كتاب : إنباء الغمر بأبناء العمر في التاريخ
المؤلف : شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

بعد الصلاة ، ثم وصل سودون المحمدي مبشرا بقدومهم فاجتمع بالسلطان في يوم الاحد الثاني والعشرين منه ، ثم تلاحق بقية العسكر ، فمنهم من جرته الريح إلى ساحل دمياط كما تقدم ، ومنهم من جرته إلى الإسكندرية ، ونزل أكثرهم بساحل رشيد ، ثم دخلوا بحر النيل فاستقبلهم الريح المريسية ، فما تكامل مجيئهم إلا في يوم الأربعاء حادي عشر شعبان ، فركبوا جميعا ومعهم الأسرى والغنيمة إلى القلعة ، وخلع عليهم ، واجتمعوا بالسلطان يوم الخميس .
من الحوادث بعد سفر الغزاة
في أواخر جمادى الآخرة قدم زين الدين عبد الباسط الذي كان ناظر الجيش ومدبر المملكة في سلطنة الأشرف بعد أن استأذن في القدوم إلى السلطان زائرا ، فأذن له فقدم ، وهرع الناس إلى تلقيه وبالغوا في ذلك لما ظنوا من عوده إلى ما كان عليه ، فلما اجتمع بالسلطان خلع عليه وعلى أولاده الثلاثة ، فزينت لهم البلد وأظهروا من الفرح به ما لم يكن في البال حتى أطبق أكثر الناس على أنهم ما رأوا مثل ذلك اليوم من كثرة استبشار الناس به ، وهرع الناس بعد للسلام عليه وأرجفوا بولايته وتنافسوا في ذلك ، فأقام أياما ثم استأذن في الزيارة فأذن له ، فحصل له بسط زائد وابتهاج وعاد بغير شيء ، ثم تكرر ذلك إلى أن أظهر أنه لا أرب في ولاية من الولايات وإنما يريد أن يشتيبالقاهرة ويصيف بالشام ، فسكت عنه ، ثم بدا له أن يستأذن في الرجوع فأذن له فودع ، وسار قبل أن يستهل رجب ، وحصل لأصحاب الوظائف طمأنينة زائدة بعد قلق كثير ، لأن كلا منهم ما كان يدري ما يؤل أمره معه ، وأعطى السلطان لولده الكبير بالشام - إمرة .
وفيه رافع ولد القاضي شهاب الدين ابن الرسام الذي كان قاضيا بحماة ثم بحلب ، وكان ولده هذا يتقاضى الإشغال بباب والده ، ثم توصل إلى التعرف بالسلطان لما كان في السفرة الأخيرة من دولة الأشرف بحلب ، ثم إنه حضر ورافع في كاتب السر بحلب وهو زين الدين عمر بن شهاب الدين بن السفاح وفي نائب القلعة ووالي القلعة ومباشر القلعة أنهم استولوا على الحواصل السلطانية في إمرة تغري برمش الذي كان نائبا بها وخرج لما خلع الملك العزيز وآل أمره إلى القتل كما تقدم ، فاحضر الأربعة مع البريدية وحبسوا بالبرج ، ثم أذن لنائب القلعة تغري برمش الفقيه في محاسبتهم ، فتقرر عليهم خمسة وعشرين ألف دينار وأطلقوا ليحصلوها ، واستقر الذي رافع فيهم في نظر الجيش وكتابة السر جميعا ، وسافر ومعه زوجته ألف بنت القاضي علم الدين صالح ابن شيخنا البلقيني ، فلما كان بعد سفره بعشرة أيام أعيدت كتابة السر لابن السفاح وأذن له في السفر . .وفيات سنة 847
ذكر من مات في سنة سبع وأربعين وثمانمائة من الأعيان
ازبك جحا مات مسجونا بقلعة صفد ، وكان من خواص الأشرف .
حسن بن عثمان بن الأشقر بدر الدين أخو ناظر الجيوش محب الدين ، وكان قد باشر نظر المرستان نيابة عن أخيه ، ثم لما تولاه في زمن الظاهر جقمق مات في صفر ولم يكمل الستين ، وتاسف عليه أخوه كثيرا ، وكان قائما بأمور أخيه كلها .
علي بن أحمد بن . . بصال الإسكندراني الأصل نور الدين - كان يتعانى التوقيع في ديوان الإنشاء ، واشتغل كثيرا في عدة فنون ولم يكن بالماهر ، وسمع من أبي الفرج ابن الشيخة والشيخ سراج الدين بنالملقن وغيرهما ومن قبل ذلك ، كتب بخطه كثيرا من تصانيف شيخنا المذكور ، وحدث باليسير ولازم مجالس الإملاء عندي نحوا من عشرين سنة ، مات ف آخر يوم الأربعاء ثالث عشري رجب أظنه أكمل السبعين .
خليل السخاوي غرس الدين ناظر الحرمين القدس والخليل ، كان عاميا ورقاه الظاهر جقمق حتى عد من الأعيان ، ولم تطل مدته حتى مات ليلة العشرين من جمادى الأولى وكان يتدين مع كونه عاريا .
صدقة المحرقي فتح الدين ناظر الجوالي ، كان ممن رقاه جقمق على عاميته ؛ مات في ليلة الخميس سلخ شوال ودفن ظاهر باب الحديد .
فارس أمير السرية التي خرجت من دمشق في الغزاة إلى رودس فأصابه جراحة ، فتضعف منها إلى أن مات في البحر بعد أن رجعوا - وقد ذكر في رسالة برهان الدين - .
محمد ناصر الدين أبو المعالي بن السلطان الظاهر جقمق ، مات في السبت سحر الثاني عشر من ذي الحجة ، وكان مولده في شهر رجب سنة 816 ، وقرأ القرآن واشتغل بالعلم وحفظ كتبا ومهر في مدةيسيرة ، ونشا في معاشرة أهل العلم ، ولازم الشيخ سعد الدين بن الديري قبل أن يلي القضاء ، وتردد إلى كاتبه ، وأخذ عن شمس الدين الكافياجي الرومي وغيره ، وكان محبا في العلم والعلماء ، وولي الإمرة بعد سلطنة أبيه بقليل ، وجلس راس الميسرة وسكن الغور بالقلعة ، ووعك في أثناء السنة قدر شهر ثم عوفي ، ثم انتكس في أوائل شوال وأصابه السل ، فصار بنقص كل يوم ، ثم انقطعت عنه شهوة الأكل وخرج إلى النزهة في الربيع وهو بتلك الحال فما رجع إلا وهو كما به ، وطرأ عليه الإسهال واستحكم به السل ، وهو مع ذلك يحضر الموكب إلى أن صلى صلاة العيد ونزل إلى بيته بالرميلة فضحى ورجع واستمر إلى أن مات ، لم يتهيأ له أن يوصي ، وخلف بنتين وثلاث نسوة ووالديه ، وكان حنفيا لكثرة من يعاشره ، ويلازم الشافعية ، وكان كثير البر والبشر ، قليل الأذى ، كثير الإنكار على ما لا يليق بالشرع ، غلا أنه كان منجمعا عن الكلام مع والده ، وكان يكظم غيظه إلى أن قدرت وفاته - ، فمات شهيدا فمنعهم أبوه من الاعتماد على ذلك ، ومنهم من يزعم أنه سقى ؛ ولم يثبت شيء من ذلك ، ودفن بقرب القلعة بالتربة التي أنشأها قانباي الجركسي لولده محمد . . وكان من أقرانه ، وكانت سيرة الآخر مشكورة ، ومات وله دون الثلاثين .يحيى بن العباس بن محمد بن أبي بكر العباسي ، وهو ابن الخليفة السلطان المستعين بالله أمير المؤمنين بن المتوكل بن المعتضد ، مات بعدالظهر الثاني عشر من المحرم ، وأخرجت جنازته صبيحة الثالث عشر ، ودفن بالصحراء في حوش اتخذه لنفسه فدفن فيه أولاده ، ولم يخلف غير بنتين ، ولم يبلغ الأربعين ، وكان قد ترشح للخلافة لما مات عمه المعتضد داود وادعى أن والده عهد إليه ، فلم يتم له ذلك ، وكان من خيار الناس ، مشكور السيرة ، سليما مما يعاب - رحمه الله ولم يخلف ذكرا وخلف مالا جزيلا فيما قيل .
جمال الدين بن المجبر التزمنتي . . الشيخ جمال الدين ، مات في ليلة الجمعة خامس عشر شهر رجب ، وكان فاضلا اشتغل كثيرا - ، ودار على الشيوخ ، ودرس في أماكن ، وناب في الحكم عن القاضي علم الدين ابن شيخنا البلقيني وكان صديقه ، وأظنه جاوز السبعين .
جلال الدين بن شرف الدين عبد الوهاب ، الشريف الجعفري الزيني الأسيوطي ، مدرس المدرسة الشريفية بأسيوط ، والمدرسة المذكورة إنشاء ابن عم أبيه زين الدين بن الناظر الاسيوطي ، وكان قد ولي الحك بها مدة .
حوادث سنة 848
سنة ثماني وأربعين وثمانمائة
استهل المحرم منها يوم الاثنين وقد تزايد الطاعون ، وبلغ عدد الأموات في كل يوم زيادة على عشرين ومائة ممن يضبط في المواريثوقيل إنه يزيد على المائتين ، وأكثر من يموت الأطفال والرقيق ، ثم تزايد واشتد اشتعاله إلى أن دخل الحاج فتزايد أيضا ، ومات من أطفالهم ورقيقهم عدد جم ، ويقال إنه جاوز الألف في كل يوم .
وفي يوم الاثنين ثاني عشري الشهر خرج أمير المجاهدين إينال الدويدار الكبير ، وكان خرج قبله باثني عشر يوما طائفة كبيرة تقدموا إلى إحضار المراكب من دمياط إلى الإسكندرية .
وفي يوم الجمعة الثالث من صفر بعد صلاة الجمعة والشمس في الجوزاء أمطرت السماء مطرا يسيرا بغير رعد ، تقدمته ريح عاصف بتراب منتشر ، فسكن في الحال واصبح الناس يتحدثون أن الوباء قد تناقص عما كان .
وفي ليلة الأحد خامس صفر وجدت وجعا تحت إبطي الأيمن ونغزة مؤلمة فنمت على ذلك ، فلما كان في النهار زاد الألم قليلا ،ونمت القائلة وانتبهت - والأمر على حاله ، فلما كان العاشر برزت تحت إبطي كالخوخة اللطيفة ، ثم أخذت في لخفة قليلا قليلا إلى العشر الأخير منه فذهبت كأن لم تكن - ولله الحمد وتناقص الموت إلى أن انحط ما بين العشرين والثلاثين .
شهر ربيع الأول - أوله الخميس بالرؤية الواضحة ، ووافق الرابع والعشرين من بونة ، وفي يوم الجمعة اختبر القياس مكان الماء .
وفي يوم السبت دار من يبشر بالنيل .
وفي يوم الأحد نودي بالزيادة وقد - وصل هجان من الحجاز يخبر برخص الأسعار بمكة - وله الحمد وفيه ارتفع الطاعون نادرا ثم ارتفع جملة - .
وفي يوم الثلاثاء أواخر الشهر سقط الجدار على ولد سعد الدين إبراهيم الذي كان أبوه ناظر الخاص وكذا جده المعروف بابن كاتب جكم - فمات ، وكان قد طعن بجنبين ثم خلص وأفاق فبغته الموت بالهدم ، وكان قد قارب البلوغ ، وخرجت له جنازة حافلة .
شهر ربيع الآخر يوم الجمعة بالرؤية ، في يوم الأحد ثالث شهر ربيع الآخر حضر إلي بعض الدويدارية من عند السلطان يأمرني أن ألزم البيت - وهي كناية عن العزل ، ثم لم نلبث إلا ساعة أو دونها فحضر الشيخ شمس الدين الرومي جليس السلطان فذكر أن السلطان ندم علىذلك وقال : لم أرد بذلك العزل ، وسأل أن ابكر إلى القلعة صبيحة ذلك اليوم لألبس خلعة الرضا ، وكان السبب في ذلك أن بعض نواب الحكم أثبت شيئا فاستراب السلطان به فأحضره وأحضر بعض الشهود فاختلف كلام من حضر من الشهود ، فتغيظ وبطش بنائب الحكم وأمر بسجنه وعزل القاضي الكبير ، ثم أعيد القاضي في يومه وأمر بالإفراج عن النائب ، فحصل لي حنق فالتزمت أنني لا أستنيب إلا عشرة ولا أعيد أحدا من غيرهم إلا بإذن مشافهة من السلطان ؛ وذلك في يوم الخميس سلخ الشهر ، وأوضحت للسلطان عذر النائب فيما أثبته ، فأظهر القبول بحضرة قاضي القضاة الحنفي والشيخ شمس الدين الونائي ، واخبراه أنه لم يخطئ في الحكم ، ومع ذلك بقي عنده من ذلك بقايا ، ثم حصل اجتماع آخر وتأكد قبول العذر ، ثم حضر عنده النائب ورضي عليه وكساه فرجية وأذن في عوده لنيابة الحكم .
وفي التاسع منه كسر الخليج في يوم الثلاثاء - ونودي فيه بزيادة عشرين إصبعا ، وكان في يوم الاثنين قبله نودي بعشرين إصبعا ، قبله في يوم الأحد بعشرين إصبعا ثم نودي في صبيحة الأربعاء بتكملة سبعة عشر ذراعا ، ولم يعهد قط أنه نودي يوم الوفاء بزيادة عشرينإصبع ، منها إصبعان تكملة الوفاء وثمانية عشر زيادة أول يوم منه .
وفي رابع عشري شهري ربيع الآخر وصل الغزاة إلى ساحل رودس ، فتحصن أهلها في قلعتهم فوجدوها في غاية الحصانة ، فوصل كتاب صاحبنا برهان الدين البقاعي مؤرخ بالسابع من جمادى الأولى فيه شرح قصتهم في الذهاب إلى أن حاصروا القلعة - وقد ضممته إلى هذا التعليق كما فعلت في غزاة قشتيل .
ثم وصل كتاب الشريف الكردي مؤرخ بالتاسع من جمادى الأولى المذكور ، وفيه أنه أصيب من المسلمين خلق كثير مما رماهم الفرنج من أعلى الحصن وكسر من المراكب . وأن أكثرهم حصل لهم الفشل والخور بسبب من أصيب منهم وأنهم في ضيق ، فجهز السلطان إليهم مددا ، وقد فتحت رودس في خلافة معاوية على يد جنادة بن أبي أمية ، وأمر معاوية جماعة من المسلمين بالإقامة فيها ، فأقاموا إلى أن ولي يزيد الخلافة فأذن لهم في القفول خشية عليهم ففعلوا وتركوها ، ثم كانت تغري بعد ذلك ؛ وبعد توجه المدد وصل الخبر برجوع العسكر كله بسبب تخاذلهم ، وأصيب. . بالرمي عليهم ثم . . ثم الترجمان ومعه طائفة - وخشي أن . . من هجوم الشتاء ، فاتفق أكثرهم على الرجوع فلم يسعه إلا موافقتهم ، فتوجهوا ووصلوا أرسالا ، فكان آخر من وصل كبيرهم وهو الدويدار الكبير إينال العلائي فوصل في آخر جمادى الآخرة منها .
وفي أوائل رجب سافر الحاج الرجبي وصحبتهم صاحبنا الشيخ برهان الدين السوبيني قاضيا على مكة ، وفي سابع ذي القعدة أمر أمير مكة أبو القاسم بن حسن بن عجلان القاضي جلال الدين أبا السعادات أن يخرج من مكة ، فتوجه إلى جدة فأقام بها إلى أن تكلم التاجر بدر الدين حسن بن الطاهر مع الشريف في أمره فأذن له في الرجوع ، فلم ينشب أن قدم أمير الركب تمرباي وصحبته مرسوم سلطاني بأن أبا السعادات لا يقيم بمكة بل يخرج إلى المدينة الشريفة فيقيم بها ، فتجهز مع الركب الأول . وتراءى الناس الهلال ليلة الخميس فلم يتحدث أحد برؤيته ، فوقفوا يوم الجمعة وكان الجمع كثيرا جدا ، وأمطرت السماء ذلك اليوممن وقت زوال الشمس إلى أن غربت مطرا غزيرا جدا ، وتوالى بحيث ابتلت أمتعتهم حتى أشرف من لا خيمة له على الهلاك ، وتضاعف الرعد والبرق ، ويقال : كانت هناك صواعق أهلكت رجلان وامرأة وبعيران قرأت ذلك بخط القاضي نور الدين علي بن - قاضي المسلمين الخطيب أبي اليمن النويري .
شهر ذي الحجة استهل بيوم الخميس بعد أن تراءى الناس الهلال ليلة الأربعاء على العادة بعدة أما كن من الجوامع وغيرها فلم يخبر أحد برؤيته إلا شذوذا ، يقول الواحد منهم : إنه رأى ، فإذا حوقق أنكر ، فبحث عن السبب في ذلك فاعتذروا بأنه شاع بينهم أن السلطان إذا اتفق يوم - العيد يوم الجمعة يلزم أن يخطب له مرتين وقد جرب أن ذلك إذا وقع يكون فيه خوف على السلطان ، فبلغ السلطان ذلك بعد أيام فأنكره وأظهر الحنق على من ينسب إليه ذلك ، فقيل له فإن أحمد بن نوروز ، وهو أحد من يلوذ به من خواصه المعروف بشاد الغنم - ذكر أنه رآه ولم يخبر القاضي بذلك ، فاستدعاه فاعترف أنه رآه ليلة الأربعاء ومعه جماعة ، فأرسله مع المحتسب إلى القاضي الشافعي فأدى عنده شهادته ، فلما شاع ذلك نودي في البلد من رأى هلال ذي الحجة ليلة الأربعاءفليؤد شهادته بذلك عند القاضي الشافعي ، فسارع غالب من كان شاع عنه دعواه الرؤية في تلك الليلة إلى الشهادة بذلك ، فلما استوفيت شروط ذلك نودي بأن العيد يوم الجمعة ، فاعتمدوا على ذلك وصلوا العيد يوم الجمعة ؛ فلما كان في يوم السبت الخامس والعشرين من ذي الحجة وصل المبشر بسلامة الحاج في آخر ذلك اليوم ، وأخبر أن كل من حضر الموقف من الآفاق لم ينقل عن أحد منهم أنه رأى الهلال ليلة الأربعاء بل استوفوا العدة واستهلوا ذا الحجة بيوم الخميس ووقفوا بعرفات يوم الجمعة - ، واستمر الأمر بينهم على ذلك وأنه فارقهم آخر النهار يوم السبت ، فقطع المسافة في أربعة عشر يوما ، ووصف السنة بالأمن واليمن والرخاء مع كثرة الخلائق - ولله الحمد على ذلك .
وفي هذه السنة توجه الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد الفرياني المغربي إلى جهة الجبال المقدسة ويقال لها : جبال حميدة ، وعندها عرب ،فنزل عند بعض العشير ودعا إلى نفسه أنه المهدي ، وقيل ادعى أنه القحاطاني ، فانضم إليه جماعة من العرب فاستغواهم ووعدهم وملأ آذانهم بالمواعيد ، فشاع خبره في آخر السنة فكوتب نائب القدس يخبره فبحث عن قضيته إلى أن أطلع أن ابن عبد القادر شيخ العرب يعرفه فاستدعى به فأنكر أن يكون أطلع على مراده ، وإنما وصل إليه شيخ معه عدة جمال يشبه أن تكون كتبا علمية ، وأنه سئل أن يرسل معه من يجيره إلى أن يصل إلى مقصوده من تلك الجهة لضرورات عرضت له ، فأرسل معه ناسا أوصلوه إلى جهة مقصده وفارقوه ولم يعرفوا المطلوب عنه ؛ فكاتب نائب القدس بذلك ووصف الرجل بما دل على أنه الفرياني المذكور ، وهذا الرجل قدم القاهرة قديما وصحب كاتب السر ابن البارزي في حياة والده ، وأكثر التردد إلى الشيخ تقي الدين المقريزي ، وواظب الجولان في قرى الريف الأدنى يعمل المواعيد ويذكر الناس ، وكان يستحضر من التاريخ والاخبار الماضية شيئا كثيرا ولكنه كان يخلط في غالبها ويدعي معرفة الحديث النبوي ورجال الحديث ، ويبالغ في ذلك عند من يستجهله ، ويقصر في المذاكرة عند من يعرف أنه من أهل الفن ، وراج أمره في ذلك دهرا طويلا ، ثم صحب الأمير زين الدين عبد الرحمن بن الكويز وانقطع إليه مدة ثم فارقه ، وكان قبل ذلك تحول عن مذهب مالك وادعى أنه يقلد الشافعي ، وولي قضاء نابلس بعنايةالقاضي كمال الدين ثم صرف عنها ، فانقطع إلى ابن الكويز وهجر الكمال إلى أن بدا ما ذكر ؛ وكوتب نائب القدس بأن يجهز إليه من يقبض عليه ويرسله إلى القاهرة ، وكان بروز الأمر بذلك في العشر الأخير من هذا الشهر .
وفيات سنة 848
ذكر من مات في سنة ثمان وأربعين وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن . . الفاضل شهاب الدين الحسيني مسكنا الشهير بالحناوي - بكسر المهملة وتشديد النون مع المد - مات في ليلة الجمعة الثامن والعشرين من جمادى الأولى ، وكان مالكي المذهب ، سمع من جماعة قبلنا وسمع معنا من شيوخنا ، وقرأ بنفسه وطلب وقتا ، وولي نيابة الحكم ، ودرس في أماكن ، منها في المنكوتمرية ، وولي مشيخة خانقاه نور الدين الطنبدي التاجر في تربته بطرف الصحراء ، وكان من الصوفية البيبرسية ، وكان وقورا ساكناقليل الكلام كثير الفضل ، انتفع به جماعة في العربية وغيرها ، وقد جاوز الثمانين بيقين لكن يشك في الزيادة فقيل ست وقيل أكثر .
حمزة بك بن قرا يلك واسمه عثمان بن طور غلي صاحب ماردين وغيرها من ديار بكر ، مات في أوائل رجب ، وكان قبيح السيرة .
طوخ الأبو بكري نائب غزة ، قتل بها بيد العربان الطاغية في أواخر ذي الحجة .
فيروز بن عبد الله الجركسي الرومي الطواشي الساقي الزمام ، مات بطالا في يوم الأربعاء 24 شعبان ، ولم يكن به بأس بالنسبة لرفقائه - .
عبد الرحيم بن علي الحموي الواعظ المعروف بابن الأدمي الشيخ زين الدين ، تعانى عمل المواعيد فبرع فيها واشتهر وأثرى ، وقدم إلى القاهرة في الجفل بعد رحيل اللنكية فاستوطنها إلى أن مات في الثاني من ذي القعدة ، وولي في غضون ذلك خطابة المسجد الأقصى ، ثم صرف عنه واستمر على حاله في قراءة المواعيد والكلام في المجالس المعدة لذلك واشتهر اسمه وطار صيته ، وكان غالبا لا يقرأ إلا من الكتاب مع نغمة طيبة وأداء صحيح ، فلما أنشأ الاشرف مدرسته قرر فيها خطيبا ، وكان يقرأ صحيح البخاري في شهر رمضان في عدة أماكن إلى أن مات فجأة بعد أن عمل يوم موته الميعاد في موضعين ، وقد جاوز الثمانين وترك أولادا ، أحدهم شيخ يقرب من الستين .محمد بن أحمد بن كميل المنصوري الفقيه الفاضل الشاعر شمس الدين ، اشتغل كثيرا وحفظ الحاوي ، وكان يستحضر ونظم الشعر ففاق الأقران ، وأول ما عرفته في سنة 24 ، حججنا جميعا وكنا نجتمع في السير ونتذاكر في الفنون . ثم كان يتناوب نيابة الحكم بالمنصورة هو وابن عمه شمس الدين محمد بن خلف بن كميل ، ويتعاهد السفر للقاهرة في كل سنة مرة أو مرتين ومدح الملك المؤيد لما رجع من سفرة نوروز بقصيدة طنانة ، وله مدائح نبوية مفلقة وقصائد في جماعة من الأعيان ، ولم يكن يتكسب بذلك وإنما يمدح لتحصيل جاه الممدوح في الدفع عنه أو المساعدة له ، ثم استقل بقضاء المنصورة وضم إليه سلمون ، ثم زدته منية بني سلسيل فباشر ذلك كله ، وكان مشكور السيرة ، ونشأ له ولد اسمه أحمد فنبغ واغتبط به ، فلما كان في ليلة الاثنين ثاني عشر شعبان كان قد توجه إلى سلمون لأمر يتعلق به فنزل المسجد ، وله فيه خلوة فوقها طبقة وللطبقة سطح مجاور المئذذنة ، فاتفق هبوب ريح عاصف في تلك الليلة واشتد في آخرها وفي آول النهار فصلى المذكور الصبح ودخل خلوته التي كان ينام فيها ، فقصف الريح نصف المئددنة فوقع على سطح الطبقة فنزل به إلى سطح الخلوة فنزل الجميع على الخلوةو وشمس الدينقاعد فيها ، وذلك لما تعالى النهار ولم يشعر بشيء من ذلك حتى نزل الجميع عليه فارتدم المكان به فمات غما ، وجاء الخبر إلى ولده فتوجه من المنصورة مسرعا فوصل إليه فنبش عنه ، فوجد الخشب مصلبا عليه ولم يخدش شيئا من جسمه ، بل تبين أنه مات غما لعجزه عن التخلص من الردم المذكور - والله المستعان .
حوادث سنة 849
سنة تسع وأربعين وثمانمائة
استهل شهر الله - المحرم يوم الجمعة ، ففي أول يوم منه - توجه من يلاقي الحاج إلى عقبة إيلياء ، وصحبتهم أنواع من المأكولات والعلف على العادة .
وفيه أسلم جميع الأساري الذين كان ملك الروم جهزهم إلى سلطان مصر ، وذكروا أنهم من بني الأصفر - ، وأن ملكهم قتل في المعركة ، وأن عسكرهم كان أضعاف عسكر ابن عثمان ، وأن النصر الذي حصل ما كان على الخاطر ؛ وذلك أن الكفار كانت لهم مدة في التجهيز لأخذ بلاد السواحل من المسلمين والتوصل إلى الاستيلاء على بيت المقدس ، فاجتمع منهم من جميع أمصارهم من يستطيع القتال ، ولم يشكوا هم ولا ملك المسلمين في اخذ السواحل وانكسار عساكر المسلمين ، ففتح الله للمسلمين بالنصر بأن ملك الكفار لما رأى قلة عسكر المسلمين طمع فيهم فحمل بنفسه وكان شجاعا بطلا ، فقتل من المسلمين عدةأنفس ورجع ، ثم حمل ثانيا فصنع ذلك ، ثم حمل ثالثا فاستقبلوه بالسهام فأصابه سهم فسقط ، فنزل فارس من المسلمين فحز رأسه وسار به إلى ملك المسلمين ، فنصب رأسه على رمح ونادى في الكفار بقتل ملكهم ، فانهزموا بغير قتال وتبعهم المسلمون فبادروهم أسرا وقتلا ، وصادفهم في تلك الحالة اجتماع عدة من الوحوش الكاسرة على جماعة من الغزلان اجتمعت في مكان ، فثار بين الفريقين غبرة عظيمة وظنها الكفار نجدة من بلاد المسلمين من مصر أو غيرها ، فاشتد رعبهم وانهزموا لا يلوي أحد على أحد ، واشتد الغبار فقتل بعضهم بعضا وكفى الله المؤمنين القتال ؛ وجهز ملكهم بعض الأسرى إلى سلطان مصر ، فسلمهم للأمير الزردكاش فحسن لهم الإسلام فأسلموا ، ففرقهم السلطان على الأمراء .
وفي ليلة الجمعة الثامن من المحرم سقطت المنارة التي بالمدرسة ، الفخرية القديمة في سويقة الصاحب ، والمدرسة الفخرية - قديمة جدا من إنشاء فخر الدين بن - عثمان بعد الستمائة ، وكانت مالت قليلا فحذر السكان بالربع الذي يجاورها من سقوطها وهو موقوف عليها فتهاونوا في ذلك ، فسقطت بالعرض على واجهة المدرسة ووجه الربع ، فنزل بعض على بعض وهلك في الردم جماعة ، فاجتمع الوالي والحاجب واستخرجوا كثيرا ، فالقليل أحياء ولكن كل مصاب بيد أو رجل أو ظهر والنادر منهم ، والأكثر من مات ، فبلغ السلطان ذلكفتغيظ منه وطلب الناظر على المدرسة ، وهو نور الدين القليوبي أمين الحكم أحد نواب الحكم فتغيظ عليه ، وظن أنه ينوب في ذلك عن القاضي الشافعي فبسط لسانه في القاضي إنكارا عليه في التفريط في مثل ذلك ، ثم انكشف الغطاء أن القاضي ليس له في ذلك ولاية ولا نيابة ، ولا عرف بشيء من ذلك مذ ولي وإلى تاريخه ، ولما بلغ ذلك بعض الناس بسط لسانه وقال ما شاء ، ثم تبين بخلاف ما ظنوا وخاب ما أملوا وكفى الله القتال ؛ ثم إن بعضهم أغرى السلطان بأن قال له : إن فلانا ينجح بكذا وينسب السلطان إلى الظلم والجور - ونحو ذلك ، فغضب زيادة على الغضب الأول ، وراسله بأن ، ينعزل عن الحكم ، وأن يغرم دية الموتى ، وذلك يوم الاثنين حادي عشره ، فلما كان يوم الخميس طلب الشيخ شمس الدين محمد بن علي القاياتي إلى القلعة فاجتمع بالسلطان ، وأمره أن يتقلد القضاء فأجاب باشتراط أمور أجابه إليها ، وأشار بأن يلبس الخلعة والتشريف ، فامتنع وتقلد ورجع ، واركبه كاتب السر بغلته وهو بثيابه البيض ، ودخل الصالحية وصحبته جماعة المباشرين والدويدار الكبير والثاني ورجعوا ، وخرج هو من الصالحية إلى منزله بالجامع الأزهر وطلب من له مباشرة في المودع والأوقاف ، وهرع الناس للسلام عليه وعلى المنفصل - ولله الحمد على ذلك .
ربيع الأول - أوله الاثنين ، في السابع منه نقلت الشمس السرطان ودخل فصل الصيف ، وفيه عمل المولد السلطاني بالحوش على العادة وحضر القضاة .وفي الثالث عشر منه خلع على كاتب السر الكمال البارزي خلعة استمرار ، وكان وقع له يوم الأربعاء تغيظ من السلطان فطلب الإعفاء ، ثم وقع التراضي وخلع عليه ، وركب الناس معه وهرع الباقون للسلام عليه .
وفي يوم الاثنين ثاني شهر ربيع الآخر استقر الشيخ ولي الدين السفطي في نظر المارستان المنصوري عوضا عن القاضي محب الدين ابن الأشقر ، ولبس خلعة ونزل وليس سمعه كبير أحد ، واعتذر بأنه تعمد ذلك حياء من ابن الأشقر ، ثم أرجف بان السلطان يريد أن يخرج نظر الجيش أيضا بسعي جماعة ، فاقتضى الحال استمراره فخلع عليه يوم الخميس خامس الشهر خلعة استمرار ، فركب معه الجماعة على العادة وأظهر الناس السرور به .
وفي يوم الثلاثاء سافر برهان الدين السوبيني إلى قضاء حلب عوضا عن القاضي سراج الدين الحمصي ، وقدم الحمصي في العام الماضي فاجتمع بالسلطان فتغيظ عليه وأهانه بالقول والتهديد ، ثم قدم هدية نفيسة فسكن الحال ، ولما استهل الشهر طلع للتهنئة فأظهر له الإعراض ، فبادر فحلف أنه لا يسعى في القضاء بوجه من الوجوه ، ولزم بيته لكنه يكثر الاجتماع بالأكابر على عادته .
وفي يوم الأحد العشرين من شهر ربيع الآخر الموافق للثاني منمسري آخر الشهور القبطية أمطرت السماء مطرا يسيرا بعد العصر بحيث ابتلت الأرض ، ودام ذلك إلى وقت - مغيب الشفق ، وكانت ظلمة وريح باردة ، وهذا من المستغربات وقد تقدم قريب من ذلك في حوادث سنة ثلاث وأربعين في رابع ربيع الأول .
وفي هذا الشهر عزل نائب حلب جلبان ، وقرر عوضه نائب حماة ، قرر عوضا عن نائب حماة شادي بك أحد أمراء المقدمين بالقاهرة ، ويقال : قرر دولات باي الدويدار الثاني في إمرة شادي بك - ، وقرر الشهاب أحمد حفيد إينال اليوسفي دويدارا نائبا ، وخلع على شادي بك ، وجهز يونس البواب مسفرا لنائب حماة يحمله إلى حلب ويتوجه نائب حلب بطالا إلى . . وكان السبب في عزل نائب حلب أن نائب القلعة شاهين أحد أتباع السلطان حيث كان أميرا أرسل يشكو منه أنه تعصب عليه مع القاضي الحنبلي علاء الدين ابن مفلح ، وأن ابن مفلح ادعى أن شاهين امتنع من الشرع وأنه وقع في أمر يقتضي الكفر وكتب عليه بذلك محضرا وراسلوه لينزل فسمع الدعوى عليه فامتنع وكاتب وتظلم ، فوصل كتاب نائب حلب وقرينه المحضر المكتتب ، فغضب السلطان مننائب حلب وعزله وعزل القاضي ، وشيع أنه أبطل قاضي الحنابلة من حلب ، فإن ثبت ذلك فلعله يسع غيرها من البلاد - والله المستعان .
وفي ربيع الأول قدم الأمير تغري برمش نائب القلعة ومعه رفيقه القاضي بدر الدين بن عبيد الله . .
وفي ليلة الإثنين حادي عشره كان المولد النبوي بالحوش على العادة وتغيظ السلطان فيه على القاضي الحنفي بسبب تأخيره الحكم في الصارم إبراهيم بن رمضان بسبب ما وقع فيه - من الأمور المنكرة ، وتوجه تغري برمش وابن عبيد الله إلى بلاده - بسببها ، فاقتضى الحال عقد مجلس بسببه فعقد بعد أيام ، فلم يثبت عليه ما يتحتم به القتل ، فأمر بتعزيره ، فأعيد إلى السجن فمات بعد أسبوع .
جمادى الأولى - استهل بالرؤية الفاشية ، ففي صبيحته حضر القضاة عند السلطان للتهنئة بالشهر ، فأمر الشافعي أن يتوجه مع كاتب السر إلى مصر - بسبب كنيسة للمكيين ، فرفع ابن آقبرس ناظر الأوقافللسلطان أن جدارها عال على مسجد يجاورها وأنه يجب هدمه ، وكن السبب في ذلك أن برد دار ابن آقبرس تسلط على بطرك الملكية وكان قريب العهد بالاستقرار فيها فقرر عوض الذي مات في السنة الماضية وطمع فيه ، فرفع البطرك أمره للسلطان بقصة أعطاها لكاتب السر ، فبادر ابن آقبرس حمية لمن هو من جهته فذكر ذلك ، فأمر بالكشف فتوجهوا ، فقيل : إنهم رأوا الجدار الذي من جهة المسجد مائلا ، فحكم نائب الشافعي بهدمه خشية أن يسقط على المسجد ، وانفصل المجلس على ذلك ، وكان السلطان يظن انه يجب هدم الكنيسة أصلا ، وكان الحنفي المنفصل حاضرا فتغيظ عليه لكونه قال : ما يهدم إلا بشرط أن تكون حادثه ، فإن كان المسجد قديما وجب هدم ا يعلو عليه ، فقال له : فلما كنت حاكما لم لا فعلت ذلك بل كنت تفعل عكسه - أو نحو هذا من القول .
وفي يوم الجمعة ثاني الشهر كسر الخليج الحاكمي ، ونزل عثمان ولد السلطان على العادة وصحبته الامراء إلى المقياس ، فركبوا معه وصحبتهم كاتب السر وبقية المباشرين ولم تجر العادة بركوبهم ، ونزل بعضهم إلى الحراقة من شباك المقياس ، وامتنع شاد الشر بخاناة قانباي الجركسي من إنزال ابن السلطان من هناك بل عادته والجماعة صحته من البر واحدار الحراقة إليه ، فركب إلى الخليج فكسر بحضرته ، وركبوا معه إلى القلعة على العادة ، وكل ذلك قبل صلاة الجمعة ، وزاد أربعة من سبعة عشر ، وكان في العام الماضي في هذا اليوم وافت تكملة الذراع السابع عشر .
واتفق أن شعبان كان أوله الثلاثاء بالعدد ، فلما كان النصف منهذكر بعض نواب الحكم بالجيزة أن اثنين شهدا عنده برؤيته ليلة الاثنين ، فثبت وصام من أراد صيام النصف يوم الاثنين .
ويسر الله أن هلال رمضان رئي ليلة الثلاثاء وغاب قبل العشاء بثلث ساعة ، فلما كان أول يوم من رمضان شاع بين الناس أن اثنين من أهل قليوب رأيا هلال رمضان ليلة الثلاثاء ، واستنكر كل من سمع ذلك صحة هذا ، ثم اعتمد القاضي الشافعي في تحرير هذا الخبر ، فأرسل عونا من أعوانه إلى قليوب فأحضر الرجلين .
وفي ليلة الأحد رابع شوال - وهي ليلة التاسع من طوبة والخامس من كانون الثاني - أمطرت السماء مطرا خفيفا فدام بحيث أزلق الأرض ، ثم عاد في النهار ثم عاد في ليلة الاثنين حتى صارت الأرض كالبرك ثم عاد في صبيحة الاثنين ، ثم كان في ليلة الثلاثاء ثم عاد في صبيحة الثلاثاء ، فتعطلت معايش غالب الناس ، وقل أن وقع مثل ذلك في هذه البلاد إن يمطر ثلاثة أيام بلياليها .
وفيات سنة 849
ذكر من مات في سنة تسع وأربعين وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل الذهبي ابن ناظر الصاحبية الصالحي الحنبلي العدل شهاب الدين ابن المسند زين الدين ، ولد سنة 766وسمع علي محمد بن الرشيد عبد الرحمن المقدسي جزء أبي الجهم أبا الحجار ، وسمع على والده شيخنا من السفينة البغدادية للسلفي أنا ابن أبي الثابت أنا مكي بن علان أنا السلفي ، وسمع علي أحمد بن محمد بن إبراهيم بن غنائم ابن المهندس الحنفي جميع رسالة الحسن البصري إلى عبد الرحمن الزيادي يرغبه في المقام بمكة وعلى العماد أبي بكر بن يوسف الحنبلي قالا : أنا الحجار أنبأنا جعفر أنا السلفي ، وسمع علي الشهاب أحمد بن المعز السادس من حديث أنس من المختارة للضياء بحضوره في الثالثة على التقي سليمان والجزء الثاني من المختارة وهو الأول من مسند عمر بإجازته من التقى - وغير ذلك ، وذكر لي شيخنا الإمام المحدث الحافظ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر عبد الله بن ناصر الدين رحمه الله غير مرة أنه قال : ذكر لي والده - يعني زين الدين ابن ناظر الصاحبية - أنه قال : ما فرحت بشيء أعظم من أني أحضرت ولدي هذا - يعني أحمد المذكور - جميع مسند الإمام - أحمد علي البدر أحمد بن محمد بن محمود بن الرقاق ابن الجوخي أنا زينب بنت مكي أنا حنبل ؛ قال شيخنا ابن ناصر الدين : وكان شيخنا زين الدين ابن ناظر الصاحبية من الثقات ، قدم القاهرة فحدث بها بالمسند وغيره ، ثم رجع إلى بلده فمات في هذه السنة .
أحمد بن محمد نب أحمد المحلي الأصل ثم القاهري شهاب الدينالمعروف بابن النسخة ، شاهد القيمة ، مات في يوم الأحد ثاني عشري صفر وهو من أبناء الستين أو يزيد عليها وكان غاية في إبطال الأوقاف وتصييرها ملكا بضروب من الحيل ، وله في ذلك مهارة وشهر بها ، ومهر في ذلك بحيث فاق أهل عصره في ذلك مع انه كان يتمذهب لمالك ، وكانت له مروءة وعصبية ومداراة لكنه كان تقدم في صناعته على أمر عظيم ، وحصل له رواج عظيم في دولة الملك الأشرف ، وشهد في القيمة أزيد من ثلاثين سنة ، وهي وظيفة والده من قبله ، مات بذات الجنب ، وأمره مشهور - وأمره إلى الله سبحانه وتعالى وقد ولي وكالة بيت المال في أول دولة الملك العزيز ، ثم أخرجت عنه في أول دولة الملك الظاهر .
عبد الرحمن بن عثمان الترجمان التاجر الإسكندراني جمال الدين ، مات في رمضان ، وكان قدم من الإسكندرية وهو مدعوك فمرض مدة ، ثم نصل ودخل الحمام ثم انتكس ومات ، وكان من العارفين بأمور المتجر ، ومات له ابن اسمه محمد ، وصاهر في بيت ابن الأشقر .
فاطمة بنت القاضي كريم الدين عبد الكريم بن أحمد بن عبد العزيز إحدى الاخوات الخمس ، مات أبوهن في ربيع الأول سسنة سبع وثمانمائة ، وخلف خديجة وشقيقتها آمنة وشقيقتهما فاطمة ، وفرج من غير امهن ، وانس أصغرهن وهي والدة أولاد مسطرها ، فاول من مات منهن فاطمة وهي اصغر أولاد منها ، ماتت في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة وقد أكملت سبعين سنة .كزل العجمي الأمير ، مات يوم الخميس ثالث عشر ربيع الأول ، وكان أحد الأمراء في الدولة الناصرية فرج ، وولي وظيفة الحجوبية الكبرى مدة ، وول إمرة الحاج مرارا ، وأصابه فالج في سنة 32 بطل شقه ثم بطل فمه وأدلع لسانه حتى نزل حنكه إلى قرب صدره ، ثم أفاق أخرس لا يستطيع النطق أصلا ، ولا المشي ، وتمادى به ذلك نحو سبع عشرة سنة حتى مات وقد بلغ السبعين ، وكان من الفرسان والعارفين بالرمح ، وساق المحمل مرارا ، وكان فيه مروءة وعصبية .
قانباي الجكمي صاحب الحجاب ، احترق بيته فمات وهو على هيئة غير مرضية في أواخر السنة ، ولم يكن فيه أهلية ، وعيب على الظاهر تقدمة في الحجوبية .
محمد بن أحمد بن عمر النحريري المعروف بالسعودي الشيخ شمس الدين ، ولد سنة 762 ، وحفظ القرآن والتنبيه وغيره ، وكان أبوه من أهل البلاد ، ونشأ هوطالبا للعلم ، وجلس مؤدبا للأولاد مدة ، ثم قدم القاهرة في حدود التسعين فاجلس مع الشهود ، ولازم شيخنا البلقيني الكبير وخدمه ، وصار يجمع له أجرة أملاكه هو مع ذلك يؤدب الأولاد وخرج من تحت يده جماعة فضلاء ، وكان كثير المذاكرة ، وحج فأخذ عن جماعة هناك ، ولم يمعن في ذلك لأنه لم يكن من أهل الفن ولا صحب من يدر به ، ثم دخل بيت المقدس فاتفق أنه سمع من شيخنا بالإجازةشهاب الدين بن الحافظ صلاح الدين العلائي ومن ابن خاله شمس الدين القلقشندي وغيرهما ، وممن تعلم عليه صاحبنا برهان الدين بن خضر وجلال الدين بن نور الدين بن شيخنا سراج الدين ابن الملقن نائب الحكم ، وأدب قبله ولده أحمد وجمعا كثيرا من أولاد الكبراء ، ثم حصل له مرض أشفى منه ، فلما عوفي عمي فصار يقرئ وهو مكفوف ، وحصل له مرض الدرب حتى مله أهله ونقلوه إلى المرستان ، وقل ما دخل المرستان ذو ذرب إلا ويخرج ميتا ، فقدرت حياة هذا وعاد إلى منزله ، فعاش بعدها أكثر من عشرين سنة ، وتنوعت عليه في آخر عمره الأمراض حتى ثقل سمعه جدا وأقعد ، ولسانه لا يفتر عن التلاوة إلى أن مات فجأة في العشر الاخير من رمضان وقد أكمل ستا وثمانين سنة .
محمد بن إسماعيل بن محمد بن أحمد الونائي ثم القرافي القاضي شمس الدين ، كان أبوه شاهدا فشغله بالعلم ، وأخذ عن الشيخ شمس الدين البرماوي وظيفته ، واشتهر بالفضيلة ، ثم تزوج إلى الشيخ نور الدين التلواني ، وصحب جماعة من الاعيان ، ونزل في بعض المدارس طالبا ثم تدريسا ، ثم فوض له شهاب الدين ابن المحمرة تدريس الشيخونية لما انتقل إلى تدريس الصلاحية ببيت المقدس ، فمات ابن المحمرة فاستقل بها ، ثم وليقضاء دمشق مرتين ، ثم رجع فسعى في تدريس الصلاحية بجوار الشافعي فتركتها له اختيارا فباشرها سنة ونيفا ، ثم ضعف فامتد ضعفه نحو الشهرين إلى أن مات في يوم الثلاثاء سابع عشر صفر ، ومولده في شعبان - - سنة 788 .
ثم انتقل إلى القاهرة وطلب الحكم وحفظ التنبيه وعدة مختصرات ، وأقبل على الاشتغال ولازم علماء عصره من سنة سبع إلى أن برع في الفقه والعربية ، وتكسب بالشهادة ، وولي مشيخة السكرية بالقرافة ، وكان معدودا من أئمة العلماء الذين جمعوا المعقول والمنقول - .
محمد بن عبد الرحمن بن علي التفهني الحنفي القاضي شمس الدين ابن - قاضي القضاة زين الدين ، مات في الثامن من شهر رمضانوكان مولده قبل القرن ، واشتغل كثيرا ومهر ، وكان صحيح الذهن ، حسن المحفوظ ، كثير الأدب والتواضع ، عارفا بأمور دنياه ، مالكا لزمام أمره ، ولي في حياة والده قضاء العسكر وإفتاء دار العدل وتدريس الحديث بالشيخونية ، وولي بعد وفاة والده تدريس الفقه بها ومشيخة البهائية الرسلانية بمنشة المهراني وتدريس القانبيهية بالرميلة ، وحصلت له محنة من جهة الدويدار تغري بردى المؤذى مع تقدم اعترافه بإحسان والده له ، ومرض مرضا طويلا إلى أن قدرت وفاته في التاريخ المذكور .
محمد بن عمر الغمري الشيخ محمد ، مات في يوم الثلاثاء آخر يوم من شعبان بالمحلة الكبرى بالغربية ، وكان مذكورا بالصلاح والخير ، وللناس فيه اعتقاد ، وعمر في وسط سوق أمير جيوش جامعا ، فعاب عليه أهل العلم ذلك وأنا كنت ممن راسله بترك إقامة الجمعة ، فلم يقبل واعتذر بان الفقراء طلبوا منه ذلك وعجل بالصلاة فيه بمجرد فراغ الجهة القبلية ، واتفق أن شخصا من أهل السوق المذكور يقال له بليبل تبرع من ماله بعمارة المئذنة ، ومات الشيخ وغالب الجامع لم يكمل عمارته .محمد بن محمد بن أحمد شمس الدين ابن أمين الدين بن شهاب الدين المنهاجي ، وأبوه سبط الشيخ شمس الدين بن اللبان ، ولد سنة سبعين وحفظ القرآن والتنبيه ، ومات أبوه وكان متمولا ، وله أيضا نسبة بالتاجر الكبير برهان الدين المحلي فسعى هذا في حسبة مصر فوليها مرتين أو ثلاثا ، ثم توصل إلى أن استنابه القاضي جلال الدين في الحكم بمصر ، فصار يحكم بين الخصمين مع الجهل المفرط ويجلس في دكاكين الشهود ويتعانى التجارة والمعاملة ، فكان يرتفع وينخفض إلى أن مات غير مقتر ولكنه سود عليه
يشبك السودوني الأمير الكبير سيف الدين المعروف بالمشد أتابك العساكر بمصر ، مات في يوم الخميس ثالث شعبان بعد مرض طويل ، واستقر بعده إينال العلائي ، وكان عاقلا ساكنا حشما عريا إلا من رمي النشاب على عيوب في رميه ، وينسب إلى طمع وعدم دين - .
حوادث سنة 850
سنة خمسين وثمانمائة
استهلت بالثلاثاء بلا خلاف .
وفي يوم الخميس الثالث منه استقر خليل بن شاهين الذي كان نائب ملطية في نيابة القدس عوضا عن طوغان ، واستقر برهان الدينابن الديري في نظر الجوالي عوضا عن ابن فتح الدين المحرقي ، ولبس كل منهما خلعة .
وفي الخامس منه قتل الفيل بأن رمي بالسهام حتى أصيب في عينيه ثم تمكنوا منه حتى قتلوه ، وكان أمر السلطان بقتل الفيل بسبب أنه كان قد هجم على سائسه فبرك عليه حتى مات تحته .
وفي الثاني عشر منه حضر نقيب الجيش إلى الشيخ ولي الدين السفطي وكيل بيت المال وبيده قصة رفعت للسلطان باسم أبي الخير النحاس أن له دعوى شرعية عليه ، وأن السلطان أمره أن يتوجه مع غريمه إلى قاضي الشرع ، فأجاب وقال : من تختار من القضاة قال : الشافعي ، فدخل معه إلى الشافعي - فادعى عليه بأنه وضع يده له على ثريا مكفتة ، فاعترف بأنه استامها منه ليشتريها للمدرسة الجمالية وأنها معلقة في الجمالية وأذن له في أخذها ، وتوجه إلى منزله ، فشاع بين الناس أن السلطان منعه من الوصول إليه فكثرت الأقاويل ، ففي آخر النهار حضر إليه من أخبره عن السلطان أنه لم يمنعه وأنه يصل إليه متى شاء ، فلما أصبح ركب ، فلما تلاقيا التزمه وأمر له بكاملية سمور فلبسها في صبيحة ذلك اليوم ، وصادف أنه اليوم الرابع عشر من الشهر ، وفرح الناس به بغضا في غريمه ، وركب معه جميع المباشرين والقضاة وبياض الناس وكان يوما مشهود وكان وصول الحاج في أول العشر الثالث منالشهر ، فدخل الركب الأول في آخر يوم الاثنين حادي عشري الشهر ، وتكاملوا إلى أن أصبحوا يوم الثلاثاء بالقاهرة ، ووصل بعدهم المحمل على العادة في يوم الثلاثاء ودخلوا القاهرة يوم الأربعاء وكان أول من وصل منهم بعض الأجناد دخل في يوم الجمعة ثاني عشر الشهر المذكور ، وأخبر أنه فارقهم من ليلة الثلاثاء ، وكان وصول الركب الأول إلى البركة في يوم الثلاثاء ثاني عشري المحرم وقت الظهر ثم لم يمض الليل حتى دخل ركب المحمل ، ودخلوا جميعا يوم الأربعاء - وسلموا جميعا على السلطان ومعهم قاض القضاة الحنبلي ، وتكاملوا آخر النهار - .
وفي أول يوم الاثنين الثامن والعشرين من المحرم مات القاضي شمس الدين محمد بن علي بن محمد بن يعقوب - القاياتي قاضي القضاة الشافعية وقد أكمل في الولاية سنة ونصف شهر ، لانه قرر في يوم الأربعاء ثاني عشر . . وفوض إليه ذلك جهرا يوم الخميس ، ونزل إلى الصالحية بغير خلعة بعد أن أحضرت ، فامتنع من لبسها تورعا ثم باشر القضاء بنزاهة وعفة ، ولم يأذن لأحد من النواب إلا لعدد قليل ، ويتثبت في الأحكام جدا وفي جميع أموره ، فلما كان يوم الجمعة الثامن عشر منالمحرم خطب بالقلعة ورجع إلى منزله ومات عازما على التوجه إلى ملاقاة الحاج فتهيأوا يوم السبت فوعك في بقية النهار ، وأصبح ولداه فتوجها وتأخر هو ليقع له نشاط ، فدخل الحاج يوم الأربعاء ثالث عشري الشهر ، وعاد ولداه فوجداه كما به ، واشتد ألمه بالحمى وصار يشكو بحمى الكبد ، وواظبه الأطباء ، وقل أن يتناول ما وصف له ، فلما كان يوم الجمعة اشتد به الخطب إلى أن مات في أول ليلة الاثنين ، ودفن في صبيحتهابعد أن حمل تابوته من جوار الجامع الأزهر إلى مصلى المؤمني تحت القلعة بالرميلة من أجل أن السلطان أمر أن يحضر إلى هناك ليصلي هو عليه ، فحضر الجمع وكان وافرا جدا ، فتقدم في الصلاة عليه الخليفة بإذن السلطان ، ورجعوا من جهة الصحراء إلى التربة الصلاحية المعدة لأهل سعيد السعداء فدفن بها ، وشغر منصب القضاء إلى أن كان يوم الاثنين خامس عشري الشهر ، استقر كاتبه على قاعدته ، ثم بعد ذلك بيسير قدم. . ابن تاج الدين البغدادي الحنفي من دمشق وبيده يومئذ الحسبة ووكالة بيت المال وعدة وظائف ، فلم يلبث أن مات ، فأسف السلطان عليه وأمرهم بالصلاة عليه بالمصلى المذكور ونزل فصلى عليه ، ودفن بالقرافة .
وفي المحرم مات الشيخ برهان الدين إبراهيم بن رضوان الحلبي الشافعي ، كان ممن اشتغل ومهر وتميز ونزل في المدارس بحلب ،وولي بعض التداريس وناب في الحكم ، ثم صحب ولد السلطان الظاهر جقمق فاختص به لما أقام مع والده بحلب في أواخر دولة الاشرف ، ثم قدم عليه القاهرة فلازم ولده حتى استقر به إماما ، وكان ممن مرضه في ضعفه الذي مات به وقررت له بجاهه وظائف ، وندبه السلطان في الرسلية إلى حلب في بعض المهمات فلما مات ولد السلطان رقت حاله واستعيد منه التدريس الذي كان استقر فيه بحلب بجاهه ، فاستعاده الذي نزعه منه ، ثم توجه إلى الحج في العام الماضي ، فسقط عن الجمل فانكسر منه شيء ثم تداوى ، فلما رجع سقط مرة أخرى ، فدخل القاهرة مع الركب وهو سالم إلى أن مات ، وكان ينسب إلى شيء يستقبح ذكره - والله أعلم بسريرته .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12