كتاب : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف : إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي

فهأنذا مفسدهم مع الأرض فاتخذ لك أنت تابوتاً مربعاً من خشب الساج - وفي نسخة : الشمشار - وأجعل في التابوت علالي . واطلها بالقار من داخلها وخارجها ، وليكن طول الفلك ثلاثمائة ذراع . وعرضه خمسين ذراعاً ، وسمكه ثلاثين ذراعاً ، واجعل في التابوت كوى وليكن عرضها من أعلاها ذراعاً واحداً ، واجعل باب الفلك في جانبه ، واجعل فيه منازل أسفل وأوساط وعلالي . وها أنذا محدر ماء الطوفان على الأرض لأفسد به كل ذي لحم فيه نسمة الحياة من تحت السماء ، ويبيد كل ما على الأرض ، وأثبت عهدي بيني وبينك . وتدخل التابوت أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك ، ومن كل حي من ذوي اللحوم من كل صنف اثنان لتحيى معك ، ولتكن ذكوراً وإناثاً ، من كل الطيور كأجناسها . ومن الأنعام لأصنافها ، ومن كل الهوام التي تدب على الأرض لجواهرها ، اثنين اثنين أدخل معك من كلها لتستحييها ذكراً وانثى ، واجعل من كل ما يؤكل فاخزنه معك ، وليكن مأكلك ومأكلها؛ فصنع نوح كل شيء كما أمر الله ثم قال الله لنوح : ادخل أنت وكل أهل بيتك إلى التابوت لأني إياك وجدت باراً تقياً في هذا الحقب ، ومن كل الأنعام الزكية أدخل معك سبعة سبعة من الذكور والإناث ، ومن الأنعام التي ليست بزكية أدخل معك اثنين ذكوراً وإناثاً . ومن الطير الزكي سبعة سبعة ذكوراً وإناثاً ، ومن الطير الذي ليس بزكي اثنين اثنين ذكوراً وإناثاً ، ليحي منها نسل على وجه الأرض ، لأني من الآن إلى سبعة أيام أهبط القطر على وجه الأرض أربعين يوماً ولياليها ، وأبيد كل ما خلقت على وجه الأرض؛ فصنع نوح كما أمره الرب الإله . فلما كان بعد بعد ذلك بسبعة ايام نزلت مياه الطوفان ، تفجرت مياه الغمر وتفتحت مثاعب السماء . وأقبلت الأمطار على وجه الأرض أربعين نهاراً وأربعين ليلة ، وفي هذا اليوم دخل نوح وسام وحام ويافث بنو نوح وامرأة نوح ونساء بنيه الثلاث معه الفلك هم وجميع السباع لأجناسها وجميع الدواب لأصنافها وكل حشرة تدب على الأرض بجواهرها وجميع الطيور لأجناسها ، ودخل مع نوح التابوت منكل عصفور ومن كل ذي جناحين اثنان اثنان ، ومن كل ذي لحم فيه روح الحياة وكل شيء دخل من ذوي اللحوم دخلوا ذكوراً وإناثاً كما أمر الله نوحاً ، ثم أغلق الله الرب الباب عليه ، وكان الطوفان على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة ، وكثرت المياه حتى احتملت التابوت فارتفع عن الأرض ، وعزرت المياه وكثرت على الأرض جداً وجعل التابوت يسير على وجه الماء واشتدت المياه على وجه الأرض جداً جداً .

وتوارت جميع الجبال العالية الشاهقة التي تحت السماء ، وارتفعت المياة من فوق كل جبل خمسة عشر ذراعاً ، وباد كل ذي لحم على الأرض من الطيور أجمع والسباع والدواب وجميع الحشرة التي تدب على الأرض وجميع الناس والبهائم ، ومات كل شيء كان فيه نسمة الحياة مما في اليبس . وبقي نوح ومن معه في الفلك ، واشتدت المياه على الأرض مائة وخمسين يوماً؛ وإن الله ذكر نوحاً وكل السباع والدواب وجميع الطيور التي معه في التابوت . فأهاج الله ريحاً على وجه الأرض فسكنت المياه والأمطار . واشتدت ينابيع الغمر وميازيب وغاضت المياه بعد مائة وخمسين يوماً ، وسكن التابوت ووقف في الشهر السابع لثلاث عشرة ليلة بقيت من الشهر على جبال قودي وجعلت المياه تنصرف وتنتقص إلى الشهر العاشر ، وظهرت رؤوس الجبال في أول يوم الشهر العاشر ، فلما كان بعد ذلك بأربعين يوماً فتح نوح الكوة التي عملها في التابوت فأرسل الغراب ، فخرج الغراب من عنده فلم يعد إليه حتى يبست المياه عن وجه الأرض ، ثم أرسل الحمامة من بعده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض فلم تجد الحمامة موضعاً لموطىء رجليها فرجعت إلى التابوت لأن المياه كانت بعد على وجه الأرض ، فمد يده فأخذها وأدخلها إليه وانتظر سبعة أيام أخرى ، ثم عاد فأرسل الحمامة فعادت عند المساء وفي منقارها ورقة زيتون ، فعلم أن الماء قد غاض عن وجه الأرض فصبر أيضاً سبعة أيام أخر ، ثم أرسل الحمامة فلم تعد إليه أيضاً ، ففتح نوح باب الفلك فرأى فإذا وجه الأرض قد ظهر وجفت الأرض . فكلم الرب الإله نوحاً وقال له : اخرج من التابوت أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك وكل السباع التي معك من كل ذي لحم والطيور والدواب ، وأخرج كل الهوام التي تدب على الأرض معك ، ولتتولد وتنمو في الأرض وتكثر وتزداد على الأرض . فخرج نوح ومن ذكر وبنى للرب مذبحاً وأخذ من جميع الدواب والطيور الزكية فأصعد منها على المذبح قرباناً للرب الإله ، فقال الرب الإله : لا أعود ألعن الأرض أبداً من أجل أعمال الناس لأن هوى قلب الإنسان وحقده رديء منذ صباه ولا أعود أيضاً أبيد كل حي كما فعلت ، ومن الآن جميع أيام الأرض يكون فيها الزرع والحصاد والبرد والحر والقيظ والشتاء ، فبارك الله على نوح وبنيه وقال لهم : انموا واكثروا واملؤوا الأرض ، وليغش رعبكم وخوفكم جميع السباع وبهائم الأرض وكل طيور السماء وكل دابة تدب على الأرض ، وجميع حيتان البحور تكون تحت أيديكم ، وكل الدواب الطاهرة الحية تكون لأكلكم ، وقد جعلت الأشياء كلها حلالاً لكم مثل عشب البرية خضرها ، وأما المخنوق الذي دمه فيه فلا تأكلوه فإن دمع نفسه ، وأما دماؤكم من أنفسكم فأطلبها بالنهي من يد جميع الحيوان ومن يد جميع الناس ، أي إنسان قتل أخاه طالبته بدمه ، ومن سفك دم الإنسان سفك دمه لأن الله خلق آدم بصورته ، وأنتم فانموا واكثروا وولدوا في الأرض وأكثروا فيها؛ وقال الله لنوح ولبنيه معه : هأنذا مثبت عهدي بيني وبينكم ومع أنسالكم من بعدهم ومع كل نفس حية منكم ، ومع الطيور والدواب ومع كل سباع الأرض جميع الذين خرجوا من الفلك .

وأثبت عهدي بيني وبينكم فلا يبيد كل ذي لحم أيضاً بماء الطوفان ولا يهبط الطوفان أيضاً ليفسد جميع الأرض ، قال الله لنوح : هذه علامة لعهدي الذي أجعله بيني وبينكم وبين كل نفس حية معكم في جميع أحقاب العالم ، قد أظهرت قوسي في السحاب فهي أمارة ذكر العهد الذي بيني وبينك وبين أهل الأرض ، فإذا أنشأت السحاب في الأرض وأظهرت قوس السحاب فاذكروا العهد الذي بيني وبينكم ، وكان بنو نوح الذين خرجوا معه من التابوت سام وحام ويافث ، وحاتم يكنى أبا كنعان ، هؤلاء الثلاثة ثم بنو نوح ، وتفرق الناس من هؤلاء في الأرض كلها؛ ثم ذكر أن نوحاً عليه السلام نام فرأى حام عريه فأظهر ذلك لأخويه ، فتناول سام ويافث رداء فألقياه على أكتافهما ثم سعيا على أعقابهما مدبرين فواريا عرى أبيهما ، فلما علم نوح ما صنع ابنه الأصغر دعا عليه أن يكون عبداً لأخويه ، وكانت جميع أيام حياة نوح تسعمائة سنة وخمسين سنة ، ثم توفي عليه الصلاة والسلام والتحية والإكرام؛ ثم ذكر أن الناس بعده أرادوا أن يبنوا صرحاً لاحقاً بالسماء ، واجتمع جميعهم على ذلك لأن لغتهم كانت واحدة ورأيهم واحد ففرق الله ألسنتهم وفرقهم من هنالك على وجه الأرض ولم يبنوا القرية التي هموا بها ، ولذلك سميت بابل وبوبال معناه بالعبراني : الشتات ، وما في تفسير البغوي وغيره من أن عوج ابن عوق - بضمهما كما في القاموس - كان في زمن نوح وسلم من الطوفان ، وأن الماء لم يجاوز ركبتيه ونحو هذا كذب بحت منابذ لقوله تعالى : { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } [ هود : 27 ] وقوله : { لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم } وقوله : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [ نوح : 26 ] ونحوها ، فإن كل من ذكر ذلك ذكر أن موسى عليه السلام قتله كافراً .

تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)

ولما تمت هذه القصة علىلنحو الوافي ببيان اجتهاد نوح علبه السلام في إبلاغ الإنذار من غير مراعاة إقبال ولا إدبار ، وكانت مع ذلك دالة على علم تام واطلاع على دقائق لا سبيل إليها إلا من جهة الملك العلام ، فهي على إزالة اللبس عن أمره صلى الله عليه وسلم أوضح من الشمس ، قال تعالى منبهاً على ذلك : { تلك } أي هذه الأنباء البديعة الشأن الغريبة الأمر البعيدة عن طوق المعارض ، العلية الرتب عن يد المتناول { من أنباء الغيب } أي أخباره العظيمة ، ثم أشار إلى أنه لا يزال يجدد له أمثالها بالمضارع في قوله : { نوحيها إليك } فكأنه قيل : إن بعض أهل الكتاب يعلم بعض تفاصيلها ، فأشار إلى أن ذلك مجموعة غيب وبما يعلمونه غيب نسبي بقوله : { ما كنت تعلمها } أي على هذا التفصيل { أنت } ولما كان خفاءها عن قومه دليلاً على خفائها عنه لأنه لم يخالط غيرهم قال : { ولا قومك } أي وإن كانوا أهل قوة في القيام على ما يحاولونه وعدداً كثيراً ، ومنهم من يكتب ويخالط العلماء .
ولما كان زمان خفاء ذلك عنهم - وإن كان عاماً لهم - بعض الزمان الماضي ، أدخل الجار فقال : { من قبل هذا } أي من إيحائي إليك حتى يطرق الوهم حينئذ أنك تعلمتها من أحد منهم وإن كان يعلم كثيراً منها أهل الكتاب كما رأيت عن نص التوراة فبان أن لا عرض لقومك إلا العناد { فاصبر } على ذلك ولا تفتر عن الإنذار فستكون لك العاقبة كما كانت لنوح لأجل تقواه { إن العاقبة } أي آخر الأمر من الفوز والنصر والسعادة { للمتقين* } أي العريقين في مخافة الله في كل زمن ، وقد تضمنت القصة البيان عما يوجبه حال أهل الخير والإيمان وأهل الشر والطغيان من الاعتبار بالنبأ عن الفريقين ليجتبي حال هؤلاء ويتقي حال أولئك لسوء العاقبة في الدنيا والآخرة .
ولما تم من ذلك ما هو كفيل بغرض السورة ، وختم بأن العاقبة دائماً للمتقين ، أتبع بالدليل على ذلك من قصص الأنبياء مع الوفاء بما سيقت له قصة نوح - على جميعهم السلام - من الحث على المجاهرة بالإنذار فقال تعالى : { وإلى } أي ولقد ارسلنا إلى { عاد أخاهم } وبينه فقال : { هوداً } ولما تقدم أمر نوح مع قومه ، استشرف السامع إلى معرفة ما قال هود عليه السلام هل هو مثل قوله أو لا؟ فاستأنف الجواب بقوله : { قال يا قوم } الذين هم أعز الناس لدي { اعبدوا الله } أي ذا الجلال والإكرام وحده؛ ثم صرح وعلل فقال : { ما لكم } وأغرق في النفي فقال : { من إله } أي معبود بحق { غيره } فدعا إلى أصل الدين كما هو دأب سائر النبين والمرسلين؛ ثم ختم ذلك بمواجهتهم بما يسوءهم من الحق وما ثناه عن ذلك رجاء ولا خوف فقال : { إن } أي ما { أنتم إلا مفترون* } أي متعمدون الكذب على الله في إشراككم به سبحانه لأن ما على التوحيد من أدلة العقل غير خاف على عاقل فكيف مع تنبيه النقل! وذلك مكذب لمن أشرك ، أي فاحذروا عقوبة المفتري؛ ثم نفى أن يكون له في ذلك غرض غير نصحهم بقوله موضع « إني ناصح لكم بهذا الأمر فلا يسوءكم مواجهتي لكم فيه بما تكرهون » { يا قوم } مكرراً لاستعطاف { لا أسألكم } أي في المستقبل كما لم أسالكم في الماضي { عليه } أي على هذا الإنذار { أجراً } أي فلست موضع تهمة { إن } أي ما؛ { أجري } ثم وصف من توكل عليه سبحانه بما يدل على الكفاية فعليّ وجوب شكره فقال : { إلا على الذي فطرني } أي أبتدأ خلقي ولم يشاركه فيّ أحد فهو الغني المطلق لا أوجه رغبتي إلى غيره كما يجب على كل أحد لكونه فطرة .

ولما كان الخلاف الذي لا حظ فيه جهة الدنيا لا يحتاج الإنسان في الدلالة على أن صاحبه ملجأ إليه من جهة الله ، وأنه لا نجاة إلا به إلى غير العقل ، سبب عن قوله هذا الإنكار عليهم في قوله : { أفلا تعقلون* } .
ولما دعاهم مشيراً إلى ترهيبهم مستدلاً على الصدق بنفي الغرض ، رغبهم في إدامة الخوف مما مضى بقوله : { ويا قوم } ومن هم أعز الناس عليّ ولهم قدرة على ما طلب منهم { استغفروا ربكم } أي اطلبوا غفرانه بطاعتكم له لما يجب له بإحسانه إليكم . وأشار إلى علو رتبة التوبة بأداة التراخي فقال : { ثم توبوا إليه } أي تسموا عالي هذه الرتبة بأن تطلبوا ستر الله لذنوبكم ثم ترجعوا إلى طاعته بالندم والإقلاع والاستمرار { يرسل السماء } أي الماء النازل منها أو السحاب بالماء { عليكم مدراراً } أي هاطلة بمطر غزير متتابع { ويزدكم قوة } أي عظيمة مجموعة { إلى قوتكم } ثم عطف على قوله { استغفروا } قوله : { ولا تتولوا } أي تكلفوا أنفسكم غير ما جبلت عليه من سلامة الانقياد فتبالغوا في الإعراض - بما أشار إليه إثبات التاء { مجرمين* } أي قاطعين لأنفسكم - ببناء أمركم على الظنون الفاسدة عن خيرات الدنيا والآخرة .

قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)

ولما محّض لهم النصح على غاية البيان ، ما كان جوابهم إلا أن { قالوا } أي عاد بعد أن أظهر لهم هود عليه السلام من المعجزات ما مثله آمن عليه البشر { يا هود } نادوه باسمه غلظة وجفاء { ما جئتنا ببينة } فأوضحوا لكل ذي لب أنهم مكابرون لقويم العقل وصريح النقل ، فهم مفترون كما كان العرب يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أتاهم من الآيات على يده ما يفوت الحصر { لولا أنزل عليه آية من ربه } { وما نحن } وأغرقوا في النفي فقالوا : { بتاركي آلهتنا } مجاوزين لها أو صادرين { عن قولك } وتركهم للعطف بالفاء - المؤذنة بأن الأول سبب الثاني أي الواو في قولهم : { وما نحن لك } أي خاصة ، وأغرقوا في التفي فقالوا : { بمؤمنين* } - دليل على أنهم تركوا إتباعه عناداً ، لا أنهم يعتقدون أنه لم يأت ببينة؛ وإلى ذلك يرشد أيضاً تعبيرهم بالاسمية التي تدل على الثبات فإذا نفي لم ينتف الأصل؛ والبينة : الحجة الواضحة في الفصل بين الحق والباطل ، والبيان : فصل المعنى من غيره حتى يظهر للنفس محرراً مما سواه ، والحامل على ترك البينة بعد ظهورها صد الشبهة عنها أو تقليد الرؤساء في دفعها واتهام موردها أو اعتقاد أصول فاسدة تدعو إلى جحدها أو العناد للحسد ونحوه ، والجامع له كله وجود الشبهة .
ولما قالوا هذا الكلام البين الفساد من غير تعرض لنقض ما قال لهم بنوع شبهة ، كان كأنه قيل لهم : هذا الذي قلته لكم وهو لا أبين منه ولا أعدل ، افرضوا أنه ما ظهر لكم صحته فما تقولون إنه حملني عليه مع أن فيه منابذتكم وأنتم أولاد عمي وأعز الناس عليّ؟ فقالوا : { إن نقول إلا اعتراك } أي أصابك وغشيك غشياناً التصق بك التصاق العروة بما هي فيه مع التعمد والقوة { بعض آلهتنا بسوء } من نحو الجنون والخبال فذاك الحامل لك على النهي عن عبادتها .
ولما كان الطبع البشري قاضياً بأن الإنسان يخشى ممن مسه بسوء وهو يتوهم أنه قادر على ضرره فلا يواجهه بما يكره ، وكان قولهم محركاً للسامع إلى الاستعلام عن حوابه لهم ، استأنف سبحانه الإخبار عنه بقوله : { قال } نافياً لما قالوا مبيناً أن آلهتهم لا شيء ضاماً لهم معها ، وأكد لأنهم بحيث لا يظنون أن أحداً لا يقول ما قاله { إني أشهد الله } أي الملك الأعظم ليقوم عذري عنده وعدل أدباً مع الله عن أن يقول : وأشهدكم - لئلا يتوهم تسوية - إلى صيغة الأمر تهاوناً بهم فقال : { واشهدوا } أي أنتم لتقويم الحجة عليكم لأيكم ويبين عجزكم ويعرف كل أحد أنكم بحيث يتهاون بكم وبدينكم ولا يبالي بكم ولا به { أني بريء مما تشركون* } وبين سفولها بقوله : { من دونه } كائناً ما كان ومن كان ، فكيف إذا لم يكن إلا جماداً { فكيدوني } حال كونكم { جميعاً } أي فرادى إن شئتم أو مجتمعين أنتم وآلهتكم .

ولما كانت المعاجلة في الحرب أهول ، وكان شأنها أصعب وأخطر ، بين عظمها بأداة التراخي فقال : { ثم لا تنظرون* } والكيد : طلب الغيظ بالسر في مكر ، وهذه الآية من أعلام النبوة الواضحة لهود عليه السلام ، فكأنه قيل : هب أن آلهتنا لا شيء ، فما حملك على الاجتراء على مخالفتنا نحن وأنت كثرتنا وقوتنا وأنت لا تزيد على أن تكون واحداً منا فقال : { إني } أي جسرت على ذلك لأني { توكلت } معتمداً { على الله } الملك المرهوب عقابه الذي لا ملك سواه ولا رب غيره؛ وبين إحاطة ملكه بقوله : { ربي وربكم } أي الذي أوجدنا ودبر أمورنا قبل أن يخلقنا فعلم ما يعمل كل منا في حق الآخرة لأنه { ما من دابة } أي صغرت أو كبرت { إلا هو آخذ } أي أخذ قهر وغلبة { بناصيتها } أي قادر عليها ، وقد صار الأخذ بالناصية عرفاً في القدرة ، لأن الكل جارون مع مراده لا مع مرادهم بل لا ينفك أحد عن كراهة لبعض ما هو فيه فدل ذلك قطعاً على أنه بغير مراده وإنما هو بمراد قاهر قهره على ذلك وهو الملك الأعلى سبحانه؛ والناصية : شعر مقدم الرأس ، ومن أخذ بناصيته فقد انقاد لأخذه لا يستطيع ميلاً { إن } أي لأن { ربي } أي المحسن إليّ بما أقامني فيه { على صراط } أي طريق واسع بين { مستقيم* } ظاهر أمره لكل أحد لا لبس فيه أصلاً ولا خلل ولا اضطراب ولا اعوجاج بوجه ، فلذلك كان كل من في الكون يتألهه ويدعو ويخافه ويرجوه وإن اتخذ بعضهم من دونه شركاء ، وأما ما يعبد من دونه فلا يعظمه إلا عابده ، وأما غير عابده فإنه لا يقيم له وزناً؛ فصح بهذا غالب على كل شيء غلبة يعلمها كل موجود من غير خفاء أصلاً ، فهو مرجو مرهوب بإجماع العقلاء بخلاف معبوداتكم ، والحاصل أنه يلزم الصراط المستقيم الظهور ، فيلزم عدم الاختلاف لانتفاء اللبس ، فمن كان عليه كان عليّ القدر شهير الأمر ، بصيراً بما يريد ، مع الثبات والتمكن ، مرهوب العاقبة ، مقصوداً بالاتباع والمحبة ، من لم يقبل إليه ضل ، ومن أعرض عنه أخذ لكثرة أعوانه وعز سلطانه ، فظهرت قدرته على عصمة من يتوكل عليه وعجز معبوداتهم معهم ، لأن نواصي الكل بيده وهو ربها وربهم ورب كل شيء ، فقد انطبق ختام الآية على قولهم { ما جئتنا ببينة } رداً له لأن من كان على صراط مستقيم لم يكن شيء أبين من أمره ، وعلى جوابه في توكله وما في حيزه أتم انطباق؛ والناصية : مقدم الشعر من الرأس ، وأصلها الاتصال من قولهم : مفازة تناصي مفازة - إذا كانت متصلة بها .

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)

ولما استوفى تشييده أمره وهدم قولهم ، أخذ يحذرهم فقال مبيناً أن العدول عما جاء به لا يكون إلا بمعالجة الطبع السليم : { فإن تولوا } ولو أدنى تولية - بما يشير إليه حذف التاء ، فعليكم اللوم دوني ، لأني فعلت ما عليّ { فقد } أي بسبب أني قد { أبلغتكم ما } أي كل شيء { أرسلت } أي تقدم إرسالي من عند من لا مرسل في الحقيقة غيره { به إليكم } كاملاً لم أدع منه شيئاً رجاء لإقبالكم ولا خوفاً من إعراضكم ، فأبيتم إلا التكذيب لي والاستكبار عما جئت به ، فالذي أرسلني ينتقم منكم فيهلككم { ويستخلف ربي } أي يوجد المحسن إليّ بإقامتي فيما يرضيه { قوماً غيركم } يخلفونكم في دياركم وأموالكم ، فتكونون أعداءه ، ويكون المستخلفون متعرضين لأن يكونوا أولياء مع كونهم ذوي بأس وقوة فيختص الضرر بكم { ولا تضرونه } أي الله بإعراضكم { شيئاً } ثم علل وعيده لهم بقوله مؤكداً لأن العاصي فاعل بعصيانه فعل من يظن أن الله غافل عنه : { إن ربي } أي المحسن إليّ المدبر لمصالحي .
ولما كان الأهم في هذا السياق بيان استعلائه وقدرته ، قدم قوله : { على كل شيء } صغيراً أو كبيراً جليل أو حقير { حفيظ* } أي عالم بكل شيء وقادر على كل شيء وبالغ الحفظ له ، فيعلم ما يعمل محفوظه فيجازيه بما يستحق من نعمه ونقمه ، فهو تعليل لاستخلاف غيرهم وتنزهه عن لحوق ضرر ، لأن الحفظ : الحراسة ، ويلزمها العلم والقدرة ، فمن القدرة حافظ العين ، أي لا يغلبه نوم ، والحفيظة - للحمية والغضب ، ومنهما معاً المحافظة - للمواظبة على الشيء؛ والتوالي عن الشيء : الذهاب إلى غير جهته إعراضاً عنه؛ والإبلاغ : إلحاق الشيء نهايته؛ والاستخلاف : جعل الثاني بدلاً من الأول يقوم مقامه؛ والضر : إيجاب الألم بفعله أو التسبب له .
ولما تم ذلك كان كأنه قيل : فلم يرجعوا ولم يرعووا لبينة ولا رغبة ولا رهبة فأنزلنا بهم أمرنا { ولما جاء أمرنا } أي وقت إرادتنا لإهلاك عاد { نجينا } أي تنجية عظيمة بما لنا من العظمة { هوداً والذين آمنوا } كائنين { معه } في الإيمان والنجاة من قومهم فلم يقدروا أن يصلوا إليهم بسوء مع اجتهادهم في ذلك وإعجابهم بقواهم ويقال : إن الذين آمنوا كانوا أربعة آلاف .
ولما كان سبحانه بحيث لا يجب عليه لأحد شيء لأنه لا يقدر أحد أن يقدره حق وإن اجتهد في طاعته ، فإن طاعته نعمة منه عليه ، أشار إلى ذلك بقوله : { برحمة منا } تحقيقاً لتوكل عبدناً؛ ولما بين إنجاءهم من قومهم بين إنجاءهم مما أهلكهم به فقال مكرراً ذكر التنجية دلالة على أن عذابهم كان في غاية الفظاعة : { ونجيناهم } أي بما لنا من العظمة ، وبين فظاعة ما أهلك به أعداءهم بقوله : { من عذاب غليظ* } أي أهلكنا به مخالفيهم وهو الريح الصرصر ، وهذا أولى من حمله على عذاب الآخرة لما يأتي من قوله { ومن خزي يومئذ } كأنهم كانوا إذا رأوا مخايل العذاب قصدوا نبيهم ومن آمن به ليهلكوهم قبلهم كما صرح به في قصة صالح؛ والنجاة : السلامة من الهلاك؛ وحقيقة الغلظة عظم الجثة ، فاستعير للعذاب لثقله على النفس وطول مكثه .

ولما تمت قصتهم على هذا الوجه لابديع والأسلوب المطرب ، قال تعالى عاطفاً على قوله { تلك من أنباء الغيب } : { وتلك عاد } أي قصة القوم البعداء البغضاء ، ما كنت تعلمها على هذا التفصيل أنت ولا قومك ولا أهل الكتاب ، وإنما نفيت عن أهل الكتاب لأنهم لا يعلمون إلا ما له أصل عن أنبيائهم ، وهذه وقصة ثمود ليستا في التوراة ولا شيء من أسفار أنبيائهم ، وسألت بعض علمائهم فلم أجد عنده شيئاً من علمها ولا حرفاً واحداً ولا سمع بعاد ولا هود ، وتلخيص قصتهم أنهم { جحدوا } أي كذبوا عناداً واستهانة { بآيات ربهم } المحسن إليهم { وعصوا رسله } فإن من عصى واحداً منهم فقد عصى الكل لاتفاقهم على أمر واحد مع التساوي في مطلق المعجزة { واتبعوا } أي بغاية جهدهم { أمر كل جبار } أي قاهر بليغ القهر يجبر غيره على ما يريد ، وهذا يدل على أنه لا عذر في أصل الدين بوجه فإن الضمائر لا يعلمها إلا الله فيمكن كل أحد مخالفة الجبار فيه { عنيد* } أي طاغ باغ لا يقبل الحق بوجه ، فأهلكوا ولم يمنعهم تجبرهم ولا أغنى عنهم عنادهم وتكبرهم { وأُتبعوا } جميعاً بعد إهلاكهم بأيسر وجه لعظيم قدرة المتبع { في هذه الدنيا } حقرها في هذه العبارة بما أشارت إليه الإشارة مع التصغير ، وبما دل على الدنو وبأن من اغتر بها فهو ممن وقف مع الشاهد لما له من الجمود { لعنة } أي طرداً وبعداً وإهلاكاً { ويوم القيامة } أي كذلك بل أشد ، فكأنه قيل : أفما لمصيبتهم من تلاف؟ فقيل : لا ، { ألا } مفتتحاً للإخبار عنهم بهذه الأداة التي لا تذكر إلا بين يدي كلام يعظم موقعه ويجل خطبه ، والتأكيد في الإخبار بكفرهم تحقيق لحالهم ، وفيه من أدلة النبوة وأعلام الرسالة الرد على طائفة قد حدثت بالقرب من زماننا يصوّبون جيمع الملل وخصوا عاداً هذه لكونها أغناهم بأن قالوا : إنهم من المقربين إلى الله وإنهم بعين الرضى منه ، فالله المسؤول في الإدالة عليهم وشفاء الصدور منهم ، وهم أتباع ابن عربي الكافر العنيد أهل الاتحاد ، المجاهرون بعظيم الإلحاد ، المستخفون برب العباد ، فلذلك قال تعالى مبيناً لحالهم بياناً لا خفاء معه : { إن عاداً كفروا } ولم يقصر الفعل ، بل عداه إعظاماً لطغيانهم فقال : { ربهم } أي غطوا جميع أنوار الظاهر الذي لا يصح أصلاً خفاءه لأنه لا نعمة على مخلوق إلا منه ، فكان كفرهم أغلظ الكفر ، ومع ذلك فلم ينثن هود عليه السلام عن إبلاغهم جميع ما أمر به ولا ترك شيئاً مما أوحي إليه فلك به أسوة حسنة وفيهم قدوة ، ومن كفر من أحسن إليه بعد بعداً لا قرب معه .

ولما كان الأمر عظيماً والخطب جليلاً ، كرر الأداة التي تقال عند الأمور الجليلة فقال : { ألا بعداً لعاد } هو من بعد - بكسر العين إذا كان بعده بالهلاك ، وبينهم بقوله : { قوم هود } تحقيقاً لهم لأنهم عادان : الأولى والآخرة ، وإيماء إلى أن استحقاقهم للإبعاد بما جرى لهو عليه السلام معهم من الإنكار والدعاء عليهم بعد الهلاك كناية عن الإخبار بأنهم كانوا مستحقين للهلاك؛ والجحد : الخبر عما يعلم صحته أنه لا يعلمها ، وهو ضد الاعتراف كما أن النفي ضد الإثبات ، فهو خبر بمجرد العدم فهو أعم؛ والعصيان خلاف ما أمر به الداعي على طريق الإيجاب؛ واللعنة : الدعاء بالإبعاد ، وأصلها الإبعاد من الخير؛ والإتباع : جعل الثاني على أثر الأول ، والإبلاغ أخص منه ، والمراد هنا بلوغها لهم لأن الذي قضى بذلك قادر وقد ألحق بهم عذاب الدنيا المبعد لهم من مظان الرحمة .

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)

ولما انقضت قصة عاد على ما أراد سبحانه ، أتبعها قصة من كانوا عقبهم في الزمن ومثلهم في سكنى أرض العرب وعبادة الأوثان والمناسبة في الأمر المعذب به لأن الموصل للصيحة إلى الأسماع هو الريح وفي خفاء أمرهم ، مفصلاً على أهل ذلك الزمان فقال : { *وإلى } أي ولقد أرسلنا إلى { ثمود أخاهم } وبينه بقوله : { صالحاً } ثم أخرج قوله صلى الله عليه وسلم على تقدير سؤال فقال : { قال يا قوم } أي يا من يعز عليّ أن يحصل لهم سوء { اعبدوا الله } أي الملك الأعظم وحده لأن عبادتكم له مع غيره ليست بشيء؛ ثم استأنف تفسير ذلك فقال : { ما لكم } أغرق في النفي فقال : { من إله غيره } جرياً على منهاج الدعاة إلى الله في أصل الدين ، وهو إفراد المنعم بالعبادة .
ولما أمرهم بذلك ، ذكرهم قدرته ونعمته مرغباً مرهباً فقال : { هو } أي وحده { أنشأكم } أي ابتدأ خلقكم { من الأرض } بخلق آدم عليه السلام منها بغير واسطة وبخلقكم من المني من الدم وهو من الغذاء وهو من النبات وهو من الأرض كما أنشأ أوثانكم منها { و } وفع مقداركم عليه بأن { استعمركم } أي أهلكم لما لم يؤهل له الأوثان من أن تكونا عماراً { فيها } فلا تنسوا حق إلهكم وما فضلكم به من حق أنفسكم بخضوعكم لما لا يساويكم فكيف بمن أنشأكم وإياها؛ والإنشاء : الابتداء بالإيجاد من غير استعانة بشيء من الأسباب .
ولما بين لهم سبحانه عظمته ، وكان الشيطان قد شبه عليهم لأنه لعظمته لا يوصل إليه بوسيلة كما هو حال الملوك وألقى إليهم أن الأوثان وسائل ، نفى ذلك مبيناً طريق الرجوع إليه بقوله : { فاستغفروه } أي فأقبلوا بكل قلوبكم عليه طالبين أن يستر ذنوبكم؛ وذكر شرط المغفرة بقوله مشيراً بأداة البعد إلى عظيم المنزلة : { ثم توبوا } أي ارجعوا بجميع قلوبكم { إليه } ثم علل ذلك بلطفه وعطفه ترغيباً في الإقبال إليه فقال مؤكداً لأن من يرى إمهاله للعصاة يظن الظنون ومن عصاه كان عمله عمل من ينكر قربه وإجابته : { إن ربي } الذي أخلصت له العبادة لإحسانه إليّ وأدعوكم إلى الإخلاص له لإحسانه إليكم { قريب } من كل من أقبل إليه من غير حاجة إلى معاناة مشي ولا حركة جارحة { مجيب* } لكل من ناداه لا كمعبوداتكم في الأمرين معاً .
ولما دعاهم إلى الحق ونصب لهم عليه من الأدلة ما هم به معترفون وذكرهم نعمه مومئاً إلى التحذير من نقمه ، وسهل لهم طريق الوصول إليه ، ما كان جوابهم إلا أن سلخوه من طور البشرية لمحض التقليد ، فلذلك استأنف الإخبار عن جوابهم بقوله : { قالوا } أي ثمود { يا صالح } نادوه باسمه قلة أدب منهم وجفاء { قد كنت فينا } أي فيما بينا إذا تذاكرنا أمرك { مرجواً } أي في حيز من يصح أن يرجى أن يكون فيه خير وسؤدد ورشد وصلاح ، واستغرقوا الزمان فحذفوا الجار وقالوا : { قبل هذا } أي الذي دعوتنا إليه فأما بعد هذا فانسلخت من هذا العداد؛ ثم بينوا ما أوجب سقوطه عندهم بقولهم منكرين إنكار محترق { أتنهانا } أي مطلق نهي { أن نعبد } أي دائماً { ما يعبد آباؤنا } وعبروا بصيغة المضارع تصويراً للحال كأن آباءهم موجودون فلا تمكن مخالفتهم إجلالاً لهم ، فأجلوا من يرونه سبباً قريباً في وجودهم ولم يهابوا من أوجدهم وآباءهم أولاً من الأرض وثانياً من النطف ، ثم خولهم فيما هم فيه ، ثم فزعوا - في أصل الدين بعد ذكر الحامل لهم على الكفر المانع لهم من تركه - إلى البهت بأن ما يوجب القطع لكل عاقل من آيته الباهرة لم يؤثر عندهم إلا ما هو دون الظن في ترك إجابته ، فقالوا مؤكدين لأن شكهم حقيق بأن ينكر لأنه في أمر واضح جداً لا يحتمل الشك أصلاً : { وإننا لفي شك } وزادوا التأكيد بالنون واللام وبالإشارة بالظرف إلى إحاطة الشك بهم { مما } ولما كان الداعي واحداً وهو صالح عليه السلام لم يلحق بالفعل غير نون واحدة هي ضميرهم بخلاف ما في سورة إبراهيم عليه السلام فلذلك قالوا : { تدعونا إليه } من عبادة الله وحده { مريب* } أي موقع في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين؛ والرجاء : تعلق النفس لمجيء الخير على جهة الظن ، ونظيره الأمل والطمع؛ والنهي : المنع من الفعل بصيغة لا تفعل .

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)

ولما أبرزوا له أمرهم في قالب الشك على سبيل الجزم ، قابلهم بمثله على سبيل الفرض إنصافاً لهم لئلا يلائم الخطاب حال المخاطبين ، فاستأنف سبحانه الإخبار عنه بذلك في قوله : { قال } أي صالح نادياً لهم إلى النظر في أمره برفق { يا قوم أرءيتم } أي أخبروني { إن كنت } أورده بصيغة الشك لأن خطابه للجاحدين { على بينة من ربي } أي المحسن إليّ ، لا شك عندي فيها { وآتاني منه رحمة } أي أوامر هي سبب الرحمة { فمن ينصرني } وأظهر موضع الإضمار وعبر بالاسم الأعظم لاقتضاء المقام التهويل فقال : { من الله } أي الملك الأعظم { إن عصيته } أي إن وقوعكم في الشك على زعمكم حملكم على هيئة الإباء في التلبس بأعمالهم مع زوالهم واضمحلالهم لو كانوا موجودين وعصيتموهم لم تبالوا بهم ، وأما أنا فالذي أمرني بعبادته حي قادر على جزاء من يطيعه أو يعصيه ، وأقل ما يحمل على طاعته الشك في عقوبته ، وهو كاف للعاقل في ترك الخطر { فما } أي فتسبب عن نهيكم لي عن الدعاء إليه سبحانه أنكم ما { تزيدونني } بذلك شيئاً في عملي بما ترمونه مني من عطفي عنه باتباعكم في عملكم أو الكف عنكم لأصير في عداد من يرجى عندكم ممن له عقل { غير تخسير* } أي إيقاعي في الخسارة على هذا التقدير : فلا تطمعوا في تركي لشيء من مخالفتكم ما دمتم على ما أنتم عليه ، والآية كما ترى ناظرة إلى قوله تعالى { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } .
ولما أخبرهم أن معصية الله خسران ، ذكرهم أمر الناقة التي أخرجها سبحانه لهم من الأرض شاهداً على كونهم مساوين للأوثان في كونهم منها مفضلين عليها بالحياة محذراً لهم من شديد انتقامه فقال : { ويا قوم هذه } إشارة إلى حاضر ، وذلكم بعد أن أخرجها لهم سبحانه عندما دعاه صالح عليه السلام؛ وبين الإشارة بقوله : { ناقة الله } أي الملك الأعلى ، ثم بني حالاً من { آية } مقدماً عليها لئلا يكون صفة لها فقال : { لكم } أي خاصة لنظركم إياها عندما خرجت ولكل من سمع بها بعدكم ، وليس الخبر كالمعاينة ، أشير إليها حال كونها { آية } بكون الله تعالى أخرجها لكم من صخرة ، وهي عشراء على حسب ما اقترحتم وأنتم تشاهدون وبكونها تنفرد بشرب يوم ، وتنفردون كلكم بشرب يوم وتنفرد برعي يوم ، وتنفرد جميع الحيوانات من دوابكم ووحوش بلادكم برعي يوم إلى غير ذلك مما أنتم له مبصرون وبه عارفون { فذروها } أي اتركوها على أيّ حالة كان ترككم لها { تأكل } أي مما أرادت { في أرض الله } أي الملك الذي له الأمر كله التي خلقها منها { ولا تمسوها بسوء } والأكل : مضغ يقع عند بلع؛ والمس مطلق الإصابة ويكون بين الحيوان وغيره ، واللمس أخص منه لما فيه من الإدراك { فيأخذكم } أي فيتسبب عن ذلك أن يأخذكم { عذاب قريب* } أي من زمن إصابتكم لها بالسوء؛ ثم اشار إلى قرب مخالفتهم لأمره فيها بقوله مسبباً عن أوامره ونواهيه ومعقباً : { فعقروها } أي الناقة { فقال } أي عند بلوغه الخبر { تمتعوا } أي أنتم تعيشون { في داركم } أي داركم هذه ، وهي بلدة الحجر { ثلاثة أيام } أي بغير زيادة عليها ، فانظروا ماذا يغني عنكم تلذذكم وترفهكم وإن اجتهدتم فيه .

ولما كان كأنه قيل : هل في هذا الوعيد مثنوية ، قال مجيباً : { ذلك } أي الوعد العالي الرتبة في الصدق والغضب { وعد غير مكذوب* } أي فيه؛ والتمتع : التلذذ بالمدركات الحسان من المناظر والأصوات وغيرها مما يدرك بالحواس ، وسميت البلاد داراً لأنها جامعة لأهلها - كما تجمع الدار - ويدار فيها ، وأشار إلى تعقب العذاب للأيام وتسببه عن الوعيد المعين بقوله : { فلما جاء أمرنا } بالفاء بخلاف ما في قصة هود وشعيب عليهما السلام ، أي مع مضي الأيام كان أول ما فعالنا أن { نجينا } بنا لنا من العظمة أولياءنا { صالحاً والذين آمنوا معه } من كيد قومهم ، وبين أن إحسانه سبحانه لا يكون إلا فضلاً منه بقوله : { برحمة منا } وذلك أنه عليه السلام قال لهم : تصبحون غداً يوم مؤنس - يعني الخميس - ووجوهكم مصفرة ، ثم تصبحون يوم عروبة - يعني الجمعة - ووجوهكم محمرة ، ثم تصبحون يوم شبار ووجوهكم مسودة ، ثم يصبحكم العذاب يوم أول - أي الأحد - فقال التسعة رهط الذين عقروا الناقة : هلم فلنقتل صالحاً ، فإن كان صادقاً عجلناه قبلنا ، وإن كان كاذباً قد كنا ألحقناه بناقته ، فأتوه ليلاً ليبيتوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة ، فلما أبطؤوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح : أنت قتلتهم! ثم هموا به فقامت عشيرته دونهم ولبسوا السلاح وقالوا لهم : والله لا تقتلونه أبداً فقد وعدكم أن العذاب يكون بكم بعد ثلاث ، فإن كان صادقاً لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضباً ، وإن كان كاذباً فأنتم وراء ما تريدون ، فانصرفوا فلما أصبحت وجوههم مصفرة عرفوا أنه قد صدقهم ، فطلبوه ليقتلوه فجاء إلى بطن منهم يقال له ( بنو غنم ) فنزل على سيدهم رجل فغيبه عنده ، فعدوا على أصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه فقالوا : يا نبي الله! إنهم يعذبوننا لندلهم عليك ، أفندلهم؟ قال : نعم ، فدلوهم عليه فأتوه فقال الغنمي : نعم عندي ولا سبيل إليه ، فتركوه وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم كذا ذكر ذلك البغوي عن ابن اسحاق ووهب وغيرهما مطولاً .
ولما ذكر نجاتهم من كل هلكة ، ذكر نجاتهم من خصوص ما عذب به قومهم فقال : { ومن } أي ونجيناهم من { خزي } أي ذل وفضيحة { يومئذ } أي يوم إذ جاء أمرنا بإهلاكهم بالصيحة وحل بهم دونهم فرقاً بين أوليائنا وأعدائنا ، وحذف « نجينا » هنا يدل على أن عذابهم دون عذاب عاد؛ ثم عقب ذلك بتعليله إهلاكاً وإنجاء باختصاصه بصفات القهر والغلبة والانتقام فقال : { إن ربك } أي المحسن إليك كما أحسن إلى الأنبياء من قبلك { هو } أي وحده { القوي } فهو يغلب كل شيء { العزيز* } أي القادر على منع غيره من غير أن يقدر أحد عليه أو على الامتناع منه ، من عز الشيء أي امتنع ، ومنه العزاز - للأرض الصلبة الممتنعة بذلك عن التصرف فيها؛ والخزي : العيب الذي تظهر فضيحته ويستحي من مثله؛ ثم بين إيقاعه بأعدائه بعد إنجائه لأوليائه فقال معظماً للأخذ بتذكير الفعل : { وأخذ الذين ظلموا الصيحة } وأشار إلى عظمة هذه الصيحة بإسقاط علامة التأنيث وسبب عنها قوله : { فأصبحوا في ديارهم جاثمين* } أي ساقطين على وجوههم ، وقيل : جاثين على الركب موتى لا حراك بهم ، وتقدم سر التعبير بالديار مع الصيحة والدار مع الرجفة في الأعراف ، وخصت هود بما ذكر فيها لأن مقصودها أعظم نظر إلى التفصيل ، وكل من الديار والصيحة أقرب إلى ذلك .

ولما كان الجثوم كناية عن الموت أوضحه بقوله : { كأن } أي كأنهم { لم يغنوا } أي يقيموا أغنياء لاهين بالغناء { فيها } ثم نبه - على ما استحقوا به ذلك لمن لعله يغفل فيسأل - بقوله مفتتحاً بالأداة التي لا تقال إلا عند الأمور الهائلة : { ألا إن ثموداً } قراءة الصرف دالة على الاستخفاف بهم لطيشهم في المعصية { كفروا ربهم } أي أوقعوا التغطية والستر على المحسن إليهم بالخلق والرزق والإرسال وهو الظاهر وبصفاته وأفعاله ، فلا يخفى على أحد أصلاً ، فإيصال الفعل دون قصره كما في أكثر أضرابه بيان لغلظة كفرهم؛ ثم كرر ذلك تأكيداً له وإعلاماً بتأبيد هلاكهم بقوله : { ألا بعداً لثمود* } ترك صرفهم في قراءة غير الكسائي إيذاناً بدوام لبثهم في الطرد والبعد؛ والصيحة : صوت عظيم من فم حي ، والجثوم لدوام مكان واحد أو السقوط على الوجه ، وقيل : القعود على الركب؛ وقال { أصبحوا } زيادة في التخويف والتأسيف بما وقع لهم من التحسير لو أدركه أحد منهم لأن الإنسان يفرح إذا أصبح بقيامه من نومه مستريحاً قادراً على ما يريد من الحركات للاستمتاع بما يشتهي من التصرفات ، فأصبح هؤلاء - بعد هذه الصفة على ما قص الله - خفوتا أجمعين كنفس واحدة رجالاً ونساء صغاراً وكباراً كأنهم بم يكونوا أصلاً ، ولا أصدروا فصلاً ولا وصلاً كأنهم لم يكونوا للعيون قرة ، ولم يعدوا في الأحياء مرة كأن لم يغنوا أي يقيموا لانقطاع آثارهم إلا ما بقي من أجسادهم الدالة على الخزي؛ والمغاني : المنازل ، وأصل الغناء الاكتفاء؛ ومعنى « ألا » التنبيه؛ قال الرماني : وهي ألف الاستفهام دخلت على « لا » فالألف تقتضي معنى ، و « لا » تنفي معنى ، فاقتضى الكلام بهما معنى التنبيه مع نفي الغفلة - انتهى .

وكان حقيقته - والله أعلم - أن « لا » دخلت على ما بعدها فنفته ، ثم دخلت عليها همزة الإنكار فنفتها ، ومن المعلوم أن نفي النفي إثبات فرجع المعنى كما كان على أتم وجوه التنبيه والتأكيد ، لأن إثبات المعنى بعد نفيه آكد من إثباته عرياً عن النفي ولا سيما إذا كان المفيد لذلك الإنكار ، وهذا المعنى مطرد في ألا العرضية وهلا التخصيصية ونحوهما ، ويمشي في كل صلة بأن تردها إلى أصل مدلولها في اللغة ثم تتصرف بما يقتضيه الحال - والله الهادي! ولما جاز الصرف في ثمود باعتبار أنه اسم أبي القبيلة وعدمه باعتبار إطلاقه على القبيلة اختير الصرف في النصب فقط لخفته .

وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)

ولما انقضت القصة على هذا الوجه الرائع ، أتبعها قصة لوط عليه السلام إذ كانت أشهر الوقائع بعدها وهي أفظع منها وأروع ، وقدم عليها ما يتعلق بها من أمر إبراهيم عليها لسلام ذكر بشراه لما في ذلك كله من التنبيه لمن تعنت بطلب إنزال الملائكة في قولهم { أو جاء معه ملك } على أن ذلك ليس عزيزاً عليه . وقد أكثر من فعله ولكن نزولهم مرهب ، وأمرهم عند المكاشفة مرعب ، وأما مع الستر فلا يقطع تعنتهم ، هذا مع ما في ذلك من مناسبة أمر هذا الولد لأمر الناقة في تكوين كل منهما بخارق للعادة إشارة إلى تمام القدرة وكمال العلم المبني عليه أمر السورة في إحكام الكتاب وتفصيله وتناسب جدالي نوح وإبراهيم عليهما السلام في أن كلاً منهما شفقة على الكافرين ورجاء لنجاتهم من العذاب بحسن المثاب ، ولعله سبحانه كرر « لقد » في صدرها عطفاً على ما في قصة نوح للتنبيه على مثل الأغراض ، لأن « قد » للتوقع فجاءت لتؤذن بأن السامع في حال توقع لذلك لأنه إذا انقضت قصة الخبر عما بعدها فقال تعالى : { ولقد } قال الرماني : ودخلت اللام لتأكيد الخبر كما يؤكد القسم { جاءت رسلنا } أي الذين عظمتهم من عظمتنا ، قيل : كانوا جبرئيل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام { إبراهيم } هو خليل الله عليه السلام { بالبشرى } أي التي هي من أعظم البشائر وهي إكرامه بإسحاق عليه السلام ولداً له من زوجته سارة رضي الله عنها ، جاءوه في الصفة التي يحبها وهي صفة الأضياف ، فلم يعرفهم مع أنه الخليل بل إنكارهم كما قال تعالى في الذاريات { قال سلام قوم منكرون } [ الذاريات : 25 ] فيحمل إنكاره أولاً على الاستغراب بمعنى أنه لم ير عليهم زيّ أهل تلك البلاد ولا أثر سفر ، فكأنه قيل : ما كان من أمرهم؟ فقيل : { قالوا سلاماً } أي سلمنا عليك سلاماً عظيماً { قال سلام } أي ثابت دائم عليكم لا زوال له أبداً ، فللرفع مزية على النصب لأنه إخبار عن ثابت ، والنصب تجديد ما لم يكن ، فصار مندرجاً في { فحيوا بأحسن منها } [ النساء : 86 ] ثم أكرم نزلهم وذهب يفعل ما طبعه الله عليه من سجايا الكرم وأفعال الكرام في أدب الضيافة من التعجيل مع الإتقان { فما لبث } أي فتسبب عن مجيئهم وتعقبه أنه ما تأخر { أن جاء بعجل حنيذ* } أي مشوي على حجارة محماة في أخدود وفوقه حجارة محماة ليشتد نضجه ، فكان بعد الشيّ يقطر دسمه لأنه سمين ، كل ذلك وهو لا يعرف أنهم ملائكة ، بل هو قاطع بأنهم ممن يأكل ، وهذا ناظر إلى قول قوم نوح { وما نرى لكم علينا من فضل } وقوله { ولا أقول للذين تزدري أعينكم } الآية ، أي إن الله جعل المعاني في القلوب وناط بها السعادة والشقاوة ، وقد تخفي تلك المعاني كما خفي على أكمل أهل ذلك الزمان أن ضيفه ملائكة حتى خاف منهم وقد أتوه بالبشرى ، فلا ينبغي لأحد أن يحتقر أحداً إلا بما أذن الله فيه .

ولما وضع الطعام بين أيديهم لم يلموا به { فلما رأى أيديهم } أي الرسل عقب الوضع سواء { لا تصل إليه } أي إلى العجل الذي وضعه ليأكلوه { نكِرهم } أي اشتدت نكارته لهم وانفعل لذلك ، وهذا يدل على ما قال بعض العلماء : إن نكر أبلغ من أنكر { وأوجس } أي أضمر مخفياً في قلبه { منهم خيفة } أي عظيمة لما رأى من أحوالهم وشاهد من جلالهم ، وأصل الوجوس : الدخول ، والدليل - على أن خوفه كان لعلمه بالتوسم أنهم ملائكة نزلوا لأمر يكرهه من تعذيب من يعز عليه أو نحو هذا - أنهم { قالوا لا تخف } ثم عللوا ذلك بقولهم { إنآ أرسلنآ } أي ممن لا يرد أمره { إلى قوم لوط } فإنهم نفوا الخوف عنه بالإعلام بمن أرسلوا إليه ، لا بكونهم ملائكة ، قالوا ذلك وبشروه بالولد { وامرأته } أي جاءته الرسل بالبشرى أي ذكروها له والحال أن زوجة إبراهيم التي هي كاملة المروءة وهي سارة { قآئمة } قيل : على باب الخيمة لأجل ما لعلها تفوز به من المعاونة على خدمتهم ، فسمعت البشارة بالولد التي دل عليها فيما مضى قوله { بالبشرى } { فضحكت } أي تعجبت من تلك البشرى لزوجها مع كبره ، وربما طنته من غيرها لأنها - مع أنها كانت عقيماً - عجوز ، فهو من إطلاق المسبب على السبب إشارة إلى أنه تعجب عظيم { فبشرناها } أي فتسبب عن تعجبها أنا أعدنا لها البشرى مشافهة بلسان الملائكة تشريفاً لها وتحقيقاً أنه منها { بإسحاق } تلده { ومن وراء إسحاق يعقوب } أي يكون يعقوب ابناً لإسحاق ، والذي يدل على ما قدّرته - من أنهم بشروه بالولد قبل امرأته فسمعت فعجبت - ما يأتي عن نص التوراة ، والحكم العدل على ذلك كله قوله تعالى في الذاريات { قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها } [ الذاريات : 28-29 ] - الآية .
ولما شافهوها بذلك ، صرحت بوجه العجب من أنه جامع بين عجبين في كونه منه ومنها بأن { قالت يا ويلتي } وهي كلمة تؤذن بأمر فظيع تخف على أفواه النساء ويستعملنها إلى اليوم ، لكنهن غيرن في لفظها كما غير كثير من الكلام؛ والويل : حلول الشر؛ والألف في آخره بدل عن ياء الإضافة ، كنى بها هنا عن العجب الشديد لما فيه من الشهرة ومراجمة الظنون؛ وقال الرماني : إن معناها الإيذان بورود الأمر الفظيع كما تقول العرب : يا للدواهي! أي تعالين فإنه من أحيانك فحضور ما حضر من أشكالك .
ولما كان ما بشرت به منكراً في نفسه بحسب العادة قالت : { ءَألد وأنا } أي والحال أني { عجوز وهذا } أي من هو حاضري { بعلي شيخاً } ثم ترجمت ذلك بما هو نتيجته فقالت مؤكدة لأنه - لما له من خرق العوائد - في حيز المنكر عند الناس : { إن هذا } أي الأمر المبشر به { لشيء عجيب } فكأنه قيل : فماذا قيل لها؟ فقيل : { قالوا } أي الملائكة متعجبين من تعجبها { أتعجبين من أمر الله } أي الذي له الكمال كله ، وهو لا ينبغي لك لأنك معتادة من الله بما ليس لغيركم من الخوارق ، والعجب إنما يكون مما خرج عن أشكاله وخفي سببه ، وأنت - لثبات علمك بالسبب الذي هو قدرة الله على كل شيء وحضوره لديك مع اصطفاء الله لكم وتكرر خرقه للعوائد في شؤونكم - لست كغيرك ممن ليس كذلك؛ ثم عللوا إنكارهم لتعجبها بقولهم : { رحمت الله } أي كرامة الذي له الإحاطة بصفات الجلال والإكرام { وبركاته } أي خيراته النامية الثابتة { عليكم } وبينوا خصوصيتهم بإسقاط أداة النداء مدحة لهم فقال : { أهل البيت } قد تمرنتم على مشاهدة العجائب لكثرة ما ترون من آثاره بمثل ذلك وغيره؛ ثم علل إحسانه إليهم مؤكداً تثبيتاً لأصل الكلام الذي أنكرته فقال : { إنه } أي بخصوص هذا الإحسان { حميد مجيد } أي كثير التعرف إلى من يشاء من جلائل التعمم وعظيم المقدور بما يعرف أنه مستحق الحمد على المجد ، وهو الكرم الذي ينشأ عنه الجود ، فلما سمعوا ذلك واطمأنوا ، أخذ في قص ما كان بعده ، فقال مشيراً بالفاء إلى قلة زمن الإنكار الذي هو سبب الفزع : { فلما ذهب } بانكشاف الأمر { عن إبراهيم الروعُ } أي الخوف والفزع الشديد { وجآءته البشرى } فامتلأ سروراً { يجادلنا } أي أخذ يفعل معنا بمجادلة رسلنا فعل المجادل الذي يكثر كلامه إرادة الفتل مخاطبه عما يقوله { في قوم لوط } أي يسألنا في نجاتهم سؤالاً يحرص فيه حرص المجادل في صرف الشيء ، من الجدل وهو الفتل ، ووضع المضارع موضع الماضي إشارة إلى تكرر المجادلة مع تصوير الحال ، أي جادلنا فيهم جدالاً كثيراً؛ ثم علل مجادلته بقوله : { إن إبراهيم لحليم } أي بليغ الحلم ، وهو إمهال صاحب الذنب على ما يقتضيه العقل { أواه } أي رجاع للتأوه خوفاً من التقصير { منيب } أي رجاع إلى الله بالسبق في ارتقاء درج القرب ، فهو - لما عنده هذه المحاسن - لا يزال يتوقع الإقلاع من العصاة .

ولما كان أكثر المجادلة لما عنده من الشفقة على عباد الله لما له من هذه الصفات الجليلة ، أعلمه الله أن الأمر قد ختم بقوله حكاية أن الرسل قالت له بعد طول المجادلة منادين بالأداة التي هي أم الباب إعلاماً بأن ما بعدها عظيم الشأن عالي المنزلة : { يا إبراهيم أعرض } أي بكليتك { عن هذا } أي السؤال في نجاتهم؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لأنه بمجادلته في حيز من ينكر بتّ الأمر : { إنه قد } افتتحه بحرف التوقع لأنه موضعه { جآء أمر ربك } أي الذي عودك بإحسانه الجم ، فلولا أنه حتم الأمر بعذابهم لأمهلهم لأجلك ، ولذا عطف على العلة قوله مؤكداً إعلاماً بأنه أمر قد انبرم ومضى : { وإنهم آتيهم } أي إتياناً ثابتاً { عذاب غير مردود } أي بوجه من الوجوه من أحد كائناً من كان؛ الإعراض : الانصراف ، وحقيقته الذهاب عن الشيء في جهة العرض؛ والرد : إذهاب الشيء إلى ما جاء منه كالرجع؛ والدفع أعم لأنه قد يكون إلى جهة القدام؛ فلما علم مراد الله فيهم ، قدمه على مراده ولم ينطق بعده ببنت شفة .

ذكر هذه القصة من التوراة : قال في السفر الأول : واستعلن الله لإبراهيم في مرج - وفي نسخة : بين بلوط ممرى الأموراني - وكان جالساً على باب خيمته إذ اشتد النهار ، فرفع عينيه فنظر فإذا هو بثلاثة رجال وقوف على رأسه ، فلما رآهم أحضر إليهم من باب الخيمة وسجد على الأرضِ وقال : يا رب - وفي نسخة : يا ولي الله - إن كان لي عندك مودة فلا تبعد عن عبدك حتى آتي بما أغسل به أرجلكم ، واتكئوا تحت الشجرة وأصيبوا شيئاً من الطعام تقرون به أنفسكم ، ثم حينئذٍ تجوزون لأنكم مررتم بعبدكم بغتة فقالوا له : اصنع كما قلت ، فاستعجل إبراهيم فأحضر إلى الخيمة إلى سارة وقال : عجلي بثلاثة آصع من درمك - وفي نسخة : دقيق سميد - فاعجنيه واخبزي منه مليلاً ، وسعى إلى قطيع البقر فأخذ عجلاً سميناً شاباً فدفعه إل الغلام وأمر بتعجيل صنعته وأخذ سمناً ولبناً والعجل الذي صنع له أيضاً فقربه إليهم ، وكان هو واقفاً بين أيديهم تحت الشجرة وقالوا له : أين سارة امرأتك؟ فقال : في الخيمة ، فقال له : إني أرجع إليك في مثل هذا الحين من قابل وهي في الحياة ولها منك ابن ، فسمعت سارة وهي على باب الخيمة مستترة وكان هو خلفها ، وكان إبراهيم وسارة قد شاخا وقدم سنهما وانقطع عن سارة سبيل النساء ، فضحكت سارة في قلبها وقالت : أمن بعد ما بليت أرجع شابة وسيدي قد شاخ؟ فقال الله لإبراهيم : لم ضحكت سارة وقالت : أني لي بالولد وقد شخت؟ أيعسر هذا على الله؟ إني أرجع إليك في مثل هذا الحين من قابل وهي حية ولها ابن ، فجحدت سارة وقالت : كلا ما ضحكت ، لأنها فزعت ، فقال : كلا! ولكنك قد ضحكت ، ثم قام الرجال وتعمدوا طريق سدوم وعامورا ، وانطلق معهم إبراهيم ليشيعهم . وقال الله : أأكتم عبدي إبراهيم شيئاً مما أصنع؟ وإبراهيم يكون رئيساً لشعب عظيم كبير ، وتتبارك به شعوب الأرض ، لأني عالم أنه يوصي بنيه وأهل بيته من بعده أن يحفظوا طرق الرب ليعملوا بالبر والعدل ، لأن الرب يكمل لإبراهيم جميع ما وعده به .

فقال الرب لإبراهيم : لقد وصل إليّ حديث سدوم وعاموراً وقد كثرت خطاياهم جداً ، ثم ولى القوم ومضوا إلى سدوم ، وكان إبراهيم بعد واقفاً قدام الرب ، فدنا إبراهيم وقال : يا رب! تهلك الأبرار مع الفجار بغضب واحد؟ إن كان في القرية خمسون باراً أتهلكهم بغضب واحد؟ حاشاك يا رب أن تصنع هذا الصنيع وتهلك البريء مع السقيم ، ويكون البريء بحال السقيم ، حاشا لك يا حاكم الأرض كلها! لا يكون هذا من صنيعك! فقال الرب : إن وجدت بسدوم خمسين باراً في القرية عفوت عن جميع البلد من أجلهم ، فأجاب إبراهيم وقال : إني قد بدأت بالكلام بين يدي الرب ، وإنما أنا تراب ورماد ، فإن نقص من الخمسين باراً خمسة تخرب القرية كلها من أجل الخمسة؟ فقال : لا أخربها إن وجدت بها خمسة وأربعين باراً ، فعاد إبراهيم وقال له : فإن وجد فيها أربعون؟ فقال : لا أخربها إن وجدت فيها أربعين ، فقال : لا يمكن الرب كلامي فأتكلم ، فإن كان هناك ثلاثون؟ فقال : لا أخربها إن وجدت فيها ثلاثين ، فقال : إني قد أمعنت في الكلام بين يدي الرب ، فإن وجد بها عشرون؟ فقال : لا أخربها من أجل العشرين ، فقال لانشقن على الرب ، فأتكلم هذه المرة يارب فقط ، فإن وجد بها عشرة رهط؟ فقال : لا أفسدها من أجل العشرة؛ فارتفع استعلان الرب عن إبراهيم لما فرغ إبراهيم من كلامه ورجع إبراهيم إلى موضعه - انتهى . وقد مضى أمر حبل سارة وولادها في البقرة .

وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)

ولما انقضى أمر إنبائهم ببشارة الأولياء وهلاك الأعداء ، وعلم من ذلك أنهم لا ينزلون إلاّ للأمور الهائلة والأحوال المعجبة ، أخذ يقص أمرهم مع لوط عليه السلام ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فعلوا مع إبراهيم انفصالهم عن إبراهيم عليه السلام ما ذكر ، ثم فارقوه نحو لوط ، ولم يذكر الحرف المصدري لأن سياقه ومقصود السورة لا يقتضي ذلك كما نشير إليه في العنكبوت : { ولما جآءت رسلنا } على ما قارنهم من عظمتنا { لوطاً } بعد انفصالهم عن إبراهيم عليه السلام ، وبين البلدين ثمانية أميال ، وقيل : أربعة فراسخ ، استضافوه فلم يجد بداً من قبولهم على ما أوصى الله بالضيف مطابقاً لعوائد أهل المكارم ، فقبلهم وأزمع المقاتلة عنهم لما رأى من حسن أشكالهم ورونق جمالهم مع ما يعلم من قبح أفعال قومه وخبث سرائرهم ، ولما جاؤوه على هذه الصفة { سيء بهم } أي حصلت له المساءة بسبب مجيئهم إلى قريته لما يعلم من لؤم أهلها ، والتعبير عن هذا المعنى بالمبني للمفعول أحضر وأوقع في النفس وأرشق { وضاق بهم ذرعاً } أي ذرعه أي اتساعه في كل وقت قوة أوتيها ، وهو مثل يقال لمن لم يجد من المكروه مخلصاً ، ومادة ذرع - بأيّ ترتيب كان - تدور على الاتساع لأنه لا يذرع إلاّ الكثير ، وذرع الرمل : اتسع ، وموت ذريع : فاش ، والمذرع : الذي أمه عربية وأبوه غير عربي ، فهو أكثر أنتشاراً ممن انحصر في أحدهما؛ والذريعة : ما يختلي به الصيد ، فهو يوسع له من الأمل ما يحمله على الإقدام ، وحلقة يتعلم عليها الرمي ، لأنها تسع السهم ، أو لأن مصيبها واسع الأمر في صناعة الرمي ، والوسيلة لأنها توصل المتوسل؛ والذعر : الخوف ، لاتساع الفكر فيه وتجويز أدنى احتمال؛ والعذر : إيساع الحيلة في وجه يزيل ما ظهر من التقصير ، من العذوّر - للحمار الواسع الجوف ، وهو أيضاً الملك لسعته ، والعذار : أوسع ما في الوجه ، وأعذرت الغلام : ختنته ، أي أوسعت أكرته ، والإعذار - لطعام الختان ونحوه منه ، وعذرة الجارية موجبة لعذرها في النفرة للخوف على نفسها ، والعذرة : وجع في الحلق ، وهو سقوطه حتى يغمز ، كأنه شبه بعذرة البكر في سده الحلق بما يوجب الغمز ، وكذا العذرة - للناصية لبذل الجهد في المدافعة عنها ، والعذراء : نجم إذا طلع اشتد الحر فاتسع بساط الأرض ، والعذرة - بفتح ثم كسر : فناء الدار ، وبه سمي الحدث ، والعذراء : شيء من حديد يعذب به الإنسان ، كأنه سمي لأنه يوسع الخوف بما يجنب ما يوجب الاعتذار ، فلا تزال تلك الحديدة بكراً لا يوجد من يعذب بها ، وأما عذر - بالتشديد - إذا قصر فهو للسلب ، أي فعل ما لا يوجد له عذر ، وكذا تعذر الأمر أي صعب ، يعني أنه تحنّب العذر فلم يبق لسهولته وجه ، وأعذر - إذا كثرت عيوبه ، أي دخل فيما يطلب له العذر كأنجد .

ولما ذكر حاله ، ذكر قاله بقوله : { وقال } أي لوط { هذا } أي اليوم { يوم عصيب* } أي شديد جداً لما أعلم من جهالة مَن أنا بين ظهرانيهم ، وهو مشتق من العصب وهو أطناب المفاصل وروابطها ، ومدراه على الشدة { وجاءه قومه } أي الذين فيهم قوة المحاولة { يهرعون } أي كأنهم يحملهم على ذلك حامل لا يستطيعون دفعه { إليه } أي في غاية الإسراع فعل الطامع الخائف فوت ما يطلبه ، فهو يضطرب لذلك ، أو لأجل الرعب من لوط عليه السلام أو من الملائكة عليهم السلام .
ولما كان وجدانهم - فكيف عصيانهم - لم يستغرق زمن القبل ، أدخل الجار فقال : { ومن قبل } أي قبل هذا المجيء { كانوا } أي جبلة وطبعاً { يعملون } أي مع الاستمرار { السيئات } أي الفواحش التي تسوء غاية المساءة فضربوا بها ومرنوا عليها حتى زال عندهم استقباحها ، فهو يعرف ما يريدون ، وكأنهم كانوا لا يدعون مليحاً ولا غيره من الغرباء ، فلذلك لم يذكر أن الرسل عليهم السلام كانوا على هيئة المرد الحسان ، ولا قيد الذكران في قصتهم في موضع من المواضع بالمرودية . فكأنه قيل : فما قال لهم؟ فقيل : { قال يا قوم } مستعطفاً لهم { هؤلاء بناتي } حادياً لهم إلى الحياء والكرم .
ولما كان كأنه قيل : ما نفعل بهن؟ قال : { هن } ولما كان في مقام المدافعة باللين ، قال إرخاء للعنان في تسليم طهارة ما يفعلونه على زعمهم مشيراً بلطافة إلى خبث ما يريدونه : { أطهر لكم } وليس المراد من هذا حقيقته ، بل تنبيه القوم على أنهم لا يصلون إليهم إلا إن وصلوا إلى بناته لأن الخزي فيهما على حد سواء أو في الضيف أعظم ، ومثل هذا أن يشفع الإنسان فيمن يضرب ، فإذا عظم الأمر ألقى نفسه عليه فصورته أنه فعله ليقيه الضرب بنفسه ، ومعناه احترامه باحترامه ، وعلى هذا يدل قوله في الآية الأخرى { إن كنتم فاعلين } وهنا قوله : { فاتقوا الله } أي الملك الأعظم في هذا الأمر الذي تريدونه { ولا تخزون } أي توقعوا بي الفضيحة التي فيها الذل والهوان والعار { في ضيفي } إذ لا يشك ذو مسكة من أمره في أن التقوى إذا حصلت منعت من الأمرين ، وأن الخزي على تقدير عدمها في البنات أعظم لأنه عار لازم للزوم البنات للأب ، وكل هذا دليل على أنه لا يشك أنهم آدميون ولم يلم بخاطر أنهم ملائكة ، فهو تنبيه للكفار على أنه لا ينتفع بإنزال الملائكة إلا البار الراشد التابع للحق؛ ثم أنكر أشد الإنكار حالهم في أنهم لا يكون منهم رشيد حثاً على الإقلاع عن الغي ولزوم سبيل الرشد فقال : { أليس منكم رجل } أي كامل الرجولية { رشيد* } كامل الرشد ليكفكم عن هذا القبيح ، فلم يكن منهم ذلك ، بل { قالوا لقد علمت } أي يا لوط مجرين الكلام على حقيقته غير معرجين على ما كني به عنه { ما لنا في بناتك } وأغرقوا في النفي فقالوا : { من حق } أي حاجة ثابتة ، ولم يريدوا به ضد الباطل لأن البنات والضيف في نفي حقهم عنهم سواء ، وأكدوا معلمين بما لهم من الرغبة في الفجور وقاحة وجرأة فقالوا : { وإنك لتعلم } أي علماً لا تشك فيه { ما نريد* } وهو إتيان الذكور للتطرق والتطرف ، فحملوا عرضه لبناته على الحقيقة خبثاً منهم وشرعوا يبنون على ذلك بوقاحة وعدم مبالاة بالعظائم ، فأخبر تعالى عن قوله لهم على طريق الاستئناف بقوله : { قال } أي متمنياً أن يكون له بهم طاقة ليروا ما يصنع من الإيقاع بهم متفجعاً على فوات ذلك { لو أن لي بكم } أي في دفعكم { قوة } بنفسي { أو } لو أني { آوي } من الأعوان والأنصار { إلى ركن شديد* } أي جماعة هم كالركن الموصوف بالشدة لحلت بينكم وبين ما جئتم له ، وحذفه أبلغ لذهاب النفس فيه كل مذهب؛ والسوء : ما يظهر مكروهه لصاحبه؛ والعصيب : الشديد في الشر خاصة كأنه التف شره؛ والقوة خاصة يمكن أن يقع بها الفعل وأن لا يقع؛ والركن : معتمد البناء بعد الأساس ، والركن هنا من هو مثله؛ والشدة : مجمع يصعب معه الإمكان ، ووصفه الركن بالشدة وهو يتضمنها تأكيد يدل على أن قومه كانوا في غاية القوة والجلادة ، وأنه كان يود معاجلتهم لو قدر .

وذلك أن مادة ( ركن ) بكل ترتيب تدور على الرزانة ، من ركن - بالضم بمعنى رزن ، ويلزمهما القوة ، ومنه الركن للجانب الأقوى والأمر العظيم وما يتقوى به من ملك وجند وغيره والعز والمنعة ، ومن ذلك النكر بالضم للدهاء والفطنة ، والنكر للمنكر والأمر الشديد وما يخرج من الزحير من دم أو قيح ، ونكر الأمر : صعب وطريق ينكور : على غير قصد ، والمنكر ضد المعروف لأن الشيء إذا جهل صعب أمره ، وتناكر القوم : تعادوا ، والتنكر : التغير من حال يسر إلى حال يكره ، والمكنر - كمحدث : الضخم السمج ، ويلزم الرزانة أيضاً الميل والسكون ، ومنه ركن إليه - بالفتح : مال وسكن ، وركن بالمنزل - بالكسر : أقام؛ والكنارة - بالكسر والتشديد : الشقة من ثياب الكتان ، لأنه يمال إليه لبهجته ، وكذا الكنارات للعيدان والطبول ، والكران ككتاب للعود أو الصنج ، أو يكون ذلك من الشدة لقوة أصواتها - والله أعلم .

قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

فلما عظم الشقاق وضاق الخناق كان كأنه قيل : فما قال له الرسل؟ فقيل : { قالوا } ودلوا بحرف النداء الموضوع للبعد على أنه كان قد خرج عن الدار وأجاف بابها وأن الصياح كان شديداً { يا لوط } إنك لتأوي إلى ركن شديد؛ ثم عللوا ذلك بقولهم : { إنا رسل ربك } أي المحسن إليك بإحسانك وكل ما ترى مما يسوءك ويسرك؛ ثم لما ثبت له ذلك كان من المحقق أنه سبب في ألا يدانيه معه سوء فأوضحوه بقولهم : { لن يصلوا إليك } من غير احتياج إلى الربط بالفاء ، أي ونحن مهلكوهم وقالبوا مدنهم بهم { فأسر } أي سر بالليل ماضياً { بأهلك } موقعاً ذلك السير والإسراء { بقطع } أي بطائفة ، أي والحال أنه قد بقي عند خروجك جانب { من الَّيل ولا يلتفت } أي ينظر إلى ورائه ولا يتخلف { منكم أحد } أي لا تلتفت أنت ولا تدع أحداً من أهلك يلتفت { إلا امرأتك } استثناء من « أحد » بالرفع والنصب لأن المنهي كالمنفي في جواز الوجهين ، والنهي له صلى الله عليه وسلم ، فالفعل بالنسبة إليه منهي ، وبالنسبة إليهم منفي . ويمكن أن يكون أخرجها معه لأن معنى الاستثناء أنه غير مأمور بالإسراء بها إلا أنه منهي عنه ، واستثناءها من الالتفات معهم مفهم أنه لا حجر عليه في الإسراء بها ، أو أنه خلفها فتبعتهم والتفتت ، فيكون قراءة النصب من { أهلك } ، وقراءة الرفع من { أحد } ولا يلزم من ذلك أمرها بالالتفات بل مخالفتها للمستثنى منه في عدم النهي ، ولذلك عللوا ما أفهمه إهمالها من الإسراء والنهي من أنها تلتفت بقولهم مؤكدين لأن تعلق الأمل بنجاتها شديد رحمة لها : { إنه } أي الشأن { مصيبها } لا محالة { ما أصابهم } سواء التفت أو لا ، تخلفت أو لا ، ثم ظهر لي من التعبير في حقها باسم الفاعل وفي حقهم بالماضي أنه حكم بإصابة العذاب لهم عند هذا القول للوط عليه السلام لأن ذنوبهم تمت ، وأما هي قإنما يبرم الحكم بذلك في حقها عند تمام ذنوبها التي رتبت عليها الإصابة وذلك عند الالتفات .
ولما عبروا بالماضي تحقيقاً للوقوع وتنبيهاً على أنه تقدم دخولها معهم في أسباب العذاب ، كان منبهاً لأن يقال : كان الإيقاع بهم قد دنا بهم جداً؟ فقيل : نعم ، وأكد تحقيقاً للوقوع تلذيذاً به ولأنه - لقرب الوقت - بحيث ينكر : { إن موعدهم } أي لابتداء الأخذ { الصبح } وكأن لوطاً عليه السلام أبطأ في جميع أهله وما يصلحهم ، فكان فعله فعل من يستبعد الصبح ، فأنكروا ذلك بقولهم : { أليس الصبح بقريب* } أي فأسرع الخروج بمن أمرت بهم؛ والإسراء : سير الليل كالسرى .
ولما انقضى تسكين لوط عليه السلام والتقدم إليه فيما يفعل ، أخبر تعالى عن حال قومه فقال : { فلما جاء أمرنا } بالفاء لما مضى في قصة صالح عليه السلام من التسبيب والتعقيب ، أي فلما خرج منها لوط بأهله جاءنا أمرنا ، ولما جاء أمرنا الذي هو عذابنا والأمر به { جعلنا } بما لنا من العظمة { عاليها } أي عالي مدنهم وهم فيها { سافلها وأمطرنا عليها } أي على مدنهم بعد قلبها من أجلهم وسيأتي في سورة الحجر سر الإتيان هنا بضمير « ها » دون ضمير « هم » { حجارة من سجيل } أي مرسلة من مكان هو في غاية العلو { منضود } بالحجارة هي فيه متراكبة بعضها على بعض حال كونها { مسومة } أي معلمة بعلامات تدل على أنها معدة للعذاب من السيما والسومة وهي العلامة تجعل للإبل السائمة لتتميز إذا اختلطت في المرعى ، وفي الذاريات

{ حجارة من طين } [ الذاريات : 33 ] وذلك أن الحجارة أصلها تراب يجعل الله فيه بواسطة الماء قابلية للاستحجار كما جعل فيه قابلية التحول إلى المعدن من الذهب والفضة والحديد وغيرها ، فباعتبار أصله هو طين ، وباعتبار أوله حجر وكبريت ونار ، ولعل حجر الكبريت أثقل الحجارة مع ما فيه من قوة النار وقبح الريح؛ ثم فخمها بقوله : { عند ربك } وعبر بالرب إشارة إلى كثرة إحسانه وإليه وأنه إنما أمره صلى الله عليه وسلم بالإنذار وحمة لأمته التي جعلها خير الأمم وسيجعلها أكثر الأمم ، ولا يهلكها كما أهلكهم؛ ومادة سجل - بأي ترتيب كان - تدور على العلو ، من الجلس لما ارتفع عن الغور وهو النجد ، ويلزم منه الغلظ والعلو ، ومن الغلظ الجلس للغليظ من الأرض والجمل الوثيق ، ويلزم العلو التصويب ومن جلس - إذا قعد؛ والسجل للدلو العظيمة ، ويكون غالباً في مقابلتها أخرى ، كلما نزلت واحدة طلعت الأخرى ، فتاتي المساجلة بمعنى المباراة والمفاخرة ، والسجل : الضرع العظيم ، والسجل - بالكسر وشد اللام : الكتاب لأنه يذكر فيه ما يكون به المفاخرة والمغالبة؛ وسلج الطعام : بلعه ، والسلجان : نبات رخو ، كأنه سمي بذلك لأن أغصانه تأخذ إلى أسفل لرخاوتها ، وقد دل على هذا المعنى في هذه الآية بثلاثة أشياء : الإمطار ، ولفظ « على » ، وسجيل .
ولما كان المعنى أنها من مكان هو في غاية العلو ليعظم وقعها ، حسن كل الحسن اتباع ذلك قوله : { وما هي } على شدة بعد مكانها { من الظالمين } أي من أحد من العريقين في الظلم في ذلك الزمان ولا هذا ولا زمن من الأزمان { ببعيد } لئلا يتوهم الاحتياج في وصولها إلى المرمى بها إلى زمن طويل .
ذكر هذه القصة من التوراة : قال في السفر الأول بعد ما مضى في قصة بشرى إبراهيم عليه السلام : فأتى الملكان إلى سدوم عشاء ، وكان لوط جالساً على باب سدوم ، فنظر إليهما لوط فتلقاهما ، ثم خرّ على وجهه ساجداً على الأرض وقال : إني طالب إليكما يا سيدي ، اعدلا إلى منزل عبدكما فبيتا فيه واغسلا أقدامكما وبكرا فانطلقا في طريقكما ، فقالا : كلا! ولكنا نبيت في السوق ، فألح عليهما لوط إلحاحاً شديداً فانصرفا معه ودخلا منزله فأعد لهما طعاماً ، ومن قبل وقت الهجوع إذا أهل القرية أهل سدوم قد أحاطوا بالباب من الشبان إلى المشايخ جميع الشعب بأسره ، فدعوا بلوط وقالوا له : أين الرجلان اللذان أتياك ممسيين أخرجهما إلينا فنعرفهما - وفي نسخة : حتى نواقعهما - فخرج لوط إليهم وأغلق الباب خلفه ، فقال لهم لوط : لا تسيئوا بي يا إخوة! هذا لي بنتان لم يمسهما رجل ، أخرجهما إليكم فاصنعوا بهما ما حسن في أعينكم ، ولا ترتكبوا من هذين الرجلين شيئاً لأنهما ولجا ظلال بيتي ، فقالوا له : تنح عنا ، إن واحداً أتى ليسكن بيتنا فصار يحكم فينا ، فالآن نسيء إليك أكثر منهما ، فجاهد لوط القوم جداً فدنوا ليكسروا الباب فمد الرجلان أيديهما فأدخلا لوطاً إليهما إلى منزله ، ثم إن القوم الذين كانوا بالباب ضربوا بالعشى من كبيرهم حتى صغيرهم فأعيوا في طلب الباب ، فقال الملكان للوط : ماتصنع هاهنا؟ اعمد إلى أختانك وبينك وبناتك وجميع ما لك في هذه القرية فأخرجهم من هذه البلدة لأنا نريد الخسف بالبلدة لأن فعالهم وخبث صنيعهم قد بلغ الرب ، فأرسلنا الرب لنفسدها ، فخرج لوط وكلم أختانه وأزواج بناته وقال لهم : قوموا فاخرجوا من هذه القرية فإن الرب مزمع لخرابها ، وكان عند أختانه كالمستهزىء بهم ، فلما كان عند طلوع الصبح ألح الملكان على لوط وقالا له : قم فأخرج امرأتك وابنتيك اللتين معك لكيلا تبتلي بخطايا أهل هذه القرية ، فابطأ لوط فأخذ الملكان بيده وبيد امرأته وابنتيه لأن الله رحمه فأخرجاه وصيراه خارجاً عن القرية ، فلما أخرجاهم خارجاً قالا له : انج بنفسك ولا تلتفتن إلى خلفك ولا تقف في شيء من جميع القاع ، والتجىء إلى جبل وخلص نفسك ، فقال لهما لوط : أطلب إليكما يا سيدي أن أظفر الآن لأن عبدكما برحمة ورأفة وكثرت نعماكما إليّ لتحيي نفسي ، لست أقدر أن أنجو إلى الجبل ، لعل الشر يرهقني فأموت ، وهذه القرية هي قريبة للهرب إليها وهي صغيرة ، أتأذنان لي بالهرب إليها لأنها حقيرة ، فلتحييا نفسي ، فقال له : قد شفعتك في هذا أيضاً فلا أقلب هذه القرية التي سألت ، أسرع فانج نفسك إلى هناك ، لأنا لسنا نقدر أن نعمل شيئاً حتى تدخلها ، ولذلك سميت تلك القرية صاغار - وفي نسخة : زغر - فشرقت الشمس على الأرض وقد دخل لوط صاغار ، وفي نسخة : زغر - فأهبط الرب على سدوم وعامورا ناراً وكبريتاً من بين يدي الرب من السماء فقلب هذه القرى والقاع بأسره ، وأهلك جميع سكانها وجميع من فيها وجمع نبت الأرض ، فالتفتت امرأته إلى خلفها لتنظر فصارت نصبة ملح ، فأدلج إبراهيم باكراً إلى الموضع الذي كان يقف فيه بين يدي الرب؛ فمد بصره نحو سدوم وعامورا وإلى جميع أرض القاع فنظر فإذا دخان القرية يرتفع كدخان الأخدود ، فلما خسف الله قرى القاع ذكر الله إبراهيم فأرسل لوطاً من المأفوكة إذ قلب الله القرى التي كان ينزلها لوط فطلع لوط من صاغار - وفي نسخة : زغر - فسكن الجبل هو وابنتاه معه لأنه تخوف أن يسكن صاغار ، فجلس في مغارة .

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)

ولما انتهت القصة معلمة لما قام به لوط عليه السلام من أمر الله غير وانٍ لرغبة ولا رهبة وبما في إنزال الملائكة من الخطر ، أتبعت أقرب القصص الشهيرة إليها في الزمن فقال تعالى : { *وإلى } أي ولقد أرسلنا إلى { مدين } وهم قبيلة أبيهم مدين بن إبراهيم عليه السلام { أخاهم شعيباً } فكأن قائلاً قال : ما قال لهم؟ فقيل : { قال } ما قال إخوانه من الأنبياء في البداءة بأصل الدين : { يا قوم } مستعطفاً لهم مظهراً غاية الشفقة { اعبدوا الله } أي الملك الأعلى غير مشركين به شيئاً لأنه واحد { ما لكم } وأغرق في النفي فقال : { من إله غيره } فلقد اتفقت - كما ترى - كلمتهم واتحدت إلى الله وحده دعوتهم ، وهذا وحده قطعي الدلالة على صدق كل منهم لما علم قطعاً من تباعد أعصارهم وتنائي ديارهم وأن بعضهم لم يلم بالعلوم ولا عرف أخبار الناس إلا من الحي القيوم؛ قال الإمام شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي في كتابه « رشف النصائح الإيمانية وكشف الفضائح اليونانية » في ذكر الأنبياء : اتحدت مصادرهم كأنهم بنيان مرصوص ، عبروا بألسنة مختلفة تنتهي إلى بحر متصل بالقلوب متحد بها يستمد من البحر المحيط بعالمي الشهادة والغيب ، واختلفت الموارد من الشرائع بحسب ما اقتضت الحكمة الإلهية من مصلحة أهل كل زمان وكل ملة ، فما ضر اختلافهم في الفروع مع اتحادهم في الأصول ، وقال قبل ذلك : إن الفلاسفة لما لم يغترفوا من بحار الأنبياء وقفت بهم أفراس أفكارهم في عالم الشهادة ، فلما حاولوا الخوض في الإلهيات انكشفت عورة جهلهم وافتضحوا باضطرابهم واختلافهم { تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى } [ الحشر : 14 ] القطع بهم سير الفكر في منتهى عالم الملك والشهادة ، ولم يدخل إسكندر نظرهم ظلمات عالم الغيوب حتى يظفروا بعين الحياة التي من شرب منها لا يموت - انتهى .
ولما دعا إلى العدل فيما بينهم وبين الله ، دعاهم إلى العدل فيما بينهم وبين عبيده في أقبح ما كانوا قد اتخذوه بعد الشرك ديدناً فقال : { ولا تنقصوا } أي بوجه من الوجوه { المكيال والميزان } لا الكيل ولا آلته ولا الوزن ولا آلته؛ والكيل : تعديل الشيء بالآلة في القلة والكثرة؛ والوزن : تعديله في الخفة والثقل ، فالكيل للعدل في الكمية والوزن للعدل في الكيفية؛ ثم علل ذلك بقوله : { إني أراكم بخير } أي بسعة تغنيكم عن البخس - مرهباً ومرغباً بالإشارة إلى أن الكفر موجب للنقمة كما أن الشكر موجب للنعمة .
ولما كان كأنه قيل : فإني أخاف عليكم الفقر بالنقص ، عطف عليه مؤكداً لإنكارهم : { وإني أخاف عليكم } به وبالشرك { عذاب يوم محيط* } بكم صغاراً وكباراً وبأموالهم طيباً وخبيثاً ، أي مهلك كقوله { وأحيط بثمره } [ الكهف : 42 ] وأصله من إحاطة العدو ، ووصف اليوم بالإحاطة أبلغ لأنه محيط بما فيه من عذاب وغيره ، والعذاب محيط بالمعذب فذكر المحيط بالمحيط أهول ، وهو الدائر بالشيء من كل جانب ، وذلك يكون بالتقاء طرفيه؛ والنقصان : أخذ شيء من المقدار كما أن الزيادة ضم شيء إليه ، وكلاهما خروج عن المقدار؛ والوزن ، تعديل الشيء بالميزان ، كما أن الكيل تعديله بالمكيال ، ومن الإحاطة ما رواه ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :

« لم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم ، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا » .
ولما كان عدم النقص قد يفهم منه التقريب ، أتبعه بما ينفي هذا الاحتمال وللتنبيه على أنه لا يكفي الكف عن تعمد التطفيف ، بل يلزم السعي في الإيفاء ولو بزيادة لا يتأتى بدونها ، ولأن التصريح بالأمر بالشيء بعد النهي عن ضده أوكد ، فقال مستعطفاً لهم بالتذكير بأنه منهم يسوءه ما يسوءهم وبأنهم لما أعطاهم الله من القوة جديرون بأن يعرضوا عن تعاطي سفساف الأخلاق ورذائلها : { ويا قوم } أي أيها الذين لهم قوة في القيام فيما ينوبهم { أوفوا } أي أتموا إتماماً حسناً { المكيال والميزان } أي ، المكيل والموزون وآلتهما؛ وأكده بقوله : { بالقسط } أي العدل السوي ، فصار الوفاء مأموراً به في هاتين الجملتين مراراً تأكيداً له وحرصاً عليه وإظهاراً لعموم نفعه وشمول بركته ، فزال بالمجموع توهم المجاز على أبلغ وجه ، وقد مضى في الأنعام ويأتي في هذه السورة عند { غير منقوص } أن الشيء يطلق مجازاً على ما قاربه؛ ثم أكده أيضاً بتعميم النهي عن كل نقص بذلك وغيره في جميع الأموال فقال : { ولا تبخسوا } أي تنقصوا على وجه الجحد والإهانة { الناس أشياءهم } ثم بين أن أفعالهم ثمرة الهجوم عن غير فكر لأنها ليست ناشئة عن شرع فأولها سفه وآخرها فساد فقال : { ولا تعثوا في الأرض } أي تتصرفوا وتضطربوا فيها عن غير بصيرة ولا تأمل حال كونكم { مفسدين* } أي فاعلين ما يكون فساداً في المعنى كما كان فساداً في الصورة ، فهو دعاء إلى تقديم التأمل والتروي على كل فعل وذلك لأن مادة « عثى » بكل ترتيب دائرة على الطلب عن غير بصيرة ، من العيث - للأرض السهلة ، فإنها لسهولتها يغتر بها فيسلكها الغبي بلا دليل فيأتي الخفاء والجهل ، ومنه التعييث - لطلب الأعمى الشيء؛ والأعثى : الأحمق الثقيل ، واللون إلى السواد ، والكثير الشعر ، ويلزم ذلك اتباع الهوى فيأتي الإفساد والمسارعة فيه ، وذلك هو معنى العثى؛ قال أئمة اللغة : عثى وعاث : أفسد ، وفي مختصر العين للزبيدي : عثى في الأرض بمعنى عاث يعيث عيثاً ، وهو الإسراع في الفساد ، فالمعنى على ما قال الجمهور : ولا تفعلوا الفساد عمداً وهو واضح ، وعلى ما قدّرته من أصل المعنى الذي هو للمدار أوضح ، وعلى ما قال الزبيدي : ولا تسرعوا فيه ، فلا يظن أنه يكون الإسراع حينئذ قيداً حتى ينصب النهي إليه ، بل هو إشارة إلى أنه لا يكون الإقدام بلا تأمل إلا كذلك لملاءمته للشهوة - والله أعلم؛ والوفاء : تمام الحق؛ والبخس : النقص ، فهو أخص من الظلم لأنه وضع الشيء في غير موضعه .

بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)

ولما كان نظرهم بعد الشرك مقصوراً على الأموال ، وكان نهيه عما نهى عنه موجباً لمحقها في زعمهم ، كانوا كأنهم قالوا : إنا إذا اتبعناك فيما قلت فنيت أموالنا أو قلت فتضعضعت أحوالنا ، فلا يبقى لنا شيء؟ فقال : { بقيت الله } أي فضل الملك الأعلى المستجمع لصفات الكمال ، وبركته في أموالكم وجميع أحوالكم وإبقائه عليكم نظره إليكم الموجب لعفوه الذي هو ثمرة اتباع أمره { خير لكم } مما تظنونه زيادة بالنقص والظلم ، وذلك أن بقية الشيء ما فضل منه ، وتكون أيضاً بمعنى البقيا ، من أبقى عليه يبقي إبقاء ، واستبقيت فلاناً - إذا عفوت عن ذنبه ، كأن ذلك الذنب أوجب فناء وده أو فناه عندك ، فإذا استبقيته فقد تركت ما كان وجب ، ويقولون : أراك تبقي هذا ببصرك - إذا كان ينظر إليه - قاله الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه الجامع ، وسيأتي في آخر السورة بيان ما تدور عليه المادة .
ولما كانت خيرية ما يبقيه العدل من الظهور بمحل لا يخفى على ذي لب ، تركها وبين شرطها بقوله : { إن كنتم } أي جبلة وطبعاً { مؤمنين } أي راسخين في الإيمان إشارة إلى أن خيريتها لغير المؤمن مبنية على غير أساس ، فهي غير مجدية إلا في الدنيا ، فهي عدم لسرعة الزوال والنزوح عنها والارتحال ، ودلت الواو العاطفة على غير مذكور أن المعنى : فآمنوا فاعلين ما أمرتكم به لتظفروا بالخير فإنما أنا نذير { وما أنا } وقدم ما يتوهمونه من قصده للاستعلاء نافياً له فقال : { عليكم } وأعرق في النفي فقال : { بحفيظ* } أعلم جميع أعمالكم وأحوالكم وأقدر على كفكم عما يكون منها فساداً؛ وأصل البقية ترك شيء من شيء قد مضى .
ولما كان الحاصل ما دعاهم إليه ترك ما كان عليه آباؤهم من السفه في حق الخالق بالشرك والخلائق بالخيانة ، وكان ذلك الترك عندهم قطيعة وسفهاً ، كان ذلك محكاً للعقول ومحزاً للآراء يعرف به نافذها من جامدها ، فكان كأنه قيل : ما قالوا؟ فقيل : { قالوا يا شعيب } سموه باسمه جفاء وغلظة وانكروا عليه مستهزئين بصلاته { أصلواتك تأمرك } أي تفعل معك فعل من كان يأمر دائماً بتكليفنا { أن نترك ما يعبد } أي على سبيل المواظبة { آباؤنا أو } نترك { أن نفعل } أي دائماً { في أموالنا ما نشاء } من قطع الدرهم والدينار وإفساد المعاملة والمقامرة ونحوها مما يكون إفساداً للمال ، يعنون أن ما تأمرنا به لا يمشي على منهاج العقل ، فما يأمرك به إلا ما نراك تفعله من هذا الشيء الذي تسميه صلاة ، أي أنه من وداي : فعلك للصلاة؛ ومادة صلا - واوية ويائية مهموزة وغير مهموزة بجميع تقاليبها - تدور على الوصلة ، فالصلاة لصلة العبد بربه ، وكذا الدعاء والاستغفار ، وصلوات اليهود : كنائسهم اللاتي تجمعهم ، والصلا : وسط الظهر ومجمعه وما حول الذنب أيضاً ، والمصلى من الخيل : التابع للسابق ، وصال الفحل - إذا حمل على العانة ، ولصوت الرجل ولَصَيته : عبته ، كأنك ألصقت به العيب ، والواصلة واضحة في ذلك ، وكأنها الحقيقة التي تفرعت منها جميع معاني المادة ، وسيأتي شرح ذلك عند قوله تعالى { بالغدو والآصال } في سورة الرعد إن شاء الله ، فمعنى الآية حينئذ : أما تعانيه من الصلوات : الحقيقية ذات الأركان ، والمعنوية من الدعاء والاستغفار وجميع أفعال البر الحاملة على أنواع الوصل الناهية عن كل قطيعة تأمرك بمجاهرتنا لآبائنا بالقطيعة مع تقدير حضورهم ومشاهدتهم لما نفعل مما يخالف أغراضهم وبترك التنمية لأموالنا بالنقص وهو مع مخالفة أفعال الآباء تبذير فهو سفه - فدارت شبهتهم في الأمرين على تلقيد الآباء وتنزيههم عن الغلط لاحتمال أن يكون لأفعالهم وجه من الصواب خفي عنهم ، وزادت في ألأموال بظن التبذير - فقد صرت بدعائنا إلى كل من الأمرين حينئذ داعياً إلى ضد ما أنت متلبس به { إنك } إذاً { لأنت } وحدك { الحليم } في رضاك بما يغضب منه ذوو الأرحام { الرشيد* } في تضييع الأموال ، يريدون بهذا كما زعموا - سلخه من كل ما هو متصف به دونهم من هاتين الصفتين الفائقتين بما خيل إليهم سفههم أنه دليل عليه قاطع ، وعنوا بذلك نسبته إلى السفه والغي على طريق التهكم .

ولما اتهموه بالقطيعة والسفه ، شرع في إبطال ما قالوا ونفي التهمة فيهن وأخرج مخرج الجواب لمن كأنه قال : ما أجابهم به؟ فقيل : { قال يا قوم } مستعطفاً لهم بما بينهم من عواطف القرابة منبهاً لهم على حسن النظر فيما ساقه على سبيل الفرض والتقدير ليكون أدعى إلى الوفاق والإنصاف { أرءيتم } أي أخبروني { إن كنت } أي كوناً هو في غاية الثبات { على بينة } أي برهان { من ربي } الذي أحسن إليّ بما هو إحسان إليكم ، وعطف على جملة الشرط المستفهم عنه قوله : { و } قد { رزقني } وعظم الرزق بقوله : { منه رزقاً حسناً } جليلاً ومالاً جماً حلالاً لم أظلم فيه أحداً ، والجواب محذوف لتذهب النفس فيه كل مذهب ، ويمكن أن يقال فيه : هل يسع عاقلاً أن ينسبني إلى السفه بتبذير المال بترك الظلم ، أو يسعني أن أحلم عمن عبد غيره وأترك دعاءكم إلى الله ، فقد بان بهذا أني ما أمرتكم بما يسوءكم من ترك ما ألفتم وتعرضت لغضبكم كلكم ، وتركت مثل أفعالكم إلا خوفاً من غضبه ورجاء لرضاه ، فظهر أن لا تهمة في شيء من أمري ولا خطأ ، ما فعلت قط ما نهيتكم عنه فيما مضى { وما أريد } أي في وقت من الأوقات { أن أخالفكم } أي بأن أذهب وحدي { إلى ما أنهاكم عنه } في المستقبل ، وما نقص مال بترك مثل أفعالكم ، فهو إرشاد إلى النظر في باب :

لا تنه عن خلق وتأتي بمثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهيت عنه فأنت حكيم
وقد نبهت هذه الأجوبة الثلاثة على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتي ويذر أحد حقوق ثلاثه أهمها وأعلاها حق الله وثانيها حق النفس وثالثها حق العباد على وجه الإخلاص في الكل فثبت ببعده عن التهمة مع سداد الأفعال وحسن المقاصد - حلمه صلى الله عليه وسلم ورشده ، فلذلك أتبعه بما تضمن معناه مصرحاً به فقال : { إن } أي ما { أريد } أي شيئاً من الأشياء { إلا الإصلاح } وأقر بالعجز فقال : { ما استطعت } أي مدة استطاعتي للاصلاح وهو كما أردت فإن مالي - مع اجتنابي ما أنتم عليه - صالح ، ليس بدون مال أحد منكم ، فعلم ، مشاهدة أن لا تبذير في العدل ، وأما التوحيد فهو - مع انتفاء التهمة عنى فيه - دعاء إلى القادر على كل شيء الذي لا خير إلى منه ولا محيص عن الرجوع إلأيه؛ ثم تبرأ من الحول والقوة ، وأسند الأمر إلى من هو له فقال : { وما توفيقي } إي فيما استطعت من فعل الإصلاح { إلا بالله } أي الذي له الكمال كله؛ ثم بين أنه الأهل لأن يرجى فقال مشيراً إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مرتب العلم بالمبدأ { عليه } أي وحده { توكلت } ولما طلب التوفيق لإصابة الحق فيما يأتي ويذر من الله والاستعانة به في مجامع أمره وأقبل عليه بكليته وحسم أطماع الكفار عنه وأظهر الفراغ عنهم وعدم المبالاة بهم ، وكان في قوله { ما استطعت } إقرار بأنه محل التقصير ، أخبر بأنه لا يزال يجدد التوبة لعظم الأمر ، وعبر عن ذلك بعبارة صالحة للتحذير من يوم البعث تهديداً لهم فقال منبهاً على معرفة المعاد ليكمل الإيمان بالله واليوم الآخر : { وإليه } أي خاصة { أنيب* } أي أرجع معنى سبقي للتوبة وحساً تيقني بالبعث بعد الموت؛ والوفيق : خلق قدرة ما هو وفق الأمر من الطاعة ، من الموافقة للمطابقة؛ والتوكل على الله : تفويض الأمر إليه على الرضاء بتدبيره مع التمسك بطاعته .

وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)

ولما بين لهم عذره بما انتفت به تهمته ، أتبعه بما يدلهم على أن الحق وضح لهم وضوحاً لم يبق معه إلا المعاندة ، فحذرهم عواقبها وذكرهم أمر من ارتكابها فقال : { ويا قوم } وأعز الناس عليّ { لا يجرمنكم } أي يحملنكم { شقاقي } أي شقاقكم لي على { أن يصيبكم } من العذاب { مثل ما } أي العذاب الذي { أصاب قوم نوح } بعد طول أعمارهم وتنائي أقطارهم { أو قوم هود } على شدة أبدانهم وتمادي أمانهم { أو قوم صالح } مع نحتهم البيوت من الصخور وتشييدهم عوالي القصور .
ولما كان للمقاربة أثر المشاكلة والمناسبة ، غير الأسلوب تعظيماً للتهويل فقال : { وما قوم لوط } أي على قبح أعمالهم وسوء حالهم وقوة أخذهم ووبالهم { منكم ببعيد* } أي لا في الزمان ولا في المكان فأنتم أجدر الناس بذكر حالهم للاتعاظ بها ، وإنما فسرت جرم بحمل لأن ابن القطاع نقل أنه يقال : جرمت الرجل : حملته على الشيء ، وقد عزا الرماني تفسيرها بذلك للحسن وقتادة ، ويجوز أن تفسر بما تدور عليه المادة من القطع ، أي لا يقطعنكم شقاقي عن اتباع ما أدعوكم إليه خوف أن يصيبكم ، وقد جوزه الرماني .
ولما رهبهم ، أتبعه الترغيب في سياق مؤذن بأنهم إن لم يبادروا إلى المتاب بادرهم العذاب ، بقوله عاطفاً لهذا الأمر على ذلك النهي المتقدم : { واستغفروا ربكم } أي اطلبوا ستر المحسن إليكم ، ونبه على مقدار التوبة بأداة التراخي فقال : { ثم توبوا إليه } ثم علل ذلك مرغباً في الاقبال عليه بقوله : { إن ربي } أي المختص لي بما ترون من الإحسان ديناً ودنيا { رحيم ودود* } أي بليغ الإكرام لمن يرجع إليه بأن يحفظه على ما يرضاه بليغ التحبب إليه ، ولم يبدأه بالاستعطاف على عادته بقوله : يا قوم ، إشارة إلى أنه لم يبق لي وقت آمن فيه وقوع العذاب حتى أشتغل فيه بالاستعطاف ، فربما كان الأمر أعجل من ذلك فاطلبوا مغفرته بأن بأن تجعلوها غرضكم ثم توصلوا إليها بالتوبة؛ فثم على بابها في الترتيب ، وأما التراخي فباعتبار عظم مقدار التوبة وعلو رتبتها لأن الغفران لا يحصل بالطلب إلا إن اقترن بها ، هذا الشأن في كل كبيرة من أنها لا تكفر إلا بالتوبة ، وذلك لأن الطاعة المفعولة بعدها يكون مثلها كبيرة في جنس الطاعات كما أن تلك كبيرة في جنس المعاصي فلا تقوى الطاعة على محوها وتكرر الطاعات يقابله تكرر المعاصي بالإصرار الذي هو بمنزلة تكرير المعصية في كل حال ، فلما رأوه لا ينزع عنهم ولم يقدروا لكلامه على جواب ، أيأسوه من الرجوع إليه بأن أنزلوا أنفسهم عناداً في الفهم لهذا الكلام الواضح جداً إلى عداد البهائم ، وهددوه فأخبر تعالى عنهم بذلك استئنافاً في جواب من يقول : ما قالوا بعد هذا الدعاء الحسن؟ بقوله : { قالوا يا شعيب } منادين له باسمه جفاء وغلظة { ما نفقه } أي الآن لأن « ما » تخص بالحال { كثيراً مما تقول } وإذا لم يفهم الكثير من الكلام لم يفهم مقصوده ، يعنون : خفض عليك واترك كلامك فإنا لا نفهمه تهاوناً به كما يقول الإنسان لخصمه إذا نسبه إلى الهذيان : أنا لا أدري ما تقول ، ولما كان غرضهم مع العناد قطع الأمر ، خصواً عدم الفهم بالكثير ليكون أقرب إلى الإمكان ، وكأنهم - والله أعلم - أشاروا إلى أنه كلام غير منتظم فلا حاصل له ولا لمضمونه وجود في الخارج .

ولما كان في ذلك إشارة إلى أنه ضعيف العقل لأن كلامة مثل كلام المجانين ، أتبعوه قولهم : { وإنا لنراك } أي رؤية مجددة مستمرة { فينا ضعيفاً } أي في البدن وغيره ، فلا تتعرض لسخطنا فإنك لا تقدر على الامتناع من مكروه نحله بك بقوة عقل ولا جسم ولا عشيرة ، وأشاروا إلى ضعف العشيرة بتعبيرهم بالرهط في قولهم : { ولولا رهطك لرجمناك } أي قتلناك شر قتلة - فإن الرهط من ثلاثة إلى عشرة وأكثر ما قيل : إن فخذه أربعون - فما أنت علينا بممتنع لضعفك وقلة قومك { وما أنت } أي خاصة ، لأن « ما » لنفي الحال اختصاص بالزمان ، والقياس أن يكون مدخولها فعلاً أو شبهه ، وحيث أوليت الاسم لا سيما الضمير دل على أن التقديم للاهتمام والاختصاص { علينا بعزيز* } بكريم مودود ، تقول : أعززت فلاناً - إذا كان له عندك ود ، بل قومك هم الأعزة عندنا لموافقتهم لنا ، ولو كان المراد : ما عززت علينا ، لكان الجواب : لم لا أعز وقد شرفني الله - أو نحو هذا ، ويصح أن يراد بالعزيز القوي الممتنع ، ويصير إفهامه لامتناع رهطه محمولاً على أن المانع لهم موافقتهم لهم لا قوتهم؛ والفقه : فهم الكلام على ما تضمن من المعنى ، وقد صار اسماً لضرب من علوم الدين ، وأصل الرهط : الشدة ، من الترهيط لشدة الأكل ، ومنه الراهطاء : حجر اليربوع لشدته وتوثقه ليخبأ فيه ولد .

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)

ولما كان تخصيصهم نفي العزة به يفهم أن رهطه عليهم أعزة ، أنكر عليهم ذلك في سياق مهدد لهم فقال تعالى حاكياً عنه استئنافاً : { قال } أي شعيب { يا قوم } ولم يخل الأمر من جذب واستعطاف بذكر الرحم العاطفة { أرهطي } أي أقاربي الأقربون منكم { أعز عليكم من الله } أي المحيط بكل شيء علماً وقدرةً حتى نظرتم إليهم فيّ لقرابتي منهم ولم تنظروا إلى الله في قربي منه بما ظهر عليّ من كرامته { واتخذتموه } أي بما كلفتم به أنفسكم مما هو خلاف الفطرة الأولى { وراءكم } أي أعرضتم عنه إعراض من جعل الشيء وراءه؛ وحقق معنى الوراء بقوله : { ظهرياً } أي جعلتموه كالشيء الغائب عنكم المنسي عندكم الذي لا يعبأ به ، ولم تراقبوه فيّ لنسبتي إليه بالرسالة والعبودية .
ولما كان معنى الكلام لأجل الإنكار : إنكم عكستم في الفعل فلم تعرفوا الحق لأهله إذ كان ينبغي لكم أن لا تنسوا الله بل تراقبوه في كل أموركم ، حسن تعليل هذا المفهوم بقوله : { إن ربي } أي المحسن إليّ؛ ولما كان المراد المبالغة في إحاطة علمه تعالى بأعمالهم قدم قوله : { بما تعملون محيط* } من جليل وحقير ، فهو مقتدر في كل فعل من أفعالكم على إنفاذه وإبطاله ، فهو محيط بكم لا يرده عن نصرتي منكم والإيقاع بكم مراعاة أحد لعزة ولا قوة ، بل لكم عنده أجل هو مؤخركم إليه لأنه لا يخشى الفوت؛ والاتخاذ : أخذ الشيء لأمر يستمر في المستأنف كاتخاذ البيت؛ والمحيط : المدير على الشيء كالحائط يحصره بحيث لا يفوته منه شيء .
ولما ختم الآية بتهديدهم بما بين أن تهديدهم له عدم لا يبالي به ، أتبعه ما يصدقه من أنه ليس بتارك شيئاً من عمله مما جبلوا به ، وزاد في التهديد فقال : { ويا قوم اعملوا } أي أوقعوا العمل لكل ما تريدون قارين مستعلين { على مكانتكم } أي حالكم الذي تتمكنون به من العمل { إني عامل } على ما صار لي مكانة ، أي حالاً أتمكن به من العمل لا أنفك عنه ما أنا عامل من تحذيري لمن كفر وتبشيري لمن آمن وقيامي بكل ما أوجب عليّ الملك غير هائب لكم ولا خائف منكم ولا طامع في مؤالفتكم ولا معتمد على سواه .
ولما كانت ملازمتهم لأعمالهم سبباً لوقوع العذاب المتوعد به ووقوعه سبباً للعلم بمن يخزي لمن يعلم أي هذين الأمرين يراد ، ذكره بعد هذا التهديد فحسن حذف الفاء من قوله : { سوف تعلمون* } أي بوعد لا خلف فيه وإن تأخر زمانه ، وسوقه مساق الجواب لمن كأنه قال : ما المراد بهذا الأمر بالعمل المبالغ قبل في النهي عنه؟ وقد تقدم في قصة نوح عليه السلام ما يوضحه .

وأحسن منه أنهم لما قالوا { ما نفقه كثيراً مما تقول } كذبهم - في إخراج الكلام على تقدير سؤال من هو منصب الفكر كله إلى كلامه - قائل : ماذا يكون إذا عملنا وعملت؟ فهذا وصل خفي مشير إلى تقدير السؤال ولو ذكر الفاء لكان وصلاً ظاهراً ، وقد ظهر الفرق بين كلام الله العالم بالإسباب وما يتصل بها من المسبباب المأمور بها أشرف خلقه صلى الله عليه وسلم في سورة الأنعام والزمر والكلام المحكي عن نبيه شعيب عليه السلام في هذه السورة { من } أي أينا أو الذي { يأتيه عذاب يخزيه } ولما كان من مضمون قولهم { ما نفقه كثيراً مما تقول } النسبة إلى الكذب لأنه التكلم بما ليس له نسبة في الواقع تطابقه ، قال : { ومن هو كاذب } أي مني ومنكم ، فالتقدير إن كانت « من » موصولة : ستعلمون المخزي بالعذاب والكذب أنا وأنتم ، وإن كانت استفهامية : أينا يأتيه عذاب يخزيه وأينا هو كاذب ، فالزموا مكانتكم لا تتقدموا عنها { وارتقبوا } أي انتظروا ما يكون من عواقبها .
ولما كانوا يكذبونه وينكرون قوله ، أكد فقال : { إني معكم رقيب* } لمثل ذلك ، وإنما قدرت هذا المعطوف عليه لفصل الكلام في قوله { سوف } ويجوز عطفه على { اعملوا } وجرد ولم يقل : مرتقب ، إشارة إلى أن همه الاجتهاد في العمل بما أمره الله لأنه مبالغ في ارتقاب عاقبته معهم استهانة بهم .
ولما كان كأنه قيل : فأخذوا الكلام على ظاهره ولم ينتفعوا بصادع وعيده وباهره ، فاستمروا على ما هم عليه من القبيح إلى أن جاء أمرنا في الأجل المضروب له ، قال عاطفاً عليه ، وكان العطف بالواو لأنه لم يتقدم وعيد بوقت معين - كما في قصتي صالح ولوط عليهما السلام - يتسبب عنه المجيء ويتعقبه : { ولما جاء أمرنا } أي تعلق إرادتنا بالعذاب { نجينا } بما لنا من العظمة { شعيباً } أي تنجية عظيمة { والذين آمنوا } كائنين { معه } منهم ومما عذبناهم به ، وكان إنجاءنا لهم { برحمة منا } ولما ذكر نجاة المؤمنين ، أتبعه هلاك الكافرين فقال : { وأخذت الذين ظلموا } أي أوقعوا الظلم ولم يتوبوا { الصيحة } وكأنها كانت دون صيحة ثمود لأنهم كانوا أضعف منهم فلذلك أبرز علامة التأنيث في هذه دون تلك .
ولما ذكر الصيحة ذكر ما تسبب عنها فقال : { فأصبحوا } أي في الوقت الذي يتوقع الإنسان فيه السرور وكل خير { في ديارهم جاثمين* } أي ساقطين لازمين لمكانهم .
ولما كان الجثوم قد لا يكون بالموت ، أوضح المراد بقوله : { كأن لم يغنوا فيها } أي لم يقيموا في ديارهم أغنياء متصرفين مترددين مع الغواني لاهين بالغناء؛ ولما كان مضمون ذلك الإبعاد أكده بقوله : { ألا بعداً لمدين } بعداً مع أنه بمعنى ضد القرب معه هلاك ، فهو من بعد بالكسر وأيد ما فهمته من أن أمرهم كان أخف من أمر ثمود بقوله : { كما بعدت ثمود } .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)

ولما كان شعيب ختن موسى عليهما السلام ، كان ذكر قصته هنا متوقعاً مع ما حرك إلى توقعها من ذكر كتابه أول السورة وما في عصا موسى من مناسبة ناقة من ختم بالتشبيه بحالهم ، فذكرها بعدها مفتتحاً لها بحرف التوقع فقال مؤكداً تنبيهاً على أن فرعون فعل فعل قريش في الإدبار عن الآيات العظيمة ولم يترك موسى عليه السلام شيئاً مما أوحي إليه من إنذاره : { ولقد أرسلنا } أعاد الفعل وأبرزه في مظهر العظمة إشارة إلى باهر معجزاته { موسى بآياتنا } أي المعجزات التي أظهرها { وسلطان } أي أمر قاهر للقبط ، والظاهر أنه حكاية موسى عليه السلام منه على ما كان له من السطوة والتحرق عليه { مبين* } أي بين بنفسه ، وهو في قوة بيانه كأنه مبين لغيره ما فيه من الأسرار ، والآية تعم الأمارة والدليل القاطع ، و السلطان يخص القاطع ، والمبين يخص ما فيه جلاء { إلى فرعون } طاغية القبط { وملئه } أي أشراف قومه الذين تتبعهم الأذناب ، لأن القصد الأكبر رفع أيديهم عن بني إسرائيل .
ولما كان الناصح لنفسه من لا يتبع أحداً إلا فيما يعلم أنه صواب ، قال معجباً من الملأ مشيراً إلى سرعة تكذيبهم بالبينات وإتباعهم فيما ضلاله لا يخفى على من له مسكة : { فاتبعوا } أي فتسبب عن هذا الأمر الباهر أن عصى فرعون وحمل ملؤه أنفسهم على أن تبعوا لإرادتنا ذلك منهم { أمر فرعون } أي كل ما يفهمون عنه أنه يهواه ويأمره به وتبعهم السفلة فأطبقوا على المنابذة إلا من شاء الله منهم { وما } أي والحال أنه ما { أمر فرعون برشيد* } أي سديد ، مع أن في هذا التعقيب بعد ذكر ثمود من التذكير بآيتي الناقة والعصا إشارة إلى القدرة على البعث المذكور أول السورة الموجب خوفه لكل خير كما أن ذلك أيضاً كان من فوائد تعقيب قصة إبراهيم لقصة صالح عليهما السلام ، واقتصر هنا على ذكر فرعون وقومه لأن المقصود من هذه القصص - كما تقدم - التثبيت في المكافحة بإبلاغ الإنذار وإن اشتدت كراهية المبلغين وقل المتبع منهم ، وأن لا يترك شيء منه خوف إصرارهم أو إدبارهم ولا رجاء إقبالهم وكثرة مؤمنيهم ، وهذه حال آل فرعون ، وأما بنو إسرائيل فإنهم لم يتوقفوا إلا خوفاً من فرعون في أول الأمر ، ثم أطبق كلهم على الإتباع ، ثم صاروا بعد ذلك كل قليل يبدلون لا كراهية للإنذار بل لغير ذلك من الأمور وعجائب المقدور كما بين في قصصهم؛ والملأ : الأشراف الذين تملأ الصدور هيبتهم عند رؤيتهم؛ والإتباع ، طلب ، طلب الثاني للتصرف بتصرف الأول في أي جهة أخذ ، وقد يكون عن كره بخلاف الطاعة؛ والأمر : الإيجاب بصيغة « أفعل » وهو يتضمن إرادة المأمور به في الجملة ، وقد لا يراد امتثال عين المأمور؛ والرشيد : القائد إلى الخير الهادي إليه؛ ثم أوضح عدم رشد أمر فرعون بقوله : { يقدم قومه } أي الذين كان لهم قوة المدافعة { يوم القيامة } ويكونون له تبعاً كما كانوا في الدنيا ، وأشار بإيراد ما حقه المضارع ماضياً إلى تحقق وقوعه تحقق ما وقع ومضى فقال : { فأوردهم النار } أي كما أوردهم في الدنيا غطاءها وهو البحر .

ولما كان التقدير : فبئس الواردون ، عطف عليه بيان الفعل والمفعول فقال : { وبئس الورد المورود* } كما كان البحر إذ وردوه أقبح ورد ورده إنسان ، لأن الورد يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد ، وهذا يفيد ضد ذاك .
ولما كان فرعون موصوفاً بعظم الحال وكثرة الجنود والأموال وضخامة المملكة ، حقر تعالى دنياه بتحقير جميع الدنيا التي هي منها بإسقاطها في الذكر اكتفاء بالإشارة إليها ولم يثبتها كما في قصة عاد فقال : { وأتبعوا } ببنائه للمفعول لأن المنكي الفعل لا كونه من معين { في هذه } أي الحياة الخسيسة { لعنة } فهم يلعنون فيها من كل لاعن من المسلمين وغيرهم من أهل الملل فلعنة الله على من حسَّن حالهم وارتضى ضلالهم لإضلال العباد من أهل الإلحاد بفتنة الاتحاد { ويوم القيامة } أيضاً يلعنهم اللاعنون ، حتى أهل الاتحاد الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين؛ ثم بين ما يحق أن يقوله سامع ذلك بقوله : { بئس الرفد المرفود* } أي التبع المتبوع والعون المعان ، فإن اللعنة تابعة لعذابهم في الدنيا ومتبوعة باللعنة في الآخرة والعذاب رفد لها وهي رفد له ، ومادة « رفد » تدور على التبع ، أو يكون المراد أن لعنهم لا يزال مترادفاً تابعاً بعضه لبعض ، فكل لعنة تابعة لشيء من الخزي : عذاب أو لعن ، متبوعة بلعنة مضافة إليها ، وسمي ذلك رفداً وهو حقيقة العون من باب قولهم : تحية بينهم ضرب وجيع ومعنى { يقدم } أنه يكون قدامهم غير سائق لهم ، بل هم على أثره متلاحقين ، فيكون دخولهم إلى النار معاً؛ والقيامة : القومة من الموت للحساب؛ والإتباع : طلب الثاني للحاق بالأول كيف تصرف؛ واللعن من الله : الإبعاد من الرحمة بالحكم بذلك ، ومن العباد : الدعاء به .

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)

ولما كانت هذه الأخبار على غاية منا التحذير ، لا يعرفه إلا بالغ في العلم ، كان من المعلوم قطعاً أنه صلى الله عليه وسلم لم يأت بها إلا من عند الله للعلم المشاهد بأنه لم يعان علماً ولا ألم بعالم يوماً ، هذا مع ما اشتملت عليه من أنواع البلاغة وتضمنته من أنحاء الفصاحة وأومأت إليه بحسن سياقاتها من صروف الحكم وإفادة تفصيلها من فنون المعارف ، فلذلك استحقت أن يشار إليها بأداة البعد إيماء إلى بعد المرتبة وعلو الأمر فقال تعالى : { ذلك } أي النبأ العظيم والخطب الجسيم { من أنباء القرى } وأكد هذا المعنى بلفظ النبأ لأنه الخبر فيه عظيم الشأن ، ومنه النبي ، وأشار بالتعبير بالمضارع في قوله : { نقصه عليك } إلى أنا كما قصصناها عليك في هذا الحال للمقصد المتقدم سنقصها عليك لغير ذلك من الأغراض في فنون البلاغة وتصاريف الحكم كما سترى عند قصه؛ ثم أشار - بما أخبر من حلها بقوله : { منها } أي القرى { قائم وحصيد* } إلى أنك مثل ما سمعت ما قصصنا عليك من أمرها بأذنك ووعيته بقلبك تحسها بعينك بمشاهدة أبنيتها وآثارها قائمة ومستحصدة ، أي متهدمة لم يبق من بنيانها إلا بعض جدرانها .
ولما كان فيما تقدم في هذه السورة من القصص أشد تهديد وأعظم وعيد لمن له تبصرة ، صرح لغليظي الأكباد بأن الموجب للايقاع بهم إنما هو الظلم ، فقال تعالى عاطفاً على نحو أن يقال : فعلنا بهم وأنبأناك به : { وما ظلمناهم } في شي منه { ولكن ظلموا أنفسهم } واعتمدوا على أندادهم معرضين عن جنابنا آمنين من عذابنا فأخذناهم { فما } أي فتسبب عن اعتمادهم على غيرنا أنه ما { أغنت عنهم } أي بوجه من الوجوه { آلهتهم التي } وصور حالهم الماضية فقال : { يدعون } أي دعوها واستمروا على دعائهم لها إلى حين الأخذ ، وين خسة رتبتها فقال : { من دون الله } أي الذي له جميع صفات الكمال؛ وذكر مفعول « اغنت » معرقاً في النفي فقال : { من شيء } أي وإن قل { لما جاء أمر } أي عذاب { ربك } أي المحسن إليك بتأخير العذاب المستأصل عن أمتك وجعلك نبي الرحمة { وما زادوهم } في أحوالهم التي كانت لهم قبل عبادتهم إياها { غير تتبيب* } أي إهلاك وتخسير ، فإنهم كانوا في عداد من يرجى فلاحه ، فلما تورطوا في عبادتها ونشبوا في غوايتها وبعدوا عن الاستقامة بضلالتها خسروا أنفسهم التي هي رأس المال فكيف لهم بعد ذلك بالأرباح؛ والقص : إتباع الأثر ، فهو هنا الإخبار بالأمور التي يتلو بعضها بعضاً؛ والدعاء : طلب الطالب الفعل من غيره ، ونداء الشيء باسمه بحرف النداء ، وكلا الأمرين مرادان؛ و { من دون الله } : من منزلة أدنى من منزلة عبادة الله لأنه من الأدون ، وهو الأقرب إلى جهة السفل؛ والتب : الهلك والخسر .

ولما كان المقصود من ذلك رمي قلوب العرب بما فيه من سهام التهديد ليقلعوا عما تمكنوا فيه من عمى التقليد ، قال تعالى معلماً بأن الذي أوقع بأولئك لظلمهم وهو لكل ظالم بالمرصاد سواء ظلم نفسه أو غيره : { وكذلك } أي ومثل ذلك الأخذ العظيم { أخذ ربك } ذكّره بوصف الإحسان ما له إليه من البر لئلا يخاف على قومه من مثل هذا الأخذ { إذا أخذ القرى } أي أهلها وإن كانوا غير من تقدم الإخبار عنهم وإن عظموا وكثروا ، ولكن الإخبار عنها أهول لأنه يفهم أنه ربما يعمها الهلاك لأجلهم بشدة الغضب من فعلهم كقرى قوم لوط عليه السلام { وهي ظالمة } روى البخاري في التفسير عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته » ثم قرأ { وكذلك أخذ ربك } الآية .
ولما كان مثل هذا الآخذ لا يداينه مخلوق ولا يقدر عليه ملك ، حسن كل الحسن إتباع ذلك قوله : { إن أخذه أليم } أي مؤلم قاطع للآمال مالىء البدن والروح والنفس بالنكال { شديد* } أي صعب مفتت للقوى ، ولعله عبر هنا باسم الرب مضيفاً له إلى المنبأ بهذه الأنباء مكرراً لذلك في هذا المقام الذي ربما سبق فيه الوهم إلى أنه باسم الجبار والمنتقم مثلاً أليق ، إشارة إلى أنه سبحانه يربيك أحسن تربية في إظهارك على الدين كله وانقياد العظماء لأمرك وذل الأعزة لسطوتك وخفض الرؤوس لعلو شأنك ، فلا تتكلف أنت شيئاً من قصد إجابتهم إلى إنزال آية أو ترك ما يغيظ من إنذار ونحو ذلك - والله الموفق .
ولما كان مما جر هذه القصص وهذه المواعظ تكذيبهم لما يوعدون من العذاب الناشىء عن إنكار البعث المذكور في قوله تعالى : { ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت } ، أشار تعالى إلى تحقق أمر الآخرة وأنه مما ينبغي الاهتمام به رداً للمقطع على المطلع ، وإعلاماً بأنه لا فرق بينه وبين ما تحقق إيقاعه من عذاب هذه الأمم في القدرة عليه بقوله مؤكداً لأجل جحودهم أن يكون في شيء مما مضى دلالة عليه بوجه من الوجوه : { إن في ذلك } أي النبأ العظيم والقصص والوعظ بما يذكر { لآية } أي لعلامة عظيمة ودلالة بتة ولما كان وجود الشيء عدماً بالنسبة إلى ما لا نفع له به ، قال : { لمن خاف عذاب } يوم الحياة { الآخرة } لأنه نفع خاص به ، وإنما كان آية له لأنه إذا نظر إلى إهلاكه للظالمين إهلاكاً عاماً بسبب ظلمهم وإنجائه للمؤمنين ، علم أنه قادر على ما يريد ، وأنه لا بد أن يجازي كلاًّ بما فعل ، فإذا رأى أن ظلمه كثيرين يموتون بغير انتقام ، علم أنه لا بد من يوم يجازيهم فيه ، وهو اليوم الذي أخبرت به عنه رسله ، وزاد في الإشارة إلى تهويله بإعادة اسم الإشارة في قوله : { ذلك } أي اليوم العظيم الذي يكون فيه عذاب الآخرة { يوم } وأشار - إلى يسر البعث وسهولته عليه وأنه أمر ثابت لا بد منه - باسم المفعول من قوله : { مجموع له } أي لإظهار العدل فيه والفضل { الناس } أي كل من فيه أهلية التحرك والاضطراب وما ثمّ يوم غيره يكون بهذه الصفة أصلاً .

ولما لم يسبقه يوم اجتمع فيه جميع الخلق من الجن والإنس والملائكة وجميع الحيوانات أحياء ، وكان ذلك مسوغاً لأن تعد شهادة غيره عدماً فقال تعالى : { وذلك } أي اليوم العظيم { يوم مشهود* } أي هو نفسه لهم ولغيرهم من جميع الخلق ، فيكون تنوينه للتعظيم بدلالة المقام ، أو يكون المعنى أنه أهل لأن يشهد ، وتتوفر الدواعي على حضوره لما فيه من عجائب الأمور والأهوال العظام والمواقف الصعبة ، فلا يكون ثم شغل إلا نظر ما فيه والإحاطة بحوادثه خوف التلاف ورجاء الخلاص؛ والآية : العلامة العظيمة لما فيها من البيان عن الأمر الكبير؛ والخوف : انزعاج النفس بتوقع الشر ، وضده الأمن وهو سكون النفس بتوقع الخير؛ والعذاب : استمرار الألم .

وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)

ولما تقدم قولهم { ما يحبسه } كان كأنه قيل في الرد عليهم : نحن قادرون على تعجيله ، وهو - كما أشرنا إليه في هذه الآية - عندنا متى شئنا في غاية السهولة : { وما نؤخره } أي اليوم أو الجزاء مع ما لنا من العظمة والقدرة التامة على إيجاده لشيء من الأشياء { إلا لأجل } أي لأجل انتهاء أجل { معدود* } سبق في الأزل تقديره ممن لا يبدل القول لديه وكل شيء في حكمه ، فهو لا يخشى الفوت؛ ومادة « أجل » بتراكيبها الأربعة : أجل وجأل وجلأ ولجأ تدور على المدة المضروبة للشيء ، فالأجل - محركة : مدة الشيء وغاية الوقت في الموت وحلول الدين من تسمية الجزء باسم الكل ، والتأجيل : تحديد الأجل ، ويلزمه التأخير ، ومنه أجل الشيء كفرح - إذا تأخر ، والآجلة : الآخرة ، وأجل الشيء - بالفتح : حبسه ومنعه ، لأن الأجل حابس ومانع للمؤجل ، ومنه أجلى كجمزى ، وهو مرعى لهم معروف كأنه لحسنه يحبس الراعي فيه ، وأجل الشر عليهم : حناه وأثاره وهيجه ، ولأهله : كسب وجمع واحتال ، لأن ذلك كله من لوازم ذي الأجل ، أو المعنى أنه أوجد أجل ذلك ، وكمقعد ومعظم : مستنفع الماء ، لأنه محيط به إحاطة الأجل بالمؤجل ، وأجله فيه تأجيلاً : جمعه فتأجل ، والمأجل : الحوض يحبس فيه الماء ، وأجلوا ما لهم : حبسوه في المرعى ، والاجل - بالكسر : قطيع من بقر الوحش ، تشبيهاً له في اجتماعه من حيث إنه أحصن له بالأجل لأنه - كما قيل - حصن حصين ، والاجل - بالكسر أيضاً : وجع في العنق ، لأنه من أسباب حلول الأجل ، وأجله : داواه منه ، وبالضم جمع أجيل للمتأخر وللمجتمع من الطين يجعل حول النخلة ، لإحاطته بها إحاطة الأجل وتحصينه لها ، وتأجل القوم : تجمعوا ، لأن التجمع أحصن لهم ، وأجل - بفتحتين ثم سكون : جواب كنعم وزناً ومعنى إلا أنه أحسن منه في التصديق ، ونعم منه في الاستفهام ، وحقيقة ذلك الإخبار بأن أجل - أي وقت - ذلك الفعل الموجب أو المستفهم عنه قد حضر ، وفعلت ذلك من أجلك - من غير « من » - ومن أجلك ، ومن أجلاك ومن أجلالك ويكسر في الكل ، أي من جللك - قاله في القاموس ، وقال في فصل الجيم : وفعلته من جلك - بالضم - وجلالك وجللك - محركة - وتجلتك وإجلالك - بالكسر ، ومن أجل إجلالك ومن أجلك بمعنى - انتهى . وحقيقته أن فعلي مبتدىء من أجلك - بالتحريك ، أو تكون « من » سببية ، اي أجلك سبب فيه ، ولولا وجودك ما فعلته فهو لتعظيمك؛ والملجأ واللجأ - محركة : المعقل والملاذ ، كأنه شبه بالأجل ، ومنه لجأ إليه - كمنع وفرح : لاذ ، وألجأ أمره إلى الله : أسنده ، وألجأ فلاناً إلى كذا : اضطره ، والتلجئة : الإكراه ، واللجأ - محركاً : الضفدع ، لالتجائها إلى الماء؛ ومن ذلك الجيأل - كصقيل ، وجيأل وجيألة ممنوعين ، وجيل بلا همز كله اسم الضبع لكثرة لجائها إلى وجارها ، ومنه جئل - كفرح - جألاناً : عرج ، كأنه تشبيه بمشيتها ، لأن من أسمائها العرجاء ، أو تشبيه بمشية الراقي في درج الملجأ ، أي الحصن ، وكذا الأجل - كقنب وقبر - وهو ذكر الأوعال ، لأن قرونه كالحصن له ، وجيألة الجرح : غثيثه ، وهو مرية ، لأنه من أسباب قرب الأجل ، وكذا الاجئلال - أي الفزع - ربما كان سبباً لذلك ، وربما كان سبباً للمبادرة إلى الحصن ، وجأل - كمنع : ذهب وجاء ، والصوف : جمعه واجتمع - لازم متعد ، كله من لوازم الأجل بمعنى المدة ، وجلأ بالرجل - كمنع : صرعته ، وبثوبه : رماه ، كأنه جعله في قوة من حضر أجله ، وإن شئت قلت في ضبط ذلك : إن المادة - مع دورانها على المدة - تارة تنظر إلى نفس المدة ، وتارة إلى آخرها ، وتارة إلى امتدادها وتأخرها ، وتارة إلى ما يدني منه ، وتارة إلى منفعتها ، وتارة إلى ما يلزم فيها ، فمن النظر إلى نفس المدة : التأجيل بمعنى تحديد الأجل ، وهو مدة الشيء ، وفعلت هذا من أجلك ، أي لولا وجودك ما فعلته ، وأجل بمعنى نعم ، أي حضرت مدة الفعل ، ومن النظر إلى الآخر : دنا الأجل - في الموت والدّين ، ومن النظر إلى التأخر : أجل الشيء - إذا تأخر ، والآجلة : الآخرة ، ومن النظر إلى السبب المدني : الأجل - بالكسر - لوجع في العنق ، وجيألة الجرح - لغثيثه أي مريه ، وجلأ بالرجل : صرعه وبثوبه : رماه ، وأجل الشر عليهم : جناه ، أو أثاره وهيجه ، والاجئلال : الفزع ، ومن النظر إلى المنفعة وهي أن التأجيل الذي هو تحديد الأجل للشيء مانع من أخذه دون ما ضرب له من المدة : الاجل - بالكسر - للقطيع من بقر الوحش ، وأجل الشيء : حبسه ومنعه ، وأجلى كجمزي : مرعي لهم معروف ، وتأجل القوم : تجمعوا ، وجأل الصوف جمعه ، واللجأ والملجأ : المعقل والملاذ ، والضفدع للزومها ملجأها من الماء ، والجيأل للضبع للزومها وجارها ، ولذلك تسمى أم عامر ، وجئل - كفرح : عرج ، كأنه شبه بمشيتها لأنها تسمى العرجاء ، والأجل كقنب وقبر - لذكر الأوعال ، لتحصنه بقرونه ، والأجل - بالضم : المجتمع من الطين يجعل حول النخلة ، والمآجل : الحوض يحبس فيه الماء ، ومستنقع الماء مطلقاً ، وأجله تأجيلاً : جمعه ، ومن النظر إلى ما يلزم في المدة : أجل لأهله : كسب وجمع وجلب واحتال ، وجأل - كمنع : جاء وذهب؛ فقد تبين أن المراد بالأجل هنا الحين .

ولما كان كأنه قيل : يا ليت شعري ماذا يكون حال الناس إذا أتى ذلك الأجل وفيها الجبابرة والرؤساء وذوو العظمة والكبراء! أجيب بقوله : { يوم يأت } أي ذلك الأجل لا يقدرون على الامتناع بل ولا على مطلق الكلام ، وحذف ابن عامر وعاصم وحمزة الياء اجتزاء عنها بالكسرة كما هو فاشٍ في لغة هذيل ، وكان ذلك إشارة إلى أن شدة هوله تمنع أهل الموقف الكلام أصلاً في مقدار ثلثية ، ثم يؤذن لهم في الكلام في الثلث الآخر بدلالة المحذوف وقرينة الاستثناء ، فإن العادة أني يكون المستثنى أقل من المستثنى منه { لا تكلم } ولو أقل كلام بدلالة حذف التاء { نفس } من جميع الخلق في ذلك اليوم الذي هو يوم الآخرة ، وهو ظرف هذا الأجل وهو يوم طويل جداً ذو ألوان وفنون وأهوال وشؤون ، تارة يؤذن فيه في الكلام ، وتارة يكون على الأفواه الختام ، وتارة يسكتهم الخوف والحسرة والآلام ، وتارة ينطقهم الجدال والخصام { إلا بإذنه } أي بإذن ربك المكرر ذكره في هذه الآيات إشارة إلى حسن التربية وإحكام التدبير .

ولما علم من هذا أنه يوم عظمة وقهر ، سبب عن تلك العظمة تقسيم الحاضرين فقال : { فمنهم } أي الخلائق الحاضرين لأمره { شقي } ثبتت له الشقاوة فيسر في الدنيا لأعمالها { وسعيد* } ثبتت له السعادة فمشى على منوالها؛ والتأخير : الإذهاب عن جهة الشيء بالإبعاد منه ، وضده التقديم؛ والأجل : الوقت المضروب لوقوع أمر من الأمور؛ واللام تدل على العلة والغرض والحكمة بخلاف « إلى »؛ والشقاء : قوة أسباب البلاء .
ولما كان أكثر الخلق هالكاً مع أن المقام مقام تهديد وتهويل ، بدأ تعالى بالأشقياء ترتيباً للنشر على ترتيب اللف فقال : { فأما الذين شقوا } أي أدركهم العسر والشدة { ففي النار } أي محكوم لهم بأنهم يدخلون الناء التي هي النار لو علمتم { لهم فيها زفير } أي عظيم جداً { وشهيق* } من زفر - إذا أخرج نفسه بعد مدِّه إياه ، وشهيق - إذ تردد البكاء في صدره - قاله في القاموس؛ وقال ابن كثير في تفسير سورة الأنبياء : الزفير خروج أنفاسهم ، والشهيق : ولوج أنفسهم؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الزفير : الصوت الشديد ، والشهيق : الصوت الضعيف ، وعن الضحاك ومقاتل : الزفير أول نهيق الحمار ، والشهيق آخره حين يفرغ من صوته إذا رده في جوفه ، وسيأتي كلام الزماني في ذلك { خالدين فيها } أي بلا انقطاع ، وعبر عنه بقوله جرياً على أساليب العرب : { ما دامت السماوات والأرض } .
ولما كان له شيء لا يقبح منه شيء وهو قادر على كل شيء ، دل على ذلك بقوله : { إلا ما شاء } أي مدة شاءها فإنه لا يحكم لهم بذلك فيها فلا يدخلونها .
ولما كان الحال في هذه السورة مقتضياً - كما تقدم - لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما أخبر به سبحانه في قوله { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } - الآية ، من ضيق صدره ، ولذلك أتى بهذه القصص كما مضى بيان ذلك ، عبر باسم الرب إشارة إلى أنه يحسن إليه بكل ما يسر قلبه ويشرح صدره فقال : { ربك } وقد جرى الناس في هذا الاستثناء على ظاهره ثم أطالوا الاختلاف في تعيين المدة المستثناة ، والذي ظهر لي - والله أعلم - أنه لما تكرر الجزم بالخلود في الدارين وأن الشرك لا يغفر والإيمان موجب للجنة فكان ربما ظن أنه لا يمكن غير ذلك كما ظنه المعتزلة لا سيما إذا تؤمل القطع في مثل قوله { أن الله لا يغفر أن يشرك به } مع تقييد غيره بالمشيئة في قوله { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } جاء هذا الاستثناء معلماً أن الأمر فيه إلى الله تعالى كغيره من الأمور ، له أن يفعل في كلها ما يشاء وإن جزم القول فيه ، لكنه لا يقع غير ما أخبر به ، وهذا كما تقول : اسكن هذه الدار عمرك إلاّ ما شاء زيد ، وقد لا يشاء زيد شيئاً ، فكما أن التعليق بدوام السماوات والأرض غير مراد الظاهر كذلك الاستثناء لا يشاء الله قطع الخلود لأحد من الفريقين ، وسوقه هكذا أدل على القدرة وأعظم في تقليد المنة ، ثم رأيت الإمام أباً أحمد البغوي قد ذكر معنى هذا آخر ما أورده في تفسيره من الأقوال في الآية وحكي نحوه عن الفراء ، ومثله بأن تقول : والله لأضربنك إلاّ إن أرى ، وعزيمتك أن تضربه ، وعزاه الطحاوي في بيان المشكل إلى أهل اللغة منهم الفراء .

ولما كان تخليد الكفار من الحكم بالقسط بين الفريقين لأنه من أكبر تنعيم المؤمنين الذين عادوهم في الله كما تقدم التنبيه عليه أول سورة يونس عليه السلام عند قوله { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط } كان ربما توهم أن الاستثناء لو أُخذ على ظاهره لم يكن إخراجهم من النار حيناً ، نفى هذا التوهم بقوله : { إن ربك } أي المحسن إليك { فعال لما يريد } أي لا يجوز عليه البدء بالرجوع عما أراد ولا المنع عن مراده ولا يتعذر عليه شيء منه مع كثرة المرادات فلا اعتراض عليه ولا يلزمه لأحد شيء ، بل له أن يخلد العاصين في الجنة ويخلد الطائعين في النار ، ولكنه كما ثبت ذلك ليعتقد لكونه من صفة الكمال ثبت أنه لا يفعل ذلك سبحانه ولا يبدل القول لديه لأن ذلك من صفات الكمال أيضاً مع أن في ختم الآية بذلك ترجية لأهل النار في إخراجهم منها زيادة في عذابهم .

وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)

ولما تم أمر الأشقياء ، عطف عليه قسيمهم فقال : { وأما الذين سعدوا } أي فازوا بمطالبهم وتيسر أمرهم { ففي الجنة } أي التي صارت معلومة من الدين بالضرورة { خالدين فيها } دائماً أبداً { ما دامت السماوات والأرض } على ما جرت به عادة العرب في إرادة التأبيد بلا آخر بمثل هذا { إلاّ ما شآء ربك } وأدل دليل على ما قلت في الاستثناء قوله : { عطاء } هو نصب على المصدر { غير مجذوذ } أي مقطوع ولا مكسور ولا مفصول - لعطاء من الأعطية ولا مفرق ولا مستهان به : لأنهم لو انفكوا من النعيم حقيقة أو معنى ولو لحظة لكان مقطوعاً أو منقوصاً؛ وفي الختم بذلك من الجزم بالدوام طمأنينة لأهل الجنة زيادة في نعيمهم عكس ما كان لأهل النار؛ قال أبو الحسن الرماني : والزفير : ترديد النفس مع الصوت حتى تنتفخ الضلوع ، وأصله الشدة من المزفور الخلق ، والزفر : الحمل على الظهر ، لشدته ، والزفر : السيد لأنه يطيق حمل الشدائد ، وزفرت النار - إذا سمعت لها صوتاً في شدة توقدها ، والشهيق : صوت فظيع يخرج من الجوف بمد النفس ، وأصله الطول المفرط من قولهم : جبل شاهق أي ممتنع طولاً؛ والخالد : الكائن في الشيء أبداً ، والدائم : الباقي أبداً ، ولهذا يوصف الله تعالى بالدائم دون الخالد .
ولما أخبره تعالى بوقوع القضاء بتمييز الناس في اليوم المشهود إلى القسمين المذكورين على الحكم المشروح مرهباً ومرغباً ، كان ذلك كافياً في الثبات على أمر الله والمضيّ لإنفاذ جميع ما أرسل به وإن شق اعتماداً على النصرة في ذلك اليوم بحضرة تلك الجموع ، فكان ذلك سبباً للنهي عن القلق في شيء من الأشياء وإن جل وقعه وتعاظم خطبه ، فقال تعالى : { فلا } ولما كان ما تضمنه هذا التقسيم أمراً عظيماً وخطباً جسيماً ، اقتضى عظيم تشوف النفس وشديد شوقها لعلم ما سبب عنه ، فاقتضى ذلك حذف النون من « كان » إيجازاً في الكلام للإسراع بالإيقاف على المراد والإبلاغ في نفي الكون على أعلى الوجوه فقال : { تك } أي في حالة من الأحوال { في مرية } والمرية : الشك مع ظهور الدلالة للتهمة - قاله الرماني { مما يعبد هؤلآء } أي لا تفعل فعل من هو في مرية بأن تضطرب من أجل ما يعبدون مواظبين على عبادتهم مجددين ذلك في كل حي فتنجع نفسك في إرادة مبادرتهم إلى امتثال الأوامر في النزوع عن ذلك بالكف عن مكاشفتهم بغائظ الإنذار والطلب لإجابة مقترحاتهم رجاء الأزدجار كما مضى في قوله تعالى { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } - الآية ، وذلك أن مادة مرى - بأيّ ترتيب كان - تدور على الاضطراب ، وقد يلزمه الطرح والفصل : رمى يرمي رمياً ، والمرماة : ظلف الشاة لأنه يطرح ، والرمي : قطع من السحاب رقاق؛ والريم : البراح ، ما يريم يفعل كذا : ما يزال ، والريم : الدرج للاضطراب فيها ، والقبر لنبذه في جانب من الأرض وطرح الميت فيه ، وريم فلان بالمكان : أقام به مجاوزاً لغيره منفصلاً عنه كأنه رمى بنفسه فيه ، وريمت السحابة - إذا دامت فلم تقلع ، لأن من شأنها رمي القطر ، ومرى الضرع : مسحه للحلب ، والريح تمري السحاب ، والمري : المعدة لقذفها ما فيها ، والمرية : الشك ، أي تزلزل الاعتقاد ، والميرة : جلب الطعام؛ ثم استأنف تعالى خبراً هو بمنزلة العلة لذلك فقال : { ما يعبدون } أي يوقعون العبادة على وجه الاستمرار { إلاّ كما يعبد آباؤهم } ولما كانت عبادتهم في قليل من الزمن الماضي أدخل الجار فقال : { من قبل } أي أنهم لم يفعلوا ذلك لشبهة إذا كشف عنها القناع رجعوا ، بل لمحض تقليد الآباء مع استحضارهم لتلبسهم بالعبادة كأنهم حاضرون لديهم يشاهدونهم مع العمى عن النظر في الدلائل والحجج كما كان من قصصنا عليك أخبارهم من الأمم في تقليد الآباء سواء بسواء مع عظيم شكيمتهم وشدة عصبتهم للأجانب فكيف بالأقارب فكيف بالآباء! فأقم عليهم الحجة بإبلاغ جميع ما نأمرك به كما فعل من قصصنا عليك أنباءهم من إخوانك من الرسل غير مخطر في البال شيئاً مما قد يترتب عليه إلى أن ينفذ ما نريد من أوامرنا كما سبق في العلم فلا تستعجل فإنا ندبر الأمر في سفول شأنهم وعلو شأنك كما نريد { وإنا } بما لنا من العظمة { لموفوهم نصيبهم } من الخير والشر من الآجال وغيرها وما هو ثابت ثباتاً لا يفارق أصلاً؛ ولما كانت التوفية قد تطلق على مجرد الإعطاء وقد يكون ذلك على التقريب ، نفى هذا الاحتمال بقوله : { غير منقوص } والنصيب : القسم المجعول لصاحبه كالحظ؛ والمنقوص : المقدار المأخوذ جزء منه؛ والنقص : أخذ جزء من المقدار .

ولما ذكر في هذه الآية إعراضهم عن الإتباع مع ما أتى به من المعجزات وأنزل عليه من الكتاب ، سلاه بأخيه عليهما السلام لأن الحال إذا عم خف ، وابتدأ ذكره بحرف التوقع بما دعا إلى توقعه من قرب ذكره مع فرعون مع ذكر كتابه أول السورة فقال تعالى : { ولقد آتينا } أي بما لنا من العظمة { موسى الكتاب } أي التوراة الجامعة للخير .
ولما كان الضار والمسلي نفس الاختلاف ، بني للمفعول قوله : { فاختلف فيه } فآمن به قوم وكفر به آخرون مع أنه إمام ورحمة وكتب سبحانه له فيه من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء ، وكان معجباً لأهل ذلك الزمان كما اختلف في كتابك مع إعجابه لأهل هذا الزمان وبيانه للهدى أتم بيان ، إشارة إلى أن الخلق مهما جاءهم عن الله ، وهو لا يكون إلاّ مصحوباً بالأدلة القاطعة نأوا عنه واختلفوا فيه ، ومهما تلقفوه عن آبائهم تلقوه بالقبول وناضلوا عنه و سمحوا فيه بالمهج وإن كان منابذاً للعقول ، فكان قوم موسى باختلافهم في الكتاب كل قليل يأبى فريق منهم بعض أحكامه ويريدون نقض إبرامه كما سلف بيانه غير مرة عن نص التوراة وسفر يوشع إلى أن آل أمرهم الآن إلى أن صاروا ثلاث فرق : ربانيين ، وقرابين ، وسامرة؛ يضلل بعضهم بعضاً ، ومع ذلك فلم يعاجلهم بالأخذ مع قدرته على ذلك كما فعل بمن قص أمره من الأمم لما سبق من حكمه بتأخيرهم إلى الأجل المعدود ، وفصل بين هذا وبين قصة موسى عليه السلام مع فرعون ليكون مع ما دعا إلى تقديم ما تقدم من الآيات أوقع في التسلية وأبلغ في التعزية والتأسية كما هو شأن كل ما ألقي إلى المحتاج شيئاً فشيئاً { ولولا كلمة } أي عظيمة لا يمكن تغييرها لأنها من كلام الملك الأعظم { سبقت من ربك } أي المحسن إليك وإليهم بإرسالك رحمة للعالمين { لقُضي } أي لوقع القضاء { بينهم } أي بين من اختلف في كتاب موسى عاجلاً ، ولكن سبقت الكلمة أن القضاء الكامل إنما يكون يوم القيامة كما قال في سورة يونس { فما اختلفوا حتى جاءهم العلم } - الآية .

ولما كان الاختلاف قد يكون بغير الكفر بين أنه به ، فقال مؤكداً لأن كل طائفة من اليهود تنكر شكها فيه وفعلها فعل الشاك : { وإنهم لفي شك } أي عظيم محيط بهم { منه } أي من القضاء أو الكتاب { مريب } أي موقع في الريب والتهمة والاضطراب مع ما رأوا من الآيات التي منها سماع كلام الله ورؤية ما كان يتجلى في جبل الطور من الجلال ويتبدى لهم في قبة الزمان من خارق الأحوال { وإن كلاًّ } من المختلفين في الحق من قوم موسى وغيرهم ممن هو على الحق وممن هو على الباطل؛ و { إن } عند نافع وابن كثير وأبي بكر عن عاصم عاملة مع تخفيفها من الثقيلة في قراءة غيرهم اعتباراً بأصلها { لما } هي في قراءة ابن عامر وحمزة وعاصم بالتشديد الجازمة حذف فعلها - قال ابن الحاجب : وهو شائع فصيح ، وفي قراءة غيرهم بالتخفيف مركبة من لام الابتداء و { ما } المؤكدة بنفي نقيض ما أثبته الكلام ليكون ثبوته مع نفي نقيضه على أبلغ وجه .
ولما كان الشرط في حذف الفعل بعد « لما » الجازمة أن يكون مما يتوقع بوقوع فعل قبلها يدل عليه ، كان التقدير : يقض بينهم ، وسيقضي وهو معنى ما قرن بعدها بلام القسم من قوله : { ليوفينهم ربك } أي المحسن إليك بإقامتك على المنهاج الأعدل والفضل من العباد { أعمالهم } لا يدع منها شيئاً لأنه لا يخفى عليه منها شيء ، والسياق يقتضي أن يكون { ما } في { لما } في قراءة التخفيف للتأكيد على النحو الذي مر غير مرة أن النافي إذا زيد في سياق الإثبات كان كأنه نفي النقيض تأكيداً لمثبت { إنه بما يعملون } قدم الظرف لتأكيد الخبر { خبير } فإذا علمت أن شأنك في أمتك شأن الرسل في أممهم وأنه لا بد من الاختلاف في شأن الرسول والكتاب كما جرت بذلك السنة الإلهية وأن الجزاء بالأعمال كلها لا يد منه { فاستقم } أي أوجد القوم بغاية جهدك بسبب أنك لا تكلف إلاّ نفسك وأن الذي أرسلك لا يغفل عن شيء ، ومن استقام استقيم له .

ولما كان من المقطوع به أن الآمر له صلى الله عليه وسلم مَن له الأمر كله ، بني للمفعول قوله : { كمآ أمرت } أي كما استقام إخوانك من الأنبياء في جميع الأصول والفروع سواء كان في نفسك أو في تبليغ غيرك معتدلاً بين الإفراط والتفريط ولا يضيق صدرك من استهزائهم وتعنتهم واقتراحهم للآيات وإرادتهم أن تترك بعض ما يوحى إليك من التشنيع عليهم والعيب لدينهم بل صارحهم بالأمر واتركهم وأهواءهم ، نحن ندبر الأمر كما نريد على حسب ما نعلم .
ولما كان الفاصل بين المعطوف والمعطوف عليه يقوم مقام تأكيد الضمير المستتر ، عطف عليه قوله : { ومن } أي وليستقم أيضاً من { تاب } عن الكفر مؤمناً { معك } على ما أمروا تاركين القلق من استبطائهم للنصرة كما روى البخاري وابو داود والنسائي عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال : « شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلنا : ألا تدعو الله لنا ، فقعد وهو محمر وجهه فقال : كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع فوق رأسه فيشق باثنين ، وما يصده ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون » ؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية أشد ولا أشق من هذه الآية . والاستقامة : الاستمرار في جهة واحدة .
ولما كانت وسطاً بين إفراط وتفريط وكان التفريط لا يكاد يسلم منه إلا الفرد النادر ، وهو في الأغلب يورث انكسار النفس واحتقارها والخوف من الله ، وكان الإفراط يورث إعجاباً ، وربما أفضى بالإنسان إلى ظن أنه شارع فينسلخ لذلك من الدين ، طوى التفريط ونهى عن الإفراط فقال : { ولا تطغوا } أي تتجاوزوا الحد فيما أمرتم به أو نهيتم عنه بالزيادة إفراطاً ، فإن الله تعالى إنما أمركم ونهاكم لتهذيب نفوسكم لا لحاجته إلى ذلك ولن تطيقوا أن تقدروا الله حق قدره ، والدين متين لن يشاده أحد إلا غلبه ، فقد رضي منكم سبحانه الاقتصاد في العمل مع حسن المقاصد ، ويجوز أن يكون المعنى : ولا تبطركم النعمة فتخرجكم عن طريق الاستقامة يمنة أو يسرة .

ولما نهي عن الإفراط وهو الزيادة تصريحاً ، فأفهم النهي عن التفريط ، وهو النقص عن المأمور تلويحاً من باب الأولى ، على ذلك مؤكداً تنزيلاً لمن يفرط أو يفرط منزلة المنكر فقال : { إنه بما تعملون } قدم الظرف لما تقدم من تأكيد الإبصار { بصير* } ومادة « طغى » واوية ويائية بكل ترتيب تدور على مجاوزة الحد مع العلو ، فالغطاء : ما ستر به الشيء عالياً عليه ، ولا يكون ساتراً لجميعه إلا إذا فضل عنه فتجاوز حده ، وغطى الليل - إذا غشي ، وكل شي ارتفع فهو غاط . وطغى السيل - إذا جاء بماء كثير ، والبحر : هاجت أمواجه ، والطغيان : مجاوزة الحد في العصيان ، والغائط والغيط : المطمئن من الأرض ، لأن ما كان كذلك وكانت أرضه طيبة كانت لا تزال ريّاً فيعلو ما نبت فيها ويخصب فيتجاوز الحد في ذلك ، ومنه الغوطة - لموضع بالشام كثير الماء والشجر .

وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)

ولما نهي عن الإفراط في الدين ، أتبعه النهي عن التفريط بالتقصير فيه بسفول الهمم على وجه عام ، وكان الحب في الله والبغض منه أوثق عرى الإيمان ، إشارة إلى ضده الذي هو أوثق عرى الشيطان فقال : { ولا تركنوا } أي شيئاً من ركون ، وقال : { إلى الذين ظلموا } أي وجد منهم الظلم ولم يقل الظالمين ، أي بالميل إليهم بأن تثاقل أنفسكم نحوهم للميل إلى أعمالهم ولو بالرضى به والتشبه بهم والتزيّي بزيهم ، وحاصل الآيتين : لا تظلموا بأنفسكم ولا تستحسنوا أفعال الظالمين ، وفسر الزمخشري الركون بالميل اليسير ، وهو حسن من جهة المعنى لكني لن أره لغيره من أهل اللغة ، وقال الرماني - وهو أقرب : الركون : السكون إلى الشيء بالمحبة والانصباب إليه ، ونقيضه النفور عنه . وهو على التفسير الثاني في { تطغوا } من عطف الخاص على العام ، والآية ملتفتة إلى قوله تعالى { فلعلك تارك بعض ما يُوحى إليك } { فتمسكم النار } أي فتسبب عن ركونكم إليهم مسُّها لكم فلا تقدروا على التخلص منها بنوع حيلة من أنفسكم؛ ومن إجلال النبي صلى الله عليه وسلم إفراده بالخطاب في الأمر بأفعال الخير ، والإتيان بضمير الجمع في النهي عن أفعال الشر - نبه على ذلك الإمام أبو حيان .
ولما كان كل موجود سوى الله في قهره وتحت أمره ، قال تعالى : { وما لكم } ولما كان دون رتبته تعالى من الرتب والذوات ما لا يحصيه غيره سبحانه ، أدخل الجار تبعيضاً فقال : { من دون الله } أي الملك لأعظم ، وأعرق في النفي فقال : { من أولياء } أي يخلصونكم من عذابه لما تقرر أن { دون } من الأدون وهو الأقرب إلى جهة السفل؛ والولي : المختص بأن من شأنه تولي المعونة عند الحاجة ، وأشار إلى أن نصر مَنْ لا ناصر له من الله محال بأداة البعد وبناء للمفعول فقال : { ثم لا تنصرون* } أي ثم إذاً فإنكم هذا وذاك فما أبعدكم من النصرة!
ولما كان العلم حاصلاً بما سبق من الحكم من أن الآدمي محل العجز والتقصير ، أتبع ذلك بأعلى مكفر لما يوجبه العجز ويقضي به الفتور والوهن من الصغائر وأعمه وأجلبه للاستقامة ، وذلك يدل على أنها بعد الإيمان أفضل العبادات ، فقال تعالى : { وأقم الصلاة } أي اعملها على استواء { طرفي النهار } بالصبح والعصر كما كان مفروضاً بمكة في أول الأمر قبل الإسراء ، ويمكن أن يراد مع ذلك الظهر لأنها من الطرف الثاني { وزُلفاً } أي طوائف ودرجات وأوقات ، جمع زلفة { من الَّيل } يمكن أن يكون المراد به التهجد ، فقد كان مفروضاً في أول الإسلام ، ويمكن أن يراد المغرب والعشاء مع الوتر أو التهجد؛ ثم علل ذلك بقوله : { إن الحسنات } أي الطاعات كلها الصلاة وغيرها المبنية على أساس الإيمان { يذهبن السيئات } أي الصغائر ، وأما الكبائر التي يعبر عنها بالفواحش ونحوه فقد تقدم في قصة شعيب عليه السلام عند قوله { ثم توبوا إليه } أنه لا يكفرها إلا التوبة لما فيها من الإشعار بالتهاون بالدين ، واجتنابها لا يكفر إلا إذا كان عن نية صالحة كما أفهمه صيغة الافتعال من قوله

{ إن تجتنبوا } [ النساء : 30 ] ؛ روى البخاري في التفسير عن ابن مسعود رضي الله عنه « أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله عليه { أقم الصلاة طرفي النهار } - الآية ، قال الرجل : ألي هذه؟ قال : لمن عمل بها من أمتي » وهذا الحديث يؤيد قول ابن عباس رضي الله عنهما : إن هذه الآية من هذه السورة المكية المدنية .
ولما تم هذا على هذا الوجه الأعلى والترتيب الأولى ، قال تعالى مادحاً له ليعرف مقداره فيلزم : { ذلك } أي الأمر العالي الرتبة الذي تقدم من الترغيب والترهيب والتسلية وتعليم الداء والدواء للخلاص من الشقاء { ذكرى } أي ذكر عظيم { للذاكرين* } أي لمن فيه أهلية الذكر والانتباه به بحضور القلب وصفاء الفكر ونفوذ الفهم .
ولما كان الصبر لله على المكاره أعلى الطاعة ، أتبع ذلك قوله : { واصبر } أي ليكن منك صبر على الطاعات وعن المعاصي ولا تترك إنذارهم بما أمرت به مهما كان ولا تخفهم ، فإن العاقبة لك إذا فعلت؛ ولما كان المقام الصبر صعباً والاستقامة على المحمود منه خاصة خطراً ، وكانت النفس - لما لها من الجزع في كثير من الأحوال - كالمنكرة ، أكدَّ قوله : { فإن } الصبر هو الإحسان كل الإحسان وإن { الله } أي المحيط بصفات الكمال { لا يضيع } أي بوجه من الوجوه { أجر المحسنين* } أي العريقين في وصف الإحسان بحيث إنهم يعبدون الله كأنهم يرونه ، فلذلك يهون عليهم الصبر ، ولذلك لأن الطاعة كلفة فلا تكون إلا بالصبر ، وكل ما عداها فهو هوى النفس لا صبر فيه ، فالدين كله صبر « حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات » ولذا فضل ثواب الصابر { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } [ الزمر : 10 ] والصبر المحمود : حبس النفس عن الخروج إلى ما لا يجوز من ترك الحق ، ونقيضه الجزع ، قال الشاعر :
إن تصبر فالصبر خير مغبةً ... وإن تجزعا فالأمر ما تريان
وهو من الصبر الذي هو المر المعروف لأنه تجرع مرارة الحق بحبس النفس عن الخروج إلى المشتهى مع الزاجر المعتبر من الشرع والعقل ، فهو أكره شيء إلى النفس ، والمعين عليه ما في استشعار لزوم الحق من العز والأجر بالطاعة والعلم بما يعقب من الخير في كل وجه وعادة النفس له ، وقد غلب إطلاقه على الحق حتى لا يجوز إطلاقه إلا فيه - قاله الرماني .
ولما كان ما تقدم كله مشيراً إلى استبعاد إيمان المعاندين بشيء من تدبير آدمي كما تكاد القصص تنطق به ، وكذا الإعلام بأن عبادتهم إنما هي للتقليد وباختلاف قوم موسى في كتابه الذي هو هدى ورحمة ، وكل ذلك فطماً عن طلب ما قد يهجس في الخاطر من تمني إجابتهم إلى ما يقترحون أو الكف عن بعض ما يغيظ من الإنذار ، وكان من طبع البشر البعد عن الانتهاء عن الخواطر إلا بعد التجربة ، كان ذلك ربما أوجب أن يقال : لو أجيبوا إلى سؤالهم لربما رجعوا عن كثير مما هم فيه ، فدعاهم ذلك إلى الرشاد ، فتسبب عنه أن يقال دفعاً له : { فلولا كان } ويجوز أن يكون مناسبتها أنه لما ذكر إهلاك القرون الماضية والأمم السالفة بما مضى إلى أن ختم بالأمر بالصبر على الإحسان من الأمر بالمعروف والنهي عن النمكر ، كان من الجائز أن يقع في فكر الاعتراض بأن يقال : ما الموجب لذلك؟ فبين أن سبب الهلاك الإعراض عن نهي منتهك الحرمات والمجترىء على هتك الأستار الجليلة والرتع في الحمى مع تمكنهم بما أودع فيهم سبحانه من القوى والقدرة على اختيار جانب الخير والإعراض عن جانب الشر فقال تعالى : { فلولا } بصيغة تحتمل التخصيص ، وفيها معنى التفجع والتأسف لاعتبار كل من كان على مثل حالهم { من القرون } أي المهلكين الأشداء الكائنين في زمان ما .

ولما كان المراد القرون التي تقدم ذكر إهلاكها ، وكانت أزمنتهم بعض الزمان الماضي ، أتى بالجار فقال : { من قبلكم أولوا } أي أصحاب { بقية } أي حفظ وخير ومراقبة لما يصلحهم ، لأن مادة « بقي » تدور على الجمع ، ويلزمه القوة والثبات والحفظ ، من قولهم : ابقه بقوتك مالك - وزن ادعه - أي احفظه حفظك مالك ، ويلزمه النظر والمراقبة : بقيت الشيء - إذا نظرت إليه ورصدته ، ويلزمه الثبات : بقي بقاء - إذا دام ، والخير والجودة؛ قال الزمخشري : لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله ، ويقال : فلان من بقية قوم ، أي من خيارهم ، وسيأتي شرح ذلك مستوفى عند قوله تعالى { وجعلنا بينهم موبقاً } إن شاء الله تعالى { ينهون } أي يجددون النهي في كل حين إشارة إلى كثرة المفسدين { عن الفساد } الكائن { في الأرض } و « لولا » هنا كالتي في يونس توبيخية أو استفامية كما جوزهما الرماني ، ويجوز أن تكون تخصيصية كما قال الزمخشري ، ويكون للسامع لا للمهلك ، لأن الآية لما تضمنت إهلاك المقر على الفساد كان في ذلك أقوى حث لغيرهم على الأمر والنهي وأوفى تهديد زاجر عن ارتكاب مثل حالهم الموقع في أضعاف نكالهم ، وفي تعقيب هذه الآية لآية الصبر إشارة إلى أن الصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الذروة العليا ، والآية ناظرة إلى قوله تعالى { إنما أنت نذير } .
ولما كانت المعاني الثلاثة متضمنة للنفي ، كان المعنى : لم يكن من يفعل ذلك ، فاتصل الاستثناء في قوله : { إلا قليلاً } أي صالحين { ممن أنجينا منهم } والظاهر أن « من » بيانية ، أي هم الذين أنجينا فإنهم نهوا عن الفساد ، عبر بالإنجاء لأنه الدال على الخير الحامل للنهي عن الفساد دون التنجية الدالة على التدريج والإبلاغ في الإنجاء فلو عبر بها فسد المعنى { واتبع } الأكثر وهم { الذين ظلموا } أي أوقعوا الظلم بترك النهي عن الفساد ، وما أحسن إطلاقها عن التقييد ب { منهم } { ما } ولما كان المبطر لهم نفس الترف ، بني للمفعول قوله : { أُترفوا فيه } فأبطرتهم النعمة حتى طغوا وتجبروا { وكانوا مجرمين* } أي متصفين على سبيل الرسوخ بالإجرام ، وهو قطع حبل الله على الدوام ، فأهلكهم ربك لإجرامهم ، ولولا ذلك لما فعل ، فإن إهلاكهم على تقدير الانفكاك عن الإجرام يكون ظلماً على ما يتعارفون .

ولما لاح بما مضى أن العبرة في الإهلاك والإنجاء للاكثر ، قرره وأكده وبينه بقوله : { وما كان ربك } ذكر سبحانه بالوصف المفهم للإحسان تثبيتاً له وتأميناً { ليهلك القرى } أي إهلاكاً عاماً { بظلم } أي أيّ ظلم كان ، صغير أو كبير { وأهلها مصلحون* } أي في حال ظلم بأن يوقع إهلاكهم في حال إصلاحهم الذي هم عريقون فيه ، فيكون الإهلاك في غير موقعه على ما يتعارف العباد مع العلم بأن له أن يفعل ذلك في نفس الأمر لأنه لا يسأل عما يفعل؛ والإهلاك : إيجاب ما يبطل الإحساس ، والهلاك : ضياع الشيء وهو حصوله بحيث لا يدري أين هو؛ والإصلاح : إيجاب ما يستقيم به الأمر على ما يدعو إليه العقل .

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)

ولما كان مثل هذه الآيات ربما أوهم أن إيمان مثل هؤلاء مما لا يدخل تحت المشيئة ، نفى ذلك الوهم مبيناً انفكاك المشيئة عن الأمر بقوله : { ولو شاء ربك } أي المحسن إليك بكل إحسان يزيدك رفعة { لجعل الناس } أي كلهم { أمة واحدة } على الإصلاح ، فهو قادر على أن يجعلهم كلهم مصلحين متفقين على الإيمان فلا يهلكهم ، ولكنه لم يشأ ذلك ، بل شاء اختلافهم والأمر تابع لمشيئته فاختلفوا { ولا يزالون مختلفين } أي ثابتاً اختلافهم لكونهم على أديان شتى { إلا من رحم ربك } أي المحسن إليك بالتأليف بينهم في جعلهم من أهل طاعتك فإنهم لا يختلفون في أصول الحق . ولما كان ما تقدم ربما أوجب أن يقال : لمَ لم يُقبل بقلوبهم إلى الهدى ويصرفهم عن موجبات الردى إذا كان قادراً؟ قال تعالى مجيباً عن ذلك : { ولذلك } أي الاختلاف { خلقهم } أي اخترعهم وأوجدهم من العدم وقدرهم ، وذلك أنه لما طبعهم سبحانه على خلائق من الخير والشر تقتضي الاختلاف لتفاوتهم فيها ، جعلوا كأنهم خُلقوا له فجروا مع القضاء والقدر ، ولم يمكنهم الجري على ما تدعو إليه العقول في أن الاتفاق رحمة والاختلاف نقمة ، فاستحق فريق منهم النار وفريق جنة ، وليس ذلك مخالفاً لقوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] بل هو من شكله ، أي أنه تعالى لما ركبهم على العجز ومنحهم العقول مع نصب الأدلة ، كان ذلك مهيئاً للعبادة فكانوا كأنهم ما خلقوا إلا لها أي ما خلقتهم إلا ليعرفون بنفوذ أقضيتي وتصاريفي فيهم فيعبدون ، أي يخضعوا لي فمن كان منهم طائعاً فهو عابد حقيقة ، ومن كان عاصياً كان عابداً مجازاً ، أي خاضعاً للأمر لنفوذه فيه وعجزه عن الامتناع كما قال تعالى { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً } [ الرعد : 15 ] ، فقد بان أن خلقهم للعبادة فقط ينافي خلقهم للاختلاف ، لأن جريهم في قضائه بالاختلاف عبادة وسجود لغة ، وذلك أن مادتي عبد وسجد تدوران على الخضوع والذل والانقياد ، وبذلك كان الكل عبيد الله ، أو الإشارة إلى مجمع الاتفاق والاختلاف ليظهر فضله على من ثبتهم ويظهر عدله فيمن خذلهم .
ولما كان هذا الاختلاف سبب الكفر الذي أرسل رسله بالقتال عليه ، كان ربما ظن أنه بغير مشيئته ، فبين أنه إنما هو بمراده ولا اعتراض عليه فقال : { وتمت } أي فبادروا إلى ما خلقهم لهم معرضين عن أوامره ولم تغن عنهم عقولهم ، وتمت حينئذ { كلمة ربك } أي المحسن إليك بقهر أعدائك التي سبقت في الأزل وهي وعزتي { لأملأن جهنم } أي التي تلقى المعذب فيها بالتجهم والعبوسة { من الجنة } أي قبيل الجن ، قدمهم لأنهم أصل في الشر ، ثم عم فقال : { والناس أجمعين* } فمشوا على ما أراد ولم يمكنهم مع عقولهم الجيدة الاستعدد وقواهم الشداد غير إلقاء القياد ، فمن قال : إنه يخلق فعله أو له قدرة على شيء فليفعل غير ذلك بأن يخبر باتفاقهم ثم يفعله ليتم قوله .

وإلا فليعلم أنه مربوب مقهور فيسمع رسالات ربه إليه بقالبه وقلبه .
ولما أخبر سبحانه بما فعل بالقرى الظالمة ، وحذر كل من فعل أفعالهم بسطواته في الدنيا والآخرة ، وأمر باتباع أمره والاعراض عن اختلافهم الذي حكم به وأراده ، عطف على قوله { نقصه عليك } قوله : { وكلاًّ نقص } أي ونقص { عليك } كل نبأ أي خبر عظيم جداً { من أنباء الرسل } مع أممهم : صالحيهم وفاسديهم ، فعم تفخيماً للأمر ، ولما كان الذي جرّ هذه القصص ما مضى من قوله : { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك } ، وكان ساكن الصدر القلب ، وهو الفؤاد الذي به قوام الإنسان بل الحيوان ، وهو أحرّ ما فيه ، ولذا عبر عنه بما اشتق من الفأد وهو الحرف ، وكان من لازم الحرارة الاضطراب والتقلب الذي اشتق منه القلب فيضيق به الصدر ، أبدل من { كلاًّ } قوله : { ما نثبت } أي تثبيتاً عظيماً { به فؤادك } أي فيسكن في موضعه ويطمئن أو يزداد يقينه فلا يضيق الصدر من قولهم { لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك } ونحوه ، وبهذا تبين أن المراد بذلك العام خاص لحصوله المقصود له ، وهو التسلية نظراً إلى قوله تعالى { وضائق به صدرك } لأن المشاركة في الأمور الصعبة تهون على الإنسان ما يلقى من الأذى ، والإعلام بعقوبات المكذبين فيها تأنيس للمكروب؛ والتثبيت : تمكين إقامة الشيء؛ والفؤاد : العضو الذي من شأنه أن يحمى بالغضب الحال فيه ، من المفتأد وهو المستوي .
ولما بين أن كل ما قص عليه من أخبارهم يستلزم هذا المقصود ، بين أنه ليس كما يعلل به غالباً من الأخبار الفارغة والأحاديث المزخرفة الباطلة ولا مما ينقله المؤرخون مشوباً بالتحريف فقال : { وجاءك في هذه } أي الأخبار { الحق } أي الكامل في الثبات الذي لا مرية فيه ، وفائدة الظرف التأكيد لعظم المقصود من آية { فلعلك } وصعوبته .
ولما كان الحق حقاً بالنسبة إلى كل أحد عرفه ونكر ما هو خاص بقوم دون قوم فقال : { وموعظة } أي مرقق للقلوب { وذكرى } أي تذكير عظيم جداً { للمؤمنين* } أي الراسخين في الإيمان ، وقد تضمنت الآية الاعتبار من قصص الرسل بما فيها من حسن صبرهم على أممهم واجتهادهم على دعائهم إلى عبادة الله بالحق وتذكير الخير والشر وما يدعو إليه كل منهما من عاقبة النفع والضر للثبات على ذلك جميعه اقتداء بهم .
ولما ذكر نفع هذا الحق ، كان كأنه قيل : فعظهم بذلك وذكرهم به ، فعطف عليه قوله : { وقل } ويجوز أن يكون معطوفاً على قوله { واصبر } أي اصبر على ما أمرناك به من تبليغ وحينا وامتثاله ، وقل { للذين } أي لم تؤثر فيهم هذه الموعظة فهم { لا يؤمنون } أي لا يتجدد لهم إيمان منذراً لهم { اعملوا } متمكنين { على مكانتكم } أي طريقتكم التي تتمكنون من العمل عليها .

ولما كان العمل واجباً عليه صلى الله عليه وسلم وعلى كل من تبعه فهم عاملون لا محالة سواء عمل الكفار أو لا ، قال مؤكداً لأجل إنكار الكفار أن يدوموا على العمل المخالف لهم مع ما يصل إليهم لأجله من الضر ، معرياً له عن فاء السبب لذلك والاستئناف : { إنا } أي أنا ومن معي { عاملون* } أي ثابت عملنا لا نحول عنه لأن ما كان لله فهو دائم بدوامه سبحانه ، وحذف النون الثانية اكتفاء بمطلق التأكيد لأنه كافٍ في الإعلام بالجزم في النية ، وفيه تأدب بالإشارة إلى أن المستقبل أمر لا اطلاع عليه لغير الله فينبغي أن لا يبلغ في التأكيد فيه غيره ، وهذا بخلاف ما في سورة فصلت مما هو جارٍ على ألسنة الكفرة { وانتظروا } أي ما أنتم منتظرون له من قهرنا { إنا منتظرون* } أي ما وعدنا الله في أمركم ، فإن الله مهلكهم ومنجيك لأنه عالم بغيب حالك وحالهم وقادر عليكم؛ والانتظار : طلب الإدراك لما يأتي من الأمر الذي يقدر النظر إليه؛ والتوقع : طلب ما يقدر أنه يقع ، وهما يكونان في الخير والشر ومع العلم والشك ، والترجي لا يكون إلا مع الخير والشك .

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)

ولما تضمن هذا التهديد العلم والقدرة ، قال عاطفاً على ما تقديره : فلله كل ما شوهد من أمرنا وأمركم وأمر عالم الغيب والشهادة كله ما كان من ابتداء أمورنا { ولله } أي المحيط وحده بكل شيء مع ذلك { غيب السماوات والأرض } أي جميع ما غاب علمه عن العباد فهو تام العلم ، ومنه ما ينهى عنه وإن ظن الجهلة أنه خارج عن قدرته لما أظهر من الزجر عنه ومن كراهيته .
ولما كان السياق هنا لأنه سبحانه خلق الخلق ذواتهم ومعانيهم للاختلاف ، وكان تهديدهم على المعاصي ربما أوهم أنه بغير إرادته ، فكان ربما قال جاهل : أنا بريء من المخالفين لأوليائه كثيراً جداً ، وعادة الخلق أن من خالفهم خارج عن أمرهم ، كان الجواب على تقدير التسليم لهذا الأمر الظاهر : فله كان الأمر كله ظاهراً وباطناً { وإليه } أي وحده { يرجع } بعد أن كان ظهر للجاهل أن خرج عنه؛ والرجوع : ذهاب الشيء إلى حيث ابتدأ منه { الأمر كله } في الحال على لبس وخفاء ، وفي المال على ظهور واتضاح وجلاء ، فهو شامل القدرة كما هو شامل العلم ، فلا بد من أن يرجع إليه أمرك وأمر أعدائك ، أي يعمل فيه عمل من يرجع إليه الأمر فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، ولذلك سبب عن إسناد الأمور كلها إليه قوله : { فاعبده } أي وحده عبادة لا شوب فيها { وتوكل } معتمداً في أمورك كلها { عليه } فإنه القوي المتين ، وفي تقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على أنه إنما ينفع العابد .
ولما كانت العادة جارية بأن العالم قد يغفل ، نزه عن ذلك سبحانه نفسه فقال مرغباً مرهباً : { وما ربك } أي المحسن إليك بما يعمله بإحاطة عمله إحساناً ، وأغرق في النفي فقال : { بغافل عما تعملون* } ولا تهديد أبلغ من العلم ، وهذا بعينه مضمون قوله تعالى { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير الا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير } [ هود 1 - 2 ] .

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)

{ بسم الله } الذي وسع كل شيء قدرة وعلماً { الرحمن } الذي لم يدع لبساً لعموم رحمته في طريق الهدى { الرحيم * } الذي خص حزبه بالإبعاد عن موطىء الردى .
لما خلل سبحانه تلك مما خللها به من القصص والآيات القاطعة بأن القرآن من عنده وبإذنه نزل ، وأنه لا يؤمن إلاّ من شاء إيمانه ، وأنه مهما شاءه كان ، وبيّن عظيم قدرته على مثل ما عذب به الأمم وعلى التأليف بين من أراد وإيقاع الخلاف بين من شاء ، وأشار إلى أنه حكم بالنصرة لعابديه فلا بد أن يكون ما أراد لأنه إليه يرجع الأمر كله ، تلاها بهذه السورة لبيان هذه الأغراض بهذه القصة العظيمة الطويلة التي لقي فيها يوسف علية الصلاة والسلام ما لقي من أقرب الناس إليه ومن غيرهم ومن الغربة وشتات الشمل ، ثم كانت له العاقبة فيه على أتم الوجوه لما تدرع به من الصبر على شديد البلاء والتفويض لأمر الله جلَّ وعلا تسلية لهذا النبي الأمين وتأسية بمن مضى من إخوانه المرسلين فيما يلقى في حياته من أقاربه الكافرين وبعد وفاته ممن دخل منهم في الدين في آل بيته كما وقع ليوسف عليه السلام من تعذيب عقبه وعقب إخوته ممن بالغ في الإحسان إليهم ، وقد وقع ليوسف عليه السلام بالفعل ما همّ الكفار من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم بفعله به كما حكاه سبحانه في قوله { ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } [ الأنفال : 30 ] فنجا منهم أن يكون شيء منه بأيديهم إلاّ ما كان من الحصر في شعب أبي طالب ومن الهجرة بأمر الحكيم العليم ، ثم نصر الله يوسف عليه السلام على إخوته الذين فعلوا به ذلك وملكه قيادهم ، فكان في سوق قصته عقب الإخبار بأن المراد بهذه القصص تثبيته صلى الله عليه وسلم وتسلية فؤاده إشارة إلى البشارة بما وقع له صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من ملك قيادهم ورد عنادهم ومنّه عليهم وإحسانه إليهم ، وفي إشارتها بشارة بأن المحسود يعان ويعلى إن عمل ما هو الأحرى به والأولى ، ومن فوائد ذكرها التنبيه على أن الحسد داء عظيم شديد التمكن في النفوس حتى أنه بعزم تمكنه وكثرة مكانه وتعدد كائنه ربما غلب أهل الصلاح ألاّ من بادر منهم بالتوبة داعي الفلاح ، وتركت إعادتها دون غيرها من القصص صوناً للأكابر عن ذكر ما ربما أوجب اعتقاد نقص ، أو توجيه طعن أو غمص ، أو هون داء الحسد ، عند ذي تهور ولدد ، وخللها سبحانه ببليغ الحكم وختمها بما أنتجت من ثبوت أمر القرآن ونفي التهمة عن هذا النبي العظيم .
هذا مناسبة ما بين السورتين ، وأما مناسبة الأول للآخر فإنه تعالى لما أخبر في آخر تلك بتمام علمه وشمول قدرته ، دل على ذلك أهل السبق من الفصاحة والفوت في البلاغة في أول هذه بما فعل في كلامه من أنه تعالى يقدر على أن يأتي بما تذهب الأفهام والعقول - على كرِّ الأزمان وتعاقب الدهور وتوالي الأيام وتمادي الليالي - في معناه كل مذهب وتطير كل مطار مع توفر الدواعي واستجماع القوى ، ولا تقف من ذلك على أمر محقق ولا مراد معلوم وعلى أن يأتي بما يفهم بأوائل النظر أدنى معناه فهما يوثق بأنه مراد ، ثم لا يزال يبرز منه من دقائق المعاني كلما كرر التأمل وتغلغل الفهم إلى حد يعلم أنه معجوز عن كل ما فيه من جليل معانيه ولطيف مبانيه فقال تعالى : { الر } قال الروماني : لم تعد الفواصل لأنها لا تشاكل رؤوس الآيات لأنها على حرفين ، فأجريت مجرى الأسماء الناقصة ، وإنما يؤم بالفواصل التمام ، وأما « طه » فيعد لأنه يشبه رؤوس آيها - انتهى .

وهذا قول من ذهب سهواً إلى أن السجع مقصود في القرآن ، وهو قول مردود غير معتد به كما مضى القول فيه في آخر سورة براءة ، فإنه لا فرق بين نسبته إلى أنه شعر وبين نسبته إلى أنه سجع ، لأن السجع صنع الكهان فيؤدي ذلك إلى ادعاء أنه كهانة وذلك كفر لا شك فيه ، وقد أطنبت فيه في كتابي مصاعد النظر ، وبينت مذاهب العادين للآيات وأن مرجعها التوقيف مثل نقل القراءات سواء - والله الهادي .
ولما ابتدئت السورة الماضية بأن هذا الكتاب محكم ، وختمت بالحكمة المقصودة من قص أنباء الرسل ، وكان السياق للرد عليهم في تكذيبهم به في قوله { أم يقولون افتراه } [ سجدة : 3 ] ودل على أنه أنزل بعلمه ، ابتدئت هذه لإتمام تلك الدالة بالإشارة إلى ما له من علو المحل وبعد الرتبة ، فعقب سبحانه هذه المشكلة التي ألقاها بالأحرف المقطعة وبان أنها مع إِشكالها عند التأمل واضحة بقوله مشيراً إلى ما تقدم من القرآن وإلى هذه السورة : { تلك } أي الآيات العظيمة العالية { آيات الكتاب } أي الجامع لجميع المرادات .
ولما تقدم أول سورتي يونس وهود وصفة بالحكمة والإحكام والتفصيل ، وصف هنا بأخص من ذلك فقال تعالى : { المبين* } أي البين في نفسه أنه جامع معجز لا يشتبه على العرب بوجه ، والموضح لجميع ما حوى ، وهو جميع المرادات لمن أمعن التدبر وأنعم التفكير ، ولأنه من عند الله { ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه } [ يوسف : 111 ] و { موعظه وذكرى للمؤمنين } [ هود : 120 ] ؛ والبيان : إظهار المعنى للنفس بما يفصله عن غيره وهو غرض كل حكيم في كلامه ، ويزيد عليه البرهان بأنه إظهار صحة المعنى بما يشهد به ، وأبان - لازم متعد؛ ثم علل المبين بقوله معبراً بالإنزال لأنه في سياق تكذيبهم به بخلاف ما عبر فيه بالجعل كما يأتي في الزخرف : { إنا أنزلناه } بنون العظمة أي الكتاب المفسر بهذه السورة أو بالقرآن كله { قرآنا } سمي بعضه بذلك لأن القرآن اسم جنس يقع على الكل والبعض { عربياً } وعلل إنزاله كذلك بقوله : { لعلكم تعقلون * } أي لتكونوا على رجاء من أن تكونوا من ذوي العقل أو من أن تعقلوا ما يراد منكم؛ قال : أبو حيان و « لعل » ترجّ فيه معنى التعليل .

وهذه الآية تدل على أن اللسان العربي أفصح الألسنة وأوسعها وأقوامها وأعدلها ، لأن من المقرر أن القول - وإن خص بخطابه قوم - يكون عاماً لمن سواهم .
ولما بين أنه يقص عليه من أنباء الرسل ما يثبت به فؤاده ، قال مثبتاً ومعللاً بأنه الكتاب بعلة أخرى مشاهدة هي أخص من الأول : { نحن نقص عليك } وعظم هذه القصة بمظهر العظمة وأكد ذلك بقوله تعالى : { أحسن القصص } أي الاقتصاص أو المقصوص بأن نتبع بعض الحديث كما نعلمه بعضاً فنبينه أحسن البيان - لأنه من قص الأثر - تثبيتاً لفؤادك وتصديقاً لنبوتك وتأييداً على أحسن ترتيب وأحكم نظام وأكمل أسلوب وأوفى تحرير وأبدع طريقة مع ما نفصلها به من جواهر الحكم وبدائع المعاني من الأصول والفروع ، وهي قصة يوسف عليه السلام قصة طويلة هي في التوراة في نيف وعشرين ورقة لا يضبطها إلاّ حذاق أحبارهم ، من تأمل اقتصاصها فيها أو في غيرها من تواريخهم ذاق معنى قوله تعالى { أحسن القصص } [ يونس : 3 ] حتى لقد أسلم قوم من اليهود لما رأوا من حسن اقتصاصها ، روى البيهقي في أواخر الدلائل بسنده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما « أن حبراً من اليهود دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وكان قارئاً للتوراة فوافقه وهو يقرأ سورة يوسف عليه السلام كما أنزلت على موسى عليه السلام في التوراة فقال له الحبر : يا محمد! من علمكها؟ قال : الله علمنيها ، فرجع إلى اليهود فقال لهم : أتعلمون والله أن محمداً ليقرأ القرآن كما أنزل في التوراة! فانطلق بنفر منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة ونظروا إلى خاتم النبوة بين كتفيه ، فجعلوا يستمعون إلى قراءته لسورة يوسف ، فتعجبوا منه وقالوا : يا محمد! من علمكها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : علمنيها الله ، فأسلم القوم عند ذلك » .
وقد ضمنها سبحانه من النكت والعبر والحكم أمراً عظيماً ، وذكر فيها حسن مجاورة يوسف عليه الصلاة والسلام لإخوته وصبره على أذاهم وحلمه عنهم وإغضاءه عند لقائهم عن تبكيتهم وكرمه في العفو ، والأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والإنس والجن والأنعام والطير وسير الملوك والمماليك والتجار والعلماء والجهال والرجال والنساء ومكرهن والتوحيد والنبوة والإعجاز والتعبير والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش وجميع الفوائد التي تصلح للدين والدنيا ، وذكر الحبيب والمحبوب ، ولم يدخل فيها شيئاً من غيرها دون سائر القصص ، وكان عقابها إلى خير وسلامة واجتماع شمل وعفو من الله وتجاوز عن الكل { بما أوحينا } أي بسبب إيحائنا { إليك } .

ولما كان إنزال القرآن مجمع الخيرات ، عين المراد بالإشارة واسم العلم فقال : { هذا القرآن } الذي قالوا فيه : إنه مفترى ، فنحن نتابع فيه القصص بعد قصة بعد قصة والحكم حكمة في أثر حكمة حتى لا يشك شاك ولا يمتري ممتر في أنه من عندنا وبإذننا ويكون أمره في البعد من اللبس أظهر من الشمس .
ولما كانوا مع معرفتهم به صلى الله عليه وسلم عارفين بأنه كان مباعداً للعلم والعلماء ، وكان فعلهم في التكذيب فعل من ينكر ذلك ، قال : { وإن } أي وإن الشأن والحديث { كنت } ولما كان كونه لم يستغرق الزمان الماضي ، أثبت الجار فقال : { من قبله } أي هذا الكتاب أو إيحائنا إليك به { لمن الغافلين } أي عن هذه القصة وغيرها ، مؤكداً له بأنواع التأكيد ، وهو ناظر إلى قوله آخرها { وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون } بعد التفاته عن كثب إلى آخر التي قبلها { وما ربك بغافل عما تعملون } والحسن : معنى يتقبله العقل ويطرق إلى طلب المتصف به أنواع الحيل ، ومادة ، غفل ، بكل ترتيب تدور على الستر والحجب ، من الغلاف الذي يوضع فيه الشيء فلا ينظر منه شيئاً ولا ينظره شيء ما دام فيه ، ومنه الغفلة - للجلدة التي التي على الكمرة ، والغفل - بالضم : ما لا علاقة له من الأرض ، ودابة غفل ، لا سمة لها ، لأن عدم العلامة مؤدٍ إلى الجهل بها فكأنها في غلاف لا ينظر منه ، ومنه رجل غفل : لا حسب عنده ، لأن ذلك أقرب إلى جهله ، والتغفل : الختل ، أي أخذ الشيء من غير أن يشعر ، فقد ظهر أن مقصود السورة وصف الكتاب بعد الحكمة والتفصيل بالإبانة عن جميع المقاصد المنزل لها؛ وقال الإمام ابو جعفر بن الزبير : هذه السورة من جملة ما قص عليه صلى الله عليه وسلم من أنباء الرسل وأخبار من تقدمه مما فيه التثبيت الممنوح في قوله سبحانه وتعالى { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } [ هود : 120 ] ومما وقعت الإحالة عليه في سورة الأنعام - كما تقدم - وإنما أفردت على حدتها ولم تنسق على قصص الرسل مع أنهم في سورة واحدة لمفارقة مضمونها تلك القصص ، ألا ترى أن تلك قصص إرسال من تقدم ذكرهم عليهم الصلاة والسلام وكيفية تلقي قومهم لهم وإهلاك مكذبيهم ، أما هذه القصة فحاصلها فرج بعد شدة وتعريف بحسن عاقبة الصبر ، فإنه تعالى امتحن يعقوب عليه الصلاة والسلام بفقد ابنيه وبصره وشتات بنيه ، وامتحن يوسف عليه الصلاة والسلام بالجب والبيع وامرأة العزيز وفقد الأب والإخوة والسجن ، ثم امتحن جميعهم بشمول الضر وقلة ذات اليد

{ مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا } [ يوسف : 88 ] ثم تداركهم الله بالفهم وجمع شملهم ورد بصر أبيهم وائتلاف قلوبهم ورفع ما نزع به الشيطان وخلاص يوسف عليه الصلاة والسلام من كيد كاده واكتنافه بالعصمة وبراءته عند الملك والنسوه ، وكل ذلك مما أعقبه جميل صبره وجلالة اليقين في حسن تلقي الأقدار بالتفويض والتسليم على توالي الامتحان وطول المدة ، ثم انجرَّ في أثناء هذه القصة الجليلة إنابة امرأة العزيز ورجوعها إلى الحق وشهادتها ليوسف عليه الصلاة والسلام بما منحه الله من النزاهة عن كل ما يشين ، ثم استخلاص العزيز إياه - إلى ما انجرّ في هذه القصة الجليلة من العجائب والعبر { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } [ يوسف : 111 ] فقد انفردت هذه القصة بنفسها ولم تناسب ما ذكر من قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم الصلاة والسلام وما جرى في أممهم ، فلهذا فصلت عنهم ، وقد أشار في سورة برأسها إلى عاقبة من صبر ورضى وسلم ليتنبه المؤمنون على ما في طيّ ذلك ، وقد صرح لهم مما أجملته هذه السورة من الإشارة في قوله تعالى { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } [ النور : 55 ] - إلى قوله { آمنا } [ النور : 55 ] وكانت قصة يوسف عليه الصلاة والسلام بجملتها أشبه شيء بحال المؤمنين في مكابدتهم في أول الأمر وهجرتهم وتشققهم مع قومهم وقلة ذات أيديهم إلى أن جمع الله شملهم { اذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً } [ آل عمران : 103 ] وأورثهم الله الأرض وأيدهم ونصرهم ، ذلك بجليل إيمانهم وعظيم صبرهم ، فهذا ما أوجب تجرد هذه القصة عن تلك القصص - والله أعلم ، وأما تأخر ذكرها عنها فمناسب لحالها ولأنها إخبار بعاقبة من آمن واتعظ ووقف عند ما حد له ، فلم يضره ما كان ، ولم تذكر إثر قصص الأعراف لما بقي من استيفاء تلك القصص الحاصل ذلك في سورة هود؛ ثم إن ذكر أحوال المؤمنين مع من كان معهم من المنافقين وصبرهم عليهم مما يجب أن يتقدم ويعقب بهذه القصة من حيث عاقبة الصبر والحض عليه - كما مر ، فأخرت إلى عقب سورة هود عليه الصلاة والسلام لمجموع هذا - والله تعالى أعلم؛ ثم ناسبت سورة يوسف عليه الصلاة والسلام أيضاً أن تذكر إثر قوله تعالى { إنّ الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } [ هود : 114 ] ، وقوله { واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } [ هود : 115 ] وقول { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } - [ هود : 118 ] الآية ، وقوله { وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون } [ هود : 121 ] فتدبر ذلك ، إما نسبتها للأولى فإن ندم إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام واعترافهم بخطاء فعلهم وفضل يوسف عليه الصلاة والسلام عليهم

{ لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين } [ يوسف : 91 ] وعفوه عنهم { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم } [ يوسف : 92 ] وندم امرأة العزيز وقولها { الآن حصحص الحق } [ يوسف : 51 ] - الآية ، كل هذا من باب إذهاب الحسنة السيئة ، وكأن ذلك مثال لما عرف المؤمنون من إذهاب الحسنة السيئة؛ وأما نسبة السورة لقوله تعالى { واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } فإن هذا أمر منه سبحانه لنبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر على قومه ، فأتبع بحال يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام وما كان من أمرهما وصبرهما مع طول المدة وتوالى امتحان يوسف عليه الصلاة والسلام بالجب ومفارقة الأب والسجن حتى خلصه الله أجمل خلاص بعد طول تلك المشقات ، ألا ترى قول نبينا وقد ذكر يوسف عليه الصلاة والسلام فشهد له بجلالة الحال وعظيم الصبر فقال « » ولو لبثتُ في السجن ما لبث اخي يوسف لأجبت الداعي « فتأمل عذره له عليهما الصلاة والسلام وشهادته بعظيم قدر يوسف عليهما الصلاة والسلام { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } [ هود : 120 ] .
لما قيل له { واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } [ هود : 115 ] أتبع بحال يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام من المحسنين { ووهبنا له إسحاق ويعقوب } [ الأنعام : 84 ] - إلى قوله { وكذلك نجزي المحسنين } [ الأنعام : 84 ] وقد شملت الآية ذكر يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام ، ونبينا عليه أفضل الصلاة والسلام قد أمر بالاقتداء في الصبر بهم ، وقيل له { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } [ الأحقاف : 35 ] ويوسف عليه الصلاة والسلام من أولي العزم؛ ثم إن حال يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام - في صبرهما ورؤية حسن عاقبة الصبر في الدنيا مع ما أعد الله لهما من عظيم الثواب - أنسب شيء لحال نبينا عليه الصلاة والسلام في مكابدة قريش ومفارقة وطنه ، ثم تعقب ذلك بظفره بعدوه وإعزاز دينه وإظهار كلمته ورجوعه إلى بلده على حالة قرت بها عيون المؤمنين وما فتح الله عليه وعلى أصحابه - فتأمل ذلك ، ويوضح ما ذكرنا ختم السورة بقوله تعالى { حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاء نصرنا } [ يوسف : 110 ] الآيه فحاصل هذا كله الأمر بالصبر وحسن عواقب أولياء الله فيه؛ وأما النسبة لقوله { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين } [ هود : 118 ] فلا أنسب لهذا ولا أعجب من حال إخوة فضلاء لأب واحد من أنبياء الله تعالى وصالحي عباده جرى بينهم من التشتت ما جعله الله عبرة لأولي الألباب؛ وأما النسبة لآية التهديد فبينة ، وكأن الكلام في قوة { اعملوا على مكانتكم - وانتظروا } [ هود : 121 ] فلن نصبر عليكم مدة صبر يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام ، فقد وضح بفضل الله وجهُ ورود هذه السورة عقب سورة هود - والله أعلم . انتهى .

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)

ولما تم ما أراد تعالى من تعليل الوصف بالمبين أبدل من قوله « أحسن القصص » قوله : { إذ } أي نقص عليك خبر إذ ، أي خبر يوسف إذ { قال يوسف } أي ابن يعقوب إسرائيل الله عليهما الصلاة والسلام { لأبيه } وبين أدبه بقوله - مشيراً بأداة البعد إلى أن أباه عالي المنزلة جداً ، وإلى أن الكلام الآتي مما له وقع عظيم ، فينبغي أن يهتم بسماعه والجواب عليه ، وغير ذلك من أمره : { يأبت } تاءه للتأنيث لأنه يوقف عليها عند بعض القراء بالهاء ، وكسرتها عند من كسر دالة على ياء الإضافة التي عوض عنها تاء التأنيث ، واجتماع الكسرة معها كاجتماعها مع الياء ، وفتحها عند من فتح عوض عن الألف القائمة مقام ياء الإضافة .
ولما كان صغيراً ، وكان المنام عظيماً خطيراً ، اقتضى المقام التأكيد فقال : { إني رأيت } أي في منامي ، فهو من الرؤيا التي هي رؤية في المنام ، فرق بين حال النوم واليقظة في ذلك بألف التأنيث { أحد عشر كوكباً } أي نجماً كبيراً ظاهراً جداً مضيئاً براقاً ، وفي عدم تكرار هذه القصة في القرآن رد على من قال : كررت قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تمكيناً لفصاحتها بترادف السياق ، وفي تكرير قصصهم رد على من قال : إن هذه لم تكرر لئلا تفتر فصاحتها ، فكأن عدم تكريرها لأن مقاصد السور لم تقتض ذلك - والله أعلم .
ولما كان للنيرين اسمان يخصانهما هما في غاية الشهرة ، قال معظماً لهما : { والشمس والقمر } ولما تشوفت النفس إلى الحال التي رآهم عليها ، فكان كأنه قيل : على أيّ حال؟ وكانت الرؤيا باطن البصر الذي هو باطن النظر ، فكان التعبير بها للإشارة إلى غرابة هذا الأمر ، زاد في الإشارة إلى ذلك بإعادة الفعل ، وألحقه ضمير العقلاء لتكون دلالته على كل من عجيب أمر الرؤيا ومن فعل المرتى الذي لا يعقل فعل العقلاء من وجهين فقيل : { رأيتهم لي } أي خاصة { ساجدين * } أجراهم مجرى العقلاء لفعل العقلاء . فكأنه قيل : ماذا قال له أبوه؟ فقيل : { قال } عالماً بأن إخوته سيحسدونه على ما تدل عليه هذه الرؤيا إن سمعوها { يابني } فبين شفقته عليه ، وأكد النهي بإظهار الإدغام فقال : { لا تقصص رؤياك } أي هذه { على إخوتك } ثم سبب عن النهي قوله : { فيكيدوا } أي فيوقعوا { لك كيداً } أي يخصك ، فاللام للاختصاص . وفي الآية دليل على أنه لا نهي عن الغيبة للنصيحة ، بل هي مما يندب إليه؛ قال الرماني : والرؤيا : تصور المعنى في المنام على توهم الإبصار ، وذلك أن العقل مغمور بالنوم ، فإذا تصور الإنسان المعنى توهم أنه يراه؛ وقال الإمام الرازي في اللوامع : هي ركود الحواس الظاهرة عن الإدراك والإحساس ، وحركة المشاعر الباطنة إلى المدارك ، فإن للنفس الإنسانية حواسَّ ظاهرة ومشاعر باطنة ، فإذا سكنت الحواس الظاهرة استعملت الحواس الباطنة في إدراك الأمور الغائبة ، فربما تدركها على الصورة التي هي عليها ، فلا يحتاج إلى تعبير ، وربما تراها في صورة محاكية مناسبة لها فيحتاج إلى التعبير ، مثال الأول رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل المسجد الحرام ، والثاني كرؤيا يوسف عليه الصلاة والسلام هذه .

وقال الرماني : والرؤيا الصادقة لها تأويل ، والرؤيا الكاذبة لا تأويل لها - انتهى . وهذا لمن ينام قلبه وهم من عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
ولما كانت العادة جارية بأن شفقة الإخوة تمنع من مثل ذلك ، علله تقريباً له بقوله : { إن الشيطان } أي المحترق المبعد { للإنسان } أي عامة ولا سيما الأكابر منهم { عدو مبين * } أي واضح العداوة وموضحها لكل واع فيوقع العداوة بما يخيله من فوت الحظوظ بتركها ، وفي الآية دليل على أن أمر الرؤيا مشكل ، فلا ينبغي أن تقص إلا على شفيق ناصح .

وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)

ولما علم يعقوب عليه الصلاة والسلام من هذه الرؤيا ما سيصير إليه ولده من النبوة والملك قال : { وكذلك } أي قد اجتباك ربك للإطلاع على هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز ، ومثل ما اجتباك لها { يجتبيك } أي يختارك ويجمع لك معالي الأمور { ربك } المربي لك بالإحسان للملك والنبوة { ويعلمك من } أي بعض { تأويل الاحاديث } من الرؤيا وغيرها من كتب الله وسنن الأنبياء وغوامض ما تدل عليه المخلوقات الروحانية والجسمانية ، لأن الملك والنبوة لا يقومان إلا بالعلم والتأويل المنتهي الذي يصير إليه المعنى ، وذلك فقه الحديث الذي هو حكمة لأنه إظهار ما يؤول إليه أمره مما عليه معتمد فائدته ، وأكثر استعماله في الرؤيا { ويتم نعمته } بالنبوة { عليك } بالعدل ولزوم المنهج السوي { وعلى آل يعقوب } أي جميع إخوتك ومن أراد الله من ذريتهم ، فيجعل نعمتهم في الدنيا موصولة بنعمة الآخرة ، لأنه عبر عنهم في هذه الرؤيا بالنجوم المهتدي بها ، ولا يستعمل الآل إلا فيمن له خطر وشرف ، وإضافته مقصورة على إعلام الناطقين ، قال الراغب : وأما آل الصليب إن صح نقله فشاذ ، ويستعمل فيمن لا خطر له الأهل { كما أتمها على أبويك } .
ولما كان وجودهما لم يستغرق الماضي ، أدخل الجار فقال : { من قبل } أي من قبل هذا الزمان؛ ثم بين الأبوين بجده وجد أبيه فقال : { إبراهيم } أي بالخلة وغيرها من الكرامة { و } ولده { إسحاق } بالنبوة وجعل الأنبياء والملوك من ولده ، وإتمام النعمة : الحكم بدوامها على خلوصها من شائب فيها بنقصها .
ولما كان ذلك لا يقدر عليه إلا بالعلم المحيط بجميع الأسباب ليقام منها ما يصلح ، والحكمة التي بها يحكم ذلك السبب عن أن يقاومه سبب غيره ، وكان السياق بالعلم أولى لما ذكر من علم التأويل مع ما تقدم من قوله آخر تلك { ولله غيب السماوات والأرض } [ هود : 123 ] الآية وما شاكل ذلك أول هذه ، قال : { إن ربك عليم } أي بليغ العلم { حكيم * } أي بليغ الحكمة ، وهي وضع الأشياء في أتقن مواضعها .
ولما كان ذلك ، توقع السامع له ما يكون بينه وبين إخوته هل يكتمهم الرؤيا أو يعلمهم بها؟ وعلى كلا التقديرين ما يكون؟ فقال جواباً لمن كأنه قال : ما كان من أمرهم؟ - مفتتحاً له بحرف التوقع والتحقيق بعد لام القسم تأكيداً للأمر وإعلاماً بأنه على أتقن وجه - : { لقد كان } أي كوناً هو في أحكم مواضعه { في يوسف وإخوته } أي بسبب هذه الرؤيا وما كان من تأويلها وأسباب ذلك { آيات } أي علامات عظيمة دالات على وحدانية الله تعالى ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما تضمنته القصة { للسائلين * } أي الذين يسألون عنها من قريش واليهود وغيرهم ، وآيات عظمة الله وقدرته في تصديق رؤيا يوسف عليه الصلاة والسلام ونجاته ممن كاده وعصمته وإعلاء أمره ، والمراد بإخوته هنا العشرة الذين هم من أبيه وهم : روبيل وشمعان - بمعجمة أوله ، ولاوي ، ويهوذا ، وزيلون - بزاي وموحدة ، وإيساخار ، بهمزة مكسورة وتحتانية وسين مهملة وخاء معجمة ، ودان - بمهملة ، وجاد بجيم .

بينها وبين الكاف ، وآشير - بهمزة ممدودة وشين معجمة ثم تحتانية ومهملة . ونفتالي - بنون مفتوحة وفاء ساكنة ومثناة فوقانية ولام بعدها ياء . وشقيقه بنيامين - بضم الموحدة ، هكذا ذكرهم في التوراة ، وحررت التلفظ بهم من العلماء بها ، وقد تقدم ذلك في البقرة بزيادة . والآية : الدلالة على ما كان من الأمور العظيمة ، ومثلها العلامة والعبرة ، والحجة أخص منها ، لأنها معتمد البينة التي توجب الثقة بصحة المعنى الذي فيه أعجوبة .
ولما تقرر ذلك ، ابتدأ بذكر الآيات الواقعة في ظرف هذا الكون فقال : { إذ قالوا } أي كان ذلك حين قال الإخوة بعد أن قص الرؤيا عليهم وسوّل لهم الشيطان - كما ظن يعقوب عليه الصلاة والسلام - مقسمين دلالة على غاية الاهتمام بهذا الكلام ، وأنه مما حركهم غاية التحريك ، أو هي لام الابتداء المؤكدة المحققة لمضمون الجملة { ليوسف وأخوه } أي شقيقه بنيامين { أحب } وحددا لأن أفعل ما يستوي فيه الواحد وما فوقه مذكراً كان أو مؤنثاً إذا لم يعرف أو يضف { إلى أبينا منا } أي يحبهما أكثر مما يحبنا؛ والحب : ميل يدعو إلى إرادة الخير والنفع للمحبوب بخلاف الشهوة ، فإنها ميل النفس ومنازعتها إلى ما فيه لذتها { و } الحال أنا { نحن عصبة } أي أشداء في أنفسنا ويشد بعضنا بعضاً ، وأما هما فصغيران لا كفاية عندهما؛ والعصبة من العشرة إلى الأربعين ، فكأنه قيل : فكان ماذا؟ - على تقدير أن يكونا أحب إليه ، فقالوا مؤكدين لأن حال أبيهما في الاستقامة والهداية داع إلى تكذيبهم : { إن أبانا لفي ضلال } أي ذهاب عن طريق الصواب في ذلك { مبين * } حيث فضلهما علينا ، والقرب المقتضي للحب في كلنا واحد ، لأنا في البنوة سواء ، ولنا مزية تقتضي تفضيلنا ، وهي أنا عصبة ، لنا من النفع له والذب عنه والكفاية ما ليس لهما؛ قال الإمام أبو حيان : وأحب أفعل التفضيل ، وهو مبني من المفعول شذوذاً ، ولذلك عدي ب « إلى » لأنه إذا كان ما تعلق به فاعلاً من حيث المعنى عدي إليه ب « إلى » وإذا كان مفعولاً عدي إلية ب « في » ، تقول زيد أحب إلى عمرو من خالد ، فالضمير في « أحب » مفعول من حيث المعنى ، وعمرو هو المحب ، وإذا قلت : زيد أحب في عمرو من خالد ، كان الضمير فاعلاً وعمرو هو المحبوب ، ومن خالد - في المثال الأول محبوب ، وفي المثال الثاني فاعل ، قال : والضلال هنا هو الهدى - قاله ابن عباس رضي الله عنهما - انتهى .

اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)

ولما كان ذلك ، وكان عندهم أن الشاغل الأعظم لأبيهم عنهم إنما هو حب يوسف عليه الصلاة والسلام ، وحب أخيه إنما هو تابع ، كان كأنهم تراجعوا فيما بينهم فقالوا : قد تقرر هذا ، فما أنتم صانعون؟ فقالوا أو ما شاء الله منهم : { اقتلوا يوسف } أصل القتل : إماتة الحركة بالسكون { أو اطرحوه أرضاً } أوصلوا الفعل بدون حرف ونكروها دلالة على أنها منكورة مجهولة بحيث يهلك فيها ، وعنى قائلهم بذلك : إن تورعتم عن مباشرة قتله بأيديكم .
ولما كان التقدير : إن تفعلوا ذلك ، أجابه بقوله : { يخل لكم } أي خاصاً بكم { وجه أبيكم } أي قصده لكم وتوجهه إليكم وقصدكم ونيتكم . ولما كان أهل الدين لا يهملون إصلاح دينهم لأنه محط أمرهم ، قالوا : { وتكونوا } أي كوناً هو في غاية التمكن ، ولما كانوا عالمين بأن الموت لا بد منه . فهو مانع من استغراقهم للزمان الآتي ، أدخلوا الجار فقالوا : { من بعده } أي يوسف عليه الصلاة والسلام { قوماً } أي ذوي نشاط وقوة على محاولة الأمور { صالحين } أي عريقين في وصف الصلاح مستقيمين على طريقة تدعو إلى الحكمة بوقوع الألفة بينكم واستجلاب محبة الوالد بالمبالغة في بره وبالتوبة من ذنب واحد يكون سبباً لزوال الموجب لداء الحسد الملزوم لذنوب متصلة من البغضاء والمقاطعة والشحناء ، فعزموا على التوبة قبل وقوع الذنب فكأنه قيل : إن هذا لمن أعجب العجب من مطلق الأقارب فضلاً عن الإخوة ، فماذا قالوا عند سماعه؟ فقيل : { قال } ولما كان السياق لأن الأمر كله لله ، فهو ينجي من يشاء بما يشاء ، لم يتعلق القصد ببيان الذي كانت على يده النجاة ، فقال مبهماً إشعاراً بأنه يجب قول النصح من أيّ قائل كان ، وأن الإنسان لا يحقر نفسه في بذل النصح على أيّ حال كان : { قائل } ثم عينه بعض التعيين فقال : { منهم } أي إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام { لا تقتلوا يوسف } لا بأيديكم ولا بالإلقاء في المهالك ، فإن القتل أكبر الكبائر بعد الشرك ، وكأنه لم يكن في ناحيتهم تلك غير جب واحد فعرفه فقال : { وألقوه } وكأنه كان فيه ماء ومكان يمكن الاستقرار فيه ولا ماء به ، فأراده بقوله : { في غيابت الجب } أي غوره الغائب عن الأعين ، فإن ذلك كافٍ في المقصود ، وإنكم إن تفعلوا { يلتقطْهُ بعض السيارة } جمع سيار ، وهو المبالغ في السير ، هذا { إن كنتم } ولا بد { فاعلين * } ما أردتم من تغييبه عن أبيه ليخلو لكم وجهه؛ والجب : البئر التي لم تطو ، لأنه قطع عنها ترابها حتى بلغ الماء ، وعن أبي عمرو : إن هذا كان قبل أن يكونوا أنبياء ، فكأنه قيل : إن هذا لحسن من حيث إنه صرفهم عن قتله ، فهل استمروا عليه أو قام منهم قائم في استنزالهم عنه بعاطفة الرحم وود القرابة؟ فقيل : بل استمروا لأنهم { قالوا } إعمالاً للحيلة في الوصول إليه ، مستفهمين على وجه التعجب لأنه كان أحس منهم الشر ، فكان يحذرهم عليه { يا أبانا ما لك } أيّ أي شيء لك في حال كونك { لا تأمنا على يوسف و } الحال { إنا له لناصحون * } والنصح دليل الأمانة وسببها ، ولهذا قرنا في قوله

{ ناصح أمين } [ الأعراف : 68 ] والأمن : سكون النفس إلى انتفاء الشر ، وسببه طول الإمهال في الأمر الذي يجوز قطعة بالمكروة فيقع الاغترار بذلك الإمهال من الجهال ، وضده الخوف ، وهو انزعاج النفس لما يتوقع من الضر؛ والنصح : إخلاص العمل من فساد يتعمد ، وضده الغش ، وأجمع القراء على حذف حركة الرفع في تأمن وإدغام نونه بعد إسكانه تبعاً للرسم ، بعضهم إدغاماً محضاً وبعضهم مع الإشمام ، وبعضهم مع الروم ، دلالة على نفي سكون قلبه عليه عليهما الصلاة والسلام بأمنه عليه منهم على أبلغ وجه مع أنهم أهل لأن يسكن إليهم بذلك غاية السكون ، ولو ظهرت ضمة الرفع عند أحد من القراء فات هذا الإيماء إلى هذه النكتة البديعة .

أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)

ولما كان هذا موضع أن يقال : لأيّ غرض يكون ذلك؟ قالوا في جوابه : { أرسله معنا غداً } إلى مرعانا ، إن ترسله معنا { يرتع } أي نأكل ونشرب في الريف ونتسع في الخصب { ويلعب } أي نعمل ما تشتهي الأنفس من المباحات تاركين الجد ، وهو كل ما فيه كلفة ومشقة ، فإن ذلك له سار { وإنا له لحافظون * } أي بليغون في الحفظ؛ قال أبو حيان : وانتصب { غداً } على الظرف ، وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد ، وأصل غد غدو ، فحذفت لامه - أنتهى . فكأنه قيل : ماذا قال لهم؟ فقيل : { قال } ما زاد صدورهم توغراً لأن ما قالوه له هو بحيث يسر به لسرور يوسف عليه الصلاة والسلام به { إني ليحزنني } أي حزناً ظاهراً محققاً - بما أشار إليه إظهار النون وإثباته لام الابتداء { أن تذهبوا به } أي يتجدد الذهاب به مطلقاً - لأني لا أطيق فراقه - ولا لحظة ، وفتح لهم باباً يحتجون به عند فعل المراد بقوله جامعاً بين مشقتي الباطن ، والبلاء - كما قالوا - مؤكل بالمنطق : { وأخاف } أي إذا ذهبتم به واشتغلتم بما ذكرتم { أن يأكله الذئب } أي هذا النوع كأنه كان كثيراً بأرضهم { وأنتم عنه } أي خاصة { غافلين * } أي عريقون في الغفلة لإقبالكم على ما يهمكم من مصالح الرعي؛ والحزن : ألم القلب مما كان من فراق المحبوب ، ويعظم إذا مان فراقه إلى ما يبغض؛ والأكل : تقطيع الطعام بالمضغ الذي بعده البلع؛ فكأنه قيل : إن تلقيهم لمثل هذا لعجب ، فماذا قالوا؟ فقيل : { قالوا } مجيبين عن الثاني بما يلين الأب لإرساله ، مؤكدين ليطيب خاطره ، دالين على القسم بلامه : { لئن أكله الذئب ونحن } أي والحال أنا { عصبة } أي أشداء تعصب بعضنا لبعض؛ وأجابوا القسم بما أغنى عن جواب الشرط : { إنا إذاً } أي إذا كان هذا { لخاسرون * } أي كاملون في الخسارة لأنا إذا ضيعنا أخانا فنحن لما سواه من أموالنا أشد تضييعاً؛ وأعرضوا عن جواب الأول لأنه لا يكون إلا بما يوغر صدره ويعرف منه أنهم من تقديمه في الحب على غاية من الحسد لا توصف ، وأقله أن يقولوا : ما وجه الشح بفراقه يوماً والسماح بفراقنا كل يوم ، وذلك مما يحول بينهم وبين المراد ، فكأنه قيل : إن هذا الكيد عظيم وخطب جسيم ، فما فعل أبوهم؟ فقيل : أجابهم إلى سؤلهم فأرسله معهم { فلما ذهبوا } ملصقين ذهابهم { به وأجمعوا } أي كلهم ، وأجمع كل واحد منهم بأن عزم عزماً صادقاً؛ والإجماع على الفعل : العزم عليه باجتماع الدواعي كلها { أن يجعلوه } والجعل : إيجاد ما به يصير الشيء على خلاف ما كان عليه ، ونظيره التصيير والعمل { في غيابت الجب } فعلوا ذلك من غير مانع ، ولكن لما كان هذا الجواب في غاية الوضوح لدلالة الحال عليه ترك لأنهم إذا أجمعوا عليه علم أنهم لا مانع لهم منه؛ ثم عطف على هذا الجواب المحذوف لكونه في قوة الملفوظ قوله : { وأوحينا } أي بما لنا من العظمة { إليه } أي إلى يوسف عليه الصلاة والسلام .

ولما كان في حال النجاة منها بعيدة جداً ، أكد له قوله : { لتنبئنهم } أي لتخبرنهم إخباراً عظيماً على وجه يقل وجود مثله في الجلالة { بأمرهم هذا } أي الذي فعلوه بك { وهم لا يشعرون } - لعلو شأنك وكبر سلطانك وبعد حالك عن أوهامهم ، ولطول العهد المبدل للهيئات المغير للصور والأشكال - أنك يوسف - قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن وابن جريج على ما نقله الرماني؛ والشعور : إدراك الشيء مثل الشعرة في الدقة ، ومنه المشاعر في البدن ، وكان يوسف عليه الصلاة والسلام حين ألقوه في الجب ابن اثنتي عشرة سنة - قاله الحسن ، قالوا : وتصديق هذا أنهم لما دخلوا عليه ممتارين دعا بالصواع فرضعه على يديه ثم نقره فطن ، فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف ، وكان أبوكم يدنيه دونكم ، وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيكم : أكله الذئب .

وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)

ولما كان من المعلوم أنه ليس بعد هذا الفعل إلا الاعتذار ، عطف على الجواب المقدر قوله : { وجاؤوا أباهم } دون يوسف عليه الصلاة والسلام { عشاء } في ظلمة الليل لئلا يتفرس أبيهم في وجوههم إذا رآها في ضياء النهار ضد ما جاؤوا به من الاعتذار ، وقد قيل : لا تطلب الحاجة بالليل فإن الحياء في العينين ، ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار . والآية دالة على أن البكاء لا يدل على الصدق لاحتمال التصنع { يبكون * } والبكاء : جريان الدمع في العين عند حال الحزن ، فكأنه قيل : إنهم إذا بكوا حق لهم البكاء خوفاً من الله وشفقة على الأخ ، ولكن ماذا يقولون إذا سألهم أبوهم عن سببه؟ فقيل : { قالوا ياأبانا } .
ولما كانوا عالمين بأنه عليه الصلاة والسلام لا يصدقهم لما له من نور القلب وصدق الفراسة ولما لهم من الريبة ، أكدوا فقالوا : { إنا ذهبنا نستبق } أي نوجد المسابقة بغاية الرغبة من كل منا في ذلك { وتركنا يوسف } أخانا { عند متاعنا } أي ما كان معنا مما نحتاج إليه في ذلك الوقت من ثياب وزاد ونحوه { فأكله } أي فتسبب عن انفراده أن أكله { الذئب وما } أي والحال أنك ما { أنت بمؤمن لنا } أي من التكذيب ، أي بمصدق { ولو كنا } أي كوناً هو جبلة لنا { صادقين * } أي من أهل الصدق والأمانة بعلمك ، لأنك لم تجرب علينا قط كذباً ، ولا حفظت عنا شيئاً منه جداً ولا لعباً .
ولما علموا أنه لا يصدقهم من وجوه منها ما هو عليه من صحة الفراسة لنور القلب وقوة الحدس ، ومنها أن الكذب في نفسه لا يخلو عن دليل على بطلانه ، ومنها أن المرتاب يكاد يعرب عن نفسه ، أعملوا الحيلة في التأكيد بما يقرب قولهم . فقال تعالى حاكياً عنهم : { وجاؤوا على قميصه } أي يوسف عليه الصلاة والسلام { بدم كذب } أي مكذوب ، أطلق عليه المصدر مبالغة لأنه غير مطابق للواقع ، لأنهم ادعوا أنه دم يوسف عليه الصلاة والسلام والواقع أنه دم سخلة ذبحوها ولطخوه بدمها - نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن مجاهد . قال : والدم : جسم أحمر سيال ، من شأنه أن يكون في عروق الحيوان ، وله خواص تدرك بالعيان من ترجرج وتلزج وسهوكة ، وروي أن يعقوب عليه الصلاة والسلام أخذ القميص منهم وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا ، أكل ابني ولم يمزق قميصه ، وكان القميص ثلاث آيات : دلالته على كذبهم ، ودلالته على صدق يوسف عليه الصلاة والسلام في قده من دبر ، وعود البصر إلى أبيه به ، فكأنه قيل : هل صدقهم؟ فقيل : لا! لأن العادة جرت في مثله أنه لا يأكله كله ، فلا بد من أن يبقى منه شيء يعرف معه أنه هو ، ولو كان كذلك لأتوا به تبرئة لساحتهم وليدفنوه في جبانتهم مع بقية أسلافهم ، وقد كان قادراً على مطالبتهم بذلك ، ولكنه علم أنهم ما قالوا ذلك إلا بعد عزم صادق على أمور لا تطاق ، فخاف من أن يفتح البحث من الشرور أكثر مما جاؤوا به من المحذور ، بدليل قوله بعد ذلك

{ فتحسسوا من يوسف وأخيه } [ يوسف : 87 ] ونحو ذلك ، فكأنه قيل : فماذا قال؟ فقيل : { قال بل } أي لم يأكله الذئب ، بل { سولت } أي زينت وسهلت ، من السول وهو الاسترخاء { لكم أنفسكم أمراً } أي عظيماً أبعدتم به يوسف { فصبر } أي فتسبب عن ذلك الفادح العظيم أنه يكون صبر { جميل } منى ، وهو الذي لا شكوى معه للخلق { والله } أي المحيط علماً وقدرة { المستعان } أي المطلوب منه العون { على } احتمال { ما تصفون * } من هلاك يوسف عليه الصلاة والسلام ، ولا يقال : إنهم بهذا أجمعوا أوصاف المنافق « إذا وعد أخلف ، وإذا حدث كذب ، وإذا اؤتمن خان » لأن هذا وقع منهم مرة ، والمنافق يكون ذلك فعله دائماً أو في أغلب أحواله ، ومادتا سول بتقاليبها الخمسة : ولس وسلاً ووسل ولوس وسول ، وسيل بتقاليبها الخمسة : لسي ويسل وسيل وسلي وليس ، تدوران على ما يطمع فيه من المراد ، ويلزمه رغد العيش والزينة وبرد القلب والشدة والرخاوة والعلاج والمخادعة والملازمة ، فمن الرجاء للمراد : السول - بالواو ، وقد يهمز ، وهو المطلوب؛ والوسيلة : الدرجة والمنزلة عند الملك ، قال القزاز : وقيل : توسلت وتوصلت - بمعنى ، والوسيلة : الحاجة ، ووسل فلان - إذا طلب الوسيلة؛ واللؤس : الظفر؛ ومن العمل والعلاج : توسل بكذا - أي تقرب ، واللوس : الأكل ، ولاس الشيء في فيه بلسانه - إذا أداره ، وولست الناقة في مشيتها تلس ولساناً : تضرب من العنق؛ ومن رغد العيش : فلان في سلوة من العيش ، أي رغد يسليه الهم ، ومنه السلوى ، وهي طائر معروف ، وهي أيضاً العسل ، وأسلي القوم : إذا أمنوا السبع : ومن الزينة : سولت له نفسه كذا ، أي زينته فطلبه؛ ومن برد القلب : سلوت عن الشيء : إذا تركه قلبك وكان قد صبا به ، وسقيتني منك سلوة ، أي طيبت نفسي عنك ، والليس - محركاً : الغفلة ، والأليس : الديوث لا يغار ، والحسن الخلق ، وتلايس عنه : أغمض؛ ومن الرخاوة : السلي الذي يكون فيه الولد ، وهو يائي تقول منه : سليت الشاة كرضى سلي : انقطع سلاها ، ومنه السول ، وهو استرخاء في مفاصل الشاة ، والسحاب الأسول : الذي فيه استرخاء لكثرة مائه ، والأسول : المسترخي ، ومنه : ليس أخت كان - لأن الشيء إذا زاد في الرخاوة ربما عد عدماً ، ومنه : سال - بمعنى : جرى ، والسائلة من الغرر : المعتدلة في قصبة الأنف ، وأسال غرار النصل : أطاله ، والسيلان - بالكسر : سنخ قائم السيف ، والسيالة : نبات له شوك أبيض طويل ، إذا نزع خرج منه اللبن ، أو ما طال من السمر؛ ومن المخادعة : الولس ، وهي الخيانة ، والموالسة : المداهنة ، والتوسل : السرقة؛ ومن اللزوم : الليس - محركاً والمتلايس : البطيء ، وهو أيضاً من الرخاوة ، والأليس : من لا يبرح منزله؛ ومن الشدة : الليس - محركاً وهو الشجاعة ، وهو أليس ، والأليس : البعير يحمل ما حمل ، والأسد ، ووقعوا في سلي جمل : أمر صعب ، لأن الجمل لا سلي له ، وانقطع السلي في البطن مثل كبلغ السكين العظم ، ويمكن أن يكون من الشدة أيضاً : اليسل - بفتح وسكون - وهم يد أي جماعة من قريش الظواهر ، والبسل - بالباء الموحدة : اليد الأخرى ، ولسا : أكل أكلاً شديداً .

وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)

ولما تم أمرهم هذا وشبوا على أبيهم عليه السلام نار الحزن ، التفتت النفس إلى الخبر عن يوسف عليه الصلاة والسلام فيما أشار إليه قوله : { لتنبئنهم } [ يوسف : 15 ] الآية ، فقال تعالى مخبراً عن ذلك في أسبابه : { وجاءت سيارة } أي قوم بليغو السير إلى الأرض التي ألقوا يوسف عليه الصلاة والسلام في جبها { فأرسلوا واردهم } أي رسولهم الذي يرسلونه لأجل الإشراف على الماء إلى الجب ليستقي لهم { فأدلى } فيه { دلوه } أي أرسلها في البئر ليملأها - وأما « دلى » فأخرجها ملأى - فاستمسك بها يوسف عليه الصلاة والسلام فأخرجه ، فكأنه قيل : ماذا قال حين أدلى للماء فتعلق يوسف بالحبل فأطلعه فإذا هو بإنسان أجمل ما يكون؟ فقيل : { قال } أي الوارد يعلم أصحابه بالبشرى { يابشرى } أي هذا أوانك فاحضري ، فكأنه قيل : لم تدعوا البشرى؟ فقال : { هذا غلام } فأتى به إلى جماعته فسروا به كما سر { وأسروه } أي الوارد وأصحابه { بضاعة } أي حال كونه متاعاً بزعمهم يتجرون فيه { والله } أي المحيط علماً وقدرة { عليم } أي بالغ العلم { بما يعملون * } وإن أسروه؛ قال أبو حيان ونعم ما قال : وتعلقه بالحبل يدل على صغره إذ لو كان ابن ثمانية عشر أو سبعة عشر لم يحمله الحبل غالباً ، ولفظة « غلام » ترجع ذلك إذ تطلق عليه ما بين الحولين إلى البلوغ حقيقة ، وقد تطلق على الرجل الكامل - انتهى .
ولما كان سرورهم به - مع ما هو عليه من الجمال والهيبة والجلال - مقتضياً لأن ينافسوا في أمره ويغالوا بثمنه ، أخبر تعالى أنهم لم يفعلوا ذلك ليعلم أن جميع أموره على نسق واحد في خرقها للعوائد فقال : { وشروه } أي تمادي السيارة ولجوا في إسرارهم أياه بضاعة حتى باعوه من العزيز ، ولمعنى التمادي عبر ب « شرى » دون « باع » ، ويمكن أن يكون « شرى » بمعنى اشترى ، أي واشتراه السيارة من إخوته { بثمن } وهو البدل من الذهب أو الفضة ، وقد يقال على غيره تشبيهاً به { بخس } أي قليل ، ومادة « شرى » - يائية بتقاليبها الثلاثة : شرى ، وشير ، وريش ، وواويه بتراكيبها الستة : شور ، وشرو ، ووشر ، وورش ، ورشو ، وروش ، ومهموزة بتراكيبها الثلاثة : أرش ، وأشر ، ورشأ - تدور على اللجاجة ، وهي التمادي في الانتشار ، ويلزمه تبيين ذلك الأمر ، ويلزمها القوة تارة والضعف أخرى ، فمن مطلقة : شريت الشيء ، بمعنى ملكته بالبيع ، وشريته ، بمعنى : أزلت ملكي عنه به ، وكذا اشتريت فيهما ، والاسم الشراء بالمد ويقصر ، فحصل التمادي والانتشار تارة بالإزالة وتارة بالتحصيل ، وكل من ترك شيئاً وتمسك بغيره فقد اشتراه ، وشاراه مشاراه : بايعه ، وشروى الشيء : مثله واوه مبدلة من ياء كأنه مأخوذ من بدل المبيع لأنه يتحرى فيه المماثلة ، وهو أوسع مما لم يوجد له مثل ، وشرى البرق : استطار ، وزيد : غضب ولج حتى استطار غضباً ، والفرس في سيره : بالغ ، واستشرى الرجل : لج ، والبرق : لمع ، والمشاراة : الملاّحة والمجادلة والمبايعة ، والشرية - كغنية : الطريقة والطبيعة ، وكأن هذا أصل المعنى الذي عنه تفرعت أغصانه ، لأن الطبع مظنة الدجاج ، وشرى الثوب واللحم والإقط : شررها ، أي وضعها على خصفة أو غيرها منشورة لتجف ، وشرى فلاناً : سخر به أو أرغمه ، كأنه تمادى معه حتى قهره ، وشرى بنفسه عن القوم : تقدم بين أيديدهم فقاتل عنهم ، أو إلى السلطان فتكلم عنهم ، والشرى - كعلي : الجبل - لانتشاره علواً ، والطريق - للانتشار فيه ، وطريق بسلمى كثيرة الأسد ، وجبل بتهامه كثير السباع - لانتشارها فيه أو لأن الساتر فيه أقوى الناس وألجهم ، وجبل بنجد لطيىء ، والناحية ، ويمد ، وأشراه : ملاه ، وأماله - لما يلزم من انتشار ما فيه ، وأشرى الجمل : تفلقت عقيقته ، أي صوفه ، وبينهم : أغرى ، وشرى البعير في سيره؛ أسرع ، وشرى الفرس في لجامه - إذا جذبه ، والشرية كغنية : من النساء اللاتي يلدن الإناث ، كأنها تمادت في الميل مع طبعها : الأنوثة ، فلجت فيه ، أو هو راجع إلى الضعف اللازم للحاجة ، والمشتري : نجم لتلألؤه ، وطائر - للمعه بجناحه وانتشاره ، واشرورى : اضطرب ، وشرى زمام الناقة : كثر اضطرابه ، هو من الانتشار ومن الضعف ، واستشرت الأمور : تفاقمت وعظمت ، وشرى جلده : أصابه بثور صغار حمر حكاكة مكربة تحدث دفعة غالباً وتشتد ليلاً ، كأنها سميت لانتشارها في جميع البدن وقوتها ، وتشرى القوم : افترقوا ، وتشرى السحاب : تفرق ، والشرى : شجر الحنظل أو الحنظل نفسه ، والنخل ينبت من النواة ، كأنه لنباته بغير سبب آدمي لجوج ، والشريان من شجر القسي ، كأنه لقوته ونشره السهام إذا رميت عنه ، وواحد الشرايين للعروف النابضة ، لقوتها وانتشارها؛ وشيار - بالكسر : يوم السبت ، لأنه أول يوم ابتدئت فيه الخلائق ، فكأنها انتشرت عنه؛ والريش بالكسر - من الطائر معروف كالراش - لأنه منتشر في جميع بدنه ، وله قوة نشره متى شاء ، وهو سبب صلاحه وقوته على الانتشار في الهواء ، ومنه الريش والرياش : اللباس الفاخر ، والخصب والمعاش ، وذات الريش : نبات كالقيصوم ، وراش الصديق : أطعمة وسقاه وكساه وأصلح حاله ، وكلاً ريش - كهين وهيّن : كثير الورق ، والريش - محركاً : كثرة الشعر في الأذنين والوجه ، والمريش - كمعظم : البعير الأزب ، ورشت السهم : فوقته ، أي ألزقت عليه الريش عند فوقه ، فكان له بذلك قوة الانتشار ، ورمح راش : خوار شبه بالريش صعفاً ، والمريش : الرجل الضعيف الصلب ، وهو أيضاً : البرد الموشى ، لتلونه كالريش ، وهو أيضاً : القليل اللحم ، وناقة مريشة : قليلة اللحم ، لأن ذلك أقوى لها على السير ، والمريش أيضاً : الهودج المصلح بالقد ، لأن ذلك سبب قوته ، وهو له كالريش والعصب ، والشوار والشورة والشارة : الحسن والجمال والهيئة واللباس والسمن والزينة ، واستشار فلان : لبس لباساً حسناً ، كأنه من الريش ، ولأنها ملزومة اللجاج والانتشار غالباً ، واستشارات الإبل وأخذت مشوارها : سمنت ، والمشوار - بالكسر : المكان تعرض فيه الدواب ، وشارها : راضها ، أي انتشر بها لتقوى على ما يراد منها ، وشار العسل واستشاره : استخرجه من الوقبة - للمبالغة في ذلك ، والشرو - مقدّم الراء بالفتح ويكسر : العسل ، والمشوار : ما شاره به ، وما أبقت الدابة من علفها - معرب ، كأنه شبه بما يبقى من مشار العسل مما لا يعتد به ، أو أصله : نشوار - بالنون ، فأبدلت منها الميم لتقاربهما ، فإن كان كذلك فهو نشر ، والشوار - مثلثة : متاع البيت ، لانتشاره فيه ، وذكر الرجل وخصياه واسته ، لما ينتشر من كل منها ، وشور بفلان : فعل به فعلاً يستحي منه ، كأنه لج في ذلك حتى قطع انتشاره في الاعتذار ، وتشور الرجل : خجل ، كأنه مطاوع شوّرته ، وشور إليه : أومأ كأشار - لنشر ما أشار به ، وأشار النار : رفعها ، والشوران : العصفر - للمعه ، وجبل قرب عقيق المدينة ، فيه مياه سماء كثيرة ، لقوته على إمساكها وقوة من يقيم فيه بها على الانتشار فيه ، وخيل شياء : سمان حسان ، والشورة - بالضم الناقة السمينة ، لقوتها على الانتشار ، وبالفتح : الخجلة ، لانتشارها وعلوها ، وأشرت عليه بكذا : أمرته للانتشار في الكلام قبل الإشارة للوقوع على الرأي ، والاسم : المشورة ، أو هو من الإشارة التي هي تحريك اليد أو الحاجب ونحوهما نحو المشار إليه ، والرشوة - مثلثة : الجعل ، ورشاه : أعطاه إياها ، فنشره للفعل ، ولا يفعل ذلك إلا من لج في الأمر ، ويمكن رده إلى الضعف ، والرائش : السفير بين الراشي والمرتشي ، واسترشى : طلب الرشوة ، والفصيل : طلب الرضاع ، وأرشية اليقطين والحنظل : خيوطهما ، لانتشارها ، وشبهها بالرشاء - بالكسر والمد ، وهو الحبل ، والرشى كغنى ، الفصيل والبعير يقف فيصيح الراعي : ارشه ارشه ، أو أرشه أرشه ، فيحك خورانه ، أي مبعره بيده فيعدو ، وقال ابن فارس : والخوران : مجرى الروث في الدابة ، وأرشى : فعل ذلك ، والقوم في دمه : شركوا ، لأن ذلك انتشار ، وبسلاحهم فيه : أشرعوه ، والرشاة : نبت يشرب للمشي؛ ومن مهموزه : رشأ : جامع ، ولا ألج من المتهيىء للجماع ، وفيه الانتشار أيضاً ، ورشأت الظبية : ولدت ، والرشأ - بالتحريك اسم للظبي إذا قوي ومشى مع أمه ، فيكون حينئذ أهلاً للانتشار واللجاج في الجري ، والرشأ أيضاً : شجرة تسمو فوق القامة ، وعشبة كالقرنوة ، بالقاف ، كأنها شديدة الحرافة فشبهت باللجوج ، لأن القرنوة يدبغ بها - انتهى المهموز .

ووشر الخشبة بالميشار - غير مهموز ، لغة في : أشرها - إذا نشرها ، أي فرقها باثنين أو أكثر ، والوشر أيضاً : تحديد المرأة أسنانها وترقيقها ، وهو من القوة واللمعان والتفريق ، والمؤتشرة التي تسأل أن يفعل بها ذلك ، وموشر العضدين - ويهمز : الجعل ، لأن أعضاده كالمنشرة حزوزاً؛ ومن مهموزه : أشر - بالكسر ، أي مرح ، أي ازدرى الخلق وعاملهم معاملة المستهين بهم ، فظلمهم ولج في عتوه ، وناقة مئشير : نشيطة ، وأشر الاسنان : تحزيزها - تشبيهاً لها بأسنان المئشار الذي يقطع به الخشب ونحوه قطعاً سريعاً ، فهو كفعل اللجوج - انتهى المهموز؛ وورش الطعام : تناوله وأكل شديداً حريصاً ، وطمع وأسف لمداق الأمور ، لأن ذلك لا يكون إلا عن تمادٍ ولجاج ، وورش فلان بفلان : أغراه ، وورش عليهم : دخل وهم يأكلون ولم يدع ، وورش اسم شيء يصنع من اللبن ، لأنه انتشر عن أصل خلقته ، والورش - بالتحريك : وجع في الجوف ، وككتف : النشيط الخفيف من الإبل وغيرها ، وهي بهاء ، والتوريش : التحريش ، والورشان : طائر .

ومن مهموزه الأرش ، وهي الدية ، لأنها يلج في طلبها والرضى بها وأكثر ما يتعاطى من أمرها ، وهو أيضاً الرشوة ، وما نقص العيب من الشيء - قال في القاموس ، لأنه سبب للارش والخصومة ، وبينهما أرش ، أي اختلاف وخصومة ، والأرش : الإغراء والإعطاء ، لأن المعطي يغلب نفسه ، فكأنه خاصمها فلج حتى غلبها ، والأرش : الخلق ، لأنه منشأ اللجاج ، يقال : ما أدري أي الأرش هو؟ أي الخلق ، والمأروش : المخلوق ، وآرش - كصاحب : جبل - انقضى المهموز . والروش : الأكل الكثير ، والأكل القليل - ضد ، وفهو من التمادي والضعف الذي ربما نشأ من التمادي مع شبهه بالريش ، وجمل راش : كثير شعر الأذن؛ ومن التبيين : شار الدابة - إذا ركبها عند العرض على مشتريها ، وشورها : نظر كيف مشوارها ، أي سيرها ، أو بلاها ينظر ما عندها أو قلبها وكذا الأمة ، واستشار الفحل الناقة : كرفها فنظر إليها ألاقح هي أم لا؟ واستشار أمر فلان : تبين ، والمستشير : من يعرف الحائل من غيرها ، وهو يرجع إلى التمادي ، لأنه لولاه ما عرف الأمر؛ ومن الضعف : راشاه : حاباه وصانعه ، وترشاه : لاينه ، وإنك لمسترش لفلان : مطيع له تابع لمسرته ، وهو من الرشوة ، وجمل راش : ضعيف الصلب ، وكذا رمح راش ، وهي بهاء ، وراشه المرض : ضعفه ، كأنه من الريش ، وكل ذلك يرجع بعد التأمل إلى التمادي - والله أعلم .
ومادة « بخس » بكل ترتيب من بخس وخبس وسبخ وسخب تدور على القلة ، ويلزمها الأخذ بالكف : بخسته حقه : نقصته فجعلته أقل مما كان ، والبخس : فقء العين ، فهو نقص خاص ، والبخس : أرض تنبت بلا سقي ، كأنه لقلة ما نبت بها بالنسبة إلى أرض السقي ، والبخس : المكس ، وسبخت عن فلان : خففت عنه ، والسبخة : أرض ملحة ، لقلة نبتها ونفعها ، وسبخت القطن - إذا قطعته ، فصارت جملته قليلة؛ والتسبيخ : ما يسقط من ريش الطائر - لنقصه منه ، والتسبيخ : النوم الشديد - لنقصه صاحبه وتخفيفه ما عنده من الثقل؛ ومن ذلك الخبس ، وهو الأخذ بالكف - وهو لازم للقلة ، ومنه قيل للأسد : الخابس ، لأخذه ما يريده بكفه؛ والسخاب : قلادة من قرنفل ليس فيها جوهر ولا لؤلؤ .

ولما كان البخس القليل الناقص ، أبدل منه - تأكيداً للمعنى تسفيهاً لرأيهم وتعجيباً من حالهم - قوله : { دراهم } أي لا دنانير { معدودة } أي أهل لأن تعد ، لأنه لا كثره لها يعسر معها ذلك ، روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها كانت عشرين درهماً { وكانوا } أي كوناً هو كالجبلة { فيه } أي خاصة دون بقية متاعهم ، انتهازاً للفرصة فيه قبل أن يعرف عليهم فينزع من أيديهم { من الزاهدين * } أي كمال الزهد حتى رغبوا عنه فباعوه بما طف ، والزهد : انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه عند الزاهد ، وهذا يعين أن الضمير للسيارة لأن حال إخوته في أمره فوق الزهد بمراحل ، فلو كان لهم لقيل : وكانوا له من المبعدين أو المبغضين ، ونحو ذلك .
ولما كانت العادة جارية بأن القن يمتهن ، أخبر تعالى أنه أكرمه عن هذه العادة فقال منبهاً على أن شراءه كان بمصر : { وقال الذي اشتراه } أي أخذه برغبة عظيمة ، ولو توقفوا عليه غالى في ثمنه { من مصر } أي البلدة المعروفة ، والتعبير بهذا دون ما هو أخصر منه للتنبيه على أن بيعه ظلم ، وأنه لم يدخل في ملك أحد أصلاً { لامرأته } آمراً لها بإكرامه على أبلغ وجه { أكرمي مثواه } أي موضع مقامه ، وذلك أعظم من الأمر بإكرامه نفسه ، فالمعنى : أكرميه إكراماً عظيماً بحيث يكون ممن يكرم كل ما لابسه لأجله ، ليرغب في المقام عندنا . ولما كانت كأنها قالت : ما سبب إيصائك لي بهذا دون غيره؟ استأنف قوله : { عسى أن } أي إن حاله خليق وجدير بأن { ينفعنا } أي وهو على اسم المشتري { أو نتخذه } أي برغبة عظيمة إن رأيناه أهلاً { ولداً } فأنا طامع في ذلك .
ولما أخبر تعالى بمبدأ أمره ، وكان من المعلوم أن هذا إنما هو لما مكن له في القلوب مما أوجب توقيره وإجلاله وتعظيمه ، أخبر تعالى بمنتهى أمره ، مشبهاً له بهذا المضمون المعلم به فقال : { وكذلك } أي مثل ما مكنا ليوسف بتزهيد السيارة : أهل البدو تارة ، وإكرام مشتريه ومنافسته فيه أخرى { مكنا ليوسف في الأرض } أي أرض مصر التي هي كالأرض كلها لكثرة منافعها بالملك فيها لتمكنه من الحكم بالعدل { و } بالنبوة { لنعلمه } بما لنا من العظمة { من تأويل الأحاديث } أي بترجيعها من ظواهرها إلى بواطنها ، فأشار تعالى إلى المشبه به مع عدم التصريح به لما دل عليه من السياق ، وأثبت التمكين في الأرض ليدل على لازمه من الملك والتمكين من العدل ، وذكر التعليم ليدل على ملزومه وهو النبوة ، فدل أولاً بالملزوم على اللازم ، وثانياً باللازم على الملزوم ، وهو كقوله تعالى : { فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة } [ آل عمران : 13 ] فهو احتباك أو قريب منه .
ولما كان من أعجب العجب أن من وقع له التمكين من أن يفعل به مثل هذه الأفعال يتمكن من أرض هو فيها مع كونه غريباً مستبعداً فرداً لا عشيرة له فيها ولا أعوان ، قال تعالى نافياً لهذا العجب : { والله } أي الملك الأعظم { غالب على أمره } أي الأمر الذي يريده ، غلبة ظاهر أمرها لكل من له بصيرة : أمر يعقوب يوسف عليهما الصلاة والسلام أن لا يقص رؤياه حذراً عليه من إخوته ، فغلب أمره سبحانه حتى وقع ما حذره ، فأراد إخوته قتله فغلب أمره عليهم ، وأرادوا أن يلتقطه بعض السيارة ليندرس اسمه فغلب أمره سبحانه وظهر اسمه واشتهر ، ثم باعوه ليكون مملوكاً فغلب أمره تعالى حتى صار ملكاً وسجدوا بين يديه ، ثم أرادوا أن يغروا أباهم ويطيّبوا قلبه حتى يخلو لهم وجهه فغلب أمره تعالى فأظهره على مكرهم ، واحتالت عليه امراة العزيز لتخدعه عن نفسه فغلب أمره سبحانه فعصمه حتى لم يهم بسوء ، بل هرب منه غاية الهرب ، ثم بذلت جهدها في إذلاله وإلقاء التهمة عليه فأبى الله إلا إعزازه وبراءته ، ثم أراد يوسف عليه الصلاة والسلام ذكر الساقي له فغلب أمره سبحانه فأنساه ذكره حتى مضى الأجل الذي ضربه سبحانه ، وكم من أمر كان في هذه القصة وفي غيرها يرشد إلى أن لا أمر لغيره سبحانه! { ولكن أكثر الناس } أي الذين هم أهل الاضطراب { لا يعلمون } لعدم التأمل أنه تعالى عالٍ على كل أمر ، وأن الحكم له وحده ، لاشتغالهم بالنظر في الظواهر للأسباب التي يقيمها ، فهو سبحانه محتجب عنهم بحجاب الأسباب .

ذكر ما مضى من قصة يوسف عليه الصلاة والسلام من التوراة :
قال في أواخر السفر الثاني منها : كان يوسف بن يعقوب ابن سبع عشرة سنه ، وكان يرعى الغنم مع إخوته ، وكان إسرائيل يحب يوسف أكثر من حبه إخوته ، لأنه ولد على كبر سنه ، فاتخذ له قميصاً ذا كمين ، فرأى إخوته أن والدهم أشد حباً له منهم ، فأبغضوه ولم يستطيعوا أن يكلموه بالسلام ، فرأى رؤيا قصها على إخوته فقال لهم : اسمعوا هذه الرؤيا التي رأيت ، رأيت كأنا نحزم حزماً من الزرع في الزراعة ، فإذا حزمتي قد انتصبت وقامت ، وإذا حزمكم قد أحاطت بها تسجد لها ، قال له إخوته : أترى تملكنا وتتسلط علينا؟ وازدادوا له بغضاً لرؤياه وكلامه ، فرأى رؤيا أخرى فقال : إني رأيت رؤيا أخرى ، رأيت كأن الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً يسجدون لي ، فقصها على أبيه وإخوته ، فزجره أبوه وقال له : ما هذه الرؤيا؟ هل آتيك أنا وأمك وإخوتك فنسجد لك على الأرض؟ فحسده إخوته ، وكان أبوه يحفظ هذه الأقاويل .
وانطلق إخوة يوسف يرعون غنمهم في نابلس فقال إسرائيل ليوسف : هو ذا إخوتك يرعون في نابلس ، هلم أرسلك إليهم! فقال : هأنذا! فقال أبوه : انطلق فانظر كيف إخوتك وكيف الغنم؟ وائتني بالخبر ، فأرسله يعقوب عليه الصلاة والسلام من قاع حبرون ، فأتى إلى نابلس ، فوجده رجل وهو يطوف في الحقل فسأله الرجل وقال : ما الذي تطلب في الحقل؟ فقال أطلب إخوتي ، دلني عليهم أين يرعون؟ قال له الرجل : قد ارتحلوا من هاهنا ، وسمعتهم يقولون : ننطلق إلى دوثان ، فتبع يوسف إخوته فوجدهم بدوثان ، فرأوه من بعيد ، ومن قبل أن يقترب إليهم هموا بقتله ، فقال بعضهم لبعض : هو ذا حالم الأحلام قد جاء ، تعالوا نقتله ونطرحه في بعض الجباب ، ونقول : قد افترسه سبع خبيث ، فننظر ما يكون من أحلامه! فسمع روبيل فأنقذه من أيديهم وقال لهم : لا تقتلوا نفساً ، ولا تسفكوا دماً ، بل ألقوه في هذا الجب الذي في البرية ، ولا تمدوا أيديكم إليه ، وأراد أن ينجيه من أيديهم ويرده إلى أبيه .

فلما أتى يوسف إخوته خلعوا عنه القميص ذا الكمين الذي لابِسَه ، وأخذوه فطرحوه في الجب فارغاً لا ماء فيه ، فجلسوا يأكلون خبزاً فمدوا أبصارهم فرأوا فإذا رفقة من العرب مقبلة من جلعاد - وفي نسخة : من الجرش - وكانت إبلهم موقرة سمناً ولبناً وبطماً ، وكانوا معتمدين إلى مصر فقال يهوذا لإخوته : ما متعتنا بقتل أخينا وسفك دمه؟ تعالوا نبيعه من العرب ، ولا نبسط أيدينا إليه لأنه أخونا : لحمنا ودمنا ، فأطاعه إخوته ، فمر بهم قوم تجار مدينيون ، فأصعدوا يوسف من الجب وباعوه من الأعراب بعشرين درهماً ، فأتوا به إلى مصر .
فرجع روبيل إلى الجب فإذا ليس فيه يوسف ، فشق ثيابه ورجع إلى إخوته وقال لهم : أين الغلام؟ إلى أين أذهب أنا الآن؟ فأخذوا قميص يوسف عليه الصلاة والسلام فذبحوا عتوداً من المعز ولوّثوا القميص بدمه وأرسلوا به مع من أتى به أباهم وقالوا : وجدنا هذا ، أثبته هل هو قميص ابنك أم لا؟ فعرفه وقال : القميص قميص ابني ، سبع خبيث افترس ابني يوسف افتراساً ، فحزن على ابنه أياماً كثيرة ، فقام جميع بنيه وبناته ليعزوه فأبى أن يقبل العزاء وقال : أنزل إلى القبر وأنا حزين على يوسف ، فبكى عليه أبوه . وباع المدينيون يوسف من قوطيفر الأمير صاحب شرطة فرعون - انتهى ، وفيه ما يخالف ظاهرة القرآن ويمكن تأويله - والله أعلم .

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)

ولما أخبر تعالى يوسف عما يريد بيوسف عليه الصلاة والسلام بما ختمه بالإخبارعن قدرته ، أتبعه الإعلام بإيجاد ذلك الفعل دلالة على تمام القدرة وشمول العلم فقال : { ولما بلغ أشده } أي مجتمع قواه { آتيناه } أي بعظمتنا { حكماً } أي نبوة أو ملكة يكف بها النفس عن هواها ، من حكمة الفرس ، فلا يقول ولا يفعل إلا أمراً فصلاً تدعو إليه الحكمة؛ قال الرماني : والأصل في الحكم تبيين ما يشهد به الدليل ، لأن الدليل حكمة من أجل أنه يقود إلى المعرفة { وعلماً } أي تبييناً للشيء على ما هو عليه جزاء له لأنه محسن { وكذلك } أي ومثل ذلك الجزاء الذي جزيناه به { نجزي المحسنين * } أي العريقين في الإحسان كلهم الذين رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي أسرى به فأعلاه ما لم يعل غيره؛ وعن الحسن : من أحسن عبادة الله في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله ، والأشد : كمال القوة ، وهو جمع شدة عند سيبوبه مثل نعمة وأنعم ، وقال غيره : جمع شد؛ قال ابن فارس في المجمل : وبعضهم يقول : لا واحد لها ، ويقال : واحدها شد - انتهى . قيل : وهذا هو القياس نحو ضب وأضب ، وصك وأصك ، وحظ وأحظ ، وضر وأضر ، وشر وأشر قال الرماني : قال الشاعر :
هل غير أن كثر الأشرّ وأهلكت ... حرب الملوك أكاثر الأموال
انتهى .
واختلفوا في حد الأشد فقيل : هو من الحلم ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه من عشرين سنة ، وروى غير ذلك ، والمادة تدور على الصعوبة ، وهي ضد الرخاوة ، ويلزمها القوة ، فالشد على العدو منها ، وشد الحبل وغيره : أحكم فتله ، والشديد والمتشدد : البخيل - لصعوبة البذل عليه ، والشدة : صعوبة الزمان ، وشد النهار : ارتفاعه ، وهو قوته ، وشددت فلاناً : قويت يده ودبرت أمره ، وأشد القوم - إذا كانت دوابهم شداداً فهم مشدون ضد مضعفين .
ولما أخبر تعالى أن سبب النعمة عليه إحسانه ، أتبعه دليله فقال : { وراودته } أي راجعته الخطاب ودارت عليه بالحيل ، فهو كناية عن المخادعة التي هي لازم معنى راد يرود - إذا جاء وذهب { التي } هي متمكنة منه غاية المكنة بكونه { هو في بيتها } وهو في عنفوان الشباب { عن نفسه } أي مراودة لم تكن لها سبب إلا نفسه ، لأن المراودة لا يمكن أن تتجاورز نفسه إلاّ بعد مخالطتها - كما تقول : كان هذا عن أمره ، وذلك بأن دارت عليه بكل حيلة ونصبت له أشراك الخداع وأقامت حيناً تفتل له في الذروة والغارب ، وذلك لأن مادة « راد » واوية ويائية بجميع تقاليبها السبعة : رود ، ودور ، وورد ، « ودير » وردي ، وريد ، ودري - تدور على الدوران ، وهو الرجوع إلى موضع الابتداء ، ويلزم منه القصد والإتيان والإقبال والإدبار والرفق والمهلة وإعمال الحيلة وحسن النظر ، وربما يكون عن غير قصد فتأتي منه الحيرة فيلزم الفساد والهلاك ، يقال : دار فلان يدور - إذا مشى على هيئة الخلقة ، والدهر دواري - لدورانه باهله بالرفع والحط ، والدوار : شبه دوران في الرأس ، ودارة القمر معروفة ، والدائرة : الحلقة والدار تجمع العرصة والبناء - لدوران بنائها وللدوران فيها وللذهاب منها والرجوع إليها ، والداري : الملاح الذي يلي الشراع ، وهو القلع - لأنه يديره على عمود المركب ، أو لأنه يلزم دار السفينة؛ والرائد : الذي يرتاد الكلأ ، أي يذهب ويجيء في طلبه - لمّا لم يكن له مقصد من الأرض معين كأنه يدور فيها ، والذي لا يكذب أهله ، وكل طالب حاجة - قاله ابن دريد .

وراودت الرجل : أردته على فعل؛ ورائد الرحى : يدها ، أي العود الذي تدار به ويقبض عليه الطاحن ، والرياد : اختلاف الإبل في المرعى مقبلة ومدبرة ، ورادت المرأة - إذا اختلفت إلى بيوت جاراتها ، وراد وساده - إذا لم يستقر ، والرود : الطلب والذهاب والمجيء ، وامش على رود - بالضم ، أي مهل ، وتصغيره رويد ، والمرود : الذي يكتحل به ، لأنه يدار في العين ، وحديدة تدور في اللجام ، ومحور البكرة من حديد ، والدير : معروف ، ويقال لرجل إذا كان رأس أصحابه : هو رأس الدير - كأنه من إرادة أصحابه به ، وترديت الرداء وارتديت - كأنه من الإدارة ، والرداء : السيف - لأنه يتقلد به في موضع الردى ، والرديان - محركاً : مشى الحمار بين آريه ومتمعكه ، وراديت فلاناً ، مثل : راودته ، وردت الجارية - إذا رفعت إحدى رجليها وقفزت بواحدة ، لأت مشيها حينئذٍ يشبه الدوران ، والريد - بالكسر : الترب ، لأنه يراودك ، أي يمشي معك من أول زمانك؛ ومن الإتيان : الورود ، وهو إتيان المورد من ماء وطريق ، والوارد : الصائر إلى الماء للاستقاء منه ، وهو الذي ينزل إلى الماء ليتناول منه ، والورد معروف ، ونور كل شجرة ورد ، لأنه يقصد للشم وغيره ، ويخرج هو منها فهو وارد أي آتٍ ، وهو أيضاً مع ذلك مستدير ، والورد - بالكسر : يوم الحمى إذا أخذت صاحبَها لوقت لأنها تأتيه ، وهو من الدوران أيضاً لأنها تدور في ذلك الوقت بعينه ، وهذا كله يصلح للإقبال ، ومنه : أرنبة واردة ، أي مقبلة على السبلة ، والريد : أنف الجبل - قاله ابن فارس ، وقال ابن دريد : والريد : الحيد الناتىء من الجبل ، والجمع ريود؛ وفي القاموس : الحيد من الجبل شاخص كأنه جناح ، ويسمى الشجاع الوارد ، لإقباله على كل ما يريده واستعلائه عليه ، والوريدان : عرقان مكتنفا صفحتي العنق مما يلي مقدمة غليظان ، والورد : النصيب من القرآن ، لأنه يقصد بالقراءة ويقبل عليه ويدار عليه ، ودريت الشيء : علمته ، فأنت مقبل عليه وارد إليه ، والدرئة - مهموزة : حلقة يتعلم عليها الطعن والرمي ، والدرية - مهموزة وغير مهموزة : دابة يستتر بها رامي الصيد فيختله ، فهي من الإقبال والخداع ، وإن بنى فلان أدورا مكاناً ، أي اعتمدوا بالغزو والغارة ، والدريّ : شبيه بمدرى الثور وهو قرنه ، لأنه يقصد به الشيء ويقبل به على مراده فيصلحه به ، وما أدري أين ردي؟ أي أين ذهب؟ والإرواد : المهلة في الشيء؛ وامش رويداً : على مهل ، والرادة والريدة : السهلة من الرياح ، فكأنها تأتي على مهل؛ ومن الحيرة والفساد والهلاك : ردي الرجل - إذا هللك ، وأرداه الله ، وتردى في هوة : تهور فيها ، ورديته بالحجارة : رميته ، والرداة : الصخرة ، يكسر بها الشيء ، والمرادي : المرامي؛ ومن حسن النظر : أرديت على الخمسين : زدت ، لأنه يلزم حسن النظر الزيادة ، وأراد الشيء على غيره ، أي ربا عليه ، وسيأتي بيان المهموز من هذه المادة في

{ سنراود } [ يوسف : 61 ] من هذه السورة إن شاء الله تعالى { وغلقت } أي تغليقاً كثيراً { الأبواب } زيادة في المكنة ، قالوا : وكانت سبعة؛ والإغلاق : إطباق الباب بما يعسر معه فتحه { وقالت هيت } أي تهيأت وتصنعت { لك } خاصة فأقبل إليّ وامتثل أمري؛ والمادة - على تقدير إصالة التاء وزيادتها بجميع تقاليبها : يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة - تدور على إرادة امتثال الأمر : هيت لك - مثلثة الآخر وقد يكسر أوله ، أي هلم ، وهيت تهييتاً : صاح ودعاه ، وهات - بكسر التاء أعطني - قال في القاموس ، والمهاياة مفاعلة منه ، والهيت : الغامض من الأرض ، كأنه يدعو ذا الهمة إلى الوقوف على حقيقته ، والتيه - بالكسر : الكبرياء والصلف ، فالتائه داع بالقوة إلى امتثال أمره ، والمفازة ، فإنها تقهر سالكها ، والضلال من المفازة - تسمية للشي باسم موضعه ، ومنه : تها - بمعنى غفل ، ومنه : مضى تهواء من الليل - بالكسر ، أي طائفة ، لأنها محل الغفلة ، أو لأنها تدعو ساهرها إلى النوم ونائمها إلى الانتباه ، هذا على تقدير إصالة التاء ، وأما على تقدير أنها زائدة فهاءَ بنفسه إلى المعالي : رفعها ، فهو يراه أهلاً لأن يمتثل أمرها ، والهوء : الهمة والأمر الماضي ، والهوء أيضاً : الظن ، ويضم ، وهؤت به : فرحت ، ولا يكون ذلك إلاّ لفعل ما يشتهي ، فكأنه امتثل أمرك ، وهوىء إليه - كفرح : همّ ، وهاء كجاء : لبى ، أي امتثل الأمر ، وهاء - بالكسر : هات ، وهاء - كجاء ، أي هاك ، بمعنى خذ ، والهيئة : حال الشيء وكيفيته الداعية إلى تركه أو لزومه ، وتهايؤوا : توافقوا ، وهاء إليه : اشتاق ، فكأنه دعاه إلى رؤيته ، وتهيأ للشيء : أخذ له هيئته ، فكأنه صار قابلاً للأمر ، أو لأن يمتثل أمره ، وهيأه : أصلحه ، والهيء - بالفتح والكسر : الدعاء إلى الطعام والشراب ودعاء الإبل للشرب ، وإيه - بكسر الهمزة : كلمة استزاده واستنطاق ، وبإسكان الهاء : زجر بمعنى حسبك ، وهأهأ : قهقه في ضحكه ، ولا يكون ذلك إلا بمن امتثل مراده .
ولما قالت ما قالت وفعلت ما فعلت ، مع ما هي عليه من القدرة في نفسها ولها عليه من التسلط وهو عليه من الحسن والشباب ، كان كأنه قيل : إن هذا لموطن لا يكاد ينجو منه أحد ، فماذا كان منه؟ فقيل : { قال } أي يوسف مستعملاً للحكم بالعلم { معاذ } أي أعوذ من هذا الأمر معاذ { الله } أي ألزم حصن الذي له صفات الكمال وهو محيط بكل شيء علماً وقدرة ، وملجأة الذي ينبغي الاعتصام به واللجاء إليه؛ ثم علل ذلك بقوله : { إنه } أي الله { ربي } أي موجدي ومدبري والمحسن إليّ في كل أمر ، فأنا أرجو إحسانه في هذا { أحسن مثواي } بأن جعل لي في قلب سيدك مكانة عظيمة حتى خولني في جميع ما يملك وائتمنني على كل ما لديه ، فإن خالفت أمر ربي فخنت مَن جعلني موضعاً للأمانة كنت ظالماً واضعاً للشيء في غير موضعه ، وهذا التقدير - مع كونه أليق بالصالحين المراقبين - أحسن ، لأنه يستلزم نصح العزيز ، ولو أعدنا الضمير على العزيز لم يستلزم التقوى .

ولما كان من المعلوم أن لسان حالها يقول : وإذا كان ظلماً كان ماذا؟ قال ما تقديره : إني إذن لا أفلح ، وعلله بقوله : { أنه لا يفلح } أي لا يظفر بمراده أصلاً { الظالمون * } أي العريقون في الظلم - وهو وضع الشيء في غير موضعه - الذين صرت في عدادهم على تقدير الفعل ، فيا له من دليل على إحسانه وحكمه وعلمه ، فإنه لما رأى المقام الدحض بادر إلى الاعتصام بمن بيده ملكوت كل شيء ، ثم استحضر إحسانه إليه الموجب للشكر عليه المباعد عن الهفوات ثم مقام الظلم وما يوجب لصاحبه من الحزن بعدم الفلاح .
ولما كان هذا الفعل لا يتم حسنه إلاّ إذا كان عند غلبة الهوى وترامي الشهوة كما هو شأن الرجولية ، قال تعالى رداً على من يتوهم ضد ذلك : { ولقد همت به } أي أوقعت الهم ، وهو القصد الثابت والعزم الصادق المتعلق بمواقعته ، ولا مانع لها من دين ولا عقل ولا عجز فاشتد طلبها { وهمَّ بها } كما هو شأن الفحول عند توفر الأسباب { لولا أن رءآ } أي بعين قلبه { برهان ربه } الذي آتاه إياه من الحكم والعلم ، أي لهمّ بها ، لكنه لما كان البرهان حاضراً لديه حضور من يراه بالعين ، لم يغطه وفور شهوة ولا غلبة هوى ، فلم يهم أصلاً مع كونه في غاية الاستعداد لذلك لما آتاه الله من القوة مع كونه في سن الشباب ، فلولا المراقبة لهمّ بها التوفر الدواعي غير أن نور الشهود محاها أصلاً ، وهذا التقدير هو اللائق بمثل مقامه مع أنه هو الذي تدل عليه أساليب هذه الآيات من جعله من المخلصين والمحسنين المصروف عنهم السوء ، وأن السجن أحب إليه من ذلك ، مع قيام القاطع على كذب ما تضمنه قولها { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } [ يوسف : 25 ] - الآية ، من مطلق الإرادة ، ومع ما تحتم تقدير ما ذكر بعد « لولا » في خصوص هذا التركيب من أساليب كلام العرب ، فإنه يجب أن يكون المقدر بعد كل شرط من معنى ما دل عليه ما قبله ، وهذا مثل قوله تعالى

{ إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها } [ القصص : 10 ] أي لأبدت به ، وأما ما ورد عن السلف مما يعارض ذلك فلم يصح منه شيء عن أحد منهم مع أن الأقوال التي رويت عنهم إذا جمعت تناقضت فتكاذبت ، ولا يساعد على شيء منها كلام العرب لأنهم قدروا جواب « لولا » المحذوف بما لا دليل عليه من سابق الكلام ولا لاحقه - نبه على ذلك الإمام أبو حيان ، وسبقه إلى ذلك الإمام الرازي وقال : إن هذا قول المحققين من المفسرين ، وأشبع في إقامة الدلائل على هذا بما يطرب الأسماع ، وقدم ما يدل على جواب الشرط ليكون أول ما يقرع السمع ما يدل على أنه كان في غاية القدرة على الفعل ، وأنه ما منعه منه إلاّ العلم بالله ، فكأنه قيل : إن هذا التثبيت عظيم ، فقيل إشارة إلى أنه لازم له كما هو شأن العصمة : { كذلك } أي مثل ذلك التثبيت نثبته في كل أمر { لنصرف عنه السوء } أي الهمّ بالزنا وغيره { والفحشاء } أي الزنا وغيره ، فكأنه قيل : لِمَ فعل به هذا؟ فقيل { إنه من عبادنا } أي الذين عظمناهم بما لنا من العظمة { المخلصين * } أي هو في عداد الذين هم خير صرف ، لا يخالطهم غش ، ومن ذريتهم أيضاً ، وهذا مع قول إبليس { لأغوينهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين } [ ص : 83 ] شهادة من إبليس أن يوسف عليه الصلاة والسلام بريء من الهمّ في هذه الواقعة؛ قال الإمام : فمن نسبه إلى الهمّ إن كان من أتباع دين الله فليقبل شهادة الله ، وإن كان من أتباع إبليس وجنوده فليقبل شهادة إبليس بطهارته ، قال : ولعلهم يقولون : كنا تلامذة إبليس ثم زدنا عليه - كما قيل :
وكنت فتى من جند إبليس فارتقى ... من الأمر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده ... طراييق فسق ليس يحسنها بعدي

وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)

ثم ذكر سبحانه وتعالى مبالغته في الامتناع بالجد في الهرب دليلاً على إخلاصه وأنه لم يهمّ أصلاً فقال : { واستبقا الباب } أي أوجد المسابقة بغاية الرغبة من كل منهما ، هذا للهرب منها ، وهذه لمنعه ، فأوصل الفعل إلى المفعول بدون « إلى » ، دليلاً على أن كلا منهما بذل أقصى جهده في السبق ، فلحقته عند الباب الأقصى مع أنه كان قد سبقها بقوة الرجولية وقوة الداعية إلى الفرار إلى الله ، ولكن عاقة إتقانها للمكر بكون الأبواب كانت مغلقة ، فكان يشتغل بفتحها فتعلقت بأدنى ما وصلت إليه من قميصه ، وهو ما كان من ورائه خوف فواته ، فاشتد تعلقها به مع إعراضه هو عنها وهربه منها ، ففتحه وأراد الخروج فمنعته { و } لم تزل تنازعه حتى { قدت قميصه } وكان القد { من دبر } أي الناحية الخلف منه ، وانقطعت منه قطعة فبقيت في يدها { وألفيا } أي وجدا مع ما بهما من الغبار والهيئة التي لا تليق بهما { سيدها } أي زوجها ، ولم يقل : سيدهما ، لأن يوسف عليه الصلاة والسلام لم يدخل في رق - كما مضى - لأن المسلم لا يملك وهو السيد { لدا } أي عند ذلك { الباب } أي الخارج ، على كيفية غريبة جداً ، هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام لأن السيد لا يقدر على فتحه فضلاً عن الوصول إلى غيره لتغليق الجميع .
ولما علم السامع أنهما ألفياه وهما على هذه الحالة كان كأنه قيل : فما اتفق؟ فقيل : { قالت } مبادرة من غير حياء ولا تلعثم { ما } نافية ، ويجوز أن تكون استفهامية { جزاء من أراد } أي منه ومن غيره كائناً من كان ، لما لك من العظمة { بأهلك سوءاً } أي ولو أنه غير الزنا { إلا أن يسجن } أي يودع في السجن إلى وقت ما ، ليحكم فيه بما يليق { أو عذاب أليم } أي دائم ثابت غير السجن؛ والجزاء : مقابلة العمل بما هو حقه ، هذا كان حالها عند المفاجأة ، وأما هو عليه الصلاة والسلام فجرى على سجايا الكرام بأن سكت ستراً عليها وتنزهاً عن ذكر الفحشاء ، فكأنه قيل : فماذا قال حين قذفته بهذا؟ فقيل { قال } دافعاً عن نفسه لا هاتكاً لها { هي } بضمير الغيبة لاستيحائه عن مواجهتها بإشارة أو ضمير خطاب { راودتني عن نفسي } وما قال ذلك إلا حين اضطرته إليه بنسبته إلى الخيانة ، وصدقه لعمري فيما قال لا يحتاج إلى بيان أكثر من الحال الذي كانا فيه ، وهو أنهما عند الباب ، ولو كان الطلب منه لما كانا إلا في محلها الذي تجلس فيه ، وهو صدر البيت وأشرف موضع فيه { وشهد } ولما كان كل صالح للشهادة كافياً ، فلم تدع ضرورة إلى تعيينه ، قال : { شاهد } أي عظيم { من أهلها } لأن الأهل أعظم في الشهادة ، رضيع ببراءته - نقله الرماني عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما وسعيد ابن جبير ، كما شهد للنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع صبي من أهل اليمامة يوم ولد بأنه رسول الله ، فكان يدعي : مبارك اليمامة .

فقال ذلك الشاهد { إن كان } أي حال المراوغة { قميصه } أي فيما يتبين لكم { قدَّ } أي شق شقاً مستأصلاً { من قبل } أي من جهة ما أقبل من جسده { فصدقت } ولا بد من تقدير فعل التبين ، لأن الشروط لا تكون معانيها إلا مستقبلة ولو كانت ألفاظها ماضية .
ولما كان صدقها ليس قاطعاً في منع صدقه ، قال : { وهو من الكاذبين * } لأنه لولا إقباله - وهي تدفعه عنها أو تهرب منه وهو يتبعها ويعثر في قميصه - ما كان القد من القبل { وإن كان } أي فيما يظهر لكم { قميصه } أي يوسف عليه الصلاة والسلام { قدَّ من دبر } أي من جهة ما أدبر منه ، وبنى « قُدَّ » للمجهول للنزاع في القادّ { فكذبت } ولما كان كذلك كذبُها في إرادته السوء لا يعين صدقه في إرادتها له ، قال : { وهو من الصادقين * } لأنه لولا إدباره عنها وإقبالها عليه لما وقع ذلك ، فعرف سيدها صحة ذلك بلا شبهة ، لأن معنى « إن » هنا الشرط في جهة التقرير للمعنى الذي يوجب غيره لا على الشك ، وقدم أمارة صدقها لأنه مما يحبه سيدها ، فهو في الظاهر اهتمام بها ، وفي الحقيقة تقرير لكذبها مرتين : الأولى باللزوم ، والثانية بالمطابقة .
ولما كان المعنى : فنظر ، بنى عليه قوله : { فلما رءا } أي سيدها { قميصه } أي يوسف عليه الصلاة والسلام { قدَّ من دبر قال } لها وقد قطع بصدقه وكذبها ، مؤكداً لأجل إنكارها { إنه } أي هذا القذف له { من كيدكن } معشر النساء؛ والكيد : طلب الإنسان بما يكرهه { إن كيدكن عظيم * } والعظيم : ما ينقص مقدار غيره عنه حساً أو معنى ، فاستعظمه لأنه أدق من مكر الرجل وألطف وأخفى ، لأن الشيطان عليهن لنقصهن أقدر ، وكيدهن الذي هو من كيد الشيطان أضعفُ ضعيف بالنسبة إلى ما يدبره الله عز وجل في إبطاله؛ ثم قال العزيز آمراً له عليه السلام مسقطاً لحرف النداء دلالة على أن قربه من قلبه على حاله : { يوسف أعرض } أي انصرف بكليتك مجاوزاً { عن هذا } أي اجعله بمنزلة ما تصرف وجهك عنه إلى جهة العرض بأن لا تذكره لأحد ولا تهتم به ، فإني لم أتأثر منك بوجه ، لأن عذرك قد بان ، وأقبل إليها فقال : { واستغفري } أي اطلبي الغفران { لذنبك } في أن لا يحصل لك عقوبة مني ولا من الله؛ واستأنف بيان ما أشار إليه بقوله : { إنك كنت } أي كوناً جبلياً { من الخاطئين } أي العريقين في الخطأ بغاية القوة ، يقال : خطىء يخطأ - إذا أذنب متعمداً .

وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)

ولما كان في هذا من شرف العفة ما يدل على كمال العصمة ، وأكده تعالى بما يدل على تسامي حسنه وتعالي جماله ولطفه ، لأن العادة جرت بأن ذلك كان بعضه لأحد كان مظنة لميله ، لتوفير الدواعي على الميل إليه ، فقال تعالى : { وقال نسوة } أي جماعة من النساء لما شاع الحديت؛ ولما كانت البلدة كلما عظمت كان أهلها أعقل وأقرب إلى الحكمة ، قال : { في المدينة } أي التي فيها امرأة العزيز ساكنة { امرأت العزيز } فأضفنها إلى زوجها إرادة الإشاعة للخبر ، لأن النفس إلى سماع أخبار أولى الأخطار أميل؛ والعزيز : المنيع بقدرته من أن يضام ، فالعزة أخص من مطلق القدرة ، وعبرن بالمضارع في { تراود فتاها } أي عبدها نازلة من افتراش العزيز إلى افتراشه { عن نفسه } إفهاماً لأن الإصرار على المراودة صار لها كالسجية؛ والفتى : الشاب ، وقيده الرماني بالقوي ، قال : وقال الزجاج : وكانوا يسمون المملوك فتى شيخاً كان أو شاباً ، ففيه اشتراك على هذا { قد شغفها } ذلك الفتى { حباً } أي من جهة الحب ، قال الرماني : شغاف القلب غلافه ، وهو جلدة عليه ، يقال : دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب ، عن السدى وأبي عبيدة وعن الحسن أنه باطن القلب ، وعن أبي علي : وسط القلب -انتهى . والذي قال في المجمل وغيره أنه غلاف القلب ، وأحسن من توجيه أبي عبيدة له أن حبه صار شغافاً لها ، أي حجاباً ، أي ظرفاً محيطاً بها ، وأما « شعفها » - بالمهملة فمعناه : غشى شعفة قلبها ، وهي رأسه عند معلق النياط ، وقال الرماني : أي ذهب بها كل مذهب ، من شعف الجبال ، وهي رؤوسها .
ولما قيل ذلك ، كان كأنه قد قيل : فكان ماذا؟ فقيل - وأكد لأن من رآه عذرها وقطع بأنهن لو كن في محلها عملن عملها ولم يضللن فعلها : { إنا لنراها } أي نعلم أمرها علماً هو كالرؤية { في ضلال } أي محيط بها { مبين } لرضاها لنفسها بعد عز السيادة بالسفول عن رتبة العبد ، ودل بالفاء على أن كلامهن نقل إليها بسرعة فقال : { فلما سمعت } أي امرأة العزيز { بمكرهن } وكأنهن أردن بهذا الكلام أن يتأثر عنه ما فعلت امرأة العزيز ليرينه ، فلذلك سماه مكراً { أرسلت إليهن } لتريهن ما يعذرنها بسببه فتسكن قالتُهن { وأعتدت } أي هيأت وأحضرت { لهن متكاً } أي ما يتكئن عليه من الفرش اللينة والوسائد الفاخرة ، فأتينها فأجلستهن على ما أعدته لهن { وأتت كل واحدة } على العموم { منهن سكيناً } ليقطعن بها ما يحتاج إلى القطع مما يحضر من الأطعمة في هذا المجلس؛ قال أبو حيان : فقيل : كان لحماً ، وكانوا لا ينهشون اللحم ، إنما كانوا يأكلونه حزاً بالسكاكين . وقال الرماني : ليقطعن فاكهة قدمت إليهن - انتهى . هذا الظاهر من علة إتيانهن وباطنه إقامة الحجة عليهن بما لا يجدن له مدفعاً مما يتأثر عن ذلك { وقالت } ليوسف فتاها عليه الصلاة والسلام { اخرج عليهن } فامتثل له ما أمرته به كما هو دأبه معها في كل ما لا معصية فيه ، وبادر الخروج عليهن { فلما رأينه } أي النسوة { أكبرنه } أي أعظمن يوسف عليه الصلاة والسلام جداً إعظاماً كربّهن { وقطعن } أي جرحن جراحات كثيرة { أيديهن } وعاد لومهن عذراً ، والتضعيف يدل على التكثير ، فكأن السكين كانت تقع على يد إحداهن فتجرحها فترفعها عن يدها بطبعها ، ثم يغلبها الدهش فتقع على موضع آخر وهكذا { وقلن حاش } أي تنزيهاً عظيماً جداً { لله } أي الملك الأعلى الذي له صفات الكمال التي خلق بها مثل هذا .

ولما كان المراد بهذا التنزيه تعظيمه ، بينه بقولهن : { ما هذا بشراً } لأنه فاق البشر في الحسن جداً ، وأعرض عن الشهوة من غير علة ، نراها مانعة له لأنه في غاية القوة والفحولية ، فكأنه قيل : فما هو؟ فقلن : { إن } أي ما { هذا } أي في هذا الحسن والجمال ، وأعدن الإشارة دفعاً لإمكان الغلط { إلا ملك كريم * } وذلك لما ركز في الطباع من نسبة كل معنى فائق إلى الملائكة من الحسن والعفة وغيرهما وإن كانوا غير مرئيين ، كما ركز فيها نسبة ضد ذلك إلى الجن والشياطين ، فكأنه قيل : فما قالت لهن امرأة العزيز؟ فقيل : { قالت فذالكن } أي الفتى العالي الرتبة جداً { الذي لمتنني فيه } .
ولما علمت أنهن عذرنها ، قالت مؤكدة استلذاذاً بالتهتك في حبه : { ولقد } أي أقول هذا والحال أني والله لقد تحقق أني { راودته عن نفسه } أي لأصل إليه بما أريد { فاستعصم } أي فأوجد العصمة والامتناع عليّ فاشتد اعتصامه ، وما أنا براجعة عنه؛ ثم توعدته وهو يسمع لِيَلين ، فقالت لهن مؤكدة لأن حال حبها يوجب الإنكار لأن تفعل ما يؤذي المحبوب : { ولئن لم يفعل } أي هذا الفتى الذي قام عذرى عندكن فيه { ما أمره } أي أمري { ليسجنن } أي ليمنعن من التصرف بالحبس بأيسر سعي مني . ولما كان عزمها على السجن أقوى من العزم على إيقاع الصغار به ، أكدته بالنون الثقيلة وقالت : { وليكونا } بالنون الخفيفة { من الصاغرين * } أي الأذلاء ، أو أن الزيادة في تأكيد السجن لأنه يلزم منه إبعاده ، وإبعاد الحبيب أولى بالإنكار من إهانته ، فقال له النسوة : أطعها لئلا تسجنك وتهينك ، فكأنه قيل : فما قال؟ فقيل : { قال } يهتف بمن فنى بشهوده عن كل مشهود ، دافعاً عن نفسه ما ورد عليه من وسوسة الشيطان في أمر جمالها وأمر رئاستها ومالها ، ومن مكر النسوة اللاتي نوّعن له القول في الترغيب والترهيب عالماً بأن القوة البشرية تضعف عن حمل مثل هذا إلا بتأييد عظيم ، مسقطاً للأداة على عادة أهل القرب : { رب السجن } وهو محيط مانع من الاضطراب فيما خرج عنه { أحب إليّ } أي أقل بغضاً { مما يدعونني } أي هؤلاء النسوة كلهن { إليه } لما علم من سوء عاقبة المعصية بعد سرعة انقضاء اللذة ، وهذه العبارة تدل على غاية البغض لموافقتها ، فإن السجن لا يتصور حبه عادة ، وإنما المعنى أنه لو كان يتصور الميل إليه كان ميلي إليه أكثر ، لكنه لا يتصور الميل إليه لأنه شر محض ، ومع ذلك فأنا أوثره على ما دعونني إليه ، لأنه أخف الضررين ، والحاصل أنه أطلق المحبة على ما يضادها في هذا السياق من البغض بدلالة الالتزام ، فكأنه قيل : السجن أقل بغضاً إلى ما تدعونني إليه ، وذلك هو ضد « أحب » الذي معناه أكثر حباً ، ولكن حولت العبارة ليكون كدعوى الشيء مقروناً بالدليل ، وذلك أنه لما فوضل في المحبة بين شيئين أحدهما مقطوع ببغضه ، فُهم قطعاً أن المراد إنما هو أن بغض هذا البغيض دون بغض المفضول ، فعلم قطعاً أن ذلك يظن حبه أبغض من هذا المقطوع ببغضه ، وكذا كل ما فوضل بينهما في وصف يمنع من حمله على الحقيقة كون المفضل متحققاً بضده - والله الموفق؛ والدعاء : طلب الفعل من المدعو ، وصيغته كصيغة الأمر إلا أن الدعاء لمن فوقك ، والأمر لمن دونك { وإلا تصرف } أي أنت يا رب الآن وفيما يستقبل من الزمان ، مجاوزاً { عني كيدهن } أي ما قد التبس من مكرهن وتدبيرهن الذي يردن به الخبث احتيالاً على الوصول إلى قصدهن خديعة وغروراً { أصب } أي أمل ميلاً عظيماً { إليهن } لما جبل الآدمي عليه من الميل النفساني إلى مثل ذلك ، ومتى انخرق سياج صيانته بواحدة تبعها أمثالها ، واتسع الخرق على الراقع ، ولذلك قال : { وأكن } أي كونا هو كالجبلة { من الجاهلين } أي الغريقين في الجهل بارتكاب مثل أفعالهم { فاستجاب له ربه } أي أوجد المحسن إليه إيجاداً عظيماً إجابة دعائه الذي تضمنه هذا الثناء ، لأن الكريم يغنيه التلويح عن التصريح - كما قيل :

إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرّضه الثناءُ
وفعل ذلك سبحانه وتعالى إكراماً له وتحقيقاً لما سبق من وعده في قوله : { كذلك لنصرف عنه السوء } [ يوسف : 24 ] الآية { فصرف عنه كيدهن } ثم علل ذلك بقوله : { إنه هو السميع } أي للأقوال { العليم * } بالضمائر والنيات ، فيجيب ما صح فيه القصد وطاب منه العزم .

ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)

ولما كانت هذه الأمور موجبة لرفعته ، فكان حينئذٍ أبعد شيء عن السجن لو كان الناس متمكنين من جري أمورهم على حسب السديد من عقولهم ، أخبر تعالى أنهم خالفوا داعي السداد واستبدلوا الغيّ بالرشاد ، لحكمه بأن السجن سبب عظيم لصرف كيدهن عنه وإثبات العز والمكنة له ، ففعلوا - مع علمهم بأن ذلك ظلم وسفه - إجابة لغالب أمر الله وإظهاراً لعليّ قدره بمخالفة العوائد مرة بعد مرة ، وهدم سداد الأسباب كرة أثر كرة؛ فقال : { ثم } لهذا المعنى ، وهو أنهم كان ينبغي أن يكونوا من سجنه في غاية البعد { بدا } أي ظهر بعد الخفاء كما هي عادتهم { لهم } والبداء في الرأي : التلون فيه لظهور ما لم يكن ظهر منه .
ولما كان ذلك الظهور في حين من الدهر تلونوا بعده إلى رأي آخر ، أدخل الجار دلالة على ذلك فقال : { من بعد ما رأوا } أي رؤيتهم { الأيات } القاطعة ببراءته القاضية بنزاهته من قد القميص وشهادة الشاهد وغير ذلك .
ولما كان فاعل « بداء » رأى ، فسره بقوله مؤكداً ، لأنه لا يصدق أن الإنسان يفعل ما ظهر له المانع منه : { ليسجننه } فيمكث في السجن { حتى حين } أي إلى أن تنسى تلك الإشاعة ، ويظهر الناس أنها لو كانت تحبه ما سعت في سجنه ، وقيل : إن ذلك الحين سبع سنين ، قيل : كان سبب ذلك أنها قالت للعزيز : إن هذا قد فضحني في الناس وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر كما يحب ، وأنا محبوسة ، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر كما يعتذر ، وإما أن تسويه بي في السجن؛ قال أبو حيان : قال ابن عباس رضي الله عنهما : فأمر به فحمل على حمار وضرب أمامه بالطبل ، ونودي عليه في أسواق مصر أن يوسف العبراني أراد سيدته ، فهذا جزاءه أن يسجن! قال أبو صالح : ما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما هذا الحديث إلاّ بكى - انتهى . وهذا دليل على قوله { إن كيدكن عظيم } [ يوسف : 28 ] .
قال الإمام فخر الدين الرازي في كتاب اللوامع : وعلى الجملة فكل أحوال يوسف عليه الصلاة والسلام لطف في عنف ، ونعمة في طي بلية ونقمة ، ويسر في عسر ، ورجاء في يأس ، وخلاص بعد لات مناص ، وسائق القدر ربما يسوق القدر إلى المقدور بعنف ، وربما يسوقه بلطف ، والقهر والعنف أحمد عاقبة وأقل تبعة - انتهى .
ولما ذكر السجن ، وكان سبباً ظاهراً في الإهانة ، شرع سبحانه يقص من أمره فيه ما حاصله أنه جعله سبب الكرامة ، كل ذلك بياناً للغلبة على الأمر والاتصاف بصقات القهر ، مع ما في ذلك من بيان تحقق ما تقدم به الوعد الوفي ليوسف عليه الصلاة والسلام وغير ذلك من الحكم ، فقال تعالى : { ودخل } أي فسجنوه كما بدا لهم ودخل { معه السجن فتيان } : خباز الملك وساقيه ، ورفع إليه أن الخباز أراد أن يسمه ، وظن أن الساقي مالأه على ذلك ، و « مع » تدل على الصحبة واستحداثها ، فهي تدل على دخول الثلاثة السجن في آن واحد - قاله أبو حيان ، فلما دخلوا السجن كان يوسف عليه الصلاة والسلام يحسن إلى أهله فيسلي حزينهم ، ويعود مريضهم ، ويسأل لفقيرهم ، ويهديهم إلى الخير ، ويذكرهم بالله ، فمالت إليه القلوب وكلفت به النفوس لحسن حديثه ولطيف تأتيه وما جباه الله به من الفضل والنبل وحسن الخَلق والخُلق ، وكان في السجن ناس قد انقطع رجاءهم واشتد بلاءهم ، فلم يزل يرفق بهم حتى قالوا : بارك الله فيك! ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وأحسن حديثك! لقد بورك لنا في جوارك ، ما نحب أنا كنا في غير هذا لما تخبرنا به من الأجر والكفارة والثواب والطهارة ، من أنت يا فتى؟ فأخبرهم بنسبه الشريف ، فقال عامل السجن : لو استطعت لخليت سبيلك! ولكن سأحسن جوارك وإيثارك ، وأحبه الفتيان ولزماه فقال : أنشد كما الله أن تحباني ، فوالله ما أحبني أحد قط إلاّ دخل على من جهته بلاء! لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من جهتها بلاء ، ثم أحبني أبي فدخل عليّ من جهته بلاء ، ثم أحبتني زوجة صاحبي هذا فدخل عليّ من جهتها بلاء ، فلا تحباني ، فأبيا إلاّ حبه ، فكأنه قيل : أيّ شيء اتفقى لهما بعد الدخول معه؟ فقيل : { قال أحدهمآ } ليوسف عليه الصلاة والسلام ، ولعل التأكيد إما لأنه كانت عادتهما المزح ، وإما لأنهما ما رأيا شيئاً - كما قال الشعبي - وإنما صنفا هذا ليختبراه به { إني أراني } حكى الحال الماضية في المنام { أعصر } والعصر : الاعتماد على ما فيه مائية ليحتلب منه { خمراً } أي عنباً يؤل إلى الخمر { وقال الآخر } مؤكداً لمثل ما مضى { إني أراني أحمل } والحمل : رفع الشيء بعماد نقله { فوق رأسي خبزاً } أي طعاماً مهيأ للأكل بالخبز ، وهو عمل الدقيق المعجون بالبسط واللزق في حامٍ بالنار حتى يصلح للأكل { تأكل الطير منه } وسيأتي شرح الرؤيا من التوراة ، فكأنه قيل : فماذا تريدان من الإخبار بهذا؟ فقالا : { نبئنا } أي أخبرنا إخباراً عظيماً { بتأويله } أي ما يرجع أمره ويصير إليه ، فكأنه قيل : وما يدريكما أني أعرف تأويله؟ فقالا : { إنا نراك } على حالٍ علمنا بها علماً هو كالرؤية أنك { من المحسنين * } أي العريقين في وصف الإحسان لكل أمر تعانيه ، فلذلك لاح لنا أنك تحسن التأويل قياساً ، فلما رآهما بصيرين بالأمور { قال } إشارة إلى أنه يعرف ذلك وأدق منه ، ليقبلا نصحه فيما هو أهم المهم لكل أحد ، - وهو ما خلق العباد له من الاجتماع على الله - لتفريغهما للفهم لكلامه والقبول لكل ما يلقيه لاحتياجهما إلى إفتائهما ، مؤكداً ما وصفاه به من الإحسان بما اتبعه من وصف نفسه بالعلم ، انتهازاً لفرصة النصيحة عند هذا الإذعان بأعظم ما يكون النصح به من الأمر بالإخلاص في عبادة الخالق والإعراض عن الشرك ، فعلى كل ذي علم إذا احتاج إلى سؤاله أحد أن يقدم على جوابه نصحه بما هو الأهم له ، ويصف له نفسه بما يرغبه في قبول علمه إن كان الحال محتاجاً إلى ذلك ، ولا يكون ذلك من باب التزكية بل من الإرشاد إلى الإئتمام به بما يقرب إلى الله فيكون له مثل أجره : { لا يأتيكما } أي في اليقظة { طعام } وبين أنه خاص بهما دون أهل السجن بقوله : { ترزقانه } بناه للمفعول تعميماً { إلاّ نبأتكما } أي أخبرتكما إخباراً جليلاً عظيماً { بتأويله } أي به وبما يؤل ويرجع إليه أمره .

ولما كان البيان في جميع الوقت الذي بينه وبين الطعام الذي قبله ، نزع الخافض فقال : { قبل أن يأتيكما } أي أخبرتكما بأنه يأتيكما طعام كذا ، فيكون سبباً لكذا ، فإن المسبب الناشىء عن السبب هو المال .
ولما وصف نفسه من العلم بما يدعو كل ذي همة إلى السعي في الأسباب التي حصل له ذلك بها ليصير مثله أو يقرب منه ، وكان محل أن يقال : من علمك ذلك؟ قال مرشداً إلى الله داعياً إليه أحسن دعاء بما تميل إليه النفوس من الطمع في الفضل : { ذلكما } أي الأمر العظيم؛ ونبه على غزارة علمه بالتبعيض في قوله : { مما علمني ربي } أي الموجد لي والمربي لي والمحسن إليّ ، ولم أقله عن تكهن ولا تنجم ، فكأنه قيل : ما لغيرك لا يعلّمه مثل ما علمك؟ فقال معللاً له مطمعاً كل من فعل فعله في فضل الله ، مؤكداً إعلاماً بأن ذلك أمر عظيم يحق لمثله أن يفعل : { إني تركت ملة قوم } أي وإن كانوا أقوياء على محاولة ما يريدون ، فلذلك قدروا على أذاي وسجني بعد رؤية الآيات الشاهدة لي ، ونبه على أن ذلك لا يقدم عليه إلاّ من لا يحسب العاقبة بوجه ، فقال : { لا يؤمنون } أي يجددون الإيمان لما لهم من العراقة في الكفر { بالله } أي الملك الأعظم الذي لا يخفى أمره على ذي لب من أهل مصر وغيرهم؛ ثم لوح إلى التحذير من يوم الجزاء الذي لا يغنى فيه أحد عن أحد ، منبهاً على أن الكفر به هو القاطع عن العلم وعن كل خير ، فقال مؤكداً تأكيداً عظيماً ، إشارة إلى أن أمرهم ينبغي أن ينكره كل من يسمعه ، ولا يصدقه ، لما على الآخرة من الدلائل الواضحة جداً الموجبة لئلا يكذب به أحد : { وهم بالآخرة } أي الدار التي لا بد من الجمع إليها ، لأنها محط الحكمة { هم } أي بضمائرهم كما هم بظواهرهم ، وفي تكرير الضمير تنبيه على أن هؤلاء اختصوا بهذا الجهل ، وأن غيرهم وقفوا على الهدى { كافرون } أي عريقون في التغطية لها ، فلذلك أظلمت قلوبهم فكانوا صوراً لا معاني لها؛ والملة : مذهب جماعة يحمي بعضها لبعض في الديانة ، وأصله من المليلة ، وهي حمى تلحق الإنسان - قاله الرماني .

وفي القاموس إن المليلة : الحر الكامن في العظم . وعبر ب { تركت } موضع « تجنبت » مثلاً مع كونه لم يلابس تلك الملة قط ، تأنيساً لهما واستدراجاً إلى تركهما؛ ثم اتبع ذلك بما يدل على شرف أصله وقدم فضله بأنه من بيت النبوة ومعدن الفتوة ، ليكون ذلك أدعى إلى قبول كلامه وإصابة سهامه وإفضاء مرامه ، فقال : { واتبعت } أي بغاية جهدي ورغبتي { ملة آباءي إبراهيم } خليل الله ، وهو جد أبيه { وإسحاق } ابنه نبي الله وهو جده { ويعقوب } أبيه إسرائيل : الله . وهو أبوه حقيقة ، وتلك هي الحنيفية السمحة التي هي الميل مع الدليل من غير جمود مع هوى بوجه من الوجوه؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيّ الناس أكرم؟ قال : أكرمهم عند الله أتقاهم ، قالوا : ليس عن هذا نسألك . قال : فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله : ابن خليل الله ، قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا : نعم ، قال : فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا » فكأنه قيل : ما تلك الملة؟ فقال : { ما كان لنا } أي ما صح وما استقام بوجه من الوجوه ، لما عندنا من نور العلم الذي لم يدع عندنا لبساً بوجه أصلاً { أن نشرك } أي نجدد في وقت ما شيئاً من إشراك { بالله } أي الذي له الأمر كله ، وأعرق في النفي فقال : { من شيء } أي بما شرعه لنا من الدين القويم كانت ملتنا التوحيد ، ومن التأكيد العموم في سياق النفي ، ليعم ذلك كل شيء من عاقل ملك أو إنسي أو جنى أو غيره؛ ثم علل ذلك بما يعرف به أنه كما وجب عليهم ذلك وجب على كل أحد فقال : { ذلك } أي كان هذا الانتفاء أو ذلك التشريع - للملة الحنيفية وتسهيلها وجعل الفطر الأولى منقادة لها مقبلة عليها - العلي الشأن العظيم المقدار { من } أجل { فضل الله } أي المحيط بالجلال والإكرام { علينا } خاصة { وعلى الناس } الذين هم إخواننا في النسب عامة ، فنحن وبعض الناس شكرنا الله ، فقبلنا ما تفضل به علينا ، فلم نشرك به شيئاً؛ والفضل : النفع الزائد على مقدار الواجب ، فكل عطاء الله فضل ، فإنه لا واجب عليه ، فكان لذلك واجباً على كل أحد إخلاص التوحيد له شكراً على فضله لما تظافر عليه دليلاً العقل والنقل من أن شكر المنعم واجب { ولكن أكثر الناس } أي لما لهم من الاضطراب مع الهوى عموا عن هذا الواجب ، فهم { لا يشكرون * } فضله بإخلاص العمل له ويشركون به إكراهاً لفطرهم الأولى ، فالآية من الاحتباك : ذكر نفي الشرك أولاً يدل على وجوده ثانياً ، وذكر نفي الشكر ثانياً يدل على حذف إثباته أولاً .

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)

ولما أقام لهم الدليل على ما هو عليه من الدين الحنيفي تبعاً لخلاصة الخلق ، بما تقرر في الأذهان من أن الله تعالى هو المنعم وحده سبحانه فيجب شكره ، بعد أن قرر لهم أمر نبوته وأقام دليلها بما يخبرهم به من المغيبات ، ودعاهم إلى ما يجب عليهم من التوحيد وهو الإسلام ، وكان أكثر الخلق إلاّ الفذ النادر يقرون بالإله الحق ، ولكنهم يشركون به بعض خلقه ، أتبعه برهان التمانع على فساد كل ملة غير الإسلام الذي يطابق عليه الأنبياء والرسل كلهم ، تأييداً لأدلة النقل بقاطع العقل ، فقال منادياً لهما باسم الصحبة بالأداة التي تقال عند ما له وقع عظيم في النفوس في المكان الذي تخلص فيه والمودة ، وتمحض فيه النصيحة ، وتصفي فيه القلوب ، ويتعمد الإخلاص رجاء الخلاص - : { ياصاحبي السجن } والصحبة : ملازمة اختصاص كأصحاب الشافعي مثلاً ، لملازمة الاختصاص بمذهبه ، وهي خلاف ملازمة الاتصال .
ولما فرغ أفهامهما بالنداء لما يلقيه ، قرع أسماعهما بالإنكار مع التقرير فقال : { أرباب } أي آلهة { متفرقون } متباينون بالذوات والحقائق تشاهدونهم محتاجين إلى المكان مع كونهم جماداً ، ولو كانوا أحياء لأمكن تمانعهم ، فأدى إلى إمكان عجز كل منهم القاطع بعدم صلاحيته للإلهية { خير } أي أعظم في صفة المدح وأولى بالطاعة { أم الله } أي الملك الأعلى { الواحد } بالذات ، فهو لا يحتاج إلى شيء أصلاً { القهار * } لكل شيء ، لا يزال قهره يتكرر أبداً ، فهذا برهان لا خطأ به كما ظن ، وأبرزه صلى الله عليه وسلم على وجه الاستفهام استجلاباً للسامع برد العلم إليه ، وسماها أرباباً لمثل ذلك بناء على زعمهم ، وكذا المشاركة في أفعل التفضيل ، لأن ذلك أقرب إلى الإنصاف ، لكونه ألين في القول ، فيكون أدعى إلى القبول .
ولما كان الجواب لكل من يعقل : الله خير ، أشار إلى ذلك بجزم القول بعد ذلك الاستفهام في سلب صلاحيتهم قبل هذا الإمكان بعدم حياتهم ، وعلى تقدير حياتهم بعجزهم ، فقال : { ما تعبدون } والعبادة : خضوع بالقلب في أعلى مراتب الخضوع ، وبين حقارة معبوداتهم وسفولها بقوله : { من دونه } أي الله الذي قام برهان التمانع - الذي هو البرهان الأعظم - على إلهية وعلى اختصاصه بذلك { إلا أسماء } وبين ما يريد وأوضحه بقوله : { سميتموها } أي ذوات أوجدتم لها أسماء { أنتم وآباؤكم } لا معاني لها ، لأنه لا أرواح لها فضلاً عن أن تتحقق بمعنى ما سميتموها به من الإلهية ، وإن كان لها أرواح فهي منتف عنها خاصة الإلهية ، وهي الكمال المطلق الذي يستلزم إحاطة العلم والقدرة .
ولما كان مقصود السورة وصف الكتاب بالإبانة للهدى ، وكان نفي الإنزال كافياً في الإبانة ، لأن عبادة الأصنام باطلة ، ولم يكن في السياق كالأعراف مجادلة توجب مماحكة ومماطلة ومعالجة ومطاولة ، قال نافياً للإنزال بأي وصف كان : { ما أنزل الله } أي المحيط علماً وقدرة .

فلا أمر لأحد معه { بها } وأعرق في النفي فقال : { من سلطان } أي برهان تتسلط به على تعظيمها ، فانتفى تعظيمها لذاتها أو لغيرها ، وصار حاصل الدليل : لو كانوا أحياء يحكمون لم يصلحوا للإلهية ، لإمكان تمانعهم المؤدي إلى إمكان عجز كل منهم الملزوم لأنهم لأ صلاحية فيهم للإلهية ، لكنهم ليسوا أحياء ، فهم أجدر بعدم الصلاحية ، فعلم قطعاً أنه لا حكم لمقهور ، وأن كل من يمكن أن يكون له ثان مقهور؛ فأنتج هذا قطعاً أن الحكم إنما هو لله الواحد القهار ، وهو لم يحكم بتعظيمها؛ وذلك معنى قوله : { إن } أي ما { الحكم إلاّ لله } أي المختص بصفات الكمال؛ والحكم : فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة .
ولما انتقى الحكم عن غيره ، وكان ذلك كافياً في وجوب توحيده ، رغبة فيما عنده ، ورهبة مما بيده ، أتبعه تأكيداً لذلك وإلزاماً به أنه حكم به ، فقال : { أمر ألا تعبدوا } أي أيها الخلق في وقت من الأوقات على حال من الأحوال { إلا إياه } أي وهو النافذ الأمر المطاع الحكم .
ولما قام هذا الدليل على هذا الوجه البين ، كان جديراً بالإشارة إلى فضله ، فأشار إليه بأداة البعد ، تنبيهاً على علو مقامه وعظيم شأنه فقال : { ذلك } أي الشأن الأعظم ، وهو توحيده وإفراده عن خلقه { الدين القيم } أي الذي لا عوج فيه فيأتيه الخلل من جهة عوجه ، الظاهر أمره لمن كان له قلب { ولكن أكثر الناس } أي لما لهم الاضطراب مع الحظوظ { لا يعلمون * } أي ليس لهم علم ، لأنهم لا ينتفعون بعقولهم ، فكأنهم في عداد البهائم العجم ، فلأجل ذلك هم لا يفردون الله بالعبادة .

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)

ولما تم نصحه وعلا قدحه بإلقائه إليهما ما كان أهمّ لهما لو علما لمآله إلى الحياة الأبدية والرفعة السرمدية . أقبل على حاجتهما تمكيناً لما ذكره وتأكيداً للذي قرره ، فناداهما بالأداة الدالة على أن ما بعدها كلام له موقع عظيم لتجتمع أنفسهما لسماع ما يلقى إليهما من التعبير ، فقال : { ياصاحبي السجن } أي الذي تزول فيه الحظوظ ويحصل الانكسار للنفس والرقة في القلب فتتخلص فيه المودة .
ولما كان في الجواب ما يسوء الخباز ، أبهم ليجوّز كل واحد أنه الفائز ، فإن ألجأه إلى التعيين كان ذلك عذراً له في الخروج عن الأليق فقال : { أما أحدكما } وهو الساقي فيلخص ويقرب { فيسقي ربه } أي سيده الذي في خدمته { خمراً } كما كان { وأما الآخر } وهو الخباز .
ولما كان الذي له قوة أن يصلب إنما هو الملك ، بنى للمفعول قوله : { فيصلب } ويعطب { فتأكل } أي فيتسبب عن صلبه أنه تأكل { الطير من رأسه } والآية من الاحتباك : ذكر ملزوم السلامة والقرب أولاً دليلاً على العطب ثانياً ، وملزوم العطب ثانياً دليلاً على السلامة أولاً ، وسيأتي شرح تعبيره من التوراة ، فكأنه قيل : انظر جيداً ما الذي تقول! وروى أنهما قالا : ما رأينا شيئاً ، إنما كنا نلعب ، فقال مشيراً بصيغة البناء للمفعول إلى عظمة الله وسهولة الأمور عليه : { قضي الأمر } وبينه بقوله : { الذي فيه } أي لا في غيره { تستفتيان * } أي تطلبان الإفتاء فيه عملاً بالفتوة ، فسألتما عن تأويله ، وهو تعبير رؤياكما كذبتما أو صدقتما ، لم أقله عن جهل ولا غلط . وما أحسن إيلاء هذا العلم الثابت لختم الآية السالفة بنفي العلم عن الأكثر ، والأحد : المختص من المضاف إليه بمبهم له مثل صفة المضاف ، ولا كذلك « البعض » فلا يصدق : رأيت أحد الرجلين - ألا برجل منهما ، بخلاف « بعض » والفتيا : الجواب بحكم المعنى ، وهو غير الجواب بعلته - ذكره الرماني . ولعل رؤيتهما تشيران إلى ما تشير إليه رؤيا الملك ، فالعصير يشير إلى السنابل الخضر والبقر السمان ، لأنه لا يكون إلا عن فضل ، والخبز - الذي طارت به الأطيار ، وسارت بروح صاحبه الأقدار -يشير إلى اليابسة والعجاف - والله أعلم .
ولما كان كل علم بالنسبة إلى علم الله عدماً ، عبر عن علمه بالظن ، ويمكن أن يكون الظن على بابه لكونه قال ما مضى اجتهاداً بقرائن فيؤخذ منه أنه يسوغ الجزم بما أدى إلى ظن ، فقال : { وقال } أي يوسف عليه الصلاة والسلام { للذي ظن } مع الجزم بأنه أراد به العلم لقوله : { قضى الأمر } ، ويجوز أن يكون ضمير « ظن » للساقي ، فهو حينئذ على بابه { أنه ناج منهما } وهو الساقي { اذكرني عند ربك } أي سيدك ملك مصر ، بما رأيت مني من معالي الأخلاق وطهارة الشيم الدالة على بعدي مما رُميت به ، والمراد بالرب هنا غير المراد به في قوله :

{ أرباب متفرقون } [ يوسف : 39 ] . فنجا الساقي وصلب صاحبه وفق ما قال لهما يوسف عليه الصلاة والسلام { فأنساه } أي الساقي { الشيطان } أي البعيد من الرحمة المحترق باللعنه { ذكر } يوسف عليه الصلاة والسلام عند { ربه } أي بسبب اعتماده عليه في ذلك { فلبث } أي يوسف عليه الصلاة والسلام بسبب هذا النسيان { في السجن } من حين دخل إلى أن خرج { بضع سنين * } ليعلم أن جميع الأسباب إنما أثرها بالله تعالى ، وحقيقة البضع من الثلاث إلى التسع ، والمروي هنا أنه كان سبعاً .
ذكر ما مضى من هذه القصة من التوراة
قال بعد ما مضى : فأهبط المدينيون يوسف إلى مصر ، فاشتراه قوطيفر الأمير صاحب شرطة فرعون - رجل مصري - من يد الأعراب الذين أهبطوه إلى هناك ، فكان الرب سبحانه وتعالى بعونه مع يوسف ، وكان رجلاً منجحاً ، وأقام في منزل المصري سيده ، فرأى سيده أن الرب بعونه معه ، وأن الرب ينجح جميع أفعاله ، فظفر يوسف منه برحمة ورأفة فخدمه ، وسلطه على بيته ، وخوله جميع ما له ، ومن اليوم الذي سلطه على بيته وخوله جميع ما له بارك الرب في بيت المصري من أجل يوسف وفي سببه ، فحلَّت بركة الرب في جميع ما له في البيت والحقل ، فخول كل شيء له ، ولم يكن يعلم بشيء مما له في يده لثقته به ما خلا الخبز الذي كان يأكله ، وكان يوسف حسن المنظر صبيح الوجه .
فلما كان بعد هذه الأمور لمحت امرأة سيده بنظرها إلى يوسف فقالت له : ضاجعني : فأبى ذلك وقال لامرأة سيده : إن سيدي لثقته بي ليس يعلم ما في بيته ، وقد سلطني على جميع ما له ، وليس في هذا البيت أعظم مني ، ولم يمنعني شيئاً ما خلاك أنت لأنك امرأته ، فكيف أرتكب هذا الشر العظيم ، فأخطئي بين يدي الله ، وإذا كانت تراوده كل يوم لم يطعها ليضاجعها ويصير معها ، فبينا هو ذات يوم دخل يوسف إلى البيت ليعمل عملاً ، ولم يكن أحد من أهل البيت هناك ، فتعلقت بقميصه وقالت له : ضاجعني ، فترك قميصه في يدها وهرب ، فخرج إلى السوق ، فلما رأت أنه قد ترك قميصه في يدها وخرج هارباً إلى السوق ، دعت بأهل بيتها وقالت لهم : انظروا ، إنه أتانا رجل عبراني ليفضحنا ، لأنه دخل عليّ يريد مضاجعتي ، وهتفت بصوت عال ، فلما رآني قد رفعت صوتي وهتفت ، ترك قميصه في يدي وهرب إلى السوق .
فصيرت قميصه عندها حتى دخل سيدها البيت ، فقالت : له مثل هذه الأقاويل : دخل عليّ هذا العبد العبراني الذي جلبته علينا يريد يفضحني ، فلما رفعت صوتي فصحت ترك قميصه في يدي وهرب فخرج إلى السوق؛ فلما سمع سيده كلام امرأته استشاط غيظاً ، فأمر به سيده فقذف في الحبس الذي كان أسرى الملك فيه محبوسين فمكث هناك في السجن ، وكان الرب يبصره ، ورزقه المحبة والرحمة ، وألقى له في قلب السجان رحمة ، فولى يوسف جميع المسجونين الذين في الحبس ، وكل فعل كانوا يفعلونه هناك كان عن أمره ، ولم يكن رئيس السجن يضرب على يديه في شيء ، لأن الرب كان بعونه معه ، وكل شيء كان يفعله ينجحه الرب .

فلما كان بعد هذه الأمور ، أذنب صاحب شراب ملك مصر والخباز - وفي نسخة موضع الخباز : ورئيس الطباخين - بين يدي سيدهما ملك مصر ، فغضب فرعون على خادميه : على رئيس أصحاب الشراب ورئيس الخبازين - وفي نسخة : الطباخين - فأمر بحبسهما في سجن صاحب الشرط في الحبس الذي كان فيه يوسف ، فسلط صاحب السجن يوسف عليهما فخدمهما ، فلبثا في السجن أياماً ، فرأيا رؤيا جميعاً ، كل واحد منهما رئيا بكل في ليلة واحدة ، وكل واحد منهما أحب تعبير حلمه ، : الساقي وخباز - وفي نسخة : وطباخ - ملك مصر ، فدخل عليهما يوسف بالغداة ، فرآهما عابسين مكتئبين فسألهما وقال : ما بالكما يومكما هذا عابسي مكتئبين؟ فقالا له : إنا رأينا رؤيا وليس لها معبر ، فقال لهما يوسف : إن علم التعبير عند الله ، قصا عليّ .
فقص رئيس أصحاب الشراب على يوسف وقال له : إني رأيت في الرؤيا كأن حبلة بين يدي ، في الحبلة ثلاثة قضبان ، فبينا هي كذلك إذ فرعت ونبت ورقها ، وأينعت عناقيدها ، فصارت عنباً ، وكأن كأس فرعون في يدي ، فتناولت من العنب ، فعصرته في كأس فرعون ، وناولت الكأس فرعون ، فقال له يوسف عليه السلام : هذا تفسير رؤياك : الثلاثة قضبان هي ثلاثة أيام ، ومن بعد ثلاثة أيام يذكرك فرعون فيردك على عملك ، وتناول فرعون الكأس في يده على العادة الأولى التي لم تزل تسقيه ، فاذكرني حينئذ إذا أنعم عليك ، وأنعم عليّ بالنعمة والقسط ، فاذكرني بين يدي فرعون ، وأخرجني من هذا الحبس ، لأني إنما سرقت من أرض العبرانين سرقة ، وحصلت في الحبس هاهنا أيضاً بلا جرم جاء مني . فرأى رئيس الخبازين - وفي نسخة : الطباخين - أنه قد فسر تفسيراً حسناً فقال يوسف : رأيت أنا أيضاً في منامي كأن ثلاثة أطباق فيها خبز درمك على رأسي ، وفي الطبق الأعلى من كل مآكل فرعون مما يصنعه الخباز - وفي نسخة : عمل طباخ حاذق - وكان السباع والطير تأكلها من الطبق من فوق رأسي؛ فأجاب يوسف وقال له : هذا تفسير رؤياك : ثلاثة أطباق هي ثلاثة أيام ، وبعد ثلاثة أيام يأمر فرعون بضرب عنقك وصلبك على خشبة ، ويأكل الطير لحمك .
فلما كان اليوم الثالث - وهو يوم ولاد فرعون - اتخذ فرعون وليمة ، فجمع عبيده وافتقد رئيس أصحاب الشراب ورئيس الخبازين - وفي نسخة : الطباخين - فأمر برد رئيس أصحاب الشراب على موضعه ، وسقى فرعون الكأس كعادته ، وأمر بصلب رئيس الخبازين كالذي فسر لهما يوسف عليهما الصلاة والسلام ، فلم يذكر رئيس أصحاب الشراب يوسف عليه الصلاة والسلام ونسيه .

وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)

ولما بطل هذا السبب الذي أمر به يوسف عليه الصلاة والسلام ، وهو تذكير الشرابي به ، أثار الله سبحانه سبباً ينفذ به ما أراد من رئاسته وقضى به من سجود من دلت عليه الكواكب فقال دالاً على ذلك : { وقال الملك } وهو شخص قادر واسع المقدور إليه السياسه والتدبير ، لملاه وهم السحرة والكهنة والحزرة والقافة والحكماء ، وأكد ليعلم أنه محق في كلامه غير ممتحن : { إني أرى } عبر بالمضارع حكاية للحال لشدة ما هاله من ذلك { سبع بقرات سمان } والسمن : زيادة البدن من اللحم والشحم { يأكلهن سبع } أي بقرات { عجاف } والعجف : يبس الهزال { و } إني أرى { سبع } .
ولما كان تأويل المنام الجدب والقحط والشدة ، أضاف العدد إلى جمع القلة بخلاف ما كان في سياق المضاعفة في قوله { أنبتت سبع سنابل } [ البقرة : 261 ] فقال : { سنبلات خضر و } إني أرى سبع سنبلات { أخر يابسات } التوت على الخضر فغلبت عليها ، وكأنه حذف هذا لدلالة العجاف عليه؛ والسنبلة : نبات كالقصبة حملة حبوب منتظمة ، وكأنه قيل : فكان ماذا؟ فقيل : قال الملك : { ياأيها الملأ } أي الأشراف النبلاء الذين تملأ العيون مناظرهم والقلوب مخابرهم ومآثرهم { أفتوني } أي أجيبوني وبينوا لي كرماً منكم بقوة وفهم ثاقب .
ولما كان مراده أن لا يخرجوا بالجواب عن القصد ولا يبعدوا به ، عبر بما يفهم الظرف فقال : { في رؤياي } ومنعهم من الكلام بغير علم بقوله : { إن كنتم للرؤيا } أي جنسها { تعبرون * } وعبارة الرؤيا : تأويلها بالعبور من علنها إلى سرها كما تعبر ، من عبر النهر - أي شطه - إلى عبره الآخر ، ومثله أولت الرؤيا - إذا ذكرت مالها ومرجعها المقصود بضرب المثال .
والمادة - بتراكيبها الستة : عرب ، وعبر ، ورعب ، وربع ، وبعر ، وبرع - تدور على الجواز من محل إلى محل ومن حال إلى حال ، وأكثر ذلك إلى أجود ، فالعرب سموا لأن مبنى أمرهم على الارتحال لاستجادة المنازل ، وأعرب - إذا أفصح ، أي تكلم بكلام العرب فأبان عن مراده ، أي أجازه من العجمة والإبهام إلى البيان ، وأعرب الفرس - إذا خلصت عربيته ، فكأنه جاز مرتبة الهجن إلى العرب ، وكذا الإبل العراب ، والعروبة : يوم الجمعة - لعلو قدرها عن بقية الأيام ، والعروب : المرأة الضاحكة العاشقة لزوجها المتحببه إليه المظهرة له ذلك ، وهي أيضاً العاصية لزوجها - لأن كل ذلك أفعال العرب ، فهم أعشق الناس وأقدرهم على الاستمالة بالكلام العذب ، وهم أعصى الناس وأجفاهم إذا أرادوا ، والعرب - ويحرك : النشاط - لأنه انتقال عن الكسل ، وقد عرب - كفرح - إذا نشط وإذا ورم ، لأن الوارم يتجاوز هيئة غيره ، وعربت البئر : كثر ماءها فارتفع ، وعرب - كضرب : أكل ، والعربة ، محركة : النهر الشديد الجري ، والنفس - لكثرة انتقالها بالفكر ، والعربون : ما عقد به المبايعة من الثمن ، فنقل السلعة من حال إلى حال ، واستعربت البقر : اشتهت الفحل ، إما من العروب العاشقة لزوجها ، وإما لنقل الشهوة لها من حال إلى أخرى ، وتعرب : أقام بالبادية ، مع الأعراب الذين لا يوطنون مكاناً ، وإنما هم مع الربيع ، وعروباء : اسم السماء السابعة - لارتفاعها عن جميع السماوات ، فكأنها جازت الكل ، ولأن حركتها حركة للكل ، والعرب - بالكسر : يبيس البهمي ، لأنه صار أهلاً للنقل ولو بتطيير الهواء ، والعربي : شعير أبيض سنبله حرفان - كأنه نسب إلى العرب لجودته ، والإعراب : إجراء الفرس ومعرفتك بالفرس العربي من الهجين - لانتقال حال الجهل بذلك إلى حال العلم ، وأن لا يلحن في الكلام - كأنه انتقل بذلك من العجمة إلى العربية ، وعرب الرجل - بالكسر - إذا أتخم ، وكذا الفرس من العلف ، ومعدته : فسدت ، وجرحه : بقي به أثر بعد البرء ، كل ذلك ناقل من حال إلى غيرها ، والتعريب : تهذيب المنطق من اللحن - كأنه رفع نفسه إلى العرب ، وقطع سعف النخل - لأنه نقلها عن حالها إلى أصلح منه ، وأن تكون الدابة على أشاعرها ثم تبزع بمبزع ، والتعريب أيضاً والإعراب : ما قبح من الكلام ، وتقبيح قول القائل كأنه حكم بزوال عربيته ، وهما أيضاً الرد عن القبيح ، وذلك إدخاله في خصال العرب التي هي معالي الأخلاق ، وهما أيضاً النكاح ، أو التعريض به لأن نقله من حال إلى حال وفعل إلى فعل قولاً وعملاً ، والتعريب : الإكثار من شرب الماء الصافي ، واتخاذ فرس عربي ، وسما بها عريب ، أي أحد يعرب؛ وعبر الرؤيا - إذا فسرها وأخبر بما يؤول إليه أمرها ، كأنه جاز ظاهرها إلى بطن منها ، وعبرت الكتاب أعبره عبراً : تدبرته ولم ترفع به صوتك ، وعبرت النهر : قطعته من عبره - أي شطه - إلى عبره ، والعبر أيضاً : الجانب ، لأنه يعبر منه وإليه ، والمعبر : سفينة يعبر عليها النهر وشط هيىء للعبور ، وعبر القوم : ماتوا ، والعبرة - بالكسر : العجب ، وبالفتح : الدمعة قبل أن تفيض - كأن لها قوة الجري ، أو هي تردد البكاء في الصدر أو الحزن بلا بكاء ، لأن ذلك مبدأ جري الدمع؛ وفي مختصر العين : وعبرة الدمع : جريه ، والعبرة : الدمع نفسه .

والعبر - بالضم ويحرك : سخة العين ، والكثير من كل شيء ، وبالجماعة - لأن ذلك جوازعن حد القلة ، ولأنهم يجيزون ما شاؤوا ، ومجلس عبر - بالكسر والفتح : كثير الأهل - من ذلك ، وأيضاً هو أهل لأن يعبر بجماعته من حال إلى حال ، وبامرأة مستعبرة - وتفتح الباء : غير محظية ، أي هي أهل لجري العبرة ، وناقة عبر أسفار - مثلثة قوية ، وعبرت عن الرجل فتكلمت عنه - كأنك عبرت من خاطره إلى خاطر المخاطب ، وعبرت الدنانير تعبيراً : وزنتها ولم تبالغ في وزنها - كأنك عبرت من الجهل بمقدارها إلى الظن ، أو عابر سبيل ، أحي مار؛ والشعري : العبور : نجم خلف الجوزاء ، والعبور : الجذعة من الغنم - لأنها جازت سنة وتأهلت العبور مع الغنم وكانت في عدادها ، والعبور : لأقلف - لأن كمرته عابرة في قلفته ، وغلام معبر : لم يختن ، ورجل عبر : كاد أن يحتلم ولم يختن بعد ، أي كاد أن يصير إلى خذ البالغين على هذه الحال ، وهي أن كمرته عابرة في قلفته ، وعبر به الأمر تعبيراً : اشتد عليه - كأنه جاز من حالة الرخاء إلى الشدة وعبرت به أهلكته ، والمعبرة - بالتخفيف : ناقة لم تنتج ثلاث سنين ، فيكون أصلب لها - لأنها صارت أهلاً لأن يعبر عليها في الأسفار ، والعبير ضرب من الطيب - لعبور ريحه ، والزعفران - لعبور لونه وريحه ، والعبرى : السدر النهري - لنباته في عبر النهر ، والمعبر من الجمال : الكثير الوبر ، ومن الشاء : التي لم تجز - كأنه لجواز الصوف عن حد جلدهما ، وسهم معبر وعبير : كثير الريش - كأنه عبر عن حد العادة ، والعبر - بالضم : الثكلى ، لأنها أهل لإرسال العبرة ، والسحاب التي تسير شديداً ، والعقاب - لقوتها على قطع المسافات ، ونبات عبر : الكذب والباطل - لسرعة زواله؛ ورعبت فلاناً : أفزعته ، فهو مرعوب - لأنك أجزته من الأمن إلى الخوف ، وسيل راعب : أي يملأ الوادي ، وراعب : أرض ، منها الحمام الراعبية ، والحمام أيضاً لها قوة العبور بالرسائل من مكان إلى مكان ، ورعبت الحمامة في صوتها ترعيباً : رفعته ، ورعبت السنام : قطعته ، والرعبوبة : قطعة منه - لأنها جازت مكانها ، وجارية رعبوبة ورعبوب : حسنة القوام تامة - كأنها جازت أقرانها حسناً ، والرعب : القصار ، واحدهم رعيب وأرعب ، تشبيه بالقطعة من السنام؛ والبعر : رجيع الخف والظلف إلا البقر الأهلية ، لأنها تخثى ، والوحشية تبعر بعراً - لأنه يجوز من مكانه من غير أن يلوثه ، فلا يبقى منه به شيء ، والمعبر ، مكانه ، والبعير : الجمل البازل أو الجذع ، وقد يكون الحمار وكل ما يحمل؛ وفي مختصر العين : وإذا رأت العرب ناقة أو جملاً من بعيد قالوا : هذا بعير ، فإذا عرفوا قالوا للذكر : جمل ، وللأنثى : ناقة ، والبعرة - بالتحريك : الكمرة ، تشبيهاً بها ، والربع : المنزل والدار بعينها ، والمحلة - لأنها يخرج منها ويدخل إليها ، ولذلك سميت متبوأ ، لأنها يتبوأ إليها ، أي يرجع ، وربع يربع : أقام ، وأربع على نفسك : انتظر ، كأنه من الربع ، أي المنزل ، لأنه يقام فيه : وربع - إذا أخصب - للانتقال من حال إلى حال أخرى ، وهم على ربعاتهم ، أي استقامتهم وأمرهم الأول - كأنه من المنزل ، والروبع - كجوهر : الضعيف الدنيء - كأن ذلك يلزم من الإقامة في المنزل ، وبهاء : قصير العرقوب ، والرجل القصير - كأنه تشبيه بالربعة في مطلق القصر عن الطويل ، وربع الحجر : رفعه ، والحمل : رفعه على الدابة ، والمربوع : المنعوش المنفس عنه - لتحول الحال في كل ذلك ، والمربعة : خشبة يرفع بها العدل ، والمرابعة : أن تأخذ يد صاحبك وترفعا الحمل على الدابة - كأنه مع النقل مأخوذ من الأربعة ، وهي أيضاً المعادلة بالربيع ، ومنه تربعت الناقة سناماً طويلاً ، أي حملته ، وربيع الشهور : شهران بعد صفر ، وربيع الفصول اثنان الذي فيه النور والكمأة ، والذي تدرك فيه الثمار - للانتقال في كل منهما ، والربع - كصرد : الفصيل ينتج في الربيع ، وناقة مربع : ذات ربع ، وأربع القوم : صاروا أربعة ، ودخلوا في الربيع ، وأقاموا في المربع ، وربعت الأرض : أصابها مطر الربيع ، والمرابيع : الأمطار أول الربيع ، وأربع الرجل - إذا ولد له في شبابه ، تشبيهاً للشباب بالربيع ، وناقة مرباع - إذا كانت عادتها أن تنتج في ربعية القيظ ، والربعية : أول الشتاء ، والربيع : الجدول - لجريه وإنبات ما حوله ، وجمعه أربعاء ، والحجر يشيلونه لتجربة القوى ، والرابع تلو الثالث - لأنه جاز الجمع ، ووتر وحبل مربوع : مفتول على أربع قوى ، وربعتُ القوم أربعهم : صرت رابعهم ، والأربعاء : يوم ، والمرباع : ربع الغنيمة الذي كان يأخذه الرئيس ، والرباعية - كثمانية : السن بين الثنية والناب ، وعدتها أربع ، وكل ما بلغ الأربعة رباع كثمان ، ويقول للغنم في الرابعة وللبقر والحافر في الخامسة وللخف في السابعة : أربعت ، كأنه لا يجوز في كل نوع من حد الصغر إلى الكبر إلا بذلك ، وأربع الفرس : ألقى رباعيته ، وحمى ربع : تأتي في اليوم الرابع ، وقد ربع الرجل وأربع ، وهو معنى ما قال في القاموس : وربعته الحمى : أخذته الحمى يوماً بعد يومين ، لأن يومها الثاني هو رابع يومها الأول ، والربعة - بالفتح : جونة العطار - لتضوع ريحها ، والرجل بين الطويل والقصير - ويحرك - كالمربوع ، لجوازه حد كل منهما ، هذا إلى الطول ، وهذا إلى القصر ، وارتبع : صار ربعة ، والربعة - محركة : أشد عدو الإبل ، والمسافة بين أثافي القدر - لعبور كل منهما عن محل صاحبتها ، وأربع ماء الركية : كثر ، فجاز عن محله الأول ، وعلى فلان : سأله ثم ذهب ثم عادوه ، وعلى المرأة : كر إلى جماعها ، والقوم إبلهم مكان كذا : رعوها وأرسلوها على الماء ترد متى شاءت ، ويجوز أن يكون هذا أيضاً من الربيع ، وأربعت الناقة - إذا استغلقت رحمها فلم تقبل الماء ، كأنها أزالت العبور ، أي الانتقال من حال إلى أخرى ، والربيعة : البيضة من السلاح - لنقلها صاحبها إلى الحصانة ، والروضة - لجواز النبت فيها عن حد الأرض ، والمربع : شراع السفينة - لأنه آلة السير ، والمربع : الرجل الكثير النكاح - لعبوره عن حالة الأولى ، ولجلوسه بين الشعب الأربع ، وتربع في جلوسه ضد جثا ، إما لأنه صار على شكل المربع ، وإما أخذا من الربع إلى المنزل ، لأنها جلسة المقيم في منزله ، وتربعت النخيل : خرقت وصرمت - لتحول حالها ، واستربع الرمل : تراكم ، إما لجوازه عن حاله الأولى ، وإما من الإقامة في الربع ، واستربع الغبار ، ارتفع ، والبعير للمسير : قوى عليه وصبر ، والرجل بالأمر : استقل وصبر ، وفلان يقيم رباعة قومه ، أي شأنهم وحالهم أي يجيزهم من حال إلى أخرى ، ومضى من بني فلان ربوع بعد ربوع ، أي أحياء بعد أحياء ، إما لأن ذلك جواز من دار إلى دار وحال إلى حال ، وإما على حذف مضاف ، أي أهل ربوع منازل ، واليربوع : دابة كالفأرة ، إما لشدة جريها ، وإما لجعلها نافقاءين تهرب من أيهما شاءت ، فهي عبارة منتقلة بالقوة وإن كانت ساكنة ، واليربوع : لحمة المتن - كأنه مشبه بالدابة؛ وبرع الرجل - مثلثة : فاق أصحابه في علم أو غيره ، أو تم في كل فضيلة وجمال ، وهذا أبرع منه : أضخم - لأنه جاز مقداره ، والبارع : الأصيل الجيد الرأي ، وتبرع بالعطاء : تفضل بما لا يجب عليه من عند نفسه كأنه جاز رتبة الواجب - والله أعلم .

وفي الآية ما يوجبه حال العلماء من حاجة الملوك إليهم ، فكأنه قيل : فما قالوا؟ فقيل : { قالوا } هذه الرؤيا { أضغاث } أي أخلاط ، جمع ضغث - بكسر الضاد وإسكان الغين المعجمة ، وهو قبضه حشيش مختلطة الرطب باليابس { أحلام } مختلفة مشتبهة ، جمع حلم - بضم الحاء وإسكان اللام وضمه ، وهو الرؤيا - فقيدوها بالأضغاث ، وهو ما يكون من الرؤيا باطلاً - لكونه من حديث النفس أو وسوسة الشيطان ، لكونها تشبه أخلاط النبات التي لا تناسب بينها ، لأن الرؤيا تارة تكون من الملك وهي الصحيحة ، وتارة تكون من تحريف الشيطان وتخليطاته ، وتارة من حديث النفس؛ ثم قالوا : { وما نحن } أي بأجمعنا { بتأويل } أي ترجيع { الأحلام } أي مطلق الأضغاث وغيرها ، وأعرقوا في النفي بقولهم : { بعالمين * } فدلسوا من غير وجه ، جمعوا - وهي حلم واحد - ليجعلوها أضغاثاً لا مدلول لها ، ونفوا عن أنفسهم « العلم المطلق » المستلزم لنفي « العلم بالمقيد » بعد أن أتوا بالكلام على هذه الصورة ، ليوهموا أنهم ما جهلوها إلا لكونها أضغاثاً - والله أعلم؛ والقول : كلام متضمن بالحكاية في البيان عنه ، فإذا ذكر أنه قال ، اقتضى الحكاية لما قال ، وإذا ذكر أنه تكلم ، لم يقتض حكاية لما تكلم به ، ومادة « حلم » بجميع تقاليبها تدور على صرف شيء عن وجهه وعادته وما تقتضيه الجبلة - كما يأتي في الرعد في قوله : { شديد المحال } [ الرعد : 13 ] .

وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)

ولما كان هذا حالاً مذكراً للساقي بيوسف عليع الصلاة والسلام - أخبر سبحانه بأنه ذكره بعد نسيانه ، فقال عادلاً عن الفاء إيذاناً بأنه من الملا : { وقال الذي نجا } أي خلص من الهلاك { منهما } أي من صاحبي السجن ، وهو الساقي { و } الحال أنه { ادكر } - بالمهملة ، أي طلب الذكر - بالمعجمة ، وزنه افتعل { بعد أمة } من الأزمان ، أي أزمان مجتمعة طويلة { أنا أنبئكم } أي أخبركم إخباراً عظيماً { بتأويله } أي بتفسير ما يؤول إليه معنى هذا الحلم وحده كما هو الحق ، وسبب عن كلامه قوله : { فأرسلون * } أي إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فإنه أعلم الناس ، فأرسلوه إليه؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما : ولم يكن السجن في المدينة ، فأتاه فقال الساقي المرسل بعد وصوله إليه منادياً له بالنداء القرب تحبباً إليه : { يوسف } وزاد في التحبب بقوله : { أيها الصديق } أي البليغ في الصدق والتصديق لما يحق تصديقه بما جربناه منه ورأيناه لائحاً عليه { أفتنا } أي اذكر لنا الحكم { في سبع } وميز العدد بجمع السلامة الذي هو للقلة - كما مضى لما مضى - فقال : { بقرات سمان } أي رآهن الملك { يأكلهن سبع } أي من البقر { عجاف } أي مهازيل جداً { و } في { سبع سنبلات } جمع سنبلة ، وهي مجمع الحب من الزرع { خضر و } في سبع { أخر } أي من السنابل { يابسات } وساق جواب السؤال سياق الترجي إما جرياً على العوائد العقلاء في عدم البتّ في الأمور المستقبلة ، وإما لأنه ندم بعد إرساله خوفاً من أن يكون التأويل شيئاً لا يواجه به الملك ، فعزم على الهرب - على هذا التقدير ، وإما استعجالاً ليوسف عليه الصلاة والسلام بالإفتاء ليسرع في الرجوع ، فإن الناس في غاية التلفت إليه ، فقال : { لعلي أرجع إلى الناس } قبل مانع يمنعني .
ولما كان تصديقهم ليوسف عليه الصلاة والسلام وعلمهم بعد ذلك بفضله وعملهم بما أمرهم به مظنوناً ، قال : { لعلهم يعلمون * } أي ليكونوا على رجاء من أن يعلموا فضلك أو ما يدل ذلك عليه من خير أو شر فيعلموا لكل حال ما يمكنهم عمله ، فكأنه قيل : فما قال له؟ فقيل : { قال } : تأويله أنكم { تزرعون } أي توجدون الزراعة . فهو إخبار بمغيب ، فهو أقعد في معنى الكلام ، ويمكن أن يكون خبراً بمعنى الأمر { سبع سنين دأباً } أي دائبين مجتهدين - والدأب : استمرار الشيء على عادته - كما أشارت إليه رؤياك بعصر الخمر الذي لا يكون إلا بعد الكفاية ، ودلت عليه رؤيا الملك للبقرات السمان والسنابل الخضر ، والتعبير بذلك يدل على أن هذه السبع تكون - كما تعرفون - من أغلب أحوال الزمان في توسطه بخصب أرض وجدب أخرى ، وعجز الماء عن بقعة وإغراقه لأخرى - كما أشار إليه الدأب : ثم أرشدهم إلى ما يتقوون به على ما يأتي من الشر ، فقال : { فما حصدتم } أي من شيء بسبب ذلك الزرع - والحصد : قطع الزرع بعد استوائه - في تلك السبع الخصبة { فذروه } أي اتركوه على كل حال { في سنبله } لئلا يفسد بالسوس أو غيره { إلا قليلاً مما تأكلون } قال أبو حيان : أشار برأي نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل - انتهى .

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)

ولما أتم المشورة ، رجع إلى بقية عبارة الرؤيا ، فقال : { ثم يأتي } ولما كانت مدة الإتيان غير مستغرقة لزمان البعد ، أتى بالجار فقال : { من بعد ذلك } أي الأمرالعظيم ، وهي السبع التي تعملون فيها هذا العمل { سبع } أي سنون { شداد } بالقحط العظيم ، وهن ما أشارت إليه رؤيا صاحبك الذي طار برزقه الطيور ، وسار بروحه غالب المقدور ، ودلت عليه رؤيا الملك من البقرات العجاف والسنابل اليابسات { يأكلن } أسند الأكل إليهن مجازاً عن أكل أهلهن تحقيقاً للأكل { ما قدمتم } أي بالادخار من الحبوب { لهن } والتقديم : التقريب إلى جهة القدام ، وبشرهم بأن الشدة تنقضي ولم يفرغ ما أعدوه ، فقال : { إلا قليلاً مما تحصنون * } والإحصان : الإحراز ، وهو إلقاء الشيء فيما هو كالحصن المنيع - هذا تعبير الرؤيا ، ثم زادهم على ذلك قوله : { ثم يأتي } وعبر بالجار لمثل ما مضى فقال : { من بعد ذلك } أي الجدب العظيم { عام } وهو اثنا عشر شهراً ، ونظيره الحول والسنة ، وهو مأخوذ من العلوم - لما لأهله فيه من السبح الطويل - قاله الرماني . والتعبير به دون مرادفاته إشارة إلى أنه يكون فيه - من السعة بعموم الريّ وظهور الخصب وغزير البركة - أمر عظيم ، ولذا اتبعه بقوله : { فيه } .
ولما كان المتشوف إليه الإغاثة ، على أنه من المعلوم أنه لا يقدر عليها إلا الله ، قال بانياً للمفعول : { يغاث الناس } من الغيث وهو المطر ، أو من الغوث وهو الفرج ، ففي الأول يجوز بناءه من ثلاثي ومن رباعي ، يقال غاث الله الأرض وأغاثها : أمطرها ، وفي الثاني هو رباعي خاصة ، يقال : استغاث به فأغاثه ، من الغوث وهو واوي ، ومعناه النفع الذي يأتي على شدة حاجته بنفي المضرة ، والغيث يائي وهو المطر الذي يأتي في وقت الحاجة { وفيه } أي ذلك العام الحسن .
ولما كان العصر للأدهان وغيرها لا يكون إلا عن فضله ، قال : { يعصرون * } أي يخرجون عصارات الأشياء وخلاصاتها ، وكأنه أخذ من انتهاء القحط ابتداء الخصب الذي دل عليه العصر في رؤيا السائل ، والخضرة والسمن في رؤيا الملك فإنه ضد القحط ، وكل ضدين انتهاء أحدهما ابتداء الآخر لا محالة ، فجاء الرسول فأخبر الملك بذلك ، فأعجبه ووقع في نفسه صدقه { وقال الملك } أي الذي العزيز في خدمته { ائتوني به } لأسمع ذلك منه وأكرمه ، فأتاه الرسول ليأتي به إلى الملك { فلما جاءه } أي يوسف عليه الصلاة والسلام عن قرب من الزمان { الرسول } بذلك وهو الساقي { قال } له يوسف : { ارجع إلى ربك } أي سيدك الملك { فاسأله } بأن تقول له مستفهماً { ما بال النسوة } ولوح بمكرهن به ولم يصرح ، ولا ذكر امرأة العزيز كرماً وحياء فقال : { التي قطعن أيديهن } أي ما خبرهن في مكرهن الذي خالطني ، فاشتد به بلائي فإنهن يعلمن أن امرأة العزيز ما دعتهن إلا بعد شهادتهن بأنها راودتني ، ثم اعترفت لهن بأنها راودتني ، وأني عصيتها أشد عصيان ، فإذا سألهن بان الحق ، فإن ربك جاهل بأمرهن .

ولما كان هذا موطناً يسأل فيه عن علم ربه سبحانه لذلك ، قال مستأنفاً مؤكداً لأنهم عملوا في ذلك الأمر بالجهل عمل المكذب بالحساب الذي هو نتيجة العلم : { إن ربي } أي المدبر لي والمحسن إلي بكل ما أتقلب فيه من شدة ورخاء { بكيدهن } لي حين دعونني إلى طاعة امرأة العزيز { عليم * } وأنا لا أخرج من السجن حتى يعلم ربك ما خفي عنه أمرهن الذي علمه ربي ، لتظهر براءتي على رؤوس الأشهاد مما وصموني به من السجن الذي من شأنه أن لا يكون إلا عن جرم ، وإن لم تظهر براءتي لم ينقطع عني كلام الحاسدين ، ويوشك أن يسعوا في حط منزلتي عند الملك ، ولئلا يقولوا : ما لبث هذا السجن إلا لذنب عظيم فيكون في ذلك نوع من العار لا يخفى ، وفي هذا دليل على أن السعي في براءة العرض حسن ، بل واجب ، وأخرج الكلام على سؤال الملك عن أمرهن - لا على سؤاله في أن يفحص عن أمرهن - لأن سؤال الإنسان عن علم ما لم يعلم يهيجه ويلهبه إلى البحث عنه ، بخلاف سؤاله في أن يفتش لغيره ، ليعلم ذلك الغير ، فأراد بذلك حثه لأن يجدّ في السؤال حتى يعلم الحق ، ليقبل بعد ذلك جميع ما حدثه به؛ والكيد : الاحتيال في إيصال الضرر .
وإنما فسرت « بال » بذلك لأن مادته - يائية بتراكيبها الخمسة : بلى ، وبيل ، ولبى ، وليب ، ويلب ، وواوية بتراكيبها الستة : بول ، وبلو ، وولب ، ووبل ، ولوب ، ولبو ، ومهموزة - بتراكيبها الأربعة : لبأ ، وبأل ، وأبل وألب - تدور على الخلطة المحيلة المميلة ، وكأن حقيقتها البلاء بمعنى الاختبار والامتحان والتجربة ، ويكون في الخير والشر ، أي خالطه بشيء يعرف منه خفي أمره؛ قال القزاز : والفتنة تكون في الشر خاصة ، والبلاء : النعمة ، من قولك : أبليته خيراً - إذا اصطنعته عنده ، وقد تقدم في سورة الأنفال شيء من معاني المادة ، وناقة بلو سفر وبلى سفر - إذا أنضاها السفر ، وإذا كانت قوية عليه ، والبلوى : البلية ، وأبليت فلاناً عذراً ، أي جئت فيما بيني وبينه ما لا لوم فيه ، أي خالطته بشيء أزال اللوم ، والبلية : دابة كانت تشد في الجاهلية عند قبر صاحبها ولا تعلف ولا تسقي حتى تموت ، ويقال : الناس بذي بلى وبذي بليان ، أي متفرقين ، كأن حقيقته أنه حل بهم صاحب خلطة شديدة فرقت بينهم ، وبلى الشيء - بالكسر بلى مقصوراً وبلاء ممدوداً - إذا فنى وعطب ، وبلي فلان بكذا - مبنياً للمفعول ، وابتلى به - إذا أصابه ذلك؛ والبول : ولد الرجل ، والعدد الكثير ، والانفجار ، وضد الغائط ، ولا ريب أن كلاً من ذلك إذا خالطه الحيوان أحال حاله؛ والبال : الاكتراث والفكر والهم ، ومن ذلك عندي : ما باليت به : لم أكترث به ، وكذا ما أباليه بالة ، وهي مصدر منه ، ولم أبال به ، ولم أبل ، ولكنهم قلبوه من : باولت به ، لئلا يلتبس بالبول - والله أعلم ، وحقيقتهما : ما استعملتُ بالي الذي هو فكري فيه وإن أعمل هو فكره في أمري ، أي إنه أقل من أن يفكر في أمره ، ومن المعلوم أن الفكر محل الخلطة المميلة ، والبال : المر الذي يعتمل به في أرض الزرع - لمشقة العمل به ، والبال : سمكة غليظة تسمى جمل البحر - لأن من خالطته أحالت أمره ، والبال : رخاء العيش ، والحال ، والبالة : القارورة - كأنها من البول ، والجراب ، ووعاء الطيب ، والولب : الوصل ، ولبت الشيء : وصلته ، وولب هو : وصل ودخل وأسرع ، والوالب : الذاهب في وجهه - كأنه خالطه من الهم ما حمله على ذلك ، وولب الزرع - إذا صارت له والبة ، وهي أفراخ تولدت من أصوله ، والوالبة : نسل القوم ، ونسل المال ، والوالبة : سريع النبات؛ ولاب يلوب - إذا عطش ، واللابة : الحرة ، وهي مكان ذو حجارة سود كبيرة متصلة صلبة حسنة ، فمن خالطها أتعبته وأعطشته ، وبها سميت الإبل السود المجتمعة ، والصمان ، واللابة : شقشقة البعير ، وهي شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج - كأنها هي التي أهاجته ، والملاب : ضرب من الطيب ، والزعفران ، والملوب - كمعظم - من الحديد : الملوى ، واللوب - بالضم : البضعة التي تدور في القد - لأنها تغير ما في القدر بدورانها ، واللواب أيضاً : اللعاب ، والأب : عطشت إبله ، واللبوة : أنثى الأسد؛ والوابل : المطر الكثير الشديد الوقع الضخم القطر ، والوابلة : نسل الإبل والغنم ، ورأس العضد الذي في الحق ، وما التف من لحم الفخذ ، والموابلة : المواظبة ، والميبل : ضفيرة من قد مركبة في عود تضرب به الإبل ، ووبل الصيد : طرد حثيث شديد ، بالنعجة وبلة شديدة - إذا أرادت الفحل ، والوبال : الشدة وسوء العاقبة ، وهو من الشدة والثقل ، وأصابه وبل الجوع ، أي جوع شديد ، والوبيل : المرعى الوخيم ، واستوبلت الأرض - إذا لم توافقك في مطعمك وإن كنت محباً لها ، وهي من الوبيل - للطعام الذي لا يشتهي ، والوبيل من العقوبة : الشديدة ، وهو أيضاً العصا ، وخشبة القصار التي يدق بها الثياب بعد الغسل ، وخشبة صغيرة يضرب بها الناقوس ، والحزمة من الحطب؛ وبلى : حرف يجاب بها الاستفهام الداخل على كلام منفي فتحيله إلى الإثبات بخلاف « نعم » فإنه يجاب بها الكلام الموجب ، وتأتي « بلى » في النفي من غير استفهام ، يقال : ما أعطيتني درهماً ، فتقول : بلى؛ ولبى من الطعام - كرضى : أكثر منه ، واللباية - بالضم : شجر الأمطىّ؛ واللياب - بتقديم التحتانية وزن سحاب : أقل من ملء الفم؛ واليلب - محركة : الترسة ، ويقال : الدرق ، والدروع من الجلود ، أو جلود يخرز بعضها إلى البعض ، تلبس على الرؤوس خاصة ، والعظيم من كل شيء ، والجلد؛ والأبيل - كأمير : العصا ، والحزين - بالسريانية ، ورئيس النصارى ، أو الراهب ، أو صاحب الناقوس ، صنيع مختصر العين يقتضي أن همزته زائدة ، وصنيع القاموس أنها أصلية ، وعلى كلا التقديرين هو من مدار المادة ، فإن من خالطته العصا غيرته ، وكذا الرئيس؛ ومن مهموزة اللبأ - كضلع : أول اللبن ، وهو أحق الأشياء بالإحالة ، وألبأ الفصيل : شدة إلى رأس الخلف - أي حلمة ضرع الناقة - ليرضع اللبأ ، ولبأت وهي ملبىء : وقع اللبأ في ضرعها ، ولا يكون ذلك إلا بما يخالطها ، فيحيل ذلك منها ، واللبء - بالفتح : أول السقي ، وهو أشد مما في الأثناء في الخلطة والإحالة ، وبهاء : الأسدة ، وخلطتها محيلة للذكور من نوعها ، ولغيرها بالنفرة منها ، وكذا اللبوة - بالواو ، وعشار ملابي - كملاقح : دنا نتاجها ، وهو واضح في الإحالة : ولبأت الشاة ولدها وألبأته : أرضعته اللبأ ، ولبأت الشاة والتبأتها : حلبت لبأها؛ والبئيل - كأمير : الصغير الضعيف ، بؤل - ككرم ، ويقال ضئيل بئيل؛ والإبل - بكسرتين وتسكن الباء - معروف ، واحد يقع على الجمع ، ليس بجمع ولا اسم جمع ، جمعه آبال ، الإحالة في خلطتها بالركوب والحمل وغيرهم واضحة ، والإبل : السحاب الذي يحمل ماء المطر ، وهو ظاهر في ذلك ، وتأبّل عن امرأته : امتنع عن غشيانها - من الإزالة ، ونسك : أي امتنع عن خلطة الدنيا المحيلة ، وبالعصا : ضرب ، ومن خالطته العصا أحالته ، وأبل العشب أبولاً : طال ، فاستمكن منه الإبل ، وهو ظاهر في الإحالة ، والإبالة - كالإجانة : القطعة من الطير والخيل والإبل أو المتتابعة منها ، من نظر شيئاً من ذلك أحاله عن حاله ، وكأمير : العصا ، ورئيس النصارى ، أو الراهب ، أو صاحب الناقوس ، وكل ذلك واضح في الإحالة ، والأبل - بالضم الباء : الحزمة من الحشيش ، وخلطتها محيلة لما يأكلها ، والإبالة - ككتابة : السياسة ، وهي في غاية الإحالة لمن خولط بها ، والأبلة - كفرحة : الحاجة والطلبة ، وهي معروفة في ذلك ، والمباركة في الإبل ، وإنه لا يأتبل : لا يثبت على رعية الإبل ولا يحسن مهنتها ، أو لا يثبت عليها راكباً ، أي إنه سريع التأثر والإحالة من خلطتها ، وتأبيل الإبل : تسمينها ، أي مخالطتها بما أحالها ، والإبلة - بالكسر : العداوة ، وإحالتها معروفة ، بالضم - العاهة ، وهي كذلك ، وبالفتح أو بالتحريك : الثقل والوخامة والإثم كذلك ، وتأبيل الميت : تأبينه ، أي الثناء عليه بعد موته ، وهو يهيج الحزن عليه ، وجاء في إبالته - بالكسر ، وأبلته - بضمتين مشددة : أصحابه ، ولا شك أن من جاء كذلك أحال من أتاه ، وضغث على إبالة كإجانة ويخفف : بلية على أخرى ، أو خصب على خصب - كأنه ضد ، وهو واضح الإحالة ، وأبلت الإبل تأبُل وتأبل أبولا وأبلا : جزأت - أي اكتفت - بالرطب عن الماء ، والرُطُب بضمتين : الإخضر من البقل والشجر أو جماعة العشب الأخضر ، والأبول : الإقامة في المرعى ، ولا شك في أن من خالطه ذلك أحاله؛ وألب إليه القوم : أتوه من كل جانب ، وذلك محيل ، وألب الإبل : ساقها ، والإبل : انساقت وانضم بعضها إلى بعض ، والحمار طريدته : طردها شديداً ، وجمع ، واجتمع ، وأسرع ، وعاد ، والإحالة في كل ذلك ظاهرة ، والسماء : دام مطرها ، أي فأحال الأرض وأهلها ، والتألب كثعلب : المجتمع منا ومن حمر الوحش والوعل ، وهي بهاء ، وما كان كذلك أحال ما خالطه ، والإلب - بالكسر : الفتر ، وشجرة كالأترج سم ، وذلك ظاهر في الإحالة ، وبالفتح : نشاط الساقي ، وميل النفس إلى الهوى ، والعطش ، والتدبير على العدو من حيث لا يعلم ، ومسك السخلة ، والسم ، والطرد الشديد ، وشدة الحمى والحر ، وابتداء برء الدمل ، وكل ذلك ظاهر الإحالة ، وريح ألوب : باردة تسفي التراب ، ورجل ألوب : سريع إخراج الدلو ، أو نشيط ، فمن خالطه أحاله ، وهم عليه ألب وإلب واحد : مجتمعون عليه بالظلم والعداوة ، وذلك محيل لا شك فيه ، والإلبة بالضم : المجاعة ، وبالتحريك : اليلبة ، والتأليب : التحريض والإفساد ، وكل ذلك ظاهر في الإحالة ، وكذا المئلب - للسريع ، والألب : الصفو ، وهو محيل ، والألب - بالتحريك : اليلب ، وقد مضى أنها الترسة - والله أعلم .

ولما قال يوسف عليه الصلاة والسلام ذلك وأبى أن يخرج من السجن قبل تبين الأمر ، رجع الرسول إلى الملك فأخبره بما قال عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل : فما فعل الملك؟ فقيل : { قال } للنسوة بعد أن جمعهن : { ما خطبكن } أي شأنكن العظيم؛ وقوله : { إذ راودتن } أي خادعتن بمكر ودوران ومراوغة { يوسف عن نفسه } دليل على أن براءته كانت متحققة عند كل من علم القصة ، فكأن الملك وبعض الناس - وإن علموا مراودتهن وعفته - ما كانوا يعرفون المراودة هل هي لهن كلهن أو لبعضهن ، فكأنه قيل : ما قلن؟ فقيل : مكرن في جوابهن إذ سألهن عما عملن من السوء معه فأعرضن عنه وأجبن بنفي السوء عنه عليه الصلاة والسلام ، وذلك أنهن { قلن حاش لله } أي عياذاً بالملك الأعظم وتنزيهاً له من هذا الأمر ، فأوهمن بذلك براءتهن منه؛ ثم فسرن هذا العياذ بأن قلن تعجباً من عفته التي لم يرين مثلها ، ولا وقع في أوهامهن أن تكون لآدمي وإن بلغ ما بلغ : { ما علمنا عليه } أي يوسف عليه الصلاة والسلام ، وأعرقن في النفي فقلن : { من سوء } فخصصنه بالبراءة ، وهذا كما تقدم عند قول الملأ { أضغاث أحلام } هذا وهو جواب للملك الذي تبهر رؤيته وتخشى سطوته ، فكان من طبع البلد عدم الإفصاح في المقال - حتى لا ينفك عن طروق احتمال فيكون للتفصي فيه مجال - وعبادة الملوك إلا من شاء الله منهم .

ولما تم ذلك ، كان كأنه قيل : فما قالت التي هي أصل هذا الأمر؟ فقيل : { قالت امرأت العزيز } مصرحة بحقيقة الحال : { الآن حصحص الحق } أي حصل على أمكن وجوهه ، وانقطع عن الباطل بظهوره ، من : حص شعره . إذا استأصل قطعه بحيث ظهر ما تحته ، ومنه الحصة : القطعة من الشيء ، ونظيره : كب وكبكب ، وكف وكفكف ، فهذه زيادة تضعيف ، دل عليه الاشتقاق وهو قول الزجاج - قاله الرماني . ووافقه الرازي في اللوامع وقال : وقال الأزهري : هو من حصحص البعير : أثرت ثفناته في الأرض إذا برك حتى تستبين آثارها فيه { أنا راودته } أي خادعته وراودته { عن نفسه } وأكدت ما أفصحت به مدحاً ونفياً لكل سوء بقولها مؤكداً لأجل ما تقدم من إنكارها : { وإنه لمن الصادقين * } أي العريقين في هذا الوصف في نسبة المراودة إليّ وتبرئة نفسه ، فقد شهد النسوة كلهن ببراءته ، وإنه لم يقع منه ما ينسب به شيء من السوء إليه ، فمن نسب إليه بعد ذلك هماً أو غيره فهو تابع لمجرد الهوى في نبي من المخلصين .

ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)

ولما انجلى الأمر ، أمر الملك بإحضاره ، ليستعين به فيما إليه من الملك ، لكن لما كانت براءة الصديق أهم من ذلك - وهي المقصود من رد الرسول - قدم بقية الكلام فيها عليه ، وليكون كلامه في براءته متصلاً بكلام النسوة في ذلك ، والذي دل على أن ذلك كلامه ما فيه من الحكم التي لا يعرفها في ذلك الزمان غيره ، فقال - بناء على ما تقديره : فلما رجع الرسول إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فأخبره بشهادتهن ببراءته قال - : { ذلك } أي الخلق العظيم في تثبتي في السجن إلى أن تبين الحق { ليعلم } العزيز علماً مؤكداً { أني لم أخنه } أي في أهله ولا في غيرها { بالغيب } أي والحال أن كلاً منا غائب عن صاحبه { و } ليعلم بإقرارها وهي في الأمن والسعة ، وتثبتي وأنا في محل الضيق والخوف ما من شأنه الخفاء عن كل من لم يؤيده الله بروح منه من { إن الله } أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال { لا يهدي } أي يسدد وينجح بوجه من لوجوه { كيد الخائنين } أي العريقين في الخيانة ، بل لا بد أن يقيم سبباً لظهور الخيانة وإن اجتهد الخائن في التعمية؛ والخيانة : مخالفة الحق بنقض العهد العام . وضدها الأمانة ، والغدر : نقضه خاصاً ، والمعنى أني لما كنت بريئاً سدد الله أمري ، وجعل عاقبتي إلى خير كبير وبراءة تامة ، ولما كان غيري خائناً ، أنطقه الله بالإقرار بها .
ولما كان ذلك ربما جر إلى الإعجاب ، قال : { وما أبرىء } أي تبرئة عظيمة { نفسي } عن مطلق الزلل وإن غلبه التوفيق والعصمة ، أي لم أقصد بالبراءة عما تقدم مجرد التزكية للنفس ، وعلل عدم التبرئة بقوله - مؤكداً لما لأكثر الناس من الإنكار ، أو لأن اتباعهم لأهويتهم فعل من ينكر فعل الأمارة - : { إن النفس } أي هذا النوع { لأمارة } أي شديدة الأمر { بالسوء } أي هذا الجنس دائماً لطبعها على ذلك في كل وقت { إلا ما } أي وقت أن { رحم ربي } بكفها عن الأمر به أو بستره بكفها عن فعله بعد إطلاقها على الأمر به ، أو إلا ما رحمه ربي من النفوس فلا يأمر بسوء؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً دفعاً لظن من يظن أنه لا توبة له : { إن ربي } أي المحسن إليّ { غفور } أي بليغ الستر للذنوب { رحيم * } أي بليغ الإكرام لمن يريد .
ولما أتم ما قدمه مما هو الأهم - من نزاهة الصديق ، وعلم الملك ببراءته وما يتبعها - على ما كان قلبه من أمر الملك بإحضاره إليه ، أتبعه إياه عاطفاً له على ما كان في نسقه من قوله { قال ما خطبكن } فقال : { وقال الملك } صرح به ولم يستغن بضميره كراهية الإلباس لما تخلل بينه وبين جواب امرأة العزيز من كلام يوسف عليه الصلاة والسلام ، ولو كان الكل من كلامها لاستتغنى بالضمير ولم يحتج إلى إبرازه { ائتوني به أستخلصه } أي أطلب وأوجد خلوصه { لنفسي } أي فلا يكون لي فيه شريك ، قطعاً لطمع العزيز عنه ، ودفعاً لتوهم أنه يرده إليه ، ولعل هذا هو مراد يوسف عليه الصلاة والسلام بالتلبث في السجن إلى إنكشاف الحال ، خوفاً من أن يرجع إلى العزيز فتعود المرأة إلى حالها الأولى فيزداد البلاء .

ولما كان التقدير : فرجع رسول الملك إليه فأخبره أن الملك سأل النسوة فقلن ما مضى ، وأمر بإحضاره ليستخلصه لنفسه ، فقال يوسف عليه الصلاة والسلام ما تقدم من تلك الحكم البالغة ، وأجاب أمر الملك فأتى إليه بعد أن دعا لأهل السجن فقال : اللهم! عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار ، وكتب على باب السجن : هذه منازل البلوى ، وقبور الأحياء ، وبيوت الأحزان ، وتجربة الأصدقاء ، وشماتة الأعداء . ثم اغتسل وتنظف ولبس ثياباً جدداً وقصد إليه ، عطف عليه بالفاء - دليلاً على إسراعه في ذلك - قوله : { فلما كلمه } وشاهد الملك فيه ما شاهد من جلال النبوة وجميل الوزارة وخلال السيادة ومخايل السعادة { قال } مؤكداً تمكيناً لقوله دفعاً لمن يظن أنه بعد السجن وما قاربه لا يرفعه هذه الرفعة : { إنك اليوم } وعبر بما هو لشدة الغرابة تمكيناً للكلام أيضاً فقال : { لدينا مكين } أي شديد المكنة ، من المكانة ، وهي حالة يتمكن بها صاحبها من مراده { أمين * } من الأمانة ، وهي حال يؤمن معها نقض العهد ، وذلك أنه قيل : إن الملك كان يتكلم بسبعين لساناً فكلمه بها ، فعرفها كلها ، ثم دعا للملك بالعبراني ، فلم يعرفه الملك فقال له : ما هذا اللسان؟ قال : لسان آبائي ، فعظم عنده جداً ، فكأنه قيل : فما قال الصديق؟ فقيل : { قال } ما يجب عليه من السعي في صلاح الدين والدنيا { اجعلني } قيماً { على خزائن الأرض } أي أرض مصر التي هي لكثرة خيرها كأنها الأرض؛ ثم علله بما هو مقصود الملوك الذي لا يكادون يقفون عليه فقال : { إني حفيظ } أي قادر عل ضبط ما إليّ أمين فيه { عليم * } أي بالغ العلم بوجوه صلاحه واستنمائه فأخبر بما جمع الله له من أداتي الحفظ والفهم ، مع ما يلزم الحفظ من القوة والأمانة ، لنجاة العباد مما يستقبلهم من السوء ، فيكون ذلك سبباً لردهم عن الدين الباطل إلى الدين الحق .
ولما سأل ما تقدم ، قال معلماً بأنه أجيب بتسخير الله له : { وكذلك } أي ومثل ما مكنا ليوسف في قلب الملك من المودة والاعتقاد الصالح وفي قلوب جميع الناس ، ومثل ما سأل من التمكين { مكنا } أي بما لنا من العظمة { ليوسف في الأرض } أي مطلقاً لا سيما أرض مصر بتولية ملكها إياه عليها { يتبوأ } أي يتخذ منزلاً يرجع إليه ، من باء - إذا رجع { منها حيث يشاء } بإنجاح جميع مقاصده ، لدخولها كلها تحت سلطانه .

لتبقى أنفس أهل المملكة وما ولاها على يده ، فيجوز الأجر وجميل الذكر مع ما يزيد يه من علو الشأن وفخامة القدر ، فكأنه قيل : لم كان هذا؟ فقال : لأمرين : أحدهما أن لنا الأمر كله { نصيب } على وجه الاختصاص { برحمتنا } بما لنا من العظمة { من نشاء } من مستحق فيما ترون وغيره ، لا نسأل عما نفعل ، وقد شئنا إصابة يوسف بهذا ، والثاني أنه محسن يعبد الله فانياً عن جميع الأغيار { و } نحن { لا نضيع } بوجه { أجر المحسنين * } أي العريقين في تلك الصفة وإن كان لنا أن نفعل غير ذلك؛ روى أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الحكم في أول فتوح مصر من طريق الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : فأتاه الرسول فقال : ألق عنك ثياب السجن ، والبس ثياباً جدداً ، وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فلما أتاه رأى غلاماً حدثاً فقال : أيعلم هذا رؤياي ولا يعلمها السحرة والكهنة! وأقعده قدامه ثم قال : قال عثمان - يعني ابن صالح - وغيره في حديثهما : فلما استنطقه وسايله عظُم في عينه ، وجل أمره في قلبه ، فدفع إليه خاتمة وولاه ما خلف بابه - ورجع إلى ابن عباس قال : وضرب بالطبل بمصر أن يوسف خليفة الملك؛ وعن عكرمة أن فرعون قال ليوسف : قد سلطتك على مصر غير أني أريد أن أجعل كرسيّ أطول من كرسيك بأربع أصابع! قال يوسف : نعم .

وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)

ولما كان هذا مما يستعظمه الناس في الدنيا ، وكان عزها لا يعد في الحقيقة إلا إن كان موصولاً بنعيم الآخرة ، نبه على ما له في الآخرة مما لا يعد هذا في جنبه شيئاً ، فقال مؤكداً لتكذيب الكفرة بذلك : { ولأجر الآخرة خير } ولما كان سياق الأحكام على وجه عام لتعليقها بأوصاف يكون السياق مرغوباً فيها أو مرهباً منها أحسن وأبلغ ، قال : { للذين آمنوا } أي أوجدوا هذا الوصف { وكانوا } أي بجبلاتهم { يتقون * } أي يوجدون الخوف من الله واتخاذ الوقايات منه إيجاداً مستمراً ، وهو من أجلهم حظاً وأعلاهم كعباً - كما تقدم بيانه مما يدل على كمال إيمانه وتقواه .
ولما كان من المعلوم أن من هذه صفاته يقوم بما وليه أتم قيام وينظر فيه أحسن نظر ، كان كأنه قيل : فجعله الملك على خزائن الأرض فدبرها بما أمره الله به وعلمه حتى صلح الأمر وجاء الخير وذهب الشر ، وإنما طوى هذا للدلالة عليه بلوازمه من قصة إخوته التي هي المقصودة بالذات - كما سيأتي ، وقد فهم من هذه القصة أن الغالب على طبع مصر الرداءة : بغض الغريب ، واستذلال الضعيف ، والخضوع للقوي ، فإنهم أساؤوا إليه بالسجن بعد تحقق البراءة ، ثم عفا عنهم وأحسن إليهم بما استبقى به مهجهم ، ثم أعتقهم بعد أن استرقهم ، ورد إليهم أموالهم بعد أن استأصلها بما عنده من الغلال ، فجزوره على ذلك بأن استعبدوا أولاده وأولاد إخوته بعده وساموهم سوء العذاب ، وأدل دليل على أن هذا طبع البلد أن بني إسرائيل لما خرجوا مع موسى عليه الصلاة والسلام وخلصهم من جميع ذلك الذل وشرفهم بما شرفهم الله به من الآيات العظام والكتاب المبين ، كانوا كل قليل ينكثون مجترئين على ما لا يطاق الاجتراء عليه ، وإذا أمرهم عن الله بأمر جنبوا عنه - كما مضى ذلك عن التوراة في الأعراف والبقرة وغيرهما ، فعاقبهم الله بالتيه ، وكان يسميهم الجيل المعوج - لما علم من سوء طباعهم ، حتى مات كل من نشأ بأرض مصر ، ثم صار أولادهم يمتثلون الأوامر حتى ملكوا ما وعد الله به آباءهم من البلاد ، وقد ذكر ذلك في زبور داود عليه الصلاة والسلام في غير موضع ، منها في المزمور الرابع والتسعين : هلموا نسجد ونركع ونخضع أمام الرب خالقنا ، لأنه إلهنا ونحن شعب رعيته ، وضأن ماشيته ، اليوم إذا سمعتم صوته فلا تقسو قلوبكم وتسخطوه كمثل السخط يوم التجربة في البرية حيث جربني آباؤكم ، فأحصوا أعمالي ونظروها ، أربعين سنة مقتُّ ذلك الجيل وقلت : هو شعب في كل حين يطغون بقلوبهم ، فلم يعتدوا لسلبي كما أقسمت برجزي أنهم لا يدخلون راحتي . آباؤنا بمصر لم يفهموا عجائبك ، ولم يذكروا كثرة رحمتك حين أغضوك وهم صاعدون من البحر الأحمر ، فنجيتهم باسمك لتظهر عجائبك ، زجر البحر الأحمر فجف ، أجازهم في اللجج كأنهم في البر ، خلصهم من أيدي الأعداء ، وأنقذهم من أيدي المبغضين ، وأطلق الماء على مبغضيهم فلم يبق منهم واحد ، فآمنوا بكلامه ، ومجدوا بسبحته .

ثم أسرعوا فنسوا أعماله ، ولم ينتظروا إرادته ، اشتهوا شهوة في البرية ، جربوا الله حيث لا ماء ، فأعطاهم سؤلهم ، وأرسل شبعاً لنفوسهم ، أغضبوا موسى في المعسكر وهارون قديس الرب ، انفتحت الأرض ، وابتلعت داثان ، وانطبقت على جماعة بيرون ، واشتعلت النار في محافلهم ، وأحرق اللهيب الخطأة ، صنعوا عجلاً في حوريب ، وسجدوا للمنحوت ، وبدلوا مجدهم بشبه عجل يأكل عشباً ، ونسوا الله الذي نجاهم ، وصنع العظائم بمصر والعجائب في أرض حام ، والمهولات في البحر الأحمر ، قال : إنه يهلكهم لولا موسى صفيه قام بين يديه ليصرف سخطه ، لئلا يستأصلهم ، ورذلوا الأرض الشهيه ، ولم يؤمنوا بكلمته ، وتقمقموا في مضاربهم ، ولم يسمعوا قول الرب ، فرفع يده عليهم ليهلكهم في البرية ، ويفرق ذريتهم في الأمم ، ويبددهم في البلدان ، لأنهم قربوا لباعل فاغور ، وأكلوا ضحايا ميتة ، وأسخطوه بأعمالهم ، وكثر الموت فيهم بغتة ، فقام فنحاس واستغفر لهم ، فارتفع الموت عنهم ، فحسب ذلك برّاً لجيل بعد جيل إلى الأبد ، ثم أسخطوه على ماء الخصام ، وتألم موسى لأجلهم ، وأغضبوا روحه ، وخالفوا كلام شفتيه ، ولم يستأصلوا الأمم الذين أمرهم الرب ، واختلطوا بالشعوب وتعلموا أعمالهم ، فكانت عِشرة لهم ، ذبحوا بنيهم وبناتهم للشياطين ، وضحوا لأصنام كنعان ، ودنسوا الأرض بالدماء ، وتنجسوا بأعمالهم ، وزنوا بأفعالهم ، فاشتد غضب الرب على شعبه ، ورذل ميراثه ، فأسلمهم في أيدي الشعوب ، وسلط عليهم شناتهم ، واستعبدهم أعداؤهم وخضعوا تحت أيديهم ، مراراً كثيرة بجاهم ، وهم يسخطونه بأفكارهم ، وذلوا بسيئاتهم - انتهى؛ على أنك إذا تأملت وجدت أن الله تعالى يعلي كعب الغريب الذي يستذلونه ويحل سعده ويؤثل مجده - كما فعل بيوسف عليه الصلاة والسلام بعد السجن وببني إسرائيل بعد الاستعباد ، وهو نعم المولى ونعم النصير! فليحذر الساكن بها من أن يغلب عليه طبعها فيتصف بكل ذلك من قلة الغيرة وبغض الغريب ، والجرأة في الباطل استصناعاً ومداهنة ، والجبن في الحق ، وكمال الذل للجبارين ، والمجمجة في الكلام ، بأن لا يزال يتعهد نفسه بأوامر الله ويحملها على طاعته ، واتباع رسوله ومحبته ، والنظر في سيرته وسير أتباعه ، والتعشق لذلك كله ، حتى يصير له طبعاً يسلخه من طبع البلد ، كما فعل عُبادها ، وأهل الورع منها وزهادها - أعاذنا الله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ونسأله أن يختم لنا بالصالحات ، وأن يجعلنا من الذين لا خوف عليهم أبداً .
ذكر ما مضى بعدما تقدم من هذه القصة من التوراة : قال : فلما كان بعد سنتين رأى فرعون رؤيا كأنه واقف على شاطىء البحر ، وكأن سبع بقرات صعدن من بحر النيل حسنات المنظر سمينات اللحوم ، يرعين في المرج ، وكأن سبع بقرات صعدن خلفهن من النيل قبيحات المنظر وحشيات مهزولات اللحوم ، فوقفن إلى جانب البقرات السمان على شاطىء النهر ، فابتلع البقرات القبيحات الحسنات المنظر السمينات ، فهب فرعون من سنته ، ورقد أيضاً فرأى ثاني مرة كأن سبع سنبلات طلعن في قصبة واحدة ممتلئة سماناً ، وكأن سبع سنبلات مهزولات ضربهن ريح السموم - وفي نسخة : القبول - نبتن بعدهن ، فبلغ السنبل المهزول السبع سنبلات الممتلئات ، فاستيقظ فرعون فآذته رؤياه ، فلما كان بالغداة كربت نفس فرعون ، فأرسل فدعا جميع السحرة وكل حكماء مصر ، فقص عليهم رؤياه ، فلم يوجد إنسان يفسرها لفرعون .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41