كتاب : محاضرات الأدباء
المؤلف : الراغب الأصفهاني

إن ذا عندي بديع ... خاض فيه الناس بعدي
أبو تمام:
ومفحم يأخذ من شاعر

التحذير من سؤال اللئام:
قال أعرابي: أشد الأشياء مؤنة إخفاء الفاقة، وأشد من ذلك، السؤال إلى من لا يجبرها. قال أعرابي لصاحبه: نهيتك عن مسألة قوم أرزاقهم في ألسنة الموازين ورؤس المكاييل، فمن جعل صرماله من الدوانيق فعطيته لا تكون فوق القراريط. وقال آخر: نهيتك أن تريق ماء وجهك بسؤال من لا ماء في وجهه. لا شيء أوجع للأحرار من الاضطرار إلى مسألة الأشرار. وقيل لحي المدينية: ما الداء العياء؟ فقالت: حاجة الكريم إلى لئيم لا يجدي عليه. وقال خالد بن صفوان: أشد من فوت الحاجة طلبها إلى غير أهلها.
الأعشى:
حسب الكريم مذلة ونقيصة ... أن لا يزال إلى لئيم يرغب
آخر:
وإني لأرثي للكريم إذا غدا ... على حاجة عند اللئيم يطالبه
البديهي:
ومن الذل والبلاء إذا اضطر كريم إلى سؤال لئيم
آخر:
ومن طلب الحاجات في دون أهلها ... يجد دونها باباً من اللوم مغلقا
وقيل: إذا سألت بخيلاً مؤنة أدركت الحرمان والعداوة.
تحمل المكاره تفادياً من السؤال:
قال أبو عمرو بن العلاء: اجتزت بكناس ينشد:
إذا أنت لم تعرف لنفسك قدرها ... هواناً لها كانت على الناس أهونا
فلا تسكنن الدهر مسكن ذلة ... تعد مسيئاً فيه إن كنت محسنا
فقلت: سبحان الله أتنشد مثل هذا وتتعاطى مثل هذا الفعل؟ فقال: إن إنشادي لمثله أصارني إلى هذا فراراً من ذل السؤال. وقال الأًصمعي: مررت بكناس وهو ينشد:
جنباني ديار سعدي وليلى ... ليس مثلي يحل دار الهوان
فقلت: وأي هوان فوق هذا؟ فقال: مه ذل سؤال مثلك إن كنس ألف كنيف أهون من وقوف على مثلك. وقيل لرجل كان يعمل في المعادن. ما أشد عملك! فقال: استخراج الماء من الجبال أهون من إخراجه من أيدي الأنذال.
ذم قوم يجب تجنب سؤالهم:
قال سلم: لا تطلب حاجتك إلى كذاب، فلعل حاجتك قريبة فيبعدها أو بعيدة فيقربها، ولا إلى رجل له إلى صاحبك حاجة، فإنه يجعل حاجتك وقاية لحاجته، ولا إلى أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك. وقال أبو عباس الكاتب: لا تنزل حوائجك مجيد اللسان ولا بالمتسرع إلى الضمان، فالعجز مقصور على ا لمتسرع، ومن وثق بجودة لسانه ظن أن فضل بيانه مما ينوب عن أفضاله. وقيل: إياك ومسألة الموقح الممرن وذي اللسان البين، وعليك بالحصر البكي وبذي الحياء الرضي، فمثقال من شدة الحياء والعي أنفع في الحاجة من قنطار من سليط، وعليك بالشمم الذي إذا عجز أيأس، وإن قدر أطمع. وقال عمر رضي الله عنه: لا تستعن على حاجتك إلا بمن يحب نجاحها لك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تسألن حاجة بالليل ولا تسألن أعمى، فإن الحياء في العينين.
الحث على الإجمال في الطلب:
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لم يعد المرء ما قسم له، فأجملوا في الطلب فإن في القناعة سعة وكفا عن كلفة لا تحل. وقيل: اطلبوا الحاجات بعزة الأنفس فإن بيد الله قضاءها.
التزهيد في نوال يتوصل إليه بسؤال:
قيل: السؤال وإن قل ثمن لكل نوال وإن جل.
شاعر:
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ... عوضاً وإن نال الغنى بسؤال
وإذا السؤال مع النوال قرنته ... رجح السؤال وخف كل نوال
التزهيد في إحسان يتوصل إليه بهوان:
ابن الرومي:
إذا أنا نالتني فواضل مفضل ... فأهلاً بها ما لم تكن بهوان
فأما إذا كان الهوان قرينها ... فبعداً لها ما ينقضي لأوان!
ومن ذا الذي يلتذ شهداً بعلقم ... أبت لهواتي ذاك والشفتان
أريد مكاناً من كريم يصونني ... وإلا فلي رزق بكل مكان
وكان يجري على أبي العيناء رزق فتأخر عنه فتقاضاه مراراً ثم تركه وقال: لا حاجة لي فيه فهو رق لا رزق، وبلاء لا عطاء، ومحنة لا منحة.
ذم الإلحاح:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يبغض من عباده البذي الفاحش السائل الملحف. وفي كتاب الهند: لا يكثرن الرجل على أخيه المسألة، فإن العجل إذا أفرط من مص أمه نطحته ونحته. وقيل: كل إلحاف شين إلا مسألة رب العالمين ودخل علوي على أبي السائب، فنظر إلى إبريق فقال: هبه لي. فقال: لست أستغني عنه. فقال: هب لي هذا الآخر. فقال: هو من جهاز أمي أتبرك به. فقال: هب لي تلك المنارة فقال أبو السائب: صلى الله على المسيح حيث لم يترك على أمته ولداً يؤذيهم. جلس بعض أصحاب الحديث إلى رجل فقال: تفضل بقلم، فناوله. قال: وورقة، فأعطا، فقال: قدم لي المحبرة، فأولاه فقال: يا فتى أتنشط للتزوج فإن أمي فارغة؟
الحث على رد الملحّ:
من ثقل عليك بنفسه وعمل بسؤاله فوله أذناً صماء وعيناً عمياء. من ألح في السؤال رزق الحرمان.
بشار:
وليس للمحلف مثل الرد
ووقع بعض الكبار في قصة ملح مكثر للسؤال: دع هذا الضرع يدر لغيرك كما در لك.
إعطاء الملحّ للتبرم به:
قال أعرابي لمعاوية وقد أضجره: قد تحلب الناقة العلبة وهي ضجور، فقال معاوية: وقد تكسر الإناء وتدق أنف حالبها؛ فقال الأعرابي: وقد تثني أهلها رقبتها فتدر لبنها. فضحك وأعطاه. استماح أعرابي خالد بن عبد الله فألحف وأبرم فقال خالد: أعطوه بدرة يدخلها في حر أمه! فقال: وأخرى لأستها يا سيدي لا تبقى فارغة! فضحك وقال: أخرى لأستها. وسأل الأصمعي حاجة ألح فيها، فقال:
أرحني واسترح مني فإني ... ثقيل محملي ذرب لساني
أبو سعيد الموسوي في معناه:
أزح علتي واصرف إلى النار طلعتي ... فما كل وقت رؤيتي بمري

الحث على ترك تجاوز الحد في السؤال:
من سأل فوق قدره فقد استوجب الرد، ومن لم يرج إلا ما هو مستحق له فإلى الرفد. قيل: إذا أردت أن تطاع فأسأل ما يستطاع. قال الشاعر:
إنك إن كلفتني ما لم أطق ... ساءك ما سرك مني من خلق
الترغيب في سؤال السلاطين:
قيل: مسألة الرجل السلطان، ومسألة الابن أباه لا تنقصه ولا تشينه. وقال شاعر:
وإذا ابتليت ببذل وجهك سائلاً ... فابذله للمتكرم المفضال
الترغيب في سؤال الصباح دون القباح:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: اعتمد لحوائجك الصباح الوجوه، فإن حسن الصورة ول نعمة تلقاك من الرجل. وروي عنه عليه الصلاة والسلام: اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه. وسئل ابن عائشة عن هذا الحديث فقال: معناه اطلبوها من الوجوه التي تحسن بالإنسان أن يطلب منها. ونظر ابن عباس إلى رجل حسن الوجه فقال:
أنت شرط النبي إذ قال يوماً: ... اطلبوا الخير من حسان الوجوه
البحتري:
من حسن الله وجهه وسجا ... ياه وأعطاه كلف الكلفا
سؤال الشبان دون الشيوخ:
قال حكيم: طلب الحوائج عند الشبان أسهل منها عند الشيوخ، ألا ترى أن يعقوب عليه السلام لما سأله بنوه أن يستغفر لهم قال: سوف أستغفر لكم ربي. وقال يوسف عليه السلام: لا تثريب عليكم اليوم. قال يحيى بن خالد: إذا كرهتم الرجل من غير سوء أتاه إليكم فاحذروه، وإذا احببتموه من غير خير سبق منه إليكم فارجوه.
تفضيل سؤال كريم فقير على غني لئيم:
الرفاء:
صرفت عن الكثير الوفر طرفي ... وها أنا للقليل الوفر راج
وكم من نطفة عذبت وكانت ... أحب إلي من بحر أجاج
عي من سأل لنفسه شيئاً:
كلم أعرابي خالد بن عبد الله وتلجلج في كلامه فقال: لا تلمني على الاختلاط فإن معي ذل الحاجة ومعك عز الاستغناء. وقال سعيد بن العاص: موطنان لا أعتذر من العي فيهما: إذا سألت حاجة لنفسي، وإذا كلمت جاهلاً. وقيل: سار الفضيل بن الربيع إلى أبي عباد في نكبته يسأله حاجة فارتج عليه فقال له: يا أبا العباس بهذا اللسان خدمت خليفتين. فقال: إنا تعودنا أن نُسأل لا أن نَسأل.
الحث على ترك الاستنكاف من السؤال:
قال رجل لآخر: قد وضع منك سؤلك. فقال: لقد سأل موسى والخضر عليهما السلام أهل قرية فأبوا أن يضيفوهما، فوا لله ما وضع هذا من نبي الله وعالمه، فكيف يضع مني؟ قيل لزرعة: متى تعلمت الكدية والسؤال؟ قال: يوم ولدت منعت الثدي، فصحت وبكيت، فأعطيت الثدي فسكت.
الحث على استعمال الوقاحة:

قال بعض المكدين: مكتوب على باب الجنة: من صبر عبر. وقيل: الهيبة خيبة.
شاعر:
هيبة الأخوان مقطعة ... لأخي الحاجات عن طلبه
فإذا ما هبت ذا أمل ... مات ما أملت من سببه
وكان مكتوباً على عصى ساسان: الكسل شؤم والمتميز مذموم، والحركة بركة والتواني هلكة، وكلب طائف خير من أسد رابض: أشجع:
ليس للحاجات إلا ... من له وجه وقاح
سلم الحاسر:
من راقب الناس مات غماً ... وفاز باللذة الجسور

الحث على المطالبة:
أبو تمام:
وخذهم بالرقى إن المهاري ... يهيجها على السير الحداء
آخر:
حركه فالأشجار في تحريكها ... تجني جناها والقلوب تقلب
وقال ابن الرومي:
نذكر بالرقاع إذا نسينا ... ونذكر حين تمطلنا الكرام
فإن الأم لم ترضع صبياً ... مع الاشفاق لو سكت الغلام
الحث على معاودة السؤال:
قال عمر رضي الله عنه: إذا سألتمونا حاجة فعاودونا فيها، فإنما سميت القلوب لتقلبها. وقال عبد الملك في خطبته: لا يمنعن رجلاً سأل اليوم شيئاً فمنعته أن يسأل غداً، فإن الأمور بيد الله لا بيدي. ودخل بعض الطالبين على إسحاق بن إبراهيم فسأله حاجة فمنعه. فأنشد الطالبي:
لا ييئسنك من كريم نبوة ... ينبو الفتى وهو الجواد الخضرم
فإذا نبا فاستبقه وتأنه ... حتى يفيء بها الطباع الأكرم
وقيل: إذا سألت كريماً حاجة فدعه وسوم نفسه، فإنه لا يفكر إلا في خير، وإذا سأت لئيماً حاجة فعافصه ولا تدعه يتفكر فيتغير. وقال بعضهم في ضد ذلك: إذا سألت لئيماً حاجة فأجله حتى يروض نفسه ويطابق ما قاله قول الشاعر:
يعالج نفساً بين جنبيه كزة ... إذا هم بالمعروف قالت له: مهلا!
الاعتذار لتأكيد السؤال:
أبو تمام:
لو رأينا التوكيد خطة عجز ... ما شفعنا الأذان بالتثويب
ابن الرومي:
قد يحث الجواد غير بطيء ... ويهز الحسام غير كهام
بشار:
هززتك لا أني وجدتك ناسياً ... لأمري ولا أني أردت التقاضيا
ولكن رأيت السيف من بعد سله ... إلى الهز محتاجاً وإن كان ماضيا
عذر من سأل لئيما وأخذ منه:
قيل للأعمش: كيف تصنع إذا كان لك إلى لئيم حاجة؟ قال: آتيه كما آتي الحش؛ ومنه قال الشاعر:
وعند الضرورة آتي الكنيفا
المتنبي:
غير اختيار قبلت جرك بي ... والجوع يرضي الأسود بالجيف
أبو تمام:
وخذ القليل من اللئيم ... إذا أبى أهل الكرم
فالليث يفترس الكلا ... ب إذا تعذرت الغنم
قال ابن شادان: دخلت مع جماعة من الصوفية على الشبلي رحمه الله فبعث إلى بعض المياسير يسأله ما ينفقه عليهم، فقال للرسول: قل له يا أبا بكر أنت تعرف الحق، فلم لا تطلب منه؟ فقال الشبلي: عد إليه وقل له: الدنيا سفلة أطلبها من سفلة مثلك، وأطلب من الحق الحق، فوجه إليه بمائة دينار. وفي المثل: خذ من جذع ما أعطاك.
اللطافة في المسألة:
قيل: اللطافة في المسألة أجدى من الوسيلة. قال:
احلب لبونك ابساساً وتمرية ... لا يقطع الدر إلا عنف محتلبه
مثله:
وإذا جفوت قطعت عنك وسائلي ... والدر يقطعه جفاء الحالب
تواطأ أبو دلامة مع أم دلامة على أن يأتي هو المهدي فينعيها، وتأتي على الخيزران فتنعيه. فأتى أبو دلامة المهدي وهو يبكي وأنشد:
وكنا كزوج من قطاً في مفازة ... لدى خفض عيش مورق ناضر رغد
فأفردنا ريب الزمان بطرفه ... ولم نر شيئاً قط أوحش من فرد

فقال له: ما بالك؟ فقال: ماتت أم دلامة وإني لأحتاج إلى تجهيزها، فأطلق له مالاً. وأتت أم دلامة الخيزران وقالت: إن أبا دلامة مضى لسبيله. فاغتمت وأمرت لها بمال، وأعطتها ثياباً وطيباً. ثم لما دخل المهدي على الخيزران قالت له: يا أمير المؤمنين إن أبا دلامة مضى لسبيله أبقى الله أمير المؤمنين، وأم دلامة كانت عندي الساعة فأعطيتها التجهيز لزوجها. فقال المهدي: إن أم دلامة مضت لسبيلها، وكان عندي أبو دلامة الساعة وأعطيته نفقة تجهيزها. فعلما أنهما احتالا فضحكا واستدعياهما وخولاهما شيئاً وضحكا منهما. وقال رجل لآخر " : لو مت أنا ما كنت تفعل؟ قال: كنت أكفنك وأدفنك. قال: فاكسني الساعة ما تكفيني به، وإذا مت فادفني عرياناً.

من عرض بسؤاله أو تلطف فيه:
أكل شعبة مع زياد وهو يتأمله، وكان يأكل أكلاً ذريعاً فقال له زياد: كم لك من الولد؟ فقال: تسع بنات أنا أجمل منهن وهن آكل مني فقال: ما أحسن ما استعطيت لهن، فأثبتهن في العطاء. ساير رجل بعض الولاة فقال له الوالي: ما أهزل برذونك! فقال: يده مع أيدينا فوصله. عرض عمرو بن الليث عسكره، فمر به رجل تحته دابة مهزولة فقال: أتأخذون المال وتسمنون به فقاح نسائكم؟ فقال: أيها الأمير لو نظرت إلى فقحة امرأتي لوجدتها أهزل من كفل دابتي! فضحك منه وأمر له بزيادة عطائه. وكان لأبي الأسود جبة خز قد تقطعت فقال له معاوية: ما تمل لبسها؟ فقال: رب مملول لا يستطاع فراقه! فأمر له بمال. قال أبو جعفر الوراق للصاحب: إن جرذان داري يمشين بالعصا هزالاً فقال: بشرهن بمجيء الحنطة، وكان أبو الحسن الوراق قصد سيف الدولة في جملة الشعراء فناوله درجاً يوهم أنه شعر له، فنشره سيف الدولة فقال: ليس فيه شيء مكتوب. فقال: سيدنا يكتب فيه لعبده! فضحك وأمر له بمال: وقسم عبد الله بن عبيد مالاً بين بنيه فقال له عبد صغير: فأعطني أولاً. فقال له: ولم؟ قال لأن الله تعالى يقول: المال والبنون زينة الحياة الدنيا، فبدأ بالمال وأنا مالك. فأعطاه وقدمه. وسأل أعرابي عبد الملك فقال له: سل الله. فقال: سألته فأحالني عليك. فضحك منه وأعطاه.
المستغني بالسلام عن السؤال:
أمية بن أبي الصلت:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك؟ إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء
ابن الرومي:
يا من إذا التعريض صافح نفسه ... أغنى العفاة به عن التصريح
آخر:
وإذا طلبت إلى كريم حاجة ... فلقاؤه يكفيك والتسليم
وإذا رآك مسلماً عرف الذي ... حملته وكأنه ملزوم
الرياشي:
وحسبك من تقاضي المرء يوماً ... لحاجته الزيارة والحديث
آخر:
وإذا المجد كان عوني على المر ... ء تقاضيه بترك التقاضي
المتنبي:
أخف سلامي حب ما خف عنكم ... وأسكت كيما لا يكون جواب
وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب
المتوصل بسؤال حاجة إلى أخرى:
في المثل: أعن صبوح تفرقوا: شاعر:
وحاجة دون أخرى قد سجحت بها ... جعلتها للذي أخفيت عنوانا
آخر:
وأرضع حاجة بلبان أخرى ... كذاك الحاج ترضع باللبان
وقيل سرين في خريزة لحاجتين في حاجة. وخيّر رجل بين شيئين فقال: كلاهما وتمرا. وقال بعض الخلفاء لأبي دلامة: سل. فقال: كلباً أصيد به. فقال: أعطوه. قال: ودابة اركبها إذا خرجت اصطاد فقال: أعطوه. قال: وغلاماً يخرج معي إذا ركبت يمسك كلبي. قال: أعطوه.
قال: وجارية تصلح ما أصيده. قال: كلب ودابة وغلام وجارية لا بد لهم من دار تؤويهم، ولا بد لهم مما يمونهم. فقال: تقطع له ضيعة. فقال: يا أمير المؤمنين أعطني يدك أقبلها. فقال: دع هذا. فقال: ما منعت عيالي شيئاً أشد فقداً عليهم من هذا.
النهي عن رد الراغب إليك:
قال شريح: من سأل حاجة فقد عرض نفسه على الرق، فإن قضاها المسؤول استعبده بها، وإن رده رجع حراً، وهما ذليلان، هذا بذل اللؤم وهذا بذل السؤال. وقال سعيد بن العاص: ما رددت أحداً عن حاجة إلا تبينت العز في قفاه. والذي في وجهي. وقيل: من قضى حاجة سائله اجتمع معه في العز، وإن حرمه اجتمع معه في الذل.

النهي عن خيبة من أراق ماء وجهه لسؤالك:
من انتجعك مؤملاً فقد أسلفك حسن الظن بك. وأدخل ابن السماك رجلاً إلى الفضل بن الربيع فقال: إن هذا بذل لك ماء وجهه فأكرم وجهك عن رده.
أبو تمام:
ما ماء كفك إن جادت وإن بخلت ... من ماء وجهي إذا أفنيته عوض
الحث على استرقاق الأحرار:
العجب لمن يشتري العبيد بالأموال، ولا يشتري الأحرار بالنوال والأفضال. وقيل: ليس للأحرار ثمن إلا الإكرام، فأكرمهم تملكهم.
الحث على اصطناع المعروف وإن لم يشكر:
ابن عباس رضي الله عنهما: لا يزهدنك في المعروف كفر من كفر فإنه يشكرك عليه من لم تصطنعه إليه.
الحث على اصطناع المعروف وإن لم يُسأل:
قيل: لا تلجىء الآمل إلى كد المسألة ولا تكلفه خشوع التضرع. وسئل خالد بن يزيد: ما الجود؟ قال: أن تعطي من سألك. فقال ابنه: يا أبت هذا هو الكد إنما الجود أن تعطي من سألك ومن لم يسألك. وقيل لرجل: سل. فقال: إني أكره أن أعطى ثمن السؤال.
محمد بن أبي عمران:
أجرني من ذل السؤال واعفني ... فكل عزيز في السؤال ذليل
العماني:
أنت تسقي والربيع ينتظر ... وخير أنوار الربيع ما ابتكر
الحث على تعجيل السؤال:
بعضهم:
جعلت فداك لم أسالك ... ذاك الثوب للكفن
سألتكه لألبسه ... وروحي بعد في البدن
وقيل: أهنأ المعروف أعجله. وقال بعض الناس: إذا أوليتني نعمة فعجلها، فإن النفس مولعة بحب العاجل، وإن الله تعالى قد أخبر عما في نفوسنا، فقال: " كلا بل تحبون العاجلة " . وقال مروان ابن أبي حفصة:
فما نحن نخشى أن يخيب دعاؤنا ... لديك ولكن أهنأ العرف عاجله
الحث على تعجيل الرفد أو الرد:
قيل: من الظفر تعجيل اليأس من الحاجة إذا أخطأك قضاؤها. وقيل: السراح من النجاح. وقال بعضهم: أنت ذو أناة أعجز عن الصبر عليها، فوعد نجيح أو يأس مريح. وسأل رجل طائياً فمنعه فقال له: لم نجد جواداً حاتمياً. فقال: إن لم أجد جوده فقد منعت منعه حيث يقول:
أماري فإما مانع فمبين ... وإما عطاء لا ينهنه الزجر
آخر:
أرحني بيأس أو بتعجيل حاجة ... فكلتاهما للمرء روح منعم
ولا تك كالعذراء يوم نكاحها ... إذا استؤذنت في نفسها لم تكلم
وقيل: إن بعض الناس أقام بباب بعض الملوك مدة فلم يحظ منه بشيء، فكتب أربعة أسطر في رقعة. الأول: الأمل والضرورة أقدماني عليك. الثاني: ليس على العدم صبر. الثالث: الرجوع بلا فائدة شماتة الأعداء. والرابع: إما نعم مثمرة أو آمالاً ميئسة، فكتب تحت كل سطر: زه! يعطى لكل منها أربعة آلاف درهم.
من سأل وذكر أن النعمة لا تغني في غير وقتها:
البحتري:
واعلم بأن الغيث ليس بنافع ... للمرء ما لم يأت في إبانه
وله:
وإذا العليل أبل مما يشتكي ... لم يرج منه مثوبة العواد
وله:
يرجى الطبيب لساعة الأوصاب
سؤال من بعدت داره عن مسؤوله:
ابن الرومي:
لا تجشمن أهلي إليك وفادة ... ليعد إليهم برك الوفاد
يسري السحاب إلى البعيد بغيثه ... فيظل منه وادعاً ويجاد
ولأنت أولى أن تجود لمجدب ... عفواً، ولم تشدد له اقتاد
سؤال من قرب ارتحاله:
بعضهم:
جعلت فداك قد وجب الذمام ... وطال بي التلبث والمقام
وقد أزف الرحيل إلى بلادي ... فرأيك لا عدمتك والسلام
وقال المتنبي:
لقد نظرتك حتى حان مرتحلي ... وذا الوداع، فكن أهلاً لما شيتا
من استزاد:
المتنبي:
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله ... فإني أغني منذ حين وتشرب؟
وهبت على مقدار كفي زماننا ... ونفسي على مقدار كفيك تطلب
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب
من سأل وذكر أن مسؤوله أهل لذلك:
أحمد بن أبي طاهر:
أتيتك لم أطمع إلى غير مطمع ... كريم ولم أفزع إلى غير مفزع
علقمة:
وفي كل شيء قد خبطت بنعمة ... فحق لناس من نداك ذنوب

الحث على إتمام النعمة:
العرف إذا لم يستتم كالبرد ما لم يعلم، ولا يحسن العرف إلا بتمامه، ولا يروق الهلال إلا بتمامه. وقيل: ابتع الدلو الرشاء والفرس لجامه. وقيل: تمام الربيع الصيف.
أبو تمام:
إن ابتداء العرف مجد سابق ... والمجد كل المجد في استتمامه
هذا الهلال يروق أبصار الورى ... حسناً وليس كحسنه لتمامه
ابن الرومي:
لا تصنعن صنيعة مبتورة ... فإذا اصطنعت إلى الرجال فتمم
لا تطعمنهم فتقطع عنهم ... أشبع إذا أطعمت أولا تطعم
وأمر المنتصر وهو أمير الحجاز بشيء فهم الوكيل بمصارفته فقال: والله لصرفي أحسن من مصارفتي. فلم يصارفه. واستحسن في المطالبة بأمر تأخر فاختلت به الحال قول المتنبي:
فإن فارقتني أمطاره ... فأكثر غدرانها قد نضب
تربية النعمة عند المصطنع إليه:
قال حكيم: ما ربيت غير رجلين: رجل له عندي يد فأخاف كفرانه، ورجل لي عنده يد فأخاف إفساده. وقيل: رب المعروف أشد من ابتدائه. وقيل: الابتداء بالصنيعة نافلة، وربها فريضة. وقيل: من لم يرب معروفه فكأنما لم يصطنعه.
من رغب إلى مسؤوله في الجري على العادة في إعطائه:
ابن الحجاج:
نفسي تقي نفسك ما تشتكي ... لمثل هذا اليوم أعددتكا
فاجر على العادة في بر من ... يجري على العادة في شكركا
وقال أحمد بن أبي طاهر:
جعلت فداك قد أنسيت ذكري ... وقد أسقطت من ديوان برك
قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: ما أحسن الحسنة في أثر السيئة، وأقبح السيئة في أثر الحسنة! وأحسن من هذا وأقبح من ذاك الحسنة في أثر الحسنة، والسيئة في أثر السيئة.
من سال وذكر أنه يعذر مسؤوله إن لم يعطه:
وقف قيس بن خفاف البرجمي على حاتم فقال: إني حملت دماء وعولت فيها على مال وآمال، فقدمت مالي وكنت من أكبر آمالي، فكم من حق قضيت وكم من همّ كفيت، وإن حال دونك حائل لم أذممم يومك ولم أيأس من غدك. وكتب أبو العيناء إلى ابن أبي دؤاد: مسنا وأهلنا الضر وبضاعتنا المودة والشكر، فإن تعطنا فأنت أهل لذلك، وإن لم تعطنا فلسنا ممن يلمزك في الصدقات، فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا منها إذاً هم يسخطون.
أبو نواس:
فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عاذر وشكور
ابن الرومي:
وإن عاق القضاء نداك عني ... فلست أراك في منعي مليما
وما غيث إذا يجتاز أرضاً ... إلى أخرى بمعتد لئيما
من سأل وذكر أنه غير عاذل:
لما دخل الحجاج مكة قال لأهلها: أتيناكم وقد غاض الماء لكثرة النوائب فاعذرونا. فقال رجل: لا عذر الله من عذرك، وأنت أمير المصرين وابن عظيم القريتين. فقال: صدقت؟ واستقرض مالاً من التجار ففرقه فيهم.
أبو تمام:
فلو حازرت شول عذرت لقاحها ... ولكن حرمت الدر والضرع حافل
ابن الرومي:
أنى يكون ربيعي ممرعاً غدقاً ... إن لم يكن هكذا، والشمس في الحمل؟
البسامي:
ولست أقول إن قصرت فيما ... أؤمله: عذرت، فذاك كذب!
فكم من مرة قد ضاق رزقي ... فأنكبني المنى والربُّ ربُّ؟
النهي عن الاعتذار بالشغل:
اعتذر رئيس إلى سائل بقلة فراغه فقال: لا بلغني الله يوم فراغك! فقضى حاجته في الوقت.
أبو علي البصير:
لا تصير شاغلك اليو ... م اعتذاراً لمطالك
إنما يحمد أن تفرغ ... في وقت اشتغالك
لو تفرغت من الشغل ... استوينا في المسالك
من سأل وذكر أن إعطاءه ومنعه يظهران في الورى:
شاعر:
بأي الخصلتين عليك أثني؟ ... فإني عند منصرفي سؤول
أبا الحسنى وليس لها ضياء ... علي فمن يصدق ما أقول؟
أم السوآى ولست لها بأهل ... وأنت لكل مكرمة فعول
آخر:
ماذا أقول إذا انصرفت وقيل لي: ... ماذا أفدت من الجواد المفضل؟
فاختر لنفسك ما أقول فإنني ... لا بد مخبرهم وإن لم أسأل
الراضي بأخذ الطفيف بعد سؤال الكثير:

قال أعرابي لمعاوية: استعملني على البصرة. قال: ما أريد بعاملها بدلاً، قال: اقطعني البحرين. قال: ما لي إلى ذلك سبيل. قال: فمر لي بألف درهم. فأمر له، فقيل له: قد أشططت أولاً ثم انحططت آخراً. فقال: لولا طلبي كثيراً ما أعطاني قليلاً. وقال خالد بن عبد الله لأعرابي قال فيه:
أخالد بين الحمد والأجر حاجتي ... فأيهما تأتي وأنت جواد؟
سل ما بدا لك. فقال: مائة ألف درهم. قال: أسرفت. قال: ألف درهم. قال خالد ما أدري أمن إسرافك أتعجب أم من حطك؟ فقال: إني سألتك على قدرك، فلما أبيت سألت على قدري. فقال: إذاً والله لا تغلبني على معروفي.
ذم طالب كثيراً بعد أن حرم صغيراً:
سأل رجل معاوية شيئاً فمنعه فسأله ما هو أكبر منه فقال معاوية: طلب الأبلق المعقوق، فلما لم ينله أراد بيض الأنوق وقال:
شر ما رام امرؤ ما لم ينل
ويقاربه:
تسألني برامتين سلجما

الحث على أخذ القليل عند تعذر الكثير:
خذ من طف لك واستطف. خذ ما قطع البطحاء. خذ من جذع ما أعطاك. صيدك لا تحرمه الجحش لما بذل الأعيار.
الحث على إعطاء القليل:
قال الله تعالى: " لمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يمنعكم من معروف صغره. قال ابن عباس: من حقر حرم. قال:
ما استغرب الناس أفضالاً ولا شهروا ... من حاتم غير جود بالذي يجد
وقال عبد الله بن جعفر: لا تستحي من إعطاء القليل فإن المنع أقل منه.
لا تحقرن صغير الخير تفعله ... فقد يروي غليل الحائم الثمد
وقيل: زوج من عود خير من قعود.
من خير فتلطف في الاختيار:
مدح مطيع بن إياس معن بن زائدة فقال له: إن شئت أجزناك وان شئت مدحناك.فاستحيا أن يختار الثواب وكره العدول إلى المدح فقال:
ثناء من أمير خير كسب ... لصاحب مغنم وأخي ثراء
ولكن الزمان أطال دائي ... وما مثل الدراهم من دواء
وقال بعض الخلفاء لعاف: احتكم فقال: يد أمير المؤمنين ابسط من لساني بالمسألة. فأجزل له العطية.
المتنبي:
ما لنا في الندى عليك اختيار ... كل ما يمنح الشريف شريف
ودخل أشعري على الرشيد وسأله فقال: احتكم. فقال: أشعري يحتكم بعد أبي موسى. فضحك منه وأجازه.
من سأل وذكر أنه أمر بذلك في المنام:
كتب بعضهم إلى أبي سليمان:
رأيت في النوم أني مالك فرساً ... ولي وصيف وفي كمي دنانير
فقال قوم لهم فهم ومعرفة: ... خيراً رأيت وللمال التياسير
اقصص منامك في دار الأمير تجد ... تفسير ذاك، وللأحلام تفسير!
فوقع أبو سليمان: أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين! ودخل أعرابي على تمار بالكوفة فقال:
رأيتك في النوم أطعمتني ... قواصر من تمرك البارحه
فقلت لصبياننا: أبشروا ... برؤيا رأيت لكم صالحه!
قواصر تأتيكم بكرة ... وإلا فتأتيكم رائحه
فقل لي: نعم إنها حلوة ... ودع عنك لا أنها مالحه
فأعطاه قوصرة تمر وقال: أحب أن تتركني من هذه الرؤيا، فإن رؤيا يوسف صدقت بعد أربعين سنة.
السائل حاجة زعمها صغيرة:
قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: أتيتك في حاجة صغيرة. فقال: هاتها فالحر لا يصغر عن كبير أخيه ولا يكبر عن صغيره. وقال رجل لعمارة: أتيتك في حويجة. فقال: اطلب لها رجيلاً. وقال آخر مثله فقال: دعها حتى تكبر.
تأسف من حرمه رزاق:
البحتري:
سحاب خطاني جوده وهو مسبل ... وبحر عداني فيضه وهو مفعم
وبدر أضاء الأرض شرقاً وغرباً ... وموضع رجلي منه أغبر مظلم
أأشكو نداه بعد أن وسع الورى ... ومن ذا يذمُّ الغيث إلا مذمم؟
منقذ الهلالي:
علام أرى من ضروب الغيو ... ث حولي وأحرم أمطارها؟
الحسين الخليع:
أنا في ذمة السحاب وأظلما ... إن هذا لوصمة في السحاب
آخر:
أيا عجباً لبحر ظل يسقي ... جميع الناس لم يبلل لهاتي
من سأل أن لا يؤذى إن لم يعط:
العجاج:

يا ليت حظي من نداك الصافي ... والحظ إن تتركني كفافي
آخر:
فإن روى عني الجمار طلعته ... فلا تصبني بخدي شوكة السعف
المتنبي:
ليت العهاد الذي عندي صواعقه ... يزيلهن إلى من عنده الديم

معاتبة من يقول نذرت أو حلفت أن لا أعطي:
بعضهم:
فقل لأبي عمرو: متى تبلغ العلا؟ ... وفي كل معروف عليك يمين
البحتري:
فإن قلت نذر أو يمين تقدمت ... فأي جواد حل في ماله النذر؟
تعويض السائل بمن خيبه:
كتب أبو السائب إلى صديق يستميحه، فاعتل بأنه فقير: إن كنت كاذباً فجعلك الله صادقاً، وإن كنت محجوجاً فجعلك الله معذوراً. وتعرضت امرأة للمنصور في طريق مكة فحرمها فأنشدت:
إذا لم يكن فيكن ظل ولا جنى ... فأبعدكن الله من سمرات
وسأل أعرابي على باب فقال له صبي من الدار: بورك فيك! فقال له: قبح الله هذا الفم فقد تعلم الشر صغيراً! ووقف سائل على قوم فقال أحدهم: صناعتنا واحدة. فقال القائل: فأنا قواد فهل أنتم قوادون؟ وكان أبو الأسود يأكل على باب داره تمراً فوقف عليه أعرابي فقال: شيخ هم غابر ماضين ووافد محتاجين، أكله الفقر وتداوله الدهر. فناوله تمرة فزج بها الأعرابي في وجهه وقال: جعلها الله حظك عنده، وألجأك إلي كما ألجأني إليك ليبلوك بي كما بلاني بك! وقف فقير على باب المافروحي بالأهواز فأعطوه لقمة صغيرة فقال: هذا الدواء كيف يشرب؟ وأعطي سائل مبطنة صغيرة فقال: رحم الله من تممها جبة. وينشد في من ينسى حاجتك قول الشاعر:
إذا لم تكن حاجاتنا في نفوسنا ... لإخواننا لم تغن عنها الرتائم
ونحوه: إذا الموصوفون بنو سهوان. اجتمع يحيى بن زياد وحماد وبشار على طعام، فوقف سائل بالباب فقال: يا مسلمين. فقال يحيى: فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون. فقال: ارحموني. فقال حماد: قد رحمناك! فقال: اسمعوا كلامي. فقال بشار:
لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي
سأل متكلف الأصمعي فقال: لا أرتضي لك ما يحضرني. فقال: أنا أرتضيه. فقال: هو بورك فيك. قال:
ألم ترني أبغضت ليلى وذكرها ... كما أبغض المسكين: بورك فيكا؟
وقال سائل لعبادة: ارحمني. فقال: قد رحمتك. فقال: تصدق علي. فقال: حاجتين في حاجة لا يكون. سأل رجل متكففاً فقال: الصنعة واحدة. فقال: أنا أقود على بنتي وأحمل الكلاب على أمي لا شك أن الصنعة واحدة.
حكايات عن متكفف فصيح:
قال المازني: وقف علينا أعرابي فقال: رحم الله امرأ يمج أذنه كلامي، وقدم معذرة لسوء مقامي، فإن الفقر يدعوني إلى أخباركم، والحياء يمنعني من سؤالكم. فقلت له: ممن الفتى؟ فقال: إن سوء الاكتساب يمنع من الانتساب. وقف الأعرابي على حلقة الحسن البصري فقال: رحم الله امرأ أعطى من سعة وواسى من كفاف وآثر من قوت. فقال الحسن: ما ترك أحداً منكم حتى الهموم ودليل على ضمائر القلوب؟ فقال بعضنا: أما بما يحسن به الاستماع في العاجل وتخف به المؤونة في الآجل فنعم. فقالت: اللهم غفراً فإن هذه شريطة لا يتعلق بها الوفاء. قال: فناولتها درهماً. فرفعته إلى السماء بين أنملها وقالت: اللهم إنه قد كان في كيسه متمهداً وفي معاشه متصرفاً فاتجر به إليك، اللهم فلا تجزه على قدر البضاعة، ولكن على قدر الصبر على مكروه السؤال. وقالت أعرابية تتكفف: يا قوم طرائد زمان وفرائد حدثان ولحمان وضم، بذتنا الرجال وانتشر منا الحال، فهل من مكتسب للأجر أو راغب في الذخر؟ وقال أعرابية: سنة جردت وحال أجهدت وأيد جمدت، فرحم الله من رحم. وكان آخر يقول: من حملني على نعلين فكأنما حملني على ناقة.
مما جاء في الوعد والإنجاز والمطل
ما يحد به الوعد والوعيد والإنجاز والخلف:

قيل: الوعد قول الرجل افعل كذا. ويقال في الخير والشر. يقال وعدته خيراً وشراً.وإطلاقه بالخير أولى وإلا يعاد في الشر لا غير. وقيل: يقال أوعدت فلاناً. ومتى ذكرت الشر معه قلت وعدته بلا ألف. والإنجاز مطابقة الفعل ما سبق منك من القول، والخلف هو أن تعد بخير ثم لا تفعل. وقال محمد بن الحسين رضي الله عنه: الخلف أن تعدو من نيتك أن لا تفعل، فأما إذا وعدت ومن نيتك أن تفعل فليس بخلف. وقال عمر بن عبد العزيز: أربع إذا قلتها متى وعدت ثم لا تفعل لم تكن مخلفاً: إن شاء الله ولعل وانظر وأرجو.

النهي عن التسرع إلى الوعد:
قال المهلب: يا بني إياك والسرعة عند المسألة بنعم، فمدخلها سهل ومخرجها وعر، واعلم أن لا وإن قبحت فربما اروحت، فإذا سئلت ما قدرت عليه فاطمع ولا توجب، وإذا علمت معذرة فاعتذر، فالإتيان بالعذر الجميل خير من المطل الطويل. وسأل رجل الفضل بن الربيع فقال: أكره أن أقول نعم فأكون ضامناً، وأن أقول لا فأكون ميئساً، ولكن ننظر فسيسهل الله تعالى.
النهي عن تكثير الوعد:
قيل: من كثر وعده ووعيده اجترأ عليه صديقه وعدوه. وقيل للمهلب: بم سدت؟ فقال: بإيثاري فعل ما أحمد به على بذل الوعد.
الحث على الإنجاز أو ترك الوعد:
المثقب:
لا تقولنّ إذا ما لم ترد ... أن تتمّ الوعد في شيء: نعم
فإذا قلت نعم فاصبر لها ... بنجاح الوعد إنّ الخلف ذمّ
إنّ لا بعد نعم فاحشة ... فبلا فابدأ، إذا خفت النّدم
الموسوي:
إيّاك أن تسخو بوعد ليس عزمك أن تفي به
عتب من يعد ويمطل:
لا خير في وعد مبسوط وإنجاز مربوط، وفي وعد يقظان وإنجاز وسنان. ذكر أعرابي رجلاً فقال: أوله طمع وآخره يأس، وما هو إلا كالسراب يخلف من رجاه ويغم من رآه. وقال حكيم: مطل السائل أقبح من مطل الغريم، لأن الغريم إنما يسلف بفضل والكريم لا يسأل إلا من جهد. الحر يتقاضى بالوعد نفسه واللئيم يجتهد إن يطيل حبسه.
أبو تمام:
إني أخاف وأرتجي عقباك أن ... تدعى بموعدك المطول الملحفا
هبت رياحك لي جنوباً سهوة ... حتى إذا أورقت صارت خرفا
ما عذر من كان النوال طبيعة ... في راحتيه أن يجود تكلّفا؟
أبو مسهر الرملي:
في احتشام وفيك تقصير ... والصب ما بين ذاك تعذير
تقدم القول حين تسأل في الحا ... جة والفعل فيه تأخير
العتابي:
لحسن اعتذار المرء أوقى لعرضه ... من الذم من توكيد وعد يماطله
ذم من يماطل ثم يخلف:
أعرابي: يفتح مواعده بالمطل ثم يختمها بالخلف.
أبو تمام:
عداة كريعان السراب إذا بدت ... تبشر عن مين وتطوي على مطل
آخر:
وقد كان منّاني ثلاثة أشهر ... بوعد ووافت بعد ذاك معاذره
من يحلف على وعده ثم يخلف:
قال بعضهم: فلان يحلف على وعده ثم يخلف، ويؤلي لك ثم لا يوليك أي يحلف لك ثم لا يعطيك شاعر:
وليتك لم تحلف لنا حين تخلف
عبد الرحمن بن معاوية:
ألا لا تحلفنّ لنا يميناً ... فأكذب ما تكون إذا حلفتا
المتنبي:
وفي اليمين على ما أنت واعده ... ما دلّ أنك في الميعاد متهم
مطل يتبعه هبة خسيسة:
ابن الرومي:
فلا يك ما تجديه كالبقل خسة ... وكالنخل تأخيراً فما ذاك بالعدل
آخر:
من الحيف تخفيف النوال ومطله ... فعجل حسيساً أو فأجل موفرا
وكن نخلة تلوي وتسني عطاءها ... وإلا فكن عفصاً أقلّ وأيسرا
من لا يتناهى مطله:
وعد أبو صقر أبا العيناء بشيء فتقاضاه فقال: غداً. فقال له: إن الدهر كله غد فهل عندك وعد يخلو من المعاريض؟ فقال رجل حاضر: قد استعمل المعاريض قوم صالحون حدثنا فلان عن فلان. فقال أبو العيناء: من هذا الذي يحدث في حرماننا بالأسانيد؟ ابن الرومي:
أرفه ما أرفه في التقاضي ... وليس لديك غير المطل نقد
إذا إنجاز وعدك كان وعداً ... فيكفيني من الوعدين وعد
وله:
فعلام أمنع واجباً ... وعلام أمطل سرمدا
ابن وهب:

كان ميعاده الخميس وقد مر خميس لوعده وخميس
آخر:
إلى كم بعود وإنما ... خراب بيوت المملقين بعود
ابن أبي فنن:
يقول لنا في الجمعة: السبت موعد ... وهل جمعة إلا ومن بعدها سبت؟
الخوارزمي:
إذا أضحى فموعده مساء ... وإن أمسى فموعده ضحاء

من خاف أن يموت قبل قضاء حاجته لفرط مطله:
قيل لمزبد: اصبر فالفرج قريب.فقال: أخاف أن يجيء الفرج فلا يراني.
معاوية ابن أبي أيوب:
أعلى الصراط تريد رعية حرمتي ... أم في الحساب تمنّ بالأنعام؟
ابن الرومي:
طال المطال متى الوفاء فلا خلو ... د فحاجة أو برد يأس ينقع
واعلم بأني لا أسر بحاجة ... إلا وفي عمري بها متمتع
آخر:
مواعد منك لا يقضي القضاء لها ... أخاف أن ينقضي من قبلها أجلي
ووعد رجل أبا العيناء دابة فأخرها. فكتب إليه: إن كانت الدابة التي وعدتني بها دابة الأرض فقد مضى خبرها مع منسأة سليمان، وإن كانت دابة الصفا انتظرنا خبرها مع سابق الحاج، وإن كانت من دواب الدنيا فقد جاز عمر وعدك عمر الدواب، فهييء لي غيرها، وإن كانت دابة تدفعها إلى في الآخرة فإن الله تعالى يقول: لكل امرىء منهم يومئذٍ شأن يغنيه.
ذم من لا يعد ولا يفي:
قيل: من بذل لك حلو مقاله ومر نواله فهو العدو بعينه، أحسن العدة وأطال المدة. وقيل: لسانه عامر بالوعد وكفه غامر عن الرفد. وأنشد:
علام قلت نعم حتى إذا وجبت ... أتبعت لا بنعم؟ ما هكذا الجود
وقيل لأبي العيناء: كيف تركت فلاناً مع قومه؟ قال: يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً. وقال أعرابي: أما الكلام فما أوسع له فمكم، وأما الفعال فرجلي معه في أست أمكم.
أبو الشمقمق:
الصدق في أفواههم علقم ... والإفك مثل العسل الماذي
وكلهم في بخله صادق ... وفي الندى ليس بأستاذ
وقال أعرابي ليزيد بن مزيد:
عداتك ريح يا يزيد بن مزيد ... وأنت على اسم الله فاختة البلد
آخر:
بذل الوعد للأخلاء سمحاً ... وأبى بعد ذلك بذل العطاء
فغدا كالخلاف يورق للعين ... ويأبى الإثمار كل الإباء
آخر:
يا من إذا ما سألناه استهل لنا ... وإن سكتنا يخلي علة الطلب
لولا الثمار التي تزكو منافعها ... ما فضل الناس تفاحاً على غرب
آخر:
يعد الوعد ولكن ... دونه لمع السراب
آخر:
يباري الرياح بمثل الريا ... ح من كاذبات مواعيده
تقبل الإنجاز:
الصاحب: سأنجز الوعد حتى ترى الطل وابلاً والهلال بدراً كاملاً.
ولو علمت أبناء تغلب ما الذي ... أريد لها ما استعظمت ما أنيلها
الحث على إنجاز الوعد السابق:
بعضهم: حقيق على من أزهر بقول أن يثمر بفعل. وقف بعضهم على أبي دؤاد فقال:
حتى متى أنا موقوف على وجل ... بين السبيلين لا ورد ولا صدر؟
فقضى حاجته. أورقت نعمك فليثمر كرمك. ومما فيه جفوة وغلظة ما أنشده الصاحب عن بعض مجان بغداد:
أبا أحمد لست بالمنصف ... ومثلك إن قال قولاً يفي
فأنجز، فديتك، ما قد وعدت ... وإلا هجوت وأدخلت في
النعمة الممطولة في حكم الممنوعة:
الكندي:
كل بر يشوبه كدر المطل ... حقيق بأن يكون عقوقا
آخر:
لا تقضين حاجة أثخنت صاحبها ... بالمطل منك فتضحى غير محمود
آخر:
ليس يستوجب شكراً رجل ... نلت منه الخير من بعد سنه
استقباح مطل قادر:
ابن الرومي:
ألا ليت شعري لم مطلت مثوبتي ... ولم تؤت من بخل ولم تؤت من عسر؟
آخر:
ما أقبح المطل من أخي كرم ... وعيب من قل عيبه شنع
جحظة البرمكي:
إذا كانت صلاتكم رقاعاً ... تخطط بالأنامل والأكف
ولم تكن الرقاع تجر نفعاً ... فما خطي خذوه بألف ألف
العطوي:
هذي رقاعكم بالرفد وافدة ... وليس فيها بحمد الله توفير

أمضيت عزمك في تضييع حرمتنا ... فليس عندك في التقصير تقصير

الحامد مطل واعده:
ابن الرومي:
ولم يمطل جواد قط إلا ... أتاك جداؤه ضخم السواد
إذا ما حامل جرت بحمل ... أجلت شخصه عند الولاد
المتنبي:
ومن الخير بطء سيبك عني ... أسرع السحب في المسير الجهام
وله:
وإن تأخر عني بعض موعده ... فما تأخر آمالي ولا تهن
هو الوفي ولكني ذكرت له ... مودة فهو يبلوها ويمتحن
الممدوح بإنجاز الوعد:
فلان يعد وعد من يخلف، وينجز إنجاز من يحلف.
أبو تمام:
يقول قول الذي ليس الوفاء له ... عزماً وينجز إنجاز الذي حلفا
وفي المثل: أنجز حر ما وعد. وعد لم يشنه مطل، ورفد لم يشبه من، وبر لم يمازجه ملق، وود لم يخالطه مذق.
أعمار موعده قصار تنقضي ... مثل العطايا في أكف عداته
بشار:
كأن حقوق الناس حين ضمنتها ... قذى في حقوق العين مني أواربه
آخر:
أعمار أعدائهم إذا قصدوا ... أقصر من وعدهم إذا سئلوا
الممدوح بإنجاز الوعد دون الوعيد:
قيل: إن وعد وفى، وإن أوعد استثنى.
شاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
آخر:
وعيد عقيم ... ووعد ولود
ابن الرومي:
إن خلف الوعيد ليس بعار ... إنما العار كله خلف وعدك
الممدوح بإنجازهما:
ابن هرمة:
إذا ما أبى شيئاً مضى كالذي أبى ... وما قال إني فاعل فهو فاعل
أبو تمام:
قوم إذا وعدوا أو أوعدوا غمروا ... صدقاً ذوائب ما قالوا بما فعلوا
وقيل: وعد الكريم نقد وتعجيل، ووعد اللئيم مطل وتعليل
الموفى بوعيده دون وعده:
يخلف الوعد ويوفي بالوعيد: ابن طباطبا:
وفى بما أوعدني ... وما وفى بما وعد
وقال آخر:
لها كل يوم موعد غير ناجز ... ووعد إذا ما رأس حول تخرما
فإن أوعدت شراً أتى دون وقته ... وإن وعدت خيراً أراث وأعتما
المظهر رضاه بالوعد وإن لم يتبعه إنجاز:
العباس:
وإني ليرضيني الذي غيره الرضا ... وتقنع نفسي بالمواعيد والمطل
آخر:
هلا تعللني بوعد كاذب
كشاجم:
ألا لا أرى شيئاً ألذ من الوعد ... ومن أمل فيه وإن كان لا يجدي
الموسوي:
وما ضرهم إن لم يجودوا بمقنع ... من النيل، لو منوا قليلاً وسوفوا
وقال النظام: كنا نلهو الأماني ونتمثل في هذا الباب بقول المتنبي:
أرد لي جميلاً جدت أو لم تجد به ... فإنك ما أحببت في أتاني
وقال بعضهم: كان الناس يفعلون ولا يقولون، ثم صاروا يقولون ولا يفعلون، والآن ليسوا يقولون ولا يفعلون.
عذر من أخلف وعداً:
سأل رجل أبا عمرو بن العلاء حاجة، فوعده لم ينجزه فقال: أخلفت! فقال أبو عمرو: فمن أولى بالغم؟ قال الرجل: أنا. فقال: بل أنا لأني وعدتك فأبت بفرح الوعد، وأبت بهم الإنجاز، ثم عاق القدر عن بلوغ الإرادة، فلقيتني مدلا ولقيتك محتشماً.
أحمد بن أبي طاهر:
قد كنت أنجز دهراً ما وعدت إلى ... أن أتلف الدهر ما جمعت من نشب
فإن أكن صرت في وعدي أخا كذب ... فنصرة الصدق أوفت بي إلى الكذب
الحث على المطل:
أحمد بن علوبه:
إذا شئت أن تبلي امرأ ببلية ... وتحرمه سيب العطايا السوابغ
فعده وماطله فإنك بالغ ... به في الأذى والضر أقصى المبالغ
سهل بن هارون:
إن الضمير إذا سألتك حاجة ... لأبي الهذيل خلاف ما أبدي
فامنحه روح اليأس ثم امدد له ... حبل الرجاء بمخلف الوعد
حتى إذا طالت شقاوة جده ... بتردد فاجبهه بالرد
المتبجح بالمطل وخلف الوعد:
أبو نواس:
واشمط ولاج إلي ورائح ... رجاء نوال لو أعان بجود
وإني وإياك القرينان نصطلي ... من المطل ناراً غير ذات خمود

فإن كنت لا عن سوء رأيك مقلعاً ... فدونك فاستظهر بنعل حديد
فعندي مطل لا يطير غرابه ... عتيد ولا يدعى له بوليد
الصاحب:
والله ما وافى بحق قاضياً ... بل جاءني لمبرتي متقاضياً
والمال في يومي تعذر ورده ... فليحضرني إن أراد القاضيا
كان محمد بن بشير ولي فارس فأتاه شاعر فمدحه فقال: أحسنت! وأقبل على كاتبه وقال: أعطه عشرة آلاف درهم، ففرح الشاعر فقال: أراك قد طار بك الفرح بما أمرت لك، يا غلام اجعله عشرين ألفاً. فلما خرج قال الكاتب: جعلت فداك، هذا كان يرضيه اليسير فكيف أمرت له بهذا المال؟ فقال: ويحك وتريد أن تعطيه ذلك؟ إنما قال لنا كذباً سرنا، وقلنا كذباً سره، فما معنى بذل المال؟ أما قول بقول فنعم وإما بذل بقول فمحال.

كثرة مسألة مماطل:
العباس بن الأحنف:
ومتى لا تمل مطلي فإني ... مغرم لا أمل طول التقاضي
محمد بن بشير:
اصبر لمر قضاء الحق معترفاً ... فقد صبرنا لطول الحق مذ حين
آخر:
أناجز لي في ذا العام موعدكم ... أم موعد هو منظور إلى قابل
وقيل: أنفق ما يكون التعب إذا وعد كذاب حريصاً:
إن كان ينفع رقية أو رقعة ... فلسوف أملؤكم رقى ورقاعا
ومن نوادر هذا الفصل: قيل لبعضهم: كيف حالك مع فلان؟ فقال: لا أحصل منه إلا على دق الصدر والجبهة! فقيل: كيف؟ قال: إذا سألته دق صدره ويقول افعل، وإذا عاودته وتقاضيته دق جبهته ويقول لا قوة إلا بالله نسيت! ويقارب هذا ما حكي عن الفضل عن مرداس فإنه قيل له: قد تقطع صدرك قميصك وركبته دون الباقي. قال: نعم إني أقعد بالباب فيمر بي المارّ فيقول: سل سلطان لي كذا وافعل كذا، فأدق صدري إيجاباً. ويأتي آخر فيقول مات فلان أو حدث كذا، فأدق ركبتي اغتماماً.
مما جاء في الشفاعات
حث ذي الجاه على الشفاعة لذي الحاجة:
قال الله تعالى: " من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها " . وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله يسأل العبد عن جاهه كما يسأله عن ماله وعمره فيقول: جعلت لك جاهاً فهل نصرت به مظلوماً، أو قمعت به ظالماً، أو أغثت به مكروباً؟ وقال صلى الله عليه وسلم: أفضل الصدقة أن تعين بجاهك من لا جاه له. وقال: الشفاعة زكاة ونصرة اللسان فوق نصرة السنان. وكان زياد يقول لأصحابه: اشفعوا لمن وراءكم فليس كل من أراد السلطان وصل إليه، ولا كل من وصل استطاع أن يكلمه.
أبو تمام:
وإذا امرؤ أسدى إلي صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله
آخر:
فرضت علي زكاة ما ملكت يدي ... وزكاة جاهي أن أعين فأشفعا
من سأل غيره يشفع له:
سأل رجل آخر أن يشفع له فقال: صل جناحي فالشفيع جناح الطالب: ابن الرومي:
ليس من كنت ربحه ببعيد ... من سماء يبله ببلال
وكذاك الكريم سائل حاجا ... ت سواه، وليس بالتسآل
ابن الحجاج:
يا سيدي كم منية نلتها ... منك كما أهوى، وأخرى بكا؟
لولاهما أصبحت مستضعفاً ... في قبضة الدهر ومستهلكا
فامنن بإصلاح اختلالي الذي ... إليك من شدته المشتكى
وقال أحمد بن المعدل: قلت لبعض أصدقائي كن شفيعي إلى فلان. فقال: أنت لا تحتاج إلى شفيع، معك من الحذاء، والسقاء ما تروى بهما الماء، وتأكل من لب الشجر.
مدح متشفع معط:
مدح أعرابي رجلاً فقال: تهب لي من مالك، وتستوهب لي بجاهك، فأنت قليب مرة ورشاء مرة. ومنه أخذ أبو تمام فقال:
ممطولي بالمال والجاه لا ألقاك إلا مستوهباً أو وهوباً
فإذا ما أردت كنت رشاء ... وإذا ما أردت كنت قليبا
وقيل لشعبة: أفنيت مالك وأخلفت جاهك في حوائج الناس! فقال: أصونهما للتراب.
الخبزارزي:
خرق يجود بماله وبجاهه ... والجود كل الجود بذل الجاه
شفيع مشفع:
الخبزارزي:
شفيعك لو في الروح والمال كله ... يشفع لم يكبر له أن يشفعا
آخر:
ما تبالي وذا شفيعك لو كنت كعاد في غيها وثمود

وذاك لو كان في المعاد شفيعاً ... رضي الله عن جميع العبيد

مدح شفيع لم يشفع:
إذا الشافع استقصى لك الجهد كله ... وإن لم ينل نجحاً فقد وجب الشكر
نفي العار عمن يعطي الشفاعة:
ابن الرومي:
لن يعيب السحاب أن تتولى ... منه أيدي الرياح حل العزالى
المتشفع بكرم مسؤله:
قال عبد الله بن جعفر: إن أحمق من تشفعه من توسل إليك بالأمل.
شاعر:
مالي سواك شفيع أستعين به ... إلا رجائي وافراديك بالأمل
آخر:
ولو أن لي في حاجة ألف شافع ... لما كان فيهم مثل جودك شافع
جحظة:
وما لي حق واجب غير أنني ... إليكم بكم في حاجتي أتوسل
أبو سعيد الأصبهاني:
قصدتك عارياً من كل من ... لكل الخلق في كل المعاني
وقال رجل لجعفر بن يحيى: أمت إليك بذمام الأمل وحسن الظن، وأدل بقرابة العلم. فقال: ما ذكرت موجب حقاً وعاقد فرضاً، ورحم العلم أمس قرابة وألطف ظؤرة.
المتشفع بامرأة:
كان لعبد الله بن الزبير حاجة إلى معاوية فلم يجبه، فاستعان ببعض نسائه فقضى حاجته، فعير بذلك فقال: إذا تعذرت الأمور من أعاليها طلبناها من أسافلها.
البحتري:
إذا ما أعالي الأمر لم تعطك المنى ... فلا بأس باستنجاحها بالأسافل
الهذلي:
إذا جئته في حاجة فارش عرسه ... وأرض ابنة تستغن عن كل شافع
الفرزدق:
أما البنون فقد ردت شفاعتهم ... وشفعت بنت منظور بن زبانا
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزراً ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
كون المحسن محبباً إلى المحسن إليه:
فزارى:
ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلو، وأما وجهه فجميل
المتنبي:
واحسن وجه في الورى وجه محسن ... وأيمن كف في الورى كف منعم
الموصلي:
أرى الناس خلان الجواد ولا أرى ... بخيلاً له في العالمين خليل
كون المحسن إليه محبباً إلى المحسن:
قيل لبعضهم: أي الناس أحب إليك؟ قال: من أولاني معروفاً. قيل: فإن لم يكن؟ قال: من أوليته معروفاً. وقيل: أكرم الناس من كثرت أيادي إليه. وقام رجل من مجلس خالد بن عبد الله فقال خالد: إني لأبغض هذا الرجل وما له إلي ذنب. فقال رجل: أوله خيراً تحببه. فأولاه معروفاً، فما لبث أن كان من المحظيين عنده. وقال رجل لهشام: إن الله تعالى جعل العطاء محبة والمنع مبغضة فأعني على حبك. وقيل للفرزدق: إنك لتمدح آل المهلب وتحبهم بعد أن لم تكن على ذلك. فقال: أما علمت أن إعطاء اللها يفتح اللها ويغرس الهوى؟
حث من آتاه الله نعمة على حفظها باسداء الصنيعة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من اتصلت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فمن لم يحتمل تلك المؤن عرض لزوال تلك النعم؛ أخذه الشاعر فقال:
من لم يواس الناس من فضله ... عرض للإدبار إقباله
وقيل: اجعل معروفاً حرزاً من بداية الغرر وبوادر الغير. وقال خالد بن عبد الله: حوائج الناس إليكم نعم من الله عليكم، فلا تملوا النعم فتتحول نقماً، وأفضل الأموال ما أكسب أجراً وأورث ذكراً.
دعبل:
قال العواذل: أودى المال؟ قلت: نعم ... ما بين أجر ألقاه ومحمدة
أرزاق رب لأقوام يقدرها ... من حيث شاء فيجريهن في هبة
صعوبة الجود في النفوس:
قيل لحاتم: كيف تجد الجود في قلبك؟ فقال: إني لأجده كما يجده الناس، ولكن أحمل نفسي على خطط الكرام.
البحتري:
وأشق الأفعال أن تهب الأنفس ما أغلقت عليه الأكف
الجريمي:
ودون الندى في كل قلب ثنية ... لها مصعد حزن ومنحدر سهل
كون السماحة كالشجاعة:
قيل: من جاد بماله فقد جاد بنفسه، وإن لم يجد بها فقد جاد بما لا قوام لها إلا به. ووصف رجل خالد بن عبد الله القسري بالشجاعة فقال بعض من حضره: إن خالداً لم يلق حرباً قط. فقال: الصبر على السخاء أشد من الصبر في الهيجاء. وقال ابن أبي خالد: لا تعدن نفسك شجاعاً حتى تكون جواداً، فإنك إن لم تقو على أن تقاتل نفسك على البخل لا تقدر على عدوك بالقتل.

إن الجواد على بذل الندى البطل
وقيل: السخي شجاع القلب، والبخيل شجاع الوجه. وقال أبو تمام:
وإذا رأيت أبا يزيد في الوغى ... ويداه تبدي غارة وتعيدا " ؟ "
أيقنت إن من السماح شجاعة ... تدمي، وإن من الشجاعة جودا
البديهي:
وإذا اختبرت علمت غير مدافع ... أن السماح سجية الأبطال
كون البخيل منافياً للخصال المحمودة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: شر ما في الإنسان شح هالع وجبن خالع. وروي عنه صلى الله عليه وسلم: أي داء أدروى من البخل؟ وسمع رجل يقول: الشحيح أغدر من الظالم. فقال: لعن الله الشحيح ولعن الظالم، فإن خصلتين خيرهما الظلم لخصلتا سوء. وقال كسرى لجلسائه: أي شر أضر؟ فأجمعوا على الفقر.
فقال: الشح أضر منه لأن الفقر قد ينفرج والشح لا يفارق. وقيل: من أيقن بالخلف جاد بالنشب؛ وذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: منع الموجود سوء الظن بالمعبود؛ ومن هذا أخذ الفضل بن سهل فيما حكي عنه أنه قال: رأيت جملة البخل سوء الظن بالله، وجملة السخاء حسن الظن بالله. وقال بعضهم:
ذريتي فإن البخل يا أم هيثم ... لصالح أخلاق الرجال سروق

حث القادر على مبادرة اصطناع المعروف:
شاعر:
بادر بمعروفك آفاته ... فبنية الدنيا على القلعه
وازرع زروعاً ترتضي ريعها ... يوماً فكل حاصد زرعه
أحمد بن أبي بكر صاحب خراسان:
أحسن فقد أحسن الزمان ... وصح منه لك الضمان
بادر بإحسانك الليالي ... فليس من غدرها أمان
محمد بن غالب:
وما اسطعت من بذل أكرومة ... فلا يمنعنك عنها التواني
فإنك في زمن دهره ... كيوم ودولته ساعتان
الحث على الإعطاء في العسر واليسر:
قالت امرأة لابنها: إذا رأيت المال مقبلاً فأنفق فإنه يحتمل، وإذا رأيته مدبراً فانفق، فذهابه فيما تريد أجدى من ذهابه في ما لا تريد. قال الشاعر:
لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسرف
فإن تولت فأحرى أن تجود بهاه ... فالشكر منها إذا ما أدبرت خلف
آخر:
لا ينفع البخل مع دنيا مولية ... ولا يضر مع الإقبال انفاق.
الحث على إعطاء فقير يرجى غناه:
عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلاً أن يكون له غد
آخر:
ارفع ضعيفك لا يسؤوك ضعفه ... يوماً فتدركه العواقب قد غني
وقال وهب بن منبه: اتخذوا عند المساكين يداً، فإن لهم دولة يوم القيامة.
الحث على سبق الوارث في إعطاء المال وإنفاقه:
في الخبر: إن لك في مالك شريكين: الحارث والوارث، فلا تكن أعجز الثلاثة؛ أخذه الشاعر فقال:
مالك للدهر غير شك ... إن لم تبادر به استكاثه
أو لنسيب قريب رحم ... إن مت أضحى له وراثه
أنفقه من قبل ذين تغنم ... ولا تكن أعجز الثلاثه!
وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: يا بني لا تخلف وراءك شيئاً، فإنما تخلفه لأحد رجلين: ورجل عمل فيه بطاعة الله فيسعد بما شقيت به، ورجل عمل بمعصيته فكنت عوناً له، وليس أحد هذين حقيقاً على أن تؤثره على نفسك.
أبو الشيص:
يقول الفتى ثمرت مالي وإنما ... لوارثه ما ثمر المال كاسبه
يحاسب فيه نفسه في حياته ... ويتركه نهباً لمن لا يحاسبه
آخر:
إنما مالي ما أنفقته ... والذي أتركه للورثة
آخر:
أبقيت مالك ميراثاً لوارثه ... فليت شعري ما أبقى لك المال؟
القوم بعدك في حال تسرهم ... فكيف بعدهم حالت بك الحال؟
أبو العتاهية:
ومن الحزم أن أكون لنفسي ... قبل موتي فيما ملكت وصيا
النهي عن إدخار المال للأعقاب:
قيل لعمر بن عبد العزيز: أوص بابنك. فقال: أوصيت به إلى من أنزل الكتاب وهو يتولى الصالحين. وكان محمد بن كعب أصاب مالاً، فقيل له: ادخره لولدك من بعدك. فقال: لا والله أدخره لنفسي، وأدخر ربي لولدي؛ أخذه محمود فقال:

وقالوا ادخر ما حزته وجمعته ... لعقبك إن الحزم أدنى من الرشد
فقلت سأمضيه لنفسي ذخيرة ... وأجعل ربي الذخر للأهل والولد

الحث على إنفاق المال وإنه لا يبقى:
حاتم:
أماوي إن المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأقاويل والذكر
ثوبة:
ومن يبق مالاً عزة وصيانة ... فلا الشح مبقيه ولا الدهر وافره
بشار:
أخالد إن الجود يبقى لأهله ... جمالاً ولا تبقى الكنوز على الكد
آخر:
رأى المال لا يبقى فأبقى به حمدا
قلة الاعتداد بموت من لا ينتفع به:
قيل: من لا يعتد بحياته لم يتوجع لمماته.
ابن مقبل:
وأيسر مفقود وأهون هالك ... على الحي من لا يبلغ الحي نائله
طيب عيش من عاش غيره في فنائه:
قيل للمغيرة بن شعبة: من أحسن الناس عيشاً؟ فقال: من عاش غيره في خير عيشه. وقال آخر: أفضل الناس عيشاً من عاشت الرجال في فضله.
المال لا ينفع من خلفه:
أبو كدوا:
ليست بباكية أبلي إذا فقدت ... صوتي، ولا وراثي في الحي يبكيني
ضمرة:
هل تخمشن إبلي علي وجوهها ... أم تعصبن رؤوسها بسلاب؟
حاتم:
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
المال لا يقي من الموت:
حاتم:
أعاذل إن الجود ليس بمهلكي ... ولا يخلد النفس الشحيحة لؤمها
وقال سوادة:
ذريني فإن البخل لا يخلد الفتى ... ولا يهلك المعروف من هو فاعله
المخبل:
إني وجدك ما تخلدني ... مائة يطير عفاؤها ادم
قلة نفع المال ما لم ينفق:
هبيرة السلولي:
وما الفرق بين المال لولا امتهانه ... وبين الحصى المجموع أو كثب الرمل؟
للتبجح بإنفاق ماله لتصور مماته:
بعضهم:
ولقد علمت لتأتين عشية ... لا بعدها خوف علي ولا عدم
وأزور بيت الحق زورة ماكث ... فعلام أحفل ما تقوض وانهدم؟
فلأتركن الساملين حياضهم ... ولأحبسن على مكارمي النعم
وكتب روح إلى خالد بن عبد الله القسري يحثه على الإمساك، فأجابه وقال: خوفتني مما يجوز كونه والسلامة منه، ونهيتني عن فعل ما أوجب الحق، وما أنا ممن يترك ما أوجبه الحق لما خوف منه ظن.
من لا يكفه قول العذال عن إنفاق المال:
أبو أسد:
أرادت لتثني الفيض عن عادة الندى ... ومن ذا الذي يثني السحاب عن القطر؟
المتنبي:
وما ثناك كلام الناس عن كرم ... ومن يسد طريق العارض الهطل
آخر:
فنفسك ولي اللوم عاذل وانطحي ... برأسك إن كان الصفا وذريني
من عادته البذل:
يقال أنه لما مات حاتم تشبه به أخوه فقالت له أمه: لا تتعبن فيما لا تناله. فقال: وما يمنعني وقد كان شقيقي وأخي من أمي وأبي؟ فقالت: إني لما ولدته كنت كلما أرضعته أبى أن يرضع حتى آتيه بمن يشاركه فيرضع الثدي الآخر، وكنت إذا أرضعتك ودخل صبي بكيت حتى يخرج.
شاعر:
يلام أبو الفضل في جوده ... وهل يملك البحر أن لا يفيضا
آخر:
باتت تلوم وتلحاني على خلق ... عودته عادة والخير تعويد
آخر:
وإني امرؤ عودت نفسي عادة ... وكل امرىء جار على ما تعوّدا
الموسوي:
دعي عذلي فليس العذل يجنى ... به ما أثمرت شيمي وعادي
آخر:
إذا كنت شمساً نورها من طباعها ... فكيف بأن نلقاك غير منير؟
من لا يترك عادته في الجود وإن دفع إلى ضيق:
كانت أخت حاتم سخية لا تبقي شيئاً، فحظر عليها أخوتها وحبسوها حتى ذاقت طعم الجوع والفقر، فظنوا أنها وجدت ألم الضيق والفقر، فأطلقوها ودفعوا إليها صرمة، فأتتها سائلة فقالت: دونك الصرمة لقد عضني من الجوع ما لا أمنع بعده سائلاً أبداً ثم أنشدت:
لعمري لقدماً عضني الدهر عضة ... فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا
آخر:
وإن مسّه الإقواء والجهد زاده ... سماحاً وإتلافاً لما كان في اليد

ولما أسن ابن جذعان أخذ بنو تميم على يده، فكان إذا أتاه سائل يقول: ادن مني! فيلطمه ويقول: اطلب من قومي قصاص لطمتي ولا ترض بدون كذا. فيفعل فترضيه بنو تميم.
سلم:
وكل فخر إذا فاخرت مطرح ... وكل جود إذا ما وجدت مغمور
المتنبي:
يغمر ضحضاحه غمرات الأجواد وتستر نفحاته بحور الأمجاد
وله:
وهب الملوك وسدتهم بمواهب ... در الملوك لدرّها أغبار
وله:
وإن جاد قبلك قوم مضوا ... فإنك في الكرم الأول

من فضل في الجود على الورى:
قال الشاعر:
لو أدرك العصر من كعب ومن هرم ... وحاتم جود كفيه لما ذكروا
الغساني:
لو أن عين زهير أبصرت حسناً، ... وكيف يصنع في أمواله الكرم؟
إذاً لقال زهير حين يبصره: هذا الجواد على العلاّت لا هرم!
الفرزدق:
لو أن كعباً أو حاتماً نشرا ... كانا جميعاً في بعض ما يهب!
من لو قسط على الورى لجادوا:
منصور بن الفقيه:
لو أن ما فيه من جود يوزعه ... على الخلائق عادوا كلّهم سمحا
ابن الرومي:
خلائق لو فضت على الناس كلهم ... محاسنها لم يبق في الأرض مشتم
من يحاكي بعطائه القطر والبحر:
كأن فيض يديه قبل مسألة ... باب السماء إذا ما بالحيا انفتحا
ابن الرومي:
وأنت كالبحر لا كفاء له ... في بعد غور وقرب مغترف
آخر:
وما الغيث إلا مثل كفّك في المحل
آخر:
أغنيت ما ... أغنى المطر
الغساني:
مطرت أنامل راحتيه فوائداً ... هانت علينا بعدها الأمطار
بشار:
إذا القطر لم يغزر علينا سماؤه ... بأرض وثقنا من سمائك بالغزر
من سماؤه تقطر المال:
أبو نواس:
كل يوم له عليّ سماء ... ثرة تستهل بالعقيان
سلم الخاسر:
وفي يديه سماء غير مقلعة ... بالجود صوب عزاليها الدنانير
من فضل على البحار والسحاب:
الغساني:
قوم إذا مطرت سماء نوالهم ... ذم الأنام سحائب الأمطار
آخر:
البحر يغرق في بحور سخائه
علي بن الجهم:
ولو قرنت بالبحر سبعة أبحر ... لما بلغت جدوى أنامله العشر
المتنبي:
ولما تلقّاك السحاب بصوبه ... تلقاه أعلى منه كعباً وأكرم
من يستحي منه السحاب ويحسده:
الأموي:
يجود فتستحي السحاب إذا رأت ... نداه، وتخطيه الغيوث المواطر
التنوخي:
إذا انبسطت بالمكرمات أكفّهم ... رأيت الحيا من سيبهن قد استحيا
آخر:
ويحسد كفيه ثقال الغمائم
الباذل لماله:
ابن هرمة:
يداه يمينان لم تجمدا ... ولم تأخذا عادة الأشمل
آخر:
أنا الرجل الذي كلتا يديه ... يمين في صروف النائبات
المهين بكلتا يديه:
ابن الرومي:
ولم أر مالاً جاره مثل عزهم ... يروح ويغدو وهو نهب مقسّم
آخر:
وليس لمالي دون حق كريمة ... يعز وما فيه علي كريم
المتنبي:
ويحتقر الدنيا احتقار مجرب ... يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا
بكر بن النطاح:
فتى شقيت أمواله بسماحة ... كما شقيت قيس بأرماح تغلب
من لا يرى الإعطاء حتما
ً
بشار:
كأن لهم ديناً عليه وما لهم ... سوى جود كفيه عليه حقوق
أبو تمام:
ترى ماله نصب المعالي فأوجبت ... عليه زكاة الجود ما ليس واجبا
من يبسط الآمال:
أبو تمام:
ألبستني حلل الغنى فلبستها ... وجعلت آمالي لهنّ ذيولا
وله:
ويحكم الآمال في الأموال
البحتري:
ثنى أملي فاختاره عن معاشر ... يبيتون، والآمال فيهم مطامع
المتلقي سؤاله بطلاقة وجهه:

قيل: بسط الوجه يقوم مقام البذل. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم ببسط الوجه وحسن الخلق. وفي كتب الفرس: لأن تلقى الأحرار بالبشاشة ويحرموا أحسن من أن يلقوا بالفظاظة ويعطوا فانظر إلى خلة أفسدت مثل الجود فاجتنبها، وإلى خلة عفت عن مثل البخل فالزمها.
أحمد بن أبي فنن:
بسطت له وجهاً طليقاً إلى الندى ... وشرّ الوجوه ما يعبّسه البخل
وقال كاتب: لما سألته تهلل واهتز هز المهند، وابتسم ابتسام الروض عن زهره.
بشار:
وتأخذه عند المكارم هزة ... كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب
آخر:
وليس بسعاّل إذا سيل حاجة ... ولا بمكبّ في ثرى الأرض ينكث
وقال أعرابي: سألت فلاناً فما عبس ولا خنس ولا حبس. وقيل لآخر: أحسن من أريحية الباذل.

من آثار آلائه ظاهرة:
سلم الخاسر:
لنعمان آثار علينا مبينة ... كما بينت آثار غيب مسائله
أبو تمام:
وضيعة لك قد كتمت جزيلها ... فأبى تضوعها الذي لا يكتم
مثله لأبي نواس:
نحن نخفيها ويأبى ... طيب ريح فيفوح
من أخذ مواهبه بزين:
بعضهم:
لذا أعطى القليل فتى شريف ... فإن قليل ما يعطيه زين
وإن تكن العطية من دنيء ... فإن كثيرها عار وشين
أحمد بن ثور:
فضع الزيارة حيث لا يزري بها ... كرم المزور ولا يخيب الزور
من هو هش العود:
وريق عودهم أبداً رطيب ... إذا ما اغبر عيدان اللئام
آخر:
ألم يك رطباً يعصر القوم ماءه ... وما عوده للكاسرين بيابس
الخصيب الفناء:
قال بعضهم لعاف: نزلت بواد ممطور وفناء معمور، فحط رحلك فقد صادفت أهلك.
الحطيئة:
إذا نزلوا بمحل روّضوه ... بآثار كآثار الغيوم
ابن الرومي:
أنخت بحيث تبيض الأيادي ... وتسود المطابخ والبرام
من علم الناس الجود وأعداهم حسن صنيعه:
قال بعض الأعراب: قدم علينا الحكم بن المخزومي ولا مال لنا فأغنانا عن آخرنا فقلت له: كيف؟ فقال: علمنا مكارم الأخلاق، فعاد أغنياؤنا على فقرائنا، فصرنا كلنا أجواداً. وكان عبد الله بن العباس يسمى معلم الجود لسخائه، وحثه على ذلك قولاً وفعلاً قال شاعر متمثلاً معاتباً لصاحبه:
فلو كنت تطلب شأو الكرام ... فعلت كفعل أبي البحتري
تتبع إخوانه في البلاد ... فأغنى المقل عن المكثر
ابن الرومي:
حببت كفّه النوال إلى النا ... س جميعاً، وكان غير حبيب
وقصد أبو العريان بعض الأكابر فكساه وأولاه مالاً، فخرج ووزع على أصحابه، وقال:
لمست بكفّي كفّه أبتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفّه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فأفسد ما عندي
من الجود عبده ورفيقه:
قصد أعرابي خالد بن يزيد فقال: إني امتدحك ببيتين فهل تسمعهما؟ فقال: إن أحسنت فنعم ولك ثواب، فأنشد:
سألت النّدى والجود: حران أنتما؟ ... فقالا جميعاً: إننا لعبيد
فقلت: ومن مولاكما؟ فتطاولا ... جميعاً وقالا: خالد ويزيد!
فاهتز طرباً لهما وأمر له بصلة سنية.
دعبل:
الجود يعلم أني منذ عاهدني ... ما خنته وقت ميسوري ومعسوري
من سكن الجود كفيه:
وصف رجل آخر فقال: الجود معتكف عليه، والفضل مقترن بكفيه. وقال آخر:
كفه بالجود سائلة ... وبالمعروف شائلة
مسلم:
هانت الدنيا عليه ... فهي نهي في يديه
يصبح الجود ويمسي ... عاكفاً في راحتيه
من حل بحلوله الجود:
أبو نواس:
فما جازه جود ولا حلّ دونه ... ولكن يسير الجود حيث يسير
نصيب:
وإن خليليك السماحة والندى ... مقيمان بالمعروف ما كنت توجد
أشجع:
وإن وجود الجود في كل بلدة ... إذا لم يكن يحيى بها لغريب
المعطي قبل أن يسأل:

قيل: أكرم الناس معطي من لا يرجوه ولا يعفوه. وقيل: فلان دواء الفقر، إن سئل أعطى وإن لم يسأل ابتدأ. وقال خالد بن يزيد لابنه: السخاء أن تعطي كل من سأل. فقال: يا أبت هذا هو الكد، السخاء أن تعطي قبل أن تسأل. وقال مسلم بن قتيبة: إني لأعجز عن مكافأة من رآني لحاجته أهلاً، فقال أبو عطاء: أيها الأمير فاجعل فضلك ابتداء حتى ترفع عن نفسك ثقل المكافأة.
مسلم:
أعطاك قبل سؤاله ... فكفاك مكروه السؤال
أبو علي البصير:
كفاني ولم استكفه متبرعاً ... فتى غير ممنون العطاء ولا نزر
البلادري:
نالني معروفه مبتدئاً ... وكفاني جوده أن أسأله
البحتري:
مواهب ما تجشمنا السؤال لها ... إن الغمام قليب ليس يحتفر
أبو تمام:
أعطى ونطفة وجهي في قرارتها ... تصونها الوجنات الغضة القشب
لا يكرم الظفر المعطى وإن حصلت ... به الرغائب حتى يكرم الطلب

من يكتفي في سؤاله بالتعريض:
لبن الرومي:
يا من إذا التعريض صافح سمعه ... أغنى به عن التصريح
المتنبي:
ومثلك من كان الوسيط فؤاده ... فكلّمه عني ولم أتكلم
المغني سائله عن سؤال غيره:
سئل بعض الأدباء عن جعفر بن يحيى بعد ما قتل فقال: تركني مقطوع الآمال، زاهدا بعده في طلب الأموال.
ابن الرومي في معناه:
سألتك إغنائي عن الناس كلهم ... فأغنيتني عنهم وعنك جميعا
أبو تمام:
لم يدعني وفي يميني فضل ... لندى غيره ولا في شمالي
ابن نباتة:
لم يبق جودك لي شيئاً أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل
عابدة المهلبية:
بحمدك لا يحمد الناس أضحى ... وكيلي ليس يقنعه وكيل
وكانوا كلّما كالوا وزنّا ... فصاروا كلّما وزنوا نكيل
وكنت وناقص وزني فأضحى ... مفاعيلن مفاعيلن فعول
من يصير سائله مسؤولاً بما يعطيه:
مدح أعرابي رجلاً فقال: يعود عليه المجتدي مجدياً، ومستعطي رفده معطياً، والمنتجع منه منتجعاً.
أبو تمام:
وكم لحظة أهديتها لابن نكبة ... فأصبح منها ذا عفاة ونائل
وله:
وما يلحظ العافي جداك مؤملاً ... سوى لحظة حتى يؤوب مؤملاً
من لا يرد سائله:
قال أعرابي في مدح رجل: لم ينظر قط إلى محروم. قال ابن خارجة: لا أرد سائلاً فإنما هو كريم أسدي خلته أو لئيم أشتري عرضي منه أبو علي البصير:
فتى لا يفيد المال إلا لبذله ... ولا يتلقى صفحة الحقّ بالعذر
حاتم:
أماوي إني لا أقول لسائل ... إذا جاء يوماً: حل في ما لنا نذر
وقال النمر بن تولب:
ولا رحلي بمخزون عليه ... إذا جاري استعار، ولا ردائي
المحقق رجاء آمليه:
قضى رجل حاجة أعرابي فقال: وضعتني من كرمك بحيث وضعت نفسي من رجائك.
أبو تمام:
رجعت المنى خضراء تثني غصونها ... علينا وأطلقت الرجاء مكبّلا
وله:
همّ سرى ثم أضحى همّه أمما ... راجت رجاء، وباتت وهي في نشب
الخوارزمي:
كنا وردنا وكلنا أمل ... ثم صدرنا وكلنا نعم
البحتري:
ولئن كفيت مهمّها ... فلمثلها أعددت مثلك
من لا يقطع نواله عمن غضب عليه:
كان العباس بن محمد يجري على رجل شيئاً فغضب عليه، وكان ابنه كتب إطلاقات رفعت إليه، فترك اسم المغضوب عليه فقال: فأين ذكر رزق فلان؟ فقال: إنك قد كنت غضبت عليه! فقال: يا بني غضبي لا يسقط هبتي، إن أباك لا يغضب في النوال. وسئل بعض الصوفيين: لم وصف الله تعالى بخير الرازقين؟ فقال: لأنه إذا كفر لا يقطع رزقه. وكان محمد بن سليمان يجري على رجل شيئاً فغضب عليه فقطعه، ثم رضي عنه فرده فأبى الرجل أن يقبله، وقال: إني كنت أظن أن عطاءه مكرمة، فأما وقد صار غضبه يقطعه فلا حاجة لي فيه.
من عطاؤه لا ينقطع:
الأعشى:
وليس عطاء اليوم مانعه غدا
ابن الرومي:
نوالك كالسيل المسهل بعضه ... لبعض طريق الجري في السهل والوعر
آخر:
كلما عدنا لنائله ... افتررنا جوده جذعا

آخر:
وما كان نفعك لي مرة ... ولا مرتين، ولكن مرارا
الحطيئة:
وما لأجم المعروف من طول كره ... وأمري بأفعال النّدى وافتعالها

المتجنب لفظ المنع:
قال بعضهم: فلان خلقت نعم للسانه قبل أن خلق لسانه، فاجتنب لا ولزم نعم! لبيد:
وبنو الديان أعداء للا ... وعلى ألسنتهم ذلّت نعم
وأنشد عبد الرحمن الكندي:
لو قيل للعباس: يا ابن محمد ... قل لا وأنت مخلّد، ما قالها!
فقال: ليس يجب أن يقول الإنسان في كل شيء نعم، وكان الوجه أن يستثنى ثم قال:
هجرت في القول لا، إلا لنائبة ... تكون أولى بلا في اللفظ لا بنعم
ويستحسن قول الآخر:
لا فرق في ناطق بالشرك عندهم ... وناطق في جواب السائلين بلا
العتبى:
ما قال لا إلا لعذّاله ... وهو بها عن سائل أعجم
من هو مقصد العفاة:
قيل: أطيب الناس عيشاً من كثرت عفاته، وعاش الناس في كنفه. وقيل: فلان داره مجمع عفاته ومربع عطياته.
أبو نواس:
ترى الناس أفواجاً على باب داره ... كأنهم رجلاً دبى وجراد
وهب الهمداني:
فتى داره معمورة بعفاته ... ومجلسه بالمكرمات منجد
أشجع:
على باب ابن منصور ... علامات من البذل
جماعات وحسب البا ... ب فضلاً كثرة الأهل!
بشار:
يطوف العفاة بأبوابه ... كطوف الحجيج ببيت الحرم
البديهي:
وللجود حسن أي وقت بذلته ... وأحسنه ما كان في زمن المحل
باعث رفده إلى تارك قصده:
قال الحجاج يوماً: قل عفاتنا. فقال رجل: أصلح الله الأمير! إنك أكثرت خير البيوت فاستغنى الناس بما يصل إليهم عن الترحال. فسر الحجاج وقال: بارك الله فيك، وأحسن إليه. أنشد مروان بن أبي حفصة قول الشاعر:
إذا جئت أعطاني وإن أنا لم أجىء ... أتاني من جدواه ما كنت أرتجي
فقال مروان: قد قلت أحسن من هذا. بعث إلي عبد الله بن طاهر عشرين ألفاً فقلت فيه:
لعمري لنعم الغيث غيث أصابنا ... ببغداد من أرض الجزيرة وابله
ونعم الفتى والبيد بيني وبينه ... بعشرين ألفاً صبحتنا رسائله
ابن الرومي:
ويشرك أدنى الأرض في صوبه القصوى
آخر:
لا أشتكي البدر على بعده ... لقد أضاءت لي آفاقه
عمارة:
لعمرك ما النائي البعيد بنازح ... إذا قربت الطافه ونوائله
وما ضرّنا أن السماك محلق ... بعيد إذا جادت علينا هواطله
من أعطى الغني والفقير:
روي في الخبر: أعطوا السائل ولو جاء على فرس. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كل معروف صدقة لغني أو فقير. وقيل لبعضهم: ما الجود؟ فقال: أن تعطي الغني والفقير ولا تخص. ولأحمد بن أبي طاهر:
ونداه مثل الغيث جاد لمجدب ... وعر وحلّ على المحل الممرع
المتنبي:
ويدلها كرم الغمام لأنها ... تسقي العمارة والمكان البلقعا
المستشهد على فرط جوده بعفاته وزمانه:
الحطيم:
وإن تلق ندماني تخبرك أنني ... وكاء لكيس لم أعد منه بالفقر
ديك الجن:
سلا، هل كمجدي أو كفخري لفاخر ... وعندكما من قبل أن تسألا خبر؟
المتوكل الليثي:
فإن يسأل الله الشهود شهادة ... تنبي جمادى عنكم و المحرم
بأنكما خير الحجاز و أهله ... إذا جعل المعطي يمل و يسأم
من يباري الرياح:
عبد الله بن أبي السمط:
أعطى أبو دلف و الريح عاصفة ... حتى إذا وقفت أعطى ولم يقف
آخر:
يكلون الرياح إذا تبارت ... ويمتثلون أفعال السحاب
المعطي بلا شفاعة:
ابن الرومي:
النائل المعطي بغير وسيلة ... كالماء مغترفاً بغير رشاء
آخر:
أفردته برجائي أن يشاركني ... فيه الوسائل أو ألقاه بالكتب
من شارك في ماله عفاته:
ابن الرومي:
وامدح فتى حظه من ومأثرة ... كحظ ناظرنا من وجهه الحسن
أبو تمام:
لو كنت شاهد بذله لشهدته ... لعداته أو شركة في ماله

من لا يبقي مالاً:
كأن عليه أن يفرق ماله ... ألية مبرور الألية محترز
المتنبي:
عجباً له حفظ العنان بأنمل ... ما حفظها الأشياء من عادتها
وله:
لو كان ضوء الشمس في يده ... أضاعه جوده وأفناه
آخر:
يقول أناس: لو جمعت دراهماً ... وكيف ولم أخلق لجمع الدراهم؟
أبى الله إلا أن تكون دراهمي ... مدى الدهر نهبى بين عاف وغانم
أعرابي:
حسن الحديث ضعيف خيط الدرهم

من لا تجب عليه زكاة لإنفاقه ماله:
قال بكر بن النطاح:
وما وجبت علي زكاة مال ... وهل تجب الزكاة على الفقير؟
رجل من بني عذرة:
والله ما بلغت للجود ماشيتي ... حد الزكاة ولا إبلي ولا مالي
من ماله معد للبذل:
البحتري:
فتى لا يريد الوفر إلا ذخيرة ... لمأثرة تزداد أو مغرم يعرو
علي بن الجهم:
ولا يجمع الأموال إلا لبذلها ... كما لا يساق الهدي إلا إلى النحر
من لا يبخل بروحه ولا ماله لو سئل:
مدح رجل آخر فقال: كيسه محلول وماله مبذول، يطعمك نفسه أن أكلتها، ويسقيك روحه إن شربتها؛ ومنه أخذ بعض بني غطفان:
ولو لم أجد لنزيلي قرى ... قطعت له بعض أطرافيه
بكر بن النطاح:
ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله!
الكميت:
وتبتذل النفس المصونة نفسه ... إذا ما رأى حقاً عليه ابتذالها
وقال أبو هفان في معناه وإن كان في وصف الضيافة:
ولو نزل الأضياف ليلة لا قرى ... لأطعمتهم لحمي وأسقيتهم دمي
ابن نباتة:
وحكمني حتى لو أني سألته ... شبابي، وقد ولى به الشيب، رده
المنخدع المتباله في ابتذال ماله:
قيل: الكريم هو المنخدع عن ماله حتى يحكم فيه الطمع، ويستعمل في ماله الخدع. وقيل لبعضهم: ما الشرف؟ فقال: الانخداع عن المال. ولا تجد أحداً يتغافل عن ماله إلا وجدت له في قلبه فضيلة لا تقدر على دفعها، وقد أدبنا نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: رحم الله سهل البيع سهل الشراء.
وهذا خلاف قول الناس: المغبون غير محمود ولا مأجور. وقد قال صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على شيء بحبه الله ورسوله؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: التغابن للضعيف.
شاعر:
ممن يغر على الثناء فيمدحه
البحتري:
وإذا خادعنه عن ماله ... عرف المسلك فيه فانخدع
وله:
وقد يتغابى المرء في عظم ماله ... ومن تحت برديه المغيرة أو عمرو
وله:
إذا معشر صانوا السماح تعسفت ... به همة مجنونة في ابتذاله
وتخطى أبو تمام حتى استقبح قوله فقال:
ما زال يهذي بالمكارم والعلى ... حتى ظننا أنه محموم
والهذيان والحمى مستقبح ذكرهما في المدح. المنذر الغساني يوصي ابنه: آمرك بالذل في نفسك والانخداع في مالك.
من عيبه إفراطه في الجود:
فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فلا يبقي من المال باقيا
كشاجم:
ما فيهم عيب سوى الإفراط في الجود فقط
أبو هفان:
عيب بني مخلد سماحتهم ... وأنهم يتلفون ما ملكوا
وقيل للحسن بن سهل وقد كثر عطاؤه على اختلاف حاله: ليس في السرف خير. فقال: ليس في الخير سرف! وقال المأمون لمحمد بن عباد: إنك متلاف. فقال: منع الجود سوء الظن بالمعبود. وفي الزهد أخبار عن ذلك.
الساتر عطيته:
روي أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ملك أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً، وبدرهم علانية، فنزل فيه قوله تعالى: " الذي ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية " " الآية " .
المتنبي:
ستروا الندى ستر الغراب سفاده ... فبدا، وهل يخفى الرباب الهاطل؟
ووصف أعرابي رجلاً فقال: إذا أعطي شكر، وإذا أعطى ستر.
المسرور بما يعطيه:
لما دخل الفضل ين يحيى الرقة قال لوكلائه: أحصوا منزل من يغنيه ألف درهم. فأحصوا ثلاثمائة منزل فوجه إليهم ثلاثمائة ألف درهم ثم وضع له الطعام فقال: ما أكلت طعاماً أهنأ منه اليوم، وقد علمت أني أغنيت ثلاثمائة بيت.

أبو تمام:
لو يعلم العافون كم لك في الندى ... من لذة وقريحة لم تحمد
زهير:
تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
الأعشى:
يرى البخل مرّاً والعطاء كأنما ... يلذ به عذباً من الماء باردا
أبو تمام:
ونغمة معتف يرجوه أحلى ... على أذنيه من نعم السماع
وقال معاوية يوماً لجلسائه: من بقي من لذاتكم؟ فقالوا: ضروب من القول. فقال ذلك لوردان مولى عمر. فقال: النظر في وجه كريم أصابته من دهره جائحة فاصطنعت إليه. فقال معاوية: أنا أحق بهذه منك. فقال: أحق بها من سبق إليها وأنت أقدر عليها فافعل. ودخل هشام بن عروة على المنصور فشكا إليه ديناً فأعطاه عشرة آلاف درهم فقال: يا أمير المؤمنين، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أعطى عطية وهو طيب النفس بورك للمعطي والمعطى منها، أفنفسك طيبة بها؟ قال: نعم.

من اشتغاله بالعطاء:
بعضهم:
فتى لا تراه الدهر إلا ونفسه ... تجود بخير أو تهم بخير
آخر:
لا يعد المال إلا وهبا
دعبل:
يعد ما أنفق من ماله ... غنماً وما وفره غرماً
وله:
فتى لا يرى المال إلا العطاء ... ولا الكنز إلا اعتقال المنن
من لا يعد ماله إلا ما وهبه:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أفضل الصدقة جهد من مقل. وقال بعض الصوفية: ليس السخاء أن تعطي الواجد العادم، إنما السخاء أن تعطي العادم الواجد.
شاعر:
إذا تكرمت أن تعطي القليل ولم ... تقدر على سعة لم يظهر الجود
بث النوال ولا يمنعك قلته ... فكل ما سد فقراً فهو محمود
آخر:
ليس العطاء من الفضول سماحة ... حتى تجود وما لديك قليل
وقيل: لم يحرم من قصد له.
من يكثر العطاء وإن قل ماله:
ابن هرمة:
وينال بالمال القليل تبرعي ... فخماً يضيق به ذراع المكثر
العرندس:
ولم يك أكثر الفتيان مالاً ... ولكن كان أرحبهم ذراعا
آخر:
ما كان عاراً إذا ضيف تضيفني ... ما كان عندي إذا أعطيت مجهودي
جهد المقل إذا أعطاك نائله ... ومكثر من غنى سيان في الجود
وقال معن بن زائدة: طلبني المنصور فهربت منه متنكراً، فلقيني أسود فتعلق بي و قال: أنت طلبة أمير المؤمنين. فقلت إتق الله فإني غريب. فقال: دعني من هذا. فقلت: إنك إن أتيته بي لا تنتفع منه بكثير نفع، فدونك هذه الجواهر فقيمتها ألوف دنانير. فقال: دعني من ذا، أنت موصوف بالجود هل أعطيت مالك كله أو نصفه أو ثلثه؟ فقلت: لا. فقال: أنا مشاهرتي كل شهر عشرون درهماً و مالي على ظهر الأرض ما قيمته مائة درهم، وها أنا قد وهبت لك هذه الجواهر، ووهبتك لنفسك لتعلم أن لله عباداً أسخى منك! ففارقته وأنا بعد في طلبه.
من أعطى الكثير لمن يرضيه القليل:
سوى حجام شارب الحسن فأعطاه درهمين، فقيل: إنه كان يكتفي بدانق. فقال: لا تدنقوا يدنق عليكم. ومر يزيد من المهلب بأعرابي في خروجه من السجن فسأله شيئاً فقال لغلامه: ما معك؟ قال: مائة دينار. فقال: أعطه. فقال الغلام: هذا يرضيه اليسير. فقال: أنا لا يرضيني إلا الكثير. قال: إنه لا يعرفك. قال: أنا أعرف نفسي. وأثنى أعرابي على رجل فقال: ما زال يعطيني حتى ظننت أنه بودعني، وما ضاع مال أورث حمداً.
المحكم سائله في ماله:
التنوخي:
إن جاءهم سائل يبغي نوالهم ... أعطوه من مالهم ما شاء واقترحا
ابن نباتة:
وحكمني حتى لو أني سألته ... شبابي، وقد ولى به الشيب، رده
ودخل الغافري على الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال: إني عصيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: بئس ما صنعت! كيف؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يفلح قوم ملكت أمرهم امرأة، وقد ملكت علي امرأتي، أمرتني أن أشتري عبداً فاشتريته فأبق مني. فقال: اختر احدى ثلاث إن شئت فثمن عبد فقال: قف ههنا ولا تتجاوزه فقد اخترته فأعطاه ذلك.
من جاد بالعرض دون العرض:
أبو شراعة:
عرض مصون وتراث منتهب
ابن الرومي:
قريب النوال بعيد المنال ... ومسكنه شرف ممتنع

كمثل السحاب نأى شخصه ... ولم ينأ منه صبيب همع
يعقوب النمار:
حمى أعراضه ضناً وشحاً ... وصير ماله نهباً مباحاً

الصائن عرضه بماله:
قيل: فلان منع الناس من عرضه بما نشر عليهم من فضله.
آخر:
خير العروض وقاية الأعراض
آخر:
ومن أنال المال صان الجاها
أحمد بن أبي طاهر:
العرض ليس يصونه مال إذا ... ما المال عند حقوقه لم يبذل
آخر:
لا يقي بالإحسان مالاً ولكن ... يجعل المال جنة الإحسان
المبتاع الحمد بالمال:
ذهاب المال في حمد وأجر ... ذهاب لا يقال له ذهاب
مجنون:
وما اشتريت بمال قط مكرمة ... إلا تيقنت أني غير مغبون
وفرق علي بن موسى الرضى ماله بخراسان كله في يوم عرفة فقال له الفضل بن سهل: ما هذا المغرم؟ فقال: بل هو المغنم، لا تعدن مغرماً ما ابتعت به أجراً وكرماً!
من يعطي طوعاً ويتأبى خسفاً:
خبر الدهقان الذي طالبه بالمال قد تقدم في خبر السلاطين. وقيل: فلان لا يسمح بالغلب ولا يدر على الغضب.
معن بن أوس:
ونأبى فلا نعطي على الخسف درة ... مبساً ولكن بالتودد نختل
البحتري:
حرون إذا عازرته في ملمة ... وإن جئته من جانب الذل أصحبا
المتنبي:
وأنتم فئة تسخو نفوسكم ... بما يهون ولا تسخون بالسلب
إعطاء المستحق وغيره والشاكر والكافر:
قيل: لأن أخطىء باذلاً أحب إلي من أن أصيب مانعاً. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره؛ فإنه يشكرك عليه من لم يصطنع إليه. قال بعضهم:
يد المعروف غنم حيث كانت ... تضمنها كفور أو شكور
فعند الشاكرين له جزاء ... وعند الله ما كفر الكفور
محمود:
سأمنح مالي كل من جاء عافيا ... وأجعله فرضاً على الفرض والفرض
فإما كريم صنت بالجود عرضه ... وإما لئيم صنت عن لؤمه عرضي
آخر:
لا يذهب العرف بين الله والناس
الحث على منع اللئام ومن يستضر بإعطائه:
قيل في التوراة مكتوب: من صنع معروفاً إلى غير أهله كتب له خطيئة. وقال بزرجمهر: المصطنع إلى اللئيم طوق الخنزير تبراً، وقرط الكلب دراً، وألبس الحمار وشياً؛ وألقم الحية شهداً. وقيل: من أشبع لئيماً فقد ضرى عدواً عاتياً وسبعاً عادياً. وقيل: اللئيم يزداد بالعرف خبالاً كما يزداد المريض من كثرة الطعام وبالاً.
أبو بجيلة:
متى تسد معروفاً إلى غير أهله ... رزئت ولم تظفر بحمد ولا أجر
آخر:
ومن يصنع المعروف في غير أهله ... يلاقي كما لاقى مجير أم عامر
آخر:
هم سمَّنوا كلباً فأتلف بعضهم ... ولو أخذوا بالحزم ما سمَّنوا كلبا
آخر:
ليس في منع غير ذي الحق بخل
من لا يبخل في حق يلزمه ولا يسرف فيما يخوله:
قيل للمنبوذ: إنك بخيل. فقال: ما أجمد في حق ولا أذوب في باطل. وقيل لفيلسوف: متى يكون قليل النوال موفياً على الكثير؟ فقال: إذا كان قليله في الحقوق وكثيره في الإسراف. وقيل لمعاوية: ما الجود؟ فقال: إصابة موضع البذل والمنع. وقيل: السخاء أن تأخذ الشيء من حل وتضعه في حق.
الراعي:
فلست إن نابني حق بمنتكر ... فيه ولا برم يعبى به السبل
الممدوح بمنع العطاء غير مستحقه:
إذا المال لم يوجب عليك عطاؤه ... صنيعة تقوى أو خليل تخالقه
منعت، وبعض المنع عزم وقوة ... ولم يبتذلك المال إلا حقائقه
المتشارك ذويه في ما يملكه ويحويه:
صادف رجل موسراً يصحبه معسر فسأل الموسر عن صاحبه فقال: هو أخي. فقال له: ولم أنت غني وهو فقير أما سمعت قول عبد الله بن معاوية:
وإذا أصبت من القوافل رغبة ... فامنح عشيرتك الأداني فضلها
وأحسن بقول الآخر:
بدا حين أثرى بإخوانه ... فقلل منهم شياة العدم
وعرفه الحزم صرف الدهور ... فبادر بالعرف قبل الندم
عمرو بن الاطنابة:
كريم رأى الإقلال عاراً فلم يزل ... أخا طلب للمال حتى تمولا

فلما أفاد المال عاد بفضله ... على كل من يرجو جداه مؤملا
أبو عمر القاضي:
وتركي مواساة الأخلاء بالذي ... تحوز يدي ظلم لهم وعقوق
وقيل: لا تعدن غنياً من لم يكن غناه مشتركاً.

الإعطاء في حال السكر والصحو:
لما كان السكر قد يذر البخيل كريماً، كرهوا مدح المرء بأنه يسخو في حال السكر فغضوا.
من قول عمرو:
إذا ما الماء خالطها سخينا
واستجادوا قول امرىء القيس:
ينال جودك في صحوٍ وفي سكر
وقد استجيد قول زهير:
أخو ثقة لا يهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
أي ليس ممن يطي لسكره ولكن يعطي لسخائه. وقيل: ليس ينفق ماله في شرب الخمر ولكنه في البذل.
البحتري:
تكرمت من قبل الكؤس عليهم ... فما اسطعن أن يحدثن فيك تكرما
المتنبي:
لا تجد الخمر في مكارمه ... إذا انتشا خلة تلافاها
عذر سخي بخل في بعض الأحوال:
قال الحسن بن علي رضي الله عنهما لرجل سأله شيئاً فلم يمكنه: لو أمكنني لكان الحظ فيه لنا دونك، فإن حرمنا شكرك فلا تحرمنا سعة عذرك. قصد رجل الحسن بن سهل في حالة عسره، فاستماحه فلم ينل منه مطلبه فعاتبه فقال الحسن:
الجود طبعي ولكن ليس لي مال ... وكيف يسمح من بالدين يحتال؟
وشيمتي في العطايا لا تزايلني ... وليس ما أشتهي يأتي به المال
واستبطأ دعبل أبا دلف فبعث إليه دنانير وكتب معها:
أعجلتنا فأتاك عاجل برنا ... قلاً ولو أملهتنا لم تقلل
فخذ القليل وكن كأنك لم تسل ... ونكون نحن كأننا لمن نسأل
ومدح البحتري طاهر بن محمد فبعث إليه دنانير وكتب معها بأبيات منها:
والشريف الظريف يسمح بالعذ ... ر إذا قصر الصديق المقل
فكتب إليه البحتري:
وإذا ما جزيت شعراً بشعر ... يبلغ الحق فالدنانير فضل
دخل بعض الطالبين على اسحق الموصلي فأطال الجلوس، فلما خلف الناس كلمه في حاجة فقال: ما إلى ذلك سبيل. فسكت قليلاً ثم عاوده فقال له كذلك، فقال:
لا ييئسنك من كريم نبوة ... ينبو الفتى، وهو الجواد الخضرم
فإذا أبى فاستبقه وتأنه ... حتى يفيء به الطباع الأكرم
فاهتز لكلامه وقال: قد عاد الطباع الأكرم، وخوله. وفي المثل: بيتي يبخل لا أنا. وقال والٍ لرجل كان يكثر سؤاله: دع الضرع يدر لغيرك كما در لك. ووقع عبد الحميد في رقعة مستميح كان قد بره مراراً: قد نفد ما عندنا لمثلك فارغب إلى من لا ينفد ما عنده.
عذر من أعطى قليلاً:
أتى رجل زياد بن أبي سفيان سائلاً فأعطاه درهماً فقال: صاحب العراقين يعطيني درهماً؟ فقال: إن من بيده خزائن السموات والأرض ربما رزق أخص عبيده التمرة واللقمة، وما يكثر عندي أن أصل رجلاً بمائة ألف درهم، ولا يصغر أن أعطي سائلاً رغيفاً إذا كان رب العالمين يفعل ذلك. ورفع حشم جعفر بن يحيى إليه قصة يستزيدونه أرزاقهم، فقال لعمرو بن مسعدة فكتب إليه: قليل دائم خير من كثير منقطع. فقال جعفر: أي وزير بين جنبيه؟
عذر من أفقره الجود:
قصد جماعة ابن هرمة فخرجت بنية له فاعتذرت فقالوا: أليس أبوك الذي يقول:
لا أمنع العود بالفصال، ولا ... أبتاع إلا قريبة الأجل
فقالت: نعم هذه العادة منه تركتكم بلا قرى.
جحظة:
جاء الشتاء وما عندي له ورق ... فيما عددت ولا عندي له خلع
كانت فبددها جود ولعت به ... وللمساكين أيضاً بالندى ولع
أبو الشمقمق:
الجود أفلسهم وغيّر حالهم ... واليوم إن سئلوا النوال تمحلوا
وسأل رجل آخر شيئاً فاعتذر إليه فقال السائل: العذر صادق مع النية الجميلة يقومان مقام النجح.
أنواع مختلفة من باب الجود:
ابن الرومي:
يعطي وينمي الله أمواله ... والبحر لا ينضبه النزح
ومما روي في الخبر: إن لله ملائكة تنادي كل صباح ومساء: اللهم اجعل لمنفق خلفاً ولممسك تلفاً.
البحتري فيمن سامحه بخراجه:
وكنت إذا ما رمت عندك حاجة ... على كند الأيام هان علاجها

فلم لا أغالي بالضياع وقد دنا ... علي مداها واستقام اعوجاجها
إذا كان لي تربيعها واغتلالها ... وكان عليه عشرها وخراجها؟
وقال شرحبيل للرشيد: أعطني عطية تشبهك أو تشبهني. فقال: فوقك ودوني؛ فأولاه مالاً. والعطايا تختلف أسماؤها: فالحذياء للمبشر، والحذية للعدل، والبسلة للراقي، والحلوان للكاهن، والنشوع للساحر، والزبد للدلال، والشبر للنكاح، والعزير ثمن المرعى، والجعل للشرط.

مما جاء في البخل بالأموال
حقيقة البخل:
سئل الحسن رضي الله عنه عن البخل فقال: هو أن يرى الرجل ما أنفقه سرفاً وما أمسكه شرفاً. وقال آخر: البخل جلباب المسكنة. وقيل للأحنف: ما اللؤم؟ فقال: الاستفضال على الملهوف. فقيل: وما الجود؟ فقال: الاحتيال للمعروف.
ذم البخل وتعظيمه على كل الذنوب:
قيل لإبليس: من أحب الناس إليك؟ فقال: عابد بخيل. قيل: فمن أبغض الناس إليك؟ قال: فاسق سخي فينجيه سخاؤه. وقيل: من بخل بمال في واجب ذهب ضعفه في باطل. وقيل: السخي حر لأنه يملك بماله، والبخيل لا يستحق اسم الحرية لأنه يملكه ماله. وقال بشر بن مروان: لو أن أهل البخل لم ينلهم من بخلهم إلا سوء ظنهم بربهم في الخلف لكان عجيباً. وقيل: أعجب ما في البخيل أنه يعيش عيش الفقراء ويحاسب حساب الأغنياء.
شاعر:
إن البخيل فقير غير مأجور
الديسق اليربوعي:
إذا ذو المال ضنَّ بما لديه ... وأشفق فهو محتاج فقير
كثرة البخل وقلة الجود في الناس:
لما قال أبو العتاهية:
اطرح بطرفك حيث شئت فلن ترى إلا بخيلا
قيل له: بخلت الناس كلهم. فقال: كذبوني بواحد! كشاجم:
اجتنب الناس طريق الندى ... كأنما قد أنبت العوسجا
وهذا مأخوذ من قول بعضهم وقد سمع رجلاً يقول: تجنب الناس طريق الندى؛ فقال: ذاك طريق نبت فيه العوسج.
ببغا:
أكل وميض بارقة كذوب ... أما في الدهر شيء لا يريب؟
وشاع البخل في الأشياء حتى ... يكاد يشح بالريح الهبوب
فكيف أخص باسم العيب شيئاً ... وأكثر ما أشاهده معيب؟
ابن نباتة:
كيف السبيل إلى الغنى ... والبخل عند الناس فطنة؟
معاتبة من يرجو لئيماً:
قيل: من أمل فاجراً فأدنى عقوبته أن يحرمه. وسأل أعرابي رجلاً فحرمه فقال له أخوه: نزلت بواد غير ممطور ورجل غير مسرور، فارتحل بندم أو أقم بعدم. ذم العباس بن الحسين بعض الوزراء فقال: الذليل من اعتز بك، والخائف من اعتزى إليك، والفقير من أمّلك، وقيل: كدمت غير مكدم نفخت لو تنفخ في فحم، هيهات تضرب في حديد بارد. وقال رجل: إني أقصد فلاناً راجياً نداه، فقال له صاحبه:
ترجو الندى من إناء قلما ارتشحا ... كالمستذيب لشحم الكلب من ذنبه
أبو العتاهية:
وإن من يرتجي نداك كمن ... يحلب تيساً من شهوة اللبن
بعضهم:
أمن دار الكلاب تروم عظماً؟ ... لقد حدثت نفسك بالمحال
إسمعيل القراطيسي:
لقد أحللت حاجاتي ... بواد غير ذي زرع
وقال أبو تمام:
ومالي من ذنب إلى الرزق حلته ... سوى أملي إياكم للعظائم
ونحوه:
سجدنا للقرود رجاء دنيا ... حوتها دوننا أيدي القرود
فما بلت أناملنا بشيء ... علمناه سوى ذل السجود
المتنبي:
تظن ابتساماتي رجاء وغبطة ... وما أن إلا ضاحك من رجائيا
من لا ينال خيره ولا يرجى فضله:
قال الصاحب بن زرارة في أخيه صاعد: هو والله ليس برطب فيعصر ولا بيابس فيكسر، ما عند خل ولا خمر، سواء هو والعدم. وكان عبد الملك يقال له رشح الحجر لبخله. وشاتم أعرابي رجلاً فقال: إنكم لتقصرون العطاء، وتعيرون النساء، وتبيعون الماء! ما عنده فائدة ولا عائدة ولا رأي جميل ولا إكرام دخيل. وقالت امرأة لزوجها: والله ما يقيم الفأر في دارك إلا حب الوطن. وقيل في رجل: بئس منتجع المجدب.
شاعر:
وبحر السراب يفوت الطلاب ... فقل في طلابك جئنا به
المتنبي:
ولا يدر على مرعاكم اللبن
أبو هفان:
سواء إذا ما زرتهم في ملمة ... أزرتهم أم زرت من في المقابر!

وقيل لأبي العيناء: كيف وجدت فلاناً لما قصدته؟ قال: وجدته لا يعود إليه حر! وقصد رجل سلطاناً فلما رجع قيل له: ما ولاك؟ فقال: ولاني قفاه وأولاني منعه وحماني نفعه.

من تأبى نفسه السماحة:
شاعر:
يعالج نفساً بين جنبيه كزة ... إذا هم بالمعروف قالت له: مهلا!
آخر:
كأنما يعطيك من بصره
سعيد بن عبد الرحمن:
أبى لك فعل الخير رأي مقصر ... و نفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثته على الخير مرة ... عصاها، وإن همت بشر أطاعها
المتلقي سائله بلفظ المنع:
قيل: فلان مشجب من أي النواحي أتيته وجدت لا. وقال عمرو بن عبيد لرجل قد أكثر من لا: أيها الرجل أقل من لا فليس في الجنة لا. قال أعرابي: وجدت فلاناً أخرس بنعم فصيحاً بلا.
بخيل متكبر:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق. قال خلف الأحمر:
إناس تائهون لهم رواء ... تغيم سماؤهم من غير وبل
وقيل: رب صلف تحته راعدة.
وقال:
أتجمع بخلاً فاحشاً وتكبراً ... وما جر ذماً كالتكبر والبخل
فلو كان عفى البخل منك تواضع ... أو الكبر جود كنت من ذاك في وعل
وقد تقدم بعض ذلك في الكبر.
من عادته البخل:
قيل: لثمامة: أي الناس أبخل؟ فقال: لم أر الديكة في بلد إلا تأخذ بمناقيرها ما تلتقطه فتلقيه قدام الدجاج الا ديكة مرو فإنها تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحبوب، فعلمت أن البخل في طباعهم. وقال بعضهم: من لم يأت الخير صغيراً لم يأته كبيراً. أما سمعت قول الشاعر:
إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً ... فمطلبها كهلاً عليه شديد
ابن العميد:
البخل مستحسن في شيمة الخوز
ذم من لا يعطي إلا على الخسف:
قال أبو نعامة: جل الناس لا ترشح أناملهم إلا بعسف وعنف. هذا محمد بن علي بن عصمة صرت إليه أطواراً أقتضيه، فكان يعد ويماطل، فأتيته يوماً فقلت: أتسمع بيتاً حضر؟ قال: هات فقلت:
محمد بن علي بن عصمة بن عصام
فقال: هذه نسبتنا؟ فقلت:
جليل فضل كريم ... من أهل بيت كرام
فقال: أحسنت! فقلت: أتسمه بيتاً أم تنجز الوعد؟ فقال: غداً فقلت: فاسمع:
لكنه مستهام ... بأخذ أير الغلام!
فقال: آه آه! ويلك يا غلام، أعطه وأرحنا منه.
بعضهم:
العبد لا يطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا رهبا
مثل الحمار الموقع الظهر لا ... يحسن مشياً إلا إذا ضربا
آخر:
رأيتك مثل الجوز يمنع خيره ... صحيحاً ويعطي نفعه حين يكسر
شاعر:
صاحب لي ليس فيه ... خصلة أشكرها له
سمجاً شخصاً ومخبو ... راً وتفصيلاً وجملة
ومريداً من جفاه ... ومهيناً من أذله!
بخيل أعطي عطية لطمع:
قيل لأعرابي: أعطاك فلان؟ فقال: نعم أعطاني طلب الثواب، وصانع المعروف لعاجل الجزاء كملقي الحب للطير ليصيده به لا لينفعه، ومن هنا أخذ المتنبي تعريضاً بكافور:
ومن قد ظن نثر الحب جوداً ... وينصب تحت ما نثر الشباكا
المصطنع إلى الأراذل دون الأفاضل:
ابن الرومي:
تنبه للأنذال يرفع أمرهم ... وأصبح عن أهل المروءة ساهيا
آخر:
صنائعه لدى الأنذا ... ل تنبي أنه سفلة
آخر:
وابن اللئيمة للئام وهوب
بخيل متشبه بالأسخياء:
كان لبعض الموسرين أخ لا يواسيه فقيل له: لو واسيت أخاك كان أشبه بك من هذا البخل الذي استشعرته، فقال: والله ما أنا ببخيل، لو ملكت ألف ألف لوهبت له الساعة خمسمائة درهم، ثم التفت إلى القوم فقال: يا قوم رجل يهب لأخيه في مجلس واحد خمسمائة درهم يقال له بخيل؟ قالوا: لا والله أنت أجود من يمشي على قدم! جحظة:
وممخرق يصف السما ... ح ونفسه نفس بخيلة
وقيل للماجشون: كيف رأيت أهل العراق؟ فقال:
ما شئت من رجل بخيل ... يأوي إلى عرض دخيل
يأتي الجميل بقوله ... وفعاله غير الجميل
المتعجب من بخيل سمح وقتاً بطفيف:

تعجبت لما ابتدا بالجميل ... وما كان يعرف فعل الجميل
فأطلع لي كوكباً كالسهى ... قليل الضياء سريع الأفول
وما كان إعطاؤه سؤدداً ... ولكنها غلظة من بخيل
قال الخليل بن أحمد في سليمان وقد ذكر له إنسان أنه جاءه فأعطاه شيئاً:
وخصلة يكثر الشيطان إن ذكرت ... منها التعجب جاءت من سليمانا
لا تعجبن لخير جاء من يده ... فكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا
أبو تمام:
ربما أمكنت جناها السحوق
الموسوي:
ومبخل أعطى القليل وربما ... سمحت حروف التاء للتمتام

من أعطى للتهور:
شاعر:
لا تمدحن حسناً في الجود إن مطرت ... كفاه يوماً ولا تذممه إن رزما
فليس يبخل إبقاء على نشب ... ولن يجود بفضل المال معتزما
لكنها خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرماً
رد عطية خسيسة:
قصد أعرابي أبا الغمر فسأله فأعطاه درهمين فردهما إليه ثم قال:
رددت لبحر درهميه ولم يكن ... ليدفع عني فاقتي درهما عمرو
فقلت لبحر: خذهما واصطرفهما ... وأنفقهما في غير حمد ولا أجر!
أتمنع سؤال العشيرة بعدما ... تسميت بحراً، واكتنيت أبا الغمر
وكان ربيعة مدح العباس بن محمد بقوله:
لو قيل للعباس: يا ابن محمد ... قل لا، وأنت مخلد، ما قالها
فأعطاه بعد مطل كثير دينارين، فوهب ربيعة ذلك لصاحب دواته وقال: خذ هذه الرقعة وأوصلها وكتب فيها:
مدحتك مدحة السيف المحلى ... لتجري في الكلام كما جريت
فهبها مدحة ذهبت ضياعاً ... كذبت عليك فيها وافتريت
وصف غني لا يعطي ولا ينفق:
قيل: فلان سمين المال مهزول النوال. وقيل: بطر الدعة بخيل السعة. وقيل لجعفر بن محمد: أن منصوراً لا يلبس منذ صارت الخلافة إليه إلا الخشن ولا يأكل إلا الخشن. فقال: ويحه مع ما يكون له من السلطان وجبي له من الأموال؟ قال إنما يفعل ذلك بخلاً. فرفع يده إلى السماء فقال: الحمد لله الذي حرمه من دنياه ما ترك من أجله دينه. وقيل: إنه كان أعد اثني عشر ألف عدل من الثياب، فأخرج يوماً ثوب خز وقال: يا ربيع اقطع منه جبة لي وقلنسوة، وبخل أن يأتي بثوب آخر. فلما أفضت الخلافة إلى المهدي أنهبها الغلمان.
البسامي:
لقد أوتيت من ملك عظيم ... فلما آتيت إنساناً فقيرا
آخر:
ولو يكون على الخزان يملكه ... لم يسق ذا غلة من مائه الجاري
آخر:
ألا ليت شعري آل خاقان هل لكم ... إذا ما سلبتم نعمة الله ذاكر؟
فأما وأنتم لابسون ثيابها ... فما لكم، والحمد لله، شاكر!
المؤداد بالثراء بخلاً:
أحسن ابن الرومي في قوله:
إذا غمر الماء البخيل وجدته ... يزيد به يبساً، وإن ظن يرطب
وليس عجيباً ذاك منه فإنه ... إذا غمر الماء الحجارة تصلب
وكان ذلك مما روي في الخبر أن الله إذا سأله عبد شيئاً يقول: خذه وضعفيه حرصاً.
ابن الحجاج:
أناس كلما ازدادوا علاء ... تناهوا في نفوسهم استفالا
فلان لا تندى أنامله، ولا ترجى فواضله، ألين من كفيه الحجر، وهو نزر العرف جامد الكف:
كأنما خلقت كفاه من حجر ... فليس بين يديه والندى عمل
آخر:
وهل للصفا العادي ماء إذا عصر
هو نكد الحظيرة أي مانع لما في يديه: شاعر:
لو عبر البحر بأمواجه ... في ليلة مظلمة بارده
وكفه مملوءة خردلاً ... ما سقطت من كفه واحدة
البحتري:
جدة يدور البخل عن أطرافها ... كالبحر يدفع ملحه عن مائه
الفرزدق:
فتى ماله كالبحر يمنع صادياً ... من الري منه وكدره أجاجه
الزبرقان:
طوى كل معروف وأحضر دونه ... عقارب أخشى لسعها وأفاعيا
الراجع في هبته والقاطع لصلته:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: الراجع في هبته كالعائد في قيئه. وهذا مما يستدل به على تحريم الرجوع في الهبة بأنه حرام، كما أن أكل المتقيأ حرام.
ابن الرومي:

لا تكن كالدهر في أفعاله ... كلما أعطى عطاياه رجع
البحتري:
أعطى القليل وذاك مبلغ قدره ... ثم استرد وذاك مبلغ رأيه
وأجرى بعض الكبار على أعرابي شيئاً ثم قطعه عنه فقال فيه:
إن الذي شق فمي ضامن ... لي الرزق حتى يتوفاني
حرمتني نفعاً قليلاً فما ... زادك في نفعك حرماني
ابن هرمة:
كممكنة من درها كف حالب ... ودافقة من بعد ذلك ما حلب

السالب مستعطيه:
قيل في المثل: طلب القرن فجدعت أنفه.
بشار:
فصرت كالهبتي غدا يبتغي ... قرناً فلم يرجع بأذنين
وقيل:
سقط العشاء به على سرحان
آخر:
كمبتغي الصيد في عريسة الأسد
الصائن ماله بعرضه والممنوع من سؤاله:
قيل: أبخل الناس بماله أجودهم بعرضه. من صان نفسه أهان فلسه. وقيل: كان جحا إذا جلس كشف أسته ورفع عنه ثوبه، فقيل له في ذلك فقال: جلدة الأست أبقى من الثوب. وهذا نحو المثل: ابق نعليك وابذل قدميك.
أبو تمام:
أضحوا بمستن سبل الذم فارتفعت ... أموالهم في هضاب المطل والعلل
ابن الرومي:
لا تطالبه بالثواب فما رز ... ء ثواب من مثله بحلال
المقتر على نفسه والتارك لشهوته:
قال الشاعر:
ولو يستطيع لتقتيره ... تنفس من منخر واحد
آخر:
يحب المديح أبو خالد ... ويفزع من صلة المادح
كبكر تود لذيذ النكاح ... وتخشع من صولة الناكح
الضنين بمال غيره والسمح به:
قيل فلان يمنع دره ودر غيره. الحر يعطي والنذل يألم قلبه. وقيل: البخيل يمنع ماله ويغضب على الجواد إذا رأى ابتذاله.
أبو تمام:
وإن امرأ ضنت يداه على امرىء ... بنيل يد من غيره لبخيل
آخر:
سبط البنان بما في رحل صاحبه ... جعد البنان بما في رحله قطط
الموصوف بالسكوت عند السؤال:
قال بعضهم: فلان مرتز نكد كز.
بعضهم:
كأنهم عند السؤال جلامد
آخر:
إن اللئيم إذا سألت بهرته ... عند السؤال وقل منه المنطق
وأتى بعض الشعراء رجلاً فسأله، فما زاده على التنحنح والتحوقل فقال:
فلا حول إلا بالإله وقوة ... إذا قلتها دلت على طرق البخل
وإني لأرجو أن أفوز بأجرها ... كما قلتها بعد التنحنح من أجلي
الحزين الهارب مخافة أن يسأل:
بعضهم:
مخافة أن يرجى نداه حزين
جحظة:
إذا ذكر الناس التطول أرعدت ... فرائصه خوفاً لذكر التطول
بشار:
إذا سلم المسكين طار فؤاده ... مخافة سؤل واعتراه جنون
قيل: فلان يبغض نعمة الله عليه مخافة أن يستماح.
المتلقي عافيه بقطوب وجهه:
ذم أعرابي رجلاً فقال: رآني فخالني في نداه راغباً ولجدواه طالباً، فقرب من حاجب حاجباً.
كأنما وجهه بالخل منضوح
وقيل لامرأة: كيف وجدت فلاناً لما اعتفيته؟ فقالت:
تلقاني بوجه مكفهر ... كأن عليه أرزاق العباد
آخر:
وعنون لي اطراقه عن قطوبه
آخر:
طعم الندى عندهم حامض
شاعر:
كالح الوجه كأن مص حماضاً ... وسما تعبيسه ذوق حماض
أصل ذلك من قول الأعشى:
يزيد بغض الطرف دوني كأنما ... زوى بن عينيه علي المحاجم
المتلقي عافيه ببشاشة من غير جدوى:
قيل لرجل: ما رأيت من فلان؟ فقال برقاً بلا مطر، وورقاً بلا ثمر، وجه كريم وفعل لئيم! وقال أبو العيناء لعبيد الله بن سليمان: أيد الله الوزير! لي منك قرب الولي وحرمان العدو.
ابن الرومي في معاتبة بعض الرؤساء:
لولا الثمار التي ترجى منافعها ... ما فضل الناس تفاحاً على غرب
ولجحظة:
وبأحسنت لا يباع الدقيق
أبو العتاهية:
إن السلام وإن الرد من رجل ... في مثل ما أنت فيه ليس يكفيني
المعتذر إلى سائله ببشاشة من غير جدوى:

سأل أبو العيناء رجلاً شيئاً فاعتذر إليه وحلف أنه صادق في اعتذاره، فقال: من كان الصدق حرمان صديقه ماذا يكون كذبه؟ وسأل رجل آخر فاعتذر بأحسن اعتذار فقال: يعبر عن اللئيم لسانه وعن الكريم فعاله. واعتذر آخر فقال السائل: إن كنت كاذباً فجعلك الله صادقاً، وإن كنت معتذراً فجعلك الله معذوراً، وهذا مأخوذ من قول لآخر: لا جعل الله حظ السائل منك عذرة صادقة.
الجريمي:
لا ينهضون إلى مجد ولا كرم ... ولا يجودون إلا بالمعاذير

الملحف إذا سأل الحارم إذا سئل:
قال أعرابي: فلان إذا سأل الحف، وإذا سئل سوَّف، وإذا حدَّث حلف، وإذا وعد أخلف، ينظر نظرة الحقود ويعتذر اعتذار الحسود. وقيل: إذا سئل أقنط وإذا سأل أفرط. آخر: لم أر أحصر يداً منه بالنوال، ولا أطول لساناً منه بالسؤال، إن سئل فجحد، وإن سأل فحرب، إن سئل أرز وإن سأل انتهز، هو بالإنجاح إذا سأل واثق، وبالرد إذا سئل حاذق.
شاعر:
وأخ إن جاءني في حاجة ... كان بالإنجاح مني واثقا
وإذا ما جئته في مثله ... كان بالرد بصيراً حاذقا
يعمل الفكرة في ردي بها ... قبل أن أفرغ منها ناطقا
وممن تلطف لرد سائل: كان لسعيد بن خالد قصر بازاء قصر عبد الملك فقال له عبد الملك: إن لي إليك حاجة. فقال: مقضية. قال: اجعل لي قصرك. قال: هو لك. فقال عبد الملك. فلك خمس حاجات مقضية. فقال سعيد: أولها أن ترد علي قصري! قال: فعلت فما بعد ذلك؟ قال: أنت في حل من الأربع. وقال رجل لآخر: إن لي إليك حاجة. قال: بشرط أن تقضي قبلها لي حاجة. فقال: لك ذلك! قال: حاجتي أن لا تسألني حاجة. قال: قد فعلت.
من رد سائله بشتم أو سفاهة:
سأل أعرابي شيخاً من بني أمية وحوله مشايخ فقال: أصابتنا سنة ولي بضعة عشر بنتاً فقال الشيخ: وددت أن الله ضرب بينكم وبين لشماء صفائح حديد، فلا تقطر عليك قطرة وأضعف بناتك أضعافاً، وجعلك بينهن مقطوع اليد والرجل ما لهن كاسب سواك، ثم صفر بكلب له فشد عليه وقطع ثيابه فقال السائل: ما أدري ما أقول ذلك! إنك لقبيح المنظر سخيف المخبر، فأعضك الله ببظور أمهات من حولك. ودخل رجل إلى محمد بن عبد الملك فقال: لي بك سببان: الجوار وسوء الحال، وذلك داع إلى الرحمة. فقال: أما الجوار فبين الحيطان، والرحمة من أخلاق الصبيان، أخرج عني! فما مضى عليه أسبوع حتى نكب.
ذم من ينسب بخل نفسه إلى القدر:
خطب معاوية ذات يوم فقال: إن الله تعالى يقول: وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم، فلم نلام نحن؟ فقام إليه الأحنف فقال: إنا والله ما نلومك على ما في خزائن الله تعالى، ولكن نلومك على ما أنزل الله علينا من خزائنه فأغلقت بابك دونه، فسكت معاوية. وقال بعض الشعراء:
إذا أعطاك قصر حين يعطي ... وإن لم يعط قال: أبى القضاء!
يبخّل ربه سفهاً وجهلاً ... ويعذر نفسه فيما يشاء
المحسن للبخل المحتج به:
قيل لخالد بن صفوان: ما لك لا تنفق ومالك عريض؟ قال: الدهر أعرض منه. قيل له: كأنك تؤمل أن تعيش أبداً. قال: لا ولا أخاف أن أموت في أوله. قال الجاحظ: قلت لبعض الأغنياء البخلاء أرضيت أن يقال لك إنك بخيل؟ قال: لا أعدمني الله هذا الاسم لأنه لا يقال بخيل إلا لذي مال، وادعني بما شئت من الأسماء. من وهب ماله في عمله فهو أحمق، ومن وهبه في عزله فهو مجنون. وقيل لأبي الأسود: أنت ظرف علم ووعاء حلم غير أنك بخيل! فقال: وما خير ظرف لا يمسك ما فيه؟ وقيل: من لم يمنع لم يكن له ما يعطي. قال: وللبخل خير من سؤال بخيل. وقيل: الشحيح أعذر من الظالم. وقال المنصور: الناس يزعمون أني بخيل وما أنا ببخيل، ولكني رأيت الناس عبيد المال، فحظرت ذلك عليهم ليكونوا عبيدي. وعمل سهل بن هارون كتاباً في مدح البخل وأهداه إلى الحسن بن سهل، وطلب منه ثواباً، فوقع على ظهره: قد جعلنا ثوابك ما حسنته وأمرت به.
الموسوي في عذر فاضل بخيل:
لاغرو إن كنت حراً لا تفيض ندى ... فالبحر غمر ولكن ليس بالجاري
ذم ممتن بالإعطاء:
قيل: المنة تهدم الصنيعة. وقيل لأعرابي: فلان يزعم أنه كساك. فقال: المعروف إذا من به كدر، ومن ضاق قلبه اتسع لسانه. وقيل لآخر في المعروف إذا أحضى. قال:

إن الذين يسوغ في أعناقهم ... طعم يمن عليهم للئام
آخر:
أفسدت بالمن ما قدمت من حسن ... ليس الجواد إذا أسدى بمنان
وقيل لرجل: هل لك في ندى فلان؟ فقال: لا خير في تمرة مقترنة بزنبور:
ومن ذا الذي يلتذ شهداً بعلقم ... أبت لهواتي ذاك والشفتان
وقيل: شوى أخوك حتى إذا أنضج رمد. وقول الله تعالى: " ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله " . قال: فتقديره يقولون إنما نطعمكم، قال مجاهد: لم يكن ذلك منهم مقالاً وإنما أخبر عما كان لهم اعتقاداً. دعا المنصور طبيباً للخيزران، وكانت قد اشتكت عينها، فقال: إن هذه في عينها شوكة سنبل، فانتزع من عينها فإذا هو شيء طار من السنبل ولصق بعينها، وتراكبت إلا كحال التي تعالج بها فزال الألم في الوقت، فأعطاه عشرة آلاف درهم، فلما دفعها إليه ندم فأوصاه فقال: احفظها فإنها مال له خطر. فقال: نعم وفارقه فاسترده وقال: إياك أن تنفق منها شيئاً حتى تنفق ضيعة تشتريها بها. فقال: نعم. وفارقه ثم استرده فأوصاه فقال: إن رأيت يا أمير المؤمنين فاختمها بختمك حتى ألقاك بها يوم القيامة على الصراط بختمك. فضحك وخلاه.

النهي عن الإمتنان:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إياكم والإمتنان بالمعروف، فإن ذلك يبطل الشكر ويمحق الأجر، ثم تلا قول الله تعالى: " لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " . وقيل: تمام البذل ترك المن. وقال بعضهم: لا تمنن بالمعروف فالمعروف إذا ذكر كدر، وإذا أنسي أمر. تعداد المنة من ضعف المنة. وقيل: المنة تهدم الصنيعة وتسترد النعمة، فنزه منتك عن الإمتنان. وسأل رجل آخر حاجة فجعل يؤنبه فقال: أترى أن تقيم ترك التأنيب مقام قضاء الحاجة؟
أنواع منه:
المتنبي:
وما كل بمعذور ببخل ... ولا كل على بخل يلام
نصيب الصغير:
متى يجتمع يوماً حريص ومانع ... فليس إلى حمد هناك سبيل
آخر:
ولو عليك اتكالي في الطعام إذاً ... لكنت أول مدفون من الجوع!
أحقر الناس البخيل لكي يستغنوا عن ماله. وسأل ابن عباس إنساناً حاجة فرده فقال: أبوك لم يرد حاجة أحد جوداً، كان قد أتاه قوماً يستعيرون كلباً لينزوه على كلبتهم فقلا: لا ينزو عليها غيري إيجاباً لكم! وقيل: أتاك ريان بلبنه إذا أعطى ما يفضل منه.
أبو علي المحمودي:
أعز علي من أبوي عندي ... ومن نفسي أعز علي فلسي
فلولا الفلس هنت على صديقي ... ولم تكرم على الأطماع نفسي
وله:
ومت على الدرهم المنقوش موت فتى ... يرى الممات عليه أكرم الكرم
لولا غناك لكنت الكلب عندهم ... فإن أبيت فجرب وأشق بالندم
آخر:
لا لوم في القصد على ذي حبا ... يكرم ما يكرم من أجله
آخر:
لا أحسبنك بعد الموت تنفعني ... وفي حياتي ما زودتني زادي
ومن أمثالهم:
لأي يوم يخبأ المرء السعة
آخر:
إذا فات في الدنيا الذي بك أرتجي ... فنفعك عني في المعاد قليل
محمد بن يزيد كتبه إلى من استعان به في أمر فلم يجد عليه:
أترضى لي بأن أرضى بتقصيرك في أمري؟
لعل الله أن يصنع لي من حيث لا تدري
فألقاك بلا شكر وتلقاني بلا أجر!
الحد العاشر
في الأطعمة
مما جاء في أوصاف الأطعمة
الخبز:
قيل: الخبز يسمى جابر أو عاصم بن حبة. كما قيل: التمر بنت نخيلة. وقال أعرابي عير بعمل تعاطاه:
فلا تلوماني ولوما جابراً ... فجابر كلفني الهواجرا
وقيل لأعرابي: الخبز أحب إليك أم التمر؟ فقال: التمر طيب وما عن الخبز صبر. وقيل لبعضهم: ما طعم الخبز؟ قال: طعم أدامة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أكرموا الخبز فإن الله تعالى: سخر له ما في السموات والأرض.
السويق:
عاب عائب السويق عند الطفاوية، وكانت امرأة أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تفعل فإن السويق طعام المسافر والعجلان والحزين والسمنة والنفساء والمريض. وقيل: هو يرفو الضعيف ويشد فؤاد السقيم وفقاره، ويجلو البلغم ومسمونه يصفي الدم، إن شئت كان ثريداً وإن شئت كان خبيصاً.

حمد اللحم وذمه:
قيل: أطيب اللحم عوده أي ما عاد منه بالعظم. وقيل: اللحم أقل الطعام نجواً. وقيل: من لم يأكل اللحم أربعين يوماً نقص عقله. وقيل: من تركه أربعين يوماً ساء خلقه. وقال بعض الأطباء: عجباً لمن أكله الخبز واللحم وشربه ماء الكرم ثم اقتصد في تناولها كيف يموت؟ واستقبل عمر رجلاُ ثلاثة أيام على الولاء وقد اشترى لحماً فعلاه بالدرة وقال: إن الله تعالى يبغض قوماً لحميين، عاقب بين اللحم وغيره. وقيل: إياكم وهذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر. وقال المسيح: ألحم تأكل لحماً؟ أف لهذا عملاً! وسئل بعض الرهبان عن تركه أكل اللحم فقال: إنا رأينا الغوائل تتولد من أكل اللحم، ألا ترى أن أكلة اللحم من السباع هي أشد ضرراً من أكلة الحشيش؟
السكباج والزيرباج:
يقال للسكباج الخلية والمخللة والشمقمقة، والصفصاف لغة ثقيف، وسموه أم القرى. ولم يكن يطلق السكباج أن يطبخ في أيام الفرس إلا بخاتم من الملك. وسئل بعضهم عنه فقال: إنه يشفي العرم ويفتق الشهوة، ويقدم في الثرائد وتزين به الموائد، تجيدها الخاصة ولا تغلط فيها العامة قال الحجاج لطباخه: اتخذ لنا صفصافة وأكثر فيجنها. فلم يدر الطباخ ما عناه فسأل ابن القرية فقال: اتخذ سكباجة وأكثر سدابها. وقال المنصور يوماً لحظية له: إلى كم نأكل السكباج؟ يعرض بها. فقالت: يا أمير المؤمنين هو مخ الأطعمة لا يمل حارها ولا يكره باردها. فاستحيا منها.
عبد الملك بن محمد بن إسماعيل:
وسكباجة تشفي السقام بطيبها ... على أنها جاءت بلون سقيم
إذا زارها أيدي الرجال تزاحمت ... كأيدي نساء في ظلال نعيم
بعضهم:
فتنتنا بريحها السكباجه ... فتركنا من أجلها ألف حاجة
وأكل أعرابي القريش فقيل له: ما أكلت؟ قال: الفالوذج ألا إنكم هضمتموه بعد.
بعضهم:
قدم طاهيك زيرباجه ... وهي على الدهر خير باجه
صبيغة الزعفران تحوي ... أطايب الفرخ والدجاجه
وقدم إلى طفيلي سكباجة بلا زعفران فقال: ما لها خرجت متفضلة بلا لباس.
الثريد:
قيل لأعرابي: أي الطعام أطيب؟ فقال: ثريدة دكناء من الفلفل رقطاء من الحمص ذات حفافين من الصبغ لها جناحان من العراق، أضرب بها ضرب الولي السوء في مال اليتيم! حسان:
ثريد كأن السمن في جنباته ... نجوم الثريا أو عيون الضياون
قال الأصمعي: قلت لأعرابي هل لك في ثريدة؟ قال: نعم.
ثريدة محمومة في صفحة مكمومة
قد ألحفت رقاقا وكللت عراقا
المرق:
قيل: المرق أحد اللحمين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا طبخ أحدكم اللحم فليستكثر من المرق، فمن عدم اللحم أكل المرق فهو أحد اللحمين. قال: وأكثر الشرب إن لم يكن يكثر اللبن.
وأهدى صالح بن عميرة إلى سعيد بن سلم جوذابة فكتب إليه:
بعثت إلي بجوذابة ... فأين التي جاء جوذابها؟
فقال لابن أخيه: أجبه فكتب إليه:
بعثنا إليك بجوذابة ... وحاز الإوزة أصحابها
الشواء:
ابن الرومي:
وسميطة صفراء دينارية ... ثمناُ ولوناُ زفها لك حزور
ظلنا نقشر جلدها عن لحمها ... فكأنك تبراً عن لجين يقشر
ويقاربه في صفته:
شديد اصفرار الكشيتين كأنما ... يطلى بورس بظنه وشواكله
ابن طباطبا:
إن أنس لم أنس قبل الحشر مائدة ... ظلنا لديك بها في أشغل الشغل
إذ أقبل الجدي مكشوفاً ترائبه ... كأنه متمط دائم الكسل
قد مد كلتا يديه لي فأذكرني ... بيتاً تمثلته من أحسن المثل
كأنه عاشق قد مد بسطته ... يوم الفراق إلى توديع مرتحل
وقدم إلى بعضهم جدي خشب لم ينضج فقال: كأنه شريحة من قصب.
ابن طباطبا يذمه:
قد أتينا به عواري ضلوع ... هي في الوصف والمدار سواء؟
حار فهمي فلست أدري أمدرا ... ة بدت أم شريحة أم شواء؟
وقدم لأبي علي القسري مرة شواء غير نضيج فقال: هذا لا تعمل فيه العوامل. وقال بعض القدماء في سفود عليه لحم:
وذي شعب شتى كسوت فروجه ... بغاشية يوماً مقطعة حمرا

وينشد في غير النضيج عبدة بن الطيب:
لما نزلنا رفعنا ظل أخبية ... وفاز للحم بالقول المراجيل
ورداً وأشقر لم ينهبه طالبه ... ما غير القلي منه فهو مأكول

القديد:
حمل إلى أعرابي لحم مقدد صلب فقال: ما هذا لحم مقدد بل حبل ممدد.
البيض والعجة:
ابن أبي البغل:
وصف على الكانون بيض كأنه ... فرائد در سُل من صدف البحر
كما اصطف أرجاء الندي وصائف ... على دستبيد قد تملى من الخمر
أكل بعضهم بيضاً مع سلطان يأكل الصفرة ويؤثره بالبياض فقال الرجل: سقى الله العجة ما أعدلها. وكتب منصور الفقيه إلى جار له يستدعي منه بيضاً لابنه:
لأبي الفضل إذا هم بما يهوى لجاجه
فله عندك مطلو ... ب ومأمول وحاجه
درة ليست من البحر ولكن من دجاجه
البرزماورد:
قيل: البرزماورد نرجس الموائد. وقد أحدثته الفرس في بعض الحروب واستخفوا حمله في المعازل وسموه رزماورداي. هو طعام أفاده الحرب ثم قيل بزم أورد، وقيل سمي زماورد، وسمي المهيأ والميسر. قال الشاعر:
كل الميسر من راسين يا سكني ... لا يستطاع ولا سيفان في غمد
البقل:
قال أبو نواس: مائدة بلا بقل كشيخ بلا عقل، ومجلس بلا ريحان كشجرة بلا أغصان.
الخل: قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم الادام الخل. وقال: ما أفقر بيت
فيه خل.
الأرز:
كان الحسن بن سويد يأكل مع المأمون، فقد الأرز فقال: الأرز يزيد في العمر. فقال المأمون: كيف؟ فقال: ذكر أطباء الهند أن الأرز يري المنامات الحسنة، ومن رأى مناماً حسناً كان في نهارين، فاستحسن المأمون منه ذلك، وجرى ذكر البهطة في مجلس إبراهيم التيمي القاضي فقال رجل حضر لإقامة شهادة: ما هو؟ فقيل: الأرز باللبن. فقال: لا أشتهيه. فسكت ثم قال: وما أظن عاقلاً يشتهيه. فقال إبراهيم: أما الأولى فقد احتملناها، وأما الثانية فلا محتمل عليها، فأخر شهادته. وكان بعض شعراء الزمان عند عضد الدولة فقدم البهطة فقال: صفها. فعجز عن ذلك فقال عضد الدولة:
وبهطة تعجز عن وصفها ... يا مدعي الأوصاف بالزور
كأنها في الجام مجلوة ... لآلىء في ماء كافور
آخر:
ولست أحب الرز إن قل طبخه ... فكيف أحب الرز وهو مسخن؟
الطباهجة:
ابن الرومي:
طباهجة كأعراف الديوك ... تروق العين من شرط الملوك
هلم إلى مساعدتي عليها ... فلست لمثل ذلك بالتروك
الهريسة:
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن نبياً من أنبياء الله تعالى شكا ضعفاً في بدنه، ووجعاً في صلبه، فأوحى الله تعالى إليه أن أطبخ اللحم بالبر وكل، فإني قد جعلت القوة فيهما.
ابن الرومي:
هلم إلى من عذبت طول ليلها ... بأضيق حبس في تنور تعذب
وقد ضربت حدين وهي بريئة ... فقوموا إلى دفن الشهيدة تؤجروا
وقيل: الهريسة أوطأ فراش هيىء لنبيذ.
وللخوارزمي:
هل تنشطون لتنورية خنقت ... من أول الليل حتى قلبها يجف
كأنها وهي فوق الجام قد غرقت ... في دفنها قمر بالشمس ملتحف
أو درهم فوقه الدينار منطبق ... أو لوح عاج على الزدياب مكتنف
أبو طاهر المأموني:
در نثير اسلاكه قطع ... في ماء ورد وصندل نقعا
الرؤس:
كان الثوري يعجب بالرؤس، ويسميها مرة عرساً لما تجمع من الألوان المختلفة الطيبة، ومرة الجامع ومرة الكامل ويقول: هو شيء واحد ذو ألوان عجيبة وأطعمة مختلفة. وقيل لأعرابي: تحسن أكل الرؤوس؟ فقال: نعم أبخص عينيه وأقلع أذنيه، وأفك لحييه، وأشج شدقيه، وأرمي بالعظم إلى من هو أحوج إليه مني. ودعا بعضهم آخر إلى دعوته وقال: عندي رغف خوارة ورؤوس فوارة. ودعي رجل إلى أكل الرؤوس فلما قام قال: أطعمكم الله من رؤوس أهل الجنة.
وقال ابن الرومي:
هام وأرغفة وضاء ضخمة ... قد أخرجا من فاحم فوار
كوجوه أهل الجنة ابتسمت لنا ... مقرونة بوجوه أهل النار
الدماغ والمخ:

قيل: أضر الأطعمة للبدن الدماغ، فإنه يعلق بالمعدة ويتغرى ما بين غضونها، فلا يدخلها غذاء ولا دواء إلا زلق عنها، والعرب تكره أكل المخ وتتعير به، وذلك قول الشاعر:
ولا ننتقي المخ الذي في الجماجم
قال الأصمعي: كان أعرابي في يده عظم وعنده ثلاثة بنين فقال للأكبر: إن أعطيتك هذا العظم ما تصنع به؟ قال: أتعرفه حتى لا أدع لذر فيه مقيلاً. قال الأوسط: أتعرقه حتى لا يدري أهو لعامنا أم لعام أول. فقال الأصغر: أتعرقه ثم أتمششه ثم أدقه فأستفه. فقال: خذه فأنت صاحبه! وقال في صفة جدب: وبات شيخ العيال يصلب: أي يطبخ العظم فيخرج الدسم، ويسمى ذلك الصلب.

المضيرة:
قيل: شكا نبي من الأنبياء إلى الله تعالى ضعفه، فأوحى إليه أن أطبخ اللحم باللبن وكله تقو.
بعض الشعراء:
مضيرة تنتمي في طيب نكهتها ... وفي الصفاء إلى مسك وكافور
كأنما البصل الثاوي بصفحتها ... فرائد فرشت في صحن بلور
المصلية:
ابن أبي البغل:
ومصلية أما مجال وشاحها ... فقرع وأما خصرها فثريد
كأن هبير اللحم في جنباتها ... قطا جثم وسط الفلاة ركود
الشيراز:
لا أحمد المر أقصى ما يبيض به ... إذا اعتصرناه أصناف الشواريز
ما متعة العين في خد تورده ... يزهي إليك بخال فيه مركوز
أشهى إليك من الشيراز قد وضحت ... في صحن وجنته خيلان شونيز
الكشك:
بعضهم:
أم ذا الكشك زانيه ... إن طبخناه ثانيه
وقيل من حم يوماً واحداً فلا يأكلن الكشك سنة. ونزل رجل بأعرابي فكان كل يوم يقول لامرأته: قومي ائتيني بخبز وما رزق الله. فكانت تأتيه بالخبز والكشك؛ فقال يوماً ذلك فقال لها الضيف: هاتي الخبز ودعي ما رزق الله.
الكامخ:
دفع إلى أعرابيين رغيفان بينهما كامخ فقال أحدهما: خرء ورب الكعبة! فذاقه الآخر واستطابه فقال: نعم ولكنه خرء الأمير. وقال الآخر: لا يفرق بين الكامخ والخرء إلا بالذوق. وأضيف أعرابي فأطعم الكوامخ مراراً، فأستفتح الصلاة خلف الإمام فقرأ الإمام: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير، فقال الأعرابي: والكوامخ فلا تنسها.
النيختي:
أتتني سكرجة لونها ... يرف كبلورة صافيه
مضمنة من وضيء الطعام ... لما يذكر العيشة الراضيه
فلم أدر هل ضمنت كامخاً ... من الطيب أم ضمنت غاليه
آخر ضده:
شيب رأسي وحنا أعظمي ... طول ائتدامي الخبز بالكامخ
فهو إلى نفسي من بغضه ... يعدل سم الأسود السالخ
اللبن:
قال الله تعالى: " وأنهار من لبن لم يتغير طعمه " . وقال: من بين فرث دم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين. وقيل: اللبن أحد اللحمين، وسموه شحماً لما كان من الشحم يتولد. وقيل لرجل: الخل أحب إليك أم الرائب؟ فقال: الرائب فإنه على كل حال بات مع اللحم ليلة. وقيل: ما غص أحد باللبن قط لقوله تعالى: لبناً خالصاً سائغاً للشاربين. وفي الحديث أن البقر لحومها داء وألبانها شفاء. وقال صلى الله عليه وسلم: عليكم بألبان البقر فإنها ترم من كل الشجر. وقيل: ما رغي من اللبن أطيب من المصرح. وقيل: إن الرثيئة مما يغثا الغضب. قال ذو الرمة: كان إذا نزل بنا نزيل قلنا له الحليب أحب إليك أم المخيض! فإن قال المخيض. قلنا: عبد من أنت؟ وإن قال الحليب. قلنا: ابن من أنت؟ شاعر:
إذا شئت عناني على رحل فتية ... حضجر يداوي بالبدور كبير
يعني أنه يمخض له. وقيل لبعضهم: الحليب أحب إليك أم الرائب؟ فقال: هو أكرم وأطيب من أن ينفى له حال.
الجبن:
قال خالد بن صفوان لجاريته: أطعمينا جبناً فإنه يشهي الطعام ويدبغ المعدة ويهيج الشهوة. فقالت: ما عندنا. فقال: ما عليك فإنه يقدح في الأسنان ويلين البطن، وهو من طعام أهل الذمة. فقال بعض أصحابه: بأي القولين نأخذ؟ فقال: إذا حضر فبالأول، وإذا غاب فبالثاني. وكتب كسرى إلى واليه: ابعث إلي بشر إنسان على شر دابة مع شر طعام! فبعث إليه بخوذي على خنزير معه جبن.
شاعر:
إنما الجبن آفة الجسم سقما ... وعلى القلب كربة الأوهام

بدلوها بلقمتي سكباج ... أو شواء مفصل من عظام

السمك:
قال أعرابي: كل من السمك القذال ودع منه المبال. وقال آخر: كل ما تفلس ودع ما تملس. وقدم إلى جعفر بن يحيى سمك فقال: هذا إن لم يكفن بخبيص ويقبر بنبيذ فالحذر منه وقال طبيب الهند: اجتنبوا ما يخرج من الضرع والبحر.
أبو طالب المأموني:
ماوية فضية لحمها ... ألذ ما يأكله الآكل
يضمها من جلدها جوشن ... مدبل فهو لها شامل
تعيشها اللجة ما خيمت ... بها كما يتلفها الساحل
لو نلت من فضتها عسجداً ... بقليها ما ضافني نازل
الباذنجان:
في الخبر: كلوا القرع واجتنبوا الباذنجان. قيل لأعرابي: ما تقول في الباذنجان؟ قال: لونه لون بطون العقارب، وأذنابه كأذناب المحاجم، وطعمه طعم الزقوم! فقيل: إنه يحشى باللحم ويقلى بالزيت فيكون طيباً. فقال: لو حشي بالتقوى، وقلي بالمغفرة، وطبخته الحور العين، وحملته الملائكة ما كان إلا بغيضي. وقيل لآخر: ما تقول في باذنجان عملته بوران؟ فقال: إن شققته مريم وطبخته سارة وقدمته فاطمة، لا رغبة لي فيه! وحكي أن الشبلي رئي يوماً على الجسر، وكان يوماً مطيراً، فقيل له: إلى أين؟ فقال: بلغني أن فلاناً يعيب الباذنجان فأريد أن أمر عليه فأخاصمه.
الوأواء الدمشقي:
أتانا بمقلي بورانه ... وشيرازه من لبان الغنم
وقد شنج القلي منه الجلود ... كتشنيج أوجه سود الخدم
آخر:
كرة من المسك الذكي تضمنت ... من تحت مسك لؤلؤاً مقشورا
عبد العزيز:
وسود تروت بالدهان فأبدلت ... بتوريدها لوناً من النار أكلفا
كأفواه زنج تبصر الجلد أسوداً ... وتبصر إن فرت لجيناً مؤلفا
كخلق حبيب خاف اكثار حاسد ... فأظهر صرماً وهو يعتقد الوفا
المزور:
قال أحمد بن حمدون:
قلت: الطعام! فقالوا: من مزورة! ... فقلت: زور وليس الزور من وطري
هاتوا أطايب ثور فائق سمناً ... كالفيل قداً وإن عدوه في البقر
وسكبجوها ووفوها توابلها ... وزعفروها وصفوها عن الغير
وقدموها على بيضاء صافية ... كأنما خرطت من دارة القمر
فمن نجا فدفاع الله سلمه ... ومن مضى فإلى الفردوس أو سقر!
وقال ابن سكرة:
قد صرت كالزور في أكلي مزورة ... فإنها كاسمها بين الورى زور
خذ الحقاق واترك ما تزوره ... فالحق متبع والزور مهجور
ولا تؤخر لذيذ الأكل خوف أذى ... فليس في الموت تقديم وتأخير
طعام يعاد على مائدة واحدة:
ابن طباطبا:
أرز جاء يتبعه أرز ... هو الإيطاء يتخذ اتخاذ
فإيطاء القريض كما علمنا ... وإيطاء الطعام كمثل هذا
الملح:
قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: من ابتدأ غداءه بالملح أذهب الله عنه سبعين نوعاً من الداء، منها الجذام والبرص.
الخوارزمي:
فهو بقل وروضة وجوارشن ... وأدم وزاد حامل زاد
المأموني:
لا تدن مني الملح إن شبته ... من الأبازير بألوان
فوجهه أبرص ذو نمشة ... بين ثآليل وخيلان
وهاته من غير خلط له ... أدام زهار ورهبان
العسل:
قيل: أجود العسل الذهبي الذي إذا قطرت منه على الأرض قطرة استدارت استدارة الزئبق، ولم يتغبش ولم يختلط بالتراب. وقيل: أجوده ما يلطخ على الفتيلة ثم توقد فيها النار فتعلق. وكتب هشام إلى عامله أن ابعث إلي بعسل من عسل خدار، من النحل الأبكار من المستشار الذي لم تقربه نار. وقيل لرجل: ما تشتهي؟ فقال: جنى النحل وجنى النخل. فقيل له: أيهما أحب إليك؟ قال: أشفاهما وأنقاهما، وأبعدهما من الداء وأدناهما من الشفاء. وجعله الله تعالى في الجنان اللطيف بلا تفل، الخفيف بلا ثقل. وقال ديمقراطيس وقد سئل عما يزيد في العمر فقال: من أدام أكل العسل ودهن جسمه زاد الله في عمره.
الحلواء:

قال بختيشوع: الحلواء كلها حقها أن تؤكل بعد الطعام، لأن للمعدة ثوراناً عقيب الإمتلاء كثوران الفقاع، فإذا صادفت الحلاوة سكنت. وقول الناس: إن في المعدة زاوية لا يسدها إلا الحلاوة على أصله. قال: والآكل إذا اشته الحلوة ثم فقدها وجد في حواسه نقصاً.

الفالوذج والخبيص:
قال سفيان: لابد للعاقل في كل أربعين يوماً من خبيصة تحفظ عليه قوته. كل طعام بلا حلو فهو خداج. وقال رجل في مجلس الأحنف: ما شيء أبغض إلي من الحلواء. فقال: رب ملوم لا ذنب له، وسمع الحسن قائلاً يعيب الفالوذج فقال: لباب البر بلعاب النحل بسمن الماعز، ما عاب هذا مسلم قط. وقال أعرابي: وددت أن الموت والفالوذج اعتلجا في صدري! وبعث رجل إلى مزيد فالوذجاً قليل الحلوة فقال: ينبغي أن يكون هذا عمل قبل أن يوحي ربك إلى النحل. وقيل: ذهبت بهجة الخبيص منذ عمل من عسل. وأتي يزيد بن الوليد بفالوذج، فجعل الغاضري يأكل ويسرع فقال يزيد: أرفق فالإكثار منه يقتل. فقال الغاضري: منزلي على طريق المقابر، وما رأيت جنازة قيل أن صاحبها مات من أكل الفالوذج.
اللوذينج:
قيل لبعض الناس: إن التمر يسبح في البطن! فقال: إذا كان التمر يسبح في البطن فإن اللوذينج يصلي فيها التراويح! وقيل: اللوزينج قاضي قضاة الحلاوات. شاعر في وصفه:
مستكثف الحشو ولكنه ... أرق جسماً من نسيم الصبا
يخال من رقة خرشائه ... شارك في الأجنحة الجندبا
لو أنه صور من خبزه ... ثغر لكان البارد الأشنبا
وقيل لآخر: ما تقول في لوزينجة قد رق قشرها وغرقت في سكرها ودهن لوزها؟ فقال: فما أشد الوصف إذا عدم الموصوف.
العصيدة:
بعض الأغفال:
وقدم من قبل الخبيص عصيدة ... مغشى أعاليها بمنثور سكر
ترى الجمر أثناء العصيدة كامناً ... فتحسب مسكاً بين أقطاع عنبر
ورؤي مخارق وهو يدور حول قدر يتخذ فيها عصيدة ويقول بلحن عجيب:
أنت يا ذات الأثافي ... أسمعينا غليانك
فبنشك ونشيشك ... طاب عنبرك وبابك
إنما قتلي لنفسي ... واجتهادي لمكانك
القطائف:
كشاجم:
قطائف مثل أضابير الكتب ... كأنها إذا تبدت من كثب
كوائر النحل بياضاً وثقب
آخر:
ألذ شيء على الصيام ... من الحلاوات في الطعام
قطائف نضدت فحاكت ... فرائد الدر في النظام
منومات على جنوب ... في الجام كالصبية النيام
التمر:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يصبه يومه ذلك سم ولا سحر. وقال صلى الله عليه وسلم: أول ما يفطر به الرطب والتمر، وأول ما تأكل النفساء الرطب والتمر، لأن الله سبحانه وتعالى قال لمريم: " وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً. وقال شيخ: ما وضع الناس في أفواههم شيئاً أطيب من عجوة. وصف أعرابي تمراً فقال: تمرات جرد فطس، يغيب فيهن الضرس، كأن نواها ألسن الطير، تضع التمرة في فمك فتجد حلاوتها في كعبك. وقال أعرابي: ضفنا فلاناً فأتى بتمر كأعنان الوردان، يوحل فيه الضرس! وقيل: خير التمر ما غلظ لحاه ورق سحاه ودق نواه. قال النابغة يصفه.
صغار النوى مكنوزة ليس قشرها ... إذا طار قشر التمر عنها بطائر
آخر:
وكنت إذا ما قرب الزاد مولعاً ... بكل كميت جلده لم يؤسف
مداخله الأقراب غير ضئيلة ... كميت إذا خفت مزادة مخلف
آخر:
يا حبذاالتمرة ما أحلاها! ... تدمن الفقحة من ذكراها
وقال الحجاج يوماً لجلسائه: ليكتب كل واحد منكم أطيب طعام وليدفعه إلي. فكتب كلهم التمر والزبد. وقال سوار لرجل حضر لشهادة: بم تشهد؟ فقال:
شهدت بأن التمر بالزبد طيب ... وأن الحبارى خالة الكروان
فقال: أما الأول فإني أشهد به أيضاً.
أكل التمر:
قال بعضهم: لم أنتفع بأكل التمر إلا مع الزنج وأهل أصفهان، فالزنج لا تختار وأنا أختار، وأهل أصفهان يأخذون قبضة فإلى أن يفرغوا من أكلها لم يأخذوا من غيرها، وأنا أختاركما أحب. وقيل: فلان برم قرون أي لا يخرج مع أصحابه ويأكل تمرتين تمرتين.

الرطب:
قال ابن هبيرة: أي لقمة مخلوقة غير مصنوعة وصرف غير ممزوجة أطيب؟ فقال بعضهم: البيضة، وقال بعضهم: التمرة. فقال: هلا قلتم رطبة؟ قال المتوكل يوماً للفتح: الحلواء أطيب أم الرطب؟ فقال: يد الله أصنع. وقال الثوري: ما أعنف رجلاً يبيع ثيابه أيام الرطب فيشتريه بها. ذاكر الرشيد عيسى بن جعفر: أي الرطب أطيب؟ فقال الرشيد: القريتا. وقال عيسى: السكر. فأرسلوا إلى الأصمعي، فسأل الأصمعي الرسول عما دعي له، فقال الرسول: كان كذا، فلما دخل سألاه فقال: هذا لا يخفى أن القريتا أجود، إنا كنا بالبصرة صبياناً نلعب بالنوى، فنجعل نوى القريتا دنانير، ونوى السكر دراهم، فنعطي نواة من قريتا ونأخذ عشرين من سائر النوى! فضحك الرشيد وأمر له بصلة.
العنب:
قيل: أجود العنب ما غلظ أعمده وأخضر عوده وسبط عنقوده. وقال أبو حنيفة الدينوري عن بعض أهل دمشق: إنه وزن حبة عنب مجلوبة من قرية يقال لها قرية العنب، فكان وزنها عشرة دراهم، وإن العنقود منها يملأ السلة.
ابن الرومي:
ورازقي مخطف الخصور ... كأنه مخازن البلور
قد ضمنت مسكاً إلى السطور ... وفي الأعالي ماء ورد جوري
لم يبق منه وهج الحرور ... إلا ضياء في ظروف نور
لو أنه يبقى على الدهور ... قرط آذان الحسان الحور
الصاحب:
وحبة من العنب ... من المنى متخذه
كأنها لؤلؤة ... في وسطها زمردة
وله:
حسبتها من بعد تمييزي لها ... لؤلؤة قد ثقبت من جانب
الخوخ:
الطيلساني:
وخوخة أعطيتها هشة ... بيضاء مثل اللبن المخض
كأنها كف امرىء شدها ... قبضاً لضرب منه أو عض
آخر:
كأنه الزبد إذا ما التوى ... بالعسل الماذي في صحنه
الصنوبري:
كوجنة ألبست خلوقا ... فزال عن بعضها الخلوق
الرمان:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم الشيء الرمان! ما من رمانة إلا وفيها حبة من الجنة، من أكلها نورت قلبه وأذهبت عنه الوسواس. وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: كلوا الرمان بشحمه فإنه دباغ المعدة. وقال الواسطي:
رأيت رمانة من فوق دوحتها ... ولونها ببديع الحسن منعوت
فالقشر حق لماض ضم رائحة ... والشحم قطن له والحب ياقوت
أبو طالب المأموني:
حق خليع ناصع دهنه ... مستودع حمر اليواقيت
وله في وصفه عند تفتيته:
الجام أرض وبناني حيا ... تمطر منه برداً أحمرا
ابن شاه:
ورمانة شبهتها إذ رأيتها ... بثدي كعاب أو بحقة مرمر
منمنمة صفراء نضد حولها ... يواقيت حمر في ملاء معصفر
لها قشر عقيان ورأس مشرق ... وأغصان خيري وأوراق عبهري
التين:
كشاجم:
أهلاً بتين جاءنا ... مبتسماً على طبق
كسفرة مضمومة ... قد جمعت بلا حلق
البحتري:
وتين كأطراف الثدي معسل
كشاجم:
سفر جمعن من الحرير الأًصفر
الزبيب:
خطب أعرابي امرأة، فطلب سكراً للنثار فرآه غالياً، فاشترى زبيباً فنثره، وقال:
ولما رأيت السكر العام قد غلا ... وأيقنت أني لا محالة ناكح
نثرت على رأسي زبيباً وصحبتي ... وقلت كلوا كل الحلاوات صالح
بعضهم:
حوى زقين من عسل مصفى ... نسينا عند طيبته الرضابا
وهاب الاغتصاب عليه منا ... فأنشأ فيه تدبيراً عجابا
أرانا فوق عاتقه سناناً ... وأودع بينها خشباً صلابا
وله:
خذ عسلاً في زبرجد جعلوا ... له صماخاً يصون ما فيه
المأموني:
وذات احمرار صادق اللون خلتها ... أرتنا بأعكان لها شطب النصل
قد انتحلت لوناً من النحل ناصعاً ... ليعلم ما تحويه من عسل النحل
القشمش:
المأموني:
وقشمش كخرز للنظم لم يثقب
تتلى بها الكأس لما بينهما من نسب
كأنه أوعية يحملن ذوب الضرب
أو لؤلؤ حلي أعلاه بماء الذهب
الطين:

سئل بعض الفقهاء عن أكل الطين فقال: لا يجوز لأن الله تعالى قال: كلوا مما في الأرض حلالاً، ولم يقل كلوا الأرض. وقيل لرجل: كل من هذا الطين. فقال: أو بلغك أن في بطني ركناً أو ثلمة يجب سدها؟ وكان المأمون مولعاً بأكله فسأل ابن بختيشوع عن دوائه فقال: عزمة من عزمات الرجل! فآلى على نفسه أن لا يعاود تناوله.

الموز:
ابن الرومي:
إنما الموز حين يمكن منه ... كاسمه مبدلاً من الميم فاء
وكذا فقده العزيز علينا ... كاسمه مبدلاً من الزاي تاء
فلهذا التأويل سماه موزاً ... من أفاد المعاني الأسماء
وله مثله في طيب الطعم:
يكاد من موقعه المحبوب ... يدفعه البلع إلى القلوب
الجوز واللوز:
ابن الواسطي في وصفه:
قطع العاج لففت في حرير ... أحمر في مداهن من ساج
المأموني:
ومحقق التدوير يبعد نفعه ... من كف من يجنيه ما لم يكسر
درع يسوغ لآكليه بضمه ... صدف تكون جسمه من عرعر
متدرع في السلم فوق غلالة ... درعا مظاهرة بثوب أخضر
وله في اللوز:
ومستجن عن الجانين ممتنع ... بجنة لم يحكها كف نساج
در تكون من عاج تضمنه ... في البر لا البحر أصداف من العاج
الفستق:
الصنوبري:
من الفستق الشامي كل مصونة ... تصان عن الأحداث في بطن تابوت
زبرجدة ملفوفة في حريرة ... مضمنة دراً مغشى بياقوت
ابن الواسطي:
مثل الزمرد في حرير أخضر ... قد ضمه صدف من العاج الحسن
الشاهبلوط:
ببغا:
وشاهبلوط تناهى واستتم ... كخرز من سبح لم ينتظم
كأنه لما تراءى من أمم ... في صحة التشبيه أظلاف الغنم
العناب:
بعضهم:
بنادق قد خرطت ... من العقيق الأحمر
الأجاص:
بندار:
إجاصة تحكي إذا حد النظر ... في شكلها سود صغيرات الأكر
محزوزة ولا يرى فيها أثر
المشمش:
قال رجل طبيب لرجل يغرس مشمشاً: ما تصنع؟ فقال: أغرس شجرة تثمر لي ولك. فأخذ هذا المعنى ابن الرومي فقال:
إذا ما رأيت الدهر بستان مشمش ... تعلم يقيناً أنه لطبيب
يغل له ما لا يغل لأهله ... يغل مريضاً حمل كل قضيب
آخر:
كأنها بوتقة أحميت ... يجول فيها ذهب ذائب
الفرصاد:
بعضهم:
وجني فرصاد كأن متونه ... برش على ياقوتة حمراء
السفرجل:
أبو علي بن أبي العلاء في وصفه:
نصف السفرجل ثدي ... والنصف يحسب سره
فمن أحب رآه ... فما يغادر ذره
آخر:
إن السفرجل ريحان وفاكهة ... يحظى المشم بها والذوق والنظر
يحكى وديكة تبر بل لهيب لظى ... شبت ضحى وشعاع الشمس منتشر
ابن طباطبا:
سفرجلة حذفوا راءها ... تجم الفؤاد لقول النبي
وقد ذكر ما يضارع ذلك مع ذكر الأشجار والنبات في حده.
جهل العرب بطيبات الأطعمة:
كانت العرب لا تعرف طيبات الأطعمة، إنما كان طعامهم اللحم يطبخ بماء وملح، حتى أدرك معاوية رضي الله عنه الإمارة فاتخذ ألوان الأطعمة. قال أبو بردة: كانوا يقولون من أكل الخبز الحواري سمن، فلما فتحنا خيبر أجهضناهم عن خبزهم، فقعدت عليه آكل وأنظر في أعطافي هل سمنت؟ وقال خالد بن عمير العطوي: شهدت فتح الأيلة فوجدنا سفينة مملوءة جوزاً فقال رجل: ما هذه الحجارة؟ ثم كسروا واحدة فقالوا: طعام طيب. وقال بعضهم: أصابوا أجربة من الكافور فقالوا هاء الملح، فذاقوه وقالوا لا ملوحة لهذا الملح، ففطن ناس من أهل الخبرة، فجعلوا يعطونهم جراباً من الملح ويأخذون جراباً من الكافور. وقدم إلى أعرابي خبز عليه لحم، فأكل اللحم وترك الخبز وقال: خذوا الطبق. وقدم فالوذج إلى أعرابي فقيل له: ما هذا؟ قال: الرمان المعلق.
قاذورات أطعمة العرب:
كانت بنو أسد يأكلون الكلاب، ولذلك قال الفرزدق:
إذا أسدي جاع يوماً ببلدة ... وكان سميناً كلبه فهو آكله

ويأكلون الهبيد، وهو الحنظل المالح. وقال بعضهم: نزلت برجل فأضافني فأتى بحية فشواها فأطعمنيها، ثم أتى بماء منتن فسقانيه، فلما أردت الإرتحال قال: ألا أقمت؟ طعام طيب وماء نمير! وكانوا يأكلون في الجدب العلهز، وهو الحلم الكبار يدق مع الوبر. وقيل: هو العلهز بالفتح. وكان أحدهم يتناول الشعر المحلوق فيجعله في حفنة من الدقيق ثم يأكله مع ما فيه من القمل، ولذلك قال شاعرهم:
بني أسد جاءت بكم قملية ... بها باطن من داء سوء وظاهر
ومن طعامهم الفظ، وهو ماء الكرش. وقيل لأعرابي: ما تأكلون؟ فقال: نأكل ما دب ودرج إلا أم حبين. فقال: لتهن أم حبين العافية.
أبو نواس:
ولا تأخذ عن الأعراب طعماً ... ولا عيشاً فعيشهم جديب
وكان رؤبة يأكل الفأر فقيل له: ألا تستقذره؟ فقال: هو والله ما يأكل إلا فاخرات متاعنا. وبنو تميم يعيرون يأكل الضب؛ قال أبو نواس:
إذا ما تميميّ أتاك مفاخراً ... فقل: عد عن ذا كيف أكلك للضبّ؟

أكل قاذورات على غلط:
قال الأصمعي: دنوت من بعض الأخبية في البادية فسقيت لبناً في إناء، فلما شربته قلت هل كان هذا الإناء نظيفاً؟ فقيل: نعم إنا نأكل منه بالنهار، ونبول فيه بالليل، فإذا أصبحنا سقينا الكلب فيه فلحسه ونقاه! فقلت: لعن الله هذه النظافة ولعنكم من قوم متقذرين! قال: ونزلت على امرأة فنظرت إلى قطع من القديد منظومة في خيط، فأمعنت في أكله، فأقبلت المرأة فقالت: يا هذا ليس ما أكلت مما يؤكل! فقلت: ما هو؟ قالت: إني امرأة خاتنه أختن جواري الحي، فكلما خفضت واحدة نظمت خافضتها في هذا الخيط لأعرف عددهن، فتقأيت استشباعاً. وقعد رجل في سفينة، وركب معه يهودي قد احتضن سلة قديد، فاستولى عليها الرجل وأخذ يأكلها حتى لم يبق إلا عظيمات، فلما أراد الخروج إلى البر رأى اليهودي السلة فارغة، فسأل عنها فقيل: إن هذا الرجل أكل ما فيها. فولول وقال: أكلت أبي! فسئل عن ذلك فقال: كان أبي أوصى أن يدفن بيت المقدس، فلما مات قددناه ليسهل حمله فأكله هذا.
الموصوف بالطيب:
يقال ألذ من زبد بنرسيان، وأحلى من الشهد، وأزكى من الورد، وأشهى من إنجاز الوعد. أحلى من المن والسلوى. ألذ من نظر المعشوق في وجه عاشق بابتسام.
آخر:
وألذ من أنغام خلة عاشق ... زارته بعد تمنع وشماس
أعذب من الماء الزلال. أطيب من قبلة الحبيب على غفلة الرقيب. طعام تضن به العين عن الفم. وقال رقبة بن مصقلة في صفة دعوة: جاؤنا بخوان كالقاع في بياض الفضة، عليه رقاق كقباطي مصر، ورغف كدارة القمر وبقول كوشي السندس، وخل كذوب العقيق، ثم جاؤوا بفالوذج كأن الزئبق الجاري ينبع من خلله للجريان على وجهه، ترى نقش الدرهم من تحته ظاهراً، يذوب فبل التطعم، ويبتلع قبل التينع.
الموصوف بالنتن:
أنتن من الجيفة ومن ريح الجورب ومن العذراء، ومن مرقات النعجة أي ما تمرق من شعرها أي ما ينتف.
كنى الأطعمة وأسماؤها الأعلام عند الصوفية:
قد أكثر الناس من ذلك وذكرت منه طرفاً هو اقرب: الخبز أبو جابر، والسكباج أم القدور، والقلية زلزل المغني، والطباهج الزرزر الصناج، والمضيرة الشيخ اليهودي، أبو الزئبق البقل، أبو زحام بلا منفعة الخل، أبو عامر الغضبان. الخيار أبو الأخضر. البندق القثاء. أبو القرون البصل. أبو قمصان الدجاج. أم حفص الفروج. بنات المؤذن السكر. أبو شيبة الخوزي.
أنواع من ذكر الأطعمة:

كان النظام إذا خلط كلامه في ذكر الأطعمة ببعض الفاكهة يقول: الزيت نصراني والخل يهودي، واللبن والزبيبان نصرانيان راهبان، وعلى لون صبغهما صبغوا ثيابهم. وقيل: الصحناة والتفشيل يهوديان والسمن مسلم، من تعود أكل الطعام وإن كان ضاراً لم يضره بل ينفعه، حتى أن السم من تعود أكله لم يضره، والطعام الجيد النافع للعامة إذا أكله من كان مستغرباً له غير عاهده يضره. وقد ذم الأطباء ما يخرج من الضرع، وقريش تعودت أكلها. وانظر كيف كرمها وسخاؤها وعقولها ودهاؤها. ومر جالينوس مع تلامذته ببقلة فسألوه عنها فقال: هي سم ساعة. فإذا رجل يأكلها ولا تضره، فسألوه فقال: هذا غذاء لنا فقال جالينوس: هل لك في مصاحبتي فأحسن إليك؟ فقال الرجل: بلى. فصاحبه زماناً يأكل ما يأكلونه، ثم عرض عليه ذلك البقل فأكله فمات لوقته.
أبو طالب المأموني في السكنجبين:
ومستنتج ما بين خلّ وسكر ... دوائي من دائي به وشفائي
رأيت به في الكأس أعجب منظر ... مذاب عقيق فيه جامد ماء

مما جاء في أحوال الأكل والأكلة والتطفل
الرخصة في تناول المباحات:
قال الله تعالى: " لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا " . وقال: " وكلوا واشربوا ولا تسرفوا " . وقال: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق " . وقال تعالى: " كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعمل صالحاً وكل طيباً والبس ليناً. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطاك إسراف ومخيلة. ورغب الله تعالى آدم في الخلود في الجنة فقال: " إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى، وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " . فبدأ باشتراط الشبع. ومر عمر رضي الله عنه بشاب فاستسقاه ماء فخاض له عسلاً فلم يشرب وقال: إني سمعت الله تعالى يقول: " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا " . فقال الفتى: إنها واله ليست لك اقرأ ما قبلها: " ويوم يعرض الذين كفروا على النار " . فشربها عمر رضي الله عنه وقال: كل الناس أفقه من عمر. واجتمع فرقد السنجي والحسن على مائدة، فأتي بجام خبيص فأبى فرقد أن يأكل وقال: أخاف أن لا أؤدي شكر الله تعالى عليه. فقال الحسن: كل فلنعمة الله عليك في الماء البارد أعظم منها في الخبيص. قال الشيخ أبو القاسم رحمه الله: فانظر إلى فقه الحسن وفهمه وإلى ضعف رأي فرقد مع إسلامه. واعتبر بهما قول النبي صلى الله عليه وسلم: فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد.
غسل اليدين قبل الطعام:
دعي سلمان رضي الله عنه إلى طعام، فلما دخل توضأ للصلاة فصلى، ثم قدم الطعام فاستدعي الماء وغسل يده فقيل: ألم تغسلها آنفاً؟ فقال: نعم ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:من غسل يده قبل الطعام وبعده أكل في سعة من رزقه. وقال الحسن رضي الله عنه: غسل اليد قبل الطعام بنفي الفقر، وبعده بنفي اللمم. وامتنع رجل من غسل اليد للطعام عند موسى الرضا فقال: اغسلها فالغسلة الأولى لنا، والثانية لك، فإن شئت فاتركها. وغسل رجل يده عند المأمون ومد يده إلى رأسه، فأمر بإعادة غسلها ثم مددها إلى لحيته، فأمره بإعادته وقال: لا يلي غسل اليد للطعام إلا الطعام. وقدم إلى مالك بن أنس رضي الله عنه حيث يراه المهدي الماء ليغسل يده للطعام فقال: هذا بدعة. فقال المهدي: يا أبا عبد الله البدعة تعتبر في الشر، فأما أبواب الخيرات فإحداثها سنة. وغسل رجل يده مراراً فلم تذهب عنها الدسومة. فقال: كاد هذا الدسم أن يكون لنا نسباً وصهرأ. وامتنع أعرابي من غسل اليد بعد الطعام فسئل عنه فقال: فقد رائحته كفقده. وكان أعرابي عند سعيد ابن مسلم فقعد للطعام فقتل قملة فقيل له: اغسل يدك. فقال: لا ضير ما بقي على يدي إلا خرشاؤها. وكان أعرابي يفلي ثوبه ويأكل ويحبق فقيل له: أما تستحي ويحك! فقال: وما أنكرت؟ أدخل حديثاً وأخرج عتيقاً وأقتل عدواً. وكان عبد الله بن سلمان يبطىء في غسل اليدين ويقول: يجب أن تكون مدته مدة زمان الأكل.
ذكر الله على الطعام:

قيل: إذا جمع الطعام أربعاً فقد كمل إذا كان حلالاً وكثرت عليه الأيدي وسمى الله في أوله وحمد في الآخرة. وقال طاووس: من سمى الله على طعامه لم يسأله عن نعيمه. وقيل: ذكر الله على الطعام شفاء يبرىء من الداء، وذكر الناس داء لا يقبل الشفاء. وقيل: إذا أكلتم فسموا وأدنوا أي اذكروا الله وكلوا مما بين أيديكم. وكان ابن عباس إذا وضع الطعام يقول: بسم الله عني وعن كل آكل معي.وكان سعيد بن جبير إذا فرغ من الطعام يقول: اللهم قد أشبعت وأرويت وطيبت فهنئنا برحمتك. وقال بعض القصاد: يا معشر الناس إن الشيطان إذا سمى الإنسان على الطعام والشراب لم يأكل معه، فكلوا خبر الذرة والمالح ولا تسموا ليأكل معكم، ثم اشربوا الماء وسموا الله حتى تقتلوه عطشاً.

حمد الأكل من جانب الصحفة وعذر ذلك:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن البركة تنزل في وسط الصحفة فكلوا من جوانبها ولا تأكلوا من وسطها. وقال أنس بن مالك: كل بيمينك وتناول مما يليك. وأكل أعرابي مع بعض السلاطين فقال: كل مما يليك. فقال: رأيت جانبك أمرع، ومن أجدب انتجع. وأكل أعرابيان على مائدة فمد أحدهما يده فقال له الآخر: كف يدك! فإن لك في ما بين يديك مقنعاً. فقال: إني من قوم إذا أجدبوا انتجعوا. فقال له: ويلك! وهل على مائدة أمير المؤمنين جدب؟ ثم مد الآخر يده فقال له كف يديك! فقال له: إني من قوم إذا أخصبوا تخيروا فاستحسن عبد الملك كلامه، وأمر له بصلة. وأكل أعرابي من بني عذرة مع معاوية فمد يده إلى ثريدة بين يدي معاوية فقال معاوية: أخرقتها لتغرق أهلها؟ فقال الأعرابي: ولكن سقناه إلى بلد ميت. فضحك معاوية وأمر له بجائزة. وكان أبو علي بن حمدون في مجلس وعند القوم نقل، فمد يده إلى ما بين يدي صديق له فقيل له: ما تفعل؟ فأنشد:
وأحياناً على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا
وكان الهائم الشاعر على مائدة عليها جدي، فجعل يجر الجدي الذي كان يليه ولم ينجر، وكان الجانب الذي عليه اللحم يلي قوماً آخرين فقال:
ففينا غواشيها ... وفيهم صدورها
أوقات الطعام المحمودة والمذمومة:
سئل طبيب: أي أوقات الطعام أحمد؟ قال: أما من قدر فإذا جاع، ومن لم يقدر فإذا وجد.
الغداء والعشاء:
قيل: العشاء متخمة وتركه مهرمة. وقال بقراط: من تعود العشاء ثم تركه التبس عليه طبعه. وقال عمر رضي الله عنه لابنه: لا تخرج يا بني من منزلك حتى تأخذ حلمك. يعني حتى تتغدى. ودعا الحجاج رجلاً إلى غدائه فقال: قد أكلت. فقال له الحجاج: إنك لتباكر الغداء. فقال الرجل: لخلال ثلاث: إن نوجيت لم يوجد من فمي خلوف، وإن شربت شربت على ثفل، وإن حضرت قوماً أكلت ومعي بقية من عرضي. وقيل: خير العشاء بواكره. فقيل: أمحمود ذلك في كل وقت؟ فقال: نعم إذا كان شتاء فلطول الليل، وإذا كان صيفاً فلبرد الماء وقلة الذباب. واستدعى رجل الغداء فقيل له: اصبر حتى تطلع الشمس. فقال: أنتظر بغدائي قادماً من وراء خراسان. وقيل: خير الغداء بواكره، وخير العشاء بواصره. وقيل: خير الغداء بواكره وخير العشاء سوافره أي أن تأكل وعليك ضوء. وسأل رجل الحسن عمن يأكل مرة فقال: أكل الصالحين. فقيل: مرتين. فقال: غداء وعشاء أكل التجار، فقيل: ثلاث مرات. فقال: ذاك حمار يبني له آري.
ذم الشبع والإكثار من الأكل وحمد الإقلال منه:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: إياكم والبطنة فإنها مفسدة للبدن مورثة للسقم، مكسلة عن العبادة. وقال صلى الله عليه وسلم: الرغب شؤم. وقيل: الموت جوعاً خيرا من الحياة شبعاً. وقال ذو الرياستين: ما عجبت لاتفاق الأطباء على ثلاث كلمات. قال طبيب الروم: كل قليلاً ولا تكن عليلاً، وقال طبيب فارس: كل قصداً لا تلق من الكظة جهداً، وقال طبيب الهند كل قدراً لا تضيق به صدراً. وقيل:صحة الجسم قلة الطعم وصحة الروح اجتناب الإثم. وجاء رجل إلى أبي مسلم فقال: أعطيك دواء تأكل معه ما شئت فلا يضرك. فقال: لا حاجة لي فيه فقبيح بالإنسان أن يدخل المستراح في كل يوم أكثر من مرة، وقبيح به أن يحن في الشهر أكثر من مرة. وقال الخليل: اثقل ساعاتي ساعة آكل فيها. وقال مالك بن دينار: وددت أن رزقي حصاة أمصها فقد ضجرت من كثرة تردادي إلى الخلاء. وقال تعالى: " والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم " . وقال صلى الله عليه وسلم: ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولابد فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس. وفي كتاب كليلة ودمنة: ليعد من البهائم من همته بطنه وفرجه. وكانت العرب تسمي الشبع أبا الكفر. وقيل: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة. البطنة تذهب الفطنة. قيل: لا تسكن الحكمة بطناً ملىء طعاماً. من الكرم تنزيه القرم. وقيل: الشبع داعية البشم، والبشم داعية السقم، والسقم داعية الموت، ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة. قال الحسن: مسكين ابن آدم صريع الشبع أسير الجوع.
شاعر:
وإن امتلاء البطن في جسد الفتى ... قليل غناء وهو في الجسم صالح
وقال طرفة في عمرو بن هند:
ويشرب حتى يغمر المحض قلبه ... وإن أعطه أترك لقلبي مجثما
وباع مالك بن دينار جارية فزارته يوماً فقال: كيف ترين مواليك؟ فقالت: ما أكثر خير بيوتهم! فقال: أخبرتني عن عمران حشوشهم. وقال يحيى بن معاذ: من أكل حتى شبع عوقب بثلاث: يلقي الغطاء على قلبه، والنعاس على عينيه، والكسل على جسمه. وقال بشر الحافي: من ضبط بطنه فقد ضبط الأعمال الصالحة كلها. وقال بشر بن الحارث: لا تعود نفسك الشبع من الحلال فتدعوك إلى الحرام. وسأل رجل عن غسل الجمعة فقال: اغسل بطنك بكفيك من غسل بدنك. واشتهى أبو مسلم الهريسة فقال لطباخه: اشتهيت هريسة فاتخذها أجود ما يكون. فلما قدمت إليه أمر بأن ترفع ولم يأكل. ثم قال له من بعد: اتخذ هريسة. فاتخذها وقدمها إليه فلم يأكل. وتقدم إليه ثالثاً فعملها وقدمها فلم يأكل فقال الطباخ: أيها الأمير لقد أجدت حتى لا غاية فما الذي يحجزك عنها؟ قال: رأيت نفسي قد شرهت إلى تناولها فكرهت أن تغلبني شهوتي. وقيل: لا تجعلوا بطونكم خزائن الشيطان يضع فيها ما أحب.

حد الشبع:
قيل لأعرابي سأل ما حد الشبع: هو الامتلاء من الطعام حتى لا تشتهيه. فقال: وهل يكون ذلك إلا في الجنة؟ أعرابي: اللهم إن أسالك ميتة كميتة عرفجة. فقيل: كيف مات؟ قال: أكل بزجاً وشرب مشعلاً والتف في كسائه ومات، فلقي الله شبعان ريان دفآن.
حمد الطوى وذمه:
المغيرة بن شعبة: علموا أولادكم الخفاف، احملوهم على الطوى لأن من اتبع أمراً لزمه، ومن أكثر من تركه أجمه. الحارث بن كلدة: خير الدواء الأزم، وشر الدواء إدخال الطعام على الطعام. قيل ليوسف عليه السلام: لم تجوع وأنت على خزائن الأرض؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع. وقيل: ترك الأكل يضيق الأمعاء.
الصابر على الجوع:
قال:
ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به لذيذ المطعم
وخرج أبو خراش في سفر فعدم الطعام أياماً، فمر بامرأة فقال: هل من طعام، فأتته بعمروس فقالت: اذبحه، فذبحه وسلخه ثم شواه، فلما وجد رائحة الشواء قرقر بطنه فقال: أتقرقر من رائحة الشواء، يا ربة البيت هل من صبر؟ فأتته بصبر فاقتحمه وأتبعه بماء، ثم ارتحل ولم يأكل وقال:
وإني لأثوي الجوع حتى يملّني ... فيذهب لم تدنس ثيابي ولا عرضي
آخر:
وأغتبق الماء القراح وأنتهي ... إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم
مخافة أن أحيا برغم وذلة ... وللموت خير من حياة على رغم

الصائن بطنه عما يلزم منة أو مذمة:
قيل: أحسن بيت في هذا المعنى قول نهشل:
أغر كمصباح الدجنّة يتقى ... قذى الزاد حتى يستفاد أطايبه
وقال:
إذا مطعمي كان ذا غصة ... غسلت يدي منه قبل أكتفائي
آخر:
ألبان إبل تعلة بن مساور ... ما دام يملكها علي حرام
وطعام عمران بن أوفى مثلها ... ما دام يسلك في البطون طعام
إن الذين يسوغ في أعناقهم ... زاد يمن عليهم للئام
قال بعضهم: اكتريت من جمال فكان يحدو بنا بقول الشاعر:
أبلج بين ... حاجبيه نوره
فلما بلغ قوله:
إذا تغدى ... رفعت ستوره
أمسك حتى بلغنا المنزل فقلنا: لمَ لم تكن تنشد قبل هذا؟ فقال: تفادياً من أن تحسبوني أعرض بزادكم.
حمد الرضا بما يتسهل:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: كفى بالمرء عيباً أن يتسخط ما قرب إليه. وقيل: كل في شهوة أهلك. قال الأصمعي: رأيت أعرابية تأكل قشور الرمان فقلت: ما هذا؟ قالت: أدفع به الجوع فإن الجوع إذا دفعته بشيء اندفع.
شاعر:
تنافس في طيب الطعام وكلّه ... سواء إذا ما جاوز اللهوات
ابن الرومي:
ومتى شرهت فإن أيسر لذة ... لك إن نظرت مع السلامة كافيه
آخر:
وما هي إلا جوعة إن سددتها ... فكل طعام بين جنبيك واحد
آخر:
وما أكلة إن نلتها بغنيمة ... ولا جوعة إن جعتها بغرام
وقال بعضهم: لقيت أعرابياً فقلت من أين؟ فقال: من البادية من جبل ضربة، أرض لا نبتغي بها بدلاً ولا عنها حولاً، في أرغد عيش وأنعم معيشة، فالحمد لله على ما بسط من السعة ورزق من حسن الدعة، أو ما سمعت قول قائلنا:
إذا ما أصبنا كل يوم مذيقة ... وخمس تميرات صغار هوامز
فنحن ملوك الناس خصباً ونعمة ... ونحن أسود الغاب وقت الهزاهز
وكم من متمن عيشة لا ينالها ... ولو نالها أضحى بها جد فائز
الشاكي عدم المأكل:
قيل لرجل: بم تسحرت البارحة؟ فقال: باليأس عن الفطور الليلة. وقيل لرجل: ما تأكل؟ قال: الخبز والزيت. فقيل: أتصبر عليهما؟ فقال: ليتهما صبرا علي.
جرير:
تكلفني معيشة آل زيد ... ومن لي بالمرفق والصناب
وقال أعرابي لامرأته: لو كان عندنا تمر وسمن لطلبنا دقيقاً، واستعرنا طنجيراً واتخذنا عصيدة. والعرب تسمي الجوع أبا عمرة. قيل لأعرابي: أتعرف يا أبا عمرة؟ قال: كيف لا أعرفه وكبدي مخيمة على أمعائه والصفر. وقيل: هو حية في البطن تعض إذا جاعت صاحبها. قال أعرابي: ما لي عهد بعضاض ولا مضاغ ولا لماج ولا شماج منذ زمان. وقيل: نزل به أبو عمرة؛ وهو كناية عن الجوع. وقال:
حل أبو عمرة وسط حجرتي
استطابة الجائع الطعام:
قيل لأبي العملس: أي طعام أطيب؟ فقال: طعام لقي الجوع بطعم وافق الشهوة. قيل: فما ألذ الأشربة؟ قال: شربة ماء تضيع بها غلتك. وقال محمد بن جعفر: العين طليعة المعدة. وكان مكتوباً على مائدة أنوشروان. ما طعمته وأنت تشتهيه فقد أكلته. وما طعمته وأنت لا تشتهيه فقد أكلك. وقيل: أحدّ شيء ضرس جائعة.
من جسمه ينبىء عن جودة أكله:
في المثل: أفواهه هجاسة. قيل: يريك البشر ما أجاد مشفر. وقيل لرجل: ما أسمنك! فقال: أكلي الحار وشربي القار والاتكاء على الشمال. وقيل لآخر فقال: قلة الفكرة وطول الدعة والنوم في الكظة.
وصف الأكلة:
من الأكلة سعد الفراقر الذي قيل فيه: أجوع من كلب حومل، ودرواس الذي يقول: الغداء غذاء والغبوق دواء والقيل حمض والجاشرية خفض. وزهمان الذي قيل فيه: في بطن زهمان زاده. أكل سليمان بن عبد الملك أربعين دجاجة وثمانين كلية بشحومها، وثمانين جردقة وأحضر الأجاص فاحصي له ثمانمائة نواة. وكان هلال بن مشعر التيمي أكل فصيلاً وأكلت امرأته فصيلاً فلما تضاجعا لم يصل إليها فقالت: تصل إلي وبيننا جملان؟ وقال سالم بن قتيبة: عددت الحجاج أربعاً وثمانين لقمة في كل لقمة رغيف فيه ملء كف من سمك طري. وكان معاوية يأكل حتى يتربع ثم يقول: ارفع، ما شبعت حتى مللت.
ابن أبي الأسود:
كأنما في فيه أحجار الرحا ... وكأنما في جوفه تنور
آخر:

أقل ما يأكله أقله ... لا يحمل النيل ولا يقله
ووصف أعرابي رجلاً فقال: هو أكلة وكلة وتكلة.
آخر:
كأنه برذونة رغوث
آخر:
قرضابة طرفاه الدهر في تعب ... ضرس طحون وفرج يفسد الدينا
آخر:
خب جبان، وإذا جاع بكى ... لا يواري فرجه إذا اصطلى
ويأكل التمر ولا يلقي النوى ... كأنه غرارة ملأى خنا
آخر:
أيا آكل من نار ... ويا أشرب من رمل
وكان بلال بن أبي بردة أكولاً، وفيه يقول الحسن رضي الله عنه: يتكى على شماله ويأكل غير ماله حتى إذا كظه الطعام يقول ابغوا لي هاضوماً. وقيل: وهل تهضم إلا دينك؟ وقيل لرجل: كيف أكل فلان؟ فقال: كما لا يحبه لبخيل. ويتمثل في هذا الباب بقول جرير:
كالحوت لا يلهيه شيء يلهمه ... يصبح ظمآن وفي البحر فمه
وفي الجشاء لابن عيينة:
وتصبح تقلس عن تخمة ... كان جشاءك عن فجله

المسرع اللقم:
شاعر:
ما يبن لقمته الأولى إذا ازدردت ... وبين أخرى تليها قيس أظفور
آخر:
يدارك اللقم ولا يخشى الغصص ... تلقما يقطع أزرار القمص
وقال آخر: فلان إذا أكل شدق وعلق وحملق أي لقمة في فمه، وأخرى في يده، وأخرى يرمقها بعينه. وقيل: فلان برم قرون لمن لا يدخل في الميسر ثم يأكل تمرتين تمرتين. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعاماً، فرفع إلى فيه لقمة لم يأخذ غيرها حتى ينقي فاه منها.
المعظم اللقم:
شاعر:
أعددت للقم بنانا مجرفا ... وضرس ناب كالرحا محرفا
ومعدة تغلي وبطناً أكنفا ... حولاً دكيكاً ما يذوق علفا
أعرابي:
يحشو زوايا بطنه إذا اضطرم ... لقماً كأمثال جلاميد الأكم
البحتري:
وكأن الفتى يطمّ ركاباً ... قد تهورن أو يسد بشوقا
آخر:
يلقم لقماً ويغدى زاده ... يرمي بأمثال القطا فؤاده
آخر:
ترى كل محلول الإزار كأنما ... يطين سطحا أو يلقم ناضحا
وقيل: فلان إن أكل لف وإن شرب اشتف.
شاعر:
وكأنما صوت التطعم منهم ... قبل يفوه بهن صوت شفاه
آخر:
كأن دويه في الحلق لما ... يهمهم صوت رعد في سحاب
الأكل بالملعقة:
أكل أعرابي بملعقة شيئاً فاحترق فمه فقال: أبعدني الله أن أحكم على فمي غير يدي، فإنها رائد حق ونذير صدق. وكره الأكل بالملعقة مع الغير فإن إدخالها إلى الفم وإعادتها إلى الصحفة مستقبح. وكان بعض أهل المروءات يضع بين يديه ملاعق، فإذا التقم بواحدة لم يعد إليها.
المملوء فمه من الطعام:
سلم رجل على أعرابي وكان في فمه لقمة، فلما بلعها قال: حياك من خلا فوه! وقال حميد الأرقط:
أتانا وما داناه سحبان وائل ... بياناً وعلماً بالذي هو قائل
فما زال عنه اللقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم باقل
من أكل ما اشتهاه ولم يخف عقباه:
حضر أعرابي طعام أمير فأكل معه، فأحضر الفالوذج فقال الأمير: إن أكلت هذا حززت رأسك! فنظر ملياً ثم رأى تركه خسراناً فمد إليه يده وقال: أوصيك بصبيتي خيراً! مر أعرابي بقوم وعندهم طعام فقال: ما هذا؟ قالوا: زقوم. قال: طيب والله لأساعدنكم على أكله.
استدعاء الطعام:
قال الأصمعي: أضفت أعرابياً فلما أكلنا قلت يا جارية أطعمينا تيناً، فنسيته، فقلت له بعد ساعة: أتحسن شيئاً من القرآن؟ قال: نعم. فقلت: اقرأ فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم والزيتون وطور سينين. فقلت وأين التين؟ فقال: نسيته أنت وجاريتك من ذلك الوقت. دخل رجل على قوم يشربون، فناولوه أقداحاً وكان جائعاً فقال للمغني عن:
خليلي داويتما ظاهراً ... فمن ذا يداوي جوى باطنا
فعلم صاحب الدار أنه جائع فقال عن له:
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله ما يخيب
ودخل آخر على قوم فقالوا له: أي صوت أحب إليك؟ فقال: صوت المقلى! ودعي ابن حجاج إلى دعوة مع جماعة فتأخر عنهم الطعام فقال لصاحب الدعوة:
يا ذاهباً في داره آتياً ... من غير ما معنى ولا فائده

قد جُن أضيافك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائده
وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما في دعوة، فاستبطأ الطعام فقال: ائتونا بالخوان نأنس به إلى أن يحضر الطعام. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الملائكة لا تزال تصلي على أحدكم ما دامت مائدته موضوعة. ودخل أعرابي على رجل بين يديه سلة فيها طعام فقال: ما هذا؟ قال: بظر أمك. فقال: اعضضن به. ودخل الشعبي على أبي عمرو فتطاولا ثم قال الشعبي: أعندك تحفة؟ فقال: نعم أي التحفتين أحب إليك أتحفة إبراهيم أم تحفة مريم؟ فقال: تحفة إبراهيم عهدي به الساعة، يعني اللحم، ولكن ائتني بتحفة مريم فأتاه بالرطب. وقيل لأعرابي: ما تشتهي؟ فقال: حرف جردق وعرق مرق. وقال بعض أهل الكوفة: دخل علي جعيفران فقال: هل من طعام؟ فقلت: سلق بخردل. فقال: فاشتر بطيخاً. فقلت للجارية: قدمي الطعام واذهبي فاشتري بطيخاً، فقدمت الطعام وذهبت وتباطأت فقال جعيفران:
سلقتنا وخردلت ... ثم ولت وهرولت
وأراها بواحد ... وافر الأير قد خلت
فخرجت في طلبها فإذا بالسائس قد خلا بها في الدهليز كما وصف.

الاحتجاج للتطفل والتبجح به:
عوتب طفيلي فقال: كلكم طفيليون لكنكم تجهلون أنكم تؤدون الأعمال من غير أن تدعوا إليها، وسواء تطفل على طعام أو على تمنية. وقال طفيلي وقد عوتب: قد تطفل بنو إسرائيل على الله فقالوا: ربنا أنزل علينا مائدة من السماء. وقيل لطفيلي: لا يحل لك أن تأكل من طعام لم تدع إليه، فقال: هذا خلاف قول الله تعالى حيث قال: ليس على الأعمى حرج، إلى قوله: ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم، أو بيوت إخوانكم. وقد قال الله عز وجل: " إنما المؤمنون أخوة " . وقال طفيلي: إن لم أدع ولم أجيء وقعت وحشة، ثم أنشد:
نزوركم لا نكافئكم بجفوتكم ... إن المحب إذا لم يستزر زارا
آخر:
لا أرى التطفيل إلا ... في فتى حر كريم
وقال علي البصري:
أحسن الأخوان إن خفت من الإخوان جفوه
طرحك الحشمة عنهم ... وتجي من غير دعوه
آخر:
قد أتيناك زائرين خفافاً ... وعلمنا بأن عندك فضله
إن تجدنا كما تحب وإلا ... فاحتملنا، فإنما هي أكله!
المهجو بالتطفل وذمه:
قيل: فلان أطفل من ليل على نهار، وألزم للخوان من منديل الغمر، يأكل لمّا ويوسع الحي ذما.
ابن طباطبا:
ولو نشر النبي لكنت منه ... مكان أبي هريرة غير مين
ألحَّ زيارة ليلف زاداً ... معداً لابن فاطمة الحسين
آخر:
لو يسمعون بأكلة أو شربة ... بعمان أمسى جمعهم بعُمان
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من مشى إلى طعام لم يدع إليه مشى فاسقاً وأكل حراماً. وكان أبو دلف العجلي كتب من الكرخ إلى محمد بن فاخر بأصبهان: إني أريد أن ألم بك يوماً فأضيفك وأرى أصبهان. فهيأ ابن فاخر وأنفق مالاً جماً، وكان بأصبهان شويعر بينه وبين ابن فاخر عداوة، فكتب مرقعة ودفعها إلى من تصدى لأبي دلف لما قرب من أصبهان فقرأها فإذا فيها:
جئت في ألف فارس ... لغداء من الكرج
ما على المرء بعد ذا ... في دنا النفس من حرج
فانصرف أبو دلف راجعاً وأفسد على محمد ما كان هيأه.
ابن بشير فيمن أكل وحمل:
أكلوا حتى إذا شبعوا ... حملوا الفضل الذي تركوا
احتمال المشقة فيه:
قال أبو الجهم:
كم لطمة في حر وجهك صلبة ... من كف بواب سفيه ضابط
حتى وصلت قتلت أكلة ضيغم ... متضمخ بدم وأنف ساقط
فسمعها طفيلي قال: نعم من طلب عظيماً خاطر بعظيم.
الشديد الطمع:
قيل: هو أطمع من أشعب. وكان قيل لأشعب: ما بلغ من طمعك؟ فقال: ما زفت عروس إلا كنست بابي ورششته طمعاً أن تحمل إلى داري، وما سارر أحد أحداً إلا ظننته يأمر لي بشيء. وقيل لطفيلي: ما بلغ من طمعك؟ فقال: ما سألتني عن هذا إلا وفي نيتك أن تعطيني شيئاً.
حث المتطفل على الوقاحة:
رأى طفيلي آخر فقال له: هلا حضرت دعوة فلان؟ فقال: لا يجتمع التطفيل والحياء أما سمعت قول الشاعر:
لا تستحين من القريب ... ولا من الفظ البعيد

ودع الحياء فإنما ... وجه المطفل من حديد

نوادر المتطفلين:
سمع طفيلي خشخشة الأبريق فأمسك عن الطعام فقيل له في ذلك فقال: حتى يسكن هذا الأرجاف. وقيل لآخر: ما بال وجهك أصفر؟ فقال: للفترة بين القصعتين أخاف أن يكون الطعام انقطع. وقيل لآخر: ما تحفظ من القرآن؟ قال قوله تعالى: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً. وقيل لآخر اشتر لنا لحماً فقال: لا أحسن الشراء. فقيل له: أوقد النار. قال: أنا كسلان. فقيل له: اطبخ. قال: لا أحسن الطبخ. فلما غرف الطعام قيل له: تقدم فكل. فقال: أكره أن أكثر مخالفتكم. وحضر طفيلي باب دعوة فمنعه البواب فقام ينظر من صير الباب إلى الأطعمة، وأنشد:
وما لك منها غير أنك نائك ... بعينيك عينيها، وهل ذاك نافع؟
وأكل أعرابي عند قوم، فلما أراد الخروج قيل له: هل تعود إلينا؟ فقال: ليس مثل السوء لي ولكن الكلب لا يدع حائطاً شبع منه. وقال طفيلي لقوم يحضرون دعوة: اجعلوني لحقاً بين سطرين.
أكل فضالة المائدة:
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: من أكل من فضالة ما يسقط من المائدة لم يزل في سعة من الرزق ما كان، ووقي هو وولده وولد ولده الحمق. وقيل: مهور الحور العين أكل فتاة المائدة.
الخلال:
قال جعفر بن سليمان: لابد من الخلال وهو مخربة للأسنان، ودخل رستاقي على قوم يأكلون فأطعموه، فلما فرغوا أعطوه فأخذ يتأملهم ظناً منه أنهم يريدون قلع أسنانهم، فأخرج مسلة معه، فقلع ضواحكه، والتفت إليهم وقال: أنتم بعد في حفر أصل واحدة، وها أنا قد نزعت أربعاً. وأكل طبري مع قوم، فلما فرغوا دفعوا إليه خلالاً فظنه مما يؤكل فأكله، فنظر الغلام إليه فلم ير الخلال معه، فدفع إليه آخر فقال الطبري: قد أكلت واحداً ولا أشتهي غيره.
أنواع من هذا الفصل:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا صنع خادم أحدكم طعاماً فليجلسه معه أو يناوله. وقال: لا تأكلوا في غربال ولا منخل، فإنه يمحق البركة ولا يشبع. وأتي صلى الله عليه وسلم بطعام شديد الحرارة فقال: ما كان الله ليطعمنا النار أقروه حتى يبرد، فإن الطعام الحار ممحوق البركة وللشيطان فيه شرك.
البحتري:
تنازعنا المدامة وهي صرف ... وأعجلنا الطبائخ وهي نار
مما جاء في الدعاء إلى الدعوات
أسماء الدعوات:
المأدبة والمأدبة: الدعوة والوليمة عند الأملاك، والعرس عند البناء بالأهل، والخرس للولادة، والأعذار للختان، والنقيعة للقدوم من سفر، وكذلك السفرة والوكيرة والحيرة للبناء، والوضيمة للمأتم، والعقيقة لأول ما يؤخذ من شعر الولد، والنقرى التخصيص في الدعوة، والجفلى التعميم فيها. قال بعض الأدباء العارفين بالفارسية: ليس في اللغة الفارسية شيء من أسماء هذه الدعوات.
الحث على اتخاذ الدعوة والإجابة إليها:
قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أو لم ولو بشاة. وقال صلى الله عليه وسلم: لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت. وروي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا اجتمعوا لم يتفرقوا إلا عن ذواق. وقال صلى الله عليه وسلم إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك، وفي حديث آخر: فإن كان مفطراً فليأكل، وإن كان صائماً فليصل أي ليدع لهم بالبركة. وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا دعي إلى طعام يحضر، فإن كان مفطراً أكل، وإلا قال: كلوا بسم الله. ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصائم إذا أكل عنده سبحت أعضاؤه.
المستدعي صاحبه زاعماً أن به يتم السرور:
كتب أبو الفرج الدمشقي إلى صديق له:
شهد الله أن كل سرور ... غبت عنه فليس لي بسرور
آخر:
نحن في أطيب الحبور ولكن ... ليس إلا بكم يتم السرور
عيب ما نحن فيه يا أهل ودي ... أنكم غبتم ونحن حضور
فأعدوا المسير بل إن قدرتم ... أن تطيروا مع الرياح فطيروا
الصولي:
حضر السرور وعيبه ... إن لست مسعدنا عليه
آخر:
ائتنا إن عندنا بعض من أنت له وامق من الأصحاب
وأناس فيهم وفيهم ولكن ... ليس بد من القذى في الشراب
من دعا صديقه ووصف له طعامه وشرابه:

كتب جحظة إلى صديق له:
لنا يا أخي فرحة وافره ... وقدر موفرة حاضره
وراح تريك إذا صففت ... سنا البرق في الليلة الماطره
ومسمعة لم يخنها الصواب ... وزامرة أيما زامره
وما شئت من خبر نادر ... ونادرة بعدها نادره
فواف وإن كنت يا ابن الكرام ... وحاشاك في الساعة الآخرة
وكتب الوزير العباس إلى نديم له:
أيها الكوفي شيخي ... قم بنا نحو الدويره
فلنا فضلة سكبا ... ج لدينا في قديره
ومدام من دم الكر ... مة باتت في ذكيره
وإذا ما ارتاحت النفس ... من الراح قطيره
فضجيعي ساعدا عمرو وشيخي مع عميرة.
ودعا رجل صديقاً له فقال: ما عندك؟ قال: مرقة طيبة ونفس تستطيب أكلها فقال: مثلك يجاب! وكتب أبو سعد بن نوقة إلى أبي مسلم بن بحر وراسله برسول يكنى أبا بكر:
إن كنت تأكل ما حضر ... فاحضر فإنك منتظر
والساعة اقتربت لفر ... ط الجوع وانشق القمر
ورسولنا بكتابنا ... هذا الظريف أبو بكر
وبإذنه حركت منه الكاف كيلا ينكسر
محمد بن باج:
عندنا قدر لذيذ ... ليس للقدر شريك
ونبيذ من زبيب ... وغزال يستنيك
فائتنا نأكل ونشرب ... ثم نخلو فننيك!
آخر:
وماذا ترى في برمة بقرية ... وأخذ بأطراف الحديث المنمق
كتب ابن مكرم إلى أبي العيناء: عندنا سكباج يرعف المجنون، وحديث يطرب المحزون، وإخوانك الملحدون، فلا تعلوا علي وائتون. فكتب إليه أبو العيناء: اخسأوا فيها ولا تكلمون.

من دعا أصحابه ووصف له من الأطعمة ما لم يف به:
قال الأعمش لجليس له: أتشتهي جدياً سميناً وأرغفة باردة وخلاً حاذقاً؟ فقال: إي والله. قال: فانهض معي. فحمله إلى داره وقدم إليه خبزاً يابساً وبقلاً وخلاً قال: فأين الجدي والأرغفة؟ قال: لم أقل لك هما عندي وإنما قلت تشتهيه. والمسمى بابن العباس الأبله قال لبعض من استقبله: هل لك في قديد هش وخبز لين وخبيص ملبق؟ قال: إي والله! قال: اذهب إلى السوق فاشترها فإني قد أشتهيها، وها أنا أعود إلى دارك لآكلها. قال العطوي: دخلت على أبي سعيد المخزومي وهو بين بابين وعلى أحدهما:
نعم النديم نديم لا يكلفني ... ذبح الدجاج ولا ذبح الفراريج
يرضى بقدرين من بر ومن عدس ... وإن تشهى فزيتون بطيبوج
فقلت: قد رضيت بزيتون وأعفيتك من القدرين. فقال: اقرأ على الحائط الآخر، فإذا عليه:
اشرب على الخير والريق ... لبعدنا الآن من السوق
لا تطلبن الخبز من بيتنا ... فإنما تنفخ في البوق
من دعا أخاه فاستعجله:
كشاجم في أبيات كتب بها إلى صديق له يدعوه:
فكن جوابي ولا تركن إلى عذر ... فإن ركنت إلى شيء أتيناه
فقد تيقنت أني ما التمست أخاً ... مساعداً قط إلا كنت إياه
كتب أبو مسلم بن بحر إلى أبي سعيد بن نوقة:
تلقاك يومك بالأسعد ... وأعطيت سؤلك في أحمد
فبادر إلي وقيت الردى ... وهب لي صلاتك في المسجد
آخر:
جعلت فداك قد حضر الطعام ... وصاحت من تأخرك المدام
فإما جئتنا عجلاً وإلا ... أخذنا في اغتيابك والسلام
منصور:
كتبت والكأس في يمناي مترعة ... وأحسن الناس يلهينا ويسقينا
ونحن في مجلس حل السرور به ... خلوين من ثالث حتى توافينا
فكن جواب كتابي والسلام فما ... أراك تدركنا إلا مجانينا
آخر:
كن جوابي إذا قرأت كتابي ... لا تردن للكتاب جوابا
اعفني من نعم وسوف ولي ... شغل وكن سيداً دعي فأجابا
معاتبة متباطىء:

قال بعض الناس: دعاني رجل إلى وليمة في يوم جمعة، فمضيت إلى الجامع وتشاغلت، فجئته مع العتمة فقال لي: يا هذا عصيت الله في هذا اليوم ثلاث مرات: مضيت إلى الصلاة قبل النداء وقد قال الله تعالى: " إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله " ، وقال الله تعالى: " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض " فأقمت إلى العتمة، وعصيت الرسول حيث قال: الداعي مستغيث فأغيثوه، فأخجلني.
كشاجم:
تأخرت حتى كددت الرسول ... وحتى سئمت من الانتظار
وأوحشت إخوانك المسعدين ... وفجعتهم بشباب النهار
وأضرمت بالجوع أحشاءهم ... بنار تزيد على كل نار
فإن كنت تأمل أن لا تذم ... فأنت وحقك عين الحمار
وكتب الصاحب إلى أبي الحسن العلوي في أبيات، وكان قد عاد إلى داره لشغل ووعد أن يعود إليه فلم يعد:
لم ملت في العود إلى التقصير ... كما يقال: حوصلي وطيري

الحث على ترك من تباطأ أو تأخر:
ابن المعتز:
إذا ما تأخر من قد دعوت ... فدعه وما اختار من أمره
ولا تشربن بتذكاره ... ولكن تثاءب على ذكره
آخر:
إن الفتوة كلها ... في أكل ما يتلهوج
فإذا تعجل خمسة من ستة قد أزعجوا
فدع انتظارك واحداً ... لجماعة قد زوجوا
إن البطيء عن الدعا ... ء إلى الإجاعة أحوج
المعتذر لتأخيره عمن دعاه:
كتب المهلبي إلى صديق دعاه فلم يمكنه الحضور:
لولا شغيل عاقني ... بالقرب حاول عن مزارك
لأتيت نحوك مسرعاً ... ولصرت من غلمان دارك
فبحق طرفك وافتنا ... نك والمهذب من نجارك
إلا مننت وقلت لي: إني وهبتك لاعتذارك
ابن طباطبا:
ابسطوا العذر في التأخير عنكم ... شغل الحلي أهلة أن يعارا
فضل المجيب الدعوة على داعيه:
قال ناصر الدولة وقد دعاه إنسان إلى دعوته:
من دعانا فأبينا ... فله الفضل علينا
فإذا نحن أجبنا ... رجع الفضل إلينا
ودعا بعض الناس أديباً فامتنع فقيل له في ذلك فقال: إنه دعاني مرة فأجبته فلم يشكرني عليه.
شاعر:
أتاني رسولك يبغي الحضور ... فخليت من كنت في دعوته
وجئتك يا سيدي مسرعاً ... كأني نوالك في سرعته
ابن الحجاج في أبيات له:
جئت بلا وعد لأني فتى ... يضجرني التسويف والوعد
معاتبة من شرب الدواء فلم يدعه:
أبو القاسم بن أبي سعد الأصبهاني:
أبا فرج عش سعيداً لنا ... ودمت وبلغت أقصى المنى
أسأت إلينا وأوحشتنا ... وكنت قديماً فتى محسنا
وللبيت مصراعه المستفيض ... ولولاك جئت به معلنا
فبين لنا العذر فيما أتيت ... وصل جمعنا واغتنم شكرنا
الداعي من لا يدعوه:
كان بدمشق شاعران يتعاشران، وأحدهما مكثر عن الآخر ولا يدعوه إلى منزله، فكتب إليه:
أبداً تحصل عندي ... ثم لا أحصل عندك
إن تناصفني وإلا ... أبت يا طائي وحدك
ذكر بعض الكتاب أنه كان يعاشر سوقياً، فاتفق أن دعاه يوماً قال: فلما تمكنت اشتغل عني صاحب الدعوة، فعثرت برقعة بخطه فيها: فلان دعاني مرتين، ودعوته ثلاث مرات، فعليه دعوة، وقد ذكرنا على هذا أسامي كل من يعاشرنا، فلما انتهيت إلى اسمي فرأيته قد حصل له علي دعوات فخرجت وقلت: علي أن لا أتناول طعامك حتى أرد ما علي، قال فقلت في ذلك:
أرى الدعوات قد صارت فروضاً ... وديناً في البرية مستفيضا
فأكره أن أجيب فتى دعاني ... ولا أدعو فيلقاني بغيضا
آخر:
إذا كنت تدعوني لأدعوك مثله ... ففعلك منحول إلى فعل تاجر
الحث على تجديد الإرسال إلى من دعوته والتعريض:
إذا ما كان بينك في عشي ... وبين أخ من الأخوان وعد
فجدد بالغداة له رسولاً ... فإن حوادث الأيام تغدو
مثله:
إذا صاحب لك واعدته ... ليوم اجتماع من الجمعة

فقو عزيمته في الوفا ... بتذكرة لك في رقعة
واجتمع قوم في دار ليلة فأرادوا الصبوح فقال المغني: دعوا صاحب الدار لي فإني أحمله على أن يحتبسكم فغنى:
ومعرس طلب الصبوح وإنني ... لفتى يوافقني الصباح وحسنه
فقال الرجل لجاريته: القوم أرادوا الاصطباح فما الحيلة؟ فقالت الجارية: دعهم لي. وأخذت العود وغنت:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس
فانصرف القوم.

مما جاء في الأجواد بالقرى
قيل لأعرابي: ما القرى؟ فقال: نار يعلو شرفها وخيمة يوطأ كنفها. وقال آخر: تلقى النزيل بالوجه الجميل. وقيل: بذل القرى فوق بذل الندى.
الحث على الإضافة:
قال لله تعالى في مدح قوم: " ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام. قال صلى الله عليه وسلم: إذا نزل الضيف بقوم نزل برزقه، وإذا ارتحل عنهم ارتحل بذنوبهم. وقال: أيما مسلم أضاف فأصبح الضيف محروماً، فحق على كل مسلم نصرته حتى يأخذ قرى ليلته من زرعه أو ماله. أنس بن مالك: كل بيت لا يدخله ضيف سبعة أيام لم تدخله الملائكة. ومر قتيبة بعذرة فقال: إن من يبخل بما يصير حاله إلى هذا لبخيل. وقيل لبعضهم: ما الكرم؟ فقال: طعام مبذول ونائل موصول ووفاء لا يحول. وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: لأن اختبز صاعاً أو صاعين فأدعو إليه نفراً من أخواني أحب إلي من أن أعتق رقبة.
حث الشافع المشفوع إليه على الاصطناع:
كلم علي بن الحسين رضي الله عنهما عاملاً في رجل فقال: أنا لا أكلمك في ما يوهي دينك ويوقع أمانتك، ولكن الحر القادر إذا أراد أن يحسن أحسن. وقال الواثق يوماً لأحمد بن أبي داود تضجراً بكثرة حوائجه: قد اختلت بيوت المال بطلباتك للائذين بك والمتوسلين إليك. فقال: يا أمير المؤمنين هي نتائج شكرها متصل بك وذخائر أجرها مكتوب لك، وما لي من ذلك إلا أن أخلد المدح فيك. فقال: أحسنت! وشفعه. وكتب الصاحب في فصل:
والفتى إن أراد نفع أخيه ... فهو يدري في أمره كيف يسعى
مما جاء في الجود والأجواد
ما حد به الجود والأجواد:
قيل للأحنف: ما السخاء؟ قال: الاستقصاء على الملهوف. وقيل: السخي من كان بماله متبرعاً وعن مال غيره متورعاً وقيل لصوفي: من الجواد من الناس؟ فقال: الذي يؤدي ما افترض عليه. وقيل للحسن رضي الله عنه: من السخي؟ فقال: الذي لو كانت الدنيا له فأنفقها لرأى عليه بعد ذلك حقوقاً. وقال بعضهم: الناس أربعة، جواد وهو الذي يعطي حظ دنياه وآخرته، وبخيل وهو الذي لا يعطي واحداً منهما، ومسرف وهو الذي جعل ماله لدنياه، ومقتصد وهو الذي أعطى كلاً بقدره.
كون السخاء واقياً من النقم:
قال الله تعالى: " وما تفعلوا من خير يعلمه الله " . وقال تعالى: " وما تفعلوا من خير فلن تكفروه " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة. وقال: عليكم باصطناع المعروف فإنه يقي مصارع السوء. وقال صلى الله عليه وسلم: السخاء شجرة من أشجار الجنة أغصانها متدلية في الدنيا. فمن أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى الجنة، والبخل شجرة من أشجار النار، فمن أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى النار. وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما أمهل فرعون مع ادعائه الربوبية لسهولة أذنه وبذل طعامه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: صاحب المعروف لا يقع وإن وقع وجد متكا. وقيل لحكيم: ما الذي يشبه من أفعال العباد فعل الله؟ فقال: الإحسان إلى الناس.
كون المحسن محبوباً عند الله ورسوله:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على شيء يحبه الله ورسوله؟ قالوا: بلى. قال: التغابن للناس. وقال صلى الله عليه وسلم: تجافوا عن ذنب السخي فإن الله تعالى آخذ بيده. وقال: السخي قريب من الله قريب من الناس، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس. وقال صلى الله عليه وسلم: سادة الناس في الدنيا الأسخياء، وفي الآخرة الأتقياء. وقال: الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله. وقالت عائشة رضي الله عنها: جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها. وقيل: من بذل دراهمه أحبه الناس طوعاً أو كرهاً. وقيل: من غزر عوارفه كثر معارفه. وقيل لحكيم: هل شيء خير من الدراهم والدنانير؟ قال: معطيهما.
ابن علقمة:
ولا تسأل الأضياف: من هم؟ فإنهم ... هم الناس من معروف وجه ومنكر

من لا يتعلل على معتفيه:
معاوية بن جعفر:
بل لا نقول إذا تبوأ منزلاً: ... إن المحلة شعبها مكدود
إذ بعضهم يحمي مراصد بيته ... عن جاره وسبيلنا مورود
آخر:
أضفت ولم أفحش عليه ولم أقل ... لأحرمه إن الفناء مضيق
من لا يغلق بابه على معتفيه:
قيل: أمدح بيت قالته العرب قوله:
يغشون حتى ما تهز كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
الرستمي:
ولم يغلقوا أبوابهم دون ضيفهم ... ولا شتموا خدامهم ساعة الأكل
آخر:
إذا تغدى رفعت ستوره
وقال آخر:
وإذا حضرنا الباب عند غدائه ... أذن الغداء لنا برغم الحاجب
ولما عرس جعفر بن يحيى بابنة علي بن عيسى بن ماهان جعل الطعام في الشوارع، فكل من شاء أكل، وجعلت الغوالي في مراكن من ذهب، فمن شاء تطيب، ومن شاء أخذ وانصرف. وكان عبيد الله بن عباس رضي الله عنهما يسمى معلم الجود، وهو أول من وضع الموائد على الطريق، وكانت نفقته كل يوم خمسمائة دينار.
النازل الروابي والأطراف:
أبو فراس:
لنا بيت على عنق الثريا ... رفيع مذاهب الأطناب سامي
تظلله الفوارس بالعوالي ... وتفرشه الولائد بالطعام
ابن هرمة:
أغشى الطريق بقبتي ورواقها ... وأحل في نشز الربا فأقيم
قيل للحسن رضي الله عنه: كيف نزلت بالأطراف؟ فقال: هي منازل الأشراف، يتناولون من أرادوا بالقدرة عليه، ويتناولهم من أرادهم بالحاجة إليهم.
المبادر إلى حمل الضيف:
شاعر:
وقمت إليه مسرعاً فغنمته ... مخافة قومي أن يفوزوا به قبل
فأوسعني حمداً وأوسعته قرى ... وأرخص بحمد كان كاسبه الأكل
المسرور بمجيء الضيف وشاكره عليه:
دعبل:
الله يعلم أنني ما سرني ... شيء كطارقة الضيوف النزل
ما زلت بالترحيب حتى خلتني ... ضيفاً له والضيف رب المنزل
وله:
نغمات الضيف أحلى عندنا ... من ثغاء الشاء أو تلك الوغا
آخر:
لم يطيقوا أن يسمعوا فسمعنا ... فصبرنا على رحى الأسنان
صوت مضغ الضيوف أحسن عندي ... من غناء القيان بالعيدان
الحرماري:
لضيفي عليّ الطول ما دام نازلاً ... عليّ وفوق الطول ما استوطن الرحلا
أبادره بالشكر قبل حلوله ... فإن حلّ بي صيرت خدي له نعلا
المحتشد لأضيافه:
بعضهم:
فتى لا تعد الرسل تقضي ذمامه ... إذا نزل الأضياف أو تنحر الجزر
وقال بعضهم: دعا فأحسن قرانا، وبر حتى لم يبق في داره ما يتفقدنا به مرة أخرى. وقيل لبعض من اتخذ دعوة: أسرفت. فقال: ليس في الشرف سرف. وقال الحسن فيما ظن لرجل أولم: أسرف فليس في الطعام سرف.
كشاجم:
كأن الزائرين إذا أتوه ... مفاجأة أتوه على تعاد
الحث على ترك التكلف وتعجيل الحاضر:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: هلاك بالرجل أن يدخل عليه النفر من أصحابه فيحتقر ما في بيته أن يقدم إليهم. وقال: لا أحب المتكلفين. دعي أمير المؤمنين إلى دعوة فقال: على أن لا تحتشد ما ليس عندك ولا تحتبس ما عندك. بكر المزني: إذا أتاك ضيف فلا تنتظر به ما ليس عندك وتمنعه ما هو عندك، قدم إليه ما حضر. وقيل: الضيف إلى القليل العاجل أحوج منه إلى الكثير الآجل، أما سمعت قول الله تعالى: " فما لبث أن جاء بعجل حنيذ " . وقال تعالى: " إلى طعام غير ناظرين اناه " ، وقال بعض العلوية:
إذا طُرقتَ فما حضر ... وإذا دَعوتَ فلا تذر

عذر من قدم ما حضر:
نزل ضيف بأعرابية فقدمت له خبزاً يابساً ولبناً حامضاً فذمها وقال:
ألم تر أن المرء من ضيق عيشه ... يلام على أخلاقه وهو معذر
وما ذاك من لؤم ولا من ضراعة ... ولكنه إن يطبل الدهر يزمر
آخر:
إذا أنت لم تشرك رفيقك في الذي ... يكون قليلاً لم تشاركه في الفضل
آخر:
لقل عاراً إذا ضيف تضيفني ... ما كان عندي إذا أعطيت مجهودي
جهد المقل إذا أعطاك نائله ... ومكثر من غنى سيان في الجود
عذر من لم يقدر:
استضاف قوم ابن هرمة فخرجت بنية له فصرفتهم واعتذرت إليهم فقالوا لها أليس أبوك القائل:
لا أمنع العود بالفصال ولا ... أبتاع إلا قريبة الأجل
قالت: هذا الفعل هو الذي ترككم بلا قرى. وقال رجل لما سأله فلم يعطه فعاتبه: بيتي ببخل لا أنا!
عتب من لم يرض بما حضر:
قال شقيق: دخلنا على سلمان فقدم لنا شيئاً وقال: لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن نتكلف للضيف لتكلفت لكم، فجاءنا بخبز وملح، فاقترحنا عليه السعتر فذهب بمطهرته، فلما أكلنا قال أحدنا: الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا. فقال سلمان: لو قنعكم لم تكن مطهرتي مرهونة. وقيل: ليس بكريم من لم يقنع بما حضر.
مدح من آثر على نفسه أو أهله:
نزل ضيف على أنصاري، وكان عنده شيء طفيف فأحضره، وأطفأ السراج ليأكل الضيف فلا يشاركه فيه. فلما أصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم: عجب ربكم تعالى البارحة منكم فأنزل الله عز وجل: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " . وقال صوفي لآخر: كي يعمل فقراؤكم؟ قال: إذا وجدوا أكلوا وإذا عدموا صبروا. فقال: هذا فعل الكلاب إن الفقير منا إذا عدم صبر، وإذا وجد طعاماً آثر به غيره! وقال مالك بن دينار يوماً: ما أكلت العام رطبة، وكان حوله سبعمائة في تلك السنة لحطمة نالتهم.
شاعر:
وزاد رفعت الكف عنه تكرماً ... إذا ابتدأ القوم القليل من العقل
آخر:
كريم مكان الكف من ذي انائه ... إذا قل زاد القوم من جانب اليد
آخر:
سأقدح من قدري نصيباً لجارتي ... وإن كان ما فيها كفافاً على أهلي
المساعد ضيفه في مؤاكلته:
قال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض نسائه: آكلي ضيفك فالضيف يستحي أن يأكل وحده. وكان ملوك الهند يؤاكلون أضيافهم، وملوك الفرس يأكلون بعدهم.
بعضهم:
حسن أكل الفتى يدل على إيناسه ضيفه وبسط أكيله
وتراه يفل منه ويدعو ... ذاك أضيافه إلى تبخيله
آخر:
وزاد وضعت الكف فيه تأنساً ... وما فيَّ لولا أنسة الضيف من أكل
المساعد رفقاءه بذات يده:
بعضهم:
وإني إذا ما ضمني السير والسرى ... جعلت مطايا الرحل منا تعاقبا
فأوسع ركبان الفيافي مزاودي ... وما زال مأدومي لصحبي تناهبا
أأوب وقد نفضت ما في حقائبي ... جميعاً إذا رد اللئام الحقائبا
ارطأة بن سهية:
وما دون ضيفي من تلاد تحوزه ... لي النفس إلا أن تصان الحلائل
الحث على إكرام الضيف:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. وقال صلى الله عليه وسلم: ليس مني من بات شبعان وضيفه بطنه طاو.
عمرو بن الأهتم:
وجاري لا يهيننه وضيفي ... إذا أمسى وراء البيت كور
آخر:
والضيف أكرمه فإن مبيته ... حق ولا تك لعنة للنزل
مدح القائم بخدمة الضيف:

قال الله تعالى: " هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين " ؛ قيل: وصفهم بذلك لأنه قام بخدمتهم بنفسه.
المقنع:
وإني لعبد الضيف ما دام نازلا ... ولا فيّ إلا تلك من شيمة العبد
وقال:
وعبد للصحابة غير عبد
جحظة البرمكي:
يا أم طارق ليل قد ألم بنا ... استغنمي أجره فالأجر مغتنم
كوني له أمة فيما يحل له ... ورفهيه ففي ترفيهه كرم
ونزل ضيف بجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فتخفف هو وغلمانه عند نزوله وعاونوه في حلوله، فلما أراد الارتحال عنهم لم يعنه غلام، فشكاهم فقال: إن غلماننا لا يعينون على الارتحال عنا.
الاستقصاء على الأكيل مدحاً وذماً:
قال ابن عون: ما رأيت أسخى بالطعام من الحسن وابن سيرين. وكان الحسن رضي الله عنه يقول: الطعام أهون من أن يحلف عليه. وكان ابن سيرين يحلف يقول: أقسمت لتأكلن.
دعبل:
كيف احتيالي لبسط الضيف من حصر ... عند الطعام، فقد ضاقت به حيلي؟
وقدم رجل إلى الشعبي طعاماً فقصر في أكله فقال: قصرت. فقال: يا هذا إما أن تحلف علينا أو تدعنا. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما من داخل إلا وله حيرة فابدأوه بالسلام، وما من مدعو إلى طعام إلا وله حشمة فابدأوه باليمين.

محادثة الأكيل:
كره قوم الحديث على المائدة، واستحبه قوم، ومن صاحب الدعوة أحسن ولذلك قال الشاعر:
صادف أنساً وحديثاتً ما اشتهى ... إن الحديث طرف من القرى
وقيل: محادثة الأخوان تزيد في لذة الطعام.
أحمد بن أبي طاهر:
وأكثر ما ألذ به وألهو ... محادثة الضيوف على الطعام
وقيل: من أكثر الكلام على طعامه غش بطنه وثقل على أخوانه.
مضاحكة الأضياف:
شاعر:
أضاحك ضيف قبل إنزال رحله ... ويخصب عندي والمحل جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ... ولكنما وجه الكريم خصيب
أعرابي:
نقريهم الوجه ثم البذل يتبعه ... لا نترك الجهد منا قلَّ أو كثرا
آخر:
أبسط وجهي للضيوف النزل ... والوجه عنوان الكريم المفضل
فضل الاجتماع على الأكل:
شكا رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قلة البركة في طعامهم فقال: لعلكم تتفرقون على طعامكم. قال: نعم. قال: اجتمعوا عليه واذكروا اسم الله لديه. وقال صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بشراركم؟ من أكل وحده وضرب عبده ومنع رفده. وكانت العرب تعد التفرد بالأكل احتقاب وزر حتى أنزل الله تعالى: " ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً " . وقال أبو أمامة في قوله تعالى إن الإنسان لربه لكنود: أنه الذي يأكل وحده! شاعر:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلاً فإني لست آكله وحدي!
وقال عبد الله بن المعتز في اجتماع الأيدي على الطعام:
كأن أكف القوم في جفناته ... قطاً لم ينفره عن الماء صارخ
من نحر سمان الإبل للضيف:
وصف أعرابي رجلاً فقال: نحر لنا ذا سديف مسرهد دنيء غير مصرد، فقدمه في جفان كالحوابي وقدور كالجياني.
العجير السلوى:
وإن ابن عمي لابن زيد وإنه ... لبلال أيدي حلة الشول بالدم
ابن المعتز:
والسيف راعي إبلي في المحل ... يسلمها إلى قدور تغلي
يرقل فيها بالوقود الجزل ... أرقالها في السير تحت الرحل
المتنبي:
تفري صوارمه الساعات عبط دم ... كأنما الساع قفال ونزال
من نحرها له لما قل لبنها:
لبيد:
إذا ما درها لم يقر ضيفاً ... ضمن له قراه من الشحوم
عوف بن الأحوص:
إذا الشول راحت ثم لم يغد حملها ... بألبانها ذاق السنان عقيرها
الخائف ابله النحر:
ابو هرمة:
وكانت تطير الشول عرفان صوته ... ولم تمس إلا وهي خائفة العقر
أبو فراس:
وتصبح الكوم أشتاتاً مروعة ... لا تأمن الدهر إلا من أعاديها
من لا يبقي ابله لحسنها عن النحر:
بعضهم:
إذا أخذت بزل المخاض سلاحها ... تجرد فيها متلف المال كاسبه
البسامي:
ترى إبل البخيل لها سلاح ... تهاب، وما لإبلي من سلاح

تناوح إن رأت شخصاً غريباً ... يوافي عند هبات الرياح

الموقد ناره للأضياف:
قيل لأعرابي: ممن أنت؟ قال: ممن لا يزجر وفودهم ولا يسر وقودهم. وقيل لآخر مثله فقال: ممن يهتدي برأيه الصحب، ويستدل بناره الركب. وقال آخر: لهم نار وارية الزناد قديمة الولاد، تضيء لها البلاد ويحيى بها العباد.
مضرس:
وإني لأدعو الضيف بالضر بعدما ... كسا الأرض نضاح الجليد وجامده
آخر:
له نار تشب بكل قاع ... إذا النيران ألبست القناعا
ابن مطرود:
أوقد النار بالفضا حين لم ير ... ض نباح الكلاب للأضياف
كعب الأشعري:
رفعوا الوقود على الجبال ترفعا ... أن يستدل عليهم بنباح
ابن ميادة:
وناراه نار يجذب الضيف ضوؤها ... وآخرى يصيب المجرمين سعيرها
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا
فلم يتبجح إلا بوجود الحطب والنار في اللفظ، وقد أحسن القائل:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
المتبجح بأن كلابه تسر بمجيء الضيف:
قال جرير:
حبيب إلى كلب الكريم مناخه ... يفيض إلى الكوماء والكلب أبصر
آخر:
وكلبك أبصر بالمعتفين ... من الأم بابنتها الزاهده
عبد الأعلى العبدي:
فللكلب لما أن هداه إلى القرى ... نصيب وللنور الدليل نصيب
ابن هرمة:
ويدل ضيفي في الظلام على القرى ... إشراف ناري أو نباح كلابي
حتى إذا واجهته وعرفته ... فديته ببصابص الأذناب
آخر:
يبصبص كلبنا إن جاء ضيف ... ويقتل إن ترمرم بالهرير
المتبجح بأن كلابه لا تهر على الضيف:
حسان بن ثابت:
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
آخر:
وما يك فيّ من عيب فإني ... جبان الكلب مهزول الفصيل
قال الأصمعي لبعض الأعراب: ما تعرفون من مكارم الأخلاق؟ قال: تضيء نارنا للضيف ولا تنبح كلابنا، ونقريه وجوهنا قبل طعامنا.
الفرزدق:
وإني سفيه النار للمبتغي القرى ... وإني حليم الكلب للضيف يطرق
فيجمع بين سفه النار وهو فرط التهابها وحلم الكلب، وذلك بديع.
البارز قدره:
بعض بني غطفان:
قدوري بصحراء منصوبة ... ولا تمنع الضيف اسجافيه
حاتم:
لأن تستري قدري إذا ما طبختها ... عليّ إذاً ما تطبخين حرام
الراعي:
إني أقسم قدري وهي بارزة ... إذ كل قدر عروس ذات جلباب
العظيم قدره:
حسان:
رأيت قدور الصاد حول بيوتنا ... قنابل دهماً في المباءة صيما
آخر:
نصبنا له جوفاء ذات ضبابة ... من الدهم مبطاناً طويلاً ركودها
ولم قال مضرس:
وقدر كحيزوم النعامة أحمشت ... باجذال خشم زال عنها هشيمها
سمع ذلك زياد الأعجم فقال: وما حيزوم النعامة؟ لعن الله هذه من قدر! فما أحسبها تشبع آل مضرس، فقيل له: فكيف تقول أنت؟ قال أقول:
وقدر كجوف الليل أحمشت غليها ... ترى الفيل فيها طافياً لم يفصل
ولو أن بني حواء حول رمادها ... لما كان منهم واحد غير مصطلي
غليان القدر:
الفرزدق:
كأن المجال الغرّ في حجراتها ... عذارى بدت لما أصيب حميمها
دعبل:
وباتت قدرنا طرباً تغني ... علانية بأعضاء الجزور
الكميت:
كأن هرير الغلي في جنباتها ... تغيظ غيرا عند بعض الضرائر
وقال شاعر:
وقدور على اليفاع ينادي ... الضيف منها تغيظ الغليان
وقد زاد هذا الشاعر حيث زعم أن غليان قدره يدعو أضيافه، وإن كان فيه غلو معن بن زائدة في وصفه:
إذا اختلفت أوصالها فكأنما ... يزعزعها من شدة القلي افكل
آخر:
كأن صياح الغلي في سجراتها ... بغايا عليهم الحلي يقعقع
عامر بن الصلتان:
كأن تتابع الغليان فيها ... فوارس عامر تبغي قراعا
العظيم الجفان:
الأعشى:

يروح على آل المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
السفاح بن بكيرة:
المالىء الشيزي لأضيافه ... كأنها أعضاد حوض بقاع
أبو خراش:
نقاتل جوعهم بمكللات ... من الفرني يرعبها الجميل

المكثر مرقه لما قل لحمه:
زيد الفوارس:
وسع بمدك ماء اللحم تقسمه ... وأكثر الشرب إن لم يكثر اللبن
وقيل: أكثروا المرق فإنه أحد اللحمين.
المرخص لحمه مطبوخاً:
شبيب بن البرصاء:
وإني لأغلي اللحم نيئاً وإنني ... لممن يهين اللحم وهو نضيج
بعض بني ضبة:
أرى ذاك في عيني قبيحاً وللفتى ... سوى الجار ربح في التجارة واسع
مما جاء في البخلاء بالقرى
بخيل بالطعام متجوز:
ابن الحسن العصفوري:
لا تكارم تشبهاً بالكرام ... ليس تخفى الوجوه عند الطعام
من لا يحتشد لضيفه إلا بعد حضوره:
شاعر:
خاف الضياع على شيء يعجله ... من المآكل إن أصحابه ثقلوا
فما يقل على العجلان برمته ... حتى يرى أنهم في الدار قد حصلوا
وحكي عن بعض البخلاء أنه رؤي في داره جمل قد نبر وجعل سميطاً، وهو يحول في داره، قال فسألته عنه فقال: أنا دعونا قوماً فخفنا أن يتأخروا، فجعلنا الجمل على هذا الكي أن حضروا سهل إصلاحه، وإن تأخروا لم يلحقنا ضرر بذبحه.
من قل في دعوته الطعام:
أكل رجل مع بعض الهاشميين فكان على مائدته أرغفة متبددة، فلما فرغ من رغيفه قال: يا غلام فرسي! فقال الهاشمي: وما تصنع به؟ قال: اركبه إلى ذلك الرغيف. وهب بن شاذان:
مات في عرس سليما ... ن من الجوع جماعه
مات أقوام وقوم ... علموا فيه القناعة
لم يكن ذلك عرساً ... إنما كان مجاعه
وقال بعضهم: من ضاف فلاناً استغنى عن الكنيف وأمن التخمة.
محمد بن يوسف:
أبني سعيد إنكم من معشر ... لا يعرفون كرامة الأضياف
قرنوا الغداء إلى العشاء وقربوا ... زاداً لعمر أبيك ليس بكاف
بينا كذلك جاءهم كبراؤهم ... يلحون في التبذير والإسراف
وأضاف رجل أعرابياً فلم يأته بشيء يأكله حتى غشي عليه من الجوع، فأخذ يقرأ عليه القرآن فقال:
لخبز يا أخي عليه لحم ... أحب إلي من حسن القرآن
تظل تدهده القرآن حولي ... كأني من عفاريت الزمان
من لا تمس يده ضيفه طعامه:
شاعر:
أما الرغيف لدى الخوا ... ن فكالحمام لدى الحرم
ما إن يحس ولا يمس ولا يذاق ولا يشم
المصيصي:
يضع الطعام وليس إلا شمه ... علقت روائحه بأنف الزائر
فعلى جليسك غسل عينيه إذا ... رفع الخوان مع الهجاء السائر!
جحظة:
طوبى لمن يشبع من خبزكم ... فهو على مهجته آمن
من شبع وضيفه جائع:
فضالة:
وحسب الفتى لؤماً إذا بات طاعماً ... بطيناً وأمسى ضيفه غير طاعم
آخر:
وشبع الفتى لؤم ... إذا جاع صاحبه
قال الأعشى في علقمة:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
فقال علقمة: فضحني والله! اللهم اخزه إن لم يكن صادقاً!
من يؤذي ولا يقري:
بعضهم:
إن يوقدوا يوسعونا من دخانهم ... وليس يدركنا ما تنضج النار
آخر:
لا يرتجي الجار خيراً في بيوتهم ... ولا محالة من شتم والغاب
المنفرد عن أصحابه بالأكل:
بعضهم:
يروغ ويأكل في جفنة ... وأكباد ضيفانه جائعه
وقيل للجماز: من يحضر مائدة الهبيرا، فقال: أكرم خلق الله، الكرام الكاتبون. واصطحب رجلان فقال أحدهما للآخر: تعال حتى نأكل معاً. فقال: معي خبز ومعك خبز، فلولا أنك تريد الشر لأكلت وحدك! وقيل لآخر: ألا تأكل معنا؟ فقال: الجماعة مجاعة. قال الشاعر:
الآكلون خبيث الزاد وحدهم ... والسائلون بظهر الغيب: ما الخبر؟

ومر رجل بآخر يأكل فلسم عليه فقال له: هلم، فهم الرجل أن يقعد معه فقال الآكل: رفقاً! أما عرفت هذا ما هو؟ فقال: ما هو؟ قال: علي أن أقول هلم، وعليك أن تقول هنيئاً، حتى يكون كلاماً بكلام! فقام الرجل فقال: قد أعفيتك من التسليم ومن تكليف الرد. فقال: قد أعفيت نفسي إذاً من هلم.
شاعر:
وجيرة لا ترى في الناس مثلهم ... إذا يكون لهم عيد وإفطار
إن يوقدوا يوسعونا من دخانهم ... وليس يدركنا ما تنضج النار

المستأثر بسني الطعام على الضيف:
قيل: كان مالك بن دينار يقدم إليه ثريدة بلقاء ما يليه منها حواري، وما يلي الناس خشكار، فقال شاعر:
أمير يأكل الفالوذ فرداً ... ويطعم ضيفه خبز الشعير
وقال أبو بكر بن أبي سعيد لأبي الفضل بن العميد، وقد استبد بأكل طعام دون ندمائه: أيها الأستاذ، هذا من الصفايا؛ أراد به قول الشاعر:
لك المرباع منها والصفايا
وقال وقد قدم طعام فمد أبو الفضل سبط العميد يده، فتناوله فقال أنت كما قال:
أبوك لنا غيث نعيش بسيبه ... وأنت جراد لست تبقي ولا تذر!
من حرد لتناول أكيله ما بين يده:
أكل أعرابي مع سليمان بن عبد الملك، فتناول الأعرابي من بين يديه شيئاً فأكله، ثم مد يده فتناول شيئاً آخر فقال سليمان: كل مما يليك. فقال: أو ههنا حمى؟ فقال: خذها لا هنأ لك المرتع! وأكل صعصعة مع معاوية، فأخذ شيئاً من بين يديه فقال معاوية: انتجعت. فقال: من أجدب انتجع، ومن لم يعد الجواب انقطع. وأكل آخر مع معاوية فجعل يمزق جدياً على المائدة ويمعن في أكله، فقال معاوية: إنك تحرد عليه كأن أمه نطحتك! فقال الرجل: وإنك لمشفق عليه كأن أمه أرضعتك!
ذم من لا يظفر بخبزه:
قيل لرجل: كيف وجدت فلاناً؟ قال: كان بي الجوع فانتظرت الطعام فأبطأ حتى درسته بمضغ اللبان مخافة النسيان ابن باذان:
قد علمنا أن في دا ... رك ما يكفي قبيله
ورأينا عرض بستا ... نك والفرش النبيله
غير أن الجن لا تقدر في خبزك حيله
شاعر:
لو دخلت منزله ذرة ... لم تجد الذرة ما تأكل
آخر:
قد فر من منزله فأره ... وعاذ بالجيران مسترزقا
هو مأخوذ من قول امرأة لزوجها: والله ما تقيم الفأرة في دارك إلا لحب الوطن! وقال أبو نواس:
وما خبزه إلا كعنقاء مغرب ... تصور في بسط الملوك وفي المثل
آخر:
وخبزك غير منقطع التراب
وقال بعضهم: خبزه في الهواء لا يوصل إليه إلا بسلم من زبد في يوم صائف.
الصغير الأواني:
ذم رجل آخر فقال: غضائره مساق وألوانه أواق. وقال آخر: فلان دعواته ولائم، وأقداحه محاجم، وكؤسه محابر، ونوادره بوادر.
أبو نواس:
رأيت قدور الناس سوداً من الصلى ... وقدر الرقاشيين زهراء كالبدر
يبينها للمعتفي بفنائهم ... ثلاث كحظ الثاء من نقطة الحبر
ولو جئتها ملأى عبيطاً مجزلاً ... لأخرجت ما فيها على طرف الظفر
معن بن زائدة:
وقدر ككف القرد لا مستعيرها ... يعار، ولا من ذاقها يتدسم
الصغير الرغفان:
الخوارزمي:
كأن رغفانه إذا وضعت ... عشور نقط كتين في ورق
البسامي:
أتانا بخبز له حامض ... شبيه الدراهم في حليته
يضرس آكله طعمه ... وينشب في الحلق من خشنته
فإما تنفست عند الخوان ... تطاير في الجو من خفته!
من يصعب عليه كسر رغفانه:
قال اليزيدي:
سيان كسر رغيفه أو كسر عظم من عظامه
ونحوه:
كأنما كل لقمة أكلت ... منزوعة من يديه مختلسه
جحظة:
ولما كسرت له جردقاً ... ومن ذا يطبق له كسر جردق؟
تغير لي عن جميع الوداد ... فصار جريراً وصرت الفرزدق
الصائن طعامه الباذل عرضه وأهله:
قال شاعر:
وبات رخيصاً عنده صون عرضه ... ورغفانه في الناس جد نوال
وهب:
قد كان يعجبني لو أن غيرته ... على جرادقه كانت على حرمه
عبدان:
رغيفك في الأمن يا رستمي ... يحل محل حمام الحرم

فلله درك يا سيدي ... حرام الرغيف حلال الحرم
وقيل لبخيل: إنك تكرم خبزك وتهين لإكرامه نفسك! فقال: كيف لا أفعل ذلك، والخبز هو الذي أخرج حواء وآدم وإبليس والطاووس من الجنة بسببه؟

المعير ضيفه بكثرة أكله والمانع:
قال رجل لبعض الكبار: لم لا تدعوني لدعوتك؟ فقال: لأنك جيد المضغ شديد البلغ، إذا أكلت لقمة هيأت أخرى. فقال: أتريدني إذا أكلت لقمة أن أصلي ركعتين بين كل لقمتين؟ وصنع أعرابي طعاماً ودعا إليه صديقاً، فلما أراد أن يمد يده قال له: مهلاً لا تصفعها ولا تشرمها ولا تقعرها! أي لا تأكل من أعلاه ولا تخرقها ولا تأكل من أسفلها. وقال بعضم لآخر: لم لا تدعوني؟ فقال: لأنك تعلق وتشدق وتحدق أي تحمل واحدة في يديك، وأخرى في شدقك، وتنظر إلى أخرى بعينك.
مرق قليل الدسم واللحم:
تغذى الجماز عند هاشمي، فمر الغلام بصحفة فقطر منها قطرة على ثوب الجماز، فقال الهاشمي: ائته بطست يغسلها. فقال الجماز: دعه فمرقتكم لا تغير الثياب أي لا دسم لها.
جحظة:
قدم سكباجة مزورة ... أحمض من وجهه إذا أكلت
ابن سكرة:
أكلت بالأمس جزورية ... تخبر عن خسة أربابها
للحم فيها أثر دارس ... كأنما مر على بابها
وكان رجل في دعوة، فأخذ عراقاً فلم يجد عليه لحماً، فوضعه وأخذ آخر فقال صاحب الدار: ألعب بعسك. ووجد آخر قدراً كثيرة العظام فقال: اطبخت الشطرنج أو أسنان الزنج؟ وقال آخر: أقدر هذه أم قبر؟
من يصعب عليه أكل طعامه:
عباد:
كأنما الآكل من خبزه ... يقلع منه شحمة العين
آخر:
يرى أنه من بعض أعضائه أكلي
أحمد بن أبي طاهر:
لو لم تكن حركات المضغ تؤلمه ... لكان أكثر خلق الله إخوانا
وأكل أشعب عند زياد الحارثي مضيرة فأمعن فيها، فقال: ليس لأهل السجن من يصلي بهم التراويح في رمضان، فليحمل أشعب ليصلي بهم. فقال أشعب: الطلاق لي لازم لا أذوق المضيرة، فاستحيا زياد وتركه. بعث رجل إلى امرأته بلحم طفيف فطبخته لوناً، فلما جاء قدمته إليه فقال: كم طبخت؟ قال: لوناً واحداً. فقال: أنت طالق! قد كانت لي امرأة قبلك ابعث إليه بجرادة، فتطبخ منها سبعة ألوان غير القديد!
ذم المتأمل أكيله:
أكل أعرابي مع معاوية، فرأى معاوية في لقمته شعراً فقال: خذ الشعرة من لقمتك. فقال: وإنك لترضى لتراعيني مراعاة من يبصر معها الشعر، والله لا آكلتك بعدما! وقال بعضهم: فلان عينه دولاب لقمة أكيله.
حاتم:
وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
الشاتم غلمانه على الطعام:
أبو نواس:
رأيتك عند حضور الطعام ... سريعاً إلى العبد والعبده
وتحشد حتى يخاف الأكيل ... شراك عليه من الجعده
جحظة:
إن كنت تهوى أن أزو ... رك أو حننت إلى الزيارة
فدع الشتيمة للغلا ... م إذا دنوت من الغضارة
المغلق بابه عند الأكل:
قال بعض المبخلين لغلامه: هات الطعام وأغلق الباب. فقال: يا مولاي هذا خطأ، أغلق الباب أولاً ثم أقدم الطعام! فقال: اذهب فأنت حر لعلمك بأسباب الحزم.
بعضهم:
قوم إذا أكلوا أخفوا كلابهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدار
جحظة:
القاطعين مخافة الإنفاق أسباب الصديق
الرقاشي:
تراهم خشية الأضياف خرساً ... يقيمون الصلاة بلا آذان
المعتذر إلى أضيافه لبخله:
قيل: المعذرة طرف من الخبل، وقال زيد الأرانب لما سئل عن خزاعة قال: جوع وأحاديث.
جرير:
والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حلك استه وتمثل الأمثالا
وقال: رميت الأخطل ببيت لو نهشته الأفعى في أسته ما حكه.
المانع كلبه والدافن ناره خشية الطراق:
الحطيئة:
دفعت إليه وهو يكعم كلبه ... ألا كل كلب لا أبالك نابح
زياد الأعجم:
ما ترك الكلب النباح مخافة ... على زادهم لكن على النفس يحذر
عقبة بن مرداس:
نيرانهم محجوبة ونساؤهم ... مبذولة وصحيحهم مكلوم
آخر:
كأن كلامهم والليل داج ... كهول لا يحبون السفاها
آخر:

قوم إذا النيران شبت للقرى ... بالت بناتهم على النيران
آخر:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم: بولي على النار!

الأكل في وقت يأمن فيه الزوار:
قال رجل: أنا لا نأكل إلا نصف الليل. فقيل: لم؟ قال: يبرد الماء وينقمع الذباب ونأمن فجأة الداخل وصرخة السائل.
التنظيف المطبخ والطباخ:
شاعر:
مطبخ داود من نظافته ... أشبه شيء بصرح بلقيس
ثياب طباخه إذا اتسخت ... أنقى بياضاً من القراطيس
البسامي:
مطبخه قفر وطباخه ... أفرغ من حجام ساباط
البخيل بالماء:
أبو الشيص:
شرابك في السماء إذا عطشنا ... وخبزك عند منقطع التراب
وما روحتنا لتذب عنا ... ولكن خفت مرزية الذباب
آخر:
الماء في منزله طرفة ... يشربه الضيف بمقدار
المقتر على نفسه بخلاً:
قال بعض البخلاء: ترك الغداء للعشاء ربح العشرة عشرة.
ابن الرومي:
يقتر عيسى على نفسه ... وليس بباق ولا خالد
ولو يستطيع لتقتيره ... تنفس من منخر واحد
وقيل: أهل الكوفة إذا عتق عندهم التنور وتكثر، دققوه وجعلوه في الفتيت لما تشرب من الخبز. وقيل: إن بعض البخلاء حقن، فلما حركه الطبع دعا بطست فقعد عليه وقال للغلام: ضف هذا الدهن للسراج. وقال رجل لغلامه: اشتر من لحم واطبخه سكباجاً لأعتقك. ففعل فأكل المرق وترك اللحم، فلما كان اليوم الثاني قال: اطبخه مضيرة. ففعل فأكل المرق وترك اللحم، فلما كان اليوم الثالث قال: اطبخه قلية. ففعل فقال له العبد: يا سيدي اعتق هذا اللحم واتركني رقيقاً، فلقد آذيتني من كثرة ما أعذبه بالنار! وكان بعض الكبار توضع على مائدته كل يوم دجاجة، فلا تؤكل بل ترفع ثم تسخن في اليوم الثاني وتقدم، فتترك بحالها فقال بعض الحاضرين، دجاجتنا هذه من آل فرعون، تعرض على النار غدواً وعشياً!
المتبجح بجفائه للضيف:
شاعر:
وأجبه ضيفي حين يحتل ساحتي ... بسيفي ولا أرضى بما يفعل الكلب
آخر:
وانا لنجفو الضيف من غير عشرة ... مخافة أن يضري بنا فيعودا
آخر:
أعددت للضيفان كلباً ضارياً ... عندي وفضل هراوة من ارزن
ومعاذراً كذباً ووجهاً باسراً ... وتشكياً عض الزمان الألزن!
الحد الحادي عشر
في الشرب والشراب
مما جاء في الشراب
سبب تحريم الخمر:
أصل ذلك أن رجلاً من جلة المهاجرين سكر، فصلى بالناس وغلط في القراءة، فأنزل الله تعالى: " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " . فشربوها بعد ذلك في غير وقت الصلاة، ثم شرب أنصاري فشج رأس صاحب له بلحيي جمل فنزل: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء، إلى قوله: فهل أنتم منتهون؟ فقالوا: انتهينا يا ربنا وتركوا شربها في كل وقت. وقيل: إنما حرمت لأن حمزة رضي الله عنه كان في شرب فسكر، فاجتب سنام شارفين لأمير المؤمنين علي، أناخهما إلى جانب حجرته، فدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فلامه، فقام ثملاً محمر العينين وقال: هل أنتم إلا عبيدنا وأبناء عبيدنا؟ فعرف النبي صلى الله عليه وسلم فكر على عقبيه.
ما يدل على تحريم الخمر:
قال الله تعالى: " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس " . وهذا أول ما نزل في تحريم الخمر ثم قال: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون. ثم قال: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: حرمت الخمرة بعينها والمسكر من كل شراب. وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا نبيعها؟ فقال: ألا إن الله لعن الخمر وغارسها وشاربها وعاصرها ومعتصرها، وساقيها وحاملها وبائعها وآكل ثمنها! وقد أجمع المسلمون على تحريمها.
تحريم النبيذ:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: كل مسكر حرام، وقال: كل مسكر خمر. وقال: ما أسكر كثيره فقليله حرام. وروي أن إبليس لما لعن قال: يا رب اجعل لي شراباً. فقال: شرابك كل مسكر. وروي أنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة العنب والتمر والبر والشعير والعسل، ونهى عن الفضيخ وقال: ما خمرته فهو خمر.

تحليله:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: حرمت الخمرة بعينها والمسكر من كل شراب. وسمعت بعض العلماء يحتج في ذلك بقوله تعالى: " تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً " . فأخبر على سبيل الامتنان علينا باتخاذ السكر منه وأخبار لا يصح فيها النسخ. ورفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل شرب مسكراً، فأمر به فضرب فقال:
ألا أبلغ رسول الله عني ... بأني ما سرقت ولا زنيت
شربت شريبة لم تبق عرضاً ... ولا أنا لذة منها قضيت
فقال صلى الله عليه وسلم: لو علمت ما ضربته. استحضر عيسى بن موسى ابن عياش وابن إدريس فسألهما عن النبيذ فقال ابن عياش: حلال، وقال ابن إدريس: حرام. فقال ابن عياش: أدركنا أبناء الصحابة التابعين بهذه المدة يشربونها في الولائم حلالاً كانت أو حراماً، وبكاؤنا على أصل الدين أشد من بكائنا على النبيذ. سئل بعض القدماء عن نبيذ العسل فقال: حرام! فقيل: لم؟ قال: لأنكم لا تؤدون سكرها. وقال بعضهم: سقاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه نبيذاً شديداً وقال: إنا نأكل لحوم هذه الابل فنشرب عليها النبيذ الشديد ليقطعها في بطوننا. وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بنبيذ فشمه وقطب وجهه ثم ضربه بالماء وقال: إن هذا الشراب سيغتلم ويشتد فما عليكم فافعلوا به هكذا. وقال حفص بن غياث: كنت عند الأعمش وعنده نبيذ، فاستأذن قوم من أصحاب الحديث فسترته بمنديل، فكرهت أن أقول لئلا يراه الداخلون فقلت: لئلا يقع فيه الذباب، فقال: هيهات هو أمنع جانباً من ذلك! قال النخعي: كانت الرواية كل سكر حرام فزادوا فيه الميم، وليس ما قاله بصحيح.
نوادر في تحليله:
قال ابن أبي ليلى لأبي حنيفة: أيحل النبيذ وبيعه وشراؤه؟ قال: نعم. قال: أفيسرك أن أمك نباذة؟ فقال أبو حنيفة: أيحل الغناء وسماعه. قال: نعم. قال: أفيسرك أن أمك مغنية؟ ووضع رجل بالكوفة على باب المسجد نبيذاً بين يديه وجعل ينادي: من يشتري رطلاً بدرهم بتحليل أبي حنيفة؟ فقال له أبو حنيفة: يا رجل إنك فعلت قبيحاً! فقال: ألست حللته؟ قال: صدقت ومن الحلال أنك تجامع امرأتك، ولو استحضرتها الجامع وجامعتها لاستقبح ذلك. ولقي أبو حنيفة سكران فقال له السكران: يا أبا حنيفة، يا ابن الزانية، إني شربت النبيذ! فقال: ما أحسنت حيث أحللت النبيذ حتى شربه مثلك.
شاعر:
رأيه في السماع رأي حجازي ... وفي الشرب رأي أهل العراق
وقال بعضهم: أباح أهل الحرمين الغناء وحرموا النبيذ، وأباح أهل العراق النبيذ وحرموا الغناء، فأوجدوا السبيل إلى الرخصة فيهما عند اختلافهما إلى أن يقع الاتفاق.
قال بعضهم:
من ذا يحرم ماء المزن خالطه ... في جوف باطية ماء العناقيد؟
إني لأبغض تحريم الرواة لها ... فيها، ويعجبني قول ابن مسعود
يعني ما رواه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: تمرة طيبة وماء طهور. وقال إبراهيم بن محمد بن إسماعيل: النبيذ من المستضعفين في الأرض، يتركه من يتركه ويأتي ما هو أعظم منه.
استباحة الخمر:
مر عمرو بن معدي كرب بعيينة بن حصن فأطعمه تمراً ثم قال: أسقيك لبناً أو ما كنا نتنادم عليه في الجاهلية؟ فقال: أليس قد أمرنا بتحريمها؟ فقال عيينة: كلا إن الله تعالى قال: " فهل أنتم منتهون " ؟ فقلنا: لا. فسكت وسكتنا فقال عمرو: هاتها فأنت أفقه مني! قال بعضهم: الخمر من الجنة لأن الله تعالى يقول في صفة أهل الجنة: إنهم يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن. والخمر تذهب الحزن. قيل لإياس بن معاوية: ما تقول في الكرم والتمر والماء، هي حلال أو حرام؟ فقال: حلال. فقيل: لم حرم الخمر، وإنما يتخذ من ذلك؟ فقال: أرأيت لو صب عليك ماء وتراب وتبن أكان يوجعك؟ قال: لا. قال فلو جمع ذلك كله وجعل لبنة وضرب به رأسك أليس يوجعك؟ وقال ابن الرومي:
أباح العراقي النبيذ وشربه ... وقال: حرامان المدامة والسكر

وقال الحجازي الشرابان واحد ... فحل لنا من بين قوليهما الخمر
سآخذ من قوليهما طرفيهما ... واشربها، لا فارق الوازر الوزر!

تعظيم السكر واختلاف الناس فيه:
قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: ما ذنب أعظم من السكر! وذلك أن العبد يذنب فيتصور له ذنبه، ويعلم أن الله ربه، وإذا سكر نسي ذنبه ولم يعرف ربه، وشر الذنوب ما فرق بين العبد وبين معرفة ربه. وروى أن إبليس قال: مهما أعجزني ابن آدم فلن يعجزني إذا سكر أن آخذ بزمامه، فأقوده حيث أشاء وأحمله على ما أريد: شاعر:
وإن امرأ يبتاع سكراً بصحة ... لفي سكرة تغنيه عن ذلك السكر
حد السكر:
قيل لبعضهم: ما حد اسكر؟ قال: هو أن تعزب عنه الهموم، ويظهر سره المكتوم. وقيل: حده أن يحسن عندك ما كان قبيحاً؛ وأخذ ذلك أبو نواس فقال:
اسقني حتى تراني ... حسناً عندي القبيح
وله:
لا تلمني على التي فتنتني ... وأرتني القبيح غير القبيح
وصف سكران:
انتهى المأمون إلى يحيى بن أكثم، فرآه ثملاً نائماً في الرياحين فقال له: قم، فقال: رجلي لا تطاوعني. فقال: خذ. فقال: كفى لا تواتيني. فقال فيه:
وصاحب ونديم ذي محافظة ... سبط البنان بشرب الراح مفتون
ناديته ورواق الليل منسدل ... تحت الظلام دفين في الرياحين
فقلت: قم قال: رجلي لا تطاوعني! ... فقلت: خذ. قال: كفي لا تواتيني
إني غفلت عن الساقي فصيرني ... كما تراني سليب العقل والدين
ابن المعتز:
مشوا إلى الراح مشي الراح وانصرفوا ... والراح تمشي بهم مشي الفرازين
أبو الوفاء:
حتى يروح السكر فينا وقد ... قام مقام الشكل والعقل
آخر:
مزة تترك عقلي ... ذاهباً في الترّهات
ابن طباطبا:
جعلت أسيراً في يد الراح موثقاً ... فأقبلت أمشي مشية المتقاعس
تماكس رحلي في خطا أستزيدها ... ولم أك في أتراعها بالمماكس
وقيل لسكران: نبعث معك من يحفظك؟ فقال: لا أريد فما مضى من عقلي في خفارة ما بقي:
لو يرى الناس في المدامة رأيي ... لم يبيعوا ببدرة عنقودا
أبو محجن:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروّى عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفننّي بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
وقال عبد العزيز بن مسلم العقيلي: رأيت قبره بأرمينية تحت شجرات كرم، فذكرت قوله فتعجب من الاتفاق الواقع له.
اسحق الموصلي:
اشرب هديت علانيه ... أمّ المروءة زانيه
اشرب فديتك واسقني ... حتى أنام مكانيه
ودع التستّر والريا ... ء فما هما من شانيه
أبو الهندي:
يا خليليّ اجعلا لي كفناً ... ورق الكرم وقبري المعصره
إنني أرجو غداً من خالقي ... بعد شرب الراح حسن المغفرة
وله:
أنا الشيخ الخليع فسيبوني ... لكم إسلامكم وعليّ كفري
من شرب مع إقراره بتحريمها:
قيل لبعضهم: لم لا تترك النبيذ؟ قال: لا أدعه حتى يكون أسوأ عملي. قال أبو العيناء: جمعني ورسول ملك الروم مجلس المتوكل، وقد أحضر الشراب، فقال الرسول: ما لكم حرم عليكم الخمر ولحم الخنزير فشربتم الخمر وتركتم لحم الخنزير؟ فقلت إن لحم الخنزير لما حرم وجد خير منه الحملان والجدي فاستغني به عنه. والخمر لم يوجد خير منها فكان يستغنى به عنها.
عبيد الله بن عبد الله بن سلام:
وقد يشرب الإنسان ما لا يحلّه ... وتحسن أحياناً له الشبهات
أبو نواس:
فخذها إن أردت لذيذ عيش ... ولا تعدل خليلي بالمدام
فإن قالوا: حرام! قل: حرام ... ولكنّ اللذاذة في الحرام
وله:
لا تسقني الدهر ما كنت لي سكناً ... إلا التي نصّ بالتحريم جبريل
إن كان حرّمها الفرقان بعد فقد ... أحلّها قبل توراة وإنجيل
الحث على الكناية عن ذكرها:
ابن باذان:

ألا فاسقني صهباء من حلب الكرم ... ولا تسقني خمراً بعلمك أو علمي
أبو نواس:
اثن على الخمر بآلائها ... وسمّها أحسن أسمائها

الاستغناء بها عن مباشرة الأعمال ومصاحبة السلطان:
عبد الصمد:
يبيت ونفسه من كل شيء ... سوى تدبير لهو مستريحه
يعقوب بن الربيع:
إذا كان عندي قوت يوم وليلة ... من الراح ينفي الهمّ عني إذا اتسع
فلست تراني سائلاً عن خليفة ... ولا عن وزير للخليفة ما صنع
حفظ المدام عن اللئام:
قال بعضهم: وددت أن الكأس بألف والحر في وجه الأسد حتى لا يشرب إلا كريم، ولا ينكح إلا شجاع: أبو نواس:
أجل عن اللئام الراح حتى ... كان الراح يعصر من عظامي
وله:
ووقر الكأس عن سفيه ... فإن حقاً له الوقار
وكان ابن الرومي في مجلس فيه ثقيل بغيض، فعرض الكأس عليه فامتنع ولام ابن الرومي، فقال له ابن الرومي:
يا لائمي في الراح غير مقصر ... لا زال رأيك سيئاً في الراح
فأقل ما في ترك مثلك شربها ... توفيرها وطهارة الأقداح
ابن باذان:
صرف الكأس عن دناة لئام ... همّهم للشقاء جمع الكنوز
الحث على مسابقة الزمان بتناول المدام وتعاطي اللذات:
العتابي:
بادر إلى اللذات مهما أمكنت ... بورودهن بوادر الآفات
كم من مؤخر لذة قد أمكنت ... لغد وليس غد له بموات
حتى إذا فاتت وفات طلابها ... ذهبت عليها نفسه حسرات
تأتي المكاره حين تأتي جملة ... وترى السرور يجيء في الفلتات
وقد أحسن المتنبي في هذا المعنى حيث يقول:
ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها ... فمفترق جاران دارهما عمر
آخر:
بادر فإن الزمان غرً ... من قبل أن يفطن الزمان
آخر:
وبادر فإنا للخطوب فرائس
ديك الجن:
خذ من زمانك ما صفا ... ودع الذي فيه الكدر
فالعمر اقصر مدة ... من أن يمحق بالغير
أبو الفرج الدمشقي:
وتغنم الغفلات من ... دهر يجود على الكرام
الخبزارزي:
وذر الهموم نسيئة ... وتعجل اللذات نقدا
وليزيد بن معاوية:
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... يبادر باللذات قبل العوائق
آخر:
وخذ من الدنيا ولذاتها ... فإنما نحن بها عاريه
قال الصاحب: حضرت الوزير المهلبي يوماً، وقد جاءه خادم عمر المطيع، وفي يده رفعة وفيها غنى لنا بيتان وهما:
عرّج على الخمر وحاناتها ... وأسقنا في وسط جنّاتها
وعلل النفس ولو ساعة ... فإنما الدنيا بساعاتها
فاجعلهما أربعة أبيات فقال لي تفضل فقلت:
والروح في الراح إذا اتبعك ... بها كهايا خشف أوهاتها
وقينة تسبي بأصواتها ... نأخذ من أطيب أوقاتها
؟
الحث على اعتبار الوقت في المسرات دون ماضيه ومؤتنفه:
أبو العتاهية:
ليس فيما مضى ولا في الذي لم ... يأت من لذة لمستجلبيها
إنما أنت طول عمرك، ما عمرت، في الساعة التي أنت فيها
يزيد المهلبي:
أعجز الناس مضيع يومه ... وهولا يعلم ما يأتي غده
ابن الحجاج:
خذ الوقت أخذ اللص واسرقه واختلس ... فوائده بالطيب أو بالتطايب
ولا تتعلل بالأماني فإنها ... مطايا أحاديث النفوس الكواذب
؟؟؟؟
الحث على مبادرة الشيب بتناول المسرات والخمور:
عبد الله بن السمط:
بادر شبابك أن يغتاله الزمن ... واقض ما أنت قاض والصّبا حسن
ابن الجهم:
فبادر بأيام الشباب فإنها ... تفوت وتقضي والغواية تنجلي
أبو علي:
أعط الشباب نصيبه ... ما دمت تعذر بالشباب
المتنبي:
أنعم ولذ فللأمور أواخر ... أبداً إذا كانت لهنّ أوائل
ما دمت من إرب الحسان فإنما ... روق الشباب عليك ظل زائل

للّهو آونة تمرّ كأنها ... قبل يزوّدها حبيب راحل
ولهذا باب في الشيب والشباب:

من شرب على الكبر:
كان إسماعيل بن حمدون يصطبح ويغتبق خمسين سنة ثم ترك النبيذ فعمي، فعاود عادته في الشرب فقيل له فقال لا يجتمع عمى وظمأ.
أبو نواس:
قالوا: كبرت! فقلت: ما قصرت يدي ... عن أن تخبّ إلى فمي بالكأس
اليعقوبي:
هل لك في عذل ابن ستين درك ... شيخ إذا ما غمّه العذل فتك
فهو خليع في الضلال منهمك
استقباح الشرب بالمشايخ:
بعضهم:
أبعد ستين قد ناهزتها حججاً ... أحكّم الراح في عقلي وجثماني؟
يا قبح معتجز بالشيب من كبر ... راحت تميل به أعطاف سكران!
آخر:
أمن بعد ستين ناهزتها ... أعلل قلبي بإطرابه؟
ترك الشرب قبل الكبر:
بعضهم:
لا أجمع الحلم والصهباء قد سكنت ... نفسي إلى الماء من ماء العناقيد
لم تنهني كبرة عنها ولا فند ... لكن صحوت وغصني غير مخضود
مخالفة اللوام في تناول المدام:
أحمد بن أبي طاهر:
إسقنيها برغم من لام فيها ... من نصيح وعاذل وحسود
ابن المعتز:
خليليّ طوفا بالمدام وبادرا ... بقية عمري والسلام على مثلي
ألا إنما جسمي لروحي مطية ... ولا بد يوماً أن تعرّى من الرحل
أيا عاذلي هلا اشتغلت بسامع ... كما أنا مشغول بكاسي عن العذل؟
البسامي:
خلّ عني لست من أربي ... أربي في الكأس والطرب
دونك العذب الزلال ولي ... سعة في صفوة العنب
آدم بن عبد الله بن مروان:
قل لمن يلحاك فيها ... من فقيه أو خليل:
أنت دعها وارج أخرى ... من شراب سلسبيل
الحث على مدافعة الهموم بالشراب والتبجح بذلك:
ابن المعتز:
خلّ الزمان إذا تقاعس أو اجمح ... واشك الهموم إلى المدامة والقدح
ودع الزمان فكم لبيب حاذق ... قد رام إصلاح الزمان فما صلح
ابن الرومي:
سأعرض عمّا أعرض الدهر دونه ... وأشربها صرفاً وإن لام لائم
نوادر السكارى:
سقط سكران فجاء كلب يلحس فاه، فجعل يقول:
أخوكم ومولاكم وصاحب سركم ... ومن قد نشأ فيكم وعاشركم دهراً
وسقط آخر في مستراح مملوء فجعل يقول:
أأصحابنا ما للقعود هنا معنى!
وقال العتابي: كان في دارنا سكران فقعد على مصلى وسلح فيه، فأخذت بيده إلى المستراح فنام فيه، فقالت جاريتي: يا عجباً كل شيء منه مقلوب، خرأ حيث ينام الناس ونام حيث يخرأ الناس!
الخمار:
الخمار يداوي بالخمرة ولذلك قال أبو نواس:
وداوني بالتي كانت هي الداء
وذلك من قول الأعشى:
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
ومات الأعشى في بيت خمارة فارسية فقيل لها: ما كان سبب موته؟ فقالت: منها بها يكشتش أي قتله قوله في هذا البيت. وكان المتنبي ينادم أبا الفوارس بن فهد، فانصرف من عنده ليلة وقد لا أثخن سكراً، فلما أصبح أتاه الرسول يدعوه فقال:
وقد مت أمس بها موتة ... ولا يشتهي الموت من ذاقه
آخر:
كصريع الخمر داوى ما به ... من خمار بعقار فانتشى
من ذمها بأنها تزيل العقل:

حضر نصيب عند عبد الملك بن مروان فدعاه إلى الشراب فقال: إني لم أصل إليك بنفسي ولا بحسن صورتي، وإنما قربت منك بعقلي، فإن رأى الأمير أن لا يحول بيني وبينه فعل. وقيل لأعرابي: لم لا تشرب؟ فقال: لا اشرب من يشرب عقلي. وروي أن ابن أبي شيبة مر بغلام يلعب بالتراب فقال: لا تفعل يا أحمق! فقال الغلام: الأحمق من يشتري الحمق بماله فيدخله رأسه. ويقيء في جيبه ويسلح في ذيله، ويصبح محمراً ويمسي مصفراً! وقيل للعباس بن مرداس: لو شربت النبيذ لازددت جرأة؟ فقال: ما كنت لأصبح سيد قومي وأمسي سفيههم، وأدخل جوفي ما يحول بيني وبين عقلي. وقيل لأعرابي: لم لا تشرب؟ فقال لأنه يفني مالي ويغير عقلي. وعلى هذا الحديث وإن لم يكن من صريح المعنى قال بشر المريسي: دخلت على بعض أصدقائي فقلت: مر جاريتك تسقيني نبيذاً. فقال: أجاف أن تأتمر. ثم قال: اسقيه. فلما شربت قال: تفكرت في أمرك فرأيت النبيذ يزيل العقل ولم أجد لك عقلاً أخاف أن يزيله! شاعر:
سآلة للفتى ما ليس في يده ... ذهابه بعقول القوم والمال
وقال المحكم بن هشام لابنه وكان مولعاً بالشراب: يا بني دع الشراب، فإنما هو قيء في شدقك، وسلح على عقبك أو حدّ في ظهرك.
من تركها تفادياً من ذم الناس:
قال بعضهم: تركت كثيره لله تعالى إجلالاً، وقليله للناس جمالاً. وعوتب بعضهم على تركه فقال: لو علمت أن الماء ينقص من مروءتي ما ذقته. قال الوليد للحجاج: هل لك في الشراب؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، وليس بحرام ما أحللته، ولكني أمنع أهل عملي منه وأخاف أن أخالف قول العبد الصالح: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه؛ فأعفاه. وسأل المنصور أبا بكر الهذلي عن النبيذ فقال: تمادت فيه السفهاء حتى كرهته العلماء.

ذمها بأنها تدعو إلى الفسق:
قال الله تعالى: " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون " . مرت أعرابية بقوم يشربون نبيذاً فسقوها، فلما شربت أقداحاً اعترتها أريحية فقال: أيشرب هذا نساؤكم؟ قالوا: نعم. قالت: إذاً زنين وربّ الكعبة فما يدري أحدكم من أبوه! جحظة:
لم يبلغ الشيخ إبليس إرادته ... حتى تكاثف في عنقوده العنب
سئل عبد اله بن إدريس عن الشرب فقال: اشرب ما لا يشربك.
قدر الشرب وزمنه:
قال المأمون: اشرب النبيذ ما استبشعته، فإذا استطبته فدعه. سئل أبو محمد بن عبد الله عن شرب الربيع فقال: ربيع أهل المروآت وميدان اللذات، وفي إدمانه ذهاب الفطنة وفي تركه فقد السرور. قيل: فما تقول في محادثة الرجال؟ قال: روضة لا يجف نورها وغدير لا ينضب ماؤه وجوهر لا يصلح إلا للملوك.
شاعر:
شرب النبيذ على الطعام ثلاثة ... فيها الشفاء وصحة الأبدان
وقيل: القدح الأول يكسر العطش، والثاني يمرىء الطعام، والثالث يفرح النفس وما زاد على ذلك فضل. وقال قتيبة لقاضي مرو: بلغني أنك تشرب. قال: أجل. قال: فكم تشرب؟ قال: ما بل الثفل وطيب النفس وأغنى عن الماء. قال: فما أبقيت منه؟ قال: أكثره وأخبثه التكاءة على الشمال ومنادمة الرجال والاختلاف إلى المبال. وقال بعض الظرفاء: للنبيذ حدان، حدّ لا هم فيه، وحدّ لا عقل فيه، فعليك بالأول واتق الثاني.
ابن المقفع:
سأشرب ما شربت على طعامي ... ثلاثاً ثم أتركه صحيحا
فلست بقارف منه آثاماً ... ولست براكب منه قبيحا
ذم إدمانها:
قال بعض الظرفاء: أربعة أشياء إن أفرط فيها الرجل أهلكته واستهوته: إدمان الخمر، وحب النساء، وشهوة الصيد، والمماراة. وفي الخبر: لا يدخل الجنة مدمن خمر.
الحث على استيفاء شربها أو تركها:
قال ابن شبرمة لكاتبه: أتشرب النبيذ؟ قال: القدحين والثلاثة. فقال: والله ما شربته شرب من يلتذ به ولا تركته ترك من يتحرج منه. وقيل في جواب هذا المثل: اشرب شرب فتوة أو اترك ترك مروءة. وقيل لبعضهم: كم تشرب؟ قال: مقدار ما أفسد به ديني! وقيل ذلك لآخر فقال: مقدار ما أقوى به على ترك الصلاة.
من أظهر رغبته فيها وقلة صبره عنها:

روي أن الحسن بن يزيد رضي الله عنه لما ولي المدينة قال لابن هرمة: لست كمن باع دينه رجاء مدحك أو خوف ذمك، فقد رزقني الله بولادة نبيه صلى الله عليه وسلم الممادح، وجنبني المقابح، وإن من حقه علي أن لا أغضي على تقصير في حق ربه، وأنا أقسم لئن أتيت بك سكران لأضربنك حداً للخمرة وحداً للسكر، ولأزيدن لموضع حرمتك بي، فليكن تركك ذلك لله تعن عليها، ولا تدعها للناس فتوكل إليهم. فقال ابن هرمة:
نهاني ابن الرسول عن المدام ... وأدبني بآداب الكرام
وقال لي: اصطبر عنها ودعها ... لخوف الله لا خوف الأنام
وكيف تصبري عنها وحبي ... لها حب تمكن في عظامي
أرى طيب الحلال علي خبثاً ... وطيب النفس في خبث الحرام
كان أبو الهندي مولعاً بالخمر فقال له أبوه: إنها تورث السقم وتقم الطعم وتنحف الجسم. فقال: كلا إنها جوهرة قد امتزج فيها عرضان حمرة البهرمان وصفرة العقيان، قد وصفها الله تعالى باللذة لشاربيها في القرآن فرسخ بذلك محبتها في الأبدان، تجمع ما شت من شمل الأخوان. وكان حارثة ابن بدر مشتهراً بالشراب وكان غلب على زياد فقيل لزياد: إنك تتهم لمصاحبته. فقال: كيف لي باطراح من يسايرني مذ دخلت العراق، يصطك ركابه في ركابي، ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه ولا تأخر عني فلويت عنقي له، ولا أخذ الشمس علي في الشتاء ولا الظل في الصيف، ولا سألته عن علم إلا ظننت أنه لا يحسن غيره؟ فلما مات زياد جفاه ابنه عبيد الله فقال له: أيها الأمير ما هذا الجفاء وقد عرفت مكاني من أبي المغيرة؟ فقال: إن أبا المغيرة لم يكن ليحلقه عيب وأنا حدث، ولا آمن أن تشم منك رائحة الخمرة إن جالستني فأتهم، فاتركها وكن أول داخل وآخر خارج. فقال: أنا لا أتركها لمن يملك ضري ونفعي، أفأتركها لك؟ قال: فاختر إذاً ما شئت من عملي فاختار رامهرمز وقال: إن شرلبها موصوف. فلما توجه إليه استقبله جماعة فيهم إياس بن إياس فأنشده:
أحار بن بدر قد وليت ولاية
" الأبيات " وتقدمت.

من رغب فيها غير مفكر في دين ولا مروءة:
قيل للفرزدق: أي الأشربة أحب إليك؟ قال: أقربها من الثمانين! يعني الخمر. وقال عبيد الله ابن زياد للأحنف: أي الأشربة أطيب؟ فقال: الخمر. قال: وما يدريك ولست من أصحابها؟ قال: رأيت من أحلت له لا يتعداها، ومن حرمت عليه يتناولها فلذلك عرفت طيبها دخل أبو العيناء على المتوكل فقال: هل لك في الشراب؟ فقال: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه؟ وكان أبو نواس يقول: خمر الدنيا أجود من خمر الآخرة، ووالله قد وصفها بأنها لذة للشاربين. فقيل: كيف هي أجود؟ قال: لأن الله تعالى جعلها نموذجاً والنموذج أبداً أجود. وقيل له: أتشرب الخمر؟ قال: نعم إذا اشتري بثمن خنزير قد سرق حتى يحرم ثلاث مرات. قيل لثمامة: لا تشرب الخمر فإنه يزيل العقل. فقال: إنه إن زال اليوم لا يزول غداً. باع بعض الأشراف ضيعة فقيل له: أحضر العشية للأشهاد، فقال: لو كنت ممن يصان بالعشيات لما بعت الضيعة. وقال رجل لآخر: وجهت إليك رسولاً عشية أمس فلم يجدك. فقال: هذا وقت لا أكاد أجد فيه نفسي! سئل بعضهم عن استطابة الشراب فقال: وددت أني كنت بعوضة فأموت تحت قربة نبيذ حتى يكون موتي في خلال نعيم.
شاعر:
ورفض امرىء لهواً يواتيه طائعاً ... لآخر إن عاصاها رأي موهم
ومن صارم اللذات أو خان بعضها ... ليرغم دهراً ساءه فهو أرغم
وقد وصف ذلك في وصف المدام بإزالته الغموم.
الشارب بعد توبته والممتنع من التوبة عنه:
كتب بعضهم إلى صديق قد تاب من شرب النبيذ:
إن كنت تبت من الصهباء تتركها ... نسكا فما تبت من بر وإحسان
تب راشداً أو اسقنا منها وإن عذلوا ... فيما فعلت فقل: ما تاب إخواني!
كشاجم:
يقولون: تب والكاس في كف أغيد ... وصوت المثاني والمثالث عالي
فقلت لهم: لو كنت أضمرت توبة ... وعاينت هذا في المنام بدا لي

وحكى بعضهم قال: كان لنا صديق يكثر التوبة من الشرب والعود إليه. ففارقنا يوماً على أنه قد تاب فجاءنا صبيحة غداة وقد أنمحت من أحد عارضيه لحيته فقال: رأيت إبليس في منامي وهو يستعرض أصحابه، فأتى بي إليه بعض أعوانه وقال: قد آذاني هذا المتخلف من كثرة ما يتوب لم يرجع، حلفوه على أن لا يتوب فحلفت ثم قال: الحسوا لحيته من جانب يكون ذلك تذكرة معه، فأصبحت على تلك الحالة.
الشرب سراً:
مر الفرزدق على الحكم بن المنذر بن الجارود، فاستسقى لبناً فأمر غلامه أن يجعل في العقب خمراً ويحلب عليها لبناً ويسقيه، فلما كرع فيه جعل الخمر ينبع من تحت اللبن فشرب فقال له: بأبي أنت ممن يخفي الصدقات. ودخل الغضبان الأسدي على قوم يشربون فاحتشموه ورفعوا نبيذهم، فجعلوه تحت السرير، ورمقت السنور فأرة فطفرت فكسرت الآنية وفاح ريح الشراب فقال الغضبان: إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون. فقالوا له: تالله إنك لفي ضلالك القديم! ثم اخرجوا النبيذ فساعدهم عليه.
الشرب جهراً:
لما وقع الخلاف بين الأمين والمأمون كان المأمون يخطب بخراسان بمساوي الأمين ويقول في جملة مساويه: وما ظنكم بخليفة يقتني شاعراً ينشد بحضرته جهاراً نهاراً في مجلسه هذا القول:
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر
فما الغبن إلا أن تراني صاحياً ... وما الغنم إلا أن يتعتعني السكر
وقال المكتفي للصولي: أتعرف اهتك بيت قالته العرب؟ قال: قول أبي نواس:
ألا فاسقني خمراً وقل لي: هي الخمر!
فقال: بل قول الحسين بن الضحاك:
أتبعت سكراً بسكر ... فابتعت خمراً بعمر

الضعيف الشرب:
قيل لبعضهم: كيف شربك؟ قال: لو وطئت زبيباً لسكرت شهراً.
الخبرازري:
اصرف سفاتج هذا الشرب عن رجل ... له بضيعته في الشرب مزجاة
آخر:
ولو علم الأكارم ضعف شربي ... لأعفوني عن النجب العظام
خالد الكاتب:
لا أسقين ما ليس لي طاقة ... به فإني ضيق الحوصله
الخباز البلدي يعاتب من كثر سقيه:
يسارقني في كل دورين حبة ... ألا إن قيراط النبيذ كثير
من ترك الشرب بخلاً ورياء:
شاعر:
ما حرم الخمر ولكنه ... يتركها بقيا على حاله
يشربها في بيت إخوانه ... ويظهر التوبة من ماله
آخر:
وما إن حرموا المطبوخ نسكاً ... ولكن دققوا فيه المعيشه
وفاحت رائحة الشرب عند وال فأمسك قوم بأنوفهم فقال الوالي: ما أطيب ريحها وإني لأشتهيها لولا تحريمها! فنظر فإذا الذي أمسك على أنفه كل متهم. وحدثني أبو بكر الكرجي قال: كان بالكرج قاض ظريف فدخل عليه نصراني يوماً يعبق منه طيب ورائحة خمر، وكان عنده جماعة من العدول، فضم أحدهم على أنفه وكان متهماً بالشراب، فلما خرج النصراني قال: أخزى الله هذا العدول، فضم أحدهم على أنفه وكان متهماً بالشراب، فلما خرج النصراني قال: أخزى الله هذا الخبيث، دخل وكأنه جيفة! فقال القاضي: ردوه فردوه فقال لعدلين عنده: تشمما هل تجدان رائحة كريهة؟ فقالا: لا أنا لنجد منه رائحة كرائحة الجنة طيباً. فقال: اشهدا أني قد جرحت هذا البارد، فما يعدو حاله كذباً أو حمقاً وجهلاً، وكلتا الحالتين تنافيان العدالة. وما أصدق القائل:
قد يشتم الخمر قوم يكلفون بها ... وقد يسب بنيه الوالد الحدب
بعضهم:
تركوا النبيذ وشمروا أثوابهم ... ومشوا رويداً لاختلاس الدرهم
من ترك الشرب خوفاً من السلطان:
قال أبو نواس لما نهاه الأمين عن الشرب:
أعاذل بعت الجهل حيث يباع ... وأبرزت رأساً ما عليه قناع
نهاني أمير المؤمنين عن الصبا ... وأمر أمير المؤمنين مطاع
ولهو لتأنيب الأمين تركته ... وفيه للاه منظر وسماع
من حد في شربها:
سمع أبو خرابة رجلاً يقول وهو مجلود: من رآني فلا يشرب النبيذ. فقال: في أستك وأست من حملك على هذا المشورة وأست من يقبلها منك! ثم قال:
ستعصى وتقصى ثم تمنى بشربها ... وإدمانها إن كنت حراً مهذبا

ومر النخاسي بأبي السماك في شهر رمضان فقال: هل لك في رؤس وشراب كالورس يطيب النفس، ويهضم الطعام ويسهل للفدم الكلام؟ فنزل وتغديا. فأخبر أمير المؤمنين بذلك فأفلت أبو السماك وأخذ النخاسي فأتي به فضربه ثمانين، وزاده عشرين. فقال: يا أمير المؤمنين وما هذه العلاوة؟ فقال: لجراءتك على ربك في شهر رمضان!

من تخلص من الحد في شرب الخمر:
دخل عمر رضي الله عنه على قوم يشربون فقال: ألم أنهكم عن الشرب فشربتم؟ فقال أحدهم: ألم ينهك الله عن التجسس. فلم تجسست؟ فقال: صدقت! فتجافى عنهم. وقال العبدلي للواثق: ما قمرتني إلا لكوني سكران. فقال: قد وجب عليك الحد لأنك أقرزت. فقال: هذا افتخار لا اقرار اعتراف.
التعريض بمن تغرس فيه بأنه شارب:
دخل أمية بن عبد الله على عبد الملك وبوجهه أثر فقال: ما هذا؟ قال: قمت في بعض الليل فأصابني الحائط؛ فتمثل عبد الملك بقول الشاعر:
رأتني صريع الخمر يوماً فرعتها ... وللشاربيها المدمنيها مصارع
فقال أمية: لا آخذك الله يا أمير المؤمنين بسوء ظنك، ولا يؤاخذك بسوء مصرعك. وكان البراء بن قبيصة صاحب شراب، فدخل على الوليد بن عبد الملك وبوجهه أثر فقال: ما هذا؟ قال: ركبت فرساً أشقر فكبا بي. فقال: لو ركبت الأشهب لم يعثر بك. فعرض بأنه شرب الخمر ولو شرب اللبن لما سقط. وأنشد ابن الرقاع عبد الملك قصيدة وذكر فيها الخمر فأجاد وصفها، فقال عبد الملك: لقد ارتبت بك في إجادة وصفك الشراب. فقال: وأنا ارتبت بك يا أمير المؤمنين لمعرفتك بجودته.
وصف خصائص جميع الأشربة:
قيل لبعض الحكماء: صف لنا خصائص الأشربة فقال: أما الماء فيعظم خطره عند الحاجة إليه بحسب تعذره عند العدم، وأما اللبن فشبع الغرثان وري الظمآن وزاد العجلان، وأما الماذي فكالمروزي في الدثار، والنرسي في الشعار، وأما الزبيبي فنبيل المنظر سخيف المخبر، وأما الخمر فمزاج الروح وصفية النفس. وقيل لآخر: ما تقول في الماء؟ فقال: هو الحياة ويشركني فيه الحمار. فقيل: فاللبن؟ قال: ما رأيته إلا ذكرت أمي واستحييت. قيل: فالخمر؟ قال: تلك السارة البارة شراب أهل الجنة. ودعا الوليد بن يزيد شراعة من الكوفة وهو من فتيانها، فلما قدم عليه قال: إني والله لم أدعك لأسألك عن قرآن ولا استفتيك في سنة. فقال: لو سألتني عنهما لأصبتني فيهما ثوراً فلم دعوتني؟ قال: لأسألك عن الفتوة. فقال: أنا دهقانها الخبير وعالمها الطبيب فسل. فقال: ما تقول في نبيذ التمر؟ قال: اشربه حتى تحر. قال: فنبيذ الدن؟ قال: اشربه حتى تجن. قال: فالدادي؟ قال: أحلى من الماذي. قال: فنبيذ الذبيب؟ فستر وجهه وقال: العظمة لله. قال: فالخمر؟ قال لا أرى شربها. قال: ولم؟ قال: لأني أؤدي شكرها. قال أبو العيناء: النبيذ المكسود الخمر.
أبو نواس:
ولا تأخذ عن الإخوان لهواً ... ولا عيشاً، فعيشهم جديب
دع الألبان يشربها رجال ... رقيق العيش بينهم غريب
بأض نبتها عشب وطلح ... وأكثر صيدها ضبع وذيب
إذا راب الحليب فبل عليه ... ولا تحرج فما في ذاك حوب
فأطيب منه صافية شمول ... يطوف بكأسها ساق أديب
يمد لك القنان إذا حساها ... ويفسخ عقد تكته الدبيب
فذاك العيش لا خيم البوادي ... وذاك العيش لا اللبن الحليب
آخر:
الأشربات سوى ما كان من عنب ... داء وأي لبيب يشرب الداء؟
وصف الشراب بإزالة الغم:
قيل لأعرابي: أتحب الخمر! فقال: أي والله فإنها تسرح في بدني بنورها، وفي قلبي بسرورها. وقيل: لذة الدنيا في الغناء والطلاء والنساء والبناء. وجماع ذلك العافية والشباب والبقاء. ونحوه لأبي نواس:
إنما العيش سماع ... ومدام وغلام
فإذا فاتك هذا ... فعلى العيش السلام

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11