كتاب : إنباء الغمر بأبناء العمر في التاريخ
المؤلف : شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

بالرخاء والأمن ، ثم نودي عليه في ثامن عشري رجب خمسين إصبعا ، وفي اليوم الذي يليه ذراع ، فأكمل أربعة عشر ذراعا في خامس عشري أبيب وهو شيء لا عهد للناس به من دهر طويل ، ثم أكمل ستة عشر ذراعا في ثامن عشري أبيب ، وكسر الخليج في تاسع عشريه وهو ثالث شعبان .
وفي السادس والعشرين من رجب خرج الركب الرجبي وكان لهم خمس وعشرون سنة لم يخرجوا ، وحج خلق كثير منهم تاج الدين ولد القاضي جلال الدين البلقيني .
وفي ليلة الرابع عشر من شعبان خسف القمر حتى لم يبق من جرمه إلا اليسير ، فاستمر من قبل نصف الليل إلى أن تكامل الجلاؤه طلوع الفجر .
وفي أول شعبان جلس السلطان للحكم بين الناس فطلب مدرسي القمحية وهم جمال الدين البساطي ومن يشركه فأهينوا وألزموا بالقيام - بمال لأجل عمارتها ، وأرجف بأن أرضها الوقف أقطعت لبعض المماليك لكن لم يتم ذلك .
وفي حادي عشري شعبان صرف ابن العجمي عن الحسبة واستقربدر الدين العيني ، وجعل ما للمحتسب وهو في اليوم ديناران من الجوالي واحد للمحتسب وواحد لابن العجمي ، وفيه حمل المظفر أحمد بن المؤيد من القلعة إلى الإسكندرية نهارا فحبس بها في برج إلى أن مات بعد ذلك .
وفي الثاني والعشرين من شعبان أثبت أن أوله الاثنين شهد اثنان عند شمس الدين الأسيوطي المعروف بزوج الحرة النائب في الحكم فقبلهما ، ولزم من ذلك أن يكون أول رمضان يوم الأربعاء ، فلما كان ليلة الثلثاء خرجوا لترائي الهلال فما رأوا ، ثم تراءوا ليلة الأربعاء فلما تكلم أحد برؤيته ، ثم غاب ليلة الخميس مع مغيب الشفق وكثر كلام الناس في الشهادة الماضية .
وفي سادس عشر رمضان اشتهر نائب صفد الذي كان عصي فقبض ومعه نحو من ثلاثين نفرا ممن عصي معه ، فقطعت أيديهم ونفوا من القاهرة مشاة فمات أكثرهم في الطريق .
وفي رمضان انتهى حصار قلعة بهنسا على يد نائب حماة فنزل تغرى بردى الأقبغاوي المعروف بابن قصروه بالأمان ، ووقع في أثناءالحصار في كزل الصهيوني - نشابة فمات منها ، وتدلى كمشبعا من القلعة ليهرب ، ففطن به فقطع الحبل فوقع فتكسر .
وفي شهر رمضان أمر السلطان بإعادة الأذان بمئذنتي الناصر حسن بالرميلة ، وكان الظاهر برقوق قد أمر بتعطيلها وعدم التوصل إلى صعودهما ثم أمر الناصر بهدم سلميهما ، فأعيد ذلك بعد بضع وثلاثين سنة ، وأعيد فتح الباب الكبير المجاور للقبور وكان الظاهر أمر بسده بالحجارة ففتح الآن وأزيلت الحجارة ، وكان المؤيد قد نقل الباب إلى مدرسته فعمل للحسنية الآن باب جديد .
وفيها خرج العرب على أبي فارس صاحب تونس فسار في آثارهم نحوا من عشرة أيام حتى أوقع بهم وخضعوا له .
وفيها جهز أبو فارس عسكرا إلى الفرنج في البحر فنذروا بهم فبيتوهم فانهزموا ، فغضب أبو فارس على قائد الجيش ونسبه إلى النهاون وضربه وأهانه وشرع في تجهيز جيش أخر ، واتهم العامة أن صاحب فاس واطأ الفرنج على المسلمين فثاروا عليه فقتل بينهم مقتلة عظيمة .وفيها قوي صاحب تلمسان واستجد عسكرا .
وفيها كان الغلاء المفرط بحلب ، ثم أعقبه الطاعون فمات بشر كثير . وفي أوائل هذا السنة آخذ الفرنج سبتة من أيدي المسلمين بعد أن كانت في أيديهم . . . . .
وفي رمضان استقر قطلوبغا حاجي التركماني ثم الحلبي في نظر الأوقاف وهو حمو الظاهر ططر وصار جد زوج السلطان الأشرف ، فكان يقال له : أنو السلطان ، فباشر بشدة وعنف .
وفيها أنهى بعض الخاصكية أن بلد التدريس بالجامع العمري المعروف بالخشابية ليس يستحق ، لأن المدرسة الموقوف عليه لا يعرف ، فأمر بإخراجها أقطاعا ، ثم شفع في مستحقيها فاستقرت بأيديهم واستهلكت .
وفي شوال أمر القاضي ولي الدين القاضي الشافعية بحبس ابن القوصية قاضي أسيوط ، فشفع فيه المحتسب بدر الدين العينتابي فأخرج في الترسيم فشفع فيه كاتب السر ، فامتنع القاضي من إطلاقه حتى يدفع ما في جهتهمن مال الحرمين ، فتعصب له أيتمش الخضري فاستخلصه من أيدي الرسل ، فبلغ القاضي فغضب ومنع نوابه من الحكم ، فبلغ ذلك السلطان فأمر بإعادة ابن القوصية إلى الحبس واستدعى القاضي سراج الدين عمر ابن موسى - الحمصي الذي كان ينوب عن الشافعي ، وجرى بسببه على صهره القاضي جلال الدين البلقيني ما جرى فقرره الشافعي في قضاء أسيوط عوضا عن ابن القوصية فتوجه ا واستمر مدة طويلة .
وفي ذي القعدة نزل السلطان إلى المطعم ورجع فاجتاز بالمدينة وقد زينت له فدخل العمارة التي استجدها بالركن المحلق .
وفي الثالث منه نفى عبد الله أخو أمير سعيد الكاشف بالوجه القبلي ودمرداش الكاشف بالوجه البحري إلى عينتاب ، وأمر بنفي ابن القوصية ، قاضي أسيوط معهما ، ثم شفع فيه فتأخر وفي بابه وقع برد شديد عند نزول النيل وبادر الناس إلى للزرع ، ثم وقع البرد في أوائل هاتور ، ثم أعقبه حر شديد وسموم ففسد أكثر البرسيم ، رعته الدود فأفسدت منه بالجيزة شيئا كثيرا .
وفي أواخر ذي القعدة عز وجود اللحم الضأني وقل الجالب للأضحية ، وبقي الناس بسبب ذلك . . . .
وفي ذي القعدة صرف إيتمش الخضري من الأستادارية وأعيد أرغون شاه ، ثم أضيفت إلى أرغون شاه الوزارة في ثامن ذي الحجةمنها وكان الوزير تاج الدين ابن كاتب المناخات قد استقر في الرابع من ذي الحجة ، ثم قبض عليه في الثاني عشر منه وصودر على مال يقال ثمانية آلاف دينار ، واستمر معزولا .
وفي التاسع عشر من ذي الحجة وهو الموافق لثالث أيلول من القبطية ورد خبر الورد بالقاهرة ، وهذا أسرع ما رأيت منه بها .
وفي السادس والعشرين منه وصل المبشر بسلامة الحاج ، فقطع المسافة في خمسة عشرة يوما ، وهذا أسرع ما أدركناه من ذلك .
وفي رجب صرف القاضي بدر الدين ابن خطيب الدهشة عن قضاء حماة ، واستقر زين الدين عمر بن أحمد بن مبارك ابن الخزري عوضا عنه .
وفي شوال صرف القاضي نجم الدين ابن حجي عن قضاء دمشق بتاج الدين ابن الكركي نقلا من قضاء حلب ، واستقر علاء الدين ابن خطيب الناصرية في قضاء حلب ، كعادته نقلا من طرابلس ، وأعيد ابن النويري إلى طرابلس .
وفي السادس من ذي الحجة صرف القاضي ولي الدين العراقي عن قضاء الشافعية ، واستقر عوضه علم الدين صالح بن شيخنا - شيخ الإسلام سراج الدين وكان جلال الدين أخوه لما مات نظمت :مات جلال الدين قالوا ابنه
يخلفه أو فالأخ الكاشح
فقلت تاج الدين لا لائق
بمنصب الحكم ولا صالح
فكان كما قلت فإنه تولى فظهر منه التهور والإقدام على ما لا يليق وتناول المال من أي جهة كانت حلالا أو حراما ما لا كان يظن به ولا ألف الناس نظيره من أحد ممن ولي القضاء للشافعية بالقاهرة في الدولة التركية .
وكان فطر النصاري اليعاقبة في هذه السنة في اليوم الثاني من حلول الشمس برج الثور ، وهو سابع عشر برموده ، وهو التاسع عشر من ربيع الآخر .
وفي الثامن عشر من برموده أمر السلطان بلبس الأبيض فسبق العادة الأولى عشرين يوما ، وكان المؤيد قد أخر ذلك عن العادة قدر عشرين يوما ، فتباينا في ذلك جدا ، واتفق أن البرد كان موجودا أشد مما كان قبل ذلك إلا في وسط النهار .
وفي العشرين من ربيع الآخر استقر برهان الدين الشافعين قاضيصفد في كتابة السر بدمشق عوضا عن الشريف ، وأمر بإحضار الشريف إلى القاهرة وصودر على مال جزيل يقال عشرة آلاف دينار ، وكان في نفس السلطان منه وهو أمير ، ثم نقلت كتابة السر من البرهان لحسين ناظر الجيش ، فجمع الوظيفتين بعناية صهره أزبك .
وفي شهر ربيع الآخر وقعت بدمياط كائنة بين العرب وفيه وقعت بالصعيد كائنة بين العرب في هوارة فقتل فيها أمير العرب سليمان ابن غريب بنواحي الأشمونين ، وعاث العرب من أجلها في البلاد حتى قتل الذي توجه من القاهرة إلى الصعيد يبشر بسلطنة الملك - الأشرف فجهز السلطان م عسكرا ، فلم يظفروا منهم بشيء لأنهم فروا ، فرجع العسكر وقد أفسدوا في البلاد ببسط أيديهم إلى بعض الضعفاء فنهبوا بعضا وسبوا بعضا وباعوا الأحرار على أنهم عبيد وإماء فلا حول ولا قوة إلا بالله .
وفي الثامن عشر من شوال أدير المحمل ، وخرج إلى الحج جمع كثير جدا بحيث انقسموا ثلاثة ركوب وأمير المحمل ياقوت الحبشي مقدام المماليك ، وأمير الوسط جاني بك الخازندار ، وأمير الأول اسندمر ، وخرجوا في تجمل زائد وأبهة كثيرة ، ووصل ركب المغاربة وقاضيهمصاحبنا زين الدين عبد الرحمن الرشكي ، وانفرد عنهم ركب الينابعة فصاروا خمسة ركوب .
ذكر الحوادث الواقعة في هذه السنة
فيها أحضر إلى قرقماش الدويدار الثاني امرأة ادعى عليها بدين مطلت به فضربها ، فأخرجت من يدها مكتوبا بإثبات إعسارها ، فلم يلتفت وأعاد ضربها . ثم ضربها مرة ثالثة فماتت ، فرفع الأمر للسلطان فأمر بدفنها وذهب دمها هدرا ، وقد ولي قرقماش هذا بعد ذلك إمرة حاجب الحجاب مدة بالقاهرة ثم آل أمره إلى أن ركب على الملك الظاهر جقمق بعد أن كان هو القائم في سلطنته . فلم يتم له أمر وقبض عليه وسجن بالإسكندرية ثم قتل في سنة 842 .
وفيها كان الطاعون الشديد بحلب حتى يقال مات فيه سبعون ألفا وخلا أكثر البلد من الناس .
وفيها اشتد السلطان في أمر الأوقاف التي على المدارس والجوامعوالمساجد والزوايا وأحواض السبيل والأخذ على أيدي مباشرتها وإلزامهم بالقيام بها ، وبالغ قطلوبغا ناظر الأوقاف في إهانتهم وباشر بصرامة وقوة وشهامة ، ثم طال العهد فتناول الرشوة وسقطت مهابته .
وفيات سنة 825
ذكر من مات في سنة خمس وعشرين وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم بن أحمد ، البيجوري الفقيه الشافعي برهان الدين ، ولد في حدود الخمسين أو قبلها ، وأخذ عن الأسنوي ولازم البلقيني ، ورحل إلى الأذرعي بحلب سنة 777 وبحث معه . وكان الأذرعي يعترف له بالاستحضار وشهد له الشيخ جمال الدين الحسباني عالم دمشق بأنه أعلم الشافعية بالفقه ، في عصره ، وذكر جمال الدين ابن الأذرعي أن البيجوري كان ينسخ القوت كل مجلد في شهرين وفي كل ليلة ينظر على مواضع فيصلح الأذرعي بعضها وينازعه في بعضها ، وقال محيي الدين المصري : فارقته سنة خمس وثمانين وهو يسرد الروضة حفظا ، وكان دينا خيرا متواضعا لا يتردد لأحد سليم الباطن لا يكتب على الفتوى تورعا ، وولي بأخرة مشيخة الفخرية بين السورين ، وأجاز لأولادي . وكثر تأسف الناس عليه فإنه كان ينفع الطلبة جدا حتى كانوا يصححون عليه تصانيف العراقي فيهذبها ويهديهم إلى الصواب مما يقع فيها من الخطأ نقلا وفهما ، وكانوا يطالعون العراقي بذلك فلا يزال الصلح في تصانيفه ما ينقلونه له عنه ، ولم يكن فيعصره من يستحضر الفروع الفقيهة مثله ، ولم يخلف بعده من يقارنه في ذلك ، مات في يوم السبت 14 رجب ، وكان على طريقة السلف .
إبراهيم بن محمد الشافعي برهان الدين ابن خطيب بيت عذراء ، ولد سنة اثنتين وخمسين بعجلون ، وقدم مع أبيه صغيرا ، وكان أبوه خطيب عذراء فحفظ إبراهيم المنهاج واشتغل على شيوخ العصر ، وأذن له ابن خطيب يبرود ، ورحل إلى الأذرعي بحلب ورافق ابن عشائر وكان حينئذ يستحضر الروضة حتى كان يرد على الاذرعي في بعض ما بفتى به ويدل على المسألة في الروضة في غير مظنتها ، وتصدى للقاضي شهاب الدين ابن أبي الرضى حتى أخذ عليه في ثلاثين فتيا أخطأ فيها حتى نسبه في بعضها لمخالفة الإجماع مع شدة ذكاء ابن أبي الرضى إذ ذاك ، وكان البلقيني يفرط في تقريظه والثناء عليه ، ثم ولي قضاء صفد بعناية الشيخ محمد المغيربي ، ثم عزل ثم أعيد ، ثم أقام بدمشق من سنة ست وثمانمائة بطالا وحصلت له فاقة ، ثم حصل له تصدير بالجامع ، وكان يحفظ كثيرا من شعر المتنبئ ويتعصب له ويحفظ أشياء من كلام السهيلي ، وكان حسن الشكل سهل الانقياد سليم الباطن ، وله شرح على المنهاج فيه غرائب ، ولم يكن له يد في شيء من العلوم إلا الفقه خاصة ، مات في سابع عشري المحرم بالفالج وقرر ابن منكلي بغا له في جامع ولده بحلب تدريسا وذلك في سنة ثلاث وتسعين فاتفق حضور الشيخ سراج الدينالبلقيني صحبة الملك الظاهر فسأله أن يحضر إجلاسه ، فلما حضر قال له : تدرس أنت أو أنوب عنك فقال : تكلم يا مولانا شيخ الإسلام قال علاء الدين في تاريخه : كان يميل إلى القضاء كثيرا ، ثم كرهه في آخر زمانه ونزل له نجم الدين ابن حجي عن نصف تدريسه الركنية ، فدرس فيها قليلا ومات .
أحمد بن إبراهيم بن المحلي ، شهاب الدين الشاهد ، سمع من أبي الفتح القلانسي وغيره ، وأجاز لأولادي ، وكان أحد الصوفية بالركنية بيبرس ويتكسب بالشهادة ببولاق جاوز الثمانين .
أحمد بهاء الدين بن الفخر عثمان بن التاج محمد بن إسحاق المناوي . كان قد استقر في وظائف أبيه شركة مع أخيه بدر الدين ، ناب في الحكم ، ودرس بالمجدية وغيرها ، وكان حسن البشر والتودد محبا في أهل العلم ، وقد عين للقضاء مرة وكانت نفسه تسمو إلى ذلك فلم يتفق له ، ولما مات قررت وظائفه كلها بيد ولده علي وهو صغير جدا فاستنيب عنه خاله جلال الدين ابن الملقن ، وكان موت بهاء الدين في رمضان وله نحو أربعين سنة .
أحمد بن محمد بن محمد بن أبي غانم بن الحبال ، البسكري ، ماتيوم الجمعة سابع عشري شهر رجب من هذه السنة .
أحمد المعروف باليمني شهاب الدين أحد القراء بالجوق ، تلمذ للشيخ شمس الدين ابن الطباخ وقرأ معه وحاكاه ، وكان للناس في سماعه رغبة زائدة ، ولم يخلف بعده من يقرأ على طريقته ؛ مات في صفر .
أبو بكر بن إبراهيم بن محمد بن مفلح ، المقدسي الأصل الدمشقي الصالحي الحنبلي صدر الدين بن تقي الدين . ولد سنة ثمانين وتفقه قليلا ، واستنابه أبوه وهو صغير واستنكر الناس ذلك ، ثم ناب لابن عبادة وشرع في عمل المواعيد وشاع اسمه وراج بين العوام وكان على ذهنه كثير من التفسير والأحاديث والحكايات مع قصور شديد في الفقه ، وولي القضاء استقلالا في شوال سنة سبع عشرة ، فباشر خمسة أشهر ثم عزل ، واستمر على عمل المواعيد ؛ ومات في جمادى الآخرة .
حسن بن سودون ، الفقيه ، كان بارع الجمال في سلطنة المؤيد لكن أصيب في بصره فعشي إحدى عينيه ، وتزوج ططر أخته قديما فعظم في دولته ، ثم تأمر تقدمة في ولاية ابن أخته الصالح محمد لكن لم يمتع بالإمرة فإنه لم يزل موعوكا إلى أن مات في يوم الجمعةثالث عشر صفر ، وأسف أبوه عليه فصبر وتجلد ، وكان موته سبب التغير والمنافرة بين الأميرين الكبيرين : طرباي وبرسباي .
سليمان بن إبراهيم بن عمر الفقيه نفيس الدين التعزي العلوي ، نسبه إلى علي بن . . . سمع أباه وابن شداد وغيرهما ، وعني بالحديث وأحب الرواية واستجيز له من جماعة من أهل مكة ، وسمع مني وسمعت منه ، وكان محبا في السماع ، والرواية محثا على ذلك مع عدم مهارة فيه فذكر لي أنه مر على صحيح البخاري مائة وخمسين مرة ما بين قراءة وسماع وإسماع ومقابلة ، وحصل من شروحه كثيرا ، وحدث بالكثير وكان محدث أهل بلده ، وقرأ للكثير على شيخنا مجد الدين الشيرازي ونعم الرجل كان لقيته بزبيد وبتعز في الرحلتين وحصل لي به أنس ، وحدثني بجزء من حديثه يخرجه لنفسه زعم أنه مسلسل باليمنيين وليس بالأمر في غالبه كذلك : مات في ذي الحجة وقد جاوز الثمانين .صالح بن شهاب الدين أحمد بن صالح السفاح ، ولد سنة خمس وتسعين وأحضر على ابن أيذغمش وأسمع علي ابن صديق وقرأ شيئا في النحو ، ثم لما ولي أبوه كتابة السر استقر في توقيع الدست وناب عن أبيه ، وكان محتشما متوددا إلى الناس وافر العقل ، ومات بالطاعون في جمادى الآخرة ، وهو سبط القاضي شرف الدين الأنصاري قاضي حلب .
صالح بن عيسى بن محمد بن عيسى بن داود بن سالم ، الصمادي كان جده سالم من تلامذة الشيخ عبد القادر ، وبنيت لسلفه زاوية بصماد قبلي بصرى ونشأ هذا بزاويته ، وله أتباع وشهرة ، وكان له مزدرعات ومواشي ويضيف الواردين كثيرا ، وكلمته مسموعة عند أهل البر ؛ ومات في رمضان عن نحو السبعين .
صدفة بن سلامة بن حسين بن بدران بن إبراهيم بن حملة الضرير الجيدوري ، ثم الدمشقي ، ولد سنة بضع وخمسين ، وعني بالقراآت فقرأ الشاطبية على العسقلاني إمام جامع ابن طولون ، وقرأ التيسير على أبي الحسن الغافقي وأقرأ القراآت بالجامع الأموي وأدب خلقا ، وانتفعوابه ، وله تواليف في القراآت ؛ مات في عاشر جمادى الأولى .
عبد الرحمن بن محمد بن طولو بغا . النتكزي أسد الدين مسند الشام ، ولد سنة . . . وسمع من . . . وتفرد وحدث ، وحج في سنة أربع وعشرين فحدث بمكة ، ورجع فمات بدمشق في 12 ذي القعدة من هذه السنة .
عثمان بن سليمان الصنهاجي من أهل الجزائر الذين بين تلمسان وتونس ، رأيته كهلا قد جاوز الخمسين وقد شاب أكثر لحيته ، وطوله إلى رأسه ذراع واحد بذراع الآدميين لا يزيد عليه شيئا وهو كامل الأعضاء ، وإذا قام قائما يظن من رآه أنه صغير قاعد . وهو أقصر أدمي رأيته . وذكر لي أنه صحب أبا عبد الله بن الفخار وأبا عبد الله ابن عرفة وغيرهما ، ولديه فضيلة ومحاضرة حسنة علي بن أحمد بن علي المارديني سمع من ابن قواليح صحيح مسلم بدمشق وحدث عنه ؛ ومات بمكة في شوال .
علي الملك صير الدين بن الملك سعد الدين محمد ، ملك المسلمينبالحبشة وكان شجاعا حتى يقال إنه زجر فرسه في بعض الوقائع وقد هزمه العدو وقد وصل إلى نهر عرضه عشرة أذرع فقطع النهر ونجا ملك بعد أبيه ، وجرت له مع كفرة الحبشة وقائع عدة ، وكان عنده أمير يقال له حرب جوس من الأبطال : مات صير الدين مبطونا في هذا السنة ، واستقر بعده أخوه منصور .
عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن محمد سراج الدين الخروبي ، ولد سنة إحدى وأربعين وسبعمائة أو في التي بعدها ، ولم أجد له سماعا على قدر سنة ولو اعتنى به لأدرك الإسناد وقد كان له حرص على سماع الحديث فسمع بقراءتي كثيرا وجاوز الثمانين ممتعا بسمعه وبصره وعقله ، وكان كثير العبادة من صلاة وتطوع وصيام تطوع وأذكار ، وتنقلت به الأحوال ما بين غني مفرط وفقر مدقع ، فأول ما مات أبوه كان يعد من التجار ، ثم ورث أباه هو وأخوه نور الدين الذي مات سنة ثلاث وثمانمائة فاتسع حاله وأثرى واشتهر بالمعرفة وحسن السيرة ، ثم تناقض حاله فمات عمه تاج الدين بمكة سنة خمس وثمانين وأوصي وورث منه فأثرى ، واتسع حاله ، ثم تناقص إلى أن مات قريبهم محمد بن زكي الدينالخروبي في سنة أربع وتسعين وهو شاب فورث منه مالا جزيلا فتراجع حاله ، ثم تناقص حاله إلى أن مات أخوه بدر الدين فورث ماله واتسعت دائرته وحسن حاله ، ثم تناقص حاله بعد ثلاث سنين إلى أن ماتت أخته آمنه فورث منها مالا جزيلا فحسنت حاله ووفى كثيرا من دينه ، ثم لم يزل بسوء تدبيره إلى أن مات فقيرا إلا أن ابنته فاطمة ماتت قبله في هذا السنة فورث منها شيئا حسنت به حاله قليلا لكنه مات وعليه ديون كثيرة ، وخلف خمسة أولاد ذكور منهم شمس الدين محمد وكان ضيق اليد جدا فمات بمدينة بعلبك ، وثانيه شقيقه شرف الدين محمد ثم عز الدين محمد . ثم بدر الدين محمد ، ثم فخر الدين سليمان ، فكان نابغتهم بدر الدين ، فإنه كان حصل من تركة آمنه بغير علم أبيه قدرا جيدا ، وأخذ من والدته ، وهي تجار بنت ناصر الدين بن مسلم كبير التجار بمصر أبوها كان سيئا كثيرا فأثرى وعمر بيتهم ثم لم يلبث أن مات في الطاعون العام سنة ثلاث وثلاثين ، ثم مات عز الدين سنة اثنتين وأربعين ولم يبق إلا شرف الدين وسليمان وهما في غاية القلة - فسبحان الذي لا يزول ملكه فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم بعد أن كانوا يشار م بالأصابع في الثروة وصاروا كآحاد الناس بل في الحضيض .غرير بن هيازع بن هبة الحسيني ، أمير المدينة وأمير ينبع ، كان وقع بينه وبين عجلان بن نعير ابن عمه أخو ثابت اختلاف كما كان بين أسلافهما فهجم غرير على حاصل المسجد فأخذ منه مالا جزيلا ، فأمر السلطان أمير الركب بالقبض عليه ، فقبض عليه في ذي الحجة وأحضر صحبة الركب إلى مصر ، فاعتقل بالقلعة فمات بعد ثمانية عشر يوما ، وكان خاله مقبل بن بختيار أمير ينبع قد جهز قدر المال الذي نسب أنه أخذه وأرسل به مع قصاده إلى السلطان فبلغ القاصد أنه مات فرجع بعضهم إلى ينبع بالمال واختفى بعضهم بالقاهرة ، وكان مدة إمرة غرير على المدينة ثماني سنين ، وهو بالغين المعجمة مصغرا .
محمد بن أحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد ، الشريف بدر الدين الحسنين نقيب الأشراف بحلب ، تقدم ذكر والده عز الدين وهو من شيوخنا بالإجازة ، وولي هذا نقابة الأشراف بعد والده ، قال القاضي علاء الدين في تاريخ حلب : كان بارعا يستحضر شيئا من التاريخ ويذاكر به ثم ولي كتابة السر بحلب في سنة إحدى وعشرين ومائتين من جهة المؤيد فجمع الوظيفتين ، قال : وكان كتب وصية وجعلها في جيبه وصار يلهج بذكر الموت إلى أن وقعت وفاته في جمادى الآخرة وجاوز الأربعينبقليل وكان الجمع في جنازته مشهودا ، أثنى عليه البرهان المحدث .
محمد بن أحمد أبو المعالي الجبتي الحنبلي شمس الدين ، ولد سنة خمس وأربعين وسبعمائة ، وسمع من عمر بن حسن ابن أميلة والعماد بن كثير وغيرها ، وتفقه بابن قاضي الجبل وابن رجب وغيرهما ، وتعانى الآداب فمهر ، وكان فاضلا مستحضرا مشاركا في الفنون ، وقدم إلى القاهرة في رمضان سنة أربع وثمانمائة وقد حدث ببعض مسموعاته وقص على الناس في عدة أماكن وناب في الحكم ، وكان يحب جمع المال مع مكارم الأخلاق وحسن الخلق وطلاقة الوجه والخشوع التام ولا سيما عند قراءة الحديث . سمعنا بقراءته صحيح البخاري في عدة سنين بالقلعة وسمعنا من مباحثة وفوائده ونوادره وما جريانه ، وكان حسن القراءة يطرب إذا قرأ ويحسن عمل المواعيد ، وكان قد صحب العماد بن كثير فكان ينقل عنه الفوائد الجليلة ، وناب في الحكم في بعض المجالس وكان لا يتصون . وولي بالقاهرة مشيخة الغرابية بجوار جامع يشبك ثم مشيخة الخروبية بالجيزة وبها مات فجأة فإنه اجتمع في يوم الثلثاء سادس عشري المحرم فهنأني بالقدوم منالحج ورجع إلى الجيزة في آخر نهار الأربعاء فمات ليلة الخميس وقت العشاء ثامن عشري المحرم وقد أكمل السبعين فرأيت في تاريخ ابن حجي في حوادث سنة اثنتين وثمانمائة في ذي القعدة وقع حريق بدمشق فانتهى إلى طبقة بالبراقية وهي بيد الشيخ شمس الدين الحبتي ولم يكن يسكنها ، فوجدوا بها جرارا ملأى خمرا فكثرت الشناعة عليه عند تنم النائب ، قلت : وكنت في تلك الأيام بدمشق وبلغني أنهم شنعوا عليه وأنه بريء من ذلك ، وبعضهم كان ينكر عليه ويتهمه وأمره إلى الله - عفا الله تعالى عنه واستقر مكانه بالجيزة فضل الله بن نصر الله البغدادي .
محمد بن الجمال عبد الله . الرومي الحنفي صدر الدين ، ناب في الحكم وكان حسن التودد ويتعمم دائما على آذنيه .
محمد بن علي بن خالد ، الشافعي شمس الدين المعروف بابن البيطار ، سمع من عبد الرحمن بن الشيخ علي بن هارون المعاري مشيخة تخريج شيخنا العراقي وسمع من غيره ولازمنا في السماع على المشايخ كثيرا ، وكان وقورا ساكنا حسن الخلق كثير التلاوة .محمد بن علي بن قرمان ، الأمير ناصر الدين ، كان أمير بقصرية ونكدة ولا رندة ، وما والاها من البلاد الحلبية غيرها ، ثم امتدت عينه إلى أخذ طرسوس وهو من معاملات حلب ، وطمع فيها لوقوع الاختلاف بين الأمراء المصرية فحاصرها وملكها ، فلما استقر المؤيد في المملكة جهز عسكرا فاستنقذها منه وقرر فيها نائبا ، ثم جمع ابن قرمان جيشا وتوجه إلى طرسوس فأخذها . فجهز المؤيد ولده إبراهيم في العسكر المقدم ذكره في سنة إحدى وعشرين فملكوا طرسوس وهرب منهم ابن قرمان ، وسلموا طرسوس بأمر المؤيد لناصر الدين بن دلغادر .
واستقر في إمرة البلاد القرمانية على أخو ناصر الدين فلما رجع إبراهيم إلى القاهرة وقع بين ابن قرمان وبين ابن دلغادر وقعة انهزم فيها ابن قرمان وأسر وحمل إلى القاهرة فدخلها وكان يوما مشهودا ، فلما مات المؤيد أفرج عنه ططر وتوجه إلى بلاده في أوائل سنة أربع وعشرين ، فاستمر إلى أن توجه إلى حصار بعض القلاع فأصابه حجر في جبهته فصرعه ومات في هذه السنة .
محمد بن علي بن أحمد ، الزراتيتي المقرئ الحنبلي إمام الظاهريةالبرقوقية الشيخ شمس الدين ، ولد سنة سبع وأربعين ، وعني بالقراآت ورحل فيها إلى دمشق وحلب ، وأخذ من المشايخ ، واشتهر بالدين والخير ، سمع معنا الكثير وسمعت منه شيئا يسيرا ، ثم أقبل على الطلبة بأخرة فأخذوا عنه القراآت ولازموه وختم عليه جمع كثير وأجاز لجماعة ، وانتهت الرئاسة في الإقراء بمصر ورحل محمد الأقطار وأجاز رواية مروياته لأولادي ، ونعم الرجل كان مات في يوم الخميس سادس جمادى الآخرة بعد أن أضر .
محمد عز الدين بن الشيخ عز الدين بن محمد بن خليل بن هلال ، الحاضري قاضي الحنفية ، بحلب ، قال البرهان المحدث بحلب : ولي القضاء فسار سيرة جميلة ، مات بالطاعون .
محمد بن قاضي المسلمين شرف الدين موسى الأنصاري ولي الدين أبو زرعة خطيب الجامع الكبير بحلب ؛ مات في رجب بالطاعون أيضا .محمد جلبي السلطان ويلقب كرشي ولد السلطان أبي يزيد بن مراد بن أرخان بن عثمان جق صاحب الأوجاق ، وما معها من بلاد الروم .
محمد المعروف بابن المحب شمس الدين أحد قراء الجوق ، وكان تلمذ للشيخ شمس الدين الزرزاي رفيق ابن الطباخ ، فأخرجت جنازته هو وأحمد اليمني الماضي معا وصلي عليهما .
محمود بن محمد ، الأقصراي بدر الدين ، كان مولده سنة بضع وتسعين ، وتفقه واشتغل كثيرا ومهر . ولازم شيخنا عز الدين ابن جماعة وغيره من الأئمة ، ودرس بالأيتمشية ، ثم اتصل بالملك المؤيد فعظم قدره ، ثم أقرأ ولده إبراهيم في الفقه وازداده منزلته عند الظاهر ططر ، فلما كان في أوائل شوال سنة أربع اعتل بالقولنج الصفراوي فتمادى به إلى أن مات . كان فاضلا بارعا ذكيا مشاركا في فنون . حسن المحاضرة مقربا من الملوك ، حسن الود ، كثير البشر ، قائما في قضاء حوائج من يقصده ، كثير العقلوالتؤدة ، وقد درس في التفسير بالمؤيدية وغير ذلك ؛ مات في ليلة الثلثاء في المحرم ولم يبلغ الثلاثين .
يعقوب بن عبد الله ، الخاقاني الفاسي ، كان من أبناء البربر وتعلق بالاشتغال ، فلما رأى الفساد الحادث بفاس بسبب الفتنة بين السعيد وبين أبي سعيد في سنة 17 فصار يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويكف أيدي المفسدين فتبعه جماعة وقويت شوكته ، وحاول ملوك فاس القبض عليه فأعياهم أمره إلى أن قتل أبو سعيد ، وأرسل ابن الأحمر يعقوب المريني إلى فاس فلم يتم الأمر ، فأرسل أبا زيان ابن أبي طريف ابن أبي عفان فحاصر فاس ، وقد اشتدت شوكة يعقوب الخاقاني واستفحل أمره ، ففتك فيمن بقي من بني مرين وساعد أبا زيان وقام بأمره ، فدخل فاس وقتل عبد العزيز الكناني وعدة من أقاربه - كما تقدم ذكره في سنة أربع وعشرين . ثم أرسل ابن الأحمر محمد بن أبي سعيد فعسكر على فاس ، ففر منه أبو زيان فمات ببعض الجبال ، وقتل يعقوب الخاقاني ، ثم مات محمد عن قرب فأقيم ابن أخيه عبد الرحمن ، فثار به أهل فاس فقتلوه وقتلوا ولده وأخاه وأقاموا رجلا من ولد أبي سعيد ، وقام بمكناسة وهي على مرحلة من فاس أبو عمر بن السعيد ، وقام بتازي وهي على مرحلة ونصف من فاس شخص من ولد السعيد أيضا ، فصار في مسافة مرحلتين ثلاثة ملوك ليس بأيديهم من المال إلا ما يؤخذ ظلما ، فتلاشى الحال وخربت الديار وقتلت الرجال ، والحكم لله العلي الكبير نقلتهذا من خط الشيخ تقي الدين المقريزي عمن نقله من بعض من يثق به من المغاربة القادمين إلى الحج - والعلم عند الله تعالى .
خاتمة الطبع .
لقد انقضى بحمد الله تعالى وحسن توفيقه طبع الجزء السابع من كتاب إنباء الغمر بأبناء العمر من تجزئة الدائرة لخمس عشرة ليلة خلون
من شعبان سنة 1394 ه الموافق لليوم الثاني من سبتمر 1974 م .
وقد اعتنى بتصحيحه وتحقيقه الفقير إلى رحمه ربه الغني
السيد عبد الله بن أحمد بن محمد المديحج العلوى الحسيني الحضرمي ، وقد
بذل في تصحيحه وتحقيقه جهد المقل ، إذ ما لا يدرك كله لا يترك قله ، والميسور لا يسقط بالمعسور .
وإن تجد عيبا فسد الخللا
فجل من لا عيب فيه وعلا
وقد ساعده على ذلك العالم الفاضل محمد صادق الدين الأنصاري العمري ( أفضل العلماء - جامعة مدراس ) مصحح دائرة المعارف ، وقد قابل المصحح المذكور أصوله الأربعة بعضها على بعض وعلق عليه منها ومن غيرها لا سيما الضوء اللامع ، فإن مؤلفاته قلما يكتفي بما في الإنباء بل يزيد عليه زيادات كثيرة مفيدة يفي المناقب والمثالب ، فقد يفصل الإجمال ويخصص العام ويقيد المطلق إلى غير ذلك ، والتجريبة الثالثة ترسل إلى رئيس التصحيح حبيب الله القادري فينظرها ثم يؤمر بطبعها ، ويتلوه الجزء الثامن وأوله ' سنة ثمانمائة وست وعشرين ' .حوادث سنة 826
سنة ست وعشرين وثمانمائة
في المحرم على قطلوبغا حاجي باستمراره في نظر الأوقاف وألزم القاضي الشافعي أن يرتب له معلوما ، فرتب له على الأوقاف الحكيمة في الشهر ألف وخمسمائة .
وفي يوم عاشوراء سعى القاضي الشافعي المنفصل فأحضر بين يدي السلطان فدعا له وخلع عليه جبة بسمور وقدمت له بغلة ، وشق ذلك على صالح المستقر . وفيه وصل الخبر بأنه وقع في بيروت برد كبار حتى وزنت واحدة فبلغ وزنها ربع قنطار شامي ويقال أكثر من ذلك ، وكان بغزة وفلسطين محل شديد فأمطرت في هذا الشهر فتراجع السعر ، ولولا ذلك لنزح جميع أهل تلك النواحي منها . وفي أول المحرم كانت الوقعة بين مقبل بن نخبار الحسني صاحب الينبع وبين أمير الركب الثاني ، وذلك أن عقيل بن وبير بن نخبار ابنأخي مقبل وقع بينه وبين عمه بسبب الإمرة ، لأنها كانت مشتركة بين وبير ومقبل وكان وبير الأكبر والمشار إليه ، فلما مات استقل مقبل فارتغم عقيل بذلك وسعى في الشركة فأجابه الأشرف إلى ذلك ، وأرسلت إلى عقيل خلعة من الأشرف فلبسها ولم يظهر من مقبل لذلك إنكار ، فلما توجه الحاج إلى مكة وثب مقبل على عقيل فقيده ، ثم خشى من المصريين إذ رجعوا من الحج فنزح بأهله وماله ومن أطاعه إلى بعض الأودية ، فلما قدموا إلى بدر راجعين من زيارة المدينة فجرد منهم جماعة فانتهوا إليه فوجدوه في بعض الأودية فوقع بينهم القتال ، فانهزم مقبل ومن معه وانهزم معه رميثة بن محمد بن عجلان وكان خالف على عمه حسن بن عجلان ، وانتهب العسكر المصري ما كان لمقبل وأفحشوا في الفسق والتعرض للحرم ، ولما وصلوا إلى ينبع قرروا أميرها عقيل وتوجهوا إلى جهة مصر ، ثم رجع مقبل إلى ينبع بعد رحيلهم بأيام فأوقع بابن أخيه عقيل ومن معه وكادت الكسرة تقع على عقيل ، ثم تراجع أصحابه وهزموا عنه وأسروا محمد بن المؤذن وكان يكثر النميمة بينهم ، فشنقه عقيل على باب المدينة وأرسل بخبر الهزيمة إلى القاهرة ، واستمرت هزيمة مقبل إلى الشرق ، والتجأ رميثة بن محمد بن عجلان أمير المدينة ليشفع له إلى عمه حسن بن عجلان ، فتوجه معه إلى مكة .
وفي العشر الأواخر من المحرم وقع بنواحي حوران برد كبارعلى صور خشاش الأرض والماء ، كخنفسة ووزعة وحية وعقرب وسرطان وضفدع وغير ذلك - هكذا ذكر علاء الدين ابن أبي الشوارب الشاد بتلك الناحية أنه شاهد ذلك ، وقد ذكر الحافظ علم الدين البرزالي في تاريخه في حوادث سنة ست عشرة وسبعمائة أنه وقع ببارين من عمل حماة برد كبار على صفة حيوانات مثل حية وسبع وعقرب وطيور مختلفة وصفة رجال في أوساطهم شبه حوائص ، وأنه ثبت بمحضر على قاضي الناحية واتصل بقاضي حماة .
وفي ثاني عشري المحرم صرف الدين ابن العجمي من نظر الجوالي ، واستقر فيها زين الدين قاسم بن القاضي جلال الدين البلقيني بمال بذله لجاني بك الدويدار الثاني ، وكان استقر في الدويدارية بعد قدومه من الحج وهو شاب له دون العشرين ، وتصدى للحكم بين الناس وهرعوا إليه لعلمهم بمنزلته عند السلطان ، وكان السلطان لما سجن بقلعة المرقب أراد جقمق نائب الشام إذ ذاك أن جاني بك المذكور ينضم إليه ويخدم عنده وتحيل عليه بكل طريق ، فلم يوافق ولازم سيده وهو في السجن وصبر معه على الضيق ، فشكر له ذلك .
وفي تاسع عشري المحرم عزر فتح الدين محمد بن محمد بن المؤيد موقع الحكم للشافعي وجمال الدين عبد الله بن عمر النحريري موقع الحكمللمالكي بسبب شهادة قيل إنها زورت عليهما أو منهما فأمر الدويدار الكبير بقطع أكمامهما وتجربسهما بالقاهرة ماشيين وتألم الناس لذلك ، وقيل إنهما كانا مظلومين ، وتوجه ابن المؤيد إلى القدس خجلا من الناس .
وفي ثامن عشري صفر عقد مجلس بسبب الفلوس ، فاستقر الأمر فيها على تمييزها مما خالطها كما سيأتي ، ونودي على الفلوس أن الخالص بسبعة كل رطل ، والمخلوطة كل رطل بخمسة دراهم ، وحصل بين الباعة بسبب ذلك منازعات .
ثم في أواخر رمضان نودي على الفلوس المنقاة بتسعة وبمنع المعاملة من المخلوطة أصلا ، فسكن الحال ومشى .
وفيه عزز فخر الدين عثمان المعروف بالطاغي خازن كتب المدرسة المحمودية بالموازينين ظاهر القاهرة فضرب بين يدي السلطان ، وكان قد رفع عليه أنه فرط في الكتب الموقوفة وهي من أنفس الكتب الموجودة الآن بالقاهرة ، لأنها من جمع القاضي برهان الدين ابن جماعة في طول عمره فاشتراها محمود من تركة ولده ووقفها وشرط أن لا يخرج منها شيء من المدرسةواستحفظ لها إمامه سراج الدين ، ثم انتقل ذلك لعثمان المذكور بعد أن رفع على سراج الدين المذكور أنه ضيع كثيرا منها ، فاختبرت فنقصت نحو مائة وثلاثين مجلدة ، فعزل سراج الدين وقرر عثمان ، فاستمر يباشر ذلك بقوة وصرامة وجلادة وعدم التفات إلى رسالة كبير أو صغير حتى أن أكابر الدولة وأركان المملكة يحاوله الواحد منهم على عارية كتاب واحد وربما بذلوا له المال الجزيل فيصمم على الامتناع حتى اشتهر بذلك ، فرافع عليه شخص من الناس أنه يرتشي في السر ، فاختبرت العشر سواء ، لأنها كانت أربعة آلاف مجلدة فنقصت أربعمائة ، فالتزم بقيمتها فقومت بأربعمائة دينار فباع فيها موجوده وداره وتألم أكثر الناس له ، ولم يكن عيبه سوى كثرة الجنف على فقراء الطلبة وإكرام ذوي الجاه . وفي أول شهر ربيع الأول قرر قصروه أمير آخور في نيابة طرابلس ، وقرر جقمق الذي كان استقر حاجبا كبيرا في مكانة أمير آخور في ثاني عشرة ، واستقر في الحجوبية أزبك الأشقر وعمل المولد السلطاني ، فحضر القاضي الشافعي المعزول وأجلس رأس الميسرة ، وتحول الحنفي من ثم فجلس الشافعي المستقر في الميمنة .وفي أوائل العشر الثاني منه رفع شخص من أهل الرملة في كاتب السر علم الدين ابن الكويز إلى السلطان قصة من جملتها أنه تواطأ هو وجماعة من أهل الدولة على إعادة السلطنة للمظفر بن المؤيد ، وفي القصة : إن كاتب السر لا يصلح أن يكون اسلميا ، وإن الذي يليق في وظيفة كتابة السر من يكون من أهل العلم والمعرفة بالألسنة إلى أوصاف أخرى - يرمز فيها بالهروي ، وذكر لي الشيخ شرف الدين ابن التباني أن الذي رفعها أول ما قدم نزل عند المحتسب وهو صديق الهروي ، وفي نفسه من كاتب السر أمور كثيرة ، فأمر السلطان بنفي الذي رفعها إلى قوص ، فخرج مع نقيب الجيش في الترسيم ، الذي رفعها محمد بن بدر الأرسوفي ، وكان شيخا من بلدة الشيخ على ابن عليم بالرملة ، فلما كان شهر ربيع الآخر خرج السلطان إلى وسيم بالجيزة في زمن الربيع ، وكانت أول تعدية عداها إلى الجانب الغربي في البحر منذ تسلطن ، ويقال إنه كان عزم على الإقامة نصف شهر فأقام أسبوعا ، ورجع وقد بلغه أمر أزعجه ، ووقف له سائس من السواس في طريقه فزعم أنه رأى الشيح أحمد البدوي في النوم وةبين يديه نار وهو يطفئها ، وكلما أطفأها عاد لهبها ، فسأله عن ذلك ؛ فقال : هذه نار أطفئها عن السلطان ، فشاع بعد ذلك أن السلطان ظفر باثنين أو ثلاثة أرادوا الفتك به ، وابتدأ بكاتب السر وجعه ، فيقال إنه دس عليه السمفوعك أياما ثم ابل من مرضه وركب ثم انتكس واحتجب عن العواد ولازمه الأطباء ، فيقال إن نصرانيا أراد أن يدفع عنه وهم كونه مسموما فشرب بوله ، ففرح بذلك وأعطاه خمسين دينارا ، ثم صار يحصل له شبيه السبات ، ويقال إن النصراني وعك بعد ذلك ، وفي غضون هذه الأيام أمر السلطان بإعادة الشيخ محمد بن بدر من قوص ، فأعيد في أواخر شهر ربيع الآخر وتوجه لحال سبيله .
وفي العشرين من ربيع الأول انقضت أيام الحسوم وكانت شديدة البرد إلى الغاية ، ولقد تذكرت لما مرت بنا في سنة ست وثلاثين وثمانمائة بعد ذلك بعشر سنين وهي في غاية الحر - فسبحان الحكيمواستمر كاتب السر منقطعا في بيته موعوكا إلى العشر الثاني من رجب فعوفي ودخل الحمام وركب إلى القلعة ثم اجتمع بالسلطان ، فأذن له أن يتأخر في منزله أياما لتكمل عافيته ، فأرسل إليه عقب ذلك تقدمة تشتمل على ثياب حرير وصوف وذهب ، فخلع على محضرها أخيه سليمان بن الكويز ، وفي العشرين من ربيع الآخر رخص القمح جدا حتى انحط إلى ستين درهما الإردب بحيث يحصل بالدينار المختوم أربعة أرادب ، وهذا غاية الرخص فإن عبرة الديار المصرية أن يكون الإردب بدينار ، فما زاد فهو غلاء بحسبه وما نقص عن ذلك فهو رخص بحسبه .وفي رابع عشري شهر ربيع الآخر هبت ريح برقة تحمل ترابا أصفر إلى الحمرة ، وذلك قبل غروب الشمس ، فاحمر الأفق جدا بحيث صار من لا يدري السبب يظن أن بجواره حريقا ، وصارت البيوت كلها ملأى ترابا ناعما جدا يدخل في الأنوف وفي جميع الأمتعة ، ثم لما تكاملت غيبوبة الشفق أسود الأفق وعصفت الريح وكانت مقلقة ، فلو قدر أنها كانت تصل إلى الأرض لكان أمرا مهولا ، وكثر ضجيج الناس في الأسواق والبيوت بالذكر والدعاء والاستغفار إلى أن لطف الله تعالى بادرار المطر ، فتحولت الريح جنوبية باردة ، ولم تهب هذه الريح منذ ثلاثين سنة ، وهي ريح هائلة عاصفة سوداء مظلمة ، فانتشرت حتى غطت الأهرام والجيزة والبحرواشتدت حتى ظن كل أحد أنها تقتلع الأبيات والأماكن ، فدامت تلك الليلة ويوم الأربعاء إلى العصر ، وكانت سببا في هيف الزرع بالوجه القبلي وغلاء سعر القمح .
وفي ربيع الآخر قدم أخو رميثة بن محمد بن عجلان يخطبان إمرة مكة عوضا عن عمهما حسن بن عجلان ظنا منهما طرد القياس في عقيل ومقبل ، فانعكس عليهما الأمر فقبض عليهما وحبسا ، وقرر قرقماش الشعباني وعلى بن عنان في إمرة مكة وسافرا معا . وفيه وصل تاني بك البجاسي نائب حلب فسلم على السلطان ، وهرع الناس للسلام عليه ، ثم خلع عليه وأعيد إلى إمرته وتوجه ثالث جمادى الأولى . وفيه وقع بين نائب دمشق وقاضيها الشافعي نجم الدين ابن حجي تشاجروادعى أن القاضي أشار عزل نفسه ، وتولد من ذلك شر كبير سيأتي ذكره ، وورد الخبر بأن الجراد وقع بالمدينة فأفسد الزرع بها وجرد الخوص من النخل ، وقاسوا منه شدة عظيمة .
وفي أوائل ما نقلت الشمس إلى الثور بعد أن اشتد الحر جدا عاد البرد الشديد حتى كان نظير الذي كان والشمس في برج القوس وهذا من العجائب ، وبعد يومين أمطرت السماء مطرا غزيرا في معظم الليل ، واستمر البرد قدر أسبوع .
وفي اليوم الثامن عشر من حلول الشمس الثور أمطرت السماء مطرا شديدا غزيزا ، واستمر إلى أن أكثر الوحل في الطرقات كأعظم ما يكون في الشتاء مع الرعد الكثير والبرق ، وقد تلف بذلك ما في المقائي من الزروع والنبات شيء كثير ، وغلا السعر بسبب ذلك ، ويقال إنها أمطرت بمدينة المحلة من البرد الكبار ما يتعجب منه وهبت ريح شديدة بمدينة أنبابة فهدمت بسببها بيوت كثيرة ، وقلعت أصول نخل وشجر .
وفيه كائنة سرور المغربي المالكي ، كان قدم من تونس إلىالإسكندرية وصار يذكر الناس ويقع في حق بعض الرؤساء ، فتعصبوا عليه ومنعه نائب الحكم من الكلام ، فدخل القاهرة فسعى في عزل القاضي ، فتعصب كاتب السر للقاضي ، فخرج سرور إلى الحج ثم عاد فرفع إلى السلطان أنه رأى النبي e في المنام وبين يديه خمسة أنفس مسلسلين رأسهم كاتب السر ابن الكويز ، وأنه مد يده إلى عيني ابن الكويز ففقاهما وقال له : أفسدت شريعتي وسعى في عزل الناظر والقاضي فأمر بإحضارهما ، فأما الناظر فذب عنه صهره ناظر الخاص ، وأما القاضي فحضر وصودر على مال ، وكتب سرور لبعض أصحابه بالإسكندرية كتابا يخبر فيه أن النائب والناظر والقاضي عزلوا بسبب كلامه فيهم ، فبلغ ذلك النائب فكاتب السلطان في أمره وحط عليه ، فتعصب له بعض الأكابر فأمر السلطان بنفي سرور من الإسكندرية ، فوكل به بالقاهرة وأخرج مهانا إلى الإسكندرية ، ثم أنزل في مركب إلى الغرب فتوجه إليها ، فوصل إلى صاحب تونس وأخذ منه كتابا بالشفاعة فيه ، فلما وصل إلى الإسكندرية قبض عليه النائب وسجنه وألزمه بالعود إلى الغرب ، فاتفق أن الذي كان أرسل إلى الإسكندرية يحفظها من الفرنج كما سأذكره بعد ، لما حصل الأمن منالفرنج قرر نائبها وهو آقبغا التمرازي وصرف النائب الذي كان بها وهو أسندمر النوري ، وخلص سرور من الشدة بذلك وافرج عنه ، وأرسل النائب الكتاب الذي استصحبه إلى السلطان ، فسكن الأمر خصوصا بعد موت ابن الكويز .
ومن العجائب أن المذكور جرت له في سلطنة الظاهر جقمق في سنة ست وثلاثين مناقشة مع القاضي أدت إلى أن بعض الأكابر حط عليه فبالغ فأمر السلطان بنفيه ، فلما حصل بالإسكندرية أغلظ للنائب فأنزلوه في مركب تسير إلى الغرب ورئيسها إفرنجي ، فوصل كتاب بالشفاعة فيه ، وإعفائه من التغريب ، فعوق النائب قراءة الكتاب إلى أن تحقق أن المركب سارت به ، فقرأ الكتاب وأعاد الجواب بفوات الأمر ؛ ثم لم نطلع له على خبر إلى أن سطرت هذه الأحرف في شعبان سنة سبع وأربعين ثمانمائة ، وجزم جماعة بأنه أعدم ، ولم يلبث القاضي بعده إلا يسيرا وهلك .
وفي رجب حضر الأستادار من الصعيد وحضر صحبته شيء كثير من الأبقار والأغنام ، فجمع الجزارين والقيطامين وغيرهملمشتراها ، فاجتمع جمع كثير في مركب فغرقت بهم ، فلم يسلم منهم إلا القليل ، وذلك في مبادئ زيادة النيل ؛ وكان الطاعون بالشام حتى قيل إن جملة من مات في أيام يسيرة زيادة على خمسين ألفا ، ووقع الطاعون بدمياط فمات عدد كثير من الرقيق والأطفال .
وفي رجب شكا نائب الشام من ابن حجي قاضي الشافعية ونسبه إلى أمور معضلة ، فأمر بالكشف عليه . فندب لذلك بعض الجند وصحبته شمس الدين محمد الأنصاري المدعو أبا شامة الدمشقي الذي كان أمين الحكم عنده ، فنقم عليه أمورا فعزله ، فتوجه إلى القاهرة فأقام بها يغض من ابن حجي ويذكر مساويه عند الأمراء وغيرهم ، فلما وقعت هذه الكائنة ذكر بعضهم للسلطان أن أبا شامة يعرف مساوي ابن حجي ، فسفره ليكشف عليه ، وكان السبب في تغير نائب الشام عليه أنه كان بدمشق خمارات عليها ضمان للنائب فركب القاضي وأمر بإغلاقها . فشق ذلك على النائب وأحضر الضامن وخلع عليه ونادى له بالاستمرار ، فنفر الناس من ذلك واجتمع عند بيت القاضي من لا يحصىكثرة ، فركب القاضي والناس معه فكسروا أواني الخمر وأراقوها ، فغضب النائب من ذلك ورفع إلى السلطان أن القاضي يقيم من يشهد بأن فلانا الذي مات عن غير وارث له وارث فيثبت ذلك ويتسلم المال ، وأنه حصل عنده من هذه الجهة أموال كثيرة ممن ليس له وارث إلا بيت المال ، فتغيظ السلطان من ذلك ، فلما وصل الأمر بالكشف عليه بالغ النائب في نكايته ومكن عدوه منه ، وأقدم أبو شامة فسجل على نفسه أنه ثبت عنده أن في جهة القاضي نجم الدين ابن حجي لبيت المال عشرين ألف دينار ، وحكم بذلك ، ووصل حكمه بالقاضي الحنفي فنفذه ، وطولع السلطان بذلك فكتب باستخلاص ذلك من ابن حجي ، فقدر الله تعالى في غضون ذلك موت النائب وانفرج الهم عن القاضي ، وكتب توقيعه من القاهرة باستمراره وغرم في ذلك مالا كثيرا .
وفي هذه السنة ابتدئ بعمارى المدرسة الأشرفية بالحريرين بجوار الوارقين ، وأخذت الدور التي هناك وغالبها أوقاف ، فتحيل في إبطالها بوجوه من الحيل ، وتولى القيام في تعميرها ناظر الجيش عبد الباسط ، وفيه رفع إلى الدوادار الكبير سودون من عبد الرحمن أن القاضي جمال الدين الطنبذي المعروف بابن عرب حكم محاكمة غير مرضية ، فأمر القاضي الشافعي بأن يعزله ، واقام في بيته بعد أن أهينبحضرة الدوادار ، وعزل القاضي عقب ذلك من النواب اثني عشر نفسا ، ثم لم يفد ذلك حتى أمر أن لا يزيد على عشرة نواب فعزل الجميع ، وانتقى عشرى أكثرهم أقاربه واصهاره ، فكثر كلام المنفصلين فيه ، واتفق أن القاضي المالكي كانت عنده محاكمة فأرسل الدوادار طلبها وطلب نقيبه الجلال القزويني فامتنع ، فأغلظ الدوادار القول ، فعزل القاضي نفسه ، ثم أعيد بشرط أن يعزل نقيبه المذكور فصرفه ، وأمر أن يقتصر من نوابه على ستة أنفس ، وأن يقتصر الحنفي على ثمانية ، وأن يقتصر الحنبلي على أربعة ؛ فأطاعوا كلهم إلا الحنبلي فلم يصرح بعزل أحد من نوابه وكانوا ثمانية .
وفيه حضر مملوك أيتمش الخضري وزعم أن بالمحلة كنزا فيه مائة ألف إردب دنانير ، فسلمه السلطان للأستادار ، فكشف عن الأمر فلم يوجد لما قاله صحة ، وشهد فيه بأنه خفيف العقل .
وفيها رام نائب الشام من متروك شيخ العرب بالشام أن يحضر إلى طاعته فامتنع ، وبذل له مالا فأبى ، وقصده بالمحاربة ففر ، فأعجزه تحصيله ، وفسد الدرب بسبب ذلك وكانت الطرق آمنة .
وفي سادس شعبان مات تاني نائب الشام ، واستقر عوضه تاني بك البجارسي نقلا من نيابة حلب إلى نيابة الشام .
وفي رمضان أمر السلطان بإحضار العلماء لسماع صحيح البخاري بالقلعة ، فهرعوا لذلك وكثر الجمع جدا ، وممن حضر الشيخ شمس الدينابن الديري شيخ المؤيدية الذي كان قاضيا قبل ووقع بيه وبين ابن المغلي قاضي الحنابلة مباحث أدت إلى مسافهة ، فلما كثر اللغط أفرد الطلبة بمجلس بالقصر الأسفل والقارئ لهم الشيخ سراج الدين قارئ الهداية ، وعين السلطان من النبهاء عددا يسيرا يحضرون بالقصر الأعلى ويحضرهم السلطان فاستمر على ذلك سنين ثم كثر لغط الذين يحضرون وزجروا مرارا فلم ينزجروا ، فأمرهم السلطان بالقراءة في داخل القصر الأسفل ، وصار هو يحضر في شباك منفردا يشرف عليهم ، وكان ابتداء ذلك في سنة أربع وثلاثين بعد أن كان يقعد بينهم ساكنا لا يتحرك له يد ولا رجل ويقرر الشيخ شهاب الدين الكلوتاتي الحنفي يقرا بين يدي الشيخ سراج الدين قارئ الهداية كل يوم في القصر البراني الكبير .
وفي شعبان واطا جاني بك الصوفي السجان بمحبس الإسكندرية فهرب معه ، ولما وصل الخبر بذلك اضطرب العسكر وانزعج الناس من ذلك ونذب طائفة للتفتيش عليه ، ودام ذلك مدة وهدمت بسببه دور وضربت جماعة ولم يظهر له أثر إلى حين تسطيرها في شعبان سنة ست وثلاثين ، فسافرنا مع السلطان إلى الشام ولم يظهر له خبر محقق ؛ وذكر لي من أثق به أنه حي موجود بالقاهرة .
وفيه كثرت الأخبار بأن الفرنج تحركوا على بلاد المسلمين ،فجهزت عدة أجناد إلى السواحل ، فندب عدة إلى دمياط ، وعدة إلى الإسكندرية وغيرهما .
وفي ثالث عشري رمضان نفي طيبغا مملوك ناظر الخاص ابن نصر الله ، وكان شابا جميلا رباه وهو صغير ، فلما ترعرع انتزعه منه المؤيد فصيره من الخاصكية ، ثم عاد بعد موت المؤيد إلى أستاذه ، فاتفق أن ناقة من الهجن الخاص نفرت من إصطبل السلطان فصارت لطيبغا فيقال إن حسنا الهجان واطأه على أخذها فطلبت منه فجحدها ، فأمر السلطان بحبس حسن وعزله بسببها من وظيفته ، ثم جعل شريكا للذي انتزعها منه بعد عشر سنين .
وفيه سار إسكندر بن قرا يوسف فنزل ماردين وحاصرها حتى تسلمها وانهزم منه قرا يلك ثم نازل آمد ، ففر قرا يلك إلى شاه رخ وكان قد سار من بلاده إلى تبريز فحاصرها حتى ملكها ، فلما بلغ ذلك إسكندر وإخوته أولاد قرا يوسف ، توجهوا إلى جهة تبريز فالتقى بهم شاه رخ فكانت الهزيمة على ابن قرا يوسف فخرب شاه رخ تبريز ونقل أموالها ورجع إلى بلاده ، وانهزم اسكندر إلى الجزيرة ورجع قرا يلكإلى آمده ثم رجع اسكندر إلى تبريز ، وكان في ماردين أمير من قبل اسكندر اسمه ناصور ، أمر عليها تسع سنين إلى سنة خمس وثلاثين وثمانمائة .
وفي شوال حج شرف الدين ابن تاج الدين ابن نصر الله وبيده يومئذ نظر الكسوة ونظر الأشراف ، فلما سار الحجيج يومين أخرج عنه نظر الأشراف ، واستقر فيه نقيب الأشراف حسين بن علي الأموي بواسطة الأمير جاني بك ، وخرج عنه نظر الكسوة لصدر الدين ابن العجمي .
وفي أواخر شوال صرف زين الدين قاسم بن البلقيني من نظر الجوالي ، وأعيدت لصدر الدين أيضا .
وفي التاسع والعشرين من رمضان نودي على الفلوس الخالصة بتسعة الرطل ، وكانت الفلوس قد قلت جدا فظهرت .
وفي هذه السنة وجد قتيل بقرية ، فأمسك الوالي أهل تلك البلاد ولا يدري هل القاتل منهم أم لا ، فأمر السلطان بقطع أيدي بعضهم وآناف بعضهم وتوسيط بعضهم ، فاستوهبهم أحمد دواداره المعروفبالأسود ليقررهم فلاحين له في بلاد خراب أراد أن يعمرها ، فوهبهم له .
وفي يوم السبت سادس عشري شوال نزل السلطان من القلعة بعد الظهر في أناس قلائل إلى أن دخل من باب زويلة فوصل إلى المدرسة التي أنشئت له فرآها ورجع مسرعا ، وتلاحق به بعض الأمراء إلى أن صعد القلعة ؛ ولم يتفق له مثل ذلك قبل هذه المدة .
وفي شوال قرر عبد القادر بن عبد الغني بن أبي الفرج الذي كان أبوه أستادارا كبيرا في كشف الجسور والشرقية ، وفي شوال أيضا صرف أرغون شاه من الوزارة ، وقرر فيها كريم الدين ابن كاتب المناخات الذي كان أبوه فيها وانفصل ، وصرف أيضا من الأستادارية ، واستقر فيها ناصر الدين ابن آبو قبالي الدمشقي وكان استدارا نائبالشام ، وصودر أرغون شاه على مال ، ثم أفرج عنه واستقر استادارا على المتعلقات السلطانية بالشام على عادته .
وفي رمضان جاء الخبر من صاحب قبرس أن البحر مشغول بمراكب الفرنج فأمر لعدة من الأمراء والمماليك بالإقامة للرباط بالسواحل وهي : رشيد ودمياط وتستراوة .
وفيه قرئ البخاري بحضرة السلطان في القصر الأعلى ، وكانت العادة أن يقرأ في القصر الأسفل .
وفي أوائل ذي القعدة توجه ناظر الجيش وجماعة إلى الحج ، فأدرك الحجاج قبل ينبع ، وزار المدينة في ذهابه ورجع مسرعا ، فدخل القاهرة في يوم عاشوراء .
وفي ثالث عشر ذي العقدة الموافق لثاني عشري بابه أمطرت السماء مطرا غزيرا برعد وبرق وكثرت الأوحال ، وفيه أمر السلطان بتحجير السكر وأن لا يتعاطى أحد بيعه إلا من حاصله ، وأن لا يشتري إلا لخاصكي ، وكتب على من كان يتعانى ذلك قسامات ، فضاق عليهم الأمر ، وقام في ذلك نور الدين الطنبذي أحد أكابر التجار وحسن للسلطان وأحضر شخصا من جهته ، فأقامه في تعاطي بيع ذلك وشرائه ، والتزم أنه يحصل من ذلك جملة دنانير ربحا ، فدام الأمر إلى أن حضر ناظر الجيش فأفسد ما كان الطنبذي فعله وأبطل التحجير بعد أن كان الضرر قد حصل لأكثر الناس .وفي سابع عشر ذي الحجة زلزلت الأرض بعد مضي ساعتين أو نحوهما من الليل وكانت خفيفة .
وفيها بعد موت ابن الكويز ادعى تاج الدين ابن الهيصم الذي كان عمل الأستادارية في زمن الناصر والوزارة في زمن المؤيد أن ابن الكويز انتزع منه دارا كانت ملكه بالبركة وهدمها وبنى بها دارا جديدة ورام انتزاعها من ورائه ، فتعصب له جماعة عند السلطان ، فطلب ابن الهيصم وأهانه ، وانتزع منه المستندات التي تشهد له بملك الدار المذكورة ووقفها ، وهذه الدار صارت بعد ذلك ملكا لابن مزهر ، ثم بيعت بعده إلى أن صارت لابن كاتب المناخات ثم لزوجته فوقفتها ، وقد تقدم استقرار تاني بك في نيابة دمشق نقلا من حلب وذلك بعد موت تاني بك ميق بدمشق ، ولما كان في السنة المقبلة أظهر العصيان فكان ما سنذكره
وفيات سنة 826
ذكر من مات في سنة ست وعشرين وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم بن مبارك شاه الإسعردي الخواجا التاجر المشهور صاحب المدرسة بالجسر الأبيض ، كان كثير المال واسع العطاء كثير البذل بخلاف قريبه الخواجا شمس الدين بن المزلق ؛ فمات هذا في رجب مطعونا ولم يكمل الستين ، وعاش ابن المزلق . . . بعده دهرا طويلا .أحمد بن رسلان السفطي أحد من جد ومهر إلى أن صار يستحضر الكثير من الفروع الفقهية ويباحث ويستشكل ويفهم قليلا وهو من كبار الطلبة بالخانقاه الشيخونية ؛ مات في ربيع الأول وقد أكمل الستين .
أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن ، العراقي الإمام الحافظ شيخ الإسلام أبو زرعة ، ابن شيخنا وأستاذنا حافظ العصر شيخ الإسلام زين الدين ، ولد في ذي الحجة سنة 762 ، وبكر به أبوه فأحضره عند المسند أبي الحرم القلانسي في الأولى وفي الثانية ، واستجاز له من أبي الحسن الفرضي ، ثم رحل به الشام في سنة خمس وستين وقد طعن في الثالثة ، فأحضره عند جمع كثير من أصحاب الفخر ابن البخاريوأنظارهم ، ثم رجع فطلب بنفسه وقد أكمل أربع عشرة سنة ، فطاف على الشيوخ ، وقرأ بنفسه ، وكتب الطباق وفهم الفن ، واشتغل في الفقه والعربية والمعاني والبيان ، وأحضره مجلس الشيخ جمال الدين الأسنوي ومجلش الشيخ شهاب الدين ابن النقيب وغيرهما ، وأسمع على أبي البقاء وقبله القاضي عز الدين ابن جماعة ، وأقبل على التصنيف فصنف أشياء لطيفة في فنون الحديث ، ثم ناب في الحكم وأقبل على الفقه فصنف النكت على المختصرات الثلاثة ، جمع فيها بين التوشيح للقاضي تاج الدين السبكي وبين تصحيح الحاوي لشيخنا ابن الملقن ، وزاد عليهما فوائد من حاشية الروضة للبلقيني ومن المهمات للأسنوي ، وتلقى الطلبة هذا الكتاب بالقبول ونسخوه وقرأوه عليه ، واختصر أيضا المهمات وأضاف إليها حواشي البلقيني على الروضة ، وكان لما مات أبوه تقرر في وظائفه ، فدرس بالجامع الطولوني وغيره ، ثم استقر شيخا بالجمالية بعد موت همام الدين ، ثم ولى القضاء الأكبر كما تقدم ، وصرف عنه فحصل له سوء مزاج من كونه صرف ببعض تلامذته بل ببعض من لا يفهم عنه كما ينبغي ، فكان يقول : لو عزلت بغير فلان ما صعب علي واستيعاب قضاياه يطول ، وكان من خير أهل عصره بشاشة وصلابة في الحكم وقياما في الحق وطلاقة وجه وحسن خلق وطيب عشرة ؛ مات في يوم الخميس السابع والعشرين من رمضان - رحمه الله تعالى أكمل ثلاثا وستين سنة وثمانية أشهر ، ودفن بجنب أبيه - رحمهما الله تعالى .أحمد بن عبد الله ، القزويني شهاب الدين نقيب الحكم ، وكان حنفيا يستحضر كثيرا من الأحكام المتعلقة بمذهبه ، وباشر ذلك عند ابن الطرابلسي وولده مدة ، ثم لما عزل أمين الدين بابن العديم اتصل هو بالجلال البلقيني فقرره نقيبا مضافا لغيره ، فاستمر هو ومات ابن مخلوف ، ثم مات السثيني وكان لا بأس به لولا مكر فيه ودهاء ، ولما ولى العراقي رام الاستقرار عنده فأبعده ، فلما ولي البلقيني الأصغر خدمه إلى أن مات بعد ضعف شديد مدة ، وكان مولده في سنة 761 ؛ ومات في شهر ربيع الأول .
أحمد بن عثمان بن يوسف ، الخرتباوي البعلي ، ولد سنة 771 ، واشتغل على ابن اليونانية والعماد بن يعقوب وسمع عليهما ، ثم ولي قضاء بعلبك ثم قدم دمشق ، وكان فاضلا في الفقه وغيره ، وعنده سكون واجماع وعفة ؛ مات في جمادى الأولى مطعونا .تاني بك الذي يقال له ميق ولي إمرة الحجوبية بالديار المصرية وولي أتابكا بها ثم ولي نيابة دمشق ، كان قد خاف من الطاعون فصار ينتقل يمينا وشمالا ، فلما ارتفع الطاعون عاد إلى دمشق فمات بغير الطاعون يوم الاثنين 8 شعبان - وقد تقدم ذكره في الحوادث .
خديجة بنت الملك الأشرف شعبان بن حسين زوج قاسم البشتكي ، وهي آخر أولاد الأشرف من النساء وفاة ، وكانت توصف بعقل ورئاسة .
خليل بن عبد الوهاب بن سليمان ، الأنصاري صلاح الدين ابن نجم الدين ابن السيرجي ، ولد سنة 747 ، وتفقه قليلا وباشر كثيرا من أوقاف المدارس كالشامية الجوانية ، وكان قوي النفس كثيرالحشمة والكرم ، وكان أعيان الفقهاء يترددون إليه ، وهو الذي عمر الشاميتين بعد حريقهما في فتنة اللنك ، ثم ضعف جانبه وقوي عليه الحكام ، وصارت إقامته بالمجدل وقف الشامية ، وآل أمره إلى فقر شديد ؛ ومات في شهر رمضان ، وهذا آخر من بقي من آل بيتهم .
داود بن عبد الرحمن بن داود ، الشوبكي الأصل المعروف بابن الكويز علم الدين أبو عبد الرحمن . مات في صبيحة يوم الاثنين سلخ رمضان بمنزله ببركة الرطلي بعد أن طال مرضه كما تقدم سببه في الحوادث . وكنت عدته في نصف رمضان فوجدته صحيح العقل والبدن لا يشكو ألما ولكنه غلب عليه الوهم بحيث أنه في أثناء كلامه كان يجزم بأنه ميت من تلك الضعفة ، وكانت أمور المملكة في طول مدة مرضه لا تصدر إلا عن رأيه وتدبيره ، وكان يجتمع بالسلطان خلوة ويذكر أنه إذا ركب يتأذى بالركوب كذلك إن دخل الحمام أو الجامع كان أبوه من أهل الشوبك ثم سكن الكرك وهو نصراني يتعانى الديونة واسمه جرجس ، فلما كان سنة سبع وستين ضيق يلبغا على جميع النصارى الملكية خصوصا الشوابكة واتهموا بأنهم مالؤا الإفرنج على الإسكندرية ، فأسلم هو وكثير منهم وتسمى عبد الرحمن ، وخدم نائب الكرك وتقرب منهحتى قرره في كتابه السر ، ثم تحول إلى حلب فخدم كمشبغا الكبير وقدم معه القاهرة صاحب ديوانه ، ورأيته شيخا طوالا كبير اللحية ، ونشأ ابنه علم الدين هذا ترفا صلفا مسعود الحركات ، فصاهر ابن أبي الفرج ، وكان أخوه خليل أسن منه ، ثم اتصلا بشيخ نائب الشام قبل سلطنته فخدماه وهو ينوب في طرابلس ثم في دمشق ثم في حلب ، ثم قدما معه القاهرة فعظم شأنهما وكبر قدرهما ، وباشر علم الدين نظر الجيش بطرابلس ثم بدمشق ، وامتحن هو وأخوه في وقعة صرخد وصودرا ، ثم لما تسلطن المؤيد تقرر في نظر الجيش ، ثم اختص بالظاهر ططر وتقرر عنده كاتب السر في أيامه ، وصولح ولده بعد موته على أربعين ألف دينار ، وكان يتدين ويلازم الصلاة ويصوم تطوعا ويتعفف عن الفواحش ويلازم مجالسة أهل الخير مع طول الصمت ، فكان يستر عواره بذلك إلا أنه لما ولى كتابة السر افتضح للكنة فيه وعدم فصاحة وضبطت عليه ألفاظ عامية ، ومع ذلك فكان وقاره وحسن تدبيره وجودة رأيه تستر عواره ، واستقر بعده في كتابة السر قريبه جمال الدين يوسف وكان قد قدمه في عهد المؤيد وقرره في نظر الجيش بطرابلس ، فاتفق أن الأشرف لما ولى نائبها في أيام المؤيد تقرب إليه وخدمه فصارت له به معرفة فلما مات علم الدين قرره في وظيفته ، فباشرها قليلا بسكون وعدم شره وتلطف بمن يقصده وحلاوة لسان ثم صرف بعد قليل ، كما سيأتي ذكره في التي بعدها . ومنفعلاته المستحسنة - أي صاحب الترجمة - أنه لما كان بشقحب صحبة الظاهر راجعا إلى مصر إستأذنه في زيارة القدس فتوجه من طريق نابلس ، فشكا إليه أهل القدس والخليل ما أضر بهم من أمر الجباية وكانت لنائب القدس ، وتحصل منها لفلاحي القرى إجحاف شديد ويتحصل للنائب ألوف دنانير ، ولمن يتولى إستخراج ذلك ضعفه ، فلما رجع إستأذن السلطان في إبطال هذه المظلمة ، فأذن له وكتب بها مناشير ، فقرئت بالقدس والخليل ، وكثر الدعاء له بسبب ذلك ، مات في يوم الإثنين سلخ شوال ولم يبلغ الخمسين .
زينب بنت الملك الظاهر برقوق ، كانت من الجمال بمكان ثم تزوجت بعد أبيها . . . ثم تزوجها . . . ثم تزوجها الملك المؤيد ومات عنها ، فكانت بنت سلطان وأخت سلطان وزوج سلطان ، وتزوجت بعد المؤيد قجق العيساوي ، وماتت في عصمته في ليلة السبت 28 ربيع الأول ، وهي آخر أولاد الظاهر لصلبه وفاة ، وكانت أرأس إخوتها ، وأمها أم ولد رومية .سالم بن سالم بن أحمد بن سالم بن عبد الملك بن عبد الباقي بن عبد المؤمن بن عبد الملك ، المجد المقدسي الحنبلي ، يجتمع مع القاضي موفق الدين عبد الله بن عبد الملك في عبد الملك ، اشتغل في بلاده ثم قدم القاهرة سنة 64 ، وأقام بها إلى أن ولى قضاء الحنابلة بعد موت الموفق أحمد ابن نصر الله في سنة ثلاث وثلاثمائة ، ولم يزل مستقرا فيه إلى أن صرف بعلاء الدين ابن مغلى في أوائل سنة ثماني عشرة ، فاستمر خاملا إلى أن مات وليس بيده سوى تدريس الجمالية ومدرسة حسن ، وضعف مدة متطاولة وخلف عدة أولاد صغار أسنهم مراهق ، وكان مولده سنة ثمان وأربعين ، وتفقه واشتغل حتى مهر ونبغ في المذهب وشارك في الفنون ، وكان يستحضر المحرر في الفقه ، وناب في الحكم ، وعاش سبعا وسبعين سنة ، وكان الناصر فرج يثق به ، وأرسله مرة إلى الصعيد للحوطة على تركة ابن عمر ثم صار يأتمنه على ما يصنع يده عليه من الأموال ، وكان يبالغ في النصيحة له في ذلك ، فمقته الناس لإعانته على الظلم ، ولعله كان معذورا فالله يسمح له .
سودون الفقيه كان كبير الشراكسة تلمذ للشيخ لاجين الجركسيوكان أعجوبة في دعوى العلم والمعرفة مع عدمهما ، وكان الكثير منهم يعتقد أنه لابد أن يلي السلطنة ، كما كانوا يزعمون ذلك في شيخه ، واتفق أن زوج إبنته وهو الظاهر ططر ولى السلطنة فارتكبت من يتعصب له في الشطط وقال : ظهر المراد في ططر ، فلم ينشب ططر أن مات ، ولم يحظ سودون في ولايته بطائل فضلا عما بعدما ، وكان يكثر سؤال من يجالسه عن الشئ المعضل ، فإذا أجابه عنه نفر منه قائلا : ليس الأمر كذلك ، ثم يعيد الجواب بعينه مظهرا أنه غيره ، وله من ذلك عجائب ، مات في 12 صفر .
عبد الله بن محمد القرافي جمال الدين ، مهر في العربية ، وأخذ عن الشيخ أبي الحسن الأندلسي ، وعمل مقدمة لطيفة يتوصل بها إلى معرفة الإعراب بأسهل طريق ، وانتفع به جماعة ، مات في ربيع الأول .
عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل ، القلقشندي ثم القدسي زين الدين إبن الشيخ شمس الدين سبط الشيخ صلاح الدين العلائي ، اشتغل على أبيهوغيره ، وأحب الحديث وطلبه ، وكتب الطباق بخطه ، وصنف ونظم ، وكان فاضلا نبيها ، سمع معي في الرحلة إلى دمشق كثيرا بها وبنابلس والقدس وغيرهما ، وصار مفيد بلده في عصره ، وقدم القاهرة في هذه السنة فأسمع ولده بها من جماعة ، وكان حسن العقل والخط حاذقا ، رجع إلى بلده فمات بها وأسفنا عليه - رحمة الله تعالى .
عبد الرحمن بن محمد بن صالح ، المدني قاضي طيبة زين الدين ، ولد سنة . . . . . . وسمع من . . . وحدث قليلا وكان مزجى البضاعة ، أقام في قضاء المدينة وخطابتها نحوا من ثلاثين سنة إلا أنه عزل في أثناء ذلك وأعيد مرارا ، مات ليلة السبت في صفر ، واستقر في وظيفته ولده أبو الفتح محمد .عبد العزيز بن علي بن أحمد ، النويري ثم المكي العقيلي عز الدين ، تفقه على مذهب الشافعي وحفظ الفقه ، ومهر ، وقرأ سنن أبي داود على الشيخ سراج الدين البلقيني سنة اثنتين وثمانمائة ، وكان أبوه مالكي المذهب فخالفه ، وأقام بالقاهرة مدة وأخذ عن شيوخها ، وأذن له الشيخ برهان الدين الأبناسي وبدر الدين الطنبذى ، ثم دخل اليمن وولى القضاء بتعز ثم رجع إلى مكة فمات في هذه السنة بها في 21 ذي الحجة ، وما أظنه جاوز الخمسين ثم رأيت مولده سنة ثمان وسبعين وسبعمائة .
عبد القادر ويدعى محمد ابن قاضي الحنابلة علاء الدين علي بن محمود ابن المغلي ، السلماني ثم الحموي الحنبلي ، مات وقد راهق ، وقد نبغ وحفظ المحرر وغيره ونشأ على طريقة حسنة ، وأسف أبوه عليه جدا ولم يكن له ولد غيره ، فمات في نصف ذي القعدة .
عبد الوهاب . . . بن تاج الدين ابن الرملي ناظر الدولة ، ولد سنة أربعين أو قبلها بسنة ، وتنقل في الخدم إلى أن ولي نظر الدولة بالقاهرة فاستمر على ذلك مدة ، ثم شاركه صهره سعد الدين البشيري مدة طويلة ، ثم استقل البشيري بالوزارة ، واستمر هو إلى أن مات ، وقد أحضرهالمؤيد ليحاسب الهروي على ما احتاجه من أموال القدس والخليل ، فسأله عن مولده فقال : لي الآن اثنان أو ثلاث وثمانون سنة ، وكان ذلك في سنة 22 وكان قد أسن وارتعش ، ومات مفصولا قبل موته بدون السنة ، وكان يحب أهل الخير ويكثر الصدقة ويتبرأ من تناول المكس والأكل من ثمن ما يكون منه وكان يقول : أنا أستدين جميع ما آكله وألبسه حتى لا أتعاطى الحرام بعينه والله أعلم بغيبه .
علي بن رمح بن سنان بن قنا نور الدين ، تفقه ، وسمع من عز الدين ابن جماعة وابن القارئ وغيرهما ولكنه لم ينجب وصار بآخرة يتكسب في حوانيت الشهود إلى أن مات ، وهو أحد الصوفية بالخانقاه البيبرسية ، جاز الثمانين .
علي بن محمد بن محمد بن سالم بن موسى بن سالم بن أبي المكارم بن إسماعيل بن عبد السلام إمام الدين بن العميد . والعميد لقب عبد السلام المذكور ، وكان العميد قاضي دمياط ، وولي عدة من آباء إمام الدين القضاء ، ثم ولي هو قضاء دمياط مدة ثم ولي قضاء المحلة ، وكان عارفا بالشروط قليل العلم ، وجلس مع الموقعين مدة وناب في الحكم بالقاهرة ،وكان بشوشا جميل المعاشرة خبيرا بأمور الدنيا ، مات في مستهل شعبان وله خمس وسبعون سنة .
عمر بن عبد الله بن عامر بن أبي بكر بن عبد الله سراج الدين الأسواني نزيل القاهرة ، تعاني الآداب وسلك طريق المتقدمين في النظم ، وكان عريض الدعوى كثير الازدراء لمن ينظم الشعر من أهل عصره ، لا يعد أحدا منهم شيئا ويقول : شعرهم بعر مقزدر ، هو يقول : من يجعل لي خطرا على أي قصيدة شاء من شعر المتنبي حتى أنظم أجود منها وكان قد دخل الشام وأخذ عن أدبائها ثم قدم القاهرة فاستوطنها من سنة تسعين ، ولم يكن نظمه بقدر دعواه إلا أن ابن خلدون كان يطربه ويشهد له بأنه أشعر أهل العصر بعد ابن خطيب داريا ، وكان للأسواني مشاركة في لغة وقليل من العربية ، وما علمته ولي شيئا من الوظائف ، وقد حضر عندي في إملاء شرح البخاري ، وأملي على الطلبة من نظمه أبياتا في معرفة أسواق العرب في الجاهلية وهي رجز ، وسمعت من لفظه قصيدة مدح بها المؤيد لما تسلطن بعناية الأدمي فغض منه البارزي ، وكان يجتدي بشعره ويقلد المانة من يسمعه منه ، ومن عنوان نظمه قوله :
إن ذا الدهر قد رماني بقوم
هم على بلوتي أشد حثيثا
إن أفه بيهم بشيء أجدهم
لا يكادون يفقهون حديثا
واتفق بأخرة أنه مدح أبا فارس صاحب تونس فأرسل إليه بصلة ، قيلإنها مائة دينار فقبضها وهو موعوك ، فنزل المارستان فطال ضعفه ثم عوفي ، فذكر بعض أصحابه أنه كان دفنها وغيرها في مكان ، فلما رجع ووجدها جعلها في مكان آخر وانتكس فضعف أياما يسيرة ، مات بالمارستان ولم توجد الذهبية المذكورة ولا غيرها ، مات في ربيع الأول وقد جاوز الستين .
عمر بن محمد ، الصفدي - بنون مفتوحة ثم ياء تحتانية ساكنة ثم نون - زين الدين ، اشتغل قديما ومهر حتى صار يكاد يستحضر الكفاية لابن الرفعة ، وأخذ عن علاء الدين حجي بدمشق وأنظاره ، وسمع من ابن قواليح ، وناب في الحكم في بلاد عديدة في معاملات حلب ، ثم قدم القاهرة قبل سنة عشرين ونزل بالمؤيدية في طلبة الشافعية ، ومات بها في جمادى الأولى وقد جاوز السبعين بل قارب الثمانين ، فإنه ذكر ما يدل على أن مولده في حدود الخمسين ، وكان كثير التقتير على نفسه ، ووجد له مبلغ فوضع بعض الناس يده عليه ولم يصل لوارثه منه منه شيء - عفا الله عنه .
فارس بن عبد الله ، الخازندار الرومي الطواشي ، مات في النصفمن المحرم ، وكان قد تقدم في الدولة المؤيدية ، وجود الخط على الشيخ عبد الرحمن بن الصائغ ، وحفظ القرآن وتلاه على جماعة ، واستقر بعده خشقدم خازندارا .
قطلوبغا التنمي أحد أمراء الألوف ثم ناب بصفد ، مات في ليلة السبت سنة ست وعشرين ربيع الأول بدمشق بطالا - .
محمد بن الحسين بن عبد المؤمن . . . الكازوروني ثم المكي جمال الدين أبو أحمد المؤذن ، وله سنة بضع وأربعين ، وأحضر على تاج الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن أبي سعد الشهاب الهكاري والعز بن جماعة والنور الهمداني ، وولي رئاسة المؤذنين بالحرم الشريف بعد البهاء عبد الله بن علي الكازوروني ؛ ومات في ربيع الأول .محمد بن خالد شرف الدين الشنشي - بفتح الشينين المعجمتين بينهما نون مفتوحة - كان موقع الحكم للشافعية ، وكان ماهرا في صناعته ، قوى الهمة شديد الجلد متثبتا ، لم يزل يحضر الدروس طالبا الوظائف المتعلقة به مع كبر السن إلى أن انقطع قدر شهر ومات في ثامن ربيع الآخر وقد جاوز الثمانين ؛ ولو كان تصدى لسماع الحديث لأدرك إسنادا عاليا .
محمد بن عبد الله بن عمر بن يوسف ، المقدسي الصالحي الحنبلي المعروف بابن المكي شمس الدين . ولد سنة إحدى وخمسين وسبعمائة ، وتفقه قليلا وتعانى الشهادة ، ولازم مجلس القاضي شمس الدين ابن التقي ، وولي رئاسة المؤذنين بالجامع الأموي وكان من خيار العدول عارفا جهوري الصوت حسن الشكل ، طلق الوجه منور اشيبة ؛ مات في جمادى الأول بعد أن أصيب بعدة أولاد كانوا أعيان عدول البلد مع النجابة والوسامة فماتوا بالطاعون .
محمد بن علي بن أحمد ، الغزي الحلبي المعروف بابن الركاب شمس الدين ، ولد سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة بغزة ، وتعاني الاشتغال بالقراآت فمهر ، وقطن بحلب ، واشتغل في الفقه بدمشق مدة ، ثم أقبل على التلاوة والإقراءفانتفع به أهل حلب ، وكان قد أقرأ غالب أكابرهم ، وأقرأ الفقراء بغير أجرة ، وممن قرأ عليه قاضي حلب علاء الدين ابن خطيب الناصرية ، وكان قائما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومواظبة الإقراء مع الهرم ؛ مات في تاسع عشر شهر ربيع الأول .
محمد بك بن علي بك قرمان ، ناصر الدين تملك البلاد القرمانية مات في صفر من حجر أصابه في جبهته في حربه مع قرايلك .
محمد بن الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الدائم البرماوي ، مات ولم يبلغ العشرين ، وكان قد مهر وحفظ عدة كتب ، وتوجه مع أبيه إلى الشام فمات بالطاعون ، فأسف عليه أبوه ولم يقم بالشام بعدها بل قدم القاهرة ، وأحسن الله عزاه .
محمد المعروف بابن النحاس المقرئ في الجوق ، شمس الدين ، كان صاهر الشيخ شمس الدين الزرزاي ، وقرأ على طريقته لكن لم يكن يدانيه بل كان في رفقته من يقرأ أطيب صوتا منه لكن تقدم عليهم بالسكون وكثرة المال ؛ مات في ربيع الأول .
محمد القادري الصالحي الشيخ ، كان منقطعا بزاوية بصالحية دمشق ، وله أتباع ولهم أذكار وأوراد وينكرون المنكر ، وشيخهم قليل الاجتماع بالناس ، وكان بين المنقبض والمنبسط ؛ مات في رجب بالطاعون .محمد القباقبي الشيخ شمس الدين الحنبلي الصالحي ، كان من قدماء الحنابلة ومشايخهم ، وكان يتبذل ويتكلم بكلام العامة ويفتي بمسألة الطلاق وقد أنكرت عليه غير مرة ، ولم يكن ماهرا في الفقه ؛ مات في ذي القعدة وقد قارب الثمانين .
حوادث سنة 827
سنة سبع وعشرين وثمانمائة
في الثامن من المحرم قدم ناظر الجيش عبد الباسط وشيخ علي الكيلاني وفخر الدين النوروزي والأمير قجق والأمير أركماس الظاهري ، وكانوا حجوا فسبقوا ودخلوا في هذا اليوم ، وصحبة ناظر الجيش مقبل أمير الينبع فأنزل دار الضيافة ووصل الركب في العشرين من المحرم الأول فسبق العادة بثلاثة أيام ، وفي المحرم حضر مقبل نائب صفد فخلع عليه باستمراره .
وفيه وقع مطر عظيم في أواخر المحرم ، دام خمسة أيام متوالية ، ولم يعهد مثله منذ دهر بمصر .
وفيه استقر سودون من عبد الرحمن في نيابة دمشق عوضا عن تاني بك البجاسي الذي استقر بها في العام الماضي ، وكان استكثر منشراء المماليك وعزم على الخروج فبلغ ذلك السلطان ، فعزله واستناب سودون وأمره بالقبض على تاني بك ، فخرج سودون في السادس والعشرين من المحرم ، فوصل الخبر بأن تاني بك نائب الشام أظهر العصيان ، فوقع بينه وبين الأمراء بالشام وقعة فكسرهم تاني بك ، فاستمروا في هزيمتهم إلى أن تلاقوا مع سودون في جسر يعقوب فمالوا وتبعهم تاني بك فحال بينهم الجسر ، فأراد تاني بك أن يكبس على سودون فحذر منه وتوجه إلى دمشق وأمر شاهين نائب القدس أن يستعد لتاني بك بالحرب ، وجد سودون في الوصول إلى دمشق حتى دخلها ، فبلغ ذلك تاني بك فرجع خلفهم حتى وقع الحرب بدمشق ، فكبا فرس تاني بك داخل باب الجابية فأمسك في الحال وحبس ، ووصل الخبر بذلك صحبة على هجين في ستة أيام ، فدقت البشائر ، وسكنت الفتنة ، ثم أحضرت رأس تاني بك إلى القاهرة فعلقت بباب زويلة ، وكان السلطان عزم على إرسال عسكر مدد السودون فبطل ذلك .
وفي السادس والعشرين من المحرم استقر على بن عنان بن مغامس الحسني في إمرة مكة عوضا عن حسن بن عجلان ، وجهز السلطان معه عسكرا لمحاربة حسن ، وكتب إلى قرقماس الذي حج في هذه السنة ويوم تأخر بالينبع أن يعين عل بن عنان ، فإذا غلب علي يستقر في الإمرة ويرجع قرقماس إلى القاهرة ، فخرجوا في أول ربيع الأول .
وفي يوم السبت الثاني والعشرين من المحرم استقر كاتبه في قضاء الشافعية بالقاهرة وما معها .وفي يوم الثلاثاء أول صفر شرعت في الإملاء بالخانقاه البيبرسية أستملي على الشيخ زين الدين رضوان بن محمد العقبي .
وفي عاشر صفر قدم شمس الدين الهروي من القدس ، فسلم على السلطان في الثاني عشر منة ، وسكن مدرسة ابن الغنام بجوار بدر الدين العيني المحتسب .
وفي الرابع والعشرين من صفر قرر الشيخ سراج الدين قارئ الهداية في مشيخة الشيخونية بعد موت الشيخ شرف الدين التباني بعد وفاته ، وقدمت له فرس من خيل السسلطان فركبها وتوجه بخلعته ، ومعه أزبك رأس نوبة وهو يومئذ ناظر الشيخونية ، ومشى معه جمع كثير من الطلبة ، فصلى بالمدرسة ركعتين وتوجه إلى منزله بين القصرين .
وفي ربيع الأول مالت المئذنة بالجامع الأزهر التي عمرت في سلطنة المؤيد سنة تسع عشرة ، فأمر السلطان الأشرف بهدمها ، فهدمت وأعيدت من أصح ما يكون .
وفي ثامن عشري شهر ربيع الأول استقر أزبك الأشقر دوايدارا كبيرا نقلا من رأس نوبة ، واستقر تغرى بردى المحمودي رأس نوبة نقلا من الحجوبية ، وخلع عليهما بذلك .
وفيه أنهى الشيخ شمس الدين البرماوي إلى السلطان أن شرط المؤيد أن لا يكون المدرس بها قاضيا وأعانه قوم آخرون ، فانتزع تدريسالشافعية بالمؤيدية من كاتبه ، فسعى كاتبه إلى أن أظهر كتاب الوقف وقد سكت عن الشرط المذكور فأعيد ذلك لكاتبه . وعوض البرماوي بأن ينوب عن علي حفيد العراق في جهاته بثلث المعلوم ، فباشر ذلك .
وفي صفر ختن السلطان ولده محمدا وعمل له فرحا كبيرا ، فيقال إن الأعياد لقطوا في طشته بالذهب الكثير ، فأمر به فجمع وأعطى المزين منه مائة ورفع الباقي للخزانة .
وفي التاسع من شهر ربيع الآخر استقر شمس الدين الهروي في كتابه السر بعد سعي شديد ووعد ببذل مال كثير ، وانفصل جمال الدين الكركي والناس له شاكرون لحسن سيرته ولين جانبه ، وكان يتشكى من رفقته ويستعفى إلى أن سعى الهروي فعزل ، وأما الهروي فلبس تشريفا كله حرير أبيض وطرحه حرير وحجرة بسرج ذهب وكنبوش زركش . وهرع الناس للسلام عليه ، وكان الهروي لما قدم سلم الناس عليه إلا الحنبلي واستمر على ذلك ، وكان حضر المولد السلطاني قبل ولاية كتابة السر فامتنع الحنيلي من الحضور بحضرته وتمادى على عدم السلام عليه ، ثم أصلح السلطان بي الهروي وابن الديري وكان يطلق لسانه في الهروي فاصطلحا ، فلما ولى الهروي ساءه ذلك وتكلم في الخلوة فبالغ .
وفيه أمسك رجل من الصوفية بالمؤيدية وجدت عنده آلات الزغل ،فأمر السلطان بقطع يده ، فشفع فيه فأخرج وضرب ضربا مبرحا وسجن ثم أطلق مع المسجونين في أواخر شعبان .
وفي أوائل هذه السنة وقع بمكة وباء عظيم بحيث مات في كل يوم أربعون نفسا ، وحصر من مات في ربيع الأول ألفا وسبعمائة ، ويقال إن إمام المقام لم يصل معه في تلك الأيام إلا إثنين وبقية الأئمة بطلوا لعدم من يصلي معهم .
وفي سابع جمادى الأولى أقيمت الجمعة بالمدرسة الأشرفية الجديدة برأس الحريريين ، واستقر ناصر الدين الحموي الواعظ خطيبها .
وفي رابع عشر جمادى الأولى قدم القاضي نجم الدين ابن حجى من الشام إلى القاهرة ، فاستقر في كتابة السر في العشرين من جمادى الآخرة ، وركب معه جميع الأمراء الأماثل ولاقاه القضاة إلى قرب القلعة وصرف الهروي وصادف قول القائل :
صرف الكمال البارزي ويوسف
وأخو هراة لمثلها يتوقع
وفي شهر ربيع الآخر كان قدوم الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن محمد الجزري المقرئ إلى دمشق طالبا للحج من شيراز ، وكان قد قدم المدينة ثم مكة ورجع إلى شيراز ، ثم قدم هذه السنة وقد تمتله ثلاثون سنة منذ فر إلى بلاد الروم ثم إلى بلاد العجم ، وولى قضاء فارس وغيرها ، وانتفع الناس به في القراآت والحديث .
وفي جمادى الأولى وصل قرقماس وعلي بن عنان إلى مكة فدخلاها بغير قتال ، ونزح حسن بن عجلان عن مكة ، ووصلت عند دخول علي بن عنان إلى جدة مركبان من الهند فتوجه إلى جدة لتعشيرها وفرح بذلك ، لأنه يستعين بذلك على حاله .
وفي جمادى الآخرة عقد مجلس بسبب أخذ الزكاة من التجار وكان ابن حجى أو الهروي حسن للسلطان ذلك ، فأمر بحضور القضاة بالصالحية وأن يحضر معهم الهروي وابن حجى ، فانفصل الأمر على أن كاتبه قال لهم : أما التجار فإنهم يؤدون إلى السلطنة من المكوس أضعاف مقدار الزكاة وهم مأمونون على ما تحت أيديهم من الزكاة وأما زكاة المواشي فليس في الديار المصرية غالبا سائمة ، وأما زكاة النبات فغالب من يزرع من فلاحي السلطان أو الأمراء ، فقال القاضي الحنفي وهو زين الدين التفهني مرجع جميع الأموال في إخراج الزكاة إلى أربابها إلا زكاة التجارة فللإمام أن ينصب رجلا يقيم على الجادة يأخذ من المسلمين ربع العشر ، ومن أهل الذمة نصف العشر ، ولا يؤخذ من المسلم في السنة أكثر من مرة ، وقال المالكي والحنبلي نحو ما قال كاتبه ، وانفصل المجلس على ذلك وانفرجت عن التجار وغيرهم .
وفي جمادى الآخرة استقر الأمير ناصر الدين ابن العطار فينظر القدس والخليل ، وصرف حسن وصودر على مال ، ثم تعصب له بعض الأمراء فخفف عنه ، وفيه قدم الشريف شهاب الدين الذي كان كاتب السر بدمشق إلى القاهرة وخلع على شهاب الدين ابن الكشك بقضاء الحنفية وسافر .
وفي رابع عشر جمادى الآخرة ماتت زوجة السلطان أم ولده محمد فدفنها بالمدرسة الأشرفية التي شرع في بنائها برأس الحريريين ، وكانت وقفت عدة أماكن على جهات معينة ، فطلب السلطان المكاتيب وحرقها ، واستولى على الأماكن المذكورة بعد أن ثبتت وحكم بها العيني .
وفي أواخر شعبان أطلق السلطان أهل الحبوس حتى أهل الجرائم ظنا أن في ذلك قربة فالله المستعان وفي ثالث عشر جمادى الآخرة وصل علاء الدين علي بن موسى الرومي ، وكان وصوله في البحر إلى دمياط ثم وصل في بحر النيل إلى بولاق ، فتلقاه العيني وأنزله بجواره وأطلعه إلى السلطان فسلم عليه في مستهل رجب ، وامتحنه كاتب السر بمسألة فبهت فلم يجب عنها ، وبادر العيني فأجاب عنه .
وفي الثالث من رجب استقر الشيخ علاء الدين الرومي علي بن موسى في مشيخة الأشرفية وحضر إجلاسه جماعة من الأعيان ، وكان أكرمه السلطان إكراما زائدا ، فلما كان في شهر رمضان أرسل إليه جملة من القمح والسكر والذهب ، ثم استأذنه في الحج فأعطاه مركوبا ونفقة ووصى عليه من حج صحبته من الأمراء .وفيه توقف النيل في العشر الثاني من مسرى ونقص إصبعا وأمطرت السماء ، وخرجت العادة أن المطر إذا وقع والنيل في زيادة نقص ، فاضطرب الناس لذلك وماجوا ، وازداد سعر القمح سبعين درهما كل إردب ، فلطف الله وزاد النقص وكسر الخليج في ثالث عشرى مسرى واطمأن الناس وتراجع السعر .
وفي ثالث عشرى رجب إستأذن ابن الديري في السفر إلى القدس ، فيقال : خشى أن يدخل رمضان فيلزم بحضور سماع الحديث فيجلس الهروي فوقه ، فاتفق أن البخارى لما قرئ حضر السلطان وعن يمينه الشافعي ثم الحنفي ثم المالكي ، وعن يساره الهروي ثم الحنبلي ثم شيخ الأشرفية ثم الشيخ يحيى شيخ الظاهرية ثم شيخ الشيخونية قارئ الهداية . ثم صار يحيى يجلس خلف السلطان ليسأله عما يريد فهم معناه من المباحث .
وفيها في جمادى الآخرة قدم تونس الأمير محمد أبي تاشقين عبد الرحمن بن أبي حمو موسى من بني عبد الواد ويعرف بإبن الزكاعنة فاستنجد بصاحبها ، فسار معه أبو فارس سلطانها إلى تلمسان وجهز معه عسكرا ، ففر منه عبد الواحد إلى فاس وملكها إبن الزكاعنة . وقامبدعوة أبي فارس وكان ما سنذكره سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة .
وفي سابع رمضان ضرب الأمير الكبير بيبغا المظفري نور الدين الطنبذى كبير التجار ضربا مبرحا لعناد وقع منه في حقه ، فبادر الحاجب الكبير واستخلصه من يده ، فأنهى الأمر إلى السلطان فأضمر ذلك ولم يظهره وأغرى بيبغا زين الدين الدميري بالطنبذى فادعى عليه أنه اشترى منه بستانا وهو في المصادرة والبستان المذكور كان أبوه وقفه ، فعقد بسبب ذلك مجلس فلم ينفصل لهم أمر ، فلما كان في التاسع والعشرين من شوال قبض على بيبغا المظفري وسجن بالإسكندرية ، واستقر عوضه الأمير قجق بأقطاعه وزيد من أقطاع بيبغا شيئا ، وقسم بقية أقطاعه بين تغرى برمش نائب القلعة واينال الجكمى وكان بطالا بالقدس فأحضر بالإرسال إليه من القدس ، وكان في أيام المؤيد شاد الشربخاناة ، ثم استقر رأس نوبة كبيرا بعد المؤيد ، ثم تولى نيابة حلب مدة يسيرة ثم قبض عليه وحبس ، ثم أفرج عنه الملك الأشرف وأقام بالقدس بطالا ثم أرسلإليه بعد إمساك بيبغا المظفري ، فقدم في نصف ذي القعدة وخلع عليه واستقر أمير مجلس عوضا عن إينال النوروزي ، واستقر إينال أمير سلاح عوضا عن قجق الذي استقر عوضا عن بيبغا ، وانتهت زيادة النيل في هذه السنة إلى خمسة عشر إصبعا من ثمانية عشر ذراعا وكسر الخليج في ثالث عشرى مسرى ، فباشر ذلك محمد بن السلطان ومعه أزبك الدويدار ، ثم توقف النيل أياما وإرتفع سعر القمح ، ثم تراخى فشرق غالب البلاد .
وفي يوم الأحد الخامس والعشرين من رمضان ختم البخارى بحضرة السلطان ، فخلع على القضاة على العادة ، وخلع على العيني والهروي جبتين بسمور . فغضب الحنبلي وواجه السلطان وهو لابس الخلعة التي خلعت عليه بالعتاب وأغلظ عليه فحنق منه ، وتوجه على غير شئ واستمر مغضبا فلم يحضر يوم العيد فازداد الحنق ، ثم إنه استعان بولي الدين السفطي عند رأس نوبة الكبير تغرى بردى المحمودي ، فأحضره عند السلطان واعتذر فقبل عذره ، ثم إستأذن للحج فأذن له فأكترى وتجهز جهازا واسعا وهيأ لنفسه محفة ولأهله عدة محائر ، فبلغه أن السلطان أمر أنه إذا قضى حجه من المدينة إلى الشام ويقيم ببلدة حماة بطالا ، فترك الحج وفرق جميع ما هيأه من الزاد حتى كان من جملته مائة علبة حلوى ، وتصدق بجميع الدقيق والبقسماط وغير ذلك على الفقراء ،فاتفق أنه عقب ذلك سقط من سلم في داره فتألم فخذه ، فعولج وأقام مدة متمرضا ثم عوفى ، ودخل الحمام ثم انتكس ، فلم يزل حتى عاوده القولنج في السنة المقبلة فمات كما سنذكره . وفي هذه المرة جددت للمشايخ الذين يحضرون سماع الحديث فراجى بسنجاب ، وهو أول ما فعل بهم ذلك ، وكانت عدتهم نحو العشرين ، ثم ازداد الأمر إلى أن زادوا على المائة في سنة 42 ، ثم قطع جمعهم عن ذلك في سنة 846 .
وفي هذه السنة جهز السلطان إلى بلاد الفرنج مركبين وأخرج إليهم من بيروت مركبا ومن صيدا مركبا ، فاجتمعوا وعدتهم ستمائة مقاتل وصحبتهم ثلاثمائة فرس ، ونازلوا جزيرة الماغوصة فانتهبوها وأحرقوا ما بها من القرى وما بساحلها من المراكب ، وقدموا سالمين غانمين وفرح الناس بذلك ، وكان رجوعهم في شوال فقدموا في العشرين من ذي القعدة ، وكان عدد الأسرى ألفا وستمائة نفس ، واستهل شوال يوم السبت .
وفي الثامن من ذي القعدة صرف كاتبه عن القضاء ، واستقر شمس الدين الهروي وباشر كعادتهوفي عيد الأضحى وقع بين بعض المماليك السلطانية تشاجر بسبب قسمة الأضحية فتراموا بالحجارة ، فوقع منها بالقرب من السلطان وبعض الأمراء فغضب من ذلك وتلافى الأمر لئلا يفحش .
وفي سادس ذي الحجة قام جماعة من الصوفية بخانقاه سرياقوس على شيخهم ابن الأشقر وكان قد حج في هذه السنة ، ورافع فيه صيرفي الخانقاه واسمه إبراهيم ، فكاد الأمر يخرج عنه لكن انتصر له ناظر الجيش واستمهل السلطان عن إخراج وظيفته حتى يرجع من الحج .
وفيات سنة 827
ذكر من مات في سنة سبع وعشرين وثمانمائة من الأعيان
أحمد الملك الناصر بن الملك الأشرف ، إسماعيل بن الأفضل ، عباس ابن المجاهد علي ، صاحب اليمن - تقدم تمام نسبه في ترجمة أبيه . ومولده سنة . . . واستقر في المملكة بعد أبيه سنة ثلاث وثمانمائة ، وجرت له كائنات تقدم ذكر أكثرها ، وكان فاجرا جائرا ، مات بسبب صاعقة سقطت على حصنه من زجاج ، فارتاع من صوتها فتوعك ثم مات في سادس عشر جمادى الآخرة ، قال الله تعالى : ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء .أحمد بن عبد الله ، شهاب الدين البوتيجي الشافعي ، تفقه ومهر ، وكان يستحضر المنهاج عن ظهر قلبه ، وكان يتكسب بالشهادة ثم تركها تورعا .
أحمد بن عيسى بن أحمد المقرئ ، نزيل الجامع الأزهر ، الشيخ شهاب الدين المالكي الصنهاجي ، مات في سابع المحرم وكان ماهرا في العربية والقراآت والفقه ، منتصبا لإقراء الناس جميع نهاره وأكثر ليله ، لا يمل من ذلك ، وانتفع به بشر كثير ، وكثر التأسف عليه .
أحمد القاضي محب الدين بن الشيخ جمال الدين محمد بن عبد الله إبن ظهيرة ، المخزومي الشافعي ، قاضي مكة وابن قاضيها ومفتيها وابن مفتيها ، ولد في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين ، وحفظ المنهاج وعدة كتب ، وتفقه بوالده وغيره ، وأذن له في الإفتاء الشهاب الغزي والشهاب ابن حجى وغيرهما ، وكان ماهرا في الفقه والفرائض والحساب والفلك ، حسن السيرة في القضاء ، ولي من سنة ثماني عشرة إلى أن مات إلا أياما يسيرة سنة تشع عشر كان عزل فيها ثم أعيد ، ومات في جمادى الأولى ، وخلت مكة بعده ممن يفتي فيها على مذهب الشافعي ، وكان مشكور السيرة لما ولي القضاء .أحمد الحجيراني اللؤلؤي الشيخ شهاب الدين ، كان أبوه خطيب قرية حجيرا ، ونشأ هو في طلب العلم وقرأ على ابن الحباب ثم صحب الشيخ الموصلي ، وكان يرتزق من ثقب اللؤلؤ ، وحصل كتبا كثيرة ، ومات في المحرم عن نحو الستين بقريته .
أبو بكر بن عمر بن محمد ، الطريني ثم لمحلى الشيخ الفاضل المعتقد زين الدين ، كان صالحا ورعا حسن المعرفة بالفقه على مذهب مالك قائما في نصر الحق ، وله أتباع وله صيت كبير ، مات في حادى عشر ذي الحجة وقد جاوز الستين .
تاني بك البجامي نائب دمشق ، تنقل في الخدم في أيام الناصر فرج ، وولى نيابة حماة في أيام المؤيد سنة سبع عشرة ، ثم كان ممن خامر مع قانباي ، فلما انكسروا هرب إلى التركمان فسار آقباي وراءه إلى الغمق ، فانهزم إلى بلاد الروم ، فلما مات المؤيد دخل إلى دمشق فولاه ططر نيابة حماة ، ثم نقله إلى طرابلس في رمضان سنة 24 بعد أن تسلطن في ذي الحجة من السنة ، ثم قرر في أيام الصالح ابن ططر في نيابة حلب عوضاعن تغري بردى ابن قصروه بحكم عصيانه فسار لقتاله وانضم إليه عسكرها وغيره ، فلما وصلوا إلى حلب هرب تغرى بردى وانضم إلى كزل الصهيوني الذي كان هاربا من المؤيد وأقاما في بهنسا فحاصرهما تاني بك بها ، فمات كزل في الحصار ، ثم نقل تاني بك إلى نيابة دمشق لما مات تاني بك العلائي المعروف بميق وذلك في رمضان فدخلها في شوال ، فلما كان في صفر من هذه السنة بلغ السلطان عنه شئ فكتب إلى الحاجب بالركوب عليه ، فركبوا فقاتلوه فانكسروا منه ، ودخل إلى دار العدل فأظهر الإحسان والمخامرة على السلطان ، فجهز إليه سودون من عبد الرحمن الذي كان دويدارا كبيرا في عسكر ، فلما بلغ ذلك تاني بك البجاسي خرج إليهم فلما وصل إلى جسر يعقوب خالفوه في الطريق إلى دمشق فدخلوها ، فرجع هو وسار حتى وصل إلى قبة يلبغا فوصلها وقد تعبت خيوله وخيول من معه ومع ذل فقصدهم ، فقاتلوه فانكسروا منه ، فسار في إثرهم إلى أن جاوز باب الجابية فسقطت رجل فرسه في حفرة من القناة فوقع فأمسكوه ، فأمر بقتله فقتل بقلعة دمشق في شهر ربيع الأول ، وكان كثير الحياء والشجاعة والشفقة ، وقد أحسن في تلك السنة إلى الحاج لما رجعوافإنهم لقوا مشقة عظيمة بتراكم الرياح بحوران ، فخرج إليهم بنفسه ومعه أنواع الزاد حتى الزرابيل وفرقت فيهم ، فانتفع الغني والفقير وأفرطوا في الدعاء له ، فكان عاقبته الشهادة - سامحه الله تعالى .
سليمان الملك العادل بن المجاهد غازي بن الكامل محمد بن الموحد أبي بكر بن المعظم توران شاه بن الصالح أيوب بن الكامل أبي المعالي أبي بكر محمد بن أيوب أقعد ملوك الأرض في مملكة حصن كيفا إلا صاحب صعدة الإمام الزيدي فإنه أقعد في المملكة منه ، وأما العادل هذا فأقام في مملكة الحصن نحو الخمسين سنة ، وله فضائل ومكارم وأدب وشعر واعتناء بالكتب والآداب ، واستقر بعده في مملكة الحصن ولده الملك الأشرف أحمد بن سليمان ، ثم قتل أحمد في سنة ست وثلاثين . واستقرفي مملكته ولده عزيز الدين الفضيل - وقد قدمت في حوادث سنة تسع عشرة ذكر يوسف ابن أخي العادل سليمان المذكور .
عبد الله بن محمد بن محمد بن محمد بن زيد ، البعلبكي المعروف بابن زيد ، ولد سنة ستين تقريبا ، وأسمع على . . . وتفقه على ابن الشريشي والقرشي وغيرهما بدمشق ، ثم ولي قضاء بلدة قبل اللنك ودرس وأفتى ، ثم ولي قضاء طرابلس في سنة عشر ، ثم ولاه المؤيد قضاء دمشق عوضا عن نجم الدين بن حجى في سنة تسع عشرة ثم في سنة ست وعشرين في أيام الأشرف ، وكانت مدته في الولايات يسيرة جدا ، الأولى ستة أشهر والثانية شهرا ونصفا ، ولما صرف في النوبة الثانية حصل له ذل كبير وقهر زائد ، وذهب غالب ما كان حصله في عمره ، ولحقه فالج إلى أن مات في شهر ربيع الأول .عبد الله بن مسعود بن علي ، الملبى القرشي أبو محمد المعروف بابن القرشية ، أخذ عن أبيه عن الواد ياشي وعن أبي عبد الله بن عرفة وأبى على عمر بن قداح الهواري أحد من أخذ عن محمد بن عبد السلام شارح ابن الحاجب وأحمد بن إدريس الزواوي شيخ بجاية بل أخذ عنه المسلسل بالأولية ومصافحة المعمرين وأبى عبد الله بن مرزوق وأبى الحسن البطرني في آخرين يتضمنهم فهرسته رأيتها بخطه ، وقد أجاز فيها لأبي الفرج سرور بن عبد الله القرشي الحلبي دارا في رجب سنة 822 ، ومات بتونس في هذه السنة على ما ذكر لي الشيخ أبو الفرج سرور المذكور وهو ابن أخيه .عبد الرحمن بن علي بن يوسف بن الحسن بن محمد ، القاضي زين الدين أبو الفرج الزرندي قاضي الحنفية بالمدينة ، ولد في ذي القعدة سنة ست وأربعين بالمدينة ، وسمع على عز الدين ابن جماعة وصلاح الدين العلائي وأجاز له الزبير بن علي الأسواني فكان خاتمة أصحابه ، مات في ربيع الأول .
عبد الوهاب تاج الدين المعروف بابن كاتب المناخات ، تقدم ذكر ولايته الوزارة في الحوادث وأنه صرف وصودر ، ثم صرف على عقب وفاة الأستادار الذي صرف بموته وهو ناصر الدين ابن أبو والى ، وأعيد صلاح الدين ابن نصر الله ، وكان تاج الدين ضخما طوالا ريض الأخلاق عارفا بالكتابة ، وباشر الديوان المفرد مدة طويلة .
علي بن عبد الكريم نور الدين القوي ، سمع من الشيخ حمال الدينابن نباتة وأحمد بن يوسف الخلاطي وغيرهما ، وحدث بالكثير ، سمعت عليه السيرة النبوية لابن هشام ونعم الشيخ كان مات في خامس ذي الحجة وبلغ الستين .
علي بن لؤلؤ ، نور الدين ، كان عالما عاملا متورعا ، لا يأكل إلا من عمل يده ولم يتقلد وظيفة قط ، وكان ملازما للإقراء بالجامع الأزهر وغيره ، وانتفع به الناس ، وله مقدمة في العربية سهلة المأخذ ، مات في عشر الستين . . . .فاطمة بنت قجقار ، زوج الملك الأشرف برسباي وأم ابنه محمد ، ماتت ودفنت في المدرسة التي استجدها بالحريريين ، وصلى عليما أمام باب الستارة ، وتقدم الشافعي للصلاة عليها والسلطان والأمراء وغيرهم خلفه ، وكانت جنازتها حافلة ، وقرئ عليها ليلا ونهارا ، ماتت في خامس عشرى جمادى الآخرة .
قاسم بن سعد بن محمد ، الحسباني شرف الدين المعروف بالسماقي ، ولد سنة ثمان أو تسع وأربعين ، وقرأ الكتب واشتغل قليلا ، وتعانى الشهادة ثم صار موقعا للحكام ، واستنابه ابن حجى ، فباشر القضاء ولم يترك الجلوس مع الشهود ، ثم ولي قضاء حمص ، وكان قليل البضاعة كثير الجرأة متساهلا في الأحكام ، مات في شعبان .
محمد بن أحمد المبارك الحموي الحنفي ابن الخرزي ، ولد قبل سنة ستين ، واشتغل على الصدر بن منصور وغيره من أشياخ الحنفيةبدمشق ، ثم سكن حماة ، وتحول إلى مصر بعد اللنك وناب عن بعض قضاة الحنفية ، ثم تحول إلى دمشق ودرس ، وكان مشاركا في عدة فنون إلا أن يده في الفقه ضعيفة ، وكان كثير المرض ، مات في شعبان .
محمد بن أبي بكر بن علي بن يوسف ، الذروي الأصل الصعيدي ثم المكي نجم الدين المعروف بالمرجاني ، ولد سنة ستين أو في التي بعدهابمكة ، وأسمع على العز بين جماعة وغيره ، وقرأ في الفقه والعربية ، وتصدى للتدريس والإفادة ، وله نظم حسن ونفاذ في العربية وحسن عشرة ، ورحل في طلب الحديث إلى دمشق فسمع من ابن خطيب المزة وابن المحب وابن الصيرفي وغيرهم بإفادة الياسوفي وغيره ، وكان يتثنى عليه وعلى فضائله ، وحدث قليلا ، مات في شهر رجب ، وقد سمعت منه قليلا من حديثه ومن نظمه وكانت بيننا مودة .
محمد بن عبد الله بن سعد بن أبي بكر بن مصلح بن أبي بكر بن سعد ، المقدسي الحنفي ، القاضي شمس الدين ابن الديري ، كان أبوه من التجار فولد له هذا في سنة إثنتين أو ثلاث وأربعين وسبعمائة ، والديري نسبة إلى مكان ببردا من جبل نابلس ، وتعانى الفقه والاشتغال في الفنون وعمل المواعيد ، ثم تقدم في بلده حتى صار مفتيها والمرجوع إليه فيها ، وكانت له أحوال مع الأمراء وغيرهم يقوم فيها عليهم ويأمرهم بكف الظلم واشتهر ذكره ، فلما مات ناصر الدين بن العديم في سنة تسع عشرة استدعاه المؤيد فقرره في قضاء الحنفية بالقاهرة وكان قدمها مرارا ، فباشرها بشهامة وصرامة وقوة نفس ، ثم انمزج مع المصريين وساسالناس ، وكان منقادا لما رام به منه ابن البارزي ، فلما كملت عمارة المؤيدية سأل السلطان أن يقرره في مشيختها ، فأجابه بعد أن كان عين لها بدر الدين ابن الأقصراني ، وظن ابن الديري أن السلطان لايخرج عنه القضاء فجاء الأمر بخلاف ظنه ، فلما قرره في المشيخة قال له - ونحن نسمع : الآن استرحنا واسترحت - يشير بذلك إلى كثرة الشكاوى من الأمراء فيه ، وقرر في قضاء الحنفية القاضي زين الدين التفهني ، وكان ابن الديري كثير الإزدراء بأهل عصره ، لا يظن أن أحدا منهم يعرف شيئا مع دعوى عريضة وشدة إعجاب ، يكاد يقضي المجالس بالثناء على نفسه ، مع شدة التعصب لمذهبه والحط على مذهب غيره - سامحه الله تعالى مات في سابع ذي الحجة ببيت المقدس . وكان يأسف على فراقه يقول : سكنته أكثر من خمسين سنة ثم أموت في غيره فقدرت وفاته به . وذكر العيني في تاريخه أنه زاد على التسعين ، وليس كما قال فإنه كان يقول إن مولده سنة خمس وأربعين ، فسألته عن سبب إختلاف قوله فذكر أنه لا يحققه وإنما يجيب بطريق الظن ، والذي صدرت به الكلام هو الذي حصل من الإستقراء من مجموع كلامه ، واستقر ولده سعد الدين في مشيخة المدرسة المؤيدية ، وخلع عليه في الرابع والعشرين من ذي الحجة .
يعقوب بن جلال واسمه رسولا ويسمى أيضا أحمد الرومي التباني الحنفي الشيخ شرف الدين ، ولد سنة ستين تقريبا ، وتفقه على أبيه وغيره ومهر في العربية ، وأحب الحديث وشرع في شرح المشارق ، وكانيستحضر كثيرا من فروع الحنفية مع براعة في العربية والمعاني والبيان ومع بشاشة الوجه وطلاقة اللسان وكرم النفس والسخاوة ، جوادا ، وكان أول ما ولى التدريس والخطابة والإمامة بمدرسة الجائي في حدود سنة تسعين ، وولي مشيخة تربة قجا السلحدار ، وولى مشيخة قوصون مدة ثم رغب عنها ، وولي نظر القدس بعناية ايتمش ثم صرف عنه ، وولي في سلطنة المؤيد مشيخة الشيخونية ونظر الكسوة ووكالة بيت المال ، ثم صرف عن الكسوة وحصلت له جائحة مع الدويدار بسببها فصرف عنها واستمر في الوكالة وفي الشيخونية حتى مات فجأة ، وجرت له خطوب مع الناصر فرج واتصل بالمؤيد فعظم قدره عنده ، ولو كان يصون نفسه ما تقدمه أحد ورقت حاله بعد موت المؤيد جدا ، واستقر بعده في وكالة بيت المال نور الدين الصفطي شاهد الأمير الكبير ، واستقر في الشيخونية بعده الشيخ سراج الدين قارئ الهداية ، وذكر العيني أنه عاش زيادة على سبعين - فالله أعلم .
حوادث سنة 828
سنة ثمان وعشرين وثمانمائة
في ثامن المحرم حضر المبشر بالصالحية وذكر أنه تعوق بسبب مقبل ، وكان مقبل قد فر من القاهرة فصار ينزل في طريق الحاج وربما حصل ممن يصحبه لمن يمر به أذى ، وتأخر قدوم الحاج عن العادة يومين فقدم الأول في الرابع والعشرين والمحمل في الخامس والعشرين ، وذكروا أنهمتأخروا بمنى يوما من أجل بهار السلطان ، وتأخروا في وادي مرو يوما آخر بسبب حسن بن عجلان لأنه أشيع أنه يدخل مكة إذا خرج الحاج ، فأقام أمير الحاج ومن معه من الجند يوما حتى تحققوا عدم صحة ذلك .
وفي الرابع عشر منه حضر يوسف بن قطب الدين الحنفي من حلب وأظهر الإزدراء بعلماء الحنفية وأنه ليس فيهم مثله فأمر السلطان بحمع فضلاء الحنفية فحضروا بمجلسه وأحضرت فتاوى كتبت من نسخة واحدة فدفع للشيخ نظام الدين يحيى شيخ الظاهرية واحدة وللشيخ بدر الدين العينتابي واحدة وللشيخ سراج الدين قارئ الهداية وهو يومئذ شيخ الشيخونية واحدة ولصدر الدين ابن العجمي واحدة وللشيخ سعد الدين ابن الديري شيخ المؤيدية وكان استقر فيها بعد موت أبيه واحدة وللشيخ يوسف واحدة ، وأمروا أن يكتبوا عليها منفردين ، فأجابوا إلى ذلك إلا يوسف فقال : أنا لا أكتب إلا بمنزلي ، فسجلوا عليه العجز وكتبوا كلهم غيره ، ودفع السلطان لقاضي الحنفية رين الدين التفهني الفتاوى لينظرمن أصاب منهم ممن أخطأ ، وانفصل الأمر على ذلك .
وفي يوم الجمعة سادس عشر المحرم وصل طوخ الذي كان توجه أميرا على العسكر المجهز إلى مكة في العام الماضي نجدة لقرقماس وعلي بن عنان ، فأخبر أن الركب تأخر خروجهم عن مكة يومين بسبب أن التجار سألوا أمير الركب أن يتأخر لأجلهم يوما ففعل ، فطلب منه قرقماس أن يتأخر يوما آخر ففعل ، وتوجه من في الركب الأول والثاني مع قرقماس فأوقعوا بابن حسن بن عجلان ، وجرح من الطائفتين جماعة وانهزم ابن حسن .
وفيها سارت الهدية من مصر إلى بلاد العجم لملكها شاه رخ بن اللنك ، وكان أرسل يسأل في أن يؤذن له في كسوة الكعبة من داخل فكتبت أجوبته .
وفي ربيع الأول جهز السلطان إلى مكة عسكرا . وفيه أرسل الشيخ محمد بن قديدار ولده إلى صاحب قبرس يسأل أن يطلق من عنده من أسرى المسلمين ليسعى له في التمكين في زيارة القمامة ، فعوق ولده فضج الشيخ من ذلك وكان من غزو المسلمين قبرس ما سيأتي ذكره ، وكمل الغراب الذي أنشأه السلطان لغزو الفرنج وأنزل البحر وكان يوما مشهودا . وفيه وصل رسل قرايلك من التركمان . . . . . .وفي سابع عشر ربيع الآخر قدم نائب الشام فخلع عليه وأعيد إلى إمرته على عادته ، وشفع في طرباي بأن يطلق من سجن الإسكندرية إلى دمياط ، فأجيب إلى ذلك ، ووقع في العشر الأخير من أمشير حر شديد حتى نزع الناس الفراء والجوخ وظنوا أن الشتاء انقضى ، فلم يكن إلا خمس ليال حتى عاد البرد أشد مما كان . وفي هذا الشهر أوقع قرقماس أمير الحجاز بأهل الطائف وذلك لأنهم قطعوا الميرة عن مكة ، فأذعنوا له وحصل بمكة أمن كثير ورخاء زائد .
وفيه توجه الشيخ شمس الدين ابن الجزري إلى بلاد اليمن ، فأكرمه ملكها وسمع عليه الحديث وأنعم عليه بمال وأطلق له كثيرا من تجارته بغير مكسها ، ورجع في البحر كما سافر منه ، وعجب الناس من شدة حرصه مع كثرة ماله وعلو سنه .
وفي سابع عشر ربيع الآخر شكا نائب الشام إلى السلطان من حسين كاتب السر ، ففوض أمر ولايته وعزله له .
وفي جمادى الأولى وقع بدمياط حريق عظيم حتى يقال احترققدر ثلثها ، وهلك من الدواب والناس والأطفال شئ كثير .
وفي جمادى الأولى كملت مدرسة السلطان التي أنشأها بجوار الحانقاه السرياقوسية الناصرية ، وقرر فيها شيخا وصوفية ، وفي العاشر منه استقر بدر الدين بن نصر الله في الأستادارية عوضا عن ولده صلاح الدين بحكم استعفائه ، وبعد يومين استقر كريم الدين عبد الكريم ابن سعد الدين المعروف بابن كاتب جكم في وظيفة نظر الخاص عوضا عن ابن نصر الله المذكور ، فحصل لإبن نصر الله بذلك مشقة عظيمة ، فباشر الأستادارية بمفردها إلى ثامن شعبان فأمسك هو وولده ، واستقر في الأستادارية زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج ، وهو شاب أمرد .
وفي جمادى الآخرة والشمس في برج الثور في خامس بشنس من الأشهر القبطية أمطرت السماء مطرا غزيرا جدا ، ثم في الثامن عشر منه قرب نقل الشمس إلى الجوزاء ، أمطرت أيضا مطرا غزيرا عقب ريح شديدة هبت ليلا ، وكان الورد في هذه السنة قليلا جدا ، وفي عاشره قبض على نجم الدين ابن حجى كاتب السر وعوق في البرج بالقلعة ،ثم نفي إلى الشام ، ووكل به شرطي معه في سلسلة من حديد وأهين جدا ، وألزم الموكل به أن ينادي عليه في كل بلد دخله ، فإذا وصل إلى دمشق نودي عليه : من كانت له عليه ظلامة فليطلبها وأحيط بداره وحمل جميع ما فيها ، فلما وصل غزة وافاه كتاب السلطان بإطلاقه وإكرامه وإيصاله إلى دمشق وإقامته بها بطالا ، وكان السبب في ذلك أنه باشر كتابة السر بغير خبرة بإصلاح الوظيفة وسلك مع المصريين طريقته في حدة الخلق والبادرة الصعبة مع الإقبال على اللهو في الباطن فيما يقال ، ثم إنه كان ألزم بعشرة آلاف دينار فحمل منها خمسة فطولب بالخمسة الأخرى ولوزم بالمطالبة ، فضج من ذلك وكتب للسلطان ورقة يذكر فيها أنه منذ ولي السلطنة غرم كذا وكذا ألف دينار وفصلها ومن جملتها للباشرين لفلان كذا ولفلان كذا لمن لا يسمى كذا - ورمز إلى جانبك الدويدار ، فبلغ ذلك من نسب إليهم الأخذ منه ، فحنقوا منه وأمالوا عليه جانبك وهو شاب حاد الخلق قوي النفس كثير الإدلال على مخدومه ، فشكا من كاتب السر للسلطان والتمس منه أن يمكنه منه ،فأذن له - فأخرجه على الصورة المذكورة ، ثم قام ناظر الجيش عليه حتى هدأ خلقه ، ورجعه عما كان أمر به من المبالغة في إهانته ، ورأى أن المقصود قد حصل بزيادة وربح الجميل عليه بتخليصه من الشدة المذكورة ، والتزم عنه بمال يحمله إذا وصل إلى دمشق ، ففعل ذلك ودخل دمشق ولزم بيته بطالا ، وجفاه أكثر الناس إلى أن كان في السنة المقبلة منه ما سيأتي ذكره .
ومن الإتفاق العجيب أنه طلب بطرك اليعاقبة فراجعه في شئ خاطبه به فأغضبه ، فأمر بضربه فضرب على رجليه نحو أربعمائة عصى ، فاغتاظ القبط لذلك وبالغوا في التأليب على ابن حجى إلى أن اتفق له ما ذكر ، واستقر في كتابة السر بعده بدر الدين محمد بن بدر الدين محمد ابن أحمد - بن مزهر الدمشقي ، وكان قدم مع المؤيد أحد الموقعين ، واستقر في نظر الإصطبل وتقدم وصار أحد الرؤساء في دولة المؤيد لكن كان لا يرفع رأسه مع وجود ابن البارزي ، فلما مات استقر نائب كاتب السر وكبير الموقعين وصار يصرف أكثر الأمور في مباشرة كمال الدين ولد البارزي ، ثم لما استقر علم الدين بن الكويز في كتابة السر كان هو القائم بأكثر الأمور وسماه السلطان خليفة كاتب السر وراج عليه وعرف أخلاقه وتمكن منه إلى أن تقرر في كتابة السر بعد كائنةابن حجى في ثامن عشرى جمادى الآخرة ، فباشرها أربع سنين متوالية .
وفي ثاني عشر رجب قرئ تقليده بالمدرسة الأشرفية ، فوقع من علاء الدين الرومي شيخها إساءة أدب في حق القاضي الحنفي فعزره بالكلام وأقامه من المجلس ، ثم شكا الحنفي لمن حضر من المباشرين فبلغوا الأمر للسلطان ، فأمر بإخراجه من المدرسة فكشف الحنفي رأسه ، وأصلح بينهما ناظر الجيش وصرف رأي السلطان عن عزله بعد أن كان أمر بتقرير الشيخ سراج الدين قارئ الهداية مكانه ، واشترط عليه لزوم الأدب في البحث - وترك البحث بعده . . . - .
وفي الثامن من شهر رجب صرف الهروي عن قضاء الشافعية وتقرر كاتبه ، قرأت بخط قاضي الحنابلة محب الدين : كان يوما مشهودا وحصل للناس سروران عظيمان : أحدهما بولايته لأن محبته معروفة في قلوب الناس ، والثاني بعزل الهروي فإن القلوب كانت اتفقت على بغضه لإساءته في ولايته وارتكابه الأمور الذميمة . وفي الثامن من رجب توجه القاضي المستقر إلى مصر في موكب عظيم ، ومعه من القضاة ونوابهم والفقهاء من لا يكاد يحصر ، وكان يوما مشهودا ، انتهى ما نقلته من خطهورحل الهروي من القاهرة خفية من شدة مطالبات الناس له ، وذلك في التاسع عشر منه .
وفي رجب هيأ الأشرف العسكر الذي ندبه لغزو الفرنج وأميرهم جرباش الحاجب الكبير وأنفق فيهم ، وعين لذلك جماعة من الأمراء - والمماليك السلطانية - ، وسافروا في شهر رمضان ، فوصلوا إلى ساحل الماغوصة في سادس عشرى شهر رمضان ، فسمع بهم صاحبها فبذل لهم الطاعة وجهز لهم الأموال ودلهم على عورات صاحب جزيرة قبرس فأقاموا ثلاثا ، ثم توجهوا إلى جزيرة في البحر فيها الماء الحلو فتزودوا منها ، ووقع لهم بعض الفرنج في البحر فقاتلوهم إلى أن فر الفرنج ورجع المسلمون إلى أماكنهم ثم التقوا في البر فانكسر المشركون أيضا وغنموا منهم ، وكان غالب العسكر مع ذلك مقيما في المراكب خشية أن يكيدهم الفرنج بأن يملكوا عليهم البحر ، ثم بلغهم أن صاحب قبرس تجهز لهم في جمع كثير ، فتوجهوا في المراكب إلى جهة طرابلس ، فرمتهم الريح إلى الطينة مقابل دمياط وكاتبوا السلطان بذلك ، فأذن لهم في دخول دمياط فدخلوها في شوال ، ثم أذن لهم في دخول القاهرة فدخلوها ومعهم عدة من السبى نحو الألف رأس ، فتسلم السلطان جميع الغنيمة وفرق في الجيش مالا من عنده ، وشاع الخبر أن صاحب قبرس كاتبنائب الشام في طلب الصلح ، وكان ما سيأتي ذكره .
ذكر غزاة قبرس الأولى سنة ثمان وعشرين وثمانمائة
تقدم في حوادث سنة سبع ما وقع من الوقعة بين المسلمين وبين الفرنج في ساحل اللمسون المتصل بجزيرة قبرس ، فلما رجعوا بالغنيمة والأسرى أمر الأشرف بتجهيز الأغربة والإستكثار منها ، فجد في ذلك وأرسل إلى طرابلس والإسكندرية ودمياط وبيروت ، وأمر بتركيز الجند في السواحل حفظا لها من عادية الفرنج ، فاتفق أن جابوش صاحب قبرس جهز غرابا وسلورة وشحنهما بالرجال والعدد ، وأمرهم بتتبع السواحل ونهب ما استطاعوا وإفساد ما قدروا عليه ، فلم يبلغوا من ذلك غرضا لحفظها بالجند ، فاتفق أنهم احتاجوا إلى الماء فانتهوا إلى مكان يقال نهر الكلب ، فلما رآهم الحرس كمنوا لهم ، فلما لم يروا أحدا دخلت السلورة النهر وهو ضيق فخرج عليهم الكمين فأحرقوها وأسروا من فيها ورجع من في الغراب إلى قبرس ، ولما تكاملت العمارة جهز الأشرف الجند ، وتوجه صحبتهم من المطوعة عدد كثير ، وركب إلى الساحل فعرض الجميع وسافروا إلى دمياط ، وكان جابوش - صاحب قبرس - جهزأميرا يقال له باله في تسعة أغربة ، فوقف على فوهة دمياط يمنع أغربة المسلمين من الدخول في البحر الملح فوقف هناك ، فصادف مجئ العمارة من الإسكندرية فقصدوهم فانهزموا منهم بغير قتال ، وسافر الجميع من فم دمياط إلى طرابلس فانضم إليهم المراكب المجهزة منها ومن بيروت ، واجتمع فيها من الأمراء والجند والمطوعة ومن العشير والزعر عدد كثير ، ثم راسل كبيرهم وهو جرباش الكريمي جابوش في الدخول في الطاعة فامتنع ، فسافروا إلى جهته فوصلوا إلى الماغوصة ، فطلع الخيالة وأكثر المشاة وضربوا خيامهم بالبر ، فحضر رسول صاحب الماغوصة ومعه ضيافة وقال إنه في الطاعة ، فأعطوه أمانا وركبوا في الحال فداسوا من قدروا عليه وأوسعوهم تخريبا وتحريقا ، وكان ذلك في رمضان ، وأوقع الله الرعب في قلوب الذين كفروا حتى كان الثلاثة من المسلمين يدخلون الضيعة وفيها ما بين المائة والخمسين فلا يمتنع عليهم أحد ، ثم صادفهم أخو جابوش في ألف فارس وثلاث آلاف رجال غير الكمناء ، ثم إنه قذف في قلبه الرعب فرجع بمن معه ، ولما تمت لهم في الماغوصة أربعة أيام وقد أوسعوها نهبا وأسرا قصدوا الملاحة وأحرقوا ما مروا عليه إلى مكان يقال له رأس العجوز ، فوجدوا هناك أميرا فأسروا من معه وقتلوه ، ثم صادفوا تسعة أغربة وقرقورة مشحونة مقاتلة فلا قاهم المسلمون ،فانكسر للنصارى زورق وفر من فيه إلى البر فأسرهم المسلمون ، وكان من تدبير صاحب قبرس أنه أرسل أخاه في الجبال فأرسل المقاتلة في البحر ، فرجع أخوه بغير قتال وهزم الله أهل البحر ، ووصلوا إلى الملاحة وضربوا خيامهم بها ، وشنوا الغارة في الضياع ، وقتلوا الذي كان أميرا على الملاحة ، ويقال إنه كان شديدا على أسرى المسلمين ، وكان يقال له : عين الغزال ، وكان جابوش أمده بأربعة أحمال زرد خاناة على عجل ، فأحاط بها المسلمون ثم جمعوا الغنائم والأسرى ورجعوا إلى المراكب إلى أن وصلوا إلى اللمسون ، فحاصروا الحصن الذي هناك فأخذوه عنوة وملؤا أيديهم من الغنائم والأسرى وأحرقوا الحصن ، وكان ذلك في يوم الخميس مستهل شوال ، وجهز الأمير جرباش مبشرا بالفتح ، ويقال إن عدة من قتل في مدة نصف شهر من الفرنج خمسة آلاف ، ولم يقتل من المسلمين في هذه الغزاة إلا ثلاثة عشر نفسا ، وكان طلوعهم إلى القلعة بالأسرى والغنائم يوما مشهودا وكان في بقية شوال منها .
وفي رجب قدم مقبل الحسني الذي كان أمير الينبع بخديعة من صديقه فحر الدين التوريزي التاجر ، فلم يزل به حتى قدم معه إلى القاهرةبعد أن توثق له بالأمان ، فأمر السلطان بحبسه غير مضيق عليه .
وفي السابع والعشرين من شعبان زلزلت الأرض بمصر والقاهرة قدر درجتين ، وكان أمرا مهولا إلا أنه لم يقع بها هدم شئ من الأماكن إلا اليسير فنسأل الله العفو والعافية .
وفي سابع عشرى ذي القعدة نودي على الفلوس بأن يكون كل رطل منها بإثني عشر درهما ، وكانت قد قلت جدا بحيث صار الشخص يشتري من الدرهم الفضة رغيفا فلا يجد الخباز ما يكمل به حقه من الفلوس ، وكان السبب في ذلك أنه اجتمع عند السلطان منها مقدار كثير ، فشاع بين الناس أنه ينادي عليها بزيادة في سعرها ، فأمسك أكثر الناس عن إخراجها ممن عنده شئ منها رجاء الربح ، فعزت بسبب ذلك ، فلما نودي سكنت نفوسهم وأخرجوها فكثرت في الأيدي .
وفي أواخر ذي القعدة وصل يشك الجركسي وكان - جلب - من بلاد الجركس فأخذه الفرنج فأقام عندهم وتعلم ما يصنعه البهلوان ، فدخل القاهرة فأوصلوه إلى السلطان ، فأسلم ورتب في طبقة المماليك ، ثم أراد أن يرى السلطان شيئا من فنه ، فنصب حبلا على رأسمئذنة حسن وطرفه على رأس الأشرفية فمشى عليه ، ورمى بالمكحلة وهو فوقه وأوتر قوس الرجل ورمى به ، ولما فرغ خلع عليه السلطان وأركبه فرسا وأنعم عليه الأمراء بجملة دراهم .
ولما صرف جمال الدين الكركي من كتابة السر بمصر قرر في نظر الجيش بدمشق بعد مدة ، وذلك في أواخر رمضان ، وكان حسين جمع بين وظيفتي كتابة السر ونظر الجيش بعناية أزبك الدوادار ، فصرف من نظر الجيش .
وفي ذي القعدة عزل أزدمردجايه عن الأمرة وأمر بلزوم منزله ، ثم بشره ياقوت المقدم الحبشي - مقدم المماليك - بالرضا عنه ، فخلع عليه كاملية بسمور ، وأمر بأن يخرج مع كاشف الصعيد لقتال العرب .
وفي رمضان ادعى على الشيخ شمس الدين بن الشيخ سراج الدين عمرالميموني ، وكان أبوه من أعيان الطلبة الشافعية عند شيخنا سراج الدين البلقيني وغيره ، وكان نقيب درس الخشابية ، ونشأ ولده هذا طالبا للعلم فمات أبوه وهو صغير ، فتعاني طريقة الفقراء وأقام في زاوية ونصب له خادما فبقي مدة ، ثم ترك وواظب الحج في كل سنة ، وكان كثير التلاوة جدا ؛ فاتفق أنه ذكر لبعض الناس أنه رأى زين الدين التفهني في المنام في حالة ذكرها سيئة جدا ، فادعى عليه أنه قال : قد أباح لي سيدي اللواط والخمر والحشيش والفطر في رمضان - إلى أشياء من هذا الجنس ، فأنكر ، فشهد عليه جماعة وثبت ذلك عن ابن الطرابلسي نائب الحنفي ، ثم استفتى علماءهم فأفتوه بأن ذلك زندقة ، فاتفق أن الحنفي ذكر ذلك للسلطان واستأذنه في إمضاء الحكم عليه فأمر بإحضاره ، فلما كان يوم الاثنين سادس شوال أحضر إلى القصر وفي رقبته سلسلة فسلم ثم قال : يا عبد الرحمن اتق الله - يخاطب القاضي التفهني ؛ فغضب وقال : حكمت بزندقتك وسفك دمك ? وقال للحنبلي : نفذ لي ، فقال : حتى ينفذ الشافعي ? فامتنع ، فسألني السلطان فقلت : وقعت عندي ريبة تمنع من تنفيذ هذا الحكم ، فإني أعرف هذا وقد ذكر لي أن في عقله خللا والقاضي سارع بالحكم في حال غضبه وتعصب العين للميموني وأحضر النقل بأن الزنديق إنما يقتل عندهم إذا كان داعية ، وطال البحث في ذلك . وقام الحنفي ليقتله وأرسل إلى الوالي ، فأشار عليه بعض ألزامه بالتأني في أمره ، ثم عقد مجلس حافل بسببه وتغضب أكثر الجند وأكثر المباشرين عليه تبعا للتفهني ، ولم يبق معه سوى خشقدمالخازندار وللسلطان إليه ميل ، فطال النزاع في أمره فاتفق أن قال في جملة ما خاطب به للتفهني : يا سيدنا قاضي القضاة ? أتوب إلى الله من رؤيا المنامات من اليوم ، فازداد حنقه منه ، وكايده العيني فتعصب له ، ثم اتفق الحال على حبسه ، فلما كان في أول ذي القعدة اجتمع الحنفي بالسلطان وقرر معه أنه ينفى إلى بعض البلاد الحلبية ، ثم أرسل ناظر الجيش في خامس ذي القعدة إلى التفهني وكاتبه ، فأصلح بينهما وأرسل لكل منهما بغلة .
وفي الثامن من ربيع الأول قرر جمال الدين يوسف السمرقندي في قضاء حلب عوضا عن شمس الدين ابن أمين الدولة بحكم عزله ، وكان هذا قدم في أواخر دولة المؤيد فاعتنى به الظاهر ططر وهو أمير ، وأعانه على الحج ، وقرره في عدة وظائف بحلب ، فتوجه إليها وباشرها إلى أن وقع بينه وبين القاضي المذكور ، فرتب عليه من يشهد عليه بأمر صدر منه ، وذلك بالمدرسة السارخية في سوق النشاب ففر خفية منها ، فقدم القاهرة وشكا حاله للسلطان فعزل القاضي وقرره مكانه ، فلما بلغ القاضي ذلك وصل إلى القاهرة ، فقام معه بعض الرؤساء فما أفاد ، وأمر بعوده إلى حلب بطالا .
وفي سابع ذي الحجة ثار جماعة على المحتسب وهو القاضي بدر الدينالعيني بسبب إهمال أمر الباعة وشدة غلاء الخبز مع رخص القمح . ورفعوا للسلطان فلم يأخذ لهم بيد بل ضرب جماعة منهم وهدد جماعة وحبس نحو العشرة ، فعدم الخبز من الحوانيت وتزاحموا على الأفران ، ثم تراجع الحال ، وكثر الخبز مع زيادة السعر في الشعير والقمح والفول - وكان ما سيأتي ذكره في أول السنة .
وفي الثالث والعشرين من ذي الحجة وصل بالمبشر من الحاج وأخبروا بالرخاء الكثير في الحجاز ، وأنه نودي بمكة أن لا تباع البهار إلا على تجار مصر ، وأن لا يكون البهار إلا بهار واحد ، وأخبر بأن الوقفة كانت يوم الاثنين وكانت بالقاهرة يوم الأحد ، فتغيظ السلطان ظنا منه أن ذلك من تقصير في ترائي الهلال ، فعرفه بعض الناس أن ذلك يقع كثيرا بسبب اختلاف المطالع ؛ وبلغني أن العيني شنع على القضاة بذلك السبب فلما اجتمعنا عرفت السلطان أن الذي وقع يقدح في عمل المكيين عند من لا يرى باختلاف المطالع ، حتى لو كان ذلك في رمضان للزم المكيين قضاء يوم ، فلما لم يفهم المراد سكن جأشه ، وفي هذه السنة كانت وقعة الفأر باللجون من طريق الشام ، وكان قد كثرت فراخه حتى شاهدبعض الناس كثيرا منها يخرج بأولادها الصغار فيتركونها عند البيوت ويأتونها بالقمح في سنبله فيدخله الأولاد في البيوت ، ومن رجع ووجد شيئا من القمح لم يحول إلى البيت ضرب ولده الضرب المبرح ، وتسلط الفأر على زروع الناس وتضرروا من ذلك ضررا كبيرا - قرأت ذلك بخط قاضي الحنابلة محب الدين ، ثم عقب ذلك وقع بين الفئران مقتلة عظيمة ، وشاهد الناس منها جملة كثيرة . بعض مقطوع الرأس ومقطوع الرجل ومقطوع اليد ومنها الموسط ، وصار منهم أكوام كثيرة ، وفي شعبان ارتفع سعر الغلى فوصل الفول إلى مائتين والشعير إلى مائة وخمسين ، ثم ازداد السعر في ذي القعدة ووصل الفول إلى ثلاثمائة ، وكذلك القمح ، ثم تراجع القمح إلى مائتين وخمسين . وفي آخرها ماتت زوجة السلطان - وكانت ابنة عمه - بوادي الصفراء ، وكانت خاملا فوضعت وماتت في نفاسها .فبلغ السلطان فحزن عليها كثيرا .
وفيات سنة 828
ذكر من مات في سنة ثمان وعشرين وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن أبي بكر بن علي بن عبد الله بن بوافي بن يحيى بن محمد بن صالح ، الأسدي المعشمي الشيخ شهاب الدين الشهير جده بالطواشي ، ولد بعد الستين ، وأحضر في الثالثة على ابن جماعة ، وأسمع على الفروي والضياء الهندي ، وأجاز له الكمال ابن حبيب ومحمد بن جابر وأبو جعفر الرعيني وأبو الفضل النويري والزرندي والأميوطي وغيرهم ، وكان خيرا دينا منقطعا عن الناس ؛ مات يوم الجمعة سابع عشر شعبان بمكة ، وصلى عليه بعد الصلاة ، وشيعه جمع كثير منهم أمير مكة علي بن عنان .
أحمد بن عبد الرحيم بن أحمد بن الفصيح ، الكوفي الأصل ثم البغدادي ثم الدمشقي ، شهاب الدين ، نزيل القاهرة ، كان جده من أهل العلم والطلب للحديث وحدث أبوه بالسنن الكبري للنسائي وتفرد به عن ابن المرابط بالسماع وكان حنفي المذهب ، ونشأ ابنه هذا يتعاني التجارة ، ثم عمل نقيب الحكم الحنفي بدمشق ، ثم سكن القاهرة مدة وتردد إلى القاهرة ، وكان يحب الانجماع ولا يباشر إلاناسا مخصوصين ، وكان ابن الأدمي يكرمه ويعظمهلأنه كان يقرب له من جهة النساء ، فقرره في النقابة بالخانقاه البيبرسية في سنة خمس عشرة ، فاستمر فيها إلى أن مات في أول يوم من شعبان وله بضع وسبعون سنة ، وكان قليل الكلام كثير المعرفة بالأمور الدنيوية ، وما أتردد أنه سمع على ابن أميلة ومن قبله لكن لم أقف على ذلك تحقيقا ، وسألته عن ذلك فلم يعترف به ، وسألته أن يجيز لجماعة فامتنع ظنا منه أن ذلك على سبيل السخرية به لسعة تخيله .
تغري بردى المؤيدي المعروف بابن قصروه نائب حلب ، كان مات بها محبوسا في ربيع الأول .
سليمان بن عبد الرحمن بن داود بن الكويز ، أخو كاتب السر علم الدين ، ورث من أخويه صلاح الدين وعلم الدين . أما صلاح الدين فلكونه شقيقه ، وأما علم الدين فلكونه وصيه ، فكثر ماله ، ووقع بينه وبين ابن أخيه عبد الرحمن بن علم الدين تنازع في شيء ففسد بذلك من المال عليهما شيء كثير ، وكان سليمان يلقب بدر الدين حسن الصورة جميل الفعال شديد الحياء عاقلا وقورا ، باشرا استيفاء الدولة وغير ذلك ، وهوأصغر الإخوة ؛ ومات في حادي عشر المحرم .
شعبان بن محمد بن داود ، المصري ، وكان يقال له : الموصلي ، ثم زعم أن اسم أبيه محمد بن داود ويقال إن داود - كان ممن تشرف بالإسلام فأحب أن يبعد عنه وصار يكتب الآثارى نسبة إلى الآثار النبوية لكونه أقام بها مدة ، وكان قد تعانى الخط المنسوب ، فجاد خطه بملازمته لشيخنا شمس الدين الزفتاوي ، وصار رأس من كتب عليه وأجازه ، فصار يكتب للناس ، ثم اتفق أنه شرب البلاذر فحصل له طرف نشاف ، واقام مدة عاريا من الثياب والعمامة ، ثم تماثل قليلا وطلب العلم ، ولازم الشيخ بدر الدين الطنبذي والشيخ شمس الدين الغماري ، وتعانى النظم فنظم نظما سافلا أولا ثم أكثر من ذلك حتى انصقل قليلا ونظم نظما وسطا ، ومن نظمه لما عزل البلقيني بالهروي واتفقت الزينة للمحمل فعلق شخص يسمى الترجمان على باب داره بالجنميين حمارا بسرياقات على رؤوس الناس بأحسن هيئة وتردد الناس للفرجة عليه فقال :
أقام الترجمان لسان حال
عن الدنيا يقول لنا جهارا
زمان فيه قد وضعوا جلالا
عن العليا وقد رفعوا حمارا
ثم أقبل على ثلب الأعراض وتمزيقها بالهجو المقذع ، ونظم أرجوزة في العربية وأرجوزة في العروض ، وتعلق على توقيع الحكم فقرر به ، ثم عمل نقيب الحكم - بمصر ، ثم استقر في الحسبة بمالوعد به ، ثم ارتكبه الدين بسبب ذلك ففر من مصر في سنة إحدى وثمانمائة ، ودخل اليمن فمدح ملكها فاعجبه ، وأثابه ، ومدح أعيانها وتقرب منهم ، ثم انقلب يهجوهم كعادته ، فأمر السلطان الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل بنفيه إلى الهند فأركب في المراكب الواصلة من تانة واقام بها وأكرم ، ثم عاد إلى طبعه فأخرج منها - وقد استفاد مالا فأصيب بعضه ، ورجع إلى اليمن فلم يقم بها ، وتوجه إلى مكة فأقام بها مدة طويلة ، وأظهر بها من القبائح ما لا يحمل ذكره ونصب نفسه غرضا للذم ، وتزوج جارية من جواري الأشرف يقال لها خود ، فاتخذها ذريعة إلى ما يريده من الذم والمجون وغير ذلك ، فصار ينسب نفسه إلى القيادة والرضا بذلك لتعشقه فيها - إلى غير ذلك ، وكان فيه تناقض فإنه يتماجن إلى أن يصير أضحوكة ، ويتعاظم إلى أن يظن أنه في غاية التصون ، وكان شديد الإعجاب بنظمه ، لا يظن أن أحدا يقدر على نظيره ، مع أنه ليس بالفائق بل ولا جميعه من المتوسط بل أكثره سفساف كثير الحشو عري عن المعنى البديع ، ثم قدم القاهرة سنة عشرين وهجا بهاء الدين ابن البرجي الذي كان يتولى الحسبة قديما ، ثم صادف أن ولي الهروي القضاء فهجاه ومدح البلقيني وأثابه ، ولعله أيضا هجا البلقيني ، ثم توجه إلى دمشق فقطنها إلى أن قدم القاهرة سنة سبع وعشرين ومدحني بقصيدة تائية مطولة ، ولا أشك أنه هجاني كغيري ، ثم رجع إلى دمشق ثم قدم القاهرة فمات يوم وصوله في سابع عشر شعبان ، وخلف تركة جيدة ،قيل : بلغت ما قيمته خمسة آلاف دينار ، وكان مقترا على نفسه . فاستولى على ماله شخص ادعى أنه أخوه وأعانه على ذلك بعض أهل الدولة ، فتقاسما المال ، ووقف كتبه وتصانيفه بالباسطية ؛ وعاش بضعا وستين سنة .
صالحة أو زينب بنت صالح بن رسلان ابن نصير البلقيني ، وهي والدة القاضي علم الدين صالح بن شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين ، تزوجها الشيخ وهي ابنة عمه فأولدها صالحا وعبد الخالق ، ثم قدمت على الشيخ أخته من بلقينة فذكرت للشيخ أنها أرضعت زوجته هذه ، فبحث الشيخ عن ذلك حتى وضح له ، فلما علم صحة قولها اجتنبها . وذلك قبل موته بعشر سنين ، ثم لما مات تزوجت بعده زوجا بعد زوج من العوام ، وكانت موصوفة بالخير ؛ وعاشت نحو الستين وماتت في حادي عشر المحرم .
طوغان أمير آخور ، مات مقتولا بقلعة المرقب في ذي الحجة ، وكان قد ولى عدة وظائف .
عثمان بن محمد فخر الدين الدنديلي الشاهد ، سمع من أبي الحسنالعرضي ، وأجاز لأولادي ، وسمعت عليه جزءا من حديث ابن حذلم أنا العرضي أنا الفخر ابن البخاري ؛ جاوز الثمانين ومات في 18 شوال .
عثمان بن . . . التلاوي المعروف بالطاغي ، خازن الكتب بالمدرسة المحمودية ، وقد تقدم ذكر صرفه عنها في حوادث سنة ست وعشرين وكان شديد الضبط لها ، ثم حصل له من تسلط عليه بالخديعة إلى أن وقع التفريط فذهب أكثر نفائس الكتب ، وكان في أول أمره أقرأ القاضي جلال الدين البلقيني القرآن ، وتمشيخ بالمشهد النفيسي ولقي جماعة من الاكابر ؛ ومات في 14 المحرم .
علي بن أحمد بن محمد بن سلامة بن عطوف ، السلمي المكي نور الدين ابن سلامة ، ولد سنة ست وأربعين بمكة ، واشتغل وعني بطلب الحديث ورحل فيه ، فسمع بدمشق من ابن أميلة والصلاح ابن أبي عمر وابن كثير وغيرهم ، وبحلب من ابن حبيب وغيره ، وببغداد من عمر بن علي القزويني وعبد الدائم ابن عبد المحسن بن الخراط وغيرهما ، وبالقاهرة من التقي البغدادي وقرأ عليه القراآت ، أكثر عنه صاحبنا زين الدين رضوان ، وحدث بالقاهرة ومكة وصار مسندها ، وكان عارفا بالقراآت ، وأخذ الفقه عن جماعة ولم ينجب ، وله نظم ، وكان يباشر شهادة الحرم المكي ، ولم يكن يشكر في شهادته مع التأله والتعبد ،وخرج له ابن فهد معجما ، انتزع أكثره من معجم ابن ظهيرة تخريج الأقفهسي ؛ ومات في يوم السبت 24 شوال .
علي بن محمود بن أبي بكر ، القاضي علاء الدين ، السلماني ثم الحموي ، المعروف بابن المغلي ، الحنبلي ، ولد سنة 771 ، وتفقه ببلده ثم بدمشق ، فاخذ عن جماعة منهم زين الدين ابن رجب ، وكان يتوقد ذكاء فحفظ جملة من المختصرات في العلوم ، كالمحرر في الحديث لابن عبد الهادي ، والفروع في المذهب لابن الحاجب ، والتلخيص للقزويني ، والتسهيل لابن مالك ؛ وكان يحفظ كثيرا من الشروح والقصائد الطوال ، وينظم الشعر الوسط ، ويكرر على محفوظاته المختصرة ، ويستحضر شيئا كثيرا من الفنون ؛ وما أظن أنه كان في عصره من يدانيه في ذلك وإن كان فيهم من هو أصح ذهنا منه ، ولي قضاء حماة بعد التسعين ، ثم ولي قضاء حلب في سنة أربع وثمانمائة ، ثم ولي قضاء الديار المصرية من سنة سبع عشرة إلى أن مات مضافا إلى قضاء حماة فكان يستنيب فيها ، وكان ذلك بعناية كاتب السر ابن البارزي ، ومع طول ملازمته للاشتغال ومناظرته للأقران والتقدم في العلوم لم يشتغل بالتصنيف ، وكنت أحرضه على ذلك لما فيه من بقاء الذكر فلم يوفق لذلك ، وكان شديد البأو والإعجاب حتى وصفه بعضهم بأنه يحيط علما بالمذاهب الأربعة - مع احتمال ما يقع ممن يناظره من الجفاء ، ويكظم غيظه ولا يشفي صدره ، ويكرم الطلبة ويرفدهمبماله وكان واسع الحال جدا ، لأنه كان في الأصل تاجرا لم يزل يتكسب ، وكان كثير . . . وكان ممن أعان علم الدين صالح البلقيني على ولاية القضاء وصرف ولي الدين العراقي . لأن العلم كان يتلمذ له والعراقي كان يتمشيخ عليه فأحب أن يكون رفيقه من يعترف له دون من يتعاظم عليه فأعان على ذلك بقلبه وقالبه فانعكس الأمر ، وندم بعد أن تورط وصار يبالغ في الذم من العلم ، ووقفت على خطه نفسا كتبها في حقه بالغ فيها في الحط عليه ، ثم عوقب بأن أصيب بولده قبل إكمال الحول من عزل العراقي ثم أصيب بنفسه ، وكذا صنع الله بأن الكويز فإنه كان الأصل الكبير في هذه الكائنة فلم ينتفع بنفسه بعدها إلا قليلا واستمر موعوكا ستة أشهر إلى أن مات عقب موت العراقي بشهر واحد ويجتمع الكل عند الله تعالى ? وقد ذكرت في حوادث سنة سبع وعشرين ما اتفق له من العزم على الحج ثم تركه ذلك ووقوعه من السلموتوعكه ، فلما أهلت السنة انتكس وثار به القولنج الصفراوي فيقال إنه دس عليه السم فمات منه بعد أن حصل له الصرع قدر شهر ، وذلك يوم الخميس في العشرين من صفره ، واستقر في قضاء الحنابلة بعده محب الدين أحمد بن الشيخ نصر الله التستري ثم البغدادي ، وخلع عليه في الرابع والعشرين من صفر .
فرحة بنني ماتت في يوم الأربعاء تاسع شهر ربيع الآخر وكانت حجت في العام الماضي مع زوجها الشيخ محب الدين بن الأشقر ورجعت موعوكة إلى أن ماتت عن ثلاث وعشرين سنة وتسعة أشهر - عوضها الله الجنة .
فضل الله بن نصر الله بن أحمد ، التستري الأصل ثم البغدادي الحنبلي أخو قاضي الحنابلة محب الدين ، كان قد خرج من بلاده مع أبيه وإخوته وطاف هو البلاد ودخل اليمن ثم الهند ثم الحبشة وأقام بها دهرا طويلا ، ثم رجع إلى مكة فجاور بها قليلا وصحب بها الأمير يشبكالساقي الأعرج وكان المؤيد نفاه إلى مكة فجاور بها صحبته ، ثم لما رجع يشبك إلى القاهرة وتأمر حضر فضل الله إلى القاهرة فأكرمه ، واتفق موت الشيخ شمس الدين الحبتي فشغرت عنه مشيخة الخروبية فقرر فيها فضل الله المذكور بعناية يشبك المذكور بعد أ ، كان تقرر فيها غيره ، فاستمر بها إلى أن مات في شهر ربيع الأول وهو ابن ستين سنة أو جاوزها .
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد الحريري شمس الدين البيري أخو جمال الدين الأستادار ولد في حدود الخسمين ، وتفقه على أبي البركات الأنصاري ، وسمع من أبي عبد الله بن جابر وأبي جعفر الغرناطي نزيل البيرة بحلب وقرأ عليهما وتفقه ، وولي قضاء البيرى مدة ثم قضاء حلب سنة ست وثمانمائة ، ثم تحول إلى القاهرة في دولة أخيه بعد أن كان عزله حكم لما غلب على حلب فتوجه إلى مكة فجاور بها ، ثم قدم أبي القاهرة فعظم قدره وعين للقضاء ، ثم ولي مشيخه البيبرسية بعد الشريف النسابة ، ثم درس بالمدرسة المجاورة للشافعي بعد جلال الدين ابن أبي البقاء ، ثم انتزعتا منه بعد كائنة أخيه ، ثم أعيدت إليه البيبرسية في سنة ست عشرة وصرف عنها بكاتبه في سنة 18 ، ثم قرر في مشيخة سعيدالسعداء بعد موت البلالي سنة عشرين ، وكان قد ولى خطابة ببيت المقدس ؛ ومات في سحر يوم الجمعة 24 ذي الحجة ، واستقر بعده في مشيخة الصلاحية شهاب الدين أحمد بن المحمرة الذي كان بها مخبزيا قبل ذلك ، ثم ارتقى منها إلى ولاية القضاء بدمشق ، ثم عاد إلى المشيخة بالقاهرة ، ثم نقل منهاإلى مشيخة الصلاحية ببيت المقدس .
محمد بن أحمد بن محمد بن عبد العزيز اللخمي النستراوي شمس الدينابن أخي القاضي كريم الدين ناظر الجيش ، ولد سنة سبعين تقريبا ، وباشر الديوان مدة إلى أن ولي عمه نظر الجيش فباشر قليلا ، ثم ترك ذلك وزهد ولبس الثوف ، وسمع معنا على كثير من مشايخنا ، وكان يحب أهل الخير وينفر غاية النفرة ممن يتزوكر ، وأقام على قدم التصوف سبعا وثلاثين سنة مع صحة العقيدة وجودة المعرفة والصبر على قلة ذات اليد ومات ليلة الجمعة 12 شعبان .
محمد بن القاضي شهاب الدين أحمد ، الدفري المالكي شمس الدين ، ولد سنة بضع وستين ، وتفقه على مذهب مالك ، وأحب الحديث فسمعه وطاف على الشيوخ وسمع معنا كثيرا من الممايخ ، وكان حسن المذاكرة جيد الاستحضار ، درس بالناصرية الحسينية وغيرها ، وكان قليل الحظ ؛ مات في العشرين من جمادى الأولى .
محمد بن إسماعيل بن محمد بن محمد بن هانئ اللخمي المالكي ، القاضي ناصر الدين ابن القاضي سري الدين أبي الوليد قاضي حلب ثم طرابلس ، ولد سنة نيف وأربعين واشتغل قليلا وناب عن أبيه فعابوا على أبيه ذلك ، ثم ولي قضاء حماة ثم حلب في سنة ست وسبعين ، ثم ولي حماة وطرابلس وغيرها مرارا ، ثم ولاه نوروز قضاء دمشق سنة ستعشرة فساءت سيرته جدا ، ثم صرفه المؤيد إلى قضاء طرابلس سنة سبع عشرة فاستمر فيها عدة سنين ؛ كتب عنه القاضي علاء الدين وذكره في تاريخ حلب فقال كتبت عنه بطرابلس لما وليت قضاءها وكان هو قاضي المالكية بها وكان ظريفا كريما مسنا جوادا حسن الاخلاق ، مات في أوائل سنة 828 بطرابلس .محمد بن أبي بكر بن عمر ، المخزومي المالكي المعروف بابن الدماميني بدر الدين الإسكندراني ، ولد سنة ثلاث وستين وسبعمائة ، وتفقه بالإسكندرية وتعاني الآداب ففاق في النظم والنثر والخط ومعرفة الشروط . واستنابه ابن التنسي في الحكم ودرس بعدة مدارس ، ثم قدم معه القاهرة وناب في الحكم أيضا وتقدم ومهر واشتهر ذكره ، ثم تحول إلى الإسكندرية واستمر بها ينوب في الحكم ويشغل في العلم ويتكسب من التجارة ، ثم حصلت له محنة فقدم القاهرة وعين للقضاء ، وقام معه في ذلك ابن البارزي فلم يقدر فتوجه إلى الحج ثم دخل اليمن فلم يحصل له إقبال ، فدخل الهند فحصل له إقبال كبير وأقبلوا عليه وأخذوا عنه وعظموه ، وحصل له مال له صورة فاتفق أن بغتة الأجل فمات هناك في شعبان في هذه السنة عن نحو سبعين سنة ، ومن نظمه :
قلت له والدجى مول
ونحن بالأنس في التلاقي
قد عطس الصبح يا حبيبي
فلا تشتمه بالفراقي
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن المحب عبد الله بن أحمد بن محمد ، المقدسي الصالحي شمس الدين ، ولد في شوال سنة 755 ، وأحضره أبوه عند . . . وأسمعه على ابن قيم الضيائية ، وأحمد بن الجوخي وعمر ابن أميلة وست العرب في آخرين ، وحدث ، وشرع في شرح البخاري وتركه بعده مسودة ، وله نظم ضعيف ، وكان يقرأ الصحيحين على العامة ، وأجاز لأولادي غير مرة ؛ ومات بطيبة المكرمة في هذه السنة ، وكان يذكر عن نفسه أنه رأى مناما من نحو عشرين سنة يدل على أنه يموت بالمدينة ، وسمعوه منه قبل أن يخرج إلى هذه السفرة للحج ، فاتفقت وفاته بالمدينة في رمضان من هذه السنة ، وهو بقية البيت من آل المحب بالصالحية .
محمد الحموي النحوي المعروف بابن العيار شمس الدين ، كان في أول أمره حائكا ثم تعاني الاشتغال فمهر في العربية ، وأخذ عن ابن جابر وغيره ، ثم سكن دمشق ، ورتب له على الجامع تصدير بعناية البارزي ، وكان حسن المحاضرة ولم يكن محمودا في تعاطي الشهادات ؛ مات في ذي القعدة .حوادث سنة 829
سنة تسع وعشرين وثمانمائة
في حادي عشر المحرم صرف بدر الدين العينتابي من الحسبة واستقر فيها اينال الششماني وكان أمير عشرة ، وسعر القمح يومئذ مائتان وخمسون ، والشعير والفول جميعا كل إردب بثلاثمائة أزيد من سعر القمح ، وعز اللحم حتى بيع البقرى بتسعة كل رطل ، وبيع المطبوخ من الضأنى بعشرين ، وكان سعر الذهب البندقي كل مشخص بمائتين وخمس وعشرين ، ثم كثر اللحم بعد ولاية الششماني ، ثم تزايد القمح إلى أربعمائة إلى أن دخل جمادى الأولى فانحل السعر إلى ثلاثمائة ومائتين في . . .
وفي المحرم قدم حسن بن عجلان من مكة بوساطة ناظر الجيش ، وقام معه إلى أن أعيد إلى إمرة مكة ، وأمر بإعادة الجيش الذين أقيموا بمكة لحفظها من حسن ، وصرف على بن عنان عن إمرة مكة ، وبذل حسن مالا كثيرا اقترضه من التجار بالقاهرة ، وكتب تقليده وأرسله إلى مكة ، وأقام هو لإحضار بقية ما وعد به .
وفي مستهل صفر أمر السلطان القضاة أن يلزموا العوام بالصلاة ،فاجتمعوا في ثانيه بالصالحية ومعهم المحتسب ونائب الوالي ، وكتبوا ورقة لتقرأ على الناس ، وتولى قراءتها بعض نواب الحكم من باب النصر إلى جامع طولون في الشارع الأعظم .
وفي خامس عشر صفر عقد مجلس بالقضاة وبياض الناس من التجار ، وشاور السلطان القضاة في إبطال المعاملة بالدنانير البندقية المشخصة ، فاستحسنوا ذلك ، وضربت الأفلورية أشرفية ، ونودي بمنع المعاملة بالبندقية ، فظن الناس أن المعاملة بالدراهم البندقية تبطل فنودي بإبقائها .
وفي يوم الخميس السابع من ربيع الأول عمل المولد النبوي وابتدأوا به من بعد الخدمة ، ومد السماط بعد صلاة العصر وفرغ بين العشاءين ، وكانت العادة أن يبدأ بعد الظهر ويمد السماط المغرب ويفرغ عند ثلث الليل .
وفي السادس والعشرين من شهر ربيع الآخر صرف القاضي زين الدين التفهني عن قضاء الحنفية وقرر في مشيخة الشيخونية عوضا عن الشيخ سراج الدين قارئ الهداية بحكم وفاته ، وكان السراج لما مات سعى جماعة في المشيخة فأمر السلطان بجمعهم فاجتمعوا ، وتعصب جماعة من أهل الشيخونية للتفهني فقرره السلطان فيها ، ففرح بذلك ظنا منه أنه يضمها إليه مع القضاء ، فلما لبس الخلعة بها أحضر العينتابي فألبس الخلعةبولاية القضاء ، فسقط في يدي التفهني وندم حيث لا ينفعه الندم ونزل الشيخونية كئيبا ، ورجع أكثر الناس مع العينتابي إلى الصالحية ثم إلى منزله .
وفي رابع عشري ربيع الآخر صرف الشيخ علاء الدين الرومي عن مشيخة الأشرفية ، وقرر عوضه الشيخ كمال الدين ابن الهمام ، ولم يكن له في ذلك سعي ، وإنما كان تقرر درسه بقبة الصالح فطلب إلى القلعة وألبس الخلعة ، وكان سبب عزل علاء الدين أن شخصا من الصوفية مات وخلف مالا جزيلا فاحتاط عليه نقل عنه أمور فاحشة ، فغضب السلطان وأمر بإخراجه وعزل منها وتقرير كمال الدين .
وفي ربيع الآخر كتبت الجارة الجودرية في التفتيش على جاني بك الصوفي ، ولسبب فيه أن كتاب نائب الشام ورد وفيه أنهمختفي عند شخص جندي فلم يوجد ، فأمر أهلها بإخلائها وحرقها ، فرحلوا وتتبعت آثار جاني بك فلم يوقف له على أثر .
وفي الثالث عشر من جمادى الآخرة صرف القاضي محب الدين أحمد بن نصر الله عن قضاء الحنابلة ، واستقر عز الدين عبد العزيز ابن علي بن أبي العز المقدسي الذي كان ولي قضاء الشام ودرس بالمؤيدية ، وكان قبل ذلك قديما ولي قضاء بيت المقدس ، ثم فر من الشام لكائنة وقعت له مع الباعوني فوصل إلى بغداد وولي القضاء بها ؛ وكان ربما افتخر فقال : وليت قضاء الشام والعراق ومصر ولم يقع ذلك لأحد من أقراني .
وفي أول يوم من رجب أدير المحمل ، ولم تجر العادة بذلك بل كان يدار في النصف أو قبله أو بعده بقليل .
ذكر غزوة قبرس الكبرى
بلغ الأشرف أن جابوش - ويقال : جينوس - بن جاكم بن بيدو بن أنطون بن جينوس صاحب قبرس وكان قد ملكها من سنة ثمانمائة فراسل ملوك الفرنج يستنفزهم على المصريين ويشكو ما جرى على بلاده ،فأرسل كل منهم له نجدة ، وأرسل ملك الكتيلان ابن أخيه بمركب وفرسان ، وجد جابوش في عمارة المراكب والقراقر وعزم على قصد الإسكندرية تأسيا بوالده ، فإنه هو الذي كان طرقها في آخر سنة ست وستين ودخلها عنوة في آخر المحرم أوائل صفر سنة سبع وانتهبها - وأسر منها خلائق والقصة مشهورة ؛ فأمر السلطان لما بلغه ذلك بعمارة الأغربة والحمالات ، وجد في ذلك وبذل الأموال ، فلما تكاملت العمارة انحدرت إلى قوة ويقال إنه بلغت عدة العمارة أغربة وحمالات وزوارق - مائى قطعة وزيادة ؛ وندب السلطان ينال الجكمي وتغري بردى المحمودي وغيرهما من الأمراء الكبار والصغار للغزاة وأن يكون ينال على من في البحر والآخر على من في البر وأن لا يعارض أحدهما الآخر ، وكان معهم من الأمراء مراد خجا الشعباني - وإياس ويشبك الشاد واينال الأجرود وسودون اللكاشي وجانم المحمدي وغيرهم ؛وتلاقت المراكب من الإسكندرية مع المراكب المصرية بثغر رشيد في رجب ، فاتفق أن الريح هاجب في بعض الليالي ، فانكسرت أربع حمالات ومات فيها مائة فرس ، وتسعة أنفس ، وبلغ السلطان ذلك فتطير جماعة من الأمراء وثبت هو ولم يتطير ، وقال له كاتب السر وهو يومئذ بدر الدين بن هرمز : يا مولانا السلطان إن من كان أوله كسر يكون في آخره جبر ؛ ولما بلغ قراقر الإسكندرية ما جرى على الحمالات رجع أميرهم فأقام بعا تحت العساكر ، فلما كان مستهل شعبان هجم عليهم غراب وقرقوران مملوءة من المقاتلة جهزهم صاحب قبرس ليأخذوا من يجدونه بساحل الإسكندرية لعلمه بمسير القراقز الخمس إلى جهته بإعلام من بالبلد من الفرنج له ، فدخلوا وهم يظنون أن الخمس قراقب في رشيد ، فواجهوهم فأرشقوهم رميا بالنشاب إلى أن هزموهم فاتفق أنهم خرجوا مقلعين فوافتهم أغربة أرسلها إليهم من برشيد من الجند ، فلم يزل الجند مجتمعين والمراكب توافيهم من كل جهة إلى الرابع والعشرين من شعبان ، فساروا مقلعين حتى وصلوا إلى اللمسون فوجدوا الحصن الذي كانوا أحرقوه قد عمر وشحن بالمقاتلة فأحاطوا به في السابع والعشرين ، وصعد يشبك قرقش وهو من الفرسان المعدودين وقد ولي إمرة الموكب الأول في الحج بعد ذلك في سنة 44 ، فصعد هو ومن معه على سلم من خشب وتبعهم خلق كثير ، فهرب الفرنج الذينفي الحصن بعد أن كانوا أوقدوا قدور الزفت تغلي نارا ليصبوها على من يصعد إليهم من المسلمين ، فهزمهم الله تعالى وملكوا البرج الأول ؛ وأحاط بعض المسلمين بالأسكتية وهي قرية من قبرس خارجة عن حكم جابوش نظير الماغوصة وهي مع البنادقه ، فطلبوا من المسلين الأمان فأمنوهم ، فحملوا إليهم الهدايا والضيافات ، فسألوهم عن جابوش فقالوا إنه مستعد في خمسة آلاف فارس وسبعة آلاف راجل ، فراسلوه بأن يدخل تحت الطاعة ليؤمنوه على نفسه وجنده وبلده وإلا مشوا عليه وخربوا قصره وأسروه وقتلوه ، فلما بلغته الرسالة أخذته حمية الجاهلية فقتل الرسول وأحرقه ، فبلغ المسلمين الخبر في مستهل رمضان فانقسموا قسمين النصف مع المحمودي في البر والنصف مع الجكمي في البحر ، فلم يزل أهل البر سائرين حتى وصلوا موضع الكنيسة فوجدوها خرابا والبئر الذي بها قد هدم ، فحفروا حوله فظهر الماء فشربوا بعد أن كانوا عطشوا . ثم ساروا في جبال وتلال وهم صوام والحر شديد فنزلوا للقائلة في ظلال الشجر وإذا بصارخ صرخ : جاءكم العدو فثاروا وركبوا وحصلت رجفة عظيمة ، وكان جابوش لما قتل الرسول ركب في عساكره بعد عرضهم ، وجهز قراقرة في البحر للإحاطة بمن في البحر من المسلمين ، فلما تراءى الجمعان انحاز إلى بساتين هناك ، وجعل بينه وبين المسلمين نهرا ، وتقدم نحو الخمسمائة من المقاتلة فبرز لهم من المسلمين خمسة تغري بردى وقطلوبغا المؤيدي المصارع وعلانفبادروا الأبراج فلحق بهم ابن القاق مقدم العشير بالشام ومعه نحو الثلاثين فتنادوا : يا وجوه العرب ويال جركس إن أبواب الجنان فتحت ، إن متم كنتم شهداء ، وإن عشتم عشتم سعداء بيضوا وجوهكم وأخلصوا الله العمل ؛ فحملوا حملة واحدة ، فنصرهم الله تعالى ؛ وقاتل يومئذ قطلوبغا قتالا عظيما فعثر جواده فقام عنه وقاتل راجلا إلى أن قتل ، فلما رأى جابوش أمر
عسكره في إدبار وقد استظهر عليهم أهل الإسلام ركن إلى الهرب ثم إن عسكره خالفوه وحملوا ، فصبر لهم المسلمون واشتد الأمر ، فاتفق أن جابوش وقع عن فرسه فنزل أصحابه فأركبوه ، فوقع ثانيا فنزلوا وأركبوه ، فكبا به الفرس ثالثا فدهشوا وذهلوا عنه ، وانكسر عسكره وولوا الأدبار ، فرآه بعض الترك فأرشقوهم نبلا ، فلم يزالوا كذلك إلى أن غربت الشمس ، وقيل إن جملة من قتل منهم في ذلك اليوم ستة آلاف ؛ ثم رجع المسلمون فنزلوا على الماء وباتوا على أهبة ، فلما أصبحوا توجه يشبك الشاد ومن معه إلى جبل الصليب فخربه وما حوله من الديارات ، وأحضروا الصليب الذي كان به وكانوا يعظمونهحتى سموه صليب الصلبان ، ثم سار المحمودي بالعسكر إلى جهة الملاحة ، وتوجه بعض العسكر إلى من بالمراكب ، فأعلموهم بما وقع من المسلمين ، أن صاحب قبرس مقيد ، وأن أخاه قتل ، وأن ابن أخي صاحب الكتيلان الذي جاء نجدة له مقيد ، ثم وصل العسكر وكان ثاني شهر رمضان . ره في إدبار وقد استظهر عليهم أهل الإسلام ركن إلى الهرب ثم إن عسكره خالفوه وحملوا ، فصبر لهم المسلمون واشتد الأمر ، فاتفق أن جابوش وقع عن فرسه فنزل أصحابه فأركبوه ، فوقع ثانيا فنزلوا وأركبوه ، فكبا به الفرس ثالثا فدهشوا وذهلوا عنه ، وانكسر عسكره وولوا الأدبار ، فرآه بعض الترك فأرشقوهم نبلا ، فلم يزالوا كذلك إلى أن غربت الشمس ، وقيل إن جملة من قتل منهم في ذلك اليوم ستة آلاف ؛ ثم رجع المسلمون فنزلوا على الماء وباتوا على أهبة ، فلما أصبحوا توجه يشبك الشاد ومن معه إلى جبل الصليب فخربه وما حوله من الديارات ، وأحضروا الصليب الذي كان به وكانوا يعظمونه حتى سموه صليب الصلبان ، ثم سار المحمودي بالعسكر إلى جهة الملاحة ، وتوجه بعض العسكر إلى من بالمراكب ، فأعلموهم بما وقع من المسلمين ، أن صاحب قبرس مقيد ، وأن أخاه قتل ، وأن ابن أخي صاحب الكتيلان الذي جاء نجدة له مقيد ، ثم وصل العسكر وكان ثاني شهر رمضان .
فلما كان يوم الخميس خامسه ساروا إلى الأفقيسة - وهي كرسي المملكة ، فلما رأى الفرنج الذين في القراقر خلف البحر من الجند حطموا على اكب المسلين ، فأمر الجكمي من بقي معه بمدافعتهم وأرسل إلى المحمودي يعلمه فأعاد عليه أكثر العسكر وتأخر معه طائفة ، فلما رجعوا وجدوهم في وسط القتال فأعلنوا بالتكبير ، فأجابهم من في البحر وبادروا إلى طلوع المراكب ومشوا على مراكب الفرنج ، فاشتد القتال إلى أن دخل الليل فحجز بينهم ، فلما طلع الفجر أبعدت مراكب الفرنج عن المسلمين ، فلما هبوا تفطن الجكمي فلم يجد الريح تساعدهم ، فتبعهم إياس الجلالي فقطع مركبا ووقع القتال بينهم ، وكان بالمركب ثلاثمائة مقاتل غير الأتباع ، فرمى عليهم بالسهام الحطابية حتى ما بقي أحد منهم يجسر يخرج رأسه فطلع المسلمون وملكوها وقتلوا أكثر من بها .
واستمرت بقية المراكب هاربة في البحر حتى غابوا عن الأعين ، وكفى الله المؤمنين القتال بهزيمة من في البحر من الفرنج وكان سبب ثيابهم في القتال أنهم لم يعلموا ما اتفق لملكهم من الأسر ولعسكرهمن الهزيمة ، واستمر المحمودي حتى أخذ المدينة هو ومن معه وذلك في يوم الجمعة خامس شهر رمضان ، فخشى من مع المحمودي على أنفسهم لقلتهم فشجعهم المحمودي ، ثم دخل القصر فوجد به من الأمتعة ما لا يحصى ، فأقاموا بها صلاة الجمعة وأذنوا على صوامع الكنائس ، ثم خرجوا يوم السبت ومعهم الغنائم الكثيرة والأسرى ، فلما وصلوا إلى المراكب اجتمعوا وأحصوا عدد الأسرى فكان ثلاثة آلاف وسبعمائة نفس .
واختلف رأيهم في الإقامة والمطالعة بما وقع من الفتح وانتظار وصول الرسول بالجواب أو التوجه بالأسرى والغنائم والعود إذا أراد السلطان مرة أخرى لاستئصال بقية الفرنج والاستيلاء على بقية الغنائم ، فغلب الرأي الثاني ، وصحبتهم الغنائم والأسرى ومن جملتهم عظيمهم وهو مقيد ، فلما وصلوا إلى ساحل بولاق أركب صاحب قبرس وولده وابن أخي صاحب الكتيلان على بغال عرج وأعلامه منكسة أمامه وحملتالغنائم والأسرى على الجمال والبغال وشقوا المدينة ، وكان ذلك يوم الاثنين ثامن شوال ، ومعه الأمراء والجند ، ولم يبق بمصر والقاهرة وضواحيها كبير أحد إلا حضر الفرجة حتى سدوا الأفق ، وكان أول الحمالين باب المدرج وآخرهم بولاق ، فلما وصلوا به إلى القلعة كشف رأسه وكب على وجهه حتى قبل الأرض عند الباب ، ثم أحضر بين يدي السلطان فقبل الأرض مرارا وسقط مغشيا عليه ، فلما أفاق ردوه إلى مكان أعد له وكانت صورة دخولهم أنهم ترتبوا من الميدان الكبيرثم أدخلوهم من باب القنطرة فشقوا القاهرة ، واجتمع أهل البلد حتى لم يتخلف كبير أحد ، فكان أمرا مهولا من كثرة الخلق ، وجاز الأمراء ثم الأسرى ثم الغنائم ، ونصبوا تاج الملك وأعلامه منكسة وهو راكب على بغلة مقيد ، فلما وصل إلى المدرج باس الأرض ومشى في قيده إلى أن وقف قدام السلطان بالمقعد ، وحضر ذلك أمير مكة ورسل ابن عثمان ورسل ملك تونس ورسل أمير التركمان ورسل ابن نعير وكثير من قصاد أمراء الشام ، فكان اتفاق حضورهم من المستغرب ، فلما رأى السلطان عفر وجهه في التراب بعد أن كشفه ، وخلع السلطان على الأمراء ، ثم قرر عليه مائتا ألف دينار ، يحمل منها هو بمصر النصف ويرسل النصف إذا رجع ، وألزم بحمل عشرين ألف دينار كل سنة ، ثم أفرج عنه بعدان حمل ما قرر عليه معجلا ، وتوجه فأرسل شيئا بعد شيء إلى أن أكمل ما أرسله خمسة وسبعين ألف دينار ؛ وقدرت وفاته عقب ذلك ، ويقال إنه كان فهما عاقلا ينظم الشعر بلسانه ويعربه بالترجمان بالتركي فأملأ على بعض من معه هذه الأبيات :
يا مالكا ملك الورى بجسامه
انظر إلي برحمة وتعطف
وارحم عزيزا ذل وامنن بالذي
اعطاك هذا الملك والنصر الوفي
إن لم تؤمني وترحم غربتي
فبمن ألوذ ومن سواكم لي يفي
فلما قرئت على السلطان وعرف معناها رق له وقال : عفوت عنه ، وتقرر الحال معه بعد ذلك أن يكون نائبا عن السلطان في قبرس وما معهاوأن يقرر عليه لبيت المال في كل سنة ألفي ثوب صوف ملونة قيمتها قريب من عشرين ألف دينار وأن يعجل بسبعين ألف دينار خارجا عن الذي يحتاج إليه للحاشية فألبس تشريفا ومركوبا وعذبة ، وتوجه المسفر صحبته إلى الإسكندرية ، فطلب جميع التجار من الفرنج المقيمين بها فأقرضوه المبلغ جميعه ، فعجل به قبل أن يصل إلى بلاده ، وكان أمير الإسكندرية يومئذ آقبغا التمرازي فأمر بعرض جميع من بها من الجند فكانت عدتهم ألفين وخمسمائة ملبس ، واجتمع من الرعية ما لا تحصى عدتهم فاصطفوا له سماطين على طريقه ، فلما رأى كثرتهم قال : الله إن كل من في بلاد الفرنج ما يقاوم أهل الإسكندرية وحدهم وقد تقدم أن أباه رمى بطرس هو الذي كان هجم على الإسكندرية في سلطنة الأشرف شعبان بن حسين فقدر الله تعالى أن ولده جابوش يدخلها في صورة الأسير في سلطنة الأشرف برسباي - ولله الحمد على جزيل هذه النعمة وكان رتب له رواتب تقوم بكفايته وكفاية من يخدمه ، وكان من أمره ما سأذكره إن شاء الله تعالى في السنة الآتية ، وفرح المؤمنون بنصر الله تعالى وكان ذلك على غير القياس ، فإن الجند الذين توجهوا إلى قبرس لم يكن لهم عادة بركوب البحر ولا بالقتال فيه فمن الله على المسلمين بلطفه ونصرهم ، ولو كانت الأخرى لطمع الفرنج في بلاد المسلمين خصوصاالسواحل ، وطار خبر هذه الغزاة إلى الآفاق وعظم بها قدر سلطان مصر ولله الحمد وأنشد الأديب زين الدين عبد الرحمن بن محمد ابن الخراط موقع الدست بالقلعة قصيدة فائية أولها :
بشراك يا ملك الملوك الأشرف
بفتح قبرس بالحسام المشرف
فتح لشهر الصوم تم قتاله
من أشرف في أشرف في أشرف
أحيا الجهاد وكان قبل على شفا
من تركه فشفيته حتى شفي
قالت دمى تلك الديار وقد عفا
إنجيلهم أهلا بأهل المصحف
وفي طويلة يقول في آخرها :
لم تخلف مثلك فاتكا
ملكا ومثلي شاعرا لم تخلف
فيك التقى والعدل والإحسان في
كل الرعية والوفا والفضل في
وبيع السبي والغنائم وحمل الثمن إلى الخزانة السلطانية وفرق في الذين جاهدوا منه بعضه بعد أن كان السلطان هم أن يقسم الغنيمة بالفريضة الشرعية ثم انثنى عزمه عن ذلك .
وفي ثالث شعبان ابتدئ بقراءة الحديث بالقلعة وبدأ القارئ يقرأ في صحيح مسلم ، وأمر السلطان بإحضار القضاة المنفصلين فجلسوا عن يسار السلطان ، وجلس كاتبه عن يمينه وبجانبه العينتابي ثم المالكي ثم عبد العزيز الحنبلي ، وجلس المشايخ يمنة ويسرة وهم يزيدون على العشرة ، ووقعت فوائد ومباحث فظهرت مقادير انحطاطا وارتفاعا ، فلما كان يوم الختم خلع على القضاة التشاريف على العادة لكنهم كانوا سبعة ، وخلععلى المشايخ بسعي العيني فراجى صوف بسنجاب وفرجية وهو بسمور وهي أول سنة خلع فيها على المشايخ وكانوا نحو عشرة .
وفي النصف من ذي القعدة وصل نجم الدين ابن حجي الذي كان كاتب السر وبقي في السنة الماضية فلم يزل يسعى ويكاتب يبذل المال إلى أن أجيب وأذن له بالمجيء إلى القاهرة بعناية من كان السبب في صرفه وهو جانبك الدويدار ، فلما استقر بالقاهرة سعى في قضاء الديار المصرية ، فأجيب سؤاله واستدعى بديوان خطب فحفظ منه خطبة عيد النحر ظنا منه أنه ربما أفضت إليه الولاية عاجلا فاحتاج إلى أن يخطب يوم العيد ، وأمر بخياطة ملابس القضاة من فوقانية ونسج عذبة وغير ذلك ، ففي غضون ذلك وصل الشريف شهاب الدين نقيب الأشراف الحسيني الذي كان ولى القضاء عوضا عنه لما أسفر في كتابة السر ومعه من الهدايا والتحف ما لا يوصف كثرة وذلك في أواخر ذي الحجة ، فأهدى للسلطان وبقية الكبار هدايا خليلة حتى لم يدع من شاء الله من الرؤساء حتى أهدى له فقلب الله القلوب ، وقرر ابن حجى في قضاء الشام وأمر بأن يرجع الشريف بطالا ، فتوجها إلى الشام في السنة المقبلة .
وفيها في ذي القعدة بلغ عجلان بن ثابت بن هبة الحسني أمير المدينة أن السلطان عزله وولى ابن عمه خشرم بن جماز بن هبة فقبض علىالخدام والقضاة ونهب المدينة ، فلما وصل خشرم مع أمير الحاج الشامي وجد عجلان أخلى المدينة فأقام خشرم وتوجه الركب الشامي إلى مكة ، فعاد عجلان فأمسك خشرم وخرب بيوتا كثيرة وأحرق بيوتا وسلم منه بيوت الرافضة ، وكان قد أقام من الرافضة قاضيا اسمه الصيقل وكان يرسل إليه غالب الأحكام .
وجلى أهل المدينة إلا الرافضة وإلا القاضي الشافعي فإنه كان استنزل شخصا من أقارب خشرم يقال له مانع فأجاره . وفيها استقر مقبل الرومي في نيابة صفد عوضا عن اينال الخازندار بحكم مخامرته هو وأخوه وكان يومئذ نائب القلعة فاتفقا فتحيل مقبل عليهما حتى قبض عليهما فقتلا .
وفيها خرجت العساكر إلى هابيل بن قرايلك بمدينة الرها فغلبوا عليها وانتهبوها ، واسروا هابيل وأحضروه إلى القاهرة فسجن بالقلعة حتى مات في الطاعون ، الكائن في سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة .
وفيها جهز السلطان برسبغا إلى ينبع وقرقماس الشعباني إلى مكة ، فغلب برسبغا على صاحب ينبع وجهزه في الحديد إلى السلطان ، وأقامقرقماس بمكة فمهد البلاد وقطع أثر المفسدين .
وفيات سنة 829
ذكر من مات في سنة تسع وعشرين وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن محمد بن مكنون ، شهاب الدين المنافي القطوي ، ولد بها سنة تسع وسبعين وأبوه إذ ذاك الحاكم بها ، ونشأ نشأة حسنة وحفظ الحاوي ، واشتغل في الفرائض ، ولازم الشيخ شمس الدين الغراقي في ذلك ، وكان يستحضر الحاوي وكثيرا من شرحه ، واشتغل في الفقه قليلا ، ثم ولي قضاء قطية بعد أبيه ، ثم ولي قضاء غزة بعناية القاضي ناصر الدين ابن البارزي في أول الدولة المؤيدية ، ثم استقر في قضاء في دمياط مع بقاء قطية معه فاستناب فيها قريبه زين الدين عبد الرحمن واستمر في دمياط في غاية الإعزاز والإكرام ، فلما انفصلت الدولة المؤيدية تسلط عليه أناس بالشكاوى والتظلم ، وكان كثير الاحتمال حسن الأخلاق ، وصاهر عندي على ابنتي رابعة ودخل بها بكرا ابنة خمس عشرة سنة فولدت منه بنتا ثم مات عنها ، فتزوجها الشيخ محب الدين ابنالأشقر فماتت عنده - عوضها الله الجنة ومات ابن مكنون في شهر رمضان وكثر الأسف عليه .
اينال النوروزي أمير سلاح مات في أول ربيع الآخر بالقاهرة . أبو بكر بن محمد بن عبد الله الشيخ تقي الدين الحصني ثم الدمشقي الفقيه الشافعي ، ولد سنة 752 ، وتفقه بالشريشي والزهري وابن الجابي والصرخدي والغزي وابن غنوم ، وأخذ عن الصدر الياسوفي ثم انحرف عن طريقته ، وحط على ابن تيمية وبالغ في ذلك ، وتلقى ذلك عنه الطلبة بدمشق ، وثارت بسبب ذلك فتن كثيرة ، وكان يميل إلى التقشف ، ويبالغ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وللناس فيه اعتقاد زائد ، ولخص المهمات في مجلد ، وكتب على التنبيه ، وكانت وفاته في 141 جمادى الآخرة ،قال القاضي تقي الدين الأسدي : كان خفيف الروح منبسطا ، له نوادر ، ويخرج إلى التنزه ويحث الطلبة على ذلك ، مع الدين المتين والتحري في أقواله وأفعاله ، وتزوج عدة نساء ثم انقطع وتقشف وانجمع ، وكل ذلك قبل القرن ، ثم ازداد بعد الفتنة تقشفه وانجماعه وكثرت مع ذلك أتباعه حتى امتنع من مكالمة الناس ، ويطلق لسانه في القضاة وأصحاب الولايات ، وله في الزهد والتقلل من الدنيا حكايات تضاهي ما نقل عن الأقدمين ، وكان يتعصب للأشاعرة ، وأصيب في سمعه وبصره فضعف ، وشرع في عمارة رباط داخل الباب الصغير فساعده الناس بأموالهم وأنفسهم ، ثم شرع في عمارة خان للسبيل ففرغ في مدة قريبة ، وكان قد كتب بخطه كثيرا قبل الفتنة ، وجمع تواليف كثيرة في الفقه والزهد .
حسن بن سويد ، المصري المالكي القاضي بدر الدين ، كان أصله من سوق شنودة وسلفه من القبط ، ويقال إن أباه كان يبيع الفراريج ، ذكر لي ذلك بعض ثقات المصريين عن شيخنا شمس الدين المراغي أنه شاهده ، ورزق سويد هذا من الأولاد جماعة نبغوا وصاروا من أعيان الشهود بمصر منهم شمس الدين الأكبر وبدر الدين هذا ، ولازم الاشتغالفي مركز الشافعية بباب العبد والمتجر الكارمي ، ومجلس القاضي فخر الدين القاياتي ، ودروس الشيخ شمس الدين المراغي ، ثم حصل مالا واتجر به إلى اليمن في سنة ثمانمائة ثم عاود البلاد مرارا واتسعت حاله جدا ، وتزوج بنت الهوريني التي من بنت القاياتي بعد موت زوجها والد الشيخ سيف الدين الحنفي فاستولى على تركة القاياتي بعد موته وأدخل معه فيها من شاء ، وبنى مدرسة تقابل حمام جندر ومات قبل أن تكمل ، وأوصى لها بأربعة آلاف دينار لتكميلها فصيرها أولاده بعد جامعا وأبطلوا ما كان صيره هو من كونها مدرسة ، ولم يدرس بها تدريسا ، وحصل في ذلك خبط كثير ؛ مات في أوائل صفر .
حسن بن عجلان بن رميثة ، الحسني أمير مكة السيد الشريف ، وكان قدم صحبة قرقماس من الحجاز في المحرم ، واجتمع بالسلطان ، وقرره في إمرة مكة على عادته وألزم بثلاثين ألف دينار ، أحضر منها خمسة آلاف وأقام ليتجهز فتأخر سفره إلى أن كان في سادس عشر جمادى الآخرة فمات ، وكان أول ما ولي الأمرة بعد قتل أخيه علي بن عجلان في ذي القعدة سنة سبع وتسعين ، فكانت مدة إمرته اثنتين وثلاثين سنة سوى ما تملكها من ولاية غيره ، وكان في هذا الشهر قد تجهز وأخرج أثقاله ظاهر القاهرة ، وقدم ولده بركات في رمضان من مكة فالتزم بما بقي على والده ،والتزم كل سنة بأن يحمل عشرة آلاف دينار ، والتزم أن يكون ما جرت به العادة من مكس جدة يكون له ، وما تجدد من مراكب الهند يكون للسلطان خاصة .
خليفة المغربي الأزهري الشيخ المعتقد ، مات في 21 المحرم فجأة في الحمام ، وكان قد انقطع للعبادة بالجامع الأزهر نيفا وأربعين سنة ، ووجد له شيء كثير .
شمس بن عطاء الله ، الهروي القاضي شمس الدين واسمه محمد بن عطاء الله بن محمد بن محمود بن محمود بن فضل الله بن الرازي الهروي الشافعي ، مولده بهراة سنة 767 ، كان إماما بارعا في فنون من العلوم ويقرئ في المذهبين الشافعي والحنفي والعربية والمعاني والبيان ، ويذاكر بالأدب والتاريخ ، ويستحضر كثيرا من الفنون ، وله تصانيف تدل على غزر علمه واتساع نظره وتبحره في العلوم ، وتقدمت أخباره مفصلة في سنة ثماني عشرى ، وفي سنة إحدى وعشرين ، وفي سنة سبع وعشرين ، وكان قد حج في سنة ثمان وعشرين ، ثم رجع إلى القدس فمات به وهو شيخ الصلاحية في ثامن عشر ذي الحجة ، وكان شيخا ضخما طوالا أبيض اللحية مليح الشكل إلا أن في لسانه مسكة .علي بن عبد الله بن محمد بن الحسين بن علي بن إسحاق بن سلام ابن عبد الوهاب بن الحسن بن سلام الدمشقي علاء الدين أبو الحسن الشافعي ، ولد سنة خمس أو ست وخمسين ، وحفظ القرآن والتنبيه والألفية ومختصر ابن الحاجب ، وتفقه على علاء الدين ابن حجي وابن قاضي شهبة وغيرهما كالشهابين الزهري والحسباني ، وارتحل إلى القاهرة فقرأ بها الأصول على الضياء القرمي والمختصر على الركراكي المكي وكان يطريه حتى كان يقول : كان يعرفه أكثر من مصنفه ، فاشتهر وتميز ومهر ، فكان يبحث في حلقة ابن خطيب يبرود فينتشر البحث بين الطلبة بكثرة تفننه وإشكالاته ، وأصيب في الفتنة الكبرى بما لهوفي يده بالحرق ، وأسروه فسار معهم إلى ماردين ثم انفلت منهم ، وقرره نجم الدين ابن حجي في الظاهرية البرانية بعد وفاة أخيه ، ونزل له التاج الزهري عن العذراوية بمساعدة ابن حجي ، ودرس بالركنية بعد ابن خطيب عذراء ، وكان يحفظ كثيرا من الرافعي وإشكالات عليه وأسئلة حسنة ، ويقرئ في الفقه إقراء حسنا وكذا المختصر ، وله يد في النظم والأدب والنثر ، وكان بحثه أقوى من تقريره ، وكان مقتصدا في ملبسه وغيره شريف النفس حسن المحاضرة ، وكان ينسب إلى نصرة مقالة ابن عربي ، فإذا حوقق في أمره تبرأ من تلك المقالات ويتحمل لها تأويلات والله أعلم بغيبه ، وكان يطلق لسانه في جماعة من الكبار ، واتفق أنه حج في هذه السنة فلما رد من الحج والزيارة مات في وادي بني سالم في أواخر ذي الحجة ، وحمل إلى المدينة فدفن في البقيع وقد شاخ ، لقيته قديما بدمشق وسمعت من فوائده ، وكان أخذ الفقه عن الحسباني وابن الزهري والأصول عن الضياء القرمي .
عمر بن علي بن فارس ، الشيخ سراج الدين الخياط الطواقي الحنفي المعروف بقارئ الهداية ، وكان في أول أمره خياطا بالحسينية وتنزل في طلبة البرقوقية وتمهر في الفقه وغيره ، واستقر قارئ الشيخ علاء الدينالسيرامي بها فلقب بقارئ الهداية تمييزا له عن سراج الدين آخر كان يقرأ في غيره ، وسمع الحديث من . . . وتقدم في الفقه إلى أن صار المشار إليه في مذهب الحنفية ، وكثرت تلامذته والأخذ عنه ، وولي مشيخة الشيخونية بأخرة بعد ابن التباني ، فلما مات استقر فيها زين الدين التفهني بعد عزله عن القضاء بالعيني ، واستقرت بقية وظائف سراج الدين بيد ولده ، وناب عنه فيها صاحبنا عبد السلام البغدادي ، مات في ربيع الآخر بعد أن أنتهت إليه الرئاسة في مذهبه ، وصار المعول على فتياه مع جلالته في أصول الفقه والعربية والنحو وغيرها ، وشارك في فنون كثيرة ، وكان مقتصدا في ملبسه ومركبه ، يتعاطى حوائجه من الأسواق بنفسه ولم يؤثر ذلك في جلالته وعظمته في النفوس ومهابة السلطان ممن دونه له هذا وهو غير ملتفت لأهل الدولة بالكلية ، ولما ولى مشيخة الشيخونية أراد التوجه إليها ماشيا من مسكنه بالظاهرية ، فأرسل إليه الأشرف فرسا وألزمه بركوبها ، فلما ركبها أخذ بيده عصا يسوقها بها حتى وصل إلى الخانقاه ، فنزل عنها كما ينزل عن الحمار برجليه من ناحية واحدة ، هذا وهو على ما هو عليه من الوقار والأبهة التي لم يبلغها أصحاب الشكائم والعمائم .قجق الظاهري أتابك العساكر بالديار المصرية ، مات في تاسع رمضان .
محمد بن أحمد بن ظهيرة بن أحمد بن عطية بن ظهيرة ، المخزومي المكي الشافعي ، ابن عم الشيخ جمال الدين محمد بن عبد الله بن ظهيرة ، يلقب كمال الدين ويكنى أبا الفضل ، ولد في شهر ربيع الآخر سنة ست وخمسين ، وسمع من عز الدين ابن جماعة والشيخ خليل المالكي والموفق الحنبلي وابن عبد المعطي ، وناب في الخطابة ، وحدث ، وأضر بأخرة ؛ ومات في صفر .
محمد بن محمد بن أبي القاسم ، أبو عبد الله الرخاجي ، أحد مشايخ الصوفية بزبيد ، كان قد تقدم عند الأشرف إسماعيل ثم عند ولده الناصر ، وكان يلازمه وينادمه ويحضر معه جميع ما يصنعه من خير وشر من غير تعرض لإنكار ، وكان حسن الوساطة ؛ مات في رابع عشر ذي القعدة وله ست وسبعون سنة .
يوسف بن خالد بن أيوب ، القاضي جمال الدين الحسفاوي الشافعي ،نشأ بحلب وقرأ في الفقه على ابن أبي الرضى وقرأ عليه القراآت ، ثم سافر إلى ماردين فأخذ عن زين الدين سربجا وولي قضاء ملطية مدة ، ثم دخل القاهرة ولي قضاء حلب ثم قضاء طرابلس ثم كتابة السر بصفد ، وكان حسن الشكل فائق الخط قوي النظم ؛ مات بطرابلس في ثالث عشر المحرم .
حوادث سنة 830
سنة ثلاثين وثمانمائة
أولها السبت ففي الثامن منه خلع على نجم الدين بن حجي بقضاء الشام عالى قاعدته وصرف الشريف شهاب الدين فأقام قليلا ، ثم أمر السلطان بسفره إلى الشام بطالا ، فأول شيء صنعه ابن حجي أنه قرب أبا أسامة الذي كان أثبت عليه المال الجزيل فيما مضى ظلما وعدوانا فأحسن إليه ، ثم استدعى منه أن يثبت على الشريف نظير ما أثبت عليه ، فأجابه إلى ذلك فبادر وفعل ، وطولع السلطان بذلك فألزم الشريف بما ثبت عليه وعد ذلك من العجائب ، واشتهر أبو أسامة بالأحكام الباطلة ، واستعاذ كل مسلم من شره لجرأته على الأمور الفظيعة ، فخشى عاقبة ذلك فتحزل إلى القاهرة فسكنها مدة ، ثم أخرج منها بعد لا بارك الله فيه . وكان صرف الشريف من وظيفة القضاء مما يعد من الخوارق ، فإنه لم يكن بقي أحد من أهل الدولة له مال إلا وتعصب له أن يستمر ، فعاكس السلطان الجميع .
وفي المحرم نودي على أهل الذمة أن يصغروا عمائمهم وأن لا يدخلواالحمامات مع المسلمين ومن دخل منهم فليكن في عنقه جلجل أو طوق حديد إلى أشياء كثيرة اخترعها المحتسب تبعا لغيره ، فضجوا من ذلك ورفعوا أمرهم إلى السلطان ، فأحضر القضاة في ثالث عشر المحرم وسألهم ما يجب عليهم فتقر الحال أن لا يدخلوا الحمام إلا بخيط في رقبة ويكون فيه خاتم من حديد أو رصاص ، وأن لا يتعرض لعمائمهم الملونة كبرت أو صغرت ، وأن نساءهم يتميزن من النساء المسلمات بشيء يكون قدر الكف أو أصغر من لون عمائم رجالهن ؛ فصنع ذلك وكتب على أكابرهم والتزموا به .
وفيها صرف خشرم عن إمرة المدينة وأعيد عجلان .
وفي ذي الحجة منع من البيع في داخل المسجد الحرام ، ومن نصب الصواوين داخله ، ومن نقل المنبر عند خطبة الجمعة من مكانه بجانب المقام إلى ظهر الكعبة .
وفي أواخر شعبان تكلمت مع السلطان في أن لا يطفأ القناديل في رمضان إلا قبيل طلوع الفجر لما يحصل للناس من الإجحاف ممن ينام ثم يستيقظ عطشان فلا يجد القناديل تقد فيظن أن الأكل والشرب حرم وليس كذلك ، فوافق السلطان على ذلك ثم عقد لذلك مجلس ، فاتفق من حضر على أنه يترتب على ذلك أن يغلط من كان يعرف العادة المستمرة فيبطل صومه ، فتوقف الأمر واستمرت العادة - ولله الأمر .
وفي هذه السنة صرف أبو السعادات محمد بن أبي البركات محمد بنأبي السعود ابن ظهيرة عن قضاء مكة واستقر الجمال محمد بن علي الشيبي ، ولما حج مع الناس استقر في مباشرة الحكم ، وأمر بسد أبواب الحرم كلها إلا أربعة أبواب ، فحصل للناس بذلك مشقة شديدة فكان ما سنذكره .
وفيها وصلت من الهند من صاحب بنجالة هدايا جليلة لجماعة من الناس خصوصا الشيخ علاء الدين محمد بن محمد بن محمد البخاري ثم الهندي نزيل القاهرة ، ووصلت أيضا هدايا من صاحب الهند .
وفي العشر الأخير من شعبان انكشفت رأس بعض المماليك وهو يلعب بالرمح ، فظهر أنه أقرع فضحكوا منه . فسأل السلطان أن يقررهشاد القرعان ، فكتب له مرسوم بذلك ، فكان يدور على الناس فمن ظن به أنه أقرع كشف رأسه فإن وجده أقرع أخذ منه ثلاثة دراهم فضة وثلثا ثم اضمحل أمره بعد قليل .
وفيها قدم سودون نائب الشام ، ثم رجع إلى إمرته بعد عشرة أيام ، وصرف أزدمر شايه عن إمرته بالقاهرة وقرر حاجبا بحلب .
وفيها خرج عرب الشرق من الحجاز على أهل الركب العراقي فانتهبوهم ، وكان من جملتهم ولدان لحسن بن عجلان كانا انتجعا المشرق ، فأكرمهما الملوك اللنكية وغيرهم ورجعا بمال ونهب ، وذهبت للتجار العراقيين أموال عظيمة كثيرة جدا .
وفي أواخر السنة بلغ السلطان أن بعض التركمان نازل الملطية ، فأمر بتجريده ثم بطلت ، وجهز قانباي البهلوان أميرا عليها .
وفي خامس عشري شهر ربيع الآخر مات كافور الزمام ، وكان قد عمر وقارب التسعين ، ودفن في تربة بناها بالصحراء .
وفي عاشر جمادى الآخرة قبض على تغري بردى المحمودي ، وهو يومئذ راس نوبة كبير ، وكان حينئذ يلعب مع السلطان بالأكرة في الحوش ، وذكر أن ذنبه ما نقل عنه أنه اختلس من الأموال من قبرسوشيع في الحال إلى الإسكندرية مقيدا .
ومن عجائب ما اتفق له في تلك الحال أن شاهد ديوانه شمس الدين محمد بن الشامية لحقه قبل أن يصل إلى البحر فقال له وهو يبكي : يا خوند هل لك عندي مال ? وقصد أن يقول : لا ، فشفعه ذلك بعده عند السلطان وغيره ، فكان جوابه له : أنا لا مال لي بل المال للسلطان ، فلما سمعها ابن الشامية ، دق صدره ، واشتد حزنه وسقط ميتا من غير ضعف ولا علة .
وفي آخر يوم من ذي القعدة استقر بهاء الدين ابن نجم الدين ابن حجي في قضاء الشام مكان والده ، وبذل في ذلك ثلاثين ألف دينار - وسيأتي ذكر قتل أبيه في ترجمته .
وفيات سنة 830
ذكر من مات في سنة ثلاثين وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن عرب أبو العباس المعروف بابن عرب اليماني الزاهد بالشيخونية ، انتقل أبوه من اليمن إلى بلادالروم فسكنها وولد له بها أحمد هذا فنشأ بمدينة برصا ، فكان يقال له : ابن عرب ، على عادة الروم والترك في تسمية من لم يكن منهم عرب ، ونشأ أحمد هذا نشأة حسنة ، ثم قدم القاهرة وتنزل في القاعدة التي استجدها أكمل الدين صوفيا ، وقرأ على خير الدين سليمان بن عبد الله ، ونسخ بالأجرة واشتغل ، ثم انقطع عن الناس فلم يكن يجتمع بأحد ، واختار العزلة مع المواظبة على الجمعة والجماعة ، واقتصر على ملبس خشن جدا وقنع بيسير من القوت ، ومهما اطلع على أن أحدا من الباعة عرفه فحاباه لم يعد إليه ، وكان يتنكر ويشتري قوت يومين أو ثلاثة بعد العشاء ويدخل الجامع من أول النهار يوم الجمعة ، ولا يكلم أحدا في حال ذهابه ولا إيابه ، فأقام على هذه الطريق أكثر من ثلاثين سنة ولم يكن في عصره من داناه في طريقته ، وكان يدري القراآت ، مات ليلة الأربعاء ثاني شهر ربيع الأول ، ومن عجائب أمره أنه لما مات كان الجمع في جنازته موفورا ، وأكثر الناس كانوا لا يعلمون بحاله ولا بسيرته فلما تسامعوا بموته هرعوا إليه ، ونزل السلطان من القلعة فصلى عليه بالرميلة ، وأعيد إلى الخانقاه فدفن بها ، وتنافس الناس في شراء ثياب بدنه فاشتروها باغلاء الأثمان ، فاتفق أن جملة ما اجتمع من ثمنها حسب فكان قدر ما تناوله من المعلوم من أول ما نزل بها إلى أن مات لا يزيد ولا ينقص ، فعد ذلك من كراماته رحمه الله .أحمد بن موسى ، شهاب الدين المتبولي المالكي موقع الحكم ، حدث عن البياني وغيره ، أخذ عنه جماعة ، ومات في يوم الأربعاء 8 ربيع الأول عن خمس وثمانين سنة .
أحمد بن يحيى بن عبد الله الحموي الرواقي الصوفي شهاب الدين أبو العباس ، ولد سنة 747 . وذكر أنه سمع بمكة على العفيف عبد الله اليافعي في سنة 55 ، وتلقن الذكر ولبس خرقة التصوف من الشيخ يوسف بن عبد الله بن عمر بن خضر الكوراني ، واسندها له عن الشيخ نجم الدين الأصفهاني عن نور الدين عبد الصمد عن الشيخ شهاب الدين السهروردي ، وتعاني طريق التصوف ، وسكن في الأخير حماة ، وتردد إلى طرابلس وغيرها ، وزار القدس سنة سبع وعشرين ؛ قال القاضي علاء الدين : كان صالحا خيرا دينا ناسكا ? مسلكا ، يستحضر أشياء حسنة عن الصوفية ، اجتمعت به بطرابلس فأنشدني وساق له عن أبي حيان قصيدة أولها :
لا خير في لذة من دونها حذر
ولا صفا عيشة في ضمنها كدرفلا ترم رقعة بين الأنام فقد
حست منامك الأخبار والسير
والرفع من بعده نصب وفاعله
عما قليل بحرف الجر ينكسر
وهي نحو العشرين بيتا ، لا يشبه نظم أبي حيان ولا نفسه ولا يتصور لمن ولد سنة سبع وأربعين أن يسمع من أبي حيان الذي مات قبل ذلك بمدة ، ولقد عجبت من خفاء ذلك على القاضي علاء الدين ثم خشيت أن يكون بين الرواقي وأبي حيان واسطة ، وقد زعم أنه أنشدها له العلامة جمال الدين عبد الله بن يوسف بن هشام قال : أنشدنا أبو حيان ، ولا يعرف أن ابن هشام أخذ عن أبي حيان شيئا بل كان يجتنبه . قال : وكان الرواقي يقيم بحماة ويأتي طرابلس ، ثم بلغني أنه توجه إلى القدس وأقام به ومات ما بين ثمان وتسع وعشرين .
أحمد بن يوسف ، الزعيفريني شهاب الدين الأديب البارع كان ينظم الشعر ويكتب المنسوب ، ويتكلم في معرفة علم الحرف ويخبر عن المغيبات ، ولذلك مال إليه جماعة من الأكابر وأثرى ، وامتهن في سنة ثمانمائة واثنتي عشرة وقطع الناصر لسانه وعقدتين من أصابعه ، ورفق به المشاعلي عند قطع لسانه فلم يمنعه من الكلام ، وكان السبب في ذلك أنه نظملجمال الدين ملحمة أوهمه أنها قديمة وأنه يملك ، وصار بعد موت الناصر يكتب بشماله ، وكتب مرة إلى الصدر ابن الأدمي :
لقد عشت دهرا في الكتابة مفردا
أصور منها أحرفا تشبه الدرا
وقد عاد خطي اليوم أضعف ما ترى
فهذا الذي قد يسر الله لليسرى
فأجابه :
لئن فقدت يمناك حسن كتابة
فلا تحتمل هما ولا تعتقد عسرا
وأبشر ببشر دائم ومسرة
فقد يسر الله العظيم لك اليسرى
أحمد بن البدر بن محمد بن أويس ، المغربي نزيل طرابلس ، قرأ بالروايات على أبي زيد عبد الرحمن بن المعلم سليمان بن إبراهيم التونسي نزيل طرابلس في سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة فقرأه علي أبي عبد الله محمد بن محمد بن سلامة الأنصاري ، ولبس خرقة التصوف من محمد بن أحمد بن محمد بن المهندس بحصن الأكراد في السنة المقبلة ، وذكر انه لبسها من علي بن محمد بن محمد بن أبي الفتح عبد المحمود بمدينة بحصن الأكراد سنة 54 ؛ ومات ابن البدر المذكور بطرابلس في ذي القعدة ، وسمع من بهادر القرمي ومحمد بن هبة الله بن وهبة وأحمد بن علي بن محمد الأرموي ومحمد بن مظفر الحسيني وعلي بن اليونانية .أويس بن شاه ولد لابن شاه زاده ابن أويس صاحب بغداد ، قتل في الحرب بينه وبين محمد شاه بن قرا يوسف ، واستولى محمد شاه على بغداد مرة أخرى .
بركوت بن عبد الله المكيني شهاب الدين عتيق سعيد بن عبد الله المكيني عتيق مكين الدين اليمني ، كان حبشيا صافي اللون حسن الخلق كثير الإفضال محبا في أهل العلم وأهل الخير كثير البر لهم واللطف بهم ، لقي حظا عظيما من الدنيا وتنقلت به الأحوال ، وبنى بعدن أماكن عديدة ، ثم تحول إلى مكة فسكنها وبنى بها دارا عظيمة ، وصاهر إلى بيت المحلي التاجر فنكح بنته آمنة واستولدها ، وكان كثير التزوج والأولاد ، ومات له في حياته أكثر من خمسين ولدا ، وما مات حتى تضعضع حاله ، وذلك في ذي القعدة بعدن وله نحو الستين .
عبد الله الملك المنصور بن الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل صاحب اليمن ، مات في جمادى منها ، واستقر بعده الأشرف إسماعيل بن الناصر أحمد .عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمود بن غازي بن أيوب بن محمود ابن ختلو ، الحلبي فتح الدين ابن الشحنة أخو العلامة محب الدين أبي الوليد ، كان أصغر سنا من أخيه ، واشتغل كثيرا في الفقه حنفيا حتى ناب عن أخيه في الحكم ثم تحول بعد الفتنة العظمى مالكيا ، وولي القضاء ثم عزل وخصل له نكد لاختلاف الدول ، ثم عاد في سنة خمسعشرة من قبل نوروز ثم من قبل المالك المؤيد إلى أن مات ، قال القاضي علاء الدين : رافقته في القضاء وكان صديقي وصاحبي ، وعنده مروءة وحشمة ، وأنشد له من نظمه وهذا عنوانه :
لا تلوموا الغمام إن صب دمعا
وتوالت لأجله الأنواء
فالليالي أكثرن فينا الرزايا
فبكت رحمة علينا السماء
عمر بن حجي بن موسى بن أحمد بن سعد ، السعدي الحسباني الأصل الدمشقي نجم الدين أبو الفتوح بن حجي الشافعي ، ولد سنة 767 بدمشق ، وقرأ القرآن ، ومات والده وهو صغير ، وحفظ التنبيه في ثمانية أشهر ، وحفظ كثيرا من المختصرات ، وأسمعه أخوه الشيخ شهاب الدين من ابن أميلة وجماعة ، واستجاز له من جماعة ، وسمع هو بنفسه من جماعة كثيرة ، وأخذ العلم عن أخيه وابن الشريشي والزهري وغيرهم ، ودخل مصر سنة تسع وثمانين فأخذ عن ابن الملقن ، ولازم الشرف والعز ابن جماعة وغيرهم ، وأذن له ابن الملقن ، والبدر الزركشي الأنطاكي مدة وتعلم العربية ، وكان قليل الاستحضار إلا أنه جيد الذهن حسن التصرف ، وأول ما حج سنة ست وثمانين ، ثم ولي إفتاء دار العدل سنة اثنتين وتسعين ، وجرت له كائنة مع الباعوني فضربه هو والعزي وغيرهما وطوف بهم وسجنوا بالقلعة ، وذلك في رمضان سنة خمسوتسعين ، ثم حج سنة تسع وتسعين وجاور ، وولي قضاء حماة مرتين ، ثم ولي قضاء الشام في ربيع الآخر سنة تسع وثمانمائة ، ثم انفصل بعد شهرين ، ثن أعيد في شوال سنة عشر ، ثم صرف مرارا ، وهكذا كانت مدة ولايته إحدى عشرة سنة وأشهر في مدة إحدى وعشرين سنة ، وعدد ولاياته سبع مرات ، وقدم مصر سنة اللنك بعد أن نجا منهم بحيلة غريبة ، فناب في الحكم عن الجلال البلقيني ، ثم عاد وولي قضاء طرابلس سنة اثنتي عشرة قدر شهرين ، وحبسه نوروز في شوال سنة خمس عشرى وهم بقتله ثم نجا منه ، وقبض عليه مرة أخرة قبل ذلك فهرب من الموكلين به بحيلة عجيبة ، ثم قبض عليه في جمادى الأولى سنة ست عشرة ، ثم تحيل وخلص وقدم القاهرة ، ثم رجع مع المؤيد حتى قتل نوروز ، واستقر في القضاء إلى أن قام عليه الحاجب فنودي عليه وحبس بالقلعة ، ثم خلص وقدم مصر ورجع متوليا ، ثم في سنة إحدى وعشرين سجن بالقلعة ثم أطلق ، وحج سنة اثنتين وعشرين ، فاستناب الشريف شهاب الدين بن عدنان مع ما كان بينهما من العداوة الشديدة ، والسبب في ذلك أن النواب سطوا عليه واختلفوا فيمن يصلح منهم أن ينوب عنه في غيبته فعاقبهم بأن أقام عليهم الشريف ، فكان ذلك أول طمع الشريف في الدخول في المنصب ثم قام مع جقمق نائب الشام بعد موت المؤيد وأشار على نائب القلعة بتسليمها إليه ، فلما وصل ططر ومن معهلم يؤاخذ بذلك ، وحج في تلك السنة سنة أربع وعشرين ، وهم بالدخول إلى مصر ليلى عوض البلقيني ثم رجع إلى دمشق ، وبلغه ولاية العراقي فقعد ، ثم قام عليه نائب الشام في سنة ست وعشرين وتألب عليه أعداؤه وهموا بقتله ، ثم اتفق مرض النائب فاشتغل بنفسه ومات فجاءته الولاية في رمضان منها ، ولم يزل يتقلب في الأمور إلى أن قرر في كتابة السر بالقاهرة ، فلم يمش له فيها حال ، وتغير عليه غالب أصحابه ، وعادى من كان يحبه قبل ذلك ، فصرف صرفا شنيعا كما تقدم في الحوادث ، ثم استأذن في الوصول إلى مصر فأذن له ، فقرر في قضاء الشام في محرم هذه السنة ، وحصل له عند عوده تعظيم زائد ، وتسلط على الشريف عدوه وآذاه كثيرا وعمل عليه إلى أن قتل في منزله غيلة وذهب دمه هدرا ، وكان ذكيا فصيحا حسن الملتقى والمباسطة يلقي الدروس بتأن وتؤدة مع ذلك كثير الإحسان للطلبة والواردين عليه بدمشق إلا أنه انعكس في ذلك في ولايته كتابة السر وصار على ضد ما كان يعهد منه ، وكان كثير التلون سريع الاستحالة ، وكان قتله في ليلة الاثنين ثاني ذي القعدة .
عمر بن طرخان بن شهري ، الحاجب الكبير بحلب ، مات في حادي عشري شهر رجب .عمر بن الشيخ شمس الدين محمد بن اللبان ، المصري ، أخذ القراآت عن والده وتصدر للاقراء وكان ساكنا سليم الباطن ، وكان غالية في الشطرنج ؛ مات في شعبان عن نحو ثمانين سنة .
محمد بن إبراهيم بن محمد الدمشقي الأصل البشتكي ، كان أبوه فاضلا فنزل بخانقاه بشتاك الناصري فولد له الشيخ بدر الدين هذا بها ، وكان جميل الصورة ، فنشأ محبا في العلم ، وحفظ القرآن وعدة مختصرات ، وتعاني الأدب فمهر فيه ، ولازم ابن أبي حجلة وابن الصائغ ، ثم قدم ابن نباتة مصر فلازمه وكتب عنه ديوان شعره ، ثم رافق جلال الدين ابن خطيب داريا ودخل معه دمشق واجتمع بفضلائها ، وأخذ عن البهاء السبكي وغيره بالقاهرة ، ، وصحب الشيخ بهاء الدين الكازروني مدة ونسخ له كثيرا ، وكان أحد الأفراد في كثرة النسخ حتى كان ينسخ في اليوم خمسة كراريس ، فإذا تعب اضطجع على جنبه وكتب خمسة أخرى كما يكتب وهو جالس ، وكتب ما لا يدخل تحت الحصر وكتب للكازروني المذكور كثيرا من تصانيف ابن العربي ، ثم رجع عن ذلك بعد موته وصار داعية إلى الحط على مقالة ابن العربي ، وأحب المذهب الظاهري على طريقة ابن حزم ، وامتحن بسبب ذلك بمكة على يد أبي الفضل النويري قاضيها وكان جاور بها بعد الثمانين ، وامتحن أيضا بالقاهرة علىيد البرهان الإختاني وحبس ثم أطلق ، وصحب فخر الدين ابن مكانس ، وأقرأ ولده وأدبه ، وتخرج به فمهر في الأدب ، وله مطارحات مع أدباء أهل العصر وهاجي جماعة منهم ، وكان هو كثير الإنجماع ، يرجع إلى دين متين مع محبته في المجون والخلاعة ، ثم أقلع وتاب ولازم الإنجماع ، وكان حسن الأخلاق في أول ما يصحب ثم لا يلبث أن يتغير ، وفي الجملة كان عديم النظير في الذكاء وسرعة الإدراك إلا أنه تبلد ذهنه بكثرة النسخ ، وقد مدح القاضي برهان الدين بن جماعة بعدة قصائد طنانة ، سمعت منه كثيرا من شعره ومن فوائده ، وكانت وفاته فجأة ، دخل الحمام فمات في الحوض يوم الاثنين ثالث عشري جمادى الآخرة ، ومن نظمه :
كنت إذا الحوادث دنستين
فزعت إلى المدامة والنديم
لأغسل بالكؤس الهم عني
لأن الراح صابون الهموم
قاسم المؤيدي الدوادار ، كان ولي الإسكندرية ثم إمرة بحلب ، ثم استمر بها إلى أن قتل في المحرم .
كافور أغتمشي الزمام ، مات يوم الأحد خامس عشري ربيع الآخر وقد قارب الثمانين ، وهو صاحب المدرسة التي تجاه حارة الديلم ، واستقر بعده في الزمامية خشقدم الظاهري .
محمد بن المحدث عماد الدين إسماعيل بن محمد بن بردس بن رسلانالبعلبكي الحنبلي الشيخ تاج الدين أبو عبد الله ، ولد ليلة التاسع والعشرين من جمادى الآخرة سنة 45 ، وسمع من أبيه أسمعه الكثير من ابن الخباز وتفرد به ، وسمع أيضا من محمد بن يحيى وشقيراء وابن الجوخي وابن أميلة ، وأجاز له العرضي والبياتي وابن نباتة والعلائي وغيرهم ، وانتفع به الرحالة ، وكان محبا لنشر العلم وللرواية طلق الوجه حسن الملتقى كثير البشاشة مع الدين والعبادة وملازمة الأوراد والصلابة في الدين ، وله نظم وتأليق وصدقة في السر ، مات في شوال ، وقد أجاز لي غير مرة .
محمد بن خالد بن موسى ، الحمصي القاضي شمس الدين المعروف بابن زهرة - بفتح الزاي - الحمصي الحنبلي ، مات في ثالث عشري شهر رجب ، وهو أول حنبلي ولي قضاء حمص ، وكان أبوه خالد شافعيا فيقال إن شخصا رأى النبي e فقال له : إن خالدا ولد له ولد حنبلي فاتفق أنه كان ولد له هذا فشغله لما كبر بمذهب الحنبلية ، وقرأ على بدر الدين بن اشناب ببعلبك وعلى الشيخ شرف الدين ابن قاضي الجيل وزين الدين بن رجب بدمشق ، وولي قضاء حمص .محمد بن عبد الواحد بن العماد محمد بن القاضي علم الدين أحمد بن أبي بكر ، تقي الدين الإخنائي المالكي نائب الحكم ، كان من خيار القضاة ، مات في سادس ذي الحجة بمكة وكان جاور بها في هذه السنة .
محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن الإمام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد ، الغزالي الشافعي محي الدين أبو حامد الطوسي ، قدم من بلاده إلى حلب في شهر رمضان سنة ثلاثين وثمانمائة بعد أن كان دخل الشام قديما ، وسمع من زين الدين عمر بن أميلة مسند الوقت وحدث عنه في هذه المقدمة ، وجده الثامن فيما زعم هو حجة الإسلام أبو حامد الغزالي المشهور - كذا ذكر ذلك عنه الشيخ برهان الدين سبط ابن العجمي فيما قرأت بخطه والقاضي علاء الدين في ذيل تاريخه ووصفاه بالعلم والدين ، قال في الذيل : رأيت أتباعه وتلامذته يذكرون عنه علما كثيرا وزهدا وورعا ، وأخبر عنه بعض الطلبة أنه حج مرارا منها واحدة ماشيا على قدم التجريد ، وكان معظما في بلاده ، قال : وبلغني أنه رأى ملك الموت فسأله : متى أموت ? فقال : أنت تموت في العشر ، فما درى أي عشر ، فاتفق أنه مات في حلب في العشر الأخير من شهر رمضان سنة ثلاثين ، وكانت جنازته مشهودة ، أخد عنه إبراهيم بن علي الزمزمي المكي .حوادث سنة 831
سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة
في ثالث المحرم لبس السلطان الصوف وكان ذلك قبل العادة بمدة والحر موجود واستمر بعد ذلك أياما ووقع الندى وأمطرت السماء قليلا ، ودخل كيهك من شهور القبط وهو أول الأربعين عند المصريين ولم يقع البرد بل كان نظير فصل الربيع واستمر ذلك إلى أن نقلت الشمس إلى الجدي ولم يعهد ذلك .
وفي الثالث من المحرم قدم الحمل من قبرس وهو خمسون ألف دينار .
وفيها قتل عذراء بن علي بن نعير أمير آل فضل ، واستقر بعده أخوه مذحج .
وفي ثاني عشر صفر صرف القاضي الحنبلي عز الدين عبد العزيز ابن علي المقدسي وأعيد القاضي محب الدين بن نصر الله ، وكان عز الدين أحس بأن يعزل فمكر بأن سأل ناظر الجيش أن يسأل له السلطان في الإعفاء ، فبلغ السلطان ذلك فأعجب به وقال : لولا أنه رجل جيد ما طلب الإعفاء ، وأمر أن يستمر فظن حصول مقصوده بذلك من الاستمرار وصبر على ذلك مدة ، وسخط منه كاتب السر لأمر اقتضاه فاحتال عليه بأن قال للسلطان : هذا الحنبلي شيخ كبير وقد تكرر سؤاله الإعفاءوأن يقرر له رزق على جهة حل يأكل منها ويعبد الله ويدعو للسلطان ، فأمر السلطان بإجابته لذلك ، فخلع على محب الدين ولم يشعر عز الدين بذلك ، فضج ودار على الأمراء فلم ينجع ، وقرر له في الشهر على وقف تنبغا التركماني معلوم النظر ، وكان يظن أنه بما تحيل به يستمر فانعكست حيلته .
وفي صفر أمر بتحكير قصب السكر وأن لا يزرعه أحد إلا السلطان ، ثم بطل ذلك بعد قليل ، وفيه أمر بهدم ما كان اليهود أحدثوه من بناء درب محدث يغلق على كنيستهم وسياج كالسور ، حازوا فيه كثيرا من دور المسلمين التي تهدمت ، وكانوا فعلوا ذلك في سنة ثلاث وعشرين بغير إذن من حاكم ، فقام الشريف شهاب الدين النعماني في ذلك ، وكان لما أنكر عليهم لبسوا على قاضي الحنابلة وأخذوا خطه على قصة ، وكان القائم معهم في ذلك نقيب الحنبلي جمال الدين عبد الله الإسكندراني ، فحمل النعماني أعيان الناس على الحنبلي حى أوضح له القصة فحكم بهدم ما أحدثوه من السياجات والأبواب والخوخ ، وسجل على نفسه بذلكم في سنة أربع وعشرين ، فلما كان في هذه السنة رفعوا للقاضي الحنفي العينتابي قصة ، فأذن فيها لبعض النواب ممن كان الشافعي منعه من الحكم وكان من شيعة الهروي فتوسل للعينتابي بذلك ، فأذن له في الحكموعين عليه هذه القصة ، فكتب محضرا يتضمن أن الذي كانوا جددوه مختص بالكنيسة وليس فيه شيء من أبنية المسلمين ولا من حقوقهم وإنما تعصبوا عليهم في القصة التي تقدم ذكرها ، فأثبت ذلك وأذن لهم في إعادة ما كان الحنبلي حكم بهدمه ، فسارعوا إلى بنيانه ، فقام النعماني وحمل الناس على العبنتابي حتى نفذ حكم الحنبلي ، ثم أخذ النعماني في التشنيع على النائب الذي تعاطى ذلك وهو عبد الله البرلسي حتى اتصلت القصة بالسلطان ، فأذن للشافعي والحنبلي أن يتوجها بمفردهما ومعهما ناظر الأوقاف إلى المكان المذكور ويشخصوه وينظر القاضيان فيما حكم به ابن المغلي ثم البرلسي ويفعلا فيه الواجب ، فتوجها يوم الجمعة ثاني عشري صفر ، وكان النعماني استكتب شيوخ المصريين في محضر شهدوا فيه أن الذي أعيد الآن هو عين ما كان ابن المغلي أمر بهدمه ، وأذن العينتابي لليهود في كتابة محضر بأنه غيره وكتب فيه جماعة ، فلما تأملت المحضرين وشاهدت الأمكنة المجددة أغنت المشاهدة عن الخبر فظهر الحق بيد النعماني ، لكن رأيت الغوغاء قد اجتمعوا ومعهم المساحي والمعاول ، فلو أذنت بهدم شيء ما لهدمت الكنيسة كلها ونهب ما فيها ، وكان ذلك وقت العصر فقلت لهم : لا بدمن كشف كنيسة النصارى حتى ينظر ما أحدثوا أيضا وبهدم الجميع ، فأعجبهم ذلك وافترقنا على العود في أول النهار ، ثم استوفى الشافعي والحنبلي الشروط في المسألة وحكما بهدم ما أحدث وإبطالحكم البرلسي ، وكان البرلسي قبل ذلك خشي القالة فأشهد على نفسه بأنه رجع الحكم المذكور ، ثم توجه لكاتب السر فأعلمه بذلك واتصل ذلك بالسلطان ، وكنت عند الافتراق أمرت الوالي أن يزيل ما أحدثوه من الأبنية الجديدة كلها بالليل ، ففعل ذلك وانحسمت المادة بعون الله تعالى .
وفي ربيع الأول غلا السعر بسبب هبوب الريح المريسية ، فمنعت المراكب من الوصول من الوجه البحري بالغلال ، وعز وجود الخبز بالأسواق أياما ، ثم فرج الله وانحل السعر في جمادى الأولى ، ورخص القمح وغيره .
زفي شهر ربيع الآخر شدد السلطان في أمر الخمر وأمر بإراقة ما يوجد منها في مظانها في جميع البلاد ، وكذلك الحشيش أمر بإحراق ما يوجد منها ، فأهريق من الخمر وأحرق من الحشيش ما لا يحصى كثرة ، وأكثر ذلك كان بدمياط وكان في القاهرة وغيرها من الأعمال على ذلك ضمان وعليه إقطاعات لأناس ، فبطل ذلك ولله الحمد ، ثم أعيد قليلا قليلا بدسائس أهل الظلم والمكر حتى عاد كما كان بعد مدة قريبة .
وفيها أبطلت المعاملة بالبنادقة وضربت اشرفية ، وحصل بذلك لخيار المسلمين سرور كثير ، وفيه حضر من أكابر أهل دمياط جماعة وشكوا من ابن الملاح الكاتب النصراني الملكي وأنه يتجاهر باللواط ،ويستخدم من يكون جميل الصورة من أبناء البلد ، ويبالغ في إظهار الفاحشة ، حتى أنه ربما قام بحضرة الناس فخلا به الشاب منهم بحيث لا يواريه إلا جدار المخدع أو شبهه ثم يخرجان معا على الهيئة الدالة على المراد ، وكثر ذلك منه ، وأنف جماعة من الناس ومنعوا أولادهم من الخدمة عنده ، وهو يفسدهم بكثرة العطية ومعاقرة الخمر والغناء ، مع ما هو فيه من الجاه العريض حتى كان والي البلد يقف في خدمته ، ومهما قاله لا يرد ومهما فعله لا يتعقب ، ومن نازعه في شيء أفسد حاله عند ناظر الخاص المتكلم على البلد ؛ فرفعوا في أمره قصة تتضمن هذا وغيره من المفاسد ، فعقد له مجلس بحضرة السلطان ، فلما ادعى عليه أنكر ، فقامت البينة بشيء من ذلك فبادر وأسلم وحكم بإسلامه ولقب محب الدين . وشرط عليه الشافعي أنه متى ثبت عليه شيء مما وقع فيه أو وقع في حق أحد ممن قام عليه في ذلك رتب عليه مقتضاه وتهدده في ذلك ، فأذعن والتزم وتوجه إلى دمياط وحسنت سيرته بالنسبة لما كان أولا - والله أعلم بغيبه .
وفيه منع الفرنج من حمل الخمر من بلادهم ثم بعد مدة عادوا ، وفيه جعل على تجار الشام ثلاثة دنانير ونصف إن حملوا البهار إلى بلادهم زيادة على المكس المعهود ، ثم بعد سنين بطل ذلك والتزموا بعدم الحمل .وفي الخامس من جمادى الأولى غضب السلطان على فيروز الساقي بسبب أنه تكلم في القاضي الحنفي العيني ونسبه إلى أمور معضلة من تناول الرشوة والحكم بالعرض وتعاطي الأسباب المفسقة ، فأراد السلطان الاستثبات في ذلك فأحضر الحنفي ، وأراد من فيروز أن يواجهه ويحاققه ، فخارت قوى الطواشي فاعتذر واستغفر ، فاشتد غضب السلطان وأمر بأن بنفي بعد أن ضرب بحضرته ضربا شديدا ، ثم شفع فيه بأن يكون توجهه إلى المدينة الشريفة فأجاب ، وتوجه فأقام بها سنة ثم أذن له في الرجوع .
وفي جمادى الأولى عند نزول الشمس برج الحمل أمطرت السماء يومين متواليين مطرا غزيرا لم يقع في هذه السنة قبل ذلك ، ووقع في أول يوم من برمودة والشمس في الحمل حر شديد وسموم نظير ما جرت العادة أنه يقع في تموز .
وفيه لبس السلطان الأبيض قبل العادة بسبعة وثلاثين يوما لشدة ما وقع من الحر ، ثم لم يلبث البرد أن عاد أشد ما كان واستمر إلى مضي عشرين يوما .وفيه وقع بالشام مرض عام ، وكثر موت الخيل بها وبحماة .
وفي جمادى الأولى خلع الأشرف إسماعيل بن الناصر أحمد صاحب اليمن من الملك ، وكان السبب فيه أن وزيره الشرف إسماعيل بن العفيف عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر العلوي قصر في مرتبات الجند ، فطالبوه مرارا فلم ينصفهم ، فرفعوا أمرهم للسلطان ، فأحالهم على الوزير ، فتألموا وهجموا على الدار فخرج إليهم شقير أمير جندار ، فضربوه بالسيوف حتى برد ، وقتلوا الشاد الكبير ، واسمه عندهم مشد المشدين ، وهجموا على الأشرف وقبضوا عليه وعلى علي بن الحسام لاجين ، وسجنوا الأشرف وأمه وحظيته ، وكان كبيرهم مملوكا يقال له برقوق من مماليك الناصر ، فاتفق رأيهم أن يخرجوا يحيى بن ناصر من محبسه يسلطنوه ففعلوا ولقبوه الظاهر ، ونهبوا دار السلطان ، واستقرت سلطنة يحيى بن الناصر وحبس الأرف إسماعيل في الموضع الذي كان فيه يحيى ، وهو في حصن ثعبات من بلاد تعز ، وصودر الوزيران ، وعظم أمر الشهاب أحمد بن الأميرمحمد بن زياد الكاملي ، وكان أبوه من أكابر أمراء الأشرف بن الأفضل ثم صار هو الآن كبير الأمراء ، وظهرت من الظاهر يحيى شجاعة ومعرفة ومهابة .
وفي الثالث من جمادى الآخرة ادعى على شمس الدين محمد بن الشيخ عز الدين حسن الرازي الحنفي أحد نواب الحكم بأنه وقع في حق النبي e فأنكر ، ثم ادعى عليه نقيب الحنفي أنه قال له : أنت يهودي ، فأنكر ، فأقام عليه البينة بذلك فعزر ، وحكم الحنفي بحقن دمه وسكنت القضية
وفي جمادى الآحرة وصل إلى الشيخ علاء الدين ابن البخاري من صاحب كلبرجا من بلاد الهند ثلاثة آلاف شاش ، ففرق منها ألفا على الطلبة الملازمين له ، من جملتها مائة شاش لصدر الدين ابن العجمي ليوفي بها دينه ، ويقال إن صاحب الهند كان قرأ على الشيخ علاء الدين لما كان بالهند ، فراسله فأشار عليه أن يرسل لفقراء الطلبة صدقة فأرسل ذلك ، ثم فرق الشيخ علاء الدين على الطلبة كثيرا من الشاشات ، وعمل لهم وليمة في بستان ابن عنان صرف عليها ستين دينارا ، ووصلت هدية صاحبالهند للسلطان ، وهي مائتاشاش ، ومائتا إزار بيرمي ، وستون نافجة من المسك الطيب ، وأربعة أسياف محلاة فيها نحو خمسمائة مثقال .
وفيها عزم الشيخ علاء الدين ابن البخاري على الحج واستاذن السلطان فامتنع ، فألح مرة بعد مرة فأرسل إليه كاتب السر بدر الدين بن مزهر ، فلم يزل يرجعه إلى أنقبل يده فأطاع وأقام .
وفي السادس من جمادى الآخرة أخذت الحوانيت التي فيهاالسيوفية والصيارف ظاهر الصاغة وعلوها وقد أخذ فيه الجوانب ، واستبدل النصف والربع بمال جزيل يعمر به في البرع الباقي لجهة وقفه على الصالحية فعمر عمارة جديدة ، وصارت أجرة الربع أزيد من أجرة الكل بالنسبة لما كان يفضل بعد الصرف في ترميمه .
وفي أول يوم من رجب عمل الموكب السلطاني وكان حافلا جدا ، والسبب فيه قدوم رسول من ابن عثمان يستأذن في الحج ومعه هدية جليلة .
وفيه التمس الشيخ علاء الدين محمد بن محمد بن محمد البخاري من السلطان أن يبطل إدارة المحمل حسما لمادة الفساد الذي جرت العادة بوقوعه عند إدارته في الليل والنهار من ارتكاب المنكرات والتجاهر بالمعاصي ، فأمر السلطان بجمع القضاة وكاتب السر وأن يتوجهوا إلى الشيخ علاء الدين ويتكلموا معه في هذه المسالة ، فوقع الكلام فقلت : ينبغي أن ينظر في السبب في هذه الإدارة فيعمل بما فيه المصلحة منها ويزال ما فيه المفسدة ، وذلك أن الأصل فيه إعلام أهل الآفاق أنالطريق من مصر إلى الحجاز آمنة ، وأن من شاء أن يحج فلا يتأخر لخشية خوف الطريق ؛ وذلك لما كان حدث قبل ذلك من انقطاع الطريق إلى مكة من جهة مصر كما هي الآن منقطعة غالبا عن العراق ، فالإدارى لعلها لا بأس بها لهذا المعنى وما يترتب عليها من المفاسد يمكن إزالته بأن يبطل الأمر بزينة الحوانيت ، فإنها السبب في جلوس الناس فيها ، وكثرة ما يوقد فيها من الشموع والقناديل ، ويجتمع فيها من أهل الفساد ، فإذا ترك هذا وأمر السلطان من تعاطي إدارة المحمل من غير تقدم إعلام الناس بذلك حصل الجمع بين المصلحتين ، وانفصل المجلس على ذلك ؛ ووقع في هذا المجلس ذكر ابن العربي الصوفي ، فبالغ الشيخ علاء الدين في ذمه وتكفيره وتكفيرمن يقول بمقالته ، فانتصر له المالكي وقال : إنما ينكر الناس عليه ظاهر الألفاظ التي يقولها ، وإلا فليس في كلامه ما ينكر إذا حمل لفظه على مراده بضرب من التأويل ، فانتشر الكلام بين الحاضرين في ذلك ، وكنت مائلا في ذلك مع الشيخ علاء الدين ، وأن من أظهر لنا كلاما يقتضي الكفر لا نقره عليه ، وكان من جملة كلام الشيخ علاء الدين الانكار على من يعتقد لوحدة المطلقة وكان من جملة كلام المالكي أنتم ما تعرفون الوحدة المطلقة ، فاستشاط البخاري غضبا وأقسم بالله أن السلطان إن لم يعزل المالكي من القضاء ليخرجن من مصر والتمس من كاتب السر أنيسأل السلطان في إزالة أشياءمن المظالم الشنيعة ، ومن جملتها أن المسلم يؤخذ منه المكس أكثر ممكا يؤخذ من النصراني إذا أحضرا بضاعة واحدة ، بحيث صار كثير من المسلمين يجعل بضاعته باسم النصراني ويتقلد له المانه ، وأكد عليه في قصة المالكي ، فأعاد كاتب السر على السلطان جميع ما اتفق ، فأمر السلطان بإحضار القضاة عنده ، فحضروا فسئلوا عن مجلس علاء الدين ، فقصه كاتب السر بحضرتهم ، ودار بين السافعي والمالكي في ذلك بعض كلام ، فتبرأ المالكي من مقالة ابن العربي وكفر من يعتقدها ، فصوب الشافعي قوله ، وسأل السلطان ماذا يجب على المالكي ، وهل تكفير الشيخ علاء الدين له مقبول ، وهل يستحق العزل أو التعزير فقلت : لا يجب عليه شيء بعد اعترافه هذا وهذا القدر كاف منه ، وانفصل المجلس على ذلك ؛ وأرسل السلطان يترضى علاء الدين ويسأله بأن لا يسافر ، فأبى وسلم له حاله وقال : يفعل ما أراد ، وهم بعزل القضاة لاختلاف قولهم الأول عند علاء الدين والثاني عنده ، فبين له كاتب السر أن قولهم لم يختلف وأوضح له المراد فرضي ، واستمر المالكي بعد أن كان أراد أن يقرر الشيخ شهاب الدين بن تقي الدميري أحد نوابه مكانه ، وحضر المجلس المذكور ، وأحضرت خلعته ، فبطل ذلك .
وفي السادس والعشرين من رجب هبت ريح شديدة ملأت الأزقة والبيوت ترابا ، ودام ذلك من أول النهار إلى آخره ، وفي بعض الليل .وفي رمضان توجه سعد الدين إبراهيم بن المرة الكاتب لأجل المكوس من تجار الهند بحدة فعمر بجدة جامعا وفرضة وصارت مينا عظيمة ، وجهز السلطان أمير يقال له أرنبغا من أمراء العشراوات ، وجهز معه خمسين مملوكا لدفع بني حسين والقواد عن التعرض إلى جدة والإعراض عن النهب ، وحج بالركب الأول ينال الششماني راس نوبة وبيده يومئذ حسبة القاهرة فاستناب فيها دويداره شاهين ، فمشى الأمور إلى أن وصل أستاذه ، فلم يشكر سيرته لكثرة نومه وإغفاله أمر اللصوص وفيه قبض على قطج أحد أمراء الألوف وحمل إلى الإسكندرية ، وقبض على جرباش قاشق أمير مجلس ونفي إلى دمياط مطلقا ، فأقام بها واتجر وتمول ، واستقر اينال الأجرود في نيابة غزة ، وأعبد تنبغا المظفري من القدس واستقر في إمرة جرباش قاشق المذكور وذلك في العشر الأخير من ذي القعدة .وفي خامس ذي الحجة قبض على أزبك الدويدار ، واستقر مكانه اركماس الظاهري ، واستقر تمراز الذي كان نائب غزة في وظيفة اركماس راس النوبة الكبير ، ووصل في هذه السنة المحمل من العراق بعد أن انقطع عشر سنين أو اكثر . جهزه في هذه السنة حسين بن علاء الدولة ابن أحمد بن أويس أمير الحلة ومغيرة بن سقم أمير العرب ، ووقف الحاج يومين للاختلاف في الهلال .
وفي ذي الحجة انحط سعرالقمح بعد أن كان بلغ أربعمائة إلى ثلاثمائة وخمسين ، ثم انحط بعد ذلك أيضا وفتحت الشؤن السلطانية وغيرها وبيع منها فحصل الاتساع ، وكان السعر بلغ مائتين وعشرين ، والتبن مائة وثمانين كل حمل ، ثم أنحط إلى أربعين درهما كل حمل .
وفي ثامن رمضان استقر قانصوه النوروزي في نيابة طرسوس وكان أمير عشرة ، وأضيف إقطاعه إلى الديوان المفرد ، وفي جمادى الآخرة قرر طرباي في نيابة طرابلس ، وكان قد أذن له أن يقيم بالقدس بطالا ،فتحول من ثم إلى طرابلس واستمر في إمرتها إلى . .
وفي شهر ربيع الآخر أفرج عن جنبوس الفرنجي صاحب قبرس على فدي مبلغه مائة ألف دينار ، وأن يطلق عندهم من أسرى المسلمين وجهز إلى الإسكندرية ، وفيه قدم مركبان من فرنج الكتيلان لأخذ الإسكندرية بغتة ، فوجدوا أهلها قد أيقظهم متولي قبرس بهم ، فلم يحصل لهم مقصود .
وفيه أمر السلطان بإراقة الخمور فتتبعت من عند كل من يتعاناها من المسلمين وأهل الذمة ، وشدد في ذلك وكتب به إلى البلاد الشامية وغيرها ، وكتب إلى الإسكندرية بإلزام الفرنج بإعادة ما جلبوه من الخمور إلى بلادهم ، واتفق في دمياط أن بعض الفقهاء أراق خمرا فعارضه بعض الخاصكية وأهانه ، فبلغ ذلك السلطان فأمر بضرب ذلك الخاصكي ضربا مبرحا ، حتى أن بعض الأمراء وهو اخو السلطان قام ليشفع فيه ، فضربه معه فضربا معا ، ثم أمر بإحراق الحشيش والمنع من زرعها . وفيها نقض ابن الركاعنةطاعة أبي فارس صاحب تونس ، فسار إليه واجتمع به عبد الواحد بن أبي حمو وهو عمه ، ففر ابن الركاعنة ، وأقام أبو فارس عبد الواحد المذكور في ملك تلمسان وفاس ورجع - وكانما سيأتي ذكره سنة ثلاث وثلاثين .
وفي السابع من رجب استقر كمال الدين ابن البارزي في كتابة السر بدمشق عوضا عن حسين السامري بحكم وفاته وكان له منذ عزل من نظر الجيش مقيما ? بالقاهرة سبع سنين ، واستقر شهاب الدين ابن نقيب الأشراف بدمشق في نظر الجيش عوضا عن حسين أيضا ، وكان جمعهما .
وفي عاشره استقر عز الدين بن عبد السلام بن داود بن عثمان المقدسي في تدريس الصلاحية بالقدس عوضا عن الشيخ شمس الدين البرماوي بحكم وفاته ، واتفق في هذه السنة من العجائب أن الفول نزل عليه الصقيع بالصعيد فافسده وهو أخضر ، شرق كثيرمن الأراضي فلم يزرع ، وأكلت الدودة مواضع مزدرعة ، فكانت هذه الأمور الثلاثة في العادة ينشأ عنها الغلاء ، وانضاف إلى ذلك نزول النيل بسرعة ، فزرعوا في شدة الحر ، ثم تسلطت الدودة مع ذلك ، فتحرك السعر قليلاثم لم يرتفع لشئ من الغلة رأس ، وتمادى الأمر على ما كان حتى جاء المغل الجديد ، ثم غلا السعر في أيام زيادة النيل فزاد سعر كل إردب مائة درهم ، وانحلت الأسعار بعد وفاء النيل ، وكان ببلاد الصعيد الأعلى وباء شديد ومرض حاد ومات بسببه خلائق في رجب وشعبان ، واستمر إلى . . . وفي سادس عشر شوال نودي بأبطال المعاملة بالدراهم البندقية واللنكية ، وأخرجت الدنانير الأشرفية ، ونودي أن يكون بمائتين خمسة وعشرون ، وأبطلت المعاملة بالأفلورية .
وفي السادس من ذي الحجة قبض على أزبك الدويدار الكبير ، واستقر عوضه أركماس رأس نوبة النوب ، واستقر في وظيفته تمران الذي كان نائب غزة - .
وفيها استقر جوهر القنقباى خازندار ثانيا ، ثم بعد قليل استقر عوضا عن خشقدم خازندار كبيرا ، واستقر خشقدم زماما بعد موت الزمام .
وفي سابع عشر ذي الحجة استقر التاج الوالي مهمندارا عوضا عن خرز ، فاجتمعت له عدة وظائف : ولاية القاهرة والحجوبية وشد الدواوين والمهمندارية ، مع استمراره في مجالسة السلطان ومنادمته .وفيات سنة 831
ذكر من مات في سنة 831 من الأعيان
إبراهيم بن عبد الله الشامي الملقب خرز ، قدم مع المؤيد فولاه المهمندارية بعد ابن لاقي ومات وقد ولى ولاية القاهرة ، ومات في العشر الأخير من ذي القعدة .
أزدمر شايه أحد الأمراء الكبار المقدمين - ، نقل لنيابة ملطية في أول سنة ثلاثين ، ثم رجع إلى حلب أميرا ، ومات بها في سادس شهر ربيع الآخر ، وكان من مماليك الظاهر ثم صار من أتباع شيخ ، فلما تسلطن أمره .
إياس الحاجب الظاهري ، كان أحد الأمراء الأربعين ، ثم أخرج إقطاعه وانفصل من الحجوبية ، ومات بطالا .
بكتمر بن عبد الله ، السعدي مملوك سعد الدين بن غراب ، تربى صغيرا عنده وتعلم الكتابة والقراءة ، وكان فصيحا ذكيا ، ترقى إلى أن سفره السلطان إلى صاحب اليمن ، ثم علد فتأمر وتقدم ، وكان فاضلاشجاعا عارفا بالأمور ، مات في يوم الخميس 13 ربيع الأول .
جانبك الدوادار الأشرفي كان اشتراه وهو صغير ، ثم رقاه كما تقدم في الحوادث ، وأمره طبلخاناة في المحرم سنة ست وعشرين ، وأرسل إلى الشام لتقليد النواب فأفاد مالا عظيما ، وتقرر أولا خازندار ثم تقرر دويدار ثانيا بعد سفر قرقماس إلى الحجاز ، وصارت غالب الأمور منوطة به ، وليس للدوادار الكبير معه كلام وتمكن من سيده غاية التمكن ، حتى صار ما يعمل برأيه يستمر ، وما يعمل بغير رأيه ينقض عن قرب - ، وشرع في عمارة المدرسة التي خارج باب زويلة ، وابتدأ به مرضه بالمغص ثم انتقل إلى القولنج ، وواظبه الأطباء بالأدوية والحقن ثم اشتد به الأمر فعاده أهل الدولة كما هم من الخدمة السلطانية فحجبوا دونه ، فبلغ السلطان فنزل إليه العصر فعاده واغتم له وأمر بنقله إلى القلعة ، وصار يباشر تمريضه بنفسه مع ما شاع بين الناس أنه سقي السم ، وعولج بكل علاج إلى أن تماثل ودخل الحمام ونزل إلى داره ، فانتكس أيضا لأنه ركب إلى الصيد بالجيزة فرجع موعوكا ، وتمادى به الأمر حتى مات ، فنزل السلطان إلى داره وحضره وركب في جنازته وصلى عليه تحت القلعة ، وكان شاباحاد الخلق عارفا بالأمور الدنيوية كثير البر للفقراء شديدا على من يتعاطى الظلم من أهل الدولة ، وهم الأشراف مرارا أن يؤمره تقدمة فلم يقدر ذلك ، وكان هو في نفسه وحاله أكبر من المقدمين ، مات في ليلة الخميس سابع عشرى شهر ربيع الأول عن خمس وعشرين سنة - تقريبا - ، وماتت زوجته بعده بستة أيام ، فيقال إنه كان جامعها لما أفاق من مرضه قبل النكسة فأصابها ما كان به من الداء ، ونقل السلطان أولاده عنده وبنى لهم خان مرور بالقرب من بين القصرين وكان قد استهدم ، فأخذه بالربع وعمره عمارة متقنة بحيث صار الذي يتحصل من ريعه يفي لأهل الربع بالقدر الذي يتحصل من جميعه .
جانبك بن حسين بن محمد بن قلاون سيف الدين بن الأمير شرف الدين ابن الناصر بن المنصور ، ولد سنة بضع وخمسين ، وأمر طبلخاناة في سلطنة أخيه الأشرف شعبان ، ولما زالت دولة آل قلاون استمر ساكنا بالقلعة مع أهل بيته ، وكانت عدتهم إذ ذاك ستماءة نفس ، فما زال الموت يقلل عددهم إلى أن تسلطن الأشرف برسباي ، فأمر بهم أن يسكنوا من القاهرة حيث شاؤا فتحولوا ، ولم يكن فيهم يومئذ أقعد نسبا من جانبك بل كان قبله بقليل ولد الناصر حسن وقد تقدمت وفاته في . . . وأناف جانبك على السبعين .حسن بن أحمد بن محمد ، البرديني بدر الدين ، قدم من السيوفة صغيرا ونشأ بالقاهرة فقيرا ، ونزله أبو غالب القبطي الكاتب بمدرسته التي أنشأها بجوار باب الخوخة ، فقرأ على الشيخ شمس الدين الكلائي ولم يتمهر في شئ من العلوم ، بل لما ترعرع تكسب بالشهادة ، ثم ولى التوقيع واشتهر به وكانت لديه معرفة بالأمور الدنيوية فراج على ابن خلدون فنوه به ، وكذا صدر الدين المناوي ، ولم ينتقل في غالب عمره عن ذلك ولا عن ركوب الحمار ، حتى كان بأواخر دولة جمال الدين الأستادار فإن فتح الله نوه به ، فركب الفرس وناب في الحكم وطال لسانه ، واشتهر بالمروءة والعصبية فهرع الناس إليه لقضاء حوائجهم وصار عمدة القبط في مهماتهم يقوم بها أتم قيام - فاشتد ركونهم إليه - وخصوه هم بها فلايثق أحد منهم فيها بغيره ، فصارت له بذلك سمعة ، وكان يتجوه على كاتب السر فتح الله بناظر الجيش ابن نصر الله ، وعلى ناظر الجيش بكاتب السر فتح الله ، وعلى سائر الأكابر بهما معا ، فحوائجه مقضية عند الجميع ، ولما باشر نيابة الحكم أظهر العفة ولم يأخذ على الحكم شيئا ، فأحبه أكثر الناس وفضلوهعلى غيره من المهرة لهذا المعنى ، وحفظت عنه كلمات منكرة مثل إنكاره أن يكون في الميراث خمس أو سبع لأن الله لم يذكره في كتابه ، وغير ذلك من الخرافات التي كان يسميها المفردات ، وحج بأخره فذكر لي صلاح الدين بن نصر الله عنه أمورا منكرة من التبرم والإزدراء - فنسأل الله العفو وكان مع شدة جهله عريض الدعوى غير مبال بما يقول وبفعل مات في يوم الإثنين خامس عشرى رجب وقد أناف على الثمانين .
حسين نجم الدين بن عبد الله ، السامري الأصل كاتب السر بدمشق ، وقد جمع بينها وبين نظر الجيش بعناية صهره زوج بنت امرأته ازبك الدوادار ، واستقر بعده كمال الدين البارزي في كتابة السر بدمشق وشهاب الدين الشريف نقيب الأشراف في نظر الجيش ، وكان موت حسين المذكور في - يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الآخرة - ، وكان عريا عن العلوم جملة والعجب أنه كان باسمه التدريس بدار الحديث الأشرفية بدمشق وأول ولايته لكتابة السر كان في أول سنة إثنتي عشرة ، ثم صرف وباشر عند الأمراء ، وأول ولايته نظر الجيش سنة خمس وعشرين في صفر ، ثم أضيفت إليه كتابة السر في جمادى الآخرة منها وصرفعن كتابة السر في سنة ثمان وعشرين ، ثم أعيدت إليه في ربيع الآخر سنة ثلاثين ، واستمرتا معه إلى أن مات .
سعيد بن عبد الله المغربي ، المجاور بالجامع الأزهر وأحد من يعتقد ويزار ، وكان عنده مال جم من ذهب وفضة وفلوس يشاهده الناس فلا يجسر أحد على أخذ شئ منه ، وكان عنده ذهب هرجة يخرجه أحيانا ويصففه ، وقد شاع بين الناس أن من اختلس منه شيئا أصيب في بدنه ، فلا يقربه أحد ، وكان حوله قفاف ذوات عدد ملأى من الفلوس ، وكان يحضر أحيانا ويغيب أحيانا إلى أن مات - يوم الأربعاء - في تاسع عشر ربيع الآخر بعد مرض طويل ، وقد زاره السلطان مرة ، ولما مات حمل المال الذي وجد له لبيت المال ، وكانت جنازته حافلة .
شرف بن أمير ، السرائي ثم المارديني الكاتب المجود ، تعانى الكتابة إلى أن أتقن الخط على الطريقتين ابن البواب وياقوت ، وتعلم منه أهل تلك البلاد ، وقدم حلب على رأس القرن ، ثم حج في سنة تسع وعشرين ،وذكر أن اللنك طلبه من صاحب ماردين ، فتغيب هو كراهية من قربه اللنك ، ثم نزل حصن كيفا وسكنها ، وعلم الناس بها الكتابة ، قربه صاحبها ، قرأت ترجمته في تاريخ القاضي علاء الدين بحلب - أيده الله - .
عبد الغني المعروف بابن الجيعان مستوفي الخاص ، كان متمولا عارفا بأمور الديوان وبالمتجر ، وقد حج في سنة ست وثمانمائة ، مات في جمادى الآخرة ، وكان كثير السكون ، وفي لسانه لثغة قبيحة ، وعمر دارا هائلة بقرب الجامع أخذ فيها أملاك الناس ، فقدر أنها آل نظرها إلى بيت زوجته التي كانت زوجا لأزبك - الدوادار - فباعتها بأبخس ثمن وهو ألف دينار في سنة إحدى وأربعين ، وذكر لي كمال الدين كاتبالسر في سنة خمس وأربعين أن مصروفها كان أكثر من عشرة آلاف دينار .
قجقار شقطاي أحد الأمراء الصغار ، تقدم في دولة المؤيد وقرر رأس نوبة ولده إبراهيم وتوجه رسولا إلى ملك الططر ، وعظم قدره في دولة الأشرف فصار زردكاشا ، واستقر بعده فيها أحمد بن الأسود الذي كان دويدارا صغيرا وكان مشكور السيرة كثير الرفق بالفلاحين عارفا بعمارة الأرض .
كمشبغا الجمالي ، أحد أمراء الأربعين ، كان عاقلا وقورا متدينا ، واستنابه الناصر فرج في بعض سفراته إلى الشام ، ولما كانت دولة المؤيد بطل من الإمرة وولى النظر على الخانقاه بسرياقوس وحمدت سيرته ، ومات بحلب بطالا في سادس ربيع الآخر وجاوز الثمانين .
محمد بن أحمد بن علي ، الشيخ شمس الدين الرملي المعروف بالشامي ،ولد سنة 744 ، وسمع من أبي الحسن العرضي وتفرد بالرواية عنه بالسماع ، وسمع أيضا من القلانسي وغيره ، وسمع من موفق الدين القاضي وتفقه عليه ، ولازم صهره ناصر الدين ، وناب في الحكم مدة ، وكان جلدا قويا يمشي وقد جاوز الثمانين من بين القصرين إلى الشيخونية ليحضر وظيفة التصوف والدرس ، ويلازم دروسه في الطلب يمشي على رجليه ويقضي حوائجه وحوائج الناس بنفسه ، ولم يكن ماهرا في العلم ولا متصونا في الدين ولا متثبتا في الحكم ، وكان على ذهنه ماجريات طريفة ، وتعصب على مجد الدين سالم لما عزل من الحكم ، وقام مع ابن المغلى قياما عظيما حتى كان يخدمه في جميع ما يحتاج إليه حتى في شراء زيت القنديل ، يتعاطاه بنفسه ، مات في 22 شعبان - سامحه الله - .
محمد بن أحمد بن موسى بن عبد الله ، الشيخ شمس الدين الكفيري العجلوني الأصل الدمشقي ، ولد في العشر الأول من شوال سنة 757 ، وحفظ التنبيه ، وأخذ من ابن قاضي شهبة وغيره ، ولازم الشيخ شمس الدين الغزي مدة طويلة واشتهر بحفظ الفروع وكتب بخطه الكثير نسخا لنفسه ولغيره ، وناب في الحكم وولى بعض التداريس ، وحج مرارا وجاور ، وولى مرة قضاء الركب ، وجمع شرحا على البخارىفي ست مجلدات وكان قد لخص شرح ابن الملقن وشرح الكرماني ثم جمع بينهما ، نقلت ترجمته من ابن قاضي شهبة ونقلت من خط غيره أنه أجاز له محمد بن أحمد المنبجي ويوسف بن محمد الصريفي ، وأنه سمع على ابن أميلة وابن أبي عمر وابن قواليح وابن المحب وابن عوض والعماد وابن السراج وابن الفصيح وغيرهم وأنه صنف عين النبيه في شرح التنبيه واختصر الروض للسهيلي فسماه زهر الروض ، وكان لا يعرف شيئا من العلوم سوى الفقه ، وينظم ولا يعرف العروض ، وكان كثير التلون ، مات في 13 المحرم .
محمد بن حسين ، شمس الدين التروجي المالكي ، اشتغل وتعاني النظم فقال الشعر الحسن فأكثر ، مات تحت الهدم في تاسع عشر صفر عن ستين سنة .
محمد بن عبد الدائم بن عيسى بن فارس ،البرماوي الشيخ شمس الدين ، ولد في نصف ذي القعدة سنة 763 ، وكان اسم والده فارسا فغيره البرماوي ، وتفقه وهو شاب ، وسمع من إبراهيم بن إسحاق الآمدي ومن عبد الرحمن بن علي القارئ وغيرهما ، وسمع معنا من جماعة من المشايخ ، ولازم الشيخ بدر الدين الزركشي وتمهر به ، وحضر دروس الشيخ سراج الدين البلقيني وقرأ عليه بعضها وقد سمعت بقراءته على الشيخ مختصر المزني ، وأول ما تخرج بقريبه الشيخ مجد الدين إسماعيل وقد عاش بعده ، وكان حسن الخط كثير المحفوظ قوى الهمة في شغل الطلبة حسن التودد لطيف الأخلاق ضيق المال كثير الهم بسبب ذلك ، ثم اتسع حاله بأخرة ، وله منظومات وتصانيف منها شرح العمدة ومنظومة في أسماء رجالها وشرحها وشرح البخارى في أربع مجلدات ، وكان غالب عمره خاملا ، ثم ولي نيابة الحكم عن ابن أبي البقاء ، وصحب ولده جلال الدين ، ثم ناب عن الجلال البلقيني ثم عن الإخنائي ، ثم ترك ذلك وأقبل على الإشتغال ، وكان للطلبة به نفع وفي كل سنة يتم كتابا من المختصرات فيأتي على آخره ويعمل له وليمة ، ثم استدعاه نجم الدين ابن حجى وكان رافقه في الطلب عند الزركشي فتوجه إلى دمشق ، فقرره في وظائف كثيرة واستنابه في الخطابة والحكم ونوه به ، فلما مات ولده محمد وكان ولدا نجيبا وحفظ عدة مختصرات أسف عليه وكره الإقامة بدمشق ، فزوده ابن حجى وكتب له إلى معارفه كتباأطراه فيها إلى الغاية ، فتلقاها أولئك بالقبول واعتقدوا فيه تلك الأوصاف فقاموا معه حد القيام حتى قرروه في مباشرة وظائف الشيخ ولي الدين العراقي نيابة عن حفيده وكانت عند موته قررت باسمه ، فباشر الجميع بعد إن كان العراقي قد أوصى أن ينوب عن حفيده في درس الحديث من عينه وكذا في دروس الفقه ، وباشر بعض ذلك وقرر الناظر الشرعي على أوقاف المدرسة الجمالية الشيخ ناصر الدين البارنباري أحد المهرة في العلوم في نيابة المشيخة والتدريس ، وباشر ذلك مدة مع شدة استحقاقه من أوجه ، فلم يلتفت البرماوي لذلك بل لبس للنيابة عن الصغير تشريفا وباشر الجميع ، ولم يرع حق البارنباري مع ظهور استحقاقه فباشر البرماوي ذلك من أثناء سنة تسع وعشرين ، إلى أن حج في سنة ثمان وعشرين جاور بمكة سنة تسع وعشرين ، فلما حضر أول سنة ثلاثين قرر في تدريس الصلاحية ببيت المقدس عوضا عن الهروي في آخر المحرم ثم سافر إلي القدس في رجب من هذه السنة فباشرها نحو السنةمع ملازمة الضعف له إلى أن مات ، وتفرقت كتبه وتصانيفه شذر مذر - عفا الله تعالى عنه واستقر في تدريس الصلاحية بعده عز الدين عبد السلام بن داود بن عثمان المقدسي بعناية القاضي بدر الدين بن مزهر كاتب السر ، وتأخر سفره إلى ذي القعدة ، وكان نزل عن غالب وظائفه بمصر والقاهرة ببذل من المنزول له كتدريس الحديث بالجمالية وتدريس الخروبية في الفقه بمصر ، استقدمه ابن حجي إلى دمشق سنة إحدى وعشرين ، فأجلسه بالجامع يقرئ ويفتي ثم رجع إلى مصر ، ثم استقدمه سنة ثلاث و عشرين وفاستنابه في الحكم ، وولي إفتاء دار العدل عوضا عن الشهاب الغزي ، ثم ولاه تدريس الرواحية وغيرها عوضا عن برهان الدين بن خطيب عذراء ، وتدريس الأميننية عوضا عن عز الدين الحسباني ، وعكفت عليه الطلبة فأقرأفي جمادى ورجب وشعبان الحاوي في سنة والتنبيه في سنة والمنهاج في سنة .محمد بن يعقوب ، البخانسي شمس الدين الدمشقي ، ولي حسبة الشام ثم القاهرة في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة وولي وزارة دمشق ؛ ومات في ثالث المحرم .
محمد بن يوسف بن عبد الرحمن تقي الدين القرشي الدمشقي ، ولد سنة نيف وستين ، وتعاني المباشرات إلى أن ولاه نوروز الوزارة بدمشقثم كتابة السر ، وولي قضاء طرابلس سنة ست عشرة ، ثم رجع إلى دمشق وباشر التوقيع ، واستمر ينوب في كتابة السر إلى أن مات ، وكان فاضلا في فنه ساكنا كثير التلاوة منجمعا عن الناس ؛ ثم مات في جمادى الآخرة .
محمد بن خطيب قارا ، الشيخ شمس الدين ، كان متمولا ، ولي قضاء صفد وحماة وغيرهما يتنقل في ذلك ، وفي اواخر أمره تنجز مرسوما من السلطان بوظائف الكفيري ونيابة الحكم بدمشق ، وقدمها فوجد الوظائف انقسمت بين أهل الشام ، فجمع أطرافه وعزم على السعي في قضاء دمشق ، وركب البحر ليحضر بما جمعه إلى القاهرة ، فغرق وذهب ماله ، وذلك في رجب منها .
يشبك بن عبد الله الأمير الكبير الساقي الأعرج الظاهري ، اشتراه برقوق وهو شاب ، ثم تأمر في اول دولة الناصر ، وخرج من القاهرة في كائنة جكم ونوروز ببركة الجيش ، فتنقل في تلك السنين في الفتن إلى أن قتل الناصر فصار من فريق نوروز فأرسله إلى قلعة حلب ليحفظها ، وكان من إخوة ططر وقد صار من فريق المؤيد ، فلم يزل يراسله حتى حضر عند المؤيد ، فلما قتل نوروز أراد المؤيد قتل يشبك ، فشفع فيه ططر فاعفاه من القتل ، وأمر بتسفيره إلى مكة بطالا ، فتوجه إليها ودخل اليمن ، ثم سعى له إلى أن عاد إلى القدس فأقام به بطالا ، فلما تمكن ططرمن المملكة أمر بإحضاره فوصل إليه وهو بدمشق ، وتوجه معه إلى حلب فاقامه في حفظ قلعتها ، ثم لما رجع وتسلطن أرسل إليه فحضر فأمره ، ثم كان من كبار القائمين بدولة الأشرف وسلطته فرعى له ذلك وأسكنه في القلعة معه ، ثم صيره أتابك العساكر بعد قطج ، وكان من خيار الامراء محبا في الحق وفي اهل الخير كثير الديانة والعبادة كارها لكثير من الامور التي تقع على خلاف مقتضى الشرع ، وعك صبيحة موت جانبك فلم يزل يتنقل في المرض إلى أن مات يوم السبت الثالث من جمادى الآخرة ، واستقر في الأتابكية بعده جراقطلي نقلا من نيابة حلب ، واستقر نور الدين ابن مفلح على نظر المارستان بعد أن كان نور الدين السفطي قد سعى فيها ليعود إليها ، فلم يتم له أمر بعد أن هيئت خلعته وكذا سعى فيها جماعة ، فبطل سعيهم .
حوادث سنة 832
سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة
في أولها نقص النيل عن الغاية التي انتهى إليها ذراعا وثلثي ذراعفإنه كان انتهى إلى عشرين ذراعا ، ثم أسرع في النقص حتى منع السقائين من الملء من الخليج في عاشر الشهر ، وصار الماء على ستة عشر ذراعا وذلك في رابع عشر بابه ، فبادر الناس إلى الزراعة واشتغلوا بها ، فلما كان في النصف منه وذلك في أواخر بابه وقع برق متوالي من الغروب إلى أن مضت من الليلة هجعة فوقع رعد شديد مزعج فتمادى ، ثم أعقبه مر كافواه القرب إلى أن مضى ثلث الليل الأول ، فدلفت السقوف من البيوت الكبار فضلا عن الصغار وسقطت أماكن وانزعج الناس انزعاجا ما عهد مثله في هذه الازمنة في مثل هذا الوقت ، وأصبحت أزقة البلد كالخلجان وكثر الوحل جدا وشراع الناس في تنظيفها ، ولم يعهد مثل ذلك بالقاهرة إلا إذا أمطرت مرارا ، ووصل الخبر بانها أمطرت بالبهنسا بردا في قدر بيضة الدجاجة والحمامة ، وهلك بسبب ذلك من الحيوان شيئ كثير جدا . وفي ربيع الأول شغب الجند على الأستادار ونهبوا بيته بسبب تأخير النفقة ، فاحضر السلطان الأستادار فضربه بحضرته ثم خلع عليه واستمر ، وأنفق من خزانته شهرين ، وعمل المولد السلطاني على العادة في اليوم الخامس عشر ، فحضره البلقيني والتفهني وهما معزولان ، وجلس القضاة المسفزون على اليمين وجلسنا على اليسار والمشايخ دونهم ، واتفقأن السلطان كان صائما ، فلما مد السماط جلس على العادة مع الناس إلى إن فرغوا ، فلما دخل وقت المغرب صلوا ثم أحضرت سفرة لطيفة ، فاكل هو ومن كان صائما من القضاة وغيرهم .
وفي شهر ربيع الآخر التزم نور الدين الطنبذي كبير التجار بالقاهرة أن يأخذ من السلطان ستين الف دينار ليتجر له فيها ويقوم للأستادار بالربح ، وكانت له به عناية لأنه كان صديقه وصديق أبيه من قبله فأجيب لذلك ، فشرع في تحكير السكر وأن لا يباع إلا بأمره ، ودخل في امور شنيعة وكثر الدعاء عليه ، وعورض كثير من أهل الدولة في ذلك ولم يستمر ذلك إلى آخر السنة .
وفي ربيع الآخر أمر السلطان نواب القضاة أن لا يحبس أحد على أقل من ألف ، وفيه نزل السلطان من القلعة مختفيا إلىالقاهرة فدخل بيت القاضي ناظر الجيش بغتة ، فاندهش الرجل وقدم ما تيسر ، ثم صحبه بألفي دينار وخيل وبغال وتقدمة ، وفي هذا الشهر نودي على الفلوس أن يباع الرطل المنقى منها بثمانية عشر درهما ، ففرح من كان عنده منها حاصل ، وحزن من عليه منها دين ، لما يقاسمونه من نواب الحكم في إلزامهم إعطاء ذلك بالوزن الاول ، وفيه بحث كثير وثبت أن ذلك لا يلزم على الإطلاق بل لا بد من الشروط ، واقتضى الحال كتابة مراسيم للشهود أن لا يكتبوا وثيقة في معاملة ولا صداق ولا غيره إلا بأحد النقدين :الذهب أو الفضة ، بسبب شدة اختلال أحوال الناس واختلاف أحوال الفلوس التي صارت هي النقد عندهم في عرفهم مع عزة الفلوس وعدمها ، كان يكتبون ذلك بالفلوس مع تحققهم أن لا وجود لها ، أن لا حقيقة لذلك الإقرار ، ثم إذا نودي عليها بأن يزاد سعرها يصير من كتبت له يطالب بذلك الوزن فأجحف ذلك بالناس ، فحسمت هذه المادة من هذا التاريخ على يد من وفقه الله لذلك وهو كاتبه ، وتمادى الاختلاف بسبب ما كان كتب اولا ، فلم يزل يضمحل بحمد الله تعالى .
وفي رجب استقر جلال الدين محمد بن بدر الدين محمد بن مزهر في كتابة السر عوضا عن أبيه وهو شاب أمرد كثير الخجل والسكون ، فباشره معه شرف الدين سبط ابن العجمي ، وقام معه بأعباء الوظيفة إلى أن انفصل عن قرب ، وكوتب الشريف بن عدنان كاتب السر بدمشق فتباطأ في الحضور .
وفي يوم الجمعة الثاني من شعبان تأخر اللحم عن المماليك الذين في الطباق يوم الخميس فأصبحوا يوم الجمعة - فصبح منهم بيت الوزير جمع فهجموا عليه بيته الذي بحارة زويلة فكسروا أبوابه ونهبوا ما فيه ، وكسرت عدة أواني من الصيني ، واستلبوا ثياب النساء والجواري ،وأفسدوا رخام منزله ، وهرب الوزير في بيت الجيران ، ثم ثارت في سادس شعبان بين جماعة من المماليك السلطانية وبين الأمير الكبير جارقطلي ، فأرادوا أن يهجموا عليه فاغلقت الأبواب ، فأرادوا إحراق الدار فبرز إليهم راكبا ، فنكصوا عنه ودخلوا بين القصرين ، فوقعت في العوام هجة فأغلقت أبواب المدينة ، وأمسك من مماليك الأمير الكبير ثلاثة أنفس فضربوا بحضرة السلطان ، فبلغ ذلك الامير الكبير فغضب وسكنت الفتنة ، ثم إن السلطان تلطف بالمماليك .
وفي اوائل شعبان هجم ساحل الإسكندرية خمسة مراكب من الفرنج فعبثوا ، فبادر عبد القادر بن أبي الفرج الأستادار وساق معه جماعة من عرب البحيرة ودخل الإسكندرية ، فقويت بهم نفوس أهل الثغر ونكص الفرنج على أعقابهم بعد أن جرح منهم جماعة ، وكفى الله المؤمنين القتال .
وفي ذي القعدة هرب قنصل الفرنج الجنوية ومن معهم الذين كانوا مقيمين بالإسكندرية ، وفي جهتهم لتجار المسلمين أكثر من عشرين ألف دينار ، وكانت إقامتهم بالإسكندرية قد طالت حتى أن اكثرهم إنما ولد بها ، وكاوا يخرجون في كل يوم بعد عشائهم فيتمشون بالساحل عادة لهم بعد الأكل ، فلما كثرت عليهم المظالم التي لم يألفوها رتبوا أمرهم وهربوا في بعض المراكب ووجدوا في نواحيهم مركبين حضر منبلادهم فردوهم ، فانزعج السلطان والمسلمون لذلك - وكان ما سنذكره .
وفي تاسع ذي القعدة كسر الخليج الناصري ، وكان النيل وصل في اول يوم من ذي القعدة وهو يوم الجمعة إلى خمسة عشر ذراعا وشيء ، ثم وصل في رابعه إلى تسعة عشر إصبعا من السادس عشر وتوقف أربعة ايام ، فضج الناس وأقبلوا على شراء القمح وغيره خشية استمرار التوقف ، فجمع السلطان القضاة والفقراء عنده وقرئ عنده القرآن وابتهلوا بالدعاء واصبح ، في اليوم الثامن فركب إلى الآثار فزار ودع وتصدق ، فاتفق أنه أوفى في صبيحة ذلك اليوم ، وباشر كسر الخليج محمد ولد السلطان .
وفي نصف ذي الحجة استقر الشريف شهاب الدين أحمد بن علي ابن عدنان الحسني نقيب الأشراف بالشام في كتابة السر بمصر ، وألبس خلعة خضراء بطرحة خضراء ، وصرف جلال الدين ابن مزهر وكان قد استقر فيها بعد والده ، ولم يعهد في الدولة التركية أن وظيفة كاتب السر تمتهن هذا الامتهان بحيث يتولاها شاب صغير وتدور بين ثلاثةفي سنة واحدة ولم تكن العادة أن يتولاها إلا من جرب عقله ومعرفته ثم لا ينفصل عنها إلا بالموت غالبا .
وفي جمادى الآخرة حاصر ابن قرا يلك مدينة خرت بزت فبلغ ذلك السلطان ، فجرد عدة من الامراء والمماليك وأنفق فيهم وارسل إلى المماليك الشامية بالخروج معهم ، فإلى أن وصلوا تصالح قرا يلك والنائب بها وتسلمها قرا يلك ، فوصل العسكر بعد ذلك إلى الرها ، فانتهبوها وقتلوا من أهلها مقتلة عظيمة وافحشوا في ذلك ، واسروا ولد قرا يلك وارسلوه إلى القاهرة ، واتفق ورود الخبر بذلك يوم وفاء النيل في تاسع ذي القعدة .
وفي شوال وعك كاتبه ثم عوفي في ذي القعدة ، فاستعرض أهل السجون فصولح من له دين من مال كاتبه ، وحصل لجمع كثير من الناس فرح كبير ، أما صاحب الدين فلياسه من حصول شيء من المسجون ، وأما المسجون فلما كان يقاسيه من شدة الحر وغيره من الضيق - فلله الحمد .
وفيها نازل إسكندر رسل محمد - ابن قرا يوسف السلطانية وقتل متوليها من جهة شاه رخ ملك الشرق ووقعت بينه وبين إسكندر بن قرا يوسف وقع ، فانكسر إسكندر وانهزم إلى الجزيرة وقد تمزق عسكره .
وفي هذه السنة غزاه شاه رخ ملك الرق ابن قرا يوسف فأوقعبه خارج تبريز ، ودخل شاه رخ تبريز فخربها بحيث صارت قاعا صفصفا ، وجلا أهلها عنها إلى سمرقند ؛ وأعقب رحيله عنها جراد عظيم أفسد الزرع كله ، وعاثت الاكراد بعده فيمن بقي فما أبقوا لهم شيئا .
وفيها أغار قرا يلك على الرها فنازلها وأخذ قلعة خرت برت ، وسلمها لولده ، فتوجهت العساكر إليها فحاصروا الرها وبها هابيل بن قرا يلك واسمه عثمان ، فلم يزالوا حتى أخذوها ونهبوها ، وأفحشوا حتى بلغني لما دخلت حلب أنهم فعلوا فيها شيئا أشد مما فعل التتر بدمشق من التحريق والتخريب والفساد بالنساء والصبيان وقتل الانفس بالسيف والتحريق - فلله الأمر .
وفيها أنقطع جسر زفته فغر البلد وخربت منه عدة دور .
وفي أول هذه السنة تلفت السلطان إلى المتجر بإغراء الخازندار له ، فامر بتجهيز مال إلى جدة ليشتري له وحجر على الفلفل أن يشتري لغيره ، وألزم جميع التجار أن لا يتوجه أحد ببضاعة إلى الشامولا غيرها بل إلى القاهرة ولا يباع إلا بالإسكندرية بعد أن يكتفي السلطان ، والزم الفرنج بشراء الفلفل بزيادة خمسين دينارا عن السعر الواقع ، فاشترى الفرنج شيئا ورجعوا باكثر بضائعهم وما معهم ن النقد إلى بلادهم ، فلم يحصل للسلطان مقصوده ، وحصل على التجار من البلاء مالا يوصف ، وتمادى الامر على ذلك ولا يزداد الأمر في سنة إلا شدة .
وفيه حجر على باعة الثياب البعلبكي والموصلي والبغدادي ثم بطل ذلك .
وفيه حجر على السكر مدة ثم بطل أيضا .
وفي شهر ربيع الآخر عقد مجلس عند كاتب السر اجتمع فيه القضاة ومشايخ العلم بسبب أن السلطان اشترى من وكيل بيت المال أرضا ثم وقفها ، وثبت ذلك عند الشافعي ونفذه الباقون إلا الحنفي فادعى أن الحكم باطل ، واستند إلى أن علم الدين ولد شيخنا البلقيني ذكر له البطلان ، ووافقه بعض نواب الحكم من الشافعية المنفصلين ، وكان القائم في امر الشراء المذكور ناظر الجيش ، فامر كاتب السر أن يستفتي علماء الشافعية في ذلك ، فأفتوا بالجواز إلا القمني والعلم ، فلما حضروا وقع البحث في ذلك ، فرجع القمني وقال : إذا استوفى الحاكم الشروط صح البيع ، وكان قبل ذلك كتب بأن البيع لا يصح وأطلق ، وأما العلم فاعتل بأنه يلزممن ذلك اتحاد الموجب والعابل وذلك لا يختص كما يتعاطى الجد لحفيده ، وأن وكيل بيت المال وكيل السلطان فإذا اشترى السلطان من وكيله فكأنه اشترى من نفسه ، وفاته ما صرح به جماعة من العلماء بأن وكيل بيت المال وكيل عن الجهة للمسلمين لا عن خصوص السلطان ، وإنما وظيفته ولاية لا نيابة وقد صرح بذلك السبكي وغيره ؛ ثم ظفرت بأن ذلك صنع للسلطان صلاح الدين في وقف الصلاحية ببيت المقدس ونقله السبكي في فتاويه ، وقال الأذرعي في شرح المنهاج : اغتر بعض الناس بتسميته وكيلا فقال : إنه ينعزل بموت السلطان ، هو غلط ، ثم أحضر حكم الدين البلقيني في مثل ذلك وكذلك من قبله أبو البقاء وعز الدين ابن جماعة ، فاصر على دعوى البطلان وأصر الحنفي على الامتناع ن التنفيذ اعتمادا على قول المذكور مع قصوره في الفهم ونزارة ما عنده من العلم ، ثم حملته العصبية على أن اجتمع بالسلطان وعرفه أن البيع باطل وأن الشافعية راعوا القاضي الشافعي فوافقوه فيما عمل ، فأمرهم بالاجتماع عنده فحضروا يوم الاثنين ثامن الشهر المذكور ، فبدا الشافعي فسأل الحنفي : لم امتنعت من تنفيذ هذا الحكم ? فقال : لأن الشافعية قالوا إنه باطل فوقفته على فتاوي الشافعية فاسند الامر للقمني وللعلم فوقفته على فتوى القمني الثانية فقال : هذا لا يعتمد عليه لأنه تناقض ، فسئلالعلم في المجلس عن مستنده في دعوى البطلان فقال : نص الشافعي في عيون المسائل أن الوالي في رعيته بمنزلة الوصي في مال اليتيم ، فسئل ما وجه الدلالة من هذا النص لصورة المسألة ، فخلط في جوابه وانتقل فأخرج له نص الشافعي في مختصر المزني بأن المراد بذلك فيما يتعلق برعاية المصلحة للجهتين فكابر ، فرد عليه من حضر وقالوا : إذا كان الكلام مطلقا وذكر له في موضع آخر قيد وجب الحمل عليه وعمل بالخاص ، ثم استظهر الشافعي بأن للسلطان أن يقف ما يراه من أراضي بيت المال على من يراه ، وأن الوصي ليس له ذلك في مال اليتيم ، فدل على أن النص ليس على عمومه ، فاستمر على العناد فبان للجماعة قصوره وتعصبه . وأما الحنفي فتبين له أن لا حجة للقمني والعم فأصر على التعصب وقال : لا يجب على التنفيذ وكأنه خشي أن ينفذ في الحال فيقال إنه غلب فجنح إلى هذا العذر ، وانفصل المجلس على ذلك ؛ وسئل علماء الحنفية عن ذلك فقالوا : بل يجب على الحاكم إذا اتصل به حكم غيره وسأله صاحب الحق التنفيذ أن يفعل ، وممن كتب بوجوب ذلك عليه وإثمه إذا لم يفعل التفهني وابن الديري ونظام الدين السيرامي وصدر الدين ابن العمي وعبد السلام البغدادي وكمال الدين ابن الهمام بدر الدين القدسي وأمين الدين الأقصر أي والقاضي المالكي والقاضي الحنبلي ، فيما بلغه ذلك استفتى فما إذا حصلت عند العجمي ريبة في الحكم هل يجب عليه أن ينفذه مع الريبة ، فطافوا بها فلم يكتب عليها أحد ، فأشير عليه بأن يرجع وينفذ ، فآل الأمر إلى أننفذ الحكم بعد ذلك في السادس عشر من الشهر المذكور .
وفي اواخر شهر ربيع الآخر قدم فيروزمن المدينة وخلع عليه بعد أيام وعاد إلى مكانه ، وزاد تمكنا بحيث اقتصر السلطان من القدماء عليه وعلى التاج الوالي وولي الدين ابن قاسم وأحمد الأحدب الشامي ومراد العجمي - هؤلاء قدماء الحضرى ، ومن طرأ عليهم من غيرهم مقتوه إلىأن يخرجوه .
وفي يوم الاثنين مستهل جمادى الآخرة استقر شهاب الدين أحمد ابن محمد بن صلاح المعروف بابن المحمرة وبابن السمسار في قضاء الشام عوضا عن أبي البقاء ابن حجي ، وبقيت بيده مشيخة سعيد السعداء وتدريس الشيخونية وغير ذلك من جهاته بالقاهرة ، فاستناب فيها وسافر في رجب
وكان السلطان طلب العلم البلقيني وفوض إليه قضاء الشام فامتنع وقال : أنااوثر به وجه السلطان في هذا الشهر مرة علىهذا ، فقال له : قد بعث النبي e معاذا إلىاليمن فلم بعتذر بمثل هذا فتعجب من حضر من استحضاره هذه القصة المناسبة ، ولم يؤثر ذلك في العلم لشوقه إلى العود بالقاهرة ، فلما استقر ابن المحمرة أرسل له السلطان محقة وأذن له أن يستنيب في وظائفه بالقاهرة . وفه استقر جمال الدين يوسف ابن الصفي الكركي في نظر الجيش بدمشق عوضا عن الشريق شهاب الدين ، واستقر شمس الدين محمد بن علي بن عمر الصفدي في قضاء الحنفية بدمشقعوضا عن القاضي شهاب الدين ابن الكشك نقلا من القضاء بطرابلس ، واستقر في قضاء طرابلس ولد الصفدي المذكور .
وفي ليلة الخميس ثاني عشر جمادى الآخرة هبت ريح بالتراب برقة الأهواء ، فأثارت منه ما ملأ البيوت وكاد الناس يهلكون من الغم وأصبح الجو أصفر .
وفي ليلة النصف خسف القمر ولم يشعر به أكثر الناس .
وفي ثالث شعبان استقر نظام الدين عمر بن القاضي تقي الدين إبراهيم ابن الشيخ شمس الدين محمد بن مفلح في قضاء الحنابلة بدمشق عوضا عن القاضي شهاب الدين ابن الحبال ، وكان ابن الحبال قد ضعف بصره حتى قيل إنه عمي وقوي صمعه وضعفت قوته ، فلما استقر نظام الدين وبلغه ذلك تحول إلى بلده طرابلس ، فأقام بها إلى أن مات في السنة المقبلة .
وفي شعبان هجم جماعة من المماليك بيت الوزير فنهبوا ، وكانت كائنة شنيعة ؛ وفيه اشتد فساد المماليك الجلب وأفسدوا حتى منع السلطان الناس عن العمل إلا عن أمره إشفاقا عليه ، وسار الامراء إلى خرت برت فأوقعوا بمن فيها . وفيه وقع الوباء بدرندا . وفيه قدم نائب الشام سودون من عبد الرحمن وقدم معه كاتب السر ابن البارزي ثم رجعا على وظيفتيهما ، وسار بعدهم العسكر المجهز إلى البلاد الحلبية وهم : الحاجب الكبير والدويدار الكبير وغيرهما ، ومعهم من الطبلخاناتوالعشراوات جماعة ومن المماليك السلطانية أربعمائة نفس ، فوصلوا إلى حلب وأقاموا بها لحفظها من التركمان ، ثم وقعت لهم مع التركمان وقعة قتل فيها ولد لقرايلك صاحب تلك البلاد ، وصادف وصول الخبر بذلك يوم وفاء النيل ، فحصل للناس بذلك بشران ، وشاع أن قرا يلك مات ثم تبين كذب الإشاعة . وفيها قدم بيرم التركماني صاحب هيت فارا من أصبهان من قرا يوسف ، فأكرمه السلطان واجرى له راتبا ثم أقطعه ناحية من الفيوم . وفيها في رجب استقر سودون من عبد الرحمن أتابك العساكر نقلا من نيابة الشام ، واستقر في نيابة الشام جارقطلي عوضا عنه .
وفيات سنة 832
ذكر من مات في سنة 832 من الاعيان
أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن أبي بكر بن عبد الوهاب ، المرشدي المكي أخو محمد وعبد الواحد ، ولد سنة ستين وسبعمائة ، وسمع من عبد الرحمن بن عل التغلبي ابن القارئ جرء ابن الطلابة أنا الأبرقوهي ،ومن محمد بن أحمد بن عبد المعطي صحيح ابن حبان أنا الرضي والصفي الطبريان ، ومن عبد الله بن أسعد اليافعي صحيح البخاري ، ومن عز الدين ابن جماعة من مناسكه الكبرى - ومن غيرهم ، وأجاز له الصلاح ابن أبي عمر وابن أميلة وابن هبل وابن قواليح وأبو البقاء السبكي وآخرون ، وحدث ؛ ومات بمكة يوم الخميس رابع ذي القعدة ، وقد حدث قبل موته بسنة بشرح السنة لبغوي بإجازة من بعض شيوخه ، ومن قبل موته بشهر بالشمائل بإجازته من الصلاح المذكور .
أحمد بن عمر بن أحمد بن عيسى ، الشاب التائب شهاب الدين المصري الشاذلي ، نزيل دمشق ، ولد في ذي الحجة سنة سبع وستين ، واشتغل بالفقه قليلا ، وتعاني المواعيد فمهر فيها ، وكان يلقي من حفظة عنان ، وطاف البلاد في ذلك فدخل اليمن مرتين ثم العراق مرارا ودخل حصن كيفا وكثيرا من بلاد الشرق وأقام بدمشق مدة وحج مرارا ، وكان فصيحا ذكيا يحفظ شيئا كثيرا ، وله رواج زائد عند العوام ، وبنى عدة زوايا بالبلاد ؛ مات في رجب .
برسبغا الجلباني ، تقدم في أيام الناصر فرج بواسطة عبد اللطيفالطواشي وكان يخدمه ، واستقر في الدويدارية ، وكان فصيحا عارفا لا يظن من عرفه إلا أنه من أولاد الناس ، وكان نفي في الدولة المؤيدية إلى القدس ، ثم أعيد في الدولة الأشرفيةوباشر الدوالب السلطانية بالصعيد ؛ مات في شهر رجب .
خشرم بن دوغان بن جعفربن هبة الله بن جماز بن منصور بن جماز مع رفيقه كما ذكرنا في عجلان .
رابعة بنتي زوج شيخ الشيوخ محب الدين ابن الأشقر ماتت وكان مولدها في رجب سنة إحدى عشرة ، وكانت قد تأهلت بشهاب الدين ابن مكنون قبله ، وسمعت معي في سنة خمس عشرة من الشيخ زين الدين ابن حسين بمكة ، وأجاز لها جمع كثيرمن أهل مصر والشام - عوضها الله الجنة .
سعد الآمدي سعد الدين ، نزل بطرابلس وشغل الناس في الحاوي ، ولم يكن مشكورا في دينه ؛ مات في جمادى منها .
عبد المعطي زين الدين الكوم الريشي الحنفي ، مات في هذه السنة - وقد تقدم خبره في حوادث سنة عشر وثمانمائة . عجلان بن نعير بن منصور بن جماز بن شيحة بن قاسم ، العلويالحسيني ، أمير المدينة ، قبض عليه في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة فسجن ببرج في القلعة ، ثم أفرج عنه بمنام رآه القاضي عز الدين عبد العزيز بن علي الحنبلي فقصه على المؤيد ، وأمر بالإفراج عنه في ذي الحجة . وقتل فيها ايضا قريبه خشرم بن دوغان بن جعفر بن هبة الله ابن جماز بن منصور .
علي بن حسين بن علي ، الحاضري نور الدين ، ولد في جمادى الأولىسنة 755 ، واشتغل وباشر عدة وظائف سلطانية ، وكان كثير التودد طلق الوجه حسن العشرة ، وكان في دولة منطاش قد أهين ونفي ، ثم عظم لما عاد الظاهر وتولى ابن أخيه بيبرس الدويدارية ؛ مات في العشرين من شعبان وقد شاخ ورق حاله .علي بن محمد بن يوسف ، التوريزي نور الدين ، كان أبوه من كبار التجار ونشأ هو في كنفه ، ثم مات أبوه واشتهر بالتجارة أخواه الجمال محمد والفخر أبو بكر ، وتعاني هذا السفر إلى بلاد الحبشة والتجارة بها فشهر بذلك ، وصارت له عندهم منزلة وصورة كبيرة ووجاهة ، وصارت كلمته عندهم مقبولة لقيامه في خدمتهم بما يرومونه من النفائس التي يحضرها لهم من القاهرة وغيرها ، فلما أكثر من ذلك نقم عليه بعض الناس موالاته للكفار الحبشة ونسبوه إلى شراء السلاح لهم والخيول ، وعثر عليه مرة بشيء من ذلك في الدولة المؤيدية ، فاستتيب وأقسم أنه لا يعود ، فلما كان في أثناء العام الماضي زعم بعض من يتعصب عليه أنه توجه رسولا من ملك الحبشى إلىملك الفرنج يستحثه على المسلمين ، وهذا عندي لا يقبل لأن معتقد الطائفتين مختلف ، ويقال إنه دخل بلاد الفرنج بسبب تحصيل صليب عندهم بلغ أمره ملك الحبشة فاحب أنيراه ، ولما شاع ذلك عنه خشي عى نفسه في مكان بالقرب من الخانقاه الناصريةبسرياقوس ، فنم عليه عبد السلام الجبرتي ووشى به إلى السلطان فامر والي القاهرة فقبض عليه ، فوجد معه امتعة من ملابس الفرنج وشيئامن سلاح وناقوسين من ذهب وكتاب فيه مراسلة من صاحب الحبشة يستدعي منه أشياء يصوغها من صلبان ونواقيس ويحضه على أن يشتري له مسمارا من المسامير التي سمر بها المسيح بزعمهم ، والكتاب كله بالحبشية فعرب فحبس ، ثم عقد له مجلس ففوض السلطان أمره للمالكي وذلك في حادي عشر جمادى الأولى ، فتسلمه المالكي ، وسمع عليه الدعوى فأنكر ، فشهد عليه صدر الدين ابن العجمي ، والشيخ نصر الله وآخرون وشهد أكثرهم بالاستفاضة ، فأعذر إليه فيمن شهد عليه ، فادعى عداوة بعضهم وأعذر لبعضهم ، فحم بقتله بشهادة من أعذر لهم ، فضربت عنقه بين القصرين تاسع عشر الشهر المذكور وهو يعلن بالشهادتين وقراءة القرآن ويتبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام ، فتسلمه أهله فغسلوه وصلوا عليه ودفن ، ثم بعد أيام أعاد السلطان لأهله ماكان وجد له بين لأكثر الناس أنه مظلوم ، وذكر لي خادمي فاتن الطواشي الحبشي - وكان على هذا هو الذي جلبهمن بلاد الحبشة - أنه كان ببلاد الحبشة يواظب على الصلاة والتلاوة ، ويؤدب من لم يصل من أتباعه ، وعنده فقيه يقرئ أولاده واتباعه القرآن ، وللمسلمين به نفع ، وهم به في بلاد الحبشة في إكرام واحترام ؛ ولم يمتع منشهد عليه بل لحق به بعد قليل كما سيأتي - والله أعلم بغيبه .
علي بن محمد بن الصفي ، علاء الدين بن صدر الدين بن صفي الدين الأردبيلي ، شيخ الصوفية بالعراق ، قدم دمشق سنة ثلاثين ومعه أتباع فحج وجاور ، ثم قدم دمشق ولده ومعه جمع كثير ، وذكروا أن له ولوالده بتلك البلاد اكثر من مائة ألف مريد ؛ ومات علاء الدين المذكور بعد رجوعه من الحج ودخوله بيت المقدس في شهر ربيع الآخر .
علي السفطي نور الدين ، كان يتعاني الشهادة عند الامراء ، وباشر نظر المارستان مدة ، ثم ولي وكالة بيت المال والكسوة ؛ ومات في اواخر جمادى الآخرة وقد جاوزالخمسين .
محمد بن إبراهيم بن أحمد ، الشيخ شمس الدين الصوفي ، ناظر المارستان ، ولد سنة تسع وأربعين واشتغل بالعلم ، وأحب المذهب الظاهري والانتماء إلى الحديث ، ورافق برهان الدين ابن البرهان لما دخل بغداد ، ثم اتصل بالملك الظاهر برقوق وقام معه لما عاد إلى السلطنة ، فرعى له ذلك وولاهنظر المارستان ، ثم خشي منه فاستأذنه في الحج وتوجه فدخل اليمن وجال فيالبلاد ، ثم عاد بعد موت الظاهر بمدة فأقام بالقاهرة منجمعا ، وكان يرجع إلى دين وتعبد ، وعمي مدة إلى أن مات في مسجد بالكافوري في ليلة الثلاثاء ثالث عشر المحرم منها .
محمد بن إبراهيم بن عبدالله ، الشيخ شمس الدين الشطنوفي الشافعي ولد بعدالخمسين وقدم القاهرة شابا ، واشتغ لميرزق الإسناد العالي بل كان عنده عن التقى الواسطي ونحوه ، واشتغل بالفقه ومهر في العربية ، وتصدر بالجامع الطولوني في القراآت وفي الحديث بالشيخونية ، وانتفع به الطلبة لاتصابه لشغلهم متبرعا بالجامع الازهر ، وكان كثير التواضع مشكور السيرة ؛ مات في ليلة الاثنين سادس عشري ربيع الأول بعد علة طويلة .
محمد بن أحمد بن علي ، الحافظ تقي الدين أبو الطيب الفاسي ثم المكي المالكي ، مفيد البلاد الحجازية وعالمها ، ولد سنة خمس وسبعين وسبعمائة وأجاز له بإفادة الشيخ نجم الدين المرجاني ابن عوض وابن السلار وابن المحب وجماعة من الدماشقة ، وعني بالحديث فسمع بعد التسعين من جماعة ببلده ، ورحل إلى القاهرة والشام مرارا ، وولي قضاء بلده للمالكية ، وهو أول مالكي ولي القضاء بها استقلالا ، وصنف أخبار مكة وأخبار ولاتها وأخبار من احتل بها من أهلها وغيرهم عدة مصنفاتطوال وقصار ، وذيل على العبر للذهبي وعلى التقييد لابن نقطة ، وعمل الاربعين المتباينة وفهرس مروياته ، وكان لطيف الذات حسن الاخلاق عارفا بالامور الدينية والدنيوية ، له غور ودهاء وتجربة وحسن عشرة وحلاوة لسان ، ويجلب القلوب بحسن عبارته ولطيف إشارته ، رافقين في السماع كثيرا بمصر والشام واليمن وغيرها ، وكنت أوده وأعظمه وأقوم معه في مهماته ، ولقد ساءني موته وأسفت على فقد مثله - فلله الامر وكان قد أصيب ببصره وله في ذلك اخبرا ، ومكن من قدحه فما أطاق ذلك ولا أفاده ؛ ومات في رابع شوال .
محمد بن سعيد ، الصالحي ، شمس الدين ، نسبة للصالح صالح بن الناصر ، وكان سعيد مولى بشير الجمدار وبشير مولى الصالح فنسب شمس الدين لمولى مولاه ، وكان أحد القراء في الجوق بالنغم ، ويلقب سويدان ، وهو آخر الحلبة الأولى من تلامذة الشيخ خليل المشبب وممن قرا مع الزرزاي وابن الطباخ ، وقد حظي في أيام الناصر فرج ، وولي حسبة القاهرة مرارا وقد جاوز السبعين ، وكانت بيده مشيخة العلانية وإمامة القصر وغير ذلك ؛ مات في يوم الاثنين صفر .
محمد بن عبد الله بن حسين ، المعروف بابن المواز شمس الدين ، اشتغل كثيرا ونزل في بعض المدارس ، وكان يؤدب أولاد أبي هريرة ابن النقاش ، الغالب عليه الانجماع ؛ ومات فجأة يوم الأحد فيربيع الأول .
محمد بن عبد الله ، شمس الدين الزفتاوي الملقب فت فت ، كان يكتسب بالشهادة ثم عمل التوقيع وتقدم في ذلك وأقرأ أولاد بعض الرؤساء وكان ينوب في الحكم في بعض المراكز ، وكان كثير التلاوة ، خيرا ، سليم الباطن ، أكمل الثمانين .
محمد بن عبد الوهاب بن محمد ، الشيخ ناصر الدين البارنباري الشافعي ، ولد قبيل السبعين بيسير ، وقد قدم القاهرة فاشتغل ومهر في الفقه والعربية والحساب والعروض وغير ذلك ، وتصدر بالجامع الأزهر احتسابا ، وكان من خيار الناس ، ودرس وخطب وأفتى ، واقرأ مدة بالقاهرة ودمياط وقد ذكرت ما جرى له مع شمس الدين البرماوي في السنة الماضية ، وأصاب ناصر الدين عقب ذلك فالج أبطل نصفه ، واستمر به موعوكا إلى أن مات في ليلة الأحد حادي عشر شهر ربيع الأول وقدناف علىالسبعين .
محمد ويدعى الخضر بن علي بن أحمد بن عبد العزيز بن القاسم ، النويري الشافعي ، ولد في ربيع الآخر سنة 762 ، وتفقه قليلا ، واسمع على العز ابن جامعة وابن حبيب وابن عبد المعطي والاميوطي ومن بعدهم ، وأجاز له البهاء ابن خليل والجمال الأسنوي وأبو البقاء السكي وغيرهم ، وناب في الحكم عن قريبه عز الدين بن محب الدين ابن أبي الفضل ، وولي قضاء المدينةمدة يسيرة ولم يصل إليها بل استناب ابن المطري وصرف ، وكان ضخما جدا ؛ مات في رابع عشر ذي الحجة وقد دخل السبعين ، وانصلح بأخرة ، وهو والد أبي اليمن خطيب الحرم .
محمد بن بدر الدين محمد بن أحمد بن مزهر ، الدمشقي بدر الدين ، ولد سنة 786 ، ونشا في كنف أبيه ثم مات أبوه عنه وهو صغير ، فكفله زوج أخته محي الدين أحمد المدني ، وتولى التوقيع عنده لما ولي كتابة السر بدمشق ، فاتصل بالمؤيد وخدمه وقدم . . ثم سلمه إلى نائب القلعة يشبك بن أزدمر فحبسه عنده وضيق عليه إلى أن وقع الإفراج عنه بعد قتل الناصر ، فقدم مع التجريدة إلى القاهرة ، فولي نظر الإصطبل ، وباشر توقيع الدست مع البازري ، ثم صار نائب كاتب السر في مباشرة ولده فمن بعده إلى أن استقر فيها استقلالا فكانت مدته في ذلك نيابة واستقلالا نحو تسع سنين ، لأنه باشر ذلك عقب وفاة ناصر الدين ابن البازري في ثامن شوال سمة ثلاث وعشرين ، وباشر في غضونها نظر الجيش نيابة عن ناظر الجيش لما حج في سنة ست وعشرين ، وكان فصيحا مفوها عارفا بالامور الدنيوية عريا عن معرفة الأمور الأخروية ،إنما همه الاعظم تحصيل الدرهم ولو كان فلوسا ، حتى حصل في هذه المدة ما يزيد على مائتي ألف دينار تمزقت بعده ، وبقي منها ما اشتراه من العقار فإنه بقي لذريته ، وكان ابتدأ مرضه في اول ربيع الآخر حصلت له ذبحة في حلقه فصار ينفث الدم قليلا ، ولم ينقطع عن الركوب إلى الحادي والعشرين من الشهرالمذكور ، فحصل له رعاف كثير حتى أفرط فانقطع بسببه ، ولازمه الاطباء وأكثروا له من الحقن والأدوية إلى أن استفرغوا قوته كلها مع ما يخرج من أنفه من الدم ، ثم تنوعت به الأمراض من القولنج وغيره إلى أن مات في ليلة الأحد اثنتين وعشرين جمادى الآخرة عن نحو الخمسين ، واشيع بأنه سم وكان هو يلوح بذلك ، ولم يغب ذهنه في طول مرضه ، وحرص مرارا على أن يوصي ببر أو صدقة أو خلاص ذمة فلم يقدر له ذلك ومات باحماله لم يحط عنه منها شيء إلا أن كان اغتيل فإن في ذلك كفارة كبيرة ، وكثر الثناء السيء عليه بعد موته بسوء معاملته وطمعه - والله يسمح له فلقد كان يقوم في الحق أحيانا ، وله بر وصلة وصدقة لبعض الناس ومحبة في الصالحين ومروءة وعصبية لاصحابه - رحمه الله تعالى واستقر بعده في كتابة السر ولده جلال الدين . . محمد ولقب بلقب أبيه بدر الدينولم يستمر ذلك ، وخلع على شرف الدين سبط ابن العجمي بنيابة كتابة السر ، وتلقى الامور عن جلال الدين لصغر سنه ، ويقال إنه أخذ لأجل ذلك من مال أبيه مائة ألف دينار .
حوادث سنة 833
سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة
في المحرم استقر الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخات في نظر الديوان المفرد مضافا للوزارة ، وفيه أمطرت في حمص ضفادع خضراء امتلأ منها الأزقة والأسطحة ووصل الخبر بذلك .
وفيه شغب الجند المماليك فزيد في أرزاقهم كل واحد أربعمائة فسكنوا .
وفيها رجع إسكندر بن قرا يوسف إلى تبرير فملكها بعد رحيل شاه رخ ، ووقع لها الغلاء المفرط حتى أكلوا الكلاب .وفي شوال أغار على قرقماس بنحسين بن نعير على ابن عمه مدلج ابن علي بن نعير ، فانهزم قرقماس ودخل مدلج ومن معه بيوت قرقماس فنهبوها ، فكر عليهم قرقماس بمن معه فقتل مدلج ، وذلك في ذي القعدة وعمره نحو العشرين سنة ، فقدم سليمان بن عذراء إلى القاهرة فأمره الأشرف على العرب عوضا عن عمه مدلج فوصل إلى حلب في سادس ذي القعدة ، وورد على يده مثال للأمراء المجردين أن يتوجهوا مع نائب حلب ليقبضوا على قرقماس ، فبلغ ذلك قرقماس فأرسل يطلب الأمان ، فورد المثال السلطاني بطرده عن البلاد ، فتوجهوا الجميع من حلب يوم الجمعة سابع ذي القعدة وقرقماس يومئذ محاصر مدينة جعبر ، فأسرعوا السير فادركوه وهو على المهد تجاه جعبر على شاطئ الفرات ، فلما رآهم ركب وانهزم فركبوا في إثره وتشاغل بعض العرب الذين معهم والعسكر بالنهب ، واستمر العسكر ف إثر قرقماس فأبعد عنهم وقد تعبت خيولهم وغلمانهم ، فكرفيهم قرقماس ومن معه فقتلوا الدشاري وكان على الساقة وأخذوا غالب الخيول التي وقفت والتي وجدوها ، وقتل من العسكر جماعة في تلك الوقعة ونهبت بعض خيامهم وأثقالهم ورجعوا إلى العرب في إثرهم يتخطفونهم ، ولما تحقق قرقماس رجوعهم خشي عاقبتهم فتوجه إلى جهة الشرف ، فدخل الامراء إلى حلب سابع عشر ذي القعدة وقد نهب من أثقالهم وخيولهم وسلاحهم شيء كثير جدا .
وفيها ورد كتاب شاه رخ ملك الشرق يستدعي من الأرف هدايا منها كتاب في العلم منها فتح الباري بشرح البخاري لابن حجر فجهزت له ثلاث مجلدات من أوائل الكتاب ، ثم عاد طلبه في سنة تسع وثلاثين فلم يتفق تتمة الكتاب .
وفيها نقض عبد الواحد بن أبي حمو بيعة أبي فارس صاحب تونس ، فجهز أبو فارس إليه ابن أخيه ابن الركاعنة ، فظفر بعبدالواحد عمه فقتله واستقر في مملكة تلمسان في ذي القعدة منها .وفيها مات أزبك الدويدار وكان قد نفي إلى القدس بطالا في شهر بيع الأول منها بعد ضعف طويل .
وفي مستهل جمادى الأولى سافرالناس إلى مكة ليجاوروا بها صحبة سعد الدين ابن المراة وكان استقر ناظرا على مكس البهار الوارد عليه في جدة .
وفيها أوقع قرا يلك بملطية وماردين ، وساق بعد ذلك إلى البلاد الحلبية حتى وصل عينتاب يعيث وينهب .
وفيها هلك صاحب الحبشة إسحاق بن داود بن سيف أرغد الحبشي الأمخري في ذي القعدة ، وأقيم بعده ولده أندراس بن إسحاقفملك أربعة أشهر ، وأقيم عمه خرنباي بن داود فتملك سبعة أشهر ثم هلك ، فأقيم سلمون ين إسحاق بن داود المذكور فهلك سريعا ، فأقيم بعده صبي صغير إلى أن هلك في الطاعون الذي كان عندهم سنة تسع وثلاثين - فذكرت ذلك هنا تحصيلا للفائدة ، وكانت ولاية إسحاق إحدى وعشرين سنة منذ مات أبوه .
وفي زمانه حصرت دولته بعد أن كانت همجاء ، وكان أبوه يركب وهو عريان كزي بقية الحبشة فصار هذا يركب في الملابس الفاخرة وشعار الملك ، والسبب فيه أن قبطيا كابتا كان يقال له فخر الدولة فر من حادث حدث له فدخل بلاد الحبشة بكتاب البترك ، فحظي عند إسحاق ورتب له أمور المملكة وجبي الأموال ، وصادف دخول أمير من الجراكسة يقال له الطنبغا معزق وكان يعرف أنواع العمل بالسلاح والفروسيةفعلم جماعة منهم رمي النشاب والطعن بالرمح والضرب بالسيف ، وكانوا لا يعرفون القتال إلا بالحراب ، وعمل له زردخاناة ملأها بجميع آلات السلاح مما كان يجله له التجار الذين يترددون إلى بلاده خصوصا على التوريزي الذي ذكرنا قتله قبل ذلك وقد ذكرت خبره فيما مضى .
وفي المحرم جهز أو فارس عسكرا في البحر إلى جزيرة صقلية فنازلوا أولا مازر فأخذوها عنوة وحصروا مألقة فانهزم من جملة الجند العلوج واخذ ، فانهزم بهزيمته جماعة واستشهد بعض الأعيان ، ثم تراجعوا وقبضوا على العلج وبعثوه إلى أبي فارس فأمدهم بجيش .
وفيها كان الغلاء الشديد بحلب ودمشق والطاعون بدمشق وحمص .
وفي يوم الخميس سادس عشري صفر صرف كاتبه والعيني عن وظيفة الحكم ، واستقر فيها التفهني والبلقيني ، واستقر صدر الدين ابن العجمي في مشيخة الشيخونية عوض التفهني ، وشرط على الشافعي عشرة نواب ، وللحنفي ثمانية ، وللمالكي ستة ، وللحنبلي أربعة ؛ ولا يولى أحد من غير مذهبه .وفيها حجر المحتسب اينال الششماني على جلاب القمح من البيع وشغل الطحانين جميعهم بشراء القمح من شؤن السلطان ، واستمر على ذلك مدة فكثرت الغلال من الجلابة فانحط السعر كثيرا - ولله الحمد .
وفي الرابع من ربيع الآخر يوم الأربعاء صرف اينال الششماني من الحسبة وأعيد العني إليها .
وفي التاسع منه أمر بإحضار نائب الإسكندرية الامير آقبغا التمرازي ، وقرر في نيابتها شهاب الدين أحمد الدوادار المعروف بالاسود ابن الأقطع .
وفي خامس عشريه استقر آقبغا الجمالي عوضا عن عبد القادر بن أبي الفرج في وظيفة الأستادارية ، لكونه كان التزم بحمل مائة ألف دينار بعد التكفية ، ثم لما تمادى الحال عجز فآل أمره إلى الإهانة كما سياتي ذكره ، وسلم عبد القادر وألزمه لآقبغا ، ثم أفرج عنهم على مال .
وفي رجب مات ياقوت ، ويلقب فخر الدين الحبشي مقدم المماليك ، واستقر عوضه نائبه فيها خشقدم الرومي اليشبكي - وكان من مماليكيشك واشتهر في أيام المؤيد وترقى وعرف بالحرية .
وفي رجب أيضا قدم تغري بردى المحمودي من دمياط ، فامر أن يتوجه إلى دمشق أميرا كبيرا .
وفي ذي القعدة أضيفت وظيفة الأستادارية الكبرى للوزير فباشرهما معا . وقبض على آقبغا الجمالي وعوقب ، ثم افرج عنه وولي كشف الجسور في أواخر السنة .
وفي ثامن عشرة ركب السلطان إلى مصر ، ثم ركب النيل إلى المقياس وخلقه ، وفتح الخليج الناصري بحضرته ، وهي اول سنة فعل فيها ذلك بنفسه .
وفي ذي القعدة ظهر للحاج من جهة البحر كوكب يرتفع ويعظم ويرتفع منه شرر كبار ، فلما أصبحوا اشتد عليهم الحر فهلك من المشاة عالم كثير ، وتلف من جمالهم وحميرهم كثير - واشتهر أمر الطاعون في الوجه البحري فيقال مات بالمحلة خمسة آلاف نفس وبالبحرارية تسعة آلاف ، ومات في الإسكندرية في كل يوم مائة وخمسون إلى غير ذلك ، وعد هذا من النوادر لأنه وقع في قوة الشتاء وكان قبل ذلك قد فشا في برصا وغيرها من بلاد الروم حتى بلغ عدد من يموت في اليوم زيادة على الألف على ما قيل ، فلما استهل ربيع الآخر كان عدة منيموت بالقاهرة اثنتي عشرة نفسا ، وفي آخره قاربوا الخمسين .
وفي أول يوم من جمادى الأولى بلغوا مائة ، فنودي في الناس بصيام ثلاثة ايام وبالتوبة وبالخروج إلى الصحراء في اليوم الرابع ، وخرج الشريف كاتب السر والقاضي الشافعي وجمع كثير من بياض الناس وعوامهم ، فضجوا وبكوا ودعوا وانصرفوا قبل الظهر ، فكثر فيهم الموت أضعاف ما كان وبلغ في اليوم ثلاثمائة بالقاهرة خاصة سوى من لا يرد الديوان ؛ ووجد بالنيل والبرك شيء كثير من الاسماك والتماسيح موتى طافية ، وكذا وجد في البرية عدة من الظباء والذئاب .
ومما وقع فيه من النوادر أن مركبا ركب فيها أربعون نفسا قصدوا الصعيد ، فما وصلت إلى الميمون حتى مات الجميع ؛ وان ثمانية عشر صيادا اجتمعوا في مكان ، فمات منهم في يوم واحد أربعة عشر فجهزهم الأربعة ، فمات منهم وهم مشاة ثلاثى ، فلما وصل الآخر بهم إلى المقبرة مات ؛ وبلغ في سلخ جمادى الأولى إلى ألف وثمانمائة .
وفي رابع جمادى الأولى بلغت عدة الموتى بالقاهرة خاصة في اليوم ألف نفس ومائتي نفس ، ووقع الموت في مماليك السلطان حتى زاد في اليوم على خمسين نفسامنهم ، وانتهى عدد من صلى عليه في اليوم خمسمائة وخمسين نفسا ، وضبط جميع المصليات في يوم فبلغت ألفي نفس ومائتين وستا وأربعين نفسا ، ووقع الموت في السودان بالقرافة إلى أن مات منهم ماتحو ثلاثة آلاف ، وعز وجود حمالي الموتى وغساليهم ومنيحفر القبور حتى عملوا حفائر كبارا كانوا يلقون فيها الأموات ، وسرق كثير من الأكفان ، ونبشت الكلاب كثيرا فأكلتهم من أطراف الأموات ، ووصل في الكثرة حتى شاهدت النعوش من مصلى المؤمني إلى باب القرافة كأنها الرخم البيض تحوم على القتلى ، وأما الشوارع فكانت فيها كالقطارات يتلو بعضها بعضا .
وفي جمادى الأولى وعك يوسف ولد السلطان فتصدق عنه بوزنه فضة .
وفي نصف جمادى الآخرة جمع الشريف كاتب السر أربعين شريفا اسم كل منهم محمد وفرق فيهم مالا ، فقرأ بعد صلاة الجمعة بالجامع الازهر ما تيسر من القرآن ، فلما أن قرب العصر قاموا فدعوا وضجوا . وكثر الناس معهم في ذلك إلى أن صعد الأربعون إلى السطح فأذنوا العصر جميعا وانفضوا ، وكان بعض العجم قال للشريف إن هذا يدفع الطاعون ، ففعل ذلك فما ازداد الطاعون إلا كثرة حت دخل رجب ، فلما دخل رجل تناقص ؛ قرأت بخط قاضي الحنابلة محب الدين أن شخصا يقال له على الحريري كان له أربعة مراكب فيها مائة نفر وعشرون نفرا ماتوا كلهم بالطاعون إلا واحدا ، ولما اشتد الامر بالطاعون أمر السلطان باستفتاء العلماء عن نازلة الطاعون هل يشرع الاجتماع للدعاء برفعه أو يشرع القنوت له في الصلوات ? وما الذي وقع للعلماء في الزمن الماضي ? فكتبوا الأجوبة وتشعبت آراؤهم وتحصل منها على انه يشرع الدعاء والتضرع والتوبة ، وتقدم قبل ذلك التوبة ، والخروج من المظالم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وانهم لا يستحضرون عن أحد من السلف أنهم اجتمعوا لذلك إلا أن الاجتماع أرجى للإجابة ؛ وأجاب الشافعي بجواز القنوت ، لأنها نازلة وقد صرح الشافعية بمشروعية القنوت في النوازل ، وأجاب الحنفي والمالكي بالمنع ، واجاب الحنبلي بأن عندهم روايتين ومن جوزه خصه بالإمام الاعظم في غير يوم الجمعة ؛ ثم طلب القضاة والعلماء إلى حضرة السلطان فقرئت الفتاوى وفسرها له محب الدين ابن الأقصراني فأجاب : أنا أتابع الصحابة والسلف الصالح ولا أخرج بل كل أحد يبتهل إلى الله تعالى في سره ثم سالهم عن المراد بالمظالم التي كتبوا في الفتاوى أنهم يخرجون منها ، فذكروا اشياء مجملة فقال : مهما تجدد بعد الظاهر برقوق أنا أزيله فقال له الشافعي : قد نجدد في هذه السنة ثلاث مظالم : التشديد على التجار الكارمية في بيع البهار للسلطان وإلا منعوا من التجارة فيه ، والتشديد على الباعة في طرح النطرون والتحكير على القصب أن لا يزرع إلا في بلاد السلطان ، فلم يتحصل من الجواب عن ذلك كبير امر ، وأمر السلطان القضاة والامراء بأن يامروا الناس بالتوبة والإقلاع عن المعاصي والإكثار من الطاعات ونحو ذلك ، ونودي بالقاهرة بمنع النساء من الخروج إلى الترب ، وتوعد المكاري بالشنق والمرأة بالتغريق وانصرفوا على ذلك ؛ ففي الحال دخل إليه بعض خدمه فأخبره أن ابنه الكبير محمدا طعن ، وذكر القاضي زين الدين التفهني أنه رأى في النوم حسام الدين درغان الخادم بالشيخونية وكان من جملة من مات في هذه السنة بالطاعون فسألهعن حاله فقال : الجنة مفتحة للمسلمين ، سمعت ذلك منه ، وكان حسام الدين رجلا جيدا كثير النفع للطلبة بالشيخونية منذ اقام بها وباشر الخدمة بها مباشرة حسنة .
وفيها في جمادى الآخرة أمر السلطان القضاة والحجاب وغيرهم أن لا يحبسوا أحدا على دين فاستمر ذلك إلى شوال منها ، وحكى أبو بكر ابن نقيب الأشراف - وكان باشر بعد موت أخيه شهاب الدين أمور كتابة السر من قبل أن يلبس الخلعة - أن السلطان ورد عليه كتاب فلم يجد من يناوله إياه حتى استدعى مملوك من بعض الطباق .
وفي ثامن عشر شعبان بلغ السلطان أن كمال الدين بن الهمام عزل نفسه من مشيخة المدرسة الاشرفية فسئل عن السبب في ذلك ، فأخبر أن وظيفة شغرت عن صوفي فعين فيها شخصا وعارضه جوهر اللألأ فنزل غيره فغضب وقام بعد أن حضر التصوف وقت العصر فقال : اشهدوا على أني عزلت نفسي من هذه الوظيفة وخلعتها كما خلعت طيلساني هذا ونزع طيلسانه ورمى به وتحول في الحال إلى بيت له في باب القرافة ، فلم يعرج السلطان عليه ، وقرر أمين الدين يحيى بن الأقصرائي في المشيخة ، ونعم الرجلان هما فنزل أمين الدين لابن أخيه محب الدين ابن مولانا زاده عن المشيخة بمدرسة جاني بك .وفيها سقط العيني عن بغلته فانكسرت رجله ، فأقام عدة أشهر منقطعا واستقر محب الدين المذكور يقرأ عند السلطان السير والقصص التي كان يقرأها العيني .
وفي ثامن عشر شعبان شكى برد بك الحاجب فطلبه ، فادعى عليه الشاكي أنه ضرب بغير ذنب ، فقال : طلبته فامتنع ، فأرسله إلى الحنفي فحكم بعزله عن وظيفته فعزل اياما ، ثم أوصى خصمه فصفح عنه فتكلموا له مع السلطان فأعاده .
وفي تاسع رمضان قرر السلطان في مدرسته بقية المذاهب ولم يكن نزل بها أولا إلا الحنفي .
وفي ثامن عشر رمضان استقر القاضي شهاب الدين ابن السفاح في كتابة السر وكانت شعرت بموت جلال الدين ابن مزهر ، وتكلم فيها شرف الدين ابن الأشقر نيابة إلى أن دخل ابن السفاح ، واستقر ولده عمر في وظائفه بحلب .
وفي رمضان وصل كتاب شاه رخ صحبة شريف اسمه هاشم بغير ختم أوله : ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ، ثم خاطب السلطان فيه بالأمر وأرعد وأبرق وتهدد ، فكتب إليه جوابه من جنس كتابه .
وفي ذي الحجة وصل شاه رخ إلى تبريز في عساكر هائلة وتاخرت

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12