو تردّ عليه صداقها . هذا قول ابن عباس في آخرين . وعلى هذا يكون الكلام متّصلاً بالأول ، وعلى الأقوال التي قبله يكون ذكر العضل منفصلاً عن قوله : { أن ترثوا النساء } .
وفي الفاحشة قولان . أحدهما : أنها النشوز على الزوج ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة في جماعة .
والثاني : الزنى ، قاله الحسن ، وعطاء ، وعكرمة في جماعة . وقد روى معمر ، عن عطاء الخراساني ، قال : كانت المرأة إِذا أصابت فاحِشة ، أخذ زوجها ماساق إليها ، وأخرجها ، فنسخ ذلك بالحد . قال ابن جرير : وهذا القول ليس بصحيح ، لأن الحد حق الله ، والافتداء حق للزوج ، وليس أحدهما مبطلاً للآخر ، والصحيح أنها إِذا أتت بأي فاحشةٍ كانت ، من زنى الفرج ، أو بذاءة اللسان ، جاز له أن يعضلها ، ويُضيِّق عليها حتى تفتدي . فأما قوله : { مبيّنة } فقرأ ابن كثير ، وأبو بكر ، عن عاصم : «مُبيَّنة» ، و { آيات مبيَّنات } بفتح الياء فيهما جميعاً . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، عن عاصم : بكسر الياء فيهما ، وقرأ نافع ، أبو عمرو «مبينة» كسراً و «آيات مبينات» فتحا . وقد سبق ذكر «العِشرة» .
قوله تعالى : { فعسى أن تكرهوا شيئاً } قال ابن عباس : ربما رزق الله منهما ولداً ، فجعل الله في ولدها خيراً كثيراً . وقد نَدَبت الآية إِلى إِمساكِ المرأة مع الكراهة لها ، ونبَّهت على معنيين . أحدهما : أن الإِنسان لا يعلم وُجوهَ الصلاح ، فرب مكروهٍ عاد محموداً ، ومحمودٍ عاد مذموماً .
والثاني : أن الإِنسان لا يكاد يجد محبوباً ليس فيه ما يكره ، فليصبِر على ما يكره لما يُحِبُ . وأنشدوا في هذا المعنى :
وَمَن لم يُغَمِّضْ عيْنَه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يَمُتْ وهو عاتِبُ
ومن يتَتَبَّع جاهداً كل عَثْرَةٍ ... يجدها ولا يسلم له الدَّهْرَ صاحِبُ

وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)

قوله تعالى : { وإن أردتم استبدال زوج } هذا الخطاب للرجال ، والزوج : المرأة . وقد سبق ذكر «القنطار» في { آل عمران } .
قوله تعالى : { فلا تأخذوا منه شيئاً } إنما ذلك في حق من وطئها ، أو خلا بها ، وقد بيّنَتْ ذلك الآية التي بعدها . قال القاضي أبو يعلى : وإنما خصّ النهي عن أخذ شيء مما أعطى بحال الاستبدال ، وإن كان المنع عاماً ، لئلا يظن ظان أنه لما عاد البضع إلى ملكها ، وجب أن يسقط حقها من المهر ، أو يظن ظان أن الثانية أولى بالمهر منها ، لقيامها مقامها .
وفي البهتان قولان . أحدهما : أنه الظلم ، قاله ابن عباس ، وابن قتيبة .
والثاني : الباطل ، قاله الزجاج . ومعنى الكلام : أتأخذونه مباهتين آثمين .

وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)

قوله تعالى : { وكيف تأخذونه } أي : كيف تستجيزون أخذه . وفي «الإِفضاء» قولان .
أحدهما : أنه الجماع ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، ومقاتل ، وابن قتيبة .
والثاني : الخلوة بها ، وإن لم يغشها ، قاله الفراء .
وفي المراد بالميثاق هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها : أنه الذي أخذه الله للنساء على الرجال؛ الإِمساك بمعروف ، أو التسريح بإحسان . هذا قول ابن عباس ، والحسن ، وابن سيرين ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل .
والثاني : أنه عقد النكاح ، قاله مجاهد ، وابن زيد . والثالث : أنه أمانة الله ، قاله الربيع .

وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)

قوله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يحرّمون ما حرّم الله إلا امرأة الأب ، والجمع بين الأختين ، فنزلت هذه الآية : وقال بعض الأنصار : توفي أبو قيس بن الأسلت ، فخطب ابنه قيس امرأته ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تستأذنه ، وقالت : إنما كنت أعده ولداً ، فنزلت هذه الآية .
قال أبو عمر غلام ثعلب : الذي حصلناه عن ثعلب ، عن الكوفيين ، والمبرّد عن البصريين ، أن «النكاح» في أصل اللغة : اسم للجمع بين الشيئين . وقد سموا الوطء نفسه نكاحاً من غير عقد . قال الأعشى :
ومنكوحة غير ممهورة ... يعني المسبية الموطوءة بغير مهر ولا عقد . قال القاضي أبو يعلى : قد يطلق النكاح على العقد ، قال الله تعالى : { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } [ الأحزاب : 49 ] وهو حقيقة في الوطء ، مجاز في العقد ، لأنه اسم للجمع ، والجمع : إنما يكون بالوطء ، فسمّي العقد نكاحاً ، لأنه سبّب إليه .
قوله تعالى : { إِلا ما قد سلف } فيه ستة أقوال .
أحدها : أنها بمعنى : بعد ما قد سلف ، فإن الله يغفره ، قاله الضحاك ، والمفضّل .
وقال الأخفش : المعنى : لا تنكحوا ما نكح آباؤكم ، فإنكم تعذّبون به ، إِلا ما قد سلف ، فقد وضعه الله عنكم .
والثاني : أنها بمعنى : سوى ما قد سلف ، قاله الفراء .
والثالث : أنها بمعنى : لكن ما قد سلف فدعوه ، قاله قطرب . وقال ابن الأنباري : لكن ما قد سلف ، فإنه كان فاحشة .
والرابع : أن المعنى : ولا تنكحوا كنكاح آبائِكم النساء ، أي : كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا تجوز في الإسلام إِلا ما قد سلف في جاهليتكم ، من نكاح لا يجور ابتداء مثله في الإسلام ، فإنه معفو لكم عنه ، وهذا كقول القائل : لا تفعل ما فعلت ، أي : لا تفعل مثل ما فعلت ، ذكره ابن جرير .
والخامس : أنها بمعنى «الواو» فتقديرها : ولا ما قد سلف ، فيكون المعنى : إِقطعوا ما أنتم عليه من نكاح الآباء ، ولا تبتدئوا ، قاله بعض أهل المعاني .
والسادس : أنها للاستثناء ، فتقدير الكلام : لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز [ الذي كان عقده بينهم ] إِلا ما قد سلف منهم بالزنى ، والسفاح ، فإنهن حلال لكم ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى : { إِنه } يعني النكاح ، و «الفاحشة» : ما يفحش ويقبح . و«المقت» : أشد البغض . وفي المراد بهذا «المقت» قولان .
أحدهما : أنه اسم لهذا النكاح ، وكانوا يسمّون نكاح امرأة الأب في الجاهلية : مقتاً ، ويُسمّون الولد منه : «المقتي» . فاعلموا أن هذا الذي حرِّم عليهم [ من نكاح امرأة الأب ] لم يزل منكراً [ في قلوبهم ] ممقوتاً عندهم . هذا قول الزجاج .
والثاني : أنه يوجب مقت الله لفاعله ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله { وساء سبيلاً } قال ابن قتيبة : أي : قبُح هذا الفعل طريقاً .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20