كتاب : محاضرات الأدباء
المؤلف : الراغب الأصفهاني

خرج لهبي في حاجته ومعه سقاء لبن فسار صدر نهاره ثم عطش فأناخ راحلته ليشرب، فإذا بغراب ينعب فأثار راحلته ومضى، فلما أجهده العطش أناخ راحلته ليشرب، فنعب الغراب وتمرغ في التراب، فضرب الرجل سقاءه بسيفه فإذا فيه أسود سالخ! وبنو أسد موصوفون بالعيافة. وقال الأصمعي: قيل إن نفراً من الجن تذاكروا والعيافة من بني الأسد فأتوهم، فقالوا ضلت لنا ناقة، فأرسلوا معنا من يعيف، فقالوا لغليم منهم انطلق معهم، فاستردفه أحدهم فساروا فلقيهم عقاب كاسرة إحدى جناحيها، فاقشعر الغلام وبكى فقالوا ما لك؟ قال: كسرت جناحاً، ورفعت جناحاً، وحلفت بالله صراحاً ما أنت بإنسي ولاتبغي لقاحاً! وبعث ازدشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم زاجراً ومصوراً فقال للزاجر: زجره وللمصور صور صورته، فلم يجد الزاجر شيئاً يزجر به، وصور المصور صورته وورد بها فنظر ازدشير إليها ووضعها على الوسادة وقال للزاجر: ما رأيت؟ قال: لم أر شيئاً أزجر به عنده، ولكني رأيت ها هنا أن الأمر له لأنك وضعته على وسادتك، ومكنته من رياستك. وسمع لهبي يعيف رجلاً يقول لعمر رضي الله عنه: يا خليفة رسول الله! فقال: سماه باسم ميت. فلما بلغ مرمى الجمار صكت حصاة صلعة عمر رضي الله عنه فقال اللهبي: اشعر والله أمير المؤمنين والله لا يقف هذا الموقف بعدها، فقتل عمر رضي الله عنه تلك السنة. وبينا مروان بن الحكم ينظر في إيوان له فانصدعت زجاجة من الإيوان ووقعت منها شمس على منكب مروان، وكان بحضرته عياف يستمع إليه مروان فقال: صدع الزجاج منكر فخرج وتبعه ثوبان مولى مروان فسأله فقال: صدع الزجاجة صدع السلطان ستذهب الشمس عنك مروان، يقوم من الترك أو خراسان، ذلك عندي واضح البرهان. فورد عن قريب خبر أبي مسلم صاحب الدعوة.

من حكم بتنجيم وافق قوله القضاء:
كان الفضل بن سهل حكم على نفسه أنه يعيش أربعين سنة ثم يقتل بين ماء ونار، فعاش هذه المدة ثم قتل في حمام سرخس. ولما مرض الحجاج دعا منجمه فقال: ويلك أنظر ماذا ترى؟ فقال: أرى ملكاً يموت ولست هو. قال: وما اسمه؟ قال: كليب. فقال: أنا والله ذلك، فقد كانت أمي سمتني كليباً! وكان نيبخت المنجم لا يحبس عن المنصور، فجاءه يوماً فقيل له إنه في المستراح فقال: اخرج عاجلاً، فخرج فانخسف المخرج عقب خروجه.
من تطير من الكرام بكلام سوء سمعه فأصابه من ذلك:
قال هبة الله بن إبراهيم: دعاني الأمين في الليلة التي نزل فيها طاهر بن الحسين النهروان، فلما دخلت عليه رأيته مغتماً فقال: يا عم أما ترى هذا الباغي عليّ؟ فقلت: دعه وبغيه فالبغي يردي صاحبه. فقال: فبم أداوي ما خامرني؟ فقلت: تأمر بإحضار أبي نواس، فإنه فتاح لهذه الأبواب. فاستحضره وسأله فقال:
إذا ما ضاقك الغمّ ... فضع في الرأس أقداحا
فإن الهمّ إن طاحت ... به مشمولة طاحا
فدعا برطل وجارية تغني، فسألها: ما اسمك؟ قالت: شر! وغنت بقول الشاعر:
كليب لعمري كان أكبر ناصراً ... وأكبر حزماً منك ضرّج بالدم
فرمى بالرطل وأمر بالجارية فألقيت في دجلة، ودعا أخرى فغنت:
هم غدروه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوماً بكسرى مرازبه
فرمى بها أيضاً، ودعا أخرى فغنت بقول الشاعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
فاغتم اغتماماً عظيماً، فتطلع على دجلة فإذا برجل يقرأ، قضي الأمر الذي فيه تستفتيان! فاستحكم تطيره فقال: يا أمير المؤمنين قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التطير. فقال: هبني لا أتطير بالشعر أما أتفاءل بالقرآن؟ فما انقضى الأسبوع إلا وقد نزلت به النازلة.
من رأى فأل سوء فصرفه إلى حسن بتأويله:
خرج جعفر بن سليمان إلى المدينة والياً بها، فتعلقت شجرة بلوائه فتطير بذلك فقال من كان معه: هذا عملك تشبث بك. فسري عنه. وسار خالد بن الوليد إلى ولاية الموصل فانكسر اللواء فحزن لذلك. فقال أبو الشمقمق:
ما كان مندق اللواء لريبة ... تخشى، ولا أمر يكون مبدلا
لكن هذا الرمح ضعف متنه ... صغر الولاية فاستقل الموصلا

فبلغ ذلك المأمون فزاد في ولايته قنسرين. ولما صعد قتيبة بن مسلم منبر الري سقط القضيب من يده، فتطير بذلك الناس فأنشد:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر

وصف الفأل السوء بأنه يصيب من تفاءل به:
قيل: إياك والفأل السوء، فقد قالت الفلاسفة ما للنوائب رسول أبلغ في قبض الأرواح من الطيرة والفأل والسوء! وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كنت أنا وأمير المؤمنين عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان يحب الفأل، فلما خرج أنشد:
تفاءل بما تهوى يكن فلقلما ... يقال لشيء كان ألا تكونا
وقال علقمة:
ومن تعرض للغربان يزجرها ... على سلامتها لا بد مشؤوم!
من تشوئم به فدفع ذلك عن نفسه:
خرج هشام بن عبد الملك يوماً فلقي أعور، فأمر بأن يضرب ويحبس وقال: تشاءمت بك! فقال الأعور: إن الأعور يكون شؤمه على نفسه، وشؤم الأحول على غيره، ألا ترى أني استقبلتك فلم يصبك شيء، وأنت استقبلتني فنالني منك سوء، وكان هشام أحول فخجل من ذلك وخلاَّه. وخرج بعض ملوك الفرس إلى الصيد فاستقبله أعور بحبسه وضربه، ثم مضى فتصيد صيداً كثيراً، فلما عاد استدعى الأعور وأمر له بصلة فقال الأعور: لا حاجة لي في الصلة ولكن ائذن لي في الكلام، فأذن له فقال: تلقيتني فضربتني وحبستني، وتلقيتك فصدت وسلمت فأينا أشأم؟ فضحك وأعطاه.
الخط:
كان زاجر العرب يخط خطين فيقول: ابني عيان أسرعا البيان. وقال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى أو أثارة من علم: إنها الخط.
الطرق:
هو نثر الحصى والاستدلال باجتماعه وتفرقه كما يعمل صاحب الشعير، وأصل الطرق الضرب. قال الشاعر:
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع!
وقال حماد عجرد: الطرق من الجبت.
القيافة:

قالت عائشة رضي الله عنها: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرق أسارير وجهه من الفرح، فسألته عنه فقال: ألا إن محرز المدلجي رأى زيد بن حارثة وأسامة نائمين في قطيفة قد غطيا رؤسهما وبدت أقدامهما، فقال: هذه الأقدام بعضها من بعض. واختصم رجلان في غلام يدعيه كل واحد منهما، فسأل عمر رضي الله عن أمه عنه فقال: غشيني أحدهما، ثم هررت دماً ثم غشيني الآخر، فدعا عمر رضي الله عنه قائفين فسألهما فقال أحدهما: أعلن أو أسر قد اشتركا فيه، فضربه عمر رضي الله عنه حتى اضطجع، ثم سأل الآخر فقال مثل قوله، فقال: ما كنت أرى أن مثل هذا يكون. قال عوسجة بن مغيث القائف: كنا سرق خيلنا فعرفنا آثارهم بتميز أيديهم في العذوق، فركبنا في آثارهم حتى ظفرنا بهم، وقيل: فلان في قيافته يعرف أثر الذر على الصخر، فيعرف أثر الأنثى منها من الذكر. وكانت عند بنت عتبة عند الفاكه بن المغيرة، وكان الفاكه من فتيان قريش، وكان له منزل للضيافة يغشاه الناس من غير إذن، فخلا البيت يوماً وقال الفاكه ساعة وهند عنده، ثم خرج الفاكه لبعض حاجاته وأقبل رجل فدخل البيت، فلما رآها انصرف فاستقبله، فرآهما فارتاب بها فخاصمها وقال: ألحقني بأهلك! فتكلم الناس بها فقال أبوها: أي بنية، إن الناس قد خاضوا في أمرك فاصدقيني، فإن كان ما يقولونه حقاً بعثت من يقتل الفاكه سراً فتخلصين، وإن كان باطلاً حاكمته إلى بعض كهان اليمن ليبين براءة ساحتك، فحلفت أنها بريئة فأرسل إليه وقال: حاكمها إلى الكاهن فقد رميتها بداهية! فخرج الفاكه في جماعة بن عبد المدان وخرجت في نسوة، فلما شارفوا البلد رآها أبوها شاحبة متغيرة فقال: مالي أراك شاحبة متنكرة الحال، قالت: والله ما ذلك لمكروه عندي ولكني آتي بشراً يخطىء ويصيب فلا آمنه أن يرميني بداهية من غير أصل، فيصير ذلك سبة علينا، فقال أبوها: إنا نخبأ له خبيئة، فإن أخبرنا بها استدللنا على علمه واستفتيناه، وإلا تركناه. فأخذوا حبة حنطة وجعلوها في إحليل فرس، فلما انتهوا إليه أنزلهم وأكرمهم. فقالوا: قد جئناك في أمر وقد خبأنا لك خبيئة نختبرك فانظر ما هو؟ فقال: تمرة في كمرة! فقالوا: نريد أبين من هذا. فقال: حبة بر في إحليل مهر! فقالوا: صدقت! انظر في أمر هؤلاء النسوة فجعل يدنو من إحداهن ويقول: ليست هذه حتى دنا من هند فضربها على كتفها وقال: والله ما أنت بزانية، وستلدين ملكاً اسمه معاوية. فقام إليه الفاكه وقبل رأسها فقالت: ابعد عني فوالله لاجتهدن أن يكون من غيرك هذا الملك! فأبت حتى طلقها وتزوج بها أبو سفيان.

مما جاء في تأويل الرؤيا
ما يدل على صحة الرؤيا:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة. وروي: ذهبت النبوة فلا نبوة وبقيت المبشرات. وقيل في قول الله تعالى: " لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " : إنها الرؤية الصالحة يراها الرجل أو ترى له. وقيل: إذا أراد الله بعبد خيراً عاتبه في النوم، ويدل على صحة ذلك ما حكى الله تعالى عن يوسف عليه السلام في قوله تعالى: " رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين " ، وما حكى عن رؤيا الرجلين ورؤيا الملك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن في الهواء ملكاً موكلاً بالرؤيا فلا يمر بأحد خير ولا شر إلا أريه في المنام من حفظ ونسى من نسي. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: الرؤيا ثلاثة: رؤيا هي بشرى من الله تعالى، ورؤيا تحذير من الشيطان، ورؤيا يحدث الإنسان بها نفسه فيراها في المنام.
العارف بتأويل الرؤيا:
كان ذلك من علم يوسف عليه السلام وقد وصفه الله تعالى في قوله تعالى: " ولنعلمه من تأويل الأحاديث " . وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه موصوفاً بذلك. وقال الحسن لابن سيرين: تعبر الرؤيا كأنك من ولد يعقوب؟ فقال: وأنت تفسر القرآن كأنك من شهد التنزيل. وقال ابن شبرمة: ما رأيت أحداً أجرأ على النوم ولا أجبن على اليقظة من ابن سيرين أي يعبر الرؤيا ولا يجيب عن الفتوى.
رؤيا مستغربة:

قال رجل لابن سيرين: رأيت كأني أخذت حمامة جاري فكسرت جناحها، ورأيت غراباً أسود وقع على سطح بيتي! فقال: أنت تخلف على امرأة جارك، وأسود يخلفك في دارك. ففتش عن ذلك فوجده حقاً. وقال له رجل: كأني آكل خبيصاً في الصلاة. فقال: الخبيص حلال ولا يجوز أكله في الصلاة، أنت تقبل امرأتك صائماً. وقال له آخر: رأيتني أطأ مصحفاً فقال له في خفك درهم تطؤه! فتأمل ذلك فوجده كما قال: وقال له آخر: رأيت كأني أصب زيتاً في أصل زيتون، فقال له: إنك تنكح أمك. فبحث عن ذلك فإذا تحت جارية كان يطؤها أبوه. وقال له آخر: رأيتني كأني أسبح في غير ماء، فقال له: إنك تكثر الأماني. وقال له آخر: رأيتني كأني أصيد ثعلباً. فقال: أنت تطلب حيلة. ورأى عبد الله بن جعفر غراباً على منارة النبي صلى الله عليه وسلم قال سعيد بن المسيب: سيتزوج الحجاج بابنتك. فتزوج بها الحجاج بعد، فقيل له: كيف علمت ذلك؟ فقال: المنارة أشرف ما في المدينة والغراب فاسق. وقالت امرأة: رأيت سنبلة تنبت على أصبعي! فقال سعيد: ستأكلين من غزلها. وقال رجل لابن سيرين: رأيتني كأن عيني اليمنى دارت على قفاي فقبلت عيني اليسرى. فقال له: لك ولدان أحدهما يفجر بالآخر، فاستكشف عن ذلك فوجده كما قال. ورأى رجل النبي صلى الله عليه وسلم في منامه فشكا إليه علة فقال له: عليك بلا ولا! فاستيقظ الرجل وتحير فسأل ابن سيرين فقال: كل الزيتون فإن الله تعالى يقول: " زيتونة لا شرقية ولا غربية " . وقال رجل لسعيد: رأيت في المنام كأني أسلك طريقاً ومتى قعدت كنت أقطع الطريق، وإذا مشيت لم أقطعه. فقال: أنت رجل نساج إذا قعدت كسبت وإذا قمت تبطلت. فكان كما قال.

رؤيا ظاهرها حسن وباطنها مستقبح:
قالت عائشة لأبي بكر رضي الله عنهما: رأيت كأنما وقع في حجرتي ثلاثة أقمار، فقال: سيدفن في بيتك ثلاثة من الأخيار. قال أبو عبد الله البريدي الفقيه: جاءني رجل من الشهود قال: رأيت في المنام كأن الله تعالى قد ابتدأ خلق السموات والأرض، فقلت: لعل غيرك رآها وسألك أن تفسرها. قال: بل أنها رأيتها. فقال له: تغدو إلى دار القاضي وتسألني عنها حتى أفسرها لك بحضرته. فحضر وسأله عنها فقال: أيها القاضي إن فلاناً يسأل عن رؤيا، فسله لعل غيره رآها. فسأله فقال: لا بل أنا رأيتها. فقال: إنك رجل تشهد بالزور لأن الله تعالى يقول: " ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم " . فبحث عنه فوجد ق شهد شهادات زور. وحكي عن الصاحب قال: رأيت قابوس في المنام قبيل ما انهزم بجرجان، كأنه يسألني ويقول رأيت في المنام كأنما على رأسي قلنسوة، وكأني قلت له أن القلنسوة رياسة. فقال: إني لأراه هلاكاً لأن القلنسوة بالفارسية كلاه، فإذا قلب فهو هلاك. فانهزم في اليوم الثاني أو الثالث من ذلك المنام.
رؤيا ظاهرها قبيح وباطنها حسن:
قال رجل لابن سيرين: رأيت رجلاً مجرداً في المسجد فهالني ذلك. فقال: لعلك رأيت الحسن تجرد من دنياه فأشبه سره علانيته. ورأى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أنه غرز في يدي عبد الملك ورجليه أربعة أوتاد. فأرسل إلى ابن المنذر فقال: إن صدقت رؤياه غلبه عبد الملك، وخرج من صلبة أربعة كلهم خلفاء. ورأى عبد الملك أنه بال في محراب النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات، فأوّل على أن يخرج من صلبه أربعة يتولون الخلافة. ورأى في منامه كأنه صارع ابن الزبير فصرعه ابن الزبير، فهاله ذلك بعث سراً إلى ابن المنذر فقال: هذه رؤيا ملك نازعه ملك وقد خلى صارعه بينه وبين الأرض. وقال رجل لأبي عمرو الفراء: رأيت كأني قطعت رأسي فوضعته بين رجلي. فقال: أكان لك عمامة فقطعتها سراويل؟ فقال: نعم هو كما قلت.
خرافات في الرؤيا:

قال رجل لسيفويه: رأيت كأن عليّ قميصاً رقيقاً وجبة وشي متخرقة، وفي كمي فلوس، وفي عنقي هاون، وإلى جانبي دبة إذا نزعت حركتها! فقال: أنامت عيناك، ما أحسن ما رأيت: القميص الرقيق دينك، والجبة الوشي ضراطك في الصلاة، والفلوس سوف تفلس، والهاون أن تهان، والدبة أن يدب إليك فتاك. وقال بعضهم: ليست الرؤيا كلها صحيحة إنما يصح بعض دون بعض. فقال بعض السامعين: كذا هو فإني رأيت في المنام كأني وجدت بدرة عظيمة أحملها فأحدثت من ثقلها، فانتبهت فوجدت الرأس مملوءاً من الخرء ولم أجد للبدرة أثراً! وقال صبي لمعلمه: إني رأيت في المنام كأني مطلي بعذرة وأنت مطلي بعسل! فقال المعلم: هذا عملك السوء، وعملي الصالح ألبسنا الله تعالى. فقال الصبي: اسمع تمام الرؤيا: فكنت تلحسني وأنا الحسك! فقال: أعزب قبحك الله! وقال رجل للصاحب: رأيت في المنام عمرو في يده سيف وهو يريد قتلي. فقال له: إذا رأيته فقل له العب يمسك. وقال رجل: رأيت في منامي كأني متزر بهاون. فقال له معبر: إنك مأبون! فلما كشف عن حاله وجد كما قال.

مما جاء في علوم الأمم ورموز العرب
فنون العلوم:
قيل: علوم الأدب عشرة، ثلاثة شهرجانية الطب والهندسة والفروسية، وثلاثة أنوشروانية ضرب العود ولعب الشطرنج وضرب الصوالجة، وثلاثة عربية الشعر والنسب وأيام الناس، وواحد ابرعلى كل ذلك مقطعات الحديث والسمر وما يتعاطاه الناس بينهم في المجالسات. وقال بعضهم: رأيت العلوم والأمور تدور على أربعة أشياء: نحو يقيم به الرجل لسانه، وطب يقيم به بدنه، وحكايات يقيم به أدبه، وحسن تدبير يتوصل به إلى معاشه. وكان الإسكندر وارسطوطاليس إذا تسايرا تناظرا في العلم، وإذا خليا تشاورا في الملك، وإذا قعدا للشرب تحدثا في الشجاعة، وإذا أرادا الإنصراف إلى مضجعهما تذاكرا الفقه والعفة.
علوم العرب:
علم بديع الشعر وبلاغة المنطق وتشقيق اللفظ وتعريب الكلام، وقيافة البشر وقيافة الأثر وصدق الحس وصواب الحدس، وحفظ النسب ومراعاة الحسب وحفظ المناقب والمثالب، وتعرف الأنواء والإهتداء بالنجوم، والتبصر بالخيل والسلاح واستعمالهما، والحفظ لكل مسموع والإعتبار بكل محسوس، ويبلغون بالزجر ما يقصر عنه غيرهم.
علوم الروم:
لهم الطب والنجوم والألحان، وجودة التصوير حتى أن أحدهم يصور الإنسان شاباً وكهلاً فيجعله بحيث إذا رأى صورته ثم رآه عرفه، ولهم البناء العجيب، ولهم من الرأي والنجدة والمكيدة ما لا ينكره من يعرفه.
علوم الفرس:
لهم العقول والأحلام والسياسة العجيبة، وترتيب العلوم والأمور والمعرفة بعواقب الأمور، ولهم من اللغات ما لا يحصى كثره: كالزمزمة والفهلوية والخراسانية والجبلية.
علوم اليونانية:
اليونانيون كانوا ذوي أذهان بارعة ولا يشتغلون بمكاسب الآلات والأدوات والخلال التي تكون جماماً للنفوس، ولهم القبانات والإصطرلابات وآلات الرصد والبركار، وأصناف المزامير والمعازف والطب والحساب والهندسة، وآلات الحرب كالمجانيق والغرادات. وكانوا أصحاب حكمة ولم يكونوا عمله، كانوا يصورون الآلة ولا يخرطون الأداة، يشيرون إليها ولا يمسونها، يرغبون في التعلم ويرغبون عن العمل.
علوم الصين:
أهل الصين أصحاب الأعمال كالسبك والصياغة والإفراغ والإذابة والأصباغ العجيبة، والخرط والنحت والتصاوير والخط والنسج ورفق الكف في كل ما تناولوه، وكانوا يباشرون العمل ولا يعرفون الملل لأنهم فعلة، واليونانيون يعرفون العلل ولا يباشرون العمل لأنهم حكماء.
علوم الهند:
لهم معرفة الحساب والنجوم والخط الهندي، وأسرار الطب وعلاج فاحش الأدواء والرقى وعلم الأوهام وخرط التماثيل ونحت الصور، وطبع السيوف والشطرنج والحنكة، وهي وتر واحد يجعل على قرعه فيقوم مقام العود، ولهم ضروب الرقص والثقافة والسحر والتدخين.
الترك:
هم كالعرب في أنهم أصحاب قيافة ومعرفة بالحروب وآلاتها، وهم أعراب العجم كما أن العرب أكراد النبط، فصاروا في الحرب كاليوناينيين في الحكمة والصين في الصناعة، وهم في البيطرة والرياضة فوق كل أمة، وأحدهم يركب ظهر فرس فوق ركوبه الأرض، يغزو أحدهم بارماكه ومهوره فمتى أتعب واحدة ركب أخرى فلا يستريح ولا ينزل إلى الأرض.
رموز العرب:

كانوا إذا استمطروا عمدوا إلى سلع وعشر، فعقدوهما في أذناب البقر، وأضرموا فيها النار وصعدوا به جبلاً يستسقون الله بذلك، ولذلك قال الوالطائي:
أجاعل أنت بيقوراً مسلعة ... ذريعة لك بين الله والمطر
وإذا امتنع البقر عن شرب الماء ضربوا الثور، يزعمون أن الجن تركبه فتمتنع البقر عن الماء.
قال:
لكالثور والجني يركب ظهره ... فما ذنبه إن عافت الماء مشربه
وإذا سافر أحدهم عمد إلى غصن شجرة فعقد عليه عقداً تسمى رتماً، فيقول إن أنحل إلى أن أرجع خانتني امرأتي، وإن لم ينحل فدلالة على أنها لم تخن.
قال شاعر:
هل ينفعك اليوم إن همت به ... كثرة ما توصي وتعقاد الرتم
وزعموا أن المرأة المقلاة إذا وطأت قتيلاً شريفاً بقي أولادها. ولذلك قال الشاعر:
تظل مقاليت النساء يطأنه
وزعموا أن من علق على نفسه كعب أرنب لم يصبه جن ولا عين، لأن الأرنب ليس من مطايا الجن، لأنها تحيض فيهرب منه الجن. قال ابن الأعرابي: قلت لأعرابي من علق على نفسه كعب أرنب لم يصبه جنان الحي ولا عمار الديار. فقال أي والله، ولا شيطان الحماطة وغول القفر، وتطفأ عنه نيران السعالى وكانوا إذا خافوا على إنسان الجنون علقوا عليه خرق الحائض وعظام الموتى.
وقالوا: إذا خيف على الصبي النظرة يعلق عليه سن ثعلب أو سن هرة يسلم. وقيل: أرادت جنية صبياً فلم تقدر عليه، فلما رجعت قيل لها في ذلك فقالت: كانت عليه نفرة، ثعالب وهررة، والحيض حيض السمرة.
وحيض السمرة شيء يسيل من السمرة وهي شجرة يزعمون أن الجن يرهبون منه. وقالوا: إذا دخل الرجل قرية فخاف وباءها نهق نهيق الحمار لم يصبه الوباء. وقال عروة بن الورد:
لعمري لأن عشرت من خيفة الردى ... نهيق الحمير إنني لجزوع
وقالوا: السليم إذا علق عليه حلي النساء أفاق، ولذلك قال النابغة:
يسهد من ليل التمام سليمها ... لحلي النساء في يديه قماقع
وقالوا: من خرج به بثر. فأخذ إنسان منخلاً فأخذ من كل دار من دور الجيران كسرة وتميرة فنثرها لكلب، ذهب البثر عنه إلى كلب. وقالوا: إذا طرف أحدهم عين صاحبه أخذ الطارف عين المطروف فيقول: بإحدى جاءت من المدينة، باثنتين جاءتا من المدينة، بثلاث جئنا من المدينة إلى سبع فتسكن عينه. وقالوا للغلام، إذا سقط سنه فحذفها نحو عين الشمس وقال: ابدليني خيراً منها، عادت. ولذلك قال طرفة:
بدلته الشمس من منبتها ... برداً أبيض مصقول الأثر
وقالوا: ومن ركب فرساً مهقوعاً، وهو ما به دائرة يقال لها الهقعة فعرق تحته، اغتلمت امرأته. وقال الشاعر:
إذا عرق المهقوع بالمرء أنعظت ... حليلته وازداد حراً عجانها
وقالوا: إذا خرج المسافر فالتفت لم يتم سفره. وقال الشاعر:
تلفت نحو الحي حتى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتاً وأخدعا
وإنما التفت لأنه كان عاشقاً فأحب أن لا يتم سفره ليرجع إلى محبوبته. وكانوا يوقدون خلف المسافر إذا أرادوا أن لا يرجع، ويرمون خلفه بحصاة وروثة ويقولون: راث خبره وحص أثره، فإذا أرادوا سرعة رجوعه تناولوا من تحت قدميه. وقال شاعر في امرأة قالت له واقتصت من أثره:
يا رب أنت جاره في أثره ... وجار خصييه وجار ذكره
وكان إذا أصاب إبلهم العركووا الصحيح منها يزعمون أن الجربى بذلك تبرأ؛ قال النابغة:
كذي العريكوى غيره وهو راتع
ومذهبهم في الحامي والبحيرة والسائبة والوصيلة معروف، وإذا بلغت إبلهم ألفاً فقؤا إحدى عيني الفحل، وإذا زادت عن الألف فقؤا عينه الأخرى، ويسمون ذلك المفقأ والمعمى، ويزعمون أن ذلك يطرد عنه العين. وقالوا: أيما امرأة أحبها زوجها أو خدنها فلم يشق أحدهم ثوب الآخر لم يبقى الحب، ولذلك قال الشاعر:
إذا شق برد شق بالبرد برقع ... دواليك حتى ليس للثوب لابس
وقالوا: الضال في المفازة متى لبس ثوبه مقلوباً اهتدى. قالوا: الجمل ند فذكر بعض آباءه، والناقة إذا ندت فذكر بعض أمهاتها سكناً. ولذلك قال الشاعر:
أقول والوجناء بي تقحم ... قل لي ما اسم أمها يا علكم؟

وقالوا: من عشق فكوي بين إليتيه سلا. وكان يفعل ذلك بنو عذرة خاصة، وكان لهم خرزة يقال له السلوان إذا شرب حكاكتها العاشق سلا فيما زعموا. وقال الشاعر:
لو أشرب السلوان ما سليت ... ما بي غنى عنك وما غنيت
وكانوا إذا عض أحداً كلب كلِب يسقونه دم كريم، ويقولون إن ذلك يبرئه، ويزعمون أن من لا يطلب بثأره يخرج من قبره هامة فتقول اسقوني إلى أن يدرك ثأره. وقالوا: إن من مات فحفر له قومه حفيرة فأقاموا فيها بعيراً لا يعلفونه ولا يسقونه حتى يموت، يكون ذلك مركباً له إلى عرصات القيامة ولا أحتاج أن يحضر راجلاً حافياً، وكان ذلك البعير يسمى بلية. وقال الشاعر:
إحمل أباك على بعير صالح ... يوم القيامة إن ذلك أصوب
لا تتركن أباك يسعى خلفهم ... تعباً يخر على يديه وينكب

ومن علوم العامة:
تزعم العامة أن الفأرة كانت يهودية طحانة تسرق الدقيق، فمسخها الله تعالى فأرة، وسهيل كان عشار فمسخه الله كوكباً، والوزغة كانت تنفخ نار إبراهيم عليه السلام فلعنها الله، والخنزير تولد من عطسة الفيل، والهر تولد من عطسة الأسد. وإذا كسفت الشمس يقولون: يا رب خلصها! وإذا أراد أحدهم أن يبول بالليل بصق أولاً، وإذا طنت ذبابة كبيرة قالوا: بشرك الله بخير! وإذا أصلح بزره عض خرقة أو خشبة يقول حتى لا يكذب علي، وإذا دخل الذباب ثياب أحدهم يزعمون أنه يمرض. وإذا احتك طرف أنفه يقولون يأكل اللحم، وإذا احتك وسطه يقولون يأكل السمك. ويقولون: اختلاج العين يدل على رؤية من لم يره منذ حين، وأسفله يدل على البكاء، وهذا باب كبير وكثير منه يجيء مفصلاً في أبواب مختلفة.
الحد الثاني
في السيادة والولاية
ما ذكر في حد السيادة والسيد:
قيل لحكيم: ما السؤدد؟ قال: اصطناع العشيرة واحتمال الجريرة. وقال غيره: حمل المكاره وابتناء المكارم. وقيل: بذل الندى وكف الأذى ونصرة المولى وتعجيل القرى. وقيل للأحنف: ما السيد؟ قال: من حمق في ماله وذل في نفسه وعني بأمر عشيرته. وقيل: من إذا حضر هابوه، وإذا غاب ما اغتابوه. وقيل: من أورى ناره وحمى ذماره ومنع جاره وأدرك ثأره.
الأحوال الشاقة التي تبلغ بها الرئاسة:
قال بعضهم لرجل من بني شيبان: بلغني أن السؤدد فيكم رخيص! فقال: أما نحن فلا نسود إلا من أوطأنا رحله، وأفرشنا عرضه، وأخدمنا نفسه، وبذل لنا ماله! فقال: وأبيك إذاً فهو فيكم غال! وقال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: إن ما يستحق السيادة من لا يصانع ولا يخادع ولا تغره المطامع. وقيل للأحنف: بم سدت؟ قال: بالخلق السجيح والكف عن القبيح، وتجنب الدني وترك اللسان البذيء. وقال معاوية لعرابة الأوسي: بم سدت قومك؟ فقال: لست بسيدهم، ولكني رجل أعطيت في نائبتهم، وحملت عن سفيههم، وشددت على يد حليمهم، وعطفت على ذي الخلة منهم، فمن فعل فعلي فهو مثلي، ومن قصر عني فأنا أفضل منه، ومن تجاوزني فهو أفضل مني.
وقال الأحنف: من كان فيه أربع خصال ساد قومه غير مدافع، من كان له دين يحجزه وحسب يصونه وعقل يرشده وحياء يمنعه. وقيل: من أحب الرئاسة صبر على مضض السياسة. قال الشاعر:
أترجو أن تسود ولا تعنى ... وكيف يسود ذو الدعة البخيل؟
الخبزارزي:
فقل لمرجي معالي الأمور.. ... بغير اجتهاد طلبت المحال!
جماع أحوال يجب للرؤساء تجنبها وأحوال يلزمهم فعلها:
قال معاوية رضي الله عنه: لا ينبغي للملك أن يكون كذاباً لأنه إن وعد خيراً لم يرج، وإن أوعد شراً لم يخف، ولا غاشاً لأنه لم ينصح، ولا تصح الولاية إلا بالمناصحة، ولا حديداً لأنه إذا احتد هلكت رعيته، ولا حسوداً لأنه لا يشرف أحد فيه حسد ولا يصلح الناس إلا بأشرافهم، ولا جباناً لأنه يجترىء عليه عدوه وتضيع ثغوره. وقال بعضهم: أكره المكاره في السيد وأحب أن يكون عاقلاً متغافلاً كما قال أبو تمام الطائي:
ليس بغبي بسيد في قومه ... لكن سيد قومه المتغابي
وقال ذو القرنين لأرسطوطاليس لما أراد الخروج: عظني بما أستعين به في سفري. فقال: إجعل تأنيك أمام عجلتك، وحيلتك رسول شدتك، وعفوك ملك قدرتك، وأنا ضامن لك قلوب الرعية إن لم تخرجهم بالشدة عليهم، ولم تبطرهم بفضل الإحسان إليهم.
الحث على تسويد الكبار:

قال قيس بن عاصم لبنيه: إذا سدت فسودوا كباركم وإذا تسودوا صغاركم، فيحقر الناس كباركم فتهونوا. ورد على النبي صلى الله عليه وسلم أخوة فتكلم أصغرهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كبروا كبروا! وفي ضده قيل: السؤدد مع السواد. وقيل: من لم يسد قبل الأربعين لم يسد بعدها.

وصف صغار سادوا باستحقاق:
لما ولى المأمون يحيى ابن أكثم قضاء البصرة، وكان من أبناء نيف وعشرين سنة. أراد بعض أهل البصرة أن يعيره بذلك ويضع منه فقال: كم سن القاضي؟ فقال: سن عتاب ابن أسيد حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، فجعل جوابه احتجاجاً وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص وسنه دون العشرين. وولى الحجاج محمد ابن أبي القاسم قتال الأكراد بفارس فأبادهم، ثم ولاه السند والهند فأحمد أثره، وسنه سبع عشرة سنة فقال فيه الشاعر:
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة ... يا قرب ذلك سؤددا من مولد!
السري الرفاء:
لا تعجبوا من علو همته ... وسنه في أوان منشأها
إن النجوم التي تضيء لنا ... أصغرها في العيون أعلاها
من طاعته واجبة ورئاسته مستحقة:
قال الله تعالى: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسمعوا وأطيعوا ولو ولي عليكم عبد حبشي مجدع. علي ابن الجهم:
أغير كتاب الله تبغون شاهداً ... لكم، يا بني العباس، بالمجد والفخر؟
كفاكم بأن الله فوض أمره ... إليكم وأوصى: أن أطيعوا أولي الأمر!
البحتري:
مفروضة في رقاب الناس طاعته ... عاصيه من ربقة الإسلام منخلع
ابو العتاهية:
أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له ... ولم يكن يصلح إلا لها
كون الإنسان رئيساً حيثما كان:
المتنبي:
إن حل في فرس ففيها ربها ... كسرى تذل له الرقاب وتخضع
أو حل في روم ففيها قيصر ... أو حل في عرب ففيها تبع
أسامي ملوك كل صقع:
خزحير: صاحب افريقيا. كسرى: صاحب فارس. قيصر: صاحب الروم. يغفور: صاحب الصين. البهراج: صاحب الزنج. خاقان: صاحب الترك. زنبيل: صاحب الخرز. أصفر: صاحب علوا. كابيل: صاحب النوبة. أصبهيد: صاحب الجبل. أمير المؤمنين والخليفة والإمام: صاحب المسلمين. تبع: صاحب حمير، ويقال لهم الأقيال والعباهلة، حكى ذلك الجاحظ.
المجمع على سيادته:
أبو تمام:
لو أن إجماعنا في فضل سؤدده ... في الدين لم يختلف في الأمة اثنان
نهار بن قوسعة:
قلدته عري الأمور نزار ... قبل أن تملك السراة العجوز
المزري رئاسته بغيره:
قال عبد الملك وقد ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قللوا من ذكره فهو طعن على الأئمة، وحسرة على الأمة. وقال رجل لمالك ابن طوق: أصبحت والله ناصحاً متبعاً، فاضحاً لكل والٍ قبلك بحسن سيرتك، متعباً لكل والٍ بعدك لقصوره عنك.
رئيس يتلوه الرؤساء:
علي ابن الجهم:
كأنه وولاة العهد تتبعه ... بدر السماء تلته الأنجم الزهر
أحمد بن أبي طاهر:
كأن علياً وأبناءه ... هلال تحف به الأنجم
أخذ ذلك من جرير حيث يقول:
كالبدر حف بواضحات الأنجم
أمير الأمراء:
المتنبي:
وقد رأيت الملوك قاطبة ... وسرت حتى رأيت مولاها
وقال آخر:
ولو جمع الأئمة في مقام ... تكون به لكنت له إماما
ابن الرومي:
سادة الناس كالجبال وأنتم ... كالنجوم التي تفوق الجبالا
الخوارزمي:
ألا حركا لي ابرويز ابن هرمز ... وقولا له: قم تلقى أعجوبة قم!
تطلع إلى الدنيا لتعلم أنما ... ملكت من الدينار مقدار درهم
من هو رأس القوم وروحهم:
قيل: الملك كالرأس، وأعوانه كالجوارح، صلاحها بصلاحه. منصور النمري:
الناس جسم وإمام الهدى ... رأس وأنت العين في الرأس
الماني:
لو يكتب الناس أسماء الملوك إذا ... أعطوك موضع بسم الله في الحسب
إبراهيم بن هرمة:

وجدتك من قيس إذا القوم حصلوا ... مكاناً نياط القلب بين الأضالع
الفرزدق:
منا الكواهل والأعناق تقدمها ... والرأس منا وفيه السمع والبصر!
وسئل بعضهم عن رئيسهم كيف هو؟ فقال: هو فينا مكان الروح في الجسد، وقيل: هو الذروة وهم الزمع، هو الرأس والناس الذنابى.

وصف قوم كلهم رؤساء:
أحمد بن طاهر:
كلهم سيد فمن تلق منهم ... قلت: هذا أولى بحل وعقد
العرندس:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري به الساري
من المرؤوس فيهم رئيس غيرهم:
ابن أذينة:
سمين قريش بائع منك لحمة ... وغث قريش حيث كان سمين
حجر بن خالد:
يسود ثنانا من سوانا وبدؤنا ... يسود معداً كلها ما تدافعه
قوم تورثت فيهم السيادة:
طريح:
مثل نجوم السماء إن أفلت ... منها نجوم بدت نظائرها
وقال آخر:
إذا مقرم مناذراً حدنا به ... تخمط فينا ناب آخر مقرم
أبو تمام:
رأيتهم ريش الجناح إذا مضت ... قوادم منها بشرت بقوادم
مصدر متابع:
وهب الهمداني:
صدر المجالس حيث كا ... ن لأنه صدر المجالس!
وقال آخر:
إذا ابتدر الباب المهيب رأيته ... يدف جناحيه الكهول الجحاجح
المسيب:
تبيت الملوك على رغمها ... وشيبان إن غضبت تعتب
وقال عمرو بن هداب: كنا نعرف سؤدد سلم بن قتيبة بأنه كان يركب وحده ويرجع في عدة. وكان ملك بن مسمع صاح يوماً، فوافى بابه عشرون ألف مدجج. وسأل عبد الملك عنه فقيل: لو غضب لغضب لغضبه مائة ألف، يبذلون له أنفسهم وأموالهم ولا يسألونه فيم غضب؟ فقال: هذا وأبيك السؤدد. ولم يكن في الإسلام أكثر عقد لواء من أبي موسى رضي الله عنه، ولا ء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعثمان وعلي، ومن روح ابن حاتم، ولاه السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد.
الموصوف بأنه ناصر الدولة:
قال رؤية في أبي مسلم:
ما زال يأتي الأمر من أقطاره ... على اليمين وعلى يساره
مشمراً ما يصطلي بناره ... حتى استقر الملك في قراره
كثير:
أبوك حمى أمية حين مالت ... دعائمها واصحر للضراب
وكان الملك قد نصلت يداه ... فرد الملك منه في نصاب
قال المنصور يوماً للمهدي: ما أيدت بما أيد به من كان قبلي، أيد معاوية زياد، وأيد عبد الملك بالحجاج، قال: فقلت قد أيدت بمن فوقهما، فقال: تعني أبا مسلم؟ قلت: نعم. قال: قد كان كذلك لكن خيرنا بين أن يقتلنا أو نقتله فاخترنا قتله.
من انقادت الأيام لطاعته:
عصابة:
ما زال تجري على الدنيا حكومته ... حتى لقد ظن كل أنه الفلك
أبو الشيص:
ملك كأن الموت يتبع قوله ... حتى يقال: تطيعه الأقدار!
من كان القضاء يجري بأمره:
شاعر:
كان القضاء بما هويت كفيلاً
التنوخي:
يكون كما شاء والقضاء كأنه ... بأمرهم في الخلق سارٍ وواقع
المثقب:
ولو علم الله الجبال عصينه ... لجاء بأمراس الجبال يقودها
فقير متولي للرياسة:
حسان:
ويسود مقترناً على الإقلال
وقال آخر:
يسود ذا المال القليل نواله ... مروءته فينا وإن كان مصرما
من نال السيادة بنفسه:
قال المأمون: خمسة ملكوا الأقاليم برأيهم وشجاعتهم، الإسكندر نهض من الروم فملك الأقاليم السبعة، وازدشير رد ما انتشر من ملك إقليم بابل على حداثة سنه " وبهرام جور نهض في ثلاثمائة فارس فقتل خاقان، وأنوشروان أتى دار مملكة أبيه فملكها، وأبو مسلم نهض لدعوتنا وهو ابن ثمانية عشر سنة، وقيل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ملك الدنيا أربعة: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان، سليمان وذو القرنين، والكافران، نمرود وشداد بن عاد.
عقد البيعة:

أول من عقد البيعة لغيره أبو بكر رضي الله عنه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعقد معاوية البيعة ليزيد انبه وهو معروف، ولما قعد للبيعة دخل رجل فقال: اعلم أنك لو لم تولي هذا أمر المسلمين لأضعتهم! فقال للأحنف: لم لا تقول؟ فقال: أخاف الله إن كذبت، وأخافك إن صدقت! فقال: جزاك الله عن الإسلام خيراً. ولما شاور السفاح سعد بن عمرو المخزومي في عقد البيعة لعمه دون أخيه قال له: أحدثك بحديث، كنت مع مسلمة بن عبد الملك بالقسطنطينية فبلغه وفاة سليمان وولاية عمر بن عبد العزيز الخلافة، فجزع جزعاً شديداً فقلت: لا تجزع لموت سليمان، ولكن اجزع لخروج الأمر من ولد أبيك إلى ولد جدك! فأمسك السفاح وعقد البيعة للمنصور.

وال مراع لرعيته:
وصف أعرابي والياً فقال: كان إذا ولي طابق بين جفونه، وأرسل العيون على عيونه، فهو شاهد معهم غائب عنه، فالمحسن آمن، والمسيء خائف. وقيل: من دبر حاشيته ضبط قاصيته. وقال إبراهيم الموصلي:
أصبحت راعينا وحارس أمرنا ... والله من عرض الردى لك حارس
صلاح الرعية لصلاح الرعاة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن تهلك الرعية وإن كانت ظالمة مسيئة إذا كانت الولاة هادية مهدية. وقيل: زمانكم سلطانكم، فإذا صلح سلطانكم صلح زمانكم. وقيل: صنفان لو صلحا صلح الناس: الفقهاء والأمراء. وقال بزرجمهر: إذا هم الإمام بظلم ارتفعت البركة. وروي في الخبر: إذا جار السلطان في ناحية ضرى سباعها. وقيل: إذا رضي الراعي بفعل الذئب لم تنبح الكلاب على الغريب. وقيل: أوتي عمر رضي الله عنه بتاج كسرى فقال: إن الذي ردّ هذا لأمين! فقال رجل: يا أمير المؤمنين أنت أمين الله، فإن أديت أدوا، وإن ربعت ربعوا، قال: صدقت! قال الشاعر:
ونفسك فاحفظها من الغي والردى ... متى تغويها يغو الذي بك يقتدي
صلاح الولاة بصلاح الرعية:
قال عبد الملك: إنكم لتسومون منا فعل أبي بكر وعمر، ولستم تعملون بعمل رعيتهما، فأعان الله كلاً على كل. وكتب المهدي في جواب كتاب جاء بشكوى عامل: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وقيل، شيئان صلاح أحدهما بصلاح الآخر: الرعية والسلطان.
خصب الزمان وطيبه بعدل الولاة وجدبه بجورهم:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الأرض لتزين في عين الخليفة إذا كان عليها إمام عادل، وتقبح في أعينها إذا كان عليها إمام جائر. وروي أن أبرويز نزل بامرأة متنكراً، فحلبت بقرة لها فرأى لبناً كثيراً، فقال للمرأة: كم يلزمك في السنة لهذه البقرة للسلطان؟ قالت: درهم واحد. قال: وأين ترتع وبكم بها ينتفع؟ قالت: ترتع في أرض السلطان، ولي منها قوتي وقوت عيالي؛ فتفكر في نفسه وقال: إن الواجب أن تجعل أتاوى على الأبقار فلأصحابها نفع عظيم. فما لبث أن قالت المرأة: أوّه! إن سلطاننا همّ بجور. فقال لها ابرويز: ولم؟ قالت: إن در البقرة انقطع وإن جور السلطان مقتضٍ لجدب الزمان، كما أن عدله مقتض لخصب الزمان! فأقلع أبرويز عما هم به وتاب مما خطر بقلبه، وكان بعد ذلك يقول: إذا همّ بجور ارتفعت البركة! وقال سقراط: ينبوع فرح العالم الملك العادل، وينبوع حزنهم الملك الجائر. وقال الفضيل بن عياض: لو كان لي دعوة مستجابة لما أجعلها إلا في الإمام، لأنه إذا صلح أخصبت البلاد وأمن العباد. فقبل ابن المبارك رأسه وقال: من يحسن هذا غيرك؟ وكان رجل يساير عاملاً فمر بقصر خرب عليه زوجا بوم، والذكر يصرصر للأنثى، فقال العامل للرجل: ما يقول هذا البوم؟ فقال: إن أمنتني أخبرتك بما يقولان! فقال: أنت آمن. قال: إن الذكر خطب الأنثى فقالت: لا أجيبك حتى تجعل مهري عشرين قرية خربة، فقال الذكر: إن بقي لنا هذا العامل سنة أمهرتك خمسين قرية! فغضب العامل وقال: لولا أني آمنتك لعاقبتك! وقيل: عدل السلطان خير من خصب الزمان، وسلطان عادل خير من مطر وابل.
تفويض كل أمر إلى المستصلح له:

قال الإسكندر لأرسطوطاليس: أوصني في عمالي. قال: أنظر إلى من كان له عبيد فأحسن سياستهم فوله الجند، ومن كانت له ضيعة فأحسن تدبيرها فوله الخراج. قدم جماعة من فارس إلى المهدي يشكون عاملهم فقالوا للوزير: وليت علينا رجلاً إن كنت قد عرفته ووليته علينا فما خلق الله رعية أهون عليك منا، وإن كنت لم تعرفه فما هذا جزاء الملك، وقد سلطك الله على سلطانه. فدخل الوزير على المهدي فأخبره وخرج فقال: إن هذا رجل كان له علينا حق فكافأناه، فقالوا: كان مكتوباً على باب كسرى العمل للكفاءة من العمال، وقضاء الحقوق على بيت المال. فأمر بعزل ذلك العامل عنهم.

تفضيل الفاجر الكافي على الضعيف التقي:
قال عمر رضي الله عنه: أعضل بي أهل الكوفة إذا وليت عليهم الفاجر القوي فجروه، وإذا وليت المؤمن الضعيف هجنوه؛ فقال المغيرة: المؤمن الضعيف له إيمانه وعليك ضعفه، والفاجر القوي لك قوته وعليه فجوره! قال: صدقت، وولاه الكوفة. وكان يقول: أبداً أشكوا إلى الله بلادة الأمين ويقظة الخائن. وقدم أهل السوس على المنصور يشكون عاملاً، فاستحضره واستخف به فقال القوم: وأشد من الخيانة يا أمير المؤمنين! فاستوى جالساً وقال: ما هو؟ قالوا: لم يسجد لله سجدة قط ظاهرة منذ ولي السوس! فقال: ما أبالي أن لا يصلي داخلاً وخارجاً إذا هو أدى الأمانة.
تفويض الأمر إلى أهل الذمة:
ورد على عمر رضي الله عنه كتاب فقال لأبي موسى الأشعري: ادع كاتبك يقرؤه على الناس. فقال: إنه نصراني لا يدخل المسجد. فقال: استعملت على أمانة المسلمين نصرانياً؟ فقال: يا أمير المؤمنين لنا أمانته وله ديانته. فقال: لا تقربوهم وقد أبعدهم الله، ولا تؤمنوهم وقد خونهم الله. وشكا رجل عاملاً فقال: وضع الله الموحد ورفع الملحد، أوحش المسجد وآنس البيعة.
تفويض الأمر إلى الكافي وإن كان خائناً:
قيل: فوض الأمر إلى الكافي وإن كان خائناً، فالمضيع شر من الخائن، لأن التضييع من طبع الجهل ولا حيلة في الجهل، والخيانة معصية وذنب ويمكن التوبة منه. وقيل: لا حاجة في الأحمق وإن كان أميناً.
الإستعانة بالموثوق به وإن لم يكن كافياً:
قيل: لا تستنصحن غاشاً وإن كان كافياً، فمن استعان بأمين ربح عدم التهمة. وأراد المأمون أن بشخص عبد الله ابن طاهر إلى ناحية، وقال له: استخلف فأطرق؛ فقال له المأمون: مالك تتفكر! فقال: إن استخلفت من يستقل بخدمتك خفته، وإن استخلفت من أثق به لم آمن تقصيره. فقال: استعمل من تثق به وأنا أقوّمه.
الصبر على خيانة الولاة:
قيل: لا مال لمن لم يصبر على خيانة الوكلاء، وتضييع الولاة. وكان مروان بن الحكم له غلام وكله بأمواله فقال له يوماً: أظنك تخونني! فقال: قد يخطأ الظن، اتخذتني في مدرعة صوف ولم أملك قيراطاً، وأنا اليوم أتصرف في ألوف وأتبختر في خزوز، إني أخوّنك وأنت تخون معاوية، ومعاوية يخون الله ورسوله!
المنع من تفويض الأمر إلى القرّاء:
قال عدي ابن ارطاه لعالم: دلني على قوم من القرّاء أولهم. فقال: إنهم ضربان: ضرب طلبوا الأمر لله وأولئك لا حاجة لهم في لقائك، وضرب طلبوا بذلك الدنيا فما ظنك بهم إذا وليتهم؟ فعليك بأهل البيوتات المستحبين لأحسابهم. ولما ولي مروان بن محمد أرسل إلى رجل ليوليه، فرأى له سجادة مثل ركبة البعير فقال: يا هذا إن كان ما بك من عبادة الله فما يحل لنا أن نشغلك، وإن كان من رياء فما يجوز لنا أن نستعملك!
تفويض الأمر إلى من يتفرس فيه الخير:
قال أبو بكر في عمر رضي الله عنهما لما عهد له: إني استعملت عليكم عمر، فإن برّ وعدل فذاك علمي به ورأيي فيه، وإن جار وبدّل فلا علم بالغيب والخير أردت، ولكل امرىء من اكتسب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. واستشار عمرو بن عبد العزيز رضي الله عنه في قوم يوليهم فقيل: عليك بأهل القدر الذين إن عدلوا فذلك ما رجوت فيهم، وإن قصروا قال الناس، قد اجتهد عمر!
نهي الوالي عن تفويض الأمر إلى ذريته وعذر من فعل ذلك:
قال بعضهم: إياك والإستعانة بالأقارب فتبلى كما بلي عثمان رضي الله عنه، واقض حقوقهم بالمال لا بالولاية. وقال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه لبعض ولاته: لم وليت أقاربك؟ قال: لأني أعلم أخبارهم ولأنهم يبقون علي وعلى حالهم لدي.

حث السلطان على كفاية من يوليه:
قال بعض الأكاسرة: إذا استكفيت رجلاً فأسن رزقه وقوي عضده، وأطق بالتدبير يده، ففي أسنان رزقه حسم طمعه، وفي تقوية يده ثقل وطأته على أهل العدوان، وفي إطلاق التدبير له إخافته عواقب أموره. وقال المنصور يوماً لجنده: صدق القائل، أجع كلبك يتبعك! فقال بعضهم: كلا فربما يلوح له غيرك برغيف فيتبعه ويدعك، فقد قيل: منع خيرك يدعو إلى صحبة غيرك؛ فقال: صدقت! وقال أبرويز: لا توسعن على جندك فيستغنوا عنك، ولا تضيقن عليهم فيضجوا منك، أعطهم عطاء قصد، وامنعهم منعاً جميلاً، ووسع على قومك في الرجاء، ولا توسع عليهم في العطاء.
السياسة بالخشونة والعزف:
قال الحجاج: دلوني على رجل استعمله على الشرطة، وأريده رجلاً دائم العبوس طويل الجلوس، سمين الأمانة، أعجف الخيانة، يهون عليه سبال في الشفاعة؛ فقيل له: عليك بعبد الرحمن التميمي. فاستحضره وولاه فقال: لا أقبلها إلا أن تكفيني عيالك وحاشيتك؛ فدعاهم وقال: من طلب إليه منكم حاجة برئت الذمة منه! فتولى فكان لا يحبس إلا في دين، وإذا أتى بشاهر سلاح قطع يده وإذا أوتي بنقاب نقب بطنه، وإذا أوتي بنباش دفنه حياً، وإذا أوتي بمتهم ضربه ثلاثمائة سوط، فربما أقام أربعين يوماً لا يؤتى بمتهم. وصعد الحجاج المنبر يوماً فقال: إني أريد الحج وقد استخلفت عليكم ابني وأوصيته بخلاف ما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم في الأنصار، حيث أوصى أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، ألا وإني أوصيته أن لا يتجاوز عن مسيئكم ولا يقبل من محسنكم، ألا وإنكم لتقولون بعدي: لا أحسن له الله الصحبة وإني معجل لكم الإجابة لا أحسن الله عليكم الخلافة! وقيل: خير الملوك من أشبه النسور حولها الجيفة لا من أشبه الجيفة حولها النسور. ومعناه: سلطان يأكل الرعية خير من سلطان تأكله الرعية. وسأل عبد الرحمن بن عوف عمر رضي الله عنهما أن يلين له الناس فقال: الناس لا يصلح لهم إلا هذا، ولو علموا ما لهم عندي لأخذوا ثوبي من عاتقي.
السياسة بالرغبة والهيبة:
كان أنوشروان يوقع في عهود الولاة: سس خيار الناس بالمحبة، وامزج للعامة الرهبة بالرغبة، وسس السفلة بمجرد الهيبة. ولما وفد سعد العشيرة في مئة من أولاده على ملك حمير سأله عن صلاح الملك فقال: معدلة شائعة، وهيبة وازعة، ورعية طائعة، ففي المعدلة حياة الأنام، وفي الهيبة نفي الظلام، وفي طاعة الرعية حسن الإسلام. وقال زياد: ما غلبني معاوية في شيء من السياسات إلا في واحدة: استعملت رجلاً على قرية فكسر خراجها ولحق بمعاوية، فكتبت إليه أن ابعثه إلي فكتب ليس ينبغي أن نسوس الناس سياسة واحدة، إذا وليت القطاة فحق أن آلي الليانة، لكن إذا هرب هارب من باب وجد باباً يدخله والسلام. وقال أنوشروان: إن هذا الأمر لا يصلح له إلا لين في غير ضعف وشدة في غير عنف. ودخل أبو معاذ على المتوكل حين استخلف فأنشده:
إذا كنتم للناس أهل سياسة ... فسوسوا كرام الناس بالرفق والبذل
وسوسوا لئام الناس بالذل يصلحوا ... على الذل، إن الذل يصلح للنذل!
السياسة بالملاينة:
أوصى عمر بن عبد العزيز والياً فقال: عليك بتقوى الله فإنها جماع الدنيا والآخرة، واجعل رعيتك الكبير منهم كوالد، والوسط كالأخ، والصغير كالولد، فبرّ والدك، وصل أخاك، وتلطف بولدك. وقال بعضهم: الحبس يحبس المال، والقيد يقيده، والتسهيل يسهله، فاستعمل الرفق يرج مالك. ولي أمير المؤمنين رجلاً فقال: لا تضربن أحداً سوطاً، ولا تتبعن له رزقاً ولا كسوة لشتاء أو صيف، ولا دابة يعملون عليها. فقال: يا أمير المؤمنين إذاً ارجع إليك كما ذهبت فقال: وإن رجعت كما ذهبت، إنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو. وروي أن عمر رضي الله عنه أوتي بمال كثير فقال لعماله: إني أظنكم قد أهلكتم الناس! فقالوا: لا والله ما أخذنا إلا عفواً صفواً بلا وسط. وقال معاوية لمروان: من ترى للعراق؟ فقال: من لا يمسح الحلوب حتى يجمع الدرّة، ولا يدني بالعلبة حتى يمسح الصرة.
الحث على ترك التتبع والرسوم الجائرة:

كتب بعض الوزراء إلى عامل: سوق السعاة عندنا كاسدة وألسنتهم لدينا معقودة، ولم نرد هذه الناحية لإحياء العظام الناخرة، ولا لتتبع الرسوم العافية! عامل الناس بما في ديواننا، فإنها أيام قلائل، فإما ذكر الأبد أو خزي الأبد، وتجنب أن تكون كما قال جرير:
وكنت متى حللت بدار قوم ... حللت بخزية وتركت عارا!
وقيل: لا ينبغي للوالي أن ينقض سنة اجتمعت عليها الألفة وصلحت عليها العامة. وأخرج أبو علي ابن رستم عاملاً إلى بعض النواحي، وكان في القرية حمام كثير فعدّه، وأخذ واحدة منها وشق حوصلتها، وعدّ الحبوب الموجودة فيها واحتسب بذلك. فقال: إن كل حمامة تأكل في السنة من الحنطة كذا، وألزمهم ذلك. فكتب أبو علي إليه كتاباً وفي آخره هذا الشعر:
عجبت من نفسي ومن إشفاقها ... ومن طرادي الطير عن أرزاقها
في سنة قد كشفت عن ساقها ... والموت في عنقي وفي أعناقها
والأبيات لرؤبة، قالها وقد تولى طراد الطير عن زرع له. وكتب إلى أنوشروان عامل له بناحية يعلمه جودة الريع بها، ويستأذنه في الزيادة على الرسم، فأمسك عن إجابته، فعاوده العامل في ذلك فكتب إليه: قد كان في تركي إجابتك عن كلامك ما حسبتك تنزجر به عن تكلف ما لم تؤمر به، فإذ قد أبيت إلا تمادياً في سوء الأدب فأقطع إحدى أذنيك، واكفف عما ليس من شأنك! فقطع العامل إحدى أذنيه ائتماراً له.

حث الولاة على مراعاة الديانة:
قال ازدشير: الدين والملك أخوان لا غنى لأحدهما عن الآخر، فالدين أس والملك حارس، والبناء ما لم يكن له أس فمهدوم، والملك مالم يكن حارس فضائع.
حث السلطان على اعتبار ظاهر الرعية دون بواطنهم:
قال بعض الملوك: أنا أملك الأجساد لا النيات، وأحكم بالعدل لا بالرضى، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر. وقال معاوية: الناس أعطونا سلطاناً، وأعطيناهم أماناً، وأظهروا لنا الطاعة تحت حقد، وأظهرنا لهم حلماً تحت غضب! شاعر:
لقد أحلك من يعصيك ظاهره ... وقد أطاعك من يعصيك مستتراً
حث الوالي على اكتساب مودة الرعية:
كتب أرسطوطاليس إلى الإسكندر: املك الرعية بالإحسان إليها، تظفر بالمحبة منها، فإن طلبك ذلك بإحسانك أدوم بقاء منه باعتسافك، واعلم أنك إنما تملك الأبدان فتخطها إلى القلوب بالإحسان، واعلم أن الرعية إذا قدرت أن تقول قدرت أن تفعل، فأحسن قولها تأمن فعلها. وقال علي بن عبد الله ابن عباس: تطلب محبة الرعية فطاعة المحبة أفضل من طاعة الهيبة.
السياسة بالعمارة:
كان يقال: أسوس من زياد؛ قيل: إنه ركب يوماً بالسوس فرأى عمارة حسنة، فخاف أهلها أن يزيد في خراجها، فالتفت إليهم وقال: بارك الله عليكم فقد وضعت عنكم مائة ألف لما رأيت من عمارة بلدكم؛ قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لله در زياد! سعى أهل العراق سعي الأم البرة، وجمع منهم المال جمع الذرة، فأغناهم وحباهم بحسن التدبير. وقيل: من طمع في وفور الإرتفاع بغير العدل فهو يهزأ بنفسه.
ذم جامع للمال تارك للعمارة:
حوّل عامل لأنوشروان من الأهواز فضل ثمانين درهم على الغبرة القائمة، فسأله أنوشروان عن ذلك، فقال: وجدت في أيدي قوم فضولاً فأخذتها منهم! فقال: رد هذا المال لمن أخذته منهم، فإن مثلنا في ذلك إن أخذناه كمثل من طين سطحه بتراب أساس بيته، فيوشك أن يكون ضعف الأساس، وثقل السطح مسرعين في خراب بيته. ولما عزل عثمان رضي الله عنه عمر بن العاص عن مصر وولى عبد الله ابن أبي سرح، دخل عليه عمرو فقال له عثمان: أشعرت أن اللقاح بعدك درت ألبانها؟ فقال: نعم ولكنكم أعجفتم أولادها! وقال الحجاج لبغض الدهاقين من الري: ما بال بلدكم قد خرب؟ فقال: لأن عمالكم استعملوا فيها قول شاعركم:
لا تكسع الشولة بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج
واصبب لأضيافك ألبانها ... فإن شر اللبن الوالج
النهي عن المقاطعة:

قبل المأمون السواد من إسحق بن إبراهيم ثلاث سنين فانقضت قبالته، فسأله أن يجددها فجلس المأمون فقال: أيها الناس إني قبلت السواد من إسحق ثلاث سنين وانقضت، وسأل أن أقبله ثلاثاً مستأنفة فهل له من شاك أو متظلم؟ فقام شيخ فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى جعلنا في يدك أمانة ولم يجعلنا قبالة، فإن رأيت أن تقبلنا من أحد فافعل! فقال: لا قبلت بعد هذا. وقيل: المقاطعة تقطع.

الحث على مراعاة أهل الخراج:
قال زياد: أحسنوا إلى أهل الخراج فإنكم سمان ما سمنوا. قال جعفر بن يحيى: الخراج عمود السلطان، وما استغزر بمثل العدل، ولا استنزر بمثل الجور.
نفع الإنصاف وكونه سبب العمارة:
قيل: لا يكون العمران حيث يجور السلطان. وقال عمرو بن العاص: سلطان عادل خير من مطر وابل، وعدل قائم أجدى من عطاء دائم، وسبع حطوم خير من والٍ غشوم، عدل السلطان خير من خصب الزمان. وكتب عامل إلى عمر بن عبد العزيز: إن مدينتنا قد خرجت! فقال: اعمرها بالعدل، ونظف طرقها من الظلم، والسلام. وقال أنوشروان: حصن المملكة بالعدل فهو سور لا يغرقه ماء، ولا تحرقه نار، ولا يهدمه منجنيق. ورفع إلى كسرى: إن مع فلان مالاً عظيماً يرجح على ما في بيت المال؛ فوقع ماله مالنا وخصب الزمان خصبنا.
محافظة الطرق:
كان المنصور يقول: لا أبيت على تضييع الطريق فهو قوام الملك، ولا على إذلال حاكم فهو عز الملك. وقال بزرجمهر: عز الملك بأربعة أشياء: حراسة منازل الرعية في الأمصار، وحفظ طرقها في الأسفار، ومنع عدوها عن حريمها، وإعزاز قضاتها.
المتنبي:
إذا طلبت ودائعهم ثقاة ... دفعن إلى المحاني والوعان
فماتت فوقهن بلا صحاب ... تصيح بمن يمر: ألا تراني؟
وصية الكبار بتحري الإنصاف:
كان كسرى يقيم رجلين عن يمينه وشماله إذا قعد للنظر في أمور الناس، فكان إذا زاغ حركاه بقضيب كان معهما، وقالا له والرعية يسمعون: أيها الملك انتبه أنت مخلوق لا خالق، وعبد لا مولى، ليس بينك وبين الله قرابة، أنصف الناس وانظر لنفسك! ودخل أسقف نجران على مصعب فكلمه بشيء أغضبه، فرماه بمحجن فقال الأسقف: إن لم يغضب الأمير حدثته بحديث! فقال: حدث؛ فقال: في الإنجيل لا يجب للإمام أن يظلم وبه يلتمس العدل، ولا أن يسفه ومنه يطلب الحلم. فاعتذر منه وندم.
مدح العفة والأمانة والحث عليهما:
قال الله تعالى: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " . " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " . وقال تعالى: " فليؤد الذي اؤتمن أمانته " . وقال: " إن الله لا يحب كل خوان أثيم " . وقال عليه الصلاة والسلام: لا إيمان لمن لا أمانة له. وقال أعرابي: اللهم إني أعوذ بك من الخيانة فبئست البطانة! وقال بعضهم: إذا لم تكن خائناً فبت آمناً. وقال الجاحظ: سقى الله قبر الأحنف حيث يقول إلزم الصحة يلزمك العمل. وقيل: من أحرز العفاف لم يعدم الكفاف. وقال معاوية رضي الله عنه: من وليناه أمراً فليزم الرفيعين، الأمانة والعدل.
منع الوالي عن قبول الهدية:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: الهدية تذهب السمع والبصر. وقال: إذا دخلت الهدية من الباب خرجت الأمانة من الكوة. وبلغ أنوشروان أن بعض عماله قبل هدية فأحضره، فلما دخل عليه قال: هل قبلت الهدية؟ فقال: نعم. فقال: إن قبلتها لتستكفيه شيئاً لم تكن تستكفيه لولاها إنك لخائن، وإن قبلتها ولم تكافئه إنك للئيم، ولأن كافئته بسطت لسان رعيتك عليك ذماً، فمن أتى صنيعاً لا يخلو من هذه الثلاثة رغبنا عنه! وعزله. وقال الحجاج لوال: لا تقبل الهدية، فصاحب الهدية لا يرضى بعشر أمثالها مع الشنعة، ثم اسلخ ما بين أقفائهم إلى عجب ذنبهم فإنهم يرضون عنك.
مدح من لا يتكسب في ولايته ولا ينفق:

اجتمع عند المنصور يزيد ابن أسيد ومعن ابن زائدة وعدة من الأماثل فقال معن: ولاني أمير المؤمنين موضع كذا فحملته إليه كذا وكذا، وأنت ولاك أرمينيا فبعثت إليه بمشربة طبخ، فقال يزيد: يا أمير المؤمنين أيما أحب إليك الضنين بأمانته أو الجوّاد بخيانته؟ فقال المنصور: بل الضنين بأمانته! وولي مصعب جد الأصمعي الأهواز فعاد ولم يكن له إلا درهمان، فقيل له في ذلك فقال: ما وجدت إلا مسلماً له ما لي، وعليه ما علي، أو ذمياً له ذمة واجبة علي، فلم أدر أين أضع يدي! ودخل عمير بن سعد على عمر لما رجع إليه من ولاية حمص، وليس معه إلا جراب وأداوة وقصعة وعصا، فقال عمر: ما الذي أرى بك من سوء الحال؟ فقال: أولست تراني صحيح البدن؟ معي الدنيا بحذافيرها! فقال: وما معك؟ قال: جرابي أحمل فيه زادي، وقصعتي أغسل بها ثوبي ورأسي، وأداوتي فيها ماء سقيتي ووضوئي، ومعي عصاي إن لقيت عدواً دافعته بها، وما بقي فتبع لما معي! قال: صدقت! بعض الخراسانية:
فعاش خمسين عاماً في ولايته ... وجاع يوم ثوى في لحده خدمه!
وهذا البيت يمكن أن يكون مدحاً، وأن يكون ذماً.

تحريض الوالي على الإكتساب:
كتب أبو العيناء إلى صديق له تولى عملاً: أما بعد فإني لا أعظك بموعظة الله تعالى، لأنك غني عنها، ولا أخوفك إياه لأنك لا تخافه، ولكني أقول ما قاله الشاعر:
أحار بن عمر وقد وليت ولاية ... فكن جرذاً فيها تخون وتسرق
وباه تميماً بالغنى. إن للغنى ... لساناً به المرء الهيوبة ينطق!
واعلم أن الخيانة فطنة والأمانة خرفة، والجمع كيس والمنع صرامة، فاذكر أيام العطلة في حال الولاية، ولا تحقرن شيئاً صغيراً فالذود إلى الذود إبل، والولاية رقدة، فتنبه قبل أن تنبه، وأخو السلطان أعمى عن قليل سوف يبصر، وما هذه الوصية كما أوصى به الحكماء، ولكني رأيت الحزم في أخذ العاجل وترك الآجل!
من أريد عزله فاحتال أن يقر على ولايته:
كتب معاوية إلى عمرو بن العاص وإلى المغيرة أن يقدما عليه، فقدم عمرو من مصر والمغيرة من الكوفة، فقال عمرو للمغيرة: ما جمعنا معاوية إلا ليعزلنا، فإذا دخلت فاشك إليه الضعف واستأذنه أن تأتي الطائف، وأنا أساله مثل ذلك، فسيظن أنا نريد به شراً فسيردنا إلى العمل؛ فدخل المغيرة فسأله أن يعفيه وأن يأذن له في الذهاب إلى الطائف، ثم دخل عمرو فسأله مثل ذلك فقال معاوية: لقد تواطأتما على أمر، وهممتما بشر، ارجعا إلى عملكما! ولما استخلف سليمان بن عبد الملك تهدد الحجاج بالعزل، فكتب إليه الحجاج: يا سليمان إنما أنت نقطة من مداد، فإن رأيت في ما رأى أبوك وأخوك كنت لك كما كنت لهما، وإلا فأنا الحجاج وأنت نقطة إن شئت أتيتك وإلا محوتك! فأقره على عمله. وكان معاوية عزل عمراً عن مصر بأبي الأعور السلمي وكتب إليه على يده، وقال: ائته وادفع إليه الكتاب وأخرجه! فلما انتهى إلى مصر علم عمرو سبب مورده، فقال لوردان غلامه: احتل عليه! فقال: نعم. فلما دخل وأراد أ، يناوله الكتاب حلف أنا لا يأخذ الكتاب أو يأكل، فتقعد للأكل مع عمرو، فاحتال وردان وسرق كتبه. فلما فرغ وطلب الكتاب لم يجده فقال: يا أمير المؤمنين عزلك بي. فقال: هات الكتب! فلم يجدها فاضطرب. فكتب عمرو في الوقت إلى معاوية وأرضاه، فلما سمع بخبره ضحك وأمر برد أبي الأعور إليه. وقدم عمر رضي الله عنه الشام فتلقاه معاوية في موكب عظيم، وكان عمر على حمار هزيل، فلم يعرفه معاوية وجازه حتى نبه، فنزل له، فأعرض عنه عمر، وقال: قد صرت صاحب الموكب وذوو الحاجات تقف على بابك! قال: نعم. فقال: ونعم أيضاً! فقال: إنني ببلد يكثر فيه جواسيس العدو ولابد مما يرهبهم من آلة السلطان، فإن أمرتني فعلت وإن نهيتني انتهيت. فقال عمر رضي الله عنه: لا آمرك ولا أنهاك، والله لئن صدقت لقد فعلت فعل أريب، ولئن كذبت فقد اعتذرت عذر أديب! فقال أبو عبدة: ما أحسن ما صدر عما أوردته! فقال عمر رضي الله عنه: لحسن مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه.
اعتذار طالب رئاسة تعذر عليه:
قال رجل عند معاوية: عجباً لعلي كيف طلب الخلافة؟ فقال معاوية: اسكت فما كان في خطبتها إلا كما قال الشاعر:
لئن كان أدلى دلوه فتعذرت ... عليه، وفاتت رائداً فتخطّت

فما رغبة عنه تخطت حباله ... ولكنها كانت لآخر حطّت
وقيل لرجل خطب ولاية من أمير: ما ولاك الأمير؟ فقال: ولاني ظهره وأعطاني منعه، وحماني نفعه ورب ساع لم يدرك المنى، وحال بينه وبين مطلوبه القضاء!

مدح الإمارة والرخصة في الولاية:
روي أن رجلاً ذم الإمارة عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقها. وقال بعضهم: لولا الحظ في الولاية لما قال نبي الله يوسف عليه السلام لكافر: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم! وقال بزرجمهر: أغبط الناس الملك الحازم المظفر. وقيل: الإمارة ولو على الحجارة. وقال بعضهم: ما السرور؟ قال: رفع الأولياء وحط الأعداء، وطول البقاء مع القدرة والنماء؛ وقيل لآخر فقال: اللواء المنشور، والجلوس على السرير، والسلام عليك أيها الأمير.
مدح الاشتغال وذم الفراغ:
قيل: العطلة موت الحال. وطالت عطلة دينار ثم عرض عليه شغل فشاور الموبذ في ذلك فقال: إعلم أن العلة سكون والحياة حركة، فإن استطعت أن تخرج من حيز الأموات إلى حيز الأحياء فافعل. وقيل: إذا كان الشغل مجهدة فالفراغ مفسدة. وقال أكثم: ما يسرني أني مكفي كل أودي؛ فقيل له: ولمَ؟ قال: اكره طاعة العجز! وذلك أن مع الكفاية العجز والبلادة، ومع الحاجة الفطنة والشهامة.
ذم الولاية والتزهيد فيها:
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمه العباس رضي الله عنه: يا عم، نفس تحييها خير من إمارة تحصيها. وقال صلى الله عليه وسلم: ستحرصون على الإمارة، ثم تكون حسرة وندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة! ولما ولي أبو بكر رضي الله عنه خطبا لناس فقال: إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك! فرفع الناس رؤوسهم فقال: ما لكم إن الرجل إذا صار ملكاً زهد الله فيما في يده، ورغبة فيما في يد غيره، وانتقصه شطر أجله، وأشرب قلبه الإشفاق، فهو يحسد على القليل ويتسخط الكثير، فهو كالدرهم والسراب الخادع جذل الطاهر حزين الباطن، فإذا وجبت نفسه ونضب عمره حاسبه الله فأشد حسابه وأقل عفوه! وقال مطرف: لا تنظروا إلى خفض عيش السلطان ولين لباسه ولكن انظروا إلى سرعة ظعنه وسوء منقلبه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ملك أحد قط إلا شوطر عقله وضوعف بلاؤه وحزنه. ولما ولي محارب القضاء قيل للحكم بن عتيبة ألا تأتيه؟ قال: ما أصاب عند نفسه مصيبة فأعزيه، ولا نالته نعمة فاهنئه، وما كنت زواراً له من قبل فآتيه. وقال بعض الولاة لبهلول: كيف تجدك؟ قال: بخير ما لم أتول شيئاً من أمور المسلمين! قال: أتحب أن تكون صحيحاً؟ قال: لو كنت صحيحاً لنزعت نفسي إلى طلب الدنيا، فهذا أصلح لي أرجو أن أكسب الأجر وأن يحط الله عني الوزر. وقيل لأعرابي: أيسرك أن تكون خليفة وتموت أمتك؟ قال: لا لأنها تذهب الأمة وتضيع الأمة.
النهي عن طلب الرئاسة:
قال رجل لبشر الحافي: أوصني. قال: الزم بيتك! فترك طلب الرئاسة رئاسة. وقال ابن مسهر: ما بينك وبين أن تكون من الهالكين إلا أن تكون من المعروفين. وكان سفيان يتمثل بقول الشاعر:
حبُّ الرئاسة داء لا دواء له ... وقلما تجد الراضين بالقسم
وقال آخر:
وأكثر هالك في الناس تلقى ... فرأس هلاكه طلب الرئاسه
وقال آخر:
بلاء الناس، مذ كانوا ... إلى أن تنهض الساعه،
طلاب الأمر والنهي ... وحب السمع والطاعه!
قساوة قلب من تولى رئاسه:
كان عبد الملك بن مروان يسمي حمامة المسجد للزومه المسجد الحرام، فلما أتاه الخبر بخلافته كان المصحف في حجره، فوضعه وقال: هذا فراق بيني وبينك. وقال: إني كنت أتحرج أن أطأ غلة، وأن الحجاج يكتب إلي في قتل فئام من الناس فما أحفل بذلك! وقال له الزهري يوماً: بلغني أنك شربت الطلاء! فقال: أي والله والدماء! وقال: عجباً للسلطان كيف يحسن، وإذا أساء وجد من يزكيه ويمدحه! وفي كتاب الهند: السلطان ذو غدوات وبدوات أي أنه سريع الإنصراف كثير البذاء هجوم على الأمور.
تكدر عيشه:
قيل: لا أحد أمر عيشاً وأكد تعباً وأطول من فكرة من الملك العارف بالمعاد المتيقن بالثواب والعقاب. قال الشاعر:
يا رُب أفئدة بنار همومها ... تكون فتشقى في جسوم ناعمه

وقيل: لا تنظروا إلى خفض عيش السلطان ولين لباسه، وانظروا إلى سرعة ظعنه ومكنون حزنه وسوء منقلبه!

من أظهر الندامة عند الموت من الكبار لما ثقل:
عبد الملك رأى غسالاً فقال: وددت أني كنت غسالاً لا أعيش إلا بما كسبت يوماً فيوماً. فذك ذلك لأبي حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم يتمنون عند الموت ما نحن فيه، ولا نتمنى عنده ما هم فيه. وكان يقول: بعنا الدنيا والآخرة بغفوة.
ممتنع من الولاية:
في الخبر: نودي لقمان إني أجعلك خليفة في الأرض. فقال: إن أجبرني ربي فسمعاً وطاعة، وإن خيرني اخترت العافية فولاء الحكمة وصرفت الخلافة إلى داود عليه السلام، فكان إذا رآه داود قال: وقيت الفتنة يا لقمان! وقيل لبعضهم: ما يمنعك من الإمارة؟ قال: حلاوة رضاعها ومرارة فطامها! وبعث هشام إلى إبراهيم بن جبلة فقال: إنا قد عرفناك صغيراً، وخبرناك كبيراً، ورضينا سيرتك، وقد رأيت أني أشركك في عملي، وقد وليتك خراج مصر؛ فقال: أما الذي عليه رأيك فالله يجزيك، وأما أنا فما لي بالخراج بصر! فضحك وقال: لتلين طائعاً أو كارهاً، فتركه حتى سكنت سورة غضبه ثم قال: إن الله تعالى يقول، إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها! فما غضب حيث أبين ولا أكرههن إذ كرههن، فأنت حقيق أنها لا تغضب ولا تكره. فغضب وتركه. ولما أراد عمرو بن هبيرة تولية إياس القضاء قال له: إني لا أصلح لأني عبي دميم حديد! فقال: أما الحدة فالسوط يقومك، وأما الدمامة فإني لا أحاسن بك، وأما العي فإنك تعبر عما تريده. فولاه.
حث الوالي على إدخار الإحسان:
قال جعفر بن محمد: كفارة عمل السلطان إلى الإخوان. وقال بعضهم لوال:
بادر بإحسانك الليالي ... فليس من غدرها أمان!
وقيل: أحسن والدولة تحسن إليك. وأنشد:
إذا هبت رياحك فاغتنمها ... فإن لكل خافقة سكون
ولا تزهد عن الإحسان فيها ... فما تدري السكون متى يكون
وقيل: اجعل زمان رخائك عدة لزمك بلائك. وقيل: تودد الرجل في علو مرتبته ذب الشماتة أيام سقطته. واستعمل عمر رضي الله عنه رجلاً فقال: إن العمل كبير فانظر كيف تخرج منه.
ذم مغتر بولايته:
وصف أعرابي واليا فقال: ما أطول سكر كاس شربها فلان، ولما من عاقبتها أشد سكرا، ولئن كانت الدنيا مشغولة به ليوشك أن تكون فارغة منه، حيث لا يرجى له أوبة ولا تقبل له توبة! وذكر الأصمعي أن قول الشاعر:
أحسنت ظنّك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف غب ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
كأنما أخذ من قوله تعالى: " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة " . ودخل الأنباري الشاعر على الصاحب بالأهواز، وكان نازلاً في دار ابن بقيه ، فلم يعرفه الصاحب ولم يلتفت إليه فأنشأ يقول:
اسمع مقالي ولا تغضب عليّ فما ... أبغي بذلك لا بذلا ولا عوضاً
في هذه الدار في هذا الرواق على ... هذا السرير رأيت الملك فانقرضا
فقال له: من أنت؟ فانتسب له، فأقبل عليه وأكرمه وخوله.
البسامي:
فلا يغرركم نعم توالت ... فإن الدهر حال بعد حال
تهديد وال بعزله:
إبراهيم بن العباس الصولي:
أبا جعفر خف نبوة بعد دولة ... وعرج قليلاً مدى غلوائكا
فإن يك هذا اليوم يوماً حويته ... فإن رجائي في غد كرجائكا
جحظة:
قد نلتم منحة ما نالها بشر ... وحزتم نعمة ما حازها ملك
فليت شعري أمقدار تعمدكم ... بما أتاكم به أم خولط الفلك؟
ونظر الفضل بن مروان في رقاع الناس فإذا رقعة فيها:
تعزّزت يا فضل بن مروان فاعتبر ... فقبلك كان الفضل، والفضل والفضل
ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم ... أبادهم الأقياد والحبس والقتل
وإنك قد أصبحت في الناس ظالماً ... ستودي كما أودى الثلاثة من قبل
يعني الفضل بن يحيى، والفضل بن ربيع، والفضل بن سهل. وقال رجل لبعض الولاة: ما أنت إلا أن يزيلك القدرعن القدرة، فتحمل على المذلة والحسرة.
تمنى العزل له تبرماً به:

لما ولي أبان بن عثمان المدينة كان يطوف ليلة فسمع قائلاً يقول: اللهم اعزل عنا أباناً! فقال له أبان وهو لا يعرفه:ما فعل لك أبان؟ فقال: استطالت ولايته فمللتها! فقال: ويحك إنما له ستة أشهر! فقال: بدون هذا نفع الملك. وسمع المهدي إنسانا يدعو عليه فقال: يا هذا هل أسأت إليك قط؟ قال: لا ولكنني مللتك! فقال: أو لم أتولّ منذ شهرين؟ فقال: أو لم يكن في ذلك ما يمل؟ إني لأمل كنيتي فأغيرها في الشهر مرتين.

من رغب في العزل عن ولايته:
كتب بعض العمال إلى واليه وقد ولاّه موضعاً يقال له شير:
ولاية الشير عزل ... والعزل عنه ولاية
فولّني العزل عنه ... إن كنت بي ذا عناية
أصبر بالعزل عنه ... إلى غنى وكفاية
واستعفى رجل من ولاة عبيد الله بن طاهر فوقع في قصته: يعفي ولا يستكفي، وينفي إلى يافا.
من هدده واليه بالعزل:
وقع يحيى بن خالد إلى عامل: كثر شاكوك وقلّ شاكروك، فإما اعتدلت وإما اعتزلت! ووقع إلى آخر: أنصف من وليت أمره، وإلا أنصفه منك من ولي أمرك! ووقع المأمون لآخر: لو استقامت لك الطريقة لرضيت الخليقة، فإن لم تدع فيهم القذل راعينا فيك العزل! ووقع إلى أحمد بن هشام في رقعة متظلم: اكفني أمر هذا وإلا كفيته لأمرك، والسلام.
تمني زوال مملكة خسيس:
البسامي:
ألا يا دولة السفل ... أطلت المكث فانتقلي
ويا ريب الزمان أفق ... نقضت الشرط في الدول
أبو تمام الطائي:
كانت شماتة شامت عاراً فقد ... أضحت به تنضو ثياب العار!
جحظة:
سألت الله تعميراً طويلاً ... ليبهجني بخطبٍ يعتريكم
أخاف بأن أموت وما أرتني ... صروف الدهر ما أهواه فيكم!
أبو عطاء:
يا ليت جور بني مروان عاد لنا ... وإن عدل بني العباس في النار!
من شمت الناس بعزله:
قال أبو العيناء في ابن حمدان: لأن فضحته القدرة لقد جملته النكبة! وقال لموسى بن فرخشاه: الحمد لله الذي أذلّ عزتك وأذهب سطوتك، وأزال مقدرتك، فلئن أخطأت فيك النعمة لقد أصابت فيك النقمة! البحتري:
ففرحة الناس بإدباره ... كغيظهم كان بإقباله!
القاسم بن طوق:
رزقت سلامة فبطرت فيها ... وكنت تخالها أبداً تدوم
وقد ولّت بدولتك الليالي ... وأنت ملعن فيها ذميم
فبعداً لا انقضاء له وسحقاً ... فغير مصابك الخطب الجسيم!
ولما قبض المعتصم على الفضل بن مروان قعد للعامة فوجد قصة فيها:
يا فضل لا تجزعنّ مما بليت به ... من خاصم الدهر جاثاه على الركب
خنت الإمام وهذا الخلق قاطبةً ... وحرت حتى أتى المقدار في الكتب
جمعت شتى وقد أديتها جملاً ... لأنت أخسر من حمالة الحطب!
وأدخل أبو العيناء على أحمد بن أبي دؤاد فقال: ما جئتك مسلياً ولا معزياً، ولكن أحمد الله فيك إذ حبسك في جلدك، وأبقى لك عيناً تنظر بها إلى زوال النعمة! محمود الوراق:
خنازير ناموا عن المكرمات ... فأنبهم قدر لم ينم
فيا قبحهم عندما خولوا ... ويا حسنهم في زوال النعم!
من تحامل الناس عليه لنكبته وعزله:
لما عزل المنصور بن عمران عن القضاء جعل الناس يسبونه، وكان فيهم رجل يلج في أذاه فقال له: يا هذا هل أسأت إليك قط؟ قال: لا. قال: فما حملك على هذا الذي تأتيه؟ قال: سمعت الناس يشتمونك فساعدتهم! فأنشد المنصور:
غير ما طالبين وتراً ولكن ... مال دهر على أناس فمالوا
ولما نكب علي بن عيسى جفى جفاء عظيماً ، وهجره الناس قاطبة ، ثم لما رشح للولاية تزاحم الناس عليه،فأنشأ يقول:
ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها ... فحيثما انقلبت يوماً به انقلبوا
صعوبة العزل:

قيل: العزل طلاق الرجال. وسئل بعض الحكماء: ما أشد ما يمر على الإنسان؟ فقال بعضهم: فقر في سفر، وقال بعضهم: مرض في غربة، فقال: أشد من ذلك عزل مع نكبة! وكان ليوسف ابن عمر جارية وكانت على رأسه، فأتاه كتاب فلما قرأه تغير لونه فقالت: أيها الأمير هذا كتاب عزل؟ كيف دريت؟ قالت: لتغير وجهك قلما عهدته، وقد كان يعزل عنها خوف الحبل، فقالت: كيف أجزت العزل لي وهذا طعمه؟ فقال: إذاً لا أعاود ذلك!

من لم يبال بالعزل:
قال زياد: إن الأحنف قد بلغ من الشرف ما لا تنفع معه الولاية ولا يضره العزل. أحمد ابن طاهر:
ما وضع العزل منك قدراً ... ولا تعالى عليك وفرا!
ابن طباطبا:
لقد سرني أن الصيانة وفرت ... عليك بعزل كان فيه رضاكا
تسلية المعزول:
أراد الرشيد أن يعزل الفضل بن يحيى عن خاتمه، ويصيره إلى أخيه جعفر، فكتب إليه: قد رأى أمير المؤمنين أن ينقل خاتمه من يمينك إلى شمالك! فأجابه الفضل: ما انتقلت عني نعمة صارت إليك ولا خصصت بها دوني. قال ابن المفجع:
لم يعزلوا الأعمال عنه، وإنما ... عزلوا العفاف به عن الأعمال!
أبو تمام:
وما كنت إلا السيف جرّد للوغا ... فأحمد فيه ثم صار إلى الغمد
ونحوه ما كتب به بعضهم: ما عزلت عن الديوان ولكن عزل عنك! فأنت المهنأ، وهو المعزى، وقد كنت محتاجاً إلى العزل ليعرف الجور من العدل. قال: وإن العزل غاية كل والٍ.
أبو هفان:
لأنت في العزل على غضه ... أنيل من غيرك في الأمر
وقال آخر:
وكل نار لها اتقاد ... لا بد يوماً لها خمود
رفيع معزول بدنيء:
قال ابن بزدويه الأصبهاني: لما عزل أبو علي بن رستم وقلد أبو الحسن وأبو مسلم يخاطب علي بن عيسى:
أيا ابن عيسى سمتنا ... مقابح الحوادث
بعاملين أخرقين ... عابس وعابث
طيرين أرسلتهما ... عززهما بثالث
ولما عزل وكيع عن رئاسة بني تميم قال بعضهم: عزلت السباع ووليت الضباع، فصار الأمر إلى الضياع! ولبعضهم في مثله: إي حق رفع وأي باطل وضع؟ بدل، لعمرك من يزيد أعور.
ابن أبي الرعد:
فإن تك قد عزلت فلا عجيب ... ضياء الشمس يعزله الظلام!
وقال كناس لما عزل علي بن عيسى وولي مكانه ابن الفرات: أخذوا المصحف ووضعوا مكانه طنبوراً!
من يقرب عزله من ولايته:
قال الشاعر:
فإنك في زمن دهره ... كيوم، ودولته ساعتان
ابن حجاج:
يوم الخميس بعثت بي ... وصرفتني يوم الأحد!
فالناس قد غنوا علي ... كما خرجت من البلد:
ما قام عمرو في الولا ... ية ساعة حتى قعد
وقال آخر:
رأينا لأبواب ابن بلبل ساعة ... من الدهر إقبالاً تطلع فارتحل
أشبهه نقش العروس تخضبت ... فلما مضى الأسبوع من عرسها نصل
تذمم من ولي أمراً صغيراً بعد أن تولى كبيراً:
قيل: عنوق بعد نوق وحور بعد كور.
المتنبي:
ومن ركب الثور بعد الجوا ... د أنكر أظلافه والغبب
وكان أبو عماد النميري تولى أموراً كباراً، فأتى سلطاناً يسأله أن يوليه أمراً، فولاه أمانة قرية فسرق ما في البيدر فقال:
أنا باز أضرب الكر ... كيّ والطير العظاما
وإذا ما أرسل البا ... زي على الصقر تعامى
أخذ ذلك من قول الآخر:
والصقر يحقر ... عن طراد الدخل
وقيل لبعض من كان في خطبة أمر كبير فامتنع عليه فرضي بصغير: زلالاً ثم شربت رنقاً؛ فأنشد:
ومن يبتغ العذب الزلال ويمتنع ... من الشرب من سؤر الكلاب تعطّبا
إذا المرء لم يقدر له ما يريده ... رضي بالذي يقضى له، شاء أم أبى!
ذم متول بغير استحقاق:
قال موبد: بلوغ شرف المنزلة بغير استحقاق إشفاء على الهلكة. وأتى عبادة دينار بن عبد الله وقد ولي مصر فقال: يا فرعون ارفع رأسك، وانظر إلى من ندب لولاية مصر! ابن بسام:
كيف تستوثق الأمور وتصفو ... ومدار الدنيا على بن الفرات؟
وصف عاجز في ولايته:

في الحديث: أن الله يبغض السلطان الركيك. ورد كتاب صاحب أرمينية على السفاح بأن الجند قد شغبوا ونهبوا، فكتب إليه، اعتزل أمرنا، فلو عدلت لم يشغبوا، ولو قريت لم ينهبوا! واستعمل المنصور رجلاً على خراسان فأتته امرأة في حاجة فلم تر عنده غنى فقالت: أتدري لم ولاك أمير المؤمنين؟ قال: لا. قالت: لينظر هل يتم أمر خراسان بلا وال! ووقع جعفر إلى عامل له: إنك كثير الشكاية قليل النكاية، جريء في ميدان العلل بطيء في ميدان العمل! شاعر:
وأحمد يا قوم لو أمره ... إليّ لألزمته راويه
وولى ابن هبيرة رجلاً ماسبذان فقال: اكتم أمرك حتى ترد إلى عملك. فخرج إلى همدان فلما بلغ قيل: لم يرد علينا ما دل على ولايتك. فأخرج عهده فإذا هو إلى صاحب ماسبذان، فكتب إلى ابن هبيرة: إني عطلت ما بين سب وبين هم لما رأيت في آخره ذان! فضحك لما قرأ الكتاب وقال: أنا أولى الناس بأن أؤدب إذا وليت مثله واعتمدت جهله.

ذم وال خسيس:
ابن لنكك:
قل للوضيع أبي رياش: لا تبلته كل تيهك بالولاية والعمل!
ما ازددت حين وليت إلا خسة ... فالكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل!
المتنبي:
كرم الأعمال لا يغنيك والنفس قليله
ليس في النذل، ولو خول ملك الأرض، حيله
الطرماح:
إذا ما ابن حد كان ناهز طيء ... فإن الذرا قد صرن تحت المناسم
من لا يستضر بعزله ولا ينتفع بولايته:
قال أبو العيناء لصاعد: نحن في دولتك محرومون، وفي عطلتك مرحومون! وقيل له: ما حالك مع فلان مذ تولى؟ فقال: أنا معه غير جندب، يعني قول الشاعر:
وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
وأنشد لأبي الفتح بن أبي جعفر بيتين قالهما في الأستاذ الرئيس، لما قبض على ابن أحمد بن العباس، فأغير على داره:
أيوجب عدل أهل العدل أني ... أعدّ مع الجناة بلا جنايه
أشارك معشراً في صرف دهر ... هم ما شاركوني في الولايه
وقد أحسن المسهل بن كميت حيث يقول:
إذا نحن خفنا في زمان عدوكم ... وخفناكم إن البلاء لراكد!
ذاهب عنه أمره:
قيل لرجل زال ملكه: ما كان سبب زوال ملكك؟ فقال: تدبير الأمر بالهوى، وتأخير عمل اليوم إلى غد. وقيل ذلك لآخر فقال: قلة التيقظ واشتغالنا باللذات عن التفرغ، وثقتنا بعمالنا حتى ظلموا رعيتنا، فقل دخلنا وبطل عطاء جندنا، فقلت طاعتهم لنا، فقصدنا الأعداء فعجزنا عن مدافعتهم.
متولي رئاسة بغير استحقاق:
قال رجل لسعد: إن سوّدك القوم لجهلهم بلك فسيد الجاهلين غير شريف، وإن سوّدوك للفقر إليك فأنت كما قال:
خلت الديار فسدت غير مسود ... ومن الشقاء تفردي بالسؤدد!
وقال محمد بن يزيد:
ومن انتكاس الأمر أن ... صارت ولاة الأمر ضبه
وشتم بجنون رجلاً فقال له: أتشتمني وأنا سيد قومي؟ فقال المجنون:
وإن بقوم سودوك لفاقة ... إلى سيد لو يظفرون بسيد!
وقال آخر:
وكلام مثلك في الخطو ... ب من العجائب والكبائر!
وصف عسوف في ولايته:
حكى رجل ولاية عامل فقال: كان يجبي خراج الوحش، ويأخذ جزية السمك، ويطلب زكاة الملائكة، ويلتمس جمع الريح، ويروم القبض على الماء وحصر الحصى وتحصيل الهباء، ولئن كانت النعمة عظمت على قوم خرج عنهم، لقد عظمت المصيبة على قوم نزل فيهم. وسئل رجل عن وال فقال: هو كما قال الشاعر:
وكان إذا أناخ بدار قوم ... أبو حسان أورثهم خبالا!

وقال عمر رضي الله عنه: لا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه! وتظلم أهل الكوفة إلى المأمون في وال كان عليهم فقال المأمون: لا أعلم في عمالي أعدل وأقوم منه! فقام رجل فقال: إن كان عاملنا بهذا الوصف فحق أن تعدل بولايته، فتجعل لكل بلد منه نصيباً لتسوى بالعدل بينهم، فإذا فعل أمير المؤمنين ذلك لا يصيبنا منه أكثر من ثلاث سنين! فضحك وعزله. وقال المنصور يوماً: من بركتنا على المسلمين أن الطاعون رفع عنهم في أيامنا! فقال بعض الحاضرين: ما كان الله ليجمع ولايتكم والطاعون! وبلغ من تمرد يوسف بن عمر أنه نادى: أن لا يضرب أحد في دار الضرب درهماً ينقص عن العيار حبة فما فوقها إلا ضربته ألف سوط، فضرب مائة رجل فقالوا: ضرب مائة ألف سوط في حبة وعد في سيئات الحجاج أنه قتل صبراً مائة ألف وعشرة آلاف رجل سوى من قتل في عساكره، ومات في الحبس ثمانون ألفاً، منها ثلاثون ألف امرأة. وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لو جاءت يوم القيامة الفرس بأكاسرتها، والروم بقياصرتها، وجئنا بالحجاج لغلبناهم به!

ذم إمارة الصبيان والنساء:
لما مات كسرى وأخير النبي صلى الله عليه وسلم به قال: من استخلفوا؟ فقالوا: بنيته بوران. قال: لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة! وقال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: سيأتي على الناس زمان لا يقرب فيه إلا الماحل، ولا يظرف فيه إلا الفاجر، ولا يضعف فيه إلا المنصف، يتخذون القيء مغنماً والصدقة مغرماً، فحينئذ يكون سلطان النساء ومشاورة الإماء وإمارة الصبيان! وقيل: إن البوم أراد التزوج، وكان الهدهد دلالاً، فأتاه وقال: أنهم ضمنوا لك خمس قرى عامرة وخمس قرى غامرة. فقال: لا حاجة لي في العمران! فقال: خذها فولايتها إلى امرأة وما تولت امرأة أرضاً إلا خربت، فقبلها وقال: صدقت. وقيل: إذا أراد الله بقوم سوءاً جعل أمرهم إلى صبي أو امرأة. قال الشاعر:
إن ملكاً تسوسه ... أمُّ موسى وفاطمه
لجدير بأن ترى ... ربة البيت لاطمه
ابن بادان:
ما للنساء وللعما ... لة والخطابة والكتابه؟
هذا لنا، ولهن ... منا أن يبتن على جنابه!
ولابن بسام في متقدم امرأة:
نلت ما نلت يا دنيء بأم ... هي أعطتك رؤية الأمراء
فإذا عدت الصنائع يوماً ... كنت فيها صنيعة البظراء!
وكان بالري مجنون فقال يوماً لفولاذ بن منادر لما هرب من شيراز: يا متخلف كان يجب أن تداوي كس الدولة وبظر الملة، وتدخل إليها فتشيل رجليها حتى كان يستوى أمرك؟ قال الشاعر:
إن الأمور إذا أضحت يدبرها ... أم وطفل وسكران ومجنون
كمنذرات الورى أن لا فلاح لمن ... يرجو النجاح وإن الملك مغبون
؟؟
مدح الوزارة وذمها:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من أحد أعظم أجراً من وزير صالح يكون مع إمام فيأمره بذات الله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من أحد من المسلمين ولي أمراَ فأراد الله به خيراً إلا جعل معه وزيراً صالحاً إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه. وقيل: ثبات المملكة بقدر هيبة وزرائها. وقيل: لا يطمع الملك الضعيف الوزير في ثبات ملكه. وقال بعض الملوك لحكيم: أي الأعوان أحق بقرب الوسيلة؟ فقال: الوزير الصالح الناصح اللبيب، الذي ارتفاعه ملكه، وهلاكه بهلاكه. وقيل: لا تغتر بمناصحة الأمير إذا غشك الوزير، وإذا صادقك الوزير فلا يهولنك الأمير.
انقياد الأمير للوزير وذمه بذلك:
قيل: الإستسلام للوزير هو العزل الخفي. وقال نصر بن سيار: إذا لم يشرف الأمير على أموره فليعلم أن أغش الناس له وزيره! وقال أبو الشص: في الملك لا يصرف الأمر دونه الوزراء.
مدح وزير صالح:
قال بشار:
وقل للخليفة إن جئته ... نصيحاً ولا خير في المتهم:
إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمراً، ثم من
أبو نواس:
قولا لهارون إمام الورى ... عند احتفال المجلس الحاشد:
أنت على ما بك من قدرة ... فلست مثل الفضل بالواحد!
ابن الرومي:
ظفرت يداك من الوزير بقيم ... يؤتى نصيحته بلا استكراه

أما ظهارته فلسلطانية ... وله بطانة مخبت أواه!

ذم اجتماع وزيرين:
البسامي:
فقدتكم يا بني الجاحده ... أفي كل يوم لكم آبده؟
متى سمع الناس فيما مضى ... وزيرين في دولة واحدة؟
الظاهري:
وزيران أما بالمقدم منهما ... فخبل، وبالثاني يقال جنون!
متى تلق ذا أو تلق ذاك لحادث ... تلاق مهيناً لا يكاد يبين!
وقال عبد الملك لما أراد الخروج إلى مصعب وقد نهاه بعض نسائه: كفى فلا يجتمع فحلان في شول، ولا قمران في سماء، ولا سيفان في غمد؛ ويروى للمهلب في معناه:
ولو صلح التشارك لم تضايق ... ولكن لم يسع أسدين غيل
تولي دنيء الوزارة:
كان ابن بلبل خاملاً، وكان يؤاجر في أيام صغره، حتى يحكى أنه حمل ليلة إلى موضع فاجتمع عليه عدة فلم يزالوا يقلبونه إلى الصباح حتى قاله: أما فيكم رحيم يتركني أنعس نعسة؟ البسامي:
كيف نرجو رحمة الله ولا نخشى الحجاره؟
والذي كنا عرفنا ... ه قديماً بالإجاره
حائز الأمر علينا ... بتوليه الإماره
وقال آخر:
وزير ما يفيق من الرقاعه ... يولى ثم يعزل بعد ساعه
المصيصي:
أنا مذ صرت وزيراً ... طاب شتمي للوزاره
آخر في مثله:
أعيذك بالرحمن من شر خائن ... له قلم زانٍ وآخر سارق
وزير أمي:
تولى شجاع بن القاسم وزارة المستعين، وحرص كل الحرص على أن يتعلم الكتابة فما تهيأ له، وكان يحضر معه كاتباً يلقنه فيفهم عنه جل ما في الكتب، فيعرضه على المستعين.
مما جاء في أحوال أتباع السلاطين
وجوب اتباع السلاطين:
قال الله تعالى: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " ؛ فقرن طاعتهم بطاعته. وقيل: لا تتقرب الرعية إلى الأئمة بمثل الطاعة، ولا العبد إلى المولى بمثل الخدمة، ولا البطانة بمثل حسن الإستماع. وقال الحجاج: والله إن طاعتي أوجب من طاعة الله تعالى، لأن الله تعالى يقول: " اتقوا الله ما استطعتم " وجعل فيه مثوبة، وطاعتي لا مثوبة فيها. وقيل: سعادة الرعية في طاعتهم لملكهم. ورفع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الدرة على سعيد بن عامر فقال: لا يسبق سيلك مطرك، لو أمرت قبلنا وإن عاتبت اعتبنا، وإن عاقبت صبرنا، وإن غفرت شكرنا! فقال: ما على المسلمين أكثر من هذا. وأمسك عنه.
وجوب ملاينة السلطان ومداراته:
قال الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: " فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى " . وقال تعالى: " وجادلهم بالتي هي أحسن " . وتعلق رجل بالرشيد وهو يطوف بالبيت فقال: إني أريد أ، أكلمك بكلام فيه بعض الغلظة! فقال: لا ولا نعمى! إن الله بعث من هو خير منك إلى من كان شراً مني، فقال: فقولا له قولاً ليناً. وقال الأحنف: السلطان من تأبى عليه أذراه، ومن لان له تخطاه. وقيل: لتكن مداراتك للسلطان مداراة المرأة القبيحة للزوج المبغض لها، فإنها لا تدع التصنع لها في كل حاله. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إذا بليت بالسلطان فخرق دينك بالملق والروغان، ورقعه بالكفارات والإستغفار.
الحث على مصابرة السلطان عادلاً كان أو جائراً:
قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا كان الإمام عادلاً فله الأجر، وإذا كان جائراً له الوزر وعليك الصبر.
وجوب تعظيمه ومدح فاعل ذلك:
قال ابن عباس رضي الله عنه: السلطان عز الله في الأرض، فمن استخف به نابته فلا يلومن إلا نفسه. وقيل: إذا جعلك السلطان أباً فاجعل رباً. وقيل: إياك ورفع الصوت على السلطان، فمن رفع الصوت عليه فقد خلعه. قال الله تعالى: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول: وقال حكيم لابنه: إياك أن تصحب السلطان بالجرأة عليه والتصغير لقدره والتهاون بأمره، ولتكن صحبتك له كصحبتك للأسد الضاري والفيل المغتلم والأفاعي القائلة. وقالت الحكماء: من حق من هازله السلطان وضاحكه ثم دخل عليه أن يدخل دخول من لم يجر بينهما أنس قط، وإن لا يترك الإجلال له، فإن أخلاق الملوك ليست على نظام.
؟استعمال الوقار في مجلس السلطان:

كان أبو القاسم الكعبي المتكلم في مجلس أمير خراسان، فسقط من السطح طست فتزلزلت منه عرضة الدار، فلم يلتفت أبو القاسم عن الأمير، فقال الأمير: لا يصلح لوزارتي إلا هو. وأراد عبد الملك أن يجرب الحجاج، فأمر بأن يدخل في سراويله عقارب، فكانت تلدغه ولم يشتغل بها عن محادثة عبد الملك.
؟ترك عظيم غير السلطان في مجلسه: دخل أبو مسلم على السفاح وسلم عليه، فطرح له متكأ وأبو جعفر قريب منه فقال السفاح: يا أبا مسلم هذا المنصور؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا موضع لا يقضى فيه غير حقك.
؟وجوب الإغضاء في مجلس السلطان: قيل: أهدي إلى ملك الهند ثياب وحلي، فدعا بامرأتين وخيرا حظاهما عنده بين اللباس والحلي، وكان وزيره حاضراً، فنظرت المرأة إليه كالمستشيرة فأشار بعينه إلى اللباس، ولحظه السلطان فاختارت الحلي لئلا يقطن الملك للإشارة، ومكث الوزير أربعين سنة كاسراً عينه ليظن الملك أن ذلك عادته. وقيل: من داخل السلطان فيحتاج أن يدخل أعمى ويخرج أخرس.
؟

المتجنب الكلام الموهم في مخاطبة السلطان:
قال الله تعالى: " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً " " الآية " . وقال الله تعالى: " لاترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " . وذم قوماً من سفهاء بني تميم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أخرج إلينا، فأنزل الله تعالى: " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون " . ومدح قوماً فقال: " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: أنا أكبر أم أنت؟ فقال: أنت أكبر وأنا أسن! ودخل السيد الحميري على المأمون فقال له المأمون: أنت السيد! فقال: بل أنا العبد وأنت السيد! وقال سعيد بن عثمان للطوسي: أينا أسن؟ فقال: لقد شهدت أمك المباركة إلى أبيك الطيب لئلا يوهم أمراً.
المنكر عليه لفظه مع سلطان:
قال بعض أصحاب المأمون لرجل نزل له: يقول لك أمير المؤمنين اركب. فقال: لا يقال لمثله اركب بل يقال له انصرف. دخل أبو الحسن المدائني على المأمون فلما خرج قال له رجل: عرفني ما جرى بينك وبين أمير المؤمنين؟ فقال: لست بموضع ذلك لأنك لم تميز بين أن تقدم ذكر أمير المؤمنين وبين أن تقدم ذكري. وكان الحسن اللؤلؤي يحضر مجلس المأمون ويجاريه الفقه فنعس المأمون فقال اللؤلؤي: أنعست يا أمير المؤمنين؟ فقال المأمون: سوقي والله يا غلام، خذ بيده! فجاء الغلام فأقامه. فبلغ ذلك الرشيد فقال متمثلاً:
وهل ينبت الخطيّ إلا وشيجه؟
وقال الأصمعي للرشيد في شيء سأله: على الخبير سقطت. فقال: أسقطك الله على رأسك!
النهي عن التفوه بما يظن فيه تعويض:
دعا المنصور جماعة من القراء فقال لأحدهم: إقرأ. فقرأ: أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون. فغضب وقال الآخر: إقرأ. فقرأ: كم تركوا من جنات وعيون. فغضب وأخرجه ثم قال لآخر: إقرأ. فقرأ: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجز أهل البيت ويطهركم تطهيراً، فأمر له بصلة. وقال المأمون لقارىء عنده: إقرأ. فقرأ: فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله. فأمر أن يجر برجله. دخل أبو النجم على هشام فأنشده.
الحمد لله الوهوب المجزل
فلما انتهى إلى قوله:
وصارت الشمس كعين الأحول
قال هشام: أبي تعرض يا ابن اللخناء أخرجوه، وكان هشام أحول؛ وأنشده ذو الرمة:
ما بال عينك منها الماء ينسكب
وكان هشام أرمد فقال: لما ينزع الله بعينيك، وأنشد البحتري محمد بن يوسف:
لك الويل من ليل تطاول آخره
فقال: بل الويل والحرب لك! واستنشد أبو دلف راشداً الكاتب بعض ما يرثي به أيره فأنشده:
ألا ذهب الأير الذي كنت تعرفه
فقال: بل إمك التي كانت تعرفه.
النهي عن الوقيعة في السلطان:
سمع أعرابي إنساناً يقع في السلطان فقال: يا فلان إنك غفل وكأني بالضاحك لك باك عليك! ودخل خالد بن صفوان على بلال بن أبي بردة حين ولي البصرة، فلما ولي قال:
سحابة صيف عن قليل تقشع

فقال بلال: أما إنها لا تنقشع حتى يصيبك منها شؤبوب برد. ولما عزل أحمد بن عثمان عن أصفهان قال له رجل في وقت خروجه: الحمد لله الذي أراحنا من بغضك! فأمر بحبسه وقال لشهود كانوا معه: أشهدوا إن هذا في حبسي بحق! فكان كلما ورد قاض وفتش عن أمر المحبسين لم يعرف ذلك الحق الذي حبس به، فبقي على ذلك زماناً حتى توصل إلى تنجيز كتاب كتب منه بعد حين، فأطلق. وقيل: ثلاثة ليس من حقها أن يحتملها السلطان: الطعن في الملك، وإفشاء السر، والخيانة في الحرم.

الإرجاف بالسلطان:
كان بعض الناس أرجف بعزل سلطان فأخذه وضربه، فلما خلى عنه عاد إلى أصحابه وقال: أما عرفتم تحقيق قولي؟ لولا ذلك لما نكاه الخبر به، فخلاه، وقال: لو ترك الإرجاف في موضع لتركه هنا. وخرج جماعة إلى السلطان يطلبون شغلاً فلم يجدوا فقال بعضهم: تقوتوا الإرجاف وانتظروا الدول. وقيل: الأراجيف تلقيح الفتن.
شاعر:
أراجيف الأنام مخبرات ... بأمر كائن لا شك فيه
التخير من مقاربة السلطان:
قيل للعتابي: لمَ لا تقصد السلطان فتخدمه؟ فقال: لأني أراه يعطي واحداً لغير حسنة ولابد، ويقتل الآخر بلا سيئة ولا ذنب، ولست أدري أي الأجلين أنا، ولست أرجو منه مقدار ما أخاطر به، وهو الذي قال لامرأتك:
أسرك أني نلت ما نال جعفر ... من الملك أو ما نال يحيى بن خالد؟
قالت: بلى. فقال:
وأن أمير المؤمنين أغصني ... مغصهما بالمرهفات البوارد؟
قالت: لا. فقال:
ذريني تجئني منيتي مطمئنة ... ولم أتجشم حول تلك الموارد!
فإن جسيمات الأمور مشوبة ... بمستودعات في بطون الأساود
أبو القاسم الدمشقي:
إن الملوك بلاء حيثما حلوا ... فلا يكن لك في أكنافهم ظلُّ
إن جئت تنصحهم ظنوك تخدعهم ... واستثقلوك كما يستثقل الكلُّ
فاستغن بالله عن أبوابهم أبداً ... إن الوقوف على أبوابهم ذلّ!
وقيل: احذر السلطان فإنه يغضب غضب الصبي ويأخذ أخذ الأسد. وقيل: إياكم والسلطان فإنه فم الأسد، وحمة الأسود. واتصل رجل بالمنذر بن ماء السماء ونادمه، فنهاه صديق له عن ذلك وخوفه منه، فلم يلتفت إلى قوله ولم يسمع قوله، فغضب المنذر عليه يوماً فقتله، فقال فيه ذلك الصديق:
إني نهيت ابن عمار وقلت له ... لا تأمنن أحمر العينين والشعر
إن الملوك متى تنزل بساحتهم ... تطر بثوبك نيران من الشرر!
التحذير من الدخول في أمر السلطان:
قيل: العاقل من طب السلامة من عمل السلطان، فإنه إن عف جنى عليه العفاف عداوة الخاصة، وإن بسط يده جنى عليه البسط السنة العامة. قال محمد بن السماك لصديق استشاره وقد دعي إلى الدخول في عمل السلطان: يا أخي إن استطعت أن لا تكون لغير الله عباً، ما وجت من العبودية بداً فافعل. وقال عيسى بن موسى لعبد الرحمن بن زياد: ما يمنعك من زيارتي؟ قال: إن أتيتك فأكرمتني فتنتني، وإن جفوتني حزنتني، وليس عندك ما أرجوه، ولا عندي ما أخافك عليه. وقيل: إذا لم تكن من قرباء الأمير فكن من أعدائه.
حمد الانقباض عن السلطان:
قال الأحنف: لا تنقبضوا عن السلطان ولا تهالكوا عليه، فإن من أشرف له أذراه، ومن تضرع له تخطاه. وقيل: انقبض عن السلطان ما أمكنك، فالسلطان ذو عذاب وبدوات، وهو في قلة وفائه لأصحابه وسخاء نفسه عمن فقد منهم مثل البغي والمكتب، كلما ذهب واحد جاء آخر. كان النعمان دعا بحلة وعنده وفود العرب وقال: احضروا في غد فإني ملبس هذه الحلة أكرمكم. فخسر القوم إلا أوساً فقيل له: لمَ تأخرت؟ فقال: إن كنت المراد فإني أدعى، وإن كان المراد غيري فأجمل الأشياء أن لا أكون أنا حاضراً. فلما جلس النعمان ولم ير أوساً بعث إليه فقال: أحضر وأنت آمن فأحضره وألبسه الحلة.
النهي عن الإدلال على السلطان:
قيل: الدالة تفسد الحرمة وتهدم المنزلة. وقال هشام: إن فلاناً أدل فأمل، وأوجف فأعجف، ولم يدع ليرجع إليه مرجعاً. وقد مضى في الإخوانيات مثل ذلك.
مخالطة السلطان:

قيل: جاور ملكاً أو بحراً. وقيل: لم يعر من النوك من لم يخدم الملوك. وقيل: من كان وضيع الهمة لم يصبر لدى الملوك على الخدمة. وقال عبد الله: من نزع عنا لم ينتفع بنا. وقيل لبعضهم: لا تصحب السلطان فمثل السلطان مثل القدر، من مسه سوّده؛ فقال: لئن كان خارج القدر أسود فداخلها لحم كثير وطعام لذيذ!

المتبجح بمعاضدة السلطان:
قال الرشيد ليزيد بن مزيد في لعب الصوالج: كن مع عيسى بن جعفر. فأبى فغضب الرشيد وقال: أتأنف أن تكون معه؟ فقال: حلفت على أن لا أكون على أمير المؤمنين في جد ولا هزل! فسكن. قال بعض الخلفاء لجرير: إني أعددتك لأمر. فقال: إن الله تعالى قد أعدّ لك مني قلباً معقوداً بنصيحتك، ويداً مبسوطة بطاعتك، وسيفاً مشحوذا على عدوك. وقال بعضهم: أنا أ " طوع لك من الردى وأذل لك من الحدا! خطب عبد الملك يوماً وحث الناس على قتال ابن الزبير، فقام عدي بن أرطاة فقال: إنا لا نقول ما قال قوم موسى عليه السلام: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكنا نقول: إنا معكم مقاتلون!
التمدح بمتابعة السلطان:
أنشد سلم بن قتيبة قول حطابط:
أسود فأكفي أو أطيع المسوّدا
فقال: ما أدري أي هذين أشرف؟ فقال بعض أهل المجلس: هذا فإنه إذا مات السيد يكون ملكه، ولو هارّه وشارّه ما كان ليجعل مكانه. فقال: صدقت.
حاتم:
لعمرك ما إن أبو مالك ... بواهٍ ولا بضعيف قواه
إذا سسته سست مطواعة ... ومهما وكلت إليه كفاه!
الإنخراط في سلك السلطان في حده وهزله:
دخل الشعبي على بشر بن مروان وفي حجزه عود فقال الشعبي: أصلح المثنى. قال بشر: أتعرف؟ قال: نعم ولك عندي ثلاث: الستر لما أرى، والشكر لما يكون منك، والدخول في ما لم يجمع على تحريمه. ودخل شاب من بني هاشم على المنصور فأجلسه ودعا بغدائه وقال للفتى: أدن فقال: تغديت. فلما قام دفع الربيع في قفاه وأخرجه، فجاء عمومته يشكون من الربيع إلى المنصور فقال: إن الربيع لا يقدم على مثل ذلك إلا وفي يده حجة، فليدع وليسأل فسئل فقال: دعاه أمير المؤمنين إلى طعامه فقال قد تغديت، فإذا ليس عنده إن التغدي مع أمير المؤمنين أيسر ما فيه سد الجوعة، ومثله لا يقومه المقال دون الفعال. وقيل: السلطان سوق والناس يجلبون إليها ما ينفق فيها.
الممتنع من أداء المال إلى السلطان:
ولي بعض العمال كورة فأحضر رجلاً كان معروفاً بكسر الخراج، فقدم إلى عونين ينتفان سباله إلى أن يؤدي الخراج، فقال: أؤديه اليوم. قال: وخراج أهل بيتك؟ قال: افعل. قال: وخراج شركائك؟ فنظر إلى العونين وقال: انتفا على بركة الله فإن الرجل أحمق! ولما طلب يوسف ابن عمر خالداً القسري قال: قد علمت أن الذي تطلبه ليس بحاضر وإنه لمتبدد عند الناس، فاجمع الناس لي وائذن لي في الخروج إليهم لأكلمهم، وأسأل من عنده شيء ليرده، فأمر بأن يخرج إلى الناس فخطب خطبة وقال: أيها الناس قد علمتم ولايتي وسيرتي، وإنما كنت عاملاً لهشام وما له عندي تبعة، وها هو قد سلط علي يوسف بن عمر وطالبني بمال، فليبلغ الشاهد منك الغائب أن من عنده وديعة فهو منها في حل، وكل مملوك لي فهو حر، ومن أسديت إليه صنيعاً فأنا نادم على تقصيري حيث لم أضعه له! وقال شاعر:
وقولا لهذا المرء ذو جاء ساعياً ... هلم فإن المشرفي لقاضب
المتغير على السلطان لفظاً:
بعث يزيد عبد الله الأشعري إلى ابن الزبير فقال له: إن أول أمرك كان حسناً فلا تفسد بآخره! فقال عبد الله رضي الله عنه: ليس ليزيد في عنقي بيعة. فقال: ولو كان له في عنقك بيعة كنت تفي بها؟ قال: أي والله! فالتفت إلى الناس فقال: معشر الناس قد بايعتم ليزيد، وهو يأمركم بالرجوع عن بيعته، وهو لا يرتضي الرجوع عنها. فقالوا لابن الزبير: كيف رأيت هذا الخلع الخفي؟ وقال معاوية لامرأة من الخوارج: أخرجي المال من تحت أستك. فقالت لمن حضر: أسألكم بالله أهذا من كلام الخلفاء؟
المتهدد بالخروج عن الطاعة والمتبجح بذلك:
قال عبد الملك: عجباً لخالد بن عبد الله! وليته البصرة وأمرته أن يجرد السيف ويمنع المال، فبذل المال وأغمد السيف. فقال عبد الرحمن بن حسان: لو جرد السيف لوجد سيوفاً مجردة، ولو منع المال لوجد أيدياً منازعة: الفرزدق:

ولا نلين لسلطان يكايدنا ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
الأوسي:
وما زلنا جحاجحة ملوكاً ... تدين لنا الملوك ولا ندين
المتنبي:
تعزز لا مستعظماً غير نفسه ... ولا قائلاً إلا بخالقه حكما

الحث على مصابرة السلطان:
قيل: من لزم باب السلطان بصبر جميل وكظم الغيظ واطرح الأنفة، وصل إلى حاجته. حكي أنه وجد مكتوب على باب هراة: بدر بادشاه كاربر آيد آخر الأمر دادزنك ردايد، أي إنما يرتفع الأمر على باب الملوك بالبذل والعقل والتثبت. فكتب بعضهم تحته: من كان معه هذه الثلاثة فهو مستغن عن السلطان. ونحو ذلك ما روي أن أبا العيناء عتب على بغا، فتقضاه فقال بغا: أما علمت أن من طالب السلطان احتاج إلى عقل وصبر ومال؟ فقال: لو كان لي عقل عقلت عن الله أمره ونهيه، أو صبر صبرت عن السلطان حتى يأتيني رزقي، أو مال لاستغنيت به عن بابك والوقوف بجنابك! وقيل: من صحب السلطان احتاج إلى الصبر على قسوته صبر الغواص على ملوحة ماء بحره.
أمارات السلاطين لندمائهم إذا أرادوا نهوضهم:
كان لكل ملك أمارة يستدل به أصحابه إذا أراد أن يقوموا عنه، فكان ازدشير إذا تمطى قام سماره، وكان كيشاسف يدلك عينه، ويزدجرد يقول شب بشد وبهرام يقول خرم خسفاذ وسابور يقول حسبك يا إنسان وأبرويز يمد رجليه، وقباذ يرفع رأسه إلى السماء، وأنوشروان يقول قرت أعينكم وكان عمر يقول: قامت الصلاة، وعثمان يقول: العزة لله، ومعاوية يقول: ذهب الليل، وعبد الملك يقول: إذا شئتم، والوليد يلقي المخصرة، والرشيد يقول: سبحان الله، والواثق يمس عارضيه. وحكي عن بعض البخلاء أنه سئل: ما أمارتك لقيامنا؟ قال: قولي يا غلام هات الطعام.
ومما جاء في القضاء والشهادة
مدح القضاء وذمه:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: القضاة ثلاثة، اثنان في النار وواحد في الجنة، فاللذان في النار أحدهما من يقضي ولم يعلم، والآخر من يعلم فيقضي بغير الحق، وأما الذي في الجنة فهو الذي يعلم ويقضي بالحق.وقال صلى الله عليه وسلم: إن مع القاضي ملكين يسددانه ويوفقانه، فإن عدل أرشداه وأعاناه، وإن جار قذفاه في النار. وقيل: المذموم من القضاة من سعى في طلبه. وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن ابن سمرة: يا عبد الرحمن لا تسأل الأمارة، فإنك إن سألتها وكلت إليها، وإن سئلتها أعنت عليها. وقال صلى الله عليه وسلم: من جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين! وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: شكت بقعة من الأرض إلى ربها أنها جعلت حشاً، فأوحى الله إليها أما ترضين أني لم أجعلك بقعة قاض؟ وكان ابن شبرمة يقول: يا جارية، هاتي غذائي لأخرج إلى بلائي.
الممتنع من تولي القضاء:
أمر المنصور أبا حنيفة رحمه الله أن يتولى القضاء فقال: لا أصلح لذلك! فقال: إنك تصلح. فقال: إن كنت صادقاً فلا يجوز لك أن توليني، وإن كنت كاذباً فقد فسقت! فقال: والله لتلين. فقال: والله لا وليت! فقال حاجبه: أمير المؤمنين يحلف وأنت تحلف. فقال: أمير المؤمنين أقدر على الكفارة مني. قيل: لما مات عبد الرحمن بن أذينة ذكر أبو قلابة للقضاء، فهرب حتى أتى الشام فوافق ذلك عزل قاضيها، فهرب حتى أتى اليمامة، فقيل له في ذلك فقال: ما وجدت مثلاً للقاضي العالم إلا مثل رجل سابح وقع في بحر، فكم عسى يسبح حتى يغرق؟
الممدوح بترك الميل والعفة والحلم:

اختصم إلى زياد رجلان فقال أحدهما: إن هذا يدل بحرمة له عندك. فقال: صدق وسأجزيه بما ينفعه من ذلك، إن كان الحق له عليك آخذك به، وإن كان الحق لك عليه أقضي عليه. ثم أقضي عنه من مالي. وولى إسماعيل بن أحمد قاضياً عفيفاً فكلفه يوماً أن يقبل رجلاً لم يكن عنده عدلاً، فامتنع عليه فقال له: ما أثقلك من بين القضاة! فقال: اعزلني إن كنت ثقيلاً! فقال: قد عزلتك! فتناول القاضي قلنسوته من على رأسه فجعلها في كمه وخرج. فندم إسماعيل على ذلك فرده وسأله أن يتولّى فأبى عليه. ولما استعفى شريح الحجاج من قضاء العراق قال: والله لا أعفيتك أو تدلني على من إذا غضب على الخصوم رجح به حلمه عن الهجوم، ومن إذا دعاه كثرة المال لم ينهضه إليه سوء الحال. فقال: أدلك على شريف عفيف يمنعه شرفه من التسلط عليه، وتحجبه عفته عن التملق؟ قال: من هو؟ قال: ابن أبي موسى الأشعري! فأحضره وولاّه. قال الزهري: ثلاث إذا كن في القاضي فليس بقاض: إذا كره اللوائم، وأحب المحامد، وخاف العزل؛ وبه ألمّ الشاعر في قوله:
سيان في الحكم شاكيه وشاكره ... من الأنام وهاجيه ومطريه
كون الحاكم مرضياً ومسخوطاً:
قيل لشريح رحمه الله: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت ونصف الناس عليّ غضبان! وقال رجل لشريح: قضيت علي بالجوار وليدخلنك الله النار! قال: إذاً يدخلها سبعة قبلي: من ولاني، ومن علّمني هذا الحكم، ومن جاء بك مدعياً، والشاهدان والمزكيان.

حث الحاكم على التسوية بين الناس:
قال الله تعالى: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " . وقال أيضاً: " فأولئك هم الفاسقون " . وقال: " ان احكم بما أنزل الله " . وقال أبو وائل: سمعت عماراً يقول في بعض القضاة: كان كافراً فقلت: ما تقول؟ فقال: إن الله تعالى يقول " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " وقال بعضهم: رضا الناس غاية لا تدرك، فتحرَّ الخير يحمدك، ولا تكره سخط من يرضيه الباطل. وكان زيد بن ثابت يقضي لعمر رضي الله عنه بالمدينة، فتقدم إليه عمر مع أبي في حد تنازعاه فخرج إليهما فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ههنا ههنا، ثم توجهت اليمين على عمر فقال زيد لأبي: أعف أمير المؤمنين من اليمين! فقال له عمر: ما زلت جائراً منذ اليوم، السلام عليك يا أمير المؤمنين، وههنا ههنا، واعف أمير المؤمنين. وكتب عمر رضي الله عنه إلى قاض: احكم بين أهل الحق بالحق ينفعك يوم الحق! وقيل: لا ينبغي للحاكم أن يسمع شكية أحد الخصمين دون الآخر. وفي المثل: من يأت الحكم وحده يفلح. وقال سلمة بن حوشب:
نبئت أن حكموك بينهم ... فلا يقولن بئسما حكما
إن كنت ذا عرفة بشأنهم ... تعرف ذا حقهم ومن ظلما
ولا تبال من المحق المبطل لا إلة ولا ذمما
فاحكم فأنت الحكيم بينهم ... إن يعدوا الحق يابساً صنما
واصدع أديم السواد بينهم ... على رضا من رضي ومن رغما
حث الحاكم على تقليل الكلام:
عزل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قاضياً وقال: بلغني أن كلامك أكثر من كلام الخصمين! وكان أبان يقلل من الكلام فقيل له في ذلك فقال: إن من كان كلامه حكماً، فحق عليه أن يتبلم ولا يتكلم إلا فيما يعنيه.
من استعمل دهاء في أمر:
أودع رجل آخر مالاً وحج، فلما رجع طلبه منه فجحده، فأتى إياساً فأخبره فقال له إياس: هل علم أنك أتيتني، قال: لا. قال: فانصرف واكتم أمرك وعد إليّ بعد يومين. فدعا إياس المودع وقال له: قد حضر مال وأريد أن أدفعه إليك، فحصّن منزلك وأحضر قوماً ثقاتاً يحملونه. ودعا إياس صاحب المال فقال له: إمض إلى صاحبك واطلب منه المال، وقل له إن لم ترده شكوتك إلى القاضي. فذهب الرجل وطلب ماله، فرده عليه، فأخبر إياساً بذلك فضحك. واختصم رجلان إلى القاضي شريح في ولد هرة فقال أحدهما: هي ابنة هرتي، وقال الآخر كذلك، فقال شريح: ضعوها قدامها فأيهما هرت وازيأرت وفرت فليست لها، وأيهما قرت واسبطرت فهي لها. فقرت إحداهما فدفعها إليه.
من لا يغضي في الحكم على حق:

أتي المأمون برجل وجب عليه حد، فأمر بضربه فقال: قتلت! قال: الحق قتلك! قال: ارحمني. قال: لست بأرحم ممن أوجب الحد عليك. وقال خالد بن صفوان لبعض الولاة: جزاك الله خيراً فقد سويت بين الناس، حتى كأنك من كل أحد وكأنك لست من أحد. وقال بعضهم: غصبني بعض قواد الأتراك ضيعة أيام المعتز، فتظلمت فلم ينصفني، فلما ولي المهتدي جلس يوماً للمظالم فتظلمت إليه فأحضر خصمي فقضي لي عليه. فقلت: جزاك الله خيراً فأنت كما قال الأعشى:
حكمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر
لا يأخذ الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر
فقال: أما شعر الأعشى فلا أدري، ولكني قرأت قوله تعالى: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة " . فبكى أهل المجلس كلهم.

حث الحاكم على الإجتهاد:
قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن. بمَ تحكم؟ قال: بكتاب الله تعالى. قال: فإن لم تجد فيه؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد فيها؟ قال: أجتهد برأيي. وأراد معاوية رضي الله أن يستعمل عبد الرحمن بن خالد فقال: كيف تعمل؟ قال: اعمل برأيك ما لم يجاوز الحزم، فإن جاوزه عملت برأيي، فولاّه.
حث الحاكم على الصلح فيما يشتبه:
كتب عمر رضي الله عنه إلى معاوية: عليك بالصلح ما لم يبن فيه فصل القضاء. وكتب إلى أبي موسى الأشعري: الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً وإلى صالح بن الزيات عاملاً على مال فطالبه به فقال: أظلم وتعجيل؟ ففال ابن الزيات: أصلح وتأجيل؟
من قطع الحكومة بالتهور:
وليّ أعرابي ناحية فخطب: ألا إني لا أوتى بظالم ولا مظلوم إلا أوجعتهما عقوبة! فتعاطى رعيته بينهم الإنصاف ولم يترافعوا إليه في حق ولا باطل، حذراً من عقوبته وكان بعض الولاة إذا اشتبه عليه حكم حبس الخصمين حتى يصطلحا، ويقول: ويقول: دواء اللبس الحبس.
من عارض الحاكم في حق ادعاه عليه حتى أدركه منه:
قال ابن الزيات لرجل ادعى عليه في مجلس الحكم وقال: غصبني وكيلك ضيعة لي وحازها إلى أرضك، فقال ابن الزيات: تحتاج فيما تقوله إلى شهود وبينة وأشياء كثيرة. فقال الرجل: الشهود هي البينة وأشياء كثيرة عيّ منك فأمر برد ضيعته. وناظره رجل في شيء فقال له: أخرج من داري. فقال: ما هي بدارك إنما هي دار أمير المؤمنين وأنت عبده! فقال: نعم هي لأمير المؤمنين فاخرج منها صاغراً! فقال الرجل: قد بذلها أمير المؤمنين للعامة، وجعلها مجمع الخصوم ومنصف المظلوم، فلا أبرح إلا بنصفه! فقال: صدقت! وأنصفه. وتظلم رجل من وكيل كسرى بأنه أخذ ضيعة له فقال له كسرى: قد أكلت ارتفاعها أربعين سنة فدعه يأكله سنتين! فقال الرجل: أيها الملك ملكك إلى بهرام جور يأكله سنة، فقد أكلته سنين كثيرة! فأمر بضرب رقبته، فقال: أيها الملك دخلت بمظلمة واخرج بمظلمتين! فأمر برد ضيعته وأرضاه. وادعى رجل على آخر بحضرة قاض، فطالبه بالشاهدين وقال: مالك سبيل إلى ما تدعيه إلا بشاهدين. فقال الرجل متمثلاً بهذا البيت:
وبايعت ليلى في خلاء ولم يكن ... شهودي على ليلى عدول مقانع
من انقاد للحكم من السلاطين:

قد تقدم خبر عمر مع أبي بن كعب رضي الله عنهما، وكان علي رضي الله عنه تحاك مع رجل فشهد له قنبر، فقال شريح: يا أمير المؤمنين خادمك وفي عداد عيالك لا شهادة له؟ فقال علي: وما أنت وهذا! اعتزل عملنا. فعزله ثم رأى أنه أصاب فردّه من الغد. وجلس المأمون يوماً للمظالم فدفع إليه رقعة فيها مظلمة من أمير المؤمنين فقال لصاحبها: من ظلامتك؟ قال: ثلاثون ألف دينار اشترى سعيد وكيلك مني جواهر بها ولم يوف ثمنها لي. فقال: كلامك هذا محتمل يجوز أن يكون وفره، ويجوز أن يكون اشتراه لنفسه، ويجوز أن يكون أخذ مني الثمن ولم يدفعه إليك. فقال الرجل: أنت أولى الناس بالإنصاف، احملني على سنة النبي صلى الله عليه وسلم: البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، وقد عدمت البينة فقال: نعم ودعا بيحيى قاضيه فلما دخل قال له: اقض بيننا. فقال: لا أفعل إنك لم تجعل دارك مجلس قضائي. فقال: قد جعلت. فأذن للعامة فخرج المأمون ومعه غلام يحمل مصلّى فطرحه له، فقال يحيى: لا تأخذ على خصمك شرف المجلس فدعا له بمثله، فادعى الخصم فقال يحيى: ألك بينة؟ قال: لا فما بعد البينة؟ قال: يمينه. فقال للمأمون: أتحلف؟ قال: نعم. فاستحلفه فحلف، ثم قال المأمون: أدفع إليه ما ادعاه والله ما حلفت فجرة، ولكن خوفاً من الرعية لئلا يقدروا أني منعته بالإستطالة.

نهي الحاكم عن قبول الهدية:
قال الله تعالى: " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله الراشي والمرتشي! وتخاصمت امرأة من قريش ورجل إلى عمر، وكانت المرأة أهدت إلى عمر فخذ جزور وقالت: إفصل القضاء بيننا كما يفصل الجزور؟ فقضى عمر عليها وقال: إياكم والهدية! وقال بعضهم: كنت في طريق مكة فإذا أعرابي يختصم إليه الناس فيقضي بينهم بالحق، فلما تفرقوا قلت: أخذت العلم عن أحد؟ قال: لا. قلت: فما هذا الفهم؟ قال: يوفق الله. قتل: أرأيت لو تحاكم إليك اثنان فأهدى إليك أحدهما أكنت تقضي له؟ فقال: إذاً لا ينزل التوفيق. وقد قدم من ذلك أخبار في باب الولايات.
من مال إلى أحد الخصمين لأجل هدية:
اختصم رجلان إلى حاكم فدنا منه أحدهما: قد وجهت إلى دار القاضي فراريج كسكرية وحنطة بلدية وشهدة رومية! فقال القاضي بصوت رفيع: قم يا بارد إذا كانت لك بينة غائبة فانتظرها ليس هذا مما يسار فيه! وقيل: الحاكم شيطان، ونعم الرقي الرشا. وتحاكم رجلان إلى المغيرة الثقفي قاضي الحجاج فأهدى أحدهما منارة والآخر بغلة، فرأى صاحب المنارة ظلع القاضي مع صاحبه، فأراد أن يذكر القاضي فقال: أمري أضوأ عند القاضي من سراج على منارة عظيمة، ففطن القاضي لقوله فقال: اسكت فإن البغلة رمحت المنارة فأطفأت نورها! وقال قاض:
إذا ما صب في القنديل زيت ... تحولت القضية للمقندل
حث منحكم على إعطاء الرشوة:
ابن طباطبا:
يا خليلي يا أبا الغيث درك ... نصب القاضي لك اليوم شرك
طلب البرطيل فابذله له ... يسكت القاضي وإلا ذكرك!
لا يهولنك دنيته ... أعطه من رشوة ما حضرك!
المهجو يأخذ الرشوة:
ذكر أعرابي حاكماً فقال: يقضي بالعشوة ويطيل النشوه ويقبل الرشوه! ابن طباطبا في أ؛مد ابن عثمان البري:
وفينا عاملا عدل وجور ... هما حلفا انبساط وانقباض
فوالى حربنا في وصف قاض ... وقاضينا عقاب ذو انقضاض
واتفق أن وافى أصبهان عليلاً فاحتجب أياماً، وحضر فيل فكثرت النظارة عليه، فمنع عنه الناس إلا ببذل فقال طباطبا:
شيئان قد حار الورى فيهما ... بأصبهان: الفيل والقاضي
ليس يرى هذا ولا ذا فكم ... من ساخط منا ومن راض
الفيل يرشى عند سنديه ... فأين سنديك يا قاضي؟
العباسي:
إذا أهل الرشا صاروا إليه ... فاحظى القوم أوفرهم بضاعه
فلا رحم يقربهم إليه ... سوى الورق الصحيح، ولا شفاعه
وليس بمنكر هذا لديه ... لان الشيخ أفلت من مجاعه
قاض مستول على المواريث:

جاءت امرأة إلى قاض فقالت: مات زوجي وترك أبويه وولداً وامرأة وأهلاً، وله مال فقال: لأبويه الثكل، ولوالديه اليتم، ولامرأته الخلف، ولأهله القلة والدلة، والمال يحمل إلينا حتى لا تقع بينكم الخصومة!

المهجو من القضاة باللواطة:
قال المأمون ليحيى بن أكثم يعرض به من الذي يقول:
قاض يرى الحد في الزنا ولا ... يرى على من يلوط من باس!
فقال: يا أمير المؤمنين هو الماجن أحمد بن أبي نعيم الذي يقول:
أميرنا يرتشي، وحاكمنا ... يلوط، والرأس شر ماراس
لا أحسب الجور ينقضي وعلى الأمة والٍ من آل عباس!
فقال: هذا ينبغي أن ينفى إلى السند! وقال آخر:
ألا لله درك أي قاضٍ ... سبته المرد بالحدق المراضِ؟
عيدان:
لنا قاض له وجه ... على أخذ الرشا عابس!
ولكن أيره أير ... يدق الرطب واليابس!
المهجو منهم بالابنة أو الكشح:
لما استولى الناصر على طبرستان فوض إلى عبد الله بن المبارك القضاء، وكان يرمي بالابنة، فقال: يا أمير المؤمنين أنا أحتاج إلى رجال أجلاد يعينونني! فقال: قد بلغني ذلك. وقال بعضهم:
أنا أعرف للقاضي ... الذي يقضي بسامرا
غلاماً أشقر اللون ... بجرر رمحه جرا
يشد البغل في الخان ... ويلقي خرجه برا
وقالت امرأة لزوجها: لأشكونك إلى القاضي. فقال الرجل: الحل علي حرام ثلاثاً إن لم أكن نكت القاضي! فولولت المرأة وذهبت إلى القاضي وقصت عليه القصة فقال: ارجعي إلى داره فقد كان عارماً في صغره. فقالت: ناكك ورب الكعبة! ابن عروس:
وخبرت أنك قاضي البلاد ... فسبحان من حكمه العدل
وكيف يدبر أمر البلاد ... فتى أمر منزله مهمل؟
كفى من تواضعه أنه ... لسائسه أبداً أسفل
المهجو منهم بالجهل:
قال الصاحب في قاض: يخبط العشواء، ويحكم حك الورهاء، ويناسب أخلاق النساء. ورفع إلى المأمون في قاض: أن فلاناً بعض الخصوم! فوقع: ليشنق، ونحون كان أ؛مد بن الخصيب إذا ضجر ممن يناظره، رفسه، فقال فيه شاعر يخاطب المنتصر:
قل للخليفة: يا ابن عم محمد ... أشكل وزيرك إنه ركال
قد نال من أعراضنا بلسانه ... ولرجله عند الصدور مجال
المصيصي:
أف لقاض لنا وقاح ... أضحى بريئاً من الصلاح
وليس في الرأس منه شيء ... يدور إلا أبو رياح
من لم يحكم وهو الظالم:
شاعر:
والخصم لا يرتجى النجاح له ... يوماً إذا كان خصمه القاضي
وقال آخر:
ومن المظالم إن وليت على المظالم يا فزاره
وحكي أن ملكاً خرج له خراج عجز الأطباء عن معالجته فقال يوماً: إنكم تغشونني فإن داريتموني وإلا قتلتكم! فأجمعوا على أن يقولوا إن دواءك أن تأخذ صبياً من أبناء الشعر، فيأخذ أحد أبوية رأسه والآخر رجليه وتذبحه على جرحك فتشرب دمه، بطيب نفس منهما، وقالوا: قد تحققنا أنه لا يوجد! فقال: اطلبوا من يأتيني بابن هكذا، فأمر فنادوا في البلدان، فاتفق له رجلاً كان إذا ولد له ولد وبلغ عشر سنين يموت لا محالة، وكان فقيراً، وكان له ابن شارف العشر فقال لامرأته: تعالي نحمل هذا الابن إلى الملك ونأخذ المال، فإن هذا يموت لا محالة، فرضا بذلك وحملاه إليه وأخذ أحدهما رأسه والآخر برجليه، وأخذ الملك السكين، فلما همّ بذبحه ضحك الصبي فقال الملك: مم تضحك وأنت مقتول؟ فقال: رأيت الصبي أحنى الخلق عليه أمه، ترضعه وتقيه بنفسها ثم أبوه يحميه، وإذا كبر فالملك يتولى أمره، وقد رأيتكم ثلاثتكم اجتمعتم على قتلي فإلى من المشتكى؟ فتوجع الملك لقوله ورمى السكين، فانفجر جرحه لما دهمه وبرأ، فخلى سبيل الصبي وتبناه. قال رجل لقاض: لئن هملجت إلى الباطل إنك عن الحق لقطوف.
النهي عن التعرض للقضاة:
قيل: لا تعادوا القضاة فيختاروا عليكم الأقاويل، ولا العلماء فتضع عليكم المثال.
المفتتن منهم بامرأة تحاكمت إليه:
خاصمت امرأة صبيحة زوجها إلى الشعبي، فمرت بالمتوكل الليثي في منصرفها وقد قضى لها على زوجها. فقال:
فتن الشعبي لما ... رفع الطرف إليها

فتنته ببنانٍ ... وبخطى حاجبيها
فقضى جوراً على الخصم ولم يقضِ عليها
كيف لو أبصر منها ... نحرها أو ساعديها؟
لصبا حتى تراه ... ساجداً بين يديها!
فولع الناس بهذه لأبيات وتناشدوها، حتى اضطر الشعبي إلى الاستعفاء من القضاء. وقدم رجل امرأة حسنة النقيبة إلى القاضي فقال: يعمد أحدكم إلى المرأة الكريمة فيتزوجها ثم يسيء إليها! ففطن الرجل بحال القاضي، فعمد إلى نقابها فأسفره، فرأى القاضي وجهاً وخشاً فحكم عليها، وقال: قومي لعنك الله! كلام مظلوم ووجه ظالم، فقال زوجها:
قومي إلى رحلك أم حاتم ... قد كدتِ تسبين فؤاد الحاكم
بنطق مظلوم ووجه ظالم

طرف من سخافة القضاة:
اختصم رجلان إلى قاض كل واحد منهما يقول: امرأتي أحسن. فتقامرا وأحضراهما لديه، فقال القاضي لأحدهما: لأن أنيك امرأتك في أستها أحب إلى من أن أنيك امرأته في فرجها! وتقدم رجل مع خصمه إلى قاض وقال: هذا جاء عام الأول فخرق ثيابي وضربني، وجاء العام وفعل ذلك أيضاَ، فقال القاضي: هذه سنة قد جرت له كل سنة. وجاءت امرأة مع زوجها إلى قاض وقالت: إنه لا يضاجعني! فقال الرجل: أنا عنين! فقالت المرأة: إنه يكذب. فقال القاضي: أخرج إيرك لأمرسه. فتناول القاضي غرموله وأخذ يمرسه ولا يتحرك، وكان القاضي أعور دميماً فقالت المرأة: أيها القاضي لو رأى ملك الموت وجهك لمات من قبحه، ادفعه إلى غلامك ليمرسه! وكان غلامه صبيحاً فقال القاضي: يا غلام تعال واغمز أيره؛ فجاء الغلام وأخذه، فما طفق ان امتد واشتد فقالت: أعط القوس باريها! فقال القاضي: يا كشحان دونك وامرأتك ولا تطمع في نيك غلمان القضاة! وجاءت امرأة إلى قاض وقالت: إن زوجي إذا قدمت إليه المائدة قلب الخوان وأكل على ظهرها، فقال القاضي: دعيه يأكل كيفما أراد؛ فقال: إنما عنين أن ينيكني في أستي يا أحمق فقال طيب والله! فقالت: قطع الله ظهرك من بين القضاة. وكان بحمص قاض يحكم اليوم في شيء بحكم وفي غد يحكم في مثله بخلافه، فقيل له في ذلك فقال: القضاء بخوت وأرزاق من رزق شيئاً أخذه. وأراد أعمى أن يتزوج امرأة فأحضرها مجلس القاضي فقال: كم مهرها؟ قال: أربعمائة. فقال للمرأة: أكشفي عن وجهك. فكشفت فقال: إنها تساوي أكثر من ذلك فإنها صبيحة. فقال الأعمى: إن كان للقاضي زيادة فبارك الله له فيها فإنه أولى بها! وجاءت امرأة إلى القاضي مع زوجها تطلب نفقتها منه فقال نفقته يا فاعلة! فقالت: وهل في الحكم هذا؟ قال: نعم لو كنت مكانه لنكتك وأخذت جذرك! فقال الزوج: فديتك يا جوهر القضاة فافعل الساعة! وكان بلال بن أبي بردة أول من جار في الحكم وكان يتقاضى إليه الرجلان فيقضي لأحدهما بلا بينة، ويقول: وجدته أخف على قلبي من صاحبه!
من رد القاضي شهادته فعارضه بما عدل به:
شهد معلم عند سوّار فقال: لا أجيز شهادتك. قال: ولمَ؟ قال: لأنك تأخذ على كتاب الله تعالى الأجرة، فقال: وأنت تأخذها على القضاء، فقال: أنا أكرهت! فقال: هب أنك مكره على القضاء هل أكرهت على أخذ الأجرة؟ فأجاز شهادته. وشهد آخر عند سوار بسبة فقال: من أين علمت؟ قال: من حيث علمت أنك سوار بن عبد الله. وشهد قوم عند شبرمة بقراح فيه نخل، فسألهم: كم فيه من جذع؟ قالوا: لا ندري. فأراد أن يرد شهادتهم فقال أحدهم: أيها القاضي كم من اسطوانة في هذا المسجد؟ فقال: لا أدري. فقال: كيف وأنت تحكم فيه منذ كذا وكذا سنة؟ فأجاز شهادتهم.
من رد القاضي شهادته بلطف:

قال المهدي لشريك وعنده عيسى بن موسى: إن شهد عندك هذا هل تقبل شهادته؟ وأراد أن يوقع بينهما فقال شريك: من شهد عندي سألت عنه. فإن زكي أجزت شهادته وعيسى لا أسأل عنه غير أمير المؤمنين، فإن زكاه قبلته. وهذا عكس على السائل كما حكي عن أبي حنيفة رحمه الله قال: كنا نأتي حماد فلا ننصرف عنه إلا بفائدة فقال يوماً إذا وردت على أحدكم مسألة معضلة فليجعل جوابها منها! فما رأيت قوله شيئاً حتى دخلت يوماً دار المنصور فخرج الربيع وسألني ممتحناً أفتني في رجل أمرني أمير المؤمنين بقتله أعليّ في طاعته حرج؟ فذكرت قول حماد فقلت: أليس يأمرك أمير المؤمنين بحق رآه؟ قال: نعم. فقلت: إفعل فكل حق يأمرك به لا حرج عليك فيه. وشهد الفرزدق عند قاض فقال: قد أجزنا شهادة أبي فراس فزد في شهودك. فلما انصرف الفرزدق قيل له: قد ردّ شهادتك! فقال: وما يمنعه من ذلك وقد قذفت ألف محصنة؟ وأتى وكيع إياس بن معاوية ليشهد عنده فقام إليه وقال: ما جاء بك يا أبا المطرف؟ قال: أقيم شهادة لجار لي. فقال: حاشاك أن تشهد كما يشهد الموالي والتجار والسقاط! قال: صدقت، فانصرف عنه.

من ردت شهادته لبلهه:
قال سوار: لا أعلم أحداً أفضل من عطاء السلمي، ولو شهد عندي بفلس ما أجزت شهادته لأنه ليس بحازم. وقال كثير من الفقهاء: لا تقبل شهادة الوهم، والأبله لا شهادة له.
من عارض من الخصوم الحاكم في الشاهد عليه فرد شهادته:
شهد رجل عند شريح فقال المشهود عليه: أتقبل شهادته وأن أحب الأشياء إليه الخبز واللحم؟ فتوقف في إمضاء شهادته فقيل له: لمَ توقفت؟ فقال: إنه يعني أنه يشهد بأكلة. وشهد رجل عند سوار بمال على آخر فقال سوار: أتارس أما رامح؟ فقال: تارس. فقال: ذاك شر له سأعيد المسألة عنه وإنما أراد أنه مأبون. فتعجب الحاضرون من حيلة الرجل وفطانة سوار لمراده.
الممتنع من إقامة شهادة الزور:
استشهد محمد بن الفرات أيام وزارته علي بن عيسى بغير حق فلم يشهد له، فلما عاد إلى بيته كتب إليه: لا تلمني على نكوصي عن نصرتك بشهادة زور، فإنه لا اتفاق ولا وفاء لذي مين واختلاق، وأحرى بمن تعدى الحق في مسرتك إذا رضي أن يتعدى الباطل في مساءتك! وكان المتنبي أشار إلى هذا المعنى بقوله:
لقد أباحك غشاً في معاملة ... من كنت منه بغير الصدق تنتفع
شهود الزور:
قال سهل بن دارم: كان بالبصرة شيوخ يشهدون بالزور، وشرط بعضهم درهم، وآخرون يشهدون وشرطهم أربعة، وآخرون شرطهم عشرون درهماً، فسألت عن ذلك فقال أصحاب الدرهم: يشهدون ولا يحلفون، وأصحاب الأربعة يشهدون ويحلفون، وأما أصحاب العشرين فيشهدون ولا يحلفون ويبهتون. وكان شيخ في المعدلين يشهد بطفيف يهدى إليه، فجاءه رجل بدرهمين وسأله شهادة، فقال: ما ضربت المشط بأقل من خمسة ولكني أسامحك.
شاعر:
ما للعدول أراني الله جمعهم ... في مرجل مطبق في جوف تنور
قوم إذا غضبوا كانت سيوفهم ... قطع الشهادة بين القوم بالزور
عبد الصمد المعدل:
وكيف تخشى شهادات يقوم بها ... ثلاثة: شاهدا زور ومجنون
وقال بعضهم: الناس كلهم عدول إلا العدول.
وصف قلانسهم:
المصيصي:
كأن دنية عليها ... غراب نوح بلا جناح
وقال آخر:
ترى قلانسهم كالرمح طعنتها ... تخفي جراحتها في جنب مغرور
الشهادة على الزنا:
حق الشهود على الزنا أن يكونوا أربعة ذكور يصرحون ولا يكنون لقوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " " الآية " وحضر أبو بكرة وزياد مع غيرهما، فشهد ثلاثة على المغيرة بن شعبة بالزنا عند عمر رضي الله عنه، فلما أقبل زياد قال عمر: إني أرى لك وجهاً وضيئاً وأرجو أن لا يفضح الله بك رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت أفخاذاً مجتمعة ونخيراً يعلو ويسطع، ولا أعلم ما وراء ذلك! فضرب عمر أبا بكرة وصاحبيه الحد.
التعريض بالشهادة بذلك:

استشهدوا أعرابياً على رجل وامرأة فقال: رأيته قد تقممها، يحفزها بمؤخرها ويجذبها بمقدمها، ويخفي على المسلك. وقال آخر: رأيته قد تبطنها ورأيت خلخالها سافلاً، وسمعت نفساً عالياً ولا علم لي بشيء بعد ذلك. وشهد رجل على آخر فقال الحاكم: إنك قد رأيته وهو يدخل ويخرج؟ فقال: لو كنت جلدة أستها ما أمكنني أن أشهد به كذلك.

تثبت الحاكم في الإقرار بما فيه جاء:
أتى ماعز بن مالك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني زنيت! فقال: لعلك مست أو لمست أو غمزت! فقال: لا بل زنيت! فأعادها عليه ثلاث مرات، فلما كان في الرابعة رجمه. وأتى أبو الدرداء رضي الله عنه بامرأة قد سرقت فقال: أسرقت؟ قولي لا. وأتى زياد بلص وعند الأحنف فانتهره فقالوا: صدق الأمير! فقال الأحنف: الصدق أحياناً معجزة! فقال زياد: جزاك الله خيراً.
المقر عند الحاكم بجهله:
قال محمد بن رباح القاضي: تقدم إلى قثم مع ابن أخيه فادعى عليه خمسة آلاف دينار فقال قثم: نعم له علي ذلك لكني من أي طريق؟ فقالت: قد أقررت له بالمال، فإن شاء فسر الوجه وإن شاء لم يفسر. فقال ابن أخيه: إشهد أنه بريء منها إن لم أثبتها. فقلت: وأما أنت فقد ابرائه أن لم يثبت ذلك، فما رأيت أضعف منهما في الحكم. وجرى في كلام رجل عند حاكم ما فيه اقرار فقضى عليه فقال: أتقضي علي بغير شاهد؟ فقال: قد شهد عليك من تقبل شهادته عليك من أبوه أخو عمك. وقدم رجل غريماً له إلى قاض فقال: لي على هذا ألف درهم. فقال المدعي عليه: صدق ولكن سله أن ينظرني أياماً، فلي عقار ومال غائب إلى أن أبيع العقار، وأسترد المال الغائب فأدفعه إليه. فقال المدعي: كذب ماله قليل ولا كثير، وإنما يريد أن ينفلت مني. فقال الخصم: إشهد أيها القاضي قد أقر بعسرتي! فقال القاضي " : صدقت. وخلى سبيله.
ذم موالاة باب القضاة:
قيل: إذا رأيت الرجل على باب القاضي من غير حاجة فاتهمه. وكتب بعضهم إلى عامل له: إبعث إلي بمائة رجل كلهم يستحقون القتل لأجرب عليهم سيوفاً ابتعتها، فإن لم تجدهم في حبسك فتمم من أصحاب القاضي فإنهم يستحقون القتل! واستعان رجل بالمأمون أيام الرشيد في أن يقبل شهادته فوقع في قصته: من رام الشهادة بمعونة السلاطين فليقمها على قضاة الشياطين! وقال يحيى بن أكثم للمأمون: يا أمير المؤمنين إن فلاناً يلتمس أن أقبل شهادته! فقال: يا يحيى قد أسقط على لسانه عدالته!
مما جاء في الحجاب والحجاب والغلمان
الحث على تسهيل الإذن:
قال ميمون بن مهران: كنت عند عمر بن عبد العزيز فقال لآذنه: من بالباب؟ قال: رجل أناخ الآن زعم أنه ابن بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن له فلما دخل قال: حدثني. فقال: حدثني أبي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ولي شيئاً من أمور المسلمين ثم حجب عليه حجب الله عنه يوم القيامة! فقال عمر رضي الله عنه لحاجبه: الزم بيتك! فما رؤي بعدها على بابه حاجب. وقال لا شيء أضيع للمملكة وأهلك للرعية من شدة الحجّاب للوالي، ولا أهيب للرعية والعمال من سهولة الحجّاب، لأن الرعية إذا وثقوا بسهولة الحجّاب أحجموا عن الظلم، وإذا وثقوا بصعوبته هجموا على الظلم. وقيل: يحجب الوالي لسوء فيه أو لبخل منه ثم أنشد:
والستر دون الفاحشات، ولا ... يلقاك دون الخير من ستر
وصايا الحجّاب:
قال زياد لحاجبه: إني وليتك هذا الباب وعزلتك عن أربع: هذا المنادي إذا دعاني إلى الصلاة فلا سبيل لك عليه، وعن طارق ليل فشر ما جاء به ولو جاء بخبر ما كنت من حاجته في ذلك الوقت، وعن هذا الطباخ إذا فرغ من طعامه فإن الطعام إذا أعيد عليه الطعام فسد، وعن رسول صلب الثغر فإنه إن أبطأ ساعة ربما يفسد أمر سنة. ولما استخلف المنصور ولى الخصيب على حجابته فقال له: إنك بولايتي عظيم القدر وبحجابتي عريض الجاه، فبقها على نفسك: ابسط وجهك للمستأذنين، وصن عرضك عن تناول المحجوبين، فما شيء أوقع في قلوبهم من سهولة الحجاب والإذن وطلاقة الوجه. وقال الرشيد لحاجبه: احجب عني من إذا قعد أطال، وإذا سأل أحال، ولا تستخفن بذي الحرمة وقدم أبناء الدعوة.
الحث على تشديد الإذن:

قال أزدشير لابنه: لا تمكن الناس من نفسك، فأجرأ الناس على السباع أكثرهم معاينة لها. وقيل: لا بد للسلطان من وزعة. وقيل لبعض السلاطين: لم لا تغلق الباب وتقعد عليه الحجّاب؟ فقال: إنما ينبغي أن أحفظ أنا رعيتي لا أن يحفظوني.

الحث على إصلاح الحاجب والبواب ووصف ما يجب أن يكونوا عليه من الأحوال:
قال يزيد بن المهلب لابنه: استظرف الكاتب واستغل الحاجب. وقال عبد الملك لأخيه: تفقد كاتبك وحاجبك وجليسك، فالغائب يخبره عنك كاتبك، والوافد عليك يعرفك بحاجبك، والخارج من عندك يعرفك بجليسك. وقال يحيى بن المعلي:
كن على منهاج معرفة ... إنّ وجه المرء حاجبه
فيه تبدو محاسنه ... وبه تبدو معايبه
وقال آخر:
ولبّ المرء يعرف بالغلام
الممدوح بسهولة الحجاب:
سهل الحجاب مؤدب الخدام. آخر:
يلوذ به راج وخاش وكلهم ... له مدخل سهل عليه ومخرج
وقال آخر:
فبابك ألين أبوابهم ... ودارك مأهولة عامرة
وكلبك آنس للمعتفين ... من الأمّ بابنتها الزاهرة
من طلب تسهيل الإذن من الزوار وعاتب:
قدم أديب على أمير فكتب رقعة ودفعها إلى حاجبه ليوصلها وفيها:
إذا شئت سلّمنا فكنا كريشة ... متى تلقها الأرياح في الجو تذهب
فقال للحاجب: قل له قد خففت جداً؛ فكتب أخرى وفيها:
وإن شئت سلّمنا وكنا كصخرة ... متى تلقها في حومة الماء ترسب
فقال للحاجب: قل له قد ثقلت جداً؛ فكتب أخرى وفيها:
وإن شئت سلمنا فكنا كراكب ... متى يقض حقاً من لقائك يذهب
قال: أما هذا فنعم. وأذن له. أبو تمام:
ما لي أرى القبة الفيحاء مقفلةً ... عني وقد طالما استفتحت مقفلها
كأنها جنة الفردوس معرضة ... وليس لي عمل زاكٍ فأدخلها
جعفر المصري:
فتفضل علي بالإذن إن ... جئت فإني مخفف في اللقاء
ليس لي حاجة سوى الحمد والشكر فدعني أقرئك حسن الثناء
من ترك الزيارة لصعوبة الحجاب:
أتى أبو الدرداء رضي الله عنه باب معاوية فاستأذن عليه فلم يؤذن له فقال: من يغش سدة السلطان يقم ويقعد، ومن وجد باباً غلقاً وجد إلى أخيه باباً فتحاً، فعاد عنه ولم يدخل بعد ذلك إلى سلطان، محمد بن عمران:
سأترك هذا الباب ما دام أذنه ... على ما أرى حتى يخفّ قليلاً
إذا لم نجد يوماً إلى الإذن سلماً ... وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا
أبو سليمان الضرير:
من أراد السلام ليس سواه ... فلماذا يذل عند الحجاب؟
سأقعد في بيتي فإني أميره ... وآخذ أمري مكرهاً بأشده
فأبوابك اسدّدها علي بأسرها ... فمثلي لا يرضى بهذا لعبده
وحجب بعض الهاشميين فرجع مغضباً فرد فلم يرجع وقال: ليس بعد الحجاب إلا العذاب لأن الله تعالى يقول: " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم " .
هجاء من حجب تعريضا
ً
ولم جئت مشتاقاً علي بعد شقة ... إلى غير مشتاق ولم ردّني بشر؟
وما باله يأبى دخولي وقد رأى ... خروجي من أبوابه ويدي صفر؟
الخوارزمي:
أيا عمرو رويدك من حجاب ... فلست بذلك الرجل الجليل
ولا تبخل بهذا الوجه عنا ... فليس بذلك الوجه الجميل
من حجب فشتم وهجا بالبخل:
قال مالك بن طوق: دخل علي يوماً مجنون ونحن نأكل فأكل معنا، ثم جاء يوماً آخر فحجب، فرآني يوماً مع أماثل البصرة فقال:
عليك إذناً فإنا قد تغدّينا ... لسنا نعود وإن عدنا تعدّينا
يا أكلة سلفت أبقت حرارتها ... داء بقلبك ما صمنا وصلّينا
فما أتى علي يوم أشد منه حزناً. وقال آخر:
كلما جئناك قالوا: ... نائم غير مفيق!
لا أنام الله عينيك ... وإن كنت صديقي
وقال بعض البغداديين:
حجابك الصعب سهل ... إذا دهتك مصيبة
فلا عدمت رزايا ... مطيعة مستجيبة
من يتخذ حاجباً مع سوء حاله:
قال بعض الشعراء:

يا أميراً على جريبٍ من الأر ... ض له تسعة من الحجّاب
قاعد في الخراب يحجب عنه ... ما رأينا بحاجب في خراب!

تخويف من يشدد الحجاب:
من زاهد ببعض القصور ورأى حجاباً على بابه فسأل عنه فقيل: هو لسالم بن فلان، رجل كثير المال عريض الجاه وقد مرض فاحتجب عن الناس فقال:
وما سالم من وافد الموت سالماً ... وإن كثرت حجّابه وكتائبه
ومن كان ذا باب منيع وحاجب ... فعما قليل يهجر الباب حاجبه
هجاء بواب:
سأهجر باباً أنت تملك أمره ... ولو كنت أعمى عن جميع المسالك
فلو كنت بواب الجنان تركتها ... ويمّمت عنها مسرعاً نحو مالك
ابن الحجاج:
ففي است من تحجبه والذي ... توصله أيضاً وتعنى به
المظهر رضاه بصعوبة الإذن:
استأذن أبو سفيان على عثمان رضي الله عنهما فحجبه فقيل له: يحجبك أمير المؤمنين؟ فقال: لا عدمت من قومي من إذا شاء حجبني. وقال أبو العيناء للقاسم بن عبيد الله: لا أعدمني الله من حجابك والوقوف ببابك.
أبو تمام:
ليس الحجاب بمقص منك لي أملاً ... إن السماء ترجّى حين تحتجب
وقال آخر:
إني لاغتفر الحجاب لماجد ... أمست له منن عليّ رغاب
فالحر مبتذل النوال وإن بدا ... من دونه ستر وأغلق باب
ذكر من لا يحجب:
شاعر:
من النفر البيض الذين إذا انتموا ... وهاب رجال حلقة الباب قعقعوا
وقال آخر في ضده:
قوم إذا حصر الملوك وفودهم ... نتفت شواربهم على الأبواب
من اعتذر من السلاطين عن الحجاب:
أتى رجل مسترفد باب معن فحجبه فكتب إليه:
إذا كان الجواد له حجاب ... فما فضل الجواد على البخيل؟
فوقع تحته:
إذا كان الكريم قليل مال ... ولم يعذر تستر بالحجاب!
كتب إلى مطيع بن اياس حماد الراوية:
هل لذي حاجة إليك سبيل ... لا يطيل الجلوس في من يطيل؟
فلما قرأ البيت كتب إليه:
أنت يا صاحب الكتاب ثقيل ... وكثير من الثقيل القليل
وقيل: الركوب إلى باب السلطان بعد الظهر ثقل وسوء أدب. وكتب بعض السلاطين إلى صاحب له يزوره بالعشيّات:
أعيذك من زورة بالعشي ... تحط وتذهب قدر النبيل
فإما رجعت بذل الحجاب ... وإما حللت محل الثقيل
النهي عن دخول الدور بغير إذن:
قال الله تعالى: " لا تدخلوا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها " . وقال الله تعالى: " لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم " . وقال صلى الله عليه وسلم: من اطلع في بيت بغير إذن ففقئت عينه فهو هدر. وروي أن من اطلع في بيت فقد مر أي حكمه حكم الداخل. وقال صلى الله عليه وسلم: إنما جعل الاستئذان لأجل النظر. وقال عمر رضي الله عنه: من ملأ عينيه من قائمة بيت قبل أن يؤذن له فقد فسق. وقال صلى الله عليه وسلم: إذا استأذن أحدكم فلم يؤذن له فلينصرف.
الحث على تأديب الغلمان:
قيل: لا يتأدب العبد بالكلام إذا وثق بأنه لا يضرب. وأمر محمد بن الجهم أن يضرب غلامه ضربة وجيعة، فقيل له في ذلك فقال: الواحدة الوجيعة تملأ صدره من التضاعيف، وإذا كان خفيفا أحسن ظنه الكثير.
المتنبي:
اجعل عبيدك أوتاداً تشججها ... لا يثبت البيت حتى يقرع الوتد
الحكم بن عبد الله:
العبد لا يطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا رهبا
مثل الحمار الموقع الظهر لا ... يحسن مشياً إلا إذا ضربا
الحث على الإحسان إلى الخدم:
روي في الحديث: اتقوا الله في خولكم فإنهم أشقاؤكم، لم ينحتوا من جبل ولم ينشروا من خشب، أطعموهم مما تأكلون، وأكسوهم مما تلبسون، واستعينوا بهم في أعمالكم، فإن عجزوا فأعينوهم، فإن كرهتموهم فبيعوهم، ولا تعذبوا خلق الله. وآخر وصية أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم: الصلاة وما ملكت أيمانكم. وقال أبو بكر رضي الله عنه: لا يدخل الجنة سيء الخلق.
الحث على مداراتهم والتغافل عنهم:

سمع الموبذ في مجلس أنوشروان ضحك الغلمان فقال: أما تهاب هؤلاء الخدم؟ فقال أنوشروان: إنما يهابنا أعداؤنا. وقال بزرجمهر: إنما نداري خدمنا ونحن ملوك على رعيتنا، وخدمنا ملوك على أرواحنا، ولا حيلة لنا في التحرز عنهم. وقيل: مما يدل على كرم الرجل سوء أدب غلمانه. وقيل: من حسن خلقه سوء أدب غلمانه.

ذم مؤتمر لغلامه:
البحتري:
إن الشريف إذا أمور عبيده ... جازت عليه فأمره مرتاب
آخر:
ولست أحب الأديب الظريف ... يكون غلاماً لغلمانه
من يحمد استخدامه:
قيل: أجود المماليك الصغار لأنهم أحسن طاعة وأقل خبثاً منهم وأسرع قبولاً. وقيل: استخدم الصغير حتى يكبر، والعجمي حتى يفصح. وقال قتيبة: لا تشتر غلاماً مولداً هو حر حتى تقوم بينة أنه حر.
ذكر الصلحاء والأكياس من الخدم:
قال كسرى: العبد الصالح خير من الولد لأن العبد لا يرى استقامة أمره إلا بحياة سيده، والابن لا يرى ذلك إلا بموت أبيه. وقال رجل لمملوك: أشتريك فأعتقك؟ قال: لا. قال: فلم؟ قال: كيف تتخذني عبداً بعد أن اتخذتني مشيراً؟ ومن خيار العبيد لقمان وبلال الحبشي. ووصف البوشنجي غلاماً فقال: يعرف المراد باللحظ ويفهمه باللفظ، ويعاين في الناظر ما يجري في الخاطر، يرى النصح فرضاً يجب أداؤه والإحسان حتماً يلزم قضاؤه، إن استفرغ في الخدمة جهده خيل إليه أنه بذل عفوه، أثبت من الجدار إذا استمهل وأسرع من البرق إذا استعجل. قال الرشيد لإسحاق الهاشمي: أخبرت أن لك غلاماً فصيحاً. فقال: ها هو بالباب، ثم دعاه فقال: إن مولاك قد وهبك لنا قال: فما زلت وما تحولت! فقلنا: ما معنى قولك؟ فقال: ما زلت لك منذ كنت غلامه، وما تحولت عنه إذ صرت لك! فأمر له بصلة وأحسن إليه.
من أعتق من صلحاء العبيد:
حكي أن ابن عمر رضي الله عنه مر براعي غنم مملوك فقال: أتبيعني شلة من غنمك؟ قال: ليست هي لي. فقال: أين العلل؟ وأراد أن يمتحنه فقال: فأين الله؟ فاشتراه وأعتقه. فقال الغلام: اللهم إنك رزقتني العتق الأصغر فارزقني العتق الأكبر. وأعتق عمرو بن عقبة غلاماً له كبيراً، فقام إليه عبد صغير فقال: اذكرني يا مولاي ذكرك الله بخير! فقال: إنك لم تخرف! فقال: إن النخلة قد تجني زهواً قبل أن تصير معواً! قال: قاتلك الله لقد استعتقت وحسنت وقد وهبتك لواهبك، كنت أمس لي واليوم مني! سبى فيلسوف وأراد رجل شراءه فقال له: لماذا يصلح؟ قال: للحرية.
ذم العبيد:
قيل: ليس عبد باخ لك! ابن سعد:
العبد لو كانت ذؤابة رأسه ... ذهباً لكان رصاصة رجلاه
المتنبي:
أتوك من عبد ومن عرسه ... من حكم العبد على نفسه
فلا ترج الخير عند امرىء ... مرت يد النخاس في رأسه
أراذل الخدم:

كان لبعضهم مملوك ينشطر، وكان إذا قال له صاحبه هات الدواة، قال مرحباً بجعفر البرمكي، وإذا قال ناولني ثوبي، قال قيصر يلبس، وإذا قال اغسل ثيابي، قال يونس النبي كان خيراً منك لبس القرع، وآدم عليه السلام لبس ورق التين، وأنت لا تلبس ثوباً وسخاً، وإذا قال اذهب إلى السوق قال خذلني الله إن ذهبت حتى آكل كباباً وأتناول شراباً؛ فجاء صاحبه يوماً وهو بين شطار فقال: من هؤلاء؟ قال: فتيان الخلد يحبونني قبل رؤوسهم. فقال: أنت حر لوجه الله إن شئت! فقال: يا أحمق لو شئت لهربت منذ زمان! فحمله إلى النخاس فقال له النخاس: ما اسمك؟ قال: كنيتي أبو علي. قال: ما تحسن؟ قال: أعلم الجراحات السقيمات والسليمات، وأعلم البنين الإجارة، والبنات التقحب، أنا أخبث من قرد، وأنوم من فهد، وأروغ من ثعلب، وأنقب من جرذ، وأسرق من سنور، وألص من عقعق! فقال النخاس: بكم أبو علي الكثير المحاسن؟ فقال: بما شئت! فقال النخاس: بعشرين درهماً! فقال صاحبه: إنه يقع علي بجملة. فقال العبد: انظر إلى أخي القحبة كأنني خير من يوسف بن يعقوب وقد باعه أخوته بثمانية عشر درهماً، ومع أخي القحبة فضل درهمين فباعه منه، فالتفت أبو علي إلى النخاس وقال: أم من لا يندمك ألف قحبة! وقال الجاحظ: اشتريت عبداً بمائة درهم فاسترخصته، فتعشيت سمكاً ونمت فاستدعيت منه ماء فقال: اسكت تأكل السمك وتشرب عليه الماء ليتولد منه كذا وكذا وامتنع، فلما اشتد عطشي قمت وشربت فقال: يا مولاي احمل معك حتى أشرب أنا أيضاً. وقال رجل لعبد: أشتريك؟ فقال: لا لأني آكل فارهاً وأمشي كارهاً. وقيل لآخر فقال: أنا إذا جعت أبغضت قوماً وإذا شبعت أحببت نوماً. وقال رجل لغلامه: اذهب إلى المنزل واحمل الشمع لأعود إلى البيت. فقال: أنا لا أجسر تعال معي حتى أحمله فأنصرف معك. وذكر دغفل النسابة المماليك فقال: هم عز مستفاد وغيظ في الأكباد.
اليعقوبي:
لي حمار وغلام وهما يغتلمان
فحماري يعشق الأتن وذا رخو العجان
لو بهذا عفّ هذا لاستراح الثقلان

الغلام المتعاطي معه:
قال رجل لغلام صديق له وقد شاخ: ما حالك؟ قال: مولاي ينيكني منذ كذا وكذا سنة بالحجة، وذلك أنه يفعل في كل يوم، فإذا قلت يا مولاي قد شخت يقول يا بغيض، من أمس إلى اليوم؟ وقال رجل لغلام له قد التحى: أخرج من داري! فقال: رد أليّ ما أخذت مني خداً أملس وفتحة ضيقة! وحلف رجل على غلام: لأضربنك! فاستعفاه الغلام فقال: أتراني أعصي الله فيك؟ فقال: طالما عصيت الله في تعاطيك معي! فخجل الرجل من أصحابه.
المسيء إلى خدمه:
قال رجل لأعرابي:ما تصنعون في عبيدكم حتى يقال في الدعاء عليهم باعك الله في الأعراب؟ قال:نجيع كبده ونعري جسده ونطيل كده ونكثر جلده!اشترى أعرابي عبداً فقيل:إنه يبول في الفراش.فقال:إن وجد في دارنا فراشاً فليبل فيه!وكان لرجل عبد يأكل الحواري ويطعمه الخشكار فباعه،فاشتراه آخر يأكل الخشكار ويطعمه الشعير،فباعه فاشتراه آخر يأكل الشعير ويطعمه النخالة،فاستباعه فاشتراه آخر كان يجيعه وإذا قعد بالليل وضع السراج على رأسه فلم يستبعه،فقيل له في ذلك فقال:أخشى إن باعني أن يضع المشتري الفتيلة في حدقتي!
من ذكر أنا لا غلام له:
ابن الحجاج:
إذا قدموا خيلهم للركوب ... خرجت فقدمت لي ركبتي
وفي جملة الناس غلمانهم ... وليس سواي في جملتي
ولا لي غلام فأدعوا به ... سوى من أبوه أخو عمتي
والعرب تقول: العبد من لا عبد له.
ذم الخصيان:
قالت أعرابية لخصي: اسكت فما لك حزم الرجال، ولا رقة النساء! المتنبي:
لقد كنت أحسب قبل الخصي ... بأن الرؤوس مقر النهى
فلما نظرت إلى عقله ... رأيت النهى كلها في الخصى
أبو نعامة:
لا تطلبن إلى خصي حاجة ... يوماً فلما لك عنده من خير
واكشف له عن رأس أيرك إنه ... لا شيء آثر عنده من أير
قال الجاحظ: كل حيوان ذي ريح منتنة فإنه متى خصي زال نتنه وصنانه كالتيس والهر، غير الإنسان فإنه يزداد نتناً وصناناً، وكل شيء إذا خصي دق عظمه واسترخى لحمه إلا الإنسان فإنه تطول عظامه وتلتوي.
النهي عن إظهار العورة لهم:

أجمع الفقهاء أن حكم الخصيان حكم الفحول، فلا يجوز أن تكشف لهم النساء. ودخل معاوية رضي الله عنه على امرأته بنت بجدل ومعه خصي فاستترت منه فقال معاوية أنه خصي! فقالت: إن مثلتك به لا تحل مني ما حرمه الله. وكان إسحاق بن مسلم العقيلي عند منصور فمر به خادم وضيء الوجه فقال: أي ابنيك هذا قال: هذا خادم في دار النساء! قال: أتشك أن شم هذا وضمه أحب إلى المرأة من شمك وضمك. فأتاه من ذلك أمر عظيم ومنعه بعدها من دخول الحرم.

حد اتخاذ الخصيان:
قيل لأبي العيناء: لم اتخذت خصياً أسود؟ فقال: أما الأسود فلئلا أتهم به، وأما الخصي فلئلا يتهم بي! أحمد بن يوسف في وصفهم:
مبرؤون من الشعر اللبيد ومن ... حمل الأيور وإخراج المناتين
وكالنساء إذا ما رمت خلوتهم ... وكالليوث لدى الهيجاء تحميني!
الحد الثالث
في الإنصاف والظلم والحلم والعفو والعقاب
والعداوة والحسد والتواضع والكبر، وما يتعلق بذلك
مما جاء في الإنصاف والظلم
عز الحق وذل الباطل:
قال الله تعالى: " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق " . وقال تعالى: " وقل جاء الحق وزهق الباطل " . قال ابن المعتز: إن للحق أن يتضح وللباطل أن يفتضح. وقيل: الحق حقيق أن ينهج سبيله ويتضح دليله. وقال المنتصر يوماً: والله ما عز ذو باطل ولو طلع القمر من بين عينيه، ولا ذل ذو حق ولو اتفق العالم عليه. وقيل: للباطل جولة ثم يضحمل، وللحق دولة لا تنخفض ولا تذل. وقيل: الحق أبلج والباطل لجلج. وقيل: الحق من تعداه ظلم ومن قصر عنه ندم.
مدح العدل:
قال أنوشروان: العدل سور لا يغرقه ماء ولا تحرقه نار ولا يهدمه منجنيق. وقيل: عدل قائم خير من عطاء دائم. وقيل: لا يكون العمران حيث لا يعدل سلطان. وقيل لحكيم: ما قيمة العدل؟ قال ملك الأبد. وقيل: قيمة الجور؟ ذل الحياة. وقيل: العدل يسع الخلق والجور يقصر عن واحد.
ذم الظلم والنهي عنه:
قال الله تعالى: " وما للظالمين من أنصار " . وقال: " الظالمون ما لهم من ولي ولا نصير " . وقال الله تعالى: " ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع " . وقال الله تعالى: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار " . وقال: " فقطع دابر القوم الذي ظلموا والحمد لله رب العالمين " . وفي الخبر: بئس الزاد إلى المعاد ظلم العباد. وقيل: الظلم مرتعه وخيم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الظلم ظلمات يوم القيامة. ويقال: ليس شيء أقرب من تغيير نعمة وتعجيل نقمة من الإقامة على الظلم. وقيل في قول الله تعالى " ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون " وعبد للظالم وتعزية للمظلوم. وقيل: على الظالم أن يكون وجلاً، وعلى المظلوم أن يكون جذلاً. كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عامل له: إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فاذكر قدرة الله عليك. ودخل رجل على سليمان بن عبد الملك فقال: أذكر يا أمير المؤمنين يوم الأذان. فقال: وما يوم الأذان؟ قال: اليوم الذي قال الله تعالى فيه: " فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " . فبكى سليمان وأزال ظلامته. وكان حفص بن عتاب لقيه الرشيد فأقبل عليه يسائله فقال في أثناء ذلك:
نامت عيونك والمظلوم منتبه ... يدعو عليك، وعين الله لم تنم!
وقال عبد الله بن أبي لبابة: من طلب عزاً بباطل أورثه الله ذلاً بإنصاف وحق.
التحذير من دعوة المظلوم:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: اتقوا دعوة المظلوم فإنها مجابة. وقال بعضهم: دعوتان أرجو إحداهما وأخاف الأخرى، دعوة مظلوم أعنته، وضعيف ظلمته. وقيل: احذروا دعوة المظلوم فإنها لينة الحجاب. وقال صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أعوذ بك من أن أظلم أو أظلم.
سرعة معاقبة الظالم:

قال الله تعالى: " من يعمل سوأ يجز به " . وروي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قال: ما أحسنت إلى أحد قط ولا أسأت إليه! فرفع الناس رؤوسهم تعجباً فقرأ: إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها. سمع ابن عباس رضي الله عنهما كعب الأحبار يقول: من ظلم خرب بيته فقال تصديقه في القرآن: " فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا " . وقيل: الظلم أدعى شيء إلى تغيير نعمة وتعجيل نقمة. وقال صالح المري: دخلت إلى دار المادراي فاستفتحت ثلاث آيات من كتاب الله تعالى، استخرجتها حين تذكرت الحال فيها قوله تعالى: " فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً " ، وقوله تعالى: " ولقد تركناها آية فهل من مذكر " ، وقوله تعالى: " فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا " ، فخرج إلى أسود من ناحية الدار فقال: هذه سخطة المخلوقين فكيف سخطة الخالق؟ وروى جعفر ابن محمد عن أبيه قال: إذا أراد الله أن ينتقم لوليه انتقم من عدوه بعدوه، وإذا أراد الله أن ينتقم لنفسه انتقم بوليه من عدوه.
؟

المتفادي من ظلم الضعاف:
قال معاوية: إني لأستحي أن أظلم من لا أجد له ناصراً علي إلا الله. وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: إن أبغض الناس إلي أن أظلم من لم يستعن علي إلا بالله.
أفحش الظلم ظلم الضعيف:
شاعر:
وإني لأعطي النصف من لو ظلمته ... وأقر وطابت نفسه لي بالظلم
قيل: من عمل بالعدل في من دونه رزق العدل ممن فوقه.
نهي الوالي والقادر عن الظلم:
قيل: لا ينبغي للإمام أن يكون جائراً ومن عنده يلتمس العدل، ولا للعالم أن يكون سفيهاً ومن عنده يلتمس العلم والحلم. وقيل: إذا ظلمت من دونك عاقبك من فوقك. ابن الرومي:
وإن الظلم من كل قبيح ... وأقبح ما يكون من النبيه
وله:
إرهب من الأقران قرناً ما له ... إلا العواقب والعقوبة ناصر
آخر:
والظلم من ذي قدرة مذموم
التسكين من المظلوم بما له من العقبى:
قيل في قوله تعالى: " ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون " أعظم تعزية للمظلوم وأبلغ تحذير للظالم على مدارجة العقوبة، وإن تنفست مدته. وقيل لعمر رضي الله عنه: كان الرجل في الجاهلية بظلم فيدعو على من ظلمه فيجاب عاجلاً، ولا نرى ذلك في الإسلام؛ فقال: كان هذا جزاء بينهم وبين الظلم، وإن موعدكم الآن الساعة، والساعة أدهى وأمر. وقيل: إنما تندمل من المظلوم جراحه إذا انكسر من الظالم جناحه.
الظلم في أخذ الأرض:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من ظلم قيد شبر من أرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة.
أحمد بن واضح:
يا قابض الضيعة من نسوة ... ضعفاً وأيتام لسلطانه
يجأرن بالليل إلى خالق ... إغاثة الملهوف من شأنه
لا يأخذ الضيعة ذو قدرة ... يريد أن تبقى لصبيانه
ومما يقرب من السخف في هذا أن رجلاً كان له قطعة من أرض بجنب أرض لرجل، فكان يضم كل سنة قطعة منها إلى أرضه، فقال له يوماً: ما هذا النقصان في أرضنا؟ فقال: أما سمعت قول الله تعالى: " أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها " . فقال: فما هذه الزيادة في أرضك؟ قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قال: فمن أين أوتيت الفضل وأوتيت النقص في ذلك؟ فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم.
التحذير من معاونة الظالم:

روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أعان ظالماً سلطه الله عليه. وقال المأمون لبعض ولاته: لا تظلم لي فيسلطني الله عليك. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس للظالم عهد فإن عاهدته فانقضه فإن الله تعالى يقول: " لا ينال عهدي الظالمين " . وسمعت بعض العلماء يقول: ما ظلمت أحداً قط لغيري، فإني إذا ظلمت ظلمت نفسي. ويشبه ذلك ما يحكى أن عاملاً عزل عن عمله بغيره فقال المولى لمن ولي مكانه: أعرني دواتك لأكتب منها حرفاً فقال: لا فإني لا أستحل معاونة الظلمة ولا أحب أن يكتب من دواتي ظالم. فقيل: ألم تك تكتب منها آنفاً؟ فقال إني أحرق بالنار نفسي لنفسي ولا أحرقها لغيري. وقيل لأبي مسلم صاحب الدولة. قد قمت مقاماً لا يقصر بك عن الجنة في إزالة دولة بن أمية وإقامة شعار بني العباس. فقال: لخوفي من النار أولى من طمعي في الجنة، فإني أطفأت من بني أمية جمرة ألهبت بها نيراناً لبني العباس وسأحرق بها.

المتفادي من أن يظلم أو يظلم:
كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته: بسم الله وبالله إني أعوذ بك من أن أزل أو أضل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي. وقال بعضهم: لنا عز يمنع من أن نظلم، وحلم يمنع من أن نظلم.
الموصوف بالظلم:
قيل: فلان أظلم من حية لأنها لا تحفر الجحر بل تسلب غيرها جحره فتدخله. ويقال: أظلم من ذئب؛ قال:
وأنت كذئب السوء إذ قال مرة ... لعمروسه، والذئب غرثان خاتل:
أأنت الذي من غير شيء سببتني؟ ... فقال: متى ذا؟ قال: ذا عام أول
فقال: ولدت العام بل رمت غدرة ... فدونك كلني! ما هنالك مأكل
فقال: أعدى من الدهر ومن التمساح ومن الجندي، وهو فيما قيل اسم الملك الذي قال الله تعالى فيه: " وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً " . وقال أعرابي: لئن هملجت إلى الباطل إنك عن الحق لقطوف. وقيل: الفتنة عرس الظالم.
المتبجح بالظلم:
قيل لأعرابي: أيما أحب إليك أن تلقى الله ظالماً أو مظلوماً؟ فقال: ظالماً! قيل: ويحك ولمَ؟ قال: ما عذري إذا قال لي خلفتك قوياً ثم جئت تستعدي؟ وقيل لأعرابي ولد له ابن: جعله الله براً تقياً فقال: بل جعله جباراَ عصياً، يخافه أعداؤه ويؤمله أولياؤه.
الممدوح بكونه مظلوماً لمن هو دونه:
وقع الرشيد في قصة رجل: الشريف من يظلم من فوقه، ويظلمه من دونه، فأنظر أي الرجلين أنت.
محمود الورّاق:
ما زال يظلمني وأرحمه ... حتى رثيت له من الظلم
وقال ابن زهير: تحمل بعض الظلم أبقى للأهل والمال. قال الشاعر:
ولا تحم من بعض الأمور تعززا ... فقد يورث الذل الطويل تعزز
الرخصة في المجازاة بالظلم:
قال الله تعالى في مدح ذلك: وانتصروا من بعد ما ظلموا. وقال تعالى: " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل " . وقال بعضهم لسلطان: إني وإن خشنت في المال فقد عذر الله المظلوم إذا جهر بالسوء طلباً للنصفة من ظالمه حيث قال: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم. وقال جرير: إني لا أبتدي لكن أعتدي.
من لا يبالي بأن يظلم:
قيل: أهون مظلوم سقاء مروّب. وقيل: أهون مظلوم عجوز معقومة.
شاعر:
وظلم النهشلي من السواء
من لا يبالي بأن يظلم:
أبو فراس:
وبعض الظالمين وإن تعدى ... شهي الظلم مغفور الذنوب
ولبعض الصوفية:
دع الحب يصلي بالأذى من حبيبه ... فكل الأذى ممن يحب سرور
تراب قطيع الشاء في عين ذئبها ... إذا سار في آثارهن ذرور
آخر:
وقد يؤذى من المقة الحبيب
تحسر من ظلمه دنىء أو لئيم وتعزيه:
في المثل: لو ذات سوار لطمتني. الفرزدق:
فوا عجباً حتى كليب تسبني ... كأن أباها نهشل أو مجاشع!
وقد يؤذى من المقة الحبيب
تحسر من ظلمه دنىء أو لئيم وتعزيه:
في المثل: لو ذات سوار لطمتني. الفرزدق:
فوا عجباً حتى كليب تسبني ... كأن أباها نهشل أو مجاشع!
أبو فراس:
ما للرجال من الذي ... يقضي به الله امتناع
ذدت الأسود عن الفرا ... ئس ثم تفرسني الضباع
أبو سعيد بن نوقة وقد أجاد ما شاء:

ولا غرور أن يبلى شريف بخامل ... ولا يتقي التنين ينكشف البدر

اختيار ركوب القتل على التزام الظلم:
محمد بن وهب:
فتى يتقي أن يخدش الذم عرضه ... ولا يتقي حد السيوف البواتر
المتلمس:
فلا تقلون ضيماً مخافة ميتة ... وموتن بها حراً وجلدك أملس
أبو فراس:
أرى ملء عيني الردى وأخوضه ... إذا الموت قدّامي وخلفي المعايب
وله:
والموت عند طروق الضيم مورود
ابن نباتة:
لا صحبت الحياة إن صحبتني ... في الملمات مهجة تستضام
الممتنع من احتمال الظلم:
الزبرقان:
قد رامني الأقوام قبلك فامتنعت من المظالم
خالد بن زهير:
فإن كنت تبغي للظلامة مركباً ... ذلولاً فإني ليس عندي بعيرها
آخر:
فلان لا يسأم خطة الخسف ... ولا يحمل على مركب العنف
قال:
لا يعلف الضيم ذو مجد وذو شرف ... ولا يبيت بوادي الخسف مذموماً
وقال:
كأنه من حذار الظلم مجنون
آخر:
ولا ألين لغير الحق أسأله ... حتى يلين الضرس الماضغ الحجر
وقد أحسن الذي قال: من ظلمني مرة فالله ينتقم لي منه، ومن ظلمني مرتين فالله ينتقم له مني!
عادة الناس ظلم من استضعفوه:
ابن عائشة:
تراهم يغمزون من استركوا ... ويجتنبون من صدق المصاغا
المتنبي:
الظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعله لا يظلم
رجل عبسي:
إن المحكم ما لم يرتقب حسباً ... أو يرهب السيف أو حد القنا جنفا
ظالم متظلم:
في المثل: تلدغ العقرب وتصي.
الخبزارزي:
ظلمت سراً وتستعدي علانية ... ألهبت ناراً وتستعفي من اللهب
قال الشعبي: حضرت مجلس شريح فجاءته امرأة تخاصم زوجها باكية فقلت: ما أظنها إلا مظلومة؟ فقال: إن إخوة يوسف جاؤوا أباهم عشاء يبكون وهم ظالمون.
ذم ممتنع من قبول الإنصاف:
قيل: ما أعطي أحد قط النصف فأبى إلا أخذ شراً منه. وقال الأحنف: ما عرضت النصفة على أحد فقبلها إلا تداخلني منه هيبة، ولا ردها أحد إلا طمعت فيه.
مدح الحلم ونظم الغيظ وفضل الرحمة والعفو والاستعفاء والاعتذار
حد الحلم:
قيل: الحلم تجرع الغيظ. وقيل: الحلم دعامة العقل. وقال الأفوه الأودي: الحلم محجزة عن الغيظ. وقيل: ليس الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر انتصر، ولكن الحليم من ظلم فحلم فإذا قدر غفر. وقالت الفلاسفة: الحلم فضيلة النفس يكسبها الطمأنينة لا يحركها الغضب بسهولة وسرعة. سأل علي رضي الله عنه كبير فارس عن الغالب كان على أنوشروان قال: الحلم والأناة. قال: هما توأمان ينتجها علو الهمة. وقيل لعمر بن الأهتم: من أشجع الناس؟ قال: من رد جهله حلمه. وقال سفيان: ما تقلد امرؤ قلادة أحسن من حلم، فهو محمود عاجله وآجله. ورأى حكيم بن ملك ترفقاً فقال: ليس التاج يفتخر به علماء الملوك فضة ولا ذهباً لكنه الوقار المكلل بجواهر الحلم، وأحق الملوك بالبسطة عند ظهور السقطة من اتسعت قدرته.
شاعر:
لن يدرك المجد أقوام ذوو كرم ... حتى يذلوا، وإن عزوا، لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مسفرة ... لا خوف ذل ولكن فضل أحلام
الأخذ نفسه بالحلم من الملوك:
دفع ازدشير بن بابك ثلاثة كتب إلى رجل يقوم على رأسه وقال له: إذا رأيتني قد غضبت فادفع إلي الأول، فإن لم أندم فالثاني، ثم الثالث. وكان في الأول: أمسك فلست بإله وإنما أنت جسد يوشك أن يأكل بعضه بعضاً، وفي الثاني: ارحم عباد الله يرحمك الله، وفي الثالث: احمل عباد الله على حقه.
الحث على تكلف الحلم واستعماله:
قيل: إذا لم تحلم فتحالم فقل من تشبه بقوم إلا كان منهم. وقال:
تحلم عن الادنين ودهم ... فلن تستطيع الحلم حتى تحلما
الممدوح بالحلم:
حسان:
أحلامنا ترن الجبال رزانة ... وتزيد جاهلنا على الجهال
ابن هرمة:
ولو وزنت رضوى ببعض حلومهم ... لشالت، ولو زيدت عليه تضاع
أبو فراس:
يجني الخليل وأستحلي جنايته ... كما يدل على حلمي وإحساني
المتنبي:

واحلم عن خلي واعلم أنني ... مت أجزه حلماً عن الجهل يندم

من اجتهد في إغضابه فحلم:
بايع رجل آخر على أن يغضب الأحنف، فجاءه فخطب إليه أمه فقال: لسنا نردك انتقاصاً بحسبك، ولا قلة رغبة في مصاهرتك، ولكنها امرأة قد علا سنها، وأنت تحتاج إلى امرأة ودود ولود، تأخذ من خلقك وتستمد من أدبك، ارجع إلى قومك وأخبرهم أنك لم تغضبني! وخطب آخر إلى معاوية أمه فقال: ما الذي رغبك فيه وهي عجوز؟ فقال: بلغني أنها عجوز عظيمة العجز! فقال: لعلك خاطرت أن تغضب سيد بني تميم؟ قال نعم. قال: ارجع فلست به!
فضل كظم الغيظ:
قال الله تعالى: " والكاظمين الغيظ " . ومر النبي صلى الله عليه وسلم بقوم يربعون حجراً فقال: ألا أخبركم بأشدكم؟ من ملك نفسه عند الغضب. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كظم الغيظ وهو يقدر على أن ينفذه خيره الله في أي حور شاء. وقيل: الكظم يدفع محذور الندم كالماء يطفىء حر الضرم. كظم! يتردد في حلقي أحب إلي من نقص أجده في خلقي. قال: وأفضل حلم حسبة حلم مغضب.
ما يسكن به الغضب:
قيل: من غضب قائماً فقعد سكن غضبه، وإن قاعداً فاضطجع سكن. والعجم تقول: من غضب فليستلق. قال أبو بكر بن عبد الله: أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم. وقيل: اذكر قدرة الله إذا غضب. قال الله تعالى: " إن الذين اتقوا إذا مسهم طيف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " . فقيل: الطيف من الشيطان حر الغضب.
من أغضب من الكبار فصبر:
قام رجل إلى عمر بن عبد العزيز فكلمه بكلام أغضبه فقال: أردت أن يستفزني الشيطان فإياك ومعاودة مثله، عافاك الله! أمر محمد بن سليمان برجل أن يطرح من القصر كان قد غضب عليه فقال الرجل: اتق الله! فقال: خلوا سبيله فإني كرهت أن أكون من الذين قال الله تعالى فيهم: وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم.
ذم الغضب:
قيل لحكيم: أي الأحمال أثقل؟ فقال: الغضب. وروي أن إبليس لعنه الله قال: مهما أعجزني ابن آدم فلن يعجزني إذا غضب، لأنه ينقاد لي فيما أبتغيه، ويعمل ما أريده وأرتضيه. وقيل لأبي عبا: أيما أبعد من الرشاد السكران أم الغضبان؟ فقال: الغضبان لا يعذر أحد في طلاق ولا مأثم يجترمه، وما أكثر ما يعذر السكران! وسئل ابن عباس رضي الله عنه عن الغضب والحزن أيهما أشد فقال: مخرجهما واحد واللفظ مختلف، فمن نازع من يقوى عليه أظهره غضباً، ومن نازع من لا يقوى عليه كتمه حزناً. ومن هنا أخذ المتنبي قوله:
وحزن كل أخي حزن أخو الغضب
من غضب في غير مغضب:
قال بعض الحكماء: إذا كانت الموجدة من علة كان الرضاء مفقوداً. وقيل: من غضب من غير ذنب رضي من غير عذر. وقيل: من فاته الذين والمروءة فرأس ماله الغضب.
عذر من كان منه غضب:
قال الشافعي رضي الله عنه: من استغضب ولم يغضب فهو حمار، ومن استرضي ولم يرض فهو جبار. وقيل: م لم يغضب من الجفوة لم يشكر أخا النعمة. وقيل: فلان يملك حالتيه أي غضبه ورضاه.
الحث على ترك الغضب المؤدي إلى الإعتذار:
قال حكيم: إياك وعزة الغضب فإنها تصير بك إلى ذل الإعتذار. قال شاعر:
ولا تحم من بعض الأمور تعززاً ... فقد يورث الذل الطويل تعزز
آخر:
ولرب ممتعض هو المتذلل
آخر:
متى ترد الشفاء لكل غيظ ... تكن مما يغيظك في ازدياد
سرعة الغضب وبطؤه:
قيل: أسرع الناس رضاً أسرعهم غضباً، كالحطب أسرعه خموداً أسرعه وقوداً. وكان بعض الناس يقول: أعوذ بك من غضب من لا يكاد يغضب، وأعوذ بك من غضب امرأة قادرة، وذي قوة قاهرة.
الحث على ملاءمة الناس:
أبو العتاهية:
ساهل الناس إذا ما غضبوا ... وإذا عز أخوك فهن
محمود الوراق:
دار الصديق إذا استشاط تغضباً ... فالغيظ يخرج كامن الأحقاد
ولربما كان التغضب باحثاً ... لمثالب الآباء والأجداد
النهي عن مراجعة السفيه ومدح فاعل ذلك:
قال الله تعالى: " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً " . قال شاعر:
لا ترجعن إلى السفيه خطابه ... إلا وجواب تحية حياكها
فمتى تحركه تحرك جيفة ... ترداد نتناً ما أردت حراكها

وقال رجل: للأحنف: إن قلت واحدة لتسمعن عشراً! فقال: أنت إن قلت عشراً لم تسمع واحدة! وألح رجل على الأحنف بالشتم، فلما فرغ قال: هل لك في الغذاء فإنك مذ اليوم تحدوا بأحمال ثقال؟ وشتم سفيه حكيماً وهو ساكت فقال: إياك أعني! فقال: وعنك أغضي! قال:
وبعض انتقام المرء يردي بعقله ... وإن لم يقع إلا بأهل الجرائم
وقيل لبعضهم وقد كان صاحب من له ذنب إليه: هلا جازيت! فقال:
الصقر يحقر عن طراد الدخل
شاعر:
شاتمني عبد بني مسمع ... فصنت عنه النفس والعرضا
ولم أجبه لاحتقاري له ... من ذا يعضّ الكلب إن عضّا؟
ولهذا باب في موضع آخر.

الحث على التصامم عن القبيح والتمدح بذلك:
قال المهلب: إذا سمع أحدكم العوراء فليطأطىء لها تتخطاه. وأسمع رجل آخر وهو ساكت فقال: إني وإياك كما قال زهير:
وذي خطل في القول تحسب أنه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله!
حاتم:
وكلمة حاسد في غير جرم ... سمعت فقلت: مرّي فانفذيني
عنيت بها كأن قيلت لغيري ... ولم يعرق لها يوماً جبيني
السموأل اليهودي: رب شتم سمعت فتصاممت، وعي تركته فكفيت.
البحتري:
وأحبس عني تعريض عرضي لجاهل ... وإن كنت في الإقدام أطعن في الصف
الحث على الرحمة ومدح ذويها:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء. وقال صلى الله عليه وسلم: من لا يرحم الناس لا يرحمه الله. وقال عليه الصلاة والسلام: لا تنزع الرحمة إلا من قلب شقي. وقال: من كرم أصله لان قلبه. وقيل: من أمارات الكرم الرحمة، ومن أمارات اللؤم القسوة.
الحث على العفو مطلقاً:
قال الله تعالى: " وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم " . وقال تعالى: " وأن تعفوا أقرب للتقوى " . وقال تعالى: " فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره " . وأدب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " ؛ فلما علم أن قد قبل أدبه قال: " وإنك لعلى خلق عظيم " . وقال الأحنف: إياكم وحمية الأوغاد؛ قيل: وما حميتهم؟ قال: يرون العفو مغرماً والبخل مغنماً. وقيل لبعضهم: هل لك في الإنصاف أو ما هو خير من الإنصاف؟ قال: وأي شيء خير من الإنصاف؟ قال: العفو فالإنصاف ثقيل. وسئل الجنيد رحمه الله عن الفتوة فقال: العفو بدلالة قوله تعالى: " وليعفوا وليصفحوا " . وقيل: العفو عن المذنب زكاة النفس. قيل: من كرم الأخلاق أن تغفر الذنب. من شكر الموهوب العفو عن الذنوب الاحتمال قبر العيوب.
البحتري:
إذا أنت لم تضرب عن الحقد لم تفز ... بشكر ولم تسعد بتقريظ مادح
استطابة العفو ولذته:
قيل: لذة العفو أطيب من لذة التشفي، لأن لذة العفو يتبعها حمد العاقبة، ولذة التشفي يتبعها غم الندامة. وقيل للاسكندر: أي شيء أنت به أسر مما ملكت؟ قال: مكافأة من أحسن إلي بأكثر من إحسانه، وعفوي عمن أساء بعد قدرتي عليه.
ما يستحسن من الكبار فيه الحلم وما يستقبح:
قال معاوية وقد أغلظ له رجل: إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين السلطان. وقال المأمون: الحلم يحسن بالملوك إلا في ثلاثة: قادح في ملك، ومتعرض لحرمة، ومذيع لسر. وقال السفاح: الحلم يحسن إلا ما أوضع الدين وأوهن السلطان.
الحث على درء الحد:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أدرؤوا الحدود بالشبهات. وقال عمر رضي الله: لأن يخطىء الإمام في العفو خير له من أن يخطىء في العقوبة. وقال إبراهيم النخعي: لأن أعطل مائة حد قد ثبتت أحب إلي من أقيم حداً قد ثبت.
حث القادر على العفو:
قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: إذا قدرت على العدو فاجعل العفو شكر قدرتك. ظفر الإسكندر ببعض الملوك فقال له: ما أصنع بك؟ قال: ما يجمل بالكرام أن يصنعوه إذا ظفروا! فخلى سبيله ورده إلى مملكته. ولما ظفر أنوشروان ببزرجمهر قال: الحمد لله الذي أظفرني بك! فقال: كافىء من أعطاك ما تحب بما يحب. قالت عائشة رضي الله عنها: إذا ملكت فاسجح. وقيل: المقدرة تذهب الحفيظة. وقيل ليوسف عليه السلام: بعفوك عن أخوتك عند قدرتك رفع قدرك.
ذم المتشفى من الغيظ:

قال معاوية رضي الله عنه: العقوبة الأم حالات ذي القدرة. وقال حكيم: من شقي غيظه لم يجب شكره. وقال: التشفي طرف من الجزع، فمن رضي أن لا يكون بينه وبين الظالم إلا ستر رقيق وحجاب ضعيف فلينتصف. وقال شاعر:
متى ترد الشفاء لكل غيظ ... تكن مما يغيظك في ازدياد
متى لم تتسع أخلاق قوم ... يضيق بها الفسيح من البلاد

مدح من صفح عن قدرة:
شاعر:
ما أعظم الناس أحلاماً إذا قدروا!
وقيل: عفو العزيز أعز له وعفو الذليل أذل له.
أخر:
ما أحسن العفو من القادر ... لا سيما عن غير ذي ناصر!
أشجع:
يعفو عن الذنب العظيم ... وليس يعجزه انتصاره
صفحاً عن الباغي عليه ... وقد أحاط به اقتداره
المتنبي:
فتى لا تسلب القتلى يداه ... ويسلب عفوه الأسرى الوثاقا
الممدوح بأنه إن شاء صفح وإن شاء انتقم:
الأعشى:
يقوم على الرغم في قومه ... فيعفو إذا شاء أو ينتقم
كثير:
حليم إذا ما نال عاقب مجملا ... أشد العقاب أو عفا لم يثرب
علي بن الجهم:
يعاقب تأديباً ويعفو تطولاً ... ويجزي على الحسنى ويعطي فيجزل
وقال آخر:
تسطو بعدل وتعفو إن عفوت به ... فلا عدمناك من عاف ومنتقم!
الحث على إقالة من سلم ظاهره:
قيل: لا تعتد بما لم تسمعه أذناك، فإن السيد إذا حضر هيب، وإذا غاب اغتيب، وقال بعض الملوك: إنما نملك الأجساد دون النيات، ونحكم بالعدل لا بالهوى، ونفحص عن الأعمال لا عن السرائر.
البحتري:
إذا عدوك لم يظهر عداوته ... فما يضرك إن عاداك إسرارا؟
وقال آخر:
إذا دحسوا بالكره فاعف تكرماً ... وإن حبسوا عنك الحديث فلا تسل
فإن الذي يؤذيك منه استماعه ... وإن الذي قالوا وراءك لم يقل
العذر عمن سلم باطنه:
قد يهفو المرء ونيته سليمه ويزل وطريقته مستقيمه: إبراهيم بن المهدي:
ما إن عصيتك والغواة تمدني ... أسا بها إلا بنية طائع
ابن طباطبا:
أرى زلتي كفراً فهل لي توبة ... وكم كافر بالله راج لغفرانه
فإن كنت في الكفر الذي جئت مكرهاً ... فما زال قلبي مطمئناً بإيمانه
الفرزدق:
فلست بمأخوذ بلغو تقوله ... إذا لم تعمد عاقدات العزائم
ذم من لا يقيل العثرة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بشراركم؟ من أكل وحده وضرب عبده ومنع وفده؟ ألا أخبركم بشر من ذلكم؟ من لا يقبل معذرة ولا يقيل عثرة.
شاعر:
موقح الوجه قليل الصفح ... كلامه مثل عصي الطلح
عتب من يحفظ الذنب بعد تقادمه:
البحتري:
تناس ذنوب قومك إن حفظ الذنوب إذا قدمن من الذنوب
وقيل: الآثام تدرسها الأيام.
وجوب العفو عن المعترف:
الإعتراف يزول به الإقتراف: لا عتب مع إقرار ولا ذنب مع استغفار. المعترف بالجريرة مستحق للغفيرة.
محمد بن جابر:
إذا ما امرؤ من ذنبه جاء تائباً ... إليك فلم تغفر له، فله الذنب
وقيل: التوبة تغسل الحوبة.
الحث على العفو بعد الإقرار:
قال كلثوم بن عمرو لصديق له أنكر ذنباً: إما أن تقر بذنبك فيكون إقرارك حجة لنا في العفو، وإلا فطب نفساً بالإنتصار منك فإن الشاعر فيقول:
أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزنا ... عنه، فإن جحود الذنب ذنبان
قيل: يجب للحازم أن لا يتقدم غفرانه تعريف الجاني ما جنى، لئلا ينسب عفوه إلى الغفلة وكلال حد الفطنة.
سوء الإعتذار دليل على الإصرار:
قال:
لا ترج رجعت مذنب ... خلط احتجاجاً باعتذار
وقال آخر:
فلا أنت أعتبت في زلة ... ولا أنت أغليت في المعذره
حسن العفو عن المصر:
سمع حكيم رجلاً يقول: ذنب الإصرار أولى بالاغتفار؛ فقال: صدق والله ليس فضل من عفا عن السهو القليل، كمن عفا عن العمد الجليل.
مستعف مقر بالذنب:

ابن المعتز في كلام له: تجاوز عن مذنب لم يسلك بالإقرار طريقاً؛ حتى اتخذ من رجائك رفيقاً. وقال الفضل بن مروان لرجل عاتبه: بلغني أنك تبغضني! فلم ينكر الرجل وقال: أنت كما قال الشاعر:
فإنك كالدنيا نذم صروفها ... ونوسعها ذماً ونحن عبيدها
أبو فراس:
إن لم تجاف عن الذنو ... ب وجدتها فينا كثيره
لكن عادتك الجميلة ... أن تغض علي الجريره
أتى المنصور برجل أذنب فقال: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، فإن أخذت في غيري بالعدل فخذ فيَّ الإحسان؛ فعفا عنه: شاعر:
إن للإعتذار حظاً م العفو يراه المقر بالإنصاف
ولعمري لقد أجلك من جا ... ء مقراً بذلة الإعتراف
الرفاء:
فإن تعف عني تعف عن غير جاحدٍ ... لما كان، والإقرار بالذنب أروح
وقال آخر:
فلست بأوّل عبد هفا ... ولست بأوّل مولى عفا
استغناء من خلط إقراراً بإنكار:
ما أعرف تقصيراً فابلغ ولا ذنباً فاعتب ولكني أقول:
هبني أسأت كم زعمت ... فأين عاقبة الأخوّه؟
وإذا أسأت كما أسأ ... ت فأين فضلك والمروه؟
ابن نوقه:
وهبني، وما أجرمت، أجرمت كل ما ... أتاك به الواشي فجد باحتماله
ابن باذان:
إن أسأت فأين إحسانك ... وإن أفرطت فأين أفضالك
أقررت بالجرم على أنني ... لست بمخليك من العربده
وقال الشعبي لابن يسرة وقد كلمه في قوم حبسهم: إن حبستهم بالباطل فالحق يخرجهم، وإن حبستهم بحق فالعفو يسعهم! فأمر بإطلاقهم.

معتذر مع إنكار:
قال رجل لمعن: ما على المذنب أكثر من الرجوع، فهل علي من لم يذنب أكثر من الإعتذار؟ قال: ولما حبس عبد الملك بن صالح قال: إن الملك شيء ما نويته ولا تمنيته، ولو أردته لكان أسرع من السيل إلى الحدور، والنار إلى يبس العرفج، ولكن لم رآني بالملك قميناً وإن لم أترشح له في سر ولا جهر، ورآه يحن إلي حنين الأم الوالهة إلى والدها عاقبني عقاب من سهر في طلبه، فإن حبستني على أني أصلح له ويصلح لي فليس ذلك ذنباً فأتوب منه! وقال الرشيد لرجل يرمى بالزندقة: لأضربنك حتى تقر بالذنب! فقال: هذا خلاف ما أمر الله تعالى به، لأنه أمر أن يضرب الناس حتى يقروا بالإيمان، وأنت تضربني حتى أقر بالكفر؟ فخجل وعفا عنه.
التنوخي:
إن كان إقراري بما لم أجنه ... يرضيك عني قلت: إني ظالم!
معتذر بتكذيب نفسه:
خرج النعمان متنكراً فمر برجل فقال له: أتعرف النعمان؟ قال: أليس ابن سلمى؟ قال: نعم. قال: طالما أمررت يدي على فرجها! فلحقته خيله فقال: كيف قلت؟ قال: أبيت اللعن! والله ما رأيت شيخاً أكذب ولا ألأم ولا أوضع ولا أعض لبظر أمه مني! فضحك وخلاه، فأنشأ اليشكري:
تعفو الملوك عن العظيم من الذنوب لفضلها ... ولقد تعاقب في اليسير وليس ذاك لجهلها
لكن ليعرف فضلها ... ويخاف شدة تكلها
انقطع عبد الملك عن أصحابه فانتهى إلى أعرابي فقال: أتعرف عبد الملك؟ قال: نعم. جائر بائر! قال: ويحك أنا عبد الملك! قال: لا حياك الله ولا بياك ولا قربك، أكلت مال الله وضيعت حرمته! قال: ويحك أنا أضر وأنفع! قال: لا رزقني الله نفعك ولا دفع عني ضرك! فلما وصلت خيله علم صدقه فقال: يا أمير المؤمنين، أكتم ما جرى فالمجالس أمانة!
مستعف سأل أن ينخدع له:
ابن الرومي:
فسامح وليك إن الكريم قد يتخادع للخادع
وقال:
وما بك من غفلة إنما ... لفرط الحياء وفرط الكرم

وكان جعفر بن سليمان عثر برجل سرق درة فباعها، فلما بصر بالرجل استحيا فقال له: ألم تكن طلبت هذه الدرة مني فوهبتها؟ فقال الرجل: نعم. فخلى سبيله. وبلغني أن ركن الدولة كان يوماً في الدار بحيث لا يرى، فدخل فرّاش فرأى طاساً من ذهب ولم يكن بقربه أحد، فتناوله وخرج فرآه ركن الدولة ولم يعلم به، فلما استقصى عليه الخدم قال: دعوه فإن من أخذه لم يأخذه على أن يرده، ورائيه لا يريد أن يذكره، فبعد ذلك كان الفراش يصب ماء على يديه وعليه ثياب فاخرة، فقال ركن الدولة: هذه الثياب من ذلك الطاس! وكان الفراش جلداً فقال: نعم أيها الأمير وغير ذلك من أثر النعم؟ فعفا عنه.

الحث على استسقاء نعمة بإقالة عثرة:
ابن الرومي:
لا تطير وسناً عن مقلة ... أنت أهديت لها حلو الوسن
ابن نوقة:
أترضى بإلزام الدنيئة خادماً ... رجا في ذراكم أن ينال المعاليا
وقال روح بن زنباع: لا تشمتن بي عدواً أنت رقمته، ولا تسوءن بي صديقاً أنت سررته، لا تهدمن ركناً أنت بنيته.
استغناء من زعم أن ذنبه كان خطأ أو نسياناً:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان. وقال غلام هاشمي أراد عمه أن يجازيه بسهو منه: يا عم إني قد أسأت وليس معي عقلي، فلا تسئ ومعك عقلك! أبو تمام:
فإن يك سخط عم أوتك هفوة ... على خطأ مني فعذري على عمد!
علي بن الجهم:
ألم تر عبداً عدا طوره ... ومولى عفا ورشيداً هدى
ومفسد أمر تلافيته ... فعاد وأصلح ما أفسدا
المتنبي:
وعين المخطئين هم وليسوا ... بأول معشر خطئوا وتابوا
وما جهلت أياديك البوادي ... ولكن ربما جهل الصواب
المتمدح بذلك:
اعتذر رجل إلى المنتصر فقال: أتراني أتجاوز بك حكم الله حيث يقول: ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً.
الحسن بن وهب:
وعندي إغضاء وعفو عن الذي ... يزل إذا ما لم يكن ذاك عن عمد
مستعف سأل أن يقوم ويؤدب:
أحمد بن أبي فنن:
أحين كثرت حسادي وساءهم ... جميل فعلك بي أشمت حسادي؟
فإن تكن هفوة أو زلة سلفت ... فأنت أولى بتقويمي وإرشادي!
مستعف سأل العفو لفرط خوفه:
علي بن الجهم:
فعفوك عن مذنب خاضع ... قرنت المقيم به المقعدا
إذا ادرع الليل أفضى به ... إلى الصبح من قبل أن يرقدا
مستعف اتكل على سالف حرمته:
قال هاشمي للمأمون: من حصل له مثل دالتي، وليس ثوب حرمتي، ومت بمثل قرابتي، وأسلف مثل مودتي، أقيل له أعظم من عثرتي، وغفر له فوق زلتي؛ فقال: صدقت! وعفا عنه.
شاعر:
أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيامي وحسن بلائيا
وكفى بالحث على ذلك قول الله تعالى: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " .
الاستعفاء لمذنب من قوم محسنين:
إبراهيم الصولي:
أساؤوا وفيهم محسنون، فإن تهب ... لمحسنهم أهل الإساءة، يصلحوا
متوصل إلى العفو بمراجعة أو حجة:
غضب عبد الملك على رجل فلما أتي به قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال: لا سلم الله عليك! فقال: ما هكذا أمر الله تعالى إنما قال تعالى: " وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " . وقال: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم! فعفا عنه. وكان عمر رضي الله عنه يعس ليلة، فسمع غناء رجل من بيت فتسور عليه، فرآه مع امرأة يشربان الخمر فقال: يا عدو الله أرأيت أن يسترك الله وأنت على معصية؟ فقال: يا أمير المؤمنين لا تعجل! إن كنت عصيت الله في واحدة فقد عصيت في ثلاث: قال الله تعالى: " ولا تجسسوا، وقد تجسست وقال: وائتوا البيوت من أبوابها، وقد تسورت علي، وقال: لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها، وقد دخلت بغير سلام! فقال عمر رضي الله عنه: أسأت فهل تعفو؟ فقال: نعم وعلى أن لا أعود!
من توصل إلى العفو بذم نفسه:

كان جعفر بن أمية خرج مع مصعب بن الزبير، وكان صديقاً لعبد الملك، فلما أتي به بعد قتل مصعب قال عبد الملك: لا أنعم الله بك خرجت مع مصعب؟ قال: نعم. قال: ونعم أيضاً فلا أنعم الله بك! قال: إني أعرف نفسي بالشؤم فأردت أن أصيب مصعباً بشؤمي! فضحك وخلاه. وأتي الحجاج برجل من أصحاب ابن الأشعث فقال له: أفيك خير إن عفوت عنك؟ فقال: لا. قال: ولما؟ قال: لأني كنت خاملاً فرفعتني وألحقتني بالناس، فخرجت مع ابن الأشعث لا لدين ولا لدنيا، ومعي الحماقة التي لا تفارقني أبداً، ولا أفلح معها سرمداً! فضحك منه وخلى سبيله.

من توصل إلى العفو بحيلة:
أتي معن بن زائدة بأسرى، فأمر بضرب أعناقهم فقام غلام منهم فقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تقتلنا ونحن عطاش! فقال: أسقوهم. فلما شربوا قال: ناشدتك الله إن قتلت ضيفانك! قال: أحسنت! فخلى سبيلهم. هم الأزارقة بقتل رجل فقال: أمهلوني لأركع! فنزع ثوبه واتزر ولبى وأظهر الإحرام، فخلوا سبيله لقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام " . ولما غشي أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه عمرو بن العاص طرح نفسه على الدابة وتلقاه بعورته، فأعرض عنه وقال: قبحك الله! ولما أتي عمر رضي الله عنه بالهرمزان أراد قتله، فاستسقى ماء فأتي بقدح فأمسكه بيده فاضطرب وقال: لا تقتلني حتى أشرب هذا الماء، فقال: نعم. فألقى القدح من يده. فأمر عمر رضي الله عنه بأن يقتل، فقال: أو لم تؤمني وقلت لا أقتلك حتى تشرب هذا الماء؟ فقال عمر: قاتله الله! أخذ أماناً ولم نشعر به.
مستعف ذكر فرط خوفه من الوعيد:
مروان بن أبي حفصة:
أبيت وجهي لا يلائم مضجعاً ... إذا ما أطمأنت بالجنوب المضاجع
سلم الخاسر:
لقد أتتني من المهدي معتبة ... تظل من خوفها الأحشاء تضطرب
أبو تمام:
أتاني عابر الأنباء تسري ... عقاربه بداهية نآد
فيا خبراً كأن القلب أمسى ... يجريه على شوك القتاد!
البحتري:
عذيري من الأيام وقفن مشربي ... ولقينني نحساً من الطير اشأما
وألبسنني سخط امرىء بت موهناً ... أرى سخطه ليلاً مع الليل مظلما
من هرب خشية العتاب فاعتذر لذلك:
شاعر:
لئن أخفي حذاري عنك شخصك ... لما أرسلت من كفي خيلك
ولم أهرب علي ثقة وعلم ... بأني إن رميت أفوت نبلك
ولكني هربت على يقين ... بأنك معمل في الحكم فضلك!
المتوصل إلى العفو بمغالظة القول:
أتى مخرق بنساء فطلبن أن يعفو عنهن فأبى فقالت امرأة منهن: أطال الله سهادك وأخمد رمادك! فما قتلت إلا نساء أعلاهن ندى وأسفلهن دماً، ما أدركت من قتلنا ثأراً ولا محوت عن نفسك به عاراً فأمر بتخلية سبيلهن غيرها وقال: إنما لأخشى أن تلد مثلها! وأتى الحجاج بأسارى فقال أحدهم: لا جزاك الله عن السنة خيراً! قال: كيف؟ قال: إن الله تعالى يقول: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منّاً بعد وإما فداء " . فلا مننت ولا فاديت! فقال الحجاج: خلوا سبيلهم. وقالت امرأة في جملة أسرى: قبحك الله! فلئن أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو! فقال: أف لهذه الجيف! أما كان فيهم من يقول مثل هذا، وأمر بتخلية من بقي منهم.
المتوصل إلى العفو بتذكر الله ومناشدته:
غضب رجل على مولاه فقال: أسألك الله إن علمت أني لأطوع لك منك لله فاعف عني عفا ا لله عنك! فعفا عنه. وقال رجل لأمير غضب عليه: أسألك بالذي أنت أذل بين يديه غدا مني بين يديك إلا ما عفوت مني! فعفا عنه: وقال آخر لأمير يضربه: أضرب بقدر ما تعلم أنك تجشمه عند القصاص يوم الجزاء فعفا عنه.
من استعفى واستوهب جميعاً:
جنى غلام للحسن بن علي رضي الله عنهما، فأمر بعقابه فقال: يا مولاي إن الله تعالى قد مدح قوماً فكن منهم، فإنه يقول: والكاظمين الغيظ! فقال: خلوا سبيله. قال: وقد قال: والله يحب المحسنين! قال: أنت حر لوجه الله ولك من المال كذا. واستعفى رجل من مصعب بن الزبير فعفا عنه فقال: اجعل ما وهبت لي من حياتي في خفض! فأعطاه مائة ألف، فقال الرجل إني قد جعلت نصفها لابن قيس الرقيات بقوله:

إنما مصعب شهاب من الله تجلت عن وجه الظلماء
فقال له مصعب: هذا ولك وعلينا أن نعطيه ذلك! المتنبي:
فاغفر فديتك واحبني من بعدها ... لتخصني بهدية منها أنا
وقال:
رددت مالاً ولم تمنن عليّ به ... وقبل مالي قدماً قد حقنت دمي!

المتوصل إلى العفو بدفع الوقت:
أتي عبيد الله بن زياد بخارجي فأمر بقتله فقال: إن رأيت أن تؤخرني إلى غد؛ فأمر بتأخيره فقال:
عسى فرج يأتي به الله إنه ... له كل يوم في خليقته أمر
فعفا عنه. وغضب المأمون على علي بن الجهم فقال: لآخذن مالك ولأقتلنك، اقتلوه! فقال أحمد ابن أبي دؤاد: إذا قتلته فمن أين تأخذ المال يا أمير المؤمنين؟ قال: من ورثته؛ فقال: حينئذٍ تأخذ مال الورثة وأمير المؤمنين يأبى ذلك، فقال: يؤخر حتى يستصفى ماله! وانقضى المجلس وسكن غضبه وتوصل إلى خلاصه.
شاعر:
وإذا ابن عمك لجّ بعض لجاجه ... فانظر به غده ولا تستعجل
المتوصل إلى ذلك بالتثبت إلى حين التبين:
قال الله تعالى: " إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " . وقيل لوال: تأنّ فإن التأني م الوالي صدقة. وغضب الرشيد على رجل فقال له جعفر: غضب لله فأطع الله في غضبك بالوقوف إلى حال التبين كما غضبت له. وقال الشعبي لعبد الملك: إنك على إيقاع ما لم توقع أقدر منك على رد ما أوقعت؛ فأخذ هذا المعنى شاعر فقال:
فداويته بالحلم والمرء قادر ... على سهمه ما دام في يده السهم
التثبت في العقوبة نصف العفو:
المتنبي:
ترفق أيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب
نهي العافي عن التثريب:
رضي بعض الملوك عن رجل ثم أخذ يوبخه فقال: إن رأيت أن لا تخدش وجه رضاك بالتثريب فافعل. وقيل: ما عفا عن الذنب من قرّع به! وقيل: العفو مع العذل أشد من الضرب على ذي العقل، فرب قول نفذ من صول، وعفو أشد من انتقام! ابن نوقة:
إن كنت تعفو فاعف عفو مهنيء ... إحسانه، إن لكريم وهوب
قل قول يوسف حين قال لإخوة ... جاؤه معتذرين: لا تثريب!
أو لا فعاقبني فليس بمنكر ... من مثلك التقويم والتأديب
وفيمن يعاقب ثم يعاتب قال شاعر:
إذا عوقب الجاني على قدر جرمه ... فتعنيفه بعد العقاب من الربا
معاتبة من صفح ثم ندم:
قال ابن طباطبا: كان جرى بيني وبين رجل كلام واحتملت عنه ثم ندمت، فرأيت في المنام كأن شيخاً أتاني فأنشدني:
أندمت حين صفحت ... عمن قد أساء وقد ظلم؟
لا تندمن فشرُّنا ... من أتبع الخير الندم
ذم من اعتذر فأساء:
قيل في المثل: عذره أشد من جرمه. رب إضرار أحسن من اعتذار. وقال آخر: انسيتنا اعتذارك كل عثارك. وقيل: بث من عذرك ثم من ذنبك.
الخبزارزي:
وكم مذنب لما أتى باعتذاره ... جنى عذره ذنباً من الذنب أعظما؟
ابن الحجاج:
لي صديق جنى علي مراراً وكثّرا
ثم لما عتبته ... غسل البول بالخرا
علي بن عبد العزيز الجرجاني:
رب ذنب ينمى على العذر حتى ... يبصر الاحتجاج عنه يشينه
كمقال الجريء يزداد قبحاً ... كلما ازداد منهم تحسينه
النهي عن الذنب المفضي إلى الإعتذار:
قيل: إياك وما يسبق إلى القلوب انكاره، وإن كان عندك اعتذاره، فما كل من يحكي عنك ينكر تطيق أن توسعه عذراً. وقيل: من وثق بحسن العذر وقع في الذنب.
الموسوي:
ومن قيّد الألفاظ عند نزاعها ... بقيد النهى أغنته عن طلب العذر
النهي عن العذر:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إياكم والمعاذير فإنها مفاجر. وقال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: أمسك عن الإعتذار واستمسك بالاستغفار. وكتب الحجاج إلى بعض من اعتذر إليه: إن يعلم الله ذلك من نيتك تكف المقال.
صعوبة الإعتذار والحث على تركه:
علي بن الجهم:
إن دون السؤال والإعتذار ... خطة صعبة على الأحرار
فارض للمذنب الخضوع وللقا ... رف ذنباً مضاضة الإعتذار
الزبير وهو في نهاية الحسن:

تعالوا نصطلح وتكون منا ... معاودة بلا عد الذنوب
فإن أحببتم قلتم وقلنا ... فإن القلب أشفى للقلوب

نهي من لم يذنب عن العذر:
إياك والعذر عما لم تجنه، فالمعتذر من غير ذنب يوجب على نفسه الذنب. وقيل: أحق منزلة بالإجتناب منزلة العذر لأنه يقف مواقف تهمة، وقلما سلم من ظنه. وقيل: الإغراق في العذر يحقق التهمة كما أن الإفراط في النصيحة يوجب الظنة.
الاعتذار من ترك الاعتذار:
قال بعضهم: سكوتي عن التفسير لاعترافي بالتقصير. وقال آخر: لست أعتذر إليك من الذنب إلا بإقلاع عنه. وكتب كاتب: إن تركت الاعتذار فلما قال الشاعر:
إذا لم يكن للعذر وجه مبين ... فإن اطراح العذر خير من العذر
وقيل للمطيع وقد بلغ المهتدي عنه شيء أنكره: إن كان ما بلغك فما تغني المعاذير، وإن كان كذباً فما تضر الأباطيل.
الممتنع من العذر عن حق أورده:
سأل الحجاج أعرابياً عن أخيه محمد بن يوسف: كيف تركته؟ فقال: تركته سميناً عظيماً. قال: إنما سألت عن سيرته. قال: ظلوماً غشوماً. قال: أما علمت أنه أخي؟ قال: نعم ما هو بك أعز مني بالله؛ فأمر بضربه فقيل له: اعتذر إليه. فقال: معاذ الله أن أعتذر من حق أوردته! وخطب الحجاج يوماً فأطال، فقام رجل فقال: الصلاة! الوقت لا ينتظرك والرب لا يعذرك. فأمر بحبسه فأتاه قومه وزعموا أنه مجنون، فإن رأى أن يخلى سبيله فقال: إن أقر بالجنون خليته؛ فقيل له ذلك فقال: معاذ الله لا أزعم أن الله ابتلاني وقد عافاني! فبلغ ذلك الحجاج فعفا عنه لصدقه. ودخل رجل على سلطان وكان من أذنب فقال: بأي وجه تلقاني؟ فقال: بالوجه الذي ألقى به الله، فإن ذنوبي إليه أكثر! وعقوبته أكبر! فعفا عنه ووصله.
تأسف من يعاتب من غير مذنب:
شاعر:
قد يلام البريء من غير ذنب ... وتغطى من المسيء الذنوب
وقال آخر:
إذا كنت ملحياً مسيئاً ومحسناً ... فغشيان ما تهوى من الأمر أكيس
البحتري:
إذا محاسني اللاتي أدل بها ... كانت ذنوبي، فقل لي: كيف أعتذر؟
وفي المثل: رب ملوم لا ذنب له.
شاعر:
وكم من موقف حسن أحيلت ... محاسنه فعد من الذنوب
من اعتذر بتكذيب الواشي:
زهير بن بلال:
وذي حنق أغراه بي غير ناصح ... فقلت له: وجه المحرش أقبح!
أبو تمام:
ومن يأذن إلى الواشين يسلق ... مسامعه بألسنة حداد
ابن الحجاج:
قل للذي جهز بالسعي بي ... بضاعة عادت بخسرانه:
يا ذا الذي لابد من صفعه ... يوماً ومن تعريك آذانه
لو حدثت كسرى به نفسه ... صفعته في جوف إيوانه!
قلة الاعتذار بقول الواشي:
شاعر:
دع الناس ما شاؤوا يقولون، إنني ... لأكثر ما قالوا على حمول
وما كل ما أسخطته أنا معتب ... ولا كل ما يروي علي أقول
من ذكر إرضاء صاحبه:
العتابي:
فهل أنا مغضٍ في هواك وصابر ... علي حد مصقول الغرارين قاضب
ومنتزع عما كرهت وجاعل ... رضاك مثالاً بين عيني وحاجبي؟
وقال آخر:
لو أسخطتك حياتي ... قتلت نفسي لترضى
مما جاء في ذم الحلم ومدح العقاب
النهي عن الملاينة حيث لا تنفع:
شاعر:
بالرفق مارس ولاين من تخالطه ... وغالظن إذا لم ينفع اللين
سعد بن ناشب:
وفي اللين ضعف، والشراسة هيبة ... ومن لا يهب يحمل على مركب وعر
وقيل: الكريم يلين عند استعطافه، واللئيم يقسو عند استلطافه.
النهي عن الحلم إذا كان يلحق منه مذلة:
سالم بن وابصة:
إن من الحلم ذلاً أنت عارفه ... والحلم عن قدرة فضل من الكرم
قيس بن زهير:
ومن يستجهل الرجل الكريم
وقال آخر:
وفي الحلم ضعف والعقوبة هيبة ... إذا كنت تخشى كيد من عنه تصفح
وقال آخر:
إذا الحلم لم ينفعك فالجهل أحزم
المتنبي:
وحلم الفتى في غير موضعه جهل
وله:
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ... إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
دفع الجهل بالجهل:
هدية:

ما إن نفى عنك قوماً أنت تكرههم ... كمثل وقمك جهالاً بجهال
آخر:
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ... ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
وما كنت أرضى الجهل خدناً ولا أخاً ... ولكنني أرضى به حين أحوج
وقيل: الشر لا يدمغه إلا الشر، والحديد بالحديد يفلح
من حلم وقتاً ونهى عن الاغترار به:
بعضهم:
فلا يغررك طول الحلم مني ... فما أبداً تصادفني حليما
المتنبي:
وأطمع عامر البقيا عليهم ... وترفها احتمالك والوقار

وصف الحلم بأنه مضر مذلل:
قيل: الشهرة بالملاينة والخير شر من الاشتهار بالغلظة والشر، لأن من عرف بالخير اجترأ عليه الناس، ومن عرف بالشر هابه الناس وتجنبوه. وقيل: آفة الحلم الذل. وقيل للأحنف: ما الحلم؟ فقال: الرضا بالذل.
كون الحلم مغرياً:
قال معاوية: ما ولدت قرشية خيراً لقرشي مني! فقال ابن زرارة الكلابية: بل ما ولدت شراً لهم منك! فقال: كيف؟ قال: لأنك عودتهم عادة يطلبونها ممن بعدك فلا يجيبونهم إليها، فيحملون عليهم كحملهم عليك، وكأني بهم كالزقاق المنفوخة على طرقات المدينة. وقال الأحنف لرجل: ليت طول حلمنا عليك لا يدعو جهل غيرنا إليك.
النهي عن إكرام اللئام:
قال يزيد بن معاوية لأبيه: هل ذممت عاقبة حلم؟ قال: ما حلمت عن لئيم وإن كان ولياً إلا أعقبني ندماً، ولا أقدمت على كريم وإن كان عدواً إلا أعقبني أسفاً.
شاعر:
متى تضع الكرامة في لئيم ... فإنك قد أسأت إلى الكرامة
وقد ذهبت صنيعته ضياعاً ... وكان جزاء فاعلها الندامة
وقيل: الكريم يستصلح بالكرامة واللئيم بالمهانة. المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فوضع الندى في موضع السيف بالعلى ... مضرٌّ كوضع السيف في موضع الندى
وقيل: استعمال الحلم مع اللئيم أضر من استعمال الجهل مع الكريم.
الاستخفاف بما لا يصلحه الإكرام:
إذا لم تنفع الكرامة فالإهانة أحزم. وقيل: من لا يصلحه الطالي أصلحه الكاوي. من كان الإكرام له مفسدة لم تكن الزيادة فيما يفسده له مصلحة. جنب كرامتك اللئام فإنك إن أحسنت إليهم لم يشكروا، وإن نزلت بهم شدة لم يصبروا.
شاعر:
سأحرمكم حتى يذل صعابكم ... فانجع شيء في صلاحكم الفقر
آخر:
إن اللئيم إذا رأى ... ليناً تزايد في خسرانه
لا تكذبن فصلاح من ... جهل الكرامة في هوانه
الاستعانة بالجهل عند الحاجة إليه:
أكرموا سفهاءكم فإنهم يكفونكم النار والعار. وبينا ابن عمر رضي الله عنهما جالس إذ أقبل أعرابي فلطمه، فقام إليه رجل فجلد به الأرض، فقال ابن عمر: ليس بعزيز من ليس في قومه سفيه. وقيل: اجعل لكل كلب كلباً يهر دونك، فالعرض لا يصان بمثل سفيه يصول وحاد يقول:
لابد للسودد من أرماح ... ومن سفيه دائم النباح
الأحنف:
ومن يحلم وليس له سفيه ... يلاق المعضلات من الرجال
آخر:
ولا يلبث الجهال أن يتهضموا ... أخا الحلم! ما لم يستعن بجهول
الرخصة في عقاب المجرم والحث عليه:
قال الله تعالى: " ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب " . وقال: " ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " . وجاء أعرابي إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: أتخاف علي جناحاً إن ظلمني رجل فظلمته؟ فقال ابن عباس: وإن تعفو أقرب للتقوى ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل. وقال الشعبي: يعجبني الرجل يكافىء بالسيئة السيئة، فإذا سيم هواناً أبت له الأنفة إلا المكافأة، فبلغ قوله الحجاج فقال: لله دره! أي نفس بين جنبيه؟ وقال الجاحظ: من قابل الإساءة بالإحسان فقد خالف الرب في تدبير، وظن أن رحمته فوق رحمة الله تعالى، والناس لا يصلحون إلا على الثواب والعقاب. وضرب الحجاج رجلاً فقال: اعتديت أيها الأمير، فقال: لا عدوان إلا على الظالمين. ووقع إبراهيم بن العباس: إذا كان للمحسن من الحق ما يقنعه، وللمسيء من النكال ما يقمعه، بذل المحسن الحق له رغبة وانقاد المسيء له رهبة.
حث القادر على العقاب قبل فوته:

قيل: صمم إذا أيقنت أنك عاقره. وقال بعض الغسانيين يحرض الأسود بن المنذر على قتل أعدائه:
ما كل يوم ينال المرء فرصته ... ولا يسوغه المقدار ما وهبا
فأحزم الناس من أن أنال فرصته ... لم يجعل السبب الموصول مقتضبا
لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها ... إن كنت شهماً فأتبع رأسها الذنبا
دخل الأبرش على هشام لما غضب على خالد القسري فقال: يا أمير المؤمنين، أقل خالداً عثرته، وتدارك بحلمك هفوته، فقال:
مضى السهم حتى لا يريد سوى الحشا ... فصادف ظبياً في الحديقة راتعاً
وكتب يحيى بن خالد إلى الرشيد من الحبس: إن كان الذنب خاصاً فلا تعمم بالعقوبة، فمعي سلامة البري ومودة الولي، فكتب إليه: قضي الأمر الذي فيه تستفتيان. وقال عبد الصمد للمنصور: لقد هجمت بالعقوبة حتى كأنك لم تسمع بالعفو! فقال: لان بني مروان لم تبل رممهم، وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم، ونحن بين أقوام قد رأونا بالأمس سوقة واليوم خلفاء، فليس تتمهد الهيبة في صدورهم إلا بإطراح العفو واستعمال العقوبة. وقال لما قتل أبا مسلم: لقد شاركت عبد الملك في قول كثير:
يصد ويغضي وهو ليث خفية ... إذا أمكنته فرصة لا يقيلها

التبجح بقسوة القلب وقلة الرحمة:
كان محمد بن عبد الملك بن الزيات يقول: رقة القلب من خور الطبيعة. ولما أمر الواثق بتعذيبه وبحبسه في تنور من الحديد وإطباقه عليه قال لمعذبه: ارحمني! فرد الخبر إلى الواثق فقال: أين قوله لا تكون الرحمة إلا من خور؟ ثم تمثل بقوله:
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها
ووقع في قصة رجل: دعني من ذكر الرحمة والإشفاق، فما هما إلا للنسوان والصبيان.
المتنبي:
يدخل صبر المرء في مدحه ... ويدخل الإشفاق في قلبه
المتمدح بأنه يقابل الإساءة بمثلها:
شاعر:
اعلم، بأنك ما أسديت من حسن ... إلي أو سيء أوفيتك الثمنا
مسلم بن الوليد:
فإن يك أقوام أساؤا فأحسنوا ... إلي فإني بالجزاء لراصد
الحارثي:
إذا عفا لم يكن في عفوه من ولا يكدر نعماه
وإن سطا عاتب ذا جرم بقدره لا يتعداه
أخذ البريء بجرم السقيم:
قال الله تعالى: " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منك خاصة " .
الحارث بن حلزة:
عنتاً باطلاً وظلماً كما يعثر عن حجرة الربيض الظباء
آخر:
كذي العر يكوي غيره وهو راتع
كالثور يضرب لما عافت البقر
ووقف رجل على الحجاج فقال: أصلح الله الأمير جنى جان في الحي فأخذت بجريرته واسقط عطائي فقال الحجاج: أما سمعت قول الشاعر:
جانبك من يجني عليك وقد ... يعدي الصحاح مبارك الجرب
ولرب مأخوذ بذنب صديقه ... ونجا المقارف صاحب الذنب
فقال: أعز الله الأمير كتاب الله أولى ما اتبع؛ قال الله تعالى معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده، فقال الحجاج: صدقت يا غلام رد اسمه وأثبت رسمه وسن عطاءه. وقال الحسن رضي الله عنه: عقر الناقة رجل واحد ولكن عم القوم بالعذاب لما رضوا بفعله. وقيل لرجل: ما فعلت حتى ضربك السلطان؟ فقال:
وإن امرأ يمسي ويصبح سالماً ... من الناس إلا ما جنى لسعيد!
عذر من بدر منه سخط:
البحتري:
إذا أحرجت ذا كرم تخطى ... إليك ببعض أخلاق اللئام
عذر من عاتب على صغير:
رجل من بني يشكر:
تعفو الملوك عن العظيم من الذنوب لفضلها
ولقد تعاقب في اليسير وليس ذاك لجلها
لكن ليعرف فضلها ... ويخاف شدة نكلها
فضل غلبة الخصم بالحجة دون البطش:
قال معاوية: عجبت لمن يطلب أمراً بالغلبة وهو يقدر عليه بالحجة، ولمن يطلبه بخرق وهو يقدر عليه برفق، ولما ظهر ماني الزنديق في أيام سابور بن ازدشير ودعا الناس إلى مذهبه فأخذه سابور قال له نصحاؤه: اقتله! قال: إن قتلته من غير أن قطعته بالحجة قال عامة الناس بقوله، ويقولون: ملك جبار قتل زاهداً ولكني أحاجه، فإذا غلبته بالحجة قتلته! ففعل، ثم حشا جلده تبناً وصلبه.
مما جاء في العداوات
الاحتراس من غرس العداوة:

قيل: لا تشتر عداوة رجل واحد بمودة ألف رجل. وفي كتاب كليلة: لا ينبغي للعاقل أن تحمله ثقته بقوته على أن تجتر العداوة، كما لا يجب لصاحب الترياق أن يشرب السم اتكالاً على أدويته. وقيل: توسد النار وافتراش الأفاعي أقل غائلة ممن أوجس عداوتك فيروح بها. وقيل: احذر معاداة الرجال فالناس رجلان: عاقل فاحذر ختله، وأحمق فاحذر حمقه. وقال عبد الله بن الحسن بن الحسين رضي الله عنهم لابنه: اتق معاداة الرجال فإنك لا تعدم مكر حليم أو مفاجأة لئيم. وقيل: الأحفاد مخوفة وأخوفها ما كان في أنفس الكبار، فإنه يرون الطلب بالوتر مكرمة. وقال بعضهم في التحذير من العداوة:
سيعلم إسماعيل أن عداوتي له سم أفعى لا يصاب دواؤها

النهي عن الاعتذار بالعداوة إذا ظهر الود:
قيل: العدو المبطن للعداوة كالنحل تمج الدواء وتجتنب الداء. سديف بن ميمون يحرض بني العباس على بني أمية:
لا يغرنك ما ترى من رجال ... إن تحت الضلوع داء دويا
فخذ السيف واطرح السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها امويا
وله:
أنزلوها بحيث أنزلها الله بدار الهوان والإتعاس
ذلها أظهر التودد منها ... وبها منكم كحزّ المواسي
المتنبي:
فلا يغررك ألسنة موال ... تقلبهن أفئدة أعادي
وكن كالموت لا يرثي لباكٍ ... بكى منه ويروي وهو صاد
آخر:
تعلم أن أكثر ما تنادي ... وإن ضحكوا إليك هم الأعادي
وفي كتاب كليلة: لا يغر العاقل سكون الحقد في القلب ما لم يجد محركاً، كالجمر المكنون ما لم يجد حطباً، والعداوة إذا وجدت فرصة اشتعلت فلا يطفئها شيء دون النفس.
النهي عن السكون إلى من يخافك:
من خاف شرك أفسد أمرك، ومن خاف صولتك ناصب دولتك. معاوية: من خاف إساءتك اعتقد مساءتك.
النهي عن السكون إلى من تقدم منك له إساءة:
قيل: إذا أوحشت الحر فلا ترتبطه، فإذا ارتبطته فلا توحشه. لما قدم عبد الملك المدينة خطب فقال: والله ما تحبونا ولا نحبكم ونحن أصحاب يوم الحرة، وإنما مثلنا كما قال النابغة:
أبى لك قبر لا يزال مواجهاً ... وضربة فأس فوق رأسي ناقره
وحديث ذلك أن العرب زعمت أن حية كانت في بيت رجل فقتلته، فترصدها أخوه ليقتلها طالباً بثأره، فقالت له الحية: صالحني على أن أؤدي إليك كل يوم ديناراً، ففعل فلما كثر ماله تذكر دخله، فأعد فأساً وترصدها فرماها وأشواها فقطع ذنبها، فأفلتت وندم الرجل لما لم ينل ثأره، وفاته ما كان يناله فدعاها يوماً إلى المراجعة على أن يصالحها، فقالت: لا يقع الصلح بيننا ما رأيت قبر أخيك وأرى أثر الفأس في ذنبي! وحكي أن رجلاً كان له عبد سندي فتعرض لامرأته، فعلم الرجل بذلك فأخذه وجبَّه، ثم تحوب لذلك فداواه، فلما برأ اتفق أن غاب الرجل يوماً، فعمد السندي المحبوب إلى ابنين كانا لسيده فأخذهما وصعد السور؛ فلما بصر بالرجل قال: والله إن لم تجب نفسك كما جببتني لأقذفنهما من السور ليمونا، وإن نفسي لأهون من شربة ماء! فلما رأى الرجل منه جد جب نفسه، فرمى العبد بالابنين من السور؛ وقال: إن جبك نفسك قصاص لما جببتني، وقتل ابنيك زيادة اعطيتكها!
التحذير من عدو قاهر:
قيل: أحذر الناس أن يحذر عدو قاهر وسلطان جائر. وقيل: إياك ومعاداة من أن أرادك بسوء أرداك، وإن أردته بسوء لم توجع إلا حشاك. وقيل: لا تعاد من غيظك عليه غيظ الأسير على القد.
النهي عن الاستعانة بمن ظلمته:
قيل، العدو عدوان: عدو ظلمته، وعدو ظلمك، فإن اضطرك الدهر إلى أن تستعين بأحدهما، فاستعن بالذي ظلمك فإنه أحرى أن يعينك، وإن الذي ظلمته موتور.
النهي عن استصغار العدو:
قيل: لا تستصغرن أمر عدوك إذا جاريته، لأنك إذا ظفرت به لم تحمد، وإن ظفر بك لم تعذر. الضعيف المحترس من العدو القوي أقرب إلى السلامة من القوي المغتر بالعدو الضعيف. وقيل: العدو المحتقر ربما اشتد كالغصن النصر ربما صار شوكاً. وقيل: لا تأمنن العدو الضعيف ان تورطك فالرمح قد يقتل به وإن عدم السنان والزنج.
شاعر:
لا تحقرن فربما نفذت ... في ردم يأجوج حيلة الجرذ

الموسوي: الفيل يضجر وهو أعظم ما رأيت من البعوض. وفي المثل: إذا عز أخوك فهن، وإذا لم تغلب فاخطب. لا يتقى العدو القوي بمثل الخضوع واللين، فمثل ذلك كمثل الريح العاصف تقلع الأشجار العظام لتأببها عليها، ويسلم منها النبات اللين لتمايله معها.
سليمان بن وهب:
غرّك الدهر بما تهوى فهن ... وإذا ما خشن الدهر فلن
لا تعاسره وخذ ميسوره ... وتفنن معه في كل فن
قال المأمون لأبي دلف: شد ما استحذيت للحسن بن رجاء! فقال: يا أمير المؤمنين ذلك بما وهبت له من القدرة، وصحبت من حداثة الغرارة؛ وكانت الطاعة تعارض الانتصار منه وخفت أن يكون من قدرته ما يعنيك بي، فلا أجد لذلك عوضاً فسلمت: ابن نباتة:
وإذا عجزت عن العدو فداره ... وامزج له إن المزاج رفاق
فالنار بالماء الذي هو ضدها ... تعطي النضاج وطبعها الإحراق
حمد المداجاة طلباً للفرصة:
قيل لابن القرية: ما الدهاء؟ فقال: إن تجرع الغصة، وتوقع الفرصة! وتوقع الفرصة! وقيل: من تمام الأدب أن تستر العداوة إلى وقت الفرصة، لئلا يستسلح؛ لذلك قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: أنكى الأشياء لعدوك أن لا تعلمه أنك اتخذته عدواً. وقيل: لا يكونن سلاحك على عدوك أن تكثر ثلبه وقصبه، فإنك تخبر عن حزمه وعجزك، ولكن دامجه حتى تبادره بالكظم وتسأثره بالختل.
التنوخي:
إلق العدو بوجه لا قطوب به ... يكاد يقطر من ماء البشاشات
فاحزم الناس من يلقى أعاديه ... في جسم حقد وثوب من مودات
وقيل: إذا لم تجد لشفرتك محزاً فلا تضعها في صلابة فتكلها.

المتبجح بإظهار الليان وإبطان العداوة:
قال عبد الملك بن مروان لما قتل عمرو الأشدق:
سكنته ليقل منه نفره ... فأصول صولة حازم مستمكن
حميد الأكاف:
وإني ليلقاني العدو مواصلاً ... فيحسبني منه أبر وأوصلا
أجر له ذيلي لأدرك فرصتي ... ويحسبني في جر ذيلي مغفلا
المتنبي:
وجاهل مده في جهله ضحكي ... حتى أتته يد فراسة وفم
آخر:
أجامل أقواماً حياء وقد أرى ... صدروهم بادٍ علي مراضها
وصف عدو يكاشرك إذا حضرك:
عمرو بن جابر الحنفي:
يكاشرني وأعلم أن كلانا ... علي ما ساء صاحبه حريص
عمرو بن أم عاصم:
كل يداجي على البغضاء صاحبه ... ولن أعالنهم إلا كما علنوا
المثقب:
إن شر الناس من يكشر لي ... حين ألقاه وإن غبت شتم
ابن الرومي:
يبيح لي صفحة السلامة والسلم ويخفي في قلبه مرضا
المتنبي:
أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني ... ولا أعاتبه صفحا واهوانا
وقيل لأعرابي: كيف فلان فيكم؟ فقال: إذا حضر هبناه، وإن غاب اغتبناه. قال: ذاك هو السيد فيكم.
من نظره ينبئ عن عداوته:
زهير:
الود لا يخفى وإن أخفيته ... والبغض تبديه لك العينان
وقال آخر:
ستور الضمائر مهتوكة ... إذا ما تلاحظت الأعين
وذكر أعرابي قوماً فقال: ما زالت عيون العداوة تتجهم فتمجها أفواههم، وأسباب المودة تخلق من قلوبهم فتخرس عنها ألسنتهم، حتى ما لعداوتهم مزيد.
العداوة المستورة والتحذير منها:
قال شاعر:
وفينا، وإن قيل اصطلحنا، تضاغنٌ ... كماطر أوبار الجراب على النشر
وقال آخر:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
أبو نواس:
كما الشنآن فيه لنا ... ككمون النار في حجره
المتنبي:
وإن الجرح ينفر بعد حين ... إذا كان البناء على فساد
وقيل: هدنة على دخل، وجماعة على أقذاء.
شاعر:
ومستخبر عنا يريد لنا الردى ... ومستخبرات والعيون سواجم
وفي كتاب كليلة: لا تأمنن عدوك على مكون سرك، فكمون عداوته ككمون الجمر في الرماد، إذا وجد فرصة اشتعل.
ثبات العداوة الجوهرية:

في كتاب كليلة: ليس بين العداوة الجوهرية صلح وإن اجتهد، فالماء وإن أطيل اسخانه فليس يمتنع من اطفاء النار إذا صب عليها. وحكي عن أعرابي أخذ جرو ذئب فربّاه بلبن شاة عنده وقال: إذا ربيته مع الشاة يأنس بها فيذب عنها، ويكون أشد من الكلب ولا يعرف طبع أجناسه، فلما قوي وثب على شاته فافترسها! فقال الأعرابي:
أكلت شويهتي ونشأت فينا ... فما أدراك أن أباك ذيب؟
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الود والعداوة يتوارثان. وقيل: لكل حريق مطفئ، فللنار الماء، وللئيم العداوة، وللحزين الصبر، وليس للحقد الغريزي دواء!

المسرة بوقوع المعاداة بين أعدائك:
في كتاب كليلة: من حق العاقل أن يرى معاداة بعض عدوه لبعض ظفرا حسناً، ففي اشتغال بعضهم بعض خلاصه منهم. وفي الأدعية المجمع عليها: اللهم أخذل الكافرين وأوقع بينهم العداوة والبغضاء.
دنيء يعاديك بلا سبب:
عبد الصمد:
رب من يشجيه أمري ... وهو لم يخطر ببالي
قلبه ملآن من ذكري وقلبي منه خال!
الموسوي:
يسطو بلا سبب وتلك طبيعة الكلب العقور
المتنبي:
واتعب من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظ من عاداك من لا تشاكله
تأسف من يعاديه لئيم أو دنيء:
علي بن الجهم:
بلاء ليس يشبهه بلاء: ... عداوة غير ذي حسب ودين
يبيحك منه عرضاً لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون
ولما حاصر المنصور ابن هبيرة أن بارزني فقال: لا أفعل. فقال ابن هبيرة: لأشهرن امتناعك ولأعيرنك به! فقال المنصور: مثلنا ما قيل أن خنزيراً بعث إلى الأسد وقال قاتلني، فقال الأسد لست بكفؤي، ومتى قتلتك لم يكن لي فخر، وإن قتلتني لحقني وصم عظيم، فقال لأخبرن السباع بنكولك، فقال الأسد: احتمال العار في ذلك أيسر من التلطخ بدمك! وفي عذر من يخاصم دنيئاً ويدافعه، قول المتنبي:
إذا أتت الإساءة من وضيع ... ولم ألم المسيء فمن ألوم؟
الحث على العداوة بالفعل لا القول:
قيل: غضب الجاهل في قوله وغضب العاقل في فعله. وولى أبو مسلم رجلاً ناحية فقال له: إياك وغضبة السفلة فإنها في ألسنتها، وعليك بغضبة الأشراف فإنها تظهر في أفعالها.
الحث على أمانة الحقد:
أرسطوطاليس: استعد لإهماد لهب العداوة بالأناة قبل تلهب ناره، فإن إطفاءه قبل انتشاره سهل يسير. وقيل: ما أحسن بالرجل أن يحسن مداراة عدوه حتى يطفئ سورة ناره. وقال بعض أصحاب المأمون يوماً: إن عجيف بن عنيسة خبيث النية رديء السريرة وأراك قد قربت مجلسه! فقال: والله لأحسنن إليه ولأتفضلن عليه حتى أكون أحب الناس إليه، فلم يزل يختصه حتى صار يبذل دونه مهجته.
مدح الحقد وذويه:
وصف أعرابي حقوداً فقال: يحقد حقد من لا ينحل عقده ولا يلين كيده! وقال يحيى لعبد الملك ابن صالح: إنك حقود! فقال: إن كان الحقد عندك بقاء الخير والشر إنهما عني لثابتان، فلما قال يحيى: ما رأيت من احتج للحقد حتى حسّنه سواه! وقيل لرجل: إنك لحقود! فقال:
وإن امرأ لم يحقد الوتر لم يكن ... لديه لذي النعما جزاء ولا شكر
ابن الرومي:
وما الحقد إلا توأم الشكر في الفتى ... وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض
إذا الأرض أدت ريع ما أنت زارع ... من البذر فيها فهي ناهيك من أرض!
الأخطل: شمس العداوة حتى يستقاد لهم.
ذم الحقد وذويه:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ترفع أعمال العباد فترفع إلى الله في كل جمعة، فيغفر للمستغفرين ويرحمن المترحمين، ويترك أهل الحقد لنيتهم. وقيل للأحنف: من أسود الناس؟ فقال: الأخرق في ماله المطرح لحقده!
أسباب العداوات:
شكل رجل إلى سهل بن هارون عداوة رجل فقال: العداوة تكون من المشاكلة والمناسبة والمجاورة واتفاق الصنائع، فمن أيها معاداته لك؟ وقال رجل آخر: إني أخلص لك المودة. فقال: قد علمت. قال: كيف علمت وما معي من الشاهد إلا قولي؟ قال: إنك لست بجار قريب، ولا بابن عم نسيب! ولا بمشاكل في صناعة! وقيل لشبيب بن شبة: ما بال فلان يعاديك؟ فقال: لأنه شقيقي في النسب وجاري في البلد ورفيقي في الصناعة. وقيل: كل عداوة لعلة فإنها تزول بزوال العلة، وكل عداوة لغير علة فإنها لا تزول.

عداوة الأقارب:
قيل: عداوة الأقارب كالنار في الغابة. ما النار في الفتيلة بأحرق من تعادي القبيلة. وقيل: عداوة الأقارب كلسع العقارب. قال: إن الأقارب كالعقارب بل أضر من العقارب وسئل بعضهم عن بني العم فقال: هم أعداؤك وأعداء أعدائك. ولهذا باب في الأقارب.
من لا يبالي بعداوته:
الأعشى:
ألست منتهياً عن نحت اثلتنا ... ولست ضائرها ما أطت الإبل
كناطح صخرة يوماً ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
كشاجم:
تبارزني ونفسك في رصاص ... وكم يبقى على النار الرصاص؟
وقال الحجاج: أهل العراق أهل الشقاق والنفاق، ومساوي الأخلاق، ثلث من الدين مارق، وثلث منافق، وثلث سارق، والله لو عاديتموني لما ضررتموني، وما مثلي ومثلكم إلا كما قيل:
فرأيك لو أبغضتني ما ضررتني ... ولو رمت نفعاً ما وسعت لذلك.
مما جاء في الحسد
حسد الحسد:
قيل: الحسد أن تتمنى زوال نعمة غيرك، والغبطة أن تتمنى مثل حال صاحبك. وقال صلى الله عليه وسلم: المؤمن يغبط والمنافق يحسد. وقيل: الحسد خلق دنيء. وقال ابن المعتز: الحسد من تعاطي الطبيعة واختلاف التركيب. وقيل: الحسد داعية النكد.
استعظام الحسد من بين الذنوب:
قال ابن السماك: إن الله تعالى أنزل سورة جعلها عوذة لخلقه من صنوف الشر، فلما انتهى إلى الإعاذة من الحسد جعلها خاتماً لم يكن بعده في الشر نهاية الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء والأرض. قال ابن المقفع: الحسد والحرص دعامتا الذنوب. فالحرص أخرج آدم عليه السلام من الجنة، والحسد نقل إبليس من جوار الله تعالى. وقال أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: رفع البركة عن خمسة: عن الناكث والباغي والحسود والحقود والخائن. وقال صلى الله عليه وسلم: الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
النهي عن الحسد:
روي أن سليمان صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى أن يعلمه كلمات ينتفع بها، فأوحى إليه إني معلمك ست كلمات: لا تغتابن عبادي وإذا رأيت أثر نعمتي على عبد فلا تحسده. فقال: يا رب حسبي أن لا أقوم بهاتين: من حسد دونه قل عدوه، ومن حسد من فوقه أتعب نفسه.
كون الحسد ضاراً لصاحبه:
قال علي كرم الله وجهه: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد نفس دائم وعقل هائم وحزن لازم. وقال أيضاً: الله در الحسد ما أعدله! يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود. وقيل: الحسود لا يسود. وقال الجاحظ: من العدل المحض والإنصاف الصريح أن تحط عن الحاسد نصف عقابه، لأن ألم جسمه قد كفاك مؤونة شطر غيظك. وقيل: لا راحة لحسود ولا وفاء لملوك. الحسود غضبان على القدر، والقدر لا يعتبه. ولمنصور الفقيه:
ألا قل لمن باب لي حاسداً: ... أتدري على من أسأت الأدب؟
أسأت على الله في حكمه ... إذا أنت لم ترض لي ما وهب!
وُجد على بساط لملك الروم: البخيل مذموم، والحسود مغموم، والحريص محروم. وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الحسد والنكد: أيهما شر؟ فقال: الحسد داعية النكد، بدلالة أن إبليس حسد آدم صلى الله عليه وسلم فصار حسده سبب نكده، فأصبح لعيناً بعد أن كان مكيناً.
صعوبة ارضاء الحاسد:
قال معاوية: كل الناس يمكنني أن أرضيه إلا الحاسد، فإنه لا يرضيه إلا زال نعمتي! وقيل لزاذان فروح: أي عدو لا تحب أن يعود صديقاً؟ قال: الحاسد الذي لا يرده إلى مودتي إلا زوال نعمتي.
المتنبي:
سوى وجع الحسّاد داو فإنه ... إذا حل في قلب فليس يحول
ببغاء:
من البلية أن تداوي حقد من ... نعم الإله عليك من أحقاده!
وصف الحسد بأنه أعظم عداوة:
قال أبو العيناء: إذا أراد الله أن يسلط على عبده عدواً لا يرحمه، سلط عليه حاسداً. وقال بعضهم: ما ظنك بعداوة الحاسد وهو يرى زوال نعمتك نعمة عليه؟
صعوبة شماتة الحساد:
سأل بعض الملوك جماعة من الحكماء عن أشد ما يمر على الإنسان فقال بعضهم: الفقر، وقال آخرون: الفقر في الغربة، وقال غيرهم: الغربة مع المرض، ثم أجمعوا على أن أشد من ذلك كله رحمة العدو للمرء من نكبة تناله فقال:
وحسبك من حادث بامرئ ... ترى حاسديه له راحمينا
ابن أبي عيينة:

كل المصائب قد تمر على الفتى ... وتزول غير شماتة الحسّاد
الخبزارزي:
شماتتكم لي فوق ما قد أصابني ... وما بي دخول النار بل طنز مالك

الحسد يظهر فضل المحسود:
البحتري:
ولن يستبين الدهر موضع نعمة ... إذا أنت لم تدلل عليها بحاسد
أبو تمام:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت، أتاح لها لسان حسود
ولولا اشتعال النار فيما جاوزت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
وفي مثله:
يبين فضل الشيء من عاداه
وقال:
فضل الفتى يغري الحسود بسبه ... والعود لولا طيبه ما أحرقا
الفضائل مقتضية للحسد:
قيل: لا يفقد الحسد إلا من فقد الخير أجمع، فمنبع الحسد مقر النعمة.
شاعر:
وحذاء كل مروءة حسادها
البحتري:
وليس يفترق النعماء والحسد
وقال آخر:
وترى الكريم محسداً لم يجترم ... شتم الرجال، وعرضه مشتوم
ومر قيس بن زهير ببلاد بني غطفان فرأى ثروة فكره ذلك فقال له الربيع: ألا يسرك ما يسر الناس؟ فقال: إن مع الثروة التحاسد والتخاذل، ومع القلة التحاشد والتناصر. وقيل لبعض المهالبة: ما أكثر حسادكم! فقال:
إن العرانين تلقاها محسدة ... ولن ترى للئام الناس حسَّادا
ابن المعتز:
المجد والحساد مقرونان ... إن ذهبوا فذاهب
وإذا ملكت المجد لم ... تملك مودات الأقارب
الموسوي:
عادات هذا الدهر دم مفضل ... وملام مقدام وعزل جواد
المحسود لفضله:
شاعر:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغضاً: إنه لدميم!
ابن المعتز:
ومن عجب الأيام بغي معاشر ... غضاب على سبقي إذا أنا جاريت
يغيظهم فضلي عليهم ونقصهم ... كأني قسمت الحظوظ فحابيت
الدعاء للإنسان بأن يكون محسوداً:
شاعر:
لا ينزع الله عنهم ما له حسدوا
آخر:
لا زالت عرض قرير العين محسودا
آخر:
لازال مكتسباً سربال محسود
آخر:
ولا برحت نعماك داء حسودها
وقيل في الدعاء: حسد حاسدك. وقال بعض أهل اللغة: ولا يقال حاسد حسدك لأنه يصير دعاء للحاسد.
ذم من لا يحسد:
قال:
ولن ترى للئام الناس حُسَّادا
الحارثي:
وأسوأ أيام الفتى يوم لا يرى ... ما أحداً يزري عليه وينكر
دنيء يحسد سرياً:
مروان بن أبي حفصة:
من ضرني حسد اللئام ولم يزل ... ذو الفضل يحسده ذوو التقصير!
أبو تمام:
لكل كريم من ألائم قومه ... على كل حال حاسدون وكشح
من يحسد الذين تصل إليهم نعمه:
قيل: توصل رجل إلى إبليس فقال له: لي إليك حاجة، إن لي ابن عم ذات ثروة وله إحسان كثير إلي وتوفر علي، ولي بماله نفع بين، ولكني أريد أن تزيل نعمته وإن افتقرت بفقره! فقال إبليس لأصحابه: من أراد أن يرى من هو شر مني فلينظر إليه! وقيل لرجل: أتحسد فلاناَ وهو يواليك ويكرمك؟ فقال: نعم حتى أصير مثله أو يصير مثلي! المتنبي:
واظلم أهل الأرض من بات حاسداً ... لمن بات في نعمائه يتقلب
ابن الرومي:
يا من يعادي السماء أن رفعت ... كل خيرها تحتها ودع نكدك
المكذب بأفعاله قول الحساد:
يكذب قول الحاسدين سماحتي ... وصبري إذا ما الأمر عض فاضجعا
لبيد:
بنو عامر من خير حي علمتم ... وإن نطق الأعداء زوراً وباطلاً
تبكيت الحاسد وحثه على أن يفعل فعل محسود لينال منزلته:
البحتري:
لا تحسدوا فضل رتبته التي ... أعيت عليه وافعلوا كفعاله
السري الرفاء:
نالت يداه أقاصي المجد الذي ... بسط الحسود إليه باعاً ضيقا
أعدوه هل للسماك جريرة ... في أن دنوت من الحضيض وحلقا؟
أم هل لمن ملأ اليدين من العلا ... ذنب إذا ما كنت منه مملقا؟
استراحة من لا يحسد وطيب عيشه:
الفضل لمن نبذ الحسد وأراح الجسد ولزم الجدد.
البحتري:

مستريح الأحشاء من كل ضغنٍ ... بارد الصدر من غليل الحسود
قال الأصمعي: رأيت أعرابياً أتى عليه عمر كثير فقلت أراك حسن الحال في جسدك؟ قال: نعم تركت الحسد فبقيت نفسي؛ وهذا من قول سقراط: الحسد يأكل الجسد. قال الفضيل: لا يستريح قلبك حتى يترك كل الدنيا. وقيل: من دعته نفسه إلى ترك الدنيا فلينظر هل يحسد أحداً، فإن حسد كان تركه عجزاً لأنه لو زهد فيها ما حسد عليها.

الممدوح بأنه لا يحسد:
وقف الأحنف على قبر الحارث بن معاوية فقال: رحمك الله كنت لا تحقر ضعيفاً ولا تحسد شريفاً.
التنوخي:
فما نشرت أعراضهم عن معائب ... ولا طويت منهم قلوب على حقد
وأنى يكون الحقد والناس دونهم ... ولا حقداً إلا أن يكون على ند
من جلَّ عن أن يحسد أو يعادى:
ابن الرومي:
ما أنت بالمحسود لكن فوقه ... إن المبين الفضل غير محسد
فتحاسد القوم الذين تقاربت ... طبقاتهم وتقاربوا في السؤدد
فإذا أبر أميرهم وبدا لهم ... تبريزه في فضله لم يحسد!
أبو تمام:
وسمحت في الدنيا فما لك حاسد
الحث على التحرز من حسد السلطان:
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إن الرجل إذا ملك زهده الله فيما في يده، ورغبه فيما لغيره، وأشرب قلبه الإشفاق، فهو يحسد على القليل ويتسخط الكثير. لما فرغ جعفر بن يحيى من بناء قصره سار إليه وجوه أصحابه، وفيهم مؤنس بن عمران وكان رجلاً كاملاً فاستحسنوه ومؤنس ساكت، فقال جعفر: لمَ لا تتكلم؟ فقال: فيما قالوه كفاية! فألح عليه أن يقول شيئاً فقال مؤنس: أتصبر على الحق والصدق؟ قال: نعم. فقال: إن خرجت ومررت بدار أصحابك تشبهها أو تفوقها ما أنت قائل؟ قال: قد فهمت فما الرأي؟ فقال له: تأتي أمير المؤمنين وتقول إني قد بنيت هذا القصر للمأمون، وأتبعه من الكلام ما أنت أعلم به؛ فسأله الرشيد عن خبره فقال له ذلك وقال له: إني استعملت لكل بيت من الفرش ما يليق به! فزال عن قلب الرشيد ما خامره. وقال الشعبي: وجهني عبد الملك إلى ملك الروم، فلما انصرفت دفع إلي كتاباً مختوماً، فلما قرأه عبد الملك رأيته تغير وقال: يا شعبي أعلمت ما كتب هذا الكلب؟ قلت: لا. قال: إنه كتب لم يكن للعرب أن تملك إلا من أرسلت به إلي؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إنه لم يرك ولو رآك لكان يعرف فضلك، وإنه حسدك على استخدامك مثلي! فسري عنه. وقيل: إذا أردت أن تسلم من حسد سلطانك فعم عليه مجامع شأنك.
ما لا يستقبح فيه الحسد:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مالاً ثم أنفقه في حق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها. وقال ارسطوطاليس: الحسد حسدان محمود ومذموم، فالمحمود أن ترى عالماً فتشتهي أن تكون مثله أو زاهداً فتشتهي مثل فعله، والمذموم أن ترى عالماً أو فاضلاً فتشتهي أن يموت!
المتبجح بكونه حسوداً:
اجتمع ثلاثة نفر فقال أحدهم لصاحبه: ما بلغ من حسدك؟ قال: ما اشتهيت أن أفعل بأحد خيراً قط! فقال الثاني: إنك رجل صالح أنا ما اشتهيت أن يفعل أحد بأحد خيراً قط! فقال الثالث: ما في الأرض أفضل منكما، أنا ما اشتهيت أن يفعل بي أحد خيراً قط! وقال عبد الملك للحجاج: صف نفسك فليس العاقل إلا من عرف نفسه! فقال: أن حديد حقود حسود.
حمد الغبطة وذمها:
روي في الخبر: المؤمن يغبط والمنافق يحسد. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أيضر الغبط؟ قال: نعم كما يضر الورق الخبط!
مما جاء في التواضع والكبر
ما حد به التواضع والكبر:
قيل لبعضهم: ما التواضع؟ قال: أخلاق المجد واكتساب الود؛ فقيل: ما الكبر؟ قال: اكتساب البغض. وقيل لازدشير: ما الكبر؟ فقال: اجتماع الرذائل لم يدر صاحبها أين ضعها فيصرفها إلى الذم.
فضل التواضع والحث عليه:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: طوبى لمن تواضع، التواضع أحد مصائد الشرف من لم يتضع عند نفسه لم يرتفع عند غيره. وفي المثل: تواضع الرجل في مرتبته ذب للشماتة عند سقطته. وقيل: من وضع نفسه دون قدره رفعه الناس فوق قدره، ومن رفعها عن حده وضعه الناس دون قدره. وقيل لبزرجمهر: هل تعرف نعمة لا يحسد عليها؟ قال: نعم التواضع! فقيل: هل تعرف بلاء لا يرحم صاحبه؟ قال: نعم الكبر!

فضل كبير متواضع:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس على الأرض ويأكل على الأرض ويعتقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك ويقول: لو دعيت إلى كراع لأجبت! وكان يحيى ابن سعيد خفيف الحال؛ فاستقضاه أبو جعفر فلم يتغير، فقيل له في ذلك فقال: من كانت نفسه واحدة لم يغيره المال. ولما ورد المرزبان على عمر رضي الله عنه فأورد باب دار وقرع بابه فقيل: إنه قد خرج آنفاً فكانوا يسألون عنه فيقولون مر من ههنا آنفاً، فاستحقر المرزبان أمره إلى أن انتهى إليه وهو نائم في ناحية المسجد، فلما رفع رأسه امتلأت نفس المرزبان منه رعباً فقال: هذا والله الملك الهنيء، لا يحتاج إلى حراس ولا إلى عدد! وقال عمر رضي الله عنه حين نظر إلى صفوان مبتذلاً لأًصحابه: هذا رجل يفر من الشرف والشرف يتبعه. وقال معاوية لرجل: من سيد قومك؟ فقال: الجأهم الدهر إلي! فقال: بمثله من التواضع يحل الشرف. وقال عمر رضي الله عنه: أريد رجلاً إذا كان في القوم وهو أميرهم كان كبعضهم، فإذا لم يكن أمير فكأنه أميرهم.
أبو تمام:
مبتذل في القوم وهو مبجل ... متواضع في الحي وهو معظم
وقال آخر:
متواضع والنبل يحرس قدره ... وأخو التواضع بالنباهة ينبل
الخوارزمي:
عجبت له لم يلبس الكبر حلة ... وفينا إذا جزنا على بابه كبر
ذم التكبر والنهي عنه:
قال الله تعالى: " أليس في جهنم مثوى للمتكبرين " ؟ وقال تعالى: " كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار " . وقال: " إنه لا يحب المستكبرين " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يقول، الكبر إزاري والعظمة ردائي، من نازعني واحداً منهما ألقيته في النار. وأخذ أبو نواس هذا المعنى فقال:
حذرتك التيه لا يعلقك ميسمه ... فإنه ملبس نازعته الله!
وقال بزرجمهر: وجدنا التواضع مع الجهل والبخل أحمد عند العقلاء من الكبر مع الأدب والسخاء، فأنبل بحسنة غطت سيئتين، وأقبح بسيئة غطت على حسنتين، كما من صلف أدى إلى تلف. العجب لابن آدم لم يتكبر وقد جرى في مجرى البول مرتين! أخذ ابن الرومي ذلك فقال:
كيف يزهو من رجيعه ... أبا الدهر ضجيعه
منصور الفقيه: يا قريب العهد بالمخرج لمَ لا تتواضع؟ ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا يبغي على الناس إلا ولد بغي أو من فيه عرق سوء! وقيل: ما تاه إلا وضيع، ولا فاخر إلا سقيط، ولا تعظم إلا لقيط. وقيل: دع الكبر فمتى كنت من أهل النبل لم يضرك التبذل، ومتى لم تكن من أهله لم ينفعك التبتل.
ذكر السبب الداعي إلى التكبر:
قال المأمون: ما تكبر أحد إلا لنقص وجده في نفسه، ولا تطاول إلا لوهن أحسن من نفسه. أحمد بن اسمعيل:
رأيت الرياسة مقرونة ... بلبس التكبر والنخوه
ذم متكبر لولاية نالها:
قيل: من نال منزلة فأبطرته دل على رداءة أصله وعنصره.
أحمد بن أبي طاهر:
وتاه سعيد أن أفيد ولاية ... وقلد أمراً لم يكن من رجاله
وأدبر عني عند إقبال حظه ... وغير حالي عنده حسن حاله
وضاق علي حقي بعقب اتساعه ... فأوسعته عذراً لضيق احتماله
وقال سفيان رحمة الله: السفل إذا تمولوا استطالوا، وإذا افتقروا تواضعوا، والكرام إذا تمولوا تواضعوا، وإذا افتقروا استطالوا.
صالح بن عبد القدوس:
تاه على إخوانه كلهم ... فصار لا يطرف من كبره
أعاده الله إلى حاله ... فإنه يحسن في فقره
المبغي عليه منصور:
قال الله تعالى: " ثم بغى عليه لينصرنه الله. وقال تعالى: " إنما بغيكم على أنفسكم. وقال صلى الله عليه وسلم: ما رأيت أسرع هلاكاً من البغي. وقال صلى الله عليه وسلم: ذنبان عجل عقوبتهما: البغي وقطيعة الرحم.
يزيد بن الحكم:
البغي يصرع أهله ... والظلم مرتعه وخيم
ذم متكبر بخيل أو دنيء:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: البخل والكبر لا يجتمعان في مؤمن. وقيل: من استطال بغير تطول وامنن بغير منة فقد استعجل المقت.
علي بن الجهم:
جمعت أمرين ضاع الحزم بينهما: ... تيه الملوك وأفعال المماليك
أبو بكر بن الزبير:

يا قليل القدر موفور الصلف ... والذي في التيه قد حاز الشرف
كن لئيماً وتواضع تحتمل ... أو سخياً يحتمل منك الصلف
وقيل: أنف في السماء واست في الماء؛ ومن هذا النحو قول الجعدي:
بالأرض استاههم عجزاً وأنفهم ... عند الكواكب بغياً يا لذا عجباً

ذم فقير متكبر:
قيل: أبغض الناس ذو عسر يخطر في رداء كبر. قال الشاعر في ذم آخر:
فخر بلا حسب عجب بلا أدب ... كبر بلا درهم، هذا من العجب!
ذم الفخر وذويه:
قال الله تعالى: " ولا تمش في الأرض مرحاً " . وقال تعالى: " إن الله لا يحب كل مختال فخور " . ونظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل يجر إزاره فقال: ارفع إزارك فإنه أبقى وأنقى وأتقى؛ فقال: يا رسول الله إنه مروءة! فقال: أليس لي بي أسوة؟ وكان إزاره صلى الله عليه وسلم إلى إنصاف ساقيه. نظر مطرف إلى المهلب وعليه حلة يسحبها فقال: ما هذه المشية التي يبغضها الله؟ فقال: بلى أو لك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك حامل عذرة! فلم يعد إلى تلك المشية. ونظر الحسن رضي الله عنه إلى رجل يخطر في ناحية المسجد فقال: انظروا إلى هذا، ليس فيه عضو إلا والله عليه نغمة وللشيطان فيه لعبة!
؟
ذم من ضرع ذلة بعد التكبر:
قال:
رفع الكلب فاتضع ... ليس في الكلب مصطنع
بلغ الغاية التي ... دونها كل ما ارتفع
إنما قصر كل شيء ... إذا طار أن يقع
لعن الله نخوة ... صار من بعدها ضرع!
مدح متواضع بسرعة المشي والتجوز في الأكل:
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسرع المشي، فقيل له بي ذلك، فقال: هو أنجح للحاجة وأبعد من الكبر، أما سمعت قول الله تعالى: " واقصد في مشيك واغضض من صوتك " وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل على الأرض، فقيل له في ذلك فقال: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد!
المتواضع بالقيام بحوائج الناس وتحمل أثقالهم:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي مع الأرملة يقضي حاجتها ولا يستنكف. واشترى رجل شيئاً فمر بسلمان، وهو أمير المدائن فلم يعرفه فقال: احمل هذا معي يا علج! فحمله وكان من يتلقاه يقول: ادفعه إلي أيها الأمير! فيقول: لا والله لا يحمله إلا العلج. والرجل يعتذر إليه ويسأله أن يرده عليه وهو يأبى حتى حمله إلى مقره.
المتواضع في قيامه بأمر عياله:
اشترى أمير المؤمنين رضوان الله عليه تمراً بدرهم، فحمله في ملحفته فقال له بعض أصحابه: دعني أحمله، فقال: أبو العيال أحق أن يحمله. ورؤي بعض الكبار وبيد بطن شاة فقال له رجل: ادفعه إلي فإنه يزري بك فقال:
ما نقص الكامل من كماله ... ما جر من نفع إلى عياله
وكان أبو هريرة رضي الله عنه يحمل الحزمة من الحطب، وهو خليفة مروان. وكان يقول: وسعوا للأمير.
حمد تعظيم الكبار:
قدم قيس بن عاصم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان سيد أهل الوبر، فبسط له رداءه ثم قال: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. وروي أن مجوسياً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرج من تحته وسادة حشوها ليف وطرحها له وأقبل عليه يحدثه، فلما نهض قال عمر رضي الله عنه: إنه مجوسي!فقال عليه الصلاة والسلام: قد علمت ولكن جبريل عليه السلام يأمرني أن أكرم كل كريم قوم إذا أتى، وهذا سيد قومه. وقال الشعبي: ركب زيد بن ثابت فدنا منه عبد الله بن العباس رضي الله عنهم ليأخذ بركابه فقال: ما تفعل يا ابن عم رسول الله؟ فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأمرائنا! فقال زيد: أرني يدك؟ فأخذها وقبلها وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا.
النهي عن التصدر في المجالس:
قال زياد لابنه: إياك وصدر المجالس فإنه مجلس قلعة، قال الأحنف: ما جلست مجلساً خفت أن أقام منه لغيري. ولهذا باب في غير هذا الموضع.
حمد تصديرك صاحبك:
دخل سالم بن مخزوم على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فتنحى عن الصدر، فقيل له في ذلك فقال: إذا خل عليك من لا ترى لك عليه فضلاً، فلا تأخذ عليه شرف المنزلة.
؟؟
مدح معرفة الرجل قدر نفسه:

قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: لن يهلك امرؤ عرف قدره. وقال الشافعي رضي الله عنه: أنفع الأشياء أن يعرف الرجل قدر منزلته ومبلغ عقله، ثم يعمل بحسبه، وقد تقدم من ذلك صدر في باب العقل.

ذم إعجاب المرء بنفسه:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه. وقيل: عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله. وقال الشاعر:
ما الناس عندك غير نفسك وحدها ... والناس عندك ما خلاك بهائم
وقال أعرابي لرجل معجب بنفسه: يسرني أن أكون عند الناس مثلك في نفسك، وعند نفسي مثلك عند الناس! وقال إبليس: إذا ظفرت من ابن آدم بثلاث لم أطالبه بغيرها، إذا أعجب بنفسه، واستكثر عمله، نسي ذنبه.
ذكر من عظم إعجابه وصلفه:
حكي عن أبي ثوابة أنه قال لغلامه: اسقني ماء! فقال: نعم؛ فأمر بصفعه فقيل له في ذلك فقال: إنما يقول نعم من يقدر أن يقول لا، وليس لهذا هذه المنزلة. ودعا يوماً اكاراً يكلمه فلما فرغ دعا بماء وتمضمض به استقذاراً لمخاطبته، وكان جزيمة الأبرش لا ينادم أحداً استعظاماً وقال: إنما ينادمني الفرقدان! فكان يشرب كأساً ويصب لهما كأسين في الأرض. واستأذن نافع بن جبير ابن مطعم على معاوية، فمنعه الحاجب فهشم أنفه فقال له معاوية: أتفعل هذا بحاجبي؟ فقال له: وما يمنعني وأنا بالمكان الذي أنا به من أمير المؤمنين؟ فقال له أبوه: قض الله فاك! ألا قلت وأنا بالمكان الذي أنا عليه من عبد مناف؟
معتذر لعجبه وعزته:
قيل لإياس بن معاوية: ما فيك عيب غير أنك معجب! فقال: أيعجبكم ما أقول؟ قالوا: نعم. قال: فأنا أحق أن أعجب به.
محمد بن عمران:
يقولون: ذو كبر ولو خص بعضهم ... ببعض خصالي ما استفاق من الكبر
قيل لخالد بن يزيد بن معاوية: لم تطعم الأرض من فضل ثيابك؟ فقال: أكره أن أكون كما قال علي بن عبد العزيز:
قصير الثياب فاحش عند بيته ... وشر قريش في قريش مركبا
وقال يمني ليزيد بن مزيد وعليه برد يمني يسحبه: لم يعرق جبينك في نسجه فلذلك تسرف في بذله! فقال: عليكم نسجه وعلينا سحبه. وقال رجل للحسن: ما أعظمك في نفسك! فقال: لست بعظيم ولكني عزيز من قول الله تعالى: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " . البديهي في معناه:
وما أنا مزهو ولكنني فتى ... أبت لي نفس عزة أن أزيلها
الممتنع من التذلل لكبير ومتكبر عليه:
قال عدي بن ارطاة وهو أمير لوكيع بن أبي الأسود: سو على ثيابي! فقال:
ذكرتني الظعن وكنت ناسياً
في خفي ضيق فليمده الأمير حتى أنزعه! فقال له عدي: إن الجليس ليلي من جليسه أكثر من هذا! فقال: يا عدي إذا عزلت عنا فكلفنا أكثر من هذا أما وأنت ترى لك علينا بسطة فلا.
الموسوي يذكر والده وامتناعه من تقبيل يد بعض السلاطين:
فتى تاه عن بسط الملوك وقد عنت ... عليها جباه من رجال وآنف
زمام علا لو غيره رام جره ... لساق به حاد من الذل معنف
متكبر على ذي كبر:
سئل الحسن عن التواضع فقال: هو التكبر على الأغنياء! وأتى سليمان بن عبد الملك طاووساً فلم يكلمه فقيل له في ذلك فقال: أردت أن يعلم أن في عباد الله من يستصغر ما يستعظم ذلك من نفسه. أنشد المبرد:
إذا تاه الصديق عليك كبراً ... فته كبراً على ذاك الصديق
فإيجاب الحقوق لغير راعٍ ... حقوقك رأس تضييع الحقوق
وعلى هذا قال بعضهم: ما تكبر على أحد قط إلا تحول داؤه في أن قابلته بفعله. وقال بعضهم: ما تاه أحد علي أكثر من مرة واحدة لأني تركته بعد ذلك وأعرضت عنه.
من ترك حقه إشفاقاً من وصمة تلحقه:

اختصم الأصبهيد صاحب طبرستان والمصمعان صاحب دباوند في شيء، فكتب إلى الحجاج أن يوجه رجلاً يحكم بينهما، فوجه إياساً إليهما، فلما صار بالمنصف بعث إليهما، فحضر الأصبهيد على سريره وألقى للمصمعان وسادة، فقال إياس للأصبهيد: أنت ظالم وقد عرفت ذلك منك! قال: فيم؟ قال: العدل أن تساويه في الحكم، فقال: إذاً أدع حقي ولا أساويه في المجلس! فترك حقه وعاد إلى مكانه. وقال الرشيد يوماً لجلسائه: إن عمارة قد ذهب في التيه كل مذهب، فترك حقه وعاد إلى مكانه. وقال الرشيد يوماً لجلسائه: إن عمارة قد ذهب في التيه كل مذهب، وأحب أن أضع منه! فقيل له: لا شيء أوضع للرجال من منازعة الرجال، والرأي أن يؤمر رجل ليدعي أفضل ضيعة له أن غصبه إياها ففعل ذلك، فلما دخل عمارة قام الرجل فتظلم منه وشنع عليه فقال الرشيد: أما تسمع ما يقول الرجل؟ فقال: من يعني؟ فقال الرشيد: يعنيك أنك غصبته كذا، فقم واجلس معه مجلس الحكم! فقال: إن كانت هذه الضيعة له فلست أنازعه فيها، وإن كانت لي فقد جعلتها له! فانقطع كلام الرجل، فلما انصرف قال عمارة لرجل كان معه: من هذا المدعي؟ فإذا أنه لا يملأ عينه منه، فأخبر الرشيد بذلك فقال: سوغنا تيهه له بعد ذلك.

النهي عن الإفراط في التواضع:
ابن المقفع: الإفراط في التواضع يوجب المذلة، والإفراط في المؤانسة يوجب المهانة. وقيل: من التواضع ما يضع.
عذر من تواضع لدنيء مهابة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من شرار الناس من أكرمه الناس اتقاء شره! كان أبو العباس ضم المنصور إلى حميد بن قحطبة فقال له يزيد بن حاتم، أترضى بمتابعة حميد؟ فقال:
اسجد لقرد السوء في زمانه ... وداره ما دام في سلطانه
وفي المثل: الحمى أضرعتني لك.
الحد الرابع
في النصرة والأخلاق والمزاح
والحياء والأمانة والخيانة والرفعة والنذالة
الحث على مراعاة الجار:
قال الله تعالى: " والجار ذي القربى والجار الجنب " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه. وقال صلى الله عليه وسلم: من كان له جيرة ثلاثة كلهم راضون عنه غفر له. وقيل: عليكم بحسن الجوار فإن السباع وعتاق الطير في الهواء تحامة على من يجاورها. وقيل: الكريم يرعى حق اللحظة ويتعهد حرمة اللفظة. وقال جعفر بن محمد: حسن الجوار عمارة الديار.
زهير:
وجار البيت والرجل المنادي ... أما البيت عقدهما سواء!
الأمر بكف الأذى عنه:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذين جاره.وقيل:ليس من حسن الجوار ترك الأذى،ولكن من حسن الجوار الصبر على الأذى.وفي الخبر:من آذى جاره أورثه الله داره.وقبل:من آذى جاره خرب الله داره!
الناصر من استجار به:
كان أبو سفيان إذا نزل به جاره قال:يا هذا إنك قد اخترتني جاراً واخترت داري داراً،فجناية يدك على دونك وإن جنت عليك يد فاحتكم على حكم الصبي على أهله.
وكان أبو حنبل يقال له مجير الجراد،وذلك أنه نزل عليه جراد بفنائه فعدا الحي إليه فقال لهم:إلى أين؟فقالوا أردنا جيرانك جراداً نزل بفنائك!فقال:أما إذ سميتموه جاري فلا تصلون إليه أبداً!فأمر قومه أن يسلو سيوفهم ويمنعوه؛وفيهم يقول الشاعر:
ومنّا ابن مرّ أبو حنبل ... أجار من الناس رجل الجراد
مروان:
هم يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل
نهشل:
وجار منعناه من الضيم والعدا ... وجيران أقوام بمدرجة النمل
ابن نباتة:
ولو يكون سواد الشعر في ذممي ... ما كان للشيب سلطان على القمم
الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
المستنصر ذويه على أعاديه وتوائب لياليه:
كتب عثمان رضي الله عنه إلى علي كرم الله وجهه حين حصر:
فإن كنت مأكولاً فكن أنت آكلي ... وإلا فادركني ولمّا أمزق
أحمد بن أبي فنن:
هل أنت منقذ شلوي من يدي زمن ... أضحى يقد أديمي قد منتهس
دعوتك الدعوة الأولى وبي رمق ... وهذه دعوتي والدهر مفترسي
ابن الحجاج:

يا راعي السرب يحميه ويحرسه ... إن الذئاب قد استولت على الغنم
فعافني بتلافي العين من سقّم ... لم يبق مني سوى لحم على وضم
حتى أقول لريب الدهر: كيف ترى ... تعصب السادة الأحوار للخدم؟
نصرة قريب وإن كان عدواً:
قيل: الحفائظ تحلل الأحقاد. قال: عند الشدائد تذهب الأحقاد. وهذا باب مستقصى في الأقارب.

ناصر مستنصره وإن لم يكن بينهما معرفة:
روي أن حاتماً كان بأرض عنزة فناداه أسير: يا أبا سفانة أكلني الإسار والقمل! فقال: ويلك ما أنا في بلاد قومي وما معي شيء، وقد أسأت إذ نوهت باسمي! فاشتراه وقال: خلوا سبيله واجعلوني في القد مكانه حتى أؤدي فداءه، فجعل مكانه وبعث إلى قومه فأتوه بالفداء. وفي المثل: رب أخ لك لم تلده أمك.
المبادرة إلى نصرة مستنصره:
قيل: لا تسأل الصارخ واسأل ما له. بعض بني العنبر:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
السري:
ملك إصاخته لأول صارخ ... وسجال أنعمه لأول طالب
عمرو بن مخادة:
دعوت إلى ما نابني فأجابني ... كريم من الفتيان غير مزلج
المتنبي:
سبقت إليهم مناياهم ... ومنفعة الفوت قبل العطب
الصنوبري:
يا خير مستصرخ لنائبه ... يضيق بالعاملين قطراها
من تحمل من جاره الضراء ووفر له السراء:
زهير:
وجار سار معتمداً علينا ... أجاءته المخافة والوجاء
ضمنا ما له فغدا سليماً ... علينا نقصه وله النّماء
شبيب بن البرصاء:
وجاراتنا ما دمن فينا عزيزة ... كأروى ثبير لا يحلّ اصطيادها
يكون علينا نقصها وضمانها ... وللجار إن كانت تريد ازديادها
مدح من كرم مستنصره:
شاعر:
وعزت جوار عصية أنت جارها
أبو تمام:
وليس امرؤ في الناس كنت سلاحه ... عشية يلقى الحادثات بأعزلا
ترى درعه جصداء والسيف قاضباً ... وزجيه مسهومين والسوط معولا
السري الرفاء:
ما عذر من بسطت يمينك كفّه ... أن لا ينال بها السها والمرزما؟
المتنبي:
إذا شد زندي حسن ذاتك في يدي ... ضربت بنصل يقطع الهام مغمدا
وقال آخر:
إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي ... ودافع عني حازم وابن حازم
عطست بأنف شامخ وتنالت ... يداي الثريا قاعداً غير قائم
ابن الحجاج:
وكيف يخشى صولة الذئب من ... قد جعل السبع له عدة؟
الحامي جاره الحابية ماله:
ابن الرومي:
هم أملونا في هضاب غيومهم ... ندى، ورعونا بالقنا والقناديل
السري الرفاء:
أمّن في ظله رعيته ... خوف أعاديه حين عاداها
أهلها في نواله وغدا ... مشتملاً بالحسام يرعاها
الحامي جاره والمبيح ماله:
ابن الرومي:
هو المرء أمّا ماله فمحللّ ... لعاف، وأما جاره فحرام
آخر:
فنحن حلال في حريمك للغنى ... ونحن على الأيام فيه حرام
الراعي مال جاره من النوب والسراق:
كانوا يقولون: جار كجار أبي دؤاد، وذلك أنه إذا مات له بعير وشاة أخلفه، وإذا مات له قريب وداه.
شاعر:
إذا نزل الشتاء بدار قوم ... تجنب دار قومهم الشتاء
الفرزدق:
الضامنون على المنية جارهم ... والمطعمون غداة كل شمال
المتنبي:
يذم على اللصوص لكل تجرٍ ... ويضمن للصوارم كل جان
المستجير بمن أمنه من النوب:
أبو نواس:
أخذت بحبل من حبال محمد ... أمنت به من طارق الحدثان
تغطيت من دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري، وليس يراني
فلو تسأل الأيام: ما اسمي؟ ما درت ... وأين مكاني؟ ما عرفن مكاني
ابن أبي فنن:
كبا الدهر بي فاستلني من جرانه ... وقد كنت لاقيت المنية أكدت
وحكّمني في ماله وجياده ... وخيرني بين الحكومة فاخترت

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11