كتاب : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف : إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)

لما ختم أمر الطامة الكبرى في الحاقة حتى ثبت أمره ، وتساوى سره وجهره ، ودل عليها حتى لم يبق هناك نوع لبس في وجوب التفرقة في الحكمة بين المحسن والمسيء ، وختم بأن ترك ذلك مناف للكمال فيما نتعارقه من أمور العمال بعد أن أخبر أنه يعلم أن منهم مكذبين ، وكان السائل عن شيء يدل على أن السائل ما فهمه حق فهمه ، ولا اتصف بحقيقة علمه ، عجب في أول هذه ممن سأل عنها فقال : { سأل } ودل على أنه لو لم يسأل عنها إلا واحد من العباد لكان جديراً بالتعجب منه والإنكار عليه بالإفراد في قوله : { سائل } وهو من السؤال في قراءتي من خفف بإبدال الهمزة ألفاً ومن همز .
ولما كان سؤالهم من وقت مجيء الساعة والعذاب وطلبهم تعجيل ذلك إنما هو استهزاء ، ضمن « سأل » استهزاء ثم حذفه ودل عليه بحال انتزعها منه وحذفها ودل عليها بما تعدى به فقال ، أو أنه حذف مفعول السؤال المتعدي « بعن » ليعم كل مسؤول عنه إشارة إلى أن من تأمل الفطرة الأولى وما تدعو إليه من الكمال فأطاعها فكان مسلماً فاضت عليه العلوم ، وبرقت له متجليه أشعة الفهوم ، فبين المراد من دلالة النص بقوله : { بعذاب } أي عن يوم القيامة بسبب عذاب أو مستهزئاً بعذاب عظيم جداً { واقع * } وعبر باللام تهكماً منهم مثل { فبشرهم بعذاب } فقال : { للكافرين } أي الراسخين في هذا الوصف بمعنى : إن كان لهم في الآخرة شيء فهو العذاب ، وقراءة نافع وابن عامر بتخفيف الهمزة أكثر تعجيباً أي اندفع فمه بالكلام وتحركت به شفتاه لأنه مع كونه يقال : سال يسأل مثل خاف يخاف لغة في المهموز يحتمل أن يكون من سأل يسأل ، قال البغوي : وذلك أن أهل مكة لما خوفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب قالوا : من أهل هذا العذاب ولمن هو؟ سلوا عنه ، فأنزلت .
ولما أخبر بتحتم وقوعه علله بقوله : { ليس له } أي بوجه من الوجوه ولا حيلة من الحيل { دافع * } مبتدىء { من الله } أي الملك الأعلى الذي لا كفؤ له فلا أمر لأحد معه ، وإذا لم يكن له دافع منه لم يكن دافع من غيره وقد تقدم الوعد به ، ودلت الحكمة عليه فتحتم وقوعه وامتنع رجوعه .
ولما كان القادر يوصف بالعلو ، والعاجز يوصف بالسفول والدنو ، وكان ما يصعد فيه إلى العالي يسمى درجاً ، وما يهبط فيه إلى السافل يسمى دركاً ، وكانت الأماكن كلها بالنسبة إليه سبحانه على حد سواء ، اختير التعبير بما يدل على العلو الذي يكنى به عن القدرة والعظمة ، فقال واصفاً بما يصلح كونه مشيراً إلى التعليل : { ذي المعارج * } أي الدرج التي لا انتهاء لها أصلاً - بما دلت عليه صيغة منتهى الجموع وهي كناية عن العلو ، وسميت بذلك لأن الصاعد في الدرج يشبه مشية الأعرج ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها السماوات ، ودل على ما دلت عليه الكثرة مع الدلالة على عجيب القدرة في تخفيفها على الملائكة بقوله : { تعرج الملائكة } أي وهم أشد الخلق وأقدره على اختراق الطباق ، والإسراع في النفوذ حتى يكونوا أعظم من لمح البرق الخفاق { والروح } أي جبريل عليه السلام ، خصه تعظيماً له ، أو هو خلق هو أعظم من الملائكة ، وقيل : روح العبد المؤمن إذا قبض { إليه } أي محل مناجاته ومنتهى ما يمكن من العلو لمخلوقاته ، وعلق بالعروج أو بواقع قوله : { في يوم } أي من أيامكم ، فيه آدمياً { خمسين ألف } وبين المشقة في صعوده أو الكون فيه إن أريد القيامة بأن قال : { سنة * } ولم يقل : عاماً - مثلاً ، ويجوز أن يكون هذا اليوم ظرفاً للعذاب فيكون المراد به يوم القيامة ، وأن يكون طوله على الكافر باعتبار ما يلحقه من الغم لشدة المخاوف عليه لأنه ورد أنه يخفف على المؤمن حتى يكون بمقدار صلاة واحدة - انتهى .

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المعنى أنه لو ولي الحساب غير الله لم يفرغ منه إلا في هذا المقدار ، ويفرغ منه هو سبحانه في نصف يوم من أيام الدنيا ، وقال مجاهد والحكم وعكرمة : هو عمر الدنيا من أولها إلى آخرها خمسون ألف سنة لا يدري أحدكم مضى وكم بقي إلا الله ، وقد مضى في سورة { ألم السجدة } ما ينفع ههنا .
ولما كان هذا كله تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن استعجالهم إياه بالعذاب استهزاء وتكذيباً سواء أريد تصوير العظمة أو العذاب ، سبب عنه قوله : { فاصبر } أي على أذاهم ولا ينفك ذلك عن تبليغهم فإنك شارفت وقت الانتقام منهم أيها الفاتح الخاتم الذي لم أبين لأحد ما بينت على لسانه ، والصبر : حبس النفس على المكروه من الإقدام أو الإحجام ، وجماله بسكون الظاهر بالتثبت والباطن بالعرفان { صبراً جميلاً * } أي لا يشوبه شيء من اضطراب ولا استثقال ، ولا شكوى ولا استعجال ، فإن عذابهم ونصرك عليهم لعظمة من أرسلك ، فلا بد من وقوعه لأن القدح فيه والتكذيب به قدح فيها ، وهذا قبل الأمر بالقتال .

إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13)

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما انطوت سورة الحاقة على أشد وعيد وأعظمه أتبعت بجواب من استبطأ ذلك واستبعده إذ هو مما يلجأ إليه المعاند الممتحن ، فقال تعالى : { سأل سائل بعذاب واقع } [ المعارج : 1 ] إلى قوله { إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً } [ المعارج : 6 و 7 ] ثم ذكر حالهم إذ ذاك { يوم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه } [ المعارج : 11 ] الآية ، ثم أتبع بأن ذلك لا يغني عنه ولا يفيده { إنها لظى } [ المعارج : 15 ] ثم ختمت السورة بتأكيد الوعيد وأشد التهديد { فذرهم يخوضوا ويلعبوا } [ المعارج : 42 ] إلى قوله { ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون } [ المعارج : 44 ] ذلك يوم الحاقة ويوم القارعة - انتهى .
ولما كان كونه تعالى ، بما تقدم في العظمة ، أمراً معلوماً بما له من الآثار من هذا الكون وما فيه ، وكان استبعادهم لما أخبر به أمراً واهياً ضعيفاً سفسافاً لا يكاد يصدق أن أحداً يحاول أن يرد به هذه الأمور التي هي في وضوحها كالشمس لا خفاء بها أصلاً ولا لبس قال مؤكداً : { إنهم } أي الكفار المكذبين المستعجلين { يرونه } أي ذلك اليوم الطويل أو عذابه { بعيداً * } أي زمن وقوعه ، لأنهم يرونه غير ممكن أو يفعلون أفعال من يستبعده { ونراه } لما لنا من العظمة التي قضت بوجوده وهو علينا هين { قريباً * } سواء أريد بذلك قرب الزمان أو قرب المكان ، فهو هين على قدرتنا وهو آت لا محالة ، وكل آت قريب والبعيد والقريب عندنا على حد سواء .
ولما ذكر عن هذا اليوم ما يبعث على السؤال عنه ، استأنف بيانه مبيناً عظمته فقال : { يوم } أي يقع حين { تكون السماء } أي التي هي أوثق ما تراه وأصلبه من عظم ما يقع فيه من الأهوال { كالمهل * } أي الشيء المذاب من المعادن في مهل أو دردي الزيت { وتكون الجبال } التي هي أشد الأرض وأثقل ما فيها { كالعهن * } أي الصوف المصبوغ ألواناً المنقوش ، تطيره الريح كالهباء ، وذلك لأن الجبال في أصلها متلونة كما قال تعالى { ومن الجبال جدد وبيض وحمر } [ فاطر : 27 ] الآية ، قال البغوي : ولا يقال عهن إلا للمصبوغ ، قال : وأول ما تتغير الجبال تصير رملاً مهيلاً ثم عهناً منفوشاً ثم هباء منثوراً - انتهى . { ولا يسأل } من شدة الأهوال { حميم حميماً } أي قريب في غاية القرب والصداقة قريباً مثله عن شيء من الأشياء لفرط الشواغل ولأنه قد كشف لهم أنه لا تغني نفس عن نفس شيئاً ، وأنه قد تقطعت الأسباب وتلاشت الأنساب لما كشف الابتلاء عن أنه لا عز إلا بالتقوى - هذا على قراءة الجماعة بفتح الياء وعلى قراءة ابن كثير بالبناء للمفعول المعنى أنه لا يطالب أحد بأحد كما بعض الحكام في الدنيا من أنه يلزم أقارب من قربه لأنه لا حاجة له بذلك ، لأن القدرة محيطة بالكل على حد سواء .

ولما كان عدم السؤال قد يكون لعدم رؤية بعضهم بعضاً لكثرة الجمع وشدة الزحام وتفرق الناس فيه على حسب مراتب أعمالهم ، استأنف الجواب لمن كأنه يقول : لعل ذلك يترك لعدم رؤيتهم لهم؟ فقال دالاً بالمجهول والتفعيل على عظمة ذلك التبصير وخروجه عن العادة جامعاً لأن المقصود من الحميم الجنس والجمع أدل على عموم التبصير ، قال البغوي : وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس - انتهى ، وكان حكمة ذلك أنه أدل على تقطع الأسباب فلا يسأل أحد منهم الآخر عن شيء من أمره لاشتغال كل بنفسه ، فعدم السؤال لا للخفاء بل للاشتغال وهم كل إنسان بما عنده : { يبصرونهم } أي يبصرهم مبصر فلا يخفى أحد على أحد وإن بعد مكانه ويفر كل من الآخر لشغله بنفسه ، ولما تناهى الإخبار بعظمة ذلك اليوم إلى حد لا تحتمله القلوب ، ذكر نتيجة ذلك فقال مستأنفاً : { يود } أي يتمنى ويشتهي { المجرم } أي هذا النوع سواء كان كافراً أو مسلماً عاصياً علم أنه يعذب بعصيانه ، وقيد به لأن المسلم الطائع يشفع فيمن أذن له فيه ولا يهمه شيء من ذلك ، ودل على أن هذه الودادة مجرد تمن بقوله : { لو يفتدي } أي نفسه { من عذاب يومئذ } أي يوم إذ كانت هذه المخاوف بأعلق الناس بقلبه وأقربهم منه فضلاً عن أن يسأل عن أحواله .
ولما كان السياق للافتداء ، بدأ بأعزهم في ذلك بخلاف ما يأتي في عبس فقال : { ببنيه * } لشدة ما يرى .
ولما ذكر ألصق الناس بالفؤاد وأعز من يلزمه لنصره والذب عنه ، أتبعه ما يليه في الرتبة والمودة وما الافتداء به لا سيما عند العرب من أقبح العار فقال : { وصاحبته } أي زوجته التي يلزمه الذب عنها والكون دائماً معها لكونها عديلة روحه في الدنيا .
ولما ذكر الصاحبة لما لها من تمام الوصلة ، أتبعها الشقيق الذي لا يلزم من الذب عنه ما يلزم من الذب عن الحريم وربما كان مبايناً ، فقال : { وأخيه * } .
ولما كان من بقي من الأقارب بعد ذلك متقاربين في الرتبة ذكر أقربهم فقال : { وفصيلته } أي عشيرته الذين هم أقرب من فصل عنه { التي تؤويه * } أي تضمه إليها عند الشدائد وتحميه ، لأنه أقرب الناس إليها وأعزهم عليها فهم أعظم الناس حقاً عليه وأعزهم لديه .

وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)

ولما كانت هذه الآية في الفدية ، قدم الأبعد عن ذلك فالأبعد من جهة النفع والمعرة . ولما كانت آية عبس في الفرار والنفرة ، قدم الألصق فالألصق ، والأعلق في الأنس فالأعلق .
ولما خص هنا عم فقال : { ومن في الأرض } أي من الثقلين وغيرهم سواء كان فيهم صديق لا صبر عنه ولا بد في كل حال منه أو لا . ولما كان ربما خص ذلك بغيره ، قال محققاً لإرادة الحقيقة في معنى « من » : { جميعاً } .
ولما كان الإنسان تكشف له الأمور هناك أي كشف ، وتظهر له أتم ظهور ، قال تعالى { فبصرك اليوم حديد } فيعلم أنه لا ينجيه من الخطايا المحيطة المحبطة شيء ، دل على الاستبعاد بأداة البعد فقال عاطفاً على « يفتدي » : { ثم ينجيه * } أي ثم يود لو يكون له بذلك نجاة تتجدد له في وقت من الأوقات .
ولما كان هذا مما قد يطمع في النجاة ، فإن بعض الناس يطبع على قلبه فيستغويه الأطماع حتى يعد المحال ممكناً ، قال معبراً بمجمع الروادع والزواجر الصوادع : { كلا } أي ليكن للمجرم ردع أيّ ردع عن وداده هذا وترتب أثره عليه ، فإن ذلك لا يكون أبداً بوجه من الوجوه .
ولما كان الإضمار قبل الذكر لتعظيم ذلك المضمر في المهيع الذي هو فيه ، لأن ذلك إشارة إلى أنه مستحضر في الذهن لا يغيب أصلاً لما للمقام عليه من عظيم الدلالة ، قال بعد هذا الردع العظيم عن النجاة بل عن ودادة تمنيها : { إنها } أي النار التي هي سوط الملك المعد لمن عصاه ، المهدد في هذا السياق بعذابها ، المستولية عليه لتكونه سجنه : { لظى * } أي ذات اللهب الخالص المتناهي في الحر يتلظى أي يتوقد فيأكل بسببه بعضها بعضاً إن لم تجد ما تأكله وتأكل ما وجدته كائناً ما كان { نزاعة للشوى * } أي هي شديدة النزع لجلود الرؤوس بليغته فما الظن بغيره من الجلد ، وقال في القاموس : الشوى : اليدان والرجلان والأطراف وقحف الرأس وما كان غير مقتل - انتهى ، وقيل : والجلد كله واللحم تنزع ذلك ثم يعود كما كان في الحال ليروا التعب الذي كانوا ينكرونه في أنفسهم في كل لحظة .
ولما كان الخلاص غير ممكن من الداعي القادر على الإحضار كنى عن إحضارها إياهم وجذبها لهم بقوله : { تدعوا } ويجوز أن يكون ذلك حقيقة فتقول في الدعاء في نفسها : إليّ يا مشرك إليّ يا منافق ، ونحو ذلك ثم تلتقطهم التقاط الطير للحب { من } أي كل شخص { أدبر } أي من الجن والإنس أي من وقع منه إدبارهما من حقه الإقبال عليه سواء كان ذلك الإدبار عنها أو عن الأعمال التي من شأنها التنجية منها ، ولما كان الإدبار قد يكون عن طبع غالب فيكون صاحبه في عداد من يعذر ، بين أن الأمر ليس كذلك فقال : { وتولى * } أي كلف فطرته الأول المستقيمة الإعراض عن أسباب النجاة .

ولما كانت الدنيا والآخرة ضرتين ، فكان الإقبال على إحداهما دالاً على الإعراض عن الأخرى ، قال دالاً على إدباره بقلبه : { وجمع } أي كل ما كان منسوباً إلى الدنيا .
ولما كانت العادة جارية بأن من كانت الدنيا أكبر همه كان همه بجمعه الاكتناز لا الإنفاق ، سبب عن جمعه قوله : { فأوعى * } أي جعل ما جمعه في وعاء وكنزه حرصاً وطول أمل ولم يعط حق الله فيه ، فكان همه الإيعاء لا إعطاء ما وجب من الحق إقبالاً على الدنيا وإعراضاً عن الآخرة .
ولما كان من أعجب العجب أن يقبل على الدنيا أحد يسمع هذا التهديد بالعرض بين يدي الله والعقاب لمن لم يقبل على عبادته سبحانه ، بين أن ذلك لما جبله عليه سبحانه وأن الإنسان مقهور مع جبلته إلا من حفظه الله ، وذلك دال من كلا الطرفين على عظيم قدرته سبحانه ، قال مؤكداً لاقتضاء المقام للتأكيد لأن الإنسان لو خوف بالعرض على بعض الأمراء ما لابس ما يغضبه فكيف بالعزيز الحكيم القدير العليم : { إن الإنسان } أي هذا الجنس ، عبر به لما له من الأنس بنفسه والرؤية لمحاسنها والنسيان لربه ولذنبه .
ولما دعا الحال إلى بيان الجبلة الداعية إلى ما يقتضيه باختيار صاحبها على وجه كأنه إلجاء بياناً لسهولة الأمور عليه سبحانه بنى للمفعول قوله : { خلق هلوعاً * } أي جبل جبلة هو فيها بليغ الهلع وهو أفحش الجزع مع شدة الحرص وقلة الصبر والشح على المال والرغبة فيما لا ينبغي ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه الحريص على ما لا يحل له ، وروي عنه أن تفسيره ما بعده .
ولما كان الهلع شدة الحرص وقلة الصبر ، نشر معناه فقال مقدماً المعمول الذي هو الظرف على العامل بياناً لإسراعه في ذلك : { إذا مسه } أي أدنى مس { الشر } أي هذا الجنس وهو ما تطاير شرره من الضر { جزوعاً * } أي عظيم الجزع ، وهو ضد الصبر بحيث يكاد صاحبه ينقد نصفين ويتفتت { وإذا مسه } أي كذلك { الخير } أي هذا الجنس وهو ما يلائمة فيعينه من السعة في المال وغيره من أنواع الرزق { منوعاً * } أي مبالغاً في الإمساك عما يلزمه من الحقوق للانهماك في حب العاجل وقصور النظر عليه وقوفاً مع المحسوس لغلبة الجمود والبلادة ، وهذا الوصف ضد الإيمان ، لأنه نصفان : صبر وشكر .

إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29)

ولما كان التقدير : فهو يسارع في آثار ما جبل عليه ما يترتب على الجزع مما لا يجوز في الشرع ومما يترتب على المنع من ذلك أيضاً فيكون من أهل النار ، وكان من القدرة البالغة أن يحفظ سبحانه من أراد من الخزي مع جبلته ويحمله على كسر نفسه مرة بعد أخرى حتى يتلاشى ما عنده من جبلة الشر وتبقى الروح على حالها عند الفطرة الأولى ، فلا تزال تحثه على المبادرة إلى طاعته سبحانه وتعالى وحفظ حدوده ، فكان لا كرامة أعظم من حفظ المكلف لحدود الشرع مع المنافاة لطبعه ، فيكون جامعاً للإيمان بنصفيه : الصبر والشكر ، لما جمع من هذه الأوصاف الثمان المعادة لأبواب الجنة الثمان ، فكان أسباباً لها ، استثنى من هذا النوع الهلوع ولذلك جمع فقال : { إلا المصلين * } أي المحافظين على الصلاة التي هي مواطن الافتقار ، العريقين في هذا الوصف ، فإنه لا يشتد هلعهم فلا يشتد جزعهم ولا منعهم ، فيكونوا في أحسن تقويم معتدلين مسارعين فيما يرضي الرب ، لأنه سبحانه قرن بما جبلهم عليه من الهلع من طهارة الجسد لطهارة طينته وزكاء روحه ما هيأه لتهذيب نفسه مما يسره له من أصدقاء الخير وأولياء المعروف وسماع المواعظ الحسان والإبعاد عن معادن الدنس من البقاع والأقران والكلام والأفعال وغير ذلك من سائر الأحوال ، والملابسة بكل ما يحمل على المعالي من صالح الخلال حتى كانوا من أهل الكمال ، ولذلك وصفهم بما يبين عراقتهم في الوصف لها فقال : { الذين هم } أي بكلية ضمائرهم وظواهرهم { على صلاتهم } أي التي هي معظم دينهم وهي النافعة لهم لا لغيرهم - بما أفادته الإضافة ، والمراد الجنس الشامل لجميع الأنواع إلا أن معظم المقصود الفرض ، ولذلك عبر بالاسم الدال على الثبات في قوله : { دائمون * } أي لا فتور لهم عنها ولا انفكاك لهم منها بل يلازمونها ملازمة يحكم بسببها أنها في حال الفراغ منه نصب أعينهم بدوام الذكر لها والتهيؤ لأدائها لأنها صلتهم بمعبودهم الذي لا خير عندهم إلا منه ، فلم يكونوا ناسين لمساوئهم ولا آسين بمحاسنهم ، وكفى بالصلاة بركة في دلالتها على النجاة من هذا الوصف الموجب لأسباب النار ، وهي عبادة ذات شروط وأركان وأبعاض وهيئات وسنن وآداب مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم ، وهي منقسمة إلى ذات ركوع وسجود ، وإلى ذات سجود بلا ركوع كسجدة الشكر والتلاوة ، وإلى ما لا ركوع فيها ولا سجود كصلاة الجنازة .
ولما ذكر زكاة الروح ، أتعبه زكاة عديلها المال ، فقال مبيناً للرسوخ في الوصف بالعطف بالواو : { والذين في أموالهم } أي التي منَّ سبحانه بها عليهم { حق } ولما كان السياق هنا لأعم من المحسنين الذين تقدموا في الذاريات اقتصر على الفرض فقال : { معلوم * } أي من الزكوات وجميع النفقات الواجبة .

ولما كان في السؤال من بذل الوجه وكسر النفس ما يوجب الرقة مع وقاية النفس مع المذمة ، قدم قوله : { للسائل } أي المتكلف لسؤال الإنفاق المتكفف . ولما كان في الناس من شرفت همته وعلت رتبته على مهاوي الابتذال بذل السؤال من الإقلال بذب المقبل على الله للتفطن والتوسم لأولئك فقال : { والمحروم * } أي المتعفف الذي لا يسأل فيظن غنياً ولا مال له يغنيه فهو يتلظى بناره في ليله ونهاره ، ولا مفزع له بعد ربه المالك لعلانيته وإسراره إلا إلى إفاضة مدامعه بذله وانكساره ، وهذا من الله تعالى حث على تفقد أرباب الضرورات ممن لا كسب له ومن افتقر بعد الغنى ، وقد كان للسلف الصالح في هذا وأشباهه قصب السبق ، حكي عن زين العابدين أنه لما مات وجد في ظهره آثار سود عند غسله كأنها السيور ، فعجبوا منها ، فلما كان بعد أيام قال نسوة أرامل : كان شخص يأتي إلينا ليلاً بقرب الماء وأجربة الدقيق على ظهره ففقدناه واحتجنا ، فعلموا أنه هو وأن تلك السيور من ذلك ، وحي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن شخصاً رآه ماشياً في زمن خلافته في الليل فتبعه حتى يعلم إلى أين يقصد ، فلم يزل رضي الله عنه حتى جاء إلى بيت نسوة أرامل فقال : أعندكن ماء وإلا أملأ لكن ، فأعطينه جرة فأخذها وذهب فملأها على كتفه وأتى بها إليهن ، والحكايات عنهم في هذا الباب كثيرة شهيرة جداً .
ولما كان المال قد يصرف لإصلاح الدنيا ، بين أن النافع منه إنما هو المصدق للإيمان فقال : { والذين يصدقون } أي يوقعون التصديق لمن يخبرهم ويجددونه كل وقت { بيوم } ولما كان المقصود الحث على العمل لأجل العرض على الملك الأعلى عبر بقوله : { الدين * } أي الجزاء الذي ما مثله وهو يوم القيامة الذي يقع الحساب فيه والدينونة على النقير والقطمير والتصديق به حق التصديق الاستعداد له بالأعمال الصالحة ، فالذين يعملون لذلك اليوم هم العمال ، وأما المصدقون بمجرد الأقوال فلهم الوبال وإن أنفقوا أمثال الجبال .
ولما كان الدين معناه الجزاء من الثواب والعقاب ، وكان ربما صرفه صارف إلى الثواب فقط للعلم بعموم رحمته سبحانه ، وأن رحمته غلبت غضبه ، صرح بالعقاب فقال : { والذين هم } أي بجميع ضمائرهم { من عذاب ربهم } أي المحسن إليهم ، لا من عذاب غيره ، فإن المحسن أولى بأن يخشى ولو من قطع إحسانه ، وإذا خيف مع تجليه في مقام الإحسان كان الخوف أولى عند اعتلائه في نعوت الجلال من الكبر والقهر والانتقام { مشفقون * } أي خائفون في هذه الدار خوفاً عظيماً هو في غاية الثبات من أن يعذبهم في الآخرة أو الدنيا أو فيهما ، فهم لذلك لا يغفلون ولا يفعلون إلا ما يرضيه سبحانه .

ولما كان المقام للترهيب ، ولذلك عبر عن الرجاء على فعل الطاعات بالدين ، فصار العذاب مذكوراً مرتين تلويحاً وتصريحاً ، زاده تأكيداً بقوله اعتراضاً مؤكداً لما لهم من إنكاره : { إن عذاب ربهم } أي الذي رباهم وهم مغمورون بإحسانه وهم عارفون بأنه قادر على الانتقام ولو بقطع الإحسان { غير مأمون * } أي لا ينبغي لأحد أن يأمنه ، بل يجوز أن يحل به وإن بالغ في الطاعة لأن الملك مالك وهو تام الملك ، له أن يفعل ما يشاء - ومن جوز وقوع العذاب أبعد عن موجباته غاية الإبعاد ولم يزل مترجحاً بين الخوف والرجاء .
ولما ذكر التحلي بتطهير النفس بالصلاة وتزكية المال بالصدقة ، ندب إلى التخلي عن أمر جامع بين تدنيس المال والنفس وهو الزنا الحامل عليه شهوة الفرج التي هي أعظم الشهوات حملاً للنفس على المهلكات ، فقال بعد ذكر التخويف بالعذاب إعلاماً بأنه أسرع إلى صاحب هذه القادورة وقوعاً من الذباب في أحلى الشراب فقال : { والذين هم } أي ببواطنهم الغالبة على ظواهرهم { لفروجهم } أي سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً { حافظون * } أي حفظاً ثابتاً دائماً عن كل ما نهى الله عنه .

إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)

ولما ذكر هذا الحفظ على هذا الوجه ، ذكر ما أذن فيه في أسلوب الاستثناء إشعاراً بأنه كأنه لم يذكر فيخرج إلا بعد تقرير عموم الحفظ لا أنه مقصود ابتداء بقصد الصفة فقال : { إلا على أزواجهم } أي بعقد النكاح .
ولما قدمهن لشرفهن وشرف الولد بهن أتبعه قوله : { أو ما } عبر بما هو الإغلب لغير العقلاء ندباً إلى إيساع البطان في احتمالهن { ملكت أيمانهم } أي من السراري اللاتي هن محل الحرث والنسل اللاتي هن أقل عقلاً من الرجال .
ولما كان الناكح عبادة نادراً جداً ، وكان الأصل في العبادة الخروج عن العادة ، وإن لم يتجرد للعبادة كن ملوماً ، اكتفى في مدحه بنفي اللوم عنه ، وأكده لأن الأصل كان استحقاقه للملام لإقباله على تحصيل ما له من المرام فقال مسبباً عن المستثنى : { فإنهم } أي بسبب إقبالهم بالفروج عليهن وإزالة الحجاب من أجل ذلك { غير ملومين * } أي في الاستمتاع بهن من لائم ما - كما نبه عليه بالبناء للمفعول - فهم يصحبونهن قصداً للتعفف وصون النفس وابتغاء الولد للتعاون على طاعة الله .
ولما أفهم ذلك تحريم غير المستثنى ووجب الحفظ للفروج عنه ، صرح به على وجه يشمل المقدمات فقال مسبباً عنه : { فمن ابتغى } أي طلب ، وعبر بصيغة الافتعال لأن ذلك لا يقع إلا عن إقبال عظيم من النفس واجتهاد في الطلب { وراء ذلك } أي شيئاً من هذا خارجاً عن هذا الأمر الذي أحله الله تعالى ، والذي هو أعلى المراتب في أمر النكاح وقضاء اللذة أحسنها وأجملها . ولما كان الوصول إلى ذلك لا يكون إلا بتسبب من الفاعل ربط بالفاء قوله : { فأولئك } أي الذين هم في الحضيض من الدناءة وغاية البعد عن مواطن الرحمة { هم } أي بضمائرهم وظواهرهم { العادون * } أي المختصون بالخروج عن الحد المأذون فيه .
ولما ذكر العادي أتبعه الواقف عند الحدود فقال : { والذين هم } أي ببذل الجهد من توجيه الضمائر { لأماناتهم } أي كل ما ائتمنهم الله عليه من حقه وحق غيره .
ولما كان ذلك قد يكون من غير عهد ، قال مخصصاً : { وعهدهم } أي ما كان من الأمانات بربط بالكلام وتوثيق { راعون * } أي حافظون لها معترفون بها على وجه نافع غير ضار .

وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)

ولما كان أجل العهود والأمانات ما كان بإشهاد قال مبيناً لفضل الشهادة : { والذين هم } أي بغاية ما يكون من توجيه القلوب { بشهاداتهم } التي شهدوا بها أو يستشهدون بها لطلب أو غيره ، وتقديم المعمول إشارة إلى أنهم في فرط قيامهم بها ومراعاتهم لها كأنهم لا شاغل لهم سواها { قائمون * } أي يتحملونها ويؤدونها على غاية التمام والحسن أداء من هو متهيىء لها واقف في انتظارها .
ولما كانت أضداد هذه المذكورات نقائص مهلكات ، وكانت الأنفس - لما لها من النقص - نزاعة إلى النقائص ميالة إلى الدسائس ، ذكر سبحانه بالدواء المبرىء من كل داء ، فقال مشيراً إلى حفظ أحوال الصلاة وأوصافها بعد ذكر الحفظ لذواتها وأعيانها تنبيهاً على شدة الاهتمام بها : { والذين هم } ولما وسط الضمير إشارة إلى الإقبال بجميع القلب قدم الصلة كما فعل بما قيل تأكيداً وإبلاغاً في المراد إلى أقصى ما يمكن كما لا يخفى على ذي ذوق فقال : { على صلاتهم } من الفرض والنقل { يحافظون * } أي يبالغون في حفظها ويجددونه حتى كأنهم يبادرونها الحفظ ويسابقونها فيه فيحفظونها لتحفظهم أو يسابقون غيرهم في حفظها لأوقاتها وشروطها وأركانها ومتمماتها في ظواهرها وبواطنها من الخضوع والمراقبة ، وغير ذلك من خلال الإحسان التي إذا فعلوها كانت ولا بد ناهية لفاعلها « أن الصلاة » الكاملة « تنهى عن الفحشاء والمنكر » فتحمل على جميع هذه الأوامر وتبعد عن أضدادها ، ولكون السياق هذا للتخلي عن الأوصاف الجارة إلى الكفر وحد الصلاة إشارة إلى أنه يكفي في ذلك الفرائض وإن كان الجاس يشمل ، وفي المؤمنون السياق لأهل الرسوخ في المحاسن ، فلذلك جمع بين النوعين : الإفراد في الأول لينصب بادىء بدىء إلى الفرائض ، والجمع في بعض القراءات ليفهم مع ذلك النوافل بأنواعها ، وفي فتح الأوصاف بالصلاة وختمها بها من بيان جلالتها وعظمتها أمر باهر .
ولما ذكر حلاهم أتبعه ما أعطاهم فقال مستأنفاً ومستنتجاً من غير فاء إشارة إلى أن رحمته هي التي أوصلتهم إلى ذلك من غير سبب منهم في الحقيقة : { أولئك } أي الذين هم في غاية العلو لما لهم من هذه الأوصاف العالية ، وعبر بما يدل على أنه عجل جزاءهم سبحانه فقال : { في جنات } أي في الدنيا والآخرة ، أما في الآخرة فواضح ، وأما في الدنيا فلأنهم لما جاهدوا فيه بإتعاب أنفسهم في هذه الأوصاف حتى تخلقوا بها أعطاهم بمباشرتها لذاذات من أنس القرب وحلاوة المناجاة لا يساويها شيء أصلاً ، والجنة محل اجتمع فيه جميع الراحات والمستلذات والسرور ، وانتفى عنه جميع المكروهات والشرور ، وضدها النار ، وزادهم على ذلك بقوله : { مكرمون * } معبراً باسم المفعول إشارة إلى عموم الإكرام من الخالق والخلق الناطق وغيره لأنه سبحانه قضى بأن يعلو مقدارهم حتى يكونوا أعظم مشخص؟ لهم في الغيب مبالغاً في إكرامهم عند المواجهة ليكون لهم نصيب من خلق نبيهم صلى الله عليه وسلم ، « لقيه يوم بني قريظة علي رضي الله عنه وكان قد سبقه إليهم فقال : يا رسول الله ، ما عليك ألا تدنو من هؤلاء الأخابث؟ فقال : ولم ، لعلك سمعت بي منهم أذى ، لو قد دنوت منهم لم يقولوا من ذلك شيئاً ، ثم دنا منهم فقال : هل أخزاكم الله يا إخوان القردة والخنازير ، فقالوا : مه يا أبا القاسم ما كنت جهولاً » وكلموه بأحسن ما يمكنهم ، وكذا كانت معه قريش قبل الهجرة في أكثر أحوالهم ، هذا في الدنيا وأما في الآخرة فيتلقاهم الملائكة بالبشرى حين الموت وفي قبورهم ومن حين قيامهم من قبورهم إلى حين دخولهم إلى قصورهم .

ولما تحرر بهذا الكلام الإلهي الذي يشك عاقل في أن مخلوقاً لا يقدر عليه ، وأنه لا يقدر عليه إلا الله الواحد الذي لا شريك له ، العالم بكل شيء ، القادر على كل شيء ، أنه لا يتفصى عن نقائص الإنسان حتى يتخلص من ظلمات النقصان إلى نور الإحسان إلا من لازم هذه الأوصاف وزكى نفسه بها ليصير كاملاً مع العلم القطعي عند المسلم والكافر أن الكمال سبب السعادة ، وأن الإنسان مطبوع على ما صدر به سبحانه من النقائص ، علم أن المتصفين بهذه الأوصاف هم المختصون بالسعادة الأخروية ، وكان الكفار يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ويجلسون حوله بالقرب منه ليسمعوا كلامه ويكذبوه ويهزؤوا به ، وكان العاقل لا ينبغي له أن يأتي شيئاً لا سيما إن كان إتيانه إليه على هيئة الإسراع إلا لتحصيل السعادة ، سبب عن ذلك قوله معبراً عن عظمة القرآن بما حاصله أنهم حين يسمعونه يصيرون لشدة ما يفزعهم أمره لا يتمالكون فيفعلون أفعال من لا وعي له : { فمال الذين كفروا } أي أي شيء من السعادة للذين ستروا مرائي عقولهم عن الإقرارا بمضمون هذا الكلام الذي هو أوضح من الشمس ، حال كونهم { قبلك } أي نحوك أيها الرسول الكريم وفيما أقبل عليك { مهطعين * } أي مسرعين مع مد الأعناق وإدامة النظر إليك في غاية العجب من مقالك هيبة من يسعى إلى أمر لا حياة له بدونه .
ولما كان الذي يتطير فيراعي الأيامن والأشائم على ما تقدم في الصافات ، لا يترك ذلك إلا في أمر أدهش عقله وأطار لبه ، فلم يدعه يتأمل ، قال مشيراً إلى شدة اعتنائهم بهذا الإهطاع مع عدم التحفظ من شيء : { عن } أي متجاوزين إليك كل مكان كان عن جهة { اليمين } أي منك حيث يتمنون به { وعن الشمال } أي منك وإن كانوا يتشاءمون به { عزين * } أي حال كونهم جماعات جماعات وخلقاً خلقاً متفرقين فرقاً شتى أفواجاً يتمهلون ليأتوا جميعاً جمع عزة ، وأصلها عزوة لأن كل فرقة تعتزي إلى غير ما تعتزي إليه الأخرى ، جمع جمع سلامة شذوذاً .

ولما كان هذا الإسراع على هذا الوجه لا ينبغي أن يكون إلا فيما يتحقق أنه مسعد ، ومع تحقق أنه مسعد لا ينبغي أن يكون إلا فيما تحصل به السعادة الأبدية؛ قال منبهاً على ذلك منكراً أن يكون لهم ما كان ينبغي ألا يكون فعلهم ذلك إلا له مع أنه كان من جملة استهزائهم إذا تحلقوا لسماع ما يقرأ أن يقولوا : إن كان ما يقول حقاً من أمر البعث والجنة لنكونن أسعد بها منهم كما أنا أسعد منهم في هذه الدار كما قال تعالى حاكياً عنهم في قوله : { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } [ فصلت : 50 ] وذلك أنه كثيراً ما يأتي الغلط من أن الإنسان يكون في خير في الدنيا فيظن أن ذلك مانع له من النار لأنه خير في نفس الأمر ، أو يظن أن إمهاله وهو على الباطل رضي به ، ولا يدري أنه لا يضجر ويقلق ويعجل إلا من يخاف الفوت ، أو يكون شيء بغير إرادته : { أيطمع } أي بهذا الإتيان ، وعبر بالطمع إشارة إلى أنهم بلغوا الغاية في السفه لكونهم طلبوا أعز الأشياء من غير سبب تعاطوه له .
ولما كان إتيانهم على هيئة التفرق من غير انتظار جماعة لجماعة قال : { كل امرىء منهم } أي على انفراده ، ولما كان المحبوب دخول الجنة لا كونه من مدخل معين ، قال بانياً للمفعول : { أن يدخل } أي بالإهطاع وهو كافر من غير إيمان يزكيه كما يدخل المسلم فيستوي المسيء والمحسن { جنة نعيم * } أي لا شيء فيها غير النعيم في كل ما فيها على تقدير ضبطه .

كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)

ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري المفيد للنفي : لا يدخل ، أكد ذلك مع إفهام الضجر والاستصغار بالإتيان بأم الزواجر والروادع فقال : { كلا } أي لا يكون ما طمعوا فيه أصلاً لأن ذلك تمن فارغ لا سبب له - بما دل عليه التعبير بالطمع دون الرجاء .
ولما كان الإنسان إذا أكثر من شيء وجعله ديدنه فساغ عندهم أن يقال : فلان خلق من كذا ، علل ذلك بقوله مؤكداً ، عدّاً لهم منكرين لأنهم مع علمهم بنقصانهم يدعون الكمال : { إنا } على ما لنا من العظمة { خلقناهم } بالعظمة التي لا يقدر أحد أن يقاويها فيصرف شيئاً من إرادته عن تلك الوجهة التي وجهته إليها إلى غيرها { مما يعلمون * } أي مما يستحي من ذكره ذاتاً ومعنى ، أما الذات فهو نطفة مذرة أخرجت من مخرج البول وغذيناها بدم الحيض ، فهي يتحلب منها البول والعذرة ، وأما المعنى فالهلع والجزع والمنع اللاتي هم موافقون على عدها نقائص ، فلا يصلحون لدار الكمال إلا بتزكية أنفسهم بما تقدم من هذه الخلال التي حض عليها الملك المتعال ، روى البغوي بسنده عن بشر بن جحاش رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وبصق يوماً في كفه ووضع عليها أصبعه فقال : » يقول عز وجل : ابن آدم! أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين والأرض منك وئيد وجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت : أتصدق ، وأنّى أوان الصدقة « » انتهى .
ولما كان في ذكر هذا الخلق مع ما تقدم إشارة عظيمة إلى ما كانوا يقولون : إنه إن كان الأمر كما يقولون من الحشر والجنة لنكونن آثر عند الله منكم ولندخلنها كما نحن الآن آثر منكم عنده بما لنا من الأموال ، والبسطة في الدنيا والوجاهة والإقبال ، وتنبيه على أن الكل متساوون في أنهم من نطفة فما فضلهم في هذه الدنيا بهذه النعم الظاهرة إلا هو سبحانه ، وقد فضل المؤمنين بالنعم الباطنة التي زادتهم في التمكن فيها التزكية بهذه الأوصاف العملية الناشئة عن الصفة العلمية ، وهو قادر على أن يضم إلى النعم الباطنة النعم الظاهرة ، ولذلك سبب عنه قوله : وأكد بنفي القسم المشير إلى عدم الحاجة إليه لكثرة الأدلة المغنية عنه لما لذلك المقسم عليه من الغرابة في ذلك الوقت لكثرة الكفار وقوة شوكتهم : { فلا } أي فتسبب عن خلقنا لهم من ذلك المنبه على أنا نقدر على كل شيء نريده وأنه لا يعجزنا شيء أي لا { أقسم } فلفت القول إلى أفراد الضمير معرى عن مظهر العظمة لئلا يتعنت متعنت في أمر الواحدانية { برب } أي مربي وسيد ومبدع ومدبر { المشارق } التي تشرق الشمس والقمر والكواكب السيارة كل يوم في موضع منها على المنهاج الذي دبره ، والقانون القويم الذي أتقنه وسخره ، ستة أشهر صاعدة وستة أشهر هابطة { والمغارب } كذلك على هذا الترتيب المحكم الذي لا يعتريه اختلال ، وهي التي ينشأ عنها الليل والنهار والفصول الأربعة ، فكان بها صلاح العالم بمعرفة الحساب وإصلاح المآكل والمشارب وغير ذلك من المآرب ، فيوجد كل من الملوين بعد أن لم يكن والنبات من النجم والشجر كذلك عادة مستمرة دالة على أنه قادر على الإيجاد والإعدام لكل ما يريده كما يريده من غير كلفة ما .

ولما كان المعنى : لا أقسم بذلك وإن كان عظيماً لأن الأمر في وضوحه لا يحتاج إلى قسم ، كما لو قال خصم لخصمه : احلف ، فيقول له : الأمر غني عن حلفي إذ يحتاج إلى اليمين من لا بينة له ، ثم يأتي من البينات بما لا يكون معه شبهة ، وكانوا في تفضيل أنفسهم - مع الاعتراف لله بالقدرة - كالمنكرين للقدرة على قلب الأمر ، أكد قوله عائداً إلى مظهر العظمة بعد دفع اللبس بما هو في وضوحه أجلى من الشمس : { إنا } أي بما لنا من العظمة { لقادرون * } بأنواع التأكيد بالأداة والأسمية والالتفات إلى مظهر العظمة في كل من الاسم والخبر ، فكان في إخباره بعد الإقسام مع التأكيد إشارة إلى أعلى مراتب التأكيد { على أن نبدل } أي تبديلاً عظيماً بما لنا من الجلالة عوضاً عنهم { خيراً منهم } أي بالخلق أو تحويل الوصف فيكونوا أشد بسطة في الدنيا وأكثر أموالاً وأولاداً وأعلى قدراً وأكثر حشماً ووجاهة وحزماً وخدماً ، فيكونوا عندك خلقاً على قلب واحد في سماع قولك وتوقيرك وتعظيمك والسعي في كل ما يشرح صدرك بدل ما يعمل هؤلاء من الهزء والتصفيق والصفير وكل ما يضيق به صدرك ، وقد فعل ذلك سبحانه بالمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان بالسعة في الرزق بأخذ أموال الجبارين من كسرى وقيصر ، والتمكن في الأرض حتى كانوا ملوك الدنيا مع العمل بما يوجب لهم ملك الآخرة ، فرجوا الكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلوا في مرضاته الأنفس والأموال .
ولما كان الإنسان قد يفعل شيئاً ثم ينقض عليه ، أخبر أنه سبحانه على غير ذلك فقال : { وما } وأكد الأمر بالأسمية الكائنة في مظهر العظمة فقال : { نحن } وأعرق في النفي فقال : { بمسبوقين * } أي من سابق ما يغلب على شيء لم نرده بوجه من الوجوه ، ولذلك أتى باسم المفعول .
ولما ثبت أن له سبحانه العظمة البالغة الباهرة من شمول العلم وتمام القدرة ، فأنتج اعتماد أهل حزبه عليه وإعراضهم عن كل ما سواه ، سبب عن ذلك قوله تهديداً للمخالفين وتسلية للمؤالفين : { فذرهم } أي اتركهم ولو على أسوأ أحوالهم { يخوضوا } أي يفعلوا في مقالهم وفعالهم الذي لا شيء منه على إتقان بل هو كفعل الخائض في الماء الذي لا يضع رجله في موضع يعلم أنه يرضيه ، فهو بصدد أن يقع أو يغرق { ويلعبوا } أي يفعل فعل اللاعب الذي لا فائدة لفعله إلا ضياع الزمان والتعطل عما يهم من عظيم الشأن .

ولما كان ما توعد الله من أحوال الآخرة لا بد من وقوعه كان كأنه قادم على الإنسان والإنسان ساع بجهده إليه ، فلذلك عبر بالمفاعلة فقال : { حتى يلاقوا } ولما كان ما يقع للكفار منه أعظم ، كان ذلك اليوم كأنه خاص بهم فقال : { يومهم الذي } ولما كان الوعيد - وهو ما كان من الخبر تخويفاً للمتوعد - صادعاً للقلوب إذا كان من القادر من غير حاجة إلى ذكر المتوعد ، بني المفعول قوله : { يوعدون * } وهو يوم كشف الغطاء الذي أول تجليته عند الغرغرة ونهايته النفخة الثانية إلى دخول كل من الفريقين في داره ومحل استقراره ، والآية منسوخة بآية السيف .
ولما كان ما بعد النفخة الثانية أعظمه وأهوله ، أبدل منه قوله : { يوم يخرجون } أي هؤلاء الذين يسألون عنه سؤال استهزاء ويستبعدونه ، وقراءة أبي بكر عن عاصم بالبناء للمفعول على طريقة كلام القادرين تدل على أنه مما هو في غاية السهولة { من الأجداث } أي القبور التي صاروا بتغيبهم فيها تحت وقع الحافر والخف ، فهم بحيث لا يدفعون شيئاً يفعل بهم بل هم كلحم في فم ماضغ ، فإن الجدث القبر والجدثة صوت الحافر والخف ومضغ اللحم { سراعاً } أي نحو صوت الداعي .
ولما كانت عادة الإنسان الإسراع إلى ما يقصده من الأعلام المنصوبة ، وعادتهم - هم بالخصوص - المبادرة إلى الأنصاب التي يبعدونها ما هي عليه من الخساسة خفة منهم في العلوم وطيشاً في الحلوم قال : { كأنهم إلى نصب } أي علم منصوب مصدر بمعنى المفعول كما تقول : هذا نصب عيني وضرب الأمير - هذا على قراءة الجماعة بالفتح ، وعلى قراءة ابن عامر وحفص بالضم : إلى علم أو شيء يعبدونه من دون الله على ما فيه من الداء القاتل والبلاء ، أو حجر يذبحون عليه ، قال في الجمع بين العباب والمحكم : النَصْب والنُصْب والنُصُب : الداء والبلاء : والنُصُب كل ما نصب فجعل علماً ، والنَصْب والنَصَب : العلم المنصوب ، والنُصْب والنُصُب : كل ما عبد من دون الله ، والجمع أنصاب ، والأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهل عليها ويذبح عليها لغير الله ، وانصاب الحرم : حدوده ، وقال أبو حيان : والنصب ما نصب للإنسان فهو يقصده مسرعاً إليه من علم أو بناء أو صنم ، وغلب في الأصنام حتى قيل : الأنصاب { يوفضون * } أي يعجلون عجلة من هو ذاهب إلى ما يسره حتى كأنه يطرد إليه كما كانوا يسرعون إلى أنصابهم .
ولما كان إيفاضهم إلى الأنصاب على حال السرور ، أخبر أن هذا على خلاف ذلك ، وأن ذكر النصب وتصوير حالة الإتيان إليه ما كان إلا تهكماً بهم فقال : { خاشعة } أي منكسرة متواضعة لما حل بها من الذل والصغار ، وألحقها علامة التأنيث زيادة في هذا المعنى ومبالغة فيه بقوله : { أبصارهم } .

ولما كان خشوعها دائماً فعبر بالاسم ، وكان ذلهم يتزايد في كل لحظة ، عبر بالفعل المضارع المفيد للتجدد والاستمرار فقال : { ترهقهم } أي تغشاهم فتعمهم ، وتحمل عليم فتكلفهم كل عسر وضيق على وجه الإسراع إليهم { ذلة } ضد ما كانوا عليه في الدنيا لأن من تعزز في الدنيا على الحق ذل في الآخرة ، ومن ذل للحق في الدنيا عز في الآخرة .
ولما صوره بهذه الصورة أشار إلى أن هذا ما تدركه العقول من وصفه وأنه أعظم من ذلك فقال : { ذلك } أي الأمر الذي هو في غاية ما يكون من علو الرتبة في العظمة { اليوم الذي كانوا } أي في حال الدنيا على غاية ما يكون من المكنة في الوعيد .
ولما كان الوعيد لا يتحقق إلا إذا كان من القادر ، وإذا كان كذلك كان مخيفاً موجعاً من غير ذكر من صدر عنه ، بني للمفعول قوله : { يوعدون * } أي يجدد لهم الإيعاد به في الدنيا في كل وقت لعلهم يتعظون فترق قلوبهم فيرجعون عماهم فيه من الجبروت ، وهذا هو زمان العذاب الذي سألوا عنه أول السورة ، فقد رجع كما ترى آخرها على أولها أي رجوع ، وانضم مفصلها إلى موصلها انضمام المفرد إلى المجموع - والله الهادي إلى الصواب .

إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)

ولما ختمت « سأل » بالإنذار للكفار ، وكانوا عباد أوثان ، بعذاب الدنيا والآخرة ، أتبعها أعظم عذاب كان في الدنيا في تكذيب الرسل بقصة نوح عليه السلام ، وكان قومه عباد أوثان ، وكانوا يستهزئون به وكانوا أشد تمرداً من قريش وأجلف وأقوى وأكثر ، فلم ينفعهم شيء من ذلك عند نزول البلاء وبروك النقمة عليهم وإتيان العذاب إليهم ، وابتدأها بالإنذار تخويفاً من عواقب التكذيب به ، فقال مؤكداً لأجل إنكاهرم أن يكون الرسول بشراً أو لتنزيلهم منزلة المنكرين من حيث أقروا برسالته وطعنوا في رسالة غيره مع المساواة في البشرية : { إنا } أي بما لنا من العظمة الباهرة البالغة { أرسلنا نوحاً } وهو أول رسول أتى بعد اختلاف أولاد آدم عليه السلام في دين أبيهم الأقوم { إلى قومه } أي الذين كانوا في غاية القوة على القيام بما يحاولونه وهم بصدد أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه ويكرموه لما بينهم من القرب بالنسب واللسان ، وكانوا جميع أهل الأرض من الآدميين .
ولما بان مضى المرسِل والرسول والمرسَل إليهم ، وكان الإرسال متضمناً معنى القول ، أخذ في تفسيره بياناً للمرسل به فقال : { أن أنذر } أي حذر تحذيراً بليغاً عظيماً { قومك } من الاستمرار على الكفر .
ولما كان المقصود « إعلامهم بذلك » في بعض الأوقات لأن الإنسان لا بد له من أوقات شغل بنفسه من نوم وأكل وغيره ، أتى بالجار تخفيفاً عليه ورفقاً به عليه السلام فقال : { من قبل أن يأتيهم } أي على ما هم عليه من الأعمال الخبيثة { عذاب أليم * } .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على قومه في قوله : { فاصبر صبراً جميلاً } [ المعارج : 5 ] وجليل الإغضاء في قوله : { فذرهم يخوضوا ويلعبوا } [ المعارج : 42 ] أتبع ذلك بقصة نوح عليه السلام وتكرر دعائه قومه إلى الإيمان ، وخص من خبره حاله في طول مدة التذكار والدعاء لأنه المقصود في الموضع تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وليتأسى به في الصبر والرفق والدعاء كما قيل له صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم } [ الأحقاف : 35 ] { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } [ فاطر : 8 ] فقد دام دعاء نوح عليه السلام مع قومه أدوم من مدتك ، ومع ذلك فلم يزدهم إلا فراراً { قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً } [ نوح : 5- 7 ] ثم مضت آي السورة على هذا المنهج من تجديد الإخبار بطول مكابدته عليه السلام وتكرير دعائه ، فلم يزدهم ذلك إلا بعداً وتصميماً على كفرهم حتى أخذهم الله ، وأجاب فيهم دعاء نبيه نوح عليه السلام

{ رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [ نوح : 26 ] وذلك ليأسه من فلاحهم ، وانجر في هذا حض نبينا صلى الله عليه وسلم على الصبر على قومه والتحمل منهم كما صرح به في قوله تعالى : { خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] وكما قيل له قبل { فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت } [ القلم : 48 ] { وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } [ هود : 120 ] انتهى .
ولما أخبر عن رسالته ومضمونها بما أعلم من أن الفساد كان غالباً عليهم ، استأنف قوله بياناً لامتثاله : { قال } أي نوح عليه السلام : { يا قوم } فاستعطفهم بتذكيرهم أنه أحدهم يهمه ما يهمهم .
ولما كان من طبع البشر إنكار ما لم يعلم إلا من عصم الله فجعله منقاداً للإيمان بالغيب ، أكد قوله : { إني لكم نذير } أي مبالغ في النذارة { مبين * } أي أمري بين في نفسه بحيث أنه صار من شدة وضوحه كأنه مظهر لما يتضمنه ، مناد بذلك للقريب والبعيد والفطن والغبي .
ولما كان ترك ما أنذرهم بسببه من الكفر لا يغنيهم إلا أن آمنوا ، وكان الإيمان مخلصاً عن عواقب الإنذار لأنه لا يصح إلا مع ترك جميع أنواع الكفر ، فسر الإنذار بقوله : { أن اعبدوا الله } أي الملك الأعظم الذي له جميع الكمال ، وذلك بأن تخلصوا التوجه إليه فإن غناه يمنع من أن يقبل عبادة فيه شرك وهذا هو الإيمان { واتقوه } أي اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية تمنعكم من عذابه بالانتهاء عن كل ما يكرهه ، فلا تتحركوا حركة ولا تسكنوا سكنة إلا في طاعته ، وهذا هو العمل الواقي من كل سوء .
ولما كان لا سبيل إلى معرفة ما يرضي الملك ليلزم وما يسخطه ليترك إلا منه ، ولا وصول إلى ذلك إلا من خاصته ، ولا خاصة مثل رسوله الذي ائتمنه على سره قال : { وأطيعون * } أي لأعرفكم ما تقصر عنه عقولكم من صفات معبودكم ودينكم ودنياكم ومعادكم ، وأدلكم على اجتلاب آداب تهديكم ، واجتناب شبهة ترديكم ، ففي طاعتي ، فلا حكم يرضي الملك عنكم ، وهذا هو الإسلام ، فقد جمع هذا الدعاء الإيمان والإسلام والعمل ، وهي الأثافي التي تدور عليها أسباب الفلاح .
ولما كان الإنسان محل النقصان ، فلا ينفك عن ذنب فلا ينفعه إلا فناء الكرم ، أشار إلى ذلك مرغباً مستعطفاً لهم لئلا ييأسوا فيهلكوا بقوله جواباً للأمر : { يغفر لكم } أي كرماً منه وإحساناً ولطفاً .
ولما كان من الذنوب ما لا يتحتم غفرانه وهو ما بعد الإسلام قال : { من ذنوبكم } أي ما تقدم الإيمان من الشرك والعصيان وما تأخر عن الإيمان من الصغائر التي تفضل الله بالوعد بتكفيرها باجتناب الكبائر - هذا مما أوجبه سبحانه على نفسه المقدس بالوعد الذي لا يبدل ، وأما غيره مما عدا الشرك فإلى مشيئته سبحانه .

ولما كان الإنسان ، لما يغلب عليه من النسيان ، والاشتغال بالآمال ، يعرض عن الموت إعراض الشاك فيه بل المكذب به ذكرهم ترهيباً لهم لطفاً بهم ليستحضروا أنهم في القبضة فينزعوا مما يغضبه سبحانه ، فقال مشيراً إلى أن طول العمر في المعصية - وإن كان مع رغد العيش - عدم ، مهدداً بأنه قادر على الإهلاك في كل حين : { ويؤخركم } أي تأخيراً ينفعكم ، واعلم أن الأمور كلها قد قدرت وفرغ من ضبطها لإحاطة العلم والقدرة فلا يزاد فيها ولا ينقص ، ليعلم أن الإرسال إنما هو مظهر لما في الكيان ولا يظن أنه قالب للأعيان بتغيير ما سبق به القضاء من الطاعة أو العصيان فقال : { إلى أجل مسمى } أي قد سماه الله وعلمه قبل إيجادكم فلا يزاد فيه ولا ينقص منه ، فيكون موتكم على العادة متفرقاً وإلا أخذكم جميعاً بعذاب الاستئصال ، فهذا من علم ما لا يكون لو كان كيف يكون ، وذلك أنه علم أنهم إن أطاعوا نوحاً عليه السلام كان موتهم على العادة وإلا هلكوا هلاك نفسه واحدة ، وعلم أنهم لا يطيعونه ، وأن موتهم إنما يكون بعذاب الاستئصال .
ولما كان الإنسان مجبولاً على الأطماع الفارغة ، فكان ربما قال للتعنت أو غيره : لم لا يخلدنا؟ قال فطماً عن ذلك مؤكداً لاقتضاء المقام له : { إن أجل الله } أي الذي له الكمال كله فلا راد لأمره { إذا جاء لا يؤخر } وأما قبل مجيئه فربما يقع الدعاء والطاعات والبر في البركة فيه يمنع الشواغل وإطابة الحياة ، فبادروا مجيء الأجل بالإيمان لأنه إذا جاء لم يمكنكم التدارك ، ولا ينفعكم بعد العيان الإيمان .
ولما كان من يعلم هذا يقيناً ، ويعلم أنه إذا كشف له عند الغرغرة أحب أن يؤخر ليتوب حين لا تأخير ، أحسن العمل خوفاً من فوات وقته وتحتم مقته ، نبه على ذلك بقوله : { لو كنتم تعلمون * } أي لو كان العلم أو تجدده وقتاً ما في غرائزكم لعلمتم تنبيه رسولكم صلى الله عليه وسلم أن الله يفعل ما يشاء ، وأن الأجل آت لا محالة فعملتم للنجاة ، ولكنكم تعملون في الانهماك في الشهوات عمل الشاك في الموت .

قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)

ولما كان صلى الله عليه وسلم أطول الأنبياء عمراً ، وكان قد طال نصحه لهم وبلاؤه بهم ، نبه على ذلك بقوله مستأنفاً : { قال } منادياً لمن أرسله لأنه تحقق أن لا قريب منه غيره ، وأسقط أداة النداء كما هي عادة أهل القرب فقال : { رب } ولما كانت العادة جارية بأن التكرار لا بد أن يؤثر ولو قليلاً ، فكانت مخالفتهم لذلك مما هو أهل لأن يشك فيه ، قال مؤكداً إظهاراً لتحسره وحرقته عليه الصلاة والسلام منهم في تماديهم في إصرارهم على على التكذيب شكاية لحاله إلى الله تعالى واستنصاراً به واستمطاراً للتنبيه على ما يفعل به بذله الجهد وتنبيهاً لمن يقص به عليهم هذا وإن كان المخاطب سبحانه عالماً بالسر وأخفى : { إني دعوت } أي أوقعت الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة { قومي } أي الذين هم جديرون بإجابتي لمعرفتهم بي وقربهم من وفيهم قوة المحاولة لما يريدون .
ولما كان قد عم جميع الأوقات بالدعاء قال : { ليلاً ونهاراً * } فعبر بهذا عن المداومة .
ولما تسبب عن ذلك ضد المراد قال : { فلم يزدهم دعاءي } أي شيئاً من أحوالهم التي كانوا عليها { إلا فراراً * } أي بعداً عنك ونفوراً وبغضاً وإعراضاً حتى كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ، وأسند الزيادة إلى الدعاء لأنه سببها .
ولما كان الفرار مجازاً عن رد كلامه ، عطف عليه ما يبينه ، فقال مؤكداً لأن إعراضهم مع هذا الدعاء الطويل مما لا يكاد يصدق : { وإني كلما } على تكرار الأوقات وتعاقب الساعات { دعوتهم } أي إلى الإقبال عليك بالإيمان بك والإخلاص لك .
ولما كان إعراضهم عما ينفعهم أقبح ، ذكر ما يتسبب عن الإجابة بالإيمان فقال : { لتغفر لهم } أي ليؤمنوا فتمحو ما فرطوا فيه في حقك فأفرطوا لأجله في التجاوز في الحدود محواً بالغاً فلا يبقى لشيء من ذلك عيناً ولا أثراً حتى لا تعاقبهم عليه ولا تعاتبهم { جعلوا } أي في كل دعاء ، ودل على مبالغتهم في التصامم بالتعبير بالكل عن البعض فقال : { أصابعهم } كراهة له واحتقاراً للداعي { في آذانهم } حقيقة لئلا يسمعون الدعاء إشارة إلى أنا لا نريد أن نسمع ذلك منك ، فإن أبيت إلا الدعاء فإنا لا نسمع لسد أسماعنا ، ودلوا على الإفراط في كراهة الدعاء بما ترجم عنه قوله : { واستغشوا ثيابهم } أي أوجدوا التغطية لرؤوسهم بثيابهم إيجاد من هو طالب لذلك شديد الرغبة فيه حتى يجمعوا بين ما يمنع السماع لكلامه والنظر إليه إظهاراً لكراهته وكراهة كلامه ، وهكذا حال النصحاء مع من ينصحونه دائماً { وأصروا } أي داموا على سوء أعمالهم دواماً هم في غاية الإقبال عليه ، من أصر الحمار على العانة - إذا صر أذنيه وأقبل عليها يطردها ويكدمها ، استعير للإقبال على المعاصي وملازمتها لأنه يكون بغاية الرغبة كأن فاعله حمار وحش قد ثارت شهوته { واستكبروا } أي أوجدوا الكبر طالبين له راغبين فيه ، وأكد ذلك بقوله : { استكباراً * } تنبيهاً على أن فعلهم منابذ للحكمة ، فكان مما ينبغي أن لا يفعلوه فهو مما لا يكاد يصدق لذلك ، وقد نادت هذه الآيات بالتصريح في غير موضع بأنهم عصوا نوحاً عليه الصلاة والسلام وخالفوه مخالفة لا أقبح منها ظاهراً بتعطيل الأسماع والأبصار ، وباطناً بالإصرار والاستكبار ولم يوافقوه بقول ولا فعل ، فلعنة الله عليهم وعلى من يقول : إنهم وافقوه بالفعل ، لأنه دعاهم للمغفرة وقد غطوا وجوههم ، والتغطية هي الغفر ونحو ذلك من الخرافات التي لو سمعها أسخف عباد الحجارة الذين لا أسخف منهم لهزؤوا بقائلها ، وما قال هذا القائل ذلك إلا تحريفاً لكتاب الله بنحو تحريف الباطنية الذين أجمعت الأمة على تكفيرهم لذلك التحريف ، ولعنة الله على من يشك في كفر من يحرف هذا التحريف أو يتوقف في لعنه ، وهم الاتحادية الذين مرقوا من الدين في آخر الزمان ، ومن أكابرهم الحلاج وابن عربي وابن الفارض ، وتبعهم على مثل الهذيان أسخف الناس عقولاً

{ إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً } [ الفرقان : 44 ] ولقد أخبرني الإمام العلامة برهان الدين إبراهيم بن أبي شريف القدسي الشافعي الثبت النحرير عن بعض من يتعصب لهم في هذا الزمان ، وهو من أعيان المدرسين بالقاهرة ، أنه قال له : ما حملني على انتقادي لابن الفارض إلا أني رأيت كلام التائية له متناقضاً ، فتارة يفهم منها الحلول وتارة الاتحاد ، وهو عندي يحاشى عن ذلك ، فعلمت أن لهؤلاء القوم اصطلاحاً نسبتنا منه نسبة التباين إذا سمعوا النحوي يقول : الفاعل مرفوع ، فإنهم يضحكون منه ، ولو فهمنا اصطلاحهم لم نعترض - هذا معنى ما نقل عنه وهو ما لا يرضاه ذو مسكة ، وهو شبيه بما نقل المسعودي في أوائل مروج الذهب عن بعض من اتهم بعقل وعلم من النصارى في زمن أحمد بن طولون ، فاختبره فوجده في العلم كما وصف ، فسأله عن سبب ثباته على النصرانية مع علمه فقال : السبب تناقضها مع أنه دان بها ملوك متكبرون وعلماء متبحرون ورهبان عن الدنيا معرضون ومدبرون ، فعلمت أنه ما جمع هؤلاء الأصناف على الدينونة بها مع تناقضها إلا أمر عظيم اضطرهم لذلك ، فدنت بها ، فقال له : اذهب في لعنة الله فلقد ضيعت كل عقل وصفت ، ولقد والله صدق في الأمر العظيم الذي حملهم على ذلك ، وهو القضاء والقدرة الذي حمل كل أحد منهم على إلقاء نفسه في نار جهنم باختياره بل برغبته في ذلك ومقاتلة من يصده عن ذلك ، وذلك أدل دليل على تمام علم الله وقدرته وأنه واحد لا شريك له ولا معقب لحكمه ، وفي هذا تصديق قوله النبي صلى الله عليه وسلم : « لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع » وهم أهل الكتاب ، وقد أشبعت القول في هذا في كتابي « القارض في تكفير ابن الفارض » الذي بينت فيه عوارهم ، وأظهرت عارهم ، وكذا كتابي « صواب الجواب للسائل المرتاب » و « تدمير المعارض في تكفير ابن الفارض » ولم أبق على شيء من ذلك شيئاً من لبس - ولله الحمد .

ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)

ولما ذكر دعاءه في جميع الأوقات مع إعراضهم ، وكان هذا مؤيساً وموجباً للإقلاع عن الدعاء ، وإن وجد الدعاء بعده في غاية البعد منه على إيجاده مع الاستغراق به لجميع الحالات كما استغرق جميع الأوقات ، فعبر بأداة التراخي للدلالة على تباعد الأحوال فقال : { ثم } وأكد لنحو ما مضى من أن تجرد إقبالهم على دعائهم بعد ذلك لا يكاد يصدق فضلاً عن الإكثار منه فقال : { إني دعوتهم } أي إلى الإيمان ومنابذة الشيطان .
ولما كان الجهر أحد نوعي الدعاء ، نصبه به نصب المصدر فقال : { جهاراً * } أي مكاشفة في فخامة الصوت والتعميم لجماعتهم جليلهم وحقيرهم والإخلاص في ذلك والمداومة له حتى كاد بصري يكل من شدة التحديث إليهم والإقبال عليهم من غير احتجاب عنهم ولا ارتقاب منهم بل مباغتة ، وكررت ذلك عليهم حتى أخرجت ما عندهم من الجواب ، ولم أكف عند سد آذانهم واستغشائهم ثيابهم .
ولما كان الجهر قد لا يشيع ولا ينشر في جماعاتهم ، قال مشيراً إلى أنه أذاع ذلك ، وأكد للإشارة إلى ما فيه من الشدة فقال : { ثم إني أعلنت } أي أظهرت وأشعت وشهرت ليعلموا أنه الحق من ربهم لكوني لست مستحيياً منه ولا مستهجناً له { لهم } أي خصصتهم بذلك ، لم يكن فيه حظ نفس بوجه فإني كررت ذلك عليهم بعد أن سقط الوجوب عني ، ولما قدم الجهر لأنه أقرب إلى عدم الاتهام ، وكان السر أجدر بمعرفة الضمائر وأقرب إلى الاستمالة ، أتبعه به فقال : { وأسررت لهم } أي دعوت كل واحد منهم على انفراده ليكون أدعى له وأجدر بقبوله النصيحة ، وأدل على الإخلاص ، وكل ذلك ما فعلته إلا لأجل نصيحتهم ، لا حظ لي أنا في ذلك ، ولما كان تحين الإنسان ليكون وحده ليس عنده أحد ولا هو مشتغل بصارف مما يعسر جداً فلا يكاد يصدق أكده فقال : { إسراراً * } وليدل بتأكيده على تأكيد ما قبله من الأفعال ، والظاهر من حاله ومن هذا الترتيب مما صرح به من الاجتهاد أنه سار فيه على مقتضى الحكمة ، فدعا أولاً أقرب الناس إليه وأشدهم به إلفاً ، ثم انتقل إلى من بعدهم حتى عمهم الدعاء ، وكانت هذه الدعوة سراً كل واحد منهم على حدته ليعلموا نصحه ولا يحمل أحد منهم ذلك على تبكيت ولا تقريع ، جهر ليعلموا أنه ملجأ من الله إلى ذلك ، وأنها عزمة إن قصروا فيها عن الأجابة عوقبوا ، فلما أصروا جمع بين السر والعلن ، فلما تمادوا وطال الأذى شكى ، وعلى هذا فثم لبعد الرتب لا للترتيب في الزمان ، ويمكن كونها للترتيب لأن الجهر أبعد عن الاتهام ثم الإعلان بعده أزيد بعداً .
ولما أخبر بأنه بالغ في الدعوة إلى حد لا مزيد عليه ، فلم يدع من الأوقات ولا من الأحوال شيئاً ، سبب عنه بيان ما قال في دعوته وهو التسبب في السعادة كلها بدفع المضار وجلب المسار ، فقال مقدماً لطلب الغفران بالتوبة عن الكفر ليظهروا فيكونوا قابلين للتحلية بالمحاسن الدينية بعد التخلية عن الأخلاق الدنية : { فقلت } أي في دعائي لهم : { استغفروا ربكم } أي اطلبوا من المحسن إليكم ، المبدع لكم ، المدبر لأموركم ، أن يمحو ذنوبكم أعيانها وآثارها ، بالرجوع عن عبادة غيره إلى الإخلاص في عبادته .

ولما ذكر أنه استعطفهم أولاً ببيان أن رجوعهم ممكن ، لئلا يقولوا : إنا قد بالغنا في المعاصي فلا نقبل ، وأعلمهم أن الاستغفار باب الدخول إلى طاعة الجبار ، أكد ذلك الاستعطاف بقوله معللاً للأمر ولجوابه بنحو : يغفر لكم ، مؤكداً لأجل توقفهم : { إنه كان } أي أزلاً وأبداً ودائماً سرمداً { غفاراً * } أي متصفاً بصفة الستر على من رجع إليه على أبلغ الوجوه وأعلاها ، وإذا وقع الغفران دفع المضار كلها .
ولما قرر أمر التوبة وبين قبولها وقدمه اهتماماً به لأنه أصل ما يبتنى عليه ، ولأن التخلي قبل التحلي ، ودرء المفاسد قبل جلب المصالح والفوائد ، رغب فيها بما يكون عنها من الزيادة في الإحسان على أصل القبول ، وينشأ عن الاستغفار من الآثار الكبار من الأفضال بجلب المسار بما هو مثال للجنة التي كان سبب الإخراج منها النسيان لأنهم أحب شيء في الأرباح الحاضرة والفوائد العاجلة لا سيما بما يبهج النفوس ويشرح الصدور لإذهابه البؤس ، فقال مجيباً لفعل الأمر : { يرسل السماء } أي المظلة الخضراء أو السحاب أو المطر { عليكم } أي بالمطر وأنواع البركات { مدراراً * } أي حال كونها كثيرة الدورة متكررته ، وهذا البناء يستوي فيه المذكر والمؤنث { ويمددكم } أظهر لأن الموضع لإرادة المبالغة والبسط والسعة { بأموال وبنين } وذلك يفهم أن من اكثر الاستغفار حباه الله ما يسره ، وحماه ما يضره { ويجعل لكم } أي في الدارين { جنات } أي بساتين عظيمة ، وأعاد العامل للتأكيد والبسط لأن المقام له فقال : { ويجعل لكم أنهاراً * } يخصكم بذلك عمن لم يفعل ذلك ، فإن من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً ، روى أن عمر رضي الله عنه استسقى فلم يزد على الاستغفار فلما نزل قيل : يا أمير المؤمنين! ما رأيناك استسقيت؟ فقال : لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي بها يستنزل القطر ، ثم قرأ هذه الآية ، وقال القشيري : من وقعت له إلى الله حاجة فلن يصل إلى مراده إلا بتقديم الاستغفار ، وقال : إن عمل قوم نوح كان بضد ذلك ، كلما ازداد نوح في الضمان ووجوه الخير والإحسان ازدادوا في الكفر والنسيان .
ولما كان من رجا ملكاً عمل بما يرضيه . ومن خافة تجنب ما يسخطه ، نبههم على ذلك بالإشارة إلى الجلال الموجب للتوقير والجمال بالإحسان إلى الخلق ، مصرحاً لهم بالترغيب ملوحاً إلى الترهيب ، فقال مستأنفاً في جواب من يقول منهم : هل بقي شيء من قولك؟ : { ما } أي أيّ شيء يحصل { لكم } حال كونكم { لا ترجون } أي تكونون في وقت من الأوقات على حال تؤملون بها ، وبين فاعل الوقار ومبدعه بتقديمه ، فإنه لو أخره لكان ل « وقاراً » فقال : { لله } أي الملك الذي له الأمر كله { وقاراً * } أي ثواباً يوقركم فيه ولو قل ، فإن قليله أكثر من كثير غيره ، ولا تخافون له إهانة بالعقاب بأن تعلموا أنه لا بد من أن يحاسبكم بعد البعث فيثيب الطائع ويعاقب العاصي ، كما هي عادة كل أحد مع من تحت يده ، فتوقروا رسله بتصديقهم فتؤمنوا وتعملوا ، فإن من أراد من أحد أنه يوقره وقره وعظمه ليجازيه على ذلك ، فإن الجزاء من جنس العمل ، وذلك إنما يكون بمعرفة الله بما له من الجلال والجمال ، والخلق إنما تفاضلوا بالمعرفة بالله ، لا بالأعمال ، إنما سبق أبو بكر رضي الله عنه الناس بشيء وقر في صدره ، فإن بالمعرفة تزكو الأعمال وتصلح الأقوال ، وإنما يصح تعظيمه سبحانه بأن لا ترى لك عليه حقاً ، ولا تنازع له اختياراً ، وتعظم أمره ونهيه ، بعدم المعارضة بترخيص جاف أو تشديد غال أو حمل على توهم الانقياد ، وتعظم حكمه بأن لا تبغي له عوجاً ولا تدافعه بعلم ، ولا ينبغي له غرض وعلة ، ولأجل أن المطلوب تحصيل الأعمال التي هي أسباب ظاهرية ، عبر بالرجاء ليسرهم بأن أعمالهم مؤثرة ، وعبر بالطمع في غير هذه الآية تنبيهاً على أنه لا سبب في الحقيقة إلا رحمة الله لحال دعاء إلى ذلك .

وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21)

ولما كان هذا إشارة إلى الاستدلال على البعث بما يعلمونه من أنفسهم صرح بعد ما لوح ، فقال آتياً بحرف التوقع لأنه مقامه : { وقد } أي والحال أنه قد أحسن إليكم مرة بعد مرة بما لا يقدر عليه غيره ، فدل ذلك على تمام قدرته ، ثم لم يقطع إحسانه عنكم فاستحق أن تؤمنوا به لأنه { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } [ الرحمن : 60 ] ورجاء لدوام إحسانه وخوفاً من قطعه لأنه { خلقكم } أي أوجدكم من العدم مقدرين { أطواراً * } أي تارات عناصر أولاً ثم مركبات تغذي الحيوان ثم أخلاطاً ثم نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم عظاماً ولحوماً وأعصاباً ودماء ، ثم خلقاً آخر تاماً ناطقاً ذكراناً وإناثاً طوالاً وقصاراً بيضاً وسوداً وبين ذلك - إلى غير ذلك من الأمور الدالة على قدرته على كل مقدور ، ومن قدر على هذا الابتداء كان على الإعادة أعظم قدرة ، وقد ثبتت حكمته وأنه لم يخلق الخلق الخلق سدى بما بان من هذا التطوير على هذه الهيئات العجيبة التي لا قدرة لغيره عليها بوجه ، وهم يتهارجون في هذه الدار تهارج الحمر ، ويموت المظلوم على حاله ، والظالم يبلغ آماله ، فلا بد أن يعيدهم ليفصل بينهم فيظهر حكمته وعدله وإكرامه وفضله ، ولو ترك ذلك لكان نقصاً في ملكه ، ومن قدر على ذلك كان قادراً على الجزاء بالثواب والعقاب ، فهو أهل لأن يخشى ويرجى .
ولما كان هذا واضحاً ولكنهم قوم لد ، لا يردهم إلا الشمس المنيرة في وقت الظهيرة ، ذكرهم - بعد التذكير بما في أنفسهم - بما هو أكبر من ذلك من آيات الآفاق وقسمها إلى علوي وسفلي ، وبدأ بالأنفس لأنها مع شرفها أقرب منظور إليه لهم ، وثنى بالعلوي لأنه يليها في الشرف ووضوح الآيات ، فقال : دالاًّ على القدرة على البعث والجزاء بالثواب والعقاب : { ألم تروا } أي أيها القوم .
ولما كان تأمل الكيفيات يحتاج إلى دقة وتوقف على عجائب ولطائف تؤذن قطعاً بأن فاعلها لا يعجزه شيء ، وقال منكراً عليهم عدم التأمل : { كيف خلق الله } أي الذي له العلم التام والقدرة البالغة والعظمة الكاملة { سبع سماوات } هي في غاية العلو والسعة والإحكام والزينة ، يعرف كونها سبعاً بما فيها من الزينة .
ولما كانت المطابقة بين المتقابلات في غاية الصعوبة لا يكاد يقدر عليها من جميع الوجوه أحد ، قال : { طباقاً * } أي متطابقة بعضها فوق بعض وكل واحدة في التي تليها محيطة بها « ما لها من فروج » لا يكون تمام المطابقة إلا كذلك بالإحاطة من كل جانب .
ولما كان المحيط لا يتوصل إلى داخله إلى محيط العلم والقدرة ، قال دالاًّ على كمال قدرته وتصرفه معبراً بالجعل الذي يكون عن تصيير وتسبيب : { وجعل القمر } أي الذي ترونه وهو في السماء الدنيا ، وبدأ به لقربه وسرعة حركته وقطعه جميع البروج في كل شهر مرة وغيبته في ليالي السرار ثم ظهوره ، وذلك أعجب في القدرة .

ولما كانت السماء شفافات قال : { فيهن } أي السماوات جميعهن { نوراً } أي لامعاً منتشراً كاشفاً للمرئيات ، أحد وجهيه يضيء لأهل الأرض والثاني لأهل السماوات ، ولما كان نوره مستفاداً من نور الشمس قال : { وجعل } معظماً لها بإعادة العامل { الشمس } أي في السماء الرابعة { سراجاً * } أي نوراً عظيماً كاشفاً لظلمه الليل عن وجه الأرض وهي في السماء الرابعة ، وروى ابن مردويه وعبد الرزاق والطبري عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم : « إن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماء ، وأقفيتهما إلى الأرض »؛ وروى الحاكم منه ذكر القمر وجعلهما سبحانه آية على رؤية عباده المحسنين له في الجنة فإنه يرى كل أحد كلاًّ من مكانه مخلياً به ، وكذلك يرونه سبحانه عياناً جهاراً كما رأوه في الدنيا بالإيمان نظراً واعتباراً ، ولما دل على كمال علمه وتمام قدرته بخلق الإنسان ثم بخلق ما هو أكبر منه أعاد الدلالة بخلق الإنسان لأنه أعظم المحدثات وأدلها على الله سبحانه وتعالى على وجه آخر مبين لبعض ما أشار إليه الأول من التفصيل مصرحاً بالبعث فقال مستعيراً الإنبات للإنشاء : { والله } أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله { أنبتكم } أي بخلق أبيكم آدم عليه الصلاة والسلام { من الأرض } أي كما ينبت الزرع ، وعبر بذلك تذكيراً لنا لما كان من خلق أبينا آدم عليه الصلاة والسلام لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض ، وأشار إلى أنه جعل غذءانا من الأرض التي خلقنا منها ، وبذلك الغذاء نمونا .
ولما كان إنكارهم للبعث كأنه إنكار للابتداء أكده بالمصدر وأجراه على غير فعله بتجريده من الزيادة ، إشارة إلى هوانه عليه سبحانه وتعالى وسهولته مع أنه إبداع وابتداء واختراع فقال : { نباتاً * } ومع ذلك فالآية صالحة للاحتباك : ذكر « أنبت » أولاً دال على حذف مصدره ثانياً ، وذكر « النبات » ثانياً دال على حذف فعله أولاً ، ليكون التقدير : أنبتكم إنباتاً فنبتم نباتاً .
ولما كان في الموت أيضاً دليل على تمام العلم والقدرة غير أنه ليس كدلالة الابتداء بالابتداع ، وكان مسلماً ليس فيه نزاع ، ذكره من غير تأكيد بالمصدر فقال دالاًّ على البعث والنشور : { ثم يعيدكم } على التدريج { فيها } أي الأرض بالموت والإقبار وإن طالت الآجال { ويخرجكم } أي فيها بالإعادة ، وأكد بالمصدر الجاري على الفعل إشارة إلى شدة العناية به وتحتيم وقوعه لإنكارهم له فقل : { إخراجاً * } أي غريباً ليس هو كما تعلمون بل تكونون به في غاية ما يكون من الحياة الباقية ، تلابس أرواحكم بها أجسامكم ملابسة لا انفكاك بعدها لأحدهما عن الآخر .

ولما كان النابت من الشيء لا يتصرف في ذلك الشيء ، دل على كمال قدرته بخرق تلك العادة لهم على وجه الإنعام عليهم ، فقال مظهراً للاسم الشريف مرة بعد أخرى تعظيماً للأدلة لئلا تقيد القدرة بما يقترن به الاسم دالاًّ بالعالم السفلي بعد الإرشاد بالعلوي وآخر السفلي لأن آياته على ظهورها خفيت بكثرة الإلف لها : { والله } أي المستجمع لجميع الجلال والإكرام { جعل لكم } أي نعمة عليكم اهتماماً بأمركم { الأرض بساطاً * } أي سهل عليكم التصرف فيها والتقلب عليها سهولة التصرف في البساط ، ثم علل ذلك فقال : { لتسلكوا } أي منجدين { منها } أي الأرض مجددين لذلك { سبلاً } أي طرقاً واضحة مسلوكة بكثرة { فجاجاً * } أي ذوات اتساع لتتوصلوا إلى البلاد الشاسعة براً وبحراً ، فيعم الانتفاع بجميع البقاع ، فالذي قدر على إحداثكم وأقدركم على التصرف في أصلكم مع ضعفكم قادر على إخراجكم من أجداثكم التي لم تزل طوع أمره ومحل عظمته وقهره .
ولما كانوا جادلوه عليه الصلاة والسلام بعد هذا البيان الذي لا يشك في دلالته على المراد من تحقق لصفاء الإيقان ، فأكثروا الجدال ونسبوه إلى الضلال وعصوه أقبح العصيان وقابلوه بأشنع الأقوال والأفعال ، طوى ذلك مشيراً إليه بقوله مستأنفاً : { قال نوح } أي بعد رفقه بهم ولينه لهم شاكياً منهم : { رب } أي أيها المحسن إليّ المدبر لي المتولي لجميع أموري .
ولما كان الضعفاء أكثر الناس بحيث إذا اجتمعوا دل الرؤوس الأقوياء بالأموال والأولاد وكانوا كأنهم الكل ، فقال مؤكداً لأن عصيانهم له بعد ذلك مما يبعد وقوعه : { إنهم } أي قومي الذين دعوتهم إليك مع صبري عليهم ألف سنة إلا خمسين عاماً { عصوني } أي فيما أمرتهم به ودعوتهم إليه فأبوا أن يجيبوا دعوتي وشردوا عني أشد شراد وخالفوني أقبح مخالفة { واتبعوا } أي بغاية جهدهم نظراً إلى المظنون العاجل بعد ترك المحقق عاجلاً وآجلاً { من } أي من رؤسائهم البطرين بأموالهم المغترين بولدانهم ، وفسرهم بقوله : { لم يزده } أي شيئاً من الأشياء .
ولما كان المال يكون للإنسان الولد ، وكان ينبغي أن يشكر الله الذي آتاه إياه ليكون له خيراً في الدارين وكذا الولد قال : { ماله } أي بكثرته { وولده } كذلك ، وهو الجنس في قراءة التحريك - وكذا في قراءة ابن كثير والبصريين وحمزة والكسائي بالضم والسكون على أنه لغة في المفرد كالحزن والحزن والرشد والرشد ، أو يكون على هذه جمعاً كالأسد والأسد ، ويكون اختيار أبي عمرو لهذه القراءة في هذا الحرف وحده للإشارة بجمع الكثرة المبني على الضمة التي هي أشد الحركات إلى أنهم - وإن زادت كثرتهم وعظمت قوتهم - لا يزيدونهم شيئاً { إلا خساراً * } بالبعد عن الله والعمى عن محجة الطريق ، فإن البسط لهم في الدنيا بذلك كان سبباً لطغيانهم وبطرهم واتباعهم لأهوائهم حتى كفروا واستغووا غيرهم فغلبوا عليهم فكانوا سبباً في شقائهم وخسارتهم بخسارتهم ، وكان عندهم أنها زادتهم رفعة ، وفي السياق دليل على أنهم ما حصلت لهم الوجاهة إلا بها .

وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)

ولما كانت كثرة الرؤساء قوة أخرى إلى قوتهم بمتاع الدنيا ، وكان التقدير : فأمرتهم بالإيمان فأبوا وأمروهم بالكفر فانقادوا لهم ، عطف عليه مبيناً لكثرتهم بضمير الجمع العائد على « من » عاطفاً على « لم يزده » المفردة الضمير للفظ جامعاً له للمعنى لتجمع العبارة الحكم على المفرد والجمع ، فيكون أدل شيء على المراد منها فقال : { ومكروا } أي هؤلاء الرؤساء في تنفير الناس عني - وأكد الفعل بالمصدر دلالة على قوته فقال : { مكراً } وزاده تأكيداً بصيغة هي النهاية في المبالغة فقال : { كباراً * } فإنه أبلغ من كبار المخفف الأبلغ من كبير ، فلم يدعوا أحداً منهم بذلك المكر يتبعني { وقالوا } أي لهم في أداني المكر الذي حصل منهم .
ولما كان دعاء الرسل عليهم الصلاة والسلام جديراً بالقبول لما لهم من الجلالة والحلاوة والبيان والرونق والظهور في الفلاح ، أكدوا قولهم : { لا تذرن آلهتكم } أي لا تتركنها على حالة من الحالات لا قبيحة ولا حسنة ، وأضافوها إليهم تحسباً فيها ، ثم خصوا بالتسمية زيادة في الحث وتصريحاً بالمقصود فقالوا مكررين النهي والعامل تأكيداً : { ولا تذرن } ولعلهم كانوا يوافقون العرب في أن الود هو الحب الكثير ، فناسب المقام بذاتهم بقوله : { وداً } وأعادوا النافي تأكيداً فقالوا : { ولا سواعاً * } وأكدوا هذا التأكيد وأبلغوا فيه فقالوا : { ولا يغوث } ولما بلغ التأكيد نهاية وعلم أن المقصود النهي عن كل فرد فرد لا عن المجموع بقيد الجمع أعروا فقالوا : { ويعوق ونسراً * } معرى عن التأكيد للعلم بإرادته ، وكان هؤلاء ناساً صالحين ، فلما ماتوا حزن عليهم الناس ثم زين لهم إبليس تصويرهم تشويقاً إلى العمل بطرائقهم الحسنة فصوروهم ، فلما تمادى الزمان زين لهم عبادتهم لتحصيل المنافع الدنيوية ببركاتهم ثم نسي القوم الصالحون ، وجعلوا أصناماً آلهة من دون الله ، وكانت عبادة هؤلاء أول عبادة الأوثان فأرسل الله سبحانه وتعالى نوحاً عليه الصلاة والسلام للنهي عن ذلك إلى أن كان من أمره وأمر قومه ما هو معلوم ، ثم أخرج إبليس هذه الأصنام بعد الطوفان فوصل شرها إلى العرب ، فكان ود لكلب بدومة الجندل وسواع لهذيل ويغوث لمذحج ويعوق لمراد ونسر لحمير لآل ذي الكلاع ، وقيل غير ذلك - والله أعلم قال البغوي : سواع لهذيل ويغوث لمراد ، ثم لبني غطيف بالجرف عن سبأ ويعوق لهمذان . قال أبو حيان : قال أبو عثمان النهدي : رأيت يغوث وكان من رصاص يحمل على جمل أجرد ، يسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك ، فإذا برك نزلوا وقالوا : قد رضي لكم المنزل ، فينزلون حوله ويضربون عليه بناء ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب وصول شر تلك الأوثان إلى العرب أنها دفنها الطوفان ثم أخرجها الشيطان لمشركي العرب ، وكانت للعرب أصنام أخر فاللات لثقيف ، والعزى لسليم وغطفان وجشيم ، ومنات بديد لهذيل ، وإساف ونايلة وهبل لأهل مكة ، وكان إساف حيال الحجر الأسود ، ونايلة حيال الركن اليماني ، وكان هبل في جوف الكعبة - انتهى ، وقال الواقدي : ود على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة نسر - انتهى .

ولا يعارض هذا أنهم صور لناس صالحين لأن تصويرهم لهم يمكن أن يكون منتزعاً من معانيهم ، فكأن وداً كان أكملهم في الرجولية ، وكانت سواع امرأة كاملة في العبادة ، وكان يغوث شجاعاً ، ويعوق كان سباقاً قوياً ، وكان نسر عظيماً طويل العمر - والله تعالى أعلم .
ولما ذكر مكرهم وما أظهروا من قولهم ، عطف عليه ما توقع السامع من أمره فقال : { وقد أضلوا } أي الأصنام وعابدوها بهذه العبادة { كثيراً } من عبادك الذين خلقتهم على الفطرة السليمة من أهل زمانهم وممن أتى بعدهم فإنهم أول من سن هذه السنة السيئة فعليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة .
ولما كان التقدير : فلا تزد الظالمين إلا خساراً ، عطف عليه قوله مظهراً في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف : { ولا تزد الظالمين } أي الراسخين في الوصف الموجب لأن تكون آثار المتصف به كآثار الماشي في في الظلام في وقوعها مختلة ، شيئاً من الأشياء التي هي فيهم { إلا ضلالاً * } أي طبعاً على عقولهم وقلوبهم حتى يعموا عن الحق وعن جميع مقاصدهم الفاسدة الضالة الراسخة في الضلال فلا يكون منها شيء على وجه يكون فيه شيء من سداد ، وكان هذا بعد أن أعلمه الله سبحانه وتعالى أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن ، والكلام عليه على كل حال كالكلام على دعاء موسى هارون عليهما وعلى محمد أفضل الصلاة والسلام في الشد على قلوب فرعون وملئة لئلا يؤمنوا في حال ينفعهم فيه كما مضى في سورة يونس عليه السلام ، وقد بالغ ابن عربي في المروق من الدين فقال في فصوصة : إن هذا الدعاء حسن في حقهم ، وقال : إن الضلال أهدى من الهدى ، وإن الضال أحسن حالاً من المهتدي ، لأن الضال لا يزال قريباً من القطب المقصود دائراً حوله ، والمهتدي صاحب طريقة مستطيلة ، فهو يبعد عن المقصود ، فأبان أن الله تعالى لم يخلق خلقاً أسفه منه إلا من اتبعه عليه وعلى من ينحو نحوه من الضلال الذي لا يرضاه عاقل من عباد الأصنام الذين لا أسفه منهم ولا غيره ، فعليهم أشد الخزي واللعنة .

مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)

ولما فرغ من أمرهم في ضلالهم ، ودعا رسولهم صلى الله عليه وسلم ، فلم يبق إلا إهلاكهم . وكان من مفهومات الضلال المحق وإذهاب العين كما يضل الماء في اللبن ، قال مبيناً ، إجابته لدعائه ذاكراً الجهة التي أهلكوا بسببها : وأكد ب « ما » النافية في الصورة لضد مضمون الكلام لاعتقاد الكفار أن الإنجاء والإهلاك عادة الدهر : { مما } .
ولما كان الكافر قد أخطأ ثلاث مرات : يكفره في الإيمان بالطاغوت ، وتكذيب ربه ، وتكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك كافياً في استحقاقه للأخذ قال : { خطيئاتهم } جامعاً له جمع السلامة - في قراءة الجماعة ، وأفهمت قراءة أبي عمرو بجمع التكسير أن لهم مع هذه الأمهات الكافية في الأخذ من الذنوب ما يفوت الحصر يوجب تغليظ ذلك الأخذ ، فهي مشيرة إلى أنه ينبغي الاحتراز من كل الذنب .
ولما كان الموجع إغراقهم لا كونه من معين ، قال مخبراً عما فعل بهم في الدنيا : { أغرقوا } أي بالطوفان بانياً له للمفعول لذلك وللإعلام بأنه في غاية السهولة على الفاعل المختار الواحد القهار ، فطاف الماء عليهم جميع الأرض السهل والجبل ، فلم يبق منهم أحداً ، وكذا الكلام فيما تسبب عنه وتعقبه من قوله : { فأدخلوا } أي بقهر القهار في الآخرة التي أولها البرزخ يعرضون فيه على النار بكرة وعشياً { ناراً * } أي عظيمة جداً أخفها ما يكون من مبادئها في البرزخ ، قال الشيخ ولي الدين الملوي : فعذبوا في الدنيا بالغرق ، وفي الآخرة بالحرق ، والإياس من الرحمة ، وأيّ عذاب أشد من ذلك ، وقال الضحاك : في حالة واحدة كانوا يغرقون في الماء من جانب ويحترقون في الماء من جانب آخر بقدرة الله سبحانه وتعالى ، وفيها دلالة على قول غيره على عذاب القبر .
ولما كانوا قد استندوا إلى آلهتهم لتنصرهم من أخذ الله تعالى ، قال مسبباً عن هذا الإغراق والإدخال من الرحمة ليكون ذلك أشد في العذاب ، فإن الإنسان - كما قال الملوي : - إذا كان في العذاب ويرجو الخلاص يهون عليه الأمر بخلاف ما إذا يئس من الخلاص ، معلماً بأن آلهتهم عاجزة فإنهم لم تغن عنهم شيئاً ، توبيخاً لمن يعبد مثلها : { فلم يجدوا } وحقق الأمر فيهم بقوله : { لهم } أي عندما أناخ الله بهم سطوته وأحل بهم نقمته .
ولما كانت الرتب كلها دون رتبته تعالى ، وكان ليس لأحد أن يستغرق جميع ما تحت رتبته سبحانه من المراتب ، قال مثبتاً الجار : { من دون الله } أي الملك الأعظم الذي تتضاءل المراتب تحت رتبة عظمته وتذل لعزه وجليل سطوته { أنصاراً * } ينصرونهم على من أراد بهم ذلك ليمنعوه مما فعل بهم أو يقتصوا منه لهم بما شهد به شاهد الوجود الذي هو أعدل الشهود من أنه تم ما أراده سبحانه وتعالى من إغراقهم من غير أن يتخلف منهم أحد على كثرتهم وقوتهم لكونهم أعداءه وإنجاء نبيه نوح عليه الصلاة والسلام ومن معه رضوان الله وسلامه عليهم أجمعين على ضعفهم وقلتهم لم يقعد منهم أحد لكونهم أولياءه ، فكما لم يهلك ممن أراد إنجاءه أحد فكذلك لم يسلم منهم ، فمن قال عن عوج ما يقوله القصاص فهو أيضاً ضال أشد ضلال ، فلعنة الله على من يقول : إن الله تعالى كان غير ناصرهم ، مع هذه الدلالات التي هي نص في أنه عدوهم ، وأن نصرهم إنما يكون على نبيه نوح عليه الصلاة والسلام ، واعتقاد ذلك أو شيء منه كفر ظاهر لا محيد عنه بوجه ، وقائل ذلك هو ابن عربي صاحب الفصوص الذي لم يرد بتصنيفه إلا هدم الشريعة المطهرة ، ونظمه أياً ابن الفارض في تائيته التي سماها بنظم السلوك ، فلعنة الله عليه وعلى من تبعه أو شك في كفره أو توقف في لعنه بعد ما نصب من الضلال الذي سعر به البلاد ، وأردى كثيراً من العباد .

ولما أتم الخبر عن إغراقهم ، وقدمه للاهتمام بتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم في إجابة دعوته تحذيراً للعرب أن يخرجوا رسولهم صلى الله عليه وسلم فيخرجوه إلى مثل ذلك ، عطف على قول نوح عليه السلام من أوله قوله عندما أخبره تعالى أنهم مغرقون وأنه لا يؤمن منهم إلا من قد آمن بعدما طال بلاؤه بهم حتى أن كان الرجل ليأتي بابنه إليه فيقول له : احذر هذا أن يضلك ، وإن أبي حذر به ، وكانت صيغة العموم ليست بنص في أفرادها أبداً ، استنجازاً لوعده وتصريحاً بمراده : { وقال نوح } وأسقط الأداة كما هي عادة أهل الحضرة فقال : { رب لا تذر } أي تترك بوجه من الوجوه أصلاً ولو على أدنى الوجوه { على الأرض } أي كلها من مشرقها إلى مغربها وسهلها وجبلها ووهدها { من الكافرين } أي الراسخين في الكفر الذي هو كان لهم جبلة وطبعاً { دياراً * } أي أحداً يدور فيها ، وهو من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي العام فيقال من الدور أو الدار لا فعّال ، وإلا لكان دواراً ، ويجوز - وهو أقرب - أن يكون هذا الدعاء عند ركوبه السفينة وابتداء الإغراق فيهم ، يريد به العموم كراهية أن يبقى أحد منهم على ذروة جبل أو نحوه ، لا أصل الإغراق ، وأن يكون معنى ما قبله الحكم بإغراقهم وتحتم القضاء به أو الشروع فيه .
ولما كان الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يقولون ولا يفعلون إلا ما فيه مصلحة الدين ، علل دعاءه بقوله وأكده إظهاراً لجزمه باعتقاد ما أنزل عليه من مضمون قوله تعالى : { إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } [ هود : 36 ] وإن كان ذلك خارجاً عن العادة : { إنك } أي يا رب { إن تذرهم } أي تتركهم على أي حالة كانت في إبقائهم سالمين على وجه الأرض على ما هم عليه من الكفر والضلال والإضلال ولو كانت حالة دنية { يضلوا عبادك } أي الذين آمنوا بي والذين يولدون على الفطرة السليمة .

ولما كان ربما كان الإنسان ضاراً ووجد له ولد نافع؛ نفى ذلك بقوله : { ولا يلدوا } أي إن قدرت بقاءهم في الدنيا { إلا فاجراً } أي مارقاً من كل ما ينبغي الاعتصام به ، واكتفى فيه بأصل الفاعل إشارة إلى أن من جاوز الحد أو شرع في شيء بعده من التمادي في الغي صار ذلك له ديدناً فبالغ ، فلذلك قال : { كفاراً * } أي بليغ الستر لما يجب إظهاره من آيات الله لأن قولك يا رب لا يتخلف أصلاً ، والظاهر أن هذا الكلام لا يقوله إلا عن وحي كما في سورة هود عليه السلام من قوله تعالى : { إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } [ هود : 36 ] فيكون على هذا حتى صغارهم معذبين بما يعلم الله منهم لو بلغوا لا بما عملوه كما قال صلى الله عليه وسلم في أولاد الكفار « الله أعلم بما كانوا عاملين » .
ولما دل هذا كله على أنه دعا على أعداء الله ، دعا أيضاً لأوليائه وبدأ بنفسه لأنه رأس تلك الأمة ، فقال مسقطاً على عادة أهل الخصوص : { رب } أي أيها المحسن إليّ باتباع من اتبعني وتجنب من تجنبني ، فإن من كانت طبيعته طبعت على شيء لا تحول عنه .
ولما كان المقام الأعلى أجل من أن يقدره أحد حق قدره قال : { اغفر لي } أي فإنه لا يسعني وإن كنت معصوماً إلا حلمك وعفوك ورحمتك . ولما أظهر بتواضعه عظمة الله سبحانه وتعالى رتب المدعو لهم على الأحق فالأحق فقال : { ولوالديّ } وكانا مؤمنين وهما لمك بن متوشلخ وشمخاء بنت أنوش ، قال أبو حيان : وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يكفر لنوح عليه السلام أب فيما بينه وبين آدم عليهم الصلاة والسلام . وأعاد الجار إظهاراً للاهتمام فقال : { ولمن دخل بيتي } لأن المتحرم بالإنسان له حق أكيد لا سيما إن كان مخلصاً في حبه ، ولذا قال : { مؤمناً } ولما خص عم وأعاد الجار أيضاً اهتماماً فقال : { وللمؤمنين والمؤمنات } أي العريقين في هذا الوصف في كل أمة إلى آخر الدهر ولا تزدهم في حال من الأحوال شيئاً من الأشياء إلا مفازاً .
ولما كان التقدير بما أرشد إليه الاحتباك : ولا تكرم المارقين ، عطف عليه قوله : { ولا تزد الظالمين } أي العريقين في الظلم في حال من الأحوال { إلا تباراً * } أي إلا هلاكاً مدمراً مفتتاً لصورهم قاطعاً لأعقابهم مخبراً لديارهم وكما استجاب الله سبحانه وتعالى له في أهل الإيمان والكفران من أهل ذلك الزمان فكذلك يستجيب له في أهل الإيمان وأهل الخسران بالسعادة والتبار في جميع الأعصار إلى أن يقفوا بين يدي العزيز الجبار ، والأية من الاحتباك : إثبات الدعاء المقتضي لأصل إكرام المؤمنين أولاً مرشد إلى حذف الدعاء المفهم لأصل إهانة الكافرين ثانياً ، وإثبات الدعاء بزيادة التبار ثانياً مفهم لحذف الدعاء الموجب لزيادة المفاز أولاً ، وهذا الآخر المفصح بالتبار هو ما أرشد إليه الابتداء بالإنذار ، فقد انطبق الآخر على الأول على أصرح وجه وأكمل ، وأحسن حال وأجمل منال ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والحمد لله تعالى على كل حال .

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)

ولما كان نوح عليه الصلاة والسلام أول رسول أرسله الله تعالى إلى المخالفين من أهل الأرض ، وكان قومه عباد أوثان ، وعصوه أشد العصيان مع أنه كان منهم نسباً ولساناً ، وختمت سورته بدعائه عليهم ، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، فهو آخر رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض وغيرهم من جميع الخلق ، وكان قومه العرب قد وافقوا قوم نوح عليه السلام في أكثر أحوالهم عبادة الأوثان حتى تلك الأوثان إما بأساميها أو بأعيانها على ما ورد في الأخبار ، وفي عصيان رسولهم واستضعاف أتباعه واستهزائهم ابتدئت ، هذه بما كان من سهولة من سمع هذه الدعوة الخاتمة الجامعة من غير الجنس فضلاً عن الموافقين في الجنس مع قصر الزمان وضعف الأعوان لجلالة هذا القرآن ، فقال منبهاً له بالأمر على ما في هذا من عظيم القدر ، مع الإشارة إلى تبكيت العرب على التباطؤ عن الإجابة إلى ما يعرفون من رشده بمعناه ونظمه ، لكونه بلسانهم وكونهم من نوع الداعي وقبيله وأقرب الناس إليه { قل } أي يا محمد لقومك .
ولما كان المقصود تعظيم الموحى به ، وأما الموحي إلى كل من الرسولين فواحد ، بنى للمفعول قوله مبيناً لسيرة الجن في تلقيهم لهذا القرآن بالأخذ إرثاً من أشرف النبيين وإلقائهم له بالإبلاغ إلى غيرهم من وارث العلم منهم ليكون لهم الشرفان : شرف العلم لكمال أنفسهم ، والتعليم لتكميل غيرهم ، فيكون لهم مثل أجر من عمل بما ألقوه إليه وأملوه عليه : { أوحي إليّ } أي أخبرت على وجه الخفاء ممن لا يعلم الغيب غيره في هذا القرآن الذي اقتضى إعجازه أن أكون أكثر الأنبياء تابعاً على لسان جبريل عليه السلام الذي هو أمينه والواسطة بينه وبين أنبيائه ، ثم وضع موضع المفعول الذي لم يسم فاعله قوله : { أنه } أي الشأن العظيم { استمع } أي بغاية الإصغاء والإقبال والتقبل والإلف استماعاً هو الاستماع في الحقيقة لأنه لقراءتي هذا القرآن { نفر } هم في غاية النفرة جبلة وطبعاً { من الجن } الذين هم في غاية الاستتار ، وهم أجسام حية عاقلة خفيفة تغلب عليها النارية أو الهوائية كما تغلب على أجسام الإنس الترابية ، والنفر ما بين الثلاثة والعشرة ، قال البغوي : وكانوا تسعة من جن نصيبين ، وقيل : كانوا سبعة ، وفي هذه العبارة دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم ولا قرأ عليهم ، وإنما اتفق حضورهم عند قراءته ، وهل هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف أو غيره قال أبو حيان : المشهور أنه هو ، وقيل : هو غيره ، والجن الذين أتوه بمكة جن نصيبين ، والذين أتوه بنخلة جن نينوى ، والسورة التي استمعوها قال عكرمة : العلق ، وقيل : الرحمن ، ولم يذكر هنا ولا في الأحقاف أنه رآهم ، ويظهر من الحديث تعدد الواقعة ، فمنها ما كان في المبدأ ولم يكن معه أحد من الصحابة رضي الله عنهم كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي في الصحيح

« أنهم فقدوه صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي فالتمسوه في الأودية والشعاب ، فلما أصبح إذا جاء من قبل حراء فقال : أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن ، فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، ومنها ما كان معه عبد الله رضي الله عنه فذهب معه إلى الحجون عند الشعب فخط عليه خطاً ، وقال : لا تجاوزه ، فانحدر عليه أمثال الحجل يجرون الحجارة بأقدامهم حتى غشوه فلا أراه ، وأومأ إليّ بيده أن اجلس ، فتلا القرآن ، فلم يزل صوته يرتفع واختفوا بالأرض حتى ما أراهم » قال الأصبهاني : وقيل : كانوا من بني الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً وهم عامة جنود إبليس ، وقال القشيري : لما رجمت الشياطين بالشهب فرق إبليس جنوده لعلم ذلك فأتى سبعة منهم بطن نخلة فاستمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا ثم أتوا قومهم فقالوا : يا قومنا إنا سمعنا قرآناً عجباً ، يعني ولم يرجعوا إلى إبليس لما علموه من كذبه وسفاهته ، وجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سبعين من قومهم فأسلموا ، فذلك قوله تعالى : { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه } [ الأحقاف : 29 ] الآيات { فقالوا } أي فتسبب عن استماعهم أن قال من سمع منهم لمن لم يسمع ، أو لمن كان يواخيهم من الإنس امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم « رحم الله امرأً سمع منا مقالة فوعاها فأداها كما سمعها » وكان قولهم سكوناً إلى هذا ا لقرآن وأنسابه ، مؤكدين لبعد حالهم عن سماع الوحي وعلمهم بما زاد به من الإعجاز : { إنا } بالكسر لأنه مبتدأ محكي بعد القول { سمعنا } حين تعمدنا الإصغاء وألقينا إليه أفهامنا { قرآناً } أي كلاماً هو في غاية الانتظام في نفسه والجمع لجميع ما نحتاج إليه ، ثم وصفوه بالمصدر مبالغة في أمره فقالوا : { عجباً * } أي بديعاً خارجاً عن عادة أمثاله من جميع الكتب الإلهية فضلاً عن كلام الناس في جلالة النظم وإعجاز التركيب والوضع مع الموافقة لها في الدعوة إلى الله تعالى والبيان للمحاسن والمساوىء والدعاء إلى كل فلاح حتى صار نفس العجب ، والعجب ما خرج عن حد أشكاله ونظائره فخفي سببه ، وهذا يدل على قوتهم العلمية في فصاحتهم وكمالهم في علم الرسوم ، وصوغ الكلام على أبلغ جهات النظوم .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تقدم ذكر حال كفار قريش في تعاميهم عن النظر وجريهم في اللدد والعناد حسبما انطوت عليه سورة ن والقلم ، ثم أتبعت بوعيدهم في الحاقة ثم بتحقيقه وقرب وقوعه في المعارج ثم بتسليته عليه الصلاة والسلام وتأنيسه بقصة نوح عليه الصلاة والسلام مع قومه ، أعقب ذلك بما يتعظ به الموفق ويعلم أن القلوب بيد الله : فقد كانت استجابة معاندي قريش والعرب أقرب في ظاهر الأمر لنبي من جنسهم ومن أنفسهم فقد تقدمت لهم معرفة صدقه وأمانته ، ثم جاءهم بكتاب بلسانهم الذي به يتحاورون ولغتهم التي بها يتكلمون ، فقد بهرت العقول آياته ، ووضحت لكل ذي قلب سليم براهينه ومعجزاته ، وقد علموا أنهم لا يقدرون على معارضته إلى ما شاهدوه من عظيم البراهين ، ومع ذلك عموا وصموا - غضب الله عليهم ولعنهم - وسبق إلى الإيمان من ليس من جنسهم ولا سبقت له مزية تكريمهم ، وهم الجن ممن سبقت لهم من الله الحسنى فآمنوا وصدقوا ، وأمر صلى الله عليه وسلم بالإخبار بذلك ، فأنزل الله تعالى عليه { قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن } [ الجن : 1 ] الآيات إلى قوله إخباراً عن تعريف الجن سائر أخوانهم بما شاهدوه من عناد كفار العرب « وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً » ثم استمرت الآي ملتحمة المعاني معتضدة المباني إلى آخر السورة - انتهى .

ولما بينوا فضله من جهة الإعجاز وغيره ، بينوا المقصود بالذات الدال على غوصهم على المعاني بعد علمهم بحسن المباني فقالوا : { يهدي } أي يبين غاية البيان مع الدعاء في لطف وهدى { إلى الرشد } أي الحق والصواب الذي يكاد يشرد لثقله على النفوس الداعية إلى الهوى وخفة ضده الغي والسفة الملائم لنقائص النفوس . ولما وصفوه بهذه الكمالات سببوا عن ذلك قولهم إعمالاً للقوة العملية في المبادرة إلى الصواب من غير تخلف أصلاً : { فآمنا } أي كل من استمع منا لم يتخلف منا أحد ولا توقف بعد الاستماع { به } أي أوقعنا الأمان لمبلغ القرآن أن نكذبه أو نخالفه أدنى مخالفة بسبب هذا القرآن .
ولما أخبروا عن الماضي ، وكان الإيمان لا يفيد إلا مع الاستمرار ، قالوا عاطفين على ما تقديره : فوجدنا الله في الحال لأن ذلك نتيجة الإيمان بالقرآن وخلعنا الأنداد : { ولن } أي والحال أنا مع إيقاع الإيمان في الحال لن { نشرك } بعد ذلك أصلاً ، أكدوا لأنه أمر لا يكاد يصدق { بربنا } أي الذي لا إحسان قائم بنا من الإيجاد وما بعده إلا منه { أحداً * } أي من الخلق لأنه لم يشركه في شيء من مرنا أحد ، وقد وضحت الدلائل على التوحيد فيما سمعنا من هذا القرآن .
ولما أظهروا القوتين العلمية بفهمهم القرآن ، والعملية بما حصل لهم من الإذعان ، أعملوا ما لهم في الدعاء إلى الله تعالى من قوة البيان ، فبعد أن نزهوه سبحانه عن الشرك عموماً خصوا مؤكدين في قراءة ابن كثير والبصريين وأبي جعفر بالكسر لما تقدم من أن مثل هذه السهولة لا تكاد تصدق ، فقالوا عطفاً على { إنا سمعنا } [ الجن : 1 ] : { وأنه } أي الشأن العظيم قال الجن : { تعالى } أي انتهى في العلو والارتفاع إلى حد لا يستطاع { جد } أي عظمة وسلطان وكمال غنى { ربنا } أي الموجد لنا والمحسن إلينا ، وإذا كان هذا التعالي لجده فما بالك به ، وكذا حكت هذه القراءة بقوله الجن ما بعد هذا إلا

{ وأن لو استقاموا } [ الجن : 16 ] و { أن المساجد لله } [ الجن : 18 ] و { أنه لما قام } [ الجن : 19 ] فإنه مفتوح فيها عطفاً على الموحى به فهو في محل رفع إلا عند أبي جعفر فإنه فتح { وأنه تعالى } [ الجن : 3 ] و { أنه كان يقول } [ الجن : 4 ] { وأنه كان رجال } [ الجن : 6 ] ووافقهم نافع وأبو بكر عن عاصم في غير { وأنه لما قام } [ الجن : 19 ] فإنهما كسراها وفتح الباقون وهم ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم الكل إلا ما صدر بالفاء على أنه معطوف على محل الجار في « به » أي صدقناه وصدقنا أنه - لا على لفظه وإلا لزم إعادة الجارّ عند نحاة البصرة ، وقيل : عطف على لفظ الضمير في « به » على المذهب الكوفي الذي نصره أبو حيان وغير واحد من أهل اللسان .
ولما وصفوه بهذا التعالي الأعظم المستلزم للغنى المطلق والتنزه عن كل شائبة نقص ، بينوه بنفي ما ينافيه بقولهم إبطالاً للباطل : { ما اتخذ } عبر بصيغة الافتعال بياناً لموضع النقص لا تقييداً { صاحبة } أي زوجة { ولا ولداً * } لأن العادة جارية بأنه لا يكون ذلك إلا بمعالجة وتسبيب ، ومثل ذلك لا يكون إلا لمحتاج إلى بضاع أو غيره ، والحاجة لا تكون إلا من ضعف وعجز ، وذلك ينافي الجد ، فالمحتاج لا يصح أصلاً أن يكون إلهاً وإن كان بغير تسبيب ومهلة ، فهو عبث لأن مطلق الاختراع مغن عنه ، فلم يبق إلا العبث الذي ينزه الإله عنه والصاحبة لا بد وأن تكون من نوع صاحبها ، ومن له نوع فهو مركب تركيباً عقلياً من صفة مشتركة وصفة مميزة ، والولد لا بد وأن يكون جزءاً منفصلاً عن والده ، ومن له أجزاء فهو مركب تركيباً حسياً ، ومن المقطوع به أن ذلك لا يكون إلا لمحتاج ، وأن الله تعالى متعال عن ذلك من تركيب حسي أو عقلي .
ولما تبين لهم ما هو عليه سبحانه من النزاهة عن كل شائبة نقص ، وصفوا من قال بضده صيانة لدينهم وعرضهم بالترفع عن الخسائس والرذائل بعدم التمادي في الباطل مقتاً للخلق في ذات الخلق مؤكدين لما للسامع في الغالب من تصديق ما يسمع والمحاجة عنه فقالوا : { وأنه } أي وقالوا إلى الشأن - هذا على قراءة الكسر ، وآمنا بأنه - على قراءة الفتح { كان يقول } أي قولاً هو في عراقته في الكذب بمنزلة الجبلة والطبع { سفيهنا } وهو الجنس فيتناول إبليس رأس الجنس تناولاً أولياً ، وكل من تبعه ممن لم يعرف الله لأن ثمرة العقل العلم ، وثمرة العلم معرفة الله ، فمن لم يعرفه فهو الذي يلازم الطيش والغي لأنه لا علم عنده أصلاً يحمله على الرزانة ، كاذباً متقولاً { على الله } أي الذي له صفات الكمال المنافية لقول هذا السفيه في الولد { شططاً * } أي قولاً هو في بعده عن الصواب نفس البعد ومجاوزة الحد .

وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)

ولما ذكروا ما هدوا إليه من الحق في الله وفيمن كان يحملهم على الباطل ، ذكروا عذرهم في اتباعهم للسفيه وفي وقوعهم في مواقع التهم ، فقالوا مؤكدين لأن ما كانوا عليه من الكفر جدير بأن يظن أنه لا يخفى على أحد لشدة وضوح بطلانه : { وأنا } أي معشر المسلمين من الجن { ظننا } أي بما لنا من سلامة الفطر المقتضية لتحسين الظن بشهادة حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عند أحمد « المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم » { أن } أي أنه ، وزادوا في التأكيد لما مضى فقالوا : { لن تقول } وبدأوا بأفضل الجنسين فقالوا : { الإنس } وأتبعوهم قرناءهم فقالوا : { والجن } أي متخرصين { على الله } أي الملك الأعلى الذي بيده النفع والضر { كذباً * } أي قولاً هو لعراقته في مخالفة الواقع نفس الكذب ، وهو في قراءة أبي جعفر بفتح القاف والواو المشددة المفتوحة مصدر من غير اللفظ ، وإنما ظننا ذلك لما طبع عليه المجبول على الشهوات من تصديق الأشكال لا سيما إذا كان قولهم جازماً وعظيماً لا يقال مثله إلا بعد تثبت لا سيما إذا كان على ملك الملوك لا سيما إذا كان القائل كثيراً لا سيما إذا تأيدوا بجنس آخر ، فصاروا لا يحصون كثرة ، ولا تطيق العقول مخالفة جمع بهذه الصفة إلا بتأييد إلهي بقاطع نقلي ، والآية على قراءة أبي جعفر من الاحتباك : فعل التقول أولاً دليل على فعل الكذب ثانياً ، ومصدر الكذب ثانياً دليل على مصدر التقول أولاً ، وسره أن التقول دال على التعمد فهو أفحش معنى والكذب أفحش لفظاً ، وهذا مرشد إلى أنه لا ينبغي التقليد في شيء لأن الثقة بكل أحد عجز ، وإنما ينكشف ذلك بالتجربة ، والتقليد قد يجر إلى الكفر المهلك هلاكاً أبدياً ، وإليه أرشد النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان عن النعمان ابن بشير رضي الله عنه بأن « من اتقى الشبهات استبرأ لديه وعرضه » وفي ذلك غاية الحث على أن الإنسان لا يقدم ولا يحجم في أصول الدين إلا بقاطع .
ولما علم من قولهم أن مستند الضلال ظنون وشبه متى حكت على محك النظر بان فسادها ، وأظهر زيفها نقادها ، أتبعه شبهة أخرى زادت الفريقين ضلالاً بعضهم ببعض للتقيد بالمحسوسات ، والوقوف مع الخيالات الموهومات ، فقال حاكياً عنهم تنبيهاً على عدم الاغترار بالمدح والإطراء الموجبين للغلط في النفس وعلى أنه يجب التثبت حتى لا يقع الغلط في الأسباب المسخرة فيظن أنها مؤثرة فيتجاوز بها الحد عن رتبة الممكنات إلى رتبة الواجب ، مؤكدين لأنه لا يكاد يصدق أن الجن يخاطبهم الإنس فيكارمونهم : { وإنه } أي الشأن { كان رجال } أي ذوو قوة وبأس { من الإنس } أي النوع الظاهر في عالم الجنس { يعوذون } أي يلجؤون ويعتصمون - خوفاً على أنفسهم وما معهم - إذا نزلوا وادياً { برجال من الجن } أي القبيل المستتر عن الأبصار فإنه كان القوم منهم إذا نزلوا وادياً أو غيره من القفر تعبث بهم الجن في بعض الأحيان لأنه لا مانع لهم منهم من ذكر الله تعالى ولا دين صحيح ، ولا كتاب من الله صريح ، فحملهم ذلك على أن يستجيروا بعظمائهم فكان الرجل يقول عند خوفه : إني أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر سفهاء قومه أو نحو هذا فلا يرى إلا خيراً ، وربما هدوه إلى الطريق وردوا عليه ضالته ، فكان ذلك فتنة للإنس باعتقادهم في الجن غير ما هم عليه ، فتبعوهم في الضلال ، وفتنة الجن بأن يغتروا بأنفسهم ويقولوا سدنا : الجن والإنس ، فيضلوا ويضلوا ، ولذلك سبب عنه قوله : { فزادوهم } أي الإنس الجن باستعاذتهم هذه المرتب عليها إعاذتهم ، والجن الإنس بترئيس الإنس لهم وخوفهم منهم { رهقاً * } أي ضيقاً وشدة وغشياناً لما هم فيه من أحوال الضلال التي يلزم منهم الضيق والشدة ، وأصل الرهق غشيان بقوة وشدة وقهر ، وقال البغوي : والرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم .

كما يتفق لمن يسلك من أهل التصوف على غير أصل فيرى في أثناء السير أنواراً وأشياء تعجبه شيطانية فيظنها رحمانية ، فيقف عندها ويأنس بها لفساد في أصل جبلته نشأ عنه سوء مقصده ، فربما كان ذلك سبباً لكفره فيزداد هو وأمثاله من الإنس ضلالاً ويزداد من أضله من الجن ضلالاً وإضلالاً وعتواً ، ويزداد الفريقان بعداً عن اللجأ إلى الله وحده ، ولقد أغنانا الله سبحانه وتعالى بالقرآن والذكر المأخوذ عن خير خلقه بشرطه في أوقاته عن كل شيء كما أخبر صلى الله عليه وسلم أن من قال عند إتيانه الخلاء « بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث » ستر عن الجن ، وأن من قال إذا أتى امرأته « اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني » فأتاه ولد لم يقدر الشيطان أن يضره ، ومن أذن أمن تغول الغيلان ، وروى الترمذي وأحمد - قال المنذري : ورواته رواة الصحيح - عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما من مسلم يأخذ مضجعه فيقرأ سورة من كتاب الله تعالى إلا وكل الله تعالى به ملكاً فلا يقربه شيء يؤذيه حتى يهب متى هب » وللطبراني في الكبير - قال المنذري : ورواته رواة الصحيح إلا المسيب بن واضح ، قال الهيثمي : وهو ضعيف وقد وثق - عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال : « خرجت من حمص فآواني الليل إلى البقيعة فحضرني من أهل الأرض فقرأت هذه الآية من الأعراف

{ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } [ الأعراف : 54 ] إلى آخر الآية ، فقال بعضهم لبعض : احرسوه الآن حتى يصبح ، فلما أصبحت ركبت دابتي « والأحاديث في هذا كثيرة في آية الكرسي وغيرها ، وكذا حكايات من اعترضه بعض الجن فلما قرأ ذهب عنه .
ولما كان التقدير : فضل كل من الفريقين بالآخر ضلالاً بعيداً حتى أبعدوا عن الشرائع النبوية ، واعتقدوا ما لا يجوز اعتقاده من التعطيل واعتقاد الطبيعة ، فلا يزال الأمر هكذا أرحام تدفع وأرض تبلع ولا رسول يهديهم ولا بعث للأرض على بارئهم ، عطف عليه قولهم مؤكدين في قراءة الكسر إشارة إلى ظهور دلائل البعث ، وأنه لا يكاد يصدق أن أحداً يكذب به منبهاً على أن الأهواء والأغاليط قد يتطابق عليها الجم الغفير ، حثاً للمهتدي على أن لا يستوحش في طريق الهدى لقلة السالكين ، ولا يغر بطرق الردى لكثرة الهالكين : { وأنهم } أي الإنس إن كانوا يخاطبون الجن ، والجن إن كانوا يخاطبون الإنس { ظنوا } أي الجن أو الإنس ظناً ليسوا فيه على ثلج والظن قد يصيب ، وقد يخطىء وهو أكثر { كما ظننتم } أي أيها الجن أو الإنس ، والمعنى في قراءة الفتح : وأوحى إليّ أن الإنس أو الجن ظنوا ، وسدوا عن مفعولي » ظن « بقولهم : { أن } أي أن الشأن العظيم { لن } أكد للدلالة على شدة إنكارهم لذلك { يبعث } وأشاروا إلى خطأ هذا الظن بالتعبير بالجلالة فقالوا : { الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة { أحداً * } أي بعد موته لما لبس به عليهم إبليس حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن ، أو أحد من الرسل يزيل به عماية الجهل وما عليه الإنس من استغواء الجن لهم وغير ذلك من الضلال ، وقد ظهر بالقرآن أن هذا الظن كاذب وأنه لا بد من البعث في الأمرين لأنه حكمة الملك وخاصة الملك .
ولما كان عدم البعث من خلل في القدرة ، شرعوا في إثبات تمام القدرة على وجه دال على صحة القرآن وحراسته من الجان ، لئلا يظن أنه من نحو ما للكهان ، فقالوا مؤكدين في قراءة الكسر لاستبعاد الوصول إلى السماء حثاً على طلب المهمات وإن بعد مكانها : { وإنا } ولما كان يعبر عن الإمعان في التفتيش بالالتماس ، وكان تجريد الفعل أعظم من ذلك للدلالة على الخفة وعدم الكلفة قال : { لمسنا السماء } أي الدنيا التمسنا أخبارها على ما كان من عادتنا لاستماع ما يغوى به الإنسان التماساً هو كالحس باللمس باليد { فوجدناها } من جميع نواحيها وهو من الوجدان { ملئت } أي ملأً هو في غاية السهولة والخفة على فاعله { حرساً } أي حراساً اسم جمع ، فهو مفرد اللفظ ، ولذلك وصف بقوله : { شديداً } أي بالملائكة { وشهباً * } جمع سهاب وهو المتوقد من النار ، فعلت هممهم حتى طلبوا المهمات الدنيوية والشهوات النفسانية من مسيرة خمسمائة سنة صعوداً ، فأفّ لمن يكسل عن مهمات الدين المحققة من مسيرة ساعة أو دونها ، وأن يقعد في مجلس العلم ساعة أو دونها ، والتعبير بالملء يدل على أنها كانت قبل ذلك تحرس لكن لا على هذا الوجه فقيل : إنها حرست لنزول التوراة ثم اشتد الحرس للانجيل ثم ملئت لنزول القرآن فمنعوا من الاستماع أصلاً إلا ما يصدق القرآن إرهاصاً للنبوة العظمى الخاتمة لئلا يحصل بهم نوع لبس .

ولما أخبروا عن حالها إذ ذاك لأنه الأهم عندهم ، أخبروا عن حالها قبل ، فقالوا مؤكدين لما للإنس من التكذيب بوصول أحد إلى السماء : { وإنا كنا } أي فيما مضى { نقعد منها } أي السماء { مقاعد } أي كثيرة قد علمناها لا حرس فيها فهي صالحة { للسمع } أي لأن نسمع منها بعض ما تتكلم به الملائكة بما أمروا بتدبيره ، وقد جاء في الخبر أن صفة قعودهم هي أن يكون الواحد منهم فوق الآخر حتى يصلوا إلى السماء ، قال أبو حيان : فمتى احترق الأعلى كان الذي تحته مكانه فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان فيزيدون معها الكذب .
ولما كان التقدير : فنستمع منها فنسمع ما يقدر لنا من غير مانع ، عطف عليه قوله : { فمن يستمع } أي يجتهد في الوصول إلى السمع { الآن } أي في هذا الوقت فيما يستقبل أنهم قسموا الزمان إلى ما كان من إطلاق الاستماع لهم وإلى ما صار إليه الحال من الحراسة ، وأطلقوا « الآن » على الثاني كله ، لأنهم أرادوا وقت قولهم فقط أو أرادوه لأنهم يعلمون ما بعده فيجوزون أن يكون الحال فيه على غير ذلك { يجد له } أي لأجله { شهباً } أي شعلة من نار ساطعة محرقة .
ولما كان الشهاب في معنى الجمع لأن المراد أن كل موضع منها كذلك ، وصفه باسم الجمع فقال : { رصداً * } أي يرصده الرامون به من غير غفلة ، ويجوز أن يكون مصدراً على المبالغة كرجل عدل ، والرصد الترقب لأنه لما كان لا تأخر عن رميه عند الدنوّ من السماء كان كأنه هو الراصد له ، المراقب لأمره ، الملاحظ الذي لا فتور عنده ولا غفلة بوجه بل هو الرصد وهو المعنى بنفسه ، فمتى تسنم للاستماع رمي به فيمنعه من الاستماع وإن أدركه أحرقه ، وأما السمع فقد امتنع لقوله تعالى { وإنهم عن السمع لمعزولون } [ الشعراء : 212 ] .

وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)

ولما أخبروا عن إيمانهم أنه كان عقب سماعهم من غير توقف ، ثم ذكروا منعهم من الاستراق ، ذكروا أنه اشتبه عليهم المنع فلم يعلموا سره دلالة على أن جهل بعض المسائل الفرعية لا يقدح ، وندباً إلى رفع الهمة عن الخوض في شيء بغير علم ، وحثاً على التفويض إلى علام الغيوب ، فبينوا الذي حملهم على ضرب مشارق الأرض ومغاربها حتى وجدوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن : فقالوا مؤكدين لأن العرب كانوا ينسبونهم إلى علم المغيبات وحل المشكلات : { وإنا لا ندري } أي بوجه من الوجوه وإن دافعنا واجتهدنا { أشر } ولما كان المحذور نفس الإرادة الماضية لا كونها من معروف مع أن الفاعل معروف ، وهو الفاعل المختار الذي له الإرادة الماضية النافذة ، بنوا للمفعول قولهم : { أريد } معلمين للأدب في أن الشر يتحاشى من إسناده إليه سبحانه حيث لا إشكال في معرفة أنه لا يكون شيء إلا به { بمن في الأرض } أي بهذه الحراسة فينشأ عنها الغي { أم أراد بهم ربهم } أي المحسن إليهم المدبر لهم ، بنوه للفاعل في جانب الخير إعلاماً مع تعليم الأدب بأن رحمته سبقت غضبه ، وإشارة إلى أنه قد يكون أراد بهذا المنع الخير { رشداً * } أي سداداً فينشأ عنه الخير ، فالآية من الاحتباك : ذكر الشر أولاً دليلاً على الخير ثانياً ، والرشد ثانياً دليلاً على الغنى أولاً .
ولما أخبر سبحانه بسهولة إيمانهم ، فكان ربما ظن أن ذلك ما كان إلا لأن شأنهم اللين ، أتبعه ما يعلم أن ذلك خارقة لأجله صلى الله عليه وسلم كانت ، ولإعظامه وإكرامه وجدت ، فقال حكاية عنهم مؤكدين لأن الكلام السابق ظاهر في سلامة طباع الكل : { وإنا منا } أي أيها الجن { الصالحون } أي العريقون في صفة الصلاح التي هي مهيئة لقبول كل خير .
ولما كان غير الصالح قد يكون فاسداً بأن يكون مباشراً للفساد قاصداً له وقد يكون غير مباشر له ، قالوا متفطنين لمراتب العلوم والأعمال المقربة والمبعدة : { ومنا } وبنى الظرف المبتدأ به لإضافته إلى مبني فقيل : { دون } أي قوم في أدنى رتبة من { ذلك } أي هذا الوصف الشريف العالي .
ولما كان من دون الصالح ذا أنواع كثيرة بحسب قابليته للفساد أو الصلاح وتهيؤه له أو بعده عنه ، حسن بيان ذلك بقولهم : { كنا } أو كوناً هو كالجبلة { طرائق } أي ذوي طرق أي مذاهب ووجوه كثيرة ، وأطلقوا الطرق على أصحابها إشارة إلى شدة تلبسهم بها .
ولما كان الانفصال قد يكون بأدنى شيء ، بين أنه على أعلى الوجوه فأطلق عليهم نفس المنقطع ووصفهم به فقال : { قدداً * } أي فرقاً متفرقة أهواؤها ، جمع قدة وهي الفرقة من الناس هواها على غير هواهم ، من القد وهو القطع الموجب للتفرق العظيم مثل السيور التي تقطع من الجلد وقد منه بحيث تصير كل فرقة على حدتها ، قال الحسن والسدي : كافرين ومسلمين ورافضة ومعتزلة ومرجئة وغير ذلك مثل فرق الإنس .

ولما دلوا على قهرهم عما كانوا يقدرون عليه من أمر السماء بما ذكروا ، وعلى قهر مفسديهم بهذا القرآن عن كثير مما كانوا يفعلونه بأهل الأرض ، فقهروا بهذا القرآن العظيم الشأن في الحقيقة عن الخافقين فمنعنا منهم وحفظاً به ، ودلوا على أنهم موضع القهر بالتفرق ، كان ذلك موجباً للعلم بشمول قدرته تعالى حتى لا يدركه طالب ، ولا ينجو منه هارب ، لما أبدى لهم من شؤون عظمته وقهره في الحراسة وغيرها ، فذكر سبحانه ما أثر ذلك عندهم من الاعتراف والإذعان للواحد القهار ، فقال حاكياً عنهم ذلك ندباً إلى الاقتداء بهم في معرفة النفس بالعز والذل والضعف بالتفرق والانقسام ، ومعرفة الرب سبحانه بالقدرة الكاملة والسلطان والعظمة بالتفرد التام الذي لا يقبل المماثلة ولا القسمة : { وإنا } أكدوا لظن الإنس في قوتهم غير ما هو لها { ظننا } أطلقوا الظن على العلم إشارة إلى أن العاقل ينبغي له أن يجتنب ما يخيله ضاراً ولو بأدنى أنواع الحيل فكيف إذا تيقن { أن } أي أن الشأن العظيم ، وزادوا في التأكيد لما تقدم فقالوا : { لن نعجز الله } أي أن نقاومه إن أراد بنا سواءاً لما له من الإحاطة بكل شيء علماً وقدرة لأنه واحد لا مثل له ، ودلوا على وجه الضعف بقولهم : { في الأرض } أي كائنين فيها مقيمين وهي جهة السفل الملزومة للقهر ، وذلك أقصى جهدنا فأين نحن من سعة ملكه الذي هو في قبضته { ولن نعجزه } أي بوجه من الوجوه { هرباً * } أي ذوي هرب أو من جهة الهرب ، أي هربنا من الأرض إلى غيرها فإن السماء منعت منا وليس لنا مضطرب إلا في قبضته ، فأين أم إلى أين المهرب ، وقد منعوا بذلك وجهي النجاة باللقاء والنصر والهرب عند القهر .
ولما كان الظانّ قد يبادر على العمل بموجب ظنه وقد لا ، بينوا أن مرادهم به العلم ، وأنهم بادروا إلى العمل بما دعا إليه ، فقالوا مؤكدين لما للجن من الإباء والعسر : { وإنا لما سمعنا } أي من النبي صلى الله عليه وسلم { الهدى } أي القرآن الذي له من العراقة التامة في صفة البيان والدعاء إلى الخير ما سوغ أن يطلق عليه نفس الهدى : { آمنا به } أي من غير وقفة أصلاً عملاً بما له من هذا الوصف العظيم .
ولما كان التقدير : فآمنا بسبب إيماننا الذي قادنا إليه حفظ السماء من الإيقاع به لتمام قدرته علينا الذي هدانا إليه منعنا من الاستماع بالحراسة ، سببوا عن ذلك قولهم معترفين بالعجز عن مقاومة التهديد من الملك طالبين التحصن بتحصينه والاعتصام بحبله : { فمن يؤمن } أي يوجد حقيقة الإيمان ويستمر على تجديدها كل لحظة .

ولما فهموا أن دعاءه إليه وبيانه للطريق مع قدرته التامة إنما هو من عموم لطفه ورحمته ، ذكروا وصف الإحسان لزيادة الترغيب فقالوا : { بربه } أي المحسن إليه منا ومن غيرنا .
ولما كان المؤمن هو المختص من بين الخلق بالنجاة ، أدخل الفاء على الجواب ورفعه على تقدير مبتدأ دلالة على ذلك وعلى أن نجاتهم ما لا بد منه فقال : { فلا } أي فهو خاصة لا { يخاف } أصلاً { بخساً } أي نقصاً وقلة وخبثاً ونكداً في الثواب والإكرام بوجه من الوجوه { ولا رهقاً * } أي مكروهاً يلحقه فيقهره لأنه لم يفعل مع أحد شيئاً من ذلك ليجازى عليه ، فهذا حث للمؤمن على اجتناب ذلك لئلا يجازى به ، وقد هدى السياق إلى تقدير : ومن يشرك به فلا ، يأمن محقاً ولا صعقاً .

وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)

ولما كان هذا ظاهراً في أنهم أسلموا كلهم ، قالوا نافين لهذا الظاهر مؤكدين لأن إسلامهم مع شديد نفرتهم لا يكاد يصدق : { وأنا منا } أي أيها الجن { المسلمون } أي المخلصون في صفة الإسلام للهادي فأسلموه قيادهم فهم عريقون في ذلك مقسطون مستقيمون ، فلا يفارقون الدليل فهم على الصراط السوي العدل الرضي ، ومنا الجافون الكافرون { ومنا القاسطون } وهم الجائرون عن المنهج الأقوم الساقطون في المهامه المجاهل التي ليس بها معلم ، فهم بربهم كافرون ، ومنا المقسطون ، يقال : قسط - إذا جار جوراً ، أسقطه عن رتبة الإنسان إلى رتبة أدنى الحيوان ، وأقسط - إذا أزال الجور فعدل ، فالآية من الاحتباك : « المسلمون » يدل على الكافرين ، و « القاسطون » يدل على المقسطين .
ولما كانوا قد علموا مما سمعوا من القرآن أنه لا بد من البعث للجزاء ، سببوا عن هذه القسمة قولهم : { فمن أسلم } أي أوقع الإسلام كله بأن أسلم ظاهره وباطنه للدليل من الجن ومن غيرهم .
ولما كان في مقام الترغيب في الحق ، ربط بفعلهم ذلك تسبيباً عنه قوله مدحاً لهم : { فأولئك } أي العالو الرتبة { تحروا } أي توخوا وقصدوا مجتهدين { رشداً * } أي صواباً عظيماً وسداداً ، كان - لما عندهم من النقائص - شارداً عنهم فعالجوا أنفسهم حتى ملكوه فجعلوه لهم منزلاً ، من قولهم : الحرا - بالقصر : أفحوص القطاة يأوي إليه الظبي ، والناحية والموضع ، وما أحراه بكذا : ما أوجبه له ، وبالحرا أن يكون كذا أي خليق كونه ، وفلان حري بكذا أي خليق ، وقد يجيء بالحر - من غير ياء ، يراد به بالجهد ، وتحريت الشيء : قصدت ناحيته ، فكان لهم ذلك إلى الجنة سبباً ، ومن قسط فأولئك ضنوا فنالوا غياً وشططاً .
ولما عرفوا بالأمن الاعتصام بطاعة الله ، نبهوا على خطر التعرض لبطشه فقالوا : { وأما القاسطون } أي العريقون في صفة الجور عن الصواب من الجن وغيرهم فأولئك أهملوا أنفسهم فلم يتحروا لها فضلوا فأبعدوا عن المنهج فوقعوا في المهالك التي لا منجى منها : { فكانوا } بجبلاتهم { لجهنم } أي النار البعيدة القعر التي تلقاهم بالتجهم والكراهة والعبوسة { حطباً * } توقد بهم النار فهي في اتقاد ما داموا أحياء ، وهم أحياء ما دامت تتقد لا يموتون فيستريحون ولا يحيون فينتعشون ، فالآية من الاحتباك ، وهو منطوق لما أوجبه من السياق لا مفهوم : ذكر التحري أولاً دليلاً على تركه ثانياً وذكر جهنم ثانياً دليلاً على حذف الجنة أولاً ، وسر ذلك أنهم في مقام الترهيب فذكروا ما يحذر ، وطووا ما يجب العلم به لأن الله تعالى لا يضيع لأحد أجراً بل لا يقتصر على ما يقابل الحسنة في العرف بل لا بد أن يزيد عليها تسعة أضعافها وعنده المزيد ولا حول ولا قوة لنا إلا به سبحانه وتعالى .

ولما رغب ورهب سبحانه على ألسنة الجن بما هداهم له ونور قلوبهم به ، وكانت الآية السالفة آخر ما حكى عنهم ، وكان التقدير : أوحي إلي أن القاسطين من قومي وغيرهم لو آمنوا فعل بهم من الخير ما فعل بمؤمني الجني حين آمنوا ، فأغناهم الله في الدنيا بحلاله عن حرامه من غير كلفة فكسا لهم كل عظم لقوه لحماً أوفر ما كان ، وأعاد لهم كل روث رأوه أحسن ما كان ببركة هذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم { وأن } أي وأوحي إليّ أن الشأن العظيم { لو استقاموا } أي طلب القاسطون من الخلق كلهم الجن والإنس القوم وأوجدوه ، كائنين { على الطريقة } أي التي لا طريقة غيرها وهي التي فهمها الجن من القرآن من الإسلام والإقساط المؤدية إلى الفلاح في الدارين .
ولما كان الماء أصل كل خير كما قال تعالى في قصة نوح عليه الصلاة والسلام { يرسل السماء عليكم مدراراً } [ نوح : 11 ] وكان منه كل شيء حيّ وكان عزيزاً عند العرب ، قال معظماً له بالالتفات إلى مظهر العظمة : { لأسقيناهم } أي جعلنا لهم بما عندنا من العظمة { ماء غدقاً * } أي كثيراً عظيماً عظيم النفع نكثر به الرزق ونزين به الأرض ونرغد به العيش .
ولما كانت نعمه فضلاً منه وليس مستحقة عليه بعبادة ولا غيرها ، قال تعالى معرفاً غايتها استحقاق الثواب أو العقاب على ما كتبه على نفسه سبحانه ولا يبدل القول لديه وأن جميع ما يعامل به عباده سبحانه وتعالى من نفع وضر إنما هو فتنة لهم يستخرج ما جبلوا عليه من حسن أو قبيح : { لنفتنهم } أي نعاملهم معاملة المختبر بما لنا من العظمة { فيه } أي في ذلك الماء الذي تكون عنه أنواع النعم لينكشف حال الشاكر والكافر ، قال الرازي : وهذا بعد ما حبس عنهم المطر سنين - انتهى . وقال غيره : قال عمر رضي الله تعالى عنه : أينما كان الماء كان المال ، وأينما كان المال كانت الفتنة . وقال الحسن وغيره : كانوا سامعين مطيعين ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر ففتنوا بها فوثبوا بإمامهم فقتلوه - يعني عثمان رضي الله تعالى عنه ويجوز أن يكون مستعاراً للعلم وأنواع المعارف الناشئة عن العبادات التي هي للفنوس كالنفوس للأبدان وتكون الفتنة بمعنى التخليص من الهموم الرذائل في الدنيا والنقم في الآخرة ، من فتنت الذهب - إذا خلصته من غشه .
ولما كان التقدير : فمن يقبل على ذكر ربه ننعمه في دار السلام أبداً ، عطف عليه قوله : { ومن يعرض } أي إعراضاً مستمراً إلى الموت { عن ذكر ربه } أي مجاوزاً عن عبادة المحسن إليه المربي له الذي لا إحسان عنده من غيره { نسلكه } أي ندخله { عذاباً } يكون مطرفاً له كالخيط يكون في ثقب الخرزة في غاية الضيق { صعداً * } أي شاقاً شديداً يعلوه ويغلبه ويصعد عليه ، ويكون كل يوم أعلى مما قبله جزاء وفاقاً ، فإن الإعراض كلما تمادى زمانه كان أقوى مما كان .

ولما كان التقدير : لأنه أوحى إليّ أن الأمر على ما تتعارفونه بينكم من أن من خدم غير سيده عذبه أبداً ، عطف عليه قوله مبيناً لسيرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما يجب لهم من الكمال الذي يكون بقوتي العلم والعمل ، والتكميل الذي يكون بهما مع قوة البيان ، ومن لم يكن كاملاً لم يتصور منه تكميل ليكون له ولد قلب كما أن من لم يكن بالغاً لم يتحقق منه ولد صلب ، ومبيناً لما يجوز عليهم وما يستحيل منهم وما لله تعالى من العناية بشأنهم : { وأن } أي وأوحى إليّ أن { المساجد } أي مواضع السجود من العالم الآفاقي من الأرض ومن العالم النفسي من الجسد - كما قاله سعيد بن جبير وطلق بن حبيب { لله } أي مختصة بالملك الأعظم { فلا تدعوا } أي بسبب ذلك أيها المخلوقون على وجه العادة { مع الله } أي الذي له جميع العظمة { أحداً * } لأن من تعبد لغير سيده في ملك سيده الذي هو العالم الآفاقي وبآلة سيده الذي هو العالم النفسي كان أشد الناس لوماً وعقوبة فكيف يليق بكم أن يخلق لكم وجهاً ويدين ورجلين وأرضاً تنتفعون بها وسماء تتم فنعها فتسجدون بالأعضاء التي أوجدها لكم في الأرض التي أمكنكم من الانتفاع بها تحت السماء التي أتم منافعها بها لغيره فتكونون قد صرفتم نعمة السيد التي يجب شكره عليها لغيره أيفعل هذا عاقل؟ قال البغوي : فإن جعلت المساجد مواضع الصلاة فواحدها بكسر الجيم ، وإن جعلتها الأعضاء فواحدها بفتح الجيم .

وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)

ولما كان من يدعو سيده وينقطع إليه عاملاً للواجب عليه اللائق بأمثاله لا ينكر عليه ولا يعجب منه ، إنما يعجب ممن دعا غير سيده أو مال إليه أدنى ميل فيسأل عن سببه ، قال معجباً من القاسطين من الجن والإنس : { وأنه } أي أوحي إليّ أو قال الجن لمن أطاعهم من قومهم حاكين ما رأوا من صلاته صلى الله عليه وسلم وازدحام أصحابه عليه متعجبين من ذلك أن الشأن أو القصة العظيمة العجيبة { لما } قمت كادوا يكونون عليّ - هكذا كان الأصل ولكنه عبر بالعبد كما تقدم من أن من دعا سيده ولو كان ذلك السيد أحقر الموجودات لا يفعل به ذلك ، فكيف إذا كان سيده مالك الملك وملك الملوك { قام عبد الله } أي عبد الملك الأعلى الذي له الجلال كله والجمال فلا موجود يدانيه بل كل موجود من فائض فضله { يدعوه } أي يدعو سيده دعاء عبادة من حيث كونه عبده ومن حيث كون سيده يسمع من دعاه ويجيبه .
ولما كان القاسطون أكثر الناس بل الناس كلهم في ذلك الزمان جناً وإنساً ، قال مبيناً لأنه يجوز على الأنبياء أن يؤذوا وينتقصوا رفعاً لدرجاتهم وتسلية لوراثهم وإن كانت رتبتهم تأبى ذلك ، { كادوا } أي قرب القاسطون من الفريقين الجن والإنس { يكونون عليه } أي على عبد الله { لبداً * } أي متراكمين بعضهم على بعض من شدة ازدحامهم حتى كان ذلك جبلة لهم تعجباً مما رأوا منه من عبادته وإرادة لرده عن ذلك ، وذلك أمر لا يعجب منه ، وإنما العجب ما فعلوا هم من عبادتهم لغيره سبحانه وتعالى ومن تعجبهم من عبادة عبده له وإخلاصه في دعائه ، وهو جمع لبد - بكسر اللام ، وقرىء بضم اللام جمع لبدة بضمها ، وهي ما تلبد بعضه على بعض .
ولما استشرفت - على قراءة الكسر - نفس السامع إلى قوله صلى الله عليه وسلم لمن تراكموا عليه من ذلك ، استأنف الجواب بقوله مبيناً لما يستحيل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من دعاء غير الله ومن ترك الدعاء إليه من مخالفة شيء من أمره قال ، أو لما تاقت نفسه صلى الله عليه وسلم على قراءة الفتح إلى ما يدفع به ما رأى منهم ، قال تعالى مرشداً له إلى ذلك : { قل } أي لمن ازدحم عليك عاداً لهم عداد الجاهلين بما تصنع لأنهم عملوا عمل الجاهل : { إنما أدعوا } أي دعاء العبادة { ربي } أي الذي أوجدني ورباني ولا نعمة عندي إلا منه وحده ، لا أدعو غيره حتى تعجبوا مني فتزدحموا عليّ والظاهر المتبادر إلى الفهم أن المعنى : وأوحي إليّ أي لما قمت في الصلاة أعبد الله في بطن نخلة ورآني الجن الذين وجههم إبليس نحو تهامة وسمعوا القرآن ازدحموا عليّ حتى كادوا يغشونني ويكون بعضهم على بعض فسمعوا توحيدي لله وتمجيدي له وإفراده بالقدرة والعلم وجميع صفات الكمال آمنوا ، وقيل : هو حكاية الجن لقومهم عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه وراءه في تراصهم في صلاتهم وحفوفهم به ووعظه وتعليمه لهم ، ويحكى هذا القول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وسعيد بن جبير فإن ذلك هيئة غريبة ، يحكى أن ملك الفرس أرسل من دخل في المسلمين لما قصدوا بلاده فكان مما حكي له عنهم أن قال : إذا صلوا صفوا أنفسهم صفوفاً ويقدمهم رجل يقومون بقيامة ويسجدون بسجوده ويقعدون بقعوده ويفعلون كفعله ، لا تخالف بينهم ، فلما سمع الملك ذلك راعه وقال : ما لي ولهؤلاء ، ما لي ولعمر ، ونقل أبو حيان عن مكحول أنه بلغ من تابع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن سبعين ألفاً وفرغوا عند انشقاق الفجر .

ولما كان الداعي لولي نعمته يمكن أن يكون أشرك غيره في دعائه ولو بأدنى وجوه الإشراك ، ويكون الحصر باعتبار الأغلب فاستحق الإنكار عليه والازدحام ، نفى ذلك بقوله تأكيداً لمعنى الحصر وتحقيقاً له : { ولا أشرك به } أي الآن ولا في مستقبل الزمان بوجه من الوجوه { أحداً * } من ود وسواع ويغوث وغيرها من الصامت والناطق .
ولما كان السامع ربما قال : ما له هو لا يهلكهم أو يدعو ربه في دفع المتبلدين عليه عنه بالإهلاك أو التوبة والمتابعة ، أمره بما يبين عظمة ربه وأنه لا يفعل إلا ما يريد بقوله مبيناً أنه يستحيل عليه الصلاة والسلام ما يستحيل على جميع الممكنات من أن يؤثر في شيء بنفسه أو يخالف ربه : { قل } أي لهؤلاء الذين خالفوك ، وأكد فطماً لمن ربما اعتقد - لكثرة ما يرى من الكرامات - أنه مهما أراده فعله الله له : { إني لا أملك } أي الآن ولا بعد { لكم } بنفسي من غير إقدار الله لي لأنه لا مؤثر في شيء من الأشياء إلا الله سبحانه وتعالى .
ولما كان المقام لدفع شرهم عنه ، قال : { ضراً } فأفهم ذلك « ولا نفعاً ولا غياً » { ولا رشداً * } أي صواباً وسداداً . فالآية من الاحتباك وهو ظاهر على هذا التقدير ، قال أبو حيان : فحذف من كل ما يدل مقابله عليه - انتهى . ويجوز أن يكون تقديره : لا أملك ضراً لأني لا أملك لكم إضلالاً ولا أملك لكم رشداً فلا أملك لكم نفعاً ، فإنه لا نفع في غير الرشاد ، ولا ضر في غير الضلال ، فقبح الله ابن عربي الطائي الذي يقول في فصوصه : إن الضلال أهدى من الهدى ، فلا أسخف عقلاً منه إلا من تبعه - عليهم لعنة الله وخزيه ، فإن قالوا : إنه أراد غير ما يفهم من ظاهر اللفظ فقل : كذبتم فقد بين مراده إطباقكم على الفسق والفجور لا يكاد يجد منكم من يتهم بمذهبه وهو يتقيد بشرع ، ولم تخرج الآية بهذا عن الاحتباك ، فإن ذكر الضر أولاً دل على حذف النفع ثانياً ، وذكر الرشد ثانياً دل على حذف الضلال أولاً .

ولما أجاب من تشوف إلى علة صبره عن دفعهم عنه بما حاصله أنه لا شيء بيده ، لأن إلهه من العظمة في إحاطة العلم والقدرة وأنه لا يخرج شيء عن مراده فلا يعجل في شيء بحيث لا يفعل إلا ما يريد سواء سئل أو لا ، فكان ذلك ربما أوجب أن يظن منه صلى الله عليه وسلم موافقته لهم لئلا يضروه لأنهم يستعجلون في أذى من خالفهم ، أجاب ما حاصله أنه بين ضررين أحدهما منهم إن خالفهم ، والآخر منه سبحانه وتعالى إن أعرض عنه وهو سبحانه وتعالى يرد أذاهم إن أراد ، وهم لا يقدرون على رد أذاه بوجه فقال : { قل } أي لمن يدعوك إلى موافقتهم ، وأكد لما في ظن كثير من الناس من أن الأسباب لا تتخلف فقال : { إني } وزاد في التأكيد لأن ذلك في غاية الاستقرار في النفوس فقال : { لن يجيرني } أي فيدفع عني ما يدفع الجار عن جاره { من الله } أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه { أحد * } أي كائناً من كان إن أرادني سبحانه بسوء . ولما كان من هو بهذه المثابة ربما هرب منه المطلوب قال مؤكداً : { ولن أجد } أي أصلاً . ولما كانت كل رتبة دون رتبته ، وكانت الرتب التي دون رتبته كثيرة جداً لما له من العلو المطلق ولغيره من مراتب السفول التي لا تحد ، قال مشيراً لذلك بالجارّ : { من دونه } أي الله تعالى { ملتحداً * } أي معدلاً وموضع ميل وركون ومدخلاً وملتجأ وحيلة ، وإن اجتهدت كل الجهد لأن اللحد أصله الميل ولا يقال إلا في ميل من حق إلى باطل ، والحد : جادل ومارى وركن .

إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)

ولما كان من المعلوم أن هذا شيء لا مثنوية فيه ، وكانت الرتب التي دون شريف رتبته سبحانه كثيرة جداً لما له من العلو المطلق وكان ما يليها له حكم شرفها وحقيقها ، وكان أول ذلك البلاغ منه سبحانه بلا واسطة ثم البلاغ بواسطة ملائكته الكرام منه ، استثنى من « ملتحداً » على طريق لا ملجأً ولا منجى منك إلا إليك ففروا إلى الله فقال : { إلا بلاغاً } أي يبلغني كائناً { من الله } أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ، ولكنه لسعة رحمته يجري الأمور على ما يتعارفونه في أنه لا يأخذ أحداً إلا بحجة يعترفون بأنها حجة . ولما بين الرتبة الأولى التي هي أعلى ، أتبعها التي تليها فقال : { ورسالاته } التي أوحي إليّ بها بواسطة الملك فإني أتلقى ذلك حق تلقيه بحفظه والعمل به فيكون ، ذلك عاصماً من كل سوء في الدنيا والآخرة .
ولما كان التقدير لبيان أن الله شرف الرسل بأن أعطاهم عظمة من عظمته فجعل عصيانهم عصيانه ، فيكون جزاء من عصاهم هو جزاء من عصاه سبحانه وتعالى لأنهم إنما يتكلمون بأمره ، فمن يطع الله ورسوله فإن له جنة نعيم يكونون فيها مدى الدهر سعداء ، عطف عليه قوله : { ومن يعص الله } أي الذي له العظمة كلها { ورسوله } الذي ختم به النبوة والرسالة فجعل رسالته محيطة بجميع خلقه في التوحيد أو غيره على سبيل الجحد { فإن له } أي خاصة { نار جهنم } أي التي تلقاه بالعبوسة والغيظ ، ولما عبر بالإفراد نظراً إلى لفظ « من » لأنه أصرح في كل فرد ، عبر بالجمع حملاً على معناها لأنه أدل على عموم الذل فقال : { خالدين فيها } وأكد المعنى وحققه لقول من يدعي الانقطاع فقال : { أبداً * } وأما من يدعي أنها تحرق وأن عذابها عذوبة فليس أحد أجنّ منه إلا من يتابعه على ضلاله وغيه ومحاله ، وليس لهم دراء إلا السيف في الدنيا والعذاب في الآخرة بما سموه عذوبة وهم صائرون إليه وموقوفون عليه .
ولما ذكر تلبدهم عليه وقدم ما هو الأهم من أمره من كشف غمومهم بإعلامهم أن ذلك الذي أنكروه عليه هو الذي يحق له ، ومن أنه مع ضعفه عن مقاواتهم هو عن الإعراض عن الله أضعف لأن الله أقوى من كل شيء وأنه لا يسعه إلا امتثال أمره ، وأشار إلى أنهم عاجزون عن سطواته سبحانه بعدم القدرة على الإجارة عليه ، صرح بذلك مهدداً لهم ، فقال مغيياً لتلبدهم عليه : { حتى إذا رأوا } أي بأبصارهم فيه { ما } أي الشيء الذي . ولما كان المنكي من الوعيد بروكه على كل من كان لأجله الوعيد لا كونه من معين قال : { يوعدون } أي ما حصل الإيعاد في الدنيا أو في الآخرة أما في الآخرة فواضح ، وأما في الدنيا فمثل إخراج النبي صلى الله عليه وسلم مع اجتماع المشركين على المكر به لقتله واجتهادهم في ذلك ثم سراياه وغزواته مثل غزوة بدر وغيرها من أيام الله التي ملأت الأرض نوراً وأهل الحق سروراً وحبوراً ، وأهل الباطل خسراً وبوراً ورعباً وهلاكاً وقبوراً { فسيعلمون } أي من ذلك اليوم الذي يكون فيه تأويله بوعد لا خلف فيه ولا طولاً لأمده { من أضعف ناصراً } أي من جهة الناصر أنا وإن كنت في هذا الوقت وحيداً مستضعفاً أو هم { وأقل عدداً * } وإن كانوا الآن بحيث لا يحصيهم عدداً إلا الله سبحانه ، فيا لله ما أعظم كلام الرسل حيث يستضعفون أنفسهم من حيث هي ، ويذكرون قوتهم من جهة مولاهم الذي بيده الملك وله جنود السماوات والأرض بخلاف أهل الإلحاد فإنه لا كلام لهم إلا في تعظيم أنفسهم وازدراء من سواهم ، وإذا حاققت أحداً من أتباع أحد منهم قال هذا على لسان النبوة - ونحو هذا من مخادعاتهم .

ولما كان من المعلوم أنهم إذا سمعوا هذا الوعيد قالوا استهزاء وعمى عن طريق الصواب واستعلاء : متى يكون عجل به ، استأنف قوله جواباً لهم جواب من لا يستخفه عجلة ولا ضجر لأنه لا يخاف الفوت ولا يلحقه ضرر ببقاء العدو واجتهادهم في أذى أوليائه ميبناً ما يجوز على الرسل من أنه يخفى عليهم ما على البشر ويطلعهم الله تعالى ما يخفي على غيرهم : { قل } أي في جوابهم إن كذبوا بإتيانهم العذاب وسألوا استهزاء منه عن وقت وقوعه أما كونه فلا بد منه لأنه قد برز الوعيد به ممن لا يخلف الميعاد ، وأما تعيين وقته فقد أخفاه سبحانه لأنه أقعد في التهديد وهو معنى قوله : { إن } أي ما { أدري } بوجه من الوجوه وإن عالجت ذلك وتسببت فيه ، وزاد في تقرير خفائه وأنه لا يزال في حيز ما يسأل عنه بصيغة الاستفهام فقال مقدماً ما يخفيهم : { أقريب ما توعدون } أي يكون الآن أو قريباً من هذا الأوان بحيث يتوقع عن قرب { أم } بعيد { يجعل له } أي لهذا الوعي . ولما كان التأخير ربما أفهم تهاوناً بالولي . فقال دافعاً لذلك : { ربي } أي المحسن إليّ إن قدمه أو أخره { أمداً * } أي أجلاً مضروباً عظيماً بكل اعتبار حتى في البعد لا يتأتى مع ذلك أن يكون الآن ولا أن يتوقع دون ذلك الأمد ، فهو في كل حال متوقع فكونوا على غاية الحذر لأنه لا بد من وقوعه فوقوعه لا كلام فيه ، وإنما الكلام في تعيين وقته .

عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)

ولما نفى صلى الله عليه وسلم علمه عن نفسه الشريفة ، نفى ذلك عن غيره على وجه عام لجميع الغيب جالٍ من عظمة مرسله ما تنقطع دونه الأعناق فقال واصفاً له : { عالم الغيب } أي كله وهو ما لم يبرز إلى عالم الشهادة فهو مختص سبحانه بعلمه ، فلذلك سبب عنه قوله : { فلا يظهر } أي بوجه من الوجوه في وقت من الأوقات { على غيبه } أي الذي غيبه عن غيره فهو مختص به { أحداً * } لعزة علم الغيب ولأنه خاصة الملك . ولما كان لا يعلم الغيب إلا ببروزه على عالم الشهادة ، وكان لأول من يطلع عليه شرف ينبغي أن يعرف له قال : { إلا من ارتضى } أي عمل الله تعالى في كونه رضي عمل من يتعمد ذلك ويجتهد فيه ، وبين « من » بقوله : { من رسول } أي من الملائكة ومن الناس فإنه يظهر عليه ذلك المرتضى الموصوف لا كل مرتضى بأن يظهره على ما شاء منه لأن الغيب جنس لا تحقق له إلا في ضمن أفراده ، فإذا ظهر فرد منه فقد ظهر فيه الجنس لظهور حصة منه ، وتارة يكون ذلك الرسول ملكاً ، وتارة يكون بشراً يكلمه الله بغير واسطة كموسى عليه الصلاة والسلام في أيام المناجاة ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج في العالم الأعلى في حضرة قاب قوسين أو أدنى ، وإذا ظهر عليه الرسول خرج عن كونه غيباً ، وأوصله الرسول إلى من أذن له في إيصاله له تارة بالوحي للأنبياء وتارة بالنفث والإلهام للأولياء ، وذلك عند تهييء نفوسهم بسكون قواها عن منازعة العقل بالشهوات والحظوظ كما يكون للنفوس عامة حين سكون القوى عن المنازعة بالنوم فتكون متهيئة للنفث فيها فمن أعرض عن جانب الحس وأقبل على جناب القدس فقده هيأ نفسه لنفث الملك في ورعه بعلم ما لم يكن يعلم وليس أحد من الناس إلا وقد علم من نفسه أنه إذا أقبل على شيء بكليته حدث له فيه أمور حدسية إلهامية بغتة من غير سابقة فكر وطلب ، وعلى قدر التهيئة يكون النفث من قبل الله سبحانه وتعالى ، وربما كان النفث شيطانياً بما تلقته الشياطين من الاستراقات من الملائكة إما من الأرض بعد نزولهم أو من السماء بالاستراق فيها - والله أعلم ، ويجوز أن يكون للأولياء مشافهة من الملك كما كان لمريم عليها السلام من الملائكة ، وقال جبريل عليه الصلاة والسلام عن بعضهم إنه لو سلم رد عليه . ولما دل هذا السياق على عزة علم الغيب وكانت عزته سبباً لحراسة من يطلع عليه ليؤديه إلى من أمر به كما أمر به ، أعلم سبحانه وتعالى بذلك بقوله مؤكداً تمييزاً له من علم الكهان الذي أصله من الجان دالاًّ على إجلال الرسل وإعظامهم وتبجيلهم وإكرامهم : { فإنه } أي الله سبحانه وتعالى يظهر ذلك الرسول على ما يريد من الغيب .

وذلك أنه إذا أراد إظهاره عليه { يسلك } أي يدخل إدخال السلك في الجوهرة في تقومه ونفوذه من غير أدنى تعريج إلى غير المراد . ولما كان الغرض يحصل بمن يقيمه سبحانه من جنوده للحراسة ولو أنه واحد من كل جهة بل وبغير ذلك ، وإنما جعل هذا الإخراج للأمر على ما يتعارفه العباد ، عبر بالجارّ دليلاً على عدم استغراق الرصد للجهات إلى منقطع الأرض مثلاً فقال : { من بين يديه } إلى الجهة التي يعلمها ذلك الرسول { ومن خلفه } أي الجهة التي تغيب عن علمه ، فصار ذلك كفاية عن كل جهة ، ويمكن أن يكون ذكر الجهتين دلالة على الكل وخصهما لأن العدو متى أعريت واحدة منهما أتى منها ، ومتى حفظت لم يأت من غيرها ، لأنه يصير بين الأولين والآخرين { رصداً * } أي حرساً من جنوده يحرسونه ويحفظونه بحفظ ما معه من الغيب من اختطاف الشياطين أو غيرهم لئلا يسترقوا شيئاً من خبره - قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال مقاتل وغيره رضي الله عنهما : يخبرونه بمن أنكره بأن يحذروه منه إن كان شيطاناً أو يأمروه بالسماع منه إن كان ملكاً ، وذلك أن إبليس كان يأتي الأنبياء في صورة جبريل عليه السلام ولكن الله عصمهم منه .
ولما كان هذا الدأب من الحفظ في كل رسول بين الغاية جامعاً تعييناً لما اقتضاه الجنس ، وبياناً لأن الأفراد أولاً مراد به الجمع ، وأنه ما عبر به إلا لتشمل الحراسة كل فرد منهم فقال : { ليعلم } أي الله علماً كائناً واقعاً على هذه الصفة التي تعلق بها علمه في الأزل قبل وجودها بما لا يعلمه إلا هو سبحانه أنها ستكون { أن } أي إن الرسل عليهم الصلاة والسلام { قد أبلغوا } أي إلى من أرسلوا إليه { رسالات ربهم } أي الذي أوجدهم ودبر جميع أمورهم واختارهم لرسالاته على ما هي عليه لم يشبها شائبة ولا لحقها غبر . ولما كان هذا ربما أوهم أنه محتاج في الحفظ إلى الرصد أزال ذلك بقوله : { وأحاط } أي فعل ذلك والحال أنه قد أحاط { بما لديهم } أي الرسل والمرسل إليهم من الملائكة والبشر على أدق الوجوه وأعظمها وأغربها بما أشار إليه التعبير بلدى ، ولما كان هذا كافياً في المقصود ، لكنه قاصر على محل الحاجة عم تعريفاً بالأمر على ما هو عليه ، فقال حاملاً على شدة الوثوق بما تقوله الرسل عن ربهم وأنه لا لبس فيه ولا غائلة بوجه ، مبيناً غاية البيان كذب حديث الغرانيق الذي ذكره بعض المفسرين وغيرهم في سورة والنجم : { وأحصى } أي الله سبحانه وتعالى { كل شيء } أي على العموم من غير استثناء أصلاً { عدداً * } أي من جهة العدد لكل ما يمكن عده ولو على أقل مقادير الذر فيما لم يزل وفيما لا يزال ، فهو دليل قاطع على علمه تعالى بالجزئيات كعلمه بالكليات ، وقد التقى أول السورة وآخرها وباطنها الغيبي وظاهرها ، فدل آخرها على الأول المجمل ، وأولها على الآخر المفصل ، وذلك أن أول السورة بين عظمة الوحي بسبب الجن ، ثم بين في أثنائها حفظه من مسترقي السمع ، وختم بتأكيد حفظه وحفظ جميع كلماته واستمر في تأكيد أمره حتى بانت عظمة هذا القرآن ، وظهرت عزة هذا الفرقان ، على كل كتاب ، بكل اعتبار وحساب ، فافتتح المزمل بمثل ذلك وختمها بالأمر بقراءة ما تيسر منه ، وذكر في المدثر طعن الطاعن فيه وما ناله بسبب ذلك الطعن من الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة مع ضمان الحفظ منه ، ثم نهى نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة القيامة عن العجلة في أمره لئلا يختل حفظه ، أو يزيغ أدنى زيغ لفظه ، وتشريعاً لأمته في ترك الاستعجال ، فإنه ليس من دأب الرجال ، ثم أكد أمر تنزيله في الإنسان ، وبين أن علة الإعراض عنه حب العاجلة التي هي عين النقصان ، وختم المرسلات بنهاية ما تخيل الأوهام والظنون ، فقال

{ فبأي حديث بعده يؤمنون } [ الأعراف : 185 ] فسبحان من نظمه هذا النظام ، وجعله أقصى المراد وغاية المرام ، وصلى الله على من لا نبي بعده على الدوام .

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)

لما تقدم في آخر الجن من تعظيم الوحي وأن من تعظيمه حفظ المرسل به من جميع الآفات المفترة عن إبلاغه بما له سبحانه من إحاطة العلم والقدرة وندب نبيه الذي ارتقاه لرسالته والاطلاع على ما أراده من غيبه صلى الله عليه وسلم أول هذه إلى القيام بأعباء النبوة بالمناجاة بهذا الوحي في وقت الأنس والخلوة بالأحباب ، والبسط والجلوة لمن دق الباب ، للاعتلاء والمتاب ، المهيىء لحمل أعباء الرسالة ، والمقوي على أثقال المعالجة لأهل الضلالة ، فقال معبراً بالأداة الصالحة للقرب والبعد المختصة بأنه لا يقال بعدها إلا الأمور التي هي في غاية العظمة ، أشار إلى أنه صلى الله عليه وسلم يراد به غاية القرب بالأمور البعيدة عن تناول الخلق بكونها خوارق للعادات ونواقض للمألوفات المطردات ، وأما التزمل فهو وإن كان من آلات ذلك إلا أنه من الأمور العادية ، فهو دون ما يراد من التهيئة لذلك الاستعداد ، وبالتزمل لكونه منافياً للقيام في الصلاة : { يا أيها المزمل * } أي الذي أخفى شخصه وستر أمره وما أمرناه به - بما أشار إليه التزمل الذي مدلوله التلفف في الثوب على جميع البدن والاختفاء ولزوم مكان واحد ، ولأنه يكون منطرحاً على الأرض كما قال صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد - « زملوهم بثيابهم ودمائهم » مع الإشارة إلى الإخفاء أيضاً بإدغام تاء التفعل ، وربما أشار الإدغام إلى أن الستر بالثوب لم يعم جميع البدن ، كما يأتي في المدثر على أن فيه مع ذلك إشارة إلى البشارة بالقوة على حمل أعباء ما يراد به ، من قولهم : زمل الشيء - إذا رفعه وحمله ، والازدمال : احتمال الشيء ، وزملت الرجل على البعير وغيره - إذا حملته عليه ، ومن زملت الدابة في عدوها - إذا نشطت ، والزامل من حمر الوحش الذي كأنه يظلع من نشاطه ، ورجل إزميل : شديد ، والزاملة : بعير يستظهر به الرجل لحمل طعامه ومتاعه عليه ، ويقال للرجل العالم بالأمر : هو ابن زوملتها ، وقال ابن عطاء : يا أيها المخفي ما تظهره عليه من آثار الخصوصية! هذا أوان كشفه ، وقال عكرمة : يا أيها الذي حمل هذا الأمر ، وقال السدي : أراد يا أيها النائم ، وقال غيره : كان هذا في ابتداء الوحي بالنبوة ، والمدثر في ابتداء الوحي بالرسالة ، ثم خوطب بعد ذلك بالنبي والرسول : { قم } أي في خدمتنا بحمل أعباء نبوتنا والازدمال بالاجتهاد في الاحتمال ، واترك التزمل فإنه مناف للقيام .
ولما كان الاجتهاد في الخدمة دالاًّ على غاية المحبة ، وكانت النية خيراً من العمل ، وكان الإنسان مجبولاً على الضعف ، وكان سبحانه لطيفاً بهذه الأمة تشريفاً لإمامها صلى الله عليه وسلم ، رضى منا سبحانه بصدق التوجه إلى العمل وجعل أجورنا أكثر من أعمالنا ، فجعل إحياء البعض إحياء للكل ، فأطلق اسم الكل وأراد البعض فقال : { الليل } أي الذي هو وقت الخلوة والخفية والستر ، فصل لنا في كل ليلة من هذا الجنس وقف بين يدينا بالمناجاة والأنس بما أنزلنا عليك من كلامنا فإنا نريد إظهارك وإعلاء قدرك في البر والبحر والسر والجهر ، وقيام الليل في الشرع معناه الصلاة فلذا لم يقيده ، وهي جامعة لأنواع الأعمال الظاهرة والباطنة ، وهي عمادها ، فذكرها دال على ما عداها .

ولما كان للبدن حظ في الراحة قال مستثنياً من الليل : { إلا قليلاً * } أي من كل ليلة ، ونودي هذا النداءلأنه صلى الله عليه وسلم « لما جاءه الوحي بغار حراء رجع إلى خديجة زوجته رضي الله تعالى عنها يرجف فؤاده فقال : » زملوني زملوني! لقد خشيت على نفسي « . فسألته رضي الله عنها عن حاله ، فلما قص عليها أمره - قال : » خشيت على نفسي « يعني أن يكون هذا مبادىء شعر أو كهانة ، وكل ذلك من الشياطين وأن يكون الذي ظهر له بالوحي ليس بملك ، وكان صلى الله عليه وسلم يبغض الشعر والكهانة غاية البغضة ، فقالت له وكانت وزيرة صدق : » كلا والله! لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق « ونحو هذا من المقال الذي يثبت ، وفائدة التزمل أن الشجاع الكامل إذا دهمه أمر هو فوق قواه ففرق أمره فرجع إلى نفسه ، وقصر بصره وبصيرته على حسه ، اجتمعت قواه إليه فقويت جبلته الصالحة على تلك العوارض التخييلية فهزمتها فرجع إلى أمر الجبلة العلية ، وزال ما عرض من العلة البدنية .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما كان ذكر إسلام الجن قد أحرز غاية انتهى مرماها وتم مقصدها ومبناها ، وهي الإعلام باستجابة هؤلاء وحرمان من كان أولى بالاستجابة ، وأقرب في ظاهر الأمر إلى الإنابة ، بعد تقدم وعيدهم وشديد تهديدهم ، صرف الكلام إلى أمره صلى الله عليه وسلم بما يلزمه من وظائف عبادته وما يلزمه في أذكاره من ليله ونهاره ، مفتتحاً ذلك بأجمل مكالمة وألطف مخاطبة { يا أيها المزمل } [ المزمل : 1 ] وكان ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم كما ورد { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } [ فاطر : 8 ] إلى آخره ، وليحصل منه الاكتراث بعناد من قدم عناده وكثرة لججه ، وأتبع ذلك بما يشهد لهذا الغرض ويعضده وهو قوله تعالى { فاصبر صبراً جميلاً } [ المعارج : 5 ] { واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً } [ المزمل : 10 - 11 ] وهذا عين الوارد في قوله تعالى : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } [ فاطر : 8 ] وفي قوله { نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار } [ ق : 45 ] ثم قال : { إن لدينا أنكالاً } [ المزمل : 12 ] فذكر ما أعد لهم ، وإذا تأملت هذه الآي وجدتها قاطعة بما قدمناه ، وبان لك التحام ما ذكره ، ثم رجع الكلام إلى التلطف به عليه الصلاة والسلام وبأصحابه - رضي الله عنهم أجمعين - وأجزل جزاءهم مع وقوع التقصير ممن يصح منه تعظيم المعبود الحق جل جلاله

{ علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن } [ المزمل : 20 ] ثم ختم السورة بالاستغفار من كل ما تقدم من عناد الجاحدين المقدم ذكرهم فيما قبل من السور إلى ما لا يفي العباد المستجيبون به مما أشار إليه قوله تعالى : { علم أن لن تحصوه } [ المزمل : 20 ] انتهى .
ولما كان الليل اسماً لما بين غروب الشمس وطلوع الفجر ، وكان قيامه في غاية المشقة ، حمل سبحانه من ثقل ذلك ، فقال مبيناً لمراده بما حط عليه الكلام بعد الاستثناء ، ومبدلاً من جملة المستثنى والمستثنى منه : { نصفه } أي الليل ، فعلم أن المراد بالقليل المستثنى النصف ، وسماه قليلاً بالنسبة إلى جميع الليل ، وبالنسبة إلى النصف الذي وقع إحياؤه ، لأن ما يلي بالعمل أكثر مما لا عمل فيه ، ويجوز أن يكون « نصفه » بدلاً من الليل ، فيكون كأنه قيل : قم نصف الليل إلا قليلاً وهو السدس أو انقص منه إلى الربع ، وجاءت العبارة هكذا لتفيد أن من قام ثلث الليل بل ربعه فما فوقه كان محيياً لليل كله .
ولما كانت الهمم مختلفة بالنسبة إلى الأشخاص وبالنسبة إلى الأوقات قال : { أو انقص منه } أي هذا النصف الذي أمرت بقيامه ، أو من النصف المستثنى منه القليل على الوجه الثاني وهو الثلث { قليلاً * } فلا تقمه حتى لو أحييت ثلث الليل على الوجه الأول أو ربعه على الوجه الثاني كنت محيياً له كله في فضل الله بالتضعيف { أو زد عليه } أي على النصف قليلاً كالسدس مثلاً ، فيكون الذي تقومه الثلثين مثلاً ، وعلى كل تقدير من هذه التقادير يصادف القيام - وهو لا يكون إلا بعد النوم : الوقت الذي يباركه الله بالتجلي فيه فإنه صح أنه ينزل سبحانه عن أن يشبه ذاته شيئاً أو نزوله نزول غيره بل هو كناية عن فتح باب السماء الذي هو كناية عن وقت استجابة الدعاء - حين يبقى ثلث الليل - وفي رواية : حين يبقى شطر الليل الآخر - إلى سماء الدنيا فيقول : هل من سائل فأعطيه ، هل من تائب فأتوب عليه ، هل من كذا هل من كذا حتى يطلع الفجر . وكان هذا القيام في أول الإسلام فرضاً عليهم على التخيير بين هذه المقادير الثلاثة فكانوا يشقون على أنفسهم ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب ، وكذا بعض أصحابه رضي الله تعالى عنهم واشتد ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم ، وكان هذا قبل فريضة الخمس ، فنزل آخرها بالتخفيف بعد سنة

{ علم أن لن تحصوه } [ المزمل : 20 ] الآيات ، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة .
ولما أمر بالقيام وقدر وقته وعينه ، أمر بهيئة التلاوة على وجه عام للنهار معلم بأن القيام بالصلاة التي روحها القرآن فقال : { ورتل القرآن } أي اقرأه على تؤدة وبين حروفه بحيث يتمكن السامع من عدها وحتى يكون المتلو شبيهاً بالثغر المرتل وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان ، فإن ذلك موجب لتدبره فتكشف له مهماته وينجلي عليه أسراره وخفياته ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : ولا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذ الشعر ، ولكن قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة . روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها : « أن النبي صلى الله عليه وسلم قام حتى أصبح بآية ، والآية { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } » [ المائدة : 118 ] ولما أعلم سبحانه بالترتيل أعلم بشرفه بالتأكيد بالمصدر فقال : { ترتيلاً * } .
ولما كان المراد منه صلى الله عليه وسلم الثبات للنبوة ومن أمته الثبات في الاقتداء به في العمل والأمر والنهي ، وكان ذلك في غاية الصعوبة ، وكان الإنسان عاجزاً إلا بإعانة مولاه ، وكان العون النافع إنما يكون لمن صفت نفسه عن الأكدار وأشرقت بالأنوار ، وكان ذلك إنما يكون بالاجتهاد في خدمته سبحانه ، علل هذا الأمر بقوله مبيناً للقرآن الذي أمر بقراءته ما هو وما وصفه ، معلماً أن التهجد يعد للنفس من القوى ما به يعالج المشقات ، مؤكداً لأن الإتيان بما هو خارج عن جميع أشكال الكلام لا يكاد يصدق : { إنا } أي بما لنا من العظمة { سنلقي } أي قريباً بوعد لا خلف فيه فتهيأ لذلك بما يحق له .
ولما كان المقام لبيان الصعوبة ، عبر بأداة الاستعلاء فقال : { عليك } وأشار إلى اليسر مع ذلك إشارة إلى { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } [ القمر : 17 ] بالتعبير بما تدور مادته على اليسر والخفة فقال : { قولاً } يعني القرآن { ثقيلاً * } أي لما فيه من التكاليف الشاقة من جهة حملها وتحميلها للمدعوين لأنها تضاد الطبع وتخالف النفس ، ومن جهة رزانة لفظه لامتلائه بالمعاني مع جلالة معناه وتصاعده في خفاء فلا يفهمه المتأمل ويستخرج ما فيه من الجواهر إلا بمزيد فكر وتصفية سر وتجريد نظر ، فهو ثقيل على الموافق من جميع هذه الوجوه وغيرها ، وعلى المخالف من جهة أنه لا يقدر على رده ولا يتمكن من طعن فيه بوجه مع أنه ثقيل في الميزان وعند تلقيه وله وزن وخطر وقدر عظيم ، روي في الصحيح : « إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه الوحي يفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشاتي الشديد البرد » وكان - إذا أنزل عليه الوحي وهو راكب على ناقته وضعت جرانها فلا تكاد تتحرك حتى يسري عنه « قال القشيري : وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن سورة الأنعام نزلت عليه جملة واحدة وهو راكب فبركت ناقته من ثقل القرآن وهيبته ، وهو مع ثقله على الأركان خفيف على اللسان سهل التلاوة والحفظ على الإنسان .

إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)

ولما أفهم هذا أن التهجد في غاية العظمة ، أكد ذلك حاثاً على عدم الرضى بدون الأفضل الأجمل الأكمل بقوله : مؤكداً ليخف أمر القيام على النفس : { إن ناشئة الّيل } أي ساعاته التي كل واحدة منها ناشئة والعبادة تنشأ فيه بغاية الخفة ، من نشأ أي نهض من مضجعه بغاية النشاط لقوة الهمة ومضاء العزيمة التي جعلتها كأنها نشأت بنفسها ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ما كان بعد العشاء فهو ناشئة ، وما كان قبله فليس بناشئة ، وقالت عائشة رضي الله عنها : الناشئة القيام بعد النوم ، وقال الأزهري : الناشئة القيام ، مصدر جاء على فاعلة كالعافية بمعنى العفو .
ولما كان ذلك في غاية الصعوبة لشدة منافرته للطبع ، زاد في التأكيد ترغيباً فيه فقال : { هي } أي خاصة لما لها من المزايا { أشد } أي أثقل وأقوى وأمتن وأرصن { وطأً } أي كلفة ومشقة لما فيها نم ترك الراحة وفراق الألف والمحبوب ، وأشد ثبات قدم - على أنه مصرد وطىء في قراءة الجماعة - بفتح ثم سكون ، ومواطأة بين القلب واللسان في الحضور وفي التزام الدين بالإذعان والخضوع على أنه مصدر واطأ مثل قاتل على قراءة أبي عمرو وابن عامر بالكسر والمد وهي أبلغ لأن صيغة المفاعلة تكون بين اثنين يغالبان فيكون الفعل أقوى .
ولما كان التهجد يجمع القول والفعل ، وبين ما في الفعل لأنه أشق ، فكان بتقديم الترغيب بالمدحة أحق ، أتبعه القول فقال : { وأقوم قيلاً * } أي وأعظم سداداً من جهة القيل في فهمه ووقعه في القلوب بحضور القلب ورياقة الليل بهدوء الأصواء وتجلي الرب سبحانه وتعالى بحصول البركات ، وأخلص من الرياء والقصود الدنيات .
ولما بين سبحانه من أول السورة إلى هنا ما به صلاح الدين الذي عصمه الأمر وبه صلاح الدارين ، وأظهر ما للتهجد من الفضائل ، فكان التقدير حتماً : فواظب عليه لتناول هذه الثمرات ، قال معلّلاً محققاً له مبيناً ما به صلاح الدنيا التي هي فيها المعاش ، وصلاحها وسيلة إلى صلاح المقصود ، وهو الدين وهو الذي ينبغي له لئلا يكون كلاًّ على الناس ليحصل من الرزق ما يعينه على دينه ويوسع به على عيال الله من غير ملل ولا ضجر ولا كسل ولا مبالغة ، مؤكداً لما للنفس من الكسل عنه : { إن لك } أي أيها المتهجد أو يا أكرم العباد إن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليكون آكد في إلزام الأمة به { في النهار } الذي هو محل السعي في مصالح الدنيا .
ولما كان الإنسان يهتم في سعيه لنفسه حتى يكون كأنه لشدة عزمه وسرعة حركته كالسابح فيما لا عائق له فيه قال : { سبحاً طويلاً * } أي تقلباً ممتد الزمان ، قال البغوي : وأصل السبح سرعة الذهاب ، وقال الرازي : سهولة الحركة .

ولما كان التقدير : فاجتهد في التهجد ، عطف عليه قوله حاثاً على حضور الفكر : { واذكر اسم ربك } أي المحسن إليك والموجد والمدبر لك بكل ما يكون ذكراً من اسم وصفة وثناء وخضوع وتسبيح وتحميد وصلاة وقراءة ودعاء وإقبال على علم شرعي وأدب مرعي ودم على ذلك ، فإذا عظمت الاسم بالذكر فقد عظمت المسمى بالتوحيد والإخلاص ، وذلك عون لك على مصالح الدارين ، أما الآخرة فواضح ، وأما الدنيا فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أعز الخلق عليه فاطمة ابنته رضي الله عنها لما سألته خادماً يقيها التعب إلى التسبيح والتحميد والتكبير عند النوم .
ولما كان الذكر قد يكون مع التعلق بالغير ، أعلم أن الذاكر في الحقيقة إنما هو المستغرق فيه سبحانه وبه يكون تمام العون فقال : { وتبتل } أي اجتهد في قطع نفسك عن كل شاغل ، والإخلاص في جميع أعمالها بالتدريج قليلاً قليلاً ، منتهياً : { إليه } ولا تزل على ذلك حتى يصير لك ذلك خلقاً فتكون نفسك كأنها منقطعة بغير قاطع ومقطعة تقطعياً كثيراً بكل قاطع ، فيكون التقدير - بما أرشد إليه المصدر « تبتلاً » وبتلها { تبتيلاً * } فأعلم بالتأكيد بالمصدر المرشد إلى الجمع بين التفعل والتفعيل بشدة الاهتمام وصعوبة المقام ، وهو من البتل وهو القطع ، صدقة بتلة أي مقطوعة عن صاحبها ، ولذلك قال زيد بن أسلم : التبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله تعالى ، والبتول مريم عليها السلام لانقطاعها إلى الله تعالى ، عن جميع خلقه ، وكذا فاطمة الزهراء البتول أيضاً لانقطاعها عن قرين ومثيل ونظير ، فالمراد بهذا هو المراد بكلمة التوحيد المقتضية للإقبال عليه والإعراض عن كل ما سواه ، وذلك بملازمة الذكر وخلع الهوى ، والآية من الاحتباك وهو ظاهر : ذكر فعل التبتل دليلاً على حذف مصدره ، وذكر مصدر بتل ديليلاً على حذف فعله .
ولما كان الواجب على كل أحد شكر المنعم ، بين أنه سبحانه الذي أنعم يسكن الليل الذي أمر بالتهجد فيه ومنتشر النهار الذي أمر بالسبح فيه ، فقال واصفاً الرب المأمور بذكره في قراءة ابن عامر ويعقوب والكوفيين غير حفص معظماً له بالقطع في قراءة الباقين بالرفع : { رب المشرق } أي موجد محل الأنوار التي بها ينمحي هذا الليل الذي أنت قائم فيه ويضيء بها الصباح وعند الصباح يحمد القوم السرى بما أنالهم من الأنوار في مرائي قلوبهم وما زينها به من شهب المعاني كما أوجد لهم في آفاق أفلاكهم من شموس المعاني المثمرة ليدور الأنس في مواطن القدس ، فلا يطلع كوكب في الموضع الذي هو ربه إلا بإذنه ، وهو رب كل مكان ، وما أحسن ما قال الإمام الرباني تقي الدين بن دقيق العيد :
كم ليلة فيك وصلنا السرى ... لا نعرف الغمض ولا نستريح
واختلف الأصحاب ماذا الذي ... يزيح من شكواهم أو يريح
فقيل تعريسهم ساعة ... وقلت بل ذكراك وهو الصحيح

ولما ذكر مطالع الأنوار ، لأنها المقصود لما لها من جلي الإظهار ، ووحد لأنه أوفق لمقصود السورة الذي هو محطة لانجماح المدلول عليه بالتزمل ، أتبعه مقابله فقال : { والمغرب } أي الذي يكون عنه الليل والذي هو محل السكن وموضع الخلوات ولذيذ المناجاة ، فلا تغرب شمس ولا قمر ولا نجم إلا بتقديره سبحانه ، وإذا كان رب ما فيه هذه الصنائع التي هي أبدع ما يكون كان رب ما دون ذلك .
لما علم بهذا أنه المختص بتدبير الكائنات ، المتفرد بإيجاد الموجودات ، كان أهلاً لأن يفرد بالعبادة وجميع التوجه فقال مستأنفاً : { لا إله } أي معبود بحق { إلا هو } أي ربك الذي دلت تربيته لك على مجامع العظمة وأنهى صفات الكمال والتنزه عن كل شائبة نقص . ولما علم تفرده سبحانه كان الذي ينبغي لعباده أن لا يوجه أحد منهم شيئاً من رغبته لغيره فلذلك سبب عنه قوله : { فاتخذه } أي خذه بجميع جهدك وذلك بإفرادك إياه بكونه تعالى { وكيلاً * } أي على كل من خالفك بأن تفوض جميع أمورك إليه فإنه يكفيكها كلها ويكلؤها غاية الكلاية فإنه المتفرد بالقدرة عليها ، ولا شيء أصلاً في يد غيره ، فلا تهتم بشيء أصلاً ، وليس ذلك بأن يترك الإنسان كل عمل ، فإن ذلك طمع فارغ بل بالإجمال في طلب كل ما ندب الإنسان إلى طلبه ، ليكون متوكلاً في السبب لا من دون سبب ، فإنه يكون حينئذ كمن يطلب الولد من غير زوجة ، وهو مخالف لحكمة هذه الدار المبنية على الأسباب ، ولو لم يكن في إفراده بالوكالة إلا أنه يفارق الوكلاء بالعظمة والشرف والرفق من جميع الوجوه فإن وكيلك من الناس دونك وأنت تتوقع أن يكلمك كثيراً في مصالحك وربك أعظم العظماء وهو يأمرك أن تكلمه كثيراً في مصالحك وتسأله طويلاً ووكيلك من الناس - إذا حصّل مالك سألك الأجرة وهو سبحانه يوفر مالك ويعطيك الأجر ، ووكيلك من الناس ينفق عليك من مالك وهو سبحانه يرزقك وينفق عليك من ماله ، ومن تمسك بهذه الآية عاش حراً كريماً ، ومات خالصاً شريفاً ، ولقي الله تعالى عبداً صافياً مختاراً تقياً ، ومن شرط الموحد أن يتوجه إلى الواحد ويقبل على الواحد ويبذل له نفسه عبودية ويأتمنه على نفسه ويفوض إليه أموره ويترك التدبير ويثق به ويركن إليه ويتذلل لربوبيته ، ويتواضع لعظمته ويتزين ببهائه ويتخذه عدة لكل نائبة دنيا وآخرة .

وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)

ولما كانت الوكالة لا تكون إلا فيما يعجز ، وكان الأمر بها مشيراً إلى أنه لا بد أن يكون عن هذا القول الثقيل خطوب طوال وزلازل وأهوال ، قال : { واصبر } وأشار إلى عظمة الصبر بتعديته بحرف الاستعلاء فقال : { على ما } وخفف الأمر بالإشارة إلى أنهم لا يصلون إلى غير الأذى بالقول ، وعظمه باستمرارهم عليه فقال : { يقولون } أي المخالفون المفهومون من الوكالة من مدافعتهم الحق بالباطل في حق الله وحقك .
ولما كانت مجانبة البغيض إلا عند الاضطرار مما يخفف من أذاه قال : { واهجرهم } أي أعرض عنهم جهاراً دافعاً للهرج مهما أمكن { هجراً جميلاً * } بأن تعاشرهم بظاهرك وتباينهم بسرك وخاطرك ، فلا تخالطهم إلا فيما أمرك الله به على ما حده لك من دعائهم إليه سبحانه ومن موافاتهم في أفراحهم وأحزانهم فتؤدي حقوقهم ولا تطالبهم بحقوقك لا تصريحاً ولا تلويحاً .
ولما كان في أمره هذا بما يفعل ما يشق جداً بما فيه من احتمال علوهم ، أعلم بقرب فرجه بتهديدهم بأخذهم سريعاً فقال : { وذرني } أي اتركني على أي حالة اتفقت مني في معاملتهم ، وأظهر في موضع الإضمار تعليقاً للحكم بالوصف وتعميماً فقال : { والمكذبين } أي العريقين في التكذيب فإني قادر على رحمتهم وتعذيبهم .
ولما ذكر وصفهم الذي استحقوا به العذاب ، ذكر الحامل عليه تزهيداً فيه وصرفاً عن معاشرة أهله لئلا تكون المعاشرة فتنة فتكون حاملة على الاتصاف به وجارّة إلى حب الدنيا فقال : { أولي النعمة } أي أصحاب التنعم بغضارة العيش والبهجة التي أفادتهموها النعمة - بالكسر وهي الإنعام وما ينعم به من الأموال والأولاد ، والجاه الذي أفادته النعمة - بالضم وهي المسرة التي تقتضي الشكر وهم أكابر قريش وأغنياؤهم .
ولما كان العليم القدير إذا قال مثل هذا لولي من أوليائه عاجل عدوه ، قال محققاً للمراد بما أمر به من الصبر من هذا في النعم الدنيوية بأن زمنها قصير : { ومهلهم } أي اتركهم برفق وتأن وتدريج ولا تهتم بشأنهم .
ولا سره بوعيدهم الشديد بهذه العبارة التي مضمونها أن أخذهم بيده صلى الله عليه وسلم وهو سبحانه يسأل في تأخيره لهم ، زاد في البشارة بقوله : { قليلاً * } أي من الزمان والإمهال إلى موتهم أو الإيقاع بهم قبله ، وكان بين نزول هذه الآية وبين وقعة بدر يسير - قاله المحب الطبري ، وفيه بشارة له صلى الله عليه وسلم بالبقاء بعد أخذهم كما كان ، وأنه ليس محتاجاً في أمرهم إلى غير وكلهم سبحانه وتعالى بإلقائهم عن باله صلى الله عليه وسلم وتفريغ ظاهره وباطنه لما هو مأمور به من الله سبحانه وتعالى من الإقبال على الله سبحانه ، ففي الآية أن من اشتغل بعدوه وكله الله إلى نفسه ، فكان ذلك كالمانع من أخذ الله له ، فإذا توكل عليه فقد أزال ذلك المانع - .

ولما كان هذا منادياً بعذابهم ، وكان وصفهم بالنعمة مفهماً لأنهم معتادون بالمآكل الطيبة ، وكان منع اللذيذ من المآكل لمن اعتاده لا يبلغ في نكاية النفس بحد نكاية البدن إلاّ بعد تقدم إهانة ، استأنف قوله بياناً لنوع ما أفهمه التهديد من مطلق العذاب ، وأكد لأجل تكذيبهم : { إن } وأشار إلى شدة غرابته وجلالته وعظمته وخصوصيته وتحقق حضوره بقوله : { لدينا } دون عندنا ولما كان أشد ما على الإنسان منعه مما يريد من الانبساط به بالحركات ، قال ذاكراً ما يضاد ما هم فيه من النعمة والعز : { أنكالاً } جمع نكل بالكسر وهو القيد الثقيل الذي لا يفك أبداً إهانة لهم لا خوفاً من فرارهم ، جزاء على تقييدهم أنفسهم بالشهوات عن اتباع الداعي وإيساعهم في المشي في فضاء الأهوية . ولما كان ذلك - محرقاً للباطن أتبعه حريق الظاهر فقال : { وجحيماً * } أي ناراً حامية جداً شديدة الاتقاد بما كانوا يتقيدون به من تبريد الشراب ، والتنعم برقيق اللباس والثياب ، وتكلف أنواع الراحة .
ولما أتم ما يقابل تكذيبهم ، أتبعه ما يقابل النعمة فقال : { وطعاماً ذا غصة } أي صاحب انتشاب في الحلق كالضريع والزقوم يشتبك فيه فلا يسوغ : لا ينزل ولا يخرج بما كانوا يعانونه من تصفية المآكل والمشارب ، وإفراغ الجهد في الظفر بجميع المآرب . ولما خص عم فقال : { وعذاباً أليماً * } أي مؤلماً شديد الإيلام لا يدع لهم عذوبة بشيء من الأشياء أصلاً بما كانوا يصفون به أوقاتهم ويكدرون على من يدعوهم إلى ما ينفعهم بالخلاص من قيود المشاهدات والعروج من حضيض الشهوات إلى أوج الباقيات الصالحات .
ولما ذكر هذا العذاب ذكر ظرفه فقال : { يوم ترجف } أي تضطرب وتتزلزل زلزالاً شديداً { الأرض } أي كلها { والجبال } التي هي أشدها . ولما كان التقدير : فكانت الأرض قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ، عطف عليه قوله : { وكانت الجبال } أي التي هي مراسي الأرض وأوتادها ، وعبر عن شدة الاختلاط والتلاشي بالتوحيد فقال : { كثيباً } أي رملاً مجتمعاً ، فعيل بمعنى مفعول ، من كثبه - إذا جمعه ، ومادة كثب بتركيبها كثب - وكبث تدور على الجمع مع القرب ، وتلزمه القلة ، فإن حقيقة القرب قلة المسافة زماناً أو مكاناً ، والنعومة ، من كثبت التراب : درسته ، وكثب عليه - بمعنى حمل أوكر ، معناه قارب أن يخالطه ، وكثيب الرمل : قطعة تنقاد محدودبة - ناظر إلى القلة من معنى قطعة ، وكل ما انصب كذلك أيضاً لأن الانصاب عادة يكون لما قل وأما نعم كثاب بتقديم الثاء وبتأخيرها أيضاً أي كثير فجاءته الكثرة من الصيغة ، والكاثبة من الفرس هو أضيق موضع في عرضها ، والكثبة من الأرض : المطمئنة بين الجبال - لأنها تكون صغيرة غالباً ، والكباث كسحاب : النضيج من ثمر الأراك ، وقيل : ما لم ينضج ، وقيل : حمله إذا كان متفرقاً ، فإن أريد النضيج منه فتسميته به لأنه مجتمع ، وإن أريد ما لم ينضج فهو من مقاربة النضج ، وإن أريد المتفرق فلقرب بعضه من بعض لأن الأراك نفسه صغير الشجر ، وكبث اللحم - كفرح : بات مغموماً فتغير أو أروح أي جمع على إنائه الذي هو فيه إناء آخر ، أو جمع ما هو فيه حتى تضايق فهو من الجمع لهذا ، وأما الكنبث كقنفذ والثاء مؤخرة : الصلب الشديد ، فهو في الغالب من تجمع أجزائه وتداخل بعضها في بعض ، وتكبيث السفينة أن تجنح إلى الأرض ، هو من الجمع والقرب معاً ، وأما كثبت كنانته - بمعنى نكثها ، فكان فعل استعمل هنا للإزالة ، أي أزال اجتماعها أو بمعنى أنه قربها نم رميه بتسييرها لسرعة التناول .

ولما كان الكثيب ربما أطلق مجازاً على ما ارتفع وإن لم يكن ناعماً قال : { مهيلاً * } أي رملاً سائلاً رخواً ليناً منثوراً ، من هاله إذا نثره ، وقال الكلبي : هو الذي إذا أخذت منه شيئاً تبعك ما بعده ، ولما ذكر العذاب ووقته وقدمهما ليكون السامع أقبل لما يطلب منه ، أتبعهما السبب فيه مشيراً إلى ما به إصلاح أمر الآخرة التي فيها المعاد وإليها المنتهى والمآب ، فقال مؤكداً لأجل تكذيبهم : { إنا أرسلنا } أي بما لنا من العظمة { إليكم } يا أهل مكة شرفاً لكم خاصة ، وإلى كل من بلغته الدعوة عامة { رسولاً } أي جداً هو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمامهم صلى الله عليه وسلم { شاهداً عليكم } أي بما تصنعون ليؤدي الشهادة عند طلبها منه بما هو الحق يوم ننزع من كل أمة شهيداً وهو يوم القيامة .
ولما كانت هذه السورة من أول ما نزل والدين ضعيف وأهله في غاية القلة والذلة ليعتبر بهم من آل به أمره إلى أن كان في زمان صار فيه الدين غريباً كغربته إذ ذاك ، وكان فرعون أعتى الناس في زمانه وأجبرهم ، وأشدهم خداعاً وأمكرهم وكان بنو إسرائيل في غاية الذل له والطواعية لأمره ، ومع ذلك فلما أرسل الله إليه موسى عليه السلام الذي ذبح فرعون أبناء بني إسرائيل لأجل أن يكون في جملة من ذبحه لأنه قيل له أنه يولد لبني إسرائيل مولود يكون هلاك القبط على يده أظهره به وأهلكه على قوته وأنجى منه بني إسرائيل على ضعفهم ، قال تعالى تنبيهاً لقريش والعرب وغيرهم على أن من كان الله معه لا ينبغي أن يقاوي ولو أنه أضعف الخلق ، وتنبيهاً لهم على الاعتبار بحال هذا الطاغية الذي يزيد عليهم بالملك وكثرة الجنود والأموال : { كما أرسلنا } أي بما لنا من العظمة { إلى فرعون } أي ملك مصر { رسولاً * } ولعله نكره للتنبيه على أنه ليس من قوم فرعون فلا مانع له منه من حميم ولا شفيع يطاع ، ليعلم أنه من كانت له قبيلة تحامي عنه أولى بالنصرة .

فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)

ولما كان الإرسال سبباً للقبول أو الرد قال : { فعصى فرعون } أي بما له من تعوج الطباع { الرسول } أي الذي تقدم أنا أرسلناه إليه فصار معهوداً لكم بعد ما أراه من المعجزات البينات والآيات الدامغات - بما أشار إليه مظهر العظمة ، ولذلك سبب عن عصيانه قوله : { فأخذناه } أي بما لنا من العظمة ، وبين أنه أخذ قهر وغضب بقوله : { أخذاً وبيلاً * } أي ثقيلاً شديداً متعباً مضيقاً رديء العاقبة من قولهم : طعام وبيل - إذا كان وخماً لا يستمرأ أي لا ينزل في المري ولا يخف عليه ، وذلك بأن أهلكناه ومن معه أجمعين لم ندع منهم أحداً - وسيأتي إن شاء الله تعالى في « ألم نشرح » قاعدة إعادة النكرة والمعرفة .
ولما علم بهذا أنه سبحانه شديد الأخذ ، وأنه لا يغني ذا الجد منه الجد ، سبب عن ذلك قوله محذراً لهم الاقتداء بفرعون : { فكيف تتقون } أي توجدون الوقاية التي تقي أنفسكم ، ولما كان التنفير من سبب التهديد أهم لأنه أدل على رحمة المحذر وأبعث على اجتنابه ، قال مشيراً بأداة الشك إلى أن كفرهم بالله مع ما نصب لهم من الأدلة العقلية المؤيدة بالنقلية ينبغي أن لا يوجد بوجه ، وإنما يذكر على سبيل الفرض والتقدير : { إن كفرتم } أي أوقعتم الستر لما غرس في فطركم من أنوار الدلائل القائدة إلى الإيمان فبقيتم على كفركم - على أن العبارة مشيرة إلى أنه عفا عنهم الكفر الماضي فلا يعده عليهم رحمة منه وكرماً ولا يعد عليهم إلا ما أوقعوه بعد مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم { يوماً } أي هو مثل في الشدة بحيث إنه يقال فيه { يجعل } لشدة أهواله وزلزاله وأوجاله { الولدان } أي عند الولادة أو بالقرب منها { شيباً } جمع أشيب وهو من ابيض شعره ، وذلك كناية أن عن كثرة الهموم فيه لأن العادة جارية بأنها إذا تفاقمت أسرعت بالشيب ، والمعنى إنكار أن يقدروا على أن يجعلوا لهم وقاية بغاية جهدهم تقيهم عذاب ذلك اليوم الموصوف بهذا الهول الأعظم ، وذلك حين يقول الله : « يا آدم قم فابعث بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين » وأسند الجعل إلى اليوم لكونه واقعاً فيه كما جعله المتقي ، وإنما المتقي العذاب الواقع فيه .
ولما كان هذا أمراً عظيماً ، صور بعض أهواله زيادة في عظمه فقال : { السماء } أي على عظمها وعلوها وشدة إحكامها . ولما كان المراد الجنس الشامل للكل ذكر فقال : { منفطر } أي منشق متزايل من هيبة الرب تزايل المتفرط من السلك ، ولو أنث لكان ظاهراً في واحدة من السماوات ، وفي اختيار التذكير أيضاً لطيفة أخرى ، وهي إفهام الشدة الزائدة في الهول المؤدي إلى انفطاره ما هو في غاية الشدة لأن الذكر في كل شيء أشد من الأنثى ، وذلك كله تهويلاً لليوم المذكور { به } أي بشدة ذلك اليوم وباؤه للآلة ، ويجوز كونها بمعنى « فيه » أي يحصل فيه التفطر والتشقق بالغمام ونزول الملائكة وغير ذلك من التساقط والوهي على شدة وثاقتها فما ظنك بغيرها .

ولما كان هذا عظيماً ، استأنف بيان هوانه بالنسبة إلى عظمته سبحانه وتعالى فقال : { كان } أي على كل حال وبكل اعتبار { وعده } أي وعد الله الذي تقدم ذكره في مظاهر العظمة ، فالإضافة للمصدر على الفاعل { مفعولاً * } أي سهلاً مفروغاً منه في أي شيء كان ، فكيف إذا كان بهذا اليوم الذي هو محط الحكمة ، أو الضمير لليوم فالإضافة إلى المفعول ، إشارة إلى أن الوعد الواقع به وفيه لا بد منه ، ومعلوم أنه لا يكون إلا من الله .
ولما كان ما مضى من هذه السورة من الأحكام والترغيب والترهيب مرشداً إلى معالي الأخلاق منقذاً من كل سوء ، قال مستأنفاً مؤكداً تنبيهاً على عظمها وأنها مما ينبغي التنبيه عليه : { إن هذه } أي القطعة المتقدمة من هذه السورة { تذكرة } أي تذكير عظيم هو أهل لأن يتعظ به المتعظ ويعتبر به المعتبر ، ولا سيما ما ذكر فيها بأهل الكفر من أنواع العقاب . ولما كان سبحانه قد جعل للإنسان عقلاً يدرك به الحسن والقبيح ، واختياراً يتمكن به من اتباع ما يريد فلم يبق له مانع من جهة اختيار الأصلح والأحسن إلا قسر المشيئة التي لا اطلاع له عليها ولا حيلة له فيها ، سبب عن ذلك قوله : { فمن شاء } أي التذكر للاتعاظ { اتخذ } أي أخذ بغاية جهده { إلى ربه } أي خاصة ، لا إلى غيره { سبيلاً * } أي طريقاً يسلبه حظوظه لكونه لا لبس فيه ، فيسلك على وفق ما جاءه من التذكرة ، وذلك الاعتصام حال السير بالكتاب والسنة على وفق ما اجتمعت عليه الأمة ، ومتى زاغ عن ذلك هلك .

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

ولما كان ربما تغالى بعض الناس في العبادة وشق على نفسه ، وربما شق على غيره ، أشار سبحانه وتعالى إلى الاقتصاد تخفيفاً لما يلحق الإنسان من النصب ، مشيراً إلى ما يعمل حالة اتصال الروح بالجسد وهي حالة الحياة ، لأن منفعتها التزود من كل خير لما أدناه هول المقابر ، فإن الروح في غاية اللطافة ، والسجد في غاية الكثافة ، لأنها من عالم الأمر ، وهو ما يكون الإيجاد فيه بمرة واحدة من غير تدريج وتطوير والجسد من عالم الخلق فهي غريبة فيه تحتاج إلى التأنيس وتأنيسها بكل ما يقربها إلى العالم الروحاني المجرد عن علائق الأجسام ، وذلك بصرف القلب كله عن هذه الدنايا والتلبس بالأذكار والصلوات وجميع الأعمال الصالحات ، فإن ذلك هو المعين على اتصالها بعالمها العالي العزيز الغالي ، وأعون ما يكون على ذلك الحكمة ، وهي العدل في الأعمال والاقتصاد في الأقوال والأفعال ، فقال مستأنفاً الجواب عن تيسير السبيل وبنائه على الحنيفية السمحة بحيث صار لا مانع منه إلا يد القدرة { إن ربك } أي المدبر لأمرك على ما يكون إحساناً إليك ورفقاً بك وبأمتك { يعلم أنك تقوم } أي في الصلاة كما أمرت به أول السورة .
ولما كانت كثرة العمل ممدوحة وقلته بخلاف ذلك ، استعار للأقل قوله : { أدنى } أي زماناً أقل ، والأدنى مشترك بين الأقرب ، والأدون للأنزل رتبة لأن كلاًّ منهما يلزم منه قلة المسافة { من ثلثي الّيل } في بعض الليالي { ونصفه وثلثه } أي وأدنى من كل منهما في بعض الليالي - هذا على قراءة الجماعة ، والمعنى ، على قراءة ابن كثير والكوفيين بالنصب تعيين النصف والثلث الداخل تحت الأدنى من الثلثين ، وهو على القراءتين مطابق لما وقع التخيير فيه في أول السورة بين قيام النصف بتمامه أو الناقص منه وهو الثلث أو الزائد عليه وهو الثلثان ، أو الأقل من الأقل من النصف وهو الربع .
ولما ذكر سبحانه قيامه صلى الله عليه وسلم ، أتبعه قيام أتباعه ، فقال عاطفاً على الضمير المستكن في تقوم وحسنه الفصل : { وطائفة } أي ويقوم كذلك جماعة فيها أهلية التحلق بإقبالهم عليك وإقبال بعضهم على بعض . ولما كانت العادة أن الصاحب ربما أطلق على من مع الإنسان بقوله دون قلبه عدل إلى قوله : { من الذين معك } أي بأقوالهم وأفعالهم ، أي على الإسلام ، وكأنه اختار هذا دون أن يقول من المسلمين لأنه يفهم أن طائفة لم تقم بهذا القيام فلم يرد أن يسميهم مسلمين ، والمعية أعم .
ولما كان القيام - على هذا التفاوت مع الاجتهاد في السبق في العبادة دالاً على عدم العلم بالمقادير ما هي عليه قال تعالى : { والله } أي تقومون هكذا لعدم علمكم بمقادير الساعات على التحرير والحال أن الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً وحده { يقدر } أي تقديراً عظيماً هو في غاية التحرير { الّيل والنهار } فيعلم كل دقيقة منهما على ما هي عليه لأنه خالقهما ولا يوجد شيء منهما إلا به

{ ألا يعلم من خلق } [ الملك : 14 ] .
ولما علم من هذا المشقة عليهم في قيام الليل على هذا الوجه علماً وعملاً ، ترجم ذلك بقوله : { علم } أي الله سبحانه { أن لن تحصوه } أي تطيقوا التقدير علماً وعملاً ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « استقيموا ولن تحصوا » { فتاب } أي فتسبب عن هذا العلم أنه سبحانه رجع بالنسخ عما كان أوجب { عليكم } بالترخيص لكم في ترك القيام المقدر أول السورة ، أي رفع التبعة عنكم في ترك القيام على ذلك التقدير الذي قدره كما رفع عن التائب ، وكأنه سماه توبة وإن لم يكن ثم معصية إشارة إلى أنه من شأنه لثقله أن يجر إلى المعصية .
ولما رفعه سبب عنه أمرهم بما يسهل عليهم فقال معبراً عن الصلاة بالقراءة لأنها أعظم أركانها إشارة إلى أن التهجد مستحب لا واجب : { فاقرءوا } أي في الصلاة أو غيرها في الليل والنهار { ما تيسر } أي سهل وهان إلى الغاية عليكم ولان وانقاد لكم { من القرآن } أي الكتاب الجامع لجميع ما ينفعكم ، قال القشيري : يقال : من خمس آيات إلى ما زاد ، ويقال : من عشر آيات إلى ما يزيد ، قال البغوي : قال قيس بن أبي حازم : صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما بالبصرة ، فقرأ في أول ركعة بالحمد وأول آية من البقرة ، ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية . وقيل : إنه أمر بالقراءة مجردة إقامة لها مقام ما كان يجب عليهم من الصلاة بزيادة في التخفيف ، ولذلك روى أبو داود وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه عن عبد لله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين » قال المنذري : من سورة الملك إلى آخر القرآن ألف آية .
ولما كان هذا نسخاً لما كان واجباً من قيام الليل أول السورة لعلمه سبحانه بعدم إحصائه ، فسر ذلك العلم المجمل بعلم مفصل بياناً لحكمة أخرى للنسخ فقال : { علم أن } أي أنه { سيكون } يعني بتقدير لا بد لكم منه { منكم مرضى } جمع مريض ، وهذه السورة من أول ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم ، ففي هذه بشارة بأن أهل الإسلام يكثرون جداً .
ولما ذكر عذر المريض وبدأ به لكونه أعم ولا قدرة للمريض على دفعه ، أتبعه السفر للتجارة لأنه يليه في العموم ، فقال مبشراً مع كثرة أهل الإسلام باتساع الأرض لهم : { وآخرون } أي غير المرضى { يضربون } أي يوقعون الضرب { في الأرض } أي يسافرون لأن الماشي بجد واجتهاد يضرب الأرض برجله ، ثم استأنف بيان علة الضرب بقوله : { يبتغون } أي يطلبون طلباً شديداً ، وأشار إلى سعة ما عند الله بكونه فوق أمانيهم فقال : { من فضل الله } أي بعض ما أوجده الملك الأعظم لعباده ولا حاجة به إليه بوجه من الربح في التجارة أو تعلم العلم { وآخرون } أي منكم أيها المسلمون { يقاتلون } أي يطلبون ويوقعون قتل أعداء الله ، ولذلك بينه بقوله : { في سبيل الله } أي ذلك القتل مظروف لطريق الملك الأعظم ليزول عن سلوكه المانع لقتل قطاع الطريق المعنوي والحسي ، وأظهر ولم يضمر تعظيماً للجهاد ولئلا يلبس بالعود إلى المتجر ، وهو ندب لنا من الله إلى رحمة العباد والنظر في أعذارهم ، فمن لا يرحم لا يرحم ، قال البغوي : روى إبراهيم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : أيما رجل جلب شيئاً من مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء ، ثم قرأ عبد الله { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون } [ المزمل : 20 ] الآية .

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال : ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليّ من أن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله .
ولما كانت هذه أعذاراً أخرى مقتضية للترخيص أو أسباباً لعدم الإحصاء ، رتب عليها الحكم السابق ، فقال مؤكداً للقراءة بياناً لمزيد عظمتها : { فاقرءوا } أي كل واحد منكم { ما تيسر } أي لكم { منه } أي القرآن ، أضمره إعلاماً بأنه عين السابق ، فصار الواجب قيام شيء من الليل على وجه التيسير ، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس . ولما كان صالحاً لأن يراد به الصلاة لكونه أعظم أركانها وأن يراد به نفسه من غير صلاة زيادة في التخفيف ، قال ترجيحاً لإرادة هذا الثاني أو تنصيصاً على إرادة الأول : { وأقيموا } أي أوجدوا إقامة { الصلاة } المكتوبة بجميع الأمور التي تقوم بها من أركانها وشروطها ومقدماتها ومتمماتها وهيئاتها ومحسناتها ومكملاتها .
ولما ذكر بصفة الخالق التي هي أحد عمودي الإسلام البدني والمالي ، أتبعها العمود الآخر وهو الوصلة بين الخلائق فقال : { وآتوا } من طيب أموالكم التي أنعمنا به عليكم { الزكاة } أي المفروضة ، ولما كان المراد الواجب المعروف ، أتبعه سائر الإنفاقات المفروضة والمندوبة ، فقال : { وأقرضوا الله } أي الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال التي منها الغنى المطلق ، من أبدانكم وأموالكم في أوقات صحتكم ويساركم { قرضاً حسناً } من نوافل الخيرات كلها في جميع شرعه برغبة تامة وعلى هيئة جميلة في ابتدائه وانتهائه وجميع أحواله ، فإنه محفوظ لكم عنده مبارك فيه ليرده عليكم مضاعفاً أحوج ما تكونون إليه .

ولما كان هذا الدين جامعاً ، وكان هذا القرآن حكيماً لأن منزله له صفات الكمال فأمر في هذه الجمل بأمهات الأعمال اهتماماً بها ، أتبع ذلك أمراً عاماً بجميع شرائع الدين فقال : { وما تقدموا } وحث على إخلاص النية بقوله : { لأنفسكم } أي خاصة سلفاً لأجل ما بعد الموت لا تقدرون على الأعمال { من خير } أي أيّ خير كان من عبادات البدن والمال { تجدوه } محفوظاً لكم { عند الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { هو } أي لا غيره { خيراً } أي لكم ، وجاز وقوعه الفصل بين غير معرفتين لأن « أفعل من » كالمعرفة ، ولذلك يمنع دخول أداة التعريف عليها .
ولما كان كل من عمل خيراً جوزي عليه سواء كان عند الموت أو في الحياة سواء كان كافراً أو مسلماً مخلصاً أو لا ، إن كان مخلصاً كان جزاؤه في الآخرة ، وإلا ففي الدنيا ، قال : { وأعظم أجراً } أي مما لمن أوصى في مرض الموت ، وكان بحيث يجازى به في الدنيا .
ولما كان الإنسان إذا عمل ما يمدح عليه ولا سيما إذا كان المادح له ربه ربما أدركه الإعجاب ، بين له أنه لا يقدر بوجه على أن يقدر الله حق قدره ، فلا يزال مقصراً فلا يسعه إلا العفو بل الغفر فقال حاثاً على أن يكون ختام الأعمال بالاستغفار والاعتراف بالتقصير في خدمة المتكبر الجبار مشيراً إلى حالة انفصال روحه عن بدنه وأن صلاحها الراحة من كل شر : { واستغفروا الله } أي اطلبوا وأوجدوا ستر الملك الأعظم الذي لا تحيطون بمعرفته فكيف بأداء حق خدمته لتقصيركم عيناً وأثراً بفعل ما يرضيه واجتناب ما يسخطه .
ولما علم من السياق ومن التعبير بالاسم الأعظم أنه سبحانه بالغ في العظمة إلى حد يؤيس من إجابته ، علل الأمر بقوله مؤكداً تقريباً لما يستبعده من يستحضر عظمته سبحانه وشدة انتقامه وقوة بطشه : { إن الله } وأظهر إعلاماً بأن صفاته لا تقصر آثارها على المستغفرين ولا على مطلق السائلين { غفور } أي بالغ الستر لأعيان الذنوب وآثارها حتى لا يكون عليها عتاب ولا عقاب { رحيم * } أي بالغ الإكرام بعد الستر إفضالاً وإحساناً وتشريفاً وامتناناً ، وقد اشتملت هذه السورة على شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أوتي من جوامع الكلم « اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح في دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها منقلبي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر » كما أشير إلى كل جملة منها في محلها ، ولقد رجع آخر السورة - بالترغيب في العمل وذكر جزائه - على أولها الأمر بالقيام بين يديه وبإشارة الاستغفار إلى عظم المقام وإن جل العمل ودام وإن كان بالقيام في ظلام الليالي والناس نيام ، فسبحانه من له هذا الكلام المعجز لسائر الأنام لإحاطته بالجلال والإكرام ، فسبحانه من إله جابر القلوب المنكسرة .

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)

ولما ختمت « المزمل » بالبشارة لأرباب البصارة بعدما بدئت بالاجتهاد في الخدمة المهيىء للقيام بأعباء الدعوة ، افتتحت هذه بمحط حكمة الرسالة وهي النذارة لأصحاب الخسارة ، فقال معبراً بما فيه بشارة بالسعة في المال والرجال والصلاح وحسن الحال في الحال والمآل ، ومعرفاً بأن المخاطب في غاية اليقظة بالقلب وإن ستر القالب : { يا أيها المدثر * } المشتمل بثوبه ، من تدثر بالثوب : اشتمل به ، والدثار - بالكسر ما فوق الشعار من الثياب ، والشعار ما لاصق البدن « الأنصار شعار والناس دثار » والدثر : المار الكثير ، ودثر الشجر : أورق ، وتدثير الطائر : إصلاحه عشه ، والتعبير بالأداة الصالحة للقرب والبعد يراد به غاية القرب بما عليه السياق وإن كان التعبير بالأداة فيه نوع ستر لذلك مناسبة للتدثر ، واختير التعبير بها لأنه لا يقال بعدها إلى ما جل وعظم من الأمور ، وكان الدثار لم يعم بدنه الشريف بما دل عليه التعبير بالإدغام دون الإظهار الدال على المبالغة لأن المراد إنما كان ستر العين ليجتمع القلب ، فيكفي في ذلك ستر الرأس وما قاربه من البدن ، والإدغام شديد المناسبة للدثار .
ولما كان في حال تدثره قد لزم موضعاً واحداً فلزم من ذلك إخفاء نفسه الشريفة ، أمره صلى الله عليه وسلم بالقيام ، وسبب عنه الإنذار إشارة إلى أن ما يراد به من أنه يكون أشهر الخلق بالرسالة العامة مقتض لتشمير الذيل والحمل على النفس بغاية الجد والاجتهاد اللازم عنه كثرة الانتشار ، فهو مناف للتدثر بكل اعتبار فقال : { قم } أي مطلق قيام ، ولا سيما من محل تدثرك بغاية العزم والجد .
ولما كان الأمر عند نزول هذه السورة في أوله والناس قد عمهم الفساد ، ذكر أحد وصفي الرسالة إيذاناً بشدة الحاجة إليه فقال مسبباً عن قيامه : { فأنذر } أي فافعل الإنذار لكل من يمكن إنذاره فأنذر من كان راقداً في غفلاته ، متدثراً بأثواب سكراته ، لاهياً عما أمامه من أهوال يوم القيامة ، وكذا من كان مستيقظاً ولكنه متدثر بأثواب تشويفاته وأغشيته فتراته ، فإنه يجب على كل مربوب أن يشكر ربه وإلا عاقبه بعناده له أو غفلته عنه بما أقله الإعراض عنه ، وحذف المفعول إشارة إلى عموم الإنذار لكل من يمكن منه المخالفة عقلاً وهم جميع الخلق ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان نزل عليه جبريل عليه السلام ب { اقرأ باسم ربك } [ العلق : 1 ] ونحوها فكان بذلك نبياً ثم نزلت عليه هذه الآية فكان بها رسولاً ، وذلك أنه نودي وهو في جبل حراء ، فلما سمع الصوت نظر يميناً وشمالاً فلم ير شيئاً ، فرفع رأسه فإذا جبريل عليه الصلاة والسلام جالس على عرش بين السماء والأرض ، ففرق من ذلك أشد الفرق ، فبادر المجيء إلى البيت ترجف بوادره وقال :

« دثروني دثروني ، لقد خشيت على نفسي ، صبوا عليّ ماءً بارداً » .
ولما كان الإنذار يتضمن مواجهة الناس بما يكرهون ، وذلك عظيم على الإنسان ، وكان المفتر عن اتباع الداعي أحد أمرين : تركه مما يؤمر به ، وطلبه عليه الأجر ، كما أن الموجب لاتباعه عمله بما دعا إليه ، وبعده عن أخذ الأجر عليه ، أمره بتعظيم من أرسله سبحانه فإنه إذا عظم حق تعظيمه صغر كل شيء دونه ، فهان عليه الدعاء وكان له معيناً على القبول فقال : { وربك } أي المربي لك خاصة { فكبر * } أي وقم فتسبب عن قيامك بغاية الجد والاجتهاد أن تصفه وحده بالكبرياء قولاً واعتقاداً على كل حال ، وذلك تنزيهه عن الشرك أول كل شيء ، وكذا عن كل ما لا يليق به من وصل وفصل ، ومن سؤال غيره ، والاشتغال بسواه .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : ملاءمتها لسورة المزمل واضحة ، واستفتاح السورتين من نمط واحد ، وما ابتدئت به كل واحدة منهما من جليل خطابه عليه الصلاة والسلام وعظيم تكريمه { يا أيها المزمل } [ المزمل : 1 ] { يا أيها المدثر } [ المدثر : 1 ] والأمر فيهما بما يخصه { قم الّيل إلا قليلاً نصفه } [ المزمل : 2 - 3 ] الآي ، وفي الآخرى { قم فانذر وربك فكبر } [ المدثر : 2 - 3 ] أتبعت في الأولى بقوله : { فاصبر على ما يقولون } [ المزمل : 10 ] وفي الثانية بقوله { ولربك فاصبر } [ المدثر : 7 ] وكل ذلك قصد واحد ، واتبع أمره بالصبر في الزمل بتهديد الكفار ووعيدهم { وذرني والمكذبين } [ المزمل : 11 ] الآيات ، وكذلك في الأخرى { ذرني ومن خلقت وحيداً } [ المدثر : 11 ] الآيات ، فالسورتان واردتان في معرض واحد وقصد متحد - انتهى .
ولما كان تنزيه العبد عن الأدناس لأجل تنزيه المعبود ، قال آمراً بتطهير الظاهر والباطن باستكمال القوة النظرية في تعظيمه سبحانه ليصلح أن يكون من أهل حضرته وهو أول مأمور به من رفض العادات المذمومة : { وثيابك فطهر * } أي وقم فخص ثيابك الحسية بإبعادها عن النجاسات بمجانبة عوائد المتكبرين من تطويلها ، وبتطهيرها لتصلح للوقوف في الخدمة بالحضرة القدسية ، والمعنوية وهي كل ما اشتمل على العبد من الأخلاق المذمومة والعوائد السقيمة من الفترة عن الخدمة والضجر والاسترسال مع شيء من عوائد النفس ، وذلك يهون باستكمال القوة النظرية .
ولما أمر بمجانبة الذر في الثياب وأراد الحسية والمعنوية ، وكان ذلك ظاهراً في الحسية ، وجعل ذلك كناية عن تجنب الأقذار كلها لأن من جنب ذلك ملبسه أبعده عن نفسه من باب الأولى ، حقق العموم وأكد فقال : { والرجز } أي كل قذر فإنه سبب الدنايا التي هي سبب العذاب ، قال في القاموس : الرجز بالكسر والضم : القذر وعبادة الأوثان والعذاب والشرك . { فاهجر * } أي جانب جهاراً وعبادة ، ليحصل لك الثواب كما كنت تجانبها سراً وعادة ، فحصل لك الثناء الحسن حتى أن قريشاً إنما تسميك الأمين ولا تناظر لك أحداً منها .

ولما بدأ بأحد سببي القبول ، أتبعه الثاني المبعد عن قاصمة العمل من الإعجاب والرياء والملل فقال : { ولا تمنن } أي على أحد بدعائك له أو بشيء تعطيه له على جهة الهبة أو القرض بأن تقطع لذة من أحسنت إليه بالتثقيل عليه بذكرك على جهة الاستعلاء والاستكثار بما فعلته معه ، أو لا تعط شيئاً حال كونك { تستكثر * } أي تطلب أن تعطي أجراً أو أكثر مما أعطيت - قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو من قولهم ، منَّ - إذا أعطى ، وذلك لأنه الأليق بالمعطي من الخلق أن يستقل ما أعطى ، ويشكر الله الذي وفقه له ، وبالآخذ أن يستكثر ما أخذ ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يفعل شيئاً لعلة أصلاً ، بل لله خالصاً ، فإنه إذا زال الاستكثار حصل الإخلاص ، لأنه لا يتعلق همه بطلب الاستمثال ، فكيف بالاستقلال ، فيكون العمل في غاية الخلوص لا يقصد به ثواباً أصلاً ، ولا يراد لغير وجه الله تعالى ، وهذا هو النهاية في الإخلاص .
ولما كان الإنذار شديداً على النفوس يحصل به من المعالجات ما الموت دونه ، لأن ترك المألوفات أصعب شيء على النفوس ، وكذا ترك الفوائد ، قال أمراً بالتحلي بالعاصم بعد التخلي عن القاصم ، معلماً بأن الأذى من المنذرين أمر لا بد منه فيدخل في الطاعة على بصيرة ، فاقتضى الحال لذلك أن الإنذار يهون بالغنى عن الفانين والكون مع الباقي وحده ، فأشار إلى ذلك بتقديم الإله معبراً عنه بوصف الإحسان ترغيباً فقال : { ولربك } أي المحسن إليك ، المربي لك ، المدبر لجميع مصالحك وحده { فاصبر * } أي على مشاق التكاليف أمراً ونهياً وأذى المشركين وشظف العيش وجميع البلايا ، فإنه يجزل عطاءك من خير الدارين بحيث لا يحوجك إلى أحد ، ويحوج الناس إليك ، ويهون عليك حمل المشاق في الدارين ولا سيما أمر يوم البعث ، فإن من حمل العمل في الدنيا حمله العمل في الآخرة .
ولما كان المقام للإنذار ، وكان من رد الأوامر تكذيباً كفر ، ومن تهاون بها ما أطاع ولا شكر ، حذر من الفتور عنها بذكر ما للمكذب بها ، فقال مسبباً عن ذلك باعثاً على اكتساب الخيرات من غير كسل ولا توقف ، مذكراً بأن الملك التقم القرن وأصغى بجبهته انتظاراً للأمر بالنفخ ، مشيراً بالبناء للمفعول إلى هوانه لديه وخفته عليه مؤذناً بأداة التحقق أنه لا بد من وقوعه : { فإذا نقر } أي نفخ وصوّت بشدة وصلابة ونفوذ وإنكاء { في الناقور * } أي الصور وهو القرن الذي إسرافيل عليه السلام ملتقمه الآن وهو مصغ لانتظار الأمر بالنفخ فيه للقيامة ، ويجوز أن يراد الأيام التي يقضي فيها بالذل على الكافرين كيوم بدر والفتح وغيرهما كما جعلت الساعة والقيامة كناية عن الموت ، فقال صلى الله عليه وسلم :

« من مات فقد قامت قيامته » عبر عنه بالنقر إشارة إلى أنه في شدته كالنقر في الصلب فيكون عنه صوت هائل ، وأصل النقر القرع الذي هو سبب الصوت فهو أشد من صدعك لهم بالإنذار للحذار من دار البوار ، فهنالك ترد الأرواح إلى أجسادها ، فيبعث الناس فيقومون من قبورهم كنفس واحدة ، وترى عاقبة الصبر ، ويرى أعداؤك عاقبة الكبر ، والتعبير فيه بصيغة المبالغة وجعله فاعلاً كالجاسوس إشارة إلى زيادة العظمة حتى كأنه هو الفاعل على هيئة هي في غاية الشدة والقوة ، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم من النفخ في الصور وقربه فقالوا : « كيف نقول يا رسول الله؟ قال : قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل » ويجوز أن يكون التسبب عن الأمر بالصبر ، أي اصبر فلنأخذن بثأرك في ذلك اليوم بما يقر عينك ، فيكون تسلية له صلى الله عليه وسلم وتهديداً لهم .
ولما ذكر هذا الشرط هل ( ؟ ) الذي صوره بصوره هائلة ، أجابه بقوله : { فذلك } أي الوقت الصعب الشديد العظيم الشدة جداً البالغ في ذلك مبلغاً يشار إليه إشارة ما هو أبعد بعيد ، وهو وقت النقر ، ثم أبدل من هذا المبتدأ زيادة في تهويله قوله : { يومئذ } أي وقت إذ يكون النقر الهائل { يوم عسير * } أي بالغ العسر { على الكافرين } أي الذين كانوا يستهينون بالإنذار ويعرضون عنه لأنهم راسحون في الكفر الذي هو ستر ما يجب إظهاره من دلائل الوحدانية ، ولما كان العسر قد يطلق على الشيء وفيه يسر من بعض الجهات أو يعالج فيرجع يسيراً ، بين أنه ليس كذلك بقوله : { غير يسير * } فجمع فيه بين إثبات الشيء ونفي ضده تحقيقاً لأمره ودفعاً للمجاز عنه وتأييداً لكونه ولأنه غير منقطع بوجه ، وتقييده بالكافرين يشعر بتيسره على المؤمنين .

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)

ولما آذن هذا بأن أكثر الخلق يوافى يوم القيامة على كفره وخبث طويته وسوء أمره وكان ذلك مما يهم لشفقته صلى الله عليه وسلم على الخلق ، ولما يعلم من نصبهم للعداوة ، هون أمرهم عليه وحقر شأنهم لديه بوعده بالكفاية بقوله مستأنفاً منبهاً على أسباب الهلاك التي أعظمها الغرور وهو شبهة زوجتها شهوة : { ذرني } أي أتركني على أي حالة اتفقت { ومن } أي مع كل من { خلقت } أي أوجدت من العدم وأنشأت في أطوار الخلقة ، حال كونه { وحيداً * } لا مال له ولا ولد ولا شيء ، وحال كوني أنا واحداً شديد الثبات في صفة الوحدانية لم يشاركني في صنعه أحد فلم يشكر هذه النعمة بل كفرها بالشرك بالله سبحانه القادر على إعدامه بعد إيجاده .
ولما كان المطغى للإنسان المكنة التي قطب دائرتها المال قال : { وجعلت له } أي بأسباب أوجدتها أنا وحدي لا حول منه ولا قوة بدليل أن غيره أقوى منه بدناً وقلباً وأوسع فكراً وعقلاً وهو دونه في ذلك { مالاً ممدوداً * } أي مبسوطاً واسعاً نامياً كثيراً جداً عاماً لجميع أوقات وجوده ، والمراد به كما يأتي الوليد بن المغيرة ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان له بين مكة والطائف إبل وحجور ونعم وجنان وعبيد وجوار .
ولما كان أول ما يمتد إليه النفس بعد كثرة المال الولد ، وكان أحب الولد الذكر ، قال : { وبنين } ولما كان الاحتياج إلى فراقهم ولو زمناً يسيراً شاقاً ، وكان ألزمهم له وأغناهم عن الضرب في الأرض نعمة أخرى قال : { شهوداً * } أي حضوراً معه لغناه عن الأسفار بكثرة المال وانتشار الخدم وقوة الأعوان ، وهم مع حضورهم في الذروة من الحضور بتمام العقل وقوة الحذق ، فهم في غاية المعرفة بما يزيدهم الاطلاع عليه حيثما أرادهم وجدهم وتمتع بلقياهم ، ومع ذلك فهم أعيان المجالس وصدور المحافل كأنه لا شاهد بها غيرهم ، منهم خالد الذي من الله بإسلامه ، فكان سيف الله تعالى وسيف رسوله صلى الله عليه وسلم .
ولما كان هذا كناية عن سعة الرزق وعظم الجاه ، وكان من بسط له في المال والولد والجاه تتوق نفسه إلى إتمام ذلك بالحفظ والتيسير ، قال مستعطفاً لما كان هكذا بالتذكير بنعمه : { ومهدت } أي بالتدريج والمبالغة { له } أي وطأت وبسطت وهيأت في الرئاسة بأن جمعت له إلى ملك الأعيان ملك المعاني التي منها القلوب ، وأطلت عمره ، وأزلت عنه موانع الرغد في العيش ، ووفرت أسباب الوجاهة له حتى دان لذلك الناس ، وأقام ببلده مطمئناً يرجع إلى رأيه الأكابر ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : وسعت له ما بين اليمن إلى الشام فأكملت له من سعادة الدنيا ما أوجب التفرد في زمانه من أهل بيته وفخذه بحيث كان يسمى الوحيد وريحانة قريش فلم يزع هذه النعمة العظيمة : وأكد ذلك بقوله : { تمهيداً * } .

ولما كان قد فعل به ذلك سبحانه ، فأورثته هذه النعمة من البطر والاستكبار على من خوله فيها ضد ما كان ينبغي له من الشكر والازدجار ، قال محققاً أنه سبحانه هو الذي وهبها له وهو الواحد القهار ، مشيراً بأداة التراخي إلى استبعاد الزيادة له على حالته هذه من عدم الشكر : { ثم } أي بعد الأمر العظيم الذي ارتكبه من تكذيب رسولنا صلى الله عليه وسلم { يطمع } أي بغير سبب يدلي به إلينا مما جعلناه سبب المزيد من الشكر : { أن أزيد * } أي فيما آتيته من دنياه أو آخرته وهو يكذب رسولي صلى الله عليه وسلم .
ولما كان التقدير : إنه ليطمع في ذلك لأن المال والجاه يجران الشرف والعظمة بأيسر سعي ، هذا هو المعروف المتداول المألوف ، استأنف زجره عن ذلك بمجامع الزجر : علماً من أعلام النبوة ، وبرهاناً قاطعاً على صحة الرسالة ، فقال ما لا يصح أن يقوله غيره سبحانه لأنه مع أنه لا تردد فيه ولا افتراء طابق الواقع ، فلم يزد بعد ذلك شيئاً ، بل لم يزل في نقصان حتى هلك وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً ، لا مبدل لكلماته { كلا } أي وعزتنا وجلالنا لا تكون له زيادة على ذلك أصلاً ، وأما النقصان فسيرى إن استمر على تكذيبه فليرتدع عن هذا الطمع ، وليزدجر وليرتجع ، فإنه حمق محض وزخرف بحت ، وغرور صرف ، ولما ردعه هذا الردع المقتضي ولا بد للإذعان وصادق الإيمان ممن لم يستول عليه الحرمان ، علله بقوله مؤكداً لإنكارهم العناد والمعاد : { إنه } أي هذا الموصوف { كان } بخلق كأنه جبلة له وطبع لا يقدر على الانفكاك عنه { لآياتنا } على ما لها من العظمة خاصة لكونها هادية إلى الوحدانية ، لا لغيرها من الشبه القائدة إلى الشرك { عنيداً * } أي بالغ العناد على وجه لا يعد عناده لغيرها بسبب مزيد قبحه عناداً ، والعناد - كما قال الملوي : من كبر في النفس أو يبس في الطبع أو شراسة في الأخلاق أو خبل في العقل ، وقد جمع ذلك كله إبليس ، لأنه خلق من نار . وهي من طبعها اليبوسة وعدم الطواعية ، وحقيقته ميل عن الجادة ، ومجاوزة للحد مع الإصرار واللزوم ، ومنه مخالفة الحق مع المعرفة بأنه حق .
ولما كان هذا محراً للتشوف إلى بيان هذا الردع ، وكان العناد غلظة في الطبع وشكاسة في الخلق يوجب النكد والمشقة جعل جزاءه من جنسه فقال : { سأرهقه } أي ألحقه بعنف وغلظة وقهر إلحاقاً يغشاه ويحيط به بوعيد لا خلف فيه { صعوداً * } أي شيئاً من الدواهي والأنكاد كأنه عقبة ، فإن الصعود لغة العقبة شاق المصعد جداً ، وروى الترمذي عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي ، وفي رواية : أنه كلما وضع يده في معالجة الصعود ذابت ، فإذا رفعها عادت وكذا رجله ، وقال الكلبي : إنه صخرة ملساء في النار يكلف أن يصعدها بجذب من أمامه بسلاسل الحديد ، ويضرب من خلفه بمقامع الحديد فيصعدها في أربعين عاماً ، فإذا بلغ ذروتها أسقط إلى أسفلها ثم يكلف أن يصعدها ، فذلك دأبه أبداً .

إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)

ولما حصل التشوف إلى بعض ما عاند به الآيات ، قال مبيناً لذلك مؤكداً لاستبعاد العقلاء لما صنع لبعده عن الصواب ومعرفة كل ذي لب أنه كذب : { إنه } أي هذا العنيد { فكر } أي ردد فكره وأداره تابعاً لهواه لأجل الوقوع على شيء يطعن به في القرآن { وقدر* } أي أوقع تقديراً للأمور التي يطعن بها فيه وقايتها في نفسه ليعلم أيها أقرب إلى القبول . ولما كان تفكيره وتقديره قد أوقع غيره في الهلاك بمنعه من حياة الإيمان أصيب هو بما منعه من حياة نافعة في الدارين ، وذلك هو الهلاك الدائم . ولما كان الضار إنما هو الهلاك لا كونه من معين ، سبب عن ذلك بانياً للمفعول قوله مخبراً وداعياً دعاءً مجاباً لا يمكن تخلفه : { فقتل } أي هلك ولعن وطرد في دنياه هذه . ولما كان التقدير غاية التفكير ، وكان التفكير ينبغي أن يهديه إلى الصواب فقاده إلى الغي ، عجب منه فقال منكراً عليه معبراً بأداة الاستفهام إشارة إلى أنه مما يتعجب منه ويسأل عنه : { كيف قدر * } أي على أي كيفية أوقع تقديره هذا ، وإذا أنكر مطلق الكيفية لكونها لا تكاد لبطلانها تتحقق ، كان إنكار الكيف أحق .
ولما كان وقوعه في هذا الطعن عظيماً جداً لما فيه من الكذب المفضوح ومن معاندة من هو القوي المتين المنتقم القهار العظيم ومن غير ذلك من الوجوه المبعدة عن الوقوع فيه ، أكد المعنى زجراً عن مثله وحثاً على التوبة منه ، فقال معبراً بأداة البعد دلالة على عظمة هذا القتل بالتعبير بها وبالتكرار : { ثم قتل } أي هلك ولعن هذا العنيد هلاكاً ولعناً هو في غاية العظمة فيما بعد الموت في البرزخ والقيامة { كيف قدر * } ولما كان الماهر بالنظر إذا فكر وصحح فكره نظر في لوازمه قال مشيراً إلى طول ترويه : { ثم نظر * } أي فيما يدفع به أمر القرآن مرة بعد أخرى ، وفي ذلك إشارة إلى قبح أفعاله ، فظهور الحق له مع إصراره فإن تكرار النظر في الحق لا يزيده على كل حال إلا ظهوراً وفي الباطل لا يزيده إلا ضعفاً وفتوراً .
ولما كان من فعل كذلك فظهر له فساد رأيه ووقف مع حظ نفسه يصير يعبس ويفعل أشياء تتغير لها خلقته من غير اختياره قال : { ثم عبس } أي قطب وجهه وكلح فتربد وجهه مع تقبض جلده ما بين العينين بكراهة شديدة كالمتهم المتفكر في شيء وهو لا يجد فيه فرجاً لأنه ضاقت عليه الحيل لكونه لم يجد فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مطعناً { وبسر * } اتباع لعبس تأكيداً لها ، وربما أفهمت أنه سبر ما قاله ووزنه بميزان الفكر وتتبعه تتبعاً مفرطاً حتى رسخت فيه قدمه ، كذا قالوا إنها اتباع إن أريد به التأكيد وإلا فقد وردت مفردة ، قال في القاموس : بسر - إذا عبس ، وبسر الحاجة : طلبها في غير أوانها ، وبسر الدين : تقاضاه قبل محله ، فكأنه لما طال عليه التفكير صار يستعجل حصوله إلى مراده ، ويقال : بسر - إذا ابتدأ الشيء ، فكأنه لما عبس خطر له السحر فابتدأ في إبداء ما سنح له من أمره ، قال ابن برجان : البسور هيئة في الوجه تدل على تحزن في القلب .

ولما كان هذا النظر على هذا الوجه أمدح شيء للمنظور فيه إذا لم يوصل منه إلى طعن ، وكان ظاهره إنه لتطلب الحق ، فكان الإصرار معه على الباطل في غاية البعد ، قال دالاً على ذلك من المدح وعدم وجدان الطعن معبراً بأداة البعد : { ثم } أي بعد هذا التروي العظيم { أدبر } أي عما أداه إليه فكره من الإيمان بسلامة المنظور فيه وعلوه عن المطاعن ، فحاد عن وجوه الأفكار إلى أقفائها { واستكبر * } أي وأوجد الكبر عن الاعتراف بالحق إيجاد من هو في غاية الرغبة فيه ، وكان هذا غاية العناد ، فكان معنى العنيد { فقال } أي عقب ما جره إليه طبعه الخبيث من إيقاع الكبر على هذا الوجه لكونه رآه نافعاً لهم في الدنيا ولم يفكر في عاقبة ذلك من جهة الله ، وأنه سبحانه لا يهدي كيد الخائنين ولا ينجح مراد الكاذبين ، ونحو هذا مما جربوه في دنياهم فكيف رقى نظره إلى أمر الآخرة ، وأكد الكلام لما يعلم من إنكار من يسمعه فقال : { إن } أي ما { هذا } أي الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم { إلا سحر } أي أمور تخييلية لا حقائق لها ، وهي لدقتها بحيث تخفى أسبابها .
ولما كان من المعلوم لهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما سحر قط ولا تعلم سحراً ، فكان من ادعى ذلك علم كذبه بأدنى نظر بعد الأمر بقدر استطاعته فقال : { يؤثر * } أي من شأنه أن ينقله السامع له من غيره ، فهو لقوة سحريته وإفراطها في بابها يفرق بمجرد الرواية بين المرء وزوجه وبين المرء وأبيه وابنه إلى غير ذلك من العجائب التي تنشأ عنه . ولما كان السامع يجوز أن يكون مأثوراً عن الله فيوجب له ذلك الرغبة فيه ، قال من غير عاطف كالمبين للأول والمؤكد له ، وساقه على وجه التأكيد بالحصر لعلمه أن كل ذي بصيرة ينكر كلامه : { إن } أي ما { هذا } أي القرآن { إلا قول البشر * } أي ليس فيه شيء عن الله فلا يغتر أحد به ولا يعرج عليه ، وقد مدحه بهذا الذم بعد هذا التفكير كله من حيث إنه أثبت أنه معجوز عنه لأغلب الناس كما يعجزون عن السحر فسكت ألفاً ونطق خلفاً ، فكان شبيهاً من بعض الوجوه بما قاله بعضهم :

لو قيل « كم خمس وخمس » لاغتدى ... يوماً وليلته يعد ويحسب
ويقول معضلة عجيب أمرها ... ولئن عجبت لها الأمري أعجب
حتى إذا خدرت يداه وعورت ... عيناه مما قد يخط ويكتب
أوفى على شرف وقال ألا انظروا ... ويكاد من فرح يجن ويسلب
خمس وخمس ستة أو سبعة ... قولان قالهما الخليل وثعلب
وهكذا كل حق يجد المبالغ في ذمه لا ينفك ذمه عن إفهام مدح له ينقض كلامه ، ولكن أين النقاد المعدود من الأفراد بين العباد ، وهذا الكلام صالح لعموم كل من خلقه سبحانه هكذا في الروغان من الحق لما تفضل الله به عليه من الرئاسة لأن أهل العظمة في الدنيا هم في الغالب القائمون في رد الحق والتعاظم على أهله كما ذكر هنا ولا ينافي ذلك ما قالوه : إنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي ، بل ذلك من إعجاز كلام الله تعالى أن تنزل الآية في شخص فتبين حاله غاية البيان ويعم غيره ذلك البيان ، قالوا : كان للوليد هذا عشرة من البنين ، كل واحد منهم كبير قبيلة ، ولهم عبيد يسافرون في تجاراتهم ويعملون احتياجاتهم ، ولا يحوجونهم إلى الخروج من البلد لتجارة ولا غيرها ، وأسلم منهم ثلاثة : الوليد بن الوليد وخالد وهشام ، وقيل : إنه لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أول سورة غافر إلى قوله : { المصير } [ غافر : 3 ] أو أول « فصلت » قرأها النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد والوليد يسمعه ، فأعاد القراءة فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم ، والله لقد سمعت من محمد صلى الله عليه وسلم آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمعذق ، وإنه ليعلو ولا يعلى ، ثم انصرف فقالت قريش : صبا والله الوليد ، والله لتصبون قريش كلها ، وكان يقال للوليد ريحانة قريش ، فقال ابن أخيه أبو جهل : أنا أكفيكموه ، فقعد إلى جنب الوليد حزيناً ، فقال الوليد : ما لي أراك حزيناً يا ابن أخي؟ قال : وما يمنعني وهذه قريش تجمع لك نفقة تعينك بها على كبر سنك وتزعم أنك صبوت ، لتدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم ، فغضب الوليد وقال : ألم تعلم قريش أني من أكثرها مالاً وولداً ، وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه وأداروا الرأي فيما يقولونه في القرآن فقالوا له : ما تقول في هذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال : قولوا أسمع لكم ، قالوا : شعر ، قال : ليس بشعر ، قد علمنا الشعر كله ، وفي رواية : هل رأيتموه يتعاطى شعراً؟ قالوا : كهانة ، قال : ليس بكهانة ، هل رأيتموه يتكهن؟ فعدوا أنواع البهت التي رموا بها القرآن فردها ، وأقام الدليل على ردها ، وقال : لا تقولوا شيئاً من ذلك إلا أعلم أنه كذب ، قالوا : فقل أنت وأقم لنا فيه رأياً نجتمع عليه ، قال : أقرب ذلك إليه السحر ، هو يفرق بين المرء وأبيه وبين المرء وزوجه وعشيرته ، فافترقوا على ذلك ، وكان قوله هذا سبب هلاكه فكان كما قال بعضهم :
احفظ لسانك أيها الإنسان ... لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه ... كانت تخاف لقاءة الشجعان

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)

ولما انقضى بيان عناده فحصل التشوف لتفصيل جزائه في معاده ، قال مبيناً لبعض ما أفهمه إرهاقه الصعود : { سأصليه } أي بوعيد لا بد منه عن قرب { سقر * } أي الدركة النارية التي تفعل في الأدمغة من شدة حموها ما يجل عن الوصف ، فأدخله إياها وألوّحه في الشدائد حرها وأذيب دماغه بها ، وأسيل ذهنه وكل عصارته بشديد حرها جزاء على تفكيره ، هذا الذي قدره وتخيله وصوره بإدارته في طبقات دماغه ليحرق أكباد أولياء الله وأصفيائه .
ولما أثبت له هذا العذاب عظمه وهوله بقوله : { وما أدراك } أي أعلمك وإن اجتهدت في البحث { ما سقر * } يعني أن علم هذا خارج عن طوق البشر لا يمكن أن يصل إليه أحد منهم بإعلام الله له لأنه أعظم من أن يطلع عليه بشر . ولما أثبت لها هذه العظمة ، زادها عظماً ببيان فعلها دون شرح ماهيتها فقال : { لا تبقى } أي سقر هذه لا تترك شيئاً يلقى فيها على حالة البقاء على ما كان عليه { ولا تذر * } أي تترك على حالة من الحالات ولو كانت أقبح الحالات فضلاً عما دونها ، بل هي دائمة الإهلاك لكل ما أذن فيه والتغيير لأحوال ما أذن لها في عذابه ، ولم يؤذن في محقه بالكلية ، لكل شيء فترة وملال دونها .
ولما كان تغير حال الإنسان إلى دون ما هو عليه غائطاً له موجعاً إذا كان ذلك تغير لونه لأن الظاهر عنوان الباطن ، قال الله تعالى دالاً على شدة فعلها في ذلك : { لواحة } أي شديدة التغيير بالسواد والزرقة واللمع والاضطراب والتعطيش ونحوها من الإفساد من شدة حرها ، تقول العرب : لاحت النار الشيء - إذا أحرقته وسودته { للبشر * } أي للناس أو لجلودههم ، جمع بشرة وجمع البشر أبشار { عليها } أي مطلق النار بقرينة ما يأتي من الخزنة { تسعة عشر * } أي ملكاً ، لطبقة المؤمنين وهي العليا ملك واحد ، وللست الباقية ثمانية عشر ، لكل واحدة ثلاثة ، لأن الواحد يؤازر بثان ، وهما يعززان بثالث ، فلذا والله أعلم كانوا ثلاثة ، أو لأن الكفر يكون بالله وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فكان لكل تكذيب في كل طبقة من طبقاتها الست ملك أو صنف من الملائكة ، وعلى الأول في كونهم أشخاصاً بأعيانهم أكثر المفسرين ، وقد علم مما مضى أنهم غلاظ شداد كل واحد منهم يكفي لأهله الأرض كلهم كما أن ملكاً واحداً وكل بقبض جميع الأرواح ، وجاء في الآثار أن أعينهم كالبرق الخاطف ، وأنيابهم كالصياصي ، يخرج لهب النار من أفواههم ، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة ، نزعت منهم الرحمة ، يدفع أحدهم سبعين ألفاً فيرميهم حيث أراد من جهنم ، قال عمرو بن دينار : إن واحداً منهم يدفع بالدفعة الواحدة أكثر من ربيعة ومضر .

وقيل : إن هذه العدة لمكافأة ما في الإنسان من القوى التي بها ينتظم قوامه ، وهي الحواس الخمس الظاهرة : السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، والخمس الباطنة : المتخيلة والواهمة والمفكرة والحافظة والذاكرة ، وقوتا الشهوة والغضب ، والقوى الطبيعية السبع : الماسكة والهاضمة والجاذبة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة ، وقيل : اختير هذا العدد لأن التسعة نهاية الآحاد ، والعشرة بداية العشرات ، فصار مجموعهما جامعاً لأكثر القليل وأقل الكثير ، فكان أجمع الأعداد ، فكان إشارة إلى أن خزنتها أجمع الجموع ، ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أن قراءة البسملة تنجي من خزنة النار فإنها تسعة عشر حرفاً ، كل حرف منها لملك منهم .

وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)

ولما كان هذا غير مميز للمعدود ، وكانت الحكمة في تعيين هذا العد غير ظاهر ، وكان هذا العدد مما يستقله المتعنت فيزيده كفراً ، قال تعالى مبيناً لذلك : { وما جعلنا } أي بما لنا من العظمة وإن خفي وجه العظمة فيه على من عمي قلبه { أصحاب النار } أي خزنتها { إلا ملائكة } أي إنهم ليسوا من جنس المعذبين فيرقوا لهم ويطيق المعذبون محاولتهم أو يستريحوا إليهم وهم أقوى الخلق ، وقد تكرر عليكم ذكرهم وعلمتم أوصافهم وأنهم ليسو كالبشر بل الواحد منم يصيح صيحة واحدة فيهلك مدينة كاملة كما وقع لثمود ، فكيف إذا كا كل واحد من هؤلاء الخزنة رئيساً تحت يده من الجنود ما لا يحصيه إلا الله تعالى { وما جعلنا } على ما لنا من العظمة { عدتهم } أي مذكورة ومحصورة فيما ذكرنا { إلا فتنة } أي حالة مخالطة مميلة محيلة { للذين كفروا } أي أوجدوا هذا الوصف ولو على أدنى الوجوه ، فإنهم يستقلونه ويستهزئون به ويتعنتون أنواعاً من التعنت بحيث إن بعض أغبياء قريش وهو أبو جهل ، قال : ثكلتكم أمهاتكم ، أسمع ابن أبي كبشة يقول كذا وأنتم ألدهم ، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم ، فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي - وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين ، وهذا كله على سبيل الاستهزاء ، فإنهم مكذبون بالبعث الذي هذا من آثاره ، وكان في علم أهل الكتاب أن هذه العدة عدتهم ، وأن العرب إذا سمعوا هذه العدة كانت سبباً للشك أكثرهم وموضعاً للتعنت ، فلذلك علق بالفتنة أو ب « جعلنا » قوله : { ليستيقن } أي يوجد اليقين إيجاداً تاماً كأنه بغاية الرغبة { الذين أوتوا الكتاب } بناه للمفعول لأن مطلق الإيتاء كاف في ذلك من غير احتياج إلى تعيين المؤتي مع أنه معروف أنه هو الله ، قال البغوي : مكتوب في التوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر . { ويزداد الذين آمنوا } أي أوجدوا هذه الحقيقة ولو على أدنى الوجوه إلى ما عندهم من الإيمان { إيماناً } بتصديق ما لم يعلموا وجه حكمته لا سيما مع افتتان غيرهم به وكثرة كلامهم فيه ، فإن الإيمان بمثل ذلك يكون أعظم .
ولما أثبت لكل من الجاهل والعالم ما أثبت ، أكده بنفي ضده مبيناً للفتنة فقال : { ولا يرتاب } أي يشك شكاً يحصل بتعمد وتكسب { الذين أوتوا الكتاب } لما عندهم من العلم المطابق لذلك ، قال ابن برجان : وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما « إن قوماً من أهل الكتاب جاؤوا إليه في قضية - فيها طول ، وفيها أنهم سالوه عن خزنة جهنم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده هكذا وهكذا ، في مرة عشرة وفي مرة تسعة ، فقالوا : بارك الله فيك يا أبا القاسم ، ثم سألهم : ما خزنة الجنة؟ فسكتوا هيبة ثم قالوا : خبزة يا أبا القاسم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الخبزة من الدرمك »

{ والمؤمنون } أي لا يرتاب الذين رسخ الإيمان عندهم لما رأوا من الدلائل التي جعلتهم في مثل ضوء النهار { وليقول الذين } استقر { في قلوبهم مرض } أي شك أو نفاق وإن قل ، ونزول هذه السورة قبل وجود المنافقين علم من أعلام النبوة ، ولا ينكر جعل الله تعالى بعض الأمور علة لمصالح ناس وفساد آخرين ، لأنه لا يسأل عما يفعل على أن العلة قد تكون مقصودة لشيء بالقصد الأول ، ثم يرتب عليها شيء آخر يكون قصده بالقصد الثاني تقول : خرجت من البلد لمخالفة أكثر ومخافة الشر لا يتعلق بها الغرض { والكافرون } أي ويقول الراسخون في الكفر الجازمون بالتكذيب المجاهرون به الساترون لما دلت عليه الأدلة من الحق { ماذا } أي أي شيء { أراد الله } أي الملك الذي له جميع العظمة { بهذا } : أي العدد القليل في جنب عظمته { مثلاً } أي من جهة أنه صار بذلك مستغرباً استغراب المثل ، أو أن ذلك إشارة إلى أنه ليس المراد به ظاهره بل مثل لشيء لم يفهموه وفهموا أن بين استجماعه للعظمة وهذا العدد عناداً ، وما علموا أن القليل من حيث العدد قد يكون أعظم بقوته من الكثير العدد ، ويكون أدل على استجماع العظمة . ولما كان التقدير : أراد بهذا إضلال من ضل وهو لا يبالي ، وهداية من اهتدى وهو لا يبالي ، كان كأنه قيل : هل يفعل مثل هذا في غير هذا؟ فقال جواباً : { كذلك } أي مثل هذا المذكور من الإضلال والهداية { يضل الله } أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز { من يشاء } بأي كلام شاء { ويهدي } بقدرته التامة { من يشاء } بنفس ذلك الكلام أو بغيره ، وذلك من حكم جعل الخزنة تسعة عشر والإخبار عنهم بتلك العدة فإن إبراز الأحكام على وجه الغموض من أعظم المهلكات والمسعدات ، لأن المنحرف الطباع يبحث عن عللها بحثاً متعنتاً ، فإذا عميت عليه قطع ببطلان تلك الأحكام أو شك ، وربما أبى الانقياد ، وذلك هو سبب كفر إبليس والمستقيم المزاج يبحث مع التسليم فإن ظهر له الأمر ازداد تسليماً وإلا قال : آمنت بذلك كل من عند ربنا - فكان في غاية ما يكون من تمام الانقياد لما يعلم سره - رزقنا الله التسليم لأمره وأعاننا على ذكره وشكره .
ولما كان هذا مما يوهم قلة جنوده تعالى ، أتبعه ما يزيل ذلك فقال : { وما } أي والحال أنه ما { يعلم جنود ربك } أي المحسن إليك بأنواع الإحسان المدبر لأمرك بغاية الإتقان من جعل النار وخزنتها وجعلهم على هذه العدة وغير ذلك ، فلا تعلم عدتهم لأجل كثرتهم وخروجهم عن طوق المخلوق وما هم عليه من الأوصاف في الأجساد والمعاني { إلا هو } أي الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال ، فلو أراد لجعل الخزنة أكثر من ذلك ، فقد روي أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا تعود إليهم نوبة أخرى ، وقد ورد أن الأرض في السماء كحلقة ملقاة في فلاة وكل سماء في التي فوقها كذلك ، وقد ورد في الخبر : أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم يصلي .

وإنما خص هذا العدد لحكم لا يعلمها إلا هو ، ومن أراد إطلاعه على ذلك من عباده مع أن الكفاية تقع بدون ذلك ، فقد كان في الملائكة من اقتلع مدائن قوم لوط وهي سبع ورفعها إلى عنان السماء ، وكل ما في الإنسان من الجواهر والإعراض من جنود الله لو سلط عليه شيء من نفسه لأهلكه : لو تحرك عرق ساكن أو سكن متحرك أو انسد مجوف أو تجوف منسد لهلك .
ولما ذكر شيئاً من أسرار سوق الأخبار عنها غامضاً ، وكان ذلك من رحمة العباد ليفتح لهم باباً إلى التسليم لما يغمض من تذكيرهم بأمر مليكهم لأن العاجز لا يسعه في المشي على قانون الحكمة إلا التسليم للقادر وإلا أهلك نفسه وما ضر غيرها ، خص أمرها في التذكير تأكيداً للإعلام تذكيراً بالنعمة لأجل ما لأغلب المخاطبين من اعوجاج الطباع المقتضي للرد والإنكار ، المقتضي لسوق الكلام على وجه التأكيد فقال : { وما هي } أي النار التي هي من أعظم جنوده سبحانه وتعالى : { إلا ذكرى للبشر } أي تذكرة عظيمة لكل من هو ظاهر البشرة فبدنه أقبل شيء للتأثر بها لأجل ما يعرفون منها في دنياهم ، وإلا فهو سبحانه وتعالى قادر على إيجاد ما هو أشد منها وأعظم وأكثر إيلاماً مما لا يعلمه الخلائق .

كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)

ولما كان حصرها في الذكرى ربما أوهم نقصاً في أمرها يوجب لبعض المعاندين ريبة في عظمه وأنه لا حقيقة لها ولا عذاب فيها ، قال رادعاً من ذلك ومنبهاً على الاستعداد والحذر بكلمة لاردع والتنبيه : { كلا } أي إياك أن ترتاب في أهوالها وعظيم أمرها وأحوالها وأوجالها لأن الأمر أطم وأعظم مما يخطر بالبال ، فليرتدع السامع ولينزجر .
ولما حصر أمرها في الذكرى ونفى أن يظن بها نقص فيما جعلت له تأكيداً للكلام إشارة إلى ما لأغلب المخاطبين من الشكاسة والعوج إيقاظاً مما هم فيه من الغفلة وتلطيفاً لما لهم من اللوم والكثافة وتنبيهاً لهم على السعي في تقويم أنفسهم بما يستعملونه من الأدوية التي يرشدهم سبحانه إلى علاج أمراض القلوب بها ، زاد الأمر تأكدياً فأقسم على ذلك بما هو ذكرى للناس ولا يظهر معه ظلام الليل كما أن ضياء القرآن لا يظهر معه ظلام الجهل من أعمل عين فكرته ، وألقى حظوظ نفسه ، فقال : { والقمر * } أي الذي هو آية الليل الهادية لمن ضل بظلامه { واليل إذا أدبر * } أي مضى فانقلب راجعاً من حيث جاء فانكشف ظلامه فزال الجهل بانكشافه ، وانصرفت الريب والشكوك بانصرافه { والصبح إذا أسفر * } أقبل ضياؤه فجل العلم بحلوله ، وحصلت الهداية بحصوله ، أو دبر بمعنى « أقبل » قال قطرب : تقول العرب : دبرني فلان أي جاء خلفي .
ولما أقسم على ما أخبر به من ذكراها ، وأكده لإنكارهم العظيم لبلاياها استأنف تعظيمها والتخويف منها تأكيداً للتخويف لما تقدم من الإنكار فقال : { إنها } أي النار التي سقر دركة من دركاتها ، وزاد في التأكيد على مقتضى زيادتهم في الاستهزاء فقال : { لإحدى الكبر * } أي من الدواهي والعظائم ، جمع كبيرة وكبرى ، وهو كناية عن شدة هولها كما يقول : هو أحد الرجال أي لا مثل له ، أو المراد بها واحدة سبع هي غاية في الكبر أي دركات النار ، وهو جهنم فلظى فالحطمة فالسعير فسقر فالجحيم فالهاوية ، هي إحداها في عظيم أقطارها وشديد إيلامها وإضرارها ، حال كونها { نذيراً } عظيماً أو من جهة نذارتها أو إنذاراً بالغاً : فعيل بمعنى المصدر مثل { فكيف كان نكير } [ الملك : 18 ] أي إنكاري ، وعبر بقوله : { للبشر * } لما تقدم من الإشارة إلى إسراع الجسم العادي في قبول التأثر لا سيما بالنار .
ولما كان التقدم عند الناس لا سيما العرب محبوباً والتأخر مكروهاً ، وكان سبحانه وتعالى قد خلق في الإنسان قوة واختياراً بها يفعل ما قدره الله له وغطى عنه علم العاقبة حتى صار الفعل ينسب إليه وإن كان إنما هو بخلق الله ، قال تعالى باعثاً لهم على الخير ومبعداً من الشر مستأنفاً أو مبدلاً جواباً لمن يقول : وما عسى أن نفعل؟ أو ينفع الإنذار وقد قال إنه هو الهادي المضل { يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } { لمن شاء } أي بإرادته ، وصرح بالمقصود لئلا يتعنت متعنتهم فيقول : المراد غيرنا ، فقال : { منكم } أي أيها المعاندون { أن يتقدم } أي إلى الخيرات { أو يتأخر * } أي عنها فيصل إلى غضب الله تعالى والنار التي هي أثر غضبه ، التي جعل ما عندنا من مؤلم الحر ومهلك البرد متأثراً عن نفسيها تذكيراً لنا ورحمة بنا ، وحذف المفعول لأن استعماله كثير حتى صار يعرف وإن لم يذكر ، وترجمة ذلك : لمن شاء أن يتقدم التقدم بما له من المكنة والاختيار في ظاهر الأمر ، ولمن شاء أن يتأخر التأخر ، و { أن يتقدم } مبتدأ ، وهو مثل « لمن يتوضأ أن يصلي » ويجوز أن تكون الجملة بدلاً من « للبشر » على طريق الالتفات من الغائب إلى الحاضر ليصير كل مخاطب به كأنه هو المقصود بذلك بالقصد الأول فيتأمل المعنى في نفسه فيجده صادقاً ثم يتأمل فلا يجد مانعاً من تعديته إلى غيره من جميع البشر ، ويكون « أن » والفعل على هذا مفعولاً ل « شاء » .

ولما كان التقدم والتأخر بالأفعال ، وكان أكثر أفعال الإنسان الشر لما جبل عليه من النقصان ، قال مبيناً لما يقدم وما يؤخر { كل نفس } أي ذكر أو أنثى على العموم { بما كسبت } أي خاصة لا بما كسب غيرها { رهينة * } أي مرتهنة بالفعل ، اسم بمعنى . الرهن كما في قول الحماسي :
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل
لا تأنيث « رهين » الذي هو وصف ، لأن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي مذكره ومؤنثه ، ولو كانت الفواصل التي يعبرون بها عن السجع تأدباً تراعى في القرآن بوجه لقيل : رهين - لأجل يمين ، ولكن لا نظر فيه لغير المعنى ، ويجوز أن تكون الهاء للمبالغة بمعنى موثقة إيثاقاً بليغاً محبوسة حبساً عظيماً فهي في النار ، فجعل الأصل في الكسب الموثق .
ولما كان الرهن تارة يفك وتارة يغلق ، وكان أكثر الخلق هالكاً ، جعل رهينة بمعنى هالكة ، ثم استثنى الممدوح فقال : { إلا أصحاب اليمين * } أي الذين تقدم وصفهم وهم الذين تحيزوا إلى الله فائتمروا بأوامره وانتهوا بنواهيه ، فإنهم لا يرتهنون بأعمالهم ، بل يرحمهم الله فيقبل حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم .
ولما أخرجهم عن حكم الارتهان الذي أطلق على الإهلاك لأنه سببه ، استأنف بيان حالهم فقال : { في جنات } أي بساتين في غاية العظم لأنهم أطلقوا أنفسهم وفكوا رقابهم فلم يرتهنوا ، فالآية من الاحتباك : أثبت أولاً الارتهان دليلاً على حذف ضده ثانياً ، وأثبت ثانياً الجنة دليلاً على حذف ضدها أولاً .
ولما كان السؤال عن حال الغير دالاً دلالة واضحة على الراحة والفراغ عن كل ما يهم النفس ، عبر عن راحتهم في أجل وعظ وألطف تحذير بقوله : { يتساءلون * } أي فيما بينهم يسأل بعضهم بعضاً { عن المجرمين * } أي أحوال العريقين في قطع ما أمر الله به أن يوصل .

مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)

ولما كان يوم القيامة في غاية الصعوبة وكان أحد مشغولاً بنفسه ، فكان لا علم له بتفاصيل ما يتفق لغيره ، وكان أولياء الله إذا دخلوا دار كرامته أرادوا العلم بما فعل بأعدائهم فيه سبحانه ، فتساءلوا عن حالهم فقال بعضهم لبعض : لا علم لنا ، فكشف الله - لهم عنهم حتى رأوهم في النار وهي تسعر بهم ليقر الله أعينهم بعذابهم ، زيادة في نعيمهم وثوابهم ، كما تقدم في الصافات عند قوله { قال قائل منهم إني كان لي قرين } [ الصافات : 51 ] وكان بساط - الكلام دالاً على هذا كله ، أشار لنا سبحانه إليه بقوله حكاية عما يقول لهم أولياؤهم توبيخاً وتعنيفاً وشماتة وتقريعاً تصديقاً لقوله تعالى { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون } [ المطففين : 34 ] الآية ، ولتكون حكاية ذلك موعظة للسامعين وذكرى للذاكرين : { ما } هي محتملة للتوبيخ والتعجيب { سلككم } أي أدخلكم أيها المجرمون إدخالاً هو في غاية الضيق حتى كأنكم السلك في الثقب { في سقر * } فكان هذا الخطاب مفهماً لأنهم لما تساءلوا نفوا العلم عن أنفسهم ، وكان من المعلوم أن نفي العلم لأنهم شغلوا عن ذلك بأنفسهم وأنهم ما شغلوا - مع كونهم من أهل السعادة - إلا لأن ذلك اليوم عظيم الشواغل ، وكان من المعلوم أنه إذا تعذر عليهم علم أحوالهم من أهل الجنة وهم غير مريدين الشفاعة فيهم فلم يبق لهم طريق إلى علم ذلك لا يظن به التعريض للشفاعة إلا السؤال منهم عن أنفسهم في أنهم يخاطبونهم بذلك فيعلمون علمهم ليزدادوا بذلك غبطة وسروراً بما نجاهم الله من مثل حالهم ويكثروا من الثناء على الله تعالى بما وفقهم له وليكون ذلك عظة لنا بسماعنا إياه فحكى الله أنهم لما سألوهم { قالوا } ذاكرين علة دخولهم النار بإفساد قوتهم العملية في التعظيم لأمر الله فذلكة لجميع ما تقدم من مهمات السورة بما حاصله أنهم لم يتحلوا بفضيلتين ولم يتخلوا عن رذيلتن تعريفاً بأنهم كانوا مخاطبين بفروع الشريعة ، وفي البداءة بالعمل تنبيه على أنه يجب على العاقل المبادرة إلى ما يأمره به الصادق لأنه المصدق لحسن الاعتقاد ، والمبادرة إلى التلبس بالعمل أسهل من المبادرة إلى التلبس بالعلم ، لأن العمل له صورة وحقيقة ، ومطلق التصوير أسهل من التحقيق ، ومن صور شيئاً كان أقرب إلى تحقيقه ممن لم يصوره ، فكان أجدر بتحقيقه ممن لم يباشر تصويره ، ففيه حث على المسابقة إلى الأعمال الصالحة وإن لم تكن النية خالصة ، وإيذان بأن من أدمن ترك الأعمال قاده إلى الانسلاخ من حسن الاعتقاد ، وورطه في الضلال ، { لم نك } حذفوا النون دلالة على ما هم فيه من الضيق عن النطق حتى بحرف يمكن الاغتناء عنه ، ودلالة على أنه لم يكن لهم نوع طبع جيد يحثهم على الكون في عداد الصالحين ، وكان ذلك مشيراً إلى عظيم ما هم فيه من الدواهي الشاغلة بضد ما فيه أهل الجنة من الفراغ الحامل لهم على السؤال عن أحوال غيرهم ، وكان ذلك منبهاً على فضيلة العلم : { من المصلين * } أي صلاة يعتد بها ، فكان هذا تنبيهاً على أن رسوخ القدم في الصلاة مانع من مثل حالهم ، وعلى أنهم يعاقبون على فروع الشريعة وإن كانت لا تصح منهم ، فلو فعلوها قبل الإيمان لم يعتد بها ، وعلى أن الصلاة أعظم الأعمال ، وأن الحساب بها يقدم على غيرها .

ولما نفوا الوصلة بالخالق ، أتبعوه إفساد القوة العملية بعدم وصلة الخلائق بترك الشفقة على خلق الله فقالوا : { ولم نك } بحذف النون أيضاً لما هم فيه من النكد ونفياً لأدنى شيء من الطبع الجيد { نطعم المسكين * } أي لأجل مسكنته ، نفوا هنا وجود إطعامه لأنهم إن اتفق إطعامهم له فلعلة أخرى غير المسكنة ، وأما الصلاة فهم يوجدونها لله بزعمهم ، لكن لما كانت على غير ما أمروا به لم تكن مقبولة فلم يكونوا من الراسخين في وصفها . ولما سلبهم التحلي بلباس الأولياء أثبت لهم التحلي بلباس الأشقياء بإفساد القوة النطقية جامعاً القول إلى الفعل فقالوا : { وكنا } أي بما جبلنا عليه من الشر { نخوض } أي نوجد الكلام الذي هو في غير مواقعه ولا علم لنا به إيجاد المشي من الخائض في ماء غمر { مع الخائضين * } بحيث صار لنا هذا وصفاً راسخاً فنقول في القرآن : إنه سحر ، وإنه شعر ، وإنه كهانة وغير هذا من الأباطيل ، لا نتورع عن شيء من ذلك ، ولا نقف مع عقل ، ولا نرجع إلى صحيح نقل ، فليأخذ الذين يبادرون إلى الكلام في كل ما يسألون عنه من أنواع العلم من غير تثبت منزلتهم من هنا .
ولما كان الإدمان على الباطل يجر إلى غلبة الهزء والسخرية ، وغلبه ذلك ولا بد توجب إفساد القوة العلمية بتصديق الكذب وتكذيب الصدق ، قالوا بياناً لاستحبابهم الخلود : { وكنا نكذب } أي بحيث صار لنا ذلك وصفاً ثابتاً { بيوم الدين * } ولما كان التقدير : واستمر تكذيبنا لصيرورته لنا أوصافاً ثابتة . بنوا عليه قولهم : { حتى أتانا } أي قطعاً { اليقين * } أي بالموت أو مقدماته التي قطعتنا عن دار العمل فطاح الإيمان بالغيب .
ولما أقروا على أنفسهم بما أوجب العذاب الدائم ، فكانوا ممن فسد مزاجه فتعذر علاجه ، سبب عنه قوله : { فما تنفعهم } أي في حال اتصافهم بهذه الصفات وهي حالة لازمة لهم دائماً { شفاعة الشافعين * } أي لو شفعوا فيهم . ولما كان هذا الإخبار بنعيم المنعم وعذاب المعذب موجباً للتذكر ، سبب عنه الإنكار عليهم فقال : { فما } أي أيّ شيء يكون { لهم } حال كونهم { عن التذكرة } أي التذكر العظيم خاصة بالقرآن خصوصاً وبغيره عموماً { معرضين * } وعلى الباطل وحده مقبلين ، وذلك من أعجب العجب ، لأن طبع الإنسان إذا حذر من شيء حذره أشد الحذر كما لو حذر المسافر من سبع في طريقه فإنه يبذل جهده في الحيدة عنه والحذر منه وإن كان المخبر كاذباً ، فكيف يعرضون عن هذا المحذور الأعظم والمخبر أصدق الصادقين ، فإعراضهم هذا دليل على اختلال عقولهم واختبال فهومهم ، وزاد ذلك عجباً شدة نفارهم حتى { كأنهم } في إعراضهم عن التذكرة من شدة النفرة والإسراع في الفرة { حمر } أي من حمر الوحش وهي أشد الأشياء نفاراً ، ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل بسرعة السير بالحمر في عدوها إذا وردت ماء فأحست عليه ما يريبها ، وفي تشبيه الكفرة بالحمر ولا سيما في هذه الحالة مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم بين ، وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل وعدم التثبت { مستنفرة * } أي موجدة للنفار بغاية الرغبة فيه حتى كأنها تطلبه من أنفسها لأنه من شأنها وطبعها - هذا على قراءة الجماعة ، وقرأ أهل المدينة والشام بالفتح بمعنى أنه نفرها منفر .

فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

ولما كان ذلك لا يكون إلا لسبب عظيم يتشوف إليه ، استأنف قوله : { فرت من قسورة * } أي أسد شديد القسر عظيم القهر فنشبت في حبائل سقر أو صيادين .
ولما كان الجواب قطعاً : لا شيء لهم في إعراضهم هذا ، أضرب عنه بقوله : { بل يريد } أي على دعواهم وبزعمهم { كل امرىء منهم } أي المعرضين ، مع ادعائه الكمال في المروءة { أن يؤتى } أي من السماء بناه للمفعول لأن مرادهم معروف { صحفاً } أي قراطيس مكتوبة { منشرة * } أي كثيرة جداً وكل واحد منها منشور لا مانع من قراءته وأخذه ، وذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لن نتبعك حتى تأتي كلاًّ منا بكتاب من السماء فيه : من الله إلى فلان اتبع محمداً صلى الله عليه وسلم .
ولما كان ذلك إنما هو تعنت ، لا أنه على حقيقته قال : { كلا } أي ليس لهم غرض في الاتباع بوجه من الوجوه لا بهذا الشرط ولا بغيره : { بل } علتهم الحقيقية في هذا الإعراض أنهم { لا يخافون } أي في زمن من الأزمان { الآخرة * } ولما كان فعلهم هذا فعل من يعتقد في القرآن أنه ليس بوعظ صحيح يستحق أن يتبع ، قال رادعاً لهم عن هذا اللازم : { كلا } أي ليس الأمر قطعاً كما تزعمون من أن هذا القرآن لا يستحق الإقبال ، ثم أستأنف قوله مؤكداً لأجل ما تضمن هذا الفعل من إنكارهم : { إنه } أي القرآن { تذكرة * } أي موضع وعظ عظيم يوجب إيجاباً عظيماً اتباعه وعدم الانفكاك عنه بوجه فليس لأحد أن يقول : أنا معذور لأني لم أجد مذكراً ولا معرفاً فإن عنده أعظم مذكر وأشرف مفرق .
ولما كان في غاية السهولة والحلاوة لكل من عرفه بوجه من الوجوه ، وكان الله سبحانه قد خلق القوى والقدر ، وجعل للعبد اختياراً ، قال مسبباً عن كونه موضعاً للتذكر : { فمن شاء } أي أن يذكره { ذكره * } فثبت في صدره وعلم معناه وتخلق به ، فليس أحد يقدر أن يقول : إنه صعب التركيب عظيم التعقيد عسر الفهم ، يحتاج في استخراج المعاني منه إلى علاج كبير وممارسة طويلة فأنا معذور في الوقوف عنه ، بل هو كالبحر الفرات ، من شاء اغترف ، لأنه خوطب به أمة أمية لا ممارسة لها لشيء من العلوم ، فسهل في لفظه ومعناه غاية السهولة مع أنه لا يوصل إلى قراره ولا يطمع في مناظرة أثر من آثاره ، بل كلما زاد الإنسان فيه تأملاً زاده معاني .
ولما كان هذا ربما أوهم أن للعبد استقلالاً بالتصرف ، قال معلماً بأن هذا إنما هو كناية عما له من السهولة والحلاوة والعذوبة التي توجب عشقه لكل ذي لب منبهاً على ترك الإعجاب وإظهار الذل والالتجاء والافتقار إلى العزيز الغفار في طلب التوفيق لأقوم طريق : { وما يذكرون } أي ولا واحد منكم هذا القرآن ولا غيره في وقت من الأوقات { إلا أن يشاء الله } أي الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه ، وهو صريح في أن فعل العبد من المشيئة ، وما ينشأ عنها إنما هو بمشيئة الله .

ولما ثبت أنه سبحانه الفعال لما يريد وأنه لا فعل لغيره بدون مشيئته ، وكان من المعلوم أن أكثر أفعال العباد مما لا يرضيه ، فلولا حلمه ما قدروا على ذلك ، وكان عفو القادر مستحسناً ، قال مبيناً لأنه أهل للرهبة والرغبة : { هو } أي وحده { أهل التقوى } أي أن يتقوه عباده ويحذروا غضبه بكل ما تصل قدرتهم إليه لما له من الجلال والعظمة والقهر ، ويجوز أن يكون الضمير للمتقي { وأهل المغفرة * } أي لأن يطلب غفرانه للذنوب لا سيما إذا اتقاه المذنب لأن له الجمال واللطف وهو قادر ولا قدرة لغيره ولا ينفعه شيء ولا يضره شيء ، فهو الحقيق بأن يجعل موضع الإنذار الذي أمر به أول السورة البشارة ، ويوفق عباده لتكبيره وهجران الرجز ، وكذا فعل سبحانه بقوم هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والطبراني في الأوسط والحاكم وأبو يعلى والبغوي والبزار عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم « أنه قرأ هذه الآية ثم قال : يقول الله : أنا أهل أن أتقي ، فمن اتقى أن يشرك بي غيري فأن أهل أن أغفر له » وقال الترمذي وابن عدي والطبراني : تفرد به سهل بن أبي حزم القطعي ، فقد رجع آخر السورة على أولها ، وانطبق مفصلها على موصلها ، بضم البشارة إلى النذارة ، وصار كأنه قيل : أنذر العاصي فإنه أهل لأن يرجع إلى طاعاته ، فيكون سبحانه أهلاً لأن يعود عليه بستر زلاته .

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7)

لما ذكر سبحانه الآخرة أول سورة المدثر وخوف منها بالتعبير بالناقور وما تبعه ، ثم أعاد أمرها آخرها ، وذكر التقوى التي هي أعظم أسباب النجاح فيها والمغفرة التي هي الدواء الأعظم لها ، وكان الكفار يكذبون بها ، وكان سبحانه قد أقام عليها من الأدلة من أول القرآن إلى هنا تارة مع الإقسام وأخرى مع الخلو عنه ما صيرها في حد البديهيات ، وكانت العادة قاضية بأن المخبر إذا كذبه السامع حلف على ما أخبره به ، وكان الإقسام مع تحقق العناد لا يفيد ، أشار سبحانه وتعالى إلى أن الأمر قد صار غنياً عن الإقسام لما له من الظهور الذي لا ينكره إلا معاند ، فقال مشيراً إلى تعظيمها والتهويل في أمرها بذكرها وإثبات أمرها بعدم الإقسام أو تأكيده : { لا أقسم } أي لا أوقع الإقسام أو أوقعه مؤكداً { بيوم القيامة * } على وجود يوم القيامة أو بسبب وجوده لأن الأمر غني فيه عن ذلك وعلى القول بأنه قسم هو مؤكد بالنافي ، ودخوله في التأكيد سائغ بل شائع في كلامهم جداً ، وجاز القسم بالشيء على وجوده إشارة إلى أنه في العظمة في الدرجة العليا كما يقول الإنسان : والله إن الله موجود ، أي لا شيء أحلف به على وجوده - يا أيها المنكر - أعظم منه حتى أحلف به ولا بد لي من الحلف لأجل إنكارك فأنا أحلف به عليه ، فالمعنى حينئذ أنه لا شيء أدل على عظمة الله من هذين الشيئين فلذا أوقع القسم بهما ، وسر التأكيد ب « لا » - كما قال الرازي في اللوامع ، إن الإثبات من طريق النفي آكد كأنه رد على المنكر أولاً ثم أثبت القسم ثانياً ، فإن الجمع بين النفي والإثبات دليل الحصر .
ولما كان من المقرر المعلوم الذي هو في أقصى غايات الظهور أن من طلبه الملك طلب عرض وحساب وثواب وعقاب يلوم نفسه في كونه لم يبالغ في العمل بما يرضي الملك والإخلاص في موالاته ، والتحيز إليه ومصافاته . وكان أكثر لوم النفس واقعاً في ذلك اليوم ، وكان إدراكها للوم المرتب على إدراك الأمور الكلية والجزئية ومعرفة الخير والشر ، والتمييز بينهما من أعظم الدلائل على تمام قدرة الخالق وكمال عظمته الموجب لإيجاد ذلك اليوم لإظهار عظمته وحكمه وحكمته قال { ولا أقسم بالنفس } على حد ما مضى في أن الباء صلة أو سبب { اللوامة * } أي التي تلوم صاحبها وهي خيرة وشريرة ، فالخيرة تكون سبباً للنجاة فيه والأخرى تكون سبباً للهلاك فيه ، فإن لامت على الشر أو على التهاون بالخير أنجت ، وإن لامت على ضد ذلك أهلكت ، وكيفما كانت لا بد أن تلوم ، وهي بين الأمارة والمطمئنة ، فما غلب عليها منهما كانت في حيزه ، قال الرازي في اللوامع : فالمطمئنة التي انقادت لأوامر الله ، والأمارة المخالفة لها المتبعة للهوى ، واللوامة هي المجاهدة ، فتارة لها اليد وتارة عليها ، وهي نفس الإنسان خاصة لأنها بين طوري الخير والشر والكمال والنقصان والصعود والهبوط والطاعة والعصيان ، قال الإمام السهروردي في الباب السادس والخمسين من معارفه : وهي نفس واحدة لها صفات متغايرة ، فالملائكة في درجة الكمال ، والحيوانات الأخر في دركة النقصان .

ولهذا جمع بين القيامة وبين اللوامة ، لأن الثواب والعقاب للآدمي دون الملائكة والحيوانات العجم ، واللوامة يشتد لومها في ذلك اليوم على عدم الخير أو عدم الزيادة منه ، لا أقسم على ذلك بهذا الذي هو من أدل الأمور على عظمته سبحانه فإن الأمر في ذلك غني عن القسم .
ولما كان التقدير قطعاً بما يرشد إليه جميع ما مضى جواباً للقسم : إنك والله صادق في إنذارك فلا بد أن ينقر في الناقور بالنفخ في الصور . قال بانياً عليه بعد الإشارة إلى تعظيم أمر القيامة بما دل عليه حذف الجواب من أنها في وضوح الأمر وتحتم الكون على حالة لا تخفى على أحد منكراً على من يشك فيها بعد ذلك : { أيحسب الإنسان } أي هذا النوع الذي يقبل على الأنس بنفسه والنظر في عطفه والسرور بحسبه ، وأسند الفعل إلى النوع كله لأن أكثرهم كذلك لغلبة الحظوظ على العقل إلا من عصم الله { أن } أي أنا .
ولما كان فيهم من يبالغ في الإنكار ، عبر أيضاً بأداة التأكيد فقال : { لن نجمع } أي على ما لنا من العظمة { عظامه * } أي التي هي قالب بدنه وعماده من الأرض فيعيدها كما كانت بعد تمزقها وتفتتها وافتراقها وبلاها وانمحاقها ، وقد سدت المخففة مسد مفعولي « يحسب » المقدرين ب « يحسبنا » غير جامعين .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تقدم قوله مخبراً عن أهل الكفر { وكنا نكذب بيوم الدين } [ المدثر : 46 ] ثم تقدم في صدر السورة قوله تعالى : { فإذا نقر في الناقور } [ المدثر : 8 ] إلى قوله : { غير يسير } [ المدثر : 9 ] والمراد به يوم القيامة ، والوعيد به لمن ذكر بعد في قوله { ذرني ومن خلقت وحيداً } [ المدثر : 11 ] الآيات ومن كان على حاله في تكذيب وقوع ذلك اليوم ، ثم تكرر ذكره عند جواب من سئل بقوله { ما سلككم في سقر } [ المدثر : 42 ] فبسط القول في هذه السورة في بيان ذكر ذلك اليوم وأهواله ، وأشير إلى حال من كذب به في قوله تعالى { يسأل أيان يوم القيامة } [ القيامة : 6 ] وفي قوله تعالى : { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه } [ القيامة : 3 ] ثم أتبع ذلك بذكر أحوال الخلائق في ذلك اليوم { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } [ القيامة : 13 ] انتهى .
ولما أسند الحسبان إلى النوع لأن منهم من يقول : لا نبعث لأننا نتفتت وننمحق ، قال مجيباً له : { بلى } أي لنجمعن عظامه وجمع أجزائه لأنا قدرنا على تفصيل عظامه وتفتيتها من بعد ارتتاقها حال كونها نطفة واحدة لأن كل من قدر على التفصيل قدر على الجمع والتوصيل حال كوننا { قادرين } أي لما لنا من العظمة { على أن } .

ولما كانت تسوية الصغير أصعب ، قال : { نسوي بنانه * } أي أصابعه أو سلامياته وهي عظامه الصغار التي في يديه ورجليه كل منها طول إصبع وأقل ، خصها لأنها أطرافه وآخر ما يتم به خلقه بأن نجمع بعضها إلى بعض على ما كانت عليه قبل الموت سواء ، فالكبار بطريق الأولى لأنها أبين ، ولا فرق بيبن تسويتنا ذلك من النطفة وتسويتنا له من التراب ، وهي لا تكون مسواة وهي قالب البدن إلا بتسوية ما عليه من لباس اللحم والعصب والجلد كما يعهدها العاهد ، فتسوية البنان كناية عن تسوية جميع البنيان كما لو قيل لك : هل تقدر على تأليف هذا الحنظل ، فقلت : نعم ، وعلى تأليف الخردل ، مع ما يفهم من تخصيصها من التنبيه على ما فيها من بديع الصنع المتأثر عنه ما لها من لطائف المنافع ، أو أن نسويها الآن فنجمعها على ما كانت عليه حال كونها نطفة من الاجتماع قبل فتقها وتفريقها حتى تكون كخف البعير ، فإن القادر على تفصيل الأنامل حتى تتهيأ للأعمال اللطيفة قادر على جمعها ، فتزول عنها تلك المنفعة . ومن قدر على تفصيل الماء بعد اختلاطه وجمعه بعد انفصاله قادر على جمع التراب بعد افتراقه ، وكيفما كان فهو تنبيه على التأمل في لطف تفصيل الأنامل وبديع صنعها الموجب للقطع بأن صانعها قادر على كل ما يريد ، قال في القاموس : البنان : الأصابع أو أطرافها . والسلامى - وزن حبارى : عظام صغار طول إصبع أو أقل في اليد والرجل .
ولما تقدم ما أشار إلى أن القيامة في غاية الظهور ، أضرب عن هذا الإنكار فقال بانياً على ما تقديره : إنه لا يحسب عدم ذلك لأنه من الظهور في حد لا يحتاج إلى كبير تأمل فلو مشى مع عقله عرف الحق : { بل يريد } أي يوقع الإرادة { الإنسان } أظهر في موضع الإضمار للتصريح بالتعميم لمقتضى الطبع الموجب له عدم الفكر في الآخر مع شدة ظهورها لأنه معني بشهواته فلا نجاة إلا بعصمة الله تعالى ، وحذف مفعول « يريد » إشارة إلى أن كل ما يريده بمقضتى طبعه وشهواته خارج عن طوره فهو معاقب عليه لأنه عبد ، والعبد يجب عليه أن يكون مراقباً للسيد ، لا يريد إلا مايأمره به ، فإذا أراد ما أمره به لم تنسب إليه إرادة بل الإرادة للسيد لا له .
ولما كان ذلك ، وكانت إرادته الخارجة الخارجة عن الأمر معصية ، قال معللاً : { ليفجر أمامه * } أي يقع منه الإرادة ليقع منه الفجور في المستقبل من زمانه بأن يقضي شهواته ويمضي راكباً رأسه في هواه ، ونفسه الكاذبة تورد عليه الأماني وتوسع له في الأمل وتطمعه في العفو من دون عمل ، قال الحسن : المؤمن ما تراه إلا يلوم نفسه ويقول : ما أردت بكلامي؟ وما أردت بأكلي؟ والفاجر يمضي قدماً لا يحاسب نفسه ولا يعاتبها .

ويجوز أن يعود الضمير على الله تعالى ليكون المعنى : ليعمل الفجور بين يدي الله تعالى وبمرأىً منه ومسمع ويطمع في أن لا يؤاخذه بذلك أو يجازيه بفجوره ، قال في القاموس : والفجر : الانبعاث في المعاصي والزنا كالفجور .
ولما كان عريقاً في التلبس بهذا الوصف ، أنتج له الاستهزاء بهذا الخطب الأعظم فترجم ذلك بقوله : { يسئل } أي سؤال استهزاء واستبعاد ، ويوضع موضع مفعول يسأل جملة اسمية من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر فقال : { أيان } أي أيّ وقت يكون { يوم القيامة * } ولما كان الجواب : يوم يكون كذا وكذا ، عدل عنه إلى ما سبب عن استبعاده لأنه أهول ، فقال دالاً على خراب العالم لتجرد الإنسان عن مسكنه وما ألفه من أحواله فيكون أهول معبراً بأداة التحقق لأنها موضعها : { فإذا برق البصر * } أي شخص وقف فلا يطرف من هول ما يرى - هذا على قراءة نافع بالفتح ، وهي إشارة إلى مبدأ حاله ، وقراءة الجماعة بالكسر مشيرة إلى مآله فإن معناها : تحير ودهش وغلب ، من برق الرجل - إذا نظر إلى البرق فحسر بصره وتفرق تفرق الشيء في المايع إذا انفتح عنه وعاؤه بدليل قراءة بلق من بلق الباب - إذا انفتح ، وبلق الباب كنصر : فتحه كله ، أو شديداً كأبلقه فانبلق ، وبلق كفرح : تحير - قاله في القاموس .

وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)

ولما كانت آيات السماوات أخوف ، ذكرها بادئاً بما طبعه البرد ، إشارة إلى شدة الحر والتوهج والأخذ بالأنفاس الموجب لشدة اليأس فقال : { وخسف القمر } أي وجد خسفه بأن خسفه الله تعالى أذهب صورته كما تذهب صورة الأرض المخسوفة ، وذلك بإذهاب ضوئه من غير سبب لزوال ربط المسببات في ذلك اليوم بالأسباب وظهور الخوارق بدليل قوله : { وجمع } أي جمعاً هو في غاية الإحكام والشدة كما أفهمه التذكير وعلى أيسر الوجوه وأسهلها { الشمس } أي آية النهار { والقمر * } مع عدم إنارته وإن كان نوره الآن من نورها فذهب الانتفاع بهما وهما مع ذهاب النور وتفرق البصر مدركان لوجود الكشف التام عن الخفيات كما قال تعالى : { فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } [ ق : 22 ] وبعد جمعهما يلقيان في النار كأنهما ثوران عقيران ، وبني الفعل للمفعول لأن المهول مطلق جمعهما المخرج لهما عن العادة وللدلالة على السهولة .
ولما عظم أمر القيامة بما تقدم ، أكد ذلك بأن الأمر فيه على غير ما نعهده في الدنيا من وجدان مهرب أو حاكم غير الذي يخافه المطلوب أو شيء من تشعب الكلمة وتفرقها فقال : { يقول الإنسان } أي بشدة روعه جرياً مع طبعه { يومئذ } أي إذا كان هذا الخطب الأجل والقادح الأكبر ، وحكى بيقول جملة اسمية من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر فقال : { أين المفر * } أي الفرار والموضع الذي إليه الفرار والزمان القابل لذلك ، قول آيس مدهوش قاده إليه الطبع ، وذلك حين تقاد جهنم بسبعين ألف سلسلة ، كل سلسلة بأيد سبعين ألف ملك ، لها زفير وشهيق .
ولما كان ذلك اليوم يوم انقطاع الأسباب ، قال نافياً بما سال عنه بأداة الردع : { كلا } أي لا يقال هذا فإنه لا سبيل إلى وجود معناه وهو معنى { لا وزر * } أي ملجأ ومعتصم ولا حصن ولا التجاء واعتصام ، وكون هذا من كلام الإنسان رجوعاً من طبعه إلى عقله أقعد وأدل على الهول لأنه لا يفهم أنه بعد أن سأل من عظيم الهول نظر في جملة الأمر فتحقق أن لا حيلة بوجه أصلاً ، فقال معبراً بالأداة الجامعة لمجامع الردع .
ولما كان المعنى : لا مفر من الله إلا إليه ، لأن ملكه محيط وقدرته شاملة ، قال مترجماً عنه ذاكراً صفة الإحسان لوماً لنفسه على عدم الشكر : { إلى ربك } أي المحسن إليك بأنواع الإحسان وحده ، لا إلى شيء غيره { يومئذ } أي إذ كانت هذه الأشياء { المستقر * } أي استقرار الخلق كلهم ناطقهم وصامتهم ومكان قرارهم وزمانه إلى حكمه سبحانه ومشيئته ظاهراً وباطناً لا حكم لأحد غيره بوجه من الوجوه في ظاهر ولا باطن كما هو في الدنيا .

يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)

ولما كان موضع السؤال عن علة هذا الاستقرار ، قال مستأنفاً بانياً للمفعول لأن المنكىء إنما هو كشف الأسرار لا كونه من كاشف معين ، وللدلالة على يسر ذلك عليه سبحانه وتعالى بأن من ندبه إلى ذلك فعله كائناً من كان : { ينبؤا } أي يخبر تخبيراً عظيماً مستقصىً { الإنسان يومئذ } أي إذ كان هذا الزلزال الأكبر { بما قدم } أي من عمله العظيم { وأخر * } أي في أول عمره وآخره - كناية عن الاستقصاء أو بما قدمه فآثره على غيره هل هو الشرع أو الهوى أو بما عمل في مدة عمره وبما أخر عمله لمعاجلة الموت له عنه فيخبر بما كان يعمله من أمله لو مد في أجله ، أو الذي قدمه هو ما عمله بنفسه وما أخره هو ما سنه فعمل به الناس من بعده من خير أو شر - قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، وعليه مشى الغزالي في الباب الثالث من كتاب البيع من الإحياء .
ولما عظم القيامة بكشف الأسرار فيها والإنباء بها ، وكان الشأن أن الإنسان لا ينبأ إلا بما هو جاهل له أو غائب عنه ، وكان مما يخف على الإنسان في الدنيا النسيان ، وكان ذلك اليوم يوم كشف الغطاء ، زاده عظماً بالإعلام بأنه يجلو بصيرة الإنسان حتى يصير مستحضراً لجميع ما له من شأن ، فكان التقدير : وليس جاهلاً بشيء من ذلك ولا محتاجاً إلى الإنباء به ، قال بانياً عليه : { بل الإنسان } أي كل واحد من هذا النوع { على نفسه } خاصة { بصيرة * } أي حجة بينة على أعماله ، فالهاء للمبالغة - يعني أنه في غاية المعرفة لأحوال نفسه فإنه إذا تأمل وأنعم النظر ولم يقف مع الحظوظ عرف جيد فعله من رديئه ، أما في الدنيا فلان الفطر الأولى شاهدة بالخير والشر - كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله : « البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في الصدر وترددت فيه النفس وإن أفتاك الناس وأفتوك » رواه الإمام أحمد عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم : « إنما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت » - رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وأما في الآخرة فإن الله يعطيه في ذلك اليوم قوة الذكرى حتى تصير أعماله كلها بين عينيه لأنه تعالى ينفي عنه الشواغل البدنية ويكشف عنه الحجب النفسانية حتى تصير أعماله ممثلة له كأنه يراها ولا تنفعه معذرته ، لأن كل شيء يعتذر به عن نفسه يعرف كذبه بنفس وجوده لا بشيء خارج عنه تارة يكون خالقه أوجده على ما هو عليه من العلم وسلامة الأسباب المزيلة للعلل وتارة بإنطاق جوارحه .

ولما كان الإنسان يعتذر في ذلك اليوم عن كل سوء عمله ، ويجادل أعظم مجادلة ، وكان المجادل في الغالب يظن أنه لم يذنب أو لا يعلم له ذنباً ، قال : { ولو ألقى } أي ذكر بغاية السرعة ذلك الإنسان من غير تلعثم دلالة على غاية الصدق والاهتمام والتملق { معاذيره * } أي كل كلام يمكن أن يخلص به ، جمع عذر أو معذرة وهو إيساع الحيلة في دفع الخلل : وقال في القاموس : المعاذير : الستور والحجج جمع معذار ، وذلك لاشتراكهما في مطلق الستر بالفتح والستر بالكسر في ستر المذنب والحجة في ستر الذنب فالمعنى أنه حجة على نفسه ولو احتج عنها واجتهد في ستر عيوبها ، فلا تقبل منها الأعذار ، لأنه قد أعطى البصيرة فأعماها بهون النفس وشهواتها ، وتلك البصيرة هي نور المعرفة المركوز في الفطرة الأولى وهي كقوله تعالى : { لا ينفع الظالمين معذرتهم } .
ولما كان معنى هذا كله أن الإنسان محجوب في هذه الدار عن إدراك الحقائق بما فيه من الحظوظ والكسل والفتور ، لما فيه من النقائص ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مبرءاً من ذلك لخلق الله له كاملاً وترقيته بعد ميلاده كل يوم في مراقي الكمال حتى صار إلى حد لا يشغله عن العلوم شيء فكان بحيث يرى مواقع الفتن خلال البيوت كمواقع القطر ، ويرى من ورائه كما يرى من أمامه ، ويقول : « والله لا يخفى عليّ خشوعكم ولا ركوعكم إني أراكم من وراء ظهري » وكان صلى الله عليه وسلم يرى في أشد الظلام وغير ذلك مما له صلى الله عليه وسلم من رقة الجوهر الذي لم ينله أحد غيره ، وذلك مما يدل على الكشف التام ولكنه كان صلى الله عليه وسلم لتعظيمه لهذا القرآن لما له في نفسه من الجلالة ولما فيه من خزائن السعادة والعلوم التي لا حد لها فتستقصى ، ولأنه كلام الملك الأعظم ، وبأمره نزل إليه صلى الله عليه وسلم مع رسوله جبريل عليه الصلاة والسلام ، يعالج عند سماعه أول ما يأتيه شدة ، فكان يحرك به لسانه استعجالاً بتعهده ليحفظه ولا يشذ عنه منه شيء ، وكان قد ختم سبحانه ما قبلها بالمعاذير ، وكانت العجلة مما يعتذر عنه ، وكان الحامل على جميع ما يوجب الملامة والاعتذار ما طبع عليه الإنسان من حب العاجل ، قال سبحانه نتيجة عن هذه المقدمات الموجبة لانكشاف الأشياء للإنسان الموجب للإخبار بها والخوف من عواقبها لئلا يميل إلى العاجلة ولا يقع في مخالفة لولا ما شغله به من الحجب إعلاماً بأنه سبحانه وتعالى قد دفع عن النبي صلى الله عليه وسلم تلك الحجب وأوصله من رتبة « لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً » إلى أنهاها ، وأنه قادر على ما يريد من كشف ما يريد لمن يريد كما يكشف لكل إنسان عن أعماله في القيامة حتى يصير يعرف ما قدم منها وما أخر ، وتنبيهاً على أنه صلى الله عليه وسلم لا كسب له في هذا القرآن بغير حسن التلقي إبعاداً له عن قول البشر وتمهيداً بما يحرك من لسانه بالقرآن قبل تمام الإلقاء لذم ما طبع عليه الإنسان : { لا تحرك به } أي القرآن الذي هو تذكرة من شاء ذكره لولا حجاب المشيئة ، وقد كشف سبحانه وتعالى حجاب المشيئة لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وشاء أن يذكره حين قال

{ وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } [ الإنسان : 30 ] لأنه ما نزله إليه بغير اكتساب منه إلا وقد شاء ذلك { لسانك } الذي ليست له حركة إلا في ذكر الله تعالى .
ولما لم يكن لهذا التحريك فائدة مع حفظ الله له على كل حال إلا قصد الطاعة بالعجلة ، وكانت العجلة هي الإتيان بالشيء قبل أوانه الأليق به ، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم مثاباً على ذلك أعظم الثواب لأنه لا حامل له عليه إلا حب الله وحب ما يأتي منه ، وجعلها الله سبحانه وتعالى علة وإن لم تكن مقصودة فقال : { لتعجل به } أي بحمله وأخذه قبل أن يفرغ من إلقاءه إليك رسولنا جبريل عليه الصلاة والسلام مخافة أن ينفلت منك ، لأن هذه العجلة وإن كانت من الكمالات بالنسبة إليك وإلى إخوانك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما قال موسى عليه الصلاة والسلام : { وعجلت إليك رب لترضى } [ طه : 84 ] لأنها من النفس اللوامة التي تلوم على ترك المبادرة إلى أفعال الخير فغيرها من أفعال المطمئنة أكمل منها ، فنقل صلى الله عليه وسلم من مقام كامل إلى أكمل منه ، وكان هذا الكلام المتعلق بالقرآن والذي بعده فرقاناً بين صفتي اللوامة في الخير واللوامة في الشر ، والآية ناظرة إلى قوله تعالى في المدثر حكاية « إن هذا إلا قول البشر » وما بينهما اعتراض في وصف حال القيامة جر إليه قوله تعالى : { سأصليه سقر } [ المدثر : 26 ] أي أن الذي خيل به المتقول في القرآن أمران : أحدهما أنه سحر والآخر أنه قول البشر ، والعلم اليقين حاصل بانتفاء الأول ، وأما الثاني فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى أن لا يتقن حفظه فتدخل عليه كلمة مثلاً فيكون من قول البشر فنهاه الله تعالى عن العجلة وضمن له الحفظ ، ثم علل هذا النهي بقوله مؤكداً لأنه من مجراته : { إن علينا } أي بما لنا من العظمة ، لا على أحد سوانا { جمعه } أي في صدرك حتى نثبته ونحفظه { وقرآنه * } أي إطلاق لسانك به وإثباته في رتبته من الكتاب حال كونه مجموعاً أتم جمع ميسراً حسن تيسير فأرح نفسك مما تعالج في أمره من المشقة وتكابده من العناء .

فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24)

ولما نهاه أمره فقال : { فإذا قرأناه } أي أقدرنا جبريل عليه الصلاة والسلام على تأديته إليك كما حملناه إياه بما لنا من العظمة وعلى حسبها { فاتبع } أي بغاية جهدك بإلقاء سمعك وإحضار ذهنك { قرآنه * } أي قراءته مجموعة على حسب ما أداه إليك رسولنا وجمعناه لك في صدرك ، وكرر تلاوته حتى يصير لك به ملكة عظيمة واعمل به حتى يصير لك خلقاً فيكون قائدك إلى كل خير ، فالضمير يجوز أن يكون للقرآن ، يكون القرآن هنا بمعنى القراءة ، عبر به عنها تعظيماً لها ، أي اتبع قراءة القرآن أي قراءة جبريل عليه السلام له ، ولو كان على بابه لم يكن محذوراً ، فإن المراد به خاص وبالضمير عام ، ويجوز أن يكون الضمير لجبريل عليه السلام أي اتبع قراءته ولا تراسله .
ولما كان بيان كلماته ونظومه على أي وجه سمعه من مثل صلصلة الجرس وغيرها وبيان معانيه وما فيه من خزائن العلم من العظمة بمكان يقصر عنه الوصف ، أشار إليه بأداة التراخي ، فقال دالاً على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة ، مشعراً بأنه كان يعجل بالسؤال عن المعنى كما كان يعجل بالقراءة : { ثم } وأكد ذلك إشارة إلى أنه لعظمه مما يتوقف فيه فقال : { إن علينا } أي بما لنا من العظمة { بيانه * } أي بيان ألفاظه ومعانيه لك سواء سمعته من جبريل عليه الصلاة والسلام على مثل صلصلة الجرس أو بكلام الناس المعتاد بالصوت والحرف ، ولغيرك على لسانك وعلى ألسنة العلماء من أمتك ، والآية مشيرة إلى ترك مطلق العجلة لأنه إذا نهى عنها في أعظم الأشياء وأهمها كان غيره بطريق الأولى ، روى البخاري في تفسير الآية في أول صحيحه وآخره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة ، كان يحرك شفتيه ، قال سعيد بن جبير : قال ابن عباس رضي الله عنهما : فأنا أحركهما لك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما » فأنزل الله عز وجل الآية حتى قال : جمعه في صدرك ثم تقرأه { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } [ القيامة : 18 ] قال : فاستمع له وأنصت ثم إن علينا أن تقرأه ، قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام استمع مطرقاً فإذا انطلق جبريل عليه الصلاة والسلام قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقرأه جبريل عليه الصلاة والسلام كما وعده الله بكفالة قوله تعالى : { فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً } [ الجن : 27 - 28 ] .
ولما كان سبحانه وتعالى قد ختم الكلام في المكذبين بأن أعمالهم محفوظة ، وأن كل أحد على نفسه شاهد ، لأنه يعلم جميل ما يفعل من قبيحه وإن اعتذر ، ولولاه ما اشتد اتصاله به ، وختم بضمان البيان للقرآن ، فكان شاهداً بيناً على كل إنسان بما له من عظيم البيان .

قال نافياً لما يظن من جهلهم بقبيح أفعالهم الذي اقتضاه اعتذارهم مشعراً بأن الآدمي مطبوع على الاستعجال بعد النهي عن العجلة في أعز الأشياء وأعلاها وأهمها وأولاها ، لأنه أصل الدين ليكون ذلك مؤكداً للنهي عن العجلة بالقرآن ومؤكداً لذمهم بحب العاجلة مغلظاً لتوبيخهم على الميل مع الطبع وترك ما يقتضيه العلم والعقل : { كلا } أي لا يجهل أحد منهم قبائح ما ارتكبه وإن اعتذر وما ارتكب شيئاً منها عن جهل { بل } هم { يحبون } أي محبة متجددة مستمرة على تجدد الزمان { العاجلة * } بدليل أنهم يقبلون غاية الإقبال عليها فيأخذونها ، وحبّها أوجب لهم ارتكاب ما يعلمون قبحه فإن الآخرة والأولى ضرتان من أحب إحداهما فعل ولا بد ما يباعده عن الأخرى ، فإن « حبك للشيء يعمي ويصم » وهذا بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم في مطلق العجلة فكيف بالعاجلة فإنما طبعناه على الكمال ، فكان يعالج من العجلة بالقراءة شدة فحين نهيناه عن ذلك انتهى رجوعاً إلى طبعه الكامل الذي لا يشوبه نقص ، وكذا كان أمره تكويناً لا إباء معه ولا كلفة ، فإن نفسه المطمئنة هي الغالبة ولها السلطان الأكبر ، ولأجل تضارر الدارين وكونهم يحبون العاجلة قال : { وتذرون } أي يتركون على أي وجه كان ولو أنه غير مستحسن { الآخرة * } لانهم يبغضونها لارتكابهم ما يضربهم فيها ، وجمع الضمير وإن كان مبنى الخطاب مع الإنسان نظراً نظراً للمعنى إشارة إلى أنه لا يسلم من العجلة المذمومة إلا أفراد حفظهم الله بقدرته الباهرة ، والآية من الاحتباك : ذكر الحب أولاً دليلاً على البغض ثانياً ، والترك ثانياً دليلاً على الإقبال والأخذ أولاً ، فأنفسهم اللوامة تلومهم على التقصير في الشر كما أن نفسك تحثك على الازدياد من الخير والمبادرة إليه ، فنعم النفس هي ولتعلين مقامها ، وأما أنفسهم فإنها تحثهم لأجل اللوم على التقصير في الشر على الإخلاد إلى العاجل الفاني والإقلاع عن الباقي لكونه غائباً فبئس الأنفس هي .
ولما ذكر الآخرة التي أعرضوا عنها ، ذكر ما يكون فيها بياناً بجهلهم وسفههم وقلة عقلهم ، ترهيباً لمن أدبر عنها وترغيباً لمن أقبل عليها لطفاً بهم ورحمة لهم فقال : { وجوه } أي من المحشورين وهم جميع الخلائق { يومئذ } أي إذ تقوم القيامة { ناضرة * } من النضرة بالضاد ، وهي النعمة والرفاهية أي هي بهية مشرقة ظاهر عليها أثر النعمة بحيث يدل ذلك على نعمة أصحابها { إلى ربها } أي المحسن لها خاصة باعتبار أن عُدَّ النظر إلى غيره كلا نظر { ناظرة * } أي دائماً هم محدقون أبصارهم نحو جوده بالتجلي لا غفلة لهم عن ذلك فإذا رفع الحجاب عنهم أبصروه بأعينهم بدليل جوده بالتجلي لا غفلة لهم عن ذلك فإذا رفع الحجاب عنهم أبصرره بأعينهم بدليل التعدية ب « إلى » وذلك ، النظر جهرة من غير اكتتام ولا تضامّ ولا زحام - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين وجميع أهل السنة ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحاح من وجوه كثيرة بحيث اشتهر غاية الشهرة ، وتكون الرؤية كما مثلت في الأحاديث

« كما يرى القمر ليلة البدر » كل من يريد رؤيته من بيته مخلياً به - هذا وجه الشبه ، لا أنه في جهة ولا في حالة لها شبيه - تعالى الله عن التشبيه ، وهكذا رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام من الأشخاص المستكثرة في البلاد المتباينة في الوقت الواحد ، وقدم الجار الدال على الاختصاص إشارة إلى هذا النظر مباين للنظر إلى غيره فلا يعد ذلك نظراً بالنسبة إليه ، وإلى أن تلك الوجوه مستغرقة في مطالعة جماله بحيث لا تفتر عن ذلك ، ولا يعد نظرها إلى ما سواه شيئاً ، وهي آمنة من أن يفعل بها فاقرة ، وعبر بالوجوه عن أصحابها لأنها أدل ما يكون على السرور ، وليكون ذكرها أصرح في أن المراد بالنظر حقيقته ، وزاده صراحة بالتعدية ب « إلى » فإن الانتظار لا يعدى بها ، قال الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب المحبة من الإحياء بعد أن جوّز أن يخلق الله النظر في الجهة وغيرها : والحق ما ظهر لأهل السنة والجماعة من شواهد الشرع أن ذلك يخلق في العين ليكون لفظ الرؤية والنظر وسائر الألفاظ الواردة في الشرع مجرى على ظاهره إذ لا يجوز إزالة الظواهر إلا لضرورة - انتهى ، وأهل الجنة متفاوتون في النظر : روي أن منهم من ينظر إلى الله بكرة وعشية ، وفي خبر آخر ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ، ومتفاوتون في مقدار الكشف في الجمال والأنس والبهجة التي يكون عنها اللذة بحسب أعمالهم .
ولما ذكر أهل النعمة ، أتبعه أضدادهم من أهل النقمة فقال : { ووجوه يومئذ } أي في ذلك اليوم بعينه { باسرة * } أي شديدة العبوس والكلوح والتكره لما هي فيه من الغم كأنها قد غرقت فيه فرسبت بعد أن سبرت أحوالها ، فلم يظهر لها وجه خلاص ، والباسل أبلغ من الباسر لكنه غلب في الشجاع لاشتداد كلوحه عند العراك ، وتلك الوجوه عن ربها محجوبة ، وإلى أنواع العذاب ناظرة .

تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32)

ولما كان ظن الشر كافياً في الحذر منه والمبالغة في استعمال ما يحمي منه ، قال دالاً على أنه عبر بالوجه عن الجملة : { تظن } أي تتوقع بما ترى من المخايل : { أن يفعل } بناه للمفعول لأن المحذور وقوع الشر لا كونه من معين { بها } أي بهم فإنه إذا أصيب الوجه الذي هو أشرف ما في الجملة كان ما عداه أولى { فاقرة * } أي داهية تكسر الفقار وهو عظم سلسلة الظهر الذي هو أصلب ما في العظام فتكون قاصمة الظهر ، فالآية من الاحتباك : ذكر النظر في الأولى دليل على ضده في الثانية ، وذكر الفاقرة في الثانية دليل على ضدها في الأولى .
ولما ذكر محبتهم للعاجلة بالمضارع الدال على التجدد والاستمرار ، فاقتضى ذلك أنه حب غيره منفك التجدد أصلاً ، أخبر أنه ينقطع عن هول المطلع مع الدلالة على تمام القدرة ، وأنه لا يرد قضاؤه ، فقال رادعاً لمن يظن عدم انقطاعه : { كلا } أي لا يدوم هذا الحب بل لا بد أن ينقطع انقطاعاً قبيحاً جداً . ولما كان المحب للدنيا هو النفس ، أضمرها لذلك ولدلالة الكلام عليها فقال ذاكراً ظرف ما أفهم حرف الردع تقديره من عدم المحبة : { إذا بلغت } أي النفس المقبلة على العاجلة بأمر محقق - بما أفهمته أداة التحقق { التراقي * } أي عظام أعالي الصدر ، جمع ترقوة وهي العظام التي حول الحلقوم عن يمين ثغرة النحر وشمالها بين الثغرة وبين العاتق ، ولكل إنسان ترقوتان ، وهو موضع الحشرجة ، لعله جمع المثنى إشارة إلى شدة انتشارها بغاية الجهد لما هي فيه من الكرب لاجتماعها من أقاصي البدن إلى هناك وضيق المجال عليها كأنها تريد أن تخرج من أدنى موضع يقرب منها ، وهذا كناية عن الإشفاء على الموت وما أحسن قول حاتم الطائي وأشد التئامه مع ما هنا من أمر الروح :
أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
ولما كان أهل الميت يشتد انزعاجهم إذ ذاك ويشتد تطلبهم لما ينجي المحتضر من غير أن يفيدهم ذلك شيئاً ، فكان قولهم كأنه لا قائل له على التعيين ، بني للمفعول قوله : { وقيل } أي من كل قائل يعز عليه الميت استفهام استبعاد : { من راق * } أي من هو الذي يتصف برسوخ القدم في أمر الرقى الشافية ليرقيه فيخلصه مما هو فيه فإنه صار إلى حالة لا يحتمل فيها دواء فلا رجاء إلا في الرقى ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا القول من بعض الملائكة للاستفهام عمن يرقى بروحه إلى السماء : أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ فالأول اسم فاعل من رقى يرقى بمعنى الرقية بالفتح في الماضي والكسر في المضارع ، والثاني الذي بمعنى الصعود بالكسر في الماضي والكسر في المضارع .

ولما كان الإنسان مطبوعاً على الترجح بين الأمور الممكنة تتعلق لما يغلب عليه من طبع الإلف وشدة الركون لما يألفه بأدنى شيء ، عبر عما هو أهل للتحقق بالظن فقال : { وظن } أي المحتضر لما لاح له من أمور الآخرة أو القائل « هل من راق » من أهله { أنه } أي الشأن العظيم الذي هو فيه { الفراق * } أي لما كان فيه من محبوب العاجلة الذي هو الفراق الأعظم الذي لا فراق مثله ، ففي الخبر أن العبد ليعالج كرب الموت وسكراته وأن مفاصله ليسلم بعضها على بعض يقول : السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة : { والتفت الساق } أي هذا النوع { بالساق * } أي انضمت إليها واتصلت بها ودارت إحداهما بالأخرى فكانتا كالشيء الواحد ، وهو كناية عن الموت لأن المشي لا يكون إلا مع انفصال إحدى الساقين عن الأخرى ، أو عن اشتداد الأمر جداً وبعده عن الخلاص ، فإن العرب لا تذكر الساق في مثل هذا السياق إلا في أمر شديد مثل « شمر عن ساق » وإذا اشتد حراب المتحاربين : « دنت السوق بعضها من بعض » فلا افتراق إلى عن موت أحدهما أو أشد من موته من هزيمته ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كناية عن اختلاط شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة ، وجواب إذا محذوف تقديره : زال تعلقه الذي كان بالدنيا وحبه لها وإعراضه عن الآخرة .
ولما صور وقت تأسفه على الدنيا وإعراضه عنها ، ذكر غاية ذلك فقال مفرداً النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب إشارة إلى أنه لا يفهم هذا حق فهمه غيره : { إلى ربك } أي موعد وحكم المحسن إليك بإرسالك وتصديقك في جميع ما بلغته عنه ونصرك على كل من ناواك ، لا إلى غيره { يومئذ * } أي إذ وقع هذا الأمر { المساق * } أي السوق وموضع السوق وزمانه ، كل ذلك داخل في حكمه ، قد انقطعت عنه أحكام أهل الدنيا ، فإما أن تسوقه الملائكة إلى سعادة بينة وإما إلى شقاوة بينة ، أو هو كناية عن عرضه بعد الموت على الله تعالى فلا ينفعه إذا حقق له الوعظ بالموت قوله : أموت فأستريح ، فإنه يرجع بالموت إلى سيده ، فإن كان مطيعاً لقيه بما يرضيه ، وإن كان عاصياً لقيه بما يلقى به العبد الآبق على قدر إباقه .
ولما ذكر كراهته للآخرة ذكر أن سببه إفساده ما آتاه الله من قوى العلم والعمل بتعطيلهما عن الخير واستعمالهما في الشر فقال مبيناً عمل العبد الموافق والآبق ، عاطفاً على { يسأل أيان } [ القيامة : 6 ] الذي معناه جحد البعث : { فلا صدق } - أي هذا الإنسان الذي الكلام فيه - الرسول فيما أخبره بما كان يعمل من الأعمال الخبيثة ، ولا إيمانه بالإنفاق في وجوه الخير التي ندب إليها واجبة كانت أو مسنونة ، وحذف المفعول لأنه أبلغ في التعميم .

ولما ذكر أصل الدين ، أتبعه فروعه دلالة على أن الكافر مخاطب بها فقال : { ولا صلّى * } أي ما أمر به من فرض وغيره ، فلا تمسك بحبل الخالق ولا وصل إلى حبل الخلائق على حد ما شرع ما .
ولما نفى عنه أفعال الخير ، أثبت له أفعال الشر فقال : { ولكن } أي فعل ضد التصديق بأن { كذب } أي بما أتاه من الله { وتولى * } أي وفعل ضد الصلاة التي هي صلة بين المخلوق والخالق ، فاجتهد في خلاف ما تدعوه إليه فطرته الأولى المستقيمة من الإعراض عن الطاعة من الصلاة وغيرها حتى صار له ذلك ديدناً ، فصارت الطاعة لا تخطر له بعد ذلك على بال لموت الفطرة الأولى وحياة النفس الأمارة بالسوء ، وليس هذا بتكرار لأنه لا يلزم من عدم التصديق التكذيب .

ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)

ولما كان الإصرار على هذا عظيماً يبعد كل البعد أن يعمله أحد فكيف بالافتخار به والتكبر لأجله ، أشار إليه بأداة البعد ، فقال مؤذناً بأن الحال على التكذيب الكبر ، والحامل على الكبر الترف ، وسبب ذلك الانقياد أولاً مع الطبع في إفساد القوتين : العملية والعلمية حتى نشأ عنهما هذا الخلق السيىء ، وهو عدم المبالاة ، ولم يزل به ذلك حتى صار ملكة يفتخر به { ثم ذهب } أي هذا الإنسان بعد توليه عن الحق { إلى أهله } غير مفكر في عاقبة ما فعل من التكذيب حال كونه { يتمطّى * } أي يفتخر افتخاراً بتكذيبه وإعراضه وعدم مبالاته بذلك ، من المط ، أبدل الحرف الثاني ألفاً تخفيفاً فصار من المطي وهو الظهر كأنه يساعده على مد الخطى ، أو أن المتبختر إذا مشى لوى ظهره ، وإنما فعل هذا لمرونه على المعصية بدل الاستحياء والخجل والانكسار .
ولما كان هذا غاية الفجور ، وكان أهل الإنسان يحبونه إذا أقبل إليهم لا سيما إذا كان على هذه الحالة عند أغلب الناس ، أخبر بما هو حقيق أن يقال له في موضع « تحية أهله » من التهديد العظيم فقال : { أولى لك } أي أولاك الله ما تكره ، ودخلت اللام للتأكيد الزائد والتخصيص ، وزاد التأكيد بقوله : { فأولى * } أي ابتلاك الله بداهية عقب داهية ، وأبلغ ذلك التأكيد إشارة إلى أنه يستحقه على مدى الأعصار ، فقال مشيراً بأداة التراخي إلى عظيم ما ارتكب وقوة استحقاقه لهذا التأكيد : { ثم أولى لك } أي أيها الذي قد أحل نفسه بالغفلة دون محل البهائم { فأولى * } أي وصلت إلى هذا الهلاك بداهية تعقبها تارة متوالياً وتارة متراخياً ، وبعضها أعظم من بعض ، لحقك ذلك لا محالة ، فإن هذا دعاء ممن بيده الأمر كله ، ويجوز أن يكون المعنى : أولى لك أن تترك ما أنت عليه وتقبل على ما ينفعك ، وقال ابن جرير في تفسير المدثر : إن أبا جهل لما استهزأ على جعل خزنة النار تسعة عشر أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه فيأخذ بيده في بطحاء مكة فيقول له : أولى لك - إلى آخرها ، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو جهل : والله لا تفعل أنت وربك شيئاً ، فأخزاه الله يوم بدر - انتهى . ويمكن تنزيل الكلمات الأربع على حالاته الأربع : الحياة ثم الموت ثم البعث ثم دخول النار ، فيكون المعنى : لك المكروه الآن وفي الموت والبعث ودخول النار . قال البغوي : وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « إن لكل أمة فرعوناً ، وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل » وقد أفهمت الآية أن من أصلح قوتي علمه وعمله بأن صدق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأقبل وأقام الصلاة فتبعتها جميع الأعمال التي هي عمادها ، فنشأ عن ذلك خلق حسن وهو الوجل مع الطاعة ، فهنالك يقال له : بشرى لك فبشرى ثم بشرى لك فبشرى .

ولما كان هذا فعل من أعرض عن الله أصلاً فلم يخطر شيئاً من عظمته على باله ، فكان ظاناً أنه مهمل لا مالك له وأنه هو السيد لا عبودية عليه ، فلا يؤمر ولا ينهى ولا يعمل إلا بمقتضى شهواته ، قال منكراً عليه معبراً بالحسبان الذي الحامل عليه نقص العقل : { أيحسب } أي أيجوز لقلة علقه { الإنسان } أي الذي هو عبد مربوب ضعيف عاجز محتاج بما يرى في نفسه وأبناء جنسه .
ولما كان الحامل على الجراءة مطلق الترك هملاً ، لا كون الترك من معين ، قال بانياً للمفعول : { أن يترك } أي يكون تركه بالكلية { سدى * } أي مهملاً لاعباً لاهياً لا يكلف ولا يجازى ولا يعرض على الملك الأعظم الذي خلقه فيسأله عن شكره فيما أسدى إليه ، فإن ذلك منافٍ للحكمة ، فإنها تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن المساوىء والجزاء على كل منهما ، وأكثر الظالمين والمظلومين يموتون من غير جزاء ، فاقتضت الحكمة ولا بد البعث للجزاء .
ولما كان الإنسان يجري على ما في طبعه من النقائص فيغفل عما خلق له فتتراكم عليه ظلماته فيبعد عن علم ذلك إما بجهل بالحكمة أو بجهل بالقدرة ، رحمه سبحانه بإعادة البرهان على المعاد بأمر يجمع القدرة والحكمة ، وذلك أنه لا يجوز في عقل عاقل أن صانعاً يصنع شيئاً ويتركه ضياعاً وهو حكيم أو حاكم فكيف بأحكم الحكماء والحاكمين فقال منكراً عليه ظنه أنه يهمله سبحانه مع علمه بصنائعه المحكمة فيه ، مقرراً أحوال بدايته التي لا يسوغ معها إنكار إعادته لأنها أدل على أنه لا مانع منها أصلاً ، حاذفاً نون الكون إعلاماً بأن الأمر في هذه النتيجة العظمى ضاق عن أقل شيء يمكن الاستغناء عنه كراهية التمادي من الموعوظ على ما وعظ لأجله فيحصل له الهلاك ، وإشارة إلى مهانة أصله وحقارته : { ألم يك } أي الإنسان { نطفة } أي شيئاً يسيراً جداً { من مني } أي ماء من صلب الرجل وترائب المرأة مقصود ومقدر من الله للابتلاء والاختبار مثاله المنية التي هي الموت { تمنى } أي سبب الله للإنسان المعالجة في إخراجها بما ركب فيه من الشهوة وجعل له من الروح التي يسرها لقضاء وطره منها حتى أن وقت صبها في الرحم انصبت منه بغير اختياره حتى كأنه لا فعل له فيها أصلاً ، ولذلك بنى الفعل لما لم يسم فاعله ، ولما كان تكثير تلك النطفة وتحويلها أمراً عظيماً عجيباً ، أشار إليه بأداة البعد مع إفادتها للتراخي في الزمان أيضاً فقال : { ثم كان } أي كوناً محكماً { علقة } أي دماً أحمر عبيطاً شديد الحمرة والغلظة { فخلق } أي قدر سبحانه عقب ذلك لحمه وعظامه وعصبه وغير ذلك من جواهره وأعراضه { فسوى * } أي عدل عن ذلك خلقاً آخر غاية التعديل شخصاً مستقلاً .

ولما كان استبعادهم للقيامة إما لاستبعاد القدرة على إعادة الأجزاء بعد تفرقها أو لاستبعاد القدرة على تمييز ترابها من تراب الأرض بعد الاختلاط ، وكان تمييز النطفة إلى ذكر وأنثى كافياً في رد الاستبعادين قال : { فجعل } أي بسبب النطفة { منه } أي هذا الماء الدافق أو المخلوق المسوى وهما شيء واحد { الزوجين } أي القرينين اللذين لا يمكن الانتفاع بأحدهما إلا بالآخر ، ثم بينهما بقوله : { الذكر والأنثى * } وهما كما تعلمون متباينان في الطباع مختلفان في أوصاف الأعضاء والآلات والمتاع ، كما لم يترك النطفة حتى صيرها علقة ولا ترك العلقة حتى صيرها مضغة ولا ترك المضغة حتى صيرها عظاماً ولم يترك العظام حتى صيرها خلقاً آخر إلى تمام الخلقة لتمام الحكمة الظاهرة وفصلها إلى ذكر وأنثى وهي ماء ، تمييز ما يصلح منه للذكر وما يصلح منه للأنثى أشد وأخفى من تمييز تراب الميت من تراب الأرض ، فكذلك لا يترك الجسم بعد موته حتى يعيده ثم يبعثه إلى آخر ذلك لتمام الحكمة الباطنة وهي الجزاء والحكم الذي هو خاصة الملك .
ولما تقرر من حيث إتقان الاصطناع أنه لا يجوز معه الإهمال وانقطاع النزاع ، وكان ربما توقف من حيث ظن عدم القدرة على ذلك بعد الموت ، قال منبهاً على تمام القدرة مقرراً عليه منكراً على من يتوقف فيه موبخاً له مرتباً على ما قام على القدرة على الإعادة من دليل القدرة الشهودي على البداية : { أليس ذلك } أي الخالق المسوي الإله الأعظم الذي قدر على هذه الإنشاءات وصنع هذه الصنائع المتقنة التي لا يقدر غيره على شيء منها ، وأعرق في النفي فقال : { بقادر } أي عظيم القدرة { على أن يحيي } أي كيف أراد دفعة أو في أوقات متعاقبة { الموتى * } فيقيم القيامة بل وعزته وجلاله وعظمته وكماله إنه على كل ما يريد قدير ، وقد رجع آخر السورة على أولها أتم رجوع ، والتأم به أتم التئام ، فتمت معانيها أعظم تمام بجمع العظام وإيجاد القيام ليوم التغابن والزحام - أعاننا الله فيه بحسب الختام ، روى البغوي بسنده من طريق أبي داود عن أعرابي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ منكم { والتين والزيتون } [ التين : 1 ] فانتهى إلى آخرها { أليس الله بأحكم الحاكمين } [ التين : 8 ] فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ، ومن قرأ { لا أقسم بيوم القيامة } [ القيامة : 1 ] فانتهى إلى قوله { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } [ القيامة : 40 ] فليقل بلى ، ومن قرأ المرسلات فقرأ { فبأي حديث بعده يؤمنون } [ المرسلات : 50 ] فليقل : » آمنا بالله « ورواه الترمذي وقال في آخر القيامة أن يحيي الموتى : » بلى وعزة ربنا « وقال الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد : وروى أحمد وفيه رجلان لم أعرفهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ : والمرسلات عرفاً فبأي حديث بعده يؤمنون ، ومن قرأ : والتين والزيتون ، فليقل : وأنا على ذلك من الشاهدين ، ومن قرأ : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ، فليقل بلى « والله الهادي للصواب .

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)

ولما تقدم في آخر القيامة التهديد على مطلق التكذيب ، وأن المرجع إلى الله وحده ، والإنكار على من ظن أنه يترك سدى والاستدلال على البعث وتمام القدرة عليه ، تلاه أول هذه بالاستفهام الإنكاري على ما يقطع معه بأن لا يترك سدى ، فقال مفصلاً ما له سبحانه عليه من نعمة الإيجاد والإعداد والإمداد والإسعاد : { هل أتى } أي بوجه من الوجوه { على الإنسان } أي هذا النوع الذي شغله عما يراد به ويراد له لعظم مقداره في نفس الأمر الأنس بنفسه والإعجاب بظاهر حسه والنسيان لما بعد حلول رمسه { حين من الدهر } أي مقدار محدود وإن قل من الزمان الممتد الغير المحدود حال كونه { لم يكن } أي في ذلك الحين كوناً راسخاً { شيئاً مذكوراً * } أي ذكراً له اعتبار ظاهر في الملأ الأعلى وغيره حتى أنه يكون متهاوناً به غير منظور إليه ليجوز أن يكون سدى بلا أمر ونهي ، ثم يذهب عدماً ليس الأمر كذلك ، بل ما أتى عليه شيء من ذلك بعد خلقه إلا وهو فيه شيء مذكور ، وذلك أن الدهر هو الزمان ، والزمان هو مقدار حركة الفلك - كما نقله الرازي في كتاب اللوامع في سورة « يس » عند قوله تعالى « ولا الليل سابق النهار » فإنه قال : الزمان ابتداؤه من حركات السماء فإن الزمان مقدار حركات الفلك - انتهى وآدم عليه السلام تم الخلق بتمام خلقه في آخر يوم الجمعة أول جمعة كانت ، وكانت طينته - قبل ذلك بمدة مخمرة هو فيها بين الروح والجسد ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : خلق الله آدم عليه السلام من تراب فأقام أربعين سنة ثم من طين أربعين سنة ثم من صلصال أربعين سنة ثم من حمإ مسنون أربعين سنة ثم خلقه بعد ستين ومائة سنة ، وقال البغوي : قال ابن عباس رضي الله عنهما : ثم خلقه بعد عشرين ومائة سنة : فحينئذ ما أتى عليه زمان إلا وهو شيء مذكور إما بالتخمير وإما بتمام التصوير ، فالاستفهام على بابه وهو إنكاري ، وليست « هل » بمعنى « قد » إلا إن قدرت قبلها الهمزة ، وكان الاستفهام إنكارياً لينتفي مضمون الكلام ، والمراد أنه هو المراد من العالم ، فحينئذ ما خلق الزمان إلا لأجله ، فهو أشرف الخلائق ، وهذا أدل دليل على بعثه للجزاء ، فهل يجوز مع ذلك أن يترك سدى فيفنى المظروف الذي هو المقصود بالذات ، ويبقى الظرف الذي ما خلق إلا صواناً له ، والذي يدل على ذلك من أقوال السلف أنه روي أن رجلاً قرأها عند ابن مسعود رضي الله عنه فقال : يا ليت ذلك لم يكن .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : قوله تعالى : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً } [ الإنسان : 1 ] تعريف الإنسان بحاله وابتداء أمره ليعلم أن لا طريق له للكبر واعتقاد السيادة لنفسه ، وأن لا يغلطه ما اكتنفه من الألطاف الربانية والاعتناء الإلهي والتكرمة فيعتقد أنه يستوجب ذلك ويستحقه

{ وما بكم من نعمة فمن الله } [ النحل : 53 ] ولما تقدم في القيامة إخباره تعالى عن حال منكري البعث عناداً واستكباراً وتعامياً عن النظر والاعتبار { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه } [ القيامة : 3 ] وقوله بعد { فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى } [ القيامة : 31 - 33 ] أي يتبختر عتواً واستكباراً ومرحاً وتجبراً ، وتعريفه بحاله التي لو فكر فيها لما كان منه ما وصف ، وذلك قوله { ألم يكن نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى } [ القيامة : 37 - 38 ] أتبع ذلك بما هو أعرق في التوبيخ وأوغل في التعريف وهو أنه قد كان لا شيء فلا نطفة ولا علقة ، ثم أنعم الله عليه بنعمة الإيجاد ونقله تعالى من طور إلى طور فجعله نطفة من ماء مهين في قرار مكين ثم كان علقة ثم مضغة إلى إخراجه وتسويته خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ، فمن اعتبر اتصافه بالعدم ثم تقلبه في هذه الأطوار المستنكف حالها والواضح فناؤها واضمحلالها ، وأمده الله تعالى بتوفيقه عرف حرمان من وصف في قوله : « ثم ذهب إلى أهله يتمطى » فسبحان الله ما أعظم حلمه وكرمه ورفقه ، ثم بين تعالى ما جعله للإنسان من السمع والبصر ابتلاء له ، ومن أدركه أدركه الغلط وارتكب الشطط - انتهى .
ولما ذكر مطلق خلقه ، وقرر أنه خلاصة الكون ، شرع يذكر كيفية خلقه ويدل على ما لزم من ذلك من أنه ما خلق الخلق إلا لأجله وأنه لا يجوز أن يهمل فقال معلماً بالحال التي هي قيد الجملة ومحط الفائدة أنه ما خلق إلا للآخرة ، مفصلاً أمر الإيجاد بالفاعل والصورة والمادة والغاية وأكده لإنكارهم له : { إنا } أي على ما لنا من العظمة { خلقنا } أي قدرنا وصورنا ، وأظهر ولم يضمر لأن الثاني خاص والأول عام لآدم عليه الصلاة والسلام وجميع ولده فقال : { الإنسان } أي بعد خلق آدم عليه الصلاة والسلام { من نطفة } أي مادة هي ماء جداً من الرجل والمرأة ، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة وهي المادة التي هي السبب الحامل للقوة المولدة .
ولما كان خلقه على طبائع مختلفة وأمزجة متفاوتة أعظم لأجره إن جاهد ما يتنازعه من المختلفات بأمر ربه الذي لا يختلف ، وكانت أفعاله تابعة لأخلاقه وأخلاقه تابعة لجبلته قال : { أمشاج } أي أخلاط - جمع مشج أو مشيج مثل خدن وخدين وأخدان ، وخلط وخليط وأخلاط ، من مشجت الشيء - إذا خلطته ، لأنه من مني الرجل ومني المرأة ، وكل منهما مختلف الأجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام والخواص تجتمع مع الأخلاط وهي العناصر الأربعة ، ماء الرجل غليظ أبيض ، وماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان الشبه له ، وما كان من عصب وعظم فمن نظفة الرجل ، وما كان من دم ولحم وشعر فمن ماء المرأة ، وقال يمان : كل لونين اختلطا فهو أمشاج ، وقال قتادة : هي أطوار الخلق من النطفة وما بعدهما ، وكما يشبه ما غلب عليه من باطن الأمشاج من الطيب والخبث ، وكيفية تمشيجه أن الماء إذا وصل إلى قرار الرحم اختلط بماء المرأة ثم بدم الطمث وخثر حتى صار كالرائب ثم احمر وحينئذ يسمى علقة ، فاذا اشتد ذلك الامتزاج وقوي وتمتن حتى استعد لأن يقسم فيه الأعضاء سمي مضغة ، فإذا أفيضت عليه صورة الأعضاء وتقسم كساه حينئذ مفيضه عز وجل لحماً ، فأفاض عليه القوة العاقلة ، ويسمى حينئذ جنيناً ، وذلك بعد تقسم أجزائه إلى عظام وعروق وأعصاب وأوتار ولحم ، فدور الرأس وشق في جانبيه السمع وفي مقدمه المبصر والأنف والفم ، وشق في البدن سائر المنافذ ثم مد اليدين والرجلين وقسم رؤوسها بالأصابع ، وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد - والطحال والرئة والمثانة ، فسبحان من خلق تلك الأشياء من نطفة سخيفة مهينة كوّن منها العظام مع قوتها وشدتها وجعلها عماد البدن وقوامه وقدرها بمقادير وأشكال مختلفة ، فمنها صغير وكبير ، وطويل وقصير ، وعريض ومستدير ، ومجوف ومصمت ، ودقيق وثخين ، ولم يجعلها عظماً واحداً لأن الإنسان محتاج إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه ثم جعل بين تلك العظام مفاصل ثم وصلها بأوتار أنبتها من أحد طرفي العظم وألصقها بالطرف الآخر بالرباط له ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة ، وفي الآخر حفراً موافقة لشكل الزوائد لتدخل فيها ، وخلق الرأس مع كريته من خمسة وخمسين عظماً مختلفة الأشكال وألف بعضها مع بعض ، فجعل في القحف ستة وفي اللحى الأعلى أربعة عشر ، واثنان للأسفل ، والباقي في الأسنان ، وجعل الرقبة مركباً للرأس وركبها من سبع خرزات فيها تجويفات وزيادات ونقصانات لينطبق بعضها على بعض ، وركب الظهر من أربع وعشرين خرزة وعظم العجز من ثلاثة أجزاء ، وجعل من أسفله عظم العصعص أو اللفة من ثلاثة أجزاء مختلفة ، ثم وصل عظام الظهر بعظام الصدر وعظام الكتف وغيرها حتى بلغ مجموع عظام بدن الإنسان مائتي عظم وثمانية وأربعين عظماً سوى العظام التي حشا بها خلل المفاصل ، وخلق سبحانه آلات التحريك للعظام وهي العضلات وهي خمسمائة وسبع وعشرون عضلة كل منها على قدر مخصوص ووضع مخصوص لو تغير عن ذلك أدنى تغير لاختلت مصالح البدن ، وكذا الأعصاب والأوردة والشرايين ، ثم انظر كيف خلق الظهر أساساً للبدن ، والبطن حاوياً لآلات الغذاء والرأس مجمعاً للحواس ، ففتح العين ورتب طبقاتها وأحسن شكلها ولونها وأحكمها بحيث ينطبع في مقدار عدسة منها صورة السماوات على عظمها ، وحماها بالأجفان لتسترها وتحفظها ، ثم أودع الأذنين ماء مراً يدفع عنها الهوام وحاطهما بصدفين لجمع الصوت ورده إلى الصماخ وليحس بدبيب الهوام وجعل فيها تعريجاً لتطويل الطريق فلا تصل الهوام إلى جرم الصماخ سريعاً ، ثم رفع الأنف في الوجه وأودع فيه حاسة الشم للاستدلال بالروائح على الأطعمة والأغذية ولاستنشاق الروائح الطيبة لتكون مروحة للقلب ، وأودع الفم اللسان وجعله على كونه لحمة واحدة معرباً عما في النفس ، وزين القم بالأنسان فحدد بعضها لتكون آلة للنقب وحدد بعضها لتصلح للقطع ، وجعل بعضها عريضاً مفلطحاً صالحاً للطحن وبيض ألوانها ورتب صفوفها وسوى رؤوسها ونسق ترتيبها حتى صارت كالدر المنظوم ، ثم أطبق على الفم الشفتين وحسن لونهما لتحفظا منفذه وهيأ الحنجرة لخروج الصوت ، وخالف أشكال الحناجر في الضيق والسعة والخشونة والملاسة والصلابة والرخاوة والطول والقصر ، فاختلفت الأصوات بسببها ليميز السامع المصوّتين بسبب تمييز أصواتهم فيعرفهم وإن لم يرهم ، وسخر كل عضو من أعضاء الباطن لشيء مخصوص ، فالمعدة لإنضاج الغذاء ، والكبد لإحالته إلى الدم ، والطحال لجذب السواد ، والمرارة لجذب الصفراء ، والكلية لجذب الفضلة المائية ، والمثانة لخدمة الكلية بقبول الماء عنها ثم إخراجه من طريقه ، والعروق لخدمة الكبد في إيصال الدم إلى سائر أطراف البدن ، وكان مبدأ ذلك كله النطفة على صغرها في داخل الرحم في ظلمات ثلاثة ولو كشف الغطاء وامتد البصر إليه لرأى التخطيط والتصوير يظهر عليه شيئاَ فشيئاً ولا يرى المصور ولا الإله ، فسبحانه ما أعظم شأنه وأبهر برهانه ، فيالله العجب ممن يرى نقشاً حسناً على جدار فيتعجب من حسنه وحذق صانعه ثم لا يزال يستعظمه ثم ينظر إلى هذه العجائب في نفسه وفي غيره ثم يغفل عن صانعه ومصوره فلا تدهشه عظمته ويحيره جلاله وحكمته .

ولما كان الإنسان مركباً من روح خفيف طاهر وبدن هو مركب الحظوظ والشهوات واللوم والدنيات ، فكان الروح بكماله والبدن بنقصانه يتعالجان ، كل منهما يريد أن يغلب صاحبه ، قوى سبحانه الروح بالشرع الداعي إلى معالي الأخلاق ، الناهي عن مساويها ، المبين لذلك غاية البيان على يد إنسان طبعه سبحانه على الكمال ليقدر على التلقي من الملائكة ، فيكمل أبناء نوعه ، فدل على ذلك بحال بناها من ضمير العظمة فقال مبيناً للغاية : { نبتليه } أي نعامله بما لنا من العظمة بالأمر والنهي والوعظ معاملة المختبر ونحن أعلم به منه ، ولكنا فعلنا ذلك لنقيم عليه الحجة على ما يتعارفه الناس ، فإن العاصي لا يعلم أنه أريد منه العصيان ، وكذا الطائع ، فصار التكليف بحسب وهمه لما خلق الله له من القوة والقدرة الصالحة في الجملة .
ولما ذكر الغاية ، أتبعها الإعدادات المصححة لها فقال : { فجعلناه } أي بما لنا من العظمة بسبب ذلك { سميعاً } أي بالغ السمع { بصيراً * } أي عظيم البصر والبصيرة ليتمكن من مشاهدة الدلائل ببصره وسماع الآيات بسمعه ، ومعرفة الحجج ببصيرته ، فيصح تكليفه وابتلاؤه ، فقدم العلة الغائية لأنها متقدمة في الاستحضار على التابع لها من المصحح لورودها ، وقدم السمع لأنه أنفع في المخاطبات ، ولأن الآيات المسموعة أبين من الآيات المرئية ، قال الرازي في اللوامع وإلى هنا انتهى الخبر الفطري ثم يبتدىء منه الاختبار الكسبي - انتهى .

وذلك بنفخ الروح وهي حادثة بعد حدوث البدن بإحداث القادر المختار لها بعد تهيئة البدن لقبولها ، ثم أفاض سبحانه على الجملة العقل ، وجعل السمع والبصر اللتين له ، ولعله خصهما لأنهما أنفع الحواس ، ولأن البصر يفهم البصيرة وهي تتضمن الجميع ، وجعل سبحانه له ذلك لاستقراء صور المحسوسات وانتزاع العلوم الكلية منها ، وبذلك يكمل علمه الذي منه الدفع عن نفسه التي جعلها الله تعالى محل التكليف ليكمل تكليفه ، وذلك أنه سبحانه ركبه من العناصر الأربعة ، وجعل صلاحه بصلاحها ، وفساده بفسادها لتعاليها ، فاضطر إلى قوى يدرك بها المنافي فيجتنبه والملائم فيطلبه ، فرتب له سبحانه الحواس الخمس الظاهرة ، فجعل السمع في الأذن ، والبصر في العين ، والذوق في اللسان ، والشم في الأنف ، وبث اللمس في سائر البدن ، ليدفع به عن جميع الأعضاء ما يؤذيها ، وهذه الحواس الظاهرة تنبعث عن قوة باطنة تسمى الحس المشترك بحمل ما أدركته فيرتسم هناك وهو في مقدم البطن الأول من الدماغ وينتقل ما ارتسم هنا إلى خزانة الخيال وهي في مؤخر هذا البطن من الدماغ فتحفظ فيها صورته وإن غابت عن الحواس ، وثم قوة أخرى من شأنها إدراك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات الشخصية كعداوة زيد وصداقته تسمى الوهم ومحلها الدماغ كله والأخص بها التجويف الأوسط وخصوصاً مؤخره ، وقوة أخرى أيضاً شأنها خزن ما أدركته القوة الوهمية من المعاني الجزئية تسمى الحافظة باعتبار ، والذاكرة باعتبار ، ومحلها التجويف المؤخر في الدماغ ، وقوة أخرى من شأنها تفتيش تلك الخزائن وتركيب بعض مودعاتها مع بعض وتفصيل بعضها مع بعض ومحلها وسلطانها في أول التجويف الأوسط ، وتلك القوة تسمى مخيلة باعتبار تصريف الوهم لها ومفكرة باعتبار استعمال النفس لها ، وقد اقتضت الحكمة الربانية تقديم ما يدرك الصور الجرمية وتأخير ما يدرك المعاني الروحانية ، وتوسيط المتصرف فيهما بالحكم والاسترجاع للأمثال المنمحية من الجانبين ، ثم لا تزال هذه القوى تخدم ما فوقها كما خدمتها الحواس الخمس إلى أن تصير عقلاً مستفاداً ، وهو قوة للنفس بها يكون لها حضور المعقولات بالفعل ، وهذا العقل هو غاية السلوك الطلبي للإنسان وهو الرئيس المطلق المخدوم للعقل بالفعل ، وهو القوة التي تكون للنفس بها اقتدار على استحضار المعقولات - الثانية وهو المخدوم للعقل الهيولاني المشبه بالهيولى الخالية في نفسها عن جميع الصور ، وهو قوة من شأنها الاستعداد المحض لدرك المعقولات باستعمال الحواس في تصفح الجزئيات واستقرائها المخدومات كلها للعقل العملي ، وهو القوة النظرية المخدوم للوهم المخدوم لما بعده من الحافظة وما قبله من المتخيلة المخدومتين للخيال المخدوم للحس المشترك المخدوم للحواس الظاهرة .

ولما كان كأنه قيل : هبه خلق هكذا فكان ماذا؟ قال شفاء لعيّ هذا السؤال وبياناً لنعمة الإمداد : { إنا } أي بما لنا من العظمة { هديناه } أي بينا له لأجل الابتلاء { السبيل } أي الطريق الواضح الذي لا طريق في الحقيقة غيره ، وهو طريق الخير الذي من حاد عنه ضل ، وذلك بما أنزل من الكتب وأرسلنا من الرسل ونصبنا من الدلائل في الأنفس والآفاق ، وجعلنا له من البصيرة التي يميز بها بين الصادق والكاذب وكلام الخلق وكلام الخالق والحق والباطل وما أشبهه .
ولما كان الإنسان عند البيان قد كان منه قسمان ، وكان السياق لبيان تعظيمه بأنه خلاصة الكون والمقصود من الخلق ، قال بانياً حالاً من ضميره في « هديناه » مقسماً له مقدماً القسم الذي أتم عليه بالبيان نعمة الهداية بخلق الإيمان ، لأن ذلك أنسب بذكر تشريفه للإنسان ، بجعله خلاصة الوجود وبقوله : « إن رحمتي سبقت غضبي » في سياق ابتداء الخلق ، معبراً باسم الفاعل الخالي من المبالغة ، لأنه لا يقدر أحد أن يشكر جميع النعم ، فلا يسمى شكوراً إلا بتفضل من ربه عليه : { إما شاكراً } أي لإنعامه ربه عليه .
ولما كان الإنسان ، لما له من النقصان ، لا ينفك غالباً عن كفر ما ، أتى بصيغة المبالغة تنبيهاً له على ذلك معرفاً له أنه لا يأخذه إلاّ بالتوغل فيه ليعرف نعمة الحلم عنه فيحمله الخجل على الإقبال على من يرضى منه بقليل الشكر ، ويحتمل أن يفهم ذلك أن من كفر نعمة واحدة فقد كفر الجميع فصار بليغ الكفر فقال : { وإما كفوراً } أي بليغ الكفر بالإعراض والتكذيب وعبادة الغير والمعاندة فإحسانه غير موف إساءته مفرطة ، وبدأ بالشكر لأنه الأصل ، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه » الحديث ، ورواه أحمد بن منيع عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ورواه الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه ولفظه : « كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه إما شاكراً وإما كفوراً » رواه الإمام أحمد أيضاً وأبو يعلى عن الأسود بن سريع رضي الله عنه .

إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)

ولما قسمهم إلى القسمين ، ذكر جزاء كل قسم فقال مستأنفاً جواب من يسأل عن ذلك مبشراً للشاكر الذي استعد بعروجه في مراقي العبادات إلى ملكوت العلويات لروح وريحان وجنة نعيم ، ومنذراً للكافر الذي استعد بالهبوط في دركات المخالفات إلى التقيد بالسفليات لنزل من حميم وتصلية جحيم ، مقدماً للعاصي لأن طريق النشر المشوش أفصح ، وليعادل البداءة بالشاكر في أصل التقسيم ليتعادل الخوف والرجاء ، وليكون الشاكر أولاً وآخراً ، ولأن الانقياد بالوعيد أتم لأنه أدل على القدرة لا سيما في حق أهل الجاهلية الذين بعدت عنهم معرفة التكاليف الشرعية ، وأكثر في القرآن العظيم من الدعاء بالترغيب والترهيب لأنه الذي يفهمه الجهال الذين هم أغلب الناس دون الحجج والبراهين ، فإنها لا يفهمها إلا الخواص ، وأكد لأجل تكذيب الكفار : { إنا } أي على ما لنا من العظمة { أعتدنا } أي هيأنا وأحضرنا بشدة وغلظة { للكافرين } أي العريقين في الكفر خاصة ، وقدم الأسهل في العذاب فالأسهل ترقياً فقال : { سلاسلاً } يقادون ويرتقون بها ، وقراءة من نوّن مشيرة إلى أنها عظيمة جداً ، وكذا وقف أبي عمرو عليه بالألف مع المنع من الصرف { وأغلالاً } أي جوامع تجمع أيديهم إلى أعناقهم فيها فيهانون بها { وسعيراً * } أي ناراً حامية جداً شديدة الاتقاد .
ولما أوجز في جزاء الكافر ، أتبعه جزاء الشاكر وأطنب فيه تأكيداً للترغيب ، فإن النفوس بعد كسر الوعيد لها تهتز لأدنى وعد وأقله فكيف بأتمه وأجله ، فقال مستأنفاً مؤكداً لتكذيب الكافر مبيناً بذكر الخمر على هذه الصفة أنهم في أنهى ما يكون من رغد العيش لأنه يلزم من شربها جميع مقدماتها ومتمماتها : { إن الأبرار } بخصوصهم من عموم الشاكرين جمع بر كأرباب جمع رب ، أو بار كأشهاد جمع شاهد ، وهم الذين سمت هممهم عن المستحقرات فظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة فأنفقوا من مساكنة الدنيا { يشربون } أي ما يريدون شربه { من كأس } أي خمر - قاله الحسن وهو اسم لقدح تكون فيه { كان مزاجها } أي الذي تمزج به { كافوراً * } أي لبرده وعذوبته وطيب عرفه ، وذكر فعل الكون يدل على أن له شأناً في المزج عظيماً يكون فيه كأنه من نفس الجبلة لا كما يعهد .
ولما كان الكافور أعلى ما نعهده جامداً ، بين أنه هناك ليس كذلك ، فقال مبدلاً من « كافور » : { عيناً يشرب بها } أي بمزاجها كما تقول : شربت الماء بالعسل { عباد الله } أي خواص الملك الأعظم وأولياؤه أي شراب أرادوه .
ولما كان المزاج يتكلف لنقله قال : { يفجرونها تفجيراً * } أي حال كونهم يشققونها ويجرونها بغاية الكثرة إجراء حيث أرادوا من مساكنهم وإن علت وغيرها .
ولما ذكر جزاءهم على برهم المبين لشكرهم ، أتبعه تفصيله فقال مستأنفاً بياناً لأن شكرهم بالتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وعمارة الظاهر والباطن لأنهم جمعوا بين كرم الطبع ولطافة المزاج الحامل على تجويز الممكن المقتضي للإيمان بالغيب : { يوفون } أي على سبيل الاستمرار { بالنذر } وهذا كناية عن وفائهم بجميع أنحاء العبادة لأن من وفى بما أوجبه على نفسه كان بما أوجبه الله من غير واسطة أوفى ، ويجوز أن يكون النذر كل ما تقدم إليهم فيه سبحانه .

ولما دل وفاؤهم على سلامة طباعهم ، قال عاطفاً دلالة على جمعهم للأمرين المتعاطفين فهم يفعلون الوفاء لا لأجل الخوف بل لكرم الطبع : { ويخافون } أي مع فعلهم للواجبات { يوماً كان } أي كوناً هو في جبلته { شره } أي ما فيه من الشدائد { مستطيراً * } أي موجود الطيران وجوداً كأنه بغاية الرغبة فيه فهو في غاية الانتشار ، والخوف أدل دليل على عمارة الباطن ، قالوا : وما فارق الخوف قلباً إلا خرب ، من خاف أدلج ، ومن أدلج المنزل ، فالخوف لاجتناب الشر والوفاء لاجتلاب الخير .
ولما كان من خاف شيئاً سعى في الأمن منه بكل ما عساه ينفع فيه ، وكان قد ذكر تذرعهم بالواجب ، أتبعه المندوب دلالة على أنهم لا ركون لهم إلى الدنيا ولا وثوق بها ، فقد جمعوا إلى كرم الطبع بالوفاء ورقة القلب شرف النفس بالانسلاخ من الفاني فقال : { ويطعمون الطعام } أي على حسب ما يتيسر لهم من عال ودون على الدوام . ولما كان الإنسان قد يسمح بما لا يلذ له قال : { على حبه } أي حبه إياه حباً هو في غاية المكنة منهم والاستعلاء على قلوبهم لقلته وشهوتهم له وحاجتهم إليه كما قال تعالى : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } [ آل عمران : 92 ] ليفهم أنهم للفضل أشد بذلاً ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم أي الصحابة رضي الله عنهم - ولا نصيفه » لقلة الموجود إذ ذاك وكثرته بعد { مسكيناً } أي محتاجاً احتياجاً يسيراً ، فصاحب الاحتياج الكثير أولى { ويتيماً } أي صغيراً لا أب له ذكراً كان أو أنثى { وأسيراً * } أي في أيدي الكفار أي أعم من ذلك ، فيدخل فيه المملوك والمسجون والكافر الذي في أيدي المسلمين ، وقد نقل في غزوة بدر أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان يؤثر أسيره على نفسه بالخبز ، وكان الخبز إذ ذاك عزيزاً حتى كان ذلك الأسير يعجب من مكارمهم حتى كان ذلك مما دعاه إلى الإسلام ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفعهم إليهم قال : « استوصوا بهم خيراً » ومن حكم الأسير الحقيقي كل مضرور يفعلون ذلك والحال أنهم يقولون بلسان الحال أو القال إن احتيج إليه إزاحة لتوهم المن أو توقع المكافأة مؤكدين إشارة إلى أن الإخلاص أمر عزيز لا يكاد أحد يصدق أنه يتأتى لأحد : { إنما نطعمكم } أيها المحتاجون { لوجه الله } أي لذات الملك الذي استجمع الجلال والإكرام لكونه أمرنا بذلك ، وعبر به لأن الوجه يستحيى منه ويرجى ويخشى عند رؤيته .

ولما أثبتوا بهذا الإخلاص ، حققوه بنفي ما يغير فيه ، وفسروه لما لا يكون إلا به فقالوا : { لا نريد منكم } أي لأجل ذلك { جزاء } أي لنا من أعراض الدنيا { ولا شكوراً * } بشيء من قول ولا فعل ، وكأنه اختير هذا المصدر المزيد كالدخول والخروج والقعود إيماءً إلى أن المنفي ما يتكلف له ، وأما مثل المحبة والدعاء فلا ، ولو أرادوا شيئاً من ذلك لما كان لله ، وروي في سبب نزول هذه الآية : « أن علياً وابنيه وأمهما فاطمة رضي الله عنهم أجمعين آثروا على أنفسهم ثلاثة أيام ، وأصبحوا الرابع يرتعشون ، فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ساءه ذلك ، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام بهذه السورة مهنئاً له بها » ولا يستبعد الصبر على الجوع هذه المدة لأنه ربما كانت للنفس هيئة قوية من استغراق في محبة الله تعالى أو غير ذلك ، فهبطت إلى البدن فشغلت الطبيعة عن تحليل الأجزاء فلا يحصل الجوع كما أنا نشاهد الإنسان يبقى في المرض الحاد مدة من غير تناول شيء من غذاء ولا يتأثر بدنه لذلك ، فلا بدع أن تقف الأفعال الطبيعية في حق بعض السالكين وهو أحد القولين في قول النبي صلى الله عليه وسلم « إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني » .

إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17)

ولما كانت الأنفس مجبولة على حب الجزاء والثناء ، فكان لا يكاد يصدق أحد أن أحداً يفعل ما لا يقصد به شيئاً من ذلك ، وكان الله سبحانه وتعالى قد منَّ علينا بأن جعل العبادة لأجل خوفه ورجائه لا يقدح في الإخلاص ، عللوا قولهم هذا على وجه التأكيد بقولهم : { إنا نخاف } ولما كان الخوف من المحسن بالنظر إلى إحسانه موجباً للخوف منه بالنظر إلى عزه وجبروته وسلطانه من باب الأولى قالوا : { من ربنا } أي الخالق لنا المحسن إلينا { يوماً } أي أهوال يوم هو - في غاية العظمة ، وبينوا عظمته بقولهم : { عبوساً } أي ضيقاً - قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، نسبوا العبوس إليه لأنه في شدته كالأسد الغضوب ، فهو موجب لعبوس الوجوه فيه أو هو لعبوس أهله ك « ليله قائم ونهاره صائم وعيشة راضية » { قمطريراً * } أي طويلاً - قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، أو شديد العبوس مجتمع الشر كالذي يجمع ما بين عينيه - مأخوذ من القطر لأن يومه يكون عابساً ، وزيد فيه الميم وبولغ فيه بالصيغة ، وهو يوم القيامة ، يقال : اقمطر اليوم فهو مقمطر - إذا كان صعباً شديداً .
ولما كان فعلهم هذا خالصاً لله ، سبب عنه جزاءهم فقال مخبراً أنه دفع عنهم المضار وجلب لهم المسار : { فوقاهم الله } أي الملك الأعظم بسبب خوفهم { شر ذلك اليوم } أي العظيم ، وأشار إلى نعيم الظاهر بقوله : { ولقّاهم } أي تلقية عظيمة فيه وفي غيره { نضرة } أي حسناً ونعمة تظهر على وجوههم وعيشاً هنيئاً ، وإلى نعيم الباطن بقوله : { وسروراً * } أي دائماً في قلوبهم في مقابلة خوفهم في الدنيا وعبوس الكفار في الآخرة وخزيهم - وهذا يدل على أن وصف اليوم بالعبوس للدلالة على المبالغة في عبوس أهله ، وأشار إلى المسكن بقوله : { وجزاهم بما صبروا } أي بسبب ما أوجدوه من الصبر على العبادة من لزوم الطاعة واجتناب المعصية ومنع أنفسهم الطيبات وبذل المحبوبات { جنة } أي بستاناً جامعاً يأكلون منه ما يشتهون جزاء على ما كانوا يطعمون . ولما ذكر ما يكسو الباطن ، ذكر ما يكسو الظاهر فقال : { وحريراً * } أي هو في غاية العظمة .
ولما ذكر أنه كفاهم المخوف وحباهم الجنة ، أتبعه حالهم فيها وحالها فقال دالاًّ على راحتهم الدائمة : { متكئين فيها } أي لأن كل ما أرادوه حضر إليهم من غير حاجة إلى حركة أصلاً ، ودل على الملك بقوله { على الأرآئك } أي الأسرة العالية التي في الحجال ، لا تكون أريكة إلا مع وجود الحجلة ، وقال بعضهم : هي السرير المنجد في قبة عليه شواره ونجده أي متاعه ، وهي مشيرة إلى الزوجات لأن العادة جارية بأن الأرائك لا تخلو عنهن بل هي لهن لاستمتاع الأزواج بهن فيها .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41