كتاب : محاضرات الأدباء
المؤلف : الراغب الأصفهاني

خرج المهدي إلى الصيد فتفرد مع غلام فرأى أعرابياً فقال: إني أريد أن أضحك من هذا الأعرابي. فأتاه الغلام فقال: أجب أمير المؤمنين. فقال: ما لي ولأمير المؤمنين؟ فزناه وشتمه. فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين هذا شتمني فقال المهدي: يا غلام أعطه دانقاً. فقال الأعرابي: أدية فريتكم دانق يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: فأنت زان وابن زانية وابن زان، خذ درهماً ومر في حفظ الله! وقال هشام: من يسبني ولا يفحش وهذا المطرف له؟ فقال له أعرابي: هاته يا أحول! فقال: خذه قاتلك الله! وقال البوشجان: حضرت مجلس المبرد فسمعنا نفاشاً يقول في حرام أصفهان فقال أبو العباس: هذا قد شتمكم على قول الله تعالى: واسأل القرية أي أهلها.

الدعاء على إنسان بالمرض:
قال أعرابي لرجل: إن كنت كاذباً فبعث الله عليك داء ليس له دواء. وقال آخر: رماه لله من الداء بما يصير به رحمة للأطباء. وقيل: ما له خرب وحرب وذرب. معنى ذرب فسدت معدته ما له وراء الله الورى سعال يقيء منه الدم. قال عبد بني الحسحاس:
وراهن ربي مثل ما قد ورينني ... وأحمي على أكبادهن المكاويا
وقيل: بفيه الثرى وحمى خبيراً فإنه خيسرى ابن خاسر أبرد الله مخه أي أهزله ماله ال وغل وسل كساه الله عصابة رمد ورداء نكد وازار جذام.
الدعاء عليه بفقدان الجوارح:
جذعه الله جذعاً مرعباً، أشل الله عشره.
فلا استقلت أبداً ... سوطاً من الأرض يده
جارية الناطفي:
فليت من يضربها ظالماً ... تيبس يمناه على سوطه
الدعاء عليه بذهاب المال:
شرب بارداً وحلب قاعداً أي لا كان له لبن حتى يشرب الماء القراح، وعوض من الإبل غنماً يحلبها قاعداً. ونحوه: أباد الله رواغيه وأبقى ثواغيه. رماه الله بقرع الفناء وصغر الإناء. قرع مراحه وساف ماله. لا طلبته الخيول ولا تكاءدته المحول أي لا جعل الله له ما لا تطلبه الخيول للغارة أو يتكاءده جدب الزمان؛ فعلى هذا حمل قول الشاعر:
وجنبت الجيوش أيا زنيب ... وجاد على منازلك السحاب
الدعاء عليه بالهلاك:
رماه لله حيث لا يرى بفاقرة الثرى أي الأفعى. كقولهم: رماه لله بأفعى عادية ورماه الله ببنية لا أخت لها. وتقول: ثل عرشه وجذ ثدي أمه، وهوت أمه وزال زواله ولا عد من نفره. رماه الله بثالثة الأنافي ورياح عاصفة وسيول جارفة.: ويقال: ما لكم تفاقدتم فجع الله به وادا ودوداً وأشمت به حاسداً حسوداً، وسلط عليه هماً يضنيه وجاراً يؤذيه وعدواً يرديه، أقام الله عليه ناعيه وأشمت به أعاديه.
امرأة:
ارم بسهمين على فؤاده ... واجعل حمام نفسه في زاده
وفي معنى أفقدنيه الله:
فقدت خيالك لا من عمى ... وصوت كلامك لا من صمم
الحميري:
رب قد أعطيتناه ... وهو من شر عطاء
فارجعنه رب عنا ... بإزار ورداء
الدعاء بإزالة الدولة:
أبو هفان:
أزال الله دولتهم سريعاً ... فقد ثقلت على عنق الزمان
جحظة البرمكي:
سألت الله تعميراً طويلاً ... ليبهجني بخطب يعتريكم
أخاف بأن أموت ولن تريني ... صروف الدهر ما أهواه فيكم
الدعاء على ظاعن:
ودعت على امرأة زوجها ورمته بروثة ونواة وحصاة وقالت: راث خبرك وتناءت دارك وانحص أثرك ثم أنشدت:
اتبعته إذ رحل العيس ضحى ... بعد النواة روثة حيث انتوى
للروثة الريث ... وللنأي النوى
علي بن عاصم:
أما وقد ضمه الفرار ... فلا يضمنه القرار
ولا اطمأنت به الفيافي ... ولا استقرت به الديار
ابن حازم:
وداع دون أوبته النشور ... ونأي لا يقر به مسير
وقالٍ غير ميمون ولكن ... بأنكد ما يدور وما يطير
أبو هفان:
في عذاب يطلب الطا ... لب من أدناه موته
ونحوس قاطعات ... لك عما قد نويته
الدعاء على متزوج:
قال بعضهم: المتزوج بالبيت المهدوم والطائر المشؤوم والرحم المعقوم أبو الفرج الكاتب:
بالرزايا والطائر المنكوس ... كان يوم الزفاف والتعريس

واصل الله باتصالك هذا ... نكبات مبيدة النفوس
دخلت رجلها دخول قدار ... وطويس ومنشم والبسوس
وتبدلت بالجلاء جلاء ... وبرحب الديار ضيق الحبوس

الدعاء على باني دار:
البسامي:
شدت داراً خلتها مكرمة ... سلط الله عليها الغرقا
وأرانيك فقيراً وسطها ... وأرانبها صعيداً زلقا
أنواع مختلفة:
أبو الوليد الكناني:
بلوناهم واحداً واحداً ... فكلهم شأنهم واحده
فلا ذرأ الرب أولادهم ... ولا بارك الرب في الوالده
أعرابي:
وصاحب قلت ولم أسمه ... لما به من مقته وغمه
لعن الإله ثعلة ابن سافر ... لعناً عليه يشق من قدامه
أبو الأشعث الهمداني وقد سرق له أضحية:
يا سارق الكبش رجلاه وجبهته ... في صدع أمك بالقرنين والذنب
هلا سرقت! جزاك الله لعنته ... من الموالي ولم تسرق من العرب
سمع ذو الرمة رجلاً يقول: على فلان لعنة الله! فقال: لم يرض بواحدة حتى شفعها بأخرى، ومعنى ذلك أنه اعتقد في قوله لما سمعه مفتوحاً أنه مرفوع مثنى كقولك هذان عبد الله.
شاعر:
وما دعوت عليه قط ألعنه ... إلا وآخر يتلوني بآمين
سقط مخنث من جبل فغشي عليه فلما أفاق قال: يا جبل ما أصنع بك؟ أضربك لا يوجعك أشتمك لا تبالي، ولكن بيني وبينك يوم يكون الناس كالفراش المبثوث. ومن كلام أبي العبر: استودعك الله حائطاً مائلاً وكنيفاً سائلاً. وقع بين أنس بن مالك وامرأته شر فقال لامرأته: لأدعون الله عليك! فقال: قد دعوته على الحجاج فما زادت رقبته إلا غلظاً. حكى الصاحب أن أبا علي بن مثوبة كان إذا شتم إنساناً في غضب عظيم يقول: يا قواد يا قواد تر. قال: هذه الزيادة لم تسمع إلا منه.
لرابية الأسدية:
فمن لامني في حب نجد وأهله ... فليم على مثل وأوعب جادعه
معاذ الداهلي:
لحى الله أدنانا إلى اللؤم زلفة ... وألأمنا أما وأسقطنا جداً
قال الأصمعي: كان النساء يقلن للشيخ إذا سعل: ورياً وقحاباً. وللشاب: عمراً وشباباً، القحب: السعال. حكي عن يهودي بأصبهان أنه كان إذا أتاه جندي فيقول: يا أخا القحبة! يقول: لما سمعت صوتك علمت أنه هو. وقال له غلامه: إن هذا يقول يا ديوث. فقال: الديوث ايش يعمل ههنا؟ يعرض به. وقال: إنسان امرأته قحبة! فقال: أليست أختاً لك، أليست بنتاً لك؟ قال له إنسان: امرأة قحبة فقال: حلالت هو ذا أي أنها امرأتك.
مما جاء في الهدايا
الحث على الاهداء وذكر فضيلته:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: تهادوا تحابوا. وقال: الهدية تسل السخيمة. وقال عمر رضي الله عنه: نعم لشيء الهدية بن يدي الحاجة. وفي الخبر: إذا قدم أحدكم من سفر فليهد إلى أهله وليطرفهم وإن حجارة. وقيل: أسكفة الباب تضحك من الهدية. وقيل: الهدية هداية. قال:
ما من صديق وإن تمت صداقته ... يوماً بأنجح في الحاجات من طبق
لا تكذبن فإن الناس مذ خلقوا ... عن رغبة يعظمون الناس أو فرق
أما الفعال ففوق النجم مطلبة ... والقول يوجد مطروحاً على الطرق
آخر:
إذا أتت الهدية دار قوم ... تطايرت الأمانة من كواها
وقيل: الهدية بضاعة تيسر الحاجة ومن صانع المال لم يحتشم. قال الغاضري لأصحابه: أي راكب أحسن؟ فقال بعضهم: تمرة على زبدة. فقال: لا بل هدية على حمال. ومن أمثال الفرس: الهدية تغالط العقول.
الحث على قبول الهدية:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الهدية رزق الله، فمن أهدي إليه شيء من غير سؤال ولا إسراف فليقبله، فإنما هو رزق ساقه الله إليه. من سألكم بالله فأعطوه. ومن استعاذكم فأعيذوه، ومن أهدي إليه كراع فليقبله. وقال: لو أهدي إلي كراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع لأجبت.
الحث على المقابلة:
قال الله تعالى: " وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " ، فسره بعضهم بالهدية وجعل الثواب بها واجباً. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها ما هو خير منها. أنشدني بعضهم:

رأيت الناس طراً في الهدايا ... كبيع السوق خذ مني وهات

طلب الهدية ومعاتبة من تركها:
روي أن رجلاً أهدى إلى الحسن والحسين رضي الله عنهما ولم يهد إلى الحنيفة، فأنشأ أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يقول:
وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصحبينا
وكتب رئيس إلى بعضهم: لا تهدين ما يجحف بحالك فإنه لا يزيد في مالي ولا يمنعك من ملاطفتي بيسير، واللطف استعظامك لمكاني، فالكثير منك يسير واليسير عندنا كثير، والسلام: المعيطي:
أتاني أخ من غيبة كان غابها ... وكنت إذا ما غاب أنشده الركبا
فجاء بمعروف كثير فدسه ... كما دس السوء في حضنه رطبا
فقلت له: هل جئتني بهدية؟ ... فقال: بنفسي! قلت: أطعمتها الكلبا!
هي النفس لا أرثي لها من ملمة ... ولا أتمنى إن نأيت لها قربا
الهدية مشتركة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أتى أحدكم بهدية فجلساؤه شركاؤه فيها. وكان الهيثم بن عدي يحدث بهذا الحديث، فما تم حتى طلعت هدية فقال: ما خلا هذه.
نهي الولاة عن قبول الهدية:
صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: ما بال أقوام استعملتهم على الصدقات فيجيء أحدهم فيقول هذا مالكم وهذا أهدي إلي، هلا جلس في حفش أمه فينظر أيهدى إليه؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله، فليأتين أحدكم وعلى رقبته بعير له رغاء، وبقرة لها خوار وشاة لها ثغاء، ثم رفع يده وقال: اللهم قد بلغت. وروي: إياكم والهدية فإنها ذريعة الرشوة. ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي. قال الشيخ: وقد ذكرت خبر أنوشروان مع غيره في مثل هذا الباب في الولايات.
الممتنع من أخذ الهدية:
سأل رجل الخيزران حاجة فاستبطأها، فأهدى إليه هدية فكتب إليه: إن كان ما وجهته ثمناً لرأيي فيك فقد بخستني في القيمة، وإن اكن استزادة فقد استغششتني في النصيحة. وقال المدائني: أهدى رجل إلى مجوسي هدية فاغتم لذلك فقيل له فقال: لئن ابتدأني بها فإنه يدعوني إلى أن أتقلد منه منة، ولئن كافأني على معروف عنده إنه ليروم أخذ ذلك، فمن أي هذين لا أجزع. وطلب عبد الله ابن جعفر لأزاد مرد حاجة من أمير المؤمنين رضي الله عنه، فأهدى إليه ازاد مرد أربعين ألف درهم، فامتنع عبد الله من أخذها وقال: أنا أهل بيت لا نأخذ على معروفنا ثمناً. أهدى عبد الله ابن السري إلى عبد الله بن طاهر لما ولاه مصر مائة وصيفة، مع كل واحدة بدرة، وبعثها إليه ليلاً فردها وكتب إليه: لو قبلت هديتك ليلاً قبلتها نهاراً، وما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون.
من لان بعد شدة لأخذ هدية:
مر زياد بأبي العريان بالبصرة فقال: من هذا؟ فقالوا: زياد بن أبي سفيان. فقال: ما أعرف في ولد أبي سفيان زياداً فبلغه ذلك فوجه إليه دنانير ثم مر به فقال: من هذا؟ فقالوا: زياد بن أبي سفيان. فقال: لقد ذكرني شمائل أبي سفيان، فبلغ ذلك معاوية فكتب إليه:
ما لبثتك دنانير رشيت بها ... أن لونتك أبا العريان ألوانا
لله در زياد منذ قدمها ... كانت لو دون ما يخشاه قربانا
فكتب له:
ابعث لناصلة تحيا النفوس بها ... قد كدت يا ابن سفيان تنسانا
من يسد خيراً يجده حيث يجعله ... أو يسد شراً يجده حيثما كانا
أما زياد فلا أنسيت نسبته ... ولم أرد بالذي حاولت بهتانا
ولما ولي الحسن بن عمارة المظالم قيل ذلك للأعمش فقال: ظالم ولي المظالم! فأهدى إلى الأعمش رزمة ثياب فجعل يقول من بعد: إن الحسن كريم وحر سخي. وكان رؤبة له حكومة فلم يكن يبلغ مراده فيها، فأهدى إلى الحاكم شيئاً فنال ما رام فقال:
لما رأيت الشفعاء بلدوا ... أسوتهم برشوة فقردوا
وسهل الله بها ما شددوا
وكان بعض الولاة يخاشن بعض عماله فأرضاه بما أهداه فسألته: كيف حالك مع فلان؟ فقال: قد سد ابن بيض الطريق وخبره معروف.
استرداد ظروف الهدايا وتركها:

قال الغنوي: استديموا الهدايا برد الظروف. وقال إسحاق بن إبراهيم: كنت مع الرشيد بالكوفة في شهر رمضان فقال لموسى بن عيسى: يا أبا عيسى حلواؤنا عليك. وكان يوجه إليه كل ليلة عشر صحاف؛ فلما كان بعد عشر ليال قطعها فقال له الرشيد: اصغوت فقطعت الحلواء. فقال: ما قطعها غيرك إن أنصفت. قال: كيف؟ قال: إن من يأخذها منا لا يرد صحفة ولا منديلاً ولا طبقاً. قال: بئس ما عمل! إن الهدايا تستدام برد الظروف، فإذا صرت المتقاضي وأنت القاضي فلا تحتشم أحد في استرداد الظروف. وقد أهدى دنانير على طبق فضة فكتب أبيات فيها:
والظرف يوجب أخذه مع ظرفه

الاعتذار من إهداء شيء طفيف:
كتب بعضهم: سهل لي سبيل الملاطفة فأهديت هدية من لا يحتشم إلى من لا يستغنم. كتب أحمد بن يوسف: للهدية معنيان كلاهما يوجب القبول وإن قل. وقيل: إن كان لك عند المهدي يد فلا تستقصر بمزيدك، وإن كان مبتدئاً فالتفضل لا يستقل الهدية، أظرفها أخفها وأقلها أنبلها. وكتب آخر: قدمت المعذرة في إهداء ما اتسعت به المقدرة. وروي أن سليمان عليه الصلاة والسلام مر بعش قنبرة، فأمر الريح أن تتجنب عشها الذي فيه فراخها، فجاءت القنبرة لما نزل سليمان فرفرفت على رأسه وألقت جرادة هدية له لما فعل، فقال سليمان: هي مقبولة فكل يهدي على قدر وسعه.
ومما يروى لأبي يوسف القاضي:
علينا بأن نهدي إلى من نحبه ... وإن لم يكن في وسعنا ما يشاكله
ألم ترنا نهدي إلى الله ما له ... وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله
دعبل:
هذي هدية عبد أنت ملبسه ... ثوب الغنى فاقبل الميسور من خدمك
الخبزارزي:
تفضل بالقبول علي إني ... بعثت بما يقل لعبد عبدك
أهدى بعض الأدباء إلى المعتز شيئاً وكتب إليه: لا يعيب العبد أن يهدي إلى سيده القليل من نعمته عنده، ولا السيد أن يقبل ذلك، وإن كان الكل له، والسلام.
المقتصر في الهدية على الشكر:
قال المازني: أظرف من اعتذر للفقر واقتصر على الشكر في الإهداء أحمد بن إبراهيم؛ كتب إليه ابن ثوابة:
إني جعلت هديتي ... في المهرجان إليك شكري
لما تعذر واجب ... فسح التعذر فيه عذري
فإذا مررت بذكر من ... جاءت هديته ببر
فأدر على اسمي دارة ... واكتب عليه: أتى بعذر!
محمد بن أبي حكيم:
رأيت كثير ما يهدى قليلاً ... لعبدك فاقتصرت على الدعاء
وقال آخر:
وافق المهرجان والعيد مني ... رقة الحال وهي داء الكرام
فاقتصرنا على الدعاء وفيه ... عون صدق على قضاء الذمام
المقتصر على إهداء النفس:
اقتصد المتوكل فلم يبق أحد من جواريه وحشمه إلا أهدى إليه، فأخبرت قبيحة بذلك، وكانت معشوقته، فتزينت ودخلت عليه فأنشدته:
طلبت هدية لك باحتيال ... على ما كان من حسي وبسي
فلما لم أجد شيئاً نفيساً ... يكون هديتي أهديت نفسي
فقال المتوكل: نفسك والله أحب إلي! عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
حبيبي فصدت العرق من أجل علة ... فلم تهد لي فيه وصالاً مجددا
فأهديت نفسي يوم فصدي بوصلها ... إليك فخذها كي تكون لك الفدا
استهداء النفس:
كتب أبو العباس بن رشيد إلى صديق كان مشغوفاً به:
الناس يهدون إلى المفتصد ... أحسن ما يلقونه في البلد
فاهد لي وجهك يا سيدي ... فإنه أحسن شيء يرد!
المهدي شيئاً معيناً:

أهدى أبو عبادة الوزير إلى المأمون مصحفاً في يوم مهرجان ووافق أول يوم من شهر رمضان فكتب إليه: عدلت عن هدايا السلطان إلى التيمن بالقرآن، وما يرضي الرحمن. فوقع في رقعته: فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ وأهدى أحمد بن يوسف إلى المأمون هدايا وكتب إليه رقعة، فلم يستظرف من هديته شيئاً إلا قوله في رقعته: هذا يوم جرت فيه العادة بألطاف العبيد للسادة. وبعث إبراهيم بن المهدي بجراب ملح وجراب اشنان وكتب معهما: قصرت البضاعة عن بلوغ الهمة، فكرهت أن تطوى صحف البر خالية من ذكرى، فبعثت بالمبدوء به لبركته والمختوم به لنظافته، والسلام. وشرب الرشيد دواء فأهدت إليه الخيزران جارية بكراً معها جام كتب عليه:
إذا خرج الإمام من الدواء ... وأعقب بالسلامة والشفاء
فليس له دواء غير شرب ... بهذا الجام ينزع بالطلاء
وفض الخاتم المهدى إليه ... فهذا العيش من بعد الدواء
وأهدى رجل إلى آخر قلنسوة ونعلاً وخاتماً فقال: لقد أشواني فلان بكسوته أي أصاب شواي.

ذكر الهدية بأنها أمارة لفضل صاحبها ونقصه:
قيل: يعرف فضل المرء بفضل هديته، وسخافته بسخافة بره. وقيل: ثلاثة تدل على عقول أربابها: الهدية والرسول والكتاب. وقد حكى الله تعالى عن بلقيس أنها قالت: " وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون " . فجعلت جواب الهدية دلالة.
كشاجم:
إن هدايا الرجال مخبرة ... عن قدرهم قللوا أو احتفلوا
المهدي هدية سخيفة:
أهدى أبو رهم السدوسي إلى قينة كان يعشقها زنبيل بصل فقال فيه ابن المعدل: قالت جبل ماذا العمل هذا الرجل حين احتفل أهدى بصل! أهدى رجل إلى إسماعيل الطالبي فالوذجة عتيقة قد زنخت وكتب معها: إني اخترت لعملها سكر السوس والعسل الماذي والزعفران الأصفهاني. فكتب إليه: برئت من الله إن كانت هذه الفالوذجة قد عملت إلا قبل أن يوحي ربك إلى النحل! وأهدى أبو علي البصير إلى أبي العيناء كرينجان قد كتب على كل واحدة منها: ادخلوها بسلام آمنين! فردها أبو العيناء وقد كتب عليها: فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن. وكان رجل قد شغف بصبي فأهدى إليه كلباً فقال أبو شبل:
وما رأت عيني ولا قيل لي ... أن فتىً مستهتراً صباً
لما دنا من ول أحبابه ... أهدى إلى أحبابه كلبا!
الصولي:
أهدى إلي هدية مذمومة ... وأذم منها عندنا مهديها
وكأنما هي في سماجة منظر ... تحكيه في قبح كما يحكيها
الممتن بهدية أهداها:
أهدى رجل إلى الأعمش بطيخة، فلما أصبح قال: يا أبا محمد كيف كانت البطيخة؟ قال: طيبة! ثم أعاد عليه ثانياً وثالثاً فقال: إن خففت من قولك وإلا قئتها! وأهدى أبو الهذيل إلى أستاذ له ديكاً فكان بعد ذلك إذا خاطبه أرخ بديكه فيقول: إنه كان يوم أهديت إليك الديك، وأنه كان قبل الديك بكذا وبعد الديك بكذا! وقدم زياد على معاوية وأهدى إليه هدايا كثيرة، فأعجب بها معاوية فلما رأى زياد سروره بذلك قال: يا أمير المؤمنين، إني دوخت لك العراق وجبيت لك برها وبحرها وغثها وسمينها، وحملت لك لبها وسروها. فقال له يزيد: أما إذا فعلت ذلك فقد نقلناك من ولاء ثقيف إلى شرف قريش، ومن عبيد إلى أبي سفيان، وما أمكنك تدويخ العراف إلا بنا. فقال معاوية: حسبك فداك أبوك ووريت زناده فيك!.
الشاكر المهدى إليه:
أتتنا هدايا منه أشبهن فضله ... ومنّ علي منعماً متفضلا
ولو أنه أهدى إلي وصاله ... لكان إلى قلبي ألّذ وأوصلا
مما جاء في الطب والمرض والعيادة
قيل: حد الطب دفع الضد بالضد. وقيل: هو معرفة الداء وتلقيه بالدواء، وأصل الطب العلم. والطبيب صار اسماً للعالم بمداواة أبدان الناس. وقيل: هو استدامة الصحة ومرمة السقم. وقال عبد الله بن المعتز: المرض حبس البدن والهم حبس الروح.
مدح طبيب حاذق:

حكي أن سلموية طبيب المأمون، وكان قد أسن وذهب بصره، كان قد دخل على المأمون يتكىء على صبية تقوده، فلما قام المأمون قام ثم رجع فرجع سلموية إلى حضرته واتكأ على تلك الصبية، فقال للمأمون: هذه الصبية كانت بكراً وخرجت من عندي الساعة وعادت ثيباً فاستخبرها فقالت: العباس ابن أمير المؤمنين دعاني إلى نفسه لما خرجت فافتضني. فقال له المأمون: وكيف علمت بذلك؟ فقال: كنت أخذت مجستها فوجدتها قوية، ثم جسستها فوجدت نقصانها، فعلمت ذلك. فتعجب المأمون من حذقه. ونحو ذلك في التنجيم. حديث الفيلسوف الذي كان ينام على سرير فنام عليه ذات يوم فأنكره.
وقال: إما أن تكون السماء قد انحدرت أو الأرض قد ارتفعت، فتأمل فإذا قد جعل تحت قائمة السرير شيء ارتفع به عن الأرض. ومن الحذق البين ما حكي أن عمرو بن الليث زلقت رجله فانخلعت إحدى فخذيه: فنام على الفخذ الوجعة واستحضر المجبرين وجعل يعرض على واحد واحد الفخذة الصحيحة ويئن إذا مست، وكان يقول: بهذا نختبرهم إلى أن حضر المعروف بابن المغازلي، فلما جسها أنّ عمرو فقال ابن المغازلي: ما هذه الجلبة؟ ما بك من قلبة وإن فخذك أصح من فخذ الظليم! فعرض عليه الفخذ الأخرى فقال: أما هذه فنعم! فعلم عمرو أنه حاذق فقال: إن مداواتها صعبة لأنها تحتاج إلى أشالة الرجل فقال: وأنا أستسمج ذلك ولكنني أحتال له، فعمد إلى زق فوضعه بين رجلي عمرو، وشد إبهامي رجليه بعضهما إلى بعض، وجعل ينفخ في الزق وهو يربو وينتفخ، ويرتفع الفخذ بانتفاخه إلى أن امتد الزق ورد العضو إلى موضعه، ثم حل الإبهامين وشده إلى أن برأ. وقال رجل: توجع رجلي مدة وتداويت بكل دواء فلم ينفع، فرأيت طبيباً فوصفت ذلك له قال: انظر فلعل إحدى ركابيك أطول من الآخر! فتأملت فإذا هو كذلك فأصلحته فزال الوجع السري.
الكندي:
أحيا لنا علم الفلاسفة الذي ... أودى فأوضح رسم طب عاف
فكأنه عيسى بن مريم ناطقاً ... يهب الحياة بأوهن الأوصاف
يبدو له الداء الخفي كما بدا ... للعين رضراض الغدير الصافي
وله:
كأنه من لطف تدبيره ... يجول بين الدم واللحم
لو غضبت روح على جسمها ... ألف بين الروح والجسم

ذم طبيب:
رأى أفلاطون إنساناً مدعياً للصراع ضعيفاً في دعواه ثم تحول طبيباً فقال له: الآن أحكمت الصراع، تهيأ لصراع من شئت فإنك تصرعه. ترك لافس التصوير وتطبب فقيل له في ذلك فقال: الخطأ في التصوير تدركه العيون وتلحقه العيوب، وخطأ الطبيب تواريه القبور. ورأى فيلسوف طبيباً جاهلاً فقال: هذا مستحث للموت! الخبزارزي في طبيب اسمه نعمان:
أقول لنعمان وقد ساق طبه ... نفوساً نفيسات على ساكني الأرض:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض!
المصيصي الخياط:
لم يأت في الأربعا عليلاً ... إلا دفناه في الخميس!
مدح الحمية:
قيل: الحمية طابع الصحة. وقيل للحرث بن كلدة: ما الدواء الأكبر؟ فقال: الأزم. وقيل: حمية شهر أيسر من سهر ليلة، وإن تصبر على الحمية شبراً خير من أن تقاسي العلة فتراً. وقيل: لا تأكل ما تشتهي فيصيرك إلى ما لا تشتهي. وقيل للسري: قد تركت الشهوة. فقال: تركت ما أحب لأستغني عن العلاج بما لا أحب. واحتمى أحمد بن المعدل لعلة به فبرأ فقال: الحمية صالحة لأهل الدنيا تبرئهم من المرض، ولأهل الآخرة صالحة تبرئهم من النار. وقال عمر رضي الله عنه: عزم الرجل بحميته وحزمه بمتاع بيته. وقال المأمون لطبيبه: ما الذي يذهب بأكل الطين؟ فقال: عزمة من عزمات الرجال. قال: صدقت. فتركه بعد ذلك ولم يعاوده. قيل للصاحب يوماً: تحتمي وتشرب الأدوية؟ فقال: أفعل ذلك بغضاً في الحمية وشرب الأدوية.
ذم الأدوية أيام الصحة وتجاوز الحد فيها:

قيل: ليس الحمية في الصحة بأوجب من التخليط في الصحة. واستوصف العباس أخو المنصور طبيباً فقال له: كل في الصحة على الطبيب، وفي المرض على مقتضى قول الطبيب. ودخل بيادوق طبيب الحجاج على بشر بن مروان فقال: أما ترى هذه العلة قد طالت بي؟ فقال: إلى أن أختبرك ولا يكون ذلك إلا على الريق. فبكر إليه وأضجعه على الحصير وجسه ما بين أخمص قدمه إلى هامته ثم قال: أيما أحب إليك الصدق أم الكذب؟ فقال: وما حاجتي في الكذب؟ فقال: إنك ميت. فقال: أرني أمارة ذلك. فدفع إليه قطعة لحم طري وشدها في إبريسم وقال: ازدردها ففعل وتركها ساعة ثم قلعها. فإذا عليها دود كثير فقال: كيف أصابني ذلك وقد قدمت بلدكم وكننت نفسي من الحر والبرد؟ فقال: منها أتيت فقد نغل جسمك، فالأبدان لا تقوم إلا بالحر والبرد وإن أذياها فعاش بعد ذلك ثلاثة أيام. وقيل: الجوع للحمية أضر على البدن من العلة.

صعوبة الحمية ومدح تركها:
قيل: الحمية إحدى العلتين فمن احتمى فهو على يقين من المكروه. وفي شك من المحبوب.
عبد الصمد بن المعدل:
وقالوا: شفاؤك في حمية ... تعود عليك بها النضره
فأصبحت في بلد مخصب ... ببلقعة جدبة قفره
وقال الرشيد للفضل: ما أطيب ما في هذه الدنيا؟ فقال: رفض الحشمة وترك علم الطب، فلا عيش لمحتشم ولا لذة لمحتم. وقيل: من عرف ما يضره مما ينفعه فهو مريض. وقال أفلاطون: الموت موتان طبيعي وإرادي، فالطبيعي مفارقة الروح البدن، واللإرادي منه الأبدان الشهوات. وقيل: الأبدان المعتادة للحمية آفتها التخليط، والأبدان المعتادة للتخليط آفتها الحمية.
مدح التقليل من الطعام وذم الإكثار:
اجتمع أربعة من الأطباء عند المأمون عراقي ورومي وهندي وسوادي فقال: ليصف كل منكم الدواء الذي لا داء معه، فقال الرومي: حب الرشاد، وقال الهندي: الهليلج الأصفر، وقال العراقي: الماء الحار، وقال السوادي وهو أبصرهم: حب الرشاد يورث الرطوبة، والماء الحار يرخي المعدة، والهليلج يرقق البطن، ولكن الدواء الذي لا داء معه أن تجلس على الطعام وأنت تشتهيه وتقوم عنه وأنت تشتهيه. وقيل لطبيب: كم آكل؟ فقال: خوف الجوع ودون الشبع.
مضرة الشبع فوق مضرة الجوع:
بقراط: الإكثار من المنافع شر من الإقلال من المضار. وقال أرسطوطاليس: المطعم والمشرب إذا كثرا على المعدة أطفأ نارها، فجرت الأغذية في البدن غير نصيحة، فصار ذلك نقصاناً يورث الفترة، كالشجرة إذا كثر ماؤها عفنت وإن قل جفت، وكالسراج إذا قل دهنه أو كثر انطفأ وقال محمد بن عبد الله بن جعفر: من تغدى وتعشى ولم يأكل فيما بينهما سلم من الأوجاع، لقول الله تعالى: " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " . وقال بعض الأطباء: أحب الناس إلينا الرغيب البطن لكثرة حاجاتهم إلينا. وقد ذكر بعض هذا الباب في كتاب الأكلة.
ما تستدام به الصحة من الأكل والشرب والصوم والجماع:

قال طبيب الحجاج: لا يحفظ الصحة كالأكل بالنهار، وتقليل الشرب بالليل، وأن لا يحبس البول والنجو والرياح التي تعرض في البطن. من أراد حفظ الصحة فليقل الغذاء وغشيان النساء وشرب الماء. ولما احتضر الحارث بن كلدة اجتمع إليه شبان قريش فقالوا: أوصنا فقال: لا يتزوجن أحدكم إلا شابة، ولا يأكل إلا لحم فتى، ولا يتناولن أحدكم الدواء ما احتملت نفسه الداء، ولا تأكلوا الفاكهة إلا في إبان نضجها، وإذا تغدى أحدكم فلينم عليه نومة، وإذا تعشى فليتخط على إثر عشائه أربعين خطوة، وعليكم بالنورة في كل شهر فإنها مذيبة للبلغم مهلكة للمرة. وقال أبقراط لما حضرته الوفاة: خذوا جامع العلم مني، من كثر نومه ولانت طبيعته ونديت جلدته طال عمره. وقال اسكندر: اجمعوا إلي الطب في كلمات أتصورها فقالوا: لا تدخل الفضل على المعدة، ولا تمنع نفسك شهوتها، فإن النفس تقوى على هضم المشتهي، ولا تنكحن عجوزاً، ولا تخرج الدم وأنت مستغن عن إخراجه، فإنك لا تعل إلا علة الموت. وقيل: راع غذاءك فأنت تحكم به بناءك. أخبر حاتم بن يزيد بن المهلب بشيخ قد أتت له مائة وخمسون سنة في اعتدال جسم ونضارة لون فاستدعاه وسأله فقال: إن كان لما أرى من هذه الموهبة الجميلة سبب بعد تقدير الله تعالى فما أصفه ما احتملت مهما تبعد على مدافعته، ولا رأيت من زوجة مكروهاً، ولا اجتمع في بطني طعامان، وإذا شربت شراباً تناولته رقيقاً طيباً لا أثمل منه، ولا أستدعي الطبيعة من غير عارض، وما استدعيت للباه حركة إلا أن يهيج بالطبيعة على القلب، وإذا فعلت ذلك أقللت الحركة بقية يومي. وكان جالينوس يقول: اجتنبوا ثلاثة وعليكم بأربعة ولا حاجة لكم بالطبيب: اجتنبوا الغشيان والغبيراء والتتن، وعليكم بالدسم والطيب والحلواء والحمام.

نفع النوم ومضرة السهر:
قال المأمون: قد أصبت دواء يمرىء ولا يؤكل ولا يشرب. فقيل: ما هو؟ قال: النوم أثر الغداء. وقيل: إذا أكلت فاضطجع على جنبك الأيسر، فإن الكبد يقع على المعدة فينضج الطعام فيهضمه.
ما تتولد منه العلل:
قيل: أضر الأشياء طعام بين شرابين وشراب بين طعامين. وقيل: أضر الأشياء للبدن الفكرة والسهر، وأنهك الأشياء للبدن الخوف. وقيل: ثلاثة تورث الهزال شرب الماء على الريق، والنوم على غير وطاء، وكثرة الكلام برفع صوت. وقيل: أربع يهدمن الجسم وربما قتلنه: أكل القديد الجاف، والجماع على الامتلاء، ومجامعة العجوز، وإدخال الطعام على الطعام، وشرب الماء في ثلاثة مواضع متلف: تعقيب الخروج من الحمام، وأثر الجماع، وعلى الإعياء. وقيل: من أدوأ الداء الشرب على اللقمة في الفم. وقال طبيب الهند: اجتنبوا ما أخرج الضرع والبحر والنخل تسلموا. وقال الحارث بن كلدة لأنوشروان: الأكل فوق المقدار يضيق على الروح ساحتها، وغشيان المرأة المولية يضعف القوة ويسقم البدن، لأنها كالشن البالي ماؤها سم قاتل ونفسها موت عاجل، تأخذ منك ولا تعطيك واجمع علماء الطب على مضرة اللحم الجاف والسمك والبيض البارد، واجمعوا على منفعة النبيذ والسويق والسكنجبين. وقيل: من حم يوماً فلا يأكل الكشك سنة. وقيل: كثير الرمان ضار كما أن قليله نافع.
من تناول طعاماً وتحقق تولد على منه:
اجتاز رجل بصديق له محموم فسأله عن سبب علته فقال: أكلت في هذا الصيف فراخاً وعلاً وشربت خمراً صلباً ونمت في الشمس فقال له: علي كل يمين لو كانت الحمى من حملة الشمس ورأتك بهذه الحالة لتركت عملها ووافتك. وقال بعضهم: أكل رجل سمكاً وخبز أرز ولبناً وشرب عليه ماء كثيراً بجليد، ودخل سرداباً فجامع ونام هناك، فأتى الموت حيه ودق عليهم الباب وقال: تعالوا وانظروا إلى هذا المتخلف وفعله، فإن هذا يموت فيقال اختطفته المنية، ولا يعرفون سوء تدبيره وقبح صنيعه. نظر طبيب إلى دهقان يغرس شجرة مشمش فقال له: ما تصنع؟ قال: اعمل لي ولك. يعني أن الطبيب ينتفع بالمشمش لسوء أثره على آكليه، وحاجتهم إلى الطبيب لما يتولد عليهم من الأدواء لأكل الطري منه. وفي هذا المعنى يقول ابن الرومي:
إذا ما رأيت الدهر بستان مشمش ... فأيقن يقيناً أنه لطبيب
يغل له ما لا يغل لغيره ... يغل مريضاً حمل كل قضيب
هيجان الدم ونقصانه:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا تبيغ بأحدكم الدم فليحتجم لئلا يقتله. قال ابن ماسويه: في الفصد ثلاث منافع وثلاث مضار، أما منافعه فإنه يحد البصر ويصفر اللون ويزيد في اللحم، ومضاره أنه يضعف البدن ويجلب الضعف ويقطع الباه. قال جالينوس: الدم في الجسد كالزيت في السراج إذا نفذ الدهن طفىء السراج. وقال بختيشوع للمأمون: البدن إلى الدم أحوج منه إلى إخراجه، ألا ترى إلى الطباخ الحاذق يجيء إلى القدر وهي تفور، فيأخذ رغوتها ويسكنها بشيء من الماء أو غيره وهي ممتلئة؟ فكذلك يفعل بالدم. واقتصد المأمون يوماً فأراد أن يشرح وكان قد أتخم، فشدوا الرباط عليه فلم يخرج الدم، فقال المأمون: قد عقرتموني فحلوا الرباط واعتزلوا وتشاوروا بظهر الغيب عني، فالهيبة أدهشتكم فاعتزلوا يتشاورون، فدعا فراشاً وأمره بمصه فمصه فخرج الدم. فقال: ادع هؤلاء الحاكة: فلما رأوه أخبرهم بذلك فقالوا: لو فعل جالينوس هذا كان عجيباً.

تهنئة بالفصد:
ابن رزين الواسطي:
أراق الفصد خير دم ... دم الأذهان والفهم
لقد أخطأ الطبيب غدا ... ة فصدك طيب النسم
وراح وفي حديدته ... دم المعروف والكرم
ابن الرومي:
يا قاصداً من يد جلت أياديها ... وذاق طعم الردى والبؤس شانيها
يد الندى هي فارفق لا ترق دمها ... فان أرزاق طلاب الندى فيها
واقتصد جعفر بن يحيى فكتب إليه الفضل:
إذا أنت أسبلت للباسليق ... عيوناً من أجفانه الواهيه
رأيت اعتدالك يبكي دماً ... وتضحك من جنبك العافيه
جملة التداوي:
قال بقراط: جملة المعالجة خمسة أضرب، يعالج ما في الرأس بالغرغرة، وما في المعدة بالقيء، وما في أسفل المعدة بالإسهال، وما بين الجلد بالعرق، وما في داخلا الجلد بإخراج الدم. وقال جالينوس: يعالج ما في قعر الكبد والطحال والكليتين بإخراج البول، وما في المعدة من ضعف أو تغير مزاج أو فضول زائدة يرقق بالأدوية، إن كانت حرارة بردت، وإن كانت رطوبة جففت.
من امتنع في مرضه من التداوي وذكر قلة غنائه:
قيل لأبي بكر رضي الله عنه: ألا ندعو لك طبيباً؟ فقال: قد رآني الطبيب وقال: أنا فعال لما أريد. ودخل عثمان على بن مسعود رضي الله عنهما في مرضه فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: ما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: ألا ندعو لك طبيباً؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: ألا نأمر لك بشيء؟ قال: فما منعتي قبل اليوم فلا حاجة لي فيه اليوم. قال: ندعه لعيالك؟قال: إني علمتهم شيئاً إذا راعوه لم يفتقروا؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قرأ في كل يوم وليلة سورة الواقعة لم يفتقر أبداً. وقيل لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ذلك فقال: لو علمت أن دوائي في مسح أذني ما مسحتها، نعم المذهوب إليه ربي. وقيل للربيع بن خيثم في مرضه: ألا ندعو لك طبيباً؟ فقرأ: وعاداً وثمود وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً؛ قد كان فيهم مرضى وأطباء فلا المداوي بقي ولا المداوى. وأستحسن قول الشاعر:
إن الطبيب بطبه ودوائه ... لا يستطيع دفاع مقدور أتى
م للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان يبرئ مثله فيما مضى
هلك المداوي والمداوى والذي ... جلب الدواء، وباعه ومن اشترى
المتنبي:
يموت راعي الضأن في جهله ... ميتة جالينوس في طبه
وروي أن موسى عليه السلام قال: يا رب من أين الداء؟ قال: من عندي. قال: الدواء؟ قال: من عندي. قال: فالأطباء ما يصنعون؟ قال: يطيبون قلوب عبادي حتى تحل عافيتي أو بلائي.
ابن نباتة:
نعلل بالدواء إذا مرضنا ... وهل يشفي من الموت الدواء
ونختار الطبيب وهل طبيب ... يؤخر ما يقدمه القضاء
وما أنفاسنا إلا حساب ... ولا حركاتنا إلا فناء
وقال مسلمة: ما وعظني شيء بعد القرآن كما وعظني بيتان لعمران بن حطان:
لنا كل عام مرضة ثم نقهة ... ونبغي ولا نبغي متى وإلى متى
فيوشك يوم أن يوافق ليلة ... يسوقان حتفاً راح نحوك أو غدا
وصف الحمى:

دخل بختيشوع على يحيى بن خالد فقال له: توق فإن حمى ليلة يبقى في البدن تأثيره سنة. وعنده وكيع فقال: صدق! فقال يحيى: ما أقرب تصديقك إياه! قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حمى ليلة كفارة سنة. فعلمت أن هذا كما قال. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله تعالى يقول الحمى ناري أسلطها على عبدي، فإن لم يشكني إلى عوّاده أبدلته لحماً خيراً من دمه، وأخرجته من ذنوبه كهيئة يوم ولد. وقال صلى الله عليه وسلم: الحمى من فيح جهنم فأطفؤها بالماء. ويستجاد قول المتنبي:
وزائرتي كأن بها حياء ... فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي
إذا ما فارقتني غسلتني ... كأنا عاكفان على خرام
أراقب وقتها من غير شوق ... مراقبة المشوق المستهام
حم أعرابي في أيام القيظ بمكة، فأتى الأبطح وقت الظهيرة فتعرى وطلى بدنه بالزيت ونام في الشمس، وجعل يتقلب فيها ويقول مخاطباً الحمى: لتعلمن ما نزل بك يا حمى، عدلت عن الأمراء وأهل الثراء، وجئتني؟ فعرق وذهبت حماه وقام، فسمع قائلاً يقول: حم الأمير! فقال: أنا والله بعتها. فلعن الله من وشى به عليّ! وقيل: التقى حمتان فسألت إحداهما الأخرى فقالت: آني كل يوم رجلاً خريماً ناعماً فيضجعني على فراش وطئ فأضاجعه في أرغد عيش، فأنصرف عنه بأطيب حال. فقالت الأخرى: ويحك إني وقعت إلى كساح قذر متى قصدته يأت بي سبخة فيعركني في التراب فأرجع عنه متربة، فقالت: ويحك تعالي إلى صاحبي لأغاديه أنا وتراوحيه أنت.

الرمد:
كتب علي بن القاسم رحمه الله: بلغني عن حال رمد عرض له ما أرمد خاطري وأظلم ناظري، وأذهلني عن كل مهم وخفف في عيني وقلبي كل ملم. ويستحسن في عين محبوب رمداء قول ابن المعتز:
قالوا: شكت عينه! فقلت لهم: ... من شدة الفتك نالها الوصب
حمرتها من دماء من قتلت ... والدم في النصل شاهد عجب
ابن الحجاج:
أنا الفداء لعين بعض أسهمها ... مسكونة بين أحشائي وفي كبدي
فيها فتور سقام لا خفاء به ... يجرد السقم في قلبي وفي جسدي
كانت تعلّ فؤادي وهي سالمة ... فكيف بي وهي تشكو علة الرمد؟
النقرس:
كان أبو الفضل بن العميد يكثر برجله النقرس فقيل له: لا تغتم فإن ذلك يؤذن بطول العمر! فقال: طول العمر هو أن من به النقرس يسهر، فيصير ليله نهاراً فكأنما يتضاعف عمره.
شاعر:
ألا فاعجبوا من مفلس حلف نقرس ... أما نقرس في مفلس بعجيب
وقال المبرد: ذكر أعرابي رجلاً قد أثرى فقال تنقرس، كأنه سمع أن النقرس يكون مع النعمة. ومنه قول أعرابي:
فصرت بعد الفقر والتفلّس ... يخشى على الحي داء النقرس
وقال ماسرجوية: لا ينقرس الناطفي في رجله والشطرنجي في يده.
الحبون:
دخل شبيب بن شبة إلى ابن هبيرة فقال: ما حبسك عنا؟ فقال: علة منعت الحركة ولم توجب العيادة حتى خرج علي، فقال ابن هبيرة: إن لحماً شديداً عاد قيحاً وصديداً لأهل أن يعاد صاحبه. وقيل: حبنك يؤذن بمالك. وقال بعض الأدباء: إنما يؤذن بما لك بفتح اللام أي يقتضي أن يقال أي شيء لك؟ شاعر:
وبي دمّل في كل يوم يزورني ... فيقلق أحشائي ويسهر مقلتي
يقول لي العوّاد: مال وصحّة ... فيا ليتهم آبوا بمالي وصحتي
أبو حكيمة:
أيحسدني إبليس داءين أصبحا ... برأسي ورجلي: دّملا وزكاما
فليتهما كانا به، وأزيده ... زمانة أير لا يطيق قياما
الجرب:
في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا عدوى. فقيل: أن البعير يجرب في القطيع فيجرب بجربه الإبل كلها. قال: فمن أجرب الأول؟ ويسمى الجرب حبيبات الطرب. وقيل: صاحب الجرب شاكر لأنه أبداً يقول قد ذهب.
الصنوبري:
الشيب عندي والإفلاس والجرب ... هذا هلاك وذا شؤم وذا عطب
عبدان:
ومستخبر حالتي إذ رأى ... أقض على جنبي المضجع
فقلت مجيباً له: إنني ... لضري كما قال لي أسجع
إذا الليل ألبسني ثوبه ... يقلب فيه فتى موجع
الزكام:

روي أنه قيل: ثلاثة لا يعدن، المزكوم والرمد والجرب. وقالت عائشة رضي الله عنها: من لا يعودني في الزكام لا أبالي أن لا يعودني في مرض آخر. وقيل: مؤونة أنف المزكوم أعظم من مؤونة استين. ودعا عيسى بن علي ابن المقفع إلى الغداء فقال: لست اليوم بمؤاكل للكرام لأنني مزكوم، والزكمة قبيحة الجوار مانعة من عشرة الأحرار. ويقال: أن الشيطان قال ما حسدت ابن آدم إلا على شيئين الطشاءة والحقوة أي الزكام والهيضة.
الوزير الرئيس الكافي الأوحد:
ونزلة كنت أحمي وجة موردها ... ففاجأتني على ضرب من الحمر
سدت علي طريق الروح متنشقاً ... وأسلمتني لأيدي الروع والخدر
وأنشأت مزنة في الرأس مضرمة ... ينعق بارقها في السمع والبصر
حتى إذا مخضتها مدة قدرت ... مدت بصفو حميم غير ذي كدر
ففي شؤوني حريق من تلهبه ... وفي الخياشيم ضيق محصد المرر
لا الفصد يغني ولا ماء الشعير ولا ... طول احتماء إذا ما همّ بالدرر
فالحمد لله حمداً لا كفاء له ... على السلامة، وقاها من الغير

شرب الأدوية المسهلة:
سئل طبيب كسرى عن دواء المشي فقال: سهم ترمي به في جوفك أخطأ أم أصاب. وقيل: الدواء مثل عدو إلى جانبه صديق، ترمي العدو فلا تأمن من أن يصيب الصديق. وقيل: الدواء في البطن كالصابون في الثوب، ينقيه لكن يخلقه. وقيل لبقراط: ما بال الإنسان أثور ما يكون بدنا إذا شرب الدواء؟ فقال: مثل ذلك مثل البيت أكثر ما يكون غباراً إذا كنس. وقيل: لا تستعمل الأدوية في ما تنفع فيع الأغذية. وقيل: النفس إذا ألفت الدواء فسدت، لأن الدواء يجب أن يطرأ عليها غريباً فتحتشم.
الكناية عن الأدوية المسهلة:
كان ظرفاء البصرة يقولون لشارب الدواء: لم لبست النعل؟ ويقال: شربت فما أنجاني؛ كناية عنه. وكتب الصنوبري إلى صديق له شارب الدواء:
نبّني كيف تخطيك إلى دار الكرامه ... كم جدار هدّ من رعد وكم سحّت غمامه؟
فلم يجبه. فكتب إليه ثانياً:
ابن لي كيف أصبحت ... وما كان من الحال؟
وكم سارت بك الناقة نحو المنزل الخالي؟
فأجابه:
كتبت إليك والنعلان ما إن ... أغبهما من السير العنيف
فإن رمت الكتاب إليّ فاكتب ... على العنوان يوصل في الكنيف
الحقنة:
كان كرتكين أمير بغداد أمره الطبيب بالحقنة قال: يوضع في استه كذا! فقال: في است من؟ فخاف الطبيب فقال: في استي أيد الله الأمير! وكان عين الدولة أصابه مغص فأشير عليه بالحقنة فأبى وتفادى منها. فلما اشتد به الوجع قال: يا قوم أدخلوا هذا الجذع في استي وأريحوني! فحقن وبرأ. واعتل أعرابي فأشير عليه بالحقنة. فقال صديق له:
كفى سوءة أنا نراك محبساً ... على شكوة قبحا، وفي استك عودها
الحث على التداوي بالأدوية:
روي في الخبر: تداووا فإن الله ما وضع داء إلا وضع دواء إلا الهرم. وقال الطبيب لرجل: بم تداوي من حماك؟ قال: بالنشرة. فقال: إن رأيت أن تغسلها بماء الشعير وتشربه فافعل. وقال رجل لآخر وكان معه إبل جرب: هلا داويتها؟ فقال: إن لنا عجوزاً صالحة نتكل على دعائها ونستغني به عن الدواء! فقال: اجعل مع دعائها شيئاً من القطران.
التداوي بالقرآن والأدعية:
وجد ابن أسقع يشكو حلقه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: عليك بقراءة القرآن. ووجد بعض الصحابة شكوى في بعض بدنه فقال صلى الله عليه وسلم: ضع يدك اليمنى عليه وقل: بسم الله أعوذ بالله وبقدرته من شر ما أجده، سبع مرات.
ذكر التأني في المداواة والمبادرة:
قيل: حق الطبيب أن يتأنى في المداواة فعثرته لا تقال. وقيل: المتأني في علاج الداء بعد معرفة الدواء كالمتأني في إطفاء النار، وقد أخذت بحواشي ثيابه.
نوادر الأطباء:

جاءت امرأة إلى طبيب بقارورة فقال: ما يجد صاحبها؟ قالت: به حرارة وضيق ريبوسة. فقال: ليت ذاك في حر امرأتي! وجاءت أخرى ببستوقة فيها ماء فقال: لو جاز في البستوقة لجاز أن تحمليه في حرك! وشكا رجل إلى طبيب سوء الهضم فقال: كله مهضوماً. وجاء آخر إلى طبيب فقال: أكلت الشعير والرطبة فأصابني مغص فقال: هذا طعم الحمار فاذهب إلى يحيى البيطار يعالجك. واعتل رستاقي فجاء إلى الطبيب فقال له: كل الرائب. فقال: والله إني لو عصرت ما انعصر مني لا الرائب. وقال طبيب لمريض: لا تأكل السمك واللحم. فقال: لو كانا عندي ما اعتللت. شكا عبد الله بن جعفر ضرسه فقال له عبد الله بن صفوان: إن إبليس يقول دواء الضرس قلعه؛ فقال: إنما يطيع إبليس أولياؤه. شكا رجل إلى أبي السائب وجع رجله فقال له: لا تأكل القديد. فقال: أنا أحبه. قال: فالوجع أيضاً يحب رجلك. وظن خادم أن بشراً المريسي طبيب، فعرض عليه ماءه فقال: أنا طبيب الأديان لا طبيب الأبدان.

سخفيات في الطب:
نظر عبادة إلى رجل في عينه جرب فقال: أعطني مائة درهم أصف لك دواء. قال: إفعل. فقال: خذ ورق المدر وعروق الحجر واستحقهما واكتحل بهما سبع سنين، فإن لم تذهب عينك فخذني به! فرفع رجله وضرط عليه ضرطتين فقال: خذ هذين الدرهمين فإن نفع دواؤك زدناك! وركب بختيشوع يوماً مع المأمون فتعلق به مجنون وقال: أيها الطبيب خذ نبضي. فأخذه وقال: ما تشتكي؟ فقال المجنون: أشتكي الشبق! فقال بختيشوع: خذ مسواك أراك وأدخله من وراك فإنه صالح لذاك! فضرط المجنون وقال: خذ هذا لذاك حتى نجرب دواك، فإن كان صالحاً زدناك ولا يكون لنا طبيب سواك! فضحك المأمون.
شهوة المريض للطعام:
قيل للخليل في علته: أتشتهي شيئاً؟ قال: لا بودي أن أشتهي. وقيل ذلك لآخر فقال: أشتهي ما لا أجد وأجد ما لا أشتهي. وقيل ذلك لآخر فقال: أشتهي أن لا أموت. قال بقراط: المريض الذي يشتهي أرجى عندي من الصحيح الذي لا يشتهي.
المتنبي:
ومن يك ذا فم مرّ مريض ... يجد مرّاً به الماء الزلالا
من شكا علته:
أبو نواس وقيل هو آخر شعر قاله:
دب فيّ السقام سفلاً وعلوا ... وأراني أموت عضواً فعضوا
ليس يمضي من ساعة بي إلا ... نقصتني بمرها بي جزوا
لهف نفسي على ليال وأيا ... م تمتعهن لعبا ولهوا
قيل لعمرو بن العاص في مرضه: كيف تجدك؟ قال: أجدني أذوب ولا أثوب، وأجد نجوي أكثر من رزي فما بقاء للشيخ على ذلك. وقيل: ولا بد من شكوى إذا لم يكن صبر.
حمد شكوى العلة:
قال بعضهم: دخلت على سفيان وهو عليل فقال: أشتكي كذا وبت البارحة بكذا. فقلت: أما تخشى أن تكون هذه شكاية من الله؟ فقال: أنا أذكر قدرته علي. ولما مرض أمير المؤمنين دخل إليه الناس فقالوا: كيف تجدك؟ قال: بشر. قالوا: أهذا كلام مثلك؟ قال: أجل إن الله تعالى يقول: " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " ، فالخير الصحة والشر المرض. وقيل: الشكوى تخفف الهم وتزيل الألم. وقيل لآخر: ما تشكو؟ فقال: تمام العدة وانقضاء المدة. ووجه المتوكل إلى الجاحظ يدعوه فقال: ما يصنع أمير المؤمنين بشخص ليس بطائل ذي شق مائل، ولعاب سائل وفرج مائل وعقل حائل؟
شكوى العلة:
قال المأمون لابنه العباس وقد شكا إليه وجعاً في بطنه: يا بني إنك لا تجد مواساة في عرض ما تجده في بدنك ولا يشركك فيه صديقك فلا تشمتن به عدوك. وقال بعضهم لمن يشكو: أتشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك؟ وقيل لسعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص وهو مريض: إن المريض يتفرج إلى الأنين وإلى أن يصف ما به إلى الطبيب. فقال: أما الأنين فو الله أنه لجزع وعار ولا يسمع الله مني أنيناً فأكون عنده جزوعاً، وأما الطبيب فو الله لا يحكم غير الله في نفسي، فإن شاء قبضها إليه وإن شاء منّ بها علي.
فضل الصحة والعافية:
قيل: شيئان لا يعرف فضلهما إلا من فقدهما: الشباب والعافية. وقيل: لا يعرف طعم العافية إلا من نالته يد العلة ولا طعم الرخاء إلا من مسته يد البلاء. وقيل: الدنيا بحذافيرها الأمن والعافية. لا تزال غنياً ما دمت سوياً.
نفع المرض:

اعتل الفضل بن سهل بخراسان ثم برأ، فجلس للناس فهنؤوه بالعافية وتصرفوا الكلام، فلما فرغوا أقبل على الناس فقال: إن في العلل نعماً ينبغي للعاقل أن يعرفها: تمحيص الذنب والتعرض للثواب، والإيقاظ من الغفلة والإذكار بالنعمة في حال الصحة والاستدعاء للتوبة والحض على الصدقة، وفي قضاء الله وقدره الخيار. ودخل الحسن بن علي رضي الله عنهما على عليل فقال: إن الله قد أقالك فأشكره، وذكرك فأذكره. واعتل جعفر بن محمد عليهما الرضوان فقال: اللهم اجعله أدباً لا غضباً. وقال عليه السلام: إن المريض تتحات عنه خطاياه كما يتحات ورق الشجر. وذكرت الأدواء عند أبي الدرداء فقال رجل: ما اشتكيت قط! فقال: لا جرم أن ذنوبك لم تحط عنك.

وجوب عيادة المريض:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: حق المسلم على المسلم ثلاث: عيادة المريض، وتشميت العاطس، وتشييع الجنازة. وقال صلى الله عليه وسلم: من عاد مريضاً خاض الرحمة، فإذا قعد عنده استنقع فيها، وإذا خرج من عنده خاض الرحمة، وقيل: عيادة المريض بعد ثلاث. وفي الخبر: عودوا مرضاه وشيعوا هلكاها وعزوا ثكلاها.
أدب عيادة المريض:
قيل: سوء العيادة تلقيح العلة. وقال الفضل بن الربيع: لا تقولوا كيف أمير المؤمنين ولا تسألوه عن حاله فتكلفوه الجواب ولعله يثقل عليه الكلام، ولكن إجعلوا مسألتكم الدعاء له، وقولوا بدل كيف يجد أمير المؤمنين نفسه: أنزل الله عليه الشفاء والرحمة.
شاعر:
حق العيادة يوم بعد يومين ... وجلسة لك مثل اللحظ بالعين
لا تبر من مريضاً في مسألة ... يكفيك من ذاك تسآل بحرفين
ودخل قوم على السري السقطي رحمه الله وهو عليل فأطالوا الجلوس وقالوا: أدع لنا فقال: إرفعوا أيديكم وقولوا اللهم اجعلنا ممن علمتهم عيادة المرضى! ودخل قوم على مريض فأطالوا ثم قالوا: أوصنا. فقال: أوصيكم أن لا تطيلوا الجلوس عند المريض إذا عدتموه. ودخل ثقيل على مريض فأطال الجلوس ثم قال: ما تشتكي؟ قال قعودك عندي!
شكاية من لا يعوده إخوانه:
جحظة البرمكي:
مرضت فلم يكن في الأرض حرّ ... يشرفني ببرّ أو سلام
وضنّوا بالعيادة وهي أجر ... كأن عيادتي بذل الطعام
الإعتذار من ترك العيادة:
شاعر:
إن كنت في ترك العيادة تاركاً ... حظي فإني في الدعاء لجاهد
ولربما ترك العيادة مشفق ... وأتى على غل الضمير الحاسد
من عادة ممرضه:
عبد بني الحسحاس:
يعدن مريضاً هنّ هيّجن داءه ... ألا إنما بعض العوائد دائيا
آخر:
وخبّرت ليلى بالعراق مريضة ... فأقبلت من أهلي بمصر أعودها
فو الله ما أدري إذا أنا عدتها ... أأبرئها من دائها أم أزيدها؟
مريض عاد صحيحاً:
شاعر:
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم ونعتذر
العباس بن الأحنف:
قالت: مرضت! فعدتها فتبرمت ... وهي الصحيحة والمريض العائد
والله لو أن القلوب كقلبها ... ما رقّ للولد الضعيف الوالد
وصف العلة بأنها تنال الأماثل:
روي أن الله تعالى يجعل تمحيصاً لذنوب أوليائه.وقال النبي صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمن مثل الحزمة من الزرع تفيؤها الريح مرة هكذا ومرة هكذا، ومثل المنافق مثل الأرزة المجدبة على الأرض يكون انجعافها مرة.
أبو تمام:
فإن يكن وصب قاسيت صورته ... فالورد حلف لليث الغابة الأضم
إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت ... عيدان نجد ولم يعرضن للرتم
البحتري:
وما الكلب محموماً وإن طال عمره ... ألا إنما الحمى على الأسد الورد
ذكر تباطؤ زوال العلة:
دخل سفيان على جار له مخنث فقال له: كيف تجدك؟ قال: جاءتني العلة باقات والعافية تأتيني طاقات. وقيل: العلة تحمل على الجمال وتثقل على النمال.
حث العائد على تنشيط المريض:

قال يوحنا: بشروا المريض بالبرء ونشطوه لشرب الدواء، ولا تصعبوا عليه العلة فتخاف نفسه ويموت حسه. وقال بقراط: حدثوا المريض حال من كان في أصعب من علته فبرأ، ولا تحدثوه عمن كان في مثل علته فمات. وقيل: أدب العيادة تشجيع العليل بلطيف اللطف وحسن الفأل.

الحث على تخويفه ليجتنب المضار:
قيل: خوفوا المريض ليجتنب المضار، فمن خوفك لتلقى الأمن خير لك ممن أمنك لتلقى الخوف. وقيل: من أوجرك المر لتبرأ خير ممن أوجرك الحلو لتسقم. ودخل طبيب على مريض قد أصاب إصبعه ريح فشمها فقال: إن أكلت اليوم شيئاً مت. فلما كان من الغد برأ فقيل له في ذلك فقال: لو لم أخوفه لتجاسر على الأكل فكان يطول عليه.
رقيع خوّف مريضاً برقاعته:
عاد رجل مريضاً لم يكن به بأس فقال: لا ضير إذا رأيتم المريض هكذا فاغسلوا أيديكم منه، فقد كان أبي به هذا الداء فمات. وعاد آخر عليلاً فقال: ما علتك؟ قال: وجع الركبة. فقال: إن جريراً يقول بيتاً ذهب عني صدره وآخره:
وليس لداء الركبتين دواء
فقال: ليتما ذهب عنك عجزه مع نفسك! ودخل آخر على مريض فقال: آجركم الله. فقيل: إنه لم يمت! فقال: يموت إن شاء الله! وقال رجل لمريض:كيف أنت جعلني الله فداءك؟ فقال: على الموت. فقال: إذاً لا جعلني الله فداءك فإني قدرت أن في الأمر فسحة.
تهنئة من برأ من مرض والدعاء له:
أشجع:
لئن جرحت شكاتك كل قلب ... لقد قرت بصحتك العيون
وله:
لقد أمسى صلاح أبي علي ... لأهل الأرض كلّهم صلاحا
قيل لأعرابي برأ من علته: الحمد لله الذي سلمك. فقال: أو يسلم من الموت في عقبه؟ كتب عبد الله بن المعتز: أذن الله بشفائك وتلقى داءك بدوائك، ومسحك بيد العافية ووجه إليك وافد السلامة، وجعل علتك ماحية لذنوبك مضاعفة لثوابك.
ابن المعتز:
يا رب أمسك رمق الدنيا به ... وأغسله بالصحة من أوصابه
أبو تمام:
سقم أتيح له برء فزعزعه ... والرمح ينآد طوراً ثم يعتدل
قد حال لون فردّ الله نضرته ... والنجم يخمد حيناً ثم يشتعل
المتنبي:
صحّت بصحتك الغارات وابتهجت ... بها المكارم وانهلّت بها الديم
وراجع الشمس نور كان فارقها ... كأنما فقده في جسمها سقم
تفدية المريض:
شاعر:
فديناك لو نعطى المنى فيك والهوى ... لكان بنا الشكوى وكان لك الأجر
البحتري:
بأنفسنا لا بالطوارف والتلد ... نقيك الذي تخفي من السقم أو تبدي
بنا، معشر العافين، ما بك من أذى ... فإن أشفقوا مما أقول فبي وحدي
آخر:
يا ليت علّته بي غير أن له ... أجر العليل وأني غير مأجور
ديك الجن:
يا ليت حمّاه بي كانت مضاعفة ... يوماً بشهر وأن الله عافاه
فيصبح السقم منقولاً إلى جسدي ... ويجعل الله منه البرء عقباه
من ذكر شدة ما قاساه بعد ما صح:
عبد الله بن المعتز:
أتاني ببرء لم أكن فيه طامعاً ... كمثل أسير حلّ بعد وثاقه
فإن كنت لم أجزع من الموت جزعة ... فإني مججت الموت بعد مذاقه
تغير اللون:
قال الصولي: لم يسمع أحسن من قول البحتري في صفرة اللون:
بدت صفرة في لونه أن حمدهم ... من الدرّ ما أصفرت حواشيه في العقد
أبو تمام:
لم يشن وجهه البهيج ولكن ... جعلت ورد وجنتيه بهارا
أنواع مختلفة في الطب:

إشتكى رجل بطنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذهب إلى امرأتك واستوهب منها درهمين، واشتر بهما عسلاً واقرأ عليه القرآن وتناوله ففعل فبرأ فقيل له في ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى يقول: " فإن طبن لكم عن شيء منه فكلوه هنيئاً مريئاً " . وقال في العسل: فيه شفاء للناس. وقيل في الطعام: إذا خرج من الجوف قبل سبع ساعات فهو مذموم غير محمود، وإذا بقي بعد أربعة وعشرين ساعة يضر. وقيل: كل شيء ينام من الإنسان إلا أربعة: الوريد والسحر والمثانة والمعدة. وقال جعفر بن محمد: قيل الطبائع أربع، الدم وهو عبد وربما قتل صاحبه، والبلغم وهو خصم ألد إن خصمته من جانب احتج عليك من جانب، الصفراء وهي مرة كالصبي ومرة كالملك تداوى في الحالين، والسوداء وهي كالأرض إذا رجفت رجف ما فوقها. وقيل: إذا كان الطبيب حاذقاً والعليل عاقلاً والقيم فهما فأجدر بالداء أن يزول. لسعت عقرب سرم أعرابي فقيل: أين لسعتك؟ فقال: حيث لا يضع الراقي أنفه. ولسعت آخر فقال أعرابي: عندي دواؤه، فقيل له: ما هو؟ قال: الصياح إلى الصباح. قيل: فرط الغم والسرور يقتلان، أما الغم فإنه يجمد الدم والسرور يلهبه حتى تعلو حرارته على الحرارة الغريزية. ولما دخل الرشيد طوس اشتدت علته وطبيبه بختيشوع يغدو ويروح عليه ويعطيه الأباطيل ويمنيه الأماني ويقول: إن علتك من حدة السفر. فدعا الفضل يوماً وقال: أبغني رجلاً عاقلاً من التجار أشاوره في أمري وأفضي إليه بسر، فجاءه برجل من أهل طوس فاستنطقه فرآه عاقلاً، فقال: أتحفظ السر؟ قال: نعم. فخلا به وقال: خذ هذه القارورة فأت بها جبريل بن بختيشوع فقل له: هذه القارورة أبي فتأمله فإن كان له دواء فعرفني، وإن لم يكن له دواء فعرفني ليتجهز ويصلح أمره. فذهب إليه بالقارورة فلما نظر إليها جبريل أقبل على أبيه وقال: ويلي على ابن الزانية! يا فضل إذهب فاضرب عنقه يعني الطبيب، فأخذه الفضل وحبسه فقال: أتركني محبوساً عندك ثلاثة أيام، فإن عاش فاقتلني وإلا فلا تتقلد دمي. ففعل فمات الرشيد ليله الثالث. قال أنوشروان لوزيريه يوماً: أي الفراش ألذ؟ فقال أحدهما: ألذ الفراش الخز محشواً وقال الآخر: ألذ الفراش الحرير محشواً، وكان بين يديه غلام في عدد الحجاب فقال: أيها الملك أتأذن لي في الكلام؟ فقال: نعم. قال: ألذ الفراش الأمن. قال: صدقت. قال: فما ألذ الطعام؟ قال: ما لا يهيج على طبيعة علة ولا يعقد في عنق آكله منّه. فقال: أحسنت! فما ألذ الشراب؟ فقال: ما لا يزيل عقلاً عن محله ولا يهيج على طبيعة شيئاً من علله. قال: أحسنت! فما ألذ الريحان؟ قال: الولد السار ريحان أبيه في حياته وخلف له بعد وفاته. فرفع محله وألحقه بأكابر حشمه. وكان بعض الأصبهانيين أصابه صداع فضمد رأسه بدار صيني وفلفل، فقال له الطبيب: هذا يعمل لرأس يوضع في التنور.

الحد السابع
في الهمم والجد والآمال
مما جاء في الهمم الرفيعة والوضيعة
مدح رفع الهمة والحث عليه:
قيل: الهمة تلقج الجد العقيم. وقيل: الهمة جناح الحظ. وقيل: لا تدور رحى الجد إلا بقطب الهمة وقيمة كل امرئ همته. وقال عمرو بن العاص: عليك بكل أمر فيه مزلقة ومهلكة أي بجسام الأمور. قال عمر رضي الله عنه: لا تصغرن همتك فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همته. وقال: أحسن ما قال لبيد:
أكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل
وقيل: ثلاثة لا تدرك إلا برفع الهمة: عمل السلطان، وتجارة البحر، ومناجزة العدو.
ابن نباتة:
حاول جسيمات الأمور ولا تقل: ... إن المحامد والعلى أرزاق
وارغب بنفسك أن تكون مقصّرا ... عن غاية فيها الطلاب سباق
المرء تابع لهمته:
المرء حيث يجعل نفسه، إن رفعها ارتفعت وإن قصر بها اتضعت. نظر رجل إلى برذون يستسقى عليه فقال: ما المرء إلا حيث يجعل نفسه لو هملج في سيرة ما استسقى عليه.
شاعر:
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأخلاق نفسك فجعل
لبعض بني عامر:
إذا لم يكن للفتى همه ... تبوئه في العلا مصعدا
ونفس يعودها المكرما ... ت، والمرء يلزم ما عودا
ولم تعد همته نفسه ... فليس ينال بها السؤددا

من عظمت همته وقصرت موجدته:
قيل: ذو الهمة وإن حط نفسه تأبى إلا العلو، كالشعلة من النار يخفيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً. وقيل: أسوأ الناس من اتسعت معرفته وضاقت مقدرته وبعدت همته؛ أخذ ذلك المتنبي فقال:
وأتعب خلق الله من زاد همّة ... ويقصر عما تشتهي النفس وجده
ابن نباتة:
أرى همم المرء اكتئاباً وحسرة ... عليه إذا لم يسعد الله جده
الحث على طلب الجسام والاعتزال عن الأنام:
قال في كليلة: ينبغي لذي المروءة أن يكون إما مع الملوك مبجلاً أو مع النساك متبتلاً، كالفيل إما أن يكون مركباً نبيلاً أو في البرية مهيباً جليلاً. وقال حكيم: الناس رجلان دنياوي وأخري، فالدنياوي صاحب سلطان وذو لسان أو سنان لا يفضي على هوان، والأخري المتباعد من الناس الجاعل بينه وبينهم سداً، ولا واسطة بينهما. وقال معاوية لابنه: كن مترفعاً عن الناس ومستتراً عنهم.
الممدوح بعظم الهمة:
قال أعرابي: فلان يرمي بهمته حيت يشير إليه الكرم، يتحسى مرارة الأخوان ويسقيهم عذبه، له همة تناطح النجوم وكرم يشامخ الغيوم.
أبو الغمر:
وهمة نبلت عن أن يقال لها ... كأنها وتعالت عن مدى الهمم
آخر:
ولي همم بيني وبين بلوغها ... بحور من الآمال ليس لها جسر
المتنبي:
له همم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجلّ من الدهر
وله:
فتى أصاب من الدنيا نهايتها ... وهمه في ابتداءات وتشتيت
آخر:
صدر رحيب لما يأتي الزمان به ... وهمة تسع الدنيا وما تسع
من ضاق به الزمان لعظم همته:
المتنبي:
فتى يشتهي طول البلاد، ووقته ... تضيق به أوقاته والمقاصد
وله:
تجمعت في فؤاده همم ... ملء فؤاد الزمان إحداها
الموسوي:
ضاق الزمان فضاق فيه تقلّبي ... والماء يجعل نفسه في جدول
تحمل المكاره في نيل المكارم:
قيل: المكارم موصولة بالمكاره. وقيل: من سما لمكرمة فليتحمل مكروهها.
الخبزارزي:
فقل لمرجي معالي الأمور ... بغير اجتهاد: رجوت المحالا!
أبو تمام:
ما ابيضّ وجه المرء في طلب العلا ... حتى وجهه في البيد
وقيل: إذا لم تتهن لم تنودع، وإذا لم تنفجع لم تتمتع. دون نيل المعالي هول العوالي. وقيل للربيع بن خيثم: أتعبت نفسك في العبادة وإصلاح أمر الناس. فقال: راحتها أريد، فإن أفره العبيد أكسبهم لمولاه. وقيل لروح بن حاتم: طال وقوفك في الشمس! فقال: ليطول وقوفي في الظل. وقد أجمع حكماء العرب والعجم أنه لم يدرك نعيم بنعيم قط، وما أدرك نعيم إلا ببؤس قبله.
شاعر:
وتحمّل المكروه ليس بضائر ... ما خلته سبباً إلى محمود
امرؤ القيس:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني، ولم أطلب قليلاً من المال
المتنبي:
إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع، بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر صغير ... كطعم الموت في أمر عظيم
وله:
على قدر أهل ... العزم تأتي العزائم
الصاحب:
وقائلة: لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل في الأمم؟
فقلت: دعيني على غصتي ... بقدر الهموم تكون الهمم!
وكتب بليغ: فلان تعب في طلب المكارم غير ضال في طرقها ولا متشاغل عنها.
استطابة تحمل الشدة للوصول إلى الرفعة:
المتنبي:
تلذ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذ له الغرام
أبو فراس:
تهون علينا في المعالي نفوسنا ... ومن يخطب الحسناء لم يغله الهر
أبو دلف:
وليس فراغ القلب مجداً ورفعة ... ولكن شغل القلب للهمّ رافع
وذو المجد محمول على كلّ آلة ... وكل قصير الهمّ في الحيّ وادع
ذم من همته نفسه:
لما قال الحطيئة في الزبرقان:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

شكاه الزبرقان إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمر: ما في ذلك هجاء! فقال: يا أمير المؤمنين إنه عراني عما ابتنيته من المعالي، فدعا حساناً وسأله فقال: ما هجاه ولكنه سلح عليه.
حاتم:
لحى الله صعلوكاً مناه وهمّه ... من العيش أن يلفى لبوساً ومطعماً
آخر:
إني رأيت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا خزّ الثياب وتشبعوا
فإذا تذوكرت المكارم مرة ... في مجلس أنتم به فتقنّعوا
ابن سوادة:
همتهم من هذه كله ... في الأكل والشرب وفي الباه
أخذ ذلك من قول الأعرابي الذي قال: فلان كالبهيمة تأكل ما جمعت وتنكح ما وجدت. وقال:
إذا الفتى لم يركب الأهوالا ... فاسع له وعدّه عيالا

ذم من قصرت همته عن طلب المعالي:
ذم أعرابي رجلاً فقال: هو عبد البدن حر الثياب، عظيم الرواق صغير الأخلاق، الدهر يرفعه وهمته تضعه.
أبو تمام:
بنوا لهمم الهوامد والنفوس الخوامد والمروءات النيام
وكان لأعرابية ابن تحرضه على الإقامة والاقتصار على المطعم والمشرب فأنشدها:
إذا ما الفتى لم يبغ إلا لباسه ... ومطعمه فالخير منه بعيد
وقيل: فلان بطر الدعة بخيل السعة سيء الرعة. قال ابن الأعرابي: فلان يشبعه كراع الأرنب. إذا كان دنيء الهمة. ويقرب من هذا الباب ما قاله المنصور للمهدي: اشبع العباس بن محمد فإنك إن لم تشبعه يأكلك، وأما محمد بن إبراهيم فإنه إذا قدر على فرج امرأته لم يفارقه، وإياك أن تولي محمد بن سليمان صعود منبر فإنه إن صعده همّ بالخلافة.
تذمم من قصر في طلب المعالي:
المتنبي:
إلى كم ذا التخلف والتواني ... وكم هذا التمادي في التمادي؟
وشغل النفس عن طلب المعالي ... يبيع الشعر في سوق الكساد
ذم إيثار الدعة والنهي عنه:
قال: ما لزم أحد الدعة إلا ذل، وحب الكفاية مفتاح العجز. وقال الصاحب: أن الراحة حيث تعب الكرام أودع لكنها أوضع، والقعود حيث قام الكرام أسهل لكنه أسفل.
آخر:
فتى بهمته يلتذ في دعة ... وراحة، ويولي غيره التعبا
أبو دلف:
ليس المروءة أن تثبت منعماً ... وتضل معتكفاً على الأقداح
ما للرجال وللتنعم؟ إنما ... خلقوا ليوم كريهة وكفاح!
قال يزيد بن المهلب:ما يسرني أني كفيت أمر الدنيا كله لئلا أتعود العجز
ذم الكسل وتدرع العجز:
قال الأحنف: إياك والكسل والضجر، فإنك إن كسلت لم تؤد حقاً، وإن ضجرت لم تصبر على حق.
شاعر:
لا تضجرن ولا تدخلك معجزة ... فالنجح يهلك بين العجز والضجر
وقيل: زوج العجز التواني منتج بينهما الحرمان.
ابن المعافي:
كأن التواني أنكح العجز بنته ... وساق إليها حين أنكحها مهرا
فراشا وطيئاً ثم قال له: اتكىء ... فقصراكما لا شك إن تلدا فقرا
آخر:
خاطر بنفسك لا تنقع بمعجزة ... فليس حرّ على عجز بمعذور
مدح إيثار الدعة وقصر الهمة:
قيل لابن المقفع: لم لا تطلب الأمور العظام؟ فقال: رأيت المعالي مشوبة بالمكاره، فاقتصرت على الخمول ضناً بالعافية؛ ومنه أخذ العتابي قوله:
دعيني تجئني منيتي مطمئنة ... ولم أتجشم هول تلك الموارد
فإن جسيمات الأمور مشوبة ... بمستودعات في بطون الأساود
مدح الخمول مع الغنى:
قيل لحكيم: من أنعم الناس عيشاً؟ فقال: من اتسعت مقدرته وقصرت همته. وقال عبد الملك لأعرابي: تمن. فقال: العافية والخمول فإني رأيت الشرّ إلى ذي النباهة أسرع. فقال: ليتني كنت سمعت هذه الكلمة قبل الخلافة. وقيل لسعد: أرضيت أن تكون مشغولاً بأغنامك والناس يتنازعون الملك؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يحب الغني التقي الخفي.
قال البريدي:
وما العيش إلا في الخمول مع الغنى ... وعافية تغدو بها وتروح
بعضهم: جربنا العيش فوجدنا أهنأه أدناه. وقال محمد بن زبيدة: أتروني لا أعرف الإيراد والإصدار؟ ولكن شرب كاس وشم آس واستلقاء من غير نعاس أحب إلي من مداراة الناس.
مدح التوسط في الأمور:

مدح الله تعالى التوسط في كل الأمور فقال تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: خير الأمور أوسطها. وقيل: الغلو في العلو مؤدّ إلى وضع الضعة. وقيل: أكثر الخير في الأوساط.
أبو العتاهية:
عليك بأوساط كلّ الأمور ... وعد عن الجانب المشتبه

ذم التوسط:
كشاجم:
وقالوا: عليك وسيط الأمور ... فقلت لهم: أكره الأوسطا
إذا لم أكن في ذرا شاهق ... ولا في حضيض وطيء المطا
وحاولت في مرتقى هائل ... توسطه خفت أن أسقطا
وقيل: مما يستقبح معنى وسط ومغن وسط ونادرة وسط، وحقيقة الوسط ما لم يكن سنياً ولا دنيئاً كما قال أبو مهدية الأعرابي وقد سئل عن طعام فقال: ليس بخسيس ولا نفيس. وقيل لإسحاق الموصلي: قد خبرت فلاناً فكيف هو؟ فقال: ليس في الكمال كما تهوى ولا في التخلف كما تخشى.
ذم بلوغ النهاية:
عند التمام يكون النقصان وبقدر السموّ في الرفعة تكون وجبة الوقعة.
شاعر:
إذا تم أمر بدا نقصه ... توقّع زوالاً إذا قيل: تم
وفي بعض الأدعية: صرف الله عنك التمام. وقال المأمون لأحمد بن أبي خالد وهو يخلف الحسن ابن سهل: رأيت أن استوزرك. فقال: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني ويجعل بيني وبين الغاية منزلة يرجوني إليها المولى، ويخشاني لها العدو، فما بعد الغايات إلا الآفات. ومما يضاد هذا الباب ما كتب القاسم بن عبد الله الكرخي:ولي فيما جدد الله من هذه النعمة للوزير من بلوغ النهاية ما أستديمها به قال: انتزعته من كتاب الله تعالى في قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " . وقد علم أن دين الله بعد نزول هذه الآية لم يزل نامياً عالياً على كل دين، وأنه إنما ضرب بجرانه وقهر الأمم شرقاً وغرباً بعد كماله.
مما جاء في الجد
تفضيل الجد على الجد:
قيل: جدك لا كدك عارك بجد أودع. وقيل: لا جد إلا ما أقعص عنك. الجد أجدى والجد أكدى. وقيل: مد من حظ خير من صاع من عقل وجد.
البديهي:
ليس يجدي عليك سعى بجدّ ... لم تيسر له ملاقاة جد
وقيل: الحظ يأتي من لا يؤمه:
ليس بالكد بلوغ الراغب
آخر:
الجدّ أنهض بالفتى من سعيه ... فانهض في الحوادث أودع
آخر:
هل نافعي جدّي وفرط تيقظي ... إن كان جدّي يا أمامة جاهدا
وأنشد محمد بن عمر الوراق البلخي:
إن السعادة أمر ليس يدركه ... أهل السعادة إلا بالمقادير
مخزونة عن أناس طالبين لها ... وقد تساق إلى قوم بتيسير
وقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: لما ذكر من أسعده الله من أهل الجنة وأشقاه من أهل النار: ففيم العمل يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا ابن الخطاب، اعمل فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فميسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فميسرون لعمل أهل الشقاوة.
تفضيل الجد على العقل:
تقدم أخوة إلى سوار في ميراث لهم فقال سوار: خيروا الأكبر منكم فإنه خلف أبيكم، والمنظور إليه دونكم. قالوا: قد فعلنا فأبى الأكبر أن يقبل ذلك، فقال سوار: ما يمنعك؟ فقال: إني بحظي أوثق مني بعقلي، فأقرع بينهم فخرج سهمه خيراً من سهامهم فقال: كيف رأيت؟ فقال سوار: استأذن العقل على الحظ فحجبه. وق تقدم في باب العقل أمثلة لذلك.
كون العاقل محدوداً والجاهل مجدوداً:
من زيد في عقله نقص من حظه. وقيل: ما جعل الله لأحد عقلاً وافراً إلا احتسب عليه من رزقه.
شاعر:
وخصلة قلّ فيها من يخالفني ... الرزق والحمق ملزومان في قرن
آخر:
خاب امرؤ ظلّ يرجو أن ينال غنى ... بالعقل ما عاش في دهر المجانين
المتنبي:
وما الجمع بين الماء والنار في يدي ... بأبعد من أن أجمع الحظّ والفهما
معارضة دنيء ساعده القدر:
ألا ليت المقادر لم تقدّر ... ولم تكن الأحظّى والجدود
فننظر أينا يضحي ويمسي ... له هذي المراكب والعبيد
وقيل لرجل: كيف فلان؟ فقال: أحمق مرزوق. وقيل لآخر فقال: عيي غني حظي.
الجد يحسن القبيح ويقرب البعيد:

قيل: إذا أقبلت الدنيا على إنسان أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت سلبته محاسن نفسه.
شاعر:
إن المقادير إذا ساعدت ... ألحقت العاجز بالحازم
وقيل: السبب الذي يتقدم به المجدود هو السبب الذي يتأخر به المحدود.
أبو الشيص:
يخيب الفتى من حيث يرزق غيره ... ويعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه
الموسوي:
لا تحدثن طمعاً وجدّك مدبر ... واطلب مدى الدنيا وجدّك مقبل

تعسر الأمر على من خذله جده:
قيل: إذا لم يساعد الجد فالحركة خذلان. وقيل: إذا ولت الدول صارت الحيل وبالاً.
شاعر:
إذا كان جدّ المرء في الشيء مقبلاً ... تأتت له الأشياء من كل جانب
وإذا أدبرت دنياه يوماً توّعرت ... عليه فأعيته وجوه المطالب
قال ثمامة: لما أخبر يحيى بن خالد بتغير الرشيد له في تخليص روحه، فأمرني يوماً بالحضور معه فاجتمعنا على الرأي، فكلما أتى الرأي نقض عليه الآخر حتى أعيانا الأمر، فقام وقال: أف لهذه الدنيا كان الرأي يجيئنا على البديهة والأمر مقبل، فصار لا يأتينا على الروية والأمر مدبر، ليصنع الدهر ما شاء! وقيل: إذا أراد الله تعالى أن يزيل عن عبده نعمة فأول ما يزيل عنه عقله.
البديهي:
إذا المقادير لم تقبل مساعدة ... على بلوغ المنى لم تنفع الهمم
وقال مخنث: إذا جاء البخت توقف البيضة على أعلى الوتد، وإذا أدبر البخت أسق الهاون في الشمس.
تأسف من جد جده ولم يساعده جده:
أبو تمام:
ماذا علي إذا ما لم يزل وتري ... إن نال في الرمي أغراضي فلم أصب
آخر:
لم أوت ويحك من سعي فلا تلم ... المنع من جانب الأقدار والقسم
آخر:
تكامل فيّ آلة كلّ حرّ ... ولكن لا يساعدني الزمان
الموسوي:
غرست غروساً كنت أرجو لحاقها ... وآمل يوماً إن تطيب جناتها
فإن أثمرت لي غيرها كنت آملاً ... ولا ذنب لي إن حنظلت نخلاتها
المجدود:
قال معاوية لما أتاه خبر موت أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: لا جد إلا ما أقعص عنك.
شاعر:
وكانت قريش يفلق الصخر جدّها ... إذا أقلق الناس الجدود العواثر
أبو تمام:
ورثوا الأبوة والحظوظ فأصبحوا ... جمعوا جدوداً في العلا وجدودا
وقيل أنه لما قال ذلك أجمع الأدباء أنه أشعر أهل زمانه.
عابدة المهلبية:
ولو أرسلت نبلك ناصلات ... لصارت في الطريق لها نصول
التوفيق:
قال عمر رضي الله عنه: توفيق قليل خير من مال كثير. وقيل لبزرجمهر: أي الناس أفضل؟ فقال: مجتهد في الخير ساعده القدر. وقيل لحكيم: ما الشيء الذي لا يستغني عنه المرء في كل حال؟ فقال: التوفيق من حرم التوفيق، فأقطع ما يكون إذا اجتهد. وقام إلى الشبلي رجل فقال: بم يبعد المرء من ربه ويخذل عن أمره؟ فزعق زعقة ثم أنشد:
من لم يكن للوصال أهلاً ... فكلّ إحسانه ذنوب
وقال بعض الصوفية: إن العنايات لا تضر معها الجنايات. وأنشد الشبلي:
ويقبح من سواك الشيء عندي ... وتفعله فيحسن منك ذاكا
سنة التوفيق أجدى من يقظة الرؤية، وقليل النجح خير من كثير من الجهد.
بطلان الجد والتدبير مع القضاء والقدر:

قيل: إذا جاء الحين حار العين، وإذا جاء القدر عمي البصر. المرء طالب والقضاء غالب. إذا انقضت المدة لم تنفع العدة. إذا نزل البلاء ذهبت الآراء. إذا حلت المقادير ضلت التقادير. إذا حل القدر بطل الحذر. لما حج أبو مسلم قيل له: إن بالحيرة نصرانياً أتت عليه مائتا سنة، وعنده علم من علوم الأوائل، فقصده فلما نظر إلى أبي مسلم قال له: قمت بالكفاية ولم تأل في العناية حتى بلغت النهاية، أحرقت نفسك لمن لا يرحم حسك، وكأني بك وقد عانيت رمسك. فبكى أبو مسلم فقال: لا تبك فإنك لم تؤت من حزم وثيق ولا من رأي دقيق، ولا من تدبير بارع ولا من سبب قاطع، ولكن ما استجمع لأحد أمله إلا أسرع في تفريقه أجله. قال: فمتى يكون؟ قال: إذا تواطأ الخليفتان على أمر والتقدير في يدي من يبطل معه التدبير، وإذا صرت إلى خراسان فقد سلمت وهيهات، فلولا أن البصر يعمى إذا نزل القدر لكان في ذلك ما يبعث على الاحتيال. انتهى أعرابي إلى أرض فقيل له: إنها مفعاة. فبات على ظهر راحلته فتعلقت حية بنسعة كانت في يده فلسعته، فقال وهو يجود بنفسه:
لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقياً
ولأمير المؤمنين رضي الله عنه:
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
آخر:
سبق القضاء بكل ما هو كائن ... فليجهد المتقلب المحتال
ابن نباتة:
وإني إذا ما حاجة حال دونها ... نهار وليل ليس يعتوران
حملت على سوء القضاء ملامها ... ولم ألزم الأخوان ذنب زماني
إذا الله لم يأذن بما أنت طالب ... أعانك في الحاجات غير معان
قيل: القضاء يقرب البعيد ويبعد القريب. قال شاعر:
وقد يجلب الشيء البعيد الجوالب
وقيل: إذا كان المقدور كائناً فالهم فضل. وكان نقش خاتم أبي العتاهية: سيكون الذي قضي سخط العبد أم رضي.

مما جاء في الأماني والآمال
ما يدل على جواز التمني:
قال الله تعالى حكاية عن مريم عليها السلام: " قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً " . فدل أن تمني ما لا يكون محظوراً مباح. وقال تعالى: " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً. وسمع ذلك رجل من الصالحين فقال: يا ليت ذلك تم.
طيب الأماني والآمال:
قيل لبعض من كان يخطب عملاً: ما تصنع؟ قال: أخدم الرجاء حتى ينزل القضاء. قي: ليس سرور النفس بالجدة والمقدرة إنما هو بالأماني والآمال. وقيل لحكيم: أي شيء أدوم امتناعاً؟ فقال: الأماني. وقال رجل من بني الحارث:
منىً إن تكن حقاً تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا
أماني من سعد حساناً كأنما ... سقتك بها سعدى على ظمأ بردا
آخر:
إذا ازدحمت همومي في فؤادي ... طلبت لها الخارج بالتمني
آخر:
في المنى راحة وإن علّلتنا ... من هواها ببعض ما لا يكون
ذم الأماني وبطلانها:
قيل: إياك والمنى فإنها بضاعة النوكى. الأمل سلطان الشيطان على قلوب الغافلين. الخذلان مسامرة الأماني، والتوفيق رفض التواني. ابن المقفع: كثرة المنى تخلق العقل وتطرد القناعة وتفسد الحسن. وقال أمير المؤمنين كرم الله وجهه: تجنبوا المنى فإنها تذهب ببهجة ما خولتم وتصغر مواهب الله التي رزقتم. ثلاث تخلق العقل وفيها دليل على الضعف: سرعة الجواب، وطول التمني، والاستغراب في الضحك، قال رجل لابن سيرين: رأيتني كأني أسبح في غير ماء، وأطير بغير جناح. فقال: أنت رجل تكثر الأماني. وقيل: المنى والحلم أخوان. إن المنى طرق الضلال.
إن ليتاً وإن لوّاً عناء
كثير:
وددت وما تغني الودادة أنني
البيتين محمد بن أمية:
أقطع الدهر بظن حسن ... وأجلي كربة لا تنجلي
كلما أملت وجهاً صالحاً ... عرض المكروه دون الأمل
وكذا الأيام لا تدني الذي ... أرتجي منك وتدني أجلي
البسامي:
أعلل نفسي بما لا يكون ... كما يفعل المائق الأحمق
المتنبي:
تمن يلذ المستهام بمثله ... وإن كان لا يغني فتيلاً ولا يجدي
أبو تمام:

من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا
آخر:
إن المنى رأس أموال المفاليس
افنون التغلبي:
ولا خير في أن يكذب المرء نفسه ... وتقواله للشيء: يا ليت ذاليا!
أماني من تمنى أمراً فأدركه:
اجتمع ابن عمر وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة فقال مصعب: هلموا نتمن. فتمنى عروة الفقه وأن يحمل عنه الفقه، وتمنى عبد الملك الخلافة، وتمنى مصعب ولاية العراق وتزويجه سكينة بنت الحسين بن علي وعائشة بنت طلحة، وعبد الله ابن عمر الجنة؛ فنال مصعب وعبد الملك وعروة ما تمنوا، شهد ابن عمر رضي الله عنهما مدرك ما تمناه وطلبه. وروي أن كعب بن ربيعة بن عامر أتاه آت في المنام فقال: إجمع بنيك ومرهم بالتمني فإنه يعطون. فجمعهم فقال لعقيل تمن فقال: العدد والرمي، فليس في بني كعب أكثر عدداً منهم ولا أرمى. وقال لجعدة تمن فقال: المال؛ فهم أكثر بني كعب خيلاً وإبلاً وهم أهل رضاخ وضربة والفلج. وقال لقشير تمن فقال: البقاء والجمال؛ فهم أجمل بني كعب ويكثر فيهم ذو السن، وذو الرقية منهم أدرك الإسلام وله مائة وعشرون سنة وله ألف من والده، هذا يقول يا أبتاه وذا يقول يا جداه. وقال لحريش تمن فقال: النعظ؛ فهم أنكح بني كعب. وقال لحبيب تمن فقال: المودة من أخوتي فيما بينهم وأن لا يؤثروا بهم. قال الشيخ أبو القاسم رحمه الله نسأل الله أن يعطينا منانا بعد أن يوفقنا لتمني ما فيه مصالحنا.

من ذكر قلة مبالاته بالمنية لادراكه قاصية الأمنية:
قال الله تعالى مخبراً عن يوسف عليه السلام: " رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين " .
قيس بن الحطيم:
متى يأت هذا الموت لا تلف حاجة ... لنفسي، إلا قد قضيت قضاءها
ونحوه:
أدركت في الدهر أياماً بلغت بها ... رضا الشباب الذي قد كان عاصاني
وقال منصور بن طلحة بن عامر: رأيت عبد الله بن طاهر في المنام بعد موته فقلت له: ما خبرك أيها الأمير؟ فقال:
من كل شيء قضت نفسي لبانتها ... فإذ أتاني قاضياً أجلي
زهير بن خباب الكلبي وكان من المعمرين:
من كل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحية
طيب إدراك المنى:
في المثل: أطيب من نيل المنى وإدراك الأمل. وقيل: ليس بعد بلوغ المنى إلا نزول المنية، قال الله تعالى: " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة " .
أبو الفتح بن العميد:
إذا المرء أدرك آماله ... فليس له بعد ذا مقترح
أماني قوم بحسب أحوالهم:
قال قتيبة بن مسلم للحصين بن المنذر: ما تتمنى؟ فقال: لواء منشور وجلوس على السرير وسلام عليك أيها الأمير. وقيل لعبد الله بن الاهتم ذلك فقال: رفع الأولياء وقمع الأعداء وطول البقاء مع القدرة والنماء. وقيل ذلك للفضل بن سهل فقال: توقيع نافذ وأمر جائر. وقيل لحكيم تمن فقال: محادثة الأخوان وكفافاً من عيش والانتقال من ظل إلى ظل. وقيل ذلك لمطرف فقال: مركب وطي ومطعم شهي وملبس دفي. وقيل لآخر فقال: شواء مستنشل وغناء مسترسل ونكاح مستعجل. وقال بعضهم: العي كله في صحة البدن وكثرة المال وخمول الذكر. وقيل لحكيم فقال: هوى وافق حقاً. وقيل لرجل فقال: أن تعطي جوارحك لذاتها. وقيل لأعرابي فقال: خباء في أرض خلاء وكلب إذا أصابه المطر زاحمني فيه. وقيل لابن سنان فقال: ليل طويل الطرفين أقرن بينهما بذكر الله تعالى. وقيل لمأبون فقال: لذة الابنة وحك الجرب فمن حرمهما فقد حرم لذات الدنيا! نعوذ بالله من بعض الأماني.
أماني البله:
شاعر:
إذا تمنى مائق أمنية ... تحسبها كائنة مقضية

قال الأصمعي: قال شيخ بن بني العجيف إني تمنيت أن أبني داراً فمكثت أربعة أشهر للدرجة أين أضعها. ومر الحجاج ليلة بدكان لبان وعنده بستوقة فيها لبن وهو يتمنى يقول: أنا أبيع هذا اللبن بكذا درهماً وأشتري به كذا ثم أبيعه ثم يكثر مالي ويحسن حالي وأخطب إلى الحجاج ابنته فأتزوج بها، فتلد لي ابناً فأدخل عليها يوماً فتخاصمني فأضربها برجلي هكذا، ومد رجله فكسر البستوقة، فقرع الحجاج بابه واستفتحه فضربه خمسين وقال: أليس لو ضربت بنتي بركزة هكذا لفجعتني بها!

نوع من الأماني:
قال الوليد بن عبد الملك لبديع المغني: خذ بنا في الأماني فلأغلبنك. فقال: والله لا تغلبني فيها أبداً إني أتمنى كفلين من العذاب، وإن يلعنني الله لعناً يشن على من خلفي ومن قدامي أتتمنى مثله؟ فقال: غلبتني لعنك الله! وقيل لرجل: أيسرك أن يكون لك ألف درهم؟ فقال: نعم وأضرب مائة. فقال: وضرب المائة لم؟ فقال: لأنه لا يكون شيء إلا بشيء. وقيل: كان رجل يطلبه الحجاج فمر بساباط فيه كلب فقال: ليتني كنت هذا الكلب فأستريح من الغم والخوف، فما لبث أن جيء بذلك الكلب وفي عنقه حبل. وقيل: ورد كتاب الحجاج يأمر فيه بقتل الكلاب. وقعد ابن أبي عتيق فقال: ليت لنا لحماً فنطبخ سكباجاً. فما لبث أن جاء جار له بصحفة فقال: أعطونا قليل مرق! فقال: إن جيراننا يشمون رائحة الأماني.
التحذير من طول الأمل:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وبعد الأمل، أما الهوى فيعدل عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة. ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل. من جرى في عنان أمله فعاثر لا شك بأجله. الآمال مصائد الرجال. ووجد على حجر مكتوب: يا ابن آدم لو رأيت ما بقي من أجلك لزهدت في طول ما ترجوه من أهلك.
تبكيت من أطال الأمل:
أقام معروف الكرخي الصلاة فقال لمحمد بن ثوابة: تقدم. فقال: إن صليت بكم الصلاة لم أتقدم بعده. فقال: وأنت تحدث نفسك بصلاة أخرى؟ نعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع من خير العمل، من عد غداً من أجله فقد أساء.
نفع طول الأمل في الورى:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: الأمل رحمة لأمتي، ولولا الأمل ما أرضعت أم ولداً ولا غرس غارس شجراً. ومن هذا أخذ الحسين رضي الله تعالى عنه: لو عقل الناس وتصوروا الموت بصورته لخربت الدنيا. وقال مطرف: هذا الغفلة رحمة فلو دخل الناس الخوف من الموت ما انتفعوا بدنياهم.
مضرة انقطاع الأمل:
قيل: أعظم المصائب انقطاع الرجاء. وقيل لبزرجمهر: ما الذي يشدد البلاء على الناس؟ فقال: القنوط والاستبسال؛ قيل: فما الذي يهونه عليهم؟ قال: الرجاء وحسن الظن. قال النظام: كنا نلهو بالأماني وتطيب أنفسنا بها فذهبت من بعد وانقطع الأمل.
بقاء الأمل والمنى ببقاء الحياة:
قيل: لا ينقطع رجاء المرء ما لم تنقطع حياته. وقيل: الأمل يساوق الأجل. قال علقمة:
والعيش شح وإشفاق وتأميل
ومثله:
العيش إن تجل عنه كله تعب ... والمرء إن قر عيناً كله أمل
قال بشار: الإنسان لا ينفك من أمل، فإنه فاته عول على الأماني، فالأمل نفع نسيب والهوى لا يكون نسيباً، وبابه مفتوح لمن يكلف الدخول فيه.
تضمن الرجاء للخوف:
قيل: خوف وقع المكروه مقرون برجاء السلامة. كل رجاء متضمن للخوف، ولذلك استعمل كل واحد منهما موضع الآخر. وقول الهذلي:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
أي لم يخف. وقيل: لا ينبغي للعاقل أن يسر بالرجاء فإنه مشوب بالذعر، والسرور به غرور، وإن خاب أضعف الأكداء عليه الغم.
الحد الثامن
في الصناعات والمكاسب والتقلب والغنى والفقر
فمما جاء في الحرفة
مدح الحرفة وفضلها:

قال النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: ما المروءة فيكم؟ قالوا: العفة والحرفة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: خير الكسب كسب اليد لمن نصح. وكان عمر رضي الله عنه إذا نظر إلى رجل سأله: أله حرفة؟ فإذا قال لا سقط من عينه. ونظر عمر رضي الله عنه إلى أبي رافع وهو يقرأ ويصوغ فقال: يا أبا رافع أنت خير مني، تؤدي حق الله تعالى وحق مواليك. وقيل لأعرابي ينسج: ألا تستحي أن تكون نساجاً؟ قال: إنما أستحي أن أكون أخرق لا أنفع أهلي، وحرفة يقال فيها خير من مسألة الناس. وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب التاجر الصدوق والصانع الناصح لأنه حكيم.
أبو العتاهية:
ولا تدع مكسباً حلالاً ... تكون منه على بيان

ذم السرقة:
قيل: لا ترج الخير ممن يكون رزقه من ألسنة الموازين ورؤوس المكاييل، يؤتى يوم القيامة بسوقي فيوزن عمله فتميل به الميزان، فيقول: حولوا إلى الكفة الأخرى ففي الميزان عيب.
أصناف الصناع وتفضيل بعضها على بعض:
قيل: الناس أربعة ذو صناعة وزراعة وتجارة وإمارة، وما سوى ذلك فإنهم يغلون الأسعار ويكدرون المياه. وقال المأمون: السوقيون سفل، والصناع أنذال، والتجار بخلاء، والكتاب ملوك على الناس. كتب الوليد إلى صاحب الساحل: اجعل الحائك والإسكاف في مرتبة، والحجام والبيطار في مرتبة، والبزاز والصيرفي في مرتبة، والمعلم والخصي في مرتبة، والنخاس والشيطان في مرتبة. وقيل: ثلاثة أعمال لم تزل في سفلة الناس: الحياكة والحجامة والدباغة. وقال الحبيب بن محمد لمالك بن دينار: لو خيرت في الصناعات ما كنت تختار؟ فقال: أكون حداداً فأرى لفح النار لعلي أتقيها. فقال حبيب: كنت أختار أن أكون حفاراً للقبور.
المتولي صناعة تنافيه:
قال شريك بن عبد الله: خمسة من الكبائر، عمياء مكتحلة، وسوداء مختضبة، وخصي له امرأة، ومخنث يؤم قوماً، وأعرابي أشقر. ومن العجائب: منجم أعمى، وأطروش صاحب خبر، وعطار أخشم، ومناد أخرس، ومؤاجر أصلع، وجندي محفوف الشوارب، وكناس متعزز، وفيج منقرس ولحياني ينتف لحية كوسج، وديدبان أعمش، وحجام قليل الفضول، وإمام أمي، وكحال أرمد. وضرب عبد الله بن أبي بكر ملاحاً لم يحسن السباحة وقال: من العجائب ملاح غير سابح!
المتولي صناعة تليق به:
من تمام آلة القاضي أن يكون لحيانياً، والقاص أن يكون أعمى شيخاً بعيد الصوت، والزامر أن يكون أسود، والمغني فاره الدابة يراق الثوب عظيم الكبر سيء الخلق، والشاعر أن يكون أعرابياً، والدعي إلى الله أن يكون صوفياً. من عمل عمل أبيه كفي نصف المعاش.
أنذال من الصناع متبجح بعضهم على بعض:
دعا حجام كناسين يكنسان له كنيفاً فقال أحدهما للآخر: أتدري عند من نعمل؟ قال: لا. قال: نعمل عند حجام. فقال: الحمد لله الذي أعلمنا ذلك أن نشرب من كوزهم، أردت والله أن أرمي بكل ما في جوفي أطلب لي شيئاً أشرب به، فضرب يده إلى كوز معه في جوف جرة ينقلون فيه الخرء فمسحه بيده وناوله فشرب منه. اجتمع كناسان على كنيف فقال أحدهما: فيه من الخرء قامة، وقال الآخر: قامة وبسطة فنزع ثوبه وقفز فيه وغاص، ثم أخرج رأسه وقال: تظنني حائكاً. وقع شر بين حجام وحذاء. فقال: أنت تمشط وتسرح، وأنا أحذو، وأنت تشق بمبضع، وأنا أشق بمخصف فما فضلك علي؟
ذكر من تولى صناعة دنيئة من الأكابر:
قيل: كان طالوت دباغاً فآتاه الله الملك عل رغم من ذكره، وكان داود صلى الله عليه وسلم راعي غنم وآتاه الله الملك والحكمة، وموسى راعياً أجيراً لشعيب صلوات الله عليهما، وعيسى عليه السلام صياد سمك، وهذا باب يكثر أن يتبع.
ذم الحاكة:

قيل: الحمق عشرة أجزاء تسعة في الحاكة. مر على أمير المؤمنين كرم الله وجهه رجل فقال له: إلى أين؟ قال: إلى البصرة في طلب العلم. فقال: أتترك علياً وتطلب العلم بالبصرة؟ ثم قال له: ما صناعتك؟ فقال: نساج. فقال رضي الله عنه من مشى مع حائك في طريق ارتفع رزقه، ومن كلم حائكاً لحقه شؤمه، ومن اطلع في دكانه أصفر لونه. فقال قائل: لم يا أمير المؤمنين وهم إخواننا؟ فقال: إنهم سرقوا نعل النبي صلى الله عليه وسلم: وبالوا في فناء الكعبة، وهم تبع الشيطان وشيعة الدجال، وسراق عمامة يحيى بن زكريا وجراب الخضر، وعصا موسى وغزل سارة وسمكة عائشة من التنور، واستدلتهم مريم عليها السلام فدلوها على غير طريق، فدعت عليهم أن يجعلهم الله سخرية وأن لا يبارك في كسبهم. وقال حائك لعالم: دلني على عمل أتواضع به. فقال له: ما عمل أوضع من عملك فألزمه. وقال: شهادة الحائك تجوز مع عدلين. وكان النظام يسمي العروضي أخضر البطن، فيكشف عن بطنه وقال: ما ههنا خضرة. فقال: إنه يريد إنه حائك. ويقال: فلان أخضر النواجذ والبراجم للأكار، بمعنى أنه يأكل الكراث ويتناول الخضراوات.

في مدحه:
لولا الحياكة والذين يلونها ... بدت الفروج ولاحت الأدبار
وفي ذم صناعة قليلة النفع يتمثل بقول الشاعر:
ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل
مدح الحجام:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم العبد يقل الدم ويخف الصلب ويجلو البصر! ومن فضلاء الحجامين أبو ظبية حجام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حجم النبي صلى الله عليه وسلم وشرب دمه فاختلط دمه بدمه، فخطب إلى الأشراف وزوج من الكرام. ومنهم أبو هبة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بني هند إنما أبو هبة رجل منكم، فانكحوه وانكحوا إليه. ومنهم عبيد الحجام بالبصرة وكان أديباً قيل له: كم يعطيك فلان؟ قال: سدوسي؛ عنى قول الشاعر:
فإن تبخل سدوس بدرهميها ... فإن الريح طيبة قبول
ابن طباطبا:
أبو سليمان داود بن بنكلة ... قد فات في الحجم حذقاً كل حجام
وزان ذاك بصوت لا يجاوزه ... إلى الفضول سوى نطق بإبهام
لطفاً ورفقاً وحذقاً في صناعته ... وخفة لم تشن منه بإبرام
لولا مواقع موساه ومشرطه ... لخلتني منه في أضغاث أحلام
محمد بن مسافر:
مزين حذفني حاذق ... ليس له في الناس من شبه
ظننت إذ حذفني أنه ... أحدث لي وجهاً سوى وجهي
أبو ذر البلخي:
يأخذ من مجروحه أرشه ... فيا له من جارح مستشيب
كثرة فضول الحجامين:
استحضر عبد الله بن سليمان حجاماً شيخاً يقال له أبو دلحمة وقال: أنا متبرم بحجامي لكثرة فضوله فأخذ آلة التحذيف وطفق يشحذ الموسى، فنظر الوزير إلى أصحابه فقال: أعط القوس باريها! فقال أبو دلحمة: ما أول هذا البيت أيها الوزير؟ فقال الوزير: الله أكبر هربت من فضول فوقعت فيما فوقه. وقال: ما هو يا أبا دلحمة؟ فقال: أنشدني الرياشي بمكة:
يا باري القوس برياً ليس يحسنه ... أفسدت قوسك أعط القوس باريها

وكان أبو دلحمة من الشعراء والفضلاء. وقال الفضل بن الربيع: قال لي الرشيد أطلب لي حجاماً أصمت من الحجر! فقلت: نعم لي غلام سكيت. فقال: إبعثه إلي فدعوت به وأخذت عليه الوصية أن لا ينبس ولا ينبض عرقه إذا خدم أمير المؤمنين، وأوصيته بأن يتأهب، ثم دخلت إلى الرشيد فرأيته يضحك وقال لي: إن لذلك الحجام شأناً ولا نراه بعد. ثم سألت فراشاً مختصاً بالرشيد عن خبره فقال: إنه لما بدأ بالمحجمة قال: يا أمير المؤمنين إني أريد أن أسألك عن شيء فقال له: ما هو؟ قال: لم قدمت الأمين على المأمون، والمأمون أسن منه؟ قال: أخبرك بالجواب إذا فرغت فلم يلبث غير قليل حتى قال: وأسألك عن شيء آخر. قال الرشيد: هات. قال: لم قتلت جعفر بن يحيى؟ قال: وهذا أيضاً أخبرك به إذا فرغت. قال: وأسألك لم اخترت الرقة على بغداد، وبغداد أطيب منها؟ قال: نعم أخبرك إذا فرغت. فلما فرغ دعا مسرور الخادم فقال له: لا تشرب عليه الماء البارد إنه سألني عن ثلاث، لو سألني المنصور عنها ما أجبته. ومر المأمون متنكراً بحجام فسمعه يقول لآخر: سقط هذا المأمون من عيني منذ قتل أخاه! فبعث إليه ببدرة وقال: إن رأيت أن ترضى عني فعلت. وكان كسرى يستصفي الحجامين في كل سبع سنين ويقول:إنهم يبطرون إذا أثروا!

ذم التكسب به:
قيل: إنما يقال للحجام قبيس لأن المسان تحمل إليهم من جبل أبي قبيس. ويقال: إن الحجامين بقم في بعض الأوقات غضبوا، فاجتمعوا من البلد حتى طالت شعور أهلها، واضطروا إلى أن خرجوا إليهم، وقبلوا الأرض بين أيديهم وحلفوا لهم أن لا يؤذوهم ولا يلقبوهم، فرجعوا. وقيل: أن الفرزدق حضر مجلساً فيه بلال ابن أبي بردة، فجعل بلال يذكره مناقب جده، فقال الفرزدق: لو لم يكن له من المنقبة إلا أنه حجم النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: أنه ما حجم قبله ولا بعده. فقال الفرزدق: جدك والله كان أفضل من أن يجرب الحجم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
شاعر:
أبوك أوهى النجاد عانقه ... كم من كميّ أدمى ومن بطل
يأخذ من ماله ومن دمه ... لم يمس من ثاره على وجل
منصور بن بازان:
كم من رقاب جرحت طائعة ... من غير كفيك لا ترام خمى
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام وقال: هو خبيث! وهذا على التنزيه. وروي أنه عليه الصلاة والسلام إحتجم وأعطى الحجام أجره فلو كان حراماً لم يعطه. وروي أنه حجمه عبد لبني بياضة فأعطاه أجره صاعاً من تمر، وسأل مواليه أن يخففوا عنه من ضريبته.
ذم الإسكاف:
قيل لمجنون: ما تقول في اسكاف مات وترك أختاً وأماً؟ فقال: ميراثه للكلاب، ونفقته على الدباغين، وليس لأمه ولا لأخته إلا نثر التراب وتخريق الثياب. وقيل: وقع كليب في كنيف فدعا اسكافاً فقال: إدفع يدك عن أخيك واخرج! فقال: ذرني في الكنيف ولا تصحح علي بذلك أخوتك. وقال الشاعر يعرض به:
أنفذ في الطعن من كليب ومن ... عمرو الزبيدي فارس اليمن
الخياط:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: عمل الأبرار من الرجال الخياطة، وعمل الأبرار من النساء الغزل. وقال ابن عباس كان إدريس عليه السلام خياطاً، وكذلك هود ولقمان عليهما السلام، وكان نوح نجاراً. وأتى أعرابي إلى خياط بثوب ليخيطه قميصاً فقطعه، فعلاه الأعرابي بالهراوة؛ وقال:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... فيما مضى في سالف الأحقاب
من فعل علج جئته ليخيط لي ... ثوباً فخرّقه كفعل مصاب
فعلوته بهراوة كانت معي ... ضرباً فوّلى هارباً للباب
أيشق ثوبي ثم يقعد آمناً ... كلا ومنزل سورة الأحزاب
ذم النداف:
قال رجل لنداف: لو وضعت إحدى رجليك على حراء. والأخرى على طور سيناء، ثم أخذت قوس قزح تندف به قطن الغمام في جياب الملائكة إلا ندافاً.
الصاحب:
قل لابن ماسوية الفقيه ... يا آنف الناس من أبيه
جمعت ضدين في مكان: ... صنعة حلج وفرط تيه!
المخاطر بنفسه من الصناع:
في كتاب كليلة خمس نفر المال أحب إليهم من أنفسهم: المقاتل بالأجرة، وراكب البحر للتجارة، و حافر البئر والأسراب، والمدل بالسباحة والمخاطر على السم. وقد تقدم الطبيب وذمه.
القين:
جرير:

هو القين يدني الكبر من صدر استه ... ويعرف مد الكلبتين أنامله
آخر:
القين لا يصلح إلا ما جلس ... للكلبتين والعلاة والقبس

الراعي:
ذم قوم الرعاة فنسبوهم إلى الحمق وقالوا: أحمق من راعي ثمانين. وقالوا: لا تشاور راعي الضأن. ومما يدل على فضيلتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما من إلا وقد رعى، وقد رعيت. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بعث الله نبياً إلا راعياً، بعث موسى وهارون راعيين، وبعثت أنا أرعى أهلي. وشرط صاحب الإبل على الراعي فقال: عليك أن تهنأ جرباها، وتلوط حوضها، وتنشد ضالتها، وترد نادتها، وتستقصي في الرسل ما تنهكها حلباً أو تضر بنسل؛فقال الراعي: نعم على أن يدي مع أيديكم في الحار والقار، ولا تذكر أمي بشر، ولي مقعد موسع من النار! فقال: هذا لك فإن خنت فما عليك؟ قال: حذفة بالعصا أخطأت أم أصبت. وتفاخر راعيان فقال أحدهما: والله ما اتخذت عصا فيها غير هذه منذ شبت وما انكسرت! فقال الآخر: تعست إن اتخذت فيها عصا غير يدي! ويوصف الراعي بأنه ضعيف العصا أي قليل الضرب بها. قال شاعر:
ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا
الكناس:
قال رجل من الكناسين لآخر: ويحك ألا تعجب من فلان يزعم أنه كناس ابن كناس! قال: قل له يا ابن الخبيثة ما لك والكنس، قد والله بغضوا إلينا هذا العمل، أف وتف من النوكى! وجاء أمس ويقول: أنا كناس أما والله لو شهدنا ونحن نكنس المطابق والسجون فلا نخطئ، ما قدرنا بزنبيل واحد، ولا نتحاشى من الدخول في كنفها علم من الكناس ابن الكناس! وكان أبو إبراهيم الكساح رئيس الكساحين؛ قال له أحمد بن سليمان: أحمل مائة سفينة مع المائة التي كانت حملتها قبل، وخذ ثمنها. فقال: تلك المائة كنت قد جعلتها طعمة للأمير.
باب مختلف من الصناعات:
قيل: من حذق في صناعته احتسب حذقه في رزقه، ولذلك ترى أكثر الحاذقين محرومين. وسمعت بعض العلماء يقول: إنما أكثر الحذاق في صناعتهم يضيق رزقهم لاتكالهم على حذقهم، لا يبذلون جهدهم فيما يعملونه وغير الحاذق يبذل جهده ويفرغ نصحه خشية أن تسترذل صنعته، فيبارك الله فيه بجده وجهده واستفراغ نصحه. وقال الحسن بن سهل: لا يكسد رئيس صناعة إلا في شر زمان ومملكة أنذل سلطان. وقيل: من انتكاس الدهر أن يولى امتحان الصناع من ليس بحاذق في صناعتهم. وروي في الخبر: لا بد للناس من عريف والعرفاء في النار. كأنه أخبر عن علم الله تعالى في أكثرهم أنهم يعملون بالمعاصي. فأما العرافة والنقابة فقد كانتا في قوم صالحين. يقال: عريف ونقيب ومنكب والعريف فوق النقيب. نظر حمال إلى راكب فقال: سبحان من حملك وحملّني. وعطس حمال فقال رجل راكب مخمور: يرحمك من أخرج العطسة من المضيق فقال: يغفر لك من حملك وجعل على قفاي هذه الكارة الدقيق.
مما جاء في المبايعات
مدح السوق:
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل السوق يقول: لا إله إلا الله لا شريك له، اللهم إني أسألك من خير هذه السوق وأعوذ بك من الكفر والفسوق. وقيل: السوق موائد الله فمن أتاها أصاب منها. وقال صلى الله عليه وسلم لرجل: إلزم سوقك.
ذم السوق:
قيل للحسن رضي الله عنه: هلا تصلي فإن أهل السوق قد صلوا؟ قال: من يأخذ دينه من أهل السوق؟ إن نفقت سوقهم أخروا صلاتهم، وإن كسدت عجلوها! وقال: أهل السوق ذئاب تحت ثياب. وقال ابن السماك: يا أهل السوق سوقكم كاسد وبيعكم فاسد وجاركم حاسد ومأواكم النار!
ذكر أسواق العرب:
كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فلما جاء الإسلام تأثموا أن يتجروا في الحج، فأنزل الله: " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم " . يعني في مواسم الحج.
مدح التجارة وذمها:

قال مجاهد في قوله تعالى ليشهدوا منافع لهم: إنها التجارة. وأشراف قريش كانوا تجاراً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا خير في التجارة إلا لسنة: تاجر إن باع لم يمدح، وإن اشترى لم يذم، وإن كان عليه دين أيسر القضاء، وإن كان له أيسر الإقتضاء وتجنب الحلف والكذب. وقال عليه الصلاة والسلام: بعثت مرحمة ومرغمة ولم أبعث تاجراً ولا زراعاً، وإن شرار هذه الأمة التجار والزراعون إلا من شح دينه. وقال صلى الله عليه وسلم: ما أوحى الله إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحى إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين. وقال تعالى: وإذا رأوا تجارة أو لهواً إنفضوا إليها؛ فقرن التجارة باللهو وهو مذموم.

الحث على التجارة في جنس دون جنس:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من اتجر في شيء ثلاث مرات فلم يصب منه شيئاً فليتحول إلى غيره. ودخل ناس على عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما فسألهم عن صناعتهم فقالوا: بيع الرقيق؛ فقال: بئست التجارة ضمان نفس ومؤنة ضرس! وقال ابن المبارك: إياك والتجارة في الإبل فإنها غنم وغرم، وأحب التجارة إلي ما كان بين غنمها وغرمها حجاز من السلامة. وقال بطليموس: لا يكاد الإنسان ينحس في جميع الأشياء ولا يسعد في جميعها، فينبغي أن يعرف وجوه منافعه في وجوه شتى، فمتى دخلت المنحسة في شيء كانت السعادة في شيء. وقيل: شر الناس من باع الناس! يعني النخاسين. وقيل: بيع الرجل صاحبه بالطفيف من الأمر. وقد قال صلى الله عليه وسلم: التجارة في الرقيق ممحقة. وقال محمد ابن واسع رحمه الله: أفضل التجارات لدي بيع العطر والجوهر والحصر والساج، وكل شيء لا يشتريه إلا من في أمواله فضل عن القوت، لأن ظلم أصحاب الفضل أهون، وأبغض التجارة إلي القطن وشراء الغزل، فإن ظلم هؤلاء صعب إذا كان داخلاً على أقواتهم.
فضل الصدق في البيع:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أفلس تاجر صدوق. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: التجار فجار، قيل: يا رسول الله ولم وقد أحل الله البيع. فقال: إنهم يحلفون ويكذبون. وقال الجاحظ: رحم الله الأحنف حيث يقول: إلزم الصحة يلزمك العمل. وقال الأشج الصيدلاني: مر بي رجل فرأى قلة الناس عندي وكثرتهم عند غيري فقال: أتريدن أن تكثر مبايعتك ويحسن حالك؟ قلت: نعم. فقال: أصدق وأصبر سنة، فإن الصدق يستحي لنفسه أن يبطئ عنك أكثر من سنة. ففعلت فكثر زحام الناس عند حانوتي، ثم مر بي فرأى كثرة الناس عندي فقال: إحذر ولا تتكل على ما وهمتهم من الصدق، فتدعوك نفسك إلى ضعف ربحك اليوم، فإنك إن عدت إلى الكذب عاد عليك الكساد، فلم أزل قابلاً لوصيته. ثم مر بي بعد سنيات فقال: قليل الربح مع كثرة الحرفاء أربح من كثيره مع قلة الحرفاء. وقد قالوا: إلزم الصحة يلزمك العمل، ولو حلفت أنها كلمة نبي لرجوت أن لا أحنث، ثم لم أره بعد ذلك فرحمه الله حياً وميتاً فقد نصح. وقيل: التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين.
ذم الحكرة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من احتكر على المسلمين طعامهم ضرب الله ماله بالإفلاس. وعنه صلى الله عليه وسلم: من احتكر طعاماً أربعين يوماً فقد برئ من الله ورسوله. وقال صلى الله عليه وسلم: الجالب مرزوق ملعون. وفي عهد أزدشير: لا تحبوا الاحتكار فيعممك القحط. وقال معاذ بن جبل رض الله عنه: قلت يا رسول الله ما الحكرة؟ فقال: الذي إذا سمع الغلاة فرح، وإذا سمع بالرخص اغتم. وقال علي رضي الله عنه: لا أسمع بالكوفة برجل احتكر إلا أحرقت طعامه بالنار أو انهبته. وكتب الوليد بن مصعب إلى صاحبه بالساحل: تفقد أمر الحناطين فإن زادوا في السعر من غير علة فأنهبهم عوامك، فالغلاء من أسباب الفتن، مع الغلاء تكون الشكوى ثم الجلاء ثم الوباء!
تحليل البيع وذم الربا:
قال الله تعالى: " أحل الله البيع وحرم الربا " . وقال: " يمحق الله الربا ويربي الصدقات " . وقال: " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " . ولعن النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤاكله وكاتبه وشاهديه. وقال صلى الله عليه وسلم: الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله من ستة وثلاثين زنية زناها زان. وقال صلى الله عليه وسلم: كل قرض جر منفعة فهو الربا.
الحث على مراعاة العلم في المبايعة:

قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: من اتجر بغير فقه فقد ارتطم في الربا. وقال الضحاك: ما من تاجر ليس بفقيه إلا أكل الربا شاء أم أبى.

المكروه من البيوع:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يبيع أحدكم على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه. وقال صلى الله عليه وسلم: لا تناجشوا. والنجش: الزيادة في السلعة من غير حاجة، ونهى عن تلقى الركبان وبيع حاضر لباد. وقال صلى الله عليه وسلم: لا يحل شراء المغنيات ولا بيعهن ولا تعليمهن، وتلا قول الله تعالى: " ومن الناس من يشتري لهو الحديث " . ونهى عن بيع فضل الماء فقال: من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ، منعه الله فضل رحمته يوم القيامة. وقال صلى الله عليه وسلم: لا يحل منع الملح. وكل ذلك مكروه. وإذا فعله إنسان صح بيعه وشراؤه.
المحرم بيعه:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد. وفي خبر آخر: نهى عن ثمن الكلب والهر وعن مهر البغي. وقال جابر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة يقول: ألا إن الله حرم بيع الخمرة وبيع الخنازير وبيع الأصنام فقيل له: أرأيت شحوم الميتة فإنه يدهن به السفن والجلود؟ فقال صلى الله عليه وسلم: قاتل الله اليهود! إن الله حرم عليهم الشحوم فحملوها وباعوها. وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه. وقال صلى الله عليه وسلم: الورق بالورق والذهب بالذهب، والبر بالبر والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح ربا إلا هاء وهاء مثل بمثل، ومن زاد أو ازداد فقد أربى. وأهل الظاهر قصروا الحكم على هذه المذكورات وغيرهم تعداها؛ فجعل الشافعي رضي الله عنه العلة فيه الأكل فحرم بيع كل مأكول بجنسه إلا مثلاً بمثل. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وعن بيعين في بيعة، وعن بيع وسلف، وعن ربح ما لم يضمن وبيع ما لم يقبض، وعن المحاقلة والمزابنة. فالمحاقلة: بيع البر الموضوع بالأرض، والمزابنة: بيع ثمر النخل بالتمر يابساً. ورخص في العرايا، والعرية: بيع ثمر النخل بالتمر يابساً إذا كان دون خمسة أوسق. ونهى عن الثنيا وعن المنابدة وبيع الغنيمة قبل القسمة، وعن بيع المجر؛ وهو أن يباع الشيء بما في بطن الشاة، وعن حبل الحبلة وعن بيع الغرر، وهو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها. وفي الحديث أنه عليه السلام نهى عن الكالئ بالكالئ،وهو بيع الدين بالدين، ونهى عن بيع أمهات الأولاد؛ وقال: لا يبعن ولا يوهبن ولا يورثن يستمتع بها سيدها ما بدا له، فإذا مات فهي حرة.
السلف:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في التمر العام والعامين، فقال صلى الله عليه وسلم: من أسلف فليسلف في كيل ووزن معلوم إلى أجل معلوم. وكان صلى الله عليه وسلم: استسلف بكراً فجاءته إبل من إبل الصدقة. قال أبو رافع: فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقضي الرجل بكره فلم أجد إلا رباعياً، فقال صلى الله عليه وسلم: أعطه إياه إن خير الناس أحسنهم قضاء.
السهل البيع:
مر النبي صلى الله عليه وسلم يبيع شيئاً فقال: عليك بالسماح أول السوق، في السماح. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أحب الله عبداً سهلاً إذا باع أو ابتاع سمحاً إذا قضى أو اقتضى.
وقال ابن عون: ما أرسلني الحسن رضي الله عنه في ابتياع شيء له إلا قال لما عدت: بارك الله ولم يسألني عن ثمنه، وما أرسلني ابن سيرين إلا قال حين عدت: كيف اشتريت؟ وقيل لعبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه؛ بم بلغ يسارك؟ فقال: لم أرد ربحاً ولم أشتر عيباً ولم أبع بنسيئة.
جواز المماكسة:
قيل: المماكسة في البيع مكايسة. وكان عبد الله بن جعفر يماكس في درهم ويجود بمال، فقيل له في ذلك فقال: الغبن في البيع بله، وفي الجود كرم. وقيل لآخر مثل ذلك فقال: الغبن في البيع جود بالعقل، وفي السخاء جود بالمال، ولا أسخى بالعقل. وقيل: الحر يتغابن في ابتياع الحمد، ولا يتغابن في الشراء والبيع. وقيل: من الغباوة السخاء في التجارة. وكان ابن عمر رضي الله عنه لا يرى بأساً بالمماكسة والمكايسة، والهند لا تستحل غرارة الجاهل وتستحل غبن البائع.
ذم المبالغة في المماكسة:

قيل: كثرة المكاس من أفعال الخساس. ورأى رجل إبنه يماكس في ابتياع لحم فقال: يا بني تساهل فما تضيعه من عرضك أكثر مما تناله من غرضك. وكان الأصمعي مضيقاً في معيشته مستقصياً في مبايعته فقال العتبي: لو بذلت الجنة للأصمعي بدرهم لما رضي واستنقص شيئاً. وقال رجل لخياط: خط لي هذا الثواب وسامحني في الأجرة. فقال: أخيطه لك مجاناً. فقال: زدني. قال:إذا تخرق رقعته لك. ونحو ذلك أن رجلاً كان يستأجر غلاماً فقال: كم تطلب؟ فقال: بملء بطني. فقال: سامحني. فقال: لا أعرف مسامحة في ذلك إلا أن أصوم لك الاثنين والخميس في الأسابيع لتربح غداءهما. وكان ابن بالة ببغداد قد اكترى غلاماً كوفياً فاستحضره المزين فحلق رأسه، فلما فرغ وتنحى جاء الغلام الكوفي إلى المزين فقعد بين يديه ليحلقه، فخرج ابن بالة وقد حلق المزين بعض رأسه فناداه وقال له: هذا من حسابي أو من حسابك يحلق؟ فقام الغلام على حالته محلوق بعض الرأس وأخذ المنديل وعدا من بين يدي المزين، وحلف بالطلاق أنه لا يحلق رأسه حتى يعود إلى الكوفة.

عذر مبتاع مرغوب فيه بفضل ثمن:
اشترت سكينة شيئاً بفضل ثمن فقيل: غبنت! فقالت: ما غبن من بلغ شهوته. وقيل: استكرمت فاربط واشدد يديك بغرزه ولا تنظر إلى كثرة ثمنه.
شاعر:
أشدد يديك به وحز ... ه فإنه علق مضنه
الحث على استجادة ما تشتريه:
قال عمر رضي الله عنه: إذا اشتريت بعيراً فاشتره سميناً، فإن أخطأك الخبر لم يخطئك النظر. وقيل: الغبن غبنان غبن الغلاء وغبن الرداءة، فإذا اشتريت فاستجد تربح أحد الغبنين. وقيل لبعضهم: بم كثر مالك؟ فقال: لم أشتر قط غبناً ولا شيناً.
مدح متظلف عن المبايعة وعن التفكر في الطفيف:
شاعر:
يبيع ويشتري لهم سواهم ... ولكن بالسيوف هم تجار
وقال العباس بن المأمون لغلامه: إن رأيت نقلاً حسناً فاشتر بنصف درهم. فقال المأمون: لا تفلح إذا عرفت للدرهم نصفاً. وطلب الحسن رضي الله عنه ثوباً فقيل: بثلاثة عشر ونصف. فقال: خذ أربعة عشر: فالمسلم لا يشاطر أخاه الدرهم.
المتغالي ببيع شيء:
ساوم مديني نعلاً فقال صاحبها: بعشرة. فقال المديني: لو كانت من جلد بقرة بني إسرائيل ما أخذتها بأكبر من درهم. فقال الحذاء: لو كانت دراهمك من دراهم أصحاب الكهف ما أعطيتكها! باع رجل شيئاً بعد مماكسة فقال البائع لما باعه: لو صبرت لبعث منك بدرهم. فقال المشتري: لو صبرت لاشتريت منك بأضعاف ما اشتريت دنانير: سام أشعب رجلاً بقوس فقال: بدينارين. فقال: لو أنها إذا رمي بها الطير في الهواء يسقط مشوياً بين رغيفين ما اشتريتها بدينارين. كان رجل ضل له بعير فحلف إن وجده ليبيعنه بدرهم؛ فوجده فلم تسمح نفسه أن يبيعه بدرهم، فعمد إلى سنور فعلقه في عنقه وجعل ينادي عليه: الجمل بدرهم والسنور بخمسمائة ولا أبيعهما إلا معاً! فقال رجل: ما أرخص الجمل لولا قلادته.
ترك مبيع لغلائه:
كان الفضيل رضي الله عنه إذا أرسل غلامه ليشتري له شيئاً فرجع إليه فقال: وجدته غالياً، قال: الحمد لله إذا غلا علينا شيء تركنه. وقال بعضهم: إذا غلا علي شيء تركته فيكون حينئذ أرخص ما يكون.
شاعر:
وإذا غلا شيء عليّ تركته ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
وأنشد جحظة هذا البيت مجيزاً له:
إلا الدقيق فإنه قوت لنا ... فإذا غلا يوماً فقد نزل البلا
واشتهت امرأة مزيد يوماً عليه جراداً فقالت: اشتر لي فإن مدّاً منه بدهم. فقال: لو جاء الدجال بزلزلة المدينة وأنت ما خض بالمسيح، تنتظرين أن تأكلي الجراد وتضعي الحمل ما اشتريته بهذا السعر.
من باع نفيساً واشترى خسيساً:
قال الله تعالى: " ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " . باع رجل دابة واشترى بها بازياً فقال له أبوه: يا أحمق بعت ما تركبه واشتريت ما يركبك. وباع رجل بستاناً واشترى به فقال له رجل: بعت ما كنت تعلفه السرجين فيعوضك الشعير بما يأكل الشعير ويعوضك السرجين. في المثل: كالمشتري النافقاء باليربوع، وما كل مبتاع من رابح. ابن معروف القاضي:
يا خاسر الصفقة في سعيه ... وبائعأً بالخوف الدرّه

كان يباع زرياب بدينار فقال أعرابي: لماذا يصلح هذا؟ فقيل: إنه يضغب ضغيب السنور. فقال: اشتر سنوراً بنصف درهم يضغب لك أجود من هذا ويصطاد الفأر زيادة.

بيع نفيس للحاجة إليه:
دخل أعرابي بفرس يبيعه فقيل له: صف فرسك. فقال: ما طلبت عليه قط إلا لحقت، لا سبقت. فقيل له: فلم تبيعه؟ فقال:
وقد تخرج الحاجات يا أمّ مالك ... كرائم من ربّ بهنّ ضنين
ذم البيع والابتياع نسيئة:
قيل: إياك أن تتكلم على وجهك في سوقك دون رأس أو تشتري شيئاً بجميع مالك، وخير التجارة ما لا يعرف أهلها النسيئة. باع رجل داراً من تركي نسيئة، فجاءه يوماً متقاضياً فأخذه وصفعه صفعات، فلما انصرف قيل له: ما استوفيت من ثمن الدار؟ فقال: صفعات في قفاي. عرضت جارية على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فأحب شراءها ولم يكن عنده تمام ثمنها فقال البائع: أنا أؤخرك إلى العطاء. فقال: لا أريد لذة عاجلة بذلة آجلة. وعرض على رجل شيء ليشتريه فقال: ما عندي ثمنه، فقال البائع: أنا أؤخرك. فقال: أنا أؤخر نفسي.
بيع مرغوب عنه:
أبو حكيمة في عبد باعه:
بعنا تعيساً ولم يحزن له أحد ... قد غاب عنا فغاب الهم والنكد
أحسن به خارجاً من بين أَظهرنا ... لم نفتقده وكلب الدار يفتقد
وباع عبيد الله ضيعة له فقال:
قيل لي: كيف أنتم؟ قلت:بعنا ... ضيعة عدة بشيء قليل
فيه أدنى صون وأدنى نوال ... واسترحنا من طول غم الوكيل
وله:
ومبتاع بعض الملك مني يقول لي ... وما باعة إلا نوائب تعتري
متى صرت مضطراً لبيع ذخائر؟ ... فقلت له: مذ صار مثلك يشتري
المغالاة بما لا يقلل وجوده:
عاتب محمد بن عبد الملك الزيات أبا تمام في أنه يمدح غيره من السوقة فقال:
رأيتك سمح البيع سهلاً وإنما ... يغالي إذا ما ضمن بالشيء بائعه
فأما إذا هانت بضائع ماله ... فيوشك أن تبقي عليه بضائعه
هو الماء إن أجمعته طاب ورده ... ويفسد منه أن تباح شرائعه
ربيب النصراني:
وكل شيء غلا أو عز مطلبه ... مسترخص ومهان القدر إن رخصا
آخر:
أحب شيء إلى الإنسان ما منعا
قيل: كل مبذول مملول وكل ممنوع متبوع.
الوزن والكيل:
قال الله تعالى: " ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون " " الآية " وقال ابن عمر رضي الله عنهما: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين لا ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذهم الله بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم. قال عكرمة: أشهد لكل كيال ووزان بالنار إلا القليل منهم. فقيل له: سبحان الله وكيف؟ قال: لأنه لا يزن كما يتزن ولا يكيل كما يكتال. وقال صلى الله عليه وسلم لقوم شكوا إليه سرعة فناء طعامهم: كيلوا ولا تهيلوا. وقال صلى الله عليه وسلم لرجل ابتاع منه شيئاً: زن وأرجح
مدح الإقالة في البيع والحث عليها:
قال صلى الله عليه وسلم: من أقال مسلماً أقال الله عثرته يوم القيامة.
الشريك في البيع:
قال السائب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شريكي وكان خير شريك لا يشاري ولا يماري. وقال صلى الله عليه وسلم: لا تزال يد الله على الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان أحدهما صاحبه رفع البركة عنهما.
الشفعة في البيع:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: الجار أحق بصفقته. وقال صلى الله عليه وسلم: الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها إن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً. وقال صلى الله عليه وسلم: من كان له شريك في زرع أو نخل فليس له أن يبيع حتى يأذن شريكه، فإن رضي أخذ، وإن كره ترك. وقال صلى الله عليه وسلم: إذا أرفت الحدود فلا شفعة. يعني ميزت وبينت. وقال: الشفعة فيما لم يقسم.
الخيار في البيع:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار. وشكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يغبن في البيع فقال صلى الله عليه وسلم: إذا ما بعت فقل لا خلابة، ثم أنت بالخيار إلى ثلاثة أيام. وقال صلى الله عليه وسلم: من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار إن شاء أمسك، وإن شاء ردها ومعها صاعاً من تمر.

ما هو في حكم المستثنى من البيع:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع، ومن باع نخلاً مؤبراً فثمرته للبائع إلا أن يشترطه المبتاع.
مدح الدلالين وذمهم:
قال بعضهم: نعم المعين على البيع والابتياع، وعلى الألفة والاجتماع الدلالون، ولو أمكن الاستعانة بهم في الفراش لانتفع بمكانهم. وقيل: آذى بعض الدلالين الأصمعي في شيء فقال: شر الناس الدلالون، لأن أول من دل إبليس حيث قال لآدم: هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟
نوادر لأنذال الباعة:
جاءت عجوز إلى لحام بالمدينة ومعها درهمان فقالت: أعطني بهما أطيب لحم وأخبرني باسمك أدعو لك. فأعطاها أخبث لحم وقال: اسمي من يمد. فجعلت العجوز عند الأكل تمد اللحم فلا تقدر على أكله، فجعلت تقول: لعن الله من يمد فتلعن نفسها وهي لا تعلم. وقال جحظة: رأيت سوقياً ينادي على جدي علقه يقول: هذا مانع نفسه. فقلت له: ما معنى مانع نفسه؟ فقال: يا سيدي لا يقدر أحد أن يأكل منه لقمتين لسمنه. قال: ورأيت آخر وهو يقول زبد في أديم. وقال جراب الدولة: ورأيت ثلاثة من الهراسين على بقعة وهم يتكايدون في مدح هرائسهم، فواحد أخرج قطعة هريسة علقها بالمغرفة وهو يقول أنزل ولك الأمان، وآخر يقول يا قوم ألحقوني أدركوني أجذبها وتجذبني والغلبة لها، والثالث يقول أنا لا أدري من أكل من هريستي لقمتين أسرج ببوله شهرين. وقال رجل للحام: ليس لحمك بسمين. فقال: إن فلاناً جالسني ووضع راحته على هذا اللحم وانصرف إلى منزله، فجعل ما علق بها في قدر واتخذ منها دعوة. وكان بائع رمان قشر رماناً وهو يقول: نزع الأمير قميصه وخرج في غلالة.
الكفالة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: الزعيم غارم. وكلم رجل آخر في أن يؤخر شيئاً على غيره فقال: اضمن أنت عنه. فقال: أردنا منك سعة المهلة فكلفتنا ضيق الضمان. قال الخليل: في الكفالة ست خصال: الندامة والملامة والكفران والخسران والغرامة والقطيعة. وقيل: إن الفرس صورت كل شيء حتى الكفيل ينتف لحيته من الندامة.
الحوالة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا اتبع أحدكم على ملىء فليتبع. ومن غير هذا الباب احتيج أن يكتب على المعتضد كتاب ليشهد فيه العدول، فكتب: في صحة من عقله وجواز أمر له وعليه، فقال جعفر ابن محمد بن ثوابة: لا يجب أن يكتب هذا للخليفة. فضرب عليه وكتب: في سلامة من جسمه وأصالة من رأيه.
الأجارة:

روي عن فاطمة رضي الله عنه أنها قالت: دخل علي يوماً وأخذ بيد الحسن والحسين فأخرجهما، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أين ابناي؟ فقال: أصبحنا وليس في بيتنا شيء نذوقه فدخل علي فأخرجهما حتى لا يبكيا. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في أثرهما فوجدهم في حائط يهودي وعلي ينزع كل دول بثمرة، والحسن والحسين يلعبان في سربة لليهودي، وبين أيديهما فضل من تمر فقال: يا علي ألا تنقلب بابني قبل أن يشتد عليهما الحر؟ فقال: اجلس فإني أشبعتهما. فجلس حتى اجتمع له شيء من تمر فجعله في حجره، ثم حمل النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما وعلي الآخر. وروي: ما أكل أحد طعاماً خيراً له من أن يأكل من عمل يده. وكان داود عليه السلام لا يأكل إلا من كسب يده. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعمل الرجل أجيراً حتى يعلمه أجرته. وقال: من استأجر أجيراً فيلعلمه أجرته. وروي في الخبر: بينما نفر يتماشون فأخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت صخرة على فم الغار فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها صالحة فادعوا الله بها لعله يفرجها عنا. فقال أحدهم: اللهم إنك تعلم أني استأجرت أجيراً بقفيز أرز فلما قضى عمله سخطه فتركه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً ورعاء، ثم جاء فقال: اتق الله ولا تظلمني حقي فقلت له: انطق إلى هذه البقر ورعائها فخذها. فقال: أتهزأ بي؟ فقلت: أنا لا أهزأ خذها، فأخذها فإن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا. ففرج لهم.

إعطاء أجرة الأجير:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى ثم غدر، ورجل باع حراً ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى عمله ولم يوفه أجره. وكان أبو بكر رضي الله عنه لما استخلف قال للناس: إنكم شغلتموني عن تجارتي فافرضوا لي، ففرضوا له كل يوم درهم. استأجر رجل حمالاً ليحمل قفصاً فيه قوارير على أن يعمله ثلاث خصال لي ينتفع بها، فحمل الحمال القفص، فلما بلغ ثلث الطريق قال: هات الخصلة الأولى. فقال: من قال لك إن الجوع خير من الشبع فلا تصدقه. فقال: نعم. فلما بلغ ثلثي الطريق قال: هات الثانية. فقال له: من قال لك إن المشي خير من الركوب فلا تصدقه. فقال: نعم فلما انتهى إلى باب الدار قال: هات الثالثة: فقال: من قال لك أنه وجد حمالاً أرخص منك فلا تصدقه! فرمى الحمال القفص على الأرض وقال: من قال لك في هذا القفص قارورة صحيحة فلا تصدقه.
مما جاء في الدين
ذم الدين والنهي عنه:
قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى رجل من اليهود يستسلفه إلى الميسرة. فقال: ليس لمحمد زرع ولا ضرع فأي ميسرة له؟ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كذب عدو الله لو أعطانا لأدينا إليه، ولأن يلبس أحدكم ألواناً شتى خير له من أن يستدين ما ليس عنده قضاؤه. وقال معاذ بن جبل: الدين شين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعوذ بالله من الكفر والدين! وقال بعض الحكماء: الدين رقك فلا تبذل رقك لمن لا يعرف حقك. وقيل: الدين هدم الدين. وقيل: ما استرق الكريم مالك أفظ عليه من الدين. وقيل: الدين غل الله في أرضه، فإذا أراد أن يذل عبداً جعله في عنقه. وسأل فيلسوف رجلاً أن يقرضه مالاً فرده، وذمه بعض الناس إلى الفيلسوف وقال: إنه جبهك بالرد. فقال: ما زاد علي أن حمر وجهي بالخجل مرة واحدة، ولو أقرضنيه لصفر وجهي مرات كثيرة.
من مات وعليه دين:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من داين الناس بدين في نفسه وفاؤه ثم مات وليس عنده وفاؤه، تجاوز الله عنه وأرضى غريمه بما شاء، ومن داين الناس بدين ليس في نفسه وفاؤه ثم مات وليس عنده وفاؤه، اقتص الله لغريمه منه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: جيء بجنازة يوماً فوضعت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقام ليصلي عليه فقيل: إن عليه ديناً. فقال: صلوا على صاحبكم. فقال أبو قتادة رضي الله عنه: علي دينه يا رسول الله ثم خطب فقال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من مات وعليه دين أو ضياع فعلي، ومن ترك مالاً فلورثته.
مدح الدين والرخصة فيه:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: من أعياه الرزق فليستدن على الله ورسوله. دخل عتبة بن هشام على خالد بن عبد الله القسري فقال خالد معرضاً به: إن رجالاً يدانون في أموالهم، فإذا فنيت أموالهم أدانوا في أعراضهم. فقال عتبة: أصلح الله الأمير! إن رجالاً تكون أموالهم أكثر من مروآتهم فلا يدانون، ورجالاً مروآتهم أكثر من أموالهم، فإذا نفذت أموالهم أدانوا على سعة ما عند الله، فخجل خالد وقال: إنك منهم فيما علمت. وقيل: تعرف مروءة الرجل بكثرة ديونه. وقيل: الدين من مواسم الأشراف.
المقنع الكندي:
يعاتبني في الدين قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
أبو شراعه:
والدين طوق مكارم لا تلتقي ... طرفاه في عنق البخيل الحازم
وذلك من قول عمر لزنباع حين قال له: ما أقدمك المدينة؟ قال: دين علي. فقال: الدين ميسم الكرام. وسأل عمرو بن عبيد عن رجل فقالوا: إنه استتر لدين حصل عليه. فقال: طالما وفد به الكرام.

من أدنت عليه:
سعدان:
ولو كنت مولى غيلان لم تجد ... علي لإنسان من الناس درهماً
ولكنني مولى قضاعة كلها ... فلست أبالي أن أدين وتغرما
وهذا أجمع شعر فيه بين مديح وهجاء. وقال ابن الرومي:
علي دين نبيل أنت قاضيه ... يا من يحملني ديناً رجائيه
من قضى ديناً بدين:
شاعر:
إذا ما قضيت الدين بالدين لم يكن ... قضاء ولكن كان غرماً على غرم
آخر:
أخذت الدين ادفع عن تلادي ... وكان الدين ادفع للتلاد
وقيل لمحمد بن واسع: فلان قد قضى دينه مما كسبه. فقال: ما كان أكثر ديناً قط منه الساعة:
من أعطى ديناً على أن لا يستر على أن لا يسترجع:
أبو الإصبع:
أيها المسترفدون ... القرض في برد الشتاء
ليس قرضي لكم ... الدهر بقرض ذي اقتضاء
أنت عندي منه في ... حل إلى جن الظّباء
فاستعن بالواحد الفر ... د وأخلص في الدعاء
فلعل الدهر يأتي ... عن قريب بامتلاء
من تقاضى ديناً قديماً:
البحتري:
من أمارات مفلس أن تراه ... موجفاً في اقتضاء دين قديم
وطلب رجل ديناً عتيقاً فقال: دعني من هذا فهذا دين عتيق. فقال: لعن الله من أعتقه!
من أحسن التقاضي:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: خيركم أحسنكم قضاء. وقال صلى الله عليه وسلم: خيركم الذي إذا كان عليه دين أحسن القضاء، وإذا كان له أحسن الاقتضاء. وقال صلى الله عليه وسلم: من أدان ديناً وهو ينوي أن لا يؤديه إلى صاحبه فهو سارق.
ابن الرومي:
هو دين وأحسن الأمر فيه ... أن يكون القضاء قبل التقاضي
الحث عليه:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: رحم الله امرأً سهل الشراء سهل التقاضي. وقال صلى الله عليه وسلم: من طلب أخاه فليطلبه في عفاف وافياً أو غير واف. وقال صلى الله عليه وسلم: كفى بالمرء من الشح أن يقول آخذ حقي لا أترك منه شيئاً. قال:
إني وجدتك من قوم إذا طلبوا ... بعد النسيئة ديناً أحسنوا الطلبا
آخر:
وحسبك من تقاض المرء يوماً ... لحاجته الزيارة والحديث
الرخصة في التقاضي:
استسلف النبي صلى الله عليه وسلم من رجل تمراً، فلما جاء يتقاضاه قيل له في ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه فإن لصاحب الحق مقالاً، انطلق إلى خولة بنت حكيم فالتمسوا عندها تمراً فقالت: والله ما عندي إلا تمر ذخيرة. فقال: خذوه فاقضوه، فلما استوفى قال له: استوفيت؟ قال: نعم قد أوفيت وأطيبت، فقال صلى الله عليه وسلم: إن خيار هذه الأمة الموفون المطيبون.
ذم ماطل ديناً:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: مطل الغنى ظلم. وقال صلى الله عليه وسلم لي: الواجد يحل عرضه وعقوبته. فقيل: عقوبته حبسه وعرضه شكواه. قال:
فما بال ديني إذ يحل عليكم ... أرى الناس يقضون الديون ولا أقضي؟
يقل: حل الدين يحل وجب محله، وحل يحل حصل. وكتب رجل إلى غريم له:
أماطلك العصرين حتى تملّني ... وترضى بنصف الدين والأنف راغم
فأجابه:

ستعطي برغم منك في السجن نادماً ... وتشقى بطول الحبس والحق لازم
وقيل: الأكل سلجان والقضاء ليان. وقيل: الأكل سريطي والقضاء ضريطي. مر بائع زيتون بامرأة فطلبت منه نسيئة فقال: ذوقي لتعرفي جودته. فقالت: أنا صائمة قضاء عن رمضان العام الماضي. فقال: يا فاعلة أنت تمطلين ربك هذا المطل وتطلبين مني الزيتون بنسيئة متى تقضين؟ قال: ومما يتمثل به في هذا الموضع قول كثير:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنّى غريمها
وقال آخر:
من الناس إنسانان ديني عليهما ... مليان لو شاءا القضا قضياني
خليلي أما أم عمرو فمنهما ... وأما عن الأخرى فلا تسلاني
إلى الله أشكو ما ألاقي وأشتكي ... غريماً لو أن الدين منذ زمان

الحث على إنظار المعسر:
قال الله تعالى: " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً فيما مضى لم يعمل خيراً قط، وكان يداين الناس فيقول لرسوله: خذ ما تيسر ودع ما تعسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا، فلما هلك قال الله تعالى له: هل علمت خيراً قط؟ قال: لا إله إلا أنه كان لي غلام أقول له خذ ما تيسر ودع ما تعسر لعل الله يتجاوز عنا. فقال الله تعالى: لقد تجاوزت عنك. وقال صلى الله عليه وسلم: من أنظر معسراً ووضع عن أظله الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وقال صلى الله عليه وسلم: من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة. لزم رجل غريماً له وهو يقرأ عليه: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، والغريم يقرأ: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة. وسئل ابن الزيات في رجل له عليه دين أن يصالحه على بعض وينظره به، فقال: إما توفير وتأجيل وإما صلح وتعجيل.
المتبجح بمطل الدين والناوي الذهاب به:
بعضهم:
أماطله العصرين حين يملني ... ويرضى بنصف الدين والأنف راغم
عباس السليطي:
إني وجدك ما أقضى الغريم وإن ... حان القضاء ولا رقت له كبدي
إلا عصار زنت طالبت برايتها ... تنوء ضربتها بالكف والعضد
وقال وقد نظر إلى غريم له يحسب ريحه:
يلوي بنان الكف يحسب ربحه ... ولا يحسب المطل الذي أنا ماطله
ومن دون ما يرجو عناء مبرح ... أواخره ما تنقضي وأوائله
وذهب رجل إلى صديق له فقال: أقرضني مائة درهم لأشتري بها شيئاً عسى أربح فيه عشرين درهماً. فقال: إني أعطيك عشرين درهماً وأتخلص. فقال: لا أريد إلا المائة. فقال: حديث من لا يريد أن يرد الدين.
العارية:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: العارية مؤاداة.
بشر:
أحق الخيل بالركض المعار
جلس بعض أصحاب الحديث فقال واحد لآخر: تفضل وأعرني قلماً. فأعطاه فقال: وأولني ورقاً فدعه إليه فقال: ومحبرة. فأعطاه وقال: يا فتى أتنشط للتزوج؟ فإن أمي فارغة. وفي ذم من لا يعير. قال الله تعالى: ويمنعون الماعون.
الإفلاس:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما رجل أفلس وعنده مال امرئ بعينه لم يقبض منه شيئاً، فهو أحق بعين ماله، فإن قبض منه شيئاً فهو أسوة الغرماء. وقال الحجاج: لا تجعلوا مالي عند من لا يمكنني استرجاعه منه فقيل: ومن الذي لا يمكنك استرجاعه منه؟ قال: المفلس. وقيل لمفلس: يا مرابي! فقال: فأل حسن. وفي المثل: أفلس من طنبور بلا وتر. وقيل لمفلس: هل في كفك مال؟ فقال: هو أفرغ من فؤاد أم موسى. وفلس القاضي رجلاً فأركبه حماراً وطوف به ونودي عليه أن لا يبايع فإنه مفلس، فلما أنزل قال له صاحب الحمار: هات الكراء. فقال له: فيم كنا من أول النهار يا أبله؟
الحث على أخذ الرهن:
قال الله تعالى: " فرهان مقبوضة " . وقيل: إن الله تعالى لا يسمع دعاء من له على غيره حق ولا رهن لديه ولا قباله له عليه فيقول: قد أمرتك بالاستيثاق فخالفت. ورهن صلى الله عليه وسلم درعه بثلاثين صاعاً من شعير كان أخذها رزقاً لأهله.
حكم غلق الرهن وتلفه:

روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا يغلق الرهن؛ الرهن: من راهنه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه. وروي: الرهن بما فيه. وروي عنه صلى الله عليه وسلم: الرهن مركوب ومحلوب. وقال بعض الشعراء في السخف:
أمسى غلامك رهناً لا انفكاك له ... والرهن في الحكم مركوب ومحلوب
فالدر منه حرام ما نطيف به ... والظهر منه على الأحوال مركوب

الراهن آلات داره لفقره:
زياد الأعجم يشكو فقرأ:
لقد لج هذا الدهر في نكباته ... علي إلى أن ليس في الكيس درهم
وأمست جواليقي برغم طبيعتي ... رهاناً على ما في الجواليق يعلم
وأخذ ذلك أبو زرعة الكناني فقال:
وسفرتي في السوق مرهونة ... على الذي يؤكل في السفره
الرهون الظريفة من السخفاء:
قيل: تقدم رجل إلى بقال يسأله شيئاً، فامتنع فدنا منه فساره فدفع إليه، فقيل له: ما قال لك؟ قال: رهنني طلاق امرأته. وذلك أنه حلف بالطلاق أنه يرده غداً. فقال: ما رأيت رهناً مثله قط! وتقدم فتيان إلى فقاعي فشربوا فقاعاً وقالوا: ما معنا شيء فخذ من كل واحد منا صفعة رهناً، فصفع كل واحد صفعة فجاؤوه في اليوم الثاني فقالوا: خذ حقك ورد الرهن. فقال: حلال لكم! فأبوا إلا رد الرهن وأخذ الحق، فأعطوه حقه وصفعه كل واحد صفعة.
مما جاء في الأيمان
النهي عن الأيمان وذم من يكثرها:
قال الله تعالى: " ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً " . وقال الله تعالى: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " . قال سعيد بن جبير: هو أن يقول الرجل فيما شك على يمين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اليمين الغموس تدع الديار بلاقع. وقال: اليمين حنث أو مندمة. وأخذه بعض الشعراء فقال:
يا أيها المولى على جهد القسم ... بعض التأني لا تسفه أ تلم
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الأيمان الكاذبة منفقة للسلعة ممحقة للكسب. وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: الحلف ينفق السلعة ويمحق البركة، والتاجر فاجر إلا من أخذ الحق وأعطاه. قيل: العاقل إذا تكلم بكلمة أتبعها مثلاً، والفاجر إذا تكلم الكلمة اتبع كلامه حلفاً. قيل: فلان لو سكن الفالج في لسانه لما نقص حرفاً من أيمانه.
النهي عن الحلف بغير الله:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان حالفاً فليحلف بالله. وكانت قريش تحلف بآبائهم فقال صلى الله عليه وسلم: لا تحلفوا بآبائكم.
الرخصة في لغو اليمين:
قال الله تعالى: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " . وقيل: لغو اليمين أن يقول كان كذا والله ولا والله ونحو ذلك. وروي أن رجلاً قال للحسن وعنده الفرزدق: ما تقول فيمن يقول بلى والله ونعم والله؟ فقال الفرزدق: أما سمعت قولي في ذلك؟ فقال الحسن: ما قلت؟ فقال:
فلست بمأخوذ بلغو تقوله ... إذا لم تعمد عاقدات العزائم
فقال الحسن: أصبت. ثم قيل له: ما تقول في امرأة له حليل؟ فقال الفرزدق: ألم تسمع قولي:
وذات حليل أنكحتنا رماحنا ... جهاراً بأيدينا ولما تطلق
فقال الحسن: أصبت. فقال الفرزدق: كنت أراني أشعر منك فإذا أنا أفقه منك أيضاً.
وصف الكاذب بكثرة الحلف:
قيل: علامة الكاذب جوده بيمينه لغير مستحلف؛ ومنه أخذ المتنبي:
وفي اليمين على ما أنت فاعله ... ما دل أنك في الميعاد متهم
وقال المنصور لعمرو بن عبيد: بلغني أن كتاب محمد بن عبد الله الدارمي ورد عليك. فقال: قد ورد له كتاب وما قرأته وأنت تعلم رأيي في الخوارج. فقال له: طيب نفسي بخلعة. فقال: لا تسمني فإني إن كذبتك تقية لأحلفن تقية.
القليل المبالاة بالحلف:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: من لم يحلف على ماله فلا مال له. وادعى رجلاً على المأمون مالاً فاستحضر قاضيه يحيى بن أكثم فاستحلفه فحلف، ثم أمر للمدعي بما ادعى عليه فقيل له في ذلك، فقال: حلفت له لئلا يجعل اتقاي ذريعة إلى أن يدعو علي، وبذلت المال لئلا يظن أحد أني حلفت لمبالاتي بهذا المال. وادعى رجل على عمر ما لم يلزمه فحلف له. واستخلف أبي بن كعب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحلف كراهة أن يجعل الناس ترك الأيمان مع معرفتهم بالبراءة سنة، فدخل ذلك في شدة الورع. واستحلف عمرو بن عبيد على درهم ادعاه عليه بعض من أراد عنته، فقال حفص بن سالم: تعطيه نحن ونعفيك منه ونرفع قدرك عن مطالبة مثله. فقال: ما أكره أن أحلف على حق، وما كنت لأعينه على معصية. وادعى رجل على عثمان رضي الله عنه مالاً واستحلفه فأبى واتقاه بدعواه. فقيل له: هلا حلفت إذا كان مبطلاً! فقال: خشيت أن يوافق حلفي قضاء فيقال: إن ذلك أصابه لجراءته على الحلف.
المتنبي:
وفاعل ما اشتهى يغنيه عن حلف ... على الفعال حضور العقل والكرم

من لم يتحاش من اليمين ولم يبال به:
حلف مديني على حق كان قبله فقيل له في ذلك فقال: بالله ادفع ما لا أطيق. وأخذ ذلك ابن الرومي فقال:
وإني لذو حلف كاذب ... إذا ما اضطررت وفي المال ضيق
وهل من جناح على معسر ... يدافع بالله ما لا يطيق
ويقال في المثل: جذها جذ العير الصليانة إذا أسرع في اليمين، كأنه اقتلعها اقتلاع العير هذا النبت. جاءت امرأة بزوجها إلى ابن شبرمة فحلف لها قلما ولى أنشد:
ألم تعلمي أني جموع عنانه ... وإني لا أعدي علي أمير
محوت الذي في الصك عني بحلفة ... سيغفرها الرحمن وهو غفور
فسمعها الحاكم فرده، فعلم الأعرابي أنه أخطأ فقال: أيها الحاكم أنت أفضل من أن ترجع في قضيتك. فقال صدقت ولكنني أقضي عنك، وقضى عنه.
البحتري:
سألوني اليمين فارتعت منها ... ليغروا بذلك الارتياع
ثم أرسلتها كمنحدر السيل ... تهاوى من المكان اليفاع
وكان الشماخ عليه دين فقعد به، فقيل له: إنك تحضر القاضي وتحلف فتروع لذلك. فقال: حاش الله أن أحلف ولو سيم مني باطل، فكيف وعلي حق لازم؟ فاغتر خصمه فأحضره وحلفه فحلف، وخرج من عند الحاكم فقال:
وجاءت سليم قضها بقضيضها ... تنغض حولي بالبقيع سبالها
يقولون لي أحلف قلت لست بحالف ... أخادعهم عنها لكيما أنالها
ففرجت هم النفس عني بحلفة ... كما قدت الشقراء يوماً جلالها
أعرابي:
إذا حلَّفوني بالغموس منحتهم ... يميناً كسحق الألحمي المحرق
إن حلَّفوني بالعتاق فقد درى ... سحيم غلامي أنني غير معتق
قال ابن المعتز: بودي لو أن لي بيت الخنعمي بألف بيت:
وآلت يميناً كالزجاج رقيقة ... وما حلفت إلا لتحنث من أجلي
الحث على الحنث وكفارة اليمين:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا حلف أحدكم على يمين فرأى غيرها خيراً له منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه. وقال أبو العيناء: أتى بابن أبي خالد الذي كان بالسند بين يدي المتوكل فقال: والله لأضربنه بالسياط، ووالله لا يشفع فيه أحد إلا ضربت ظهره وبطنه! وكان ابن أبي دؤاد حاضراً فتركه حتى ضربه عشرين سوطاً ثم قال: يا أمير المؤمنين في هذا أدب وإن تجاوزت فسرف. فقال له: أما سمعت يميني فقال: بلى ولكن ما كان أمير المؤمنين ليؤثر غيظه على ما قاله نبيه وان عمه صلوات الله عليه وعلى آله، قال: من حلف على شيء فرأى خيراً منه فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه، وكفارة أمير المؤمنين مع العلو أقرب إلى الله وأفضل: فعفا عنه وكفر عن يمينه. سأل بعض الناس بعض الخلفاء حاجة فقال: حلفت أن لا افعل. فقال: يا أمير المؤمنين إن لم تكن حلفت بيمين إلا بردتها، فما أحب أن أكون أول من يؤثمك، وإن كنت ربما حلفت فرأيت ما هو خير منها فكفرتها فلست أحب أن أكون أهون إخوانك عليك. فقال: سحرتني! وقضى حاجته.
الاستثناء في اليمين:

قال بعضهم لرجل يحلف: قل إن شاء الله فإنه يدفع الخبث ويذهب الحنث، وينجز الحاجة ويدرأ اللجاجة. كانت العرب تسمي الاستثناء في اليمين التحليل والمثنوية على ذلك. قال الشاعر:
تحلل أبيت اللعن في قول آثم
وقال:
وإذا حلفت ممارياً فتحلل
وقال تعالى: نحلة أيمانكم.
النابغة:
حلفت يميناً غير ذي مثنوية
وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: إن الاستثناء بعد تراخي الأزمان يصح. وكان المنصور دعا أبا حنيفة يوماً فقال الربيع وكان يعاديه: هذا أبو حنيفة يخالف جدك حيث يقول: إذا استثنى الرجل في يمين بعد يوم جاز استثناؤه. فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين هذا الربيع يزعم أنه ليس لك بيعة في رقبة جندك. قال: كيف؟ قال: يحلفون لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل أيمانهم. فضحك المنصور وقال: يا ربيع إياك وأبا حنيفة! فلما خرجا قال الربيع: كدت تشيط بدمي. فقال أبو حنيفة: أنت أردت أن تشيط بدمي فحصنت نفسي وإياك.

المعاريض في الأيمان:
قيل: في المعاريض مندوحة على الكذب. وقال عمر رضي الله عنه: إن في المعاريض ما يكفي أن يعف الرجل عن الكذب. وقال أبو الحسن اللؤلؤي: واللاه لا أفعل كذا، ويعني فاعل اللهو، ومالي صدقة، يعني ليس له صدقة. وفي كتاب المنقذ للمفجع الشاعر ما فيه مقنع من معاريض الأيمان.
الأيمان بالله:
من حلف أمير المؤمنين رضي الله عنه: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لا والذي أمن من آمن به بالله جهد المقسم، وبالله الذي لا شيء أعظم منه، وكل يمين بعد دونه، وأنا أعلم علم اليقين وأحلف إن دعيت إلى اليمين الصابي والله العظيم مالك يوم الدين، وأنا غني عن اليمين إني أعلم ذلك علم اليقين بالله يميناً حلوة مرة. ومن أقسام النبي صلى الله عليه وسلم: لا ومقلب القلوب، لا والذي نفسي بيده.
شاعر:
وأقسمت بالرحمن لا شيء غيره ... يمين امرئ بر ولا أتحلل
قال أبو بكر الصولي: لا أعرف في الأيمان شعراً أعذب من قول البحتري:
حلفت برب زمزم والمصلى ... ورب الحجر والحجر اليماني
وبالسبع الطوال ومن تولى ... تلاوتهن والسبع المثاني
اليمين بالبيت والهدى:
تقول العرب: وحق هذه البنية.
عويف بن الأحوص:
وإني والذي حجت قريش ... محارمه وما جمعت حراء
وشهر بني أمية والهدايا ... إذا حبست تضرجها الدماء
الفرزدق:
حلفت بما إليه يؤم ناس ... من الآفاق من يمين ومصر
اليمين بالطلاق:
أول من استحلف بالطلاق ابن مسلمة، وكان والياً على كرمان، استحلف جنده بالطلاق فقال بعضهم:
رأيت هذيلاً أحدثت في طلاقهم ... طلاق نساء لم يسوقوا لها مهرا
وقيل: أول من استحلف بالطلاق العباس بن عبد المطلب، استحلف الأنصار ليلة العقبة حين أخذ عليهم البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، طلق رجل امرأته عدد نجوم السماء فجاء إلى ابن عباس واستفتاه فقال: يكفيك من ذلك الهقعة، وهي رأس الجوزاء ثلاثة أنجم. وقيل لمزيد المديني: لم تكثر الحلف بالطلاق؟ فقال: لأني لما تزوجت امرأتي حلفت بالطلاق أني أحلف بالطلاق مع كل حق وباطل كل يوم، فيميني الطلاق إمساك لها، وإلا بانت. حلف رجل بالطلاق فقدمته امرأته إلى القاضي، فسأله عن اليمين فأخبره، فجعل القاضي يتفكر فقال له الرجل: فيم تتفكر؟ قال: أطلب لك مخرجاً من اليمين. قال قد هون الله عليك أشهدك أنها طالق سبعين. قال الأصمعي: كان على بعض الأعراب دين ثقيل فتعلق به غرماؤه، وكان معدماً، فساموه أن يحلف لهم بالطلاق أن لا يهرب، فحلف لهم بطلاق امرأتين كانتا له، ثم هرب، وأنشأ يقول:
لو يعلم الغرماء ما مقتي لهم ... ما حلفوني بالطلاق العاجل
قد ملتا ومللت من وجهيهما ... عجفاء مرضعة وأخرى حامل
ابن الرومي:
إذا ما حلف النغل ... ففي أيمانه رخصه
منصور بن باذان:
يا ذا الذي جعل الطلا ... ق سلاحه عند الحقيقة
لا تحلفن بطلاق من ... أمست حوافره رقيقه
هيهات قد علم الأنا ... م بأنها صارت صديقه
الأيمان بأهل البيت:

كان حماد بن موسى يترفض، وكان له صديق يثق إليه ويوافق في مذهبه، فأودعه حماد دراهم وطالبه بها بعد مدة فجحده، فاضطر إلى أن مضى لمحمد بن سليمان وسأله أن يحضره، ويحلف له بحق علي ابن أبي طالب فإنه يتحرج من ذلك، فقال: أعز الله الأمير هذا الرجل أجل عندي من أن أحلف له بالبراءة من مختلف في ولايته وأيمانه، ولكني أحلف له بالمنفق على أيمانهما وخلافتهما أبي بكر وعمر، فضحك محمد بن سليمان والتزم بعض ما ادعى عليه وصالحه على بعض. اعترضت امرأة المأمون وكان قد غصبها ضيعة فقالت:
ألا أيها الملك المرتجى ... لريب المنون وصرف الزمن
بحق النبي وحق الوصي ... وحق الحسين وحق الحسن
وحق التي غصبت حقها ... ووالدها بعد ذا ما اندفن
شفعت إليك بأهل الكساء ... فإن لم تشفع شفيعي فمن؟
وكان أهل الكوفة إذا حلفوا يقولون: وحق الثلاثة، يعنون النبي وأبا بكر وعمر. فرفع رجل إلى الحسن بن زيد وهو أمير المدينة في ذنب، فأمر أن يضرب فقال له: بحق الثلاثة عليك ألا ما عفوت عني. فقال: وحق أحد الثلاثة علي وحقي على الاثنين إلا أوجعتك! فبلغ قوله المنصور فقال: قاتله الله فما أمر نفسه!

أيمان الأعراب:
اختصم أعرابيان في حق فأقبلا إلى وال، فوجبت اليمين على أحدهما فقال المدعي: كله إلي أيها الحاكم أحلفه. فقال له: أنت وذاك. فدور له دائرة في الأرض وقال: اجلس فيها. فجلس فقال له: جعل الله نومك نغصاً، وأكلك غصصاً ومشيك رقصاً، ومسحك برصاً، وقطعك حصصاً، فأدخلك قفصاً، وأدخل في أستك هذا العصا! فأبى أن يحلف واتقاه بحقه. واستحلف أعرابي خصماً فقال: قل لا أصحبني الله عصمة ولا سد عني خلة، وأحضرني كل نقمة وأثكلني كل نعمة، وصرد لي المشرب وسلبني الأقرب فالأقرب، إن كان ما ادعيت حقاً، فاتقاه بحقه. اختصم أعرابيان إلى أمير اليمامة فقال أحدهما: إن لي قبل صاحبي حقاً فمره يخرج منه. فأنكر فقال الوالي: أحالف أنت؟ قال: نعم. فقال خصمه: دعني من يمينك حتى أحلفه. فقال: لا ترك الله لي خفاً بتبع خفاً، ولا ظلفاً يتبع ظلفاً، وحتني من أهلي ومالي حث الورق، وخلعني من أهلي ومالي خلع الخضاب، وأحوجني إلى شر خلق الله إن كان لهذا قبلي حق؟ فقال: لا أحلف؟ واتقاه بم ادعى عليه. وحلف أعرابي لآخر فقال: قل لا استتبت الله من خطيئة ولا استنجدته لبلية، ولا وفيت له بعهد ولا استجرته أوان جهد. فاتقاه بحقه. وقال أعرابي لآخر في حق: أتحلف؟ فقال: نعم. فقال: قل ألزمني الله الزلل ولا سد عني الخلل، وألبسني القل والملل وألصق بي الغم والعلل، وقطع عني سببه وأصحبني غضبه، وأحضرني نقمة وأعدمني نعمه، وكدر لي المشرب وأفقدني الأقرب فالأقرب إن كان لك عندي حق؟ فاتقاه ولم يحلف.
؟؟
أيمان الأسخياء وذوي العلا:
كان من يمين يحي بن خالد: لا وعزة الوفاء وحرمة السخاء.
الأشتر:
بقيت وفري وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
أبو علي البصير:
أكذبت أحسن ما يظن مؤملي ... وهدمت ما شادته لي أسلافي
وعدمت عاداتي التي عودتها ... قدماً من الإخلاف والإتلاف
وغضضت من ناري ليخفي ضوؤها ... وقريت عذراً كاذباً أضيافي
إن لم أصب على علي حلة ... أضحت قذى في أعين الأشراف
أبو مسلم الرستمي:
إذاً فلا رفعت كأساً بنان يدي ... ولا سعت بي لتطلاب العلا قدمي
وأثكلتني القوافي رقتي وغدت ... في نسجها كلمي غفلا بلا علم
الأستاذ الرئيس:
عققت العلى إن كنت خنتك بالقلا ... وعفت الندى إن لم أكن ذا جوّى يذوى
التنوخي:
إذاً فرأيت العرف في صورة النكر
آخر:
إذاً فلا بلغت نفسي أمانيها
آخر:
إذاً فثكلت سابغتي وسيفي ... غداة وغى وراحلتي وزادي
الموسوي:
وإلا فلا أمني النازلون ... ولا جاءني الطارق المجتدي
أيمان الشرب ومتعاطي اللهو:
وهب الهمداني: لا والذي سنّ للمدامة والماء نكاحاً بغير طلاق.
المخزومي:
لا والذي قسم الصهباء من ذهب ... والماء من فضة ما ساد من بخلا
علي الأحول:

كفرت إذاً بحقوق الصّديق ... وعربدت في الشرب عند المدام

أيمان الكهنة وأهل الجاهلية:
أقسم بالضياء والحلك والنجوم والفلك والشروق والدلك، لقد خبأت ثدين فرخ في أعليط مرخ. كانت العرب تتحالف على النار وتتعاقد على الملح، ولذلك قال الشاعر:
حلفت لهم بالملح والقوم شهد ... وبالنار واللات التي هي أعظم
الكميت:
بهولة ما أوقد المخلفون ... لدى الخائفين وما هوّلوا
والهولة: نار كانوا يوقدونها ويلقون عليها الكبريت ليستعظم مراءها، ويهابها من أقدم على اليمين ويخشاها.
أيمان النوكة والسفل:
من أيمان أهل بغداد: أعطيت الله ألف جوالق عهود. ويقولون: أعطيت الله مائة ألف كرم الله وجهه مواثيق. كانت أيمان مزبد: وإلا فسلحت في القبلة وحشرت في صورة قرد. بعض أعقاب الأنبياء: إدعى رجل على آخر طنبوراً عند بعض القضاة فقال: حلفه. فقال القاضي: إن كان عندك الطنبور فأيري في حجرك! فقال: أي يمين هذا؟ فقال: يمين الطنابيريين. وادعى امرأة فقال الرجل: إن كنت كاذبة فأير القاضي في حرك فتوقفت المرأة فقال لها القاضي: قولي وإلا أخرجي من حقه. وادعى ريحاني شيئاً على آخر عند قاض فقال القاضي له: قل والله الذي لا إله غيره فقال: ليس هذا من يمين الريحانيين، أمي بظراء إن كان له عندي شيء! فقال القاضي: قم فما أراك إلا صادقاً. وحلف مزبد فقال: إن كان كذا فعلى أن أصعد السماء في حزيران على سلم من الزبد.
أيمان الظرفاء:
الرصافي:
أما وتفتير طرفك الوسن ... وحسن خال بخدك الحسن
الخبزارزي:
بمجاري فلك الحسن التي في وجناتك
ابن المعتز:
وحياة عاذلتي لقد صارمته ... وكذبت بل واصلته وحياته
البحتري:
وحياة من أهوى فإني لم أكن ... أبداً لأحلف كاذباً بحياته
أيمان أهل الذمة:
قال اسحق الموصلي: وجبت على عون العيادي يمين بحضرة الفضل بن الربيع، وكانت بيننا وحشة، فقلت: ولني استحلافه. فقال: قد فعلت. فقلت: قل بالذي لا يعبد غيره ولا ندين إلا به، وإلا فخلعت النصرانية وبرئت من المعمودية، وطرحت على المذبح حيض يهودية، وقلت في المسيح ما يقول المسلمون أن الله خلقه من غير أب كمن خلقه من تراب، ثم قال له: كن فيكون، ولعنك البطريق الأكبر والبطارقة والقمامسة والأساقفة والديرانيون، وأصحاب الصوامع عند مجمع الخنازير وتقريب القربان، وعليك لعنة الثمانية عشر أسقفاً الذين خرجوا من رومية حتى أقاموا عهود النصراني، وإلا فشققت الناقوس وطبخت به لحم الجمل يوم الإثنين عند مدخل الصوم، وهدمت كنيسة لد وبنيت بحجارتها مستراحاً لليهود، وهتكت درع داود وإلا فسقط عليك قربانك من يدك وأخذته من يد يهودي وأنت حنيف مسلم، وهذه اليمين لازمة لك ولعقبك من بعدك! فقال: والله ما أجوز أن أسمعها فكيف أحلف بها؟
ومن أيمان اليهود:
والله الذي لا إله إلا هو منزل التوراة على موسى، وإلا فأنت بريء من اليهودية داخل في الحنفية، وبرئت من الآيات العشر التي أنزلت على موسى بطور سيناء، وبرأك الله من الأربعة الأخياط التي في كساء هارون أخي موسى، وبرئت من شمعون وشمعي، ومن يوم السبت وحقه، وحرمت الفطير في وقته، وخرقت توراة موسى بأسنانك، ومحوت كل آية بلسانك، وعليك المشي إلى بيت المقدس.
أنواع من ذلك:
حلف أعرابي بالمشي إلى بيت الله أن لا يكلم ابنه فحضرته الوفاة فقيل له: كلمه قبل مفارقة الدنيا. فقال: ما كنت قط أعجز عن المشي إلى بيت الله مني الساعة. كان قوم عليهم دين لأعرابي فقدموا على أن يحلفوا فقال الأعرابي:
يا رب إن كان بنو عميره ... قد أجمعوا بحلفة مشهوره
فابعث إليهم سنة قاشوره ... تحتلق المال احتلاق النوره
مما جاء في الاكتساب والإنفاق
الحث على تثمير المال في الصغر والكبر:

حكي أن كسرى مرّ بشيخ كبير يغرس فسيلاً فقال له: يا هذا كم أتى عليك من العمر؟ قال: ثمانون سنة قال: أفتغرس فسيلاً بعد الثمانين؟ فقال: أيها الملك لو اتكل الآباء على هذا لضاع الأبناء قال كسرى: زه يأخذ أربعة آلاف درهم. فقال: أيها الملك الفسيل يطعم بعد سنين من غرسه، وهذا قد أطعمني في سنته. فقال: زه يأخذ أربعة آلاف درهم. فقال: يا أيها الملك الفسيل يطعم في السنة مرة وهذا قد أطعمني في أوّل السنة مرتين. فقال: زه يأخذ أربعة آلاف درهم. فقال الوزير: إن لم ينهض الملك أردى هذا بحكمته بيت المال.

تثمير ذي مال كثير لمال حقير:
قال سعيد: ولأني بن أبي سفيان ماله بالحجاز فقال: تعهد صغير مالي يكبر ولا تجف كبيره فيصغر، فإنه ليس يمنعني كثير ما في يدي من إصلاح قليل مالي ولا يشغلني قليل ما في يدي عن الصبر على كثير ما ينوبني. وأتى قوم قيس بن عبادة يسألونه حمالة فصادفوه في حائط له يتبع ما يسقط من الثمر فيعزل جيده ورديئه، فقاموا حتى فرغ فكلموه في ذلك فبذل لهم ما أرادوا، فقال بعضهم: صنيعك هذا مناف لترقيح عيشك. فقال: بنا رأيتم من فعلي أمكنني أن أقضي حاجتكم. وقال زياد: لو أن لي ألف ألف درهم ولي بعير أجرب لقمت به قيام من لا يملك غيره، ولو أن عندي درهماً واحداً فلزمني حق لوضعته فيه. قال الوليد بن يزيد: لأجمعن جمع من يعيش أبداً ولأنفقته إنفاق من يموت غداً.
التمدح بالتكسب والحث على ذلك:
قال الله تعالى: " وابتغوا فضل الله " . فدل على وجوب الطلب أو فضيلته. قال الموصلي: عليكم بالتكسب فأوّل ما يبدأ به الفقر دين الإنسان. ولما أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك واستقبله معاذ فصافحه فقال: كبنت يداك. قال: نعم أحترث بالمسحاة وأنفقه على عيالي. فقبله وقال: لا تمسها النار. وقال بعض الحكماء: لا تدع الحيلة في التماس الرزق بكل مكان، فالكريم محتال والدنيء عيال.
عروة بن الورد:
إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... شكى الفقر أو لام الصديق فأكثرا
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
وقيل: هو أكسب من الذر والنمل ومن الذئب. وقيل: فلان يسعى سعي الأم البره، ويجمع بجهده جمع الذرّه.
تفضيل الكسب على السؤال:
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا نظر إلى فتى وأعجبه سأل: هل له حرفة؟ فإذا قالوا لا سقط من عينه. وكان يقول: مكسبة فيها دناءة خير من مسألة الناس. وقال ابن عباس رضي الله عنه: قدم قوم على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن فلاناً يصوم النهار ويقوم الليل ويكثر الذكر. فقال: أيكم كان يكفي طعامه وشرابه؟ فقالوا: كلنا:. فقال: كلكم خير منه. وروى أنس أن رجلاً من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أتيتك من أهل بيت لا أراني أرجع إليهم من الجوع. فقال: أما عندك شيء؟ قال: لا. فأعطاه درهمين وقال له: إذهب فاتبع لأحدهما طعاماً وبالآخر فأساً واحتطب وبع. فغاب خمسة عشرة يوماً ثم جاء فقال: بارك الله لي فيما أمرتني به، أصبت عشرة دراهم فابتعت لأهلي بخمسة طعماً وبخمسة كسوة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا خير لك من المسألة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: دم موجع، أو غرم مفظع، أو عدم مدقع. وقال إبراهيم عليه السلام: يا رب استحييت من كثرة تصرفي في طلب الرزق، فأوحى الله إليه: ليس طلب المعيشة من طلب الدنيا.
شاعر:
ولا تدع مكسباً حلالاً ... تكون منه على بيان
تفضيل التكسب على التوكل:
قال حكيم لرجل يجلس إليه: ما حرفتك؟ قال: التوكل على ربي والثقة بما عنده. فقال الحكيم: الثقة بربك تحرم عليك إصلاح معيشتك، أو ما علمت أن طلب ما تعف به عن المسألة حزم، والعجز عنه فشل، والفقر مفسد للتقى، متهم للبرئ ولا يرضى به إلا الدنئ. وأنشد:
فإن قلت: يكفيني التوكل والأسى ... فقد يطلب الرزق الذي يتوكل

وقيل لحكيم: إحذر كل الحذر أن يخدعك الشيطان فيمثل لك التواني في التوكل ويورثك الهوينا بإحالتك على القدر، فإن الله أمرنا بالتوكل عند انقطاع الحيل والتسليم للقضاء بعد الأعذار، فقال: خذوا حذركم. وقال: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعقلها وتوكل. وقال عمر لرجل: ما معيشتك؟ قال: رزق الله. فقال: لكل رزق سبب فما سبب رزقك؟ أبو تمام:
وصدقت أن الرزق يطلب أهله ... لكن بسيرة متعب مكدود
وقال الموسوي وقد أحسن في معناه:
إعزم فليس عليك إلا عزمة ... والعجز عنوان لمن يتوّكل
أو حمل اللوم القضاء فإنه ... عود لأحمال الملام مذلل

الترغيب في طلب المعاش مع مراعاة المعاد:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: خيركم من لم يدع دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: أحرث لآخرتك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً. ينبغي للعاقل أن يكون ظاعناً إلا في ثلاث: تزود لمعاد، ومرمة لمعاش، ولذة في غير محرم.
جرير:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا غرض الدنيا عن الدين شاغله
وقال خالد: يا بني خصلتان لا تبال ما صنعت بعدهما: دينك لمعادك، ودرهمك لمعاشك.
الترغيب في اكتساب الحلال:
قال ابن مبارك: لقيت رجلاً بمكة يبيع الخرز، وكان أبوه خزازاً فسألته عن ذلك فقال: إن الله لا يسألني هلا كنت خزازاً وإنما يسألني من أين اكتسبت وفيم أنفقت؟ وقال صلى الله عليه وسلم: لا يكتسب عبد درهماً من حرام فيتصدق به أو ينفقه أو يتركه إلا كان زاده في النار. وقال سفيان: عليكم بعمل الأبطال الإكستاب من الحلال والإنفاق على العيال. واستأذن رجل النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال: ألك من تعوله؟ قال: نعم. قال: كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعوله.
النهي عن التواني في التكسب:
قال هرم: من التوفيق رفض التواني، ومن الخذلان مسامرة الأماني.
شاعر:
وإن وطاء العجز أورث خلّة ... وأصلد ما أورى إلا كفّ القوادح
وقال:
وما طلب المعيشة بالتمني ... ولكن إلق دلوك في الدلاء
وقيل:
حب الهوينا يكسب النصبا
مدح الشغل وذم الفراغ:
قال بزرجمهر: إن يكن الشغل محمدة فالفراغ مفسدة، الراحة للرجال عقلة وللنساء غلمة. واستشار رجل في عمل يتولاه آخر فقال: إعلم أن الفراغ من شأن الأموات، والإشتغال من شأن الأحياء، فإن قدرت أن تكون حياً فافعل. وقال حكيم: لا تفرغ قلبك من ذكر، ولا ولدك من شغل، فالقلب الفارغ يبحث عن السوء، واليد الفارغة تنازع إلى الإثم، وقال آخر: أحذركم عاقبة الفراغ فإنه شر من السكر. وقال الفضل بن مروان: الكاتب كالدولاب إذا تعطل انكسر.
الأمر بالاقتصاد في الطلب:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: اقتصدوا في الطلب، فإن ما رزقتموه أشد طلباً منكم له، وما حرمتموه فلن تنالوا ولو حرصتم. وقيل: لا يدرك بالحذق هارب الرزق.
المرقش الأصغر:
أجمل العيش أن رزقك آت ... لا يرد الترقيح شروى فتيل
أبو الشيص:
لكل امرئ رزق وللرزق جالب ... وليس يفوت المرء ما خط كاتبه
يساق إلى ذا رزقه وهو وادع ... ويحرم هذا الرزق وهو يطالبه
وقال أبو تمام:
والحظ يعطاه غير طالبه ... ويحرز الدر غير مجتلبه
تلك بنات المخاض راتعة ... والعود في كوره وفي قتبه
آخر:
حظك يأتيك وإن لم ترم
راشد الكاتب:
إذا كانت الأرزاق في القرب والنوى ... عليك سواء فاغتنم لذة الدعه
وإن ضاق أمر يفرج الله ما ترى ... ألا رب ضيق في عواقبه سعه
العطوي:
لا تحسبن طول الرحل ... يزيد في رزق الأجل
ولا مقاماً وادعاً ... يدفع رزقاً قد نزل
وقيل لبعض من تقاعد به الزمان: ألق الدلاء وأجذبها ملاء. فقال: كيف أنزع دلواً خان رشاؤها، وأسدد سهماً زالت أغراضها.
الحث على السفر في طلب المال:

قال الله تعالى: " هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: سافروا تغنموا. وسئل ضمرة بن ضمرة عن الفقر الحاضر والعجز الظاهر، فقال: أما الفقر الحاضر فمن لا تشبع نفسه، وأما العجز الظاهر فالشاب القليل الحيلة اللازم الحليلة، إن غضبت ترضاها، وإن رضيت فداها، يحوم حولها ويطيع قولها. قيل: رأس العجز أن تقيم فلا تريم، وأن تخيم فلا تظعن، فمن طلب جلب، ومن تبغل تبقل، ومن نام رأى الأحلام. وقيل: الحركة لقاح الجد العقيم.
أبو تمام:
أراد بأن يحوي الغنى وهو وادع ... وهل يغرس الليث الطلا وهو رابض
قال بزرجمهر: السعيد يتبع الغنى، والشقي يتبع مسقط رأسه.
شاعر:
ذو اللب تنزع للرفاهة نفسه ... وترى الشقي نزوعه للموطن
أخذه المبرد:
الفقر في أوطاننا غربة ... والمال في الغربة أوطان
آخر:
وكل بلاد أخصبت فبلادي
المتنبي:
وما بلد الإنسان غير الموافق ... ولا أهله إلا دنون غير إلا صادق

إقامة العذر في الطلب:
عروة بن الورد:
لتبلغ عذراً أو تصيب رغيبة ... ومبلغ نفس عذرها مثل منجح
كشاجم:
وعليّ أن أسعى وليس علي إدراك النجاح
آخر:
قد قضى ما عليه من بلغ الجهد وإن لم يصل إلى ما أرادا
المتكسب بسلاحه:
دخل رجل على أبي دلف فاستماحه وانتسب له، فقال له: أتستميح وجدك القائل:
ومن يفتقر منا يعش بحسامه ... ومن يفتقر من سائر الناس يسأل
فخرج الرجل وجرد سيفه فاستقبله وكيل لأبي دلف معه مال، فاستلبه وقتله، فاتصل الخبر بأبي دلف فقال: دعوه فإني علمته. وقال بعض الشجعان: التظلل ضرر والإتكال غرر، ولا يكسب الأموال إلا منازلة الأبطال ومصاولة الرجال، وتجريد السيوف ومباشرة الحتوف.
الأعشى:
فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من قناً وسيوف
ابن نباتة:
شرابهم في الحرب ما تمطر القنا ... وأكلهم ما تجتنبه الصوارم
وصف الناس بأن تصرفهم في طلب المعاش:
أبو العتاهية:
المرء يغلط في تصرف حاله ... فلربما اختار الغناء على الدعه
كل يحاول حيلة يرجو بها ... دفع المضرة واجتلاب المنفعه
وقيل لفارسي: فيم تقلب الناس؟ فقال بالفارسية: أش نيازواز أي من الفقر والحرص.
آخر:
كل امرئ مشتغل بنفسه ... يطلب ما يطحنه بضرسه
النهي عن الإغترار بما في يد الغير:
قيل: غثك خير من ثمين غيرك.
شاعر:
وإن حدثتك النفس أنك قادر ... على ما حوت أيدي الرجال فجرب
أبو العتاهية:
لا تغضبن على امرئ ... لك مانع ما في يديه
واغضب على الطمع الذي استدعاك تطلب ما لديه
تفضيل الحاضر على المنتظر:
في المثل: عش ولا تغتر. وقيل: لقمة في فمك أحضر منفعة من فخذ في تنور. معاطاة الموجود خير من انتظار المفقود.
الحث على حفظ المكتسب:
قال سقراط: لتكن عنايتك بحفظ ما اكتسبته كعنايتك باكتسابه.
شاعر:
لحفظك مالاً قد عنيت بجمعه ... أشد من إدراك الذي أنت طالبه
آخر:
لحفظ المال خير من ضياع ... وطوف في البلاد بغير زاد
وقيل: حفظ الموجود أيسر من طلب المفقود. وقيل: إحذر نفاد النعم فما كل شارد مردود.
الحث على حفظ المال لنوب الأيام:
محمد بن غالب:
إنما الدنيا ضباب قذّى ... تكف الأحزان عن مطّره
فاتخذ للدهر في يسر ... عدة تبقى عدة عسره
البديهي:
لا تحسبن ادخار المرء قنيته ... لصونه وجهه بل لا هو الكرم
عزّ القناعة بالموجود يمنع من ... ذلّ القنوع وحفظ المرض مغتنم
حفظ المال بالختم عليه:
قيل: من ختم البضاعة أمن الضياعة. من الكيس ختم الكيس. طينة خير من ظنة. وقيل: أربعة أشياء لا يستحيى من الختم عليها: المال لنفي التهمة، والجوهر لنفاسته، والطيب للأبدال، والدواء للإحتياط.
الحث على حسن التدبير والنهي عن التبذير:

قيل: حسن التدبير نصف الكسب، وسوء التدبير داعية البؤس. الإفلاس سوء التدبير. كن مقدراً لا مقتراً. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الرفق في المعيشة خير من بعض التجارة. قال الله تعالى: " ولا تبذر تبذيراً إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين " . وقيل: التبذير إنفاق المال في غير الحق. وسئل سعيد بن جبير رضي الله عنه عن التبذير فقال: هو أن تنفق الطيب في الخبيث. وقال تعالى: " ويسألونك ماذا تنفقون؟ قل العفو " . ولم يأذن في الفضول وقال عز من قائل: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا " . وقال صلى الله عليه وسلم: أنهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال. وقال: ليس في السرف شرف. وقال معاوية: ما رأيت تبذيراً إلا وإلى جنبه حق مضيع. وقال صلى الله عليه وسلم: ما عال امرؤ عن اقتصاد. وقال أبو بكر رضي الله عنه: إني لأبغض أهل بيت ينفقون رزق أيام في يوم واحد. وقيل: ما وقع تبذير في كثير إلا هدمه، ولا دخل تدبير في قليل إلا ثمره. وقيل: إنك إن أعطيت مالك في غير الحق يوشك أن يجيء الحق وليس عندك ما تعطى منه.

التهكم على مبذر:
قيل في المثل: خرقاء وجدت ضوفاً. وقيل: من يطل ذيله ينتطق به. وقيل: يطأ فيه ومن وجد دهناً دهن استه. وقيل: عبد خلى في يديه وعبد ملك عبداً. وكان بعض المتخلفين ورث مالاً فكان يحمل الدنانير ويأتي الشط فيقذف واحداً واحداً في الماء، فقيل له في ذلك فقال: ما أصنع بالدراهم إذاً؟
الحث على حفظ المال والإستغناء به عن الأنذال:
كان لسفيان بن عيينة صرة دنانير يحفظها فقيل له: أتحفظ ذلك وأنت موصوف بالزهد؟ فقال: لئلا أكون مناديل الغمر من الرجال. وقيل لأفلاطون: لم تدخر المال فأنت شيخ؟ فقال: لأن يموت الإنسان ويخلف مالاً لعدوه خير من أن يحتاج إلى أصدقائه في حياته. وقيل: خلف للأعداء ولا تحتج إلى الأصدقاء. وقيل لحكيم: لم حفظت الفلاسفة ما في أيديهم؟ فقال: لئلا يقيموا أنفسهم المقام الذي لا يستحقونه، فقد علموا أن لا اتكال على ما في يد الغير. وفي المثل: بق نعليك وابذل قدميك.
النهي عن إنفاق جميع المال والرخصة في ذلك:
روي في الخبر أن كعب بن مالك أراد أن يتصدق بماله كله، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أمسك عليك مالك، فإنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم يتكففون الناس. وقال ابن عباس رضي الله عنه: حث النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصدقة، فجاء أبو بكر بماله كله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أعددت لعيالك؟ فقال: الله ورسوله! وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله فقال له: ما أعددت لعيالك؟ فقال: الله ورسوله ونصف مالي. فقال صلى الله عليه وسلم: بين الرجلين ما بين الكلمتين. وسئل الشبلي عما يجب في مائتي درهم فقال: أما من جهة الشرع فخمسة دراهم، وأما من جهة الإخلاص فالكل. وقيل للمأمون: لا شرف في السرف. فقال: لا سرف في الشرف.
الإنفاق على الأهل:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: نفقة الرجل على أهله صدقة. وقال: خيركم خيركم لأهله. وقال: إبدأ بمن تعول ولا تعجن عن نفسك. وكان أيوب يقول لأصحابه: تعاهدوا أولادكم وأهليكم بالبر والمعروف، ولا تدعوهم يطمحوا بأبصارهم إلى ما في أيدي الناس. وقال زيد بن علي رضي الله عنه: ثلاث لا يسأل الإنسان الإنسان عنها: ما ينفقه في مرضه، وما ينفقه في إفطاره، وما ينفقه على ضيفه.
مدح مفيد مبيد:
مدح أعرابي رجلاً فقال: هو أكسبكم وآكلكم للمأدوم وأعطاكم للمحروم. وقال الوليد ابن يزيد: لأجمعن جمع من يعيش أبداً، ولأنفقته إنفاق من يموت غداً.
أبو تمام:
إذا ما أغروا فاحتووا مال معشر ... أغارت عليهم واحتوته الصنائع
آخر:
إذا أسلفتهن الملاحم مغنماً ... دعاهن من كسب المكارم مغرم
المتنبي:
السلم يكسر في جناحي ماله ... بنواله ما تجبر الهيجاء
النهي عن إمساك المال:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ينادي مناد كل ليلة فيقول: اللهم اجعل لمنفق خلفاً ولممسك تلفاً. وقال صلى الله عليه وسلم: أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالاً.
شاعر:
وإن أشد الناس في الحشر حسرة ... لمورث مال غيره وهو كاسبه
الحث على الإنفاق وقت السعة وإظهار أثر النعمة:

قال الله تعالى: لينفق ذو سعة من سعته " الآية " . وبعث عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح وهو أمير الشام مالاً وقال للرسول: أنظر ماذا يصنع؟ فرآه يوسع على عياله ثم نقض من أرزاقه فقتر عليهم فقال عمر: رحم الله أبا عبيدة، وسعنا عليه فوسع وقترنا عليه فقتر. وسئل الحسن رضي الله عنه عن رجل آتاه الله مالاً فأنفق على أهله ما لو أنفق دونه لكفى فقال: وسع على نفسك وعلى عيالك كما وسع الله عليك، فإن الله قد أدب عباده أحسن تأديب فقال: لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله. وما عذب الله قوماً وسع عليهم فشكروه، ولا غفر لقوم ضيق عليهم فكفروه. وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ويبغض البؤس والتباؤس. وقال صلى الله عليه وسلم: من آتاه الله خيراً فلير أثره عليه.

ذهاب المال الحرام في الأباطيل:
قال الحسن رحمه الله: إذا أردت أن تعلم من أين أصاب الرجل. المال فانظر في أي شيء ينفقه، إن الخبيث ينفق في إسراف. وقيل: من درى من أين أخذ درى أين ينفق.
التظلف والتذمم لمكسب دنئ:
قيل في المثل: نفع قليل وفضحت نفسي. تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.
شاعر:
أصبت صنوف المال من كل وجهة ... فما نلته إلا بكف كريم
وإني لأرجو أن أموت فتنقضي ... حياتي، وما عندي يد للئيم
حكم وجود الضالة:
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل فقال: مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر. قيل: فضالة الغنم. قال: هي لك أو لأخيك أو للذئب. وسئل عن اللقطة فقال: إحفظ عفاصها ووكاءها وعرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها. وروى جارود بن المعلى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ضالة المؤمن حرق النار. وقيل: ما يوجد بمكة فلا يجوز الانتفاع به لقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله حرم مكة ما بين لأبتيها، لا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف. وقال عمر رضي الله عنه: إذا وجدتم تمرة نلقاة في الطريق فليلتقطها من هو أحوج إليها. ووجد النبي صلى الله عليه وسلم تمرة ساقطة فقال: لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها.
مما جاء في مدح الغنى وذم الفقر
منفعة المال ديناً ودنيا:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفة والغنى. وقال صلى الله عليه وسلم: نعم العون على تقوى الله المال. وقال أبو قلابة: الغنى من العافية. نظر أعرابي إلى دينار فقال: ما أصغر مرآك وأكثر منافعك! ابن الرومي:
لم أر شيئاً صادقاً نفعه ... للمرء كالدرهم والسيف
يقضي له الدرهم حاجاته ... والسيف يحميه من الحيف
وقيل: نعم العون على الدين اليسار.
شاعر في معناه:
ما أرسل الإنسان في حاجة ... أقضى من الدرهم في كمّه
آخر:
إذا ما خليلي صدّ عني بنبوة ... فدرهمي المنقوش خير خليل
أحمد بن أبي طاهر:
ولا يساوي درهماً واحداّ ... من ليس في منزلة درهم
آخر:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له ... دنانير فيها جمة ودراهم
وقيل في قوله: فأرسل حكيماً ولا توصه، أنه الدرهم. وقيل: الدرهم هو الأخرس النجيح قال وهب بن المنبه: الدرهم والدينار خواتيم رب العالمين أينما بعث قضى الحوائج.
محبة الناس للمال:
قال عمرو بن العاص لمعاوية: ما أشد حبك للمال! قال: ولم لا أحبه وأنا أتعبد به مثلك، وأبتاع به مروءتك ودينك. وقال بعض الفرس: من زعم أنه لا يحب المال فهو عندي كاذب حتى يثبت صدقه، وإذا ثبت صدقه فهو عندي أحمق. وقيل لابن زياد: لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال: هي وإن أدنتني منها فقد أغنتني عنها. وقيل: تقليب الدرهم يوقف الشيب ويزيل الهم والتعب. وقيل: من نقر درهماً زرع في قلبه شهوة.
تشاحح الناس بالمال:
قال يونس: لو أن الدنيا مملوءة بالدراهم على كل درهم مكتوب من أخذه دخل النار، لأمست وما على ظهرها درهم يوجد. وقيل: لما ضربت الدراهم والدنانير صرخ إبليس صرخة وجمع أصحابه فقال: قد وجدت ما استغنيت به عنكم في تضليل الناس، فالأب يقتل ابنه، والابن يقتل أباه بسببه.
وصف أنواع المال وتفضيل بعضها على بعض:

سئل أبو كرب عن أصناف الأموال فقال: أما الماشية فإنها تقبل مع السنة إذا أقبلت وتدبر معها إذا أدبرت، وأما الرقيق فإنه يغدو عليها ضرها ونفعها وقليل الضر يأتي على كثير النفع، والصامت مال من لا مال له لأنه إن أنفقه أتلفه، وإن أمسكه أهان به نفسه وكان كمن لا مال له. وقال: خير المال ما أطعمك ما لا تطعمه. وقال عبد الله بن الحسن: غلة الدور مسألة وغلة النخل هفاف، وغلة الحب غنى. وقيل للأحنف: أي المال أبقى وأوفى؟ فقال: المساكن والأرضون. وقيل في قوله تعالى: " وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهودا " : أن له غلة شهر بشهر. قيل لمجنون: لم صار الدينار خيراً من الدرهم والدرهم خيراً من الفلس؟ فقال: الفلس ثلاثة أحرف، والدرهم أربعة أحرف، والدينار خمسة. وقيل لآخر: لم صار لون الذهب أصفر؟ فقال: لأن طلابه كثير. وقيل لآخر فقال: لخوف الدفن. وقيل لرجل: لم فضل الدينار على الدرهم؟ فقال: لأن الدينار يؤدي إلى النار. والدرهم دار همّ وعذاب، الهم عاجل وعذاب النار آجل، وإلى ذلك محيا وممات. ودفع إلى أعرابي دينار فحمله إلى الصراف، فملأ به يديه دراهم فقال: ما أصغر منظرك وأعظم مخبرك!وقال أنصاري لابن عبد الرحمن بن عوف: ما ترك لك أبوك من المال؟ فقال: ترك أموالاً كثيرة. فقال: ألا أعلمك ما هو خير لك مما ترك أبوك؟ قال: نعم. قال: إعلم أنه لا مال لعاجز ولا ضياع على حازم والرقيق جمال وليس بمال، فعليك من المال بما يعولك لا بما تعوله.

وصف الحيوان من بين المال:
قيل لابنة الحسن: ما تقولين في مائة من الماعز؟ قالت: غنى. قيل: وفي مائة من الضأن؟ قالت: قنى. قيل: وفي مائة من الإبل؟ قالت: منى. قيل: فما تقولين في الحمار؟ قالت: أخزاه الله مال لا يذكى! وقيل لرجل: أي مركب إذا كان أكبر كان أنذل؟ فقال: الحمار! وقيل لآخر: أي المال أحب إليك؟ فقال: الذي يقيم بقيامي ويظعن بظعني، ويحملني ومالي وداري، يعني الإبل وعلى عكسه قول الآخر:
وإن اقتناء النوق موق وحرفة ... يبيت على يسر ويغدو على ثكل
قدر ما يحمد من المال:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم المال الأربعون والكثير الستون، وويل لأصحاب المائتين إلا من أعطى في نجدتها ونحر سمينها ومنح لبونها، وأطرق فحلها وأفقر ظهرها. قال خالد بن صفوان: من كان له مال كفافاً فليس بغني ولا فقير، لأن النائبة إذا أتت أجحفت بكفافه، ومن كان ماله دون الكفاف فهو فقير، ومن كان ماله فوق الكفاف فهو غني.
وصف درهم أو دينار ثقيل الوزن:
كان المتوكل ضرب دراهم وزن كل واحدة عشرة، وعلى جانب منه مكتوب:
أمازحها فتغضب ثم ترضى ... وكل فعالها حسن جميل
وعلى الآخر:
فإن غضبت فأحسن ذي دلال ... وإن رضيت فليس لها عديل
ووجد في خزانة جعفر بن يحيى دنانير في كل دينار مائة مثقال ومثقال نقشه:
وأصفر من ضرب دار الملوك ... يلوح على وجهه جعفر
يزيد على مائة واحداً ... إذا ناله معسر يوسر
وأهدى عضد الدولة إلى ركن الدولة دنانير كل دينار منها مائة مثقال ونقشه:
بذكر الله أكرم مستجار ... ضربناه من الذهب النضار
جعلنا وزنه مائة فأضحى ... عديم الندّ مفقود النجار
لنهديه إلى الركن المرّجى ... بويه إلى عليّ ذي الفخار
وأمر الصاحب أن يضرب دينار من ألف مثقال وأهداه إلى فخر الدولة وكتب عليه:
وأحمر يحكي الشمس شكلاً وصورة ... وأوصافه مشتقّة من صفاته
فإن قيل دينار فقد ذكر اسمه ... وإن قيل ألف كان بعض سماته
بديع فلم يطبع على الدهر مثله ... وإن ضربت إضرابه ببراته
لقد أبرزته دولة فلكية ... أقام بها الأفلاك صدر قناته
وصار إلى شاهان شاه انتسابه ... على أنه مستصغر لعفاته
تأنق فيه عبده وابن عبده ... وغرس أياديه وكافي كفاته
وصفهما إذا كانا خفيفين:
كان المتوكل أمر أن يضرب له ألف ألف درهم، في كل درهم قيراط لينثره مكان الورد، وأمر بأن تصبغ صفراً وحمراً وخضراً، وكان الدرهم يبقى في الهواء بقاء الورد. العباس في وصف دينارين خفيفين:

جاد بدينارين لي جعفر ... أصلحه الله وأخزاكما!
وكاد لا كانا ولا أفلحا ... عليهما يرجح ظلاّهما
ابن الرومي في دينار خفيف:
كأنه في الكف من خفّة ... مقداره من صفرة الشمس
وقيل لرجل: ما أولاك فلان؟ فقال: درهماً كأنما عناه الشاعر بقوله:
مرّ بنا والعيون ترمقه ... تجرح منه مواضع القبل

وصف مال بالكثرة:
قيل: هو في خير لا يطير غرابه. ووجد فلان تمرة الغراب. وعنده عائرة عير. وله كحل وسواد. والنشب والعرض والطم والرم. وجاء بما صأى وصمت وبالضح والريح.
كون المال موفياً على الحسب والنسب:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه هذا المال. وفي مثل: رب حسب دفنه الفقر.
شاعر:
وأجهد الناس من بعنصره ... يزهو على من يزينه النشب
وقف أعرابي من بني فعس يسأل وهو عريان:
كساني فقعس وكسا بنيه ... عطاف المجد إنّ له عطافا
فقال له بعض الحاضرين: لو كساك خرقة تواريك لكان أصلح لك.
من سوده ماله:
قيل: المال يسود غير السيد ويقوي غير الأيد.
شاعر:
الفقر يزري بأقوام ذوي حسب ... وقد يسود غير السيد المال
عمارة:
حياك من لم تكن ترجو تحيته ... لولا الدراهم ما حيّاك إنسان
تعظيم الناس لذي المال:
قيل للحسن رضي الله عنه: ما بال الناس يكرمون أرباب المال؟ فقال: لأن عشيقتهم عندهم. ومر موسر بالشعبي فتزعزع له فقيل له في ذلك فقال: رأيت ذا المال مهيباً! وعوتب لبن أبي ليلى لتخفره لغني مر به فقال: إن تعظيم ذوي المال شيء جعله الله في القلوب ل يستطاع دفعه. وقال العطوي:
اقصد إلى أي ودّ شئت معتصماً ... بحبل ودّ فلا ذئب ولا ضبع
المال أعضب سيف عند صولته ... من أن يعنّ له في منهل سبع
وهذا كقول بعض اللصوص لبعض أصحابه: لا تنقبوا على غني وكونوا مع الله على الدبر.
مصادقة الناس للأغنياء ومعداتهم للفقراء:
قيل لبعض العقلاء: كم لك من صديق؟ فقال: لا أعلم ذلك لأن الدنيا مقبلة علي والأموال موجودة عندي، وإنما أعرف ذلك إذا ولت، ألم تسمع قول طريح:
الناس أعداء لكلّ مدقع ... صفر اليدين وأخوة للمكثر
ولما استوزر علي بن عيسى ورأى اجتماع الناس عليه تمثل بقول أبي العتاهية:
ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها ... فكيف ما انقلبت يوماً به انقلبوا
يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت ... يوماً عليه بما لا يشتهي وثبوا
شاعر:
إذا مالت الدنيا على المرء رغبت ... إليه ومال الناس حيث يميل
ومثله أبو العتاهية:
الناس أخوة نعمة ... لله ما دامت عليكا
وقول الآخر:
إن الحبيب إلى الأخوان ذو المال
آخر:
الناس خلانك ما لم تفتقر
وقيل: إذا أيسرت فكل رحل رحلك، وإذا افتقرت أنكرك أهلك. وقيل: العسرة والعشرة لا يجتمعان.
زيارة الناس لذي المال:
قال بشار:
يزدحم الناس على بابه ... والمنهل العذب كثير الزّحام
آخر:
إن الغنى يهدي لك الزّوّارا
آخر:
وأي الناس زوّار المقلّ؟
الفقر مجمع العيوب:
قيل: الفقر مجمع العيوب. وقال بعضهم: وجدت الدنيا والآخرة في شيئين وشرهما في شيئين، خيرهما الغنى والتقى، وشرهما الفقر والفجور.
جرير:
ترادّفهم فقر قديم وذلة ... وشر الرديفات المذلة والفقر
وقيل: ما روي أجود من قول عروة في ذم الفقر:
ذريني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرّهم الفقير
وما من خصلة تكون للغني مدحاً ولا تكون للفقير ذماً: إذا كان حليماً قيل هو بليد، وإذا كان شجاعاً قيل هو أهوج، وإذا كان لسناً قيل مهذار. ولقد صدق من قال:
إن ضرط الموسر في مجلس ... قالوا له: يرحمك الله!
أو عطس المفلس في مجلس ... سبّ وقالوا فيه ما ساه
فمضرط الموسر عرنينه ... ومعطس المعسر مفساه
حسان:
ربّ حلم أضاعه عدم الما ... ل وجهل غطّى عليه النعيم

وكان الحسن رضي الله عنه إذا رأى المساكين قال: هؤلاء مناديل الخطأ وقيل: الخلة تقدح في الذهن وتغمز في العقل.

خفة الموت في جنب الفقر:
قيل: القبر ولا الفقر
ولا الموت خير للفتى من قعوده ... عديماً ومن مولى تدبّ عقاربه
آخر:
خير حال الفقير عند ذوي الألباب أن تنطوي عليه القبور
ابن طباطبا:
قد يصبر الحرّ على السيف ... ويجزع الحرّ من الحيف
ويؤثر الموت على حالة ... يعجز فيها عن قرى الضيف
التعوذ من الفقر وكونه كالكفر:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الكفر والفقر، فقال له رجل: أيستويان؟ فقال: نعم كاد الفقر أن يكون كفراً! ودعا رجل لمسروق فقال: جنّبك الله الفقر وطول الأمل. وقال سفيان: كان من دعائهم اللهم زهدنا في الدنيا ووسعها علينا، ولا تزوها عنا وترغبنا فيها. وقالت المجوس: من لا مال له لا عقل له، ومن لا عقل له فلا دنيا له ولا دين.
عدم المجد حيث عدم المال:
كان طلحة رضي الله عنه يقول: اللهم ارزقني مجداً ومالاً، فلا يصلح المجد إلا بالمال، ولا يصلح المال إلا بالأفعال. وقد أخذ هذا المعنى:
فلا مجد في الدنيا لمن قلّ ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قلّ مجده
هرم بن عمير التغلبي:
إني امرؤ هدم الأقتار مأثرتي ... وأجتاح ما ثبت الأيام من خطري
أرومة عطّلتني من مكارمها ... كالقوس عطّلها الرامي من الوتر
ومما يناقض هذا الباب قول جرثومة بن مالك:
فتى إن تجده معوزاً من تلاده ... فليس من الرأي الأصيل بمعوز
الأحنف:
وإن المروءة لا تستطاع ... لمن لم يكن ماله فاضلاً
صعوبة الفقر على ذي همة وجود:
قيل لحكيم: من أشقى الناس؟ فقال: من اتسعت معرفته وضاقت مقدرته. وقال أعرابي: لا تنظر إلى هيئتي وانظر إلى همتي.
الطرماح:
أرى نفسي تتوق إلى أمور ... ويقصر دون مبلغهن مالي
فنفسي لا تطاوعني لبخل ... ومالي لا يبلغني فعالي
المتنبي:
إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني ... أرى صالح الأخلاق لا أستطيعها
أرى حلة في أخوة وقرابة ... وذي رحم ما كنت ممن يضيعها
آخر:
أرى الدهر يجفوني ونفسي عزيزة ... وليس معي زهد فأسطو على الدهر
صعوبة الفقر على متعودي اليسر:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الحور بعد الكور وقال: ارحموا ثلاثة، عزيز قوم ذل، وغني قوم افتقر، وعالماً بين جهال. وقيل: جهد البلاء أن تزول النعمة وتبقى العالة، ثم لا تعدم صديقاً مؤنباً وعدواً شامتاً، وزوجة مختلفة وجارية مستبيعة، وعبداً يحقرك وولداً ينتهرك.وأتى عبد الله بن معاوية بأسير فقال: هذا هو جهد البلاء. فقال الأسير: كلا جهد البلاء فقرمد قع بعد غنى موسع.
صعوبة مقاساة الجوع:
قتل رجل بصفين أبا امرأة وابنها وأخاها وعمها وعشرين من أهل بيتها، ثم أتت تسأله فقال: ما أظن على ظهر الأرض أبغض إليك مني! فقالت: بلى إن الذي ألجأني إليك أبغض إلي منك وهو جوع بطني. وأخذ رجل بلجام عبد الملك فقيل له: ما جرأك؟ فقال: الجوع شجاع. وقيل: الجائع فقير ضيق النفس والشبعان واسع الصدر غني النفس.
ستر الحال في العسر واليسر:
قال عبد الملك للهيثم بن الأسود: كم مالك؟ فلم يخبره به فقيل له في ذلك فقال: صاحب المال بإحدى منزلتين إن كان كثيرا حسد، وإن كان قليلاً حقر. وقيل: رضي بالذل من كشف ضره، وبالحسد من كشف يسره.
شاك فقره:
الحاركي:
من كانت الدنيا له شارة ... فنحن من نظارة الدنيا
نرمقها من كثب حسرة ... كأننا لفظ بلا معنى
العطوي:
أنا طرح بين خلا ... ت حديدات النصال
بين دين وشتاء ... وعيال واختلال
آخر:
من رآني فقد رآني ورحلي
آخر:
ومن عجب أن حلف الفسوق ... غنيّ وقد أعدم الأتقياء
وقال مخنث: أنا عظيم البلية أموت من حب رزقي ويموت هو من بغضي.
نادرة ماجن شاكي الفقر:

شكا بعضهم فقره فقيل له: أحمد الله الذي رفع السماء بغير عمد. فقال: وددت أنه وسع رزقي وجعل بين كل ذراع أربع أسطوانات، فليس لي دار يضيقها. سمع صبي فقير امرأة في جنازة تقول: يذهبون بك إلى بيت ليس له غطاء ولا عشاء ولا غداء ولا سراج. فقال الصبي: يا أبت إنهم يذهبون به إلى بيتنا. وقيل لمزبد: بع قطيعك. فقال له: ما ملكت قط إلا قطيعة الرحم. قيل له: ما عندك من آلة الخبيص؟ قال: الماء. وقيل له: ما أعددت للبرد؟ قال: الرعدة.

متعذر لفقره بأن الجود فوق ماله:
طلب قوم ابن هرمة فلم يجدوه في منزله فقالوا لابنته: أقرينا قالت: ما لنا شيء. قالوا: فأين قول أبيك:
لا أمتع العود بالفصال ولا ... أتباع إلا قصيرة الأجل
قالت: مذلكم الذي منعكم القرى! دعبل:
قالت سلامة: أين المال؟ قلت لها: ... المال ويحك لاقى الحمد فاصطحبا!
الحمد فرق مالي في الحقوق فما ... أبقين ذماً، ولا أبقت له نشبا
جحظة:
جاء الشتاء وما عندي له ورق ... مما وهبت، ولا عندي له خلع
كانت فبددها جود ولعت به ... وللمساكين أيضاً بالندى ولع
من نسى فقره بعد زواله:
شاعر:
يعيش الفتى بالفقر يوماً وبالغنى ... وكل كأن لم يلق حين يزايله
آخر:
كأن الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكاً إذا ما تمولا
تأسف من ضيع ماله ثم احتاج إليه:
شاعر:
وكان المال يأتينا فكنا ... نبذره وليس لنا عقول
فلما أن تولى المال عنا ... عقلنا حين ليس لنا فضول
تأسف من وجد خيراً لم ينتفع به:
قال القلابي: دخلت على الجاحظ في منصرفي من عند السلطان، وقد حسنت حاله واشتدت علته، فسألته فقال: كنا إذا أردنا لم نجد حتى إذا وجدنا لم نرد.
الموصوف بالفقر والجهل:
شاعر:
يظل عديم أموال ولب ... يرق له المكاشح والمعادي
وسئل أعرابي عن رجل فقال: ما له حول لا معقول ولا مال ولا حال.
ذم دنىء تمول:
إذا أيسر الدنىء ابتلى به ثلاثة: صديقه القديم يفارقه، وامرأته يتسرى عليها، وباب داره يغيره. وقد نظم ذلك في قوله:
إذا استغنى الوضيع ونال جاهاً ... وأنكر نخوة في الناس نفسه
حبا خلصان اخوته جفاء ... وغير بابه وأبان عرسه
أخذه من ابن أبي البغل:
إذا ما ساقط أثري تعدى ... وأنكر قبل كل الناس نفسه
وغير باب منزله وأربى ... على جيرانه وأبان عرسه
قال عمرو بن العاص: لأن يسقط ألف من العلية خير من أن يرتفع واحد من السفلة.
البحتري:
محاريب الدنيا نباهة جاهل ... فلا ترتقب إلا خمول نبيه
النهي عن البطر عند الغنى وذم ذلك:
قال الله تعالى: " إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى " . وقيل: البطر يقتضي الفقر والنظر يقتضي العبر. وقيل: أكثر شكر الله على نعمة فالبطر من قلة الشكر.
شاعر:
خلقان لا أرضى طريقهما ... خلق الغنى ومذلة الفقر
فإذا غنيت فلا تكن بطراً ... وإذا افتقرت فته على الدهر
وفي كتاب كليلة: لا ينظر العاقل لمنزلة أصابها كالجبل الذي لا تزلزله الرياح الشديدة، والسخيف تبطره أدنى منزلة كالحشيش الذي تحركه أدنى الرياح. وقيل: سوء حمل الفتى أن يكون الفرح مرحاً، وسوء حمل الفقر أن يكون الطلب شرها. وقيل: حمل الغنى أشد من حمل الفقر، ومؤنة الشكر أصعب من مشقة الصبر. وقال بعضهم فيمن لا يبطر ولا يمكنه ستر غناه.
تأبى الدراهم إلا كشف أرؤسها ... إن الغني طويل الذيل مياس
المرقش:
إن يخصبوا يعيوا بخصبهم ... أو يجدبوا تجديهم الأم
الخبزارزي:
قد كان في حال محسود فأبطره ... طغيانه فاغتدى في حال مرحوم
مسلم بن الوليد:
فالكلب إن جاع لم يعدمك بصبصة ... وإن ينل شبعة ينبح على الأثر
مدح من لا يبطره اليسر ولا يدقعه الفقر:
هدية:
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب
طرفة بن العبد:

إن تنل منفسة لا تلفنا ... ترف الخيل ولا نكبو لضر
الزبير بن الأسدي:
ولا يراني على ما ساء مكتئباً ... ولا يراني على ما سر مبتهجا
مثله:
فتى إن هو استغنى تحذق في الغنى ... وإن قل مالا لم يضع سنة الفقر.

اجتناب عرض الدنيا:
قيل: العاقل من لا يجزع من قعود الدهر به، علماً بأن مراتب الأقسام توضع على قدر الافهام. وقيل: وكل الحرمان بالعقل، والرزق بالجهل، ليعلم العبد أن ليس له من أمر الرزق شيء. وقيل: أبت الدنيا أن تعطي أحداً ما يستحقه: أما محطوط عن درجته أو مرفوع فوق قدره. وقيل لأفلاطون: لم لا يجتمع العلم والمال؟ فقال: لعزة الكمال. وقال:
ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
وقيل: من أعطاه الله عقلاً احتسب عليه من الرزق. وقيل: لو جعل الله المال للعقلاء مات الجهال، فلما جعله في أيدي الجهال استقلهم العقلاء، واستنزلوهم عنه بلطفهم. وقد تقدم في باب العقل شيء من هذا.
علة ميل الدنيا إلى الأنذال:
سعيد بن المسيب رضي الله عنه: الدنيا نذلة تميل إلى الأنذال. وقال الحكيم: إذا أردت أن تزهد في الدنيا فانظر عند من هي. وقال النظام: مما يدل على لؤم الذهب والفضة كثرة كونهما عند اللئام، فالشيء يصير إلى شكله: ومن هنا أخذ المتنبي قوله:
وشبه الشيء منجذب إليه ... وأشبهنا بدنياها الطغام
حسان:
المال يغشى رجالاً لا طباع لهم ... كالسيل يغشى أصول الدندن البالي
أبو تمام:
لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالي
ابن الرومي:
ورأيت الدهر يرفع كل وغد ... ويخفض كل ذي رتب شريفه
كمثل البحر يرسب فيه حي ... ولا ينفك تطفو فيه جيفه
وكالميزان يخفض كل واف ... ويرفع كل ذي زنة خفيفه
معاتبة الدهر لتقديم جاهل وتأخير فاضل:
جحظة البرمكي:
غلط الدهر بما أعطاكم ... وفعال الدهر جهل وغلط
الموسوي:
ومما يحلل ذم الزما ... ن أقصاؤه الأفضلين الخيارا
أبو حاتم:
أظن الدهر قد آلى فبرا ... بأن لا يكسب الأموال حرا
لقد قعد الزمان بكل حر ... ونقص من قواه ما استمرا
أبو تمام:
لقد ساسنا هذا الزمان سياسة ... سدى لم يسسها قط عبد مجدع
حلت نطفت منها لنكس وذو الحجى ... يداف له سم من العيش منقع
فإن نك أهملنا فأضعف بسعينا ... وإن نك أجبرنا ففيم نتمتع؟
وما أحسن ما قال: ليس المقل على الزمان براض ومن السخف قول التمار:
أرى فقحة الدنيا على معشر تخرى ... فإن أقبلت نحوي رأيت بها خضرا
ومن الجيد في هذا قول عابدة المهلبية ويروى للمهلبي:
ألست ترى استراق الدهر حظي ... وكيف يفيت في أدب الخمول
أأبغي العون منه وهو خصمي؟ ... كما استبكت ضرائرها الثكول
وقال رجل لمنجم: انظر في نجمي هل ترى لي غنى؟ فقال: دع عنك هذا فإن الدهر مشغول بالسفل، فلا يتفرغ إلى أحد. وقيل: الدهر لا يعطي أحداً ما يستحقه إما أن يزيده أو ينقصه.
معاتبة القدر في ذلك:
قال أبو العيناء لرجل سأله: ما بال الركيك الأحمق يرزق والأديب يحرم؟ فقال: لأن هذه الدنيا دار اختبار، وأحب الرازق أن يعلمهم أن الأمور ليست لهم، فإن غلات السواد تباع بكف أنموذج فهلا اكتفى في ذلك بنقرة؟ جحظة:
يا رب إن الشكوك قد علقت ... أوكارنا، والشكوك تعترض
وغد له نعمة مؤثلة ... وسيد لا يزال يعترض
فنحن من قبح ما نشاهده ... من معشر في قلوبهم مرض
عبدان:
لقوله نحن قسمنا بينهم زال المرا
ولو تولى غيره قسمة أرزاق الورى
جرت حظوظ بيننا ... لكننا تحت العرا
وقيل: إذا رأيت الجاهل مرزوقاً والعاقل منحوساً، فاعلم أن بين السماء والأرض اكراداً يقطعون الطرق. وقيل لمدني شكا الفقر: أحمد الله فإنه رزقك الإسلام والعافية. فقال: أجل لكن جعل بينهما جوعاً تتقلقل منه الأحشاء.
شاعر:

يا حجة الله في الأرزاق والقسم ... ومحنة لذوي الأخطار والهمم
تراك أصبحت في نعماء سابغة ... ألا وربك غضبان على النعم
آخر:
عجباً للناس في أرزاقهم ... ذاك عطشان وهذا قد غرق!

سؤال الله تعالى الغنى بغلظة مقال:
قال الأصمعي رأيت بالموقف أعرابياً قد رفع يده إلى السماء وهو يقول:
أما تستحي يا خلق الخلق كلهم ... أناجيك عرياناً وأنت كريم
أترزق أولاد اللئام كما ترى ... وتترك شيخاً من سراة تميم
فقلت له: ما هذه المناجاة؟ فقال: إليك عني فإني أعرف من أناجيه، إن الكريم إذا هز اهتز! فرأيته بعد أيام عليه ثياب حسنة فقال لي: ألست ترى الكريم كيف أعتب؟ ودعا أعرابي فقال: يا رب إن كنت تدع رزقي لهواني عليك فنمرود كان أهون مني، وإن كنت تدعه لكرامتي عليك فسليمان بن داود كان أكرم مني. فقيل له: أخذت الحبل بطرفيه.
مما جاء في الزهد ومدح الفقر وذم الغنى
حقيقة الزهد والحرص واليقين:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس الزهادة في الدنيا تحريم الحلال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق مما في يدك. سئل حكيم عن الزهد فقال: أن لا تطلب المفقود حتى تفقد الموجود. وقيل: ظلف النفس عن الشهوة. وقال سفيان: هو قصر الأمل لا أكل الغليظ ولبس العباء. وقال يونس بن حبيب هو ترك الراحة. وسئل الجنيد عنه فقال: خلو الأيدي من الأملاك وخلو القلب من التتبع. وسئل مرة فقال: ترك ما في الدار على من في الدار. وذكر الزهد عند الفضيل فقال: هو حرفان في كتاب الله تعالى: " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " . هو يوافقه قول من قيل له: من الزاهد؟ فقال: من لم يغلب الحرام صبره ولا الحلال شكره. وسئل الجنيد رحمه الله عمن لم يبق عليه من الدنيا إلا مقدرا مص نواة فقال: المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. وقال يحيى: الزاهد هو الذي بلغ من حرصه في تركها حرص الحريص في طلبها. وقال إبراهيم ابن أدهم رحمه الله: الزهد ثلاثة زهد فرض وذلك في الحرام، وزهد فضل وذلك في الحلال، وزهد سلامة وذلك في الشهوات. وقيل: أصل القناعة والزهد اليقين فمن أيقن قنع وزهد. وقال ذو النون: الزهد الاستخفاف بثلاثة أشياء: بالنفس والشيء والحلق، فإذا استخف بالنفس عزبه، وإذا استخف بالشيء ملكه، وإذا استخف بالخلق خدمه. أبو الأدنيان: اليقين ترك التدبير فيما لا تملك. الحرص طلب ما في يد الغير. وقيل: الحرص تضييع الكثير وطلب القليل.
حقيقة التوكل ووصفه:
قيل: التوكل هو الاعتماد على الحق والتخلي من الخلق. وقيل: الاستسلام لما قضى. وقيل: الثقة بالله فيما ضمن. وقيل: الاكتفاء بضمانه وإسقاط التهم في قضائه. وقيل للحارث: ما علامة المتوكل؟ فقال: أن لا يحركه إزعاج المستبطىء فيما ضمن له من رزقه. فقيل له: هل ينقص من توكله قصده من يسد جوعته. فقال: لأ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فلقيه أبو بكر وعمر فقال: ما الذي أخرجكما؟ قالا: الجوع! فقال: أخرجني الذي أخرجكما، فدخلوا منزل أبي الهيثم فأكلوا وشربوا. وقيل: التوكل الانقطاع على الله تعالى في إيصال النعماء ودفع البلاء. ثم تلا قوله تعالى: " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " . وخير يوسف عليه السلام بين خصلتين فاختار إحداهما، فقيل له: اخترت فتركناك مع اختيارك. فبقي في السجن ما بقي.
ذم المال:

قال الله تعالى: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " . وقال المسيح عليه السلام: لا خير في المال. فقيل: ولم يا روح الله؟ فقال: لأنه يجتمع من غير حل. قيل: فإن جمع من حلال؟ قال: لا يؤدي حقه. قيل: فإن أدى حقه؟ قال: لا يسلم صاحبه من الكبر والخيلاء. قيل: فإن سلم؟ قال: يشغل عن ذكر الله. قيل: فإن لم يشغل؟ قال: يطول عليه الحساب يوم القيامة. وذكر المال عند أفلاطون فقال: ما أصنع بما يعطيه الحظ ويحفظه اللؤم ويهلكه الكرم. وقيل لآخر فقال: ما أصنع بشيء يجيء بالاتفاق لا الاستحقاق، والزهد والجود يأمران بإتلافه، والشؤم والبخل يأمران بإمساكه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: تعسن عبد الدينار! تعس عبد الدراهم! تعس ولا انتعش وإذا شيك فلا انتقش! وقال أبو الدرداء: أعوذ بالله من تفرقة القلب. قيل: وما تفرقة القلب؟ قال: إن يكون للإنسان مال في كل واد. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من رضي من الله باليسير من الرزق رضي الله منه باليسير من العمل.
؟؟

كثرة المال سبب الهلاك:
ابن طباطبا:
إن في نيل المنى وشك الردى ... وقياس القصد ضد السرف
كسراج دهنه قوت له ... فإذا غرفته فيه طف
ابن الرومي:
ألم تر أن المال يهلك أهله ... إذا جم آنية وسد طريقه
ومن جاوز الماء الغزير محمه ... وسد طريق الماء فهو غريقه
وقيل: صاحب الدنيا كدودة القز لم يزد الابريسم على نفسه إلا زاد من الخلاص بعداً. عبد الله بن رؤبة:
يرى راحة في كثرة المال ربه ... وكثرة مال المرء للمرء متعب
إذا قل مال المرء قلت همومه ... وتشعبه الأموال حين تشعب
كون العدم نعمة وبسط الدنيا نقمة:
قال الله تعالى: " ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض " . وقال تعالى: " ولقد أخذنا مترفيهم بالعذاب " . وفي بعض المناجاة: يا من منعه عطاء. وقال رسول اله صلى الله عليه وسلم: يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام.
ابن أبي عيينة:
لا تشعرن قلبك حبّ الغني ... إن من العصمة أن لا تجد
كم واحد أطلق وجدانه ... عنانه في بعض ما لم يرد
وقال الحسن رضي الله عنه: ما بسط الله على أحد دنياه إلا اغتراراً، ولا طواها عنه إلا اختباراً. وقال بعضهم: نعمة الله علينا فيما طواه عنا أعظم من نعمته علينا في ما بسطه لنا.
محمود الوراق:
من شرف الفقر ومن فضله ... على الغنى ، لو صحّ منك النظر
أنك تعصي لتنال الغنى ... ولست تعصي الله كي تفتقر
وقال عبدان:
تبين فضل الفقر عندي على الغنى ... بواحدة فيها عزاء لذي حجر
متى متّ لم آسف على فقد نعمة ... يود الفتى من أجلها المدّ في العمر
صنوف الفقر وما يحمد منه:
قيل: الفقر على ثلاثة أقسام: فقر الخلق إلى الله وعدم الأملاك لعرض الدنيا والحرص، وهو فقر الناس إلى الناس، وهو الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم والمشار إلى فضله ما حكى عن الجنيد أنه قيل له: متى يكون الفقير مستوجباً لدخول الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام؟ فقال: إذا كان موافقاً لله تعالى، يعد فقر نعمة يخاف على زوالها مخافة الغني على زوال نعمته، وغناه مستغنياً بربه كما قال تعالى للفقراء: " الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض " .
نفي العار بالفقر:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين.وكان صلى الله عليه وسلم يستنصر بصعاليك المهاجرين. وقال صلى الله عليه وسلم: أطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء. وقال العطوي:
ما الفقر عار إنما العار الثرا والبخل
وقال رجل من بني قريع:
وكائن رأينا من غني مذمم ... وصعلوك قوم مات وهو حميد
أبو تمام:
لا يحسب الإقلال عدماً بل يرى ... أن المقل من المروءة معدم
طيب عيش مؤثر الفقر وعزته وفضله:

كان سقراط فقيراً فقال له بعض الملوك: ما أفقرك؟ فقال: لو عرفت راحة الفقر لشغلك التوجع لنفسك عن التوجع لي، فالفقر ملك ليس عليه محاسبة. وقيل له: لم لا يرى أثر الحزن عليك؟ فقال: لأني لم أتخذ ما أن فقدته أحزنني. وقال بعض الحكماء: من أحب أن تقل مصائبه فليقل قنيته للخارجات من يده، لأن أسباب الهم فوت المطلوب وفقد المحبوب، ولا يسلم منهما إنسان لأن الثبات والدوام معدومان في عالم الكون والفساد، وبهذا ألم ابن الرومي فقال:
ومن سرّه أن لا يرى ما يسوؤه ... فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقدا
حكي أنه لما غرقت البصرة أخذ الناس يستغيثون، فخرج الحسن رضي الله عنه ومعه قصعة وعصا، فقال: نجا المخفون. وقال بعض الزهاد وقد قيل له: أترضى من الدنيا بهذا؟ فقال: ألا أدلك من رضي بدون، قال: نعم. قال: من رضي بالدنيا بدلاً من الآخرة. وقيل لمحمد بن واسع رحمه الله: أترضى بالدون؟ فقال: إنما رضي بالدون من رضي بالدنيا وترك الآخرة.

طيب العيش من قنع بما رزق:
سئل الفرغاني عن الفتوة فقال: هو أن يكون في كل وقت بشرطه. وقيل لبزرجمهر: أي الناس أقل هماً؟ فقال: ليس في الدنيا إلا مهموم، ولكن أقلهم هماً أفضلهم رضا وأقنعهم بما قسم وقيل لبعضهم: من أنعم الناس عيشاً؟ فقال: من رضي بحاله ما كانت. وقيل من رضي بما قسم له كان دهره مسرورا. وقيل لابن عوف: ما تتمنى؟ فقال: أستحي أن أتمنى على الله ما ضمنه لي.
النقاد:
دنيا تخادعني كأني ... لست أعرف حالها
حظر الإله حرامها ... وأنا احتميت حلالها
ووجدتها محتاجة ... فوهبت لذتها لها
كون الدنيا عبداً لمن زهد فيها:
قال زاهد لملك: أنت عبد عبدي لأنك تعبد الدنيا لرغبتك فيها، وأنا مولاها لرغبتي عنها وزهدي فيها. ويقوي ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله أمر الدنيا فقال من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه. وقيل: من زهد في الدنيا ملكها، ومن حرص عليها أملكها. وقال الحسن رضي الله عنه: أهينوا الدنيا فوال لا هنأ ما تكون حين تهان.
أبو العتاهية:
أرى الدنيا لمن هي يديه ... عذاباً كلما كثرت لديه
تهين المكرمين لها بصغر ... وتكرم كلّ من هانت عليه
إذا استغنيت عن شيء فدعه ... وخذ ما أنت محتاج إليه
الحث على التوكل في أمر الرزق وترك الحرص:
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن في القرآن آية لو أن جميع الناس أخذوا بها لكفتهم في القناعة. قال الله تعالى: " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب " . وسئل بزرجمهر عن الرزق فقال: إن كان قد قسم فلا تعجل، وإن كان لم يقسم فلا تتعب. وقال الحسن رضي الله عنه: الحريص الجاهد واقنع الزاهد كلاهما مستوف حظه، وأكله غير منتقص ما قدر له، فعلام التهافت في النار؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً. وقيل للحارث: كيف قال ذلك والطير تغدو في طلب الرزق وتروح؟ فقال: مهلاً إن الطير يأخذ في الحوصلة وأنت لا تقنع بذلك، مع أن الطير لم يخاطب بالضمان منه لرزق، ولم ينزل عليه كتاب. وقال سهل بن وهبان: لا تكونوا للمضمون مهتمين. وقال أعرابي لآخر رآه حرصاً: يا أخي، أنت طالب ومطلوب، يطلبك طالب ولن تفوته، وتطلب ما كفيته كأنك لم تر حريصاً محروماً، ولا زاهداً مرزوقاً. وقال آخر: إنك لا تدرك أملك، ولا تسبق أجلك، ولا تغلب رزقك، ولا تعطى حظ غيرك، فعلام تهلك نفسك؟ لكل صباح صبوح، ولكل عشاء عشاء، وفي بعض كتب الله: يا ابن آدم لو أن لك الدنيا كلها لم تنل منها إلا القوت فإذا أعطيتك القوت وجعلت حسابه على غيرك ألم أكن محسناً إليك؟.
من قل تفكره في أمر الأرزاق وتوكل على الرزاق:

قيل لصوفي: من أين رزقك؟ قال: الذي خلق الرحى يأتيها بالطحين. وقيل لآخر فقال: من كدك على رغم أنفك، ربّ ساع لقاعد. وقيل لزاهد: من أين المطعم؟ فقال: من عند المنعم. فقال: هل بالقرب من يأتيك برزق من قوم؟ قال: يأتيني به من لا تأخذه سنة ولا نوم. وأتى رجل إلى شقيق البلخي يطلبه فقال امرأته: قد خرج إلى الجهاد. فقال: وما خلف عليكم؟ فقال: أرزاق شقيق أو مرزوق؟ فقال: بل مرزوق. فقالت: إن المرزوق خلف علينا الرازق، يا هذا لا تعد إلينا فتفسد على الله قلوبنا. وسئل آخر فقال:
إن الذي شق فمي ضامن لي الرزق حتى يتوفاني
وسئل أحمد بن الجلاء عن قوم يدخلون البادية بلا زاد قال: هم رجال الحق. قيل: فإن هلك أحدهم؟ قال: الدية على العاقلة. وقال عبد الواحد بن زيد: اجتزت بجبل لكام فرأيت جارية سوداء عليها جبة صوف قلت: من أين؟ قالت: من عند من لا تخفى عليه خافية. فقلت: إلى أين؟ قالت: إلى من يعلم السر وأخفى. فقلت: ليس معك زاد! فنظرت إلي شزراً وقالت:
من قصد الله لا يبالي ... بأي أرض بها يموت
ولم يخاطره فسخ عزم ... إن هو أبطأ عليه قوت
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر عنده أن قوماً من اليمن يحجون بلا زاد، فقال: أليس قد قال الله تعالى وتزودوا فإن خير الزاد التقوى؟ وقيل: عجباً لمن آمن بكتاب الله تعالى ثم رفع بعد سماعه لقوله تعالى: " وإن من شيء إلا عندنا خزائنه " حاجة إلى غير الله تعالى.

تبكيت من يشفق لفقد القوت ويبكي لضر:
شكا رجل إلى الحسن سوء الحال وجعل يبكي فقال الحسن: يا هذا كل هذا اهتماماً بأمر الدنيا، والله لو كانت الدنيا كلها لعبد فسلبها ما رأيتها أهلاً لن يبكى عليها.
كشاجم:
لا تغد كلاً واجتنب ... أمراً يخاف العبد عاره
وإذا عدمت من المآ ... كل كلها فكل الحجاره
ذم المشتغل برزق مستقبل الزمان:
قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: لا تجعل هم يومك لغدك، فإن غدك إن كان من أجلك يأتي الله برزقك. وقيل: إذا طالبتك نفسك برزق غد فقل هاتي كفيلاً بالغد.
شاعر:
إن رباً كان يكفيك الذي ... كان بالأمس سيكفيك غدك!
آخر:
ولا يكن همكم في يومكم لغد
آخر:
من كان لم يعط علماً في بقاء غد ... ماذا تفكره في رزق بعد غد
النهي عن النظر إلى من هو فوقه:
روي في الخبر: أنظر إلى من هو دونك ولا تنظر إلى من هو فوقك، فإنه أجدر أن لا تزدري بنعمة الله. وقال الضحاك: خصلة من وفق لها وفق لحظه، من نظر في دنياه إلى من هو دونه فاستكثر قليل ماله.
نهي ذي عيال عن الاهتمام برزقهم:
شكا رجل إلى الشبلي عياله فقال له: ارجع إلى بيتك، ومن لم يكن منهم رزقه على الله فأخرجه من دارك. وقيل لرجل كان كثير الحاشية: لو أخرجت بعضهم لكان يكثر مالك، فهم بذلك، فرأى ليلة في المنام كأن العيال الذي همَّ بإخراجهم يدخلون بيته ويخرجون دقيقاً يحملونه، فسألهم عن حمل ذلك فقالوا: هذا رزقنا نخرجه من دارك إلى من يتكفل بنا. فانتبه وعلم خطأ عزمه، فقارَّهم وزاد لكل منهم.
مدح من لا يدخر:
أتى عمر رضي الله عنه بمال فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: لو حبست من هذا المال في بيت المال شيئاً لنائبة. فقال: كلمة ما عرض بها إلا شيطان، لقنني الله حجتها ووقاني فتنتها، أأعصي الله العام مخافة القابل؟ أعد لهم تقوى الله قال تعالى: " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب " . ولتكونن فتنة على من بعدك.
النابغة:
ولست بخابىء لغد طعاماً ... حذار غد، لكل غد طعام
أخذه الآخر فقال:
إن كان عندك رزق اليوم فاطرحن ... عنك الهموم فعند الله رزق غد
آخر:
رزق غد يأتي معه
آخر:
لأصبرن على عسري وميسرتي ... يوماً بيوم كما تجبي العصافير
نهي من لا يعال له عن الاهتمام بالمعيشة:
قيل: لا تهمنك المعيشة ما كنت وحدك، فإن المرء يعيش بالبقلة كما يعيش بالكسرة، ويروى بالمذقة كما يروى بالضرع. وقيل: قلة العيال أحد اليسارين.
طيب عيش من لا مال له ولا عيال:
أبو حازم:
فلا ولد يروعني بسقم ... ولا مال على شرف الثواء

ولا لي صاحب أبكي عليه ... ولا عقب أخلف من ورائي
ابن عبد القدوس:
الله أحمد شاكراً ... فبلاؤه حسن جميل
أصبحت مستوراً معا ... فى بين أنعمه أجول
خلواً من الأحزان خف الظهر يقنعني القليل
حراً فلا منٌّ لمخلوق علي ولا سبيل
ونفيت باليأس المنى ... عني فطاب لي المقيل!

طيب عيش من عنده قوت يومه:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها. وقال سفيان رضي الله عنه: من كان عنده قوت يومه فليس بفقير. وقيل: من أعطي القوت فطلب مالاً كما أعطي السلامة فطلب المال، فإن المال ألم.
شاعر:
إذا ما أصبنا كل يوم مذيقة ... وخمس تميرات صغار جوائز
فنحن ملوك الناس خصباً ونعمة ... ونحن أسود الغيل عند الهزاهز
آخر:
أراني وقاروناً سويين في الغنى ... إذا كان عندي ما يزجي به الوقت
أبو العتاهية:
إذا القوت تأتى لك والصحة والأمن
وأصبحت أخا حزن ... فلا فارقك الحزن!
آخر:
إذا كان لي قوت بيومي وصحة ... فلا حال أرجو بعدها أن أنالها
ولم أتتبع رتبة إن بلغتها ... أخاف بعزل أو بموت زوالها
ذم النفس لخوف الفقر والطمع:
قيل: أهلك الناس حب الفخر وخوف الفقر.
أبو العتاهية:
رأيت النفس تحقر ما لديها ... وتطلب كل ممتنع عليها
فإن طاوعت حرصك كنت عبداً ... لكل دنيئة تدعو إليها
تبكيت شيخ يعمر دنياه:
محمود:
يا عامر الدنيا على شيبه ... فيك أعاجيب لمن يعجب
ما عذر من يعمر بنيانه ... وعمره مستهدم يخرب؟
آخر:
عجبت لتغريسي نوى النخل بعدما ... طلعت على الستين أو كدت أفعل
وما أدركت ملء الأرض ناساً فأصبحوا ... كأهل ديار أدلجوا فتحملوا
ومن الناس إلا رفقة قد تحملت ... وأخرى تقضي حاجها ثم ترحل
راحة القنع وعزته:
قال الحسن في قوله تعالى فلنحيينه حياة طيبة: إنها القناعة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الزهد في الدنيا يريح البدن، والرغبة فيها تكثر الهم والحزن. وقيل لمحمد بن واسع: أوصني. فقال: كن ملكاً في الدنيا ملكاً في الآخرة فقال: وكيف لي هذا؟ قال: ازهد في الدنيا واقنع. بزرجمهر: القنع عزيز في عاجله مثاب في آجله. محمد بن الحنفية رضي الله عنه: ما كرمت على أحد نفسه إلا هانت عليه دنياه. من حصن شهوته صان قدره.
الموسوي:
من كان يرجو نعيماً لا زوال له ... فلا تكن هذه الدنيا له شجنا
قال وهب: خرج العز والغنى يجولان فلقيا القناعة فاستقرا.
شاعر:
بلوغ المنى أن لا تكاثر بالمنى ... ونيل الغنى أن لا تنافس في الغنى
ومن كان للدنيا أشد تصوراً ... تجده عن الدنيا أشد تصونا
ثمرة القناعة الراحة وثمرة التواضع المحبة.
الموسوي:
وإني لألقى راحتي في تقنع ... وفي طلب الإثراء طول عنائيا
وله:
حسبي غنى نفسي الباقي فكل غنى ... من المغانم والأموال ينتقل
ابن نباتة:
وإن المرء ما استغنى غني ... وحاجته إلى الشيء افتقاره
غم الحريص وتعبه:
من لم يكن قنعاً لم يزل جزعاً. الرغبة مفتاح التعب وغاية النصب. وقيل: جعل الله الخير في بيت وجعل مفتاحه الزهد، وجعل الشر في كل بيت وجعل مفتاح حب الدنيا. وقال بزرجمهر: الغنى قلة التمني والرضا بما يكفي. غم الدنيا الحرص عما لعلك لا تناله. إياك والحرص فإنه يورد المشارب الكدرة، ويسف للمطاعم القذرة. وقال عمر رضي الله عنه: ما كانت الدنيا هم أحد إلا لزم قلبه أربع: فقر لا يدرك غناه، وهم لا ينقضي مداه، وشغل لا تنفد أولاه، وأمل لا يدرك منتهاه.
لا تخدم الحرص ... تعش ذا سرور
اجتاز عبد الله الصفار بسجن فقال لصاحب له: بم حبس من في السجن؟ فقال: لا أدري. فقال: غطى النعيم على قلبك في شيئين: التشفي والشره.
ذم الحرص وعزة القنع:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: حب الدنيا رأس كل خطيئة، ومن خطبها تأهب للذل. من قل قنوعه كثر خضوعه. الحر عبد إذا طمع والعبد حر إذا قنع. الطمع طبع. من صبر على الخل والبقل لم يستعبد.
إذا ما المرء لم يقنع بعيش ... تقنع بالمذلة والصغار
بينما فتح الموصلي في أصحابه إذا بصبيين معهم رغيفان: على رغيف أحدهما كامخ، وعلى رغيف الآخر عسل. فقال صاحب الكامخ لصاحب العسل: أطعمني من عسلك. فقال: أطعمك على أن تكون لي كلباً. فقال: أن كلبك! فجعل في فمه خرقة يجره بها، فالتفت فتح إلى أصحابه وقال: لو قنع هذا بكامخه لم يصر كلباً لصاحب العسل. ولقي صاحب سلطان فيلسوفاً يلتقط الحشيش ويأكله فقال له: لو خدمت الملوك لم تحتج إلى أكل الحشيش. فقال: وأنت لو أكلت الحشيش لم تحتج إلى خدمة الملوك! وقيل: يا عجباً من مسكين بقناعته سري ومن غنى بحرصه دنيء. قال عبد الصمد لأبي تمام:
لست تنفك طالباً لوصال ... من حبيب أو راغباً في نوال
أي أخي ما لحر وجهك يبقى ... بين ذل الهوى وذل السؤال؟
آخر:
أذل الحرص أعناق الرجال
أبو العتاهية:
الحرص داء قد أضر بمن ترى إلا قليلاً

طالب الدنيا متحمل للذل:
علي بن الحسين رضي الله عنهما: إنما الدنيا جيفة حولها كلاب، فمن أحبها فليصبر على معاشرة الكلاب؛ ومن ذلك أخذ ابن الحجاج:
تركت مطالب الدنيا لقوم ... دعتهم للمخازي فاستجابوا
وليس الليث من جوع بغاد ... على جيف يطوف بها كلاب
ومثله:
إنما الدنيا ومن يصبو من الناس إليها
جيفة بين كلاب قاتلوا حرصاً عليها
الحرص على فقر حاضر:
قيل في قول الله تعالى فإن له معيشة ضنكاً أنه الحرص: الحرص فقر واليأس غنى.
قد يكثر المال والإنسان مفتقر
وهذا مأخوذ من قول بعضهم وقد سئل: أفلان غني؟ فقال: لا أدري غناه ولكنه كثير المال: سأل النعمان ضمرة بن ضمرة عن الفقير فقال: الذي لا تشبع نفسه وإن كان من ذهب حلسه. وحمل رجل إلى إبراهيم بن أدهم شيئاً فقال: ألك مال؟ قال: نعم. قال: أتحب أكثر منه؟ قال: شديداً. قال: إنك فقير وأنا لا أقبل الصلة إلا من غني؛ عنى بذلك ما روي: الغنى غنى النفس.
الحرص عماد كل شر:
قال الفضيل: جعل الشر كله في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا، وجعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا. وقيل: الحرص رأس كل خطيئة. وفي الحديث: إن الصفاة الزلاء التي لا يثبت عليها قدم العلماء الطمع.
الحرص يمنع صاحبه التمتع بما خوله:
قيل: الحريص يشغله طلب ما أمل عن التمتع بم خول؛ ومن هذا أخذ كشاجم:
ومستزيد في طلاب الغنى ... يجمع لحماً ما له طابخ
ضيع أموالاً بما يرتجي ... والنار قد يطفئها النافخ
الحرص سبب التلف:
الليث: يبعث حتفه كلبه. في كتاب كليلة: من لم يرض بما يكفيه وطلب الفضول كان كالذباب الذي لا يرضى حتى يطلب الماء السائل من آذان الفيلة، فتضربه بآذانها فترديه.
إن المطامع تنصب الشبكا
ابن أبي الأسود:
قد دعاه الطمع الكا ... ذب والحرص اللجوج
صيد بالحرص وقد يصطا ... د بالحرص الزنوج
قدح الحرص في العقل:
قيل: أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع. وقال عمر رضي الله عنه: ما الخمر صرفاً أذهب لعقول الرجال من الطمع، ما أعمى النفس الطامعة عن العقبى الفاجعة. وقيل: الحرص والطمع إلهان معبودان.
عود حريص على نفسه باللائمة:
شاعر:
ولو أني رضيت مقسوم أمري ... لكفاني من الكثير القليل
آخر:
نسعى وأيسر هذا السعي يكفينا ... لولا تطلبنا ما ليس يعنينا
أبو العتاهية:
أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أني قنعت لكنت حرا
آخر:
رأيت مخيلة فطمعت بها ... وفي الطمع المذلة للرقاب
الحارثي:
حتى متى وإلى متى ... طول التمادي في اللعب؟
لا تستفيق ولا تفيق ... ولا تمل من الطلب
وقال سابق البربري:
النفس تكلف بالدنيا وقد علمت ... أن السلامة منها ترك ما فيها
أبو جرير السلمي:

كلفني حرصي على الدراهم ... خدمة من لست له بخادم
أحمد بن باريس:
أجيء به من حله وحرامه ... إلى حامد لي فيه أو غير حامد
وأشقى به من بينهم بحسابه ... وحظي في إنفاقه حظ واحد
وأنشد عبد الله الخازن لنفسه:
يا نفس يا نفس ثقي ... بالله رباً واتقي
لا تحسبي أنك إن ... لم تتعبي لم ترزقي
واقتصدي واقتصري ... فما أقل ما بقي!

نهي المرء عن جمع ما عساه لا ينفعه:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لك في مالك شريكين: الحارث والوارث: فلا تكن أخس الثلاثة نصيباً. وقال صلى الله عليه وسلم: إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو تصدقت فأمضيت، أو لبست فأبليت، وما سوى ذلك فهو للوارث. وقيل لبخيل: لم تحبس المال وتقاسي الشدة؟ فقال: خشية الفقر. فقيل: قد نزل بك الفقر بتضييقك على نفسك، ومن هنا أخذ المتنبي:
ومن ينفق الساعات في جنب ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر
وقال العطوي:
جمعت مالاً ففكر هل جمعت له ... يا جامع المال أياماً تفرقه
أبو العتاهية:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
آخر:
نرقع بعض دنيانا ببعض ... ونترك ما نرقعه ونمضي
آخر:
وما تصنع بالدنيا ... وظل الميل يكفيك
التزهيد في الإدخار للوارث والتحسر على ذلك:
قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: يا بني لا تخلف وراءك شيئاً من الدنيا، فإنك تخلفه على رجلين: رجل عمل بطاعة الله تعالى فسعد بما شقيت به، ورجل عمل بمعصيته فكنت عوناً له على ذلك، وليس أحد بحقيق على أن تؤثره على نفسك، أغبن الغبن كدك فيما نفقه لغيرك. وقال أبي لأخيه وكان مثرياً بخيلاً: يا أخي إن مالك إن لم يكن لك كنت له، فلا تبق عليه فإنه لا يبقي عليك، وكله قبل أن يأكلك. قال الخليل: لم ير الرجل يجمع المال إلا لثلاثة أنفس، وهم أبغض خلق الله إليه: لزوج امرأته، وامرأة ابنه، وزوج ابنته. وقيل: المأكول للبدن والموهوب للشكر، والمدخر والمحفوظ للعدو. وقيل: لا تكن ممن يفضحه يوم موته ميراثه، ويوم حشره ميزانه. وقال جعفر بن يحيى: شر مالك ما لزمك مكسبه، وحرمت أجر إنفاقه.
أبو الشيص:
يقول الفتى: ثمرت مالي، وإنما ... لوارثه ما ثمر المال كاسبه
يحاسب فيه نفسه بحياته ... ويتركه نهباً لمن لا يحاسبه
آخر:
بقيت مالك ميراثاً لوارثه ... فليت شعري ما أبقى لك المال؟
القوم بعدك في حال تسرهم ... فكيف بعدهم حالت بك الحال؟
ملوا البكاء فيما يبكيك من أحد ... واستحكم القيل في الميراث والقال
آخر:
هالوا عليه التراب ثم انثنوا ... عنه وخلوه وأعماله
لم ينقض النواح من داره ... عليه حتى اقتسموا ماله
آخر:
إذا كنت جمّاعاً لمالك ممسكاً ... فأنت عليه خازن وأمين
تؤديه مذموماً إلى غير حامد ... فيأكله عفواً وأنت دفين
النمر بن تولب:
وذي إبل يسعى ويحسبها له ... أخي نصب في سقيها ودؤوب
غدت وغدا رب سواه يسوقها ... وبدل أحجاراً وجال قليب
أبو العتاهية:
ومن الحزم أن أكون لنفسي ... قبل موتي فيما ملكت وصيا
أوصى رجل اكتب: ترك فلان ما يسؤوه وينؤوه مالاً يأكله وارثه ويبقي عليه وزره. وقيل لرجل أشرف وكان قد جمع مالاً ولم يكن له ولد فقال: حصلت لغير الولد حسرة الأبد. وكان هشام بن عبد الملك حبس عياض بن مسلم، كاتب الوليد بن يزيد، وضربه وألبسه المسوح، فلم يزل محبوساً مدة ولاية هشام، فلما ثقل هشام وصار في حد من لا يرجى أرسل عياض إلى الخزان أن احفظوا ما في أيديكم، فأفاق هشام وطلب شيئاً فلم يؤت به فقال: ترانا كنا خزاناً لغيرنا، فخرج عياض من الحبس فختم الباب، وأمر بهشام فأنزل عن فراشه ومنع أن يكفن من الخزانة، فاستعير قمقم أغلي الماء فيه له فقال الناس: إن في هذا لعبرة لمن اعتبر.
الموسوي:
وما جمعي الأموال إلا غنيمة ... لمن عاش بعدي واتهام لرازقي

وفي الحديث: ما أعطي عبد شيئاً من عرض الدنيا إلا قيل له خذه وضعفيه حرصاً. وقال بعض الحكماء: الدنيا كالماء المالح كلما ازداد الإنسان منه شرباً ازداد عطشاً.
محمود الوراق:
أراك يزيدك الأثراء حرصاً ... على الدنيا كأنك لا تموت
فهل لك غاية إن صرت يوماً ... إليها قلت: حسبي قد غنيت!
وقيل: مريد الدنيا كشارب الخمر قليلها يدعو إلى كثيرها. المستغني بالدنيا عن الدنيا كمطفىء النار بالتبن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلى التراب ويتوب الله على من تاب. وقال أيضاً: منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا. وقال بعضهم:
غنى النفس ما يكفيك من سد حاجة ... فإن زاد شيئاً عاد ذاك الغنى فقرا
وقال ابن نباتة:
كلما يفضل الكفاف فضول

التحذير من طول الأمل وقرب الأجل:
كما من مستقبل يوماً ليس بمستكمله، ومنتظر غداً ليس من أجله، ولو رأيتم الأجل ومروره لأبغضتم الأمل وغروره. وكان الحسن رضي الله عنه إذا نعي له دنيوي يقول: شقي والله ما بقيت له الدنيا ولا بقي لها. ولو ظهرت الآجال لافتضحت الآمال. من جرى في عنان أمله عثر لا شك في أجله. كم منية جلبت منيه.
بقاء الأمل وازدياده مدة بقاء الأجل:
قيل:
الآمال لا تنتهي والحي لا يكتفي ... المرء ما دام حيا خادم الأمل
وفي الخبر: يهرم ابن آدم ويشب معه اثنان: الحرص والأمل؛ أخذه المتنبي فقال:
وفي الجسم نفس لا تشيب لشيبه ... ولو أن ما في الوجه منه حراب
يغر مني الدهر ما شاء غيرها ... وأبلغ أقصى العمر وهي كعاب
وقيل للمسيح: ما بال المشايخ أحرص على الدنيا من الشبان؟ فقال: لأنهم ذاقوا من طعم الدنيا ما لم يذقه الشبان.
حاجة الحي لا تنقطع:
قال الله تعالى: " لقد خلقنا الإنسان في كبد " ؛ قيل: معناه يكابد مضايق الدنيا ما دام حياً.
بعضهم:
وحاجة من عاش لا تنقضي
عبدة بن الطبيب:
والمرء ساع لأمر ليس يدركه ... والعيش شخ وإشفاق وتأميل
وأنشد ذلك عمر رضي الله عنه فأخذ يكرره ويعجب من صحة تقسيمه.
آخر:
النفس لا تنقضي مآربها
آخر:
والمرء تواق إلى ما لم ينل
الموصلي:
المرء ما عاش لا يزال له ... في نفس حاجة يطالبها
لبيد:
إذا المرء أسرى ليلة خال أنه ... قضى عملاً والمرء، ما عاش، عامل
قلة وجود الزهد:
سمع بعضهم رجلاً يقول: أين الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة؟ فقال: اقلب وضع يدك على من شئت. قال:
وقلما تجد الراضين بالقسم
وقيل: لم يقسم الله شيئاً بين العباد أقل من الزهد واليقين.
التخويف من النفس والشهوة والإستعاذة منهما:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الهوى إله معبود. الخائف من يخاف نفسه أكثر مما يخاف عدوه. ابن مسعود رضي الله عنهما: اللهم إني أستعيذك على نفسي عدوي ولا عقوبة فيها. وقال أعرابي لرجل: كبت الله كل عدو لك إلا نفسك! وقال صوفي: من توهم أن له عدواً أعدى من نفسه قلّ علمه بنفسه. وقال يحيى بن معاذ رضي الله عنه: من سعادة المرء أن يكون خصمه عاقلاً وخصمي لا عقل له، فقيل له: ومن خصمك؟ فقال: نفسي فأي عقل لها وهي تبيع الخلود في الجنة بشهوة ساعة؟ من سامح نفسه فيما تحب أتعب جوارحه، وفقد من الراحة حظه. من كثرت شهوته دامت هفوته.
شاعر:
ولم تتغالب شهوة ومروءة ... فيفترقا إلا وللشهوة الغلب
آخر:
شهوات الإنسان تكسبه الذل وتلقيه في البلاء الطويل
الحث على قدع النفس:

ابن المقفع: أعظم الجهاد جهاد المرء نفسه لقول الله تعالى: " إن النفس لأمارة بالسوء " . قال عمر رضي الله عنه: جاهدوا أنفسكم كما تجاهدوا أعداءكم. وكان الحجاج يقول على المنبر: اقدعوا هذه النفس فإنها طلعة. وقال الجنيد رحمه الله تعالى: لا تسكن إلى نفسك وإن دامت طاعتها، فإن لها خدائع، ومتى سكنت إليه فأنت مخدوع. وسئل انوشروان: أي الأشياء أحق بالاتقاء! قال: أعظمها مضرة. قال: فإن جهل قدر المضرة؟ قال: أعظمها من الهوى نصيباً، فالهوى للنفس البهيمية والرأي للنفس الإنسانية. قال بعض الحكماء: قبيح للرجل إن يركب الفرس فيكون الفرس هو الذي يدبر الفارس. وأقبح من ذلك أن تكون هذه النفس التي ألبسناها هي التي تدبرنا لا نحن ندبرها. قال شاعر:
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال
أبو العتاهية:
إذا طاوعت نفسك كنت عبداً ... لكل دنيئة تدعو إليها
عبيد العنبري:
يعد الفتى أعداءه وصديقه ... ونفس الفتى أعدى عدو يحاوله
آخر:
إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه ... ولم ينه قلباً غاوياً حيث يمما
قضى وطراً منه وغادر سبة ... إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
آخر:
وأنت إذا أعطيت فرجك سؤله ... وبطنك نالا منتهى الذم أجمعا
وقد مضى بعض ذلك في موضع آخر.

النفس تنبسط إذا بسطت وتنقدع إذا قدعت:
منصور بن عمار: عوّد نفسك الخير فإن النفس عروف ألوف، واعتبر أنك إذا أصبحت مفطراً طمعت في الغذاء، وإذا أصبحت صائماً يئست منه.
أبو ذؤيب:
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
بعضهم: لا تحدث نفسك بالفقر وطول البقاء، ولكن حدثها بالكفاف والغناء.
أبو العتاهية:
اقنع لنفسك ترضها ... واملك هواك وأنت حر
آخر:
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن طمعت تاقت وإلا تسلت
مدح قادع نفسه عن الشهوات:
قد مدح الله قادع نفسه عن الشهوات فقال: " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى " . قال أبو حازم: ما احتجت إلى شيء مما يستقرض إلا استقرضته من نفسي. وقال ملك لعابد: ما منعك أن تخدمني وأنت عبدي؟ فقال: لو صدقت نفسك لعلمت أنك عبد عبدي! فقال: كيف؟ قال: لأني ملكت الشهوة فهي عبدي، وقد ملكتك فأنت عبدها! فقال: صدقت.
أشجع:
تجافى عن الدنيا فقد فتقت له ... خواصرها واستقبلته أمورها
آخر:
وخلى عن الدنيا وقد فُرشت له ... محفلة أخلافها لم تصرم
مدح متظلف عن مال غيره متبرع بماله:
وصف أعرابي رجلاً فقال: هو بماله متبرع وعن مال غيره متورع.
شاعر:
أبو مالك قاصر فقره ... على نفسه ومشيع غناه
آخر:
وإني لعف الفقر مشترك الغنى
وقال إبراهيم بن العباس:
يعرف الأبعد إن أثرى ولا ... يعرف الأدنى إذا ما افتقرا
آخر:
فتى إن هو استغنى تخرق في الغنى ... وإن قل مالاً لم يضع سنة الفقر
قال ابن أبي ليلى لابن شبرمة: أما ترى هذا الحائك لا نفتي في مسألة إلا خالفنا فيها؟ يعني أبا حنيفة رضي الله عنه. فقال: ابن شبرمة: لا أدري حياكته. ولكني أعلم أن الدنيا غدت إليه فهرب منها، وهربت منا فطلبناها.
ذم إظهار الفقر والنهي عنه:
قيل أشد الأشياء مؤونة الفاقة، وأشد من ذلك الاستكانة إلى من لا يجبرها. وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: رضي بالذل من كشف ضره. وقال حكيم: استتر من الشامتين بحسن العزاء عند النوائب. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من هداه لله للإسلام وعلمه القرآن ثم شكا الفاقة كتب الفقر بين عينيه إلى يوم القيامة، ثم تلا قوله تعالى: " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون " . بزرجمهر: لم أر ظهيراً على تقلب الدول كالصبر: ولا مذلاً للحاسد كالتجمل. وسئل متى يفحش زوال النعمة؟ فقال: إذا زال معها حسن التجمل.
زيد الفوارس:
ألم تعلمي أني إذا الدهر مسني ... بنائبة زلت ولم أتترس
مدح صابر على فقره صائن لنفسه:
كثير:
إذا قل مالي زاد عرضي كرامة ... علي ولم أتبع دقاق المطامع

خليفة بن مر:
إنا إذا حطمة حتت لنا ورقاً ... نكابد العيش حتى ينبت الورق
آخر:
وكم أزمة للدهر ألقت جرانها ... علي فلم تهتك مذلتها ستري
ابن هرمة:
واصرف عن بعض المياه مطيتي ... إذا أعجبت بعض الرجال المشارع

المتسلي عما يذهب له من المال:
أصيب أعرابي بزرع لم يكن له غيره وكان بقفر خلاء فقال: يا رب اصنع ما شئت فرزقي عليك. وقيل: إذا سلمت النفس فالمال هدر. ودخل على علي بن الجهم صديق له وقد أخذ كل ماله وهو يضحك فقال له في ذلك فقال: لأن يزول مالي وأبقى أحب إلي من أن أزول ويبقى مالي.
شاعر:
نعمة كانت على قو ... م زماناً ثم زالت
هكذا النعمة والإنسان مذ كان وكانت
تسلب النعمة أو يخرج منها إن أقامت
البيت الأخير كالخبر المتقدم.
عف الفقر مشترك الغنى:
جرير:
وإني لعف الفقر مشترك الغنى ... سريع إذا لم أرض داري انتقاليا
عمرو بن سراقة:
ولست بولاج البيوت لفاقة ... ولكن إذا ما استغنيت عنها ولجتها
ابن أبي فنن:
ليس لي في العلا شريك ولا الفقر ولي في الثراء ألف شريك
ولهذا باب في الأخوانيات.
مدح صابر على الجوع:
قيل لبعضهم: إنك قد أطلت جوعك فكيف ترى ذلك؟ فقال: نعم الغريم الجوع، كلما أعطى شيئاً رضي.
الخبزارزي:
يطوى إذا ما الشح أبهم فعله ... بطناً من الزاد الخبيث خميصا
آخر:
إذا مطعمي كان ذا غصة ... غسلت يدي من قبل اكتفائي
آخر:
لأكلة بجريش الملح تأكله ... ألذُّ من ثمرة تحشى بزنبور
وذكر بعض ذلك في فصل الأكل.
فقير عرض عليه مال فتزهد فيه:
لما رجع الرشيد عن الحج كان قد نذر أن يتصدق بألف دينار على أحق من يجده، فدفع يوماً ألف دينار إلى بعض ثقاته وأمره أن يطلب فقيراً مستحقاً فيعطيه، فأخذ يطوف في الأسواق، فإذا رأى فقيراً مستحقاً للإعطاء قال: لعلي أجد أفقر منه، فانتهى بالعشي إلى عريان محلوق الرأس في خربة فقال في نفسه: لا أجد أفقر من هذا. فقال: يا فتى خذ هذا المال واستغن به. فقال: لا حاجة لي فيه. قال: أحب أن تأخذه. قال: إن كان ولا بد فثم حجام حلق رأسي، ولم يكن معي شيء فأدفعه إليه. قال: فقصدت الحجام فامتنع من أخذه، فقلت: هو ألف دينار! فقال: ما حلقت رأسه إلا للوثاب فلا آخذه عليه أجرة. قال: فعدت وما وجدت أكرم منهما وأهون مني، فأخبرت الرشيد بأمرهما فبعثني في طلبهما، فكأن الأرض ابتلعتهما ولم أظفر بهما، ولما حج الرشيد دخل على الفضيل فوعظه بما وعظه، وأراد الخروج فقال: يا فضيل هل عليك دين؟ فقال: نعم دين ربي لو يحاسبني عليه، فالويل لي إن حاسبني عليه، والويل لي إن ناقشني. فقال الرشيد: إني أسألك عن دين العباد. فقال: عندنا بحمد الله خير كثير لا نحتاج معه إلى ما في أيدي الناس. قال: هذه ألف دينار فاستعن بها. فقال: يا حسن الوجه أدلك على النجاة وتكافئني بالهلاك، أسأل الله التوفيق! فلما خرج عاتبته بنيته فقالت: لو أخذتها فاستعنا بها. فقال: إن مثلي ومثلكم مثل قوم كان لهم بعير يكدونه ويأكلون من كسبه، فلما كبر وسقط عن العمل نحروه فأكلوه. ومر الإسكندر ببلد كان ملكه سبعة ملوك من صلب واحد ففنوا، فقال لأهله: هل بقي من نسل الأملاك السبعة أحد؟ قالوا: نعم رجل يكون في المقابر. فقصده وقال: ما دعاك إلى ملازمة المقابر؟ فقال: أردت أن أعزم عظام الملوك من عظام عبيدهم، فوجدت عظامهم سواء. قال: لهل لك أن تبتغي فأحيي لك شرف آبائك إن كان لك همة؟ قال: إن همتي عظيمة إن كانت بغيتي عندك. قال: وما بغيتك؟ قال: حياة لا موت فيها، وشباب لا هرم فيه، وغنى لا فقر بعده، وسرور لا يغيره مكروه. فقال: لا أقدر من رأيت. فقال: امض لشأنك ودعني أطلب بغيتي ممن عنده ذلك. قال الإسكندر: هذا أحكم من رأيت. وقف أعرابي على محمد بن معمر وكان محمد جواداً، فسأله فخلع خاتمه ودفعه إليه، فلما ولى قال: يا أعرابي لا تخدعن عن هذا الفص فإن شراءه علي مائة دينار. فمضغ الأعرابي الخاتم وقلع فصه وقال: دونكه فالفضة تكفيني أياماً. فقال: هذا والله أجود مني.
التحذير من مخالطة الأغنياء:

أبو الدرداء عن النبي عليه الصلاة والسلام: إياكم ومجالسة الأموات. قالوا: ومن الأموات؟ قال: الأغنياء. وقال الثوري: إياكم وجيران الأغنياء وقراء الأسواق وعلماء الأمراء. وقال خباب في قول الله تعالى ولا تعد عيناك عنهم: نزلت إلى الفقراء. وقال عمر رضي الله عنه: لا تدخلوا بيوت الأغنياء فإنها مسخطة للزرق. وقال سوار لأولاده: لا تعاشروا المهالبة، فإنكم إذا رأيتم نعمتهم تسخطتم ما قسم لكم. وقيل: لا تصحب غنياً فإنك إن ساويته في الإنفاق أضر بك، ون تفضل عليك استذلك. ووقف بعض المجانين على قوم لهم بعض يسر فقال:
سلامة الدين والدنيا فراقكم ... وحبكم آفة الدنيا مع الدين
وجاء أبو محمد السمرقندي إلى الفضيل ومعه أولاد البرامكة، وعليهم قمص لها جربانات عراض، فسألوه أن يحدثهم فامتنع فقام مغضباً فقال الفضيل: ردوه. فردوه فقال: بلغنا أن عيسى صلوات الله عليه فأل تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقربوا إليه بالتباعد عنهم، والتمسوا رضاه بسخطهم. فقيل: يا روح الله فمن نجالس؟ فقالوا: من تذكركم الله رؤيته ويزيد في علمكم منطقه وترغبكم في الآخرة مجالسته، قم فقد حدثتك.
متزهد اضطراراً لا اختياراً:
قيل لرجل: أزهدت؟ فقال: زهدي اضطراري.
الموسوي:
زهدت وزهدي في الحياة لعلة ... وحجة من لا يبلغ الأمل الزهد
وله:
قالوا: أتقنع بالدون الخسيس؟ وما ... قنعت بالدون بل قنعت بالدون
أخي من باع دنياه وزخرفها ... بصوفة كان عندي غير مغبون
ابن الرومي:
أنا الرجل المدعو عاشق فقره ... إذا لم تكارمني صروف زماني
بعضهم:
إذا المرء لم يقدر له ما يريده ... تحمل ما يقضى له، شاء أم أبى
وهذا نحو: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.

اعتبار ديانة المرء بزهده في المال وحرصه عليه:
روي في الخبر: لا تنظروا إلى صوم الرجل وصلاته، وانظروا إلى طمعه إذا أشرف، وفي عكس ذلك قيل لعمر بن عبد العزيز: فلان عفيف عن الدراهم. فقال: الشيطان أعف منه، لا يمس قط درهماً ولا ديناراً!
الحد التاسع
في الاستعطاء والعطاء
مما جاء في قصد أولي الآمال
المأمول مقصود:
شكا الفضل بن سهل إلى الزبير بن بكار كثرة من يقتفي بابه للحوائج فقال: لا عليك إن أحببت إن لا يلتقي ببابك اثنان، فاعتزل ما أنت فيه من عمل السلطان، فإن نعم الله جاءت إليك ثم أنشده:
من لم يواس الناس من فضله ... عرّض للإدبار إقباله
فقال: صدقت وبررت. وسئل رجل عن فضل بعض الأكابر فقال: أما ترى ازدحام الناس على بابه وكثرة قصاده وطلابه؟ أشجع:
على باب أبي منصور ... علامات من البذل
جماعات وحسب البا ... ب فضلاً كثرة الأهل
بعضهم:
يزدحم الناس على بابه ... والمنهل العذب كثير الزحام
الممدوح بكثرة القصاد:
زهير:
قد جعل المبتغون الخير في هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا
أبو نواس:
ترى الناس أفواجاً إلى باب داره ... كأنهم رجلاً دبى وجراد
حسان:
يغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
وقال أعرابي: قصدت فلاناً فوجدت بابه كعرصة المحشر، يهوي إليه كل معشر، فداره مجمع العفاة ومربع المكرمات، حاضرة الجود والحسب.
وهب الهمداني:
فتى داره معمورة بعفاته ... ومجلسه بالمكرمات منجد
قال الجاحظ: كان العلماء يستجيدون بيت الأعشى:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرق
تشبّ لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلّق
حتى قال الحطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
فحينئذ فضلوا هذا وصار لحسنه ناسخاً لبيت الأعشى.
من دعا العفاة إليه كثرة الثناء عليه:

دخل رجل على أبان بن الوليد فقال: أصلح الله الأمير أحفيت إليك الركاب، وقطعت العقاب وأخلقت الثياب. فقال أبان: ما دعاك إلى ذلك أقرابة أم جوار عشرة متقدمة أم وصلة متأكدة؟ فقال: لم يكن من ذلك شيء ولكني سمعت الناس ينشدون بيتاً قلته فيك فعلمت فيك خيراً وهو:
وما شيم لي برق وإن كان نازحاً ... فيحلف إذ بعض البوارق خلّب
فأمر له بجمال ومال. ولما قصد الرمة بلال بن أبي بردة وأنشده:
سمعت الناس ينتجعون غيثاً ... فقلت لصيدح: انتجعي بلالا!
وصيدح: اسم ناقته. قال: يا غلام اعلفها قتاً ونوى.
بشار:
دعاني إلى عمر جوده ... وقول العشيرة: بحر خضم!
ولولا الذي خبّروا لم يكن ... لأحمد ريحانة قبل شم
الموسوي:
دعاني إليك العز حتى أجبته ... ومن طلبته جمة الماء أوردا

قصد من يتلقى زائرة النجاح:
بعضهم:
أتينك لم يزجرن دونك سانحاً ... ولا بارحاً إلا وهنّ سعود
المتنبي:
ولو سرنا إليه في طريق ... من النيران لم نخف احتراقا
القاضي علي بن عبد العزيز:
كلً الزمان إذا أفضى تصفه ... إليك وقت نزول الشمس في الحمل
ابن أبي طاهر:
بلغت مرادي واطمأنّت بي النّوى ... وقال لي الوراد: أعشبت فأنزل!
أعرابي:
كلّ أيامه توالت علينا ... بسعود بلغننا ما نوينا
لم يكن دهره كما قيل في الأمثال: يوم لنا ويوم علينا
من أطمع مخلفيه في نوال من يعتفيه:
قال أبو عثمان المازني: أشخصني الواثق فلما دخلت عليه سألني عن اسمي فقلت: بكر بن محمد، فقال: هل لك من ولد؟ قلت: نعم بنية. قال: فما قالت لك حين فارقتها؟ قال: أنشدتني بيت الأعشى:
فيا أبتا لا ترم عندنا ... فأنا بخير إذا لم ترم
أرانا إذا أضمرتك البلا ... د نجفى ويقطع منا الرحم
قال: فبم أجبتها؟ قلت: ببيت جرير:
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح
فقال: أعطوه ألف دينار. وقال أبو نواس:
تقول التي من بيتها خفّ مركبي: عزيز علينا أن نراك تسير
أما دون مصر للفتى متطلب؟ بلى إن أسباب الغنى لكثير
ذريني أكثر حاسديك برحلة ... إلى بلد فيه الخصيب أمير
فتى يشتري حسن الثناء بماله ... ويعلم أن الدائرات تدور
فما جازه جود ولا حلً دونه ... ولكن يسير الجود حيث يسير
من يهين أو يكرم مركوبه إذا بلغ مطلوبه:
الشماخ:
إذا بلّغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
قد استقبح الناس هذا المعنى وقالوا: بئسما جازاها. وهذا مثلما قال النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة التي ركبت بعير النبي صلى الله عليه وسلم وتخلصت به فقالت: يا رسول الله إني نذرت إن خلصني الله به لأنحرنه. فقال صلى الله عليه وسلم: بئسما جازيته لا نذر في مال غيرك! وقال أبو نواس معارضاً للشماخ:
أقول لناقتي إذ بلّغتني: لقد أصبحت عندي بالثمين
فلم أجعلك للغربان نحلا ... ولا قلت أشرقي بدم الوتين
آخر:
وإذا المطي بنا بلغن محمدا ... فظهورهنّ على الرجال حرام
قربننا من خير من وطىء الثّرى ... فلها علينا حرمة وذمام
من ذكر أنه تحمل تعباً في قصد معتفاه:
دخل رجل على معاوية فقال: هززت ذوائب الرحال إليك إذ لم أجد معولا إلا عليك، أمتطي إليك والاجتهاد بعد النهار واسم المجاهل بالآثار، يقودني نحوك رجاء ويسوقني إليك بلاء، والنفس مستبلئة لي والاجتهاد عاذر إذا بلغتك فقط: فقال: احطط رحالك وقوّ آمالك وكن على ثقة بالأنصاف والإسعاف. وقدم وفد بني تميم على عبد الملك وفيهم عمرو بن عتبة فقال: يا أمير المؤمنين نحن من تعرف وحقنا لا ينكر، وجئناك من بعيد ونمت بقريب، وما تعطينا من خير منحن أهله، وما ترى من جميل فأنت أصله. فضحك عبد الملك وقال: يا أهل الشأم قومي وهذا كلامهم!
الراغب عن كل نعمة دون بلوغ مجتداه:
طريح:
قصدتك عارياً من كل من ... لكل الخلق في كل المعاني

فلو دنياي قابلني غناها ... بغيرك ما ثنيت لها عناني
سعد بن ضمضم:
أظل أدعو باسمه ودونه ... قوم كرام رغبة تركتهم
تخيروا فاخترته عليهم ... وما بهم بأس لا ذممتهم
ابن الرومي:
جعلت على ملوك الأرض طراً ... محار مطيتي وعليه حبسي
المتنبي:
قواصد كافور توارك غيره ... ومن ورد البحر استقل السواقيا
فجاءت به إنسان عين زمانه ... وخلت بياضاً خلفها وأماميا
فتأتي له جود معنى بقوله إنسان عين زمانه لجودة المعنى، ثم لموافقة كون ممدوحه أسود. وله يخاطب ناقته:
أمي أبا الفضل المبر أليتي ... لأيممن أجل بحر جوهرا
تركت دخان الرمث في أوطانها ... طلباً لقوم يوقدون العنبرا
ومثله الأسدي:
إليك أمير المؤمنين رحلتها ... من الطلح نبغي منبت الزرجون
الموسوي:
أتيت وفي كفي خطام نجيبة ... مدفعة في كل قرب إلى بعد
فما خدعتها روضة عن مسيرها ... ولا لمع معسول تطلع من ورد
إذا لحظت ماء جذبت زمانها ... وقلت: ارغبي بالقل عن مورد ثمد
آخر:
كرام نقصت الناس لما بلغتهم ... كأنهم ما جف من زاد قادم
قصد من طاب في فنائه الزمان والحياة: ابن الرومي:
أريد مكاناً من كريم يصونني ... وإلا فلي رزق بكل مكان
المتنبي:
وما رغبتي في عسجد استفيده ... ولكنها في مفر أستجده
وله:
إذا نلت منك الجاه فالمال هين ... وكل الذي فوق التراب تراب
من قصد سلطاناً سائلاً لقومه:
أتى عبد العزيز بن زرارة باب معاوية، فلما أذن له وقف بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين دخلت إليك بالأمل، واحتملت جفوتك بالصبر، ورأيت قوماً أدناهم منك الحظ، وآخرين باعدهم منك الحرمان، فليس للمقرب أن يأمن ولا للمبعد أن ييأس. وقال زياد بن أبيه: أشخصت قوماً إليك الرغبة، وأقعدت آخرين عنك المعاذير، وقد جعل الله في سعة فضلك ما يجبر المتخلف ويكافىء الشاخص، والخير دليل على أهله، والخصب منتجع في مظانه. وقيل: أصاب القوم مجاعة في عهد هشام، فدخل إليه وجوه الناس من الأحياء وفي جملتهم درواس بن حبيب العجلي، وعليه جبة صوف مشتمل عليها بشملة، قد اشتمل بها الصماء، فنظر هشام إلى جابه نظر لائم في دخول درواس إليه وقال: أيدخل علي كل من أراد الدخول؟ وكان درواس مفوهاً، فعلم أنه عناه فقال درواس: يا أمير المؤمنين ما أخل بك دخولي عليك، ولقد شرفني ورفع من قدري تمكني من مجلسك، وقد رأيت الناس دخلوا لأمر أعجموا عنه، فإن أذنت في الكلام تكلمت. فقال هشام: لله أبوك! تكلم فما أرى صاحب القوم غيرك. فقال: يا أمير المؤمنين تتابعت علينا سنون ثلاث: أما الأولى فأذابت الشحم، وأما الثانية فأكلت اللحم، وأما الثالثة فانتقت المخ ومصت العظم، ولله في أيديكم أموال، فإن تكن لله فأعطفوا بها على عباد الله، وإن تكن لهم فعلام تحبسونها عنهم؟ وإن تكن لكم فتصدقوا عليهم، فإن الله يجزي المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين. فقال هشام: لله أبوك! ما تركت واحدة من ثلاث. وأمر بمائة ألف دينار فقسمت في الناس، وأمر لدرواس بمائة ألف درهم فقال: يا أمير المؤمنين ألكل رجل من المسلمين مثلها؟ قال: لا ولا يقوم بذلك بيت المال. فقال: لا حاجة لي فيما يبعث على ذمك. فلما عاد إلى داره أمر بذلك فبعث إليه فقسم تسعين ألف درهم في تسعة من أحياء العرب، وحبس عشرة آلاف درهم، فبلغ ذلك هشاماً فقال: لله دره إن صنيعة مثله تبعث على الاصطناع!

من رغب في الإيناس والبسط منه:
قال العتابي: دخلت على المأمون فسلمت فأجلسني وقال لي: تكلم. فقلت: يا أمير المؤمنين الإيناس قبل الابساس. قال: إن ذلك من أقل من نوحيه. قال: ثم أقبل علي أحمد بن هشام يحدثه، فلما اطمأن بي المجلس ذهبت لأتكلم، فقال المأمون: إن أحب شيء إلينا اليوم أن نبسطك بالحديث النادر، والكلام الطيب والعشرة الرضية، فوا لله لقد أعطاني من نفسه ما لم يعط أحد ممن شاهدت وعاشرت.
من قصد سلطاناً فحثه على اصطناعه:
ابن الرومي:

زني القوم حتى تعرفي عند وزنهم ... إذا رفع الميزان كيف أميل
جرير، وهو من أبياته الرائقة وأشعاره الجيدة:
إذا سركم أن تمسحوا وجه سابق ... جواد فمدوا وابسطوا من عنانيا
ألا لا تخافا نبوتي في ملمة ... وخافا المنايا أن تفوتكما بيا
المتنبي:
فكن في اصطناعي محسناً ومجرباً ... يبن لك تقريب الجواد وشده
إذا كنت في شك من السيف فأبله ... فإما تنفيه وإما تعده
ومن الصارم الهندي إلا كغيره ... إذا لم يفارقه النجاد وغمده

من عاتب صاحبه في قلة معرفته بفضله:
ابن الرومي:
قومتني غير قيمتي غلطاً ... شاور ذوي الرأي تعرف القيما
ابن نباتة:
اشدد يديك بي الغدا ... ة فإنني علق المضمنه
آخر:
ليس لن ناقد فينقده ... وآفة التبر ضعف منتقده
آخر:
ومثلك ليس بجهل حق مثلي ... ومثلي لا تضيعه الكرام
مما جاء في السؤال
الاستغناء بالله عن الناس:
قال أعرابي: اطلب الرزق من حيث كفل لك، فالمتكفل بن أمين، ولا تطلبه من طالب مثلك لا ضمان لك عليه. وشكا رجل ضيقاً فقال له الحسن: شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك. وقال هشام لرجل في بيت الله: سلني. فقال: لا أسأل في بيت الله غيره.
شاعر:
لا تسل الناس وسل من أنت له
وسأل بعض الزهاد صديقاً له شيئاً لشدة الأمر به، فأعطاه صديقه وقال: يا أخي في ثقتك بحسن عائدة الله عليهم كفاية لهم. فقال: لا حاجة لي بالمال فقد استغنيت بهذا المآل.
التحذير من سؤال الناس:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: المسألة كدوح أو خدوش أو خموش في وجه صاحبها. وقال صلى الله عليه وسلم: إن أحدكم يخرج بمسئلته من عندي متأبطاً وما هي إلا النار. فقال عمر رضي الله عنه: ولم تعطيه وهي له نار فقال: يأبون إلا أن يسألوا ويأبى الله لي البخل. وقيل: إياك وطلب ما في أيدي الناس، فإنه فقر حاضر. ابن المقفع: السخاء سخاءان بما في يد غيرك، وهو أمحض في الكرم وأبعد من الدنس، ومن جمعهما فقد استكمل الفضل. وقيل: من لم يستوحش من ذلك السؤال لم يأنف من ذل الرد. وقيل: جل في عينك من استغنى عنك. قال:
متى ترغب إلى الناس ... تكن للناس مملوكاً
آخر:
إن الغني عن لئام الناس مكرمة ... وعن كرامهم أدنى إلى الكرام
عابدة المهلبية:
لا تسألن المرء ذات يديه ... فيحقرنك من رغبت إليه
المرء ما لم ترزه لك مكرم ... فإذا رزأت المرء هنت عليه
آخر:
استغن ما استطعت عن أخيك ولو ... أعشب كل البلاد عن مطره
وقيل: إياك والمسألة فإنها آخر كسب المرء. قال:
وذقت مرارة الأشياء جمعا ... فما طعم أمر من السؤال!
آخر:
ذل السؤال وثقل الشكر ما اجتمعا ... إلا أضرا بماء الوجه والبدن
المخزومي:
ما أبعد المكرمات عن رجل ... على نوال الرجال يتكل
آخر:
إن السؤال يريد وجه حديد
ومما يدخل في هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرف عليه ولا سائل فخذه، ومالا فلا تتبعه نفسك.
النهي عن سؤال من تعوده:
شاعر:
فإن كنت لا بد مستطعماً ... فمن غير من كان يستطعم؟
آخر:
ولا تطلبن المال ممن أفاده ... حديثاً، ومن لم يورث المال وارثه
وقيل: إدخالك اليد في فم التنيين أسهل من سؤال دنيء تعود المسألة. ولعابدة المهلبية:
إذا ما طلبت نوال الفتى ... وقد نالك الدهر من شده
فلا تسألن فتى كالحاً ... أصاب الرياسة من كده
عذر من سأل سائلاً:
قال ابن بابك:
إني إذا شئت أن أكدي ... حوشيت، كديت من مكد
تشفعت حرمة التساوي ... وكان ردي من التعدي
أصبحت لا عند لي، ولكن ... ما عند مولاي فهو عندي
آخر:
شاعر يطلب رزقاً ... من أخي شعر مكد
جعل الريح إلى الريح ... فتى يطلب رفدي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11