كتاب : محاضرات الأدباء
المؤلف : الراغب الأصفهاني

سأل معاوية الأحنف عن أطيب الأشربة فقال: الخمر. قال: وما يدريك ولست من أصحابها؟ قال: رأيت من أحلت له لا يبتغي غيرها، ومن حرمت عليه يتناولها، فعرفت طيبها وفضيلتها. وقيل: النبيذ صابون الغم. وقيل لبعضهم: فلان ترك النبيذ. فقال: طلق الدنيا. وقيل لدهقان: ما أصباك بالخمر؟ فقال: لأني رأيت لها أفعالاً لم أرها لغيرها، إذا رأيت الهم تمكن في قلبي فقرب الكأس من الباب خرج الهم؛ وأخذ ذلك أبو نواس فقال:
إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همه من صدره برحيل
وقيل لشيخ: لم تشرب النبيذ؟ فقال: لأن فيه شيئاً يحمده أهل الجنة. قيل: وما هو؟ قال: ما تقول أهل الجنة الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، والنبيذ هو ذاهب بالحزن. وقال أبو نواس: فيها الراح صديقه الروح، قيد اللذات ومفتاح المسرات. وقال:
ما استقرت في فؤاد فتى ... فدرى ما لوعة الحزن
وله:
كاس إذا ما الشيخ والى بها ... خمساً تردى برداء لغلام
وذم بعضهم الخمر فقال: أولها دوار وآخرها خمار، فرد عليه آخر فقال:
إن يكن أول المدام دواراً ... أو يكن آخر المدام صداعا
فلها بين ذا وذاك هنات ... وصفها بالسرور لن يستطاعا
ابن المعتز:
يبول هماً ويحسو اللهو والطربا
وله في وصفه:
واصلح بيني وبين الزمان ... وابدلني بالهموم الطرب

وصفها بأنها تدرع الكبر وتورث اليسر:
لقيط بن زرارة:
شربت الخمر حتى خلت إني ... أبو قابوس أو عبد المدان
أمشي في بني عدس بن زيد ... رخي البال منطلق اللسان
المنخل:
وإذا سكرت فإنني ... رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني ... رب الشويهة والبعير
وصفها بالصفاء والرقة:
1ق - ال الحسن بن الضحاك: كنت مع أبي نواس بمكة فسمع صبياً يقرأ: يكاد البرق يخطف أبصارهم فلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا. فقال: هذا يجب أن يكون صفة الخمر ثم أنشدني:
وسيارة ضلت عن القصد بعدما ... بدا دونهم أفق من الليل مظلم
فلاحت لهم منا على النار قهوة ... كأن سناها ضوء نار تضرم
إذا ما حسوناها أقاموا مكانهم ... وإن أظهرت حثوا الركبا ويمموا
قال ابن أعرابي: جميع ما قاله أبو نواس حسن وأحسنه قوله:
لا يسكن الليل حيث حلت ... فليل شرابها نهار
آخر:
واهتدى ساري الظلام ... كاهتداء السفر بالعلم
قيل: رق وصفا حتى كاد يخفى. وقيل: أصفى من الشراب وأخفى من السراب:
كمعنى دق في لفظ بديع
ابن المعتز:
كأن بكأسها ناراً تلظى ... فلولا الماء كان لها حريق
وصف رقة الإناء والخمر معاً:
البحتري:
يخفي الزجاجة لونها فكأنها ... في الكف قائمة بغير إناء
الصاحب وقيل هما لأبي نواس:
رق الزجاج وراقت الخمر ... وتقاربا فتشابه الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
وصفها بأنها تخضب الكف:
شاعر:
تحسب الظبي إذا طاف بها ... قيل أن يسقيكها مختضبا
الخباز البلذي:
وهي تكسو كف شاربها ... دستبانات من الذهب
ابن المعتز:
كأنهم الهبوا بينهم ... حريقاً وأيديهم تستعر
وصف حمرتها:
أبو نواس:
أقول لما تحاكيا شبهاً: ... أيهما للتشابه الذهب
هما سواء وفرق بينهما ... إنهما جامد ومنسكب
أخذه ابن المعتز فقال:
وخمارة من بنات المجوس ... ترى الزق في بيتها شائلا
وزناً لها ذهباً جامداً ... فكالت لنا ذهباً سائلا
وصف الخمر وشاربها:
قال الحسين بن الضحاك: أنشدت أبا نواس:
كأنما نصب كأسه قمر ... يكرع في بعض أنجم الفلك
فأنشدني:
إذا عب فيها شارب القوم خلته ... يقبل في داج من الليل كوكبا
فقلت: يا أبا علي هذه مثل ما أنشدتكه. فقال: أتظن أن يروى لك بيت حسن؟ وقد أحسن القائل:
وكأنه والكأس في يده ... قمر يقبل عارض الشمس
وصفها بالصلابة:

أبو تمام:
إذا اليد نالتها بوتر توقرت ... على ضغنها ثم استقادت من الرجل
أخذه من عطاء:
أسروها وجه النهار من الدن فأمسوا وهم لها أسراء
ونحوه لديك الجن:
فظلنا بأيدينا نتعتع روحها ... وتأخذ من أقدامنا الراح ثارها
آخر:
قهوة تترك الحليم سفيها
أحمد بن طاهر:
ما تم منها ثلاثاً قط شاربها ... إلا رأى عقله منه على سفر

وصف لذاذاتها:
وصف الله تعالى خمر الجنة فقال: لا يصدعون عنها ولا ينزفون. فنفى عنها جميع عيوبها بالكلمتين كما وصف فاكهتها فقال: لا مقطوعة ولا ممنوعة.
ابن أبي فنن:
أطيب في الكأس إذا ... جاءتك من ريح الولد
وله:
أطيب من قبلة الحبيب وقد ... جاد بها مسرعاً على حذر
وقال أبو نواس: كنت يوماً في الحمام فقلت قصيدة وفيها:
فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي النار في الفحم
ولم يك معي أحد فتراءى لي شيخ فقال: قطع الله لسانك فإنك لا تفلح! أتقول مثل ما يقول العوام ألا قلت:
فتمست في مفاضلهم ... كتمسي البرء في السقيم
فقلت: هكذا قلت. فقال: أتكابر إبليس؟
ألذ من غفلة الرقيب ... شكوى محب إلى حبيب
الحسين بن السري:
وإذا احتساها شارب فكأنما ... ماء المنى في فيه يحلب قاطره
ابن الرومي:
والله ما أدري بأية علة ... يدعونها في الراح باسم الراح؟
ألريحها ولروحها تحت الحشا ... أما لارتياح نديمها المرتاح؟
إن حرمت فبحقها من حرة ... ما كان مثل حريمها بمباح
أو خللت فبحقها من نشوة ... تنفي سقام قلوبنا بصحاح
وصفها العتق:
قال أبو نواس:
اسقنيها سلافة ... سبقت خلق آدما
آخر:
عاصرها آدم أبو البشر
شاعر:
عتقت حتى لو اتصلت ... بلسان ناطق وفم
لاحتبت في البيت ماثلة ... ثم قصت قصة الأمم
آخر:
قهوة تذكر نوحاً ... حين شاد الفلك نوح
آخر:
قهوة أبرزت بخاتم كسرى
ابن حجاج:
قوماً اسقياني قهوة رومية ... من عهد كسرى دنُّها لم يمسس
وصفها بأنها تورث السخاء والشجاعة:
أبو نواس:
وخذها من مشعشعة كميت ... تنزل درة الرجل الشحيح
أخذه من عمرو بن كلثوم:
ترى اللخن الشحيح إذا أمرت ... عليه لماله فيها مهينا
آخر:
إذا سقي الفتى منها ثلاثاً ... تسربل ثوب مكرمة وجود
آخر:
ونشربها فتتركنا ملوكاً ... أسوداً ما ينهنهنا اللقاء
وصف النيء والمطبوخ:
سئل أبو نواس عن نبيذ طبخ فقال:
وما طبخوها غير أن غلامهم ... سعى في نواحي كزمها بشهاب
فقال بعضهم: احرقوه فأحرقهم الله.
الأقيشر:
صفراء صافية الأقذاء حللها ... طبخ السراج ولم يجمع لها حطب
أبو نواس:
طبخته الشمس لما ... بخل العلج بناره
قال المطوق: قال لنا جحظة يوماً قد عملت بيتاً زدت فيه على أبي نواس في وصفه وأنشد:
فظل يسقينا جنانية ... ضنت بها الشمس عن النار
وقد أحسن فإن الخمر التي في الجنة لم تطبخ بنار ثم قوله ضنت بها الشمس عن النار، مع صحة معناه، ظريف اللفظ. عمرو بن الأهتم:
من كميت أجادها طابخاها ... لم تمت كل موتها في القدور
وصفها بأنها تحمر الوجنة:
الأعشى:
وسبية مما تعتق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها
يروى أن الأعشى سئل عن معناه فقال: شربتها حمراء وبلتها بيضاء. روي أن أبا نواس قال: إنما عنى به ما قلت:
كأس إذا انحدرت عن حلق شاربها ... رأيت حمرتها في العين والخد
الناجم:
تنازعنا الخد جريالها ... وتهديه للعين يوم الخمار
الناشي:
نفضت على الأجسام ناصع لونها ... وسرت بلذاتها إلى الأرواح
وصفها عند المزاج:
أبو نواس:
من قهوة جاءتك قبل مزاجها ... عطلاً فالبسها المزاج وشاحا
الزاهي:

كأنما الماء حين خالطها ... أهدى إليها غلائل الشفق
أبو نواس:
كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب
ابن المعتز:
راح كأن حبابها ... در يجول مجوفا
آخر:
تنزو إذا مسها قرع المزاج كما ... تنزو الجنادب أوقات الظهيرات
ابن طباطبا:
إذا ما الماء مازجها تراءت ... كما زوجت بالتبر اللجينا
هما ذوبان لو جمدا جميعاً ... إذا صارا معاً ورقاً وعينا
الصنوبري:
ناهيك من فضة تجري على ذهب ... ماء من النور في ماء من اللهب

طيب رائحتها:
الأخطل:
وإذا تعاورت الأكف زجاجها ... نفحت ونال رياحها المزكوم
الرفاء:
فض النديم ختامها فكأنما ... فض الختام عن العبير ففاحا
نبيذ رديء أو أسود:
قال الصوفي وفي يده قدح روشاب: هذا الليل إذا عسعس، وأومأ إلى قدح صاف وقال: وذاك الصبح إذا تنفس.
أبو تمام:
وكأن الأنامل اعتصرتها ... بعد كد من ماء وجه البخيل
البحتري:
فجاء نبيذ له حامض ... يشق على الكبد المقفرة
إذا صب مسوده في الزجا ... ج كأن النديم به محبره
ابن المعتز:
كأن بأيدي شاربيها إذا اتكوا ... محابر وراقين قد ملئت حبرا
ودفع إلى رجل شراب غليظ وقيل له: كيف تراه؟ فأنشد:
هو في الجوع طعام ... وهو في الظمأ شراب
سقى بعضهم ضيفاً له نبيذاً رديئاً وقال: هذا نبيد من عانة. فقال الضيف: بل من العانة على أربع أصابع.
استيهاب الشراب للأضياف:
كتب أبو تمام إلى صديق له يستوهب منه مشروباً لصديق يزعم أنه نزل به:
جعلت فداك عبد الله عندي ... بعقب الصد منه والبعاد
فأحسن يومنا إن لم تجدنا ... مصادف دعوة منا جماد
فكم نوء من الصهباء سار ... وآخر منك بالمعروف غاد
فهذا يستهل على غليلي ... وهذا يستهل على بلادي
وكتب ابن الحجاج إلى صديق له:
يا سيدي قد جاء زواري ... فظلت في نار وفي عار
فامنن بخمر أو فوجه بمن ... يخرجهم بالصفع من داري
السري الرفاء مستدعياً شراباً:
الراح قد أعوزتنا في صبيحتنا ... بيعاً ولو وزن دينار بدينار
فامنن بما شئت من راح يكون لنا ... ناراً، فإنا بلا راح ولا نار
من استوهبه ورام اكبار الظرف أو ترك المزاج:
الرفاء:
عندي ضيف لم يزل مضيفا ... فأهد لي خلوقك المذوفا
تحوي له الشكر له صنوفاً ... وكبر الظرف تكن ظريفا
آخر:
واعلم بأن ظروف الراح إن كبرت ... عند الهدية أبدت ظرف مهديها
جحظة:
ومر الغلام بتركه من مزجه ... إن النوال يطيب غير مكدر
الزاهي:
أرى المشروب عز وذاك شيء ... إذا حصلته حصلت حمدي
فمرهم يبعثوه بغير مزج ... فإن الماء ليس يضيق عندي
معاتبة من بخل بالنبيذ:
كتب الكتنجي إلى بعض إخوانه يستهديه نبيذاً، فتباطأ عليه ثم عاد الرسول فقال: هو يستدعي ظرفاً يجعله فيه، فكتب إليه:
مطلتنا بالنبيذ دهرا ... ما بين مطل وبين خلف
وبعد دهر طلبت ظرفاً ... كأن قارورة بالف
فمن يرجيك بعد هذا ... ولست ممن يفي بظرف؟
فدعا الرجل سقاءين فملأ قربتيهما وبعثهما إليه.
مما جاء في الندام والندماء والسقاة
وجوب حق المنادمة وذكر من عظم نديمه:
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ماداً رجليه بين يدي جليس له قط، ولا أخذ بيد أحد فانتزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي يرسلها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لجليسي علي ثلاث: أرميه بنظري إذا أقبل، وأوسع له إذا جلس، وأصغي إليه إذا حدث.
شاعر:
أرى للكأس حقاً لا أراه ... لغير الكأس إلا للنديم
قال الجاحظ: رويت هذا البيت دهراً لا أعرف له ثانياً، فسمعت يوماً حمامياً يوقد أتونه وينشد معه:

هو القطب الذي دارت عليه ... رحى اللذات في الزمن القديم
سعيد بن حميد:
الكأس حرمتها أدلى من النسب
حصابة الجرجراي:
إن المنادمة الرضاع الثاني
وكان القعقاع إذا جالسه جليس فعرفه بالقصد إليه، جعل له نصيباً من ماله وأعانه على عدوه، وشفع له في حاجته وغدا إليه بعد المجالسة شاكراً له؛ وفيه يقول:
وكنت جليس قعقاع بن شور ... ولا يشقى بقعقاع جليس
قال يحيى بن أكثم: ما رأيت أكرم من المأمون، بت عنده ليلة فعطش فكره أن يصيح بالغلمان، وكنت منتبهاً فرأيته قد قام فمشى قليلاً إلى البرادة حتى شرب ورجع. ورأيته ليلة وأنا عنده وحدي، وقد أخذه سعال، يسد فاه بكمه كيلا انتبه.

الانخراط في سلك الشرب والصحب:
جلس المتوكل مع جماعة وفيهم يحيى بن أكثم، فلما شرب الناس ثلاثة أرطال أمر يحيى بالانصراف فقال له: ولم يا أمير المؤمنين؟ فقال: لأنا قد خلطنا. فقال: أحوج ما يكون إلى قاض إذا خلطتم. فاستظرفه المتوكل وأمر أن تغلف لحيته بالغالية ففعل فقال: ضاعت الغالية وكان هذا يكفيني دهراً فأمر بزورق من الغالية ودرج بخور فجعلا في كمه.
طيب المدام بطيب الندام:
قيل لأعرابي: كم تشرب من النبيذ؟ فقال: مقدار النديم.
أبو نواس:
الراح طيبة وليس تمامها ... إلا بطيب خلائق الجلاس
آخر:
إنما تستعذب الرا ... ح بأخلاق النديم
العطوي:
تصفو الزجاجة بالنديم إذا صفا ... ويكدر الندمان صفو الراح
آخر:
يقولون: قبل الدار جار موافق ... وقبل الطريق النهج أنس رفيق
فقلت: وندمان الفتى قبل كأسه ... وما حث كاس اللهو مثل صديق
آخر في صديق استطاب مجالسته:
يا ليلة لست أنسى طيبها أبداً ... كأن كل سرور حاضر فيها
باتت وبت وبات الزق ثالثنا ... حتى الصباح تسقيني واسقيها
كأن سود عناقيد بلمتها ... أهدت سلافتها صرفا إلى فيها
اختيار عدد الندمان:
منصور الفقيه:
فليدع منها خمسة ... متخيرين ولا يزد
فدوين هذا وحشة ... وفويقه سوق الأحد
آخر في المعنى:
إذا ما جاوز الندمان خمساً ... برب البيت والساقي اللبيب
فأير في حر أما فتى دعانا ... وأير في حر أم فتى مجيب
طرح الحشمة في المنادمة ومراعاتها:
جاء محمد بن حماد إلى ابن الجنيد فقال: يقول لك أمير المؤمنين المعتصم تهيأ لمزاملتي. قال: كيف أتهيأ. قال: إذا زاملته فإياك أن تبزق أو تمخط أو تتثاءب أو تسعل أو تعطس! فقال ابن الجنيد: ارجع إليه وقل له: في حر أم من يزاملك على هذا الشرط! فلما رجع إليه ضحك واستدعاء فقال: آمرك بمزاملتي فتراسلني بذلك؟ فقال: إن هذا الأحمق شرط علي شروطاً يهرب منها الشيطان، فإن رضيت أن تفسو علي وأفسو عليك وإلا فلست بصاحبك! وقيل لبعضهم: ما العيش؟ فقال: طرح الحشمة وترك الطب. قال إسحاق الموصلي: كانت الخلفاء من بني أمية لا يظهرون للندماء والمغنين، وكان بينهم وبين ندمائهم ستارة، وكان بنو العباس يظهرون ثم احتجبوا عنهم، ولم ير أبو جعفر قط بشرب إلا الماء، وكان المهدي في أول أمره يحتجب متشبهاً بمن قبله ثم ظهر لهم وقال: اللذة في مشاهدة السرور والدنو من الأحباب.
الوصية بطي حديث الشرب:
قال المأمون رحمه الله: أطووا خبر أمس مع ذهاب أمس فهو أدوم للسرور وأسلم للصدور. وقال: النبيذ بساط إذا رفع لم ينشر.
علي بن صالح:
حكم العقار إذا قصدت لشربها ... في لذة من مسمع وقيان
أن لا تعود لذكر ما أبصرت من ... أحدوثة من شارب سكران
آخر:
إذا ذكر النبيذ فليس حقاً ... اعادة ما يكون مع النبيذ
إعادة ما يكون من السكارى ... يكدر صفوة العيش اللذيذ
الممدوح بترك إعادة الحديث ومعاتبة النديم:
شاعر:
ولست بلاح لي نديماً بزلة ... ولا هفوة كانت ونحن على خمر
عركت بجنبي قول خدني وصاحبي ... ونحن على صهباء طيبة النشر

وأيقنت أن السكر طار بلبه ... وأعرق في شتمي وقال وما يدري
ابن الجهم:
تنازعوا لذة الصهباء بينهم ... وأوجبوا لرضيع الكأس ما يجب
لا يحفظون على السكران زلته ... ولا يريبك من أخلاقهم ريب

استقالة من بدر منه في السكر بادرة:
شاعر:
إذا حكمت كؤوسك في الندامى ... فحقهم الإقالة للعثار
آخر:
ما على مثقل من النوم والسكران فيما أتى من الآثام
آخر:
ومن يقرع الكأس اللئيمة سنه ... فلابد يوماً أن يسيء ويجهلا
الممدوح بمسامحة رفيقه في الشرب:
بعضهم:
هلم اسقني كأسا ودع عنك من أبى ... ورو عظاماً قصرهن إلى بلا
فإني نديمي غير شك مكرم ... لدي وعندي من هواه الذي ارتضى
ولست له في فضلة الكأس قائلاً ... لأصرعه سكراً تحسن وقد أبى
ولكن افديه واكرم وجهه ... واشرب ما يسقي وأسقيه ما أشتهي
أبو نواس:
ولست بقائل لنديم صدق ... وقد أخذ الشراب بوجنتيه
تناولها وإلا لم أذقها ... فيأخذها وقد ثقلت عليه
ولكني أداري الشرب عنه ... واصرفها بغمزة حاجبيه
فإن مد الوساد لنوم سكر ... دفعت وسادتي أيضاً إليه
من لا يعتد بمجالسته ومن يعرض بمذهبه:
بعض المحدثين:
خرجنا جميعاً إلى نزهة ... وفينا زياد أبو صعصعه
فسته رهط به خمسة ... وخمسة رهط به أربعه
آخر:
عندي جعلت لك الفدا ... سهل وسهل ليس يجدي
إن لم تكن لي ثانياً ... فكأنني في البيت وحدي
وأصله لأبي حبة:
أصمّ إذا ناديت جهراً، وإن تشر ... فأعمى، وإن تفعل جميلاً فجاحد
وأقسم برأً أن لولا خياله ... لما كنت إلا مثل من هو واحد
وقال صاحب وفي يده كاس:
تطيب كؤوسنا لولا قذاها ... ويحتمل الجليس على أذاها
فقال النابغة:
قذاها أن صاحبها لئيم ... يحاسب نفسه بكم اشتراها؟
طيب مجالسة الأخوان ومحادثتهم:
قال شبيب بن شبة: لم يبق من لذات الدنيا إلا أربعة: مجالسة الأخوان، ومناسمة الولدان، وملامسة النسوان، ومداولة الكأس مع الندمان. قيل لبعضهم: ما بقي من لذتك؟ فقال: محادثة الأخوان في الليالي القمر، على الكثبان العفر، وقيل لبعضهم: تمن. فقال: وجه حبيب ومغن مصيب وساق أريب ونديم لبيب. وقيل لآخر: ما العيش؟ فقال: لون مشبع ومغن ممتع وكاس مترع ونديم مقنع. وقيل: مجالسة أهل الفضل ذكاء العقل.
إيثار محادثة الأخوان على غناء القيان:
علي بن الجهم:
شهدتها وفتية أخيار ... لهوهم الأسمار والأشعار
وملح تقدح منها النار ... بمثلهم يعاقر العقار
ابن المعتز في مدح ذلك:
بين أقداحهم كلام قصير ... هو سحر وما سواه كلام
إيثار التفرد بالشراب وذمه:
أبو نواس في ذلك:
خلوت بالراح أناجيها ... آخذ منها وأعاطيها
شربتها صرفاً على وجهها ... وكنت حاسيها وساقيها
العطوي:
أخطب لكأسك ندماناً تسرّ به ... أولا فنادم عليه حكمة العنب
آخر:
يئست من الألى أقبلت أسعى ... إليهم إنني رجل يؤوس
التناهد:
شاعر:
ما العيش إلا للمناهدينا ... مؤونة قضت على عشرينا
ولو تفردنا بها خرينا
وقال بعضهم في متناهدين:
وقال حفص لزيد حين ناهده: ... منك النبيذ ومني الدنّ والكوز
واللحم منك ومني النار أنضجه ... والماء مني، ومنك الخبز مخبوز
وتناهد قوم وفيهم مفلس فقال أحدهم: علي كذا. وقال آخر: وأنا علي كذا، إلى أن قالوا للمفلس: وأنت ما عليك؟ فقال: لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. قال الحسن بن سهل في جماعة من القواد يتناهدون:
كنا ندم إلى التناهد بيننا ... حتى رأيت تناهد القوّاد
لا خير في القوّاد إلا هكذا ... يتناهدون تناهد الأوغاد

ترضى لنفسك أن تصاحب معشراً ... يتناهدون على خسيس الزاد

التعفف عن التعرض لأخدان الندماء:
كان بعض الفضلاء ينادم صديقاً له، فعشقته امرأته فتعرضت له، فامتنع عليها وقال:
ربّ حسناء كالمهاة تهادي ... قد دعتني لوصلها فأبيت
لم يكن بي تحرّج غير أني ... كنت ندمان زوجها فاستحيت
آخر:
إني على ما فيّ من ... عهد الشبيبة والغضاره
لأغضنّ من طرفي فيأ ... منني النديم على الستاره
وكفى بعيب ذلك ما حكى الله تعالى: " قال ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم " .
المعيب بتعرضه لحرم نديمه:
قال بعضهم لنديم رآه يرمق بعض حرمه:
كل هنيئاً وما شربت مريئاً ... ثم قم صاغراً وغير كريم
لا أحب النديم يرمق بالعين ... إذا ما انتشى لعرس النديم
المتبجح بالتعرض للندماء:
قال المهدي لعمارة بن حمزة: من أرق الناس شعراً؟ قال: والية بن الحباب. قال: صدقت قال عمارة: وما يمنع أمير المؤمنين من منادمته وهو شاعر ظريف؟ قال: يمنعني منه قوله:
قلت لساقينا على خلوة: ... ادن كذا رأسك من رأسي
وادن وضع صدرك لي ساعة ... إني امرؤ أنكح جلاسي
أفتريد أن تكون جليسه؟ ولبعض الخاسرين:
لا أبغضنّ منادمي إن نكته ... إني لنيك منادمي معتاد
وكذاك لست ألومه إن ناكني ... فلقد علمت كما أكيد أكاد
العربدة:
قال الأصمعي: العربدة حية تنفخ ولا تؤذي. ومنه قيل لمعربد بوجهه خموش: ما هذه الكلوم؟ قال: آثار الكلام. وكان رجل معربد له يسار، وكان إذا عربد على واحد أعطاه خمسمائة درهم، فقال لإنسان: هل لك أن تنادمني؟ قال: على أن تعربد عليّ عربدة نحو مائتين فإني لا أقوى على عربدة خمسمائة وقال الحسين بن خليع: نادمت يوماً إبراهيم بن المهدي فسكر وعربد عليّ، فدعا بالنطع والسيف فتكلم في أصحابه، فتجافى عني ثم تأخرت عنه فدعاني، فكتبت إليه:
أمير غير منسوب ... إلى شيء من الحيف
سقاني مثل ما يشرب فعل الحرّ بالضيف
فلما دارت الكأس ... دعا بالنطع والسيف
كذا من يشرب الراح ... مع التنين في الصيف
فدعاني وأرضاني. ثم كان المأمون يضاحك إبراهيم بهذه الأبيات ويولع بها. وسئل عبيد الله بن محمد عن طنبوري له فقال: هو بليد حديد عربيد، إن حث عثر وإن أمسك قصر، وإن ابتدأ غلط وإن اقترح عليه سخط، وإن دعي مطل وإن ترك تطفل. وقيل: صاحب السكر يصير إما إلى قردية، وهو الذي يضحك ويرقص ويحاكي، أو إلى كلبية، وهو الذي يهارش، أو إلى خنزيرية، وهو الذي يتقيأ ويخرأ ويتلوث فيه، أو إلى إنسانية وهو الذي يحسن خلقه. ولبعضهم يصف معربداً:
إذا انتشى خاصم في الدين وإن ... صادف إنساناً يماريه
ويدّعي الشرب ويهذي به ... والقدح الواحد يكفيه
يحبس كاس القوم في كفّه ... حتى إذا قالوا له: إيه!
أفضل ثلث الكأس في قعرها ... ومج ثلث الكأس من فيه
أبو نواس:
ومعربد أبرزته ... للريح إذ سبّ النّدامى
أغلقت بابي دونه ... وتركته يرعى الخزامى
ويضاد ذلك ما حكي أنه أتي العريان بشارب فقال: من أنت؟ قال: أنا القائل:
إذا صدمتني الكأس أبدت محاسني ... ولم يخش ندماني على صدمها جهلي
فقال العريان: أنعم الله بك عيناً. وقال لصاحبه: احمله على دابتك وبلغه منزله.
مدح الصفع واحتجاج الصفعان لذلك:

الصفع غلة ولكنه مذلة، ويذهب بالعلة الغليظة من العينين. إذا أردت أن يكثر نفع دارك فاصبر على الصفع المتدارك. الصفع في هذا الزمان خير من غلة بستان. الصفع على الريق أنفع من شرب السويق. وقيل لصفعان: ما المعنى في الصفع؟ قال: هو أول منزلة من التواضع، وهو يحسن الخلق ويذهب بالصغار، ويخفف من الخمار، ويؤمن البدن من الاقشعرار، ومن فضائله أنه يؤنس المستوحش ويبسط المنقبض، ويضحك الحزين وينشط الكسلان، ويزيل النعاس ويقوي الرأس. صفع رجل آخر فغضب المصفوع فطأطأ رأسه وقال له: حقك في يدك خذه ولا تغضب.

معارضة صفعان لمن صفعه:
كان صفعان من قوم، فصفعه بعض من لم يكن يؤبه به من بينهم فقال الصفعان: يا كشحان هذا يفعله من كان له قصر وفي داره طاوس، وعلى بابه نعامة لا من في داره ديك وعلى بابه كلب، وحجرته بالكراء. وصفع رجل آخر فالتفت إليه وقال: صفع بصفع أو صفع بنفع.
المهجو بأنه صفعان:
شاعر:
قفاه على أكف الشرب وقف ... جلدة وجهه ميدان ريق
وصفع أحمد بن إسماعيل الكاتب صاحباً له فقال:
سائل طلول القفا ومصفعها ... كيف ترى راحتي وموقعها
كم صائن هامة ممنعة ... ذللّها صافع وطبّعها
ولابن حجاج في المتنبي:
يا ديمة الصفا هبّي ... على قفا المتنبي
وأنت يا ريح بطني ... على عذاريه هبّي
ويا قفاه تدانى ... واقعد قريباً بجنبي
وإن صفعتك ألفاً ... فلا تقولنّ حسبي
وله في بعض الكتاب:
رأيت شيخاً رقيعاً ... للصفع فيه بقيّه
مستعرباً نبطياً ... ويشتهي العجميّة
فقلت: ذقنك في أستي ... هذا من العربية
وريشك بباب كوني ... هذا من العجمية
أو لافد عنج بوطئي ... هذا من النبطية
هذي لغات ثلاث ... صحيحة مستوية
وقال ابن الرومي:
وصفعان يجود بأخدعيه ... ويصفع نفسه في الصافعينا
كهدم المشركين بيوت سوء ... بأيديهم وأيدي المؤمنينا
ومما يدخل في باب الصفع: خاطر رجل على أن يصفع المطلب الهاشمي بباب الطاق، فيشكره المطلب على ذلك، فوقف يوماً على طريقه وصفعه من خلفه في النقرة وقال: العقرب العقرب وكان معه عقرب منزوع الحمة، فلما رأى المطلب العقرب شكره وقال: جزيت خيراً فلولا أنت لدغتني!
وصف ثقيل:
ما الحمام على الإصرار، وحلول الدين مع الاقتار، وشدة السقم على الأسفار بأثقل من لقاء فلان، وقال رجل لأبيه: يا أبت حدثني مستملي أبي حنيفة أن أبا حنيفة قال: إني ثقيل؟ فقال: يا بني أنت ثقيل بالإسناد! ووصف آخر ثقيلاً فقال: هو ثقيل جاهل بثقله، والثقيل إذا علم أنه ثقيل فليس بثقيل.
شاعر:
أثقل من طلعة يوم سبت ... على ابن كتّاب بليد هبت
وفسر سعيد بن المسيب قول الله تعالى: " عتل بعد ذلك زنيم " إنه ثقيل لغير رشده. وقال إنسان لأحمد بن أبي خالد: لقد أعطيت ما لم يعطه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له: لئن لم تخرج من ذلك لأقتلنك. فقال: إن الله تعالى قال لنبيه: " ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك. وأنت فظ وما يبرحون حولك فضحك منه.
رؤيته أثقل من رضوى ... أثقل من واش على عاشق
قال أبو العتاهية لابنه: أنت ثقيل الظلم، مظلم الهواء، جامد النسيم.
وقال شاعر:
كمثل غريم مقتض أو كأنه ... طلوع رقيب أو نهوض حبيب
أبو نواس:
لطلعته وخزة في الحشا ... كوخز المشارط في المحتجم
أحمد بن حمدون:
صلف مائق ضعيف مقيت ... أحمق ساذج ضعيف الكتابه
آخر:
وبغيض لو أنه كان صوتاً ... كان إيقاعه ثقيل الثقيل
للصاحب:
ثقيل قد تربّع في الطنافس ... ينافس في لجاجته الخنافس
الحث على مصابرة الثقيل:
سأل رجل صديقاً له أن يمشي معه إلى إنسان في حاجة فقال: أحب أن تعفيني فإنه ثقيل بغيض غث. فقال صاحبه: يا سيدي أحسبه الكنيف الذي تأتيه كل يوم مرتين.
صعوبة ملاقاة الثقلاء:

قال الأعمش: ما نظرت إلى ثقيل إلا اشتكت عيني. وقال: ربما سألني ثقيل عن مسألة فأنساها في الوقت لما ينالني منه. وقال ابن عمر رضي الله عنه. اتقوا من تبغضه قلوبكم. وقال مالك لطبيبه: انظر مجسي، فجسه؛ وقال: مزاجك معتدل إلا أن فيه كدراً فهل وصل إليك اليوم بغيض؟ قال: نعم. قال: فهذا من ذاك. وقيل مجالسة الثقيل حمى الروح؛ ومنه أخذ أبو هفان:
أورثتني بجلوس ... إليك حمّى مليلة
وقيل لانوشروان: ما بال الرجل يحمل الثقيل فلا يعييه ولا يحمل مجالسة الثقيل؟ فقال: لأن الحمل تشترك فيه الأعضاء والثقيل تنفرد به الروح.

الأحوال المفضية للثقل:
قال ابن سيرين: مكتوب في كتاب سوء الأدب: إذا أتيت منزل قوم فلم ترض بما يأكلون، وسألتهم ما لا يجدون، وكلفتهم ما لا يطيقون، وأسمعتهم ما يكرهون، فإن لم يخرجوك فهم لذلك مستأهلون. وقيل: من مقتضيات الثقل أن يكون الإنسان يتتايس وهو يقدر أن يتكايس. ودخل ثقيل على ابن أبي البغل فأطال الجلوس فلما خرج الناس قال: هل من حاجة؟ قال: لا، فأنظره ساعة ثم قال: ما اسمك: قال: أبو عبد الله محمد بن عبد الله. فقال لحاجبه: خذ بيد أبي عبد الله محمد ابن عبد الله، واطرده إلى لعنة الله!
التعريض بثقيل:
ابن عائشة: ذكر الله تعالى الثقلاء فقال: " فإذا طعمتم فانتشروا " . وشرب بغيض عند رجل فلما أمسى لم يأته بسراج فقال: أين السراج؟ قال: إن الله يقول: " وإذا أظلم عليهم قاموا " . قال ثعلب لرجل استثقله: خاتم طاوس فلم يعلم الرجل ما عناه فقال له ثعلب: إن طاوساً نقش على خاتمه: أبرمت فقم، فإذا استثقل رجلاً دفعه إليه وقال: اقرأه. وعاد الشعبي ثقيل فأطال الجلوس ثم قال: ما أشد ما مر عليك في مرضك؟ قال: قعودك عندي! ودخل ثقيل إلى الصاحب فأطال الجلوس وتبرم به، فكتب رقعة ودفعها إليه فيها:
إن كنت تزعم أن الدار تملكها ... حتى نقوم فنبغي غيرها دارا
أو كنت تعلم أن الدار أملكها ... فقم لكي تذهب الأحزان والعارا
ودخل على ابن مكرم إخوان من أولاد ينار، فاستثقل أحدهما واستطاب الآخر فانزعج الثقيل وبقي الآخر فقال له: ما مثلك ومثل أخيك إلا ما قال الله تعالى: " فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
اغتياب الثقلاء والوقيعة فيهم:
قال معمر: لا غيبة للثقلاء، والوقيعة فيهم من اللذات، وفي مجالسات أبي بكر بن دريد لم يبق من الدنيا إلا أكل القديد وحك الجرب، والوقيعة في الثقلاء. وفي وصف بارد: هو جبل همدان وماء سيدان.
يوسف بن المغيرة:
ومن يقتل الأبطال بأساً ونجدة ... فإن أبا يعقوب يقتلهم بردا
آخر:
إنما ظرف أبي العيناء في المجلس لحظه ... فإذا طاولته استبردت معناه ولفظه
وصف ساق يشغف الشرب بحسنه ويلهيهم بغنجه:
لأبي فراس، وقد حضر مجلساً فثمل، فقيل له: سكرت! فأنشأ يقول:
سكرت من لحظه لا من مدامته ... ومال بالنوم عن عيني تمايله
وما السلاف دهتني بل سوالفه ... وما الشمول دهتني بل شمائله
لوى بعقلي أصداغ لوين له ... وغال صبري ما تحوي غلائله
آخر:
ساع على صحبي بصهباء ... كالغصن المغتصّ بالماء
أغار من وقفته كلما ... قال لحاسي الكأس: مولائي
حتى لقد صاروا وهم إخوتي ... من شدة الغيرة أعدائي
وصف ساق تشبه وجنته خمرة:
قال ديك الجن:
فقام بخمر يخضب الكفّ كأسها ... وتحسبه من وجنتيه استعارها
أخذه ابن المعتز وزاد عليه فقال:
تدور علينا الراح من كفّ شادن ... له لحظ عين يشتكي السقم مدنف
كأن سلاف الخمر من ماء خده ... وعنقودها من شعره الجعد يقطف
جحظة:
وخمارة من بنات القسوس ... تبيع المدامة في دارها
وجاءت تهادى كقدّ القضيب ... سقته الغوادي بأمطارها
وفي كفّها قهوة في الإناء ... وكالنار لم تغل في نارها
كوجنة من هي في كفّها ... ونكهتها وقت أسحارها
فمن قارص وردتي خدّها ... ومن جاذب فضل زنارها
الفرح الصالحي:

ثمل من خمر ريقته ... عطر من ورد وجنته
قام والأرداف تقعده ... والدجا من لون طرته
فسقاني الخمر من يده ... وحللنا عقد تكته

ساق يطيب من يده المدام:
قال شاعر:
ولم يكن الشراب كذا لذيذاً ... ولكن طاب حامله فطابا
ابن المعتز:
اشرب عقاراً كأنها قبس ... قد سبك الدهر تبرها فصفا
يبدي لثام الإبريق من دمها ... كأنه راعف وما رعفا
بكف ساق حلو شمائله ... مكرّ لحظ عينه صلفا
وصف الشراب والساقي:
السري الرفاء وقد أحسن في وصف الساقي:
وكأنما أبدى لنا بمدامه ... وجماله صاح العزيز ويوسفا
أبو نضلة:
قام الغلام يديرها في كأسه ... فكأن بدر التم يحمل كوكبا
الخوارزمي:
يدور بها ظبي تدور عيوننا ... على عينه من شرط يجى بن أكثم
ينزهنا من ثغره ومدامه ... وخديه في شمس وبدر وأنجم
حث الساقي على السقي:
شاعر:
أيها الساقي أجد حث القدح ... واسقني ويحك مفتاح الفرح
أبو نواس:
أيها الساقي علاما ... تحبس الكأس علاما؟
بعد ما لذت وطابت ... ونفت عنا اهتماما
سمي الخمر مداما ... فأدم هذا المداما
وصل الكأس بكاس ... تدع الشيخ غلاما
حث القوم على الشرب:
كان رجل يشرب مع قوم، فإذا أخذ القدح أطال امساكه فقال ساقيهم: اشرب وهبه في كفك من يوم مولدك. وقال آخر لمن يحبس الكأس: أليس لو بقي في كفك أياماً وقد مزجته كان يتغير؟ قال: نعم. قال: فلا أرى ساعة تمضي إلا ولها قسط من التغير فأشربه. وكتب بعضهم على كاس:
قالت الكأس لساقيها ... إلى كم تحبسوني؟
إن جسمي من زجاج ... فاحذروا لا تكسروني
واجعلوا الساقي خشفاً ... ومع الخشف ذروني
وإذا أنتم ثقلتم ... فخذوني في سكوني
الحث على المزج والمنع منه:
أبو نواس:
فقوما فامزجا خمراً بماء ... فإن نتاج بينهما السرور
وكان رجل يسقي آخر صرفاً ويغني له:
يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم
فكان ينشد: وجلدة ما بين العين والأنف سالم فيكسر البيت ويزيد فيه لفظة ما، فقال صاحبه: الأولى أن تجعل ما التي في بيتك في قدحك. وقال حسان في المنع من المزج:
إن التي ناولتني فرددتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة ارخاهما للمفصل
أبو نواس:
أثن على الخمر بآلائها ... وسمها أحسن أسمائها
لا تجعل الماء لها قاهراً ... ولا تسلطها على مائها
وأنكر بعض الشرب على الساقي كثرة المزج فقال: تريدون في مائكم نبيذاً.
حث الساقي على العدل بين القوم:
قال علي بن داود في كتاب الزهرة: ليتحر الساقي العدل، فإنه والي العقول، وإلا ناله من خجلة الاستعفاء ما ينال الوالي من خجلة العزل.
مما جاء في وصف المجالس وأمكنة الشرب
اختيار المجلس الفسيح:
قيل للأحنف: أي المجالس أحب إليك؟ قال: ما سافر فيه البصر واتدع فيه البدن. وقيل: المنازل الضيقة العمى الأصغر. وسئل بعضهم عن الغنى فقال: سعة البيوت ودوام القوت. وقيل لبعضهم: ما السرور؟ فقال: دار قوراء وامرأة حسناء وفرس مربوطة بالفناء. وقيل لبعضهم: أي المجالس أطيب؟ فقال: لولا أن الشمس تحرق والمطر يغرق، لما كان في الدنيا أحسن من شرب في الفضاء على وجه السماء. وحدثني أبو سعيد بن مرداس أنه قعد مع جماعة فيهم ابن بابك تحت عريش كرم يشربون فأصابهم مطر، فقال ابن بابك:
وشى بريا إلي ... طيف ألم فحيا
ونبهتني شمول ... تموت فيَّ وأحيا
يا صخرة الرعد رشي ... دمع الغمام عليا
فحبذا الروح ورداً ... ومنحنى النور فيا!
هذي سماء مدام ... لم تمش فيها الحميا
فكل كرم سماء ... وكل نجم ثريا

حديث كل مجلس:
قال ارسطاطاليس للإسكندر: احفظ ما أقول لك، إذا كنت في مجلس الشرب فليكن مذاكرتك الغزل، فإنهم يأنسون إلى ذلك، وإذا جلست إلى خاصتك فاكذر الحكمة، فإنهم لهم أفهم، وإذا خلوت للنوم فاذكر العفة فإنها تمنعك أن تضع النطفة في ما لا معنى له.
مدح القعود في طرف المجلس والاعتذار لذلك:
دخل بعض الصوفية على الجنيد وقعد في طرف المجلس وقال: حسبي يا سيدي من مجلسك مكاني من قلبك. وقيل: الأطراف مجالس الأشراف. ودخل رجل على بعض الكبار فصدره ثم دخل آخر فقال له: تنح قليلاً فرفعه إلى جنبه، ثم دخل آخر فقال له مثل قوله، فلم يزل الداخل الأول يتنحى حتى صار في طرف البساط، فقال لصاحب المنزل: قد تفرزنت أقوم فارجع إلى موضعي! فضحك منه ورفعه إلى موضعه الأول.
الجلوس على الطرق وفي المساجد:
مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رهط فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إياكم والجلوس بهذه، فإنها سبيل من سبل النار، أو قال: من سبل الشيطان، ثم التفت فقال: فإن أبيتم فأدوا حق الطريق. قالوا: وما حق الطريق؟ قال: رد السلام وغض البصر وكف الأذىِ، وهداية الضال وإغاثة الملهوف. وقال الشعبي: من أراد أن يكثر علمه فليجتنب مجالس قومه. وقيل: المساجد مجالس الكرام.
ذم الجلوس في الشمس وحمده:
روي عن أمير المؤمنين رضي الله عنه أنه رأى رجلاً جالساً في الشمس فقال: قم عنها فإنها مبخرة مجفرة، تنغل الريح وتظهر الداء الدفين، وتذهب شهوة الشتاء.
أبو تمام:
وإن صريح الحزم والرأي لامرؤ ... إذا أدركته الشمس أن يتحولا
ضيق المجلس:
ما ضاق مجلس على محبين ولا اتسع لمتباغضين. وقال الصاحب في معناه وقد نقله من أبيات خراسانية:
كنا وأسباب الهوى متفقه ... نغدو من الورد معاً في ورقه
واليوم إذ أسبابه مفترقه ... قد صارت الدنيا علينا غلقه
وكثر تمثل الناس بقول الشاعر:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق
وقال ابن المعتز وقد حضر قوماً ضاق بهم المجلس:
لا تحسبن الدهر يجمع حبه ... في قشره إلا كما نحن هنا
وقال آخر يعتذر من ضيق داره وقلة زاده:
إن يضق منزلي فإني كريم ... واسع الخلق واسع الآداب
لست آسى على الكثير من الزا ... د إذا كان فيه قوت صحابي
الحث على التوسع لمن حضر المجلس:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا. وقال الله تعالى: " إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس فافسحوا يفسح الله لكم " " الآية " . حضر بعض الناس مجلس الحسن بن سهل، وكان المجلس ضيقاً، فقال: تحفزوا فإن في التحفز توسعة الجالس المستوفز. قيل: اثنان ظالمان رجل وسع له في مكان ضيق فقعد فيه متربعاً منتفخاً، وآخر أهديت له نصيحة فاتخذها ذنباً.
تفقد الجلسة:
قال عبد الملك: إني لأعرف عزة الرجل في جلسته. وقيل: اختلاف صور جلوس الناس على اختلاف أحوالهم. وقيل: للملوك جلسة وللراغب جلسة، وللندام جلسة وللملاعب جلسة، وللمطرب جلسة وللضيف جلسة.
الانتقال من مجلس إلى مجلس:
قال الصولي: شرب عندي ابن أبي فنن يوماً فقلت له: قم بنا ننتقل إلى مجلس آخر. فقال: النقلة من الإسلام كفر، ومن النسب لؤم، ومن المجلس سخف. وقيل لبعضهم: انتقل. فقال: النقلة مثلة. وكان المأمون كثير التنقل في مجالسه ويتمثل بقول أبو العتاهية:
لابد للنفس إن كانت مدبرة ... من التنقل من حال إلى حال
حمد الراضي بالقعود دون ما يستحق:
قال الأحنف رحمه الله: ما جلست مجلساً خفت أن أقام منه لغيري. وقال الشعبي: لأن ادعى من بعيد أحب إلي من أن أدفع من قريب.
مجلس أو وقت مستطاب:
ابن أبي البغل:
جلسنا مجلساً حسناً نظيفاً ... خلا من كل ذي صلف وبغض
آخر:
ومجلس غاب عنه عاذله ... تبدل فيه الهموم بالطرب
ابن المعتز:
كأنا من بشاشتنا ظللنا ... بيوم ليس من هذا الزمان
إيثار الشرب واللهو بالليل:

كان ابن المعتز لا يشرب إلا ليلاً، ويقول: الليل أمتع لا يطرقك فيه خبر فاظع، ولا سبب مانع، والنهار أبرص لا يتم فيه سرور؛ أخذ ذلك كشاجم فقال:
اتخذ الليل جمل ... ما حمل الليل حمل
آمن فيه زائراً ... يشغلني عن الشغل
آخر:
ولم أر مثل الليل جنة فاتك ... إذا هم أمضى أو غنيمة ناسك
بشار:
قد نام واش وغاب ذو حسد ... فاشرب هنيئاً خلا لك الجو
يروى لمحمد بن بشير ويقال: كتب معاوية إلى ابنه يزيد بهذه الأبيات:
شمر نهاراً في طلاب العلا ... واصبر على هجر الحبيب القريب
حتى إذا الليل أتى مقبلاً ... واكتحلت بالغمض عين الرقيب
فقابل الليل بما تشتهي ... فإنما الليل نهار الأريب
كم فاسق تحسبه ناسكاً ... يستقبل الليل بأمر عجيب
ويروى أن يحيى بن خالد كتب إلى الفضل ابنه وهو بخراسان، وقد بلغه اشتغاله باللهو: أما بعد فقد بلغني عنك ما كنت جديراً بغيره، وقد يهفو الحكيم ويزل الحليم ثم يرجع إلى ما هو به أولى، حتى كأن أهل دهره لم يعرفوه إلا به، وقد كتبت إليك بأبيات إن أنت خالفتها هجرتك وعزلتك، وكتب إليه بالأبيات المتقدمة، فلما قرأها آلى على نفسه أن لا يشرب النبيذ بخراسان.

الحث على مبادرة الصباح في تناول الراح:
جحظة:
قد بدا لي الصبح يا مو ... لاي يحدو بالظلام
فانتبه نقض لبانا ... ت اعتناق والتزام
قبل أن تفضحنا عو ... رة أنفاس النيام
أبو نواس:
بادر صباحك بالصبوح ولا تكن ... كمسوفين غدوا عليك شحاحا
وخدين لذات معلل صاحب ... يقتات منه فكاهة ومزاحا
نبهته والليل ملتبس به ... وأزحت منه نعاسه فانزاحا
قال: ابغني المصباح، قلت له: اتئد ... حسبي وحسبك ضوؤها مصباحا
إيثار الشرب بالنهار والصبوح:
العطوي:
إن شرب النبيذ سير إلى اللهو ... وخير المسير صدر النهار
آخر:
ومن العجائب أن يكون نبيذه ... كدم الذبيح وأمره متظاهر
فتراه ينتظر العشي بشربه ... واليوم منهمل السحائب ماطر
كشاجم:
وأحب أوقات النعيم إلي في وقت السحر
أوقات الشرب في الأسبوع:
كان الوليد يشرب يوماً ويدع يوماً، وسليمان يشرب في كل ليلة، وهشام يسكر في كل جمعة، ويزيد بن الوليد يدمن الشرب فكان دهره بين سكر وخمار. وكان المنصور يشرب عشية الثلاثاوات، وكان المأمون يشرب الثلاثاء، والمعتصم لا يشرب الخميس ولا الجمعة.
قصد الحانات:
من عادتهم التبجح بقصد الحانات وابتياع الخمر؛ ولذلك قال طرفة:
متى تبغني في حلقة القوم تلقني ... وإن تلتمسني في الحوانيت تصطد
وبكر أبو الهندي على الخمار فاصطبح وسكر ونام، ودخل على خمار فتيان فرأوه فسألوا عنه الخمار فأخبرهم بمكانه، فقالوا: ألحقنا به فسقاهم حتى ناموا، فلما استيقظ أبو الهندي رآهم فسأله عنهم فأخبره بهم، فقال: ألحقني بهم فأقاموا على ذلك عشرة أيام، فقال أبو الهندي يصف ذلك:
ندامى بعد عاشرة تلاقوا ... تضمهم بكوذبان راح
رأوني في الشروق على وساد ... يفيض بمهجتي ورد وراح
فقالوا: أيها الخمار من ذا؟ ... فقال: أخ تخونه صلاح!
فقالوا: قم فألحقنا وعجل ... به، إنا لمصرعه نراح
وحان تنبهي فسألت عنهم ... فقال: أتاحهم قدر متاح
فقلت له: فسرحني إليهم ... حثيثاً والسراج هو النجاح
فما إن زال ذاك الدأب منا ... إلى عشر نفيق ونستباح
وله:
وصاحب حانوت عشوت لناره ... وقد مالت الجوزاء نحو المغارب
فقال: ألا عجل لنا النقد إننا ... أناس أخذنا بالكرا والضرائب
نثرت له عشرين بيضاً كأنها ... على كفه الميزان زهر الكواكب

فصب لنا حمراء ينزو حبابها ... إذا شعشعت بالدن نزو الجنادب
وقال ابن المعتز، وهي أبيات مستحسنة ولذلك ذكرت جملتها:
وفتيان صدق قد بعثت بسحرة ... إلى بيت خمار فحطوا به رحلا
وقام إلى مخزونة بابلية ... كست دنها أيدي عناكبها غزلا
مسندة قامت ثلاثين حجة ... كواضعة رجلاً وقد رفعت رجلا
وأخرج بالميزان منها سبيكة ... كما فتل الصواغ خلخاله فتلا
إذا قرعت بالماء خلت بكأسها ... مدب دباً تعلو أكارعه رملا
فلما رأوها في الزجاجة سبحوا ... وكبر إجلالاً لها العلج أو صلى
وظل ينانجي شح نفس وجودها ... فطوراً بها صعباً وطوراً بها سهلا
فما زال حتى زال بالمال حكمه ... ولم ندخر عنها السماحة والبذلا
وجاؤوا بها كالشمس يأكل نورها ... زجاجتها في كف شاربها أكلا
عروس جعلنا مهرها بعض ديننا ... فما رضيت حتى وهبنا لها الكلا
وله:
لا علم لي أين يثوي الخضر من بلد ... لكن إبليس في قطربل ثاوي
بحيث لا لوم في سكر ولا طرب ... ولا يقصر في أفعاله غاوي

مما جاء في وصف آلات الشرب والمجالس
الأباريق المقدمة والطوال الأعناق: أبو الهندي:
مقدمة قزا كأن رقابها ... رقاب بنات الماء أفزعها الرعد
وقد زاد على قول علقمة:
كأن إبريقهم ظبي على شرف ... مقدم لبس الكتان ملثوم
آخر:
كأن أباريق الشمول عشية ... أوز بأعلى الطف عوج الحناجر
إبن المعتز في إبريق في فمه قطرة:
كأن إبريقنا والراح في فمه ... طير تناول ياقوتاً بمنقار
قرقرة الإبريق:
إبن المعتز:
وكان إبريق المدامة بيننا ... ظبي على شرف أناف مد لها
لما أستحثتها السقاة حنا لها ... فبكى على قدح النديم وقهقها
الزاهي:
كأن إبريقها فينا مطوقة ... مدت جناحاً وقد غنت بتغريد
أبو نواس:
كان قهقهة الإبريق إذا سكبت ... رجع المزامير أو تغريد فأفاء
آخر:
والكون يضحك كالغزال مسبحاً ... عند الركوع بلفظة الفأفاء
إبن أبي البغل:
نادمت إبريقها فتمتم لي ... في ليلة طرمساء ظلماء
حتى إذا عاد في فصاحته ... صار لساني لسان فأفاء
علي بن عاصم الأصفهاني:
متى بكى الإبريق في كفه ... أغربت الأرطال في الضحك
إبريق مبذول العروة:
البسامي في وصفه:
إبريق صفر كأنه قبس ... يشبه لوني بفرط صفرته
يمناه ممدودة لمسألة ... منه، ويسراه فوق هامته
ولبعض المحدثين، ويعرف بالمخزومي البصري، في صفة إبريق فضة وقد أستطرد إليه من مدح:
لقد ظلم الفضة المقتناة ... يدلك فيها سريع حثيث
فأقبل إبريقها يشتكيه ... مستعدياً لك فيما تعيث
فإحدى يديه على رأسه ... وأخرى ممددة تستغيث
آخر:
كأنه مسترفد مد يداً ... وألصق الأخرى بأعلى رأسه
كؤوس مصورة:
أبو نواس:
تدار ع(لينا الراح في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس
قراراتها كسرى وفي جنباتها ... مهاً تدريها بالقسي الفوارس
فللخمر ما زرت عليه جيوبها ... وللماء ما حازت عليه القلانس
السري الرفاء:
وموسومة كأساتها بفوارس ... من الفرس تطفو في المدام وتغرق
أقبل منه كل شاك سلاحه ... وفي يده سهم إلي مفوق
كأس وخمر:
أبو تمام:
نار ونور قيدا بوعاء
إبن أسباط:
وكأس من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نهار
هواء ولكنه جامد ... وماء ولكنه غير جار
إبن المعتز:
كأن الكأس في يده عروس ... لها من لؤلؤ رطب وشاح
الصنوبري:
عقار إذا رديت بالزجاج ... تردى الزجاج رداء البهاء

فيأتي لوعاء لها حاملاً ... وتحسب حاملة للوعاء
ونحوهما قول الصاحب:
رق الزجاج وراقت الخمر

البيتين وقد تقدما:
الأخطل:
اناخوا فجروا شاصيات كأنها ... رجال من السودان لم يتسربلوا
بشار:
وكأن الزق زنجي سرق
أبو الهندي يصفه:
حبشي قطعت منه الركب
الأعشى:
حبشي كب عمداً فانبطح
والأول أحسن.
معصرة:
ببغاء يصفها:
ومعصرة أنخت بها ... وقرن الشمس لم يغب
فخلت قرارها بالرا ... ح بعض معادن الذهب
وقد ذرفت لفقد الكر ... م فيها أعين العنب
الراووق:
كشاجم:
كأنما الراووق وانتصابه ... خرطوم فيل قلعت أنيابه
الدن:
إبن المعتز:
ودنان كمثل صف الرجال ... قد أقيموا ليرقصوا دستبندا
آخر:
قهوة بنت دنان ... عتقت خمسين عاما
خلتها في البيت جنداً ... صففوا حولي قياما
السري في دنان خاليات:
وشعث دنان خاليات كأنها ... صدور رجال فارقتها قلوبها
كيزان الفقاع:
الخوارزمي:
وضيقة الفم دحداحة ... عليها قميص ندى أخضر
أبو طالب المأموني:
تثور إذا كشفوا رأسها ... وإن قبّلوا فمها تهدر
آخر:
وربّ فقّاعة رأيت بها ... ثدي كعاب مسود الحلمه
حللت زنارها فأظهر لي ... شهب بزاة تطير من أكمه
مما جاء في الغناء والمغنين والملاهي وآلاتها
الرخصة في الغناء:
قيل لأبي حنيفة وسفيان رحمهما الله: ما تقولان في الغناء؟ فقالا: ليس من الكبائر ولا من أسوأ الصغائر. وقيل للعتابي فقال: حلال من الفائق حرام من غير الحاذق. وسئل بعضهم فقال: هو من ارتياح الكرم وامتياح النعم، من قال هو مباح وإلا قال ليس فيه جناح، قد يعفو الله عما فوقه ويأخذ بما دونه. وقال ابن الراوندي: اختلفوا في جواز الغناء وأنا أخالف الفريقين فأقول: هو واجب. مر عمر رضي الله عنه بدار قوم فسمع ضجة فقال: ما هو؟ فقيل: عرس. فقال: وما يمنعهم أن يخرجوا غرابيلهم فإنها من أمارة العرس؟ وحضر الشعبي وليمة فقال: كأنكم في نائحة، أين الدف؟ وقال عبد الملك لعبد الله بن جعفر: من أين استجزتم معشر أهل المدينة الغناء الذي استقبحناه؟ فقال له ابن جعفر: أنت تأتي ما هو أقبح من هذا وأنت في غفلة عنه، يأتيك أعرابي جلف مهلب العجان منتن الإبطين، فيقذف عندك المحصنات ويشيب بربات الحجال ويقول فيهن الزور، ثم يشبهك مرة بحجر ومرة بشجر، ومرة بالأسد والسيل والبحر، فتصغي إليه وتخلع عليه. قال بعض الفقهاء بحضرة الرشيد لابن جامع: الغناء يفطر الصائم فقال: ما تقول في بيت عمر بن أبي ربيعة إذ أنشد:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر، أيفطر الصائم؟
قال: لا. قال: إنما هو إن أمد به صوتي وأحرك به رأسي.
فضل الغناء:
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: مدار الدنيا على أربع: البناء والنساء والطلاء والغناء. وقيل: اللذات أربع: أكل وشرب وسماع ونكاح، وكل يوصل إليه بتعب إلا الغناء. لا يكره الغناء إلا من عرضت له آفة في حاسته، كما لا يكره الطيب إلا من في شمه آفة. وحكى أهل الهند أن الزندبيل إذا أخذ امتنع من العلف، فيغنى له بالألحان الشجية حتى تطيب نفسه. من سمع الغناء فلم يرتح له كان عديم الحس أو سقيم النفس. وكان حكماء الهند يسمعون المريض الغناء، ويزعمون أنه يخفف العلة ويقوي الطبيعة. وبالأصوات الطيبة ينوم الطفل، وتحدى الإبل، وتجمع السمك في حظائرها، وتصطاد الظباء والأسود من مرابضها. وقيل: الغناء غذاء الأرواح كما أن الطعام غذاء الأشباح، وهو يصفي الفهم ويرقق الذهن ويلين العريكة، ويثني الأعطاف ويشجع الجبان ويسخي البخيل.
ذم الغناء:

قال يزيد بن الوليد لأهله: إياكم والغناء فإنه يسقط المروءة وينقص الحياء، ويبدي العورة ويزيد في الشهوة، وإنه لينوب عن الخمر ويصنع بالعقل ما يصنعه السكر، فإن كان ولا بد فجنبوه النساء فإنه داع إلى الزنا. سئل صالح بن عبد الجليل عن السماع فقال: ما وجدت قلبك يصلح له فافعله. مر مسلمة بن عبد الملك يوماً بقصر أخيه سليمان فسمع صوت مغن فغدا إلى سليمان وقال: يا أمير المؤمنين مررت أمس بالقصر الذي فيه حرمك فسمعت فيه غناء، أما علمت أن الفرس يصهل فتشال الحجر، والحمار ينهق فتستودق له الأتان، والثور يخور فتستخرم له البقر، والتيس ينب فيثغو له المعز، والكلب يعوي فتصرف له الكلبة، والمغني يغني فترتاح له النساء؟ فقال سليمان: قد وعظت وأحسنت والله عليّ راع وكفيل، لا يدخل داري مغن ذكر ولا أنثى! ونزل قوم بالكميت فأضافهم فتغنى رجل منهم وكان حسن الصوت فقال: حق على الرجل أن يحصن سمع امرأته كما يحصن فرجها.

كيفية جودة الغناء:
قيل لبعضهم: ما أجود الغناء؟ فقال: ما أطربك وألهاك أو أحزنك وأشجاك. وقال اسحق: قال لي المأمون ليلاً ما ألذ الغناء عندك؟ فقلت: ما وافق شهوة النفس. فقال: زد فيه وطرب له السامع خطأ كان أو صواباً.
مشاهير المغنين وواضعي الغناء:
ابن شريح ومعبد واسحق. وقيل: كل ما صنعه اسحق من الغناء سبعة وثمانون صوتاً. ومخارق وعلوية وزلزل وابن بانة، وإبراهيم بن المهدي كان من حذاق المغنين، ولذلك قال فيه دعبل لما ولي الخلافة.
إن كان إبراهيم مضطلعاً لها ... فلتصلحن من بعده لمخارق
ولتصلحن من بعد ذاك لزلزل ... ولتصلحن من بعده للمارق
منهم ابن محرز والغريض ومالك بن أبي السمح.
كراهية غناء بلا شرب وشرب بلا غناء:
قيل: غناء بلا شراب كنحلة بلا عطية، وهدية بلا نية، ورعد بلا مطر، وشجر بلا ثمر، وحداء بلا بعير، وروضة بلا غدير. قال الرشيد: النكس الذي يشرب على غير سماع.
أبو نواس:
وليس الشرب إلا بالملاهي ... وبالحركات من بمّ وزير
قال صاحب الموسيقا: السماع كالروح والخمر كالجسد، فباجتماعهما يتولد السرور. وقيل لأبي العطوف: هل ترى في الغناء؟ فقال: أما قبل الأكل ومع غير الشراب فلا.
الاقتراح على المغني:
قيل لمغن: غنّ لنا كذا ثم بعده كذا. فقال: يا ابن الفاعلة لا تقترح صوتاً إلا بولي عهد. قال الحسن بن علي العلوي: قلت لمغن غنني. قال: هذا أمر. قلت: أسألك. قال: هذا حاجة.
قلت: إن رأيت. قال: هذا إبرام. فقلت: فلا تغن. قال: هذا عربدة. كان هرمس إذا قعد للشرب يقول للموسيقى: أطلق النفس من رباطها، من هنا أخذ كشاجم قوله:
أطلق عقال الروح بالراح ... إني إليها جد مرتاح
قد كدّت الحكمة روحي ... فروحها بأوتار وأقداح
وكان مروان يقول: أطعمتنا طيباً أرواحنا حسناً. قال أبو العتاهية لمغن: صب في هذه الآذان ما تطعم به القلوب في الأبدان، فلو كان الكلام طعاماً كان كلامك إذا ما قال رجل لمغنية: غنيني. قالت: ليس معي عود. قال: فاضربي على حرك! قالت: قطعت أوتاره بالمخيط وحياتك. وقيل لآخر: غن بغير عود. فقال: أنا فارس لا أقاتل راجلاً. وقال آخر لمغن في دعوته: أنعم علينا بما لا يتعب ضرساً ولا يسقم نفساً.
استعادة الغناء:
حق الصوت الحسن أن يعاد أربع مرات: الأول بديهة، والثاني تفهم، والثالث للشرب، والرابع للشبع.
التزهزه للمغني:
قيل: أول صلة المغني أن يقال له أحسنت. وحضر جحظة مجلس بعض الكبار مراراً، وكان إذا تغنى يقول له أحسنت، ولم يكن يخوله شيئاً فقال فيه:
إن تغنيت قال أحسنت زدني ... وبأحسنت لا يباع الدقيق!
استطابة الغناء والمغنى:
سمع رجل غناء طيباً فقيل له: كيف تسمعه؟ فقال: وددت أن جميع أعضائي مسامع اسمعه بها؛ فأخذ ذلك الشاعر فقال:
غنّت فلم تبق فيّ جارحة ... إلا تمنّت بأنها أذن
عبد الرحمن المعروف بقس:
كأن حماماً راغبياً مؤدباً ... إذا نطقت في صوتها يتغشمر
آخر:
إذا هي غنت أبهت الناس حسنها ... وأطرق إجلالاً لها كل حاذق

وصف إبن شريح مغنياً فقال: كأنما خلق من كل قلب فيغني لكل ما أحب. وقيل لابن جامع: إنك حسن الإيقاع! فقال: برئت من الإسلام إن كنت ضرطت منذ ثلاثين سنة الإ بالإيقاع، فكيف أخرج منه في الغناء؟ وقال الواثق: غناء علوية مثل نقر الطست،يبقى في السمع بعد سكوته. قال إبراهيم الموصلي: عشقت جارية فهجرت اللذات من اجلها، فبينما أنا جالس إذ استؤذن علي لشيخ معه جارية فأذنت له،فدخل فإذا هي صاحبتي فجلس الشيخ وقال: أشرب. فدعوت بالنبيذ فشرب ثلاثة أقداح وقال لي: عن يا أبا إسحق فتعجبت من جرأته علي، وذلك أن الخليفة كان ينزهني عن ذلك، ثم غنيت فأخذ العود واندفع يغني:
سرى يخبط الظلماء والليل عاكف ... غزال بأوقات الزيارة عارف
فما راعني إلا سلام عليكم ... أأدخل؟ قلت: أدخل لما أنت واقف؟
فتزعزعت الحيطان وأغمي علي وعلى الحاضرين من الغلمان، فلما أفقت إذا بجارية جالسة والشيخ لم أره، فسألت البواب فقال: لم أره. وسألت الجارية فقالت: لا أدري إلا أنه جاءني على لسانك فلم أجسر على مخالفته، فعلمت أنه أبو مرة. وسمع إبراهيم الموصلي غناء مخارق وعلوية فقال: نعم الفسيلتان أنتما لإبليس في الأرض. وقيل: لم يكن في الإسلام أحسن صوتاً من مخارق، غنى يوماً في منتزه وقد سنحت ظباء فجاءت إعجاباً بغنائه. وتوسط دجلة يوماً وغنى فلم يبقى أحد إلا بكى، وكان أبوه جزاراً، فكان ينادي على اللحم في صغره فيفتن الناس بحسن صوته، وكان إذا تنفس يطرب من سمع تنفسه.

من يستطاب سماع الغناء منه:
سئل حكيم عن فرق ما بين غناء النساء والرجال فقال: ما خلقت الأغاني إلا للغواني. وقيل: نعيم الدنيا أن تسمع الغناء من فم تشتهي تقبيله. قال الجاحظ: كم بين أن تسمع الغناء من فم تشتهي أن تقبله وبين أن تسمعه من فم تشتهي أن تصرف بصرك عنه، وأيهما أملح أن يغنيك فحل ملتف اللحية وشيخ منخلع الأسنان متغضن الوجه، أو تغنيك جارية كطاقة نرجس أو آس؟ وأنشد:
من كف جارية كأن بنانها ... من فضة قد طرفت عنابا
وقيل: أطيب الغناء ما أشجاك وأبكاك وأطربك وألهاك. قال يحيى بن خالد لابن جامع: من أحسن الناس غناء؟ فقال من أطرب الخاشع وأفهم السامع. قال الموصلي: إذا تغنيت بالمديح ففخم أو بالنسيب فأخضع، أو بالمراثي فاحزن أو بالهجاء فشدد.
غناء يستطاب له الشراب:
سمع رجل غناء حسناً فقال: السكر على هذا شهادة.
كشاجم:
فلست آبى وإن سقوني ... على أغانيه نيل مصر
الخبزارزي:
ولو أن البحور خمر لدينا ... وتغنيت لارتشفت البحورا
غناء غير مفهوم المعنى:
أبو تمام في وصف جارية:
ومسمعة يحار السمع فيها ... طربت لحسنها بصدى غناها
ولم أفهم معانيها ولكن ... ورت كبدي ولم أجهل شجاها
فكنت كأنني أعمى معنّى ... بحب الغانيات وما رآها
إقتراح الفارسي:
بعض الأصفهانيين:
غنّنا يا غلامنا وأمهنا ... وتنكب غناءك العربيا
إننا معشر من العرب ... الغر كرام فغننا الفارسيا
واسقناها مدامةً نازعتها ... وبس دامين بكرةً وعشياً
مغن قبيح الغناء:
قال بعضهم: كأنه مكوك يتدحرج على درجة. وغنى مغنّ فقيل لبعض الندماء: كيف ترى؟ فقال:
ويحسّن الندمان في خلقه ... دجاجة يخنقها ثعلب
واقترح على مغن فامتنع فقال بعض الحاضرين: غن لهم صوتاً فإنهم يقترحون عليك حينئذ بالسكوت! قال:
كلما قلت: أقترح قا ... ل: اقتراحي أن تكفا
وقيل لهارون: فلان إذا غنى غمض عينيه فقال: أظنه يفعل ذلك استحياء لقبح غنائه. وقيل لآخر فقال: نائمة تندب في مأتم! وقيل لآخر فقال:
نحمد الله فإنا ... قد سمعنا ما كرهنا
وقيل لآخر فقال:
فأحسن بحالك أن لو خرست ... وأحسن بنا لو رزقنا الصمم
ابن الرومي:
وكأن جرذان المحلة كلها ... في حلقه يقرضن خبزاً يابسا
وله:
وإن سكوتها عندي لبشرى ... وإن غناءها عندي لمقعى
فقرطها بعقرب شهر زور ... إذا غنّت، وطوقها بأفعى
جحظة:

وانصرفنا لما تغنّت عطاشا ... والقناني كما دخلنا ملاء
قيل: غناني فلان فعناني.
ابن الحجاج:
وعوّادة من جواري القيان ... سرار البطون عليها نحل
إذا ما تغنت بثاني الثقيل ... طرحنا عليها خفيف الرمل
وقال جحظة وقد دعاه صديق له كان يعده بجارية حاذقة فائقة، فلما حضره أخرج جارية قبيحة فقال:
قد دعانا فأرانا ... خنفساه خلف عود
وتغنت من قيام ... كالمغني من قعود
وقال الجماز لأبي العيناء: كيف ترى غنائي؟ فقال: كما قال الله تعالى: إن أنكر الأصوات لصوت الحمير!

مغن موصوف بالشؤم والقبح:
كشاجم:
ومغنّ بارد النغمة مختلّ اليدين
ما رآه أحد في ... دار قوم مرتين
آخر:
إن سمعي في نعيم ... وعيوني في جحيم
أبو الفضل بن العميد:
إذا غنى لنا أمماً ... حشوت مسامعي صمما
وإن أبصرت طلعته ... كحلت نواظري بعمى
تأثير الغناء والصوت وإن لم يفهم:
قال اسحق الموصلي: أمر الصوت عجيب، منه ما يسر سروراً يرقص، ومنه ما يبكي، ومنه ما يكمد، ومنه ما يزيل العقل حتى يغشى على صاحبه، وليس يعتري ذلك من قبل المعاني لأنهم في كثير من الأحوال لا يفهمون. وقد بكى ماسرجويه من قراءة أبي رضي الله عنه فقيل له: كيف تبكي لكتاب لا تصدق به؟ فقال: أبكاني الشجا وقد تسكن النفوس إليه، وذلك موجود في أكثر البهائم، والدواب إذا غنى المكاري صرت آذانها.
اختلاف الأصوات:
قال الموصلي: سألني المعتصم عن معرفة النغم فقال بيّنها لي، فقلت: إن من الأشياء ما تحيط به المعرفة ولا تؤديه الصفة. وسألني عن شعرين متقاربين ففضلت أحدهما على الآخر فقال: من أين؟ فقلت: لو تفاوتا لأمكنني التبيين، ولكن تقاربا ففضل أحدهما على الآخر مما يشهد به الطبع ولا يعبر عنه اللسان.
مما جاء في آلات الملاهي
العود:
أتي عبد الملك بعود فقال للوليد بن مسعدة: ما هذا؟ فقال: خشبة تشقق ثم ترقق ثم يعلق عليها أوتار ثم تنطق فتضرب الكرام رؤوسها بالحيطان سروراً به، وامرأته طالق إن كان في المجلس أحد إلا وهو يعلم ما أعلمه، وأنت أولهم يا أمير المؤمنين! فضحك. وقالت الفرس: نغمات العود من صرير باب الجنة، ولهذا سموه بربط معناه باب النجاة.
كشاجم في أبيات له:
خلخاله في نحره ولسانه ... في أذنه وجبينه من أسفل
مزح يكف على الأكف ولفظه ... يعلوا بتأليف الثقيل الأول
فكأنما شخص القريض ممثل ... في العود أو سكنته روح الموصلي
رأى أعرابي عوداً فلما عاد إلى البادية نعته لأصحابه فقال: رأيت شيئاً محدودب الظهر أرسخ البطن أكلف الجلد، أجوف أسقف أحنف، جبينه في أسته وعيناه في صدره، وأمعاؤه من خارج بطنه، بها يتكلم ومنها يترجم، معروك الآذان ممشوق المعلق. كان أبو محصن الأعرابي عند أبي اسحق وعنده من يضرب بالعود والطنبور فقال: أيهما أحب إليك؟ قال: أبعدهما صوتاً وأكثرهما جلبة وأحسنهما حلية، وأشار إلى الطنبور بأن صوته كطنين ذبابة بروضة.
الزامر:
قال اسحق: الزمر رفو الغناء. وقيل: الزمر يستر من حسن الغناء كما يستر من قبحه. قال المتوكل لزنام الزامر: تأهب للخروج معي. فقال: الناي في كمي والريح في فمي فاعزم إذا شئت.
ابن المعتز يصف زامرة:
كأنما تلثم طفلاً لها ... أتت به من ولد الزنج
الناجم يذم زامرة:
ناي قتول قاتل ... بالنتن منه الرهج
يشبه عندي مخرجا ... مركبا في المخرج
وقال الصنوبري:
وكأنما المزمار في أشداقها ... غرمول عير في حياء أتان!
وترى أناملها على مزمارها ... كخنافس دبت على ثعبان
تخاصم رجلان عند ابن المدبر وحلف أحدهما بالطلاق أن صاحبه أحمق، ولا يبرح حتى يشهد القاضي بذلك، فذكر أن عنده زامرتين بلا مغنية فقال القاضي: أشهد أنه أحمق!
الرقاص:
المصعب الهندي:
عجبت من رجلين يتبعانه ... يعلوهما طوراً وتعلوانه
كأن أفعيين يلسعانه
وقيل لجارية رقاصة: أفي يدك عمل؟ قالت: لا إنما هو في رجلي!
وجوب الإستماع:

بعضهم:
إذا حضر الغناء فليس إلا ... سكوت واستماع للمغني
أحمد بن علوية:
حكم الغناء تسمع و ندام ... ما للحديث مع الغناء نظام
لو كان لي أمر قضيت قضية ... إن الحديث مع الغناء حرام

غناء يمزق له الثوب:
سئل إبراهيم الصوفي المارستاني عن تمزيق الثوب في السماع فقال: إن موسى عليه السلام قرأ على بني إسرائيل، فمزق واحد منهم قميصه، فقال الله تعالى لموسى: قل له مزق قلبك لا ثوبك. كان لبعض الظرفاء مغنيتان: محسنة إذا غنت خرق قميصه، ومسيئة إذا غنت قعد بخيطه. طرب بعض الكبار على غناء فشق قميصه وقال لنديمه: بحياتي شق قميصك. فقال: إذاً أبقى عرياناً! فقال: أنا أخلفه غداً قال: فأشقه غداً. قال أبو مالك الأعرج:
إذا غنت قديماً أو حديثاً ... فما للحبيب من كفيك واقي
أنواع مختلفة من الغناء:
اجتمع على شراب في بعض الحانات أعمى ومفلوج وأقطع، فقيل للأعمى: غن فغنى:
إني رأيت عشية النفر ... حوراً نفين عزيمة الصبر
فقيل: ويلك كيف رأيت وأنت أعمى؟ وقيل للمفلوج: غن. فقال:
إذا اشتد شوقي وهاج الألم ... عدوت على بابكم في الظلم
فقيل مفلوج يعدو! لا تكذب. وقيل للأقطع: هات غن. فقال:
شبكت كفي على رأسي وقلت له: ... يا راهب الدير، هل مرت بك الإبل؟
فقالوا: أنت أكذبنا وأجودنا غناء. غنى مغن صوتاً فقال له بعض الحاضرين: أين الصيحة؟ فقال: أخذتها لثالثك. كان أبو العينين يعشق جارية يقال لها مكنونة، فغنى صوتاً فقلت له: ألقه علي. قال: بما اشتريته. قالت: بكم؟ قال: برأس مالي، ناكني فلان وعلمنيه. فقالت: اجعل الصرف على الأست صوتاً آخر؟ وتقدم. ولام رجل آخر في مغنية فقال: والله لو غنتك لما أدركنا ذكاتك. وقال المأمون: الطبل لهو غليظ. وهذا على ما قال علوية القمي لابنه المخنث: قد تأذيت بصوت طبلك يا ابن الفاعلة! فقال: إن كنت تريد أن لا يكون لصناعتي صوت فسلمني لمن يرفو الثوب، فالغناء لا يكون بلا صوت!
مما جاء في آلات القمر
أسماء القداح:
تسمى القداح الأزلام والأقلام، وهي عشرة، سبعة منها ذات منها خطوط قد نظم أساميها الصاحب في قوله:
إن القداح أمرها عجيب: ... الفذ والتوأم والرقيب
والحلس ثم النافس المصيب ... والمصفح المشهر العجيب
ثم المعلى خطها الرغيب ... هاك فقد جاد بها الترتيب
والمصفح يسمى المسبل، والرقيب يقال له الضريب، والأغفال التي لا خطوط لها المنيح والفسيح والوغد. قال ابن قتيبة: والمنيح له موضعان أحدهما لا خط له، والثاني له خط. قال: وعلى ذلك قول عمرو بن قمئة:
بأيديهم مقرونة ومغالق ... يعود بأرزاق العيال منيحها
وقال عروة بن الورد في أسمائها:
أتت بالمعلى عند أول سورة ... وبالمسبل الثاني وبالحلس والتوم
وجاءت بفذ والضريب يليها ... وبالنافس المغلوب في الرأس والقدم
فراح بها غنم وتغرم ما جنت ... وقد يغرم المرء الكريم إذا اجترم
وأنت منيح باليدين متى تعد ... تعد صاغر الآمال نال ولا عزم
وقال تميم بن مقبل في صفة القدح:
خروج من العمى إذا صك صكة ... بدا والعيون المستكنة تلمح
مفدى مؤدى باليدين ملعن ... خليع لجام فائز متمنح
طفيل:
وأصفر مسهوم الفؤاد كأنه ... عداه الندى بالزعفران مطيب
والياسر الصائب بها، والبرم الذي لا يدخل معهم وفي صفته:
به علمان من عقب وضرس
ويسمى ذلك مقرونة وأما مثنى الأيادي قيل هو ما تفضل عنه. وقيل: هو أن تعود بعد خروج الفوز على الخط الأول، والربابة ما يجمع فيه القداح، وأفاض بالقداح ضرب بها، والرقيب من يحفظهم.
الممدوح بضرب القداح:
عنترة:
زيد يداه بالقداح إذا شنا ... هتاك غايات النجوم ملوم
آخر:
هينون لينون أيسار ذوو يسر ... سواس مكرمة أبناء أنباء
وقال متمم بن نويرة في مرثية أخيه:
ولا برماً تهدى النساء لعرسه ... إذا القشع من حسن النساء تقعقعا

يقال: فلان برم قرون إذا لم يدخل في الميسر، ثم يأكل تمرتين تمرتين.
المرقش:
إذا أيسروا لم يورث اليسر بينهم ... فواحش يبقى ذكرها بالمصائف

تحريم ضرب القداح:
قال الله تعالى: " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان " الآية " " وقال تعالى: " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس " . وقد أبيح القرعة وهي من جنس ذلك. قال تعالى: " وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم " . وكذلك يونس عليه السلام حين جنحت بهم السفينة وبمن معهم ساهم القوم أيهم يلقى في البحر: فكان من المدحضين أي من المقمورين.
وضع الشطرنج:
قيل: وضعها فيلسوف لملك رام أن يرى الحرب وتدبيرها في خفض ودعة، فلما وضعه له أعجب الملك به فقال له: اقترح ما شئت وسل كلما تمنيت. فقال: أولني لأول بيت من بيوته درهماً، ثم أضعف في الثاني فالثالث، إلى أن تنتهي إلى آخر البيوت. فاستقل الملك ذلك وقال: رأيتك حكيماً في وضعك ذلك واستحقرتك في مقترحك! فقال: إني يقنعني ما سألت أن وفيت لي. فقام رأس وزرائه وقال: أيها الملك أنه لا يفي ملكك ولا مالك بما سأل. فقال: كيف؟ فعملوا به حسباناً فإذا هو عشرة آلاف ألف ألف ألف ألف ألف ألف، وأربعمائة ألف وستة وأربعون ألف ألف ألف ألف ألف، وسبعمائة ألف ألف ألف وستة آلاف ألف، وخمسمائة ألف وخمسون ألفاً وستمائة وستة عشر ألفاً. فقال الملك: لا أدري أيما أعجب الشطرنج أم الأمنية!
الرخصة في الشطرنج:
مر أمير المؤمنين رضي الله عنه بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ ولم يأمرهم أن يرفضوه. قيل: إنما قال لهم ذلك لأنها كانت على صورة الأفراس والفيلة. وسأل الرشيد معن بن عيسى عنه فقال: ما فقدناه من مجالس قريش التي كنا نهاب أن نمر بها. وكان الشعبي يلعب مستدير الحذقة. وسئل عنه الحسن رضي الله عنه فقال: لا بأس به ما لم يكن قماراً، فإنه احتيال. وسئل أبو العباس بن شريح عنه فقال: إذا سلمت أيديهما من الطغيان ولسانهما من العدوان وصلواتهما من النسيان، فهو مباح بين الأخوان غير محرم على الخلان.
كراهية الشطرنج وذمه:
قال أمير المؤمنين رضي الله عنه فيه: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ فسمّاها تماثيل. ومر عبد الرحمن بن عوف رضي الله بقوم يلعبون فقال: قد وضعت الحرب أوزارها ثم خلطه. وروي عن محمد بن الحنيفة رضي الله عنه أنه كره اللعب. وكان المأمون يستهزئ بالشطرنج مع جودة لعبه به ويقول: لا يفوق المرء فيه إلا باستفراغ الذهن كله له، ولا يبلغ قدر ذلك. وكان الفضل بن يحيى يجيد اللعب به وكان يذمه ويقول: لا يقمر اللاعب به إلا بكد الجوارح ولا يبلغ قدره ذلك.
المتنبي:
وغير فؤادي للغواني رمية ... وغير بناني للرخاخ ركاب
شاعر:
لعب الشطرنج شؤم ... فاجتنبها يا مشوم
إنما عدت لقوم ... شأنهم شأن عظيم
ملك يجبى إليه ... أو وزير أو نديم
هبك فيها ألعب النا ... س فماذا يا حكيم؟
وكان أهل المدينة إذا خطب إليهم من يلعب الشطرنج لم يزوجوه، ويزعمون أنه إحدى الضرتين. وقيل: إنما وضع للعجم الذين لا علم لهم: فإذا اجتمعوا تلاحظوا تلاحظ البقر فجعلوا لعبهم به مشغلة.
وصف الشطرنج:
شاعر:
أرض مربعة حمراء من أدم ... ما بين خلين موصوفين بالكرم
تذكرا الحرب فاختار لها شبهاً ... من غير أن عفيا فيها بسفك دم
أنظر إلى فطن جاشت بكرهما ... في عسكرين بلا طبل ولا علم
هذا يغير على هذا فيغلبه ... وذا يغير وعين الحزم لم تنم
السري الرفاء:
وكتيبتا زنج وروم أذكيا ... حرباً يظل بها الذكاء مناضلا
في معرك قسم الزمان بقاعه ... بين الكماة المعلمين منازلا
لم يسفحا فيه دماً وكأنما ... رشح الدماء أعالياً وأسافلا
وكأن ذا صاح يسير مقوماً ... وكأن ذا نشوان يخطر مائلا
أعجب بها حرباً تثير إذا إلتظت ... فضل الرجال ولا تثير قساطلا
الماهر بالشطرنج والرديء اللعب:

ليس لإجادة اللعب بالشطرنج نهاية ولا غاية، ومن معجزاته أنه لا يكاد يتفق فيه دستان، ومن مجيديهم الصولي.
ولبعضهم:
ولربما مهر السخيف بها ... وتراه يمضغ لفظه حمقا
مر بعضهم بقوم يلعبون بالشطرنج وكان وسخاً فقال: ما أوسخ شطرنجهم! فقال بعضهم: اللعب أوسخ.

النوادر في الشطرنج:
قيل: النوادر في الشطرنج عدة للاعب كالحداء للأغب. وقال شاعر:
نوادر الشطرنج في وقتها ... أحر من ملتهب الجمر
كم من ضعيف اللعب كانت له ... عوناً على مستحسن القمر
وروي أن أبا مسلم كان يلعب بالشطرنج فوقع له شاه مات فتمثل بقول الشاعر:
ذروني ذروني ما كففت فإنني ... إذا ما تهيجوني تميد بكم أرضي
وأنهض في رد الحديث إليكم ... كتائب سوداً طالما انتظرت نهضي
كان المأمون عند قدومه من خراسان إشتهى الشطرنج، فاستحضر كبار أهله زيرب وجابر الكوفي وعبد القادر الأنصاري، وكانوا يتوقرون بين يديه، فقال: إن الشطرنج لا يطيب مع الهيبة، قولوا ما تقولون إذا خلوتم.
النرد:
قال بعض الحكماء: شبهت رقعة النرد بالأرض الممهدة لساكنها، ومنازل الرقعة وهي أربعة وعشرون بساعات النهار والليل، وبيادقها وهي ثلاثون بعدد أيام الشهر، واختلاف ألوانها باختلاف بياض النهار وسواد الليل، ثم أقيمت المنازل على أربع مراتب كعدد الطبائع الأربع: الأرض والماء والهواء والنار، والفصول الأربعة: الشتاء والصيف والربيع والخريف، وجوانب الفص وهي ستة بالجهات الست: فوق وأسفل ويمين ويسار وأمام وخلف، والفصان المحيطان بالجوانب الإثني عشر كشهور السنة، والشهور محيطة بالأيام إحاطة ما يخرج بالفصين، والبيادق الثلاثين أو الأيام محيطة بالساعات إحاطة البيادق بالمنازل الأربعة وعشرين، ثم جعل نكت الفصين كلها إثنين وأربعين، ولست تجد شيئاً من عدد جوانب الفص إلا إذا ضممت إليه عد مقابله وجدته سبعة، وهو عدد الأيام السبعة، وشبه النكت السبعة التي يكون بعضها فوق الأرض وبعضها تحتها في كل حال وتقلبها بأفعال العباد، وما يخرج بالقضاء الجاري عليهم، وشبه فعل اللاعب في إتباعه لما يخرج بفعل العباد في إتباع القضاء، وشبه إخراج اللاعبين بالمعاد، وفلج المقامر بما حصل للمجتهد من الثواب، وكذا ما يلحق المقصر بتقصيره من الحسرة. وكان رؤبة في قوم يلعبون بالنرد فأتي بالخوان فقال:
يا إخوتي جاء الخوان فارفعوا ... حتانة كعابها تقعقع
لم أدر ما ثلاثها وأربع
سأل الزبيري أبا بكر بن فريعة في مجلس المهلبي عن النرد فقال: ما أدري غير أني أرى لبداً مخططاً وخشباً مخرطاً، وعظماً منقطاً وأيدياً تضرب ميطاً، وكل يطلب بصاحبه شططاً.
فضل الشطرنج على النرد:
قال بعض المتكلمين: الشطرنج معتزلي والنرد مجبر. وذلك أن اللاعب بالشطرنج موكول إلى اختياره ومتروك مع إيثاره، واللاعب بالنرد مجبر على ما يخرج به الفصان. وقيل لرجل: كيف معرفة فلان بالشطرنج؟ فقال: ما أحسن ما يلعب. قيل: فكيف يلعب بالنرد؟ فقال: ما أحسن ما يخرج له الفصان. فلم ينسب الفعل في النرد إليه كما نسبه إليه في الشطرنج.
الملاعبة بهما على القمر:
قال يزيد بن أبي خالد: دخلت على ابن أبي أوفى وهو يلاعب امرأته بالفصين.وقال إسحاق قال لي محمد الأمين: كيف لعبك بالشطرنج؟ فقلت: فوق المنصفين ودون البالغين، ليس من اللعاب أحد يلقي لي فرزاناً لا أنتصف منه.فقال: لاعبني. فلاعبته بخلعة فقمرني فقمت أخلع ثوبي فال: ما تصنع؟ فقلت: أنزعه لتلبس. فقال: ألبس خلعة مملوءة قملاً؛ فقلت: دعني من ذا، تلبس أو تفادي؟ فقال: بماذا ؟ قلت: بثيابك. فقال: ما رأيت قامراً مقموراً فنزع ثوبه وأولانيه، وكان أبو أيوب يلاعب مدنياً بالشطرنج فتأخر عنه المدني يوماً فاستدعاه فكتب إليه المدني:
لا تدعوني لشطرنج فيشغلني ... دعني فإني عن الشطرنج مشغول
أنت امرؤ تدمن الشطرنج من سمن ... وإنني يا أبا أيوب مهزول
فبعث إليه بعشرة آلاف درهم.
//بسم الله الرحمن الرحيم
الحد الثاني عشر
؟
في الإخوانيات
حدود الاخوة

سئل بعضهم عن الاخوة فقال: هي الموافقة في التشاكل. وقال إبراهيم الموصلي: قلت لأسباط الشيباني صف لي الاخوة وأوجز. فقال: أغصان تغرس في القلوب فتثمر على قدر العقول. قيل لبعض الحكماء: ما الأصدقاء؟قال: نفس واحدة في أجساد متفرقة.

الترغيب في اقتناء الاخوة:
قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: عليكم باقتناء الإخوان، فهم عدة في الدين والدنيا، ألا ترى إلى قول الله تعالى حكاية عن أهل النار في النار: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم. قيل: أغبط الناس من لا يزال رحله من صالح الإخوان موطأ. وقيل: المرء كثير بأخيه. وقيل: لأبقراط: ما أفضل ما يقتني الإنسان؟فقال: الصديق المخلص.
عمرو بن إبراهيم:
إن السرور إذا بلغت بوصفه كنه النهايه ... خلٌ تؤانسه ودودٌ والرجوع إلى الكفايه
شاعر:
أخاك أخاك، إن من لا أخا له ... كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح
وقد أحسن الذي قال: إن الأخ الصالح خير لك من نفسك، لأن النفس أمارة بالسوء والأخ لا يأمرك إلا بالخير.
الحث على الإكثار منهم:
محمود الوراق:
تكثر من الإخوان ما استطعت إنهم ... عمادٌ إذا استنجدتهم وظهور
فما بكثيرٍ ألف خلٍ وصاحبٍ ... وإن عدواً واحداً لكثير
تفضيل الصديق على النسيب:
قيل لعبد الله ابن المقفع: أصديقك أحب إليك أم نسيبك؟فقال: إنما أحب النسيب إذا كان صديقاً. وقال: الأخ نسيب الجسم والصديق نسيب الروح.
أبو فراس:
نسيبك من ناسبت بالود قلبه ... وجارك من صافيته لا المصاقب
آخر:
أخو ثقةٍ يسر بحسن حالٍ ... وإن لم تدنه مني قرابه
أحب إلي من ألفي قريبٍ ... تبيت صدورهم لي مسترابه
بعضهم: الصديق الموافق خير من الشقيق المنافق.
بشار:
يخونك ذو القربى مراراً وربما ... وفى لك عند الجهل من لا تقاربه
وفي المثل: رب أخٍ لك لم تلده أمك.
؟؟
إجراء الصديق مجرى الشقيق:
أبو تمام:
وإذا رأيت صديقه وشقيقه ... لم تدر أيهما ذوو الأرحام
رجل من خثعم:
ذو الود مني وذو القربى بمنزلةٍ ... واخوتي أسوةٌ عندي واخواني
مدح مصاحبة الأخيار وتجنب الأشرار:
قيل: صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشر، كالريح إذا مرت على النتن حملت نتناً، وإذا مرت على الطيب حملت طيباً. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: مثل الجليس الصالح كمثل الدادي إن لا يجدك من عطره يعلقك من ريحه، ومثل الجليس السوء كمثل التبن إن لم يحرقك بشرره يؤذك بدخانه.
الحث على مصاحبة من ينتفع به:
قيل: لا تصاحب إلا رجلاً ترجو نواله أو تخاف يده، أو تستفيد من علمه أو ترجو بركة دعائه. وقال أبو جعفر بن محمد: عليك بصحبة من إن صاحبته زانك، وإن خدمته صانك، وإن نزلت حاجة ما بك أعانك، وإن سألته أعطاك، وإن تركته بداك، إن رأى حسنة أظهرها أو سيئة سترها. وقال بعض: من سمع ذلك لابن عيينة: ما أراه إلا أمره أن لا يصحب أحداً. فقال: بلى إنه أدرك الناس وهذه الأخلاق فيهم، فأوصى بقدر ما عرف.
؟كون الإنسان مصاحباً شكله:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: المرء على دين خليله فلينظر امرؤ من يخالل. وقال إياس: قدمنا بلادكم فعرفنا خياركم من شراركم في يومين. قيل له : كيف؟قال: كان معنا خياراً وشراراً، فلحق خيارنا بخياركم، وشرارنا بشراركم، فألف كلٌ شكله.
شاعر:
وكل امرئٍ يصبو إلى من يجانس
آخر:
فإنما الناس أشكالٌ وأُلاف
أغلب المحبة من كان عن تشاكل، بالمشاكلة دوام المواصلة.
ولا يصحب الإنسان إلا نظيره ... وإن لم يكونا من قبيل ولا بلد
ومما يؤكد ذلك:
وإن البزاة البيض لا تألف القطا
آخر:
لكل امرىءٍ شكلٌ من الناس مثله ... وأكثرهم شكلاً أقلهم عقلاً
وقيل: الشد بالقد أهون من مصاحبة الضد.
اعتبار المرىء بإخوانه وأن من يصاحب صاحباً ينتسب إليه: قال شاعر:
ومن يصاحب صاحباً ... ينتسب إلى مستصحبه
وربما عرَّ صحيحاً جرب بجربه
وأخذ جماعة من اللصوص فقال أحدهم : أنا كنت مغنياً لهم، وقيل له: غنِّ. فغنى:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرينٍ بالمقارن يقتدي
فقيل له: صدقت ؟؟؟!وأمر بقتله.
شاعر:
يقاس المرء بالمرء ... إذا ما هو ماشاه
وللناس على الناس ... مقاييس وأشباه
؟وقيل: انظر من تجالس فقل حصاة طرحت مع حصاة؛ألا أشبهتها.
مسكويه:
يقولون لي: إن الرئيس محمداً ... يؤول إلى رأي كريم المناسب
فقلت: دعوني قد عرفت اختباره ... بطلعة منصور وخط ابن كاتب

الحث على مصاحبة العقلاء:
قيل: جالس العقلاء أعداء كانوا أم أصدقاء، فالعقل يقع على العقل. وقيل: العاقل بخشونة العيش مع العقلاء أشبه منه بلين العيش مع الجهلاء. وقيل: آخ الكريم واسترسل إليه، وعليك أن تصحب العاقل وإن لم يكن كريماً لتنتفع بعقله، واهرب كل الهرب من اللئيم الأحمق. وقيل: من صبر مع الأحمق فهو مثله. وقد مضى في فضل باب مثل هذا.
صنوف الإخوان:
قال لقمان: الإخوان ثلاثة مخالب ومحاسب ومراغب، فالمخالب الذي ينال من معروفك ولا يكافئك، والمحاسب الذي ينيلك بقدر ما يصيب منك، والمراغب الذي يرغب في مواصلتك بغير طمع. وقال المأمون: الإخوان ثلاثة أخ كالغذاء لا يحتاج إليه كل وقت، وأخ كالدواء يحتاج إليه أحياناً وأخ كالداء لا يحتاج إليه أبداً.
اختبار الصديق عند الغضب:
قيل: إذا أردت مصافاة رجل فأغضبه، فإن ملك نفسه فصاحبه، وإلا فلا تصاحبه.
شاعر:
لا تحمدن امرءاً يرضيك ظاهره ... واخبر مودته في العتب والغضب
وقيل: كان بين حاتم طيء وبين أوس بن حارثة ألطف ما كان بين اثنين، فقال النعمان لجلسائه: لأفسدن ما بينهما، فدخل على أوس فقال: إن حاتماً يزعم أنه أفضل منك. فقال: أبيت اللعن صدق، ولو كنت أنا وأهلي وولدي لحاتم لوهبنا في يوم واحد؟!وخرج فدخل على حاتم فقال له مثل ذلك فقال: صدق!وأين أقع من أوس وله عشرة ذكور أدونهم أفضل مني؟فقال النعمان: ما رأيت أفضل منكما.
اعتبار من تريد مصادقته بصديقه قبلك:
قيل: إذا أردت أن تعرف كيف يكون لك فانظر كيف كان لمن قبلك، فإن أحمدته فاستخصه لك، وإن ذممته فتنكبه.
الاعتبار بالعين والاعتماد على ما في القلب:
قيل: اعتبر ما في قلب أخيك بعينه فالعين عنوان القلب. وقيل: شاهد الحب والبغض اللحظ فاستنطق العيون تعلم المكنون.
شاعر:
تقلب أحوال الفتى في أموره ... تبين عما تقتضيه ضمائره
وفي لحظ عينيه وفي حركاته ... دليلٌ على ما تحتويه سرائره
اسحق:
ستور الضمائر مهتوكةٌ ... إذا ما تلاحظت الأعين
وقال ابن بسام:
ألا إن عين المرء عنوان قلبه ... تخبر عن أسراره شاء أم أبى
كشاجم:
ويأبى الذي في القلب ألا تبينا ... وكل إناءٍ بالذي فيه يرشح
متابعة الصديق في رشده دون غيه:
استشهد ابن الفرات أيام وزارته علي بن عيسى بغير حق فلم ينصره، فلما رجع كتب إليه: لا تلمني على نكوصي في نصرتك بشهادة زور، فإنه لا بقاء لاتفاق على نفاق، ولا وفاء لذي مين واختلاق، وأحرى بمن تعدى الحق في مسرتك إذا رضي أن يتحرى الباطل في مساءتك إذا غضب. وقد تقدم هذا الخبر.
شاعر:
ألم تعلمي أني إذا الإلف قادني ... إلى الجور لا أنقاد والإلف جائر
ودعا أعرابي فقال: اللهم إني أعوذ بك ممن لا يلتمس خالص مودتي إلا بالتأني لمواقع شهوتي.
متابعته في غيه ورشده: عروة:
وخلٍّ كنت عين الرشد منه ... إذا نظرت ومستمعاً سميعا
أطاف بغيةٍ فنهيت عنها ... وقلت له: أرى أمراً فظيعا؟؟!
أردت رشاده جهدي فلما ... أبى وعصى عصيناه جميعا
بشار:
وما كنت إلا كالزمان فإن صحا ... صحوت، وإن ماق الزمان أموق
أحمد بن صالح:
أنا كالمرآة ألقى كل وجهٍ بمثاله
وقال رجل لصديقه: ما رأيك في كذا؟فقال: أنا من غزية؛يريد إني تابع لك، إشارة إلى قول دريد:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
الحث على نصرة الصديق على جميع الأحوال:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. وقيل حافظ على الصديق ولو على الحريق. وقيل: أفضل الكرم أن يكون الرجل عند النائبة أكرم وفاء وأمحض صفاء، ولتكن معاونتك أخاك بمهجتك عند البلاء أكثر منها عند الرخاء.

مماراة الصديق والحث على تركها:
قيل: مع الاختلاف طمع في الائتلاف، ورب مخالفة دعت إلى محالفة، ومعاسرة تحمل على المعاشرة. وقيل: بإحياء الملاطفة تستمال القلوب العارفة. وقيل: استدم مودة أخيك بترك الخلاف عليه، ما لم تكن عليك منقصة أو غضاضة. وقال يموت بن مزروع: سمعت أبي يقول قرأت خمسين ألف بيت وما وقع لي مثل قوله:
وما أنا بالشيء ليس نافعي ... ويغضب منه صاحبي بقؤول
الأمر بالإغضاء على عيب الصديق:
قيل: إن جعفر الصادق كان يقول لا تفتش على عيب الصديق، فتبقى بلا صديق. وأحسن ما قيل في هذا المعنى قول بشار:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحداً أو صل صديقك إنه ... مقارف أمرٍ مرةً ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه
آخر:
ومن لا يغمض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتتبع جاهداً كل عثرةٍ ... يجدها، ولا يسلم له الدهر صاحب
وقيل: لا يجد رفيقاً من لم يزدرد ريقاً. وقيل: من عاتب في كل وقت أخاه فجدير أن يمله ويقلاه وعلى عكس ذلك قال الشافعي رحمه الله: ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته.
محافظة من يوفي بمحاسنه على مقابحه:
قال لقمان: إذا أردت مصاحبة رجل فانظر، فإن كانت محاسنه أكثر فارتبطه، وقال ابن المقفع: في الناس طبائع أربعاً فارتبط من رجحت محاسنه. وقيل لبزرجمهر: هل من صديق لا عيب فيه؟فقال: الذي لا عيب فيه يجب أن لا يموت.
شاعر:
وحيث اختبرت الناس حق اختبارهم ... رجعت إلى وصلي وأنت ذميم
ونحوه:
وترجعني إليك وإن نأت بي ... ديارٌ عنك تجربة الرجال
الإغضاء على إساءة الصديق المحسن:
قال ابن المقفع وقد بلغه عن رجل شيء يكرهه: ينبغي للرجل أن يكذب سوء الظن بصديقه، ليكون ذا ود صحيح وقلب مستريح.
منصور التيمي:
إذا ما الصديق أساء مرةً ... وقد كان من قبلها مجملا
حفظت المقدم من فعله ... ولك يفسد الآخر الأولا
وقيل: احتمل لأخيك ثلاثة: الغضب والدالة والهفوة. وقيل: من صحت مودته احتملت جفوته.
حمد المعاتبة بين الإخوان وذمها:
قيل: ترك المعاتبة دليل على قلة الاكتراث بالصديق. المعاتبة تزيل الموجدة. أفضل المحبة ما كان بعد المعتبة.
شاعر:
ويبقى الود ما بقي العتاب
العتاب حدائق الأحباب. وقال ابن المعتز:
نعاتبكم يا أم عمروٍ لحبكم ... ألا إنما المقلي من لا يعاتب
ولآخر:
علامة كل اثنين بينهما هوى ... عتابهما في كل حقٍ وباطل
وقيل: العتاب ضربان: عتاب يحيي المودة وهو ما كان في نفس الود، وعتاب يميتها وهو ما كان في ذنب وموجدة. التقى أعرابيان فتعاتبا وإلى جنبيهما شيخ فقال: أنعما عيشاً إن العتاب يبعث التجني، والتجني ذرء المخاصمة، والمخاصمة أخت العداوة، فانتبها عما ثمرته العداوة.
؟؟وقال العباس: إن بعض العتاب يدعو إلى البغض ويؤذي به المحب الحبيبا وقيل: التجني وافد القطيعة.
شاعر:
ودع العتاب فربّ أ ... مرٍ هاج أوله العتاب
ولآخر: وبدء الصرم من ملل العتاب وقيل: العتاب بدء العقاب.
النهي عن تضييع حقوق الإخوان:
قيل: أقل الناس عقلاً من فرط في اكتساب الإخوان، وأقل منه عقلاً من ظفر بأخي صدقٍ فضيعه. وقال عمرو: إذا رزقك الله وداً من رجل فتمسك به. وقيل: لا يقطع الرجل أخاه إلا لواحدٍ من اثنين لا خير فيهما: لملاله أو لسوء اختياره للصداقة.
الحث على المصافاة وترك المداجاة:
قال سفيان لرجل: لا تكونن صديق عين وعدو غيب. وسئل خالد بن صفوان عما يجب للإخوان قال: تجنب طريق النفاق ولا تقصر عن الاستحقاق.
إبراهيم بن عباس:
خلّ النفاق لأهله ... وعليك فانتهج الطريقا

واذهب بنفسك أن ترى ... ألا عدواً أو صديقا

وفي مدح من يحفظ أخاه بظهر الغيب قال بعضهم:
موكل النفس بظهر المغيب ... أقصى رفيقه له كالقريب
المثقب العبدي:
فإما أن تكون أخي بصدق ... فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاجتنبني واتخذني ... عدواً أتقيك وتتقيني
آخر:
ولا تك ممن إن نأى عنه صاحبٌ ... فغاب عن العينين غاب عن القلب
الحث على مداجاة العدو:
قيل: إذا صافاك عدوك رياً أفتلقى مصافاته باوكد مودة، فإنه إذا ألف ذلك اعتاده وخلصت مودته. وقال ابن السماك: لِن لمن يجفو فقل من يصفو. وقال ابن الحنفية: ليس بحكيم من لم يعاشر من لم يجد عن معاشرته بداً حتى يجعل الله له فرجاً ومخرجاً.
التنوخي:
ألقى العدو بوجهٍ لا قطوب به ... يكاد يقطر من ماء البشاشات
فأحزم الناس من يلقى أعاديه ... في جسم حقدٍ وثوبٍ من مودات
وصف إخوة صادقة:
مدح أعرابي صديقاً فقال: مجالسته غنيمة وصحبته سليمة ومؤاخاته كريمة، هو كالمسك إن بعته نفق وإن تركته عبق. وعاتب رجل خليله فقال: لو علمت أن يومي أهنأ من يومك لاخترت أن أوثرك به.
شاعر:
وذي لطفٍ لو كان يعلم أنه ... شفائي دمٍ من جوفه لسقاني
آخر:
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا
وقيل: لم يسمع بأطيب وأعذب من قول البحتري:
وجدت نفسك من نفسي بمنزلةٍ ... هي المصافاة بين الماء والراح
وقال يصف خليلا:
أخٌ وأبٌ لي ثم أمٌ شفيقةٌ ... تفرق في الأحباب ما هو جامعه
سلوت به عن كل من كان قبله ... وأذهلني عن كائنٍ هو تابعه
ولآخر:
ونحن كروحٍ بين جسمين قسما ... فجسماهما جسمان والروح واحد
متآخيان اختلف مذهباهما:
قال الجاحظ: لم ير أعجب حالاً من الكميت والطرماح، فإن الكميت كان عدنانياً شيعياً يتعصب لأهل الكوفة، والطرماح كان قحطانياً خارجياً يتعصب لأهل الشام، وكان بينهما من المخالطة ما لم يكن بين اثنين قط، ولم تجر بينهما جفوة ولا قطيعة ولا اعتراض. وقيل لهما: كيف اتفقتما مع الخلاف بينكما؟فقالا: اتفقنا على بغض العامة؛ووصفهما جعفر المصري فقال:
فنحن من ودٍّ وحبٍّ كما ... كان كميتٌ والطرماح
وكان عبد الله الأباضي وهشام بن الحكم شريكين في البز وبينهما من الخلاف ما لم يكن بين اثنين. كان الأباضي يزعم أن علياً لم يزل مستتراً بالكفر حتى أظهره يوم التحكيم، وهشام يثبت الإمامة لعلي رضي الله عنه. قال هشام: ما خالفني إلا مرة اشترينا جارية فقلت اجعلها لي فقال: أنت عندي كافرٌ، وهذا فرج ولا أحب أن أبيحه لك. العباس بن الأحنف وهو ما يتمثل به ههنا:
زاوج حيتانها الضباب بها ... فهذه كنةٌ وذا ختن
اصطحاب نذلين:
في المثل: وافق شن طبقه، وافقه فاعتنقه.
شاعر:
كأنس الخنافيس بالعقرب
ولأبي الحسن:
كلاكما بالمجد مستهتر ... وبابتناء المجد مفتون
وفرق ما بينكما واحدٌ ... أنت رقيع وهو مأفون
وأنت لوطي على ظنه ... وذاك بالإجماع مأبون
استبقاء الإخوان بالإفضاء عليهم:
قيل: إذا سرك أن يثبت لك الصديق فليكن لك عليه الفضل.
شاعر:
إذا أنت لم تفضل على ذي مودةٍ ... وكنت وإياه بمنزلةٍ سوا
فلا تك ذا عتبٍ عليه وإنما ... يعاقب بالذنب المثيب على الرضا
الحث على مشاركة الصديق في سرائه دون ضرائه:
قالت امرأة يحيى بن طلحة له: أما ترى أصحابك إذا أيسرت لزموك وإذا أعسرت تركوك!فقال: هذا من كرمهم يأتوننا في حال القوة منا على الإحسان إليهم، ويتركوننا في الضعف عنهم.
يعرف الأبعد إن أثرى ولا ... يعرف الأقرب إما يفتقر
ولآخر:
أبو مالك قاصرٌ فقره ... على نفسه ومشيعٌ غناه
وقيل: فلان يتحسى المر ويسقي إخوانه العذب.
الحث على مشاركة الصديق في ذات اليد:

رأى بعض الحكماء رجلين لا يفترقان فسأل عنهما فقيل: هما صديقان. قال: ما بال أحدهما غني والآخر فقير؟وقيل: لا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما يرى لنفسه. وقال محمد بن علي: أيدخل أحدكم يده في كم أخيه فيأخذ حاجته؟قالوا: لا. قال: فلستم إذاً بإخوان.

الحث على أن تشارك في السراء من يشاركك في الضراء:
قال أكثم بن صيفي: حق أن تشارك في النعم من يشاركك في المكاره.
أبو تمام:
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
وقال جحظة البرمكي:
قل للوزير أدام الله دولته: ... أذكر منادمتي والخبز خشكار
إذ ليس بالباب برذونٌ لنوبتكم ... ولا غلامٌ ولا بالباب طيار
آخر:
شركناك في مر الزمان فكن لنا ... إذا الحلو منه در غير شريك
ذم من أعرض عنك في حال يساره:
صبغت أمية في الدماء رماحنا ... وطوت أمية دوننا دنياها
آخر:
رأيتك لما نلت مالاً وعضنا ... زمان نرى في حد أنيابه شغبا
جعلت لنا ذنباً لتمنع نائلاً ... فأمسك، ولا تجعل غناك لنا ذنبا
محمود:
وكنت أخي أيام عودك يابسٌ ... فلما اكتسى واخضر صرت مع الدهر
ولآخر:
ابتاع ودي وهو ذو عسرةٍ ... حتى إذا نال الغنى باعه
وكتب المعروف بالزغل إلى بعض السلاطين:
رآني بعين النقص أن صار ذا غنى ... وأغفل قبل اليوم نقص يديه
وما نال إلا حظه غير أنه ... توهم أن الرزق صار إليه
فكله إلى مر الليالي وصرفها ... ستأتي على ما عنده وعليه
آخر:
صديقك من يرعاك عند شديدةٍ ... فكل تراه في الرخاء مراعيا
آخر:
فلا يغرنك إخوانٌ تعدهم ... أنت العدو لمن كلفته حاجه
ذم من تكبر على أصدقائه لغناه وسلطانه:
صالح بن عبد القدوس:
تاه على إخوانه كلهم ... فصار لا يطرف من كبره
أعاده الله إلى حاله ... فإنه يصلح في فقره
الخوارزمي:
وصلتك بالسلطان حتى إذا اغتلى ... مكانك واستمكنت لم تملك الحقدا
كمقتدحٍ ناراً بزندٍ لحاجة ... فلما تلظت ناره أحرق الزندا
تغير الإخوان في حال العلاء:
قال زياد: إذا كان لك صديق فولي ولاية وبقي لك واحد من عشرة، فليس بصديق سوء. وقال بعضهم: إذا كان لك أخ صافي الود فلا تتمن له منزلة ففي ذلك تغير له عن الوداد.
شاعر:
وكل إمارةٍ إلا قليلا ... مغيرة الصديق عن الصديق
آخر:
إذا ما أردت وداد امرءٍ ... فلا تدعون له بارتقاء
إذا رأيت امرأً في حال عسرته ... صافي المودة ما في وده وغل
فلا تمنّ له حالاً يسر بها ... فإنه بانتقال الدهر ينتقل
قيل: لا تنظر إلى صديقك إذا بلغ منزلة بعينك الذي نظرت بها قبل، وإذا جعلك أباً فاتخذه رباً . وقيل: ذو الحرمة ملوم على الإفراط في الدالة، كما أن المحترم له ملوم على تناسي المودة والحرمة. وقال أبو عباد يوماً لأبي بكر المقري: إياك والدالة في غير مكانها، فنحن بالليل إخوان وبالنهار ذوو سلطان. فرط الإدلال يدعو إلى الملال.
مدح من لم يتغير لمنزلة نالها:
فتى زاده السلطان في الحمد رغبةً ... إذا غير السلطان كل خليل
الموسوي:
وغيري إذا ما طار خلف صحبه ... دوين المعالي واقعين وحلقا
ولما بشر هشام بالخلافة سجد من حوله شكراً لذلك غير الأبرش الكلبي فقال له هشام: ما منعك أن تسجد معي؟قال: إني معك ليلاً ونهاراً، وغداً ترقى إلى السماء فتنكرني!قال: بل أصعد بك. فقال: أما الآن فإني أسجد عشرين سجدةً!
مدح من نزه إخوانه عن استخدامهم في سلطانه:
كان هشام يعتم فقام إليه الأبرش ليسوي عمامته فقال: مه!فأنا لا نتخذ الإخوان خولاً. وقام عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه بنفسه فأصلح سراجه فقال واحد من جلسائه: ألا أمرتني فكنت أكفيك؟قال: ليس من المروءة أن يستخدم الرجل جليسه.
الحث على خدمة الإخوان ومدح ذلك

قال النبي صلى الله عليه وسلم: سيد القوم خادمهم. وفي المثل: إذا عز أخوك فهن.
ابن المعتمر:
إذا أنت رافقت الرجال فكن فتى ... كأنك مملوكٌ لكل رفيق
وكن مثل طعم الماء غضاً وبارداً ... على الكبد الحرى لكل صديق
آخر:
كأنه عبدٌ لإخوانه ... وليس فيه خلق العبد
ونحوه:
وعبدٌ للصحابة غير عبد

النهي عن ذلك:
قال بعضهم: إن لكل قومٍ كلباً فلا تكن كلب إخوانك.
عبد الله بن معاوية:
لا تهيننّ للصديق مكرمةً ... نفسك حتى تعدّ من خوله
بحمل أثقاله عليك كما ... يحمل أثقاله على جمله
احتمال أذى الصديق ما لم يكن فيه هوان: صالح:
أرضى عن المرء يصفيني مودته ... وليس شيء من البغضاء يرضيني
آخر:
سأصبر عن رفيقي إن جفاني ... على كل الأذى إلا الهوان
جحظة:
تذلل لمن إن تذللت له ... يرى ذاك للفضل لا للبله
وجانب صداقة من لا يزال ... على الأصدقاء يرى الفضل له
كون الناس أصدقاء ذي المال:
قيل لبعض الفضلاء: كم لك من صديق؟قال: لا أعلم لأن الدنيا مقبلة علي والأموال موجودة لدي، وإنما أعرف ذلك لو ولت الدنيا، ألم تسمع إلى قول طريح:
الناس؟ أعداءٌ لكل مدقع ... صفر اليدين واخوةٌ للمكثر
ولما نكب علي بن عيسى لم يطر بناحيته أحد، فلما ردت إليه الوزارة رأى الناس حوله فأنشد:
ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها ... فأينما انقلبت يوماً به انقلبوا
وقال عبد الملك لأصحابه: أيكم يصف لي عامة الناس؟فقال الوليد ابنه: إخوان طمع وأعداء نعم.
وقيل: إذا احتاج إليك عدوك أحب بقاءك، وإذا استغنى عنك وليك هان عليه موتك. الإخوان عند الجفان كثير، وعند الحقائق قليل.
؟
ذم المودة التي يجلبها الطمع:
كل مودة عقدها الطمع حلها اليأس. وقيل: إياك ومن مودته لك لحاجة.
إبراهيم بن العباس:
وكنت أخي كالدهر حتى إذا نبا ... نبوت فلما عاد عدت مع الدهر
فلا يوم إقبالي عددتك طائلاً ... ولا يوم إدباري عددتك من أمري
حمد الغيرة على الإخوان:
سأل الرشيد رجلاً عن بني أمية فقال: كانوا يتغايرون على الإخوان كتغايرهم على القيان. وقيل: لتكن غيرتك على صديقك كغيرتك على صديقتك.
وقال شاعر:
وكن عالماً أني أغار على أخي ... وخلي كما أني أغار على عرسي
ووفر علي الحظ منك فإنني ... خصصتك بالحظ الموفر من نفسي
ذم من يصاحب من أصدقائك أعداءك:
في كتاب الهند: من علامة الصديق أن يكون لصديقه صدوقا، ولعدوه عدواً.
شاعر:
تؤاخي عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك إن الرأي منك لعازب!
وقيل: ليس من المروءة أن تحب ما يبغضه حبيبك. وقيل: لا يحبك من يحب عدوك. وقال أيوب ابن جعفر للمأمون: أنا أودك مودة حرة، وأبغض أعداءك بغضة مرة. فقال: إنك تقول فتحسن وتحضر فتزين وتغيب فتؤمن.
السري:
وليس يكون المرء سلم صديقه ... إذا لم يكن حرب العدو المخالف
حمد من يصاحب منهم أعداءك:
قال ابن المقفع: إذا رأيت صديقك مع عدوك فلا يوحشنك ذلك، فإنما هو أحد رجلين: إذا كان من إخوان الثقة فأنفع مواطنه قربه من عدوك شر يكفه وعورة يسترها وغائبة يطلع عليها، وإن كان غير ثقة فهو أولى به فهبه له.
مدح رفض الحشمة بين الأصدقاء:
قال علي رضي الله عنه: شر الإخوان من يحتشم منه ويتكلف له. قال العرجي الصوفي: إذا صح الود سقطت شروط الأدب. وقال الحسن بن وهب: اعلم أن المودة لا تتم ما دامت الحشمة عليها مسلطة. وقال بعضهم: اسقط عن نفسي نصف هم الدنيا بعشرة من لا أحتشمه. وقال الجنيد رضي الله عنه: لا تصحب من تحتاج أن تكتمه ما يعرف الله منك.
ذم فرط الانبساط:

قيل: صن الاسترسال منك حتى تجد له مستحقاً، واجعل انسك آخر ما تبذل من ودك. وقال جعفر بن محمد: إياك وسقطة الاسترسال فإنها لا تستقال. في كتاب كليلة ودمنة: بعض المقاربة حزم وكل المقارنة عجز، كالخشبة المنصوبة في الشمس تمال فيزيد ظلها، وتفرط في الإمالة فيرتد ظلها. وقال أكثم: الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء. أخذه الحارثي فقال:
إذا ما عممت الناس بالأنس لم تزل ... لصاحب سوءٍ مستفيداً وكاسبا
فإن تقصهم أرموك عن ظهر بغضةٍ ... فكن خلطاً إن شئت أو كن مجانبا
ولا تنتبذ عنهم ولا تدن منهم ... ولكن أمراً بين ذاك مقاربا
وقال: إذا أقبل عليك مقبل بوده فسرك إن لا يدبر عنك، فلا تكثر الإقبال عليه فالإنسان من شأنه التباعد ممن قرب منه، والدنو ممن يتباعد منه.

مباسطة الكرام والانقباض عن اللئام:
وما لي وجهٌ في اللئام ولا يدٌ ... ولكن وجهي في الكرام عريض
أهش إذا لاقيتهم وكأنني ... إذا أنا لاقيت اللئام مريض
وقال ابن كناسة:
فيّ انقباضٌ وحشمةٌ فإذا ... أبصرت أهل الوقار والكرم
أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم
النهي عن فرط المودة والعداوة:
قيل: من أحببت فلا تأمنه، ومن أبغضت فلا تهجره. وقيل: خالط الناس وزايلهم. وقال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً.
زياد بن زيد:
وإن امرءاً قد جرب الدهر لم يخن ... تقلب عصريه لغير لبيب
فلا تيأسن الدهر من حب كاشحٍ ... ولا تأمنن الدهر صرم حبيب
آخر:
فهونك في حبٍ وبغضٍ فربما ... بدا جانبٌ من صاحبٍ بعد جانب
ذم الاستكثار من الأصدقاء:
قيل: الإخوان عندك كالنار، قليلها متاع وكثيرها بوار. وقال الفضيل: من سخافة عقل المرء كثرة معارفه. وقال حفص بن حميد: من لم ينقص كل يوم صديقاً لا يفلح أبداً.
عدوك من صديقك مستفادٌ ... فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب
اعواز صديق صادق:
قال الفضيل لسفيان رحمهما الله: دلني على صديق أركن إليه إذا غبت، وآمن معه إذا حضرت. فقال: تلك ضالة لا توجد. وقيل لرجل: من أبعد الناس سفراً؟فقال: من كان سفره في طلب أخ صالح. وسمع المأمون أبا العتاهية ينشد:
وإني لمحتاجٌ إلى ظل صاحبٍ ... يروق ويصفو إن كدرت عليه
فقال: خذ مني الخلافة وأعطني هذا الصاحب!وقيل لفيلسوف: ما الصديق؟فقال: اسم على غير معنى.
أبو فراس:
نعم دعت الدنيا إلى الغدر دعوةً ... أجاب إليها عالمٌ وجهول
فيا حسرتي من لي بخلٍّ موافق ... أقول بشجوي مرةً ويقول؟
الصابىء:
أيا ربّ كل الناس أولاد علةٍ ... أما تغلط الدنيا لنا بصديق؟
وجوهٌ بها من مضمر الغلّ شاهدٌ ... ذوات أديمٍ في النفاق صفيق
التخويف من دغل الإخوان:
قال أعرابي: اللهم اكفني بواثق الثقات، والاغترار بظاهر المودات. وقال آخر: اللهم احفظني من الصديق، فقيل: كيف؟فقال: لأني متحرز من العدو.
علي بن عيسى:
احذر عدوك مرةً ... واحذر صديقك ألف مره
فلربما انقلب الصديق ... فكان أعلم بالمضره
وقيل: احذر من تأمنه فودائع الناس لا تضيع إلا عند الثقات. وقيل: قل من يؤذيك إلا من تعرفه.
ذم من يستعد حين الصداقة للعداوة:
ذم العباس رجلاً فقال: هو يترصد في صداقته ما يتوثب به في عداوته.
شاعر:
احذر إخوةٌ كل من ... شاب المرارة بالحلاوه
يحصي الذنوب عليك ... أيام الصداقة للعداوه
قلة نفع مودة مكرهة:
فلا خيرٌ في ود امرىءٍ متكارهٍ ... عليك ولا في صاحبٍ لا توافقه
وقال آخر:
إلا إن خير الود ودٌ تطوعت ... به النفس لا ودٌ أتى وهو متعب
ذم من يضمر عداوة ويظهر صداقة:

قال بعضهم: تظن فلاناً يضحك لك وهو يضحك منك، فإن لم تتخذه عدواً في علانيتك فلا تتخذه صديقاً في سريرتك. وقيل: من عاشر الإخوان بالمكر كافؤوه بالغدر.
يزيد الحكمي:
لسانك لي أريٌ وقلبك علقمٌ ... وشرك مبسوطٌ وخيرك ملتوي
آخر:
زعمت صديقي طاب مرأى ومسمعا ... صدقت ولكن المغيب معيب
آخر:
إذا أنت فتشت القلوب وجدتها ... قلوب أعادٍ في جسوم أصادق

تأسف من تكدر وده بعد الصفاء:
أخ كنت آوي منه عند ادكاره ... إلى ظل آباء من العز شامخ
سعت نوب الأيام بيني وبينه ... فأقلعن منا عن عدوٍ وصارخ
وقال أعرابي: يا حسرتي فقد صفرت من فلان عياب ودي بعد امتلائها، واكفهرت وجوه كانت بمائها فأدبر ما كان مقبلاً وأقبل ما كان مدبراً.
ذم؟ من يتجنى على صديقه طلباً لصرمه:
إن الملول إذا أراد قطيعةً ... ملّ الوصال وقال: كان وكانا
آخر:
زماني كله غضبٌ وعتبٌ ... وأنت علي والأيام ألب
وقال ابن المقفع: ينبغي للعاقل أن يكذب سوء الظن بصديقه، ليكون ذا ودٍ صحيحٍ وقلب مستريح. وقال ابن سيرين: إذا بلغك عن صديقك ما تكرهه فالتمس له عذراً فإن لم تجد فقل:
لعلّ له عذراً وأنت تلوم
معاتبة من أساء الظن بصديقه:
قيل لرجل: ما ظنك بأخيك؟قال: ظني بنفسي.
المتنبي:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه بقول عداته ... فأصبح في داجٍ من الشك مظلم
وله:
ومن يك ذا فمٍ مرٍ مريض ... يجد مراً به الماء الزلالا
الموسوي:
من ساء ظناً بما يهواه فارقه ... وحرضته على إبعاده التهم
معاتبة من سلا عن صديقه:
مالي جفيت وكنت لا أجفى ... ودلائل الهجران لا تخفى
وأراك تشربني فتمزجني ... ولقد عهدتك شاربي صرفا
من كف عنك أذاه فهو صديق صدق، خير ما في اللئيم أن يكف ضرره.
المتنبي:
إنا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال
آخر:
لي صديقٌ لديه نصحٌ وودٌ ... غير أن الدماغ فيه مرمه
فإذا ما سعى ليدفع عني ... في الملمات صار عون الملمه
ليته كفّ خيره وأذاه ... ورعى لي بذاك حقاً وحرمه
وقال آخر:
قد جناها أخ علي كريمٌ ... وعلى أهلها براقش تجني
ذم من يعادي أصدقاءه:
السري الكندي:
رأيتك تبري للصديق نوافذاً ... عدوك من أوصابها الدهر آمن
آخر:
لنا أخٌ يطلب غير ثاره ... يطوي العدا وينتحي لجاره
- والكلب لا ينبح من في داره
تفضيل صداقة من قدم إخاؤه:
قال معاوية لكاتب له: عليك بصاحبك الأقدم فإنك تجده على مودة واحدة، وإن قدم العهد وبعدت الدار، وإياك وكل مستحدث فإنه يجري مع كل ريح. وقيل: لا تستبدلن بأخ لك قديم أخاً مستفاداً ما استقام لك.
شاعر:
كيف يبقى لك الجديد من النا ... س إذا كنت تطرح الخلقانا
أبو الشيص:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبداً لأول منزل
عكس ذلك:
قيل: عليك بمستظرف الإخوان تستفيد منهم مستطرف الإحسان، وتأمن منهم بواثق الشقاق.
فللعين ملهى في التلاد ولم يفد ... هوى النفس شيءٌ كافتياد الظرائف
ولهذا الباب وما تقدم نظير في حد الغزل.
العتب على المتلون وذمه:
مودته متنقلة كتنقل الأفياء، واخوته متلونة كتلون الحرباء.
صالح:
قل للذي لست أدري من تلونه ... أناصحٌ أم على غشٍ يداجيني؟
تغتابني عند أقوامٍ وتمدحني ... في آخرين، وكلٌ منك يأتيني
وقال آخر:
أخٌ لي كأيام الحياة اخاؤه ... تلون ألواناً علي خطوبها
إذا عبت منه عيبة فتركته ... دعتني إليه خلةٌ لا أعيبها

وكتب عبد الله بن معاوية: قد عاقني الشك في أمرك عن عزيمة الرأي فيك فإنك ابتدأتني بلطف من غير خبرة، وأعقبتني بجفاء من غير ذنب، فأطمعني أولك في إخائك، وأيأسني آخرك من وفائك، فسبحان من لو شاء كشف الغطاء فأقمنا على ائتلاف أو افترقنا على اختلاف. وقيل: لأن أبتلى بمائة جموح لجوج أحب إلي من أن أبتلى بمتلون.
إبراهيم ابن العباس:
يا أخاً لم أر في الناس خلاً ... مثله أسرع هجراً ووصلا
كنت لي في صدر يومي صديقاً ... فعلى عهدك أمسيت أم لا؟
وقال بعضهم لمغنية:
مرحباً ثم مرحباً ... بحبيبٍ تغضبا
فأجابته:
أنت كالريح لا تدو ... م جنوباً ولا صبا

عتب من ترعاه وهو يجفوك:
وأعجب من جفائك لي وصبري ... على طول ارتفاعك وانخفاضي
سروري أن تدوم لك الليالي ... بما تهوى كأني عنك راضي
الحث على مصارمة من تبغضه:
قال رجل لآخر: لي أخ إذا كلمته آذاني وأثمت، وإذا كرهته أراحني وسلمت.
فأنشده:
وفي البعد مسلاةٌ وفي الصرم راحةٌ ... وفي الناس أبدالٌ سواه كثير
آخر:
ودّ ما لا تشتهيه ... النفس تعجيل الفراق
المسرة في فراق من لا تحبه:
منصور الفقيه:
ومستوجب شكري بإعراضه عني ... أجلّ يدٍ عندي له بعده عني
تلافى بهجري بعض ما كان جره ... علي بوصلي قبل إعراضه عني
واعتذر رجل لآخر بتأخره عنه. فقال: ما رأيت إحساناً يعتذر منه سوى هذا؟!وقال إسحق الموصلي: ذكرت للعباس العلوي رجلاً فقال: دعني أتذوق طعم فراقه، فهو والله لا تشجى له النفس ولا يدمى لفراقه الجفن! شاعر:
كلانا غنيٌ عن أخاه حياته ... ونحن إذا متنا أشد تغانيا
الحث على مصارمة من رث حبل وده:
في المثل: خل سبيل من وهى سقاؤه. وقيل: لا تصحب من لا يرى لك في الود مثل ما ترى له. وقيل: شغل المرء بمشتغل عنه مسقطة من العيون، وإقباله على معرض عنه معرضة به لسوء الظنون. وقيل: جدعاً لمن أعطى الرغبة من أعطاه الزهادة، وما أدري أيهما ألأم.
شاعر:
من لم يردك فلا ترده ... هبه كمن لم تستفده
البحتري:
شرقٌ وغربٌ تجد من معرضٍ عوضاً ... فالأرض من تربةٍ والناس من رجل
وقال آخر:
إذا لم يزل صاحبٌ يلتوي ... فقطع قرابته أروج
آخر:
أرى الغبن كل الغبن وصلي صارماً ... وإن كان ذا فضلٍ، وبري جافيا
آخر:
ولربّ مصحوبٍ ترفت بلونه ... فلفظته قبل التطعم عاجلا
المجاملة في إعراض من رام صرم حبالك:
يستحسن في ذلك قول الأقرع بن حابس:
أصدٌ صدود امرىءٍ مجمل ... إذا حال ذو الود عن حاله
ولست بمستعتبٍ صاحباً ... إذا جعل الهجر من باله
ولكنني قاطعٌ حبله ... وذلك فعلي بأمثاله
وما إن أدلّ بحقٍ له ... عرفت له حق إدلاله
وإني على كل حالٍ له ... من إدبار ودٍ وإقباله
لراضٍ لا حسن ما بيننا ... بحفظ الإخاء وإجلاله
فضل إيثار الوحدة والحث عليها:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أحب العباد إلى الله الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا شهدوا لم يقربوا، أولئك أمة الهدى ومصابيح الظلم. وقال مالك بن دينار لراهب: عظني!فقال: إن استطعت أن تجعل بينك وبين الناس سوراً من حديد فافعل. وقيل لسقراط: ألا تشاهد الملوك؟فقال: وجدت الانفراد بالخلوة أجمع لدواعي السلوة. وقيل لآخر: ما تجد في الخلوة؟فقال: الراحة من مداراة الناس، والسلامة من شرهم.
وقالوا لقاء الناس أنسٌ وراحةٌ ... ولو كنت أرضي الناس ما عشت خاليا

وقيل: العزلة توفر العرض وتستر الفاقة وترفع ثقل المكافأة. وقال: ما احتنك أحد قط إلا أحب الخلوة، وقيل: توحد ما أمكنك فمن وطئته الأعين وطئته الأرجل. وقال حكيم: العاقل مستوحش من زمانه منفرد عن إخوانه. وقيل: استوحش من الناس كما تستوحش من السبع. وقال الجنيد: دخلت على السرى فقلت: أوصني، فقال: لا تكن مصاحباً للأشرار، ولا تشتغل عن الله بمجالسة الأخيار. وقيل لذي النون رحمه الله: متى أقوى على عزلة الأخيار؟فقال: إذا قويت على عزلة النفس. قيل: ومتى يصح الزهد؟قال: إذا كنت زاهداً في نفسك هارباً من جميع ما يشغلك.

من أنس في الخلوة بالعبادة والقراءة:
قال حاتم الأصم: الزم بيتك فإذا أردت الصاحب فالله يكفيك، وإن أردت الرفيق فرفيقاك رقيباك، وإن أردت أنيساً فالقرآن يؤنسك وذكر الموت يعظك.
تركت الأنس بالأنس ... فما في الأنس من أنس
وأقبلت على القرآ ... ن درساً أيما درس
عسى يؤنسني ذاك ... إذا استوحشت في رمسي
ذم الخلوة والوحدة:
قيل: أجهل الناس من استأنس بالوحدة، واستكثر من الخلوة. وقيل: إياكم والعزلة فإن في ملاقاة الناس معتبراً نافعاً ومتعظاً واسعاً فإن البيت رمس ما لزمته.
وحدة الإنسان خيرٌ ... من جليس السوء عنده
وجليس الخير خيرٌ ... من جلوس المرء وحده
وفي الحديث: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس.
الشكوى من ذهاب الناس:
دخل عبيد بن شبرمة على معاوية وقد أتت عليه مائتان وعشرون سنة فقال له: يا عبيد ما شهدت من الزمان وما أدركت؟فقال: أدركت الناس يقولون ذهب الناس فلا مرتع ولا مفزع. وقيل: ما بقي من الناس إلا كلب نابح أو حمار رامح أو أخ فاضح. وكانت عائشة تنشد قول لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلفٍ كجلد الأجرب
فقال ابن عباس: لئن شكت في زمانها فقد شكت قوم عاد في زمانهم إذ قد وجدوا في خزائنهم سهماً مكتوباً عليه:
بلادٌ بها كنا ونحن نحبها ... إذ الناس ناسٌ والبلاد بلاد
قال أبو الدرداء: كان الناس ورقاً لا شوك فيه فقد صاروا شوكاً لا ورق فيه. إن نافرتهم نفروك وإن تركتهم ما تركوك. وقال عدي بن حاتم لمعاوية: معروفك الذي نعده اليوم منكراً معروف زمان لم يأت. وعن أبي صالح في قول الله تعالى " ويذهب بطريقتكم المثلى " أي بسراة الناس.
شاعر:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمرٍ منكر
وبقيت في خلفٍ يزين بعضهم ... بعضاً ليدفع معورٌ عن معور
قال بعضهم: كان الله تعالى ما عنى بقوله " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " إلا أهل زماننا فإنهم ما تفاوتوا في البخل والجهل.
ذم الناس:
لما قدم محمد بن عبد الله بن طاهر مدينة السلام كتب إلى أخيه وهو بخراسان يشكو إليه قلة الأنيس وتأذيه بمضرة الجليس، فكتب إليه:
طب عن الأمة نفساً ... وارض بالوحدة أنسا
لست بالواجد خلاًّ ... أو ترد اليوم أمسا
ما رأينا أحداً سا ... وى على الخبرة فلسا
وقيل: خير الناس من لم تجربه. أخبر الناس تقللهم.
المتنبي:
وصرت أشك فيمن أصطفيه ... لعلمي أنه بعض الأنام
وقال آخر:
ليس في الدنيا وفاءٌ ... لا ولا في الناس خير
قد بلوت الناس فالنا ... س كسيرٌ وعوير
وقال آخر:
بلوناهم واحداً واحداً ... فكلهم ذلك الواحد
وقيل لسفيان: دلنا على رجل نجلس إليه، فقال: تلك ضالة لا توجد. وقال بعضهم: الناس كلاب فإذا وجدت سلوقياً فاحتفظ به. وكتب بعضهم: أما بعد فإني أحمد الله إلى الناس وأذم الناس إلى الله. وقال حكيم: من لم يستطع مزايلة الناس بجسده فليزايلهم بقلبه.
المتنبي:
كلما أنبت الزمان قناةً ... ركب الدهر في القناة سنانا
قلة الاستغناء عن الناس والأمر بمداراتهم:

قال رجل لابن عباس: ادع الله أن يغنيني عن الناس. فقال: إن حوائج الناس تتصل بعضها ببعض كاتصال الأعضاء، فمتى يستغني المرء عن بعض جوارحه؟ولكن قل اغنني عن شرار الناس. وقيل: كان بعضهم يطوف ويقول: من يشتري مني بضائع بعشرة آلاف درهم؟فدعاه بعض الملوك وبدل له المال، فقال له: اعلم أن الله لم يخلق خلقاً شراً من الناس، وإن لم يكن لك بد من الناس فانظر كيف تحتاج أن تعامل ما لا بد منه، ولا غنى بك عنه، ثم قال: هل يساوي هذا الكلام عشرة آلاف درهم؟قال: دونك المال!ولم يأخذه.

أصناف الناس:
قال معاوية للأحنف: صف لي الناس وأوجز، فقال: رؤوس رفعها الحظ، وكواهل عظمهم التدبير، وأعجاز شهرهم المال، وأذناب أتحفهم الأدب، ثم الناس بعدهم بهائم إن جاعوا ساموا وإن شبعوا ناموا. وقال سلمان: الناس أربعة أصناف آساد وذئاب وثعالب وضأن، فأما الآساد فالملوك، وأما الذئاب فالتجار، وأما الثعالب فالفقراء المخادعون، وأما الضأن فالمؤمن ينهشه كل من يراه. وقال أمير المؤمنين: الناس ثلاثة: عالم ومتعلم وما سواهما همج.
امرؤ القيس:
عصافير وذبانٌ ودود ... وآخر من مجلجلة الذئاب
وقال علان العتابي: رأيت كلثوماً يأكل خبزاً في الطريق فقلت له: أما تستحي تأكل بحضرة الناس؟فقال: أرأيت لو كنت في دار فيها بقور أما تأكل بحضرتهم؟قلت: نعم. فقال: فهؤلاء بقور!ثم قال: إن شئت أريتك دلالة ذلك. ثم قام ووعظ وجمع قوماً ثم قال: روي عن غير وجه أن من بلغ لسانه أرنبة أنفه أدخله اله الجنة!فلم يبق أحد إلا أخرج لسانه ينظر هل يبلغ. وقال رجل للشاعر: أين سكة الحمير؟فقال: اسلك أي سكة شئت فكلها دروب الحمير. وقال بعض العرب: طلبت الراحة فلم أجد أروح لنفسي من تركها ما لا يعنيها، وتوحشت في البادية فلم أر أوحش من قرين السوء.
مما جاء في محبة المعاشرين وبغضهم
المحبوب في الناس: قيل: فلان مودود في الورى مخصوص بالهوى.
كأن قلوب الناس في حبه قلب
التنوخي:
كأنك في كل القلوب محببٌ ... فأنت إلى كل القلوب حبيب
الرفاء:
ود البرية أن عمرك دائم ... وكذا الربيع يحب منه دوامه
آخر:
محبب في جميع الناس إن ذكرت ... أخلاقه الغر حتى في أعاديه
آخر:
محببٌ في قلوب الناس كلهم ... فكل قلبٍ إليه مائل كلف
اعتبار مودة صاحبك بما عندك:
في الأثر: الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف. وقال بعضهم لآخر: إني أحبك. فقال: رائد ذلك عندي. وقال رجل لعبد الله بن جعفر: إن فلاناً يقول أنه يحبني فبماذا أعلم صدقه؟قال: امتحن قلبه بقلبك، فإن كنت توده فإنه يودك. وشاهد ذلك قول بكر بن النطاح:
وعلى القلوب من القلوب دلائل ... بالود قبل تشاهد الأرواح
وقال آخر:
قل للتي وصفت مودتها ... للمستهام بذكرها الصب
ما قلت إلا الحق أعرفه ... إن الدليل عليه من قلبي
قلبي وقلبك بدعةٌ خلقا ... يتجاريان بصادق الحب
آخر:
لعمري لقد زعم الزاعمون ... بأن القلوب تجاري القلوبا
فلو كان حقاً كما تعلمون ... لما كان يجفو حبيبٌ حبيبا
المدعي محبة صديقه:
المتنبي:
أحبك يا بدر الزمان وشمسه ... وإن لامني فيك السها والفراقد
وذاك لأن الفضل عندك باهر ... وليس لأن العيش عندك بارد
وإن قليل الحب بالعقل صالح ... وإن كثير الحب بالجهل فاسد
إبراهيم بن العباس:
وأنت هوى النفس من بينهم ... وأنت الحبيب وأنت المطاع
وما بك إن بعدوا وحشةٌ ... ولا معهم إن بعدت اجتماع
آخر:
فيا ليت ما بيني وبينك عامرٌ ... وبيني وبين العالمين خراب
وليتك تحلو والحياة مريرةٌ ... وليتك ترضى والأنام غضاب
النهي عن فرط الحب والبغض:
قال رجل لأرسطاطاليس: عظني. قال: لا يملأن قلبك محبة شيء ولا يستولين عليك بغضه واجعلهما قصداً فالقلب كاسمه يتقلب. وفي الأثر: أحبب حبيبك ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما.

قلة المبالاة ببغض من لا يقصد ضرك:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لطليحة الأسدي: قتلت عكاشة فقلبي لا يحبك أبداً. قال: فما عشرة جميلة فإن الناس يتعاشرون على البغضاء. وقال الوليد لرجل: إني أبغضك. فقال: إنما تجزع النساء من فقد المحبة ولكن عدل وإنصاف يا أمير المؤمنين. وقال ابن أبي الحواري لأبي سليمان: إن فلاناً لا يقع من قلبي. فقال: ولا من قلبي، ولكنا لعلنا أتينا من قبل أنه ليس فينا خير فلسنا نحب الصالحين. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل هم بطلاق امرأته: لم تطلقها؟قال: لا أحبها. قال: أوكل بيت يبنى على المحبة، أين الرعاية والذمم؟.
أسباب المحبة والبغض ومضرتهما ونفعهما:
وروي في الخبر أن الله إذا أحب عبداً ألقى محبته في الملأ، فلا يمر به أحد إلا أحبه. وقالت عائشة رضي الله عنها: جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها. وقال يحيى بن خالد: إذا كرهتم الرجل من غير سوء أتاه إليكم، فاحذروه وإذا أحببتم الرجل من غير خير سبق منه إليكم فأرجوه.
كون المبغض معيباً:
قيل: لما أراد أنو شروان أن يصير ابنه ولي عهده استشار وزرائه فكل ذكر عيباً. فقال بعضهم: إنه قصير وذلك لا يصلح للملك. فقال أنو شروان محتجاً له أنه لا يكاد يرى إلا راكباً أو جالساً. فقال آخر: إنه ابن رومية. فقال: الأبناء ينسبون إلى الآباء، وإنما الأمهات أوعية. فقال الموبذ: إنه مبغض إلى الناس. فقال حينئذ: هذا هو العيب!فقد قيل: إن من كان فيه خير ولك يكن ذلك الخير محبة الناس له فلا خير فيه، ومن كان فيه عيب ولم يكن ذلك العيب بغض الناس فيه فلا عيب فيه. وقال الأحنف يوماً: فقير صدوق خير من غني كذوب. وقال بعض مجالسيه: ووضيع محبب خير من شريف مبغض. فقال الأحنف: هذه مثل هذه.
وصف بغيض:
قيل: فلان لا تحبه الناس حتى تحب الأرض الدم. وذلك لأن الأرض لا تشرب الدم.
الشاعر اليتامي:
يا بغيضاً زاد في البغض على كل بغيض
أنت عندي قدح اللباب في كف المريض!
آخر:
رمينا بأقلى من جهنم منظراً ... وأقبح آثاراً من الحدثان
وأكره في الأبصار من طالع الردى ... وأنحس آثاراً من الدبران
آخر:
ولو أن ذا فضلٍ لجا في حرامه ... لجاء نفيل في الحرام يزاحمه
وقد مر من ذلك كثير.
التعريض بثقيل أو بغيض:
كان أبو هريرة إذا رأى ثقيلاً قال: اللهم اغفر له وأرحنا منه!وقال ثقيل لمريض: ما تشتهي؟قال: أشتهي أن لا أراك. وقيل: إن ثقيلاً قال لأعمى أن الله لم يأخذ من عبد كريمتيه إلا عوضه عنهما شيئاً، فما الذي عوضك؟قال: أن لا أرى أمثالك. وكان لابن سيرين خاتم منقوش عليه: أبرمت فقم، فإذا استثقل إنساناً دفعه إليه. وقيل: من ثقل عليك بنفسه وغمك بسؤاله فوله أذناً صماء وعيناً عمياء. ؟
مما جاء في الزيارة
وصف الزيارة بأنها تغرس المحبة:
في كتب الهند: ثلاثة تزيد في الأنس: الزيارة والمؤاكلة والمحادثة.
ما قيل في استزارة المحبوب:
بشار:
يا رحمة الله حلي في منزلنا ... وجاورينا فدتك النفس من جار
آخر:
واسقط علينا كسقوط الندى ... ليلة لا ناه ولا آمر
وقال بشار:
قد زرتنا مرةً في الدهر واحدةً ... ثني ولا تجعليها بيضة الديك
وقال بعضهم: إذا رأيت أن تحدد لي ميعاداً لزيارتك أتقوته إلى وقت زيارتك فعلت. وكتب ابن المعتز إلى صديق له: طالت علتك أو تعاللك، وقد اشتد شوقنا إليك، فعافاك الله من المرض في بدنك أو اخائك، فإنك إن أتيت فبار مشكور، وإن تأخرت عنا فجاف غير معذور. وقال إبراهيم الصومي: لا أعرف شعراً أحسن من قول العباس:
تعال نجدد دارس الوصل بيننا ... كلانا على طول البعاد ملوم
وكتب الصاحب إلى أبي إسماعيل بجرجان:
يا أبا بشرنا تأخرت عنا ... قد أسأنا لبعد عهدك ظنا
كم تمنيت لي صديقاً صدوقاً ... فإذا أنت ذلك المتمنى
فبغصن الشباب لما تثنى ... وبعهد الصبا وإن بان عنا
كن جوابي لكي ترد شبابي ... لا تقل للرسول: كان وكنا!
المسرة بزيارة الصاحب:

قالوا: تجشم زائر من بينه! ... فأجبتهم والنجم بين سعودي
لو كان ملكني الكرام خدودهم ... لفرشت أرضاً تحته بخدود
وقال ثعلب:
الفتح علقمة البكري خبرنا ... أن الوزير أبا مروان قد حضرا
فقلت للنفس: هذي منيةٌ قدرت ... وقد يوافق بعض المنية القدرا
البحتري:
حبيبٌ سرى في خفيةٍ وعلى ذعر ... يجوب الدجا حتى التقينا على قدر
فشككت فيه من سرور وخلته ... خيالاً سرى في النوم من طيفه يسري
وله:
فرحت حتى استخفني فرحي ... فشبت عين اليقين بالوهم
أمسح عيني مستثبتاً نظري ... إخالني نائماً ولم أنم
وقال:
وما زارني إلا ولهت صبابةً ... إليه وإلا قلت: أهلاً ومرحبا!

البشارة بورود الحبيب:
الخبزارزي:
ومبشري بقدوم من أهواه ... لا زال وهو مبشرٌ بمناه
عندي له بشرى ولو ملكته ... روحي وقلبي قلّ عن بشراه
زيارة من لا يزورك:
كتب بعضهم إلى آخر: كل جفوة منك مغفورة للثقة بك، وسنأخذ بقول قيس بن الاسلت:
ويكرمها جاراتها فيزرنها ... وتغفل عن إتيانهن فتعذر
ابن الحجاج:
والي لزوار لمن لا يزورني ... إذا لم يكن في وده بمريب
ابن ميادة:
فإن هو لم يهمم بنا اليوم قادماً ... قدمنا عليه نحن في داره غدا
الاعتذار إلى من قللت زيارته:
لئن عاق جسمي عن لقائك مانعٌ ... فما عاق قلبي عن لقائك عائق
فإن ظهرت مني دلائل جفوةٍ ... فما أنا إلا مخلص الود صادق
أبو حكيمة:
فلا تنكر فدتك النفس أني ... أغبك في اللقاء وفي المزار
فإني حيث كنت فليس ودي ... بممنوحٍ سواك ولا معار
جحظة:
فإن يك عن لقائك غاب وجهي ... فلم تغب المودة والإخاء
ولم يزل الثناء عليك تترى ... بظهر الغيب يتبعه الثناء
الخوارزمي:
وما بي فيك من زهدٍ ولكن ... اخفف عنك أعباء الملال
وقال:
إن كنت في ترك الزيارة تاركاً ... حظي فإني في الدعاء لجاهد
ولربما ترك الزيارة مشفقٌ ... وأتى على غلي الضمير الحاسد
اعتذر بعض الأدباء إلى أخ له في تأخره فأجابه:
إذا صح الضمير فكل هجرٍ ... واعراضٍ يكون له انقضاء
وقال:
إن محض الود لا يز ... ري به طول تناء
وانقطاعٌ من كتاب ... وتراخٍ من لقاء
إنما الوامق من ... يحمل أثقال الجفاء
والذي تضجره الجفوة مدخول الإخاء
آخر:
أغيب عنك بودٍ لا يغيره ... نأي المحل ولا صرفٌ من الزمن
الشكوى ممن يقلل الزيارة:
في المثل: أنت كبارح الأروى قلما يرى.
شاعر:
وحظك لقيةٌ في كل عام ... موافقة على ظهر الطريق
سلاماً خالياً عن كل شيء ... يعود به الصديق على الصديق
أبو الجهم:
زائرٌ يهدي إلينا ... نفسه في كل عام
استقراب الطريق في زيارة الحبيب:
وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها ... أرى الدار تطوى لي ويدنو بعيدها
ابن ميادة:
تقرب لي دار الحبيب وإن نأى ... وما دار من أبغضته بقريب
العباس:
يقرب الشوق داراً وهي نازحة ... من عالج الشوق لم يستبعد الدارا
العباس:
ترى الرِجل قد تسعى إلى من تحبه ... وما الرِجل إلى حيث يسعى بها القلب
من حثه شوقه نحو محبوبه:
قال الموصلي:
صبٌ يحث مطاياه تذكركم ... وليس ينساكم إن حل أو سارا
آخر:
يعتادني طربي إليك ويعتلي ... وجدي ويدعوني هواك فأتبع
عمرو بن شاس:
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا ... كفى لمطايانا بذكراك حاديا
العباس:
لا يهتدي قلبي إلى غيركم ... كأنما سد عليه الطريق
متابعة المحبوب:
قال أعرابي:
وإن تدعي نجداً أدعه ومن به ... وإن تسكني نجداً فيا حبذا نجد!

المهلبي:
إن كنت أزمعت الرحيل ... فإن رأيي في الرحيل
أو كنت قاطنةً أقمت ... وإن منعت دنو سولي
كالنجم يصحب في المسير ... ولا يزور لدى النزول

معاتبة من ذكر شوقه:
يا من شكا عبثاً إلينا شوقه ... فعل المشوق وليس بالمشتاق
لو كنت مشتاقاً إلى تريدني ... ما طبت نفساً ساعةً بفراق
وحفظتني حفظ الخليل خليله ... ووفيت لي بالعهد والميثاق
تفضيل التزاور على التجاور:
قال عمر رضي الله عنه: زاوروا ولا تجاوروا. وقال: ادمان اللقاء سبب الجفاء. وفي المثل: من يتجمع يتقعقع أي تقع الخصومة بين المتجاورين.
الحث على تقليل الزيارة وكراهة مداومتها:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: زر غباً تزدد حباً.
شاعر:
اغبب زيارتك الصديق ... يراك كالشيء استجده
إن الصديق يمل من ... أن لا يزال يراك عنده
وقيل: قلة الزيارة أمان من الملالة وكثرة التعاهد سبب التباعد.
أبو تمام:
وطول مقام المرء في الحي مخلقٌ ... لديباجتيه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زادت محبةً ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد
آخر:
عليك بإغباب الزيارة إنها ... تكون إذا دامت إلى الهجر مسلكا
فإني رأيت الغيث يسأم دائماً ... ويسأل بالأيدي إذا هو أمسكا
شكوى من خفف الزيارة:
كشاجم:
بأبي وأمي زائرٌ متقنعٌ ... لم يخف ضوء الشمس تحت قناعه
لم أستتم عناقه لقدومه ... حتى ابتدأت عناقه لوداعه
فمضى وأبقى في فؤادي حسرةً ... تركته موقوفاً على أوجاعه
آخر:
وزائرٍ زار وما زارا ... كأنه مقتبسٌ نارا
ألم بالباب أخا نجوةٍ ... ما ضره لو دخل الدارا
نفسي فدا لك من زائرٍ ... ما حل حتى قيل: قد سارا
ابن أبي البغل:
حبيبٌ إذا ما زارنا قل لبثه ... وإن هو عنا غاب طال جفاؤه
وفي عذر تخفيف الزيارة قال أبو العيناء: سلام معظم، وجلوس مخفف، وانصراف متأسف.
شكاية من تأخر عنك:
حاذرت إذ واصلت إملالنا ... فخف إذا ما غبت أن نسلو
وقال إسحاق: كنت أزور العباس ابن الحسن فتأخرت عنه مدة مديدة، فقال لي: أذقتنا نفسك فلما استعذبناك لفظتنا؛وكان بعضهم يختلف إلى الأعشى فتأخر عنه أياماً فلقيه فأنشده:
ولج بك الهجران حتى كأنما ... ترى الموت في البيت الذي كنت تألف
العباس بن الأحنف:
من سائلٌ بدر الدجا ... ما باله ترك الطلوعا
وقال ابن الرومي:
يعتل بالشغل عنا ما يزاورنا ... والشغل للقلب ليس الشغل للبدن
شكوى من قل الالتقاء معه:
ابن سكرة:
إن أغب لم تغب وإن لم تغب ... غبت كأن افتراقنا باتفاق
الصنوبري:
إذا حضرنا غبت أو لم تغب ... نحضر فنحن الورد والنرجس
لم يجمعا للعين في روضةٍ ... قط ولم يجمعهما مجلس
منصور الفقيه:
هجرت المسجد الجامع ... والهجر له ريبة
فأخبارك تأتينا ... على الأعلام منصوبة
فإن زدت من الغيبة ... زدناك من الغيبة
زيارة من لا تحبه:
قالت أعرابية:
فلا تحمدوني في الزيارة إنني ... أزوركم إن لم أجد متعللاً
وبعث عمرو بن مسعدة إلى أبي العتاهية فاستزاره فقال:
كسلني اليأس منك عنك فما ... أرفع عيني إليك من كسلي
إني إذا ما الصديق أوحشني ... قطعت منه حبائل الأمل
آخر:
يقولون: زرنا واقض واجب حقنا ... وقد أسقطت حالي حقوقهم عني
إذا أبصروا حالي ولم يأسفوا عليها ... ولم يأنفوا منها أنفت لهم مني
آخر:
إذا ما تقاطعنا ونحن ببلدةٍ ... فما فضل قرب الدار منا على البعد
القيام للصديق الزائر:

كان الأحنف مستنداً إلى سارية في المسجد وحده فأقبل بعض اخوانه، فتنحى له عن مجلسه فقال: يا أبا بحر ما عندك من أحد ولا مجلسك ضيق فلم تنحيت؟قال: كرهت أن تظن أني لم أهش لزيارتك ومجيئك، فشكرت ذلك بأقرب ما حضرني من الإكرام. وقال محمد بن يزيد: حضر بعض الناس مجلس كبير فنهض فقال له في ذلك فقال:
لئن قمت ما في ذاك عندي غضاضةٌ ... لدي لأني للشريف مذلل
على أنه مني لغيرك هجنةٌ ... ولكنه مثلي لمثلك يجمل
وقال غيره:
فلما بصرنا به مائلاً ... حللنا الحبا وابتدرنا القياما
فلا تنكرن قيامي له ... فإن الكريم يجل الكراما

كراهة القيام :
أقبل معاوية وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عامر جالسان، فقام ابن عامر ولم يقم ابن الزبير فقال معاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار!وقال صلى الله عليه وسلم: لا يقومن الرجل لغيره من مجلسه ثم يجلسه فيه. وقيل: الكراهة في أن يقعد الرجل ويقيم الناس بين يديه.
الحد الثالث عشر
في الغزل وما يتعلق به
ما جاء في أوصاف الهوى وأحوال العشق
ماهية العشق
سئل بعض الفلاسفة عن العشق فقال: جنون إلهي! لا محمود ولا مذموم. وسئل عنه آخر فقال: حركة النفس الفارغة.
شاعر:
هل الحب إلا زفرةٌ بعد زفرةٍ ... وحرٌ على الأحشاء ليس له برد
وفيض دموع العين يامي كلما ... بدا علم من أرضكم لم يكن يبدو
وقال بعض الصوفية: الهوى محنة امتحن الله بها خلقه يستدل به على طاعة خالقهم ورازقهم. وقيل لبعضهم: ما العشق؟فقال: ارتياح في الخلقة وفرح يجول في الروح، وسرور ينساب في أجزاء القوى. وقال العيني: سألت أعرابياً عن الهوى فقال: هو أظهر من أن يخفى، وأخفى من أن يرى، كامن كمون النار في الحجر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى. وسئل يحيى بن معاذ عن حقيقته فقال: الذي لا يزيده البر ولا ينقصه الجفاء.
أحوال فروع الهوى وأنواعه:
قال العلماء: الهوى أنواع أوله العلاقة وهو الشيء يحدثه النظر والسمع فيخطر بالبال، ثم ينمو فيقوى فيصير محبة، والحب اسم مشترك يجمع ضروباً من ميل النفس كحب الولد والمال، ثم الهوى ثم المودة ثم الصبابة، ثم العشق ثم الوله والهيام والتتيم، وهو أرفع درجات الحب لأنه التعبد.
شاعر:
ثلاثةٌ أحبابٌ فحب علاقةٍ ... وحب تملاقٍ وحبٌ هو القتل!
وسئل بعض الصوفية عن الحب والهوى فقال: الهوى يحل في القلب والمحبة يحل فيها القلب. وقيل: العشق اسم لما يفضل من المحبة، كما أن السخاء اسم لما جاوز الجود، والبخل اسم لما قصر عن الاقتصاد، والهوج اسم لما فضل عن الشجاعة. وقال بعض الفلاسفة: الحب والعشق والهوى من جنس، لكن العشق اشتهار وتضرع، والوجد هو الحب الساكن الذي إذا رأى صاحبه شغف به، وإذا غاب لهج بذكره، والهوى ما تتبعه النفس غياً كان أم رشداً، حسناً كان أم قبيحاً، ولذلك ذمه الله تعالى بقوله: " ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " .
الأسباب المولدة للعشق:
زعم بعض المتفلسفين أن الله تعالى خلق الأرواح كلها كهيئة الكرة، ثم قطعها أنصافاً فجعل في كل جسد نصفاً فكل جسد لقي الجسد الذي فيه نصفه حصل بينهما العشق، وتفاوت حالهما في القوة والضعف على حسب رقة الطبائع. وزعم بعضهم أن الصداقة على ثلاثة أنواع: إما لاتفاق الأرواح فيكون لاتفاق الشمس والقمر في المولدين في برج واحد، فلا يجد أحدهما بداً من حب صاحبه، وأما المنفعة تحصل فتولد ذلك ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها. وأما الألفة تجتمع مواد الحرص إليها، ولهذا قال المتنبي:
وما العشق إلا غرة وطماعةٌ ... يعرض قلبٌ نفسه فتصاب
الصمد المري:
وما العشق إلا النار توقد في الحشا ... وتذكى إن انضمت عليه الجوانح
شدة معاناة العشق:

أعرابي: ما أشد جولة الرأي عند الهوى، وفطام النفس عند الصبا، ولقد تصدعت كبدي للمحبين، فلوم العاذلين فرطة في آذانهم ونار مؤججة في أبدانهم، لهم دموع على المغاني كغروب السواني. وقيل: كل شهوة تخطر فمداواتها سهلة ما خلا العشق.

ما يولده العشق من الأخلاق الحميدة:
شكا معلم سعيد بن مسلمة ولده إليه فقال: إنه مشتغل بالعشق. فقال: دعه فإنه يلطف وينظف ويظرف. وكان ذو الرياستين يبعث أحداث أهله إلى شيخ يعلمهم الحكمة فقال لهم يوماً: هل فيكم عاشق؟قالوا: لا. قال: اعشقوا وإياكم والحرام، فالعشق يفصح الفتى ويذكى، ويسخي البخيل، ويبعث على التنظيف وتحسين الملبس، فلما انصرفوا قال لهم ذو الرياستين: ما استفدتم اليوم؟قالوا: كذا وكذا. قال: نعم وإنما أخذه مما روي أن بهرام جور كان له ابن أهله للملك بعده، وكان ساقط الهمة رديء النفس سيء الخلق، فغمه ذلك ووكل به من يعلمه، فلم يكن يتعلم فقال معلمه: كنا نرجوه على حال فحدث منه ما أيأسنا، وهو أنه عشق بنت المرزبان فقال: الآن رجوت فلاحه، ثم دعا أبا الجارية فقال: إني مستسر إليك سراً فلا يعدونك، اعلم أن ابني عشق ابنتك وأريد أن أزوجها منه، فمره بأن تطمعه من غير أن يراها، فإذا استحكم طمعه فيها أعلمته أنها راغبة عنه لقلة أدبه، ثم قال للمعلم: خوفه بي وشجعه على مراسلة المرأة، ففعلت المرأة ما أمرت به فقال الغلام في نفسه: أنا أجتهد في تحصيل ما أصل إليها به، فأخذ في التأدب وتعلم الشجاعة. ثم قال أبوه للمؤدب: شجعه على أن يرفع أمرها ويسألني أن أزوجها منه، ففعل فزوجها من ابنه، وقال: لا تزدرين بها في مرسلتها إليك فإني كنت أمرتها بذلك، وإن من صار سبباً لعقلك فهو أعظم الناس بركة عليك.
العرجي:
تجشم المرء هولاً ... في الهوى كرم
وقال آخر:
لا عار في الحب إن الحب مكرمةٌ ... لكنه ربما أزرى بذي الخطر
وقيل: لو لم يكن في العشق إلا أنه يشجع الجبان، ويصفي الأذهان ويبعث حزم العاجز لكفاه شرفاً.
شاعر:
الحب شجع قلب كل فروقةٍ ... والحب حمل عاجزاً فأطاقا
ذم من لا يعشق وكدر حياته:
أعرابي: من لا يعشق فهو رديء التركيب جافي الطبع كز المعاطف. كان ابن أبي مليكة يؤذن فسمع غناء فطرب فقال:
إذا أنت لم تطرب ولم تدر ما الهوى ... فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا
وقال:
من عاش في الدنيا بغير حبيب ... فحياته فيها حياة غريب
ما تنظر العينان أحسن منظراً ... من طالب إلفاً ومن مطلوب
ما كان في حور الجنان لآدم ... لو لم تكن حواء من مرغوب
قد كان في الفردوس يشكو وحشةً ... فيها، ولم يأنس بغير حبيب
ذكر من عشق من الكبار:
قد علم ما كان من داوود عليه السلام وعشقه امرأة أوريا والتحاكم إليه وقوله تعالى: " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة " حتى فطن للقصة، فاستغفر ربه الآية وخبر يوسف وامرأة العزيز وقوله تعالى: " قد شغفها حباً " وخبر النبي صلى الله عليه وسلم مع زينب امرأة زيد، قال العباس بن الأحنف:
أستغفر الله إلا من محبتكم ... فإنها حسناتي يوم ألقاه
فإن زعمت بأن الحب معصية ... فالحب أحسن ما يعصى به الله
من قهره الهوى عن عزه:
كان للرشيد ثلاث جوار اشتد شغفه بهن فقال:
ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان
مالي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعز من سلطاني
عروة:
وكم من كريمٍ قد أضر به الهوى ... فعوده ما لم يكن يتعود
كثير:
ضعائف يقتلن الرجال بلا دم ... فيا عجباً للقاتلات الضعائف
الخبزارزي:
ولربّ عبدٍ في الهوى ... يستعبد الحر المطاعا
قيل لرجل: إن ابنك قد عشق. فقال: عذب قلبه وأبكى عينه وأطال سقمه!وقال بعض الفلاسفة: لم أر حقاً أشبه بباطل من العشق، هزله جد، وجده هزل، أوله لعب وأخره عطب.
إن الهوان هو الهوى جزم اسمه ... فإذا لقيت هوى لقيت هوانا
آخر:

وما كيسٌ في الناس يحمد رأيه ... فيوجد إلا وهو في الحب أحمق

حمد تحمل المذلة في الهوى:
شاعر:
إن التذلل في حكم الهوى شرف
آخر:
لا تأنفن من الخضوع لذي الهوى ... واخضع لإلفك كائناً من كانا
وقيل: التذلل للحبيب من شيم الأريب. ونقشت ظريفة على خاتمها:
قصيرةٌ من طويلة ... نفس المحب ذليله
قال الأصمعي: غضب الفضل بن يحيى على جارية فبعثت إلي تسألني أن أسترضيه، فسألته فقال: الذنب ذنبها. فقلت: وكيف موقعها من قلبك أيها الأمير؟فقال: أحسن موقع وإنما أريد بهذا الهجر تهذيبها. فاستعمل فيها وصية العباس بن الأحنف. قال: وما هي؟ قلت:
تحمل عظيم الذنب ممن تحبه ... وإن كنت مظلوماً فقل أنا ظالم
فإنك إن لم تغفر الذنب في الهوى ... تفارق من تهوى وأنفك راغم
وصف الهوى بأنه جنون:
وصف أعرابي الهوى فقال: هو طرف من الجنون إن لم يكن عصارة السحر؛وعليه:
أداءٌ عراني من ... جنابك أم سحر
غيلان بن عقبة:
هو السحر إلا أن للسحر رقية ... وإني لا ألقى من الحب راقيا
ابن الرومي:
أهوى الهوى كل ذي لب فلست أرى ... إلا صحيحاً له أفعال مجنون
من شغف بقبيح ليس فيه موضع للعشق:
تيقن من رآك تحب قيناً ... بأن الحب ضربٌ من جنون
مغالبة الهوى:
قيل: مغالب الهوى كمغالب الدنيا.
شاعر:
قد كنت أعلو الحب حيناً فلم يزل ... بي النقض والإبرام حتى علانيا
آخر:
فوالله ما أدري أيغلبني الهوى ... إذا جد جد البين أم أنا غالبه؟
فإن أستطع أغلب فإن يغلب الهوى ... فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه
استعظام المحبوب وجلالته في عين الحب:
يستحسن في ذلك قول بعضهم:
أهابك إجلالاً وما بك قدرةٌ ... علي ولكن ملء عين حبيبها
آخر:
تمنيته حتى إذا ما رأيته ... بهت فلم أعمل لسناً ولا طرفا
وأطرقت إجلالاً له ومهابةً ... وحاولت أن يخفى الذي بي فلم يخفا
فلو أنني ملكت من ثغره الذي ... تمكن فيه الدر قبلته ألفا
وصف حب تمكن في الحشا:
كثير:
أباحت حمى لم ترعه الناس قبلها ... وحلت تلاعاً لم تكن قبل حلت
العباس بن الأحنف:
لا تحسبني ماذقاً في الهوى ... إني على حبك مطبوع
عبيد الله بن طاهر:
شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليم فالتأم الفطور
تغلغل حيث لم يبلغ شرابٌ ... ولا حزنٌ ولم يبلغ سرور
قيل لأبي العتاهية أي شعرك أعجب إليك؟قال قولي:
قال لي أحمدٌ، ولك يدر ما بي: ... أتحب الغداة عتبة حقا
فتنفست ثم قلت: نعم حباً ... جرى في العروق عرقاً فعرقا!
قال رجل لمحبوبه: حبك متولٍ على فؤادي وذكرك سميري. فقال له محبوبه: أما أنا فلا أحب أن يقع طرفي على سواك.
عمر بن أبي ربيعة:
فمن كان لا يعدو هواه لسانه ... فقد سار في قلبي هواك وخيما
وليس بتزويق اللسان وصوغه ... ولكنه قد خالط اللحم والدما
المهلبي:
وصرنا في محبتنا حديثاً ... يهجن شرحه قيساً ولبنى
من ذكر أن قلبه ناصر محبوبه عليه:
العباس بن الأحنف:
قلبي إلى ما ضرني دعاني ... يكثر أسقامي وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوي إذا ... كان عدوي بين أضلاعي؟
أخذ ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: أعدى عدويك نفيسة بين جانبيك.
شاعر:
يؤازره قلبي علي وليس لي ... يدان على قلبي عليه تؤازره
آخر:
أقامت على قلبي رقيباً وناظري ... فليس يؤدي عن سواها إلى قلبي
قتيل الهوى شهيد:
روي في الخبر: من عشق فعف فمات مات شهيداً!.
الخبزارزي:
وحبك ما استحسنت خير مجربٍ ... عليك إذا لم تنتهك فيه محرما
الفتح بن خاقان:
زفرةٌ في الهوى أحط لذنبٍ ... من غزاة وحجةٍ مبروره
المهلب:

أشتهي الآن أن أصلي على نعش ... محب قد مات في الحب وجدا
قيل: ذنوب العشاق ذنوب اضطرار لا اختيار، وما كان كذلك لم يستحق عقوبة.
كون قتيل الهوى هدراً:
قال عبد الله بن جندب: خرجت فرأيت فساقاً فيهن امرأة كأنها منحوتة من فضة فتمثلت بقول قيس بن ذريح:
خذوا بدمي إن مت كل خريدةٍ ... مريضة جفن العين والطرف فاتر
فقالت المرأة: يا ابن جندب إن قتيلنا لا يودى وأسيرنا لا يفدى. وقال ابن العباس: قتيل الهوى هدر ولا عقل ولا قود.
أبو حية النميري:
رمين فأقصدن القلوب وما نرى ... دماً مائراً إلا جرى في الحيازم
ولكن لعمر الله ما طل مسلماً ... كغر الثنايا واضحات الملاغم
وإن دماً لو تعلمين جنيته ... على الحي جاني مثله غير سالم
مسلم بن الوليد:
أديرا علي الكأس لا تشربا قبلي ... ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي

من أمر أن يقتص من محبوبه:
شاعر:
خليلي إن حانت وفاتي فاطلبا ... دمي من سليمي واطلبا بجميل
الحسين بن الضحاك:
غزالٌ ما اجتلاه الطرف إلا ... تحير في ملاحة وجنتيه
خذوا بدمي محاسنه وخصوا ... مقبله وبرد ثنيتيه
الإشفاق من أن يلحق المحبوب إثم في قتله:
أحمد بن يوسف:
وفي الموت لي من لوعة الحب راحةٌ ... ولكنني أخشى ندامتها بعدي
إستطابة الأذى في معاناة الهوى:
المجنون:
يقولون: ليلى عذبتك بحبها ... ألا حبذا ذاك الحبيب المعذب!
آخر:
تشكى المحبوب الصبابة ليتني ... تحملت ما ألقاه من بينهم وحدي
فكانت لنفسي لذة الحب كلها ... فلم يلقها قبلي محبٌ ولا بعدي
آخر:
دع الحب يصلى بالأذى من حبيبه ... فكل أذى ممن تحب سرور
تراب قطيع الشاملي عين ذئبها ... إذا ما تلا آثارهن ذرور
المتنبي:
سهادٌ أتانا منك في العين عندنا ... رقاد وقلام رعى سربكم ورد
وقال:
ضنى في الهوى كالسم في الشهد كامناً ... لذذت به جهلاً وفي لذتي حتف
وقال:
والعشق كالمعشوق يعذب قربه ... للمبتلي وينال من حوبائه
لو قلت للدنف الحزين فديته ... مما به لأغرته بفدائه
التبرم في الهوى:
محمد بن عبد الله بن طاهر:
ليت الهوى لم يكن بيني وبينكم ... وليت معرفتي إياك لم تكن
البحتري:
رحلوا فأية عبرةٍ لم تسكب ... أسفاً وأي عزيمةٍ لم تغلب
لو كنت شاهدنا وما صنع الهوى ... بقلوبنا لحسدت من لم يحبب
التلذذ بالهوى عند المواصلة والتبرم به لدى المعارضة:
الخوارزمي:
وهذا الهوى عيش المحب إذا صفا ... ولكن إذا لم يصف كان له حتفا
وهب الهمذاني:
ولي بين هجران الحبيب ووصله ... مصيران: موتٌ تارةً ونشور
التعبد للمحبوب وتذليل النفس فيه:
قد أجمع الأدباء على تفضيل قول أبي الشيص:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة فيك لذيذةٌ ... حباً لذكرك فليلمني اللوم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذا كان حظي منك حظي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغراً ... ما من يهون عليك ممن يكرم
ويستعذب قول المتنبي حتى ما من أديب إلا وهو يرويه، ولا مغن إلا وهو يغنيه:
يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيءٍ بعدكم عدم
إن كان سركم ما قال حاسدنا ... فما لجرحٍ إذا أرضاكم ألم
المتبرم من محبوبه عمر عداه والمتبرم عند فقد بسواه:
إبراهيم بن العباس:
وأنت هوى النفس من بينهم ... وأنت الحبيب وأنت المطاع
وما لي إن بعدوا وحشةٌ ... ولا معهم إن بعدت اجتماع
أبو فراس:
فيا ليت ما بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب
وليتك تحلو والحياة مريرةٌ ... وليتك ترضى والأنام غضاب
آخر:

وكنت إذا داري بطيبك أسعفت ... رضيت على الدنيا فما أستزيدها
الماهر:
الناس أنت فأين عنك معرجي؟ ... والأنس فيك فأين عنك أيمم؟
آخر:
فكل حياةٍ مع سواك منيةٌ ... وكل ضحىً في أرض غيرك غيهب
أعرابية:
فما أحسن الدنيا وعندي خالد ... وأقبحها لما تجهز غازيا!
وقال رجل لامرأة: قد أخذت قلبي فلست أستحسن سواك!فقالت: إن لي أختاً هي أحسن مني وها هي خلفي!فالتفت الرجل. فقالت: يا كذاب تدعي هواناً وفيك فضل لسوانا.

الاستغناء بالحبيب عن كل خير وطيب:
بعضهم:
ولو جاورتنا العام آخر لم نبل ... على جدبنا أن لا يصوب ربيع
كشاجم:
ما أرتجي بالرياض فيك غنىً ... عنهن لي منظرٌ وحسن غنا
أدير طرفي فلا أرى حسناً ... إلا أرى فيك ذلك الحسنا
إجابة الهوى إذا دعا:
بعض بني أسد:
إذا أمرتك النفس أن تتبع الهوى ... فقل سامع للأمر منك سميع
وهذا خلاف قول الآخر:
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال
ولهذا باب في أول الكتابة.
ولثوبة:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني جندلٌ وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زفاً ... إليها صدى من جانب القبر صائح
فيقال: لما مات توبة ومضى على ذلك زمان وتزوجت ليلى مرت مع زوجها يوماً بقبر توبة فقال: ألا تسلمين عليه لننظر هل صدق في قوله: ولو أن ليلى " البيتين " فسلمت عليه فندت هامة من ناحية قبره وصرخت، فنفر جملها وسقطت فاندق عنقها فماتت فدفنت بجانبه.
جهل المحب بمقابح محبوبه:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: حبك الشيء يعمي ويصم أي يعمي عن الرشد ويصم عن سماع المواعظ على ذلك. قال معاوية: لولا يزيد لأبصرت رشدي.
شاعر:
يا عتب ما أنا عن فعالك بي ... أعمى، ولكن الهوى أعمى
آخر:
وعين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ ... كما أن عين السخط تبدي المساويا
المتنبي:
ويقبح من سواك الفعل عندي ... وتفعله فيحسن منك ذاكا
علي بن عبد الله بن جعفر:
ولائمٍ لام فيه ... يبغي بذلك شيني
فقلت إذ لام فيه ... هلا نظرت بعيني!
وقال الأصمعي: سألني الرشيد عن حقيقة العشق فقلت: أن يكون البصل منها أطيب من المسك من غيرها.
عذر من أحب قبيحاً:
قيل لرجل: لم اخترت من جواريك أقبحهن؟فقال: لأن الهوى ليس نخاساً فيختار أثمنهن. وقال رجل للجماز: ابتلاك الله بحب فلانة لآمرأة قبيحة فقال: يا أحمق لو ابتلاني الله بحبها لكانت كالحور العين عندي، ولكن ابتلاك بأن تكون في بيتك وأنت تبغضها ولا يمكنك التخلص منها. وقيل لرجل: اخترت فلانة مع قبحها. فقال: لو صح لذي الهوى اختيار لاختار أن لا يعشق. وقيل: العين إذا أبصرت الهوى عميت عن الاختيار.
من جعل محبوبه كمعبوده:
مذهب الحلوليين معروف فيما يدعونه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. شاعر:
لما رآه النصارى لا شبيه له ... وشاهدوه بأسماعٍ وأبصار
خروا سجداً وقالوا: حل ثانية ... في صورة الأنس ذاك الواحد الباري
آخر:
أفدي بنفسي من بدر على غصن ... تكاد تأكله عيناي بالنظر
إذا تفكرت فيه عند رؤيته ... صدقت قول الحلوليين في الصور
هوى ثبت في الصغر وبقي على حالته في الكبر:
كل هوى ثبت في الصغر فهو كالنقش في الحجر، لا تغيره الأحوال ولا تبدله الأعوام.
قال ابن الطثرية:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكنا
وقال:
وعلقت ليلى وهي ذات ذوائب ... ترد علينا بالعشي المراميا
فشبّ بنو ليلى وشب بنو ابنها ... وأعلاق ليلى في الفؤاد كما هيا
من ذكر أن هواه لا يزول إلا بموته:
شاعر:
ستبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ودٍ يوم تبلى السرائر
آخر:
يهيم فؤادي ما حييت بذكرها ... ولو أنني قد مت جاوبها الصدى
المفاضلة بين قديم الهوى وحديثه:

قال الأصمعي: رأيت في طريق الحج جاريتين كفلقتي القمر، فلما كانت السنة الثانية رأيت إحداهما فسألتها عن أختها فقالت: تزوج بها ابن عم لها. فقلت: لو أدركتها لتزوجتها فقالت: ما يمنعك من شقيقتها في حسبها ونسبها وشريكتها في حسنها؟فقلت قول كثير:
إذ واصلتنا خلة كي تزيلها ... عرضنا، وقلنا الحاجبية أول؟
فقالت: بيننا كثير أليس هو القائل:
هل وصل عزة إلا وصل غانيةٍ ... في وصل غانيةٍ عن وصلها خلف؟
وحدث يحيى بن أكثم المأمون أن كثيراً اجتمع مع عزة فتنكرت له متنقبة وقالت: من أنت؟قال: كثير. فقالت: وهل تركت عزة فيك نصيباً لغيرها؟فقال: لو أن عزة كانت أمة لي لجعلتها لك. فكشفت البرقع وقالت: أهذا أيضاً كذب الوشاة؟فاستحيا، فقال المأمون: لقد استحييت له وأنا على سريري. وقال جعفر بن سليمان: قصدت المهدي يوماً فقال: دخلت إلي جارية يقال لها حسناء، ودخلت أخرى، يقال لها ملكة، وأردت القيلولة فقلت: عند أيكما أقبل؟فقالت حسناء: إن الله تعالى يقول: " والسابقون السابقون أولئك المقربون " . فقالت ملكة: لا تعجل فإن الله تعالى يقول " وللآخرة خير لك من الأولى " . فقلت: لو أن شريكاً حضرهما لم يقدر أن يقضي بينهما.
بشار:
سبقت بالحب سلمى غيرها ... وأحق الناس عندي من سبق
أبو تمام:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبداً لأول منزل!
ونقضه ديك الجن فقال:
نقل فؤادك حيث شئت فلن ترى ... كهوى جديدٍ أو كوصل مقبل
من جعل لكل من قديم الهوى وحديثه نصيباً:
أنا مبتلٍ ببليتين من الهوى ... شوقي إلى الثاني وذكر الأول
قسم الفؤاد لحرمةٍ وللذةٍ ... في الحب من ماضٍ ومن مستقبل
كثير:
وللعين ملهى في البلاد ولم يقد ... هوى النفس شيءٌ كاقتياد الطرائف
أبو تمام:
وقالت: أنيسي البدر قلت تجلدا: ... إذا الشمس لم تغرب فلا طلع البدر!

من ذكر كثرة من يهواهم:
ابن أبي طاهر:
عدمت فؤادي من فؤادٍ فما أشقى ... وأكثر من يهوى وأعظم ما يلقى
فلو كان يهوى واحداً لعذرته ... ولكنه من جهله يعشق الخلقا
ثمانون لي في كل يوم أحبهم ... وما في فؤادي واحد منهم يبقى
آخر:
قالوا: بغانية واصلت غانية؟ ... فقلت: حزم ورود الماء بالماء
مساعفة المحبوب إذا ساعف والإعراض عنه إذا أعرض:
هذه طريقة يختارها قوم فيطيب عيشهم، وإن كان لا يرضاها من يتكلم في العشق من حكام أربابه.
شاعر:
تمتع بها ما ساعفتك، ولا يكن ... عليك شجىً في الصدر حين تبين
تأسف من يحبه من لا يحبه:
شاعر:
إن كان ذا قدراً نعطيك نافلة ... منا وتحرمنا ما أنصف القدر
أبو الطمحان:
أفي الحق أني مغرمٌ بك هائمٌ ... وأنك لا خلٌ هواك ولا خمر
أشجع:
وموت الفتى خيرٌ له من حياته ... إذا كان ذا حالين يصبو ولا يصبي
ويستظرف للمتنبي:
أنت الحبيب ولكني أعوذ به ... من أن أكون محباً غير محبوب
قال بعضهم: وجدت في مكة شاباً مصفراً ناحلاً فسألته عن حاله فقال: بليت بوصيفة فذهب رأس مالي في ثمنها ونفقتها، وليست تحبني!فقلت: استمتع بها وعدها بعض نعم الدنيا والآخرة، هل تحبك العافية؟هل تحبك الصحة؟هل يحبك المال؟هل تحبك الجنة؟فقال: لا. فقلت: أليس تحب ذلك وتتمتع به مع أنه لا يحبك، فهبها بعض نعيم دنياك وآخرتك!فقام كالمسرور وأوجع إليها وساهلها في سوء خلقها حتى رجع الله تعالى بقلبها إليه، وطاب عيشه معها.
تأسف من يزداد صفاء بجفاء محبوبه:
إبراهيم ابن العباس:
بنفسي من أساءته اعتمادٌ ... ومن إحسانه من غير عمد
ومن أصفيته في الود جهدي ... فعارض في الجفاء بمثل جهدي
أبو العتاهية:
ولي فؤاد إذا طال العذاب به ... هام اشتياقاً إلى لقيا معذبه
يفديك بالنفس صبٌ لو يكون له ... أعز من نفسه شيءٌ فداك به
من ذكر مساواة محبوبه في المحبة:

إن التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوىً لها
إبراهيم بن المهدي:
وتخبرني عن قلبها فكأنها ... إذا صدقت عنه تحدث عن قلبي
أبو عنيسة:
كلانا سواء في الهوى غير أنها ... تجلد أحياناً وما بي تجلد
الرفاء:
شكوت الذي تشكو إلى كأنما ... تجن ضلوعي ما تجن ضلوعها
بعض الصوفية:
روحه روحي وروحي روحه ... إن يشأ شئت وإن شئت يشأ

تعارف القلوب مودات الأحباب:
قال صلى الله عليه وسلم: الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.
بكر بن البطاح:
وعلى القلوب من القلوب دلائل ... بالود قبل تشاهد الأشباح
العباس بن الأحنف:
قل للتي وصفت مودتها ... للمستهام بذكرها الصب
ما قلت إلا الحق أعرفه ... إن الدليل عليه من قلبي
قلبي وقلبك بدعةٌ خلقا ... يتجاريان بصادق الحب
ثم نقض هذا بقوله:
فلو كان حقاً كما يزعمون ... لما كان يجفو حبيبٌ حبيبا
محبة من لا يعرف الهوى:
العباس بن الأحنف:
وجاهلة بالحب لم تبل طعمه ... وقد تركتني أعلم الناس بالحب
ابن المعتز:
قد كان غراً بقتلي ليس محسنه ... فالآن يبدع في قتلي على البدع
محبة كل مات في المحبوب:
أحب بني القوام طراً لحبها ... ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
قيس بن ذريح:
وداعٍ إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أشجان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أهاج بليلى طائراً كان في صدري
المتنبي:
لولا ظباء عدي ما شقيت بهم ... ولا بربربهم لولا جآذره
من هانت نفسه عليه لاستخفاف محبوبه به:
أبو الشيص:
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم
آخر:
إن الذين بخيرٍ كنت تذكرهم ... قد أهلكوك وعنهم كنت أنهاكا
لا تطلبن حياةً عند غيرهم ... فليس يحييك إلا من توفاكا
المدعي عشقاً من غير عيان:
بشار:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقةٌ ... والأذن تعشق قبل العين أحياناً
قالوا: بمن لا ترى تهذي؟فقلت لهم ... الأذن كالعين تؤتي القلب ما كانا
ابن الرومي:
هويتك ناشئاً قبل التلاقي ... هوى حدثاً تكهل باكتهالي
وكل مودةٍ قبل اختيارٍ ... فتلك هوىً طبائع لا انتحال
تأذي المحبوب بمحبه:
قيل المرأة إن أحبتك آذتك، وإذا أبغضتك خانتك. وقال رجل ليوسف الصديق: إني أحبك. فقال: لا حاجة لي بمن يحبني، فقد أحبني أبي فطرحت لأجله في الجب، وأحبتني امرأة العزيز فحبست لأجلها في السجن بضع سنين.
من فقدته العين ولم يفقده القلب:
بعض المحدثين:
والله ما شطت نوى ظاعنٍ ... إلا عن العين إلى القلب
آخر:
بنتم عن العين القريحة فيكم ... وسكنتم مني الفؤاد الواله
ابن فتير:
إن كنت لست معي فالذكر منك سوى ... قلبي القريح وإن غيبت عن بصري
العين تبصر من تهوى وتحرمه ... وإنما القلب لا يخلو من الفكر
آخر:
يجد النأي ذكرك في فؤادي ... إذا ذهلت على النأي القلوب
البحتري:
إن جرى بيننا وبينك هجر ... وتنائت منا ومنك الديار
فالغليل الذي عهدت مقيمٌ ... والدموع التي عهدت غزار
تذكر المحبوب في جميع الأحوال:
شاعر:
تذكرنيك الخير والشر والذي ... أخاف وأرجو والذي أتوقع
عمر بن أبي ربيعة:
إذا طلعت شمس النهار ذكرتها ... وأحدث ذكراها إذ الشمس تغرب
الخنساء:
يذكرني طلوع الشمس صخراً ... وأذكره لكل غروب شمس
من لم يوجعه بعد محبوبه لتصوره:
إن التباعد لا يضر ... إذا تقاربت القلوب
ابن المعتز:
ما أبالي بظنونٍ ... وعيونٍ أتقيها
لي من ذكراك مرآ ... ة أرى وجهك فيها
تذكر المحبوب في اليقظة والنوم:
لعلي بن الجهم:

أآخر شيءٍ أنت في كل هجعةٍ ... وأول شيءٍ أنت عند هبوبي؟
ابن ميادة:
فما مس جنبي الأرض إلا ذكرتها ... وإلا وجدت ريحها في ثيابيا

تذكر المحبوب في الخفض والشدة:
بعضهم:
أسجناً وقيداً واشتياقاً وعبرةً ... ونأي حبيبٍ إن ذا لعظيم
وإن أمرأ دامت مواثيق عهده ... على مثل ما قاسيته لكريم
بعض الصوفية:
ولقد ذكرتك والذي أنا عبده ... والسيف عند ذؤابتي مسلول
تذكرة بضرب من المشابهة من طيب:
كتب بعض البلغاء: يذكرناك ريح الشمول وريح الشمال.
بشار:
إذا لاح الصوار ذكرت سعدى ... وأذكرها إذا نفخ الصوار
الخبزارزي:
نصباً لعينك لا ترى حسناً ... إلا ذكرت به لها شبها
البحتري:
كاسٌ تذكرني الحبيب بلونها ... وبشمها وبطعمها وحبابها
بعض المحدثين:
إذا ما ظمئت إلى ريقه ... جعلت المدامة منه بديلا
وأين المدامة من ريقه؟ ... ولكن أعلل قلباً عليلا
تعسر نسيان المحبوب:
قال المهدي يوماً لأصحابه: أي بيت أغزل؟فقال بعضهم قول كثير:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
فقال: ماله يريد أن ينسى؟فقيل: قول امرىء القيس: في أعشار قلب مقتل. فقال: هذا جاف. فقال ابن بزيع: عندي غرضك:
إذا قلت إني مشتفٍ بلقائها ... وحم التلاقي بيننا زادني وجدا
فقال أصبت.
الاستحياء من المحبوب بظهر الغيب لتصوره:
جميل:
وإني لأستحييك حتى كأنما ... علي بظهر الغيب منك رقيب
أشجع:
ويمنعني من لذة العيش أنني ... أخاف إذا قارفت لهواً ترانيا
ذكره في الصلاة:
المجنون:
أصلي فما أدري إذا ما ذكرتها ... اثنتين صليت الضحى أم ثمانيا
الخبزارزي:
ألفت هواك حتى صرت أهذي ... بذكرك في الركوع وفي السجود
التلذذ بذكره:
اشرب على ذكرهم إن حيل بينهم ... عساك منهم على ذكرٍ إذا شربوا
محمد بن أمية:
أقول لهم: كروا الحديث الذي مضى ... وذكراك من بين الأنام أريد
أناشده إلا أعاد حديثه ... كأني بطيء الفهم حين يعيد
قيل لأبي المجنون: لو خرجت إلى مكة فتصير بعيداً عن ليلى فعساه يتسلى. ففعل فسمع يوماً إنساناً يقول: يا ليلى. فغشي عليه. فلما أفاق قيل له: مالك؟فقال:
وداعٍ دعا بالخيف إذ نحن من منى
وقال:
وإني لتعروني لذكراك هزةٌ ... لها بين جلدي والعظام دبيب
من خط صورة محبوبه وشكا إليها:
أبو نواس:
إذا ما الشوق أقلقني إليه ... ولم أطمع بوصلٍ من لديه
خططت مثاله في بطن كفي ... وقلت لمقلتي: فيضي عليه!
بشار:
خططت مثالها وجلست أشكو ... إليها ما لقيت على انتحاب
كأني عندها أشكو همومي ... إليها والشكاة على التراب
الاستقاء لماضي الزمن:
سقى الله أياماً لنا ولياليا مضين فلا يرجى لهن طلوع
إذ العيش صافٍ والأحبة جيرةٌ ... جميعٌ وإذ كل الزمان ربيع
وإذ أنا أما للعواذل في الهوى ... فعاصٍ وأما للهوى فمطيع
قال الصاحب في هذا الشعر: إن شئت كان أعرابياً في شملته وإن شئت فعراقي في حلته.
وقال البحتري:
والعيش غضٌ والحياة لذيذةٌ ... والحادثات عن الزمان بمعزل
آخر:
سقياً لأيام تولت بها ... أحسن ما كانت صروف الزمن
ولت فما الدنيا بأقطارها ... لليوم والساعة منها ثمن
تمني عود الأيام السالفة:
بعضهم:
ولو أنني أعطيت من دهري المنى ... وما كل من يعطى المنى بمسدد
لقلت لأيام مضين: ألا ارجعي! ... وقلت لأيام أتين: ألا ابعدي!
آخر:
خليلي ما بالعيش عتبٌ لو اننا ... وجدنا لأيام الحمى من يعيدها
جحظة:
ألا ليت عيشاً أولاً كر راجعاً ... وإلا فعيشٌ آخرٌ مثل أول
التلهف على أحوال سالفة:
منصور النميري:

ومجالس لك بالحمى ... وبها الخليط نزول
أيامهن قصيرةٌ ... وسرورهن طويل
المالكية والشبا ب وقينةٌ وشمول
آخر:
لولا ثلاثٌ هن عيش الدهر: ... المال والخبز وأم عمرو

من هيجه الحمام بتغريده:
أنشد ابن أبي طاهر وقال: هو أحسن ما قيل في بكاء الحمام:
وقبلي أبكى كل من كان ذا هوى ... هتوف البواكي والديار البلاقع
ومر على الأطلال من كل جانبٍ ... نوائح ما تخضل منها المدامع
مزبرجة الأعناق نمر بطونها ... مخطمةٌ بالدر خضرٌ روائع
ترى طرراً بين الخوافي كأنما ... حواشي برودٍ أحكمتها الوشائع
ومن قطع الياقوت صيغت عيونها ... خواضب بالحناء منها الأصابع
حميد بن ثور:
وما هاج هذا الشوق إلا حمامةٌ ... دعت ساق حر ترحةً وترنما
بكت شجو ثكلى قد أصيب حميمها ... مخافة بينٍ يترك الحبل أجذما
فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربياً شاقه صوت أعجما
آخر:
يا ويح قمرية غنت لنا هزجاً ... مما تغني بنظم جدٍ متزن!
قد كنت واقعةً دهراً على فنن ... فصرت في جوف منحوت من القنن
فخبرينا وما ألقاك مخبرةً ... أتسجعين للهوٍ منك أم شجن؟
وفي الفؤاد همومٌ لست مظهرها ... خوف الوشاة واشفاقاً من الزمن
التذكر بنار موقدة:
نظر أعرابي إلى نار بأرض محبوبه فقال:
أنارٌ بدت يا عبد في ساكن الغضى ... مع الليل أم برقٌ تلألأ ناضب
فأحبب بتلك النار والموقد الذي ... له عند جرعاء النميرة حاطب
وقال:
يا موقد النار أوقدها فإن بها ... سناً يهيج فؤاد العاشق السدم
التذكر بالبرق:
أبو سعيد بن فوقه:
أقول وقد شمت البروق فلم أجد ... كبرقٍ بدا من أصبهان فأومضا
سقى الرائح الغادي بلاداً رفضتها ... ولم تك إلا إن نبت بي لترفضا
وهل هي إلا موطن لي محببٌ ... إلي أعادته الخطوب مبغضا
وقال:
إذا أومض البرق من أرضها ... تمثل لي أنها تبتسم
وأذكرها في المحل الجديب ... فيخصب من دمعي المنسجم
التذكر والشوق بهبوب الريح:
شاعر:
ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجدٍ؟ ... لقد زادني مسراك وجداً على وجد
عبد الله بن أمية:
هبت محالاً فقيل من بلدٍ ... أنت بها طاب ذلك البلد
فقبل الريح من صبابته ... ما قبل الريح قبله أحد
وقال:
إذا هب علوي الرياح وجدتني ... كأني لعلوي الرياح كثيب
تذكر المحبوب بالاختلاج العارض:
العرب تزعم أن من خدرت رجله فذكر محبوبه ذهب خدرها.
عمر بن أبي ربيعة:
إذا خدرت رجلي أبوح بذكره
وقال:
إذا مذلت رجلي دعوتك أشتفي ... بذكراك من مذلٍ بها فيهون
ويقولون : من اختلجت عينه أبصر محبوبه.
إبراهيم الموصلي:
اختلجت عيني فأبصرته ... كان عيني تعلم الغيبا
ابن المعتز:
مرحباً باختلاج أجفان عينٍ ... بشرت نفسها برؤية خير
العباس:
ظلت تبشرني عيني إذا اختلجت ... بأن أراك وما زالت على خطر
فقلت للعين: أما كنت صادقة ... إني ببشراك لي من أسعد البشر
فما جزاؤك عندي لست أعرفه ... بلى جزاؤك أن تخلين بالنظر
وأحجب المقلة الأخرى وأمنعها ... وجه الحبيب كما لم تأت بالخبر
مما جاء في التوديع والفراق
لبعضهم:
تمتع من حبيبٍ بالوداع ... فما بعد الفراق من اجتماع
فلم أر في الذي لاقيت شيئاً ... أمر من الفراق بلا وداع
بشار:
إن الوداع من الأحباب نافلةٌ ... للظاعنين إذا ما يمموا بلدا
ولست أدري إذا ما شط المزار بهم ... هل نجمع الدار أم لا نلتقي أبدا
الموسوي:

وأفجع الناس من سارت حبائبه ... ولا عناقٌ ولا ضمٌ ولا قبل

التوديع بالإشارة:
قال الأصمعي: سمعت أعرابياً يخاطب آخر فيقول: شيعنا الحي وفيهم أدوية السقام، فأشرنا بالحق إلى السلام، وجمدت الألسن عن الكلام. خرج رجل في سفر وكانت له ابنة عم يحبها فقال:
ولما تبدت للرحيل جمالنا ... وجد بنا سيرٌ وفاضت مدامع
أشارت بأطراف البنان وسلمت ... وأومت بعينيها: متى أنت راجع؟
فقلت لها والقلب فيه حرارةٌ: ... فديتك!ما علمي بما الله صانع
استطابة التوديع طمعاً في لقاء الحبيب:
شاعر:
وسهل التوديع يوم المنى ... ما كان قد وعره الهجر
وقال:
ليس عندي خطب النوى بعظيم ... فيه روحٌ وفيه كشف هموم
إن فيه اعتناقةً لوداع ... وانتظار اعتناقةٍ لقدوم
وقال:
ولو فهم الناس التلاقي وحسنه ... لحبب من أجل التلاقي التفرق
فيا حسننا والدمع بالدمع واشجٌ ... نمازجه والخد بالخد ملصق
وقد ضمنا وشك التلاقي ولفنا ... عناقٌ على أعناقنا ثم ضيق
فلم تر إلا مخبراً عن صبابةٍ ... بشكوى وإلا عبرةً تترقرق
ومن قبلٍ قبل التلاقي وبعده ... نكاد بها من شدة اللثم نشرق
عذر تارك توديع محبوبه:
كتب بعضهم: ما أعرضت عن تشييعك إلا استفظاعاً لتوديعك، وما كرهت توديعك إلا كراهاً تجديد العهد بفراقك!.
البحتري:
لا تعذلني في مسيرك ... يوم سرت ولم ألاقيك
إني عرفت موافقاً للبين ... تسفع غرب ماقك
وعلمت أن لقاءنا ... سبب اشتياقي واشتياقك
الصنوبري:
بأبي من هربت من توديعه ... وبعثت الدموع في تشييعه
البكاء عند التوديع:
لما أراد عبد الملك الخروج إلى مصعب بن الزبير تعلقت به امرأته عاتكة، فبكت وأبكت جواريها، فقال عبد الملك: قاتل الله ابن أبي جمعة حيث قال:
إذا ما أراد الغزو لم يثن عزمه ... حصانٌ عليها نظم درٍ يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقه ... بكت فبكى مما دهاها قطينها
وقال:
ومما دهاني أنها يوم أعرضت ... تولت وماء العين في الجفن حائر
فلما أعادت من بعيدٍ بنظرةٍ ... إلي التفاتاً أسلمته المحاجر
آخر:
سقى الله ركباً ودعوا يوم ودعوا ... وعيرهم شوقي وحاديهم وجدي
غداة مضت واستوثقتني عبرةٌ ... أسائل في سعدٍ عن القمر السعدي
إظهار التوجع لوداع الحبيب:
شاعر:
وداعك مثل وداع الربيع ... وفقدك مثل انفقاد الديم
عليك السلام فكم من وفا ... نفارقه منك أو من كرم
أبو تمام:
الناس غيرك ما تغير خيرتي ... لفراقهم هل أنجدوا أم أغوروا
صعوبة لقاء الإبل للفراق:
لو تعلم العيس ما في يومٍ بينهم ... أبت على السائق الحادي فلم تسر
كأن في أيدي مطاياهم إذا وخذت ... يقعن في حر وجهي أو على بصري
المتنبي:
كأن العيس كانت فوق جفني ... مناخاتٌ فلما ثرن سالا
وقد ذم بعضهم الإبل لما كانت سبباً للفراق فقال:
ما غراب البين ... إلا ناقةٌ أو جمل
ونقضه جران العود فقال:
بأخفافها يدنو الفتى من حبيبه ... وتنقذه إن أذهلته الشدائد
ارتحال القلب بارتحال المحب:
قيل: إن بنا أخوك بان شطرك. قطيعة الوصال قطع الأوصال.
الصنوبري:
ذكروا إن الفراق غداً ... وفراق النفس بعد غد
أبو تمام:
قالوا الرحيل فما شككت بأنه ... نفسي عن الدنيا تريد رحيلا
التنوخي:
كأنما كان عمري في اقترانك بي ... عاريةٌ فاستردته يد البعد
وكتب بعضهم: يوم توديعك ودعت قلبي، فهو يتصرف بتصرفك وينصرف بمنصرفك.
ابن الحجاج:
رحلت وما علمت بأن قلبي ... على بعض الزوامل في الرحال
آخر:

لئن بعدت عنك أجسادنا ... لقد سافرت معك الأنفس
السلامي:
ما تنشدون وقلبي في رحالكم ... هو الصواع وبعض العير سراق
أبو تمام:
تكاد تنتقل الأرواح لو تركت ... من الجسوم إليها حين تنتقل

من ارتحل فخلف قلبه عند حبه:
الخبزارزي:
أنا غائبٌ والقلب عندك حاضرٌ ... سافرت عنك وما الفؤاد مسافر
آخر:
وإن يرتحل جسمي مع الركب مكرهاً ... يقم عنده قلبي وأمضي بلا قلب
المتنبي:
فجد لي بقلبٍ إن رحلت فإنني ... أخلف قلبي عند من فضله عندي
ولو فارقت جسمي إليك حياته ... لقلت أصابت غير مذمومة العهد
شدة الفرقة:
قيل لبعض الصوفية: لم تصفر الشمس عند الغروب؟فقال: خوفاً من الفراق وبه ألم.
الأستاذ الرئيس:
لا تركنن إلى الودا ... ع وإن سكنت إلى العناق
فالشمس عند غروبها ... تصفر من خوف الفراق
وقيل: ما أشد صدع الفراق بين الرفاق!وقيل: بكف الفرقة تقدح نار الحرقة. كبدي بيد الشوق مخطوفة وعيني بقذى الفراق مطروفة. أنتن من ريح الفراق وأزكى من نسيم التلاق.
وما الدهر إلا هكذا فاصطبر له ... رزية مالٍ أو فراق خليل
الحذر من الفراق:
أشجع:
ومحاذر للبين قد ... وقع الذي يخشى حذاره
آخر:
كفى حزناً إن زاورنا ... لوقت الرواح أرادوا الغروبا
فلو كنت بالشمس ذا طاقةٍ ... لطال على الناس حتى تغيبا
وقال:
وأشفق من وشك الفراق وإنني ... أظن كمحمولٍ عليه مراكبه
شدة سماع الفرقة:
أبو نواس:
طرحتم من الترحال أمراً فغمنا ... فلو قد فعلتم صبح الموت بعضنا
كون الفرقة كالمنية:
قيل: لكل جليلة دقيقة ودقيقة الموت الفراق.
النميري:
إن المنية والفراق لواحدٌ ... أو توأمان تراضعا بلبان
في فرقة الأحباب شغلٌ شاغلٌ ... والثكل حقاً فرقة الإخوان
أبو تمام:
لو حار مرتاد المنية لم يجد ... إلا الفراق على النفوس دليلا
المتنبي:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
بغض الوقت الذي يعرض فيه الفراق:
أبو تمام:
إن يوم الفراق يومٌ عبوسٌ ... أي سيلٍ تسيل به النفوس
لم أزل ابغض الخميس ولم أد ... ر لماذا حتى دهاني الخميس
استقباح الحياة بعد ارتحال الحبيب:
التنوخي:
إذا بان محبوبٌ وعاش محبه ... فذاك كذوبٌ في الهوى غير صادق
وقال:
أو ليس من إحدى العجائب أنني ... فارقته وحييت بعد فراقه؟
اعتراض الفراق:
ابن الرومي:
أخرجت من جنتي مفاجأة ... آمن ما كنت في حدائقها
بين استماعي هديل هادلها ... إذ راع قلبي نعيق ناعقها
أنشد المأمون قول العباس بن الأحنف:
هم كتموني سرهم ثم أزمعوا ... وقالوا: اتعدنا للرواح فبكروا!
فقال: سخروا بأبي الفضل أعزه الله.
إبراهيم بن العباس:
وزالت زوال الشمس عن مستقرها ... فمن مخبري في أي أرضٍ غروبها؟
مفارقة المحبوب قبل التمتع به:
الخبزارزي:
استودع الله أحباباً فجعت بهم ... بانوا فما زودوني غير تعذيبي
بانوا ولم يقض زيدٌ منهم وطراً ... وما انقضت حاجة في نفس يعقوب
ابن الأحنف:
سألونا عن حالنا: كيف أنتم؟ ... فقرنا وداعهم بالسؤال!
ما أناخوا حتى ارتحلنا فما نفرق بين النزول والارتحال
محمد بن أمية:
يا فراقاً أتى بعيد تلاقٍ ... واتفاقاً جرى بغير اتفاق
حين حطت ركابنا لتلاقٍ ... زمت العيس منهم لفراق
إن نفسي بالشام إن أنت فيها ... ليس نفسي نفسي التي بالعراق
أشتهي أن يرى فؤادي فيدري ... كيف وجدي بهم وكيف احتراقي
كون من تباعد عن محبوبه في غربة:
فلا تحسبي أن الغريب الذي نأى ... ولكن من تنأين عنه غريب

الخبزارزي:
إني لفي غربةٍ مذ غبت يا سكني ... وإن ظللت أرى في الأهل والوطن
المتنبي:
إذا ترحلت عن قومٍ وقد قدروا ... أن لا تفارقهم فالراحلون هم

التلفت إلى المحبوب بعد الارتحال عنه:
شاعر:
ما سرت ميلاًولا جاوزت مرحلة ... إلا وذكرك يلوي دائماً عنقي
المتنبي:
أفدي المودعة التي أتبعتها ... نظراً فرادى بين زفرات ثني
ابن المعتز:
لست أنسى التفاته حين ولى ... والتفاتي وقد نظرت إليه
وكلانا من التأسف والوجد على إلفه يعض يديه
تسلط أيام البين على وصف الأحباب:
شاعر:
أرق العين إن قرة عيني ... دخلت بينه الليالي وبيني
جحظة:
جرت نوب الأيام بيني وبينه ... فلم يبق إلا ما أعيد من الذكر
أبو تمام:
عبث الفراق بعينه وقلبه ... عبثاً يروح الجد فيه ويغتدي
وصف الدهر والنوى:
محمد بن وهب:
إذا ما سموت إلى وصله ... تعرض لي دونه عائق
وحاربني فيه ريب الزمان ... كأن الزمان له عاشق
شاعر:
ملام النوى في بعدها غاية الظلم ... كأن بها مثل الذي بي من اللوم
فلو لم تعز تزو عني لقاءكم ... ولو لم تردكم لم تكن فيكم خصمي
المتنبي:
أبى خلق الدنيا حبيباً تديمه ... فما طلبي منها حبيباً ترده
التحير لتفرق الأحباب فرقتين:
أبو العتاهية:
أيا كبداً عادت عشبة غربٍ ... من الشوق أثر الظاعنين تصدع
عشية ما فيمن أقام بغربٍ ... مقام ولا فيما مضى متشرع
تفرق أهلنا مقيماً وظاعناً ... فلله دري أي قومٍ أتبع!
ينازعني شوقي أمامي وحاجتي ... ورائي فما أدري بها كيف أصنع؟
الرغبة في حفظ المودة عند الغيبة:
خرج عبد الملك بن صالح مشيعاً لجعفر بن يحيى فاستعرض حاجاته فقال: قصارى كل مشيع الرجوع، لكني أريد من الأمير أن يكون كما قال ابن الدمينة:
فكوني على الواشين لداء شغبةً ... كما أنا للواشي ألد شغوب
فقال جعفر: أقول كما قال جميل معاتبة القلب لاشتياقه إذا نأى وتلونه على الحبيب إذا دنا.
بعضهم:
وخبرتني يا قلب أنك ذو هوى ... بليلى فذق ما كنت قبل تقول
ومنيتني حتى إذا ما تقطعت ... قوى من قوى أعولت كل عويل
الخوارزمي:
ولما سرت عنك رأيت نفسي ... وبين الرِجل والقلب اختصام
فذاك يقول: منك السير عنه! ... وتلك تقول: منك الاعتزام!
التحذير من مفارقة الحبيب:
أترحل طوع النفس عمن تحبه ... وتبكي كما يبكي المفارق عن قهر؟
أقم لا تسر والحزن عنك بمعزلٍ ... ودمعك باق في مآقيك لا يجري
الندم على مفارقته:
المهلبي:
من ذا ألوم أنا جنيت ... فراق من أبكي عليه؟
قيس بن ذريح:
ندمت على ما فات مني فقدتني ... كما ندم المغبون حين يبيع
فقدتك من قلبٍ شجاعٍ فإنني ... نهيتك عن هذا وأنت جميع
المجنون:
فإن ترجع الأيام بيني وبينها ... بذي الأثل صيفاً مثل صيفي ومربعي
أشد بأعناق النوى بعد هذه ... مرائر إن جاذبتها لم تقطع
من ارتحل عنه فأسرع العود شوقاً إليه:
قيل لجميل: أما سمعت قول ابن عمك زهير بن حباب:
إذا ما شئت أن تسلو خليلاً ... فإكثر دونه عدد الليالي
فما سلى حبيباً مثل نأيٍ ... ولا أبلى جديداً كابتذال
قيل: فلو نأيت عنها لسلوت؟فخرج عنها ليلة ثم رجع وهو يقول:
أشوقاً ولما تمض لي غير ليلةٍ ... رويد الهوى حتى تغب لياليا
لحا الله أقواماً يقولون: إننا ... وجدنا طوال النأي للحب شافيا!
خرج المهدي يريد منزل حسنة، فلما بلغ دارها وترفعت أستارها اشتاق إلى الخيزران فكر راجعاً وقال: واسوءتاه من حسنة!فإني والله أصابني كما أصاب من يقول:

بينما نحن بالبلاكث فالقا ... ع شراعاً والعيس تهوي هويا
خطرت خطرةٌ على القلب من ذكراك وهنا فما استطعت مضيا
قلت: لبيك إذ دعاني ين الشو ... ق، وللحاديين: كراً المطيا

الشوق بعد الارتحال:
كان لأعرابي مملوك فاشتراه عراقي، فلما ارتحل به بكى وأنشد:
أشوقاً ولما تمض لي غير ليلةٍ ... فكيف إذا سار المطي بنا عشراً؟
أخوكم ومولاكم وصاحب سركم ... ومن قد نشا فيكم وعاشركم دهرا
فقال له المشتري: الحق بأهلك.
وقال المتنبي:
أرى أسفاً وما سرنا قليلاً ... فكيف إذا غدا السير ابتراكا؟
فهذا الشوق قبل البين سيفٌ ... وها أنا ما ضربت وقد أحاكا
أشجع:
فها أنت تبكي وهم جيرةٌ ... فكيف تكون إذا ودعوا؟
أبو فراس:
حملت هواك لا جلداً ولكن ... صبرت على اختيارك لا اختياري
المفارقة كرهاً:
الماني:
لا تنكرن رحيلي عنك في عجلٍ ... فإنني لرحيلي غير مختار
وربما فارق الإنسان مهجته ... يوم الوغا غير قالٍ خيفة العار
كراهة فراق من صحبته كرها
ً
أقمنا كارهين لها فلما ... ألفناها خرجنا مكرهينا
وما شغف البلاد بنا ولكن ... أمر العيش فرقة من هوينا
خرجت أقر ما قد كنت عيناً ... وخلفت الفؤاد بها رهينا
وقال:
وكم من زائرٍ بالكره مني ... كرهت فراقه بعد المزار
من عم الغم بفراقه:
نفيلة الأشجعي:
فلما أن دنا منا ارتحالٌ ... وقرب ناجيات السير كوم
تحاسر واضحات اللون غر ... على ديباج أوجهها النعيم
فقائلة ومثنية علينا ... تدور وما لنا فيها حميم
المتنبي:
رحلت فكم باكٍ بأجفان شادنٍ ... إلي وكم رانٍ بأجفان ضيغم!
وما ربة القرط المليح مكانه ... بأجزع من رب الحسام المصمم
من لم يبال بالفراق لكثرة ما دهاه:
المتنبي:
وفارقت حتى ما أبالي من النوى ... وإن بان جيرانٌ علي كرام
فقد جعلت نفسي على النأي تنطوي ... وعيني على فقد الصديق تنام
وقال:
روعت بالبين حتى ما أراع له ... وبالمصائب في أهلي وجيراني
وقال:
وما أنا بالمستنكر البين إنني ... بذي لطف الجيران قدماً مفجع
الشاكي كثرة ما يعرض له من فرقة الأحباب:
كأنا خلقنا للنوى فكأننا ... حرامٌ على الأيام أن نتجمعا
علي بن عبد العزيز:
كأن البين محتومٌ علينا ... فليس سوى التلاقي والوداع
مما جاء في الهجران
الهجران سبب التسلي، الهجر مفتاح السلو.
وطول العهد يقدح في القلوب
بشار:
ولا يلبث الهجران أن يقطع النوى ... إذا لم تطالع آلفا أو يطالع
العباس:
راجع أحبتك الذين هجرتهم ... إن المتيم قلما يتجنب
إن الصدود إذا تمكن منكما ... دب السلو له وعز المطلب
تعظيم الهجران:
ابن الجهم:
بما بيننا من حرمةٍ هل رأيتما ... أرق من الشكوى وأقسى من الهجر
آخر:
وموت الفتى خيرٌ له من حياته ... إذا كان ذا حالين: يصبو ولا يصبي
ألا إن هجران الحبيب هو الإثم
إظهار الندم على هجران الحبيب:
شاعر:
هجرتك أياماً على الغمر إنني ... على هجر أيامٍ بذي الغمر نادم
وإني وذاك الهجر لو تعلمينه ... كعازبةٍ عن طفلها وهي رائم
الحاسد لمن يواصله محبوبه:
أبو صخر الهذلي:
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الدهر
آخر:
فيا ليت أن الله إذا لم ألاقها ... قضى بين كل اثنين أن لا تلاقيا
ابن العميد:
لا يهنأ العاشقين إني ... منفردٌ بالغرام وحدي
من لا يلتذ بالوصل خيفة الهجر:
العباس:
إذا رضيت لم يهنني ذلك الرضا ... لعلمي يوماً أن سيتبعه عتب

وقيل: لا تغترر بصفاء الألفة فإنها منكشفة عن كدر الفرقة. وقيل: إذا ساعدك الدهر بوصل محبوب فاعلم أنه قد غر وضر ومر.
سعيد الكاتب:
ما كنت أيام كنت راضيةً ... عني بذاك الرضا بمغتبط
علماً بأن الرضا سيتبعه ... منك التجني وكثرة السخط

نفي الاتنفاع بقرب الدار مع الهجران:
إبراهيم:
دنت بأناسٍ عن تناء زيارةٌ ... وشط بليلى عن دنوٍ مزارها
وأن مقيمان بمنقطع اللوى ... لأقرب من ليلى وهاتيك دارها
آخر:
رأيت دنو الدار ليس بنافعٍ ... إذا كان ما بين القلوب بعيد
العباس:
كفى حزناً أن التباعد بيننا ... وقد جمعتنا والأحبة دار
عبد الوهاب:
البعد منهم على ربائهم ... أنفع من هجرهم إذا حضروا
الإعراض عن الحبيب خشية الرقيب:
قال شاعر:
وما هجرتك النفس إنك عندها ... قليلٌ وأن قد قلّ منك نصيبها
ولكنهم يا أملح الناس أولعوا ... بقول إذا ما زرت: هذا حبيبها!
وقال:
ولما رايت الكاشحين تتبعوا ... هواناً وأبدوا دوننا نظراً شزرا
جعلت وما بي من جفاءٍ ولا قلىً ... أزوركم يوماً وأهجركم شهرا
الأحوص:
يا بيت عاتكة التي أتغزل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل
وقال:
أمرّ مجانباً عن بيت ليلى ... ولم ألمم به وبه القليل
آخر:
أزور بيوتاً لاصقاتٍ ببيتها ... ونفسي في الدار التي لا أزورها
الهجران لرضا الحبيب:
مسلم:
إن كان هجراننا يطيب لكم ... فليس للوصل عندنا ثمن
المتنبي:
إن كان سركم ما قال حاسدنا ... فما لجرحٍ إذا أرضاكم ألم
آخر:
سررت بهجرك لما علمت ... بأن لقلبك فيه سرورا
وإني أرى كل ما ساءني ... إذا كان يرضيك سهلاً يسيرا
استطابة قليل الهجر بين المتحابين:
الخثعمي:
ولم أر مثل الصد أحسن منظراً ... إذا كان ممن لا يخاف على الوصل
المتنبي:
وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه ... وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي
وقال:
إذا لم يكن في الحب سخطٌ ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب؟
هجران الحبيب صيانة للنفس:
أحمد بن يوسف:
تركتك والهجران لا عن ملالةٍ ... ورددت يأساً من إخائك في صدري
وألزمت نفسي من فراقك خطةً ... حملت لها نفسي على مركب وعر
وإني وإن رقت عليك ضمائري ... فما قدر حبي أن أذل لها قدري
الخبزارزي:
إذا لم يكن في الوصل روحٌ وراحةٌ ... هجرت، وكان الهجر أشفى وأسلما
آخر:
ومن لم يطق صبراً على النأي يستعن ... بهجرٍ وبعض الشر يدفع بالشر
كما لا يرى أوفى من الوصل في الهوى ... كذا لا يرى في القدر أسلى من الهجر
المعتقد رضا حبيبه في الباطن وإن سخط في الظاهر:
مسلم بن الوليد:
وراضي القلب غضبان اللسان ... له خلقان ما يتشابهان
يسر مودتي ويطيل هجري ... ويمزج لي المودة بالهوان
وقال:
وده ودٌ صحيحٌ ... وهو عني ذو انقباض
فعلى الظاهر غضبا ... ن وفي الباطن راض
تضجر من يواصله بغيض ويصارمه حبيب:
أعاشر في ذي الدار من لا أوده ... وفي الرمل مهجورٌ إلي حبيب
الحطيئة:
يبغض منا من نحب لقاءه ... ويجمع منا بين أهل الضغائن
المتنبي:
أفجع بالعلق الضنين وإنني ... بمن لا أبالي هلكه لممتع
وله:
أما تغلط الأيام فيّ بأن أرى ... بغيضاً تناءى أو حبيباً يقرب
وقال:
تباعد ممن واصلت فكأنها ... لآخر ممن لا تود صديق
الزبير:
جبلوا على إكرام مبغضهم ... وعلى التهاون بالذي يهوى
تأسف من هجر محبوبه:
شاعر:
لو كنت عاتبةً لسكن عبرتي ... أملي رضاك وزرت غير مجانب

لكن مللت فلم تكن لي حيلةٌ ... صد الملول خلاف صد العاتب
البحتري:
وكنت أرى أن الصدود الذي مضى ... دلالٌ فما كان إلا تجنبا
فوا أسفي حتام اسأل مانعاً ... وآمن خواناً وأعتب مذنباً؟

عدم الثقة بالمحبوب:
المجنون:
فأصبحت من ليلى الغداة كقابضٍ ... على الماء خانته فروج الأصابع
وله:
فأصبحت من ليلى الغداة كناظرٍ ... مع الصبح في اعقاب نجم مغرب
شكوى الحبيب لهجرانه بعد ذهابه:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
ابن الجهم:
أزحن رسيس القلب عن مستقره ... وألهبن ما بين الجوانح الصدر
ألا قبل أن يبدو المشيب بدأنني ... بيأسٍ مبينٍ أو جنحن إلى الغدر
قال جرير لبعض صحبه: من أشعر العرب؟قال: كثير في قوله:
وأدنيتني حتى إذا ما ملكتني ... بقولٍ يحل العصم سهل الأباطح
تناءيت عني حين لا لي حيلةٌ ... وغادرت ما غادرت بين الجوانح
قال: بل قول هشام:
أشرعت لي مورداً أعيت مصادره ... فلست أدري أأمضي فيه أم أقف
شكوى بخل الحبيب:
شاعر:
لقد بخلت حتى لو أني سألتها ... قذى العين من سافي التراب لضنت
كأني أنادي صخرةً حين أعرضت ... من الصم لو تمشي بها العصم زلت
وإني وتهيامي بعزةٍ بعدما ... تخليت مما بيننا وتخلت
لكالمبتغي ظل الغمامة كلما ... تبوأ منها للمقيل اضمحلت
البحتري:
ألف الصدود فلو يمر خياله ... بالصب في سنة الكرى ما سلما
التلون بما يسلي المحب:
تمثل شريح لامرأته بقول مالك بن أسماء:
خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورةٍ حين أغضب
فإني رأيت الحب في الصدر والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب
وقال:
يراك ويهوى من يقل خلافه ... وليس بحبوبٍ حبيبٌ يخالف
التواء المحبوب على حبه ومخالفته له في أحواله:
شاعر:
شكوت فقلت: كل هذا تبرماً ... بحبي أراح الله قلبك من حبي!
فلما كتمت الحب قالت: لشدما ... صبرت وما هذا بفعل شجى القلب
وأدنو فتقصيني فأبعد طالباً ... رضاها فتعتد التباعد من ذنبي
فشكواها يؤذيها وصبري يؤودها ... وتجزع من بعدي، وتنفر من قربي
وقال:
إن التي عذبتني في محبتها ... كل العذاب فما أبقت وما تركت
عاتبتها فبكت فاستعبرت جزعاً ... عيني فلما رأتني باكياً ضحكت
فعدت أضحك مسروراً بضحكتها ... مني فلما رأتني قد ضحكت بكت
تهوى خلافي كما حثت براكبها ... يوماً قلوصٌ فلما حثها بركت
المتأسف لقلى حبيبه له:
النمري:
رأيت صدوداً وانقباض مودةٍ ... ونكراء من هجرانهم حدثت بعدي
أما لو يطيع القلب أو يصفح الهوى ... لنا عنك جازيناك بالهجر والصد
آخر:
وما سعدى وإن كرمت علينا ... وكان لذكر سعدى يستطار
بأقرب في المودة من سهيلٍ ... وفي وجهيه للنجم ازورار
يفر من النجوم لغير شيءٍ ... لعمر أبيك طال به الفرار
وصف الحبيب بالتلون:
قال بعضهم: لأن أبتلى بألف لجوج جموح أحب إلي من أن أبتلى بمتلون.
دعبل:
إني وجدتك في الهوى ذواقةً ... لا تصبرين على طعامٍ واحد
آخر:
يا عتب لم أهجركم لملالةٍ ... عرضت ولا لمقال واشٍ حاسد
لكنني جربتكم فوجدتكم ... لا تصبرون على طعام واحد
مما جاء في البكاء والدموع
وصف قطرات الدموع
كاللؤلؤ المسحور اغفل في ... سلك النظام فخانه النظم
الأعشى:
كما فرق السلك من نظمه ... لآلىء منحدراتٍ صغارا
وقال:
وكأن الدمع درٌ جامدٌ ... والدم الجاري عقيقٌ قد جمد
وقال:

فدمعتي ذوب ياقوت على ذهبٍ ... ودمعه ذوب درٍ فوق ياقوت
دخل أبو نواس على جارية الناطفي وكان قد ضربها مولاها فقال:
إن عناناً أسبلت دمعها ... كالدر إذ ينسل من خيطه
فليت من يضربها ظالماً ... تيبس يمناه على سوطه
خالد الكاتب:
ما زلت أنكر ما ألقى وأجحده ... فاستشهد العاذلون الدمع والنفسا
أنشد أبو السائب القاضي قول جرير:
إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلاً بعينك لا يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي: ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟
فحلف ان لا يرد على احد سلامه يومه إلا بالبيتين.
ونحوه لبعضهم:
ولما تلاقينا جرت من عيوننا ... دموعٌ كففنا غربها بالأصابع
رأى الرشيدي كتابة في جدار قصر دجلة:
ومالي لا أبكي بعينٍ حزينةٍ ... وقد قربت للظاعنين حمول
وتحته مكتوب: ايه ايه ايه!فجعل يسأل أصحابه عن المكتوب تحته فلم يعرفوه. فقال الربيع: إنما أراد حكاية البكاء.
وقال آخر:
فلو أن خداً كان من فيض عبرةٍ ... يرى معشباً لاخضر خدي وأعشبا
فاطمة بنت الأحجم:
كأن عيني لما أن ذكرتهم ... عصنٌ يراح من الطرفاء ممطور
وقال آخر:
نبيت كأن العين أفنانٌ سدرةٍ ... عليها سقيطٌ من ندى الطل ينظف

جعل البكاء كسحاب وقطر:
كثير:
كأن إنسانها في لجةٍ غرق
ابن الحاجب:
كأن السحاب الغر حشو جفونه ... إذا انهملت من عينه عبراتها
الدمشقي:
علمت إنسان عيني أم يعوم فقد ... حارت سباحته في ماء دمعته
تشبيه الدمع بماء يتصبب:
شاعر:
فعيناك غربا جدولٍ في مفاضه ... كمر خليجٍ في صفيحٍ منصب
علقمة:
للماء والنار في قلبي وفي كبدي ... من قسمة الشوق ساعورٌ وناعور
وصف الدمع بأنه يستغنى به عن الماء لكثرته:
لا أبتغي سقيا السحاب لها ... في مقلتي خلفٌ عن السقيا
ابن المعتمر:
مررت على الفرات وليس تجري ... سفائنه لنقصان الفرات
فلما أن ذكرتك فاض دمعي ... فأجراهن جري العاصفات
ابن طباطبا:
فما مد واديكم ولان أديمه ... ولكنني أمددته بدموعي
الدموع المؤثرة في الخدود:
إبراهيم بن المهدي:
فلو أن خداً كان من فيض عبرةٍ ... يرى معشباً لخضر خدي وأعشبا
ابن حاجب:
وقد راح خدي من دماء مدامعي ... كان عليه هدبٌ ثوبٍ معصفر
دموع مؤثرة في العين:
بعضهم:
استبق دمعك لا يودي البكاء به ... واكفف مدامع من عينيك تستبق
ليس الشؤون على هذا بباقيةٍ ... ولا الجفون على هذا ولا الحدق
المتنبي:
كأن جفوني على مقلتي ... ثيابٌ شققن على ثاكل
دموع ممزوج بالدم:
شاعر:
مزجت دموع العين مني ... يوم بانوا بالدماء
وكأنما مزجت بخدي ... مقلتي خمراً بماء
استحسان الدمع على خد المحبوب:
المتنبي:
جرت عبراتٌ في الخدود بأثمد ... فعاد به الورد الجني شقائقا
آخر:
فكأنها والدمع يقطر فوقها ... ذهب بسمطي لؤلؤ قد رصعا
استجلاب البكاء بذكر المحبوب:
العباس بن الأحنف:
وإذا عصاني الدمع في ... إحدى ملمات الخطوب
أجريته بتذكري ... ما كان من هجر الحبيب
أبو حية النميري:
أؤمل أن أراه لعل جفني ... يعاوده برؤيته كراه
ويمنع ناظري نظري إليه ... فعال مواربٍ لي من هواه
الاستعانة في البكاء بالغير:
نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... عيناً لغيرك دمعها مدرار
من ذا معيرك عينه تبكي بها ... أرأيت عيناً للبكاء تعار؟
ومثله:
فهل من معيرٍ طرف عينٍ جليةٍ ... فإنسان عين العامري كليم
أخذه من ملح الهذلي:
ولتلتمس عيناً سوى العين إذ ... ذهبت بجاري دمعك المترقرق
آخر:

ولي كبدٌ مقروحةٌ من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروح
أباها علي الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علةٍ بصحيح؟
آخر:
خليلي ألا تبكيا لي أستعن ... خليلاً إذاً أنزفت دمعاً بكى ليا

الشكاية من انقطاع الدمع:
كثير:
أقول لدمع العين أمعن لأنه ... بما لا يرى من غائب الدمع يشهد
علي بن جميلة:
ولم أر مثل العين ضنت بمائها ... علي ولا مثلي على الدمع يحسد
آخر:
نزفت دمعي وأزمعت الرحيل غداً ... إذا رحلت ودمع العين مكفوف
ومما يقرب من هذا الباب في الاعتذار للدمع قول الوزير أحمد بن إبراهيم:
لا تحسبن دموعي البيض غير دمى ... وإنما نفسي الحامي يصعده
اعتذار من أظهر البكاء:
بعضهم:
أتتني تؤنبني بالبكاء ... فأهلاً بها وبتأنيبها
وقالت وفي قولها لي حشمةٌ ... أتبكي بعين تراني بها؟
فقلت: إذا استحسنت غيركم ... أمرت الدموع بتأديبها
وقال آخر: كشاجم:
أظن دمعي مثلي به كلفاً ... مستأسراً في يدي محبته
ستر البكاء:
قال بشار لأبي العتاهية: أنا والله أستحسن قولك في اعتذارك للدمع:
كم من صديقٍ لي أسا ... رقه البكاء من الحياء!
فإذا تفطن لامني ... فأقول ما بي من بكاء
لكن ذهبت لأرتدي ... فطرفت عيني بالرداء
فقال أبو العتاهية ما لذت إلا بمعناك حيث تقول:
وقالوا: قد بكيت!فقلت: كلا ... وهل يبكي من الطرب الجليد
ولكن قد أصيب سواد عيني ... بعود قذى له طرفٌ حديد
فقالوا: ما لدمعهما سواءٌ ... أكلتا مقلتيك أصاب عود
وقال:
ولما أبت عيناي أن تكتما البكا ... وأن تحبسا فيض الدموع السواكب
تثاءبت كي لا ينكر الدمع منكرٌ ... ولكن قليلاً ما بقاء التثاؤب
افصاح الدمع بالسر:
البحتري:
وحق الذي في القلب منك فإنه ... عظيمٌ لقد حصنت سرك في سري
ولكنما أفشاه دمعي وربما ... أتى المرء ما يخشاه من حيث لا يدري
المخزومي:
فإن يك سر قلبك أعجمياً ... فإن الدمع نمامٌ فصيح
وقد استحسن للمتنبي قوله:
ونتهم الواشين والدمع منهم
وقوله:
وصاحب الدمع لا تخفى سرائره
وقوله:
ومن سره في جفنه كيف يكتم؟
أبو عيسى بن الرشيد:
كتمت هواه حتى فاض دمعي ... فصيره حديثاً مستفاضا
آخر:
ولولا الدموع كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم تكن لي دموع
أبو الفرج الدمشقي:
إني لأخفي اشتاقي وهو مشتهرٌ ... من أين يخفى ودمعي صاحب الخبر
سيلان الدموع عن الوجد:
بعضهم:
ماء المدامع نار الشوق تحدره ... فهل سمعتم بماءٍ فاض من نار
ابن الرومي:
لا تعجبا إن دمعاً فاض عن حرقٍ ... ماءً أفاضته نارٌ من مراجله
الاستحسان للدمع من دفع الجزع:
من أبدع ما فيه قول بشار:
وجدت دموع العين تجري غروبها ... أخف على المحزون والصبر أجمل
قال الرقاشي: نعم معون الكمد البكاء.
وبكى أعرابي فقيل له في ذلك فقال: أما علمتم أن الدموع خفراء القلوب؟ الحسين بن وهب:
ابك فما أكثر نفع البكا ... والحب اشفاقٌ وتعليل
فهو إذا أنت تأملته ... حزنٌ على الخدين محلول
قال ابن عباس: كنت إذا خرجت أمتنع من البكاء حتى سمعت قول ذي الرمة:
لعل انحدار الدمع يعقب راحةً ... من الوجد أو يشفي نجي البلابل
فصرت أشتفي من الوجد به.
الموسوي:
الدمع عونٌ لمن ... ضاقت به الحيل
آخر:
وغصة وجدٍ أظهرتها فرفهت ... حرارة حرٍ في الجوانح والصدر
قصور الأدمع في دفع الجزع:
قال ديك الجن:
في قلبه نار شوقٍ ليس يخمدها ... بحرٌ أحاط به الدمع مسجور
وقال:
فوق خدي لجةٌ من دموعٍ ... يغرق الوجد بينها والسلام

كان بين الواثق وبين بعض جواريه عتاب فبكى وضحكت فقال: قاتل الله العباس بن الأحنف حيث قال:
عدلٌ من الله أبكاني وأضحككم ... الحمد لله عدلٌ كلما صنعا

ازدياد الوجد في البكاء:
قال أبو تمام يرد على من زعم أن البكاء يخفف الوجد:
أجدر بحمرة لوعةٍ اطفاؤها ... بالدمع أن تزداد طول وقود
المتنبي:
وكلما فاض دمعي غاض مصطبري ... كان ما فاض من جفني من جلدي
وله:
وإذا حملت من السلاح على البكا ... فحشاك رعت به وقلبك تفزع
محمد بن أبي زرعة:
فبدت تشب بدمعها نار الهوى ... من ذا رأى ناراً تشب بماء؟
نفع البكاء وحمده:
قدم رجل من الخوارج إلى عبد الملك ليقتله، فدخل على عبد الملك ابن له صغير وهو يبكي لضرب معلمه، فقال الخارجي: دعوه يبكي فهو أفتح لحزمه وأنفع لبصره. فقال له عبد الملك: ما شغلك ما أنت فيه عن هذا؟فقال: ينبغي للمسلم ان لا يشغله عن الخير شيء!فعفا عنه. قيل لصفوان: كثرة البكاء تورث العمى. فقال: ذاك لهما سهادة.
ابن نباتة:
تستعذب العين دمعي في مودتها ... كأنما تمتريه العين من فيها
كثرة البكاء واحمرار الدمع بالدم:
سمع أبو السائب قول جرير:
إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلاً بعينك لا يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي: ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟
فقال: أتدرون ما التبغيض؟قالوا: لا. فأشار بإصبعه إلى جفنه كانه يأخذ الدمع لينضحه.
الاستدلال بالدمع على فرط الهوى:
محمد بن وهب:
يدل على أنني عاشق ... من الدمع مستشهدٌ ناطق
ديك الجن:
زعمتم بأني قد سلوت وصالكم ... فلم ذرفت عيني ولم شاب مفرقي؟
وقال:
سمة الصبابة زفرةٌ أو عبرةٌ ... متكفلٌ بهما حشا وشؤون
أبو تمام:
أليس دمعي وفرط شوقي ... وطول سقمي شهود حبي
وفي كتاب التملي في أخبار العشاق: قال رجل لامرأة أنا والله أحبك!فقالت: ما حجتك؟فقال: تدفعين لي قفيز دقيق فأعجنه بدمع عيني. قالت: فالخبز لمن؟قال: في حر أم عشق لا يساوي أرغفة فضحكت منه وواصلته.
ما قيل فيمن يتباكى:
المتنبي:
إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ ... تبين من بكى ممن تباكى
ديك الجن:
وقائلةٍ وقد بصرت بدمعٍ ... على الخدين منحدرٍ سكوب
أتكذب في البكاء؟وأنت خلو ... قديماً ما جسرت على الذنوب
قميصك والدموع تجول فيه ... وقلبك ليس بالقلب الكئيب
شبيه قميص يوسف حين جادوا ... على لباثه بدمٍ كذوب
مما جاء في الشوق والحنين والنحول
احتراق القلب وحصول النار فيه:
أبو الطمحان:
هل الوجد إلا أن قلبي لو دنا ... من الجمر قيد الرمح لاحترق الجمر
العباس:
يا قابس النار قد أعيت قوادحه ... اقبس إذا شئت من قلبي بمقباس
الخبزارزي:
بقلبي جمرٌ من هواه فإن أكن ... شكوت فهذا الوجد من ذلك الجمر
وقال:
وحق الهوى إني أحس من الهوى ... على كبدي جمراً وفي أعظمي رضا
المتنبي:
جربت من حر الهوى ما تنطفي ... نار الغضى وتكل عما تحرق
شدة التنفس:
خالد الكاتب:
نفسٌ تدعى مسالكه ... وأنينٌ لست أملكه
ذو الرمة:
تعتادني زفراتٌ حين أذكرها ... تكاد تنقد منهن الحيازيم
المتوكل:
إذا زفرات الحب صعدن في الحشا ... وردن ولم يوجد لهن طريق
الاستدلال بالنفس على الحال:
مسلم:
وإذا بعثت إلى الهوى بعث الهوى ... نفساً يكون على الضمير دليلا
يعقوب: قد كتمت الهوى فنم علي التنفس.
خفقان القلب:
قال بعضهم: رأيت في بني عذرة شيخاً فقلت: هل بقي من حبك بقية؟فقال:
كأن قطاةً علقت بجناحها ... على كبدي من شدة الخفقان
وأنشد لتوبة وقيل للمجنون:
كأن القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامرية أو يراح
قطاةٌ غرها شركٌ فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح
بشار:

كأن فؤاده كرةٌ تنزى ... حذار البين لو نفع الحذار
آخر:
كأن فؤادي في يدٍ عبثت به ... محاذرةً أن يقضب الحبل قاضبه
ديك الجن:
كأن قلبي إذا تذكرها ... فريسةٌُ بين ساعدي أسد

ضيق القلب:
أبو الشيص:
كأن بلاد الله في ضيق خاتمٍ ... علي فما تزداد طولاً ولا عرضا
العباس:
كأن جميع الناس عند صدودكم ... تصور في عيني سود العقارب
أخذ الكبد باليد من خشية التقطع:
بعضهم:
واذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تقطعا
عبد الصمد بن المعدل:
مكتئبٌ ذو كبدٍ حرى ... تبكي عليه مقلةٌ عبرى
يرفع يمناه إلى ربه ... يدعو وفوق الكبد اليسرى
تصدع الكبد:
الأعشى:
وبانت وفي الصدر صدعٌ لها ... كصدع الزجاجة لا يلتئم
الخضري:
وإنك لو نظرت فدتك نفسي ... إلى كبدي وجدت بها صدوعا
افتقاد القلب:
الخبزارزي:
فلو كان لي قلبين عشت بواحدٍ ... وأفردت قلباً في هواك يعذب
ولي ألف وجهٍ قد عرفت مكانه ... ولكن بلا قلبٍ إلى أين أذهب؟
خالد الكاتب:
كان لي قلبٌ أعيش به ... فاصطلى بالحب فاحترقا
البهوت لفرط الوجد:
بعضهم:
يوم ارتحلت برحلي قبل برذعتي ... والعقل متلهٌ والقلب مشغول
ثم انصرفت إلى نضوي لبعثه ... أثر الحدوج الغوادي وهو معقول
الماني:
تحسبه مستمعاً منصتاً ... وقلبه في أمةٍ أخرى
ذو الرمة:
عشية مالي حيلةٌ غير أنني ... بلقط الحصى والجر في الأرض مولع
كثرة سقم العاشق:
كشاجم:
دموعي فيك أنواءٌ غزار ... وقلبي ما يقر له قرار
وكل فتى عليه ثوب سقمٍ ... فذاك الثوب مني مستعار
المستدل بالجمادات والبهائم على الوجد:
قال كثير:
سلي البانة الغناء بالأجرع الذي ... به البان هل حييت أطلال دارك
وهل قمت في أفيائهن عشيةً ... قيام أخي البأساء واخترت ذلك؟
جميل:
يقولون: ما أبلاك والمال غامرٌ ... عليك وضاحي الجلد منك كنين؟
فقلت لهم: لا تعذلوني وانظروا ... إلى النازع المقصور كيف يكون
ونقل ذلك أبو تمام فقال:
إن شئت أن لا ترى صبراً لمصطبرٍ ... فانظر إلى أي حالٍ أصبح الطلل
المتحمل من الوجد ما تعجز عنه الجبال:
الحارثي:
لاقيت من حبها ما لو على جبلٍ ... يلقى لطارت شقافاً منه أفلاق
عمرو بن براق:
ولو أن ما بي بالحصى فلق الحصى ... وبالريح لم يسمع لهن هبوب
شجو العاشق:
يقال للعاشق: هو أسخن عيناً ممن بات بين قبرين، وأسوأ حالة ممن طوى يومين وليلتين. ذكر أعرابي عاشقاً فقال:
يثني طرف عينٍ قد قرحت مآقيها ... ويحنو على كبدٍ قد أعيت مداويها
شكوى أحد المتحابين مقاساة شدة من صاحبه:
كان بعض القسس يمر، فسمع كلاماً خفياً من زقاق، فإذا جارية تشكو إلى صديق لها ما لقيت فيه فقالت: أوعدوني وضربوني ومزقوا ثيابي وفعلوا وصنعوا، وهو ساكت لا يتكلم فقال القسيس: خذوه. فأخذ وخلي عن المرأة ثم قال للرجل: إنها تقص عليك ما لاقت فيك فلم كنت ساكتاً؟فقال: أصلحك الله لم ألق فيها شكوى ولم أكذب؟فأمر به فضرب خمسين درة وقال: ارجع فاشك إليها ما لاقيته فيها.
المجنون:
أعد الليالي ليلةٌ بعد ليلةٍ ... وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا
الخجل ممن حصل منه اليأس:
بعضهم:
وإني لا يغول النأي ودي ... ولو كنا بمنقطع التراب
المتنبي:
أحن إلى أهلي وأهوى لقاءهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغرب
اظهار التشوق في البعد والقرب:
كتب عبد الله بن عباس إلى أحمد بن يوسف: جعلت فداك لا أدري كيف أصنع؟أغيب فأشتاق ثم نلتقي فلاأشتفي، يجدد لي اللقاء الذي يدفع به الشقاء حرقة مثل لوعة الفرقة. سأل المهدي عن أنسب بيت فقيل له:

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلبٍ مقتل
فقال: هذا أعرابي قح. فقيل:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
فقال: ما هذا بشيءٍ ولم يريد أن ينسى ذكرها؟فقيل: قول الأحوص:
إذا قلت: إني مشتفٍ بلقائها ... فحم التلاقي بيننا زادني وجدا
فقال: أحسنت! المتنبي:
وبين الرضا والسخط والقرب والنوى ... مجال لدمع العاشق المترقرق
وهذا اختصار قول الآخر:
وما في الدهر أشقى من محبٍ ... ولو وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكياً في كل حينٍ ... مخافة فرقةٍ أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ... ويبكي إن دنوا خوف الفراق
فتسخن عينه عند التنائي ... وتسخن عينه عند التلاقي
وقال بعض الكتاب: تفكري في مرارة البين يمنعني التمتع بحلاوة الوصل، وتكره عيني أن تقر بقربك مخافة أن تسخن ببعدك، فلي عند الاجتماع كبد ترجف وعند التلاقي مقلة تكف.

إظهار الشوق في حالة الوصل:
شاعر:
قالوا: ظفرت بمن تهوى فقلت لهم: ... الآن أشرف ما كانت صباباتي
لا عذر للصب إن تهدى جوارحه ... فقد تطعم فوه بالمواتاة
متطبب داؤه الهوى:
أنشد لعروة بن حزام:
جعلت لعراف اليمامة حكمةً ... وعراف نجدٍ إن هما شفياني
فما تركا لي رقيةً يعرفانها ... ولا سقية إلا وقد سقياني
فقالا: شفاك الله!والله مالنا ... بما ضمنت منك الضلوع يدان
ديك الجن:
جس الطبيب يدي جهلاً فقلت له ... إن المحبة في قلبي فخل يدي
آخر:
وقالوا: به من أعين الجن نظرةً ... ولو صدقوا قالوا: به نظرة الأنس
آخر:
قال الطبيب لأهلي حين أبصرني: ... هذا فتاكم وحق الله مسحور!
فقلت: ويحك قد قاربت في صفتي ... وجه الصواب!فهلا قلت: مهجور!
فقال: ما لي بعلم الغيب معرفةٌ ... فقلت: إن دليل الحب مشهور
فيض الدموع وأنفاسٌ مصعدةٌ ... وضربه في الحشا والقلب مأسور
افتقاد الصبر في الهوى:
الصنوبري:
وما صبري إمامة عنك إلا ... كصبر الحوت عن ماء الفرات
أحمد بن أبي فنن:
لئن ظل من وجده مثرياً ... لقد ظل من صبره مفلسا
وقال:
لم أقبل الصحة بالشكر ... عبثت بالحب ولم أدر
حتى إذا باشرت أهوله ... وصرت مغلوباً على أمري
عذت بصبرٍ فوجدت الهوى ... قد غلب الحب على صبري
متصبر كرها
ً
أبو العتاهية:
صبرت ولا والله ما لي جلادةٌ ... على الصبر ولكني صبرت على الرغم
استقباح الصبر في الهوى:
أبو تمام:
الصبر أجمل غير أن تلذذاً ... بالحب أحرى أن يكون جميلا
أتظنني اجد السبيل إلى العزا؟ ... وجد الحمام إذاً إلي سبيلا
عمر بن أبي ربيعة:
وإن كثير الحزن ما لم أرد به ... حياض المنايا بعده لقليل
آخر:
الصبر إلا في هواك جميل
معتبة من لم يضته الهوى:
روي أن رجلاً مر ببشار وهو مستلق على قفاه بدهليزه كأنه فيل فقال: يا أبا معاذ إنك تقول:
إن في بردي جسماً بالياً ... لو توكأت عليه لإنهدم
وإنك لو أرسل الله الريح التي أهلكت عاداً عليك ما زعزعتك!ونحوه وإن لم يكن من بابه أن أعرابياً مر برجل فقال: من هذا؟فقيل: عابد!فرأى رقبة غليظة وكدنة متناهية فقال: إن له رقبة ما أرى العبادة وقصتها. ونحوه رأت أعرابية رجلاً بض البدن فقالت: أرى وجهاً لم يؤثر فيه وضوء الصلاة.
الناحل الجسم في الهوى:
بعضهم:
سلبت عظامي لحمها فتركتها ... مجردةً تضحي إليك وتخصر
وأخليتها من مخها فكانها ... قوارير في أجفانها الريح تصفر
المتنبي:
فبلحظها نكرت قناتي راحتي ... ضعفاً وأنكر خاتماي الخنصرا
آخر:
خذي بيدي ثم انهضي بي تبيني ... بي الضر إلا أنني أتستر

من تناهى في الهزال حتى صار كخلال أو هلال:
المتنبي:
بجسمي من برته فلو أصارت ... وشاحي ثقب لؤلؤة لجالا
ولولا أنني في غير نومٍ ... لكنت أظنني مني خيالا
وقال:
دون التعانق ناحلين كشكلتي ... نصب أطالهما ودق الكاتب
ونحوه لابن المعتز:
كأنما جسمي إلى جسمها ... غصنان ذا غضٍ وذا ذابل
آخر:
فلو أن ما أبقيت بي معلقٌ ... بعود ثمامٍ ما تأود عودها
الخبزارزي:
وذبت حتى صرت لو زج بي ... في مقلة النائم لم ينتبه
قد كان لي قبل الهوى خاتمٌ ... والآن لو شئت تمنطقت به
من تسقطه الريح لنحافته:
ماني:
ها أنا ذا يسقطني للبلى ... عن فرشي أنفاس عوادي
المجنون:
ألا إنما غادرت يا أم مالك ... صدى أينما تذهب به الريح يذهب
ديك الجن:
ألست ترى الضنى لم يبق مني ... سوى شبحٍ يطير بكل ريح
من لم يبق إلا حركاته وكلامه:
العباس:
لولا الكلام لما اهتدت ... عين الجليس إلى مكاني
آخر:
أنظر إلى جسمٍ أضر به الهوى ... لولا تقلب طرفه دفنوه
من لا يستبان لنحافته:
بعضهم:
شبحٌ قلّ فما يشغل قطراه مكانا
أبو نواس:
تركت جسمي قليلاً ... من القليل أقلا
يكاد لا يتجزا ... أقل في اللفظ من لا
أبو الفضل بن العميد:
لو أن ما أبقيت من جسدي قذى ... في العين لم يمنع من الإغفاء
ديك الجن:
ولو أن أحداث الزمان أردنني ... بخيرٍ وشرٍ ما عرفن مكاني
الشاكي ذهاب علته لذهاب جسمه:
المتنبي:
وشكيتي فقد السقام لأنه ... قد كان لما كان لي أعضاء
وله:
وخيال جسمٍ لم يخل له الهوى ... لحماً فينحله السقام ولا دما
استطابة المرض والسهر لكونهما من الحبيب:
ديك الجن:
لا أوحشنك ما استحملت من سقمي ... فإن منزله بي أحسن الناس
الأخطل:
إن من أسهرت ليلته ... لقرير العين بالسهر
الرستمي:
وإني لأهوى الشيب من أجل أنه ... وإن نفرت عيني له من فعالها
مما جاء في السهر وطول الأزمنة
وجوب السهر لمن كان عاشقاً:
يستحسن في هذا المعنى قول أبي سعيد بن فوقة:
نسيت الهجود لذاكركم ... وما للمشوق وذكر الهجود
خالد الكاتب:
ومن الكبائر عاشقٌ يغفي
منصور النميري:
الحزن منفاةٌ لضيف الرقاد
المتقلب على فراشه:
أشجع:
إذا الليل ألبسني ثوبه ... تقلبت فيه فتى موجع
ديك الجن:
ألست ترى الضنا لم يبق مني ... سوى شبح يطير بكل ريح
أبو العتاهية:
أبيت كأني في الفراش على مقلي
من لا ينطبق جفنه من السهر:
بعيدة ما بين الجفون كأنما ... عقدتم أعالي كل هدب بحاجب
أخذ ذلك من بشار حيث قال:
جفي عيني عن التغميض حتى ... كأن جفونها عنها قصار
كأن جفونها حزمت بشوكٍ ... فليس لنومةٍ فيها قرار
ونحوه لجميل:
كأن المحب قصير الجفون ... لطول النهار ولم تقصر
ويستحسن للمتنبي:
كأن الجفون على مقلتي ... ثيابٌ شققن على ثاكل
من فارقه النوم حتى نسيه:
العباس بن الحنف:
قفا خبراني أيها الرجلان ... عن النوم، إن الهجر عنه نهاني
وكيف يكون النوم أم كيف طعمه ... صفا النوم لي إن كنتما تصفان
وإني لمشتاقٌ إلى النوم فاعلما ... ولا عهد لي بالنوم منذ زمان
آخر:
حدثوني عن النهار حديثاً ... أوضحوه فقد نسيت النهارا
من ذكر أن ليله كأنما وصل بليل لطوله:
بشار:
وطال علي الليل حتى كأنه ... بليلين موصولٌ فلا يتزحزح
سربلة بن كاهل:
وإذا قلت ظلام قد مضى ... عطف الأول منه فرجع
ابو كثير:
وإني إذا ما الصبح آنست ضوءه ... يعاودني قطعٌ علي ثقيل
آخر:

في الليل طول تناهى العرض والطول ... كانما ليله بالليل موصول
لا فارق الصبح كفي إن ظفرت به ... وإن بدت غرةٌ منه وتحجيل
لساهر طال في صول تململه ... كأنه حيةٌ بالسوط مقتول

مراقبة النجوم من السهر:
قيل لأم الهيثم بنت الأسود: ما حالك؟ فقالت:
تجافى مضجعي ونبا رقادي ... وليلي ما يقر من السهاد
أراقب في السماء بنات نعشٍ ... ولو أستطيع كنت لهن حادي
ابن دريد:
لقد ألفت دهم النجوم رعايتي ... فإن غبت عنها فهي عني تسائل
يقابل بالتسليم منهن طالعٌ ... ويومىء بالتوديع منهن آفل
المستشهد بالنجوم لسره:
الناشىء:
سل الليل عني كيف أرعى نجومه ... فإن الليالي يطلعن على سري
وقال:
سل الليل عني ما لقيت وما لقي ... يخبركم أني بحبكم أشقي
تحير النجوم وامتناعها عن المغيب:
النابغة:
وليل أقاسيه بطيء الكوكب
امرؤ القيس:
فيا لك من ليلٍ كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل
المتنبي:
ما بال هذي النجوم حائرة ... كانها العمي ما لها قائد
وقال:
أكابد هذا الليل حتى كانه ... على نجمه أن لا يغور يمين
وقال قدامة: أنشدني عبد الله بن المعتز:
عسى شمسه مسخت كوكباً ... فقد طلعت في عداد النجوم
فقلت: غبرت في وجه امرؤ القيس إذ يقول: وليل " البيت " فقال: لا ولا وجه في ابن طباطبا إذ يقول:
كان نجوم الليل سارت نهارها ... وعادت عشاءً وهي أنضاء أسفار
فخيمن حتى يستريح ركابها ... فلا فلكٌ جارٍ ولا كوكبٌ سار
تباطؤ الصبح:
جحظة البرمكي:
وليلي في كوكبه حرانٌ ... فليس لطوله منه انقضاء
عدمت محاسن الإصباح فيه ... كان الليل جودٌ أو رفاء
مقاساة الهم بالليل والاستراحة بالنهار:
ابن الدمينة:
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع
الموصلي:
إن في الصبح راحةً لمحب ... ومع الليل ناشئات الهموم
وأصله للنابغة:
وصدرٍ أراح الليل عازب همه ... تضاعف فيه الحزن من كل جانب
قلة المبالاة بطوله لدوام الهم:
امرؤ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ... بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثل
الصولي:
وطولت ليلي لو دريت بطوله ... ولكنه يمضي لما بي ولا أدري
تشابه ليلي واستمر بي الهوى ... فمن لي بنفسٍ تستريح إلى الغدر
الجهل بحاله في ليله:
خالد الكاتب:
لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلى
لو تفرغت لاستطالة ليلي ... ولرعي النجوم كنت مخلى
من ذكر طول ليله وقصر ليل محبوبه:
العباس:
نام من أهدى لي الأرقا ... مستريحاً سامني قلقا
لو يبيت الناس كلهم ... بسهادي بيضو الحدقا
أنا لم أرزق مودتكم ... إنما للعبد ما رزقا
وقال:
كل من نام لعمري ... يحسب الناس نياما
وقال:
شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا ... فقالوا لنا: ما أقصر الليل عندنا!
من ذكر أن الهموم طولت ليله:
بشار:
كأن الدجى طالت وما طالت الدجى ... ولكن أطال الليل هم مبرح
وقال:
أقول في الليل وفي طوله ... قول امرىءٍ بالليل طب بصير
يطول الليل مراعاته ... فكل أمرٍ لا يراعى قصير
ابن بسام:
لا أظلم الليل ولا أدعي ... أن نجوم الليل ليست تغور
ليلي كما شاءت فغن لم تزر ... طال وغن زارت فليلي قصير
المتنبي:
ليالي بعد الظاعنين شكولٌ ... طوالٌ وليل العاشقين طويل
يبين لي البدر الذي لا أريده ... ويخفين بدراً ما إليه سبيل
استقصار وقت الفرح واستطالة ضده:
العباس:

ألا إن أيام البلاء على الفتى ... طوالٌ وأيام السرور قصار
بشار:
وللدهر أيامٌ قصارٌ إذا سرت ... بخير ويوم الحزن منه طويل

استطالة النهار:
شاعر:
يا طول يومي بالكثيب فلم تكد ... شمس الظهيرة تتقى بحجاب
أبو تمام:
بيومٍ كطول الدهر في عرض مثله ... ووجدي من هذا وذياك أطول
وقال:
يكون كالشهر عندي في تطاوله ... اليوم لم أره فيه ولم يرني
قال الأصمعي لأصحابه: أتعرفون شاعراً استطال يوم اللقاء؟قالوا: لا. قال: هو توبة حيث يقول:
لكل لقاء نلتقيه بشاشةٌ ... وإن كان حولاً كل يومٍ أزورها
فسكتوافقال: يريد يوم يقوم مقام حول في السرور.
المستقصر ليله لكونه في السرور:
الكادوسي:
نهار كشبر الذر او هو دونه ... وليلٌ كأبهام القطاة قصير
ابن طباطبا:
يا لذتي بعناق من ... روى فمي رشفاً ولثما
في ليلةٍ ضمت علي ... جناحها الغربيب ضما
فلو استطعت جعلت بين ... ظلامها والصبح ردما!
علي بن عاصم:
سقياً لأيام لنا وليال ... قصر الحبائب طولها بوصال
ما كان طول سرورها لما انقضت ... إلا اكتحال متيمٌ بخيال
إبراهيم بن العباس:
وليلةٍ إحدى الليالي الزهر ... قابلت فيها بدرها ببدر
- حتى تولت وهي بكر الدهر وقال:
ليلةٌ كاد يلتقي طرفاها ... قصراً وهي ليلة الميلاد
مدح السهر بالليل وترك النوم:
قد أثنى الله تعالى على قوم فقال: " كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون " . وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: " ومن الليل فتهجد به نافلة لك " .
كشاجم:
وليلك شطر عمرك فاغتنمه ... ولا تذهب بشطر العمر نوما
وقال:
تركت النوم للنوا ... م إشفاقاً على عمري
ابن نباتة:
فتى يتجافى قلة النوم جفنه ... كأن لذيذ النوم في جفنه قذى
أطرفك ساهٍ أم فؤادك عاشقٌ ... يغار على عينينك من سنة الكرى؟
ومن سهرت في المكرمات جفونه ... رعى طرفه في جوفها أنجم العلى
ولبعض القدماء:
يبيت مسهراً يرعى الهوينا ... إذا ما النوم عانقه الدثور
ابن المعتز:
أنا من تعلمون أسهر للمجد ... إذا غط في الفراش لئيم
وفي تركه أي للنوم: شاعر:
ولذا كطعم الصرخدي طرحته ... عشية خمس القوم والعين عاشقة
وقيل: سورة النوم والجوع والعطش ساعة، فإذا صبرت تجاوزتك. وضده: قلة النعاس تذهب العقل والنوم يزيد فيه.
الممدوح بقلة النوم:
شاعر في ابنه:
أعرف منه قلة النعاس ... وخفةً في رأسه من راسي
وفي الذئب:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان نائم
المستولي عليه النوم:
قيل: أنوم من فهد.
ومعرسٍ نبهته من نومه ... فكأنما نبهت فهد البيد
أبو نواس:
كأن أرؤسهم والنوم واضعها ... على المناكب لم تعمد بأعناق
وقيل: أصل النوم كثرة الشرب، وكثرة الشرب من كثرة الأكل.
من دلت عينه على سهره:
إبراهيم بن العباس:
عيناك قد حكتا مبيتك ... كيف كنت وكيف كانا
ولرب عينٍ قد أرتك ... ضمير صاحبها عيانا
وقال:
جفونك مقبلةٌ بائحه ... تخبر عن ليلةٍ صالحه
ونومك بعد صلاة الغداة ... دليلٌ على سهر البارحه
مما جاء في الوشاية والعذل
النهي عن الإصغاء إلى الواشي:
بعضهم:
من جعل النمام عيناً هلكا ... من بلغ السوء كباغيه لكا
الحارث المخزومي:
إن الوشاة قليلٌ إن أطعتهم ... لا يرقبون بنا إلاً ولا ذمما
وهو كقولهم: من شتمك؟فقال: الذي بلغك.
بعض المتصلين بالحبيب:
الحارثي:
فيا بعل ليلى كم وكم بأذاتها ... عدمتك بعلٍ تطيل أذتي
بنفسي حبيب حال بابك دونه ... تقطع نفسي أثره حسراتي
عبد الصمد:

لي حبيبٌ أضر بي ما أقاسي ... من فتوني به وبغض أخيه
لي موتان من هوى ذا ومن ... بغضي لهذا فليس لي من شبيه

قلة المبالاة بالناس في تعاطي الشهوات:
بشار:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
ولما قال سلم الخاسر:
من راقب الناس مات غماً ... وفاز باللذة الجسور
قال بشار ذهب والله بيتي فهو أخف منه وأعذب، لا أكلت اليوم ولا شربت. ولما ولي يزيد بن عبد الملك بن مروان الخلافة أراد أن يتشبه بعمر بن عبد العزيز فشق على حبابة فأرسلت إلى الأحوص وقالت أنشده:
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا
فلما بلغ:
هل العيش إلا ما تلذ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشنار وفندا
قام يزيد وهو يقول: هل العيش(البيت)حتى دخل على حبابة.
من تشكك رقيبه في غير محبوبه:
العباس بن الأحنف:
قد سحب الناس أذيال الظنون بنا ... وفرق الكل فينا قولهم فرقا
فكاذب قد رمى بالظن غيركم ... وصادقٌ ليس يدري انه صدقا
آخر:
قومٌ رموا غير من أهوى بظنهم ... وآخرون أصابوه وما شعروا
المسرة بغيبة الرقيب والتمكن من الحبيب:
غاب الأمير أدام الله نعمته ... وغاب هم كفاني الله هيبته
غابا وقد غادرا لص الهوى فرحاً ... بنيل ما كان يشكو منه خيبته
لما تمكنت من بر لأسرقه ... هربت خوفاً وما حركت عيبته
الندم على الإصغاء إلى العذال:
تكنفني الوشاة فأزعجوها ... فيا لله للواشي المطاع
فأصبحت الغداة ألوم نفسي ... على شيءٍ وليس بمستطاع
كمغبونٍ يعض على يديه ... تبين غبنه بعد البياع
تاج الكتاب:
وإني غداة سكوني إلى ... مقال الرقيب وهجر السكن
كمن شرب السم جهلاً به ... ولم يدر ما فعله في البدن
من كذب الواشي فيما ادعى عليه من الهوى وصدقه:
توبة:
رماني وليلى الأخيلية قومها ... بأشياء لم تخلق ولم أدر ما هيا
وقال:
وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا ... سوى أن يقولوا أني لك عاشق
نعم صدق الواشون أنت كريمةٌ ... علينا وغن لم تصف منك الخلائق
الدعاء على العاذل:
مورق العقيلي:
فمن لامني في أن أهيم بذكرها ... فكلف من وجدي ما أكلف
كثير:
وسعى إلي بعيب عزةٍ نسوةٌ ... جعل الإله خدودهن نعالا
ابن طباطبا:
هو الحبيب الذي نفسي الفداء له ... ونفس كل نصيحٍ لامني فيه
خلي يلوم شجياً:
النميري:
أصبحت تلحاني ولا تدري ... كيف اعتراني الهم في صدري
لو كنت في صدري وباشرت ما ... يلقى لسارعت إلى عذري
آخر:
ووالله لو أصبحت من ملة الهوى ... لأقصرت عن عذلي وأسرعت في عذري
ولكن بلائي منك إنك ناصحٌ ... وأنك لا تدري بأنك لا تدري
مخالفة العذال:
قال أحمد بن سليمان بن وهب: قال لي أبي يا ابني قد عزمت على معاتبة عمك الحسن بن وهب في هواه فلانة، فقد اشتهر بها وافتضح، فأعي عليه. فوافيناه فكان من جملة ما قال له أبي: الهوى ألد وأمتع والرأي أصوب وأنفع؛فقال عمي متمثلاً:
إذا عذلتني العاذلات على الهوى ... أبت كبدٌ عما يقلن صريع
وكيف أطيع العاذلات وحبها ... يؤرقني والعاذلات هجوع
فالتفت لي أبي يريد المساعدة فقلت:
وإني ليلحاني على طول حبها ... رجالٌ ترى منهم قلوبٌ صحائح
فقال أبي: قم فأنت مثله أو أشر منه! أحمد بن أبي فنن:
أعاذل عن لومك لي عاءٌ ... فحسبك قد سمعت وقد عصيت
المتنبي:
إلام طماعية العاذل ... ولا رأي في الحب للعاقل
يراد من القلب نسيانكم ... وتابى الطباع على الناقل
وهبت سلوي لمن لامني ... وبت من الشوق في شاغل
أنشد عبد الله بن طاهر قول من يقول:

أطعت الآمريك بصرم حبلي ... مريهم في أحبتهم بذاك
فإن هم طاوعوك فطاوعيهم ... وإن عاصوك فأعصي لمن عصاك
فقال: طعنة في كبده!هلا قال كما قلت:
قولي لناهيك عن ودي وعن وصلتي ... يهجر أحبته والترب في فيه
فإن عصاك فرديه بمعصيةٍ ... وإن أطاعك فاعصيه وأقصيه
وقال:
ورب لومٍ أتاني من أخي سفهٍ ... على ارتماضي فلم أرفع له أذني

من ذكر سرور عاذله بصرم محبوبه:
محمد بن أبي عيينة:
لقد شمت الوشون أن حيل بيننا ... وسروا ألا للشامتين بنا العقبى
التمار:
صد من أهواه عني ... فاشتفى العاذل مني
استطابة الملامة:
أبو نواس:
إذا غاديتني بصبوحٍ عذلٍ ... فممزوق بتسمية الحب
فإني لا أعد اللوم فيه ... علي إذا فعلت من الذنوب
وقال:
كفى الأحاديث عن ليلى إذا ذكرت ... إن الأحاديث عن ليلى تلهيني
بشار:
لا أحمل اللوم فيها والغرام بها ... لا كلف الله نفساً فوق ما تسع
ازدياد الوجد بالعذل:
قيل: النهي عن الشيء داع إلى تعاطيه كآدم وحواء حين نهيا عن الشجرة. وقال صلى الله عليه وسلم: لو نهي الناس عن فت البعر فتوه وقالوا ما نهينا عنه إلا وفيه شيء.
أبو دلف:
هل رأينا أو سمعنا عن نهى ... رجلاً عن سوء فعلٍ فانتهى
بل إذا عةتب في سيئةٍ ... لم يدعها وتعاطى أختها
أبو نواس:
دع عنك لومي فإن اللوم اغراء
ابن الحجاج:
دع اللوم إن اللوم يغري وربما ... أراد صلاحاً من يلوم فأفسدا
وأصله لقيس:
وما زادها الواشون إلا كرامةً ... علي ووداً في القلوب موفرا
وقيل: من عذل عاشقاً كمن زمر في است ميت ليطرب.
السكون عن مجاوبة العاتب:
بعضهم:
اعذر أخاك فإنه رجلٌ ... صمت مسامعه على العذل
جحظة:
ذراني من ملامكما ذراني ... فقد أسرفتما إذ لمتماني
فلست بضامنٍ لكما جواباً ... ولست بسامعٍ ممن لحاني
التبرم بالوشاة:
قال مجنون ليلى:
ولو أن واشٍ باليمامة داره ... وداري بأعلى حضرموت أهتدى ليا
وماذا عليهم أحسن الله حالهم ... من الحظ في تصريم ليلى حباليا
الخبزارزي:
موكلٌ طرفه بطرفي ... كانه كاتب الذنوب
وقال:
أمنا أناساً كنت قد تأمنينهم ... فزادوا علينا في الحديث وأوهموا
وقالوا لنا ما لم نقل ثم كثروا ... علينا وباحوا بالذي كنت أكتم
الصاحب:
خلٌ يصد وعاذلٌ متنصحٌ ... ومناصحٌ يؤذي ونمام يشي
أحمد بن أبي سلمة:
يعذلني فيه جميع الورى ... كأنني جئت بأمر عجيب
التبرم بكثرة اللوم:
ابن المعتز:
أظن نفسي لو تعشقتها ... بليت فيها بملام الرقيب
وقال:
واعنائي بمحضر ومغيب ... وحبيبٍ ناى بعيدٍ قريب
لم ترد ماء وجهه العين إلا ... شرقت قبل ريها برقيب
وقال:
إن لامني من لا رآه فقد ... جار على الغائب في الحكم
وإن لحاني من رآه فقد ... أضله الله على علم
المرتدع عاذله بحسن محبوبه:
قال الله تعالى: " قالت امرأة العزيز وقال نسوة في المدينة(الآيتين)إلى قوله: إن هذا إلا ملك كريم " .
محمد بن بكار:
عذلاني على هواه فلما ... أبصرا حسن وجهه عذراني
وقال:
فلما رآها العذلات عذرنني ... وصدقنني فيما شكوت من الوجد
معاتبة من يلوم ولا يعرف العذر:
الأفوه:
إن الملامة لا تزال بلا ... عذرٍ أمام تفهم العذر
مما جاء في إبداء الهوى وإخفائه
المتبجح بإخفائه محبوبه عن الناس:
شاعر:
فما أنس الأشياء لا أنس موقفي ... وموقفها وهناً بقارعة النخل
فلما توقفنا عرفت الذي بها ... كمثل الذي بي حذوك النعل بالنعل

فقالت وأرخت جانب الستر إنما ... معي فتحدث غير ذي رقبةٍ أهلي
وقلت لها: ما لي بهم من ترقب ... ولكن سري ليس يحمله مثلي
العباس:
لأخرجن من الدنيا وحبكم ... بين الجوانح لم يشعر به أحد
الخبزارزي:
إذا سألوني عنك موهت قصتي ... ولجلجت لجلاج الضفادع في البحر

الكاتم هواه عن ظواهر نفسه:
سواد بن عبد الله:
خشيت لساني أن يكون خؤوناً ... فأودعته قلبي وكان أمينا
وقلت ليخفى بين سمعي وناظري ... أيا حركاتي كن في سكونا
فما أن رأت عيني لعيني نظرةً ... ولا سمعت أذني لفي حنينا
بعض المحبين:
عندي سرائر للحبيب طويتها ... مني الضمير بأنها في طيه
آخر:
فلو أن شيئاً كاتم الحب قلبه ... لمت ولم يعلم بحبكما قلبي
أخذه من جميل:
لو أن امرأً أخفى الهوى عن ضميره ... لمت ولم يعلم بذاك ضميري
أبو نوح:
قلبي رقيبٌ على طرفي من الحذر ... فليس يتركه يلتذ بالنظر
بعضي يكاتم بعضي ما يحاذره ... فلو سألت إذاً لم أدر ما خبري
التستر بإظهار الهوى في غير المحبوب:
شاعر:
اسميك لبنى في نسيبي تارةً ... وآونةً سعدى وآونةً ليلى
حذاراً من الواشين أن يفطنوا بنا ... وإلا فمن لبنى فدتك ومن ليلى؟
أحمد بن أبي فنن:
لساني لليلى والفؤاد لغيرها ... وفي لحظ عيني مكذبٌ للسانيا
ابن المعتز:
ألقيت غيرك في ظنونهم ... فسترت وجه الحب بالحب
ستر الهوى بالوقيعة في المحبوب:
الخبزارزي:
قل للذي ينكر سبي له: ... والله ما خنتك في الغيب
وإنما أحببت ستر الهوى ... فعبت ما ليس بذي عيب
وسله لي عن مثل قد مضى ... لم رقع البزاز في الثوب؟
إظهار الهوى قصداً إلى إخفائه:
أبو حفص الشطرنجي:
ولقد أمازحه بإظهار الهوى ... عمداً ليكتم سره إعلانه
ولربما كتم الهوى إظهاره ... ولربما فضح الهوى كتمانه
كتمان الهوى عن المحبوب:
الزبير بن بكار:
استر هواك من الذي تهوى ... لا تفضين إليه بالشكوى
فلقلما تبدي هواك له ... إلا تلوى وامتلا زهوا
إسقاط الجوى بإظهار الهوى:
أبو العتاهية:
إن المحب إذا ترادف حبه ... يلقى المحب فيستريح إليه
وقال:
وأبثثت عمراً بعض ما في جوانحي ... وجرعته من مر ما أتجرع
الإستراحة بإظهار الهوى:
ولا بد من شكوى إلى ذي حفيظةٍ ... إذا جعلت أسرار نفسٍ تطلع
وقال بعضهم: ما رأيت أغزل وأظرف وأهجن من صاحبة يوسف عليه السلام حيث قالت: أنا راودته عن نفسه. ثم قالت ذلك: ليعلم أني لم أخنه بالغيب.
محمد بن أبي عيينة:
تجنب مؤنات التدمث والعقل ... بعينك فانظر ما تلذ وتستحلي
المتنبي:
وألذ شكوى عاشقٍ ما أعلنا
الصاحب:
صرحت في حبي عن مشكله ... ولم أصخ فيه إلى عذله
وبحت للعالم باسم الهوى ... فليقعد المغتاب في منزله
إظهار الهوى وامتناعه من أن يخفى:
شاعر:
من كان يزعم أن سيكتم حبه ... حتى يشكك فيه فهو كذوب
وإذا بدا سر اللبيب فإنه ... لم يبد إلاً والفتى مغلوب
الحب أغلب للفؤاد بقهره ... من أن يرى للسر فيه نصيب
محمد بن طاهر:
يا كاتمي خفية الواشي محبته ... إني وحقك أقراه من النظر
سلم الخاسر:
ولي عند رؤيته روعةٌ ... تحقق ما ظنه المتهم
إسحاق الموصلي:
إن المحب يرى التوقر سترةً ... فإذا تحير في الهوى لم يبصر
ظهور الهوى بالدمع:
أبو عيسى بن الرشيد:
لساني كتومٌ لأسراركم ... ودمعي نمومٌ لسري مذيع
ولولا الدموع كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم تكن لي دموع
أبو حكيمة:

كأن مجال الطرف من كل ناظرٍ ... على حركات العاشقين رقيب

ظهوره بنحول الجسم:
المتنبي:
أمر الفؤاد لسانه وجفونه ... فكتمته وكفى بجسمك مخبرا
الصنوبري:
أكف لسان الدمع إن أشكو الهوى ... كان لسان السقم لا يحسن الشكوى
مباثة العاشق معشوقه في هواه:
شاعر:
فتعلمي أن قد كلفت بكم ... ثم افعلي ما شئت عن علم
العباس:
لا تحسبيني ماذقاً في الهوى ... إني على حبك مطبوع
البحتري:
أعيدي في نظرةً مستتيب ... توخى الأجر أو كره الأثاما
ترى عبداً محرقة وعيناً ... مؤرقةً وقلباً مستهاما
وقال رجل لامرأة رآها مرهاء: هلا اكتحلت؟فقالت: خشيت أن أشغل جزءاً من أجزاء عيني عن النظر إليك!
الحث على إظهار الجوى للمحبوب:
قيل: لا شيء أصيد لامرأة ولا أذهب لعفتها من أن يحيط علمها بأن رجلاً يحبها، فإذا رأت أنه أدمع عينه، ولو كانت أنسك ما يكون، لذهب عقلها.
وقال بشار:
عرضن للذي تحب بحبٍ ... ثم دعه يروضه ابليس
وقيل: المرأة تكتم الحب أربعين سنة، ولا تكتم البغض يوماً واحداً.
مما جاء في مراسلة الحبيب ومكاتبته
الإرسال إلى المحبوب:
قال كثير: لقيني جميل فقال من أين أقبلت؟فقلت: من عند بثينة. فقال: لا بد أن ترجع عودك إلى بدئك فتأخذ لي موعداً من بثينة. فقلت: عهدي بأبيها الساعة. فقال: لا بد. فقلت: وأين عهدتهم؟قال: بالدوم يرحضون ثيابهم. فرجعت فقال أبوها: ما ردك يا ابن أخي؟قلت: أبيات خطرت لي أردت أن أنشدكها ثم أنشدقه:
فقلت لها: يا عز أرسل صاحبي ... على نأي دارٍ والموكل مرسل
بأن تجعلي بيني وبينك موعداً ... وأن تأمريني بالذي شئت أفعل
فآخر عهدٍ منك يوم لقيتني ... بأسفل وادي الدوم والثوب يغسل
قال: فضربت بثينة جانب خبائها بعمود وقالت: اخسأ. فقال أبوها: ما هو؟قالت: كلب يأتينا من وراء الرابية. فعدت إليه وقلت: قد وعدتني أن تجيء من وراء الرابية.
شاعر:
يا صاحبي فدت نفسي نفوسكما ... وحيثما كنتما لقيتما رشدا
أن تحملا حاجةً لي خف محملها ... تستوجبا نعمةً عندي بها ويدا
أن تقرأ منزل الأحباب ويحكما ... مني السلام وأن لا تخبرا أحدا!
آخر:
وقد أرسلت في السر أن قد فضحتني ... ونوهت باسمي في النسيب ولم تكن
من عاد رسوله بمكروه:
ديك الجن:
أبطأ الرسول فظلت أنتظر ... لا النوم يأخذني ولا السهر
رد الجواب بكل معضلةٍ ... إن شمروا للهجر واتزروا
ازجر فؤادك أن يهيم بهم ... إن العصا لك قد أرى قشروا
إرسال الريح إليه:
البحتري:
ألا يا نسيم الريح بلغ رسالتي ... سليمى وعرض بي كأنك مازح
فإن سألت عني سليمى فقل لها: ... به عبر من ذاته وهو صالح
وقال:
لي إلى الريح حاجةٌ إن قضتها ... كنت للريح ما بقيت غلاما
حجبوها عن الرياح لأني ... قلت للريح: بلغيها السلاما!
وقال:
فلو أن ريحاً أبلغت وحي مرسلٍ ... خفيٍ لناجيت الجنوب على الجنب
وقلت لها: أدي إليهم تحيتي ... ولا تخلطيها، طال سعدك، بالترب
فإني إذا هبت شمالاً سألتها: ... هل ازداد صداح النميرة من قرب
من حسد رسوله لتمتعه بالنظر إلى محبوبه:
عشق المأمون جارية لبعض المتكلمين المتصلين به، وكان يراسلها ببعض من أفشى إليه سره فقال يوماً وقد بعث إليها:
ألا ليتني كنت الرسول وكانني ... فكان هو المقصي وكنت أنا المدنى
بعثتك مشتاقاً ففزت بنظرةٍ ... وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا
وأمرحت طرفاً في محاسن وجهها ... ومتعت باستمتاع نغمتها الأذنا
محمد بن أمية:
إن تشق عيني بها فقد سعدت ... عين رسولي وفزت بالخبر
خذ مقلتي يا رسول عاريةً ... فانظر بها واحتكم على بصري
تأسف من خلفه رسوله على محبوبه:

شاعر:
بعثت رسولاً فأضحى خليلاً ... على الرغم مني فصبراً جميلا
وكنت الخليل وكان الرسول ... فصار الخليل وصرت الرسولا
كذا من يوجه في حاجةٍ ... إلى من يحب رسولاً نبيلا
المتنبي:
ما لنا كلنا جوىً يا رسول ... أنا أهوى وقلبك المتسول
كلما عاد من بعثت إليها ... غار مني وخان فيما يقول

التعرض لرسول محبوبه:
بعثت عنان جارية الناطفي وصيفة لها إلى أبي نواس تدعوه، فاحتال فقضى منها وطراً وكتب إليها:
نكا رسول عنانٍ ... والرأي ما قد فعلنا
فكان خبزاً بملحٍ ... قبل الشواء أكلنا
وبعثت أخرى جاريتها فعادت وبوجهها أثر ريبة ، فسألتها فزعمت أنه خمشها، فعاتبته فقال:
زعم الرسول بأنني خمشته ... كذب الرسول!وفالق الإصباح
شغلي بحبك عن سواك وليس لي ... قلبان مشتغلٌ وآخر صاح
النوفلي:
وقد زعمت يمن بأني أردتها ... على نفسها، تباً لذلك من فعل!
سلوا عن قميصي مثل شاهد يوسفٍ ... فإن قميصي لم يكن قدّ من قبل
الراغب إلى حبيبه أن يكاتبه:
شاعر:
يا زين من ولدت حواء من رجل ... لولاك لم تحسن الدنيا ولم تطب
أما اللقاء فشيءٌ لست آمله ... فما يضرك لو ناجيت بالكتب؟
وقال:
فإن لم تكونوا مثلنا في اشتياقنا ... فكونوا أناساً تحسنون التجملا
وماذا عليكم لو سمحتم بأحرفٍ ... فأوجبتم فيها علينا التفضلا
ابن طباطبا:
أنا راضٍ يا منى ... نفسي بنيل منك نزر
بكتاب بل بسطرٍ ... بل بحرفٍ دون سطر
المسرة بورود الكتاب:
شاعر:
أتاني كتابٌ فيه ذكر زيارةٍ ... وقد كان قلبي قبل ذلك يخفق
فقبلته مستبشراً بوروده ... وأهديته للقلب لا يتفرق
المهلبي:
طلع الفجر من كتابك عندي ... فمتى اللقاء يبدو الصباح؟
ذاك إن تم لي فقد عذب ... العيش ونيل المنى وريش الجناح!
محمد بن طاهر:
علامة من يودك أن تراه ... يطيل إليك إن غبت الكتابا
إذا قصر الكتاب فأي ودٍ ... ترجى من حبيبك حين غابا؟
مما جاء في مزاورة الحبيب وملاقاته والنظر إليه
المتنبي:
كم زورةٍ لك في الأعراب خافيةٍ ... أدهى، وقد رقدوا، من زورة الذيب
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
وله:
وكم لظلام الليل عندك من يدٍ ... تخبر أن المانوية تكذب
ابن المعتز:
وجاءني في قميص الليل مستتراً ... يستعجل الخطو من خوفٍ ومن حذر
ولاح ضوء هلالٍ كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدت عن الظفر
فقمت أفرش خدي في الطريق له ... ذلاً وأسحب أذيالي على الأثر
وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر
جحظة:
زارني خائفاً وقد جثم الليل ... ونام الحراس والرصد
جره سكره وساوره الخو ... ف فوافى سكران يرتعد
سعيد النصراني:
وعد البدر بالزيارة ليلاً ... فإذا ما وفى قضيت نذوري
قلت: يا سيدي ولم تؤثر الليل ... على بهجة النهار المنير؟
قال: لا أستطيع تغيير رسمي ... هكذا الرسم في طلوع البدور
من صار الطيب والحلي واشياً عند زورته:
البحتري:
وزارت على عجلٍ فاكتسى ... لزورتها أبرق الحزن طيبا
فكان العبير لها واشياً ... وخرس الحلي عليها رقيبا
بشار:
أملي لا تأت في قمر ... لحديثٍ واتق الذرعا
وثوق الطيب ليلتنا ... إنه واشٍ إذا سطعا
العباس:
قامت تثنى وهي مرعوبةٌ ... تود أن الشمل مجموع
بكى وشاحاها فلم يسكتا ... وإنما أبكاهما الجوع

فانتبه الهادون من أهلها ... وصار للموعد مرجوع
لا تستلقي أبداً بعدها ... إلا ونمامك منزوع
ما بال خلخالك ذا خرسةٍ ... لسان خلخالك مقطوع

امتناع المحبوب:
شاعر:
قلت: زورينا فقالت: عجبا ... أتراني يا فتى قاضي منى؟
إذ يصلي وعليه دينهم ... أنت تهواني وآتيك أنا!
أبو دهم:
لما رأيت معذبي ... ألفيته كالمحتشم
فطلبت منه زورةً ... تشفي السقيم من السقم
فأبى علي وقال لي: ... في بيته يؤتى الحكم
من سأل رفيقه أن يزور به صديقاً:
شاعر:
خليلي عوجا بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هندٌ لأرضكما قصدا
وقولا له: ليس الضلال أجازنا ... ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا
وقال نصيب:
بزينب ألمم قبل أن يظعن الركب ... وقل: إن تملينا فما ملك القلب
وقال:
خليلي من عوفٍ عفا الله عنكما ... ألماً بها كان مرخى ظلامها
فإن مقيلي عند ظمياء ساعةً ... لنا خلفٌ من نومةٍ سننامها
النهي عن كثرة النظر وذمه:
قال الله تعالى: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست الآخرة. وقال: زناء العين النظر. وقال عيسى عليه السلام: لا يزني فرجك ما غضضت طرفك. وقيل: من كثرت لحظاته دامت حسراته. فضول المناظرة من فضول الخواطر. قيل: نظر رجل لامرأة فقالت: لم تنظر إلي ما يقيم ايرك وينفع غيرك؟وقال أبو الفيض: خرجت حاجاً فمررت بحي فرأيت جارية كأنها فلقة قمر فغطت وجهها فقلت: يرحمك الله أنا سفر وفينا أجر، فمتعينا برؤية وجهك، فقالت:
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً ... لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
ومرت أعرابية بجماعة من بني نمير فأداموا لها النظر فقالت: يا بني نمير ما فعلتم بقول الله تعالى: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " ؟ولا بقول الشاعر:
فغض الطرف إنك من نميرٌ ... فلا سعداً بلغت ولا كلابا
فأطرقوا حياءً. وقال العباس بن الأحنف:
ومستفتحٍ باب البلاء بنظرةٍ ... تزود منها شغله آخر الدهر
أبو تمام:
إن لله في العباد منايا ... سلطتها على القلوب العيون
النهي عن تمكين المرأة من النظر إلى الرجل:
قال بعضهم: لأن يرى ألف رجل امرأتي أسهل عندي من أن ترى امرأتي رجلاً.
ذو الرمة:
لا تأمنن على النساء ولو أخاً ... ما في الرجال على النساء أمين
إن الأمين وإن تحفظ جهده ... لا بد أن بنظرةٍ سيخون
الرخصة في النظر:
قال الحسن: النظر إلى الوجه الحسن عبادة، معناه أن الرائي يقول: سبحان خالقه. ومنه قيل النظر إلى علي عبادة. ورؤي شريح بقارعة الطريق فقيل له: ما وقوفك؟قال: عسى أن أنظر إلى وجه حسن أتقوى به على العبادة.
وقال ابن الدمينة:
يقولون لا تنظر!وتلك بليةٌ ... ألا كل ذي عينين لا بد ناظر
وليس اكتحال العين بالعين ريبةٌ ... إذا عف فيما بينهن الضمائر
وقال مصعب بن الزبير وكان جميلاً لصوفي رآه يحد النظر إليه: لم تحد النظر إلي؟فقال: لا تنكر نظري فإنك من زينة الله في بلاده أما سمعت قول أبي دلف:
ما لمن تمت محاسنه ... أن يعادي طرف من رمقا
لك أن تبدي لنا حسناً ... ولنا أن نعمل الحدقا
آخر:
ابرزوا وجهه الجميل ... ولاموا من افتتن
لو أرادوا عفافةً ... نقبوا وجهه الحسن
التمار:
لا تمنعني إن نظر ... ت فلا أقل من النظر
دع مقلتي تنظر إليك ... فقد أضر بها السهر
النظر الشديد:
نظر أشعب إلى ابنه وهو يحادث امرأة فقال: يا بني نظرك هذا يحبل!وغنى مخارق في مجلس الواثق يقول عمر بن أبي ربيعة:
نظرت إليها بالمحصب من منى ... ولي نظرٌ لولا التحرج عارم

فقال: ما تحفظون في هذا؟فقال ابن أبي دؤاد أحفظ فيه شيئاً ظريفاً فقال:
ولي نظرٌ لو كان يحبل ناظرٌ ... بنظرته أنثى فقد حبلت عني
فإن ولدت ما بين تسعة أشهر ... إلى نظري شيئاً فذاك إذاً مني
فقال: أشد منه للأخطل:
فلا تقرب بيوت بني كليبٍ ... ولا تقرب لهم أبداً رحالا
ترى فيها لوامع مبرقاتٍ ... يكدن ينكن بالحدق الرجالا
قيل لعاشق تمكن من لقاء محبوبه: هل اشتفيت؟فقال:
وفي نظر الصادي إلى الماء حسرةٌ ... إذا كان ممنوعاً سبيل الموارد
آخر:
يرنو وينظر حسرةً ... نظر الحمار إلى القضيم

من تمنى النظر إلى محبوبه والاستشفاء بلقائه:
الخبزارزي:
مفتاح كل لذاذةٍ ... نظر المحب إلى الحبيب
طوبى لعينٍ أبصرت ... وجه الحبيب بلا رقيب
ابن قنبر:
رمدت في الحب عيني ... فأكحلوها بالحبيب
العباس:
إذا ما التقينا كان أكثر حظنا ... وغاية ما نرضى به النظر الشزر
ازدياد الوجد بالنظر:
وهب الهمداني:
زودت العين من لواحظها ... زاداً فكان الحمام في النظر
الأحوص:
إذا قلت أني مشتفٌ بلقائها ... فحم التلاقي بيننا زادني وجدا
إبراهيم الموصلي:
ولو أني نظرت بكل عين ... لما استقصت محاسنه العيون
تورك الذنب على العين والقلب:
الصولي:
فمن كان يؤتى من عدوٍ وصاحبٍ ... فإني من عيني أوتيت ومن قلبي
هما اعتوراني نظرةً ثم فكرةً ... فما أبقيا لي من رقادٍ ومن لب
وقال:
إذا لمت عيني التين أضرتا ... بجسمي يوماً قالتا لي لم القلبا!
فإن لمت قلبي قال: عيناك قادتا ... إليك البلايا ثم تجعل لي الذنبا؟
أبو القاسم المصري:
ألوم قلبي وناظري فهما ... تعاونا والنوى على قلبي
تورك الذنب على العين دون القلب:
أبو تمام:
لأعذبن جفون عيني إنما ... بجفون عيني جل ما أتعذب
ابن المعتز:
عيني أشاطت بدمي في الهوى ... فأبكوا قتيلاً بعضه قاتله
العطوى:
فلا عجبٌ ولا أمرٌ بديعٌ ... جنايات العيون على القلوب
توركه على القلب دون العين:
كفى بكون القلب مذنباً وداعياً إلى فعل الشر أن النفس لأمارة بالسوء. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: أعدى عدوك نفيسة بين جانبيك.
شاعر:
ألا إنما العينين للقلب رائد
الموسوي:
النفس أعدى عدوٍ أنت حاذره ... والقلب أعظم ما يبلى به الرجل
قلة شبع العين من النظر:
قيل: لا تشبع عين من نظر، ولا أذن من خبر، ولا أرض من مطر، ولا أنثى من ذكر.
أبو العباس:
ليتني إذ أراه كلي عيونٌ ... فبعينين لست أشبع منه
اختلاس النظر خشية الرقباء:
أبو الشيص:
ونظرة عينٍ تعللتها ... حذاراً كما نظر الأحول
تقسمتها بين وجه الحبيب ... وطرف الرقيب متى يغفل
ونحوه:
إذا ما التقينا والوشاة بمجلسٍ ... فليس لنا رسل سوى الطرف للطرف
فإن غفل الواشون فزت بنظرةٍ ... وإن نظروا نحوي نظرت إلى السقف
وقال:
حمدت إلهي إذ بلاني بحبها ... على حول أغنى عن النظر الشزر
نظرت إليها والرقيب يظنني ... نظرت إليه فاسترحت من العذر
التخاطب بالنظر:
معقل بن عيسى:
إذا نحن خفنا الكاشحين ولم نطق ... كلاماً تكلمنا بأعيننا شزرا
علي بن هشام:
فسلمت إيماءً وودعت خفيةً ... فكان جوابي كسر عينٍ وحاجب
ابن أبي طاهر:
وفي غمز الحواجب مستراحٌ ... لحاجات المحب إلى الحبيب
وقال:
ومجلس لذةٍ لم نقو فيه ... على شكوى ولا عد الذنوب
فلما لم نطق فيه كلاماً ... تكلمت العيون عن القلوب
وقالت الهند: اللحظ ترجمان القلب واللسان ترجمان البدن.
كون نظر المحبوب إلى محبه قاتلاً:
ابن الرومي:

نظرت فأقصدت الفؤاد بسهمها ... ثم انثنت عنه فكاد يهيم
وبلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم!

تحير العاشق بالنظر إلى معشوقه:
أحمد بن أبي طاهر:
عتاباً كأيام الحياة أعده ... لألقى به بدر السماء إذا حضر
فإن أخذت عيني محاسن وجهه ... دهشت لما ألقى فيملكني الحصر
السهل اللقاء الصعب المنال:
شاعر:
فقلت لأصحابي: هي الشمس ضوؤها ... قريبٌ ولكن في متناولها بعد
أبو نواس:
مبذولةٌ للعيون وجنته ... ممنوعةٌ من أنامل الجاني
وليس لي فيه ما خلا نظرٌ ... يشركني فيه كل إنسان
العباس:
هي الشمس منزلها في السماء ... فعز الفؤاد عزاءً جميلا
فلن تستطيع إليها الصعود ... ولن تستطيع إليك النزولا
من سهل بالكلام وصعب بالمنال:
إبراهيم بن المهدي:
وقد يلين ببعض القول يبذله ... والوصل في وزر صعب مراقيه
فالخيزران منيعٌ منك مكسره ... وقد يرى ليناً في كف لاويه
المؤثر للمواقعة:
شاعر:
لم يصف حباً لمعشوقين لم يذقا ... حباً يحل على من ذاقه الغسل
الخبزارزي:
إذا ما قنعنا بالتواصل في الهوى ... فلا أنت معشوقٌ ولا أنا عاشق
فلا وصل غلا أن يكون تباذلٌ ... ولا بذل إلا أن يكون تعانق
إذا لم يتم الوصل والبذل في الهوى ... فأم الهوى من بعد هذين طالق
أبو تمام:
وقالوا: نكاح الحب يفسد شكله ... وكم نكحوا حباً وليس بفاسد!
وقال أبو القيس: مر بي إدريس بن أبي حفصة فوقف علي وأنشدني:
ولما التقينا قالت: الحكم فاحتكم ... سوى خصلةٍ هيهات منك مرامها
فقلت معاذ الله مت تلك خصلةٍ ... نموت ويبقى بعد ذاك آثامها
وكان عندنا شيخ من فرغانة فقال: ما تفسير هذا؟ففسرته له فقال: أما نحن فمتى عشقنا واحداً نكناه في استه ليس هذا عشقاً أو لا يقوم عليه.
استحسان التقاء المتحابين:
مسلم العنبري:
لا شيء أحسن في الدنيا وساكنها ... من وامقٍ قد خلا فرداً بموموق
العباس:
لم يخلق الرحمن أحسن منظراً ... من عاشقين على فراش واحد
المعانقة:
إبراهيم الصولي:
ساعدنا الدهر فبتنا معاً ... نحمل ما نجني على السكر
فكنت كالماء له قارعاً ... وكان في الرقة كالخمر
الأخطل:
وإني وإياها إذا ما لقيتها ... لكالماء من صوب الغمامة والخمر
قال الجاحظ: كم بين قول امرؤ القيس: تقول وقد مال الغبيط بنا معا وبين قول علي بن الجهم:
سقى الله ليلاً ضمنا بعد هجعةٍ ... وأدنى فؤاداً من فؤادٍ معذب
فبتنا جميعاً لو تراق زجاجةً ... من الراح فيما بيننا لم تسرب
وقال:
فبتنا على رغم الحسود كأننا ... خليطان من ماء الغمامة والخمر
البحتري:
وربت ليلةٍ قد بت أسقى ... بعينيها وكفيها المداما
قطعنا الوصل لثماً واعتناقاً ... وأفنيناه ضماً والتزاما
ابن المعتز:
كأنني عانقت ريحانةً ... تنفست في ليلها البارد
فلو ترانا في قميص الدجا ... حسبتنا من جسدٍ واحد
ابن طباطبا:
وضيقت فيه من عناق معانقي ... فظن وشاتي أنني نائم وحدي
من ذكر تمكنه من محبوبه:
جحظة:
حبيب جاد لي بالريق والظلماء معتكفه
وسامحني بما أهوا ... ه بعد التيه والأنفه
ستشكر فعله نفسٌ ... بعجز الشكر معترفه
المأمون:
يا ليلةً فزنا بها حلوةً ... جامعة في ظلها الشمل
شرابنا الريق وكاساتنا ... شفاهنا والقبل النقل
تمني تقبيل الحبيب والاقتصار منه عليه:
شاعر:
والله لو نلتك إذ نلتقي ... عيناً لقبلتك ألفين
الصنوبري:
نويت تقبيل نار وجنته ... فخفت أدنو منه فأحترق

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11