كتاب : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف : إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)

ولما كان مضمون ما تقدم إثبات عداوة الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم ، كان كأنه قيل تسلية له وتثبيتاً لفؤاده : فقد جعلناهم أعداء لك لأنك عالم ، والجاهلون لأهل العلم أعداء { وكذلك } أي ومثل ما جعلنا لك أعداء من كفار الإنس والجن { جعلنا لكل نبي } أي ممن كان قبلك ، وعبر عن الجمع بالمفرد - والمراد به الجنس - إشارة إلى أنهم يد واحدة في العداوة فقال : { عدواً } وبين أن المراد به الجنس ، وأنهم أهل الشر فقال مبدلاً : { شياطين } أي أشرار { الإنس والجن } المتمردين منهم ، وربما استعان شيطان الجن شيطان الإنس لقرب قلبه منه ، أم يكون نوعه إليه أميل ، وأشار إلى هوان أمرهم وسوء عاقبتهم بقوله : { يوحي بعضهم } أي الشياطين من النوعين { إلى بعض } أي يكلمه في خفاء { زخرف القول } أي مزينه ومنمقه .
ولما كان هذا يدل على أنه - لكونه لا حقيقة له - لولا الزخرفة ما قيل ، زاده بياناً بقوله : { غروراً } أي لأجل أن يغروهم بذلك ، أي يخدعوهم فيصيروا لقبولهم كلامهم كالغافلين الذين شأنهم عدم التحفظ ، والغرور هو الذي يعتقد فيه النفع وليس بنافع .
ولما كان أول الآية معلماً أن هذا كان بمشيئة الله وجعله ، أيد ذلك ومكنه في آخرها بأنه لو شاء ما كان ، وكل ذلك غيرة على مقام الإلهية وتنزيهاً لصفة الربوبية أن يخرج شيء عنها فيدل على الوهن ، ويجر قطعاً إلى اعتقاد العجز ، فقال : { ولو شاء } ولما كان في بيان أعدائه صلى الله عليه وسلم والمسلطين عليه ، أشار إلى أن ذلك لإكرامه وإعزازه ، لا لهوانه ، فقال { ربك } أي بما له إليك من حسن التربية وغزير الإحسان مع ما له من تمام العلم وشمول القدرة ، أن لا يفعلوه { ما فعلوه } أي هذا الذي أنبأتك به من عداوتهم وما تفرع عليها .
ولما قرر أن هذا من باب التربية فعاقبته إلى خير ، سبب عنه قطعاً قوله : { فذرهم } أي اتركهم على أيّ حالة اتفقت { وما يفترون * } أي يتعمدون كذبه واختلافه ، واذكر ما لربك عليك من العاطفة لتعلم أن الذي سلطهم على هذا في غاية الرأفة بك والرحمة لك وحسن التربية كما لا يخفى عليك ، فثق به واعلم أن له في هذا لطيف سريرة تدق عن الأفكار ، بخلاف الآيات الآتية التي عبر فيها باسم الجلالة ، فإنها في عظيم تجرئهم على مقام الإلهية .
ولم كان التقدير : ذرهم لتعرض عنهم قلوب الذين يؤمنون بالآخرة وليسخطوه ، وليعلموا ما هم له مبصرون وبه عارفون ، فترفع بذلك درجاتهم ، عطف عليه قوله : { ولتصغى } أي تميل ميلاً قوياً تعرض به { إليه } أي كذبهم وما في حيزه { أفئدة } أي قلوب { الذين لا يؤمنون بالآخرة } أي ليس في طبعهم الإيمان بها لأنها غيب ، وهم لبلادتهم واقفون مع الوهم ، ولذلك استولت عليهم الدنيا التي هي أصل الغرور { وليرضوه } أي بما تمكن من ميلهم إليه { وليقترفوا } أي يفعلوا بجهدهم { ما هم مقترفون * } وهذه الجمل - كما نبه عليه أبو حيان - على غاية الفصاحة ، لأنه أولاً يكون الخداع فيكون الميل فيكون الرضى فيكون فعل الاقتراف ، فكأن كل واحد مسبب عما قبله .

أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)

ولما كان فيما تقدم الإخبار عن مغيب ، وهو أنهم لا يؤمنون عند مجيء الآيات المقترحة ، وكانت عادة العرب دعاء الأعداء والمخالفين إلى حاكم يفصل بينهم ، وكانوا إنما يفزعون في الأمور المغيبة إلى الكهان لما كانوا يكشفون لهم بما يقذف إليهم إخوانهم من الجان مما يسترقونه من السمع ، فيزيدونه كذباً كثيراً ، ثم لا يضرهم ذلك عندهم لذلك القليل الذي يصدقون فيه - كما ابتلينا به في هذا الزمان من الافتتان بمن يفعل مثل ذلك من المجانين والمتشبهين بهم ، وكانت الآيات التي فرغ منها قد أثبتت أن اتخاذهم غرور ، سبب عن ذلك وجوب نفي اتخاذهم غير الله لما اتصف به من إيحاء ما خالف إيحاءهم ، ففات القوى في إخباره عن حقائق الأمور مفصلة أحسن تفصيل في أساليب قصرت دونها سوابق الأفكار ، وكعّت عنها نوافذ الأفهام ، فثبتت به نبوته ووضحت رسالته ، فكان اقتراحهم ظاهراً في كونه تعنتاً لأنهم كذبوا بأعظم الآيات : القرآن ، ولم يؤمنوا به ، وطعنوا فيه بما زادهم فضائح ، فثبت أنه لا فائدة في إجابتهم إلى مقترحاتهم ، فكان الجواب - عما اقتضاه لسان حالهم من طلب التحاكم إلى أوليائهم ببليغ الإنكار عليهم بقوله : { أفغير الله } أي الملك الأعظم - على غاية من البلاغة لا تدرك ، والفاء فيه للسبب ، وإنما تقدمت عليها همزة الإنكار لاقتضائها الصدر { أبتغي } أي أطلب حال كون ذلك الغير { حكماً } أي يحكم بيني وبينكم ويفصل نزاعنا؛ ثم استدل على هذا الإنكار بتفصيل الكتاب هذا التفصيل المعجز فقال : { وهو } أي والحال أنه لا غيره { الذي أنزل إليكم } أي خاصة نعمة علي بالقصد الأول وعليكم بالقصد الثاني { الكتاب } أي الأكمل المعجز ، وهو هذا القرآن الذي هو تبيان لكل شيء { مفصلاً } أي مميزاً فيه الحلال والحرام ، وغير ذلك من جميع الأحكام ، مع ما تفيده فواصل الآيات من اللطائف والمعارف الكاشفة لحقائق البدايات والنهايات ، ولقد اشتد الاعتناء في هذه السورة بالتنبيه على التفصيل لوقوع العلم من أرباب البصائر في الصنائع بأن من لا يحسن التفصيل لا يتقن التركيب .
ولما كان التقدير : فأنتم وجميع أرباب البلاغة تعلمون حقيقته بتفصيله والعجز عن مثيله ، عطف عليه قوله : { والذين } ويجوز أن يكون جملة حالية { آتيناهم } أي بعظمتنا التي تعرفونها ويعرفون بها الحق من الباطل { الكتاب } أي المعهود إنزاله من التوراة والإنجيل والزبور { يعلمون } أي لما لهم من سوابق الأنس بالكتب الإلهية { أنه منزل } .
ولما تقدم ذكر الجلالة الشريفة في حاق موضعه في سياق الحكم الذي لا يكون إلا مع التفرد بالكمال ، وكان هذا المقام بسياق الإنزال يقتضي الإحسان ، لم يضمر بل قال : { من ربك } أي المحسن إليك بما خصك به في هذا الكتاب من أنواع الفضائل { بالحق } أي الأكمل لما عندهم به من البشائر في كتبهم ولما له من موافقتها في ذكر الأحكام المحكمة والمواعظ الحسنة وكثرة ذكر الله على وجوه ترقق القلوب وتفيض الدموع وتصدع الصدور ، مع ما يزيد به على كتبهم من التفصيل بما يفهم معارف الإلهية والمقامات الصوفية في ضمن الأحكام السياسية والإعجاز بكل آية .

ولما كان أهل الكتاب يخفون ما عندهم من العلم ، ويقولون للمشركين : إنهم أهدى سبيلاً ، بما قد يوهم أنهم يعتقدون بطلانه ، أو أن الأمر ملبس عليهم ، سبب عن إخباره سبحانه قوله على طريق التهييج والإلهاب : { فلا تكونن } أي انف نفياً مؤكداً جداً أن تكون في وقت ما { من الممترين * } أي العاملين عمل الشاك فيما أخبرناك به وإن زاد إخفاؤهم له وإظهارهم لما يوهم خلافه؛ وإذا حاربتهم في ذلك وأنت أفطن الناس وأعرفهم بما يظهره المجاوزات من خفايا الأسرار - تحققت ما قلناه وإن اجتهدوا في الكتمان ، كما كشفت عنه قصة المناشدة في أمر الزانيين وغيرها؛ وقال أبو حيان : قال مشركو قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعل بيننا وبينك حكماً من أحبار اليهود ، وإن شئت من أساقفة النصارى ، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت .
ولما دل على كونه حقاً من عند الله بعلم أهل الكتاب صريحاً وأهل اللسان تلويحاً ، دل عليه بوجه آخر شهودي ، وهو أنه ما قال شيئاً إلا كان على وفق ما قال ، وأنه لم يستطع - ولا يستطيع أحد - منع شيء مما أخبر به ولا تعويقه ساعة من نهار ولا أقل ولا أكثر بقوله تعالى مظهراً في موضع الإضمار ، لتذكيره صلى الله عليه وسلم بما له سبحانه من الإحسان ، والتنبيه على ما يريد به من التشريف والإكرام : { وتمت } أي نفذت وتحققت { كلمة ربك } أي المحسن إليك المدبر لأمرك حال كونها { صدقاً } أي لا يقدر أحد أن يبدي في شيء منها حديثاً بتخلف ما عن مطابقة الواقع .
ولما كان الصدق غير مناف للجور ، قال : { وعدلاً } ولما كان الصدق العدل قد لا يتم معه مراد القائل ، ولا ينفذ فيه كلام الآمر لمنع من هو أقوى منه ، أخبر أنه لا راد لأمره ولا معقب لحكمه ، تصريحاً بما أفهم مطلع الآية من التمام ، وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتبركاً وتلذيذاً فقال : { لا مبدل لكلماته } أي من حيث إنها كلماته مطلقاً من غير تخصيص بنوع ما ، بل كل ما أخبرت به فهو كائن لا محالة ، رضي من رضي وسخط من سخط .
ولما كان المغير لشيء إنما يتم له ما يريد من التغيير بكون المغير عليه لا يعلم الأسباب المنجحة لما أراد ليحكمها ، والموانع العائقة ليبطلها ، قال عاطفاً على ما تقديره : فهو العزيز الحكيم : { وهو } أي لا غيره { السميع } أي البالغ السمع لجميع ما يمكن سمعه من الأقوال والأفعال { العليم * } أي البالغ العلم لجميع ذلك ، فهو إذن الكامل القدرة النافذ الأمر في جميع الأسباب والموانع ، فلا يدع أحداً يغير شيئاً منها وإن دلس أو شبه .

ولما أجاب عن شبهات الكفار ، وبين صحة نبوته عليه السلام ، شرع في الحث على الإعراض عن جهل الجهال ، والإقبال على ذي الجلال ، فكان التقدير : فإن أطعته فيما أمرك به اهتديت إلى صراط الله الذي يتم لك بسلوكه جميع ما وعدك به ، عطف عليه قوله : { وإن تطع } ولما كانت أكثر الأنفس متقيدة بالأكثر ، أشار إلى أن ذلك لا يفعله إلا جاهل مخلد إلى التقليد فقال : { أكثر من في الأرض } أي توجد طاعتك لهم في شيء من الأوقات بعد أن علمت أن أكثرهم إنما يتبع الهوى ، وأن أكثرهم فاسقون لا يعلمون لا يشكرون { يضلوك عن سبيل الله } أي المستجمع لصفات الكمال؛ ثم علل ذلك بقوله : { إن } أي لأنهم ما { يتبعون } في أمورهم { إلا الظن } أي كما يظن هؤلاء جهلاً أن آباءهم كانوا على الحق .
ولما كان أكثر من يجزم بالأمور بما دعاه إليه ظنه كذباً ، وكان الخارص يقال على الكاذب والمخمن الحازر ، قال : { وإن هم } أي بصميم ضمائرهم { إلا يخرصون * } أي يجزمون بالأمور بحسب ما يقدرون ، فيكشف الأمر عن أنها كذب ، فيعرف الفرق بينك وبينهم في تمام الكلام ونفوذه نفوذ السهام ، أو تخلفه عن التمام ونكوصه كالسيف الكهام ، فلا يبقى شبهة في أمر المحق والمبطل .

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)

ولما كان المقام للعلم الكاشف للحقائق المبين لما يتبع وما يجتنب ، قال معللاً لهذا الإخبار : { إن ربك } أي المحسن إليك بإنزال هذا الكتاب الكاشف للارتياب الهادي إلى الصواب { هو } أي وحده { أعلم } ولكون الحال شديد الاقتضاء للعلم ، قطعه عما بعده ليسبق إلى الفهم أنه أعلم من كل من يتوهم فيه العلم مطلقاً ثم قال : { من } أي يعلم من { يضل } أي يقع منه ضلال يوماً ما { عن سبيله } أي الذي بينه بعلمه { وهو } أي وحده { أعلم بالمهتدين * } كما أنه أعلم بالضالين ، فمن أمركم باتباعه فاتبعوه ، ومن نهاكم عنه فاجتنبوه ، فمن ضل أرداه ، ومن اهتدى أنجاه ، فاستمسكوا بأسبابه حذراً من وبيل عقابه يوم حسابه .
ولما قدم سبحانه ما مضى من السوائب وما معها وفي المائدة مما يدين به أهل الجاهلية في أكل الحيوان الذي جر إليه الشرك ، وأتبعه بيان أنه لا ضرر على أهل الإيمان من دين أهل الضلال إذا اهتدوا ، وأتبع ذلك ما لاءمه ، وانتظم في سلكه ولاحمه ، حتى ظهر أي ظهور أن الكل مِلكه ومُلكه ، وأنه لا شريك له ، فوجب شكره وحده ، وكانوا مع ذلك قد كفروا نعمه تتعالى فاتخذوا معه شركاء ولم يكفهم ذلك حتى جعلوا لها مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ، فكانوا بذلك المانعين الحق عن أهله ، ومانحين ما خولهم فيه من له الملك لما لا يملك ضراً ولا نفعاً ، وتاركين بعض ما أنعم عليهم به صاحب الحق رعاية لمن لا حق له ولا حرمة ، وكانت سنة الله تعالى قد جرت بأنه يذكر نفسه الشريفة بالوحدانية . ويستدل على ذلك بخلق السماوات والأرض وما أودع فيهما لنا من المنافع وما أبدع من المرافق والمصانع ، ثم يعجب ممن أشرك به ، ثم يأمر بالأكل مما خلق تذكيراً بالنعمة ، ليكون ذلك داعية لكل ذي لب إلى شكره ، كما قال تعالى في البقرة عقب { وإلهكم إله واحد } { إن في خلق السماوات والأرض } [ البقرة : 164 ] ثم قال { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً } [ البقرة : 165 ] ثم قال { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } [ البقرة : 168 ] ؛ أجرى هذه السنة الجليلة في هذه السورة أيضاً ، فقال : { إن الله فالق الحب والنوى } [ الأنعام : 95 ] بعد { إني وجهت وجهي للذي فطر } [ الأنعام : 79 ] ثم { وجعلوا لله شركاء الجن } [ الأنعام : 100 ] ودل على أنه لا شريك له في مِلكه ولا مُلكه ، وختم بأنه لا حكم سواه ينازعه في حكمه أو يباريه في شيء من أمره ، وبين أن من آيها الهداية التي جعلها شرطاً لعدم ضرر يلحق من دين أهل الشرك؛ فسبب عن جميع ما ذكرت قوله : { فكلوا مما ذكر } أي وقت الذبح { اسم الله } أي الملك الذي له الإحاطة الكاملة فله كل شيء { عليه } أي كأن قائلاً لذلك سواء ذكر بالفعل أولا ، وعدل عن التعبير بما جعلته المراد ليفهم أن الذكر بالفعل مندوب إليه ، ولا يكونوا ممن بنى دينه على اتباع الأهوية والظنون الكاذبة ، فكأنه قيل : اتبعوا من يعرف الحق لأهله فإنه مهتد غير معرجين على غيره فإنه ضال ، والله أعلم بالفريقين ، فكونوا من المهتدين ، فكلوا مما خلق الله لكم حلالاً شاكرين لنعمته ، وإنما أطال هنا دون البقرة ما بين الجمل الكلام تقريراً لمضامينها وما يستتبعه واحتجاجاً على جميع ذلك لأنها سورة التفصيل ، وأتى بالذكر والمراد قبول المأكول له ، أي كلوا مما يقبل أن يسمى عليه على مقتضى ما شرعه ، وذلك هو الذي أحله من الحيوان وغيره سواء كان مما جعلوه لأوثانهم أولا ، دون ما مات من الحيوان حتف أنفه ، أو ذكر عليه اسم غير الله أو كان مما حرم أكله وإن ذبح وذكر عليه اسم الله ، فإنه لا يقبل التحليل بالتسمية ، فالتسمية في غير موضعها ، لورود النصوص بالتحريم ، ولا تتبعوا المشركين في منعهم أنفسهم من خير مما خلق الله لهم من الحرث والأنعام بتسميتهم إياه لآلهتهم التي لا غناء عندها ، ويكون ذلك حثاً على التسمية على جميع المأكول الحلال ، فتكون الآية كآية البقرة بزيادة .

ولما كان هذا الأمر لا يقبله إلا من زال دين الشرك وجميع توابعه من قبله؛ قال : { إن كنتم } أي بما لكم من الجِِبِلَّة الصالحة { بآياته } أي عامة التي منها آيات التحليل والتحريم { مؤمنين * } أي عريقين في وصف الإيمان ، وقد لاح بذلك حسن انتظام قوله : { وما لكم } أي أيّ شيء يكون لكم في { ألا تأكلوا مما ذكر } أي يقبل أن يذكر { اسم الله } أي الذي له كل شيء { عليه } فإن التسمية قائمة مقام إذنه { وقد } أي والحال أنه قد { فصل لكم } أي من قبل ذلك والخلق خلقه والأمر أمره { ما حرم عليكم } أي مما لم يحرم تفصيلاً واضح البيان ظاهر البرهان { إلا ما اضطررتم إليه } أي فإن الضرورة تزيل التفصيل عنه برده إلى ما كان عليه قبل التفصيل؛ فيصير الكل حلالاً لا تفصيل فيه ، والمراد في هذه الآية مختلف باختلاف المخاطبين ، فأما من خوطب بها وقت الإنزال فالمراد بالتفصيل الذي آتاه الآية الآتية أخير هذه فإنها نزلت جملة ، وكذا كل ما شاكلها مما أنزل بمكة قبل هذه السورة ، وكذا ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في وحي متلو إذ ذاك ، ولعله نسخت تلاوته وبقي حكمه ، أو وحي غير متلو من جميع الأحاديث التي تقدمت على هذه السورة ، وأما من خوطب بها بعد ترتيبه على هذا الوجه فالمراد في حقه كما في البقرة والمائدة وغيرهما من السور الماضية - من الحلال والحرام .

ولما كان التقدير : من عمل بهذه الأوامر اهتدى بما نال من العلم وهم قليل ، عطف عليه قوله : { وإن كثيراً } أي من الناس { ليضلون } أي يقع منهم الضلال فيوقعون غيرهم فيه بنكوبهم عما دعت إليه أوامر الله وهدى إليه بيانه ، فيكونون بمعرض العطب { بأهوائهم } أي بسبب اتباعهم للهوى؛ ولما كان الهوى - وهو ميل النفس - ربما كان موافقاً لما أدى إليه العم بصحيح الفكر وصريح العقل قال : { بغير علم } أي دعا إلى ذلك ممن له العلم من شريعة ماضية ممن له الأمر .
ولما كانوا ينكرون هذا ، أثبت لنفسه الشريفة ما هو مسلم عند كل أحد وقال دليلاً على صحة ما أخبر به : { إن ربك } أي المحسن إليك بإنزال هذا الكتاب شاهداً لك بإعجازه بالتصديق { هو } أي وحده { أعلم } وكان الموضع للإضمار فأظهر للتعميم والتنبيه على الوصف الذي أوجب لهم ذلك فقال : { بالمعتدين * } أي الذين يتجاوزون الحدود مجتهدين في ذلك .

وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)

>ولما كان مما يقبل في نفسه في الجملة أن يذكر اسم الله عليه ما يحرم لكونه ملكاً للغير أو فيه شبهة ، نهى عنه على وجه يعم غيره ، فقال عطفاً على « فكلوا » { وذروا } أي اتركوا على أيّ حالة اتفقت وإن كنتم تظنونها غير صالحة { ظاهر الإثم } أي المعلوم الحرمة من هذا وغيره { وباطنه } من كل ما فيه شبهة من الأقوال والأفعال والعقائد ، فإن الله جعل له في القلب علامة ، وهو أن يضطرب عنده ولا يسكن كما قال صلى الله عليه وسلم : « والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر » - أخرجه مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه؛ ثم علل ذلك بقوله : { إن الذين يكسبون الإثم } أي ولو بأخفى أنواع الكسب ، بما دل عليه تجريد الفعل ، وهو الاعتقاد للاسم الشريف .
ولما كان العاقل من خاف من مطلق الجزاء بني للمفعول قوله { سيجزون } أي بوعد لا خلف فيه { بما } أي بسبب ما { كانوا } بفاسد جبلاتهم { يقترفون * } أي يكتسبون اكتساباً يوجب الفرق وهو أشد الخوف ويزيل الرفق ، وصيغة الافتعال للدلالة على أن أفعال الشر إنما تكون بمعالجة من النفس للفطرة الأولى السليمة .
ولما أمرهم بالأكل مما ينفعهم ويعينهم على شكره محذراً من أكل ما يعيش مرأى بصائرهم ، أتبعه نهيهم نهياً جازماً خاصاً عن الأكل مما يضرهم في أبدانهم وأخلاقهم ، وهو ما ضاد الأول في خلوه عن الاسم الشريف فقال { ولا تأكلوا مما لم يذكر } أي مما لا يقبل أن يذكر { اسم الله } أي الذي لا يؤخذ شيء إلا منه ، لأن له الكمال كله فله الإحاطة الكاملة ، وأشار بأداة الاستعلاء إلى الإخلاص ونفي الإشراك فقال : { عليه } أي لكون الله قد حرمه فصار نجس العين أو المعنى ، فصار مخبثاً للبدن والنفس مما ذكر عليه غير اسمه سبحانه بما دل عليه من تسميته فسقاً ، وتفسير الفسق في آية أخرى بما أهل به لغير الله وكذا ما كان في معناه مما مات أو كان حراماً بغير ذلك ، واسمه تعالى منزه عن أن يذكر على غير الحلال ، فإن ذكر عليه كان ملاعباً فلم يطهره ، وأما ما كان حلالاً ولم يذكر عليه اسم الله ولا غيره فهو حلال - كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت : قالوا : يا رسول الله! إن هنا أقواماً حديث عهد بشرك يأتوننا بلحمان لا ندري يذكرون اسم الله أم لا! قال : « اذكروا أنتم اسم الله وكلوا » قال البغوي : ولو كانت التسمية شرطاً للإباحة لكان الشك في وجودها مانعاً من أكلها كالشك في أصل الذبح - انتهى .
ولما كان التقدير : فإنه خبيث في نفسه مخبث ، عطف عليه قوله : { وإنه } أي الأكل منه أو هو نفسه لكونه السبب { لفسق } فجعله نفس الفسق - وهو الخروج عما ينبغي إلى ما لا ينبغي - لأنه عريق جداً في كونه سببه لما تأصل عندهم من أمره وانتشر من شره ، وهذا دليل على ما أولت به لأن النسيان ليس بسبب الفسق ، والذي تركت التسمية عليه نسياناً ليس بفسق ، والناسي ليس بفاسق - كما قاله البخاري ، وإلى ذلك الإشارة بما رواه عن عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن قوماً يأتونّا باللحم ، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا! فقال :

« سموا عليه أنتم وكلوه » ، قالت : وكانوا حديثي عهد بالكفر - انتهى . فهذا كله يدل على أن المراد إنما هو كونه مما يحل ذبيحته ، وليس المراد اشتراط التسمية بالفعل .
ولما كانت الشبه ربما زلزلت ثابت العقائد ، قال محذراً منها : { وإن الشياطين } أي أخابث المردة من الجن والإنس البعيدين من الخير المهيئين للنشر المحترقين باللعنة من مردة الجن والإنس { ليوحون } أي يوسوسون وسوسة بالغة سريعة { إلى أوليائهم } أي المقاربين لهم في الطباع المهيئين لقبول كلامهم { ليجادلوكم } أي ليفتلوكم عما أمركم به بأن يقولوا لكم : ما قتله الله أحق بالأكل مما قتلتموه أنتم وجوارحكم - ونحو ذلك ، وأهل الحرم لا ينبغي أن يقفوا في غيره ، والغريب لا ينبغي أن يساويهم في الطواف في ثيابه ، والنذر للأصنام كالنذر للكعبة ، ونحو هذا من خرافاتهم التي بنوا أمرهم فيها على الهوى الذي هم معترفون بأنه مضل مضر ، ومبالغون في الذم باتباعه والميل إليه ، ويكفي في هدم جميع شبههم إجمالاً أن صاحب الدين ومالك الملك منع منها .
ولما كان التقدير : فإن أطعتموهم تركتم الهدى وتبعتم الهوى ، وكان من المعلوم أن الهوى يعود إلى الشرك ، عطف على هذا قوله : { وإن أطعتموهم } أي المشركين تديناً بما يقولونه في ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه والأكل مما لم يذكر اسم الله عليه ، أو في شيء مما جادلوكم فيه { إنكم لمشركون * } أي فأنتم وهم في الإشراك سواء كما إذا سميتم غير الله على ذبائحكم على وجه العبادة ، لأن من اتبع أمر غير الله فقد اشركه بالله كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه في قوله تعالى { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } [ التوبة : 31 ] من أن عبادتهم لهم تحليلهم ما أحلوا وتحريمهم ما حرموا ، فنبه صلى الله عليه وسلم بذلك على أن الأسماء تتبع المعاني؛ قال شيخ الإسلام محيي الدين النووي الشافعي في باب الضحايا من كتاب الروضة : حكي في الشامل وغيره عن نص الشافعي أنه لو كان لأهل الكتاب ذبيحة يذبحونها باسم غير الله كالمسيح لم تحل؛ وفي كتاب القاضي ابن كنج أن اليهودي لو ذبح لموسى والنصراني لعيسى عليهما السلام أو للصليب حرمت ذبيحته ، وأن المسلم لو ذبح للكعبة أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم فينبغي أن يقال : تحرم ، لأنه ذبح لغير الله تعالى ، قال : وخرّج أبو الحسن وجهاً آخر أنها تحل لأن المسلم يذبح لله ولا يعتقد في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعتقده النصراني في عيسى عليه السلام .

قال : وإذا ذبح للصنم لم تؤكل ذبيحته سواء كان الذابح مسلماً أو نصرانياً ، وفي تعليقه للشيخ إبراهيم المروزي أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقرباً إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه لأنه مما أهل به لغير الله ، واعلم أن الذبح للمعبود باسمه نازل منزلة السجود له . وكل واحد منهما نوع من أنواع التعظيم ، العبادة المخصوصة بالله تعالى الذي هو المستحق للعبادة ، فمن ذبح لغيره من حيوان أو جماد كالصنم على وجه التعظيم والعبادة لم تحل ذبيحته ، وكان فعله كفراً كمن سجد لغيره سجدة عبادة ، وكذا لو ذبح له ولغيره على هذا الوجه ، فأما إذا ذبح لغيره لا على هذا الوجه - بأن ضحى أو ذبح للكعبة تعظيماً لها لأنها بيت الله تعالى أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا يجوز أن يمنع حل الذبيحة ، وإلى هذا المعنى يرجع قول القائل : أهديت للحرم أو للكعبة ، ومن هذا القبيل الذبح عند استقبال السلطان ، فإنه استبشار بقدومه نازل منزلة ذبح العقيقة لولادة المولود ، ومثل هذا لا يوجب الكفر ، وكذا السجود لغير الله تذللاً وخضوعاً ، فعلى هذا إذا قال الذابح : بسم الله واسم محمد ، وأراد : أذبح باسم الله وأتبرك باسم محمد ، فينبغي أن لا يحرم ، وقول من قال : لا يجوز ذلك ، يمكن أن يحمل على أن اللفظ مكروه ، لأن المكروه يصح نفي الجواز والإباحة المطلقة عنه ، وحكى الرافعي أنه وقعت في هذا منازعة بين أهل قزوين أفضت إلى فتنة في أنه تحل ذبيحته وهل يكفر بذلك! قال : والصواب ما بينا؛ قال الشيخ محيي الدين : ومما يؤيد ما قاله - أي الرافعي - ما ذكره الشيخ إبراهيم المروزي في تعليقه : قال : حكى صاحب التقريب عن الشافعي رحمه الله أن النصراني إذا سمى غير الله كالمسيح لم تحل ذبيحته ، قال صاحب التقريب : معناه أن يذبحها له . فأما إن ذكر المسيح على معنى الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجائز ، قال : وقال الحليمي : تحل مطلقاً وإن سمى المسيح - والله أعلم ، ثم قال في المسائل المنثورة : الثالثة : قال ابن كج : من ذبح شاة وقال : أذبح لرضى فلان ، حلت الذبيحة ، لأنه لا ينصرف إليه بخلاف من تقرب بالذبح إلى الصنم؛ وقال الروياني : إن من ذبح للجن وقصد به التقرب إلى الله تعالى ليصرف شرهم عنه فهو حلال ، وإن قصد الذبح لهم فحرام؛ ومما يوضح لك سر هذا الانتظام ويزيده حسناً أن هذه الآيات كلها من قوله تعالى

{ إن الله فالق الحب والنوى } [ الأنعام : 100 ] إلى آخر السورة تفصيل لقوله تعالى في أول السورة { قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض } [ الأنعام : 14 ] ، فلما ذكر إبداعه السماوات والأرض بقوله { إن الله فالق الحب والنوى } [ الأنعام : 95 ] ونحوه ، وأنكر اتخاذ من دونه بقوله { وجعلوا لله شركاء الجن } [ الأنعام : 100 ] وما نحا نحوه ، قال { فكلوا } [ الأنعام : 118 ] إشارة إلى { وهو يطعم ولا يطعم } [ الأنعام : 14 ] وقوله { أو من كان ميتاً فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] وقوله { فمن يرد الله أن يهديه } [ الأنعام : 125 ] ونحوهما إشارة إلى قوله { قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم } [ الأنعام : 14 ] ، وقوله { ويوم نحشرهم جميعاً } [ الأنعام : 22 ] ونحوه مشير إلى { إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } [ الأنعام : 15 ] .
ولما انقضى التفصيل عند قوله { فسوف يعلمون } شرع في تفصيلها ثانياً بقوله : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً } [ الأنعام : 136 ] إلى آخرها ، والسر في الإعادة أن الشيء إذا أثبت أو نفي ، وأقيمت الدلائل على إثبات ما ثبت منه ونفي ما نفي ، ثم أعيد ذلك في أسلوب آخر ، كان أثبت في النفس وألصق بالقلب ، لا سيما إن كان في الأسلوب الثاني - كما هي عادة القرآن - زيادة في البيان وتنبيه على ما لم يتقدم أولاً ، ولا سيما إن كانت العبارة فائقة والألفاظ عذبة رائقة وأنت خبير بأن هذا كله دأب القرآن في أساليب الافتنان؛ قال الغزالي في أوائل كتاب الجواهر في الفصل الذي فيه اشتمال الفاتحة على ثمانية أقسام : وقوله ثانياً { الرحمن الرحيم } إشارة إلى الصفة مرة أخرى ، ولا تظن أنه مكرر ، فلا مكرر في القرآن ، إذ حد المكرر ما لا ينطوي على مزيد فائدة ، وذكر الرحمة بعد ذكر { العالمين } ، وقبل ذكر { العالمين } ، وقبل ذكر { مالك يوم الدين } ينطوي على فائدتين عظيمتين في تفصيل مجاري الرحمة ثم ذكر ما حاصله أن إحداهما ملتفت إلى خلق كل عالم من العالمين على أكمل أنواعه وأفضلها وإيتائه كل ما احتاج إليه ، والثانية ملتفت إلى ما بعده بالإشارة إلى الرحمة في المعاد يوم الجزاء عند الإنعام بالملك المؤبد ، قال : وشرح ذلك يطول والمقصود أنه لا مكرر في القرآن ، وإن رأيت شيئاً مكرراً من حيث الظاهر فانظر إلى سوابقه ولواحقه لينكشف لك مزيد الفائدة في إعادته - انتهى . وفي ذلك نكتة أخرى ، وهي أن الرحمن مشير إلى ما قال من جهة الربوبية في الإيجادين : الأول والثاني ، والرحيم مشير بخصوصه بما ترضاه الإلهية إلى الإيجاد الثاني والإبقاء الثاني بالرحمة الجزائية وإلى ما يفهمه الخصوص من النعمة بمن لم يخصه الرحمة - كما مضت الإشارة إليه في الفاتحة .

ولما كان معنى التحذير من طاعة المشركين أنكم إن فعلتم كنتم قد رددتم أنفسكم إلى ظلام الضلال بعد أن منحتم نور الهداية ، فكان التقدير : أفمن كان هكذا كان كمن نصح لنفسه باتباع الأدلة وتوقي الشبه ، عطف عليه قوله : { أو من كان ميتاً } أي بالغرق في أمواج ظلام الكفر ، ليس لهم من ذواتهم إلا الجمادية بل العدمية { فأحييناه } أي بما لنا من العظمة بإشراق أنوار الإيمان على قبله الذي إن صلح صلح الجسد كله ، وإن فسد فسد الجسد كله { وجعلنا } أي بعظمتنا على وجه الخصوص { له نوراً } أي بالهداية إلى كل خير { يمشي } مستضيئاً { به في الناس } فيعرفون أفعاله وأخلاقه وأقواله { كمن مثله } أي الذي يمثل به ، وهو ما ينكشف بوجه الشبه روح لبه وخلاصة حال قلبه ، حال قلبه ، أو يكون المعنى : صفته أنه { في الظلمات } أي ما له من نفسه من ظلمة الجهل وظلمة ما ينشأ عنه من الهوى وظلمة ما نشأ عن الهوى من الكفر ، وإذا كان المثل الذي هو الأعلى من الممثول في شيء كان الممثول عريقاً فيه بطريق الأولى ، فلذلك قال : { ليس بخارج } أي ذلك المثل { منها } أي الظلمات بما زين له من سوء أعماله حتى صارت أحب إليه من نفسه وماله ، وإذا لم يخرج المثل من شيء لم يخرج الممثول منه وإلا لم تكن بينهما مماثلة ، وذلك لأنه زين له عمله ، وهي ناظرة إلى قوله أول السورة { إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله } [ الأنعام : 36 ] وقوله : { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات } [ الأنعام : 39 ] .
ولما كان إيحاء الشياطين إلى أوليائهم مما يوجب لزوم العمى ليس إلاّ تزييناً للقبائح ، فكان حالهم مما يشتد العجب منه ، كان كأنه قيل : لولا رؤيتنا لحالهم ما صدقنا أن عاقلاً يرضى ما فعلوه بأنفسهم ، فهل وقع لأحد قط مثل حالهم؟ فقيل : نعم { كذلك } أي مثل ما زين لهم سوء أعمالهم { زين للكافرين } أي كلهم { ما كانوا } بما جبلناهم عليه { يعملون * } فهم أبداً في الظلمات ، فالآية من الاحتباك : أثبت أولاً كونه في الظلمات دليلاً على تقديره ثانياً ، وثانياً التزيين دليلاً على تقديره أولاً .

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)

ولما كان معلوماً أن عداوتهم له صلى الله عليه وسلم المشار إليها بقوله { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً } الآية ، لا يقوم بها إلا أكابر الناس ، لما كان عليه صلى الله عليه وسلم من جلالة المنصب وشرف العشيرة وكثرة الأقارب وأنه لا يتمادى عليها إلا جاهل مطموس البصيرة مزين له قبيح أعماله ، عطف تعالى على التزيين للكافرين قوله : { وكذلك } أي مثل ما زينا للكافرين سوء أعمالهم ، فكان أكابر أهل مكة يمكرون فيتبع غيرهم مكرهم { جعلنا } أي بما لنا من العظمة في إقامة الأسباب لما يعلي كلمة الإنسان أو يجعله حقير الشأن { في كل قرية } أي بلد جامع ، ولما كان الكبر مختلف الأنواع باختلاف أشخاص المجرمين ، طابق بأفعال التفضيل المقصودين لها في الجمع على إحدى اللغتين ، وعبر بصيغة منتهى الجمع دلالة على تناهيهم في الكثرة فقال : { أكبر مجرميها } أي القاطعين لما ينبغي أن يوصل .
ولما كان من شأن الإنسان استجلاب أسباب الرفعة لنفسه ، وكان لا يصل إلى ذلك في دار ربط المسببات بحكمة الأسباب إلا بالمكر ، وكان الأكابر أقدر على إنفاذ المكر وترويج الأباطيل بما لأغلب الناس من السعي في رضاهم طمعاً فيما عندهم ، وكان الإنسان كلما تمكن من ذلك أمعن فيه ، وكان الكبير إنما يصل إلى ما قدر له من ذلك بتقدير الله له؛ كان بما قدر له من ذلك كأنه خلقه له ، فقال معبراً بالجعل لما فيه من التصيير والتسبيب : { ليمكروا فيها } أي يخدعوا أصاغرهم ويغروهم بما يلبسون عليهم من الأمور حتى يتبعوهم فيعادوا لهم حزب الله .
ولما كان ذلك موجعاً وغائظاً محزناً ، قال تصغيراً لشأنهم وتحقيراً لأمرهم : { وما } أي والحال أنهم ما { يمكرون إلا بأنفسهم } لأن عملهم بالمكر وبال عليهم موبق لهم ، ولأن مكرهم بأولياء الله إنما هو مكر بالله ، وذلك غير متأت ولا كائن بوجه من الوجوه ، وكيف يتأتى مكر من لا يعلم شيئاً من الغيب بمن يعلم جميع الغيب! { وما يشعرون * } أي وما لهم نوع شعور بأن مكرهم عائد على نفوسهم ، لأن الله تعالى الذي يعلم سرهم وجهرهم يجعل بما يزين لهم تدميرهم في تدبيرهم ، وإنما أجرى سنته الإلهية بذلك لما يشتمل عليه من أعلام النبوة ، فإن غلبة شخص واحد - بمفرده أو باتباع كثير منهم ممن لا يؤبه لهم مع قلة العدد وضعف المدد لرؤساء الناس وأقويائهم مع طول مكثه بينهم منابذاً لهم منادياً عليهم بأن دينكم يمحى وديني يظهر وإن كرهتم - من خوارق العادات وبواهر الآيات تصديقاً لقوله تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [ المجادلة : 21 ] { وإن جندنا لهم الغالبون } [ الصافات : 173 ] - في أمثال ذلك .
ولما قرر هذا ، أتبعه بمقالة لهم تدل على تعظيمهم وتكبرهم فقال عاطفاً على

{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم } [ الأنعام : 109 ] تعجيباً من حالهم فيما زين لهم من ضلالهم ، وتصديقاً لما تقدم من الإخبار بأنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية إلاّ أن يشاء الله؛ وتحقيقاً لما في الآية السالفة من مكرهم لغيرهم وعوده على أنفسهم : { وإذا جاءتهم } أي الكافرين من أكابر المجرمين وأتباعهم { آية قالوا } حسداً لمن خصه الله بالنبوة لكونهم أكابر مؤكدين للنفي لما لمعجزات الأنبياء عليهم السلام من العبر الموجب لظن الإذعان لأعتى أهل الكفران { لن نؤمن } أي أبداً { حتى نؤتى } لما لنا من العلو والعظمة المقتضية لأن لا يختص أحد عنا بشيء { مثل ما } .
ولما كان نظرهم مقصوراً على عالم الحس من غير نظر إلى جانب الله لكونه غيباً بنوا للمفعول قولهم : { أوتي رسل الله } يجوز أن يكون المراد : حتى يوحي إلينا لئلا يكونوا أعظم منا كما قال تعالى { بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتي صحفاً منشرة } [ المدثر : 52 ] وكما تقدم في أول السورة عن أبي جهل أنه قال : تنازعنا نحن وبنو عد مناف الشرف حتى إذا كنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، ويحك! متى ندرك هذا والله لا نؤمن به أبداً . وأن يكون المراد إتيانه صلى الله عليه وسلم بمثل آيات الأولين من شق البحر واليد والعصا وإحياء الموتى ونحوها ، وسموهم تنزلاً واستهزاء ، وعبروا بالجلالة إشارة إلى القدرة التامة فلا عذر .
ولما ذكر اسم الجلالة إيذاناً بعظيم ما اجترؤوا عليه لعماهم - بما طمس على أنوار قلوبهم من ظلمات الهوى - عما للرسل من الجلال الذي يخضع له شوامخ الأنوف ، أعادها أيضاً تهويلاً للأمر وتنبيهاً على ما هناك من عظيم القدر ، فقال رداً عليهم فيما تضمن قولهم من دعوى التعلم بالحكمة والاعتراض على الله عز وجل : { الله } أي بما له من صفات الكمال { أعلم } أي من كل من يمكن منه علم { حيث يجعل } أي يصير بما يسبب من الأمور { رسالته } أي كلها بالنسبة إلى كل فرد من أفراد الخلق فهو لا يضع شيئاً منها بالتشهي .
ولما كشف هذا النظم عن أنهم اجترؤوا عليه ، وأنهم أصروا على أقبح المعاصي الكفر ، لا لطلب الدليل بل لداء الحسد؛ تاقت النفس إلى معرفة ما يحل بهم فقال جواباً : { سيصيب } أي بوعد لا خلف فيه ، وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : { الذين أجرموا } أي قطعوا ما ينبغي أن يوصل { صغار } أي رضى بالذل لعدم الناصر؛ ولما كان الشيء تعظم بعظمة محله ومن كان منه ذلك الشيء قال : { عند الله } أي الجامع لصفات العظمة { وعذاب } أي مع الصغار { شديد } أي في الدنيا بالقتل والخزي وفي الآخرة بالنار { بما } أي بسبب ما { كانوا يمكرون } .

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)

ولما تقدم أنه تعالى أعلم بمن طبع على قلبه فلا ينفك عن الضلال ، ومن يقبل الهداية في الحال أو المآل ، وأن مكر المجرمين إنما هو بإرادته ونافذ قدرته ، علم أن الأمر أمره ، والقلوب بيده ، فتسبب عن ذلك قوله : { فمن يرد الله } أي الذي له جميع الجلال والإكرام { أن يهديه } أي يخلق الهداية في قلبه من أكابر المجرمين أو غيرهم { يشرح صدره } أي يوسعه بأن يجعله مهيئاً قابلاً بالنور { للإسلام } قال الإمام أبو جعفر النحاس : روي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : « يا رسول الله! وهل ينشرح الصدر؟ فقال : نعم ، يدخل القلب نور ، فقال : وهل لذلك من علامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم : التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل الموت » ، وفي رواية : الفوت { ومن يرد } أي الله ، ولم يظهر هنا إشارة إلى أن الضلال على مقتضى الطبع { أن يضله } أي يخلق الضلال ويديمه في قلبه { يجعل صدره } أي الذي هو مسكن قلبه الذي هو معدن الأنوار { ضيقاً حرجاً } أي شديد الضيق فيكون مرتجساً أي مضطرباً ، روي أن عمر رضي الله عنه أحضر أعرابياً من كنانة من بني مدلج فقال له : ما الحرجة؟ فقال : شجرة لا تصل إليها وحشية ولا راعية ، وساق البغوي القصة ولفظه : وقال : الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية لا وحشية ولا شيء - ثم اتفقا - فقال عمر رضي الله عنه : كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الإيمان و الخير؛ وزاد البغوي : يقال سيبويه : الحرج - بالفتح المصدر ، ومعناه : ذا حرج ، وبالكسر الاسم وهو أشد الضيق ، وقال المهدوي : هنا الحرج الشديد الضيق وقد تقدم القول فيه ، وقال في النساء في قوله تعالى { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت } [ النساء : 65 ] أي ضيقاً ، وإلى هذا المعنى يرجع قول مجاهد : إنه الشك ، وقول الضحاك : إنه الإثم ، كأنه ضيق شك أو ضيق إثم؛ وقال النحاس : { حرجاً مما قضيت } أي شكاً وضيقاً ، وأصل الحرج الضيق - انتهى . وتحقيق ذلك أن الآية هنا فيها - بعد التأكيد بالإتيان بصيغة فعيل دون فاعل - تأكيد أخر إما بالمصدر أو باسم الفاعل ، فأفاد زيادة على أصل الفعل وهي الشدة فيه ، فمعنى الفتح : ضيقاً - بكسر الضاد وإسكان الياء ومعناه - إن كسرتَ حرجاً - ضيقاً بإعادة اسم الفاعل ، ومادة حرج بخصوص هذا الترتيب تدور على المكان الضيق الكثير الشجر ، ويلزمه الشخوص على وجه الأرض والارتفاع والجمع والمنع والشدة والحيرة والحر والبرد ، وهي - بأي ترتيب كان وهي خمسة : حرج جحر رجح حجر جرح - تدور على الحجر الذي هو الجسم المعروف ، ويلزمه الثقل والمنع والحدة والشخوص والصلابة التي هي القسوة ويلزمها الضيق ، فيرجع إلى الصلابة الحرجُ بمعنى الضيق ، والحرجة للغيضة ، ولحرج للقلادة من الودع ، والحرجوج للريح الشديدة الباردة ، والناقة الحرجوج للوقادة القلب ، ويجوز رجوعها إلى الحدة ، والجرح لسرير الموتى لضيق الصدر من ذكره ، ولضيقه عن أسرّة الأحياء ، ومنه أيضاً جحر الضب ونحوه للثقب المحتفر في الأرض ، ويرجع إلى الثقل الحرجُ بمعنى الإثم ، وينشأ عن ذلك البعث المفضي إلى الحيرة ، ومنه حرجت عينه ، أي حارت فلا تطرف ، ويلزم الثقل أيضاً الجرحُ بمعنى الطعن النافذ في البدن ، ومن ذلك اجترح - إذا اكتسب مالاً ، لأنه من آثاره ، ومنه الرجحان بمعنى الثقل ، والحكم الراجح الذي يوجب رزانة صاحبه ، ومنه الأرجوحة لأن كلاًّ من طرفيها يرجح بالآخر ، ويرجع إلى المنع الحجرُ بمعنى العقل وبمعنى الحضن والحرام والفرس الأنثى لأنها قد تمنع من الركوب للحمل أو الولد ، والحجر في المال ، والحجرة للناحية القريبة لأن الشيء إذا بعد عنك - ولو قدر باع - امتنع منك ، وكان التأنيث فيه لقربه ، ويرجع إلى الشخوص الحرجُ للناقة الطويلة؛ وقال الإمام أبو الفتح بن جني رحمه الله في كتابه « المحتسب في توجيه القراءات الشواذ » عند قوله تعالى في هذه السورة « وحرث حرج » فيمن قرأ بتقديم الراء : إن جميع تراكيب هذه المادة الخمسة تلتقي معانيها في الضيق والشدة والاجتماع ، وإذا أنعمت النظر وتركت الملل والضجر وجدت الأمر كما قال - والله أعلم - نحو الحجر واستحجر الطين والحجرة وبقيته ، وكله إلى التماسك والضيق ، ومنه الحرج للضيق والجرح مثله ، والحرجة ما التف من الشجر فلم يمكن دخوله ، ومنه الحجر وبابه لضيقه ، ومنه الجرح لمخالطة الحديد للحم وتلاحمه عليه ، ومنه رجح الميزان - لأنه مال أحد شقيه نحو الأرض فقرب منها وضاق ما كان واسعاً بينه وبينها ، فإن قلت : فإنه إذا مال أحدهما إلى الأرض فقد بعد الآخر؟ قيل : كلامنا على الراجح والراجح هو الذي إلى الأرض ، فأما الآخر فلا يقال له : راجح ، وإذا ثبت ذلك - وقد ثبت - فكذلك قوله تعالى { وحرث حرج } في معنى حجر ، معناه عندهم أنها ممنوعة محجورة لن يطعمها إلاّ من يسألون أن يطعموه إياها بزعمهم - انتهى .

ولما كان صاحب هذا الصدر لا يكاد الهداية تصل إليه ، وإن وصل إليه شيء منها على لسان واعظ ومن طريق مرشد ناصح لم تجد مسلكاً فنكصت ، وهكذا لا تزال في اضطراب وتردد أبداً؛ كانت ترجمته قوله : { كأنما يصعد } أي يتكلف هذا الشخص في قبول الهداية الصعود { في السماء } في خفاء حياء من مزاولة ما لا يمكن ، بما أشار إليه قراءة من أدغم التاء في الصاد ، فكلما أصعدته حركته الاختيارية أهبطته حركته الطبيعية القسرية ، كما نرى بعض الحشرات يحمل شيئاً ثقيلاً ويصعد به في جدار أملس ، فيصير يتكلف ذلك فيقع ، ثم يتكلف الصعود ايضاً فربما وصل إلى مكانه الأول وسقط ، وربما سقط دونه ، فهو مما يمتنع عادة ، فلا يزال مرتجساً أي مضطرباً ومجامع الاضطراب عقبه بما بعده كما يأتي .

ولما كان ما وصف به صدر الضال مما ينفر منه ، وكان الرجس في الأصل لما يستقذر ، والمستقذر ينفر منه ، وكان هذا الكلام ربما أثار سؤالاً ، وهو أن يقال : هل هذا - وهو جعل الضال على هذه الصفة - خاص بأهل هذا الزمان ، أجيب بما حاصله : لا ، { كذلك } أي مثل ما جعل الله الرجس على من أراد ضلاله من أهل هذا الزمان { يجعل الله } أي بما له من القدرة التامة والعظمة الباهرة { الرجس } أي الاضطراب والقذر { على الذين لا يؤمنون } من أهل كل زمان لإرادته سبحانه دوام ضلالهم ، فالآية من الاحتباك : ذكر أولاً الضلال دليلاً على حذفه ثانياً ، وذكر الرجس ثانياً دليلاً على حذفه أولاً ، والآية نص في أن الله يريد هدى المؤمن وضلال الكافر .
ولما ذكر ما ألزمه لأهل الضلال بلفظ ما يستقذر ، كان في غاية الحسن تعقيبه بالصراط ، فإنه مما يعشق لاستقامته وإضافته إلى الرب الذي له - مع استجماع الكمالات كلها - صفة العطف والإحسان واللطف ، وإضافة الرب إلى هذا الرسول الذي يعشق خلقه وخلقه كلُ من يراه أو يسمع به ، وأحسن من ذلك وأمتن أن مادة « رجس » تدور على الاضطراب الملزوم للعوج الملزوم للضلال المانع من الإيمان ، فلما مثل سبحانه حال الضال بحال المضطرب ، وأخبر أنه ألزم هذا الاضطراب كل من لا يؤمن ، أتبعه وصف سبيله بالاستقامة التي هي أبعد شيء عن الاضطراب الملزوم للعوج ، وكان التقدير : فهذا حال أهل الضلال ، فعطف عليه قوله : { وهذا } أي الذي ذكرناه من الشرائع الهادية في هذا القرآن التي ختمناها بأن الهادي المضل هو الله وحده ، لا الإتيان بالمقترحات ولو جاءت كل آية { صراط } أي طريق { ربك } أي المحسن إليك حال كون هذا الصراط { مستقيماً } أي لا عوج فيه أصلاً ، بل هو على منهاج الفطرة الأولى التي هي في أحسن تقويم بالعقل السليم الذي لم يشبه هوى ولم يشبه خلل في أن الأمر كله بيد الله لكيلا يزال الإنسان خائفاً من الله وراجياً له لأنه القادر على كل شيء ، وأما غيره فلا قدرة له إلاّ بتقديره لأنه خلق القوى والقدر عندنا وعند المعتزلة ، فلتكن الجزئيات كذلك لأن الخلق لا يتصور بغير علم ، وليس غير الله محيط العلم؛ قال الإمام : فالآية التي قبلها من المحكمات ، فيجب إجراؤها على ظاهرها ، ويحرم التصرف فيها بالتأويل .
ولما كان جميع ما في هذا الصراط على منهاج العقل ليس شيء منه خارجاً عنه وإن كان فيه ما لا يستقل بإدراكه العقل ، بل لا بد له فيه من إرشاد الهداة من الرسل الآخذين على الله ، قال مبيناً لمدحه مرشداً إلى انتظامه مع العقل : { قد فصلنا } أي غاية التفصيل بما لنا من العظمة { الآيات } أي كلها فصلاً فصلاً بحيث تميزت تميزاً لا يختلط واحد منها بالآخر { لقوم يذكرون } أي يجهدون أنفسهم في التخلص من شوائب العوائق للعقل من الهوى وغيره - ولو على أدنى وجوه الاجتهاد بما يشير إليه الإدغام - ليذكروا أنه قال : ما من شيء ذكرناه إلاّ وقد أودعنا في عقولهم شاهداً عليه .

ولما كان التذكر - عند الآيات لا يكون إلاّ من أهل العنايات في طرق الهدايات ، قال مرغباً في التذكر فإنه سبب الفيض الإلهي على القلوب المهيأة له : { لهم } أي المتذكرين { دار السلام } أي الجنة ، أضافها سبحانه إليه زيادة في الترغيب فيها ، وخص هذا الاسم الشريف لأنه لا يلم بها شيء من عطب ولا خوف ولا نصب؛ ثم زاد الترغيب فيها بقوله : { عند ربهم } أي في ضمان المحسن إليهم وحضرته بما هيأهم له ويسره لهم { وهو } أي وحده { وليهم } أي المتكفل بتولي أمورهم ، لا يكلهم إلى أحد سواه ، وهذا يدل على قربه منهم ، والعندية تدل على قربهم منه لما شرح من صدورهم بالتوحيد؛ ولما كان ذلك ربما قصر على التذكر ، بين أن المراد منه التأدية إلى الأعمال فإنها معيار الصدق وميزانه فقال : { بما } أي بسبب ما { كانوا } أي كما جبلهم عليه ، فما كان ذلك إلاّ بفضله { يعملون } .

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)

ولما فصل سبحانه أحوال الفريقين ، وحض على التذكر تنبيهاً على أن كل ما في القرآن مما يهدي إليه العقل ، وذكر مآل المتذكرين فأفهم أن غيرهم إلى عطب ، لأنهم تولوا ما يضرهم لأنهم تبعوا شهواتهم ، وكان من المعلوم أنهم يعبدون غير مالكهم ، وأنه ما من عبد يخدم غير سيده بغير أمر سيده إلاّ عاتبه أو عاقبه ، هذا مركوز في كل عقل؛ ذكر سبحانه ما يتقدم ذلك المآل من الأهوال في الأجل المسمى الذي أخفاه عنده وجعله من أعظم مباني هذه السورة ، وأبهمه في أولها ، وبيّن في أثنائها بعض أحواله مراراً في وجوه من أفانين البيان ، وهو يوم الحشر ، فذكر هنا سبحانه بعض أحوال الغافلين وبعض ما يقول لهم فيه وما يفعله معهم من عتاب وعقاب ، لطفاً بهم واستعطافاً إلى المتاب ، فقال جامعاً الفريقين { ويوم } أي اذكر في تذكرك يوم { يحشرهم } أي أهل ولايتنا وأهل عداوتنا { جميعاً } لا نذر منهم أحداً { يا } أي فنقول على لسان من نشاء من جنودنا لأهل عداوتنا تبكيتاً وتوبيخاً حين لا يكون لهم مدافعة أصلاً : { معشر الجن } أي المستترين الموحشين من مردة الشياطين المسلطين على الإنس ، وهم يرونهم من حيث لا ترونهم { قد استكثرتم } أي طلبتم وأوجدتم الكثرة { من الإنس } أي من إغواء المؤنسين الظاهرين حتى صار أكثرهم أتباعكم ، فالآية من الاحتباك : عبر بما يدل على الستر أولاً دلالة على ضده - وهو الظهور - ثانياً ، وبما معناه الاستئناس والسكون ثانياً دلالة على ضده وهو الإيحاش والنفرة - أولاً . { وقال } هو عطف على جواب الجن المستتر عن العامل في « يا معشر » الذي تقديره كما يهدي إليه الآيات التي تأتي في السورة الآتية في تفصيل هذه المحاورة : فقالوا : ربنا هم ضلوا ، لأنهم كانوا يستمعون بنا في نفوذهم وسماعهم الأخبار الغريبة منا ، فاستوجبوا العذاب بمفردهم ، وستر جواب الجن لأنه - مع كونه لا يخفى لدلالة المعطوف عليه- مناسب لحالهم في الاستتار مع شهرتهم ، وذكره بلفظ الماضي إشارة إلى تحقق وقوعه ، لأنه خبر من لا يخلف الميعاد ، والمراد بهذه المحاورة ضرب مما يأتي تفصيله بقوله { قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا } [ الأعراف : 38 ] - الآية ، وقوله { فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً } - الآية { أولياؤهم } أي الجن { من الإنس } أي الذين تولوهم بالاتباع والطاعة فيما دعوهم إليه من الضلال ، معترفين مستعطفين { ربنا } أيها المربي لنا المحسن إلينا { استمتع } أي طلب المتاع وأوجده { بعضنا ببعض } نحن بهم فيما قالوا ، وهم بنا في طاعتنا لهم وعياذنا بهم { وبلغنا } أي نحن وهم { أجلنا } وأحالوا الأمر على القدر فقالوا : { الذي أجلت لنا } وهو الموت الذي كتبته علينا وسويت بيننا في سوط قهره وتجرع كؤوس حره وقره ، ثم هذا اليوم الذي كنا مشتركين في التكذيب به ، فاستوجبنا العذاب كلنا .

ولما تم ذلك كان كأنه قيل : فما قال الله لهم بعد هذه المحاورة الغريبة التي هي ضرب من كلام أهل الباطن في الدنيا لجلج مضطرب لا حاصل له؟ فقيل : { قال } أي المخاطب لهم عن الله { النار مثواكم } أي منزلكم جميعاً من غير أن تنفعكم الإحالة على القدر { خالدين فيها } أي إلى ما لا آخر له ، لأن الأعمال بالنية وقد كنتم على عزم ثابت أنكم على هذا الكفر ما بقيتم ولو إلى ما لا آخر له ، فالجزاء من جنس العمل .
ولما كان من المقرر أنه لا تمام لملك من يجب عليه شيء ويلزمه بحيث لا يقدر على الانفكاك عنه ، بين سبحانه أن ملكه ليس كذلك ، بل هو على غاية الكمال ، لا يجب عليه شيء بل كل فعله جميل ، وجميع ما يبدو منه حسن ، فعلق دوام عذابهم على المشيئة فقال : { إلا ما شاء } ولما كان القصد في هذه السورة إلى إظهار العظمة للغيرة على مقام الإلهية ، عبر بالاسم الأعظم فقال : { الله } أي الذي له رداء الكبر فلا يستطيع أحد أن يعترض عليه ولا أن يهم بذلك ، هيهات هيهات! انقطعت دون ذلك الآمال ، فظلت ناكسة أعناق الرجال ، وبيده إزار العز ، فمن اختلج في سره أن يرفع ناكس عنقه ضربه بمقامع الذل ، وأنزله في مهاوي الخزي ، وقد تقرر أنه سبحانه لا يشاء انقطاع شيء من ذلك عنهم في حال من الأحوال ، ونطق الكتاب بذلك في صرائح الأقوال ، وفي سوقه معلقاً هكذا مع ما تقدم زيادة في عذابهم بتعليق رجائهم من انقطاع بلائهم بما لا مطمع فيه .
ولما كان في إظهار الجلال في هذا الحال من عظيم الأهوال ما لا يسعه المقال ، أتبعه اللطف بالمخاطب به صلى الله عليه وسلم فقال : { إن ربك } أي المحسن إليك برفع أوليائك وخفض أعدائك .
ولما كان السياق - في مثل هذه المقاولة في مجمع الحكم - للحكمة والعلم ، وكان النظر إلى الحكمة في تنزيل كل شيء منزلة أعظم ، قدم وصفها فقال : { حكيم } أي فلا يعذب المخلص ويترك المشرك ولا يعذب بعض من أشرك ويترك بعضاً { عليم * } أي بدقائق الأمور وجلائلها من الفريقين ، فلا يخفى عليه عمل أحد فيهمله لذلك .
ولما استبان بهذا أنه ولّى الكفرة من ظالمي الجن ظالمي الإنس وسلطهم عليهم ، أخبر تعالى أن هذا عمله مع كل ظالم من أي قبيل كان سواء كان كافراً أو لا فقال : { وكذلك } أي ومثل تلك التولية التي سلطنا بها الجن على الإنس بما زاد عذاب الفريقين { نولي } أي نتبع في جميع الأزمان من جميع الخلق { بعض الظالمين } أي الغريقين في الظلم { بعضاً } أي بأن نجمع بين الأشكال ، في الأوصاف الباطنة والخصال ، ونسلط بعضهم على بعض في الضلال والإضلال ، والأوجاع والأنكال { بما كانوا } بجبلاتهم { يكسبون * } أي بسبب اجتماعهم في الطباع التي طبعناهم عليها يجتمعون وينقاد بعضهم لبعض ، بحسب ما سببنا من الأسباب الملائمة لذلك الظلم الذي يسرناه لهم ، حتى صارت أعمالهم كلها في غير مواضعها ، فيظلم بعضهم بعضاً ويهلك بعضهم بعضاً ، وهم لا يزدادون إلا الالتئام حتى يستحق الكل ما كتبنا لهم من عذاب؛ روى الطبراني في الأوسط ن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« إن الله عزّ وجلّ يقول : أنتقم ممن أبغض بمن أبغض ثم أصيّر كلاًّ إلى النار » وعن مالك بن دينار قال : رأيت في بعض كتب الله المنزلة أن الله تعالى يقول : افني أعدائي بأعدائي ثم أفنيهم بأوليائي . أو يقال : فقد أخبرنا أن الله عزّ وجلّ ولى المؤمنين بسبب محاسن أعمالهم ، ومثل ما ولاهم ليعزهم يولي بعض الظلمة بعضاً ليهينهم بسبب ما كانوا يتعاطونه من مساوئ الأعمال ورديء الخلال وغث الخصال فيؤديهم إلى مهلك الأوجاع والأوجال ، أو يقال : فقد بان أن كلاًّ من ظالمي الإنس والجن كان ولياً لكل ، وكما جعلنا بعضهم أولياء بعض في الدنيا نفعل إذا حشرناهم في النار فنجعل بعضهم أولياء - أي أتباع بعض ، ليستمتع بعضهم ببعض وينصر بعضهم بعضاً إن قدروا ، وهيهات منهم ذلك هيهات! شغلهم البكاء والعويل والندم والنحيب .
ولما انقضت هذه المحاورة وما أنتجته من بغيض الموالاة والمجاورة وكان حاصلها أنها موالاة من ضرت موالاته ، أتبعها سبحانه بمحاورة أخرى حاصلها معاداة من ضرت معاداته ، فقال مبدلاً من الأولى إتماماً للتقريع والتوبيخ والتشنيع : { يا معشر الجن } قدمهم لأن السياق لبيان غلبتهم { والإنس } وبكتهم بقوله محذراً للسامعين الآن ومستعطفاً لهم إلى التوبة : { ألم يأتكم رسل } ولما صار القبيلان بتوجيه الخطاب نحوهم دفعة كالشيء الواحد قال : { منكم } وإن كان الرسل من الإنس خاصة .
ولما كان النظر في هذه السورة إلى العلم غالباً لإثبات تمام القدرة الذي هو من لوازمه بدليل { يعلم سركم وجهركم } [ الأنعام : 3 ] ، { أليس الله بأعلم بالشاكرين } [ الأنعام : 53 ] { وعنده مفاتح الغيب } [ الأنعام : 59 ] وغيرها ، ولذلك أكثر فيها من ذكر التفصيل الذي لا يكون إلاّ للعالم ، كان القص - الذي هو تتبع الأثر - أنسب لذلك فقال { يقصون } بالتلاوة والبيان لمواضع الدلائل { عليكم آياتي } أي يتبعون بالعلامات التي يحق لها بما لها من الجلال والعظمة أن تنسب إلى مواضع شبهكم ، فيحلونها حلاً مقطوعاً به { وينذرونكم } أي يخوفونكم { لقاء يومكم هذا } أي بما قالوا لكم أنه يطلبكم طلباً حثيثاً وأنتم صائرون إليه في سفن الأيام ومراكب الآثام وأنتم لا تشعرون سيراً سريعاً { قالوا } معذرين من أنفسهم بالذل والخضوع { شهدنا } بما فعلت بنا أنت سبحانك من المحاسن وما فعلنا نحن من القبائح { على أنفسنا } أي بإتيان الرسل إلينا ونصيحتهم لنا بدليل الآية الأخرى

{ قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين } [ الزمر : 71 ] وبين أن ضلالهم كان بأردإ الوجوه وأسخفها الدنيا ، بحيث إنهم اغتروا بها مع دناءتها لحصورها عن الآخرة مع شرفها لغيابها فقال : { وغرتهم } أي شهدوا هذه الشهادة والحال أنهم قد غرتهم { الحياة الدنيا } أي الحاضرة عندهم إذ ذاك الدنية في نفسها لفنائها ، عن اتباع الرسل دأب الجاهل في الرضى بالدون والدابة في القناعة بالحاضر ، فشهادتهم ضارة بهم ، ولكن لم يستطيعوا كتمانها ، بل { وشهدوا } أي في هذا الموطن من مواطن القيامة الطوال { على أنفسهم } أيضاً بما هو أصرح في الضرر عليهم من هذا ، وهو { أنهم كانوا } جبلة وطبعاً { كافرين * } أي غريقين في الكفر ، ويجوز أن يكون الغرور بأنهم ظنوا أحوال الآخرة تمشي على ما كانوا يألفونه في الدنيا من أن الاعتراف بالذنب والتكلم بالصدق قد ينفع المذنب ويكف من سورة المغضب حتى يترك العقاب ويصفح عن الجريمة ، فلذلك شهدوا بإتيان الرسل إليهم وإقامة الحجة عليهم ، وشهدوا على أنفسهم بالكفر ، فما زادهم ذلك إلا وبالاً وحزناً ونكالاً .

ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)

ولما ذكر سبحانه إقامة الحجة على الكافر في المعاد بالرسل عليهم السلام ، علل إرسالهم ترغيباً وحثاً في اتباعهم في أيام المهلة بعد ترهيب ، وتنبيهاً وإرشاداً في صادع تخويف وتأديب فقال : { ذلك } أي الأمر العظيم الجدوى هو أن أرسلنا الرسل { أن } أي لأجل أنه { لم يكن ربك } أي المحسن إليك بتشريف قومك { مهلك } أي ثابتاً إهلاكه { القرى بظلم } أي بسبب ظلم ارتكبوه { وأهلها غافلون * } أي غريقون في الغفلة عما يجب عليهم مما لا تستقل به عقولهم ، أي بما ركب فيهم من الشهوات وغلب عليهم من اللذات ، فأوقف عقولهم عن نافذ المعرفة بما يراد بهم ، فأرسلنا إليهم الرسل حتى أيقظوهم من رقدتهم وأنبهوهم من غفلتهم ، فصار تعذيبهم بعد تكذيبهم هو الحق الواجب والعدل الصائب ، ويجوز أن يكون المعنى : مهلكهم ظالماً ، فيكون المنفي من الظلم كالمنفي في قوله تعالى { وما ربك بظلام للعبيد } [ فاطر : 46 ] وعلى الأول المنفي ظلمهم .
ولما بيّن سبحانه أن لأحد الفريقين دار السلام ، والآخر دار الملام ، قال جامعاً للفريقين عاطفاً على قوله { لهم دار السلام عند ربهم } [ الأنعام : 127 ] : { ولكل } أي عامل من الفريقين صالح أو طالح في قبيلي الجن والإنس في الدارين { درجات } أي يعليهم الله بها { مما } أي من أجل ما { عملوا } ودركات يهويهم فيها كذلك .
ولما تقدم أنه تعالى لا يهلك المجرمين إلاّ بعد الإعذار إليهم ، وتضمن ذلك إمهالهم ، وختم أحوالهم بأنهم موضع لثبوت الغفلة ودوامها ، نفى أن يسلم شيء من ذلك بجناب عظمته على وجه أثبت له ذلك إحاطة العلم بجميع أعمالهم فقال : { وما ربك } أي المحسن إليك بإعلاء أوليائك وإسفال أعدائك ، وأغرق في النفي لإثبات مزيد العلم فقال : { بغافل عما يعملون * } أي عن شيء يعمله أحد من الفريقين ، بل هو عالم بكل شيء من ذلك وبما يستحقه العامل قادر على جزائه ، فلا يقع في وهم أن الإمهال لخفاء الاستحقاق بخفاء الموجب له ، فالآية من النصوص في كتابة الصالحين من الجن .
ولما كان طلب العبادة للائتمار والانتهاء ربما أوهم الحاجة إليها لنفع في الطاعة أو ضرر يلحقه سبحانه من المعصية ، وكان الإمهال مع المبارزة ربما ظن أنه عن عجز ، قال مرغباً مرهباً : { وربك } أي المحسن إليك وإليهم بإرسالك ، وحصر الخبر في المبتدإ بقوله : { الغني } أي وحده الغني المطلق عن كل عابد وعبادته ، فليعمل العامل لنفع نفسه أو ضرها { ذو الرحمة } أي وحده بلإمهال والإرسال للتنبيه على ما يستحقه من الأعمال؛ وملا كان اختصاصه بالغنى والرحمة فلا رحمة إلا منه ولا غنى إلا عنه ، وأنه ما رتب الثواب والعقارب إلا رحمة منه وجوداً ، استأنف بيان ذلك ، وأخبر عن هذا المبتدإ بوصفيه عند من جعلها وصفين بقوله مصرحاً بما أفاده : { إن يشأ يذهبكم } أي جميعاً بالإهلاك ، فلا يقع في ظن أحد منكم أن الإهلاك متوقف على شيء غير مشيئته ، ولكنه قضى بإمهالكم إلى آجالكم رحمة لكم وإكراماً لنبيكم صلى الله عليه وسلم ؛ ثم قال تحقيقاً لغناه أيضاً : { ويستخلف } .

ولما كان لم يجعل لأحد الخلد ، أدخل الجار فقال : { من بعدكم } أي بعد هلاككم { ما يشاء } أي يبدع غيركم من الخلق من جنسكم أو غير جنسكم كما أبدع أباكم آدم من التراب والتراب من العدم وفرعكم منه { كما أنشأكم من ذرية } أي نسل { قوم آخرين * } أي بعد أن أهلكهم أجمعين ، وهم أهل السفينة وقد كنتم نطفاً في أصلابهم ، لم يكن في واحدة منها حياة .
ولما تقرر أن له الوصفين الملزومين للقدرة ، أنتج ذلك قوله جواباً لاستعجالهم بالعذاب استهزاء : { إن ما توعدون } أي من البعث وغيره { لآت } أي لا بد من وقوعه لأن المتوعد لا يبدل القول لديه ولا كفوء له يعارضه فيه { وما أنتم بمعجزين * } أي بثابت لكم الإتيان بشيء يعجز عنه الخصم ، فتمهد الأمر من جهته ومن جهتكم لوجود المقتضي وانتفاء المانع ، وفي ذلك تقرير لأمر رحمته لأن القادر إذا اراد النقمة أخذ على غرة ولم يهدد ، وإذا أراد الرحمة تقدم بالوعيد ليحذر الفائزون ويستسلم الخاسرون .
ولما تقرر ذلك من التهديد على إنكار البعث وتحرر ، فأنتج الاجتهاد للعاقل - ولا بد - في العمل ، وكان أكثر الخلق أحق ، أمره سبحانه بالنصيحة بقوله : { قل يا قوم } أي يا أقرب الخلق إليّ وأعزهم عليّ ومن لهم قيام في الأمور وكفاية عند المهمات { اعملوا } وأشار إلى مزيد القوة بعد التعبير بالقوم بحرف الاستعلاء فقال : { على مكانتكم } أي على ما لكم من القدرة على العمل والمكنة قبل أن تأتي الدواهي وتسبقكم القواصم بخفوق الأجل ، وفيه مع النصيحة تخويف أشد مما قبله ، لأن تهديد الحاضر على لسان الغير مع الإعراض أشد من مواجهته بالتهديد ، أي أنكم لم تقبلوا بذلك التهديد الأول كنتم أهلاً للإعراض والبعد .
ولما كان أدل شيء على النصيحة مبادرة الناصح إلى مباشرة ما نصح به ودعا إليه ، قال مستانفاً أو معللاً : { إني عامل } أي على مكانتي وبقدر استطاعتي قبل الفوت بحادث الموت ، ويمكن أن يكون متمحضاً للتهديد ، فيكون المعنى : اعملوا بما أنتم تعملونه الآن من مخالفتي بغاية ما لكم من القوة ، إني كذلك أعمل فيما جئت به .
ولما كان وقوع المتوعد به سبباً للعلم بالعاقبة ، وكان السياق لعدم تذكرهم وغرورهم وقلة فطنتهم ، حسن إثبات الفاء في قوله : دون إسقاطها لأن الاستئناف يتعطف للسؤال فقال : { فسوف تعلمون } أي يقع لكم بوعد لا خلف فيه العلم ، فكأنه قيل : أيّ علم؟ فقيل : { من تكون له } كوناً كأنه جبل عليه { عاقبة الدار } أي بيني وبينكم ، وهذا في إثبات الفاء بخلاف ما في قصة شعيب عليه السلام من سورة هود عليه السلام في حذفها؛ ولما كان التقدير جواباً لما تقرر من سؤالهم : عاقبة الدار للعامل العدل ، استأنف قوله : { إنه لا يفلح الظالمون * } أي الغريقون في الظلم كائنين من كانوا ، فلا يكون لهم عاقبة الدار ، فالآية من الاحتباك : ذكرُ العاقبة أولاً دليل على حذفها ثانياً ، وذكر الظلم ثانياً دليل على حذف العدل أولاً .

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)

ولما تمت هذه الآيات من قبح طريقتهم في إنكار البعث وحسن طريقة الإسلام على هذا الأسلوب البديع والمثال البعيد المنال الرفيع وختمت بحال الظالم ، شرع في تفصيل قوله { أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض } [ الأنعام : 14 ] على أسلوب آخر ابتدأه ببيان ظلمهم وجهالاتهم وأباطيلهم تنبيهاً على سخافة عقولهم تنفيراً عنهم بوضعهم الأشياء في غير مواضعها وإخراجها عمن هي له ونسبتها إلى من لا يملك شيئاً وقتل الأولاد وتسييب الأنعام وغير ذلك ، فقال عاطفاً على { وجعلوا لله شركاء الجن } [ الأنعام : 100 ] : { وجعلوا } أي المشركون العادلون بربهم الأوثان { لله } أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له { مما ذرأ } أي خلق وأنشأ وبث ولم يشركه في خلقه أحد { من الحرث والأنعام نصيباً } أي وجعلوا لشركائهم نصيباً؛ ولما كان الجعل لا يعرف إلا بالقول ، سبب عنه قوله : { فقالوا } أي بألسنتهم بعد أن قالوا بأفئدتهم { هذا لله } أي الملك الأعلى { بزعمهم } أي ادعائهم الباطل وتصرفهم بكذب ادعائهم التخصيص بالله ، ولذا أسقط الزعم من قوله : { وهذا لشركائنا } أي وليس لهم سند في هذه القسمة إلا أهوائهم .
ولما كان هذا سفهاً بتسويتهم من لا يملك شيئاً بمن يملك كل شيء ، بين من فعلهم ما هو أشد سفهاً منه بشرح ما لوح إليه التعبير بالزعم فقال مسبباً عن ذلك ومفرعاً : { فما كان لشركائهم } أي بزعمهم أنهم شركاء { فلا يصل إلى الله } أي الذي هو المالك مع اتصافه بصفات الجلال والجمال { وما كان لله } أي على ما له من الكبر والعظمة والجلال والعزة { فهو يصل إلى شركائهم } فإذا هلك ما سموا لشركائهم أو أجدب وكثر ما لله قالوا : ليس لآلهتنا بد من نفقة ، فأخذوا ما لله فأنفقوه على آلهتهم ، وإذا أجدب الذي لله وكثر ما لآلهتهم قالوا : لو شاء الله لأزكى الذل له ، فلا يردون عليه شيئاً مما للآلهة .
ولما بلغ هذا غاية السفه قال : { ساء ما يحكمون * } أي حكمهم هذا أسوأ حكم؛ ذكر الإمام أبو الربيع سليمان بن سالم الكلاعي في سيرته في وفد خولان أنه كان لهم صنم يسمى عم أنس ، وأنهم لما وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا له أنهم كانوا يجعلون من أنعامهم وحروثهم جزءاً له وجزءاً لله بزعمهم ، قالوا : كنا نزرع الزرع فنجعل له وسطه فنسميه له ونسمي زرعاً آخر حجرة لله عزّ وجلّ ، فإذا مالت الريح بالذي سميناه لله جعلناه لعم أنس ، وإذا مالت الريح بالذي جعلناه لعم أنس لم نجعله لله ، فذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عزّ وجلّ أنزل عليه في ذلك { وجعلوا لله } الآية ، قالوا : وكنا نتحاكم إليه فيتكلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« تلك الشياطين تكلمكم » ، قالوا : فأصبحنا برسول الله وقلوبنا تعرف أنه كان لا يضر ولا ينفع ولا يذري من عبده ممن لم يعبده . وقال ابن هشام في مقدمة السيرة إنهم كانوا يقسمون له ، فما دخل في حق عم أنس من حق الله الذي سموه له تركوه له ، وما دخل في حق الله من حق عم أنس ردوه عليه ، قال : وهم بطن من خولان يقال لهم الأديم؛ وقال عبد الرزاق في تفسيره : أخبرنا معمر عن قتادة قال : كانوا يعزلون من أموالهم شيئاً فيقولون : هذا لله وهذا لأصنامهم ، فإن ذهب شيء مما جعلوا لشركائهم يخالط شيئاً مما جعلوه ردوه ، وإن ذهب شيء مما جعلوه لله يخالط شيئاً مما جعلوه لشركائهم تركوه ، وإن أصابتهم سنة أكلوا مما جعلوا لله وتركوا ما جعلوا لشركائهم ، فقال عزّ وجلّ { ساء ما يحكمون } وقال البغوي : كانوا يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيباً وللأوثان نصيباً ، فما جعلوه لله صرفوه للضيفان والمساكين ، وما جعلوه للأصنام أنفقوه على الأصنام وخدمها ، فإن سقط شيء مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا : إن الله غني عن هذا ، وإن سقط شيء من نصيب الأوثان فيما جعلوه لله ردوه إلى الأوثان وقالوا : إنها محتاجة ، وكان إذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه لله لم يبالوا به ، وإذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه للأصنام جبروه بما جعلوه لله .
ولما كان هذا متضمناً لأنهم نقصوا أموالهم بأنفسهم في غير طائل فجعلوها لمن لا يستحقها ، نبه تعالى على أن ذلك تزيين من أضلهم من الشياطين من سدنة الأصنام وغيرهم من الإنس ومن الجن المتكلمين من أجواف الأصنام وغيرهم ، فقال منبهاً على أنهم زينوا لهم ما هو أبين منه { وكذلك } أي ومثل ما زين لجميع المشركين تضييع أموالهم والكفر بربهم شركاؤهم { زين لكثير من المشركين } .
ولما كان المزين لخسته أهل لأن لا يقبل تزيينه ولا يلتفت إليه ، فكان امتثال قوله غريباً ، وكان الإقدام على فعل الأمر المزين أشد غرابة ، قدمه تنبيهاً على ذلك فقال : { قتل أولادهم } أي بالوأد خشية الإملاق والنحر لآلهتهم ، وشتان بين من يوجد لهم الولد ويرزقه والرزق ويخلقه وبين من لا يكون إلا سبباً في إعدامه؛ ولما كان في هذا غاية الغرابة تشوفت النفس إلى فاعل التزيين فقال : { شركاؤهم } أي وهم أقل منهم بما يخاطبون به من أجواف الأصنام وبما يحسن لهم السدنة والأهوية بسبب الأصنام .
ولما كان هذا أمراً معجباً ، كان الأمر في قراءة ابن عامرالمولود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم المشمول ببركة ذلك العصر الآخذ عن جلة من الصحابة الموصوف بغزارة العلم ومتانة الدين وقوة الحفظ والضبط وحجة النقل في إسناد الفعل إلى الشركاء بإضافة المصدر إلى فاعله أعجب ، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول - وهو الأولاد - لأن وقوع القتل فيهم كما تقدم أعجب .

ولما كان ذلك ربما كان لفائدة استهين لها هذا الفعل العظيم ، ذكر أنه ليس له فائدة إلا الهلاك في الدنيا والدين الذي هو هلاك في الآخرة ليكون ذلك أعجب فقال : { ليردوهم } أي ليهلكوهم هلاكاً لا فائدة فيه بوجه { وليلبسوا } أي يخلطوا ويشبهوا { عليهم دينهم } أي وهو دين إبراهيم الذي أمره الله بذبح ولده إسماعيل عليهما السلام فما أقدم عليه إلاّ بأمر الله ثم إنه فداه ولم يمض ذبحه ، فخالف هؤلاء عن أمر الشركاء الأمرين معاً فجمعوا لهم بذلك بين إهلاكين : في النفس والدين ، فان القتل في نفسه عظيم جداً ، ووقوعه تديناً بغير أصل ولا شبهة أعظم ، فلا أضل ممن تبع من كان سبباً لإهلاك نفسه ودينه .
ولما كان العرب يدعون الأذهان الثاقبة والأفكار الصافية والآراء الصائبة والعقول الوافرة النافذة ، ذكر لهم ذلك على سبيل التعليل استهزاء بهم ، يعني أنهم فعلوا ذلك لهذه العلة فلم يفطنوا بهم ولم يدركوا ما أرادوا بكم مع أنهم حجارة ، فأنتم أسفل منهم؛ ولما أثبت للشركاء فعلاً هو التزيين ، وكان قد نفي سابقاً عنهم وعن سائر أعداء الأنبياء الاستقلال به ، وأناط الأمر هناك - لأن السياق للأعداء - بصفة الربوبية المقتضية للحياطة والعناية ، وكان الكلام هنا في خصوص الشركاء ، علق الأمر باسم الذات الدال على الكمال المقتضي للعظمة والجبروت والكبر وسائر الأسماء الحسنى على وجه الإحاطة الجلال فقال : { ولو شاء الله } أي بما له من العظمة والإحاطة بجميع أوصاف الكمال المقتضية للعلو عن الأنداد والتنزه عن الشركاء والأولاد أن لا يفعله المشركون { ما فعلوه } أي ذلك الذي زين لهم ، بل ذلك إنما هو بإرادته ومشيئه احتراساً من ظن أنهم يقدرون على شيء استقلالاً ، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتخفيفاً ، وأكد التسلية بقوله : { فذرهم وما يفترون * } أي يتقولون من الكذب ويتعمدونه .

وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)

ولما ذكر إقدامهم على ما قبحه الشرع ، ولامه على تقبيحه العقلُ من قتل الأولاد ، أتبعه إحجامهم عما حسنه الشرع من ذبح بعض الأنعام لنفعهم ، وضم إليه جملة مما منعوا أنفسهم منه ودانوا به لمجرد أهوائهم فقال : { وقالوا } أي المشركون سفهاً وجهلاً { هذه } إشارة إلى قطعة من أموالهم عينوها لآلهتهم { أنعام وحرث حجر } أي حرام محجور عليه فلا يصل أحد إليه ، وهو وصف يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات { لا يطعمها } أي يأكل منها { إلا من نشاء } أي من السدنة ونحوهم { بزعمهم } أي بتقولهم بمجرد الهوى من غير سند عن الله الذي له ملكوت السماوات والأرض ، وهم كاذبون في هذا الزعم في أصل التحريم وفي نفوذ المنع ، فلو أراد الله أن تؤكل لأكلت ولم يقدروا على منع { وأنعام } .
ولما كان ذمهم على مجرد التجريم لا على كونه من معين ، بني للمجهول قوله : { حرمت ظهورها } يعني البحائر وما معها فلا تركب { وأنعام لا يذكرون } أي هؤلاء المتقولون على الله { اسم الله } الذي حاز جميع العظمة { عليها } أي في الذبح أو غيره { افتراء } أي تعمداً للكذب { عليه } .
ولما كان هذا لعظمه من جهة أنه تعمد للكذب على ملك الملوك موضع تشوف السامع إلى ما يكون عنه ، استأنف قوله : { سيجزيهم } أي بوعد صادق لا خلف فيه { بما } أي بسبب ما { كانوا } أي جبلة وطبعاً { يفترون * } أي يتعمدون من الكذب ، أما بعد إظهار الحق فواضح ، وأما قبله فلكونه في غاية ما يكون من ظهور الفساد . ولما ذكر من سفههم ما فيه إقدام محض وما فيه إحجام خالص محت ، أتبعه ما هو مختلط منهما فقال : { وقالوا } أي المشركون أو بعضهم وأقره الباقون { ما في بطون هذه } إشارة إلى ما اقتطعوه لآلهتهم ، وبينوه بقولهم : { الأنعام } أي من الأجنة { خالصة } أي خلوصاً لا شوب فيه ، أنث للحمل على معنى الأجنة ، أو تكون التاء للمبالغة أو تكون مصدراً كالعافية ، أي ذو خالصة { لذكورنا } ؛ ولما كان المراد العراقة في كل صفة ، أتى بالواو فقال : { ومحرم } وحذف الهاء إما حملاً على اللفظ أو تحقيقاً لأن المراد ب « خالصة » المبالغة { على أزواجنا } أي إناثنا ، وكأنه عبر بالأزواج بياناً لموضع السفه بكونهن شقائق الرجال ، هذا إن ولد حياً { وإن يكن } أي ما في بطونها { ميتة } وكأنه أثبت هاء التأنيث مبالغة ، وأنث الفعل أبو جعفر وابن عامر وأبو بكر عن عاصم حملاً على معنى « ما » ورفع الاسم على التمام ابن كثير وأبو جعفر وابن عامر ، وذكر ابن كثير لأن التأنيث غير حقيقي ، ونصب الباقون على جعلها ناقصة مع التذكير حملاً على لفظ « ما » { فهم } أي ذكورهم وإناثهم { فيه } أي ذلك الكائن الذي في البطون { شركاء } أي على حد سواء .

ولما كان ذلك كله وصفاً منهم للأشياء في غير مواضعها التي يحبها الله قال : { سيجزيهم وصفهم } أي بأن يضع العذاب الأليم في كل موضع يكرهون وصفه فيه ، حتى يكون مثل وصفهم الذي لم يزالوا يتابعون الهوى فيه حتى صار خلقاً لهم ثابتاً فهو يريهم وخيم أثره ، ثم علل ذلك بقوله : { إنه حكيم } أي لا يجازى على الشيء إلا بمثله ويضعه في أحق مواضعه وأعدلها { عليم * } أي بالمماثلة ومن يستحقها وعلى أيّ وجه يفعل ، وعلى أيّ كيفية يكون أتم وأكمل ، وفي ذلك أتم إشارة إلى أن هذه الأشياء في غاية البعد عن الحكمة ، فهو متعال عن أن يكون شرعها وهي سفه محض لا يفعلها إلاّ ظالم جاهل .

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)

ولما ذكر تعالى تفاصيل سفههم ، وأشار إلى معانيها ، جمعها - وصرح بما أثمرته من الخيبة - في سبع خلال كل واحدة منها سبب تام في حصول الندم فقال : { قد خسر } وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : { الذين قتلوا } قرأها ابن عامر وابن كثير بالتشديد لإرادة التكثير والباقون بالتخفيف { أولادهم سفهاً } أي خفة إلى الفعل المذموم وطيشاً ، تؤزهم الشياطين الذين يتكلمون على ألسنة الأصنام أو سدنتها إلى ذلك أزاً .
ولما كان السفه منافياً لرزانة العلم الذي لا يكون الفعل الناشئ عنه إلا عن تأن وتدبر وتفكر وتبصر ، قال مصرحاً بما أفهمه : { بغير علم } أي وأما من قتل ولده بعلم - كما إذا كان كافراً أو قاتلاً أو محصناً زانياً - فليس حكمه كذلك؛ ولما ذكر عظيم ما أقدموا عليه ، ذكر جليل ما أحجموا عنه فقال : { وحرموا ما رزقهم الله } أي الذي لا ملك سواه رحمة لهم ، من تلك الأنعام والغلات ، بغير شرع ولا نفع بوجه { افتراء } أي تعمداً للكذب { على الله } أي الذي له جميع العظمة .
ولما كانوا قد خسروا ثلاث خسرات مع ادعائهم غاية البصر بالتجارات : النفس بقتل الأولاد ، والمال بتحريم ما رزقهم الله ، فأفادهم ذلك خسارة الدين ، كانت نتيجته قوله : { قد ضلوا } أي جاوزوا وحادوا عن الحق وجاروا؛ ولما كان الضال قد تكون ضلالته فلتة عارضة له ، وتكون الهداية وصفاً أصيلاً فيه ، نبه على أن الضلال وصفهم الثابت بقوله : { وما كانوا } أي في شيء من هذا من خلق من الأخلاق { مهتدين * } أي لم يكن في كونهم وصف الهداية ، بل زادوا بذلك ضلالاً؛ قال البخاري في المناقب من صحيحه : حدثنا أبو النعمان حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً } - إلى قوله : { وما كانوا مهتدين } . وله في وفد بني حنيفة من المغازي عن مهدي بن ميمون قال : سمعت أبا رجاء العطاردي يقول : كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه فأخذنا الآخر ، وإذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به ، فإذا دخل شهر رجب قلنا : منصل الأسنة ، فلا ندع رمحاً فيه حديدة ولا سهماً فيه حديدة إلا نزعناه فألقيناه شهر رجب .
ولما كان مدار القرآن على تقرير التوحيد والنبوة وتوابعها والمعاد والقضاء والقدر والفعل بالاختيار ، وأتقن تقرير هذه الأصول لا سيما في هذه السورة ، وانتهى إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء ، وعجب سبحانه ممن أشرك وأنكر البعث وفعل أفعال المشركين تعجيباً بعد تعجيب ، وهجن طريقتهم ووبخهم توبيخاً في إثر توبيخ بتكذيبهم للداعي من غير حجة ، وحكى أقوالهم الباطلة ودعاويهم الفاسدة مع ادعائهم أنهم أنصف الناس ، ومخالفتهم للهادي بغير ثبت ولا بينة مع ادعائهم أنهم أبصر الناس ، وبطلبهم للآيات تعنتاً مع ادعائهم أنهم أعقل الناس ، وإخلاصهم في الشدة وإشراكهم في الرخاء مع ادعائهم أنهم أشكر الناس ، وعبادتهم للجن وتعوذهم بهم مع ادعائهم أنهم أشجع الناس - إلى أن عجب منهم فيما شرعوه لأنفسهم فيما رزقهموه سبحانه من حيوان وجماد ومضوا عليه خلفاً عن سلف ، تنبيهاً على ضعف عقولهم وقلة علومهم تنفيراً للناس عن الالتفات إليهم واغترار بأقوالهم ، قال في موضع الحال من

{ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام } [ الأنعام : 136 ] مبيناً عظيم ملكه وشمول قدرته وباهر اختياره وعظمته ، زيادة في التعجيب منهم في تصرفهم في ملكه بغير إذنه سبحانه وشرعهم ما لم يأذن فيه في سياق كافل بإقامة الحجة على تقرير التوحيد عوداً على بدء وعللاً بعد نهل ، لأنه المدار الأعظم والأصل الأقوم : { وهو } أي لا غيره { الذي أنشأ } أي من العدم { جنات } أي من العنب وغيره { معروشات } أي مرفوعات عن الأرض على الخشب ونحوه ، أي لا تصلح إلا معروشة ، ومتى لم ترفع عن الأرض تلف ثمرها { وغير معروشات } أي غير مرفوعات على الخشب ، أي لا تصلح إلا مطروحة على الأرض مثقلة بما يحكم وصولها إليها ، ومتى ارتفعت عن الأرض تلفت ، فما ذلك لطبيعة ولا غيرها وإلاّ لاستوت الجنات كلها لأن نسبتها إلى السماء والأرض واحدة ، فما اختلف إلا بفاعل مختار واحد لا شريك له ، لا يكون إلا ما يريد .
ولما ذكر الجنات الجامعة ، خص أفضلها وأدلها على الفعل بالاختيار ، وبدأ بأشهرها عند المخاطبين بهذه الآيات فقال : { والنخل } أي وأنشأ النخل { والزرع } حال كونه { مختلفاً أكله } أي أكل أحد النوعين ، وهو ثمره الذي يؤكل بالنسبة إلى الآخر ، وأكل كل نوع بالنسبة إلى الأشجار وغيرها في الحمل والطعم وغيره ، بل ويوجد في العذق الواحد الاختلاف ، وأما اختلاف مقداره بكون هذا في غاية الطول وهذا في غاية القصر فأمر واضح جداً { والزيتون والرمان } .
ولما كان معظم القصد في هذا السياق نفي الشريك وإثبات الفعل بالاختيار ، لم يدع الحال إلى ذكر كمال الشبه فاكتفى بأصل الفعل فقيل : { متشابهاً } أي كذلك { وغير متشابه } أي في اللون والطعم والفساد وعدمه والتفكه والاقتيات والدهن والماء - إلى غير ذلك من أحوال وكيفيات لا يحيط بها حق الإحاطة إلا بارئها سبحانه وعز شأنه ، ولعله جمع الأولين لأن كلاًّ منهما يدخر للاقتيات ولا يسرع فساده مع المفارقة في الشكل ، والاختلاف في النوع بالشجر والنجم ، والتفاوت العظيم في المقدار ، والأخيرين لأن الأول لا يفسد بوجه ، والثاني يسرع فساده ، ويدخر كل منهما على غير الهيئة التي يدخر عليها الآخر مع كونهما من الأشجار وتقاربهما في المقدار وتفاوت ثمرتهما في الشكل والقدر وغير ذلك .

ولما كان قوله { وهو الذي أنزل من السماء ماء } [ الأنعام : 99 ] في سياق الاستدلال على أنه لا فاعل إلا الله ، أمر فيه بالنظر إلى الثمر والينع ليعتبر بحالهما ، وكانت هذه الآية في سياق التعنيف لمن حرم ما رزقه الله والأمر بالأكل من حلال ما أنعم به والنهي عن تركه تديناً فقال تعالى هنا : { كلوا } وقدم الأولى المستدل بها على وجود البارئ وتفرده بالأمر لأن اعتقاد ذلك سعادة روحانية أبدية؛ وقال أبو حيان في النهر : لما كان مجيء تلك الآية في معرض الاستدلال بها على الصانع وقدرته والحشر وإعادة الأرواح إلى الأجساد بعد العدم وإبراز الجسد وتكوينه من العظم الرميم وهو عجب الذنب ، قال { انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه } [ الأنعام : 99 ] إشارة إلى الإيجاد أولاً وإلى غايته ، وهنا لما كان في معرض الامتنان وإظهار الإحسان بما خلق لنا قال : كلوا ، ودل على أن الرزق أكثر من خلقه بقوله : { من ثمره } ، ولما كان هذا الأمر للإباحة لا للارادة ، قيده لئلا يقتضي إيجاد الثمر في كل جنة في كل وقت فقال : { إذا أثمر } فحصل بمجموعها الحياة الأبدية والحياة الدنياوية السريعة الانقضاء وتقدم النظر وهو الفكر على الأكل لهذا السبب . انتهى . وعبر ب « إذا » دون « إن » تحقيقاً لرجاء الناس في الخصب وتسكيناً لآمالهم رحمة لهم ورفقاً بهم إعلاماً أنه إن وقع جدب كان في ناحية دون أخرى وفي نوع دون آخر ، وإباحة للأكل في جميع أحوال الثمرة نضيجة وغير نضيجة .
ولما كان في الآيات الحاكية مذاهب الكفار تقبيح أن يجعلوا شيئاً من أموالهم لأحد بأهوائهم ، أشار هنا إلى أنه فرض فيها حقاً وجعل له مصارف بقوله : { وآتوا حقه } ولما أباح سبحانه أكله ابتداء وانتهاء ، بين أنه خفف عنهم الوجوب قبل الانتهاء فقال : { يوم حصاده } أي قطعه جذاذاً كان أو حصاداً ، فكذلك أول وقت نصاب الأمر وهو موسع ، والحق أعم من الواجب والمندوب ، فإن أريد الندب عم الأنواع الخمسة الماضية : العنب المشار إليه بالعرش وما بعده ، وإن أريد الوجوب فقد أشير بالتعبير بالحصاد إلى أن الأصل في ذلك الحبوب المقتاتة ، وأما غيرها فتابع علمه ببيان النبي صلى الله عليه وسلم فيطلق عليه الحصاد مجازاً .
ولما أمر الله بالأكل من ثمره وبإيتاء حقه ، نهى عن مجاوزة الحد في البسط أو القبض فقال : { ولا تسرفوا } وهذا النهي يتضمن أفراد الإسراف ، فيدخل فيه الإسراف في أكل الثمرة حتى لا يبقى شيء منها للزكاة ، والإسراف في الصدقة حتى لا يبقى لنفسه ولا لعياله شيئاً ، ويؤيده { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } [ الأعراف : 31 ] ، { ولا تبسطها كل البسط } [ الإسراء : 29 ] ، ثم علله بقوله : { إنه لا يحب المسرفين * } أي لا يعاملهم معاملة المحب فلا يكرمهم ، وقيل لحاتم الطائي : لا خير في السرف فقال : ولا سرف في الخير .

وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)

ولما كان السياق للمآكل من الحرث والأنعام من حلال وحرام ، وفرغ من تقرير أمر الحرث الذي قدم في الجملة الأولى لأنه مادة الحيوان ، قال : { ومن } أي وأنشأ من { الأنعام حمولة } أي ما يحمل الأثقال { وفرشاً } أي وما يفرش للذبح أو للتوليد ، ويعمل من وبره وشعره فرش؛ ولما استوفى القسمين أمر بالأكل من ذلك كله على وجه يشمل غيره مخالفة للكفار فقال : { كلوا مما رزقكم الله } أي لأنه الملك الأعظم الذي لا يسوغ رد عطيته { ولا تتبعوا } ولعله شدد إشارة إلى العفو عن صغيرة إذا ذكّر الإنسان فيها رجع ولم يعتد في هواه { خطوات الشيطان } أي طريقه في التحليل والتحريم كما قال في البقرة { كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان } [ البقرة : 168 ] وعبر بذلك لأنه - مع كونه من مادة الخطيئة دال على أن شرائعه شريعة الأندراس ، لولا مزيد الاعتناء من الفسقة بالتتبع في كل خطوة حال تأثيرها لبادر إليها المحو لبطلانها في نفسها ، فلا أمر من الله يحييها ولا كتاب يبقيها ، وإنما أسقط هنا { حلالاً طيباً } لبيانه سابقاً في قوله { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } [ الأنعام : 118 ] ، { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } [ الأنعام : 121 ] ، ولاحقاً في قوله { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً } [ الأنعام : 125 ] ؛ ثم علل نهيه عن اتباعه فقال : { إنه لكم عدو } أي فهو لذلك لا يأمركم بخير { مبين * } أي ظاهر العداوة لأن أمره مع أبيكم شهير .
ولما رد دين المشركين وأثبت دينه ، وكانوا قد فصلوا الحرمة بالنسبة إلى ذكور الآدمي وإناثه ، ألزمهم تفصيلها بالنسبة إلى ذكور الأنعام وإناثه ، ففصل أمرها في أسلوب أبان فيها أن فعلهم رث القوى هلهل النسيج بعيد من قانون الحكمة ، فهو موضع للاستهزاء وأهل للتهكم ، فقال بياناً ل { حمولة وفرشاً } { ثمانية أزواج } أي أصناف ، لا يكمل صنف منها إلا بالآخر ، أنشأها بزواج كل من الذكر والأنثى الآخر ، ولحق بتسميتهم الفرد بالزوج - بشرط أن يكون آخر من جنسه - تسميتهم الزجاجة كأساً بشرط أن يكون فيها خمر .
ولما كان الزوج يطلق على الاثنين وعلى ما معه آخر من نوعه ، قال مبيناً أن هذا هو المراد لا الاثنان مفصلاً لهذه الثمانية : { من الضأن } جمع ضائن وضائنة كصاحب وصحب { اثنين } أي ذكراً وأنثى كبشاً ونعجة { ومن المعز } جمع ماعز وماعزة كخادم وخدم في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر ، وتاجر وتجر في قراءة غيرهم { اثنين } أي زوجين ذكراً وأنثى تيساً وعنزاً .
ولما كان كأنه قيل : ما المراد بهذا التفصيل قبل سؤالهم عن دينهم ، قال : { قل } أي لهم مستفهماً؛ ولما كان هذا الاستفهام بمعنى التوبيخ والتهكم والإنكار ، أتى فيه ب « ام » التي هي مع الهمزة قبلها بمعنى « أيّ » ليتفهم بها عما يعلم ثبوت بعضه وإنما يطلب تعيينه ، فقال معترضاً بين المعدودات تأكيداً للتوبيخ ، لأن الاعتراضات لا تساق إلاّ للتأكيد : { ءآلذكرين } .

ولما كان المستفهم عنه بنصبه ما بعده لا ما قبله ، قال : { حرم } أي الله ، فإن كان كذلك لزمكم تحريم جميع الذكور { أم الأنثيين } ليلزمكم تحريم جميع الإناث ، واستوعب جميع ما يفرض من سائر الأقسام في قوله : { أما } أي أم حرم ما { اشتملت } أي انضمت { عليه } وحملته { أرحام الأنثيين } أي من الذكور والإناث ، ومتى كان كذلك لزمكم تحريم الكل فلم تلزموا شيئاً مما أوجبه هذا التقسيم فلم تمشوا على نظام .
ولما علم أنه لا نظام لهم فعلم أنهم جديرون بالتوبيخ ، زاد في توبيخهم فقال : { نبئوني } أي أخبروني عما حرم الله من هذا إخباراً جليلاً عظيماً؛ ولما كان هذا الإخبار الموصوف لا يكون بشيء فيه شك ، قال : { بعلم } أي أمر معلوم من جهة الله لا مطعن فيه { إن كنتم صادقين } أي إن كان لكم هذا الوصف .
ولما فصل الغنم إلى ضان ومعز ، أغنى ذلك عن تنويع الإبل إلى العراب والبخت والبقر إلى العراب والجواميس ، - ولأن هذه يتناتج بعضها من بعض بخلاف الغنم فإنها لا يطرق أحد نوعيها الآخر - نقله الشيخ بدر الدين الزركشي في كتاب الوصايا من شرح المنهاج عن كتاب الأعداد لابن سراقة فقال : { ومن الإبل اثنين } أي ذكراً وأنثى { ومن البقر اثنين } أي كذلك { قل } أي لهؤلاء الذين اختلقوا جهلاً وسفهاً ما تقدم عنهم { ءآلذكرين } أي من هذين النوعين { حرم } أي حرمهما الله { أم الأنثيين } أي حرمهما { أما } أي الذي { اشتملت عليه } أي ذلك المحرم على زعمكم { أرحام الأنثيين } أي حرمهما الله .
ولما كان التقدير : أجاءكم هذا عن الله الذي لا حكم لغيره على لسان نبي؟ عادله توبيخاً لهم وإنكاراً عليهم بقوله : { أم كنتم شهدآء } أي حاضرين { إذ وصاكم الله } أي الذي لا ملك غيره فلا حكم لسواه { بهذا } أي كما جزمتم عليه به ، أو جزمتم بالحرمة فيما حرمتموه والحل فيما أحللتموه ، ولا محرم ولا محلل غير الله ، فكنتم بذلك ناسبين الحكم إليه؛ ولما كان التقدير كما أنتجه السياق : لقد كذبتم على الله حيث نسبتم إليه ما لم تأخذوه عنه لا بواسطة ولا بغير واسطة ، سبب عنه قوله معمماً ليعلم أن هذا إذا كان في التحريم والتحليل كان الكذب في أصول الدين أشد : { فمن أظلم } ووضع موضع « منكم » قوله معمماً ومعلقاً للحكم بالوصف : { ممن افترى } أي تعمد { على الله } أي الذي لا أعظم منه لأنه ملك الملوك { كذباً } كعمرو بن لحي الذي غير شريعة إبراهيم عليه السلام ، وكل من فعل مثل فعله .

ولما كان يلزم من شرعهم لهذه الأمور إضلال من تبعهم فيها عن الصراط السوي ، وكانوا يدعون أنهم أفطن الناس وأعرفهم بدقائق الأمور في بداياتها ونهاياتها وما يلزم عنها ، جعل غاية فعلهم مقصوداً لهم تهكماً بهم فقال : { ليضل الناس } ولما كان الضلال قد يقع من العالم الهادي خطأ ، قال : { بغير علم } .
ولما كان هذا محل عجب ممن يفعل هذا ، كشفه سبحانه بقوله استئنافاً : { إن الله } وهو الذي لا حكم لأحد سواه لا يهديهم ، هكذا كان الأصل ولكنه أظهر تعميماً بما هو أعم من وصفهم ليكون الحكم عليهم بطريق الأولى فقال : { لا يهدي القوم الظالمين } أي الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها فكيف بالأظلمين! وما أحسن هذا الختم لأحكامهم وأنسبه لما بناها عليه من قوله { إنه لا يفلح الظالمون } [ الأنعام : 21 ] .

قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)

ولما تضمن قوله افتراء عليه افتراء على الله والتعبير في ذلك كله بالاسم الأعظم أن كون التحريم ليس إلاّ من الله أمر معلوم ليس موضعاً للشك لأنه الملك الأعظم ولا حكم لغير الملك ، ومن حكم عن غير أمره عذب؛ حسن بعد إبطال دينهم والبيان لأن من حرم شيئاً بالتشهي مضل وظالم قولُه مبيناً البيان الصحيح لما يحل ويحرم جواباً لمن يقول : فما الذي حرمه سبحانه وما الذي أحله : { قل } معلماً بأن التحريم لا يثبت إلاّ بوحي من الله { لآ أجد } أي الآن ولا فيما يستقبل من الزمان ، فإن « لا » كلمة لا تدخل على مضارع إلاّ وهو بمعنى الاستقبال { في مآ } .
ولما كان ما آتاه صلى الله عليه وسلم قد ثبت بعجزهم عن معارضته أنه من الله ، بني للمفعول قوله : { أوحي إليّ } أي من القرآن والسنة شيئاً مما تقدم مما حرمتموه مطلقاً أو على حال دون حال وعلى ناس دون آخرين طعاماً { محرماً على طاعم } أيّ طاعم كان من ذكر أو أنثى { يطعمه } أي يتناوله أكلاً وشرباً أو دواء أو غير ذلك { إلا أن يكون } أي ذلك الطعام { ميتة } أي شرعاً ، والميتة الشرعية هي ما لا يقبل التذكية ، وهو كل ما زالت حياته بغير ذكاة شرعية { أو دماً مسفوحاً } أي مراقاً من شأنه السيلان لا من شأنه الجمود كالكبد والطحال .
ولما كان النصارى قد اتخذوا أكل الخنزير ديناً ، نص عليه وإن كان داخلاً في قوله « ميتة » على ما قررته في المراد بها ، وقال : { أو لحمِ خنزير } ليفيد تحريمه على كل حال سواء ذبح أم لا ، ولو قيل : أو خنزيراً لاحتمل أن يراد تحريم ما أخذ منه حياً فقط ، وقال : { فإنه } أي الخنزير { رجس } ليفيد نجاسة عينه وهو حي ، فلحمه وكذا سائر أجزائه بطريق الأولى ، وكل ما وافقه في هذه العلة كان نجساً ، لا يعاد الضمير على اللحم لأنه قد علمت نجاسته من تحريمه لعينه ، فلو عاد عليه كان تكراراً .
ولما ذكر المحرم لعينه ذكر المحرم لعارض ، فقال مبالغاً في النفي عنه بأن جعله نفس المعنى الذي وقع النهي لأجله : { أو فسقاً } أي أو كان الطعام خروجاً مما ينبغي القرار فيه من فسيح جناب الله الذي من توطنه أمن واهتدى وسلم من ضيق الهوى في ذكر الغير الذي من خرج إليه خاف وضل ، وهلك وتوى؛ ثم قال مفسراً له مقدماً لما هو داخل في الفسق من الالتفات إلى الغير : { أهل لغير الله } أي الذي له كل شيء لأن له الكمال كله { به } أي ذكر غير اسمه عليه بأن ذبح له تديناً؛ ثم ذكر لطفه بهذه الأمة في إباحته لهم في حال الضرورة كل محرم رحمة منه لهم وستراً لتقصيرهم فقال : { فمن اضطر } أي حصل له جوع خشي منه التلف ، وبني للمفعول لأن المعتبر حصول الاضطرار لا كونه من معين ، ومن التعبير بذلك تؤخذ حرمة ما زاد على سد الرمق لأنه حينئذٍ لا يكون مضطراً { غير باغ } أي على غيره بمكيدة { ولا عاد } أي على غيره بقوته ولا متجاوز سد الضرورة { فإن ربك } أي المحسن إليك بإرسالك وإلى أمتك الضعيفة بجعل دينها الحنيفية السمحة { غفور } أي يمحو الذنب إذا أراد { رحيم } أي يكرم المذنب بعد الغفران بأنواع الكرامات ، فهو جدير بأن يمحو عن هذا المضطر أثر تلك الحرمة التي كدرها ويكرمه بأن يجعل له - في حفظه بذلك لنفسه إذا صحت فيه نيته - أجراً عظيماً ، وقد تكلفت الآية على وجازتها بجميع المحرمات من المأكولات مع الإشارة بلفظ الرجس والفسق إلى جميع أصناف المحرمات وإلى أن ارتكابها موجب للخبث والانسلاخ من الخير ، وذلك هو سبب تحريمها؛ قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في كتاب العروة : وجه إنزال هذا الحرف - أي حرف الحرام - طهرة الخلق من مضار أبدانهم ورجاسة نفوسهم ومجهلة قلوبهم ، فما اجتمعت فيه كان أشد تحريماً وما وجد فيه شيء منها كان تحريمه بحسب تأكد الضرورة إلى طهرته ، وكما اختلف أحوال بني آدم بحسب اختلاف طينتهم من بين خبيث وطيب وما بين ذلك ، اختلف أحوالهم فيما به تجدد خلقهم من رزقهم ، فمن اغتذى بدنه من شيء ظهرت أخلاق نفس ذلك المغتذى به وأوصافه في نفسه ، ورين على القلب أو صفاء ، لتقويه بما يسمى عليه من ذكر الله أو كفر به بذكر غيره ، وجامع منزله على حده من استثناء قليله من متسع الحلال قوله تعالى

{ قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً } [ الأنعام : 125 ] هذا لمضرته بالبدن { أو لحم خنزير } وهذا لتخبيثه للنفس وترجيسه لها كما قال تعالى { فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به } وهذا لرينه على القلب ، وهذه الآية مدنية وأثبتها تعالى في سورة مكية إشعاراً بأن التحريم كان مستحقاً في أول الدين ولكن أخر إلى حين اجتماع جمة الإسلام بالمدينة تأليفاً لقلوب المشركين وتيسيراً على ضعفاء الدين الذين آمنوا واكتفاء للمؤمنين بتنزههم عن ذلك وعما يشبهه استبصاراً منهم حتى أن الصديق رضي الله عنه كان قد حرم الخمر على نفسه في زمن الجاهلية لما رأى فيها من نزف العقل ، فكيف بأحوالهم بعد الإسلام! وألحق بها في سورة { الذين آمنوا } ما كان قتله سطوة من غير ذكر الله عليه من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلاّ ما أدرك بالتذكية المنهرة للدم الموصل في التحريم لفساد مسفوحه بما هو خارج عن حد الطعام في الابتداء والأعضاء في الانتهاء المستدركة ببركة التسمية أثر ما أصابها من مفاجأة السطوة ، وألحق بها أيضاً في هذه السورة تحريم الخمر لرجسها كالخنزير كما ألحقت المقتولة بالميتة ، وكما حرم الله ما فيه جماع الرجس من الخنزير وجماع الإثم من الخمر حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه حظ من ذلك ، فألحق بالخنزير السباع حماية من سورة غضبها لشدة المضرة في ظهور الغضب من العبيد لأنه لا يصلح إلاّ لسيدهم ، وحرم الحمر الأهلية حماية من بلادتها وحرانها الذي هو علم غريزة الخرق في الخلق ، وألحق صلى الله عليه وسلم بتحريم الخمر التي سكرها مطبوع تحريمَ المسكر الذي سكره مصنوع ، وكما حرم الله ما يغر العبد في ظاهره وباطنه حرم عليه فيما بينه وبينه ما يقطعه عنه من أكل الربا ، والربا بضع وسبعون باباً والشرك مثل ذلك ، وجامع منزله في قوله تعالى { الذين يأكلون الربا } إلى قوله :

{ وأحل الله البيع وحرم الربا } [ البقرة : 275 ] إلى انتهاء ذكره إلى ما ينتظم من ذلك في قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة } [ آل عمران : 113 ] - الآية ما يلحق بذلك في قوله : { وما آتيتم من ربا } [ الروم : 39 ] - الآية ، هكذا قال : إن هذه الآية مدنية ، وهو - مع كوني لم أره لغيره - مشكل بقوله { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } [ الأنعام : 119 ] - الآية .
ولما كان تحريم الربا بين الرب والعبد ، كان فيه الوعيد بالإيذان بحرب من الله ورسوله ، ولذلك حمت الأئمة ذرائعه أشد الحماية ، وكان أشدهم في ذلك عالم المدينة حتى أنه حمي من صورته من الثقة بسلامة الباطن منه ، وعمل بضد ذلك في محرمات ما بين العبد ونفسه ، وكما حرم الله الربا فيما بينه وبين عبده من هذا الوجه الأعلى كذلك حرم أكل المال بالباطل فيما بين العبد وبين غيره من الطرف الأدنى ، وجامع منزله في قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام } [ البقرة : 188 ] - الآية إلى ما ينتظم به من قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } [ النساء : 29 ] إلى ما ينتظم به من قوله تعالى : { وآتوا اليتامى أموالهم } [ النسا : 2 ] - الآيات في أموال اليتامى ، فحرمه تعالى من جهة الأعلى والمثيل والأدنى ، وانتظم التحرير في ثلاثة أصول : من جهة ما بين الله وبين عبده ومن جهة ما بين العبد وبين نفسه ، ومن جهة ما بين العبد وبين غيره ، مما تستقرأ جملة آية في القرآن وأحاديثه في السنة ومسائله في فقه الأئمة؛ ولما كان له متسع ، وقع فيما بين الحلال البين والحرام البين أمور متشابهات لا يعلمها كثير من الناس ، لأنها تشبه الحلال من وجه وتشبه الحرام من وجه ، فلوقوعها بينهما يختلف فيها ولعرضه في الأولى ، وعن حماية الله عباده عن وبيل الحرام تحقق لهم اسمه « الطيب » ، فلم يتطبب بطب الله من لم يحتم عن محرماته ومتشابهاتها ، وهو الورع الذي هو ملاك الدين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ثم قال فيما تحصل به قراءة حرف الحرام تماماً في العلم والحال والعمل : اعلم أن الإنسان لما كان خلقاً جامعاً كانت فيه بزرتان : بزرة للخير وبزرة للشر ، وبحسب تطهره وتخلصه من مزاحمة نبات بزرة الشر تنمو فيه وتزكو بزرة الخير ، ولكل واحدة من البزرتين منبت في جسمه ونفسه وفؤاده ، فأول الحروف في الترتيب العمل ، والأساس لما بعده هو قراءة حرف الحرام ، لتحصل به طهرة البدن الذي هو السابق في وجود الإنسان فمن غذي بالحرام في طفولته لم يقدر على اجتناب الآثام في كهولته إلا أن يطهر الله بما شاء من نار الورود في الدنيا من الأمراض والضراء ، فهو الأساس الذي ينبني عليه تطهر النفس من المناهي وتطهر الفؤاد من العمه والمجاهل ، والذي تحصل به قراءة هذا الحرف هو الورع الحاجز عما يضر بالجسم ويؤذي النفس وما يكره الخلق وما يغضب الرب ، فمن أصاب شيئاً من ذلك ولم يبادر إليه بالتوبة عذب بكل آية قرأها وهو مخالف لحكمها « من لم يبال من أيّ باب دخل عليه رزقه لم يبال الله من أيّ باب أدخله النار » .

ولما كان الورع كف اليد ظاهراً عن الشيء الضار ، وكانت الجوارح لا تنقاد إلا عن تأثر من النفس ، لم يصح الورع ظاهراً إلا أن يقع في النفس روعة باطنه من تناول ذلك الشيء؛ ولما كانت النفس لا تتأثر إلا عن تبصر القلب في الضار كما لا ينكف اليد إلا عند تقذر النفس لما تدرك العين قذره حتى أن النفس الرضية تأنف من المحرمات كما يأنف المستنطف من المستقذرات ، فأكلة الحرام هم دود جيفة الدنيا يستقذرهم أهل البصائر كما يستقذرون هم دود جيف المزابل .
ولما كان الحرام ما يضر العبد في نفسه كالميتة ، تيسر على المستبصر كف يده عنها لما يدري من مضرتها بجسمه ، وكذلك الدم المسفوح لأنه ميتة بانفصاله عن الحي ومفارقته لروح الحياة التي تخالطه في العروق ، قلت : وسيأتي قريباً تعليله في التوراة بما يقتضي أنه أكثر فعلاً في النفس وتطبيعاً لها بخلق ما هو دمه من اللحم - والله الموفق؛ وكذلك ما يضر بنفسه كلحم الخنزير لأنه رجس ، والرجس هو خبائث الأخلاق التي هي عند العقلاء أقبح من خبائث الأبدان ، وذلك لأن من اعتذى جسمه بلحم حيوان اغتذت نفسه بنفسانية ذلك الحيوان وبخلق من أخلاقه ، وفي نفس الخنزير مجامع رذائل الأخلاق من الإباء والحران والمكر والإقدام على ما يعانيه فيه الهلاك ومتابعة الفساد ، والانكباب على ما تقبل عليه في أدنى الأشياء على ما أظهرت في خلقته آياته فإنه ليس له استشراف كذوات الأعناق ، وكذلك ما يضر بهما وبالعقل كالخمر في نزفها للعقل وتصديعها للرأس وإيقاعها العداوة والبغضاء في خلق النفس ، ولذلك هي جماع الإثم ، فالمتبصر في المحرمات يأنف منها لما يدري من مضرتها وأذاها في الوقت الحاضر وفي معيبها في يوم الدنيا إلى ما أخبر به من سوء عقباها في يوم الدين ، ومن شرب الخمر ومات ولم يتب منها كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال ، وهي عصارة أهل النار ، ولو هدد شاربها في الدنيا من له أمر بأن يسقيه من بوله ورجيعه لوجد من الروع ما تحمله على الورع عنها ، وإذا استبصر ذو دراية فيما يضره في ذاته فأنف منه رعاية نفسه لحق له بذلك التزام رعايتها عما يتطرق له منه درك من جهة غيره فيتورع من أكل أموال الناس بالباطل لما يدري من المؤاخذة عليها في العاجل وما أخبر به من المعاقبة عليها في الآجل ، ولها في ذاته مضرة في الوقت بتعرفها من موارد القرآن بنور الإيمان

{ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً } [ النساء : 10 ] وإن لم يحس بها ، وليس تأويله الوعد بالنار لأن ذلك إنباء عند قوله تعالى { وسيصلون سعيراً } [ النساء : 10 ] ، وكذلك إذا أنف مما يضره في نفسه وخاف مما يتطرق إليه ضره من غيره ، أعظم أن يقرب حمى ما يتطرق إليه السطوة من ربه لأجله ، وذلك فيما حرم عليه حماية لعظيم ملكه وعدم التفاوت في أمر رحمانيته في محرم الربا ، ولما فيه أيضاً من مضرة وقته الحاضر التي يقيدها بالإيمان من تعريف ربه ، فإنه تعالى كما عرف أن أكل مال الغير بالباطل نار في البطن ، عرف أن أكل مال الربا جنون في العقل وخبال في النفس { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } [ البقرة : 275 ] وأعظم من ذلك ما حرمه الله لعرائه عن اسمه عند إزهاق روحه ، لأنه مأخوذ عن غير الله ، وما أخذ عن غير الله كان أكله فسقاً وكفراً لأنه تناول الروح من يد من لا يملكها ، ولذلك فرضت التسمية في التذكية ونفلت فيما سوى ذلك ، فلا تصح قراءة هذا الحرف إلا بتبصرة القلب فيه وروعة النفس منه وورع اليد عنه ، وإلا فهو من الذين يقرؤون حروفه ويضيعون حدوده ، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم « كثر هؤلاء من القراء ، لا كثّرهم الله! » ومن لم تصح له قراءة هذا الحرف لم تصح له قراءة حرف دعاؤه « الرجل يطلب الله مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام ، يقول : يا رب! يا رب! فأنى يستجاب لذلك! » فهذه قراءة هذا الحرف وشرطه - والله ولي التوفيق .

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)

ولما كان قوله { طاعم } نكرة في سياق النفي ، يعم كل طاعم من أهل شرعنا وغيرهم ، وكان سبحانه قد حرم على اليهود أشياء غير ما تقدم ، اقتضت إحاطة العلم أن قال مبيناً لإحاطة علمه وتكذيباً لليهود في قولهم : لم يحرم الله علينا شيئاً ، إنما حرمنا على أنفسنا ما حرم إسرائيل على نفسه : { وعلى الذين هادوا } أي اليهود { حرمنا } بما لنا من العظمة التي لا تدافع { كل ذي ظفر } أي على ما هو كالإصبع للآدمي من الإبل والسباع والطيور التي تتقوى بأظفارها { ومن البقر والغنم } أي التي هي ذوات الأظلاف { حرمنا } أي بما لنا من العظمة { عليهم شحومهما } أي الصنفين؛ ثم استثنى فقال : { إلا ما حملت ظهورهما } أي من الشحوم مما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما { أو الحوايا } وهي الأمعاء التي هي متعاطفة متلوية ، جمع حوية فوزنها فعائل كسفينة وسفائن ، وقيل : جمع حاوية أو حاوياء كقاصعاء { أو ما اختلط } أي من الشحوم { بعظم } مثل شحم الألية فإن ذلك لا يحرم ، وهذا السياق بتقدم الجار وبناء الكلام عليه يدل على أن ما عدا المذكور من الصنفين حلال لهم .
ولما كان كأنه قيل : لم حرم عليهم هذه الطيبات؟ قيل : { ذلك } أي التحريم العظيم والجزاء الكبير وهو تحريم الطيبات { جزيناهم } أي بما لنا من العظمة { ببغيهم } أي في أمورهم التي تجاوزوا فيها الحدود ، وفي إيلاء هذه الآية - التي فيها ما حرم على اليهود - لما قبلها مع الوفاء بالمقصود من حصر محرمات المطاعم على هذه الأمة وغيرها أمران جليلان : أحدهما بيان اطلاعه صلى الله عليه وسلم على تفصيل ما أوحي إلي من تقدمه ولما يشامم أحداً من أتباعهم ولا دارس عالماً ولا درس علماً قط ، فلا دليل على صدقه على الله أعظم من ذلك ، والثاني تفضيله هذه الأمة بأنه أحل لها الخبائث عند الضرورة رحمة لهم ، وأزال عنها في تلك الحالة ضرها ولم يفعل بها كما فعل باليهود في أنه حرم عليهم طائفة من الطيبات ولم يحلها لهم في حال من الأحوال عقوبة لهم ، وفي ذلك أتم تحذير لهذه الأمة من أن يبغوا فيعاقبوا كما عوقب من قبلهم على ما نبه عليه في قوله { غير محلي الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 1 ] فبان الصدق وحصحص الحق ولم يبقى لمتعنت كلام ، فحسن جداً ختم ذلك بقوله { وإنا لصادقون * } أي ثابت صدقنا أزلاً وأبداً كما اقتضاه ما لنا من العظمة ، وتعقيبه بقوله : { فإن } أي وتسبب عن هذا الإيحاء الجامع الوجيز الدال على الصدق الذي لا شبهة فيه أنا نقول ذلك : { كذبوك فقل } والتعبير بأداة الشك مشير إلى أن الحال يقتضي أن يستبعد أن يقع منهم تكذيب بعد هذا { ربكم } أي المحسن إليكم بالبيان والإمهال مع كل امتنان { ذو رحمة واسعة } أي فهو مع اقتداره قضى أنه يحلم عنكم بالإمهال إلى أجل يعلمه .

ولما أخبر عن رحمته ، نوه بعظيم سطوته فقال : { ولا يرد بأسه } أي إذا أراد الانتقام { عن القوم المجرمين * } أي القاطعين لما ينبغي وصله ، فلا يغتر أحد بإمهاله في سوء أعماله وتحقيق ضلاله ، وفي هذه الآية من شديد التهديد ما لطيف الاستعطاف ما هو مسبوك على الحد الأقصى من البلاغة .
ولما تم ذلك فعلم أن إقدامهم على الأحكام الدينية بغير حجة أصلاً ، اقتضى الحال أن يقال : قد بطل بالعقل والنقل جميع ما قالوه في التحريم على وجه أبطل شركهم ، فهل بقي لهم مقال؟ فأخبر سبحانه بشبهة يقولونها اعتذاراً عن جهلهم على وجه هو وحده كاف في الدلالة على حقية ما يقوله من الرسالة ، فوقع طبق ما قال عن أهل الضلال ، فقال مخبراً بما سيقولونه قبل وقوعه دلالة على صدق رسله وكذب المشركين فيما يخالفونهم فيه : { سيقول } أي في المستقبل ، وأظهر موضع الإضمار تنصيصاً عليهم وتبكيتاً لهم فقال : { الذين أشركوا } تكذيباً منهم { لو شاء الله } أي الذي له جميع الكمال عدم إشراكنا وتحريمنا { ما أشركنا } أي بصنم ولا غيره { ولا أباؤنا } أي ما وقع من إشراك { ولا حرمنا من شيء } أي ما تقدم من البحائر والسوائب والزروع وغيرها أي ولكنه لم يشأ الترك وشاء الفعل ففعلنا طوع مشيئته ، وهو لا يشاء إلا الحق والحكمة لأنه قادر ، فلو لم يكن حقاً يرضاه لمنعنا منه ، وهو لم يمنعنا منه فهو حق .
ولما كان هذا عناداً منهم ظاهراً بعد وضوح الأمر بما أقام على صدق رسله من البينات ، كان كأنه قيل تعجباً منهم : هل فعل أحد غيرهم مثل فعلهم هذا أو قال مثل ما قالوا؟ فقيل : نعم { كذلك } أي مثل ذلك التكذيب البعيد عن الصواب { كذب الذين } ولما لم يكن التكذيب عاماً أدخل الجار فقال : { من قبلهم } من الأمم الخالية بما أوقعوا من نحو هذه المجادلة في قولهم إذا كان الكل بمشيئة الله كان التكليف عبثاً ، فكانت دعوى الأنبياء باطلة ، وهذا القول من المشركين عناد بعد ثبوت الرسالات بالمعجزات وإخبار الرسل بأنه يشاء الشيء ويعاقب عليه لأن ملكه تام ومِلكه عام ، فهو لا يسأل عما يفعل ، وتمادى بهم غرور التكذيب { حتى ذاقوا بأسنا } أي عذابنا لما لنا من العظمة ، فإن من له الأمر كله لا يسأل عما يفعل ، فلم ينفعهم عنادهم عند ذوق البأس ، بل انحلت عزائم همهم فخضعوا لنا وآمنوا برسلنا ، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ، فالآية من الاحتباك : أثبت أولاً الإشراك دليلاً على حذفه ثانياً ، وثانياً التكذيب دليلاً على حذفه أولاً ، وسيأتي توجيه أنه لا بد من تضليل إحدى الطائفتين المتعاندتين وإن كان الكل بمشيئة الله ، لأنه لا مانع من إتيان الأمر على خلاف الإرادة .

ولما كان ما قالوه شبهة بعيدة عن العلم ، أعلى درجاتها أن يكون من أنواع الخطابة فتفيد الظن في أعظم مسائل علم الأصول الذي لا يحل الاعتماد فيه إلا على القواطع ، أمره أن يقول لهم ما ينبههم على ذلك فقال : { قل } أي لهؤلاء الذين تلقوا ما يلقيه الشيطان إليهم - كما أشير إليه في سورة الحج - تهكماً بهم في بعدهم عن العلم وجدالهم بعد نهوض الحجج { هل عندكم } أيها الجهلة ، وأغرق في السؤال فقال : { من علم } أي يصح الاحتجاج به في مثل هذا المقام الضنك { فتخرجوه لنا } أي لي ولأتباعي وإن كان مما يجب أن يكون مكنوناً مضنوناً به على غير أهله مخزوناً ، فهو تهكم بهم .
ولما كان جوابهم عن هذا السكوت لأنه لا علم عندهم ، قال دالاً على ذلك : { إن } أي ما { تتبعون } أي في قولكم هذا وغالب أموركم { إلا الظن } أي في أصول دينكم وهي لا يحل فيها قول إلا بقاطع { وإن } ي وما { أنتم إلا تخرصون * } أي تقولون تارة بالحزر والتخمين وتارة بالكذب المحض اليقين .

قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)

ولما انتفى أن يكون لهم حجة ، وثبت أن الأمر إنما هو لله ، ثبت أنه المختص بالحجة الواضحة ، فقال مسبباً عن ذلك : { قل فلله } أي الإله الأعظم وحده { الحجة البالغة } أي التي بلغت أعلى درجات الحق قوة ومتانة وبياناً ووضوحاً ورصانة بسبب أنه شامل العلم كامل القدرة كما أقررتم بذلك حين قلتم « ولو شاء الله ما أشركنا » وإن كنتم قلتموه على سبيل الإلزام والعناد لا لأجل التدين والاعتقاد { فلو شاء } أي الله { لهداكم } أي أنتم ومخالفيكم { أجمعين * } ولكنه لم يشأ ذلك ، بل شاء هداية بعض وضلال آخرين ، فوقع ذلك على الوجه الذي شاءه ، فلزم على قولكم أن يكون الفريقان محقين ، فيكون الشيء الواحد حقاً غير حق في حال واحد ، وهذا لا يقوله عاقل ، ويلزمكم على ذلك أيضاً أن توالوا أخصامكم ولا تعادوهم وإن فعلوا ما فعلوا ، لأنه حق رضى الله لأنه بمشيئته وأنتم لا تقولون ذلك ، فبطل قولكم فثبت أنه قد يشاء الباطل لأنه لا يسأل عما يفعل ويرسل الرسل إليكم لإزالته ليقيم بهم الحجة على من يريد عقابه على ما يتعارفه الناس بينهم ، وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع .
ولما صدق الحق ، وانكسر جند الباطل واندق ببطلان جميع شبههم ، ونطقت الدلائل وأفحم المجادل ، فبان أنه لا شاهد لهم بحق لأنه لا حق لهم ، كان كأنه قيل : قل لهم : ها أنا قد شهد لي بما قلته مَن لا ترد شهادته وزكاتي الذي لا يقبل إلا تزكيته بهذا الكتاب الذي كان عجزكم عن الإتيان بشيء من مثله شاهداً بأنه قوله ، فهل لكم أنتم من شاهد يقبل! ولما لم يكن لهم شاهد غير متخرصيهم ، فإن المبطل يظهر باطله عند المحاققة سنة من الله مستمرة ، فيظهر للمشهود لهم بما يلوح من بهتهم أنهم ليسوا على شيء ، أمره سبحانه أن يأمرهم بدعائهم ليظهر خزيهم وتشتهر فضيحتهم فقال : { قل هلم } أي احضروا ، وهي كلمة دعوة يستوي فيها المذكر والمؤنث والواحد والجمع عند الحجازيين { شهداءكم } .
ولما كان كأنه قيل : أيّ شهداء؟ قال : { الذين يشهدون } أي يوقعون الشهادة على { أن الله } أي الذي لا حكم لغيره { حرم هذا } أي الذي ذكرتموه من قبل ، وإضافة الشهداء إليهم ووصفهم ب « الذين » دليل على أنهم معروفون موسومون بنصرة مذهبهم بالباطل ، ولو قال : شهداء - من غير إضافة لأفهم أن المطلوب من يشهد بالحق وليس كذلك ، لأنه أقيم الدليل العقلي على أنه لا حجة لهم وأن الحجة لله على خلاف ما ادعوه ، فبطل قطعاً أن يكون أحد يشهد على ذلك بحق .
ولما كان كأنه قيل : فإنهم إذا أحضروا لا يقدرون - إن كان لهم عقل أو فيهم حياء - على النطق إذا سمعوا هذا الحق ، بني عليه قوله : { فإن } اجترؤوا بوقاحة { شهدوا } أي كذباً وزوراً بذلك الذي أبطلناه بالأدلة القطعية { فلا تشهد معهم } أي فاتركهم ولا تسلم لهم ، فإنهم على ضلال وليست شهادتهم مستندة إلا إلى الهوى { ولا تتبع أهواء } وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف دلالة على أن القائد إلى التكذيب وكل ردى إنما هو الهوى ، وأن من خالف ظاهر الآيات إنما هو صاحب هوى ، فقال : { الذين كذبوا } أي أوقعوا التكذيب { بآياتنا } أي على ما لها من الظهور بما لها من العظمة بإضافتها إلينا .

ولما وصفهم بالتكذيب ، أتبعه الوصف بعدم الإيمان ، ودل بالنسق بالواو على العراقة في كل من الوصفين فقال : { والذين لا يؤمنون بالآخرة } أي التي هي دار الجزاء ، فإنهم لو جوزوها ما اجترؤوا على الفجور { وهم بربهم } أي الذين لا نعمة عليهم ولا خير عندهم إلا وهو منه وحده { يعدلون } أي يجعلون غيره عديلاً له ، وسيعلمون حين يقولون لشركائهم وهم في جهنم يختصمون { تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين } [ الشعراء : 97 ، 98 ] .

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)

ولما أبطل دينهم كله أصولاً وفروعاً في التحريم والإشراك ، وبين فساده بالدلائل النيرة ، ناسب أن يخبرهم بالدين الحق مما حرمه الملك الذي له الخلق والأمر ومن غيره ، فليس التحريم لأحد غيره فقال : { قل تعالوا } أي أقبلوا إليّ صاعدين من حضيض الجهل والتقليد وسوء المذهب إلى أوج العلم ومحاسن الأعمال؛ قال صاحب الكشاف : هو من الخاص الذي صار عاماً ، يعني حتى صار يقوله الأسفل للأعلى { أتل } أي أقرأ ، من التلاوة وهي اتباع بعض الحروف بعضاً . ولما كان القصد عموم كل أحد بالتلاوة وإنما خص المخاطبين بالذكر لاعتقادهم خلاف ذلك ، وكان المحرم أهم ، قدمه فقال : { ما حرم ربكم } أي المحسن إليكم بالتحليل والتحريم { عليكم } فسخطه منكم ، وما وصاكم به إقداماً وإحطاماً فرضيه لكم من قبيلي الأصول والفروع؛ ثم فسر فعل التلاوة ناهياً عن الشرك ، وما بعده من مضمون الأمر إنما عدي عنها ، فقال : { ألا تشركوا به شيئاً } الآيات مرتباً جملها أحسن ترتيب ، فبدأ بالتوحيد في صريح البراءة من الشرك إشارة إلى أن التخلي عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل ، فإن التقية بالحمية قبل الدواء ، وقرن به البر لأنهما من باب شكر المنعم وتعظيماً لأمر العقوق ، ثم أولاه القتل الذي هو أكبر الكبائر بعد الشرك ، وبدأه بقتل الولد لأنه أفحشه وأفحش من مطلقه فعله خوف القلة ، فلما وصى بأول واجب للمنعم الأول الموجد من العدم ، أتبعه ما لأول منعم بعده بالتسبب في الوجود ، فقال ناهياً عن الإساءة في صورة الأمر بالإحسان على أوكد وجه لما للنفوس من التهاون في حقهما ، وكذا جميع المأمورات ساقها هذا السياق المفهم لأن أضدادها منهي عنها ليكون مأموراً بها منهياً عن أضدادها ، فيكون ذلك أوكد لها وأضخم : { وبالوالدين } أي افعلوا بهما { إحساناً } .
ولما أوصى بالسبب في الوجود ، نهى عن التسبب في الإعدام وبدأ بأشده فقال : { ولا تقتلوا أولادكم } ولما كان النهي عاماً ، وكان ربما وجب على الولد قتل ، خص لبيان الجهة فقال : { من إملاق } أي من أجل فقر حاصل بكم ، ثم علل ذلك ، ولأجل أن الظاهر هو حصول الفقر قدم الآباء فقال : { نحن نرزقكم } بالخطاب ، أي أيها الفقراء ، ثم عطف عليه الأبناء فقال : { وإياهم } وظاهر قوله في الإسراء { خشية إملاق } [ الإسراء : 31 ] أن الآباء موسرون ولكنهم يخشون من إطعام الأبناء الفقر ، فبدأ بالأولاد فقال : « نحن نرزقهم » ثم عطف الآباء فقال « وإياكم » - نبه عليه أبو حيان .
ولما كان قتلهم أفحش الفواحش بعد الشرك ، أتبعه النهي عن مطلق الفواحش ، وهي ما غلظت قباحته ، وعظم أمرها بالنهي عن القربان فضلاً عن الغشيان فقال : { ولا تقربوا الفواحش } ثم أبدل منها تأكيداً للتعميم قوله : { ما ظهر منها } أي الفواحش { وما بطن } ثم صرح منها بمطلق القتل تعظيماً له بالتخصيص بعد التعميم فقال : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله } أي الملك الأعلى عليكم قتلها { إلا بالحق } أي الكامل ، ولا يكون كاملاً إلا وهو كالشمس وضوحاً لا شبهة فيه ، فصار قتل الولد منهياً عنه ثلاث مرات؛ ثم أكد المذكور بقوله : { ذلكم } أي الأمر العظيم في هذه المذكورات .

ولما كانت هذه الأشياء شديدة على النفس ، ختمها بما لا يقوله إلا المحب الشفوق ليتقبلها القلب فقال : { وصّاكم به } أمراً ونهياً؛ ولما كانت هذه الأشياء لعظيم خطرها وجلالة وقعها في النفوس لا تحتاج إلى مزيد فكر قال : { لعلكم تعقلون * } أي لتكونوا على رجاء من المشي على منهاج العقلاء ، فعلم من ذكر الوصية أن هذه المذكورات هي الموصى بها والمحرمات أضدادها ، فصار شأنها مؤكداً من وجهين : التصريح بالتوصية بها ، والنهي عن أضدادها .

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)

ولما كان المال عديل الروح من حيث إنه لا قوام لها إلا به ، ابتدأ الآية التي تليها بالأموال ، ولما كان أعظمها خطراً وحرمة مال اليتيم لضعفه وقلة ناصره ، ابتدأ به فنهي عن قربه فضلاً عن أكله أو شربه فقال : { ولا تقربوا مال اليتيم } أي بنوع من أنواع القربان عمل فيه أو غيره { إلا بالتي هي أحسن } من الخصال من السعي في تنميته وتثميره وليستمر ذلك { حتى يبلغ أشده } وهو سن يبلغ به أوان حصول عقله عادة وعقل يظهر به رشده؛ ثم ثنى بالمقادير على وجه يعم فقال : { وأوفوا } أي أتموا { الكيل والميزان } لأنهما الحكم في أموال الأيتام وغيرهم؛ ولما كان الشيء ربما أطلق على ما قاربه نحو { قد قامت الصلاة } أي قرب قيامها ، وهذا وقت كذا - وإذا قرب جداً ، أزيل هذا الاحتمال بقوله : { بالقسط } أي إيفاء كائناً به من غير إفراط ولا تفريط .
ولما كانت المقادير لا تكاد تتساوى لا سيما الميزان فإنه أبعدها من ذلك ، وأقربها الذرع وهو داخل في الكيل ، فإنه يقال : كال الشيء بالشيء : قاسه ، أشار إلى أنه ليس على المكلف المبني أمره على العجز للضعف إلا الجهد فقال : { لا نكلف } أي على ما لنا من العظمة { نفساً إلا وسعها } وما وراء الوسع معفو عنه؛ ثم ثلث بالعدل في القول لأنه الحكم على الأموال وغيرها ، وقدم عليه الفعل لأنه دال عليه ، فصار الفعل موصى به مرتين فقال : { وإذا قلتم } أي في شهادة أو في حكم أو توفيق بين اثنين أو غير ذلك { فاعدلوا } أي توفيقاً بين القول والفعل .
ولما كانت النفوس مجبولة على الشفقة على القريب قال : { ولو كان } أي المقول في حقه له أو عليه بشهادة أو غيرها { ذا قربى } ولا تحابوه طمعاً في مناصرته أو خوفاً من مضارته؛ ثم ختم بالعهد لجمعه الكل في القول والفعل فقال : { وبعهد الله } أي الملك الأعظم خاصة { أوفوا } وهذا يشمل كل ما على الإنسان وله ، فإن الله لم يهمل شيئاً بغير تقدم فيه؛ ثم أكد تعظيم ذلك بقوله : { ذلكم } أي الأمر المعتنى به { وصّاكم به } أي ربكم المحسن إليكم .
ولما كانت هذه الأفعال والأقوال شديداً على النفس العدلُ فيها لكونها شهوات ، تقدم بالترغيب فيها والترهيب منها بأن كل من يفعل شيئاً منها مع غيره يوشك أن يفعل معه مثله ، فلذلك حض على التذكر في الوصية بها ولأنها خفية تحتاج إلى مزيد تدبر فقال : { لعلكم تذكرون * } أي لتكونوا بحيث يحصل لكم التذكر - ولو على وجه خفي بما أشار إليه الإدغام - فيما جبلت عليه نفوسكم من محبة مثل ذلك لكم ، فتحكموا لغيركم بما تحكمون به لأنفسكم .

ولما قرر هذه الشرائع ، نبه على تعظيمها بالخصوص على وجه يعم جميع ما ذكر في السورة بل وفي غيرها ، فقال عاطفاً على ما تقديره - عطفاً على المنهيات وأضداد المأمورات على وجه يشمل سائر الشريعة - : ولا تزيغوا عن سبيلي : { وأن } أي ولأن - على قراءة الجماعة بالفتح ، أي اتبعوه لذلك ، وعلى قراءة ابن عامر ويعقوب بالكسر هو ابتداء { هذا } أي الذي شرعته لكم { صراطي } حال كونه { مستقيماً فاتبعوه } أي بغاية جهدكم لأنه الجامع للعباد على الحق الذي فيه كل خير .
ولما كان الأمر باتباعه متضمناً للنهي عن غيره ، صرح به تأكيداً لأمره فقال : { ولا تتبعوا السبل } أي المنشعبة عن الأهوية المفرقة بين العباد ، ولذا قال مسبباً { فتفرق بكم } أي تلك السبل الباطلة { عن سبيله } ولما مدحه آمراً به ناهياً عن غيره مبيناً للعلة في ذلك ، أكد مدحه فقال : { ذلكم } أي الأمر العظيم من اتباعه { وصّاكم به } .
ولما كان قد حذر من الزلل عنه ، وكان من المعلوم أن من ضل عن الطريق الأقوم وقع في المهالك ، وكان كل من يتخيل أنه يقع في مهلك يخاف ، قال : { لعلكم تتقون * } أي اتبعوه واتركوا غيره ليكون حالكم حال من يرجى له أن يخاف من أن يزل فيضل فيهلك ، وهذا كما مدحه سبحانه سابقاً في قوله { وهذا صراط ربك مستقيماً } [ الأنعام : 126 ] ، { قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون } [ الأنعام : 126 ] وفصل ما هنا من الأحكام في ثلاث آيات ، وختم كل آية لذلك بالوصية ليكون ذلك آكد في القول فيكون أدعى للقبول ، وختم كل واحدة منها بما ختم لأنه إذا كان العقل دعا إلى التذكير فحمل على التقوى .

ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)

ولما كانت هذه الآيات الثلاث وافية بالآيات العشر التي كتبها الله لموسى عليه السلام على لوحي الشهادة في أول ما أوحي إليه في طور سيناء المشار إليها بقوله { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } [ الأنعام : 91 ] وبنى عليها التوراة وأمره أن يودعها في تابوت العهد لتكون شهادة عليهم وعلى أعقابهم كما هو مذكور في وسط السفر الثاني من التوراة وقد مضى بيانه في البقرة ويأتي في آخر هذه المقولة وزائدة عليها من الأحكام والمحاسن ما شاء الله؛ حسن أن تذكر بعدها التوراة ، فقال مشيراً بأداة التراخي إلى كل من الترتيب والتعظيم : { ثم آتينا } أي بما لنا من العظمة التي تقتضي تعظيم ما كان من عندنا { موسى الكتاب } أي المشار إليه بقوله تعالى { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } [ الأنعام : 91 ] - وهي - والله أعلم - معطوفة على قوله { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } [ الأنعام : 146 ] لأنه تعالى بعد أن أعطى موسى العشر الآيات واعده إلى الجبل مواعدة ثانية ، فشرع له بعض الأحكام وأمره بنصب قبة الزمان التي يوحي إليه فيها ويصلون إليها ، وببعض ما يتخذ من آلاتها كما مضى في البقرة ، ثم ذكر بعد ذلك بيسير تحريم الشحوم عليهم ، فقال في أوائل السفر الثالث وهو سفر الكهنة ، وفيه تلخيص أمر القرابين : ودعا الرب موسى وكلمه في قبة الأمد وقال له : كلم بني إسرائيل وقل لهم : كل إنسان منكم إذا قرب للرب قرباناً من البهائم فلتكن قرابينكم من البقر ومن الغنم - إلى أن قال : ويقرب قرباناً للرب الحجاب المبسوط على الأحشاء وكل الثوب الذي على الأكشاح والكليتين والشحم الذي عليهما وعلى الجنب - إلى أن قال : وقال : الشحوم للرب عهد الأبد ، ولا تأكلوا دماً ولا شحماً ، ثم قال : وكلم الرب موسى وقال له : كلم بني إسرائيل وقل لهم : لا تأكلوا شحم البقر ولا شحم الغنم : الضأن والماعز جميعاً ، لأن كل من أكل شحم بهيمة ويقرب قرباناً للرب ، تهلك تلك النفس من شعبها ، ولا تأكلوا دماً حيث ما سكنتم ، لا دم البهائم ولا دم الطير ، وأيّة نفس أكلت دماً تهلك تلك النفس من شعبها ، وقال في السفر الخامس : فأما الدم فلا تأكلوا ولكن ادفقوه على الأرض مثل الماء ، ثم قال بعده بقليل : وكلوا في قراكم من كل شهوات أنفسكم ، ولكن إياكم أن تأكلوا دماً ، لأن دم البهيمة هو في نفسها ، فلا تأكلوا النفس مع اللحم ليحسن إليكم وإلى أولادكم من بعدكم إذا عملتم الحسنة أمام الله ربكم؛ رجع إلى السفر الثالث ثم قال : ودخل موسى وهارون إلى قبة الزمان وخرجا ودعوا الشعب ، فظهر مجد الرب أمام جميع الشعب ، ونزلت نار من قبل الرب فأحرقت الشحم والذبيحة الكاملة له على المذبح ، وعاين ذلك جميع الشعب وحمدوا الله ، وخر الشعب كله على وجهه؛ ثم ذكر عقب ذلك بيسير محرمات الحيوان ، وكذا ذكر في السفر الخامس وقد جمعت بينهما ومعظم السياق للخامس : قال : لا تأكلوا شيئاً نجساً ، هذا! كلوا من جميع البهائم : الثور : والحمل والنعجة والمعز والأيل والظبي والجوذر والرخ والرئم والوعل والثيثل كل بهيمة ذات ظلف مقسوم ظلفها تجتر كلوها ، وحرموا من التي لا تجتر ، ومن التي لها ظلوف مقسومة ولا تجتر الجمل والأرنب والوبر التي تجتر وليس لها أظلاف مقسومة هي نجسة لكم ، وفي الثالث : وحرموا من البهائم التي ليست لها أظلاف التي تجتر : الجمل الذي يجتر وليس له أظلاف هو نجس محرم عليكم ، والأرنب الذي يجتر وليس له أظلاف منجس محرم عليكم؛ رجع : والخنزير الذي له أظلاف ولا يجتر هو نجس ، لا تأكلوا من لحوم هذه ولا تقربوا إلى أجسادها؛ وقال في الثالث : ولا تمسوا لحومها لأنها نجسة محرمة عليكم؛ وقال في الخامس من ترجمة الاثنين والسبعين : وإياكم أن تأكلوا كل نجس ، ويكون الذي تأكلونه من الدواب العجل من البقر والخروف من الغنم والجدي من المعز أو الأيل والغزال والعين والوعل وعنز الجبل واليحمور وناقة القمر والزرافة ، وكل دابة مشقوقة الظلف وهي تنبت أظافير في كل ظلفها واجتر من الدواب .

فإياه فكلوا ، والذي لا تأكلون منه من الذي يجتر ومن المشقوق الظلف الذي ينبت له أظافير الجمل والأرنب واليربوع ، فإن ذلك يجتر ولكنه غير مشقوق الظلف ، وهو لا يحل لكم ، والخنزير أيضاً فإن ظلفه مشقوق وينبت في ظلفه أظافير غير أنه لا يجتر ، وما لا يجتر فإنه لا يحل لكم فلا تأكلوا من لحومها ولا تقربوا أجسادها؛ وقال في الثالث منها : وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما : كلما بني إسرائيل وقولا لهما : إن الذي تأكلونه من المواشي من جميع الأنعام التي على الأرض كل بهيمة قد شق ظلفها وهي تخرج أظفاراً في كلا ظلفيها وتجتر ، فذلك الذي تأكلونه من الأنعام ، والذي لا يحل مما يجتر ولم يشق ظلفه الجمل الذي يجتر وظلفه غير مشقوق فإنه غير طاهر لكم ، واليربوع - وفي نسخة : السنجاب - الذي يجتر وظلفه غير مشقوق فإنه غير طاهر لكم لم يطهر لكم ، والأرنب الذي يجتر وظلفه غير مشقوق فإنه لا يطهر لكم والخنزير فإنه مشقوق الظلف ويخرج أظفاراً في ظلفه وهو لا يجتر فإنه لا يطهر لكم فلا تأكلوا من لحومها ولا تمسوا ما مات منها ، فإن ذلك لا يطهر لكم؛ رجع إلى نسختي ، ثم ذكر في الطير ودواب البر قريباً مما في شرعنا إلى أن قال : ولا تأكلوا أشياء نجسة بل ادفعوها إلى السكان الذين في قراكم يأكلونها أو يبيعونها من الغرباء ، لأنك شعب طاهر لله ربك لا تطبخوا جدياً بلبن أمه؛ وقال في ترجمة الاثنين والسبعين : ولا تطبخ الخروف بلبن أمه؛ وقال في السفر الخامس : وكلوا من الطير ما كان زكياً وحرموا هذه التي أصف لكم ، لا تأكلوا منها شيئاً : النسر والحداء - وذكر نحواً مما عندنا ، وقال في نسختي في الثالث : فمن مس شيئاً من هذه - أي المحرمات - يكون نجساً إلى المساء ، ومن حمل منها شيئاً فليغسل ثيابه ويكون نجساً إلى الليل - انتهى .

الظبي - بالمعجمة المشاركة - معروف ، والجوذر - بفتح الجيم والذال المعجمة والراء : البقرة الوحشية ، والرئم - بكسر المهملة : الظبي الخالص البياض ، والثيثل - بمثلثتين مفتوحتين بينهما ياء تحتانية ساكنة : بقر الوحش ، والأيل - بفتح الهمزة وكسر التحتانية المشددة ، الوعل - بفتح الواو وكسر المهملة - وهو تيس الجبل ، والحمل - بفتح المهملة : الرضيع من أولاد الضأن ، وقوله : لا تطبخوا جدياً بلبن أمه ، الظاهر أن معناه النهي عن أكله ما دام يرضع ، وما بعد الذي في الثالث هو معظم التوراة ، والذي في الخامس إنما هو إعادة لما في الثالث ، فإن الخامس تلخيص لجميع ما تقدمه من القصص والأحكام مع زيادات ، فصدق أن إيتاء الكتاب أتى معظمه بعد تحريم ما حرم عليهم ، ويجوز - وهو أحسن - أن يكون معطوفاً على محذوف تقديره : ذلكم وصاكم به كما وصى بني إسرائيل في الفصل الذي نسبته من التوراة كنسبة أم القرآن من القرآن ، وذلك هي العشر الآيات التي هي أول ما كتبه الله لموسى عليه السلام ، وهي أول التوراة في الحقيقة لأنها أول الأحكام ، وما قبلها فهو قصص وحاصل هذه العشر آيات : الرب إلهك الذي أصعدك من أرض مصر من العبودية والرق ، لا يكونن لك إله غيري ، لا تقسم باسمي كذباً ، احفظ يوم السبت ، أكرم والديك ، لا تقتل ، لا تزن ، لا تسرق ، لا تشهد بالزور ، لا تمدن عينيك إلى ما في أيدي الناس ، فالمعنى : ذلك وصيناكم به كما وصينا بني إسرائيل به في العشر الآيات وبعض ما آتينا موسى من التوراة ، ويجوز أن يكون التقدير : لكون هذه الآيات محكمة في كل الشرائع لم تنسخ في أمة من الأمم ولا تنسخ ، وصاكم به يا بني آدم في الزمن الأقدم ، ولم يزدد الأمر بها في التوصية إلا شدة { ثم آتينا } أي بما لنا من العظمة { موسى الكتاب } أي جميعه وهي فيه ، حال كونه { تماماً } لم ينقص عما يصلحهم شيئاً { على } الوجه { الذي أحسن } أي أتى بالإحسان فأثبت الحسن وجمعه بما بيّن من الشرع وبما حمى طوائف أهل الأرض به من الإهلاك بعامه ، فإنه نقل أن الله تعالى لم يهلك قوماً هلاكاً عاماً بعد إنزال التوراة { وتفصيلاً لكل شيء } من جملة ذلك الفصل المحتوي على الكلمات الحاوية لكل شيء يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا ، كما أن القرآن تفصيل لكل شيء من الجوامع السبع التي حوتها أم القرآن الحاوية لمصالح الدارين ، وفي هذين الاحتمالين المقتضيين لكون « ثم » على حقيقتها من الترتيب والمهلة علم من أعلام النبوة ، وهو الاطلاع على أن العشر الآيات وتحريم ما حرم عليهم بالبغي في أوائل ما أوحي إلى موسى عليه السلام بعد إغراق فبعون وأن معظم التوراة أنزل بعد ذلك ، وهذا لا يعرفه إلا أحبارهم { وهدى } أي بياناً { ورحمة } أي إكراماً لمن يقبله ويعمل به { لعلهم } أي بني إسرائيل { بلقاء ربهم } أي الذي أخرجهم من مصر من العبودية والرق بقوته العظيمة وكلماته التامة { يؤمنون * } أي ليكون حالهم بعد إنزال الكتاب - لما يرون من حسن شرائعه وفخامة كلامه وجلالة أمره - حال من يرجى أن يجدد الإيمان في كل وقت بلقاء ربه لقدرته على البعث الذي الإيمان به نهاية تصديق الأنبياء لأنه لا تستقل به العقول ، وإنما يثبت بالسمع مع تجويز العقل له ، فيعلموا أنه لا يشبهه شيء كما أن كلامه لا يشبهه كلام فلا يبغوا باتخاذ عجل غاية أمره خوار لا يفهم ومجمجة لا تفيد .

فلما بين أن إنزال الكتب رحمة منه لأن غايتها الدلالة على منزلها فتمتثل أوامره وتتقى مناهيه وزواجره ، بين أنه لم يخص تلك الأمم بذلك ، بل أنزل على هذه الأمة كتاباً ولم يرض لها كونه مثل تلك الكتب ، بل جعله أعظمها بركة وأبينها دلالة ، فقال : { وهذا } أي القرآن { كتاب } أي عظيم { أنزلناه } أي بعظمتنا إليكم بلسانكم حجة عليكم { مبارك } أي ثابت كل ما فيه من وعد ووعيد وخير وغيره ثباتاً لا تمكن إزالته مع اليمن والخير .
ولما كان هذا معناه : وكان داعياً إليه محبباً فيه ، سبب عنه قوله : { فاتبعوه } أي ليكون جميع أموركم ثابتة ميمونة ، ولما أمر باتباعه وكان الإنسان ربما تبعه في الظاهر ، أمر بإيقاع التقوى المصححة للباطن إيقاعاً عاماً ، ولذلك حذف الضمير فقال : { واتقوا } أي ومع ذلك فأوقعوا التقوى ، وهي إيجاد الوقاية من كل محذور ، فإن الخطر الشديد والسلامة على غير القياس ، فلا تزايلوا الخوف من منزله بجهدكم ، فإن ذلك أجدر أن يحملكم على تمام الاتباع وإخلاصه { لعلكم ترحمون * } أي ليكون حالكم حال من يرجى له الإكرام بالعطايا الجسام ، والآيتان ناظرتان إلى قوله تعالى { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } - إلى قوله - : { وهم على صلاتهم يحافظون } [ الأنعام : 92 ] ، ثم بين المراد من إنزاله وهو إقامة الحجة البالغة فقال : { أن } أي لأن لا { تقولوا } أو كراهة أن تقولوا أيتها الأمة الأمية { إنما أنزل الكتاب } أي الرباني المشهور { على طائفتين } وقرب الزمن وبعّضه بإدخال الجار فقال : { من قبلنا } أي اليهود والنصارى { وإن } أي وأنا - أو وأن الشأن - { كنا عن دراستهم } أي قراءتهم لكتابهم قراءة مرددة .

ولما كانت هي المخففة أتى باللام الفارقة بينها وبين النافية فقال : { لغافلين* } أي لا نعرف حقيقتها ولا ثبتت عندنا حقيتها ولا هي بلساننا { أو تقولوا } أي أيها العرب : لم نكن عن دراستهم غافلين بل كنا عالمين بها ، ولكنه لا يجب اتباع الكتاب إلا على المكتوب إليه فلم نتبعه ، و { لو أنا } أهلنا لما أهلوا له حتى { أنزل علينا الكتاب } أي جنسه أو الكتاب الذي أنزل إليهم من عند ربنا { لكنا أهدى منهم } أي لما لنا من الاستعداد بوفور العقل وحدة الأذهان واستقامة الأفكار واعتدال الأمزجة والإذعان للحق ، ولذلك سبب عن هاتين العلتين قوله : { فقد جاءكم } وذكر الفعل مدحاً لهذا القرآن وتفضيلاً وتشريفاً له على كل ما تقدمه وتنبيهاً على أن بيان هذه السورة في النهاية لأنها سورة أصول الدين { بينة } أي حجة ظاهرة بلسانكم { من ربكم } أي المحسن إليكم على لسان رجل منكم تعرفون أنه أولاكم بذلك { وهدى } أي بيان لمن تدبره عظيم { ورحمة } أي إكرام لمن قبله ، فكذبتم بها .
ولما قامت عليهم الحجة ، حسن وقوع تحذير التقرير بقوله : { فمن } أي فتسبب عن تكذيبكم أنه يقال بياناً لأنكم أظلم الناس : من { أظلم ممن كذب } أي أوقع التكذيب { بآيات الله } أي الذي لا أعظم منه فلا أعظم من آياته ، لأن الأثر على قدر المؤثر { وصدف } أي أعرض إعراضاً صار به كأنه في صفد أي سد عن سهولة الانقياد للدليل { عنها } بعد ما عرف صحتها .
ولما كان الجواب قطعاً : لا أحد أظلم منه ، فكان الحال مقتضياً لتوقع ما يجازى به ، قال : { سنجزي } أي بوعد صادق لا خلف فيه ، وأظهر ما أصله الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : { الذين يصدفون } أي يجددون الإعراض ولا يتوبون { عن آياتنا } أي على ما لها من العظمة { سوء العذاب } أي الذي يسوء نفسه { بما كانوا يصدفون * } أي بسبب إعراضهم الذي كان عادة لهم .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)

ولما كان أسوأ السوء حقوق العذاب ، وكان حقوقه بعدم قبول التوبة ، فسره بقوله مهوناً له ومسهلاً بتجريد الفعل : { هل ينظرون } أي ما ينتظرون هؤلاء المكذبون أدنى انتظار وأقربه وأيسره { إلا أن تأتيهم } أي حال تكذيبهم { الملائكة } أي بالأمر الفيصل من عذابهم كما هي عادتها في إتيانها المكذبين { أو يأتي ربك } أي ظهور أمر المحسن إليك أتم ظهور بجميع الآيات التي تحملها العقول وذلك يوم الجزاء { أو يأتي } وأبهم تهويلاً للأمر وتعظيماً فقال : { بعض آيات ربك } أي أشراط الساعة التي يكون فيها ظهوره التام وإحسانه إليك الأعظم مثل دابة الأرض التي تميز الكافر من المؤمن وطلوع الشمس من مغربها المؤذن بإغلاق باب التوبة؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا رآها الناس آمن من عليها ، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل » ، ثم قرأ الآية .
ولما كان إتيان الملائكة - أي كلهم أمراً لا يحتمل العقول وصف عظمته ، ولا بشرى للمجرمين عند رؤيته ، فإنه لو وقع على صورتهم لتقطعت أوصالهم ولم يحتمله قواهم فقضي الأمر ثم لا ينظرون ، وأما تجلي الرب سبحانه وعز اسمه وجلت عظمته .
فالأمر أعظم من مقالة قائل ... إن رقق البلغاء أو إن فخموا
ترك ما يترتب عليه وقال : { يوم يأتي } أي يكشف ويظهر { بعض آيات ربك } أي المحسن إليك بالإتيان بذلك تصديقاً لك وترويعاً وتدميراً لمخالفيك { لا ينفع نفساً } أي كافرة { إيمانها } أي إذ ذاك ، ولا نفساً مؤمنة كسبها الخير إذ ذاك في إيمانها المتقدم على تلك الآية بالتوبة فما وراءها ، ولذلك بينه وبقوله واصفاً نفساً : { لم تكن } أي الكافرة { آمنت } ويسر الأمر ببعض زمان القبل ، ولم يكلف باستغراقه بالإيمان فقال : { من قبل } أي قبل مجيء الآية في زمن متصل بمجيئها .
ولما ذكر الكافرة ، أتبعها المؤمنة فقال عاطفاً على « آمنت » : { أو } لم تكن المؤمنة العاصية { كسبت } أي من قبل { في إيمانها } أي السابق على مجيء الآية { خيراً } أي توبة ، وبعبارة أخرى : نفساً كافرة إيمانها المجدد بعد مجيء الآية ، وهو معنى { لم تكن آمنت من قبل } أو نفساً مؤمنة كسبها الخير بعد مجيء الآية ما لم تكن كسبت في إيمانها السابق على الآية خيراً ، والحاصل أنه لا يقبل عند ذلك إيمان كافر ولا توبة فاسق - كما قاله البغوي - لأن المقصود من التصديق والتوبة الإيمان بالغيب وقد فات بالآية الملجئة ، فيكون فاعل الفعل المقدر في « كسبت » محذوفاً ، والتقدير : لا ينفع نفساً لم تكن آمنت من قبل ، أو لم تكن كسبت في إيمانها خيراً إيمانها وكسبها ، فالإيمان راجع إلى من لم يؤمن ، والكسب راجع إلى من لم يكسب ، وهو ظاهر ، والتهديد بعدم نفع الإيمان عند مجيء الآية أعظم دليل على ما ذكرته من التقدير ، والآية من الاحتباك : ذكر إيمانها أولاً دليل على حذف كسبها من الجملة الثانية ، وذكر جملتي آمنت وكسبت ثانياً دال على حذف كافرة ومؤمنة أولاً .

ولما كان هذا تهديداً - كما ترى - هائلاً ، أتبعه ما هو أشد منه للتنبيه على أن أهل الإيمان سالمون من ذلك بقوله : { قل انتظروا } أي بغاية جهدكم أيها المكذبون { إنا منتظرون * } بجهدنا ، وستعلمون لمن تكون العاقبة .
ولما نهى عن اتباع السبل لأنها سبب التفرق عن الحق ، وكان قد كرر في هذه السورة نصب الحجج وإنارة الأدلة وإزاحة الشكوك ومحو آثار الشبه ، وأشرفت السورة على الانقضاء . وكان من المعلوم قطعاً أن الحق - من حيث هو حق - شديد التأثير في إزهاق الباطل فكيف إذا كان كلام الملك الذي لا يخالف أمره ولا يخرج عن إرادته؛ اشتد استشراف النبي صلى الله عليه وسلم إلى رؤية ذلك الأثر مع ما عنده من الحرص على إسلام قومه لما طبعه الله عليه من الشفقة على جميع الخلق عموماً وعليهم خصوصاً ، وإنما يكون ذلك الأثر بإيجاد هدايتهم ومحو غوايتهم ، فلما ختم سبحانه بهذين التهديدين العظيمين الدالين على غشاوتهم ، فإنه صلى الله عليه وسلم مما كان رجاه من هدايتهم أمر كأنه كان قد حصل ، وذلك مورث للشفوق من الأسف على ما لا يدري قدره ولا يوصف خبره ، فثبته سبحانه وسلاه بقوله : { إن الذين فرقوا } أي بعد إبلاغك إياهم { دينهم } أي بتكذيبهم ببعض آيات الله وصدوفهم عنها وإيمانهم ببعضها ففارقوه ، لأن الكفر بعضه كفر بكله ، وأضيف الدين إليهم لشدة رغبتهم فيه ومقاتلتهم عليه { وكانوا شيعاً } كل فرقة تشايع وتشيع إمامها كالعرب الذين تحزبوا أحزاباً بالاستكثار من الأصنام ، فكان في كل قطر لهم معبود أو اثنان فأكثر ، وكأهل الكتاب الذين ابتدعوا في دينهم بدعاً أوصلتهم إلى تكفير بعضهم بعضاً وآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض ، وكالمجوس الذين مزقوا دينهم باعتقاد أن الإله اثنان : النور والظلمة ، وعبدوا الأصنام والنجوم وجعلوا لكل نجم صنماً يتوسل به في زعمهم إليه { لست منهم } أي من حسابهم ولا من عقابهم ولا من خلق الهداية في قلوبهم { في شيء } وفي هذا غاية الحث على الاجتماع ونهاية التوعد على الافتراق .
ولما خفف عنه صلى الله عليه وسلم بتبرئته منهم ، أسند إلى نفسه المقدس ما يحق له في إحاطة علمه وقدرته ، فقال جواباً لمن يقول : فإلى من يكون أمرهم؟ : { إنما أمرهم } أي في ذلك كله وفي كل ما يتعلق بهم مما لا يحصره حد ولا يحصيه عد { إلى الله } أي الملك الذي لا أمر لأحد معه غيره ، فمن شاء هداه ومن شاء أعماه ، ومن شاء أهلكه ومن شاء أبقاه لأن له كمال العظمة .

ولما كان الحشر متراخياً عن ذلك كله في الرتبة وفي الزمان ، لا تبلغ كنه عظمته العقول ، نبه على ذلك بالتعبير بأداة التراخي والتنبيه بقوله : { ثم } بعد استيفاء ما ضرب لهم من الآجال { ينبئهم } أي تنبئة عظيمة جليلة مستقصاة بعد أن يحشرهم إليه داخرين { بما كانوا } أي جبلة وطبعاً { يفعلون * } أي من تلك الأشياء القبيحة التي كان لهم إليها أتم داعية غير متوقفين في إصدارها على علم مع ادعاء التدين بها ، والآية - مع ما تقدم من مقتضياتها - تعليل لقوله { ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [ الأنعام : 153 ] .

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)

ولما أخبر أن أمرهم ليس إلا إليه ، كان كأنه قيل : فماذا يفعل بهم حينئذ؟ فأجيب بقوله : { من جاء } أي منهم أو من غيرهم { بالحسنة } أي الكاملة بكونها على أساس الإيمان { فله } من الحسنات { عشر أمثالها } كرماً وإحساناً وجوداً وامتناناً ، يجازيه بذلك في الدنيا أو في الآخرة ، وهذا المحقق لكل أحد ويزداد البعض وضوحاً بحسب النيات ، وذكر العشر ، لأنه بمعنى الحسنة ، وهو مضاف إلى ضميرها . ولما تضمن قوله { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } [ الأنعام : 153 ] مع تعقيبه بقوله { لا نكلف نفساً إلاّ وسعها } [ الأنعام : 152 ] الإشارة إلى أن المساواة في الجزاء مما ينقطع دونه أعناق الخلق ، أخبر أن ذلك عليه هين لأن عمله شامل وقدرته كاملة بقوله : { ومن جاء بالسيئة } أي أيّ شيء كان من هذا الجنس { فلا يجزى } أي في الدارين { إلا مثلها } إذا جوزي ، ويعفو عن كثير .
ولما كانت المماثلة لا يلزم كونها من كل وجه وإن كانت ظاهرة في ذلك لا سيما في هذه العبارة ، صرح بما هو ظاهره لأنه أطيب للنفس وأسكن للروع فقال : { وهم لا يظلمون * } أي بكونها مثلها في الوحدة وإن كانت أكبر أو من جنس أشد من جنسها ونحو ذلك ، بل المماثلة موجودة في الكم والكيف ، فلا ينقص أحد في ثواب ولا يزاد في عقاب .
ولما تضمن ما مضى تصحيح التوحيد بالأدلة القاطعة وتحقيق أمر القضاء والقدرة وإبطال جميع أديان الضلال ووصفها بتفرق أهلها الدال على بطلانها واعوجاجها ، وختم بهذا التحذير الذي لا شيء أقوم منه ولا أعدل ، أمره صلى الله عليه وسلم بالإعلان بأمره وأن يصف دينه الذي شرعه له وهداه إليه بما فيه من المحاسن تحبيباً فيه وحثاً عليه ولأن ذلك من نتيجة هذه السورة فقال : { قل } وأكد بالإتيان بالنونين فقال : { إنني هداني } أي بياناً وتوفيقاً { ربي } أي المحسن إليّ بكل خير لا سيما هذا الذي أوحاه إليّ وأنزله عليّ { إلى صراط مستقيم * } أي طريق واسع بين ، ثم مدحه بقوله : { ديناً قيماً } أي بالغ الاعتدال والاستقامة ثابتها ، هذا على قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو بفتح القاف وتشديد الياء المكسورة ، وهو في قراءة الباقين بكسر القاف وفتح الياء الخفيفة مصدر بمعنى القيام وصف به للمبالغة ، وزاده مدحاً بقوله مذكراً لهم - لتقليدهم الآباء - بأنه دين أبيهم الأعظم : { ملة إبراهيم } والملة ما أظهره نور العقل من الهدى في ظُلَم ما التزمه الناس من عوائد أمر الدنيا - أفاده الحرالي . ولذلك قال : { حنيفاً } أي ليناً هيناً سهلاً قابلاً للاستقامة لكونه ميالاً مع الدليل غير جاف ولا كز واقف مع التقليد عمى عن نور الدليل - كما تقدم ذلك في البقرة ، وهو معنى قوله : { وما } أي والحال أنه ما { كان من المشركين * } أي الجامدين مع أوهامهم في ادعاء شريك لله مع رؤيتهم له في كونه لا يضر ولا ينفع ولا يصلح لشركة آدمي فضلاً عن غيره بوجه ، لا ينقادون لدليل ولا يصغون إلى قيل ، فكان هذا مدحاً لهذا الدين الذي هدى إليه صلى الله عليه وسلم وبياناً لأنه الذي اختاره سبحانه لخليله إبراهيم عليه السلام رجوعاً إلى

{ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } [ الأنعام : 74 ] الذي بنيت السورة في الحقيقة عليه ، وألقيت أزمة أطرافها إليه ، وترغيباً في هذا الدين لأن جميع المخالفين يتشبثون بأذيال إبراهيم عليه السلام : العرب وأهل الكتابين بنسبة الأبوة ، والمجوس بنسبة البلد والأخوة ، وأشار بذلك إلى أن محمداً صلى الله عليه وسلم فهم ما حاج به أبوه إبراهيم عليه السلام قومه وقبله ، فلم ينسب كغيره إلى جمود ولا عناد .
ولما كان كأن سائلاً قال : وما هذه الملة التي تكرر مدحها والدعاء إليها؟ أجاب بقوله ليتأسى به أهل الإيمان ، فليلتزموا جميع ما يدعو إليه على وجه الإخلاص : { قل إن صلاتي } أي التي هي لباب الدين وصفاوته { ونسكي } أي جميع عبادتي من الذبائح وغيرها { ومحياي } أي حياتي وكل ما تجمعه من زمان ومكان وفعل { ومماتي لله } أي الملك الأعظم الذي لا يخرج شيء عن أمره؛ ولما علم بالاسم الأعظم أنه يستحق ذلك لذاته ، أعلم أنه يستحقه من كل أحد لإحسانه إليه وإنعامه عليه فقال : { رب العالمين * } الموجد والمدبر والموعي لهم .

لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)

ولما أعلم أنه يستحقه لذاته ووصفه ، أعلم أنه يستحقه وحده فقال : { لا شريك له } أي ليكون لشريكه على زعمكم شيء من العبادة لما كان له شيء من الربوبية ، فأبان بهذا أن وجهه صلى الله عليه وسلم ووجه من تبعه واحد لا افتراق فيه ، وهو قصد الله وحده على سبيل الإخلاص كما أنه يوحد بالإحياء والإماتة فينبغي أن يوحد بالعبادة .
ولما دل على ذلك ببرهان العقل ، أتبعه بجازم النقل فقال عاطفاً على ما تقديره : إلى ذلك أرشدني دليل العقل : { وبذلك } أي الأمر العالي من توجيه أموري إليه على وجه الإخلاص .
ولما كان له سبحانه في كل شيء آية تدل على أنه واحد ، فكان كل شيء آمراً بالتوحيد بلسان حاله أو ناطق قاله ، بني للمفعول قوله : { أمرت } أي يعني أن هذا الدين لو لم يرد به أمر كان ينبغي للعاقل أن يدين به ولا يعدل عنه لشدة ظهوره وانتشار نوره بما قام عليه من الدلائل ودرج على اتباعه من الأفاضل والأماثل ، فكيف إذا برزت به الأوامر الإلهية ودعت إليه الدواعي الربانية { وأنا أول المسلمين * } أي المنقادين لما يدعو إليه داعي الله في هذا الدين ، لا اختيار لي أصلاً ، بل أنا مسلوب الاختيار فيه منقاد أتم انقياد ، وهذه الأولية على سبيل الإطلاق في الزمان والرتبة بالنسبة إلى أمته صلى الله عليه وسلم وفي الرتبة بالنسبة إلى من تقدمه من الأنبياء وغيرهم ، وهذا أيضاً من باب الإحسان في الدعاء بالتقدم إلى ما يدعو إليه وأن يحب للمدعو ما يحب لنفسه ليكون أنفى للتهمة وأدل على النصيحة فيكون أدعى للقبول .
ولما حاجوه في الشرك في هذه السورة غير مرة كما حاج إبراهيم عليه السلام قومه ، وكان آخر ذلك أن دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى تلاوة ما أنزل عليه سبحانه في تحريم الشرك وشرح دينه القيم ، ثم كرر هنا ذمهم بالتفرق الدال على الضلال ولا بد ، ومدح دين الرسل الذي تقدم أنهم لم يختلفوا فيه أصلاً ، وأيأس الكفار من موافقته صلى الله عليه وسلم لهم نوعاً من الموافقة وميله معهم شيئاً من الميل ، أمره سبحانه - بعد أن ثبت بأول السورة وأثنائها وآخرها أنه لا رب غيره - بالإنكار على من يريد منه ميلاً إلى غير من تفرد بمحياه ومماته ، فكان له التفرد بما بينهما وما بعد ذلك من غير شبهة ، والتوبيخ الشديد فقال : { قل } أي لهؤلاء الذي يطمعون أن تطرد أصحابك من أجلهم { أغير الله } أي الذي له الكمال كله { أبغي } أي أطلب وأريد بالإشراك فإن الغنى المطلق لا يقبل ممن أشرك به شيئاً { رباً } أي منعماً يتولى مصالحي كما بغيتم أنتم ، فهو تعريض بهم وتنبيه لهم ، والإسناد إليه صلى الله عليه وسلم - والمراد جميع الخلق - من باب الإنصاف في المناظرة للاستعطاف { وهو } أي والحال أنه كما ثبت بالقواطع وركز في العقول الثوابت وطبع في أنوار الأفكار اللوامع { رب كل شيء } أي موجده ومربيه ، أفينبغي لأحد أن يدين لغير سيده وذلك الغير مربوب مثله لسيده ، هذا ما لا يرضاه عاقل لنفسه .

ولما أنكر على من يجنح إلى غيره مع عموم بره وخيره ، أتبعه الترويع من قويم عدله في عظيم ضره فقال : { ولا } أي والحال أنه لا { تكسب كل نفس } أي ذنباً وإن قل مع التصميم والعزم القوي الذي هو بحيث يصدقه العمل - كما مضى في آية البقرة { إلا عليها } أي لا يمكن أن يكون باطلاً لا عليها ولا على غيرها ، وإذا كان عليها لا يمكن أن يحاسب به سبحانه سواها لأنه عدل حكيم فكيف أدعو غيره دعاء جلياً أو خفياً وذلك أعظم الذنوب! وللتنفير من الشرك الخفي بالرياء وكل معصية وإن صغرت ، جرد الفعل عن الافتعال لئلا يتوهم أنه لا يكون عليها إلا ما بالغت فيه ، والسياق هنا واضح في أن الكسب مقيد بالذنب فإنه في دعاء غير الله وآية البقرة للإيماء إلى الذنب الذي لا يقع إلا بشهوة شديدة من النفس له لطبعها على النقائص ، فهي لا تنافي هذه لأن ما كسبته من الذنوب قد علم من ثَمَّ أنه اكتساب ، وأحسن من هذا أن يقال : ولما كان المعنى أني إن بغيت رباً غيره وكلني إلى ما توليته ، وأنا إنسان والإنسان مطبوع على النقائص فهلكت ، عبر عنه بقوله مجرداً للفعل لقصد العموم : { ولا تكسب كل نفس } بما هي نفس ناظرة في نفاستها معرضة عن ربها موكولة إلى حولها وقوتها { إلا عليها } ولا يحمل عنها غيرها شيئاً من وزرها؛ ولما كان ربما حمل أحد عن غيره شيئاً من أثقاله مساعدة له ، نفى ذلك بقوله : { ولا تزر وازرة } أي تحمل حاملة ولو كانت والداً أو ولداً { وزر } أي إثم { أخرى } { وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى } [ فاطر : 18 ] فإذا كان الأمر كذلك فلا يجعل بعاقل أن يعرض نفسه بحمل شيء من غضب هذا الملك الذي لا شريك له وإليه المرجع وإن طال المدى .
ولما عم في الكسب وحمل الوزر لئلا يقول متعنت أن خص هذا لك لا لنا ، عم في المرجع أيضاً لمثل ذلك ، فقال مهدداً لهم بعد كمال الإيضاح عاطفاً على ما أرشد إليه الإنكار من النفي في نحو أن يقال : إني لا أفعل شيئاً من ذلك ، لا أبغي رباً غير ربي أصلاً ، وأما أنتم فافعلوا ما أنتم فاعلون فإن ربكم عالم به : { ثم } أي بعد طول الإمهال لكم لطفاً منه بكم { إلى ربكم } أي الذي أحسن إليكم بكل نعمة ، لا إلى غيره { مرجعكم } أي بالحشر وإن عمرتم كثيراً أو بقيتم طويلاً { فينبئكم } أي يخبركم إخباراً جليلاً عظيماً مستوفى .

ولما كان قد تقدم أنهم فرقوا دينهم ، قال : { بما كنتم } أي جبلة وطبعاً ، ولذلك قدم الجار ليفيد الاهتمام به لقوة داعيتهم إليه من غير إكراه ولا ذهول ولا نسيان فقال : { فيه تختلفون * } أي مع رسول وغيره ، ويدينكم على جميع ذلك بما تستحقونه ، وحالكم جدير بأن يعظم عقابكم لأنكم كفرتم نعمته؛ قال أبو حيان : حكى النقاش أنه روي أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ارجع يا محمد إلى ديننا واعبد آلهتنا واترك ما أنت عليه ونحن نتكفل لك بكل ما تحتاج إليه في دنياك وآخرتك ، فنزلت هذه الآية - انتهى .
ولما قدم أنه المحسن إلى كل شيء بالربوبية ، وختم بالتهديد بالحشر ، أتبعه التذكير بتخصيصهم بالإحسان ، فقال عاطفاً على { وهو رب كل شيء } مستعطفاً لهم إليه بالتذكير بنعمته : { وهو } أي لا غيره { الذي جعلكم } أي أيها الإنس { خلائف الأرض } أي تفعلون فيها فعل الخليفة متمكنين من كل ما تريدونه ، ويجوز أن يراد بذلك العرب ، ويكون ظاهر الكلام أن المراد بالأرض ما هم فيه من جزيرة العرب ، وباطنه البشارة بإعلاء دينهم الإسلام على الدين كله وغلبتهم على أكثر أهل الأرض في هذه الأزمان وعلى جميع أهل الأرض في آخر الزمان { ورفع بعضكم } في مراقي العقل والعلم والدين المال والجاه والقوة الحسية والمعنوية { فوق بعض درجات } أي مع كونكم من نفس واحدة ، وربما كان الوضيع أعقل من الرفيع ولم ينفعه عقله فيدل ذلك دلالة واضحة على أن ذلك كله إنما هو فعل الواحد القهار ، لا بعجز ولا جهل ولا بخل؛ ثم علل ذلك بقوله : { ليبلوكم } أي يفعل معكم فعل المختبر ليقيم الحجة عليكم وهو أعلم بكم منكم { في ما آتاكم } فينظر هل يرحم الجليل الحقير ويرضى الفقير بعطائه اليسير ، ويشكر القوي ويصبر الضعيف! .
ولما ذكر علو بعضهم على بعض ، وكان من طبع الآدمي التجبر ، أتبعه التهديد للظالم والاستعطاف للتائب بما يشير - بما له سبحانه من علو الشأن وعظيم القدرة - إلى ضعف العالي منهم وعجزه عن عقاب السافل بمن يحول بينه وبينه من شفيع وناصر وبما يحتاج إليه من تمهيد الأسباب ، محذراً من البغي والعصيان فقال موجهاً الخطاب إلى أكمل الخلق تطييباً لقلبه إعلاماً بأنه رباه سبحانه أجمل تربية وأدبه أحسن تأديب : { إن ربك } أي المحسن إليك { سريع الحساب } أي لمن يريد عقابه ممن يكفر نعمته لكونه لا حائل بينه وبين من يريد عقابه ولا يحتاج إلى استحضار آلات العقاب ، بل كل ما يريد حاضر لديه عتيد

{ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } [ يس : 82 ] ، وفي ذلك تهديد شديد لمن لا يتعظ .
ولما هدد وخوف ، رجّى من أراد التوبة واستعطف فقال : { وإنه لغفور رحيم * } معلماً بأنه - على تمام قدرته عليهم وانهماكهم فيما يوجب الإهلاك - بليغ المغفرة لهم عظيم الرحمة { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة } [ النحل : 61 ] ، حثاً على عفو الرفيع من الوضيع ، وتأكيده الثاني دون الأول ناظر إلى قوله { كتب على نفسه الرحمة } [ الأنعام : 12 ] ، « إن رحمتي سبقت غضبي » لأنه في سياق التأديب لهذه الأمة والتذكير بالإنعام عليهم بالاستخلاف ، وسيأتي في الأعراف بتأكيد الاثنين لأنه في حكاية ما وقع لبني إسرائيل من إسراعهم في الكفر ومبادرتهم إليه واستحقاقهم على ذلك العقوبة ، وجاء ذلك على طريق الاستئناف على تقدير أن قائلاً قال : حينئذ يسرع العالي إلى عقوبة السافل! فأجيب بأن الله فوق الكل وهو أسرع عقوبة ، فهو قادر على أن يسلط الوضيع أو أحقر منه على الرفيع فيهلكه؛ ثم رغب بعد هذا الترهيب في العفو بأنه على غناه عن الكل أسبل ذيل غفرانه ورحمته بإمهاله العصاة وقبوله اليسير من الطاعات بأنه خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور منافع لهم ثم هم به يعدلون! ولولا غفرانه ورحمته لأسرع عقابه لمن عدل به غيره فأسقط عليهم السماوات وخسف بهم الأرضين التي أنعم عليهم بالخلافة فيها وأذهب عنهم النور وأدام الظلام ، فقد ختم السورة بما به ابتدأها ، فإن قوله : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } هو المراد بقوله : { هو الذي خلقكم من طين } [ الأنعام : 2 ] وقوله : { أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء } [ الأنعام : 164 ] هو معنى قوله : { خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } [ الأنعام : 1 ] ، - والله الموفق .

المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)

لما ذكر سبحانه في آخر التي قبلها أنه أنزل إليهم كتاباً مباركاً ، وأمر باتباعه وعلل إنزاله وذكر ما استتبعه ذلك مما لا بد منه في منهاج البلاغة وميدان البراعة ، وكان من جملته أن أمر المدعوين به ليس إلا إليه ، إن شاء هداهم وإن شاء أضلهم واستمر فيها لا بد منه في تتميم ذلك إلى أن ختم السورة بما انعطف على ما افتتحت به ، فاشتد اعتناقه له حتى صارا كشيء واحد؛ أخذ يستدل على ما ختم به تلك من سرعة العقاب وعموم البر والثواب وما تقدمه ، فقال مخبراً عن مبتدإ تقديره : هو { كتاب } أي عظيم أوضح الطريق المستقيم فلم يدع بها لبساً ولم يذر خيراً إلا أمر به ولا شراً إلا نهى عنه ، فإنزاله من عظيم رحمته؛ ثم وصفه بما أكد ما أشار إليه من رحمته بقوله : { أنزل إليك } أي وأنت أكرم الناس نفساً وأوسعهم صدراً وأجملهم قلباً وأعرقهم إصالة وأعرفهم باستعطاف المباعد واستجلاب المنافر المباغض ، وهذا شيء قد خصك به فرفعك على جميع الخلق درجات لا تحصى ومراتب لا حد لها فتستصى .
ولما كان المقصود من البعثة أولاً النذارة للرد عما هم عليه من الضلال ، وكانت مواجهة الناس بالإنذار شديدة على النفوس ، وكان الإقدام عليها من الصعوبة بمكان عظيم؛ قدم قوله مسبباً عن تخصيصه بهذه الرحمة : { فلا يكن } وعبر عن القلب بمسكنه الذي هو أوسع منه مبالغة في الأمر فقال : { في صدرك حرج } أي شيء من ضيق بهم أو خوف أو نحو ذلك { منه } على ما تعلق ب « أنزل » من قوله : { لتنذر به } أي نذري لكل من بلغه أو للمخالفين من سرعة العقاب على نحو ما أوقع سبحانه بالقرون الماضية والأمم السابقة - كما أشار إليه آخر الأنعام ، وسيقص من أخبارهم من هذه السورة { و } لتنذر به { ذكرى } أي عظيمة { للمؤمنين* } أي بالبشر والمواعظ والغفران والرحمة على ما أشار إليه ختام الأنعام ، وحذف المفعول يدل على عموم الرسالة لكل من أمكن إنذاره وتذكيره من العقلاء ، ويجوز أن تتعلق لام « لتنذر » بمعنى النهي ، أي انف الحرج لكذا ، فإن من كان منشرح الصدر أقدم على ما يريد أو يحرج ، أي لا يكن الحرج الواقع لأجل أن تنذر ، أي لأجل إنذارك به ، والنهي للنبي صلى الله عليه وسلم ، حُوّل إلى الحرج مبالغة وأدباً ، ويجوز أن يكون التقدير : لتنذر به وتذكر به ، فإنه نذرى للكافرين وذكرى للمؤمنين ، والآية على كل تقدير من الاحتباك : إثباته « لتنذر » أولاً ، دال على حذف « لتذكر » ثانياً ، وإثبات المؤمنين ثانياً دال على حذف المخالفين أولاً ، فإن النفوس على قسمين : نفوس بليدة جاهلة بعيدة عن عالم الغيب غريقة في طلب اللذات الجسمانية والشهوات الحيوانية فبعثة الرسل في حقهم إنذار وتخويف ، ونفوس شريفة مشرقة بالأنوار الإلهية فبعثة الرسل في حقهم تذكير لأن هذه النفوس بمقتضى جواهرها الأصلية وجبلتها الخلقية مستعدة للانجذاب إلى عالم القدس إلا أنه ربما غشيها غواش من عالم الأجساد فيعرض لها نوع ذهول وغفلة ، فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصلت بها أنوار أرواح رسل الله تذكرت مركزها وأبصرت منشأها ، فاشتاقت إلى ما حصل هناك من الروح والريحان فطارت نحوهم كل مطار فتمحضت لديها تلك الأنوار؛ وقال أبو حيان : واعتلاق هذه السورة بما قبلها هو أنه لما ذكر تعالى قوله :

{ وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه } [ الأنعام : 155 ] واستطرد ممنه لما بعده إلى قوله في آخر السورة { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } [ الأنعام : 165 ] وذكر ابتلاءهم فيما آتاهم ، وذلك لا يكون إلا بالتكاليف الشرعية ، ذكر ما يكون به التكاليف ، وهو الكتاب الإلهي ، وذكر الأمر باتباعه كما أمر في قوله { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه } [ الأنعام : 155 ] - انتهى . وقال شيخه الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما قال تعالى ابتداء بالاعتبار { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين } [ الأنعام : 6 ] ثم قال تعالى { ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون } [ الأنعام : 10 ] ثم قال تعالى : { قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } [ الأنعام : 11 ] ثم قال تعالى { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا } [ الأنعام : 34 ] وقال تعالى { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء } [ الأنعام : 42 ] ، وقال تعالى { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي } [ الانعام : 13 ] فوقعت الإحالة في هذه الآي على الاعتبار بالأمم السالفة وما كان منهم حين حين كذبوا أنبياءهم وهلاك تلك القرون بتكذيبهم وعتوهم وتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم بجريان ما جرى له بمن تقدمه مت الرسل { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } [ الأنعام : 33 ] فاستدعت الإحالة والتسلية بسط أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية ، والإعلام بصبر الرسل - عليهم السلام - عليهم وتلطفهم في دعائهم ، ولم يقع في السور الأربع قبل سورة الأنعام مثل هذه الإحالة والتسلية وقد تكررت في سورة الأنعام كما تبين بعد انقضاء ما قصد من بيان طريق المتقين أخذاً وتركاً وحال من حاد عن سننهم ممن رامه أو قصده فلم يوفق له ولا أتم له أمله من الفرقتين : المستندة للسمع والمعتمدة للنظر ، فحاد الأولون بطارىء التغيير والتبديل ، وتنكب الآخرون بسوء التناول وقصور الأفهام وعلة حيد الفريقين السابقة الأزلية؛ فلما انقضى أمر هؤلاء وصرف الخطاب إلى تسليته عليه السلام وتثبيت فؤاده بذكر أحوال الأنبياء مع أممهم وأمر الخلق بالاعتبار بالأمم السالفة ، وقد كان قدّم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكر الأنبياء

{ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] بسط تعالى حال من وقعت الإحالة عليه ، واستوفى الكثير من قصصهم إلى آخر سورة هود إلى قوله سبحانه { وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } [ هود : 120 ] فتأمل بما افتتحت به السورة المقصودة بها قصص الأمم وبما اختتمت يَلُح لك ما أشرت إليه - والله أعلم بمراده ، وتأمل افتتاح سورة الأعراف بقوله { فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين } [ الأعراف : 7 ] وختم القصص فيها بقوله : { فاقصص القصص لعلهم يتفكرون } [ الأعراف : 176 ] بعد تعقيب قصص بني إسرائيل بقصة بلعام { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } [ الأعراف : 175 ] ، ثم قال : { ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا } [ الأعراف : 176 ] فتأمل هذا الإيماء بعد ذكر القصص ، وكيف ألحق مَنْ كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب وغيرهم بمن قص ذكره من المكذبين ، وتأمل افتتاح ذكر الأشقياء بقصة إبليس وختمها بقصة بلعام وكلاهما ممن كفر على علم ، وفي ذلك أعظم موعظة ، قال الله تعالى إثر ذلك { من يهد الله فهو المهتدي } [ الأعراف : 178 ] ، فبدأ الاستجابة بنبيه صلى الله عليه وسلم بذكر ما أنعم عليه وعلى من استجاب له فقال تعالى : { المص كتاب أنزل إليك } [ الأعراف : 1-2 ] فأشار إلى نعمته بإنزال الكتاب الذي جعله هدى للمتقين ، وأشار هنا ما يحمله عليه من التسلية وشرح الصدور بما جرى من العجائب والقصص مع كونه هدى ونوراً ، فقال { فلا يكن في صدرك حرج منه } [ الأعراف : 2 ] أي أنه قد تضمن مما أحلناك عليه ما يرفع الحرج ويسلي النفوس لتنذر به كما أنذر من قبلك ممن نقص خبره من الرسل ، ولتستن في إنذارك ودعائك وصبرك سننهم ، وليتذكر المؤمنون؛ ثم أمر عباده بالاتباع لما أنزله فقال : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } [ الأعراف : 3 ] فإنة هلاك من نقص عليكم خبره من الأمم إنما كان لعدم الاتباع والركون إلى أوليائهم من شياطين الجن والإنس ، ثم أتبع ذلك بقصة آدم عليه السلام ليبين لعباده ما جرت سنته فيهم من تسلط الشياطين وكيده وأنه عدو لهم { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [ الأعراف : 27 ] ووقع في قصة آدم هنا ما لم يقع في قصة البقرة من بسط ما أجمل هناك كتصريح اللعين بالحسد وتصور خيريته بخلقه من النار وطلبة الإنظار والتسلط على ذرية آدم والإذن له في ذلك ووعيده ووعيد متبعيه ثم أخذ في الوسوسة إلى آدم عليه السلام وحلفه له { وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } [ الأعراف : 21 ] وكل هذا مما أجمل في سورة البقرة ولم تتكرر قصة إلا وهذا شأنها ، أعني أنها تفيد مهما تكررت ما لم يكن حصل منها أولاً؛ ثم انجزت الآي إلى ابتداء قصة نوح عليه السلام واستمرت القصص إلى قصص بني إسرائيل ، فبسط هنا من حالهم وأخبارهم شبيه ما بسط في قصة آدم وما جرى من محنة إبليس ، وفصل هنا الكثير وذكر ما لم يذكر في البقرة حتى لم يتكرر بالحقيقة ولا التعرض لقصص طائفة معينة فقط ، ومن عجيب الحكمة أن الواقع في السورتين من كلتا القصتين مستقل شاف ، وإذا ضم بعض ذلك إلى بعض ارتفع إجماله ووضح كماله ، فتبارك من هذا كلامه ومن جعله حجة قاطعة وآية باهرة .

ولما أعقب تعالى قصصهم في البقرة بأمره نبيه والمؤمنين بالعفو والصفح فقال تعالى { فاعفوا واصفحوا } [ البقرة : 109 ] أعقب تعالى أيضاً هنا بقوله لنبيه عليه الصلاة والسلام { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] وقد خرجنا عن المقصود فلنخرج إليه - انتهى .

اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)

ولما تقدم سبحانه إليه صلى الله عليه وسلم في أمر الإنذار والإذكار بالكتاب تقدم إلى اتباعه فأمرهم باتباعه ونهاهم عن اتباع أهل الضلال وما يوحي إليهم أولياؤهم من زخارفهم بعد أن أخبر بكونه ذكرى أنه سبب لعلو شأنهم وعز سلطانهم ، فقال ملتفتاً إليهم مقبلاً بعز جلاله عليهم { اتبعوا } أي حملوا أنفسكم حملاً عظيماً بجد ونشاط على اتباع { ما أنزل إليكم } أي قد خصصتم به دون غيركم فاشكروا هذه النعمة { من ربكم } أي الذي لم يزل محسناً إليكم { ولاتتبعوا } ولعله عبر بالافتعال إيماء إلى أن ما كان دون علاج - بل هفوة وبنوع غفلة - في محل العفو { من دونه } أي دون ربكم { أولياء } أي من الذين نهيناكم عنهم في الأنعام وبينا ضررهم لكم من شياطين الإنس والجن وعدم إغنائهم وأن الأمر كله لربكم .
ولما كانوا قد خالفوا في اتباعهم صريح العقل وسليم الطبع ، وعندهم أمثلة ذلك لو تذكروا ، قال منبهاً لهم على تذكر ما يعرفون من تصرفاتهم : { قليلاً } وأكد التقليل ب « ما » النافي وبإدغام تاء التفعيل فقال : { ما تذكرون* } أي تعالجون أنفسكم على ذكر ما هو مركوز في فطركم الأولى فإنكم مقرون بأن ربكم رب كل شيء ، فكل من تدعون من دونه مربوب ، وأنتم لا تجدون في عقولكم ولا طباعكم ولا استعمالاتكم ما يدل بنوع دلالة على أن مربوباً يكون شريكاً لربه .
ولما كان من أعظم ما يتذكر سار النعم وضار النقم للإقبال على الله والإعراض عما سواه وعدم الأغترار باسباب الأمن والراحة ، قال : { وكم } أي قلّ تذكركم وخوفكم من سطواتنا والحال أنه كم { من قرية } وإن جلت؛ ولما كان المراد المبالغة في الإهلاك ، أسنده إلى القرية والمراد أهلها فقال : { أهلكناها } أي بما لنا من العظمة لظلمها باتباع من دون الله ، فلا تغتروا بأوليائكم من دونه وأنتم عالمون بأنهم لم ينفعوا من ضل من الأمم السالفة وقت إنزالنا بهم السطوة وإحلالنا بهم النقمة وتحقق المهلكون إذ ذاك - مع أنهم كانوا أشد بطشاً واكثر عدداً وأمتن كيداً - عدم إغنائهم فلم يوجهوا آمالهم نحوهم .
ولما كان المعنى : أردنا إهلاكها وحكمنا به ، سبب عنه قوله : { فجاءها بأسنا } أي عذابنا بما لنا من القوة والعظمة ، أو الإهلاك على حقيقته وهذا تفصيل له وتفسير؛ ولما كان لا فرق في إتيان عذابه سبحانه بين كونه ليلاً أو نهاراً ، وكان أفحش البأس وأشده ما كان في وقت الراحة والدعة والغفلة قال : { بياتاً } أي وقت الاستكنان في البيوت ليلاً كما أهلك قوم لوط عليه السلام وقت السحر .
ولما كان المراد بالقرية اهلها ، بينه بقوله لأنه إذا حذف المضاف جاز فيه اعتباران بحسب ما يحسن من المعنى : أن لا يلتفت إليه - كما في اول الآية ، وإن يلتفت إليه - كما في هذا الأخير لبيان أن الأهل هم المقصودون بالذات لأنه موضع التهديد : { أو هم قائلون* } أي نائمون وقت القائلة أو مستريحون من غير نوم كما أهلك قوم شعيب عليه السلام ، يعني أنهم كانوا في كل من الوقتين غافلين بسبب أنهم كانوا آمنين ، لم يظنوا أن شيئاً من أعمالهم موجب للعذاب ولا كانوا مترقبين لشيء منه ، فالتقدير : بياتاً هم فيه بائتون أي نائمون ، أو قائلة هم فيها قائلون أي نائمون ، فالآية من الاحتباك : دل إثبات « بياتاً » أولاً على حذف « قائلة » ثانياً ، وإثبات « هم قائلون » ثانياً على حذف « هم نائمون » أولاً ، والذي أرشدنا إلى هذا المعنى الحسن سوق « هم » من غير واو ، وهذا قريب من قوله تعالى فيما يأتي

{ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون } [ الأعراف : 97 ] فالأقرب أن يكون المحذوف أولاً نائمون ، وثانياً نهاراً ، فيكون التقدير : بياتاً هم فيه نائمون ، أو نهاراً هم فيه قائلون ، وبين عظمة ما جاءهم وهوله بأنهم في كل من الوقتين لم يقع في فكر أحد منهم التصويب إلى مدافعته بما سبب عن ذلك من قوله : { فما كان دعواهم } أي قولهم الذي استدعوه { إذ جاءهم بأسنا } أي بما لنا من العظمة { إلا أن قالوا } أي إلا قولهم { إنا كنا } أي بما لنا من الجبلة { ظالمين* } أي في أنا لم نتبع من أنزل إلينا من ربنا ، فلم يفدهم ذلك شيئاً غير شدة التحسر؛ ثم سبب عما مضى من أمر الرسول والأمم قوله دفعاً لوهم من يظن أن الأمر انقضى بما عذبوا به في الدنيا : { فلنسئلن } أي بما لنا من العظمة على جهة التوبيخ والتقريع للعصاة والتشريف والتعظيم للمطيعين ، وأظهر موضع الإضمار تعميماً فقال : { الذين } .
ولما كانت الملامة على تكذيب الرسول لا بقيد كونه معيناً بنى للمفعول قوله : { أرسل إليهم } أي وهم الأمم ، هل امتثلوا أوامرنا وأحجموا عند زواجرنا كما أمرتهم الرسل أم لا { ولنسئلن } أي بعظمتنا { المرسلين* } أي هل كان في صدورهم حرج مما أرسلناهم به وهل بلغوه أم لا يوم تكونون شهداء على الناس بما علمتم من شهادتي في هذا القرآن ويكون الرسول عليكم شهيداً فإنا لا بد أن نحييكم بعد الموت ثم نسألكم في يوم تظهر فيه السرائر وتنكشف - وإن اشتد خفاؤها - الضمائر ، ولنرين الأفعال والأقوال ، ولا نترك شيئاً من الأحوال .
ولما كان السؤال يفهم خفاء المسؤول عنه على السائل ، سبب عن ذلك ما يزيل هذا الوهم بقوله مؤذناً بأنه أعلم من المسؤولين عما سألهم عن : { فلنقصن } أي بما لنا من صفات العظمة المستلزمة لكل كمال { عليهم } أي المسؤولين من الرسل وأممهم ، جميع أحوالهم وما يستحقون من جزائها { بعلم } أي مقطوع به لا مظنون ، فقد كنا معهم في جميع تقلباتهم { وما كنا } أي في وقت من الأوقات كما هو مقتضى ما لنا من العظمة { غائبين* } أي مطلقاً ولا عن أحد من الخلق بل علمنا شامل لجميع الكليات والجزئيات لأن ذلك مقتضى العظمة ما لنا من صفات الكمال ، ومن لم يكن محيط العلم بأن يميز المطيع من العاصي لا يصح أن يكون إلهاً .

وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)

ولما تقدمت الإشارة بقوله تعالى { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } [ الأنعام : 152 ] الآية إلى المساواة الحقيقية في الميزان معجوز عنها وأنه أبعد المقادير عن التساوي ، والنص في قوله تعالى { ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } [ الأنعام : 160 ] على قدرة القدير على ذلك ، وختم الآية السالفة بإحاطة العلم على الوجه الأبلغ المقتضي لذلك على أعلى الوجوه ، أكد الأمر أيضاً وقصره على علمه هنا فقال : { والوزن } بميزان حقيقي لصحف الأعمال أو للاعمال أنفسها بعد تصويرها بما تستحقه من الصور أو بغير ذلك بعد أن يقذف الله في القلوب العلم به ، ولعله حال من نون العظمة في الاية التي قبلها ، أي إنا لا نكتفي بما نقص بل نزنه فيصير بحيث يظهر لكل أحد أنه على غاية ما يكون من التساوي؛ قال أبو حيان وعلي بن الحسين النحوي الأصفهاني في إعرابه : « الوزن » مبتدأ { يومئذ } ظرف منصوب به { الحق } خبر المبتدأ ، زاد الأصفهاني فقال : واستضعف إعمال المصدر وفيه لام التعريف وقد ذكرنا أنه جاء في التنزيل { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } [ النساء : 148 ] - انتهى . أي والوزن في ذلك اليوم مقصور على الحق ، يطابقه الواقع مطابقة حقيقية لا فضل فيها أصلاً ولا يتجاوز الوزن في ذلك اليوم الحق إلى شيء من الباطل بزيادة ذرة ولا نقصها ولا ما دون ذلك ، فتحرر أن مقصود السورة الحث على اتباع الكتاب ، وهو يتضمن الحث على اتباع الرسول والدلالة على التوحيد والقدرة على البعث ببيان الأفعال الهائلة في ابتداء الخلق وإهلاك الماضين إشارة إلى أن من لم يتبعه ويوحد - من إنزله على هذا الأسلوب الذي لا يستطاع ، والمنهاج الذي وقفت دونه العقول والطباع ، لما قام من الأدلة على توحيده بعجز من سواه عن أقواله وأفعاله - أوشك أن يعاجله قبل يوم البعث بعقاب مثل عقاب الأمم السالفة والقرون الخالية مع ما ادخر له في ذلك اليوم من سوء المنقلب وإظهار اثر الغضب .
ولما أخبر أن العبرة بالميزان على وجه يظهر أنه لا حيف فيه بوجه ، تسبب عنه قوله : { فمن ثقلت } أي دست ورسبت على ما يعهد في الدنيا { موازينه } أي موزونات أعماله ، أي أعماله الموزونة ، ولعله عبر بها عنها إشارة إلى ان كل عمل يوزن على حدة ليسعى في إصلاحه { فأولئك } أي العالو الهمم { هم } أي خاصة { المفلحون* } أي الظاهرون بجميع مآربهم { ومن خفت } أي طاشت { موازينه } أي التي توزن فيها الأعمال الصالحة { فأولئك } المبعدون { الذين خسروا أنفسهم } أي التي هي رأس مالهم فكيف بما دونها { بما كانوا بآياتنا } أي على ما لها من العظمة { يظلمون* } أي باستمرار ما يجددونه من وضعها في غير المحل الذي يليق بها فعل من هو في ظلام؛ قال الحسن ، وحق الميزان توضع فيه الحسنات أن يثقل ، وحق لميزان توضع فيه السيئات أن يخف .

ولما أمر الخلق بمتابعة الرسل وحذرهم من مخالفتهم ، فأبلغ في تحذيرهم بعذاب الدنيا ثم بعذاب الآخرة ، التفت إلى تذكيرهم ترغيباً في ذلك بإسباغ نعمه وتحذيراً من سلبها ، لأن المواجهة أردع للمخاطب ، فقال في موضع الحال من { خسروا انفسهم } : { ولقد مكناهم } أي خسروها والحال أنا مكناكم من إنجائها بخلق القوى والقدر وإدرار النعم ، وجعلنا مكاناً يحصل التمكن فيه { في الأرض } أي كلها ، ما منها من بقعة إلا وهي صالحة لا نتفاعهم بها ولو بالاعتبار { وجعلنا لكم } أي بما لنا من العظمة { فيها معايش } أي جميع معيشة ، وهي أشياء يحصل بها العيش ، وهو تصرف أيام الحياة بما ينفع ، والياء أصلية فلذا لا تهمز ، وكذا ما ولي ألف جمعه حرف علة أصلي وليس قبل ألفه واو كأوائل ولا ياء كخيائر جمع أول وخير فإنه لا يهمز إلا شاذًا كمنائر ومصائب جمع منارة ومصيبة .
ولما كان حاصل ما مضى أنه سبحانه أوجدهم وقوّاهم وخلق لهم ما يديم قواهم ، فأكلوا خيره وعبدوا غيره ، أنتج قوله على وجه التاكيد : { قليلاً ما تشكرون* } أي لمن أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة بما تنجون به أنفسكم؛ وقال أبو حيان : إنه راجع للذين خوطبوا ب { اتبعوا ما أنزل إليكم } [ الأعراف : 3 ] وما بينهما أورد مورد الاعتبار والاتعاظ بذكر ما آل إليه أمرهم في الدنيا وما يؤول إليه في الآخرة - انتهى .
ولما ذكر سبحانه ما منحهم به من التمكين ، ذكّرهم ما كانو عليه قبل هذه المكنة من العدم تذكيراً بالنعم في سياق دال على البعث الذي فرغ من تقريره ، وعلى ما خص به أباهم آدم عليه السلام من التمكين في الجنة بالخلق والتصوير وإفاضة روح الحياة وروح العلم وأمر أهل سماواته بالسجود له والغضب على من عاداه وطرده عن محل كرامته ومعدن سعادته وإسكانه هو بذلك المحل الأعلى والموطن الأسنى مأذوناً له في كل ما فيه إلا شجرة واحدة ، فلما خالف الأمر أزاله عنه وأخرجه منه؛ وفي ذلك تحذير لأهل المكنة من إزالة المنة في استدرار النعمة وإحلال النقمة فقال : { ولقد خلقناكم } أي بما لنا من صفات العظمة { ثم صورناكم } أي قدرنا خلقكم ثم تصويركم بأن جعلنا فيكم قابلية قريبة من ذلك بتخصيص كل جزء من المادة بمقداره المعين بتخمير طينة آدم عليه السلام على حالة تقبل ذلك كما يهيأ التراب بتخميره بإنزال المطر لأن يكون منه شجرة ، وقد تكون تلك الشجرة مهيأة لقبول صورة الثمرة وقد لا تكون كما قال تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظماً فكسونا العظم لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر }

[ المؤمنون : 12-14 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : « إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح » وعنه أيضاً رضي الله عنه عند مسلم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ، ثم قال : يا رب! أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك » الحديث . فظاهر هذا الحديث مخالف للفظ الذي قبله وللآية ، فيحمل على أن معنى صورها : هيأها في مدة الأربعين الثانية لقبول الصورة تهيئة قريبة من الفعل ، وسهل أولها بالتخمير على هيئة مخصوصة بخلاف ما قبل ذلك ، فإنها كانت نطفة فكانت بعيدة عن قبول الصورة ، ولذلك اختلفوا في احترامها وهل يباح إفسادها والتسبب في إخراجها ، ومعنى « خلق » : قدر أي جعل لكل شيء من ذلك حداً لا يتجاوزه في الجملة ، والدليل على هذا المجاز شكه في كونها ذكراً أو أنثى ، ولو كان ذلك على ظاهره لما حصل شك في كونها ذكراً أو أنثى إذ آلة الذكر والأنثى من جملة الصورة ، وبهذا تلتئم هذه الاية مع قوله تعالى { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } [ ص : 71 ] فهذا خلق بالفعل ، والذي في هذه السورة بإيداعه القوة المقربة منه ، والمراد من الآية التذكير بالنعم استعطافاً إلى المؤالفة وتفظيعاً بحال المخالفة ، أي خسروا أنفسهم والحال أنا أنعمنا عليهم بنعمة التمكين بعد أن أنشأناهم على الصورة المذكورة بعد أن كانوا عدماً وأسجدنا ملائكتنا لأبيهم وطردنا من تكبر عليه طرداً لا طرد مثله ، وأبعدناه عن محل قدسنا بعداً لا قرب معه ، وأسكنا أباهم الجنة دار رحمتنا وقربنا ، فقال تعال مترجماً عن ذلك : { ثم قلنا } أي على ما لنا من الاختصاص بالعظمة { للملائكة } أي الموجودين في ذلك الوقت من أهل السماوات والأرض كلهم ، بما دلت عليه « ال » سواء قلنا : إنها للاستغراق أو الجنس { اسجدوا لآدم } أي بعد كونه رجلاً قائماً سوياً ذا روح كما هو معروف من التسمية؛ ثم سبب عن هذا الأمر قوله : { فسجدوا } أي كلهم بما دل عليه الاستثناء في قوله : { إلا إبليس } ولما كان معنى ذلك لإخراجه ممن سجد أنه لم يسجد ، صرح به فقال : { لم يكن من الساجدين* } أي لآدم .

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)

ولما كان مخالف الملك في محل العقاب ، تشوف السامع إلى خبره فأجيب بقوله : { قال } أي لإبليس إنكاراً عليه توبيخاً له استخراجاً لكفره الذي كان يخفيه بما يبدي من جوابه ليعلم الخلق سبب طرده { ما منعك } ولما كانت هذه العبارة قد صرحت بعدم سجوده ، فكان المعنى لا يلبس بإدخال « لا » في قوله : { ألا تسجد } أتى بها لتفيد التأكيد بالدلالة على اللوم على الامتناع من الفعل والإقدام على الترك ، فيكون كأنه قيل : ما منعك من السجود وحملك على تركه { إذ } أي حين { أمرتك } أي حين حضر الوقت الذي يكون فيه أداء المأمور به { قال } أي إبليس ناسباً ربه سبحانه إلى الجور أو عدم العلم بالحق { أنا خير منه } أي فلا يليق لي السجود لمن هو دوني ولا أمري بذلك لأنه مناف للحكمة؛ ثم بين وجه الخيرية التي تصورها بسوء فهمه أو بما قاده إليه سوء طبعه بقوله : { خلقتني من نار } أي فهي أغلب أجزائي وهي مشرفة مضيئة عالية غالبة { وخلقته من طين* } أي هو أغلب أجزائه وهو كدر مظلم سافل مغلوب ، وقد غلط غلطاً فاحشاً فإن الإيجاد خير من الإعدام بلا نزاع ، والنار سبب الإعدام والمحق لما خالطته ، والطين سبب النماء والتربية لما خالطه ، هذا لو كان الأمر في الفضل باعتبار العناصر والمبادىء وليس كذلك ، بل هو باعتبار الغايات .
ولما كان هذا أمراً ظاهراً ، وكان مجرد التكبر على الله كفراً على أيّ وجه كان ، أعرض عن جوابه بغير الطرد الذي معناه نزوله المنزلة الذي موضع ما طلب من علوها فاستأنف قوله { قال } مسبباً عن إبائه قوله : { فاهبط منها } مضمراً للدار التي كان فيها وهي الجنة . فإنها لا تقبل عاصياً ، وعبر بالهبوط الذي يلزم منه سقوط المنزلة دون الخروج ، لأن مقصود هذه السورة الإنذار وهو أدل عليه ، وسبب عن أمره بالهبوط الذي معناه النزول والحدور والانحطاط والنقصان والوقوع في شيء منه قوله : { فما يكون } أي يصح ويتوجه بوجه من الوجوه { لك أن تتكبر } أي تتعمد الكبر وهو الرفعة في الشرف والعظمة والتجبر ، ولا مفهوم لقوله { لك } ولا لقوله { فيها } لوجود الصرائح بالمنع من الكبر مطلقاً { إنه لا يحب المستكبرين } [ النحل : 23 ] ، { كذلك يطبع الله على قلب كل متكبر } [ غافر : 35 ] { قال الذين استكبروا إنا كل فيها } [ غافر : 48 ] ، وإنما قيد بذلك تهويلاً للأمر ، فكأنه قيل : لا ينبغي التكبر إلا لنا ، وكلما قرب الشخص من محل القدس الذب هو مكان المطيعين المتواضعين جل تحريم الكبر عليه « لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل كبر » رواه مسلم وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وسبب عن كونها لا تقبل الكبر قوله : { فاخرج } أي من الجنة دار الرضوان ، فانتقى أن يكون الهبوط من موضع عال من الجنة إلى موضع منها أحط منه ، ثم علل أمره بالهبوط والخروج بقوله مشيراً إلى كل من أظهر الاستكبار ألبس الصغار : { إنك من الصاغرين* } أي الذين هم أهل للطرد والبعد والحقارة والهوان .

ولما علم أن الحسد قد أبعده ونزل به عن ساحة الرضى وأقعده ، تمادى فيه فسأل ما يتسبب به إلى إنزال المحسودين عن درجاتهم العاليه إلى دركته السافلة ، ولم يسأل بشقاوته فيما يعليه من دركته السافلة إلى درجاتهم العالية ، وذلك بأن { قال } أي إبليس ، وهو استئناف؛ ولما كان السياق - ولاسيما الحكم بالصغار العاري عن تقييد - يأبى لأن يكون سبباً لسؤاله الانتظار ، ذكره بصيغة الإحسان فقال { أنظرني } أي بالإمهال ، أي اجعلني موجوداً بحيث أنظر وأتصرف في زمن ممتد { إلى يوم يبعثون* } أي من القبور ، وهو يوم القيامة ، وكان اللعين طلب بهذا أنه لا يموت ، فإن ذلك الوقت ليس وقتاً للموت ، إنما هو وقت إفاضة الحياة الأبدية في شقاوة أو سعادة ، فأعلم سبحانه أنه حكم له بالانتظار ، لكن لا على ما أراده ولا على أنه إجابة له ، ولكن هكذا سبق في الأزل في حكمه في قديم علمه ، وإليه يرشد التعبير بقوله : { قال إنك من المنظرين* } أي في الجملة ، ومنعه من الحماية عن الموت بقوله كما ذكره في سورتين الحجر وص { إلى يوم الوقت المعلوم } [ الحجر : 38 ، ص : 81 ] ، وهووقت النفخة الأولى التي يموت فيها الأحياء فيموت هو معهم ، وكان ترك هذه الجملة في هذه السورة لأن هذه السورة للإنذار ، وإبهام الأمر اشد في ذلك ، وأجابة إلى الإنظار وهو يريد به الفساد ، لأنه لا يعدو أمره فيه وتقديره به ، ولأنه سبحانه لا يسأل عما يفعل ، ولتظهر حكمته تعالى في الثواب والعقاب .
ولما كان قد حكم عليه بالشقاء ، قابل نعمة الإمهال وإطالة العمر بالتمادي في الكفر وأخبره عن نفسه بذلك بأن { قال } مسبباً عن إيقاعه في المعصية بسبب نوع الآدميين { فبما أغويتني } أي فبسبب إغوائك لي ، وهو إيجاد الغي واعتقاد الباطل في قلبي من أجلهم والله { لأقعدن لهم } أي أفعل في قطعهم عن الخير فعل المتمكن المقبل بكليته المتأني الذي لا شغل له غير ما أقبل عليه في مدة إمهالك لي بقطعهم عنك بمنعهم من فعل ما أمرتهم به ، وحملهم على فعل ما نهيتهم عنه ، كما يقعد قاطع الطريق على السابلة للخطف { صراطك } أي في جميع صراطك ، بما دل عليه نزع الخافض { المستقيم* } وهو الإسلام بجميع شعبه ، ومن أسند الإغواء إلى غير الله بسبب اعتقاده أن ذلك مما ينزه الله عنه ، فقد وقع في شر مما فر منه ، وهو أنه جعل في الوجود فاعلين يخالف اختيار أحدهما اختيار الآخر .

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)

ولما كان قد أقام نفسه في ذلك بغاية الجد ، فهو يفعل فيه بالوسوسة بنفسه ومن أطاعه من شياطين الجن والإنس ما يفوت الحد ويعجز القوى ، أشار إليه بحرف التراخي فقال مؤكداً : { ثم لآتينهم } أي إتياناً لا بد لي منه كائناً ابتداؤه { من بين أيديهم } أي مواجهة ، فأحملهم على أن يفعلوا ما يعلمون أنه خطأ { و } كائناً { من خلفهم } أي مغافلة ، فيعملون ما هو فاسد في غاية الفساد ولا شعور لهم بشيء من فساده حين تعاطيه فأدلهم بذلك على تعاطي مثله وهم لا يشعرون { وعن } أي ومجاوزاً للجهة التي عن { أيمانهم } إليهم { وعن } أي ومجاوزاً لما عن { شمائلهم } أي مخايلة ، فيفعلونه وهو مشتبه عليهم ، وهذه هي الجهات التي يمكن الإتيان منها ، ولعل فائدة « عن » المفهمة للمجاوزة وصل خطى القدام والخلف ليكون إتيانه مستوعباً لجميع الجهة المحيطة ، وأفهمت الجهات الأربع قدحه وتلبيسه فيما يعلمونه حق علمه وما يعلمون شيئاً منه وما هو مشتبه عليهم اشتباهاً قليلاً أو كثيراً ، وهم من ترك ذكره الأعلى أنه لا قدرة له على الإتيان منه لئلا يلتبس أمره بالملائكة ، وقد ذكر ذلك في بعض الآثار كما ذكره في ترجمة ورقة بن نوفل رضي الله عنه .
ولما عزم اللعين على هذا عزماً صادقاً ورأى أسبابه ميسرة من الإنظار ونحوه ، ظن أنه بما راى لهم من الشهوات والحظوظ يظفر بأكثر حاجته ، فقال عاطفاً على تقديره : فلأغوينهم وليتبعنني : { ولا تجد أكثرهم } كما هي عادة الأكثر في الخبث { شاكرين* } فأريد به الشقاء فأغرق في الحسد ، ولو أريد بالشقي الخير لاستبدل بالحسد الغبطة فطلب أن يرتقي هو إلى درجاتهم العالية بالبكاء والندم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النصيحة خضوعاً لمقام الربويية وذلاً لعظيم شأنه .
ولما كان كأنه قيل : ماذا قال له؟ قيل : { قال } في جواب ما ذكر لنفسه في هذا السياق من القوة والاقتدار وأبان عنه من الكبر والافتخار ما دل على أنه من أهل الصغار ، لا يقدر على شيء إلا بإقرار العزيز الجبار ، مصرحاً بما أريد من الهبوط الذي ربما حمل على النزول من موضع من الجنة عال إلى مكان منها أحط منه { اخرج منها } أي الجنة { مذءوماً } أي محقوراً مخزياً بما تفعل ، قال القطاع : ذأمت الرجل : خزيته ، وقال ابن فارس : ذأمته ، أي حقرته { مدحوراً } أي مبعداً مطروداً عن كل ما لا أريده .
ولما علم بعض حاله ، تشوفت النفس إلى حال من تبعه ، فقال مقسماً مؤكداً بما يحق له من القدرة التامة والعظمة الكاملة : { لمن تبعك منهم } أي بني آدم ، وأجاب القسم بما أغنى عن جواب الشرط فقال : { لأملأن جهنم منكم } أي منك ومن قبيلك ومنهم { أجمعين* } أي لا يفوتني منكم أحد ، فلم يزل من فعل ذلك منكم على أذى نفسه ولا أبالي أنا بشيء .

ولما أوجب له ما ذكر من الشقاوة تماديه في الحسد وكثرة كلامه في محسوده ، التفت إلى محسوده الذي لم يتكلم فيه كلمة واحدة ، بل اشتغل بنفسه في البكاء على ذنبه ، واكتفى بفعل ربه بما ينجيه من حبائل مكره التي نصبها بما ذكر ، ليكون ذلك سبب سعادته ، فقال عطفاً على { اخرج منها } : { ويا آدم اسكن } ولما كان المراد بهذا الأمر هو نفسه لا التجوز به عن بعض من يلابسه ، أكد ضميره لتصحيح العطف ورفع التجوز فقيل : { أنت وزوجك الجنة } .
ولما كان السياق هنا للتعرف بأنه مكن لأبينا في الجنة أعظم من تمكينه لنا في الأرض بأن حباه فيها رغد العيش مقارناً لوجوده؛ ثم حسن في قوله : { فكلا } العطف بالفاء الدال على أن المأكول كان مع الإسكان ، لم يتاخر عنه ، ولا منافاة بينه وبين التعبير بالواو في البقرة ، لأن مفهوم الفاء نوع داخل تحت مفهوم الواو ، ولا منافاة بين النوع والجنس ، وقوله : { من حيث شئتما } بمعنى رغداً أي واسعاً ، فإنه يدل على إباحة الأكل من كل شيء فيها غير المنهي عنه ، وأما آية البقرة فتدل على إباحة الأكل منها في أيّ مكان كان ، وهذا السياق إلى آخره مشير إلى أن من خالف أمره تعالى ثل عرشه وهدم عزه وإن كان في غاية المكنة ونهاية القوة كما أخرج من أعظم له المكنة بإسجاد ملائكته وإسكان جنته وإباحة كل ما فيها غير شجرة واحده؛ أكد تحريمها بالنهي عن قربانها دون الاكتفاء بالنهي عن غشيانها فقال : { ولا تقربا } أي فضلاً عن أن تتناولا { هذه الشجرة } مشيراً إلى شجرة بعينها أو نوعها؛ ثم سبب عن القربان العصيان ، فإن من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه فقال : { فتكونا } أي بسبب قربها { من الظالمين* } أي بالأكل منها الذي هو مقصود النهي فتكونا بذلك فاعلين فعل من يمشي في الظلام؛ ثم سبب عن ذلك بيان حال الحاسد مع المحسودين فيما سأل الإنظار بسببه ، وأنه وقع على كثير من مراده واستغوى منه أمماً تجاوزوا الحد وقصر عنهم مدى العد؛ ثم بين أنه أقل من أن يكون له فعل ، وأن الكل بيده سبحانه ، هو الذي جعله آلة لمراده منه ومنهم ، وأن من يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ، فقال : { فوسوس } أي القى في خفاء وتزيين وتكرير واشتهاء { لهما الشيطان } أي بما مكنه الله منه من أنه يجري من الإنسان مجرى الدم ويلقى له في خفاء ما يميل به قلبه إلى ما يريد؛ ثم بين علة الوسوسة بقوله : { ليبدي } أي يظهر { لهما ما روي } أي ستر وغطي بأن جعل كأنه وراءهما لا يلتفتان إليه { عنهما } والبناء للمفعول إشارة إلى أن الستر بشيء لا كلفة عليهما فيه كما يأتي في قوله

{ ينزع عنهما لباسهما } [ الأعراف : 27 ] و { من سوءاتهما } أي المواضع التي يسوءهما انكشافها ، وفي ذلك أن إظهار السوءة موجب للعبد من الجنة وأن بينهما منفية الجمع وكمال التباين .
ولما أخبر بالوسوسة وطوى مضمونها مفهماً أنه أمر كبير وخداع طويل ، عطف عليه قوله : { وقال } اي في وسوسته أيضاً ، أي زين لهما ما حدث بسببه في خواطرهما هذا القول : { ما نهاكما } وذكرهما بوصف الإحسان تذكيراً بإكرامه لهما تجزئة لهما على ما يريد منهما فقال : { ربكما } أي المحسن إليكما بما تعرفانه من أنواع إحسانه { عن } أي ما جعل نهايتكما في الإباحة للجنة متجاوزة عن { هذه الشجرة } جمع بين الإشارة والاسم زيادة في الاعتناء بالتنصيص { إلا أن } أي كراهية أن { تكونا ملكين } أي في عدم الشهوة وفي القدرة على الطيران والتشكل وغير ذلك من خواصهم { أو تكونا } أي بما يصير لكما من الجبلة { من الخالدين* } أي الذين لا يموتون ولا يخرجون من الجنة أصلاً .

وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)

ولما أوصل إليهما هذا المعنى ، أخبر أنه أكده تأكيداً عظيماً كما يؤكد الحالف ما يحلف عليه فقال : { وقاسمهما } أي أقسم لهما ، لكن ذكر المفاعلة ليدل على أنه حصلت بينهما في ذلك مراوغات ومحاولات بذل فيها الجهد ، وأكد لمعرفته أنهما طبعا على النفرة من المعصية - ما أقسم عليه أنواعاً من التأكيد في قوله : { إني لكما } فأفاد تقديم الجار المفهم للاختصاص أنه يقول : إني خصصتكما بجميع نصيحتي { لمن الناصحين* } وفيه تنبيه على الاحتراز من الحالف ، وأن الأغلب أن كل حلاف كذاب ، فإنه لا يحلف إلا عند ظنه أن سامعه لا يصدقه ، ولا يظن ذلك إلا هو معتاد للكذب .
ولما أخبر ببعض وسوسته لهما ، سبب عنها ترجمتها بأنها إهباط من أوج شرف إلى حضيض أذى وسرف فقال : { فدلاَّهما } أي أنزلهما عما كانا فيه من علو الطاعة مثل ما فعل بنفسه بالمعصية التي أوجبت له الهبوط من دار الكرامة { بغرور } أي بخداع وحيلة حتى نسى آدم عهد ربه ، وقوله { فلما ذاقا } مشير إلى الإسراع في الجزاء بالفاء والذوق الذي هو مبدأ الأكل { الشجرة } أي وجدا طعمها { بدت } أي ظهرت { لهما سوءاتهما } أي عوراتهما اللاتي يسوءهما ظهورها ، وتهافت عنهما لباسهما فأبصر كل واحد ما كان مستوراً عنه من عورة آلاخر ، وذلك قصد الحسود فاستحييا عند ذلك { وطفقا } أي شرعا وأقبلا { يخصفان عليهما } أي يصلان بالخياطة { من ورق الجنة } ورقة الى أخرى { وناداهما ربهما } أي المحسن إليهما بأمرهما ونهيهما ، ولم يفعلا شيئاً من ذلك إلا بمرأى منه ، فقال منكراً عليهما ما فعلا ومعاتباً : يا عبديَّ { ألم أنهكما } أي أجعل لكما نهاية فيما أذن لكما فيه متجاوزة { عن تلكما الشجرة } أي التي كان حقها البعد منها ، الموجبة للقربة من هذا الموضع الشريف إحساناً إليكما { وأقل لكما إن الشيطان } أي الذي تكبر عن السجود حسداً لك يا آدم ونفاسه عليك ، فاحترق بغضبي فطرد وأبعد عن رحمتي { لكما } أي لك ولزوجك ولكل من تفرغ منكما ونسب إليكما { عدو مبين* } ظاهر العداوة يأتيكم من كل موضع يمكنه الإتيان منه مجاهرة ومساترة ومماكرة فهو مع ظهور عداوته دقيق المكر بما أقدرته عليه من إقامة الأسباب ، فإني أعطيته قوة على الكيد ، وأعطيتكم قوة على الكيد وأعطيتكم قوة على الخلاص وقلت لكم : تغالبوا فإن غلبتموه فأنتم من حزبي ، وإن غلبكم فأنتم من حزبه مع ما له إليكم من العداوة ، فالآيه منبهة على أن من غوى فإنما هو تابع لأعدى أعدائه تارك لأولى أوليائه .
ولما كان هذا ، تشوف السامع إلى جوابهما ، فأجيب بقوله : { قالا } أي آدم وحواء - عليهما السلام وأزكى التحية والإكرام - قول الخواص بإسراعهما في التوبة { ربنا } أي أيها المحسن إلينا والمنعم علينا { ظلمنا أنفسنا } أي ضررناها بأن أخرجناها من نور الطاعة إلى ظلام المعصية ، فإن لم ترجع بنا وتتب علينا لنستمر عاصيين { وإن لم تغفر لنا } أي تمحو ما عملناه عيناً واثراً { وترحمنا } فتعلي درجاتنا { لنكونن من الخاسرين* } فأعربت الآية عن أنهما فزعا إلى الانتصاب بالاعتراف ، وسيما ذنبهما - وإن كان إنما هو خلاف الأولى لأنه بطريق النسيان كما في طه - ظلماً كما هي عادة الأكابر في استعظام الصغير منهم ، ولم يجادلا كما فعل إبليس ، وفي ذلك إشارة إلى أن المبادرة إلى الإقرار بالذنب من فعال الأشراف لكونه من معالي الأخلاق ، وأنه لا مثيل له في اقتضاء العفو وإزالة الكدر وأن الجدال من فعال الأرذال ومن مساوي الأخلاق وموجبات الغضب المقتضى للطرد .

ولما تشوفت النفس إلى جواب العلي الكبير سبحانه ، أجيبت بقوله { قال اهبطوا } أي إلى دار المجاهدة والمقارعة والمناكدة حال كونكم { بعضكم لبعض عدو } أي أنتما ومن ولدتماه أعداء إبليس ومن ولد ، وبعض أولادكم أعداء لبعض ، ولا خلاص إلا باتباع ما منحتكم من هدى العقل وما أنزلت إليكم من تأييده بالنقل ، وفي ذلك تهديد صادع لمن له أدنى مسكة بالأشارة إلى قبح مغبة المخالفة ولو مع التوبة ، وحث على دوام المراقبة خوفاً من سوء المعاقبة { ولكم في الأرض } أي جنسها { مستقر } أي موضع استقرار كالسهول وما شابهها { ومتاع إلى حين* } أي انقضاء آجالكم ثم انقضاء اجل الدنيا .

قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)

ولما علم بهذا أن للكون في الأرض آخراً ، وكان من الفلاسفة التناسخية وغيرهم ممن يقر بالوحدانية من يقول : إن النفوس مجردة عن الجسمية وعلائقها وإنه إذا هلك الجسد اتصلت بالعلويات إما بكوكب أو غيره أو انحطت في سلك الملائكة وبطل تعلقها بالبدن من كل وجه فلا تتصل به لا بتدبير ولا غيره ولا بالبعث - عند من قال منهم بالبعث ، كان كأنه قيل : فماذا يكون بعد ذلك؟ فأجيب بقوله { قال } أي الله راداً عليهم ما يعتقدون من بطلان التعلق بالبدن معبراً بالخطاب بالضمير الذي يعبر عن هذا الهيكل المخصوص روحاً وجسداً { فيها } أي الأرض لا في غيرها { تحيون } أي أولاً وثانياً على ما أنتم عليه بظواهركم وبواطنكم أبداناً وأرواحاً { وفيها } أي كذلك ، لا في غيرها كما أنتم لذلك مشاهدون { تموتون } أي من الحياة الأولى بجملتكم ، فيكون للأرواح تعلق بالأبدان بوجه ما حتى يقعد الميت في القبر ويجيب سؤال الملكين عليهما السلام ، وتلتذ الأجساد بلذتها وتتألم بتألمها ، فأشير إلى الحشر مع تفصيل حال الكون في الأرض ، وختمت القصة بما ابتدئت به من الإعلام بالبعث بقوله : { ومنها } أي لا من غيرها بإخبار الصادق { تخرجون* } أي روحاً وبدناً بعد موتكم فيها وعودكم إلى ما كنتم عليه أولاً تراباً ، للجزاء وإظهار ثمرة الملك بإنصاف بعضكم من بعض والتحلي بصفة العدل فما كان بعضكم يفعل مع بعض من العسف والجور الذي لا يرضي أقل رؤسائكم أن يقر عليه عبيده ، وعلم بهذا أن الدلالة على الحشر فذلكة القصة ، وهذا أبين من ذكره فيما مضى في قوله { فلنسئلن الذين أرسل إليهم } [ الأعراف : 6 ] .
ولما بين فيما مضى أن موجب الإخراج من الجنة هو ما أوجب كشف السوءة من المخالفة وفرغ مما استتبعه حتى أخبره بأنه حكم بإسكاننا هذه الدار بعد تلك الدار ، شرع يحذرنا من عدونا كما حذر أبانا عليه السلام ، وبدأ بقوله بياناً لأنه أنعم علينا فيها بكل ما يحتاج إليه في الدين والدنيا وإيذاناً بما في كشف العورة من الفضيحة والإبعاد عن كل خير وإشعاراً بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى { يا بني آدم } .
ولما كان الكلام في كشف العورة ، وأن آدم عليه السلام أعوزه الساتر حتى فزع إلى الورق ، كان موضع أن يتوقع ما يكون في ذلك فقال مفتتحاً بحرف التوقع : { قد أنزلنا } أي بعظمتنا { عليكم } من آثار بركات السماء ، إما ابتداء بخلقه وإما بإنزال أسبابه لمطر ونحوه { لباساً } أي لم يقدر عليه أبوكم في الجنة { يواري سوءاتكم } إرشاداً إلى دواء ذلك الداء وإعلاماً بأن نفس الكشف نقص لا يصلح لحضرات الكمال ، وقال : { وريشاً } إشارة إلى أنه سبحانه زادنا على الساتر ما به الزينة والجمال استعارة من ريش الطائر ، محبباً فيما يبعد من الذنب ويقرب إلى حضرة الرب .

ولما ذكر اللباس الحسي ، وقسمه على ساتر ومزين ، أتبعه المعنوي فقال مشيراً - بقطعه في قراءة الجمهور عما قبله - إلى كمال تعظيمه حثاً عليه وندباً إليه : { ولباس التقوى } فعلم أن ساتر العورات حسي ومعنوي ، فالحسي لباس الثياب ، والمعنوي التحلي بما يبعث على المناب؛ ثم زاد في تعظيم المنوي بقوله : { ذلك خير } أي ولباس التقوى هو خير من لباس الثياب ، ولكنه فصل باسم الإشارة المقترن بإداة البعد إيماء إلى علو رتبته وحسن عاقبته لكونه أهم اللباسين لأن نزعه يكون بكشف العورة الحسية والمعنوية ، فلو تجمل الإنسان بأحسن الملابس وهو غير متق كان كله سوءات ، ولوكان متقياً وليس عليه إلا خريقة تواري عورته كان في غاية الجمال والستر والكمال ، بل ولو كان مكشوف العورة في بعض الأحوال كما قال صلى الله عليه وسلم « ستر ما بين عوراتكم وأعين الجن أن يقول أحدكم إذا دخل الخلاء : بسم الله اللهم! إني أعوذ بك من الخبث والخبائث » رواه الترمذي وابن ماجه عن علي رضى الله عنه ، والذي يكاد يقطع به أن المعاصي سبب إحلال السوءة الذي منه ضعف البدن وقصر العمر حساً أو معنى بمحق البركة منه لما يفهمه ما تقدم في البقرة في بدء الخلق عن التوراة أن الله تعالى قال لآدم عليه السلام : كل من جميع أشجار الفردوس ، فأما شجرة علم الخير والشر فلا تأكل منها لأنك في اليوم الذي تأكل منها تموت موتاً تتهيأ للموت حساً ، ويقضى عليك بالاشتغال بأسباب المعيشة فيقصر عمرك معنى بذهاب بركته - والله أعلم .
ولما كان في شرع اللباس تمييز الإنسان عن بقية الحيوان وتهيئة أسبابه التي لم يجدها آدم عليه السلام في الجنة من الفضل والنعمة والدلالة على عظمة المنعم ورحمته وقدرته واختياره ما هو معلوم ، قال : { ذلك } أي إنزال اللباس { من آيات الله } أي الذي حاز صفات الكمال الدالة على فضله ورحمته لعباده ، ولعل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة { لعلهم يذكرون* } - لو على أدنى وجوه التذكر بما يشير إليه الإدغام - لئلا يقول المتعنت : إن الحث على التذكر خاص بالمخاطب ويدعي أنه المسلمون فقط ، أي أنزلنا ذلك ليكون حالهم حال من يتذكر فيعرف أنه يستقبح منه ما يستقبح من غيره .
ولما كان المقصود من ذكر القصص لا سيما قصص الأنبياء الاعتبار بها ، فكان بيان ما وقع بين آدم عليه السلام وبين الشيطان من شديد العدواة مقتضياً للتحذير من الشيطان ، وكان المقام خطراً والتخلص عسراً ، أشار إلى ذلك بالتأكيد وبيان ما سلط الشيطان به من المكايد الخفية والأسباب الدقيقة ليعلم الناجي أنه إنما نجا بمحض التوفيق ومجرد اللطف فيقبل على الشكر متبرئاً من الحول والقوة ، فقال منادياً لهم بما يفهم الاستعطاف والتراؤف والتحنن والترفق والاستضعاف : { يا بني آدم } أي الذي خلقته بيدي وأسكنته جنتي ثم أنزلته إلى دار محبتي إرادة الإعلاء لكم إلى الذروة من عبادتي والإسفال إلى الحضيض من معصيتي { لا يفتننكم } أي لا يخالطنكم بما يميلكم عن الاعتدال { الشيطان } أي البعيد المحترق بالذنوب ، يصدكم عما يكون سبباً لردكم إلى وطنكم بتزيين ما ينزع عنكم من لباس التقوى المفضي إلى هتك العورات الموجب لخزي الدنيا ، فيمنعكم بذلك من دخول الجنة ويدخلكم النار { كما أخرج أبويكم من الجنة } بما فتنهما به بعد أن كانا سكناها وتمكنا فيها وتوطناها ، وقد علمتم أن الدفع أسهل من الرفع فإياكم ثم إياكم! فالآية من الاحتباك : ذكر الفتنة أولاً دليلاً على حذفها ثانياً ، والإخراج ثانياً دليلاً على حذف ضده أو نظيره أولاً .

ولما كان قد بذل الجهد في إخراجهما ، فسر الإخراج - مشيراً إلى ذلك - بإطالة الوسواس وإدامة المكر والخديعة بالتعبير بالفعل المضارع فقال في موضع الحال من ضمير « الشيطان » : { ينزع عنهما } أي بالتسبيب بإدامة التزيين والأخذ من المأمن { لباسهما } أي الذي كان الله سبحانه قد سترهما به ما داما حافظين لأنفسهما من مواقعة ما نهيا عنه ، ودل على منافاة الكشف للجنة بالتعليل بقوله : { ليريهما سوءاتهما } فإن ذلك مبدأ ترك الحياة و « الحياء والإيمان في قرن » - كما أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنهما ، و « الحياء لا يأتي إلا بخير » - كما رواه الشيخان عن عمران بن حصين رضي الله عنهما .
ولما كان نهي الشيطان عن فتنتنا إنما هو في الحقيقة نهي لنا عن الافتتان به ، فهو في قوة ليشتد حذركم من فتنته فإنه دقيق الكيد بعيد الغور بديع المخاتله؛ علل ذلك بقوله : { إنه يراكم } أي الشيطان { هو وقبيله } أي جنوده { من حيث لا ترونهم } عن مالك بن دينار أن عدواً يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله .
ولما كان كأنه قيل : لم سلطوا علينا هذا التسليط العظيم الذي لا يكاد يسلم معه أحد ، قال مخففاً لأمرهم موهياً في الحقيقة لكيدهم : { إنا } أي فعلنا ذلك لأنا بما لنا من العظمة { جعلنا الشياطين } أي المحترقين بالغضب البعيدين من الرحمة { أولياء } أي قرباء وقرناء { للذين لا يؤمنون* } أي يجددون الإيمان ، لأن بينهم تناسباً في الطباع يوجب الاتباع ، وأما أولياؤنا الذين منعناهم بقوتنا منه أو فتناهم يسيراً بهم ، ثم خلصناهم بلطفنا منهم فليسوا لهم بأولياء ، بل هم لهم أعداء وآيتهم أنهم يؤمنون ، والمعنى أنا مكناهم من مخاتلتكم بسترهم عنكم وإظهاركم لهم ، فسلطناهم بذلك على من حكمنا بأنه لا يؤمن بتزيينهم لهم وتسويلهم واستخفافهم بأن ينصروهم في بعض المواطن ويوصلوهم إلى شيء من المطالب ، فعلنا ذلك ليتبين الرجل الكامل - الذي يستحق الدرجات العلى ويتردد إليه الملائكة بالسلام والجنى - من غير فخذوا حذركم فإن الأمر خطر والخلاص عسر ، وبعبارة أخرى : إنا سلكناكم طريقاً وجعلنا بجنبتيها أعداء يرونكم ولا ترونهم ، وأقدرناهم على بعضكم ، فمن سلك سواء السبيل نجا ومن شذ أسره العدو ، ومن دنا من الحافات بمرافقة الشبهات قارب العدو ومن قاربه استغواه ، فكلما دنا منه تمكن من أسره ، وكل من تمكن من أسره بعد الخلاص فاحذروا ، وعدم رؤيتنا لهم في الجملة لا يقتضي امتناع رؤيتهم على أنه قد صح تصورهم في الأجسام الكثيفة ورؤية بني آدم لهم في تلك الأجسام كالشيطان الذي رآه أبو هريره رضى الله عنه حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ الصدقة ، وكذا أبي بن كعب رضي الله عنه ، وحديث خالد بن الوليد رضي الله عنه في شيطان العزي معروف في السير ، وكذا حديث سواد بن قارب رضى الله عنه في إرشاد رئيه من الجن له ، وكذا خطر ابن مالك رضي الله عنه في مثل ذلك وغيرهما ، وفي شرحي لنظمي للسيرة كثير من ذلك ، وكذا حديث العفريت الذي تفلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعلة من نار ليقطع عليه صلاته فأخزاه الله وأمكن منه رسول الله ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم

« لولا دعوة أخي سليمان عليه السلام لأصبح مربوطاً بسارية المسجد يتلعب به ولدان أهل المدينة » قال أبو حيان : إلا أن رؤيتهم في الصور نادرة كما أن الملائكة عليهم السلام تبدو في صور كحديث جبريل عليه السلام .

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)

ولما جعل أمارتهم في ولاية الشيطان عدم الإيمان ، عطف على ذلك أمارة أخرى فقال : { وإذا فعلوا فاحشة } أي أمراً بالغاً في القبح كالشرك وكشف العورة في الطواف { قالوا } معللين لارتكابهم إياها { وجدنا عليها } أي فاحشة { آباءنا } ولما كانت هذه العلة ظاهراً عارها بيناً عوارها ، ضموا إليها افتراء ما يصلح للعلية ، فقالوا معبرين بالاسم الأعظم غير محتشمين من جلاله وعظمته وكماله : { والله أمرنا بها } .
ولما كانت العلة الأولى ملغاة ، وكان العلم ببطلانها بديهياً ، لأن من المعلوم أنهم لو وجدوهم على سفه في تحصيل المال ما تابعوهم؛ أعرض عنها إشارة إلى ذلك ، وأمر بالجواب عن الثانية التي هي افتراء على الملك الأعلى مع ادعائهم أنهم أبعد الناس عن مطلق الكذب وأشدهم تحرياً بقوله : { قل إن الله } أي الذي له الكمال كله { لا يأمر بالفحشاء } أي بشيء من هذا الجنس .
ولما كان الكذب قبيحاً في نفسه وهو عندهم أقبح القبيح مطلقاً ، فكيف به على كبير منهم فكيف إذا كان على أعظم العظماء! قال منكراً عليهم موبخاً لهم مهدداً : { أتقولون على الله } أي الذي له جميع العظمة { ما لا تعلمون* } لأنكم لم تسمعوا ذلك عن الله بلا واسطة ولا نقل إليكم بطريق صحيح عن نبي من الأنبياء عليهم السلام ، وفيه تهديد شديد على الجهل والقول على الله بالظن .
لما كان تعليلهم بأمر الله مقتضياً لأنه إذا أمر بشيء أتبع ، أمره أن يبلغهم أمره الذي جاء به دليل العقل مؤيداً بجازم النقل فقال : { قل } أي لهؤلاء الذين نابذوا الشرع والعرف { أمر ربي } المحسن إليّ بالتكليف بمحاسن الأعمال ، التي تدعو إليها الهمم العوال { بالقسط } وهو الأمر الوسط بين ما فحش في الإفراط صاعداً عن الحد ، وفي التفريط هابطاً منه؛ ولما كان التقدير : فأقسطوا اتباعاً لما أمر به ، أو كان القسط مصدراً ينحل إلى : أن أقسطوا ، عطف عليه { وأقيموا وجوهكم } مخلصين غير مرتكبين لشيء من الجور { عند كل مسجد } أي مكان ووقت وحال يصلح السجود فيه ، ولا يتقيدن أحد بمكان ولا زمان بأن يقول وقد أدركته الصلاة : أذهب فأصلي في مسجدي { وادعوه } عند ذلك كله دعاء عبادة { مخلصين له الدين* } أي لا تشركوا به شيئاً .
ولما كان المعنى : فإن من لم يفعل ذلك عذبه بعد إعادته له بعد الموت ، ترجمه مستدلاً عليه بقوله معللاً : { كما بدأكم } أي في النشأة الأولى فأنتم تبتدئون نعيدكم بعد الموت فأنتم { تعودون* } حال كونكم فريقين : { فريقاً هدى } أي خلق الهداية في قلوبهم فحق لهم ثواب الهداية { وفريقاً } أضل ، ثم فسر أضل - لأنه واجب التقدير بالنصب - بقوله : { حق } أي ثبت ووجب { عليهم الضلالة } أي لأنه أضلهم فيحشرون على ما كانو عليه في الدنيا من الأديان ، والأبدان ، وقد تبين أن ههنا احتباكين : أثبت في أولهما بدا دليلاً على حذف يعيد وذكر تعودون دليلاً على حذف تبتدئون ، وأثبت في الثاني هدى دليلاً على حذف أضل وذكر حقوق الضلالة دليلاً على حذف حقوق الهدى .

ولما كرر سبحانه ذكر البعث كما تدعو إليه الحكمة في تقرير ما ينكره المخاطب تأنيساً له به وكسراً لشوكته وإيهاناً لقوته وقمعاً لسورته إلى أن ختم بما هو أدل عليه مما قبل من قوله ومنها تخرجون { فلنسئلن الذين أرسل إليهم } [ الأعراف : 6 ] علل ما ختم به هذا الدليل من حقوق الضلالة أي وجوبها أي وجوب وبالها عليهم بقوله : { إنهم اتخذوا } أي كلفوا أنفسهم ضد ما دعتهم إليه الفطرة الأولى بأن أخذوا { الشياطين أولياء } أي أقرباء وأنصاراً { من دون الله } أي الملك الأعلى الذي لا مثل له { ويحسبون } أي والحال أنهم يظنون بقلة عقولهم { أنهم مهتدون* } فأشار بذلك إلى أنهم استحقوا النكال لأنهم قنعوا في الأصول - التي يجب فيها الابتهال ألى القطع - بالظنون .
ولما أمر سبحانه بالقسط وبإقامة الوجه عند كل مسجد ، أمرهم بما ينبغي عند تلك الإقامة من ستر العورة الذي تقدم الحث عليه وبيان فحش الهتك وسوء أثره معبراً عنه بلفظ الزينة ترغيباً فيه وإذناً في الزينة وبياناً لأنها ليس مما يتورع عنه لقوله صلى الله عليه وسلم « إن الله يحب إذا بسط على عبد رزقه أن يرى أثر نعمته عليه » رواه أحمد والترمذي وابن منيع عن أبي هريرة رضى الله عنه ، وأتبع ذلك أعظم ما ينبغي لابن آدم أن يعتبر فيه القسط من المأكل والمشرب فقال مكرراً النداء استعطافاً وإظهاراً لعظيم الإشفاق وتذكيراً بقصة أبيهم آدم عليه السلام التي أخرجته من الجنة مع كونه صفي الله ليشتد الحذر : { يا بني آدم } أي الذي زيناه فغره الشيطان ثم وقيناه شره بما أنعمنا عليه به من حسن التوبة وعظيم الرغبة { خذوا زينتكم } أي التي تقدم التعبير عنها بالريش لستر العورة والتجمل عند الاجتماع للعبادة { عند كل مسجد } وأكد ذلك كونُهم كانوا قد شرعوا أن غير الحمس يطوفون عراة .
ولما امر بكسوة الظاهر بالثياب لن صحة الصلاة متوقفة عليها ، أمر بكسوة الباطن بالطعام والشراب لتوقف القدرة عادة عليها فقال : { وكلوا واشربوا } وحسَّن ذلك أن بعضهم كان يتدين في الحج بالتضييق في ذلك .
ولما أمر بالملبس والمطعم ، نهى عن الاعتداء فيهما فقال : { ولا تسرفوا } بوضع شيء من ذلك فيما لا يكون أحق مواضعه ولو بالزيادة على المعاء ، ومن ذلك أن يتبع السنة في الشرب فيسير لأن العكر يرسب في الإناء فربما أذى من شربه ، ولذلك نهى عن النفس في الإناء لأنه ربما أنتن فعافته النفس ، وأما الطعام فليحسن إناءه والأصابع لنيل البركة وهو أنظف ، ثم علل ذلك بقوله : { إنه لا يحب المسرفين* } أي لا يكرمهم ، ولا شك أن من لا يحبه لا يحصل له شيء من الخير فيحيط به كل شر ، ومن جملة السرف الأكل في جميع البطن ، والاقتصاد الاقتصار على الثلث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم

« حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبة فإن كان لا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس » و « وما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن » و « الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معى واحد » أخرجه البخاري عن ابن عمر رضى الله عنهما ، قال الأطباء ، الأمعاء سبعة ، فالمعنى حينئذ أن الكافر يأكل شعباً فيملأ الأمعاء السبعة ، والمؤمن يأكل تقوتاً فيأكل في معى واحد ، وذلك سبع بطنه ، وإليه الإشارة بلقيمات ، فإن لم يكن ففي معاءين وشيء وهوالثلث - والله أعلم - وسبب الاية أنهم كانوا يطرحون ثيابهم إذا أرادوا الطواف ، يقولون : لا نطوف في ثياب إذ بتنا فيها ، ونتعرى منها لنتعرى من الذنوب إلا الحمس وهم قريش ومن ولده ، وكانوا لا يأكلون من الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً ، فقال المسلمون : يارسول الله! فنحن أحق أن نفعل ذلك - فأنزلت .

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)

ولما كان من المعلوم أن ما كانوا ألفوه واتخذوه ديناً يستعظمون تركه ، لأن الشيطان يوسوس لهم بأنه توسع الدنيا ، والتوسع فيها مما ينبغي الزهد فيه كما دعا إليه كثير من الآيات ، أكد سبحانه الإذن في ذلك بالإنكار على من حرمه ، فقال منكراً عليهم إعلاماً بأن الزهد الممدوح ما كان مع صحة الاعتقاد في الحلال والحرام ، وأما ما كان مع تبديل شيء من الدين بتحليل حرام أو عكسه فهو مذموم : { قل } منكراً موبخاً { من حرم زينة الله } أ ي الملك الذي لا أمر لأحد معه { التي أخرج لعباده } أي ليتمتعوا بها من الثياب والمعادن وغيرها .
ولما ذكر الملابس التي هي شرط في صحة العبادة على وجه عم غيرها من المراكب وغيرها ، أتبعها المآكل والمشارب فقال : { والطيبات } أي من الحلال المستلذ { من الرزق } كالبحائر والسوائب ونحوها؛ ولما كان معنى الإنكار : لم يحرمها من يعتبر تحريمه بل أحلها ، وكان ربما غلا في الدين غال تمسكاً بالآيات المنفرة عن الدينا المهونة لشأنها مطلقاً فضلاً عن زينة وطيبات الرزق ، قال مستأنفاً لجواب من يقول : لمن؟ : { قل هي } أي الزينة والطيبات { للذين آمنوا } وعبر بهذه العبارة ولم يقل : ولغيرهم ، تنبيهاً على أنها لهم بالاصالة { في الحياة الدنيا } وأما الكفار فهم تابعون لهم في التمتع بها وإن كانت لهم أكثر ، فهي غير خالصة لهم وهي للذين آمنوا { خالصة } أي لا يشاركهم فيها أحد ، هذا على قراءة نافع بالرفع ، والتقدير على قراءة غيره : حال كونها خالصة { يوم القيامة } وفي هذا تأكيد لما مضى من إحلالها بعد تأكيد ومحو الشكوك ، وداعية للتأمل في الفصل بين المقامين لبيان أن الزهد المأمور به إنما هو بالقلب بمعنى أنه لا يكون للدنيا عنده قدر ولا له إليها التفات ولا هي أكبر همه ، وأما كونها ينتفع بها فيما أذن الله فيه وهي محقورة غير مهتم بها فذلك من المحاسن .
ولما كان هذا المعنى من دقائق المعاني ونفائس المباني ، أتبعه تعالى قوله جواباً لمن يقول : إن هذا التفصيل فائق فهل يفصل غيره هكذا؟ { كذلك } أي مثل هذا التفصيل البديع { نفصل الآيات } أي نبين أحكامها ونميز بعض المشبهات من بعض { لقوم يعلمون* } أي لهم ملكة وقابلية للعلم ليتوصلوا به إلى الاعتقاد الحق والعمل الصالح .
ولما بين أن ما حرموه ليس بحرام فتقرر ذلك تقرراً نزع من النفوس ما كانت ألفته من خلافه ، ومحا من القلوب ما كانت أشربته من ضده؛ كان كأنه قيل : فماذا حرم الله الذي ليس التحريم إلا إليه؟ فأمره تعالى بأن يجيبهم عن ذلك ويزيدهم بأنه لم يحرم غيره فقال : { قل إنما حرم ربي } أي المحسن إليّ بجعل ديني أحسن الأديان { الفواحش } أي كل فرد منها وهي ما زاد قبحه؛ ولما كانت الفاحشة ما يتزايد قبحه فكان ربما ظن أن الإسرار بها غير مراد بالنهي قال : { ما ظهر منها } بين الناس { وما بطن } .

ولما كان هذا خاصاً بما عظمت شناعته قال : { والإثم } أي مطلق الذنب الذي يوجب الجزاء ، فإن الإثم الذنب والجزاء؛ ولما كان البغي زائد القبح مخصوصاً بأنه من أسرع الذنوب عقوبة ، خصة بالذكر فقال : { والبغي } وهو الاستعلاء على الغير ظلماً ، ولكنه لما كان قد يطلق على مطلق الطلب ، حقق معناه العرفي الشرعي فقال : { بغير الحق } أي الكامل الذي ليس فيه شائبة باطل ، فمتى كان فيه شائة باطل كان بغياً ، ولعله يخرج العلو بالحق بالانتصار من الباغي فإنه حق كامل الحقية ، وتكون تسميته بغياً على طريق المشاكلة تنفيراً - بإدخاله تحت اسم البغي - من تعاطيه وندباً إلى العفو كما تقدم مثله في { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } [ النساء : 148 ] ويمكن أن يكون تقييده تأكيداً لمنعه بأنه لا يتصور إلا موصوفاً بأنه بغير الحق كما قال تخصيصاً وتنصيصاً تنبيهاً على شدة الشناعة : { وأن تشركوا بالله } أي الذي اختص بصفات الكمال { ما لم ينزل به سلطاناً } فإنه لا يوجد ما يسميه أحد شريكاً إلا وهو مما لم ينزل به الله سلطاناً بل ولا حجة به في الواقع ولا برهان ، ولعله إنما قيده بذلك إرشاداً إلى أن أصول الدين لا يجوز اعتمادها إلا بقاطع فكيف بأعظمها وهو التوحيد! ولذلك عقبه بقوله : { وأن } أي وحرم أن { تقولوا على الله } أي الذي لا أعظم منه ولا كفوء له و { ما لا تعلمون* } أي ما ليس لكم به علم بخصوصه ولا هو مستند إلى علم أعم من أن يكون من الأصول أو لا .
ولما تقدم أن الناس فريقان : مهتد وضال ، وتكرر ذم الضال باجترائه على الله بفعل ما منعه منه وترك ما أمره به ، وكانت العادة المستمرة للملوك أنهم لا يمهلون من تتكرر مخالفته لهم؛ كان كأنه قيل : فلم يهلك من يخالفه؟ فقيل وعظاً وتحذيراً : إنهم لا يضرون بذلك إلا أنفسهم ، ولا يفعلون شيئاً منه إلا بإرادته ، فسواء عندهم بقاؤهم وهلاكهم ، إنما يستعجل من يخاف الفوت أو يخشى الضرر ، ولهم أجل لا بد من استيفائه ، وليس ذلك خاصاً بهم بل { ولكل أمة أجل } وهو عطف على { فيها تحيون وفيها تموتون } [ الأعراف : 25 ] { فإذا جاء أجلهم } .
ولما كان نظرهم إلى الفسحة في الأجل ، وكان قطع رجائهم من من جملة عذابهم ، قدمه فقال : { لا يستأخرون } أي عن الأجل { ساعة } عبر بها والمراد أقل ما يمكن لأنها أقل الأوقات في الاستعمال في العرف ، ثم عطف على الجملة الشرطية بكمالها لا على جزائها قوله : { ولا يستقدمون* } أي على الأجل المحتوم ، لأن الذي ضربه لهم ما ضربه إلا وهو عالم بكل ما يكون من أمرهم ، لم يتجدد له علم ، لم يكن يتجدد شيء من أحوالهم ، ويجوز أن يكون معطوفاً على قوله : { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } [ الأعراف : 24 ] وتكون الآية معلمة بأنهم سيتناسلون فيكثرون حتى يكونوا أمماً ، ولا يتعرضون جملة بل يكون لكل أمة وقت .

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)

ولما كان استشراف النفس إلى السؤال عما يكون بعد حين المستقر والمتاع أشد من استشرافها إلى هذا لكونه أخفى منه ، فهو أبعد من خطوره في البال؛ قدم قوله : { قال فيها تحيون } [ الأعراف : 25 ] ولما كان ذكر الدواء لداء هتك السوءة أهم قدم { أنزلنا عليكم لباساً } [ الأعراف : 26 ] ثم ما بعده حتى كان الأنسب بهذه الاية هذا الموضع فنظمت فيه .
ولما تقدمت الإشارة إلى الحث على اتباع الرسل بآيات المقصد الأول من مقاصد هذه السورة كقوله تعالى { كتاب أنزل إليك } [ الأعراف : 2 ] و { لتنذر } [ الأعراف : 2 ] و { اتبعوا ما أنزل إليكم } [ الأعراف : 3 ] وقوله { فلنسئلن الذين أرسل إليهم } [ الأعراف : 6 ] وقوله { قل أمر ربي بالقسط } [ الأعراف : 29 ] ، { إنما حرم ربي الفواحش } [ الأعراف : 33 ] والتحذير من الشياطين بقوله { ولا تتبعوا من دونه أولياء } [ الأعراف : 3 ] وبقوله { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } [ الأعراف : 16 ] ، { لا يفتننكم الشيطان } [ الأعراف : 27 ] وغيره ، فتحرر أنه لا سبيل إلى النجاة إلا بالرسل ، وختم ذلك بالأحل حثاً على العمل في أيام المهلة؛ أتبع ذلك قوله حاثاً على التعلق بأسباب النجاة باتباع الدعاة الهداة قبل الفوت بحادث الموت ببيان الجزاء لمن احسن الاتباع في الدارين { يا بني آدم } .
ولما كان له سبحانه أن يعذب من خالف داعي العقل من غير إرسال رسول ، وكان إرسال الرسل جائزاً له وفضلاً منه سبحانه إذ لا يوجب عليه ، أشار إلى ذلك بحرف الشك فقال : { إما } هي إن ، الشرطية وصلت بها ما تأكيداً { يأتينكم رسل } ولما كانت زيادة الخبرة بالرسول أقطع للعذر وأقوى في الحجة قال : { منكم } أي من نوعكم من عند ربكم .
ولما كان الأغلب على مقصد هذه السورة العلم كما تقدم في { فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين } [ الأعراف : 7 ] ويأتي في { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم } [ الأعراف : 52 ] وغيرها ، كان التعبير بالقص - الذي هو تتبع الأثر كما تقدم في الأنعام - أليق فقال : { يقصون عليكم آياتي } أي يتابعون ذكرها لكم على وجه مقطوع به ، ويتبع بعضهم بها أثر بعض لا يتخالفون في أصل واحد من الأصول .
ولما كان لقاء الرسل حتماً والهجرة إليهم واجبة لأن العمل لا يقبل إلا بالاستناد إليهم مهما وجد إلى ذلك سبيل ، ربط الجزاء بالفاء فقال : { فمن اتقى } أي خاف مقامي وخاف وعيدي بسبب التصدق بالرسل والتلقي عنهم { وأصلح } أي عمل صالحاً باقتفاء آثارهم { فلا خوف } أي غالب { عليهم } أي بسبب ذلك من شيء يتوقعونه { ولا هم } أي بضمائرهم { يحزنون* } أي يتجدد لهم في وقت ما حزن على شيء فاتهم ، لأن الله يعطيهم ما يقر به أعينهم ، وكأنه غاية في التعبير لأن إجلالهم لله تعالى وهيبتهم له يمكن أن يطلق عليهما خوف .
ولما ذكر المصدق ، أتبعه المكذب فقال { والذين كذبوا بآياتنا } أي على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا؛ ولما كان التكذيب قد يكون عن شبهة أو نوع من العذر ، نفى ذلك بقوله : { واستكبروا عنها } أي أوجدوا الكبر إيجاد من هو طالب له عظيم الرغبة فيه ، متجاوزين عنها إلى أضداد ما دعت إليه .

ولما ذلك ليس سبباً حقيقياً للتعذيب ، وإنما هو كاشف عمن ذرأه الله لجهنم لإقامة الحجة عليه ، أعري عن الفاء قوله : { أولئك } أي البعداء البغضاء { أصحاب النار } ولما كان صاحب الشيء هو الملازم له المعروف به ، قال مصرحاً بذلك : { هم } أي خاصة ليخرج العاصي من غير تكذيب ولا استكبار { فيها } أي النار خاصة ، وهي تصدق بكل طبقة من طبقاتها { خالدون* } فقد تبين أن إثبات الفاء أولاً للترغيب في الاتباع ، وتركها ثانياً للترهيب من شكاسة الطباع ، فالمقام في الموضعين خطر ، ولعل من فوائده الإشارة إلى أنه إذا بعث رسول وجب على كل من سمع به أن يقصده لتحرير أمره ، فإذا بان له صدقه تبعه ، وإن تخلف عن ذلك كان مكذباً - الله الموفق .
ولما كان تكذيب الرسل تارة يكون بشرع شيء لم يشرعوه ، وتارة برد ما شرعوه قولاً وفعلاً ، وأخبر أن المكذبين أهل النار ، علل ذلك بقوله : { فمن أظلم } أي أشنع ظلماً { ممن افترى } أي تعمد { على الله } أي الملك الأعلى { كذباً } أي كمن شرع في المطاعم والملابس غير ما شرع ، أو ادعى أنه يوحي إليه فحكم بوجود ما لم يوجد { أو كذب بآياته } أي برد ما أخبر به الرسل فحكم بإنكار ما وجد .
ولما كان الجواب : لا أحد أظلم من هذا ، بل هو أظلم الناس ، وكان مما علم أن الظالم مستحق للعقوبة فكيف بالأظلم قال : { أولئك } أي البعداء من الحضرات الربانية { ينالهم نصيبهم من الكتاب } أي الذي كتب حين نفخ الروح أو من الآجال التي ضربها سبحانه لهم والأرزاق التي قسمها ، تأكيداً لرد اعتراض من قال : إن كنا خالفنا فما له لا يهلكنا؟ ثم غَيَّي نيل النصيب بقوله : { حتى إذا جاءتهم رسلنا } أي الذين قسمنا لهم من عظمتنا ما شئنا حال كونهم { يتوفونهم } أي يقبضون أرواحهم كاملة من جميع أبدانهم { قالوا أين ما كنتم } عناداً كمن هو في جبلته { تدعون } أي دعاء عبادة { من دون الله } أي تزعمون أنهم واسطة لكم عند الملك الأعظم وتدعونهم حال كونكم معرضين عن الله ، ادعوهم الآن ليمنعوكم من عذاب الهوان الذي نذيقكم { قالوا ضلوا } أي غابوا { عنا } فلا ناصر لنا .
ولما كان الإله لا يغيب فعلموا ضلالهم بغيبتهم عنهم ، قال مترجماً عن ذلك : { وشهدوا على أنفسهم } أي بالغوا في الاعتراف { أنهم كانوا كافرين* } أي ساترين عناداً لما كشف لهم عنه نور العقل فلا مانع منه إلا حظوظ النفوس ولزوم البؤس .

قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)

ولما كان كأنه قيل : لقد اعترفوا ، والاعتراف - كما قيل - إنصاف ، فهل ينفعهم؟ قيل : هيهات! فات محله بفوات دار العمل لا جرم! { قال } أي الذي جعل الله إليه أمرهم { ادخلوا } كائنين { في أمم } أي في جملة جماعات وفرق أم بعضها بعضاً؛ ثم وصفهم دالاً بتاء التأنيث على ضعف عقولهم فقال : { قد خلت } ولما كان في الزمن الماضي من آمن ، أدخل الجار فقال { من قبلكم } ولما كان الجن الأصل في الإغواء قدمهم فقال : { من الجن والإنس } ثم ذكر محل الدخول فقال : { في النار } .
ولما جرت عادة الرفاق بأنهم يتكالمون وحين الاجتماع يتسالمون تشوف السامع إلى حالهم في ذلك فقال مجيباً له : { كلما دخلت أمة } أي منهم في النار { لعنت أختها } أي القريبة منها في الدين والملة التي قضيت آثارها واتبعت منارها ، يلعن اليهود اليهود والنصارى النصارى - وهكذا ، واستمر ذلك منهم { حتى إذا اداركوا } اي تداركوا وتلاحقوا ، يركب بعضهم بعضاً - بما يشير إليه الإدغام { فيها جميعاً } لم يبق منهم أمة ولا واحد من أمة { قالت أخراهم } أي في الزمن والمنزلة ، وهم الأتباع والسفل { لأولاهم } أي لأجلهم مخاطبين لله خطاب المخلصين { ربنا } أي الذي ما قطع إحسانه في الدنيا عنا على ما كان منا من مقابلة إحسانه بالإساءة { هؤلاء } أي الأولون { أضلونا } أي لكونهم أول من سن الضلال { فآتهم } أي أذقهم بسبب ذلك { عذاباً ضعفاً } أي يكون بقدر عذاب غيرهم مرتين لأنهم ضلوا وأضلوا لأنهم سنوا الضلال ، « ومن سنَّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة » ومنه « لا تقتل نفس ظلماً إلا على ابن آدم الأول كفل من دمها » لأنه أول من سن القتل ، ثم أكدوا شدة العذاب بقولهم : { من النار* } .
ولما كان كأنه قيل : لقد قالوا ما له وجه ، فبم أجيبوا؟ قيل : { قال } أي جواباً لهم { لكل } أي من السابق واللاحق والمتبوع والتابع { ضعف } وإن لم يكن الضعفاء متساويين لأن المتبوع وإن كان سبباً لضلال التابع فالتابع أيضاً كان سبباً لتمادي المتبوع في ضلاله وشدة شكيمته فيه بتقويته بالاتباع وتأييده بالمناضله عنه والدفاع؛ ولما كانوا جاهلين باستحقاقهم الضعف لسبب هذه الدقيقة قال : { ولكن لا تعلمون* } أي بذلك .
ولما ذكر ملام الآخرين على الأولين ، عطف عليه جواب الأولين فقال : { وقالت أولاهم } أي أولى الفرق والأمم { لأخراهم } مسببين عن تأسيسهم لهم الضلال ودعائهم إليه { فما كان لكم علينا } أي بسبب انقيادكم لنا واتباعكم في الضلال { من فضل } أي لنحمل عنكم بسببه شيئاً من العذاب لأنه لم يعد علينا من ضلالكم نفع وقد شاركتمونا في الكفر { فذوقوا } أي بسبب ذلك { العذاب } في سجين { بما } اي بسبب ما { كنتم تكسبون* } لا بسبب اتباعكم لنا في الكفر .

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)

ولما جرت العادة بأن أهل الشدائد يتوقعون الخلاص ، أخبر أن هؤلاء ليسوا كذلك ، لأنهم أنجاس فليسوا أهلاً لمواطن الأقداس ، فقال مستأنفاً لجواب من كأنه قال : أما لهؤلاء خلاص؟ وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف : { إن الذين كذبوا بآياتنا } أي وهي المعروفة بالعظمة بالنسبة إلينا { واستكبروا عنها } أي وأوجدوا الكبر متجاوزين عن اتباعها { لا تفتح لهم } أي لصعود أعمالهم ولا دعائهم ولا أرواحهم ولا لنزول البركات عليهم { أبواب السماء } لأنها طاهرة عن الأرجاس الحسية والمعنوية فإذا صعدت أرواحهم الخبيثة بعد الموت مع ملائكة العذاب أغلقت الأبواب دونها ثم ألقيت من هناك إلى سجين { ولا يدخلون الجنة } أي التي هي أطهر المنازل وأشرفها { حتى } يكون ما لا يكون بأن { يلج } أي يدخل ويجوز { الجمل } على كبره { في سم } أي في خرق { الخياط } أي الإبرة اي حتى يكون ما لا يكون ، إذاً فهو تعليق على محال ، فإن الجمل مثل في عظم الجرم عند العرب ، وسم الإبرة مثل في ضيق المسلك ، يقال : أضيق من خرق الإبرة ، ومنه الماهر الخريت للدليل الذي يهتدي في المضايق المشبهة بأخراق الإبر؛ وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن الجمل فقال : زوج الناقة - استجهالاً للسائل وإشارة إلى طلب معنى آخر غير هذا الظاهر تكلف .
ولما كان هذا للمكذبين المستكبرين أخبر أنه لمطلق القاطعين أيضاً فقال : { وكذلك } أي ومثل ذلك الجزاء بهذا العذاب وهو أن دخولهم الجنة محال عادة { نجزي المجرمين* } أي القاطعين لما أمر الله به أن يوصل وإن كانوا أذناباً مقلدين للمستكبرين المكذبين؛ ثم فسر جزاء الكل فقال : { لهم من جهنم مهاد } أي فرش من تحتهم ، جمع مهد ، ولعله لم يذكره لأن المهاد كالصريخ فيه { ومن فوقهم غواش } أي أغطية - جمع غاشية - تغشيهم من جهنم؛ وصرح في هذا بالفوقية لأن الغاشية ربما كانت عن يمين أو شمال ، أو كانت بمعنى مجرد الوصول والإدراك ، ولعله إنما حذف الأول لأن الآية من الاحتباك ، فذكر جهنم أولاً دليلاً على إرادتها ثانياً ، وذكر الفوق ثانياً دليلاً على إرادة التحت أولاً .
ولما كان بعضهم ربما لا تكون له أهلية قطع ولا وصل ، قال عاماً لجميع أنواع الضلال : { وكذلك } أي ومثل ذلك الجزاء { نجزي الظالمين* } ليعرف أن المدار على الوصف ، والمجرم : المذنب ومادته ترجع إلى القطع ، والظالم : الواضع للشيء في غير موضعه كفعل من يمشي في الظلام ، يجوز أن يكون نبه سبحانه بتغاير الأوصاف على تلازمها ، فمن كان ظالماً لزمه الإجرام والتكذيب والاستكبار وبالعكس .
ولما أخبر عن أحوالهم ترهيباً ، أتبعه الإخبار عن أحوال المؤمنين ترغيباً فقال { والذين آمنوا } في مقابلة { الذين كذبوا } .
ولما قال : { وعملوا } أي تصديقاً لإيمانهم في مقابلة { الذين استكبروا } { الصالحات } وكان ذلك مظنة لتوهم أن عمل جميع الصالحات - لأنه جمع محلى بالألف واللام - شرط في دخول الجنة؛ خلل ذلك بجملة اعتراضية تدل على التخفيف فقال : { لا نكلف نفساً إلا وسعها } وترغيباً في اكتساب مالا يوصف من النعيم بما هو في الوسع { أولئك } أي العالو الرتبة { أصحاب الجنة } ولما كانت الصحبة تدل على الدوام ، صرح به فقال : { هم فيها خالدون } .

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)

ولما كانت الدار لا تطيب إلا بحسن الجوار قال : { ونزعنا } أي بما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء { ما } كان في الدنيا { في صدورهم من غل } أي ضغينة وحقد وغش من بعضهم على بعض يغل ، أي يدخل بلطف إلى صميم القلب ، ومن الغلول ، وهو الوصول بالحيلة إلى الذنوب الدقيقة ، ويقال : غل في الشيء وتغلغل فيه - إذا دخل فيه بلطافة كالحب يدخل في صميم الفؤاد ، حتى أن صاحب الدرجة السافلة لا يحسد صاحب العالية .
ولما كان حسن الجوار لا يلذ إلاّ بطيب القرار باحكام الدار ، وكان الماء سبب العمارة وطيب المنازل ، وكان الجاري منه أعم نفعاً وأشد استجلاباً للسرور قال تعالى { تجري من } وأشار إلى علوهم بقوله : { تحتهم الأنهار } فلما تمت لهم النعمة بالماء الذي به حياة كل حياة كل شيء فعرف أنه يكون عنه الرياض والأشجار وكل ما به حسن الدار ، أخبر عن تعاطيهم الشكر لله ولرسوله المستجلب للزيادة بقوله : { وقالوا الحمد } أي الإحاطة بأوصاف الكمال { لله } أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة لذاته لا لشيء آخر؛ ثم وصفوه بما يقتضي ذلك له لأوصافه أيضاً ، فقالوا معلمين أنه لا سبب لهم في الوصول إلى النعيم غير النعيم غير فضله في الأولى والأخرى : { الذي هدانا } أي بالبيان والتوفيق ، وأوقعوا الهداية على ما وصلوا إليه إطلاقاً للمسبب على السبب { لهذا } أي للعمل الذي أوصلنا إليه { وما } أي والحال أنا ما { كنا لنهتدي } أصلاً لبناء جبلاتنا على خلاف ذلك { لولا أن هدانا الله } أي الذي له الأمر كله ، وقراءة ابن عامر بغير واو على أن الجملة موضحة لما قلبها ، والقراءتان دامغتان للقدرية .
ولما كان تصديقهم للرسل في الدنيا إيماناً بالغيب من باب علم اليقين ، أخبروا في الآخرة بما وصلوا إليه من عين اليقين سروراً وتبججاً لا تعبداً ، وثناء على الرسل ومن أرسلهم بقولهم مفتتحين بحرف التوقع لأنه محله : { لقد جاءت رسل ربنا } أي المحسن إلينا { بالحق } أي الثابت الذي يطابقه الواقع الذي لا زوال له .
ولما غبطوا أنفسهم وحقروها وأثبتوا الفضل لأهله ، عطف على قولهم قوله مانّاً عليهم بقبول أعمالهم ، ولما كان السار الإخبار عن الإيراث لا كونه من معين ، بني للمفعول قوله : { ونودوا } أي إتماماً لنعيمهم { أن } هي المخففة من الثقيلة أو هي المفسرة { تلكم الجنة } العالية { أورثتموها } أي صارت إليكم من غير تعب ولا منازع { بما } أي بسبب ما { كنتم تعملون* } لأنه سبحانه جعله سبباً ظاهرياً بكرمه ، والسبب الحقيقي هو ما ذكروه هم من توفيقه .
ولما استقرت بهم الدار ، ونودوا بدوام الاستقرار ، أخبر سبحانه أنهم أقبلوا متبججين على أهل النار شامتين بهم في إحلالهم دار البوار تلذيذاً لأنفسهم بالنعيم وتكديراً على الأشقياء في قوله : { ونادى أصحاب الجنة } أي بعد دخول كل من الفريقين إلى داره { أصحاب النار } يخبرونهم بما أسبغ عليهم من النعم ، ويقررونهم بما كانوا يتوعدونهم به من حلول النقم؛ ثم فسر ما وقع له النداء بقوله : { أن } أو هي مخففة من الثقيلة ، وذكر حرف التوقع لأنه محله فقال : { قد وجدنا } أي بالعيان كما كنا واجدين له بالإيمان { ما وعدنا ربنا } أي المحسن إلينا في الدارين من الثواب { حقاً } أي وجدنا جميع ما وعدنا ربنا لنا ولغيرنا حقاً كما كنا نعتقد { فهل وجدتم } أي كذلك { ما وعد } وأثبت المفعول الأول تلذيذاً ، وحذفه هنا احتقاراً للمخاطبين ، وليشمل ما للفريقين فيكون وجد بمعنى العلم وبمعنى اللقى ، وفي التعبير بالوعد دون الوعيد مع ذلك تهكم بهم { ربكم } أي الذي أحسن إليكم فقابلتم إحسانه بالكفران من العقاب { حقاً } لكونكم وجدتم ما توعدكم به ربكم حقاً { قالوا نعم } أي قد وجدنا ذلك كله حقاً؛ قال سيبويه : نعم عِدَة ، أي في جواب : أتعطيني كذا ، وتصديق في مثل قد كان كذا ، والآية من الاحتباك : أثبت المفعول الثاني أولاً دليلاً على حذف مثله ثانياً ، وحذفه ثانياً دليلاً على إثبات مثله أولاً - والله أعلم .

ولما حبوا من النعم بما تقدم ، وكان منه الجار الحسن ، وكان العيش مع ذلك لا يهنأ إلا بإبعاد جار السوء ، أخبروا ببعده وزيدوا سروراً بإهانته في قوله : { فأذن } أي بسبب ما أقر به أهل النار على انفسهم { مؤذن بينهم } أي بين الفريقين { أن } مخففه أو مفسرة في قراءة نافع وأبي عمرو وعاصم ، وشددها الباقون ونصبوا { لعنة الله } أي طرد الملك الأعظم وإبعاده على وجه الغضب { على الظالمين* } أي الذين كانوا مع البيان الواضح يضعون الأشياء في غير مواضعها كحال من لم ير نوراً أصلاً { الذين يصدون } أي لهم فعل الصد لمن أراد الإيمان ولمن آمن ولغيرهما بالإضلال بالإرغاب والإرهاب والمكر والخداع { عن سبيل الله } أي طريق دين الملك الذي لا كفوء له الواضح الواسع { ويبغونها } أي يطلبون لها { عوجاً } بإلقاء الشكوك والشيهات ، وقد تقدم ما فيه في آل عمران { وهم بالآخرة كافرون* } أي ساترون ما ظهر لعقولهم من دلائلها؛ فمتى وجدت هذه الصفات الأربع حقت اللعنة { وبينهما } أي وحال الفريقين عند هذه المناداة أنه بينهما أو بين الدارين { حجاب } أي سور لئلا يجد أهل النعيم في دارهم ما يكدر نعيمها { وعلى الأعراف } جمع عرف وهو كل عال مرتفع لأنه يكون أعرف مما انخفض ، وهي المشرفات من ذلك الحجاب { رجال } استوت حسناتهم وسيئاتهم فوفقوا هنالك حتى يقضي الله فيهم ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته كما جاء مفسراً في مسند ابن أبي خثيمة من حديث جابر رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم { يعرفون كلاًّ } أي من أصحاب الجنة وأصحاب النار قبل دخول كل منهم داره { بسيماهم } أي علامتهم { ونادوا } أي أصحاب الأعراف { أصحاب الجنة } أي بعد دخولهم إليها واستقرارهم فيها { أن سلام عليكم } أي سلامة وأمن من كل ضار .

ولما كان هذا السلام ربما أشعر أنه بعد دخول أهل الأعراف الجنة ، فكأنه قيل أكان نداؤهم بعد مفارقتهم الأعراف ودخولها؟ فقيل لا ، { لم يدخلوها } أي الجنة بعد { وهم } أي والحال أنهم { يطمعون* } في دخولها ، وعبر بالطمع لأنه لا سبب للعباد إلى الله من أنفسهم وإن كانت لهم أعمال فضلاً عن هؤلاء الذين لا أعمال لهم .

وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)

ولما دل ما تقدم على أنهم مقبلون على الجنة وأهلها ، قال مرغباً مرهباً : { وإذا صرفت } بناه للمفعول لأن المخيف لهم الصرف لا كونه من معين { أبصارهم } أي صرفها صارف من قبل الله بغير اختيار منهم { تلقاء } أي وجاه { أصحاب النار } أي بعد استقرارهم فيها فرأوا ما فيها من العذاب { قالوا } أي أصحاب الأعراف حال كونهم لم يدخلوها وهم يخافون مستعيذين منها { ربنا } أي أيها المحسن إلينا في الدنيا بكل إحسان وفي الآخرة بكونك لم تدخلنا إلى هذا الوقت إلى النار { لا تجعلنا مع القوم الظالمين* } بأن تدخلنا مدخلهم .
ولما تقدم كلامهم لأهل الجنة بالسلام ، أخبر أنهم يكلمون أهل النار بالتوبيخ والملام فقال : { ونادى } وأظهر الفاعل لئلا يلبس بأهل الجنة فقال { أصحاب الأعراف } أي الحال صرف وجوهم إلى جهة أهل النار { رجالاً } أي من أهل النار { يعرفونهم } أي بأعيانهم ، وأما معرفتهم إجمالاً فتقدم ، وإنما قال هنا : { بسيماهم } لأن النار قد أكلتهم وغيرت معالمهم مع تغيرهم بالسمن وسواد الوجوه وعظم الجثث ونحوه { قالوا } نفياً أو استفهاماً توبيخاً وتقريعاً { ما أغنى عنكم جمعكم } أي للمال والرجال { وما كنتم تستكبرون* } أي تجددون بهما هذه الصفة وتوجدونها دائماً في الدنيا زاعمين أنه لا غالب لكم؛ ثم زادوا في توبيخهم وتقريعهم وتحزينهم وتأسيفهم والإنكار عليهم بقولهم مشيرين إلى ناس كانوا يستضعفونهم من أهل الجنة ويحقرونهم : { أهؤلاء } وكأنه يكشف لهم عنهم حتى يروهم زيادة في عذابهم { الذين أقسمتم } أي في الدنيا { لا ينالهم الله } أي الذي له صفات الكمال { برحمة } فكيف بكمال الرحمة .
ولما كان التصريح بأمرهم بدخول الجنة إنكاء لأهل النار لأنه أنفى لما أقسموا عليه ، قالوا : { ادخلوا } أي قال الله لهم أو قائل من قبله ادخلوا { الجنة لا خوف عليكم } أي من شيء يمكن توقع أذاه { ولا أنتم تحزنون* } أي يتجدد لكم حزن في وقت من الأوقات على شيء فات لما عندكم من الخيرات التي لا تدخل تحت الوصف .
ولما تقدم نداء أصحاب الجنة عندما حصل لهم السرور بدخولها لأصحاب النار بما يؤلم وينكي ، وختم بهذه الرحمة التي تطمع المحروم فيما يسر ويزكي ، أخبر أن أصحاب النار ينادون أصحاب الجنة عندما حصل لهم من الغم بدخولها ، لكن بما شأنه أن يرقق ويبكي ، فقال ما يدل على أن عندهم كل ما نفي عن أهل الجنة في ختام الأية السالفة من الخوف والحزن : { ونادى أصحاب النار } أي بعد الاستقرار { أصحاب الجنة } بعد أن عرفهم إياهم وأمر الجنة فتزخزفت فكان ذلك زيادة في عذابهم؛ ثم فسر المنادى به فقال { أن أفيضوا علينا من الماء } أي لأنكم أعلى منا ، فإذا أفضتموه وصل إلينا ، وهذا من فرط ما هم فيه من البلاء ، فإن بين النار والجنة أهوية لا قرار لها ولا يمكن وصول شيء من الدارين إلى الأخرى معها .

ولما كانت الإفاضة تتضمن الإنزال قالوا : { أو } أي أو أنزلوا علينا { مما رزقكم الله } أي الذي له الغنى المطلق ، من أيّ شيء هان عليكم إنزاله { قالوا } أي أصحاب الجنة { إن الله } أي الذي حاز جميع العظمة { حرمهما } أي منعهما بتلك الأهوية وغيرها من الموانع { على الكافرين* } أي الساترين لما دلهم عليه قويم العقل وصريح النقل { الذين اتخذوا } أي تكلفوا غير ما دلهم عليه العقل الفطري حين نبه بالعقل الشرعي بأن أخذوا { دينهم } بعد ما محقوا صورته وحقيقته كما يمحق الطين إذا اتخذته خزفاً فصار الدين { لهواً } أي اشتغالاً بما من شأنه أن يغفل وينسى عن كل ما ينفع من الأمور المعجبة للنفس من غير نظر في عاقبة ، فجوزوا من جنس عملهم بأن لم ينظر لهم في إصلاح العاقبة .
ولما قدم ما هو أدعى إلى الاجتماع على الباطل الذي هو ضد مقصود السورة من الاجتماع على الجد وأدعى إلى الغفلة ، وكان من شأن الغفلة عن الخير أن تجر إلى استجلاب الأفراح والانهماك في الهوى ، حقق ذلك بقوله : { ولعباً } أي إقبالاً على ما يجلب السرور ويقطع الوقت الحاضربالغرور ، ولذلك أتبعه قوله : { وغرتهم } أي في فعل ذلك { الحياة الدنيا } أي بما فيها من الأعراض الزائلة من تأميل طول العمر والبسط في الرزق ورغد العيش حتى صاروا بذلك محجوبين عن نظر معانيها وعما دعا إليه تعالى من الإعراض عنها فلم يحسبوا حساب ما وراءها . ولما كان تركهم من رحمته سبحانه مؤبداً ، أسقط الجار { فاليوم } أي فتسبب عن ذلك أن في هذا اليوم { ننساهم } أي نتركهم ترك المنسي { كما } فعلوا هم بأنفسهم بأن { نسوا } أي تركوا { لقاء يومهم هذا } فلم يعدوا له عدته { وما } أي وكما { كانوا } أي جبلة وطبعاً { بآياتنا } على ما لها من العظمة بنسبها إلينا { يجحدون* } أي ينكرون وهم يعرفون حقيقتها لأنها في غاية الظهور .

وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)

ولما ذكر نسيانهم وجحودهم ، ذكر حالهم عند ذلك فقال : { ولقد } أي فعلوا ذلك والحال أنا وعزتنا قد { جئناهم } أي على عظمتنا بإتيان رسولنا إليهم عنا { بكتاب } ليس هو موضعاً للجحد أصلاً؛ ثم بين ذلك في سياق مرغب للمؤالف مرهب للمخالف فقال : { فصلناه } أي بينا معاينة لم ندع فيها لبساً ، وجعلنا لآياته فواصل حال كون ذلك التفصيل { على علم } أي عظيم ، فجاء معجزاً في نظمه ومعناه وسائر علمه ومغزاه ، وحال كونه { هدى } أي بياناً { ورحمة } أي إكراماً ، ثم خص المنتفعين به لأن من لا ينتفع بالشيء فهو كالمعدوم في حقه فقال : { لقوم يؤمنون* } أي فيهم قابلية ذلك ، وفيه رجوع إلى وصف الكتاب الذي هو أحد مقاصد السورة على أبداع وجه في أحسن أسلوب .
ولما وصف الكتاب وذكر المنتفع به ، تشوفت النفس إلى السؤال عن حال من لا يؤمن به وهم الجاحدون ، فقال مشيراً إلى أن حالهم في وقوفهم عن المتابعه بعد العلم بصدقه بعجزهم عنه كحال من ينتظر أن يأتي مضمون وعيده : { هل ينظرون } أي ينتظرون ، ولكنه لما لم يكن لهم قصد في ذلك بغير ما يفهمه الحال ، جرد الفعل ولإفادة أنه بتحقيق إتيانه في غاية القرب حتى كأنه مشاهد لهم { إلا تأويله } أي تصيير ما فيه من وعد ووعيد إلى مقاره وعواقب أمره التي أخبر أنه يصير إليها .
ولما كان كأنه قيل : ما يكون حالهم حينئذ؟ قال : التحسر والإذغان حيث لا ينفع ، والتصديق والإيمان حين لا يقبل ، وعبر عن ذلك بقوله : { يوم يأتي تأويله } أي بلوغ وعيده إلى مبلغه في الدنيا أو في الآخرة؛ ولما قدم اليوم اهتماماً به ، أتبعه العامل فيه فقال : { يقول الذين نسوه } أي تركوه ترك المنسي ، ويجوز أن يكون عد ذلك نسياناً لأنه ركز في الطباع أن كل ملك لا بد له من عرض جنده ومحاسبتهم ، فلما أعرضوا عن ذلك فيما هو من جانب الله عده نسياناً منهم لما ركز في طباعهم .
ولما كان نسيانهم في بعض الزمان السابق ، أدخل الجار فقال { من قبل } أي قبل كشف الغطاء محققين للتصديق { قد جاءت } أي فيما سبق من الدنيا { رسل ربنا } أي المحسن إلينا { بالحق } أي المطايق لهذا الواقع الذي نراه مما كانوا يتوعدوننا به ، فما صدقوا حتى رأوا فلم يؤمنوا بالغيب ولا أوقعوا الإيمان في دار العمل فلذا لم ينفعهم .
ولما وصفوه سبحانه بالإحسان لما كشف الحال عنه من حلمه وطول أناته ، سببوا عن ذلك قولهم : { فهل لنا من شفعاء } أي في هذا اليوم ، وكأنهم جمعوا الشفعاء لدخولهم في جملة الناس في الشفاعة العظمى لفصل القضاء؛ ثم سببوا عن ذلك تحقيق كونهم لهم أي بالخصوص فقالوا { فيشفعوا لنا } أي سواء كانوا من شركائنا الذين كنا نتوهم فيهم النفع أو من غيرهم ليغفر لنا ما قدمنا من الجرائم { أو نرد } أي إن لم يغفر لنا إلى الدنيا التي هي دار العمل ، والمعنى أنه لا سبيل لنا إلى الخلاص إلا أحد هذين السببين؛ ثم سببوا عن جواب هذا الاستفهام الثاني قولهم : { فنعمل } أي في الدنيا { غير الذي كنا } أي بجبلاتنا من غير نظر عقلي { نعمل } .

ولما كان من المعلوم عند من صدق القرآن وعلم مواقع ما فيه من الأخبار أنه لا يكون لهم شيء من ذلك ، كانت نتيجته قوله : { قد خسروا أنفسهم } أي فلا احد أخسر منهم { وضل } أي غاب وبطل { عنهم ما كانوا } أي جبلة وطبعاً ، لا يمكنهم الرجوع عنه إلا عند عند رؤية البأس { يفترون* } أي يتعمدون في الدنيا من الكذب في أمره لقصد العناد للرسل من ادعاء أن الأصنام تشفع لهم ومن غير ذلك من أكاذيبهم .
ولما كان مدار القرآن على تقرير الأصول الأربع : التوحيد والنبوة والمعاد والعلم ، وطال الكلام في إخباره سبحانه عن أوامره ونواهيه وأفعاله بأوليائه وأعدائه الدالة على تمام القدرة والعلم ، وختم بأن شركاءهم تغني عنهم ، علل ذلك بأنه الرب لا غيره ، في سياق دال على الوحدانية التي هي أعظم مقاصد السورة ، كفيل بإظهار الحجج عليها ، وعلى المقصد الثاني - وهو الإعادة التي فرغ من تقرير أحوالها بالإبداء الذي تقرر في العقول أنه أشد من الإعادة - بأدلة متكلفة بتمام القدرة والعلم فقال : { إن ربكم } أي المحسن إليكم بالإيجاد من العدم وتدبير المصالح هو { الله } أي الملك الذي لا كفوء له وحده لا صنم ولا غيره؛ ثم وصفه بما حقق ذلك فقال : { الذي خلق السماوات والأرض } أي على اتساعهما وعظمتهما .
ولما كان ربما قال الكفار : ما له إذا كان قادراً وأنت محق في رسالتك لا يعجل لنا الإتيان بتأويله ، بين أن عادته الأناه وإن كان أمره وأخذه كلمح بالبصر إذا أراده ، فقال : { في ستة أيام } أي في مقدارها؛ ولما كان تدبير هذا الخلق أمراً باهراً لا تسعه العقول ، ولهذا كانت قريش تقول : كيف يسع الخلق إله واحد! أشار إلى عظمته وعلو رتبته بأداة البعد فقال : { ثم استوى على العرش } أي أخذ في التدبير لما أوجده وأحدث خلقه أخذاً مستوفى مستقصى مستقلاً به لأن هذا شأن من يملك ملكاً ويأخذ في تدبيره وإظهار أنه لا منازع له في شيء منه وليكون خطاب الناس على ما ألفوه من ملوكهم لتستقر في عقولهم عظمته سبحانه ، وركز في فطرهم الأولى من نفي التشبيه منه ، ويقال : فلان جلس على سرير الملك ، وإن لم يكن هناك سرير ولا جلوس ، وكما يقال في ضد ذلك : فلان ثل عرشه ، أي ذهب عزه وانتقض ملكه وفسد أمره ، فيكون هذا كناية لا يلتفت فيه إلى أجراء التركيب ، والألفاظ على ظواهرها كقولهم للطويل : طويل النجاد ، وللكريم : عظيم الرماد .

ولما كان سبحانه لا يشغله شان عن شأن ، ابتدأ من التدبير هو آية ذلك بمشاهدته في تغطية الأرض بظلامه في آن واحد ، فقال دالاً على كمال قدرته المراد بالاستواء بأمر يشاهد كل يوم على كثرة منافعة التي جعل سبحانه بها انتظام هذا الوجود : { يغشي } أي استوى حال كونه يغشي { الليل النهار } وقال أبو حيان : وقرأ حميد بن قيس : يغشى الليل - بفتح الياء وسكون الغين وفتح الشين وضم اللام ، كذا قال عنه أبو عمرو الداني ، وقال أبو الفتح بن جني عن حميد بنصب الليل ورفع النهار ، وقال ابن عطية : وأبو الفتح أثبت ، وهذا الذي قاله - من أن أبا الفتح أثبت - كلام لا يصح ، إذ رتبة أبي عمرو الداني في القراءة ومعرفتها وضبط رواياتها واختصاصه بذلك بالمكان الذي لا يدانيه أحد من أئمة القراءة فضلاً عن النجاة الذين ليسوا مقرئين ولا رووا القراءة عن أحد ولا روى عنهم القراءة أحد ، هذا مع الديانة الزائدة والتثبت في النقل وعدم التجاسر ووفور الحظ من العربية ، فقد رأيت له كتاباً في كلا وكتاباً في إدغام أبي عمرو الكبير دلاً على اطلاعه على ما لا يكاد يطلع عليه أئمة النجاة ولا المقرئين إلى سائر تصانيفه ، والذي نقله أبو عمرو الداني عن حميد أمكن من حيث المعنى ، لأن ذلك موافق لقراءة الجماعة إذ { اليّل } في قراءتهم - وإن كان منصوباً- هو الفاعل من حيث المعنى إذ همزة النقل أو التضعيف صيرة مفعولاً ، ولا يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً من حيث المعنى ، لأن المنصوبين تعدى إليهما الفعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى ، فيلزم أن يكون الأول منهما كما لزم ذلك في : ملكت زيداً عمراً ، إذ رتبة التقديم هي الموضحة أنه الفاعل من حيث المعنى كما لزم ذلك في ضرب موسى عيسى - انتهى .
ولما أخبر سبحانه أن الليل يغطي النهار ، دل على أن النهار كذلك بقوله مبيناً لحال الليل { يطلبه } أي الليل يجر ويطلب النهار دائماً طلباً { حثيثاً } أي سريعاً جداً لتغطية الليل ، وذلك لأن الشيء لا يكون مطلوباً إلا بعد وجوده ، وإذا وجد النهار كان مغطياً لليل ، لأنهما ضدان ، وجود أحدهما ماح لوجود الآخر ، وابتدأ سبحانه بذكر الليل لأن إغشاءه أول كائن بعد تكمل الخلق ، وحركتهما بواسطة حركة العرش ، ولذا ربطهما به ، وهي أشد الحركات سرعة وأكملها شدة ، وللشمس نوعان من الحركة : أحدهما بحسب ذاتها تتم بقطع الدرج كلها في جميع الفلك ، وبسببه تحصل السنة ، والثاني بحسب حركة الفلك الأعظم تتم في اليوم بليلته ، والليل والهنار إنما يحصلان بسبب حركة السماء الأقصى الذي يقال له العرش لا بسبب حركة النيرين ، وأجاز ابن جني أن يكون { يطلبه } حالاً من النهار في قراءة الجماعة وإن كان مفعولاً ، أي حال كون النهار يطلب الليل حثيثاً ليغطيه ، وأن يكون حالاً منهما معاً لأن كلاًّ منهما طالب للآخر ، وبهذا ينتظم ما قاله في قراءة حميد ، فإن كلاً منهما يكون غاشياً للآخر ، قال في كتابه المحتسب في القراءات الشواذ : ووجه صحة القراءتين والتقاء معنييهما أن الليل والنهار يتعاقبان ، وكل واحد منهما وإن أزال صاحبه فإن صاحبه أيضاً مزيل له ، وكل واحد منهما على هذا فاعل وإن كان مفعولاً ومفعول وإن كان فاعلاً ، على أن الظاهر في الاستحثاث هنا إنما هو النهار لأنه بسفورة وشروقه أظهر أثراً في الاستحثاث من الليل .

ولما ذكر الملوين ، أتبعهما آية كل فقال : { والشمس والقمر والنجوم } أي خلقها ، أو يغشى كل قبيل منهما ما الآخر آيته خال كون الكل { مسخرات } أي للسير وغيره { بأمره } وهو إرداته وكلامه ، تقودها الملائكة كما روي أن لله ملائكة يجرون الشمس والقمر .
ولما صح أن جميع ما نراه من الذوات خلقه ، وما نعلمه من المعاني أمره ، أنتج قطعاً قوله { ألا له } أي وحده ، وقدم المسبب على السبب ترقية - كما هو مقتضى الحكم - من المحسوس إلى المعقول فقال : { الخلق } وهو ما كان من الإيجاد بتسبيب وتنمية وتطوير قال الرازي : فكل ما كان جسماً او جسمانياً كان مخصوصاً بمقدار معين فكان من عالم الخلق ، فعالم الخلق بتسخيره ، وعالم الأمر بتدبيره ، واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقديره { والأمر } وهو ما كان من ذلك إخراجاً من العدم من غير تسبب كالروح ، وما كان حفظاً وتدبيراً بالكلام كالأديان وكل ما يلاحظ القيومية؛ وقال الرازي : كل ما كان بريئاً من الحجم والمقدار كان من عالم الأمر ، وعد الملائكة من عالم الأمر ، فأتنج ذلك قطعاً قوله على سبيل المدح الذي ينقطع دونه الأعناق ويتقاصر دون عليائه ذري الآفاق : { تبارك } أي ثبت ثبوتاً لا ثبوت في الحقيقة غيره اليمن والبركة وكثرة الآثار الفاضلة والنتائج الشريفة { الله } أي ذو الجلال والإكرام .
ولما دل على أنه يستحق هذا الثناء لذاته ، دل على أنه يستحقه لصفاته فقال : { رب العالمين* } أي مبدع ذلك كله ومربيه خلقاً وتصريفاً بأمره ، وفي الجزء السادس من فوائد المخلص عن سفيان بن عيينة أنه قال : ما يقول هذه الدوبية - يعني بشراً المريسي؟ قالوا : يا أبا محمد! يزعم أن القرآن مخلوق ، فقال : كذب ، قال الله عزّ وجلّ { ألا له الخلق والأمر } فالخلق خلق الله ، والأمر القرآن - انتهى . وهذا الذي فسر به مما تحتمله الآية بأن يكون الأمر هو المراد بقوله { بأمره } وهو الإرادة والكلام مع احتمال ما قدمته .

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)

ولما ذكر تعالى تفرده بالخلق والأمر المقتضي لتفرده بالعبادة للتوجيه إلى تحصيل المعارف النفسانية والعلوم الحقيقية ، أمر بهذا المقتضى اللائق بتلك المعارف ، وهو الدعاء الذي هو مخ العبادة فقال : { ادعوا ربكم } أي الدائم الإحسان إليكم دعاء عبادة وخضوع { تضرعاً } أي تذللاً ظاهراً { وخفية } أي وتذللاً باطناً ، وقد أثنى على عبده زكريا عليه السلام فقال : { إذ نادى ربه نداء خفياً } [ مريم : 3 ] أي اجمعوا إلى خضوع الظاهر خضوع الباطن ، أي أخلصوا له العبادة ، إنه يحب المخلصين لأن تفرده بأن يدعى هو اللائق بمقام عز الربوبية ، والتذلل على هذه الصفة هو اللائق بمقام ذل العبودية ، وهذا هو المقصود من الدعاء لا تحويل العلم الأزلي ، وهو المقصود من جميع العبادات ، فإن العبد لا يدعو إلا وقد استحضر من نفسه الذل والصعب والحاجة ، ومن ربه العلم والقدرة والكفاية ، وهذا هو المقصود من جميع العبادات ، فلهذا كان الدعاء مخ العبادة ، وقد جمع هذا الكلام على وجازته كل ما يراد تحقيقه وتحصيله من شرائط الدعاء بحيث إنه لا مزيد عليه ، ومن فعل خلاف ذلك فقد تجاوز الحد ، وإلى ذلك أوماً بتعليله بقوله : { إنه لا يحب المعتدين* } أي المجاوزين لما أمروا به في الدعاء وغيره ، قالوا فالمعنى أن من ترك هذا لا يحبه الله ، أي لا يثيبه البتة ولا يحسن إليه ، فالآية من الاحتباك آخرها يدل على حذف ضده من صدرها ، وصدرها يدل على أنه حذف قبل الآخر : ولا تتركوا الإخلاص تكونوا معتدين .
ولما كان ذلك من الوفاء بحق الربوبية والقيام بحق العبودية مقتضياًَ للصلاح أمر بإدامته بالنهي عن ضده في قوله : { ولا تفسدوا } أي لا تدفعوا فساداً { في الأرض } أي بالشرك والظلم ، فهو منع من إيقاع ماهية الإفساد في الوجود ، وذلك يقتضي المنع من جميع أنواعه فيتناول الكليات الخمس التي اتفقت عليها الملل ، وهي الأديان والأبدان والعقول والأنساب والأموال { بعد إصلاحها } والظاهر أن الإضافة بمعنى اللام وهي إضافة في المفعول ، أي لا تدنسوها بفساد بعد أن أصلحها لكم خلقاً بما سوى فيها من المنافع المشار إليها بقوله { يغشي الليل النهار } [ الأعراف : 54 ] ، الدال على الوحدانية الداعي إلى الحق إقامة للأبدان ، وأمر بما أنزل من كتبه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام إقامة للأديان فجمع إلى الإيجاد الأول الإبقاء الأول .
ولما كان ذلك ربما اقتضى الاقتصار بكمال التذلل على مقام الخوف ، نفى ذلك بقوله { وادعوه خوفاً } أي من عدله؛ ولما كان لا سبب للعباد من أنفسهم في الوصول إليه سبحانه ، عبر بالطمع فقال : { وطمعاً } أي في فضله ، فإن من جمع بين الخوف والرجاء كان في مقام الإحسان وكأنه مشاهد للرحمن ، ما زجره زاجر الجلال بسياط سطوته إلا دعاه داعي الجمال إلى بساط رأفته ، ومن حاز مقام الإحسان كان أهلاً للرحمة { إن رحمت الله } أي إكرام ذي الجلال والإكرام لمن يدعوه على هذه الصفة ، وفخمها بالتذكير لإضافتها إلى غير مؤنث فيما قال سيبوية ، فقال : { قريب } وكان الأصل منكم ، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال : { من المحسنين* } .

ولما كان دوام الصلاح لا يكون إلا يكون بالغيث ، وهو من أجلّ أنواع الرحمة ، وهو لا يكون إلا بالسحاب ، وهو لا يكون إلا بالريح ، قال تعالى عاطفاً على { إن ربكم الله } تنبيهاً بعد تحقيق المبدإ على تحقيق المعاد : { وهو } أي لا غيره { الذي يرسل } أي بالتحريك { الرياح } هذا في قراءة الجماعة ، وأنواعها خمس : جنوب وشمال وصبا ودبور ونكباء ، وهي كل ريح انحرفت فوقعت بين ريحين ، ووحد ابن كثير وحمزة والكسائي على إرادة الجنس { بشرا } بضمتين في قراءة أهل الحجاز والبصرة ، أي منتشرة جمع نشور من النشر ، وهو بسط ما كان مطوياً وتفريقه في كل وجه لا لذات الريح وإلا لدام ذلك منها ولا بقوة فلك أو نجم لأن نسبتهما إلى الهواء واحدة { بين يدي } أي قبل { رحمته } أي المطر ، ولعله عبر فيه باليدين : اليمنى واليسرى ، لدلالته - مع ما فيه من الفخامة - على انه تارة يكون رحمة وتارة يكون عذاباً كما كان على قوم نوح عليه السلام وإن كانت الرحمة فيه أغلب وهي ذات اليمين ، وتارة تكون الرياح جامعة لها لحفظ الماء ، وتارة مفرقة مبطلة لها ، وتارة تكون مقومة للزروع والأشجار مكملة لها وهي اللواقح ، وتارة تكون منمية لها أو مهلكة كما يكون في الخريف ، وتارة تكون طبية وتارة مهلكة إما بشدة الحرارة والبرودة؛ ثم غيّ الإرسال بقوله { حتى إذا أقلت سحاباً } أي حملتها لقلتها عندها لخفتها عليها { ثقالاً } أي بالماء؛ ولما دل على العظمة بالجمع وحقق الأمر بالوصف ، أفرد اللفظ دلالة على غاية العظمة بسوقه مجتمعاً كأنه قطعة واحدة ، لا يفترق جزء منه عن سائره إذ لو تفرق لاختل أمره ، فقال : { سقناه لبلد } أي لأجله وإليه { ميت } أي بعدم النبات { فأنزلنا } أي بما لنا من العظمة { به } أي البلد ، أو بسبب ذلك السحاب { الماء } أي هذا الجنس ، وأشار إلى عظمة الإنبات بالنون فقال { فأخرجنا به } أي بالماء { من كل الثمرات } أي الحقيقية على الأشجار ، والمجازية من النبات وحبوبه ، ولما كان هذا - مع ما فيه من التذكير بالنعمة المقتضية لتوحيده بالدعوة - دليلاً ثانياً في غاية الدلالة على القدرة على البعث ، قال تعالى : { كذلك } أي مثل ما أخرجنا هذا النبات من الأرض بعد أن لم يكن { نخرج الموتى } أي من الأرض بعد أن صاروا تراباً { لعلكم تذكرون* } أي قلنا هذا لتكون حالكم حال من يرجي تذكر هذه الآية المشاهدة القريبة المأخذ ولو على أدنى وجوه التذكر بما أشار إليه الإدغام ، لأنه سبحانه كما قدر على إعادة النبات بجمع الماء له من جوف الأرض بعد أن كان تغيب في الأرض وصار تراباً ، وأحيى الشجرة بعد أن كانت لا روح لها بإيداع الثمرة التي هي روحها ، فهو قادر على إعادة الأشباح وإيداعها الأرواح كما كانت أول مرة ، لأنه لا فرق بين الإخراجين .

وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)

ولما كانت الموت موتين : حسياً ومعنوياً - كما أشير في الأنعام في آية { إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله } [ الأنعام : 36 ] { أو من كان ميتاً فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] كان كأنه قيل : لا فرق في ذلك عندما بين أموات الإيمان وأموات الأبدان ، فكما أنا فاوتنا بين جواهر الأراضي بخلق بعضها جيداً وبعضها رديئاً كذلك فاوتنا بين عناصر الأناسي بجعل بعضها طيباً وبعضها خبيثاً ، فالجيد العنصر يسهل إيمانه ، والخبيث الأصل يعسر إذعانه وتبعد استقامته وإيقانه { والبلد الطيب } أي الذي طابت أرضه فكانت كريمة منبتة { يخرج نباته } أي إذا نزل عليه الماء خروجاً كثيراً حسناً سهلاً غزيراً { بإذن } أي بتمكين { ربه } أي المربي له بما هيأه له ، والذي طاب في الجملة ولم يصل إلى الغاية يخرج له نبات دون ذلك ، والخبيث لا يخرج له نبات أصلاً بمنع ربه له { والذي خبث } أي حصلت له خباثة في جبلته بكون أرضه سبخة أو نحوها مما لا يهيئه الله تعالى للإنبات { لا يخرج } أي نباته { إلا } أي حال كونه { نكداً } أي قليلاً ضعيف المنفعة ، وهو - مع كونه دالاً على أن ذلك ما كان على ما وصف مع استواء الأراضي في الأصل واستواء المياه ونسبتها إلى الأفلاك والنجوم إلا بالفاعل المختار - مثل ضربه سبحانه للمؤمن والكافر عند سماعهما للذكر من الكتاب والسنة ، والآية من الاحتباك .
ولما استوت هذه الآيات على الذروة من بدائع الدلالات ، كان السامع جديراً بأن يقول : هل تبين جميع هذه الآيات هذه البيان؟ فقيل : { كذلك } أي نعم ، مثل هذا التصريف ، وهو الترديد مع اختلاف الأنحاء لاختلاف الدلالات وإبرازها في قوالب الألفاظ الفائقة والمعاني الرائقة في النظوم المعجزة على وجوه لا تكاد تدخل تحت الحصر : { نصرف الآيات } أي كلها؛ ولما تم ذلك على هذا المنهاج الغريب والمنوال العجيب المذكر بالنعم في أسلوب دال على التفرد وتمام القدرة ، كان أنسب الأشياء ختمه بقوله مخصصاً بها المنتفع لأنها بالنسبة إلى غيرهم كأنها لم توجد : { لقوم يشكرون* } أي يوجد منهم الشكر للنعم وجوداً مستمراً فلا يشركون بل ينتفعون بما أنعم عليهم به وحده في عبادته وحده ، وينظرون بعقولهم أنه أقدرهم بنعمه على ما هم عاجزون عنه ، فلا يسلبون عنه شيئاً من قدرته على بعث ولا غيره فإنهم يزعمون أنهم أهل معالي الأخلاق التي منها أنه ما جزاء الإحسان إلاّ الإحسان .
ولما طال تهديده سبحانه لمن أصر على إفساده ، ولم يرجع عن غيّه وعناده بمثل مصارع الأولين ومهالك الماضين ، ونوَّع في هذه الآيات محاسن الدلالات على التوحيد والمعاد بوجوه ظاهرة وبينات قاهرة وبراهين قاطعة وحجج ساطعة ، ساق سبحانه تلك القصص دليلاً حسياً على أن في الناس الخبيث والطيب مع الكفالة في الدلالة على تمام القدرة والغيرة من الشرك على تلك الحضرة - بتفصيل أحوال من سلفت الإشارة إلى إهلاكهم وبيأن مصارعهم وأنه لم تغن عنهم قوتهم شيئاً ولا كثرتهم بقوله تعالى

{ وكم من قرية أهلكناها } [ الأعراف : 4 ] وقوله { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة } [ الأعراف : 34 ] الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتقوية لصالحي أتباعه بالتنبيه على أن الإعراض عن الآيات ليس من خواص هذه الأمة بلف هي عادة الأمم السالفة ، وعلى أن النعم خاصة بالشاكرين ، ولذا كانت النقم مقصورة على الكافرين ، فقال تعالى { لقد أرسلنا } أي بعظمتنا ، وافتتحه بحرف التوقع لما للسامع الفطن من التشوف إلى ذكر ما تكرر من الإشارة إليه ، ولأن اللام المجاب بها القسم المحذوف لا ينطقون بها غالباً إلا مقترنة بقد ، لأن الجملة القسمية لا تساق إلا تاكيداً للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنة بمعنى التوقع الذي هو معنى « قد » عند استماع المخاطب كلمة القسم { نوحاً } يعني ابن لمك بم متوشلخ بن خنوخ ، وهو إدريس عليه السلام ، وكان عند الإرسال ابن خمسين سنة .
ولما كان إرساله صلى الله عليه وسلم قبل القبائل باختلاف اللغات قال : { إلى قومه } أي الذين كانوا ملء الأرض كما في حديث الشفاعة في الصحيحين وغيرهما عن أنس رضي الله عنه ، ائتوا نوحاً أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض . وفيهم من القوة على القيام بما يريدون ما لا يخفي على من تأمل آثارهم وعرف أخبارهم ، فإن كانت آثارهم فقد حصل المراد ، وإن كانت لمن بعدهم علم - بحكم قياس الاستقرار - أنهم أقوى على مثلها وأعلى منها ، ولسوق ذلك دليلاً على ما ذكر جاء مجرداً عن أدوات العطف ، وهو مع ذلك كله منبه على أن جميع الرسل متطابقون على الدعوة إلى ما دل عليه برهان { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض } [ الأعراف : 54 ] من التوحيد والصلاح إلى غير ذلك من بحور الدلائل والحجاج المتلاطمة الأمواج - والله الهادي إلى سبيل الرشاد ، وكون نوح عليه السلام رسولاً إلى جميع أهل الأرض - لأنهم قومه لوحده لسانهم - لا يقدح في تخصيص نبينا صلى الله عليه وسلم بعموم الرسالة ، لأن معنى العموم إرساله إلى جميع الأقوام المختلفة باختلاف الألسن وإلى جميع من ينوس من الإنس والجن والملائكة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الصافات لهذا مزيد بيان .
ولما كان من المقاصد العظيمة الإعلام بأن الذي دعا إليه هذا الرسول لم تزل الرسل - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام - تدعو إليه ، وكان نوح أول رسول ذكرت رسالته عقب ذكر إرساله بذكر ما أرسل به بالفاء بقوله { فقال يا قوم } أي فتحبب إليهم بهذه الإضافة { اعبدوا الله } أي الذي له جميع العظمة من الخلق والأمر ، فإنه مستحق لذلك وقد كلف عباده به .

ولما كان المقصود إفراده بذلك ، علله بقوله مؤكداً له بإثبات الجار { ما لكم } وأغرق في النفي فقال : { من إله غيره } ثم قال معللاً أو مستأنفاً مخوفاً مؤكداً لأجل تكذيبهم : { إني أخاف عليكم } في الدنيا والآخرة ، ولعلة قال هنا : { عذاب يوم عظيم* } وفي هود { أليم } [ هود : 26 ] وقال في المؤمنون { أفلا تتقون } [ المؤمنون : 23 ] لأن ترتيب السور الثلاث - وإن كان الصحيح أنه باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم - فلعله جاء على ترتيبها في النزول ، لأنها مكيات ، وعلى ترتيب مقال نوح عليه السلام لهم فألان لهم أولاً المقال من حيث إنه أوهم أن العظم الموصوف به { اليوم } لا بسبب العذاب بل الأمر آخر ، فيصير العذاب مطلقاً يتناول أي عذاب كان و لو قل ، فلما تمادى تكذيبهم بين لهم أن عظمه إنما هو من جهة إيلام العذاب الواقع فيه ، فلما لجوا في عتوهم قال لهم قول القادر إذا هدد عند مخالفة غيره له : ألا تفعل ما أقول لك؟ أي متى خالفت بعد هذا عاجلتك بالعقاب وأنت تعرف قدرتي .
ولما تم ذلك ، وكان الحال مقتضياً - مع ما نصب من الأدلة الواضحة على الوحدانية - لأن يجيبوا بالتصديق ، كان كأنه قيل : فبماذا كان جوابهم؟ فقال { قال الملأ } أي الأشراف الذين يملأ العيون مرآهم عظمة ، وتتوجه العيون في المحافل إليهم ، ولم يصفهم في هذه السورة بالكفر لأن ذلك أدخل في التسلية ، لأنها أول سورة قص فيها مثل هذا في ترييب الكتاب ، ولأن من آمن به مطلقاً كانوا في جنب من لم يؤمن في غاية القلة ، فكيف عند تقييدهم بالشرف! وأكد ذمهم تسلية لهذا النبي الكريم بالتعريف بقربهم منه في النسب بقوله : { من قومه } وقابلوا رقته وأدبه بغلطة مؤكداً ما تضمنته من البهتان لأن حالهم مكذب لهم فقالوا : { إنا لنراك } أي كل واحد منا يعتقد اعتقاداً هو في الثقة به كالرؤية أنك { في ضلال } أي خطأ وذهاب عن الصواب ، هو ظرف لك محيط بك { مبين* } أي ظاهر في نفسه حتى كأنه يظهر ذلك لغيره .

قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)

ولما قذفوه بضلال مقيد بالوضوح ، نفى الضلال المطلق الذي هو الأعم ، وبنفيه ينتفي كل أخصيّاته بل نفي أقل شيء من الضلال ، فقال تعالى مخبراً عنه { قال ياقوم } مجدداً لا ستعطافهم { ليس بي ضلالة } فنفى وحدة غير معينة ، ولا يصدق ذلك إلا بنفي لكل فرد ، فهو أنص من نفي المصدر ، ولم يصف الملأ من قومه هنا بالذين كفروا ووصفهم بذلك في سورة هود ، إما لأنها صفة ذم لم يقصد بها التقييد فلا يختل المعنى بإثباتها ولا نفيها ، أو لأنهم أجابوه بذلك مرتين : إحداهما قبل أن يسلم أحد من أشرافهم ، والثانية بعد أن أسلم بعضهم .
ولما نفى ما رموه به على هذا الوجه البليغ ، أثبت له ضده بأشرف ما يكون من صفات الخلق ، فقال مستدركاً - بعد نفي الضلال - إثبات ملزوم ضده : { ولكني رسول } أي إليكم بما أمرتكم به فأنا على أقوم طريق { من رب العالمين* } أي المحسن إليهم بإرسال الرسل لهدايتهم بإنقاذهم من الضلال ، فرد الأمر عليهم بألطف إشارة؛ ثم استأنف الإخبار عن وظيفته بياناً لرسالته فقال : { أبلغكم } وكأن أبواب كفرهم كانت كثيرة فجمع باعتبارها أو باعتبار تعدد معجزاته أو تعدد نوبات الوحي في الأزمان المتطاولة والمعاني المختلفة ، أو أنه جمع له ما أرسل به من قبله كإدريس جده وهو ثلاثون صحيفة وشيث وهو خمسون صحيفة عليهما السلام فقال : { رسالات ربي } أي المحسن إليّ من الأوامر والنواهي وجميع أنواع التكاليف من أحوال الآخرة وغيرها ، لا أزيد فيها أنقص منها كما هو شأن كل رسول مطيع .
ولما كان الضلال من صفات الفعل ، واكتفى بالجملة الفعلية الدالة على حدوث في قوله : { وأنصح } وقصر الفعل ودل على تخصيص النصح بهم ومحضه لهم فقال : { لكم } والنصيحة : الإرشاد إلى المصلحة مح خلوص النية من شوائب المكروه ، ولما كان الضلال من الجهل قال : { وأعلم من الله } أي من صفات الذي له صفات الكمال وسائر شؤونه { ما لا تعلمون* } أي من عظيم أخذه لمن يعصيه وغير ذلك مما ليس لكم قابلية لعلمه بغير سفارتي فخذوه عني تصيروا علماء ، ولا تتركوه بنسبتي إلى الضلال تزدادوا ضلالاً .
ولما كان الحامل لهم على هذا مجرد استبعاد أن يختص عنهم بفضيلة وهو منهم كما سيأتي في غير هذه السورة ، أنكر ذلك عليهم بقولة : { أو عجبتم } أي أكذبتم وعجبتم { أن جاءكم } وضمن جاء معنى أنزل ، فلذلك جعلت صلته « على » فقال : { ذكر } رسالة { من ربكم } أي المحسن إليكم بالإيجاد والتربية منزلاً { على الرجل } أي كامل في الرجولية وهو مع ذلك بحيث لا تتهمونه فإنه { منكم } لقولكم : { ما سمعنا بهذا } أي إرسال البشر { في آبائنا الأولين }

[ المؤمنون : 24 ] { لينذركم } لتحذروا ما ينذركموه { ولتتقوا } أي تجعلوا بينكم وبين ما تحذرونه وقاية لعلكم تنجون { ولعلكم ترحمون* } أي وليكون حالكم إذا لقيتم الله حال من ترجى رحمته بأن يرفعه الله في الدارين .
ولما نسبوه أولاً إلى الضلال وهو قد يكون خطأ عن ذهول ونحوه ، فأقام لهم الدليل على أنه على الصواب ، أخبر أنه لم يتسبب عن ذلك إلا تصريحهم بما لوحوا إليه أولاً بالضلال من التكذيب فقال : { فكذبوه } أي الملأ وتبعهم من دونهم؛ ولما تسبب عن تكذيبهم له تصديق الله لهم بإهلاكهم وإنجائه ومن آمن به ، قال مقدماً لإنجائه اهتماماً به : { فأنجيناه } بما لنا من العظمة من أهل الأرض كلهم ومن عذابنا الذي أخذناهم به : { والذين معه } أي بصحبة الأعمال الدينية { في الفلك } وهو السفينة التي منّ الله على الناس بتعليمه عملها لتقيه من الطوفان فكانت آية ومنفعة عظيمة لمن أتى بعدهم { وأغرقنا } أي بالطوفان ، وهو الماء الذي طبق ظهر الأرض فلم يبق منها موضعاً حتى أحاط به ، وأظهر موضع الإضمار تعليقاً للفعل بالوصف إشارة إلى أن من فعل مع الرسول شيئاً فإنما فعله مع مرسله فهو يجازيه بما يستحقه فقال : { الذين كذبوا بآياتنا } أي وهي من الظهور في حد لا خفاء به لما لها من العظمة بالنسبة إلينا ، وعدي هنا فعل النجاة بالهمزة وهي الأصل في التعدية ، وقرنت ب { الذين } لأنه أخلص الموصولات واصرحها .
ولما أعيدت القصة في سورة يونس عليه السلام ، كان الأليق بكلام البلغاء والأشبه بطرائق الفصحاء التفنن في العبارة ، فعدي التضعيف مع ما فيه من الأبلغية بإفهام مزيد الاعتناء مناسبة لما تقدم من مزيد التفويض في قوله { فأجمعوا أمركم وشركاءكم } [ يونس : 71 ] ، وتلا ب { من } ضماً للفرع إلى الفرع فإن { من } مشترك بين الوصل والشرط ، وهي أيضاً قد تطلق على ما لا يعقل ، فناسب ذلك الحال ، وزيد هناك في وصف الناجين { وجعلناهم خلائف } [ يونس : 73 ] نظراً إلى قوله تعالى في في أول السورة { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا } [ يونس : 13 ] ، ثم قال : { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } [ يونس : 14 ] فلوح لهم بالإهلاك إن ظلموا ، ثم أشار لهم - في قصة نوح عليه السلام بكونه أعلمهم أن الخلائف هم الناجون الباقي ذكرهم وذريتهم - إلى أنه تفضل عليهم بالتوفيق إلى الإجابة ورحمهم بهذا النبي الكريم - عليه أفضل الصلاة والتسليم - فقضى أنهم غير مهلكين .
ولما افتتحت القصة بنسبتهم له إلى الضلال باطلاً ، وهو ناشىء عن عمى البصيرة أو البصر ، ناسب أن يقلب الأمر عليهم على وجه الحق فقال مؤكداً لإنكارهم ذلك { إنهم كانوا } أي لما جبلتهم من العوج { قوماً عمين* } أي مطبوعين في عمى القلب مع قوتهم يحاولون ، ثابت لهم ذلك ، بما أشار إليه فعل دون أن يقال فاعل ، وختمت القصة في يونس بقوله

{ فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } [ يونس : 73 ] لقوله أولها { إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري } [ يونس : 71 ] أي إنذاري لأنه أعلم أنه كبر عليهم ولو كان تبشيراً لما عز عليهم .
ولما كان عاد بعدهم ، ولم يكن هنا ما يقتضي تشويش الترتيب ، اتبعهم بهم مقدماً المرسل إليه ليفيد تخصيص رسالته بهم وهم بعض أهل الأرض فقال : { وإلى عاد } خاصة أرسلنا { أخاهم } أي في النسب لأنهم عنه أفهم وبحاله في الثقة والأمانة أعرف؛ ولما عطفه على نوح عليهما السلام بعد تقديم المرسل إليهم ، بينه بقوله : { هوداً } بخلاف قوم نوح فإنهم كانوا جميع أهل الأرض ، لأن القبائل لم تكن فرقت الناس ولا الألسنة إذ كان لسان الكل واحداً ، ولم تفرق الألسنة إلا بعد الصرح ، ولهذا عم الغرق جميع أهل الأرض ، فكان المعنى حينئذ لا يختلف في قصته بتقديم ولا تأخير ، فناسب تقديم الرسالة أو المرسل لأنه أهم .
ولما وكانت قصة نوح عليه السلام أول قصص الأنبياء مع قومهم ، ولم يكن للعرب عهد بمجاورات الأنبياء ومن يرسلون إليه ، فأتى فيها بالأصل « أرسلناه » فقال سياقاً واحداً إخباراً لمن هو فارغ الذهن من كل جزء من أجزائها؛ أتت قصة هود عليه السلام بعد علم السامعين بقصة نوح عليه السلام مما وقع من تبليغه لهم وردهم عليه ، فلما ذكر إرساله تشوف السامع إلى انه هل قال لهم كما قال نوح وهل ردوا عليه كرد قومه أو كان الأمر بخلاف ذلك؟ فأجيب سؤال المتشوف بقوله : { قال } كقوله نوح عليه السلام سواء { يا قوم } مذكراً لهم بأنه أحدهم يهمه ما يهمهم { اعبدوا الله } أي لا ستحقاقه ذلك لذاته؛ ثم علل أو استأنف بقوله : { ما لكم } وأغرق في النفي فقال : { من إله غيره } ولما كانوا عارفين بما أصاب قوم نوح قال : { أفلا تتقون* } أي أفلا تجعلون بينكم وبين عذاب هذا الواحد الجبار وقاية .
ولما تشوف السامع إلى جوابهم بعد هذا الترغيب الممزوج بالترهيب ، أجيب بقوله { قال الملأ } أي الأشراف الذين يملؤون العيون بهجة والصدور هيبة ، ولما كانت عاد قليلاً بالنسبة إلى قوم نوح عليه السلام ، وكان قد أسلم من أشرافهم من له غنى في الجملة ، قيد بقوله : { الذين كفروا } أي ستروا ما من حقه الظهور من أدلة الوحدانية ، ووصفوا تسلية لهذا النبي الكريم فيما يرى من جفاء قومه بأن مثل ذلك كان لإخوانه من الأنبياء بقوله { من قومه } وأكدوا ما واجهوه به من الجفاء لأنهم عالمون بأن حاله في علمه وحكمه يكذبهم بقولهم : { إنا لنراك } أي لنعلمك علماً متيقناً حتى كأنه محسوس { في سفاهة } أي مظروفاً لخفة العقل ، فهي محيطة بك من جميع الجوانب ، لا خلاص لك منها ، فلذا أدتك إلى قول لا حقيقة له ، فالتنوين للتعظيم ، فإن قيل : بل للتحقير ، كأنهم توقفوا في وصفه بذلك كما توقفوا في الجزم بالكذب فقالوا : { وإنا لنظنك من الكاذبين* } أي المتعمدين للكذب ، وذلك لأنه كان عندهم علم من الرسل وما يأتي مخالفهم من العذاب من قصة نوح عليه السلام ولم يكن العهد بعيداً ، وأما قوم نوح فجزموا بالضلال وأكدوه بكونه مبيناً ، لأنه لم يكن عندهم شعور بأحوال الرسل وعذاب الأمم قبل ذلك ، ولهذا قالوا

{ ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } [ المؤمنون : 24 ] ، قيل : ليس كذلك ، فقد ورد في جواب قوم نوح في سورة هود مثل هذا ، وهو قوله { بل نظنكم كاذبين } [ هود : 27 ] ؛ فإن قيل : إنما كان هذا في ثاني الحال بعد أن نصب لهم الأدلة وأقام البراهين على صحة مدعاه وثارت حظوظ الأنفس بالجدال ، فإنه يبعد أن يكون قومه أجابوه بذلك أول ما دعاهم ، قيل : والأمر كذلك في قصة هود عليه السلام سواء فإنه لم يقل له ذلك إلا الكفار من قومه ، فتقييدهم بالوصف يدل على أنه كان فيهم من اتبعه ، بل وإن متبعه كان من أشرافهم هم بالظن ، وتعبير في الكذب لإرادتهم أنه يكفي في وصفه بالسفاهة التي زعموها إقدامه على ما يحتمل معه ظنهم لكذبه ، أو يكون قوله غير الحق في زعمهم مردداً بين أن يكون قاله عن تعمد أو حمله عليه ما رموه به من السفه من غير تأمل . ولما قابلوا لينته لهم وشفقته عليهم بهذه الغلطة ، أعرض عن ذلك وعاملهم من الحلم بضده ما سموه به بأن { قال } معلماً الأدب في مخاطبة السفهاء { يا قوم } مذكراً بما بينهم من النسب الداعي إلى الود والمناصحة والعطف والملاطفة { ليس بي سفاهة } فنفى أن يكون به شيء من خفة حلم ، فانتقى أن يكون كاذباً لأن الداعي إلى الكذب الخفة والطيش فلم يحتج إلى تخصيصه بنفي .
ولما نفى السفاهة ، أثبت ما يلزم منه ضدها بقوله : { ولكني رسول } وبين المرسل تعظيماً للأمر بقوله { من رب العالمين* } أي المحسن إليهم بعد نعمة الإيجاد والأرزاق بإرسال الرسل إليهم ليكسبوهم معالي الأخلاق التي بها انتظام نعمة الإبقاء { أبلغكم } وجمع الرسالة لما تقدم في قصة نوح عليه السلام فقال : { رسالات ربي } أي المحسن إليّ بتعليمي ما لم أكن أعلم وتأهيلي لما لم يكن في حسابي .
ولما كانوا قد رموه بالسفه الذي هو من غرائز النفس لأنه ضد الحلم والرزانة ، عبر عن مضمون الجملة النافية له بما يقتضي الثبات فقال : { وأنا لكم ناصح } أي لم يزل النصح من صفتي ، وليس هو تكسبته بل غريزة فيّ ، وقد بلوتموني فيه قبل الرسالة وإظهار هذه المقالة دهراً دهيراً وزماناً طويلاً؛ ولما قالوا إنهم يظنون كذبه ، زادهم صفة الأمانة فقال : { أمين* } .

أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)

ولما كان يعرف ما يعتقدونه من أمانته وعقله ، وظن أنه ما حملهم على هذا إلا العجب من أن يطلع على ما لم يطلعوا عليه ، أنكر عليهم ذلك ذاكراً لما ظنه حاملاً لهم ملوحاً بالعطف إلى التكذيب فقال : { أو عجبتم } أي أكذبتم وعجبتم { أن جاءكم ذكر } أي شرف وتذكير { من ربكم } أي الذي لم يقطع إحسانه عنكم قط ، منزلاً { على رجل منكم } أي عزه عزكم وشرفه شرفكم فما فاتكم شيء { لينذركم } أي يحذركم ما لمن كان على ما أنتم عليه من وخامة العاقبة .
ولما كان التقدير : فاحذروا ، عطف عليه تذكيرهم بالنعمة مشيراً به إلى التحذير من عظيم النقمة في قوله : { واذكروا إذ } أي حين { جعلكم خلفاء } أي فيما أنتم فيه من الأرض ، ولما كان زمنهم متراخياً بعدهم ، أتى بالجار فقال : { من بعد قوم نوح } أو يكون المحذوف ما اقتضاه الاستفهام في قوله { أو عجبتم } من طلب الجواب ، أي أجيبوا واذكروا ، أي ولا تبادروا بالجواب حتى تذكروا ما أنعم به عليكم ، وفيه الإشارة إلى التحذير مما وقع لقوم نوح ، أو يكون العطف على معنى الاستفهام الإنكاري في { أفلا تتقون } ، { أو عجبتم } أي اتقوا ولا تعجبوا واذكروا ، أو يكون العطف - وهو أحسن على { اعبدوا الله } وقوله { خلفاء } قيل : إنه يقتضي أن يكونوا قاموا مقامهم ، ومن المعلوم أن قوم نوح كانوا ملء الأرض ، وأن عاداً إنما كانوا في قطعة منها يسيرة وهي الشجرة من ناحية اليمن ، فقيل : إن ذلك لكون شداد بن عاد ملك جميع الأرض ، فكأنه قيل : جعل جدكم خليفة في جميع الأرض ، فلو حصل الشكر لتمت النعمة ، فأطيعوا يزدكم من فضله ، وقيل : إن قصة ثمود مثل ذلك ، ولم يكن فيهم من ملك الأرض ولا أرض عاد ، فأجيب بما طرد ، وهو أن عاداً لما كانوا أقوى أهل الأرض أبداناً وأعظمهم أجساداً وأشدهم خلقاً أشهرهم قبيلة وذكراً ، كان سائر الناس لهم تبعاً ، وكذا ثمود فيما فيما أعطوه من القدرة على نحت الجبال ونحوها بيوتاً ، وعندي أن السؤال من أصله لا يريد فإن بين قولنا : فلان خليفة فلان ، وفلان خليفة من بعد فلان - من الفرق ما لا يخفي ، فالمخلوف في الثاني لم يذكر ، فكأنه قيل : جعلكم خلفاء لمن كان قبلكم في هذه الأرض التي أنتم بها ، وخص قوم نوح وعاد بالذكر تذكيراً بما حل بهم من العذاب ، ولهذا بعينه خص الله هذه الأمم التي وردت في القرآن بالذكر ، وإلا فقد كانت الأمم كثيرة العد زائدة على الحد عظيمة الانتشار في جميع الأقطار ، ومعلوم أن الله تعالى لم يترك واحدة منها بغير رسول { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً }

[ الإسراء : 15 ] وفي قصة هود في سورة الأحقاف { وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه } [ الأحقاف : 21 ] ؛ وله سر آخر وهو أن هذه الأمم كان عند العرب كثير من أخبارهم ففصلت لهم أحوالهم ، وطوي عنهم من لم يكن عندهم شعور بهم فلم يذكروا إلا إجمالاً لئلا يسارعوا إلى التكذيب بما ينزل فيهم من غير دليل شهودي يقام عليهم .
ولما ذكرهم بمطلق الإبقاء بعد ذلك الإغراق العام ، أتبعه التذكير بالزيادة فقال : { وزادكم } أي على من قبلكم أو على من هو موجود في الأرض في زمانكم { في الخلق } أي الخاص بكم { بسطة } أي في الحس بطول الأبدان والمعنى بقوة الأركان ، قيل : كان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعاً ، وقيل : أكثر .
ولما عظمت النعمة ، كرر عليهم التذكير فقال مسبباً عن ذلك { فاذكروا آلاء الله } أي نعم الذي استجمع صفات العظمة التي أنعم عليكم بها من الاستخلاف والقوة وغيرهما ، واذكروا أنه لا نعمة عندكم لغيره أصلاً ، فصار مستحقاً لأن تخصوه بالعبادة { لعلكم تفلحون* } أي ليكون حالكم حال من يرجي فلاحه وهو ظفره بجميع مراده ، لأن الذكر موجب للشكر الموجب للزيادة .
ولما كان هذا منه موجباً ولا بد لكل سامع منصف من المبادرة إلى الإذعان لهذه الحجة القطعية ، وهي استحقاقه للافراد بالعبادة للتفرد بالإنعام ، ازداد تشوف المخاطب إلى جوابهم ، فأجيب بقوله : { قالوا } منكرين عليه معتمدين على محض التقليد { أجئتنا } أي من عند من ادعيت أنك رسوله { لنعبد الله } أي الملك الأعظم { وحده } ولما كان هذا منهم في غاية العجب المستحق للإنكار ، أتبعوه ماهو كالعلة لإنكارهم عليه ما دعاهم إليه فقالوا : { ونذر } أي نترك على غير صفة حسنة { ما كان يعبد آباؤنا } أي مواظبين على عبادته بما دلوا عليه ب « كان » وصيغة المضارع - مع الإشارة بها إلى تصوير آبائهم في حالهم ذلك - ليحسن في زعمهم إنكار مخالفتهم لهم .
ولما كان معنى هذا الإنكار أنا لا نعطيك ، وكان قد لوح لهم بالتذكر بقوم نوح وقوله { أفلا تتقون } إلى الأخذ إن أصروا ، سببوا عن ذلك قولهم : { فأتنا } أي عاجلاً { بما تعدنا } أي من العذاب بما لوح إليه إيماؤهم إلى التكذيب بقولهم : { إن كنت من الصادقين* } وتسميتهم للانذار بالعذاب وعداً من باب الاستهزاء .
ولما كانوا قد بالغوا في السفه في هذا القول ، وكان قد علم من محاورته صلى الله عليه وسلم لهم الحلم عنهم ، اشتد التطلع إلى ما يكون من جوابه لهذا والتوقع له ، فشفى غليل هذا التشوف بقوله : { قال قد وقع } أي حق ووجب وقرب أن يقع { عليكم من ربكم } أي الذي غربكم به تواتر إحسانه عليكم وطول إملائه لكم { رجس } أي عذاب شديد الاضطراب في تتبع أقصاكم وأدناكم موجب لشدة اضطرابكم { وغضب } أي شدة في ذلك العذاب لا تفلتون منها .

ولما أخبرهم بذلك ، بين لهم أن سببه كلامهم هذا في سياق الإنكار فقال : { أتجادلونني } ولما كانت آلهتهم تلك التي يجادلون فيها لا تزيد على السماء لكونها خالية من كل معنى ، قال : { في أسماء } ثم بين أنه لم يسمها آلهة من يعبد به فقال : { سميتموها انتم وآباؤكم } ولما كان لله تعالى أن يفعل ما يشاء وأن يأمر بالخضوع لمن يشاء ، قال نافياً التنزيل فإنه يلزم من نفي الإنزال : { ما نزل الله } أي الذي ليس الأمر إلا له { بها } أي بتعبدكم لها أو بتسميتكم إياها ، وأغرق في النفي فقال : { من سلطان } ولعله أتى بصيغة التنزيل لأن التفعيل يأتي بمعنى الفعل المجدد وبمعنى الفعل بالتدريج فقصد - لأنه في سياق المجادلة وفي سورة مقصودها إنذار من أعرض عما دعا إليه هذا الكتاب النازل بالتدريج - النفي بكل اعتبار ، سواء كان تجديداً أو تدريجاً وإشارة إلى أنه لو نزل عليهم في الأمر بعبادتها شيء واحد لتوقفوا فيه لعدم فهمهم لمعناه حتى يكرر عليهم الأمر فيه مرة بعد أخرى ، فيعلموا أن ذلك أمر حتم لا بد منه كما فعله بنو إسرائيل في الأمر بذبح البقرة لأجل القتيل لأجل أنهم لم يعقلوا معناه ، دل ذلك قطعاً على أن الأمر لهم بعبادتها إنما هو ظلام الهوى لأنه عمى محض من شأن الإنسان ركوبه بلا دليل أصلاً .
ولما أخبرهم بوقوع العذاب وسببه ، بين لهم أن الوقوع ليس على ظاهرة في الإنجاز ، وإنما معناه الوجوب الذي لا بد من فقال : { فانتظروا } ثم استأنف الإخبار عن حاله بقوله : { إني } وأشار بقوله : { معكم } إلى أنه لا يفارقهم لخشيته منهم ولا غيرها { من المنتظرين* } .

فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)

ولما كان هذا ينبغي أن يكون سبباً للتصديق الذي هو سبب الرحمة ، بين أنه إنما سبب لهم العذاب ، وله ولمن تبعه النجاة ، فبدأ بالمؤمنين اهتماماً بشأنهم بقوله : { فأنجيناه } أي بما لنا من العظمة إنجاء وحيّاً سريعاً سللناهم به من ذلك العذاب كسل الشعرة من العجين { والذين معه } أي في الطاعة ، وأشار إلى أنه لا يجب على الله شيء بقوله : { برحمة } أي بإكرام وحياطة { منا } أي لا بعمل ولا غيره .
ولما قدم الإنجاء اهتماماً به ، أتبعه حالهم فقال معلماً بأن أخذه على غير أخذ الملوك الذين يعجزون عن الاستقصاء في الطلب ، فتفوتهم أواخر العساكر وشذاب الجنود والأتباع { وقطعنا } دابرهم أي آخرهم ، هكذا كان الأصل ، ولكنه أظهر تصريحاً بالمقصود وبياناً لعلة أخذهم فقال : { دابر } أي آخر ، أي استأصلنا وجعلنا ذلك الاستئصال معجزة لهود عليه السلام { الذين كذبوا بآياتنا } أي ولم يراقبوا عظمتها بالنسبة إلينا وقوله : { وما كانوا } أي خلقاً وجبلة { مؤمنين* } عطف على صلة { الذين } وهي { كذبوا بآياتنا } وهي جارية مجرى التعليل لأخذهم مؤذنة بأنه لا يحصل منهم صلاح كما ختم قصة نوح بقول { إنهم كانوا قوماً عمين } [ الأعراف : 64 ] تعليلاً لإغراقهم ، أي أنا قطعنا دابرهم وهم مستحقون لذلك ، لأنهم غير قابلين للايمان لما فيهم من شدة العناد ولزوم الإلحاد ، فالمعنى : وما كان الإيمان من صفتهم ، أي ما آمنوا في الماضي ولا يؤمنون في الآتي ، فيخرج منه من آمن وكان قد كذب قبل إيمانه ومن لم يؤمن في حال دعائه لهم وفي علم الله أنه سيؤمن ، ويزيده حسناً أنهم لما افتتحوا كلامهم بأن نسبوه إلى السفاهة كاذبين؛ ناسب ختم القصة بأن يقلب الأمر عليهم فيوصفوا بمثل ذلك صدقاً بكلام يبين أن اتصافهم به هو الموجب لما فعل بهم ، لأن الإيمان لا يصدر إلا عن كمال الثبات والرزانة وترك الهوى وقمع رعونات النفس والانقياد لواضح الأدلة وظاهر البراهين ، فمن تركه مع ذلك فهو في غاية الطيش والخفة وعدم العقل ، وأيضاً فوصفهم بالتكذيب بالفعل الماضي لا يفهم دوامهم على تكذيبهم ، فقال سبحانه ذلك لنفي احتمال أنهم آمنوا بعد التكذيب وأن أخذهم إنما كان لمطلق صدور التكذيب منهم ، وأنهم لم يبادروا إلى الإيمان قبل التكذيب ، ويحتمل أن تكون الجملة حالاً ، والمعنى على كل تقدير : قطعنا دابرهم في حال تكذيبهم وعدم إيمانهم .
ولما أتم سبحانه ما أراد من قصة عاد ، أتبعهم ثمود فقال { وإلى ثمود } أي خاصة ، منع من الصرف لأن المراد به القبيلة ، وهو مشتق من الثمد وهو الماء القليل ، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى ، أرسلنا { أخاهم صالحاً } ثم استأنف الإخبار عن قوله - كما مضى في هود عليه السلام فقال : { قال يا قوم } مستعطفاً لهم بالتذكير بالقرابة وعاطف النسابة { اعبدوا الله } أي الذي لا كمال إلا له { ما لكم } وأكد النفي بقوله : { من إله غيره } .

ولما دل على صدقه في ذلك أنهم دعوا أوثانهم فلم تجبهم ، ودعا هو صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه فأخرج لهم الناقة ، علل صحة ما دعا إليه بقوله : { قد جاءتكم بينة } أي آية ظاهرة جداً على صدقي في ادعاء رسالتي وصحة ما أمرتكم به ، وزادهم رغبة بقوله : { من ربكم } أي الذي لم يزل محسناً إليكم؛ ثم استأنف بيانها بقوله : { هذه } مشيراً إليها بعد تكوينها تحقيقاً لها وتعظيماً لشأنها وشأنه في عظيم خلقها وسرعة تكوينها لأجله .
ولما أشار إليها ، سماها فقال : { ناقة الله } شرفها بالإضافة إلى الاسم الأعظم ، ودل على تخصيصها بهم بقوله : { لكم } حال كونها { آية } أي لمن شاهدها ولمن سمع بها وصح عنده أمرها؛ ثم سبب عن ذلك قوله : { فذروها } أي اتركوها ولو على أدنى وجوه الترك { تأكل } أي من النبات و { في أرض الله } أي مما أنبت الله الذي له كل شيء وهي ناقته كما أن الأرض كلها مطلقاً أرضه والنبات رزقه ، ولذلك أظهر لئلا يختص أكلها بأرض دون أخرى .
ولما أمرهم بتركها لذلك ، أكد المر بنهيهم عن أذاها فقال : { ولا تمسوها بسوء } فضلاً عما بعد المس { فيأخذكم } أي أخذ قهر بسبب ذلك المس وعقبه { عذاب أليم* } أي مؤلم .
ولما أمرهم ونهاهم ، ذكر لهم ترغيباً مشيراً إلى ترهيب فقال : { واذكروا } أي نعمة الله عليكم { إذ جعلكم خلفاء } أي فيما أنتم فيه { من بعد عاد } أي إهلاكهم { وبوأكم في الأرض } أي جعل لكم في جنسها مساكن تبوءون أي ترجعون إليها وقت راحتكم ، سهل عليكم من عملها في أي أرض أردتم ما لم يسهله على غيركم ، ولهذا فسر المراد بقوله : { تتخذون } أي بما لكم من الصنائع { من سهولها قصوراً } أي أبنية بالطين واللبن والآجر واسعة عالية حسنة يقصر أمل الآمل ونظر الناظر عليها مما فيها من المرافق والمحاسن { وتنحتون الجبال } أي أيّ جبل أرتم تقدرونها { بيوتاً } .
ولما ذكرهم بهذه النعم مرغباً مرهباً ، كرر ذلك إشارة وعبارة فقال مسبباً عما ذكرهم به : { فاذكروا } أي ذكر إذعان ورغبة ورهبة { آلاء } أي نعم { الله } أي الذي له صفات الكمال فلا حاجة به إلى أحد ، فإحسانه هو الإحسان في الحقيقة { ولا تعثوا في الأرض } من العثي وهو الفساد ، وهو مقلوب عن العيث - قاله ابن القطاع ، وحينئذ يكون قوله : { مفسدين* } بمعنى معتمدين للفساد .

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)

ولما حصل الالتفات إلى جوابهم ، قيل : { قال الملأ } أي الأشراف ، وبينه بقول : { الذين استكبروا } أي أوقعوا الكبر واتصفوا به فصار لهم خلقاً فلم يؤمنوا؛ ونبه على التأسية بقوله : { من قومه } ولما قال : { للذين استضعفوا } كان ربما فهم أنهم آمنوا كلهم ، فنفى ذلك بقوله مبدلاً منه : { لمن آمن منهم } أي المستضعفين ، فهو أوقع في النفس وأروع للجنان من البيان في أول وهلة مع الإشارة إلى أن أتباع الحق هم الضعفاء ، وأنه لم يؤمن إلا بعضهم ، ففيه إيماء إلى أن الضعف أجلّ النعم لملازمته لطرح النفس المؤدي إلى الإذعان للحق ، وبناؤه للمفعول دليل على أنهم في غاية الضعف بحيث يستضعفهم كل أحد { أتعلمون } أي بدؤوهم بالإنكار صداً لهم عن الإيمان { أن صالحاً } سموه باسمه جفاء وغلطة وإرهاباً للمسؤولين ليجيبوهم بما يرضيهم { مرسل من ربه } وكأنهم قالوه ليعلموا حالهم فيبنوا عليه ما يفعلونه ، لأن المستكبيرين لا يتم لهم كبرهم إلا بطاعة المستضعفين .
ولما عملوا ذلك منهم ، أعملوهم بالمنابذة اعتماداً على الكبير المتعال الذي يضمحل كل كبر عنده ولا يعد لأحد أمر مع أمره بأن { قالوا } منبهين لهم على غلظتهم وغلطهم في توسمهم في حالهم معبرين بما دل على العلم بذلك والإذعان له { إنا بما أرسل به } وبني للمفعول إشارة إلى تعميم التصديق وإلى أن كونه من عند الله أمر مقطوع به لا يحتاج إلى تعيين { مؤمنون* } أي غريقون في الإيمان به ، ولذلك { قال الذين استكبروا } أي في جوابهم معبرين بما يدل على المخالفة لهم والمعاندة { إنا بالذي } ووضعوا موضع « أرسل به » - رداً لما جعلوه معلوماً وأخذوه مسلماً { آمنتم به } أي كائناً ما كان { كافرون* } ثم سبب عن قولهم قوله { فعقروا الناقة } أي التي جعلها الله لهم آية ، وعبر بالعقر دون النحر لشموله كل سبب لقتلها لأن ابن إسحاق ذكر أنه اجتمع لها ناس منهم فرماها أحدهم بسهم وضرب آخر قوائمها بالسيف ونحرها آخر فأطلق اسم السبب على المسبب ، ولكن قوله تعالى : { فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر } [ القمر : 29 ] وقوله { إذا انبعث أشقاها } [ الشمس : 91 ] وقوله صلى الله عليه وسلم « انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في قومه » قالوا : هو قدار بن سالف ، جعلت له امرأة من قومه ابنتها إن عقرها ، ففعل فكان أشقى الأولين ، وأشقى الآخرين عبد الرحمن بن ملجم المرادي قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، جعلت له قطام امرأة من بني عجل جميلة نفسها إن قتله ، فالمناسبة بينهما أن كلاًّ منهما ألقى نفسه في المعصية العظمى لأجل شهوة فرجه في زواج امرأة ، وقوله صلى الله عليه وسلم « أشقى الأولين عاقر الناقة »

يدل على أن عاقرها رجل واحد ، وحينئذ يكون المراد به قطع القوائم ، فحيث جمع أراد الحقيقة والمجاز معاً ، وحيث أفراد أراد الحقيقة فقط ، فالتعبير به لأنه الأصل والسبب الأعظم في ذبح الإبل؛ قال البغوي : قال الأزهري : العقر هو قطع عرقوب البعير ، ثم جعل النحر عقراً لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره - انتهى . وكأن هذا إشارة إلى أن المراد بالعقر في كلامه النحر ، ولا ريب في أن أصل العقر في اللغة القطع ، ومادته تدور على ذلك ، عقر النخلة . إذا قطع رأسها فيبست ، والفرس : ضرب قوائمها بالسيف وأكثر ما يستعمل العقر في الفساد ، وأما النحر فيستعمل غالباً في الانتفاع بالمنحور لحماً وجلداً وغيرهما ، فلعل التعبير به دون النحر إشارة إلى أنهم لم يقصدوا بنحرها إلا إهلاكها عتواً على الله وعناداً وفعلاً للسوء مخالفة لنهي صالح عليه السلام ، ولا يشكل ذلك بما ورد من أنهم اقتسموا لحمها ، لأنه لم يدع أن العقر يلزمه عدم الانتفاع بالمنحور ، وعلى التنزل فهم لم يريدوا بذلك الانتفاع باللحم ، وإنما قصدوا- حيث لم يمكنهم المشاركة جميعاً في العقر - ان يشتركوا فيما نشأ عنه تعريضاً برضاهم به ومشاركتهم فيه بما يمكنهم { وعتوا } أي تجاوزوا الحد في الغلطة والتكبر { عن أمر } أي امتثال أمر { ربهم } أي المحسن إليهم الذي أتاهم على لسان رسوله من تركها { وقالوا } زيادة في العتو { يا صالح ائتنا } .
ولما نزلوا وعيدهم له - حيث لم يؤمنوا به - منزلة الوعد والبشارة ، قالوا : { بما تعدنا } استخفافاً منهم ومبالغة في التكذيب ، كأنهم يقولون : نحن على القطع بأنك لا تقدر أن تأتينا بشيء من ذلك ، وإن كنت صادقاً فافعل ولا تؤخره رفقاً بنا وشفقة علينا ، فإنا لا نتأذى بذلك ، بل نتلذذ من يلقى الوعد الحسن ، وحاصله التهكم منهم به والإشارة إلى عدم قدرته؛ وأكدوا ذلك بقولهم بأداة الشك : { إن كنت من المرسلين* } أي الذين سمعنا أخبارهم فيما مضى؛ ثم سبب عن عتوهم قوله : { فأخذتهم الرجفة } أي التي كانت عنها أو منها الصيحة ، أخذ من هو في القبضة على غاية من الصغار والحقارة ، ولعل توحيد الدار هنا مع الرجفة في قصة صالح وشعيب عليهما السلام في قوله تعالى : { فأصبحوا في دارهم } أي مساكنهم ، وجمعها في القصتين مع الصيحة ، في سورة هود عليه السلام للإشارة إلى عظم الزلزلة والصيحة في الموضعين ، وذلك لأن الزلزلة إذا كانت في شيء واحد كانت أمكن ، فتكون في المقصود من النكال أعظم ، والصيحة من شأنها الانتشار ، فإذا عمت الأماكن المتنائية والديار المتباعدة فأهلكت أهلها ومزقت جماعتها وفرقت شملها ، كانت من القوة المفرطة والشدة البالغة بحيث تنزعج من تأمل وصفها النفوس وتجب له القلوب ، وحاصله أنه حيث عبر بالرجفة وحد الدار إشارة إلى شدة العذاب بعظم الاضطراب ، وحيث عبر بالصيحة جمع إيماء إلى عموم الموت بشدة الصوت ، ولا مخالفة لأن عذابهم كان بكل منها ، ولعل إحداهما كانت سبباً للأخرى ، ولعل المراد بالرجفة اضطراب القلوب اضطراباً قطعهاً ، أو أن الدار رجفت فرجفت القلوب وهو أقرب ، وخصت الأعراف بما ذكر فيها ، لأن مقصودها إنذار المعرضين ، والرجفة أعظم قرعاً لعدم الإلف لها - والله اعلم { جاثمين* } أي باركين على ركبهم لازمين أماكنهم لا حراك بأحد منهم ، ولم يبق منهم في تلك الساعة أحد إلا رجل واحد كان في الحرم ، فلما خرج منه أصابه ما أصاب قومه وهو أبو رغال ، ومسافة الحرم عن أرضهم تزيد على مسيرة عشرة أيام ، ومن الآيات العظيمة أن ذلك الذي خلع قلوبهم وأزال أرواحهم لم يؤثر في صالح عليه السلام والمستضعفين معه شيئاً ، وذلك مثل الريح التي زلزلت الأحزاب ، وأنالتهم أشد العذاب ، ورمتهم بالحجارة والتراب حتى هزمتهم وما نال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها كبير أذى ، وكفها الله عن حذيفة ، وكذا البرد الذي كان ذلك زمانه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليتعرف له أخبارهم .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41