كتاب : محاضرات الأدباء
المؤلف : الراغب الأصفهاني

الحد الأول
في العقل والعلم والجهل وما يتعلق بها
فمما جاء في العقل والحمق
وذم اتباع الهوى ما يحد به العقل وبنوه والحمق وذووه: قيل: العقل، الوقوف عند مقادير الأشياء قولاً وفعلاً. وقيل: النظر في العواقب، وقال المتكلمون: اسم لعلوم إذا حصلت للإنسان صح تكليفه. وقيل: العاقل من له رقيب على جميع شهواته. وقيل: من عقل نفسه عن المحارم، ولذلك لم يصح وصف الله تعالى به. والحمق قلة الإصابة ووضع الكلام في غير موضعه. وقيل: فقدان ما يحمد من العاقل.
مدح العقل وذم الحمق
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما اكتسب ابن آدم أفضل من عقل يهديه إلى هدى أو يرده عن ردى. وقيل: الحمق يسلب السلامة ويورث الندامة، والعقل وزير رشيد وظهير سعيد، من أطاعه أنجاه، ومن عصاه أرداه. وقيل: لو صوّر العقل لأضاء معه الليل، ولو صوّر الجهل لأظلم معه النهار؛ وقال المتنبي:
لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان
حاجة الفضائل إلى العقل
قيل: العقل بلا أدب فقر، والأدب بغير عقل حتف. وقيل: بلوغ شرف المنزلة بغير عقل إشفاء على الهلكة. وقيل: من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه كان حتفه في أغلب خصال الخير عليه.
ذم من له أدب بلا عقل
وصف أعرابي رجلاً فقال: هو ذو أدب وافر وعقل نافر.
فهبك أخا الآداب، أي فضيلة ... تكون لذي علم، وليس له عقل؟
وقيل: ازدياد الأدب عند الأحمق كازدياد الماء العذب في أصول الحنظل، كلما ازداد رياً ازداد مرارة.
حاجة العقل إلى الأدب
عاقل بلا أدب كشجاع بلا سلاح، العقل والأدب كالروح، والجسد بغير روح صورة، والروح بغير جسد ريح. وقيل: العقل بغير أدب كأرض طيبة خربة، وأن العقل يحتاج إلى مادة الحكمة كما تحتاج الأبدان إلى قوتها من الطعام.
ضياع العقل بفقد التقو:
قيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن إنسان عبادة قال كيف عقله؟ فإن قالوا عاقل قال: ما أخلقه أن يبلغ، وإن قالوا ليس بعاقل قال: ما أخلقه أن لا يبلغ. وقال الحسين: ثلاثة تذهب ضياعاً: دين بلا عقل، ومال بلا بذل، وعشق بلا وصل. وقيل: لا تعتدوا بعبادة من ليس له عقدة من عقل.
فضل اجتماعهما
قال معاوية لرجل حكيم مسن: أي شيء أحسن؟ فقال: عقل طلب به مروءة مع تقوى الله وطلب الآخرة.
عزة العقل
كل شيء إذا كثر رخص إلا العقل، فإنه كلما كثر كان أغلى ولو بيع لما اشتراه إلا العاقل لمعرفته بفضله، أول شرف العقل أنه لا يشترى بالمال.
قلة العقل وذويه:
قيل لبهلول: عدّ لنا المجانين: فقال: هذا يطول ولكني أعد العقلاء! ومثله وإن لم يكن من بابه: أن رجلاً كتب كتاباً وعرضه على آخر فقال فيه خطأ كثير، فقال الكاتب: علم على الخطأ لا صلحه. فقال: بل أعلم على الصواب فهو أسهل. وقيل لرجل: ما جماع العقل؟ فقال: ما رأيته مجتمعاً في أحد فأصفه، وما لا يوجد كاملاً لا يحد.
فضل مصاحبة العقلاء:
قال الزهري: إذا أنكرت عقلك فاقدحه بعاقل. وقال: عدوك ذو العقل أبقى عليك وأرعى من الرامق الأحمق.
تبرم العقلاء بصحبة الجهال:
قيل: العاقل بخشونة العيش مع العقلاء أسر منه بلين العيش مع السفهاء. وقيل: قطيعة الجاهل تعدل صحبة العاقل.
لم يبل ذو الجهل الذي ... دارت عليه صروف دهره
ببلية أشجى له ... من جاهل يزري بقدره
يمضي حكومته عليه ... بجهله وجواز أمره
النهي عن مصاحبة الجاهل:
قال لقمان: لا تعاشر الأحمق وإن كان ذا جمال، وأنظر إلى السيف ما أحسن منظره. وقال الجاحظ: لا تجالس الحمقى فإنه يعلق بك من مجالستهم من الفساد ما لا يعلق بك من مجالسة العقلاء دهراً من الصلاح، فإن الفساد أشد التحاماً بالطباع. وقيل: العاقل يضل عقله بمصاحبة الجاهل.
استعمال العقل والجهل مع ذويهما:
قيل: العاقل يعامل الإنسان على خليقته ويجاري الزمان على طريقته:
فكن أكيس الكيسى إذا كنت فيهم ... وإن كنت في الحمقى فكن مثل أحمق
أحامقه حتى يقال سجية ... ولو كان ذا عقل، لكنت أعاقله
ذم عاقل متجاهل:

قيل: عظمت المؤنة في عاقل وجاهل متعاقل وددت أني مثلك في ظنك وأن أعدائي مثلك في الحقيقة. قال المتنبي:
ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهل ... يرى الناس ضلالاً وليس بمهتد

صعوبة مداواة الأحمق:
لكل داء دواء يستطب به ... إلا الحماقة أعيت من يداويها
المتنبي:
ومن البلية عذل من لا يرعوي ... عن جهله وخطاب من لا يفهم
روى أن عيسى عليه الصلاة والسلام أتى بأحمق ليداويه فقال: أعياني مداواة الأحمق ولم يعيني مداواة الأكمه والأبرص. وقال الحجاج: أنا للعاقل المدبر أرجى مني للجاهل المقبل. وقيل: أنك تحفظ الأحمق من كل شيء إلا من نفسه، وتداويه إلا من حمقه.
تعب العاقل واستراحة الجاهل:
قيل لحكيم: من أنعم الناس عيشاً؟ فقال: من كفى أمر دنياه ولم يهتم لأمر آخرته.
أبو علي كاتب بكر:
من رزق الحمق فذو نعمة ... آثارها واضحة ظاهره
يحط ثقل المرء عن نفسه ... والفكر في الدنيا وفي الآخرة
آخر:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
موصوف بالعقل:
كان ابن المقفع والخليل يحبان أن يجتمعا، فاتفق التقاؤهما، فاجتمعا ثلاثة أيام يتحاوران، فقيل لابن المقفع: كيف رأيته؟ فقال: وجدت رجلاً عقله زائد على علمه. وسئل الخليل عنه فقال: وجدت رجلاً علمه فوق عقله؛ قال بعض العلماء: صدقاً فإن الخليل مات حتف أنفه في خص وهو أزهد خلق الله، وتعاطى ابن المقفع ما كان مستغنياً عنه حتى قتل أسوأ قتلة.
الصنوبري:
فإن يلتمس يوماً حجاكم فإنكم ... جبال الحجا لكنكم أبحر الجدوى
وقال آخر:
فإن يك حائلاً لوني فإني ... لعقل غير ذي سقط وعاء.
موصوف بالحماقة والجهل:
سئل أعرابي عن رجل فقال: لو كان في بني إسرائيل ووقعت قصة البقرة ما ذبحوا غيره!. وقيل: فلان ليس له من عقله فاه ولا من نفسه واعظ. وقيل: أحمق من دغة ومن رخمة؛ وفي الرحمة: إنك من طير الله فانطقي؛ يقال ذلك كناية عن الحمق. خامري أم عامر. وقيل: ليس مع فلان من العقل إلا ما يوجب حجة الله عليه إذا أمر به إلى النار. وقيل: فلان مخدوع من عقله فلا تستعن به،
ليس يدري من الجهالة ماذا ... دوّر البعر في بطون الجمال
وقال آخر:
رب ما أبين التباين فيه ... منزل عامر وعقل خراب!
وإذا قيل: فلان سليم الصدر، أو جامح في المسجد، أو هو من أهل الجنة، فهو كناية عن الحمق.
تفضيل الجد على العقل:
قيل: استأذن العقل على الجد فلم يأذن له وقال إنك تحتاج إلي وأنا لا أحتاج إليك، وافتخر العقل فقال له الجد: أمسك فالك نفاذ ما لم أصحبك. وقيل لأعرابي: فلان أحمق مرزوق.
فقال: هذا هو الرجل الكامل: وهيهات الحظوظ من العقول.
آخر:
وما لبّ اللبيب بغير حظ ... بأغنى في المعيشة من فتيل
صعوبة اجتماع العقل والجد:
قيل: من زيد في عقله نقص من حظه، وما جعل الله لأحد عقلاً وافراً إلا احتسب عليه من رزقه. وقال شاعر في المعنى:
وخصلة ليس فيها من يخالفني ... الرزق والجهل مقرونان في قرن
كون الجد من جملة العقل:
روي في الخبر أن الله تعالى إذا أراد أن يزيل نعمة عبد فأول ما يسلب منه عقله. وفي كتاب كليلة: السبب المانع حظ العاقل هو السبب لحظ الجاهل. وسئل بعضهم: العقل أفضل أم الجد.
فقال: العقل من جملة الجد.
موصوف بالجنون:
وكأنه من دير هرقل مفلت ... جرد يجر سلاسل الأقياد
آخر:
به ما شئت من حمق ... ومن جهل ومن هوج
آخر:
به طائف من جنة غير معقب
آخر:
كأنه من شهود الجن محتضر ... وقد رأى عقله منه على سفر
ويقال: فلان سمين الجهل مهزول العقل.
كون الهوى غالباً للهدى:
قال عامر بن الظرب: الرأي نائم والهوى يقظان، فإذا هوي العبد شيئاً نسي الله ثم تلا قوله تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه؟ العقل صديق مقطوع، والهوى عدو متبوع، كما من عقل أسير في يدي هوى أمير؟ وقيل: الهوى شريك العمى، واتباع الهوى أوكد أسباب الردى.
منصور الفقيه:
إن المرآة لا تريك خدوش وجهك في صداها

وكذلك نفسك لاتريك عيوب نفسك في هواها

النهي عن اتباع الهوى:
قال الله تعالى: " ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعص هواك والنساء، وأطع من شئت. وقيل: للناس في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام آيات أعظمها قوله تعالى: " إن النفس لأمارة بالسوء " . وقال بعض الحكماء: إذا اشتبه عليك أمران فانظر أيهما أقرب من هواك فخالفه، فالصواب في مخالفة الهوى؛ قال:
من أجاب الهوى إلى كل ما يد ... عو إليه داعيه ضل وتاها
النهي عن اتباع هوى غيرك:
قال الله تعالى: " ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل " . وقال: " ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون " . وقال: " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه " . وقال بعضهم لرجل: إني أهوى أن تقتل فلانا! فقال له: إني لا أدخل النار في هوى غيري وإن كنت أدخلها في هواي.
ذم من اتبع هواه:
قال الله تعالى: " إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه. وقيل: اتباع الهوى أوكد أسباب الردى. ووقع عبد الله بن طاهر إلى عامل له:
نفسك قد أعطيتها مناها ... فاغرة نحو مناها فاها
وقيل: إن قدمت هواك على عقلك لم تصب رشداً في حياتك، ولا أمناً بعد وفاتك، وأنشد:
إن الهوان هو الهوى جزم اسمه ... فإذا لقيت هوى لقيت هوانا
حمد مخالفته:
قال الله تعالى: " وإما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى " . وبعث ملك إلى عابد: ما لك لا تخدمني وأنت عبدي؟ فقال: لو اعتبرت لعلمت أنك عبد عبدي. قال: كيف؟ قال لأنك تتبع الهوى فأنت عبده وأنا أملكه فهو عبدي، فقال: صدقت. وقيل: سلطان من ملك الهوى فوق سلطان من ملك الدنيا.
ذم من يجهل نفسه:
قال أبو علي الوراق: آفة الناس قلة معرفتهم بقدر أنفسهم. قيل لبزرجمهر: أي العيوب أعظم؟ قال: قلة معرفة المرء بنفسه. المتنبي:
ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى
وقال سقراط: لا شيء أضر بالإنسان من رضاه عن نفسه، فإنه إذا رضي عنها اكتفى باليسير فعابه كل خطير.
مدح من يعرفها:
قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: لن يهلك امرؤ عرف قدره. وقيل: أجمع كلمة قول الحكيم، أفضل العقل معرفة المرء بنفسه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أراد الله به خيراً فقهه في الدين وعرفه عيوب نفسه. وقيل في قوله تعالى: " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " معناه: عرفناهم عيوب أنفسهم.
وقوف المرء على عيب نفسه:
قيل لحكيم: ما أصعب الأشياء؟ قال: معرفة الإنسان عيب نفسه، والإمساك عن الكلام في ما لا يعنيه. وقيل: قد يعرف نقص غيره من لا يعرف نقص نفسه، ولا يعرف نقص نفسه من لا يعرف نقص غيره، فآكل الثوم لا يجد نتن نفسه.
الحث على تدبر معايبك:
وقال لقمان عليه السلام: لا تدع النظر في مساويك كل وقت لأن ترك ذلك نقص من محاسنك. وقيل: كن في الحرص على تفقد عيوبك كعدوّك.
الحث على قذع النفس:
قال الحسن رضي الله عنه: أقذعوا هذه النفوس فإنها طلعة. وقال حكيم: لا ينبغي لحكيم أن يطلب طاعة غيره، وطاعة نفسه عليه ممتنعة.
أبو ذؤيب:
والنفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
وقيل: العاجز من يعجز عن قذع نفسه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بأشدكم؟ من ملك نفسه عند الغضب.
النهي عن الركون إلى النفس:
قال الجنيد رحمه الله: لا تسكن إلى نفسك وإن دامت طاعتها، فإن لها خدائع وإن سكنت إليها كنت مخدوعاً. وقيل: من رضي عن نفسه سخط الناس عليه.
المسرور بأن عرف عيوبه:
قال عمر رضي الله عنه: رحم الله امرأ أهدى إلينا عيوبنا. وقال الحكماء: أنت لا ترى عيب نفسك فسل من ترضى عقله ونصحه يعرّفك. وقال رجل لمسعر: أتحب أن تهدي إليك عيوبك؟ فقال: أما من ناصح فنعم، وأما من شامت فلا. وقيل: ينبغي للرجل أن يكون مرآة أخيه تريه خيره وشره؛ قال الشاعر:
أصبحت في هيئة المرآة تخبرنا ... عيوبنا كل ما فينا من الكدر
ما جاء في الحزم والعزم وما يضادهما والظن والشك والتثبت والعجلة

ماهية الحزم والعزم:
قال عبد الملك لعمر بن عبد العزيز: ما العزيمة في الأمر؟ قال: إصداره إذا ورد بالحزم. فقال: وهل بينهما فرق؟ قال: نعم أما سمعت قول الشاعر:
ليست تكون عزيمة ما لم يكن ... معها من الرأي المشيد رافع
فقال: لله درك عشت دهراً وما أرى بينهما فرقاً. وقيل لبعضهم: ما الحزم؟ قال: التفكر في العواقب.
النهي عن الدخول فيما يصعب الخروج منه:
قال معاوية لعمر بن العاص: ما بلغ من دهائك؟ قال: ما دخلت في أمر إلا عرفت كيف الخروج منه. فقال: لكني ما دخلت في أمر قط وأردت الخروج منه. وقيل في الحكمة: إن اتسع لك المنهج فاحذر أن يضيق بك الخروج؛ قال الشاعر:
وإذا هممت بورد أمر فالتمس ... من قبل مورده طريق المصدر
حمد تلقي الأمر بالحزم:
قيل: من لم يقدمه حزمه أخره عجزه. من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ. خذ الأمر بقوابله. إن رمت المحاجزة فقبل المناجزة. قبل الرمي تملأ الكنائن. قبل الإقدام تراش السهام. دمت لنفسك قبل اليوم مضطجعاً. اتق العثار بحس الاعتبار. البحتري:
فتى لم يضيع وقت حزم ولم يبت ... يلاحظ أعجاز الأمور تعقبا
آخر:
وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعا
مدح التفكر في العواقب:
قال ازدشير: ليس للأيام بصاحب من لم يتفكر في العواقب. يا عاقد اذكر حلاَّ. من لم ينظر في العواقب تعرض لحادثات النوائب. قال الشاعر:
ومن ترك العواقب مهملات ... فأيسر سعيه أبداً تبار
إقامة العذر باستعمال الحزم:
قيل: من استشار فيما نزل به صديقه واستخار ربه وأجهد رأيه، فقد مضى ما عليه وأمن رجوع الملامة إليه. وقيل: من أعجب الأشياء، جاهل يسلم بالتهوّر وعاقل يهلك بالتوقي. كشاجم: وعليَّ أن أسعى وليس عليَّ إدراك النجاح.
تفضيل الحزم على الجهل:
الحيلة أنفع من الغيلة. قال حكيم لابنه: كن بحيلتك أوثق منك بشدتك، فالحرب حرب للمتهور وغنيمة للمتحذر. وقيل: الإهتداء لوجه الحيلة، غنيمة جليلة، الموسوي:
ولست مقارعاً جيشاً ولكن ... برأيي يستضيء ذوو القراع
فضل التدبير وذويه:
نظام الأمر التدبير ورأس الأمر التقدير. من فعل بغير تدبير وقال بغير تقدير، لم يعدم من الناس هازئاً ولا حياً. وقيل: فلان يعرف من أين تؤكل الكتف، ويعرف منابت القصيص؛ وهما مثلان يقالان في من يعرف وجه الأمر.
الحث على الإشتغال بما يعنيك عما لا يعنيك:
قيل لبعض الحكماء: ما الحزم؟ قال: حفظ ما كلفت وترك ما كفيت. وقيل للأحنف: بم سدت قومك؟ قال: بتركي من أمرك ما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيك. وقال رجل لأفلاطون: لم تختمت في يمينك؟ فقال: لأعرف المتكلفين ومن يسأل عما لا يعنيه.
قال الشاعر:
ولا تعترض في الأمر تكفى شؤونه
ذم تارك ما يعنيه لما لا يعنيه:
ابن هرمة:
كتاركة بيضها بالعراء ... ومبلسة بيض أخرى جناحا
آخر: هراق الماء واتبع السرابا.
عتب من يضر نفسه لنفع غيره:
العباس بن الأحنف:
صرت كأني ذبالة نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق
ذم الإقتصار على مجرد التوكل:
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أرسل ناقتي وأتوكل؛ فقال: بل اعقلها وتوكل. مر الشعبي بإبل قد فشا فيها الجرب فقال لصاحبها: أما تداوي إبلك؟ فقال: إن لنا عجوزاً نتكل على دعائها. فقال: اجعل مع دعائها شيئاً من القطران! وفي كتاب كليلة: لا يمنع العاقل يقينه بالقدر من توقي المخوف بل ليجمع تصديقاً بالقدر وأخذاً بالحزم؛ قال الشاعر:
والمرء تلقاه مضياعاً لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنه حين كره طواعين الشأم ورجع إلى المدينة: أتفر من قدر الله؟ قال: نعم إلى قدر الله. فقال له: أينفع الحذر من القدر؟ فقال: لسنا مما هناك في شيء، إن الله لا يأمر بما لا ينفع ولا ينهى عما لا يضر، وقد قال تعالى: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. وقال تعالى: " خذوا حذركم " .
ذم طلب الأمر بعد فوته:

قيل لبعض الحكماء: هل شيء أضر من التوانئ؟ فقال: الاجتهاد في غير موضعه. وقيل: العجز عجزان عجز التقصير وقد أمكن، والجد في طلبه وقد فات؛ أخذه الشاعر فقال:
تتبع الأمر بعد الفوت تغرير ... وتركه مقبلا عجز وتقصير
وقيل: شر الرأي الدبري؛ قال الشاعر:
أصبحت تنفخ في رمادك بعدما ... ضيعت حظك من وقود النار

الأمر بترك التلهف على ما فات:
قال الله تعالى: " لا تأسوا على ما فاتكم " . قيل أكبر الأدواء للبدن التلهف على ما لا يدرك. إن ليتاً وإن لواً عناء.
؟؟؟؟؟؟
إظهار الندامة والتأسف:
قال الشاعر:
عضضت أناملي وقرعت سني
الكسعي وخبره المشهور:
ندمت ندامة لو أن نفسي ... تطاوعني إذا لقطعت خمسي
تبين لي سفاه الرأي مني ... لعمر أبيك حين كسرت قوسي
وهذا هو المضروب به في الندامة، وإياه عنى الفرزدق بقوله:
ندمت ندامة الكسعي لمل ... غدت مني مطلقة نوار
صخر بن عمرو:
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
وآخر كنت كناشب في الوحل ينوي ... نهوضا، وهو يزداد ارتطاما
؟؟
مدح من لا يندم فيما يباشره:
أبو الأصمع:
لا ينهض العجز في أعقاب نهزته ... ولا يصاحب عزماً حين يحتزم
المتنبي:
فما تكشفك الأعداء عن ملل ... من الحروب ولا الآراء عن زلل
الموسوي في مدح بعضهم: في قرعه سنه لا يطمع الندم.
النهي عن الأغترار:
في المثل: عش ولا تغتر.
وقيل: برد غداة غر عبداً من ظما. وقيل: الفرار بقراب أكيس. وقيل: لا تكن كمن أراق الماء واتبع السراب.
الأمر بالإقدام بعد الإتضاح والمدح بذلك:
روّ بحزم، إذا استوضحت فاعزم. وقيل: أحزم الناس من إذا وضح له الأمر صدع فيه. وقيل: أعظم الخطأ العجلة قبل الإمكان والتأني بعد الفرصة؛ قال الشاعر:
وواقف عند الأمر ما لم يضح له ... وامضي إذا ما همّ من كان ماضيا
مدح التجارب:
التجارب ليس لها نهاية، والمرء منها أبداً في زيادة. وقيل: العقل كالسيف والتجربة كالمسن. وقيل: التجارب مرائي الغيوب ونواظر العيوب.
مدح مجرب:
قيل: فلان حلب الدهر أشطره، وهو شراب بأنقع، وهو مؤدم مبشر؛ قال الشاعر:
حلبت الدهر من عسل وصاب ... وذريت الزمان بكل ريح
ومدح أعرابي قوماً فقال: أدبتهم الحكمة وأحكمتهم التجارب ولم تغررهم السلامة المنطوية على الهلكة.
ذم غير مجرب:
قيل: فلان غفل لم تسمه التجارب ولم تفترعه النوائب، وغفل لم تسمه النوب ولم يعض غاربه القنب. وصف أعرابي والياً مغتراً فقال: ما أطول سكر كأس شربها فلان، ولم يخف من عاقبتها الخمار.
المصيب بظنه:
قيل: من لم ينتفع بظنه لم ينتفع بيقينه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم. وقال عليه الصلاة والسلام: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله. وكأن عمر رضي الله عنه يقال له المحدث لصحة ظنه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن يكن في هذه الأمة محدث فهو عمر.
ويقال: فلان ألمعي. وقيل: ما تزاحمت الظنون على أمر مستور إلا كشفته؛ قال الشاعر:
إذا ما ظن أعرض أو أصابا
وقال:
نجيح مليح أخو مارق ... يكاد يخبر بالغائب
البحتري:
وإذا صحت الروية يوما ... فسواء ظن امرىء وعيانه
الموسوي:
ولا علم لي بالغيب إلا طليعة ... من الحزم لا يخفى عليها المغيب
مدح الشك وسوء الظن:
قيل: بوحشة الشك ينال أنس اليقين. وقيل: عليك بسوء الظن فإن أصاب فالحزم، وإن أخطأ فالسلامة؛ قال:
وحسن الظن عجز في أمور ... وسوء الظن يأخذ باليقين
وقيل: من أطال الركون قل ركونه. وقول الله تعالى: " إن بعض الظن إثم " دلالة على أن جله صواب. وقال عبد الملك: فرق ما بين عمر وعثمان، أن عمر أساء ظنه فأحكم أمره، وعثمان أحسن ظنه فأهمل أمره. وقيل لبعضهم: أسأت الظن، فقال: إن الدنيا لما امتلأت مكاره وجب على العاقل أن يملأها حذرا. أبو محمد الخازن:
وما شكي وإن أكثرت إلا ... محاماة على الشيء اليقين
ذمهما:

قال الله تعالى: " اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن إثم " . وقال شيخ لرجل: أظنك كاذبا؛ فقال: أحمق ما يكون الشيخ إذا استعمل ظنه؛ وقال: وأضعف عصمة عصم الظنون.
المتنبي:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم

مدح التغافل:
سئل حكيم: ما اللبيب؟ فقال: الفطن المتغافل. ولما أمضى معاوية بيعة يزيد قال يزيد: يا أبت ما أدري أنخدع الناس أم يخدعوننا بما يأخذون منا فقال: يا بني من خدعك فانخدعت له فقد خدعته. وقيل: إذا أردت لباس المحبة فكن عالما كجاهل. وقيل: من تغافل فعقلوه ومن تكايس فطبطبوه أي العبوا به على الطبطابة، قال الشاعر:
ليس الغني بسيد في قومه ... لكن سيد قومه المتغابي
ولأبي فراس وقد أجاد:
تغابيت عن قومي فظنوا غباوتي ... بمفرق أغبانا حصى وتراب
من لا يخدع لعقله:
قال عمرو بن العاص: ما رأيت أحدا كلم عمر رضي الله عنه إلا رحمته، لأنه كان لا يخدع أحدا لفضله، ولا يخدعه أحدا لفطنته؛ وقال إياس بن معاوية: لست بخب ولا الخب يخدعني.
وقيل لرجل: فيك فطنة. فقال: ما ذنبي إذ خلقني الله عاقلا
مدح التثبت:
قال الشعبي: أصاب متأمل أو كاد، وأخطأ مستعجل أو كاد. وقال عمرو بن العاص: لا يزال المرء يجني من ثمرة العجلة الندامة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما دخل الرفق في شيءٍ إلا زانه ولا الخرف إلا شانه؛ قال الشاعر:
لا تعجلنّ فربما ... عجل الفتى في ما يضره
الموسوي:
وشوكة ضغن ما انتقشت شباتها ... ذهاباً بنفسي أن يقال عجول
مدح العجلة:
لأبي العيناء وقد قيل له: لا تعجل فالعجلة من الشيطان فقال: لو كان كذلك لما قال نبي الله موسى عليه السلام: وعجلت إليك ربي لترضى. وقيل: المتأني في علاج الداء بعد أن عرف الدواء كالمتأني في إطفاء النار وقد أخذت بحواشي ثيابه. وسأل أبو علي البصير ابن منارة، حاجةً فقال: رح إلى وقت العصر، فجاء وقت الظهر فقال: ألم أعدك وقت العصر؟ فقال: نعم ولكن رأيت الإفراط في الاستظهار أحمد من الاستظهار في التواني.
ما تحمد فيه العجلة:
قال معاوية: ما من شيء يعدل التثبت. فقال الأحنف: إلا أن تبادر بالعمل الصالح أجلك: تعجل إخراج ميتك، وتنكح الكفء ابنتك.
مدح انتهاز الفرصة:
الهيبة خيبة والفرصة تمر مر السحاب. وقيل: انتهز الفرصة قبل أن تعود غصة الافتراص اقتناص. وقيل: الفرصة ما إذا أخطأك نفعه لم يصبك ضره.
التفكر في العواقب:
قيل: إحمد تغنم ولا تفكر في العواقب فتهزم؛ قال الشاعر:
إذا حدثته النفس أمضى حديثها ... وهان عليه ما يرى في العواقب
وقيل: من تفكر في العواقب لم يشجع في النوائب.
طلب الأمر بالمداراة:
قال الأحنف: عجبت لمن طلب أمراً بالمغالبة وهو يقدر عليه بالملاينة، ولمن طلب أمراً بخرق وهو يقدر عليه برفق. وقيل لبعضهم: ما الدهاء؟ فقال: قتل العدوّ في لطف.
مدافعة العدو بالمداراة:
في كتاب كليلة: لا تسلم من العدو القوي بمثل التذلل والخضوع، كما أن الحشيش إنما يسلم من الريح العاصف بانثنائه معها أينما مالت به الريح ساعدته؛ أخذه ابن الرومي فقال:
كالريح والزرع استكان لمرّها ... وعتت فلم نقدر على تقصيفه
كم قد نجا منه الضعيف وما نجا ... منه العنيف بلفه ولفيفه
وتهاتن الجذع الأبي مهزه ... فأتت عليه ولم ترع لخفيفه
ولهذا الباب نظائر في العداوات.
الجهل بمستقبل الزمان:
قال الله تعالى مخبراً عن النبي عليه السلام: " ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء " .
القطامي:
وما يعلم الخير امرؤ قبل أن يرى ... ولا الشر حتى تستبين دوائره
آخر:
تبين أعقاب الأمور إذا مضت ... وتقبل أشباها عليك صدورها
ومما جاء في المشاورة والإستبداد بالرأي
الحث على مراجعة الأوداء ومدح المشاورة

قال الله تعالى: " وشاورهم في الأمر " . وقيل: من شاور أهل النصيحة سلم من الفضيحة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: المشاروة حصن من الندامة وأمن من الملامة. وقيل: ما هلك امرؤ عن مشورة. وقيل: الرأي الواحد كالسجيل، والرأيان كالحيطتين، والثلاثة أمداد لا ينقض. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم المؤازرة المشاورة، وبئس الاستعداد الاستبداد،، الأحمق من قطعه العجب على الاستشارة والاستبداد عن الاستخارة. من شاور الأوداء أمن من الأعداء. نصف رأيك مع أخيك فاستشره.

الحث على مشاورة الحازم اللبيب:
قال الجاحظ: أحسن ما قيل في المشورة قول بشار:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... بحزم نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادم
وقوله:
ولا كل ذي رأي بمؤتيك نصحه ... ولا كل مؤت نصحه بلبيب
ولكن إذا ما استجمعا عند واحد ... فحق له من طاعة بنصيب
عبد الله بن معاوية:
وإن باب أمر عليك التوى ... فشاور نبيهاً ولا تعصبه
وقال عمر رضي الله عنه، الرجال ثلاثة: رجل ذو عقل ورأي فهو يعمل عليه، ورجل إذا أحزنه أمر أتى ذا الرأي فاستشاره، ورجل حائر بائر لا يأتي رشداً ولا يطيع مرشداً.
الحث على استشارة الكبار:
قال زياد لأبي الأسود: ولولا أنك كبرت لاستعملتك واستشرتك. فقال: إن كنت تريدني للصراع فليس في، وإن كنت تريد الرأي فهو وافي. وقيل: زاحم بعود أودع. وقيل: عليك برأي الشيوخ فقد مرت على وجوههم عيون العبر وتصدعت لأسماعهم آثار الغير.
الحث على استشارة الصغار:
قال هرم: عليكم في المشاورة بالحديث السن الحديد الذهن. وقيل: رأي الشيخ كالزند قد انثلم ورأي الشاب كالزند الصحيح الذي يوري بأيسر اقتداح.
الحث على مشاورة للعدو:
في كتاب كليلة: لا ينبغي للعاقل أن يترك استشارة عدوه ذي الرأي فيما يشركه ذلك العدو في نفعه وضره. وقيل: استشر عدوك تعرف مقدار عداوته.
من يجب أن تجتنب مشاروته:
قال قيس لابنه: لا تشاورن مشغولاً وإن كان حازماً، ولا جائعاً وإن كان فهيماً، ولا مذعوراً وإن كان ناصحاً، ولا مهموماً وإن كان فطناً، فالهم يعقل العقل، ولا يتولد منه رأي، ولا تصدق منه روية. وقيل: لا تدخل في مشورتك بخيلاً فيقصر بفعلك، ولا جباناً فيخوفك، ولا حريصاً فيعدك ما لا يرتجى، فالجبن والبخل والحرص طبيعة واحدة يجمعها سوء الظن. وقيل: لا تشاور من ليس في بيته دقيق. وكان كسرى إذا أراد أن يستشير إنساناً بعث إليه بنفقة سنة ثم يستشيره. وقيل: لا تشيرن على معجب ولا متلون، وخف الله من موافقة هوى المستشير. وقيل: إياك ومشاورة النساء فرأيهن إلى أفن وعزمهن إلى وهن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: شاوروهن وخالفوهن. وقال: لا تستضيئوا بنار المشرك أي لا تستشيروه.
المستدعي المشورة:
قال عمر رضي الله عنه: صاحب الحاجة أبله لا يرشد إلى الصواب، فلقنوا أخاكم وسددوا صاحبكم. أعرابي:
دلا على حيلة فيها لنا فرج ... إذ الدليل على خير كمن فعلا
آخر:
خليلي ليس الرأي في صدر واحد ... أشيرا عليّ اليوم ما تريان
الحث على نصيحة مستشيرك:
قال ابن عباس رضي الله عنه: إن الرجل لا يزال في صحة رأيه ما نصح مستشيره، فإذا غش مستشيره سلبه الله صحة رأيه. ولما أصاب زياد الطاعون في يده أحضر له الأطباء فدعا شريحا فقال له: لا صبر لي على شدته وقد رأيت أن أقطعها. فقال شريح: أتستشيرني في ذلك؟ قال: نعم، فقال: لا تقطعها فالرزق مقسوم والأجل معلوم، وأن أكره أن تقدم على ربك مقطوع اليد، فإذا قال لك لم قطعتها، قلت بغضاً للقائك، وفراراً من قضائك، فمات زياد من يومه. فقال الناس لشريح: لم نهيته عن قطعها؟ فقال: استشارني والمستشار مؤتمن، ولولا الأمانة لوددت أن أقطع يده يوماً ورجله يوماً. وقال يحيى: لا تشيرن على عدوك وصديقك إلا بالنصيحة، فالصديق يقضي بذلك حقه، والعدو يهابك إذا رأى صواب رأيك.
من يجب أن يشار عليه إذا استشار:

قيل: لا تشر على مستبد، ولا على وغد، ولا على لحوح، ولا معجب، ولا على متلون، وخف الله في موافقة المستشير، فالتماس موافقته لؤم، وسوء الاستماع منه خيانة. وقيل: من طلب الرخص من الإخوان عند المشاورة، ومن الأطباء عند المرض، ومن الفقهاء عند الشبه، فقد خدع نفسه.
من ضرب لمستشيره مثلاً صمم في مشورته:
شاور المنصور سلم بن قتيبة في قتل أبي مسلم صاحب الدولة فقال: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فقال: عيشك. واستشار فيه آخر فقال: ولن يجمع السيفان ويحك في غمد. واستشار معاوية الأحنف في بيعة يزيد فقال الأحنف: أنت أعلم بليله ونهاره وسره وإجهاره، فإن كنت تعلمه له أيضاً وللأمة صلاحاً فلا تشاور فيه أحداً، وإن كنت تعلم غير ذلك فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة، وإنما علينا أن نقول، سمعنا وأطعنا.

الممدوح بأنه مستشار:
امرأة من إياد:
المستشار لأمر القوم يجزئهم ... إذا الهنات أهم القوم ما فيها
أبو تمام:
يطول استشارات التجارب رأيه ... إذا ما ذوو الرأي استشاروا التجاربا
الرغبة في الإستبداد بالرأي:
قال بعض الحكماء: ما استشرت أحداً قط إلا تكبر علي وتصاغرت له، ودخلته العزة وأدركتني الذلة، وإياك والمشورة وإن ضاقت بك المذاهب. وكانت الفرس والروم مختلفين في الإستشارة فقالت الروم: نحن لا نملك من يحتاج أن يستشير. وقالت الفرس: نحن لا نملك من يستغني عن المشاورة وفضل الفرس لقوله تعالى: " وشاورهم في الأمر " . وما زال المنصور يستشير أهل بيته حتى مدحه ابن هرمة بقوله:
يزرن امرأ لا يصلح القوم أمره ... ولا ينتحي الأدنين فيما يحاول
فاستوى جالساً وقال: أصبت والله فاستشار بعد ذلك. وقال بعض جلساء هارون: أنا قتلت جعفر بن يحيى، وذلك أني رأيت الرشيد يوماً وقد تنفس تنفساً مفكراً، فانشدت في أثره:
واستبدت مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد
فأصغى إليه واستعاده، قتل جعفر أبعد عن لبث. وقال المهلب: لو لم يكن في الإستبداد بالرأي إلا صون السر وتوفير العقل، لوجب التمسك بفضله.
المتفادي من أن يستشار:
استشار عبد الله بن علي عبد الله بن المقفع فيما كان بينه وبين المنصور فقال: لست أقود جيشاً، ولا أتقلد حرباً، ولا أشير بسفك دم، وعثرة الحرب لا تستقال، وغيري أولى بالمشورة في هذا المكان. واستشار زياد رجلاً فقال: حق المستشار أن يكون ذا عقل وافر واختبار متظاهر، ولا أراني هناك. واجتمع رؤساء بني سعد إلى أكثم بن صيفي يستشيرونه فيما دهمهم من يوم الكلاب فقال: إن وهن الكبر قد فشا في بدني وليس معي الذهن ما ابتدىء به الرأي، ولكن اجتمعوا وقولوا فإني إذا مر بي الصواب عرفته.
مما جاء في وصف العلم والعلماء مدحاً وذماً
ووصف الحفظ والنسيان
عز العلم:
قال الله تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " . وقال: " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم " . وقال الإمام أبو حنيفة: إن لم يكن العلماء أولياء الله في الأرض فليس لله فيها ولي. قال الأحنف: كل عز لم يؤيد بعلم فإلى ذل يصير. وقيل: العلم يوطىء الفقراء بسط الملوك.
الأدب كالحسب:
قيل: من نهض به أدبه لم يقعد به حسبه. وقيل: شرف الحسب يحتاج إلى شرف الأدب، وشرف الأدب مستغن عن شرف الحسب. وقال الأحنف: من لم يكن له علم ولا أدب لم يكن له حسب ولا نسب. وقال شاعر:
كن ابن من شئت واكتسب أدباً ... يغنيك محموده عن النسب
أخر:
ما ضر من حاز التأدب والنهى ... أن لا يكون من آل عبد مناف؟
البالغ بعلمه مبلغ الملوك:
قيل: لما وقعت الفتنة بالبصرة ورضوا بالحسن اجتمعوا عليه وبعثوا إليه، فلما أقبل قاموا، فقال يزيد بن المهلب: كاد العلماء يكونون أرباباً، أما ترون هذا المولى كيف قام له سادات العرب؟ وقيل: تعلموا العلم فإنه يوطىء المساكين بسط الملوك. ونظر عمر رضي الله عنه إلى رجل في هيئة نفيسة فقال: ألست ابن قيس بالبصرة؟ قال: نعم، ولكني كاتب، فقال: لله در العلم ما زال يرفع أهله؛ قال الشاعر:
العلم يرفع بالخسيس إلى العلا ... والجهل يقعد بالفتى المنسوب
قيمة المرء علمه:

قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: قيمة كل امرىء ما يحسنه؛ وأخذ ابن طباطبا هذا المعنى فقال:
حسود مريض القلب يخفى أنينه ... ويضحي كئيب البال عندي حزينه
يلوم علي أن رحت في العلم دائباً ... أجمع من عند الرواة فنونه
فيا عاذلي دعني أغالي بقيمتي ... فقيمة كل الناس ما يحسنونه

فضل العلم على المال:
قال عبد الملك: اطلبوا معيشة لا يقدر سلطان جائر على غصبها، قيل: ما هي؟ قال: الأدب. ولصالح بن عبد القدوس:
قد يجمع المرء مالاً ثم يسلبه ... عما قليل فيلقى الذل والحربا
وجامع العلم مغبوط به أبداً ... فلا يحاذر منه الفوت والطلبا
وقيل: العلم ميراث غير مسلوب، وقريب غير مغلوب. وقيل: الفضيلة بكثرة الآداب لا بفراهة الدواب. وقال الجنيد: من فضيلة العلم على المال أن الله فهم سليمان مسألة فمنَّ عليه وقال: " ففهمناها سليمان " ، وأعطاه الملك ولم يمن عليه بل قال: " هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب " .
من ذمه وفضل المال عليه:
قال الشاعر:
ما المرء إلا بما يحوي من النشب
آخر:
لا تغبطن أديباً ما له نشب ... لا خير في أدب إلا مع النشب
جحظة:
إن الزمان لمن تقدم ... في النباهة منقلب
البديعي:
أكثر المقتفين للعلم وإلا ... داب في ذلة وفي ملاق
وصف العلم بأنه يورث الغنى:
قيل: الأدب يجلب الجمال ويفيد المال. وقيل: من لم يفد بالأدب مالاً استفاد به جمالاً. وفي كتاب كليلة: العالم إذا افتقر فعلمه الذي معه يقويه كالأسد معه قوته التي يعيش بها حيث توجه.
قال الأصمعي لرجل: ألا أدلك على خليل إن صحبته زانك، وإن احتجت إليه مانك، وإن استعنت به أعانك؟ قال: نعم. فقال: عليك بالأدب.
وصفه بأنه يورث الزهد:
العلم يزهد في الدنيا الضارة ويرغب في الآخرة السارة.
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: تعلموا العلم فإنه عون للفقير، أما أني لا أقول يطلب به الدنيا ولكن يدعوه للقنوع.
قلة الاعتداد بالخلو من العلم:
كان الوليد يلاعب عبد الله بن معاوية بالشطرنج، فاستأذن عليه ثقفي موصوف بالثروة، فستر الشطرنج بمنديل، فلما دخل وجلس استنطقه فقال: أحفظت القرآن وشيئاً من فقه؟ قال: لا. قال: أفرويت شيئاً من الآثار والأشعار وأيام العرب؟ قال: لا. فكشف الشطرنج وقال: شاهك فنحن في خلوة. ودخل حكيم خلو من العلم، فرأى أثاثاً وهيئة فاخرة، وأراد الرجل الداخل أن يبزق بزقة فبزق في وجه الرجل، فقيل له: ما تفعل؟ قال: نظرت فلم أجد في هذه الدار أخس منه لخلوه من المعاني الفاضلة، وإنما يرمى بالبزاق إلى أخس المواضع، فلذلك رميت به في وجهه.
تلذذ العلماء بعلمهم:
كان أبو حنيفة رحمه الله إذا أخذته هزة المسائل يقول: أين الملوك من لذة ما نحن فيه؟ لو فطنوا لقاتلونا عليه. وقيل: من خلا بالعلم لم توحشه الخلوة، ومن تسلى بالكتب لم تفته السلوة. وقيل لابن المبارك: من تجالس؟ فقال: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إني أنظر في كتب آثارهم وأخبارهم.
التناسب في العلم:
قيل لعالم: أي المناسبة أخلد؟ فقال: مناسبة العلم التي غذتها عواطف الشيم. وقيل للنوفلي: ما بلغ من شهوتك للعلم؟ قال: إذا نشطت فلذتي، وإذا اغتممت فسلوتي.
أبو تمام:
وقرابة الآداب تقصر دونها ... عند الأديب قرابة الأرحام
الصولي:
إن الكتابة والآداب قد جمعت ... بيني وبينك يا زين الورى نسبا
وقيل: لا ينبغي للأديب أن يخالط من لا أدب له، كما لا ينبغي للصاحي أن يناظر السكران.
مدح صيانة العلم:

وجه الرشيد إلى مالك بن أنس رحمه الله ليأتيه فيحدثه فقال مالك: إن العلم يؤتى! فسار الرشيد إلى منزله فاستند معه إلى الجدار، فقال: يا أمير المؤمنين، من إجلال الله تعالى إجلال العلم، فقام وجلس بين يديه وبعث إلى سفيان بن عيينة فأتاه وقعد بين يديه وحدثه، فقال الرشيد بعد ذلك: يا مالك تواضعنا لعلمك فانتفعنا به وتواضع لنا علم سفيان فلم ننتفع به. وفي أمثال العرب: إن الثعلب والغراب تحاكما إلى الضب فقالا: أخرج واحكم بيننا، فقال: في بيته يؤتى الحكم. وقال لقمان لابنه: صن علمك فوق صيانة نفسك. وقيل: لم ير أفضل من الخليل في التلطف عن الكسب بالعلم، كان الناس يأكلون بعلمه وهو في خص له، وخرج إلى مكة والناس يقولون في الحرمين: قال الخليل وذكر الخليل، ورجع إلى البصرة ولم يعلم بمكانه. قال الشيخ رحمه الله: ومن ملك نفسه هكذا فحقيق أن يقال رجل فضل وصدق. وللقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني:
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهانوا، ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما

لهي العلماء عن التهافت على باب السلطان:
قال بعض العلماء: شرار الأمراء أبعدهم عن العلماء، وشرار العلماء أقربهم إلى الأمراء. ودنا سقّاء من فقيه على باب السلطان فسأله عن مسألة فقال: أهذا موضع المسألة؟ فقال السقّاء: أو هذا موضع الفقيه؟ وكتب عبد الله المبارك رحمه الله إلى ابن علية حين ولي صدقات البصرة:
يا جاعل العلم له بازيا ... يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها ... بحيلة تذهب بالدين!
فأين ما كنت واعظاً ... من ترك أبواب السلاطين؟
إن قلت أكرهت فما هكذا ... زل حمار المعلم في الطين
من زان علمه بعمله:
قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: أعقلوا الخير إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فرواية العلم كثيرة ورعايته قليلة. كثرة العلم في غير طاعة الله مادة الذنوب. وقيل: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
ذم من شأن علمه بتقصير:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أشد الناس عذاباً يوم القيامة، عالم لا ينتفع بعلمه. وقال عليه السلام: أشد الناس ندامة عند الموت العلماء المفرطون. وقال صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أعوذ من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، وعين لا تدمع، ونفس لا تشبع، وأعوذ بك من شر هؤلاء الأربع. كتب الشافعي رضي الله عنه إلى عالم: قد أوتيت علماً فلا تطفىء نور علمك بظلمة الذنوب، فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم بنورهم.
تفضيل العلم على العمل:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: فقيه واحد أشد على الشياطين من ألف عابد. وقال صلى الله عليه وسلم: عمل قليل في علم خير من كثير منه في جهل. وقال الحسن رضي الله عنه: أدركت قوماً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: من عمل بغير علم كان ما أفسد أكثر مما أصلح.
ذم شره العالم وطلب الدنيا بالعلم:
قال صلى الله عليه وسلم: من ازداد في العلم رشداً ولم يزدد في الدنيا زهداً لم يزدد من الله إلا بعداً. وروى في الخبر: من آتاه الله علماً فلم يتنزه به عن الدنيا كتب بين عينيه: الفقير إلى يوم القيامة. قال مالك: قلت للحسن، ما عقوبة العالم؟ قال: موت قلبه. قلت: وما هو؟ قال: طلب الدنيا بعمل الآخرة. قال بعض الأدباء: لأن تطلب الدنيا بأقبح من تطلب به أحسن من أن تطلبها بأحسن ما تطلب به الآخرة.
قلة العلم وكثرة الجهل:
الطائي:
أبا جعفر إن الجهالة أمها ... ولو دوام العلم جداء حائل
علقمة:
الجهل ذو عرض لا يستزاد له ... والحكم آونة في الناس معدوم
مدح الحديث:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من حفظ حديثاً واحداً من أمر دينه أعطاه الله أجر سبعين صديقاً. وقال صلى الله عليه وسلم: من حفظ على أمتي أربعين حديثاً بعث يوم القيامة فقيهاً. وقال ابن عباس: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم ارحم خلفائي. فقلت: ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يروون الأحاديث بعدي.
ذمه وذم أصحابه:

قال شعبة: إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟ وقال محمد بن مطيع: رأيت الحسن بن زياد أسوأ الناس صلاة، فعاتبته فقال: ما طلب الحديث أحد إلا ساءت صلاته! وقال عمرو بن الحارث: ما رأيت علماً أشرف ولا أوضع أهلاً من الحديث، وهم شر خلف من خير سلف.

مدح الإسناد:
قيل: الإسناد قيد الحديث. وقيل: الحديث من غير إسناد كالجمل بلا زمام وخطام. وصف أعرابي رجلاً فقال: ما أحسن حديثه لو أن له سلاسل يقاد بها، يعني الأسانيد؛ قال:
ونص الحديث إلى أهله ... وإن الأمانة في نصه
وقيل في قوله تعالى: " أو أثارة من علم " إنه الأسانيد.
ذمه:
طلب رجل من الحسن إسناد حديث، فقال: وما تصنع به، وقد نالتك عظته، وقامت عليك حجته؟ وقيل لرجل: كتبت حديثاً بغير إسناده؛ قال: إني أريده للعمل لا للتسوق والتجمل. وسأل رجل آخر عن إسناد شعر فقال: والله ما تركت الحديث إلا بغضاً للإسناد، وأنت تسألنيه في الأشعار!
مدح النحو:
النحو نصاب العلم ونظامه وعموده وقوامه، ووشي الكلام وحلته وجماله وزينته. وقيل: النحو يرفع الوضيع ويخفض الرفيع، وكان معلم الرشيد يضرب على الخطأ واحداً وعلى اللحن سبعاً.
ذمه:
نظر بعض الرؤساء إلى ابنه وهو ينظر في كتاب سيبويه فقال: أف لك! علم المؤدبين وهمة المحتاجين. وقيل: من كثرت عليه العربية أظلمت عليه الروية. وقيل: إذا كتبت كتاباً فالحن فيه فإن العربية مجدودة. ومما يتصل بهذا الباب أن بعض الفصحاء كان يدخل على بعض عمال البصرة وهو يعرب في كلامه، فقال له يوماً: إن لم تترك الإعراب ضربتك. فقال: إني إذا أشقى الناس به. ضربت صغيراً لأتعلم وضربت كبيراً لأترك.
ذم الكثير منه:
ذكر النحو عند المأمون فقال: علم يغنيك أدناه عن أقصاه. وقال أبو حنيفة: المكثر من النحو كالمكثر من غرس شجر لا يثمر. وقيل: النحو ملح العلم، ومتى استكثر من الملح في الطعام فسد. وذكر أهل النحو عند بعض البلغاء فقال: أغزرهم علماً أنزرهم فهماً!
مدح العروض و
ذمه:
قيل: معرفة العروض تسهل عليك ما تعوج من الشعر، فإنه نصابه ونظامه وعموده وقوامه. وعاب النظام الخليل فقال: تعاطى ما لا يحسنه ورام ما لا يناله، وفتنته دوائره التي لا يحتاج إليها غيره. ودخل أعرابي مسجد البصرة فانتهى إلى حلقة علم يتذاكرون الأشعار والأخبار، وهو يستطيب كلامهم، ثم أخذوا في العروض فلما سمع المفاعيل والفعول ورد عليه ما لم يعرفه فظن أنهم يأتمرون به، فقام مسرعاً وخرج وقال:
قد كان أخذهم في الشعر يعجبني ... حتى تعاطوا كلام الزنج والروم
لما سمعت كلاماً لست أعرفه ... كأنه زحل الغربان والبوم
ولّيت منفلتاً والله يعصمني ... من التقحم في تلك الجراثيم!
ابن طباطبا:
كل العلوم يزين المرء بهجتها ... إلا العروض فقد شانت ذوي الأدب
بي الدوائر دارت من دوائرها ... ما لإمرىء أرب في ذاك من أرب
فاستعمل الذوق في شعر تؤلفه ... وزن به ما بنوا في سالف الحقب
مدح الملح:
قال الأصمعي: نلت بالعلم وصلت بالملح. وقيل: النوادر تفتح الآذان وتفتق الأذهان وقال أبو عبيدة: الملح مروءة تنفق عند الأشراف، فارتادوا لها وانظروا عند من تضعونها.
مدح الكلام:
قيل: المتكلمون دعائم الدين، ولولاهم لأضلت الملحدة كثيراً من الناس. وروي أن ملك الصفد كتب إلى الرشيد يسأله أن يبعث إليه من يعلمه الدين فدعا يحيى بن خالد يعرض عليه الكتاب، فقال يحيى: لا يقوم لذاك إلا رجلان ببابك: هشام بن الحكم، وضرار، فقال: كلا إنهما مبتدعان فيلقنان القوم ما يفسدهم ويغويهم بالمسلمين، ليس لذلك إلا أصحاب الحديث. فقال يحيى: أصحاب الحديث لا يحسنون وأهل الصفد قد غلب عليهم الثنوية، فأبى أبو يوسف ووجه بعض أصحاب الحديث، فلما ورد أكله أهل صفد بالحجج، فقال ملك الصفد: ما أضعف دينكم وحججكم! فضحك صاحب الحديث، فقال الملك: وما هذا الضحك؟ فقال: أنا لسنا أصحاب الحجج، فإننا مقلدة، وعندنا من له الجدل وعنده الحجج ولا يقوى لهم أحد، وقد أشار بعض المحصلين على صاحبنا أن لا يبعثنا فوقع الغلط عليه.
ذمه:

قال أبو يوسف: من طلب الدين بالكلام تزندق. وقيل: ما تعلم أحد الكلام إلا ساء ظنه بالناس. وقيل: من جعل غرضاً للجدال أكثر التنقل من رأي إلى رأي. وحكى بعض الصوفية قال: استشرت أبا عبد الله بن حنيف في تعلم الكلام فقال: لا تفعل فأقل ما فيه أنك تسيء عشرة الرب، فقلت: كيف ذلك؟ فقال: لأنك أبداً تقول، لو فعل الله كذا لكان جاهلاً، ولو كان كذا لكان عاجزاً، ونحو ذلك مما يجري في كلامهم.

مدح الفقه:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين وعرفه عيوب نفسه. وقال صلى الله عليه وسلم: لكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه. وقال صلى الله عليه وسلم: الأنبياء سادة والفقهاء قادة ومجالستهم زيادة. وقال صلى الله عليه وسلم: فقيه واحد على إبليس من ألف عابد.
مدح الحساب:
قال الله تعالى: " فالق الإصباح: وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم " . وقال الله تعالى: " هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب " . وقيل: الحساب ديباج العلم. وقال علي بن زين: لو رفع الحساب لبطلت العلوم، ولو رفعت العلوم لم يبطل الحساب.
مدح استخراج المعمى وذمه والحاذق فيه:
قيل: استخراج المعمى يدقق النظر ويصقل الذهن ويفطن القلب. وقيل: إن بعض اليونانيين كتب بلغتهم كتاباً إلى الخليل، فخلا به شهراً حتى فهمه، فقيل له في ذلك فقال: علمت أنه لابد من أن يفتتح الكتاب باسم الله فبنيت على ذلك، فقست عليه وجعلت ذلك أصلاً ففتحت ثم وضعت كتاب المعمى على ذلك، وقال أبو حاتم: سألت الأصمعي عن المعمى فقال: هو عمى القلب. وقال الجاحظ: ليس المعمى بشيء قد كان كيسان مستملي أبي عبيدة يسمع خلاف ما يقال، ويكتب خلاف ما يسمع، ويقرأ خلاف ما يكتب، يتعسر عليه استخراج أخف نكتة من المعمى.
معرفة النسب:
سئل بعضهم عن علم النسب فقال: هو علم لا تنفع معرفته ولا يضر جهله. وقال رجل لأبي عبيدة: علمني شيئاً من النسب، فقال: ما تستفيد بذلك إلا معرفة المعايب. وقيل: فلان أنسب من دغفل ومن ابن لسان الحمرة.
المتنبي في نبطي عارف بالنسب:
وماذا بمصر من المضحكات ... ولكنه ضحك كالبكاء!
بها نبطي من أهل السواد ... يدرس أنساب أهل العلاء
وصف فنون من العلم:
قيل: علم الملوك النسب والخبر والشعر، وعلم السلطان المغازي والسير، وعلم التجار الحساب، وعلم الكتّاب معرفة الخط وتصريف اللغات. وقيل: العلوم ثلاثة: علم الدين لمعادكم، وعلم الطب لأبدانكم، وعلم الهندسة لمعاشكم. وقيل: تعلموا الفقه لأديانكم، والطب لأبدانكم، والنحو لبيانكم.
متبجح باستيعاب العلم:
قال ابن المنجم: أحب أن ألقى عدي بن الرقاع فأقول له ألست القائل:
وعلمت حتى ما أسائل واحداً ... عن علم واحدة لكي أزدادها
ثم أريه أنه قد جهل كل علم إلا قوله الشعر الذي يتقدمه عليه غيره، ثم أحسن أدبه وأعرك أذنه. ولكشاجم في معناه:
وما زلت أبغي الشعر من حيث يبتغي ... وأفتن في أفنائه أتطرفه
فقد صرت لا ألقي الذي أستزيده ... ولا يذكر الشيء الذي لست أعرفه
وهذا من الإعجاب المفرط والجهل بفنون العلم، وكفى دلالة بقلة معلوم الورى قوله تعالى: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً " .
جودة الحفظ وذكر الحفاظ:

قيل: فلان أحفظ بما يسمعه من الرمل للماء، وهذا أثبت في صدره من الحمد لله. ولما نزل قوله تعالى: " وتعيها أذن واعية " قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي، فلم يسمع بعد ذلك شيئاً إلا حفظه. وقيل: كان عمرو بن هبيرة يضبط حساب العراق وهو أمي. وقال الشعبي: ما كتبت سوداء في بيضاء إلا حفظتها. وقال: أحفظ كل الحديث سمعت، والموضع الذي سمعت فيه. وقال الأصمعي: أحفظ اثني عشر ألف أرجوزة، فقال رجل: منها البيت والبيتان، فقال: ومنها المائة والمائتان! وورد أبو مسعود الرازي أصبهان، ويقال أنه أملى عن ظهر قلبه مائة ألف حديث، فلما وصلت كتبه قوبلت بها فلم يعثر منها على سقطة إلا في متن حديثين. وادعى الخوارزمي أنه حفظ كتاب الأمثال لأبي عبيدة في ليلة. وقيل: جرى حديث الحفظ لما كان بأصبهان، فقرىء عليه أوراق من حساب البقالين، فأعادها على الترتيب.

النسيان وذكر بنيه:
قيل: فلان لو غابت عنه العافية لنسيها. وحكى جراب الدولة أن رجلاً كان على عاتقه صبي عليه قميص أحمر، وهو ينادي من وجد صبياً عليه قميص أحمر، فقيل: أليس هو على عاتقك؟ فلمه فقال: أحسنت كنت نسيته! وقال قتادة يوماً ما نسيت شيئاً قط، ثم قال في أثره: يا غلام ائتني بنعلي، فقال له الغلام: أليس نعلك في رجلك؟ وكان قد نسيه.
عذر من نسي أمراً:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " . وقال تعالى في آدم: " فنسي ولم نجد له عزماً " . وقال تعالى: " وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره " وسمي الناسي ابن سهوان، ومنه قيل: إن الموصين بنو سهوان.
البحتري:
إن كنت نسيتها فلا عجب ... قد عاهد الله آدماً فنسي
وقال آخر: وسميت إنساناً لأنك ناسي
تذكر الشيء:
قيل في المثل: ذكرتني الطعن وكنت ناسياً. ابن الرومي في تذكر المتلو بالعود إلى ما قبله وهو بديع في بابه:
وتالٍ تلا يوماً فانسني آية ... فأعيت عليه حين رام انتهازها
فكر على ما قبلها متدبراً ... فثاب له فكر فأفضى حجازها
فشبهته بابن السبيل تعرضت ... له وهدة فاستصعبت حين رازها
فقهقر عنها قيس عشرين خطوة ... فجاش إليها جيشة فأجازها
ما يورث النسيان:
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: مما يورث النسيان الحجامة في النقرة، والبول في الماء الراكد، وأكل التفاح الحامض، وأكل الكزبرة، وأكل سؤر الفأر، وقراءة ألواح المقابر، والنظر إلى المصلوب، والمشي بين الجملين المقطرين، وإلقاء القملة إلى الأرض. وقيل: إن الباقلاء تفسد من الحفظ في يوم ما لا يصلحه البلادر في سنة.
تصنيف الكتب:
قال الجاحظ: لا يزال المرء في فسحة من عقله ما لم يقل شعراً أو يصنف كتباً وقيل: من ألف فقد استهدف، فإن أحسن فقد استشرف، وإن أساء فقد استقذف. وقيل: عرض بنات الصلب على الخطاب أسهل من عرض بنات الصدر على ذوي الألباب.
جاهل يصنف كتاباً أو يقول شعراً:
الفضل بن سلمة:
عجباً منك أبا الهيثم إذ كنت تصنف
أحمد بن أبي طاهر:
أظن دعوته في الشعر جائزة ... له علي كما جازت على النسب
وقال آخر:
ويوهمنا أنه شاعر ... كأنا قدمنا من البادية
ابن الرومي:
كيف لا يشتد وسواسي ... حيث أشعارك تدراسي؟
ما اقتنى مثلك دهر السوء إلا حين إفلاس
التعريض بجاهل:
قال حجازي لابن شبرمة: منا خرج العلم، فقال: نعم ولكن لم يعد إليكم. وأورد رجل على آخر علماً فقال: أتحمل التمر إلى هجر؟ فقال: إذا قل حملها ونزر نخلها.
قال الشاعر:
يتعاطى كل شيء ... وهو لا يحسن شيئاً
وقال آخر:
موّه في ما ادعاه من حكم ... لكن تمويهه على بقر
وقال آخر:
وقال الطانزون فني أديب ... فصعد مقلتيه له وتاها
وأطرق للمسائل أي بابه ... ولا يدري وحقك ما طحاها
جاهل غير عارف بجهله:
قيل: من لا يدري وهو لا يعلم أنه لا يدري فذاك جاهل فعلموه، ومن لا يدري وهو يقدر أنه يدري فذاك أحمق فاجتنبوه.
قال الشاعر:

جهلت ولم تعلم بأنك جاهل ... ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهل
وقال آخر:
أخالد لم تعلم، ولست بعالم ... بأنك لا تدري، وذا غاية الجهل
وبضدّ ذلك نمدح من قال: ما فيّ من فضيلة العلم إلا علمي بأني لست بعالم.
العتب على من يذم علماً:
تحدث يوماً شريك بحديث فقال عافية القاضي لا أعلم هذا، فقال: وهل يضر عالماً جهل جاهل؟ المتنبي:
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
ابن الرومي:
عابو قريضي وما عابو بمعرفة ... ولن ترى الشمس أبصار الخفافيش

ذم مستكثر لعلمه معجب بنفسه:
ذكر النظام الخليل فقال: توحد به العجب فأهلكه، وصوب له الإستبداد صواب رأيه فتعاطى ما لا يحسنه. وقال إبليس: ثلاث من كنّ فيه أدركت حاجتي منه: من استكثر علمه، ونسي ذنبه، وأعجب برأيه؛ ويدخل في هذا الباب ما ذكر من قول عدي بن الرقاع وقد تقدم.
ذم مدّع للعلم:
كشاجم:
تشبّه في النحو بالأخفشين ... فجاء بأعجوبة مطرفه
ولم يسمع النحو لكنه ... قرأ منه شيئاً وقد صحفه
فإن لم يكن أخفش الناظرين ... فإن الفتى أخفش المعرفه
وقال آخر:
فمما لك بالغريب يد، ولكن ... تعاطيك الغريب من الغريب
أبو العتاهية:
أشد الناس للعلم ادعاء ... أقلهم بما هو فيه علما
الصولي في نفطويه:
يشرع في أكثر العلوم ولا ... يعرف منها أقلها خطرا
من ادعى ففضحه الإمتحان:
ويدعي الحفظ للقرآن ولا يقوم بالحمد وحدها نظرا قيل: لسان الدعوى إذا نطق فضحه الإمتحان.
قال الشاعر:
كل من يدعي بما ليس فيه ... كذبته شواهد الامتحان
ذم من يصيب من غير قصد:
ذم أعرابي رجلاً فقال: خطاء بعد اجتهاد، وصوابه من غير اعتماد.
قال الشاعر:
يصيب وما يدري ويخطي وما دري ... وكيف يكون النوك إلا كذلك؟
الموصوف بالإصابة مرة والخطأ أخرى:
قيل في المثل: يشج مرة ويأسو أخرى. وقيل: شخب في الإناء وشخب في الأرض يشوب ويروب. فؤاد خطاء وواد مطر.
من سئل فتبله:
قال الشاعر:
سألته عن علمه فكأنما ... سألت عن سكانه ربعاً خلا
وقال آخر:
كأنهم عند السؤال جلامد
من يروي علماً ولا يفهم:
قال الله تعالى: " كمثل الحمار يحمل أسفاراً " . قال ابن الرومي: فإن تقل إنني رويت فكالدفتر جهلاً بكل ما اعتقده.
محنة العلماء في أيدي الجهال:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ارحموا عزيز قوم ذل، وغنياً افتقر، وعالماً بين جهال " . وقيل: إن أردت أن تعذب عالماً فاقرن به جاهلاً. وقيل: إن ثمامة بن أشرس لما غضب عليه الرشيد سلمه إلى خادم يقال له ياسر، وكان الخادم يتفقده ويحسن إليه حتى سمعه ثمامة يوماً يقرأ: ويل يومئذ للمكذَّبين، بفتح الذال، فقال ثمامة: ويحك! المكذَّبين هم الأنبياء إقرأ المكذِّبين بكسر الذال، قد قيل لي أنك زنديق ولم أصدق، أتشتم الأنبياء؟ ثم هجره وتركه فلم يتفقده. فلما رضي عنه الرشيد وردّه إلى مجلسه سأله يوماً: ما أشد الأشياء؟ فقال: عالم يجري عليه حكم جاهل! فظن الرشيد أنه تعريض به حتى عرفه خبر الخادم.
معاداة الجاهل للعالم:
قال رجل لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر: الناس أعداء ما جهلوا، فقال: هذا في كتاب الله بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله.
معاداة العلماء بعضهم بعضاً:
قيل: هلاك العلماء بحسدهم. وقيل: الحسد والملق مذمومان في كل شيء إلا في العلم. قال ابن عباس: لا تقبلوا قول العلماء بعضهم على بعض، فإنهم يتغايرون تغاير التيس في الزريبة. وقال الأِشج: إني لأغار على الحديث كما يغار على الجارية الحسناء.
أبو تمام:
وما أنا بالغيران من دون جارتي ... إذا أنا لم أصبح غيوراً على العلم
مما جاء في التعلم والتعليم وما يتعلق بهما
وجوب التعلم:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: " طلب العلم فريضة على كل مسلم " . سقراط: " من لم يصبر على تعلم العلم وتعبه صبر على شقاء الجهل. وقال بعضهم تعلموا الأدب وإن لم ينلكم حظ من الدنيا، فلأن يذم فيكم الزمان أحسن من أن يذم بكم.

تفصيل بث العلم ووجوبه:
قال النبي صلى الله عليه وسلم:من علم علماً فكتمه ألجمه الله تعالى بلجام من نار يوم القيامة.وقال الحسن رحمه الله: زكاة العلم تعلمه. أتى رجل الزهري ليحدثه فأبى فقال: إن الله تعالى لم يأخذ الميثاق على الجهال أن يتعلموا حتى أخذه على العلماء أن يعلموا؛ قال الله تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه. وقيل: ما يتصدق رجل بصدقة أفضل من علم ينشره. وأتى طالب علم باب عالم فقال: أعطيني مما أعطاك الله، قامر له بدراهم، فقال: أنا طالب هدى لا طالب ندى، فعلم أوضح لبساً خير من مال أغنى نفساً.
فضل المعلم والمتعلم معاً:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا خير في من كان من أمتي ليس بعالم ولا متعلم. وقيل: الناس عالم ومتعلم وما سواهما همج.
وجوب تعظيم المعلم:
قيل للإسكندر: إنك تعظم معلمك أكثر من تعظيمك لأبيك. فقال: لأن أبي سبب حياتي الفانية، ومؤدبي سبب الحياة الباقية! وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يقام لأحد إلا لذي علم أو لذي سن أو لذي سلطان. وقيل: لا يستخف أحد بمن تعلم منه علماً إلا وضيع خامل أو رفيع جاهل. وعن بعض العلماء: لا يتحركن ثلاثة لأحد: القاضي في يوم مجلسه، والكاتب في وقت أمره ونهيه، والمؤدب في مكتبه.
وجوب تعظيم المتعلم:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقروا من تتعلمون منه ووقروا من تعلمونه. قال أبو العالية:ولا تصعر خدك للناس أي ليكن الفقير والغني عندك سواء في تعلم العلم.
اختيار التلامذة وحث كل إلى تعلم ما يليق به:
سأل أفلاطون بعض تلامذته عن مسألة لم تكن تليق بحاله، فقال: لست من أهلها فلكل تربة غرس ولكل بناء أس. وقيل: تصفح طلاب علمك كما تتصفح خطاب حرمك. وكان يونس يختلف إلى الخليل يتعلم منه العروض فصعب عليه تعلمه، فقال له الخليل يوماً، من أي بحر قول الشاعر:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
ففطن يونس لما عناه الخليل فترك العروض. وقيل: اختر كل إنسان للفن الذي يستطيبه، فبقدر شهوته يكون نفاذه فيه.
منع العلم عن غير أهله:
قال المسيح عليه السلام: لا تضعوا الحكمة في غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، وكن كالطبيب الحاذق يضع دواءه حيث يعلم أنه ينتفع به. وفي بعض الكتب: يا بني إسرائيل لا تطرحوا الدر بين أيدي الخنازير فتطؤه وهي لا تعرفه. وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه:
ومن منح الجهال علماً أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم
وقيل: ما كل تربية تحتمل القلائد، ولا كل ضريبة تستحق الفوائد.
النهي عن تعليم الأوغاد وذمهم إذا تعلموا:
قالت الحكماء: لا تعلمن الدنيء علماً فيستفيده منك ويصير به عدواً لك، فلأن يتضع ألف من عليين أولى أن من أن يرتفع دنيء واحد. وقيل لبعضهم: أي علم أضر؟ فقال: ما يفاد الأوغاد.
وقيل لأبي سنان: تموت وتدخل علمك معك القبر! فقال: ذاك أحب إلي من أن أجعله في إناء سوء. ورأى حكيم رجلاً يعلم دنيئاً علماً فقال له: أتسقي سهماً ترمى به يوماً؟ دعبل في أبي تمام:
إن عابني لم يعب إلا مؤدبه ... فنفسه عاب لما عاب آدابه
وكان كالكلب أضراه مكلبه ... كيما يصيد له فاصطاد كلابه
وقال آخر:
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتدّ ساعده رماني
وكم علّمته نظم القوافي ... فلما قال قافية هجاني
دنيء استفاد علماً فازداد به شراً:
البديهي وقد أجاد:
إذا ما اقتنى العلم ذو شرة ... تضاعف ما ذم من مخبره
وصادف من علمه قوة ... يصول بها الشر في جوهره
وصار عدواً لإخوانه ... وسيفاً حساماً على معشره
فضل تعليم الأولاد:

يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما منح والد ولداً أفضل من أدب حسن. وكانت اليونانية تورث الأبناء الأدب والبنات النسب. وقيل: من أدب ولده صغيراً قرّت به عينه كبيراً. وقيل: من أدب ولده أرغم حاسده. حكي أن المنصور بعث إلى من في الحبس من بني أمية يقول لهم: ما أشدّ ما مر بكم في هذا الحبس؟ فقالوا: ما فقدنا من تأديب أولادنا. وقيل: لا يحب الأب ابنه حتى يبغضه على ترك الأدب.

فضل التعلم في الصغر:
قيل: بادروا بتأديب الأطفال قبل تراكم الأشغال. وسمع الحسن رجلاً يقول: التعلم في الصغر كالنقش في الحجر، فقال: الكبير أوفر عقلاً منه لكنه أشغل قلباً. وقيل: من لم يتعلم في الصغر هان في حال الكبر. وقال الشاعر:
هل الحفظ إلا للصبي؟ فذو النهى ... يمارس أشغالاً تشرد بالذكر
فضل التعلم في الكبر:
قيل لأبي شروان: أيحسن بالشيخ أن يتعلم؟ قال: إن كانت الجهالة تقبح منه فالتعلم يحسن به، فقيل: وإلى متى يحسن منه؟ فقال: ما حسنت به الحياة. وقيل لحكيم: ما حد التعلم؟ فقال: حد الحياة أي يجب له أن يتعلم ما دام حياً. وقال شيخ للمأمون: أقبيح بي أن أستفهم؟ فقال: بل قبيح بك أن تستبهم!
الأحوال التي تحصل بها العلوم:
قيل: لا يصير الإنسان عالماً إلا بخمس: غريزة محتملة للعلم، وعناية تامة، وكفاية قائمة، واستنباط لطيف، ومعلم فصيح.
وقيل:
لا تستطيع أن تعي العلوم السنيه ... حتى تمحو من ذهنك الأمور الدنيه
الأوقات المرتضاة للدرس:
قيل: انظروا في العلم بالليل فالقلب بالنهار طائر وبالليل ساكر أي ساكن. وقيل لبعضهم لم اخترت الغدوة للدرس؟ فقال: لأن العقل أجم لقرب عهده بالصمت، وبعد جوارحه من المعاصي.
من سهل عليه التعلم:
قيل إذا كانت الطبيعة نقية اكتفت بالأذكار وغنيت عن التكرار. وقيل: فلان يكتفي باللحظ ويستغني عن اللفظ.
من عسر عليه التعلم:
قال الله تعالى: " لا يكادون يفقهون قولاً " . وقال بعض الحكماء: صقلك سيفاً ليس له جوهر من سنخه خطأ، وحملك الصعب المسن على الرياضة عناء، وبثك الحب في أرض سبخة ترجو نباتها جهل.
أبو تمام:
السيف ما لم يلف منه صيقل ... من سنخه لم ينتفع بصقال
وقال الخليل رحمه الله لبليد: ما أجد لقفل بلادتك مفتاحاً!
تعسر تعلم الكبار:
نظر رجل إلى فيلسوف يؤدب شيخاً فقال: ما تصنع؟ قال: أغسل مسحاً لعله يبيض؛ قال:
ومن العناء رياضة الهرم
وقال آخر:
أدب الكبير من التعب ... كبر الكبير عن الأدب
وقال آخر:
إن الرياضة لا تجدي لدى الشيب
وأسلم بعض الولاة هرماً إلى كتاب ليتعلم شيئاً من القرآن، وكان إذا تعلم شيئاً نسي ما قبله، فوجه إليه أن ابعث إلي من يتسلم مني ما أحفظه أوّلاً فأوّلاً.
من يعّلم من هو أعلم منه:
قيل: كمستبضع التمر إلى هجر، وكمعلمة أمها البضاع. وقيل: تعلمني بضب أنا حرّشته.
وقيل: فلان يقرأ سورة يوسف على يعقوب عليهما السلام.
المتنبي:
فآجرك الآله على عليل ... بعثت إلى المسيح به طبيباً
ويقال: أنا منه كحاقن الإهالة إذا كنت عارفاً به.
الحث على الحفظ دون الاعتماد على الكتب:
قيل: إذا فقد العالم الذهن قل على الأضداد احتجاجه، وكثر إلى الكتب احتياجه.وقيل: لا خير في علم لا يعبر معك الوادي ولا يعمر بك النادي.
محمد بن بشير:
ليس بعلم ما يعي القمّطر ... ما العلم إلا ما وعاه الصدر
وله أيضاً:
إذا لم تكن حافظاً واعيا ... فجمعك للكتب لا ينفع
وقال آخر:
غدوت بتشمير وجد عليهم ... فمحبرتي سمعي ودفترها قلبي
ضبط العلم بالكتابة:
قيل: قيدوا العلم بالكتابة.سقراط: ما بنته الأقلام لم تطمع في دروسه الأيام. وقيل: العلم بند فاجعلوا الكتب له حماة، والأقلام عليها رعاة. العلم عقود فاجعلوا الكتب لها نظاماً. وقيل: اكتبوا ما تسمعونه من الحكم ولو في بياض النواظر بأطراف الخناجر.
وصف المثبت لكل ما يسمع:
قال أعرابي في رجل يكتب كل ما يسمع: أنت حتف الكلمة الشرود.
وقال آخر:
ما أنت إلا الحفظه ... تكتب لفظ اللفظه

قال الأصمعي: قال لي أعرابي رآني أكتب ما أسمع واستحسن: لا تدع شيئاً إلا نمصته أي نتفته.

السؤال عما يجهل:
يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: العلم خزانة مفتاحها السؤال. وقال أنس: السؤال يعمر العلم. وقيل: لا تسل رياء ولا تتركه حياء. وقيل: سل سؤال الحمقى واحفظ حفظ الأكياس. وقيل لدغفل: بم أدركت هذا العلم؟ فقال: بلسان سؤال وقلب عقول.
وقال الشاعر:
شفاء العمى طول السؤال، وإنما ... تمام العمى طول السكوت على الجهل!
الحث على الأخذ من الصغير والكبير:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها قيدها. وقيل: خذ الحكمة ممن تسمعها منه، فرب رمية من غير رام، وحكمة من غير حكيم. وقيل: لا يمنعنك ضعة القائل عن الاستماع إليه، فرب فم كريه مج علماً ذكياً وتبر صاف في صخر جاس. وسمع الكندي كلمة من مخنث فكتبها، فلاموه على ذلك فقال: رب لسان خنث نتج لفظاً فحلاً، والجوهرة النفيسة لا يشينها سخافة غائصها ولا دناءة بائعها. وقال بزرجمهر: أخذت من كل شيء أحسن ما فيه حتى من الكلب ذبه عن حريمه، ومن الخنزير بكوره في مقاصده. وقال ابن السكيت لرجل: أتراك أحطت بما لم أحط به؟ فقال: وما أنكرت، وقد قال الهدهد وهو أخس الطيور لسليمان، أحطت بما لم تحط به.
مدح من يقول لا أدري:
سئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري. فقيل: ألا تستحي من قولك هذا وأنت فقيه العراقيين؟ فقال: إن الملائكة لم تستحي إذ قالت: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا! وقيل لأبي عمرو مثله فقال: أقبح من هذا أن أقول فأخطىء وأروي فلا أروى؛ شاعر:
إذا ما انتهى علمي تناهيت عنده ... أطال فأملى أم تناهى فقصرا
وقال الحسين رضي الله عنه: لو أن العالم كل ما قال أحسن وأصاب لأوشك أن يجن من العجب، وإنما العالم من يكثر صوابه. وقال بعض الفقهاء، العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة قائمة، ولا أدري فيقتضي اجتهاداً.
ذم من يقول ذلك:
سئل رجل عن شيء فقال: لا أدري ولا أدري نصف العلم. فقيل له: لكنه النصف الأخس! وقال آخر مثل ذلك فقيل له: فقله مرتين تحز العلم كله. وقال آخر ذلك فقيل له: لكن أبوك بالنصف الآخر تقدم.
صعوبة جانب العلم:
قال الخليل رحمة الله عليه: العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، ثم أنت في إعطائه إياك بعضه مع إعطائك إياه كلك على خطر. وقيل: لا يتأدب الرجل حتى يتجنب الفراش الوطىء والدثار الدفىء. وقيل: لا يدرك العلم من لا يطيل درسه ولا يكد نفسه. وقيل لبعض العلماء: ذلت طالباً فعززت مطلوباً. فقال: من ذل طلبه عز أدبه. وقال ارسطاطاً: ليس طالب العلم كالغائص في البحر، لا يصل إلى الجواهر الكريمة إلا بالمخاطرة العظيمة.
ترفيه النفس في طلبه:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى " . وقيل: دار القلب، فإذا نشط فأودعه وإذا فتر فتودعه. وقيل: روحوا الأذهان كما تروحون الأبدان، فإن العقل المكدود ليس لرؤيته لقاح ولا لرأيه نجاح. وقيل: نفسك مطيتك، إن رفهتها اضطلعت، وإن تحاملت عليها انقطعت.
الحرص على الإستكثار منه وعزه إذا كثر:
قال صلى الله عليه وسلم: منهومان لا يشبعان: منهوم في العلم، ومنهوم في المال. وقيل: الشره في المال دناءة، وفي العلم نباهة. وقيل: كل شيء يعز حين ينزر، والعلم يعز حين يغزر.
اتساع القلب بازدياد العلم:
قال أبو نواس: ما رأيت شيئاً إلا قليله أخف من كثيره إلا العلم فإنه كلما كان أكثر كان أخف محملاً وقيل: كل إناء يفرغ فيه شيء يضيق إلا القلب، فإنه كلما أفرغ فيه علم اتسع. وقال أنوشروان: قلب العالم كبيت فيه مصباح، لا يضيق عن تظاهر النور فيه بل يتسع للنظر ويزيد في الضياء.
الترغيب في اختيار النكت:
قيل: العلم أكثر من أن يحوى فخذوا من كل شيء أحسنه. وقيل: حل طبعك بالعيون والفقر، فالشجرة لا يشينها قلة الحمل إذا كانت ثمرتها نافعة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: العلم كثير فارعوا أحسنه، أما سمعتم قول الله تعالى: فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه؟ قال الشاعر:
قالوا: خذ العين من كل فقلت لهم: ... في العين فضل ولكن ناظر العين
تناول طرف من كل نوع:

قال يحيى بن خالد: انتق من كل علم طرفاً، فمن جهل شيئاً عاداه وأكره أن تكون عدو الشيء من الآداب. وقيل: إذا أردت أن تكون عالماً فاقصد فنّاً واحداً، وإذا أردت أن تكون أديباً فخذ طرفاً من كل فن. وقيل: من لا يعلم إلا فناً واحداً من العلم سمي الخصي من العلماء.

تقديم تعلم ما لا يستغنى عنه:
قال المأمون: العلم لا يدرك غوره ولا يسبر قعره، فابدؤوا بالأهم فالأهم بالفرض قبل النقل، إن الأهم المقدم. وقيل: ضيع الناس الأصول بتركهم الأصول.
النهي عن الخوض في فنون من العلم:
قيل: ازدحام العلم في السمع مضلة للفهم. وقيل: إذا رأيتم رجلاً يريد تعلم أنواع العلوم فداووه. وقيل: من رام أن ينتحل فنون العلم استخف بنحيزته ووقف الناس على غميزته؛ قال الشاعر:
تعلمت حتى من كلاب عواءها ... لعمري لقد أسرفت في طلب العلم!
كثرة العلم:
قال الحسن رضي الله عنه: ما ترك قول الله تعالى: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً " عالماً يظن أن علمه كثير " . وقيل لفيلسوف " إلى أين بلغت في العلوم؟ قال: إلى الوقوف على القصور عنها.
زهد من يقرب من العلماء في العلم:
قيل: أزهد الناس في العالم جاره. وقيل: العالم كالجمة من البئر يأتيها البعداء ويزهد فيها القرباء وقيل لرجل: كيف غلبت البرامكة؟ فقال: بتطراف الغرباء والملالة من القرباء. وقال أبو شروان: رأيت في منامي رجلاً يعدو والماء خلفه يناديه فعبر بأنه رجل يفر من العلم، وعالم يناديه ليفيده وهو يمتنع منه.
حد التأديب:
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: الناس عالم ومتعلم وما سواهما همج؛ فدل ذلك على تفضيل التأديب وجميع ما تقدم من عموم فضل التعليم، فدلالة على فضل المؤدبة. وقال ابن ثابت: إن المؤدبة ولدوا بنجم الملوك حاسبون حسابهم. وسأل الرشيد يوماً: من أكرم الناس خدماً؟ قيل: أمير المؤمنين. فقال: لا بل أكرمهم خدماً الكسائي، فقد رأيته يخدمه الأمين والمأمون وليا عهد المسلمين، وليس لي من الخدم مثلهما. وقال خالد بن صفوان لمؤدب: أنت أنظفنا وصيفاً، وأحضرنا رغيفاً.
ذم التأديب وكونه نقصاً لذوي الفضل:
كلف اسمعيل بن عبد الله بن المقفع أن يجلس مع ابنه في كل أسبوع يوماً، فقال: أتريد أن أثبت في ديوان النوكي؟ وقال سعيد بن سلم: قصدت الكوفة فرأيت ابن المقفع فرحب بي وقال: ما تصنع ههنا؟ فقلت: ركبني دين فأحوجت إلى الإزعاج، فقال: هل رأيت أحداً؟ فقلت: ابن شبرمة، وعرفته حالي. فقال: أنا أكلم الأمين ليضمك إلى أولاده، فيكون لك نفع فقال: أف لذلك! أيجعلك مؤدباً في آخر عمرك أين منزلك؟ فعرفته فأتاني في اليوم الثاني وأنا مشغول بقوم يقرأون علي ومعه منديل، فوضعه بين يدي فإذا فيه أسورة مكسورة ودراهم متفرقة مقدار أربعة آلاف درهم، وحينئذ زمان المنصور وفي الدراهم ضيق فأخذت ذلك ورجعت به إلى البصرة واستعنت به. قال الشاعر:
كفى المرء نقصاً أن يقال بأنه ... معلم صبيان وإن كان فاضلاً
وقال آخر:
إن المعلم حيث كان معلم ... ولو ابتنى فوق السماء سماء
؟؟؟؟؟
وصايا المؤدبين في الأولاد:

أوصى هشام بن عبد الملك سليمان الكلبي لما اتخذه مؤدباً: إن ابني هذا هو جلدة ما بين عيني وقد وليتك تأديبه، فعليك بتقوى الله وأداء الأمانة فيه بخلال: أوّلها أنك مؤتمن عليه، والثانية أنا إمام ترجوني وتخافني، والثالثة كلما ارتقى الغلام في الأمور درجة ارتقيت معه، وفي هذه الخلال ما يرغبك في ما أوصيك به، أن أول ما آمرك به أن تأخذه بكتاب الله وتقرئه في كل يوم عشراً يحفظه حفظ رجل يريد التكسب به، ثم روّه من الشعر أحسنه، ثم تخلل به في إحياء العرب فخذ من صالح شعرهم هجاءً ومديحاً، وبصره طرفاً من الحلال والحرام والخطب والمغازي، ثم أجلسه كل يوم للناس ليتذكر. وقال عتبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده: ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاح نفسك فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنته، والقبيح ما استقبحته. علمهم كتاب الله، وروهم من الحديث أشرفه ومن الشعر أعفه، ولا تكرههم على علم فيملوه ولا تدعهم فيهجروه، ولا تخرجهم من علم إلى علم حتى يحكموه، فازدحام العلم في السمع مضلة للفهم. وعلمهم سير الحكماء وهددهم وأدبهم دوني، ولا تتكل على كفاية منك واستزدني بتأثيرك أزدك إنشاء الله تعالى. وضرب أبو مريم مؤدب الأمين والمأمون الأمين بعود فخدش ذراعه. فدعاه الرشيد إلى الطعام فتعمد أن حسر عن ذراعه، فرآه الرشيد، فسأله فقال: ضربني أبو مريم، فبعث إليه ودعاه قال فخفت، فلما حضرت قال: يا غلام وضئه. فسكنت وجلست آكل فقال: ما بال محمد يشكوك؟ فقلت: قد غلبني خبثاً وعرامة! قال: أقتله فلأن يموت خير من أن يموق.

الحث على تفقد المؤدب:
قيل: أولى من تبذل له ثراك من أفادك علاك وصقل حجاك؛ قال الشاعر:
إن المعلم والطبيب كلاهما ... لا ينصحان إذا هما لم يكرما
فاصبر لدائك إن جفوت طبيبه ... واصبر لجهلك إن جفوت معلما
ووقع الصاحب لبعض المؤدبة إلى من تقاعد بمشاهرته:
الكلب يرفع نفسه ... ويجلها مع خسته
من أن يفيت مؤدباً ... مستوجباً من أجرته
وسمع مؤدب يلقن صبياً، وإذا قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني لا تقصص رؤياك على أخوتك فيكيدوا لك كيداً، وأكيد كيداً فمهل الكافرين أمهلم رويداً. فقيل له: ما هذا؟ فقال: إن أباه يدخل مشاهرة شهر في شهر، وأنا أدخله من سورة إلى سورة لئلا يحصل على شيء كما لا أحصل أنا على شيء.
نوادر المعلمين فيما يقرأ عليهم الصبيان:
قرأ صبي على معلم، وإن عليك اللعنة يا شيخ! وأخذ يكرر ويقف فقال: عليك وعلى والديك. فقال الصبي: ليس فيه وعلى والديك لكنه عليك هل ألحقه به؟ وقرأ آخر على معلم: اخرج منها فإنك رجيم. فقال: ذلك أبوك الكشحان. وقرأ آخر على معلم: ما لنا في بناتك من حق. وأخذ يكررها كالمستفهم فقال: لا ولا كرامة لك.
نوادرهم فيما يقرأ عليهم من التصحيفات:
قرأ صبي على معلم: إني أريد أن أنكحك! فقال: هذا إذا قرأت على أمك القحبة. وقرأ آخر: عليها ملائكة غلاظ شداد يعصون الله ما أمرهم ولا يفعلون ما يؤمرون. فقال: هؤلاء أكراد لا ملائكة. وكان معلم يلقن صبياً " عبس وتولى " فكان يقول: أبس وتولى، فضربه المعلم فقال: عاه! حول العين من ههنا إلى ثم وخلصني. وقرأ آخر: وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصل. فقال: يا ابن الفاعلة، لعلك تشتهي البصيلة؟
ما وصف من لواط المعلمين:
وفد سعيد بن عبد الرحمن على هشام وهو صبي وضيء الوجه، فبعث به هشام إلى عبد الصمد مؤدب والده الوليد ليؤدبه، فراوده عن نفسه فخرج من عند المؤدب مغضباً، ودخل على هشام وهو يقول:
إنه والله لولا أنت لم ... ينج مني سالماً عبد الصمد
فقال: وما ذاك؟ فقال:
إنه قد رام مني خطة ... لم يرمها قبله مني أحدا
قال: وما ذاك؟ فقال:
رام جهلاً بي وجهلا بأبي ... يولج العصفور في خيس الأسدا
فطرد عبد الصمد عن داره. وحدث الأحيمر النحوي، وكان مؤدب الأمين: اتخذ عليه بعد حماد عجرد، وكان حماد اتخذ عليه بعد نفي قطرب، قال: كان سبب نفيه أن حماداً كان يتعشق! الأمين ويطمع أن يتخذ عليه مؤدباً، فلم يتأت له ذلك حتى استوى الأمر على قطرب، فاحتال حماد وكتب هذين البيتين وناولهما بعض الخدم على يد مجهول:

قل للأمير: جزاك الله صالحة ... لا يجمع الدهر بين السخل والذيب!
السخل غر، وهم الذيب غفلته ... والذيب يعلم ما في السخل من طيب!
فلما قرأهما الرشيد نفى قطربا واتخذ حماد عجرد، وجعل عليه ثمانين من الرقباء، فخاف قطرب لم وسم بهذه السمة فهرب إلى الكرج، والتجأ إلى أبي دلف فحسن حاله. ودخل المأمون ديوان أحمد بن يوسف فصادف حوله مرداً حساناً فقال:
أسد رابض حواليه أسد ... ليس ينجو من الأسود الظباء
وقال خلف الأحمر لمعلمه وهو في الكتاب، وقد راوده عن نفسه:
أتترك في الحلال مشق صاد ... وتأتي في الحرام مدا رميم؟

حماقة المعلمين:
قال يعقوب الدورقي: الله أعان على عرامة الصبيان بحماقة المعلمين. وقال سهل بن هارون: لم أر قاضياً ولا عدلاً معلم كتاب، لا في تافه حقير ولا في ثمين خطير. وقال الشاعر:
وكيف يرجى العقل والرأي عند من ... يروح على أنثى ويغدو على طفل؟
وقال آخر:
أنت ألحى معلم وطويل ... حسبنا ربنا ونعم الوكيل!
وقال الجاحظ:
المعلمون على ضربين، منهم من ارتفعوا عن أولاد العامة إلى تعليم أولاد الملوك والمرشحين للخلافة كالسائي وقطرب وحماد وعبد الصمد، فهؤلاء لا تجوز عليهم الحماقة، وإن لكل قوم حاشية وجهالاً وسفهاء.
ما وصف من ذكاء الصبيان وكيسهم في الكتاب:
قال مؤدب يزيد بن عبد الملك له: لم لحنت؟ فقال: الجواد يعثر. فقال المؤدب: إي والله ويضرب حتى يستقيم. فقال يزيد: وربما يرمح سائسه فيكسر أنفه. ويروى عن ابن السكيت قال: أحضرت لأتخذ على المعتز بالله فقلت له: بأي شيء نبدأ اليوم؟ فقال: بالخروج. فقلت: نعم. فعدا من بين يدي وعير على المرمر فقال:
يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل
فقلت للمتوكل: جئتم بي لتأديبه وهو آدب مني فأمر لي بعشرة آلاف درهم. قال أبو محمد يحيى وكان مؤدب المأمون في صغره: صليت يوماً قاعداً فأخطأ المأمون فقمت لأضربه. فقال: أيها الشيخ أتطيع الله قاعداً وتعصيه قائماً؟ فكتبت بهذا إلى الرشيد، فأمر لي بخمسة آلاف درهم. وحكي أنه بدر من أبي عمر الصباغ إلى الصاحب جفاء وكان مؤدبه، فقام من عنده وكتب إليه:
أودعتني العلم فلا تجهل ... كم مقول يجني على مقتل؟
وأنت إن علمتني سوقة ... والسيف لا يبقى على الصيقل!
فاتصل ذلك بأبي الحسين بن سعد فتعجب منه وكتبه، وقال: ابن ثمانين يكتب شعر ابن عشر، ثم تلا: وآتيناه الحكم صبياً.
أمارة نجابة الصبيان:
قيل لأعرابي: ما أمارة النجابة في صبيانكم؟ قال: إذا كان أعنق أشدق أحمق فأقرب به من السودد! وقال الزبرقان: أكيس صبياننا العريض الورك، السبط الغرة، الطويل الغرلة، الأبله العقول. وقال بزرجمهر لكسرى وعنده أولاده: أي أولادك أحب إليك؟ قال: أرغبهم في الأدب وأجزعهم من العار، وأنظرهم إلى الطبقة التي فوقه. وروى ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عرامة الصبي في صغره زيادة في عقله إذا كبر. وقال معاوية: طيروا الدم في وجوه الصبيان، فإن بدا في وجوههم الحياء وإلا فلا تطمعوا فيهم.
صبي استدل بعقله على كبر همته:
قيل: أول ما عرف من سودد خالد القسري أنه مر في بعض طرق دمشق راكباً وله عشر سنين، فوطىء فرسه صبياً فوقف عليه فرآه لا يتحرك، فانتهى إلى أول مجلس مر به فقال: إن حدث بهذا الغلام حدث فأنا صاحب الجناية ولم أعلم. ومر عمر رضي الله عنه بصبيان يلعبون، وفيهم عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، فعدا الصبيان ووقف عبد الله فقال له عمر: ما لك لا تذهب مع الصبيان؟ فقال: يا أمير المؤمنين لم أجن إليك فأخافك، ولم يكن في الطريق ضيق فأوسعه لك! فقال عمر: أي شيطان يكون هذا؟ وكان عبد الملك صغيراً فأربى عليه صبي فضربه فقيل له: لو شكوته إلى عمك لانتقم منه! فقال: أنا لا أعد انتقام غيري انتقاماً. وقال السري الرفاء يصف غلاماً بعلو الهمة:
لا تعجبن من علو همته ... وسنه في أوان منشاها
إن النجوم التي تضيء لنا ... أصغرها في العيون أعلاها

من تكلم عند الخلفاء وهو صغير فارتفع بذلك شأنه:
أوفد أبو موسى الأشعري زياداً على عمر رضي الله عنه، وكان يكتب له وهو حين بلغ، فلما جاء وجده من الكيس بمحل، فقال عمر: اعتزل عملك. فقال زياد: أعن خيانة؟ قال: لا ولكني أكره أن أحمل الناس فضل عقلك ومنطقك قال: إذاً لا أبالي! دخل محمد بن عبد الملك بن صالح على المأمون حين قبض على ضياعهم، وهو صبي أمرد، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. قال: من أنت؟ قال: سليل نعمتك وابن دولتك، وغصن من أغصان دوحتك، أتأذن لي بالكلام؟ قال: نعم. فتكلم بكلام حسن، فقضى حاجته. نظر المأمون إلى الحسن بن رجاء وهو صبي في ديوانه فقال: من أنت؟ قال: الناشىء في دولتك، المتقلب في نعمتك وتخريج أدبك الحسن بن رجاء. فقال المأمون: بالإحسان في البديهة تفاضلت العقول، وأمر برفعه عن محله. وفي بعض كتب الفرس أن كسرى أراد كاتباً لأمر أعجله فلم يوجد غير غلام صغير يصحب الكتاب، فدعاه فقال: ما اسمك؟ قال: مهرماه. قال: اكبت ما أملي عليك. فكتب قائماً أحسن من غيره قاعداً ثم قال له: أكتب في هذا الكتاب من تلقاء نفسك، ففعل وضم إلى الكتاب رقعة فيها: إن لحرمة التي أوصلتيني إلى سيدنا لو وكلت فيها إلى نفسي لقصرت أن أبلغ إليها، فإن رأى أن لا يحطني إلى ما هو دونها فعل. فقال كسرى: أحب مهرماه أن لا يدع في نفسه لهفة يتلهف عليها بعد إمكان الفرصة، وقد أمرنا له بما سأل. وذكر أن عمرو بن عتبة أعتق غلاماً له فقام إليه وصيف له فقال: اذكرني ذكرك الله، فاستصغره فقال: ويلك إنك لم تخرف بعد! فقال: إن النخلة قد تجتني زهواً قبل أن تصير معواً! قال: قاتلك الله قد استعتقت قد وهبتك لواهبك لي.
وصف بلادة الصبيان في التعلم:
كان معلم يضرب صبياَ فقيل له: لم تضربه؟ فقال: إنه يترك الصواب الهين ويأتي الخطأ الصعب، فإذا هو يقرأ " يا أيتها النفس المطمئنة " ويقرأ " فيؤخذ بالنواصي والأقدام " . وحكي أن مؤدباً ادعى أنه علم صبياً النحو والفرائض، فامتحنه أبوه فقال له: كيف تقول ضرب زيد عمراً؟ قال: كما تقول. فقال له: فما إعرابهما؟ قال: زيد وقع بفعله وما بقى فللعصية. وأمر آخر معلماً أن يعلمه الفرائض، فامتحنه يوماً فقال له: ما تقول في رجل مات وخلف ابنتين وابناً؟ فقال: أما الإبن فيسقط. فقال: نعم إذا كان مثلك. وسلم أشعب في البزازين فقيل له بعد سنة: إلى أين بلغت في معرفة البز؟ قال: أحسنت النشر وأرجو أن أتعلم الطي.
مما جاء في البلاغة وما يضادها
ما حد به البلاغة:
قيل: البلاغة ما اجتيازه فساده. وقيل: الإيجاز من غير عجز الإطناب من غير خطل. وسئل آخر فقال: أن لا تخطىء ولا تبطىء. وسأل المأمون الحسن بن سهل عن ذلك فقال: ما فهمته العامة ورضيته الخاصة. وسئل عند بعض اليونانيين فقال: تصحيح الأقسام واختيار الكلام. وسئل حكيم عن البليغ فقال: ما إذا أخذ شبراً كفاه وإن أخذ طومار أملاه.
ما حد به الإيجاز ووصفه:
سئل بعضهم فقال: اللمحة الدالة. قال جعفر بن يحيى البرمكي: إن استطعتم أن تكون كتبكم توقيعات فافعلوا. ووقع محمد بن طاهر أيام الفتنة إلى الكتاب: لتدقق الأقلام ويختصر الكلام، فالقراطيس لا ترام. وقيل: من أطال الحديث فقد عرض أصحابه للسآمة وسوء الإستماع. وقيل: الكلام إذا طال اختل، وإذا اختل اعتل. منصور الفقيه: ولا تكثرنّ فخير الكلام القليل الحروف الكثير المعاني.
وقيل: خير الكلام ما قل ودل ولم يطل فيمل.
كلمات موجزة:
ذكر ذلك يطول ولكن لابد من ذكر أحرف تكون أمثلة. سئل جعفر بن يحيى عن أوجز كلام فقال: قول سليمان عليه السلام، إلى ملكة سبأ " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، أن لا تعلوا علي وائتوني مسلمين " فجمع في ثلاثة أحرف العنوان والكتاب والحاجة وإظهار الدين، وعرض الرشاد إلى المكتوب إليهم. وكتب المعتصم إلى ملك الروم جواباً عن كتاب تهدده فيه: الجواب ما ترى لا ما تسمع، وسيعلم الكافر لم عقبى الدار، والسلام. وأمر المأمون عمرو بن مسعدة أن يكتب كتاب عناية موجزة فكتب: كتابي كتاب واثق بمن كتب إليه، معتنى بمن كتب له، ولن يضيع بن الثقة والعناية موصله.
الإيجاز والأطناب في محليهما:

قيل لأبي عمرو بن العلاء: لم كانت العرب تطيل؟ قال: ليسمع منها. قيل: فلم توجز؟ قال: ليحفظ عنها؛ وقد قال الشاعر في هذا المعنى:
يرمون بالخطب الطوال، وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء
وقال ابن قدامة: البلاغة ثلاثة مذاهب: المساواة وهي مطابقة اللفظ والمعنى لا زائداً ولا ناقصاً، والإشارة وهي أن يكون اللفظ كاللمحة الدالة، والتذييل وهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد، ليظهر لمن لم يفهمه ويتأكد عند من فهمه.
شاعر:
يكفي قليل كلامه وكثيره ... ثبت إذا طال النضال مصيب
وأمر يحيى بن خالد كاتبين أن يكتبا في معنى، فأوجز أحدهما وأطال الآخر، فقال للموجز، لما نظر في كتابه: لم أجد موضع مزيد، وقال للمطيل: لم أجد موضع نقصان. وقال جعفر ابن يحيى: إذا كان الإيجاز كافياً كان الإكثار هذراً، وإذا كان التطويل واجباً كان التقصير عجزاً.

استقباح إعادة الحديث:
قيل: الحديث الرجيع، كالحدث والرجيع. وقيل: إذا أعيد الحديث ذهب ضوؤه ورونقه. قال ابن السماك لجارية له تصغي إلى كلامه: كيف تجدين كلامي؟ قال: ما أحسنه إلا أنك تكثر ترداده! قال: إنما أردده ليفهمه من لم يفهمه! قالت: إلى أن يفهمه من لم يفهمه مله من قد فهمه. وقيل لرجل كلاماً لغبي: قد ثقل كلامك على الذكي، قبل حصوله في قلب الغبي.
ذم إطالة الحديث:
قيل: من أطال حديثه فقد عرض أصحابه للسآمة وطول الاستماع. وقال سقراط لرجل: أنساني أول كلامك بعد العهد بآخره، وفارق آخره فهمي لتفاوته. وخطب رجل خطبة نكاح، فأخذ يطيل فقام بعض الحاضرين فقال: إذا فرغ الخطيب فبارك الله لكم، فإني على شغل.
الموصوف بالفصاحة:
سمع أعرابي الحسن يتكلم فقال: هو فصيح إذا لفظ نصيح إذا وعظ. وقال:
ملقن ملهم فيما يحاوله ... جم خواطره جواب آفاق
وقيل: انتهت الفصاحة إلى أربع: علي وابن عباس وعائشة ومعاوية رضي الله عنهم. قال الشعبي: ما رأيت أحداً يتكلم فيحسن إلا أحببت أن يسكت، إلا زياد فإنه لم يخرج قط من حسن إلا إلى ما هو أحسن منه. وقال يحيى بن زياد: فلان أخذ بزمام الكلام فقاده أحسن مقاد، وساقه أحسن مساق، فاسترجع به القلوب النافرة واستصرف له الأبصار الطامحة. وقيل: كلام كنظم الجمان وروض الجنان، فكأنه من كل قلب ينظم.
أبو تمام:
من السحر الحلال لمجتنبه ... ولم أر قبله سحراً حلالاً!
الخنساء:
كأن كلام الناس جمّع حوله ... فأطلق في إحسانه يتخير
فضيلة اللسان:
قال العباس رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: فيم الجمال؟ قال: في اللسان. وقيل: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة. وذكره بعضهم فقال: لله دره من عضو ما أصغره وأكثر ضره ونفعه! وقيل: مروءتان ظاهرتان: الفصاحة والرباش.
موصوف لسانه بالصرامة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت رضي الله عنه: ما بقي من لسانك؟ فضرب به أرنبته وقال: والله لو وضعته على شعر لحلقه أو على صخر لفلقه! قال الله تعالى: سلقوكم بألسنة مداد. ووصف أعرابي رجلاً فقال: لسانه أدق من ورقة وألين من سرقة.
الغساني:
له بين فكيه لسان كأنه ... حسام دقيق الشفرتين عتيق
آخر:
وللسيف أشوى وقعة من لسانيا
آخر:
وحسبت أنه لسانه من عضبه
وصف كلام بالسلاسة:
قيل: لو كان الكلام طعاماً لكان هذا أداماً. كلام يقطر عسله. هذا والله نثر نغم أحسن من نثر نعم. كلام كالويل في المحل. وتكلم المأمون بكلام حسن في مسألة ثم قال لبعض ندمائه: كيف كان الكلام في هذه المسألة؟ قال: كان والله كغيث وقع على أرض عطشة. فقال: جوابك هذا أحلى لدي من الأمن بعد الخوف! المتنبي:
إذا ما صافح الأسماع يوماً ... تبسمت الضمائر والقلوب!
قال ابن المقفع: ما زالت ينابيع حكمه تترقرق في معابر الآذان حتى ملأت القلوب عقولاً، اللفظ لحسن إحدى النفاثات في العقد. وقيل في وصف كلام: إنه يحط الجندل ويثقب الخردل، وإنه دون السحر وفوق الشعر.
لفظ ساعد المعنى في الجودة:
مدح أعرابي رجلاً فقال: كأن ألفاظه قوالب لمعانيه. قال الشاعر:
تزين معانيه ألفاظه ... وألفاظه زائنات المعاني

وقيل: خير الكلام ما كان لفظه بكراً ومعناه فحلاً.
شاعر:
نرى حلل البيان منشرات ... تخير وسطها صور المعاني

مدح كلام وسط:
خير الكلام ما لا يكون عامياً سوقياً، ولا عربياً وحشياً. وقيل: الإيغال في البلاغة معجزة، والخروج عن كلام أهل الزمان هجنة. قال أبو الأسود الدؤلي لابنه: يا بني إذا كنت في قوم فلا تتكلم بكلام من لم يبلغه سنك فيستثقلوك، ولا بكلام من هو دونك فيستحقروك.
مفاضلة الرواية والبديهة:
قال معاوية لعمرو بن العاص: أنا آدب منك! فقال: أنت للروية وأنا للبديهة، وبينهما بون.
ابن الرومي:
نار الروية نار غير منضجة ... وللبديهة نار ذات تلويح
وقد يفضلها قوم لعاجلها ... لكنه عاجل يمضي مع الريح
فضل البديهة وما يحاضر به:
قيل: خير الفقه ما حضرت به، ولا خير في علم لا يعبر معك الوادي، ولا يعمر بك النادي.
الحطيئة:
فهذا بديه لا كتجيير قائل ... إذا ما أراد القول روده شهرا
المتنبي:
أبلغ ما يطلب النجاح به ... الطبع وعند التعمق الزلل
النهي عن التشادق والتقعر وذمهما:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفقهون المتشدقون " وقال صلى الله عليه وسلم: " إياك والتشادق " . وقال بشر بن المعتمر: إياك والتقعر فإنه يسلمك إلى التعقيد فيستهلك معانيك ويمنعك من مراميك. وقال: تشقيق البيان من شقاشق الشيطان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " شعبتان من النفاق، البذاء والبيان، وشعبتان من الإيمان، الحياء والعي " . وهذا إنما هو لمن جاوز المقدار أو قصر عنه. وكفاك ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله يبغض البليغ يتخلل بلسانه تخلل البقرة بلسانها؛ وأنشد العجاج:
أمسى الغواني معرضات صددا
وأعرابي حاضر فقال: تنح عن سنته وإلا تسقط منه كلمة فتشدخك. وما أجود ما قال ابن أبي طاهر:
إن خير الكلام ما ليس فيه ... عند من يفهم الكلام كلام
ذم عي متقعر:
قيل: أعيا العي بلاغة بعي. محمد بن وهيب:
تشبهت بالأعراب أهل التعجرف ... فدلّ على مثواك قبح التكلف
لسان عرابي إذا ما صرفته ... إلى لغة الأعراب لم يتصرف
وقال أبو الأسود لابن صديق له: ما فعلت امرأة التي كانت تساره وتضاره وتماره؟ فقال: طلقها فتزوج بها فلان فحظيت وبظيت. فقال أبو الأسود: ما معنى بظيت؟ فقال: كلام لم تدر من أي بيض خرج وفي أي عش درج. فقال: إن ما لا أعرفه فأخبأه كما تخبأ الهرة خرءها.
من ارتكب أمراً طلباً للسجع:
خرج عبادة إلى عبادان فقيل: ما الذي جاء بك؟ فقال: لأجمع بين عبادة وعبادان. وكان علي بن رستم خرج إلى بغداد وأسلم فكتب إلى أهله: كتابي إليكم من مدينة السلام عن سلامة وإسلام. فقال: أخوه ما خرج أخي وأسلم إلا طلب أن يكتب هذه المسجعة.
ما حد به العي وذمه:
قال أكثم: العي أن تتكلم بفوق ما تقتضيه حاجتك. وقيل: العي معنى قليل يحويه لفظ كثير. وقيل: العي داء دواؤه الحرس. وقيل: لا عي ولا شلل. وتكلم رجل عند معاوية وكان ذا عي فقال عمر: وسكوت إلا لكن نعمة! فقال معاوية: وكلام الأحمق نقمة! قال النمر بن تولب:
أعذني رب من حصر وعي ... ومن نفس أعالجها علاجا
الآفات المعترضة للسان من العي:
اللثغة تغيير في القاف والسين واللام والراء، والتمتمة التتعتع في التاء، والفأفأة في الفاء، واللفف إدخال حرف في حرف؛ وإياه عنى الشاعر بقوله:
كأن فيه لففا إذا نطق
والتلجلج يقارب ذلك، والحبسة ثقل في الكلام، والعقله اعتقال اللسان، والحكلة نقصان آلة النطق حتى لا تعرف معانيه إلا باستدلال، وأصله في الفحل إذا عجز عن الضراب. وقيل: لا يصفو كلام من يكون منزوع الثنيتين.
ما يعرض في بعض اللغات من العي:
كشكشة تميم وهو قلب كاف المؤنث شيئاً نحو:
فعيناش عيناها وجيدش جيدها
وكسكسة بكر وهي قلبها سيناً، وعنعنة تميم كقوله: ظننت عنك ذاهب. والعجرفة جفاء في الكلام، واللخلخانية تعرض في أعراب الشحر وعمان، والطمطمانية لغة في حمير كقولهم طاب امهواء أي طالب الهواء.
استعمال كل كلام مع الجنس المخصوص به:

قيل: الكلام بذلة ومدخر، فمن تكلم وقت البذلة بالمدخر أتعب نفسه، ومن تكلم وقت المدخر بالبدلة هجن نفسه.
من خاطب عامياً بتفاصح وتذلق:
اشترى رجل من أصحاب يعقوب الكندي جارية، فاغتاظت عليه فشكاها إلى يعقوب فقال: جئني بها لأعظها. فجاء بها إليه فقال: يا لعوبة ما هذه الاختيارات الدالات على الجهالات؟ أما علمت أن فرط الاعتياصات من الموبقات على طالبي المودات، الباذلين الكرائم المصونات موذنات بعدم المعقولات؟ فقالت الجارية: أما علمت أن هذه العثنونات المنتشرات على صدور أهل الركاكات محتاجات إلى المواسي الحالقات؟ قال يعقوب: لله درها فلقد قسمت الكلام تقسيماً فلسفياً فاشدد يديك بها! فلم يستوحش من سفاهتها لما أوردت الكلام مسجعاً موزوناً. وقال نحوي لصاحب بطيخ: بكم تانك البطيختان اللتان بجنبهما السفرجلتان ودونهما الرمانتان؟ فقال: بضربتان وصفعتان ولكمتان، فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ وصار أبو علقمة إلى كواز فقال: أعندك جرة لا فقداء ولا دناء، ولا مغربلة الجوانب، خضرة نضرة قد مستها النار، إن نقرت عليها طنت، وإن أصابتها ريح غنت، ولكن بدرهم. فقال الكواز: دعني من شتمك يا ماص بظر أمة!

الأحوال الدالة على العي:
من العي البهر وفتل الأصابع ومس اللحية. ولذلك قال:
ملى ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع
وقال ابن المقفع: من علامة العي النكث في الأرض والإطراق من غير فكرة.
المحتبس في كلامه:
شاعر:
كان في فيه لقمة عقلت ... لسانه فالتوى على حنق
محرك رأسه توهمه ... قد قام من عطسة على شرق
وقال آخر:
كأن فيه لففاً إذا نطق ... من طول تحبيس وهم وأرق
وقال آخر:
ديافية قلف كأن خطيبهم ... سراة الضحى في سلحه يتمطق
ويقال: هو عياياء طباقاء.
اعتذار محتبس في كلامه:
قال بعضهم: نحن حي فعال ولسن بحي مقال، ونحن بأدنى مقالنا عند أحسن فعالهم. وقال بعض وفد خراسان: إنا ببلاد نأت عن العرب شغلتنا الحرب عن الخطب. واعتذر رجل لحبسة فقال: يعزب البيان ويعتقم الصواب، وإنما اللسان مضغة من الإنسان، يفتر بفتوره إذا نكل ويثوب بانبساطه إذا ارتجل. وقيل لأعرابي: أين فصاحتك؟ قال: لحقت بمواطنها بنجد. شاعر:
إرفق بعبدك إن فيه بلادة ... جبلية، ولك العراق وماؤه
المقام الذي لا يستنكف فيه من العي والحصر:
سئل ابن داود متى يكون البليغ عيباً؟ فقال: إذا سأل عما يتمناه وشكاه حبه إلى من يهواه. ثم أنشد:
بليغ إذا يشكو إلى غيره الهوى ... وإن هو لاقاه فغير بليغ
وقال بعضهم: موطنان لا آنف من الحصر فيهما: إذا شكوت إلى محبوبي عشقي، وإذا سألت حاجة لنفسي.
المحسن في كلامه ابتداء والمسيء انتهاء:
تكلم ابن ثوابه ثم غلط في آخره. فقال أبو العيناء: ترفعت حتى خفتك ثم تخفضت حتى عفتك. وتكلم رجل فأحسن ثم أعاد فأساء. فقال له أعرابي: إنك تسترجع محاسنك.
وصف كلام غير مفهوم:
قال الله تعالى حكاية عن فرعون: " أم أن خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين " .
قال الشاعر:
قلت لما بدا يجمجم في القو ... ل ويهذي كأنه مجنون
أنت حقاً شبيه ما ذكر ... الله مهين ولا يكاد يبين
محمد بن صالح:
يهوى إلي بأقوال يلفقها ... فلا أعي منه شيئاً وهو يسمعني
يلقى صداي صفير الطير من فمه ... مخاطباً وهو إنسان يكلمني
المستقبح إنشاده:
قال عبد الله بن معاوية:
يزين الشعر أفواه إذا نطقت ... بالشعر يوماً وقد يذري بأفواه
أبو خليفة:
كأن الشعر من فيه إذا تمت ... قوافيه كنيف قد خري فيه
ذم من يطول سكوته عيا:
قال الشاعر:
يا صنماً في الصمت لا في الحسن
ووصف رجل آخر فقال: يصلح لصدور المجالس ونظم المحافل ما لم يكن كلام.
كلمات لأهل العي:

قال الحجاج لأبي الجهمة النخاس: أتعيب الدواب المعيبة من جند السلطان؟ فقال: شركتنا في هوازها وشركتنا في مدانيها، وكما يجيء يكون. قال الجاحظ: طلبت بعض أصدقائي في داره فلم أجده، فقلت لجاريته: إذا حضر صاحبك فقولي له إن الجاحظ كان بالباب. قال: نعم الجاحد بالباب! قلت: قولي الحدقي. قالت: نعم الجلقي. فقلت: عليك بالأول!

المتكلم بكلام غير متسق:
دق رجلان على باب نحوي فقيل: من؟ فقال أحدهما: أنا الذي اشترى عبد الله كلم الآجر، وقال الآخر: أنا الذي أبو يعقوب الجصاص عقد طاق باب هذه الدار. فقال صاحب الدار: انصرفا فما أرى لكلاميكما صلة. وقال رقبة بن مصقلة: ما أعجزني شيء كما أعجزني رجل قام إليّ يوماً وقد دخلت المسجد فقال: إني رأيتك فشبهتك بي فأعجبني ذلك لك وأنا فيه متفكر بعد، ولا أدري ما معنى كلامه!
من جارى غيره فلحن فأجابه بمقتضى كلامه:
قال رجل أعرابي: كيف أهلك! قال: صلباً؛ أراد كيف أهلك. وقال الوليد لرجل: من ختنك؟ قال: الحجام! فضحك القوم وخجل الوليد؛ وإنما أراد أن يقول من ختنك. ومر رجل بدار ميت فقال: من المتوفي؟ قال له رجل: الله. فقال له: يا كافر، الله يموت؟ فقال: لعلك تريد المتوفّى؟
من سئل عن نحو فأجاب بمقتضى اللغة:
قيل لرجل: هل ينصرف إسماعيل؟ قال: نعم إذا صلى العشاء فما قعوده؟ وتعرض بعضهم للطائي حين أنشد:
وهن عوادي يوسف وصواحبه
فقال: إن يوسف لا ينصرف. فقال: اصفعه حتى ينصرف! وقال نحوي لأعرابي قال: أعجبني القصر، بم يرفع القصر؟ فقال: بالآجر والجص. وقيل لأعرابي: أتجر فلسطين؟ فقال: إني إذاً لقوي! فقيل: أتهمز إسرائيل؟ فقال: إني إذاً رجل سوء! وقيل: أتهمز الفأرة؟ فقال: الهرة تهمزها. وحكي أن جماعة عند محمد بن بحر اختلفوا في بناء سراويل، فدخل البرقي فقال: فيم كنتم؟ فقالوا: في بناء سراويل فما عندك فيه؟ قال: مثل ذراع البكر أو أشد. وحكي أن أبا سعيد السيرافي سأل أبا الحسن الموسوي وهو صغير: إذا قلت رأيت عمراً فما علامة النصب فيه؟ فقال: بغضه لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه!.
من أنكر لحناً بنادرة:
مر رجل بأديب فقال: كيف طريق البغداد؟ قال: بالحذاء. ثم مر به آخر فقال له: كيف طريق كوفة؟ فقال: من ههنا، وبادر مع ذلك المار ألف ولام تحتاج إليهما، وهو مستغن عنهما فخذهما منه! وقال رجل لأبي العيناء: أتأمر بشيأ؟ فقال: نعم بتقوى الله وحذف الألف من شيأ. وكان رجل يسقي صديقاً له صرفاً ويغني له:
يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة ما بين الأنف والعين سالم
فقال: أحب أن تجعل ماك من البيت في القدح.
من اعتذر عن لحنه بعذر مستملح:
قصد رجل الحجاج فأنشده:
أبا هشام ببابك ... قد شم ريح كبابك
فقال: ويحك لم نصبت أبا هشام؟ فقال: الكنية كنيتي إن شئت رفعتها وإن شئت نصبتها! وكتب محمد الأمين فيما أظن، على ظهر كتاب:
عشقت ظبياً رقيقاً ... في دار يحيى بن خاقا
وكتب تحته: أردت خاقان، وخاقان مولى لي إن شئت أنبت نونه وإن شئت أسقطته. وقال رجل لآخر: ما اشتريت؟ قال: عسل. فقال: هل لا زدت في عسلك ألف؟ فقال: وأنت هلا زدت في ألفك ألفاً؟
من أنكر لحناً بطبعه:
سمع أعرابي مؤذناً يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، بالنصب. فقال الأعرابي فعل ماذا؟ فهذا علم بطبعه أنه لم يأت بخبر أن. وسمع رجل آخر يقرأ: وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر، بفتح الكاف والفاء، فقال: لا يكون هذا. فقالوا: كفر! فقال: أم هذا فنعم.
المتأذى بلحنه:
قدم رجل على زياد فقال: إن أبونا مات، وأخينا وثب على مال أبانا فضيعه! فقال زياد: الذي وضيعته من لسانك أضر عليك مما ضيعه أخوك من مالك! ومر عثمان رضي الله عنه برماة يسيئون الرمي فقال: ما أسوأ رميكم! فقال بعضهم: نحن متعلمين! فقال: كلامكم أسوأ من رميكم! ودخل الخليل على مريض نحوي وعنده أخ له فقال للمريض: افتح عيناك وحرك شفتاك؛ إن أبو محمد جالساً. فقال الخليل: أرى أن أكثر علة أخيك من كلامك! وسمع الأعمش إنساناً يلحن فقال: من هذا الذي يتكلم وقلبي منه يتألم؟
المتفادى في كلام الكبار عن كلام فيه إيهام:

دخل سعيد بن مرة على معاوية فقال له: من أنت؟ فقال: أنت سعيد وأنا ابن مرة. وقال السفاح للسيد الحميري: أنت السيد! قال: أنا ابن أبي وأمير المؤمنين هو السيد! وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن سعد: أنت أكبر أم أنا؟ فقال رسول الله أعز وأكبر، وأنا أقدم منه في المولد! وقال عمرو بن عثمان لطويس: أينا أسن، فقال: لقد شهدت زفاف أمك المباركة على أبيك الطيب، فلم يجعل الطيب صفة للأم تفادياً من سوء ظن فيه.

وفي ضد ذلك:
ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرجل: أتبيع هذا الثوب؟ فقال: لا عافاك الله. فقال: لقد علمتم لو تعلمون قل لا وعافاك الله. وتكلم بعض أهل زماننا عند الصاحب سأله عن شيء فقال: لا أطال الله بقاءك. فقال: قل لا وأطال الله بقاءك، فقال بعضهم: ما رأينا واواً أحسن موقعاً من واوك!
مما جاء في مفاضلة النطق والسكوت والمقال والسماع
تفضيل النطق على السكوت:
قيل لزيد بن علي: الصمت خير من الكلام. فقال: لعن الله المساكتة فما أفسدها للسان، وأجلبها للحصر والله المماراة أسرع في هدم العي من النار إلى يبيس العرفج. واختصم رجلان إلى سعيد ابن المسيب في النطق والصمت فقال: بماذا أبين لكما ذلك؟ فقالا: بالبيان، فقال: إن الفضل له وقيل لبعضهم: الصمت مفتاح السلامة. فقال: ولكنه قفل الفهم. قال الشاعر:
خلق اللسان لنطقه وبيانه ... لا للسكوت، وذاك حظ الأخرس
فإذا جلست فكن مجيباً سائلاً ... إن الكلام يزين رب المجلس
الحث على الإكثار من الكلام:
قال حكيم: لولا سوء العادة لأمرت فتياني أن يماري بعضهم بعضاً. وقال العتابي: أقدر الناس على الكلام من عود لسانه الركض في ميادين الألفاظ. طول الصمت حبسة وترك الحركة عقلة.
أبو عطاء:
أقلبه كيلا يكل بحبسة ... وأبعثه في كل حق وباطل
تفضيل الصمت:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " رحم الله عبداً صمت فسلم أو قال خيراً فغنم؛ فجعل الصمت أفضل لأن السلامة أصل والغنيمة فرع. قال الشاعر:
أقلل كلامك واستعذ من شره ... إن البلاء ببعضه مقرون
وقال آخر:
مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام
تفضيل كل واحد منهما في أوانهما والتمدح بهما:
قيل لبعضهم: السكوت أفضل أم النطق؟ فقال: السكوت حتى يحتاج إلى النطق، فإذا احتيج إلى النطق فالسكوت حرام. وقيل ليونس بن حبيب: السكوت أفضل أم الكلام؟ فقال: السكوت عن الخنا أفضل من الكلام بالخطأ. وقيل: الضراط في أوانه خير من الكلام في غير زمانه.
قال الشاعر:
والصمت أزين بالفتى ... من منطق في غير حينه
وقيل: ربما كان الصمت أبلغ من الإبلاغ في النطق مع عدم إصابة الفرصة.
ابن الرومي:
ناهيك من صمت بلا عي به ... وكذاك من لسن بغير سفاه
ملكت سكينته عليه أمره ... فكأنه ساه وليس بساه
ابن علقمة:
صموت في المجالس غير عي ... جدير حين ينطق بالصواب
ذم الإكثار من الكلام:
قيل: من أكثر أهجر المكثار كحاطب الليل. من أطلق لسانه بكل ما يحب كان أكثر مقامه حيث لا يحب.
الجريمي:
وخير حال الفتى في القول أقصدها ... بين السبيلين لا عي ولا هذر
وقال إياس لخالد بن صفوان: لا ينبغي أن نجتمع في منزلك، لأنك تحب أن لا تسكت، وأنا أحب أن لا أسمع.
الحث على ترك فضول الكلام:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " رحم الله من أمسك الفضل من قوله " . قال عبد الله بن الحسين لابنه: استعن على الكلام بطول الفكر في المواطن التي تدعو نفسك إلى الكلام. فإن للقول ساعات يضر خطؤها ولا ينفع صوابها. وقيل: من حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. وقال عبد الله بن طاهر لبعض منادميه: يا هذا أما أقللت فضولك أو أقللت دخولك؟ وقيل: فضل النظر يدعو إلى فضل القول.
الحث على السكوت مطلقاً:
قيل: إن كانت العافية من مالك فسلط السكوت على لسانك. الصمت داعية المحبة. الصمت زين العاقل وستر الجاهل.
قال الشاعر:
لو كان من فضة تكلم ذي النطق لكان السكوت من ذهب
الحث على تدبر الكلام قبل إيراده:

قال الحسن: لسان العاقل من وراء قلبه. فإذا أراد الكلام رجع إليه، فإن كان له تكلم به وإلا تركه، ولسان الجاهل قدام قلبه يتكلم بما عرض له. وقيل: من لم يخف الكلام تكلم، ومن خافه تبكم قال الشاعر:
تأمل فلا تستطيع رد مقالة ... إذا القول في زلاته فارق ألفما
وقال بعضهم: ذر الرأي الفطير والكلام القضيب فلا يطيب الخبز إلا بائتاً.

التحذير من جناية اللسان:
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: الأجوفان البطن والفم. وقيل فيما روي عنه: وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟ وكان لقمان عبداً أسود لبعض أهل الأيلة فقال له مولاه: اذبح لنا شاة وائتنا بأطيب مضغة فأتاه باللسان، فقال له: اذبح لي أخرى وائتني بأخبث مضغة. فأتاه باللسان، فقال له في ذلك فقال: ما شيء أطيب منه إذا طاب، ولا أخبث منه إذا خبث. وقيل: لم يستر من الجوارح شيء كما ستر اللسان فإن عليه طبقتين وسترين. وقيل لحذيفة: لم أطلت سجن لسانك؟ فقال: لأنه غير مأمون الضرر إذا أطلق. وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه كان يمسك بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد. قال الشاعر:
كم في المقابر من قتيل لسانه ... كانت تهاب لقاءه الأقران؟
متكلم بكلام أدى إلى هلاكه:
بينما المنذر في بعض متصيداته إذ وقف على رابية فقال بعض أصحابه: أبيت اللعن، لو أن رجلاً ذبح على هذا الرابية إلى أي موضع عسى أن يسيل دمه؟ فقال: أنت والله المذبوح لننظر ذلك، وأمر به فذبح. ومر ببهرام طائر بالليل فصاح، فرماه بسهم فأصابه فقال: لو سكت الطائر لكان خيراً له.
التثبت في الجواب والتسرع فيه:
سأل يهودي النبي صلى الله عليه وسلم مسألة فمكث عليه السلام ساعة ثم أجابه عنها، فقال اليهودي: ولم توقفت فيما علمت؟ قال: توقيراً للحكمة. وقيل: من إمارة الحكيم التروي في الجواب بعد استيعاب الفهم. وقيل: من علامة الحمق سرعة الجواب وطول التمني، والإستغراب في الضحك، وقال رجل لاياس: ليس فيك عيب غير أنك تعجل بالجواب؟ فقال: كما أصبع في يديك؟ فقال الرجل: خمس، فقال: لقد عجلت أيضاً، فقال: هذا علم قد قبلته، فقال إياس: وأنا أعجل أيضاً في ما قد قبلته علماً.
الحث على حسن الإستماع والممدوح به:
قيل: تعلم حسن الإستماع كما تتعلم حسن المقال، ولا تقطع على أحد حديثاً. وقيل: استمع فسوء الإستماع نفاق. وقيل: للسائل على السامع ثلاثة أمور: جمع المال، وحسن الإستماع، والكتمان لما يقتضي الكتمان. وقيل: أساء سمعاً فأساء إجابة. وقال فيلسوف لتلميذ له: أفهمت؟ قال: نعم. قال: كذبت، لأن دليل الفهم السرور ولم أرك سررت؟ وقيل: نشاط القائل على قدر فهم السامع. وقيل: من سعادة القائل أن يكون المستمع إليه فهيماً. وقيل: فلان في الإستماع ذو أذنين، وفي الجواب ذو لسانين.
قال الشاعر:
إذا حدثوا لم يخش سوء استماعهم ... وإن حدثوا قالوا بحسن بيان
وقال رجل: أذني قمع لمن يحدثني.
النهي عن محادثة من ساء استماعه:
قيل: من لم ينشط لاستماع حديثك فارفع عنه مؤنة الإستماع. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: حدث الناس ما حدجوك بأسماعهم ولحظوك بأبصارهم، فإذا رأيت منهم إعراضاً فأمسك. وقيل: لا تطعم طعامك من لا يشتهيه. وقيل: حدث حديثين امرأة، فإن لم تسمع فأربع أي كفّ.
الحث على ازدياد السمع على المقال:
سمع بقراط رجلاً يكثر من الكلام فقال له: إن الله تعالى جعل للإنسان لساناً واحداً وأذنين ليسمع ضعف ما يقول.
تفضيل السماع على المقال:
كان أعرابي يجالس الشعبي فأطال الصمت، فسأله عن ذلك فقال: أسمع فأعلم، وأسكت فأسلم. وقيل لأعرابي: لم لا تتكلم؟ فقال: حظ لسان الرجل لغيره وحظ سمعه له. وقال محمد بن المنكدر: لأن أسمع أحب إلى من أن أنطق، لأن المستمع يتقي ويتوقى.
الحث على التصامم عن الخنا والتمدح به:
محمود الوراق:
وسمعك صن عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن النطق به
أبو تمام:
أذن صفوح ليس يفتح سمها ... لدنيئة وأنامل لم تقفل
وقال آخر:
فتى عزت عنه الفواحش كلها
وقال آخر:
عي عن الفحشاء أما لسانه ... فعف، وأما طرفه فكليل
الموسوي:

إذا العدو عصاني خاف حديدي ... وعرضه آمن من هاجرات فمي
وله أيضاً:
ولا أعرف الفحشاء إلا بوصفها ... ولا أنطق العوراء والقلب يعرب

مما جاء في المذاكرة والمجادلة
فضل المذاكرة في العلوم: قال الله تعالى: وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقحوا عقولكم بالمذاكرة، واستعينوا على أموركم بالمشاورة. وقال ابن المقفع: لا تخل قلبك من المذاكرة فيعود عقيماً، ولا تعف طبعك من المناظرة فيعود سقيماً. وقال الحسن رضي الله عنه: حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور. وقال المأمون: لاتتقد مصابيح الأذهان إلا بصفو مواردها. وقيل: من أكثر مذاكرة العلماء لم ينس ما علم واستفاد ما لم يعلم.
المستكثر بمناظرته الفائدة: قال رجل لآخر: مناظرة مثلك في الدين فرض،والاستماع منك أدب، ومذا كرتك تلقيح للعقل. وقال عمر بن عبد العزيز: ما كلمني أسديّ إلا تمنيت أن يمد في حجته لتكثر منه فائدتي.
الممدوح بإجادة المناظرة: مدح أعرابي رجلاً فقال: يفتح ببيانه منغلق الحجة، ويسد على خصمه واضح المحجة. وقيل: أورد فلان ما لا ينكره الخصم ولا يدفعه الوهم، وما رأيت أسكن نوراً وأبعد غوراً وآخذ بإذن حجة منه.
قال الشاعر:
إذ قال بذّ القائلين مقاله ... ويأخذ من أكفائه بالمخنق
العجير:
من النفر المدلين في كل حجّة ... بمستحصد من حوله الرأي محكم
وقال آخر:
يتقارضون إذا التقّوا في مجلس ... نظراً يزل مواقع الأقدام
كان ذلك من قول الله تعالى: وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم.
البحتري:
أحضرته حججاً لو اجتلبت بها ... عصم الجبال لأقبلت تتنزّل
أبو مسلم:
يجوب ضباب معاني الكلام ... بحذف الصّواب لدى المجمع
وقال بشر بن المعتمر لأبي الهذيل عند المأمون بعد مناظرة كانت بينهما: كيف رأيت وقع سهمي؟ فقال: حلوة كالشهد، ولينة كالزبد، فكيف ترى سهامنا؟ فقال: ما أحسنت بها! قال: لأنها لاقت جماداً! صعوبة الجدال: قال ابن الراوندي:ما التصدي للحراب والقضاب ومبارزة الأبطال بأصعب من التصدي للجواب لمن أمك بالسؤال. وقال: تحت كل لم أسد ملم.
نظر يزل مواقع الأقدام: وسئل الشعبي عن مسألة فقال: زيادات وبر لاينساب ولا تنقاد، لو نزلت بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: لأعضلت.
الدافع باطل خصمه بحقه: قيل: لا تدفع الباطل بالغلبة إذا أمكنك أن تدفعه بالحجة. وقال ابن عباس: عجباً لمن يطلب أمراً بالغلبة، وهو يقدر عليه بالحجة، فالحجة دين يعقد به الطاعة، وسلطان الغلبة يزول بزوال القدرة.
وقال ثعلبة:
ولرب خصم جاحدين ذوي شذا ... تقذي صدورهم بهر هاتر
لقد ظأرتهم على ما ساءهم ... وخسأت باطلهم بحق ظاهر
وقال آخر:
ألا رب خصم ذي فنون علوته ... وإن كان الوى يشبه الحق باطله
وهذا معنى قول العتابي: البلاغة تصوير الباطل في صورة الحق.
المشاغب من يشاغبه: أبو الأسود:
فشاغبته حتى ارعوى وهو كاره ... وقد يرعوي ذو الشغب بعد التّحامل
فإنك لم تعطف إلى الحق جائراً ... بمثل خصيم عاقل متجاهل
وقال آخر:
وما خصم الأقوام من ذي خصومه ... كمثل بصير عالم متجاهل
القائم في المناظرة مقام الغيب:
شاعر:
ومشهد قد كفيت الغائبين به ... في مجمع من نواصي الناس مشهود
فرجته بلسان غير ملتبس ... عند الحفاظ، وقلب غير مردود
وقال حسان:
كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع ... لذي حاجة في القول جداً ولا هزلاً
الموصوف بإنصاف النظار لديه والسكون في مجلسه:
أبو تمام:
ثبت الخطاب إذا اصطكّت بمظلمة ... في رحله ألسن الأقوام والركب
لا المنطق اللخي يزكو في محافله ... يوماً ولا حجّة الملهوف يستلب
المتنبي:
الفاصل الحكم عيّ الأولون به ... ومظهر الحق للساهي على الذهن
وكان أبو الشمر إذا ناظر لم يحرك يديه ولا رأسه ولا منكبيه، حتى كأن كلامه يخرج من صدع صخره.
وقال الأنصاري:

مجالسهم خفض الحديث وقولهم ... إذا ما قضوا في الأمر وحي المحاجر
المتنبي:
وإذا هو لا يستبّ خصمان عنده ... ولا الصوت مرفوع بجدّ ولا هزل
وهذا منقول من قول الآخر:
واستبّ بعدك يا ... كليب المجلس

المدفوع عن حجة قوية لا تعرف لغموضها:
قال ابن الرومي:
غموض الحق حين تذب عنه ... يقلل ناصر الحق المحق
يضل عن الدقيق عقول قوم ... فتحكم للمجلّ على المدقّ
وقيل: ما دق من الكلام يعجز عنه كثير من الأنام فينسب إلى الإحالة، وإن كان في غاية الجلالة. ولذلك قال أبو تمام:
فصرت أذلّ من معني دقيق ... به فقر إلى فهم جليل
مدح الراجع إلى الحق في المناظرة:
قال عمر رضي الله عنه: الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. وقيل: المبطل مخصوم وإن خصم، والمحق فالج وإن خصم. وقال عمر رضي الله عنه يوماً: أيها الناس ما هذه الصدقات التي أحدثتم لا يبلغني أن أحداً تجاوز صداق النبي صلى الله عليه وسلم: إلا استرجعته منه؟ فقامت إليه امرأة فقالت: ما جعل الله ذلك إليك يا ابن الخطاب، إن الله تعالى يقول: " وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً! فقال عمر: أما تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت، ناضلت أميركم فنضلته؟ وقال الشعبي: إني لأستحي أن أعرف الحق فلا أرجع إليه. وقيل: لم ير أذعن للحجة إذا لزمته من عمرو بن عبيد.
المستمر على خطئه وقد بان له الصواب:
قال عمارة: إني لأمضي على الخطأ إذا أخطأت أهون علي من نقض وإبرام في مجلس واحد.
وقال بعضهم: نعم المركب اللجاج بعد الحجاج.
ذم من تشكك في الضروريات:
قيل: من شك في المشاهدات فليس بتام العقل.
المتنبي:
وليس يصح في الأفهام شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
حكى المتكلمون أن جماعة يلقبون السوفسطائية يقولون: لا نعرف لشيء حقيقة. ويقولون: لما كان أحدنا يرى الشيء في رقدته فيتصور له بصورة ما يشاهده في يقظته ونرى الصورة في الماء ثم لا حقيقة لها، لم يمتنع أن لا يكون لما نعانيه ونشاهده حقيقة. وذكر بعض العلماء: أنه لم يكن قط على هذه الصفة أحد، وإن السوفسطائية إنما هو شيء من توليدات المتكلمين ومنحولاتهم.
ذم القاصر عن المناظرة:
قال الله تعالى: " أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين " ؟ وقيل لبعضهم: كيف رأيت فلاناً في المناظرة؟ فقال: عيياً غبياً. وقال ابن أبي الطاهر في المبرد:
يفر من المناظر إن أتاه ... ويرمي من رماه من بعيد
ونحوه ما قيل: فلان إذا تباعد ضبح ضبوح الثعلب، وإذا حضر قبع قبوع القنفد.
ذم المراء في المناظرة:
روي في الحديث: من تعلم العلم لأربعة دخل النار: ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يأخذ به من الأمراء، أو يستميل به وجوه الناس إليه. قال ابن عباس لمعاوية رضي الله عنهما: هل لك في مناظرتي في ما زعمت؟ قال: وما تصنع بذلك فأشغب بك وتشغب بي، فيبقى في قلبك ما لا ينفعك ويبقى في قلبي ما يضرك. وقيل: الناس رجلان: عالم فلا تماره، وجاهل فلا تجاره.
زيد بن جندب:
ما كان أغنى رجالاً ضل سعيهم ... عن الجدال وأعناهم عن الشغب!
وقيل: إذا تشاجرت الخصوم طاشت الحلوم، ونسيت العلوم. وقيل: من ترك المراء فهم وعلم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما ضل قوم بعد إذ هداهم الله إلا بالجدل " . وقال سفيان: ما ابتدع قوم إلا أعطوا الجدل. الحث على السؤال على غير تعنت: قيل إذا جالست عالماً فسل تفقهاً لا تعنتاً وقال مسهر: سألت مالكاًعن شيء فقال: لا تسألني عما لا تريد فتنسى ما تريد وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل وقد أكثر من سؤاله تعنتاً: اتركوني ماتركتكم. وقال عليه الصلاة والسلام: إن بني إسرائيل هلكوا بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم.
النهي عن المناظرة ما أمكن:
قال ابن المقفع: لا تعرضن عقلك على الناس، فإذا اضطرك أمر فكن كصاحب الشطرنج يبني أمره علي القائمة، فإن وجد ضربة غريبة انتهزها، وإياك أن تبتدىء في مجلس لم تسبر عقول أصحابه، فبين العقول بون بعيد.
ذم الجلبة وخوض الكل في الكلام:

قيل: لايميل إلى الجلبة واللجاج إلا من عجز عن الغلبة بالحجاج. وقال المأمون لهاشمي حضر مجلسه فناظره وشغب:
لاترفعن صوتك يا عبد الصمد ... إن الصواب في الأسدّ لا الأشدّ
وقال عمر بن عبد العزيز لرجل كان يكثر الصياح والجلبة: اخفض الصوت، فلو نيل خير برفع الصوت لأدركه الحمير والكلاب. وكان أحمد بن الخضيب إذا ناظر شغب وجلب، وربما رفس من يناظره فقال فيه بعض المحدثين يخاطب الخليفة المنتصر:
قل للخليفة: يا ابن عم محمدٍ، ... أشكل وزيرك إنه ركّال
قد نال من أعراضنا بلسانه ... ولرجله عند الصدور مجال
وهذا يقارب ما روي أنه شكا إلى المأمون من بعض قضاته أنه يعض الخصوم فوقع: ليشنق!وأنشد الأصمعي:
حديث بني قرط إذا ما لقيتهم ... كنز والدبا في العرفج المتقارب
مسلم ابن عباس:
كأن بني رالان إذا جاء جمعهم ... فراريج يلقى بينهن سويق

الحث على المخالفة ودفع الصواب بالخطأ:
قالت أعرابية لابنها: إذا جلست مع القوم فإن أحسنت أن تقول كما يقولون وإلا فخالف تذكر، ولو كان بتعليق أير حمار في عنقك. وقال أعرابي: إذا لم يكن لك في الخير اسم فارفع لك في الشر علماً. وقال بعضهم: خالف تذكر. فقالوا: إنما هو تنكر، فقال: هذا أول الخلاف.
ذم مخالف ألد في كل صواب:
قال الله تعالى: " لتنذر به قوماً لدا " . وقال تعالى: " بل هم قوم خصمون " . وقال تعالى: " فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد " . وقال الشاعر:
رقيع خصيم في الصواب كأنه ... بردّ على أهل الصواب موكل
وقال ديمقراطس: عالم معاند خير من جاهل منصف. فقال تلميذه: الجاهل لايكون منصفاً، والعالم لايكون معانداً. وقيل: كثرة الخلاف حرب، وكثرة الموافقة غش.
المستأذن في سؤال مسألة:
قال ابن شبرمة لإياس بن معاوية: أتأذن لي في مسألة ألقيها عليك؟ فقال إياس: استربت بك حين اسأذنت، فإن كنت لا تسوء جليساً ولا تشين مسؤولاً فهاتها. وقال أبو العيناء لعبيد الله: أسأل أم أسكت؟ فقال: إن سألت أفدت، وإن سكت كفيت.
شروط المناظرة:
اجتمع متكلمان فقال أحدهما: هل لك في المناظرة؟ فقال: على شرائط، أن لا تغضب، ولا تعجب، ولا تشغب، ولا تحكم، ولا تقبل على غيري وأنا أكلمك، ولا تجعل الدعوى دليلاً، ولا تجوز لنفسك تأويل آية على مذهبك إلا جوّزت إلى تأويل مثلها على مذهبي، وعلى أن تؤثر التصادق وتنقاد للتعارف، وعلى أن كلاً منا يبني مناظرته على أن الحق ضالته والرشد غايته. وقال أبو يعقوب الخطابي لجلسائه: إنما اجتمعتم للأدب لا بجوار ولا نسب، فوفوه حقه ولا تثلبوا أحداً، فمن ثلب ثلب، وإياكم والمراء في الأديان فإنها مفسدة بين الإخوان ونقص عند أهل الزمان، وعليكم بالأصول ولاتكثروا فتملوا، واستريحوا إلى ما يوافق من الأدب فإنه غض أبداً غير مملول، ولا تتجاوزوا في النحو قدر الحاجة فغاية الحاذق فيه معروفة. وقيل: كان يعقوب الخطابي إذا جلس إليه أصحابه يقول: اعفونا من ثلاث وخوضوا بعد فيما شئتم: من ذكر السلف، وأن تقولوا فلان خير من فلان، ومن ذكر القدر.
مدح الجواب الحاضر: قال مسلمة بن عبد الملك: ما أوتي العبد بعد الايمان بالله شيئاً أحب إلي من جواب حاضر، لان الجواب اذا كان بعد نظر وتفكر لم يكن بشيء. ألم تسمع قوله تعالى: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك؟ إلى قوله: فبهت الذي كفر. وقال عمرو بن العاص: ما اتقيت جواب أحد من الناس غير جواب ابن عباس رضي الله عنه لبداهته. وقال الحجاج: من لم يخف الجواب تكلم، ومن خافه تبكم.
قال الشاعر:
ما أحرّ الكلام يرحمك الله ولكن أحرّ منه الجواب!
اضجاع القسى والاعتماد عليها في الخطاب: وما جاء من الأجوبة فهي مذكورة في أمكنتها المختصة بها. كانت العرب إذا اجتمعت للمناظرة والمفاخرة يضجعون قسيهم ويعتمدون عليها.
وقال الحطيئة في مرثية:
أمن يخصم مضجعين قسيهم ... صفر خدودهم عظام المنخر
وقال:
إذا اقتسم الناس فضل الفخار ... أطلنا على الأرض ميل العصا
مما جاء في وصف الشعر والشعراء
الرخصة في نسج الشعر وإنشاده:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: لحسان بن ثابت: أهجهم وروح القدس معك! وقد مدحه غير شاعر فحباه وأجازه. وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما شاعرين وعلي رضي عنه أشعر منهما، ولما قال الجعدي فيه صلى الله عليه وسلم:
بلغنا السّما عن جدّنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أين؟ فقال: إلى الجنة يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: لا فض فوك! وروى أبو الغطريف الأسدي عن جده قال: عدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: في مرضه الذي مات فيه، فسمعته يقول: لا باس بالشعر لمن أراد انتصافاً من ظلم، واستغناء من فقر وشكراً على إحسان. وعاب بعض الناس الشعر عند ابن عباس وكان قد قام إلى الصلاة فقال:
إن يصدق الطير ننك لميسا
ثم قال عقيبه: الله أكبر، ودخل في الصلاة. وقال أبو بكر رضي الله عنه: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم: وشاعره عنده ينشده، فقلت له: أشعر وقرآن؟ فقال: هذا مرة وهذا مرة.

جواز إجازة الشعراء:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إعطاء الشعراء من بر الوالدين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: في شاعر مدحه وعاتبه في بعض ما فعله: اقطعوا لسانه! يعني بالعطية، وأعطى الزهري شاعراً، فقيل له في ذلك فقال: إن من الخير اتقاء الشر. وحرم الشعراء الحجاج في أول مقدمه العراق فكتب إليه عبد الملك: أجز الشعراء فانهم يجتبون مكارم الأخلاق ويحرضون على البر والسخاء.
قال الشاعر:
صونوا القريض فإنه ... مثل المياسم في المواسم
الشعر جامعة المفا ... خر والمحاسن والمكارم
منفعة الشعر:
قال الحجاج للمساور بن هند: لم تقول الشعر؟ فقال: أسقي به الماء، وأرعى به الكلأ، وتقضى لي به الحاجة، وإن كفيتني تركه. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الشعر يسكن به الغيظ، وتطفأ به النائرة، ويتبلغ القوم، ويعطى به السائل، وقال: نعم الهدية للرجل الشريف الأبيات يقدمها بين يدي الحاجة، يستعطف بها الكريم ويستنزل به اللئيم؟ وقال عبد الملك: تعلموا الشعر ففيه محاسن تبتغي ومساوىء تنقى.
ابن الرومي:
وما المجد لولا الشعر إلا معاهد ... وما الناس إلا أعظم نخرات
وقال أبو تمام الطائي:
ولولا خلال سنها الشعر ما درت ... بغاة العلا من أين تؤتى المكارم؟
؟
ذم نسجه والتكسب به:
قال الله تعالى: " والشعراء يتبعهم الغاوون " ! و " لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلىء شعراً! وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " شر الناس من أكرمه الناس اتقاء لسانه! وقيل: لا تؤاخ شاعراً فإنه يمدحك بثمن، ويهجوك مجاناً. وسئل بعضهم عن حوك الشعر فقال: هو أسرى مروءة الدنيء، وأدنى مروءة السري. وسئل عوف بن أمية السكوتي عن نسج الشعر فقال: إن جددت كذبت، وإن هزلت أضحكت، فأنت بين كذب وإضحاك! وقيل للبيد: لمَ لا تقول الشعر؟ فقال: في سورة البقرة وآل عمران شغل عن الشعر.
الكلب والشاعر في منزل ... فليت أني لم أكن شاعراً!
هل هو إلا باسط كفه ... يستطعم الوارد والصادرا!
وقال:ما أجد آكلا للسحت ولا أوضع ولا أطمع وأطبع وأقل نفسا من شاعر متكسب بشعره!وقال الحسن رضي الله عنه في الفرزدق حين أوعده بالهجاء:هذا الذي جعل إحدى يديه سطحا والأخرى سلحاً، فقال: إن أصلحتم سطحي، وإلا رميتكم بسلحي. ولما حبس عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحطيئة بسبب الزبرقان ثم عفا عنه قال: إياك والشعر! فأخرج لسانه وقال: ما لأولادي كاسب غيره! قال عمر: فلا تهجهم. فقال: إن لم أهجهم لم يفرقوني فلا يعطوني. قال: فاذهب فبئس الكسب كسبك!
تعظيم الشعر:
مر الفرزدق بمؤدب، وكان ينشد عليه صبي قول الشاعر:
وجلا السيول عن الطلول كأنها ... زبر تجد متونها أقلامها
فنزل وسجد. فقال المعلم: ما هذا؟ فقال: هذه سجدة الأشعار نعرفها كما تعرفون سجدة القرآن. ولما قدم أبو تمام على الحسن بن رجاء، فأنشده قصيدته فيه حتى إنتهى إلى قوله:
لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالي ؟

قام قائما، وقال: والله ما سمعتها إلا وأنا قائم لما تداخله من الأريحية، فلما فرغ قال: ما أحسن ما جلوت هذه العروس! فقال أبو تمام: لو أنها من الحور العين لكان قيامك أوفى مهر لها.

ما استحبه الأكابرمن فرص الشعر:
قال معاوية لعبد الرحمن بن الحكم: إنك قد لهجت بالشعر، فإياك والتشبيب بالنساء فتعر شريفة والهجاء فتهجن كريما أو تثير لئيما، وإياك والمدح فهو كسب الأنذال، ولكن أفخر بمآثر قومك، وقل من الأمثال ما تزين به نفسك وتؤدب به غيرك، وإن لم تجد من المدح بدا فكن كالملك المرادي حين مدح فجمع في المدح بين نفسه وبين الممدوح فقال:
أحللت رحلي في بني ثعل ... إن الكريم للكريم محل
قال الشاعر:
أشغل قريضك بالنسيب ... وبالفكاهة والمزاح
يا مادح القوم اللئا ... م، وطالبا نيل السماح!
مدح جماعة من الشعراء وتفضيل بعضهم على بعض:
ذكر امرؤ القيس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ذاك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة، يجيء يوم القيامة وبيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار!قال الأصمعي:مارأيت خمسة من العلماء قط إلا وأربعة منهم يقدمون امرأ القيس، ولا أربعة إلا وثلاثة منهم يقدمونه. وسئل بعضهم: من أشعر العرب؟ فقال: امرؤ القيس إذا ركب، والأعشى إذا طرب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب. وكان أبو عمرو يكثر وصف النابغة الدبياني وطبعه وحسن ديباجته ويقدمه بعد امرىء القيس. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال لي عمر رضي الله عنه وأنا أسايره أنشدني لأشعر شعرائكم، فقلت: من هو؟ فقال: هو زهير، إنه لا يعاطل بين الكلام ولا يتبع حوشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما يكون في الرجال؛ قال ابن سلام، لم يبق في وصف الشعر شيئاً إلا أتى به في هذا الكلام. وكان معاوية يسمى الأعشى صناجة العرب، يعني أنه يطرب أطرابها. وقال محمد بن سلام: سألت عمر بن معاذ التميمي عن أشعر الناس فقال: أوس بن حجر وأبو ذؤيب فقلت: أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يجيء امرؤ القيس يوم القيامة وبيده لواء الشعراء! فقال: اللواء إنما يكون مع دون الأمير. وذكر قوم جرير أو الفرزدق فقال بعضهم: جرير كان أنسبهما وأسهبهما. وسئل آخر عنهما فقال: جرير يغرف من بحر، والفرزدق ينحت من صخر! فقال: الذي يغرف من بحر أشعر. وقال مروان بن أبي حفصة:
ذهب الفرزدق والفخار، وإنما ... حلو الكلام ومره لجرير
ولقد هجا فأمض أخطل تغلب ... وحوى اللهى بمديحه المشهور
كل الثلاثة قد أبر بمدحه ... وهجاؤه قد سار كل مسير
الممدوح بإجادة نسجه والتمدح بذلك والحث عليه:
ذكر عند أبي بكر رضي الله عنه الشعراء فقال: أشعر الناس النابغة أحسنهم شعراً وأعذبهم بحراً وأبعدهم غوراً. وقول عمر رضي الله عنه في زهير من هذا الباب، وقد تقدم آنفاً. وقيل: فلان إذا قال أسرع، وإذا مدح رفع، وإذا هجا وضع. وسئل البحتري عن أبي تمام فقال: مداحة نواحة! عدي بن الرقاع:
وقصيدة قد بت أجمع بينها ... حتى أقوم ميلها وسنادها
نظر المثقف في كعوب قناته ... حتى يقيم ثقافة منآدها
وقال يزيد بن الحكم متهكماً بحمزة بن بيض: إنك لأستاذ الشعر! فقال: إني لأدق الغزل، وأصفق النسج، وأرق الحاشية. ويقال: شعر مخشوب إذا كان جديداً لم يثقف. وقال ابن مقبل: إني لأرسل القوافي عوجاً فتأتيني وقد ثقفتها. وقيل: استجيدوا القوافي فإنها جراز الأشعار.
الموصوف بالسلامة من الشعر:
أبو تمام:
يود وداداً أن أعضاء جسمه ... إذا أنشدت شوقاً إليه المسامع
إبراهيم بن رجاء:
يطيب بأفواه الرماة سماعها
الناشىء:
إنما الشعر من تحصل من قبل ظهور الأقوال في الأذكار
فأتى لفظه يطابق معنا ... ه بحسن الإيراد والإصدار
مطمع مؤيس قريب إلى الفهم بعيد الأغوار ضاحي القرار
وقيل لمعتوه: ما أجود الشعر؟ فقال: ما دل صدره على عجزه، ولم يحجبه شيء دون بلوغه.
شاعر رديء النسج:

أنشد رجل شعراً فقال لصاحبه: كيف تراه؟ فقال: سكر لا حلاوة له. وأنشد عمارة شعر أبي العتاهية فمجه سمعه وقال: هو أملس المتون قليل العيون، وما كان مثله من الشعر يسمى مغسولاً. وأنشد رجل أعرابياً شعراً وقال: هل تراني مطبوعاً؟ فقال: نعم على قلبك! وأنشد رجل الفرزدق شعراً وقال: كيف تراه؟ فقال: لقد طاف إبليس بهذا الشعر في الناس فلم يجد أحمق يقبله سواك! شاعر:
وأبو الدفاتر لا يزال يجيئنا ... بقصيدة قد قالها من دفتر
وآخر:
وبات يدرس علماً لا قران له ... قد كان ثقفه حولاً فما زادا
ابن أبي عيينة:
أقمت حولاً على بيت تقومه ... فلم تصب وسطاً منه ولا طرفا

شعر رديء النسج:
أنشد ابن الأعرابي:
وشعر كبعر الكبش فرق بينه ... لسان دعي في القريض دخيل
وقال العجاج في ابنه أنه يقول الشعر وابن عمه. وفي مثل هذا الشعر قال بعضهم:
وبعض قريض الشعر أولاد علة ... يكد لسان الناطق المتحفظ
ابن الحجاج:
فمن كان يحوي العطر دكان شعره ... فشعري بيتا مستراح ومخرج
الجماز:
كأن أشعاره إذا انتقدت ... أنصاف كتب ليست بمؤتلفة
نهي المسيء عن نسجه:
قيل لابن المقفع: لم لا تقول الشعر؟ قال: لأن الذي أرتضيه لا يجيبني والذي يجيبني لا أرتضيه. وعرض رجل على أديب شعراً فقال: أخبأه كما تخبأ الهرة خرءها.
شاعر:
لا تعرضن الشعر ما لم يكن ... علمك في أبحره بحرا
فلا يزال المرء في فسحة ... من عقله، ما لم يقل شعرا
الوائلي:
وحاطب ليل في القريض زجرته ... وقلت له قول الفصيح المجامل:
إذا أنت لم تقدر على در لجة ... فدعه ولا تعرض لحصباء ساحل
مفاضلة البديهة والروية ومدح الطبع:
قال ابن الرومي في الحكم بينهما:
نار الروية نار غير منضجة ... وللبديهة نار ذات تلويح
وقد يفضلها قوم لعاجلها ... لكنه عاجل يمضي مع الريح
وقال معاوية لا بن العاص: أنا آدب منك! فقال: أنا للبديهة وأنت للروية وبينهما بون. ومما يؤكد تفضيل البديهة قول العبدي في وصف البلاغة: أن تصيب فلا تخطىء وتعجل ولا تبطىء قيل: خير الفقه ما حاضرت به.
وقال الحطيئة:
فهذا بداية لا كتحبير قائل ... إذا ما أراد القول زوره شهرا
واجتمع ابن منادر وأبو العتاهية، فقال أبو العتاهية: كم بيتاً تقول في اليوم؟ قال: مقدار عشرة أبيات. فقال أبو العتاهية: فأنا أقول مائتين. فقال: فإنك تقبل من شيطانك نحو:
ألا يا عتبة الساعه ... أموت الساعة الساعه
ولو أني أقول مثل ذلك لقلت ألوفاً.
المتنبي:
أبلغ ما يطلب النجاح به ... الطبع وعند المتعمق الزلل
المعتذر لرفض طريقة من النسج:
قيل لنصيب: إنك لا تحسن الهجاء. فقال: من ذا الذي لا يحسن مكان عافاه الله أخزاه الله؟ ولكني رأيت الناس ثلاثة رجال: رجلاً لم أسأله فلا ينبغي أن أهجو، ورجلاً سألته فمنحني وهو الممدوح، ورجلاً سألته فلم يعط فنفسي أحق بالهجاء إذ سولت لي أن أساله؟ وقال عبد الملك للعجاج: بلغني أنك لا تحسن أن تهجو. فقال: من يقدر على تشييد أمكنة يمكنه إخرابها. فقال: ما يمنعك من ذلك؟ قال: أن لنا عزاً يمنع من أن نظلم، وحلماً يمنع من أن نظلم، فعلام الهجاء؟ فقال: كلامك أشعر من شعرك! قال جرير: ما عشقت قط ولو عشقت لشببت، فإذا سمعت العجوز بكت على ما فات من شبابها، وإني لأرى الرجز مثل آثار الخيل في الثرى، ولولا أن سبق إليه غيري لأكثرت منه. وقيل لأبي يعقوب: شعرك في مرائي الحسن ليس كشعرك في مدحه. فقال: أين شعر الوفاء من شعر الرجاء؟
المهجو بأنه ينتحل الأشعار:
أبو هفان:
إذا أنشدكم شعراً ... فقولوا: أحسن الناس!

ونظر أبو تمام إلى سليمان بن وهب وقد كتب كتاباً فقال: كلامك ذوب شعري. وعرض رجل على ابن الجلاب قصيدة للمتنبي وادعى أنه قالها. فقال ابن الجلاب: هذه للمتنبي. فقال الرجل: هي قصيدتي ومسودتها عندي. فقال ابن الجلاب: فمبيضتها للمتنبي عندي. وقال الصاحب لرجل عرض عليه شعراً: لو حللت عقاله لحق بأربابه. وقال أبو محمد بن المنجم: أنشدت أبا القاسم الزعفراني قول الصاحب:
رق الزجاج وراقت الخمر
البيتين. فقال: لعن الله قائلهما فقد سرقهما من أبي نواس! فقلت: هما للصاحب. فقال: لعن الله أبا نواس فقد سرقهما من مولانا الصاحب، فقلت: كيف سرق أبو نواس من مولانا الصاحب؟ فقال: دعنا من هذا ما سرق إلا منه.
السالب غيره شعراً قهراً:
وقف الفرزدق على الشمردل فاستنشده شعراً فأنشده:
وما بين من لم يعط سمعاً وطاعة ... وبين تميم غير جز الغلاصم
فقال: والله لتتركن لي هذا البيت أو لتتركن عرضك! فقال: خذه لا بارك الله لك فيه! وقال رؤية: خرجت مع أبي فقال في الطريق: أبوك راجز وجدك وأنت مفحم، فأنشدته:
كم قد خسرنا من عذرة عنس
حتى أتيت على آخرها. فقال: اسكت فض الله فاك! فلما انتهينا إلى سليمان أنشده إياها فأمر له بعشرة آلاف درهم. فقلت له في ذلك فقال: سر فأنت أرجز الناس! فسألته أن يجعل لي نصيباً مما أعطي فأبى. ودخل ابن زهير على معاوية فأنشده:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تعدو المنية أول " الأبيات "
وهي في الحماسة. فقال له معاوية: عهدي بك لا تشعر، فما لبث أن دخل معن فأنشده هذه الأبيات، فالتفت معاوية إلى ابن زهير فقال: كيف انتحلتها؟ فقال: إن معناً أخي من الرضاع وأن أحق بهذا الشعر منه!

التوراة في الشعر وادعاء ذلك:
التوارد أن يتفق الشاعران في معنى من غير أن يسمع أحدهما بمقالة الآخر. وسئل أبو عمر وبن العلاء رحمه الله تعالى: كيف يتفق الشاعران؟ فقال: عقول رجال توافت على ألسنتها. ولأحمد بن أبي طاهر يعتذر لشعر ادعى البحتري أنه سرقه منه:
الشعر ظهر طريق أنت راكبه ... فمنه منشعب أو غير منشعب
وربما ضم بين الركب منهجه ... وألصق الطنب العالي إلى الطنب
وقال آخر وقد أتى سلطاناً يمدحه فحرمه وزعم أنه مسروق:
وهبني سرقت الشعر ثم مدحته ... أما كان يؤتيني عليه جزائيا؟
وقال أبو المضاء:
لو أن جريراً جاءه في زمانه ... وأنشده شعراً لقال: تنحلا!
وقال أبو تمام في مدح شعر غير مسروق:
منزهة عن السرق المورى ... مكرمة عن المعنى المعار
شعر أعاده قائله في غير الممدوح:
أنشد أبو القاسم بن أبي العلاء يوماً شعراً كاتب به رئيساً، وكنا سمعناه منه قبل، فعوتب في ذلك فقال: أنا نظمته أقلد به من أشاء، وكان قد وقع إلى أبي الفضل بن العميد قصيدة المتنبي التي أولها:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب
فلما ورد عليه مدحه بها وبدل قوله:
أبا المسك هل في الكاس فضل أناله ... فإني أغني منذ حين وأشرب
فجعله أبا الفضل. فلما أنشدها استطال وتكبر وأظهر إعجاباً بها. فقال أبو الفضل لبعض ندمائه: أخرج هذه القصيدة لينخفض، فلما رآها تبسم وخجل.
؟؟
شعر يدل على همة قائله وحاله:
قال المأمون يوماً لمن حضره: أنشدوني بيتاً لملك يدل عليه بيته وإن لم يعرف، فأنشد:
أمن أجل أعرابية حل أهلها ... جيوب الفلا عيناك تبتدران؟
فقال: ما يدل هذا على أنه لملك بل يجوز أن يكون هذا لسوقة من أهل الحضر، ثم قال: الدال على ذلك قول يزيد بن عبد الملك:
إسقني من سلاف ريق سليمي ... واسق هذا النديم كاساً عقارا
فأشارته إلى النديم تؤذن بأنه ملك. وقوله لي المحض من ودهم. ويغمرهم نائلي. وقال صالح بن حسان للهيثم بن عدي: أعلمت أن النابغة الذبياني كان مخنثاً فقال: ما علمت ولا سمعت! قال: فكيف قلت قال لقوله:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه " البيتين "
والله ما يحسن هذه الإشارة إلا مخنث، فسمع ذلك الرجل من قيس فقال: بل صاحبك الأعشى هو المخنث حيث يقول:
قالت هريرة لما جئت زائرها: ... ويلي عليك، وويلي منك يا رجل!

النابغ في الشعر بعد أن كان مكدياً:
قال السيد الحميري: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام كأنه في حديقة سجنه فيها نخل طوال، ويجنبها أرض كأنها كافورة ليس فيها أشجار. فقال لي: أتدري لمن هذه النخيل؟ فقلت: لا. فقال: لامرىء القيس: فأقلعها وأغرسها في هذه. ففعلت، فما أصبحت أتيت ابن سيرين فقصصت رؤياي عليه فقال: أتقول الشعر؟ قلت: لا. فقال: أما أنك ستقول مثل شعر امرىء القيس، إلا إنك تقوله في قوم طهرة، فما انصرفت إلا وأنا أقول الشعر، والنابغتان سميا بذلك لأنهما عاشا دهراً لا يقولون شعراً ثم نبغا فيه.

تسهيل قول الشعر على ذي آلته:
عمل سقراط بيتين فقيل له: ما أحسن ما قلت. فقال: إن حفر بئر بقرب قناة يجري منها الماء. سهل البديهي:
وأرى القوافي لا تصير مطيعة ... إلا إلى المثرين من أدواتها
والطبع ليس بمقنع إلا إذا ... حصلت إضافته إلى آلاتها
آخر:
وما الطبع مغن وحده في نظامه ... ولا العلم من حد الطباع بنائب
إذا لم تكن مجموعة أدواته ... فأيسر مبناه كنسج العناكب
وقيل: أصح الشعر وأسهله ما يقوله من بعثه أنف أو دخله كلف.
من تداخله لسماعه الأنفة والحمية:
كان بالمدينة فتى يتعشق امرأة، فوعدته يوماً فلما اجتمعا غنت مغنية بهذا الصوت:
من الخفرات لم تفضح أخاها ... ولم ترفع لوالدها شنارا
فأبت إلا الخروج، فرجعت إلى منزلها وبعثت إلى الرجل ألف دينار وقالت: إن رغبت فيّ فاجعل هذا مهري واخطبني من أبي. ودخل رجل على أبي دلف فاستماعه فقال له: أتسأل وجدك يقول:
ومن يفتقر منا يعش بحسامه ... ومن يفتقر من سائر الناس يسأل
فقال: نعم وتضجر، فلقي وكيلاً لأبي دلف يأتي بمال فسلبه واتصل الخبر بأبي دلف فقال: أنا الذي علمته هذا فدعوه. وهذا الباب من جنس منفعة الشعر.
شعر سائر:
أبو العتاهية:
في كل أرض قرى من منطقي مثلاً ... بين المشاهد أو يبكي به وتر
الطرمي:
لقد سار لي شرقاً وغرباً قصائد ... تغبر حسناً في وجوه القصائد
المتنبي:
أبقى على كنف الأيام من كنفي ... رضوى وأسير في الآفاق من مثل
الكندي:
يقصر عن مداها الريح جرياً ... وتعجز عن مواقعها السهام
تناهب حسنها حاد وشاد ... فحث بها المطابا والمدام
المسيب:
ترد المياه فلا تزال غريبة ... في القوم بين تمثل وسماع
النابغة:
أوابد كالسلام إذا استمرت ... فليس يرد فدفدها التمني
شعر أثر في المقول فيه فرفعه أو وضعه:
كان بنو قريع متى قيل لهم أنف الناقة أستحيوا حتى قال فيهم الحطيئة:
قوم هم الأنف والأذئاب غيرهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
فصاروا بعد ذلك يتبجحون به ويقولون: نحن من أنف الناقة، وغير كانوا يتبجحون باسمهم حتى قال فيهم الشاعر:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
فكانوا بعد إذا سئلوا قالوا من بني عامر. وقال جرير:
والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك أسته وتمثل الأمثالا!
فقالوا: لو طعنوا بعد هذا في أستاههم ما حكوها!
مفاضلة قصار الشعر وطواله:
قيل لعقيل: لم لا تطيل الشعر؟ فقال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق! وقيل لآخر ذلك فقال: يكون أحوك وعلى أفواه الرواة أعلق. وقالت مليكة بنت الحطيئة: يا أبت كنت ترغب عن القصار فصرت ترغب فيها. فقال: لأنها في الآذان أولج، وعلى الفكر أروج، والناس إليها أحوج. وقيل لآخر مثل ذلك فقال: حسبك غرة لائحة وسمة واضحة. وقال آخر: إذا مدحتم فاقصروا، وإذا هجوتم فأطيلوا، فالشر لا يمل. وقال الصاحب أن عبدان إذا أطال قصر وإذا قصر لم يقصر
إعتذار من أكدى في شعره أو نادرته:
قال عبد الملك لعدي بن أرطاة: لم لا تقول الشعر؟ فقال: كيف أقوله وأنا لا أشرب ولا أطرب ولا أغضب؟ وقال الفرزدق: ربما أتت علي ساعة وقلع ضرس أهون علي من قول بيت. وقال عبيد: حال الجريض دون القريض. واستأذن الغالبي على عباد فأذن له فأنشده:

لما انحنا بالوزير ركابنا ... مستعصمين بجوده أعطانا
من لم يزل للناس غيثاً ممرعاً ... متخرقاً في جوده... " وأنسى القافية "
فجعل يردد فقال عباد: قل كشحاناً أو قرناناً وخلصني، فتذكر وقال: في جوده معواناً. وتبع رجل جماعة من الشعراء دخلوا على سلطان فلما أنشدوه قال للرجل: ما عندك؟ قال: أنا من الغاوين. فقال: ما معنى ذلك؟ فقال الله تعالى: " والشعراء يتبعهم الغاوون " ! فأنا غاو تبعتهم، فضحك منه وأعطاه.

اشتمال الشعر على نقاية ونفاية:
قال أبو عمر بن العلاء: شعر بشار سباطة الملوك، فيها قطعة ذهب وما شئت من رماد، والسباطة الكساحة. وأنشد بعضهم:
يا عائب الشعر؛ مهلا ... فعيبك الشعر عيب!
الشعر كالشعر فيه ... مع الشبيبة شيب!
وقال بعضهم في وصف شاعر: ثوب بواف ومطرف بآلاف. وقال شداد الأعرابي: مثل الشعر مثل الإبل فيها الكرام والخساس، يسد بعضها خصاص بعض. وقيل لجرير: ما تقول في الجعدي؟ فقال: سوق خلقان ترى ثوباً يروعك وثوباً تستهجنه عينك؛ وقيل: إذا كان الكلام كله منقى لم تبن فيه اللمعة والنكتة، ولذلك لم يستعذب الناس شعر صالح بن عبد القدوس لما كان كله حكماً.
المتنبي:
وفي الشعر ما تهوى النفوس استماعه ... وفي الشعر ما قد ضمه حبل حاطب
ضن الشاعر برديء شعره:
قال عبد الله بن طاهر: آفة الشاعر البخل لأنه يقول خمسين بيتاً وفيها بيت رديء، فلا يحتمل قلبه أن يسقطه. وقيل: الشاعر كالصير في يجتهد في أن يروج ما في كيسه من الزيوف.
اعتذار من قصر عن مساجلة:
العتابي:
ولا عار إن قصرت دون مبرز ... شأى الناس قبلي سعيه وشآني
وإني كمن جارى جواداً بمقرف ... قوائمه مشكولة بحران
ومما يحسن أن يتمثل به هنا قول الدارمي:
كلانا شاعر من قول صدق ... ولكن الرحى فوق التفال
قائل شعر ذكر أنه استعاره من المقول فيه:
أحمد بن أبي الخصيب:
وإني وإن أحسنت في القول مرة ... فمنك ومن إحسانك امتارها جسي
تعلمت مما قلته وفعلته ... فأهديت حلواً من جناي لغارس
ابن طباطبا:
لا تنكرن اهداءنا لك منطقاً ... منك استفدنا حسنه ونظامه
فالله عز وجل يشكر فعل من ... يتلو عليه وحيه وكلامه
وحكي أن الصاحب دخل على عضد الدولة بهمدان، وعضد الدولة مكب على دفتر يقراه، فقال: يا أبا القاسم هذه رسالة لك في بعض فتوحنا، نحن نأخذها بأسيافنا وأنت تجملها بأقلامك. فقال: المعنى مستفاد من مولانا وإن كانت الألفاظ لخادمه، ثم أنشده:
وأنت أكتب مني في الفتوح وما ... تجري مجيباً إلى شأوي ولا أمدي
فقال: لمن البيت؟ فقال: لعبدك أبي اسحق الصابىء محبوساً ببغداد، فأمر بالإفراج عنه والخلعة عليه، فكان ذلك سبب خلاصه وتقدمه.
كلام نثر صار شعراً من غير قصد:
كتب عقال بن شهبة:
للأمير المسيب بن زهير ... من عقال ابن شبة بن عقال
فاتفق منه شعر. وحضر الصاحب الحسن بن سعد فرأى على عنوان كتاب: أبو الحسين أحمد ابن سعد: فقال: هذا شعر ثم قال، قل:
إلى الهمام الأريحي الفرد ... أبي الحسين أحمد بن سعد
فقال أبو الحسين: علمت بعد ثمانين سنة أن كنيتي واسمي واسم أبي شعر، وعلى ذلك كتب عبد الله الخازن على عنوان كتابه:
حضرة الصاحب الجليل أبي القا ... سم كافي الكفاة اسماعيلا
وقال رجل لمناد: يا صاحب المسح تبيع المسحا. فقال صاحبه: تعال إن كنت تريد الربحا. فسمع أبو العتاهية ذلك فقال: قد قالا شعراً وهما لا يدريان.
ما جاء من لفظ القرآن والخبر موزوناً:
من ذلك قوله تعالى: " تبت يدا أبي لهب وتب " . وجفان كالجوابي. وقدور راسيات. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا النبي لا أكذب. أنا ابن عبد المطلب " . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحرض أصحابه على حفر الخندق ويقول: " والله لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزلن سكينة علينا، وثبت الأقدام إن لاقينا " . وكان أصحابه يجيبونه إنك لولا أنت ما اهتدينا.

متناه في مدح أو هجو أول من ضده:
مدح أعرابي نبطياً فقال:
إن أبا الهيجاء أريحي ... للريح في أثوابه دوي
فقال النبطي: عني أني أقسو! فقال الأصمعي: انظروا كيف ضاع هذا البيت؟ وسمع بعضهم قول الحطيئة:
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
فقال: هذا بيت قواد! وأنشد قول الأخطل:
وإني لقوّام مقاوم لم يكن ... جرير ولا مولى جرير يقومها
فقال جرير: صدق ما قمنا بين يدي قس لأخذ قربان ولا لإداء جزية بين يدي سلطان.
شعر لا يدري أمدح هو أم هجاء:
دفع أعرابي ثوباً إلى خياط فقال الخياط: لأخيطنه خياطة لا تدري أقباء هو أم دواج. فقال: لأقولن فيك شعراً لا تدري أمدح هو أم هجاء، وكان الخياط أعور، ثم أنشده:
خاط لي زيد قبا ... ليت عينيه سوا!
فلم يدر أدعاء له أم دعاء عليه. ولما أنشد النابغة النعمان قوله:
تخف الأرض إما غبت عنها ... ويبقى ما بقيت به ثقيلا
غضب وقال: لا أدري أمدحني أما هجاني؟ فأتى زهيراً فأخبره فقال: حق له أن يغضب، ولكن قل بعده هذا البيت:
أظنك مستقر العز منها ... فتمنع جانبيها أن تزولا
فأتاه فأنشده ذلك فرضي وقال: أما الآن فنعم!
من قصد مديحاً فاتفق منه هجو:
جاء شعرور إلى زبيدة فمدحها فقال:
أزبيدة بنة جعفر ... طوبى لزائرك المثاب!
تعطين من رجليك ما ... تعطي الأكف من الرغاب
فوثب إليه الخدم ليضربوه فمنعتهم وقالت: إنه قصد مدحاً وأراد أن يقول الناس شمالك أجود من يمينه، فظن أنه إذا ذكر الرجل كان أبلغ، وقد حمدنا ما نواه وإن أساء فيما أتاه. ومدح شاعراً أميراً فقال:
أنت الهمام ابن الهما ... م الواسع ابن الواسعه
فقال: من أين عرفتها؟ قال: قد جربتها! فقال: أسوأ من شعرك ما أتيت به من عذرك!
شاعر مغلوب بشعر ركيك:
أتى أبو الشمقمق بشاراً فقال: يا أبا معاذ، أعطنا شيئاً وصل إليك من السلطان، فقال: أتسألني وأنا شاعر؟ فقال: نعم إني مررت بالصبيان وهم يقولون:
إنما بشار فينا ... مثل تيس في سفينه
رفع مصلاه عن ثمانمائة درهم وأعطاها له وقال له: لا تكن راوية للصبيان بعد هذا! وقال دعبل: وردت قمّ وكان لي على أهلها رسم، فاتفق أن جاءني شعرور فأخذ يتأكدني ويؤذيني، فازدريت به وزجرته فذهب وهجاني فقال:
في أست دعبل بلابل ... ليس يشفى لقابل
ليس يشفيه منه غير ... أير بغل بكابل
فلهج الصبيان بذلك وصاروا يصيحون خلفي إذا رأوني، ففررت من قم استحياء وما عاودتها بعد!
معرفة نقد الشعر:
قال أبو عمرو: انتقاد الشعر أشد من نظمه، واختيار الرجل الشعر قطعة من عقله. وقيل: إنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه. وقيل: كن على معرفة الشعر أحرص منك على عقله. وقيل: إنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقة. وقيل: كن على معرفة الشعر أحرص منك على حوكه. وقال الفرزدق: لا يكون الشاعر متقدماً حتى يكون باختيار الشعر أحذق منه بعمله. أبو أحمد بن المنجم:
رب شعر نقدته مثل ما ينقد رأس الصيارف الدينارا
الأهوازي:
ويزعم أنه نقاد شعر ... هو الحادي، وليس له بعير!
آخر:
قد عرفناك باختيارك إذا كا ... ن دليلاً على اللبيب اختياره
عذر من يعرف الشعر ولا يصوغه:
قيل لابن المقفع: لم لا تقول الشعر؟ فقال: أنا المسن أسن الحديد ولا أقطع! وقيل لأديب: أشاعر أنت؟ فقال: لا ولكني بهم خابر. وقال شاعر:
وقد يقرض الشعر البكي لسانه ... وتعيي القوافي المرء، هو خطيب
وقيل لأبي عبيدة: لم لا تقول الشعر مع غزارة علمك وجودة فهمك؟ فقال: لأن الذي يجيبني لا أرتضيه وما أرتضيه لا يجيبني. ولبعضهم في المعنى:
أبى الشعر إلا أن يفيء ردئيه ... علي ويأبى منه ما كان محكما
فيا ليتني إذ لم أجدحوك وشيه ... ولم أك من فرسانه كنت مفحما
مذاهب الناس في نقده:

مذاهب الناس في ذلك مختلفة، فمنهم من يميل إلى ما سهل فيقول: خير الشعر ما لا يحجبه شيء عن الفهم. وقال آخر: خير الشعر ما معناه إلى قلبك أسرع من لفظه إلى سمعك. ومنهم من يقول: ما كان مطابقاً للصدق وموافقاً للوصف كما قيل:
وإن أحسن بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته: صدقا!
وسئل ذو الرمة عن أشعر الناس فقال: من خبث جيده وطاب رديئه. ومنهم من يميل إلى ما انغلق معناه وصعب استخراجه، كشعر ابن مقبل والفرزدق، وكثير من النحويين لا يميلون من الشعر إلى ما فيه إعراب مستغرب ومعنى مستصعب. وقال يزدان المتطبب: إن أبا العتاهية أشعر الناس لقوله:
فتنفست ثم قلت نعم حباً ... جرى في العروق عرقاً فعرقا
فقال له بعض الأدباء: إنما صار أشعر الناس عندك من طريق المجسة والعروق!

مراتب الشعراء والشعر:
قال الجاحظ: يقال للمجيد فحل، ولمن دونه مفلق ثم شاعر ثم شويعر ثم شعرور. وقيل: أقسام الشعر أربعة: ضرب حسن لفظه ومعناه، وإذا نثر لم يفقد حسنه وذلك نحو:
في كفه خيزران ريحه عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فم يكلم إلا حين يبتسم
وضرب حسن لفظه وحلا معناه نحو:
ولما قضينا من منى من كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الحديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
وضرب جاد معناه وقصر لفظه نحو:
خطاطيف حجن في حبال متينة ... تمد بها أيد إليك نوازع
وضرب قصر معناه ولفظه نحو:
إن محلا وإن مرتحلا ... وإن للسفر ما مضى مهلا
وقيل: الأشياء كلها ثلاث طبقات، جيد ووسط ورديء، فالوسط من كل شيء أجود من الرديء عند الناس، إلا الشعر فإن رديئه خير من وسطه، ومتى قيل شعر وسط فهو عبارة عن الرديء. وقيل: الشعر ثلاثة أصناف: شعر يكتب ويروى، وشعر يسمع ويكتب، وشعر لا يكتب ولا يوعى.
كثرة الشعر في الناس:
قال إبراهيم الموصلي: لولا أني أعلم أن الشعر من شر الكلام لقلت الشعر أكثر من النثر. أبو تمام:
ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت ... حياضك منه في العصور الذواهب
ولكنه صوب العقول إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب
وقيل: الشعر أكثر من الكلام البليغ، فقد تجد عشرة آلاف شاعر ولا تجد خطيباً
المستحسن الإنشاد:
دخل أبو تمام على إسحق المصعبي فقال له: رأيت المخزومي آنفاً وهو ينشد شعراً فقال: أيها الأمير، نشيد المخزومي يطرق بين يدي شعره، وشعري يطرق بين يدي نشيدي. ومدح رجل آخر بحسن الإنشاد فقال: هو صناجة الشعر، وقال الفرزدق لعباد العنبري: حسن إنشادك يزين الشعر في فهمي. وقيل: إذا أنشدت المديح ففخم، أو المرائي فحزن، أو من النسيب فأخضع، أو من الهجاء فسدد وبالغ.
المستقبح الإنشاد:
عبد الله بن معاوية:
يزين الشعر أفواه إذا نطقت ... بالشعر يوماً، وقد يزرى بأفواه
أبو خليفة:
كأن الشعر من فيه إذا تمت قوافيه كنيف قد خري فيه!
مما جاء في الكتاب والكتابة
واضعوا اللغات والخط: قيل: اللغات توقيفية لقوله تعالى " وعلم آدم الأسماء كلها " . وقيل: أول ذلك اصطلاح ثم يجوز أن يكون الباقي توقيفاً. وقال الكلبي: وضع الخط ثلاثة نفر: مرامر بن مرة بن ذروة، وأسلم بن شدرة، وعامر بن حدرة، فرامر وضع الصورة، وأسلم فصل ووصل، وعامر أعجم وأشكل. وقيل: وضعه قوم من طسم وهم: أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت على أسمائهم، ثم وجدوا حروفاً أخر وسموها الروادف وهي ثخذ ضظع، ولها أربعة حروف لا يعونها في أبي جاد، وتلك حروف المد واللين ونون الغنة في نحو منذر وجندل. وأول من خاطب بأطال الله بقاءك عمر بن الخطاب؛ قاله لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وأول من قال جعلني الله فداءك، عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وأول من قال جعلت فداءك، علي عليه السلام. وأول من كتب في صدر الكتاب، مراسلة أن يصلى على محمد، يحيى بن خالد البرمكي.
اتفاق الحروف مع النجوم:

عدد الحروف العربية عدد منازل القمر ثمانية وعشرون، وغاية مبلغ الكلمة مع الزيادة سبعة على عدد النجوم السبعة، وصورة الزوائد اثنا عشر على عدد البروج، وأربعة عشر تندرج مع لام التعريف مثل منازل القمر التي تستتر تحت الأرض، وأربعة عشر فوقها، وهذا اتفاق صحيح.

أسامى المترجمين:
نقل ديوان الفارسية إلى العربية صالح بن عبد الرحمن، فقال له رجل من الفرس: كيف تكتب دهيوده وبنجيوده؟ فقال: عشير ونصف عشير، فقال: وكيف تكتب أندى؟ قال: أيضاً، فقال: قطع الله أصلك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسية! وقال لقومه: اطلبوا مكسباً غيره.
وممن نقل العلوم الكبار:
ان بطريق وبان ناعمة وأبو فروة وابن المقفع وارسطو طاليس وأفلاطون، من متقدمي الحكماء ومستخرجي العلوم.
أجناس الكتابة:
قال الكلبي: كتابة الأمم نوعان: أحدهما يبتدىء باليمين وهي العربية والعبرانية، والثاني من اليسار وهو اليونانية والرومية، وكل كتابة من اليسار فهي مفصولة، وكتابة الصين نقوش تصور. وحكي أن ملك الروم قال: ما حسدت العرب على شيء كالحسد على أشكال خطوطهم.
موافق الخط:
قيل: الخط لسان اليد وهو الطلسم الأكبر. وقيل: الخط هندسة روحانية ظهرت بآلة جسمانية وقيل: العلم شجر والخط ثمر. وفضل بعضهم الخط على اللفظ فقال: الخط للقريب والبعيد، واللفظ للقريب فقط. وفضل جالينوس اللفظ فقال: الخط كلام ميت واللفظ كلام حي.
اختلاف الخطوط وتشابهها:
قيل: من أعجوبة الخطوط كثرة اختلافها مع اتفاق أصولها، كاختلاف الأشخاص مع اتفاقها فيا لصنعة. وعجب بعض الكتاب من الحاق القافة بالولد بالشبه فقال له قائف: أعجب من هذا ما يبلغنا من تمييزكم الخطوط وإلحاق كل بصاحبه! وحكي أن رجلاً ادعى على آخر بخط، له معه، فجحد المدعى عليه خطه، فتحاكما إلى سليمان بن وهب، فأحضر الخط وأملى على الرجل كتاباً طويلاً ردد فيه الحروف، فتصنع الرجل في كتابته فأبت سجيته في أحرف إلا أن تأتي كما جرت به عادته، فتبين لسليمان كذبه، فاستقصى عليه حتى اعترف بخطه.
مدج الكتابة:
جعل الله تعالى كتبة الملائكة كراماً كاتبين حيث يقول: " كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون " . وقال تعالى: " بأيدي سفرة كرام بررة " . وقيل: بلغت الكتابة بقوم مبلغ الملوك، وأعطتهم أزمة الخلافة، ونال الخلافة اربعة من الكتّاب: عثمان وعلي ومعاوية وعبد الملك. وسأل أعرابي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا له حتى انتهوا إلى ذكر معاوية، فقالوا كان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: فلح ورب الكعبة، فإن الأمور بيد الكتّاب! قال الشاعر:
ما الناس إلا الكتبه ... هم فضة في ذهبه
قد أحرزوا دنياهمُ ... بشعبة من قصبه
وقال ابن الحجاج:
وشمول كأنما اعتصروهما ... من معاني شمائل الكتاب
وقيل: كل صناعة تحتاج إلى ذكاء إلى الكتابة فإنها تحتاج إلى ذكاءين: جمع المعاني بالقلب، والحروف بالقلم؛ ولذلك قيل بالفارسية ديبر أي له ذكآن. وقال الجاحظ: لم أر مثل طريقة الكتاب، فإنهم اختاروا من الألفاظ ما لم يكن وحشياً ولا ساقطاً سوقياً. وقال: إنما عذب شعر النابغة لأنه كان كاتباً وكذلك زهير.
ذم الكتاب:
قال الجاحظ في ذمهم: ما قولك في قوم أول من كتب منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالفه في كتابه: فأنزل الله فيه آيات، فهرب إلى جزيرة العرب فمات كافراً؟ ثم استكتب معاوية فكان أول من غدر وحاول نقض عرى الإسلام في أيامه، ثم كتب عثمان لأبي بكر مع طهارة أخلاقه فلم يمت حتى أدّاه عرق الكتابة إلى ذم من ذمه من أوليائه، ثم كتب لعمر رضي الله عنه زياد بن أمية فانعكس شر مولود، وكتب لعثمان رضي الله عنه مروان بن الحكم فخانه في خاتمه، وأشعل حرباً في مملكته. وقال بعضهم وقد جلس في ديوان: أخلاق حلوة وشمائل معشوقة ووقار أهل العلم، وظرف أهل الفهم، وإذا سبكتهم وجدتهم كالزبد يذهب جفاء لايستندون إلى وثيقة ولا يدينون بحقيقة، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون! كشاجم:
بأبي وأمي أنت من مستجمع ... تيه القيان ورقة الكتّاب
ابن المعتز: وما كاتب بالكف إلا كشارط
ذم عجزة الكتاب:
الحجاج الأهوازي يهجو الكتاب:

تعس الزمان لقد أتى بعجاب ... ومحا رسوم الظرف والآداب!
وأتى بكتّاب لو انبسطت يدي ... فيهم، رددتهم إلى الكتّاب!
وقال آخر:
دعيّ في الكتابة يدعيها ... كدعوة آل حرب في زياد
ولما ولي الفضل بن مروان ديوان الخراج، وموسى بن عبد الملك ديوان الضياع، قال محمد بن يزيد المراعي:
أرى التدبير ليس له نظام ... وأمر الناس ليس بمستقيم
فديوان الضّياع بفتح ضاد ... وديوان الخراج بغير جيم!
وذم رجل آخر فقال: فيه من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: عدم الكتابة والعجز عن تقويم الشعر.

من يسد كتابه مسد السلاح والعساكر:
ابن الرومي:
في كفه قلم ناهيك من قلم ... نيلا وناهيك من كف به اتشحا!
يمحو ويكتب أزراق العباد به ... فما المقادير الا ما محا ووحى
المتنبي:
يا من اذا ورد البلاد كتابه ... قبل الجيوش ثنى الجيوش ثحيرا
ورسائل قطع العداة سحاءها ... فرأوا قناً وأسنةً وسنورا
وفي وصف القلم باب يجري هذا المجرى.
ومما هو كالمضاد لهذا الباب:
ماروي أن عكلاً أغارت على إبل لبني حنظلة، فاستغاثوا باسحاق بن إبراهيم، فكتب إلى عامل كتاباً فخرج صاحب الكتاب وخرق الكتاب وقال:
جعلتم قراطيس العراق سيوفكم ... ولن يقطع القرطاس رأس المكابر
وقلتم: خذوا البر التقي فإنه ... أقل امتناعاً، واتركوا كل فاجر!
فرحنا بقرطاس طويل وطينة، ... وراحت بنو أعمامنا بالأباعر!
البحتري:
فلا غرني من بعده عز كاتب ... إذا هو لم يأخذ بحجزة رامح
ذم الكتابة إذا تولاها النساء.
قال عمر رضي الله عنه: جنبوهن الكتابة. وقال دقنس الفيلسوف وقد رأى جارية تتعلم الكتابة: تسقى سهماً سمّاً لترميك به يوماً. وقال السامي:
ما للنساء وللكتا ... بة والعمالة والخطابة؟
هذا لنا ولهن منا ... أن يتبين على جنابه
سمع جرير شعراً فسأل عن قائله فقيل: امرأة فلان. فقال: إذا زقت الدجاجة زقاء الديك فاذبحوها.
شكوى التأخر في الكتابة:
حتام لا انفك حارس سلة ... أدعى فأسمع مذعناً وأطيع؟
وأكلف العبء الثقيل، وإنما ... يبلى به الأتباع لا المتبوع
فعليهم ثقل الأمور وحملها ... وعلى الرئيس الختم والتوقيع
ذم الأمي وفضله:
قال أمي: كان النبي صلى الله عليه وسلم أمياً، فقيل له: أما علمت أنه كان له منقبة ولك مثلبة؟ وقال المأمون لأحمد بن يوسف: وددت أن يكون لي خط كخطك! فقال: يا أمير المؤمنين لو كان في الخط حظ ما أحرمه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم. وكانت أم سلمة تقرأ ولا تكتب، ومحمد بن الوليد المازني يكتب ولا يقرأ، وكان يتنافس فيما يكتب بيده. وولي عمر بن هبيرة العراق فكان يحفظ جمل حسابها ولا يكتب.
كتاب الرجل منبىء عن عقله:
قال زياد: ما قرأت كتاباً قط لرجل إلا عرفت مقدار عقله فيه. وقال طريح بن اسماعيل: عقول الرجال في أطراف أقلامها. وقال يزيد بن المهلب لابنه حين استخلفه على خراسان: إذا كتبت كتاباً فأكثر النظر فيه، فإنما هو عقلك تضع عليه طابعك، وإن كتاب الرجل موضع عقله، ورسوله موضع رأيه.
بقاء الخط:
قال بعض الشعراء:
وما من كاتب إلا ستبقى ... كتابته، وإن فنيت يداه
فلا تكتب بخطك غير شيء ... يسرك في القيامة أن تراه
الخليل:
كتبت بخطي ما ترى في دفاتري ... عن الناس في عصري وعن كل غابر
ولولا عزائي أنني غير خالدٍ ... على الأرض لاستودعته في المقابر
فضل الخط المستحسن:
قيل في قوله تعالى: " يزيد في الخلق ما يشاء " إنه الخط الحسن. قال الشاعر:
أضحكت قرطاسك عن جنةٍ ... أشجارها من حكم مثمره
مسودة سطحها، ومبيضة ... أرضاً، كمثل الليلة المقمرة

ونظر الحسن بن رجاء إلى خط حسن فقال: متنزه الألحاظ ومجتنى الألفاظ فلان فصيح القلم. ونظر أعرابي إلى إسماعيل وهو يكتب بين يدي المأمون فقال: ما رأيت أطيش من قلمه وأثبت من حكمه! ابن المعتز:
إذا أخذ القرطاس خلت يمينه ... تفتح نوراً أو تنظم جوهرا
وقيل لبعضهم: كيف ترى إبراهيم الصولي؟ فقال:
يولد اللؤلؤ المنثور منطقه ... وينظم الدرَّ بالأقلام في الكتب
وتحاكم إلى الحسن بن سهل صبيان في خطيهما فقال لأحدهما: خط تبر مسبوك! وقال للآخر: خطك وشي محوك! وقد تسابقتما إلى غاية فوافيتما في نهاية.

من حسن خطه وخده:
وصل أحمد بن أبي خالد جارية كاتبة فقال: كأن خطها أشكال صورتها، ومدادها سواد شعرها، وقرطاسها أديم وجهها، وقلمها بعض أناملها، وبيانها سحر مقلتها.
قال:
بخط كأن الله قال لحسنه ... تشبه بمن قد خطك اليوم فائتمر!
وقال الصاحب:
غزال يفتن الناس ... مليح الخد والخط
فهذا النمل في العاج ... وهذا الدرُّ في السمط
ذم الخط القبيح:
قيل: رداءة الخط إحدى الزمانتين: الحسن المغربي:
جزعت من قبح خطي ... وفيه وضعي وحطي
رجعت من بعد حذقي ... إلى كتابة حطي
علي بن محمد العلوي:
أشكو إلى الله خطاً لا يبلغني ... خط البليغ ولا حظ المرجينا
يحيى بن علي:
مع خط كأنه أرجل البط أو الشرط في طلى الفتيان
وقال ابن المستنير وقد سأل عن خط وزير ليس بالجيد فقال: رأيت حظه أحسن من خطه!
الخط الدقيق والجليل:
كتب رجل لصاحبه كتاباً دقيقاً فقال: ما خاطبتني ولكن عودتني! الناشي:
كتبت إليكم أشتكي حرقة الهوى ... بخط ضعيف والخطوط فنون
فقال خليلي: ما لخطك هكذا ... دقيقاً ضئيلاً ما يكاد يبين؟
فقلت: حكاني في نحول ودقة ... كذاك خطوط العاشقين تكون!
ورأى محمد بن سعيد كتاباً بخط دقيق فقال: هذا كتاب من يئس من طول حياته!
التثبت في الكتابة والإسراع فيها:
قيل: التثبت في الابتداء بلاغة وبعده عيٌّ وبلادة. وكان ابن المقفع كثيراً ما يقف إذا كتب، فقيل له في ذلك فقال: إن الكلام يزدحم في صدري فأقف لتخيره! وقيل: سرعة اليد محمودة ما أمنت نقصاً أو سقطاً.
حمد الشكل وذمه:
قيل: حلوا عواطل الكتب بالتقييد، وحصنوها من شبه التصحيف والتحريف، وقيل: إعجام الكتاب يمنع من استعجامه، وشكله يمنع من إشكاله.
قال الشاعر:
وكان أحرف خطه شجرٌ ... والشكل في إضعافه ثمرٌ
وقال أبوتمام وقد ضرب بعضهم المثل في هذا الباب بقوله:
إذا ما قيدت رتكت وليست ... إذا ما أطلقت ذات انطلاق
وعرض خط على عبد الله بن طاهر فقال: ما أحسنه لولا أنه أكثر شونيزه! ونظر محمد بن عباد إلى أبي عبيد وهو يقيد باسم الله فقال: لو عرفته ما شكلته.
الوصية بتقويم حروف في الكتابة:
قال الحسن: من كتب اسم الله فحسنه أحسن الله إليه. وكان يزيد بن ثابت يكره أن يكتب باسم الله من غير السين، فإذا رآه كذلك محاه. ورأى محمد بن عيسى كاتباً كتب عيسى ورد الياء إلى خلف فقال: لا تكتب كذا فأيسر ما فيه أن الياء إذ كان إلى قدام كان إقبالاً وإذا كان إلى خلف كان إدباراً. وقيل: ارخوا ذوائب الخطوط يعني ما كان نحو من الياء والنون. وقيل: المد في حرفين سوء التقدير. وقيل: إذا اجتمع واوان وجب الفصل، والفصول حلى الكتاب، وجودة القراطيس شفاء القلم. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ألقي دواتك، وأطل سن قلمك، وفرج بين السطور، وقرمط بين الحروف.
معرفة كتابة بإشارة:

روي أن هشام بن عبد الملك كان يسايره أعرابي فقال له: أنظر ما على ذلك الميل. فجاء الأعرابي وتأمله وقال: رأيت شيئاً كرأس المحجن متصلاً بحلقة يتبعها ثلاث كأطباء الكلبة، كأنها رأس قطاة بلا منقار، فعرف أن هشام أنه يصفه. وأضل رجل بعيراً فقال لأعرابي: هل رأيت بعيراً سمته جعفر؟ فقال: ما أعرف جعفراً ولكن رأيت بعيراً سمته محجن وسابورة وحلقة وهلال متصل بعضه ببعض، فقال: ها هو ذا. وقال مشمشة المخنث للصولي: أكتب مشمشة يقرأ عليك السلام. فقال: قد كتبت. فقال: أرنيه فإن في إسمي دخالة الأذن قال: فعجبت من جودة تشبيهه.
؟

تشبيهات بعض حروف المعجم:
دعا أبا النجم بعض أصدقائه فعاد عنه سكران فقال:
أقبلت من عند زياد كالخرف ... تخط رجلاي بخط مختلف
كأنما يكتتبان لام الألف
عبد السلام الحمصي:
كأن قافاً أديرت فوق وجنته ... واختط كاتبها من فوقها ألفا
أبو نواس في حباب الكأس:
خلته في حببات ال ... كاس واوات صغارا
وقال بعضهم في وصف بخيل: كان جلمان من حيث جئته وجدت لا. وفي تشبيهه الشارب قال: فجاء كنصف الصاد من خط كاتب.
تتريب الكتب:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أتربوا الكتب فإنه أنجح للحوائج. وكان الفرزدق كتب وصية وأعتق عبداً عن دبر فترب الكتاب العبد، فقال: استنجحت الحاجة واستعجلت المنية لي يا ابن الفاعلة، احذفوا اسمه من الوصية! رفع رجل قصة إلى عبد الله بن طاهر وقد أكثر عليها من التراب، فوقع فيها. إن ضمن من الصابون من ينقي ثيابنا من تراب كتابه، ضمنا له قضاء حاجته.
الكتابة في الإنصاف والظهر:
قال الشاعر:
أنت لما ابتدأت تكتب في الإن ... صاف خفنا من قلة الإنصاف
وكتب أحمد بن يوسف إلى صديق له: كتبت إليك في الظهر تفاؤلاً بأن يظهرك الله على من ناوأك، ويجعلك ظهراً لمن ولاك.
قال الشاعر:
العذر في الظهر عند الحر منبسط ... إذا رأى سطوات الدهر بالنعم
لو كان يصلح خدي ما جرى قلمي ... إلا عليه على المداد دمي
وقال آخر:
كتبت القراطيس لذي حشمة ... وكتب ما بالظهر للناس
المكتوب على الحواشي:
بعضهم: اطلبوا النكت في الفواشي والحواشي. وقيل: التعليق في الحواشي كالشنوف في آذان الأبكار.
الحك:
قيل: من كثر شكه جاد حكه. وقال علي بن عيسى لجماعة من الكتّاب رأى في كتابتهم حكاً كثيراً: ما زلتم تغلطون وتحكون حتى حذقتم بالحك. ورأى الصاحب حكاً كثيراً في حساب دفع إليه فقال: أرى فيه تأثير السكين أكثر من تأثير القلم.
قال الشاعر:
حذقك بالحك دليل على ... أنك في الكتب كثير الخطأ
النظر في كتاب الغير:
قال الفضل بن الربيع: كنت أقرأ في كتاب وإلى جانبي رجل من أهل المدينة، فجعل ينظر فيه فلمحته وقلت: ما تصنع ويحك؟ قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه، فإنما يتطلع في النار، ولنا أشياخ قد تقدموا فقلت لعلي أرى أعظمهم. وكتب بعض الكتّاب كتاباً وإلى جنبه رجل يتطلع فكتب فيه: ولولا أن ابن الزانية فلاناً يتطلع علي فيما أكتبه لشرحت كثيراً مما في قلبي! فقال الرجل: يا سيدي ما كنت أتطلع عليك! فقال: يا بغيض، فإذاً من أين علمت ما كتبت فيه؟
ترشش المداد على الثوب:
محمد بن مهران:
لا تجزعن من المداد ولطخه ... إن المداد خلوق ثوب الكاتب
الحسن بن وهب:
وما شيء بأحسن من ثياب ... على حافاتها سمة المداد
آخر في نقيض هذا:
يدل على أنه كاتب ... سواد بأظفاره راسب
فإن كان هذا دليلاً لنا ... فإسكافنا كاتب حاسب
التاريخ:
كان الرسم أن يؤرخ بكل وقت تحدث فيه حادثة ظاهرة مشهورة، فالروم كانت تؤرخ بملك ذي القرنين وهو الإسكندر، والفرس كانت تؤرخ بأعدل ملك كان يتفق لهم إلى أن باد ملكهم يزدجرد فهم يؤرخون منه، والعرب بمشاهير الحوادث كنزول إسماعيل مكة، وعام الفيل، وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وعليها استقر الحكم إلى الآن، وأول من أرخ بذلك في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
العنوان:

الرسم أن يكتب اسم الكاتب ضئيلاً، والمكتوب إليه فحلاً جسيماً. ورأى طاهر بن الحسين رقعة لابنه إلى المأمون وعليه عبده عبد الله فقال: يا بني أبدل هذه اللفظة شيئاً آخر، فإني سميتك عبد الله فلا تشرك معه في ملكه غيره. ووقع المهدي في كتاب رجل كتب عليه عبده: لا أعلمن أحداً ينسب نفسه إلى مخلوق مثله على عنوان فإنه ملق كاذب، لا يقبله إلا مفتون أو مأفون!

الختم:
قيل في قوله تعالى في كتاب مكنون: أي مختوم، وفي قوله تعالى، إني ألقي إلي كتاب كريم: أي مختوم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الكتاب بلا ختم يسمى أقلف، وهو استهانة بالمكتوب إليه. وقال عمر رضي الله عنه: طينة خير من ظنة. وقيل: الختم حتم. وقيل: التصفح قبل الختم والختم بعد العنوان. وسأل بعض الأدباء رئيساً أن يختم كتابه فقال:
يا أيها الملك المنفذ أمره شرقاً وغربا
امنن بختم صحيفتي ... ما دام هذا الطين رطبا
واعلم بأن جفافه ... مما يعيد السهل صعبا
وكتب بعضهم إلى رئيس: تختم كتبك لأنه مطايا البر، وأنا لا أختمها لأنها حوامل شكر.
القصة والتوقيع:
قال الصاحب لرجل رفع إليه قصة وهو يكثر الكلام: هذا رفع القصص لا رفع القصص. وجاء رجل يطلب منه توقيعاً بالجواز فقال: يكتب جواز لحيته على طريق فقحته. وقيل: التوقيع إلى ذوي الأقدار موق.
مدح الوراقين وذمهم:
قيل: لا تقعدن في السوق إلا على وزاق أو زراد فهما مباينان للأوغاد. وقال عبدوس الحكيم: لا تكونن وراقاً لآلئياً، فإن الدفاتر للعلماء والجواهر للملوك، وهذان الصنفان في الناس قليل. وقال الجاحظ في ذمهم: لم أر شراً من الوراقين مع أن صناعتهم نسخ الأخبار لذوي الآداب والألباب، ووراق المصاحف شر. وقال: نبئت أن شيخاً منهم خثر عليه الحبر، فبال في المحبرة وكتب به المصحف والماء منه غير بعيد. وقال: وراق عرضي أرق من الزجاج ومجالي في طلب الرزق أضيق من المحبرة، ووجهي في الناس أشد سواداً من الحبر. وقيل لوراق: ما تشتهي؟ فقال: قلماً مشاقاً وحبراً براقاً وجلوداً رقاقاً، والله سبحانه أعلم.
مما جاء في التصحيفات
النهي عن أخذ العلم من الصحفي:
قيل: لا تأخذوا من صحفي، ولا القرآن من مصحفي. وهجا بعضهم أبا حاتم فقال:
إذا أسند القوم أخبارهم ... فإسناده الصحف والهاجس
وقال أبو نواس في مرثية، خلف:
أودى جماع العلم مذ أودى خلف ... فليذم من العياليم الخسف
رواية لا يجتنى من الصحف
المهجو بكثرة الصحيف:
قيل: كيسان يمسخ على لسانه العلم ثلاث مرات، فإنه يكتب في الواحة خلاف ما يسمع، وينقل من الواحة إلى الدفتر خلاف من يكتب، ثم يقرأ من الدفتر خلاف ما يكتب.
شاعر:
ولم يسمع النحو لكنه ... قرأ منه شيئاً وقد صحفه
تصحيفات متوالية إلى ما لا معنى له:
وجد معلم يلقن صبياً:
عفت الديار محلها فمقامها ... بمنى بأبد غولها فرجامها
وإنما هو:
عفتِ الديار محلها فمقامها ... بمنى تأبد غولها فرجامها
قال الجاحظ: ومررت بمعلم وهو يلقن صبياً:
يا أبا الفياش جثا ... أخرج الفتيان غثا
لبش في الأرض أباس ... شزنوا أيلج مثا
فقلت: بالعبرانية هذا؟ قال: لا هو بالعربية، فلما تأملته إذا هو مكتوب:
يا أبا العباس حبي ... أخرج الفتيان عنا
ليس في الأرض أناس ... شربوا أملح منا
فقلت: أيها المعلم إنك ضائع بهذا البلد، قال: نعم قدور ومزاريق. ورؤي صبي يقرأ على معلم:
والشيخ لا يبرك أجلافه ... حتى يوارى في ثرى دمسه
فإذا هو:
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه
تصحيفات في القرآن مستهجنة:

سمع رجل يقرأ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخذيته، بالراء، فقال بعضهم: أخراه ولكن بلفظ أحسن من هذا. وقال رجل في مجلس الشافعي رضي الله عنه: كيف يقرأ بشوال يعجنك أو بشوال يعجبك؟ فقيل: ليس في القرآن شيء من ذلك. فقال الشافعي: دعوه لي إنما هو " بسؤال نعجتك " . وقال الجاحظ: سمعت من يقرأ " ض والقرآن " وقرأ آخر " وفرش مرقوعة " وقرأ آخر " إن السموات والأرض كانتا ريقاً " وقال آخر " نبية من ربكم " وقال آخر " ومريم ابنة عمران التي أخصيت فرجها " .

تصحيفات في الحديث مستقبحة:
قرأ بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم بلع قديداً، وإنما هو بلغ قديداً. وقرأ آخر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره النوم إلا في القدر، وإنما هو الثوم. وقرأ آخر: على القباب المحدث لا يدخل الجنة قباب، فقال أعيذني بالله إنما هو قتات، فقدم القارىء إليه وعرك أذنه وقال: ما صنع المسكين حتى لا يدخل الجنة؟ وقرأ آخر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب العسل يوم الجمعة، وإنما هو الغسل. وقرأ آخر: غم الرجل ضيق أبيه، وإنما هو عم الرجل صنو أبيه. وقرأ آخر: لا يرث جميل إلا بثينة، وإنما هو لا يرث حمل إلا ببينة. وقرأ آخر إن أردت أن تنعظ فادخل المقابر، وإنما هو تتعظ. وقال أبو بكر أحمد بن كامل: حضرت شيخاً فقال عن رسول الله عن جبريل عن الله عن رجل فقلت: من هذا الذي يصلح أن يكون شيخ الله يروى عنه؟ فإذا هو عز وجل. وقرأ محدث: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل خصي الحمار، فقيل له: وما أراد بذلك؟ فقال: التواضع وإنما هو حصي الجمار.
من صحف وتأول برقاعته:
قرأ بعضهم: فأوجس في نفسه جيفة، فقيل هو خيفة، فقال: لا بل لأنه توضأ ولم يغسل أسته. وقرأ آخر في روضة يخبزون. فقال: أخشكار أم جواري؟ فقال: ما أرادوا ففيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. وقرأ آخر فاسأل به جبيراً. فقال: من جبير؟ فقال: والد سعيد. وقرأ رجل على محمد بن حبيب من شعر الراعي:
تعود ثعالب السرقين منه
فقال: إنما هو ثعالب الشرفين منه. فقال: إن الثعالب أولع شيء بالسرقين، فقال: أتصحيف وتفسير؟
تصحيف فيه نادرة:
قرأ رجل على ابن مجاهد " بل عجنت ويسجرون " قال: أحسنت فمع العجين سجر التنور. وقرأ صبي على معلم: إني أريد أن أنكحك، فقال: هذا إذا قرأت على أمك! وقرأ آخر: وأما الآخر فتصلب. فقال: هذا إذا قرأت على أبيك الكشحان. وغنى رجل:
خليلي هبا نصطبح بسماد
فقال: اصطبح به وحدك، إنما هو بسواد.
تصحيف أفضى إلى مضرة:
كتب الوليد بن عبد الملك إلى والي المدينة: أحص من قبلك من المخنثين، فونم الذباب على الحاء فقرأ الكاتب أخص، فقال العامل: لعله أحص، فقال الكاتب: على الحاء نقطة كسهيل فخصى جماعة منهم، ولكل واحدة نادرة. وكتب صاحب بأصبهان إلى محمد بن عبد الله بن طاهرأن فلاناً، يعني قائداً كبيراً، له خزلجية ويجلس مع النساء. فكتب إلى العامل: ابعث إلي فلاناً وخزلجيته، فقرأ الكاتب، وجز لحيته، فأخذه وحلق لحيته وأشخصه، فلما أبصره رأى آية فضحك وخلاه. وكان حيان بن بشير يملي أن عرفجة أصيب يوم الكلاب وكان مستمليه يعرف ملحه فقال: إنما هو الكلاب بالضم، وحبست أنا من أجله.
تصحيف أفضى إلى فائدة:
كان نعيم بن زيد والياً على الهند، وفي حبسه رجل يقال له حبيش، فجاءت أمه إلى الفرزدق وسألته أن يتشفع فيه، فكتب إليه كتاباً فلم يدر أخنيش أو حبيش، فأمر أن يطلق كل محبوس اسمه شيء من ذلك، فأطلق بذلك عدة. وأنشد الرجل الأصمعي: كليني لهم يا أميمة باضت. فقال له الأصمعي: أما علمت أن كل ناجمة الأذنين تحيض وكل سكائن الأذنين تبيض؟ فقال أبو الحسين الكوفي: لم أر تصحيفاً أجلب للفائدة منه. وغنت جارية للرشيد:
أظلوم أن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام تحية ظلم
فقال الكسائي: إنما هو مصابكم رجل. فقالت الجارية: إني أخذت هذا الشعر عن أنحى الناس وآدابهم أبي عثمان المازني بالبصرة هكذا، فقال الرشيد: ليكتب إلى العامل بالبصرة بإطلاق نفقة المازني وأشخاصه، فلما أشخص ودخل إلى الرشيد سأله عن حاله، ألك ولد؟ قال: نعم بنية. فقال: وما قالت لك؟ قال: أنشدتني:
أيا أبتاه لا ترم عندنا ... فأنا بخير إذا لم ترم
قال: وبماذا أجبتها؟ قال، قلت:

ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح
فسأله عن البيت المغنى به فقال: إنما هو رجلاً وخبران إنما هو ظلم، فقال: أجدت وأصبت: فأعطاه مالاً وأكرمه ورده إلى البصرة مكرماً.

ادعاء تصحيف أدى إلى خلاص:
أتى عبد الملك بخارجي فأمر بقتله. وقال: ألست القائل: ؟ومنا حصين والبطين وقعنب ومنا أمير المؤمنين شبيب فقال: إنما قلت أمير المؤمنين أي يا أمير المؤمنين، فأطلقه. وأحضر جعفر بن سليمان الهاشمي خطابي المقدم الهذيلي وفيه:
يا ابن الزواني من بني معاوية ... أنت لعمري منهم ابن الزانية؟
فقال: إنما قلت يا ابن الرواثي، وأنت ابن الراثية أي اللواتي ينحن على موتاهم. وحكى أن علوية الشاعر اجتمع عليه الصوفية وقالوا له أنت أنشدت:
طاب لنا الرفض بغير حشمه
فقال: إنما قلت طاب لنا الرقص، فرضوا عنه وانصرفوا.
؟
تعبير كتابة قليلة يغير بها المعنى:
خرج توقيع عن الرشيد، إلى بعض أوليائه بأقطام مائة ألف وألف دينار إلى الري، فدفع إلى معين لنسخه وطلب رسماَ من صاحبه، فامتنع فزاد المعين ألفاً وجعله أو ألف دينار، فلما أخرج وأوصله إلى العامل قال لك ما فيه توفير السلطان من أحد هاذين. فقال: إنما أمر لي بهما فاسترجع التوقيع وعاد به إلى الحضرة، فلما رآه الرشيد ضحك وقال: لعلك لم ترضي الكاتب فأصلحه. وعلق ستر على باب أم جعفر، وكان قد أمر أن يكتب عليه السيدة الميمونة المباركة، فأغفل المطرز الراء، فدخل الرشيد فرآه وقرآه مناكة، فضحك وأمر أن يمزق. وقال الصاحب: لا ينبغي أن يخاطب النساء بحراستها ونظرها ولا عقلها، لأنه لا يؤمن أن يصحف بحراستها وبظرها وعقلها. ودفع المعروف بصخرة دبير قصة إلى الصاحب يستوهب منه شيئاً وفي آخر القصة: فعل إن شاء الله. فزاد الصاحب فيه ألفاً وجعله إفعل إن شاء الله. وقال: خذها فقد وقعت لك، فأخذ صخرة دبير القصة فتأملها فلم ير توقيعاً، فراجعه مرتين، كل ذلك يقول: قد وقعت فيه حتى آراه الصاحب ما أثبته من الألف.
من صحف عند رئيس بما أضحك:
قرأ بعضهم عند رئيس جاضرجي وإنما هو حاضرجي. وحضر أحمد بن أبي خالد وزير المأمون يتتيع القصص، فأخذ قصة فقرأ أحمد الثريدي، وإنما هو البريدي، فقال المأمون: يا غلام أحضر لأبي العباس طعاماً فإنه جائع، وعزم عليه ليأكل، فأكل ثم عاد فمر بقصة فيها فلان الحمصي فقرأ الخبيصي، فقال المأمون: يا غلام أظن أن طعامه كان مبتوراً عن الحلواء أحضره خبيصاً، فأتى بجام فامتنع فقال: عزمت عليك لنأكلن، فأكل ثم لم يعثر بعد والذي قرأ: وأنا فداؤك من الشوكله إنما هو من السوء كله، والذي قرأ على أمير المؤمنين الخليفة أتعظ علي أمير المؤمنين إنما هو أبعط أي أبعد. وقال بعضهم: حضرت مجلس قاضي أو قضاة عبد الجبار فقال له بعض العلوية الكبار: ما هذا الذي يقول النحار في كتبه الكس بالكسب؟ أراد الكسب، فضحك كل من عنده فأنشد فيه:
إذا الغصن لم يثمر وإن كان شعبة ... من المثمرات اعتده الناس في الحطب
تصحيفات مستحسنة:
قرأ الأصمعي على أبي عمرو هذا البيت:
وعذرتني وزعمت ... إنك لا تني بالضيف تأمر
وإنما هو لابن بالصيف تامر
فقال أبو عمر: وإنك في التصحيف أشعر من الحطيئة. وكان حماد الراوية لا يحسن القرآن ققيل له: لو قرأت القرآن. فأخذ المصحف وقرأ فلم يزل إلا في أربعة مواضع قال: عذابي أصيب به من أساء، وقوله وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها أباه. ومن الشجر ومما يغرسون. بل الذين كفروا في غرة وشقاق.
من عجم حرفاً عمد إلى تصحيفه:
دفع رجل إلى محمد بن عبد الله قصة عليها حريت بن الغراس فعجمه. وقال خريت في الفراش ووقع تحته بئسما فعل! ووجه إلى المأمون رجل. وقيل سابق الحاج. وكتب أبو تمام رقعة إلى عبد الملك بن صالح وعليها حبيت، فنقطه وجعله جنبت.
من هجا أو مح بادعاء تصحيف:
هجا أبو نواس أبان اللاحقي فقال:
صحفت أمك إذ سمتك في المهد أبانا
قد علمنا ما أرادت. لم ترد إلا أتانا وقال آخر يهجو:
رأى الصيف مكتوباً فظن بأنه ... لتصحيفه ضيفاً فقام يواثبه
المتنبي:
جرى الخلف إلا فيك إنك واحد ... وإنك ليث والملوك ذئاب

وإنك لو قويست صحف قاريٌّ ... ذئاباً، ولم يخطىء فقال ذباب

كلمات تعسر قراءتها ويعسر تصحيفها:
استؤمر عبد الله طاهر في ابتناء موضع يقال له لبناً فوقع له لبنا لبنا لبنا لبنا لبنا، ووقع في رقعة بسبب عزير بن نوح عزير غرير عزيز علينا ومن عزيز. ووقع أيضاً معاوية ابن معاوية ليحيى ليحيا خراج جراح فقد فقد. ووقع علي بن رستم لرجل غرك فصار قصار ذلك دلك فاخش فاحش فعلك فعلك نهذا بهذا والسلام.
مما جاء في آلات الكتابة
فضل القلم ووصفه:
بأنه مثبت الحكم؛ قال الله تعالى: " والقلم وما يسطرون " . وقال تعالى: " علم بالقلم " . وقيل: كما من مآثر بنتها الأقلام فلم تطمع في دروسها الأيام. وقيل: القلم قيم الحكم. ونظر المأمون إلى مؤامرة بخط حسن فقال: لله در القلم كيف يزين وشي المملكة! وقيل: القلم في حساب الجمل نفاع وذلك أن حروفه مائتان وواحد، وعدد نفاع مثله في الحساب، وهذا اتفاق ظريف.
وصف قلم ممدوح بأنه يجدي ويردي:
شاعر:
قلم يمج على العداة سمامه ... لكنه للمرتجين سماء
كم قد أسلت به لعبدك ريقة ... سوداء فيها نعمة بيضاء؟
ابن طباطبا:
إذا انتضى قلماً ليخطب ... خلت في يمناه نصلا
كم رد عادية الخطو ... ب وكم أعز وكم أذلا؟
يجري فيؤمن خائفاً ... ويصب في الأعداء نبلا
وفي وصفه: شجاع يمج السم والعسل. ولابن ثوابة في وصفه:
كالنار يعطيك من نور ومن حرق ... والدهر يعطيك من هم ومن جزل
وقال أبو الفياض الصابىء في الصاحب بن عباد:
أقال الله للأقدار سيري ... وفي أقلام إسمعيل صيري
تفضيل القلم على السيف:
قال محمد بن علي يمدح:
في كفه صارم لانت مضاربه ... يسوسنا رغباً إن شاء أو رهبا
السيف والرمح خدام له أبداً ... لا يبلغان به جداً ولا لعبا
فما رأينا مداداً قبل ذاك دما ... ولا رأينا حساماً قبل ذا قصبا
ابن الرومي:
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... إن السيوف لها مذ أرهفت خدم
تفضيله على القلم:
فاخر السيف فقال القلم: أنا أقتل بلا غرر، وأنت تقتل على خطر، فقال السيف: القلم خادم السيف إن نبل مراده، وإلا فإلى السيف معاده.
البحتري:
وعادة السيف إن يستخدم القلما
المتنبي:
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي: ... المجد للسيف ليس المجد للقلم
أكتب بنا أبداً بعد الكتاب به ... فإنما نحن للأسياف كالخدم
وصف بأنه يكشف عن الضمائر:
قال بعضهم: القلم يزف بنات القلوب إلي خدور الكتب. وقال ابن المعتز: القلم يخدم الإرادة، ولا يمل الاستزادة، يسكت واقفاً، وينطق سائراً. وقال الشاعر:
ومكشف السر الضمير بلا معاناة السؤال
آخر:
نواطق إلا أنهن سواكت ... يترجمن عما في الضمير مكتما
وفي وصفه:
عجبت لذي سنين والماء نبته ... له أثر في كل مصر ومعمر
وقال ابن المقفع: القلم يريد القلب، يخب بالخبر وينظر بلا بصر، وقال ابن أبي داود: القلم سفير العقل ورسول الفكر وترجمان الذهن.
وصف بأنه أخرس ناطق:
شاعر:
وأخرس ناطق أعمى بصير ... بليغ عند منطقه عيي
متى ترعف مناخره سواداً ... يخبر عنك بالمعنى المضي
محمد العلوي:
أخرس ينبيك بأطرافه ... عن كل ما شئت من الأمر
يذري على قرطاسه دمعة ... يبدي بها السر وما يدري
كعاشق يخفي هواه، وقد ... نمت عليه عبرة تجري
لغز في وصف القلم:
شاعر:
وبيت بعلياء الفلاة بنيته ... باسمي مشقوق الخياشيم يرعف
آخر:
وأجوف يمشي على رأسه ... يطير حثيثاً على أملس
فهمت بآثاره ما مضى ... وما هو آت ولم يلبس
وصف دواة وقلم:
شاعر:
وزنجية لم تلدها الأناث ... وفي جوفها من سواها ولد
وكتب ابن طباطبا إلى ابن أبي البغل، وبعث إليه فلما أسود وآخر أبيض، وسبعة سمرا:

هذا ابن سام وبنت حام ... شعبهما اليوم ذو التئام
قد أظهرا في الورى ازدواجاً ... فامتزج النور بالظلام
وأنسلا صبية صغارا ... سبعاً يوافين في نظام
هن مدى الدهر مرضعات ... يشتقن رياً إلى النظام

اختبار قلة الأقلام:
قال الصولي لغلام: ليكن قلمك صلباً بين الرقة والغلظ، ولا تبره عند عقدة فإن فيه تعقد الأمور، ولا تجعلن في أنبوبة أنبوبة، ولا تكتبن بقلم ملتو ولا بذي شق غير مستو.
أدب بري القلم والاستنكاف منه:
قيل: ليكن مقطك إذا قططت صلباً لئلا يتشظى القلم. وقال عبد الحميد الكاتب: أطل جلفة قلمك وأسمنها، وحرف قطتك وأيمنها. وقيل: تبطين القلم شؤم، وحرفه حرف. وقيل: لا قلم المحرف للرجل المحارف. وأوصى بعضهم كاتباً فقال: أجد قلمك فالقلم الرديء كالولد العاق! وقيل: إذا لم تسمع لقطتك صوتاً كصوت القسي، ووقعاً كوقع المشرفي فأعد القط. وقال الصاحب لكاتب في مجلسه: ليس لك في مجلس إلا اللقط فقط.
التمدح يبري القلم والاستنكاف منه:
شاعر:
دخيل في الكتابة ليس منها ... فما يدري دبيرا من قبيل
إذا ما رام للأنبوب برياً ... تنكب عاجزاً قصد السبيل
كشاجم:
لم ترني قط بارياً قلماً ... في بريه كل مهنة وضعه
ما كل من يحمل الحسام لكي ... يردي به سنه ولا طبعه
وقال أبو الحسن بن سعد: كنت عند علي بن سعد، فرأيت له أقلاماً رديئة البري فأخذتها وأحسنت بربها، فقال: يا أبا الحسن، عليك بالكتابة فإن هذه تجارة.
السكين:
قيل: السكين من الأقلام تشحذها إذا كلت، وتلمها إذا تشعثت، وأحسن السكاكين ما عرض صدره وأرهف حده، ولم يفضل عن القبضة نصابه. وقيل لكاتب: سكينك ليس بقاطع! فقال: هو أقطع من البين. ولأبي حفص الوراق كتبه على سكين:
سكيننا من يره سيعجبه ... وقاه ربي شر من يستوهبه
وكيد من يسرقه ويغصبه ... ما أظلم الليل ولاح كوكبه
ابن نباتة:
مرهفة تعجز وصف البيان ... للسيف معنى ولها معنيان
يحكي سويداء القلوب إذا رمت ... فيها لواحظ شادن بسهام
وإنضاف محراك إليه كأنما ... أخذوه قد الصارم الصمصام
أبو الحسن المشطب الهمذاني:
إنني منفذٌ إليك مقطاً ... سهرديزاً كاير عير مري
سابغاً طوله شديداً قواه ... فاتخذه كنانة لقسي
استهداء المداد واهداؤه:
كتب بعضهم إلى صديق يستمد منه مداداً:
أنا أشكو إليك أن دواتي ... هي عوني وعدتي وعنادي
عطلت من مدادها فاستعاضت ... يقق اللون من حلوك السواد
لم تزل من بنات حام فجاءت ... من بني يافث بغير ولاد
أنت للحادثات عدُّ صدقٍ ... فترى أن تمدها بمداد
عبدان:
هل لك في أن تحوز محمدة ... أنفس من فضة ومن ذهب؟
زود فتاة أتتك رائقة ... بدرة الفحم لابنة القصب
الحبر:
قال بعض الأدباء: بالحبر تنصاغ حكم الأخبار وبسواده تنضح شبه الآثار. وقيل لوراق: أخف رداءة خطك بجودة حبرك. وقيل: عطروا كتب علومكم بالحبر، فالحبر غالية والكتاب غانية.
شاعر:
وأكرم بحبر بها لجة ... جواهرها حكم تنثر
كشاجم في من أعطاه محبرة:
محبرة جاد لي بها قمر ... مستحسن الخلق مرتضى الخلق
كأنما حبرها إذا نثرت ... أقلامنا طله على الورق
كحل مرته الجفون من مقل ... نجل فأوفت به على يقق
خرساء لكنها تكون لنا ... عوناً على علم أفصح النطق
لوح الحساب:
كشاجم:
نعم المعين على الآداب والحكم ... صحائف حلك الألوان كالظلم
جفت وخفت فلم يدنس لحاملها ... ثوب ولم يخش فيها نبوة القلم
لو كن ألواح موسى حين أغضبه ... هارون، خوفاً من الندم
لوح الهندسة:
كشاجم:
وقلم مداده تراب ... في صحف سطورها حساب

يكثر فيها المحور والإضراب ... من غير أن يسود الكتاب
حتى يبين الحق والصواب ... وليس إعجام ولا إعراب
فيه ولا شك ولا ارتياب

مرفع الدواة:
شاعر:
قرب البعد مرفع لدواة ... ملجم من حليه بلجام
كخوان الطعام سهل للآ ... كل منه ما كان صعب المرام
الاصطرلاب " الببغاء " :
ومستدير معجم التقسيم ... منتسب الأشكال والرسوم
دبره فكر امرىء حكيم ... فصاغه في صغر التجسيم
مساوياً للفلك العظيم ... مقتطعاً لسائر النجوم
وكتب الصابىء إلى بعض أصدقائه وقد أهدى له اصطرلاب:
لم يرض بالأرض يهديها إليك وقد ... أهدى لك الفلك الأعلى وما فيه
نفع الكتب وكونها ذات أنس:
ذكر الجاحظ الكتب فقال: نعم الذخر والعدة، والطيس والعقدة، والمستغل والحرفة، ونعم القرين والدخيل، والوزير والنزيل! والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، يطيل امتاعك ويشحذ طباعك. وقال ابن المقفع: كل مصحوب ذو هفوات والكتاب مأمون العثرات. وقال الرفاء:
اجعل جليسك دفتراً في نشره ... للميت من حكم العلوم نشور
ومفيد آداب ومؤنس وحشة ... وإذا انفردت فصاحب وسمير
وأنشد أبو محمد الخازن لنفسه:
فدفتري روضتي ومبحبرتي ... غدير علمي وصارمي قلمي
وراحتي في قرار صومعتي ... تعلمني كيف موقع القسم
التمدح بالإنفاق على الكتب والحث عليه:
قيل لابن دراج، وقد أخرج شعر أبي الشمقمق في جلود كوفية ودفتين طائفتين: لقد ضيع دراهمه من يجود لشعر أبي الشمقمق! فقال: لا جرم أن العلم يعطيكم على قدر ما تعطونه، ولو استطعت أن أكتبه في سواد عيني أو سويداء قلبي لفعلت! وقيل: إذا حويت الكتب فقد أحرزت الأدب والنشب.
وقال الشاعر:
تحرض على تجويد كتبك إنها ... مناهل وراد الحجى والفوائد
وقيل: إنفاق المال على كتب الأدب يخلفك عليه لباب الألباب.
ذم من يجمع الكتب ولم يحفظها:
محمد بن بشر:
أما لو أعي كل ما أسمع ... وأحفظ من ذاك ما أجمع
ولم أستفد غير ما قد جمعت ... لقيل: هو العالم المصقع!
ولكني نفسي إلى كل شيء ... من العلم تسمعه تنزع
فلا أنا أحفظ ما قد جمعت ... ولا أنا من جمعه أشبع
ومن يك في دهره هكذا ... يكن دهره القهقرى يرجع
مدح ملازمة الكتب:
قال أبو عمر: وما رأيت أحداً في يده دفتر، وصاحبه فارغ اليد، إلا اعتقدت أنه أعقل وأفضل من صاحبه. وكان عبد الله بن عبد العزيز يلزم أبداً المقابر ومعه شيء من الدفاتر، فقيل له في ذلك فقال: لم أر أوعظ من كتاب وأسلم من الإنفراد. ونظر المأمون إلى بعض أولاده وفي يده كتاب فقال: ماهذا؟ قال: بعض ما يشحذ الفطنة ويؤنس الوحشة. فقال: الحمد لله الذي جعل في أولادي من ينظر إليه بأدبه أكثر مما ينظر إليه بحسبه.
أحوال إعارة الكتب واستعارتها:
بعض الشعراء:
إني حلفت برب البيت والحرم ... هل فوقها حلفة ترجى لذي قسم؟
أن لا أعير كتاباً فيه لي أرب ... إلا أخا ثقة عندي وذا كرم
وقال بعضهم معتذراً عن امتناع إعارته:
لضيق فؤادي منذ عشرين حجة ... وصقيل ذهني والمفرّج من همي
يعز على مثلي إعارة مثله ... وآلية أن لا يفارقه كمي
وقال الشيخ أبو القاسم رحمه الله: كتبت إلى أبي القاسم بن أبي العلاء أبياتاً أستعير منه شعر عمران بن حطان، وضمنتها أبياتاً لبعض من امتنع من إعارة الكتب إلا بالرهن، وأبياتاً عارضها بها أبو العلي بن أبي العلاء في مناقضته فقلت:
يا ذا الذي بفضله ... أضحى الورى مفتخره
أصبحت يدعوني إلى ... شعر ابن حطان شره
فليعطنيه منعما ... عارية لأشكره
مقتفياً والده ... ألبس ثوب المغفره
عارض من أنشده ... إذ رام منه دفتره
هذا كتاب حسن ... قدمت فيه المعذره

حلفت بالله الذي ... أطلب منه المغفره
أن لا أعير أحداً ... إلا بأخذ التذكره
بنكتة لطيفة ... أبلغ منها لم أره
فقال والقول الذي ... قد قاله وحبره:
من لم يعر دفتره ... ضاقت عليه المعذره
يقبح في الذكر وفي السماع أخذ التذكره
ما قال ذاك الشعر ... إلا ماضغ للعذره
فامنن به مصطفياً ... سلوك طرق البرره
فأجابني بأبيات منها:
حبّر شعراً خلتني ... أنشر منه خبره
يريدني فيه على ... خليقة مستنكره
مستنزل عن عادة ... عودتها مشتهره
لا أقبل الرهن ولا ... تذكر عندي تذكره
ولو حوت كفي بها ... فضل الرضا والمغفره
كان لشيخي مذهب ... من مذهبي أن أهجره
خالفت فيه رسمه ... معفياً ما أثره
ولو أتاني والدي ... من بيته في المقبره
يروم سطراً لم يجد ... ما رامه وسطره
والغرض في ذلك ما قاله أبو القاسم لا ما خاطبته به، أعوذ بالله أن أكون ممن يزري بعقله بتضمين مصنفاته شعر نفسه.

معاتبة حابس دفتر:
كتب كشاجم إلى صديق له:
غدرت بحبس دفترنا ... وعهدي بالأديب ثقه
ولست أحب للأدبا ... ء أن يتأدبوا سرقه!
وكتب بعض الأدباء إلى صديق له يطالبه برد دفتره:
ما بالي كتبي في يديك رهينه ... حبست على مر الزمان الأطول؟
إئذن لها في الإنصراف فإنها ... كنز عليه افتقرت معوّلي!
ولقد تغنت حين طال ثواؤها: ... طال الوقوف على رسوم المنزل
وقال أبو العبر في سخفيات له: حدثني لحيان عن موسى الفهاد عن رجل من أهل جرجرايا عن شيخ من بادرويا أن السفلة من إذا استعار كتاباً لم يرده.
الشريف ابن طباطبا:
إذا فجع الدهر امرأ بخليله ... تسلى ولا يسلى لفجع الدفاتر
وقال بعضهم في وصف كتاب كليلة ودمنة:
إذا افتخر الرجال بفضل علم ... ومدت فيه ألسنة طويلة
ففاخر ما استطعت بما حوته ... بطون كتاب دمنة مع كليله
كتاب يغرق البلغاء فيه ... وألباب الورى منه كليله
وكم فيه عجائب كامنات ... على دنيا وآخرة دليله
وكم حكم على أفواه طير ... وآداب وأمثال مقوله
يراها الجاهل المأفون هزلاً ... وحسبكها لعالمها فضيله
مما جاء في الصدق والكذب
الممدوح بالصدق:
فلان أصدق من أبي ذر، وأصدق من قطاة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر. وقال الجاحظ: أخبرني فلان، وهو والكذب لا يجتمعان في طريق، ولا يقشعر من الكذب.
التنوخي:
وألسنهم وقف على الصدق والوفا ... وأيمانهم وقف على القصد والنعمى
وقال جحظة البرمكي:
وكان صديق الورى ... بالحق ينطق عن لسانه
وفي المثل: لا يكذب الرائد أهله لأنه كذبه يجتث أصله.
معيب بالكذب:
قال رجل لكذاب: مرحباً بأبي المنذر! فقال: ليس هذا كنيتي. فقال: قد علمت، إنما هو كنية مسيلمة، ولكنها صفتك، يعرض بأنه كذاب. وقيل لرجل: ما تقول في فلان؟ فقال: أنا لا أذم مسيلمة. وذم رجل آخر فقال: الكذب أحسن ما فيه، وهذا غاية الذنب. وقال رجل لأبي حنيفة رضي الله عنه: ما كذبت قط! فقال: أما أنا فقد شهدت عليك بهذه. وقال رجل: أنا لا أكذب كذبة بألف. فقال صاحبه: أما هذه فواحدة بلا درهم. وقيل: أكذب من يلمع أي السراب.
شاعر:
أكثر ما يجري على فيه الكذب

وقال بعضهم: أسأت نظراً فأطرفت خبراً. وقال: جاء فلان نزهات البسابس، وجاء بالحطب الرطب أي بمحض الكذب. وقال الرشيد للفضل بن الربيع: كذبت! فقال: يا أمير المؤمنين وجه الكذاب لا يقابلك، ولسانه لا يخاطبك؛ يعرض به لأن الإنسان لا يقابل نفسه ولا يخاطبها، فاستحسن تعريضه فأولاه وما جفاه. وقيل: فلان فيه روغان الثعلب وطبيعة العقعق ولمعان البرق أي الحيلة والسرقة والكذب.
شاعر:
كلام أبي مالك كله ... صياح الفواخت جاء الرطب

النهي عن الكذب وذمه:
قال الله تعالى: " قتل الخراصون " . وقال: " ويل لكل أفاك أثيم " . وقال: " إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله " . وقيل: الكذب جماع النفاق. وقيل: الكذب عار لازم، وذل دائم. وقيل: الكذب والحسد والنفاق أثافي.
شاعر:
لا يكذب المرء إلا من مهانته ... أو عادة السوء أو من قلة الورع
وقيل: ما عز ذو كذب ولو أخذ القمر بيديه، ولا ذل ذو صدق ولو اتفق العالم عليه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: حقيق على الله أن لا يرفع الكاذب درجة ولا يثبت له حجة. وقال سليمان بن سعد: لو صحبني رجل وقال لا تشترط علي إلا شرطاً واحداً لقلت لا تكذبني.
النهي عن رواية الكذب:
قيل: من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين، وقيل أحد الشاتمين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قال على ما لم أقله أو رد شيئاً مما قلته، فليتبوأ مقعده من النار. وقيل: إياك أن تكون للكذب راوياً أو واعياً.
النهي عن رواية ما هو بعرض التكذيب:
قيل: من صفات العاقل أن يحدث بما لا يستطاع تكذيبه. وقيل: إياك وحكاية ما يستبعد، فيجد عدوك سبيلاً إلى تكذيبك.
ترك الكذب صعب:
قيل: ما استحلى الكذب عسر عليه فطام نفسه عنه. وقيل لرجل: أترك الكذب، فقال: والله لو تغرغرت به وتطعمت حلاوته لما صبرت عنه. وقال يحيى بن خالد: قد رأينا شارب خمر أقلع، ولصاً نزع، ولم نر كذاباً رجع. وقيل: كل ذنب يرجى تركه إما بتوبة أو إنابة ما خلا الكذب، فإن صاحبه يزداد به ولوعاً على الكبر.
مضرة الكذب:
قيل: دع الكذب فإنه يضرك حيث ترى أنه ينفعك، وعليك بالصدق فإنه ينفعك حيث ترى أنه يضرك. وقيل: الحق أبلج والباطل لجلج. إذا كذب السفير بطل التدبير. إذا كذب الرائد هلك الوارد. الصدق عز والباطل ذل.
من آثر الصدق في مواضع طلباً لجواز كذبه:
قال خالد بن صفوان: أصدق في صغار ما يضرك ليجوز لك الكذب فيما كبار ما ينفعك. وقيل: ما عرف بالصدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه.
حث الكاذب على التحفظ:
قيل: إذا كنت كذوباً فكن ذكوراً. وذكر عثمان البني عكرمة فقيل له: ما كان يكذب، فقال: كان أحمق من الحسن الكذب، إن الكذوب من يكون متحفظاً.
النهي عن سماع الكذب:
قيل: اجعل قول الكذاب ريحاً لتستريح. وقال أبو تمام:
ومن يأذن إلى الواشين تسلق ... مسامعه بألسنة حداد
وقالوا: نزه سمعك عن سماع الكذب كما تنزه لسانك عن التفوه به.
ما أجيز فيه الكذب:
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل كذب مكتوب إلا كذب الرجل في الحرب فإنها خدعة، أو كذب المرء بين الرجلين ليصلح بينهما، أو كذبه لامرأته ليرضيها. وقيل لفيلسوف: من يحمد الكذب؟ قال: إذا قرب بين المتقاطعين، قيل: فمتى يذم الصدق؟ قال: إذا كان غيبة. أتى معاوية بلص فقال زياد: أصدق. فقال الأحنف: الصدق أحياناً معجزة.
شاعر:
الصدق أفضل ما نطقت به ... ولربما نفع الفتى كذبه
آخر:
طلبنا النفع بالباطل ... إذا لم ينفع الصدق
جواز التعويض:
أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مردفاً أبا بكر عام الهجرة، فقيل لأبي بكر: من هذا قدامك؟ قال: رجل يهديني السبيل تعريضاً بأنه يهديني سبيل الحق. وقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله ممن أنت فقال: من ماء. وما حكى الله من قول إبراهيم عليه السلام إني سقيم وقوله فعله كبيرهم هذا فاسألوهم، وما روي عنه أنه قال عن امرأته هذه أختي، كل ذلك تعريض. وقيل في قوله تعالى: " لا تؤاخذني بما نسيت " من معاريض الكلام ولم يكن قد نسي ما عهد عليه. وقال عمر: في المعاريض مندوحة عن الكذب.
المعترف بالتزيد والتكذيب:

قال خالد بن صفوان: إني لا أسمع الحديث فلا أحدث به حتى أتوبله وأفلفله وأسعتره. وقال: إني لأسمع الحديث مجرداً فأكسوه وممرطاً فأريشه. وقيل لحيان: إنك لتكذب في الحديث! فقال: ما يضرك كذبه ولا ينفعك صدقه، وما يدور إلا على لفظ جيد ومعنى حسن، ولو أردته لتلجلج لسانك وذهب بيانك.

المعتذر منه:
بعضهم: ونصرة الحق أفضت بي إلى الكذب شاعر:
وزعمت أني قد كذبتك مرة ... بعض الحديث وما صدقتك أكثر
وفي المثل: عند النوى يكذبك الصادق.
المتأهب في الكذب:
تشاجر رجلان في سواد تراءى من سطح فقال أحدهما: غراب! وقال الآخر: خف! وحلف كل منهما على صدق ما قاله، فدنوا منه فطار فقال صاحب الغراب: كيف ترى؟ فقال الآخر: امرأته طالق ثلاثاً إن كان إلا خفاً ولو بلغ مكة طيراناً. وقال بعضهم لابنه: اكذب على الأموات وباهت مع الأحياء. وقيل لأعرابي: بما غلبت؟ فقال: أبهت بالكذب وأستشهد الموتى.
صعوبة سماع الكذب:
قيل لبعض ندماء السلطان: ما حالكم معه؟ قال: نحن كمال قال الله تعالى: " سماعون للكذب أكالون للسحت " . وكان رجل يكثر الكذب وله غلام يخالفه ويكذبه فقال له يوماً: كنت في ضيعة لي في حصاد زرع فرميت طيراً فوجدت في حوصلته رطبة لم ينضج نصفها، فقال الغلام: استدع السوط ولا تهذ! متى يجتمع الحصاد والرطب يا أحمق؟
ما يجوز أن يكذب المرء فيه:
في كتاب جاويزان فروخ محرم: على السامع تكذيب القائل إلا في ثلاث: صبر الجاهل على مضض المصيبة، وعاقل أبغض من أحسن إليه، وحماة أحبت كنة! وقيل: إذا أردت أن تعرف عقل الرجل فحدثه في خلال حديثك بما لا يكون، فإن أنكره فهو عاقل، وإن صدقه فهو أحمق. وقيل: كذب بالمحالات، وأقر بالواجبات، وتوقف عن الممكنات.
ذكر أكاذيب متناهية:
تكاذب أعرابيان فقال أحدهما: خرجت مرة على فرس فإذا أنا بظلمة فيممتها حتى وصلت إليها، فإذا قطعة من الليل فأنبهتها، فما زلت أحمل عليها حتى اصطدتها! وقال الآخر: رميت مرة ظبياً بسهم فعدل الظبي فعدل السهم خلفه، فعلا الظبي ثم انحدر فانحدر السهم حتى أصابه! وقال رجل لرؤبة: إن حدثتني بحديث لم أصدقك عليه فلك عندي جارية فقال: أبق لي غلام يوماً، فاشتريت يوماً بطيخة، فلما قطعتها وجدته فيها، فقال قد علمت! فقال: دبر لي فرس فعالجته بقشور الرمان فنبت على ظهره شجرة رمان تثمر كل سنة، فقال قد علمت، فقال لما مات أبوك كان لي عليه ألف دينار، فقال: كذبت يا ابن الفاعلة! فأخذ الجارية. وقال بعضهم: كان لأبي منقاش اشتراه بعشرين ألف درهم، فقيل له:إذا كان من جواهر أو مكللاً، فقال: ولكن كان إذا نتف به شعرة بيضاء عادت سوداء وقال رجل: كان أبي زرع سنة السلجم وكان يبلغ مساحة كل شجرة جريب أرض! فقال الآخر: كان أبي اتخذ مرجلاً في بعض السنين، وكان يعمل فيه خمسون أستاذاً لا يسمع كل واحد منهم صوت مطرقة الآخر! فقال صاحبه: ما أكذبك! أي شيء كان يطبخ في ذلك المرجل؟ فقال: السلجم الذي زرعه أبوك! وقالت ليلى لأبيها: أرأيت قول أبيك:
بجيش تضل البلق في حجراته ... بيثرب أخراه وبالشأم قادمه
كم كنتم يومئذ؟ فقال: حضرتها وكنت أنا وابني ومعنا اثنان!
مما جاء في السر
المنع من إظهار السر قبل تمامه:
قيل: استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود. وقيل: من وهى الأمر إعلامه قبل إحكامه. وقيل: من حصن سره أمن ضره.
الحث على حفظ السر:
قيل: من لم يكتم السر فقد استكمل الجهل. وسمع ابن المقفع قول الشاعر:
إذا جاوز الاثنين سر فإنه ... ببث وتكثير الحديث قمين
فقال: أراد بالاثنين الشفتين، ويدل على ذلك قول الآخر:
فلا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا
وفي المثل: اجعل هذا في وعاء غير ذي سرب، سرك من دمك فانظر أين تريقه. وقيل: من أفشى سره كثر المتآمرون عليه، الصلتان، وسر الثلاثة غير الخفي.
المستوخم عاقبة إفشاء السر:

لما ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدامة بن مظعون، بذل المغيرة أمره أن لا يخبر أحداً، فلم يكن له زاد فتوجهت امرأته إلى دار المغيرة فقالت: أقرضونا زاداً لراكب، فإن أمير المؤمنين ولى زوجي الكوفة، فأخبرت امرأة المغيرة زوجها، فجاء إلى عمر رضي الله عنه واستأذن عليه، وقال: يا أمير المؤمنين وليت قدامة الكوفة، وهو رجل قوي أمين! فقال: ومن أخبرك؟ قال: نساء المدينة يتحدثن به. فقال: اذهب وخذ منه العهد.

المتبجح بحظ السر:
قيل لرجل: كيف كتمانك السر؟ قال: قلبي قبره وصدري حبسه.
الأحوص:
ومستخبر عن سر ريّا رددته ... بعمياء من ريّا بغير يقين
أبو تمام: منيع تواحى السرّ منه حصينها المتنبي:
وللسر مني موضع لا يناله ... نديم ولا يفضي إليه شراب
ابن نباتة:
أكاتم قلبي رأي عيني، وإنه ... ليكتم مني سر كل خليل
الممدوح بحفظه:
الأحوص:
كريم يميت السر حتى كأنه ... عم بنواحي أمره وهو خابر
قيس بن الحطيم:
كتوم لأسرار الخليل أمينها ... يرى أن بث السر قاصمة الظهر
كشاجم:
ويكاتم الأسرار حتى إنه ... ليصونها عن أن تمر بخاطره
مدح كتمان السر:
قال قتادة رضي الله تعالى عنه: إذا تكلمت بالنهار فانظر من عندك، وبالليل فاخفض صوتك،وقد نظمه الشاعر بقوله:
اخفض الصوت إن نطقت بليل ... والتفت بالنهار قبل الكلام
ودنا رجل من آخر فكلمه فقال: ليس ها هنا أحد، فقال: من حق السر التداني.
صعوبة حفظ السر:
قيل: أصبر الناس من صبر على كتمان سره فلم يبده لصديقه، الصبر على التهاب النار أهون من الصبر على كتمان السر.
عيب من لا يحفظ سره ويستحفظه غيره:
شاعر:
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق
بشار:
تبوح بسرك ضيقاً به ... وتبغي لسرك من يكتم
دعامة بن يزيد الطائي:
إذا ما جعلت السر عند مضيّع ... فإنك ممن ضيّع السر أذنب
ذم مفشٍ سره:
قيل: فلان أنم من النسيم على الرياض ومن العين منها الصفو والكدر. وقيل: وهو أضيع للأسرار من الغربال للماء. قال شاعر:
أغربالاً إذا استودعت سراً ... وكانوناً على المتكلمينا؟
وقال آخر:
أمنت على السر امرأً غير حازم ... ولكنه في النصح غير مريب
أذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب
ابن الرومي:
كان سري في أحشائه لهب ... فما تطيق له طياً حواشيها
الأحوال التي يفشو فيها السر:
قال يحيى بن خالد: الرجل ينبىء عن نفسه في ثلاثة مواضع: إذا اضطجع على فراه، وإذا خلا بعرسه، وإذا استوى على سرجه. وقيل: إذا أردت أن تنزل الرجل عن سره فتوصل إليه في حال سكره،
فالسكر يظهر سره المكتوما
كتم ما لا يتكتم:
شاعر:
وليس الذي فيه خفاء لأمره ... كمن دب يستخفي وفي العنق جلجل
زهير: مخاز لا يدب لها الخفاء وفي المثل: وهل يخفى على الناس النهار؟ أبو نواس يصف الخمر:
نحن نخفيها ويأبى طيب ريح وفيوح
المساررة في المحافل:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث. وكان مالك بن مسمع إذا ساره إنسان يقول: أظهره فلو كان خيراً لم يكن مكتوماً. وهذا من قول زهير:
والستر دون الفاحشات ولا ... يلقاك دون الخير من ستر
الخيزارزي:
إذا أنت ساررت في مجلس ... فإنك في أهله متهم
فهذا يقول قد اغتابني! ... وذا يستريب وذا يتهم
الرخصة في إفشاء السر إلى الصديق:
ليم بعضهم في إفشاء السر فقال: المصدور إذا لم ينفث جوى، والمهجور إذا لم يشك ورى.
شاعر:
ولا بد للشكوى إلى ذي حفيظة ... إذا جعلت أسرار نفسي تطلع
محمود الوراق:
إذا كتم الصديق أخاه سراً ... فما فضل الصديق على العدو؟
وقيل: لا يزال المرء في كربة ووحشة ما لم يجد من يشكو إليه. وقال الشاعر:
لا تكتمن داءك الطبيبا ... ولا الصديق سرك الهجوبا

وسارر المهدي وكيلاً له والعباس بن محمد حاضر فقال: أسر دوني ولم هجم في نصحك على تلفي لما تركته؟ وأنشد:
بمثلي فاشهد النجوى وعالِن ... بي الأعداء والقوم الغضابا
وكتب أبو الفضل بن العبيد: من كتم طبيبه داءه، وستر عنه ظمأه، بعيد عليه أن يبل من علله، ويعل من غلله.

المتبجح باظهار أسرار أصدقائه:
قال الشاعر:
ولا أكتم الأسرار لكن أنمها ... ولا أترك الأسرار تغلي على قلبي
وإن قليل العقل من بات ليلة ... تقلبه الأسرار جنباً إلى جنب
وقال رجل لصديق له: أكتم سري الذي أفشيته! فقال: كلا لست أشغل قلبي بنجواك، ولا أجعل صدري خزانة شكواك، فيقلقني ما أقلقك، ويؤرقني ما أرقك، فتبيت بإفشائه مستريحاً ويبيت بحره قلبي جريحاً.
شاعر:
ولا تودع الأسرار قلبي فإنما ... تصبن ماء في إناء مثلم
مما جاء في النصح
فضل النصح والحث عليه:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة. وقال صلى الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا. وقال صلى الله عليه وسلم: دعوا الناس يصيب بعضهم من بعض، فإذا استنصحك أخوك فانصحه. وقال أوس:
وإن قال لي: ماذا ترى يستشيرني ... فلم يك عندي غير نصح وإرشاد
الحث على قبول النصح وإن كان مراً:
قيل: من أحبك نهاك، ومن أبغضك أغراك. وقال بعض الحكماء: من أوجرك المر لتبرأ أشفق عليك ممن أوجرك الحلو لتسقم. وقيل: النصيحة أمن الفضيحة.
معاتبة من لم يقبله:
من لم يقبل رأي أصحابه وإن حزنوه، عاد ضرره عليه، كالمريض الذي يترك ما يصف له الطبيب ويعمد لما يشتهيه فيهلك. قال الله تعالى حكاية عن صالح: لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين. وقال أبو ساسان:
أمرتك أمراً جازماً فعصيتني ... فأصبحت مسلوب العبارة نادما
آخر:
لو كنت تقبل نصحي غير متهم ... ملأت سمعك من وعظ وإنذار
العرجي:
عرضت نصيحة مني ليحيى ... فقال: غششتني، والنصح مر!
ضياع النصح لمن لا يقبله:
قال الشاعر:
وما خير نصح قيل لا يتقبل
الخيزارزي:
إن كان حمدي ضاع في نصحكم ... فإن أجري ليس بالضائع
وقيل: أخذ رجل ذئباً فجعل يعظه ويقول: إياك وأخذ أغنام الناس فيعاقبك الله، والذئب يقول: خفف واختصر فقدامي قطيع من الغنم لئلا يفوتني.
قال شاعر:
لددتهم النصيحة أي لد ... فمجوا النصح ثم ثنوا وفاؤوا
معاتبة من يستنصح الناس ويستغش الناصح:
عبد الله بن همام:
ألا رب من تغتشه لك ناصح ... ومؤتمن بالغيب غير أمين
وله:
وقد يستغش المرء من لا يغشه ... ويأمن بالغيب امرأ غير ناصح
يزيد بن الحكم:
تصافح من لاقيته ذا عداوة ... صفاحاً، وحقد بين عينيك منزو
آخر:
ألا رب نصح يغلق الباب دونه ... وغش إلى جنب السرير مقرب
آخر:
نصحت فلم أفلح، وخانوا فأفلحوا ... فأنزلني نصحي بشر مكان
الحث على الغش إذا نصحت فلم يقبل منك فتقرب إلى الله بغشه.
قال الشاعر:
أغش إذا النصح لا يتقبل
وأنشد الثوري:
تنحلت آرائي فسقت نصيحتي ... إلى غير طلق للنصيح ولا هش
فلما أبى نصحي سلكت طريقه ... وأوسعته من قول زور ومن غش
كون الناصح متهماً:
قيل في المثل: المبالغة في النصيحة تهجم بك علة عظيم الظنة. وقال:
وقد يستفيد الظنة المنتصح
وشاور المأمون يحيى بن الحكم فكان الرأي مخالفاً لهوى المأمون فقال يحيى: ما أحد بالغ في نصيحة الملوك إلا استغشوه! قال: ولم يا يحيى؟ قال: لصرفه لهم عما يحبون إلى ما لعلهم يكرهون في الوقت،والهوى إله معبود.
وصف غاش في نصحه:

قيل: فلان شولة الناصح وشولة أمة كانت ترى أن تنصح مواليها وهي تسعى في إهلاكهم. وقال معاوية يوماً لعمرو بن العاص: عل غششتني منذ استنصحتك؟ قال: لا. فقال: ولا يوم أشرت علي بمبارزة علي وأنت تعلم من هو؟ فقال: كيف وقد دعاك رجل عظيم الخطر كنت من مبارزته إلى إحدى الحسنيين، إن قتلته فزت بالملك وازددت شرفاً إلى شرف، وإن قتلك تعجلت من الله تعالى ملاقاة الشهداء والصديقين! فقال: وهذا أشد من الأول! فقال: أو كنت من جهادك في شك؟ فقال: دعني من هذا.
النابغة:
يخبركم أنه ناصح ... وفي نصحه ذنب العقرب
الموسوي:
يروم نصحي أقوام رأوا كيدي ... والعجز أن تجعل الموتور منتصحا
هذا من قول حارثة بن بدر:
أهان وأقصى ثم تستنصحوني ... وأي امرئ يعطي نصيحته قسرا؟
وقال لمن يرد نصيحته:
أعاذل إن نصحك لي عناء ... فحسبك قد سمعت وقد عصيت

مما جاء في الوعظ والمتعظين
والآمرين بالمعروف والقصاص والمفتين
نهي من لا يتعظ عن الوعظ:
قال رجل لأمير المؤمنين عليه السلام: عظني وأوجز. فقال: توق ما تعيب. وقال أيضاً: لا تأت ما تعيب ولا تعب ما تأتي. وجاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه فقال: إني أريد أن أعظ. فقال: أو بلغت ذلك إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله تعالى فافعل، قال: ما هي؟ قال: قول الله تعالى: " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " . وقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " . وقول العبد الصالح شعيب: " ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " . أحكمت هذه الآيات؟ قال: لا. قال: فابدأ إذاً بنفسك.
ابن كناسة:
يا واعظ الناس قد أصبحت متهما ... إذ عبت منهم أموراً أنت تأتيها
كمن كسا الناس من عري، وعورته ... للناس بادية، ما إن يواريها
الحث على الوعظ بالفعال دون المقال:
قال بقراط: لا تحث غيرك على فعل الفضائل ما لم تستكمل فيك، فأفعالك تحث على المحاسن أكثر من مقالك. وقال أبو جعفر النيسابوري: ليس الحكيم الذي يلقنك الحكمة تلقيناً، إنما الحكيم الذي يعمل العمل فتقتدي به. وقال أبو هاشم: أخذ المرء نفسه بحسن الأدب تأديب أهله، ومن هذا قول محمود الوراق:
رأيت صلاح المرء يصلح أهله ... ويعديهم داء الفساد إذا فسد
وقال عدي:
ونفسك فاحفظها من الغي والردى ... متى تُغوِها تُغوِ الذي بك يقتدي
التلطف والملاينة في الوعظ:
قيل: تصدى رجل للرشيد فقال: إني أريد أن أغلظ عليك لي في المقال، فهل أنت محتمل؟ قال: لا، لأن الله تعالى أرسل من هو خير منك إلى من كان شراً مني! فقال: فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى؟ وقيل: الواجب لمن يعظ أن لا يعنف، ولمن يوعظ أن لا يأنف
الحث على الاتعاظ:
قيل: من قل اعتباره قل استظهاره، من لم يتعظ بغيره وعظ الله به غيره. وقال حكيم: السعيد من وعظ بغيره، والشقي من وعظ به غيره. وقيل: يا لها من موعظة لو وافقت في القلوب حياة!
النهي عن وعظ من لا يتعظ:
قيل: وعظ من لا يرعيك سمعه ولا يشحذ وعظك طبعه كمن وضع مائدة لأهل القبور، ورام بخرقة تليين الصخور. وقيل: فلان في وعظه كنافخ في قفص وقاص في مقبرة. وقيل: لا ينجع الوعظ في القلوب القاسية كما لا يزكو البذر في الأرض الجاسية. وقيل: صقلك سيفاً ليس له سنخ تعب، وبذرك أرضاً سبخة نصب. وقيل: من استثقل سماع الحق فهو للعمل به أكثر استثقالاً.
الحث على قبول وعظ من ليس بمتعظ:
قال بعضهم: لا يمنعنكم سوء ما تعلمون منا إن تعلموا بأحسن ما تسمعون منا. ووقف رجل على ابن عيينة وهو يعظ الناس فأنشده:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي والطبيب مريض
فأنشده ابن عيينة:
اعمل بعلمي وإن قصرت في عملي ... ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه. وما أحسن ما قال يوسف بن الحسين الرازي في دعائه: اللهم إنك تعلم أني نصحت للناس قولاً وخنت نفسي، فهب خيانتي لنفسي لنصيحتي للناس!.

النهي عن الاقتداء بذوي الزلات:
قال المعتمر بن سليمان: إياك والاقتداء بزلات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: فلان شرب النبيذ، وفلان سمع الغناء، وفلان لعب بالشطرنج، فيخرج منك فاسق تام. وقيل: من أخذ برخصة كل فقيه خرج منه فاسق.
كراهية تولي الفتيا والجلوس للناس:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار. وقال صلى الله عليه وسلم: من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض. وقيل لحاتم الأصم: ألا تجلس لنا في الجامع؟ فقال: لا يجلس في الجامع إلا جامع أو جاهل، ولست بجامع ولا أحب أن أكون جاهلاً؛ وفي أخرى: لا يتصدى إلا فائق أو مائق ولست بالفائق. وقال الحسن رضي الله عنه: إن خفق النعال خلف الرجال لا يثبت قلوب الحمقى. ونظر عمر رضي الله عنه إلى أبي بن كعب وقد تبعه قوم، فعلاه بالدرة وقال: إنها فتنة للمتبوع ومذلة للتابع. قال ابن المبارك، قلت لسفيان: من الناس؟ قال: العلماء. قلت: فمن الملوك؟ قال: الزهاد. قلت: فمن الغوغاء؟ قال: القصاص.
الحث على الأمر بالمعروف:
قال الله تعالى: " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون " . وقال أبو بكر رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن النسا إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده، عمهم الله بعقابه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم من رأى منكراً فاستطاع أن يغيره بيده فليفعل، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. وقال خالد بن عبد الله في كلام له: حق على المسلمين التواضع والتناهي عن المعاصي.
الموضع الذي يجوز فيه ترك الأمر بالمعروف:
قال الله تعالى: " يا أيها الذي آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " . وقال أبو أمية الشعباني: سألت أبا ثعلبة الخشنى عنها، قال سألت عنها خبيراً. قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، وإذا رأيت شيخاً مطاعاً وإعجاب كل امرئ برأيه، فعليك بنفسك ودع أمر العوام. وقال أكثر المتكلمين: لا يجوز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل موضع، لكن من علم أو ظن أنه ينفذ قوله ولا يناله مكروه إذا قاله أو فعله، فعليه أن يفعل ذلك، ومتى خاف على نفسه فعليه أن ينكر المنكر بقلبه دون لسانه.
من هزأ بالناس من القصاص:
كان عيار يقص فأقبل جماعة من المرد فقال: هاهو قد جاء العدو أمنوا اللهم امنحنا أكنافهم وكبهم على وجوههم، وولنا أدبارهم وأرنا عورتهم، وسلط رماحنا عليهم، والناس يؤمنون ولا يدرون. وكان قاص بالغداة يسخر بالناس ويشرب بالعشى، فقيل له في ذلك، فقال: أنا بالغداة قاص وبالعشي ماص. وكان قاص يقال له شعيب يقول: ها أنا أبو شعيب قليل العيب، هاتوا ما في الجيب أخبركم بما في الغيب. وجاء رجل فقال: ما المحبة؟ فقال: هاك سؤالك، جاءني في جبه بلحية كالمذبه، ورأس مثل الدبة وعقل لا يساوي حبة، يسألني عن المحبة!
الهازون من القصاص:

ألقي إلى أبي مسلم القاص خاتم بلا فص فقال: صاحب هذا الخاتم يعطى في الجنة غرفة بلا سقف! وقال قاص: ما من قطرة تسقط من السماء إلا ومعها ملك يضعها في موضعها ثم يصعد! فقيل: فالقطرة التي تقع في الكنيف يدخل معها الملك؟ فقال: إن في الملائكة كناسين كما في الناس وذوي دناءة وخسة. وقال أبو عقيل: الرعد ملك أصغر من نحلة وأعظم من زنبور! فقيل: لعلك تريد أصغر من زنبور وأعظم من نحلة! فقال: لو كان كذا لم يكن بعجب. وقرأ رجل في مجلس سيفويه قوله تعالى: " وراودته التي هو في بيتها عن نفسه " فقال: دعنا من قرآن الحماشين وهات قرآن طرسوس، يعني الجهاد. وقال قاص: يا قوم اشكروا إذا لم يكن للملائكة نجاسة، فكانوا يخرون علينا ويلطخون ثيابنا! وقال يوماً احذروا الله فإنه ماء تحت التبن! فقيل له: كيف؟ فقال: أهلك عالماً في سبب ناقة قيمتها مائتا درهم، وقتل ابن النبي فلم ينتطح فيه عنزان، ربما يأخذ بالقليل ويعفو عن الكثير. وقال آخر: من صلى ركعتين فله بيت في الجنة. فقال نبطي: إن صليت خمسين ركعة هل يجعل لي بيت. فقال: لا يا ماص إن ذلك لبني هاشم، فأما أنت فيبنى لك جدح بعكر! وقال بعضهم: كان موسى عليه السلام فضولياً. قيل: وكيف؟ قال: قيل له وما تلك بيمينك يا موسى؟ فكان الجواب أن يقول، عصا، فقال: هي عصاي " الآية " فأخذ فيما لا يعنيه.

أدعيتهم:
دعا بعض القصاص فقال: اللهم جازفنا ولا تفتش عن ذنوبنا فتفضحنا. وكان بعضهم يقول: اللهم اغفر لنا كل نعمة وحسنة، واحشرنا في جملة سيدي أبو عبد الله بن حنبل، ولا تغفر للرافضة.
من أفتى في مسألة برقاعة:
ترك طبيب طبه وقعد فقيهاً فقيل له: ما تقول في من زعف في صلاته؟ فقال: يحتجم. قيل: فمن قلس في صلاته. فقال: يتناول حب أيارج. قيل: ذا طب وليس بفقه. وقيل لآخر: ما تقول في من خصى نفسه؟ قال: إن قصد الإضرار بامرأته حد. وقيل لبعضهم: إن نصرانياً قال: لا إله إلا الله. فقال: يؤخذ بنصف الإسلام، وإن مات دفن بين مقابر المسلمين ومقابر النصارى. وقيل لسيفويه: ما تقول في الأضحية؟ فقال: على الخبير سقطت، سألت عنها شيخاً بنصيبين فلم يكن عنده فيها شيء. وقيل له: أتروي عن شريك شيئاً؟ فقال: نعم حديثاً واحداً. قيل: ما هو؟ قال: حدثنا شريك بن مغيرة عن إبراهيم مثله. قيل: مثل أي شيء؟ قال: ما أدري هكذا سمعته!.
من استغنى فيما لا يعرفه فانفصل عنه بحيلة:
قالت امرأة لرجل: إذا كان مكوك دقيق بدرهم ودانق كم يكون بأربعة دراهم؟ فلم يعرف جوابها. فقال: ممن اشتريت؟ قالت: من فلان. قال: اقنعي بما يعطيك فإنه ثقة. وسأل رجل في الجامع أبا عقيل مسألة في الحيض فلم يعرفها. فقال: يا أحمق اخرج هذه القاذورات والنجاسات من الجامع حتى تخرج منه! وكان بعض القصاص في حديث قتلى بدر فسئل عن النملة إذا ماتت في الماء هل يجوز شربه؟ فقال: ما لنا وهذا نحن في النوق لسنا العنوق أي نتكلم في الكبار فلا نخوض في الصغار.
من استفتاء أحمق فأجابه بنادرة:
قال شامي لحمرة بن بيض: لم يرفع الكلب رجله إذا بال؟ قال: مخافة أن ينس سراويله. وسأل رجل الشعبي: كم أمهر ابليس امرأته؟ قال: ذاك أملاك لم أشهده. وقال له انسان: هل آكل الذباب؟ قال: إن اشتهيت فكل! وقيل لآخر: إذا دخلت النهر لأغتسل ففي أي جانب أفضل أن أقف؟ فقال: في الجانب الذي فيه ثيابك لئلا تسرق. وقيل لآخر: ما تقول في من نام وأيره قائم، فجاءت امرأة وقعدت عليه؟ فقال: لا أدري ما أقول، ولكن كان أيراً مرزوقاً! وقال أبو حازم: جاء رجل إلى أبي، فقال: بأي رجل يجب أن يبدأ من يدخل المسجد؟ فقال: ما هذا مما يسأل عنه ولكن قد قيل للعروس ضعي رجلك اليمنى على المال والبنين. وقال رجل لمفت بالبصرة: أسلمت ثوباً إلى الحائك فالدقيق على من يجب؟ فقال: الدقيق ولعنة الله على الحائك.
من استفتى في سخف فأجاب بمقتضاه:
قيل لعالم: ما بال عانة المرأة تنبت أكثف؟ فقال: لقربها من السماد وتسقى من عسل. وقيل: ما بال استاههن لا شعر عليها وعلى أستاء الرجال الشعر؟ فقال: لأن أستاه الرجال حمى وأستاه النساء مرعى. وقال عبادة عند المأمون ليحيى بن أكثم: علمني فرائض الصلب فإني أشتهيها. فقال المأمون وتبسم: ما تقول في مسألة؟ فقال: قد أخطأ، أما كان يجب أن يسأل عن هذا في الصبا؟ أما سمع قول الشاعر:

فإن من أدبته في الصبا ... كالعود يسقى الماء في غرسه
إنما يعلم الحديث بشرط أن يكون وضيئاً زكياً سهل الأخلاق، فإن كان له ابن بهذا الشرط علمناه. فقال عبادة: لو دخلت في صناعتنا لم يقربك أحد. فقال يحيى: وأنا خارج منها وما بأحد على قوة واستفتى ابن فريعة في رجل دخل الحمام وقعد في الحوض فضرط فيه، فتحول الماء زيتاً فكتب: أخلق بذلك أن يكون عبثاً باطلاً وكذباً ماحلاً، والجواب وبالله التوفيق: إن لصاحب الحمام نصف الزيت لأجل مائه، وللضارط النصف لحط وجعائه، وعليهما أن يعلما المبتاع بنجاسة منشئه وقذر مبدئه، ليستعمله في أسرجته دون أطعمته. والسلام.

مما جاء في الخطبة وقراءة القرآن
ما يحتاج إليه في الخطبة:
قيل: يجب أن يكون الخطيب رابط الجأش ساكن الجوارح، قليل اللحظ متخير اللفظ، جهير الصوت، وأن يضع في صدر كل خطبة من النكاح والعيد والصلح ما يدل علة عجزها، وأن يكون فيها آيات وإلا كانت شوهاء ولذلك قال عمران بن حطان: أول خطبة خطبتها عند زياد فقال هذا الفتى أخطب الناس لو كان في خطبته شيء من القرآن، وليس من السنة التمثل فيها بالشعر. وقال الجاحظ: يجب أن يفرق بين صدر خطبة النكاح وخطبة العيد وخطبة الصلح. وكانوا يحمدون الجهير الصوت ويذمون ضئيله.
صعوبة توليها:
قيل لعبد الملك: أسرع إليك الشيب. فقال: كيف لا وأنا أعرض عقلي في كل جمعة على الناس. وقيل: نعم الشيء الإمارة لولا قعقعة البريد وصعوبة المنبر! وقيل: إياك والخطبة فإنها مشوار كثير العثار. وقيل: لا يقدم على الخطبة إلا فائق أو مائق. وقال عبد الله القسري: هو مقام لا يقومه إلا أهوج أو قليل الحياء. وقال عمر رضي الله عنه: لا يتصعدني شيء كما تتصعدني خطبة النكاح. وقيل: إنما صعب عليه لقرب الوجوه من الوجوه، ومن صعد المنبر رأى نفسه أرفع فيكون أجسر، وقيل: إنه لا يجد من تزكية الخاطب بداً فذلك كرهه.
من ارتج عليه فيها فاعتذر بعذر حسن:
ارتج على عثمان رضي الله عنه فقال: إنكم إلى أمير فعال أحوج منكم إلى أمير قوال. وارتج على يزيد بن المهلب فلما نزل قال:
فإن لا أكن فيكم خطيباً فإنني ... لسيفي، إذا جد الوغا، الخطيب
فقيل: لو قلت هذا على المنبر لكنت أخطب العرب! وصعد خالد بن عبد الله القسري المنبر فارتج عليه فقال: إن هذا الكلام يجيء أحياناً ويعسر أحياناً، وربما طلب فأبى وكوبر فعتا، والتأني لمجيئه أيسر من التعاطي لأبيه. وقد يختلط من الجريء جنانه وينقطع من الذرب لسانه وسأعود فأقول. وارتج على أبي العباس السفاح لما صعد المنبر فنزل ثم صعد وقال: أيها الناس إن اللسان بضعة من الإنسان يكل بكلاله إذا كل، ويرتجل لارتجاله إذا ارتجل، ونحن أمراء الكلام، بنا تفرعت فروعه وعلينا تهدلت غصونه، ألا وأنا لا نتكلم هذراً بل نسكت معتبرين وننطق مرشدين!
من اعتذر بخوافة أو نادرة:
حضر عبد الله بن عامر على منبر البصرة فاشتد جزعه فقيل: إن هذا مقام صعب فامتحن فيه غيرك، فأمر وازع بن مسعود أن يصعد ويخطب، فلما ابتدأ الكلام حضر فقال: لا أدري ما أقول لكم، ولكنني أشهدكم أن امرأتي طالق، فهي التي أكرهتني على حضور الصلاة. ثم أمر آخر فصعد المنبر فارتج ونظر إلى الصلع فقال: اللهم العن هذه الصلعة. وصعد عتاب بن ورقاء منبر أصبهان يوم النحر فحصر فقال: لا أجمع عليكم عياً ونجلاً، ادخلوا سوق الغنم فمن أخذ منكم شاة فهي له وعلي ثمنها.
الأمر بالإغضاء عنه لئلا يدهش:
صعد أعرابي المنبر، فلما رأى الناس يرمقونه صعب عليه الكلام فقال: رحم الله عبداً قصر من لفظه ورشق الأرض بلحظه، ووعى القول بحفظه. وصعد روح بن حاتم المنبر، فلما رفع الناس أبصارهم قال لهم: نكسوا رؤوسكم وغضوا أبصاركم، فإن أول موكب صعب. وصف خطيب مصقع طلحة:
ركوب المنابر وثائبها ... معن بخطبته مصقع
قيس بن عاصم:
خطباء حين يقول قائلهم ... بيض الوجوه مصاقع لُسنُ
آخر:
يرمون بالخطب الطوال، وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء
جماعة من مشاهير الخطباء:

منهم: قس بن ساعدة، ولقيط بن معبد، وزيد بن جندب، وصعصعة بن صوحان، وقطري بن الفجاءة، وعمران بن حطان. وتكلمت الخطباء يوماً عند معاوية. فقال: والله لأرمينهم بالخطيب الأشدق! قم يا زيد فتكلم. ومن الخطباء القدماء كعب بن لؤي، وكان يخطب على العرب كافة، فلما مات أكبروا موته وأرخوا بموته إلى عام الفيل. ومن خطباء اليمن حمير بن الصباح. وكان المفضل بن عيسى الرقاشي من أخطب الناس، وكان متكلماً قاصاً يقعد إليه عمرو بن عبيد.

المعتذر بعجزه عن الخطبة:
كعب الأسدي:
فإن لا أكن في الأرض أخطب قائماً ... فإني على ظهر الكميت خطيب
وإن لا أكن فيكم خطيباً فإنني ... بسمر القنا والسيف جد خطيب
لبيد:
إذا اقتسم الناس فضل الفخار ... أطلنا على الأرض ميل العصا
وله:
ما إن أهاب إذا السرادق غمه ... قرع القسي وأرعش الرعديد
ومن السنة أن يتناول الخطيب سيفاً أو قوساً يمسك به نفسه، وقد تقدم شيء من هذا الباب.
ذم خطيب:
وائلة الدوسي:
لقد صبرت للدل أعواد منبر ... يقوم عليها في يديك خطيب
بكى المنبر الشرقي لما علوته ... وكادت مسامير الحديد تذوب
منصور بن ماذان:
أقول غداة العيد والقوم شهد ... ومنبرنا عالي البناء رفيع
لعمري لأن أضحى رفيعاً فإنه ... لمن يرتقي أعواده لوضيع
آخر:
سلي ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع
المصيصي في خطيب:
ينشي لنا كل جمعة عظة ... يشلي علينا بها الشياطينا
فضل قراءة القرآن:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه في السر والإجهار. وقال صلى الله عليه وسلم: خيركم من تعلم القرآن وعلمه. ولبعضهم: إن الله تعالى جعل القرآن سراجاً لا تطفأ مصابيحه، وشهاباً لا يخبو زنده ونوراً لا يتغير ذكاؤه، ومن قرأه وتبعه دله على المكارم وصده عن المحارم، وشفع له يوم القيامة، قال الله تعالى: " وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون " . وقال تعالى: " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر؟ وقال صلى الله عليه وسلم: من بلغه القرآن فكأنما شافهته لقوله تعالى: " لأنذركم به ومن بلغ " . وقد ذكرنا أحوال القرآن في باب الديانة مستقصاة.
نوادر العرب فيما سمعوه من القرآن:
قيل لأعرابي: إقرأ قل يا أيها الكافرون. فقال: أدخلت يدك في الجراب فأخرجت شيئاً فيه صعود وهبوط، هات غيرها. وقيل لآخر: ما تقرأ في صلاتك؟ قال: أم القرآن ونسبة الرب وهجاء أبي لهب. وقيل لآخر: ما قرأ أمامكم البارحة في صلاته؟ فقال: أوقع بين موسى وهارون شراشر. وسمع آخر رجلاً يقرأ " الأعراب أشد كفراً ونفاقاً " فقال: لقد هجانا، ثم سمعه يقرأ بعده: ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر، فقال: لا بأس هجاء ومدح، هذا كما قال الشاعر:
هجوت زهيراً ثم إني مدحته ... وما زالت الأشراف تهجى وتُمدح
وسمع آخر قوله تعالى: " وفي السماء رزقكم وما توعدون " ، فقال: وأين السلم إليه؟ وسرق أعرابي غاشية سرج فدخل مسجداً فقرأ الإمام: " هل أتاك حديث الغاشية " ؟ فقال: اسكت قد أخذت في الفضول، فقرأ الإمام: " وجوه يومئذ خاشعة " . فقال: ها هي غاشيتكم فلا تخشعوا وجهي.
من غيّر حرفاً من القرآن فأتى بنادرة لما روجع:
قال الحجاج لامرأة من الخوارج: اقرئي شيئاً من القرآن، فقرأت: إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجا! فقال: ويحك يدخلون! قالت: قد دخلوا وأنت تخرجهم. وقرأ أعرابي: إنا بعثنا نوحاً إلى قومه. فقيل: إنما هو أرسلنا. فقلنا: ما بينهما إلا لجاجك. وقرأ آخر: فمن يعمل مثقال ذرة شراً يره ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. فقالوا له: قد غيرت. فقال:
خذوا أنف هرشي أو قفاها فإنه ... كلا جانبي هرشي لهن طريق
بعض ما جعلته العرب قرآناً:
قرأ أعرابي في صلاته الفيل: وما أدراك ما الفيل، له ذنب طويل، ومشفر وئيل، وإنه من خلق ربنا لقليل الله أكبر! وقرأ آخر:

ويوسف إذ دلاه أولاد علة ... فأصبح في قعر الركية ثاويا
وصلى آخر بقوم فقرأ:
أفلح من هينم في صلاته ... وأخرج الواجب من زكاته
وأطعم المسكين من مخلاته
فضحك القوم فالتفت إليهم وقال: أشهد أني أخذته من في مسيلمة. وشهد أعرابي عند أمير فقال المشهود عليه: كيف تقبل شهادته وهو لا يحسن شيئاً من القرآن؟ فالتفت إليه وقال، اقرأ، فقال:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
من ذكر مثلاً فاعتقد أنه من القرآن:
خطب أبو الفرزدق فقال: قال الله تعالى لن يعجز القوم إذا تعاونوا. وخطب عتاب بن ورقاء فقال: إن الله تعالى يقول إنما يتفاضل الناس بأعمالهم، فقيل: ليس هذا قرآناً. فقال: ما أظنها إلا آية. وقال بعض الناس: ما أحسن ما قال الله تعالى، اقتلوا السفلة حيث وجدتموهم! فقيل: ليس هذا بقرآن. فقال: ألحقوها به فإنها آية حسنة. وغضب أبو عباد الكاتب على بعض كتابه فرماه بدواة، فبلغ المأمون فقال له: لم فعلت ذلك؟ فقال: أنا ممن قال الله تعالى فيه " وإذا ما غضبوا هم يستغفرون " فقال: ويلك لا تحسن آية؟ فقال: نعم إني أقرأ من سورة ألف آية.

ذم من قبح قراءته:
قرأ رجل بحضرة الصاحب رحمه الله والعاديات بأقبح قراءة، فتناوم الصاحب تبرماً به، فضرط القارىء ضرطة ففتح الصاحب عينيه وقال: نومتني بالعاديات ونبهتني بالمرسلات! المصيصبي:
نحن في أنكر عيش ... من قراءة ابن حبيش
يقرأ الحمد فتى في ... حلقه كنة خيش
آخر:
وكأنما في الحلق منه مجسة ... أو دبة في سلم تتدحرج
وصلى رجل يقال له يحيى بأربعة نفر، فأكثر اللحن في قل هو الله أحد، فلما فرغ قال أحدهم:
أكثر يحيى غلطاً ... في قل هو الله أحد
فقال الثاني:
قلم يصلي قاعداً ... حتى إذا أعيا قعد
فقال الثالث:
كأنما لسانه ... شد بحبل من مسد
فقال الرابع:
يزحر في محرابه ... زحير حبلى بولد
ذم من ارتج عليه في القراءة ونوادره:
قام رجل يصلي خلف إمام، فلما افتتح الصلاة ارتج عليه في الإستعاذة من الشيطان، فأخذ يكرر الإستعاذة فقال له رجل: إنك لا تحسن القرآن فما ذنب الشيطان يا بارد؟ وقرأ إمام سورة إذا الشمس كورت، فلما بلغ قوله فأين تذهبون، أرتج عليه، فأخذ يكرره وخلفه أعرابي فأخذ جمشكه وصفعه فقال: أما أنا فأريد كلواذاء وهؤلاء الكشاخنة لا أعرف مقصدهم. وصلى رجل بقوم فأخذ يردد قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي، فقال أعرابي: أهلكك الله وحدك! وقرأ الرشيد ليلة: وما لي لا أعبد الذي فطرني، فارتج عليه وأخذ يردده وابن أبي مريم بقربه في الفراش فقال: لا أدري والله لم لا تعبده؟ فضحك الرشيد وقطع صلاته.
مما جاء في الفراسة والتراطن والطيرة والفأل
صحة الفراسة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: اتقوا فراسة المؤمن. وقال صلى الله عليه وسلم: المؤمن ينظر بنور الله.
ابن الرومي:
وخبِّي الفؤاد يعلمه العا ... قل قبل السماع بالإيماء
وظنون الذكي أنفذ في الحق سهاماً من رؤية الأغبياء
آخر:
لا تسأل المرء عن خلائقه ... في وجهه شاهد من الخبر
وقال آخر: وفي بعض القلوب ترى عيون البحتري:
وإذا صحت الروية يوماً ... فسواء ظن امرىء وعيانه
الممدوح بصحة الفراسة:
قيل: فلان ألمعي.
أوس:
نجيح مليح أخو ماقط ... نقاب يخبر بالغائب
أبو تمام:
يرى الحادث المستعجم الخطب معجما ... لديه، ومشكولاً وإن كان مشكلا
آخر:
يخبر ظهر الغيب ما أنت فاعل
آخر:
يخاطبه من كل أمر عواقبه
من تفرس في صبي أمراً وكان كما ظن:
رأى بكير بن الأخنس المهلب وهو غلام فقال: خذوني به إن لم يفق سراتهم ويبرع حتى لا يكون له مثل! وكان كما قال. ونظر رجل إلى معاوية وكان صغيراً فقال: إني أظن هذا الغلام سيسود قومه! فقالت هند: ثكلته أمه إن كان لا يسود إلا قومه. ورأى رجل ابن السكيت وهو صغير يسأل فيجيب فقال: إن هذا الغلام ينال خيراً. وقد تقدم في الحزم والتعلم مثل هذا.
كلمات من الرطانة:

بعث امرؤ القيس إلى امرأة تزوج بها بثلاثين شاة وزق خمر، فذبح الغلام في الطريق شاة وأكلها وشرب بعض الزق، فلما أوصلها قالت له، قل لزوجي إذا أتيته: سحيما كان قد رثم وإن رسولك جاءنا في المحاق. فلما أتاه الرسول وأخبره قال: يا عدو الله أكلت شاة وشربت من رأس الزق! فاعترف بذلك. وأسر بنو ساسان رجلاً من بني العنبر فقال: دعوني أرسل إلى قومي ليفدوني، فقالوا: على أن لا تكلم الرسول إلا بحضرتنا. فقال: نعم. وقال للرسول: قل لهم إن الشجر قد أورق وإن النساء قد اشتكت. ثم قال له: أتعقل؟ قال: نعم. فقال: ما هذا الوقت؟ قال: الليل. قال: قل لهم عروا جملي الأصهب، واركبوا ناقتي الحمراء، واسألوا حارثاً عن أمري. وكان الحارث صديقاً له، فذهب الرسول إليهم فدعوا حارثاً فسألوه فقال: قوله الشجر قد أورق أي تسلح القوم، واشتكت النساء أي اتخذت القرب للماء، وقوله ما هذا الوقت فقال الليل فإنه يقول أتاكم جيش كالليل، وقوله عروا جملي الأصهب أي ارتحلوا عن الصماء، واركبوا ناقتي الحمراء أي انزلوا الدهناء! فرحلوا من ساعتهم، فصبحهم القوم فلم يجدوا أحداً. وكان العطاردي لما رجع إلى قومه رمى إليهم بصرتين في إحداهما شوك وفي الأخرى تراب، فقال قيس بن زهير: هذا رجل مأخوذ عليه بالحلف وهو ينذركم عدواً وشوكاً. قال الله تعالى: " وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم " . وأسرت طيىء غلاماً من العرب فقدم أبوه ليفديه فاشتطوا عليه، فقال أبوه عنده: لا والذي جعل الفرقدين يصبحان ويمسيان على جبلي طيىء، ما عندي غير ما عرفتكم! ثم انصرف. وقال: لقد أعطيته كلاماً إن كان فيه خير فهمه كأنه قال الزم الفرقدين على جبلي طيىء، ففهم الابن كلامه، فطرد إبلاً من إبلهم ليلته ونجا بها. وكان داريوس ملك فارس لما سمع بخروج ذي القرنين بعث إليه بدرة وكرة وياقوتة، وجراب سمسم وتابوت مملوء من الذهب وكتب إليه: إنما بعثت بهذا لأجرب عقلك! فقال له الاسكندر: قد عرفت لماذا بعثت، أما الدرة فتزعم أنك سوط تشير علي، وقلت يجتمع لي ملكك اجتماع هذه الكرة في يدي، وذكرت أن لك في أمري ضياء كضياء الياقوتة، وبعثت بالتابوت من الذهب تقول تكون لي خزائنك، والسمسم تعلمني أن عدة جنودك كثيرة ككثرته. ثم إن ذا القرنين أخذ كفاً من السمسم بحضرة الرسول فاستفه ومضغه، وقال: قل له جنودك كثيرة ولكني أطحنهم طحناً كهذا السمسم، وبعث معه إليه بجراب من خردل، فأخبر الرسول داريوس بما عاين من ذي القرنين فأعجبه كيده وغضب، فأخذ كفاً من الخردل فطرحه في فمه كفعله بالسمسم. فلما وجد مرارته وحرافته لفظه وقال: أشهد أن جنوده في حرافة الخردل، ثم كانت الغلبة لذي القرنين. ولما صالح ملك الهند اشترط عليهم أن يدفعوا إليه حكيماً كان فيهم، ففعلوا فاستصحبه ولم يفاتحه ثم بعث إليه يوماً بستوقة مملوءة سمناً فأخذها الحكيم وغرز فيها إبراً وردها إليه، فبعث إليه يوماً آخر مرآة صديئة، فأخذها الحكيم فجلاها وردها إليه. فقيل لذي القرنين تعجباً من فعلهما، ماذا عنيتما بذلك؟ فقال: إني لما بعثت إليه البستوقة قلت إني ممتلىء من العلم امتلاء هذه البستوقة من السمن، فأراني بغرز الإبر أن الأمر بخلاف ذلك، وأن في زيادات كثيرة. وذكرت له بالمرآة الصديئة أن نفسي قد صدئت، فأجابني بأن قال: ذاكراً العلماء فالمذاكرة جلاء القلوب.

الإشارة بقول يسير إلى معنى كثير:
كان المأمون رحمه الله غضب على طاهر بعد ما وجهه إلى خراسان، فكتب إليه بالرجوع، فكتب إليه صديق له كتاب سلام ووقع على حاشيته يا موسى. فجعل طاهر يتأمل ذلك ولا يدري معناه حتى ناوله امرأة صحبته جزلة الرأي فقالت: إنما عنى يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك! فأمسك طاهر عن الإقدام وجعل يتقيه حتى طيب قلبه.
النهي عن التكهن والطيرة:

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الطيرة شرك، وما منا من يجده في نفسه، ولكن الله تعالى يذهبه بالتوكل. وقال صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا ينجو منهن أحد: الظن والطيرة والحسد، فإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا تطيرت فامض ولا تثن. وقال: من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترد عن سفر، لم ينظر إلى درجات العلى يوم القيامة. وروي: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا رب غيرك. وقال صلى الله عليه وسلم: لا عدوى ولا هامة ولا صفر.

الرخصة في الطيرة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الطيرة في المنزل والمرأة والفرس. وقيل: أخبرت عائشة رضي الله عنها بذلك فغضبت وأنكرت ذلك، وطارت شقة في السماء وشقة في الأرض وقالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال إن يكن شؤم ففي هذه الثلاثة.
جواز الفأل:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءل ويعجبه الفأل الحسن ولا يتطير. ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقاربها سمع منادياً ينادي يا سالم، فقال لأصحابه: سلمنا. فلما دخلها سمع آخر ينادي يا غانم، فقال غنمنا، فلما نزل أتي برطب فقال صلى الله عليه وسلم: حلا لنا البلد! وسمع رجلاً يقول يا حسن فقال: أخذنا فألك من فيك. ولما خرج من مكة مر بكلبة في ظل شجرة ساقطة أطباؤها نائمة عليها اجراؤها فقال لأصحابه: أعطيتم درها ووقيتم كلبها! وبعث المشركون إليه سهيلاً فقال: أتاكم سهيل وسيسهل أمركم. ووجه سعد بن أبي وقاص إلى عمر رضي الله عنهما رسولاً فلما جاءه قال: ما اسمك؟ قال: ظفر. قال: ابن من؟ قال: ابن قريب. فقال ظفر قريب إن شاء الله تعالى. ولما طلب المغيرة بن شعبة رسول سعد بن أبي وقاص من ملك الفرس يزدجرد الجزية قال: نعطيكم التراب. فقال سعد: نعم الفأل مكننا من أرضه!
النهي عن التنجيم واختيار الأيام:
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل: في أي يوم أحتجم؟ فقال: لا تطيروا، فإن الأيام كلها لله إذا تبيغ بأحدكم الدم فليحتجم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لا طير إلا طيرك. ولما عزم علي كرم الله وجهه على المسير إلى النهروان أتاه بسام المنجم فقال لا تسر في هذه الساعة وسر في وقت كذا. قال: ولم؟ قال: لأنك إن سرت فيها أصابك ضرر شديد، وإن سرت في وقت كذا ظفرت. فقال: ما كان محمد صلى الله عليه وسلم يعلم ما ادعيت. وقال: اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك، وما كان لعمر رضي الله عنه منجم، ولقد فتح بلاد كسرى وقيصر. وقال علي كرم الله وجهه: من تعلم باباً من النجوم فقد تعلم باباً من السحر، فإن زاد ازداد.
وقال الخليل:
أبلغا عني المنجم أني ... كافر بالذي قضته الكواكب
عالم أن ما يكون وما كا ... ن فحتم من المهيمن واجب
وقال الصاحب:
خوفني منجم أبو خبل ... تراجع المريخ في برج الحمل
فقلت: دعني من أباطيل الحيل ... فالمشتري عندي سواء وزحل!
أدفع عني كل آفات الدول ... بخالقي ورازقي عز وجل
أسامي ما تتطير به العرب:
السانح ما ولاك ميامنه، والبارح ما ولاك مياسره. قال أبو عبيدة: البارح يتشاءم به أهل نجد والسانح يتشاءم به أهل عالية، ولذلك قيل من لي بالسانح بعد البارح؟ والناطح ما يتلقاك بجهته وهو يكره، والكادس ما يجيء من خلفك يقفوك، وكل ما يتطير به يسمى طير العراقيب، ويتطيرون بالعطاس. ولذلك قال:
أوحلت من سلمى بغير متاع ... قبل العطاس ورعتها بوداع؟
المصيب في عيافته:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11