كتاب : إنباء الغمر بأبناء العمر في التاريخ
المؤلف : شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الرحمن بن محمد بن سليمان بن حمزة ، المقدسي الحنبلي ، من بيت كبير ولد في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين ، وسمع من عبد الرحمن بن إبراهيم بن علي بن بقا - الملقن وأحمد ابن عبد الحميد بن عبد الهادي وغيرهما وحدث ، مات بالصالحية .
عبد الرحمن بن محمد بن علي بن عبد الواحد بن يوسف بن عبد الرحيم ، الدكالي الأصل ثم المصري أبو هريرة بن النقاش ، ولد في رابع عشر ذي الحجة سنة سبع وأربعين ، وسبعمائة بالقاهرة ، واشتغل بالعلم ودرس بعد وفاة أبيه وله بضع عشرة سنة ، وسمع من محمد بن إسماعيل الأيوبي والقلانسي والبياني وغيرهم ، واشتهر بصدق اللهجة وجودة الرأي وحسن التذكير والأمر بالمعروف مع الصرامة والصدع بالوعظ في خطبته وقصصه ، وصارت له وجاهة عند الخاصة والعامة ، وانتزع خطابه جامع ابن طولون من ابن بهاء الدين السبكي فاستمرت بيده ، وكان يقتصد في ملبسه مفضالا على المساكين كثير الإقامة في منزله مقبلا على شأنه عارفابأمر دينه ودنياه يتكسب من الزراعة وغيرها ، ويبر أصحابه مع المحبة التامة في الحديث وأهله ، وله حكايات مع أهل الظلم ، وامتحن مرارا ولكن ينجو سريعا بعون الله ، وقد حج مرارا وجاور ، وكانت بيننا مودة تامة ؛ مات في ليلة الحادي عشر من ذي الحجة ، ودفن عند باب القرافة ، وكان الجمع في جنازته حافلا جدا فرحمه الله تعالى .
عبد الرحمن بن يوسف الكردي الدمشقي الشافعي زين الدين ، حفظ التنبيه في صباه ، وقرأ على الشرف بن الشربشي ، ثم تعاني عمل المواعيد فنفق سوقه فيها ، واستمر على ذلك أكثر من أربعين سنة وصار علي ذهنه من التفسير والحديث وأسماء الرجال شيء كثير ، وكان رائجا عند العامة مع الديانة وكثرة التلاوة ، وكان ولي قضاء بعلبك ثم طرابلس ، ثم ترك واقتصر على عمل المواعيد بدمشق ، وقدم مصر وجرت له محنة مع القاضي جلال الدين البلقيني ، ثم رضي عليه وألبسه ثوبا من ملابسه واعتذر له فرجع إلى بلده ، وكان يعاب بأنه قليل البضاعة في الفقه ولا يسأل مع ذلك عن شيء إلا بادر بالجواب ، وحفظ ترجيح كون المولد النبوي كان في رمضان لقول ابن إسحاق إنه نبئ على رأس الأربعين ، فخالف الجمهور في ترجيح ذلك ، وله أشياء كثير من التنطعات ، ولم يزل بينه وبين الفقهاء منافرة ، ويقال إنه يرى بحل المتعة على طريقة ابن القيم وذويه ؛ ومات مطعونا في شهر ربيع الآخر وهو في عشر السبعين .عبد الكريم بن إبراهيم بن أحمد ، الحنبلي الكتبي كان من خيار الناس في فنه ، وكان للطلبة به نفع ، فإنه كان يشتري الكتب الكثيرة وخصوصا العتيقة ويبيع لمن رام منه الشراء من الطلبة برأس ماله أو بفائدة بعينها ويشترط له أنه متى رام بيع ذلك الكتاب يدفع له رأس ماله ، فكان الطالب ينتفع بذلك الكتاب دهرا ثم يأتي به إلى السوق فينادي عليه ، فإن تجاوز الثمن الذي اشتراه باعه ، وإن قصر عنه أحضره فاشتراه منه برأس ماله ولا يخرم معهم في ذلك وكان الناصر فرج ولاه الحسبة على الصلاة ، فكان يلزم الناس بالصلاة وتعليم الفاتحة وجرت له في ذلك خطوب يطول ذكرها وكان مأذونا له في الحكم لكن لا يتصدى لذلك ولا يحكم إلا في النادر وله ورد وقيام في الليل ؛ مات في حادي عشر ذي القعدة .
عبد الوهاب بن عبد الله ويدعى ماجد بن موسى بن أبي شاكر أحمد ابن أبي الفرج بن إبراهيم بن سعيد الدولة القبطي الوزير تقي الدين بن فخر الدين بن تاج الدين بن علم الدين ، يعرف بالنسبة لجده فيقال له ولكل من آل بيته : ابن أبي شاكر ، ولد سنة سبعين أو في التي بعدها ونشأ في حجر السعادة وتنقل في المباشرات إلى أن باشر نظر الديوان المفرد في آخر الدولة الظاهرية واستمر بيده إلى أن مات ، وباشر استادارية الأملاك والذخائر والمشاجرات والأوقاف وعظم عن الناصر بحسنمباشرته ، ثم ولي نظر الخاص بعد موت مجد الدين بن الهيصم ثم قبض عليه في جمادى الأولى سنة ست عشرة وصودر على أربعين ألف دينار باع فيها موجوده وبقي في الترسيم بشباك الظاهرية الجديدة يستجدي من كل من يمر به من الأعيان حتى حصل مالا له صورة ، وأفرج عنه وأعيد إلى مباشرة الذخيرة والأملاك ، ثم قرر في الوزارة بعد صرف تاج الدين ابن الهيصم فباشرها مباشرة حسنة وشكره الناس كلهم ، فلم تطل مدته حتى مات بعد تسعة أشهر من وزارته في حادي عشر شوال أو ذي القعدة - وكان بعيدا عن النصارى ومتزوجا من غيرهم ، وهي علامة حسن إسلام القبطي ، وكان يكثر فعل الخير والصدقة مع الانهماك في اللذة ، وحدث في وزارته الوباء فلم يشاحح أحدا في وراثة وكثر الدعاء له ، وكان عارفا بالمباشرة ويحب أهل العلم ، وكان شديد الوطأة على العامة إلا أنه باشر الوزارة برفق لم يعهد مثله ، وكان موصوفا بالدهاء وجودة الكتابة .
عبد الوهاب بن محمد بن أحمد بن أبي بكر ، الحنفي القاضي أمين الدين بن القاضي شمس الدين الطرابلسي نزيل القاهرة ، ولد سنة 774 واشتغل في حياة أبيه وولي القضاء مستقلا بعد موت الملطي فباشره بعفة ومهابة ،وكان مشكور السيرة إلا أنه كان متعصبا لمذهبه مع إظهار محبة للآثار عاريا من أكثر الفنون إلا استحضار شيء يسير من الفقه ، وقد عزل عن القضاء بكمال الدين ابن العديم ، ولزم منزله مدة طويلة ، ثم تنبه بصحبة جمال الدين فتقرر بعنايته في القضاء ومشيخة الشيخونية ، ثم زال ذلك عنه في الدولة المؤيدية ، وانتزعت من أخي وظيفة إفتاء دار العدل فقررت لابن سفري ثم لابن الجيتي ، واستمر أمين الدين خاملا حتى مات بالطاعون في خامس عشري ربيع الأول .
ومن العجائب أن ناصر الدين بن العديم أوصى في مرض موته بمبلغ كثير يصرف لتقي الدين ابن الجيتي الحنفي ليسعى به في قضاء الحنفية لئلا يليه ابن الطرابلسي قبل موت ابن العديم وكذلك ابن الجيتي .
علي بن الحسين بن علي بن سلامة ، الدمشقي تفقه على الشيخ عماد الدين الحسباني وغيره ، وكانت له مشاركة في الأدب ونظم الشعر الوسط ، ودرس في دمشق ، ومات سنة 829 .
علي بن عيسى بن محمد ، علاء الدين أبو الحسن بن أبي مهدي ، الفهري البسطي ، اشتغل ببلاده ثم حج ودخل الشام ونزل بحلب على قاضيهاالجمال النحريري ، وقرأ بحلب التسهيل وعمل المواعيد بالجامع - وكان يذكر في المجلس نحو سبعمائة سطر يرتبها أولا ثم يلقيها ويطرزها بفوائد ومناسبات ، ثم رحل إلى الروم وعظم قدره ببرصا ، وكان فاضلا ذكيا أديبا يعمل المواعيد بالجامع فذكر لي - الشيخ برهان الدين المحدث أنه كان يرتبه يوم الأربعاء فيبلغ سبعمائة سطر وينظره يوم الخميس ويلقيه يوم الجمعة سردا ، وذكر لي - أنه أنشده لابن الحباب الغرناطي اللغز المشهور في السمك .
كتبتم رموزا ولم تكتبوا
كهذا الذي سبيله واضحه
قال : وأنشدني عنه أناشيد ثم دخل الروم فسكنها وحصل له ثروة ، ثم دخل القرم وكثر ماله ، واستمر هناك إلى أن مات في هذا السنة .
علي بن محمد بن علي بن الحسن بن حمزة بن محمد بن ناصر ، الحسيني أبو الحسن ، والد المحدث الشهير الشريف شمس الدين ، مات أبوه سنةخمس وستين وسبعمائة وهو صغير فحفظ القرآن والتنبيه وقرأ على ابن السلار وابن اللبان ومهر في ذلك حتى صار شيخ الإقراء بالقرمية . وكتب الخط المنسوب ، وجلس مع الشهود مدة ووقع وكان عين البلد في ذلك ، وولي نقابة الأشراف مدة يسيرة ، وولي نظر الأوصياء أيضا ؛ مات في شوال .
غانم بن محمد بن محمد بن يحيى بن سالم ، جلال الدين الخشبي - بمعجمتين مفتوحتين ثم موحدة - المدني الحنفي ، ولد سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وسمع متأخرا من ابن أميلة وغيره بدمشق ، سمعت منه يسيرا ، وكان له اشتغال ونباهة في العلم ثم خمل وانقطع بالقاهرة ، ومات بالطاعون . قمارى كان أمير الركب الأول ، فمات متوجها إلى الحج في شوال وكان شاد الزردخاناه .
محمد بن أحمد بن أبي بكر البيري ابن الحداد ، أخذ عن أبي جعفروأبي عبد الله الأندلسيين ، وتمهر في العربية ، وكان يحفظ المنهاج ، وكان يستحضر أشياء حسنة ، وحدث عن شرف الدين ابن قاضي الجبل وغيره .
مات بالبيرة في هذه السنة ، أرخه البرهان المحدث الحلبي .
محمد بن أحمد بن عثمان بن عمر ، التونسي المالكي المعروف بالوانوغي أبو عبد الله - بتشديد النون المضمومة وسكون الواو بعدها معجمة ، ولد سنة تسع وخمسين ، وسمع من أبي الحسن البطرني وأبي عبد الله بن عرفة ولازمه في الفقه وغيره ، وعني بالعلم وبرع في الفنون مع الذكاء المفرط وقوة الفهم وحسن الإيراد وكثرة النوادر المستظرفة ، والشعر وكان كثير الوقيعة في أعيان المتقدمين وعلماء العصر وشيوخهم شديد الإعجاب بنفسه والازدراء بمعاصريه ، فلهجوا بذمة وتتبعوا أغلاطه في فتاويه ، أقام بمكة مجاورا ثم بالمدينة دهرا مقبلا على الاشتغال والتدريس والتصنيف والإفتاء والإفادة ، وجرت له بها محن وكان قد اتسعت دنياه ، اجتمعت به المدينة ثم بمكة وسمعت من فوائده ؛ مات في سابع عشر ربيع الآخر بمكة ، وله أسئلة مشكلة كتبها للقاضي جلال الدين البلقيني فأجابه عنها وكان هو قد بعث بنقض الأجوبة .محمد بن إسماعيل بن علوان ، الزبيدي - بفتح الزاي - ثم المهجمي ، ولي قضاء المهجم مدة ، وكان نبيها مشكور السيرة .
محمد بن أيوب بن سعيد بن علوي ، الحسباني الأصل الدمشقي الشافعي ، ولد سنة بضع وسبعين ، واشتغل وحفظ المنهاج في الفقه والمحرر لابن الهادي وغيرهما ، وأخذ عن الزهري والشريشي والصرخدي وغيرهم ، ولازم الملكاوي حتى قرأ عليه أكثر المنهاج ، ومهر في علم الفقه وفي الحديث ، وجلس للاشتغال بالجامع والنفع إلى الطلبة ، وكان قليل الغيبة والحسد بل حلف أنه ما حسد أحد ، مات مطعونا في ربيع الآخر وقد تقدم ذكر والده قريبا .
محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة عز الدين ابن شرف الدين بن عز الدين بن بدر الدين ، ولد سنة سبع وأربعين وسبعمائة بمدينة ينبع ، وسمع من القلانسي والعرضي والبياني وجده وغيرهم ، وأحضر علي الميدومي ، وأجاز له جماعة من الشاميين والمصريين بعناية الشيخ زين الدين العراقي ، ونشأ مشتغلا بالعلم ، ومال إلى المعقول فاتقنه حتى صار أمة وحده وبقيت طلبة البلد كلها عيالا عليه في ذلك ، وصنف التصانيف الكثيرة المنتشرة وقد جمعها في جزء مفرد ، وضاع أكثرها بأيدي الطلبة والموجود فيها التصنيف الأولمن حاشية العضد وشرح جميع الجوامع ، وقد أخذت عنه هذين الكتابين ، وله على كل كتاب أقرأه مع أنه كاد أن يقرئ جميع هذه المختصرات التصنيف والتصنيفان ، والثلاثة ما بين حاشية ونكت وشرح ، وكان أعجوبة دهره في حسن التقرير ، ولم يرزق ملكة في الاختصار ولا سعادة في حسن التصنيف بل بين لسانه وقلمه كما بينه هو وآحاد طلبته ، وكان ينظم شعرا عجيبا غالبه غير موزون ويخفيه كثيرا إلا عمن يختص به ممن لا يدري الوزن ، وأقرأ التنبيه والوسيط وأقرأ شرح الألفية لولد المصنف وكتب عليه تصنيفا وأقرأ التسهيل وأقرأ الكشاف والمطول لسعد الدين وكتب عليه شيئا سماه المعول والشرح الصغير لسعد الدين أيضا وكتب عليه شيئا وسماه سبك النضير في حواشي الشرح الصغير ، ونظر في كل فن حتى في الأشياء الصناعية كلعب الرمح ورمي النشاب وضرب السيف والنفط حتى الشعوذة حتى في علم الحرف والرمل والنجوم ومهر في الزيج وفنون الطب ، وكان من العلوم بحيث يقضيله في كل فن بالجميع هذا مع الانجماع عن بني الدنيا وترك التعرض للمناصب ، وقد نفق في سوق الدولة المؤيدية وكارمه السلطان عدة مرار بجملة من الذهب ومع ذلك كان يمتنع من الاجتماع به ويفر إذا عرض عليه ذلك وحضر معنا المجلس المعقود للهروي في السنة الماضية فلم يتكلم في جميع النهار كله مع التفاتهم واستدعائهم منه الكلام حتى سأله السلطان في ذلك المجلس عن تصنيفه في لعب الرمح فجحد أن يكون صنف شيئا ، وكان يبر أصحابه ويساويهم في الجلوس ويبالغ في إكرامهم ، وكان لا يتصون عن مواضع النزه والمقترحات ، ويمشي بين العوام ويقف على حلق المنافقين ونحوهم ، ولم يتزوج فيما علمت بل كانت عنده زوجة أبيه فكانت تقوم بأمر بيته ويبرها ويحسن إليها ، ولم يتفق له أن يحج مع حرص أصحابه له على ذلك ، وكان يعاب بالتزي بزي العجم من طول الشارب وعدم السواك حتى سقطت أسنانه ، وبلغني أنه كان يديم الطهارة فلا يحدث إلا توضأ ، ولا يترك أحد يستغيب عنده أحد ، هذا مع ما هو فيه من محبة الفكاهة والمزاح واستحسان النادرة ، لازمته من سنة تسعين إلى أن مات ، وكان يودني كثيرا ويشهد لي في غيبتي بالتقدم ويتأدب معي إلى الغاية مع مبالغتي في تعظيمه حتى كنت لا أسميه في غيبته إلا إمام الأئمة ، وقد أقبل في الأخير على النظر في كتب الحديث واستعار من ابن العديم تخريج أحاديثالرافعي الكبير لشيخنا ابن الملقن وهو في سبع مجلدات فمر عليه كله واختصره على ما ظهر له وفرغ منه عند موت ابن العديم ثم مات هو بعد ذلك بيسير ، وكان ينهى أصحابه عن دخول الحمام أيام الطاعون فقدر أن الطاعون قد ارتفع أو كاد فدخل هو الحمام فخرج فطعن عن قرب ، فمات في ربيع الآخر وفي العشرين منه ، واشتد أسف الناس عليه ، ولم يخلف بعد مثله .
محمد بن أبي بكر بن محمد بن أبي الفتح ، البيري شمس الدين ابن الحداد ، ولد سنة . . . وتفقه على الزين الباريني ومهر ، ثم رحل إلى القاهرة وتصرف وكان يذاكر بأشياء حسنة ، وسكن بعد اللنك بحلب دهرا ثم رجع إلى بلده البيرة ، فأقام بزاويته إلى أن مات في رجب .
محمد بن بهادر اللطيفي أحد الأمراء باليمن وقد ناب في وصاب وغيرها ، وكان محبا في أهل الخير .
محمد بن سيف بن محمد بن عمر بن بشارة ، مات مقتولا في القاهرةوحشي جلده تبنا وحمل إلى صفد في ذي الحجة .
محمد بن طيبغا التنكزي ناصر الدين ، كان أبوه من مماليك تنكز نائب الشام ، فولد له هذا في رمضان سنة إحدى أو اثنتين وستين وحفظ الحاوي ، واشتغل ولازم الشيخ شهاب الدين بن الحباب مدة وهو بزي الجند ، ثم بعد اللنك - صار يقرأ البخاري ويتكلم في حال القراءة على بعض الأحاديث ، وقد - انقطع عند المصلى فتردد الناس ، وكان يغلظ للترك وغيرهم وربما آذاه بعضهم ، وكان يستحضر كثيرا من الفقه والحديث - والتفسير إلا أنه عريض الدعوى جدا مع أنه متوسط في الفقه ، ومات في شهر رمضان .
محمد بن محمد المشهدي شمس الدين بن القطان ، أخذ عن الشيخ ولي الدين الملوي ونحوه واعتنى بالعلوم العقلية ، واشتغل كثيرا حتى تنبه ، وكان يدري الطب ولكن ليست له معرفة بالعلاج ، سمعت من فوائده ، ومات في الطاعون عن نحو ستين سنة .
محمد بن علي بن معبد القدسي المالكي المعروف بالمدني ، ولد سنة تسع وخمسين ، واشتغل قليلا وأخذ عن جمال بن خير ولازمه ،وسمع الحديث من محي الدين بن عبد القادر الحنفي وحدث ، ثم ولي تدريس الحديث بالشيخونية فباشره مع قلة علمه به مدة ثم نزل عنه ، ثم ولي القضاء بعناية فتح الله كاتب السر في الأيام الناصرية ، ثم صرف ثم أعيد ثم صرف في الأيام المؤيدية ثم أعيد ، وكان مشكورا في أحكامه ، ووقعت له كائنة صعبة مع شريف حكم بقتله ، فأنكر عليه ذلك أهل مذهبه ولم يكن بالماهر في مذهبه ، مات في عاشر ربيع الأول .
محمد بن عمر بن إبراهيم بن محمد بن عمر بن عبد العزيز بن محمد بن أبي جرادة ، العقيلي الحلبي نزيل القاهرة ناصر الدين ابن العديم الحنفي ، تقدم نسبه في ترجمه أبيه سنة إحدى عشرة ، ولد سنة اثنتين وتسعين بحلب وأسمع على عمر بن أيدغمش مسند حلب وعلى غيره ، وقدم القاهرة مع أبيه وهو شاب فشغله في عدة فنون على عدة مشايخ ، وقرأ بنفسه على شيخنا العراقي قليلا من منظومته ، وكان يتوقد ذكاء مع هوج ومحبة في المزاح والفكاهة إلى أن مات أبوه وأوصاه أن لا يترك منصب القضاء ولو ذهب فيه جميع ما خلفه ، فقبل الوصية ورشا على الحكم إلى أن وليه ، ثم صار يرشوا أهل الدولة بأوقاف الحنفية بأن يؤجرها لمن يخطر له منهم ببال بأبخس أجرة ليكون له عونا على مقاصده إلى أن كان يخربها ولو دام قليلا لخربت كلها ، وصار في ولايته القضاء كثير الوقيعة فيالعلماء قليل المبالاة بأمر الدين كثير التظاهر بالمعاصي ولا سيما الربا سيئ المعاملة جدا أهوج متهورا ، وقد امتحن في الدولة الناصرية على يد الوزير سعد الدين البشري وصودر وهو مع ذلك قاضي الحنفية .
ثم قام في موجب قتل الملك الناصر قياما بالغا ولم ينفعه ذلك لأنه ظن أن ذلك يبقيه في المنصب فعزل عن قريب كما تقدم في الحوادث ، وقد ذكرنا في الحوادث تنقلاته في القضاء والشيخونية ، ثم لما وقع الطاعون في هذه السنة ذعر منه ذعرا شديدا وصار دأبه أن يستوصف ما يدفعه ويستكثر من ذلك أدوية وأدعية ورقي ، ثم تمارض لئلا يشاهد ميتا ولا يدعى إلى جنازة لشده خوفه من الموت ، فقدر الله أنه سلم من الطاعون وابتلى بالقولنج الصفراوي ، فتسلسل به الأمر إلى أن اشتد به الخطب فأوصى ومن جملة وصيته ما قدمته من قصة ابن الطرابلسي ، فلما بلغه أن ابن الطرابلسي مات قبله سر بذلك وأشهد عليه أنه رجع عما كان أوصى به لابن الجيتي ، فقدر الله تعالى أن ابن الجيتي أيضا قد مات قبله بعشرة أيام ، ثم مات ابن العديم في ليلة السبت تاسع شهر ربيع الآخر .
أبو البركات محمد بن أبي السعود محمد بن حسين بن علي بن أحمد بن ظهيرة ، المخزومي المكي كمال الدين ، ولد سنة أربع وستين وسبعمائة ، وأحضر على عز الدين بن جماعة ولم يعتن بالعلم بل كان مشتغلا بالتجارة مذكورا بسوء المعاملة ، وولي حسبة مكة ونيابة الحكم عن قريبه الشيخ جمال الدين ، فعيب جمال الدين بذلك ، وأنكر عليه من جهة الدولةفعزله ، فسعى هو في عزل جمال الدين وبذل مالا في أوائل الدولة المؤيدية فلم يتم له ذلك حتى مات جمال الدين ، فتعصب له بعض أهل الدولة فولي دون السنة ثم ولي مرة ثانية في هذا السنة دون الشهرين ، ومات معزولا في ثالث عشري ذي الحجة بعلة ذات الجنب .
محمد بن محمد بن عبد الله شمس الدين ابن مؤذن الزنجبيلية ، اشتغل وهو صغير ، فحفظ مجمع البحرين والألفية وغيرها ، وأخذ الفقه عن البدر المقدسي ، وابن الرضي ، ومهر في الفرائض وأخذها عن الشيخ محب الدين ، واحتاج الناس فيها ، وجلس للاشتغال بالجامع الأموي ، وكان خيرا دينا مات في شوال .
محمد بن محمد بن محمد بن إبراهيم الحسباني شمس الدين رئيس المؤذنين بالجامع الأموي ، وكبير الشهود بدمشق ، كان عارفا بالشروط سريع الكتابة ذكيا يستحضر كثيرا من الفقه والحديث مع كثرة التلاوة ، مات في شعبان .
محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد الدائم ، الباهي أبو الفتح نجم الدين الحنبلي ، وبرع في الفنون ، وتقرر مدرسا للحنابلة في مدرسة جمال الدين برحبة باب العيد ، وكان عاقلا رصينا كثير التأدب ؛ مات في ليلة الجمعة رابع عشري ربيع الأول بالطاعون عن بضع وثلاثين سنة .محمد بن محمد الكوم ، الربشي تاج الدين ابن شمس الدين نقيب درس الحنابلة ، مات في ربيع الأول مطعونا ولم يبلغ الخمسين ، وكان موصوفا بحسن المعاملة .
محمد بن الشيخ . . . الدين ، الحلواني ، مات في يوم الخميس رابع عشي صفر مطعونا ، وكان كثير المجازفة في القول سامحه الله .
محمد بن . . . . . قطب الدين الأبرقوهي أحد الفضلاء ممن قدم القاهرة في رمضان سنة ثماني عشرة فأقرأ الكشاف والعضد وانتفع به الطلبة ، ومات في أواخر صفر مطعونا .
مساعد بن ساري بن مسعود بن عبد الرحمن ، الهواري المصري ، نزيل دمشق ، ولد سنة بضع وثلاثين ، وطلب بعد أن كبر فقرأ على الشيخ صلاح الدين العلائي وولي الدين المنفلوطي وبهاء الدين بن عقيل والأسنوي وغيرهم ، ومهر في الفرائض والميقات ، وكتب بخطه الكثير لنفسه ولغيره ، ثم سكن دمشق وانقطع بقرية عقربا ، وكان الرؤساء يزورونهوهو لا يدخل البلد مع أنه لا يقصده أحد إلا أضافه وتواضع معه ، وكان دينا متقشفا ، سليم الباطن ، حسن الملبس ، يستحضر الكثير من الفوائد وتراجم الشيوخ الذين لقيهم ، وله كتاب في الأذكار سماه بدر الفلاح في أذكار المساء والصباح ، ومات بقرية عقربا شهيدا بالطاعون ، وكان دميم الشكل جدا رحمه الله .
مفتاح الطواشي ، الحبشي ثم اليمني ، ولي إمرة عدن للأشرف .
مقبل بن عبد الله ، الطواشي الأشقتمري الرومي ، كان جمدار عند الظاهر والناصر وكان ملازما لديانة محبا للفقهاء ، اشتغل بالعلم كثيرا ، وحفظ الحاوي الصغير فصار يذاكر به ، حسن القراءة للقرآن جدا ، ثم عمر مدرسة بالتبانة وقرر فيها مدرستين وطلبة ، وكان قد أسر مع اللنكية من دمشق ثم خلص ، وحضر مع الرسل الواردين من اللنك في سنة ست وثمانمائة وجاور عامين متواليين قبل موته ، ومات بالطاعون .
موسى بن أحمد بن عيسى ، الحرامي - بالمهملتين - أمير حلي انفرد بإمرتها بعد أخيه دريب ، ثم أخرجه حسن بن عجلان منها ، ثم عاد إليها حتى مات في هذه السنة .موسى بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الناصر بن عالي بن عمر الشريف شرف الدين الشطنوفي ، ولد في حدود الأربعين ، ومات في ذي القعدة ، وكان حسن المحاضرة كثير النادرة وينظم شعرا كثيرا وسطا .
همام بن أحمد الخوارزمي - هكذا رأيت بخطه ، وقد يدعى محمدا أيضا ، الشيخ همام الدين الشافعي ، اشتغل في بلاده ثم جاء إلى حلب قبل اللنكية ، فأنزله القاضي شرف الدين أبو البركات في دار الحديث البهائية ، فأقام بها ، ثم قدم القاهرة في أوائل الدولة الناصرية ، واشتمل عليه بعض الأمراء فحصل له بعض المدارس ، ثم نزل عنها للحاجة ، فلما عمر جمال الدين مدرسته عين له ، ووصف وبالغ في الوصف فاستحضره وأشخص به وأسكنه بيتا قريبا منه ورتب له الرواتب الواسعة ، ثم لما فتحها أسكنه في المسكن البهي الذي عمر له وأجلسه شيخا بها وقرر له معاليم ورواتب خارجا عن ذلك وهدايا وعطايا ومراعاة وسماع كلمة فنبه بعد أن كان خاملا ، وتحلى بما ليس فيه بعد أن كان عاطلا وانثال عليه الطلبة لأجل الجاه ، فكان يحضر درسه منهم أضعاف من هو منزل فيه ، وأقرأ في المدرسة المذكورة الحاوي والكشاف ، ثم طال الأمر فاقتصر على الكشاف وكان ماهرا في إقرائه إلا أنه بطيء العبارة جدا بحيث يمضي قدر درجة حتى ينطق بقدر عشر كلمات ، وكانت له مشاركة في العلوم العقلية مع إطراح التكلف وسلامة الباطن ، يمشي في السوق ويتفرج فيالحلق في بركة الرطلي وغيرها ، وكانت له ابنة ماتت أمها فصار يلبسها بزي الصبيان ويحلق شعرها ويسميها سيدي علي . وتمشي معه في الأسواق إلى أن راهقت ، وهي التي تزوجها الهروي فحجبها بعد ذلك ، وقد ذكرت ما اتفق له في المجلس المعقود للهروي مات في العشر الأخير من ربيع الأول وقد جاوز السبعين .
يوسف بن عبد الله المارديني الحنفي ، قدم القاهرة ووعظ الناسبالجامع الأزهر ، وحصل كثيرا من الكتب مع لين الجانب والتواضع والخير والاستحضار لكثير من التفسير والمواعظ ؛ مات في الطاعون وقد جاوز الخمسين ، وخلف تركة جيدة ورثها أخوه أبو بكر : ومات بعده بقليل سنة 822 ه .
نور الدين بن قوام البالسي ثم الصالحي .
حوادث سنة 820
سنة عشرين وثمانمائة
استهلت والسلطان على قصد السفر لتمهيد أمور البلاد الشمالية فعلق الجاليش في خامس المحرم ونودي على الفلوس أن تكون سعر كل رطل ستة فاستقامت الأحوال ، وأمر طرغلي بن صقل سيز السفر لجمع التراكمين فتوجه ، وفرقت النفقات في نصف الشهر فكان لكل مملوك عشرة آلاف درهم يكون حسابها من الذهب أربعين مثقالا ، وكانت النفقة من الخزانة للأمير الكبير خمسة آلاف دينار ولأمير آخور أربعة آلاف ، ولمن دونه من المقدمين لكل واحد من الطبلخاناة خمسمائة ولكل أمير عشرة مائتين .وفي أول هذه السنة بلغ أقباي الدويدار نائب حلب تغير خاطر السلطان عليه فركب على الهجن جريدة في أسرع وقت فوصل إلى قطيا واستأذن في الوصول ، فأمر السلطان بتلقيه ، فتلقوه بسرياقوس ، وجهز إليه مركوب وكاملية ، فلقي السلطان يوم السبت محرم 24 المحرم ، فلامه السلطان على سرعة الحركة فاعتذر ، فقرره على نيابة الشام وأمره بالمسير إلى دمشق فسار جريدة على الخيل .
وفيه ضرب الدنانير من عشرة مثاقيل وخمسة ، وكان السالمي قبل ذلك ضرب ذلك ثم بطل فجدده المؤيد ، فكان الذي يحصل له الدينار منها لا يجد صيرفيا يصرفه ، فلما كثر التشكي من ذلك بطلت .
واستناب في حلب قجقار القردمي أمير سلاح ، وجهز أقبغا أمير أخور للقبض على الطنبغا العثماني نائب الشام والحوطة على موجوده وسجنه بالقلعة فتوجه لذلك مسرعا . ونودى للأجناد البطالين أن يخدموا عند الأمراء وعند السلطان ، ومن وجد بعد ذلك بطالا - بغير خدمة لا يلومن إلا نفسه ثم قبض على جماعة ممن لم يمتثلوا الأمر فسجنوا وخرج السلطان إلى الريدانية في سادس عشري المحرم ، وقرر نيابة الغيبة طوغان أمير آخور ، وقرر في القلعة أزدمر شايه ، وكان قدمأمير المحمل في أول السنة ، وقدم القاصد إلى السلطان بخيمة كبيرة بلغت النفقة عليها عشرة آلاف دينار ، وتقدم الجاليش صحبة إبراهيم ولد السلطان ومعه قجقار نائب حلب وجماعة من الأمراء وسار السلطان في رابع صفر ، وتأخر بالقاهرة فخر الدين الأستادار وعين نائب الغيبة له مائتي مملوك يكونون صحبته من أجناد القلعة وسافر القضاة صحبة السلطان على العادة إلا المالكي فكان قريب العهد بالقدوم من الحج فأعفي عن السفر ، وأتفق أن شهاب الدين القرداج كان استقر مؤذنا في الركاب السلطاني فتغيب عن السفر فورد ، المرسوم بعد مدة بالقبض عليه وبتجريسه فجرس ثم حبس إلى أن جاء الخير بقدوم السلطان فأفرج عنه وأذن له في ملاقاته .
في ثاني عشر صفر وصل ناصر الدين ابن خطاب الحاجب بدمشق بسبب الطنبغا العثماني وقد قبض عليه وسجن بقلعة دمشق ، وكان الخبر لما وصل بذلك أذعن وحل سيفه بيده وهو حينئذ بالحزبة وتوجه صحبة العسكر إلى دمشق فسجن بالقلعة ، ونزل السلطان غزة في نصف صفر ، ونزل بمصطبة استجدها بظاهر المدينة ، فقدم خليل الجشاري نائب صفد وحسن بشارة مقدم البلاد الصفدية عليه .ثم توجه إلى جهة دمشق وأمراء العربان ومشايخ البلاد يردون إلى أن وصل مرج الكتيبة في سابع عشري صفر ، وقدم عليه قصاد أمراء التركمان يسألون الصفح عنهم ويعدونه بحضورهم إلى الطاعة ، فأجيبوا بأنهم إن صدقوا في ذلك وصلوا وإلا فليتخذ كل منهم نفقا في الأرض أو سلما في السماء .
ثم قدم أقباي نائب الشام في العسكر ، ودخل السلطان دمشق أول ربيع الأول ، ولم ينزل القلعة بل استمر سائرا إلى أن نزل بالمصطبة التي استجدها لنفسه ببرزة وابنه إبراهيم حامل القبة على رأسه فكان يوما مشهودا .
وفي ليلة الجمعة عمل المولد هناك على العادة وأرسل في ثامنه زين الدين الخواجا إلى محمد بن قرمان برسالة .
وفي تاسعه قدم يشبك نائب طرابلس .
وفي عاشره دخل السلطان حمص وقدم نائب حماة جارقطلوفأعيد إليها من ساعته لعمل المهمات السلطانية .
وفي ثالث ربيع الأول أفرج السلطان عن سودون القاضي وأعطاه إقطاع اقبردى المنقار بعد موته ، وتوجه السلطان على حماة فقدم عليه بها حديثة بن سيف أمير آل فضل وغنام بن زائل أمير آل موسى فتشاجرا في قتل سالم بن طويب فسكن السلطان ما بينهما ، ثم عرض عليه تقادم لأمراء فقبلها ، ثم سار متوجها إلى حلب فخيم في ليلة الثلثاء سابع عشرة بمنزلة تل السلطان وكانت قديما تعرف بالعبيديين ، وأصبح فاستعرض العساكر هناك ، ثم رحل إلى قنسرين فقدم بها قجقجار القردمي نائب حلب بعساكرها ، ثم قدم طغريل بن صقيل سيز بعساكره وهم ألف وخمسمائة فارس .
وفي يوم السبت حادي عشر ربيع الأول ركب السلطان عند الفجر وشرع في صف الأطلاب وتعبية العساكر بنفسه ، ودخل حلب وهو في الميمنة من شرق حلب بين النيرب وجيرين وشقها إلى أن نزلبالمصطبة الظاهرية خارجها ، ودخلت الميسرة من الجهة الأخرى والتقوا بالميدان الأخضر ، وترقب وصول الرسل التي أرسلها إلى أطرافه ، فقدم في ثاني عشري ربيع الأول خليل بن بلال الكردي نائب مدينة إياس ومعه مفاتيح قلعتها ، فقرر في نيابتها صاروجاء مهمندار حلب .
وقدم عليه في ثالث عشر منه جمع كثير من التركمان والعربان ، ثم جهز نائب الشام ونائب حماة وعسكرهما ومن انضم إليهما من تركمان وعرب إلى جهة ملطية وقرر داود بن أوزر وجماعة بالعمق ، وقرر في نيابة حلب يشبك اليوسفي ، وفي نيابة القلعة شاهين وأرغون وأمره بتقوية البرجين اللذين جددهما جكم ، فأكمل عمارتهما وشيدهما وحصنهما ، فصارا كقلعتين استخرجتا من القلعة الكبرى وعظم شأن القلعة بهما ، وأمر المؤيد بعد ذلك بتكملة سور حلب فشرع فيه وطلب العمال من البلاد حتى جدوا فيه وتعب أهل حلب في عمله ، ثم سار الجاليش السلطاني ومقدمهم الطنبغا القرمشي في عدة من الأمراء ، وتوجه السلطان في ثاني ربيع الآخر على جهة العمق ، فقدم عليه رسل محمد بن قرمان وفيهمالقاضي مصلح الدين مرسل قاضي عسكره وصحبته هدية وكتاب اعتذار عن تقصيره وطبق فضة مسكوكة باسم المؤيد ، فعنف السلطان الرسول وعدد له خطأ مرسله في امتناعه عن تجهيز مفاتيح طرطوس ، وفي عدم قبضه على كزل وغيره من المتسحبين فاعتذر مصلح الدين ، فصفح عنه وأمره بالجلوس وفرق الدراهم على الحاضرين ، وقدم في ذلك اليوم رسول ابن عثمان ، ثم قدم إبراهيم بن رمضان وابن عمه وأكثر التركمان الأوجيقية وقدمت معهم أم إبراهيم وأولاده الصغار ، فأكرمهم السلطان وخلع عليهم وأنفق فيهم ، وأرسل مصلح لإحضار مفاتيح طرطوس بشرط إن مضى جمادى الأولى ولم يحضرها مشى السلطان على بلاد ابن قرمان ، وتوجه قجقار نائب حلب إلى جهة طرطوس فقدم بين يديه شاهين الأيدكاري فدخل طرطوس وتحصن نائبها مقبل بالقلعة ، فنزل قجقار فحاصر القلعة إلى أن أخذها بالأمان في أواخر ربيع الآخر .
وأخذ مقبل ومن معه وسجنوا - وسار السلطان على جهة مرعش على الأبلستين وحضر إلى قجقار لما نزل بغراص خليفة الأرمن بمفاتيح قلعتي سيس وبادوز ، فجهزهم السلطان فخلع علي القصاد .وقرر في نيابة قلعة سيس الشيخ أحمد أحد العشراوات بحلب ، ووصل نائب الشام إلى ملطية في خامس ربيع الآخر فوجد حسن بن كبك قد أحرقها فلم يبق منها إلا اليسير ولم يتأخر من أهلها إلا الضعيف العاجز ونزح فلاحوها فتوجه في آثارهم وأعلم السلطان ، فأرسل السلطان ولده إبراهيم ومعه جقمق الدويدار وجماعة من الأمراء فساروا مجدين ودخلوا الأبلستين للقبض على ابن دلغادر ، ففر منهم وأخلى البلاد ، فتوجهوا منها وأوقعو بمن في كلد من التركمان وبمن في خان السلطان وبمن صار وشر ولحقوا محمد بن دلغادر في سادس عشره وهو سائر بحريمه وأثقاله فاحتووا على جميع ماله ، وخلص هو في جريده من الخيل ، وقبض على جماعة من أصحابه ، ومن جملة ما نهب له مائة بختي كل واحد قدر الفيل ، ورجع نائب الشام وقد قرر أمر ملطية ، وفر حسين بن كبك إلى بلاد الروم ، وتوجه نائب حماة إلى جهة كختا وكركر فنازل القلعتين وقد أحرق نائب كختا أسواقها ، ثم أمد السلطان نائب الشام بعسكر آخر ، وقدم كتاب محمد بن دلغادر يسأل العفو عن أن يسلم قلعة درندة ، فأجيب إلى ذلك فقدم ولده ومعه هدية ومفاتيح القلعة .
وفي أواخر الشهر قدم قاصد علي ابن دلغادر ومعه هدية وكتاب فأضاف له السلطان نيابة الأبلستين مع نيابة مرعش ، وتوجه السلطان في ثامن عشري الشهر إلى درندة وبات عليها واستدعى بآلات الحصارفوصلت مفاتيح قلعة خيدروس ، وأوقع الأمير استنبك بن إينال بمحمد بن دلغادر فقطعت يد ولده الكبير في الوقعة ، ثم ركب السلطان بنفسه على درندة ، وطلبوا الأمان فأمنهم يوم الجمعة سلخ الشهر ، وفيهم داود بن محمد بن قرمان فألبسه السلطان خلعة واستولى على القلعة وقرر في نيابة ملطية ودوركي منكلي بغا الأرغون شاوي .
وفي سادس جمادى الأولى وجه محمد بن شهري عسكرا فقاتلوا بقلعة خرت برت فأخذوها فجهز من أهلها أحد عشر رجلا ، فأمر السلطان بصلبهم على قلعة درندة ، ثم رجع السلطان إلى الأبلستين يريد بهنسا وكختا وكركر وأرسل من هنا رسول قرا يوسف واسمه دنكز بجواب كتابه وصحبته هدية مع رسول من جهة السلطان ، ثم وصل رسول من جهة قرا يوسف صحبة القاضي حميد الدين قاضي عسكره ووصل كتاب محمد شاه بن قرا يوسف وكتاب سر عمر حاكم أذربيجان ، وتوجه السلطان إلى بهنسا بعد أن وجه إليها نائب الشام ، فتسلم نائب الشام القلعة من طغرق بن داود بن إبراهيم بن دلغادر وأخذه صحبته ورجع إلى لقاء السلطان ، فالتقيا به عند حصن منصور فرضي على طغرق ، ونزل قجقار نائب حلب على كختا وكركر ، ثم أردفه السلطان بنائب حماة ونائبطرابلس ونزل السلطان بحصن منصور في أواخر جمادى الآخرة ، فقدم عليه رسول قرا يلك بهدية ، وقدم عليه رسول الملك العادل سليمان الأيوبي صاحب حصن كيفا بهديته ، وقرر في نيابة قلعة الروم منكلي بغا عوضا عن أبي بكر بن بهادر الياسري وقرر في نيابة بهنسا كمشبغا الركني ، ونازل كختا ونصب للرمي على قلعتها مدفعا - فبينا هو كذلك إذ ورد الخبر بأن قرا يوسف قصد قرا يلك ، فالتجأ قرا يلك إلى السلطان وكاتبه واحتمى به واشتد الحصار على قلعة كختا ولم يبق إلا أخذها فطلب صاحبها الأمان ، فآل الأمر إلى أنه يبعث ولده لهنا وينزل عن القلعة بعد رحيل السلطان ، فتوجه السلطان إلى جهة كرر وسارت الأثقال إلى عينتاب فنازل السلطان قلعة كركر في أوائل جمادى الآخرة ونزل قرقماش من قلعة كختا فتسلمها نواب السلطان ، وطرق جماعة من عسكر قرا يوسف قلعة تناسر فنهبوا بيوت الأكراد ، وعدا منهم جماعة الفرات فركب عليهم بغا نائب ملطية فساروا إلى خرت برت ، وقرر السلطان شاهين الحاجب في نيابة كركر وكزل بغا في نيابة كختا .
وفي سابع رجب عاود السلطان ألم رجله فركب المحفة عجزا عن ركوب الفرس ، فنزل الفرات في مركب وصحبته خاصته إلى أن وصل قلعة الروم وقرر أمرها .وفي سابع رجب قدم كتاب اقباي نائب الشام أن قجقار نائب حلب رحل عن حصار كركر بغير علمه ، فوصل كتاب قجقار يعتذر عن ذلك بأنه بلغه أن قرا يوسف واقع قر يلك فهزمه وأن من معه خافوا من قرا يوسف ، فلما حل ذلك رحل فأجيب نائب الشام بأن يستمر على الحصار ، ووقع الغضب على قجقار ، ثم طلب خليل نائب كركر الصلح من نائب الشام فراسل السلطان في ذلك ، ودخل السلطان حلب في ثالث عشر رجب فوجد أهلها في وجل شديد من قرب قرا يوسف ، فاطمأنوا بحضور السلطان ، وأمر السلطان بتكملة القصر الذي كان جكم قد شرع في عمارته فعمر في أسرع وقت ، وقعد السلطان فيه في آخر الشهر وأمر بصلب مقبل القرماني ورفاقه ، ووصل النواب في سابع عشر رجب ، فأغلظ السلطان لقجقار يوبخه على سرعة رحيله ، فأجاب بغلظة فأمر بالقبض عليه فسجن بقلعة حلب ثم أفرج عنه من يومه وأرسله إلى دمشق بطالا ، وقرر يشبك نائب طرابلس في نيابة حلب ، وقرر بردبك في نيابة طرابلس ، وقرر ططر رأس نوبة موضع بردبك ، ونقل جارقطلو إلى نيابة صفد ، وقرر في نيابة حماة نكباي ونقل خليل الجشاري نائب صفد حاجبا بطرابلس فاستعفى فأعفي ، وقرر عوضه سودون -قرا صقل وتوجه النواب إلى بلادهم ، وحضر السلطان حميد الدين رسول قرا يوسف ورسول صاحب حصن كيفا يسأل أن ينعم عليه بانتسابه إلى السلطان واستمراره نائبا من نوابه ، فخلع على قاصده وخلع على قاصد قرا يوسف وأعيد إلى مرسله .
وفي شعبان أصلح السلطان بين حديثه أمير آل فضل وبين غنام ابن زامل وحلفهما على الطاعة ، وخلع على محمد بن دلغادر بنيابة الأبلستين .
ووصل قاصد كردي بك ومعه سودون اليوسفي أحد من هرب في وقعة قانباي فسمر تحت قلعة حلب ثم وسط .
وفي شعبان قبض ابن عثمان على محمد بن قرمان وعلى ولده مصطفى بعد أن حاصره بقونية واستولى عليها وعلى غالب بلاد ابن قرمان قيسارية وغيرها .
وفي أواخر شعبان سجن طرغلي وابن عمه طغريل ابنا سقل سيز وسجنا - بقلعة حلب ، وقرر محمد بك - التركماني في نيابة شيزر عوضا عن طرغلي ، وقرر مبارك شاه في نيابة الرحبة عوضا عن عمر ابن شهري .ووصل في سابع عشر شعبان كتاب قرا يلك واسمه طورغلي التركمان بأنه اصطلح مع قرا يوسف وتسلم قرا يوسف عنه مدينة صور وعوضه عنها بألف ألف درهم ، ومائة فرس ومائة جمل ورحل عنه إلى تبريز في رابع شعبان ، فقريء كتابه على العسكر فاطمأنت نفوس أهل حلب بعد أن كانوا تهيئوا للرحيل إلى القاهرة فرارا من قرا يوسف ، وثم وصلت الكتب من نائب البيرة وقلعة الروم ونائب كختا ونائب ملطية بنظير كتاب قرا يلك ، فرحل السلطان من حلب في ثامن عشر شعبان ، ودخل دمشق في ثالث رمضان ، وقبض على أقباي نائب الشام وسجنه بقلعة دمشق ، وكان المؤيد قد اشتراه صغيرا ، ورباه ورقاه في خدمته إلى أن صار دويدارا كبيرا ثم ولاه نيابة حلب ثم دمشق وكان يتدين ويحب العدل ويسمو بنفسه وعلو همته إلى معالي الأمور ، وكان السلطان غضب منه لكونه آوى جماعة من العصاة الذين خرجوا مع قانباي فهم به ، فبلغه ذلك فقدم مسرعا فأغضى السلطان عنه ورده إلى نيابة الشام ، فنقل عنه بعض أعدائه أنه يهم بالخروج على السلطان ، فاستدعاه السلطان يوم الركب ووبخه وعدد له من ذنوبه وأمر بالقبض عليه ، وقرر تنبك في نيابة الشام بعد امتناع ، ورضى عن قجقار القردمي وقرره أميرا بتقدمة ألف بمصر ، وأفرج عن الطنبغا العثماني ونقله إلىالقدس بطالا ، وقرر في نيابة حلب يشبك اليوسفي وفي نيابة القلعة شاهين الدويدار الأرغون شاه - فأحسن السيرة وشرع في تحصين البرجين بسفح القلعة : أحدهما وهو القبلي سوق الخيل ، والآخر وهو الشمالي على باب الأربعين ، وبذل الجهد في ذلك ، وأمر المؤيد بعمارة السور القديم . الذي استهدم من زمن هلاكو وهو محيط بمدينة حلب .
وبرز السلطان من دمشق في رابع عشرة ، وقدم بيت المقدس في خامس عشر منه ، وفرق على الفقراء مالا ، وجلس بالمسجد الأقصى بعد الصلاة ، وقريء البخاري بحضرته من ربعة وختم ، ومدح الوعاظ ، وكان وقتا حسنا ، ثم توجه إلى الخليل فزار وتصدق أيضا ، ووصل إلى غزة في ثامن عشر منه ، وصلى العيد على المصطبة المستجدة ظاهر غزة ، ورحلوا من آخر يوم العيد فقدم خانقاه سرياقوس تاسع الشهر فأقام بها إلى رابع عشر شوال ، وبات ليلة النصف بخليج الزعفران فأصبح باكره فرأيته - خلع على الأمراء وأصحاب الوظائف ، وكانت خلعالقضاة بسمور إلا المالكي فإنها كانت بسنجاب لكونه لم يسافر معهم ، ودخل القاهرة في نصف الشهر وابنه إبراهيم يحمل القبة على رأسه فشق القاهرة وقد زينت له ، ودخل جامعه الجديد ومد له - الأستادار سماطا حافلا فأكل منه ، ثم مد له سماط آخر حلوى فتنوهبت ، ثم ركب إلى القلعة وفرش الأستادار لخيله شققا حريرا من أوائل الحسينية إلى القلعة .
وفي تاسع عشرة استقر طوغان أمير آخور عوضا عن تنبك يبق نائب الشام ، وقرر الطنبغا المرقبي وكان نائب قلعة حلب في الحجوبية الكبرى ، وقرر قجقار القردمي أمير سلاح على عادته قبل نيابة حلب ، وخلع على الأستادار بالاستمرار وأضيفت إليه أستادارية إبراهيم ابن السلطان ، ورخصت الجمال عند خروج الحجاج جد الكثرة ما ورد مع العسكر .
ثم ركب السلطان في ثاني عشري شوال إلى الصيد ورجع فنزل بيت الأستادار ، فخدمه بعشرة آلاف دينار ، وركب من منزله حتى شاهد الميضاة ، التي أنشأها الأستادار بجوار الجامع المؤيدي ، وكان فرغ الأستادار منها في مدة يسيرة .
وفي خامس عشري من شوال استعفى فخر الدين الأستادار من الوزارة فقرر فيها أرغون شاه وكان أستادار نوروز بالشام في السادسوالعشرين من شوال فباشر الوزارة بحرمة وصولة ، وقدم الأستادار للسلطان عند قدومه من السفر أربعمائة ألف دينار عينا ، ثمانية عشرة ألف إردب غلة ، فمن ذلك أربعين ألف دينار حصلها من ديوان الوزارة بعد التكفية في هذا المدة اللطيفة ، وثمانون ألف دينار جباها من النواحي ، وثلاثون ألف دينار من ماله هو ، وكان حمل إلى الشام قبل ذلك مائة ألف دينار ، فاستعظم السلطان ذلك وتقرر عنده أنه لا نظير له في المباشرين ، ولم يسمع فيه بعد ذلك لومة لائم ، فعوجل فخر الدين عن قرب ولم ينفعه ما ظلم الناس به .
وفي يوم الثلاثاء العشرين من شوال أدير المحمل وقرر أمير الحاج يشبك الدويدار الثاني ، ولم تكن العادة بإدارته إلا يوم الاثنين أو الخميس واتفق أن أمير الركب هذا لما بلغه ما وقع لأخيه آقابي - نائب الشام خشي على نفسه فهرب من المدينة بعد الرجوع ، فقام بأمر الحاج اسنبغا الفقيه إلى أن وصلوا إلى القاهرة ، وأخبر الحاج لما رجعوا بأن السنة كانت شديدة الرخص حتى بيع الجمل الدقيق بستة دنانيرأفلورية - ويقال إنه استقام على الذي جلبه باثني عشر .
وفي الرابع والعشرين من شوال أخرج قباي ومن بالقلعة من المسجونين فخرج نائب القلعة في إثره إلى باب الجديد وركب نائب الشام فأغلق آقباي باب القلعة واعتصم بها ، وحاصره تنبك يبق وراسل السلطان بذلك ، واستمر يومين ، فوشي إلى النائب بأن آقباي قد خرج في النهر ومشى فيه إلى طاحون باب الفرج فقبض عليه هناك وعلى بعض أصحابه ، فعوقب عقوبة شديدة على صنيعه ثم قتل بأمر السلطان وقدم برأسه في الثاني من ذي الحجة ، وقرر في نيابة القلعة شاهين الحاجب الثاني وقرر في الحجوبية عوضه كمشبغا طولو .
وقرر في تقدمة التركمان عوضه شعبان بن اليغموري أستادار الديوان المفرد بدمشق .
وفي تاسع ذي القعدة وصل رسول قرا يلك في هذا الشهر فانحل سعر عامة المبيعات من الغلال وغيرها ، وكان في الظن أن يلغو ذلك بقدوم العسكر فجاء الأمر بخلاف ذلك .
فلما كان في ذي الحجة قلت الغلال وزاد سعر القمح وغيره مائة درهم الإردب وأزيد ، وكان السبب في ذلك قلة المطر في الشتاء فجفت الزروع وهافت ، فمنع من عنده قمح وغيره من البيع ، فلطف الله تعالى بنزول الغيث في رابع عشر ذي الحجة وهو الموافق لإمشير فجادت الزروع ونمت وزكت وتراخى السعر ولله الحمد .وفيها عصى محمد شاه بن قرا يوسف على أبيه في بغداد وامتنع من الوصول فأراد أبوه أن يحاصره ، فأشير عليه بعدم التعرض له فتركه ، وشرع محمد المذكور في جمع المال فحصل منه شيئا كثيرا .
وفيها قتل الشيخ نسيم الدين التبريزي نزيل حلب وهو شيخالحروفية وقد تقدم ذكر شيخه فضل الله في حوادث سنة أربع وثمانين ، وأما هذا فإنه سكن حلب وكثر أتباعه وشاعت بدعته فآل أمره إلى أن أمر السلطان بقتله فضربت عنقه وسلخ جلده وصلب ، وقد وقع لبعضأتباعه كائنة في سلطنة الأشراف وأحرقت كتابه معه فيه هذا الإعتقاد وأردت تأديبه فحلف أنه لا يعرف ما فيه وأنه وجده مع شخص فظن أن فيه شيئا من الرقائق فأطلق ، بعد أن تبرأ مما في الكتاب المذكور تشهد والتزم أحكام الإسلام ، وكان سبب وقوع ذلك أن شخصا شريفا قدم من الشام وذكر أنه لم يزل يسعى في الإنكار على هؤلاء إلى أن عثر بهذا وكتب له مرسوم بالقيام عليهم في بلاد الشام ، ثم قدم علينا شخص من أهل أنطاكية فذكر لنا عنهم أمورا كثيرة وكتب له مراسيم بالقيام عليهم وذلك في سنة 841 .
من الحوادث غير ما يتعلق بسفر السلطان
في المحرم وضعت جاموسة ببلقس مولودا برأسين وعينين وأربعة أيد وسلسلتي ظهر ودبر واحد ورجلين اثنتين لا غير وفرج واحد أنثى والذنب مفروق باثنين ، فكانت من بديع صنع الله .
وفي العشرين من المحرم عرض القاضي زين الدين عبد الباسط الكسوة التي استعملها فكانت في غاية الحسن ، وكان الموت في جمال الحاج كثيرا فتضرر طوائف من الحاج وغلا السعر معهم .
وفي أواخر المحرم صرف منكلي بغا عن الحسبة وأعيدمحمد بن يعقوب .
وفي صفر توجه فخر الدين الأستادار إلى الوجه البحري فأسعره نارا من كثرة المصادرات حتى فرض على كل قرية وكفر وبلد ذهبا معينا فحصله في أسرع مدة ومنع من بيده رزقه من قبض خراجها . وكان ذلك شيئا عظيما إلا أنه رجع عن ذلك . واستقوى على المستضعفين وتتبع من يعرف بالمال في الوجه البحري فبالغ في استخلاص الذهب منهم بالمصادرة والرماية وغير ذلك .
وفي ربيع الأول ابتدأ فخر الدين الأستادار بهدم الأماكن التي بظاهر المقس إلى قنطرة الموسكي إلى ما يقابل داره الجديدة التي كانت تعرف بدار بهادر الأعسر وكانت تعرف قديما بدار الذهب وهي مطلة على الخليج الحاكمي . فشرعوا في الهدم ونقل التراب فدخل في ذلك من الدور والمساجد والحوانيت ما يكون قدر مدينة كبيرة ، وأراد أن يعمل ذلك بستانا كبيرا فشرع فيه ، ثم أجرى الماء بعد وفاء النيل من الخليج الناصري ومات قبل أن يتم ما أراد من ذلك فصارت تلك النواحي مكانة مهولة بالأتربة .
وفي حادي عشر ربيع الأول قدم فخر الدين بن أبي الفرج من الوجه البحري ، وفيه تهدمت الدور التي أحدثت فوق البرج الذي يجاور باب الفتوح واتخذ هناك مكان وأمر السلطان بحبس أولى الجرائم فيه عوضا عن خزانة شمائل ، وفيه كثر الإرجاف بمجيء الفرنجفشرع أهل الإسكندرية في حفر الخندق واستعدوا لذلك .
وفيه شرع فخر الدين في التجهز إلى جهة الصعيد ليفعل فيها ما فعله في الوجه البحري ، فاستعد لذلك وجمع فرسان العربان من كل جهة وأوسع لهم في إخراج العدد التامة من أنواع السلاح ، ووسع لهم في العطايا .
وخرج في سادس عشره في جمع كثير فأوقع بطوائف منهم يقال لهم عرب لهانة بناحية القلندون والأشمونين فانهزموا ، واستمر متوجها وحصل له من البقر والجاموس والجمال والغنم ما لا يدخل تحت الحصر فإن بعضه هلك وبعضه وصل وشرعوا في رميه على الناس وقرر على البلاد الصعيدية نحو ما قرر على البلاد البحرية .
وفيه مات فرج بن الناصر فرج بن الظاهر برقوق بالإسكندرية مطعونا ، فشاع بالقاهرة أنه هو وأخوه والخليفة ماتوا جميعا فلهج الناس بأنهم ماتوا بالسم ، ثم تبين فساد ذلك وأنه لم يمت إلا هذا وحده بالطاعون ، وانكسرت بموته حدة كثير من المماليك السلطانية الناصرية ، وكانوا في كل وقت يشاع أنهم يريدون الثورة ليسلطنوه ، وفشا الطاعون بالإسكندرية ودمياط ، ووقع منه بالقاهرة شيء يسير بلغ في اليوم أربعين نفسا .
ومن الحوادث أن السلطان نزل في سادس ذي الحجة وحده بغير أمير من الأمراء إلى الجامع بباب زويلة فنظره وطلع إلى أعاليه وشاهد المواضع التي أخرت من الأبنية ولم يكن صحبته سوى الأستادار وكاتب السر ونحو عشرة من المماليك ، فلما نزل من الجامع دخل بيت كاتب السرثم خرج منه فدخل بيت زين الدين عبد الباسط ناظر الخزانة الشريفة .
وفي سابع عشر ربيع الآخر سقط من العمارة بالمؤيدية عشرة أنفس ، فمات أربعة وكسر ستة .
وفي أواخر ربيع الآخر توجه مفلح رسول صاحب اليمن وصحبته بكتمر السعدي مملوك ابن غراب رسولا عن السلطان .
في يوم الجمعة ثاني جمادى الأولى أقيمت الخطبة بالجامع المؤيدي ولم يكمل منه سوى الإيوان القبلي وخطب به عز الدين عبد السلام . . . أبن أحمد المقدسي الشافعي نيابة عن القاضي ناصر الدين البارزي ، وتوجه الصاحب بدر الدين بن نصر الله ناظر الخاص إلى الشام في عاشر الشهر ومعه محضر بما أنفق في المؤيدية وكان ولده صلاح الدين حينئذ شادا بها ،ثم قدم فخر الدين الأستادار من الصعيد ومعه ستة آلاف بقرة وثمانية آلاف رأس غنم وألفا جمل وألفا قنطار قند ، ومن العبيد والإماء شيء كثير جدا خارجا عن الذهب ، وشرع في رمي ذلك على الناس فعم الضرر أهل البوادي والحواضر ، وحصل في هذه المدة اللطيفة من المال شيئا كثيرا أرصده لمجيء السلطان .
وفي جمادى الأولى وقف النيل ونقص شيئا كثيرا ، ثم عاد واستمرت الزيادة فانحل سعر القمح بعد أن غلا .
وفي جمادى الآخرة صرف ابن يعقوب عن الحسبة وقرر عماد الدين ابن بدر الدين ابن الرشيد المصري ، وكان ينوب في الحسبة عن التاج وغيره فسعى في الحسبة عن التاج وغيره فسعى في الحسبة استقلالا عند نائب الغيبة ، وألزم تعمير البرجين اللذين أحدهما بباب السلسلة تحت القلعة ، وقدرت الغرامة عليهما بخمسمائة دينار فلم يمكن الأستادار مخالفته وكان ابن يعقوب من جهته ، فاستمر معزولا وساءت حال عماد الدين بعد ذلك وهرب كما سيأتي ، ولو سلك طريق أبيه لكان أولى به فإن أباه ناب في الحسبة أربعين سنة متوالية ولم يطلب الاستقلال قط فمضى على سداد إلى أن مات ، وانتهت زيادة النيل في هذه السنة في سادس عشر توت إلى عشر أصابع من عشرين ذراعا .
وفي السادس من شعبان أمسك نصراني زنى بامرأة مسلمة فاعترفا بالزناء فحكم شرف الدين عيسى الأقفهسي برجمهما ، فرجما خارج باب الشعرية ظاهر القاهرة عند قنطرة الحاجب ، وأحرق النصراني ودفنت المرأة ،وعاب الناس على القاضي صنيعه هذا من عدة أوجه منها استبداده بذلك وإسراعه بالحكم ودعوى المرأة الإكراه ولم يقبل ذلك منها إلا ببينة فأحضرت واحدا ولم يؤخرها حتى تسمع الشهادة لكون النصراني أسلم لما تحقق الرجم وغير ذلك ، ثم جاني المذكور وتنصل مما نقم عليه ، فالله أعلم .
وفي سادس شعبان رفع إلى الأستادار أن نصرانيا في خدمته يقال له ابن الحضري وقع منه ما يقتضي إراقة دمه فأحضر القاضي المالكي وكان من جيرانه وحضر معه خلق كثير ، فادعى عليه فأنكر ، فتشطرت البينة فحكم القاضي بتعزيره ، فعند ما جرد ليضرب أسلم فترك واستمر ، يباشر وهو غير محب الدين الآتي ذكره ، وقرئ البخاري بالمدرسة المؤيدية ، وحضر من كان يحضر في القلعة .
وفي هذا الشهر منع النصارى من تكبير العمائم ، ولبس الفراجي والجبب بالأكمام الواسعة كهيئة قضاة الإسلام ، وركوب الحمر الفره واستخدام المسلمين .
وفي نصف شعبان وصل كتاب السلطان من حلب بشرح سيرتهفي السفرة المذكورة في بلاد الروم وما ملك من القلاع التي لم يملكها أحد من الترك قبله وغير ذلك . فقرأته في الجامع الأزهر وكان يومه مشهودا .
وفي الثامن عشر من شعبان أسلم الأسعد ابن الحضرمي النصراني كاتب الأستادار ، وكان يميل إلى المسلمين حتى حفظ قطعة القرآن وشدا طرفا من النحو ، فسماه فخر الدين محمدا ولقبه محب الدين .
وفي رمضان مات قاضي الحنابلة بدمشق شمس الدين ابن عبادة ، وقرر بعده القاضي عز الدين المقدسي الحنبلي ، ومات ابن عرب في أواخر ذي القعدة ، واستقر عوضه في تدريس المؤيدية الشيخ محب الدين أحمد بن الشيخ نصر الله البغدادي .
وفي ثامن عشر رمضان توجه بركات بن حسن بن عجلان إلا مكة ، والتزم فخر الدين الأستادار عنه وعن أبيه بمال للسلطان .
وفيه هم فخر الدين بنقل سجن أصحاب الجرائم المسمىبالخزانة إلى نصر الحجازية واستأجره وأمر بعمارته ، ثم شغل عنه فلم يتم .
وفي ثامن ذي القعدة سار إبراهيم بن سلطان إلى الوجه القبلي لأخذ تقادم العربان وولاة الأعمال فقام بخدمته ابن محب الدين الكاشف .
وفي حادي عشر ذي القعدة قدم محمد وخليل ولدا الناصر فرج من الإسكندرية بعد الاعتقال بإذن السلطان ، وقدمت رمة أخيهما فرج فدفنت عند جده الملك الظاهر .
وفي ذي القعدة خرج السلطان إلى البحيرة فوصل إلى رأس القصر ، ثم رجع فنزل القصر الذي أنشأه كاتب السر بالشاطئ الغربي قريب منباية .
ثم في هذا الشهر كان لبعض أهل الصعيد غنم يزيد على عشرين ألف رأس فرعت في بعض المراعي فماتت عن آخرها ، وقيل إن ذلك من المراعي وكان فيه من حشائش السم .
وفي سلخ ذي القعدة نودي أن يكون كل رطل ونصف من الفلوس بنصف درهم فضة من المؤيدية ، وبلغ الذهب إلى مائتين وثمانين والأفلوري إلى مائتين وستين ، وأمر الأستادار والوزير وناظر الخاص أن يشتريامن الفلوس ما استطاعوا ، ففرض على الأستادار مائة ألف دينار وعلى الآخرين مائة ألف دينار ، وأمر أن يحصلوا بثمنها فلوسا ، ونودي : من كان عنده فلوس فليحملها إلى الديوان السلطاني وينكل من امتنع من حملها أو سافر بها ، وساق فخر الدين الأستادار في الأضاحي إلى السلطان خاصة ألف رأس من الكباش العلوفة ومائة وخمسين بقرة ، وقام عنه في التفرقة على الأمراء وغيرهم بعشرة آلاف رأس .
وفي سادس عشريه نزل السلطان إلى الجامع المؤيدي ثم إلى بيت كاتب السر وهو بثياب جلوسه .
وفي رابع عشري ذي القعدة أضيفت الحسبة إلى أقبغا شيطان الوالي وصرف عماد الدين ، وقرر سودون القاضي في كشف الصعيد وصرف بدر الدين ابن محب الدين وأمر بإحضاره .
وفي تاسع عشري ذي الحجة قدم إبراهيم بن السلطان من السفر .
وفي ذي الحجة كانت الفتنة بدمياط ، وكان وإليها ناصر الدين محمد السلاخوري سيء السيرة غاية في الظلم والفسق كثير التسلط على نساء الناس وأولادهم . فتعرض لناس يقال لهم السمناوية يتعيشون بصيد السمك من بحيرة تنيس ومساكنهم بجزائر يقال لها العزب بضم العين وفتح الزاي بعدها موحدة فأنفوا من سوء فعله وفحش سيرته فتجمعواليوقعوا به ففر إلى داره فحاصروه الأدب أنهما ليسا له لأنه لم يقع له قريب من ذلك . بها ، فرماهم بالنشاب فقتل منهم واحدا وجرح ثلاثة ، فازداد حنقهم وتكاثروا إلى أن هجموا عليه . فهرب في البحر في سفينة إلى الجزيرة فتبعوه فتناوبوا ضربه وردوه إلى البلد وحلقوا نصف لحيته وشهروه على جمل والمغاني تزفه ثم قتلوه . ثم أخرجوا الوالي من الحبس فأرادوا إثبات محضر يوجب قتله ، فبادر سفهاؤهم فقتلوه وسحبوه وأحرقوه بالنار ونهبوا داره وسلبوا حريمه وأولاده فقتل من أولاده صغير في المهد وقيل مات من الرجفة ، فكانت هذه الكائنة من الفضائح .
وفي تاسع عشري ذي الحجة طرق جمع من الحرامية وفيهم فارسان داخل القاهرة فمروا على باب الجامع الأزهر ووصلوا إلى رحبة الأيدمري ، فنهبوا عدة حوانيت وقتلوا رجلين ورجعوا إلى حارة الباطلية فتوزعوا فيها فلم يتبعهم أحد ، فكانت من الفضائح أيضا .
وفيها في أواخرها مالت المئذنة التي بنيت على البرج الشمالي بباب زويلة للجامع المؤيدي ، وكادت أن تسقط واشتد خوف الناس منها وتحولوا من حواليها فأمر السلطان بنقضها ، فنقضت بالرفق إلى أن أمن شرها ، وعامل السلطان من ولى بناءها بالحلم بعد أن كان أرجف بأنه يريد أن يغرمهم جميع ما أنفق فيها ، فهدمت وشعر في بناء التي تقابلها ،واتفق أن كان ناظر العمارة بهاء الدين ابن البرجي كما تقدم فأنشد تقي الدين بن حجة في ذلك :
على البرج من بابي زويلة أنشئت
منارة بيت الله والمعهد المنجي
فأخنى بها البرج الجنيت أمالها
ألا صرحوا يا قوم باللعن للبرجي
وقال شعبان بن محمد بن داود الأثاري في ذلك وكان قدم القاهرة في هذه السنة .
عتبنا على ميل المنار زويلة
وقلنا تركت الناس بالميل في هرج
فقالت قربني برج نحس أمالني
فلا بارك الرحمن في ذلك البرجي
وكنت قلت قبل ذلك وأنشدتهما في مجلس المؤيد :
لجامع مولانا المؤيد رونق
منارته بالحسن تزهو وبالزين
نقول وقد مالت عن القصد أمهلوا
فليس على جسمي أضرمن العين
فأراد بعض الجلساء العبث بالشيخ بدر الدين العيني فقال له إن فلانا قرض بك . فغضب واستعان بمن نظم له بيتين ينقض هذين البيتين ونسبهما لنفسه ، وعرف كل من يذوق الأدب أنهما ليسا له لأنه لم يقع له قريب من ذلك .وأنشد بعض الأدباء بنقض الأمرين وهو نجم الدين ابن النبيه الموقع :
يقولون في ميل المنار تواضع
وعين وأقوال وعندي جليها
فلا البرج أخنى والحجارة لم تعب
ولكن عروس أثقلتها حليها
وفي هذه السنة ملك أويس بن زادة بن أويس بن حسين البصر ، انتزعها من مانع أمير العرب بعد حروب ، وكانوا انتزعوها منهم من إمارة عمه أحمد بن أويس من أوائل القرن ، وقوى أويس المذكور وانضم إليه عسكر عمه .
وفي أواخر هذه السنة هرب يشبك الدويدار الثاني من المدينة النبوية وهو يومئذ أمير الحاج المصري ، والسبب في هربه أنه بلغه ما اتفق في أفباي نائب الشام وكان من إخوته فخاف ، وبلغه أيضا أنالسلطان كتب إلى مقبل أمير ينبع أن يقبض عليه ، فأخر مقبل ذلك إلى أن رحل المذكور من المدينة فقبض عليه هناك ، فاستشعر ذلك فاختفى بعد رحيل الحاج من المدينة ، فلما نزلوا البركة لم يقفوا له على خبر فسار بهم أقبغا الزيني دويداره وترفق في سيره بالحاج ونبالغ في الإحسان م ، فقدموا وهم يشكرونه ، وكان الرخص كثيرا وكذلك المياه ، ووصل يشبك في هربه إلى بغداد ، فتلقاه محمد شاه بن قرا يوسف فأكرمه ثم هرب منه إلى قرا يوسف نفسه في سنة اثنتين وعشرين فأكرمه وأقام عنده .
وفيات سنة 820
ذكر من مات في سنة عشرين وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم صاحب شماخي وتلك البلاد ، وهو من جملة من ينتمي لقرا يوسف .
أحمد بن أبي أحمد الفراوي المالكي ، اشتغل كثيرا وبرع في العربية وغيرها وشارك في الفنون وشغل الناس ، وقد عين مرة للقضاء فلم يتم ذلك ، مات في تاسع عشر شعبان .
أحمد بن الحسين بن إبراهيم الدمشقي محي الدين ابن المدني ، ولد سنة إحدى أو اثنتين وخمسين ، وعني بصناعة الإنشاء وباشر التوقيعمن صغره في أيام جمال الدين ابن الأثير ، وكان عاقلا ساكنا ، ودخل مصر بعد فتنة اللنك وباشر التوقيع ثم قدم مع شيخ ومعه صهره بدر الدين بن مزهر ، فولي كتابة السر بدمشق في أوائل سنة ثماني عشرة ، وكان عارفا متوددا لا يكتب على شيء يخالف الشرع ، وكان عنده انجماع عن الناس ، وكان ينسب للتشيع ، ومات في صفر وقد أنجب ولده نجم الدين حفظه الله .
أحمد بن يهود ، الدمشقي الطرابلسي شهاب الدين النحوي الحنفي ، ولد سنة بضع وسبعين وتعانى العربية فمهر في النحو واشتهر به واقرأ فيه ، وشرع في نظم التسهيل فنظمه في تسعمائة بيت ، ثم أخذ في التكملة فمات قبل أن ينتهي ، وكان تحول بعد فتنة اللنك إلى طرابلس فقطنها ، وانتفع بها أهلها إلى أن مات بها في آخر هذه السنة ، وكان يتكسب بالشهادة .
أحمد الريفي الدمشقي ثم المكي ، كان يؤدب الأولاد بدمشقخيرا كثير التلاوة ، ثم إنه توجه إلى مكة وجاور بها نحوا من ثلاثين سنة وتفرغ للعبادة على اختلاف أنواعها ، وأضر في آخر عمره ، ومات بمكة .
أقباي الدويدار المؤيدي ، قدمه المؤيد إلى أن ولاه الدويدارية الكبرى ثم نيابة حلب - وقد تقدم ذكر قتله في الحوادث .
أقبردي المنقار ، مات بدمشق ولم يكن محمود السيرة .
أبو بكر بن محمد الجبرتي العابد ، كان يلقب المعتمر لكثرة اعتماره ، وكان على ذهنه فوائد ، وللناس فيه اعتقاد ، وينسبونه إلى معرفة علم الحرف ، جاور بمكة ثلاثين سنة ، ومات في سابع المحرم .
خضر بن إبراهيم ، الروكي خير الدين نزيل القاهرة ، كان من كبار التجار كأبيه ، مات مطعونا في ذي الحجة .
داود بن موسى الغماري المالكي ، عني بالعلم ثم لازم العبادة وتزهد ، جاور بالحرمين أزيد من عشرين سنة ، وكانت إقامته بالمدينة أكثر منها بمكة ، مات في مستهل المحرم .سالم بن عبد الله بن سعادة بن طاحين القسنطيني نزيل الإسكندرية ، وكان أسود اللون جدا فكان يظن أنه مولى وأما هو فكان يدعي أنه أنصاري ، وكان للناس فيه اعتقاد وبين عينيه سجادة ، وقد لازم القاضي برهان الدين بن جماعة واختص به وصار له صيت وطار له صوت ، ثم صحب جمال الدين محمود بن علي الأستادار وكان له تردد كثير إلى القاهرة ومحاضرة حسنة ، وعلى ذهنه فنون ، وله أناشيد وحكايات ، ومات بالإسكندرية في آخر هذه السنة وقد جاوز الثمانين .
عبد الله بن إبراهيم خليل ، البعلبكي الدمشقي جمال الدين ابن الشرايحي ولد سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ، وأخذ عن الشيخ جمال الدين بن بردش وغيره ، ثم دخل دمشق فأدرك جماعة من أصحاب الفخر وأحمد بن شيبان ، ونحوهم فسمع منهم ، ثم من أصحاب ابن القواس وابن عساكر ، ثم من أصحاب القاضي والمطعم ومن أصحاب الحجار ونحوه ومن أصحاب الجزرى وبنت الكمال والمزي ، فأكثر جدا وهو مع ذلك أمي ، وصار أعجوبة دهره في معرفة الأجزاء والمرويات ورواتهاوالعالي والنازل . وليه مع ذلك فضائل ومحفوظات ومذاكرة حسنة ، وكان لا ينظر إلا نظرا ضعيفا ، وقد حدث بمصر والشام ، سمعت منه وسمع معي الكثير في رحلتي وأفادني أشياء ، وكان شهما شجاعا مهابا جدا كله ، لا يعرف الهزل ، وكان يتدين مع خير وشرف ، قدم القاهرة بعد الكائنة العظمى فقطنها مدة طويلة ، ثم رجع إلى دمشق وولي تدريس الحديث بالأشرفية إلى أن مات في هذه السنة .
عبد الله بن أحمد بن عبد العزيز بن موسى بن أبي بكر ، العذري جمال الدين البشبيشي ، ولد في عاشر شعبان سنة 762 ، وقرأ في الفقه والنحو ، وأخذ عن شيخنا الغماري وابن الملقن ، وتكسب بالوراقة وكتب الخط الجيد ، وصنف كتابا في المعرب وكتابا في قضاة مصر ، ونسخ بخطه كثيرا ، وناب في الحسبة عن صاحبنا الشيخ تقي الدين المقريزي ، وكان ربما جازف في نقله ، سمعت من فوائده كثيرا ، ومات بالإسكندرية في ذي القعدة .عبد الرحمن بن محمد بن حسين ، السكسكي البربهي التعزي ، أحد الفضلاء باليمن ، برع في الفقه وغيره ، ثم حج فلما رجع مات وهو قافل في ثالث المحرم .
عبد الوهاب بن نصر الله بن حسن ، الفوي نزيل القاهرة تاج الدين أخو ناظر الخاص ، ولد سنة ستين وسبعمائة ، وباشر بجاه أخيه كثيرا من الوظائف مثل نظر الأوقاف والأحباس وتوقيع الدست ووكالة بيت المال ونيابة كاتب السر في الغيبة وخليفة الحكم الحنفي ، وكان يحب العلم والعلماء ويجمعهم عنده ويتودد لهم ، مات في ثالث عشر جمادى الآخرة ، وكان أبوه إذ ذاك حيا فورثه مع أولاده .
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد العزيز ، النويري ثم المكي القاضي عز الدين ابن القاضي محب الدين ابن القاضي جمال الدين ابن أبي الفضل العقيلي الشافعي ، ولد سنة أربع أو خمس وسبعين واشتغل وهو صغير ، وناب لأبيه في الخطابة والحكم ، ثم اشتغل بعد وفاته في رمضان سنة تسع وتسعين إلى أن صرف في ذي الحجة سنة ثمانمائة بالشيخ جمال الدين ابن ظهيرة ، ثم وليها مرارا ، ثم استقرت بيده الخطابة وغيرها وانفرد جمال الدين بالقضاء ، فلما مات سنة تسع عشرة استقر العز في الخطابة ونظر الحرم والحسبة حتى مات عز الدين في هذهالسنة في ربيع الأول ، وكان مشكور السيرة في غالب أموره ، والله يعفو عنه .
محمد بن أبي بكر بن علي ، المكي ثم الزبيدي - بفتح الزاي - جمال الدين النويري المصري ولد بالذروة من صعيد مصر سنة تسع وأربعين ونشأ بها ، ثم سكن مكة وصحب القاضي وسمع من عز الدين بن جماعة ، واشتغل قليلا ، وكان حسن التلاوة ، طيب الصوت . ثم دخل اليمن بواسطة القاضي أبي الفضل رسولا من مكة إلى السلطان واتصل بالأشرف صاحبها ، فحظي عنده ونادمه وتولى حسبة زبيد ، ثم تركها لولده الظاهر ، وكان حسن الفكاهة فقرب من خاطره وصار ملجأ للغرباء لاسيما أهل الحجاز ، واستمر في دولة الناصر بن الأشرف على منزله بل عظم قدره عنده ، وكان ذا مروءة وتودد ونوادر ومزاح ، وقد تزوج كثيرا جدا على ما أخبرني به ، وهو أخو صاحبنا نجم الدين المرجانيشقيقه ، مات الجمال المصري في ذي القعدة وخلف عشرين ولدا ذكرا .
محمد بن علي بن جعفر ، البلالي نزيل القاهرة الشيخ شمس الدين وبلالة من أعمال عجلون ، نشأ هناك وسمع الحديث واشتغل بالعلم ، وسلك طريق الصوفية وصحب الشيخ أبا بكر الموصلي ، ثم قدم القاهرة فاستوطنها بضعا وثلاثين سنة ، واستقر في مشيخة سعيد السعداء مدة متطاولة مع التواضع الكامل والخلق الحسن وإكرام الوارد ، وصنف مختصر الإحياء فأجاد فيه ، وطار اسمه في الآفاق ورحل بسببه ، ثم صنف تصانيف أخرى ، وكانت له مقامات وأوراد ، وله محبون معتقدون ومبغضون منتقدون ، مات في رابع عشر شوال وجاوز السبعين .
محمد بن علي بن عبد الرحمن بن محمد بن سليمان بن حمزة ، عز الدين ابن العلاء ابن البهاء بن العز بن التقي سليمان المقدسي الحنبلي ، ولد سنة أربع وستين وسبعمائة ، وعني بالعلم ، وسمع على ست العرب بنت محمد ابن الفخر وغيرها ، ومهر في الفقه والحديث ، وأخذ عن ابن رجب وابن المحب ، وكان يذاكر بأشياء حسنة وينظم الشعر ، ولما توقف على عنوانالشرف لابن المقرئ أعجبه فسلك على طريقه نظما حسب اقتراح صاحبه مجد الدين عليه فعمل قطعة أولها :
أشار المجد مكتمل المعاني
بأن أحذو على حذو اليماني
وحفظ المقنع ، وناب في القضاء عن صهره شمس الدين النابلسي ، ثم استقل به ، ثم عزل بابن عبادة فأكثر المجاورة بمكة ، ثم ولي المنصب بعد موت ابن عبادة فلم تطل مدته ، ومات عن قرب في ذي القعدة ، ودرس بدار الحديث الأشرفية بالجبل ، وكان ذكيا فصيحا ، وكان في آخر عمره عين الحنابلة .
محمد بن محمد بن عبادة بن عبد الغني بن منصور الحراني الأصل الدمشقي الحنبلي شمس الدين ، اشتغل كثيرا فمهر وصار عين أهل البلد في معرفة المكاتيب مع حسن خطه ومعرفته ، وكان حسن الشكل بشوش الوجه حسن الملتقى ، ثم ولي القضاء بعد اللنك مرارا بغير أهلية فلم تحمد سيرته ، وكثرت في أيامه المناقلات في الأوقاف ، وتأثل لذلك مالا وعقارا ، وكان عريا عن تعصب الحنابلة في العقيدة ، مات في رجب وله سبع وخمسون سنة وقد غلب عليه الشيب .موسى بن علي بن محمد ، المناوي ثم الحجازي الشيخ المشهور المعتقد ، ولد سنة بضع وخمسين ونشأ بالقاهرة . وعنى بالعلم على مذهب مالك حفظ الموطأ وكتب ابن الحاجب الثلاثة وبرع في العربية ، وحصل الوظائف ثم تزهد وطرح ما بيده من الوظائف بغير عوض وسكن الجبل وأعرض عن جميع أمور الدنيا ، وصار يقتات بما ينبته الجبال ، ولا يدخل البلد إلا يوم الجمعة ثم يمضي ، ثم توجه إلى مكة سنة سبع وتسعين وسبعمائة فسكنها تارة والمدينة تارة على طريقته ، ودخل اليمن في خلال ذلك ، وساح في البراري كثيرا وكاشف وظهرت له كرامات كثيرة ، ثم في الآخر أنس بالناس إلا أنه يعرض عليه المال الكثير فلا يقبله بل يأمر بتفرقته على من يعينه لهم ولا يلتمس منه شيئا ، وقد رأيته بمكة سنة خمس عشرة ، وقد صار من كثرة التخلي ناشف الدماغ يخلط في كلامه كثيرا ولكنه في الأكثر واعي الذهن ، ولا يقع في يده كتاب إلا كتب فيه ما يقع له سواء كان الكلام منتظما أم لا ، وربما كان حاله شبيه حال المجذوب ، وكان يأخذ من بعض التجار شيئا بثمن معين وينادي عليه بنفسه حتى يبيعه فيوفي صاحب الدين وينفق على نفسه البقية ، ولم يكن في الغالب يقبل من أحد شيئا ، وكان يكاتب السلطان فمن دونه بالعبارة الخشنة والورع الزائد ، مات في شهر رمضان ، وقيل في شعبان .مهنا بن عبد الله ، المكي ، كان من كبار الصلحاء ، مات بمكة .
نعمان بن فخر بن يوسف ، الحنفي شرف الدين ، ولد سنة ثلاث وأربعين ، وكان والده عالما فأخذ عنه . قدم دمشق وجلس بالجامع بعد اللنك للأشغال ودرس في أماكن ، وكان ماهرا في الفقه بارعا في ذلك ، مات في شعبان .
يحيى البجيلي ، أصله من بجيلة زهران من ضواحي مكة ، فأقام بمكة يتعبد حتى اشتهر ، ومات في هذه السنة .
يوسف بن عبد الله ، البوصيري نزيل القاهرة ، أحد من يعتقده الناس من المجذوبين ، مات في سادس عشري شوال ، ويحكي بعض أهل القاهرة عنه كرامات .
حوادث سنة 821
سنة إحدى وعشرين وثمانمائة
استهل العشر الثالث من المائة التاسعة والخلفية المعتضد داود ، والسلطان الملك المؤيد شيخ ، وملك اليمن الناصر أحمد بن الأشرف ، وأمير مكة حسن بن عجلان ، وأمير المدينة عزيز بن هيازع ، وأميربلاد قرمان محمد بك بن علي بك بن قرمان ومرقب وما معها كرسجى ابن عثمان ، وملك الدشت وصراي أيدكي وملك تبريز وبغداد قرا يوسف ، ونائبه ببغداد ابنه محمد ، وملك فارس وخراسان وهراة وسمرقند شاه رخ ابن اللنك ، وملك تونس وما معها من المغرب أبو فارس ، وسلطان الأندلس ابن الأحمر وأمير تلمسان . . . وأمير فاس . .
وفي ثالث المحرم زوج السلطان أستاداره ببعض أمهات أولاده بعد أن أعتقها ، فعمل لها مهما عظيما ذبح فيه ثمانية وعشرين فرسا وغير ذلك ، وكان إذ ذاك ابتدأ به المرض فلم ينتفع بنفسه .
وفي أول هذه السنة ركب الطنبغا الجكمي نائب درندة على حسين بن كبك فتقنطرت به فرسه فقبض عليه وقتل ، ونزلابن كبك على ملطية فحاصرها ، فبلغ السلطان ذلك فكتب إلى البلاد الشامية أن يخرجوا العساكر إلى قتال حسين بن كبك .
وفي يوم الرابع من المحرم صلى السلطان الجمعة بالجامع الطولوني فخطب به القاضي الشافعي وكان قد طلع ليخطب به في القلعة على العادة ، فوجد السلطان قد ركب قبل الأذان لصلاة الجمعة فتبعه فدخل الجامع الطولوني فدخل قاعة الخطابة ، فوجد خطيب الجامع وهو ولد ابن النقاش قد تهيأ ليخطب فتقدم هو وصعد المنبر ، وحصل للخطيب بذلك قهر .
وفي الثالث من جمادى الأولى قتل حسين بن كبك ، وذلك أن تغرى بردى الجمكي هرب من المؤيد من كختا فأقام بملطية عند نائبها الأمير منكلي بغا ، فسار حسين بن كبك إلى ملطية فحاصرها ، فهرب تغري يردى إلى حسين بن كبك فأكرمه ، ثم سار حسين إلى أرزنكان وتغرى بردى صحبته ليحاصر بزعمه صاحبها ، فغدر تغري بردى بحسين وهما جالسان يشربان فضربه بسكين في فؤاده فمات ، وهرب إلى ملطية ثم توجه منها إلى حلب ، فجهزه نائبها إلى المؤيد وأعلمه بما صنع ، فأكرمهوخلع عليه وأعطاه إقطاعا وخيلا ، وأمر لأمراء أن يخلعوا عليه ، فحصل له شيء كثير .
وفي الخامس من المحرم توجه السلطان إلى وسيم فأقام هناك نحو العشرين يوما ، ثم رجع فنزل بالقصر الغربي بمنبابة وأمر الوالي أن يشعل البحر ، فحصل من قشور النارنج والبيض ومن المسارج شيئا كثيرا إلى الغاية ، وعمرها بالزيت والفتائل ، فأوقدها وأرسلها في الماء ، ثم أطلق في غضون ذلك من النفط الكثير ، فكانت ليلة عجيبة مر فيها من الهزل والسخف ما لا عهد للمصريين بمثله ، وكان الجمع في الجانبين من الناس المتفرجين متوفرا وفي البحر من المراكب جمع جم .
وفي سادس عشري المحرم قبض على بيبغا المظفري أمير سلاح واعتقل بالإسكندرية ، وذلك أن بعض الناس وشى به إلى السلطانفتخيل منه فقبض عليه .
وفي الثامن والعشرين من المحرم نودي بالقاهرة أن كل غريب يرجع إلى وطنه فاضطربت الأعاجم وسعوا في منعه إلى أن سكن الحال واستقروا .
وفي رابع صفر وسط قرقماس نائب كختا في جماعة خارج باب النصر ، وكانوا ممن أحضر صحبة السلطان في الحديد .
وفي سادس صفر عاد السلطان أستاداره في مرضه فقدم له خمسة آلاف دينار ، وتوجه من بيته إلى بيت ناظر الخاص فقدم له ثلاثة آلاف دينار .
وفي هذه الشهر شرع السلطان في تنقيص سعر الذهب فنودي عليه في عاشر صفر أن يكون الهرجة بمائتين وثلاثين والأفلوري بمائتين وعشرين وأن تحط الفضة المؤيدية فتصير بسبعة دراهم كل نصف ، فماج الناس وكثر اضطرابهم ، فلم يلتفت إليهم وأستمر الحال ، ثم أمر الوالي وهو المحتسب أن يطلب الباعة وتحط أسعار المبيعات بقدر ما انحط من سعر الفضة والذهب .
وفي نصف ربيع الأول جمع الوالي الباعة وأصعدهم إلى القلعة فقرر معهم جقمق الدويدار أن يكون الدرهم المؤيدي هو المتعامل به دونالذهب والفلوس ويكون النقد الرائج . وأن لا يأخذ التاجر في كل مائة ليشتري بها شيئا ويبيعه عن قرب إلى درهمين ، وطل من يومئذ النداء في الأسواق بالدراهم من الفلوس وصار النداء بالدراهم بالفضة المؤيدية .
وفي أول صفر عاد السلطان الأمير الكبير من مرض وقع له . ثم رجع إلى بيت جقمق الدويدار فأقام به إلى آخر النهار .
وفي شهر ربيع الأول قدم علاء الدين محمد الكيلاني الشافعي من بلاد المشرق فزار الإمام الشافعي ثم رجع فاجتمع بالسلطان ، وكان قد وصف بفضل زائد وعلم واسع ، فلم يظهر لذلك نتيجة ولم يظهر له معرفة إلا بشيء يسير من الطب ، فكسد سوقه بعد أن نفق وتولى ناكصا خاملا .
وفي رابع عشره انتقض ألم السلطان برجله .
وفي هذا الشهر كاتب أهل طرابلس السلطان في سوء سيرة عاملهم وهو برد بك الخليلي وتجاوزه الحد في الظلم وترك امتثال مراسيم السلطان ،فأرسل يطلبه ، ومنعه أهل طرابلس من الدخول وكان قد خرج للصيد ، فأرسل يطلبه ، فقدم القاهرة في آخر ربيع الأول ، فقرر في نيابة صفد بعد أن قدم مالا جزيلا بعناية زوج ابنته جقمق الدويدار .
وفيه قام أهل المحلة على وإليها ورجموه بسبب مبالغته في طلب الفلوس ، ونزح كثير منهم إلى القاهرة ، ووصل الذهب عندهم إلى سعر مائتين وتسعين من غير هذا الفلوس ، واشتد الأمر في طلبها .
وفيه تنكر السلطان على القاضي جلال الدين البلقيني بسبب كثرة النواب ، فبادر البلقيني فعزل من نوابه ستة عشر نفسا ، ثم أمر بالتخفيف منهم فعزل منه أيضا أربعين نفسا ، ولم يتأخر منهم سوى أربعة عشر نائبا ، ووقعت لأحد النواب الذين بقوا وهو سراج الدين الحمصي كائنه في حكم حكم به وعقد له مجلس فنقض حكمه وتغيب ، والسبب فيه أن القمنى أراد ارتجاع بستان المحلى الذي بالقرب من الآثار فرتب الأمر مع كاتب السر والقاضي علاء الدين ابن مغلى وكان صديقه ، فلما حضر القضاة وأهل الفتيا ظهر للسلطان التعصب فسألني عن القضية وقال : أنت تعرف الحال أكثر من هؤلاء ? فذكرت له جلية الأمر باختصار ، فبادر الحنفي ابن الديري وحكم بنقض حكم الحمصي ، ثم قدم شمس الدين الهروي من القدس فأكرمه السلطان وأنكر على بعض القضاة عدم ملاقاتهوشكر من لاقاه وسلم عليه ، فانثالت عليه الهدايا والتقادم وأجريت له رواتب .
وفي ربيع الأول مات الشريف علي نقيب الأشراف ، فاستقر بعده في النيابة ولده حسن ، وفي نظر الأشراف فخر الدين الأستادار وكان أبل من مرضه .
وفيه وقع بالغربية مطر عظيم وفيه برد كبار زنة الحبة منه مائة درهم تلفت منه زروع كثيرة آن حصادها حتى أن مارسا فيه ثمانمائة فدان تلف عن آخره ومات أغنام كثيرة بوقوعه عليها .
وفيه أفرج عن سودون الاسندمري من سجن الإسكندرية .
وفي الثاني من جمادى الأولى فقبض على أرغون شاه الوزير وسلم للأستادار . وكذلك آقبغا شيطان الوالي ، فتتبع حواشيهما وأسبابهما ، واستقر علي بن محمد بن الطبلاوي في ولاية القاهرة عوضا عن أقبغا ومحمد بن يعقوب الشامي في الحسبة عوضا عنه وبدر الدين ابن محب الدين في الوزارة عوضا عن أرغون شاه ، وأفرج عن أرغون شاه في عاشرجمادى الأولى ، ثم خلع عليه أمير التركمان فسار في جمادى الأول .
فلما كان يوم الأحد سابع عشري جمادى الأولى منع القاضي جلال الدين من الحكم بسبب شكوى جماعة للسلطان لما نزل إلى الجامع بباب زويلة من ابن عمه شهاب الدين العجمي قاضي المحلة وذلك في يوم السبت سادس عشريه فشغر المنصب يوم الأحد والاثنين ، فلما كان يوم الثلاثاء استقر شمس الدين الهروي في قضاء الشافعية بالقاهرة ونزل معه جقمق الدويدار وجماعة من الأمراء والقضاة وحكم بالصالحية على العادة . وكان الهروي قد قدم قبل ذلك في آخر ربيع الأول ، فبالغ العجم في التعصب له ، وتلقاه بعضهم من بلبيس وبعضهم من سرياقوس ، ونزل أولا بتربة الظاهر على قاعدة الأمراء ، ثم طلع إلى القلعة صباحا وسلم على السلطان يوم الأحد مستهل ربيع الآخر .
ولما استقرت قدم الهروي في القضاء راسل البلقيني يطلب منه المال الذي تحت يده من وقف الحرمين فامتنع ، وكان أستأذن السلطان صبيحة عزله هل يدفع المال للهروي أم لا فأمر له أن يتركه تحت يده ، وكان البلقيني لما استقرت قدمه بعد سفر الإخناي إلى الشام في سنةثمان وثمانمائة قد ضبط مال الحرمين وجعله في موضع من داره فتأخر في هذه المدة نحو خمسة آلاف دينار ، فصعب على الهروي منعه من التصرف في ذلك ، وظهر لمن اطلع على ذلك من حواشي السلطان أنه غير مؤتمن عند السلطان وإنما أراد بولايته نكاية البلقيني .
وفي العشرين من جمادى الآخرة عرض الهروي الشهود وأقرهم ، ولم يستنب سوى عشرة ، ثم زاد عددهم قليلا قليلا إلى أن بلغوا عشرين ، واستمر يركب بهيئته بلبس العجم ولم يخطب بالسلطان على العادة واعتذر بعجمة لسانه ، فاستناب عنه ابن تمرية وكان يخطب بمدرسة حسن فوصفه الأمير ططر للسلطان ، فأذن له في النيابة عن الهروي ، وباشر الهروي القضاء بصرامة شديدة وإعجاب شديد زائد ، ثم مد يده إلى تحصيل الأموال فأرسل رجلا من أهل غزة يقال له نصف الدنيا إلى الصعيد ومعه مراسيم بعلاماته وقرر على كل قاض شيئا ، فمن بذله كتب له مرسومه ومن امتنع استبدل به غيره ، فكثر فحش القول فيه ، ثم فوضإلى الأعاجم مثل العينتابي وابن التباني ويحيى السيرامي وشمس الدين الفرياني الذي عمل قاضي العسكر قضاء بلاد اختاروها ، فاستنابوا فيها وقرروا على النواب أن يعملوا لهم شيئا معينا . وأرسل إلى الوجه البحري آخر على تلك الصورة ، ثم تصدى للأوقاف سواء كانت مما يشمله نظره أم لا ففرض على من هي بيده شيئا معلوما وصار يطلب من الناظر كتاب الوقف فيحضره له فيحبسه حتى يحضر له ما يريد ، فترك كثير منهم كتب أوقافهم عنده حتى عزل فاستخلصوها .
وفي أول هذه السنة حاصر إبراهيم بن رمضان طرسوس واستمر محاصرا لها أربعة أشهر وأكثر ، فكاتب نائبها شاهين الأيدكاري السلطان يستنجده ويعلمه بأنه بلغه أن محمد بن قرمان عزم على التوجه إلى طرسوس ، فلما كان في الخامس عشر من شهر رجب نازل محمد بن قرمان طرسوس ، فانتمى إبراهيم بن رمضان المذكور ، فبلغ ذلك السلطان فأرسل إلى حموة بن إبراهيم المذكور يقرره في مكان أبيه في نيابة أذنة ويحرض نائب حلب على اللحاق بشاهين الأيدكاري بطرسوس ، ووقع بين أهل طرسوس وابن قرمان حرب شديد ، فاتفق أن ثار بمحمد بنقرمان وجع باطنه فاشتد عليه ، فرحل عنها في سابع شعبان .
وفيها تواقع على بن دلغادر وأخوه محمد فانتصر وانهزم علي ، فأدركه يشبك نائب حلب فأضافه محمد وقدم له وحلف له على طاعة السلطان .
وفيها أوقع تنبك نائب الشام يعرب آل علي قريبا من حمص ، فنهب منهم ألف جمل وخمسمائة جمل ، فباع الرديء منها وجهز البقية وهي ألف وثلاثمائة إلى السلطان .
وفيها استنجد نائب ملطية السلطان فكتب إلى نائب طرابلس أنه يتوجه بعسكرها بحدة له ، وأرسل مالا كثيرا يعمر به خانا وقيسارية وطاحونا وزاوية ويوقف ذلك عليها . وجملة المال أربعون ألف دينار .
وفي ثاني عشر جمادى الآخرة قرر شهاب الدين أحمد الأموي في قضاء دمشق عوضا عن عيسى المغربي المالكي .
وفي سادس عشرة ضرب عنق المقدم على بن الفقيه أحد المقدمين بالدولة بعد أن ثبت عنه ما يوجب إراقة دمه .
وفي جمادى الأولى أوقع سودون القاضي كاشف الوجه القبلي بعرب بني فزازة ونهب أموالهم وقتل منهم خلقا كثيرا ، فهرب من نجا منهم إلى البحرية ، فتلقاهم دمرداش نائب الكشف بالوجه البحري فاستأصلهم ونهب أموالهم فانحسم أمرهم .وفيه سجن جار قطلي نائب حماة بالإسكندرية .
وفيه توجه الأستادار فخر الدين إلى الوجه القبلي وختم بالجيزة ، وسار في طوائف كثيرة من العربان والمماليك ، وشرع في تتبع العربان المفسدين ، فلما انتهى إلى هوارة فروا منه فتتبعهم إلى قرب أسوان فقاتلوه ، فقتل منهم نحو المائتين ، وانهزم البقية إلى جهة ألواح الداخلة .
وفيها في جمادى الأولى نفل شاهين الزرد لحاش من الحجوبية بدمشق إلى نيابة حماه ونقل بلبان من نيابة حماه إلى الحجوبية بدمشق .
وفيه خلع على علي بن أبي بكر الجرمي أمير جرم ، واستقر على عادته .
زفيه جهز السلطان إلى نائب الكرك نواب القدس والرملة وغزة ليجتمعوا معه على كبس بني عقبة ، وأسر إلى نائب غزة أن يقبض على نائب الكرك ، وكان السلطان غضب عليه لكونه لم يخرج لملاقاته حين عاد من بلاد الروم ، فقبضوا عليه في جمادى الآخرة وحمل إلى دمشق فسجن بها .
وفي الثالث والعشرين من ربيع الآخر استقر برسباي الدقماقي أحد مقدمي الألوف بالقاهرة في نيابة طرابلس عوضا عن بردبك نقلا من كشف التراب ، ونقل بردبك إلى نيابة صفد ، وأعطى فخر الدين الأستادار إقطاع برسباي ، وأعطى بدر الدين الوزير إقطاع فخر الدين ، ثم اعتقل برسباي بقلعة المرقب في شعبان كما سيأتي ، وهو الذي آل أمره إلى استقراره في السلطنة بعد خمس سنين .وفي هذه الشهر كتب محضر المئذنة المقدم ذكرها وهدمت ، وأغلق باب زويلة بسبب ذلك ثلاثين يوما ، ولم يقع منذ بنيت القاهرة مثل ذلك .
وفي جمادى الأولى تحرك عزم السلطان على الحج ، وقويت همته في ذلك ، وكتب إلى جميع البلاد بذلك وأمرهم بتجهيز ما يحتاج ، وعرض المماليك الذين بالطباق وغيرهم من يسافر معه للحج وأخرج الهجن ، فجهز جملة من الغلال في البحر إلى ينبع وجدة ، وركب إلى بركة الجيش ، فعرض الهجن في شعبان . ثم ركب إلى قبة النصر ومر في شارع القاهرة وبين يديه الهجن وعليها الحلل والحلي ، وجد في ذلك واجتهد إلى أن بلغه عن قرا يوسف ما أزعجه . ففترت همته عن الحج ورجع إلى التدبير فيما يرد قرا يوسف عن البلاد الشامية وأمر بالتجهيز إلى الغزاة .
وأرسل في ثاني رمضان بتتبع الغلال المجهزة إلى الحج وكان ما سنذكره إن شاء الله قريبا .
وفي حادي عشر جمادى الأولى ولد للسلطان ولد اسمه موسى ، فأرسل مرجان الخازندار مبشرا به إلى البلاد الشامية ، فكان في حركته سبب عزل القاضي نجم الدين ابن حجي قاضي الشافعية بدمشق ، وذلك أنه وصل إلى دمشق فأعطاه كل رئيس ما جرت به العادة ولم ينصفه القاضي الشافعي فيما زعم ، فلما رجع في شعبان أغرى السلطان به ونقل له عن النائب أنه يشكو من القاضي الشافعي المذكور وأنه سأله في حكومة ،فغضب بسببها وبادر بعزل نفسه ، فلما تحقق السلطان ذلك غضب عليه لكونه بادر بعزل نفسه بغير استئذان ، وكتب إلى النائب بحبسه بالقلعة ، واستمرت دمشق شاغرة عن قاض إلى أوائل شوال ، فاستعطف السلطان عليه حتى رضي عنه وأعاده ، ومات موسى بن السلطان المذكور في ليلة شوال .
وفي سادس عشر جمادى الأولى دخل السلطان المارستان المنصوري وصلى في محراب المدرسة أولا ركعتين . وكان الشيخ نصر الله أخبره أنه رأى النبي e جالسا في المحراب المذكور والسلطان قدامه يقرأ عليه سورة والضحى . ثم دخل إلى المرضى فتفقد أحوالهم ، ثم إلى المجانين فقام ذلك اشخص الذي تقدم في سنة تسع عشرة وثمانمائة أنه ادعى أنه يرى الله عز وجل في اليقظة وثبت عند المالكي أنه مختل العقل فسجن بالمارستان ، فكلم السلطان لما رآه وسأله أن يفرج عنه فلم يجبه .
وكان السلطان فوض أمر الأوقاف إلى مسعود الكجحاوي الذي تقدم ذكره في أخبار تمر لنك فكان من جملة أعوان الهرويثم وقع ما بينهما وصار الهروي يؤلب عليه ويذكر معايبه وتصادق مع ابن الديري عليه ، ثم دس الهروي إلى أحمد الحنبكي ورقة يذكر فيها أنه ثبت في جهة البلقيني لجهة الأوقاف والأيتام مائة ألف دينار ، فعرضها أحمد على السلطان وشنع على البلقيني ، فاستعظم السلطان ذلك وبحث عن القضية إلى أن تحقق أنها من اختلاق الهروي فأعرض عن ذلك .
وفي الثالث من جمادى الأولى قدم طائفة من أهل الخلي يشكوا إلى السلطان من الهروي وأنه أعطى بعضهم بيضا وألزمه بعدده دجاجا ، فأرسلهم السلطان وأمره أن يخرج لهم مما يلزمه ، فلم يصنع شيئا وتمادى على غيه ، فأغضى السلطان عنه ولزم فيه غلطه .
وفي أول شعبان وجد السلطان في مجلسه ورقة فيها شعر وهو :
يا أيها الملك المؤيد دعة
من مخلص في حبه لك ينصح
انظر لحال الشافعية نظرة
فالقاضيان كلاهما لا يصلح
هذا أقاربه عقارب وابنه
وأخ وصهر فعلهم مستقبح
غطوا محاسنه بقبح صنيعهم
ومتى دعاهم للهدى لا يفلح
وأخو هراة بسيرة اللنك اقتدى
فله سهام في الجوارح نجرح
لا درسه يقرأ ولا أحكامه
تدري ولا حين الخطابة يفصح
فافرج هموم المسلمين بثالث
فعسى فساد منهم يستصلحفعرضها السلطان على الجلساء من الفقهاء الذين يحضرون عنده فلم يعرفوا كاتبها وطارت الأبيات ، فأما الهروي فلم ينزعج من ذلك ، وأما البلقيني فقام وقعد وأطال البحث والتنقيب عن ناظمها ، فتقسمت الظنون واتهم شعبان الأثاري وكان مقيما بالقاهرة وتقي الدين ابن حجة وشخص ينظم الشعر من جهة بهاء الدين المناوي أحد نواب الشافعي وغيرهم وكانت هذه الأبيات ابتدأ سقوط الهروي من عين السلطان وكانت قد أعجبت السلطان حتى صار يحفظ أكثرها ويكرر قوله : أقاربه عقارب .
فلما كان في رمضان قرئ البخاري بالقلعة على العادة فحضر الهروي وقد اختلق لنفسه أسنادا ليقرأ عليه به صحيح البخاري وأرسل إلى القارئ وهو شمس الدين الجبتي فتناوله منه وهو من أهل الفن فعرف فساده فاقتضى رأيه أن جامله ، فلما ابتدأ بالقراءة قال بعد أن بسمل وحمدل وصلى ودعا : وبالسند إلى البخاري ، فاستحسن ذلك منه ، وخفي على الهروي قصده وظن أنه نسي الورقة ، وتمادى الحضور والسلطان تارة يحضر وتارة لا يحضر إلى أن افتقد القاضي الحنبلي فسأل عن سبب تأخره ، فعرفه كاتب السر أنه يزدري الهروي ويسلبه عن العلم ولا سيما الحديث ، فأذن السلطان للبلقيني في حضور مجلس الحديث ، فحضر وجلس بجانب الهروي ، فلما بلغ ذلك القاضي الحنبلي حضر أيضا وتجاذبا البحث ، وحضرمع البلقيني كثير من أقاربه ومحبيه فصار يركب في موكب أعظم من الهروي ، وتحامى كثير من النواب الركوب مع الهروي خوفا من البلقيني ومما يقاسونه من السب الصريح من أتباعه ، فتقدم الهروي إلى النواب والموقعين بأن لمن لم يكب معه فهو ممنوع ، فتحامى كثير من الناس النيابة عنه وأصر آخرون ، فوقع لواحد منهم يقال له عز الدين محمد ابن عبد السلام المنوفي بحث مع البلقيني فسطا عليه وسأل المالكي أن يحكم فيه ، فاستدعى به إلى بيته وحكم بتعزيره ، فعزر ومنع عن الحكم ، ثم وقع لآخر منهم يقال له شهاب الدين السيرجي فأرسل البلقيني يطلبه إلى بيته ، فامتنع منه واعتصم بالهروي ، ثم حضر الختم فلم يحضر البلقيني وخلع على الهروي وعلى بقية القضاة ، فامتنع الديري من ليس خلعته لكونها دون خلعة الهروي ، فاسترضى فرضي .
فلما كان في التاسع عشر من ذي الحجة حضر السلطان في خاصته في جامعه بباب زويلة واجتمع عنده القضاة ، فتنافس كل من القاضيين الهروي والديري وخرجا عن الحد في السباب والفحش في القول ، ثم سكن السلطان ما بينهما فسكن . وكان السبب في ذلك أنهما اجتمعا للسلام على السلطان بعد رجوعه من الوجه البحري فتباحثا في شيء . فنقل الهروي نقلا باطلا وعزاه لتفسير الثعلبي ، فاستشهد الديري بمن حضر على ذلكوجمع التفاسير وأحضرها ليطلع بها إلى القلعة ، فاتفق حضور السلطان بالجامع فأعاد البحث ، فأخرج النقل بخلاف ما قال الهروي فجحد ، فاستشهد عليه من حضر فلم يشهد أحد ، فسأل السلطان من الفقير إلى الله تعالى كاتبه ومن القاضي المالكي عن حقيقة ذلك ، فأخبراه بصدق ابن الديري ، ثم أخرج ابن الديري عدة فتاوى بخط الهروي كلها خطأ ، فجحد أن يكون خطه ، فحلف الديري بالطلاق الثلاث أن بعضها خطه وانفصل المجلس على أقبح ما يكون .
وفي ثالث جمادى الآخرة وشى إلى السلطان بالأمير جقمق الدويدار أنه مخامر على السلطان وأنه يكاتب قرا يوسف منذ كان السلطان بكختا ، وكان الواشي بذلك رجلا يقال له ابن الدربندي ، وكان قد اتصل بالسلطان من الطريق فجهزه إلى الحج بحسب سؤاله ، فلما رجع ادعى بأنه ينصح السلطان وأن جقمق استدعاه ليرسله برسالة إلى قرا يوسف جوابا عن كتاب حضر ، فأعلم السلطان جقمق بذلك ولم يسم له الناقل ، فقلق قلقا عظيما وكاد أن يموت غما ، واستعطف السلطان حتى أعلمه بالناقل ، فطلبه منه فسلمه له ، فعاقبه فاعترف بأنه كذب عليه بتسليط بعض الأمراء عليه ، وأحضر من بيته وتدا مجوفا بالحديد من رأسه في طيه كتاب رق لطيف مكتوب بالفارسية بماء الذهب جوابا عن الأمير جقمق لقرا يوسف ، وطلب جقمق الخراطين وأراهم الوتد فعرفه بعضهم وقال : نعم ، أنا خرطت هذا لشخص أعجمي ولم يعطني أجرته إلى الآن ، فأحضر المذكور فعرفه ، ثم تتبعوا من يكتب بالعجمي ، واتهمواالشيخ نصر الله إلى أن ظهرت براءة ساحته ، وغمز على أعجمي كان ينزل في مدرسة العتباني ، ثم مرض فحمل إلى المارستان فهدد ، اعترف أن الكتاب خطه وأن ابن الدربندي هو الذي أملأه عليه وادعى ابن الدربندي أن الذي ألجأه إلى ذلك الأمير الطنبغا الصغير بغضا منه في جقمق ، فغرق الدربندي في النيل ، ونفي الشخص الذي استعمل الوتد إلى قوص ، ومات الكاتب عن قرب بالمارستان ، وبرئت ساحة جقمق عند السلطان ولم يتغير ما بينه وبين الطنبغا الصغير لتحققه كذب ابن الدربندي . واشتد غضب جقمق من طائفة العجم ، فرسم عن إذن السلطان بتسييرهم إلى بلادهم ، وشدد في ذلك حتى ألزم من بالخوانق وبالمدارس بالسفر فضجوا وتعصب لهم الهروي وغيره ، ولم يزالوا يستعطفون السلطان إلى أن أهمل أمرهم .
وفي ثامن جمادى الآخرة قدم فخر الدين الأستادار من الصعيد وصحبته عشرون ألف رأس من الغنم سوى ما تلف وألف وثلاثمائة رأس رقيق وثلاثة آلاف رأس بقر وتسعة آلاف رأس جاموسة ومن القند والعسل شيء كثير جدا ، فقوم عليه جميع ذلك بمائة ألف دينار والتزم بالقيام بها ، ثم بعد مجيئه من الصعيد خلفته هوارة في ألف فارسوألفي راجل فكبسوا على سودون القاضي الكاشف ، وكان عنده حينئذ ينال الأزعري أحد مقدمي الألوف فتواقعوا ، فبلغ ذلك السلطان فأرسل نجدة عظيمة فيها جقمق الدويدار وططر رأس نوبة والطنبغا المرقبي وقطلوبغا التنمي في جمع كثير ، فتوجهوا فوجدوا الأميرين قد انتصرا وقد قتل منهم جماعة ، وكانت الدائرة على هوارة فانهزموا ، وحمل منهم عشرون رأسا إلى القاهرة . ثم وصل الأمراء فتتبعوا هوارة إلى أن أوقعوا بهم أيضا ، فقتلوا منه نحو الخمسين وهرب باقيهم إلى الواحات الداخلة وتركوا حريمهم وأموالهم ، فغنموا منهم شيئا كثيرا ، وقدموا القاهرة في ثامن شعبان وصحبتهم ألفا جمل واثنا عشر ألف رأس غنم سوى ما تلف وسوى ما توزعه الأمراء وأتباعهم ، وجهز أزدمر الظاهري أحد المقدمين في عدة من العسكر للإقامة ببلد الصعيد بسبب العربان المفسدين .وفيها مات إبراهيم ابن الدربندي صاحب بلاد الدشت ، فتوجه قرا يوسف في ستة آلاف فارس إلى شماخي ، فواقعه ابن إبراهيم في عساكر الدشت فهزمه وقتل منهم ناس كثير ، وتوجه ابن تمر لنك إلى جهة تبريز لمحاربة قرا يوسف ، فاشتغل قرا يوسف بما دهمه من ذلك ، فمشى قرا يلك إلى ماردين وهي من بلاد قرا يوسف ، فكسر عسكرها وقتل منهم نحوا من سبعين نفسا ، واخذ من بلادها ثماني قلاع ومدينتين ، وحول أهل اثنتين وعشرين قرية بأموالهم وعيالهم ليسكنهم ببلاده ، واستمر على حصار ماردين ، فلما بلغ ذلك قرا يوسف انزعج منه وسار ، ففر منه إلى آمد فتبعه ونازله بها ، فانهزم منه إلى قلعة نجم وأرسل إلى نائب حلب ليستأذنه في الدخول إليها ، فاشتد الأمر عنه على أهل حلب خوفا من عسكر قرا يوسف وتهيأوا للخروج منها ، وأرسل نائب حلب كتابه وكتاب قرا يلك بما اتفق من قرا يوسف .
وفيه أن قرا يوسف كبس قرا يلك بعد أن عدا الفرات ووصل إلى نهر المرزبان ، فهجموا عليه من سميساط ، فوقعت بينهم مقتلة بمرج دابق في ثاني عشر شعبان ، فانهزم قرا يلك ونهبت أمواله ، ونجافي ألف فارس إلى حلب ، فأذن له نائبها في دخولها ، فرحل أكثر أهل حلب عنها ، وبلغ ذلك أهل حماة فنزحوا عنها حتى ترك كثير من الناس حوانيتهم مفتحة فم يمهلوا لقفها ، فلما قرئ ذلك على السلطان انزعج وانثنى عزمه عن الحج وأمر بالتجهز إلى الشام وكتب إلى العساكر الإسلامية بالمسير إلى حلب ، وكان دخول الخبر بذلك يوم الاثنين ثالث شعبان بعد المغرب على يد بردبك نائب عينتاب ، وذكر أن ولد قرا يوسف وصل إلى عينتاب فرمى فيها النار فهرب النائب منها ، وأن السبب في ذلك تحريض يشبك الدويدار الذي كان أمير الحاج ، وهرب من المدينة فيقال إنه اتصل بقرا يوسف وأغراه على أخذ الممالك الشامية ، ثم ظهر أن ذلك ليس بحق كما سيأتي ، وجمع الأمراء والخليفة والقضاة ليتشاورا في هذه القضية ، فلما اجتمعوا سألهم عن البلقيني وكان قد أمرهم بأن يحضر ، فعرب بأنه لم يبلغ ذلك فانزعج على بدر الدين العيني لكونه كان رسوله ، واستمر ينتظره إلى أن حضر ، فلما حضر عظمه ، فقص عليهم قصة قرا يوسف وما حصل لأهل حلب من الخوف والجزع وجفلتهم هم وأهل حماة حتى بلغ ثمن الحمار خمسمائة درهموالأكديش خمسين دينارا ، ثم ذكر لهم سوء سيرة قرا يوسف وأن عنده أربع زوجات فإذا طلق واحدة رفعها إلى قصر له وتزوج غيرها حتى بلغت عدة من في ذلك القصر أربعين امرأة يسميهن السراري ويطأهن كما يطأ السراري بملك اليمين ، ثم اتفق الحال على كتابة فتوى تتضمن سوء سيرته فصورت وكتبت ، وكتب عليها البلقيني ومن حضر المجلس ، تتضمن جواز قتاله ، وأعجب السلطان ما كتبه الحنبلي فأمر أن ينسخ ويقرأ على الناس ، وانصرفوا ومعهم مقبل الدويدار الثاني والخليفة والقضاة ، فنادوا في القاهرة بأن قرا يوسف طرق البلاد الشامية وأنه يستحل الدماء والفروج والأموال ويخرب الديار فالجهاد جهاد ولا أحد يتأخر أحد عن المساعدة بنفسه وماله فذهل الناس عند سماع هذا النداء ودهاهم ما كانوا عنه غافلين واشتد القلق جدا ، وكتب إلى نائب الشام أن ينادي بمثل ذلك وفي كل مدينة ، ويضيف إلى ذلك أن السلطان واصل بعساكره ، ثم نودي في أجناد الحلقة بأن يتجهزوا للسفر ، ومن تأخر منهم صنع به كذا وكذا فاشتد الأمر عليهم واستمر عزمهم ، وخيروا بين المشي في خدمة الأمراء وبين الاستمرار في أجناد الحلقة ، وكان السبب في ذلك أن كثير من أجناد الحلقة يخدم في بيوت الأمراء ، فلذلك قلت العساكر المصرية بعد كثرتها لأن العسكركان قبل الدولة الظاهرية ثلاث أقسام : الأول مماليك السلطان ، وهم على ضربين : مستخدمين ومملوكين ، ولكل منهم جوامك وراتب على السلطان ، القسم الثاني مماليك الأمراء ، وهم على ضربين أيضا كذلك ، ومن شرط المستخدمين هنا وهناك أن لا يكونوا من القسم الثالث وهم أجناد الحلقة ، وهم عبارة عمن له إقطاع بالبلاد يستغله ، فلما كثر استخدام السلطان والأمراء من أجناد الحلقة اتحد أكثر الجند فقل العدد بذلك ، فأراد السلطان أن يردهم إلى عادتهم الأولى فشدد في ذلك ، ومع ذلك فلم يبلغ الغرض ولا كاد لتواطي ، المباشرين في ذك على أخذ الرشوة والله المستعان .
وأما قرا يلك فإنه بعد أن التجأ إلى حلب ركب معه يشبك الشيخي نائب حلب وعسكر بالميدان ثم توجه قرا يلك ومعه العسكر . فبلغه أن طائفة من عسكر قرا يوسف قد قربت من البلاد ، فركب قبل الصبح فأوقع بالمقدمة فهزمها . واستفهم من بعض من أسره فأعلمه أن قرا يوسف بعينتاب وأنه أرسل هؤلاء ليكشفوا الأخبار ، ثم وردت كتب قرا يوسف إلى نائب حلب وإلى السلطان يعتذر من دخوله إلى عينتاب ويعاتب على إيواء عدوه قرا يلك ويعلم السلطانبأنه باق على مودته ومحبته وأنه لا يطرق بلاده ، وأن قرا يلك بدأه بالشر وأفسد في ماردين وغيرها ، وحلف في كتابه أنه لم يقصد بلاد السلطان ولا دخول الشام وإنما تقدمه إليه الطائفة الملتجئة من عساكر صاحب مصر ، وجهز السلطان لنائب حلب خلعة وضمن كتابه شكره على ما صنع بحلب ، وكان الأمر كله على ما ذكره ، فإن قرا يوسف أفحش السيرة في ماردين وأسرف في القتل والسبي حتى باع الأولاد والنساء وأحرق المدينة حتى وصل ثمن صغير منهم إلى درهمين ، فلما تحقق السلطان ذلك فتر عزمه عن السفر ، ولما طرق قرا يوسف عينتاب هجم عليها عسكره فنهبوها وأحرقوا أسواقها ، فاجتمع أهلها وصالحوه على مائة ألف درهم وأربعين فرسا ، فرحل عنها إلى جهة البيرة في طلب قرا يلك فحصر البيرة فقاتلوه أهلها يومين ، فهجم البلد وأحرق الأسواق وامتنع أهلها منه بقلعتها ، ثم رحل في تاسع عشر رمضان إلى بلاده ، وكاتب السلطان أيضا يذم قرا يلك ويذم سيرة قرا يلك ويحذره من عواقب صداقته وما أشبه ذلك ، وعوقب قرا يوسف على ما صنعه بأهل عينتاب والبيرة ، فمات ولده شاه بصق وكان هوالسلطان والمشار في دولة والده ، فحزن عليه جدا ، وكانت وفاته بقرب ماردين .
وفي هذه الحركة ابتدأ أمر الهروي في الانحلال ، فأخبرني المحتسب بدر الدين العيني أن السلطان لما انزعج من قصة قرا يوسف وشكا إلى خواصه صورة الحال وأن عنده من الأموال ما يكفي تفرقته على العسكر إلا أنه يخشى إن فرقه أن يحصل له كسره مثلا فيرجع إلى غير شيء فيفسد الحال ، وكان الحزم عنده أن يكون وراءه بعد التفرقة ذخيرة لأمر إن تم ، وكرر ذلك في مجالسه ، واستشار من يجتمع به في ذلك حتى صرح بأنه يريد أن يجمع مالا يفرقه على العساكر ويترك الذي عنده عاقبة ولو أن الذي يجمعه يكون قرضا ، فبلغ ذلك الهروي فقال لأحمد الجنكي : لو أراد السلطان أن أجهز له عشرة آلاف لابس من غير أن يخرج من خزانته دينار ولا درهما من غير أن أظلم أحدا من الرعايا فأنا أقدر على ذلك ، فسئل عن الكيفية ، فقال : يسلم لي ستة أنفس : ولدي ابن الكويز وابن البارزي وعبد الباسط وابن نصر الله وابن أبي الفرج ، فبلغ ذلك أحمد الجنكي للسلطان فبثها في خواصه فبلغتالمذكورين ، فاتفقت كلمتهم على نكب الهروي ونسبته إلى كل بلية وأنه لم يكن قط عالما ولا ينسبوه لعلم ولا ولي القضاء قط وما وظيفته إلا استخلاص المال وشد الديوان ونحو ذلك ، فبالغوا في تقرير ذلك في ذهن السلطان ، واستعان كل واحد منهم بفريق وأعانوه على ذلك حتى سقط من عين السلطان ، وذكر لهم السلطان بأنه كان قال له وهو متوجه إلى قتال قانباي إن أردت المال فخذه من ابن المزلق وابن مبارك شاه وسمي غيرهما من المنسوبين إلى المال من أهل دمشق ، فأكد ذلك عند السلطان تصديق ما ينسب من محبة الظلم ، وكان ذلك سببا في إطراحه .
وفي حال دخول قرا يوسف البلاد الحلبية فر منه كثير من التركمان الأوشرية وغيرهم فنزلوا على صافيتا من عمر طرابلس فافسدوا في تلك البلاد على عادتهم ، فأرسل م برسباي نائب طرابلس ينهاهم عن الفساد . ثم صحت الأخبار برحيل قرا يوسف فراسلهم برسباي في الرحيل إلى بلادهم ، فأجابوا إلى ذلك وتجهزوا ، فكبس عليهم على غرة منهم في أواخر شعبان ، فقتل منهم مقتلة عظيمة قتل فيها ثلاثة عشر نفسا من عسكر طرابلس منهم سودون الأسندمري وانهزم برسباي ،وقد أفحش التركمان في سلب الطرابلسيين حتى رجعوا عراة ، فلما بلغ ذلك السلطان غضب وأمر باعتقال برسباي بقلعة المرقب ، ثم أفرج عنه بسعي ططر وكان من إخوته ونقله إلى دمشق ثم أعطاه تقدمة بها ، فاستمر فيها إلى أن كان عاقبة أمره أن تولى السلطنة بعد هذا ، واستبد بالأمر كله بعد ثلاث سنين ، وجهز سودون القاضي إلى طرابلس أميرا عليها عوضا عنه ، فسافر في شوال .
ولما وصل قرا يوسف في رجوعه إلى ماردين مات ابنه الأصغر ، فيقال إنه من شدة حزنه عليه قال كلاما شنيعا وسيأتي بيانه في حوادث سنة ثلاث وعشرين إن شاء الله .
ولما رجع قرا يوسف إلى تبريز غضب على ولده إسكندر واعتقله ، وأرسل إلى ولده الأكبر محمد شاه صاحب بغداد ، وكان عصى عليه فصالحه .
وفي شوال قدم صريغا دويدار يشبك نائب حلب وصحبته شهاب الدين أحمد بن صالح بن محمد بن السفاح كاتب سر حلب باستدعاء السلطان لهما بشكوى النائب ، فوقفا بحضرة السلطان وتنصلا مما نسبا إليهماوشكيا من النائب بإضعاف ما شكى منهما ، فأمر صربغا بالاستقرار على وظيفته وسفر إلى حلب ، واستعفى ابن السفاح من العود خوفا على نفسه فأعفي ، واستقر في خدمة كاتب السر على توقيع الدست .
وفي تاسع عشر ذي الحجة قدمت أم إبراهيم بن رمضان من بلاد المشرق تستعطف السلطان على ولدها ، فأمر السلطان باعتقالها فاعتقلت ، وعرض أجناد الحلقة وانتقى منهم من يصلح للسفر صحبة ولده ، وكان قد عزم على تجهيزه إلى بلاد ابن قرمان لما تقدم من صنيعه بطرسوس ، وكان أهل طرسوس بعد رحيل محمد بن قرمان عنهم قد كاتبوه بأن يرسل م عسكرا ليسلموا م نائبهم شاهين الأيدكاري لسوء سيرته فيهم ، فأرسل م ولده مصطفى فقدم في رمضان فأخذ المدينة وحصر القلعة حتى أخذ شاهين فأرسله إلى أبيه في الحديد .
وفي أول جمادى الآخرة توجه نائب حلب في عساكرها ومن أطاعه من التركمان إلى قلعة كركر ليحاصرها ، فتحصن خليل نائبها في القلعة وخلا أكثر أهل كركر عنها ، فأقام عليها أربعين يوما ورمى كرومها وحرقها وحرق القرى التي حولها حتى تركها بلاقع ، ولم يزل كذلك حتى فقد عسكره العليق فرجع إلى حلب ولم يتمكن من أخذ قلعة كركر .وفي أول جمادى الآخرة شرع السلطان في بناء المارستان تحت القلعة ، فأمر بتنظيف التراب والحجارة التي بقيت من هدم المدرسة الأشرفية ، وتمادى العمل في ذلك مدة .
وفي شعبان بعد كسر الخليج غرق ولد لبعض البياعين فأراد دفنه ، فمنعه أعوان الوالي حتى يستأذنه ، فمضى فاستأذنه فأمر بحبسه ، ثم قيل له وهو في الحبس : إنك لا تطلق حتى تعطي الوالي خمسة دنانير ، فالتزم بها وخرج فباع موجوده وما عند امرأته أم الغريق فبلغ أربعة دنانير واقترض دينار وأخذ ولده فدفنه وترك المرأة وهرب من القاهرة ، فبلغ ذلك السلطان فساءه جدا . وطلب ابن الطبلاوي الوالي المذكور فضرب بحضرته بالمقارع في الخامس من شوال ولم يعزله ، واستمر في الولاية إلى أن كان ما سنذكره في السنة الآتية .
وفيها حاصر محمد بن قرمان طرسوس وانتزعها من نواب المؤيد ، وكان المؤيد انتزعها من التركمان وكانوا استولوا عليها بعد فتنة اللنك ، فبلغ ذلك المؤيد فجهز عسكرا ضخما وأرسل معهم ولده إبراهيم فخرجوا في أول السنة المقبلة .
وفي هذه السنة انتهت زيادة النيل إلى عشرة أصابع من تسعة عشر ذراعا ، وذلك أنه كان يوم النيروز وكان يومئذ سادس عشري رجب قد انتهى إلى أصبع من تسعة عشر ثم نقص نصف ذراعثم تراجع إلى أن كانت هذه غايته ، وارتفع سعر الغلال بسبب ذلك ، ولما أسرع هبوط النيل بادر كثير من الناس إلى الزرع قبل أوانه ، فصادف الحر الشديد والسموم ففسد أكثره بأكل الدود ، فارتفعت الأسعار في القمح والفول والبرسيم بسبب ذلك ، وعز وجود التبن حتى بلغ الحمل دينار وكان قبل ذلك كل خمسة أحمال بدينار ، ثم ارتفعت الأسعار في ذي الحجة وقل وجود الخبز في الأسواق ، وبلغ سعر الفول ثلاث مائة كل إردب لعزته ، ولم يبلغ القمح سوى مائتين وخمسين .
وفي تاسع شعبان نودي أن لا يتعامل الناس بالدينار المشخص الأفرنتي إذا كان ناقصا ، وكان سبب ذلك أن الأفرنتي زنة المائة منه أحد وثمانون مثقالا وربع مثقال ، هكذا يحضر من بلاده ، فولع به الصيارفة وغيرهم فصاروا يقصونه منهم ويبردونه إلى أن استقر حال المائة ثمانية وسبعين وثلث وانتظم الحال على ذلك ، فكان في الكثير منهم نقص فاحش بحسب ما يقع حين القص من جور القص ففسدت المعاملة جدا ، فنودي أن لا يتعامل بالناقص عن درهم وثمن بل يقص ردعا لهم عن القص ، فمشوا على ذلك شيئا يسيرا ثم رجعوا إلى ما كانوا عليه .
وفي أوائل شعبان عظم الشر بين فخر الدين الأستادار وبدر الدين ابن نصر الله وتفاحشا بحضر السلطان ، ورمى ابن نصر الله فخر الدين بعظائم منها أنه قال له : أكثر ما ثمن به على السلطان حمل المال وجميع ذلك مما يعرف يصنعه قطاع الطريق ولو لا الدين لكنت أصنع كماتصنع بأن أرسل غارة على قافلة من التجار فأبيتهم فيصبحوا مقتولين وآخذ أموالهم ونحو ذلك من القبائح ، فلم يكترث السلطان بذلك وأصلح بينهما .
فلما كان يوم التاسع من شعبان قبض على بدر الدين وسلم لفخر الدين ، فما شك أحد في هلاك بدر الدين ، فعامله فخر الدين بضد ما في النفس وأكرمه وقام له بما يليق به وأرسل إلى أهله بأن يطمئنوا عليه ، وركب من الغد إلى السلطان وهو ببركة الحبش بعرض الهجن لأجل الحج ، فلم يزل به يترفق له ويتلطف به ويلح عليه في السؤال في أن يفرج عن ابن نصر الله إلى أن أجابه ، فلما أن عاد أركبه دابته إلى داره فبات بها ، وركب في بكرة النهار الثاني عشر منه إلى القلعة ورجع وقد خلع عليه ، فسر الناس به سرورا كثيرا وعدت هذه المكرمة لابن أبي الفرج واستغربت من مثله .
وفي الثالث من ذي القعدة قبض على بدر الدين بن محب الدين الوزير الذي كان يقال له المشير ، وتسلمه أبو بكر الأستادار بعد إخراق شديد وإهانة ، وكان قد سار في الوزارة سيرة قبيحة وتتبعت حواشيه فقبض عليهم ثم أفرج عنهم على مال ، وقرر في الوزارة بدر الدين بن نصر الله وأعطى تقدمة ألف ، فنزل الأمراء في خدمته وسر الناس وضربت الطبلخاناة في آخر النهار على بابه ، ولم يقع ذلك لصاحب قلم تزيا بزي التركية من المتعممين قبله بل الذين وصلوا إلى ذلك من ذوي الأقلام ،غيروا هيأتهم ولبسوا عمائم الترك سوى هذا ، وقد تبعه من بعده على ذلك ما سنبينه في الحوادث إن شاء الله تعالى .
وفي رمضان أكملت عمارة المدرسة الفخرية بين السورين ، وقررت فيها الصوفية ، وفوضت مشيختها للشيخ شمس الدين البرماوي ، ودرس الحنفية للقاضي شمس الدين الديري . ودرس المالكية للقاضي جمال الدين المالكي ، ودرس الحنابلة للقاضي عز الدين البغدادي ثم القدسي الذي ولي عن قرب تدريس الحنابلة بالمؤيدية ، ولم يستطع فخر الدين الأستادار الحضور عند المدرسين لشدة مرضه وتمادى به الأمر إلى أن مات في سادس عشر شوال ودفن بها في فسقية اتخذت له بعد موته .
واستقر في الاستاوارية نائبة في الكشف على الوجه القبلي أبو بكر ابن قطلبك بن المزرق وكان زوج اخته فسكن في داره .
واستقر في نظر في الإشراف عوضا عنه كاتب السر ابن البارزي . وأوصى فخر الدين بجميع موجوده للسلطان وعينه في دفاتر ، واشتملت قيمتها ما بين عين وأثاث على أربعمائة ألف دينار ، فتسلمها أصحاب السلطان ولم يشوش على أحد من أولاده ، وإنما صودر بعض حاشيته على مال وأطلقوا .
وفي شوال حضر القضاة القصر الكبير وقد لبس الأمراء والمباشرون الخلع على العادة فلبس القضاة خلعهم إلا الحنبلي فسلموا على السلطان ، فتغيظ على الحنبلي لعدم لبسه خلعته وقال له : إن العادة جرتأن القضاة يحضرون معهم بخلعهم فقال : ظننت أنه يخلع عليهم من عند السلطان فلم أحضر بخلعتي ، فلم يعجب ذلك السلطان فكأنه أراد تلافي خاطره فاستأذنه في إنشاد آبيات مدح له فيه فأذن له ، فأنشده وهو قائم فأطال ، فمل منه وقطع الإنشاد وركب الفرس ومضى وأظهر النفار لما ركب .
وفي حادي عشر ذي القعدة توجه السلطان إلى الوجه البحري للسرحة وانتهى إلى مريوط فنزل فأقام بها أربعة أيام فأعجبه البستان الذي هناك . وكان الظاهر بيبرس قد استجده هناك وكان كبيرا جدا وفيه فواكه عجيبة وآثار منظره بديعة وبئر لا نظير لها في الكبر وعليها عدة سواقي من جوانبها . وكان البستان المذكور قد صار للمظفر بيبرس ووقفه على الجامع الحاكمي ، فتقدم السلطان إلى بعض خواصه باستئجاره وتجديد عمارته فشرع في ذلك ، ورجع السلطان من الوجه البحري فأدركه عيد الأضحى بناحية وردان ، فخطب به كاتب السر ابن البارزي وصلى به صلاة العيد وضحى هناك ، وفقد الناس بالقاهرة ما كان يألفونه من تفرقة الأضاحي لغيبة السلطان والأمراء والله المستعان .
ووصل في الثاني عشر إلى البر الغربي فغدا إلى بيت كاتب السر بن البارزي فبات فيه ليلة الثلثاء وطلع إلى القلعة سحرا . فوافاه القضاة والأعيان للسلام عليه ، فتكلم الديري على قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قومن من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم فنقل الديري سبب النزول فنازعه الهروي ، وكان بينهم ما سنذكره في حوادث أول السنة المقبلة .وفيها استقر القاضي جمال الدين محمد بن أحمد بن محمد بن محمود بن إبراهيم ابن روزبة الكازروني ثم المدني الفقيه الشافعي في قضاء المدينة الشريفة مضافا إلى الخطابة والإمامة وصرف عبد الرحمن بن محمد بن صالح . ومولد الكازروني فيما قرأت بخطه في سابع عشر ذي القعدة سنة 757 .
وفيات سنة 821
ذكر من مات في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم بن بابي - بفتح الموحدتين - العواد المغني ، كان مقرباعند السلطان أبي النفس ، المنتهي في جودة الضرب بالعود ، ولم يخلف بعده مثله ، مات ليلة الجمعة مستهل شهر ربيع الأول ببستان الحلي وكان قد استأجره وعمره .
اجترك القاسمي في مشترك .
أحمد بن أبي بكر بن محمد بن الرداد ، المكي ثم الزبيدي الصوفي ثم القاضي شهاب الدين الشافعي ولد سنة ثمان وأربعين ، ودخل اليمن فاتصل بصحبة السلطان الأشرف إسماعيل بن الأفضل فلازمه ، واستقر من الندماء ثم صار من أخصهم به ، وكانت لديه فضائل كثيرة ناظما ناثرا ذكيا إلا أنه غلب عليه حب الدنيا والميل إلى تصوف الفلاسفة ، فكان داعية إلى هذه البدعة يعادي عليها ، ويقرب من يعتقد ذلك المعتقد ، ومن عرف أنه حصل نسخة الفصوص قربه وأفضل عليه ، وأكثر من النظم والتصنيف في ذلك الضلال المبين إلى أن أفسد عقائد أكثر أهل زبيد إلا من شاء الله ، ونظمه وشعره ينعق بالاتحاد ، وكان المنشدون يحفظون شعره فينشدونه في المحافل يتقربون به ، وله تصانيف في التصوف ، وعلىوجهه آثار العبادة لكنه كان يجالس السلطان في خلواته ويوافقه على شهواته إلا أن لا يتعاطى معهم شيئا من المنكرات ولا يتناول شيئا من المسكرات ، وولي القضاء بعد الشيخ مجد الدين بسنتين وكان الناصر ابن الأشرف ترك القضاء شاغرا هذه المدة ينتظر قدوم عليه بزعمه ، فسعى فيه بعض الأكابر للفقيه الناشري فخشي ابن الرداد أن يتمكن الناشري من الإنكار عليه في طريقته ، لن الناشري كان من أهل السنة وشديد الإنكار على المبتدعة ، وكان يواجه ابن الرداد بما يكره والشيخ مجد الدين يداهنه فبادر إلى طلب الوظيفة من الناصر والناصر لا يفرق بين هذا وهذا ويظن أن ابن الرداد عالم كبير فولاه له مع كونه مزجي البضاعة في الفقه عديم الخبرة بالحكم فأظهر العصبية وانتقم ممن كان ينكر عليه بدعته من الفقهاء فأهانهم وبالغ في ردعهم والحط عليهم ، فعوجل وصاروا يعدون موته من الفرج بعد الشدة ومات في ذي القعدة ، وقد سمعت من نظمه وأجاز في استدعاء أولادي .
أحمد بن علي بن أحمد ، القلقشندي نزيل القاهرة ، تفقه وتمهر وتعانى الأدب ، وكتب في الإنشاء وناب في الحكم ، وكان يستحضر الحاويوكتب شيئا على جامع المختصرات ، وصنف كتابا حافلا سماه صبح الأعشى في معرفة الإنشاء وكان مستحضرا لأكثر ذلك ، مات في جمادى الآخرة عن خمس وستين سنة .
أقبغا شيطان ، وكان حسن المباشرة قليل الفسق ، ولي شد الدواوين ثم الولاية ثم الحسبة وجمع بين الثلاثة مرة ، وقتل في ليلة سادس شعبان .
الطنبغا العثماني مات في ثاني عشر شوال بطالا بالقدس .
بردبك الخليلي ، نائب صفد ، مات في نصف شهر رجب .
بيسق أمير أخور الظاهري ، مات بالقدس بطالا ، وكان الناصر نفاه إلا بلاد الروم فقدم في الدولة المؤيدية فلم يقبل المؤيد عليه ثم نفاه إلى القدس فمات بها في جمادى الآخرة ، وله آثار بمكة ، وكان كثير الشر شرس الخلق جماعا للأموال مع البر والصدقة .
حسين بن علي بن محمد بن داود ، البيضاوي الأصل المكي أبو عمر بدر الدين المعروف بالزمزمي ، ولد قبل السبعين ، وأجاز له الصلاح ابن أبي عمر وابن أميلة وحسن بن الهبل وجماعة من القادمين مكة بعد ذلك ، واشتغل بالعلم ومهر في الفرائض والحساب ، وفاقالأقران في معرفة الهيئة والهندسة ، وحدث باليسير ، مات في ذي الحجة وقد جاوز الخمسين .
حسين بن كبك - تقدم في الحوادث .
خليل بن محمد بن محمد بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن ، الأقفهسي المصري المحدث المفيد ، يلقب صلاح الدين وغرس الدين ، ويكنى أبا الصفا ، ويعرف بالأشقر ، ولد سنة ثلاث وستين وسبعمائة تقريبا ، واشتغل بالفقه قليلا واشتغل في الحساب والفرائض والأدب ، ثم أحب الحديث فسمع بنفسه قبيل التسعين من عزيز الدين المليجي وصلاح الدين البلبيسي وصلاح الدين الزفتاوي وأبي الفرج بن المعزى ونحوهم من الشيوخ المصريين ، ثم حج سنة خمس وتسعين وجاور فسمع بمكة من شيوخها ، ثم قدم دمشق أول سنة سبع وتسعين ليسمع من شيخنا بالإجازة أبي هريرة بن الذهبي ، وكان قد أجاز له جماعة ليس عنده إذ ذاك اشهر من أبي هريرة ، فلما وصل إلى دمشق لقي بها شيخنا بالإجازة شهاب الدين ابن العز فأكثر عنه وأخذ عن ابن الذهبي ، وسمعالكثير من حديث السلفي بالسماع المتصل وبالإجازة الواحدة ، ثم قدم سنة ثمان وتسعين فلازمنا في الأسمعة وسافر صحبتي إلى مكة في البحر فجاور بها ، ثم رحل إلى دمشق مرة ثانية فأقام بها فرافقني في السماع في سنة اثنتين وثمانمائة بدمشق ورجع معي إلى القاهرة ، ثم حج في سنة أربع وجاور سنة خمس فلقيته في آخرها مشمرا على ما أعهده من الخير والعبادة والتخريج والإفادة وحسن الخلق وخدمة الأصحاب ، واستمر مجاورا من تلك السنة إلى أن خرج إلى المدينة ثم توجه في ركب العراق ، ثم ركب البحر إلى كنباية من بلاد الهند ثم رجع إلى هرمز ، ثم جال في بلاد المشرق فدخل هراة وسمرقند وغيرهما ، وصار يرسل إلى كتبه إلى مكة بالتشوق ا وإلى أهله ، وقد خرج لشيخنا مجد الدين الحنفي مشيخة ولشيخنا جمال الدين ابن ظهيرة معجما وحرج لنفسه المتباينات فبلغت مائة حديث ، وخرج أحاديث الفقهاء الشافعية ، ونظم الشعر الوسط ثم جاد شعره في الغربة وطارحني مرارا بعدة مقاطيع ، ثم بلغني أنه مات في أول سنة إحدى وعشرين بيزد ، خرج من الحمام مات فجأة ، وأرخه الشريف الفاسي في سنة عشرين - فالله أعلم .
سارة بنت محمد بن أزدمر حماتي ، ماتت في المحرم .سعد الله بن سعد بن علي بن إسماعيل ، الهمذاني ، قدم إلى حلب مع والده وهو شاب ، وكان أبوه سكن عينتاب ، واشتغل سعد الله هذا في العلم وتفقه حنفيا ومهر في ودرس في حلب بمدارس منها ، فاتفق أنه فجأة الموت في رابع جمادى الأولى وأسف الناس عليه ، وكانت جنازته حافلة - ذكره القاضي علاء الدين في ذيل تاريخ حلب .
سليمان بن علي ، القرشي اليمني المعروف بابن الجنيد ، سمع على ابن شداد وغيره ، وولي قضاء عدن مرة ، رأيته بعدن ومات بها .
سودون الأسندمري - تقدم في الحوادث .
عبد الله بن إبراهيم بن أحمد ، الحراني ثم الحلبي الحنبلي ، كان يذكر أنه من ذرية ابن أبي عصرون ، وكان شافعي الأصل ، وولي قضاء الشغر شافعيا وكذا كانت له وظائف في الشافعية ، ثم انتقل بعد مدة حنبليا وولي قضاء الحنابلة بحلب كأنظاره ، وقال القاضي علاء الدين فيتاريخ حلب : كان حسن السيرة ، ولي القضاء ثم صرف ثم أعيد مرارا ، ثم صرف قبل موته بعشرة أشهر فمات في شعبان .
عبد الله بن علي بن يحيى بن فضل الله ، العدوي جمال الدين ابن كاتب السر . ولد سنة أربع وخمسين ، وأحضر على العرضي وأسمع على التباني واستمر يلبس بزي الجندية وله إقطاع ، واستمر من حياة أبيه إلى أن مات محارفا وكان مستورا ، ثم فسد حاله إلى أن عمل نقيبا في بيوت الحجاب ، وقد سمع منه بعض أصحابنا قليلا . وهو آخر إخوته موتا .
عبد الرحمن بن هبة الله ، الملحاني اليماني ، جاور بمكة ، وكان بصيرا بالقراآت سريع القراءة ، قرأ في الشتاء في يوم ثلاث ختمات وثلث ختمة ، وكان دينا عابدا مشاركا في عدة علوم ، مات في رجب .
عبد الغني بن عبد الرزاق بن أبي الفرج ، الأرمني الأصل ، كان جده من نصارى الأرمن فأسلم وولي نظر قطيا وولايتها والوزارة وغيرهماكما تقدم ، وكان مولد فخر الدين سنة أربع وعشرين وسبعمائة ، وتعلم الكتابة والحساب ، وولي قطيا في راس القرن في جمادى سنة إحدى وثمانمائة ، ثم صرف وأعيد لها مرارا ، ثم ولاه جمال الدين الأستادار كشف الشرقية سنة إحدى عشرة ، فوضع السيف في العرب وأسرف في سفك الدماء وأخذ الأموال ، فلما قبض على جمال الدين واستقر ابن الهيصم في الأستادارية بذل عبد الغني أربعين ألف دينار ، واستقر مكانه في ربيع الآخر سنة أربع عشرة ، ثم صرف في ذي الحجة منها بعد أن سار سيرة عجيبة من كثرة الظلم وأخذ المال بغير شبهة أصلا والاستيلاء على حواصل الناس بغير تأويل ، وفرح الناس بعزله ، وعوقب فتجلد حتى رق له أعداؤه ، ثم أطلق وأعيد إلى ولاية قطيا ، فلما قتل الناصر وولي المؤيد ولي كشف الوجه البحري ، ثم ولي الأستادارية في جمادى الأولى سنة ست عشرة ، فجادت أحواله وصلحت سيرته وأظهر أن الذي سار به أولا إنما كان من عيب الناصر لكنه أسرف في أخذ الأموال من أهل القرى ، وولي كشف الصعيد فعاد ومعه من الخيول والإبل والبقر والغنم والأموال ما يدهش من كثرته ، ثم توجه إلى الوجه البحري ففرض على كل بلد وقرية مالا سماه ضيافة ، فجمع من ذلك مالا جزيلا في مدة يسيرة ، ثم توجه إلى ملاقاة المؤيد لما رجعمن وقعة نوروز فبلغه أن المؤيد سمع بسوء سيرته وعزم على القبض عليه ، فهرب إلى بغداد وأقام عند قرا يوسف قليلا ، ثم لم تطب له البلاد فعاد ورمى بنفسه على خواص المؤيد ، فأمنه وأعاده إلى كشف الوجه البحري ، ثم أعاده إلى الأستادارية في سنة تسع عشرة ، فحمل في تلك السنة مائة ألف دينار فسلم له الأستادار قبله بدر الدين بن محب الدين وأمر بعقوبته ، فكف عنه فأخذ من يده وتوجه لحرب أهل البحيرة ومعه عدة أمراء في شوال سنة تسع عشرة فكان الكل من تحت أمره ، ووصل إلى حد برقة ورجع بنهب كثير جدا ، ثم لما مات تقي الدين ابن أبي شاكر أضيفت الوزارة في صفر سنة إحدى وعشرين ، فباشرها بعنف وقطع رواتب الناس وبالغ في تحصيل الأموال ويحوزة ، فكان يوفر كل قليل مالا يحمله للمؤيد فيجل في عينه ويشكره في غيبته مع لين جانبه للناس وتودده لهم ، وكان في كل قليل يصادر الكتاب والعمال ، ثم توجه إلى الوجه البحري وأخذ الضيافة على العادة ولاقى السلطان لما رجع من الشام بأموال عظيمة . ثم توجه إلى الصعيد وأوقع بأهل الأشمونين ورجع بأموال كثيرة جدا ، ثم استعفى عن الوزارة في شوال سنة عشرين فاستقر أرغون شاه ، ثم مرض فعاده السلطان في مرضه ، فقدم له خمسة آلاف دينار فأضاف نظر الإشراف ، ثم توجهالوجه القبلي فأوقع بالعرب وجمع مالا كثيرا جدا ، ثم أصابه الوعك في رمضان واستمر في مرضه ذلك إلى أن مات في نصف شوال سنة 831 ، واشتد أسف السلطان عليه ، وعاش سبعا وثلاثين سنة ، وكان عارفا بجمع المال شهما شجاعا ثابت الجأش قوي الجنان ، وكان في آخر عمره قد ساد وجاد سوى ما اعتاده من نهب الأموال ، وقد جمع منها في ثلاث سنين ما لا يجمعه غيره في ثلاثين سنة ، وكان جده يصحب ابن نقولا الكاتب فنسب فلهذا كان يقال له أبو الفرج بن نقولا أو هو اسم جده حقيقة .
وفي الجملة أبو الفرج أول من أسلم من آبائه ونشأ أبوه مسلما ثم دخل بلاد الفرنج ، ويقال إنه رجع إلى النصرانية ، ثم قدم واستقر صيرفيا بقطية وولي نظرها ثم إمرتها ، ثم تنقلت به الأحوال وبولده من بعده على ما تقدم مشروحا .
علي بن أحمد بن علي بن حسين بن محمد بن حسين بن محمد بن حسين بن محمد بن زيد بن حسين بن مظفر بن علي بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، الأرموي الأصل نزيل القاهرة نقيب الأشرافشرف الدين ابن قاضي العسكر ، وأمه خاص بنت الظاهر أنسب بن العادل كتبغا ، وكان معدودا في رؤساء البلد لإفضاله وكرمه من غير شهرة بعلم ولا تصون ، ومات في تاسع عشر ربيع الأول عن نحو الستين .
علي بن أحمد بن عمر بن حسن ، المهجمي ، كان يسكن بيت الفقيه من عمل بيت حسين باليمن وهو من بيت الصلاح ، وللناس فيه اعتقاد كبير ، ويحكى عنه رحمه الله تعالى مكاشفات وكرامات مع وفور حظ من الدنيا .
قطلوبغا الخليلي ، نائب الإسكندرية وقد تقدم ذكر ولايته في الحوادث ، ومات في نصف ذي الحجة ، ولم تطل مدته في السعادة ، واستقر بعده في نيابة الإسكندرية ناصر الدين محمد بن العطار الدمشقي نقلا من دويدارية نائب الشام ا ، وهو صهر كاتب اسر .
لؤلؤ الطواشي المجبوب كاشف الوجه القبلي ، وليه مرتين ثانيهما في رجب سنة ثماني عشرة ، ثم عزل وصودر وأخذ منه مال جزيل بعد العقوبة الشديدة ، ثم ولي شد الدواليب ومات وهو على ذلك ، وكان من الحمقى المغفلين والظلمة الفاتكين في صورة الناسكين ، مات في شوال .
محمد بن حسين بن محمد بن محمد بن خلف الله ، الشمني - بضم المعجمة والميم وتشديد النون - ثم الإسكندري المالكي كمال الدين ، ولد سنة بضعوستين ، واشتغل بالعلم في بلده ومهر ، ثم قدم القاهرة فسمع بها من شيوخنا وممن قبلهم وسمع بالإسكندرية ، وقدم في الحديث وصنف فيه وتخرج ببدر الدين الزركشي والشيخ زين الدين العراقي ، ونظم الشعر الحسن ، ثم استوطن القاهرة وأصيب في بعض كتبه . وتنزل بالمدرسة الجمالية طالبا في درس الحديث ، ثم نزلت له عنه في سنة تسع عشرة فدرس به ، ثم عرضت له علة في أواخر سنة عشرين ، ثم تفقه ورجع إلى منزله وتمرض به إلى أن مات في شهر ربيع الأول .
محمد بن علي بن نم ، الكيلاني غياث الدين ابن خواجا على التاجر ، ولد في حدود السبعين ، وكان أبوه من أعيان التجار فنشأ ولده هذا في عز ونعمة طائلة ، ثم شغله أبوه بالعلم بحيث كان يشتري له الكتاب الواحد بمائة دينار وأزيد ويعطي معلميه فيفرط ، فمهر في أيام قلائل واشتهر بالفضل ونشأ متعاظما ، ثم مات أبوه وتنقلت به الأحوال ، والتهى عن العلم بالتجارة فصعد وهبط وغرق وسلم وزاد ونقص إلى أن مات خاملا مع أنه كان سيئ المعاملة عارفا بالتجارة محظوظا منها إلا أنه تزوج جارية من جواري الناصر يقال لها سمراء فهام بها وأتلف عليها ماله وروحه وأفرطت هي في بغضه إلى أن قيل إنها سقته السم فتعلل مدة ولم تزل به حتى فارقها فتدله عقله من حبها إلى أن مات ولها بها ، وبلغني أنها تزوجت بعده رجلا من العوامفأذاقها الهوان وأحبته ، فأبغضها عكس ما جرى لها مع غياث الدين ، وبلغني أنها زارت غياث الدين في مرضه واستحللته فحاللها من شدة حبه لها وكانت قد ألزمته بطلاق زوجته ابنة عمه فطلقها لأجلها ، وقد طارحني غياث الدين بمقاطيع عديدة وألغاز وترافقنا في السفر ، ومن شعر غياث الدين في سمراء قصيدة مطولة أولها :
سلوا سمراء عن جربي وحزني
وعن جفن حكى هطال مزن
سلوها هل عراها ما عراني
من الجن الهواتف بعد جن
سلوا هل هزت الأوتار بعدي
وهل غنت كما كانت تغني
يقول في آخرها :
سأشكوها إلى مولى حليم
ليعفو في الهوى عنها وعني
وهذا آخر من عرفنا خبره من المتيمين ، مات في سابع عشر شوال .
محمد بن محمد بن عبد اللطيف بن أحمد بن محمود بن أبي الفتح ، أبو الطاهر الشيخ المسند شرف الدين ابن عز الدين أبي اليمن ابن الكويك الربعي التكريتي ثم الإسكندراني نزيل القاهرة ، ولد في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين ، وأجاز له فيها المزي والبرزالي والذهبي وبنت الكمال وإبراهيم بن الفريشة وابن المرابط وعلي بن عبد المؤمن بن عبد في آخرين ، وأحضر في الرابعة على إبراهيم بن علي الزرزاري ، وأسمعمن أحمد بن كشتغذي وأبي نعيم الإسعردي وابن عبد الهادي وغيرهم ، ولازم القاضي عز الدين ابن جماعة ، وتعانى المباشرات فكان مشكورا فيها ، وتفرد في آخر عمره بأكثر مشايخه ، وتكاثر عليه الطلبة ولازموه ، وحبب التحديث ولازمه ، قرأت عليه كثيرا من المرويات بالإجازة والسماع ، من ذلك صحيح مسلم في أربعة مجالس سوى مجلس الختم ، ولم يزل على حاله متقطعا في منزله ملازما للأسماع إلى أن مات في أواخر ذي القعدة من هذه السنة وقد أكمل أربعا وثمانين سنة ، ولم يبق بعده بالقاهرة من يروي عن أحد من مشايخه لا بالسماع ولا بالإجازة بل ولا في الدنيا من يروي عمن سميت من مشايخه المذكورين رحمه الله تعالى .
محمد ناصر الدين ابن البيطار ، كان في ابتداء أمره يتعانى صناعة البيطرة ، ثم قرأ القرآن واشتغل بالفرائض فمهر في ذلك ، ثم أقبل على الفقه ففاق أقرانه ، وأقرأ في الجامع مدة ولم يترك جائزته ويسترزق منه ، وكان صالحا خيرا دينا ، مات في ربيع الآخر .
مشترك ويقال له اجترك القاسمي ، من كبار الأمراء ، تنقلفي الولايات منها نيابة غزة ، مات في جمادى الأولى .
يوسف بن محمد بن عبد الله ، الحميدي جمال الدين الحنفي ، نسب إلى امرأة كان يقال لها أم حميد ، ونشأ بالإسكندرية وتفقه حتى برع وولي قضاء الحنفية بها وكان موسرا ، مات في خامس عشري جمادى الآخرة وقد زاد على الثمانين ، وكان لا بأس به .
حوادث سنة 822
سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة
استهلت يوم الجمعة ثاني إمشير من الشهور القبطية .
في أول المحرم جهز إبراهيم بن السلطان وصحبته من الأمراء الكبار الطنبغا القرمشي وططر وجقمق وآخرون وصحبته علي بن قرمان وكان قد فر من أخيه محمد إلى السلطان والتجأ فجهز ابنه نصرة له فكان ما سيأتي ذكره ، وتوجه من الريدانية في ثاني عشري المحرم ، وكان السبب في هذه السفرة أن محمد بن قرمان أغار على طرسوس في السنة الماضية ، فقبض على نائبها شاهين الأيدكاري فوصل دمشق في سادس صفر وتلقاه النواب ، ثم وصل حلب في أول ربيع الأول ثم وصل إلى كركر في ثامن عشر ربيع الآخر فحاصر القلعة ، وهرب ابن قرمان في مائة وعشرين فارسا وأخذ منها مالا ورجالا فقيدهم ، وتوجه إلى لارندة فنازلها وهي قاعدة بلاد ابن قرمان وكان ما سنذكره بعد ذلك إن شاء الله تعالى ، ثم وصل إلى قيسارية وهي أعظم بلاد ابن قرمانفي تاسعه ، ثم وصل إلى قونية في نصف ربيع الآخر بعد ما مهد أمور قيسارية ورتب أحوالها وخطب فيها باسم السلطان ونقش اسم السلطان على بابها ، وقرر في نيابتها محمد بن دلغادر نائب السلطنة بقيسارية ، ولم يتفق ذلك لملك من ملوك الترك بعد الظاهر بيبرس فإنه كان خطب له بها ثم انتقض ذلك .
وفيه قدم عجلان بن نعير من المدينة مقبوضا عليه من إمرة المدينة ، ووصل بكتمر السعدي من رسالته إلى صاحب اليمن ومعه كتاب الناصر صاحب اليمن وهديته .
وفيها قرر ناصر الدين بك واسمه محمد بن دلغادر في نيابة قيسارية عن السلطان مضافا إلى نيابة الأبلستين ، وكان تاني بك نائب حلب استولى على طرسوس فأمره المؤيد أن يسلمها لناصر الدين بك فجمع محمد بن قرمان عسكرا ، واستقر مقبل الدويدار الثاني شاد العمارة بالجامع المؤيدي عوضا عن ططر .
وفي ثامن عشري المحرم حضر السلطان بالجامع المؤيدي وحضر عنده القضاة فسألهم عما أعلم به الحجاج من استهدام المسجد الحرامواحتياجه إلى العمارة ، ومن أي جهة يكون المصروف على ذلك ، فجالوا في ذلك إلى أن سأل القاضي الحنبلي قاضي الشافعية الهروي عن أربع مسائل تتعلق بذلك فأجابه فخطأه في جميعها ، وتقاول القاضيان الشافعي والحنفي حتى تسابا . وأفحش الديري في أمر الهروي حتى قال : أشهدك يا مولانا السلطان أني حجرت عليه أن يفتي وحكمت بذلك ، فنفذ حكمه المالكي والحنبلي في المجلس ، وبلغ الهروي من البهدلة إلى حد لم يوصف ، وأعان على ذلك شدة بغض الناس له وتمم عليه ورحيل أعوانه وأنصاره مثل ططر وغيره مع ما هو عليه من قلة العلم وعجمة اللسان .
فلما كان في الثامن من شهر ربيع الأول قدم طائفة من الخليل والقدس صحبة الناظر عليهم حينئذ وهو حسن الشكلي فشكون منه أنه أخذ منهم مالا عظيما في أيام نظره . فابتليت بالحكم بينهم بأمر السلطان ، فتوجه الحكم على الهروي فخرج في الترسيم ، فلما حاذى المدرسة الصالحية خرج الرسل الذين بها من جهة الحنفي فأدخلوه قاعة الشافعية وتوكلوا به . فأرسل قاصده إلى مرجان الخازندار ، فنزل بنفسه وسب الموكلين به ونقله إلى داره .
وفي الثاني عشر منه أمر السلطان أن يوكل بالهروي فوكل بهأربعة ، فشرع في بيع بعض موجوده وأشيع أنه عزم على الهرب ، ثم أمر بإعادة ما أودع تحت يده من مال أجناد الحلقة وجملته ألف ألف وستمائة ألف ، فوجد منه ألف ألف وتصرف في ستمائة ألف ، فكثرت القالة فيه والشناعة عليه بسبب ذلك ، ومنع ابن الديري نواب الهروي من الحكم واستند إلى أن الهروي ثبت فسقه فانعزل بذلك ولو لم يعزله السلطان ، فكفوا .
فلما كان السابع عشر من ربيع الأول نزل السلطان إلى جامعه واستدعى بالبلقيني فأعاده إلى القضاء ، ففرح الناس به جدا لبغضهم في الهروي - وكان ما سنذكره بعد ذلك .
وفي خامس صفر استقر صدر الدين ابن العجمي في الحسبة ، وفرح الناس به لمعرفته وعفته .
وفي سادس عشره توجه ابن محب الدين أمير بطرابلس من جملة الأمراء .
وفي ثامن عشره عمل الوقيد بالبحر كالسنة الماضية .
وفي أواخر صفر ثار المماليك الذين في خدمة السلطان بالطباق وأرادوا إحداث فتنة وامتنعوا من حضور الخدمة وذكروا أن سبب ذلك حقارة الجامكية ، فأمر السلطان أن يزاد كل واحد منهم على قدر ما يريد فرضوا وسكنت الفتنة . وفيه أرسل الطنبغا المرقبي إلى الصعيدوصحبته رقم ) ? ( أمير هوارة ، فطرقه الأعراب فكانت بينهم مقتلة عظيمة ، ثم انهزم العرب إلى الميمون وغنم الطنبغا ومن معه من أغنامهم ودوابهم شيئا كثيرا جدا .
وفي صفر فشا الطاعون بالشرقية والغربية وابتدأ بالقاهرة ومصر ، ثم كثر جدا في ربيع الأول ، وكان في الأطفال كثيرا جدا ، وعم الوباء في بلاد الفرنج ، وفيه عمرت قناطر شينين فبلغ مصروفها خمسة آلاف دينار جمعت من بلاد الجيزة حتى من الإقطاعات والرزق .
وفي تاسع عشري ربيع الأول كسفت الشمس قبيل الزوال فاجتمع الناس بالجامع الأزهر ، فصليت بهم صلاة الكسوف على الوصف المعروف في الأحاديث الصحيحة بركوعين مطولين وقيامين مطولين وكذلك في جميع الأركان المقصودة وغير المقصودة ، ثم خطبت بهم ما يقتضي ذلك بعد أن انجلت الشمس والحمد لله ، واتفق وقوع زلزلة في هذا اليوم بمدينة أرزنكان ، هلك بسببها عالم كثير و انهدم من مباني القسطنطينية شيء كثير وهدمت قيسارية بناها ابن عثمان في برصا وما حولها وهلك بسبب ذلك ناس كثير .
وفي ربيع الأول ركب المحتسب والوالي فطافا بأمر السلطان علىأماكن الفساد بالقاهرة وأراقا من الخمور شيئا كثيرا ، ومنع المحتسب النساء من النياحة على الأموات في الأسواق وعزر طائفة منهن . وألزم ود والنصارى بتضييق الأكمام وتصغير العمائم وبالغ في ذلك .
وفيه تشاجر الوزير والأستادار وتفاحشا ، وخلع عليهما في تاسع عشرة والتزما بحمل مائة ألف دينار .
وفي المحرم قبض على محمد بن بشارة ، وذلك أن السلطان كان أرسل ناصر الدين محمد بن إبراهيم بن منجك إلى دمشق وأمره أن يحتال على ابن بشارة ، فراسله إلى أن ضمن له عن السلطان الرضا ، فلما اطمأن لذلك أرسل أمان السلطان وحلف وأرسل له خلعة فلبسهاوأقبل إلى دمشق ، فتلقاه وبالغ في إكرامه فآمن ، فينا هو آمنا في سوق الخيل فتلقاه ابن منجك فدخلا جميعا إلى بيت نكباي نائب الغيبة ، فلم يستقر به المجلس حتى قبض عليه ، فدفع عن نفسه بسيفه وجرح من تقدم فتكاثرت السيوف على رأسه ، وقض على عشرين من أصحابه فوسط منهم أربعة نفر واعتقل ابن بشارة بدمشق ، ثم أمر السلطان بإحضاره فأحضر في رابع عشري جمادى الأولى .
وفي خامس ربيع الآخر خدع الهروي الموكلين به من الأجناد ففر إلى بيت قطلوبغا التنمي فبلغ ذلك السلطان ، فأمر الوالي الأمير التاج بنقله من بيت التنمي إلى القلعة فسجنه بها في البرج ، ثم أنزله التاج في ثاني عشر من الشهر إلى الصالحية وقد اجتمع بها القضاة فادعى التاج على الهروي بالمال الذي ثبت عليه ، فالتزم بأنه عنده وهو قادر عليه وأنه أدى بعضا وسيؤدي الباقي ، فسجنه في قبة الصالح ووكل به جماعة يحفظونه ، ثم نقل في ثامن عشري الشهر المذكور إلى القلعة ، لأنه كرر شكواه من كثرة سب الناس له من بغضهم فيه حتى خشي أن يأتوا على نفسه ، ثم بادر التاج ونقل الهروي من جامع القلعة إلى مكان عنده بالمطبخ ، ثم سعى عند السلطان في أمره إلى أن أمره بإطلاقه ،فنزل إلى دار استكراها له مرجان الخازندار وراء مدرسة الجاي ، فأقام بها إلى السنة الآتية .
وفي الثاني من جمادى الأولى ولد الملك المظفر أحمد بن الملك المؤيد شيخ فقدر الله أنه يلي السلطنة في أول سنة أربع وعشرين وعمره سنة واحدة وثمانية أشهر وأيام .
وفي الثالث من جمادى الأولى قرر كاتبه في تدريس الشافعية بالمؤيدية ، وقرر يحيى بن محمد بن أحمد العجيسي في تدريس المالكية ، وقرر عز الدين عبد العزيز بن علي بن العز الذي كان قاضي القدس في تدريس الحنابلة ، وتأخر تقرير مدرس الحنفية وغيره .
وفيها مات رئيس الأطباء إبراهيم بن خليل بن علوة الإسكندراني وكان حاذقا في الطب ، وقدم شخص يقال له نظام الدين أبو بكر محمد بن عمر بن أبي بكر الهمذاني الأصل التبريزي المولد سنة 757 وكان فاضل الشام فأحضره السلطان إلى القاهرة وكان ادعى في الطب والتنجيم دعوى عريضة وتناظر هو وسراج الدين عمر بن منصور بن عبد الله البهادري الحنفي ، فاستظهر لبهادري عليه بكثرة استحضاره وذكائه وجمود أبي بكر المذكور ، فلما كاد أمر البهادري أن يتم نكت عليه كاتبالسر أنه لا يدري العلاج وإن كان يدري الطب وأن يده غير مباركة فإنه ما عالج أحدا إلا مات من مرضه ونصيحة السلطان واجبة ، واستشهد بجماعة منهم ابن العجمي فوافقوه فانحل السلطان عنه وصرفهم ، ثم أمرهم أن يتوجهوا إلى المارستان ويكتبوا لمن فيه أوراق لينظر في أمرهم أيهم أصح كتابة ، فلم ينجع من ذلك شيء ، ثم قرر في رئاسة الطب بدر الدين ابن بطيخ .
وفي السابع من جمادى الأولى أحضر بطرك النصارى في الإصطبل بعد أن جمع القضاة والمشايخ فسأله عما يقع في الحبشة من إهانة المسلمين فأنكر ذلك ، ثم انتدب له المحتسب فأنكر عليه تهاون النصارى بما يؤمرون به من الصغار والذل ، وطال الخطاب في معنى ذلك واستقر الحال بأن لا يباشر أحد من النصارى في دواوين السلطان ولا الأمراء ولا غيرهم . ثم أغرى شهاب الدين الإمام ابن أخي قاضي أذرعات السلطان بالأكرم فضائل النصراني كاتب الوزير ، فاستدعى به وضربه بالمقارع بحضرته وشهره بالقاهرة عريانا وسجنه ، ثم آل أمره إلى أن أمر السلطان بأن يقتل فقتل ، فصغر النصارى العمائم ولزموا بيوتهم وضيقوا أكمامهم ومنعوامن ركوب الحمر بالقاهرة وإذا خرجوا في ظاهرها ركبوها عرضا ، فأنف جماعة من النصارى من الهوان فأظهروا الإسلام فانتقلوا من ركوب الحمر إلى ركوب الخيل المسومة وباشروا فيما كانوا فيه وأزيد منه . وألزم النصارى ألا يدخلوا الحمامات إلا وفي أعناقهم الجلاجل وأن يلبس نساؤهم المصبغات ولا يمكنوا من الأزر البيض ، فاشتد الأمر عليهم جدا وسعوا جهدهم في ترك ذلك فلم يعفوا لتصميم السلطان على ذلك .
وفي ثانية قدم الطنبغا المرقبي والأستادار أبو بكر من الصعيد ، ودم الأستادار ما حصله من أموال هوارة فكان مائتي فرس وألف جمل وستمائة جاموسة وألف وخمسمائة بقرة وخمسة عشر ألف راس من الضأن .
وفي جمادى الأولى شرع في عمل الصهريج بجوار خانكاه بيبرس من جهة الملك المؤيد .
وفيه تغير كاتب السر ناصر الدين ابن البارزي على محتسب القاهرة صدر الدين ابن العجمي بعد أن كان هو الذي يقربه من السلطان ويسعى له فأخذ في أسباب إبعاده عن السلطان ، وأعان ابن العجمي على نفسه بلجاجته وتماديه في غيه ، فاتفق أن السلطان في هذه الأيام كان عاوده وجع رجله وانضاف إلى ذلك وقوع وجع في خاصرته وكان في كل سنة ينصل عن قرب في قوة الشتاء وقوة الصيف ، فمنذ عالجه أبو بكر العجمي اشتد ألمه أكثر من كل سنة ، فاتفق أنه استفتى وهو في شدة الوجع عنجواز الجمع بين الصلاتين بعذر المرض فأفتاه بذلك بعض الشافعية من خواصه ، فسأل بعض الحنفية فقال له : قلد الشافعي في هذه المسألة فاتفق حضور ابن العجمي في صبيحة ذلك اليوم فدارت المسألة بين الفقهاء الذين يحضرون عند السلطان ، فبالغ ابن العجمي في الرد على من أفتى بذلك ، فقيل له : قد أفتى به ابن عباس من الصحابة ، فقال : أنا ما أقلد ابن عباس وإنما أقلد أبا حنيفة هذا الذي اضبطه من لفظه فادعى عليه بعد ذلك بتاليب كاتب السر عند القاضي الحنفي ابن الديري انه قال ومن هو ابن عباس بالنسبة إلى أبي حنيفة . فطلبه ابن الديري بالرسل حتى أحضروه مهانا ووكل به بالصالحية .
وفي تاسع عشره طلب ابن الديري ابن العجمي فعزره من غير إقامة بينة عليه بشيء مما ادعى عليه به ، ثم أفرج عنه فجمع نفسه عن الكلام في الحسبة ، فبلغ ذلك السلطان فأنكر ذلك واستدعاه وخلع عليه وأقره على الحسبة ، ففرح الناس بذلك فرحا عظيما ، وكانوا اتهموا القبط في الممالأة عليه وظنوا أن ابن البارزي قبطيا ، وليس كذلك وإنما هو أعان على نفسه حتى اسخط الرؤساء عليه .
وفي جمادى الآخرة تحول السلطان من القلعة في محفة إلى بيت ابن البارزي المطل على النيل وكانا البارزي قد استأجر بيت ناصر الدين بن سلام وأضاف عدة بيوت مجاورة له وأتقن بنيانها ووضعها وضعا غريبا على قاعدة عمائر بلدة حماة ، فأعجب السلطان ذلك إعجابا شديدا واختار الإقامة به حتى يبل من مرضه ، فأقام بها من نصفجمادى الآخرة إلى نصف رجب واستدعى الحراقة الذهبية ، فكان يركب من بيت ابن البارزي إلى القصر الذي بأنبابة ثم منه إلى بيت ابن البارزي وتارة ينام في الحراقة الليل كله وتارة يتوجه إلى الآثار فيها ويرجع إلى رابع عشر رجب ، فتحول إلى بيت الخروبي بالجيزة وكان قد أحضر الحراريق المزينة التي جرت العادة بتزيينها في ليالي وفاء النيل فاستصحبها صحبته مقلعة إلى الخروبية ، واجتمع الناس للفرجة في شاطئ النيل من بولاق إلى مصر ، فمرت في تلك الليالي للناس من النزه والبسط ما لا مزيد عليه مع الإعراض عن المنكرات لإعراض السلطان عنها ، وكان قد تاب من مدة وأعرض عن المنكرات إعراضا تاما ، ثم ركب في سادس عشر رجب من الخروبية في الحراقة إلى المقياس ، ثم نزل في الحراقة الصغيرة إلى الخليج على العادة وركب فرسه وطلع القلعة ، وكان وصول الملك إبراهيم بن السلطان إلى قيسارية ونائبها يومئ ناصر الدين محمد بن خليل بن دلغادر فقرره على نيابته .
وفي سادس عشر جمادى الأولى وصل إبراهيم بن السلطان إلى لارندة وأركلى بها وأرسل يشبك نائب حلب فأوقع بالتركمان ونهب منهم شيئا كثيرا وأرسل عسكرا ضخما إلى محمد بن قرمان فكبسوا عليه ففر منهم ونهب جميع ما وجدوا له من مال وأثقال وخيل وجمال ،ثم غلب العسكر المصري على بلده وهي كرسي بلاد ابن قرمان ، وقرر الملك إبراهيم بن السلطان المؤيد في مملكة ابن قرمان أخاه عليا وخطب في جميع تلك البلاد باسم المؤيد وضربت السكة باسمه ، ثم رجع ابن السلطان إلى حلب وأقام بها لعمارة سورها وأرسل يستأذن أباه على الرجوع وكان دخوله حلب في ثالث شهر رجب ، وكان إبراهيم بن السلطان قبل رجوعه من حلب قد أرسل تاني بك ميق نائب الشام إلى طرسوس فملكها ، ثم إلى أذنة فواقع مصطفى بن محمد بن قرمان وإبراهيم بن رمضان فهزمها ، فتوجها إلى قيسارية في سادس عشر شعبان فقاتلهم محمد بن دلغادر فقتل مصطفى بن محمد بن قرمان في المعركة وقبض على أبيه محمد ابن قرمان فاعتقل ، وأرسلت راس مصطفى إلى القاهرة فوصلت قبل وصول ابن السلطان وذك في سادس عشر رمضان ، ثم توجه إلى القاهرة فتلقاه السلطان إلى سرياقوس ووصل معه نائب الشام تاني بك ميق ودخلوا القاهرة في ثامن عشرى شهر رمضان . وكان ابن السلطان قرر في بلاد محمد بن قرمان أخاه على بن قرمان وتسلم قيسارية محمد ابن دلغادر فواقعه محمد بن قرمان فانكسر وقبض عليه وجهز إلى القاهرة ، وكان قدوم إبراهيم ابن السلطان المؤيد دمشق في خامس عشر رمضان فساروا في تسعة أيام ودخل معهم نائب الشام وخلع عليهم جميعا وزينت لهم البلد ، وكان السلطان استدعى نائب الشام فحضر مسرعا وطلع إبراهيمابن السلطان وبين يديه الأسارى من بني قرمان وغيرهم في القيود منهم نائب نكدة ، وكانت سفرة إبراهيم بن السلطان هذه خاتمة سعادة الملك المؤيد ، فإنه نشأ له هذا الولد النبيه وتم له منه هذا النصر العظيم والشهامة الهائلة ، وجاء الأمراء وغيرهم يشكرون من سيرته و لا يذم أحد منهم شيئا من خصاله ، ثم رجع إلى أبيه في أسرع مدة مؤيدا منصورا ، فلحظتهم عين الكمال فما أخطأت وما حال الحول إلا وأحوالهم قد تغيرت وأمورهم قد تهافتت - فسبحان من لا يتغير ولا يتبدل وفي ثالث شوال قرر جقمق في نيابة الشام عوضا عن تاني بكي ميق وقرر تاني بك ميق في تقدمة ألف على إقطاع جقمق ، واستقر مقبل الدويدار الثاني في وظيفة جقمق في الدوادارية الكبرى .
وفي شعبان اجتمع العوام بالإسكندرية فهجموا أماكن الفرنج فكسروا لهم ثلاثمائة قنينة خمر ثمنها عندهم أربعة آلاف دينار ثم أرقوا ما وجدوه من الخمور ، ولم يعلم لذلك أصل ولا سبب .
وفيها اجتمع ملوك الفرنج على حرب ابن عثمان صاحب برصا ، فاستعد لهم .
وفي يوم الخميس ثامن شهر ربيع الآخر فشا الطاعون وكثر موت الفجأة حتى ذعر الناس . فأمر السلطان المحتسب أن يناديبصيام ثلاثة أيام أولها يوم الأحد حادي عشر ، فصاموا ثلاثة أيام وخرجوا يوم الخميس نصف ربيع الآخر إلى الصحراء ، فخرج الفقهاء والمشايخ والعلماء والقضاة والعامة ، وتوجه الوزير وأستادار الصحبة إلى تربة الملك الظاهر فنصبوا المطابخ السلطانية وباتوا في تهيئة الأطعمة والخبز ، ثم ركب السلطان بعد صلاة الصبح ونزل من قلعة الجبل لابسا ثياب صوف وعلى كتفيه مئزر صوف مسدل وعليه عمامة صغيرة جدا لها عذبة مرخاة عن يساره وهو متخشع منكسر النفس وفرسه بقماش ساذج ، فوجد الناس قد اجتمعوا وحضروا الجميع مشاة . فوقف السلطان بينهم وعجوا بذكر الله ، فنزل السلطان عن فرسه وقام على قدميه والقضاة والخليفة والمشايخ حوله وخلفهم من الطوائف ممن يتعسر إحصاؤه ، فبسط السلطان يديه ودعا وبكى وانتحب والناس يرونه وبقي على ذلك زمانا طويلا ، ثم توجه إلى جهة التربة فنزل وأكل وذبح بيده مائة وخمسين كبشا سمينا وعشر بقرات وجاموستين وجملين وهو يبكي ودموعه تنحدر بحضرة الناس على لحيته ، وترك الذبائح مضطجعة كما هي وركب إلى القلعة ، فتولى الوزير وأستادار الصحبة تفرقتها على الجوامع والخوانك والزوايا ، وقطع منها شيء كثير ففرق على من حضر من الفقراء ، وفرق من الخبز نحو من ثلاثين ألف رغيف ، وبعث إلى السجون عدة أرغفة وقدور أطعمة ، واستمر الناس في الخشوعوالخضوع إلى أن اشتد حر النهار فانصرفوا ، فكان يوما مشهودا لم يتقدم له نظير إلا ما جرت العادة به في الاستسقاء ، وهذا زعموا أه لاستكشاف البلاء فيسر الله عقب ذلك برفع الوباء ، وبلغ عدة من يرد الديوان من الأطفال خاصة من صفر إلى سلخ ربيع الآخر نحو أربعة آلاف طفل ، ومن جميع الناس سواهم قدر أربعة آلاف أخرى وأكثر ما انتهى إلى ثمانمائة في الديوان ، ويقال جاوز الألف والمائتين .
وفي ربيع الآخر اتفق بمصر كائنة عجيبة وهو أن شخصا كان له أربعة أولاد ذكور فلما وقع الموت في الأطفال سألت أمه أن يختنهم ليفرح بهم قبل أن يموتوا ، فجمع الناس لذلك على العادة وأحضر المزين فشرع في ختن واحد بعد آخر ، وكل من يختن يسقى شرابا مذابا بالماء على العادة ، فمات الأربعة في الحال عقب ختنهم ، فاستراب أبوهم بالمزين وظن أن مبضعه مسموم فجرح المزين نفسه ليبرئ ساحته فانقلب فرحهم عزاء ، ثم ظهر في الزير الذي كان يذاب فيه الشراب حية عظيمة ماتت فيه وتمزقت فكانت سبب هلاك الأطفال - ولله الأمر .
وفي التاسع عشر من شهر رجب وشى الشيخ شرف الدين بن التباني بناظر الكسوة زين الدين عبد الباسط بأنه خالف شرط الواقف في عمل الكسوة ، فعقد له بسبب ذلك مجلس وأحضرت الكسوة ، فسأل السلطان القضاة : هل يجوز أن يعمل في الكسوة هذا الذهب والزخرفةمع أن شرط الواقف أن يفرق ما فاض من المال بعد عمل الكسوة على العادة في وجوه البر ، فتعصب الشافعي لعبد الباسط وقال : هذا من وجوه البر ، فنازعه الحنبلي في ذلك ، فلم يصغوا واستمر الحال .
وفي شعبان تزايد ألم السلطان ثم عوفي وركب إلى بركة الحجاج وأجرى الخيل هناك وسابق بينهما بحضرته ، ثم ركب إلى بركة الحبش وسابق بين الهجن .
وفيه سرق الإفرنج رأس مرقص أحد من كتب الأناجيل الأربعة من الإسكندرية وكانت موضوعة في مكان ، ومن شأن اليعاقبة من النصارى أن لا يولوا بطركا حتى يمضي إلى الإسكندرية ويوضع هذه الرأس في حجره ثم يرجع ، ولا تتم هذه البطركية إلا بذلك ، فتحيل بعض الفرنج حتى سرقها من الإسكندرية ، فاستعظم النصارى اليعاقبة ذلك ووقفوا للسلطان بسبب ذلك ، وحج بالناس في هذه السنة التاج الوالي .
وفي رمضان ثارت بالملك الناصر أحمد صاحب اليمن سوداء فاختل عقله واعتقل ، وأقيم في الملك عوضا عنه أخوه حسين بن الأشرف ، وأعانه على ذلك الأمير محمد بن زياد الكاملي ، وكان الغلاء يومئذ ببلاد اليمن شديدا ، ووقع عليه جراد أهلك زروعهم .وفي رمضان غلت الأسعار وبلغ الإردب من القمح ثلاثمائة درهم وأزيد ، وسبب ذلك كثرة الحرامية بالنيل ، فقل الجلب من الوجه القبلي وحمل من الوجه البحري إلى الصعيد من الغلال ما لا مزيد عليه لشدة الغلاء الذي هناك حتى أكلت القطاط والكلاب ، وكان سبب ذلك الغلاء بمصر أن النيل نزل بسرعة فزرعوا في الحر على العادة في السنين الماضية فأفسدت الدودة البرسيم ، وتأخر المطر في الخريف والشتاء في الوجه البحري فلم تنجب الزروع ، وخرج السلطان إلى سرحة البحيرة فأتلف شيئا كثيرا .
وفي رابع عشر شوال عقد مجلس بسبب قرقماش أحد المقدمين من الأمراء ، فادعى عليه مملوك أنه قطع أنفه وأذنه ، فأنكر فأحضر البينة ، فدفعه السلطان للقاضي المالكي .
وفي سابع عشر شوال رحل جقمق إلى دمشق لولاية إمرتها ، وقرر قطلوبغا التنمي في إمرة صفد عوضا عن مراد خجا ، ورسم بنفي مراد خجا الشعباني إلى القدس .وفي يوم الجمعة حادي عشري شوال قرر الشيخ شمس الدين بن الديري في مشيخة المؤيدية وتدريس الحنفية بها ، ونزل السلطان إلى الجامع وخلع عليه ، وباشر فرش سجادته إبراهيم ابن السلطان ، وتكلم على قوله تعالى الذين إن مكنهم في الأرض أقاموا الصلوة الآية وخلع على كاتب السر ابن البارزي ، واستقر خطيبا وخازن الكتب ، ومد السماط الكبير فأكل الخواص ثم تناهبه العوام ، وعرض للسلطان الطلبة فقرر من شاء وصرف من لم يصلح في نظره ، وخطب ابن البارزي خطبة بليغة أجاد فيها أداء وإنشاء ، واستقر في تدريس التفسير بالمؤيدية بدر الدين ابن الأقصرائي ، وفي تدريس الحديث بدر الدين العينتابي ، وخلع على ولد كاتب السر القاضي كمال الدين خلعة السفر إلى الحجاز وكذلك على شهاب الدين الأذرعي إمام السلطان ، ثم ركب السلطان من يومه إلى الجيزة فأقام ثلاثة أيام .
وفي سادس ذي القعدة قرر الشيخ زين الدين عبد الرحمن بن علي ابن عبد الرحمن التفهني في قضاء الحنفية عوضا عن شمس الدين ابن الديري وتوجه السلطان من يومه إلى مسرحة البحيرة واستناب في عنبتة اينال الابزعري وقرر مهنأ بن عيسى في امرة ال جرم عوضا عن علي بن أبي بكر بعد قتله ولبس خلعة من مخيم السلطان وكان قتل علي في حرب بينه وبين محمد بن عبد القادر النابلسي شيخ العشير بها في شوال .وفيها قتل محمد بن بشارة بالقاهرة في آخر شوال وصدقة بن رمضان أحد الأمراء بالتركمان في سيس .
وفي ذي الحجة ألزم المحتسب النساء أن لا يعبرن جامع الحاكم ، وألزم الناس أن لا يمر أحد منهم إلا وهو مخلوع النعل وشدد على القومة في ذلك ، فاستمر ذلك وطهر المسجد من قبائح كانت تقع من النساء والرجال والشباب والصبيان .
وفي خامس ذي الحجة وردت هدية علي بك بن قرمان نائب السلطنة بنكندة ولارندة ولؤلؤة .
وفي خامس ذي القعدة قبض جقمق نائب الشام على نكباي الحاجب واعتقله بأمر السلطنة ، وصلى السلطان عيد الأضحى بالطرانة وخطب به ، وصلى العيد ناصر الدين ابن البارزي كاتب السر على العادة ، وقدم القاهرة ثالث عشر ذي الحجة ونزل في بيت ابن البارزي فأقام به يومين ثم رحل إلى القلعة .وفي السابع والعشرين وصل محمد بن علي بن قرمان صاحب قيسارية وقونية وغيرها من البلاد الرومية مقيدا فأنزل في بيت مقبل الدويدار ، ثم احضر إلى الموكب السلطاني في السنة المقبلة .
وفيها غلت الأسعار بمكة جدا فبلغت الغرارة خمسة وعشرين دينارا وهي إردب بالمصري وربع إردب ، وحج في هذه السنة الأمير الكبير الطنبغا القرمشي وطوغان أمير آخور وخرجا بعد الحاج بمدة وقدما قبلهم بمدة فغابا ستين يوما .
وفيات سنة 822
ذكر من مات في سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن عبد الله بن بدر بن مفرج بن يزيد بن عثمان بن جابر ، أبو نعيم العامري الغزي ثم الدمشقي شهاب الدين ، أحد أئمة الشافعية بدمشق ، ولد سنة بضع وخمسين بغزة ، وأخذ عن الشيخ علاء الدين بن خلف وحفظ التنبيه ، وقدم دمشق بعد الثمانين وهو فاضل فأخذ عن الشريشي والزهري وشرف الدين الغزي بلديه وغيرهم ومهر في الفقه والأصول ، وجلس بالجامع يشغل الناس في حياة مشايخه وأفتى ودرسوأعاد واشتهر ، ثم أصيب بماله وكتبه بعد الفتنة اللنكية ، وناب في القضاء وعين مرة مستقلا فلم يتم ذلك ، وولي إفتاء دار العدل واختصر المهمات ودرس بأماكن وأقبل على الحديث ، ولم يبق بالشام في أواخر عمره له من يقاربه في رئاسة الفقه للشافعة إلا ابني نشوان ، وهو من أناءه الباعوني في ولايته القضاء الأولى ، فلم يزل بعد ذلك في ارتفاع ، وكان يرجع إلى دين وعفة من صغره مع علو همة ومروءة ومساعدة لمن يقصده مع عجلة فيه مع عفة في القضاء وحسن عقيدة وسلامة باطن ، فكان صديقنا المرجاني يقرظه ويفرط فيه ، وجاور في آخر أمره بمكة فمات بها مبطونا في شوال وله اثنتان وستون سنة ، كتب على الحاوي وجمع الجوامع واختصر المهمات اختصارا حسنا وأجاز لولدي محمد ، وبلغني أن صديقه محمد نجم الدين المرجاني صاحبنا رآه في النوم فقال له : ما فعل الله بك ? فتلا عليه يليت قوى يعلمون بما غفر لي الآية ، قال القاضي تقي الدين الأسدي : جرت له محنة سنة خمس وتسعين ، وحج وجاور ثلاث مرات ، وناب في الحكم بعد الفتنة ، واستمر وباشر المارستان والجامع فانحط بسبب ذلك ، وكان فصيحا ذكيا جريا مقداما ، بديهته أحسن من رويته وطريقته جميلة ، باشر الحكم على أحسن وجه .أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد ، المطري المدني ، سمع من العز ابن جماعة ، وعني بالعلم . وكان يذاكر بأشياء حسنة ، ثم تزهد ودخل اليمن فأقام بها نحوا من عشرة أعوام ، وكان ينسب إلى معاناة الكيمياء ، مات في أول ذي الحجة .
أحمد بن محمد بن محمد بن عثمان ، البارزي ، ولد كاتب السر ، مات في تاسع عشر ربيع الآخر .
أحمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن عياش . الجوخي الدمشقي ، نزيل تعز ، ولد سنة ست وأربعين ، وتعانى بيع الجوخ فرزق منه دنيا طائلة ، وعني بالقراآت فقرأ على العسقلاني إمام جامع طولون وجماعة غيره ، وكان محظوظا في بيع الجوخ ، ويقرأ كل يوم نصف ختمة ، وكان يواظب على الصلاة الأولى بالجامع الأموي ، وكان قد أسمع في صغره على علي بن العز عمر حضورا جزء ابن عرفة وحدث به عنه ، وقرأ بدمشق على شمس الدين محمد بن أحمد اللبان وعبد الوهاب بن السلار ، وسمع أيضا من ابن التباني وابن قوالح ، وتصدى للقراآت فانتفع به جمع من أهل الحجاز واليمن ، وكان غاية في الزهد في الدنيا فإنه ترك بدمشق أهله وماله وخيله ، خدمه وساح في الأرض ، وحدث وهو مجاور بمكة ، واستمر في إقامته باليمن في خشونة من العيش حتى مات ، وكانبصيرا بالقراآت ، دينا خيرا ، جاور بمكة مدة ، ثم دخل اليمن فأقام عدة سنين ، وكان كثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأخذ عنه جماعة في القرآن تلقينا احتسابا ، وأنجب ولده المقرئ عبد الرحمن مقرئ الحرم .
تندو بنت دسين بن أويس ، كانت بارعة الجمال وقدمت مع عمها أحمد بن أويس إلى مصر ، فتزوجها الظاهر برقوق ثم فارقها ، فتزوجها ابن عمها شاه ولد بن شاه زاده بن أويس ، فلما رجعوا إلى بغداد ومات أحمد أقيم شاه ولده في السلطنة ، فدبرت عليه تندو زوجته حتى قتل وأقيمت بعده في السلطنة ، فحاصرهم محمد شاه بن قرا يوسف سنة ، فخرجت في الدجلة حتى صارت إلى واسط ثم ملكت تستر ، وأقاموا معها محمود بن شاه ولد فدبرت عليه حتى قتل لأنه كان ابن غيرها ، واستقلت بالمملكة مدة وذلك في سنة تسع عشرة ، وجذبت العرب بالبصرة وصار في مملكتها الجزيرة وواسط ، يدعى لها على منابرها ويضرب السكة باسمها إلى أن ماتت في هذه السنة ، فقام بعدها ابنها أويس ابن شاه ولد وكان منها ، وتحارب هو وأخوه محمد ثم سار أويس إلى بغداد بعد محمد شاه ابن قرا يوسف ، فقتل أويس في الحرب بعد سبع سنين .سليمان بن فرح سليمان ، الحجي الحنبلي علم الدين أبو الربيع ابن نجم الدين أبي المنجا ، ولد سنة سبع وستين وسبعمائة ، واشتغل علي ابن الطحان وغيره ، ورحل إلى مصر فأخذ عن ابن الملقن وغيره ، ثم عاد بعد فتنة اللنك فناب في القضاء وشارك في الفقه وغيره وشغل بالجامع ودرس بمدرسة أبي عمر ، وكان قصير العبارة متساهلا في أحكامه ، مات في ربيع الآخر .
سودون القاضي نائب طرابلس ، مات في رابع عشر ذي القعدة . عبد العزيز بن مظفر بن أبي بكر محمد بن يعقوب بن رسلان ، البلقيني قريب شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني عز الدين ، اشتغل علي سراج الدين ، ورافقنا في سماع الحديث كثيرا ، وناب في الحكم ، وكان سيئ السيرة في القضاء ، جماعة للمال من غير حله في الغالب ، زري الملبس ، مقترا على نفسه إلى الغاية ، وخلف مالا كثيرا جدا فحازه بعده ولده ، وكان يذاكر بالفقه حسنا ويشارك في بعض الفنون ، وقد درس بمدرسة سودون من زاده بالتبانه ، ومات في ثالث عشري جمادى الأولى .
عبد اللطيف بن أحمد بن علي ، الفاسي نجد الدين الشافعي ، سمع معنا كثيرا من شيوخنا ، ولازم الاشتغال في عدة فنون ، وأقام بالقاهرةمدة بسبب الذب عن منصب أخيه تقي الدين قاضي المالكية إلى أن مات مطعونا في هذه السنة .
عمر بن أحمد بن عبد الواحد ، شاد زبيد ، كان له اعتناء بالعلم رحمه الله تعالى .
فضل الله بن عبد الرحمن بن عبد الرزاق بن إبراهيم بن مكانس ، مجد الدين بن فخر الدين ، ولد في شعبان سنة سبع وستين ونشأ في نعمة وعز في كنف أبيه ، فتخرج وتأدب ومهر ونظم الشعر وهو صغير السن جدا ، وكان أبوه يصحب الشيخ بدر الدين البشتكي فانتدبه لتأديب ولده ، فخرجه في أسرع مدة ، ونظم الشعر الفائق ، وباشر في حياة أبيه توقيع الدست بدمشق وكان أبوه وزيرا بها ، ثم قدم القاهرة وساءت حالته بعد أبيه ، ثم خدم في ديوان الإنشاء وتنقلت رتبته فيه إلى أن جاءت الدولة المؤيدية ، فأحسن القاضي ناصر الدين البارزي كثيرا واعتنى به ومدح السلطان بقصائد وأحسن السفارة له فأثابه ثوابا حسنا ، وكانت بيننا مودة أكيدة اتصلت نحوا من ثلاثين سنة وبيننا مطارحات وألغاز ، وسمعت من لفظه أكثر منظومه ومنثورة ، وجمع هو ديوان أبيه ورتبه ، وشعره في الذروة العليا وكذلك منثوره ، وجمع هو ديوان أبيه ورتبه ، وشعره في الذروة العليا وكذلك منثورة لكن نظمه أحسن منه ، وكان قليل البضاعة من العربية فربما وقع له اللحن الظاهر وأما الخفي فكثير جدا ، مات في يوم الأحد خامس عشري شهر ربيع الآخر .كزل الأرغون شاوي أحد الأمراء بحماة وزوج بنت كاتب السر ، وكان قد ناب في الكرك ، ثم في الإسكندرية ثم عزل ، فمات في أواخر المحرم .
محمد بن إبراهيم ، العلوي جمال الدين ، أخو الفقيه نفيس الدين ، حضر على والده وحدث عنه ، مات بتعز .
محمد بن أبي البركات محمد بن أحمد بن الرضي إبراهيم بن محمد ، الطبري المكي ، أبو السعادات ، إمام المقام الشافعي ، سمع من الجمال ابن عبد المعطي وغيره ، مات في جمادى وقد جاوز الخمسين .
محمد بن عبد الله بن شوعان ، الزبيدي الحنفي ، انتهت الرئاسة في مذهب أبي حنيفة بزبيد ، ودرس وأفاد .
محمد بن عبد الماجد ، العجمي سبط العلامة جمال الدين بن هشام الشيخ شمس الدين ، أخذ عن خاله الشيخ محب الدين ابن هشام ، ومهر في الفقه والأصول والعربية ، ولازم الشيخ علاء الدين البخاري لما قدم القاهرة ، وكذلك الشيخ بدر الدين بن الدماميني ، وكان كثير الأدب فائقا في معرفة العربية ملازما للعبادة وقورا ساكنا ، مات في العشرين من شعبان ، وكانت جنازته حافة ، ودفن بالصوفة رحمه الله .
محمد بن عمر ، الحموي الأصل نظام الدين التفتازاني ، كان أبوه حصريا فنشأ هذا بين الطلبة ، وقرأ في مذهب أبي حنيفة ، وتعانى الآداب واشتغلفي بعض العلوم الآلية ، وتكلم بكلام العجم وتزيا بزيهم ، وتسمى نظام الدين التفتازاني ، وغلب عليه الهزل والمجون وجاد خطه ، وقرر موقعا في الدرج وكان عريض الدعوى ، مات في رابع عشري ذي القعدة عن نحو الستين ، وله شعر وسط ، قرأت بخط القاضي محب الدين الحنبلي : كان حسن المنادمة ، لطيف المعاشرة ، ولم يتزوج قط وكان متهما بالولدان ، وكان يأخذ الصغير فيربيه أحسن تربية فإذا كبر وبلغ حد التزوج زوجه .
محمد بن قاسم ، الأجدل ناظر زبيد ثم عدن ، ولي إمرة الحج وغيرها .
محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن فرحون ، أبو البركات اليعمري المالكي ، قاضي المدينة ، مات بها في المحرم .
محمد بن محمد بن علي بن يوسف ، الزرندي الشافعي بهاء الدين بن محب الدين ، ولي قضاء المدينة وخطابتها في سنة تسع ، ثم عزل فدخل دمشق ثم دخل الروم فانقطع خبره ثم قدم ، ومات بالطاعون في القاهرة .
محمد بن محمد بن علي ، بدر الدين ابن الخواجا شمس الدين ابن البراق الدمشقي ، أحد أكابر التجار ، فجع به أبوه ، وكان قد نبغ ف معرفة التجارة وسافر مرارا إلى اليمن وغيرها ، ومات في هذه السنة بعدن ، ويقال إنه مات مسموما ولم يكمل الثلاثين .محمد بن محمد بن محمد ، النحريري أبو الفتح فتح الدين المعروف بابن أمين الحكم ، سمع على جماعة من شيوخنا ، وعني بقراءة الصحيح ، وشارك في الفقه والعربية ، وأكثر المجاورة بالحرمين ، ودخل اليمن فقرأ الحديث بصنعاء وغيرها ، ثم قدم القاهرة بأخرة فوعك ومات بالمارستان عن نحو من خمسين سنة .
محمد بن محمد بن محمود ، الجعفري البخاري الشيخ شمس الدين ، اشتغل ببلاده ثم قدم مكة فجاور بها ، وانتفع الناس به في علوم المعقول ، مات بمكة في العشر الأخير من ذي الحجة عن ست وسبعين سنة .
محمد بن يعقوب بن إسماعيل ، الشيباني المطري المكي ، سمع من عز الدين ابن جماعة والموفق الحنبلي وغيرهما ، وولي خطابة وادي نخلة وقبا ، مات وله سبعون سنة .محمد المعروف بابن شبيب ، القصري التاجر ، وكان مقلا ثم أكثر السفر إلى الإسكندرية إلى أن أثرى فتردد إلى مكة ، وقد كان أولا يشتغل ويحضر دروس شيخنا ابن الملقن وسمع عليه الكثير ، مات في 12 شوال .
مسعود بن محمود ، الكجحاني ، كان ولي نظر الأوقاف - وقد مرت سيرته في الحوادث وهي من اقبح السير ، مات في 12 جمادى الأولى .
الهادي بن إبراهيم بن علي بن المرتضى ، الحسني الصنعاني الزيدي ، عني بالأدب ففاق فيه ، ومدح المنصور صاحب صنعاء ، مات يوم عرفة ، وله أخ يقال له محمد بن إبراهيم مقبل على الاشتغال بالحديث شديد الميل إلى السنة بخلاف أهل بيته .
يحيى بن بركة بن محمد بن لاقى ، الدمشقي . كان أبوه من أمراء دمشق ، ونشأ هو في نعمة ثم خدم أستادارا وصار من الأمراء . وقدم القاهرة مرارا ، وتقدم في الدولة المؤيدية وصار مهمندارا وأستادار الحلال .ثم تنكر له جقمق بسبب كلام نقله للسلطان ، فأظهر جقمق أن الأمر بخلاف ذلك ، فالتمس جقمق من السلطان أن يمكنه منه فأذن له ، فرسم بنفيه من القاهرة فأخرج على حمار ، فمات في أثناء الطريق غريبا طريدا في حادي عشر صفر ، ودفن بغزة .
يوسف بن شريكار ، العينتابي ، ولد سنة ست وستين بعينتاب ، وتعانى القراآت فمهر فيها وانتفعوا به . وكان يتكلم على الناس بلسان الوعظ ، وكان فصيح اللسان حلو المنطق مليح الوجه ، له يد في التفسير ، وعاش خمسا وستين سنة - ذكره العينتابي في تاريخه .
حوادث سنة 823
سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة
في الثاني من المحرم جلس السلطان في إيوان دار العدل ، وجلس القضاة والمفتون ومن له الجلوس من الأمراء . ووقف الباقون وبقية العسكر صفوفا ، وأحضر مم بن قرمان مقيدا صحبة داود بن ناصر الدين محمد بن خليل بن محمد بن دلغادر التركماني ، فوقف داود مع الأمراء وأخر ابن قرمان ، وقرئت القصص على العادة وركب السلطان إلى القصر فأحضر ابن قرمان وداود فخلع على داود . وعاتب السلطان ابن قرمان على تعرضه لطرسوس وعلى قبح سيرته في رعيته فسأل العفو ، ثم بدر منه أن قال : يا مولانا السلطان لمن تعطى البلاد ? فاستسمجهوقال له : ما أنت وهذا ? ثم أمر به فأخرج فاعتقل ، فأقام في الاعتقال سنة كاملة ، ثم أفرج عنه بعد موت السلطان المؤيد وأعيد إلى بلاده ثم أرسل للسلطان فاستكتبه إلى نوابه بالبلاد بتسليم القلاع والبلاد كلها ويحذرهم عن تأخير ذلك لئلا يقتل ففعل ، فكان هذا المجلس أفخر مجلس جلسه السلطان وأفخمه ، ثم جلس في أواخر الشهر مجلسا آخر لحضور رسول كرسجي بن أبي يزيد بن عثمان بهدية من صاحبه فقرئ كتابه وقبلت هديته ، وشرع في تجهيز هدية صحبة قاصد من جهة السلطان ، فعين له قجقار شقطاي من أتباع إبراهيم ابن السلطان .
وفي أوائل المحرم غدر عذراء بن علي بن نعير بنائب الرحبة أرغون شاه ، فقبض عليه وحمله إلى عانة .
وفي رابع الحرم قدم على يار التركماني أحد الأمراء الإينالية منهم ، فأكرمه السلطان .
وفيه استقر شاهين الزردكاش في نيابة طرابلس نقلا من نيابة حماة ، واستقر في حماة إينال اليوسفي نقلا من نيابة غزة ، واستقر أركماس الجلباني في نيابة غزة .واستقر نكباي بعد الإفراج عنه من سجن دمشق في نيابة طرسوس .
وفي حادي عشر المحرم قرر شمس الدين محمد بن مغالي الحيتي في مشيخة الخانقاه المستجدة بالجيزة التي انتزعت من الخروبي وكانت وقفا على الذرية ثم على الزاوية المجاورة لها فأخفي كتاب الوقف واشتريت للسلطان من الورثة بقدر حصصهم ، وغالبهم أشهد عليه ولم يقبض الثمن ، واستمر ذلك إلى أن مات المؤيد وندموا على عدم قبض الثمن .
وفي سادس عشر المحرم قرر عز الدين عبد العزيز بن علي بن العز الحنبلي مدرس الحنابلة بالمؤيدية في قضاء الحنابلة بدمشق ، وقرر عوضه في المؤيدية محب الدين ابن نصر الله البغدادي .
وفي العشرين من المحرم أفرج عن برسباي الدقماقي من قلعة المرقب ، واستقر في مقدمي الألوف بدمشق ، وهو الذي ولي السلطانة في سنة خمس وعشرين كما سيأتي .
وفي المحرم وقع المطر الغزير بالوجه البحري فأخصبت الزروع بعد أن كانت جفت وكثر الغلاء بالوجه القبلي فبلغ الإردب دينارين .
وفي أوائل المحرم تسلم علي بن قرمان بلاد أخيه ، وعصت عليه قلعة قونيا فحاصرها ، وخطب باسم المؤيد في جميع تلك البلاد ، ووصلتهدية على المذكور إلى السلطان في صفر وهو في ربيع خيله .
وفي العشرين من صفر نزل السلطان إلى بيت كاتب السر على شاطئ النيل ، وعمل الوقيد في ليلة الثاني والعشرين وبالغ المباشرون في رمي النفط وترتيب السرج .
وفي سادس عشريه نزل السلطان إلى بيت أبي بكر الأستادار يعوده ، فقدم تقدمة سنية على العادة . وفيه شاع الخبر بأن قرا يوسف قد تأهب للمجيء إلى الشام ، وكان بلغه ما نودي به في حقه في القاهرة ، وكان أرسل يطلب التمكين من قرا يلك فلم يجب سؤاله ، ثم أرسل يطلب من السلطان الجواهر التي كان السلطان أخذها منه وهو مسجون بدمشق ، فرد جوابه بما يكره فتهيأ لدخول البلاد الشامية ، فاستعد السلطان لذلك وكان قد لهج قبل ذلك بالمسير إلى بغداد وتمادت الأيام ولا يزداد إلا تصميما على ذلك .
وفي الثامن والعشرين من المحرم سخط السلطان على صدر الدين ابن العجمي بسبب كلام نقل له عنه وهو أنه يتمنى موته ويدعو عليه . وواجهه بذلك أحمد بن الشيخ محمد المغيربي في مجلس السلطان ، وتفاحشا في القول فأكد قول ابن المغيربي جماعة دسهم كاتب السر ابن البارزي لبغضه في ابن العجمي ، فأمر السلطان بإخراجه من القاهرة وأن يستقر كاتب السر بصفد ، فكتب توقيعه في الحال وألزم بالخروج من بيته في يومه ولم يمهل ليتجهز ، فودع أهله وخرج وهم يبكون كأنما يساق إلى الموت ، فسار يوم الجمعة إلى سرياقوس فأقام بها وبات بها فجاءه مستعجل يستحثه ،فاتفق أنه بلغ السلطان شناعة ما عومل به من ذلك فأنكره وتغيظ على كاتب السر وقال : من أمرك أن تزعجه ? وأمر برده إلى القاهرة ، فرجع يوم السبت فأقام عند الدويدار إلى يوم الاثنين ، فاصعده إلى القلعة وخلع عليه خلعة حسنة وأمره بالسفر لكتابة سر صفد ، فشفع له الطنبغا الصغير راس نوبة أن يقيم ويستمر في الحسبة ، فقبل ذلك السلطان فرجع إلى منزله وقد فرح الناس به فرحا شديدا ، ونزل كاتب السر ولم يطلع على ما صنع الطنبغا الصغير فوجد القناديل في الشارع قد صففها الباعة فأنكر عليهم ومال أتباعه عليها بالطفئ والتكسير ، فما وصل إلى بيته إلا وابن العجمي قد شق القاهرة بخلعة الحسبة ، فجهر العامة بسب ابن البارزي وأسمعوه المكروه جهارا كلما مر بهم ، وكثر ذلك حتى هم بالإيقاع ببعضهم ثم سكت وسكتوا ، وأشيع أن السلطان غضب على ابن البارزي وأنه يريد عزله ، فخلع عليه في سادس صفر خلعة الرضا ، وكان أصل الشر بين المحتسب وكاتب السر أن السلطان نزل إلى مدرسته في خامس صفر ، فلما رجع مر في طريقه بخباز فاخذ منه رغيفا ودخل إلى بيت الأستادار عائدا له من مرضه ، فوزن الرغيف فجاء نصف رطل فأنكر على المحتسب ، وكان يذكر أن الرغيف ثماني أواق ، فشق على المحتسب لما بلغه وضرب الخباز ضربا مبرحا ، وكان من جهة كاتب السر فأرسل يشفع له فضربه بحضرة القاصد ، فبلغه ذلك فشق عليه ، وبلغ السلطان خبر ابن العجمي من الطنبغا الصغير وتمراز الأعور فدبر هذه القضية المتعلقة بكتابة السر بصفد ، فإنهماجلسا عنده يلعبان الشطرنج فقال أحدهما للآخر : إن زركت علي بليت بما بلي به ابن العجمي ? فاستفهم السلطان فاخبره ، ثم آل أمره إلى أن الوزير شفع في المحتسب عند كاتب السر وأحضره عنده وأصلح بينهما .
وفي رابع صفر قدم العالم شمس الدين محمد بن حمزة بن محمد ، الحنفي ، الرومي المعروف بابن القناري قاضي الممالك الرومية وكان قد حج في العام الماضي وعاد إلى القدس ، فاستقدمه السلطان ليستفهمه عن أحوال البلاد فقدم وأكرم ، وحضر يوم الخميس للمولد السلطاني بعد أن طلب مرة بعد مرة ، فما وصل حتى دخل الليل فالس تحت شيخ المؤيدية ابن الديري ، وأشار لهم المؤيد أن يتكلموا في شيء من العلم ، فتكلموا فلم ينطق القناري ، ثم توجه بعد صلاة العشاء ثم أحضر المولد الخاص ودارت معه مباحث نفيسة ، وكان ممن حضر ابن العجمي فتكلم بشيء أنكره عليه كاتب السر وواجهه بتكفيره ، فأصبح منزعجا يحصل الكتب التي تشهد له بصحة ما قال ، وعادت العداوة كما كانت أو أشد .
وفي خامس ربيع الأول أبل أبو بكر الأستادار من مرضه قليلاوركب واستصحب تقدمة قيمتها ثلاثون ألف دينار فخلع السلطان عليه ، ونزل إلى بيته فانتكس فأقام أربعة أيام ومات ، فتكلم السلطان مع الوزير أن يفوض الأستادارية بغير إمرة ، فأبى إلا بتقدمة فصاح السلطان عليه وقال : تقدمة للوزارة وتقدمة للأستادارية ? هذا لا يكون ثم أعرض عنه واستدعى شخص يقال له يشبك الإينالي ، وكان أرسله قبل ذلك لكشف التراب فسار بالناس سيرة سيئة فشكوا منه فعزل ، فاختاره الآن للأستادارية الكبرى فقرره فيها وخلع عليه ، وقرر الوزير في أستادارية ابنه إبراهيم ، ثم انتزعت منه بعد قليل وقرر فيها يوسف الحجازي الذي كان يدبر أمر طوغان ، وأعطى ولده صلاح الدين الحاجب إمرة طبلخاناة .
وفي الثاني والعشرين من ربيع الأول سافر ابن القناري وصحبته أحمد بن الشيخ شمس الدين الجزري وهو صهره إلى بلاد الروم ، وصحبته من جهة السلطان قجقار شقطاي برسالة السلطان إلى ابن عثمان ، وسار القناري بتجمل هائل وكان قد جامل أهل البلد وجاملوه ، ولم تنتشر عنه دعوى كما انتشرت عن غيره ، وكتم ما يبوح به في بلاده من محبة ابن العربي وشغل الناس في الفصوص وغيرها ، فأقام هذه المدة بالقاهرة مجموع الخاطر قليل الفضول إلى أن سافر سالما .
وفيه عقد مجلس بسبب زيادة الجوامك لمدرسي المنصورية ، وقام في ذلك الشيخ شمس الدين القمني فحصل بينه وبين المحتسب كلام سيئوتساخطا ، فقام السلطان وتركهم ولم يستقر لهم أمر ، وكان ذلك بالمدرسة المؤيدية .
وفي ربيع الآخر أمر السلطان ببناء المنظرة التي خربت في التاج والسبع في وجوه وأن يبني حولها بستان ، فشرع في ذلك .
وفي رابع عشري ربيع الأول أمر السلطان بإبطال مكس الفاكهة مطلقا ، بطل ونقش على الجامع المؤيدي ، وفيه كثر الوباء بالإسكندرية وما حولها وكثر الإرجاف بمسير قرا يوسف إلى الجهة الشامية . واشتد بالسلطان ألم رجله وحبس الإراقة ، ثم عوفي في أول جمادى الأولى وركب وفرح الناس .
وفي هذه المدة أغرى السلطان بولده إبراهيم وأنه كان يتمنى موته ويعد الأمراء بمواعيد إذا وقع ذلك ، وبلغ كاتب السر عنه أنه يتوعده بالقتل وتأكد بغضه عنده فحقد عليه ودس على السلطان من أعلمه أنه يتمنى موته لكونه يعشق بعض حظاياه ولا يتمكن منها بسببه إلا خفية ، ورتب له على ذلك إمارات وعلامات إلى أن أبغض السلطان ولده وأحب الراحة عنه ، ورتبوا له أنه صمم على قتله بالسم أو بغيره إن لم يمت عاجلا من المرض لما في نفسه من محبة الاستبداد ، فأذن لبعض خواصه أن يعطيه ما يكون سببا لقتله من غير إسراع ، فدسوا عليهمن سقاه من الماء الذي يطفأ فيه الحديد ، فلما شربه أحس بالمغص في جوفه فعالجه الأطباء مدة وندم السلطان على ما فرط فيه ، فتقدم الأطباء بالمبالغة في علاجه فلازموه نصف شهر إلى أن أبل قليلا من مرضه فركب في نصف الشهر إلى بيت عبد الباسط بشاطئ النيل . ثم ركب إلى الخروبية بالجيزة فأقام بها وكاد أن يتعافى ، فدسوا من سقاه ثانيا بغير علم أبيه ، فانتكس واستمر إلى آخر الشهر فتحول إلى الحجازية ، ثم حمل في ثالث عشر جمادى الآخرة إلى القلعة فمات ليلة الجمعة خامس عشره ، فاشتد جزع السلطان عليه إلا أنه تجلد ، وأسف الناس كافة على فقده وأكثروا الترحم عليه ، وشاع بينهم أن أباه سمه إلا أنهم لا يستطيعون التصريح بذلك ، ولم يعش أبوه بعده سوى ستة أشهر تزيد أياما ، كدأب من قتل أباه أو ابنه على الملك قبله عادة مستقرة وطريقة مستقرأة - فإنا لله وإنا راجعون ، وصار الذين حسنوا له ذلك يبالغون في ذكر معايبه وينسبونه إلى الإسراف والتبذير والمجاهرة بالفسق من اللواط والزنا والخمر والتعرض لحرم أبيه وغير ذلك مما كان بريا من أكثره بل يختلقون أكثر ذلك ليتسلى أبوه عن مصابه به .ولقد حكى لي من شاهده في السفرة التي تجرد فيها إلى البلاد القرمانية منه ما يقضي منه العجب من ذلك ، وذكره القاضي علاء الدين في ذيل تاريخ حلب فقال : كان شابا حسنا شجاعا ، عنده حشمة مع الكرم والعقل والسكون والميل إلى الخير والعدل والعفة عن أمور الناس ، ودفن بالجامع المؤيدي ، وحضر أبوه الصلاة عليه يوم الجمعة وأقام إلى صلاة الجمعة ، وخطب به ابن البارزي خطبة حسنة سبك فيها قوله e تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب وإنا بك يا إبراهيم ولمحزونون فأبكى السلطان ومن حضر ، ولم يتفق أن السلطان بعد ذلك دخل المؤيدية ، ووقع الخلل في أهل دولة المؤيد واحدا بعد واحد كما سنذكره ، ولم يتهنأ لهم عيش يجمعهم بعد ذلك .
وفي حادي عشر جمادى الآخرة صرف على ابن الطبلاوي من ولاية القاهرة وضرب بين يدي السلطان بالمقارع وصودر على مال ، واستقر فيها ناصر الدين ابن أمير آخور .
وفي أول يوم من هذا الشهر كملت عمارة الجامع الذي جدده ابن البارزي بجوار منزله وكان يعرف بجامع الأسيوطي ، وصلى السلطان فيه الجمعة وخطب به البلقيني ، وفي ثانيه نودي أن الحجاب لا يحكمون في الأمور الشرعية ? فسعى الأمراء في نقض ذلك ، فنقض بعد يومين ونودي لهم بالإذن بالحكم .وفي جمادى الأولى أرسل القاضي الحنفي إلى الحاجب الكبير يطلب من عنده غريما فضرب الحاجب الرسول ، فتوجه الحنفي إلى الشافعي فاستعان به فاجتمعا بالسلطان وشكيا ذلك فأنكر على الحاجب وأرسل وأهانه وقال له : لو كنت أنا وطلبت إلى الشرع لسارعت ? وأمر فنودي بالمشاعلي أن الديون الشرعية لا يحكم فيها إلا القضاة ? فشق ذلك على الحاجب وقبض على بعض المشاعلية فضربه ، وجرسوه ومروا به من على باب الصالحية . فبلغ الحنفي فبادر الحاجب واعتذر بأنه لم يضربه إلا بشكوى عليه بجناية أخرى . وسكن الحال .
وفي الثامن عشر من جمادى الآخرة توقف النيل من سادس أبيب وتمادى على ذلك سبعة أيام ، فنودي في الناس بصيام ثلاثة أيام ثم خرجوا إلى الصحراء يستسقون . فاجتمعوا ونزل السلطان والقضاة والمشايخ وكثر الجمع جدا ، وحضر السلطان راكبا بمفرده فجلس على الأرض ، فصلى بهم القاضي ركعتين كهيئة صلاة العيد ، ثم رقي منبرا وضع له هناك فخطب خطبتين حث الناس فيهما على التوبة والاستغفار وحذرهمونهاهم وتحول فوق المنبر ، والسلطان في ذلك يبكي وينتحب وقد باشر في سجوده التراب بجبهته ، ثم ركب السلطان والعامة محيطة به ، فدعا له بعضهم بالنصر فقال : سلوا الله فإنما أنا واحد منكم ، واتفق أن نودي على النيل في صبيحة ذلك اليوم باثني عشر ذراعا ، فتباشر الناس بإجابة دعائهم ، فاتفق أن السلطان سبح في النيل وهو مقيم في بيت كاتب السر الذي على شاطئ النيل فنودي من الغد بزيادة ثلاثين إصبعا ، فاستبشر الناس بذلك وقالوا إن ذلك ببركة السلطان ، فسمع السلطان بذلك فأنكره عليهم وقال : وأنا عنده أسمع : لو علمت بسباحتي يقع ذلك لما سبحت ، لأن مثل هذا يضل به العامة ، وفي هذه الأيام أشيع أن قرا يوسف حاصر ولده محمد شاه ببغداد واستصفى أمواله ، ثم تبين كذب ذلك وأن قرا يوسف كان قد تهيأ للمسير إلى البلاد الشامية . فشغله عنها خروج شاه رخ بن تمر .
وفي نصف رجب أمر السلطان مقبل الدويدار أن يلبس صدر الدين ابن العجمي خلعة بكتابة سر صفد وأن يخرجه في الحال ، ففعل ذلك وانجمع عن الحسبة وسعى أن يقيم بالقاهرة بطالا وأن يعفي من كتابة سر صفد ، فشفع له عند السلطان فأعفي وألزم بالتوجه إلى القدس بطالا ، فسار في يوم الثلاثاء ثامن عشره ، فلما كان في ثالث عشري رجبوجد في أول النهار فرس ابن العجمي وفرس غلامه مع بدويين فانتزعتا منهما وأحضرتا إلى بيت الأستادار فشاع أن ابن العجمي قتل ، وخرج نساؤه مشققات الثياب نائحات حتى صعدن القلعة ، وصرحوا بتهمة ابن البارزي بقتله فأنكر السلطان ذلك وجزم بأنه اختفى بالمدينة ، ثم بعث ليكشف عن قتله وبحث من أرباب الإدراك عن ذلك فلم يوقف له على خبر ، ثم نودي بتهديد من أخفاه وترغيب من أحضره فلم يفد ذلك شيئا واستمر مفقود الخبر ، فلما كان في أواخر الشره أشيع أنه أرسل إلى أهله كتابا يخبرهم فيه أنه فر من خوفه على نفسه واختفى ، وتوطن خواطرهم عليه وأنه في قيد الحياة فاطمأنوا لذلك وشاع الخبر ، فطلب زوج ابنته الذي نقل عنه أنه قرأ الكتاب فأحضر إلى السلطان فاعترف بقراءة الكتاب ، فسئل أن يحضر الكتاب فادعى أنه رماه في البئر ، فغضب السلطان منه وأمر بضربه فضرب تحت رجليه واعتقل ، وتحقق الناس أن ابن العجمي في قيد الحياة إلا اليسير منهم فتمادوا على غيهم ونسبوا ابن البارزي إلى أنه اختلق الكتاب ودسه على أهل ابن العجمي ، وحقق أمر حياته اطمئنان أهله بعد ذلك الجزع المفرط ، وبالغوا في الطمأنينة حتى أدخلوا بعض بناته على زوجها .وفي العشرين من رجب استقر صارم الدين إبراهيم بن الوزير ناصر الدين ابن الحسام في الحسبة ملتزما بألف دينار يحملها للخزانة ، فباشر وهو بزي الجند ولم تشكر سيرته ، وأساء الناس الظن بابن البارزي لسوء اختياره لهذا ، لأنه هو الذي قام بأمره في ذلك بعد أن كان زين الدين الدميري قد تعين لذلك .
وفي حادي عشري رجب توجه السلطان إلى الآثار فزاره وبر من هناك من الفقراء ، ثم توجه إلى المقياس فأمر بهدم الجامع المجاور له وتوسيعه ، وكان أمر بتجديد الميدان الناصري مقابل الجزيرة الوسطانية فشرع الوزير في تجديده وصرف عليه مالا كثيرا فتوجه السلطان فبات به ليلة ، وفي صبيحتها وهو ثالث عشري رجب قدم بدر الدين العيني من بلاد ابن قرمان .
وفي الثالث عشر من شعبان برزت العساكر بالأمراء الذين أمروا بالإقامة بحلب لحراستها خشية من طروق قرا يوسف وهم الطنبغا القرمشي الأتابك وطوغان أمير آخور والطنبغا الصغير راس نوبة وشرباش عاشق وجلبان الأرغون شاوي والطنبغا المرقبي الحاجبالكبير وأزدمر النائب وسفروا في نصف شعبان .
وفي هذه السنة توجه قرا يلك إلى أرزنكان وبها بير عمر نائبا من جهة قرا يوسف ، فنازله إلى أن قبض عليه وعلى أربعة وعشرين نفسا من أهله وأولاده وقتل من عسكره ستين رجلا وغنم شيئا كثيرا ورجع منصورا ، فبلغ ذلك قرا يوسف فاشتد غيظه وصمم على قصد البلاد الشامية ، وكان السبب في ذلك أن بير عمر المذكور كان أوقع بولد قرا يلك فقبض عليه وجهزه إلى قرا يوسف فقتله ، فبلغ ذلك قرا يلك فحنق منه وطرقه في بلده حتى قبض عليه ثم قتل قرا يلك بير عمر المذكور وأرسل برأسه إلى القاهرة ، فوصل بها قاصده في أول شعبان فوقع الشروع بالتهيؤ للسفر ، وكتبت محاضر بكفر قرا يوسف وولده وأثبت على القضاة ، وكان القائم في أمرها تصدر الدين بن العجمي قبل عزله فعزل ولم يتم أمرها فتولى أمرها كاتب السر ، وطيف بها على مشايخ العلم فكتبوا في ظاهرها بتصويب الحكم المذكور ، ولطف اله تعالى أنني وافقتهم بالكتابة بعد إلزام السلطان لي تم كاتب السر بذلك فالتزمتبه ولكن قدر الله بلطفه أنني ما كتبت في ذلك شيئا إلى الآن ، فجمع في رابع شعبان القضاة والأمراء وقرئت عليه الفتاوى فسألني السلطان عن سبب امتناعي عن الكتابة ، فاعتذرت بأنهم بدأوا بغيري ، فأشار إلى كاتب السر أن يكتب نسخة جديدة ويرسلها إلي . فغالطت بلك ولطف الله مرة بعد مرة أخرى ، ونزل القضاة في ذلك اليوم وبين أيديهم بدر الدين البرديني يقرأ من ورقة استنفار الناس إلى قتال قرا يوسف وولده وتعديد قبائحهما ، فاضطرب الناس ، وكان مما ادعى به على قرا يوسف أنه قال : أنا اشرب الخمر وألوط وشاه رخ يصلي ويصوم وسننظر من ينتصر منا ? وأن ابنه لما مات سل سيفا وأشار به إلى السماء وقال : إن كنت رجلا تعال خذني إلا الصبي ما في أخذه رجلة ، وأنه التمس من القاضي جعفر أن يعقد له على امرأة ، فقال له : أنت لك أربع نسوة فلا تحل لك الخامسة في شرع محمد ، فقال : كان هذا جائع النفس - وأنه أشار إلى شاب أمرد جميل الصورة فقال : هذا الهي الذي أعبده ما هو خير من عبادة الحجارة ، فقال له بعض من حضر : هذا كفر ، فقال : إن لم يكن الإله فهو أخو الإله - إلى غير ذلك .
وفي شعبان ادعى علي ناصر الدين ابن أمير آخور الوالي بأنه قتل رجلا ظلما بغير موجب شرعي ، فأنكر فأقيمت عليه البينة ، فحكم القضاة بقتله بين يدي السلطان ، فأمر به أن يقتل في المكان الذي قتل فيه وعلىالهيئة التي قتل المذكور فيها ففعل به ذلك ، واستقر في ولاية القاهرة شاب يقال له بكلمش ابن فري من أولاد الحسينية ، كان أبوه والي العرب وكان هو عمل ولاية بلبيس ونح ذلك ، وهو بالنساء أشبه منه بالرجال ، فالتزم بمال كثير يحمله إلى الخزانة فقرر في الولاية فهان أمرها جدا لعدم هيبته وتماديه على الفجور والسكر حتى كان بعض المقدمين في أيامه أحشم منه ، وصار العوام يلقبونه قندورتي ، لانه طرقه امر يوجب الفزع فارادى أن يقول : ناولوني قباء ، فقال : قندورني فبقيت عليه .
وفي الثاني عشر من شعبان تزود الطنبغا القرمشي بنت الملك المؤيد وعقد عقده بالجامع المؤيدي ، ثم برز في صبيحة ذلك اليوم إلى الريدانية وصحبته الطنبغا الصغير رأس نوبة وطوغان أمير آخور والطنبغا المرقبي الحاجب وجلبان ثاني أمير آخور وأزدمر الناصري وشرباش الكريمي في آخرين توجهوا إلى حلب ليقيموا بها خشية من طروق قرا يوسف ، فلما وصلوا إلى حلب أمسكوا نائبها إينال النوروزي فحبس بقلعة الشام ، وقرر في نيابة حماة آق بلاط الدمرداشي ، فلما وصلوا إلى حلب استوحش منهم نائبها يشبك اليوسفي ، لأنه استشعر حين عزل نائب حماة أنهم أمروا بالقبض عليه أيضا وأساء عشرتهم ولم يحسن قراهم ولا ملتقاهم وأقيم الشر ، ثم لم يلبث أن بلغه موت السلطان - فكان ما سنذكره في السنة المقبلة ، وعرض السلطان المماليك الرماحة بالميدان وتكرر ركوب السلطان فيالبحر في هذا الشهر إلى الآثار تارة وإلى الخروبية أخرى وإلى المقياس .
وفي الرابع عشر من رمضان قرر تاج الدين ابن الهيصم في نظر ديوان المفرد عن صلاح الدين ابن الكوز بحكم وفاته .
وفي أول رمضان ثار على السلطان ألم رجله وابتدأ بكاتب السر مرضه .
وفي ثالث رمضان ذبح جمل بغزة فأضاء اللحم كما يضيء الشموع ، وشاع ذلك وذاع حتى بلغ حد التواتر ، وفيه أنه رميت من لحمة قطعة لكلب فلم يأكلها .
وفي رمضان ختم البخاري فوقع بين التفهني الحنفي وبين ابن المغلي الحنبلي مباحثة فاستطال الحنفي على الحنبلي ، وأعانه عليه غالب من حضر ، لما تقدم من استطالة الحنبلي عليه وعلى غيره .
وفي عاشر ذي القعدة عزل بدر الدين بن نصر الله عن نظر الخاص ، وتسلم الخزانة مرجان الخازندار .
وفي ثامن شوال مات كاتب السر ناصر الدين ابن البارزي وابتدأ بالسلطان مرضه الذي مات فيه ، ثم أرجف بموته في ثاني عشري شوال فاضطرب الناس ، ثم عوفي في آخره وزينت البلد وتوجه بعض الأمراء بالبشارة ، وباع فرسا على العادة فاشتراها علم الدين داود بن الكويز ناظر الجيش باثنين وسبعين ألفا مؤيدية يكون حسابها ألفين وأربعمائة ديناروحملها إلى السلطان فتصدق بها .
وفي الحادي والعشرين من شوال ظهر ابن العجمي فشفع فيه الشيخ يحيى السيرامي عند السلطان فرضي عنه وفرح به أصحابه وأمنه السلطان ، واستمر يتردد إلى الأعيان على عادته .
وفي ثالث عشري شوال استقر كمال الدين محمد بن ناصر الدين البارزي في كتابة السر عوضا عن أبيه ، واستقر بد الدين بن مزهر في نيابة كتابة السر عوضا عن كمال الدين ، وكان ابن مزهر منذ مات البارزي هو الذي يباشر .
وفي أوائل ذي القعدة دل شهاب الدين ، الملقب درابه على ذخيرة لناصر الدين البارزي فحولت إلى القلة ومقدارها يزيد على سبعين ألف دينار ما بين هرجة وافلورية وناصرية والناصرية أقلها ، فاستشعر الناس أنها ذخيرة لفتح الله لأن ابن البارزي دخل صحبة المؤيد قبل أن يشتهر بالمال الكثير ، وفي مدة المؤيد ما كانت المعاملة إلا بالأفلورية وأما الهرجة فقليل جدا فاستولى الملك على ذلك المال وأضافه إلى بيت المال .
وفي ذي القعدة أحضر من بعض بلاد الغربية من الوجه البحري محضر يتضمن أن امرأة وبنتها خرجتا تلتقطان ما يسقط من الحب فوجدتاخرقة عتيقة فيها صرة قديم قعد ذلك فوجد فيها بضعة وأربعين مشخصا وجهر ذلك إلى السلطان فوقفنا عليه وأمرنا أن نقرأ ما فين نقشه ، فوجدت على الدينار الذي دفع إلي ضرب هذا الدينار سنة إحدى وثمانين ومائة ، وإذا به قد ضرب في خلافة الرشيد بن هارون بن المهدي ، وأظن بقية الذهب من ذلك النمط .
وفي ثامن شعبان كسر الخليج وانتهت زيادة النيل في هذه السنة إلى . . . ، وكان فصل الربيع قليل الحر جدا . وتحرك الطاعون في الفسطاط دون القاهرة وبالإسكندرية بالصعيد ثم تحرك بالقاهرة في أول بؤنة قليلا ثم ارتفع وكان الصيف قليل الحر أيضا .
وفي جمادى الآخرة أحدثت جمعة بالمدرسة التي أنشأها زين الدين عبد الباسط ناظر الخزانة جوار منزله وأذن له السلطان في إقامتها وأقيمت وبجوارها بنحو سبعة أبيات مكان تقام فيها الجمعة عند ابن وفا ، وقرر فيها شيخ خانقاه بها وهو صاحبنا عز الدين عبد السلام العجلوني - وذلك في أول يوم رجب .
وفيها رفع إلى القاضي الشافعي أن شخصا يقال له أبو بكرالعزولي يدعي المشيخة ويتكلم على الناس فضبطوا عليه أنه قال : الأنبياء عرايا عن العلم لقوله تعالى قالوا سبحنك الله لا علم لنا إلا ما علمتنا ونح ذلك من الأشياء الشنيعة ، فمنعه القاضي من الكلام بعد أن عزره بالقول ، وهذا أبو بكر هو أخو شمس الدين رئيس المؤذنين بجامع ابن طولون ، وفي ذي القعدة مات قرا يوسف التركماني الذي تملك تبريز وبغداد وغيرهما ، وخمدت الفتنة بموته جدا .
لطيفة : اشتهر بين الناس أن الذي يريد أن يعرف مقدار نيل السنة ينظر في أول يوم من مسرى إلى منتهى الزيادة فيزيد عليها ثمانية أذرع ، حتى سمعت الإمام عز الدين ابن جماعة يحكي ذلك عن أبيه عن جده ، وأن بدر الدين ابن جماعة كان يعتمد لك ويدعي أنه لا يخطئ ، فاتفق في هذه السنة أنه أخطأ ، ثم تأملت فوجدته أخطأ أيضا في سنة 15 ، وبيان ذلك أنه في أول يوم من مسرى في هذه السنة كان أكمل ثمانية أذرع وثلاثة عشر إصبعا ، فلو أضيف ا ثمانية أذرع لكان يلزم أن تكون غاية الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة عشر إصبعا ،
والفرض انه انتهى في هذه السنة إلى ثمانية عشر ذراعا وثلاثة أصابع ، وأما في سنة خمس عشرة فكان في أول يوم من مسرى قد بلغ ستة عشر ذرعا ، فلو زيد ثمانية لبلغ أربعا وعشرين ، ولم يقع ذلك .
وفي العشرين من شوال عهد المؤيد لولده أحمد بالسلطنةوعمره سنة ونصف ، وكان مرضه اشتد وأرجف بموته ثم تنصل ودخل الحمام وزينت البلد ، ثم ركب واجتاز بالقاهرة إلى منظرة التاج .
وفيات سنة 823
ذكر من مات في سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم ابن السلطان الملك المؤبد - تقدم في الحوادث .
تغرى برمش ابن يوسف بن عبد الله التركماني زين الدين الحنفي ، قدم القاهرة شابا وقرأ على الجلال التباني وغيره وداخل الأمراء الظاهرية وصارت له عصبية وكان يتعصب للحنفية ويحب أهل الحديث مع ذلك وينوه بهم ويتعصب لأهل السنة ويكثر الحط على ابن العربي وغيره من متصوفي الفلاسفة ، وبالغ في ذلك حتى صار يحرق ما يقدر عليه من كتب ابن العربي وربط مرة كتاب الفصوص في ذنب كلب ، وصارت له بذلك سوق نافقة عند جمع كثير ، وقام عليه جماعة من أضداده فما بالى بهم ، ولما تسلطن المؤيد عرفه فقربه وأكرمه فقرر عنده بعض تلامذته واستأذنه في الحج والمجاورة ، فصار إلىمكة فأقام بها من سنة سبع عشرة إلى أن مات ، وصار تلميذه ذلك ينفق سوقه به ويحصل له الأموال ويرسلها وقام له جاه عريض ويم يكن بالماهر في العلم ولكن مشى حاله بالجاه وكتب له توقيع بتغيير المنكرات فأبغضوه ورموه بالمصائب حتى قال فيه شعبان بن داود الآثاري من أبيات :مبارك أبرك منه ما ترى وقد ترجمه الشيخ تقي الدين المقريزي فبالغ في ذمه فقال رضي من دينه وأمانته بالحط على ابن العربي مع عدم معرفته بمقالته ، وكان يرمي في نفسه بشنيعة وكان قد اشتغل فما بلغ ولا كاد لبعد فهمه وقصوره ، وكان يتعاظم مع دناءته ويتمصلح مع رذالته حتى انكشف للناس سيرته وانطلقت الألسن تذمه بالداء العضال مع عدم مداراته وشدة انتقامه ممن يعارضه في أغراضه ، ولم يزل على ذلك حتى مات بمكة ليلة الاربعاء مستهل المحرم .
خليل بن عبد الرحمن بن الكويز صلاح الدين ناظر الديوان المفرد ، مات في العاشر من شهر رمضان ، وكان الجمع في جنازته متوفرا ، وكان متواضعا كثير البشاشة حسن الملتقى كثير الصدقة .
عبد الله بن شاكر بن عبد الله بن الغنام ، القبطي الصاحب كريم الدين ، ولي الوزارة في حياة الاشرف ثم باشرها مرارا ، وحج كثيرا وجاور ، وجعل داره مدرسة ، وعمر أزيد من تسعين سنة ،ومات في سادس عشري شوال ، ودفن بمدرسته بالقرب من الجامع الأزهر ، وكان موصوفا بالعسف في مباشرته ، واستمر خاملا أكثر من ثلاثين سنة .
عبد الله بن محمد . السمنودي جمال الدين الشافعي ، اخذ عن الشيخ جمال الدين الأسنوي وأبي البقاء والشيخ محمد الكلاي ، ولازم الشيخ سراج الدين البلقيني ، ودرس بأماكن فنفع الناس مع المروءة والعصبية والقيام في مصالح أصحابه ، مات في سلخ رجب ودفن في مستهل شعبان .
عبد الله بن مقداد ، جمال الدين الأقفهسي المالكي ، تفقه على الشيخ خليل وغيره ، وشرح الرسالة ، وكان قلي الكلام في المجالس مزجي البضاعة في غير الفقه ، وولي القضاء مرتين ، وناب أولا في الحكم ، ومات وهو على القضاء في رابع عشر جمادى الأولى وقد قارب الثمانين فيما سمعته يقول ، ولما مات اتفق أهل الدولة على إقامة جمال الدين يوسف ابن نعيم البساطي ، ثم صرف ذلك عنه لابن ابن عمه شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان البساطي ، وشمس الدين أفقه وأكثر معرفة بالفنون من جمال الدين لكن جمال الدين أسن وأدرب بالأحكام وأشهم .
علي القلندري صاحب الزاوية خارج الصحراء ، كان أحد من يعتقد .قرا يوسف بن قرا محمد التركماني ، كان في أول أمره من التركمان الرحالة فتنقلت به الأحوال إلى أن استولى بعد اللنك على عراق العرب والعجم ، ثم ملك تبريز وبغداد وماردين وغيرها ، واتسعت مملكته حتى كان يركب في أربعين ألف نفس ، وكان نشأ مع والده ، وكان قد تغلب على الموصل ثم ملكها بعده ، وكان ينتمي إلى أحمد بن أويس ، وتزوج أحمد أخته وكان يكاتب صاحب مصر وابنه بعد أحمد بن أويس في مهماته - وقد تقدم ذكر شيء من ذلك في الحوادث ، ثم وقع بينهما وقتل أحمد رسله فغزاه فهرب أحمد منه ، فملك بغداد سنة خمس وثمانمائة ، فأرسل اللنك عسكرا فهرب وقدم دمشق ، وكان أحمد لما هرب قدمها فتصالحا ، ثم توجه قرا يوسف مع يشبك ومن معه إلى القاهرة ، فلما كان من وقعة السعيدية سنة سبع وثمانمائة ما كان رجع ، وتوجه من دمشق في صفر سنة ثمان إلى الموصل ثم إلى تبريز ، ثم واقع مرارا أبي بكر بن مرزا شاه بن اللنك فقتله في ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة واستبد بملك العراق ، وسلطن ابنه محمد شاه ببغداد بعدحصار عشرة أشهر ، ثم ثار أهل بغداد وأشاعوا أن أحمد بن أويس حي ، فخرج محمد شاه من بغداد وكاتب أباه بما اتفق فرجع ودخل بغداد ، وفر آل أحمد بن أويس إلى تستر ، ودخلها محمد شاه في جمادى الأولى سنة أربع عشرة ، وفي غضون ذلك كانت لقرا يوسف مع ليدكي ومع شاه رخ ابن اللنك ومع الشيخ إبراهيم الدربندي وقائع ، ثم سار إلى محاربة قرا يلك وكان بآمد ففر منه وتبعه ، ودامت الحرب مدة ثم حصر شاه رخ بتبريز فرجع قرا يوسف ، وتبعه قرا يلك فنهب سنجار ونهب قبل أهل الموصل وأوقع بالأكراد ، واختلف الحجال بين شاه رخ وقرا يوسف حتى تحالفا وتصالحا وتصاهرا ، ثم انتقض الصلح سنة سبع عشر وتحاربا .
وفي سنة عشرين طرق البلاد الحلبية ، ثم صالحه قرا يلك ، ثم رجع يريد تبريز خوفا من شاه رخ .
وفي سنة إحدى وعشرين كانت بينه وبين قرا يلك عثمان بن طورغلي وقعات حتى فر قرا يلك فقدم حلب ، انتقل الناس من حلب خوفا من قرا يوسف وكان قد وصل إلى عينتاب ، وكتب إلى المؤيد يعتذر بأنه لم يدخل هذه البلاد إلا طلبا لقرا يلك لكونه هجم على ماردين وهو من بلاد قرا يوسف فأفحش في القتل والأسر والسبي بحيث بيع صغير واحد بدرهمين وحرق المدينة ، فلما جاء قرا يوسف أحرق عينتاب وأخذ من أهلها مالا كثيرا مصالحة وتوجه إلى البيرةفنهبها ، ثم بلغه أن ولده محمد شاه عصى عليه ببغداد فتوجه وحصره واستصفى امواله وعاد إلى تبريز ، فمات في ذي القعدة وقام من بعده ابنه إسكندر بتبريز ، واستمر محمد شاه ببغداد ، وكان قرا يوسف شديد الظلم قاسي القلب لا يتمسك بدين ، واشتهر عنه أن في عصمته أربعين امرأة ، وقد خربت في أيامه وأيام أولاده مملكة العراقين - وتقدم كثير من أخباره في الحوادث .
محمد بن الطنبغا القرمشي ولد الأمير الكبير ، كان شابا حسنا شهما شجاعا ، مات مسلولا ويقال إنه سقي السم ، وأسف عليه أبوه جدا .
محمد بن بوزنة البخاري ، يلقب نبيرة - بنون وموحدة وزن عظيمة ، ذكر أنه من ذرية حافظ الدين النسفي ، ونشأ ببلاده وقرأ الفقه وسلك طريق الزهد ، وحج في هذه السنة وأراد أن يرجع إلا بلاده فذكر أنه رأى النبي e في النوم فقال له : إن الله قد قبل حج كل من حج في هذا العام وأنت منهم - وأمره أن يقيم بالمدينة ، فأقام فاتفقت وفاته يوم الجمعة ودفن بالبلقي .
محمد بن علي السوهاي ثم المصري جمال الدين ، أحد العدول بمصر ،كتب المنسوب على شيخنا أبي علي الزفتاوي وانتفع به الناس في ذلك ، مات في شهر رجب وقد جاوز الخمسين .
محمد بن علي الحبري الشرابي أبوه وأما هو فباشر في أعوان الحك للمالكية ، ثم وقعت واقعة سجن بسببها ثم حكم بحقن دمه وأطلق ثم عمل في دكان سكري ، ثم توصل إلى أن عمل حسبة مصر ثم القاهرة ، وكان عاميا جلف قليل الخير كثير الشر . لقبه شرف الدين .
محمد بن محمد بن حسين ، المخزومي البرقي شمس الدين الحنفي ، كان مشهورا بمعرفة الأحكام مع قلة الدين وكثرة التهتك . وقد باشر عدة أنظار وتداريس ، مات في جمادى الأولى .
محمد بن العلامة شمس الدين محمد بن سليمان ، ابن الخراط الحموي شمس الدين الشاعر المنشي الموقع ، أخذ عن أبيه وغيره وقال الشعر فأجاد ، ووقع في ديوان الإنشاء ، وكان مقربا عند ابن البارزي ، ولم يكمل الخمسين ، وعاش أخوه زين الدين عبد الرحمن بعده وهو أسن منه إلى سنة أربعين .محمد بن محمد بن عبد الله بن أحمد ، شمس الدين الصغير - بالتصغير - الطبيب المشهور ، ولد في 15 جمادى الأولى سنة 745 ، وكان أبوه فراشا ، فاشتغل هو بالطب وحفظ الموجز وشرحه وتصرف في العلاج فمهر ، وصحب البهاء الكازروني ، وكان حسن الشكل له مروءة ، مات بعد مرض طويل في عاشر شوال .
محمد بن محمد بن عثمان ، القاضي ناصر الدين البارزي كاتب السر ، ولد في شوال سنة تسع وستين ، وحفظ الحاوي في صغره واستمر يكرر عليه ويستحضر منه ، وتعانى الآداب وقال الشعر ، وكتب الخط الجيد ، ثم ولي قضاء بلده وكتابة السر بها وقضاء حلب وكتابة السر بالقاهرة طول دولة المؤيد . وكان لطيف المنادمة كثير الرئاسة ذا طلاقة وبشر وإحسان للعلماء والفضلاء على طريقة قدماء الكرماء ، ومات في يوم الأربعاء ثامن شوال ، ومشى الناس في جنازته من منزله بالخراطين إلى الرميلة ، ولم يصل السلطان عليه لأنه كان في غاية الضعف حينئذ .
محمد بن محمد بن محمد بن سعيد ، الصغاني جمال الدين ابن الضياء ولد قاضي مكة ، ناب في عقود الأنكحة ، ومات بمكة في ربيع الأول .
محمد بن موسى بن علي بن عبد الصمد بن محمد بن عبد الله ، المراكشي الأصل ثم المكي الحافظ جمال الدين أبو المحاسن ابن موسى ، ولد في ثالثرمضان سنة سبع وثمانين ، وحفظ القرآن ، وأجاز له وهو صغير قبيل التسعين وبعدها أبو عبد الله بن عرفة وتقي الدين ابن حاتم وناصر الدين ابن الميلق وجماعة وتفقه ، وحبب الطلب فسمع بمكة على مشايخ مكة كابن صديق ومن دونه وعلى القادمين عليها كعلاء الدين الجزري وعبد الرحمن الدهقلي وشهاب الدين ابن منيب ، وأخذ علم الحديث عن الشيخ جمال الدين ابن ظهيرة والحافظ تقي الدين الفاسي والحافظ صلاح الدين الأقفهسي وتخرج به في المعرفة في طريق الطلب والعالي والنازل ، ورحل إلى الديار المصرية فسمع من شيوخها ثم رحل الشام فأدرك عائشة بنت عبد الهادي خاتمة أصحاب الحجار ، وجال في رحلته فسمع بحلب وحماة وحمص وبعلبك والقدس والخليل وغزة والرملة ، وسمع بالإسكندرية وغيرها ، ثم رجع وقد كمل معرفته ، وخرج لغير واحد من مشايخه منهم الشيخ زين الدين بن حسين ومحمل تراجم مشايخه فأجاد فيها ، وخرج لنفسه أربعين متباينة متوافقات لكن لم يلتزم فيها السماع بل خرج فيها بالإجازة ، ثم رحل اليمن فسمع بها ومدح الناصر أحمد فأجازه وولاه مدرسة هناك ، فأقام بتلك البلادوصار يحج كل سنة ، وكان ذا مروءة وقناعة وصبر على الأذى باذلا لكتبه وفوائده ، وكان موصوفا بصدق اللهجة وقلة الكلام وعدم ما كان عند غيره من أقرانه إباءة من اللهو وغيره من صباه إلى أن مات ، فلما كان في هذه السنة قدم حاجا فعاقهم الريح فخشي فوات الحج فركب في البر وأجهد نفسه فأدركه ، وتوعك واستمر مريضا إلى أن مات في ثامن عشري ذي الحجة ودفن بالمعلى .
محمد الشهير بابن بطالة كان أحد المشايخ الذين يعتقدهم أهل مصر ، وله زاوية بقنطرة الموسكي ، وكانت كلمته مسموعة عند أهل الدولة ، واشتهر جدا في ولاية علاء الدين ابن الطبلاوي ، وكانت جنازته مشهودة ، حملها الصاحب بدر الدين بن نصر الله ومن تبعه ، ومات في خامس عشري شهر ربيع الأول وقد جاوز الثمانين .
موسى بن محمد بن نصر ، البعلبكي المعروف بن السقيف القاضي شرف الدين أبو الفتح ، ولد سنة اثنتين وخمسين ، واخذ الفقه عن الخطيب جلال الدين والحديث عن عماد الدين ابن بردس وغيرهما ، واشتغل بدمشق عند ابن الشريشي والزهري وغيرهما ومهر ، وتصدى للإفتاء والتدريس ببلده من أول سنة إحدى وثمانين وهلم جرا ، وولي قضاءبلده مرارا فحسنت سيرته ، وكان كثير البر للطلبة سليم الباطن ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وله أوراد وعبادة ، وانتهت رئاسة الفقه ببلده إلى أن مات في هذه السنة في جمادى الآخرة .
ناصر الدين بن أحمد بن منصور بن مزني البسكري ، كان أبوه من أمراء الغرب صاحب ثروة ومعرفة فحج هو ووقع للسلطان غضب على أبيه فأوقع به ، فاستمر ناصر بالقاهرة واشتغل وكان لهجا بالتاريخ وأخبار الرواة جماعة لذلك ضابطا له مكثرا منه جدا ، وأراد تبييض كتاب واسع في ذلك فأعجلته المنية ، ومات في شعبان مها ولم يدخل الكهولة .
يوسف بن الشيخ إسماعيل بن يوسف ، الأنبابي الشيخ جمال الدين ابن القدوة إسماعيل ، أخذ الكثير عن شيوخنا وقرأ في الفقه والعربية والأصول وأكثر جدا ثم انقطع بزاوية أبيه بأنبابة ، وأحبه الناس واعتقدوه ، وحج مرارا ، وكان يذكر لنفسه نسبا في سعد بن عبادة ، ومات في شوال وخلف مالا كثيرا جدا .يوسف بن محمد ، التركماني المعروف بقرا يوسف بن بيرم خواجا - تقدم في قرا يوسف .
حوادث سنة 824
سنة أربع وعشرين وثمانمائة
استهلت يوم الاثنين ورئي الهلال في تلك الليلة كبيرا ودام حتى غاب الشفق ، وسمعنا بعض الجند يقول إنه رآه ليلة الأحد ، كذا ثبت في حلب وكان يوم الاثنين حادي عشر طوبة ، وفي أوله اشتد مرض السلطان وأرجف بموته وحصل له ذرب مفرط واستمر إلى أن مات ضحى يوم الاثنين ثامن السنة ، وحضر موته الشيخ يحيى السيرامي وبعض الأمراء ، ثم اجتمع الأمراء والقضاة والخليفة وسلطنوا ابنه أحمد ولقب المظفر وذلك قبل تجهيز والده ، وكان القائم بذلك الأمير ططر وهو يومئذ أمير مجلس ، ثم جهز الملك المؤيد وتقدم للصلاة عليه الخليفة ، ثم حمل من القلعة إلى مدرسته التي أنشأها داخل باب زويلة ،ودفن بها في القبة التي دفن فيها ولده إبراهيم ، وتأسف الناس عليه جدا وأكثروا الترحم عليه ، وأمطرت السماء ساعة المسير بجنازته مطرا غزيرا جدا حتى مشى الناس في الوحل إلى المدرسة ، واخبرني بعض أصحابنا أنه شاهد البرد ينزل من السماء كبارا ، وكانت مدة سلطنة المؤيد ثماني سنين وخمسة أشهر وثمانية أيام ، وكان ابتدأ استقراره في نيابة الشام في سنة خمس وثمانمائة ، فاستوفى في الملك عشرين سنة أميرا صرفا وفي معنى السلطان وسلطانا ، وكان شهما شجاعا عالي الهمة كثير الرجوع إلى الحق محبا في الشرع وأهله صحيح العقيدة كثير التعظيم لأهل العلم والإكرام لهم والمحبة في أصحابه والصفح عن جرائمهم ، ومحاسنه جمة .
وفي عقب دفن السلطان قبض على الأمير قجقار القردمي وحبس بالقلعة ، وكان شاع في مدة مرض المؤيد أنه يريد الركوب عليه فلم يقع ذلك ، فلما مات المؤيد كان الأمراء مقيمين بالقلعة فلم يتوجه مهم في الجنازة إلا القليل فبادر الأمير ططر وقبض على قجقار ، وكان قجقار أراد ذلك فلم يتهيأ له وكان يريد أن يكون هو المتكلم في المملكة فحيل بينه وبين ما أراد ، واستقر ططر بتدبير المملكة ولف المؤيديه عليه وقربهم وأمرهم ، ونودي في يوم الخميس بالإنفاق على الجند ، فأنفق لكل واحد ثمانين دينارا وأربعة آلاف فلوسا ، وكان في خزانة المؤيد جملة مستكثرة من الفلوس ، ولم يفتح الأمير ططر الخزانة إلا بحضرة القضاة ، فاخذ منها قدر أربعمائة ألف دينار للنفقة ، ثم أغلقها وختم عليهاوسلم الختم والمفتاح للقاضي المالكي ، ثم قبض على جلبان رأس نوبة إبراهيم بن المؤيد وعلى شاهين الفارسي وهما من كبراء الأمراء فأضيفا إلى القردمي وجهز الثلاثة إلى الإسكندرية في يوم الجمعة ، وتسحب مقبل الدويدار في طائفة خوفا على أنفسهم من الحبس فتوجهوا قبل الشام ونزلوا البحر من جهة دمياط في الطينة واستمروا إلى جهة طرابلس وكانوا اتفقوا على الركوب على ططر ، وكان فيهم أسندمر النوري أمير طبلخاناة وكان من رؤس النوب ومعه من أمراء العشرة مبارك شاه وجلبان وكمشبغا الحمزاوي ويلخجا الساقي واجتمعوا بالرميلة فتأخر عنهم من كان أحضر واتفق معهم فساقوا هاربين ، فتبعهم جاني بك الصوفي ويشبك الأستادار وتاني بك ميق فلم يلحقوهم .
وفي الثالث عشر من المحرم استقر بدر الدين بن نصر الله في نظر الخاص مضافا إلى الوزارة وصرف مرجان الهندي عن التحدث في الخاص ، واستقر صدر الدين ابن العجمي في الحسبة وصرف إبراهيم بن الحسام وفرح الناس به ، ورتب الأمير ططر للمحتسب في كل يوم دينارين على الجوالي وشرط عليه أن يبطل الدكة ويتوفر ما كان المحتسب يأخذه من البياعين ، ثم استقر في الوزارة تاج الدين بن كاتب المناخات في ثانيعشري المحرم ، وفيه نودي في الجند أن يحضروا ليعاد م ما كان قبض منهم بسبب التجريدة من المال من أيام المؤيد ومباشرة الهروي القضاء ، فعظم فرحهم بذلك ودعاؤهم وشرع في إعطائهم ذلك .
وفي النصف من المحرم خلع على الأمير ططر خلعة معظمة واستقر نظام المملكة ، واستقر تغري بردي بن قصروه أمير آخور وجاني بك الصوفي أمير سلاح وعلي باي دويدارا كبيرا عوضا عن مقبل ، ولقب ططر نظام الملك ، وخلع على جماعة آخرين من الأمراء .
وفي الثاني عشر منه استقر إينال الأزعري حاجب الحجاب وخلع على القضاة باستمرارهم وعلى كاتب السر وناظر الجيش وناظر الخاص وناظر الإصطبل بالاستقرار أيضا ، ثم استعفى ناظر الجيش من وظيفته فروجع فصمم وتوجه إلى الجيزة فأقام بها ، فلما كان في الخامس والعشرين منه قرر في كتابة السر وقرر كاتب السر في نظر الجيش وباشرا ذلك جميعا ، ولبس كمال الدين الخلعة بذلك ،في هذا اليوم وتأخر لبس ابن الكويز الخلعة إلى يوم الاثنين تاسع عشري الشهر أو سلخه .
واستقر مرجان الخازندار في نظر الجوالي .
وفي السابع والعشرين من المحرم توجه يشبك الأستادار إلى الصعيد لدفع المفسدين من العرب واستخلاص الأموال من الفلاحين .
وفي أواخر الشهر خرج الأمراء المجردون من حلب ، وكان المؤيد أرسلهم في الظاهر لحفظ البلاد من قرا يوسف ، وفي الباطن لإمساك يشبك ، وأحسن يشبك بذلك فأخذ حذره منهم ولم يتمكنوا منه ، فلما بلغتهم وفاة المؤيد سافروا قاصدين القاهرة فلم يودعهم نائبها يشبك اليوسفي ، فبلغهم أنه يريد الغدر بهم فحذروا منه ، وتبعهم هو فتتبع آثارهم ظانا أنهم على غفلة عنه فكبسهم فوقع الحرب بينهم ، فكبا به فرسه فظفروا به فقتلوه ، ورجعوا إلى حلب وقرروا الطنبغا الصغير في إمرتها وتوجهوا إلى جهة دمشق ، فلما بلغ ذلك ططر في ربيع الأول أخرج إقطاع الطنبغا هذا وأوقعت الحوطة على حواصله ، ثم أخرجت إقطاعات بقة الأمراء فاستقر تاني بك ميق أتابكا على إقطاع القرمشي ، ثم أخرجت إقطاعات بقية الأمراء المجردين صحبة الطنبغا القرمشي ووقع التباين بين الطائفتين ، وكانوا أرسلوا إلى العرب والتركمان الكبكية يأتونهم ، فصادف وصولهم يوم نزول العسكر بعين مباركة ،وكان نائب القلعة شجاع الدين أحس بالشر من يشبك فأخذ حذره منه وحصن القلعة ، فأراد يشبك بحلب فلم يظفر به فخرج طالبا العسكر ، فرمى عليه نائب القلعة بالحجارة والسهام فسار وهو يرعد ويتوعده ، فما أحسن العسكر المصري إلا وقد طرقهم بمن معه ظنا منه أنه يأخذهم على غرة ، وفطنوا به فظفروا به وقتل في المعركة ورجعوا إلى حلب ، وكان يشبك المذكور سيئ السيرة حتى أن بعض مماليكه خرج إلى كفر نوران لمهم لأستاذه فرجع فافترى عليه كذبة فلم يكذب أستاذه الخبر ورجع بعسكره ، فأوقع بهم فأبادهم قتلا ونهبا وفسقا وسبى الذرية ، وأحضر أربعة عشر نفسا من شيوخهم وكهولهم فصلبهم .
وفي حادي عشر صفر وصل سيف يشبك اليوسفي الذي كان شاد الشربخاناه - ومات المؤيد وهو نائب حلب - وقرينه رأسه ، أرسل ذلك الأمراء الذين قتلوه ، واتفق الطنبغا القرمشي وجقمق نائبالشام ومن معهم على مباينة المصريين ، ثم وقع بينهم الخلف ومال القرمشي إلى المصريين .
وفي صفر خلع على الدويدار الكبير على باي وعلى كاتب السر ابن الكويز بنظر المؤيدية وحضراها ، وعلى أمير آخور تغرى بردى بنظر الظاهرية ، وعلى راس نوبة بنظر الشيخونية ، وعلى إينال الأزعري بنظر جامع الأزهر وعمرو بن العاص ، وباشروا وظائفهم .
وفي ربيع الأول أخرجت إقطاعات الأمراء المخالفين وجددت الأيمان للمظفر وللقائم بدولته ططر ، وكتب له تفويض عن الخليفة وشهد فيه القضاة ثم حكموا بصحته ، ودخلت في رأسه النخوة ولهج بالاستبداد تلويحا وتصريحا وأخذ في أسباب ذلك واعانه عليه قوم آخرون ، وشرع في إرضاء من خشي شره ومخالفته بالمال .
وفي يوم الخميس أول يوم من ربيع الأول ثم ثبت أنه ثانية عمل المولد السلطاني وأحضر المظفر فاجلس مجلس أبيه وهو ابن سنتين بل لم يكملهما ، فجلس ساكتا لا يتكلم ولا يقلق ولا يعبث قدر ساعة رملية ثم رفع ، ثم أعيد عند مد السماط فجلس مجلس أبيه أيضاعلى الصفة الأولى من السكون ، وبلغ جقمق نائب الشام ما وقع بمصر فاستولى على القلعة وأمسك نائبها .
وفي خامسه نزلت الشمس برج الحمل ، وفي صفر أطلق ناصر الدين محمد بن قرمان الذي كان قبض عليه في سنة 22 وفوضت أمور بلاده لأخيه علي فأعيد محمد إلى مملكته ، وسار في يوم الجمعة خامس عشري صفر من البحر ، وسار معه شمس الدين الرومي المعروف بشاكر والهروي ، وزوده الأمير ططر بمال وقماش وخيل وخيام وجهز معه سفرا ، فيقال إن الريح عصفت عليهم فتوجهت المركب نحو قبرس ، فبلغ ذلك صاحبها فكارمه بهدية ، وفي يوم الأربعاء حادي عشره أمسك كمال الدين ابن البارزي وعوق من وقت العصر إلى صبيحة الاثنين ، فشفع فيه صهره ابن الكويز واستكتبه خطه بستة آلاف دينار .
وفيه قبض علي ناصر الدين بن العطار الذي كان نائبا بالإسكندرية ثم أفرج عنه بعد أيام ، وفيه وصل يشبك الإينالي الأستادار من الصعيد بعد أن أجاح أهله فصرف بعد قليل من الأستادارية ، واستقر فيها صلاح الدين ابن ناظر الخاص في سابع عشر ربيع الأول .وفي يوم الاثنين العشرين من شهر ربيع الأول كان أول الخمسين ? عند المصريين ، وحصل فيه حر شديد وسموم مفرط ، وكان ذلك في أواخر آذر وأوائل نيسان ، فاشتد ذلك حتى صار كأشد ما يكون في تموز ولو كان لا برد الماء لهلك الناس ، ثم ارتفع ذلك بعد عشرة أيام وأمطرت السماء مطرا غزيرا برعد وبرق وغاد مزاج الفصل إلى العادة من البرد المتوسط .
وفي شهر ربيع الآخر أقيمت خطبة في تربة الزمام خارج الصحراء بالقرب من جامع طشتمر وحضرها جماعة من ضيق المكان جدا وحكم بصحة ذلك القاضي الحنفي .
وفيه استقر شمس الدين محمد بن قاضي القضاة الحنفي التفهني في قضاء العسكر وإفتاء دار العدل عوضا عن شمس الدين القرماني المعروف بشاكره الهروي بحكم انتقاله إلى بلاده صحبة ابن قرمان .
وفي رابع ربيع الآخر نزل الأمير ططر في موكب كبير ومعه جمع كثير من الأمراء والخاصكية والمماليك وغيرها فدخل المدرسة المؤيدية ، وزار المؤيد وضيفه شيخها بحلاوة عجمية .وفي رابع عشري صفر قبض على ابن وباب وكان من قطاع الطريق بالاطفحية ، وقد جمع كثيرا من المفسدين وسماهم بأسماء الأمراء ، فإذا مرت مركب فيها غلة سأل عن صاحبها ، فإذا قيل الأمير فلان ، استدعى بذلك الذي سمي باسمه فقال له : هذه مركبك خذها ، واستطالوا على الناس جدا .
وفي ربيع الآخر نازل عذراء أمير العرب ببلاد حلب فخرج الطنبغا الصغير النائب إذ ذاك بها فأوقع به فكسر عذراء وانتهب جماله ومواشيه ، وهرب في أسوء حال ورجع العسكر الحلبي منصورا ، ثم توجه النائب المذكور إلى جهة ابن كبك التركماني ، فالتقى الجمعان بين قلعة المسلمين وعينتاب فكان القتال واشتد الخطب ، ثم وقع النصر للحلبيين فأوقعوا بالتركمان وانتهبوهم وغنموا منهم شيئا كثيرا جدا وقتل منهم جماعة واسر جماعة فوسط منهم بسوق الخيل .
وفي ربيع الآخر رخص الورد جدا بحيث بيع على رؤوس الباعة على حساب كل ألف وردة بقدر عشرين درهما بمعاملة القاهرة فيكون بالدينار الهرجة المصري خمسة عشر ألف وردة ، فلما كان في سنة ست وعشرين كان قليلا ، وأكثر ما رخص أن كان على الضعف من هذه السنة .وفي سابع ربيع الآخر أنفق الأمير ططر نفقة السفر لكل مملوك مائة دينار ، وأعطى القضاة من النفقة لكل واحد كما لواحد من المماليك ، وخلع على القضاة الأربعة جببا بسمور .
وفي جمادى الأولى ادعى شخص من عرب الصعيد يقال له عزام النبوة زعم أنه رأى فاطمة الزهراء بنت النبي e في اليقظة فأخبرته عن أبيها أنه سيبعث بعده ، وأطاعه ناس وخرج في ناحيته ، فقام عليه نجم الدين عبد الرحمن بن عبد الوارث البكري وسعى إلى أن قبض عليه فضربه تعزيزا وحبسه وأهانه فرجع عن دعواه وتاب - هكذا أخبرني به - عبد الرحمن المذكور .
وفي التاسع عشر من ربيع الآخر خرجت العساكر المصرية متوجهة إلى الشام بسبب مخالفة الأمراء بالشام عليهم ، وكان الأمراء قد توجهوا من حلب بعد قتل نائبها يشبك إلى دمشق وانضم م مقبل الدويدار الذي كان تسحب وتحالفوا الجميع على المعاونة وعلى تقدمة الدولة المؤيدية وطرد النوروزية ، فبلغ ذلك ططر فأنفق في العساكر في تاسع الشهر وبذل الأموال ولم يرد سائلا حتى نفد بيت المال الذي كان المؤيد ادخره ولم يبق معه منه إلا القليل صحبته ، وقرر الأمير ططر في الإصطبل جقمق أخا جركس المصارع وهو الذي وليالسلطنة بعد الأشرف ، ونائب الغيبة قانباي الحمزاوي ، ونائب القلعة قطج وضرب خامه في الرابع عشر بالريدانية ، ثم خرج في المقدمة على باي الدويدار والحاجب إينال وغيرهما ، ثم توجه العساكر في يوم الجمعة الثاني والعشرين منه ووصل جاليش الشاميين إلى غزة ، فلما بلغهم وصول العساكر انهزموا بغير لقاء ، واستأمن جلبان أمير آخور وإنيال النوروزي وحضرا إلى المصريين في أثناء طريق غزة ، وتوارد غالب من كان في المقدمة إلى أن كان الذي حضروا عن ططر بغزة ستمائة نفس منهم ، وكان دخولهم غزة في ثاني جمادى الأولى يوم الاثنين في دست كبير وأبهة هائلة ، ثم وقع بين الشاميين مباينة فقام الطنبغا القرمشي ومن انضم من الأمراء المجردين على جقمق ومن معه ، فانكسر جقمق وقر هو ومقبل الدويدار وطوغان أمير آخور إلى صرخد فتحصنوا بها ، استقر الطنبغا القرمشي حاكما بدمشق ، ووصلت عساكر المصريين إلى دمشق في نصف الشهر ، وألقى القرمشي ومن معه بالمقاليد وطلبوا الأمان ودخلوا في الطاعة ، فأمسكوا بعد قليل وقتلوا ، ثم جهزت طائفة إلى صرخد بسبب جقمق ومن معه ، واستقر قطلوبغا التنمي بطالا وشرباش عاشق والطنبغا المرقبي بطالين بالقدس ، واستقر ثاني بك ميق نائب الشام وقرر عوضهجاني بك الصوفي أتابك العساكر .
وفي رابع ربيع الآخر قتل راشد بن بقرا أمير العرب بالشرقية واستقر عوضه شعبان بن عيسى ، وكان راشد مشكور السيرة ، وفي ليلة الثلاثاء سادس عشر جمادى الآخرة أمطرت السماء بعد المغرب مطرا يسيرا ، وذلك بعد نزول الشمس السرطان بليلتين .
وفي يوم السبت العشرين منه ابتدئ النداء على زيادة النيل ، وكانت القاعدة أربعة أذرع وعشرين إصبعا .
وفي سلخ جمادى الآخرة توقف النيل ، ثم استمرت الزيادة ورخصت الأسعار .
وفي رمضان ورد مرسوم السلطان بقتل الأمراء المسجونين بالإسكندرية فقتلوا ، منهم قجقار القردمي .
وفي الرابع من رمضان أحضر إلى صدر الدين ابن العجمي المحتسب رجب بن سليمان غلام ابن خير ومعه جمع كثير ، فذكروا أنهم كبسوه مع صبي وهو يلوط به نهارا ، فأمر بضربه بالعصي وبالدرة وحبس وكان قد أنكر ذلك لما شهدوا عليه ، فأمر شخصا أن يكشف عنذكره ويعصره ففعل فخرج منه المني فلم يسمع فأفحش منها ، ثم أطلق هذا الرجل واستمر على حاله ، وكان هذا يخدم القاضي ابن خير فصار بعده يستجدي من الطلبة ويرافقهم في الطلب وفي سماع الحديث فسمع كثيرا لكنه يزن بالهنات ولا يزال يحصل في مكروه من ذلك إلى أن وقعت له هذا الواقعة فكانت أشد شيء اتفق له ، ثم اتفق أن المحتسب عزل بعد يومين فرجع رجب إلى عادته وعاش بعد صدر الدين دهرا ، ولما توجه الطنبغا القرمشي ومن معه من الأمراء وهم طوغان أمير آخور وجلبان وآزدمر الناصري وجرباش إلى دمشق وتأخر من رفقتهم الطنبغا الصغير في نيابة حلب واتفقوا مع جقمق نائبها الذي كان دويدار المؤيد على مخالفة المصريين ، ثم وقع بينهم الحرب فانتصر الطنبغا وفر جقمق ومن وافقه إلى صرخد فتحصنوا بها ووصل ططر مع العسكر المصري إلى الغور ، فكتب القرمشي إلى ططر بطاعته هو ومن معه ثم خرجوا إلى ملاقاة العسكر إلى أن دخلوا دمشق وخلع على الجميع ، فلم يمض نهار دخولهم حتى قبض على القرمشي وقتل واعتقل جماعة غيره ممن كان معه ، واستقر إينال الجكمي في نيابة حلب ، ثم خرج ططر بالعسكر إلى حلب فاستمر بها نحو أربعين يوما حتى قرر الأمور بها وقرر في نيابتها تغري بردى الذي يقال له ابن قصروه ونقل إينالالجكمي وحضر أمراء القلاع ونواب البلاد عنده ودخلوا تحت طاعته ، ثم رحل عنها طالبا دمشق وكان خروج العساكر صحبة ططر من حلب في ثاني عشر شعبان قاصدين دمشق فوعك ططر في الطريق ثم عرفي ودخل دمشق في الرابع والعشرين من شعبان ، فأقام بها قليلا وقبض على إينال الجكمي وإينال الأزعري ويشبك الأنالي الأستادار وجلبان وأزدمر الناصري وعدة معهم من الأمراء الأربعينات والعشرات واعتقلهم وذلك في الثامن والعشرين من شعبان ، وبات تلك الليلة عنده ثاني بك ميق النائب بدمشق وغيره من خواصه فلما أصبح يوم الجمعة سلخ شعبان طلب الخليفة والقضاة الأمراء إلى القلعة فبايعوه بالسلطنة ، وخلع المظفر أحمد لصغره وعجزه ، وخطب له ذلك اليوم على المنابر بدمشق وما قاربها ، واستمر إلى رابع عشر رمضان فرحل بعد صلاة الجمعة طالبا الديار المصرية وقرر بدمشق نائبها تاني بك ميق المذكور ، وقرر في طرابلس تاني بك البجاسي نقلا من نيابة حماة وقرر في نيابة حماة جارقطلي ، فدخل القاهرة يوم الخميس رابع شوال ، وكان استقر أركماس الجلباني نقلا من نيابة . . . . إلى نيابة طرابلسعوضا عن شاهين الزردكاش ، ووصل رسول جقمق ومن معه من صرخد في طلب الأمان ، فجهز م بعض الموقعين وهو بدر الدين ابن مزهر صحبة الأمير برسباي الدقماقي وهو الذي ولي السلطنة بعد ذلك ووصل مقبل سفيرا منهم ، ثم توجه بدر الدين ابن مزهر موقع الدست فاستنزل الأمراء من صرخد وأحضرهم إلى دمشق فقتل جقمق في شعبان وحبس طوغان أمير آخور .
وفي أواخر رجب عزل إينال الجكمي من نيابة حلب واستقر بها تغرى ابن قصروه .
وفي شعبان أمسك جماعة من الأمراء منهم يشبك الأنالي الذي كان أستادارا وعلى باي الدويدار وإينال الأزعري وآخرون فحبسوا وقبض على الأمراء المؤيدية لما أرادوا الوثوب إلى ططر في آخر شعبان وهم على باي الدويدار وجلبان ومغلباي وإينال الجكمي ويشبك الأنالي وأزدمر الناصري ، وكان طلب أولا الدويدار ومغلباي ثم طلب الباقين واحدا واحدا فلما تكاملوا بالقلعة قبض عليهم ثم أودعهم الاعتقال ليلة الجمعة ، وبات عنده بقية الأمراء مثل نائب الشام تاني بك ميق وإينال العلائي وجاني بك الصوفي وبرسباي الدقماقي وهو الذي ولي السلطنة بعد ذلك واستقربرسباي دويدارا كبيرا ، وجعل الدويدار أتابك دمشق ، وجاني بك الصوفي أتابك مصر ويشبك أمير آخور ، فلما أصبح يوم الجمعة تاسع عشري شعبان الموافق لأول يوم من السنة القبطية تسلطن ططر بدمشق ولقب الملك الظاهر ، وكني أبا الفتح وبايعه الخليفة والقضاة المصرية والشامية وخطب له على منبر دمشق ، ووصلت الطاعة من نواب البلاد : وكان خروج ططر من حلب بالعساكر يوم الاثنين ثاني عشر شعبان فنزل بعين مبارك يومين ، ووصل وهو بها علي بك بن خليل بن قراجا بن دلغادر أمير التركمان بناحية مرعش طائعا فتلقاه بالإكرام وفوض نيابة عينتاب ودرنده وغير ذلك مضافا لما بيده وأذن له بالتوجه ، وسار ططر إلى جهة الشام ليلة الأربعاء رابعة عشرة ، فوصل وهو بمنزلة . . . مقبل الدوادر نائب الشام بوصول جقمق وطوغان من قلعة صرخد فسر بذلك ، ودخل دمشق يوم السبت رابع عشري شعبان ، وأحضر الأميرين فقبلا الأرض فأمر بتوجيه طوغان إلى القدس بطالا وبإعادة جقمق إلى السجن فأعيد ، فقدرت وفاته ليلة الثلاثاء سابع عشري شعبانودفن ليلة يوم الأربعاء بمدرسته التي أنشأها بدمشق عند باب الجامع الشمالي ، وكان ظالما غشوما متطلعا إلى أموال الناس ، وفيه وقع المحتسب صدر الدين ابن العجمي والتاج الوالي مخاصمة ثم اصطلحا ، ثم جاء الأمر بعزل صدر الدين واستقرار جمال الدين يوسف البساطي الذي كان قاضي المالكية في الحسبة واستقر في خامس شهر رمضان ، والتزم صدر الدين بأن لا يتردد إلى أحد ، وضيق على بعض أتباعه ثم أفرج عنهم ، واستمر البساطي في الحسبة إلى أن مات الظاهر ططر فصرف في ثالث عشري ذي الحجة وأعيد ابن العجمي .
وفي رابع عشر شهر رمضان توجه السلطان الظاهر والعساكر من دمشق إلى جهة الديار المصرية ، ودخل القاهرة في رابع شوال وكان يوما مشهودا .
واستقر برسباي دويدارا كبيرا ، ويشبك الذي كان دويدارا صغيرا ولي إمرة الحاج ، وفر من المدينة أمير آخور وطرباي حاجبا كبيرا ، ودخل هؤلاء بالخلع إلى القلعة .
واستقر مرجان الخازندار زماما ، وصودر كافور وألزم بيته ، فسكن في تربته بالصحراء .
وفي هذا الشهر وصل جماعة من الأمراء المتسحبين في زمن المؤيد وهم سودون بن عبد الرحمن الذي ولي نيابة الشام بعد ذلكوطرباي الذي ولي الأتابكية بعد ططر ويشبك الدويدار الذي كان فر من المدينة الشريفة وهو أمير الحاج وقجقار السيفي مراد خجاوي وخليل ابن أمير سلاح وجماعة ، فلما وصلوا إلى الفرات تبعهم ابن كلجا موسى الكردي وجمع عليهم عسكرا من التركمان والعرب ، فوقع بينهم القتال فقتل خليل المذكور وانهزم الباقون بأسوء حال فتلقاهم نائب حلب . . . . . . وكان وصول السلطان شقحب في آخر جمادى الأولى ، فقام عسكرا حلب مع نائب القلعة شاهين الأرغون شاوي ، ورمى عليه وفاجأه بمن تبعه مفاجأة منعته من الكبس ، فخرج من دار السعادة حاسرا حافيا وتفرق جمعه ، فتوجه بمن معه إلى حلب فلم يمكنوه من دخولها فاستمر ذاهبا ، فاختلف في أمره ، وكان معه كمشبغا الجمالي أميرا كبيرا كان بحلب فانقطع ذكرهما ، وقرر المظفر في نيابة حلب ، إينال الجكمي ، وآق بلاط الدمرداشي في إمرة كمشبغا ، وأحمد ابن سبري حاجب الحجاب ، وبردبك نائب سيس أمير عشرة ، ودخل إينال الجكمي نائب حلب ا في رابع رجب . . . وطلب السلطان الظاهر أركماس الجلباني فأمره بالوصول إلى الشام ليسافر معه إلى القاهرة ،فاستشعر الشر فتسحب وخرج من طرابلس بمن معه قاصدا حلب ، فلما وصل إلى صهيون ركب عليه جماعة من التركمان والفلاحين فأخذوا عليه المضايق ونهبوا أثقاله ، وفر هو نفر قليل إلى ناحية الشغر من عمل حلب .
فلما وصل إلى ديركوس أمسك وبعث نائب حلب سيفه إلى السلطان واعتقله واستقر في نيابة حماة جارقطلي وتوجه نائب حماة وهو تاني بك البجاسي إلى طرابلس .
وفي رجب وصل المظفر ومدبر دولته ططر رسول شاه رخ ابن اللنك يخبر فيه أنه نازل بتبريز وبها إسكندر بن قرا يوسف فهزمه وملكها شاه رخ ، ووصل ولد قرا يلك من أبيه مهنئا للظاهر بالسلطنة فخلع عليه وكتب إلى والده بالرضا وتقريره في البلاد ، ووصل رسول صاحب الحصن مهنئا بالسلطنة فأكرم .
وفي النصف من شوال استقر الشيخ ولي الدين ابن شيخنا الحافظ زين الدين العراقي في قضاء القضاة الشافعيين عوضا عن البلقيني بحكم وفاته .
وفي ذي القعدة استقر زين الدين عبد الباسط بن خليل ناظر الخزانة في نظر الجيش وعزل كمال الدين ابن البارزي ، فكانت مدة ولايته سنة ما بين كتابة سر ونظر جيش ولزم بيته بطالا ، وقرر له في الجواليكل يوم دينار ، وانتزع شرف الدين بن عبد الوهاب بن نصر الله من عبد الباسط نظر الخزانة ونظر المشاجرات السلطانية بالشام وغير ذلك مما كان يباشره ومن ذلك نظر الكسوة .
وفي هذه السنة حججت بعد أن توجه الحاج بعشرة أيام على رواحل فوصلت م بالقرب من الحوراء ورافقتهم إلى مكة ثم عدت صحبتهم ، وكانت الوقفة يوم الجمعة بعد تنازع بمكة مع أن العيد كان بالقاهرة يوم الجمعة ، وفيه سار شاه رخ إلى بلاده لما بلغه أن ولده خرج عليه ، فكر راجعا وترك تبريز ، فرجع ا إسكندر بن قرا يوسف .
واستمر الظاهر ططر موعوكا ينصل تارة ويشتد به المرض أخرى ، وصار يحضر الموكب داخل القاعة البيسرية عجزا عن الركوب ، وتمادى به ذلك إلى أن اشتد به المرض في ذي الحجة فأوصى وعهد بالملك لولده وقرر الدويدار الكبير برسباي أتابك العساكر ، ومات الظاهر في يومالأحد خامس ذي الحجة ، فكانت سلطنته خمس وتسعون يوما .
واستقر في السلطنة بعده ولده الملك الصالح محمد وهو ابن تسع سنين واستقر الدويدار الكبير في تربيته وسكن الأشرفية التي كان يسكنها ططر قبل السلطنة ، واستقر جاني بك الصوفي أتابك العسكر ، فلما كان يوم الجمعة بعد صلاة العيد تحيل بعض الممالك على جاني بك فأمسكوه وكان قد ركب بالرميلة فرموا عليه بالسهام فخرج جاني بك من باب الإصطبل وخرج برسباي من باب السر فوقع القتال بينهم فأمسك وأمسك يشبك أمير آخور وأرسلا إلى الإسكندرية في حادي عشر ذي الحجة ، واستقر طرباي أتابك العساكر ، واستقر برسباي نظام الملك وسودون بن عبد الرحمن دويدارا كبيرا ، وكان جاني بك قد أغلظ على المباشرين بدواوين السلطان ففرحوا بالقبض عليه ، وكان ابننصر الله استعفى من الأستادارية فأعفي ، واستقر أرغون شاه وبسط يده بالظلم فكفه برسباي ، واتفقوا على أن ينفقوا نفقة البيعة لكل شخص خمسين دينارا ، ثم تأخرت ذلك .
وفيها انقرض ملك بني مرين من فاس بقتل صاحبها أبي سعيد عثمان بن أحمد بن إبراهيم بن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني ، قتله مدبر مملكته عبد العزيز اللبابي وقتل إخوته وأولاده وأكابر البلد وأبطالها وشيوخها وكانت فتنة كبيرة ، وأقام محمد بن أبي سعيد في المملكة واستبد هو بتدبير الأمور ، ولم ينتظم من يومئذ لبني مرين أمر - فسبحان من لا يزول ملكه وفيها لما رجع السلطان من الشام لاقاه الهروي فشكى من حسن ناظر القدس وطلب أن يعاد ما أخذ منه من المال وأن يعاد نظر القدس ، فأمر بإعادة المال وهو ثلاثة آلاف دينار ، ولم يجبه إلى تولية النظر بل رتب له على الجوالي كل يوم دينارا .
وفيها هم تغري بردى ابن قصروه بالعصيان ، وأحضر كزل المؤيدي الذي كان هاربا من المؤيد ببلاد الروم ، وجمع الأمراء بدار العدلبحلب وأمسك جماعة منهم وجاهر بالعصيان ، فبلغ الظاهر ذلك فاستناب تاني بك البجاسي نائب طرابلس فوصل إلى حلب وصبته العساكر ، وكان الأمير آق بلاد الدمرداشي الذي استقر أميرا كبيرا بحلب قد فر من تغري بردى لما أحس بقبض الأمراء فاستمر في فراره إلى حماة ، ودخل جاني بك حلب وفر تغري بردى منها ، وكتب الظاهر إلى عسكر الشام وغيرها بالتوجه إلى حلب للقبض على تغري بردى فتوجهوا ، وكان نائب الشام تاني بك ميق العلائي ضعيفا فتأخر بدمشق ، وبلغ تغري بردى الخبر فاضطربت أحواله وأراد الفرار ، فقام عليه أهل القلعة وأهل البلد وقاتلوه ، فهرب على وجهه بغير قتال فوصل إلى العمق فاجتمع بكزل هذا وهو الصهيوني المؤيدي تحت حارم ، وكان قد أرسله قبل ذلك ليجمع له التركمان فرجع وقد جمع عونا ، فأشار بأن اطرق أهل حلب بغتة ، فلما هجموها بادر أهل البلد فصدوهم عن ذلك ورموهم بالحجارة وناوشوهم القتال واجتمعوا عليهم وقد نزلوا ليلا فوقع عليهم مطر عظيم بحيث تفرق جمعه فخاف على نفسه فولى راجعا إلى جهة الشمال واتفق له ذلك كله والأمراء الذين تجهزوامن الشام لقتاله قد وصلوا إلى المعرة فجدوا السير إلى أن دخلوا حلب ، ولبس تاني بك خلعة النيابة ونزل بدار العدل ، ثم انتخب عسكرا وتوجه في أثر تغري بردى إلى جهة كركر ، وانقضت هذه السنة على ذلك .
ومن الحوادث في غيبة العسكر توجه قانباي الحمزاوي إلى الصعيد لإصلاح أمورها ، ورجع إلى القاهرة في مستهل جمادى الآخرة .
وفيها اجتمع أهل الشيخونية فالتمسوا من نائب الغيبة أن لا ينفصل عنهم شمس الدين القرمشي من التحدث في أوقافهم ، وكان إينال راس نوبة قد أقامه فأحسن التدبير وقرر الأمور ، فلما ورد الخبر باستقرار إينال في نيابة حلب تعصب قوم للشيخ شرف الدين التباني شيخ المكان ، وكان القرمشي قد ضيق عليه ومنعه من التصرف ، فأغرى به أهل الشيخونية وتعصبوا للقرمشي فأعاده الحمزاوي ، فأوقدت له الشموع وحضر وقت المغرب ووعدهم بالجميل ، وغضب الشيخ شرف الدين من ذلك فصرف عنهم القرمشي ، واستقر تقي الدين بن حجة موقع الدست في مكانه ، فلما استقر قصروه راس نوبة أعاد القرمشي ، فقام أهل الشيخونية وكتبوا على الشرف التباني محضرا بأنه لا يحسن المباشرة وغير ذلك .
وفي يوم الاثنين الرابع من شعبان نودي على النيل بثلاثين إصبعا ،فتراجع النيل وكان الوفاء في يوم السابع عشر من مسرى وكسر في الثامن عشر منه ، وانتهت زيادته في هذه السنة في ويم الجمعة ثامن عشري مسرى ثمانية عشر ذراعا ونصفا .
وفي أواخر ذي القعدة غضب القاضي ولي الدين من بعض الأمراء فعزل نفسه ، وكان السلطان مشغولا بالمرض ثم أفاق فطلب أن يوصي ، فحضر القضاة فكلمه الوزير في إعادة القاضي فأشار برأسه أن نعم ، واستمر وكان ذلك في الثاني من ذي الحجة ، ولما عاد الظاهر إلى القاهرة تتبع المؤيدية فنفى بعضا وأخرج إقطاعات بعض وسجن بعضا غير من قتل ، وقدم المماليك الظاهرية فأمر بعضا وكبر بعضا ، وارتفعت رؤس النوروزية ، وأمر الظاهر بكتابة المراسيم لأمراء مكة والمدينة بالإعفاء من التقادم التي كانوا يدفعونها للأمراء الذين يحجون ، فخف عنهم بسبب ذلك ظلم كان يعم الناس ، لأنهم كانوا يفترضون غالب ذلك من التجار ولا يطمع أحد منهم في الوفاء ، وشرط في المرسوم أن لا يتعرض أحد من أمراء الحجاز للتجار ولا للمجاورين باقتراض ولا نوع من أنواع الظلم ، وأمر بنقش ذلك على العواميد التي في صف أبواب الصفا .
وفيها وقعت في النيل زيادة لم يعهد قبلها في الوقت الذي وقعت فيه ، وذلك أنه بعد أن انحط وزرع الناس البرسيم وغيره وانقضى شهربابه من الأشهر القبطية ، وقطعت الزيادة في العشر الأخير من هاتور ، وذلك بعد وقت انتهاء الزيادة بأربعين يوما ، فزاد زيادة مفرطة بحيث أغرق كثيرا من الزروع واستأنف أصحاب البرسيم زراعته ، ثم ارتفع سعر القمح ثم انخفض يسيرا .
وفي خامس عشري ذي الحجة أعيد صدر الدين ابن العجمي إلى الحسبة وصرف القاضي جمال الدين البساطي ، وأعيد علي بن قطيط إلى حسبة مصر وصرف ابن المهندس وكان باشرها ثلاثة أيام ، وفي رجوع الحاج كان الرخاء كثيرا إلى الغاية ، وكذا كان بمكة لكن كانت بضائع اليمن لم تلحق الموسم فكانت الأنواع التي يحتاج ا لأجل الهدية غالية بحيث يساوي الذي قيمته عشرة دراهم أكثر من عشرين ، وكان البرد شديدا جدا بحيث أصبح الناس في تيه بني إسرائيل ، فوجدوا الماء جليدا حتى في القرب والزمزميات .
وفي هذه السنة قرر الظاهر ططر التاج عبد الرحمن بن الكركيفي قضاء حلب ، وكان تاني بك ميق نائب الشام سأل الظاهر في ذلك عوضا عن علاء الدين ابن خطيب الناصرية فأجابه ، فحضر علاء الدين القاهرة بسبب السعي في عوده .
وفي ليلة الأحد سادس ذي الحجة مات الظاهر ططر ، فلما كان ليلة العيد اضمر جاني بك الصوفي الغدر فذكر بعض الناس ذلك لبرسباي ، فخاف جاني بك وركب بباب السلسلة فاجتمع الأمراء عنده ، فاتفق أنهم قصدوا بيت تنبغا المظفري ليأخذوه معهم فلما تكاملوا عنده اتفقوا على قبض جاني بك ويشبك ، وهرب قرمش ثم قبض عليه وجهز الثلاثة للإسكندرية .
واستقر برسباي نظام الملك ومدبر دولة الصالح أحمد بن الظاهر ططر ، واستقر طرباي أتابك العساكر المصرية ، وسودن بن عبد الرحمن دويدارا ، وتنبغا المظفري أمير سلاح ، وأزبك رأس نوبة وجقمق حاجب الحجاب ، وقجق أميرا كبيرا .
وفيات سنة 824
ذكر من مات في سنة أربع وعشرين وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن إبراهيم بن ملاعب ، الفلكي الحلبي ، أصله من سرمين ، انتهت رئاسة حل الزيج وعمل التقاويم ، وكان مقربا عند الأمراءبحلب وتقاويمه رائجة في البلاد ، وعليه اعتمادهم عند إرادة الحروب ، وله إصابات كثيرة يحفظها الحلبيون ، وسمعت القاضي ناصر الدين البارزي يبالغ في إطرائه ، ووصفه غيره بقلة الدين وترك الصلاة وانحلال العقيدة ، وكان يقال عنه إنه يشرب المسكر ، قال القاضي علاء الدين ، ولم يكن عليه أنس أهل الدين ، ونزح عن حلب خوفا من الطنبغا القرمشي لكائنة جرت له معه ، وهي أنه لما أراد أن يركب ومنع القرمشي قال له ابن ملاعب : ما هو جيد ، فخالفه وركب فقتل ، وذكر القاضي علاء الدين من إصاباته أنه قال لنوروز لما كان شيخ يحاصره بحماة كان استصحب ابن ملاعب معه فوعد بتخلخل عسكر شيخ ويحصل له نكدة ، فلما أصبحوا لم يقع شيء إلى العصر فإن سهما أصاب جبهة شيخ فجرحه فحصل في عسكره رهج واضطراب ، قال : وسمعته مرارا يقول إن هذا الذي أقوله ظن وتجربة لا قطع فيه ، وسكن صفد ومات بها في هذه السنة وقد جاوز الثمانين .
أحمد بن أحمد بن عثمان ، الدمنهوري ، شهاب الدين المعروف بابن كمال ، كان كثير الحج والمجاورة ، وكان يعظ الناس بمكةعند باب العمرة ، ويكثر من الصلاة على النبي e حتى ضبط أنه صلى عليه في يوم واحد مائة ألف مرة ، مات في آخر المحرم عن بضع وسبعين سنة .
أحمد بن هلال ، الحلبي شهاب الدين ، اشتغل قديما بالقاضي شمس الدين بن الخراط وغيره ، وكان مفرط الذكاء ، وأخذ التصوف عن شمس الدين البلالي ، ثم توغل في مذهب أهل الوحدة ودعا وصال كثير الشطح وجرت له وقائع ، وكان أتباعه يبالغون في إطرائه ويقولون : هو نقطة الدائرة - إلى غير ذلك من مقالاتهم المستبشعة .
الطنبغا القرمشي كان من أمراء الظاهر ، ثم كان ممن انتمى بعد الظاهر إلى يشبك ، ثم كان في الذين انتقلوا في البلاد الشامية في الفتن في الأيام الناصرية ، وكان في الآخر مع شيخ ، فلما ولي النيابة بحلب جعل حاجبا كبيرا ، ثم قرره أتابكا وفي زمن سلطنته ودخل معه مصر ، ثم تنقل في الإمرية إلى أن استقر أتابكا ، ثم جهز المؤيد إلى حلب كماتقدم وقتل بدمشق ، وكان من خيار الأمراء - رحمه الله .
جقمق كان من أبناء التركمان ، فاتفق مع بعض التجار أن يبيعه ويقسم ثمنه بينهما ففعل ، فتنقل في الخدم حتى تقرر دويدارا ثانيا عند الملك المؤيد قبل سلطنته ثم استمر ، وكان يتكلم بالعربي لا يشك من جالسه أنه من أولاد الأحرار ، ثم استقر دويدارا كبيرا إلى أن قرره الملك المؤيد في نيابة الشام ، فاظهر العصيان بعد موته فآل أمره إلى أن قتل صبرا في شعبان هذه السنة .
شيخ بن عبد الله المحمودي كان قدومه القاهرة على ما أخبرنا به في السنة التي قدم فيها أنص والد برقوق ، فعرض على برقوق قبل أن يتسلطن فرام من صاحبه بيعه فاشتط في الثمن وكان ابن اثنتي عشرة سنة ولكن كان جميل الصورة ، فاتفق موت الذي جلبه فاشتراه محمود تاجر المماليك بثمن يسير وقدمه لبرقوق فأعجبه ، واستمر ينسب لمحمود وتربى في المماليك الكتابية ثم جعل خاصكياثم جعل من السقاة ، ونشأ ذكيا فتعلم الفروسية من اللعب بالرمح ورمي النشاب والضرب بالسيف وغير ذلك ، ومهر في جميع ذلك مع جمال الصورة وكمال القامة وحسن العشرة ، وأمر عشرة في أيام الظاهر ، وكان ممن سجن من ممالك الظاهر في فتنة منطاش بخزانة شمائل ، فنذر إن نجاه الله منها أن يجعلها مسجدا ، ففعل ذلك في سلطنته ، وتأمر على الحاج سنة مات الظاهر سنة إحدى وثمانون ، ثم لم يزل في ارتقاء إلى أن ولي نيابة الشام ، وجرت له من الخطوب والحروب ما مضى مفصلا في الحوادث ، وكانت مدة كونه في السلطنة ثماني سنين وخمسة أشهر وثمانية أيام ، وأقام في الملك عشرين سنة ما بين نائب ومتغلب وأتابك وسلطان ، وكان شهما شجاعا عالي الهمة كثير الرجوع إلى الحق محبا في العدل متواضعا ، يعظم العلماء ويكرمهم ، ويحسن إلى أصحابه ويصفح عن جرائمهم ، يحب الهزل والمجون لكن مستترا ، ومحاسنه جمة - والله يتجاوز عنه يمنه وكرمه قال العيني في تاريخه : هو من طائفة من الجراكسة يقال لهم : كرموك ، ويقال إنه من ذرية إينال بن أركماس بن شرباش ابن طنجاابن جرباش بن كرموك ، وكان كرموك كبير طائفته وكذلك نسله ، ولما مات كان في الخزانة ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار من الذهب على ما قيل ، فلم تمض السنة وفيها دينار واحد .ططر بن عبد الله الظاهري كان من مماليك الظاهر ثم كان في خدمة ابنه الناصر إلى أن أخرج إلى البلاد الحلبية بسبب جكم ، فلما رجع الناصر إلى مصر استمر ططر مع جكم ، ثم لما قتل جكم استقر أميرا بحلب وتمريغا المشطوب يومئذ النائب بحلب ، فاستمر فيها مدة طويلة وهو في أثناء ذلك ينتمي لنوروز إلى أن وقع بين شيخ ونوروز وانكس نوروز استمر مع المؤيد ، فلما اقتسما البلاد بعد قتل الناصر قدم مصر مع المؤيد ، واستمر في خدمته إلى أن تسلطن وحاصره مع النوروزية وهو يظهرخدمة المؤيد ويداريه ويبالغ في ذلك إلى أن أمره طبلخاناة ثم أمره تقدمة ، ثم لما توجه لقتال قانباي استنابه بالإصطبل ، ثم لما مات المؤيد استقر نظام الملك وخرج بالعساكر إلى الشام ، ثم تسلطن بعد أن رجع من حلب وقدم مصر ، فلم تطل مدته كما مضى في الحوادث ، وكان يحب العلماء ويعظمهم مع حسن الخلق والمكارم الزائدة والعطاء الواسع . ذكر لي قبل أن يتسلطن قي ليلة المولد النبوي في ربيع الأول من هذه السنة أنه كان في آخر الدولة المؤيدية في الليلة التي مات في صبيحتها المؤيد قد ضاقت يده لكثرة ما كان يصرف وقلة متحصلة حتى أن شخصا قدم له مأكولا فأراد أن يكافيه عليه فلم يجد قي حاصله خمسة دنانير إلى أن أرسل يقترضها من بعض خواصه فكلهم يحلف أنه لا يقدر عليها إلى أن وجدها عند أحدهم قلم يكن بين ذلك وبين أن استولى على المملكة بأسرها وعلى جميع ما في الخزائن السلطانية التي جمعها المؤيد سوى سبعة أيام ؛ وأمرني أن أكتب هذه الواقعة قال في التاريخ فإنها أعجوبة ، ولما وصل إلى دمشق وقتل الطنبغا القرمشي ومن معه قرر في نيابة حلب إينال الساقي ، ثم لما قدم حلب أقام بها أربعين يوما أو أكثر وقرر في نيابتها تغرى بردى بن قصروه ، وبعد السلطنة نقل تانى بك البجاسي مننيابة حماة إلى نيابة طرابلس وقرر في نيابة حماة جارقطلي .
عبد الله بن محمد بن عمر بن أبي بكر بن عبد الوهاب بن علي بن نزار .
الظفاري عفيف الدين ، كان جده الأعلى عبد الوهاب انتزع ظفار من يد الجواد أي بكر بن إبراهيم بن المنصور عمر بن علي بن رسول ، واستمر في ملكها وتناوبها أولاده إلى أن حاربهم علي بن عمر بن كثير الكثيري فانهزم عبد الله وأخوه أحمد ، فأما أحمد فانقطع خبره ، وأما عبد الله فاستمر يتنقل إلى البلاد إلى أن دخل مكة ، ثم دخل القاهرة وحيدا فقيرا فحضر عندي وشكى إلي حاله فبررته ، وسكن بالجامع الأزهر مع الفقراء إلى أن مات .
عبد الرحمن القاضي جلال الدين بن شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان بن نصير بن صالح بن عبد الخالق البلقيني ، ولد في جمادى سنة ثلاث وستين وسبعمائة وتفقه بأبيه ، وكان ذكيا جدا فحفظ التدريب وبحث في الحاوي ، ودخل مع أبيه إلى دمشق لما ولى القضاء وهو صغير ، ولم يقف له في طول عمره على سماع شيء لا بمصر ولا بدمشق إلا على والده ومع ذلك فكان من عجائب الدنيا في سرعة الفهم وجودة الحافظة ، وأول شيء ولى توقيع الدست ، ثم ولى قضاء العسكر بعد موت أبيه بدر الدين ، وكان شديد البأو تياها ، ومن لم يقل له : قاضي القضاة ، يغضب منه ، وله معالقضاة وغيرهم وقائع ، فلما تحقق موت صدر الدين المناوي ووثوب القاضي ناصر الدين ابن الصالحي على المنصب شق عليه وسعى إلى أن ولى في رابع جمادى الآخرة سنة أربع وثمانمائة كما تقدم ، ثم سعى عليه الصالحي وعاد ثم مات فولى الإخنائي ، ثم سعى على الإخنائي فعاد ، ثم تناوب معه مرارا وفي آخرها استقرت قدمه من سنة ثمان وثمانمائة إلى أن صرف بالباعوني بعد قتل الناصر سنة خمس عشرة ، ثم أعيد عن قرب من شهر واحد واستمر إلى أن صرف بالهروي سنة إحدى وعشرين ، ثم أعيد بعد عشرة أشهر فلم يزل إلى أن مات - وقد مضى بسط ذلك في الحوادث ، وكان قد اعتراه وهو بالشام قولنج فلازمه في العود وحصل له صرع فكتموه ، ولما دخل القاهرة عجز عن الركوب في الموكب فأقام أياما عند أهله ، ثم عاوده الصرع في يوم الأحد سابع شوال ، ثم عاوده إلى أن مات وقت أذان العصر من يوم الأربعاء عاشر شوال ، وصلي عليه ضحى يوم الخميس ودفن عند أبيه ، وتقدم في الصلاة عليه الشيخ شمس الدين ابن الديري ، قدمه أولاده ، ولم تكن جنازته حافلة ، وكان يذكر الناس في التفسير كل يوم جمعة من حين وفاة أبيه إلى شوال سنة ثلاث وعشرين ، وكان ابتدأ فيه من الموضع الذي انتهى أبوه ، وقطع عند قوله : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد .عبد القادر بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن يوسف الصلاح ابن الزكي الأرموي المسند ، مات ليلة الاثنين ثاني عشر شوال من هذه السنة .
عبد الوهاب بن أحمد بن صالح بن أحمد بن خطاب ، البقاعي الفاري - بالفاء والراء الخفيفة - الدمشقي أبو نصر تاج الدين الزهري ، ولد سنة سبع وستين ، وحفظ التمييز وغيره ، واشتغل على والده وعلى النجم ابن الجابي والشريشي وغيرهم ، ونشأ هو وأخوه عبد الله على خير وتصون ، ودرس في حياة أبيه بالعادلية الصغرى واستمرت بيده إلى أن مات ، ودرس بعد أبيه بالشامية البرانية ، وولي إفتاء دار العدل ، وناب في الحكم مدة طويلة ، وولاه الأمير نوروز القضاء بإتقان الفقهاء عليه بعد موت الإخناي فباشره مباشرة حسنة ، فلما غلب المؤيد على نوروز صرفه ولم يعرض له بسوء فلزم الشباك الكمالي بجامع دمشق يفتي وبالشامية يدرس ، وكان حسن الرأي و التدبير دينا ، و له حظ من عبادة إلا أنه لم يكن مشكورا في مباشرة الوظائف ؛ مات في شهر ربيع الآخر . قال القاضي تقي الدين الأسدي : كان يستحضر التمييز إلى آخر وقت ، وكان عاقلا ساكنا ، كثير التلاوةيقوم الليل ، كثير الأدب و الحشمة ، طاهر اللسان ؛ مات في ربيع الأول .
علي المعروف بالشيخ حدندل ، كان أحد من يعتقد وهو مجذوب ؛ مات في صفر .
قجقار القردمي ، أحد الأمراء الكبار ، ولي نيابة حلب في زمن المؤيد سنة عشرين ثم نقله منها إلى دمشق أميرا ، ثم أقدمه القاهرة وأمره ، فلما مات المؤيد أراد أن يتسلطن فعوجل وأمسك قبل دفنه ثم قتل في هذه السنة ، وكان جوادا مهابا ، مثير الحشمة والأدب ، وكأنه بلغ الستين ، وملت في سلطنة الناصر تنقلت به الأحوال إلى أن صار في صحبة المؤيد لما ولي نيابة حلب فاستمر إلى أن تسلطن فأمرهتقدمة فصار من أمراء الألوف ، ثم ولاه نيابة حلب سنة عشرين عوضا عن اقباي ، فلما توجه السلطان إلى الروم كان في صحبته فقرره في حصار كركر مع عدة أمراء ، فلما طرق قرأ يوسف البلاد فر قجقار إلى حلب ، فبلغ السلطان ذلك فغضب عليه ثم رضى عنه وجهزه إلى الشام بغير إمرة ، ثم أعيد لما رجعوا إلى القاهرة ، ثم تجهز مع ولد السلطان إلى بلاد ابن قرمان ، فلما عاد عظم قدره ، وامتدت عينه عند ضعف المؤيد إلى السلطنة وحرص على ذلك ، فسبقه ططر فقبض عليه فكان آخر العهد به .
كردى بك أمير التركمان بالعمق ابن كدير التركماني ، استولى على العمق من أعمال حلب بعد موت ابن صاحب الباز ، وكان يقع بينه وبين أمراء حلب فتارة يصافيهم وتارة ينابذهم ، وكان قد كثر جمعه بعد قتل جكم وطمع في الاستيلاء على ما حوله من القلاع فجمع له تمربغا المشطوب نائب حلب في أيام الناصر عسكرا وقصده وهو بطرف العمق من جهة الشمال فوقعت الوقعة ، وكانت الكسرة على العسكر الحلبي فقوى تمر كردي بك ، وكان إذا ولي دمرداش نيابة حلب يطمئن ويصانعه بخلاف غيره ، ولما ولي الملك المؤيد نيابة حلب في أواخر دولةالناصر ، نازله بالعمق وكردى بك تحت الجبل بالقرب من بقراس ، فهجم كردى بك بعسكره على شيخ ، فثبت له إلى أن وقعت الكسرة على عسكر كردى بك فانهزم وتشتت عسكره ، واستمر كردى بك هاربا وخرج الناصر طالبا القبض على شيخ ونوروز ، فكان من أمره ما كان وقتل وصارت السلطنة للمؤيد ، فلما ولي دمرداش نيابة حلب حضر كردى بك ووافقه على معاملة الأمير طوخ وهو نائب حلب ، فقوى طوخ ورجع كردى بك وصحبته دمرداش إلى العمق ، ثم توجه إلى مصر وآل أمره إلى القتل ، واستمر كردى بك في بلاده وأظهر طاعة المؤيد ، فلما مات ودخل الظاهر ططر حلب في سنة أربع وعشرين حضر كردى بك ، واتفق أن ططر كان من جملة الأمراء صحبة تمربغا المشطوب فتذكر الواقعة لما رآه فأمر بشنقه ، فقتل وشنق وعلقت رأسه بجف كلب ، وذلك في آخر رجب من هذه السنة ؛ وكان كردى بك قليل الشر للمسافرين و القوافل في أيامه آمنة - نقلته من ذيل تاريخ حلب .
محمد بن إبراهيم ، البوصيري شمس الدين الشافعي ، كان خيرا دينا ، كثير النفع للطلبة ، يحج كثيرا ، و يقصد الأغنياء لنفع الفقراء ، وربمااستدان للفقراء على ذمته ويوفي الله عنه ، وكانت له عبادة ، وتؤثر عنه كرامات ، مات في سادس ربيع الآخر .
محمد بن أحمد ، ناصر الدين الهذباني الكردي الطبردار ، كان من أبناء الأجناد ، فتعلق بمجالسة العلماء فصحب الكمال الدميري ثم نور الدين الرشيدي ، وكان يتدين ويسرد الصوم ويواظب الجماعة ولا يقطع صلاة الصبح بالجامع الأزهر ، يقوم نحو ربع الليل يتمشى من منزله بحارة بهاء الدين إلى الأزهر فيصلي به الصبح كل يوم ، وكان يكتسب من التجارة في الحوائص ثم كبر وترك ، لازمني مدة ، وكان على ذهنه أشياء .
محمد بن خليل بن هلال ، عز الدين الحاضري الحلبي الحنفي ، ولد في إحدى الجماديين سنة سبع وأربعين وسبعمائة ، ورحل إلى دمشق فأخذ بها عن جماعة منهم ابن أميلة ، قرأ عليه سنن أبي داود والترمذي ، و دخل القاهرة فأخذ عن الشيخ ولي الدين المنفلوطي والشيخ جمال الدين الأسنوي ، ورحل إلى القاهرة مرة أخرى وجمع على العسقلاني إمام الجامع الطولوني ، وتفقه ببلده وحفظ كتبا نحو الخمسة عشر كتابا في عدة فنون ، وأخذ عن الشيخ حيدر وغيره ، ورافق الشيخ برهان الدين سبط ابن العجمي ، وأخذ عن مشايخها كثيرا سماعا واشتغالا ، وقرأ على شيخنا العراقي في علوم الحديث وأجاز له ، ولازم العلم إلى أن انفرد وصار المشار ببلاده ، وولي قضاء بلده ودرس وأفتى ، وكان محمودالطريقة مشكور السيرة ، مات في شهر ربيع الأول ، وصليت عليه صلاة الغائب بالجامع الأزهر في أواخر جمادى الأولى ، قال البرهان المحدث بحلب - ومن خطه نقلت : لا أعلم بالشام كلها مثله ولا بالقاهرة مثل مجموعه الذي اجتمع فيه من العلم الغزير والتواضع والدين المتين والمحافظة على صلاة الجماعة والذكر والتلاوة والاشتغال بالعلم ، قلت : وكان المؤيد يكرمه ويعظمه - رحمها الله تعالى . محمد بن سويد شمس الدين المصري أخو بدر الحسن مات في هذه السنة بالصعيد محمد بن عبد الرحمن ، ابن أبي الخير محمد بن أبي عبد الله ، الفاسي رضى الدين أبو حامد الحسني المكي ، ولد في رجب سنة خمس وثمانين وسبعمائة ، وسمع الحديث وتفقه ودرس وأفتى ، وولي قضاء المالكية في شوال سنة سبع عشرة عوضا عن مستنيبه وابن عمه القاضي الشيخ تقي الدين ، ثم عزل عن قرب فناب عن القاضي الشافعي ، مات في ربيع الأول ، وكان خيرا ساكنا متواضعا ذاكرا للفقه ، وأخوه محب الدين أبو عبد الله محمد كان أسن من أخيه ، أجاز له ابن أميلة وغيره ، ومهر في الفقه .
محمد بن البرجي ، بهاء الدين ، ولي الحسبة مرارا ووكالة بيت المالوكان قد صاهر الشيخ سراج الدين على ابنته فولد له منها ولده بدر الدين محمد ، ثم ماتت فتزوج بدر الدين ابن الشيخ المدعوة بلقيس فأولدها أولادا ، وكان استقر في شهادة العمائر السلطانية بواسطة ططر ، ومات في أول صفر عن سبعين سنة .
يوسف الصفي - نسب إلى الصف من الإطفيحية ، كان شيخا مهابا كثير البر والإيثار للفقراء قائما بأحوالهم يأخذ لهم من الأغنياء ، واتفق في آخر عمره أن شخصا جاء فقال : رأيت النبي e في النوم يقول لي قل للشيخ يوسف يزورنا ، فحج ثم رجع إلى القدس ثم رجع فمات ، وله كرامات كثيرة .
لون الدين السطحي ، كان مقيما بسطح جامع الحاكم وللناس فيه اعتقاد ، انقطع ثلاثين سنة لا يخرج من منزله إلا يوم الجمعة ، يغتسل ويعود ، وكانت جنازته مشهودة .
حوادث سنة 825
سنة خمس وعشرين وثمانمائة
استهلت يوم الجمعة آخر يوم من . . . . وفيها ولدت فاطمة بنتالقاضي جلال الدين البلقيني ولدا خنثى وفرج أنثى من تقي الدين رجب ابن العماد قاضي الفيوم ، وقيل إن له يدين زائدتين ، نابتتان في كتفيه ، وفي رأسه قرنان كقرني الثور ، فيقال : ولدته ميتا ، ويقال : بعد أن ولدته .
وفيها وقع بين أمير مكة حسن بن عجلان و بين القواد فتنة وتعصبوا عليه مع ابن أخيه رميثة بن محمد بن عجلان ، فاستعان حسن بمقبل أمير ينبع فخرج في عسكره إلى جهة اليمن ، فصالح القواد حسن بن عجلان واخرجوا رمثية عنهم فتوجه إلى جهة اليمن ورجع مقبل إلى بلده ، ودخل الركب المصري من الحجاز في ثالث عشري المحرم ، فأمسك تمرباي أمير الركب و أرسل إلى دمياط بطالا ، وفي صفر نفي ايتمش إلى القدس بطال وكان قد عظم في دولة ططر وأراد الاستقلال بتدبير المملكة ونازع المباشرين فعملوا عليه حتى نفي ، ثم أمر بعوده إلى القاهرة بعد ذلك عند إمساك طرباي ، وفي ليلة رابع عشرة خسف القمر خسوفا شديدا بحيث لم يبق منه إلا اليسير وذلك في الثلث الأخير من الليل ولم يشعر أكثر الناس به ، وفيه انقطع طرباي عن الخدمة السلطانية غضبا من برسباي ، لأن بعض الأمراء مات فرام طرباي أخذ إمرته لبعض أصحابه فعارضه برسباي فتوجه طرباي إلى الربيع عند خيله بالجيزة ، فأراد برسباي ملاقاته فأمر الوزير بإرسال ما جرت به العادة لأمثاله وعتبهعلى تأخير ، وقيل إنه ضرب الوزير بسبب تأخير ذلك فبادر هو والأستادار وناظر الخاص إلى إرسال ما جرت العادة وذلك في العشرين من صفر ، واستمر طرباي عند خيله فروسل فامتنع حتى سار بشبك الأعرج أحد الأمراء فخلف له وطيب خاطره ، فلما استهل شهر ربيع الأول حضر الخدمة في يوم الثلثاء ثاني هذا الشهر ؛ ثم أشاع برسباي أنه يريد أن يعمل المركب بالإيوان لحضور رسل ابن قرا يوسف ، فحضر أهل المركب ومن جملتهم طرباي . فلما تكاملوا قيل لههم : الخدمة في الإيوان اليوم بطالة ، فانصرفوا وأحضرت الرسل بالقصر ثم جلسوا في السماط فقال برسباي لطرباي : أنتم ما تعرفون أني كبير الأمراء ? قال : نعم ، قال : فلم تخالفون أمري ? وأشار بالقبض على طرباي ، فقام فجذب السيف فحمى نفسه ، فهجم عليه قصروه أمير آخور فناوشه ، فضربه برسباي من خلفه فجرح يده فسقط منها السيف ، فأمسك وأمسك معه أميران من جهته وأرسلوا إلى الإسكندرية صحبة إينال الششماني فاعتقلوا بها .
وفي شهر ربيع الأول نازل تغري بردى بن قصوره الذي كان نائب حلب بعض القلاع فهزمه التركمان ، فاستجار ببعضهم فأمنه ، وفيه هبت ريح ذات سموم بالكرك وما حولها فأفسدت المزارع وقل الماء جدا بتلك البلاد وبالقدس وما حولها وتفرق أهل تلك البلاد من القحط .وفي شوال انتزع وقف الطرحى من القاضي الحنفي ، ثم سعى أشد سعي حتى أعيد له وضم في نظره شخص آخر ، وانتزع وقف قراقوش من القاضي الشافعي وأضيف إلى التاج الوالي وأمره أن يجمع متحصله ويبني منه خان السبيل ، ففعل ذلك وجدد بناءه وقرر فيه غير من كان يتناول ريعه ، وألزم أولاد البلقيني بغرامة مبلغ جيد بسبب ذلك ، وألزم من كان يرتب عليه من الأغنياء بإعادة ما قبضوا منه ، فاشتد الأمر عليهم ثم أفرج عنهم وفطموا عنه ، وفيه عمل المولد السلطاني في حادي عشر ربيع الأول وحضر الملك الصالح و الأمراء .
وفي الخامس عشر منه قبض على مرجان الخازندار وسلم لأرغون شاه الأستادار وكان حينئذ زماما ، فطلب منه مال كثير وضرب بعض أتباعه ضربا شديدا ثم استقر مال مصادرته على ثلاثين ألف دينار ، فعجل منها عشرين ألف دينار وضمنه بعض الأكابر بالعشرة وأطلق في آخر الشهر .
وفيه ادعى على شمس الدين محمد بن عبد المعطي الكوم الريشي الحنفي أنه قذف الشيخ شمس الدين محمد بن حسن الحنفي بالبغاء وأنه هوالفاعل به وأن ذلك كان بواسطة شهاب الدين الكوم الريشي أحد قراء الليث ، وكانت الدعوى عليه عند قاضي القضاة الحنفي زين الدين التفهني وكان يكرهه لبذاء لسانه ، فضربه القاضي بعد أن قامت عليه البينة ، وكان الذي قام عليه بالدعوى شهاب الدين أحمد بن عبيد الله أحد نواب الحنفي ، ويقال إن ممن شهد عليه الشيخ شرف الدين التباني والقاضي بدر الدين ابن التنيسي ، فأرسل بعد ضربه إلى الحبس مكشوف الرأس ، ثم أطلق بعد ثلاثة أيام بشفاعة نظام المملكة ، واتفق حضور الذي ضربه عنده ومعه شهاب الدين الذي ادعى عليه فسأله عن القصة فتكلم ابن عبيد الله بشيء ، فنهره كاتب السر فقال له الأمير : أنت الذي كان أخي فلان يتعشقك وغرم عليك مالا كثيرا وأمر بالتوكيل به وعزله من النيابة فاعتقل ، ثم شفع به بعد أيام فأطلق وأعيد إلى عادته في النيابة وكان قد بالغ في أذى الكوم الريشي فعد ذلك عقوبة له ، ورثوا للكوم الريشي مع بغضهم فيه لجنونه وتعترسه وكثرة مجونه ، ولما أطق الكوم الريشي رافع بدر الدين محمود بن عبيد الله أخا الشهاب المذكور عند الأمير الكبير وأنه يفعل أشياء منكرة ، فأحضره الأمير وضربه بحضرته وكتب عليه قسامة أن لا يحكم ، ثم شفع فيه بعد مدة فأعيد .وفي خامس شهر ربيع الآخر قبض الوزير الأستادار أرغون شاه على كريم الدين ابن الوزير تاج الدين الذي ولي الوزارة والأستادارية ثم كتابة السر فيما بعد وكان يباشر ديوان الاستيفاء المفرد عن أبيه ، ثم أطلق بعد أن صودر على مال .
وفي السادس منه قدم تاني بك ميق نائب الشام فخلع علبه باستمراره وعظمه برسباي جدا وتكلم الأمير الكبير معه في أمر السلطنة فوافقه على ذلك ، فلما كان في الثامن من ربيع الآخر يوم الأربعاء قبل الظهر بقدر درجتين عقد له الملك وهو في المرقد بالأشرفية ثم ألبس الخلعة وجلس على التخت وفوض الخليفة وعقدت له البيعة ولقب الملك الأشرف ، وخلع في صبيحة ذلك اليوم علي تنبغاالمظفري واستقر أميرا كبيرا أتابك العساكر وتحول إلى البيت الذي فيه طرباي مقابل القلعة وانتقل إلى بيت ططر وغيرها من بيوت السلطنة واستقر فيها الأشرف ، واستقر آقبغا التمرازي أمير مجلس عوضا عن قجق بحكم انتقاله إلى وظيفة أمير سلاح عوضا عن تنبغا واستقر تنبغا المظفري أتابك العساكر ، وخلع الملك الصالح محمد فكانت مدة سلطنته أربعة أشهر ، وخلع على نائب الشام خلعة السفر واستقر معه حسين بن السامري في نظر الجيش ، وانفصل ابن الكشك عن نظر الجيش وبقي معه قضاء الحنفية وسافر ، وعمل الأشرف موكبا حافلا ، وأحضرت رسل الفرنج الكسلان ، ومنع السلطان من تقبيل الأرض له واقتصر على يده ودوره .
وفي ليلة الاثنين ثالث عشر ربيع الآخر أمطرت السماء بالقاهرة مطرا استمر الليل كله وقطعة من النهار وذلك في حادي عشر برموده وهو من المستغربات ، وفي الشعر الذي استقر فيه الأشرف في السلطنة أمر بإبطال القدر الذي كان يأخذه من يسافر بالأمير المنفصل عن إمرته إذا حبس أو نفي ، وكان المقرر لذلك ألفي دينار إلى ألف دينار إلى دونها بحسب مقاديرهم فأبطل ذلك وأمر أن ينقش في اللوح الرخام فوق النقشالذي جعله السالمي في دولة الناصر فرج بسبب المرتجع من الإقطاع عند انتقال الإمرة - وقد تقدمت الإشارة في الحوادث .
وفي جمادى الأولى جهز الأشرف إلى مكة مقبل القديدي بسبب عمارة ما وهي من المسجد الحرام وطلب من القاضي الشافعي ما كان القاضي جلال الدين البلقيني ذكر للمؤيد أنه تحصل عنده من ذلك وهو سبعة آلاف دينار فكشف القاضي الشافعي عن ذلك فوجد المختص بعمارة الحرمين قدر ألقي دينار أو يزيد قليلا وباقي ذلك لعدة جهات من أوقاف وغيرها كانت مودعة تحت يد الجلال ، فلم يقبل الأشرف ذلك وألزم المباشرين على الأوقاف المتعلقة بالحرمين بذلك ، فلاذوا بالقاضي فأذن لهم في الاقتراض ، ثم ضاق بهم الأمر فتعلق على ورثة جلال الدين فاستعيدت منهم ألف دينار كان والدهم أخذها من مال الحرمين على أنها من معلومه وكان أقام مدة طويلة لا يتناول من مال الحرمين معلوما ، فشهد عليه القاضي علاء الدين الحنبلي أنه كان تبرع بذلك ، وكان نائب دمشق تاني بك ميق ونائب حلب تغريبردى ونائب حماه تاني بك البجاسي ونائب طرابلس أركماس الجلباني ثم صرف واستقر بعده ثم صرف تغري بردى من حلب إلى بهنسا وتحصن بقلعتها هو وكزل الذي كان هرب من المؤيد إلى ملطية ، ونقل البجاسي إلى نيابة حلب وتولى نيابة حماه جارقطلي الصهيوني .
وفيه صرف شرف الدين بن تاج الدين عبد الوهاب ابن نصر الله من نظر الخزانة السلطانية وغيرها وأعيد ذلك لزين الدين عبد الباسط ، فكانت ولاية شرف الدين لذلك نحو سبعة أشهر ، وانصرف غير مشكور لبأو كان فيه ودعوى عريضة .
و في الثامن من جمادى الأولى نودي أن لا يباشر نصراني في ديوان أحد من الأمراء ، ثم انتقض ذلك بعد مدة ، وكذا كان ضيق عليهم في الأيام المؤيدية ثم تراجعوا قليلا قليلا .
وفي التاسع منه جدد كاتب السر علم الدين ابن الكويز خطبة بالمدرسة البقرية مقابل باب منزله لتعاظمه أن لا يتوجه إلى الجامع الحاكمي ماشيا وإشفاقه من الإنكار عليه أن يتوجه راكبا مع قرب المسافة . وفي هذا الشهر أشار كاتب السر أيضا بإبطال المارستان الذيأتخذه الملك المؤيد تحت القلعة مكان الأشرفية الشعبانية وأقام فيه خطيبا ظنا منه أنه يتقرب بذلك .
وفي هذه السنة كان فصل الربيع مختلف المزاج جدا ما بين حر شديد وسموم وما بين برد شديد وما بين ذلك .
وفي أواخر رمضان صرف أرغون شاه من الأستادارية وقرر فيها أيتمش الخضري .
وفي هذا الشهر حدثت كائنة غريبة وهو أن عبد الرحمن السمسار في الغلال كان اشترى دارا من ابن الرندي بشاطئ النيل فزخرفها وأتقنها وغرم عليها على ما يقال أكثر من خمسة آلاف دينار وقفها على جهات ، وجعل صورة الوقف في خشب محفورا فيه يقرأ كل أحد فلما مات شهد جماعة عند بعض نواب الحنفي بأنها وقف وذكروا شروطها بخلاف ما ظهر بعد ذلك محفورا في الخشب . فاتفق أن المباشرين بديوان المفرد وجدوا على عبد الرحمن مسطورا لجهة السلطان بمال جزيل فلم يوجد له ما يوفى منه فأمر ببيع داره ، فقيل له إنها وقف فهدمها ، فهدمت فكانت كائنة شنيعة ، وبيع رخامها على حدة وخشبهاعلى حدة ، ثم باع ورثته أنقاضها ، وبلطت الوقفية الأصلية الزور .
وفي جمادى الأولى ألزم الأشرف البزازين أن لا يبيعوا شيئا من القماش بالنسيئة ولا يشتروه ، فحصل لهم بذلك ضيق كبير ، ثم أفرج عنهم وألزموا أن لا يخبروا الشراء مبهما ، بل إن كان نقدا فنقد وإن كان نسيئة فنسيئة .
وفي عاشر جمادى الآخرة قدم الهروي القاهرة فنزل بمدرسة ابن الغنام وهرع الناس السلام عليه إلا الديري وابن المغلي ، ثم رام الهروي السعي في شيء من الوظائف ، فعاجله كاتب السر ابن الكويز ، فألزمه الأشرف بالرجوع إلى بيت المقدس ، فتباطأ إلى نصف رجب يترجى الإقبال فلم يجب إلى ذلك وخلع عليه خلعة السفر فسافر .
وفي جمادى الآخرة اختطف تمساح في البحر - رجلا من الصيادين كان نزل ليقبض على سمكة صادها فصاده التمساح وصار يصعد به إلى وجه الماء حتى يشاهده الناس ثم يغطس به إلى أن هلك .
وفيه شنق بعض العوام نفسه قهرا من زوجته كان طلقها وهو يحبها ، فاتصلت بغيره ، وركلته فيه فقتل نفسه ، وفيه جب شخص عجمي مذاكيره بسبب أمرد كان يعشقه ولا يقدر عليه ، فاتفق أنه أمكنه من نفسه فلم ينتشر ذكره فقطعه ، فحمل إلى المارستان فمات . وفي أواخرهقدم جار قطلي نائب حماة ، فخلع عليه وأعيد ا .
وفي رجب أفرج عن الخليفة العباسي الذي ولي السلطنة وكان المؤيد سجنه بالإسكندرية فنقله إلى دمياط لكونها أبسط له ، فلم يوافق واستأذن أن يقيم بالإسكندرية بغير سجن ، فأجيب إلى ذلك .
وفي ثامن رجب حدث بالقاهرة زلزلة لطيفة ، وفي أوائله عصى إينال نائب صفد وأطلق المسجونين بها وهم جلبان أمير آخور وإينال الجكمي رأس نوبة كان ثم نائب حلب ويشبك الأنالي الأستادار ووجد بصفد نحو مائة ألف دينار فتقوى بها وأرسل كتبه إلى الأمراء ، فلم يوافقه من بالقدس فأرسلوا كتابه مصر فكوتب مقبل الذي كان دويدار وقرر - بعد قتل جقمق نائب الشام إمرة بدمشق بأن يتوجه إلى صفد نائبا بها ، وكوتب نائب الشام فجمع العسكر وتوجه إلى صفد ، فلما كان في العشر الأوسط من رجب أوقع إينال صفد - بالأعراب فكسروه ، ففارقه الأمراء المسجونين الذين - كان أطلقهم فتوجهوا إلى دمشق طائعين ، ثم أراد تغري بردى الكبكي الوثوببنائب دمشق ففطن له فقتل . واتهم الأمراء الذين جاءوا طائعين بالخديعة في ذلك فقبض عليهم ، ثم أطلق جلبان وسجن الآخران .
وفي هذه السنة كان المطر والبرد بالحجار شديدا ، وأمطرت بنواحي صفد بردا بلغ وزن كل واحدة ثلاثين رطلا بالمصري ، ووجدت على باب بعض البيوت منها بردة لابدة مثل الثور .
وفي الثالث والعشرين من شهر رجب وصل قاصد النائب بالإسكندرية ومعه قاصد من صفد بكتاب يستدعيه فقبض على قاصد نائب صفد وخلع على قاصد نائب الإسكندرية ، واستمر مقبل الذي استقر في نيابة صفد يحاصر نائبها المنفصل في القلعة إلى شوال ، فنزل إينال بالأمان ، فقبض عليه ودقت البشائر بالقاهرة ، وأرسل بشمس الدين ابن العسال وكان قد ولي كتابة السر بها ونظر الجيش ، فضرب بالمقارع بحضرة السلطان لكونه كاتب عن نائبها إلى نائب الإسكندرية وأمر بقطع يده فشفع به ، وصادف زيادة النيل في ذلك اليوم يعني ثالث رجب عشرين إصبعا فسر الناس به وتباشروا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12